You are on page 1of 505

‫في القرآن الكريم‬

‫أنواعه ‪ -‬شروطه ‪ -‬أسبابه ‪ -‬مراحله وأهدافه‬

‫تأليف‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫جميع الحقوق محفوظة‬

‫الطبعة الولى‪1427 :‬هـ ‪2006 -‬م‬


‫رقم اليداع‪5448/2006 :‬‬

‫إلى العلماء العاملين‪..‬‬


‫والدعاة المخلصين‪..‬‬
‫وطلب العلم المجتهدين‪..‬‬
‫وأبناء المة الغيورين‬
‫أهدى هذا الكتاب سائل ً المولى ع َّز‬
‫جل بأسمائه الحسنى وصفاته‬ ‫وَ َ‬
‫صا لوجهه‬ ‫الُعلى أن يكون خال ً‬
‫الكريم‪.‬‬
‫م ْ‬
‫ل‬ ‫ع َ‬ ‫فل ْي َ ْ‬‫ه َ‬‫قاءَ َرب ّ ِ‬ ‫جو ل ِ َ‬ ‫ن ي َْر ُ‬
‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫ف َ‬‫‪َ +‬‬
‫ه‬
‫ة َرب ّ ِ‬ ‫عَبادَ ِ‬ ‫ْ‬
‫رك ب ِ ِ‬‫ش ِ‬ ‫َ‬
‫ول ي ُ ْ‬ ‫حا َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ً‬
‫مل َ‬ ‫ع َ‬
‫َ‬
‫دا" ]الكهف‪.[110 :‬‬
‫َ‬
‫أ َ ً‬
‫ح‬

‫‪2‬‬
‫مقدمـــــــــــة‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫إن الحمد لله‪ ،‬نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ‬ ‫مقد‬
‫بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من‬
‫يهده الله فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادى له‪،‬‬ ‫مة‬
‫وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد‬
‫دا عبده ورسوله‪.‬‬ ‫أن محم ً‬
‫َ‬
‫ه‬
‫قات ِ ِ‬‫ق تُ َ‬
‫ح ّ‬
‫ه َ‬
‫قوا الل َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬
‫ن آَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫ن" ]آل عمران‪:‬‬‫مو َ‬‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫وأن ُْتم ّ‬‫ن إ ِل ّ َ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫ول َ ت َ ُ‬
‫َ‬
‫‪.[102‬‬
‫خل َ َ‬ ‫َ‬
‫كم‬ ‫ق ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫قوا َرب ّك ُ ُ‬ ‫س ات ّ ُ‬ ‫ها الّنا ُ‬ ‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫ث‬ ‫وب َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ها‬ ‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫ْ‬ ‫ها َز‬ ‫من ْ َ‬ ‫ق ِ‬ ‫خل َ َ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫حدَ ٍ‬ ‫وا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫من ن ّ ْ‬ ‫ّ‬
‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫ء‬
‫ِ ً َ ِ َ ً َ ّ‬ ‫سا‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫را‬ ‫ثي‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫جا‬ ‫ما ِ َ‬
‫ر‬ ‫ه َ‬‫من ْ ُ‬ ‫ِ‬
‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫حا َ‬ ‫والْر َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن بِ ِ‬ ‫ساءَُلو َ‬ ‫تَ َ‬
‫با" ]النساء‪.[1:‬‬ ‫قي ً‬ ‫َر ِ‬
‫قوُلوا‬ ‫َ‬
‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫َ‬
‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫فْر‬ ‫غ ِ‬ ‫وي َ ْ‬‫م َ‬ ‫مال َك ُ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ح ل َك ُ ْ‬ ‫صل ِ ْ‬ ‫دا ‪ ‬ي ُ ْ‬ ‫دي ً‬ ‫ول ً َ‬
‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫د‬ ‫َ‬
‫ه فق ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سول ُ‬ ‫وَر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ع الل َ‬ ‫ُ‬
‫م ذُُنوب َك ْ‬ ‫ل َك ْ‬
‫ُ‬
‫من ي ُطِ ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬
‫وًزا‬ ‫ف ْ‬ ‫فاَز َ‬ ‫َ‬
‫ما" ]الحزاب‪.[71 ،70 :‬‬ ‫ِ ً‬ ‫ظي‬ ‫ع‬
‫َ‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فإن موضوع فقه التمكين في القرآن الكريم‬
‫يحتاج لبحث تحليلي عميق لخطورته ولهميته في‬
‫حياتنا المعاصرة حيث إن المة تمر بفترة عصيبة‬
‫من تاريخها‪ ,‬فهي في أشد الحاجة لفهم فقه‬
‫التمكين حتى ترسم أهدافها وتسعى لتحقيق‬
‫آمالها وفق سنن الله الجارية في الشعوب والمم‬
‫والمجتمعات والدول‪ ،‬ولقد لحظت في دراستي‬
‫للقرآن الكريم أن أصول فقه التمكين واضحة‬
‫المعالم في كتاب الله الكريم‪ ,‬فما على الباحث‬
‫إل أن يجمعها ويرتبها ويحللها ويبين أثرها على‬
‫حياة المة عندما حرصت على تطبيقه في كل‬
‫شئون حياتها‪ ،‬وماذا أصابها عندما ابتعدت عن‬
‫كتاب ربها وسنة نبيها ×‪ ،‬إن وصول المة‬
‫السلمية في هذا الزمان إلى التمكين ليس بالمر‬
‫السهل‪ ،‬ولكنه كذلك ليس بالمر المستحيل‪ ،‬إذ‬
‫على الرغم من التضييق الشديد والحرب الضروس التي تشن‬
‫‪3‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫على السلم والمسلمين‪ ،‬فإن كثيًرا من المسلمين يرون أن‬


‫التمكين لدين الله قاب قوسين أو أدنى من ذلك‪ ،‬ومهما رأى‬
‫العداء أن التمكين للسلم بعيد يشبه المستحيل فإن المسلم‬
‫واثق بوعد الله أن الرض يرثها عباده الصالحون‪ ،‬وهذا ليس من‬
‫باب الحلم والتمنيات‪ ،‬ولكن من باب الثقة في الله تعالى‪،‬‬
‫واليقين بوعده‪ ،‬إن كثيًرا من علماء المة وطلب العلم فيها أجادوا‬
‫في التصنيف في فنون متعددة ومتنوعة من علوم الدين‪ ،‬كما أنهم‬
‫أفادوا المة في شرح الداء الذي أصيبت به المة‪ ,‬وفي بيان‬
‫المؤامرات التي تحاك ضدها من قبل اليهود والنصارى وأعداء‬
‫السلم‪ ،‬وبينوا شراسة الحملة التي شنها أعداء السلم بضراوة‪،‬‬
‫وبكل الصور والساليب على المة السلمية لتثبيط المسلمين‪،‬‬
‫وخنق المل في صدورهم‪ ،‬وبث روح الهزيمة النفسية بين‬
‫جوانحهم حتى ل ترتفع رؤوسهم‪ ،‬ول تقوى عزائمهم‪ ،‬فيظلون في‬
‫ذلك الضعف والهوان الذي صاروا إليه‪ ،‬فيصل بهم المر إلى‬
‫الذوبان‪ ،‬والضياع‪ ،‬والتمزق بين سطوة المم التي تداعت عليها‬
‫كما تتداعي الكلة إلى قصعتها‪ ،‬لقد تحدث بعض الخطباء والوعاظ‬
‫عن مشاكل المة‪ ،‬وفساد أحوالها‪ ،‬بصورة تنشر اليأس وتوصد‬
‫أبواب المل في وجه أبناء المة الغيورين‪ ،‬وشاعت روح الهزيمة‬
‫بين صفوفهم‪ ،‬وأصبحنا كثيًرا ما نسمع من يقول‪ :‬ماذا نفعل؟ ضاع‬
‫السلم والمسلمون!‪..‬ويقفون على ذكريات الماضين ويتغنون‬
‫بأمجادهم‪ ،‬فأدركت أن المر كبير‪ ,‬والقضية خطيرة ورأيت أن‬
‫س الحاجة إلى ما يرد إليها ثقتها بربها‪ ،‬ومنهجها‪ ،‬في‬ ‫المة في أم ّ‬
‫حاجة إلى من يوقظ اليمان في قلبها‪ ،‬ويرشدها للخذ بأسباب‬
‫التمكين وشروطه‪ ،‬ويبين لها طبيعة الطريق‪ ،‬وكيفية السير فيه‪،‬‬
‫ويوضح لها المعالم لتعرف كيف تعمل؟ وإلى أين تسير؟‬
‫إن المة في أشد الحاجة إلى فقه التمكين والعمل به‪ ،‬وعلى‬
‫حد إطلعي المحدود على هذا الفقه تعتبر أبحاثه جديدة؛ حيث‬
‫بدأت الكتابة فيه والشارة إلى أهميته مؤخًرا‪ ،‬وقد ظهرت بعض‬
‫الكتب القيمة كالرسالة العلمية التي ُقدمت للزهر الشريف‬
‫للباحث محمد يوسف بعنوان التمكين للمة السلمية في ضوء‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وما كتبه الدكتور على جريشة في كتابه‪ :‬دعوة‬
‫الله بين التكوين‪ ،‬والدكتور على عبد الحليم في كتابه‪ :‬فقه الدعوة‬
‫إلى الله‪ ،‬وفقه المسئولية‪ ،‬وقد رأيت أن مادة فقه التمكين من‬
‫أهم البحاث والطروحات التي يجب أن يهتم بها الباحثون‪ ،‬ولذلك‬
‫استعنت بالله ثم بشيوخي الكرام‪ ,‬وأخص بالذكر الدكتور أحمد‬
‫محمد جيلي للخوض في بحر فقه التمكين‪.‬‬
‫دا بحيث نجد أن‬ ‫إن مادة فقه التمكين في القرآن غزيرة ج ً‬
‫القرآن الكريم تكلم‬
‫في‬ ‫ف ِ‬‫س َ‬‫مك ّّنا ل ُِيو ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ك‬‫و‬‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قال‬ ‫عن أنواع التمكين‪،‬‬

‫‪4‬‬
‫مقدمـــــــــــة‬
‫ْ‬ ‫ال َْر‬
‫ث" ]يوسف‪ ،[21 :‬وقال‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫حاِدي ِ‬ ‫ل ال َ‬ ‫وي ِ‬ ‫من ت َأ ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ّ َ‬ ‫ول ِن ُ َ‬ ‫ض َ‬ ‫ِ‬
‫ث‬
‫حي ْ ُ‬‫ها َ‬ ‫من ْ َ‬ ‫وأ ِ‬ ‫ض ي َت َب َ ّ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫س َ‬ ‫مك ّّنا ل ُِيو ُ‬ ‫ك َ‬ ‫وك َذَل ِ َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬
‫شاءُ‪] "...‬يوسف‪.[56 :‬‬ ‫يَ َ‬
‫فإذا تأملت في اليتين تلحظ أن الية الولى أشارت للتمكين‬
‫الجزئي ليوسف عليه السلم‪ ،‬والية الثانية للتمكين الكلى في‬
‫حقه‪ ،‬كما نجد أن القرآن الكريم أشار َإلى أسباب التمكين‬
‫عُتم‬ ‫ست َطَ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫دوا ل َ ُ‬ ‫ع ّ‬ ‫وأ ِ‬ ‫المعنوية والمادية في قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ل" ]النفال‪ ،[60 :‬وأشار القرآن الكريم‬ ‫ِ‬ ‫خي ْ‬ ‫ط ال ْ َ‬ ‫من ّرَبا ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ة َ‬ ‫و ٍ‬ ‫ق ّ‬ ‫من ُ‬ ‫ّ‬
‫مُنوا‬ ‫آ‬
‫ُ َ ِ َ َ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫د‬
‫َ َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫في‬ ‫التمكين‬ ‫شروط‬ ‫إلى‬
‫ما‬‫ض كَ َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫فن ّ ُ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ت ل َي َ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫ذي‬ ‫م ال ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ّ ُ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ا ْ‬
‫دون َِني ل َ‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫نا‬‫ً‬ ‫م‬ ‫م ْأ َ‬ ‫ه‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫خ‬ ‫َ‬
‫ِ ْ َ َ‬
‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫هم‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ضى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫اْر‬
‫َ ْ ُ ُ‬ ‫ْ ِ ْ ْ‬ ‫َ ْ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ْ َ ُ َ ّ ُ‬
‫بي شي ْئا"]النور‪.[55 :‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ركو َ‬ ‫ُ‬ ‫ي ُش ِ‬ ‫ْ‬
‫وأشار القرآن الكريم إلى مراحل التمكين في قصة بني‬
‫إسرائيل من زمن موسى عليه السلم إلى العصر الذهبي في‬
‫زمن داود وسليمان عليهما السلم‪.‬‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫أهداف التمكين في قوله تعالى‪+ :‬ال ّ ِ‬ ‫في ال َرض أ َ‬
‫وأشار القرآن إلى‬
‫ة‬
‫كا َ‬ ‫وا الّز َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫وآ‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ص‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫موا‬ ‫ُ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫مك ّّنا ُ‬ ‫إن ّ‬
‫ر"]الحج‪ ,[41 :‬كما أشار‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِوأ َ‬
‫من ْك ِ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫وا‬ ‫ْ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫و‬‫َ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫رو‬ ‫ُ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ِ‬ ‫روا‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫القرآن الكريم إلى سيرة بعض المصلحين من النبياء والمرسلين‬
‫وبين صفاتهم التي أهلتهم إلى أن أكرمهم الله بالتمكين كيوسف‬
‫ول َ‬ ‫شاءُ َ‬ ‫من ن َ َ‬ ‫مت َِنا َ‬ ‫ح َ‬ ‫ب ب َِر ْ‬ ‫صي ُ‬ ‫السلم‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ن ُ ِ‬ ‫عليه‬
‫ن" ]يوسف‪.[56 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫جَر ال ُ‬ ‫عأ ْ‬ ‫ضي ُ‬ ‫نُ ِ‬
‫فْر ِلي‬ ‫غ ِ‬ ‫با ْ‬ ‫وكسليمان عليه السلم في قوله تعالى‪َ + :‬ر‬
‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ك َّ‬ ‫َ‬ ‫كا ل ّ َينب َ ِ‬ ‫مل ْ ً‬
‫ها ُ‬ ‫و ّ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ت‬‫َ َ‬ ‫أن‬ ‫دي إ ِن ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫د ّ‬ ‫َ‬ ‫ح ٍ‬ ‫غي ل َ‬ ‫ب ِلي ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ب‪ "...‬إلى‬ ‫َ َ‬ ‫صا‬ ‫أ‬ ‫ث‬ ‫ُ‬ ‫ي‬
‫ً َ ْ‬ ‫ح‬ ‫ء‬ ‫خا‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫ه‬
‫ِ ْ َِ ِ َ ُ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ري‬ ‫ج‬
‫ّ َ َ َ ْ ِ‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫ري‬ ‫ال‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ر‬ ‫خ‬‫ّ‬ ‫س‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫‪‬‬
‫ب" ]ص‪:‬‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫ر ِ‬ ‫غي ْ ِ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫س ْ‬ ‫م ِ‬ ‫وأ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫من ُ ْ‬ ‫فا ْ‬ ‫ؤَنا َ‬ ‫عطا ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫ه َ‬ ‫أن قال‪َ + :‬‬
‫‪.[40 -36‬‬
‫وأشار القرآن الكريم إلى تمكين الله لذي القرنين وصفاته‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫مك ّّنا ل ُ‬ ‫الربانية َوشكره لله على نعمة التمكين‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬إ ِّنا َ‬
‫سب ًَبا"]الكهف‪ ،[84 :‬وقال‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫وآت َي َْناهُ ِ‬ ‫ض َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫ِ‬
‫ة‬ ‫و‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫ب‬ ‫ني‬ ‫نو‬
‫ِ ُ ِ‬ ‫عي‬ ‫َ‬ ‫أ‬‫ف‬‫َ‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫بي‬ ‫ر‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫ني‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ما‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫ِ ّ ٍ‬ ‫ْ ٌ‬ ‫ِ ِ َ ّ‬ ‫َ َ ّ‬ ‫َ‬
‫ما"]الكهف‪.[95 :‬‬ ‫م َردْ ً‬ ‫ه ْ‬ ‫وب َي ْن َ ُ‬
‫م َ‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬‫ع ْ‬ ‫ج َ‬ ‫أ ْ‬
‫التمكين‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫الكريم إلى صفات جيل‬ ‫وأشار القرآن‬
‫عَلى‬‫ة َ‬ ‫عّز ٍ‬ ‫ن أَ ِ‬ ‫َ‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ذ‬‫ِ‬
‫بون َه أ َ‬
‫ُ‬ ‫ح ّ‬‫وي ُ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫حب ّ ُ‬
‫‪+‬ي ُ ِ‬
‫ة‬‫م َ‬ ‫و‬
‫َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫فو‬‫ُ‬ ‫خا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫ِ َ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬
‫َ ِ ِ‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫في‬ ‫كا ِ ِ َ ُ َ ِ ُ َ ِ‬
‫ن‬ ‫دو‬ ‫ه‬ ‫جا‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ري‬ ‫ف‬ ‫ال ْ َ‬
‫لئ ِم ٍ" ]المائدة‪.[54 :‬‬

‫‪5‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لقد قمت بدراسة اليات السابقة من خلل أقوال المفسرين‬


‫والعلماء والفقهاء وحاولت أن أنزلها على واقع المسلمين‬
‫المعاصر حتى يتضح شيء من معالم فقه التمكين الذي نحن في‬
‫أشد الحاجة إليه‪ ،‬وحاولت أن أستشهد بسيرة النبي × على‬
‫التطبيقات العملية لفقه التمكين‪ ,‬وحرصت على دراسة السيرة‬
‫النبوية دراسة متأنية مع التأمل بالضافة لسيرة الخلفاء الراشدين‬
‫حيث يعتبر عصرهم مدرسة مهمة في تطبيق هذا الفقه وتعرضت‬
‫للحركات السلمية التي كان لها أثر في القرنين الماضيين والتي‬
‫تركت معالم نيرة في فقه التمكين والتي توارثتها الحركات‬
‫السلمية المعاصرة محاول ً إبراز فقه التمكين عندها ومناهج‬
‫الصلح والتغيير التي انتهجتها في سعيها لتمكين السلم في هذا‬
‫الزمان‪.‬‬
‫لقد كان اختياري لهذا الموضوع لسباب من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬رغبتي في بحث يجمع بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬فيقدم ما‬
‫ينفع لعصرنا مما قرره علماء التفسير‪ ،‬فيكون فهمنا لفقه التمكين‬
‫مستفاًدا من فهمهم‪ ،‬فيجمع بذلك بين حفظ أقوالهم‪ ،‬وتقديم‬
‫الحلول الصحيحة للمشكلت التي تتعرض لها المة في سعيها‬
‫للتمكين‪.‬‬
‫‪ -2‬بيان ضوابط وقواعد‪ ،‬ورسم معالم وحدود نفهم بها حقيقة‬
‫فقه التمكين من خلل إبراز أنواعه وأسبابه وشروطه‪ ،‬ومراحله‬
‫وأهدافه‪.‬‬
‫ث موضوع فقه التمكين في رسالة علمية‪،‬‬ ‫‪ -3‬محاولة لم َ‬
‫شع ْ ِ‬
‫تعطى فكرة متكاملة‬
‫عن موضوعه‪.‬‬
‫شبه المْغرضين‪ ،‬وتفنيد آراء المغترين‪ ،‬الذين يتهمون‬‫‪ -4‬دحض ُ‬
‫ديننا بالجمود والقصور وعدم الوفاء بمتطلبات العصر‪ ,‬وأنه ليس‬
‫له القدرة على خوض معارك التغيير والوصول بالمة نحو التمكين‬
‫الشامل لدينها من خلل دولة تحكم بشرع الله تعالى‪.‬‬
‫خطة البحث‪:‬‬
‫لقد اقتضت طبيعة الموضوع منى جعل البحث في‪:‬‬
‫مقدمة‪ ،‬وتمهيد‪ ،‬وثلثة أبواب‪ ،‬وخاتمة‪ ،‬وتفصيلها على النحو‬
‫التالي‪:‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬المقدمة‪:‬‬
‫تكلمت فيها عن أهمية الموضوع‪ ،‬وأسباب اختياره‪ ،‬والخطة‬

‫‪6‬‬
‫مقدمـــــــــــة‬

‫التي سرت عليها‪ ،‬والمنهج الذي سلكته في معالجة مسائل‬


‫البحث‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬التمهيد‪:‬‬
‫وتكلمت فيه عن مصطلحات عنوان البحث من الناحية اللغوية‬
‫والشرعية‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬البواب‪:‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‪ ،‬وفيه أربعة‬
‫فصول‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬تبليغ الرسالة وأداء المانة‪.‬‬
‫وفيه ثلثة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬أصحاب القرية‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أصحاب الخدود‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬تمكين الله تعالى لرسول الله لتبليغ الرسالة‬
‫في مكة‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬هلك الكافرين ونجاة المؤمنين ونصرهم في‬
‫المعارك‪.‬‬
‫وفيه أربعة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬قصة نوح عليه السلم وهلك قومه‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬موسى عليه السلم مع فرعون‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬طالوت عليه السلم مع بنى إسرائيل‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الرسول صلوات الله وسلمه عليه مع قومه‪.‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬في المشاركة في الحكم‪ ،‬وفيه مبحثان‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬أدلة المانعين وأدلة القائلين بالجواز‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬شواهد من التاريخ الحديث في المشاركة‪.‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬إقامة الدولة‪ ،‬وفيه مبحثان‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما‬
‫السلم‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬فقه التمكين عند ذي القرنين‪.‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‪ ،‬وفيه فصلن‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬شروط التمكين‪ ،‬وفيه أربعة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬اليمان بالله والعمل الصالح‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬تحقيق العبادة‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬محاربة الشرك‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬تقوى الله‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬أسباب التمكين‪ ،‬وفيه ثلثة مباحث‪:‬‬
‫المبحث الول‪ :‬سنة الخذ بالسباب وإرشاد القرآن للعداد‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثاني‪ :‬السباب المعنوية‪.‬‬


‫المبحث الثالث‪:‬السباب المادية‪.‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‪ ،‬وفيه فصلن‪:‬‬
‫الفصل الول‪ :‬مراحل التمكين‪ ،‬وفيه خمسة مباحث‪.‬‬
‫المبحث الول‪:‬مرحلة الدعوة والتعريف بالسلم‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة‪.‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬مرحلة المغالبة‪.‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬مرحلة التمكين‪.‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الحركات السلمية ودورها في العودة إلى‬
‫التمكين‪.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬أهداف التمكين‪ ،‬وفيه مبحثان‪.‬‬
‫المبحث الول‪ :‬إقامة المجتمع المسلم‪.‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬نشر الدعوة إلى الله‪.‬‬
‫رابًعا‪ :‬الخاتمة‪ ,‬وفيها أهم نتائج البحث‪.‬‬
‫* منهجي في البحث‪:‬‬
‫لقد كانت كتابتي في هذا الموضوع ضمن منهج معين التزمت‬
‫به قدر المكان‪ ،‬وهذا المنهج فيما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬الرجوع إلى المصادر الصلية في البحث ما استطعت إلى ذلك‬
‫سبي ً‬
‫ل‪.‬‬
‫‪ -2‬الحرص على التزام المانة العلمية في عزو القوال إلى‬
‫قائليها‪ ،‬وبذل الجهد في نقل قول كل قائل من مصدره على‬
‫قدر المستطاع‪.‬‬
‫‪ -3‬الحرص على تدعيم البحث بالنصوص الشرعية من الكتاب‬
‫سّنة‪ ،‬ونصوص العلماء مع تمييز كل ذلك بعلمات التنصيص‪،‬‬ ‫وال ُ‬
‫والقواس‪.‬‬
‫‪ -4‬بيان مواضع اليات القرآنية الكريمة في المصحف الشريف‪،‬‬
‫وذلك بذكر اسم السورة ورقم الية‪.‬‬
‫‪ -5‬تخريج الحاديث النبوية الواردة في ثنايا الرسالة من كتب‬
‫الحاديث المشهورة‪.‬‬
‫‪ -6‬تخريج البيات الشعرية من دواوين قائليها إن تمكنت من ذلك‪،‬‬
‫ن ذكرها من العلماء‪.‬‬‫م ْ‬
‫وإل ذكرت َ‬
‫‪ -7‬الترجمة للعلم الواردة أسماؤهم في الرسالة‪.‬‬
‫‪ -8‬شرح المصطلحات والكلمات الغريبة‪.‬‬
‫‪ -9‬وضع فهارس علمية في آخر الرسالة تسهل الستفادة منها‬
‫وهي كالتي‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫مقدمـــــــــــة‬

‫أ‪ -‬فهرس المصادر والمراجع‪.‬‬


‫ب‪ -‬فهرس الموضوعات‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬وإني بذلت ما في وسعى في معالجة قضايا هذا الحديث ما‬
‫استطعت إلى ذلك سبيل‪ ً ،‬غير أنلةقِ ّبضاعتي‪ ،‬وصعوبة هذا البحث‪،‬‬
‫وتشعب مباحثه أثنتني عن كثير مما أردت‪.‬‬
‫ول يفوتني ‪ -‬في الختام ‪ -‬أن أتقدم بجزيل الشكر إلى أستاذي‬
‫وشيخي الجليل فضيلة الدكتور‪ :‬أحمد محمد جيلي الذي أكرمني‬
‫الله تعالى به للشراف على هذه الرسالة‪ ،‬ولقد كان ‪ -‬حفظه‬
‫جا حًيا للصدق والخلص‪،‬‬ ‫الله‪ -‬مثال ً حسًنا للخلق الفاضلة‪ ،‬ونموذ ً‬
‫والتواضع‪ ،‬والكرم‪ ،‬وبشاشة الوجه‪.‬‬
‫ولقد أفادني بتوجيهاته المفيدة‪ ،‬وآرائه السديدة‪ ،‬وتعليقاته‬
‫النفسية‪ ،‬ولقد أعطاني من وقته وتوجيهاته ما ذلل أمامي عقبات‬
‫كثيرة في البحث‪ ،‬لقد كان ‪-‬حفظه الله تعالى ‪ -‬بعد الله ‪ -‬عوًنا‬
‫صا‪ ،‬وكنت إذا ما واجهتني مشكلة في البحث‪ ،‬أتصل به‪ ،‬فأجد‬ ‫مخل ً‬
‫من فضيلته كل ترحيب وتقدير‪.‬‬
‫فالله أسأل أن يثيبه وأن يجزيه أحسن الجزاء‪ ،‬وأن يطيل‬
‫عمره في طاعته وأن يبارك له في وقته وأهله وماله‪.‬‬
‫كما أتقدم بالشكر إلى أساتذتي وإخواني الذين وقفوا معي‬
‫بكل ما يملكون من أجل إتمام هذا البحث‪ ,‬ول يفوتني أن أتقدم‬
‫بالشكر إلى جامعة أم درمان السلمية على ما تبذله من عطاء‬
‫متجدد للمة السلمية‪ ،‬وغرس للعقيدة الصحيحة في نفوس‬
‫أبنائها‪ ،‬وقد أكرمني الله بالدراسة فيها‪ ,‬فأسأله سبحانه أن يجزى‬
‫القائمين عليها خير الجزاء‪ ،‬وأن يعينهم على أداء واجبهم‪ ,‬إنه‬
‫سميع قريب‪.‬‬
‫كما أسأله سبحانه أن يمن علينا بنعمة اليمان والعيش مع‬
‫القرآن والعمل للسلم مخلصين له الدين ولو كره الكافرون‪ ،‬وأن‬
‫يجعل ما قدمنا حجة لنا ل حجة علينا‪ ..‬إنه ولي ذلك والقادر عليه‪.‬‬
‫***‬

‫‪9‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تمهيـــــــد‬
‫هذا تمهيد مختصر يعطى نبذة موجزة عن المصطلحات‬
‫المتعلقة بعنوان البحث‪:‬‬
‫ل‪ :‬الفقه‪ :‬له معنيان‪ ،‬معنى لغوي‪ ،‬ومعنى اصطلحي‪.‬‬ ‫أو ً‬
‫أ‪ -‬والمعنى اللغوي فيه ثلثة أقوال‪:‬‬
‫ضا للمتكلم أم لغيره‪،‬‬ ‫‪ -1‬الفقه‪ :‬مطلق الفهم سواء كان غر ً‬
‫وهذا الذي عليه أئمة اللغة‪ ،‬واستدلوا له بما ورد في القرآن‬
‫َ‬ ‫ؤل ِ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫الكريم مثل قوله تعالى في شأن الكفار‪َ + :‬‬
‫ء ال ْ ِ‬
‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ما ل ِ َ‬ ‫ف َ‬
‫ل َ يَ َ‬
‫ديًثا" ]النساء‪ ،[78 :‬ومثل قوله تعالى على‬ ‫ح ِ‬ ‫ن َ‬ ‫هو َ‬ ‫ق ُ‬‫ف َ‬‫ن يَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫كا ُ‬
‫ل"‬ ‫قو ُ‬ ‫ما ت َ ُ‬ ‫م‬
‫ُ ِ ً ّ ّ‬ ‫را‬ ‫ثي‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫ن‬
‫َ َ‬ ‫ما‬ ‫‪+‬‬ ‫السلم‪:‬‬ ‫عليه‬ ‫شعيب‬ ‫قوم‬ ‫لسان‬
‫]هود‪ [91 :‬فيستفاد ويفهم من الية الولى أن فهم أي حديث ولو‬
‫حا سمي فقًها‪ ،‬ويفهم من الية الثانية أن قوم شعيب‬ ‫كان واض ً‬
‫)‪(1‬‬
‫عليه السلم كانوا يفهمون بعض كلمه‪.‬‬
‫ء إ ِل ّ‬‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫وِإن ّ‬ ‫ضا قوله تعالى‪َ + :‬‬ ‫ويدل على ذلك أي ً‬
‫م" ]السراء‪،[44 :‬‬ ‫ه‬ ‫ح‬
‫ْ ِ َ ُ ْ‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫هو‬‫ُ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ف‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫كن‬ ‫ول َ ِ‬‫ه َ‬‫د ِ‬ ‫م ِ‬
‫ح ْ‬‫ح بِ َ‬ ‫سب ّ ُ‬‫يُ َ‬
‫ة‬ ‫د‬
‫ُ َ ً‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫ع‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ح‬
‫َ ْ‬ ‫وا‬ ‫‪+‬‬ ‫السلم‪:‬‬ ‫عليه‬ ‫موسى‬ ‫لسان‬ ‫على‬ ‫تعالى‬ ‫وقوله‬
‫لي" ]طه‪.[28 ،27 :‬‬ ‫و ِ‬‫ق ْ‬ ‫هوا َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ف َ‬‫ساِني ‪ ‬ي َ ْ‬ ‫من ل ّ َ‬ ‫ّ‬
‫)‪(2‬‬
‫وقوله ×‪» :‬من يرد الله به خيًرا يفقهه في الدين«‪.‬‬
‫‪ -2‬الفقه‪ :‬هو فهم غرض المتكلم من كلمه سواء كان الغرض‬
‫ضا للمتكلم فقًها‬ ‫حا أم غير واضح‪ ،‬فل يسمى فهم ما ليس غر ً‬ ‫واض ً‬
‫كفهم لغة الطير مثل‪ً.‬‬
‫‪ -3‬الفقه‪ :‬هو فهم الشياء الدقيقة‪ ،‬فل يقال فقهت أن السماء‬
‫فوقنا والرض تحتنا)‪ ،(3‬وهذا مردود بما قاله أئمة اللغة‪ :‬إن الفقه‬
‫هو مطلق الفهم‪ ،‬وامتناع قولهم فقهت السماء والرض إنما هو‬
‫من ناحية أن الفقه يتعلق بالمعاني ل بالمحسوسات‪ ،‬والسماء‬
‫والرض من قبيل المحسوسات‪.‬‬
‫والراجح من هذه المعاني هو المعنى الول للفقه‪ ،‬الذي هو مطلق‬
‫الفهم‪ ،‬ويقال فقه بكسر القاف‪ :‬أي فهم‪ ،‬وف َهُق َبالضم‪ :‬صار الفقه له‬
‫)‪(4‬‬
‫قه َ بالفتح‪ :‬سبق غيره إلى الفهم‪.‬‬ ‫سجية وملكة‪،‬ف َو‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬لسان العرب لبي الفضل جمال الدين بن منظور )ج ‪11‬كتاب الهاء‬
‫فصل الفاء‪.(522 /‬‬
‫‪2‬‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬باب من يرد الله به خيًرا يفقهه في الدين )‪ (1/30‬رقم‬
‫‪.71‬‬
‫‪3‬‬
‫)( شرح السنوي )ج ‪ ،(1/15‬أصول الفقه لبي النور زهير)‪.(1/6‬‬

‫‪10‬‬
‫تمهيـــــــــــــــد‬

‫ب‪ -‬المعنى الصطلحي للفقه‪:‬‬


‫يراد بالفقه في اصطلح الفقهاء والصوليين‪ :‬العلم بالحكام‬
‫الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية‪ (1) .‬أو هو‪ :‬العلم بالحكام‬
‫)‪(2‬‬
‫الشرعية الفرعية العملية المستنبطة من أدلتها التفصيلية‪.‬‬
‫ج‪ -‬التطور التاريخي لكلمة )فقه(‪:‬‬
‫أذن النبي × لبعض الصحابة في الجتهاد بعد أن توافرت فيه‬
‫شروطه وبسبب ابتعادهم عن النبي × وتعذر مراجعتهم له حين‬
‫حدوث الواقعة كمعاذ بن جبل رضي الله عنه )‪ (3‬حين بعثه إلى‬
‫ما وقاضًيا‪ ,‬وكان الصحابة الذين يجتهدون في بعض‬ ‫اليمن معل ً‬
‫الوقائع الخاصة يعرضون اجتهادهم على النبي × بنية إقرارهم أو‬
‫توجيههم إلى الصواب‪ ،‬ومع ذلك لم يشع إطلق اسم الفقهاء‬
‫عليهم‪ ،‬وإنما كانت هذه الكلمة ترد في توجيهات الرسول × وعلى‬
‫ألسنة الصحابة والتابعين‪ ،‬وكان معناها عندهم يقصد به أصحاب‬
‫النصوص من‬ ‫الفطنة والبصيرة النافذة في أحكام الدين ومعاني‬
‫سّنة‪ ،‬ففي الحديث يقول ×‪»:‬نضر الله امرأ ً سمع منا‬
‫الكتاب وال ُ‬
‫حديًثا فحفظه حتى يبلغه‪ ،‬فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه‪،‬‬
‫ب حامل فقه ليس بفقيه«)‪ ،(4‬فذل الحديث على تفاوت الناس‬ ‫ور ّ‬
‫في فهم معاني النصوص وما ترمى إليه عند استخلص الحكام‬
‫)‪(5‬‬
‫منها‪.‬‬
‫ومن هنا يتضح أن إطلق كلمة )الفقه( كانت تعنى العلم بأحكام‬
‫الدين على وجه العموم والشمول سواء كان فقه العقيدة‪ ،‬أو فقه‬
‫التفسير أو فقه الحديث أو فقه الفتيا في أمور العبادات‪ ،‬والمعاملت‪،‬‬
‫فيكون المقصود )بالفقهاء( هم العلماء في أمور الدين السلمي‬
‫جملة‪ ،‬أما في أوساط عهد التابعين‪ ،‬فقد أخذت كلمة )الفقه( مدلول ً‬
‫أخص من مدلولها الول‪ ،‬فل تطلق إل على علم الحكام الشرعية‬
‫العملية التي يتوصل العلماء إلى استنباطها من الدلة التفصيلية‪،‬‬
‫واشتهر من اشتغل بهذا الجانب )بالفقهاء( فقيل‪ :‬فقه المام أحمد)‪,(6‬‬
‫‪4‬‬
‫)( انظر‪ :‬أصول الفقه السلمي‪ ،‬د‪ .‬حسن الهدل ص ‪.10‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬المفردات للراغب الصبهاني ص ‪.384‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬شرح الكوكب المنير للفتوحي ص ‪.11‬‬
‫‪3‬‬
‫)( هومعاذ بن جبل الخزرجى النصاري البدرى من أعلم الصحابة بالحلل‬
‫والحرام‪ ,‬توفى في طاعون عمواس سنة ‪18‬هـ وعمره ست وثلثون سنة‪ ،‬سير‬
‫أعلم النبلء )‪.(460-1/443‬‬
‫‪4‬‬
‫)( أبو داود‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬باب فضل نشر العلم )‪ (3/322‬رقم ‪.3660‬‬
‫‪5‬‬
‫)( انظر‪ :‬المدخل إلى الفقه السلمي‪ ،‬د‪ .‬عبد الله الدرعان ص ‪.31‬‬
‫‪6‬‬
‫)( هو أبو عبد الله أحمد بن محمد الشيباني ولد عام ‪164‬هـ وتوفى عام ‪241‬هـ‪,‬‬
‫انظر‪ :‬تقريب التهذيب ص ‪.84‬‬

‫‪11‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫)‪(2‬‬
‫وفقه المام الشافعي)‪,(1‬‬
‫وفقه المام مالك‪ ,‬وفقه المام أبى حنيفة‬
‫وهكذا)‪.(3‬‬
‫ثانًيا‪ :‬التمكين في اللغة والصطلح‪:‬‬
‫أ‪ -‬التمكين في اللغة‪:‬‬
‫كن( ّالذي يتكون من الحروف )م‪ ،‬ك‪ ،‬ن( ومنه‬ ‫مصدر الفعل )َم‬
‫كن فلن من‬ ‫نه(ك َ َمنه بمعنى استمكن الرجل من الشيء‪ ،‬وتم ّ‬ ‫)أْم‬
‫)‪(4‬‬
‫كنه( النهو ض أي ل يقدر عليه‪.‬‬ ‫م ِ‬ ‫الشيء‪ ،‬وفلن ل )ي ُ ْ‬
‫كنة من‬‫م ِ‬ ‫م)‪5‬ك( َِنة تقول العرب‪ :‬إن بنى فلن لذو َ‬ ‫ومن التمكين ال َ‬
‫كن ‪ .‬وتسمى العرب موضع الطير مكنة لتمكن‬ ‫السلطان أي تم ّ‬
‫الطير فيه )‪ ,(6‬والمكانة عند العرب هي المنزلة عند الملك‪ ،‬والجمع‬
‫مكين‪ ،‬والجمع‬ ‫ة فهو َ‬ ‫مكان ً‬ ‫كن َ‬‫م ُ‬‫مكانات‪ ،‬ل يجمع جمع تكسير‪ ،‬وقد َ‬
‫كن‪.‬‬ ‫كن ‪ -‬تم ّ‬ ‫مكَناء‪ ,‬وُنم ّ‬ ‫ُ‬
‫ً )‪(7‬‬
‫ل الرفع والنصب والجر لفظا‪.‬‬ ‫والمتمكن من السماء‪ :‬ما قبِــ َ‬
‫فالتمكين في اللغة‪ :‬سلطان وملك‪.‬‬
‫ل في قوله تعالى عن ذي القرنين‪:‬‬ ‫ج ّ‬
‫عَّز وَ َ‬ ‫وقد أشار المولى‬
‫َ‬
‫سب ًَبا"‬‫َ‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫من‬
‫ِ‬ ‫ه‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ي‬‫َ‬
‫ْ ِ َ ْ ُ‬‫ت‬‫وآ‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫في‬ ‫مك ّّنا ل َ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫‪+‬إ ِّنا َ‬
‫]الكهف‪.[84 :‬‬
‫والمعنى‪ :‬أن الله مكن لهذا العبد الصالح في الرض‪ ،‬فأعطاه‬
‫سلطاًنا قوًيا‪ ،‬ويسر له كل السباب التي تدعم هذا السلطان‪،‬‬
‫وأعطاه من كل شيء مما يحكم السلطان ويقويه‪ ،‬وكذلك الشأن‬
‫في حديث القرآن الكريم‪ ،‬عن نبي الله يوسف بن يعقوب‪ ،‬عليهما‬
‫مك ّّنا‬
‫ك َ‬ ‫وك َذَل ِ َ‬‫ليوسف في الرض ‪َ +‬‬ ‫السلم‪ ،‬فقد مكن الله‬
‫مت َِنا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫في ال َْر‬
‫ح َ‬ ‫ب ب َِر ْ‬ ‫صي ُ‬‫ث ي َشا َءُ ن ُ ِ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫ها َ‬ ‫َ‬ ‫من ْ‬
‫وأ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ض َي َت َب َ‬‫ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫س َ‬ ‫ل ُِيو ُ‬
‫خي ٌْر‬
‫ة َ‬ ‫خَر ِ‬ ‫جُر ال َ ِ‬ ‫ول ْ‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ني‬
‫ِ‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ج‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫ضي‬‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫شا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫من ن‬ ‫َ‬
‫ن" ]يوسف‪.[57 ،56 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫كاُنوا ي َت ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫ذي َ َ‬
‫آ‬ ‫ن‬ ‫ل ّل ّ ِ‬
‫ب‪ -‬التمكين في الصطلح‪:‬‬
‫دراسة أنواع التمكين وشروطه وأسبابه ومراحله وأهدافه‬
‫‪1‬‬
‫)( هو محمد بن إدريس بن هاشم المطلبى ولد عام ‪150‬هـ ‪ ،‬وتوفى عام‬
‫‪254‬هـ‪ ,‬تقريب التهذيب ص ‪.467‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو النعمان بن ثابت الكوفي فقيه مشهور مات عام ‪150‬هـ‪ ,‬تقريب التهذيب‬
‫ص ‪.563‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬المدخل إلى الفقه السلمي‪ ،‬د‪ .‬عبد الله الدرعان‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪4‬‬
‫)( انظر‪ :‬مختار الصحاح لبي محمد الرازي‪ ،‬ص ‪.635‬‬
‫‪5‬‬
‫)( انظر‪ :‬لسان العرب )ج ‪ ،13‬فصل النون‪ ،‬باب مكن ص ‪.(414‬‬
‫‪6‬‬
‫)( نفس المصدر‪) ،‬ج ‪ ،13‬فصل النون‪ ،‬باب مكن ص ‪.(414‬‬
‫‪7‬‬
‫)( نفس المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.415‬‬

‫‪12‬‬
‫تمهيـــــــــــــــد‬

‫ومعوقاته ومقوماته من أجل رجوع المة إلى ما كانت عليه من‬


‫السلطة والنفوذ والمكانة في دنيا الناس‪.‬‬
‫وقد عرفه الشيخ الدكتور على عبد الحليم‪ ،‬بقوله‪) :‬هو الهدف‬
‫الكبر لكل مفردات العمل من أجل السلم‪ ،‬فالدعوة بكل مراحلها‬
‫وأهدافها ووسائلها‪ ،‬والحركة وكل ما يتصل بها من جهود وأعمال‪،‬‬
‫والتنظيم‪ ،‬وما يستهدفه في الدعوة والحركة‪ ،‬والتربية بكل أبعادها‬
‫وأنواعها وأهدافها ووسائلها بحيث ل يختلف على ذلك الهدف الكبر‬
‫أحد العاملين من أجل السلم‪ ،‬كل العاملين مهما اختلفت برامجهم ‪-‬‬
‫بشرط أن تكون هذه البرامج من العاملين نابعة من القرآن الكريم‬
‫والس ّالمطهرة‪ ،‬وليس فيها شيء مما يغضب الله ‪ -‬ل يستطيعون‬ ‫نة‬
‫أن يختلفوا في أن التمكين لدين الله في الرض هو الهدف الكبر في‬
‫كل عمل إسلمي ‪(1),‬حتى يكون سلطان الدين السلمي على كل‬
‫دين‪ ,‬ونظام الحكم بهذا الدين على البشرية كلها وهذا التمكين يسبقه‬
‫)‪.(2‬‬
‫الستخلف والملك والسلطان‪ ،‬ويعقبه أمن بعد خوف(‬
‫وعرفه الستاذ محمد السيد محمد يوسف بقوله‪) :‬دراسة السباب‬
‫التي أدت إلى زوال التمكين عن المة السلمية‪ ،‬والمقومات التي‬
‫ترجع المة إلى التمكين‪ ،‬والعوائق التي تعترض العمل للتمكين‪،‬‬
‫دراسة طبيعة الطريق إلى التمكين‪ ،‬وكذلك المبشرات على هذا‬
‫الطريق‪ ،‬وذلك كله في ضوء القرآن الكريم مع الستعانة بأحاديث‬
‫)‪(3‬‬
‫النبي العظيم ×(‪.‬‬
‫وعرفه الستاذ فتحي يكن بقوله‪) :‬بلوغ حال من النصر‪،‬‬
‫وامتلك قدر من القوة‪ ،‬وحيازة شيء من السلطة والسلطان‪،‬‬
‫وتأييد الجماهير والنصار والتباع‪ ،‬وهو لون من ألوان الترسيخ في‬
‫الرض‪ ،‬وعلو الشأن( )‪.(4‬‬
‫ثالًثا‪ :‬القرآن الكريم في اللغة والصطلح‪:‬‬
‫أ‪ -‬معنى القرآن في اللغة‪:‬‬
‫القرآن من مادة قرأت‪ ,‬ومنه قرأت الشيء فهو قرآن‪ :‬أي جمعته‪،‬‬
‫وضممت بعضه إلى بع ض‪ ،‬فمعناه‪ :‬الجمع والضم‪ ،‬ومنه قولهم‪ :‬ما قرأت‬
‫جني ًأي لم تضم رحمها على ولد )‪.(5‬‬
‫هذه الناقة نا‪،‬‬
‫)‪(6‬‬
‫قال أبو عبيدة ‪ -‬رحمه الله ‪...) :-‬وإنما سمي قرآًنا لنه يجمع‬
‫السور فيضمها‪ ,‬وتفسير ذلك في آية القرآن‪ ،‬قال الله تعالى‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫انظر‪ :‬فقه المسئولية‪ ،‬ص ‪.358‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(714 ،2/713‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.13‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫انظر‪ :‬مجلة المجتمع العدد ‪6 -1249‬محرم ‪1418‬هـ ‪13/5/1997‬م‪.‬‬ ‫)(‬
‫‪5‬‬
‫انظر‪ :‬الصحاح للجوهري‪ ،‬مادة قرأ )‪.(1/65‬‬ ‫)(‬

‫‪13‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ه" ]القيامة‪ ،[17 :‬أي‪ :‬تأليف بعضه إلى‬


‫ْ‬ ‫قْرآن َ ُ‬‫و ُ‬‫ه َ‬‫ع ُ‬
‫م َ‬ ‫ج ْ‬ ‫عل َي َْنا َ‬‫ن َ‬ ‫‪+‬إ ِ ّ‬
‫ن" ]النحل‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ت القْرآ َ‬ ‫ْ‬ ‫ذا قَرأ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بعض‪ (...‬ثم قال‪ :‬وفي آية أخرى‪+ :‬فإ ِ َ‬
‫‪ ،[98‬أي‪ :‬إذا تلوت بعضهم في إثر بعض‪ ،‬حتى يجتمع‪ ،‬وينضم بعضه‬
‫إلى بعض‪ ،‬ومعناه‪ :‬يصير إلى معنى التأليف والجمع‪ ،‬ثم استشهد‬
‫)‪(1‬‬
‫على هذا المعنى بقول عمرو بن كلثوم‪:‬‬
‫هيـــجان اللــون لــم‬ ‫ذراعــي حـــرة أدمــاء بــكر‬
‫)‪(2‬‬
‫تقــــرأ جنينــا‬
‫)‪(3‬‬
‫دا قط ‪ ,‬فيسمى القرآن قرآًنا‪ ،‬لنه‬ ‫أي لم تضم في رحمها ول ً‬
‫جمع القصص‪ ،‬والمر والنهي‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬واليات والسور‪:‬‬
‫بعضها إلى بعض)‪.(4‬‬
‫)‪(5‬‬
‫ما‪:‬‬
‫يذكر أبو بكر الباقلني ‪ :‬أن القرآن يكون مصدًرا واس ً‬
‫ه" ]القيامة‪:‬‬ ‫قْرآن َ ُ‬‫و ُ‬ ‫ه َْ‬ ‫ع ُ‬
‫م َ‬ ‫ج ْْ‬ ‫عل َي َْنا َ‬ ‫ن َ‬‫مصدًرا كما في قوله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ْ‬
‫علَنا‬ ‫ج َ‬‫ن َ‬ ‫ُ‬
‫ت القْرآ َ‬ ‫َ‬
‫وإ ِذا قَرأ َ‬ ‫َ‬ ‫ما كما في قوله تعالى‪َ + :‬‬ ‫‪ [17‬واس ً‬
‫سُتوًرا"‬ ‫م ْ‬ ‫جاًبا ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ة ِ‬ ‫خَر ِ‬ ‫ن ِبال َ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬‫ن ل َ يُ ْ‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫وب َي ْ َ‬ ‫ب َي ْن َ َ‬
‫ك َ‬
‫]السراء‪ [45 :‬ويروى عن الشافعي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬أن القرآن اسم‬
‫)‪(6‬‬
‫علم لكتاب الله‪ ،‬غير مشتق‪ :‬كالتوراة والنجيل‪.‬‬
‫قال القرطبي )‪ -(7‬رحمه الله‪) :-‬والصحيح الشتقاق في‬
‫الجميع( )‪ (8‬أي في القرآن والتوراة والنجيل‪.‬‬
‫ب‪ -‬معنى القرآن في الصطلح‪:‬‬
‫القرآن الكريم‪ :‬هو اسم لكلم الله تعالى‪ ،‬المنزل على عبده‬
‫ورسوله محمد×‪ ،‬وهو اسم لكتاب الله خاصة‪ ،‬ول يسمى به شيء‬

‫‪6‬‬
‫)( هو معمر بن المثنى التميمي مولهم البصري‪ ،‬النحوي‪ ،‬صاحب التصانيف‪ ،‬ولد‬
‫سنة ‪11‬هـ ومات سنة ‪209‬هـ ‪ .‬انظر‪ :‬سير أعلم النبلء )‪.(9/445‬‬
‫‪1‬‬
‫)( هو عمرو بن كلثوم التغلبي ‪ :‬من أصحاب المعلقات السبع ومن كبار شعراء‬
‫الجاهلية‪ .‬انظر‪ :‬شرح المعلقات السبع ص ‪.180‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬شرح القصائد السبع الطوال‪ ،‬لبي بكر محمد بن القاسم النبارى‪ ،‬ص‬
‫‪.380‬‬
‫‪3‬‬
‫)( مجاز القرآن لبي عبيدة معمر التميمي )‪.(3-1/1‬‬
‫‪4‬‬
‫)( انظر‪ :‬لسان العرب‪ ،‬كتاب )أ‪-‬ب( فصل الهمزة‪ ،‬باب أقرأ )‪.(1/128‬‬
‫‪5‬‬
‫إمام المتكلمين ورأس الشاعرة أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد القاضي‬ ‫هو )(‬
‫المعروف بابن الباقلني البصري المالكي صاحب المصنفات‪,‬وكان له حظ في العبادة‬
‫هـ‪ ،‬انظر‪ :‬شذرات الذهب )‪.(3/167‬‬
‫توفى سنة ‪403‬‬
‫‪6‬‬
‫)( انظر‪ :‬الجامع لحكام القرآن للقرطبي )ج ‪.(298 /2‬‬
‫‪7‬‬
‫)( هو المام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر النصاري القرطبي‪ ،‬تفقه‬
‫على مذهب المام مالك‪ ،‬واعتنى بتفسير القرآن الكريم‪ ,‬توفى رحمه الله سنة‬
‫‪671‬هـ انظر‪ :‬المذهب لبن فرحون )‪.(318،317‬‬
‫‪8‬‬
‫)( انظر‪ :‬الجامع لحكام القرآن للقرطبي )‪.(2/298‬‬

‫‪14‬‬
‫تمهيـــــــــــــــد‬

‫غيره من سائر الكتب )‪ ،(9‬وإضافة الكلم إلى الله تعالى إضافة‬


‫حقيقية‪ ،‬من باب إضافة الكلم إلى قائله‪.‬‬
‫ولما ظهر الخوض في صفات الله تعالى‪ ،‬وفي كلم الله‬
‫سّنة إلى‬
‫خاصة‪ ،‬من قبل الزنادقة‪ ،‬وفرق المبتدعة‪ ،‬احتاج أهل ال ّ‬
‫فا يظهرون فيه معتقدهم في صفات الله تعالى‬ ‫تعريف القرآن تعري ً‬
‫عامة‪ ،‬وفي صفة الكلم خاصة‪ ،‬ومنه القرآن‪ ,‬مخالفين بذلك أهل‬
‫البدع من الجهمية)‪ (2‬والمعتزلة )‪ (3‬وغيرهم‪.‬‬
‫)‪(4‬‬
‫‪-‬رحمه الله ‪) :-‬وإن القرآن كلم الله‪ ،‬منه‬ ‫قال أبو جعفر الطحاوى‬
‫وح ًوصدقه المؤمنون على ذلك‬ ‫ل‪ً ،‬وأنزله على رسوله يا‪،‬‬‫بدا بل كيفية قو‬
‫ح ًقا‪ ,‬وأيقنوا أنه كلم الله تعالى بالحقيقة‪ ،‬لي س بمخلوق ككلم البرية‪،‬‬
‫فمن سمعه‪ ،‬فزعم أنه كلم البشر فقد كفر()‪.(5‬‬
‫***‬

‫‪9‬‬
‫)(المصدر السابق نفسه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هم أتباع جهم بن صفوان الخراساني توفى عام ‪128‬هـ انظر‪ :‬سير أعلم‬
‫النبلء )‪.(6/26‬‬
‫‪3‬‬
‫)( أتباع واصل بن عطاء وهم يقولون بخلق القرآن وغير ذلك من البدع‪ ،‬والملل‬
‫والنحل )‪.(1/43‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو أحمد بن سلمة الزدي المصري من صعيد مصر توفى عام ‪321‬هـ‪ .‬انظر‪:‬‬
‫البداية والنهاية )‪.(11/174‬‬
‫‪5‬‬
‫)( شرح الطحاوية )ص ‪.(122 ،121‬‬

‫‪15‬‬
‫أنواع التمكين‬
‫فــــــي القرآن‬
‫الكريم‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫‪17‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تمهيد‬
‫ة‬ ‫في ال ْ َ‬
‫حَيا ِ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫سل ََنا َ‬ ‫صُر ُر ُ‬ ‫قال تعالى‪+:‬إ ِّنا ل ََنن ُ‬
‫د"]غافر‪.[51 :‬‬ ‫ها ُ‬ ‫ش َ‬ ‫م ال ْ‬ ‫قو ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫و َ‬‫وي َ ْ‬‫الدّن َْيا َ‬
‫ن" ]الروم‪:‬‬ ‫مِني َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫صُر ال ْ ُ‬ ‫عل َي َْنا ن َ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫و َ‬‫وقال سبحانه‪َ + :‬‬
‫م" ]محمد‪ .[7:‬وقال‬ ‫ُ‬
‫صْرك ْ‬ ‫ه ي َن ْ ُ‬ ‫صُروا الل َ‬ ‫‪ .[47‬وقال تعالى‪ِ+ :‬إن ت َن ْ ُ‬
‫م‬‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لي‬‫ِ‬ ‫س‬‫َ‬ ‫ر‬
‫ُ ْ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫با‬‫َ‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ت ك َل ِ َ‬
‫م‬ ‫ق ْ‬ ‫سب َ َ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ول َ َ‬‫تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]الصافات‪-171 :‬‬ ‫ِ ُ َ‬ ‫بو‬ ‫ل‬ ‫غا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ُ ُ‬‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫د‬ ‫جن‬
‫َ ِ ّ ُ َ َ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫رو‬ ‫من ُ ُ‬
‫صو‬ ‫م ال ْ َ‬‫ه ُ‬‫لَ ُ‬
‫‪.[173‬‬
‫إن هذه اليات وأمثالها تشير إلى نصر الله وإعزاز أهل اليمان‬
‫ممن يحرصون على الدعوة ويتحملون المشاق في سبيلها سواء‬
‫ما أو أحد المؤمنين‪ ،‬وهذا العزاز والنتصار‬ ‫كان الداعية رسول ً كري ً‬
‫والتمكين يكون في الحياة الدنيا قبل الخرة‪.‬‬
‫ونجد في القرآن الكريم والسّنة النبوية المطهرة‪ ،‬أن من‬
‫النبياء من قتله أهل الكفر والشرك‪ ،‬كيحيي وزكريا عليهما السلم‬
‫وغيرهما‪ ،‬ومنهم من حاول قومه قتله إل أن الله نجاه منهم كنبينا‬
‫محمد × وعيسى ابن مريم عليه السلم‪ ،‬وكإبراهيم الذي ترك‬
‫قومه وعشيرته مهاجًرا إلى الشام‪ ,‬ونجد من أهل اليمان على مر‬
‫العصور ومر الدهور من يسام سوء العذاب وفيهم من يلقى في‬
‫خدود الرض المليئة بالنيران المحرقة‪ ،‬ومنهم من يقتل في سبيل‬
‫الله صابًرا محتسًبا مقبل ً غير مدبر‪ ،‬ومنهم من يعيش في كرب‬
‫وشدة واضطهاد‪ ،‬فأين وعد الله لهم بالنصر والظفر والتمكين؟‬
‫)‪(1‬‬ ‫وقد ُ‬
‫طردوا أو قتلوا أو عذبوا؟‬
‫يقول سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬ويدخل الشيطان إلى‬
‫النفوس من هذا المدخل‪ ،‬ويفعل بها الفاعيل‪:‬‬
‫إن الناس يقيسون بظواهر المور‪ ،‬ويغفلون عن قيم كثيرة‬
‫وحقائق كثيرة في التقدير‪.‬‬
‫إن الناس يقيسون بفترة قصيرة من الزمان وحيز محدود من‬
‫المكان وهي مقاييس بشرية صغيرة‪ ،‬فأما المقياس الشامل‪،‬‬
‫فيعرض القضية في الرقعة الفسيحة من الزمان والمكان‪ ،‬ول‬
‫يضع الحدود بين عصر وعصر‪ ،‬ول بين مكان ومكان‪ ،‬ولو نظرنا‬
‫إلى قضية اليمان والعتقاد لرأيناها تنتصر من غير شك‪ .‬وانتصار‬
‫قضية اليمان هو انتصار أصحابها‪ ،‬فليس لصحاب هذه القضية‬
‫وجود ذاتي خارج وجودها‪ ،‬وأول ما يطلبه منهم اليمان أن يفنوا‬
‫فيها ويختفوا هم ويبرزوها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬حقيقة النتصار‪ ،‬ص )‪.(14 ،13‬‬

‫‪18‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫والناس كذلك يقصرون معنى النصر على صورة معينة معهودة‬


‫لهم‪ ،‬قريبة الرؤية لعينهم‪ ،‬ولكن صور النصر شتى‪ ،‬وقد يلتبس‬
‫بعضها بصور الهزيمة عند النظرة القصيرة‪ ..‬إبراهيم عليه السلم‬
‫وهو يلقي في النار فل يرجع عن عقيدته ول عن الدعوة‬
‫إليها‪..‬أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك‬
‫‪-‬في منطق العقيدة ‪ -‬أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار‪,‬‬
‫كما أنه انتصر مرة أخرى وهو ينجو من النار‪ ،‬هذه صورة وتلك‬
‫صورة وهما في الظاهر بعيد من بعيد‪ ..‬فأما في الحقيقة قريب‬
‫)‪(1‬‬
‫من قريب(‪.‬‬
‫)وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته ولو‬
‫عاش ألف عام كما نصرها باستشهاده‪ ،‬وما كان يملك أن يودع‬
‫القلوب من المعاني الكبيرة ويحفز اللوف إلى العمال الكبيرة‪،‬‬
‫بخطبة مثل خطبته الخيرة التي يكتبها بدمه‪ ،‬فتبقى حافًزا محر ً‬
‫كا‬
‫كا لخطى التاريخ كله مدى‬ ‫للبناء والحفاد‪ ،‬وربما كانت حافًزا محر ً‬
‫)‪(2‬‬
‫أجيال(‪.‬‬
‫)إن هناك حالت كثيرة يتم فيها النصر في صورته الظاهرة القريبة‪:‬‬
‫ذلك حين تتصل هذه الصورة الظاهرة القريبة بصورة باقية ثابتة‪ ،‬لقد‬
‫في حياته‪ ،‬لن هذا النصر يرتبط بمعنى إقامة هذه‬ ‫انتصر محمد ×‬
‫العقيدة بحقيقتها الكاملة في الر ض‪ ،‬فهذه العقيدة ل يتم تمامها إل بأن‬
‫عا‪ ً،‬من القلب المفرد‬ ‫تهيمن على حياة الجماعة البشرية وتصرفها جمي‬
‫إلى الدولة الحاكمة‪ ،‬فشاء الله أن ينتصر صاحب هذه العقيدة في حياته‪،‬‬
‫ليحقق هذه العقيدة في صورتها الكاملة‪ ،‬ويترك هذه الحقيقة مقررة في‬
‫واقعية تاريخية محدودة مشهودة‪ ،‬ومن ثم اتصلت صورة النصر القريبة‬
‫بصورة أخرى بعيدة‪ ،‬واتحدت الصورة الظاهرة مع الصورة الحقيقية‬
‫وفق تقدير الله وترتيبه( )‪.(3‬‬
‫إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة‪ ،‬وصور متنوعة من‬
‫أهمها؛ تبليغ الرسالة‪ ،‬وهزيمة العداء‪ ،‬وإقامة الدولة‪.‬‬

‫الفصل الول‬
‫تبليغ الرسالة وأداء المانة‬
‫إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم‪ ،‬تمكين‬
‫الله تعالى للدعاة‪ ،‬بتبليغ الرسالة وأداء المانة‪ ،‬واستجابة الخلق‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الظلل )‪.(5/3086‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر نفسه‪.(5/3086) ،‬‬
‫‪3‬‬
‫)( المصدر نفسه‪.(5/3086) ،‬‬

‫‪19‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لهم‪ ،‬وقد أشار القرآن إلى عدة نماذج من ذلك‪:‬‬

‫المبحث الول‪ :‬أصحاب القرية‬


‫ب ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ها‬‫جاءَ َ‬ ‫ة إ ِذْ َ‬ ‫قْري َ ِ‬ ‫حا َ‬ ‫ص َ‬ ‫مث َل ً أ ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫ب لَ ُ‬ ‫ر ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫وا ْ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬‬
‫ال ْمرسُلون ‪ ‬إذْ َأ َ‬
‫عّزْزَنا‬ ‫ف َ‬ ‫ما َ‬ ‫ََ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫بو‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ث‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ِ ِ ُ‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ْ َ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫شٌر‬ ‫م إ ِل ّ ب َ َ‬ ‫ت‬
‫ْ ُ ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫لوا‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫لو‬ ‫س‬‫َ‬ ‫ر‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫كم‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫إ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫لوا‬ ‫قا‬ ‫ف َ‬ ‫ث َ‬ ‫ب َِثال ِ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ‪‬‬ ‫ذُبو َ‬ ‫ْ‬
‫م إ ِل ت َك ِ‬‫ّ‬ ‫ن أن ْت ُ ْ‬ ‫ء إِ ْ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ُْ‬ ‫من َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ل الّر ْ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫و َ‬ ‫مث ْلَُُنا َ‬ ‫ّ‬
‫غ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫علي َْنا إ ِل الب َل ُ‬ ‫َ‬ ‫ما َ‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫لو‬ ‫س‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ُ ِ ِ‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬‫ر‬‫َ‬ ‫لوا‬ ‫قا‬ ‫َ‬
‫من ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ج َ‬ ‫هوا ل َن َْر ُ‬ ‫م َتنت َ ُ‬ ‫م ل َِئن ل ّ ْ‬ ‫قاُلوا إ ِّنا ت َطَ َي ّْرَنا ب ِك ُ ْ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫مِبي ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م" ]يس‪.[18 -13 :‬‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫عذا ٌ‬ ‫َ‬ ‫مّنا َ‬ ‫سن ّكم ّ‬ ‫ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ول َي َ َ‬ ‫َ‬
‫إن أهل هذه القرية لم يستجيبوا لدعوة المرسلين‪ ،‬ومضوا في‬
‫كفرهم وعنادهم غير مبالين‪ ،‬وهددوا المرسلين بالرجم والعذاب‬
‫الليم‪ ،‬والمتأمل في اليات القرآنية تظهر له بعض معاني النصر‬
‫والتمكين‪ ،‬التي حققها المرسلون‪ ،‬وبذلك يكونون قد نصروا نصًرا‬
‫مؤزًرا‪ ،‬وأن أصحاب القرية هم الخاسرون‪ ،‬إن معاني النصر‬
‫ظهرت في الحقائق التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬تمكين الله تعالى للمرسلين بحيث استطاعوا تبليغ رسالته‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وتهديدهم ثانًيا‪ ،‬وهذه هي‬ ‫ولم يستسلموا لشبهة أهل القرية أو ً‬
‫ن" ]يس‪ [17 :‬ومن أدى ما‬ ‫مِبي ُ‬ ‫غ ال ْ ُ‬ ‫عل َي َْنا إ ِل ّ ال ْب َل َ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬ ‫مهمتهم‪َ + :‬‬
‫عليه فقد انتصر وفاز ونجح‪.‬‬
‫‪ -2‬إن استجابة رجل من أهل القرية لهم‪ ،‬وتأييده لدعوة‬
‫التوحيد علنية يعد نصًرا وانتصاًرا له ولهم‪ ،‬ولذلك كان رد أهل‬
‫فا تجاهه‪ ،‬لنهم شعروا بخذلنه لهم‪ ،‬وخذلنهم نصر‬ ‫القرية عني ً‬
‫لولئك الرسل‪.‬‬
‫‪ -3‬إن استشهاد الرجل الذي جاء من أقصى المدينة نصر له‬
‫ولدعوة التوحيد حيث استطاع أن يودع في قلوب الناس من‬
‫المعاني الكبيرة‪ ،‬ويحفز اللوف إلى العمال الكبيرة‪ ،‬بخطبة مثل‬
‫كا لهل‬ ‫خطبته الخيرة التي كتبها بدمه‪ ،‬فأصبحت حافًزا محر ً‬
‫اليمان على مر الدهور ومر العصور منذ نزول القرآن الكريم إلى‬
‫أن يرث الله الرض ومن عليها‪،‬‬
‫إن قتله في سبيل دعوة التوحيد كان سبًبا في فوزه البدي بدخول‬
‫ة" ]يس‪.[26 :‬‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ل اد ْ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫الجنة ‪ِ +‬‬
‫صا على هداية قومه‪،‬‬ ‫لقد تمكن التوحيد في قلبه فجعله حري ً‬
‫دا ول ضغينة مع تعذيب قومه له وقتله‪ ،‬وهذا انتصار‬ ‫فلم يحمل حق ً‬
‫ن ‪‬‬ ‫مو‬
‫َ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ي‬ ‫مي‬ ‫ْ ِ‬ ‫و‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ْ َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫يا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫البشرية‪:‬‬ ‫النفس‬ ‫عظيم على‬
‫ن" ]يس‪.[27 ،26 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫مكَر ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫علِني ِ‬ ‫َ‬ ‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫فَر ِلي َرّبي َ‬ ‫غ َ‬ ‫ما َ‬ ‫بِ َ‬

‫‪20‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫إن وصول دعوة التوحيد إلى أقصى المدينة دليل على المجهود‬
‫العظيم الذي بذله المرسلون وتدل على المعاني العظيمة من‬
‫الصدق والخلص التي تمكنت في نفوسهم من أجل دعوة‬
‫التوحيد‪.‬‬
‫‪ -4‬إن انتصارات هؤلء الرسل وهذا الداعية الذي جاء من‬
‫أقصى المدينة توجت بهلك القوم الذين كذبوا بدعوة المرسلين‬
‫ء‬
‫ما ِ‬‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫د ّ‬‫جن ْ ٍ‬
‫من ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫د ِ‬
‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬‫ه ِ‬ ‫م ِ‬‫و ِ‬‫ق ْ‬ ‫عَلى َ‬ ‫ما أ َن َْزل َْنا َ‬ ‫و َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫م‬
‫ُ ْ‬‫ه‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ً‬ ‫ة‬ ‫د‬ ‫ح‬
‫َ ِ َ‬ ‫وا‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ح‬ ‫ي‬‫ص‬
‫َ ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ت‬
‫َ ْ ِ‬ ‫ن‬‫كا‬‫َ‬ ‫إن‬ ‫ِ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫لي‬ ‫ز‬‫من‬
‫ّ ُ ِ ِ َ‬ ‫نا‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ما‬‫و َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]يس‪.[29 ،28 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫م ُ‬‫خا ِ‬ ‫َ‬
‫س الحاجة إلى أن يقفوا مع قصة‬ ‫إن الدعاة إلى الله في أم ّ‬
‫أصحاب القرية‪ ،‬ويتأملوا ويتفكروا في أبعادها ونهاياتها‪ .‬إنني أريد‬
‫أن أقف مع الرجل المؤمن الذي تمكن اليمان في قلبه‪ ,‬ماذا فعل‬
‫في نفسه ذلك اليمان العظيم‪ ،‬لقد وفق سيد قطب رحمه الله‬
‫في تحليل نفسية هذا النموذج الطيب والرجل المؤمن المستجيب‬
‫لدعوة الرسل‪ ،‬وحلل نفسيته الخيرة‪ ،‬فقال‪ :‬إنها استجابة الفطرة‬
‫السليمة لدعوة الحق المستقيمة‪ ،‬فيها الصدق والبساطة‪،‬‬
‫والحرارة‪ ،‬واستقامة الدراك‪ ،‬وتلبية اليقاع القوي للحق المبين‪.‬‬
‫فهذا الرجل سمع الدعوة واستجاب لها بعد ما رأى فيها دلئل‬
‫الحق والمنطق ما يتحدث عنه في مقالته لقومه وحينما استشعر‬
‫حقيقة اليمان تحركت هذه الحقيقة في ضميره فلم يطق عليها‬
‫سكوًتا‪ ،‬ولم يقبع في داره بعقيدته‪ ،‬وهو يرى الضلل من حوله‬
‫والجحود والفجور‪ ،‬ولكّنه سعى بالحق الذي استقر في ضميره‪,‬‬
‫وتحرك في شعوره‪ ،‬سعى به إلى قومه‪ ،‬وهم يكذبون ويجحدون‬
‫ددون‪.‬‬ ‫ويتوعدون ويته ّ‬
‫وجاء من أقصى المدينة يسعى ليقوم بواجبه في دعوة قومه‬
‫فهم عن البغي وفي مقاومة اعتدائهم الثيم‬ ‫إلى الحق‪ ،‬وفي ك ّ‬
‫الذي يوشكون أن يصّبوه على المرسلين‪.‬‬
‫وظاهر أن الرجل لم يكن ذا جاه ول سلطان‪ ،‬ولم يكن في‬
‫عزة من قومه أو منعة من عشيرته‪ ،‬ولكّنها العقيدة الحّية في‬
‫)‪(1‬‬
‫ضميره‪ ،‬تدفعه وتجئ به من أقصى المدينة إلى أقصاها‪.‬‬
‫ولقد أجاد المام الفخر الرازي)‪ (2‬في الشارة إلى بعض‬
‫المعاني العظيمة التي تشير إلى تمكن دعوة التوحيد في قلب‬
‫‪1‬‬
‫)( الظلل‪.(2963 -5/2962) :‬‬
‫‪2‬‬
‫حسين الرازي‪ ,‬اشتهر‬‫)( هو العالم الصولي المفسر فخر الدين بن عمر بن ال ُ‬
‫بعلم الصول والنحو والشعر والوعظ‪ ,‬وكان يوعظ باللسانين العربي والعجمي‬
‫وكان كثير البكاء‪ ,‬توفى عام ‪606‬هـ انظر‪ :‬الوفيات )‪.(248 /4‬‬

‫‪21‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الرجل المؤمن الصادق المخلص‪ ..‬وأنقل إليك بعض هذه المعاني‪:‬‬


‫صة له‬ ‫‪ -1‬إن ارتباط الرجل المؤمن مع ما سبق من آيات الق ّ‬
‫وجهان‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أنه بيان لكونهم أتوا بالبلغ المبين‪ َ ،‬حيث آمن بهم‬
‫ة"‬‫دين َ ِ‬‫م ِ‬ ‫صى ال ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫الرجل الساعي‪ ،‬وعلى هذا ففي قوله‪ِ + :‬‬
‫بلغة باهرة‪ ،‬فهو يدل على أن إنذار الرسل قد بلغ إلى أقصى‬
‫المدينة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أن ذكر قصة الرجل المؤمن بالمرسلين تسلية لقلوب‬
‫أصحاب الرسول × وتثبيتهم على الدعوة‪ ،‬كما كان ذكر الرسل‬
‫الثلثة تسلية لقلب الرسول ×‪.‬‬
‫ل" فائدتان وحكمتان‪:‬‬ ‫ج ٌ‬ ‫‪ -2‬في تنكير ‪َ+‬ر ُ‬
‫ما لشأنه‪ ،‬أي رجل كامل في الرجولّية‪.‬‬ ‫الولى‪ :‬أن يكون تعظي ً‬
‫دا لظهور الحق من جانب المرسلين‪،‬‬ ‫الثانية‪ :‬أن يكون مفي ً‬
‫حيث آمن رجل من الرجال ل معرفة لهم به‪ ،‬فل يقال إّنهم‬
‫تواطأوا‪.‬‬
‫عى" تبصير للمؤمنين وهداية لهم‪ ،‬ليكونوا‬ ‫س َ‬ ‫‪ -3‬في قوله‪+ :‬ي َ ْ‬
‫في النصح باذلين جهدهم‪ ،‬ساعين فيه‪ ،‬مقتدين بالرجل الذي جاء‬
‫يسعى‪.‬‬
‫وم ِ" معنى لطيف‪ ,‬حيث يشير إلى‬ ‫ق ْ‬ ‫‪ -4‬في قوله‪َ+ :‬يا َ‬
‫إشفاقه عليهم‪ ،‬وإضافتهم إليه دليل على أنه ل يريد بهم إل خيًرا‪.‬‬
‫ن"دعوة منه لهم إلى اتباع‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫عوا ال ْ ُ‬ ‫‪ -5‬في قوله‪+ :‬ات ّب ِ ُ‬
‫المرسلين‪ ،‬ولم يقل‪ :‬اتبعوني كما دعا مؤمن آل فرعون في سورة‬
‫غافر‪ ،‬وذلك لنه جاء من أقصى المدينة‪ ،‬ولم يكن معهم ول بينهم‪،‬‬
‫فدعا إلى اتباع المرسلين الذين أظهروا لهم الدليل‪ ،‬وأوضحوا لهم‬
‫السبيل‪.‬‬
‫ن" بين إظهار النصيحة‬ ‫سِلي َ‬‫مْر َ‬ ‫عوا ال ْ ُ‬ ‫‪ -6‬جمع في قوله‪+ :‬ات ّب ِ ُ‬
‫ن"‬ ‫َ‬ ‫لي‬
‫ِ‬ ‫س‬ ‫ر‬
‫ُ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫‪+‬‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫في‬ ‫اليمان‬ ‫عوا" وإظهار‬ ‫في قوله‪+ :‬ات ّب ِ ُ‬
‫دم النصيحة على اليمان لكونه أبلغ في النصح‪.‬‬ ‫وق ّ‬
‫هم‬‫و ُ‬ ‫‪ -7‬في قوله‪+ :‬ات ّبعوا من ل ّ يسأ َل ُك ُ َ‬
‫جًرا َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ ُ‬
‫ن" معنى حسن لطيف‪ ،‬واستخدام لحسن الساليب في‬ ‫دو َ‬ ‫هت َ ُ‬‫م ْ‬
‫ّ‬
‫النقاش والجدال والقناع‪ ،‬حيث نزل فيه درجة لقناعهم‪ ،‬وكأنه‬
‫يقول لهم‪ :‬افترضوا أنهم ليسوا مرسلين ول هداة‪ ،‬ولكنهم مهتدون‬
‫عالمون بالطريقة المستقيمة التي توصلهم إلى الحق‪ ،‬ثم هم ل‬

‫‪22‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫ل‪ ،‬وهذا المر يدعوكم إلى اتباعهم‬ ‫يسألونكم أجًرا ول ما ً‬


‫والستجابة لهم‪.‬‬
‫فطََرِني" استفهام‬ ‫ذي َ‬ ‫عب ُدُ ال ّ ِ‬‫ي ل َ أَ ْ‬ ‫ما ل ِ َ‬‫و َ‬‫‪ -8‬في قوله‪َ + :‬‬
‫استنكاري‪ ،‬وفيه إشارة إلى أن المر من جهة عبادة الله وحده ل‬
‫دم السبب الذي يمنعه من‬ ‫خفاء فيه‪ ،‬وعلى الذي ل يعبده أن يق ّ‬
‫عبادته‪ ،‬أما أنا فل أجد مانًعا يمنعني من عبادته‪.‬‬
‫فطََرِني" لطيفة‬ ‫ذي َ‬ ‫عب ُدُ ال ّ ِ‬‫ي ل َ أَ ْ‬ ‫ما ل ِ َ‬‫و َ‬‫‪ -9‬وفي قوله‪َ + :‬‬
‫أخرى‪ ،‬حيث عدل عن مخاطبة القوم إلى الحديث عن نفسه‪،‬‬
‫والحكمة في ذلك‪ ،‬وهو أنه ل يخفى عليه حال نفسه‪ ،‬ولذلك فهو ل‬
‫يطلب العلة والدليل من أحد آخر‪ ،‬لنه أعلم بحال نفسه‪.‬‬
‫فطََرِني" بين‬
‫ذي َ‬ ‫عب ُدُ ال ّ ِ‬‫ي ل َ أَ ْ‬ ‫ما ل ِ َ‬ ‫و َ‬ ‫‪ -10‬جمع في قوله‪َ + :‬‬
‫أمرين يتعلقان بإيمانه بالله‪.‬‬
‫ما‬‫و َ‬ ‫الول‪ :‬هو عدم المانع الذي يمنعه من اليمان في قوله‪َ + :‬‬
‫ذي"‪.‬‬ ‫عب ُدُ ال ّ ِ‬‫ي ل َ أَ ْ‬ ‫لِ َ‬
‫والثاني‪ :‬هو قيام المقتضى الذي يدعوه إلى اليمان‪ ،‬وهو في‬
‫فطََرِني"‪ ،‬فالله الخالق مالك ومنعم‪ ,‬وعلى العبيد‬ ‫ذي َ‬ ‫قوله‪+ :‬ال ّ ِ‬
‫عبادته وشكره‪.‬‬
‫اليمان على المقتضى الذي يدعوه‬ ‫‪ -11‬قدم عدم المانع من‬
‫فطََرِني" ولم يقل‪:‬‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ب‬‫ع‬ ‫ي ل َ أَ‬
‫ِ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ما ل ِ َ‬ ‫و َ‬ ‫لليمان في قوله‪َ + :‬‬
‫)فطركم( لنه هو الهم من المقصود من السياق‪.‬‬
‫فطََرِني" ولم يقل‪) :‬فطركم( لنه يتحدث عن‬ ‫‪ -12‬قال‪َ + :‬‬
‫د"‪ ،‬حيث‬ ‫َ‬
‫ي لَ أ ْ‬
‫عب ُ ُ‬ ‫ما ل ِ َ‬
‫و َ‬‫نفسه وليس عنهم‪ ،‬ولتناسقه مع قوله‪َ + :‬‬
‫أسند العبادة إلى نفسه فناسب أن يسند الخلق إلى نفسه‪.‬‬
‫ن" الخوف والرجاء في‬ ‫عو َ‬ ‫ج ُ‬‫ه ت ُْر َ‬ ‫وإ ِل َي ْ ِ‬
‫‪ -13‬يتضمن قوله‪َ + :‬‬
‫عبادة الله‪ ،‬فمن يكون إليه المرجع والمآب‪ ،‬يخاف منه ويرجى‪.‬‬
‫وإ ِل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫‪ -14‬هناك حكمة لطيفة من اللتفات إليهم في قوله‪َ + :‬‬
‫ن" ليبين الفرق بينه وبينهم من الرجوع إلى الله‪ ،‬فرجوعه‬ ‫عو َ‬ ‫ج ُ‬
‫ت ُْر َ‬
‫هو إلى الله ليس كرجوعهم هم‪.‬‬
‫رجوعه هو إلى الله رجوع العابد المؤمن بالله‪ ،‬ولهذا رجوعه‬
‫للكرام والنعام‪ ،‬أما رجوعهم هم‪ ،‬فهو رجوع الكافر العاصي‪،‬‬
‫ذب‪ ,‬فرجوعهم للعذاب والهانة وشتان بين‬ ‫ليحاسب ويعاقب ويع ّ‬
‫رجوعين‪.‬‬
‫ة" إشارة إلى كمال‬ ‫ه ً‬‫ه آل ِ َ‬ ‫دون ِ ِ‬ ‫من ُ‬ ‫خذ ُ ِ‬ ‫‪ -15‬في قوله‪+ :‬أ َأ َت ّ ِ‬

‫‪23‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ه‬‫وإ ِل َي ْ ِ‬
‫فطَ ََر َِني َ‬ ‫ذي َ‬ ‫عب ُدُ ال ّ ِ‬‫ي ل َ أَ ْ‬ ‫ما ل ِ َ‬ ‫و َ‬ ‫التوحيد‪ ،‬فقوله‪َ + :‬‬
‫ه‬‫دون ِ ِ‬ ‫من ُ‬ ‫خذ ُ ِ‬ ‫ن" إشارة إلى وجود الله‪ ،‬وفي قوله‪+:‬أأت ّ ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫ت ُْر َ‬
‫ة" إشارة إلى نفي الشرك به وعدم عبادة غيره‪.‬‬ ‫ه ً‬ ‫آل ِ َ‬
‫ة" إشارة لطيفة‪ ،‬فالدونية هنا‬ ‫ه ً‬
‫ه آل ِ َ‬ ‫دون ِ ِ‬ ‫من ُ‬ ‫‪ -16‬في قوله‪ِ + :‬‬
‫مقصودة فبما أنه ثبت أن الله وحده هو الخالق المعبود‪ ،‬فكل غير‬
‫ه"" وهؤلء جميًعا مشتركون في كونهم مخلوقين‬ ‫دون ِ ِ‬
‫الله هم ‪ُ ++‬‬
‫ضعفاء‪ ،‬محتاجين إلى الله‪ ،‬مفتقرين إليه؛ ولذلك يجب أن يكونوا‬
‫جميًعا عابدين له‪ ،‬وبما أنهم كلهم )من دونه شركاء في الدونية(‬
‫فكيف يكون من بينهم آلهة؟!‬
‫م" يخاطب الجميع‪ ،‬سواء‬ ‫ت ب َِرب ّك ُ ْ‬ ‫من ُ‬ ‫‪ -17‬في قوله‪+ :‬إ ِّني آ َ‬
‫كانوا من المرسلين أو من أهل القرية‪ ،‬لكنه أول ما يتوجه إلى‬
‫أهل القرية‪ ،‬حيث يثبت لهم أن الله وحده رّبهم‪.‬‬
‫ن" ما يدل على أنه كان متروًيا‬ ‫عو ِ‬ ‫م ُ‬ ‫س َ‬ ‫فا ْ‬ ‫‪ -18‬في قوله‪َ + :‬‬
‫مفكًرا‪ ،‬فإن المتكلم إذا كان يعلم أن لكلمه جماعة سامعين‪ ،‬فإنه‬
‫يتفكر فيه‪ ،‬كما أنه يقصد أن ُيسمعهم ليقيم الحجة عليهم‪ ،‬وكأنه‬
‫يقول لهم‪ :‬إني أخبرتكم بما فعلت‪ ،‬حتى ل تقولوا لم أخفيت عنا‬
‫أمرك‪ ،‬ولو أظهرت أمرك لتبعناك‪.‬‬
‫ن" ليس مجرد‬ ‫عو ِ‬ ‫م ُ‬
‫س َ‬ ‫فا ْ‬ ‫‪ -19‬المراد بالسماع في قوله‪َ + :‬‬
‫سماع الصوت‪ ،‬بل قبول الدعوة‪ ،‬والستجابة لصوت الحق‬
‫)‪(1‬‬
‫والدخول في اليمان‪.‬‬
‫إن هذه المنهجية الفريدة مع صدق الدعوة وإخلص التوجه‪،‬‬
‫والحرص على الهداية‪ ،‬وظهور الشجاعة‪ ،‬وترتيب الفكار‪ ،‬وقوة‬
‫المنطق ترجع إلى تمكن اليمان الحقيقي في قلب ذلك الرجل‬
‫الرباني‪ ،‬كما أن المرسلين الذين استطاعوا أن يضموا إلى موكب‬
‫اليمان وقافلة الدعوة مثل هذا الرجل المخلص َلدَليل على نصر‬
‫الله لهم وتمكين دعوتهم وظهور حجتهم‪ .‬إن دعوة الله يستجيب‬
‫لها من اتصف بصفة الرجولة‪ ,‬وهناك فرق بين الرجولة والذكورة‪،‬‬
‫فإن الذكورة تقابل النوثة‪ ،‬فالزوجان هما الذكر والنثى‪.‬‬
‫والذكورة صفة جسدية بدنية ليس إل؛ لكن ّالرجولة تشير إلى‬
‫مل ّ والشجاعة والثبات‪ ،‬فهي تشير إلى صفات‬ ‫الشدة والقوة والتح‬
‫نفسية‪ ،‬ومزايا معنوية‪ ،‬وفضائل أخلقية‪.‬‬
‫ولعله لجل هذا وردت صفة الرجولة َفي مقام مدح وثناء‬
‫عى‬ ‫س َ‬‫ة يَ ْ‬ ‫دين َ ِ‬ ‫م ِ‬‫صى ال ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ّ‬ ‫ج ٌ‬ ‫جاءَ َر ُ‬ ‫وإشارة‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬و‬
‫ن ال ْ َم َ َ‬
‫ل‪] "...‬القصص‪.[20 :‬‬ ‫َ‬ ‫سى إ ِ ّ‬ ‫مو َ‬
‫ل َيا ُ‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫عى‬ ‫س َ‬ ‫ل يَ ْ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ة َر ُ‬‫دين َ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫صى ال ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫جاءَ ِ‬ ‫و َ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير الرازي )‪ (60-26/54‬مع التصرف‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫]يس‪.[20:‬‬ ‫ن"‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫عوا ال ْ ُ‬ ‫وم ِ ات ّب ِ ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ل َيا َ‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬


‫م‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬ ‫فْر َ‬ ‫ل ِ‬ ‫نآ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ّ‬ ‫م ٌ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ّ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫وقال تعالى‪َ +:‬‬
‫ه" ]غافر‪.[28:‬‬ ‫مان َ ُ‬ ‫ِإي َ‬
‫دوا‬ ‫ه ُ‬‫عا َ‬ ‫ما َ‬ ‫قوا َ‬ ‫صد َ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ر َ‬ ‫ن ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫وقال تعالى‪ِ +:‬‬
‫ما‬ ‫و‬
‫َ َ ِ ُ َ َ‬ ‫ر‬ ‫ظ‬ ‫ت‬ ‫ين‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫هم‬ ‫ن‬‫م‬ ‫و‬
‫َ ْ َ ُ َ ِ ْ ُ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫ن‬ ‫ضى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫هم‬ ‫من ْ ُ‬‫ف ِ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫ه َ‬ ‫الل َ‬
‫ديل " ]الحزاب‪.[23 :‬‬ ‫ً‬ ‫ب َدُّلوا ت َب ْ ِ‬
‫ها‬ ‫في َ‬ ‫وي ُذْك ََر ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ف َ‬ ‫ه َأن ت ُْر َ‬ ‫الل ُ‬ ‫ن‬
‫ت أِذ َ‬
‫َ‬
‫في ب ُُيو ٍ‬ ‫وقال تعالى‪ِ +:‬‬
‫م‬ ‫ه ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ح لَ ُ‬
‫هي َ ِ‬ ‫جال ل ت ُل ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ل‪ِ ‬‬ ‫صا ِ‬ ‫وال َ‬ ‫و َ‬ ‫غد ُ ّ‬ ‫ها ِبال ُ‬
‫ْ‬
‫في َ‬ ‫ه ِ‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫ه يُ َ‬ ‫م ُ‬
‫س ُ‬ ‫ا ْ‬
‫ة"‬ ‫ء الّزكا ِ‬ ‫وِإيَتا ِ‬ ‫َ‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ص‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫إ‬
‫َ ِ‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ذ‬
‫ِ‬ ‫عن‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ة‬ ‫ر‬‫تِ َ َ‬
‫جا‬
‫]النور‪.[37 ،36 :‬‬
‫َ‬
‫ب‬‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫والل ُ‬ ‫هُروا َ‬ ‫ن أن ي َت َطَ ّ‬ ‫حّبو َ‬ ‫ل يّ ِ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ر َ‬ ‫ه ِ‬ ‫في ِ‬ ‫وقال تعالى‪ِ +:‬‬
‫ن" ]التوبة‪.[108 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫ه ِ‬ ‫مطّ ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ما‪،‬‬‫فا إيمانًيا عظي ً‬ ‫إن خطوة ذلك الرجل المؤمن تعتبر موق ً‬
‫وتدل على أن الحياة فعل ً مواقف‪ ،‬وأن الرجال بمواقفهم ل‬
‫بأعمارهم‪ ،‬لقد آمن في وقت المحنة والشدة والبتلء‪ ،‬واّتبع‬
‫المرسلين وهم مستضعفون‪ ،‬وتحدى بذلك القوة المادية الغاشمة‪،‬‬
‫وأعلن عن إيمانه وطلب أن يسمعوه‪ ،‬مع أنه يرى الخطر أمامه‪،‬‬
‫ويتوقع أن يناله الذى والمكروه‪ ،‬وقد يؤدي موقفه إلى إزهاق‬
‫روحه‪ ،‬ومع ذلك آمن وأعلن إيمانه‪ ،‬واستعد لتحمل نتيجة موقفه‪.‬‬
‫)‪(1‬‬

‫إن الذين يسعون لتمكين شرع الله في دنيا الناس عليهم أن‬
‫يتصفوا بصفات الرجولة ويحرصوا على ضم من تظهر فيهم هذه‬
‫الصفات الجميلة إلى صفوفهم‪.‬‬
‫ما بارًزا على طريق‬ ‫سا ومعل ً‬‫إن ذلك الرجل الرباني أصبح نبرا ً‬
‫الدعوة‪ ،‬يقتدي به الدعاة في انحيازهم إلى جانب الحق والتزامه‬
‫ت‬‫من ُ‬
‫والدعوة إليه‪ ،‬ولسان حال أحدهم يقول للخرين‪+ :‬إ ِّني آ َ‬
‫ن"‪.‬‬
‫عو ِ‬
‫م ُ‬
‫س َ‬‫فا ْ‬ ‫ب َِرب ّك ُ ْ‬
‫م َ‬
‫إن انتصار منهج الله والتمكين له وتعرف الناس عليه‪ ،‬يحتاج‬
‫إلى رجال يرفعون أصواتهم حتى يسمع الخرون‪ ،‬إن جمال الحياة‬
‫ورونقها البهي وحلوتها النضرة تكون بنصرة الحق ودك الباطل‬
‫في حصونه‪.‬‬
‫وإن المواقف اليمانية ابتغاء مرضاة الله رفعة للداعية في‬
‫الدنيا والخرة‪.‬‬
‫ما الرابحون‪ ،‬فعندما يدفع‬ ‫إن أصحاب المواقف اليمانية هم دائ ً‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مع قصص السابقين للخالدى )‪.(7/256‬‬

‫‪25‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫النسان المؤمن حياته وعمره ودنياه‪ ،‬وهو هبة ومنحة وعطية‬


‫وفضل من الله مقابل الجنة والنعيم الدائم والخلود البدي يكون‬
‫ما‪.‬‬
‫حا وفيًرا وفاز فوًزا عظي ً‬
‫ربح رب ً‬
‫إن أهل اليمان يكظمون غيظهم‪ ،‬ويحلمون على الجهلة‬
‫والصبر على دعوة الشرار وأهل البغي والسعي في تخليصهم‪,‬‬
‫ويبتعدون عن الشماتة بالعداء‪ ,‬أل ترى كيف تمنى الرجل الرباني‬
‫)‪(1‬‬
‫الخير لقتلته‪ ،‬والباغين له الغوائل‪ ،‬وهم كفرة عبده أصنام‪.‬‬
‫إن دخول الجنة مع الشهادة في سبيل الله نوع من التمكين‪،‬‬
‫واستئصال أهل الشرك الذين عاندوا الدعاة نوع من النصر لولياء‬
‫الله‪.‬‬

‫المبحث الثاني‬
‫أصحـــــاب الخــــــــــدود‬
‫إن قصة الغلم مع الملك الكافر من أوضح القصص في تمكين‬
‫الله تعالى للدعاة في تبليغ رسالتهم وأداء أمانتهم‪.‬‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬كان فيمن كان قبلكم ملك وكان له‬
‫ساحر‪ ،‬فلما كبر الساحر قال للملك‪ :‬إني قد كبر سني‪ ،‬وحضر‬
‫ما كان يعلمه‬‫ما لعلمه السحر‪ ،‬فدفع إليه غل ً‬ ‫ى غل ً‬‫أجلي‪ ،‬فادفع إل ّ‬
‫السحر‪ ،‬وكان بين الساحر وبين الملك راهب‪ ،‬فأتى الغلم على‬
‫الراهب فسمع من كلمه فأعجبه نحوه وكلمه‪ ،‬وكان إذا أتى‬
‫الساحر ضربه‪ ،‬قال‪ :‬ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫إذا أراد الساحر أن يضربك فقل‪ :‬حبسني أهلي‪ ،‬وإذا أراد أهلك أن‬
‫يضربوك فقل‪ :‬حبسني الساحر‪ ،‬فبينما هو ذات يوم إذ أتى على‬
‫دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فل يستطيعون أن يجوزوا‪،‬‬
‫فقال‪ :‬اليوم أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فأخذ حجًرا‪ ،‬فقال‪ :‬اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى‬
‫من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس‪ ،‬ورماها‬
‫فقتلها‪ ،‬ومضى الناس‪ ،‬فأخبر الراهب بذلك‪ ،‬فقال‪ :‬أي بنى أنت‬
‫ى؛ فكان الغلم ُيبرئ‬ ‫أفضل مني‪ ,‬ستبتلي‪ ،‬فإن ابتليت فل تدل عل ّ‬
‫الكمه والبرص وسائر الدواء ويشفيهم بإذن الله‪ ,‬وكان للملك‬
‫جليس فعمى‪ ،‬فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة‪ ،‬فقال‪ :‬اشفني‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ل‪ ،‬فإن آمنت به دعوت‬ ‫ج ّ‬
‫دا‪ ،‬إنما يشفى الله عَّز وَ َ‬‫ما أنا أشفى أح ً‬
‫الله فشفاك‪ ،‬فآمن فدعا الله فشفاه‪ ،‬ثم أتى الملك فجلس منه‬
‫نحو ما كان يجلس‪ ،‬فقال له الملك‪ :‬يا فلن‪ ،‬من رد ّ عليك بصرك؟‬
‫فقال‪ :‬ربي‪ ،‬فقال‪ :‬أنا؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬ربي وربك الله‪ ،‬قال‪ :‬أو لك رب‬

‫‪1‬‬
‫)( المصدر السابق‪.(7/260) ،‬‬

‫‪26‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫غيري؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬ربي الله وربك الله‪ ،‬فلم يزل يعذبه حتى د ّ‬
‫ل‬
‫على الغلم‪ ،‬فبعث إليه فقال‪ :‬أي بنى‪ ،‬بلغ من سحرك أن تبرئ‬
‫دا‪ ،‬إنما يشفى‬ ‫الكمه والبرص‪ ،‬وهذه الدواء؟ قال‪ :‬ما أشفى أح ً‬
‫ل‪ ،‬قال‪ :‬أنا؟ قال‪ :‬ل‪ .‬قال‪ :‬ولك رب غيري؟ قال‪ :‬ربي‬ ‫ج ّ‬
‫الله عَّز وَ َ‬
‫ضا بالعذاب لم يزل به حتى دل على الراهب‪،‬‬ ‫وربك الله‪ ،‬فأخذه أي ً‬
‫فأتى الراهب‪ ،‬فقال‪ :‬ارجع عن دينك‪ ،‬فأبي فوضع المنشار في‬
‫مفرق رأسه حتى وقع شقاه إلى الرض‪ ،‬وقال للغلم‪ :‬ارجع عن‬
‫دينك‪ ،‬فأبي‪ ،‬فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا‪ ،‬فقال‪ :‬إذا بلغتم‬
‫ذروته فإن رجع عن دينه وإل فدهدهوا‪ ،‬فذهبوا به‪ ،‬فلما علوا به‬
‫الجبل‪ ،‬قال‪ :‬اللهم اكفنيهم بما شئت‪ ،‬فرجف بهم الجبل فدهدهو‪،‬‬
‫أجمعون‪ ،‬وجاء الغلم يلتمس حتى دخل على الملك فقال‪ :‬ما فعل‬
‫أصحابك‪ ،‬فقال‪ :‬كفانيهم الله ‪ -‬تعالى ‪ ,-‬فبعث به مع نفر في‬
‫قرقور في البحر‪ ،‬فقال‪ :‬إذا لججتم به البحر فإن رجع عن دينه وإل‬
‫فغّرقوه في البحر‪ ،‬فلججوا به البحر‪ ،‬فقال‪ :‬الغلم‪ :‬اللهم اكفنيهم‬
‫بما شئت‪ ،‬فغرقوا أجمعون‪ ،‬وجاء الغلم حتى دخل على الملك‪،‬‬
‫فقال‪ :‬ما فعل أصحابك؟ فقال‪ :‬كفانيهم الله تعالى‪ ،‬ثم قال للملك‪:‬‬
‫إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به‪ ،‬فإن أنت فعلت ما آمرك‬
‫به قتلتني‪ ،‬وإل فإنك ل تستطيع قتلي‪ ،‬قال‪ :‬وما هو؟ قال‪ :‬تجمع‬
‫ما من‬‫الناس في صعيد واحد‪ ،‬ثم تصلبني على جذع وتأخذ سه ً‬
‫كنانتي‪ ،‬ثم قل‪ :‬بسم الله رب الغلم‪ ،‬فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني‪،‬‬
‫ففعل‪ ,‬وضع السهم في كبد قوسه‪ ،‬ثم رماه‪ ،‬وقال‪ :‬بسم الله رب‬
‫الغلم‪ ،‬فوقع السهم في صدغه‪ ،‬فوضع الغلم يده على موضع‬
‫السهم ومات‪ ،‬فقال الناس‪ :‬آمنا برب الغلم‪.‬‬
‫فقيل للملك‪ :‬أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك‪ ،‬قد آمن‬
‫دد ّ فيها الخاديد‪ ،‬وأضرمت فيها‬ ‫الناس كلهم‪ ،‬فأمر بأفواه السكك فخ‬
‫النيران‪ ،‬وقال‪ :‬من رجع عن دينه فدعوه‪ ،‬وإل فأقحموه فيها‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فكانوا يتعادون ويتدافعون‪ ،‬فجاءت امرأة بابن لها ترضعه‪ ،‬فكأنما‬
‫ماه فإنك على‬ ‫أن تقع في النار‪ ،‬فقال الصبي‪ :‬اصبرى يا أ ّ‬ ‫تقاعست‬
‫)‪(1‬‬
‫الحق«‪.‬‬
‫لقد انتصر الغلم بعقيدته على الملك الكافر‪ ،‬وتمكن منهجه‬
‫الرباني في نفوس رعايا الملك المشرك الغادر‪ ,‬وثبتوا على‬
‫عقيدتهم وضحوا بأنفسهم من أجل إيمانهم وعلموا البشرية معنى‬
‫من معاني النتصار‪.‬‬
‫قال سيد قطب رحمه الله‪) :‬في حساب الرض يبدو أن‬
‫الطغيان قد انتصر على اليمان‪ ,‬وأن هذا اليمان الذي بلغ تلك‬
‫الذروة العالية في نفوس الفئة الخيرية الكريمة الثابتة المستعلية‪،‬‬
‫لم يكن له وزن ول حساب في المعركة التي دارت بين اليمان‬
‫‪1‬‬
‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الزهد والرقائق‪ ،‬باب أصحاب الخدود )‪ (3/2299‬رقم ‪.3005‬‬

‫‪27‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والطغيان‪.‬‬
‫في حساب الرض تبدو هذه الخاتمة أسيفة أليمة‪.‬‬
‫ولكن القرآن يعلم المؤمنين شيًئا آخر‪ ،‬ويكشف لهم عن‬
‫حقيقة أخرى‪.‬‬
‫إن الحياة وسائر ما يلبسها من لذائذ وآلم‪ ,‬ومن متاع‬
‫وحرمان‪ ،‬ليست هي القيمة الكبرى في الميزان‪ ،‬وليست هي‬
‫السلعة التي تقرر حساب الربح والخسارة‪ ،‬والنصر ليس مقصوًرا‬
‫على الغلبة الظاهرة‪ ،‬فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة‪.‬‬
‫جمي ًيموتون‪ ،‬وتختلف السباب‪ ،‬ولكن الناس ل‬ ‫إن الناس عا‬
‫جمي ً‪ -‬هذا النتصار‪ ،‬ول يرتفعون هذا الرتفاع‪ ،‬ول‬ ‫ينتصرون ‪ -‬عا‬
‫يتحررون هذا التحرر‪ ،‬ول ينطلقون هذا النطلق إلى هذه الفاق‪ ،‬إنما‬
‫هو اختيار الله وتكريمه لفئة كريمة من عباده‪ ،‬تشارك الناس في‬
‫الموت‪ ،‬وتنفرد دون كثير من الناس في المجد‪ ،‬المجد في المل‬
‫ضا ً‪ -‬إذا نحن وضعنا في الحساب نظرة‬ ‫العلى‪ ،‬وفي دنيا الناس ‪ -‬أي‬
‫الجيال بعد الجيال لقد كان في استطاعة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم‬
‫في مقابل الهزيمة ليمانهم‪ ،‬ولكن كم يخسرون أنفسهم‪ ،‬وكم كانت‬
‫البشرية كلها تخسر‪ ،‬كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى‬
‫رية‪ ،‬وانحطاطها‬ ‫الكبير‪ ،‬معنى زهادة الحياة بل عقيدة‪ ،‬وبشاعتها بل ح ّ‬
‫حين يسيطر الطغاة على الرواح‪ ،‬بعد سيطرتهم على الجساد‪.‬‬
‫د"‬‫مي ِ‬
‫ح ِ‬‫ز ال ْ َ‬
‫زي ِ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫ع ِ‬ ‫مُنوا ِبالل ِ‬ ‫م إ ِل ّ َأن ي ُ ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ه ْ‬‫من ْ ُ‬
‫موا ِ‬‫ق ُ‬‫ما ن َ َ‬
‫و َ‬
‫‪َ +‬‬
‫]البروج‪ .[8 :‬حقيقة ينبغي أن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله‪،‬‬
‫في كل أرض‪ ،‬وفي كل جيل‪.‬‬
‫إن المعركة بين المؤمنين وخصومهم هي في صميمها معركة‬
‫شي ًآخر على الطلق‪ ,‬وإن خصومهم ل ينقمون‬ ‫عقيدة‪ ،‬وليست ئا‬
‫)‪(1‬‬
‫منهم إل اليمان‪ ،‬ول يسخطون منهم إل العقيدة‪.‬‬
‫إن المتأمل في قصة الغلم يجد أن الغلم انتصر بعقيدته‬
‫ومنهجه‪ ,‬وكذلك الراهب الذي ثبت من أجل أن تبقي عقيدته في‬
‫مقابل أن تزهق روحه‪ ،‬أما العمى فقد انتصر مرتين‪ ،‬انتصر عندما‬
‫تخلى عن مكانته عند الملك مع ما في ذلك من جاه ومكانة‪،‬‬
‫وانتصر عندما تخلى عن حياته في مقابل عقيدته‪.‬‬
‫إن الراهب والعمى قد خّلدا لنا معاني عظيمة من معاني‬
‫دا عن التأويل والتبرير الذي يغطي فيه كثير‬ ‫النتصار الحقيقي‪ ،‬بعي ً‬
‫من الناس ضعفهم وخورهم بستار يوهمون فيه الخرين أنهم‬
‫فعلوا ذلك من أجل الدين‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬معالم في الطريق‪ :‬فصل‪ :‬هذا هو الطريق‪ ،‬ص ‪.173‬‬

‫‪28‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫لقد كان الغلم ذكًيا ألمعًيا‪ ,‬وحين سنحت له فرصة عظيمة في‬
‫تبليغ رسالة ربه‪ ،‬اغتنمها وحقق معاني عظيمة في مفهوم النصر‬
‫والتمكين‪.‬‬
‫لقد انتصر الغلم بقوة فهمه وإدراكه لقصر وأسلم الطرق لنصرة‬
‫دينه وعقيدته‪ ،‬وإخراج أمته من الضلل إلى الهدى‪ ،‬ومن الكفر إلى‬
‫اليمان‪ ,‬وانتصر عندما وفق لتخاذ القرار الحاسم في الوقت‬
‫المناسب‪ ،‬متخطيا ً جميع العقبات‪ ،‬ومستعليا ً على الشهوات وحظوظ‬
‫النفس ومتاع الحياة الدنيا‪ ،‬وانتصر على هذا الملك المتجبر‬
‫المتغطرس‪ ،‬الذي أعمى الله قلبه‪ ،‬فأخرب ملكه بيده‪ ،‬فإنها ل تعمى‬
‫البصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور‪.‬‬
‫إن الغلم كان عبقرًيا عندما خطط لهلك الملك الكافر‬
‫وعندما رسم طريقه لنيل الشهادة في سبيل الله‪.‬‬
‫لقد كان النتصار العظيم في المعركة بين الكفر واليمان‬
‫لصالح موكب التوحيد‪ ،‬لقد استشهد فرد وحيت بسببه أمة فآمنت‬
‫برب الغلم‪.‬‬
‫إن دقة التخطيط وبراعة التنفيذ‪ ،‬وسلمة التقدير‪ ،‬نجاح باهر‪،‬‬
‫وفوز ظاهر‪.‬‬
‫لقد انتصر الغلم عندما جعله الله قدوة لمن بعده‪ ،‬وأبقى له‬
‫ذكًرا حسًنا على لسان المؤمنين‪ ،‬حيث جعل الله له لسان صدق‬
‫في الخرين‪ ،‬لقد كانت انتصارات متلحقة ووصلت إلى ذروتها‬
‫عندما آمن الناس برب الغلم‪ ,‬آمنوا بالله وحده وكفروا‬
‫بالطاغوت‪ ،‬وهنالك جن جنون الملك‪ ،‬فقد صوابه‪ ،‬فاستخدم كل ما‬
‫يملك من وسائل الرهاب والتخويف‪ ،‬في محاولة يائسة‪ ،‬للبقاء‬
‫على هيبته وسلطانه وتعبيد الناس له‪.‬‬
‫ثم يحفر أخاديده‪ ،‬ويوقد نيرانه‪ ،‬ويأمر زبانيته وجنوده بإلقاء‬
‫المؤمنين في النار‪ ،‬وتأتي المفاجأة المذهلة‪ ،‬بدل أن يضعف من‬
‫يضعف‪ ،‬ويهرب من يهرب‪ ,‬إذا نجد القدام والشجاعة‪ ،‬وذلك بالتدافع‬
‫إلى النار ول غريب‪ ،‬لن اليمان بث في نفوسهم الشجاعة‪ ،‬والثبات‪,‬‬
‫دون في اللحاق بالغلم‪ ،‬وكأنهم يتلذذون في تقديم‬ ‫وها هم يج ّ‬
‫أرواحهم فداًء لعقيدتهم ودينهم‪.‬‬
‫إن اليمان الحقيقي يصنع بالمم الغرائب‪ ,‬ويبدد الظلم‬
‫الطويل الذي عاشوه‪ ،‬والسنوات المديدة التي استعبدهم فيها‬
‫الطغاة‪ ،‬ومع قصر المدة التي قد يأتي فيها اليمان إلى النفوس إل‬
‫أنه كفيل بتعريف الناس بحقيقة المنهج الرباني كما نرى في هذه‬
‫المة السعيدة التي آمنت برب الغلم‪ ،‬وكأنهم عرفوا المنهج‬
‫وعاشوا فيه كما عاش الراهب طوال عمره‪ ،‬أو تربوا عليه كما‬
‫تربي الغلم في صباه‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن حقيقة اليمان عندما تخالط بشاشة القلوب‪ ،‬وتلمس‬


‫الرواح تفعل العجب‪.‬‬
‫لقد كان انتصار الناس الذين آمنوا برب الغلم انتصاًرا جماعًيا‬
‫كا يدل على صفاء العقيدة‪ ،‬ووضوح المنهج‪ ،‬وسلمة الطريق‪،‬‬ ‫مبار ً‬
‫وفهم لحقيقة النتصار‪.‬‬
‫سّنة أي ذكر لهؤلء الظلمة‪،‬‬ ‫إننا ل نجد في القرآن ول في ال ّ‬
‫وماذا كان مصيرهم في الدنيا‪ ,‬ولله في ذلك حكمة قد تخفى‬
‫علينا )‪ ..(1‬نعم وردت آية في آخر قصتهم فيها دعوة لهم وتحذير‪:‬‬
‫م ي َُتوُبوا‬ ‫م لَ ْ‬ ‫ت ثُ ّ‬ ‫مَنا ِ‬
‫ؤ ِ‬‫م ْ‬ ‫وال ْ ُ‬‫ن َ‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫فت َُنوا ال ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫‪+‬إ ِ ّ‬
‫ق" ]البروج‪.[10 :‬‬ ‫ري‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ه‬‫َ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ب‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫فل َ ُ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫ِ ِ‬
‫)‪(2‬‬
‫قال الحسن البصري ‪» :‬انظروا إلى هذا الكرم والجود‪ ،‬قتلوا‬
‫)‪(3‬‬
‫أولياءه‪ ،‬وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة«‪.‬‬
‫ن المنتصر؟‬ ‫م ْ‬ ‫أن هذه النهاية تحقق معنى من معاني النتصار‪َ ،‬‬
‫حّرق بضع دقائق‪ ،‬ثم انتقل إلى‬ ‫الذي نصر عقيدته ودين ربه‪ ،‬و ُ‬
‫جنات النعيم‪ ،‬أو ذلك الذي تمتع بأيام في الحياة الدنيا ثم مآله ‪-‬‬
‫إن لم يتب ‪ -‬إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق؟‬
‫هل هناك مقارنة بين الحريق الول‪ ،‬والحريق الثاني‪ ..‬حريق الدنيا‬
‫وحريق الخرة؟ إنها نقلة بعيدة‪ ،‬وبون شاسع‪ ،‬أما المؤمنون الذين‬
‫هاُر"‬ ‫ها الن ْ َ‬ ‫حت ِ َ‬‫من ت َ ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٌ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫رقوا في الدنيا‪ ،‬فـ ‪+‬ل َ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ُ‬
‫وُز‬ ‫ْ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫‪+‬‬ ‫جدال‪:‬‬ ‫ول‬ ‫فيها‬ ‫مراء‬ ‫ل‬ ‫التي‬ ‫النتيجة‬ ‫وتعلن‬ ‫[‬ ‫‪11‬‬ ‫‪،‬‬ ‫]البروج‪:‬‬
‫م" أليس هذا هو النتصار؟ )‪ (4‬هذا في الخرة‪ ,‬وفي الدنيا‬ ‫ظي ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫تمكن المنهج من قلوب الناس وتم ظهوره‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬حقيقة النتصار ص )‪(14 ،13‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو سيد التابعين الحسن بن أبي الحسن يسار البصري النصاري مولهم زاهد‬
‫فاضل ثقة‪ ,‬كان من أفصح الناس وأجملهم‪ ,‬توفى ‪110‬هـ وهو ابن ‪) 88‬تهذيب‬
‫التهذيب ‪.(270 -2/263‬‬
‫‪3‬‬
‫)( تفسير ابن كثير )‪.(4/496‬‬
‫‪4‬‬
‫)( انظر‪ :‬حقيقة النتصار ص)‪.(55‬‬

‫‪30‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثالث‬
‫تمكين الله تعالى لرسول الله × لتبليغ الرسالة في مكة‬
‫بعد العداد الرفيع الذي قام به النبي × لتربية أصحابه‪ ,‬وبناء‬
‫القاعدة الصلبة على أسس عقدية وخلقية وأمنية وتنظيمية‪ ،‬وبعد‬
‫أن قطع المرحلة السرية بكل نجاح وتفوق‪ ،‬نزل قول الله تعالى‪:‬‬
‫ن" ]الشعراء‪ [214 :‬فخرج رسول الله‬ ‫شيَرت َ َ‬
‫ك ال ْ‬ ‫‪َ +‬‬
‫قَرِبي َ‬ ‫ع ِ‬
‫ذْر َ‬‫وأن ِ‬
‫َ‬
‫× حتى صعد الصفا فهتف‪» :‬يا صباحاه«‪ ،‬فاجتمعت إليه قريش‪،‬‬
‫فقال‪» :‬يا بنى فلن‪ ،‬يا بنى عبد مناف‪ ،‬يا بنى عبد المطلب‪،‬‬
‫أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيل ً تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم‬
‫ي؟« قالوا‪ :‬ما جربّنا عليك كذًبا‪ .‬قال‪» :‬فإني نذير لكم بين‬ ‫مصدق ّ‬
‫يدي عذاب شديد« فقال أبو لهب‪ :‬تًبا لك‪ ،‬أما جمعتنا إل لهذا‪ ,‬ثم‬
‫َ‬
‫ب" ]المسد‪.[1:‬‬‫وت َ ّ‬
‫ب َ‬ ‫دا أِبي ل َ َ‬
‫ه ٍ‬ ‫ت يَ َ‬
‫قام فنزلت هذه السورة ‪+‬ت َب ّ ْ‬
‫من الطبيعي أن يبدأ الرسول × دعوته العلنية بإنذار عشيرته‬
‫القربين‪ ،‬إذ إن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية‪ ،‬فبدء الدعوة‬
‫بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته‪ ،‬كما أن القيام‬
‫بالدعوة في مكة ل بد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد من‬
‫مركز ديني خطير‪ ،‬فجلبها إلى حظيرة السلم ل بد أن يكون له‬
‫وقع كبير على بقية القبائل‪ ،‬على أن هذا ل يعنى أن رسالة‬
‫السلم كانت في أدوارها الولى محدودة بقريش‪ ،‬لن السلم كما‬
‫يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق‬
‫)‪(1‬‬
‫رسالته العالمية‪.‬‬
‫ولقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الصدع هي الصد والعراض‬
‫والسخرية واليذاء والتكذيب‪ ،‬والكيد المدبر المدروس‪ ،‬ولقد اشتد‬
‫الصراع بين النبي × وأصحابه‪ ،‬وبين شيوخ الوثنية وزعمائها‪،‬‬
‫وأصبح الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان‪،‬‬
‫وهذا في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة‪ ،‬ساهم في أشد وألد‬
‫أعدائها‪ ،‬ممن كانوا يشيعون في القبائل قالة السوء عنها‪ ،‬فليس‬
‫سّلمون بدعاوى القرشيين‪ ،‬بل كان يوجد من مختلف‬ ‫كل الناس ي ُ َ‬
‫القبائل من يتابع الخبار‪ ،‬ويتحرى الصواب فيظفر به‪.‬‬
‫وكانت الوسيلة العلمية في ذلك العصر تناقل الناس للخبار‬
‫مشافهة‪ ,‬وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول ×‪ ،‬وأصبح هذا‬
‫الحدث العظيم حدث الناس في كل مكان‪ ،‬وبدأ رسول الله ×‬
‫يشق طريقه لكسر الحصار المفروض على الدعوة‪ ،‬والنتقال بها‬
‫إلى مواقع جديدة‪ ،‬وسنرى ذلك في عرضه للدعوة على القبائل‪،‬‬
‫والخروج للطائف‪ ،‬وهجرة الحبشة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( دراسة في السيرة النبوية‪ ،‬د‪ .‬عماد الدين خليل ص ‪.125 ،124‬‬

‫‪31‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لقد كان أولى الناس بتوجيه الدعوة إليهم‪ :‬قريش وأهل مكة‬
‫وبالخص عشيرة النبي × القربين فوجه إليهم الدعوة من خلل‬
‫هذا المنبر العلني‪ ،‬وأنذرهم عذاب الله وبأسه إن لم يؤمنوا )‪.(1‬‬
‫شا رفضت الستجابة والنقياد للحق المبين‪ ,‬وكان‬ ‫ولكن قري ً‬
‫موقفهم كموقف القوام السابقة من رسلهم‪ ،‬فحاربوا الدعوة‬
‫الجديدة التي عرت واقعهم الجاهلي وعابت آلهتهم وسفهت‬
‫أحلمهم‪ ،‬أي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن الحياة والنسان‬
‫والكون‪ ،‬فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولت ليقاف الدعوة‬
‫وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها‪.‬‬
‫لقد فكر النبي × بالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من‬
‫أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم‪،‬‬
‫ويسلمون من أذى قريش وفتنتها‪ ،‬حيث ل تطالهم يدها‪ ،‬ول يمتد‬
‫إليهم بطشها‪.‬‬
‫‪ -2‬البحث عن بيئة تقبل الدعوة‪ ،‬وتستجيب لها‪ ،‬في مقابل‬
‫عنت القرشيين وكنودهم‪ ،‬ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق‬
‫قا لمر الله بالتبليغ للعالمين )‪.(2‬‬‫الرض‪ ،‬تحقي ً‬
‫فكانت هجرة المسلمين إلى الحبشة‪ ،‬فكانت الولى في شهر‬
‫رجب سنة خمس من المبعث‪ ،‬وهم أحد عشر رجل ً وأربع نسوة‬
‫خرجوا مشاةً إلى البحر فاستأجروا سفينة‪.‬‬
‫وقد صورت أم سلمه زوج النبي× ‪ -‬وهي ممن هاجر إلى‬
‫الحبشة الهجرة الولى ‪ -‬الظروف التي أحاطت بهذه الهجرة‬
‫فقالت‪) :‬لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله ×‬
‫وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلء والفتنة في دينهم‪ ،‬وأن رسول‬
‫الله ل يستطيع دفع ذلك عنهم‪ ،‬وكان رسول الله × في منعة من‬
‫قومه وعمه‪ ،‬ل يصل إليه شيء مما يكره مما ينال أصحابه‪ ,‬فقال‬
‫كا ل ُيظلم أحد عنده‪،‬‬ ‫لهم رسول الله ×‪» :‬إن بأرض الحبشة مل ً‬
‫جا مما أنتم فيه«‬ ‫جا ومخر ً‬ ‫فالحقوا ببلده حتى يجعل الله لكم فر ً‬
‫فخرجنا إليها أرسال ً حتى اجتمعنا بها‪ ،‬فنزلنا بخير دار إلى خير‬
‫ما( )‪.(3‬‬‫جار‪ ,‬أمنا على ديننا ولم نخش منه ظل ً‬
‫لقد كانت هجرة المسلمين إلى أرض الحبشة ذات أبعاد‬
‫سياسية وإعلمية ودعوية‪ ,‬وكان اختيار النبي × للحبشة في غاية‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الغرباء الولون ص ‪ ،167‬سلمان العودة‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.168‬‬
‫‪3‬‬
‫)( ابن هشام )‪.(1/334‬‬

‫‪32‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫الدقة وبعد النظر؛ لنه )التفت × إلى ما يحيط به من الداخل‬


‫والخارج‪ ،‬وما ينتظر دعوته من أخطار‪ ،‬فوجد أن جذورها قد‬
‫امتدت في أعماق الجزيرة العربية‪ ،‬بين مؤمن قوى اليمان‪ ،‬وبين‬
‫كافر معاند شديد الحرص على زعامتها‪ ،‬عظيم الحقد على الدعوة‬
‫وصاحبها(‪.‬‬
‫وأما خارج الجزيرة‪ ،‬فتوجد إمبراطورية فارس وقد أعماها‬
‫دخان النار‪ ،‬وإمبراطورية الروم وقد عبدوا الملوك ودنياهم‪ ،‬أما‬
‫الحبشة فما يزال بها بعض وميض من صدق رسالة عيسى عليه‬
‫كا ل ُيظلم أحد بأرضه )‪.(1‬‬‫السلم‪ ،‬وأن بها مل ً‬
‫وهذا يدل على اهتمام رسول الله × بما يدور حوله ومعرفة‬
‫الدول وطبائعها‪.‬‬
‫ولقد كانت الهجرة وسيلة من أهم وسائل العلم في السلم؛‬
‫لن مجرد خروج المسلمين من بلد كانوا فيه منذ النشأة‪ ،‬يخلق‬
‫تساؤل ً كبيًرا في المجتمع المليء‬
‫بالكذب والراجيف والمتخصص في تشويه أخبار الدين الجديد‪،‬‬
‫وخرجوا وقد تركوا تساؤل ً في أذهان الناس‪ :‬ما الذي حملهم على‬
‫ترك أوطانهم وأموالهم وأهليهم؟ إنه‬
‫لمر عظيم‪.‬‬
‫لقد خرج الوفد العلمي السلمي الول للحبشة بخطة‬
‫محكمة وتدبير مقصود لنشر الدعوة السلمية وإعلنها في كل‬
‫مكان‪ ,‬حيث إن الرسول × أرسل كتاًبا للنجاشي يشير فيه إلى‬
‫البر بالمسلمين ويدعوه فيه إلى السلم )‪.(2‬‬
‫وهكذا ترى أن اختيار الزمن والمكان لم يكن لمجرد الصدفة‬
‫والهروب من شدة العذاب فقط‪ ،‬بل كان بعضهم في حماية قبيلة‬
‫يستطيع البقاء في مكة دون إيذاء مهلك )‪.(3‬‬
‫وكان الوفد العلمي الول أشبه بسفارة في أيامنا الحاضرة‬
‫لكنها تحمل شعار ل إله إل الله محمد رسول الله‪ ،‬وتعمل جاهدة‬
‫على نشره‪ ،‬لقد كان الهدف الول من هجرة المسلمين إلى‬
‫الحبشة حماية المستضعفين من أذى قريش‪ ،‬ودفع غربتهم‬
‫المعنوية‪ ،‬وتأمينهم على دينهم‪ ،‬وفتح آفاق جديدة للدعوة إلى الله‬
‫يشرف عليها المهاجرون‪ ،‬والحط من مكانة قريش عند سائر‬
‫ملتها‪ ،‬يجعل الحباش‬ ‫ح َ‬
‫العرب‪ ،‬وإدانة موقفهم من الدعوة و َ‬
‫شا ويؤوون من طردتهم وأساءت إليهم من أشراف‬ ‫يسبقون قري ً‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الوفود العلمية في العصر المكي لعلى السطل‪ ،‬ص)‪.(111‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬الوفود العلمية في العصر المكي لعلى السطل‪.(114) ،‬‬
‫‪3‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص )‪.(115‬‬

‫‪33‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الناس‪ ،‬ومن ضعفائهم وغربائهم وهذه كلها آثار إيجابية‪ ،‬ل يضير أن‬
‫يوجد إلى جوارها آثار سلبية قليلة‪ ،‬منها‪ :‬أن إيواء الحبشة‬
‫للمسلمين وطيب مقامهم بها أذكى نار الحقد لدى قريش‪،‬‬
‫فضاعفت من حربها ومكرها‪ ،‬وعداوتها)‪.(1‬‬
‫شا قد أسلمت‪ ،‬وكفت عن‬ ‫وعندما تسامع المهاجرون بأن قري ً‬
‫إيذاء النبي × رجعوا‪ ،‬فوجدوا المر أشد مما كان‪ ،‬فأذن النبي ×‬
‫بالهجرة الثانية‪ ،‬فهاجر قرابة المائة ما بين رجل وامرأة واستقروا‬
‫هناك)‪.(2‬‬
‫لقد ذكر ابن إسحاق )‪ (3‬دوافع الهجرة الثانية‪ ،‬فقال‪) :‬فلما اشتد‬
‫البلء وعظمت الفتنة تواثبوا على أصحاب رسول الله ×‪ ،‬وكانت‬
‫الفتنة الخرة التي أخرجت من كان هاجر من المسلمين بعد الذين‬
‫كانوا خرجوا قبلهم إلى أرض الحبشة( )‪.(4‬‬
‫لقد أرسلت قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة‬
‫يحملن الهدايا إلى النجاشي وبطارقته‪ ،‬فقابل النجاشي طالبين‬
‫إليه إعادة من هاجر من المسلمين‪ ،‬فأرسل النجاشي إلى‬
‫المسلمين فسألهم عن دينهم فقال جعفر بن أبي طالب رضي‬
‫ما على الشرك‪ ،‬نعبد الوثان ونأكل‬ ‫الله عنه‪) :‬أيها الملك كنا قو ً‬
‫الميتة‪ ،‬ونسئ الجوار‪ ،‬ونستحل المحارم‪ ،‬بعضنا من بعض في‬
‫سفك الدماء وغيرها‪ ،‬ل نحل شيًئا ول نحرمه‪ ،‬فبعث الله إلينا نبًيا‬
‫من أنفسنا نعرف وفاءه وصدقه وأمانته‪ ،‬فدعانا إلى أن نعبد الله‬
‫وحده ل شريك له‪ ،‬ونصل الرحم‪ ،‬ونحسن الجوار‪ ،‬ونصلى ونصوم‪،‬‬
‫ول نعبد غيره(‪.‬‬
‫فقال‪ :‬هل معك شيء مما جاء به؟ وقد دعا أساقفته فأمرهم‬
‫فنشروا المصاحف حوله‪ ،‬فقال جعفر‪ :‬نعم‪.‬‬
‫ى ما جاء به‪.‬‬‫ل عل ّ‬ ‫قال‪ :‬هَل ُ ّ‬
‫م فات ُ‬
‫فقرأ عليهم صدًرا من كهيعص )‪ ،(5‬فبكى والله النجاشي حتى‬
‫اخضلت لحيته‪ ،‬وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم ثم قال‪ :‬إن‬
‫هذا الكلم ليخرج من المشكاة التي جاء بها عيسى‪ ..‬انطلقوا‬
‫راشدين‪.‬‬
‫ولما أخفقت محاولة وفد قريش في استعادتهم‪ ،‬أثار عمرو بن‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الغرباء الولون ص )‪.(171‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ,‬ص )‪.(169‬‬
‫‪3‬‬
‫)( هو محمد بن إسحاق بن يسار من كتاب السيرة )انظر‪ :‬سير أعلم النبلء‬
‫‪.(7/34‬‬
‫‪4‬‬
‫)( السير والمغازي لبن إسحاق‪ ،‬ص ‪ ،213‬تحقيق‪ :‬سهيل زكار‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫)( سورة مريم‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫العاص في اليوم التالي موقف المسلمين من عيسى عليه‬


‫السلم‪ ،‬فقال للنجاشي‪ :‬أيها الملك إنهم يقولون في عيسى قول ً‬
‫ما‪ ,‬فأرسل النجاشي إليهم فسألهم فقال له جعفر‪ :‬نقول هو‬ ‫عظي ً‬
‫عبد الله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها إلى مريم العذراء البتول‪.‬‬
‫فقال النجاشي‪ :‬ماعدا عيسى ابن مريم مما قلت هذا العود‪,‬‬
‫وأعطى النجاشي المان للمسلمين‪ ،‬فأقاموا مع خير جار في خير‬
‫)‪.(1‬‬
‫دار كما تقول أم سلمة رضي الله عنها‬
‫إن مسارعة قريش لرسال وفد لستعادة المسلمين‬
‫المهاجرين إلى الحبشة تدل على إدراكها لخطورة الموقف إذا ما‬
‫حصل المسلمون على مأوى لهم يأمنون فيه‪ ،‬والحبشة نصرانية‪،‬‬
‫وملكها عرف بالعدل‪ ،‬وهي قريبة من مكة‪ ،‬وكل ذلك يشكل خطًرا‬
‫على قريش في المستقبل‪.‬‬
‫لقد فتحت جبهة جديدة لقريش انهزمت فيها معنوًيا وسياسًيا‬
‫وإعلمًيا أمام‬
‫ضربات المسلمين الموفقة‪ ،‬وخطواتهم المتزنة‪ ،‬وأساليبهم‬
‫الرصينة من أجل تبليغ دعوة الله وإبلغ رسالته‪.‬‬
‫لقد قاد المعركة السياسية والدعوية والعقدية جعفر بن أبي‬
‫طالب‪ ،‬وكان صادق اللهجة‪ ،‬فصيح اللسان‪ ،‬قوي البيان‪ ،‬فتأثر‬
‫النجاشي من قوله وخابت آمال قريش‪ ،‬وظهرت ملمح اليمان‬
‫في وجه النجاشي‪.‬‬
‫إن جعفر رضي الله عنه قاوم حملة قريش العلمية المضللة‬
‫بكل دقة وموضوعية وصدق ونقل الخبار والحقائق من مصادرها‪،‬‬
‫فأعلن رضي الله عنه ما سمعه من‬
‫دا على سؤال النجاشي في أمر عيسى عليه السلم‬ ‫النبي × ر ً‬
‫دون مداهنة أو مواربة أو نفاق‪ ،‬لقد تلل وجه النجاشي باليمان‬
‫الصادق دون بطارقته وقال للمهاجرين‪) :‬اذهبوا فأنتم شيوم‬
‫أرضى آمنون‪ ،‬من سبكم غرم ‪-‬كررها ثلًثا‪ ،-‬ما أحب أن لي دبًرا‬
‫)‪ (2‬من ذهب‪ ،‬وأني آذيت رجل ً منكم‪ .‬ردوا عليهما هداياهما فل‬
‫ى ملكي‬ ‫حاجة لي بها‪ ,‬فوالله ما أخذ الله منى الرشوة حين رد ّ عل ّ‬
‫في فأطيعهم فيه(‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫فآخذ الرشوة فيه‪ ،‬وما أطاع الناس‬
‫ظا على السلم والمهاجرين‬ ‫دا وغي ً‬
‫وقد امتلت القلوب حق ً‬
‫الذين اطمأنوا في عبادتهم ونشر دينهم بالحكمة والموعظة‬
‫الحسنة‪ ،‬وقد آمن النجاشي ملك الحباش وكسبت الدعوة أنصاًرا‬
‫دا‪ ,‬وتوسعت دائرة المسلمين وكسبوا معارك سياسية‬ ‫جد ً‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬السيرة النبوية لبن هشام‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬ابن هشام )‪.(1/338‬‬

‫‪35‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وإعلمية‪ ،‬ودعوية بتوفيق الله تعالى لهم )‪.(1‬‬


‫لقد بقى المسلمون في الحبشة إلى أن استقر السلم في‬
‫المدينة فهاجر بعضهم إليها وبقى جعفر ومن معه )‪ (2‬إلى فتح خيبر‬
‫سنة ‪7‬هـ‪.‬‬
‫وحاول رسول الله × أن يوسع مجال دعوته؛ فخرج إلى‬
‫الطائف وعرض السلم على زعمائها إل أنهم رفضوا ذلك وبالغوا‬
‫في السفه وسوء الدب معه‪ ،‬فقام رسول الله × من عندهم‪،‬‬
‫وقصد مكة ليواصل تبليغ الرسالة وأداء المانة ونصح المة‪ ,‬ولم‬
‫يدخل مكة بدون تخطيط أو دراسة مستوعبة لكل الملبسات‬
‫والظروف المحيطة به‪ ،‬بل درس المر وخطط للمرحلة القادمة‪،‬‬
‫ورأى بثاقب بصره وبعد نظره أن يتصل بمطعم بن عدى سيد‬
‫قبيلة بنى نوفل بن عبد مناف وطلب جواره‪ ,‬فاستجاب لطلب‬
‫النبي × ودخل رسول الله × ومعه زيد بن حارثة في حراسة بنى‬
‫نوفل الذين تحلقوا حوله بالسلح وهو يصلي في البيت الحرام‬
‫وذهبوا في حراسته حتى دخل بيته‪.‬‬
‫لقد كان بنوا نوفل مؤسسة قوية في المجتمع القرشي الذي‬
‫له أعرافه وتقاليده المقدسة‪ ،‬فاستفاد الرسول × من تلك‬
‫القوانين الموجودة ووظفها بكل دقة وحنكة وسياسة لمصلحة‬
‫الدعوة )‪.(3‬‬
‫هكذا × دخل إلى مكة بعد رجوعه من الطائف‪ ,‬وبدأ يعرض‬
‫نفسه على القبائل في المواسم‪ :‬يشرح لهم السلم‪ ،‬ويطلب‬
‫ل وكان رسول‬ ‫ج ّ‬
‫منهم اليواء والنصرة‪ ،‬حتى يبلغ كلم الله عّز وَ َ‬
‫الله × يتحرك في المواسم التجارية ومواسم الحج التي تجتمع‬
‫فيها القبائل وفق خطة دعوية واضحة المعالم ومحددة الهداف‪,‬‬
‫وكان × يعرض نفسه على القبائل على أنه حامل دعوة من الله‬
‫من أجل حمايته لكي يتمكن من تبليغ دعوة الله إلى الناس‪ ،‬ومن‬
‫أجل نصرته فيما يسعى إليه من إقامة سلطان لتلك الدعوة‪،‬‬
‫ويوفر لها ولتباعها الحماية والمن‪ ،‬ومن ثم يمكنها من النطلق‬
‫في الرض داعية كل جنس ولون إلى الستجابة لمر الله‪.‬‬
‫ومن توفيق الله لدعوته أن المدينة المنورة كانت تعيش‬
‫ظروًفا خاصة ترشحها لحتضان دعوة السلم‪ ،‬وتجتمع فيها عناصر‬
‫عديدة ل تجتمع في غيرها‪:‬‬
‫‪ -1‬منها التشاحن والتطاحن الموجود بين قبيلتي المدينة‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الوفود في العهد المكي ص )‪.(123‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬السيرة النبوية الصحيحة‪ ،‬د‪ .‬أكرم ضياء العمري )‪.(1/176‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬أصول الفكر السياسي في القرآن الكريم‪ ,‬د‪ .‬التجانى‪ ،‬ص )‪-172‬‬
‫‪.(180‬‬

‫‪36‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫الوس والخزرج‪ ،‬وقد قامت بينهما الحروب الطاحنة كيوم بعاث‬


‫وغيره‪ ،‬وقد أفنت هذه الحرب كبار زعمائهم‪ ،‬ممن كان نظراؤهم‬
‫في مكة والطائف وغيرهما حجر عثرة في سبيل الدعوة‪ ،‬ولم يبق‬
‫إل القيادات الشابة الجديدة المستعدة لقبول الحق‪ ،‬إضافة إلى‬
‫عدم وجود قيادة بارزة معروفة يتواضع الجميع على التسليم لها‪،‬‬
‫وكانوا بحاجة إلى من يأتلفون عليه‪ ،‬وليلتئم شملهم تحت ظله‪,‬‬
‫دمه الله تعالى لنبيه ×‪ ،‬فقدم وقد قتل‬
‫فكان يوم بعاث أمًرا ق ّ‬
‫جرحوا‪ ،‬فقدمه الله لرسوله × في دخولهم‬ ‫سرواتهم و ُ‬ ‫معظم‬
‫السلم )‪.(1‬‬
‫‪ -2‬ومنها مجاورتهم لليهود مما جعلهم على علم ‪ -‬ولو‬
‫يسي ً را ‪ -‬بأمر الرسالت السماوية‪ ،‬وخبر المرسلين السابقين‪،‬‬
‫وهم ‪ -‬في مجتمعهم ‪ -‬يعايشون هذه القضية في حياتهم‬
‫اليومية‪ ،‬وليسوا مثل قريش التي ل يساكنها أهل كتاب‪ ،‬وإنما‬
‫غاية أمرها أن تسمع أخبا ً را متفرقة عن الرسالت والوحي‬
‫اللهي‪ ،‬دون أن تلح عليها هذه المسألة‪ ،‬أو تشغل تفكيرها‬
‫باستمرار‪ ،‬فلما أراد الله إتمام أمره بنصر دينه‪ ،‬قيض ستة نفر‬
‫من أهل المدينة للنبي × فالتقي بهم عند العقبة ‪ -‬عقبة منى ‪-‬‬
‫فعرض عليهم السلم‪ ،‬فاستبشروا وأسلموا‪ ،‬وعرفوا أنه النبي‬
‫الذي توعدهم به اليهود‪ ،‬ورجعوا إلى المدينة‪ ،‬فأفشوا ذكر‬
‫النبي × في بيوتها )‪ ، (2‬وكان هذا هو »بدء إسلم النصار« كما‬
‫يسميه أهل السير )‪.(3‬‬
‫لقد كانت المدينة المنورة تربة صالحة لنتشار السلم‪ ،‬فاليهود‬
‫يهددون بنبي أظل زمانه يتبعونه ويقتلون الوس والخزرج قتل عاد‬
‫وإرم‪ ,‬والعرب أهل فراسة ونخوة أضاءت بعض شموع الحق‬
‫بينهم‪ ،‬وكأنها إرهاصات للنصرة والنجدة وقام الوفد بتبليغ الرسالة‬
‫وأداء المانة‪.‬‬
‫ضعف العدد الول ‪-‬‬ ‫ولما جاء وقت العام التالي وافي الموسم ِ‬
‫اثنا عشر رجل ً من المؤمنين‪ -‬فبايعهم النبي × على أل يشركوا‬
‫بالله شيًئا ول يسرقوا ول يزنوا ول يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم‬
‫وأرجلهم‪ ,‬ول يعصوه في معروف‪ ,‬وتعرف هذه البيعة ببيعة العقبة‬
‫الولى‪.‬‬
‫عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال‪) :‬إني لمن النقباء‬
‫الذين بايعوا‬

‫‪1‬‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب المناقب‪ ،‬باب مناقب النصار )‪ (4/267‬رقم ‪.7777‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬ابن هشام )‪.(1/430‬‬
‫‪3‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(1/428‬‬

‫‪37‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫رسول الله ×‪ ،‬وقال‪ :‬بايعناه على أل نشرك بالله شيًئا ول نزني‪،‬‬


‫ول نسرق‪ ،‬ول نقتل النفس التي حرم الله إل بالحق‪ ،‬ول ننهب‪ ،‬ول‬
‫نعصى‪ ،‬فالجنة إن فعلنا ذلك‪ ،‬فإن‬
‫غشينا )‪ (1‬من ذلك شيًئا كان قضاء ذلك إلى الله( )‪.(2‬‬
‫ولقد بعث الرسول × مع المبايعين مصعب بن عمير يعلمهم‬
‫الدين ويقرؤهم القرآن‪ ،‬فكان يسمى في المدينة المقرئ وكان‬
‫يؤمهم في الصلة )‪.(3‬‬
‫ولقد اختاره الرسول × عن علم بشخصيته من جهة‪ ،‬وعلم‬
‫بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى‪ ،‬حيث كان رضي الله‬
‫عنه بجانب حفظه لما نزل من القرآن‪ ،‬يملك من اللباقة والهدوء‬
‫وحسن الخلق والحكمة قدًرا كبيًرا‪ ,‬فضل ً عن قوة إيمانه وشدة‬
‫حماسه للدين‪ ،‬ولذلك تمكن خلل أشهر أن ينشر السلم في‬
‫سائر بيوتات المدينة وأن يكسب للسلم أنصاًرا من كبار زعمائها‪،‬‬
‫كسعد بن معاذ‪ ،‬وأسيد بن حضير‪ ،‬وقد أسلم بإسلمهما خلق كثير‬
‫من قومهم)‪.(4‬‬
‫لقد كانت دعوة مصعب رضي الله عنه في المدينة موفقة‬
‫وحققت أهدافها‪ ,‬وشرع يشرح للناس تعاليم الدين الجديد وتعاليم‬
‫القرآن الكريم وتفسيره‪ ،‬وتقوية الروابط الخوية بين أفراد القبائل‬
‫المؤمنة من ناحية‪ ،‬وبين النبي × وصحبه بمكة المكرمة‪ ،‬ليجاد‬
‫القاعدة المنية لنطلق الدعوة‪ .‬لقد كان الدور العلمي‬
‫والتعليمي والتوجيهي الذي قام به مصعب في المدينة له أثر كبير‬
‫لتهيئة الظروف للمرحلة التي بعدها‪ ،‬لقد فتحت المدينة بالقرآن‬
‫وبالدعوة إلى الله‪ ,‬وأصبح ولء كثير من الوس والخزرج لعقيدة‬
‫السلم وشريعة الرحمن وتشكل وفد من النصار لعقد البيعة‬
‫الثانية مع النبي ×‪ ،‬لتنتقل الدعوة إلى طور جديد ومرحلة أخرى‪.‬‬
‫لقد اهتم × ببناء الفرد المسلم الذي يحمل تكاليف الدعوة‬
‫ويضحى من أجلها‪ ,‬ولذلك نجد جعفًرا يقوم بدور عظيم في تبليغ‬
‫الدعوة وأداء المانة في أرض الحبشة‪ ,‬ونجد مصعًبا يفتح الله على‬
‫يديه المدينة ويدخل كثير من أهلها في دعوة السلم‪.‬‬
‫إن النبي × في طور المرحلة المكية قام بتبليغ الرسالة وأداء‬
‫المانة على خير قيام وكانت عناية الله وحفظه له وتأييده ظاهرة‬
‫‪1‬‬
‫ارتكبنا ذنًبا‪.‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫مسلم‪ ،‬كتاب الحدود‪ ،‬باب الحدود كفارات لهلها )‪ (3/1333‬رقم )‪.(1079‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫انظر‪ :‬سيرة ابن هشام )‪.(1/431‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫المصدر نفسه )‪.(1/435‬‬ ‫)(‬

‫‪38‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫للعيان‪.‬‬
‫ولقد سار على نهج رسول الله × في تبليغ الرسالة وأداء‬
‫المانة كثير من الدعاة على مر العصور وكر الدهور‪ ,‬ومكن الله‬
‫لهم بين الناس حتى أدوا واجبهم في الدعوة إلى الله ومن أمثال‬
‫ذلك‪ :‬المام أحمد بن حنبل‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬والعز بن عبد السلم‪,‬‬
‫ومحمد بن عبد الوهاب في الجزيرة‪ ،‬ومحمد بن على السنوسى‬
‫في ليبيا‪ ،‬وسعيد النورسى في العصر الحديث في تركيا‪ ،‬وعبد‬
‫الحميد بن باديس في الجزائر‪ ،‬وحسن البنا في مصر‪ ،‬وغيرهم‬
‫كثير‪ ،‬ومنهم من استشهد في سبيل دعوته إل أنها انتشرت بعد‬
‫مماته انتشار الضياء في الظلم‪ ،‬ولقد لحظت في سيرة هؤلء‬
‫العلم في القديم والحديث حماية الله لهم ورعايته وحفظه‬
‫وتثبيته لهم في المحن والشدائد‪ ,‬وتهيئة الله قلوب الناس لستماع‬
‫دعوتهم ونصحهم‪ ،‬وكانوا رحمهم الله رجال ً للعقيدة عاشوا من‬
‫أجل هذا الدين وماتوا في سبيله‪.‬‬
‫***‬

‫‪39‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الفصل الثاني‬
‫هلك الكفار ونجاة المؤمنين أو نصرهم في‬
‫المعارك‬
‫إن قصة نوح وموسى عليهما السلم نموذج رفيع للتدليل على‬
‫أن من أنواع التمكين هلك الكفار ونجاة المؤمنين‪ ،‬وقصة نوح مع‬
‫قومه منهج عظيم للدعاة إلى الله‪ ,‬وقصته مليئة بالدروس والعبر‪،‬‬
‫ومما يكسبها أهمية خاصة ما تميزت به‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫حا عليه السلم أول رسول إلى البشر‪ ،‬وكل أول له‬ ‫‪ -1‬أن نو ً‬
‫خصوصيته وميزته‪.‬‬
‫‪ -2‬امتداد الزمن الذي قضاه في دعوة قومه )‪ 950‬سنة(‪.‬‬
‫‪ -3‬كونه من أولى العزم الذين ذكروا في القرآن‪.‬‬
‫‪ -4‬ورد اسمه كثيًرا في القرآن الكريم حيث بلغ )‪ (43‬مرة في‬
‫)‪ (29‬سورة من سور القرآن‪ ،‬أي في ربع سور القرآن تقريًبا‪ ،‬مع‬
‫ورود سورة باسمه في القرآن‪.‬‬
‫وأما قصة موسى عليه السلم مع فرعون‪ ،‬فتبين ضراوة‬
‫الصراع بين الحق والباطل‪ ,‬والهدى والضلل‪ ،‬واليمان والكفر‪،‬‬
‫والنور والظلم‪ ,‬وتسلط الضواء على استكبار فرعون وتجبره‬
‫دا‪،‬‬
‫ما وعبي ً‬ ‫ما وحش ً‬ ‫واستعباده عباد الله واستضعافهم واتخاذهم خد ً‬
‫وكيف أراد الله لبنى إسرائيل أن يرد إليهم حريتهم المسلوبة‬
‫وكرامتهم المغصوبة‪ ,‬ومجدهم الضائع وعزهم المفقود‪ ،‬إن من‬
‫يقف أمام إرادة الله فهو عاجز ضعيف‪ ،‬وهو فاشل مهزوم‪ ,‬وإن‬
‫أعداء الله أينما كانوا هم إلى هزيمة وخسارة وهوان‪ ،‬وتبين لنا‬
‫كيف انتقم الله من فرعون ونصر وليه موسى عليه السلم‬
‫وقومه‪.‬‬
‫وأما قصة طالوت‪ ،‬فتوضح مرحلة مرت بها أمة بنى إسرائيل‪،‬‬
‫فبعد أن وقعوا في المعاصي‪ ،‬وانحرفوا عن منهج الله وسلط الله‬
‫عليهم العداء وأصاب بني إسرائيل ذل وخيم‪ ،‬ومرارة أليمة‪،‬‬
‫وهزيمة عظيمة‪ ,‬وأرادوا أن يغيروا واقعهم المهين‪ ،‬وأن يبدلوا‬
‫ذلهم عزة وهزيمتهم نصًرا‪ ،‬وعلموا أن السبيل لذلك هو الجهاد‬
‫كا يتولى أمورهم‪،‬‬ ‫والقتال‪ ،‬فطلبوا من نبيهم أن يختار لهم مل ً‬
‫ويقودهم إلى العزة والنصر‪ ،‬ويقاتل لهم أعداءهم‪ ،‬في سبيل الله‪،‬‬
‫كا عليهم‪ ،‬ومن ثم يقودهم‬ ‫فوقع خيار الله على طالوت ليكون مل ً‬
‫إلى النصر والعزة والتحرير‪ ،‬فاعترض المل على نبيهم قائلين‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫‪+‬أ َّنى ي َ ُ‬
‫م‬‫و ْ‬ ‫ل‬ ‫ه َ‬‫من ْ ُ‬ ‫مل ْ ِ‬
‫ك ِ‬ ‫ق ِبال ْ ُ‬
‫ح ّ‬‫نأ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫عل َي َْنا َ‬
‫ون َ ْ‬ ‫مل ْ ُ‬
‫ك َ‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫ن لَ ُ‬‫كو ُ‬
‫‪40‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫ل"‪ ،‬فبين لهم نبيهم أن الله اصطفاه عليهم‪،‬‬ ‫ما ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬


‫ة ّ‬‫ع ً‬
‫س َ‬
‫ت َ‬ ‫يُ ْ‬
‫ؤ َ‬
‫والله حكيم خبير‪ ،‬وإن الله زاده بسطة في العلم والجسم‪ ،‬وتسلم‬
‫طالوت قيادة بنى إسرائيل وكانت قصة طالوت مع بنى إسرائيل‬
‫من أروع القصص القرآني في بيان سنن الله في النهوض بالمم‬
‫المستضعفة‪ ،‬وما هي السمات والصفات المطلوبة للقيادة التي‬
‫تتصدى لمثل هذه العمال العظيمة لتقوية الشعوب والنهوض بها‬
‫نحو المعالي‪ ،‬وفق منهج رباني ووسائل عملية وتربوية عميقة على‬
‫معاني الطاعة والثبات والتضحية والفداء من أجل العقيدة‬
‫الصحيحة‪.‬‬
‫وفي سيرة النبي × نجد هذا النوع من التمكين ‪-‬أل وهو النصر‬
‫در ظرفه‬ ‫حا‪ ،‬فبعد أن هاجر × إلى المدينة ق ّ‬ ‫على العداء‪ -‬واض ً‬
‫وزمانه ومكانه وجهز قوات جهادية حققت أهدافها القريبة‬
‫عا في الخذ بالسباب‬ ‫دا على الله في ذلك‪ ،‬شار ً‬ ‫والبعيدة‪ ،‬معتم ً‬
‫التي أمره الله بها‪ ،‬فترك لنا معالم نيّرة في مغازيه الميمونة‪,‬‬
‫سا عظيمة في كيفية تحقيق النصر على العداء والتمكين‬ ‫ودرو ً‬
‫لدين الله تعالى‪ ،‬بدأ بالسرايا‪ ،‬فحققت أهدافها‪ ،‬ومضى يحاصر‬
‫قوى البغي والكفر والضلل حتى فتحت مكة‪ ،‬ومن ثم وحدت‬
‫جزيرة العرب‪ ,‬وأثناء ذلك كان يوجه الضربات المحكمة إلى‬
‫الوثنية في كل مكان وإلى اليهود الذين نقضوا العهود‪ ,‬وإلى ملوك‬
‫الرض يدعوهم للسلم‪ ،‬فترك البناء متيًنا‪ .‬وقام الخلفاء‬
‫الراشدون من بعده ليتوسعوا بالسلم شرًقا وغرًبا‪ ،‬وهكذا توالت‬
‫الجيال لحمل الرسالة ولداء المانة‪ ،‬وكان تاريخ أمتنا مليًئا بهذا‬
‫النوع من التمكين‪ ،‬ففي عهد صلح الدين كانت موقعة حطين‬
‫على يديه وكان فتح القدس‪ ،‬وفي عهد يوسف بن تاشفين كانت‬
‫لقة‪ ،‬وفي عهد محمد الفاتح كان فتح القسطنطينية‪،‬‬ ‫معركة الز ّ‬
‫وأما في العصر الحديث‪ ،‬فالملحمة الجهادية بين الروس والفغان‬
‫انتهت بهزيمة اللحاد‪ ،‬والمعارك بين السلم والنصرانية في جنوب‬
‫السودان فتحت للمسلمين أبواب الشهادة والعزة والنصر‬
‫والتمكين‪ ،‬والصراع بين اليهود والمسلمين في فلسطين بين الكر‬
‫ما عون الله لهل التوحيد واليمان على مر‬ ‫والفر‪ ،‬وهكذا نجد دائ ً‬
‫العصور وكر الدهور وتوالى الزمان‪.‬‬
‫المبحث الول‬
‫قصة نجاة نوح عليه السلم وهلك قومه‬
‫حا إ َِلى َ‬ ‫قال تعالى‪+:‬ل َ َ َ‬
‫وم ِ‬
‫ق ْ‬‫ل َيا َ‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬‫ه َ‬‫م ِ‬
‫و ِ‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫سل َْنا ُنو ً‬ ‫قدْ أْر َ‬
‫ب‬
‫ذا َ‬ ‫ع َ‬‫م َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬‫ف َ‬ ‫خا ُ‬ ‫ه َ‬
‫غي ُْرهُ إ ِّني أ َ‬ ‫ن إ ِل َ ٍ‬‫م ْ‬
‫كم ّ‬ ‫ما ل َ ُ‬
‫ه َ‬
‫دوا الل َ‬‫عب ُ ُ‬
‫ا ْ‬
‫ظيم ٍ" ]العراف‪.[59 :‬‬ ‫ع ِ‬‫وم ٍ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫إن ثوابت دعوة نوح عليه السلم‪ ،‬الدعوة إلى عبادة الله‬

‫‪41‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وتوحيده‪ ،‬والتحذير من عدم الستجابة إلى توحيده‪.‬‬


‫فلم يستجب قومه إلى ما دعاهم إليه‪ َ ،‬بل استكبروا وعتوا‬
‫ه‬
‫و ِ ِ‬ ‫م‬ ‫ق ْ‬ ‫ل لِ َ‬ ‫قا َ‬ ‫ح إ ِذْ َ‬ ‫ل َ َ‬ ‫وات ْ ُ‬
‫م ن َب َأ ُنو ٍ‬ ‫ه ْ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وتجبروا‪ ،‬قال سبحانه‪َ +:‬‬
‫ه‬
‫ت الل ِ‬ ‫ري ِبآَيا ِ‬ ‫كي َ ِ‬ ‫وت َذْ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫م َقا ِ‬ ‫َ‬ ‫علي ْكم ّ‬ ‫ن ك َب َُر َ َ‬ ‫كا َ‬ ‫وم ِ ِإن َ‬ ‫ق ْ‬ ‫َيا َ‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫م ل َ ي َك ْ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ُ‬
‫شَركاءَك ْ‬ ‫و ُ‬ ‫م َ‬ ‫مَرك ْ‬ ‫ُ‬ ‫عوا أ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫فأ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫وكل ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ه تَ َ‬ ‫عَلى الل ِ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]يونس‪.[71 :‬‬ ‫رو‬ ‫ظ‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ضوا‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ث‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫غ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ُ ْ ِ ُ ِ‬ ‫ِ ّ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫أ ْ ُ ْ‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫م‬
‫وجاءت سورة هود لتبين لنا الحوار الطويل بينه وبين قومه‪،‬‬
‫طريق‬ ‫الذين حاججهم وجادلهم وأقام عليهم الحجة وبين لهم‬
‫َ‬
‫ت‬ ‫جادَل ْت ََنا فأكثْر َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫حتى أجاب قومه بقولهم‪َ+:‬يا ُنو ُ‬ ‫فأ ْ‬
‫الهداية‪،‬‬
‫ن" ]هود‪.[32 :‬‬ ‫قي َ‬ ‫صاِد ِ‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫دال ََنا‬ ‫ج َ‬ ‫ِ‬
‫ه َلن‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ح‬ ‫نو‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫أو‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫هؤلء‪:‬‬ ‫في‬ ‫النهاية‬ ‫له‬ ‫الله‬ ‫بين‬ ‫ثم‬
‫ُ ٍ ّ ُ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫َ‬
‫كاُنوا‬ ‫ما َ‬ ‫س بِ َ‬ ‫فل َ ت َب ْت َئ ِ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫ق َدْ آ َ‬ ‫من َ‬ ‫ك إ ِل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫و ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫من َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫يّ ْ‬
‫في‬ ‫خاطِب ِْني ِ‬ ‫ول َ ت ُ َ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ص‬ ‫وا‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫يَ‬
‫َ‬ ‫َ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ َ ْ ِ‬ ‫‪‬‬
‫ّ‬
‫ن" ]هود‪.[37،36:‬‬ ‫َ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ِّ ُ ْ ّ َ‬ ‫غ‬
‫ْ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫موا‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ظ‬ ‫ن‬
‫ا ِ َ‬ ‫ذي‬ ‫ل‬
‫لقد كان نوح عليه السلم صابًرا وثابًتا في دعوة قومه إلى‬
‫عبادة الله تعالى‪ ،‬فاتخذ معهم جميع الساليب الدعوية المتنوعة‬
‫في محاولة صادقة لهدايتهم وتعبيدهم لله تعالى‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫زد ْ ُ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫فل َ ْ‬ ‫هاًرا ‪َ ‬‬ ‫ون َ َ‬ ‫مي ل َي ْل ً َ‬ ‫و ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ت َ‬ ‫و ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫ب إ ِّني دَ َ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫قا َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫علوا‬ ‫ُ‬ ‫ج‬
‫َ َ ُ ْ َ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫غ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫َ َ ْ ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫د‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ني‬ ‫ّ‬ ‫َ ِ‬‫إ‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫را‬ ‫َ ً‬ ‫را‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ئي‬ ‫ِ‬ ‫عا‬ ‫َدُ َ‬
‫صّروا‬ ‫ْ َِ َ ُ ْ َ َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫يا‬ ‫ث‬ ‫وا‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫غ‬
‫ْ‬ ‫ت‬
‫ِ ِ ْ َ ْ َ‬ ‫س‬ ‫وا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫آ‬ ‫في‬ ‫أ َ ِ َ ُ ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫صا‬
‫را" ]نوح‪.[8 -5 :‬‬ ‫ها ً‬ ‫ج َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫وت ُ ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫م إ ِّني دَ َ‬ ‫ست ِكَباًرا ‪ ‬ث ُ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ست َك ْب َُروا ا ْ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫ومع هذا الجهد العظيم والصبر الجميل والثبات المنقطع‬
‫النظير‪ ،‬والحرص المستمر إل أن قومه رفضوا وامتنعوا من الجابة‬
‫ن" ]الشعراء‪ .[111 :‬ثم قالوا‪:‬‬ ‫ك الْرذَُلو َ‬ ‫ع َ‬ ‫وات ّب َ َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن لَ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫قاُلوا أ َن ُ ْ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ن" ]الشعراء‪:‬‬ ‫َ ْ ُ ِ َ‬ ‫مي‬ ‫جو‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫ّ ِ َ‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫ُ‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫يا‬ ‫ِ َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ئن‬ ‫ِ‬ ‫‪+‬ل َ‬
‫‪ ،[116‬ولم يؤمن مع نوح إل فئة قليلة من قومه حتى زوجته وأحد‬
‫ه‬
‫ب الل ُ‬ ‫ضَر َ‬ ‫أبنائه غرقوا في مستنقع َالكفر الخبيث‪َ ,‬قال تعالى‪َ +:‬‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫تا‬ ‫كان َ َ‬ ‫ط َ‬ ‫ت ُلو ٍ‬ ‫مَرأ َ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫ٍ‬ ‫ت ُنو‬ ‫مَرأ َ‬ ‫فُروا ا ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مث َل ً ل ّل ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫ه َ‬ ‫عن ْ ُ‬ ‫غن َِيا َ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫فل َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫خان ََتا ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ن َ‬ ‫حي ْ ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫عَباِدَنا َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫عب ْدَي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ن" ]التحريم‪،[10 َ :‬‬ ‫خِلي َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ع ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫خل َ الّناَر َ‬ ‫ل اد ْ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫و ِ‬ ‫شي ًْئا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫هِلي‬ ‫نأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫إ‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫َّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫ٌ‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫دى‬ ‫َ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬
‫ِ‬ ‫ك ال ْ َحق َ‬
‫ن" ]هود‪ َ ،[45 :‬وقال‬ ‫مي َ‬ ‫حاك ِ ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حك َ ُ‬ ‫تأ ْ‬ ‫وأن َ‬ ‫َ ّ َ‬ ‫عد َ َ‬ ‫و ْ‬ ‫ن َ‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫ك إ ِل ّ‬ ‫هل َ َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ث‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ج‬‫َ‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫ز‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ح‬‫ْ‬ ‫ا‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬
‫ل"‬ ‫قِلي ٌ‬ ‫ه إ ِل ّ َ‬ ‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫ما آ َ‬ ‫و َ‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫ل َ‬ ‫و ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫ق َ‬ ‫سب َ َ‬ ‫من َ‬ ‫َ‬
‫]هود‪ .[40 :‬وفي نهاية المطاف وفي آخر مراحل الدعوة وبعد أن‬
‫علم استحالة استجابة قومه لدعوة التوحيد‪ ،‬قال كما حكى عنه‬
‫ن ‪‬‬ ‫مي ك َذُّبو ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ب إِ ّ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫قا َ‬ ‫القرآن الكريم في قوله تعالى‪َ +:‬‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫ي ِ‬ ‫ع َ‬ ‫م ِ‬ ‫من ّ‬ ‫و َ‬ ‫جِني َ‬ ‫ون َ ّ‬ ‫حا َ‬ ‫فت ْ ً‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وب َي ْن َ ُ‬ ‫ح ب َي ِْني َ‬ ‫فت َ ْ‬ ‫فا ْ‬ ‫َ‬

‫‪42‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫ه أ َّني‬ ‫عا َرب ّ ُ‬ ‫فد َ َ‬ ‫ن" ]الشعراء‪ ،[118 ،117 :‬وقوله تعالى‪َ +:‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ب لَ‬ ‫ح ّر ّ‬ ‫ل ُنو ٌ‬ ‫وقا َ‬ ‫َ‬ ‫صْر" ]القمر‪ ،[10ْ :‬وقال تعالى‪َ +:‬‬ ‫ب فانت َ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫غلو ٌ‬ ‫ُ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ْ ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫إن‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫را‬ ‫ً‬ ‫يا‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫ِ َ‬ ‫ري‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ر‬
‫تَ ْ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬‬
‫َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ّ‬
‫را" ]نوح‪.[27 ،26 :‬‬ ‫ً‬ ‫فا‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫را‬ ‫ِ ً‬ ‫ج‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫دوا‬ ‫َِ ُ‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫د‬
‫ِ َ َ‬ ‫با‬ ‫ع‬ ‫لوا‬ ‫ض‬ ‫يُ ِ‬
‫لقد استجاب الله لدعوة نوح عليه السلم‪ ,‬ولقد أحسن نوح‬
‫عليه السلم استعمال هذا السلح العظيم الذي يغفل عنه الكثير‬
‫من الدعاة العاملين‪.‬‬
‫عا رب َ‬
‫حَنا‬ ‫فت َ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫صْر ‪َ ‬‬ ‫فانت َ ِ‬ ‫َ‬
‫ب َ‬ ‫غُلو ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫ه أّني َ‬ ‫فدَ َ َ ّ ُ‬ ‫قال تعالى‪َ +:‬‬
‫َ‬
‫عُيوًنا‬ ‫ض ُ‬ ‫جْرَنا الْر َ‬ ‫وف ّ‬ ‫َ‬ ‫ر‪َ ‬‬ ‫ٍ‬ ‫م‬
‫ه ِ‬ ‫من ْ َ‬ ‫ء َّ‬ ‫ما ٍ‬ ‫ء بِ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫وا َ‬ ‫أب ْ َ‬
‫ت‬ ‫ذا ِ‬ ‫عَلى َ‬ ‫مل َْناهُ َ‬ ‫ح َ‬ ‫و َ‬ ‫دَر ‪َّ ‬‬ ‫ق ِ‬ ‫قدْ ُ‬ ‫ر َ‬ ‫ٍ‬ ‫م‬‫عَلى أ ْ‬ ‫ماءُ َ‬ ‫قى ال ْ َ‬ ‫فال ْت َ َ‬ ‫َ‬
‫قد‬ ‫ول َ‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ء‬ ‫زا‬ ‫ج‬ ‫نا‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ري‬ ‫ج‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫أ َ ٍ َ ُ ٍ‬
‫س‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫و‬ ‫ح‬ ‫وا‬ ‫ل‬
‫ر" ]القمر‪ ،[15 -10 :‬لقد لبث قرابة‬ ‫مدّك ِ ٍ‬ ‫من ّ‬ ‫ل ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ة َ‬ ‫ها آي َ ً‬ ‫ت َّرك َْنا َ‬
‫عشرة قرون‪ ،‬وكانت النتيجة‪:‬‬
‫‪ -1‬لم يؤمن من قومه إل قليل‪.‬‬
‫‪ -2‬لم تؤمن زوجته ول أحد أبنائه وهم أقرب الناس إليه‪ ,‬ومع‬
‫ذلك فإنه يعد منتصًرا‪ ،‬بل إنه حقق أعظم النتصارات وتمثل ذلك‬
‫في‪:‬‬
‫‪ -1‬صبره وثباته طوال هذه القرون‪ ،‬وعدم ميله إلى محاولت‬
‫قومه ‪ -‬وحاشاه من ذلك ‪ -‬أو تأثره باستهزائهم وسخريتهم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬
‫م ِ‬‫و ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫من َ‬ ‫مل ّ‬ ‫ه َ‬ ‫مّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫وك ُل ّ َ‬ ‫ك َ‬ ‫فل ْ َ‬ ‫ع ال ْ ُ‬ ‫صن َ ُ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫قال تعالى‪َ +:‬‬
‫ما‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ْ ُ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫روا‬ ‫ْ ُ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫إن‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫قا‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫خُروا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫َ‬
‫ن" ]هود‪.[38 :‬‬ ‫َ‬ ‫رو‬ ‫س ُ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫تَ ْ‬
‫م‬ ‫قاُلوا ل َِئن ل ّ ْ‬ ‫‪ -2‬حماية الله له من كيدهم ومؤامراتهم‪َ +:‬‬
‫ن" ]الشعراء‪ ،[116 :‬ولم ينته‬ ‫مي َ‬ ‫جو ِ‬ ‫مْر ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫ح ل َت َ ُ‬ ‫ه َيا ُنو ُ‬ ‫ت َن ْت َ ِ‬
‫نوح عن دعوة التوحيد وتحقيق معاني العبادة لله ومع ذلك ما‬
‫ل‪.‬‬ ‫استطاعوا إليه سبي ً‬
‫َ‬
‫ن ك َذُّبوا‬ ‫ذي َ‬ ‫قَنا ال ّ ِ‬ ‫غَر ْ‬ ‫وأ ْ‬ ‫‪ -3‬إهلك قومه الذين كذبوا بالغرق‪َ +:‬‬
‫ن" ]العراف‪.[64 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ما َ‬ ‫و ً‬ ‫ق ْ‬ ‫كاُنوا َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ِبآَيات َِنا إ ِن ّ ُ‬
‫َ‬
‫في‬ ‫ه ِ‬ ‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال َّ ِ‬ ‫جي َْناهُ َ‬ ‫فأن ْ َ‬ ‫‪ -4‬نجاة نوح ومن آمن معه‪َ +‬‬
‫ر ‪‬‬ ‫س ٍ‬ ‫ود ُ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬ ‫على َ‬ ‫َ‬ ‫مل َْناهُ َ‬ ‫فل ْ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫وا ٍ‬ ‫ت أل َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫و َ‬ ‫‪َ +‬‬ ‫ّ‬
‫ك" ]العراف‪.[64 :‬‬
‫َ‬
‫ر " ]القمر‪.[14 ،13 :‬‬ ‫ف َ‬ ‫ن كُ ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫جَزاءً ل َ‬ ‫عي ُن َِنا َ‬ ‫ري ب ِأ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫‪ -5‬إن قصة انتصار نوح وإهلك قومه أصبحت آية يعتبر بها‪،‬‬
‫ة‬
‫ها آي َ ً‬ ‫قد ت َّرك َْنا َ‬ ‫ول َ َ‬ ‫وجعل الله لنوح لسان صدق في الخرين‪َ +:‬‬
‫ه‬ ‫ّ‬
‫ٍ ِ ُ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ح‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫ع‬ ‫َ َ‬ ‫م‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ح َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة َ‬ ‫ر" ]القمر‪+ .[15 :‬ذُّري ّ َ‬ ‫كِ ٍ‬ ‫مدّ‬ ‫من ّ‬ ‫ل ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫في‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫على ُنو ٍ‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫سل ٌ‬ ‫دا شكوًرا" ]السراء‪َ + .[3 :‬‬ ‫عب ْ ً‬ ‫ن َ‬
‫َ‬
‫كا َ‬
‫ل‬‫وآ َ‬ ‫َ‬ ‫حا‬ ‫ً‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫آ‬ ‫فى‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫ص‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫‪+‬‬ ‫[‪.‬‬ ‫‪79‬‬ ‫]الصافات‪:‬‬ ‫"‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫عا‬ ‫ال ْ َ‬

‫‪43‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫]آل عمران‪.[33 :‬‬ ‫ن"‬


‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫مَرا َ‬ ‫ع ْ‬ ‫ل ِ‬‫وآ َ‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫إ ِب َْرا ِ‬
‫وهكذا تتضح حقيقة النصر من خلل قصة نوح عليه السلم‪..‬‬
‫إن قوم نوح لم يكن في زمانهم على وجه البسيطة إل هم‪ ،‬وقد‬
‫كفروا بالله‪ ،‬وتمردوا على رسوله‪ ،‬سوى فئة قليلة هي التي آمنت‬
‫به‪ ،‬فإن الله ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أهلك جميع من في الرض‪ ،‬يومئذ سوى‬
‫نوح ومن آمن معه‪ ،‬حماية للمنهج الذي ذكر نوح أنه معرض‬
‫للزوال إن بقى هؤلء‪.‬‬
‫دوا إ ِل ّ‬ ‫ول َ ي َل ِ ُ‬
‫ك َ‬ ‫عَبادَ َ‬ ‫ضّلوا ِ‬ ‫م يُ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ك ِإن ت َذَْر ُ‬ ‫قال تعالى‪+:‬إ ِن ّ َ‬
‫را" ]نوح‪.[27 :‬‬ ‫فا ً‬‫جًرا ك َ ّ‬ ‫فا ِ‬ ‫َ‬
‫فأهلك هؤلء على كثرتهم من أجل عدد من البشر يحملون‬
‫الحق ويدافعون عنه‪ ،‬لقد أهلك الله تعالى أهل الكفر والطغيان‪،‬‬
‫ومكن لهل التوحيد واليمان‪ ,‬وأصبحوا على وجه البسيطة‬
‫موحدين محققين لمعاني العبادة في الحياة )‪.(1‬‬
‫ح" ]السراء‪ ،[13 :‬قال‬ ‫ع ُنو ٍ‬ ‫م َ‬ ‫مل َْنا َ‬ ‫ح َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة َ‬ ‫قال تعالى‪+:‬ذُّري ّ َ‬
‫المام الطبري )‪ (2‬رحمه الله‪) :‬وذلك أن كل من على الرض من‬
‫بنى آدم فهم من ذرية من حمله الله مع نوح في السفينة‪ ،‬قال‬
‫قتادة )‪ :(3‬والناس كلهم ذرية من أنجى الله من تلك السفينة‪ ،‬قال‬
‫مجاهد )‪ :(4‬بنوه ونساؤهم ونوح( )‪.(5‬‬
‫ه َ َ‬ ‫َ‬ ‫قال سبحانه‪ُ+:‬أول َئ ِ َ‬
‫ن‬
‫ن الن ّب ِّيي َ‬‫م َ‬ ‫هم ّ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫ح" ]مريم‪.[58 :‬‬ ‫ع ُنو ٍ‬ ‫م َ‬ ‫مل َْنا َ‬ ‫ح َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬
‫و ِ‬ ‫م َ‬‫ة آد َ َ‬ ‫من ذُّري ّ ِ‬ ‫ِ‬
‫إن التمكين الفعلي والنتصار العظيم والعزاز الكريم عندما‬
‫يتمكن منهج رب العالمين من نفوس أهل اليمان‪ ،‬وإن كانوا قلة‪،‬‬
‫فالعبرة ليست بكثرة المؤمنين والمستجيبين للحق‪ ،‬وإنما في‬
‫صفاء المنهج الرباني الذي يعتقده أولئك الفراد سواء أقلوا أم‬
‫كثروا‪ ،‬ولذلك فإن بضعة نفر أو يزيدون‪ ،‬ول يتجاوزون ثلثة عشر‬
‫دا يحملون معنى التوحيد‪ ،‬ويحققون معنى العبودية‪ ،‬يهلك أهل‬ ‫فر ً‬
‫الرض جميًعا حماية لهؤلء وللمنهج الذي يمثلونه ويحملونه‪ ،‬ما دام‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬حقيقة النتصار للدكتور ناصر العمر ص )‪.(39 ،38‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو المام المجتهد أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملى‬
‫الطبري البغدادي‪ ،‬ولد سنة ‪224‬هـ‪ ,‬حفظ القرآن ورحل في طلب العلم وعمره‬
‫‪ 12‬سنة‪ ,‬ولم يزل طالًبا للعلم مولًعا به إلى أن مات‪ .‬واشتهر بالتفسير والفقه‬
‫والتاريخ ت ‪310‬هـ انظر‪ :‬سير أعلم البنلء )‪.(14/267‬‬
‫‪3‬‬
‫)( هو قتادة بن دعامة بن عزيز أبو الخطاب السدوسى العمى الحافظ المفسر‪،‬‬
‫عالم أهل البصرة‪ ,‬مات بواسط سنة ‪117‬هـ ‪ ،‬انظر‪ :‬تذكرة الحفاظ )‪.(1/122‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو مجاهد بن جبر المكي أبو الحجاج المخزومي المقرئ المفسر الحافظ‬
‫دا‪ ،‬قال مجاهد‪ :‬عرضت‬ ‫عا عاب ً‬
‫مولى السائب بن أبي السائب‪ ،‬كان فقيًها ور ً‬
‫القرآن على ابن عباس ثلث عرضات أقف عند كل آية أسأله فيم نزلت وكيف‬
‫كانت‪ ،‬توفى سنة ‪103‬هـ‪ .‬انظر‪ :‬طبقات الحفاظ للسيوطي ‪ ،‬ص ‪.42‬‬
‫‪5‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(215 /8‬‬

‫‪44‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫هناك خطر يهدد بزوالهم‪ ،‬ومن ثم زوال المنهج الذي يحملونه‪:‬‬


‫جًرا ك َ ّ‬
‫فاًرا"‬ ‫دوا إ ِل ّ َ‬
‫فا ِ‬ ‫ول َ ي َل ِ ُ‬
‫ك َ‬ ‫ضّلوا ِ‬
‫عَبادَ َ‬ ‫م يُ ِ‬ ‫‪+‬إ ِن ّ َ‬
‫ك ِإن ت َذَْر ُ‬
‫ه ْ‬
‫]نوح‪.[27 :‬‬
‫إن هلك الكافرين ونجاة المؤمنين‪ ،‬وسلمة المنهج الرباني‬
‫القائمين عليه وما بذلوه من الصبر والثبات على ذلك نوع من‬
‫أنواع التمكين التي يكرم الله بها من يشاء من عباده‪.‬‬
‫إن الله مكن لنوح عليه السلم ومن آمن به على وجه الرض‪،‬‬
‫فأمر السماء أن تقلع والماء أن يغيض في الرض‪ ,‬والسفينة أن‬
‫تستوي على جبل الجودي تمكيًنا لسفينة اليمان وأهلها )‪.(1‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬حقيقة النتظار‪ ،‬ص )‪.(40‬‬

‫‪45‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثاني‬
‫قصة موسى ‪ ‬مع فرعون‬
‫َ‬
‫في‬
‫فوا ِ‬ ‫ع ُ‬‫ض ِ‬ ‫ست ُ ْ‬‫نا ْ‬ ‫عَلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ّ‬‫ريدُ أن ن ّ ُ‬ ‫قال تعالى‪+:‬ون‬
‫ال َرض ون َجعل َه َم ُ أِ َ‬
‫ة‬
‫م ً‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ْ ِ َ ْ َ ُ ْ‬
‫َ‬
‫ي‬
‫ر َ‬ ‫ون ُ ِ‬‫ض َ‬ ‫في َالْر ِ‬ ‫م ِ‬
‫ه ْ‬‫ن لَ ُ‬‫مك ّ َ‬ ‫ون ُ َ‬
‫ن‪َ ‬‬ ‫رِثي َ‬ ‫وا ِ‬‫م ال ْ َ‬‫ه ُ‬ ‫عل َ ُ‬
‫ج َ‬ ‫ون َ ْ‬ ‫َ‬
‫ن"‬‫ذرو َ‬ ‫ح َ‬
‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ما ِ‬ ‫ه َ‬ ‫جُنودَ ُ‬ ‫و ُ‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫ها‬‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫و‬
‫ْ ْ‬‫ع‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫ف‬
‫ِ‬
‫]القصص‪.[6 ،5 :‬‬
‫لقد تطاول فرعون وعل وأسرف في الرض وأذل بنى‬
‫وا واستكباًرا في‬
‫ما وعل ً‬
‫إسرائيل‪ ،‬فقتل الولد واستحيا النساء ظل ً‬
‫الرض‪ ،‬وأراد الله بحكمته ومشيئته وقدرته أن يمن على بنى‬
‫كا وولة ويجعلهم يرثون الرض من بعد‬ ‫إسرائيل ويجعلهم ملو ً‬
‫فرعون‪ ,‬ويمكن لهم بعد الذل والصغار‪ ,‬وينتقم من فرعون‬
‫وهامان وجنودهما ويريهم ما كانوا يخافون من زوال ملكهم على‬
‫رجل من بنى إسرائيل )‪.(1‬‬
‫وقال المام ابن كثير )‪ (2‬في تفسيره‪) :‬لقد سلط على بنى‬
‫إسرائيل هذا الملك الجبار العتيد )فرعون( يستعملهم في أخس‬
‫العمال‪ ،‬ويكدهم ليل ً ونهاًرا في أشغال رعيته ويقتل مع هذا‬
‫أبناءهم ويستحيى نساءهم إهانة لهم واحتقاًرا لهم‪ ,‬وخوًفا من أن‬
‫يوجد منهم الغلم الذي كان قد تخوف هو وأهل مملكته منه يكون‬
‫سبب هلكه وذهاب دولته على يديه‪ ،‬وكانت القبط قد تلقوا هذا‬
‫من بنى إسرائيل فيما كانوا يدرسونه من قول إبراهيم الخليل‬
‫عليه السلم حين ورد الديار المصرية وجرى له مع جبارها ما جرى‬
‫حين أخذ سارة ليتخدها جارية فصانها الله منه ومنعه منها بقدرته‬
‫وسلطانه‪ ،‬فبشر إبراهيم عليه السلم ولده أنه سيولد من صلبه‬
‫وذريته من يكون هلك مصر على يديه‪ ،‬فكانت القبط تحدث بهذا‬
‫عند فرعون فاحترز فرعون من ذلك وأمر بقتل ذكور بنى‬
‫إسرائيل‪ ،‬ولن ينفع حذر من قدر‪ ،‬لن أجل الله إذا جاء ل يؤخر‬
‫ولكل أجل كتاب‪.‬‬
‫أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى فما نفعه من‬
‫ذلك مع قدرة الملك العظيم الذي ل يخالف أمره القدري ول‬
‫يغلب‪ ،‬بل نفذ حكمه وجرى قلمه في القدم بأن يكون هلك‬
‫فرعون على يديه‪ ,‬بل يكون هذا الغلم الذي احترزت من وجوده‬
‫وقتلت بسببه ألوًفا من الولدان إنما منشؤه ومرباه فراشك وفي‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(29 ،11/28‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الحافظ المؤرخ الفقيه المفسر إسماعيل بن عمر بن كثير بن درع القرشي‬
‫هو‬
‫طلب العلم من صغره ورحل من أجله‪ ،‬توفى‬‫الدمشقي أبو الفداء‪ ،‬ولد سنة ‪701‬هـ‪,‬‬
‫هـ‪ .‬انظر‪ :‬شذرات الذهب )‪.(6/231‬‬
‫في دمشق سنة ‪774‬‬

‫‪46‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫دارك‪ ,‬وغذاؤه من طعامك وأنت تربيه وتدللـه‪ ,‬وحتفك وهلكك‬


‫وهلك جنودك على يديه‪ ،‬لتعلم أن رب السموات العل هو القاهر‬
‫الغالب العظيم القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان‬
‫وما لم‬
‫)‪(1‬‬
‫يشأ لم يكن( ‪.‬‬
‫)‪(2‬‬
‫وقال البيقاعى رحمه الله‪) :‬ونمكن أي نوقع التمكين لهم‬
‫في الرض أي كلها ل سيما أرض مصر والشام‪ ،‬بإهلك أعدائهم‬
‫وتأييدهم بكليم الله‪ ،‬ثم النبياء من بعده عليهم الصلة والسلم‬
‫بحيث سلطهم بسببهم على من سواهم بما يؤيدهم به من‬
‫الملئكة وتظهر لهم من الخوارق‪ ،‬ولما ذكر التمكين‪ ،‬ذكر أنه‬
‫مع مغالبة الجبابرة إعل ًما بأنه أضخم تمكين( )‪.(3‬‬
‫محمد المين )‪ (4‬في تفسيره لهذه الية‪ ،‬قوله‬ ‫وقال الشيخ‬
‫عفوا" ]القصص‪،[5 :‬‬ ‫ُ‬ ‫ض ِ‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫على ال ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ّ‬ ‫ريدُ أن ن ّ ُ‬ ‫ون ُ ِ‬‫تعالى‪َ + :‬‬
‫عَلى‬ ‫سَنى َ‬ ‫ْ‬ ‫ح‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ب‬‫ر‬‫َ‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ت‬
‫ْ‬ ‫م‬
‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫في‬ ‫هو الكلمة‬
‫ل" ]العراف‪ ،[137 :‬ولم يبين هنا السبب الذي جعلهم‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ب َِني إ ِ ْ‬
‫به أئمة جمع إمام‪ ،‬أي قادة في الخير دعاة إليه على أظهر‬
‫ضا الشيء الذي جعلهم وارثيه‪ ،‬ولكنه بين‬ ‫القولين‪ ،‬ولم يبين هنا أي ً‬
‫فبين السبب الذي َ جعلهم به أئمة‬ ‫الموضع‪،‬‬ ‫جميع ذلك في غير هذا‬
‫ما‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نا‬‫ج َ َ ِ ْ ُ ْ ِ ّ ً َ ْ ُ َ ِ ْ ِ َ‬
‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫دو‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫ئ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫نا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ع‬
‫ّ‬ ‫و َ‬‫في قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]السجدة‪ ،[24 :‬فالصبر واليقين‪،‬‬ ‫قُنو َ‬ ‫كاُنوا ِبآَيات َِنا ُيو ِ‬ ‫و َ‬ ‫صب َُروا َ‬ ‫َ‬
‫هما السبب في ذلك‪ ،‬وبين الشيء الذي جعلهم له وارثين‪:‬‬
‫ريم ٍ ‪‬‬ ‫قام ٍ ك َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫ز َ‬ ‫وك ُُنو ٍ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫عُيو ٍ‬ ‫و ُ‬ ‫ت َ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫من َ‬ ‫هم ّ‬ ‫جَنا ُ‬ ‫َ‬ ‫خَر ْ‬ ‫فأ َ ْ‬
‫‪َ +‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ك َذَل ِك َ‬
‫َ‬
‫)‪(5‬‬
‫سَراِئيل"]الشعراء‪. [59 -57 :‬‬ ‫ها ب َِني إ ِ ْ‬ ‫وَرثَنا َ‬ ‫وأ ْ‬
‫قال محمد الطاهر بن عاشور )‪ (6‬رحمه الله‪) :‬إن الله وصف‬
‫ن‬
‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫ل على شدة تمكين الفساد من خلقه‪+‬إ ِن ّ ُ‬ ‫فا د ّ‬ ‫فرعون وص ً‬
‫ن" ]القصص‪ [4 :‬فحصل تأكيد لمعنى تمكن الفساد‬ ‫س ِ َ‬
‫دي‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫من فرعون‪ ،‬لن فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة‪:‬‬
‫المفسدة الولى‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(3/392‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو برهان الدين أبو الحسن إبراهيم بن عمر البيقاعى صاحب نظم الدرر في‬
‫تناسب اليات والسور‪ ،‬توفى عام ‪885‬هـ ‪ .‬انظر‪ :‬مقدمة تفسيره‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫)( تفسير البيقاعي )‪.(465 ،5/464‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو الشيخ محمد المين بن محمد المختار الشنقيطى اشتهر بعلم الصول‬
‫والتفسير‪ ،‬درس في جامعة المدينة والمسجد النبوي‪ ،‬توفى عام ‪1393‬هـ‪ .‬انظر‪:‬‬
‫أضواء البيان )‪.(99 -1/3‬‬
‫‪5‬‬
‫)( انظر‪ :‬أضواء البيان )‪.(6/451‬‬
‫‪6‬‬
‫)( هو محمد الطاهر بن عاشور ولد بتونس ‪1879‬هـ وكان من كبار علماء‬
‫الزيتونة له مؤلفات كثيرة من أشهرها التحرير والتنوير في التفسير‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫التكبر والتجبر فإنه مفسدة نفسية عظيمة تتولد منها مفاسد‬


‫مة من احتقار الناس والستخفاف بحقوقهم وسوء معاشرتهم‬ ‫ج ّ‬
‫ما أو ولًيا فيعامل الناس‬
‫ً‬ ‫حاك‬ ‫كان‬ ‫إذا‬ ‫صا‬
‫ً‬ ‫وخصو‬ ‫فيهم‪,‬‬ ‫عداوته‬ ‫وبث‬
‫بالغلظة‪ ,‬وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من بطشه وجبروته‪،‬‬
‫فهذه الصفة هي أم المفاسد وجماعها‪.‬‬
‫المفسدة الثانية‪:‬‬
‫جعل شعبه شيًعا قرب بعضهم وأبعد بعضهم‪ ,‬وتولدت بينهم‬
‫مفاسد عظيمة من الحقد والحسد والوشاية والنميمة‪.‬‬
‫المفسدة الثالثة‪:‬‬
‫جعل طائفة من أهل مملكته في ذل وصغار واحتقار‪ ،‬عذبهم‬
‫دا للطائفة المقربة‬
‫ونكل بهم ومنعهم من حقوقهم وجعلهم عبي ً‬
‫لديه‪.‬‬
‫المفسدة الرابعة‪:‬‬
‫اجتهد في قتل أطفال الطائفة المعذبة من الذكور حتى ل‬
‫يكون لبنى إسرائيل قوة من رجال قبيلتهم وحتى يكون النفوذ في‬
‫الرض لقومه خاصة‪.‬‬
‫المفسدة الخامسة‪:‬‬
‫كان يستحيي النساء أي يستبقى على حياة الناث من الطفال‬
‫حتى يصبحن بغايا إذ ليس لهن أزواج‪) .‬وكان قوم فرعون‬
‫يحتقرونهن ويأنفون أن يتزوجوا بهن ولم يبق لهن حظ من رجال‬
‫القوم إل قضاء الشهوة‪ ،‬فانقلب استحياء البنات إلى مفسدة‬
‫عظيمة تصل إلى منزلة تذبيح البناء( )‪.(1‬‬
‫وعندما كان فرعون يستعلى ويتكبر ويتعجرف على بنى إسرائيل‬
‫إسرائيل أمة‬ ‫بنىد َ‬ ‫كانت إرادة الله في تلك الحداث تريد أن تجعل من‬
‫ن‬‫ُ ّ‬‫م‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫أن‬ ‫ُ‬ ‫ري‬‫ُ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫عظيمة‪ ,‬وينتقم من فرعون وملئه‪ ,‬قال تعالى‪+:‬‬
‫في ال َرض ون َج َعل َ ِهم أ َِ‬
‫ة‬
‫م ً‬‫ّ‬ ‫ئ‬ ‫ْ ِ َ ْ ََ ُ ْ‬ ‫فوا ِ‬ ‫ع ُ‬ ‫ض ِ‬ ‫ست ُ ْ‬‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫عَلى ال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ي‬
‫ر َ‬ ‫ون ُ ِ‬
‫ض َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫في َالْر ِ‬ ‫م ِ‬
‫ه ْ‬ ‫نل ُ‬ ‫مك َ‬ ‫ون ُ َ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫رِثي َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫ه ُ‬ ‫عل ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ون َ ْ‬ ‫َ‬
‫ن"‬ ‫ذرو َ‬ ‫ح َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما‬
‫ّ‬ ‫هم‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫نو‬
‫ُ‬ ‫ج‬‫ُ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫و‬
‫ْ ْ‬‫ع‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫ف‬
‫ِ‬
‫]القصص‪.[6 ،5:‬‬
‫د" جئ بصيغة المضارع في حكاية إرادة مضت‬ ‫ري ُ‬
‫ون ُ ِ‬
‫‪َ +‬‬
‫لستحضار ذلك الوقت كأنه في الحال؛ لن المعنى أن فرعون‬
‫يطغى عليهم والله يريد من ذلك الوقت إبطال عمله وجعلهم أمة‬
‫عظيمة‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( التحرير والتنوير )‪.(70-20/68‬‬

‫‪48‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫فوا" فيه تعليل‪ ،‬بأن الله رحيم بعباده‪ ،‬وينصر‬ ‫ع ُ‬ ‫ض ِ‬‫ست ُ ْ‬ ‫قوله‪+ :‬ا ْ‬
‫ص بالذكر من المن أربعة أشياء عطفت على‬ ‫خ ّ‬ ‫المستضعفين‪ ,‬و َ‬
‫ن" عطف الخاص على العام‪ ،‬وهي‪ :‬جعلهم أئمة‪،‬‬ ‫م ّ‬‫فعل ‪+‬ن ّ ُ‬
‫وجعلهم الوارثين‪ ،‬والتمكين لهم في الرض‪ ،‬وأن يكون زوال ملك‬
‫فرعون على أيديهم في نعم أخرى جمة )‪.(1‬‬
‫إن الله تعالى من سننه الجارية في المم والشعوب‬
‫والمجتمعات والدول إذا أراد شيًئا هيأ له أسبابه‪ ,‬وأتى به شيًئا‬
‫فشيًئا بالتدرج ل دفعة واحدة‪ ،‬فعندما وصل الظلم إلى أقصى‬
‫منتهاه‪ ،‬ووصل الستضعاف إلى أسفل نقطة ممكنة‪ ،‬كانت تلك‬
‫النقطة بداية التمكين لبنى إسرائيل‪ ،‬وبدأت قصة التمكين وإنفاذ‬
‫ل بالهتمام بالرضيع في قوله تعالى‪:‬‬ ‫مشيئة الله عَّز وج ّ‬
‫ه‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫خ‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫إ‬‫ف‬‫َ‬ ‫ه‬ ‫عي‬ ‫ض‬ ‫ر‬‫لى َأ ُ َم موسى أ َن أ َ‬ ‫حي َْنا إ ِ َ‬ ‫‪+‬و أ َ‬
‫ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك‬‫دوهُ إ ِل َي ْ ِ‬ ‫حَزِني إ ِّنا َرا ّ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬‫في َ‬ ‫خا ِ‬‫ول َ ت َ َ‬ ‫م َ‬ ‫في ال ْي َ ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫قي ِ‬ ‫فأ َل ْ ِ‬‫َ‬
‫ن"]القصص‪.[7 :‬‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫علوهُ ِ‬ ‫ُ‬ ‫جا ِ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ل أوحى إلى‬ ‫ج ّ‬ ‫ويظهر من خلل اليات الكريمة‪ :‬أن الله عّز وَ َ‬
‫أم موسى بأن ترضعه فإذا خافت عليه‪ ،‬فعليها أن ترميه في اليم‪،‬‬
‫سا إل وسعها‪ ،‬وعلى أهل الحق أن‬ ‫ل ل يكلف نف ً‬ ‫ج ّ‬ ‫فالله عَّز وَ َ‬
‫جل سوف يبارك‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫يبذلوا جهدهم‪ ،‬وهو إن كان قليل فإن الله عَّز وَ َ‬
‫فيه‪ ،‬وسوف يهيئ من السباب التي يمكن بها لدينه وأهله‪.‬‬
‫إن سنن الله الكونية نافذة وعلى أهل اليمان أل يتأخروا في‬
‫الخذ بالسباب المتاحة‪ ،‬فهذا مبلغ جهد أم موسى في حماية‬
‫موسى الرضيع‪ ،‬والذي تولى حمايته ونصره في الحقيقة هو الله‬
‫ل ذو الجلل والكرام‪ ،‬وكان يمكن أن تحصل الحماية‬ ‫ج ّ‬ ‫عَّز وَ َ‬
‫والرعاية دون أسباب؛ ولكن الله من سنته إذا أراد شيًئا هيأ له‬
‫أسبابه‪ ،‬فألقى الله في قلب امرأة فرعون محبة موسى وكان‬
‫سبًبا في نجاته من الذبح‪ ،‬لقد مكن الله تعالى حب موسى عليه‬
‫السلم من قلب زوجة فرعون وأعطاها من القدرة على الجدل‬
‫والنقاش بحيث أقنعت‬
‫فرعون بتركه لها‪.‬‬
‫ونرى في اليات الكريمة لطف الله بأم موسى بذلك اللهام‬
‫الذي به سلم ابنها‪ ،‬ثم بتلك البشارة من الله لها برده إليها‪ ،‬التي‬
‫لولها لقضى عليها الحزن بسبب ولدها‪ ،‬وبذلك وغيره نعلم أن‬
‫ألطاف الله على أوليائه ل تتصورها العقول‪ ،‬ول تعبر عنها‬
‫العبارات‪ ،‬وتأمل موقع هذه البشارة وإنه أتاها ابنها ترضعه جهًرا‪،‬‬
‫عا وقدًرا وبذلك اطمأن قلبها وازداد إيمانها )‪.(2‬‬ ‫وتسمى أمه شر ً‬

‫‪1‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(71 ،20/70‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير السعدي )‪.(8/366‬‬

‫‪49‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن الله مكن حب موسى عليه السلم من قلب امرأة فرعون‪،‬‬


‫فكان سبًبا في تمكين موسى عليه السلم من ثدي أمه وحضنها‬
‫الحنون‪.‬‬
‫ما أل وهو‪ :‬أن العبد وإن‬ ‫دا مه ً‬ ‫ونرى في اليات الكريمة إرشا ً‬
‫عرف أن القضاء والقدر حق‪ ،‬وأن وعد الله نافذ ل بد منه‪ ،‬فإنه ل‬
‫يهمل فعل السباب التي تنفع‪ ،‬فإن السباب والسعي فيها من قدر‬
‫الله‪ ،‬فإن الله قد واعد أم موسى أن يرده عليها ومع ذلك لما‬
‫التقطه آل فرعون سعت بالسباب وأرسلت أخته لتقصه وتعمل‬
‫السباب المناسبة لتلك الحال )‪.(1‬‬
‫عن‬‫ه َ‬ ‫ت بِ ِ‬‫صَر ْ‬‫فب َ ُ‬‫ه َ‬ ‫صي ِ‬ ‫ق ّ‬‫وهذه إشارة قرآنية في قوله‪ُ +:‬‬
‫ن" ]القصص‪ ،[11 :‬إلى الخذ بالسباب‬ ‫عُرو َ‬‫ش ُ‬‫م ل َ يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬
‫ب َ‬ ‫جن ُ ٍ‬
‫ُ‬
‫صا للمة التي تسعي‬ ‫ً‬ ‫خصو‬ ‫العالية‬ ‫المنية‬ ‫بالتربية‬ ‫والهتمام‬ ‫والحذر‬
‫للتخلص من الظلم والجبروت وكبرياء المتسلطين‪ ،‬بل إن من‬
‫أسباب نجاح الحركات التي تعمل لتحرير شعوبها من أغلل‬
‫الحكام الظالمين نجاحها في الجوانب المنية‪ ،‬ونرى من خلل‬
‫اليات الكريمة‪ :‬أن المة المستضعفة‪ ،‬ولو بلغت من الضعف ما‬
‫بلغت‪ ،‬ل ينبغي أن يستولى عليها الكسل عن السعي في حقوقها‪,‬‬
‫صا إذا كانوا‬ ‫ول اليأس من الرتقاء إلى أعلى المور‪ ،‬خصو ً‬
‫مظلومين‪ ،‬كما استنقذ الله أمة بنى إسرائيل على ضعفها‬
‫واستعبادها لفرعون وملئهم منهم‪ ،‬ومكنهم في الرض وملكهم‬
‫بلدهم )‪.(2‬‬
‫وكان من إعداد الله تعالى لموسى عليه السلم أن تربي في‬
‫قصر فرعون بين مظاهر الترف ومباهج الملك والسلطان‪ ،‬نشأ‬
‫كما ينشأ أبناء الملوك‪ ،‬وهكذا زالت من قلب موسى مهابة الملوك‬
‫والغنياء‪ ،‬ولم يخف على موسى أنه دخيل على أهل فرعون وأنه‬
‫يرجع في أصله الحقيقي إلى يعقوب عليه السلم‪ ،‬فعندما بلغ‬
‫أشده واستوى أكرمه الله بالحكمة والعلم‪ ،‬لكونه من المحسنين‪،‬‬
‫وذات يوم عند الظهيرة وجد رجلين يقتتلن أحدهما من قومه‬
‫والخر من قوم فرعون‪ ،‬فطلب السرائيلي من موسى نصرته‬
‫فتدخل موسى فوكز المصري فقضى عليه‪ ،‬وهذا يدل على قوة‬
‫ضا عما كان في نفسه‬ ‫موسى عليه السلم وشدة غضبه‪ ,‬ويعّبر أي ً‬
‫من شعور بالضيق والظلم من فرعون وقومه؛ ولكن موسى عليه‬
‫السلم لم يقصد قتل القبطي ولذلك ندم واسترجع وعزاها إلى‬
‫الشيطان وغوايته‪.‬‬
‫ن"‬‫مِبي ٌ‬‫ل ّ‬‫ض ّ‬ ‫م ِ‬‫و ّ‬‫عدُ ّ‬‫ه َ‬ ‫ن إ ِن ّ ُ‬
‫طا ِ‬‫شي ْ َ‬‫ل ال ّ‬
‫م ِ‬ ‫ع َ‬
‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ه َ‬
‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫‪َ +‬‬

‫‪1‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(368 ،8/367‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير السعدي )‪.(368 ،8/367‬‬

‫‪50‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫ب‬‫ل َر ّ‬ ‫قا َ‬ ‫]القصص‪ ،[15 :‬ثم توجه إلى ربه طالًبا مغفرته وعفوه‪َ + :‬‬
‫فْر ِلي" واستجاب الله إلى ضراعته‬ ‫غ ِ‬ ‫فا ْ‬ ‫سي َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ت نَ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫إ ِّني ظَل َ ْ‬
‫م" ]القصص‪.[17 :‬‬ ‫حي ُ‬ ‫فوُر الّر ِ‬ ‫غ ُ‬ ‫ْ‬
‫و ال َ‬ ‫ه َ‬‫ه ُ‬ ‫ه إ ِن ّ ُ‬ ‫َ‬
‫فَر ل ُ‬ ‫غ َ‬
‫ف َ‬ ‫واستغفاره ‪َ +‬‬
‫فا يترقب في المدينة وإذا‬ ‫لقد أصبح موسى عليه السلم خائ ً‬
‫بالمعركة الثانية بين السرائيلي والفرعوني‪ ،‬وتدخل موسى عليه‬
‫السلم لفض النزاع ووجه لومه إلى الذي من بنى قومه‪ ،‬وقال له‪:‬‬
‫ن" ]القصص‪ ،[18 :‬إل أن السرائيلي ظن أن‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ي ّ‬ ‫و ّ‬ ‫غ ِ‬ ‫ك لَ َ‬ ‫‪+‬إ ِن ّ َ‬
‫برئ منها‪ِ+:‬إن‬ ‫وموسى‬ ‫تهمة‬ ‫له‬ ‫فوجه‬ ‫به‪،‬‬ ‫يبطش‬ ‫أن‬ ‫يريد‬ ‫موسى‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ريدُ َأن ت َ ُ‬ ‫ما ت ُ ِ‬ ‫و َ‬‫ض َ‬ ‫في الْر ِ‬
‫َ‬ ‫جّباًرا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫كو َ‬ ‫ريدُ إ ِل ّ َأن ت َ ُ‬ ‫تُ ْ ِ‬
‫ن" ]القصص‪.[19 :‬‬ ‫حي َ‬ ‫صل ِ ِ‬‫ال ُ ْ‬
‫م‬
‫إن موسى عليه السلم كان يرى أن المعارك الجانبية ل تفيد‬
‫قومه‪ ,‬ولذلك وصف الذي من شيعته بأنه غوى‪ :‬أي بعراكه هذا‬
‫الذي ل ينتهي‪ ,‬واشتباكه الذي ل يثمر إل إثارة الثائرة على بنى‬
‫إسرائيل وهم عن الثورة الكاملة عاجزون‪ ،‬وعن الحركة المثمرة‬
‫ضعفاء‪ ،‬فل قيمة لمثل هذه الشتباكات التي تضر ول تنفع ول تفيد‬
‫)‪. (1‬‬
‫وهذا درس عميق يفيد العاملين الذين يسعون لتمكين دين‬
‫الله؛ عليهم أن يبتعدوا عن المعارك الجانبية وأن يوحدوا صفهم‬
‫ويجمعوا قوتهم لساعة الصفر التي يعلو فيها نجم اليمان‬
‫وتنطمس فيها رايات الكفر والطغيان‪.‬‬
‫لقد تسرب خبر قتل موسى عليه السلم للقبطي واجتمع‬
‫الفراعنة للبت في أمر موسى الذي ظهر لهم أنه رمز لثورة‬
‫تحارب الظلم وتسعي لعز بنى إسرائيل وقرروا إلقاء القبض عليه‪.‬‬
‫وهنا جاء دور رجل تعاطف مع الحق والعدل الذي يحمله‬
‫موسى عليه السلم‪ ،‬فأسرع لنذاره ونصحه‪ ،‬وهنا إشارة قرآنية‬
‫نحو الهتمام بالتواجد المني داخل المؤسسات الفرعونية‬
‫والستفادة من المعلومات التي تنير طريق الدعاة في حركتهم‬
‫المباركة‪.‬‬
‫َ‬
‫سى‬ ‫مو َ‬ ‫ل َيا ُ‬ ‫قا َ‬‫عى َ‬ ‫س َ‬ ‫ة يَ ْ‬ ‫دين َ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫صى ال ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ّ‬ ‫ج ٌ‬ ‫جاءَ َْر ُ‬ ‫لَ‬‫و َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ن‬‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ني‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ج‬
‫ْ‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ق‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫رو‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م‬ ‫إِ ّ‬
‫ن" ]القصص‪.[20 :‬‬ ‫ال ّ ِ ِ َ‬
‫حي‬ ‫ص‬ ‫نا‬
‫لقد أكرم الله موسى عليه السلم بهذه المعلومات النافعة‬
‫وقرر أن يهاجر من بلد الفراعنة‪.‬‬
‫وهذا إرشاد قرآني لمن خاف التلف بالقتل بغير حق في‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬قصص الرحمن في ظلل القرآن‪ ،‬لحمد فائز )‪.(3/64‬‬

‫‪51‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫موضع‪ ،‬فل يلقي بيده إلى التهلكة ويستسلم للهلك‪ ،‬بل يفّر من‬
‫ذلك الموضع مع القدرة كما فعل موسى عليه السلم‪ ،‬كما أن فيه‬
‫توجيًها نحو ارتكاب إحدى المفسدتين يتعين ارتكاب الخف منهما‪،‬‬
‫دفعا لما هو أعظم وأخطر‪ ،‬فإن موسى لما دار المر بين بقائه في‬
‫مصر ولكنه يقتل‪ ،‬أو ذهابه إلى بعض البلدان البعيدة التي ل يعرف‬
‫الطريق إليها‪ ،‬وليس معه دليل يدله غير هداية ربه‪ ،‬ومعلوم أنها‬
‫أرجى للسلمة‪ ،‬ل جرم آثرها موسى )‪. (1‬‬
‫وم ِ‬
‫ق ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬
‫جِني ِ‬ ‫ب نَ ّ‬‫ل َر ّ‬ ‫قا َ‬ ‫ب َ‬ ‫ق ُ‬ ‫فا ي َت ََر ّ‬ ‫خائ ِ ً‬ ‫ها َ‬ ‫من ْ َ‬‫ج ِ‬ ‫خَر َ‬
‫ف َ‬‫‪َ +‬‬
‫َ‬
‫سى َرّبي أن‬ ‫قا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ْ‬
‫ه ت ِل َ‬ ‫َ‬ ‫ال ّ‬
‫ع َ‬‫ل َ‬ ‫مدْي َ َ‬‫قاءَ َ‬ ‫ج َ‬ ‫و ّ‬‫ما ت َ َ‬ ‫ول ّ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫مي َ‬‫ظال ِ ِ‬
‫ل" ]القصص‪ ،[22 ،21 :‬ونلمح شخصية‬ ‫سِبي ِ‬ ‫واءَ ال ّ‬ ‫س َ‬‫دي َِني َ‬ ‫ه ِ‬‫يَ ْ‬
‫دا في الطرق الصحراوية‬ ‫دا مطار ً‬ ‫دا وحي ً‬ ‫موسى عليه السلم فري ً‬
‫في اتجاه مدين جنوبي الشام وشمالي الحجاز‪ ,‬مسافات شاسعة‪،‬‬
‫فا‬ ‫وأبعاد مترامية‪ ،‬ل زاد ول استعداد‪ ،‬فقد خرج من المدينة خائ ً‬
‫جا بنذارة الرجل الناصح‪ ،‬ونلمح إلى جانب‬ ‫يترقب‪ ،‬وخرج منزع ً‬
‫)‪(2‬‬
‫هذا نفسه متوجهة إلى ربه مستسلمة له‪ ،‬مطلعة إلى هداه ‪:‬‬
‫ل"‪.‬‬ ‫َ‬
‫سِبي ِ‬‫واءَ ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫دي َِني َ‬ ‫ه ِ‬‫سى َرّبي أن ي َ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫كانت رحلة طويلة من الرعاية والتوجيه‪ ،‬ومن التلقي‬
‫والتجريب‪ ،‬قبل وحي الله له بالنبوة‪) :‬تجربة الرعاية والحب‬
‫والتدليل‪ ,‬وتجربة الندفاع تحت ضغط الغيظ الحبيس‪ ,‬وتجربة‬
‫الندم والتحرج والستغفار‪ ,‬وتجربة الخوف والمطاردة والفزع‪,‬‬
‫وتجربة الغربة والوحدة والرجوع‪ ،‬وتجربة الخدمة ورعي الغنم بعد‬
‫حياة القصور وما يتخلل هذه التجارب الضخمة من شتى التجارب‬
‫الصغيرة‪ ،‬والمشاعر المتباينة‪ ،‬والخوالج والخواطر‪ ،‬والدراك‬
‫والمعرفة إلى جانب ما آتاه الله حين بلغ أشده من العلم‬
‫والحكمة‪ ،‬إن الرسالة تكليف ضخم شاق مُتعدد الجوانب والتبعات‪،‬‬
‫يحتاج إلى زاد ضخم من التجارب والدراك والمعرفة والتذوق في‬
‫واقع الحياة العملي‪ ،‬إلى جانب هبة الله اللدنية‪ ،‬ووحيه وتوجيه‬
‫للقلب والضمير( )‪.(3‬‬
‫إن الله تعالى أراد أن يربي موسى عليه السلم بالحداث قبل‬
‫الرسالة‪ ,‬ولهذا دخل بقدرة الله إلى مجتمع الرعاة‪ ،‬مستشعًرا‬
‫النعمة في أن يكون راعي غنم يجد القوت والمأوى بعد الخوف‬
‫والجوع والمطاردة والمشقة‪.‬‬
‫وعاش مع البسطاء في أخلقهم وعاداتهم وخشونتهم وفقرهم‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير السعدي )‪.(8/638‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬قصص الرحمن في ظلل القرآن )‪.(55 ،3/54‬‬
‫‪3‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(3/64‬‬

‫‪52‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫وهذا كله تمرين له على تكاليف الدعوة التي سيتحملها‪.‬‬


‫إن التجارب الميدانية أقوى وأفيد في تربية النفوس البشرية‬
‫من قراءة الكتب والمجلدات والجرائد‪ ,‬ومن الندوات والحلقات‬
‫الهادئة البعيدة عن المحن والشدائد والصعاب‪.‬‬
‫إن الشعوب التي تربت على الذل والخنوع والمهانة والقسوة‬
‫في العادة تفقد القدرة على التفكير والتدبير وتنتظر من يقودها‬
‫نحو حريتها وكرامتها وعزتها‪.‬‬
‫وإن هذا القرآن الكريم ليمد الطلئع المتحفزة نحو التغيير‬
‫بخبرات النبياء والمرسلين والذين سعوا لتحرير شعبهم من الظلم‬
‫والجبروت والطغيان ويضع أيديهم على مفاصل التغيير في المم‬
‫والشعوب وكيفية السعي بها من الضعف ومن دياجير الظلم‬
‫وأغلل العبودية للعبيد إلى القوة ونور الحريات‪ ،‬وعبادة الواحد‬
‫الديان‪.‬‬
‫إن تجربة موسى عليه السلم في تغيير الشعوب من أضخم‬
‫التجارب‪ ،‬فقد واجه بدعوته المباركة أعتي ملوك الرض في‬
‫كا‪ ،‬وأعرقهم حضارة‪ ،‬وأشدهم‬ ‫شا‪ ،‬وأثبتهم مل ً‬ ‫زمانه‪ ،‬وأقدمهم عر ً‬
‫دا للخلق واستعلء في الرض‪.‬‬ ‫تعب ً‬
‫لقد حان وقت خلص بنى إسرائيل من الظلم والضطهاد‬
‫والعسف والجور‪ ,‬وأكمل موسى عليه السلم مدته في أهل مدين‪،‬‬
‫وعزم على التكليف الرباني بالرسالة والنهوض بالشعب‬
‫المستضعف من قبل رب العالمين لموسى الكليم‪ ،‬وأمده المولى‬
‫ل بالمعجزات الواضحة والبراهين الدامغة والدلة الساطعة‪.‬‬ ‫ج ّ‬‫عَّز وَ َ‬
‫وأمره بالذهاب إلى القوم الفاسقين لقامة الحجة على‬
‫الفراعين وتخليص بنى إسرائيل من ظلم العبودية وظلم العباد‬
‫وقسوة الفراعنة حتى يعبدوا الله أحراًرا‪ ،‬ولم يتردد موسى عليه‬
‫السلم في طلب العون من موله وربه ومبتغاه‪ ,‬قال سيد قطب‬
‫رحمه الله‪ :‬لقد استجاب ربه رجاءه وشد عضده بأخيه‪ ،‬وزاده على‬
‫نا" ]القصص‪:‬‬ ‫سل ْ َ‬
‫طا ً‬ ‫ما ُ‬ ‫ل ل َك ُ َ‬ ‫ع ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ون َ ْ‬ ‫ما رجاه البشارة والتطمين ‪َ +‬‬
‫‪ ،[35‬فهما لن يذهبا مجردين إلى فرعون الجبار‪ ،‬إنما يذهبان إليه‬
‫مزودين بسلطان ل يقف له في الرض سلطان‪ ،‬ول تنالهما معه‬
‫ما ِبآَيات َِنا" ]القصص‪،[35 :‬‬ ‫ن إ ِل َي ْك ُ َ‬ ‫صُلو َ‬ ‫فل َ ي َ ِ‬‫كف طاغية ول جبار ‪َ +‬‬
‫وحولكما من سلطان الله سياج ولكما منه حصن وملذ‪ ،‬ول تقف‬
‫البشارة إلى هذا الحد ولكنها الغلبة للحق‪ ،‬والغلبة ليات الله‬
‫الطغاة‪ ،‬فإذا هي وحدها السلح القوي وأداة النصر‬ ‫يجابهان بها‬
‫)‪(1‬‬
‫ن" ]القصص‪. [35 :‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫غال ُِبو َ‬‫ما ال َ‬ ‫عك َ‬ ‫ن ات ّب َ َ‬ ‫م ِ‬‫و َ‬‫ما َ‬‫والغلبة ‪ِ+‬بآَيات َِنا أنت ُ َ‬
‫‪1‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(5/2693‬‬

‫‪53‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن موسى عليه السلم باشر في تنفيذ أمر ربه سبحانه‬


‫وتعالى‪ ,‬وأيده بالمعجزات وصدع بكلمة الحق أمام فرعون‬
‫الطاغية الجبار‪ ،‬وأقام عليه الحجة والبراهين‪ ،‬والدلة على صدق‬
‫رسالته وتعّرض فرعون وقومه بالخذ بالسنين والنقص في‬
‫الثمرات وابتلهم الله بالقمل والضفادع والدم وغير ذلك‪.‬‬
‫ولم يؤمن الجبار العنيد؛ بل اتهم موسى الكليم بالسحر وقّرر‬
‫أن يجمع كل السحرة للوقوف أمام دعوة الحق التي يقودها‬
‫رسول الله موسى عليه السلم‪.‬‬
‫واجتمع الفريقان لميقات يوم معلوم‪ ،‬وبدأ السجال‪ ,‬وألقى‬
‫م عرج موسى عليه السلم على‬ ‫السحرة إفكهم وخداعهم ث ّ‬
‫باطلهم بالحق المبين‪ ،‬بإلقائه العصا التي انقلبت إلى حية تسعى‪،‬‬
‫فإذا هي تلقف ما يأفكون وكانت الجولة والصولة‪.‬‬
‫فإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ك َ‬‫صا َ‬
‫ع َ‬‫ق َ‬ ‫ن أ َل ْ‬ ‫َ‬
‫سى أ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫حي َْنا إ َِلى ُ‬ ‫و َ‬
‫قال تعالى‪َ +:‬‬
‫وْأ ْ‬‫َ‬
‫ِ‬
‫ما َ‬
‫كاُنوا‬ ‫ل َ‬‫وب َطَ َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ما ي َ‬ ‫ف َ‬‫ق ُ‬‫ي ت َل ْ َ‬‫ه َ‬ ‫ِ‬
‫ن" ]العراف‪-117 :‬‬ ‫ِ َ‬‫ري‬ ‫غ‬ ‫ِ‬ ‫صا‬ ‫َ‬ ‫بوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ق‬‫َ‬ ‫وان‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫بوا‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫غ‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫يَ َ‬
‫ع‬
‫ْ‬
‫‪.[119‬‬
‫قال صاحب الظلل‪:‬‬
‫)إنه الباطل ينتفش ويسحر العيون ويسترهب القلوب ويخيل إلى‬
‫الكثيرين أنه غالب‪ ،‬وأنه جارف وأنه محق‪ ،‬وما هو إل أن يواجه الحق‬
‫الهادئ الواثق حتى ينفشئ كالفقاعة‪ ،‬وينكمش كالقنفذ‪ ،‬وينطفئ‬
‫كشعلة الهشيم‪ ،‬وإذا الحق راجح الوزن ثابت القواعد عميق الجذور‪،‬‬
‫عا ذا‬
‫والتعبير القرآني هنا يلقى هذه الظلل وهو يصور الحق واق ً‬
‫ق" وثبت واستقر وذهب ما عداه فلم يعدله‬ ‫ح ّ‬ ‫ع ال ْ َ‬ ‫و َ‬
‫ق َ‬ ‫ثقل‪َ +‬‬
‫ف َ‬
‫ن" وغلب الباطل والمبطلون‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ع َ‬ ‫َ‬
‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫َ‬
‫وب َط َ‬ ‫وجود ‪َ +‬‬
‫وذلوا وصغروا وانكمشوا بعد الزهو الذي كان يبهر العيون‬
‫ن" ولكن ُالمفاجأة لم تختم‬ ‫ري َ‬ ‫غ ِ‬ ‫صا ِ‬ ‫قل َُبوا َ‬ ‫وان َ‬ ‫ك َ‬ ‫هَنال ِ َ‬ ‫غل ُِبوا ُ‬ ‫ف ُ‬‫‪َ +‬‬
‫ة‬
‫حَر ُ‬‫س َ‬‫ي ال ّ‬ ‫ق َ‬ ‫ْ‬
‫وأل ِ‬ ‫بعد والمشهد ما يزال يحمل مفاجأة كبرى‪َ +:‬‬
‫سى‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬‫ّ‬ ‫ر‬‫ن‪َ ‬‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫مّنا ب َِر ّ‬ ‫قاُلوا آ َ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫دي َ‬ ‫ج ِ‬‫سا ِ‬ ‫َ‬
‫ن" ]العراف‪.[122 -120 :‬‬ ‫هاُرو َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫إنها صولة الحق في الضمائر‪ ،‬ونور الحق في المشاعر‪،‬‬
‫)‪(1‬‬
‫ولمسة الحق للقلوب المهيأة لتلقى الحق والنور واليقين( ‪.‬‬
‫إيمان السحرة وأرغى وأزبد‪ ،‬لنهم آمنوا‬ ‫لقد احتج فرعون على‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬
‫م" ]العراف‪ ،[122 :‬كأنما‬ ‫ن لك ْ‬ ‫قب ْل أن آذَ َ‬ ‫م بِ ِ‬ ‫من ْت ُ ْ‬‫بدون إذنه‪+:‬آ َ‬
‫كان عليهم أن يستأذنوه في أن تنتفض قلوبهم للحق‪ ،‬وهم‬
‫أنفسهم ل سلطان لهم عليها‪ ،‬أو يستأذنوه في أن ترتعش‬
‫‪1‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(3/1350‬‬

‫‪54‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫وجداناتهم وهم أنفسهم ل يملكون من أمرها شيًئا‪ ،‬ولكنه‬


‫الطاغوت جاهل غير مطموس‪ ،‬وهو في الوقت ذاته متعجرف‬
‫متكبر مغرور‪.‬‬
‫ثم إنه الفزع على العرش المهدد والسلطان المهزوز‪،‬‬
‫والمسألة واضحة المعالم إنها دعوة موسى إلى رب العالمين هي‬
‫التي تزعج وتخيف‪ ،‬إنه ل بقاء ول قرار لحكم الطواغيت مع‬
‫الدعوة إلى رب العالمين‪ ،‬وهم إنما يقوم ملكهم على تنحية ربوبية‬
‫الله للبشر بتنحية شريعته وإقامة أنفسهم أرباًبا من دون الله؛‬
‫يشرعون للناس ما يشاءون ويعبدون الناس لما يشرعون‪ ،‬إنهما‬
‫منهجان ل يجتمعان‪ ،‬أو هما دينان ل يجتمعان‪ ,‬أو هما ربان ل‬
‫يجتمعان‪ .‬وهكذا أطلق فرعون ذلك التوعد الوحشي الفظيع‪:‬‬
‫جل َ ُ‬ ‫قطّعن أ َيديك ُم َ‬ ‫ن ‪ ‬لُ َ‬
‫ف‬‫خل َ ٍ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫كم ّ‬ ‫وأْر ُ‬ ‫َ ّ ْ ِ َ ْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫عل َ َُ‬
‫ف تَ ْ‬ ‫و َ‬ ‫س ْ‬ ‫ف َُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ن" ]العراف‪.[124،123 :‬‬ ‫َ‬ ‫عي‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ج‬
‫َ َ ّ ْ ْ َ‬‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ص‬ ‫ل‬ ‫م‬‫ثُ ّ‬
‫إنه التعذيب والتشويه والتنكيل وسيلة الطواغيت في مواجهة‬
‫الحق الذي ل يملكون دفعه بالحجة والبرهان‪ ،‬وعدة الباطل في‬
‫وجه الحق الصريح‪.‬‬
‫ولكن النفس البشرية حين تستعلي فيها حقيقة اليمان‬
‫تستعلي على قوة الرض وتستهين ببأس الطغاة‪ ،‬وتنتصر فيها‬
‫العقيدة على الحياة‪ ،‬وتختصر الفناء الزائل إلى جوار الخلود‬
‫المقيم‪ ،‬إنها ل تقف لتسأل ماذا ستأخذ وماذا ستدع‪ ،‬ماذا ستقبض‬
‫وماذا ستدفع‪ ،‬ماذا ستخسر وماذا ستكسب‪ ،‬وماذا ستلقى في‬
‫الطريق من صعاب وأشواك وتضحيات؛ لن الفق المشرق‬
‫الوضئ أمامها هناك‪ ،‬ل تنظر إلى شيء في الطريق )‪.(1‬‬
‫َ‬
‫ن‬‫مّنا إ ِل ّ أ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫ما َتن ِ‬ ‫و َ‬‫ن‪َ ‬‬ ‫من َ‬
‫قل ُِبو َ َ‬ ‫قاُلوا إ ِّنا إ َِلى َرب َّنا ُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫وفَنا‬ ‫ّ‬ ‫وت َ َ‬ ‫صب ًْرا َ‬ ‫علي َْنا َ‬ ‫َ‬ ‫رغ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫جاءَت َْنا َرب َّنا أف ِ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫ت َرب َّنا ل ّ‬ ‫مّنا ِبآَيا ِ‬ ‫آ َ‬
‫ن" ]العراف‪ ،[126 ،125 :‬لقد أقام موسى عليه السلم‬ ‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫س‬‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫الحجج الدامغة والبراهين الساطعة‪ ،‬على فرعون الطاغية المتكبر‬
‫وطلب منه أن يرسل معه بنى إسرائيل‪ ،‬فامتنع وشرع للكيد‬
‫لموسى وقومه‪ ،‬وكانت النتيجة أن تمكن اليمان من قلب السحرة‬
‫ض‬ ‫ت َ‬ ‫َ‬ ‫فا ْ‬ ‫وأعلنوها صيحة مدوية في آفاق الرض‪َ +:‬‬
‫قا ٍ‬ ‫ما أن َ‬ ‫ض َ‬ ‫ق ِ‬
‫َ‬
‫حَياةَ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫ذ ِ‬‫ه ِ‬ ‫ضي َ‬ ‫ق ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫إ ِن ّ َ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫هت ََنا َ‬ ‫ْ‬
‫ما أكَر ْ‬ ‫و َ‬ ‫خطاَياَنا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فَر لَنا َ‬ ‫غ ِ‬ ‫مّنا ب َِرب َّنا ل ِي َ ْ‬ ‫الدّن َْيا ‪ ‬إ ِّنا آ َ‬
‫قى" ]طه‪.[72 :‬‬ ‫وأ َب ْ َ‬ ‫ْ ٌ َ‬‫ر‬ ‫ي‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫والل‬ ‫ر َ‬ ‫ح ِ‬‫س ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫لقد انتقم فرعون من السحرة الذين آمنوا وصلبوا في جذوع‬
‫النخل وقطع أيديهم وأرجلهم من خلف‪ ،‬وتشاور المل من القوم‬
‫مع زعميهم الطاغية وقرر الخير مضاعفة العذاب والنتقام من‬
‫‪1‬‬
‫)( المصدر السابق )‪.(1352 ،3/1351‬‬

‫‪55‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الشعب المستضعف الذي بدأ يزحف نحو النور والحرية والكرامة‬


‫والتوحيد الصحيح‪.‬‬
‫لقد حاور موسى عليه السلم فرعون الطاغية وساجل‬
‫سحرته‪ ،‬وكانت محاولته لمعالجة الوضع من فوق‪ ،‬لتحقيق تغيير‬
‫أشمل‪ ،‬ولكن سرعان ما تبين أن الجدار الفرعوني ل يخترق ول‬
‫يستمال ول يحّيد ول يكسب‪ ،‬حتى بعد أن كسب المعركة عقدًيا‬
‫وفكرًيا وسياسًيا حين لقفت عصاه عصي السحرة فكان ل بد من‬
‫الخروج ببني إسرائيل خلسة وباستخدام أسلوب التمويه حتى‬
‫يكسب بعض الوقت قبل اكتشاف أثرهم واللحاق بهم‪ ،‬فالمواجهة‬
‫كانت تعنى الهلك‪ ،‬بل فشل الفرار كان يعنى الهلك كذلك‪.‬‬
‫وكان لبد من التوجه نحو الصحراء حتى يمنع اللحاق بهم‬
‫ويصلوا أرض الميعاد‪ ،‬بل كل هذا المجهود الفذ الذي قام به‬
‫موسى عليه السلم لتخليص قومه من الذل والخنوع والستعباد ما‬
‫ل ومعجزة شق البحر‪ ،‬وإغراق‬ ‫ج ّ‬‫كان لينجح لول توفيق الله عَّز وَ َ‬
‫)‪(1‬‬
‫فرعون وجنوده وهم يكادون يمسكون بالهاربين ‪.‬‬
‫لقد كان للثر السياسي والجتماعي ومظاهر البيئة الخارجية‬
‫والداخلية تأثير في اتخاذ أسلوب الهجرة السرية لموسى وقومه‪،‬‬
‫وعلى الشعوب المستضعفة‪ :‬أن تعمل ما في جهدها وطاقتها‬
‫ووسعها وتوقن أن نصر الله قادم ما دامت تريد أن تعبد الخلق‬
‫العليم على نهجه وشرعه ودينه القويم‪ ,‬لقد حان وقت هلك‬
‫فرعون اللعين ونجاة موسى الكليم ومن معهم من المؤمنين‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬وأ َ‬
‫كم‬ ‫عَباِدي إ ِن ّ ُ‬ ‫ر بِ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫حي َْنا إ َِلى ُ‬ ‫و َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫مّتبعون ‪َ َ ‬‬
‫ن‬‫ن ‪ ‬إِ ّ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫ش‬ ‫ِ‬ ‫حا‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫دا‬ ‫َ‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫و‬‫ْ ْ‬‫ع‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫س‬
‫فأْر َ‬ ‫ّ ُ َ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫وإ ِّنا‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ظو‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫غا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫َ ِ ُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬ ‫َ‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ة‬‫ٌ‬ ‫م‬‫ء لَ ْ َ‬
‫ذ‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ش‬
‫ِ‬ ‫ؤل َ ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫َ‬
‫ز‬ ‫نو‬
‫َ ُ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫يو‬
‫َ ّ ٍ َ ُ ُ ٍ‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫نا‬ ‫ج‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫هم‬ ‫نا‬
‫ْ َ َْ َ ُ‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫خ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫رو‬ ‫لَ َ ِ ٌ َ ِ ُ‬
‫ذ‬ ‫حا‬ ‫ع‬ ‫مي‬ ‫ج‬
‫ل ‪‬‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ها ب َِني إ ِ ْ‬ ‫وَرث َْنا َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫َ‬
‫ريم ٍ ‪ ‬كذَل ِك َ‬ ‫َ‬ ‫قام ٍ ك َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫و ََ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫قا‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫عا‬ ‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ءى‬ ‫َ‬ ‫را‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫قي‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ش‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫هم‬ ‫ُ‬ ‫عو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫فأ‬
‫ن ‪‬‬ ‫دي ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫ي َرّبي َ‬ ‫ع َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ل ك َل ّ إ ِ ّ‬ ‫قا َ‬ ‫ن‪َ ‬‬
‫َ‬ ‫كو َ‬ ‫مدَْر ُ‬ ‫سى إ ِّنا ل َ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫فأ َ‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫َ‬
‫حَر فانَفل َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫صا َك الب َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ع َ‬ ‫رب ب ّ َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ض‬‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫سى‬ ‫َ‬ ‫مو‬ ‫ُ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ‪‬‬ ‫ري َ‬ ‫خَ ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫ف ََنا ث َ ّ‬ ‫وأْزل َ ْ‬ ‫ظيم ِ ‪َ ‬‬ ‫عَ ِ‬ ‫وِد ال َ‬ ‫كالطّ ْ‬ ‫ق َ‬ ‫فْر ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫كا َ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ري‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫غ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ث‬ ‫ن‬ ‫عي‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ج‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫من‬ ‫و‬ ‫سى‬ ‫مو‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ج‬ ‫أن‬ ‫و َ‬
‫ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫‪‬‬ ‫َ‬ ‫ّ َ ُ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ك‬‫ن َرب ّ َ‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫ن أ َك ْث َُر ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫ك ل َي َ ً‬ ‫في ذَل ِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫‪ ‬إِ ّ‬
‫م" ]الشعراء‪.[68 -52 :‬‬ ‫حي ُ‬ ‫زيُز الّر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬‫ه َ‬ ‫لَ ُ‬
‫إن اليات الكريمة توضح لنا سنة من سنن الله الماضية‬
‫والجارية في المجتمعات والشعوب والمم أل وهي سنة إنجاء‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬في نظريات التغيير‪ ،‬منير شفيق‪ ،‬ص )‪.(1‬‬

‫‪56‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المؤمنين المصدقين من أوليائه‪ ،‬المعترفين برسالة رسله وأنبيائه‪،‬‬


‫وإهلك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه‪ ،‬وتتضح سنة أخرى أل‬
‫ل قرب فرعون‬ ‫ج ّ‬
‫وهي سنة الستدراج وكيف أن المولى عَّز وَ َ‬
‫وجنوده وأدناهم بل وسلب عقولهم بحيث إنهم تابعوا موسى‬
‫وقومه‪ ,‬ونقف مع الرسول الكريم في قوله تعالى‪+ :‬ك َل ّ إ ِ ّ‬
‫ن‬
‫ن" هنا دللة مهمة أل وهي‪ :‬أن الرسل هم‬ ‫دي ِ‬
‫ه ِ‬
‫سي َ ْ‬
‫ي َرّبي َ‬
‫ع َ‬
‫م ِ‬
‫َ‬
‫أوثق الناس بنصر الله عز وجل ووعده‪ ،‬فلو ضاقت المور وشك‬
‫الناس في وعد الله بالنصر والفرج فإن الرسل هم أوثق الناس‬
‫بنصر الله‪.‬‬
‫إن فرعون الطاغية حاول أن يرفض الستسلم ليات الله‬
‫دا‬
‫ً‬ ‫بعي‬ ‫ومشيئته وتكبر وتجبر وتغطرس وهذه هي النهاية‪ :‬استدرج‬
‫عن عرشه وقصره وسلطانه وأصبح من المغرقين‪ ،‬وأصبح وقومه‬
‫أثًرا بعد عين‪ ,‬وبدأ نجم المستضعفين في الصعود إل أن سنوات‬
‫القمع والظلم وضعف العقيدة ل زال أثرها في نفوس بنى‬
‫إسرائيل إل أن هذا النتصار العظيم لموسى الكليم على الطاغية‬
‫اللئيم نوع من أنواع التمكين الذي ذكرت في القرآن الكريم وكان‬
‫خطوة نحو التمكين الكمل والنصر العظم الذي تم في عصر‬
‫داود وسليمان عليهما السلم‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثالث‬
‫قصة طالوت عليه السلم مع بنى إسرائيل‬
‫َ‬
‫من‬ ‫ل ِ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫من ب َِني إ ِ ْ‬ ‫مل ِ ِ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ْ َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬أل َ ْ‬
‫في‬ ‫ل ِ‬ ‫قات ِ ْ‬ ‫كا ن ّ َ‬ ‫مل ِ ً‬ ‫ث ل ََنا َ‬ ‫ع ْ‬ ‫م اب ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ي لّ ُ‬ ‫قاُلوا ل ِن َب ِ ّ‬ ‫سى إ ِذْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫د ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫بَ ْ‬
‫ل أ َل ّ‬ ‫قَتا ُ‬ ‫م ال ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫إن‬ ‫ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫بي‬ ‫س‬
‫د‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫قاُلوا وما ل ََنا أ َ‬ ‫َ‬ ‫لوا‬ ‫قات ِ ُ‬ ‫تُ َ‬
‫َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫وا‬ ‫ول ْ‬‫ّ‬ ‫قَتال ت َ َ‬ ‫ُ‬ ‫م ال ِ‬ ‫ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ِ‬ ‫علي ْ‬ ‫َ‬ ‫ب َ‬ ‫ما كت ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫وأب َْنائ َِنا فل ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫رَنا َ‬ ‫ِ‬ ‫من ِدَيا‬ ‫جَنا ِ‬ ‫ر ْ‬ ‫ِ‬ ‫خ‬‫أُ ْ‬
‫م‬ ‫ه ْ‬ ‫م ن َب ِي ّ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫نُ ‪ََ ‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫م ِبال ّ‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ه َ‬ ‫والل ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫قِليل ً ّ‬ ‫إ ِل ّ َ‬
‫ه‬
‫نل ُ‬ ‫َ‬ ‫كو ُ‬ ‫قالوا أّنى ي َ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫مل ِ ً‬ ‫ت َ‬ ‫م طالو َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ث لك ُ َْ‬ ‫َ‬ ‫ع َ‬ ‫قدْ ب َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ن‬ ‫ّ َ‬ ‫م‬ ‫ة‬‫ً‬ ‫ع‬ ‫س‬
‫ْ َ َ َ ْ ُ َ ّ ِ ُ ِ ِ ْ ُ َ ْ ُ َ َ َ‬ ‫ت‬ ‫ؤ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ق‬ ‫ح‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ح‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ال ْ ُ‬
‫في‬ ‫ة ِ‬ ‫سط ً‬ ‫َ‬ ‫وَزادَهُ ب َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫علي ْك ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫صطفاهُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫ل قا َ‬ ‫َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ع‬‫س ٌ‬ ‫وا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫والل ُ‬ ‫شاءُ ْ َ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ملك ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ؤِتي ُ‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫والل ُ‬ ‫سم ِ َ َ‬ ‫ج ْ‬ ‫وال ِ‬ ‫ْ‬ ‫علم ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ت‬ ‫م الّتاُبو ُ‬ ‫ه أن ي َأت ِي َك ُ ُ‬ ‫ملك ِ ِ‬ ‫ة ُ‬ ‫ن آي َ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ن َب ِي ّ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫لل ُ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫م‪َ ‬‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫َ‬
‫وآلُ‬ ‫سى َ‬ ‫مو َ‬ ‫ما ت ََرك َآل ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫م ّ‬ ‫ة ّ‬ ‫قي ّ ٌ‬ ‫وب َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫من ّرب ّك ْ‬ ‫ُ‬ ‫ة ّ‬ ‫كين َ ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫في ِ‬ ‫ِ‬
‫م ِإن ك ُن ُْتم‬ ‫ة ل َك ُ ْ‬ ‫ك لي َ ً‬ ‫في ذَل ِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ة إِ ّ‬ ‫مل َئ ِك َ ُ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫مل ُ ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ن الل َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫قا َ‬ ‫جُنوِد َ‬ ‫ت ِبال ْ ُ‬ ‫طاُلو ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ص َ‬ ‫ف َ‬ ‫ما َ‬ ‫فل َ ّ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫من‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫ني‬ ‫ْ َ ِ ّ‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ه‬ ‫ِ َ ِ ْ ُ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ر‬‫ْ ِ َ َ ٍ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫لي‬ ‫مب ْ َ ِ‬ ‫ت‬ ‫ُ‬
‫ه‬
‫من ْ ُ‬ ‫رُبوا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ة‬ ‫ً‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫غ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫غ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫َ ِ‬ ‫ني‬ ‫ّ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ط‬ ‫يَ‬
‫ِ‬
‫قاُلوا ل َ‬ ‫ه َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫آ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ه‬
‫َ ُ‬ ‫ز‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫جا‬ ‫َ‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إِ‬
‫هم‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫نون أ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫جا‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫طا‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫َ ْ َ ِ َ‬
‫ه‬
‫ن الل ِ‬ ‫ة ك َِثيَرةً ب ِإ ِذْ ِ‬ ‫فئ َ ً‬ ‫ت ِ‬ ‫غل َب َ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫قِليل َ ٍ‬ ‫ة َ‬ ‫فئ َ ٍ‬ ‫من ِ‬ ‫كم ّ‬ ‫ه َ‬ ‫قو الل ِ‬ ‫مل َ ُ‬ ‫ّ‬
‫قالوا‬ ‫ُ‬ ‫ه َ‬ ‫جُنوِد ِ‬ ‫و ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫جا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫زوا‬ ‫ُ‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ري‬ ‫ّ ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫صا‬ ‫ال‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫والل‬ ‫َ‬
‫وم ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫صْرَنا َ‬ ‫وان ْ ُ‬ ‫مَنا َ‬ ‫دا َ‬ ‫ق َ‬ ‫ت أَ ْ‬ ‫وث َب ّ ْ‬ ‫صب ًْرا َ‬ ‫عل َي َْنا َ‬ ‫غ َ‬ ‫ر ْ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫َرب َّنا أ َ ْ‬
‫ه‬
‫وآَتا ُ‬ ‫ت َ‬ ‫جاُلو َ‬ ‫ود ُ َ‬ ‫دا ُ‬ ‫ل َ‬ ‫قت َ َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫م ب ِ ّإ ِذْ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫مو ُ‬ ‫هَز ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِْ‬ ‫كا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ه‬
‫ع الل ِ‬ ‫ول دَف ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ول ْ‬ ‫َ‬ ‫شاءُ َ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫م‬ ‫ه ِ‬ ‫م ُ‬ ‫عل َ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫م َ‬ ‫حك َ‬ ‫ْ‬ ‫وال ِ‬ ‫ْ‬ ‫ملك َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ه ال ُ‬ ‫الل ُ‬
‫ذو‬ ‫ه ُ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ت ّ ال َ‬ ‫د‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ض‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫الّنا َ‬
‫ق‬
‫ِ َ ّ‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ت‬ ‫َ ُ‬ ‫يا‬ ‫آ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫َ ِ َ‬ ‫مي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫عا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ض ٍ‬ ‫ف ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]البقرة‪.[252 -246 :‬‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫وإ ِن ّك ل ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عا من أنواع التمكين أل‬
‫إن قصة طالوت عليه السلم توضح نو ً‬
‫وهو نصر الله للمؤمنين على الكافرين في المعارك‪.‬‬
‫وهذه القصة وقعت أحداثها بعد دخولهم الرض المقدسة في‬
‫فترة من فترات حياتهم‪ ,‬بعد أن انحرفوا عن منهج الله سلط الله‬
‫عليهم من يضطهدهم ويهزمهم بسبب ذنوبهم ومعاصيهم‪ ،‬وقد‬
‫سلب الله منهم التابوت الذي فيه سكينة من الله وبقية مما ترك‬
‫آل موسى وآل هارون‪.‬‬
‫وقد شعر القوم بالذل ومرارة الهزيمة والهوان‪ ،‬وكان هذا‬
‫الشعور عند الجميع‪ ،‬العامة والمل المالكين فيهم‪ ،‬فأرادوا أن‬

‫‪58‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫يغيروا واقعهم الذليل‪ ،‬وأن يبدلوا ذلهم عزة وهزيمتهم نصًرا‪،‬‬


‫وعلموا أن السبيل الوحيد لذلك هو الجهاد والقتال‪ ،‬لذلك لجأ المل‬
‫الحاكمون فيهم إلى نبيهم‪ ،‬وفزعوا إليه‪ ،‬وطلبوا منه أن يختار لهم‬
‫كا يتولى أمورهم‪ ،‬ويقودهم إلى العزة والنصرة‪ ،‬ويقاتل لهم‬ ‫مل ً‬
‫أعداءهم في سبيل الله‪ .‬ويبدو أن ذلك النبي كان يعلم طبيعتهم‬
‫المائعة وهمتهم الرخوة‪ ،‬وأنهم عندما يؤمرون بالقتال‪ ،‬فسوف‬
‫ينكصون عنه ويقعدون عن خوضه‪ ،‬فقال لهم‪ :‬أخشى عليكم‬
‫المتناع عن أمر الله عندما يأمركم بالجهاد‪ ،‬فردوا بحماسة بأنهم‬
‫عازمون‪ ,‬وبينوا السباب التي تدعو إلى قتال أعدائهم‪ ,‬فبعد ذلك‬
‫سأل نبيهم ربه‪ ،‬فأوحى إليهم أن طالوت ملكهم‪ ،‬فاحتجوا بحجج‬
‫واهية نسفها لهم نبيهم وعندما جاء وقت الجد والكفاح والقتال‬
‫والجهاد بدأوا في التساقط ولم يصبر مع طالوت إل فئة قليلة‬
‫سمعت وأطاعت واعتمدت على خالقها‪ ،‬فنصرهم الله على‬
‫أعدائهم‪.‬‬
‫ولقد وقف العلماء على هذه القصة العظيمة يدرسونها‬
‫سا مفيدة في تكوين الفراد‬ ‫ويغترفون من بحرها العميق درو ً‬
‫وقيادة الجماعات وإحياء الشعوب والسعي بها نحو التمكين ومن‬
‫)‪(1‬‬
‫أهم هذه الدروس والعبر‪:‬‬
‫ل‪ :‬مبهمات هذه القصة‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫نلحظ في هذه القصة مبهمات كثيرة لم يتعرض لها القرآن‪،‬‬
‫ل ما يفيد‬‫ج ّ‬‫لنه ل فائدة في ذكرها‪ ،‬وإنما ذكر المولى عَّز وَ َ‬
‫المسلمين وأهل النظر والعتبار‪.‬‬
‫إن في قصة طالوت نرى مبهمات كثيرة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬الزمان الذي وقعت فيه قصة طالوت‪ ،‬فكل ما يؤخذ من‬
‫اليات أنها وقعت لبنى إسرائيل من بعد موسى‪ ،‬يعنى بعد إقامتهم‬
‫في فلسطين‪ ،‬أما تحديد السنة أو الفترة أو الحالة التي عليها بنو‬
‫إسرائيل‪ ،‬فهذا ل يمكن تحديده‪.‬‬
‫كا‪ ،‬فقد يكون‬ ‫‪ -2‬اسم النبي الذي طلبوا منه أن يبعث لهم مل ً‬
‫دا من النبياء‬ ‫شمعون أو صمويل وقد يكون غيرهما‪ ،‬فل نجعل أح ً‬
‫إل بنص صريح‪ ،‬لحتمال أن ل يكون نبًيا‪ ،‬وبذلك نؤمن بنبوة غير‬
‫النبي! وهذا ل يجوز‪.‬‬
‫‪ -3‬السبب الذي دفعهم ليطلبوا من نبيهم ذلك الطلب‪.‬‬
‫‪ -4‬نسب طالوت‪ ،‬وبداية أمره‪ ،‬وتفصيلته قبل تملكه عليهم‪.‬‬
‫‪ -5‬تفصيلت ببسطة طالوت في العلم والجسم‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مع قصص السابقين في القرآن )‪.(296 ،1/295‬‬

‫‪59‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -6‬تفصيلت بملك طالوت عليهم‪.‬‬


‫‪ -7‬التابوت وقصته وتاريخه عندهم ومقاساته‪ ،‬وتفصيلت‬
‫السكينة والبقية التي فيه‪ ،‬التي تركها آل موسى وآل هارون وغير‬
‫ذلك من المبهمات‪.‬‬
‫والعجيب أن بعض المفسرين والمؤرخين والكّتاب والمحدثين‬
‫لم يقفوا عند هذا البيان القرآني والنبوي‪ ،‬فذهبوا إلى‬
‫السرائيليات‪ ،‬وطلبوا منها حل تلك المبهمات‪ ،‬وتفصيل تلك‬
‫ما ول فائدة ول عبرة‪.‬‬ ‫الحداث‪ ،‬فلم يقدموا لنا عل ً‬
‫وبذلك تضيع جهود وأوقات في غر محلها‪ ،‬ويتركون عرض‬
‫القرآن وما احتواه من دروس ودللت وعبر‪ ،‬فالقصة هذه مثل‪ً:‬‬
‫فيها دروس للدعاة في التعامل مع الخرين‪ ،‬ودروس‬
‫للمصلحين الذين يريدون تغيير الواقع السيء الذي تعيشه‬
‫المة‪ ،‬ودروس للمجاهدين الذين يعملون على تبديل الذل إلى‬
‫عزة والهزيمة إلى نصر‪ ،‬ودروس للذين يعتمدون على‬
‫الجماهير‪ ،‬ويص ّ دقون اندفاعهم وحماستهم‪ ،‬ويضعون على‬
‫أساسها خططهم وبرامجهم‪ ،‬فتتخلى عنهم الجماهير وقت‬
‫الحاجة‪ ،‬ودروس في التربية الفردية والجماعية‪ ،‬ودروس في‬
‫الضبط والحزم والمتحان‪ ،‬ودروس في الجهاد والقتال وخوض‬
‫المعركة‪ ،‬والتوجه إلى الله والستنصار به‪ ،‬وعدم الرعب والهلع‬
‫من قوة العداء‪ ،‬وفيها دروس في أسس اختيار الحكام‬
‫والمسئولين وما هي مواصفات الحكام المطلوبة‪ ،‬إن هذه‬
‫القصة مليئة بالدروس والعبر في مجال الدعوة والداعية‪،‬‬
‫والحاكم والمحكوم‪ ،‬والجندي والقائد‪ ،‬وفي مجال اليمان‬
‫والعقيدة‪ ،‬والدعوة والجهاد‪ ،‬والصلح والتغيير‪ ,‬والتوجيه‬
‫والتربية‪ ،‬والسياسة والولية‪ ،‬والحكم والسيادة‪.‬‬
‫إن كثيًرا من المفسرين ملوا كتبهم بتيه السرائيليات‬
‫والخرافات والساطير‪ ،‬وتجاوزوا كثيًرا من الدروس والدللت )‪.(1‬‬
‫إن هذا العصر يتطلب من العلماء أن يبتعدوا عن الترف‬
‫الفكري والعلمي‪ ،‬لننا مطالبون بالصلح والدعوة والتغيير‪ ،‬كما أن‬
‫علينا مسئوليات عظيمة لتغيير واقع المة من الحضيض التي فيه‬
‫إلى قمة العزة والتمكين التي يريدها الله لها‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬أهم سنن حياة المم والشعوب التي يمكن استخلصها‬
‫في هذه القصة‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫)( مع قصص السابقين في القرآن )‪.(305 ،1/304‬‬

‫‪60‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫حاول الشيخ محمد رشيد )‪ (1‬رحمه الله أن يتأمل في هذه‬


‫القصة ويستنبط منها أهم السنن الجتماعية في حياة المم‬
‫والمجتمعات والشعوب وذكر منها‪:‬‬
‫سنة الولى‪ :‬أن المم إذا اعتدى على استقللها‪ ،‬وأوقع‬ ‫ال ّ‬
‫العداء بها فهضموا حقوقها‪ ،‬تتنبه مشاعرها لدفع الضيم‪ ،‬فتسعى‬
‫للوحدة التي يمثلها الزعيم العادل‪ ،‬فتتوجه إلى طلبه‪ ،‬كما وقع من‬
‫بنى إسرائيل‪ ،‬بعد تنكيل أهل فلسطين بهم‪.‬‬
‫سنة الثانية‪ :‬أن شعور المة بوجوب حفظ حقوقها وصيانة‬ ‫ال ّ‬
‫استقللها‪ ،‬يكون موجوًدا عند خاصتها وأهل الفكر والرأي فيها‪،‬‬
‫فالمل من بنى إسرائيل‪ ،‬هم الذين طلبوا الملك‪.‬‬
‫سنة الثالثة‪ :‬متى عظم الشعور بوجوب حفظ حقوق المة‬ ‫ال ّ‬
‫ومحاربة أعدائها عند خواص المة‪ ،‬فإنه ل يلبث أن يسرى إلى‬
‫عامتها‪ ،‬حتى إذا خرجت من طور الفكر والشعور إلى طور العمل‬
‫والظهور‪ ،‬انكشف عجز الدعياء‪ ،‬ولم ينفع إل صدق الصادقين‪.‬‬
‫سنة الرابعة‪ :‬من شأن المم الختلف في اختيار الرئيس‪،‬‬ ‫ال ّ‬
‫جح ترضى به المة‪ ،‬كما‬‫ّ‬ ‫مر‬ ‫من‬ ‫بد‬ ‫فل‬ ‫للتفرق‪،‬‬ ‫مدعاة‬ ‫والختلف‬
‫طالبت بنو إسرائيل من نبيهم اختيار ملك لهم‪ ،‬فكان هو المرجح‪،‬‬
‫والمرجح عند المسلمين هم أهل الحل والعقد منهم‪.‬‬
‫سنة الخامسة‪ :‬أن الناس ل يتفقون على التقليد أو التباع‬ ‫ال ّ‬
‫فا لمصلحتهم الجتماعية‪ ،‬ولذلك اختلف بنو‬‫فيما يرونه مخال ً‬
‫كا عليهم‪ ،‬واحتجوا على‬ ‫إسرائيل على نبيهم في جعل طالوت مل ً‬
‫ذلك بما ل ينهض حجة إل في ظن المنكرين‪ ,‬ومن عجيب‬
‫أمر الناس أن كل ً منهم يحسب أنه على صواب في السياسة‬
‫ونظام الجتماع في‬
‫المم والدول‪.‬‬
‫سنة السادسة‪ :‬أن المم في طور الجهل ترى أن أحق‬ ‫ال ّ‬
‫الناس بالملك والزعامة أصحاب الثروة الواسعة‪ ،‬كما في قول‬
‫المنكرين على طالوت‪ :‬أني يكون له الملك‬
‫علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ فهذا‬
‫العتقاد من السنن العامة في المم الجاهلية‪.‬‬
‫سنة السابعة‪ :‬أن الشروط التي ينبغي اعتبارها في الختيار‬ ‫ال ّ‬
‫في‬‫ِ‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫ط‬‫س‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫زا‬‫و‬ ‫م‬‫ُ‬
‫ْ ْ َ َ َ ُ َ ْ‬ ‫ك‬‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫فا‬ ‫َ‬ ‫ط‬‫ص‬‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ِ ّ‬ ‫إ‬ ‫‪+‬‬‫هي‪:‬‬ ‫لملك‬
‫‪1‬‬
‫)( هو محمد رشيد رضا القلموني البغدادي الصل‪ ،‬الحسيني النسب‪ ،‬صاحب‬
‫مجلة المنار‪ ،‬وداعية التجديد والصلح وله تفسير اسمه‪ :‬تفسير القرآن الحكيم‪،‬‬
‫ومشهور باسم تفسير المنار‪ ،‬وهو غير كامل انتهى مؤلفه إلى الية )‪ (101‬من‬
‫سورة يوسف توفى سنة ‪1353‬هـ‪ .‬انظر‪ :‬العلم للزر كلى )‪ (6/126‬تفسير‬
‫المنار )‪.(306 ،7/305‬‬

‫‪61‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ع‬
‫س ٌ‬‫وا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫والل ُ‬ ‫شاءُ َ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫ه َ‬‫مل ْك َ ُ‬
‫ؤِتي ُ‬ ‫ه يُ ْ‬‫والل ُ‬ ‫سم ِ َ‬ ‫ج ْ‬ ‫وال ْ ِ‬‫عل ْم ِ َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫م" ]البقرة‪ [247 :‬فيما يأتي‪:‬‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫فا ُ‬ ‫صطَ َ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الل َ‬ ‫‪ -1‬الستعداد الفطري للشخص ‪+‬إ ِ ّ‬
‫م"‪.‬‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ة‬‫سطَ ً‬ ‫وَزادَهُ ب َ ْ‬ ‫‪ -2‬السعة في العلم الذي يكون به التدبير ‪َ +‬‬
‫سم ِ"‪.‬‬ ‫ج ْ‬ ‫وال ْ ِ‬‫عل ْم ِ َ‬ ‫في ال ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ -3‬بسطة الجسم المعّبر بها عن صحته‪ ،‬وكمال قواه‬
‫المستلزم ذلك صحة‬
‫سم ِ"‪.‬‬ ‫ج ْ‬ ‫الفكر ‪+‬ال ْ ِ‬
‫‪ -4‬توفيق الله تعالى ل سبب له‪ ،‬وهو المعّبر عنه بقوله‪:‬‬
‫شاءُ"‪.‬‬ ‫من ي َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫مل ْك َ ُ‬
‫ؤِتي ُ‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫والل ُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫مل ْك َ ُ‬
‫ه‬ ‫ؤِتي ُ‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫والل ُ‬‫سنة الثامنة‪ :‬هي ما أفاده قوله تعالى‪َ +:‬‬ ‫ال ّ‬
‫شاءُ"‪.‬‬ ‫من ي َ َ‬ ‫َ‬
‫فمشيئة الله سبحانه‪ ،‬إنما تنفذ بمقتضى سنته العامة في تغيير‬
‫أحوال المم‪ ،‬بتغييرهم ما في أنفسهم‪ ،‬وفي سلب ملك الظالمين‪،‬‬
‫وإيراث الرض للصالحين‪ ،‬وتأويل هذه اليات وأمثالها مشاهد في‬
‫كل زمان‪ ،‬وأين المبصرون؟‬
‫سنة التاسعة‪ :‬أن طاعة الجنود للقائد في كل ما يأمر به‬ ‫ال ّ‬
‫وينهى عنه شرط في الظفر واستقامة المر وقوانين الجندية في‬
‫هذا الزمان حتى عند الغربيين مبنية على طاعة الجيش لقواده في‬
‫المنشط والمكره والمعقول وغير المعقول‪.‬‬
‫سنة العاشرة‪ :‬أن الفئة القليلة قد تغلب بالصبر والثبات‬ ‫ال ّ‬
‫وطاعة القواد‪ ،‬الفئة الكثيرة التي أعوزها الصبر والتحاد مع طاعة‬
‫القواد‪ ،‬لن النصر مع الصابرين‪ ،‬أي جرت سنته بأن يكون النصر‬
‫أثًرا للثبات والصبر‪ ،‬وأن أهل الجزع والجبن هم أعوان لعدوهم‬
‫على أنفسهم وهذا مشاهد في كل زمان‪.‬‬
‫سنة الحادية عشرة‪ :‬أن اليمان بالله‪ ،‬والتصديق بلقائه من‬ ‫ال ّ‬
‫أعظم أسباب الصبر والثبات في مواقف الجلء والقتال‪.‬‬
‫سنة الثانية عشرة‪ :‬أن التوجه إلى الله بالدعاء مفيد في‬ ‫ال ّ‬
‫ه" إذ عطفها‬ ‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬‫إ‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫َ َ ُ ُ ْ ِ ِ ِ‬ ‫مو‬ ‫ز‬ ‫ه‬‫ف‬‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫عليه‬ ‫يدل‬ ‫كما‬ ‫القتال‬
‫بالفاء على آية الدعاء‪ ،‬وذلك معقول المعنى‪ ،‬فإن الدعاء هو آية‬
‫اليمان بالله والتصديق بلقائه‪.‬‬
‫سنة الثالثة عشرة‪ :‬دفع الله للناس بعضهم ببعض من‬ ‫ال ّ‬
‫السنن العامة‪ ،‬وهو ما يعبر عنه علماء الحكمة في هذا العصر‬

‫‪62‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫بتنازع البقاء‪ ،‬ويقولون إن الحرب طبيعة في البشر؛ لنها من‬


‫فروع سنة تنازع البقاء العامة‪ ،‬وأنت ترى في قوله تعالى‪:‬‬
‫ت ال َ‬ ‫ض لَ َ‬
‫ض"‬‫ْ ُ‬ ‫ر‬ ‫سد َ ِ‬‫ف َ‬ ‫ع ٍ‬
‫م ب ِب َ ْ‬
‫ه ْ‬
‫ض ُ‬
‫ع َ‬
‫س بَ ْ‬‫ه الّنا َ‬‫ع الل ِ‬
‫ف ُ‬ ‫ول َ ْ‬
‫ول َ دَ ْ‬ ‫‪َ +‬‬
‫صا فيما يكون بالحرب والقتال خاصة‪ ،‬بل هو لكل نوع من‬ ‫ً‬ ‫ن‬ ‫ليس‬
‫أنواع التنازع بين الناس‪ ،‬الذي يقتضى المدافعة والمغالبة )‪.(1‬‬
‫إن السنن الربانية ثابتة في الكون‪ ،‬وتقع على النسان في كل‬
‫قا‬
‫زمان ومكان‪ ,‬وسنة التدافع من السنن التي تتعلق بالتمكين تعل ً‬
‫قا‪ ..‬ولقد شاء الله رب العالمين أن ُيجرى أمر هذا الدين ‪ -‬بل‬ ‫وثي ً‬
‫أمر هذا الكون ‪ -‬على السنن الجارية‪ ،‬ل على السنن الخارقة‬
‫وذلك حتى ل يأتي جيل من أجيال المسلمين فيتقاعس‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫لقد نصر الولون بالخوارق‪ ،‬ولم تعد الخوارق تنزل بعد ختم‬
‫الرسالة‪ ،‬وانقطاع النبوات )‪.(2‬‬
‫وعلى المسلمين أن يدركوا سنن ربهم المبرزة لهم في كتاب‬
‫الله تعالى وفي سنة‬
‫رسوله × حتى يصلوا إلى ما يرجون من عزة وتمكين »فإن‬
‫طا ول يخبط خبط عشواء؛ بل‬ ‫وا‪ ،‬ول ينزل اعتبا ً‬ ‫التمكين ل يأتي عف ً‬
‫إن له قوانينه التي سجلها الله تعالى في كتابه الكريم ليعرفها‬
‫عباده المؤمنون‪ ،‬ويتعاملوا معها على بصيرة« )‪.(3‬‬
‫إن الوقوف على معرفة سنن الله ودراستها أمر ل بد منه‬
‫للمة السلمية وذلك حتى يستفيدوا منها‪ ،‬ول يصطدموا بها‪.‬‬
‫يقول حسن البنا‪» :‬ل تصادموا نواميس الكون فإنها غلبة‪،‬‬
‫ولكن غالبوها‪ ،‬واستخدموها‪ ،‬وحولوا تيارها‪ ،‬واستعينوا ببعضها على‬
‫بعض« )‪.(4‬‬
‫دا »فالله تعالى‬ ‫قا وطي ً‬ ‫إن سنة التدافع متعلقة بالتمكين تعل ً‬
‫فا‪ ،‬ول يمكن أن يدع‬ ‫يعلم أن الشر متبجح‪ ،‬ول يمكن أن يكون منص ً‬
‫الخير ينمو ‪ -‬مهما يسلك هذا الخير من طرق سلمية موادعة ‪-‬‬
‫فإذا مجرد نمو الخير يحمل الخطورة على الشر‪ ،‬ومجرد وجود‬
‫الحق يحمل الخطر على الباطل‪ ،‬ول بد أن يجنح الشر إلى‬
‫العدوان‪ ,‬ول بد أن يدافع الباطل عن نفسه بمحاولة قتل الحق‬
‫وخنقه بالقوة‪ ...‬فمن هنا يقع التدافع بين الحق وأهله‪ ،‬والباطل‬
‫ل« )‪.(5‬‬‫وحزبه‪ ،‬وتلك سنة الله‪ ،‬ولن تجد لسنة الله تبدي ً‬

‫‪1‬‬
‫تفسير المنار )‪.(498 -2/495‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.414‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫جيل النصر المنشود‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬ص ‪.15‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫الرسائل لحسن البنا‪ ،‬ص ‪.161‬‬ ‫)(‬
‫‪5‬‬
‫في ظلل القرآن )‪.(2/742‬‬ ‫)(‬

‫‪63‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ظا لستقامة حال‬ ‫»وهي سنة فطرية جارية بين الناس حف ً‬


‫العيش‪ ،‬واعتدال ً‬
‫)‪(1‬‬
‫لميزان الحياة« ‪.‬‬
‫لقد ورد تقرير هذه السنة الربانية هي القرآن الكريم بصفة‬
‫)‪(2‬‬
‫عامة ولكن جاء التنصيص عليها في آيتين كريمتين منه‪:‬‬
‫ع‬
‫ف ُ‬ ‫ول َ دَ ْ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫البقرة‪َ + :‬‬ ‫ت ال َ‬
‫الية الولى‪ :‬قوله تعالى في سورة‬
‫ه ُ‬
‫ذو‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫سد َ‬ ‫ف َ‬ ‫ض لَ َ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ع ٍ‬ ‫م ب ِب َ ْ‬‫ه ْ‬ ‫ض ُ‬
‫َ‬
‫ع َ‬ ‫س بَ ْ‬
‫ْ‬
‫ه الّنا َ‬
‫َ‬
‫الل ِ‬
‫ن" ]البقرة‪.[251 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫عال ِ‬ ‫على ال َ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ف ْ‬‫َ‬
‫ه‬
‫ع الل ِ‬ ‫ف ُ‬‫ول َ دَ ْ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫الية الثانية‪ :‬قوله تعالى في سورة الحج‪َ + :‬‬
‫ت‬ ‫وا ٌ‬ ‫صل َ‬‫َ‬ ‫و َ‬ ‫ع َ‬ ‫وب ِي َ ٌ‬ ‫ع ََ‬ ‫م ُ‬
‫وا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫ت َ‬ ‫م ْ‬‫هد ّ َ‬ ‫ض لّ ُ‬
‫َ‬ ‫ع ٍ‬ ‫م ب ِب َ ْ‬ ‫ه ْ‬
‫َ‬
‫ض ُ‬ ‫ع َ‬ ‫س بَ ْ‬ ‫الّنا َ‬
‫من‬ ‫ُ َ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ر‬
‫ُ َ‬‫ص‬ ‫ين‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫ً َ‬ ‫را‬ ‫ثي‬‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫اس‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ج‬
‫سا ِ‬‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫زيٌز" ]الحج‪.[40 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ي‬
‫ِ ّ‬‫و‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬‫َين ُ ُ ُ ِ ّ‬
‫إ‬ ‫ه‬ ‫ر‬‫ص‬
‫والملحظ أن آية البقرة تأتى بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع‬
‫بين الحق والباطل المتمثل هنا في طالوت وجنوده المؤمنين‪،‬‬
‫ول َ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫ك‬ ‫وجالوت وأتباعه‪ ،‬ويذيل الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬الية بقوله تعالى‪َ +:‬‬
‫ن" ]البقرة‪) ،[251 :‬مما يفيد أن دفع‬ ‫عال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬
‫ل َ‬
‫ض ٍ‬ ‫ذو َ‬
‫ف ْ‬ ‫ه ُ‬
‫الل َ‬
‫)‪(3‬‬ ‫ّ‬
‫الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم( ‪.‬‬
‫وتأتى آية الحج بعد إعلن الله تعالى أن يدافع عن أوليائه‬
‫المؤمنين‪ ،‬وبعد إذنه لهم ‪ -‬سبحانه ‪ -‬بقتال عدوهم‪ ،‬ويختتم الية‬
‫ه‬
‫صُر ُ‬‫من َين ُ‬‫ه َ‬‫ن الل ُ‬ ‫ول ََين ُ‬
‫صَر ّ‬ ‫الله تعالى لقاعدة أساسية‪َ + :‬‬ ‫بتقرير‬
‫ز" ]الحج‪.[40 :‬‬
‫زي ٌ‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫ِ ّ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫إِ ّ‬
‫إن من الضروري للمة السلمية أن تعي سنة الله ‪ -‬تعالى ‪-‬‬
‫في دفع الناس بعضهم ببعض‪» :‬لتدرك أن سنة الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في‬
‫تدمير الباطل أن يقوم في الرض حق يتمثل في أمة‪ ،‬ثم يقذف‬
‫الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق« )‪.(4‬‬
‫إن الحق يحتاج إلى عزائم تنهض به‪ ،‬وسواعد تمضى به‪،‬‬
‫وقلوب تحنو عليه‪ ،‬وأعصاب ترتبط به‪ ..‬إنه يحتاج إلى الطاقة‬
‫البشرية‪ ,‬الطاقة القادرة القوية‪ ،‬والطاقة الواعية العاملة‪..‬إنه‬
‫يحتاج إلى جهد بشري‪ ،‬لن هذه سنة الله تعالى في الحياة الدنيا‬
‫د‬ ‫وَلن ت َ ِ‬
‫ج َ‬ ‫ديل ً َ‬
‫ه ت َب ْ ِ‬
‫ت الل ِ‬
‫سن ّ ِ‬ ‫فَلن ت َ ِ‬
‫جد َ ل ِ ُ‬ ‫سنة ماضية )‪َ + :(5‬‬
‫‪1‬‬
‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية لمحمد السيد محمد‪ ،‬ص ‪.218‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.219‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫الفخر الرازي‪ :‬مفاتيح الغيب )‪.(3/514‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫في ظلل القرآن )‪(2/1091‬‬ ‫)(‬
‫‪5‬‬
‫انظر‪ :‬لقاء المؤمنين لعدنان النحوي )‪.(2/117‬‬ ‫)(‬

‫‪64‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫ويل ً"‬
‫]فاطر‪.[43 :‬‬‫ح ِ‬
‫ه تَ ْ‬
‫ت الل ِ‬
‫سن ّ ِ‬
‫لِ ُ‬
‫وهكذا يتضح أن سنة التدافع من أهم سنن الله تعالى في كونه‬
‫وخلقه‪ ،‬وهي كذلك من أهم السنن المتعلقة بالتمكين للمة‬
‫السلمية‪ ,‬وما على المة إل أن تعى هذه السنة‪ ،‬لتستفيد منها‬
‫وهي تعمل لعودة التمكين الذي وعدت به من الله رب العالمين‬
‫)‪.(1‬‬
‫ولذلك يهتم القرآن الكريم بتعليم المسلمين ما يهمهم من‬
‫أمور دينهم ودنياهم‪ ,‬ويبين بكل جلء ووضوح سنن الله تعالى في‬
‫الفاق والمجتمعات والمم‪ ،‬ويبين كيفية وقوع هذه السنن وما هي‬
‫السباب التي تتخذ‪ ،‬فعندما أراد الله لبنى إسرائيل أن ينصرهم‬
‫على عدوهم ويمكن لهم في الرض سبق ذلك التمكين وذلك‬
‫النصر أمور ذكرها الله في قصة طالوت عليه السلم‪ ..‬وقد أجاد‬
‫سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في بيان هذه الحقائق فقال‪) :‬والعبرة‬
‫الكلية تبرز من القصة كلها‪ ،‬هي أن هذه النتفاضة‪ -‬انتفاضة‬
‫العقيدة ‪ -‬على الرغم من كل ما اعتورها أمام التجربة الواقعة من‬
‫جا بعد فوج في مراحل‬ ‫نقص وضعف‪ ،‬ومن تخلى القوم عنها فو ً‬
‫الطريق على الرغم من هذا كله‪ ،‬فإن ثبات حفنة قليلة من‬
‫دا‪ ،‬فقد كان‬ ‫المؤمنين عليها قد حقق لبنى إسرائيل نتائج ضخمة ج ً‬
‫فيها العز والنصر والتمكين‪ ،‬بعد الهزيمة المنكرة‪ ،‬والمهانة‬
‫الفاضحة‪ ،‬والتشريد الطويل‪ ،‬والذل تحت أقدام المتسلطين‪ ،‬ومن‬
‫خلل التجربة تبرز بضع عظات أخرى جزئية‪ ،‬كلها ذات قيمة‬
‫للجماعة المسلمة في كل حين من ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬أن الحماسة الجماعية‪ ،‬قد تخدع القادة لو أخذوا بمظهرها‬
‫فيجب أن يضعوها على محك التجربة‪ ،‬قبل أن يخوضوا بها‬
‫المعركة الحاسمة‪.‬‬
‫‪ -2‬أن اختبار الحماسة الظاهرة والندفاع الثائر في نفوس‬
‫الجماعات‪ ،‬ينبغي أن ل يقف عند البتلء الول‪.‬‬
‫أ‪ -‬فإن كثرة بنى إسرائيل هؤلء قد توّلوا بمجرد أن كتب عليهم‬
‫القتال استجابة لطلبهم‪ ،‬ولم تبق إل قلة مستمسكة بعهدها مع‬
‫نبيهم‪ ،‬وهم الجنود الذين خرجوا مع طالوت‪.‬‬
‫ب‪ -‬ومع هذا فقد سقطت كثرة هؤلء الجنود في المرحلة‬
‫الولى وضعفوا أمام المتحان الول‪ ،‬وشربوا من النهر‪ ،‬ولم يجاوز‬
‫معه إل عدد قليل‪.‬‬
‫ج‪ -‬وهذا القليل لم يثبت كذلك إلى النهاية‪ ،‬فأمام الهول الحي‪،‬‬
‫أمام كثرة العداء وقوتهم‪ ،‬تهاونت العزائم‪ ،‬وزلزلت القلوب‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية ص ‪.225‬‬

‫‪65‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫د‪ -‬وأمام هذا التخاذل ثبتت القلة القليلة المختارة‪ ،‬واعتصمت‬


‫بالله‪ ،‬ووثقت بوعده‪ ،‬وهي التي رجحت الكفة وتلقت النصر‪،‬‬
‫واستحقت العز والتمكين‪.‬‬
‫لقد تمت تصفية بنى إسرائيل ثلث مرات‪ ،‬وخلصة الخلصة‪،‬‬
‫هم الذين صدقوا الله في الجهاد فصدقهم الله وعده‪ ،‬وأنزل‬
‫عليهم نصره‪.‬‬
‫‪ -3‬في ثنايا هذه التجربة تكمن عبرة القيادة الصالحة الحازمة‬
‫المؤمنة‪ ،‬وكلها واضحة في قيادة طالوت ‪ -‬تبرز فيها‪:‬‬
‫أ‪ -‬خبرته بالنفوس‪.‬‬
‫ب‪ -‬عدم اغتراره بالحماسة الظاهرة‪.‬‬
‫ج‪ -‬عدم اكتفائه بالتجربة الولى‪.‬‬
‫د‪ -‬محاولته اختبار الطاعة والعزيمة في نفوس جنوده قبل‬
‫المعركة‪.‬‬
‫هـ ‪ -‬فصله للذين ضعفوا‪ ،‬وتركهم وراءه‪.‬‬
‫و‪ -‬ثم ‪ -‬وهذا هو الهم ‪ -‬عدم تخاذله‪ ،‬وقد تضاءل جنوده تجربة‬
‫بعد تجربة‪ ،‬ولم يثبت معه في النهاية إل تلك الفئة المختارة‬
‫فخاض بها المعركة‪.‬‬
‫‪ -4‬والعبرة الخيرة التي تكمن في مصير المعركة‪ ..‬أن القلب‬
‫الذي يتصل بالله‪ ،‬تتغير موازينه وتصوراته‪ ،‬لنه يرى الواقع الصغير‬
‫المحدود بعين تمتد وراءه إلى الواقع الكبير الممتد الواصل‪ ،‬وإلى‬
‫أصل المور كلها وراء الواقع الصغير المحدود‪ ,‬فهذه الفئة المؤمنة‬
‫الصغيرة التي ثبتت وخاضت المعركة وتلقت النصر كانت ترى من‬
‫ة ل ََنا‬ ‫طا َ‬
‫ق َ‬ ‫قلتها وكثرة عدوها‪ ،‬ما يراه الخرون الذين قالوا‪+ :‬ل َ َ‬
‫ه" ولكنها لم تحكم حكمهم على الموقف‬ ‫جُنوِد ِ‬ ‫و ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫جاُلو َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫و َ‬
‫ْ‬ ‫ال ْي َ‬
‫ت‬‫غل َب َ ْ‬ ‫ة َ‬ ‫قِليل َ ٍ‬ ‫ة َ‬‫فئ َ ٍ‬ ‫من ِ‬ ‫كم ّ‬ ‫ما آخر‪ ،‬فقالت‪َ + :‬‬ ‫إنما حكمت حك ً‬
‫ن" ثم اتجهت لربها‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬ ‫صاب ِ ِ‬ ‫ع ال ّ‬ ‫م َ‬
‫ه َ‬ ‫والل ُ‬ ‫ه ََ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫ة ك َِثيَرةً ب ِإ ِذْ َ ِ‬ ‫فئ َ ً‬ ‫ِ‬
‫صْرَنا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫وا‬‫َ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫دا‬
‫َ‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ث‬‫و‬ ‫را‬
‫َ ً َ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬‫ص‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫غ‬ ‫ر‬
‫ْ ِ‬‫ف‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫تدعوه‪:‬‬
‫ن" وهي تحس أن ميزان القوى ليس في‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬ ‫كا ِ‬ ‫وم ِ ال َ‬ ‫ق ْ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫أيدي الكافرين‪ ،‬إنما هو في يد الله وحده‪ ،‬فطلبت منه النصر‪،‬‬
‫ونالته من اليد التي تملكه وتعطيه‪.‬‬
‫وهكذا تتغير التصورات والموازين للمور عند التصال بالله‬
‫قا‪ ،‬وعندما يتحقق في القلب اليمان الصحيح‪ ،‬وهكذا يثبت أن‬ ‫ح ً‬
‫التعامل مع الواقع الظاهر للقلوب أصدق من التعامل مع الواقع‬
‫الصغير الظاهر للعيون!‪.‬‬
‫ول نستوعب اليحاءات التي تتضمنها القصة‪ ،‬فالنصوص‬

‫‪66‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫القرآنية ‪ -‬كما علمتنا التجربة‪ -‬تفصح عن إيحاءاتها لكل قلب‬


‫بحسب ما هو فيه من الشأن‪ ،‬وبقدر حاجته الظاهرة فيه‪.‬‬
‫ويبقى لها رصيدها المذخور‪ ،‬تتفتح به على القلوب‪ ،‬في شتى‬
‫المواقف‪ ،‬على قدر مقسوم )‪.(1‬‬
‫إن القرآن الكريم يحتاج منا إلى تأمل وتفكر عميق‪ ،‬وسنجد‬
‫خبرات ل تعد ول تحصى في كل شئون الحياة الدنيوية والخروية‪،‬‬
‫وتمد العاملين من أجل السلم بالصبر والثبات‪.‬‬
‫وث َب ّ ْ‬
‫ت‬ ‫صب ًْرا َ‬ ‫عل َي َْنا َ‬ ‫غ َ‬ ‫ر ْ‬ ‫إن دعاء القلة المؤمنة ‪َ+‬رب َّنا أ َ ْ‬
‫فَ ِ‬
‫صا بها‪ ،‬بل‬ ‫ن" ليس خا ً‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬‫وم ِ ال ْكا ِ‬ ‫ق ْ‬‫عَلى ال ْ َ‬
‫صْرَنا َ‬
‫وان ْ ُ‬‫مَنا َ‬
‫دا َ‬‫ق َ‬‫أَ ْ‬
‫يصلح لكل فئة مجاهدة صابرة‪ ،‬تقف أمام أعدائها‪ ،‬وهناك لفتة في‬
‫ترتيب فقرات الدعاء الثلثة‪ :‬الصبر وتثبيت القدام والنصر‪ ،‬فكل‬
‫فقرة مبنية على ما قبلها وترتيبها ترتيًبا مرحلًيا‪ ،‬فعند مواجهة‬
‫العداء يحتاج المجاهد أول ً إلى الصبر‪ -‬بمفهومه الشامل وميادينه‬
‫المتعددة ‪ -‬فإذا صبر حاز المرحلة الثانية وهي ثباته وتثبيت قدميه‪،‬‬
‫ولن تثبت القدام إل عند الصابرين وإذا ثبتت القدام واستبسل‬
‫المجاهد في القتال نصره الله على العداء‪ ,‬ونلحظ في الدعاء‬
‫اللتفات إلى أهمية الحالة النفسية والناحية المعنوية‪ ،‬وتقديمها‬
‫على الحالة الخارجية المادية‪ ،‬ولذلك قدم الصبر على المعركة‪،‬‬
‫قا بين موقفي‬ ‫قا وتنسي ً‬ ‫وعلى تثبيت القدام فيها‪ ،‬كما نلحظ تناس ً‬
‫اغترافهم من النهر اغتراًفا‪ ،‬بينما يطلبون إفراغ الصبر عليهم‬
‫غا‪ ،‬وصّبه عليهم صًبا‪ ،‬ولعل في هذا إشارة أخرى‪ :‬فمن‬ ‫إفرا ً‬
‫استعلى على الدنيا وحاجاتها‪ ،‬لم تتعبده ملذاتها‪ ،‬من حرم نفسه‬
‫وضه الله عن ذلك‪،‬‬ ‫من بعض متاعها ومباحاتها‪ ،‬ابتغاء وجه الله‪ ،‬ع ّ‬
‫وأمده الله بمدد من عنده‪ ،‬فها هي القلة المؤمنة امتنعت من‬
‫الشرب من النهر‪ ،‬واستعلت بذلك على متاع الدنيا ومباحاتها‪،‬‬
‫غا‪ ،‬ونلحظ‪:‬‬ ‫وضها الله عن ذلك الصبر حيث أفرغه عليهم إفرا ً‬ ‫فع ّ‬
‫أن داود عليه السلم خرج من وسط الجيش المجاهد‪ ،‬فمن ميدان‬
‫المعركة بدأ أمره‪ ،‬وترقى في طريق القيادة والملك والحكمة‬
‫والمسئولية‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى أن العمل هو الذي يخرج القادة‪،‬‬
‫والميدان هو الذي يكشف عن المواهب‪ ،‬فالقائدان طالوت وداود‬
‫ظهرا من وسط الناس‪ ،‬وقدمهما للناس الميدان والعمل والواقع‪،‬‬
‫فهذه هي طريقة القادة الذين يقودون المة إلى طريق النصر‬
‫والتمكين )‪.(2‬‬
‫ومن حكمة الله تعالى في قتل داود لجالوت‪ ،‬أن داود كان فتى‬
‫دا مخوًفا‪...‬‬ ‫كا قوًيا وقائ ً‬ ‫صغيًرا من بنى إسرائيل‪ ،‬وجالوت كان مل ً‬

‫‪1‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(263 -1/260‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬مع قصص السابقين في القرآن )‪.(1/332‬‬

‫‪67‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ولكن الله شاء أن يرى القوم وقتذاك أن المور ل تجرى‬


‫بظواهرها‪ ،‬إنما تجرى بحقائقها‪ ,‬وحقائقها يعلمها هو‪ ،‬ومقاديرها‬
‫في يده وحده‪ ،‬فليس عليهم إل أن ينهضوا بواجباتهم‪ ،‬ويفوا الله‬
‫بعهدهم ثم يكون ما يريده الله بالشكل الذي يريده‪.‬‬
‫وقد أراد أن يجعل مصرع هذا الجبار الغشوم على يد هذا‬
‫الفتى الصغير‪ ،‬ليرى الناس أن الجبابرة الذين يرهبونهم ضعاف‬
‫يغلبهم الفتية الصغار حين يشاء الله أن يقتلهم‪.‬‬
‫إن انتصار بنى إسرائيل على جيش طالوت نوع من أنواع‬
‫التمكين التي ذكرها الله تعالى في كتابه الكريم‪ ,‬وإن النظرة‬
‫المتأملة للقرآن الكريم تكسب الذين يسعون لتحكيم شرع رب‬
‫العالمين تجارب بشرية ضخمة‪ ,‬وتمدهم بتجارب الموكب اليماني‬
‫كله في جميع مراحله‪ ،‬وتوّرث أجيال المة ميراث النبياء‬
‫والمرسلين في نظرتهم للواحد الديان‪ ،‬والحياة‪ ،‬والكون‪ ،‬وحقيقة‬
‫النسان ومناهج التغيير التي خاضوها في هذه الحياة‪.‬‬
‫***‬

‫‪68‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الرابع‬
‫الرسول صلوات الله وسلمه عليه مع قومه‬
‫إن انتصار أهل اليمان على أهل الكفر في المعارك القتالية‪،‬‬
‫يظهر جلًيا في سيرة النبي × وفي عهد الخلفاء الراشدين وفي‬
‫تاريخ المة المجيدة‪.‬‬
‫إن النبي × بعد استقراره في المدينة شرع يخطط للعمال‬
‫الجهادية‪ ،‬ويحث أصحابه على فنون القتال ويرسل السرايا‬
‫والبعوث‪ ،‬ليضيق على حركة قريش التجارية‪ ،‬ويؤدب القبائل‬
‫وف المتربصين‬ ‫المشركة ويؤمن دولة السلم من أعدائها‪ ،‬ويخ ّ‬
‫بالمسلمين‪ ،‬ويهيئ أصحابه للمهمات التي تنتظرهم بعد أن أذن‬
‫الله لهم بالقتال‪ ،‬فبعث × مجموعة من البعوث والسرايا حققت‬
‫بعض الهداف الستراتيجية من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬الستطلع‪ :‬حتى يتعرف المسلمون على الطرق المحيطة‬
‫بالمدينة والمؤدية إلى مكة‪ ،‬خاصة الطرق الحيوية التجارية‬
‫لقريش في الجزيرة واهتموا بالتعرف على قبائل المنطقة‬
‫وموادعة بعضها‪.‬‬
‫‪ -2‬الحصار القتصادي‪ :‬على قريش ومنعها من مواصلة تجارتها‬
‫مع الشام ما أمكن إلى ذلك سبيل ً ومنع الحصار القتصادي‬
‫المتوقع على المدينة من قبل القبائل المحيطة بها‪ ،‬وذلك بعقد‬
‫أحلف مع بعضها وقتال البعض الخر‪ ,‬ومفاجأة كل تجمع يخشى‬
‫ظا سريع الحركة ما‬ ‫منه ضرر على الدولة المسلمة‪ ،‬فكان × يق ً‬
‫يكاد يسمع بتجمع للمشركين يهدده إل فاجأهم وشتت شملهم‬
‫وألقى الرعب في قلوبهم‪ ،‬فالهجوم عنده أقوى وسائل الدفاع‪.‬‬
‫‪ -3‬لقد أثبتت حركة السرايا والبعوث أن المسلمين أصبحوا‬
‫قوة يحسب لها حسابها من قبل المشركين من قريش والقبائل‬
‫المجاورة‪ ,‬واضطرت بعض القبائل إلى مهادنة وموادعة‬
‫المسلمين‪ ،‬هذه بعض الهداف التي حققتها تلك السرايا والبعوث‪.‬‬
‫إن معارك النبي × ضد المشركين وانتصاره عليهم نوع من‬
‫أنواع التمكين‪ ,‬ومن أهم هذا المعارك‪ :‬بدر‪ ،‬والخندق‪ ،‬ففي معركة‬
‫قدْ‬ ‫ول َ َ‬‫قال تعالى‪َ +:‬‬ ‫النصر من الله تعالى‪,‬‬ ‫حقيقة‬
‫أندر َ‬ ‫بدر بّين تعالى‬
‫ن"‬‫شك ُُرو َ‬ ‫عل ّك ُ ْ‬
‫م تَ ْ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫فات ّ ُ‬
‫قوا الل َ‬ ‫م أ َِذل ّ ٌ‬
‫ة َ‬ ‫وأن ْت ُ ْ‬
‫ه ِ ٍ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫ب‬ ‫صَرك ُ ُ‬
‫م الل ُ‬ ‫نَ َ‬
‫]آل عمران‪.[123:‬‬
‫ج ّ‬
‫ل‪,‬‬ ‫إن الله تعالى بين أن النصر ل يكون إل من عند الله عَّز وَ َ‬
‫والمعنى ليس النصر إل من عند الله دون غيره‪ ،‬و)العزيز( أي ذو‬

‫‪69‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫و)الحكيم( أي الحكيم فيما شرعه من قتال‬ ‫العزة التي ل ترام )‪,(1‬‬


‫الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى‬
‫)‪.(2‬‬
‫ويستفاد من هاتين اليتين‪ :‬تعليم المؤمنين العتماد على الله‬
‫وحده‪ ،‬وتفويض أمورهم إليه من التأكيد على أن النصر إنما هو‬
‫من عند الله وحده وليس من الملئكة أو غيرهم‪ ،‬فالسباب يجب‬
‫أن يأخذ بها المسلمون لكن يجب أن ل يغتروا بها‪ ,‬وأن يكون‬
‫اعتمادهم على خالق السباب والوسائل حتى يمدهم الله بنصره‬
‫وتوفيقه‪ ،‬ثم بين سبحانه مظاهر فضله على المؤمنين وأن النصر‬
‫الذي كان في بدر وقتلهم المشركين‪ ،‬ورمي‬
‫النبي × المشركين بالتراب يوم بدر إنما كان في الحقيقة بتوفيق‬
‫الله أول ً وبفضله ومعونته‪ ،‬وبهذه الية الكريمة يربي القرآن‬
‫المسلمين ويعلمهم العتماد عليه‪ ,‬فقال تعالى‪:‬‬
‫ت‬ ‫مي ْ َ‬ ‫ت إ ِذْ َر َ‬ ‫مي ْ َ‬ ‫ما َر َ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫قت َل َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ول َك ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫قت ُُلو ُ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫فل َ ْ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ه‬‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫نا‬ ‫س‬ ‫ح‬
‫ُ ِ ِ َ ِ ْ ُ َ ً َ َ ً ِ ّ‬ ‫ء‬ ‫بل‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ني‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ل‬
‫َ ِ ُ ْ ِ َ‬‫ب‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫مى‬ ‫ر‬
‫َ َ َ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬‫ول َك ِ ّ‬ ‫َ‬
‫م" ]النفال‪.[17:‬‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ع َ‬ ‫مي ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫َ‬
‫ولما بين سبحانه وتعالى أن النصر كان من عنده وضح بعض‬
‫الحكم من ذلك النصر‪:‬‬
‫َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫و ي َك ْب ِت َ ُ‬ ‫روا أ ْ‬ ‫َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫فا ّ‬ ‫ع طََر ً‬ ‫قطَ َ‬ ‫فقال تعالى‪+:‬ل ِي َ ْ‬
‫ب‬‫َ‬ ‫تو‬ ‫ُ‬ ‫ي‬
‫ْ َ‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ٌ‬ ‫ء‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ر‬
‫ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ن‪َ ْ ‬‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خائ ِِبي َ‬ ‫قل ُِبوا َ‬ ‫فَين َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[128 ،127 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ظال ِ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫م فإ ِن ّ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫عذّب َ ُ‬ ‫و يُ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ما تلك النعمة العظيمة‬ ‫وأمر سبحانه المؤمنين أن يتذكروا دائ ً‬
‫نعمة النصر في بدر‪ ،‬ول ينسوا من أذهانهم كيف كانت حالتهم قبل‬
‫النصر‪.‬‬
‫َ‬
‫في‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫َ‬
‫ع ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ّ‬ ‫قِلي ٌ‬ ‫م َ‬ ‫واذْك ُُروا إ ِذْ أن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ قال تعالى‪َ + :‬‬
‫كم‬ ‫وأي ّدَ ُ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫وا‬ ‫فآ‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫نا‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ط‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ن‬
‫فو َ‬ ‫خا ُ‬‫ض تَ َ‬
‫ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫ّ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫الْر ِ‬
‫ن" ]النفال‪.[26 :‬‬ ‫شكُرو َ‬ ‫ُ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ُ‬
‫علك ْ‬ ‫تل َ‬ ‫ن الطي َّبا ِ‬ ‫م َ‬ ‫قكم ّ‬ ‫ُ‬ ‫وَرَز َ‬ ‫ه َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫ب ِن َ ْ‬
‫لقد كانت نتائج غزوة بدر على المسلمين عظيمة‪ ،‬ومن أهم‬
‫تلك النتائج‪:‬‬
‫‪ -1‬ضعف موقف المشركين واهتزاز هيبتهم أمام قبائل‬
‫الجزيرة العربية‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/411‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(2/303‬‬

‫‪70‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -2‬ظهور قوة جديدة في الجزيرة أصبح الجميع يحسب لها‬


‫حسابها‪.‬‬
‫‪ -3‬بدأ النفاق في المدينة يظهر جلًيا بعد بدر‪ ،‬واستمر‬
‫المنافقون في أذاهم للمسلمين‪.‬‬
‫دا‬
‫‪ -4‬شرع اليهود في إظهار عداوتهم للمسلمين بعد بدر حس ً‬
‫وبغًيا وأول من أظهر بغيه يهود بنى قينقاع‪.‬‬
‫‪ -5‬أصبحت الحرب معلنة بين المسلمين وقريش لم تنته إل‬
‫بفتح مكة‪.‬‬
‫‪ -6‬تشجع كثير من الناس لدخول السلم ودخلت المدينة في‬
‫طور جديد من الجهاد المسلح‪.‬‬
‫‪ -7‬خص الله أهل بدر من الصحابة الكرام بالمغفرة وشّرف‬
‫من حضرها من الملئكة وأصبحت غزوة بدر شرًفا ومنقبة‬
‫لمن حضرها من المسلمين والملئكة‪.‬‬
‫أما غزوة الخندق فقد تحدث القرآن عنها وبين أموًرا من‬
‫أهمها‪:‬‬
‫َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬‫ها ال ّ ِ‬ ‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬ ‫فأ َ‬ ‫تذكير المؤمنين بنعم الله عليهم كما قال تعالى‪:‬‬ ‫‪-1‬‬
‫م‬
‫ِ ْ‬‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫د‬‫نو‬
‫ُ‬ ‫ج‬‫ُ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ء‬ ‫جا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫إ‬
‫ْ ِ‬‫م‬‫ُ‬ ‫ك‬‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬‫الل‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫روا‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫ا‬ ‫نوا‬
‫م ُ‬‫آ َ‬
‫را" ]الحزاب‪:‬‬ ‫صي‬
‫َ َ ِ ً‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫ْ َ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫ُ ِ َ‬‫ب‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ها‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ر‬
‫ْ َ ْ‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫دا‬
‫ً‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫ج‬ ‫و‬
‫ِ ً َ ُ‬ ‫حا‬ ‫ري‬
‫‪.[9‬‬
‫بسبب إحاطة‬ ‫همن أ َ‬ ‫‪ -2‬التصوير البديع لما أصاب المسلمين من‬
‫فلَ‬ ‫س َ‬ ‫ْ‬ ‫م ْ‬ ‫و ِ‬ ‫م َ‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫و ِ‬‫ف ْ‬ ‫من َ‬ ‫كم ّ‬ ‫ءو ُ‬ ‫جا ُ‬ ‫الحزاب بالمدينة ‪+‬إ ِذْ َ‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫وت َظّنو َ‬ ‫جَر َ‬ ‫حَنا ِ‬ ‫ْ‬
‫ب ال َ‬ ‫قلو ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ت ال ُ‬ ‫غ ِ‬ ‫َ‬
‫وب َل َ‬ ‫صاُر َ‬ ‫ت الب ْ َ‬ ‫غ ِ‬ ‫وإ ِذْ َزا َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫نا" ]الحزاب‪.[10 :‬‬ ‫ه الظُنو َ‬‫ّ‬ ‫ِبالل ِ‬
‫‪ -3‬الكشف عن نوايا المنافقين السيئة‪ ،‬وأخلقهم الذميمة‪،‬‬
‫وجبنهم الخالع‪ ,‬ومعاذيرهم الباطلة ونقضهم للعهود‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬
‫ما‬‫ض ّ‬ ‫مَر ٌ‬ ‫هم ّ‬ ‫في ُ ُ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫قو ُ‬ ‫وإ ِذْ ي َ ُ‬
‫قلوب ِ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن َ‬ ‫قو َ‬ ‫مَنا ِ‬
‫ُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫را" ]الحزاب‪.[12 :‬‬ ‫ُ ً‬ ‫رو‬ ‫ُ‬
‫غ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ُ ِ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫سو‬ ‫ُ َ َ ُ‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫نا‬‫ع َ َ‬
‫د‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫‪ -4‬حض المؤمنين في كل زمان ومكان على التأسي برسول‬
‫الله × في أقواله وأفعاله وجهاده وكل أحواله استجابة لقوله‬
‫في رسول الل ُ‬
‫ة لّ َ ْ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫سن َ ٌ‬ ‫ح َ‬ ‫وة ٌ َ‬ ‫س َ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫م ِ َ َ ُ ِ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫قدْ َ‬ ‫تعالى‪+:‬ل َ َ‬
‫را" ]الحزاب‪.[21 :‬‬ ‫ه كِثي ً‬ ‫َ‬ ‫وذَكَر الل َ‬ ‫َ‬ ‫خَر َ‬ ‫م ال ِ‬ ‫و َ‬ ‫ْ‬
‫والي َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫جو الل َ‬ ‫ن ي َْر ُ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫‪ -5‬مدح المؤمنين على مواقفهم النبيلة وهم يواجهون جيوش‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫الحزاب بإيمان صادق‪ ،‬وفاء بعهد الله تعالى‪ ،‬قال تعالى‪ِ +:‬‬
‫من‬ ‫هم ّ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل َ‬ ‫ه ُ‬‫عا َ‬ ‫ما َ‬ ‫قوا َ‬ ‫صد َ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ر َ‬‫ن ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ديل " ]الحزاب‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ما ب َدّلوا ت َب ْ ِ‬‫ُ‬ ‫و َ‬ ‫من َينت َظُِر َ‬ ‫هم ّ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫و ِ‬ ‫ه َ‬ ‫حب َ ُ‬ ‫ضى ن َ ْ‬ ‫ق َ‬ ‫َ‬
‫‪.[23‬‬

‫‪71‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -6‬بيان سنة من سنن الله التي ل تتخلف‪ ,‬وهي جعل العاقبة‬


‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫وَردّ الل ُ‬ ‫لعدائهم‪ ،‬قال تعالى‪َ + :‬‬ ‫للمؤمنين والهزيمة‬
‫ن‬ ‫ني‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫فى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫را‬ ‫ي‬ ‫خ‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫م‬‫م ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه ْ‬ ‫كَ َ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ً َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫غي ْ َظِ ِ‬ ‫فُروا ب ِ َ‬
‫زا" ]الحزاب‪.[25 :‬‬ ‫زي ً‬ ‫ع ِ‬ ‫وّيا َ‬ ‫ق ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫وكا َ‬ ‫ل َ‬ ‫قَتا َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫‪ -7‬امتنانه سبحانه على عباده المؤمنين حيث نصرهم على بنى‬
‫قريظة وهم في حصونهم المنيعة بدون قتال يذكر‪ ,‬حيث ألقى‬
‫سبحانه الرعب في قلوبهم فنزلوا على حكم الله ورسوله )‪ ،(1‬قال‬
‫من‬‫ب ِ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫ه‬ ‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫هُرو ُ‬ ‫ظا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫وأ َن َْز َ‬ ‫الله تعالى‪َ + :‬‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ريقا ت َق َت ُلو َ‬ ‫ً‬ ‫بف ِ‬ ‫َ‬ ‫ع َ‬ ‫م الّر ْ‬ ‫ه َُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقذَف‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫في قلو ُب ِ ِ‬ ‫قا َ ‪ِ ‬وأ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫صي ِ‬ ‫ص َ ْيا ِ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫يا‬ ‫د‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫ري‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ن‬ ‫رو‬ ‫س‬ ‫أ‬ ‫وأ َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ديًرا"‬ ‫ق ِ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ها‬‫َ‬ ‫ؤو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ضا‬ ‫ً‬ ‫ر‬ ‫و ْ‬ ‫َ‬
‫]الحزاب‪.[27 ،26 :‬‬
‫لقد كانت غزوة الحزاب من الغزوات الهامة التي خاضها‬
‫المسلمون ضد أعدائهم وحققوا فيها نتائج مهمة‪:‬‬
‫‪ -1‬انتصار المسلمين وانهزام أعدائهم وتفرقهم ورجوعهم‬
‫مدحورين بغيظهم قد خابت أمانيهم وآمالهم‪.‬‬
‫‪ -2‬تغير الموقف لصالح المسلمين فانتقلوا من موقف الدفاع‬
‫إلى الهجوم‪ ,‬وقد أشار إلى ذلك النبي × حيث قال‪» :‬الن‬
‫نغزوهم ول يغزونا نحن نسير إليهم« )‪.(2‬‬
‫‪ -3‬كشفت هذه الغزوة خبث يهود بنى قريظة وحقدهم على‬
‫المسلمين وتربص الدوائر بهم‪ ،‬فقد نقضوا عهدهم مع‬
‫النبي × في أحلك الظروف وأصعبها‪.‬‬
‫‪ -4‬كشفت غزوة الحزاب حقيقة صدق إيمان المسلمين‬
‫وحقيقة المنافقين وحقيقة يهود بنى قريظة‪ ،‬فكان البتلء‬
‫صا للمسلمين وإظهار حقيقة‬ ‫بغزوة الحزاب تمحي ً‬
‫المنافقين واليهود‪.‬‬
‫م‬
‫‪ -5‬كانت غزوة بنى قريظة نتيجة من نتائج الحزاب حيث ت ّ‬
‫فيها محاسبة يهود بنى قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي‬
‫× في أحلك الظروف وأقساها‪.‬‬
‫حروب الردة‪:‬‬
‫عندما توفى رسول الله × ارتدت أحياء كثيرة من العرب‪،‬‬
‫وظهر النفاق‪ ،‬وقد كان أهل الردة على قسمين‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول × )‪.(491 ،1/490‬‬
‫‪2‬‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬باب غزوة الخندق )‪ (5/58‬رقم ‪.4109‬‬

‫‪72‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫القسم الول‪ :‬ارتدوا عن الدين ونابذوا المّلة‪ ،‬وهذه الفرقة‬


‫طائفتان‪:‬‬
‫‪ -1‬الطائفة الولى‪ :‬فمنهم التارك للدين بالمّرة‪ ،‬وهم بنو طيئ‪،‬‬
‫وأسد‪ ,‬ومن تبعهم من غطفان وعبس وذبيان وفزارة اتبعوا طليحة‬
‫بن خويلد السدي مدعى النبوة في بنى أسد‪ ،‬وبنو حنيفة الذين‬
‫اتبعوا مسيلمة الكذاب‪ ،‬وأهل اليمن الذين اتبعوا السود العنسى‪،‬‬
‫وكثير غيرهم‪ ،‬وهؤلء ارتدوا عن الدين‪ ،‬ونابذوا المّلة‪ ،‬واتبعوا‬
‫دعى النبوة في الجزيرة‪ ،‬ومنهم من ترك الصلة والزكاة وعاد‬ ‫م ّ‬
‫ُ‬
‫إلى ما كان عليه من الجاهلية‪.‬‬
‫هم الدين فرقوا بين الصلة والزكاة‪ ،‬فأنكروا‬ ‫‪ -2‬الطائفة الثانية‪:‬‬
‫فرض الزكاة ووجوب أدائها‪ ,‬وهم بعض بنى تميم‪ ،‬الذين يرأسهم مالك‬
‫بن نويرة‪ ،‬وبنو هوازن وغيرهم‪.‬‬
‫وهذا القسم هو الذي وقع فيه الخلف‪ ،‬فثبت أبو بكر رضي‬
‫الله عنه ثم وافقه جميع الصحابة على قتال جميع المرتدين‬
‫ومانعي الزكاة )‪.(1‬‬
‫وخاض الصديق معارك طاحنة في الجزيرة العربية‪ ،‬وهزم‬
‫جيوش المرتدين ونتج عن تلك المعارك نتائج مهمة من أهمها‪:‬‬
‫‪-1‬ظهرت أهمية القاعدة الصلبة في المجتمع السلمي‪ ،‬وأثبتت‬
‫حروب الردة أن هناك معادن أصيلة قوية‪ ،‬تشكلت منها القاعدة‬
‫الصلبة في المدينة والتي لم تكن رخوة أو هشة‪ ،‬أو ساذجة‪ ،‬بل‬
‫كانت قوية واعية تدرك حقيقة نفسها وحقيقة عودها‪ ،‬وتستوعب‬
‫أبعاد المخاطر من حولها‪ ،‬وتخطط بانتباه ويقظة كاملة في مواجهة‬
‫كل الصعاب‪ ،‬ولهذا أزاحت كل العراقيل والصعاب التي وضعت‬
‫أمامها‪ ،‬لقد التفت هذه القاعدة حول الصديق رضي الله عنه‪،‬‬
‫فقادهم لحفظ الدولة‪ ،‬وتقوية دعائمها بعد رسول الله ×‪ ,‬وكان‬
‫لهذه القاعدة أثر في الحشد الذي تم لمواجهة أحداث الردة‪ ،‬وكان‬
‫لهذه القاعدة دور في ل َم ّ شمل الناس من حولهم‪...‬وعلى عاتقهم‬
‫تم حفظ كيان المة وحرصوا على بقائها وتنميتها‪ ,‬وضحوا بالمهج‬
‫صا في حرب ردة‬ ‫والموال‪ ،‬ولعل موقفهم في حروب الردة وخصو ً‬
‫ين أهميتها في بقاء الدولة واستمرارها حيث‬ ‫اليمامة وهي أعظمها ب ّ‬
‫تميز المهاجرون والنصار بإيمانهم وثباتهم وصبرهم‪ ,‬وكان القتل‬
‫ر‪ ,‬وأكرمهم الله بالنصر على‬ ‫في المهاجرين والنصار قد استح ّ‬
‫عدوهم بسبب صدقهم وإخلصهم وثباتهم‪.‬‬
‫‪ -2‬لقد تكسرت وتحطمت قوى الشر من يهود ونصارى‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحكمة في الدعوة إلى الله ص )‪.(220‬‬

‫‪73‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ووثنيين الذين تستروا تحت شعارات عدة أمام صلبة التوحيد‬


‫وحقيقة التصور السليم‪ ،‬والقيادة الحكيمة‪ ،‬وتركت لنا تلك‬
‫الحداث الجسيمة ثروة ضخمة في معاملة المرتدين وأحكامهم‪،‬‬
‫ومعاملة الخارجين عن دولة السلم العظيمة‪.‬‬
‫استطاعت القيادة السلمية بزعامة الصديق رضي الله عنه أن‬ ‫‪-3‬‬
‫تجعل من الجزيرة العربية قاعدة للنطلق لفتح العالم أجمع‪ ,‬وأصبحت‬
‫الجزيرة هي النبع الذي يتدفق منه السلم ليصل إلى صقاع الر ض‬
‫ركتهم الحياة‪ ،‬وأصبحوا من أهل الخبرات المتعددة في‬ ‫بواسطة رجال ع ّ‬
‫مجالت التربية والتعليم والجهاد وإقامة شرع الله الشامل لسعاد بنى‬
‫النسان حيثما كان‪.‬‬
‫أصبحت الجزيرة العربية تحت نظام واحد وقيادة واحدة بعد‬ ‫‪-4‬‬
‫تاريخ طويل من التمزق والفرقة والشتات بسبب الصراع القبلي‬
‫والطماع الفردية‪ ،‬والنزعات العشائرية وتحقق مفهوم المة على‬
‫أسس عقدية وفكرية ومنهجية ربانية‪ ,‬وانصهرت القبائل في كيان‬
‫المة ذات الفكرة الواحدة‪ ،‬والقيادة الواحدة‪ ،‬وأصبحت جز ًءا من‬
‫كيانها المتماسك‪.‬‬
‫دا ربانًيا للفتوحات السلمية حيث‬ ‫‪ -5‬كانت حروب الردة إعدا ً‬
‫تميزت الرايات وظهرت القدرات‪ ،‬وتفجرت الطاقات‪ ،‬واكتشفت‬
‫قيادات ميدانية‪ ,‬وتفنن القادة في الساليب والخطط الحربية‪،‬‬
‫وبرزت مؤهلت الجندية الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي‬
‫تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل‪ ،‬وتقدم كل شيء وهي تعلم من‬
‫ما )‪.(1‬‬
‫قا والتفاني عظي ً‬ ‫أجل ماذا تضحي وتبذل‪ ،‬ولذا كان الداء فائ ً‬
‫صديق التقسيم الداري بعد انتصاره في حروب‬ ‫‪ -6‬وضع ال ّ‬
‫الردة لدولة السلم على نظام الوليات وهي‪ :‬مكة وكان أميرها‬
‫عتاب بن أسيد‪ ،‬والطائف أميرها عثمان بن أبي العاص‪ ،‬وصنعاء‬
‫أميرها المهاجر بن أبي أمية‪ ،‬وحضر موت ووليها زياد بن لبيد‪،‬‬
‫وخولن ووليها يعلى بن أمية‪ ،‬وزبيد ورقع ووليهما أبو موسى‬
‫الشعري‪ ،‬أما جند اليمن‪ ،‬فأميرها معاذ بن جبل‪ ،‬ونجران ووليها‬
‫جرير بن عبد الله‪ ،‬وجرش ووليها عبد الله بن نور‪ ،‬والبحرين‬
‫ووليها العلء بن الحضرمي‪ ,‬وعمان ووليها حذيفة القلعانى‪،‬‬
‫واليمامة ووليها سليط بن قيس )‪.(2‬‬
‫الفتوحات السلمية‪:‬‬
‫تحركت جيوش المسلمين بقيادة الصديق بعد حروب الردة‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تاريخ صدر السلم للشجاع‪ ،‬ص ‪.145-141‬‬
‫‪2‬‬
‫)( إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء للشيخ محمد الخضري ‪ ،‬ص ‪.60 ،59‬‬

‫‪74‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫لنشر السلم في الفاق‪ ،‬فكانت حروب العراق بقيادة خالد بن‬


‫الوليد‪ ،‬والمثنى بن حارثة‪ ,‬وكانت معارك الروم بقيادة أبي‬
‫عبيدة بن الجراح‪ .‬وبعد وفاة الصديق تولى الخلفة عمر رضي‬
‫الله عنه والذي تحقق في زمن خلفته انتصار المسلمين‬
‫الساحق على الروم في اليرموك وانتصارهم على الفرس في‬
‫المدائن‪ ,‬وبذلك فتحت إمبراطورية الروم في بلد الشام‪،‬‬
‫وإمبراطورية الكاسرة في بلد الفرس أمام دعاة السلم‬
‫يقدمون للمم دين الله الذي ارتضاه لعباده‪.‬‬
‫وسار المسلمون على هدى أسلفهم في خوض المعارك‬
‫الضارية ضد أعداء السلم‪ ،‬فسجل لنا التاريخ انتصار المسلمين‬
‫على النصارى في معركة الزلقة عام ‪479‬هـ بقيادة يوسف بن‬
‫تاشفين قائد دولة المرابطين‪ ،‬وانتصارهم على النصارى في‬
‫معركة حطين عام ‪583‬هـ وفتحت بعدها القدس بقيادة صلح‬
‫الدين اليوبي‪ ..‬وكان انتصار المسلمين على أعدائهم يحدث عندما‬
‫يأخذ المسلمون بأسباب التمكين وشروطه وسننه التي ل تحابي‬
‫ول ترحم ول تجامل‪ ،‬إن هذا النوع من التمكين يتجدد كلما حققت‬
‫المة صفات جيل التمكين سواء على أفراد المة أم قادتها‪.‬‬
‫***‬

‫‪75‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الفصل الثالث‬
‫المشـــــــاركة في الحكــــم‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن تولى أهل التوحيد واليمان أعباء الحكم لدولة غير مؤمنة‬
‫نوع من أنواع التمكين‪ ،‬وقد أشار القرآن الكريم لهذا النوع من‬
‫عل ِْني‬
‫ج َ‬‫التمكين في قصة َ يوسف عليه السلم‪ ,‬قال تعالى‪+:‬ا ْ‬
‫م" ]يوسف‪.[55 :‬‬ ‫عِلي ٌ‬
‫ظ َ‬‫في ٌ‬
‫ح ِ‬‫ض إ ِّني َ‬ ‫عَلى َ‬
‫ن الْر ِ‬
‫خَزائ ِ ِ‬ ‫َ‬
‫لقد تقدم يوسف عليه السلم بهذا الطلب إلى ملك مصر‬
‫المشرك من أجل عقيدته ودعوته وتقديم الخير للناس‪ ،‬ولقد‬
‫تحرك يوسف عليه السلم وفق المكانات والظروف التي مّر بها‬
‫واستفاد من الفرصة التي سنحت له‪.‬‬
‫وهذا المسلك الذي اتخذه يوسف عليه السلم يدلنا على أن‬
‫طرائق نشر السلم‪ ،‬ودعوة المجتمعات إلى اليمان له أكثر من‬
‫سبيل‪ ،‬كما أن هذا المسلك ل يوجد فيه تناقض بين المبدأ الذي‬
‫يحمل رايته‪ ،‬وهو أن الحكم لله والعبودية المطلقة للواحد الديان‬
‫وبين توليه الوزارة‪ ،‬ليجعل المجتمع أقرب إلى دعوة الله‪ ،‬وهذا‬
‫أمر ل شك فيه‪ ،‬لن يوسف عليه السلم نشر دعوة التوحيد في‬
‫دة الحكم‪.‬‬‫س ّ‬‫السجن فكيف به وهو في ُ‬
‫دا للحركات‬ ‫إن دخول يوسف عليه السلم في الوزارة كان سن ً‬
‫السلمية المعاصرة التي ترى جواز المشاركة في الحكومات‬
‫الجاهلية إذا كان للمشاركة مصلحة كبرى أو دفع شر مستطير‪ ،‬ولم‬
‫يا‪ ,‬وذهب إلى‬ ‫را جذر ً‬
‫يكن بإمكان المشارك أن يغير في الوضاع تغيي ً‬
‫هذا الجتهاد كثير من العلماء وأهل الحل والعقد في الحركات‬
‫السلمية المعاصرة إل أن هذه المسألة لم تخل من معارضة بعض‬
‫الباحثين الذين استدلوا بأدلة تدل على عدم جواز المشاركة في‬
‫الوزارة التي تحكم بشريعة غير شريعة الله‪ ,‬واعتبر مسألة المشاركة‬
‫في الحكم من مسائل العقائد‪ ،‬والذي يبحث في هذه المسألة من‬
‫الناحية الشرعية والممارسات التاريخية يصل إلى نتيجة أن المسألة‬
‫تدخل تحت السياسة الشرعية للجماعة المسلمة الرشيدة التي‬
‫تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين لدينه؛ ولذلك سنحاول أن نناقش‬
‫الموضوع مناقشة علمية هادئة بعيدة عن التوتر والتشنج‪ ،‬وإنما‬
‫مقصدنا الوصول إلى ما يحبه الله ويرضاه‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الول‬
‫أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة في الحكم‬
‫ل‪ :‬أدلة المانعين المشاركة في الحكم‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫يرى أصحاب الرأي الذي يمنع دخول السلميين من المشاركة‬
‫في الحكم أدلة من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬النصوص الحاكمة على من لم يحكم بغير ما أنزل الله‬
‫بالكفر والظلم والفسق‪:‬‬
‫فأول َئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫من ل ّ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ْ قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]المائدة‪.[44 :‬‬ ‫فُرو َ‬ ‫كا ِ‬‫ال َ‬
‫م‬‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫فُأول َئ ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫من ل ّ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ّوقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]المائدة‪.[45 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫الظال ِ ُ‬
‫فأول َئ ِ َ‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫من ل ّ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ْ وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]المائدة‪.[47 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫ال َ‬
‫م إ ِل ّ لل ِ‬
‫ه‬ ‫حك ْ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫َ ‪ -َ 2‬إن الحاكمية يجب أن تكون لله وحده‪+:‬إ ِ ِ‬
‫دوا إ ِل ّ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫مَر أل ّ ت َ ْ‬ ‫أ َ‬
‫ه" ]يوسف‪.[40 :‬‬ ‫إ ِّيا ُ‬
‫‪ -3‬نهى رب العالمين المؤمنين أن يحتكموا إلى شريعة غير‬
‫ك لَ‬ ‫وَرب ّ َ‬ ‫فل َ َ‬ ‫شريعة الله‪ ،‬وجعل ذلك منافًيا لليمان‪ ,‬قال تعالى‪َ +:‬‬
‫في‬ ‫دوا ِ‬ ‫ج ُ‬‫م ل َ يَ ِ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫جَر ب َي ْن َ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫ما َ‬ ‫في َ‬ ‫ك ِ‬ ‫مو َ‬ ‫حك ّ ُ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫يُ ْ‬
‫ما" ]النساء‪.[65 :‬‬ ‫سِلي ً‬ ‫موا ت َ ْ‬ ‫سل ُ‬‫ّ‬ ‫وي ُ َ‬ ‫ت َ‬ ‫ضي ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ما َ‬ ‫م ّ‬ ‫جا ّ‬ ‫حَر ً‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫‪ -4‬في المشاركة في الحكم غير السلمي مفاسد عظيمة‪،‬‬
‫يحادون الله في أمره‪ ،‬وينازعونه في‬ ‫فالذين ل يحكمون شرع الله‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ياهُ" ]يوسف‪:‬‬ ‫ّ‬
‫دوا إ ِل إ ِ ّ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫ّ‬
‫مَر َأل ت َ ْ‬ ‫هأ َ‬ ‫م إ ِل ّ لل ِ‬ ‫حك ْ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫حكمه ‪+‬إ ِ ِ‬
‫دا" ]الكهف‪ ،[110 :‬فكيف‬ ‫ح ً‬ ‫هأ َ‬ ‫ة َرب ّ ِ‬ ‫عَبادَ ِ‬ ‫رك ب ِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ول َ‬ ‫‪َ + ،[40‬‬
‫يشارك المسلم في هذا النوع من الحكم؟‬
‫‪ -5‬مشاركة المسلم في هذا النوع من الحكم توقعه في‬
‫تناقض كبير‪ ،‬فالمسلم مطالب بأن يجاهد‪ ،‬لقامة حكم الله‪ ،‬وينكر‬
‫ما‬ ‫أشد النكار على من حكم بغير ما أنزل الله‪ ،‬فكيف يكون مقي ً‬
‫للحكم بغير ما أنزل الله‪.‬‬
‫‪ -6‬إن طاعة الحكام فيما يشرعونه مخالفين أمر الله تعنى‬
‫ذوا‬ ‫خ ُ‬ ‫َاتخاذ المطيع لهم أرباًبا َمن دون الله‪ ،‬كما قال تعالى‪+ :‬ات ّ َ‬
‫ن‬
‫ح اب ْ َ‬ ‫سي َ‬ ‫م ِ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫م أْرَباًبا ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫هَبان َ ُ‬ ‫و ُُر ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫حَباَر ُ‬ ‫أ ْ‬
‫دا" ]التوبة‪.[31 :‬‬ ‫ً‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ِ ً َ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫دوا‬ ‫ب‬
‫َ ْ ُ ُ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫روا‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫م ْ َ َ َ َ‬
‫و‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫َ‬

‫‪77‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -7‬من المفاسد التي تترتب على المشاركة أن بعض الحكام‬


‫قد يتخذون من يستوزرونهم من المسلمين الصالحين زينة يحلون‬
‫بها حكمهم‪ ،‬ويدلسون بذلك على السذج والعوام‪ ،‬فيقولون‪ :‬لو كنا‬
‫على الباطل لما قبل فلن مشاركتنا في الحكم‪ ،‬ويزداد الطين بلة‬
‫عندما يمررون من خلل الوزير المسلم القوانين الجائرة الظالمة‬
‫وبعد أن يحققوا من ورائه أهدافهم ينبذونه نبذة النواة‪.‬‬
‫‪ -8‬وفي المشاركة في الحكم ركون إلى الذين ظلموا‪ ،‬وقد‬
‫موا‬ ‫ن ظَل َ ُ‬ ‫ول َ ت َْرك َُنوا إ َِلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫حذرنا الحق من الركون إليهم‪َ + :‬‬
‫ر" ]هود‪.[113 :‬‬ ‫م الّنا ُ‬‫سك ُ ُ‬
‫م ّ‬
‫فت َ َ‬‫َ‬
‫‪ -9‬وقد يكون في المشاركة في الحكم إطالة لعمر هذا النمط‬
‫من الحكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله في بعض الحيان )‪.(1‬‬
‫ثانًيا‪ :‬أدلة القائلين بالجواز‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬إن الصل عدم جواز المشاركة ولكن هناك حالت‬
‫استثنائية أباحت الشريعة فيها المشاركة‪ ،‬واستدلوا بأدلة من‬
‫أهمها دخول يوسف عليه السلم في الوزارة‪:‬‬
‫‪ -1‬إن يوسف عليه السلم تولى المنصب الذي توله بإذن‬
‫الملك وإرادته‪ ،‬يدلنا‬
‫َ‬
‫على ذلك طلب يوسف عليه السلم من الملك أن يوليه‪+ :‬قا َ‬
‫ل‬
‫ض" ]يوسف‪.[55 :‬‬ ‫َ‬ ‫عَلى َ‬ ‫عل ِْني َ‬
‫ن الْر ِ‬ ‫خَزائ ِ ِ‬ ‫ج َ‬‫ا ْ‬
‫فالنص صريح في الدللة على أن الملك هو الذي يملك التولية‪,‬‬
‫ضا في أن يوسف عليه السلم قد طلب منصًبا‬ ‫والنص صريح أي ً‬
‫في دولة الملك‪ ،‬ولم يطلب أن يعزل الملك نفسه ولم يكن ذلك‬
‫الطلب لنفسه‪.‬‬
‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله‪) :-‬لم يكن يوسف يطلب‬
‫لشخصه‪ ،‬وهو يرى إقبال الملك عليه‪ ،‬فيطلب أن يجعله على‬
‫فا في اختيار اللحظة التي يستجاب‬ ‫خزائن الرض‪ ،‬إنما كان حصي ً‬
‫له فيها لينهض بالواجب المرهق الثقيل ذي التبعية الضخمة في‬
‫أشد ّ أوقات الزمة‪ ،‬وليكون مسئول ً عن إطعام شعب كامل( )‪.(2‬‬
‫ويرى ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬أن هذا المجتمع الكافر ل بد ّ‬
‫أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الموال وصرفها على حاشية‬
‫الملك وأهل بيته وجنده ورعيته‪ ،‬ول تكون جارية على سنة النبياء‬
‫وعدلهم‪ ،‬ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد‪ ،‬وهو ما يراه‬
‫من دين الله‪ ،‬فإن القوم لم يستجيبوا له‪ ،‬لكنه فعل الممكن من‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية ص )‪.(32 ،29‬‬
‫‪2‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(12/2005‬‬

‫‪78‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫العدل والحسان‪ ،‬ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل‬


‫بيته ما لم يكن أن يناله بدون ذلك ‪ -‬وهذا كله داخل في قوله‬
‫م" ]التغابن‪.(1) ([16 :‬‬ ‫ست َطَ ْ‬
‫عت ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬
‫ه َ‬ ‫فات ّ ُ‬
‫قوا الل َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬
‫لقد اعترض المانعون على المجيزين في استدللهم بقبول‬
‫يوسف عليه السلم للوزارة وقالوا‪ :‬إن شرعنا ل يجيز تولى‬
‫الوزارة في ظل حاكم غير مسلم‪ ،‬وأما تولى يوسف للوزارة فهو‬
‫شرع لمن قبلنا‪ ،‬وشرع من قبلنا ليس بشرع لنا إذا جاء في‬
‫شرعنا ما ينقضه‪.‬‬
‫ورد المجيزون على هذا العتراض بوجوه‪:‬‬
‫الوجه الول‪ :‬أن شرعنا وشرع يوسف عليه السلم بل شرائع‬
‫النبياء جميًعا متفقة في تقرير حاكمية الله تبارك وتعالى‪.‬‬
‫دخل‬ ‫اللذين‬
‫للفتيينلله أ َ‬ ‫فيوسف عليه السلم يقرر في مخاطبته‬
‫مَر أ َل ّ‬
‫ِ َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬
‫ح ُ ِ‬
‫إ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫معه السجن أن الحكم لله وحده ‪+‬إ ِ ِ‬
‫م" ]يوسف‪.[40 :‬‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫قي ّ ُ‬ ‫دي ُ‬ ‫دوا إ ِل ّ إ ِّياهُ ذَل ِ َ‬
‫ك ال ّ‬ ‫عب ُ ُ‬
‫تَ ْ‬
‫ويشرح الستاذ سيد ‪-‬رحمه الله‪ -‬كلمة يوسف هذه بقوله‪ :‬إن‬
‫الحكم ل يكون إل لله‪ ،‬فهو مقصور عليه سبحانه بحكم ألوهيته‪ ،‬إذ‬
‫الحاكمية من خصائص اللوهية‪ ,‬من ادعى الحق فيها فقد نازع الله‬
‫سبحانه أولى خصائص اللوهية )‪.(2‬‬
‫ويوسف عليه السلم الذي يعلم هذا الحكم المقرر في جميع‬
‫الديان هو الذي يتولى منصب عزيز مصر‪ ،‬ويقول للملك‪:‬‬
‫ض" ]يوسف‪.[55:‬‬ ‫َ‬ ‫عَلى َ‬ ‫عل ِْني َ‬
‫ن الْر ِ‬ ‫خَزائ ِ ِ‬ ‫ج َ‬
‫‪+‬ا ْ‬
‫وشريعة ل‬ ‫ما‬
‫فيتولى هذا المنصب وهو يعلم أن للملك نظا ً‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫خذ َ أ َ‬ ‫ْ‬ ‫ما َ‬
‫خا ُ‬ ‫ن ل ِي َأ ُ‬‫كا َ‬ ‫يستطيع أن يزيحها بين عشية وضحاها‪َ + :‬‬
‫ك" ]يوسف‪.[76 :‬‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫مل ِ ِ‬ ‫في ِدي ِ‬ ‫ِ‬
‫يقول سيد قطب في الظلل‪) :‬إن هذا النصر يحدد مدلول‬
‫قا‪ ،‬إنه يعنى نظام الملك‬ ‫دا دقي ً‬
‫كلمة الدين في هذا الموضوع تحدي ً‬
‫وشرعه‪ ،‬فإن نظام الملك وشرعه ما كان يجعل عقوبة السارق‬
‫هو أخذه في جزاء سرقته( )‪.(3‬‬
‫فإذا كان فقه يوسف للحاكمية هو نفس الفقه المقرر في‬
‫شريعتنا ومع ذلك تولى الوزارة فإنا نجزم في هذا المقام بأمرين‪:‬‬

‫‪1‬‬
‫)( مجموع فتاوى شيخ السلم )‪.(57 ،20/56‬‬
‫‪2‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(12/1990‬‬
‫‪3‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(13/2020‬‬

‫‪79‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -1‬أن توليه للوزارة لم يناقض عقيدته في كون الحاكمية لله‬


‫وحده‪.‬‬
‫‪ -2‬وأنه لم يكن مخطًئا عندما تسلم الوزارة‪ ،‬لنه نبي معصوم‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬ومما يدل على نفى هذه الشبهة وإبطالها إخبار‬
‫الحق تبارك وتعالى أن استلم يوسف الوزارة كان رحمة ونعمة‬
‫َ‬ ‫عَلى َ‬ ‫عل ِْني َ‬ ‫قا َ‬‫ولم يكن عذاًبا ونقمة‪َ + ،‬‬
‫ضت َبوأ ُ‬‫ن َالْر ِ‬ ‫خَزائ ِ ِ‬ ‫ج َ‬
‫ّ‬
‫لا ْ‬
‫في ٌ‬
‫ض َي َ َ ّ‬‫في الْر ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫س َ‬‫مكّنا ل ُِيو ُ‬ ‫وك َذَل ِك َ‬
‫َ‬ ‫م‪َ ‬‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ظ َ‬ ‫ح ِ‬‫إ ِّني َ‬
‫جَر‬ ‫أ‬
‫ِ ُ ْ‬ ‫ع‬ ‫ضي‬‫ُ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ء‬‫شا‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫من‬
‫َ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬‫م‬ ‫ح‬ ‫ر‬ ‫ب‬
‫ِ ُ ِ َ ْ َ‬ ‫ب‬ ‫صي‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫َ‬
‫شا‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ث‬
‫ُ‬ ‫ها َ ْ‬
‫ي‬‫ح‬ ‫من ْ َ‬‫ِ‬
‫ن" ]يوسف‪.[56،55 :‬‬ ‫سِني َ‬‫ح ِ‬‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫فالله يقرر أن تسلم يوسف للوزارة هو من باب التمكين له‬
‫في الرض‪ ،‬وأنه رحمة أصابه بها وأنه أجر دنيوى عاجل‪ ،‬وما‬
‫خي ٌْر‬ ‫ة َ‬ ‫خَر ِ‬ ‫جُر ال َ ِ‬ ‫ول َ ْ‬‫ينتظره من الثواب الجل أعظم وأكبر ‪َ +‬‬
‫ن" ]يوسف‪.[57:‬‬ ‫قو َ‬ ‫كاُنوا ي َت ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ّل ّ ِ‬
‫ويوسف عليه السلم يصرح بأن تسلمه للحكم كان من نعمة‬
‫َ‬
‫ك‬ ‫مل ْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫قدْ آت َي ْت َِني ِ‬ ‫ب َ‬ ‫يكن نقمة‪َ+:‬ر ّ‬ ‫الله عليه‪ ،‬ولم‬
‫عل ّمت َِني من ت َأ ْ‬
‫ض‬
‫ْ ِ‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ت‬
‫ّ َ َ َِ ْ َ‬‫وا‬ ‫ما‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫ِ َ‬ ‫ط‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫ث‬ ‫دي‬
‫َ ِ ِ‬ ‫حا‬ ‫ال‬ ‫ل‬
‫ِ ِ‬‫وي‬ ‫ِ‬ ‫و َ ْ‬ ‫ََ‬
‫حقِني‬ ‫ْ‬ ‫وأ ل ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما َ‬ ‫سل ِ ً‬‫م ْ‬ ‫وفِني ُ‬ ‫ة تَ َ‬ ‫خَر ِ‬‫وال ِ‬ ‫في الدّن َْيا َ‬ ‫ول ِّيي ِ‬ ‫ت َ‬ ‫أن َ‬
‫ن" ]يوسف‪.[101 :‬‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬‫ِبال ّ‬
‫الوجه الثالث‪ :‬والنصوص التي ذكرت تدل على أن هذا الحكم‬
‫صا بنبي الله يوسف‪ ،‬دون سواه‪ ،‬وذلك أن النص َصيغ‬ ‫ليس خا ً‬
‫جَر‬ ‫عأ ْ‬ ‫ضي ُ‬ ‫َ‬
‫ول ن ُ ِ‬ ‫َ‬
‫من ن َشاءُ َ‬ ‫مت َِنا َ‬ ‫ح َ‬ ‫ب ب َِر ْ‬ ‫صي ُ‬
‫صياغة عامة‪+ :‬ن ُ ِ‬
‫ن" ]يوسف‪.[56 :‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ثم من ادعى أن هذا الحكم خاص بيوسف دون سواه عليه أن‬
‫يأتي بالدليل‪ ،‬لن الصل في سير النبياء والمرسلين يراد به‬
‫التأسي والقتداء‪ ،‬فكيف إذا جاءت النصوص القرآنية نافية‬
‫الخصوصية مشيرة إلى العموم )‪.(1‬‬
‫لقد تحدث المفسرون في هذه القضية‪:‬‬
‫‪ -1‬نقل القرطبي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬عن بعض أهل العلم‪) :‬إباحة‬
‫طلب الرجل الفاضل أن يعلم أنه يفوض إليه في فعل ل يعارضه‬
‫ما إذا كان عمله بحسب اختيار الفاجر‬ ‫فيه‪ ،‬فيصلح منه ما شاء‪ ،‬وأ ّ‬
‫وشهواته وفجوره فل يجوز ذلك‪ ،‬ونقل القرطبي عن قوم أن هذا‬
‫كان ليوسف خاصة دون غيره‪ ،‬ولكنه رجح القول الول( )‪.(2‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية‪ ،‬د‪ .‬عمر الشقر ص ‪،29‬‬
‫‪.32‬‬
‫‪2‬‬
‫)( تفسير القرطبي )‪.(7/215‬‬

‫‪80‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -2‬واستدل اللوسي‪ -‬رحمه الله ‪ -‬بطلب يوسف الولية على‬


‫جواز ذلك لغيره إذا كان الطالب قادًرا على إقامة العدل وإجراء‬
‫أحكام الشريعة‪ ,‬وإن كان من يد الجائر أو الكافر‪ ،‬بل ذهب‬
‫اللوسي إلى أنه قد يجب الطلب إذا توقف على وليته إقامة‬
‫واجب مث ً‬
‫ل‪ ،‬وكان متعيًنا لذلك )‪.(1‬‬
‫‪ -3‬وقال الشوكاني‪» :‬وقد اسُتدل بهذه الية على أنه يجوز‬
‫تولى العمال جهة السلطان الجائر بل الكافر لمن وثق من نفسه‬
‫)‪.(2‬‬
‫بالقيام بالحق«‬
‫وهذا من أقوى الدلة في جواز المشاركة في النتخابات‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫)( تفسير الألوسي )‪.(13/5‬‬
‫‪2‬‬
‫)( فتح القدير )‪.(3/35‬‬

‫‪81‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثاني‬
‫شواهد من التاريخ الحديث في المشاركة‬
‫استطاع السلميون في بعض بلدان العالم السلمي أن‬
‫يدخلوا بعض الوزارات عن طريق النتخابات والمصالحات‬
‫والحلف التي عقدوها مع بعض النظمة والحزاب‪ ،‬وأثارت هذه‬
‫الخطوات الجريئة مناقشات واعتراضات في داخل الحركات‬
‫السلمية وخارجها‪ ،‬ولذلك نحاول أن نسلط الضواء على بعض‬
‫هذه التجارب والتي من أهمها‪ :‬تجربة الردن‪ ،‬واليمن‪ ،‬وتركيا‪،‬‬
‫ولقد راعت هذه الحركة القواعد الشرعية في مبادئ المصالح‬
‫والمفاسد‪ ،‬وحاولت جاهدة أن تلتزم بقواعد الضرورة‪ ،‬ومصلحة‬
‫العمل السلمي‪ ،‬ومصالح المسلمين في هذه القطار‪ ،‬فإذا كانت‬
‫هناك مصلحة حقيقية أو كان في اشتراكها في الحكومات سيعود‬
‫دا كبيًرا وضرًرا‬
‫بالنفع العميم على المسلمين‪ ,‬أو سيمنع فسا ً‬
‫مصيرًيا يحيق بهم أو يهدد وجودهم فالشتراك في هذه الحالة‬
‫يدخل في حكم الواجب بالنسبة لها‪.‬‬
‫لقد دخلت هذه الحركات المباركة في تجارب الحكم‪ ،‬ضمن‬
‫شروط واضحة ومصالح بينة‪ ،‬وضرورة تفرضها الظروف‬
‫واستراتيجية مدروسة والتزام بالقواعد الشرعية عند الممارسة‪،‬‬
‫فلم يكن الحكم واستلم السلطة هدًفا بذاته تتمسك به هذه‬
‫الحركات على حساب المبادئ أو على حساب الشعب‪ ،‬أو على‬
‫حساب الحركات‪ ،‬أو على حساب أقوات الناس‪ ،‬أو على حساب‬
‫استقلل البلد واسترجاع الوطان‪ ،‬ولقد شاركت هذه الحركات‬
‫في الحكم بالطرق الشرعية عن طريق تفويض الشعب لهم خلل‬
‫النتخابات‪ ،‬ولقد قامت هذه الحركات بدراسات سياسية‬
‫واجتماعية واقتصادية وأمنية‪ ..‬إلخ‪ ،‬قبل الدخول في الحكم حتى‬
‫تأكدوا أن وجودهم في مقاعد السلطة أفضل للسلم والمسلمين‬
‫من مقاعد المعارضة‪.‬‬
‫أو ً‬
‫ل‪ :‬الحركة السلمية في الردن‪:‬‬
‫ل يزال وضع الحركة السلمية في الردن يختلف عن كثير من‬
‫بلد العالم السلمي‪ ،‬إذ كانت الردن تتميز عن غيرها بالحريات‬
‫وإعطاء العمل السياسي فرصة أكبر‪ ،‬ولذلك وجدت الحركة‬
‫خا طبيعًيا لعمالها السياسية والدعوية‬
‫سا ومنا ً‬
‫السلمية متنف ً‬
‫والجتماعية والتربوية والتعليمية‪.‬‬
‫ويعتبر تاريخ تأسيس الحركة السلمية في الردن عام ‪1946‬م‬
‫وهي السنة التي حصل فيها الردن على استقلله وسعت منذ‬
‫تأسيسها إلى إحياء مظاهر الحياة السلمية في المجتمع الردني‪،‬‬

‫‪82‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫وركزت جهودها على قطاع التربية والتعليم في سبيل بناء جيل‬


‫إسلمي جديد‪ ،‬فأنشأت وأدارت مؤسسات متخصصة في التعليم‬
‫والرعاية الجتماعية والعناية الصحية في شتى أنحاء البلد‪ ،‬ووقفت‬
‫بجانب المؤسسات الحكومية القائمة على هذا المجالت وساهمت‬
‫بشكل فعال بدعمها‪ .‬وتميزت ظروف الحركة في الردن بظهور‬
‫حالة من التعايش بين الحركة والنظام‪ ،‬مما أتاح لها حرية نسبية‬
‫من النشاط والعمل السلمي‪ ،‬وحرصت الحركة من طرفها‪ ،‬كما‬
‫ضا‪ ،‬إلى الحفاظ على عناصر هذا‬ ‫النظام من جهته أي ً‬ ‫سعي‬
‫التعايش )‪.(1‬‬
‫أ‪ -‬عناصر التعايش بين الحركة والنظام‪:‬‬
‫‪ -1‬إدراك الحركة لوضع الدولة وضعف إمكاناتها واعتمادها‬
‫على الدعم القتصادي الخارجي‪ ،‬ولذلك تجنبت إحراج النظام فيما‬
‫ل طاقة له به‪ ،‬فالردن كيان صغير نشأ في ظل تجزئة الوطن‬
‫العربي ضمن مخطط أعداء المة الهادفة إلى إضعاف كيانها‬
‫ومنعها من نهوضها من جديد‪.‬‬
‫‪ -2‬إدراك الحركة أن الردن ل تملك عناصر ومقومات الدولة‬
‫السلمية ولذلك اطمأن النظام إلى أن أهداف الحركة ل تقوم‬
‫على السعي إلى استبداله بنظام دولة إسلمية في الردن‪.‬‬
‫‪ -3‬تعتبر الحركة عنصر أمان للنظام ضد أية محاولت انقلبية‬
‫عليه بسبب ما لها من قوة اجتماعية وانتشار عميق في مختلف‬
‫فا بطولًيا في‬‫قطاعات المجتمع الردني‪ ،‬ولقد وقفت الحركة موق ً‬
‫منتصف الخمسينيات ضد مظاهرات القوى اليسارية التي كانت‬
‫تسعى لسقاط النظام‪ ،‬واستبداله بنظام ماركسي كان يمكن أن‬
‫تشاهد الردن تلك المآسي التي شهدتها الدول التي حكمتها‬
‫الحزاب الشيوعية والتي قمعت وبطشت بمظاهر الحياة‬
‫السلمية في بلدانها‪.‬‬
‫‪ -4‬تنظر الحركة إلى النظام القائم بأنه خير للردن من كل‬
‫النظمة اليسارية والحزاب التي حكمت المنطقة وبطشت‬
‫بالحركات السلمية فيها‪.‬‬
‫‪ -5‬ترفض الحركة العنف‪ ،‬وتشجب الرهاب‪ ،‬ول تؤمن بالتغيير‬
‫القائم على الثورة؛ بل تؤمن بالتغيير الهادئ القائم على القناع‬
‫والتدريج في الصلح‪ ،‬وهذا يعتبر موضع قبول لدى النظام‪.‬‬
‫‪ -6‬المرونة في الزمات بين الحركة والنظام‪ ،‬سواء كانت‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مشاركة السلميين في السلطة‪ ،‬عزام التميمي‪ ،‬ص ‪.102‬‬

‫‪83‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الحركة هي المبادرة بتصعيد المواقف أو النظام‪ ،‬ففي كلتا‬


‫الحالتين يعكس النظام والحركة مرونة تجاه بعضهما البعض‬
‫بامتصاص التوتر والنحناء قليل ً للعاصفة‪.‬‬
‫‪ -7‬التوازن في منهج الحركة بين ثوابتها ومتطلباتها وبين‬
‫محدودات الواقع الردني‪.‬‬
‫‪ -8‬مطالب الحركة السلمية هي مطالب إصلحية تشمل كل‬
‫مجالت الحياة‪ ،‬وتعتمد على أسس إسلمية‪ ،‬وهذه المطالب في‬
‫حا بديل ً له‪،‬‬
‫أقصى حالتها ل ترقى إلى تهديد النظام ول تشكل طر ً‬
‫ولذا فإن النظام ل يرى فيها خطورة على استمراره أو استقراره‬
‫)‪ .(1‬هذه هي أهم عناصر التعايش بين الحركة السلمية في الردن‬
‫ونظامها‪ ،‬وبالتالي يكون من الطبيعى أن تكون للحركة تجربة‬
‫متميزة في المشاركة في الحكم‪.‬‬
‫ب‪ -‬المشاركة في الحكم‪:‬‬
‫ظهرت الحركة السلمية كقوة سياسية كبيرة على الساحة‬
‫السياسية الردنية في عام ‪1989‬م وذلك عندما قررت الشتراك‬
‫في النتخابات النيابية‪ ،‬إثر قرار الملك حسين ‪ -‬ملك الردن ‪-‬‬
‫استئناف الحياة الديمقراطية في الردن‪ ،‬وإجراء النتخابات في‬
‫دا بكفالة نزاهتها‪ ،‬وبالحيلولة دون‬
‫أجواء ديمقراطية حرة‪ ،‬متعه ً‬
‫تدخل الدوائر الرسمية فيها‪.‬‬
‫ولقد نجحت الحركة السلمية في إدارة حملتها النتخابية‪،‬‬
‫ل‪ ،‬وذلك‬ ‫وتميزت بأسلوبها المنظم الذي لم يشهد له الردن مثي ً‬
‫بسبب قدراتها التنظيمية‪ ،‬ولكونها مثلت تطلعات المسلمين في‬
‫الردن المتعطشين إلى استئناف حياة إسلمية‪ ،‬وكانت الحركات‬
‫السلمية في الردن هي التكتل الوحيد الذي أعلن عن ترشيح‬
‫حا‪ ،‬طلبت من‬ ‫قائمة تحتوي على أسماء سبعة وعشرين مرش ً‬
‫المة التصويت لهم جميًعا‪ ،‬وقد ضمنت برنامجها النتخابي في‬
‫كتيب وزعته في جميع أنحاء البلد‪ ،‬اشتمل بالضافة إلى البرنامج‬
‫النتخابي على أسماء المرشحين وصورهم‪.‬‬
‫دا من مقاعد مجلس النواب‬ ‫فازت الحركة باثنين وعشرين مقع ً‬
‫الردني الثمانين‪ ،‬كما تمخضت النتيجة عن نجاح ما ل يقل عن‬
‫عشرة مرشحين آخرين من السلميين المستقلين‪ ،‬ونظًرا لن‬
‫مرشحي الحركة كانوا يشكلون أكبر كتلة داخل البرلمان الردني‪،‬‬
‫فقد اتصل رئيس الوزراء المكلف من قبل الملك بتشكيل‬
‫الحكومة‪ ،‬وبعد مفاوضات جرت بين رئيس الوزراء والكتلة‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مشاركة السلميين في السلطة‪ ،‬ص )‪.(104 ،103‬‬

‫‪84‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫البرلمانية للحركة‪ ،‬اعتذرت الحركة عن الشتراك في الحكومة‪،‬‬


‫لن رئيس الوزراء لم يستجب لمطالبها بتخصيص سبع حقائب‬
‫وزارية للحركة تشتمل على حقيبة وزارة التعليم‪.‬‬
‫وفي تحرك سياسي آخر‪ ،‬دخلت الحركة في مفاوضات مع‬
‫رئيس الوزراء حول منح الثقة لحكومته‪ ،‬حيث اشترطت الحركة‬
‫طا مقابل منح الثقة‪ ،‬وكان من ضمن هذه‬ ‫أربعة عشر شر ً‬
‫الشروط أن تتعهد الحكومة ‪ -‬بكل إخلص ‪ -‬بالتوجه نحو تطبيق‬
‫الشريعة السلمية في ميادين التعليم والقتصاد والعلم‪ ،‬وكانت‬
‫هذه هي المرة الولى التي تتخذ فيها الحركة السلمية مثل هذه‬
‫المبادرة في الحلبة السياسية‪ ،‬وبدأ الناس الذين كان يظن الكثير‬
‫منهم قبل هذه التجربة ببعد احتمال أن يشترك السلميون فيما‬
‫يسمى بالحكومة غير السلمية‪ ،‬بالتعامل مع هذه القوة السياسية‬
‫الناشئة‪ ،‬وفتح أمام السلميين مجال عملي جديد‪ ،‬لم يكن من‬
‫حا لهم‪ ،‬للتمرس في العمل السياسي‪.‬‬ ‫قبل متا ً‬
‫وفي تطور تال‪ ،‬اتخذت الحركة السلمية بادرة سياسية أخرى‪،‬‬
‫بالموافقة على الشتراك في اللجنة الملكية لوضع الميثاق‬
‫الوطني التي أعلن عنها ملك البلد وعين أعضاءها بنفسه‪,‬‬
‫والميثاق الوطني أشبه ما يكون بعقد اجتماعي تجمع عليه‬
‫الحزاب والجماعات المختلفة في الردن‪ ،‬ويغطي كل الوجه‬
‫السياسية والجتماعية والقتصادية والثقافية‪ ،‬وقد اتخذت الحركة‬
‫السلمية قراًرا بالمشاركة في هذا المشروع‪ ،‬نظًرا لما رأته من‬
‫ضرورة اللقاء والتحاور والتفاوض مع المجموعات السياسية‬
‫الخرى في البلد‪ ،‬وتبادل الراء معها حول القضايا المهمة التي‬
‫يتناولها الميثاق )‪.(1‬‬
‫لقد ظهر من قيادات الحركة مقدرة فائقة في إدارة الحوار‬
‫وممارسة فن المفاوضات وشهد لهم دهاقنة السياسة بمقدرتهم‬
‫السياسية الرفيعة‪ ،‬ولقد ناور زعماء الحركة وحققوا ما استطاعوا‬
‫من أهداف لصالح التيار السلمي في الردن‪ ،‬واستطاعت أن تمنع‬
‫نفسها من الدخول في الوزارة عندما كانت مصلحة المبادئ التي‬
‫يحملونها في المتناع‪ ،‬وتقدمت بكل شجاعة لتسلم الحقائب‬
‫الوزارية عندما رأت أن المصلحة في ذلك‪ ،‬وتسلمت خمس‬
‫حقائب وزارية‪ ،‬هي وزارة التربية والتنمية الجتماعية والعدل‬
‫والصحة والشئون السلمية‪.‬‬
‫وبعد ستة أشهر من المشاركة‪ ،‬انتهت حرب الخليج‪ ،‬وبدأت‬
‫حقبة جديدة من التطورات السياسية التي تمخضت عما يسمى‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مشاركة السلميين في السلطة‪ ،‬ص ‪.106 ،105‬‬

‫‪85‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بمؤتمر السلم‪ ،‬وكانت الحركة السلمية قد حذرت رئيس الوزراء‬


‫من أنه إذا ما أقدمت حكومته على فتح أية قنوات للتفاوض مع‬
‫إسرائيل‪ ،‬فإن وزراء الحركة السلمية سيستقيلون على الفور‪.‬‬
‫إل أن الحكومة ما لبثت أن استقالت بكاملها‪ ،‬لتمهد الرضية‬
‫لستعدادات الحقبة الجديدة‪ ،‬حقبة مؤتمر السلم في مدريد‪،‬‬
‫وحرصت الحكومة الجديدة‪ ،‬التي تشكلت للقيام بهذه المهمة‪،‬‬
‫على السعي منذ تشكيلها لنيل الثقة‪ ،‬ومع أن أعضاء الكتلة‬
‫السلمية البرلمانية ومعهم عدد من النواب الخرين في مجلس‬
‫النواب حجبوا الثقة عنها‪ ،‬موضحين أنهم ما كانوا ليمنحوا الثقة لية‬
‫حكومة تضع التفاوض مع إسرائيل على جدول أعمالها‪ ،‬إل أن‬
‫الحكومة حصلت على الثقة‪ ،‬ولكن بأغلبية هشة‪ ،‬إذ صوت لصالحها‬
‫سبعة وأربعون نائًبا فقط من أصل ثمانين‪ ،‬وعلى الرغم من أن‬
‫رئيس الوزراء الجديد كان ينفى طوال ذلك الوقت التزامه أو‬
‫وزارته بمحادثات السلم مع اليهود‪ ،‬إل أن الحكومة ما لبثت‪ ،‬وبعد‬
‫مرور شهرين فقط على تشكيل الوزراء‪ ،‬أن أعلنت عن تشكيل‬
‫وفدها لعملية السلم‪ ،‬فبادرت الكتلة السلمية البرلمانية باللتقاء‬
‫مع عدد من التكتلت الصغيرة في مجلس النواب‪ ،‬ووّقعوا جميًعا‬
‫عريضة حملت ‪ 48‬توقيًعا رفعوها إلى الحكومة حجبوا بموجبها‬
‫الثقة عنها‪ ،‬بعد أن كان بعضهم قد منحها إياها في وقت سابق‪،‬‬
‫وعندما حل موعد استئناف الدورة العتيادية الجديدة للمجلس‬
‫النيابي لم يكن أمام الحكومة خيار سوى الستقالة‪ ،‬فتشكلت‬
‫حكومة أخرى لم تمنحها كتلة الحركة السلمية ثقتها‪ ،‬لن مهمتها‬
‫كانت الشراف على المشاركة الردنية في عملية السلم )‪.(1‬‬
‫ج‪ -‬إنجازات المشاركة‪:‬‬
‫لقد اكتسبت الحركة السلمية في الردن من خلل المشاركة‬
‫السياسية تجارب عديدة‪ ،‬وخبرات متعددة‪ ،‬وأصبحت أكثر واقعية‪،‬‬
‫واستطاعت من خلل هذه التجربة أن تطور قدرتها وتحسن‬
‫أداءها‪ ،‬ولقد أعطت صوًرا مختلفة عن تلك التي ترسخت في‬
‫عقول خصومها الذين أخذوا فكرة عن الحركة السلمية كما لو‬
‫كانت مجموعة من المتطرفين أو المتعصبين أو المتشددين‪ ،‬ومن‬
‫أهم النجازات والمكاسب التي حققتها هي‪:‬‬
‫‪ -1‬تشكيل تصور سليم عن الحركة‪ ،‬وإزالة الشكوك‬
‫والمخاوف التي كانت تثيرها بعض الجهات‪ ،‬فقد أعرب كثير من‬
‫الوطنيين والقوميين في مناسبات كثيرة عن قناعتهم بأن الحركة‬
‫تتسم بالعتدال والتحرك المسئول الواعي‪ ،‬وتحترم الرأي الخر‪،‬‬
‫إذ أظهرت مرونة وقدرة على التنسيق والحوار مع الحزاب‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مشاركة السلميين في السلطة‪ ،‬ص ‪.107 ،106‬‬

‫‪86‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫والحكومات والشخصيات السياسية‪ ،‬وبذلك أزيل الحاجز النفسي‬


‫الذي كان يفصل بين الحركة والخرين‪.‬‬
‫‪ -2‬كان لنواب الحركة حضور قوي وفعال في اللجان‬
‫المتخصصة‪ ،‬مثل لجنة الحريات‪ ،‬واللجنة المالية‪ ،‬واللجنة‬
‫القانونية‪ ،‬ولجنة التحقيقات النيابية‪ ،‬وقد كان أداؤهم في هذه‬
‫المجالت وفي غيرها يعبر عن جهد كبير دءوب‪ ،‬وعن موضوعية‬
‫وإنصاف‪ ،‬وعن إحاطة بالقضايا الفنية والتخصصية‪ ،‬وكان هذا‬
‫الداء باستمرار موضع تقدير المؤسسات الرسمية والعلمية‪.‬‬
‫‪ -3‬المشاركة في إنجاز مجموعة من القوانين والتشريعات‬
‫المهمة‪ ،‬وفي تعديلها‪ ،‬بما يلئم المصلحة العامة وحقوق‬
‫المواطنين ويتفق مع الشريعة السلمية‪ ،‬ومن ذلك قانون‬
‫الحزاب‪ ،‬وقانون الدفاع‪ ،‬وقانون رد العتبار‪ ،‬والقانون الخاص‬
‫بمحكمة العدل العليا‪ ،‬وقانون محكمة أمن الدولة‪ ،‬وقانون‬
‫النقابات‪ ،‬وقانون الكسب غير المشروع‪ ،‬وقانون الستيراد‬
‫والتصدير‪ ،‬وقانون إلغاء الحكام العرفية‪ ،‬وقانون الشباب وقانون‬
‫الخمر‪.‬‬
‫‪ -4‬طرح الرأي والموقف السلمي في المواقف والحداث‪،‬‬
‫ودفع الحكومة إلى اللتزام به أو احترامه وتقديره‪ ،‬أو سماعه‬
‫على أقل تقدير‪.‬‬
‫‪ -5‬التنسيق والتعاون مع الفعاليات السياسية المختلفة‪،‬‬
‫حكومية وحزبية ونقابية‪ ،‬بما يخدم المة والوطن‪ ،‬وبما يضمن‬
‫تنفيذ برامج الحركة السلمية وتحقيق أهدافها‪ ،‬ومن القضايا التي‬
‫تم التنسيق بشأنها موضوع التسوية السلمية‪ ،‬والموقف من أزمة‬
‫الخليج‪ ،‬وقضايا محاكمة الفساد‪ ،‬والدفاع عن الحريات‪ ،‬وقانون‬
‫الحزاب وقانون أمن الدولة‬
‫‪ -6‬إحراز رئاسة المجلس ورئاسة كثير من اللجان النيابية وهو‬
‫إنجاز يعبر عن تأثير نواب الحركة وقدرتهم على التنسيق والحشد‪.‬‬
‫‪ -7‬السهام في تأسيس حزب جبهة العمل السلمي‪،‬‬
‫المشروع الذي تأمل الحركة أن يستوعب جماهيرها ومؤيديها من‬
‫مختلف الفئات‪ ،‬ويوسع آقاق العمل السلمي‪.‬‬
‫‪ -8‬المساهمة في رد الحقوق إلى أصحابها‪ ،‬وشمل ذلك إعادة‬
‫المفصولين‪ ،‬والفراج عن المعتقلين‪ ،‬وضمان حرية السفر والتنقل‬
‫وحرية الرأي والتعبير‪ ،‬والحد من تدخل الجهزة المنية في‬
‫التوظيف وفي شئون النوادي والجمعيات‪ ،‬هذه ولئن كانت‬
‫إنجازات دون المستوى المطلوب‪ ،‬إل أنها بالمقارنة بما كانت عليه‬
‫الوضاع قبل استئناف الحياة البرلمانية‪ ،‬بل وبما عليه الحال في‬

‫‪87‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫كثير من الدول العربية الخرى‪ ،‬تعتبر نقلة نوعية جديدة‪ ،‬وإنجاًزا‬


‫كبيًرا‪.‬‬
‫‪ -9‬تخفيف حالة الحتقان والعداء مع الحكومة‪ ،‬وحماية الحركة‬
‫من محاولت جرها إلى صدام مع النظام ل يعود بالفائدة إل على‬
‫أعداء الحركة وأعداء الوطن‪.‬‬
‫‪ -10‬تنمية العلقات مع المسئولين المحليين في المحافظات‬
‫واللوية‪ ،‬من حكام إداريين ومديري دوائر‪ ،‬والتعاون معهم في‬
‫العمل والخدمة وحل المشكلت‪.‬‬
‫‪ -11‬دعم القضية الفلسطينية والسعي قدر المكان إلى دفع‬
‫الحكومة لللتزام بما ل يضيع حقوق الفلسطينيين في أرضهم‪،‬‬
‫وعلى المستوى المحلي ساعدت جهود نواب الحركة في التوصل‬
‫إلى قرار في مجلس النواب يحد من معاناة أهالي غزة وحملة‬
‫البطاقات‬
‫المقيمين في الردن‪ ،‬ومن ذلك متابعة قضية العائدين من دول‬
‫الخليج لمساعدتهم‬
‫وتحصيل حقوقهم‪.‬‬
‫دعم القضايا السلمية الخرى‪ ،‬مثل قضايا أفغانستان‪،‬‬
‫‪-12‬‬
‫والبوسنة والهرسك‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫‪ -13‬التفاعل مع الحداث على الساحة العربية والسلمية من‬
‫خلل إرسال البرقيات وحضور اللقاءات والمشاركة في‬
‫النشاطات والجتماعات‪ ،‬وقد أصدر مكتب نواب الحركة السلمية‬
‫عشرات البيانات والبرقيات في المناسبات المختلفة‪ ،‬وشارك‬
‫نواب الحركة باستمرار في نشاط الوفود البرلمانية إلى القطار‬
‫العربية والسلمية وغيرها‪.‬‬
‫‪ -14‬مواجهة الفساد الداري والمالي‪ ،‬ومحاسبة الوزراء‬
‫والحكومة وكبار المسئولين‪ ،‬والرقابة على أداء الجهزة بما يحقق‬
‫المصالح والمنافع ويحمي البلد ومؤسساته من الهمال والعبث‬
‫والفساد‪.‬‬
‫‪ -15‬نشر الفكر والدعوة وخدمة القضايا السلمية‪ ،‬وتسهيل‬
‫هذه المهمات للقائمين عليها وحمايتهم‪ ،‬وتفعيل المؤسسات‬
‫السلمية حتى أصبح الرأي السلمي المعبر عن الموقف‬
‫السلمي الصحيح يطرق كل منافذ النشر والتبليغ‪.‬‬
‫‪ -16‬ساهم نواب الحركة في تحقيق كثير من المشاريع‬
‫والخدمات العامة ومن ذلك‪:‬‬
‫كلية الشريعة في جامعة اليرموك‪ ،‬بالضافة إلى‬
‫‪88‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المطالبة بإنشاء المدارس والطرق والمراكز الصحية وتمديد‬


‫الخدمات الكهربائية والمائية والهاتفية في مختلف المناطق‬
‫والمحافظات‪.‬‬
‫‪ -17‬استقبال المراجعين والمواطنين والسعي في حاجاتهم‬
‫والوقوف مع المواطنين في كثير من القضايا والمشكلت التي‬
‫تعسر عليهم حلها مع الدوائر الحكومية ومطالبة الحكومة‬
‫بالمذكرات وبالتصال الشخصي بمساعدة المواطنين وتنفيذ‬
‫المشروعات‪ ،‬والحد من الغلء وتخفيف الضرائب )‪.(1‬‬
‫هذه بعض إنجازات الحركة‪.‬‬
‫د‪ -‬مطالب الحركة من العمل السياسي‪:‬‬
‫دا الظروف التي تمر‬ ‫إن الحركة السلمية في الردن تدرك جي ً‬
‫بها المنطقة العربية والعالم السلمي‪ ،‬وتدرك محدودية إمكانات‬
‫الردن في ظل هذه الوضاع والمعادلة الدولية الحالية؛ ولذلك‬
‫نهجت أسلوب العمل الصلحي المتدرج‪ ،‬يقيًنا منها بأن التحسن‬
‫الجذري للوضاع مرتهن بتبدل ظروف المر الواقع المفروض على‬
‫المنطقة ككل‪ ،‬وليس على الردن فقط‪ ،‬ووفاًء بواجب الدعوة إلى‬
‫الله والصلح في حدود المستطاع فإن الحركة تسعى جاهدة إلى‬
‫تحقيق بعض الهداف المهمة في هذه المرحلة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬تحقيق العدل والحرية والمساواة بين المواطنين‪.‬‬
‫‪ -2‬ترسيخ الممارسة الديمقراطية وضمان احترام خيار‬
‫الشعب‪.‬‬
‫‪ -3‬تشكيل حكومة نظيفة‪ ،‬ومسئولة‪ ،‬ومخلصة وعادلة‪ ،‬ومؤهلة‬
‫لقيادة شئون المجتمع الردني‪ ،‬وتلتزم بمقاومة الفساد والنحلل‬
‫الخلقي بكل أشكاله‪ ،‬وبوضع الشخص المناسب في المكان‬
‫المناسب‪ ،‬والحتكام إلى مبادئ الجدارة والستحقاق في التوظيف‬
‫والتعيين‪.‬‬
‫‪ -4‬محاربة الطائفية والقليمية‪ ،‬والتركيز على الوحدة الوطنية‪،‬‬
‫وتعزيز الجبهة الداخلية‪.‬‬
‫‪ -5‬مناصرة ودعم حقوق النسان‪ ،‬ورفض القمع والظلم‪.‬‬
‫‪ -6‬شجب العدوان‪،‬وتأييد حركات التحرر ضد الهيمنة‬
‫الستعمارية على الشعوب‪.‬‬
‫‪ -7‬السعي إلى إقامة صيغ الوحدة بين أقطار العالم العربي‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مشاركة السلميين في السلطة‪ ،‬ص ‪107‬إلى ‪ ،111‬اختصرت ما قاله‬
‫الستاذ عبد الله العكايلة عن تجربة الحركة السلمية في الردن‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والسلمي‪ ،‬وإنشاء مؤسسات التضامن العربي والسلمي في‬


‫المجالت القتصادية‪ ،‬والسياسية والثقافية‪ ،‬وصول ً إلى صيغ‬
‫التكامل بين أجزاء المة العربية والسلمية‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬الحركة السلمية في اليمن‪:‬‬
‫قد يظن البعض أن مشاركة الحركة السلمية اليمنية في‬
‫السلطة لم تبدأ إل بعد النتخابات النيابية التي جرت في ‪27‬أبريل‬
‫‪1993‬م‪ ،‬يبد أن الحقيقة هي أن الحركة بدأت تجربتها في‬
‫المشاركة منذ وقت مبكر وعلى أصعدة متعددة وبأساليب متنوعة‬
‫حسبما تتطلبه الظروف والمراحل‪ ،‬وإن كانت السنوات الخيرة‬
‫من عمر التجربة السياسية للحركة اليمنية تظهر مع قرار الحركة‬
‫في المشاركة في انتخابات أبريل ‪1993‬م‪ ،‬ثم المشاركة في‬
‫الحكومة حيث أظهرت ملمح الحركة السياسية قدرتها على‬
‫خوض الصراع السياسي بمهارة فائقة وقدرة نادرة وتخطيط‬
‫صحيح وإدارة رشيدة وتنظيم قوي‪.‬‬
‫لم يكن برنامج العمل السياسي للتجمع اليمنى للصلح إل‬
‫وليد مجهودات سبقت‪ ,‬وسنين من العمل والجهاد المتواصل‪،‬‬
‫ظهرت رؤيته العقدية وصبغته الشرعية ومنظومته الفكرية‬
‫والثقافية منذ اليوم الول لندلع ثورة سبتمبر ‪1962‬م التي‬
‫أطاحت بنظام المامية وجاءت بالنظام الجمهوري وأخذت هذه‬
‫المنظومة تتطور مع الزمن حتى برزت في هيكلها الخير للتجمع‬
‫والصلح‪ ،‬ولقد ساعدت عوامل عدة في نمو الحركة السياسي‬
‫والتنظيمي مع المتداد الشعبي المتوازن‪ ,‬ومن أهم هذه العوامل‪:‬‬
‫دا عن الستعمار الجنبي‪.‬‬ ‫‪ -1‬بقاء اليمن الشمالي حًرا بعي ً‬
‫‪ -2‬تأكيد النظام الجمهوري بعد قيامه على سيادة الشريعة‬
‫السلمية وجعلها مصدر القوانين جميًعا‪.‬‬
‫‪ -3‬وجود مجال رحب للعمل السياسي استفادت منه الحركة‬
‫في تنمية قدراتها وتفجير طاقاتها وتوجيهها نحو تحقيق أهدافها‪.‬‬
‫‪ -4‬امتلك الشعب للسلح وبذلك حافظ على حريته؛ ولم‬
‫تستطع الحكومات العلمانية أن تذله وتكبل حريته وتصادر حقوقه؛‬
‫ولذلك لم تتعرض الحركة السلمية بشكل جماعي ومنظم طوال‬
‫فترة ما بعد الثورة إلى اليوم لية محنة كبيرة أو إجراءات قمعية‬
‫شديدة كالسجن أو النفي أو المطاردة أو غير ذلك )‪.(1‬‬
‫‪ -5‬ظهور المد الشيوعي في جنوب اليمن ووصول الحزب‬
‫الماركسي إلى مقاليد الحكم في اليمن الجنوبي‪ ،‬مما جعل مصالح‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مشاركة السلميين في السلطة‪ ،‬ص ‪.152‬‬

‫‪90‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫مشتركة بين الحكومات الشمالية والحركة السلمية مع ظهور‬


‫قيادات فذة في الحركة استطاعت أن تستفيد من هذه المعادلة‬
‫لمصلحة السلم في اليمن إلى غير ذلك من العوامل‪.‬‬
‫وكانت لجهود الجهاد التي قادها الشهيد محمد محمود الزبيري‬
‫رصيد حي للحركة السلمية في اليمن‪ ,‬وتعتبر شخصيته من أبرز‬
‫الشخصيات الوطنية التاريخية المعاصرة‪ ،‬وقد أجمعت كل القوى‬
‫السياسية بعد استشهاده على إطلق لقب »أبو الحرار« عليه‪.‬‬
‫كان للحركة السلمية مشاركة سياسية قبل الوحدة‪ ،‬وشاركت‬
‫بعدد من أعضائها في مجلس الشورى لعام ‪1971‬م وحرصت‬
‫على أن تؤدي دوًرا متميًزا‪ ،‬رغم قلة أعضائها‪ ،‬في مجال وضع‬
‫التشريعات القانونية التي انبثقت جميعها من الشريعة السلمية‬
‫)‪.(1‬‬
‫واهتمت الحركة في اليمن بالجانب التعليمي والتربوي‬
‫صا‪ ،‬فساهمت في إعداد المناهج الدراسية‬ ‫وأعطته اهتما ًما خا ً‬
‫لمختلف المراحل التعليمية‪ ،‬وكان حظ مناهج التربية السلمية‬
‫واف ًرا‪ ،‬حيث حشدت الحركة العشرات من العلماء البارزين ‪ -‬من‬
‫المذهبين الزيدي والشافعي‪ -‬لوضع هذه المناهج برؤية توحيدية‬
‫جامعة تتجاوز التعصب المذهبي‪ ،‬إذ تم التفاق على أن تكون‬
‫مناهج الفقه والحديث نابعة من الدليل الصوب‪ ،‬دون التحيز‬
‫والتعصب لحد المذهبين المذكورين‪ ,‬وكان من فضل الله على‬
‫أهل اليمن ثم بهذا الجهد المبارك أن نشأت الجيال منذ ذلك‬
‫الحين حتى اليوم برؤية فقهية موحدة تجاوزت فيها الحساسيات‬
‫والصراعات الموروثة على مدار التاريخ وتجنبت البلد مرارة‬
‫الصراع المذهبي بهذا الفعل الرشيد‪.‬‬
‫‪ -‬وبنفس الرؤية التوحيدية الجامعة ساهمت الحركة السلمية‬
‫في تقنين أحكام الشريعة السلمية‪ ،‬وتميز في الفترة التي ترأس‬
‫فيها القاضي عبد الكريم العرشي مجلس الشعب التأسيسي من‬
‫‪1978‬م إلى ‪1988‬م بالنشاط الدءوب والعمل الجاد حتى أطلق‬
‫على هذه الفترة بالعصر الذهبي في هذا المجال‪ ،‬وأصبح القضاء‬
‫ما برؤية شرعية موحدة‪ .‬وكان لهذا المسلك‬ ‫في جميع اليمن ملتز ً‬
‫على المستويين التعليمي والتشريعي أثره الفعال والكبير في‬
‫ترسيخ دعائم الوحدة الوطنية في اليمن‪.‬‬
‫‪ -‬اهتمت الحركة بالجانب الثقافي والتوجيه للمجتمع اليمنى‪,‬‬
‫واتجهت نحو العمل المؤسسي‪ ،‬وكان أبرز ثماره مكتب التوجيه‬
‫والرشاد‪ ،‬الذي صدر وفق قانون في عهد الرئيس الراحل إبراهيم‬

‫‪1‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.155‬‬

‫‪91‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الحمدى‪ ،‬وترأسه على التوالي كل من الشيخ عبد المجيد الزنداني‬


‫والقاضي يحيي الفسيل‪ ،‬ونص القانون على أن يكون رئيس‬
‫المكتب بدرجة وزير‪ ،‬ونائبه بدرجة نائب وزير‪ ،‬ووكيله بدرجة وكيل‬
‫ما وأثره في الجانب الشعبي‬ ‫وزارة‪ ،‬وكان نشاط المكتب عظي ً‬
‫كبيًرا‪ ،‬حيث استطاع من خلل قوافل التوجيه والدعوة أن يتغلغل‬
‫في وسط القبائل والقرى والمدن وطعم جهوده الجبارة بدعوة‬
‫عدد من كبار مفكري العالم السلمي مثل الدكتور يوسف‬
‫القرضاوى‪ ،‬والشيخ محمد الغزالي‪ ،‬والدكتور الترابي‪ ،‬والستاذ‬
‫يوسف العظم‪ ،‬والشيخ حسن أيوب‪ ،‬والدكتور الصواف‪ ،‬والدكتور‬
‫أحمد العسال وعشرات غيرهم‪ ،‬نجح المكتب من خلل ذلك في‬
‫أن يحدث وعًيا شعبًيا بقضايا المة السلمية‪ ،‬سواء كانت قضايا‬
‫فكرية أو سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬واهتمت الحركة بتأسيس المعاهد العلمية‪ ،‬التي يدرس‬
‫طلبها نفس مناهج التربية والتعليم مع زيادات مقدرة في المجال‬
‫الشرعي واللغة العربية‪ ،‬بهدف تزويد الطلب بقدر أكبر من تلك‬
‫العلوم والمعارف‪ ،‬وقد بدأت المعاهد العلمية منذ قيام الثورة في‬
‫عام ‪1962‬م كمعاهد أهلية‪ ،‬ثم أصبحت منذ أوائل السبعينيات‬
‫تابعة لدارة خاصة بها ضمن وزارة التربية والتعليم‪ ،‬ثم تطورت‬
‫لتصبح تابعة لهيئة أعلى‪ ،‬لكن موازناتها ظلت ضمن موازنة وزارة‬
‫التربية والتعليم‪ ،‬وفي عام ‪1980‬م صدر قانون من مجلس‬
‫الشعب التأسيسي وموقع من قبل الرئيس على عبد الله صالح‬
‫بتوحيدها ضمن جهاز واحد يسمى الهيئة العامة للمعاهد العلمية‪،‬‬
‫بموازنة مستقلة وبجهاز فني مستقل‪ ،‬على أن يرأسها مسئول‬
‫بدرجة وزير‪ ،‬ومنذ ذلك الوقت تناوب على رئاستها ثلث من‬
‫الشخصيات السلمية البارزة بدًءا بالقاضي يحيى الفسيل )‬
‫‪ (1985 -1980‬ثم الستاذ أحمد عبد الله الحجري )‪-1985‬‬
‫‪1988‬م( ثم المهندس أحمد النسي )‪ ,(1990 -1988‬ومنذ قيام‬
‫الوحدة لم يعين لها رئيس حتى الن؛ بل تتم إدارتها من قبل وكيل‬
‫الهيئة والجهاز الفني‪ ،‬وذلك بسبب الخلف السياسي على وجودها‬
‫واستمرارها‪ ،‬إذ كان يصر الحزب الشتراكي اليمنى على دمجها‬
‫ضمن وزارة التربية والتعليم بينما يرفض التجمع اليمنى للصلح‬
‫ذلك‪ ،‬ويقف المؤتمر الشعبي العام موقف الحياد بين الطرفين‪،‬‬
‫وقد أعطت المعاهد العلمية في الجانب التربوي والتعليمي عطًاء‬
‫كبيًرا‪ ،‬وتركت آثاًرا طيبة على جمهور المواطنين‪ ،‬وتوسعت‬
‫المعاهد العلمية لتجاوز خمسمائة معهد على مستوى الجمهورية‬
‫يرتادها ما ليقل عن ثلثمائة ألف طالب وطالبة‪.‬‬
‫واشتملت هيئة المعاهد على إدارة عامة لمدارس تحفيظ‬

‫‪92‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫القرآن الكريم تتبعها أكثر من مائة مدرسة ويرتادها أكثر من‬


‫ثمانين ألف طالب وطالبة‪ ،‬ورغم موقف الحزب الشتراكي‬
‫المهزوم من المعاهد العلمية ومدارس تحفيظ القرآن الكريم‬
‫عندما كان في الحكم إل أنه لم يستطع منع إقبال الناس عليها من‬
‫المحافظات الجنوبية والشرقية التي كان يحكمها الحزب‪ ،‬ووجد‬
‫ما على قبول فتح معاهد علمية ومدارس‬ ‫الحزب نفسه مرغ ً‬
‫لتحفيظ القرآن الكريم في مختلف أرجاء تلك المحافظات الست‪.‬‬
‫‪ -‬وفي المجال السياسي دخلت الحركة السلمية في لجنة‬
‫الحوار الوطني التي شكلها على عبد الله صالح في عام ‪1980‬م‬
‫والتي تكونت من خمسين شخصية يمنية‪ ،‬مثلت فيها معظم القوى‬
‫السياسية بما في ذلك الحركة السلمية‪ ،‬واستمرت اللجنة لمدة‬
‫عامين تقريًبا تدير حواًرا وطنًيا وشعبًيا موسًعا لوضع صيغة‬
‫لمشروع ميثاق وطني يتم إقرارها من خلل مؤتمر شعبي عام‬
‫بحيث يكون هذا الميثاق هو الدليل النظري والفكري للشعب‬
‫اليمنى وقيادته‪ ،‬وخلل عامين من المداولة والتباحث‪ ،‬توصلت‬
‫لجنة الحوار الوطني إلى صيغة لمشروع ميثاق غلب الطابع‬
‫السلمي عليه‪ ،‬ثم عرضت هذه الصيغة شعبًيا من خلل استبيان‬
‫أبدى فيه مئات اللف الذين شاركوا فيه رأيهم في الصيغة‬
‫المقترحة‪ ،‬وطالبوا ببعض التعديلت التي صبت معظمها في‬
‫التجاه الذي دفعت صوبه الحركة السلمية‪ ،‬فأعيدت الصياغة‬
‫بموجب نتائج الستبيان الشعبي‪ ،‬ثم قدمت إلى المؤتمر الشعبي‬
‫العام الذي انعقد في ‪24‬أغسطس )آب( ‪1982‬م وأقر الصيغة‬
‫النهائية للميثاق الوطني‪ ,‬وأقر المؤتمر كذلك استمرار المؤتمر‬
‫الشعبي العام كصيغة للعمل السياسي وإطار يجمع القوى الوطنية‬
‫ويشرف على تطبيق الميثاق الوطني عملًيا‪ ،‬وانتخب المؤتمر‬
‫ما له‪ ،‬كما انتخب لجنة دائمة‬‫الرئيس على عبد الله صالح أميًنا عا ً‬
‫وا‪ ،‬كان نصفهم تقريًبا من السلميين‪،‬‬ ‫)مركزية( من خمسين عض ً‬
‫وقد انتخبت اللجنة الدائمة د‪.‬أحمد الصبحى )إسلمي(‬
‫أميًنا لسرها وعبد السلم العنسي )إسلمي( وعبد الحميد الحدي‬
‫)قومي( مساعدين لمين السر‪.‬‬
‫وساهم السلميون فيما بعد على المستويين التنظيمي‬
‫والفكري في ترسيخ قواعد المؤتمر الشعبي العام‪ ،‬الذي كان أول‬
‫صيغة سياسية تعترف بالقوى السياسية عملًيا دون العلن عن‬
‫وجودها بشكل رسمي )‪.(1‬‬
‫هذه بعض الملمح الرئيسية في مشاركة الحركة السلمية في‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مشاركة السلميين في السلطة‪ ،‬ص ‪.159 ،158‬‬

‫‪93‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫العمل السياسي على مستوى الدولة قبل تجربة الوحدة‪.‬‬


‫ب‪ -‬تجربة ما بعد الوحدة‪:‬‬
‫إن تجربة الحركة السلمية فيما بعد الوحدة تختلف اختلًفا‬
‫كبيًرا عن تجربة ما قبل الوحدة‪ ،‬وهو اختلف يكمن سره في‬
‫النتقال من العمل السري إلى العمل العلني‪ ،‬وفي تحول النظام‬
‫الحاكم في اليمن نحو الديمقراطية والتعددية‪.‬‬
‫لقد كان إنشاء التجمع اليمنى للصلح نقلة نوعية كبيرة لم‬
‫يقتصر أثرها على الحركة السلمية وحدها؛ بل امتد ليشمل‬
‫الساحة اليمنية بأسرها‪ ،‬فبروز حزب جديد يمتلك قاعدة شعبية‬
‫عريضة مؤثرة وفاعلة جعل الخريطة السياسية اليمنية تنتقل إلى‬
‫مرحلة من التوازن‪ ,‬ووجد الكثيرون ممن ل يرغبون في النضمام‬
‫إلى الحزبين الكبيرين )المؤتمر والشتراكي( مجال ً لممارسة‬
‫العمل السياسي ضمن الحزب الجديد‪ ،‬وكان الصلح هو حزب‬
‫المعارضة الرئيس والمؤثر خلل سنوات الفترة النتقالية من‬
‫‪22‬مايو ‪1990‬إلى ‪27‬أبريل ‪1993‬م‪.‬‬
‫وبرز دور الصلح وتأثيره في المعارضة أثناء فترة الستفتاء‬
‫على مشروع دستور دولة الوحدة التي استمرت ثلثة أشهر‪ ،‬من‬
‫فبراير إلى مايو ‪1991‬م‪ ،‬حيث كان الصلح يرى وجوب إجراء‬
‫بعض التعديلت على الدستور قبل الستفتاء عليه بسبب كثرة‬
‫التناقضات التي اشتمل عليها‪ ،‬ناهيك عن الغموض الذي اكتنف‬
‫الكثير من مواده‪ ،‬حيث كان هذا الدستور قد وضع من قبل لجنة‬
‫مشتركة من شطري اليمن في الفترة ما بين مارس ‪1979‬م إلى‬
‫ديسمبر ‪1981‬م‪ ،‬أي حينما كان المعسكر الشيوعي في أوج قوته‪،‬‬
‫مما أدى إلى أن يتجه النظامان حينها إلى صيغ توفيقية وتلفيقية‬
‫لتجاوز خلفاتهما‪ ،‬وهكذا أصبحت هوية النظام السياسي غامضة‪،‬‬
‫فل يوجد مثل ً نص صريح على التعددية‪ ،‬وكذلك المر بالنسبة لهوية‬
‫القتصاد فل هو إسلمي ول هو اشتراكي ول هو رأسمالي‪ ،‬ولم‬
‫ينص الدستور على الفصل بين السلطات‪ ،‬ول على التداول‬
‫السلمي للسلطة‪.‬‬
‫انتقد السلميون الدستور بسبب الثغرات الكثيرة ولم‬
‫يرضوا اعتبار الشريعة السلمية المصدر الرئيس للتشريع؛ بل‬
‫طالبوا بأن يكون المصدر الوحيد للتشريع‪ ،‬لذلك قرر الصلح‬
‫أن يقود معارضة شعبية واسعة للدستور‪ ،‬وقد اصطف وراءه ما‬
‫يزيد على عشرين حز ً با من مختلف التجاهات السلمية‬
‫والقومية والليبرالية‪ .‬وبدأت حملة المعارضة بالمحاضرات‬
‫والندوات والملصقات والمهرجانات الجماهيرية‪ ،‬فيما اتفق أكثر‬
‫‪94‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫من أربعمائة من كبار علماء الشريعة في اليمن على توقيع‬


‫وثيقة تطالب السلطة بتعديل الدستور قبل الستفتاء عليه‪،‬‬
‫وفي ذات الوقت بدأ الصلح بجمع توقيعات المواطنين‬
‫المطالبين بتعديل الدستور‪ ،‬حتى تجاوزت هذه التوقيعات مليونا‬
‫ونصف المليون توقيع من مختلف مناطق البلد‪.‬‬
‫بلغت الحملة ذروتها بالمسيرة المليونية التي قادها الصلح‬
‫داخل العاصمة‪ ،‬وشارك فيها مواطنون من مختلف أنحاء البلد‬
‫اتجهوا إلى مقر رئاسة الجمهورية مطالبين بالتعديل‪ ،‬فأصدر‬
‫مجلس الرئاسة الحاكم بياًنا سياسًيا ضمنه أهم مطالب الصلح‪،‬‬
‫ومنها‪:‬‬
‫اللتزام بأن الشريعة السلمية هي المصدر الوحيد للتشريع‬ ‫‪-1‬‬
‫وبطلن أي قانون يخالفها‪.‬‬
‫‪-2‬إعادة الحقوق والملك التي أممها النظام الشيوعي في‬
‫عدن إلى أصحابها‪.‬‬
‫‪ -3‬اللتزام بالنظام الديمقراطي القائم على أساس التعددية‬
‫الحزبية والتداول السلمي للسلطة‪.‬‬
‫‪ -4‬اللتزام بتعديل الدستور إثر أول انعقاد لمجلس النواب‬
‫المنتخب بعد نهاية الفترة النتقالية‪ ،‬فرحب الصلح وأحزاب‬
‫المعارضة المتحالفة معه بالبيان‪ ،‬وطالبوا بجعله جزًءا من الدستور‬
‫والستفتاء عليه حتى يكتسب قوة دستورية وقانونية‪ ،‬ولما لم‬
‫تستجب السلطة لهذا المطلب أصدر علماء الشريعة فتوى‬
‫بوجوب مقاطعة الستفتاء على الدستور‪ ،‬وهذا ما تم فعل ً فبدا‬
‫الستفتاء هزيل ً بضعف القبال الشعبي عليه يومي ‪17 ،16‬مايو‬
‫‪1991‬م‪.‬‬
‫ومن خلل موقعه في المعارضة ساهم الصلح بفاعلية في‬
‫صياغة أهم القوانين التي صدرت في الفترة النتقالية‪ ،‬مثل قانون‬
‫الحزاب والتنظيمات السياسية‪ ،‬وقانون الصحافة‪ ،‬وقانون تنظيم‬
‫حمل السلح‪ ،‬وقانون الدارة المحلية‪ ،‬والقوانين القتصادية‪،‬‬
‫وقانون النتخابات )‪.(1‬‬
‫رأي التجمع اليمنى للصلح أن استمرار الوضاع كما هي عليه‪،‬‬
‫حيث يحتكر الحزبان الحاكمان )المؤتمر والشتراكي( حق إدارة‬
‫شئون البلد والعباد‪ ،‬سيدفع البلد نحو النهيار الشامل‪ ،‬ولذلك فإن‬
‫عا من‬ ‫دخول الصلح كشريك في السلطة من شأنه أن يحقق نو ً‬
‫التوازن السياسي في البلد‪ ،‬كما أن مشاركة الصلح تعطي تجربة‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مشاركة السلميين في السلطة‪ ،‬ص ‪.162 ،161‬‬

‫‪95‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫فريدة في العالم العربي والسلمي تتمثل في تشكيل ائتلف‬


‫حكومي يضم اليمين المحافظ المتمثل في المؤتمر الشعبي‬
‫العام‪ ،‬واليسار المعتدل المتمثل في الحزب الشتراكي‪ ،‬والوسط‬
‫السلمي المتمثل في التجمع اليمنى للصلح‪ ،‬كما أن مشاركة‬
‫الصلح في السلطة ستخفف من حدة النزعات المتطرفة التي‬
‫بدأت في الظهور‪ ،‬وخاصة في المحافظات الجنوبية والشرقية‬
‫التي كان يحكمها الشتراكيون قبل الوحدة كرد فعل على‬
‫تطرفهم‪.‬‬
‫ومن الفوائد المرجوة من مشاركة الصلح في الحكم‪ ،‬إتاحة‬
‫الفرصة أمام العديد من كوادر الصلح للتأهل والتدريب على‬
‫ممارسة الحكم‪ ،‬وصناعة القرار‪ ،‬والحاطة بآليات إدارة السلطة‬
‫وأسرارها وخفاياها‪.‬‬
‫دا يتسم‬ ‫جا جي ً‬‫وكذلك إتاحة الفرصة أمام الصلح ليقدم نموذ ً‬
‫بدقة النجاز وطهارة اليد وسلمة الضمير وعلمية التخطيط‬
‫ومحاربة الفساد الشامل في كل مرافق الدولة‪.‬‬
‫وبعد خوض النتخابات استطاع الصلح أن يحتل المرتبة الثانية‬
‫دا‪ ,‬والمؤتمر‬ ‫دا‪ ,‬والشتراكي ‪56‬مقع ً‬ ‫بعد أن تحصل على ‪63‬مقع ً‬
‫دا‪ ،‬والبعثيون ‪7‬مقاعد‪ ،‬والوحدوي‬ ‫دا‪ ،‬والمستقلون ‪47‬مقع ً‬‫‪127‬مقع ً‬
‫الناصري مقعد واحد‪ ،‬والناصري الديمقراطي مقعد واحد‪،‬‬
‫والتصحيح الناصري مقعد واحد‪ ،‬وحزب الحق مقعدين‪ ،‬وبحصول‬
‫الصلح على المرتبة الثانية تأكدت مشاركته في السلطة‪ ،‬حيث‬
‫دعا الرئيس على عبد الله صالح ونائبه على سالم البيض إلى‬
‫اجتماع مشترك مع الشيخ عبد الله بن حسين الحمر‪ ،‬زعيم‬
‫الصلح‪ ،‬اتفق فيه الزعماء الثلثة على تشكيل ائتلف حاكم بحيث‬
‫تتوزع الرئاسات الثلث على الحزاب الثلثة‪ ،‬فتكون رئاسة الدولة‬
‫للمؤتمر‪ ،‬ورئاسة البرلمان للصلح‪ ،‬ورئاسة الحكومة للشتراكي‪.‬‬
‫بدأت المفاوضات حول تشكيل الحكومة الجديدة‪ ،‬ووزعت‬
‫الحقائب بحيث حصل المؤتمر على أربع عشرة حقيبة تنازل عن‬
‫واحدة منها للمستقلين‪ ،‬وحصل الشتراكي على تسع حقائب منها‬
‫حقيبة رئيس الوزراء وحقيبة نائب رئيس الوزراء وسبع حقائب‬
‫وزارية‪ ,‬بينما حصل الصلح على ست حقائب من بينها حقيبة‬
‫لنائب رئيس الوزراء تولها المين العام للتجمع الستاذ عبد‬
‫الوهاب النسى‪ ،‬وخمس حقائب وزارية هي الدارية المحلية‬
‫وتولها الستاذ محمد حسن دماج‪ ،‬والتموين والتجارة وتولها د‪.‬‬
‫عبد الرحمن بافضل‪ ،‬والصحة العامة وتولها الدكتور نجيب غانم‪،‬‬
‫والوقاف والرشاد وتولها الدكتور غالب القرشي‪ ،‬والشئون‬
‫القانونية وشئون مجلس النواب وتولها الستاذ عبد السلم خالد‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫ولم تمضى شهور قليلة على تجربة الصلح في المشاركة‬


‫حتى دخلت البلد في أزمة سياسية انتهت بالحرب بين القوات‬
‫النظامية والقوات الموالية للحزب اليمنى الشتراكي الذي أعلن‬
‫من طرف واحد انفصال الجنوب عن الشمال‪ ،‬وبعد شهرين من‬
‫المعارك الدامية )قتل فيها حوالي سبعة آلف شخص( تمكنت‬
‫القوات النظامية من دخول آخر معاقل النفصاليين بعد سقوط‬
‫مدينتي المكل وعدن وفرار زعماء الشتراكي إلى‬
‫خارج البلد‪.‬‬
‫ما‪،‬‬
‫لقد كان دور الصلح في المحافظة على وحدة اليمن عظي ً‬
‫والتف الشعب اليمنى المناصر للوحدة والمنابذ للفرقة حول‬
‫الحكومة الشرعية والحزبين الكبيرين الصلح والمجتمع‪,‬‬
‫واستطاعوا بفضل الله ثم جهودهم أن يمحوا الحزب الشيوعي‬
‫دا‪.‬‬
‫الشتراكي من الوجود بعد أن عاث في الرض فسا ً‬
‫واستمر الحزبان المتحالفان في الحكم‪ ،‬وتركت مشاركة‬
‫الصلح في السلطة أثًرا إيجابًيا على المستوى الشعبي‪ ،‬وأوجدت‬
‫أمل ً لدى المواطنين في إمكانية التغيير إلى الفضل‪ ،‬فسمعة‬
‫الصلح ظلت نقية طوال الفترة الماضية قبل الوحدة وبعدها‪،‬‬
‫فالناس أدركوا من خلل تجارب فترة ما قبل الوحدة أن أكثر‬
‫صا في عملهم‬ ‫حا وإخل ً‬ ‫الوزراء والحكام الداريين )المحافظين( نجا ً‬
‫ما أو فكًرا أو‬‫هم أولئك الذين ينتمون إلى الحركة السلمية تنظي ً‬
‫كا‪ ،‬ولم ينس اليمنيون إنجازات السلميين على صعيد التعليم‬ ‫سلو ً‬
‫والحركة التعاونية وفي مجالت التشريع والثقافة والرشاد‪ ,‬وبعد‬
‫انتخابات عام ‪1997‬م أصبح الصلح في المعارضة وضرب أروع‬
‫المثلة في المعارضة السلمية النزيهة البعيدة عن المزايدة‬
‫والكذب والتزوير والخداع )‪.(1‬‬
‫إن تجربة الصلح في العمل السياسي تعتبر من أنضج‬
‫التجارب المعاصرة في‬
‫العالم السلمي‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬الحركة السلمية في تركيا‪:‬‬
‫تأتي قوة الحركة السلمية في تركيا‪ ،‬في كون الحزاب‬
‫دا كبيًرا في النتخابات على‬ ‫السياسية في تركيا تعتمد اعتما ً‬
‫الجماعات السلمية إلى درجة نرى أن أحزاًبا كبيرة‪ ،‬برامجها‬
‫كانت علمانية‪ ،‬ولكن مواقفها اختلفت عن هذه البرامج‪.‬‬
‫من هذه الحزاب على سبيل المثال حزب الشعب الجمهوري‪،‬‬
‫الحزب الذي أسسه مصطفى كمال في عام ‪1922‬م حيث أرسى‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬البحث الذي أعده نصر طه مصطفى في مشاركة السلميين في‬
‫السلطة ص )‪.(170 -141‬‬

‫‪97‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫هذا الحزب معالم العلمانية في تركيا حتى وفاة مؤسس الحزب‬


‫في عام ‪1938‬م‪ ،‬وقد قام هذا الحزب بسلسلة من الجراءات‬
‫القانونية فرضت بالقوة على المسلمين في تركيا‪ ,‬كان الغرض‬
‫منها جعل الدستور علمانًيا‪ ،‬وُفرضت المبادئ الستة التي نادى بها‬
‫مصطفى كمال على الشعب التركي‪ ,‬وجعلت من مبادئ الدستور‬
‫التركي‪ .‬وهذه المبادئ الستة منها أن تركيا دولة جمهورية‬
‫وعلمانية‪ ،‬وشعبية‪ ،‬ودولية‪ ،‬وإصلحية‪.‬‬
‫إل أن حزب الشعب الجمهوري‪ ،‬بدأ يغير في اتجاهاته العلمانية‬
‫منذ النتقال إلى ظاهرة التعدد الحزبي‪ ،‬ريثما وضعت الحرب‬
‫العالمية الثانية أوزارها‪ ،‬حيث وافق الحزب على إنشاء كليات‬
‫اللهيات‪ ،‬ومعهد العلوم السلمية في أنقرة‪.‬‬
‫واعتمد الحزب الديمقراطي على الجماعات السلمية في‬
‫سا في فوزه على حزب‬ ‫انتخابات ‪14‬أيار ‪1950‬م‪ ،‬وكان سبًبا رئي ً‬
‫الشعب الجمهوري‪ ،‬وفضل ً عن ذلك‪ ،‬اعتمدت أحزاب أخرى على‬
‫الجماعات السالفة الذكر‪ ،‬مثل حزب العدالة في المدة الواقعة‬
‫بين ‪1980 -1961‬م‪.‬‬
‫دا لحزب‬ ‫وأما حزب الطريق المستقيم‪ ،‬والذي يعد امتدا ً‬
‫العدالة‪ ،‬فإنه استمد قوته في الثمانينيات من الرأي العام‬
‫السلمي‪.‬‬
‫وركب حزب العمل القومي بزعامة ألب أرسلن توركش‬
‫الموجة السلمية وغير مفهومه عن العلمانية‪ ،‬وبدأ بالتقرب من‬
‫الرأي العام السلمي‪ ,‬وكان شعار هذا الحزب في انتخابات عام‬
‫‪1987‬م‪» :‬دليلنا القرآن‪ ،‬وهدفنا الطوران« )‪.(1‬‬
‫إل أن العمل السلمي المنظم بدأ يظهر جلًيا مع ظهور حزب‬
‫السلمة الوطني‪.‬‬
‫كانت الحركة السلمية في تركيا قبل ظهور حزب السلمة‬
‫الوطني تتكون من‪:‬‬
‫‪ -‬المتصوفة المناوئة للحركة الكمالية‪ ،‬وهؤلء حافظوا على‬
‫التراث السلمي بمفهومهم الخاص بهم‪ ،‬وواصلوا تحفيظ القرآن‬
‫سًرا‪ ،‬وكان هدف هذه الحركة هو الحفاظ على العبادات السلمية‬
‫في نفوس الرأي العام التركي‪ ،‬وفي هذا المجال قاموا بتكوين‬
‫جمعيات للنفاق على طلب مدارس الئمة والخطباء للكثار منهم‪،‬‬
‫وتعويض النقص الذي نتج عن اختفاء الدعاة السلميين عندما‬
‫اصطدم بهم الحزب الكمالي‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬أحمد النعيمى ص ‪.187 -184‬‬

‫‪98‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫حركة المام المصلح الكبير سعيد النورسى والتي تعرف‬


‫بحركة النور‪ ,‬والتي تركزت جهودها على الدعوة إلى اليمان بالله‬
‫واليوم الخر ومحاربة المادية الملحدة والهتمام بتربية الجيال‬
‫وابتعد الكثير من أتباعها عن السياسة )‪.(1‬‬
‫عندما تحصلت تركيا على نوع من الحريات تقدم السلميون‬
‫المؤمنون بضرورة خوض المعترك السياسي بتأسيس حزب‬
‫النظام الوطني في كانون الثاني عام ‪1970‬م‪ ،‬حيث قام على‬
‫تأسيسه يونس عارف‪ ،‬وقد جاء دعم هذا الحزب بصورة رئيسة‬
‫من التجار الصغار والحرفيين والرجال المتدينين في الناضول‪.‬‬
‫دا خطيًرا‬‫دا‪ ,‬وبدأ يشكل تهدي ً‬
‫توسع الحزب في مدة قصيرة ج ً‬
‫للحزاب العلمانية‪ ،‬وقد جاء في بيان التأسيس ما يلي‪) :‬أما اليوم‪:‬‬
‫فإن أمتنا العظيمة التي هي امتداد لولئك الفاتحين الذين قهروا‬
‫الجيوش الصليبية قبل آلف سنة‪ ،‬والذين فتحوا إستانبول قبل‬
‫‪500‬سنة‪ -‬أولئك الذين قرعوا أبواب فينا قبل ‪400‬سنة‪ ،‬وخاضوا‬
‫حرب الستقلل قبل خمسين سنة‪ ،‬هذه المة العريقة‬
‫تحاول اليوم أن تنهض من كبوتها وتجدد عهدها وقوتها مع حزبها‬
‫الصيل »حزب‬
‫النظام الوطني«‪.‬‬
‫إن حزب النظام الوطني سيعيد لمتنا مجدها التليد‪ ،‬المة التي‬
‫دا هائل ً من الخلق والفضائل يضاف إلى رصيدها‬ ‫تملك رصي ً‬
‫التاريخي‪ ،‬وإلى رصيدها الذي يمثل الحاضر المتمثل في الشباب‬
‫الواعي المؤمن بقضيته وقضية وطنه( )‪.(2‬‬
‫وقدم حزب النظام برنامج عمله في منظومة من الفكار‬
‫يمكن إيجازها في التي‪:‬‬
‫‪ -1‬جميع المؤسسات الهامة في تركيا في أيد غريبة غير‬
‫وطنية‪ ،‬والمر الطبيعي والواجب القومي يقضي بأن تعود هذه‬
‫المؤسسات إلى أصحابها‪.‬‬
‫‪ -2‬عاش الناس أربعين سنة والقوى الخارجية المؤثرة تحاول‬
‫إبعادهم عن محورهم الحقيقي إلى محور غريب‪ ،‬فوقع الناس في‬
‫ضيق وعنت شديدين‪ ،‬ول بد من إرجاع الناس إلى طبيعتهم‬
‫ومحورهم الصيل )فطرة الله( حتى يستقيم أمرهم ويتخلصوا من‬
‫عقدهم‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬المعالم الرئيسية للسس التاريخية والفكرية لحزب السلمة‪ ،‬عبد‬
‫الحميد حرب ص ‪ ،435‬ندوة اتجاهات الفكر السلمي المعاصر‪ ،‬البحرين ‪-22‬‬
‫‪25/2/1985‬م‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬ص ‪.126‬‬

‫‪99‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -3‬إن التسميات المعاصرة مثل اليمين واليسار والوسط هي‬


‫من اختراع الماسونية والصهيونية‪ ،‬وكلها مؤسسات تابعة لغرض‬
‫واحد وهو أن تنحرف تركيا عن خطها الحضاري الذي عمره ألف‬
‫سنة‪ ،‬وأنه ل بد من التخلص من هذه السماء الغريبة والعودة إلى‬
‫الخط الصيل الذي يصل الماضي التليد بالغد المشرق‪.‬‬
‫‪ -4‬إن حزب النظام الوطني ل يشبه الحزاب الخرى‪ ،‬فجميع‬
‫الحزاب تقوم على أساس التسلط وشهوة الحكم‪ ،‬ونحن نقوم‬
‫على أساس جديد يبتغي مرضاة الله والعمل في سبيل الوطن‪.‬‬
‫‪ -5‬إن نظام التعليم في تركيا فاسد وضعته شرذمة من‬
‫الحاقدين من الصليبيين واليهود بشكل ل يناسب المة‪ ،‬فهو‬
‫يسقط من حسابه كل قيمة معنوية أو أخلقية أو دينية غايته فصل‬
‫تركيا عن ماضيها السلمي وسلخها عن دينها وقيمتها‪ ،‬وبهذه‬
‫الطريقة فقط يستطيعون أن يقتلوا الجيل ويدمروا البلد‪ ،‬لقد‬
‫مرت خمسون سنة ونحن نسمع أن تركيا جزء من أوروبا‪ ،‬وأن‬
‫النهضة ل بد أن تقوم على أنقاض الدين كما حصل في الغرب‪،‬‬
‫متناسين أن السلم يختلف عن الكنيسة ودولة القسس‪.‬‬
‫‪ -6‬في الوقت الذي تمنع الدولة فيه توزيع الكتب على المعاهد‬
‫السلمية العالية وتحاول إغلق معاهد الئمة والخطابة ومدارس‬
‫تعليم القرآن‪ ،‬تنفق المليين على المسارح والممثلين وثمًنا‬
‫للمشروبات التي توزع في السفارات‪ ،‬وفي الوقت الذي تعترض‬
‫الدولة على الطالبات اللواتي يلبسن الحجاب على رءوسهن‪،‬‬
‫تدرس كتب اللهوت في‬
‫كل مكان دونما رقابة أو ضجة‪ ,‬وهذا يعنى أن حزب النظام‬
‫الوطني أكد العودة إلى السلم الحقيقي )‪.(1‬‬
‫إن اليهود والعلمانيين في تركيا لم يتحملوا هذا الصوت الفتى‬
‫الذي يتدفق بالحيوية والنشاط‪ ,‬ويحركه في قضاياه اليمان‬
‫العميق بالسلم وبضرورة رجوع الشعب التركي إليه‪ ،‬لذلك تحرك‬
‫الجيش التركي في آذار ‪1971‬م بسبب نشاط حزب العمال‬
‫وأحال قضية حزب النظام الوطني إلى المحكمة الدستورية التي‬
‫أصدرت قراًرا جائًرا بحل الحزب في ‪21‬مارس ‪1971‬م )‪.(2‬‬
‫وقد جاء في قرار محكمة أمن الدولة العليا ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬إن المبادئ التي قام عليها الحزب وتصرفاته تخالف‬
‫الدستور التركي‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬ص ‪.127‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.127‬‬

‫‪100‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -2‬العمل على إلغاء العلمانية في البلد‪ ،‬وإقامة حكومة‬


‫إسلمية‪.‬‬
‫‪ -3‬قلب جميع السس القتصادية والجتماعية والحقوقية التي‬
‫تقوم عليها البلد‪.‬‬
‫‪ -4‬العمل ضد مبادئ أتاتورك‪.‬‬
‫‪ -5‬القيام ببعض التظاهرات الدينية‪.‬‬
‫ضا أنه ل يحق لي من شخصيات‬ ‫وجاء في حكم المحكمة أي ً‬
‫الحزب أن تعمل من خلل أي حزب سياسي آخر‪ ،‬ول أن يؤسسوا‬
‫أي حزب جديد‪ ،‬ول أن يرشحوا أنفسهم لي انتخابات قادمة ولو‬
‫بشكل مستقلين لمدة خمس سنوات‪ .‬وهذا يعنى أن المدة بين‬
‫نشوء الحزب وإغلقه كانت ستة عشر شهًرا فقط )‪.(1‬‬
‫وفي تلك الحداث الساخنة والمشادة العنيفة بين السلم‬
‫والعلمانية في تركيا ظهر المجاهد الكبير نجم الدين أربكان يخوض‬
‫المعارك الكلمية مع العلمانيين؛ ففي ‪2‬آب ‪1972‬م وقبل تأسيس‬
‫حزب السلمة الوطني تحدث أربكان في المجلس الوطني فقال‪:‬‬
‫»في رأينا أن التوضيح المهم الكثر ملءمة لجعل الدستور دستوًرا‬
‫ديمقراطًيا‪ ،‬ل بد أن تكون هناك مواد دستورية مناسبة قبل تحديد‬
‫الحركات وحقوق الفكر والمعتقد‪ ،‬وهكذا من الممكن إيجاد مناخ‬
‫للتطبيقات الحالية والتي تتعارض مع المبادئ الساسية للدستور‪،‬‬
‫وفي مثل هذه الحالة‪ ،‬على المرء أن يتكلم عن وجود فكر الحرية‬
‫والمعتقد‪ ،‬وأن دولتنا لتسعى وتنمو‪ ،‬ومن ثم لتأخذ مكانتها بين‬
‫القطار الحضارية في العالم« )‪.(2‬‬
‫كان أربكان يرى أن النظام الديمقراطي ل يعد ديمقراطًيا‬
‫بدون الحقوق وحرية الفكر والمعتقد‪ ،‬وكان يقصد من وراء ذلك‬
‫الحرية التامة لستخدام نشر الفكار السلمية‪ ،‬وقد فسرت كل‬
‫من صحيفتي »جمهوريت« و »ملليت« العلمانيتين تصريحات‬
‫)‪(3‬‬
‫وأقوال أربكان بأنها ذريعة لستخدام الدين لغراض سياسية ‪.‬‬
‫لقد هاجم أربكان العلمانية واستفاد من الثغرات الموجودة في‬
‫الدستور التركي‪ ,‬ورد على الحملة العلمية العلمانية الموجهة ضد‬
‫أطروحاته فقال‪) :‬إن مصطلحات القومية والديمقراطية والعلمانية‬
‫دا إلى‬
‫والجتماعية‪ ،‬والتي تقوم عليها شخصية الدولة‪ ،‬واستنا ً‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬محمد مصطفى‪ ،‬ص )‪-185‬‬
‫‪.(186‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪.‬النعيمى‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪3‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.128‬‬

‫‪101‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المادة الثانية من الدستور‪ ،‬إن هذا من الممكن توضيحه بأن هذه‬


‫المادة ل تسمح باستخدام وتفسير المعارضة في الممارسة‪ ،‬وفي‬
‫هذا المجال وبصورة خاصة مصطلح القومية بحاجة إلى توضيح‪،‬‬
‫وهذا يعنى أنها بحاجة إلى تحديدها بطريقة تقوم على احترام‬
‫جميع القيم الروحية لقوميتنا من حيث التاريخ والتقاليد( )‪.(1‬‬
‫ل‪» :‬الدين هو معتقد أساسي ونظام فكري‬ ‫وأضاف أربكان قائ ً‬
‫للفراد‪ ،‬وهذا يعنى العتراف بحق الحرية والوجود والعتراف‬
‫بحقوق المعتقد للفرد‪ ،‬إن تحريم الشخص من هذه السس هو‬
‫ضد الروح والمبادئ الساسية للدستور وخاصة الفقرة )‪ (1‬من‬
‫المادة ‪19‬والمادة ‪20‬من الدستور« )‪.(2‬‬
‫‪ -2‬حزب السلمة الوطني‪:‬‬
‫بعد هدوء جو العنف والقلق السياسي في السياسة الداخلية‬
‫التركية من جراء الحكام العرفية قام أربكان بلم شعث حزب‬
‫دا أطلق عليه حزب السلمة‬ ‫النظام الوطني وأسس حزًبا جدي ً‬
‫الوطني‪ ،‬استطاع حزب السلمة الوطني خلل مدة قصيرة ل‬
‫تتجاوز ثمانية أشهر من تنظيم قواعد في ‪67‬محافظة‪ ،‬وأعلن‬
‫أربكان بأن نجاح حزبه خلل هذه المادة يعود إلى تعاطف الرأي‬
‫العام المحلي مع الحزب الذي ينادى بأهمية الخلق الدينية‬
‫والمواقف المعنوية‪ ،‬وعلى هذا الساس فقد أكد حزب السلمة‬
‫في برنامجه على ما يأتي‪) :‬قيام تجمع يعتمد الفضيلة والخلق‬
‫ويعطى القيمة المعنوية للنسان مثلما نصت عليه المادتان‬
‫العاشرة والرابعة عشرة من الدستور والتي تؤكدان على القيمة‬
‫المعنوية للنسان على أساس من الخلق والفضيلة( )‪.(3‬‬
‫أهم أعمال حزب السلمة‪:‬‬
‫عندما شعر حزب السلمة بقوته‪ ،‬وصار جزًءا من الحياة‬
‫السياسية في تركيا شرع منظرو الحزب بشن حملة إعلمية‬
‫منظمة على أسس العلمانية في تركيا‪ ,‬وبينوا للناس أن الطار‬
‫السياسي لتركيا الجديدة يناقض المبادئ السياسية للسلم‪،‬‬
‫ويقضي السلم بتوحيد السلطات السياسية والدينية تحت سيطرة‬
‫الدين‪ ،‬وفي هذا المعنى‪ ،‬فإن العلمانية‪ ،‬والنظام العلماني ضد‬
‫السلم‪ ،‬الشريعة والدين‪ ,‬وخاصة تطبيقاتها في تركيا فإنها‬
‫ل‪» :‬إن الخونة والكذابين‬‫صممت لضمان الزندقة )‪ ,(4‬ويردف قائ ً‬
‫‪1‬‬
‫)(المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المعالم الرئيسية للسس التاريخية لحزب السلمة الوطني‪ ،‬ص ‪.435‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركة السلمية الحديثة‪ ،‬د‪ .‬النعيمي ‪ ،‬ص ‪.130‬‬
‫‪4‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.131‬‬

‫‪102‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫هم وحدهم الذين يقولون بأن الدين والسياسة شيئان منفصلن‪،‬‬


‫لن المسلمين ل يفصلون شئون الدنيا عن شئون السماء‪ ،‬لقد‬
‫حا بأن التشريع ليس من حق النسان‪ ،‬أما إذا وضع‬ ‫أصبح واض ً‬
‫القوانين أو ادعى بأنه يفعل ذلك‪ ،‬فإن علمه هذا يعد خطيئة‪ .‬إن‬
‫خالق القوانين السلمية هو نفسه خالق النسان‪ ،‬لقد خلق الله‬
‫النسان وفق هذه القوانين‪ ،‬إن القوانين النسانية ل تتناسب‬
‫وطبيعة النسان‪ ،‬إن السلم نظام يصلح لكل الزمان‪ ,‬إنه يمثل‬
‫كل ً من الدين والدولة‪ ،‬إن القرآن لم ينزل ليقرأ في القبور أو‬
‫يغلق عليه في أماكن العبادة‪ ،‬لقد أنزل‬
‫القرآن )ليحكم( )‪.(1‬‬
‫إن المجاهد الكبير أربكان شق طريقه بصعوبة في محاربته‬
‫للعلمانية بالحجة والبرهان‪ ،‬ولقد عبر عن آرائه بصراحة خلل‬
‫دا أن دخول السلم في كل جوانب‬ ‫مباحثاته مع ضياء الحق‪ ،‬مؤك ً‬
‫الحياة هو الشرط الوحيد لقيام دولة إسلمية‪ ،‬وفي هذا المجال‬
‫قال أربكان‪» :‬قبل كل شيء يجب أن تكون الدولة إسلمية‪ ،‬إذا لم‬
‫يكن المر كذلك‪ ،‬فإن الدين السلمي في خطر«)‪.(2‬‬
‫إن حزب السلمة الوطني لم يحاول أن يتخذ موقف الهجوم‬
‫المباشر على الديمقراطية في انتخابات عام ‪ ،1973‬إل أنهم‬
‫عبروا عن مشاعرهم الحقيقية عن ذلك في عام ‪1980‬م‪ ،‬حيث‬
‫بدأوا ينتقدون الديمقراطية مؤكدين أنها تتعارض مع مبادئ السلم‬
‫)‪.(3‬‬
‫وفي هذا المجال أكد حزب السلمة أن »الديمقراطية مؤامرة‬
‫غربية لقيادة الجهلة بموجب الساليب الغربية والمسيحية‪ ،‬إنه‬
‫انتصار للمسيحية ضد السلم‪ ،‬لذلك يجب تطبيق القوانين اللهية‬
‫إذ ل يمكن للنسان تشريع قوانين يمكن تطبيقها« )‪. (4‬‬
‫وبالمكان تلخيص وجهة نظر حزب السلمة الوطني عن‬
‫الرأسمالية والشتراكية‪ ،‬في مقالة لنجيب فاضل جاء فيها‪:‬‬
‫»نحن نقسم طريق الخلص إلى مجموعتين‪ :‬الولى هي‬
‫طريقة السلم في الخلص‪ ،‬والثانية يمكن تصنيفها كنظم وراثية‬
‫والتي ل توصل إلى الخلص‪ ،‬إن المجموعة الثانية ل تعتمد على‬
‫التعاليم اللهية وتناقض نفسها باعتمادها على قوانين من صنع‬
‫النسان مثل الشيوعية والرأسمالية والشتراكية والديمقراطية‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫انظر‪ :‬الحركة السلمية الحديثة‪ ,‬د‪ .‬النعيمي ص ‪.132‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.132‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫)(‬

‫‪103‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫قا لتعليم‬ ‫ضا على أن الله قد أمرنا أن نحكم طب ً‬ ‫لقد تم التأكيد أي ً‬


‫ّ‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وليس حسب آرائنا الخاصة‪ ،‬إذا حكم الناس‬
‫حسب نظام التصويت‪ ،‬فإنهم لن يكونوا بحاجة إلى كلم الله‪ ,‬في‬
‫قا لنظام التصويت‪ ،‬ل‬ ‫المجتمعات التي تحل فيها كل القضايا وف ً‬
‫ينتشر السلم« )‪. (1‬‬
‫أما فيما يتعلق بموقف الحزب من الوليات المتحدة‪ ،‬فقد عارض‬
‫الحزب الوجود المريكي في الراضي التركية‪ ،‬كما عارض استخدام‬
‫الوليات المتحدة الراضي التركية‪ ،‬في استخدامها ضد دول منطقة‬
‫الشرق الوسط‪ ،‬ونتيجة لهذا فقد انتقد الحزب حكومة ديمريل في‬
‫‪1979‬بسبب زيادة النشاط العسكري المريكي في‬ ‫م‬ ‫أواخر عام‬
‫استجوا ًإلى مجلس النواب التركي مطالًبا فيه‬ ‫با‬ ‫تركيا‪ ،‬حيث قدم‬
‫محاسبة حكومة ديمريل بسبب هذا النشاط المريكي‪ ،‬وقد دلل هذا‬
‫على قيام طائرتين بالهبوط في مطار مالقا وهما تحملن‬
‫دا أن هذا‬ ‫أمريك ًمع أحدث المعدات الحربية‪ ،‬مؤك ً‬ ‫يا‬ ‫يا‬
‫‪180‬عسكر ً‬
‫يشكل تهديدا ً لمن المنطقة‪.‬‬
‫ضا‬
‫ما مناه ً‬ ‫وفي الحقيقة استطاع الحزب أن يشكل رأًيا عا ً‬
‫للغرب والوليات المتحدة‪ ،‬عن طريق المشكلة القبرصية والتي‬
‫قام فيها أربكان بدور رئيس في إقناع القيادات العسكرية بإنزال‬
‫قواتها في الجزيرة‪ ،‬فقد تولى القيادة مدة غياب أجويد في زيارة‬
‫لدول أوروبا الشمالية‪.‬‬
‫ولقد عمل الحزب بقيادة أربكان على إفشال جميع الخطط‬
‫والمشاريع اليونانية في بحر إيجة‪ ،‬وفي هذا المجال يقول أربكان‪:‬‬
‫)سنتحرك وفق أسس العدل والحق لوفق السس التي تحددها‬
‫القطار الوروبية الكبيرة( )‪.(2‬‬
‫وفيما يتعلق بالسوق الوروبية يقول أربكان‪» :‬إن تركيا يجب‬
‫أن ل تكون في السوق الوروبية المشتركة للدول الغربية‪ ،‬وإنما‬
‫في السوق المشتركة للدول الشرقية‪ ،‬إن تركيا متخلفة بالنسبة‬
‫للغربيين‪ ،‬ولكنها متقدمة بالنسبة للشرقيين‪ ،‬إذا دخلت تركيا‬
‫السوق المشتركة في الوضاع السائدة اليوم‪ ،‬فإنها مستعمرة«‬
‫)‪.(3‬‬
‫لقد كان لحزب السلمة تأثير كبير في الشارع التركي وعمل‬
‫إعادة الهوية السلمية ونازل بحجج السلم وبراهينه النظمة‬
‫الشتراكية والرأسمالية‪ ,‬وكان زعيمه نجم الدين أربكان يتحدث‬
‫بعزة السلم ويوضح للشعب التركي خطورة النحراف عن منهج‬
‫‪1‬‬
‫)( الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي‪ ،‬ص ‪.135‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الحزاب السياسية في تركيا‪ ،‬حسين فاضل كاظم‪ ،‬ص ‪.192‬‬
‫‪3‬‬
‫)( الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي ص ‪.137‬‬

‫‪104‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫وم‬‫الله ويوجه صواريخه إلى أعداء السلم‪ ،‬وفي هذا المجال‪ ،‬يق ّ‬
‫لنا نجم الدين أربكان النظامين الشتراكي والرأسمالي‪ ,‬وفيما‬
‫يتعلق بالول يقول أربكان‪ » :‬إنه فكر يهدد الحريات‪ ،‬ويضر‬
‫بالكيان القومي‪ ،‬ويركز على مصادر أجنبية« )‪ ،(1‬أما فيما يتعلق‬
‫بالثاني‪ ،‬يقول أربكان‪» :‬الفكر الرأسمالي هو فكر يقوم على الربا‪،‬‬
‫ضا‪ ،‬أما حزب السلمة فيمضى في طريقة رافًعا‬ ‫ومصدره أجنبي أي ً‬
‫راية الخلق والصالة‪ ،‬إن النظام الرأسمالي والنظام الشتراكي‬
‫ل يقتصران على ميدان القتصاد‪ ،‬وإنما يمتد تأثيرهما إلى‬
‫الميدانين الجتماعي والمعنوي‪ ،‬ورغم اختلف النظامين في‬
‫الظاهر‪ ،‬فكلهما مادي‪ ،‬وكلهما يعمل على النهوض بالجانب‬
‫المادي في مقابل انحطاط الخلق والمعنويات‪ ،‬وكلهما يزداد‬
‫عا مادًيا مع هبوط الثقافة والخلق« )‪.(2‬‬
‫ارتفا ً‬
‫إن غاية حزب السلمة هو الوصول إلى فهم »تركيا الكبرى«‬
‫وحرص على التمسك بالماضي العثماني المجيد وبّين للناس أهمية‬
‫اللتزام بالسلم واتبع سياسة تؤدي في مداها البعيد إلى القضاء‬
‫على مبادئ أتاتورك العلماني‪ ،‬وهو في نفس الوقت يدعو إلى‬
‫عدم التعاون مع العناصر غير السلمية في تركيا‪ ،‬وهو في نفس‬
‫الوقت يعارض الشيوعية بعنف‪ ،‬ويؤكد على أن أفضل طريق‬
‫لنتشار المبادئ السلمية هو توفير الحياة الحرة للمواطن‬
‫التركي‪.‬‬
‫ودعا أربكان إلى ضرورة تطوير علقات تركيا مع العالم‬
‫السلمي في المجالت كافة‪ ،‬حيث قال‪) :‬وأن ل تظل هذه‬
‫العلقات صورية‪ ،‬وإنما يجب أن تكون علقات فعلية متطورة‪،‬‬
‫حيث إن في العالم ما يقرب من خمسين دولة إسلمية يبلغ‬
‫سكانها ملياًرا‪ ،‬وهذه الدول السلمية سوق طبيعية قوية لنتاجنا(‬
‫)‪.(3‬‬
‫وعلى هذا الساس‪ ،‬فقد انتقد أربكان كل ً من الصهيونية‬
‫والماسونية )‪ (4‬حيث قال في هذا المجال‪» :‬إن الصهيونية‬
‫والماسونية حاول عزل تركيا عن العالم السلمي‪ ،‬ومؤامراتهم‬
‫مستمرة‪ ،‬ذلك أن المعركة بين السلم في تركيا والصهيونية قد‬
‫اتخذت أشكال ً عدة وهي حرب طويلة المدى‪ ،‬ومستمرة منذ‬
‫خمسة قرون‪ ،‬منذ فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية‬
‫‪1‬‬
‫)( يقظة السلم في تركيا أنور الجندي‪ ،‬ص ‪.30 -29‬‬
‫‪2‬‬
‫)(‪ (3) ,‬المصدر نفسه‪.30 ،‬‬
‫‪3‬‬
‫)(‬

‫‪4‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي‪ ،‬ص ‪.141‬‬

‫‪105‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وعمل على فتح رومية‪ ،‬ولكن هذا الصراع في المائة سنة الخيرة‪،‬‬
‫فا‪ ،‬فاستطاعت بعض القوى عام‬ ‫أخذ شكل مخطط أعد له سل ً‬
‫‪1839‬م أن تؤثر في جسم الدولة الفكري‪ ،‬وتدخل القوانين‬
‫الوضعية البعيدة عن السلم بوساطة المنظمات اليهودية‬
‫الماسونية‪ ،‬وقسم العمل اليهودي في تركيا إلى ثلث مراحل‬
‫مدتها ثلثون سنة‪ ،‬وهي عبارة عن تنفيذ فكرة ليتويود وهرتزل‬
‫بإسقاط الدولة السلمية في تركيا‪ ،‬أما المرحلة الثانية‪ ،‬فقد‬
‫استمرت عشرين سنة‪ ،‬وكانت لبعاد تركيا عن السلم‪ ،‬ثم نشأ‬
‫حزب التحاد والترقي‪ ،‬وكانت له علقة باليهود والماسونية‪ ،‬ومن‬
‫ثم استطاع إسقاط السلطان عبد الحميد‪ ،‬وبدأ في إبعاد تركيا عن‬
‫النمط السلمي وتغريبها بطرق عديدة أهمها العلمانية التي كانت‬
‫تعنى في تركيا بالتحديد اضطهاد المسلمين« )‪.(1‬‬
‫وقد خاض حزب السلمة الوطني النتخابات العامة لعام‬
‫‪1973‬م حيث حصل على ‪ 9‬و ‪ %11‬من الصوات‪ ،‬أي بواقع‬
‫‪ 24.1‬مليوًنا من أصوات الناخبين ونتيجة لذلك فقد مثل نفسه في‬
‫دا )‪.(2‬‬
‫المجلس الوطني التركي بواقع ‪45‬مقع ً‬
‫وقد أعلن أربكان عشية انتخابات ‪1973‬م‪» :‬أننا سنعيد عهد‬
‫الرسول ×‪ ،‬كما أعلن أربكان بعد النتخابات أن شعار حزبه هو‬
‫)المفتاح(‪ ,‬وهذا ما سيؤهل للحزب فتح الطريق المغلقة أمامه‪،‬‬
‫ويكون مفتاح كل الحكومات الئتلفية« )‪.(3‬‬
‫ونتيجة لذلك فقد تكونت أول حكومة ائتلفية‪ ،‬ضمت حزب‬
‫الشعب الجمهوري‪ ،‬وحزب السلمة الوطني‪ ،‬وذلك في ‪25‬كانون‬
‫الثاني ‪1974‬م‪ ،‬حيث ضمت الوزارة ثمانية عشر وزيًرا من أعضاء‬
‫حزب الشعب الجمهوري‪ ،‬وسبعة أعضاء من حزب السلمة‪.‬‬
‫ويفضل الله تعالى ثم جهود حزب السلمة الوطني بقيادة‬
‫أربكان‪ ،‬مثلث تركيا ولول مرة في آذار ‪1974‬م في مؤتمر القمة‬
‫السلمي‪ ،‬وقد اختير وزير الداخلية التركي وهو من حزب السلمة‬
‫الوطني في هذا المؤتمر‪.‬‬
‫إن نشاط حزب السلمة الوطني خلل السبعينيات أدى إلى‬
‫خرق المظاهر العلمانية في تركيا‪ ،‬حيث انتشرت بعض المظاهر‬
‫السلمية في تركيا وخاصة في شهر رمضان‪ ،‬كما تم التوسع في‬
‫المدارس السلمية‪ ،‬حيث سمح لها بتدريب الئمة والوعاظ‪،‬‬
‫وأصبحت هذه المدارس تعلم حوالي ‪ %10‬من الطلب في‬
‫‪1‬‬
‫)( الصحوة السلمية منطلق الصالة وإعادة بناء المة على طريق الله‪،‬‬
‫الجندي ‪ ،‬ص ‪.117‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪.‬النعيمي‪ ،‬ص ‪.142‬‬
‫‪3‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.143‬‬

‫‪106‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المدارس الثانوية بمن فيهم ‪ 50.000‬من العنصر النسائي في‬


‫تركيا‪ ،‬وفي الحقيقة وصل التصويت السلمي بين ‪،%15-%10‬‬
‫وقد اعتبر العلمانيون هذه النسبة بمثابة خطر على المدنية التركية‬
‫)‪.(1‬‬
‫وبتأثير من حزب السلمة الوطني‪ ،‬وطلب النور في تركيا‬
‫خرجت إلى حيز الوجود سلسلة »ألف كتاب« التي دعمتها وزارة‬
‫التربية‪ ،‬وتناولت هذه السلسلة الثقافة التركية بمعيار إسلمي‪,‬‬
‫وأخذ حزب السلمة يعمق المفاهيم السلمية في المجلس‬
‫الوطني التركي الكبير وهاجمت الصحف السلمية في تركيا كمال‬
‫أتاتورك وأطلقت عليه اسم »الدجال«‪ .‬وضغط حزب السلمة‬
‫الوطني على رئاسة الشئون الدينية حتى أصدرت بياًنا في حزيران‬
‫‪1973‬م أكدت فيه على دعوة المرأة التركية إلى الحجاب‪.‬‬
‫وحينما سافر أربكان إلى السعودية عام ‪ 1974‬م‪ -‬وكان‬
‫وقتئذ نائ ً با لرئيس الوزراء ‪ -‬بدأ زيارته للكعبة‪ ،‬وفي الرسالة‬
‫التي كتبها للملك‪ ،‬ذكر ما يلي‪» :‬إن معرفة الشعب والحجاج‬
‫للمشاريع التي ستقام في المناطق الشرقية والجنوبية‬
‫الشرقية بالقروض التي ستمنحونها لتركيا تعد من المور‬
‫الهامة‪ ،‬إن دعمكم لموقفي في تركيا سيفتح لتركيا مرحلة‬
‫جديدة في العالم السلمي‪ ،‬ومساعدتكم لنا في هذا المجال‬
‫سوف تدعم هذه المرحلة« )‪.(2‬‬
‫واستطاع أربكان أن يمرر قانوًنا في البرلمان يسمح بموجبه‬
‫عا )‪.(3‬‬
‫للتراك السفر بًرا إلى الحج‪ ،‬وكان ذلك ممنو ً‬
‫لقد كانت خطوات حزب السلمة الوطني جريئة في المجتمع‬
‫التركي‪ ,‬ولذلك لم يتحمل الجيش التركي خادم العلمانية في تركيا‬
‫هذه العمال الحميدة‪ ,‬ولذلك تدخل الجيش بانقلبه الذي قضى‬
‫على التعددية والحرية السياسية في ‪12‬أيلول ‪1980‬م‪ ،‬وقد سبق‬
‫هذا النقلب مظاهرات كبيرة في مدينة قونيا يوم ‪ 6‬أيلول‪ ،‬ونادى‬
‫المتظاهرون بتأسيس دولة إسلمية‪ ،‬وقام أنصار حزب السلمة‬
‫بالستهزاء بكل ما يؤمن به أتاتورك والمؤسسة العسكرية‪ ،‬وقد‬
‫هتف هؤلء الذين جاءوا من جميع أنحاء البلد بالشعارات الدينية‪،‬‬
‫وطالبوا باستخدام الشريعة السلمية في التعامل السياسي‬
‫الداخلي‪ ،‬ومنعوا عزف النشيد الوطني)‪.(4‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي‪ ،‬ص ‪.145‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬محمد مصطفى‪ ،‬ص ‪.207‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬النعيمي‪ ,‬ص ‪.147‬‬
‫‪4‬‬
‫)(‪ (3) ,‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.151‬‬

‫‪107‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫واحتج المتظاهرون على ضم القدس‪ ،‬ونادوا بقطع العلقات‬


‫مع إسرائيل‪ ،‬ودعوة إسرائيل المناداة بالقدس حرة‪ ،‬كما دعا‬
‫أربكان في هذه المظاهرة إلى بدء الصراع لنها العقلية الغربية‬
‫الزائفة والتي تحكم تركيا‪ ،‬وقد كتب المتظاهرون الشعارات باللغة‬
‫العربية‪ ،‬وقام هؤلء بحرق العلم الصهيوني والمريكي والسوفيتي‪,‬‬
‫ونادى المتظاهرون بشعار »الموت لليهود« ول سيما أن مدينة‬
‫قونيا تضم أعداًدا من طائفة اليهود والتي يبلغ عددها ‪20.000‬‬
‫ضا‪» :‬جاء دور القانون الديني وانتهت‬ ‫يهودي ونادى المتظاهرون أي ً‬
‫الهمجية‪ ،‬الشريعة أو الموت‪ ،‬إن الدولة الملحدة يجب أن تدمر‪،‬‬
‫وإن القرآن هو دستورنا‪ ،‬نريد دولة إسلمية بدون الحدود‬
‫والطبقات« )‪.(1‬‬
‫كانت شعبية حزب السلمة الوطني ترتقي‪ ،‬لنه التزم القضايا‬
‫صا في العامين ‪1979‬م‪1980 ،‬م واضطر‬ ‫السلمية علًنا خصو ً‬
‫الحزب الجمهوري وحزب العدالة بإرضاء حزب السلمة الوطني‪،‬‬
‫وقدما تنازلت للتجاه السلمي‪ ،‬طمًعا في المساعدات القتصادية‬
‫من القطار السلمية والحاجة الملحة إلى بترولها‪.‬‬
‫لم يستح قادة الجيش التركي بعد انقلبهم العسكري أن يقولوا‬
‫بأن سبب تدخلهم من أجل وقف المد السلمي‪.‬‬
‫اتخذ النقلبيون قراًرا بحظر جميع الحزاب السياسية وحجز‬
‫قادتها وتقديمهم للمحاكمة‪ ،‬وكان من الطبيعي أن يحاكم حزب‬
‫السلمة الوطني وأن توجه التهم لزعيمه أربكان وزملئه‬
‫المجاهدين‪ .‬وكانت كل التهم تدور حول حرص حزب السلمة على‬
‫إعادة دولة السلم لتركيا والتخلص من الفكار العلمانية والمبادئ‬
‫الكمالية‪ ،‬إن الغطرسة التركية العلمانية أعلنت بكل وقاحة على‬
‫لسان الجنرال إيفرن رئيس أركان الجيش التركي بأن لها من‬
‫القوة بحيث تستطيع أن تقطع لسان كل من يتهجم على‬
‫أتاتورك)‪.(2‬‬
‫لقد استطاع حزب السلمة الوطني أن يدخل بعض التغييرات‬
‫في السلوك السياسي الداخلي التركي‪ ،‬من بين ذلك‪ :‬تحقيق‬
‫الذان في الجوامع وباللغة العربية‪ ،‬وفرض قراءة القرآن الكريم‬
‫ما منذ مجيء‬ ‫في محطات الذاعة والتليفزيون‪ ،‬وكان ذلك محر ً‬
‫المفسد الكبير مصطفى كمال إلى الحكم‪.‬‬
‫لقد أصبح أربكان مع حزبه المجاهد معلما ً من معالم الحركة‬
‫السلمية المعاصرة في تركيا‪ ،‬ولقد أثرت حركة السلمة في‬
‫الوساط السلمية والطرق الصوفية والزوايا التقليدية‪ ,‬ووجدت من‬
‫‪1‬‬
‫)( الحركات السلميةـ الحديثةـ في تركيا‪،‬ـ د‪ .‬النعيمي‪،‬ـ ص ‪.151‬‬

‫‪2‬‬
‫)( الحركات السلمية الحديثة‪ ،‬د‪ .‬النعيمي ص ‪.150‬‬

‫‪108‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫التيار السلمي التقليدي من يناصرها ويقف بجانبها ويدعمها‪ ,‬وحكمت‬


‫المحكمة العسكرية الظالمة في عام ‪1983‬على المجاهد أربكان‬
‫وا ًمن أعضاء حزب السلمة الوطني‬ ‫لمدة أربعة أعوام وعلى ‪22‬عض‬
‫بالسجن لمدد تصل إلى ثلثة أعوام ونصف )‪.(1‬‬
‫وقام الجيش التركي بتسريح كل من اشتم منه رائحة إسلمية‬
‫وأعلن إيفرن في حملته التي استهدفت السلميين داخل القوات‬
‫المسلحة بأن هؤلء المسلمين »كان هدفهم الوصول إلى المراتب‬
‫العليا في القوات المسلحة‪ ،‬ماذا سيحدث لو أنهم أمسكوا بزمام‬
‫ل‪» :‬قد يحولون البلد إلى أي نوع من‬ ‫الجيش؟«)‪ ،(2‬وأضاف قائ ً‬
‫النظمة التي يريدون‪،‬‬
‫)‪(3‬‬
‫هل هذا نشاط ديني أم خيانة؟« ‪.‬‬
‫وبدأت القيادة العسكرية في تركيا تبحث عن حل لمشاكلها‬
‫السياسية وإرضاء الضغوط الوروبية التي اتهمت تركيا بخرق‬
‫حقوق النسان ويجب عليها إعادة الديمقراطية من جديد‪ ،‬فشكلت‬
‫لجاًنا جديدة لصنع دستور للبلد بحيث يعطى الرئيس التركي الحق‬
‫في فرض حالة الطوارئ‪ ،‬وحل البرلمان‪ ،‬والدعوة إلى انتخابات‬
‫جديدة‪ ،‬وبذلك يكون باستطاعة العلمانيين قطع محاولت‬
‫السلميين المستمرة للقضاء على الدستور العلماني‪ ،‬وعدلت‬
‫القوانين بحيث تكون للقيادة العسكرية حق الحتفاظ ببعض‬
‫السيطرة على الحياة السياسية في تركيا‪.‬‬
‫وبعد إعلن الدستور الجديد في عام ‪1982‬تكونت أحزاب سياسية‬
‫إسلمية‪ ,‬وظهر حزب الرفاة وهو امتداد طبيعي لفكر السلمة‬
‫الوطني وبدأت العناصر السلمية تتوافد على هذا الحزب الجديد‬
‫والذي تعرض لمعارضة الجيش والضغط عليه لمنعه من دخول‬
‫م‪ ،‬إل أنه خاض النتخابات وحصل على نسبة ‪%5‬‬ ‫انتخابات عام ‪1983‬‬
‫من الصوات)‪.(4‬‬
‫إضافة إلى ذلك‪ ،‬اشترك حزب الرفاة في انتخابات تشرين أول‬
‫‪1987‬م‪ ،‬حيث حصل على ‪ %7.06‬من الصوات )‪.(5‬‬
‫وبدأت الجماعات السلمية تتمحور حول حزب الرفاة‪ ,‬وشرع‬
‫حزب الرفاة في قيادة الحركة السلمية في كل المدن التركية‪،‬‬
‫وحتى المحافظات الكبرى والقرى المتباعدة الطراف‪ ،‬وانتعشت‬
‫‪1‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.156‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.165‬‬
‫‪3‬‬
‫)(انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬ص ‪.165‬‬
‫‪4‬‬
‫)(‪ (3) ,‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.179‬‬
‫‪5‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركات السلميةـ الحديثةـ في تركيا‪.179 ،‬‬

‫‪109‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الحركة السلمية مع تسلم أوزال السلطة وهو المتعاطف مع‬


‫دا كبيرة من قيادة جزبه ‪ -‬حزب‬ ‫السلم في تركيا خاصة أن أعدا ً‬
‫الوطن الم‪ -‬من الوجوه السلمية المعروفة في تركيا‪ ,‬ودخلت‬
‫كوادر قيادية هامة من حزب السلمة المنحل إلى حزب الوطن‬
‫الم الذي نجح في انتخابات ‪1983‬م بأغلبية كبيرة‪ ،‬وشجعت‬
‫حكومة أوزال نشاط المساجد والمدارس الدينية‪ ,‬واهتم وزير‬
‫الدولة المشرف على الشئون الدينية )كاظم أكصوى( بدورات‬
‫تعليم القرآن الكريم والتي كانت في بداية الثمانينيات ‪200‬دورة‬
‫رسمية ووصلت إلى ‪ 3000‬دورة في عام ‪1987‬م‪ ,‬ونشطت‬
‫الطرق الدينية‪ ،‬وقام كاظم أكصوى بجعل بعض المؤسسات‬
‫الدينية والبنوك مثل بنك الوقاف من أهم المراكز التي تغذي‬
‫الحركة السلمية في تركيا )‪.(1‬‬
‫واستمر حزب الرفاة في جهاده السلمي والتوغل المتزن في‬
‫أعماق الشعب المسلم التركي الذي ل تزال أعمال حزب السلمة‬
‫في ذاكرته ووجدانه والتي أعادت للمجتمع التركي وجوده‬
‫وحضوره السلمي‪ ,‬واستطاع حزب الرفاة الذي هو امتداد لحزب‬
‫السلمة في مارس ‪1994‬م أن يتحصل على أهم وأكبر البلديات‬
‫في تركيا‪ ،‬وعلى فوزه بانتخابات ديسمبر ‪1995‬م كأكبر حزب في‬
‫البلد‪ ،‬تسلم على إثرها السلطة في ائتلف حكومي مع حزب‬
‫الطريق القويم في يونيو ‪1996‬م )‪ ,(2‬وأصبح المجاهد الكبير نجم‬
‫الدين أربكان رئيس الوزراء وقام بإصلحات اقتصادية رائعة‬
‫وارتفعت الرواتب في فترة وجيزة‪ ،‬وتقدم مندفًعا كالسهم نحو‬
‫الدعوة لقامة سوق إسلمية مشتركة ورفض دخول تركيا السوق‬
‫الوروبية المشتركة‪ ،‬فكانت دعوة إلى قيام أمم إسلمية متحدة‪،‬‬
‫ومجلس إسلمي مشترك‪ ،‬وضرب ممثلو حزب الرفاة في‬
‫البلديات وعلى مستوى الدولة أروع المثلة في النزاهة والعفة‬
‫وطهارة البلد والقدرة على التخطيط‪ ,‬واهتمت مؤسسات الحزب‬
‫بتقديم وتحسين أداء الخدمات للمواطنين وتعاطف الشعب‬
‫التركي مع حزب الرفاة حتى كثير من المومسات أعطين‬
‫الخدمات أصواتهن لحزب الرفاة الذي عمل‬
‫على إيجاد فرص للعمل الشريف بعد ترك بيوت الدعارة والفساد‬
‫والرجوع إلى الله بالتوبة والمغفرة‪.‬‬
‫ولقد عالج ممثل الرفاة والذي تولى بلدية استانبول مشاكل‬
‫ما‬
‫العاصمة بكل جدارة‪ ,‬وتضاعفت ميزانية البلدية بعد أن كانت دائ ً‬
‫تشتكي من العجز المالي بسبب الختلس‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحركات السلمية الحديثة ‪ ،‬ص ‪.179‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬تحديات سياسية تواجه الحركة السلمية‪ ،‬مصطفى الطحان‪ ،‬ص ‪.118‬‬

‫‪110‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫لم يرض اليهود والعلمانيون عن هذه المكاسب العظيمة التي‬


‫حققتها الحركة السلمية في تركيا‪ ,‬فدفعوا قادة الجيش لممارسة‬
‫ضغوطهم على الحزاب حتى قضوا على التحالف بين حزب‬
‫الطريق القويم وحزب الرفاة‪ ,‬وتقدم حزب علماني متطرف‬
‫مدعوم بقوة العسكر ورجال القتصاد العلمانيين وقدموا حزب‬
‫الرفاة إلى المحكمة الدستورية التي حكمت بحل حزب الرفاة‬
‫ومصادرة أملكه ‪1997‬م ول يزال السلميون في تركيا يديرون‬
‫صراعهم مع اليهود والعلمانيين وأعداء السلم بكل جدارة‬
‫وشجاعة وذكاء‪ .‬وإني على يقين راسخ ل يتزعزع أن الحركة‬
‫السلمية في تركيا ستصل إلى الحكم وتطبق شرع الله بإذن‬
‫الله‪ ،‬لن كل المؤشرات والسنن تقول بذلك‪.‬‬
‫وأختم التجربة السلمية في تركيا بهذا الحوار للستاذ‬
‫والمجاهد الكبير الذي نخر أعمدة العلمانية في تركيا البروفسور‬
‫نجم الدين أربكان‪ ،‬سأله صحفي مسلم مشهور بقوله‪ :‬إن‬
‫المشاركة في العملية النتخابية أمر ل يجوز من الناحية الشرعية‬
‫وهي مساهمة في تقوية النظام الجاهلي الذي يعتمد مثل هذه‬
‫الساليب‪ ..‬فرد أربكان‪ :‬وماذا نفعل إذن‪..‬؟ هل كان بإمكاننا أن‬
‫نحقق المكاسب الكبرى على صعيد الحريات الشخصية والعامة‪..‬‬
‫ونؤسس هذه المئات من المدارس السلمية‪ ,‬ونرفع أصواتنا في‬
‫البرلمان لتعديل المواد الدستورية التي تحد من الحريات الدينية‪,‬‬
‫ونعيد للناس ثقتهم بأنفسهم وبدينهم‪ ,‬ونحاصر الشر بأنواعه حتى‬
‫يكاد ينحسر عن بلدنا‪ ,‬بغير هذه الوسائل التي ترفع من مستوى‬
‫دا وجماعات‪ ,‬وتدفع الجميع لتحمل مسئولياتهم‬ ‫أداء الجميع أفرا ً‬
‫)‪(1‬‬
‫في إعادة البناء‪..‬؟‬
‫إن تجربة الحركات السلمية في السودان والردن واليمن‬
‫وتركيا من التجارب الرائدة المليئة بالدروس والعبر‪ ,‬ولم تفرط‬
‫هذه الحركات في ثوابت الدين؛ بل التزمت بها ولم تداهن أو‬
‫تجامل في أمر الشريعة؛ بل ضغطت على حكومتها وعدلت‬
‫دساتيرها كما حدث في تركيا‪ ,‬وإن هذه العمال الجليلة التي‬
‫قامت بها الحركات السلمية في بلدانها ومع حكوماتها لنوع من‬
‫أنواع التمكين لهذا الدين‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تحديات سياسية تواجه الحركة السلمية‪ ,‬ص ‪.87‬‬

‫‪111‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الفصل الرابع‬
‫إقامــــــــــة الدولـــــــــــة‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم وصول أهل‬
‫دة الحكم وتوليهم لمقاليد الدولة‪,‬‬ ‫س ّ‬
‫التوحيد واليمان الصحيح إلى ُ‬
‫لقد تحدث القرآن الكريم عمن قادوا دول ً وساسوا شعوًبا بشرع‬
‫الله‪ ,‬من أمثال داود وسليمان عليهما السلم‪ ,‬والحاكم المؤمن‬
‫والفاتح الصالح‪ ,‬والقائد العادل )ذي القرنين( وجعلهم قدوة ومثل ً‬
‫رائًعا لهل اليمان على مر الدهور وكر العصور وتوالي الزمان‪,‬‬
‫وسلط القرآن الكريم الضواء على جوانب هامة من أعمالهم‬
‫وجهادهم العظيم الذي استهدفوا به التمكين لمثل عليا‪ ,‬ومبادئ‬
‫رفيعة‪ ,‬وقيم سامية‪ ,‬وأخلق فاضلة انبثقت من اليمان بالله‬
‫واليوم الخر‪ ,‬بعيدة كل البعد عن الكبرياء الوطنية‪ ,‬والمجاد‬
‫القومية‪ ,‬والنزعات العرقية‪ ,‬وتقديس التراب والزعماء‪ ,‬ولم تكن‬
‫فتوحاتهم وأعمالهم المجيدة تستهدف سيادة عسكرية أو مغانم‬
‫اقتصادية‪ ,‬أو تطلعات توسعية أو نزوات عنصرية التي يبعث عليها‬
‫حب التسلط والرغبة في العلو‪.‬‬
‫شا استهدفت كرامة النسان‬ ‫إنما خاضوا حروًبا وقادوا جيو ً‬
‫وتخليصه من الشرك والوهام والنحرافات العقدية‪ ,‬وإزالة الظلم‬
‫عن البشر وإقامة العدل‪ ,‬ودعوة الناس إلى العقيدة الصحيحة‪,‬‬
‫والمنهج السليم‪ ,‬والتصور الرباني‪.‬‬
‫وكان للنبي × والخلفاء من بعده حظ وافر من هذا النوع من‬
‫التمكين نحاول أن نسلط الضواء في هذا الفصل على بعض‬
‫معالمه‪ ,‬وسنعرج على التاريخ السلمي القديم والحديث لنضرب‬
‫بعض المثلة الحية بإذن الله تعالى لنستخرج الدروس والعبر من‬
‫هذه الدراسة المتواضعة‪.‬‬
‫***‬

‫‪112‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الول‬
‫تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلم‬
‫ل‪ :‬داود عليه السلم‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫يبدأ العصر الذهبي لبني إسرائيل مع ظهور داود عليه السلم‬
‫في القتال عندما أكرمه الله تعالى بقتل جالوت‪ ,‬وبّين القرآن‬
‫دا في جيش طالوت‪ ,‬وممن‬ ‫الكريم أن داود عليه السلم كان مجاه ً‬
‫نجحوا في المتحان العسير الذي قرر رئيس الجيش أن يخوضه‬
‫جميع جنوده فسقط من سقط ونجح من نجح‪.‬‬
‫لقد رفع داود عليه السلم راية النصر وشرع في إعادة‬
‫التمكين لبني إسرائيل بعد قتله لجالوت‪ ,‬وكان إذ ذاك فتى‪ ,‬وتم‬
‫له الظفر‪ ,‬فالتقت على محبته القلوب‪ ,‬وتأكدت له أواصر‬
‫الخلص‪ ,‬وأصبح بين عشية وضحاها حديث بني إسرائيل‪ ,‬يكنون‬
‫له في نفوسهم الحترام والمحبة والتوقير‪ ,‬ومنذ ذلك الحين بدأ‬
‫نجمه يصعد في السماء وينتقل من ظفر إلى ظفر‪ ,‬ويجيئه النصر‬
‫يتبعه النصر‪ ,‬حتى ولى الملك أخيًرا‪ ,‬وأصبح ذا سلطان وظهرت‬
‫عا إلى‬ ‫ملمح الحكم في زمنه في عدله وحكمه‪ ,‬وكان أواًبا رجا ً‬
‫ربه بالطاعة والعبادة والذكر والستغفار‪.‬‬
‫لقد كان منهج التغيير في زمن داود عليه السلم هو الصراع‬
‫المسلح بين قوى الخير والشر‪ ,‬واليمان والكفر‪ ,‬والهدى والضلل‪,‬‬
‫وبالفعل تم دمغ الباطل وإضعافه ووصل بنو إسرائيل إلى قمة‬
‫مجدهم وعزهم‪.‬‬
‫إن داود عليه السلم شد ّ ملكه بالتسبيح والذكر والطاعة‪,‬‬
‫فكان عليه السلم يسبح بالعشي والشراق‪ ,‬وتجاوبت الجبال مع‬
‫ذكره العذب الجميل‪ ,‬وكذلك تجاوبت الطيور‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬إ ِّنا‬
‫ق" ]ص‪,[18:‬‬ ‫شَرا ِ‬ ‫وال ِ ْ‬ ‫ي َ‬ ‫ش ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫سب ّ ْ‬‫ه يُ َ‬ ‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل َ‬ ‫جَبا َ‬ ‫خْرَنا ال ْ ِ‬ ‫س ّ‬ ‫َ‬
‫شدَدَْنا‬‫و َ‬‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫وجل‪:‬‬ ‫ز‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫كتابه‬ ‫في‬ ‫ذكرها‬ ‫عظمى‬ ‫هبة‬ ‫الله‬ ‫فوهبه‬
‫ب" ]ص‪ ,[20:‬أي جعلنا‬ ‫طا ِ‬ ‫خ َ‬ ‫ل ال ْ ِ‬ ‫ص َ‬ ‫ف ْ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬‫م َ‬‫حك ْ َ‬ ‫وآت َي َْناهُ ال ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫مل ْك َ ُ‬ ‫ُ‬
‫له ملكا كامل من جميع الملوك العظماء‪ ,‬بحيث ل يتمكن منه‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫أعداؤه لكثرة جيوشه‪ ,‬وكثافة حراسه التي قيل إنهم كانوا ألوًفا‬
‫دا‪,‬‬
‫ينكسر له جيش في معركة أب ً‬ ‫كثيرة يتناوبون في حراسته‪ ,‬ولم‬
‫ما‬
‫على َ‬ ‫َ‬ ‫صِبر َ‬ ‫تعالى‪+ :‬ا ْ‬
‫)‪(1‬‬
‫دا بعون الله ونصره ‪ ,‬قال‬ ‫فقد كان مؤي ً‬
‫ذا اليد إن ّه أ َ‬
‫ب" ]ص‪.[17:‬‬ ‫وا ٌ‬ ‫ِ ُ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫و‬
‫ُ‬ ‫دا‬ ‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫ُ‬
‫واذْ ْ‬
‫ك‬ ‫ن َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫يَ ُ‬
‫أ‪ -‬إن المتأمل في القرآن الكريم في قصة داود عليه السلم‬
‫يتعرف على صفات الحاكم المؤمن الذي مكن الله له‪ ,‬وهي تحقق‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(15/162‬‬

‫‪113‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫للقائد المصلح كمال السعادة في الدنيا والخرة‪.‬‬


‫ومن أهم هذه الصفات‪:‬‬
‫دا × على جللة قدره‬ ‫‪ -1‬الصبر‪ :‬فقد أمر الله تعالى نبينا محم ً‬
‫بأن يقتدي به في الصبر على طاعة الله‪.‬‬
‫عب ْدََنا" وعبر عن نفسه‬ ‫‪ -2‬العبودية‪ :‬فقد وصفه ربه بقوله ‪َ +‬‬
‫بصيغة الجميع للتعظيم‪ ,‬والوصف بالعبودية لله غاية التشريف‪,‬‬
‫َ‬
‫سَرى‬ ‫ذي أ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫حا َ‬‫سب ْ َ‬‫كوصف محمد × بها ليلة المعراج‪ُ + :‬‬
‫ه" ]السراء‪.[1:‬‬ ‫د ِ‬ ‫عب ْ ِ‬‫بِ َ‬
‫ين فضله‬ ‫وكان النبي ×إذا ذكر داود عليه السلم وحدث عنه ب ّ‬
‫واجتهاده في العبادة‪ ,‬قال ×‪»:‬إن أحب الصيام إلى الله صيام داود‪,‬‬
‫وأحب الصلة إلى الله صلة داود عليه السلم‪ ,‬كان ينام نصف‬
‫ما«)‪.(1‬‬ ‫ما ويفطر يو ً‬ ‫الليل‪ ,‬ويقوم ثلثه وينام سدسه وكان يصوم يو ً‬
‫‪ -3‬القوة على أداء الطاعة والحتراز عن المعاصي في قوله‪:‬‬
‫د"‪.‬‬‫ذا الي ْ ِ‬ ‫‪َ +‬‬
‫جاع إلى الله بالطاعة في أموره كلها‪ ,‬في قوله تعالى‪:‬‬ ‫‪َ -4‬والر ّ‬
‫ب"‪ ,‬وصف بالقوة على طاعة الله‪ ,‬وبأنه أواب دليل‬ ‫وا ٌ‬ ‫هأ ّ‬ ‫‪+‬إ ِن ّ ُ‬
‫على كمال معرفته بالله التي جعلته يجتهد في العبادة على نهج‬
‫رباني صحيح‪.‬‬
‫ه‬
‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل َ‬ ‫جَبا َ‬ ‫خْرَنا ال ْ ِ‬ ‫س ّ‬ ‫‪ -5‬تسبيح الجبال والطيور معه‪+ :‬إ ِّنا َ‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ً‬ ‫ة‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫شو‬‫ُ‬ ‫ح‬‫والطّي َْر َ ْ‬
‫م‬ ‫ق‪َ ‬‬ ‫وال ِ ْ‬
‫شَرا ِ‬ ‫ي َ‬
‫ش ّ‬ ‫ع ِ‬‫ن ِبال ْ َ‬ ‫ح َ‬‫سب ّ ْ‬ ‫ي َُ َ‬
‫ب" ]ص‪.[19،18:‬‬ ‫وا ٌ‬ ‫أ ّ‬
‫أي أنه تعالى سخر الجبال تسبح معه عند إشراق الشمس‬
‫والطّي َْر"‬ ‫ل‪+ :‬يا جبا ُ َ‬ ‫وآخر النهار‪ ,‬كما قال عز وج ّ‬
‫ه َ‬ ‫ع ُ‬ ‫م َ‬‫وِبي َ‬ ‫لأ ّ‬ ‫َ ِ َ‬
‫]سبأ‪.[10:‬‬
‫قال ابن كثير‪» :‬وكذلك الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه‬
‫إذا مر به الطير‪ ,‬وهو سابح في الهواء‪ ,‬فسمعه‪ ,‬وهو يترنم بقراءة‬
‫الزبور‪ ,‬ل يستطيع الذهاب‪ ,‬بل يقف في الهواء ويسبح معه‪ ,‬وتجيبه‬
‫الجبال الشامخات‪ ,‬وترجع معه‪ ,‬وتسبح تبًعا له«)‪.(2‬‬
‫ه" ]ص‪ ,[20:‬أي قوينا ملكه‬ ‫مل ْك َ ُ‬ ‫و َ‬
‫شدَدَْنا ُ‬ ‫‪ -6‬قوة الملك‪َ + :‬‬
‫كا كامل ً من جميع ما يحتاج إليه‬ ‫بالجند أو الحرس‪ ,‬وجعلنا له مل ً‬
‫الملوك‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب الصيام‪ ,‬باب النهي عن صوم الدهر )‪ (2/816‬رقم ‪.189‬‬
‫‪2‬‬
‫)( تفسير ابن كثير )‪.(4/29‬‬

‫‪114‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫ة" ]ص‪ ,[20:‬أعطيناه الفهم‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫وآت َي َْناهُ ال ْ ِ‬ ‫‪ -7‬الحكمة‪َ + :‬‬


‫والعقل والفطنة‪ ,‬والعلم‪ ,‬والعدل‪ ,‬وإتقان العمل‪ ,‬والحكم‬
‫بالصواب‪.‬‬
‫ب" ]ص‪:‬‬ ‫طا ِ‬ ‫خ َ‬ ‫ل ال ْ ِ‬ ‫ص َ‬ ‫ف ْ‬ ‫و َ‬ ‫‪ -8‬حسن الفصل في الخصومات‪َ + :‬‬
‫‪ ,[20‬أي‪ :‬وألهمناه حسن الفصل في القضاء بإحقاق الحق وإبطال‬
‫الباطل‪ ,‬وإيجاز البيان بجعل المعنى الكثير في‬
‫اللفظ القليل)‪.(1‬‬
‫وكان من الطبيعي في سنن الله تعالى أن يتعرض داود عليه‬
‫السلم للفتنة والبتلء وكانت عين الله ترعاه‪ ,‬وتقود خطاه‪,‬‬
‫خطر‬ ‫منن َبأ ُ‬ ‫وكانت يد الله معه تكشف له ضعفه وخطأه وتحميه‬
‫ك َ‬ ‫ل أ ََتا َ‬ ‫ه ْ‬ ‫و َ‬ ‫الطريق وتعلمه كيف يتوقاه‪ .‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ع‬
‫ز َ‬ ‫ِ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫د‬
‫َ ُ َ‬ ‫و‬ ‫دا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫لوا‬ ‫خ ُ‬ ‫ب ‪ ‬إ ِذْ دَ َ‬ ‫حَرا َ‬ ‫م ْ‬ ‫وُروا ال ْ ِ‬ ‫س ّ‬ ‫صم ِ إ ِذْ ت َ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ض‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ع ٍ‬ ‫على ب َ ْ‬ ‫ضَنا َ‬
‫َ‬
‫ع ُ‬ ‫غى ب َ ْ‬ ‫ن بَ َ‬
‫ْ‬
‫ما ِ‬ ‫ص َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫خ ْ‬ ‫م قالوا ل ت َ َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ِ‬
‫ط‬
‫صَرا ِ‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫وا‬ ‫َ َ‬ ‫س‬ ‫لى‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫وا‬‫َ‬ ‫ط‬ ‫ِ‬ ‫ط‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ق‬
‫َ ِ َ ّ َ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ح‬‫ْ‬ ‫فا‬‫َ‬
‫ة‬
‫حد َ ٌ‬ ‫وا ِ‬ ‫ة َ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ع َ‬ ‫ي نَ ْ‬ ‫َ‬ ‫ول ِ‬ ‫ة َ‬ ‫ج ً‬ ‫ع َ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫س ُ‬ ‫وت ِ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫س ٌ‬ ‫ه تِ ْ‬ ‫خي ل ُ‬ ‫ذا أ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن ََ‬ ‫‪ ‬إِ ّ‬
‫مكَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب ‪ ‬قال لقدْ ظل َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خطا ِ‬ ‫َ‬ ‫في ال ِ‬‫ْ‬ ‫عّزِني ِ‬ ‫و َ‬‫ها َ َ‬ ‫فلِني َ‬ ‫ْ‬ ‫قال أك ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫غي‬ ‫ء لي َب ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫خلطا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن كِثيًرا ّ‬ ‫َ‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ج ِ‬ ‫عا ِ‬ ‫جت ِك إ ِلى ن ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ع َ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫ؤا ِ‬ ‫س َ‬ ‫بِ ُ‬
‫ت‬‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫َ َ َ‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ٍَ ِ‬ ‫ض‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫ض‬
‫ُ‬ ‫ع‬
‫بَ ْ‬
‫خّر‬ ‫و َ‬ ‫َ َ ّ ُ َ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫غ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬
‫ْ َ‬ ‫س‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫نا‬
‫َ ّ ُ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ما‬ ‫ن‬‫أ‬
‫ّ َ ُ ُ ّ َ‬ ‫د‬ ‫و‬ ‫دا‬ ‫ن‬ ‫ظ‬ ‫و‬ ‫َّ ُ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ما‬ ‫ل‬ ‫ٌ‬ ‫لي‬ ‫و ِ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ب" ]ص‪.[24-21:‬‬ ‫وأَنا َ‬ ‫عا َ‬ ‫َراك ِ ً‬
‫وبيان هذه الفتنة أن داود النبي الملك‪ ,‬كان يخصص بعض وقته‬
‫للتصرف في شئون الملك‪ ,‬وللقضاء بين الناس‪ ,‬ويخصص البعض‬
‫الخر للخلوة والعبادة وترتيل أناشيده تسبيحا ً لله في المحراب‪ ,‬وكان‬
‫إذا دخل المحراب للعبادة والخلوة لم يدخل إليه حتى يخرج إلى‬
‫الناس‪.‬‬
‫مغلق‬ ‫وفي ذات يوم فوجئ بشخصين ي ََتسوران المحراب ال ُ‬
‫عليه ففزع منهما‪ .‬قال‪ :‬ل تخف نحن خصمان بغى بعضنا على‬
‫بعض‪ ,‬وجئنا للتقاضي أمامك‪ ,‬ونطلب منك أن تحكم بالحق والعدل‬
‫وتبتعد عن الشطط وتدلنا على الصواب‪ ,‬وبدأ أحدهما فعرض‬
‫خصومته بطريقة توحي بأن أحدهما وقع في ظلم صارخ‪ ,‬فاندفع‬
‫داود عليه السلم دون السماع إلى حجة الخصم الخر وأصدر‬
‫حكمه‪ ,‬وبعد النتهاء من إصدار الحكم تنبه داود عليه السلم بأنه‬
‫لم يتثبت‪ ,‬فربما كان صاحب النعجة الواحدة هو الظالم‪ ,‬فأيقن‬
‫إنما الحادثة اختبار من الله تعالى فرجع إلى طبيعته واستغفر ربه‬
‫وخر راكًعا وأناب)‪ ,(2‬لقد خاضت بعض التفاسير في هذه الحادثة‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير المنير‪ ,‬وهبة الزحيلي )‪.(23/185،184،183‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬قصص الرحمن في ظلل القرآن )‪.(4/36،35‬‬

‫‪115‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بسبب التأثر بالسرائيليات ونسبت لداود عليه السلم ما يتنافى‬


‫مع عصمته‪.‬‬
‫إن علماء أهل السنة يجمعون على أن النبياء معصومون عن‬
‫الكبائر)‪.(1‬‬
‫ما‬‫وقد ذكر العلمة السعدي ‪-‬رحمه الله‪ -‬فوائد عظيمة وحك ً‬
‫جزيلة من قصة داود عليه السلم‪ ,‬فقال‪:‬‬
‫‪ -1‬ومنها أي الفوائد‪ :‬اعتناء الله تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما‬
‫يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم‪ ,‬وابتلئهم بما به يزول عنهم‬
‫المحذور‪ ,‬ويعودون إلى أكمل من حالتهم الولى‪ ,‬كما جرى لداود‬
‫عليه السلم‪.‬‬
‫‪ -2‬ومنها‪ :‬أن النبياء معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن‬
‫الله تعالى‪ ,‬لن مقصود الرسالة ل يحصل إل بذلك‪.‬‬
‫ما‬
‫‪ -3‬ومنها‪ :‬أن داود عليه السلم كان في أغلب أحواله ملز ً‬
‫محرابه‪ ,‬لخدمة ربه‪ ,‬ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب‪ ,‬لنه‬
‫كان إذا خل في محرابه‪ ,‬ل يأتيه أحد؛ فلم يجعل كل وقته للناس‬
‫مع كثرة ما يرد عليه من الحكام‪ ,‬بل جعل له وقًتا‪ ,‬يخلو فيه بربه‪,‬‬
‫وتقر عينه بعبادته‪ ,‬وتعينه على الخلص في جميع أموره‪.‬‬
‫‪ -4‬ومنها‪ :‬أنه ينبغي استعمال الدب في الدخول على الحكام‬
‫وغيرهم‪ ,‬فإن الخصمين لما دخل على داود في حالة غير معتادة‪,‬‬
‫ومن غير الباب المعهود‪ ,‬فزع منهم واشتد عليه ذلك‪ ,‬ورآه غير‬
‫لئق بالحال‪.‬‬
‫‪ -5‬ومنها‪ :‬أنه ل يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب‬
‫الخصم وفعله ما ل ينبغي‪.‬‬
‫‪ -6‬ومنها‪ :‬كمال حلم داود عليه السلم‪ ,‬فإنه ما غضب عليهما‪,‬‬
‫حين جاءاه بغير استئذان‪ ,‬وهو الملك‪ ,‬ول انتهرهما‪ ,‬ول وبخهما‪.‬‬
‫‪ -7‬ومنها‪ :‬جواز قول المظلوم لمن ظلمه‪» :‬أنت ظلمتني«‪ ,‬أو‪:‬‬
‫ضَنا‬
‫ع ُ‬ ‫غى ب َ ْ‬ ‫ن بَ َ‬
‫ما ِ‬
‫ص َ‬
‫خ ْ‬
‫ي ونحو ذلك؛ لقولهما‪َ + :‬‬‫يا ظالم أو باغ عل ّ‬
‫ض"‪.‬‬‫ع ٍ‬ ‫عَلى ب َ ْ‬
‫َ‬
‫‪ -8‬ومنها‪ :‬أن الموعوظ والمنصوح ولو كان كبير القدر‪ ,‬جليل‬
‫العلم‪ ,‬إذا نصحه أحد‪ ,‬أو وعظه‪ ,‬ل يغضب‪ ,‬ول يشمئز‪ ,‬بل يبادره‬
‫بالقبول والشكر‪.‬‬
‫‪ -9‬ومنها‪ :‬أن المخالطة بين القارب والصحاب‪ ,‬وكثرة‬
‫التعلقات الدنيوية المالية‪ ,‬موجبة للتعادي بينهم‪ ,‬وبغي بعضهم على‬
‫بعض‪ ,‬وأنه ل يرد عن ذلك إل استعمال تقوى الله‪ ,‬والصبر على‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير المنير )‪.(23/190‬‬

‫‪116‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المور باليمان والعمل الصالح‪.‬‬


‫صا الصلة‪ ,‬مكفرات‬ ‫‪ -10‬ومنها‪ :‬أن الستغفار والعبادة خصو ً‬
‫للذنوب‪ ,‬فإن الله رتب مغفرة ذنب داود‪ ,‬على استغفاره‬
‫وسجوده)‪.(1‬‬
‫ب‪ -‬استخلف الله تعالى لداود عليه السلم‪:‬‬
‫ض‬ ‫َ‬ ‫خِلي َ‬ ‫عل َْنا َ‬
‫في الْر ِ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ً‬ ‫ك َ‬ ‫ج َ‬ ‫ودُ إ ِّنا َ‬
‫ْ‬ ‫دا ُ‬
‫قال تعالى‪َ+ :‬يا َ‬
‫ع‬ ‫ب‬
‫َ ّ ِ ِ‬‫ت‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫س ِ َ ّ َ‬
‫ق‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ن ّالّنا ِ‬ ‫حك ُ ْ‬
‫م ب َي ْ َ‬ ‫فا ْ‬ ‫َ‬
‫عن‬‫ن َ‬ ‫ضلو َ‬ ‫ّ‬ ‫ن يَ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن ال ِ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫عن َ‬ ‫َ‬
‫ضلك َ‬ ‫َ‬
‫وى في ُ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ال َ‬‫ْ‬
‫ب" ]ص‪:‬‬‫ِ‬ ‫سا‬
‫َ‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫سوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ما‬‫ِ َ‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫دي‬
‫ِ‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫ب‬‫ٌ‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ل‬‫س ِ ِ‬
‫بي‬ ‫َ‬
‫‪.[26‬‬
‫ما ً بين النا س في‬ ‫خاطب الله تعالى داود عليه السلم بأن جعله حاك‬
‫الر ض‪ ,‬فله الحكم والسلطة‪ ,‬وعليهم السمع والطاعة‪ ,‬ثم بين الله‬
‫ما ً لغيره من النا س‪.‬‬ ‫تعالى له قواعد الحكم تعلي‬
‫ق" أي فاقض بين الناس‬ ‫ح ّ‬ ‫س ِبال ْ َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م ب َي ْ َ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫فا ْ‬ ‫‪َ + -1‬‬
‫بالعدل الذي قامت به السموات والرض‪ ,‬وهذه أولى وأهم قواعد‬
‫الحكم‪.‬‬
‫وى" أي ل تمل في الحكم مع أهواء نفسك‬ ‫ه َ‬ ‫ع ال ْ َ‬ ‫ول َ ت َت ّب ِ ِ‬ ‫‪َ + -2‬‬
‫أو بسبب مطامع الدنيا‪ ,‬فإن اتباع الهوى مزلقة ومدعاة إلى النار‪,‬‬
‫ه" أي أن اتباع الهوى سبب‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫عن َ‬ ‫ك َ‬ ‫ضل ّ َ‬ ‫في ُ ِ‬ ‫لذا قال‪َ + :‬‬
‫في الوقوع في الضلل والنحراف عن جادة الحق‪ ,‬وعاقبته‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ل الل ِ ُ ْ‬
‫ه‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫سِبي ِ‬
‫عن َ‬ ‫ن َ‬ ‫ضّلو َ‬‫ن يَ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫الخذلن‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ب"‪.‬‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬ ‫و َ‬‫سوا ي َ ْ‬ ‫ما ن َ ُ‬ ‫ديدُ ب ِ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ع َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫َ‬
‫أي أن الذين يتنكبون طريق الحق والعدل‪ ,‬لهم عقاب شديد‬
‫يوم القيامة والحساب الخروي‪ ,‬بسبب نسيانهم أهوال ذلك اليوم‪,‬‬
‫وما فيه من حساب شديد دقيق لكل إنسان‪ ,‬وبسبب تركهم العمل‬
‫لذلك اليوم‪ ,‬ومنه القضاء بالعدل‪.‬‬
‫والعبرة من هذا الموضوع‪ :‬الوصية من الله عز وجل لولة‬
‫المور أن يحكموا بين الناس بالحق‪ ,‬ول يحيدوا عنه‪ ,‬فيضلوا عن‬
‫سبيل الله‪ ,‬وقد توعد الله من ضل عن سبيله وتناسى يوم‬
‫الحساب بالوعيد الكيد والحساب الشديد)‪.(2‬‬
‫إن الية الكريمة تبين أن الحكم بين الناس‪ ,‬مرتبة دينية‪ ,‬تولها‬
‫رسل الله‪ ,‬وخواص خلقه‪ ,‬وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق‪,‬‬
‫ومجانبة الهوى‪ ,‬فالحكم بالحق يقتضي العلم بالمور الشرعية‪,‬‬
‫والعلم بصورة القضية المحكوم بها‪ ,‬وكيفية إدخالها في الحكم‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير السعدي الذي اختصر في مجلد ص ‪.660 ،559‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير المنير )‪.(23/188‬‬

‫‪117‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الشرعي‪ ,‬فالجاهل بأحد المرين ل يصلح للحكم‪ ,‬ول يحل له‬


‫القدام عليه‪ ,‬وتبين كذلك أن الحاكم ينبغي له أن يحذر الهوى‪,‬‬
‫ويجعله منه على بال‪ ,‬فإن النفوس ل تخلو منه؛ بل يجاهد نفسه‪,‬‬
‫بأن يكون الحق مقصوده)‪.(1‬‬
‫ج‪ -‬هبة من الله تعالى مباركة وفتح وإلهام‪:‬‬
‫إن داود عليه السلم كان له كثير من البناء والولد إل أن الله‬
‫خصه بالبن الصالح النبي الملك سليمان عليه السلم‪ ,‬وأثنى الله‬
‫ل‪ ,‬كثير الطاعة والعبادة‬ ‫عليه في كتابه بكونه أواًبا إلى الله عّز وج ّ‬
‫والنابة إلى الله عز وجل في أكثر الوقات‪ ,‬ومن مزيد فضل الله‬
‫على عبده داود أن وهبه سليمان الذي ورث عنه الملك والنبوة‪.‬‬
‫ه‬
‫عب ْدُ إ ِن ّ ُ‬‫م ال ْ َ‬ ‫ع َ‬‫ن نِ ْ‬‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫ود َ ُ‬ ‫دا ُ‬ ‫هب َْنا ل ِ َ‬ ‫و َ‬ ‫و َ‬ ‫َ قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ب" ]ص‪.[30:‬‬ ‫وا ٌ‬ ‫أ ّ‬
‫لقد أكرم الله تعالى سليمان عليه السلم بالملك والنبوة‬
‫وأعطاه الفهم الثاقب‪,‬‬
‫والرأي السديد‪ ,‬ورجاحة العقل‪.‬‬
‫ومما يدلنا على ذلك قوله تعالى‪:‬‬
‫ت‬
‫ش ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ث إ ِذْ ن َ َ‬ ‫حْر ِ‬ ‫في ال ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫حك ُ َ‬ ‫ن إ ِذْ ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫و ُ‬ ‫ود َ َ‬ ‫دا ُ‬ ‫و َ‬
‫‪َ +‬‬
‫ها‬ ‫مَنا َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ‪ ‬فف ّ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ِ‬‫م شا ِ‬ ‫َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ه َ‬
‫ْ‬ ‫م ِ‬ ‫حك ِ‬ ‫وكّنا ل ِ ُ‬
‫ْ‬
‫وم ِ َ‬ ‫م الق ْ‬
‫ُ‬
‫غن َ ُ‬ ‫في ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ما" ]النبياء‪.[79 ,78 :‬‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫و‬
‫ً َ‬ ‫ما‬ ‫ك‬ ‫ح‬
‫ُ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫آ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫س‬ ‫ُ‬
‫إن اليات الكريمة تبين قصة زرع رعته ليل ً غنم لخرين‪ ,‬وكان‬
‫دا بما حكم به داود وسليمان‪ ,‬ل تخفى عليه خافية‪,‬‬ ‫ما شاه ً‬ ‫الله علي ً‬
‫ولكنه تعالى أفهم سليمان القضية والحكمة والفتوى الصحيحة‬
‫الراجحة فكان رأيه هو الصوب‪ ,‬مع أنه سبحانه آتى كل ً من داود‬
‫وسليمان النبوة وحسن الفصل في الخصومات والعلم والفهم‬
‫والدراك السليم للمور‪ ,‬مما يدل على إقرار الحكمين في الجملة‪,‬‬
‫دا‪ ,‬وهو‬‫وعلى أن خطأ المجتهد ل يقدح فيه‪ ,‬وإن كان الصواب واح ً‬
‫ن" على‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫ها ُ‬ ‫مَنا َ‬ ‫ه ْ‬‫ف ّ‬ ‫ف َ‬ ‫ما قضى به سليمان‪ ,‬ودل قوله‪َ + :‬‬
‫إظهار ما تفضل الله عليه به في صغره)‪.(2‬‬
‫لقد استنبط العلماء من هذه اليات كثيًرا من‬
‫المسائل المهمة نذكر بعضها‪:‬‬
‫‪ -1‬في هذه الية دليل على جواز رجوع القاضي عما حكم به‪,‬‬
‫إذا تبين له أن الحق في غيره‪ ,‬فقد رجع داود إلى حكم سليمان‬
‫عليهما السلم‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير السعدي الذي جمع في مجلد واحد ص ‪.660‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير المنير )‪.(17/106‬‬

‫‪118‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -2‬يرى كثير من الفقهاء أن الحق واحد في أقوال المجتهدين‪,‬‬


‫وليس الحق أو الصواب في جميع أقوالهم‪ ,‬بدليل قوله تعالى‪:‬‬
‫ن" فخص سليمان بالفهم‪ ,‬ولو كان الكل‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬‫ها ُ‬ ‫مَنا َ‬
‫ه ْ‬‫ف ّ‬‫ف َ‬‫‪َ +‬‬
‫مصيًبا لم يكون لتخصيص سليمان عليه السلم بهذا التفهيم‬
‫فائدة)‪.(1‬‬
‫د‪ -‬ابتكار في صناعة السلحة‪:‬‬
‫من‬ ‫صن َ ُ‬
‫كم ّ‬ ‫ح ِ‬ ‫س ل ّك ُ ْ‬
‫م ل ِت ُ ْ‬ ‫ع َ َ‬
‫ة لُبو ٍ‬ ‫صن ْ َ‬ ‫مَناهُ َ‬ ‫عل ّ ْ‬
‫و َ‬ ‫ْ قال تعالى‪َ +َ :‬‬
‫ن"‬ ‫َ‬ ‫رو‬‫ِ ُ‬ ‫ك‬‫شا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ه ْ‬
‫ل أن ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬
‫ف َ‬ ‫سك ُ ْ‬‫ب َأ ِ‬
‫]النبياء‪.[80:‬‬
‫كان داود عليه السلم أول من اتخذ الدروع وصنعها‪ ,‬وتعلمها‬
‫الناس منه‪ ,‬وإنما كانت صفائح‪ ,‬فهو أول من سردها وحلقها‪,‬‬
‫فأصبحت النعمة عليه نعمة على جميع المحاربين على الدوام أبد‬
‫الدهر‪ ,‬فلزمهم شكر الله تعالى على النعمة‪.‬‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وذلك يقتضي الشكر‪ ,‬لذا قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ل أن ْت ُ ْ‬ ‫ف َ‬
‫ن" أي على تيسير نعمة الدروع لكم‪ ,‬وأن تطيعوا رسول‬ ‫شاك ُِرو َ‬ ‫َ‬
‫الله × فيما أمر به‪ ,‬والمراد‪ :‬اشكروا الله على ما يسر عليكم من‬
‫هذه النعمة‪.‬‬
‫وهذه الية دليل على جواز اتخاذ الصنائع والسباب‪ ,‬فالسبب سنة‬
‫الله في خلقه‪ ,‬وهي شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع بأن العمل‬
‫شرف‪ ,‬واتخاذ الحرفة كرامة‪ ,‬وهذه الية فيها إشارة لحث أهل‬
‫اليمان على العمل والبداع والخذ بأسباب النصر على العداء‪,‬‬
‫ومحاربة الفساد بإعداد الجيوش مقودة بقيم اليمان وتعاليم الرحمن‪,‬‬
‫وشريعة الديان‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قدّْر‬ ‫و َ‬ ‫ت َ‬ ‫غا ٍ‬ ‫ساب ِ َ‬ ‫ل َ‬ ‫م ْ‬ ‫ع َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ديدَ ‪ ‬أ ِ‬ ‫ح ِ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫وأل َّنا ل َ ُ‬ ‫قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ر" ]سبأ‪:‬‬ ‫صي ٌ‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫حا إ ِّني ب ِ َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ملوا َ‬ ‫ُ‬ ‫ع َ‬ ‫وا ْ‬ ‫سْرِد َ‬ ‫في ال ّ‬ ‫ِ‬
‫‪ ,[11،10‬وكانت هذه هبة الله فوق الملك والسلطان‪ ,‬مع النبوة‬
‫والستخلص‪ ,‬إن الله تعالى أنعم على عبده داود بتسييل الحديد‬
‫له أو تعليمه كيف يسيل الحديد الذي هو مادة العمار والبناء‬
‫والتصنيع‪ ,‬ول شك في خطورة مادة الحديد في صناعة الحضارات‬
‫وبناء الدول وفي حسم انتصارات الجيوش‪.‬‬
‫الدكتور عماد الدين خليل‪ :‬وفي َسورة الحديد نقرأ هذه‬ ‫يقول‬
‫قد أ َ‬
‫م ال ْك َِتا ْ َ‬
‫ب‬ ‫َ ُ ُ‬‫ه‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ز‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫و‬‫ََ‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ب‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ِ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫س‬‫ُ ُ‬ ‫ر‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ْ َ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫الية‪+ :‬‬
‫س‬‫ٌ‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫في‬
‫َ ِ َ ِ ِ َ‬ ‫د‬ ‫دي‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫نا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ز‬ ‫ن‬
‫ُ ِ ِ ْ ِ َ ْ َ َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ط‬ ‫س‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫س‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫مي َ َ ِ َ‬
‫ي‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫زا‬ ‫وال ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫سل ُ‬ ‫وُر ُ‬ ‫صُرهُ َ‬ ‫من ي َن ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫عل َ‬‫َ‬ ‫ول ِي َ ْ‬ ‫س َ‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫لل‬‫ِ‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫د‬ ‫دي‬‫ِ‬ ‫ش‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫زيٌز" ]الحديد‪ .[25:‬هل ثمة أكثر دللة‬ ‫ع ِ‬ ‫ي َ‬ ‫و ّ‬ ‫ق ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ب إِ ّ‬ ‫غي ْ ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬

‫‪1‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(17/105‬‬

‫‪119‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫على ارتباط المسلم بالرض من تسمية سورة كاملة باسم خام‬


‫عا لنزعة التحضير‬ ‫من أهم وأخطر خاماتها؟ هل ثمة أكثر إقنا ً‬
‫والبداع والبناء‪ ,‬التي جاء السلم لكي يجعلها جزًءا أساسًيا من‬
‫أخلقيات اليمان وسلوكياته في قلب العالم‪ ,‬من هذه الية التي‬
‫تعرض خام الحديد كنعمة كبيرة أنزلها الله لعباده‪ ,‬وتعرض معها‬
‫ما عن الحديد )البأس‬ ‫المسألة في طرفيها اللذين يتمخضان دو ً‬
‫الشديد( متمثل ً باستخدام الحديد كأساس للتسلح والعداد‬
‫العسكري‪ ,‬و)المنافع( التي يمكن أن يحظى بها النسان من هذه‬
‫المادة الخام في كل مجالت نشاطه وبنائه )السلمي(؟ وهل ثمة‬
‫حاجة للتأكيد على الهمية المتزايدة للحديد بمرور الزمن‪ ,‬في‬
‫مسائل السلم والحرب‪ ,‬وأنه غدا في عصرنا الراهن هذا وسيلة‬
‫ما وحرًبا؟‬ ‫من أهم الوسائل في ميادين القوى الدولية سل ً‬
‫إن الدولة المعاصرة التي تملك خام الحديد تستطيع أن ترهب‬
‫أعداءها بما يتيحه لها هذا الخام من مقدرة على التسلح الثقيل‪..‬‬
‫ضا‪ -‬أن تخطو خطوات واسعة لكي تقف في مصاف‬ ‫وتستطيع ‪-‬أي ً‬
‫الدول الصناعية العظمى التي يشكل الحديد العمود الفقري‬
‫لصناعاتها وغناها)‪.(1‬‬
‫إن الله سبحانه وتعالى منح الحديد لداود عليه السلم‪ ,‬وعلمه‬
‫كيف يلينه‪ ,‬لن الفائدة تتحقق بوجود الخام والقدرة على تشكيله‪,‬‬
‫ول شك أن ذلك ساعد على بناء حضارة عظيمة جمعت بين‬
‫المنهج الرباني والتطور العمراني والصناعي‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫قا بين‬ ‫طا وثي ً‬‫قا وارتبا ً‬ ‫وإذا تأملنا في آية الحديد نجد تداخل ً عمي ً‬
‫آية الحديد‪ ,‬وإرسال الرسل وإنزال الكتب معهم‪ ,‬وإقامة الموازين‬
‫الدقيقة لنشر العدل بين الناس‪ ,‬وبين إنزال الحديد الذي يحمل‬
‫في طياته )البأس(‪ ,‬ثم التأكيد على أن هذا كله إنما يجئ لكي‬
‫ي‬
‫و ّ‬‫ق ِ‬ ‫ه َ‬‫ن الل َ‬‫ب" و ‪ +‬إ ِ ّ‬ ‫ه ِبال ْ َ‬
‫غي ْ ِ‬ ‫سل َ ُ‬
‫وُر ُ‬
‫صُرهُ َ‬
‫من ي َن ْ ُ‬ ‫يعلم الله ‪َ +‬‬
‫زيٌز"‪.‬‬ ‫ع ِ‬
‫َ‬
‫إن المسلم الرباني لن تحميه بعد قدرة الله إل يده المؤمنة‬
‫التي تعرف كيف تبحث عن الحديد وتشكله وتستخدمه من أجل‬
‫حماية العقيدة والتقدم بهذا الدين‪ ,‬وتحقيق النصر للمؤمنين‪,‬‬
‫وإقامة دولة تحكمها شريعة رب العالمين‪ ,‬إن قول الله تعالى‪:‬‬
‫‪َ +‬‬
‫ديدَ" فيه إشارة إلى أهمية هذا الخام وتوظيفه‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫وأل َّنا ل َ ُ‬
‫َ‬
‫لخدمة السلم‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬فقه التمكين عند سليمان‪:‬‬
‫تسلم سليمان عليه السلم قيادة الدولة القوية التي أسست‬
‫‪1‬‬
‫)( التفسير السلمي للتاريخ‪ ,‬ص ‪.222،221‬‬

‫‪120‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫على اليمان والتوحيد وتقوى الله تعالى‪ ,‬لقد أوتي سليمان عليه‬
‫السلم الملك الواسع والسلطان العظيم بحيث لم يؤت أحد مثلما‬
‫أوتي‪ ,‬ولكنه أعطى قبل ذلك عطاء أعظم وأكرم‪ ,‬هيأه لن يكون‬
‫منح العلم‬ ‫شخصية فريدة متميزة في التاريخ‪ ,‬لقد أعطي النبوة‪ ,‬و ُ‬
‫وأوتي الحكمة‪ ,‬وذلك مثلما أعطي أبوه من قبل‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬
‫ذي‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫مدُ لل ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫قال َ ال ْ َ‬ ‫و َ‬ ‫ما َ‬ ‫عل ْ ً‬ ‫ن ِ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫و ُ‬ ‫ود َ َ‬ ‫دا ُ‬ ‫قدْ آت َي َْنا َ‬ ‫ول َ َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ن‬
‫ما ُ‬ ‫ي‬
‫ُ ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ث‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫و‬
‫َ َّ ِ‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ني‬‫ِ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫با‬‫َ‬ ‫ع‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫َ ٍ ّ ْ‬ ‫ر‬ ‫ثي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ض‬‫ّ‬ ‫ف‬ ‫َ‬
‫من‬ ‫وأوِتيَنا ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ق الطي ْ ِ‬ ‫منطِ َ‬ ‫مَنا َ‬ ‫ّ‬
‫عل ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ها الّنا ُ‬ ‫وقال َيا أي ّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ود َ َ‬ ‫دا ُ‬ ‫َ‬
‫ن" ]النمل‪.[16،15 :‬‬ ‫مِبي ُ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫و ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫إ‬
‫ْ ِ‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬
‫إن سليمان عليه السلم لم يرث عن أبيه مال ً أو داًرا أو عقاًرا‪,‬‬
‫وإنما ورث عنه العلم والحكمة وورث النبوة والحكم‪ ,‬وأعطاه الله‬
‫دا بعده فقد سأل الله عّز‬ ‫ما وهبات خاصة به لم يعطها أح ً‬ ‫تعالى نع ً‬
‫فْر ِلي‬ ‫غ ِ‬‫با ْ‬ ‫َ َّ‬ ‫ر‬ ‫‪+‬‬ ‫وقال‪:‬‬ ‫أحد‪,‬‬ ‫إليه‬ ‫يصل‬ ‫ل‬ ‫بعطاء‬ ‫يخصه‬ ‫وجل أن‬
‫ب"‬‫ها ُ‬ ‫و ّ‬ ‫ت ال َ‬‫ْ‬ ‫دي إ ِن ّك أن َ‬ ‫َ‬ ‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫د ّ‬ ‫ح ٍ‬ ‫غي ل َ‬ ‫ّ‬
‫ملكا ل َينب َ ِ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ب ِلي ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫كا ل يكون لحد من البشر من بعدي‬ ‫]ص‪ ,[35:‬يعني‪ :‬أعطني مل ً‬
‫مثله)‪.(1‬‬
‫وإننا ونحن نمضي مع ما يحكيه القرآن عن سليمان عليه‬
‫السلم‪ ,‬فإننا نعيش مع أنصع الصفحات المشرقة من عصور بني‬
‫إسرائيل الذهبية أيام كانوا على الدين الصحيح‪.‬‬
‫يحدثنا القرآن أنه عليه السلم أقام مملكته على أسس من‬
‫ملكه مفخرة عن‬ ‫اليمان بالله والسلم له‪ ,‬ولهذا اعتبر سليمان ُ‬
‫ولكن لن ملك‬ ‫ملك بلقيس ليس لمتداده وسعته وتفوقه فحسب‪,‬‬
‫وُأوِتيَنا‬ ‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫سليمان قام على العلم وأسس على اليمان‬
‫د‬ ‫ب‬
‫ْ ُ ُ‬ ‫ع‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫نت‬ ‫َ‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ها‬
‫َ‬ ‫صد ّ‬ ‫و َ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وك ُّنا ُ‬ ‫ها َ‬ ‫قب ْل ِ َ‬ ‫من َ‬ ‫م ِ‬ ‫عل ْ َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ن"]النمل‪.[43،42 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬ ‫كا ِ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫من َ‬ ‫ت ِ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫ها َ‬ ‫ه إ ِن ّ َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ِ‬
‫وإننا لنلمح من خلل القرآن أن دولة سليمان عليه السلم كانت‬
‫ما بواجب‬ ‫مفعمة بالحيوية‪ ,‬مائجة بالحركة‪ ,‬وكان عليه السلم قائ ً‬
‫العبودية إلى جانب القيام بمهام الملك ومسئوليات الحكام وإعمار‬
‫عا‪ ,‬وجاء على المعمورة‬ ‫الدنيا بطاعة الله‪ ,‬حتى دانت له الرض جمي ً‬
‫وقت لم يكن فيها لسليماندن ّمنازع في الحكم والملك ول شبيه‬
‫مماثل في العلم والحكمة‪.‬‬
‫لقد تحدثت اليات الكريمة عن صفات وأحوال سليمان‬
‫الحكيم‪ ,‬فهي صفات وأحوال تحكي مواقف حاكم مسئول عن‬
‫إدارة شئون الرض‪ ,‬لما عليها من مخلوقات‪ ,‬فهل كانت هذه‬
‫المسئوليات الهائلة التي تكاد تتصور في عصرنا‪ ,‬هل كانت عقبة‬
‫أمام سليمان في سلك المنهاج القيم للحكم‪ ,‬والطريق الناجح في‬
‫الدارة؟ بالقطع ل‪ .‬بل كان عليه السلم يدير هذه المملكة‬
‫‪1‬‬
‫)( تفسير ابن كثير )‪.(4/40‬‬

‫‪121‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الشاسعة أحسن ما يدير الفرد شئونه مع أسرته في‬


‫بيته الصغير‪.‬‬
‫ومن خلل هذا السياق القرآني لسيرة سيدنا سليمان عليه‬
‫سا وعبًرا في كيفية المحافظة على دولة‬ ‫السلم نستخلص درو ً‬
‫اليمان‪ ,‬وما وظائفها في الحياة‪ ,‬وما هي وسائل قوتها‪.‬‬
‫إن قصة سليمان عليه السلم وردت في القرآن الكريم في ثلثة‬
‫مواضع‪ ,‬في سورة النمل وص وسبأ‪ ,‬وكانت اليات الكريمة في سورة‬
‫النمل تتحدث عن حلقة من حلقات حياة سليمان عليه السلم؛ حلقة‬
‫قصته مع الهدهد وملكة سبأ‪ ,‬يمهد لها السياق القرآني بما يعلنه‬
‫سليمان على الناس من تعليم الله له منطق الطير‪ ,‬وإعطائه من كل‬
‫شيء‪ ,‬وشكره لله على فضله المبين‪ ,‬ثم مشهد موكبه مع الجن‬
‫والنس‪ ,‬والطير‪ ,‬وتحذير نملة لقومها من هذا الموكب‪ ,‬وإدراك‬
‫سليمان لمقالة النملة‪ ,‬وشكره لربه على فضله‪ ,‬وإدراكه أن النعمة‬
‫ابتلء‪ ,‬وطلبه من ربه أن يجمعه على الشكر والنجاح في هذا البتلء‪,‬‬
‫لقد أشارت اليات الكريمة إلى بداية التمكين‪ ,‬ومظاهر التمكين‪,‬‬
‫وكيفية المحافظة على التمكين‪ ,‬وصفات القيادة الربانية الممكن لها‪.‬‬
‫أ‪ -‬بداية التمكين‪:‬‬
‫ضل ً"‬ ‫ف ْ‬ ‫مّنا َ‬ ‫ود َ ِ‬ ‫دا ُ‬ ‫قدْ آت َي َْنا َ‬ ‫ول َ َ‬
‫بدأ التمكين بتلك الشارة‪َ + :‬‬
‫وقبل أن تنتهي الية يجئ شكر داود وسليمان على هذه النعمة‪,‬‬
‫وإعلن قيمتها وقدرها العظيم‪ ,‬فتبرز قيمة العلم‪ ,‬وعظمة المنة به‬
‫من الله على العباد‪ ,‬وتفضيل من يؤتاه على كثير من عباد الله‬
‫المؤمنين‪ ,‬ول يذكر هنا نوع العلم وموضوعه؛ لن جنس العلم هو‬
‫المقصود بالبراز والظهار‪ ,‬ولليحاء بأن العلم كله هبة من الله‪,‬‬
‫وبأن اللئق بكل ذي علم أن يعرف مصدره‪ ,‬وأن يتوجه إلى الله‬
‫بالحمد عليه‪ ,‬وأن ينفقه فيما يرضي الله الذي أنعم به وأعطاه‪ ,‬فل‬
‫دا لصاحبه عن الله‪ ,‬ول منسًيا له إياه‪ ,‬وهو بعض‬ ‫مبع ً‬ ‫يكون العلم ُ‬
‫مننه وعطاياه وبعد الشارة إلى النعام بمنة العلم على داود‬
‫وسليمان‪ ,‬وحمدهما لله ربهما على منته وعرفانهما بقدرها‬
‫قا َ‬
‫ل‬ ‫و َ‬
‫ود َ َ‬ ‫دا ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ما ُ‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ثُ ُ‬ ‫ر َ‬‫و ِ‬ ‫وّ َ‬‫سليمان بالحديث‪َ + :‬‬ ‫وقيمتها يفرد‬ ‫َ‬
‫ء‬
‫ي ٍ‬ ‫َ‬
‫من كل ش ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫وأوِتيَنا ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ق الطي ْ ِ‬ ‫منطِ َ‬ ‫مَنا َ‬ ‫ّ‬
‫عل ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ها الّنا ُ‬ ‫َيا أي ّ َ‬
‫ن" ]النمل‪.[16:‬‬ ‫ل ال ْ ُ‬
‫مِبي ُ‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫و ال ْ َ‬ ‫ذا ل َ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ه َ‬‫ن َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ب‪ -‬مظاهر التمكين في دولة سليمان عليه السلم‪:‬‬
‫إن الله تعالى أنعم على عبده داود عليه السلم بالنبوة‬
‫والملك‪ ,‬ثم ورثه ابنه سليمان عليه السلم‪ ,‬ومكن الله له من‬
‫الملك والدولة‪ ,‬وأعطاه من النعائم ومظاهر الملك والعز‬
‫والسلطة بحيث ل ينبغي لحد من بعده أن يصل إلى ما وصل إليه‪,‬‬
‫هٌر‬‫ش ْ‬ ‫ها َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ُ‬ ‫وَر َ‬‫هٌر َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ها َ‬ ‫و َ‬ ‫غدُ ّ‬ ‫ح ُ‬ ‫ن الّري َ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫ول ِ ُ‬‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫‪122‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ن ي َدَي ْ ِ‬ ‫ل ب َي ْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ع َ‬ ‫من ي َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ج ّ‬ ‫ن ال ْ َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫و ِ‬ ‫ر َ‬ ‫قطْ ِ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫عي ْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫سل َْنا ل َ ُ‬ ‫وأ َ‬ ‫َ‬
‫ب‬‫ذا ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫ذ ْ‬ ‫رَنا ن ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫غ‬ ‫ز‬
‫ُ ِ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫ر‬‫بِ ِ ِ َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫إ‬
‫ماِثي َ‬
‫ل‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ري‬ ‫ّ ُِ‬ ‫حا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫شا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫ُ َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫لو‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫‪‬‬ ‫ر‬
‫عي ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ال ّ‬
‫شك ًْرا‬ ‫ود َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫دا‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫آ‬ ‫لوا‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫يا‬
‫َ َ ِ َ ُ ٍ ّ ِ َ ٍ‬ ‫س‬ ‫را‬ ‫ر‬ ‫دو‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫و‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ج‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫ن‬‫ٍ‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫ج‬ ‫و ِ‬ ‫َ‬
‫ر"]سبأ‪.[13،12:‬‬ ‫ي الشكو ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫عَباِد َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قِليل ّ‬ ‫ٌ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ومن خلل اليات السابقة في سورة النمل وهذه اليات التي‬
‫في سورة سبأ يمكننا أن نلخص مظاهر التمكين لسليمان عليه‬
‫السلم في التي‪:‬‬
‫ورثه الله الملك عن أبيه كما أعطاه النبوة‪ ,‬فكان ملكاً جمع‬ ‫‪-1‬‬
‫الشرفين‪ :‬النبوة والملك‪.‬‬
‫‪ -2‬علمه الله منطق الطير وأعطاه قدرة التحدث مع‬
‫د‬
‫ما ُ َ ُ َ‬
‫و‬ ‫دا‬ ‫ن‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫ث ُ ُ‬ ‫ر َ‬ ‫و ِ‬ ‫و َّ‬ ‫مخلوقات َالله مثل النمل‪ ّ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫من ك ُلّ‬ ‫وأوِتيَنا ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ق الطي ْ ِ‬ ‫منطِ َ‬ ‫مَنا َ‬ ‫عل ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ها الّنا ُ‬ ‫ل َيا أي ّ َ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]النمل‪ [16:‬وقالَ تعالى‪:‬‬ ‫مِبي ُ‬ ‫ل ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫و ال َ‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫إ‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫َ‬
‫مل َ ٌ‬ ‫‪+‬ح ّْتى ِ إ َ َ‬
‫م ُ‬
‫ل‬ ‫ها الن ّ ْ‬ ‫ة َيا أي ّ َ‬ ‫ت نَ ْ‬ ‫قال َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫م ِ‬ ‫واِدي الن ّ ْ‬ ‫عَلى َ‬ ‫وا َ‬ ‫ذا أت َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫م لَ‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫نو‬
‫َ ْ ِ َ ّ ْ ُ ْ َ ُ َ ُ ُ ُ ُ ََ ُ ْ‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ط‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫َ َ َِ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫سا‬ ‫م‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫اد ْ‬
‫عِني‬ ‫ز ْ‬ ‫وَِ‬ ‫بأ ْ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫وقا َ‬ ‫َ‬ ‫ها َ‬ ‫ول ِ َ‬ ‫من ق ْ‬ ‫َ‬ ‫حكا ّ‬ ‫ً‬ ‫ضا َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬ ‫ن ‪ ‬فت َب َ ّ‬ ‫َ‬ ‫عَُرو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫أَ‬
‫وأ ْ‬ ‫ّ َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫َ‬ ‫لى‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬‫ّ َ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ش‬ ‫أ‬ ‫ن‬‫ْ‬
‫عَباِد َ‬
‫ك‬ ‫في ِ‬ ‫ك ِ‬ ‫مت ِ َ‬ ‫ح َ‬ ‫خل ِْني ب َِر ْ‬ ‫وأ َدْ ِ‬ ‫ضاهُ َ‬ ‫حا ت َْر َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ع َ‬ ‫أَ ْ‬
‫ن" ]النمل‪.[19،18:‬‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫‪ -3‬آتاه الله الحكمة على حداثة سنه‪ ,‬ويشهد لذلك ما أوردنا‬
‫من بعض القصص التي حكم فيها بحكم أقره القرآن الكريم عليه‪,‬‬
‫ث إِ ْ‬
‫ذ‬ ‫حْر ِ‬ ‫في ال ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫حك ُ َ‬ ‫ن إ ِذْ ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫و ُ‬ ‫ودَ َ‬ ‫دا ُ‬ ‫و َ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن ‪‬‬ ‫دي َ‬ ‫ه ِ‬ ‫م شا ِ‬ ‫َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف َ‬ ‫نَ َ‬
‫ْ‬ ‫م ِ‬ ‫حك ِ‬
‫ْ‬
‫وكّنا ل ِ ُ‬ ‫وم ِ َ‬
‫ُ‬
‫م الق ْ‬ ‫ه غن َ ُ‬
‫َ‬
‫في ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫ش ْ‬
‫ما" ]النبياء‪.[79،78 :‬‬ ‫عل ً‬ ‫و ِ‬ ‫ما َ‬ ‫حك ً‬ ‫وكل آت َي َْنا ُ‬ ‫ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ما َ‬ ‫سلي ْ َ‬ ‫ها ُ‬ ‫مَنا َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ف ّ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫‪ -4‬سخر الله تعالى له الريح فكانت تنقله إلى أي أطراف‬
‫الدنيا شاء‪ ,‬وتقطع به المسافات الشاسعة البعيدة في ساعات‬
‫هٌر‬
‫ش ْ‬‫ها َ‬ ‫و َ‬ ‫ح ُ‬
‫غد ُ ّ‬ ‫ن الّري َ‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫ول ِ ُ‬
‫معدودات‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫هٌر" ]سبأ‪) .[12:‬والمعنى أنها تقطع به من الصباح إلى‬ ‫ها َ‬
‫ش ْ‬ ‫ح َ‬
‫وا ُ‬
‫وَر َ‬
‫َ‬
‫الظهر مسيرة شهر‪ ,‬ومن الظهر إلى المساء مسيرة شهر‪ ,‬فتقطع‬
‫به في النهار الواحد مسيرة شهرين‪ ,‬وفق مصلحة تحصل من‬
‫غدوها ورواحها‪ ,‬يدركها سليمان‪ ,‬ويحققها أمر الله‪.(1) (..‬‬
‫‪ -5‬سخر الله تعالى له من الجن ومردة الشياطين‪ ,‬يغوصون‬
‫له في البحار لستخراج الجواهر والللئ‪ ,‬ويعملون له العمال‬
‫التي يعجز عنها البشر كبناء القصور العالية والمحاريب في أماكن‬
‫‪1‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(5/2898‬‬

‫‪123‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫العبادة‪ ,‬والتماثيل والصور من نحاس وخشب وغيره‪ ,‬والجوابي‬


‫جمع جابية وهي الحوض الذي نجبي به الماء‪ ,‬وقد كانت الجن‬
‫تصنع لسليمان جفاًنا كبيرة للطعام تشبه الجوابي‪ ,‬وتصنع له‬
‫سل َي ْ َ َ‬
‫ن‬ ‫ما‬ ‫ول ِ ُ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫قال‬
‫َ‬ ‫قدوًرا ضخمة للطبخ راسية لضخامتها‪,‬‬
‫ر‬
‫قط ِ‬‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ِ‬ ‫عي ْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫سلَنا ل ُ‬ ‫ْ‬ ‫وأ َ‬ ‫هٌر َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ها َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ُ‬ ‫وَر َ‬ ‫هٌر َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ها َ‬ ‫و َ‬ ‫غد ُ ّ‬ ‫ح ُ‬ ‫الّري َ‬
‫ن‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ل‬‫م ُ‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ج‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬
‫م َ‬ ‫و ِ‬‫َ‬
‫ب‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫ن‬ ‫نا‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫عن أ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫غ‬ ‫ز‬ ‫ْ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ي َدَ ْ ِ ِ ِ َ ّ ُ َ َ َ َ ِ‬
‫ي‬ ‫من‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ن‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫ب‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ي‬
‫من‬ ‫شاءُ ِ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫نل ُ‬ ‫ملو َ‬ ‫ع َ‬ ‫ر ‪ ‬يَ ْ‬ ‫عي ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ت‬
‫سَيا ٍ‬ ‫ر ّرا ِ‬ ‫ٍ‬ ‫دو‬ ‫ُ‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ب‬
‫ِ‬ ‫وا‬ ‫َ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ن‬ ‫ٍ‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫ج‬ ‫َ ِ‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ثي‬
‫ِ‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ري‬ ‫م َ ُِ‬
‫حا‬ ‫ّ‬
‫ر" ]سبأ‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ش‬ ‫ال‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫با‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ّ ْ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ٌ‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ً َ‬ ‫را‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ُ‬
‫ش‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫و‬
‫ُ‬ ‫دا‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫آ‬ ‫لوا‬ ‫م‬
‫ا َ‬‫ع‬
‫ْ‬
‫‪.[13،12‬‬
‫‪ -6‬أسال الله له عين القطر ‪-‬وهو النحاس المذاب‪ -‬فكان‬
‫النحاس يتدفق له‬
‫با من عين خاصة كتدفق الماء‪ ,‬فيصنع منه ما شاء‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬ ‫مذا ً‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫عي ْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫سلَنا ل ُ‬ ‫وأ َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ر" ]سبأ‪.[12:‬‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ط‬ ‫ق‬‫ال ْ ِ‬
‫وكان النحاس وقتها عنصر الحضارة ومادة التقدم ومظهر‬
‫البهة والعظمة في الجيوش والحراسات والبنايات‪ ,‬وظل سليمان‬
‫عليه السلم ‪-‬الملك الجاد‪ -‬يسعى في إعمار الدنيا بطاعة الله‪,‬‬
‫حتى دانت له الرض جميًعا‪ ,‬وجاء على المعمورة وقت لم يكن‬
‫فيها لسليمان ند ّ في الحكم والملك ول شبيه مماثل في العلم‬
‫والحكمة)‪.(1‬‬
‫كان جنده مؤلًفا من النس والجن والطير‪ ,‬وقد نظم لهم‬ ‫‪-7‬‬
‫أعمالهم ورتب لهم شئونهم‪ ,‬فإذا خرج خرجوا معه في موكب حافل‪,‬‬
‫يحيط به الجند والخدم من كل جانب‪ ,‬فالنس والجن يسيرون معه‬
‫في موكب حافل‪ ,‬والطير تظله بأجنحتها من الحر والشمس)‪.(2‬‬
‫هذه هي أبرز مظاهر التمكين في زمن حكم سليمان عليه‬
‫ؤَنا‬‫طا ُ‬‫ع َ‬‫ذا َ‬ ‫ه َ‬‫ويظهر إكرام الله له في قوله تعالى‪َ + :‬‬ ‫السلم‪,‬‬
‫ب" ]ص‪.[39:‬‬ ‫سا‬ ‫ح‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫غ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬
‫ك‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ ْ ِ ِ َ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ن ْ ْ ِ‬
‫م‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫من ُ ْ‬ ‫فا ْ‬
‫وذلك زيادة في الكرام والمنة‪ ,‬ثم زاد على هذا كله أن له عند‬
‫عندََنا‬ ‫ه ِ‬‫ن لَ ُ‬
‫وإ ِ ّ‬‫ربه ُقربى في الدنيا وحسن مآب في الخرة‪َ + :‬‬
‫ب" ]ص‪.[40:‬‬‫مآ ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫س َ‬ ‫ح ْ‬ ‫و ُ‬‫فى َ‬ ‫ل َُزل ْ َ‬
‫ج‪ -‬فقه سليمان عليه السلم في إدارة الدولة‪:‬‬
‫إن القصص القرآني في سيرة سليمان عليه السلم أشار إلى‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/587‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬دعوة سليمان عليه السلم‪ ,‬ص ‪.56،55‬‬

‫‪124‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫أساليبه في إدارة الدولة والمحافظة على التمكين‪ ,‬وأهم هذا‬


‫الفقه يظهر في النقاط التية‪:‬‬
‫‪ -1‬دوام المباشرة لحوال الرعية‪ ,‬وتفقد أمورها‪ ,‬والتماس‬
‫الحاطة بجوانب الخلل في أفرادها وجماعاتها‪ ,‬فهذا كان حال‬
‫قدَ الطّي َْر" ]النمل‪ [20:‬وذلك بحسب‬ ‫ف ّ‬ ‫وت َ َ‬
‫سليمان عليه السلم‪َ + :‬‬
‫ما تقتضيه العناية بأمور الملك‪ ,‬والهتمام بكل جزء فيه والرعاية‬
‫بكل واحدة فيها وخاصة الضعفاء)‪.(1‬‬
‫ول شك أن القيادة تحتاج إلى لجان ومؤسسات وأجهزة حتى‬
‫تستطيع أن تقوم بهذه المهمة العظيمة‪ ,‬إن سليمان عليه السلم‬
‫ما بمتابعة الجند وأصحاب العمال وخاصة إذا رابه شيء‬ ‫كان مهت ً‬
‫في أحوالهم‪ ,‬فسليمان عليه السلم‪ ,‬لما لم ير الهدهد بادر‬
‫هدَ" ]النمل‪ [20:‬يعني )أهو غائب؟‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫هد‬
‫ُ‬ ‫ي ل َ أ ََرى ال ْ‬‫مال ِ َ‬‫بالسؤال‪َ + :‬‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫م‬ ‫صحة ما لح له( )‪ ,(2‬ثم قال‪+ :‬أ َ‬ ‫عن‬ ‫كأنه يسأل‬
‫َ ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ن" ]النمل‪ [20:‬سؤال آخر ينم عن حزم في السؤال بعد‬ ‫غائ ِِبي َ‬‫ال ْ َ‬
‫الترفق‪ ,‬فسليمان عليه السلم أراد أن يفهم منه أنه يسأل عن‬
‫الغائب ل عن شفقة فقط ولكن عن جد وشدة‪ ,‬إذا لم يكن الغيب‬
‫بعذر)‪.(3‬‬
‫‪ -2‬لبد للدولة من قوانين حتى تضبط المور بحيث يعاقب‬
‫المسئ‪ ,‬ويحسن للمحسن‪ ,‬ولبد من مراعاة التدرج في تقرير‬
‫العقوبة‪ ,‬وأن تكون على قدر الخطأ وحجم الجرم‪ ,‬وهذا عين‬
‫العدالة‪ ,‬ولهذا لم يقطع سليمان عليه السلم بقرار واحد في‬
‫فا على حجم الخطأ‪:‬‬ ‫العقاب عند ثبوت الخطأ؛ بل جعله متوق ً‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫شديدا أ َو ل َذْبحن ّه أ َو ل َيأ ْ‬ ‫‪+‬ل ُ َ‬
‫ن‬
‫ٍ‬ ‫طا‬ ‫ل‬‫س‬‫ِ ُ‬ ‫ب‬ ‫ني‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ذاًبا َ ِ ً‬‫ع َ‬ ‫عذّب َن ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫ن" ]النمل‪ [21:‬وقد استدل أهل العلم بهذه الية على أن‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ّ‬
‫العقاب على قدر الذنب‪ ,‬وعلى الترقي من الشدة إلى الشد بقدر‬
‫ما يحتاجه إلى إصلح الخلل)‪.(4‬‬
‫‪ -3‬لبد للدولة المسلمة أن تهتم بالجهزة المنية وتحرص أشد‬
‫الحرص على الهتمام بالخبار والمعلومات حتى توظف لخدمة‬
‫الدين‪ ,‬وعقيدة التوحيد‪ ,‬ونشر المبادئ السامية‪ ,‬والهداف النبيلة‪,‬‬
‫والمثل العليا‪ ,‬وأن تحرص على تحبيب الجهاد لبنائها بواسطة‬
‫الجهزة العلمية والوسائل التربوية‪ ,‬وأن تهيئ النفوس للظروف‬
‫المناسبة لقامتها‬
‫للدين وإعلء لكلمة الله‪ ,‬وهكذا كان شأن سليمان عليه السلم‪-‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(13/177‬‬
‫‪2‬‬
‫)( تفسير الرازي )‪.(24/189‬‬
‫‪3‬‬
‫)( )‪ (4‬انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/593‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪125‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫كما قال القرطبي‬


‫‪-‬رحمه الله‪» :-‬فإنما صار صدق الهدهد عذًرا له‪ ,‬لنه أخبر بما‬
‫يقتضي الجهاد‪ ,‬وكان سليمان عليه السلم حبب إليه الجهاد«)‪.(1‬‬
‫‪ -4‬لبد للقيادة في الدولة المسلمة أن تهتم بنصر دعوة‬
‫التوحيد‪ ,‬وبذل الوسع في تبليغها لكل مكلف‪ ,‬فإن سليمان عليه‬
‫السلم لما استمع إلى خبر القوم المشركين شمر عن ساعد الجد‬
‫هب‬ ‫في إيصال البلغ َ إليهم‪ ,‬وبدأ معهم بالحجة والبيان‪+ :‬اذْ َ‬
‫ما َ‬
‫ذا‬ ‫فان ْظُْر َ‬
‫م َ‬
‫ه ْ‬
‫عن ْ ُ‬ ‫و ّ‬
‫ل َ‬ ‫م ثُ ّ‬
‫م تَ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ق ْ َ‬
‫ه إ ِلي ْ ِ‬ ‫فأل ْ ِ‬
‫ذا َ‬
‫ه َ‬
‫ب ّك َِتاِبي َ‬
‫ن" ]النمل‪ ,[28:‬قال القرطبي ‪-‬رحمه الله‪» :-‬في هذه الية‬ ‫عو َ‬ ‫ج ُ‬
‫ي َْر ِ‬
‫دليل على إرسال الكتب إلى المشركين وتبليغهم الدعوة ودعائهم‬
‫إلى السلم‪ ,‬وقد كتب النبي × إلى كسرى وقيصر وإلى كل‬
‫جبار«)‪.(2‬‬
‫ومن المهم عرض الدعوة بعزة السلم وبشرف اليمان وهيبة‬
‫القرآن ل بتذلل واستخذاء‪ ,‬وعدم مداراة للناس في أمر الستجابة‬
‫لله‪ ,‬وترك مداهنتهم فيما يغضب الله‪ ,‬ولقد كان كتاب سليمان‬
‫عليه السلم لملكة سبأ يبدأ بالرحمة‪ ,‬وتتخلله الكرامة‪ ,‬وآخره‬
‫من‬‫ه ِ‬ ‫الدعوة إلى الستجابة لله والستسلم له سبحانه‪+َ :‬إ ِن ّ ُ‬
‫ي‬ ‫َ‬
‫عل ّ‬ ‫ُ‬
‫علوا َ‬ ‫حيم ِ ‪ ‬أل ّ ت َ ْ‬
‫ن الّر ِ‬ ‫س ْل َي ْ َ‬
‫م ِ‬‫ح َ‬
‫ه الّر ْ‬
‫سم ِ الل ِ‬
‫ه بِ ْ‬‫وإ ِن ّ ُ‬
‫ن َ‬‫ما َ‬ ‫ُ‬
‫ن" ]النمل‪.[31،30 :‬‬ ‫مي َ‬
‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وأُتوِني ُ‬ ‫َ‬
‫وعلى الدولة المسلمة أن تهتم بتعظيم اسم الله تعالى‪,‬‬
‫والتشرف بذكره في المحافل والمناسبات والكتابات‪ ,‬فهذا شعار‬
‫المؤمنين‪ ,‬وتنزيه هذا السم المقدس عما ل يليق به‪ ,‬والحفاظ‬
‫عليه من جهل الجهال؛ ولذلك قدم سليمان عليه السلم اسمه‪,‬‬
‫خوًفا من أن تتلفظ ملكة سبأ بكلمة ل تليق فيكون اسمه وقاية‬
‫ل )‪.(3‬‬ ‫لسم الله عّز وج ّ‬
‫ما‬
‫وعلى الدولة المسلمة أن يكون خطابها الدعوي ملتز ً‬
‫بالجدية في دعوة الناس‪ ,‬وأن تراعي شمولية السلم‪ ,‬وتتوخى‬
‫القتصار على المقصود منها‪ ,‬وهكذا كان خطاب سليمان عليه‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫حي‬ ‫ِ‬ ‫ن الّر‬‫م ِ‬‫ح َ‬
‫ه الّر ْ‬
‫سم ِ الل ِ‬
‫ه بِ ْ‬ ‫وإ ِن ّ ُ‬
‫ن َ‬‫ما َ‬‫سل َي ْ َ‬‫من ُْ‬ ‫ه ِ‬ ‫السلم‪+ :‬إ ِن ّ ُ‬ ‫َ‬
‫ن" ]النمل‪.[31،30 :‬‬ ‫َ‬ ‫مي‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫س‬ ‫ُ ْ‬‫م‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫تو‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫و‬‫ّ َ‬‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫عُلوا‬
‫‪ ‬أل ّ ت َ ْ‬
‫فالمطلوب من الخلق إما العلم أو العمل‪ ,‬والعلم مقدم على‬
‫حيم ِ" مشتمل على‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬‫ح َ‬ ‫ه الّر ْ‬ ‫سم ِ الل ِ‬ ‫العمل‪ ,‬فقوله‪+ :‬ب ِ ْ‬
‫سبحانه‪ ,‬وقوله‪+ :‬أ َل ّ‬ ‫إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات صفاته‬
‫‪1‬‬
‫)( تفسير القرطبي )‪.(13/189‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(13/190‬‬
‫‪3‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(2/594‬‬

‫‪126‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫عا للهوى أو‬ ‫ل اتبا ً‬ ‫ي" نهي عن النقياد لغير الله عّز وج ّ‬
‫ْ‬ ‫عل َ ّ‬
‫عُلوا َ‬ ‫تَ ْ‬
‫ن" فيه الحث على‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬‫م( ْ‬ ‫وأُتوِني ُ‬ ‫طاعة للنفس‪ ,‬وقوله‪َ + :‬‬
‫اليمان بالقلب والسلم بالجوارح)‪. 1‬‬
‫وعلى القائمين بأمر الدعوة إلى الله أن يكونوا متعالين على‬
‫حطام الدنيا‪ ,‬فعندما تعرض عليهم رشوة في الدين‪ ,‬أو رهاًنا على‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫دو ُن َ ِ‬ ‫م ّ‬ ‫السلم‪+ :‬أت ُ ِ‬ ‫ل أَ‬ ‫المبدأ ليكن الشعار ما قال سليمان عليه‬
‫م‬
‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ه‬
‫ْ ِ َ‬‫ب‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ما آَتاك ُ ْ‬ ‫م ّ‬‫خي ٌْر ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ما آَتاِني الل ُ‬ ‫ف َ‬‫ل َ‬
‫ما ٍ‬ ‫بِ َ‬
‫ن" ]النمل‪.[36:‬‬ ‫تَ َ ُ َ‬
‫حو‬ ‫ر‬ ‫ف‬‫ْ‬
‫فملكة سبأ عندما عملت الحيلة لختبار سليمان عليه السلم‪,‬‬
‫وتفتق ذهنها عن بعث هدية له تمتحن بها حبه للدين‪ ,‬فأظهر عليه‬
‫السلم عدم الكتراث بهذا المال‪ ,‬وأعلم من جاءوا به أن الله تعالى‬
‫آتاه الدين الذي هو السعادة القصوى‪ ,‬وآتاه من الدنيا ما ل مزيد عليه‪,‬‬
‫فكيف يستمال مثله بمثل هذه الهدية؟! وصارحهم بأنهم هم الذين من‬
‫شأنهم الفرح بتلك الهدية التي ظنوا أنه سيفرح بها‪ ,‬أما هو فلن يقبل‬
‫منهم إل السلم أو السيف)‪.(2‬‬
‫‪ -5‬المقدرة على اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب‬
‫للمكان المناسب‪ ,‬وعدم التردد في القرار الصعب للتغلب على‬
‫الحال الصعب‪ ,‬فعندما وجد سليمان عليه السلم‪ ,‬أن القوم ما‬
‫زالوا على الشرك‪ ,‬بل يريدون استمالته وتنحيته عن صلته في‬
‫الحق‪ ,‬قال للوفد الذي جاء بالهدية‪+ :‬ارجع إل َيهم َ ْ‬
‫هم‬ ‫فل َن َأت ِي َن ّ ُ‬ ‫ْ ِ ْ ِ َْ ِ ْ‬
‫م‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ها أِذل ّ َ‬
‫ة‬
‫ً‬ ‫من ْ َ‬ ‫هم ّ‬ ‫جن ّ ُ‬‫ر َ‬
‫خ ِ‬‫ول َن ُ ْ‬‫ها َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫جُنوٍد ل ّ ِ‬
‫قب َ َ‬ ‫بِ ُ‬
‫ن" ]النمل‪.[37:‬‬ ‫غُرو َ‬ ‫صا ِ‬ ‫َ‬
‫ول مانع من ركوب الشدة مع المعاند‪ ,‬واستعمال القوة في‬
‫إرهاب من يصد عن الدعوة‪ ,‬فإن ذلك قد ل ينفع غيره في إنقاذ‬
‫الناس من الشرك‪ ,‬بل من المعادن البشرية ما ل يلين إل تحت‬
‫وهج السيف وسنابك الخيل‪ ,‬وكان هذا السلوب سبًبا في إسلم‬
‫ملكة سبأ وانقيادها وجنوده لسليمان عليه السلم‪ ,‬ول مانع من‬
‫استعمال الذكاء والعقل النير‪ ,‬ودقة التدبير‪ ,‬في استجلب قلوب‬
‫المدعوين إلى الدين واستخدام نعم الله في دللة الخلق على‬
‫الله‪ ,‬ومخاطبة الناس بالكيفية التي تستهوي قلوب عوامهم‬
‫وتجلب احترام خواصهم‪ ,‬فسليمان عليه السلم لما بلغه خبر مجئ‬
‫ملكة سبأ في جمع من حاشيتها وجنودها‪ ,‬أراد أن يعلمها مدى ما‬
‫أعطاه الله من قوة حتى إن عرشها الذي تركته في حماية عظيمة‬
‫وحرس كثيف يسبقها إليه)‪.(3‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬روح المعاني لللوسي )‪.(24/195‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/598‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/598‬‬

‫‪127‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -6‬وعلى الدولة المسلمة أن تستفيد من المهارات‬


‫والمواهب وإمكانات الخاصة في أفراد الرعية‪ ,‬ووضع الفرد‬
‫المناسب في مكانه الصحيح‪ ,‬إن مملكة سليمان كان فيها من‬
‫النس والجن وغيرهم ما كان يمكن أن يؤدي مهمة الهدهد‪,‬‬
‫ولكن سليمان اختاره مع ضعفه وصغره لتأدية هذه المهمة‪,‬‬
‫فـ)تخصيصه عليه السلم إياه بالرسالة دون سائر ما تحت‬
‫ملكه من أمناء الجن القوياء على التصرف والتعرف؛ لما عاين‬
‫فيه من مخايل العلم والحكمة( )‪.(1‬‬
‫د‪ -‬أبرز صفات سليمان عليه السلم كحاكم لدولة‪:‬‬
‫إن اليات الكريمة عرضت صفات سليمان عليه السلم كملك‬
‫كن له في الرض‪ ,‬وفي هذا إشارة من الله تعالى إلى‬ ‫وحاكم مم ّ‬
‫الصفات القيادية المطلوبة للشراف على تمكين شرع الله تعالى‪:‬‬
‫‪ -1‬الحزم‪ :‬ويظهر ذلك عند القيادة إن غلب الظن أن هناك‬
‫تقصيًرا‪ ,‬أو تكاسل ً‬
‫ه‬ ‫ن‬ ‫ب‬‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫‪+‬‬ ‫العمل‪:‬‬ ‫وقت‬ ‫التأخر‬ ‫أو‬ ‫الطلب‬ ‫وقت‬ ‫عن الحضور‬
‫َ ّ ُ‬ ‫َ‬
‫و‬
‫دا أ ْ‬ ‫دي ً‬ ‫ش ِ‬‫ذاًبا َ‬ ‫ع َ‬ ‫َ‬
‫ه" ]النمل‪ [21:‬فإنه قد تبين لسليمان عليه السلم أن الهدهد‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫لَ‬
‫ُ‬
‫غائب‪ ,‬فتهدد بذلك أمام الجمع الذي يعلم أن الهدهد غائب‪ ,‬حتى ل‬
‫يكون غيابه ‪-‬إن لم يؤخذ بالحزم‪ -‬سابقة سيئة لبقية الجند)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬التريث والتأني قبل الحكم‪ ,‬فلعل للغائب عذًرا‪ ,‬أو للمقصر‬
‫و‬ ‫َ‬
‫الثم‪ َ ,‬وترفع العقوبة‪ ,‬ولهذا قال سليمان بعدها‪+ :‬أ ْ‬ ‫حجة تدفع‬
‫ن" ]النمل‪ [21:‬أي )بحجة تبين عذره في‬ ‫بي‬
‫ٍ ّ ِ ٍ‬‫م‬ ‫ن‬ ‫طا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫س‬‫ني ِ ُ‬
‫ب‬ ‫ل َي َأ ْت ِي َ ّ‬
‫غيبته( ‪ ,‬وهذا هو اللئق بالحاكم والقاضي إذا كان عاد ً‬
‫ل‪,‬‬ ‫(‬ ‫‪3‬‬ ‫)‬

‫وسليمان عليه السلم الذي اشتهر بالعدالة هو وجنوده حتى عند‬


‫النمل‪ ,‬ل ينتظر منه مع الهدهد‪ ,‬أو ما دونه أو ما فوقه‪ ,‬إل أن‬
‫يكون عادل ً ل يعاجل بالعقوبة قبل ثبوت الجريمة ول يبادر إلى‬
‫المؤاخذة قبل سماع الحجة‪.‬‬
‫‪ -3‬سعة الصدر في الستماع إلى اعتذار المعتذر‪ ,‬وحجة‬
‫المتخلف‪ ,‬وسليمان عليه السلم أنصت لسترسال الهدهد حتى‬
‫انتهى من قوله‪ ,‬رغم أن فيه نوع معاتبة لسليمان‪ ,‬وفيه نسبة عدم‬
‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫سب َأ ٍ ب ِن َب َأ ٍ‬ ‫من َ‬ ‫ك ِ‬‫جئ ْت ُ َ‬
‫و ِ‬ ‫هُ َ‬
‫ط بِ ِ‬ ‫م تُ ِ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫ت ب ِ ََ‬‫حط ُ‬ ‫الحاطة إليه‪+ :‬أ َ‬
‫ء‬
‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫ت ِ‬ ‫وأوت ِي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫مل ِك ُ ُ‬
‫مَرأةً ت َ ْ‬ ‫تا ْ‬ ‫جد ّ‬ ‫و َ‬ ‫ن ‪ ‬إ ِّني َ‬ ‫قي ٍ‬ ‫يَ ِ‬
‫س‬ ‫م‬ ‫ش‬‫ّ‬ ‫لل‬ ‫ن‬ ‫دو‬ ‫ج‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ها‬
‫َ َ ّ َ َ ْ َ َ َ ْ ُ ُ َ ِ‬‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫ت‬‫جد‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ظي‬
‫ِ ٌ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ش‬ ‫ر‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ها‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ ِ‬ ‫‪‬‬ ‫ْ ٌ‬ ‫َ‬
‫‪1‬‬
‫)( تفسير روح المعاني )‪.(9/193‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(5/2638‬‬
‫‪3‬‬
‫)( تفسير القرطبي )‪.(13/180‬‬

‫‪128‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫ن‬
‫ع ِ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫صد ّ ُ‬ ‫م َ‬
‫ف َ‬ ‫ه ْ‬ ‫مال َ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫م ال ّ‬
‫َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫وَزي ّ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ِ‬
‫ج‬
‫ر ُ‬ ‫ِ‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ذي‬‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫لل‬ ‫دوا‬ ‫ُ‬ ‫ج‬
‫ُ‬ ‫س‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫دو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ه‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫بي‬
‫ْ ِ ِ‬ ‫س‬‫ّ‬ ‫ال‬
‫ما‬ ‫و َ‬‫ن َ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫وال َْر‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫في ال ّ‬ ‫بء َ ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫ال َ‬
‫ظيم ِ" كل هذا‬ ‫َ ِ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ش‬ ‫ر‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ر‬
‫ُ َ َ ّ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬‫عل ِ ُ َ‬
‫نو‬ ‫تُ ْ‬
‫َ ْ ِ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ُ‬ ‫‪‬‬
‫وسليمان ل يقاطعه‪ ,‬ول يكذبه‪ ,‬ول يعنفه‪ ,‬حتى ينتهي من سرد‬
‫الحجة‪ ,‬التي كانت مفاجأة ضخمة لسليمان عليه السلم‪.‬‬
‫‪ -4‬قبول العتذار ممن يعتذر في الظاهر‪ ,‬وإيكال سريرته إلى‬
‫الله تعالى‪ ,‬فسليمان عليه السلم سكت عن المؤاخذة وانتقل إلى‬
‫تحري الخبر‪ ,‬قال القرطبي رحمه الله‪) :‬هذا دليل على أن المام‬
‫يجب عليه أن يقبل عذر رعيته‪ ,‬ويدرأ العقوبة عنهم في ظاهر‬
‫أحوالهم بباطن أعذارهم‪ ,‬لن سليمان لم يعاقب الهدهد حين‬
‫اعتذر إليه( )‪.(1‬‬
‫‪ -5‬التروي في تصديق الخبر؛ فهذا الذي حكاه الهدهد‪ ,‬أمر‬
‫ليس بالسهل ول باليسير‪ ,‬ثم إن الهدهد ل يجرؤ على اختلق هذه‬
‫القصة الطويلة‪ ,‬وهو يعلم تمكن سليمان من الرعية‪ ,‬ومقدرته‬
‫على التأكد من صحة الخبار‪ ,‬ومع ذلك لم يبادر عليه السلم إلى‬
‫سَننظُُر" وهو‬ ‫التصديق‪ ,‬كما أنه لم يتعجل التكذيب‪ ,‬بل قال‪َ + :‬‬
‫من النظر‪ ,‬أو‬
‫التأمل والتحري)‪.(2‬‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن" يعني أصدقت‬ ‫كاِذِبي َ‬ ‫)‪(3‬‬
‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫كن َ‬ ‫م ُ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ق َ‬ ‫صد َ ْ‬ ‫سَننظُُر أ َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫في خبرك أم كذبت لتتخلص من الوعيد؟ ‪.‬‬
‫‪ -6‬عدم الغترار بقوة النفس وكثرة الجند وسعة السلطان‪,‬‬
‫وإسناد الفضل إلى الله في كل نعمة‪ ,‬وتجديد الشكر على هذه‬
‫النعم‪ ,‬وسليمان عليه السلم لما طلب التيان بعرش بلقيس‬
‫أجابته جنوده التي سخرها الله له مسارعين إلى الطاعة؛ فلما‬
‫عا سارع إلى ضبط النفس‬ ‫وجد سليمان طلبه مجاًبا‪ ,‬وأمره مطا ً‬
‫في سلك الخشية ومنهاج التواضع والطاعة لله رب العالمين‪:‬‬
‫ه" ]النمل‪ [40:‬أي رأى العرش ثابًتا‬ ‫عندَ ُ‬ ‫قّرا ِ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما َرآهُ ُ‬ ‫فل َ ّ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ل َرّبي" أي هذا النصر والتمكين من‬ ‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫من َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫عنده‪َ + :‬‬
‫فضل ربي ليختبرني أأشكر نعمته أم أكفرها‪ ,‬فإن من شكر ل‬
‫يرجع نفع شكره إل على نفسه حيث استوجب بشكره تمام النعمة‬
‫ودوامها والمزيد‪ ,‬ومن كفر النعم فإن الله غني عن شكره‪ ,‬كريم‬
‫في عدم منع‬

‫‪1‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(13/184‬‬
‫‪2‬‬
‫)( تفسير الرازي )‪.(24/193‬‬
‫‪3‬‬
‫)( تفسير ابن كثير )‪.(3/349‬‬

‫‪129‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تفضله عنه)‪.(1‬‬
‫‪ -7‬التواضع وهو في قمة المجد والتمكين‪ :‬كان سليمان عليه‬
‫السلم دائم التواضع حتى قيل إنه كان يمشي منكسر الرأس‬
‫عا لله‪ ,‬وأثناء استعراضه لجنوده من الجن والنس والطير‪,‬‬ ‫خشو ً‬
‫مر على وادي النمل‪ ,‬وفي نظرة التواضع إلى الرض؛ أبصر نملة‪,‬‬
‫فأشخص النظر صوبها‪ ,‬وأصاخ السمع إليها‪ ,‬وبما علم من منطق‬
‫الطير والحيوان حاول أن يتفهم أمرها‪ ,‬لقد علم أنها تتخوف من‬
‫الجنود في ركب سليمان‪ ,‬لقد سمعها وفهم قولها‪:‬‬ ‫بطش أقدام‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫من ّك ْ‬ ‫حطِ َ‬ ‫م ل يَ ْ‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫ساك ِن َك ْ‬ ‫م َ‬ ‫خلوا َ‬ ‫ل اد ْ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ها الن ّ ْ‬ ‫ة َيا أي ّ َ‬ ‫مل ٌ‬ ‫ت نَ ْ‬ ‫‪+‬قَال َ ْ‬
‫ن" ]النمل‪ .[18:‬نعم إنها كائن‬ ‫عُرو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫َ‬
‫م ل يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫جُنودُهُ َ‬ ‫و ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ما ُ‬ ‫سل َي ْ َ‬‫ُ‬
‫صغير في مملكة ضخمة عظيمة‪ ,‬تسعى كأخواتها للرزق‪ ,‬وتنصح‬
‫لهم أن يفسحوا الطريق أمام ركب الملك العادل‪ ,‬حتى ل تقع‬
‫مظلمة غير مقصودة من أحد منهم‪ ,‬قال القرطبي رحمه الله‪:‬‬
‫)التفاتة مؤمن‪ ,‬أي من عدل سليمان وفضله وفضل جنده ل‬
‫يحطمون نملة فما فوقها إل بأل يشعروا( )‪.(2‬‬
‫إن هذه النملة لم تكن إل واحدة من رعايا سليمان في مملكته‬
‫عا وألواًنا من الحيوان‬ ‫التي ضمت إلى جانب النس والجن أنوا ً‬
‫والطير والهوام‪.‬‬
‫لقد سمع كلمها وتفهم شكواها‪ ,‬فتبسم من قولها‪ ,‬فرق قلبه‬
‫قا لجرمها الصغير‪ ,‬فرحمها وأخواتها‪ ,‬وشكر ربه إذ علمه‬ ‫الكبير رف ً‬
‫منطق هذه المخلوقات حتى يتمكن من إنصافها وإيصال العدل‬
‫سّر بأن عدالته وجنوده قد عرفها كل مخلوق‪ ,‬حتى مثل‬ ‫إليها‪ ,‬و ُ‬
‫ما بأنهم إن أصابوا نملة‬ ‫ً‬ ‫مقد‬ ‫عنهم‬ ‫اعتذرت‬ ‫التي‬ ‫النملة‬ ‫هذه‬
‫)‪(3‬‬
‫بأقدامهم‪ ,‬فإن ذلك من غير قصد منهم ول شعور ‪.‬‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫من َ‬ ‫ح ً‬ ‫‪َ +‬‬
‫ني أ َ ْ‬ ‫ع َِ‬ ‫ز ْ‬‫و ِ‬
‫بأ ْ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫ها َ‬ ‫ول ِ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫كا َ ّ‬ ‫ضا ِ‬ ‫م َ‬ ‫س َ‬ ‫فت َب َ ّ‬
‫ل‬‫م َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫َ َ ّ َ‬‫ي‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫وا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬
‫ّ َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫ت‬
‫َ ْ َ‬‫م‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫شك َُر ْ َ‬
‫م‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫أَ ْ‬
‫ه" ]النمل‪.[19:‬‬ ‫ضا ُ‬ ‫حا ت َْر َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫َ‬
‫لقد أدرك سليمان عليه السلم أنه ‪-‬في جنب الله‪ -‬في حاجة‬
‫إلى الرحمة والعطف واللطف أشد من حاجة هذه النملة إلى ذلك‬
‫ن"‬‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫عَباِد َ‬ ‫في ِ‬ ‫ك ِ‬ ‫مت ِ َ‬ ‫ح َ‬‫خل ِْني ب َِر ْ‬ ‫وأ َدْ ِ‬ ‫منه‪ ,‬ولهذا قال‪َ + :‬‬
‫]النمل‪.[19:‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/600‬‬
‫‪2‬‬
‫)( تفسير القرطبي )‪.(13/170‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/589‬‬

‫‪130‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثاني‬
‫فقه التمكين عند ذي القرنين‬
‫ل‪ :‬من هو ذو القرنين؟‬‫أو ً‬
‫اختلف المفسرون في اسم ذي القرنين ونسبه وزمان وجوده‬
‫وسبب تلقيبه بذي القرنين‪ ,‬لقد تضاربت أقوالهم وآراؤهم‪,‬‬
‫وتعارضت أدلتهم‪ ,‬واعتمد الكثير منهم على السرائيليات‬
‫والخرافات والساطير‪ ,‬والروايات الواهية‪ ,‬والخبار الكاذبة‪.‬‬
‫وعندما طالعت الكتب التي تحدثت عن ذي القرنين)‪ (1‬خرجت‬
‫بنتيجة وهي ل يمكننا الجزم بتحديد شخصية ذي القرنين‪ ,‬ول تحديد‬
‫رحلته الثلث التي أشار إليها القرآن الكريم‪ ,‬ول تحديد السد الذي‬
‫بناه على الكرة الرضية‪.‬‬
‫إن القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة لم يتعرضا إلى تلك‬
‫التفصيلت‪ ,‬وبما أنهما سكتا عن المعلومات التفصيلية‪ ,‬فل دللة‬
‫يقينية عليها‪.‬‬
‫ولذلك يكون كلم المفسرين وأهل التاريخ والعلماء عنها من‬
‫باب الظن وليس من باب الجزم)‪.(2‬‬
‫لقد قالوا إن ذا القرنين‪ :‬هو السكندر المقدوني اليوناني وذلك‬
‫لن البلد التي استولى عليها السكندر امتدت إلى مشارق الرض‬
‫ومغاربها‪ ,‬وقيل هو قورش الخميني‪ ,‬لجماع المؤرخين على عدالة‬
‫سيرته وحسن سيرته في الشعوب والممالك التي استولى عليها‪,‬‬
‫وقيل إنه أبو كرب شمر بن عمرو الحميري‪ ,‬لقد ناقش الستاذ‬
‫محمد خير رمضان يوسف القوال السابقة وخرج بنتيجة أن ذا‬
‫دا‬
‫ً‬ ‫نق‬ ‫دا من هؤلء الثلثة‪ ,‬ونقد الراء السابقة‬ ‫القرنين‪ ,‬لم يكن واح ً‬
‫علمًيا متيًنا‪ ,‬ووصل إلى أن‪) :‬ذو القرنين القرآني الذي ذكره الله‬
‫عز وجل في كتابه العزيز‪ ,‬وأثنى عليه باليمان والصلح والعدل‪,‬‬
‫في سورة قرآنية عظيمة‪ ,‬وآيات إعجازية جليلة‪ ,‬وقصة تاريخية‬
‫نادرة‪ ,‬مليئة بالدروس والعبر‪ ,‬طافحة بالعظات والمبادئ والحكم‪.‬‬
‫إنه علم قرآني بارز‪ ..‬خلد الله ذكره في كتابه الخالد‪ ,‬فاستحق‬
‫أن ينال لقب القرآني وكفى‪ ,‬ولم أشأ أن أقول غير هذا لنني لم‬
‫أر من أعطى شخصية ذي القرنين حظها في التاريخ مثلما أعطى‬
‫الله عز وجل في كتابه العظيم‪ ,‬إنه الرجل الطواف في الرض‪,‬‬
‫الصالح العادل‪ ,‬الخاشع لربه‪ ,‬والمنفذ لمره‪ ,‬والقائم بين الناس‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح لمحمد خير رمضان‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬مع قصص السابقين في القرآن للخالدي )‪.(6/255،254‬‬

‫‪131‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بالصلح‪ ,‬والذي ملك أقاصي الدنيا وأطرافها‪ ,‬فلم يغره مال ول‬
‫منصب ول جاه ول قوة ول سلطان‪ ,‬بل إنه بقى ذاكًرا لفضل ربه‬
‫ورحمته‪ ,‬متأهًبا لليوم الخر‪ ,‬ليلقى جزاءه العادل عند ربه‪.‬‬
‫ويكفي أن يبقى ذو القرنين ذلك الشخصية العظيمة في‬
‫التاريخ‪ ,‬وذلك العلم البارز في العدل والصلح‪ ,‬والقيادة ومثال‬
‫الحاكم الصالح‪ ,‬على مر التاريخ‪ ,‬وإلى أن يرث الله الرض ومن‬
‫عليها‪ ,‬بشهادة الكتاب الخالد( )‪.(1‬‬
‫إن القرآن الكريم اهتم بإخراج القيم الصحيحة في سيرة ذي‬
‫القرنين وأعماله وأقواله مثل‪:‬‬
‫‪ -1‬الحكم والسلطان والتمكين في الرض ينبغي أن يسخر‬
‫لتنفيذ شرع الله في الرض وإقامة العدل بين العباد‪ ,‬وتيسير المر‬
‫على المؤمنين المحسنين‪ ,‬وتضييق الخناق على الظالمين‬
‫المعتدين ومنع الفساد والظلم وحماية الضعفاء من بطش‬
‫المفسدين‪.‬‬
‫‪ -2‬الرجال الشداء ذوو الخبرات الفنية العالية في النواحي‬
‫العسكرية والعمرانية والقتصادية الذين كانوا طوع بنان ذي‬
‫القرنين‪ ,‬وكذلك خضوع القاليم له وفتح الخزائن أمامه وتقديم‬
‫خراج الشعوب له طواعية‪ ,‬كل ذلك لم يدخل في نفسه الغرور‬
‫والبطر والطيش والغواية؛ بل بقى مثال الرجل المؤمن العفيف‬
‫المترفع عن زينة الحياة الدنيا‪.‬‬
‫‪ -3‬الهتمام باتخاذ السباب لبلوغ الهداف والغايات التي سعى‬
‫إليها حيث آتاه الله من كل شيء سبًبا فأتبع سبًبا‪.‬‬
‫إن القرآن الكريم في قصة ذي القرنين وفي كل قصصه ركز‬
‫على الدروس والعبر والحكم والسنن‪ ,‬ولم يهتم بكثير من القضايا‬
‫التي ل تنفع النسان‪ ,‬ولذلك نجد في قصة ذي القرنين كثيًرا من‬
‫المبهمات التي ل تفيد القارئ مثل‪ :‬من هو ذو القرنين؟ وما‬
‫شخصيته؟ وما حياته؟ وما الزمن الذي عاش فيه؟ والدولة التي‬
‫حكمها‪ ,‬والحروب التي خاضها‪ ,‬والبلد التي فتحها‪ ,‬ورحلته الولى‬
‫تجاه الغرب‪ ,‬وتحديد المنطقة التي وصل إليها‪ ,‬وتحديد المكان ذي‬
‫العين الحمئة؟ وكيف وجد الشمس تغرب فيها‪ ,‬وأصل يأجوج‬
‫ومأجوج‪ ,‬وتاريخهم‪ ,‬ومناطق سكنهم وإقامتهم بالضبط؟ وغير ذلك‬
‫من التساؤلت)‪.(2‬‬
‫ثانًيا‪ :‬معالم التمكين عند ذي القرنين‪:‬‬
‫أ‪ -‬دستوره العادل‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫)( ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح )‪.(249-247‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬مع قصص السابقين في القرآن )‪.(6/244،242‬‬

‫‪132‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫إن المنهجية التي سار عليها ذو القرنين كحاكم مؤمن جعلته‬


‫يلتزم بمعاني العدل المطلق في كل أحواله وسكناته‪ ,‬ولذلك سار‬
‫في الناس والمم والشعوب التي حكمها بسيرة العدل‪ ,‬فلم يعامل‬
‫القوام التي تغلب عليها في حروبه بالظلم والجور والتعسف‬
‫والتجبر والطغيان والبطش‪ ,‬وإنما عاملهم بهذا المنهج الرباني‪:‬‬
‫قا َ َ‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه َ‬
‫في ُ‬ ‫م ي َُردّ إ َِلى َرب ّ ِ‬ ‫ه ثُ ّ‬‫عذّب ُ ُ‬‫ف نُ َ‬ ‫و َ‬‫ْ‬ ‫س‬‫ف َ‬ ‫م َ‬ ‫من َظَل َ َ‬ ‫ما َ‬ ‫لأ ّ‬ ‫‪َ +‬‬
‫جَزاءً‬ ‫ُ َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ف‬‫َ‬ ‫حا‬‫ِ‬
‫َ ً‬‫ل‬ ‫صا‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫آ‬ ‫ن‬
‫َ ّ َ ْ َ َ َ َ‬ ‫م‬ ‫ما‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫را‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ك‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ع َ ً‬
‫با‬ ‫ذا‬ ‫َ‬
‫را" ]الكهف‪.[88،87 :‬‬ ‫س ً‬‫رَنا ي ُ ْ‬ ‫م ِ‬‫نأ ْ‬‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫سن َقول ل ُ‬ ‫ُ‬ ‫و َ‬‫سَنى َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ْ‬
‫ال ُ‬
‫وهذا المنهج الرباني الذي سار عليه يدل على إيمانه وتقواه‪,‬‬
‫وعلى فطنته وذكائه‪ ,‬وعلى عدله ورحمته؛ لن الناس الذين‬
‫قهرهم وفتح بلدهم ليسوا على مستوى واحد‪ ,‬ول على صفات‬
‫واحدة‪ ,‬ولذلك ل يجوز أن يعاملوا جميًعا معاملة واحدة؛ فمنهم‬
‫المؤمن ومنهم الكافر‪ ,‬ومنهم الصالح‪ ,‬ومنهم الطالح فهل‬
‫يتساوون في المعاملة؟‪.‬‬
‫قال ذو القرنين‪ :‬أما الظالم الكافر فسوف نعذبه لظلمه‬
‫وكفره‪ ,‬وهذا التعذيب عقوبة له؛ فنحن عادلون في تعذيبه في‬
‫الدنيا ثم مرده إلى خالقه لينال عذابه الخروي‪.‬‬
‫إن الظالم والباغي الكافر في دستور ذي القرنين معذب‬
‫مرتين؛ مرة في الدنيا على يديه‪ ,‬والخرى يوم القيامة‪ ,‬حيث يعذبه‬
‫الله عذاًبا نكًرا‪ ,‬أما المؤمن الصالح فإنه مقرب من ذي القرنين‪,‬‬
‫يجزيه الجزاء الحسن‪ ,‬ويكافئه المكافأة الطيبة‪ ,‬ويخاطبه بيسر‬
‫وسهولة وإشراق وبر ومودة)‪ ,(1‬لقد كان ميزان العدالة في حكمه‬
‫ما يتطلع إلى‬ ‫بين الناس‪ ,‬هو التقوى واليمان والعمل الصالح‪ ,‬ودائ ً‬
‫مقامات الحسان‪.‬‬
‫ب‪ -‬منهجه التربوي في الشعوب‪:‬‬
‫إن الله تعالى أوجب العقوبة الدنيوية على من ارتكب الفساد‬
‫في المجتمع وكلف أهل اليمان ممن مكن لهم في الرض أن‬
‫يحرصوا على تنفيذ العقوبات للمفسد والظالم لكي تستقيم الحياة‬
‫في الدنيا‪.‬‬
‫جا أساسًيا‪,‬‬‫إن ذا القرنين يقدم لكل مسئول أو حاكم أو قائد منه ً‬
‫وطريقة عملية لتربية الشعوب على الستقامة والسعي بها نحو‬
‫العمل لتحقيق العبودية الكاملة لله تعالى‪ ,‬قال سيد قطب ‪-‬رحمه‬
‫الله‪) :-‬وهذا دستور الحاكم الصالح‪ ,‬فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد‬
‫الكرامة والتيسير والجزاء الحسن عند الحاكم‪ ,‬والمعتدي الظالم يجب‬
‫أن يلقى العذاب واليذاء‪ ..‬وحين يجد المحسن في الجماعة جزاء‬

‫‪1‬‬
‫)( مع قصص السابقين )‪.(2/331،330‬‬

‫‪133‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫را‪ ,‬ويجد المعتدي‬


‫نا وتيسي ً‬
‫ما وعو ً‬
‫نا أو مكاًنا كري ً‬
‫إحسانه جزا ًء حس ً‬
‫جزاء إفساده عقوبة وإهانة وجفوة‪ ,‬عندئذ يجد ما يحفزهم إلى الصلح‬
‫والنتاج‪ ,‬أما حين يضطرب ميزان الحكم‪ ,‬فإذا المعتدون المفسدون‬
‫مقربون إلى الحاكم‪ ,‬مقدمون في الدولة‪ ,‬وإذا العاملون الصالحون‬
‫منبوذون أو محاربون‪ ,‬فعندئذ تتحول السلطة في يد الحاكم سوط‬
‫عذاب وأداة إفساد‪ ,‬ويصير نظام الجماعة إلى الفوضى والفساد()‪.(1‬‬
‫إن التربية العملية للقيادة الراشدة هي التي تجعل الحوافز‬
‫المشجعة هدية للمحسن ليزداد في إحسانه‪ ,‬وتفجر طاقة الخير‬
‫العاملة على زيادة الحسان وتشعره بالحترام والتقدير‪ ,‬وتأخذ‬
‫على يد المسيء لتضرب على يده‪ ,‬حتى يترك الساءة وتعمل‬
‫على توسيع دوائر الخير والحسان في أوساط المجتمع وتضييق‬
‫حلقات الشر إلى أبعد حدود وفق قانون الثواب والعقاب المستمد‬
‫من الواحد الديان‪.‬‬
‫جـ‪ -‬اهتمامه بالعلوم المادية وتوظيفها للخير‪:‬‬
‫ما عدة في‬ ‫ظف علو ً‬ ‫نلحظ من اليات القرآنية أن ذا القرنين و ّ‬
‫دولته القوية ومن أهم هذه العلوم‪:‬‬
‫‪ -1‬علم الجغرافيا حيث نجد أن ذا القرنين كان على علم‬
‫بتقسيمات الرض‪ ،‬وفجاجها وسبلها‪ ،‬ووديانها وجبالها وسهولها‪،‬‬
‫لذلك استطاع أن يوظف هذا العلم في حركته مع جيوشه شرًقا‬
‫وغرًبا‪ ،‬وشمال ً وجنوًبا‪ ،‬ول يخلو أن المر أن يكون في جيشه‬
‫)‪(2‬‬
‫صا في هذا المجال‪.‬‬ ‫متخص ً‬
‫‪ -2‬كان صاحب خبرة ودراية بمختلف العلوم المتاحة في‬
‫عصره‪ ،‬يدل على ذلك حسن اختياره للخامات‪ ،‬ومعرفته بخواصها‪،‬‬
‫وإجلدته لستعمالها والستفادة منها‪ ،‬فقد استعمل المعادن على‬
‫أحسن ما خلقت له‪ ،‬ووظف المكانات على خير ما أتيح له‪:‬‬
‫ل‬‫قا َ‬‫ن َ‬ ‫ِ‬ ‫صد َ َ‬
‫في ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫وى ب َي ْ ُ َ‬
‫سا َ‬
‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫د َ‬ ‫دي ِ‬ ‫‪+‬آُتوِني ُزب ََر ال ْ َ‬
‫ح ِ‬
‫قطًْرا"‬ ‫ه ِ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫غ َ‬‫ر ْ‬
‫ف ِ‬‫ل آُتوِني أ ْ‬ ‫ه َناًرا َ‬
‫قا َ‬ ‫عل َ ُ‬‫ج َ‬
‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫خوا َ‬
‫ف ُ‬‫ان ُ‬
‫]الكهف‪ [96 :‬أمرهم بأن يأتوه بقطع الحديد الضخمة‪ ،‬فآتوه إياها‪،‬‬
‫فأخذ يبني شيًئا فشيًئا حتى جعل ما بين جانبي الجبلين من البنيان‬
‫مساوًيا لهما في العلو‪ ،‬ثم قال للعمال‪) :‬انخفوا بالكير في القطع‬
‫الحديدية الموضوعة بين الصدفين()‪ .(3‬فلما تم ذلك وصارت النار‬
‫عظيمة قال للذين يتولون أمر النحاس من الذابة وغيرها‪ :‬آتوني‬
‫سا مذاًبا أفرغه عليه فيصير مضاعف القوة والصلبة‪ ،‬وهي‬ ‫نحا ً‬
‫‪1‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/2291‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/624‬‬
‫‪3‬‬
‫)‪ (3‬انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‬ ‫)( روح المعاني )‪.(16/40‬‬
‫‪.(4/2293‬‬

‫‪134‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫طريقة استخدمت حديًثا في تقوية الحديد‪ ،‬فوجد أن إضافة نسبة‬


‫من النحاس إليه تضاعف مقاومته وصلبته)‪.(1‬‬
‫‪ -3‬كان واقعًيا في قياسه للمور وتدبيره لها‪ ،‬فقد قدر حجم‬
‫الخطر‪ ،‬وقدر ما يحتاجه من علج‪ ،‬فلم يجعل السور من الحجارة‪،‬‬
‫فضل ً عن الطين واللبن‪ ،‬حتى ل يعود منهاًرا لدنى عارض‪ ،‬أو في‬
‫أول هجوم‪ ،‬ولهذا باءت محاولت القوم المفسدين بالفشل عندما‬
‫عوا‬ ‫س َ‬
‫طا ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫حاولوا التغلب على ما قهرهم به ذو القرنين‪َ + :‬‬
‫ف َ‬ ‫َ‬
‫قًبا" ]الكهف‪ ,[97:‬أي لم‬ ‫عوا ل َ ُ‬
‫ه نَ ْ‬ ‫ست َ َ‬
‫طا ُ‬ ‫ما ا ْ‬
‫و َ‬ ‫أن ي َظْ َ‬
‫هُروهُ َ‬
‫يتمكنوا من اعتلئه لرتفاعه وملسته‪ ,‬وما استطاعوا أن يثقبوه‬
‫لصلبته وثخانته)‪.(2‬‬
‫لقد كان ذو القرنين على علم بأخبار الغيب التي جاءت به‬
‫الشرائع‪ ,‬ومع ذلك لم يتخذ من القدار تكأة لتبرير القعود والهوان‪,‬‬
‫فقد بنى السد وبذل فيه الجهد‪ ,‬مع علمه بأن له أجل ً سوف ينهدم‬
‫فيه ل يعلمه إل الله‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬أخلقه القيادية وفقهه في إحياء الشعوب‪:‬‬
‫أ‪ -‬أخلقه القيادية‪:‬‬
‫إن شخصية ذي القرنين تميزت بأخلق رفيعة ساعدته على‬
‫تحقيق رسالته الدعوية والجهادية في الحياة ومن أهم هذه‬
‫الخلق‪:‬‬
‫دا صابًرا على مشاق الرحلت؛ فمثل ً تلك‬ ‫‪ -1‬الصبر‪ :‬كان جل ً‬
‫الحملت التي كان يقوم بها تحتاج إلى جهود جبارة في التنظيم‬
‫والنقل والتحرك والتأمين‪ ,‬فالعمال التي كان يعملها تحتاج إلى‬
‫جيوش ضخمة‪ ,‬وإلى عقلية يقظة‪ ,‬وذكاء وقاد‪ ,‬وصبر عظيم وآلت‬
‫ضخمة وأسباب معينة على الفتح والنصر والتملك)‪.(3‬‬
‫‪ -2‬كانت له مهابة ونجابة‪ :‬يستشعرها من يراه لول مرة‪ ,‬فل‬
‫يخطئ ظنه عندما يوقن أنه ليس بملك جبار ول ظالم‪ ,‬فعندما بلغ‬
‫بين السدين ووجد القوم المستضعفين‪ ,‬استأنسوا به‪ ,‬ووجدوا فيه‬
‫صا من الظلم والقهر الواقع عليهم فبادروه بسؤال المعونة؛‬ ‫مخل ً‬
‫دا مثلهم‪ ,‬ومعه من القوة‬ ‫ً‬ ‫مفس‬ ‫يكون‬ ‫لن‬ ‫بأنه‬ ‫أدراهم‬ ‫الذي‬ ‫فمن‬
‫)‪(4‬‬
‫والعدة ما ليس مثلهم ‪.‬‬
‫‪ -3‬الشجاعة‪ :‬كان قوي القلب جسوًرا غير هّياب من التبعات‬
‫الضخمة والمسئوليات العظيمة إذا كان في ذلك مرضاة الله‬
‫ما في ذاته‪,‬‬ ‫سبحانه‪ ,‬فإن ما طلب من إقامة السد‪ ,‬كان عمل ً عظي ً‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫)( فتح القدير )‪.(3/313‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/624‬‬
‫‪4‬‬
‫)‪ (3 ،‬المصدر نفسه )‪.(2/624‬‬

‫‪135‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫حيث إن القوم المفسدين كانوا من الممكن أن يوجهوا إفسادهم‬


‫إليه وإلى جنوده‪ ,‬ولكنه أقدم وأقبل غير متأخر ول مدبر)‪.(1‬‬
‫‪ -4‬التوازن في شخصيته‪ :‬فلم تعكر شجاعته على حكمته‪ ,‬ولم‬
‫ينقص حزمه من رحمته‪ ,‬ول حسمه من رفقه وعدالته‪ ,‬ولم تكن‬
‫سخرت له‪ -‬كافية لثنائه عن تواضعه وطهارته‬ ‫الدنيا كلها ‪-‬وقد ُ‬
‫وعفته‪.‬‬
‫‪ -5‬كثير الشكر‪ :‬لنه كان صاحب قلب حي موصول بالله‬
‫تعالى‪ ,‬فلم ُتسكره نشوة النصر‪ ,‬وحلوة الغلبة بعدما أذل كبرياء‬
‫ذا‬‫ه َ‬‫المفسدين‪ ,‬بل نسب الفضل إلى ربه سبحانه)‪ ,(2‬وقال‪َ + :‬‬
‫بي" ]الكهف‪.[98:‬‬ ‫من ّر ّ‬ ‫ة ّ‬ ‫م ٌ‬‫ح َ‬‫َر ْ‬
‫عن مال ل يحتاجه‪ ,‬ومتاع ل ينفعه‪ :‬فإن القوم‬ ‫مترف ً‬
‫‪-6‬كان عفي ًفا عا‬
‫المستضعفين لما شكوا إليه فساد المفسدين‪ ,‬عرضوا عليه الخراج؛‬
‫)فأجابهم بعفة وديانة وصلح‪ :‬إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين‬
‫خير لي من الذي تجمعونه وما أنا فيه خير من الذي تبذلونه( )‪.(3‬‬
‫إن مفتاح شخصية ذي القرنين تتمثل في إيمانه بالله تعالى‬
‫والستعداد لليوم الخر‪ ,‬وحبه لهل اليمان وبغضه لهل الكفر‬
‫والعصيان‪ ,‬وحبه العميق للدعوة إلى الله‪ ,‬فاليمان بالله واليوم‬
‫قوله تعالى‪:‬‬ ‫عند‪+‬أ َ‬ ‫الخر يظهر ذلك جلًيا في شخصية ذي القرنين‬
‫م‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ظ‬ ‫من‬ ‫ّ َ‬‫ما‬ ‫وقوله‪:‬‬ ‫خي ٌْر" ]الكهف‪,[95:‬‬ ‫ه َرّبي َ‬ ‫في ِ‬ ‫مك ّّني ِ‬ ‫ما َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫را" ]الكهف‪:‬‬ ‫ذاًبا ن ّك ًْ‬
‫ع َ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫ع‬ ‫ي‬
‫َ ّ ِ ُ َ ُ ُ َ‬‫ف‬‫َ‬ ‫ه‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ف َ ْ َ ُ َ ُ ُ ّ ُ َ ّ ِ‬
‫إ‬ ‫د‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ث‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ذ‬ ‫ع‬‫ن‬ ‫ف‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫َ‬
‫د‬
‫ع ُ‬‫و ْ‬ ‫ن َ‬‫وكا َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ه دَكاءَ َ‬ ‫َ‬
‫عل ُ‬ ‫ج َ‬
‫عدُ َرّبي َ‬ ‫و ْ‬ ‫جاءَ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫َ‬
‫‪ ,[87‬وقوله‪+ :‬فإ ِ َ‬
‫قا" ]الكهف‪ .[98:‬وهذه المواضع التي صرح بأنه كان مؤمًنا‬ ‫ح ّ‬‫َرّبي َ‬
‫بالله واليوم الخر يستفاد منها أمور‪:‬‬
‫‪ -‬إن الثناء على الحاكم ل يكون بمجرد شجاعة أو فتوح أو‬
‫عمارة‪ ,‬ما لم ينضم إليها اليمان بالله واليوم الخر‪ ,‬لن هناك‬
‫ما كثيرين كانت لهم من الصلحات الدنيوية المجردة ما‬ ‫حكا ً‬
‫يعتبرهم الناس من أجله عظماء‪ ,‬ومع ذلك لم يورد القرآن لهم‬
‫ذكًرا حسًنا‪ ,‬بل جاء في القرآن ذم حكام عمروا في الدنيا كثيًرا‬
‫ولكنهم خربوا أديان الناس وأفسدوا عليهم آخرتهم مثل فرعون‬
‫وهامان والنمرود ونحوهم‪.‬‬
‫‪ -‬إن التوازن المدهش والخلب في شخصية ذي القرنين؛ سببه‬
‫إيمانه بالله تعالى واليوم الخر‪ ,‬ولذلك لم تطغ قوته على عدالته‪,‬‬
‫قا‬ ‫ول سلطانه على رحمته‪ ,‬ول غناه على تواضعه‪ ,‬وأصبح مستح ً‬
‫لتأييد الله وعونه؛ ولذلك أكرمه الله تعالى بالخذ بأسباب التمكين‬
‫والغلبة وهو تفضل من الله تعالى على عبده الصالح‪ ,‬فجعل له‬
‫‪1‬‬

‫‪2‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(2/627‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/625‬‬

‫‪136‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫مكنة وقدرة على التصرف في الرض من حيث التدبير والرأي‬


‫وكثرة الجنود والهيبة والوقار)‪.(1‬‬
‫وكذلك أكرمه بكثرة العوان والجنود وقذف الرعب في قلوب‬
‫العداء وتسهيل السير عليه‪ ,‬وتعريفه فجاج الرض واستيلئه على‬
‫برها وبحرها)‪ ,(2‬وتمكنه بذلك من تملك المشارق والمغارب من‬
‫الرض‪ ,‬فكل هذه المور ل تعطى لشخص عادي‪ ,‬ول يمكن أن‬
‫دا من‬ ‫يحققها حاكم بحوله وقوته وذكائه مهما بلغ‪ ,‬إل أن يكون مؤي ً‬
‫الله‪ ,‬ذلك التأييد الذي ينصر الله به عباده المؤمنين‪ ,‬ويدل على‬
‫من‬ ‫وآت َي َْناهُ ِ‬
‫ضا ضمير العظمة في قوله تعالى‪َ + :‬‬ ‫هذه العناية أي ً‬
‫سب ًَبا" ]النمل‪ [84:‬أي‪ :‬أمده بكل ما أراده من مهمات‬ ‫ء َ‬‫ي ٍ‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫كُ ّ‬
‫ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه‪ ,‬فزوده بعلم منازل الرض‬
‫وأعلمها وعرفه ألسنة القوام الذين كان يغزوهم‪ ,‬فكان ل يغزو‬
‫ما إل كلمهم بلسانهم)‪.(3‬‬ ‫قو ً‬
‫لقد أعطاه الله تعالى من كل شيء سبًبا‪ ,‬وينصرف ذهن‬
‫السامع أو القارئ إلى وجوه التمكين له في الرض‪ ,‬وأسبابه من‬
‫دا وهبو ً‬
‫طا‪,‬‬ ‫العلوم والمعرفة واستقراء سنن المم والشعوب صعو ً‬
‫ما‪,‬‬ ‫ً‬ ‫وانتظا‬ ‫دا وجماعات؛ تهذيًبا وتربية‬ ‫وفي سياسة النفوس أفرا ً‬
‫وأعطاه من أسباب القوة من السلحة والجيوش وأسباب القوة‬
‫والمنعة والظفر‪ ,‬وأسباب العمران وتخطيط المدن وشق القنوات‬
‫وإنماء الزراعة مهما قيل ومهما تصور من أسباب التمكين التي‬
‫تليق برجل رباني قد مكن له في هذه الرض)‪ (4‬يمكن أن يدخل‬
‫َ‬
‫ل‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫وآت َي َْناهُ ِ‬‫ض َ‬
‫في الْر ِ‬ ‫مك ّّنا ل َ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫تحت قوله تعالى‪+ :‬إ ِّنا َ‬
‫سب ًَبا" ]الكهف‪ ,[84:‬لقد كانت رعاية الله تعالى لذي القرنين‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫عظيمة بسبب إيمانه بالله تعالى‪ ,‬واستعداده لليوم الخر‪ ,‬ولذلك‬
‫فتح له باب التوفيق وفق ما سعى إليه من أهداف وغاية سامية‪.‬‬
‫لقد بذل ذو القرنين ما في وسعه من أجل دعوة النا س إلى عبادة‬
‫الله‪ ,‬فقد جمع بين الفتوحات العظيمة بحد السيف‪ ,‬وفتوحات القلوب‬
‫باليمان والحسان‪ ,‬فكان إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق‬
‫واليمان بالله تعالى قبل العقاب أو الثواب‪ ,‬وكان حريصا ً على العمال‬
‫الصلحية في كل القاليم والبلدان التي فتحها‪ ,‬فسعى في بسط‬
‫با‪ ً ,‬وكان صاحب ولء‬ ‫سلطان الحق‪ ,‬والعدالة في الر ض شر ً‬
‫قا وغر‬
‫)‪(5‬‬
‫ومحبة لهل اليمان‪ ,‬مثلما كان معاديا ً لهل الكفران ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫روح المعاني )‪.(16/30‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫البحر المحيط )‪.(6/159‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫روح المعاني )‪.(16/31‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫مباحث في التفسير الموضوعي لمصطفى مسلم‪ ,‬ص ‪.304‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬
‫‪5‬‬
‫الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/623‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬

‫‪137‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ب‪ -‬فقهه في إحياء الشعوب‪:‬‬


‫إن حركة ذي القرنين الدعوية والجهادية جعلته يحتك بالشعوب‬
‫والمم‪ ,‬وتكلم القرآن الكريم عن رحلته اليمانية‪:‬‬
‫‪ -1‬الرحلة الولى‪:‬‬
‫لم يحدد القرآن الكريم نقطة النطلق فيها وحدد النهاية إلى‬
‫ما‪ ,‬فدعاهم إلى الله تعالى‪ ,‬وسار‬ ‫مغرب الشمس‪ ,‬ووجد عندها قو ً‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من ظل َ‬ ‫ما َ‬ ‫فيهم بسيرة العدل والصلح‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬أ ّ‬
‫را" ]الكهف‪:‬‬ ‫ذاًبا ن ّك ًْ‬‫ع َ‬ ‫ه َ‬‫عذّب ُ ُ‬
‫في ُ َ‬ ‫م ي َُردّ إ َِلى َرب ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫ه ثُ ّ‬
‫عذّب ُ ُ‬
‫ف نُ َ‬‫و َ‬
‫س ْ‬
‫ف َ‬‫َ‬
‫‪.[87‬‬
‫إنها سياسة العدل التي تورث التمكين في الحكم والسلطة‪,‬‬
‫وفي قلوب الناس الحب والتكريم للمستقيمين‪ ,‬وإدخال الرعب‬
‫في قلوب أهل الفساد والظلم‪ ,‬فالمؤمن المستقيم يجد الكرامة‬
‫والود والقرب من الحاكم‪ ,‬ويكون بطانته وموضع عطفه وثقته‬
‫ورعاية مصالحه وتيسير أموره‪.‬‬
‫أما المعتدي المتجاوز للحد‪ ,‬المنحرف الذي يريد الفساد في‬
‫الرض فسيجد العذاب الرادع من الحاكم في الحياة الدنيا‪ ,‬ثم يرد‬
‫إلى ربه يوم القيامة ليلقى العقوبة النكى بما اقترفت يداه في‬
‫حياته الولى‪.‬‬
‫ولم يعين السياق القوم الذين اتخذ فيهم ذو القرنين هذه‬
‫السياسة الحكيمة كما أهمل ذكر المدة التي مكثها بينهم‪ ,‬والنتائج‬
‫التي توصل إليها‪ ,‬وكأن المر المفروغ منه أن تثمر هذه السيرة‬
‫ما وسعادة‬ ‫العادلة‪ ,‬والمبادئ السامية حضارة ربانية وتقد ً‬
‫وطمأنينة‪ ,‬لذا ل داعي لذكرها والوقوف عندها)‪.(1‬‬
‫‪ -2‬الرحلة الثانية‪:‬‬
‫وهي رحلة المشرق حيث يصل إلى مكان يبرز لعين الرائي أن‬
‫الشمس تطلع من خلف الفق‪ ,‬ولم يحدد السياق أهو بحر أم‬
‫يابسة؟ إل أن القوم الذين كانوا عند مطلع الشمس كانوا في‬
‫أرض مكشوفة بحيث ل يحجبهم عن شروقها مرتفعات جبلية أو‬
‫أشجار سامقة‪ ,‬وذهب الشيخ محمد متولي الشعراوي ‪-‬رحمه الله‪-‬‬
‫را" ]الكهف‪:‬‬ ‫ست ْ ً‬
‫ها ِ‬ ‫دون ِ َ‬‫من ُ‬ ‫هم ّ‬ ‫عل ل ّ ُ‬‫ج َ‬ ‫إلى أن المقصود ‪+‬ل ّ ْ‬
‫م نَ ْ‬
‫‪ ,[90‬هي بلد القطب الذي تكون فيه الشمس ستة شهور ل تغيب‬
‫طوال هذه الشهور ول يوجد ظلم يستر الشمس في هذه‬
‫الماكن)‪.(2‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مباحث في التفسير الموضوعي‪ ,‬ص ‪.305‬‬
‫‪2‬‬
‫)( القصص القرآني في سورة الكهف ص ‪.87‬‬

‫‪138‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫ونظًرا لوضوح سياسة ذي القرنين في الشعوب التي تمكن‬


‫منها‪ ,‬وهو الدستور المعلن في رحلة الغرب لم يكرر هنا إعلن‬
‫مبادئه‪ ,‬لنها منهج حياة ودستور دولة مترامية الطراف وسياسة‬
‫أمم‪ ,‬فهو ملتزم بها أينما حل أو ارتحل)‪.(1‬‬
‫‪ -3‬الرحلة الثالثة‪:‬‬
‫تختلف عن الرحلتين السابقتين من حيث طبيعة الرض‬
‫والتعامل مع البشر وسكان المنطقة‪ ,‬ومن حيث العمال التي قام‬
‫بها‪ ,‬فلم يقتصر فيها على العمال الجهادية لكبح جماح الشرار‬
‫والمفسدين؛ بل قام بعمل عمراني هائل‪ ,‬أما الرض فوعرة‬
‫المسالك‪ ,‬وأما السكان ‪-‬وكأن وعورة الرض قد أثرت على‬
‫طبائعهم وطريقة تخاطبهم مع غيرهم‪ -‬فهناك في التفاهم‬
‫والمخاطبة بحيث ل يكاد النسان منهم يقدر على التعبير عما في‬
‫د‬
‫ج َ‬‫و َ‬
‫نفسه‪ ,‬ول أن يفقه ما يحدثه به غيره من غير بني قومه ‪َ +‬‬
‫ول ً" ]الكهف‪ ,[93 :‬إما‬ ‫ق ْ‬‫ن َ‬ ‫هو َ‬ ‫ف َ‬
‫ق ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ل ّ ي َ َ‬
‫كا ُ‬ ‫و ً‬ ‫ما َ‬
‫ق ْ‬ ‫ه َ‬
‫دون ِ ِ‬
‫من ُ‬ ‫ِ‬
‫لسبب في أسلوب التخاطب والتعامل ‪-‬كما أسلفنا‪ -‬أو من التخلف‬
‫الحضاري والبدائية في العادات والمفاهيم والمصطلحات‪ ,‬فلما‬
‫وجدوا القوة في دولة ذي القرنين والعدل والصلح في سيرته‬
‫‪-‬وعدل السلطان يفتح أمامه القلوب قبل فتح الجيوش والمصار‪-‬‬
‫لجأوا إليه بحمايتهم من هجمات تلك القبائل الهمجية المفسدة‪,‬‬
‫قبائل يأجوج ومأجوج التي كانت تشن عليهم هجماتهم من خلف‬
‫الجبلين المتقابلين من الممر الضيق الذي بينهما‪ ,‬وذلك بإقامة‬
‫السد بين الصدفين‪ ,‬مقابل خراج يدفعونه إليه في أموالهم‪ ,‬ونظًرا‬
‫لن القضية التي وضعها ذو القرنين نصب عينيه هي الصلح‬
‫ومقاومة الفساد والشر‪ ,‬والحكم بالعدل بين الناس‪ ,‬ولم يكن همه‬
‫جمع المال أو قصد العلو في الرض بإذلل الشعوب‪ ,‬فقد رفض‬
‫عرضهم‪ ,‬وتطوع بإقامة السد على أن يتطوعوا هم من جانبهم‬
‫بتقديم الجهد البشري‪ ,‬فمنه الخبرة والتصميم والشراف‪ ,‬وعليهم‬
‫الطاقة العمالية والمواد الولية المتوافرة في بلدهم)‪.(2‬‬
‫ونلحظ من السياق القرآني أن هؤلء القوم اتصفوا بصفات‬
‫منها‪:‬‬
‫ول ً" وهذا‬ ‫ن َ‬
‫ق ْ‬ ‫هو َ‬
‫ق ُ‬‫ف َ‬‫ن يَ ْ‬‫دو َ‬ ‫كا ُ‬‫‪ -1‬هم قوم متخلفون‪+ :‬ل ّ ي َ َ‬
‫إما معناه أنهم ل يفقهون لغة غيرهم من القوام الخرى‪ ,‬لنهم لم‬
‫طلعوا عليها ولم يتعلموها‪ ,‬فهم منغلقون على لغتهم فقط‪ ,‬وإما‬ ‫ي ّ‬
‫معناه أن الكلم ل ينفع معهم‪ ,‬لنهم ل يفقهون ول يتفاعلون معه‪,‬‬
‫ول يتفاهمون مع قائله‪ ,‬ل يفعلون هذا لجفاء وغلظة عندهم‪ ,‬أو‬
‫لغفلة وسذاجة في طبيعتهم‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مباحث في التفسير الموضوعي‪ ,‬ص ‪.306‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر السابق‪ ,‬ص ‪.307‬‬

‫‪139‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -2‬هم قوم ضعفاء‪ ,‬ولذلك عجزوا عن صد هجمات يأجوج‬


‫ومأجوج‪ ,‬والوقوف في وجههم‪ ,‬ومنع إفسادهم‪.‬‬
‫هم قوم عاجزون عن الدفاع عن أرضهم‪ ,‬ومقاومة المعتدين‪,‬‬ ‫‪-3‬‬
‫ولذلك لجأوا إلى قوة أخرى خارجية‪ ,‬قوة ذي القرنين‪ ,‬حيث طلبوا‬
‫منه حل مشكلتهم والدفاع عن أراضيهم‪.‬‬
‫دا ول أن‬ ‫هم قوم اتكاليون كسالى‪ ,‬ل يريدون أن يبذلوا جه ً‬ ‫‪-4‬‬
‫يقوموا بعمل‪ ,‬ولذلك أحالوا المشكلة على ذي القرنين‪ ,‬وأوكلوا إليه‬
‫حلها‪ ,‬أما هم فمستعدون لدفع المال له)‪.(1‬‬
‫لقد كان فقه ذي القرنين في التعامل مع الشعوب‬
‫المستضعفة هو السعي الجاد لنقلها من الجهل والتخلف والكسل‬
‫والضعف إلى العلم والتقدم والنشاط والقوة‪ ,‬فكان يدير العمل‬
‫بروح الجماعة‪ ,‬ويشترك بنفسه مع إشراك غيره‪ ,‬ويدل على ذلك‬
‫ضمير المتكلم الذي يتقابل في تسلسل متتابع رفيع مع ضمير‬
‫المخاطب في النظم القرآني الكريم مما يشير إلى روح الحماس‬
‫خي ٌْر‬‫ه َرّبي َ‬ ‫في ِ‬ ‫مك ّّني ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫والحيوية والتعاون المشترك)‪َ + ,(2‬‬
‫قو َ‬ ‫فأ َ ِ‬
‫ما ‪ ‬آُتوِني ُزب ََر‬ ‫م َردْ ً‬ ‫ه ْ‬ ‫وب َي ْن َ ُ‬‫م َ‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫ع ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫عيُنوِني ب ِ ُ ّ ٍ‬ ‫َ‬
‫حّتى‬ ‫َ‬ ‫خوا‬ ‫ُ‬ ‫ف‬‫ُ‬ ‫ان‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫د‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫وى‬ ‫سا‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫إ‬ ‫تى‬‫ا َ ِ ِ َ ّ‬
‫ح‬ ‫د‬ ‫دي‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬
‫ْ‬ ‫ّ َ َ ْ ِ‬ ‫َ ْ َُ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬
‫را" ]الكهف‪[96،95 :‬‬ ‫قط ً‬ ‫ه ِ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫رغ َ‬ ‫ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ل آُتوِني أ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫ه َناًرا َ‬ ‫عل َ ُ‬
‫ج َ‬ ‫ذا َ‬ ‫إِ َ‬
‫حا لهم فيما‬ ‫ً‬ ‫ناص‬ ‫الناس‪,‬‬ ‫مصلحة‬ ‫على‬ ‫صا‬‫ً‬ ‫حري‬ ‫القرنين‬ ‫ذو‬ ‫كان‬ ‫لقد‬
‫يعود عليهم بالنفع‪ ,‬ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية‪ ,‬لما في‬
‫ذلك تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم)‪ .(3‬ومن نصحه وإخلصه لهم‪ ,‬أنه‬
‫بذل ما في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون‪ ,‬فهم طلبوا‬
‫دا‪ ,‬أما هو فقد وعد‬ ‫منه أن يجعل بينهم وبين القوم المفسدين س ً‬
‫ما‪) ,‬والردم هو الحاجز الحصين‪ ,‬والحجاب‬ ‫بأن يجعل بينهم رد ً‬
‫)‪(4‬‬
‫المتين وهو أكبر من السد وأوثق‪ ,‬فوعدهم بفوق ما يرجون( ‪.‬‬
‫ف ذو القرنين عن أموال المستضعفين وشرع في‬ ‫لقد ع ّ‬
‫تعليمهم النشاط والعمل والكسب والسعي‪ ,‬فقال لهم‪:‬‬
‫قو َ‬ ‫فأ َ ِ‬
‫ما" ]الكهف‪.[95:‬‬ ‫م َردْ ً‬ ‫ه ْ‬ ‫وب َي ْن َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫ع ْ‬ ‫ج َ‬‫ةأ ْ‬ ‫عيُنوِني ب ِ ُ ّ ٍ‬ ‫‪َ +‬‬
‫إن هذا العبارة القرآنية معلم بارز في تضافر الجهود وتوحيد‬
‫الطاقات والقدرات والقوى‪.‬‬
‫إن القيادة الحكيمة هي التي تستطيع أن تفجر طاقات‬
‫‪1‬‬
‫مع قصص السابقين )‪.(2/338‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/627‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫أحكام القرآن لبي بكر بن العربي )‪.(3/243‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫روح المعاني )‪.(16/40‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬

‫‪140‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المجتمع وتوجهه نحو التكامل لتحقيق الخير والغايات المنشودة‪.‬‬


‫إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالت‬
‫المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم‪ ,‬والقوى‬
‫المادية‪ ,‬ويأتي دور القيادة الربانية في المة لتربط بين كل‬
‫الخيوط والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها‬
‫نحو خير المة ورفعتها‪.‬‬
‫إن أمتنا السلمية مليئة بالمواهب الضائعة والطاقات‬
‫المعطلة‪ ,‬والموال المهدرة‪ ,‬والوقات المبددة‪ ,‬والشباب الحيارى‪,‬‬
‫وهي تنتظر من قيادتها في كل القطار والدول والبلد لكي تأخذ‬
‫بقاعدة ذي القرنين في َالجمع والتنسيق والتعاون ومحاربة الجهل‬
‫ة"‪.‬‬ ‫و ٍ‬ ‫عيُنوِني ب ِ ُ‬
‫ق ّ‬ ‫والكسل والتخلف)‪َ +(1‬‬
‫فأ ِ‬
‫إن ذا القرنين لم يكن موقفه مع المستضعفين حمايتهم‪ ,‬وإنما‬
‫توريثهم أسباب القوة حتى يستطيعوا أن يقفوا أمام المفسدين‪,‬‬
‫لقد كان ذو القرنين يستطيع أن يبقى حتى يبدأ يأجوج ومأجوج في‬
‫الهجوم‪ ,‬ثم يهاجم ويهزمهم‪ ,‬ولكن الله سبحانه وتعالى يريد أن‬
‫يلفتنا إلى أنه ليس من وظيفة الحاكم أو الملك أن يظل في‬
‫انتظار هجوم الظالم‪ ,‬ولكن وظيفته منع وقوع الظلم‪.‬‬
‫كيف منع ذو القرنين وقوع الظلم؟ لم يأت بجيوش لحماية‬
‫المستضعفين مع قدرته على ذلك‪ ,‬وإنما طلب منهم أن يعينوه‬
‫ليساعدهم على حماية أنفسهم ويتعلموا فنون الحماية ويكسبوا‬
‫خبرات ويتدربوا على العمل الجاد المثمر الذي يجعلهم يبنون السد‬
‫بأيديهم؛ وهذا أدعى للحفاظ عليه وإصلحه إن أصابه شيء‪.‬‬
‫إن ذا القرنين رفض أن يكون هؤلء المستضعفون عاطلين‪ ,‬قال‬
‫الشيخ محمد متولي الشعراوي‪ :‬وهذه تلفتنا إلى أن لله سبحانه‬
‫وتعالى عطاء إمكانات‪ ,‬وعطاء ذاتي في النفس‪ ..‬عطاء المكانات هو‬
‫ما تستطيع أن توفره من وسائل تعينك على أداء العمل‪ ,‬والعطاء‬
‫الذاتي في النفس هو القوة الذاتية في داخلك التي تعطيك طاقة‬
‫العمل‪ ,‬وكثير منا ل يلتفت إلى عطاء النفس ل يلتفت إلى أنه فيه قوة‬
‫كثيرة‪ ,‬وأنه ل يستخدمها وأن لديه قوة‬ ‫أعما ً‬
‫يستطيع أن يعمل بها ل‬
‫ً‬
‫تحمل وبإمكانه أن ينتقل من مكان إلى آخر‪ ..‬وأن يعمل أعمال كثيرة‪.‬‬
‫هذه القوة معطلة عند عدد كبير من الناس‪ ,‬فهي غير‬
‫مستخدمة‪ ,‬ويستطيع الرجل أن يفعل بها أشياء كثيرة‪ ,‬وأمامه‬
‫المجالت التي يستخدم فيها طاقته؛ ولكنه ل يستخدمها‪ ,‬عنده قوة‬
‫تفكير لو دربها على العلم لفتحت له أبواًبا كثيرة يرتزق منها؛‬
‫ولكنه يبقيها كسولة فل تفكر في شيء ول يستخدمها لينميها‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬مع قصص السابقين )‪.(2/342‬‬

‫‪141‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ماذا فعل ذو القرنين؟‬


‫لم يستعن بجيشه ول بأناس آخرين‪ ..‬إنما استعان بهؤلء‬
‫الضعفاء‪ ,‬لقد طلب منهم أن يأتوا بالحديد ثم بناء السد بحيث‬
‫وصل به إلى قمة الجبلين‪ ,‬ثم قام بصهر الحديد‪ ,‬وأفرغ عليه‬
‫النحاس ليكون السد في غاية المتانة والقوة‪.‬‬
‫وى هؤلء الضعفاء الذين كان يهاجمهم يأجوج‬ ‫إذن فهو ق ّ‬
‫ومأجوج‪ ,‬بأن علمهم كيف يعينون أنفسهم وكيف يبنون السد‬
‫وجعلهم هم الذين يشتركون في البناء وهم الذين يقيمونه‪,‬‬
‫وأعانهم هو بخبرته وعلمه فقط‪ ,‬ليأخذوا الثقة في أنفسهم‪ ,‬بأنهم‬
‫يستطيعون حماية أنفسهم‪ ,‬وليتعلموا ما يعينهم ويحميهم‪ ,‬والسلم‬
‫ود الناس على الكسل أو نعطيهم أجًرا بل عمل‪,‬‬ ‫ينهانا عن أن نع ّ‬
‫لن ذلك هو الذي يفسد المجتمع‪ ,‬فالنسان متى تقاضى أجًرا بل‬
‫دا)‪.(1‬‬
‫عمل ل يمكن أن يعمل بعد ذلك أب ً‬
‫إن ذا القرنين قام بمهمة الحاكم الممكن له في الرض‪ ,‬فقوى‬
‫المستضعف وجعله قادًرا على حماية نفسه من العدوان ول يعتمد‬
‫على حماية أحد‪ ,‬ولم يترك الناس في مقاعد المتفرجين؛ بل‬
‫نقلهم إلى ساحة الجد عاملين)‪.(2‬‬
‫وهنا وقفة مهمة ودرس هام وضروري للمة‪ ,‬وبخاصة في‬
‫قا مدمًرا‪ ,‬أشد وأقسى من‬ ‫زماننا هذا‪ ,‬لنها تواجه خطًرا ماح ً‬
‫يأجوج ومأجوج‪ ,‬إنه خطر الملحدة واليهود والنصارى‪ ,‬الذين‬
‫يسعون لتدمير كيان المة وسلخها من هويتها وعقيدتها وإسلمها‬
‫وجعلها عاجزة مكتوفة اليدي أمام هذا الخطر‪ ,‬تستنجد وتستنكر‬
‫وتشكو إلى مجلس المن والمم المتحدة‪ ,‬والدعوة إلى مؤتمر‬
‫دولي‪.‬‬
‫إن القرآن الكريم يعلمنا ويرشدنا إلى طريق النجاة أل وهي‬
‫اللتزام بمنهج الله واتخاذ طريق العمل الصائب الصحيح‪ ,‬بالجهاد‬
‫والقتال والقوة والعلوم المتطورة لكي تستحق المة رحمة الله‪,‬‬
‫دع ّالماني والحلم الخادعة‪ ,‬وعليها أن تدخل ميدان‬ ‫فعلى المة أن تو‬
‫العمل والعطاء والجهاد والشهادة‪ ,‬فعندما تحرك القوم المستضعفون‬
‫نحو العمل بقيادة ذي القرنين‪ ,‬وصلوا إلى هدفهم المنشود‪ ,‬وغايتهم‬
‫المطلوبة‪ ,‬ونقف مع ذي القرنين بعد أن تم بناء السد‪.‬‬
‫نظر ذو القرنين إلى سده العظيم الذي حفظ الناس من‬
‫من ّرّبي" ]الكهف‪ ,[98:‬إنها‬ ‫ة ّ‬ ‫م ٌ‬‫ح َ‬‫ذا َر ْ‬‫ه َ‬
‫غارات المفسدين وقال‪َ + :‬‬
‫ن‪:‬‬‫ٍ‬ ‫معا‬ ‫عدة‬ ‫إلى‬ ‫عبارة جميلة مباركة تشير‬

‫‪1‬‬
‫)( القصص القرآني في سورة الكهف‪ ,‬ص ‪.94،93‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ,‬ص ‪.95‬‬

‫‪142‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -1‬قال سيد قطب رحمه الله‪) :‬ونظر ذو القرنين إلى العمل‬


‫الضخم الذي قام به‪ ,‬فلم يأخذه البطر والغرور‪ ,‬ولم تسكره نشوة‬
‫القوة والعلم‪ ,‬ولكنه ذكر الله فشكره‪ ,‬ورد إليه العمل الصالح‬
‫الذي وفقه إليه‪.(1) (...‬‬
‫‪ -2‬ذكر ذي القرنين لربه عند إنجاز عمله‪ ,‬يعلمنا كيف يكون‬
‫ذكر الله سبحانه‪ ,‬إن من أعظم صور الذكر‪ ,‬هي أن يذكر ربه عند‬
‫توفيقه في عمله‪ ,‬فيستشعر أن هذا بأمر ربه‪ ,‬فيتواضع ويعدل‬
‫ويذكر ويشكر‪.‬‬
‫‪ -3‬كان بناء السد رحمة من الله تعالى‪ ,‬وقد استخدم ذو‬
‫القرنين علمه الذي علمه الله إياه‪ ,‬وتمكينه الذي مكنه الله له‪,‬‬
‫استخدمه في مساعدة الناس وتقديم الخير لهم‪ ,‬ومنع العدوان‬
‫عنهم‪ ,‬فكان علمه رحمة من ربه وكان استخدامه له رحمة من‬
‫ربه‪.‬‬
‫معّرضين لفسادهم‪,‬‬ ‫مهددين بيأجوج ومأجوج‪ُ ,‬‬ ‫‪ -4‬كان القوم ُ‬
‫ولم يحمهم منهم إل الله ببناء السد‪ ,‬فكان السد رحمة من الله‬
‫ذا بإذن الله‪ ,‬فلو لم يتم بناء السد‪ ,‬ولو‬ ‫صا لهم وإنقا ً‬ ‫لهم‪ ,‬وكان خل ً‬
‫بقى أولئك القوم َيشكون ويندبون‪ ,‬بدون عمل ول جهد ول حركة‪,‬‬
‫لما أنقذوا أنفسهم من الخطر‪ ,‬لن النقاذ ل يتم إل بالعمل والجهد‬
‫المتواصل‪ ,‬وتكاتف الجهود‪ ,‬والنقياد الطوعي للشعوب لشرع الله‬
‫خلف القيادة الربانية)‪.(2‬‬
‫عدُ َرّبي‬
‫و ْ‬
‫ن َ‬ ‫و َ‬
‫كا َ‬ ‫كاءَ َ‬ ‫عل َ ُ‬
‫ه دَ ّ‬ ‫ج َ‬
‫عدُ َرّبي َ‬‫و ْ‬‫جاءَ َ‬‫ذا َ‬ ‫‪َ + -5‬‬
‫فإ ِ َ‬
‫قا" ]الكهف‪.[98:‬‬ ‫ح ّ‬
‫َ‬
‫لقد أعلن ذو القرنين ما يؤمن به من أن الجبال والحواجز‬
‫والسدود ستدك عندما يحين وعد الله الذي ل يتخلف‪.‬‬
‫رابًعا‪ :‬المفاهيم الحضارية والدروس والعبر‪:‬‬
‫أ‪ -‬المفاهيم الحضارية‪:‬‬
‫إن الله تعالى أظهر في سيرة أحسن الملوك)‪) (3‬ذي القرنين(‬
‫سا لكل من أراد أن يحكم‬ ‫مفاهيم حضارية وجعل في سيرته درو ً‬
‫بالحق والعدل من الحكام في الناس‪ ,‬فأرشد القرآن الكريم عباده‬
‫إلى ركائز الحضارة الربانية التي تقوم على شرع الله وتحكيمه‬
‫بين العباد‪ ,‬فمن أهم هذه الركائز‪ :‬اليمان‪ ,‬العدل‪ ,‬العمل‪ ,‬وإنها‬
‫لصفات لبد منها حتى يستقيم أمر الشعوب‪ ,‬ويأمنوا بحق على‬
‫‪1‬‬
‫)( الظلل )‪.(4/2293‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬مع قصص السابقين )‪.(2/350‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬مجموع الفتاوى )‪.(17/22‬‬

‫‪143‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أنفسهم‪ ,‬وأموالهم‪ ,‬وأعراضهم‪ ,‬وأديانهم‪ ,‬وعقولهم‪ ,‬فاليمان بالله‬


‫رًبا يجعل الحاكم يحرص على أن يستقي أوامره وتشريعاته من‬
‫منهج الله‪ ,‬الذي ل شطط فيه ول خلف‪ ,‬ول إفراط ول تفريط‪ ,‬ول‬
‫دا كل البعد عن هواه‪ ,‬فل يظلم ول يبطر‬ ‫غلو ول جفاء‪ ,‬ويكون بعي ً‬
‫ول يتحكم في رقاب الناس وأمنهم بدون وجه حق‪ ,‬والعدل لبد‬
‫منه لنه مركب النجاة‪ ,‬وأمان أهل الرض‪ ,‬والثقة بين الراعي‬
‫والرعية‪ ,‬والقائد والمقود والحاكم والمحكوم‪ ,‬وبالعمل والتعاون‬
‫ينتشر العمران‪ ,‬وتعم الحضارة وفق منهج رب العالمين‪.‬‬
‫لقد بنى ذو القرنين حضارة ربانية معتمدة على ركائز اليمان‪,‬‬
‫والعلم والعدل‪ ,‬والصلح مستهدفة بني النسان أينما حل وأقام‪ ,‬أو‬
‫ارتحل إلى أي مكان‪ ,‬فقاد الدنيا باليمان والخير والفلح‪ ,‬وعمل على‬
‫تخليصها من أسر المادة الطاغية‪ ,‬وكذلك الكفر والشرك والجرام‪.‬‬
‫وحرص على تربية جنوده وأتباعه على الخير والحق ومحاربة‬
‫الشر من النفوس‪ ,‬وأهم هذه الشرور الظلم والعدوان والتسلط‬
‫على الناس‪ ,‬ومحاولة استعبادهم واستغللهم لتحقيق مصالح‬
‫شخصية‪ ,‬فالنحطاط الخلقي أضر شيء بالحياة النسانية‪.‬‬
‫إن الحضارة الربانية متكاملة‪ ,‬وقابلة للبناء في أي وقت كان‬
‫فيه التزام بالمنهج الرباني وأحكامه‪ ,‬لن المنهج الرباني وأحكامه‬
‫فيه كل الخير من عناصر معنوية اعتقادية وروحية وأخلقية وعلمية‬
‫وإبداعية‪ ,‬وعناصر مادية تشمل التقدم العمراني والصناعي‬
‫والزراعي والتجاري‪ ,‬وكذلك عناصر تنظيمية وتشريعية تنظم حياة‬
‫طا بجميع جوانب الحضارة ولذلك‬ ‫الفرد والمجتمع والدولة‪ ,‬مرتب ً‬
‫تخرج للوجود حضارة ربانية مؤمنة تتقدم لصالح البشرية ولنشر‬
‫الهداية لتعميمها على العباد وتسعى لبناء الرجال على أسس من‬
‫العقلية والخلق‪ ,‬والفكار الصحيحة‪ ,‬والتصورات السليمة قبل بناء‬
‫المباني وتجميل المدن‪ ,‬وصناعة السلحة‪.‬‬
‫وتتميز الحضارة الربانية بتكاملها وتوازنها وتناسقها‪ ,‬من‬
‫الحاجات الجسمية والعقلية والروحية وتتطلع إلى التنافس‬
‫الشريف‪ ,‬وإسعاد البشرية‪ ,‬وتكوين الشخصية الربانية التي تتحمل‬
‫مسئولياتها الحضارية‪.‬‬
‫إن سيرة ذي القرنين في قيادته الحضارية للبشرية في زمانه‬
‫تعطينا صورة مشرقة للنسان القوي المؤمن العالم‪ ,‬الذي يسخر‬
‫كل إمكانات دولته وجنوده وأتباعه وعلومه ووسائله وأسبابه لتعزيز‬
‫شرع الله وتمكين دينه وخدمة النسانية وإعلء كلمة الله‪ ,‬وإخراج‬
‫الناس من الظلمات إلى النور‪ ,‬ومن عبادة الناس والمادة إلى‬
‫عبادة الله)‪ (,1‬ولقد سار نبينا عليه أفضل الصلة والسلم والخلفاء‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬ذو القرنين القائد الفاتح لمحمد خير رمضان‪ ,‬ص ‪.390‬‬

‫‪144‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫الراشدون من بعده‪ ,‬على نفس المنوال والهدى الذي رسمه القرآن‬


‫في‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫مك ّّنا ُ‬ ‫ن ِإن ّ‬ ‫ذي َ َ‬ ‫ولقد طبقوا قول الله تعالى‪+:‬ال ّ ِ‬ ‫ض أَ‬ ‫الكريم‪,‬‬
‫ف‬
‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫با‬ ‫روا‬ ‫م‬
‫َ َ ُ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫ز‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫وا‬ ‫َ‬
‫َ ُ‬ ‫ت‬ ‫وآ‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ص‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫موا‬ ‫ُ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ال َْر‬
‫ُ‬
‫ر" ]الحج‪.[41:‬‬ ‫مو ِ‬ ‫ة ال ُ‬ ‫قب َ ُ‬‫عا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ولل ِ‬ ‫ر َ‬ ‫من ْك َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ون َ َ‬‫َ‬
‫إن اليمان الراسخ‪ ,‬والعمل الصالح‪ ,‬والسيرة الفاضلة‪,‬‬
‫والمقاصد الخيرة‪ ,‬والدعوة إلى الله وإلى الحق واستخدام كل ما‬
‫أوتينا من علم وحكمة يصنع الحضارة الربانية التي قاعدتها العقيدة‬
‫الصحيحة‪ ,‬والتي تنبثق منها مبادئ وقيم وأخلق ربانية تسعد من‬
‫دخل في منهجها في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫إن الحضارة النسانية الرفيعة تتحقق في ظل دين السلم‪,‬‬
‫وبذلك نستطيع أن نعرف الحضارة الربانية بأنها‪» :‬تفاعل النشطة‬
‫النسانية للجماعة الموحدة لخلفة الله في الرض عبر الزمن‪,‬‬
‫وضمن المفاهيم السلمية عن الحياة والكون والنسان«)‪.(1‬‬
‫وهذا التعريف يتسع ليضم بين جوانبه حلقات الحضارة الربانية‬
‫المتعددة والتي بدأت مع فجر التاريخ‪ ,‬عبر النبياء والرسل‬
‫والمؤمنين بهم‪ ,‬حتى الحلقة الوسع وهي الحلقة المبتدئة بعصر‬
‫النبي × وما تبعه من تفاعلت وأحداث‪.‬‬
‫وهكذا تصبح الحضارة الربانية الحضارة العالمية‪ ,‬التي تضم‬
‫بين أرجائها تفاعلت المم والشعوب المندرجة تحت شرع الله‬
‫تعالى‪ ,‬وتقبل في عضويتها العالم بأسره‪ ,‬أسوده وأصفره وأبيضه‬
‫وفق المنهج الرباني وأحكامه‪.‬‬
‫وتسعى لخدمة النسان وإسعاده‪ ,‬ليكون مع سائر الكوان‬
‫المحيطة به في وحدة حضارية كونية تتسامى في تمجيد الله‬
‫تعالى‪ ,‬وفي تسبيح أصيل للخلق العليم خالق الوجود كله)‪ ,(2‬قال‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ه ّ‬ ‫في ِ‬ ‫من ِ‬ ‫و َ‬ ‫ض َ‬ ‫والْر ُ‬ ‫ع َ‬ ‫سب ْ ُ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫وا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ح لَ ُ‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫تعالى‪+ :‬ت ُ َ‬
‫ن‬
‫هو َ‬ ‫َ‬
‫كن ل ت َفق ُ‬‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ول ِ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫د ِ‬ ‫م ِ‬‫ح ْ‬ ‫ح بِ َ‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫ء إ ِل ي ُ َ‬ ‫ّ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫وِإن ّ‬ ‫َ‬
‫را" ]السراء‪.[44 :‬‬ ‫ً‬ ‫فو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫ما‬‫ً‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬
‫ُ ْ ِ ُ‬‫إ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫بي‬
‫تَ ْ ِ‬
‫س‬
‫ن‬
‫سا َ‬ ‫ن ال ِن ْ َ‬ ‫ر ‪ ‬إِ ّ‬ ‫ص ِ‬
‫ع ْ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫إننا إذا تأملنا في قول الله تعالى‪َ + :‬‬
‫وا‬
‫ص ْ‬‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ر ‪ ‬إ ِل ّ ال ّ ِ‬ ‫س ٍ‬ ‫خ ْ‬ ‫في ُ‬ ‫لَ ِ‬
‫ر" ]العصر‪ .[3-1:‬لوجدناها بحق تمثل معنى‬ ‫صب ْ ِ‬ ‫وا ِبال ّ‬ ‫ص ْ‬ ‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫الحضارة الربانية في مفاهيمها وعناصرها‪ ,‬فالسورة حوت عناصر‬
‫الحضارة كلها بوضوح كامل‪ :‬النسان‪ ,‬التجمع‪ ,‬صفة الجمع في‬
‫السورة الذين آمنوا وعملوا الصالحات‬
‫‪ -‬الزمن‪ -‬الصبغة‪ ,‬كما تضمنت التفاعل الحضاري المستمر بالعمل‬

‫‪1‬‬
‫)( )‪ (2‬السلم والحضارة للندوة العالمية للشباب )‪.(1/490‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪145‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والتطبيق والتنفيذ للمبادئ والمفاهيم‪.‬‬


‫إن تعطيل العمل والتنفيذ للمبادئ يعطل الربانية ويجعلها في‬
‫حالة توقف وانتظار بل في حالة تأخر وانحسار)‪.(1‬‬
‫إن ذا القرنين ساهم في صناعة الحياة البشرية على أسس‬
‫عقدية وأخلق ربانية‪ ,‬وأكون قد أصبت الحقيقة إن قلت‪ :‬وترك لنا‬
‫معالم واضحة في التعامل مع نفسية الشعوب وتحريكها باليمان‬
‫والعلم والعمل والعدل والصلح والتعمير‪.‬‬
‫ب‪ -‬الدروس والعبر والحكم‪:‬‬
‫إن قصة ذي القرنين مليئة باليات والعبر والحكام والداب‬
‫والثمرات والفوائد‪.‬‬
‫نذكر منها‪:‬‬
‫‪ -1‬العتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض‪ ,‬ورزقه‬
‫كا ومال ً لما له من خفي الحكم وباهر‬‫من يشاء بغير حساب مل ً‬
‫القدرة‪ ,‬فل إله سواه‪.‬‬
‫‪ -2‬الشارة إلى القيام بالسباب‪ ,‬والجري وراء سنة الله في‬
‫الكون من الجد والعمل‪ ,‬وأن على قدر الجد يكون الفوز والظفر‪,‬‬
‫فإن ما قصه الله علينا عن ذي القرنين من ضربه في الرض إلى‬
‫مغرب الشمس‪ ,‬ومطلعها وشمالها وعدم فتوره‪ ,‬ووجدانه اللذة‬
‫في مواصلة السفار وتجشم الخطار‪ ,‬وركوب الوعار والبحار ثم‬
‫إحرازه ذلك الفخار‪ ,‬الذي ل يشق له غبار‪ ,‬أكبر عبرة لولي‬
‫البصار‪.‬‬
‫‪ -3‬ومنها تنشيط الهمم لرفع العوائق‪ ,‬وأنه متى ما تيسرت‬
‫السباب‪ ,‬فل ينبغي أن يعد ركوب البحر ول اجتياز القفر‪ ,‬عذًرا في‬
‫الخمول‪ ,‬والرضاء بالدون‪ ,‬بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته‬
‫حلوة عقباه من الراحة والهناء‪.‬‬
‫‪ -4‬وجوب المبادرة إلى معالي المور‪.‬‬
‫‪ -5‬إن من قدر على أعدائه وتمكن منهم‪ ,‬فل ينبغي له أن‬
‫تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الذلل‪ ,‬وتجريعهم غصص‬
‫الستعباد والنكال‪ ,‬بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر‬
‫إساءته‪.‬‬
‫‪ -6‬إن على الملك إذا اشتكى إليه جور مجاورين‪ ,‬أن يبذل‬
‫عا عن الوطن العزيز‪ ,‬وصيانة للحرية‬ ‫وسعه في الراحة والمن دفا ً‬
‫ما بفريضة دفع‬‫ً‬ ‫قيا‬ ‫والخراب‪,‬‬ ‫والتمدن من مخالب التوحش‬
‫‪1‬‬
‫)( السلم والحضارة للندوة العالمية للشباب )‪.(1/491‬‬

‫‪146‬‬
‫الباب الول‪ :‬أنواع التمكين في القرآن الكريم‬

‫المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين‪.‬‬


‫‪ -7‬إن على الملك التعفف عن أموال رعيته‪ ,‬والزهد في أخذ‬
‫أجر في مقابل عمل يأتيه‪ ,‬ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف‬
‫بمحبته‪.‬‬
‫‪ -8‬التحدث بنعمة الله إذا اقتضاه المقام‪.‬‬
‫‪ -9‬تدعيم السوار والحصون في الثغور وتقويتها على أسس‬
‫علمية وفق دراسة ميدانية صحيحة‪ ,‬لتنتفع به الجيال على مر‬
‫العصور وكر الدهور‪.‬‬
‫‪ -10‬مشاركة الحاكم العمال في العمال‪ ,‬والشراف بنفسه‬
‫إذا تطلب المر‪ ,‬لكي تنشط الهمم‪.‬‬
‫‪ -11‬تذكير الغير وتعريفهم ثمار العمال المهمة لكي‬
‫يستشعروا رحمة الله تعالى‪.‬‬
‫استحضار القدوم على الله‪ ,‬واستشعار زوال هذه الدنيا‬ ‫‪-12‬‬
‫والتطلع إلى ما عند الله‪.‬‬
‫‪ -13‬العتبار بتخليد جميل الثناء‪ ,‬وجليل الثار‪ ,‬حيث نجد أن‬
‫اليات الكريمة أوضحت أخلق ذي القرنين الكريمة من شجاعة‬
‫وعفة وعدل وحرص على توطيد المن والحسان للمحسنين‬
‫ومعاقبة الظالمين‪.‬‬
‫ما متباينة‪ ,‬كما كان‬
‫‪ -14‬الهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أم ً‬
‫يرمي إليه سعي ذي القرنين‪ ,‬فإنه دأب على توحيد الكلمة بين‬
‫الشعوب ومزج تلك المم المختلفة ليربطها بالمنهج الرباني‬
‫والشرع السماوي)‪.(1‬‬
‫وبهذا نقف عند الدروس والعبر والحكم من هذا القصص‬
‫القرآني الكريم‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير المام القاسمي )‪.(90-11/87‬‬

‫‪147‬‬
‫شــــــــروط‬
‫التمكــــين‬
‫وأسبابـــــــه‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫‪149‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫إن الستخلف في الرض‪ ,‬والتمكين لدين الله‪ ,‬وإبدال الخوف‬
‫أمًنا‪ ,‬وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه‪ .‬ولقد‬
‫أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين‪ ,‬ولوازم‬
‫الستمرار فيه‪.‬‬
‫مُلوا‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫ن َآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫عدَ الل ُ‬ ‫و َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫قال‬
‫ن‬
‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫حا‬ ‫َ‬ ‫صال ِ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫ْ ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ضى‬ ‫ت‬
‫ْ َ َ‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫من ْ ِ ِ ْ َ ُ َ َ ّ ُ ْ ِ ََ ُ ُ‬
‫ه‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ن ِبي‬ ‫ركو َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫دو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫نا‬‫ً‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫ْ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫هم‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫د‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ن ‪‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫فُأول َئ ِ َ‬ ‫ك َ‬ ‫عدَ ذَل ِ َ‬ ‫فَر ب َ ْ‬ ‫من ك َ َ‬ ‫و َ‬ ‫ش َي ًْئا َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫سو‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫عوا‬ ‫طي‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ز‬ ‫ال‬ ‫توا‬ ‫ُ‬ ‫وآ‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫موا‬ ‫قي‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن" ]النور‪.[56،55:‬‬ ‫تُ ْ َ ُ َ‬ ‫مو‬ ‫ح‬ ‫ر‬
‫لقد أشارت اليات الكريمة إلى شروط التمكين وهي‪ :‬اليمان‬
‫بكل معانيه وبكل أركانه‪ ,‬وممارسة العمل الصالح‪ ,‬بكل أنواعه‪,‬‬
‫والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر‪ ,‬وتحقيق العبودية‬
‫الشاملة‪ ,‬ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه‪ ,‬وأما‬
‫لوازم استمرار التمكين فهي‪ :‬إقامة الصلة‪ ,‬وإيتاء الزكاة‪ ,‬وطاعة‬
‫الرسول ×‪.‬‬
‫وأما ما يتعلق بأسباب التمكين‪ ,‬فقد أمر الله تعالى بالعداد‬
‫من‬ ‫عُتم ّ‬ ‫ست َطَ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫دوا ل َ ُ‬ ‫ع ّ‬ ‫وأ َ ِ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫الشامل في قوله‬
‫ل" ]النفال‪.[60:‬‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ط‬
‫ِ‬ ‫من ّرَبا‬ ‫و ِ‬ ‫ة َ‬ ‫و ٍ‬ ‫ق ّ‬ ‫ُ‬
‫والعداد في حقيقته أخذ بالسباب‪ ,‬فالعداد المطلوب من‬
‫خلل مفهوم الية إعداد شامل؛ لن كلمة قوة جاءت نكرة في‬
‫سياق المر‪ ,‬فيشمل قوة العقيدة واليمان‪ ,‬وقوة الصف والتلحم‪,‬‬
‫وقوة السلح والساعد‪.‬‬
‫إن الية الكريمة تفتح أذهان المسلمين على العداد‬
‫الشامل؛ المعنوي والمادي‪ ,‬العلمي والفقهي على مستوى‬
‫الفراد والجماعات‪ ,‬وتدخل في طياتها‬
‫العداد التربوي والسلوكي والعداد المالي‪ ,‬والعلمي‬
‫والسياسي والمني‪,‬‬
‫والعسكري‪ ....‬إلخ‪.‬‬
‫وفي هذا الباب سنتعرض لبيان شروط التمكين في فصل‬
‫مستقل وبيان أسبابه في فصل آخر بإذن الله تعالى‪ ,‬لكي يستفيد‬
‫منها المسلمون في حركتهم الجادة لتمكين شرع الله في الرض‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الفصل الول‬
‫شــــــــــروط التمكـــــــــين‬
‫المبحث الول‬
‫اليمان بالله والعمل الصالح‬
‫لقد بين الله سبحانه لعباده حقيقة اليمان الذي يقبل الله به‬
‫العمال ويتحقق به وعد الله للمؤمنين‪.‬‬
‫فمن شروط الستخلف في الرض تحقيق اليمان بكل معانيه‬
‫واللتزام بشروطه والبتعاد عن نواقضه‪.‬‬
‫وقد فصل القرآن الكريم والسنة النبوية موضوع اليمان‬
‫وأركانه وشروطه ولوازمه‪.‬‬
‫وقد بين علماء أهل السنة في تعاريفهم بيان حقيقة اليمان‬
‫فقالوا‪ :‬بأن اليمان هو التصديق بالقلب والنطق بالشهادتين‬
‫والعمل بالجوارح والركان‪ ,‬أي هو‪ :‬اعتقاد وقول وعمل‪ ,‬فهذه‬
‫الثلثة كلها مندرجة فيه وتمثل أجزاء من حقيقته‪.‬‬
‫وقد تواترت أقوال العلماء ومن بعدهم على هذه الحقيقة‪,‬‬
‫واستدلوا بأدلة كثيرة من اليات القرآنية والحاديث النبوية على‬
‫صحة هذا القول في حقيقة اليمان)‪.(1‬‬
‫ت‬ ‫جل َ ْ‬ ‫و ِ‬‫هَ َ‬ ‫ذا ذُك َِر الل ُ‬ ‫ن إِ َ‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬‫م ْ‬ ‫ما ال ْ ُ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬إ ِن ّ َ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫َ ّ ِ ْ‬ ‫ر‬ ‫لى‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫نا‬ ‫ً‬ ‫ما‬ ‫إي‬
‫َ ُ ْ ِ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ت‬‫د‬ ‫زا‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ت‬
‫ْ ِ ْ َ ُ‬‫يا‬ ‫آ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫ت‬‫ذا ت ُل ِي َ ْ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫قُلوب ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫َ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫نا‬
‫ّ َ َ ِ ّ َ َ َ ُ ْ ُ ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫ز‬ ‫ر‬ ‫ما‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫مو‬
‫ِ َ ُ ِ ُ َ‬ ‫قي‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ك‬‫و‬ ‫يَ َ َ‬
‫ت‬
‫حقا" ]النفال‪.[4-2 :‬‬ ‫ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ال ُ‬ ‫ه ُ‬‫‪ ‬أولئ ِك ُ‬
‫فقد جمعت هذه اليات ‪-‬وهي تعرض صفات المؤمنين‪ -‬بين‬
‫عمل القلب وعمل الجوارح‪ ,‬واعتبرت هذا كله إيماًنا‪ ,‬وقصرت‬
‫ما" ُ وعرفت المؤمنين بتلك‬ ‫اليمان عليه بأداة القصر والحصر ‪+‬إ ِن ّ َ‬
‫ن‬‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬‫م ْ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫الصفات مجتمعة‪ ,‬عندما ضمنتها بعبارة ‪+‬أول َئ ِ َ‬
‫قا" وأعمال الجوارح في هذه الصفات هي‪ :‬إقامة الصلة‬ ‫ح ّ‬ ‫َ‬
‫والنفاق في سبيل الله‪.‬‬
‫ذا ذُك ُّروا‬ ‫ن إِ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ِبآَيات َِنا ال ّ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫ومنها قوله تعالى‪+ :‬إ ِن ّ َ‬
‫ن"‬ ‫ْ‬
‫ست َكب ُِرو َ‬ ‫َ‬
‫م ل يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ح‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫حوا‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫دا َ‬ ‫ج ً‬‫س ّ‬ ‫خّروا ُ‬ ‫ها َ‬ ‫بِ َ‬
‫كرون بآيات الله‪ ,‬عبادة‬ ‫]السجدة‪ ,[15:‬فسجود المؤمنين عندما يذ ِ ّ‬
‫عملية بدنية‪ ,‬وتسبيحهم بحمد ربهم عبادة عملية لسانية‪ ,‬وعدم‬
‫استكبارهم عبادة عملية سلوكية أخلقية قلبية‪ ..‬وهذه كلها أعمال‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬في ظلل اليمان للخالدي‪ ,‬ص ‪.23‬‬

‫‪151‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مندرجة في حقيقة اليمان‪.‬‬


‫ت‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫نوا َ‬ ‫َ‬ ‫م ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫َ ومنها قوله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ول َ‬ ‫َ ِ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫م‬‫ُ ْ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ج‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ز‬‫ّ‬ ‫وا ال‬ ‫وآت َ ُ‬ ‫صل َةَ َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫قا ُ‬ ‫وأ َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]البقرة‪ ,[277 :‬فمن حقيقة‬ ‫َ‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫ز‬‫ْ َ ْ َ‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫ْ ِ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ف‬
‫ٌ‬ ‫و‬‫خ ْ‬ ‫َ‬
‫اليمان في الية عمل الصالحات على عمومها‪ ,‬وخصصت اثنتين‬
‫منها بالذكر وهما الصلة والزكاة‪ ,‬واعتبرت أداءهما عملًيا من‬
‫اليمان‪.‬‬
‫إن آيات القرآن التي قرنت بين اليمان وعمل الصالحات‬
‫واعتبرت المرين من حقيقة اليمان ومن صفات المؤمنين كثيرة‪,‬‬
‫فُأول َئ ِ َ‬
‫ك‬ ‫حا َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫وآ َ‬ ‫ب َ‬ ‫من َتا َ‬ ‫منها قوله تعالى‪+ :‬إ ِل ّ َ‬
‫ئا" ]مريم‪.[60:‬‬ ‫شي ْ ً‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫ول َ ي ُظل ُ‬ ‫ْ‬ ‫ة َ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫خُلو َ‬ ‫ي َدْ ُ‬
‫ك‬‫فُأول َئ ِ َ‬ ‫حا َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وفي قوله تعالى‪+ :‬إ ِل ّ َ‬
‫ن"‬ ‫مُنو َ‬ ‫تآ ِ‬ ‫غُرفا ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫في ال ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ملوا َ‬ ‫ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ف بِ َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ض ْ‬ ‫جَزاءُ ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫لَ ُ‬
‫ت‬‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ملوا ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫ّ‬ ‫وكقوله تعالى‪+ َ :‬إ ِ ّ‬ ‫]سبأ‪.[37 :‬‬
‫مل ً" ]الكهف‪.[30:‬‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫ج‬ ‫ضيع أ َ‬ ‫إ ِّنا ل َ ن ُ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫العمل في بعض‬ ‫هذا وقد أطلق القرآن لفظ )اليمان( على‬
‫سطاً‬ ‫ُ‬
‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫م ً‬ ‫مأ ّ‬ ‫عل َْناك ْ‬
‫ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ك َ‬ ‫وك َذَل ِ َ‬ ‫اليات ومن ذلك قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫علي ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫ل َ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫كو َ‬ ‫وي َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫عَلى الّنا‬ ‫داءَ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ش َ‬ ‫كوُنوا ُ‬ ‫ل ّت َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ة الِتي ُ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫من‬ ‫م َ‬ ‫عل َ‬ ‫ها إ ِل ّ ل ِن َ ْ‬ ‫علي ْ َ‬ ‫ت َ‬ ‫كن َ‬ ‫قب ْل َ‬ ‫علَنا ال ِ‬ ‫ج َ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬ ‫دا َ‬ ‫هي ً‬ ‫ش ِ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫ر‬
‫ِ َ ً‬ ‫بي‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫َ ْ‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫إن‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ي‬
‫َ ْ ِ ُ َ َ َ ِ َ ْ ِ َ ِ‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ع‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫ِ ّ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫سو‬ ‫ّ ُ‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫ع‬
‫يَ ّ ِ ُ‬ ‫ب‬ ‫ت‬
‫ن‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ُ‬
‫مان َك ْ‬ ‫ع ِإي َ‬ ‫ضي َ‬ ‫ه ل ِي ُ ِ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫ما كا َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫دى الل ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫على ال ِ‬ ‫َ‬ ‫إ ِل ّ َ‬
‫م" ]البقرة‪ ,[143 :‬واليمان هنا يراد به‬ ‫حي ٌ‬ ‫ف ّر ِ‬ ‫ؤو ٌ‬ ‫س لَر ُ‬ ‫َ‬
‫ه ِبالّنا ِ‬ ‫الل َ‬
‫الصلة‪ ,‬وقد ذهب جمهور المفسرين إلى هذا‪ ,‬بل إن الصحابة‬
‫فهموا هذا وتضافرت الروايات عنهم في سبب نزول الية‪.‬‬
‫روى إمام المفسرين ابن جرير الطبري بسنده عن قتادة‪,‬‬
‫قال‪) :‬كانت القبلة فيها بلء وتمحيص‪ ,‬صلت النصار نحو بيت‬
‫المقدس حولين قبل قدوم نهي نبي الله ×‪ ,‬وصلى نبي الله ×‬
‫بعد قدومه المدينة مهاجًرا نحو بيت المقدس سبعة عشر شهًرا‪..‬‬
‫ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام‪ ..‬فقال في‬
‫ذلك قائلون من الناس‪ :‬ما ولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها‪ ,‬لقد‬
‫ه‬
‫قل لل ِ‬ ‫اشتاق الرجل إلى مولده‪ ,‬قال الله عز وجل‪ُ + :‬‬
‫قيم ٍ"‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ّ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫شاءُ إ َِلى ِ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ب يَ ْ‬ ‫ر ُ‬ ‫غ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫رقُ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫صرفت القبلة نحو البيت الحرام‪:-‬‬ ‫]البقرة‪ ,[142:‬فقال أناس ‪-‬لما ُ‬
‫ما‬‫َ َ‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫الله‪:‬‬ ‫فأنزل‬ ‫الولى؟‬ ‫قبلتنا‬ ‫في‬ ‫كيف بأعمالنا التي كنا نعمل‬
‫م" ]البقرة‪,[143:‬ثم أورد المام الطبري‬ ‫مان َك ُ ْ‬ ‫ع ِإي َ‬ ‫ضي َ‬ ‫ه ل ِي ُ ِ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫إحدى عشرة رواية عن الصحابة والتابعين في أن المراد باليمان في‬
‫جوا ًعلى تساؤل لبعض الصحابة عن مصير‬ ‫الية الصلة‪ ,‬وأنها نزلت با‬

‫‪152‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الصلة التي صلوها إلى بيت المقدس‪ ,‬وتساؤل آخرين منهم عن‬
‫مصير صلة إخوانهم إلى بيت المقدس الذين ماتوا قبل تحويل القبلة‬
‫إلى الكعبة)‪.(1‬‬
‫م" على ما‬ ‫مان َك ُ ْ‬‫ع ِإي َ‬ ‫ضي َ‬‫ه ل ِي ُ ِ‬‫ن الل ُ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫و َ‬
‫فمعنى قوله‪َ + :‬‬
‫تضافرت به الرواية من أنه الصلة‪ ,‬وما كان الله ليضيع تصديق رسول‬
‫بصلتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره‪ ,‬لن ذلك‬ ‫الله ×‬
‫)‪(2‬‬
‫عا ً لمري‪ ,‬وطاعة منكم لي( ‪.‬‬ ‫كان منكم تصديًقا لرسولي‪ ,‬واتبا‬
‫وقد التفت المام الطبري إلى الربط بين اليمان والصلة‪ ,‬ولحظ‬
‫وجود التصديق في ممارسة الصلة والتوجه فيها إلى بيت المقدس ثم‬
‫إلى الكعبة المشرفة‪ ,‬وهذه اللفتة من الطبري لطيفة‪ ,‬وهذا الربط‬
‫منه رائع‪ ,‬يشير إلى موهبته الفذة في التفسير واللغة وغيرهما)‪.(3‬‬
‫ومن اليات التي أطلقت كلمة اليمان على العمال قوله‬
‫م‬‫م َر ُ ْ‬
‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫ه ْ‬‫دي ِ‬‫ه ِ‬‫ت يَ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬
‫و َ‬‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫عيم ِ"‬‫ّ ِ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫ت‬ ‫نا‬
‫َ ّ ِ‬ ‫ج‬ ‫في‬ ‫ر‬ ‫ها‬
‫ْ َ ُ ِ‬ ‫ن‬‫ال‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ت‬ ‫ح‬
‫َ ْ ِ ِ ُ‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ري‬ ‫م تَ ْ ِ‬
‫ج‬ ‫ه ْ‬
‫مان ِ ِ‬
‫ب ِِإي َ‬
‫]يونس‪.[9:‬‬
‫ذهبت طائفة من المفسرين إلى أن المراد باليمان هنا‬
‫العمال التي كانوا يعملونها في الدنيا‪ ..‬وقد أورد المام الطبري‬
‫أقوال مجموعة من التابعين في هذا المعنى‪ ,‬منها قول ابن جريج‪:‬‬
‫)يهديهم ربهم بإيمانهم قال‪ :‬يمثل له عمله في صورة حسنة وريح‬
‫طيبة‪ ,‬يعارض صاحبه ويبشره بكل خير‪ ,‬فيقول له‪ :‬من أنت؟‬
‫فيقول‪ :‬أنا عملك! فيجعل له نوًرا من بين يديه حتى يدخله الجنة‪,‬‬
‫م" والكافر يمثل له عمله‬ ‫ه ْ‬ ‫مان ِ ِ‬‫م ب ِِإي َ‬
‫ه ْ‬
‫م َرب ّ ُ‬‫ه ْ‬
‫دي ِ‬
‫ه ِ‬
‫فذلك قوله‪+ :‬ي َ ْ‬
‫في صورة سيئة وريح منتنة‪ ,‬فيلزم صاحبه ويلزمه حتى يقذفه‬
‫في النار( )‪ .(4‬وهناك آيات أخرى أطلقت على اليمان عبارات‬
‫أخرى تشير إلى العمل وتتضمنه‪ ,‬أورد المام البخاري في صحيحه‬
‫بعضها‪.‬‬
‫ل ما ي ُ‬
‫ؤك ُ ْ‬
‫م"‬ ‫عا ُ‬ ‫م َرّبي ل َ ْ‬
‫ول َ دُ َ‬ ‫عب َأ ب ِك ُ ْ‬
‫ق ْ َ َ ْ‬ ‫منها قوله تعالى‪ُ + :‬‬
‫]الفرقان‪.[77:‬‬
‫قال البخاري‪) :‬دعاؤكم‪ :‬إيمانكم‪ ...‬ومعنى الدعاء في اللغة‪:‬‬
‫)اليمان(‪.‬‬
‫وجعل ابن عبا س رضي الله عنهما الدعاء بمعنى اليمان قال‪) :‬لول‬
‫دعاؤكم‪ :‬إيمانكم( )‪.(5‬‬

‫‪1‬‬
‫انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪.(169-3/167‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫المصدر نفسه )‪.(3/169‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫في ظلل اليمان‪ ,‬د‪ .‬الخالدي‪ ,‬ص ‪.26‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫تفسير الطبري )‪.(15/28‬‬ ‫)(‬

‫‪153‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وّلوا‬ ‫َ‬
‫س ال ْب ِّر أن ت ُ َ‬ ‫ومن هذه اليات قوله تعالى‪+ :‬ل َي ْ َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن الب ِّر َ‬ ‫ْ‬ ‫ولك ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫ب َ‬ ‫ر ِ‬ ‫غ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫رِْ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ا َل ْ َ‬ ‫قب َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫هك ُ ْ‬ ‫جو َ‬ ‫و ُ‬‫ُ‬
‫وآَتى‬ ‫َ َ‬ ‫ن‬ ‫يي‬‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫وال‬‫ِ َ‬ ‫ب‬ ‫تا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬‫َ‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ِ َ َ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ر‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫ل‬‫وا‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫بالل‬ ‫ِ‬
‫ِ‬
‫ن‬‫واب ْ َ‬
‫ن َ‬ ‫كي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫مى َ‬ ‫وال ْي ََتا َ َ‬ ‫قْرَبى َ‬ ‫وي ال ْ ُ‬ ‫ه ذَ ِ‬ ‫حب ّ ِ‬ ‫عَلى ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ما َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫وآَتى‬ ‫صل َةَ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫قا َ‬ ‫وأ َ‬ ‫ب َ‬ ‫قا ِ‬ ‫في الّر َ‬ ‫و ِ‬ ‫ن َ‬ ‫سائ ِِلي َ‬ ‫وال ّ‬ ‫ل َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ال ّ‬
‫في‬ ‫ن ِ‬ ‫ري َ‬ ‫ب‬ ‫صا‬ ‫وال‬ ‫دوا‬ ‫ه‬ ‫عا‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫فو‬ ‫ُ‬ ‫مو‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ة‬ ‫كا‬ ‫َ‬
‫قوا‬
‫ّ ِ ِ‬
‫صد َ ُ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬
‫َّ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ك‬
‫ُ‬
‫ئ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫أو‬
‫َ‬ ‫حين ال ْ ْبأ ْ ِس ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫و‬
‫َ‬
‫ء‬
‫ِ‬ ‫را‬ ‫ض‬
‫َ ُ‬
‫وال‬ ‫ء‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫سا‬ ‫ال ْبّزأ ْ‬
‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ال ُ َ َ‬
‫ن" ]البقرة‪.[177 :‬‬ ‫مت ّقو َ‬ ‫ُ‬ ‫م ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫وأول َئ ِك ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قا وإيماًنا‪ ,‬وجعلت أعمال البر‬ ‫فالية اعتبرت هذه الخصال تصدي ً‬
‫هذه من اليمان‪ .‬ووجه الدللة من الية ما فسره رسول الله ×‬
‫حيث روى عبد الرزاق)‪ (1‬وغيره عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه‬
‫سأل رسول الله × عن اليمان فتل عليه هذه الية ‪ +‬ل َي ْ َ‬
‫س‬ ‫َ‬ ‫أنه‬
‫م‪ " .....‬إلى آخرها‪ ..‬والحديث رجاله‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫جو‬ ‫ُ ُ‬ ‫و‬ ‫لوا‬ ‫ّ‬ ‫و‬ ‫ال ْ ِ ّ )‪َ ُ (2‬‬
‫ت‬ ‫أن‬ ‫ر‬ ‫ب‬
‫ثقات ‪.‬‬
‫ومن فقه المام البخاري وفطنته ‪-‬وهو البصير في الحديث‬
‫والتفسير‪ -‬أنه جعل هذه الية وما فيها من خصال البر من أمور‬
‫اليمان‪ ,‬وضمن باب أسماه »باب أمور اليمان« وقرنها مع اليات‬
‫الولى من سورة »المؤمنون« التي تتحدث عن صفات المؤمنين‪,‬‬
‫ومع الحديث الذي يقرر أن اليمان بضع وستون شعبة)‪.(3‬‬
‫ومن هذه اليات‪ :‬ثلث آيات أوردها المام البخاري في صحيحه‬
‫ضمن باب‪» :‬من قال إن اليمان هو العمل« وهي قوله تعالى‪:‬‬
‫ُ‬
‫ن" ]الزخرف‪:‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ع َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ها ب ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫رث ْت ُ ُ‬ ‫ة ال ِّتي أو ِ‬ ‫جن ّ ُ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫وت ِل ْ َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫‪ [72‬قال ابن حجر في الفتح‪» :‬وقد نقل جماعة من المفسرين أن‬
‫معناه‪ :‬تؤمنون«)‪ (4‬والثانية قوله تعالى‪:‬‬ ‫ن"‬ ‫لو َ‬ ‫م ُ‬ ‫ع َ‬ ‫قوله هنا ‪+‬ت َ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]الحجر‪:‬‬ ‫ملو َ‬ ‫ع َ‬ ‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ع ّ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫عي َ‬ ‫م ِ‬ ‫ج َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫سألن ّ ُ‬ ‫ك ل َن َ ْ‬ ‫وَرب ّ َ‬ ‫ف َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫‪.[93،92‬‬
‫قال البخاري عن‪» :‬ل إله إل الله« قال ابن حجر في الشرح‪:‬‬
‫يدخل فيها المسلم والكافر‪ ,‬فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بل‬
‫خلف‪ ,‬بخلف باقي العمال ففيها الخلف‪ ..‬فالسؤال عن التوحيد‬
‫متفق عليه‪ ,‬فهذا هو دليل التخصيص‪ ,‬وحمل الية عليه أولى‪,‬‬

‫‪5‬‬
‫)( صحيح البخاري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب دعاؤكم إيمانكم )‪.(1/9‬‬
‫‪1‬‬
‫)( هو المام العلمة الحافظ عبد الرزاق بن همام الصنعاني‪ ,‬صاحب المصنف‪,‬‬
‫رحل الئمة إليه‪ ,‬من اليمن‪ ,‬وله أوهام مغمورة في سعة علمه‪ ,‬توفي ‪211‬هـ‪,‬‬
‫العبر )‪.(1/283‬‬
‫‪2‬‬
‫)( فتح الباري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب أمور اليمان )‪.(1/74‬‬
‫‪3‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(1/74‬‬
‫‪4‬‬
‫)( فتح الباري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬من قال إن اليمان هو العمل )‪.(1/109‬‬

‫‪154‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫بخلف الحمل على جميع العمال لما فيه من الختلف)‪.(1‬‬


‫من هذه اليات التي أوردناها يتبين لنا أن اليمان في القرآن‬
‫عا‬
‫شامل للعتقاد وللنطق وللعمل‪ ,‬ولبد من القول بهذا اتبا ً‬
‫للقرآن الكريم‪ ,‬الذي يجب أن تؤخذ منه القوال والراء‪ ,‬وأن‬
‫يعتمد عليه في الستدلل والستنباط‪ ,‬وأن يدخله المتأمل‬
‫والباحث دون مقررات مسبقة‪ ..‬فما قرره القرآن قبل‪ ,‬وما عرضه‬
‫أخذ به‪ ,‬وما قال به لزم المؤمنين القول به‪ ..‬وإليك أخي القارئ‬
‫طائفة من أحاديث رسول الله × التي اعتبرت اليمان شامل ً‬
‫للقول والعمل والعتقاد‪ :‬روى المام البخاري في صحيحه عن أبي‬
‫هريرة رضي الله عنه عن النبي × قال‪» :‬اليمان بضع وستون‬
‫شعبة‪ ..‬والحياء شعبة من اليمان« )‪.(2‬‬
‫وفي رواية للمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن‬
‫النبي × قال‪» :‬اليمان بضع وسبعون شعبة‪ ,‬أفضلها قول ل إله إل‬
‫الله‪ ,‬وأدناها إماطة الذى عن الطريق‪ ..‬والحياء شعبة من‬
‫اليمان‪ (3) «..‬والشاهد في الحديث ما ذكره رسول الله ×‪,‬‬
‫فالشهادة قول وإماطة الذى عن الطريق عمل‪ ,‬والحياء خلق‬
‫وسلوك‪ ,‬وجعل الثلثة من اليمان دليل على حقيقته‪ ,‬ومعظم‬
‫شعب اليمان هي أعمال)‪.(4‬‬
‫وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي‬
‫× قال‪» :‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه«)‪.(5‬‬
‫وروى البخاري عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما أن النبي‬
‫× قال‪» :‬والذي نفسي بيده ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه‬
‫من والده وولده والناس أجمعين« )‪.(6‬‬
‫وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه‪ :‬أن رسول الله‬
‫× سئل أي العمل أفضل؟ قال‪» :‬إيمان بالله ورسوله«‪ ,‬قيل‪ :‬ثم‬
‫ماذا؟ قال‪» :‬الجهاد في سبيل الله«‪ ,‬قيل‪ :‬ثم ماذا؟ قال‪» :‬حج‬
‫مبرور«)‪.(7‬‬
‫‪1‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(1/110‬‬
‫‪2‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬أمور اليمان )‪ (1/10‬رقم ‪.9‬‬
‫‪3‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬بيان عدد شعب اليمان )‪ (1/63‬رقم ‪.57‬‬
‫‪4‬‬
‫)( في ظلل اليمان‪ ,‬ص ‪.30‬‬
‫‪5‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬من اليمان أن يحب لخيه )‪ (1/11‬رقم‬
‫‪.13‬‬
‫‪6‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬حب الرسول × من اليمان )‪ (1/11‬رقم‬
‫‪.14‬‬
‫َ‬ ‫‪7‬‬
‫ة" )‪(1/14‬‬ ‫َ‬
‫صل َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫وأ َ‬
‫قا ُ‬ ‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪َ + :‬‬
‫فِإن َتاُبوا َ‬
‫رقم ‪.26‬‬

‫‪155‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله‬


‫× أمر وفد عبد القيس عندما قدموا عليه باليمان بالله وحده‪.‬‬
‫قال‪» :‬هل تدرون ما اليمان؟« قالوا‪ :‬الله ورسوله أعلم‪ .‬قال‪:‬‬
‫دا رسول الله‪ ,‬وإقام الصلة‬ ‫»شهادة أن ل إله إل الله‪ ,‬وأن محم ً‬
‫)‪(1‬‬
‫سا من المغنم« ‪.‬‬ ‫وإيتاء الزكاة‪ ,‬وصوم رمضان‪ ,‬وأن تؤدوا خم ً‬
‫هذه الحاديث وغيرها من الحاديث تجعلها شاملة للعتقاد‬
‫والعمل‪ ,‬وأما أقوال السلف فقد تواترت في بيان حقيقة اليمان‪.‬‬
‫قال شارح الطحاوية‪» :‬ذهب مالك والشافعي وأحمد‬
‫والوزاعي)‪ (2‬وإسحاق)‪ (3‬بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل‬
‫المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين‪ :‬إلى أنه‬
‫تصديق بالجنان‪ ,‬وإقرار باللسان‪ ,‬وعمل بالركان«)‪.(4‬‬
‫وقال المام سهل بن عبد الله التستري)‪» :(5‬اليمان‪ :‬قول‬
‫وعمل ونية وسنة‪ ..‬لن اليمان إذا كان قول ً بل عمل فهو كفر‪,‬‬
‫وإذا كان قول ً وعمل ً بل نية فهو نفاق‪ .‬وإذا كان قول ً وعمل ً ونية بل‬
‫سنة فهو بدعة«)‪.(6‬‬
‫وقال المام عبد الرزاق‪ :‬سمعت من أدركت من شيوخنا‬
‫وأصحابنا سفيان الثوري)‪ (7‬ومالك بن أنس وعبد الله بن عمر‬
‫والوزاعي‪ ,‬ومعمر بن راشد)‪ (8‬وسفيان بن عيينة)‪ (9‬يقولون‪:‬‬
‫اليمان قول وعمل‪ ,‬يزيد وينقص‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬أداء الخمس من اليمان )‪ (1/23‬رقم ‪.53‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو المام العابد الحجة الثقة عبد الرحمن بن عمر الوزاعي الفقيه‪ ,‬روى عن‬
‫عا في الكتابة‪,‬‬‫سا في العلم والعمل والتباع‪ ,‬بار ً‬
‫خلق كثير من التابعين‪ ,‬وكان رأ ً‬
‫كان يكثر من الصلة والعبادة وقيام الليل‪ ,‬توفي في بيروت عام ‪158‬هـ‪ ,‬تهذيب‬
‫التهذيب )‪ ,(6/238‬شذرات الذهب )‪.(1/341‬‬
‫‪3‬‬
‫)( هو إمام المشرق إسحاق بن إبراهيم المروزي ثم النيسابوري الحافظ ابن‬
‫راهويه‪ ,‬عالم خراسان والعراق في عصره‪ ,‬توفي سنة ‪238‬هـ‪ ,‬حلية الولياء‬
‫‪.9/234‬‬
‫‪4‬‬
‫)( انظر‪ :‬الطحاوية‪ ,‬ص ‪.373‬‬
‫‪5‬‬
‫)( من الزهاد الكبار والعباد المشهورين اشتهر بالتصوف السني وبالحكم‬
‫الجميلة‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫)( اليمان لابن تيمية‪.163 :‬‬
‫‪7‬‬
‫)( هو سفيان بن مسروق شيخ السلم من أهل الحديث‪ ,‬توفي ‪161‬هـ‪ ,‬سير‬
‫أعلم النبلء )‪.(7/229‬‬
‫‪8‬‬
‫)( هو معمر بن راشد أبو عمر البصري من تلميذ عبد الرزاق الصنعاني ت‬
‫‪153‬هـ‪ ,‬ميزان العتدال ‪.4/154‬‬
‫‪9‬‬
‫)( هو محمد أبو محمد بن عيينة بن أبي عمران الهللي‪ ,‬توفي ‪198‬هـ‪ ,‬تهذيب‬
‫التهذيب )‪.(4/117‬‬

‫‪156‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وهذا قول ابن مسعود وحذيفة)‪ (1‬والنخعي)‪ (2‬والحسن‬


‫البصري)‪ (3‬وعطاء)‪ (4‬وطاوس)‪ (5‬ومجاهد وعبد الله بن المبارك)‪..(6‬‬
‫فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولية من المؤمنين هو‬
‫إتيانه بهذه المور الثلثة‪ :‬التصديق بالقلب والقرار باللسان‬
‫والعمل بالجوارح)‪.(7‬‬
‫فهؤلء مصابيح الهدى وأئمة الدين وعلماء المة من أهل‬
‫الحجاز والعراق والشام وخراسان يرون أن اليمان قول باللسان‬
‫وعمل بالركان واعتقاد بالجنان‪.‬‬
‫وقال المام البخاري في كتاب اليمان في صحيحه »هو قول‬
‫وفعل يزيد وينقص والحب في الله والبغض في الله من اليمان‪,‬‬
‫دا وسنًنا‪,‬‬‫وقال عمر بن عبد العزيز‪ :‬إن لليمان فرائض وشرائع وحدو ً‬
‫فمن استكملها استكمل اليمان‪ ,‬ومن لم يستكملها لم يستكمل‬
‫اليمان‪ ,‬فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها‪ ,‬وإن أمت فما أنا‬
‫على صحبتكم بحريص)‪.(8‬‬
‫وبهذا يتبين لنا أن مفهوم اليمان وحقيقته في القرآن والسنة‪,‬‬
‫وفي مفهوم السلف‪ ,‬تصديق بالجنان‪ ,‬وإقرار باللسان‪ ,‬وعمل‬
‫بالركان‪ ,‬قال سيد قطب رحمه الله في ظلله‪» :‬إن حقيقة‬
‫اليمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط‬
‫النساني كله‪ ,‬وتوجه النشاط النساني كله‪ ,‬فما تكاد تستقر في‬
‫القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء‬
‫موجه كله إلى الله‪ ,‬ل يبتغي به صاحبه إل وجه الله‪ ,‬وهي طاعة‬
‫لله واستسلم لمره في الصغيرة والكبيرة‪ ,‬ل يبقى معها هوى في‬
‫النفس‪ ,‬ول شهوة في القلب‪ ,‬ول ميل في الفطرة إل وهو تبع لما‬
‫جاء به رسول الله × من عند الله‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( حذيفة بن اليمان صحابي جليل صاحب سر رسول الله ×‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو إبراهيم بن يزيد النخعي‪ ,‬توفي ‪96‬هـ‪ ,‬تهذيب التهذيب )‪.(1/177‬‬
‫‪3‬‬
‫)( من سادات التابعين اشتهر بالعلم والعبادة والزهد‪ ,‬توفي ‪110‬هـ بالبصرة‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو عطاء بن أبي رباح فقيه أهل الحجاز‪ ,‬أفضل أهل زمانه‪ ,‬توفي ‪114‬هـ‪,‬‬
‫العبر )‪.(1/108‬‬
‫‪5‬‬
‫ما وأدًبا )ت‬
‫)( طاوس بن كيسان اليماني أبو عبد الرحمن أحد العلم عل ً‬
‫‪106‬هـ(‪ ,‬العبر )‪.(1/99‬‬
‫‪6‬‬
‫)( كان من المجاهدين العاملين جمعت فيه خصال الخير توفي ‪181‬هـ‪ ,‬وفيات‬
‫العيان )‪.(3/32‬‬
‫‪7‬‬
‫)( مسلم مع شرح النووي‪ ,‬كتاب اليمان )‪.(147-1/146‬‬
‫‪8‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬قول النبي ×‪» :‬بني السلم على خمس«‬
‫)‪.(1/9‬‬

‫‪157‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫فهو اليمان الذي يستغرق النسان كله‪ ,‬بخواطر نفسه‪ ,‬وخلجات‬


‫قلبه وأشواق روحه‪ ,‬وميول فطرته‪ ,‬وحركات جسمه‪ ,‬ولفتات جوارحه‬
‫عا‪ ..‬يتمثل هذا في قول الله‬ ‫وسلوكه مع ربه في أهله‪ ,‬ومع النا س جمي ً‬
‫)‪(1‬‬
‫للستخلف والتمكين والمن« ‪.‬‬ ‫تعلي ً‬ ‫سبحانه في الية نفسها ل‬
‫لقد تقرر أن اليمان عند علماء السلف قول باللسان واعتقاد‬
‫بالجنان وفعل بالركان‪.‬‬
‫والقول باللسان هو النطق بشهادة الحق وهي كلمة التوحيد‬
‫)ل إله إل الله محمد رسول الله(‪.‬‬
‫ومعناها‪ :‬ل معبود بحق إل الله‪ ,‬وبذلك تنفي اللهية عما سوى الله‬
‫وتثبتها لله وحده)‪.(2‬‬
‫يقول شيخ السلم ابن تيمية رحمه الله‪) :‬ليس للقلوب سرور‬
‫ول لذة تامة إل في محبة الله‪ ,‬والتقرب إليه بما يحبه‪ ,‬ول تمكن‬
‫محبته إل بالعراض عن كل محبوب سواه‪ ,‬وهذا حقيقة »ل إله إل‬
‫الله«‪ ,‬وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلم وسائر النبياء‬
‫والمرسلين صلة الله وسلمه عليهم أجمعين( )‪ ,(3‬أما شقها‬
‫الثاني‪ :‬محمد رسول الله‪ ,‬فمعناه تجريد متابعته × فيما أمر‬
‫والنتهاء عما نهى عنه وزجر‪.‬‬
‫ومن هنا كانت »ل إله إل الله« ولء وبراء‪ ,‬نفًيا وإثباًتا‪.‬‬
‫سّنة نبيه وعباده الصالحين‪ ,‬وبراء من‬ ‫ولء لله ولدينه وكتابه و ُ‬
‫د‬
‫ِ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫بالل‬ ‫ِ‬ ‫من‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬
‫ِ َ ُ ِ‬‫ي‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫غو‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫طا‬ ‫بال‬ ‫فْر ِ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ف َ‬‫كل طاغوت ‪َ +‬‬
‫وث ْقى" ]البقرة‪.[256 :‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ة ال ُ‬ ‫و ِ‬ ‫عْر َ‬ ‫ك ِبال ْ ُ‬‫س َ‬ ‫م َ‬ ‫ست َ ْ‬‫ا ْ‬
‫وبهذه الية يتضح أن النسان ل يكون مؤمًنا إل بالكفر‬
‫بالطاغوت‪.‬‬
‫ز َ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫ما أن ْ ِ‬ ‫عوا َ‬ ‫تعالى‪+ :‬ات ّب ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫وكلمة التوحيد ولء لشرع الله‪ ,‬قال‬
‫ما‬ ‫ً‬
‫ول َِياءَ قِليل ّ‬ ‫َ‬ ‫هأ ْ‬ ‫دون ِ ِ‬ ‫من ُ‬ ‫عوا ِ‬ ‫ول َ ت َت ّب ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫من ّرب ّك ُ ْ‬ ‫كم ّ‬ ‫إ ِل َي ْ ُ‬
‫ن" ]العراف‪.[3:‬‬ ‫ت َذَك ُّرو َ‬
‫ه‬
‫ت الل ِ‬ ‫فطَْر َ‬ ‫فا ِ‬ ‫حِني ً‬ ‫ن َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ك ِلل ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ج َ‬‫و ْ‬ ‫م َ‬ ‫ق ْ‬ ‫فأ َ ِ‬‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ها" ]الروم‪.[30 :‬‬ ‫َ‬
‫علي ْ َ‬ ‫س َ‬ ‫فطََر الّنا َ‬ ‫ال ِّتي َ‬
‫ة‬
‫هل ِي ّ ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫وبراء من حكم الجاهلية‪ :‬قال تعالى‪+ :‬أ َ َ‬
‫ف ُ‬
‫ما ل ّ َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]المائدة‪:‬‬ ‫قُنو َ‬ ‫وم ٍ ُيو ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫حك ْ ً‬‫ه ُ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫و َ‬‫ن َ‬ ‫غو َ‬ ‫ي َب ْ ُ‬
‫‪.[50‬‬
‫‪1‬‬
‫)( ظلل القرآن )‪.(4/2528‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬فتح المجيد‪ ,‬ص ‪.36‬‬
‫‪3‬‬
‫)( مجموع فتاوى السلم )‪.(28/32‬‬

‫‪158‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫غ‬
‫من ي َب ْت َ ِ‬ ‫و َ‬‫ويراء من كل دين غير دين السلم‪ :‬قال تعالى‪َ +َ :‬‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫خَر ِ‬ ‫في ال ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ل ِ‬ ‫قب َ َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫فل َ ْ‬‫سل َم ِ ِديًنا َ‬ ‫غي َْر ال ِ ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[85 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫ْ‬
‫ال َ‬
‫)‪(1‬‬
‫ثم هي نفي وإثبات‪ ,‬تنفي أربعة أمور وتثبت أربعة أمور‪.‬‬
‫تنفي اللهة‪ ,‬والطواغيت‪ ,‬والنداد‪ ,‬والرباب‪.‬‬
‫فاللهة‪ :‬ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر‪ ,‬فأنت‬
‫متخذه إلًها‪.‬‬
‫ض‪ ,‬أو ُرشح للعبادة‪.‬‬ ‫عبد وهو را ٍ‬ ‫والطواغيت‪ :‬من ُ‬
‫والنداد‪ :‬ما جذبك عن دين السلم‪ ,‬من أهل‪ ,‬أو مسكن‪ ,‬أو‬
‫خ ُ‬
‫ذ‬ ‫من ي َت ّ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫و ِ‬ ‫عشيرة‪ ,‬أو مال َفهو ند لقوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ه" ]البقرة‪.[165 :‬‬ ‫ب الل ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫م كَ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫حّبون َ ُ‬ ‫دا ي ُ ِ‬ ‫دا ً‬‫ه أن ْ َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ِ‬
‫وأطعته مصداًقا لقوله‬ ‫الحقم أ َ‬ ‫والرباب‪ :‬من َأفتاك بمخالفة‬
‫ن‬‫ُ ِ‬ ‫دو‬ ‫من‬ ‫وُر َ ُ ْ ْ َ ً ّ‬
‫با‬ ‫با‬ ‫ر‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫با‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫حَباَر ُ‬ ‫ذوا أ ْ‬ ‫خ ُ‬‫تعالى‪+ :‬ات ّ َ‬
‫ه‪] "....‬التوبة‪.[31:‬‬ ‫الل ِ‬
‫وتثبت أربعة أمور‪:‬‬
‫‪ -1‬القصد‪ :‬وهو كونك ما تقصد إل الله‪.‬‬
‫َ‬
‫د‬
‫ش ّ‬ ‫مُنوا أ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫‪ -2‬والتعظيم والمحبة‪ :‬لقوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ه" ]البقرة‪.[165 :‬‬ ‫حّبا لل ِ‬ ‫ُ‬
‫ه‬
‫ك الل ُ‬ ‫س َ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫وِإن ي َ ْ‬ ‫‪ -3‬والخوف والرجاء لقوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ه‬
‫ضل ِ ِ‬‫ف ْ‬ ‫فل َ َرادّ ل ِ َ‬ ‫ر َ‬ ‫رد ْ ْ ِ ْ ٍ‬
‫ي‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫وِإن ي ّ ِ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه إ ِل ّ ُ‬ ‫ف لَ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫كا ِ‬ ‫فل َ َ‬ ‫ضّر َ‬ ‫بِ ُ‬
‫م" ]يونس‪:‬‬ ‫حي‬
‫ّ ِ ُ‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫ر‬
‫ُ‬ ‫فو‬ ‫ُ‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ُ ِ ْ ِ َ ِ ِ َ ُ َ‬ ‫د‬ ‫با‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ء‬ ‫شا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫ه‬
‫ُ ِ ِ َ‬ ‫ب‬ ‫ب‬ ‫يصي‬ ‫ُ‬
‫‪.[107‬‬
‫ولقد جاء القرآن من أوله إلى آخره يبين معنى ل إله إل الله‪,‬‬
‫ينفي الشرك وتوابعه ويقرر الخلص وشرائعه‪ ,‬فكل قول وعمل‬
‫صالح يحبه الله ويرضاه هو من مدلولت كلمة الخلص‪ ,‬لن‬
‫ما)‪,(4‬‬
‫ً‬ ‫التزا‬ ‫دللتها على الدين كله إما مطابقة)‪ ,(2‬وإما تضمًنا)‪ ,(3‬وإما‬
‫يقرر ذلك أن الله سماها كلمة التقوى‪.‬‬
‫‪ -4‬والتقوى‪ :‬أن يتقي سخط الله وعقابه بترك الشرك‬
‫والمعاصي‪ ,‬وإخلص العبادة لله‪ ,‬واتباع أمره على ما شرعه‪ ,‬كما‬
‫قال ابن مسعود رضي الله عنه‪» :‬أن تعمل بطاعة الله‪ ,‬على نور‬
‫‪1‬‬
‫انظر‪ :‬الولء والبراء في السلم لمحمد سعيد القحطاني‪ ,‬ص ‪.25‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫دللة المطابقة‪ :‬هي دللة اللفظ على معناه‪.‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫دللة التضمين‪ :‬هي دللة اللفظ على جزء من معناه‪.‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫دللة اللتزام‪ :‬هي دللة اللفظ على معنى خارج عنه لكنه لزم له‪.‬‬ ‫)(‬

‫‪159‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من الله‪ ,‬ترجو ثواب الله‪ ,‬وأن تترك معصية الله‪ ,‬على نور من‬
‫الله‪ ,‬تخاف‬
‫عقاب الله«)‪.(1‬‬
‫لقد تم لصحاب رسول الله × معرفة هذه الكلمة والتزام‬
‫أحكامها والعمل بمقتضاها ولوازمها‪.‬‬
‫قال سفيان بن عيينة عندما سأله رجل عن اليمان فقال‪ :‬قول‬
‫وعمل‪ ,‬قال‪ :‬يزيد وينقص؟ قال‪ :‬يزيد ما شاء الله‪ ,‬وينقص حتى ل‬
‫يبقى منه مثل هذه‪ ,‬وأشار سفيان بيده‪ ,‬قال الرجل‪ :‬كيف نصنع‬
‫بقوم عندنا يزعمون‪ :‬أن اليمان قول ل عمل؟ قال سفيان‪ :‬كان‬
‫القول قولهم قبل أن تقرر أحكام اليمان وحدوده‪ ,‬إن الله عز‬
‫دا × إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا‪ :‬ل إله‬ ‫وجل بعث نبينا محم ً‬
‫إل الله‪ ,‬وأنه رسول الله‪ .‬فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم‬
‫إل بحقها وحسابهم على الله عز وجل‪ ,‬فلما علم الله عز وجل‬
‫صدق ذلك من قلوبهم‪ ,‬أمره أن يأمرهم بالصلة‪ ,‬فأمرهم ففعلوا‪,‬‬
‫فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم القرار الول ول صلتهم‪ ,‬فلما علم‬
‫الله جل وعل صدق ذلك من قلوبهم‪ ,‬أمره أن يأمرهم بالهجرة‬
‫إلى المدينة‪ ,‬فأمرهم ففعلوا‪ ,‬فوالله لو لم يفعلوا ما نفهم القرار‬
‫الول ول صلتهم‪ ,‬فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من‬
‫قلوبهم‪ ,‬أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم‪ ,‬حتى‬
‫يقولوا كقولهم‪ ,‬ويصلوا صلتهم‪ ,‬ويهاجروا هجرتهم‪ ,‬فأمرهم‬
‫ففعلوا‪ ,‬فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم القرار الول ول صلتهم ول‬
‫هجرتهم‪ ,‬ول قتالهم‪ ,‬فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من‬
‫دا‪ ,‬وأن يحلقوا‬ ‫قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعب ً‬
‫رءوسهم تذلل ً ففعلوا‪ ,‬فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم القرار الول‪,‬‬
‫ول صلتهم‪ ,‬ول هجرتهم‪ ,‬ول قتلهم آباءهم‪ ,‬فلما علم الله عز وجل‬
‫صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم‬
‫بها‪ ,‬فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها‪ ,‬فوالله لو لم‬
‫يفعلوا ما نفعهم القرار الول ول صلتهم‪ ,‬ول هجرتهم‪ ,‬ول قتالهم‬
‫آباءهم ول طوافهم‪ ,‬فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من‬
‫اليمان وحدوده قال عز وجل‪:‬‬ ‫شرائعن َك ُم َ‬ ‫عليهم من‬ ‫تتابعم أ َ‬ ‫قلوبهم فيما‬
‫مِتي‬ ‫ع َ‬
‫م نِ ْ‬‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫ت َ‬
‫م ُ‬
‫م ْ‬‫وأ ت ْ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫دي‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ت‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫م‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫قل لهم‪+ :‬‬
‫نا" ]المائدة‪.[3:‬‬ ‫م ِدي ً‬‫سل ََ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ت لَ ُ‬
‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ضي ُ‬‫وَر ِ‬
‫َ‬
‫قال سفيان الثوري‪ :‬فمن ترك خلة من خلل اليمان كان بها‬
‫عندنا كافًرا ومن تركها كسل ً أو تهاوًنا بها‪ ,‬أدبناه وكان بها عندنا‬
‫سنة أبلغها عني من سألك‬ ‫هكذا( ال ّ‬ ‫صا‪,‬‬‫ناق ً‬
‫)‪2‬‬
‫من الناس ‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬المورد العذب الزلل‪ .‬مجموعة الرسائل النجدية )‪.(4/99‬‬
‫‪2‬‬
‫)( كتاب الشريعة لبي بكر محمد بن الحسين الجري‪ ,‬ص ‪.104‬‬

‫‪160‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وقد ذكر العلماء رحمهم الله شرو ً‬


‫طا سبعة لـ»ل إله إل الله«‬
‫ل تنفع صاحبها إل باجتماع هذه الشروط‪ .‬وإليك شرحها‪:‬‬
‫شروط كلمة التوحيد‪:‬‬
‫لبد أن تعلم أنه‪) :‬ليس المراد من هذا عد ّ ألفاظها وحفظها‪,‬‬
‫فكم من عامي اجتمعت فيه والتزمها‪ ,‬ولو قيل له أعدها لم يحسن‬
‫ذلك‪ ,‬وكم حافظ للفاظها يجري فيها كالسهم‪ ,‬وتراه يقع كثيًرا‬
‫فيما يناقضها والتوفيق بيد الله‪ ,‬والله المستعان( )‪.(1‬‬
‫وقد قال وهب بن منبه )‪(2‬لمن سأله‪) :‬أليس »ل إله إل الله«‬
‫مفتاح الجنة؟ قال‪ :‬بلى‪ .‬ولكن ما من مفتاح إل وله أسنان‪ ,‬فإن جئت‬
‫بمفتاح له أسنان فتح لك‪ ,‬وإل لم يفتح لك( )‪.(3‬‬
‫وأسنان هذا المفتاح هي شروط »ل إله إل الله« التية‪:‬‬
‫الشرط الول‪ :‬العلم بمعناها المراد منها نفًيا وإثباًتا‪ ,‬المنافي‬
‫للجهل بذلك‪:‬‬
‫َ‬
‫ه" ]محمد‪ .[19:‬وقال‬ ‫ه إ ِل ّ الل ُ‬ ‫ه ل َ إ ِل َ َ‬ ‫م أن ّ ُ‬ ‫عل َ ْ‬
‫فا ْ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]الزخرف‪ [86:‬أي بـ‬ ‫مو َ‬ ‫عل ُ‬ ‫َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫هدَ ِبال َ‬ ‫من َ‬ ‫تعالى‪+ :‬إ ِل ّ َ‬
‫ش ِ‬
‫»ل إله إل الله«‪» ,‬وهم يعلمون« بقلوبهم ما نطقوا به بألسنتهم‪.‬‬
‫وُأوُلو‬‫ة َ‬‫مل َئ ِك َ ُ‬‫وال ْ َ‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬‫ه إ ِل ّ ُ‬ ‫ه ل َ إ ِل َ َ‬
‫شهد الل َ‬
‫ه أن ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫وقال تعالى‪َ ِ َ + :‬‬
‫م" ]آل‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫زيُز ال َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ْ‬
‫و ال َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ه إ ِل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ط ل إ ِل َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ِبال ْ ِ‬ ‫قائ ِ ً‬‫عل ْم ِ َ‬
‫ال ْ ِ‬
‫عمران‪.[18:‬‬
‫وفي الصحيح عن عثمان رضي الله عنه قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫×‪» :‬من مات وهو يعلم أنه ل إله إل الله دخل الجنة« )‪.(4‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬اليقين المنافي للشك‪:‬‬
‫ومعنى ذلك‪ :‬أن يكون قائلها مستيقًنا بمدلولت هذه الكلمة‪,‬‬
‫ما‪ ,‬فإن اليمان ل يغني فيه إل علم اليقين ل علم‬ ‫جاز ً‬ ‫يقيًنا‬
‫الظن)‪.(5‬‬
‫ه‬
‫سول ِ ِ‬‫وَر ُ‬
‫ه َ‬ ‫مُنوا ِبالل ِ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫مُنو َ‬‫ؤ َِ‬ ‫ما ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬إ ِن ّ َ‬
‫ل‬ ‫بي‬
‫َ ِ ِ‬‫س‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬
‫ِ ِ ْ‬ ‫ف‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫ِ ْ َ ِ ْ َ‬‫ل‬ ‫وا‬ ‫م‬ ‫أ‬‫ب‬ ‫دوا‬ ‫جا ُ‬
‫ه‬
‫َ‬ ‫و َ‬ ‫م ي ََْرَتاُبوا َ‬‫م ل َ ُْ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ن" ]الحجرات‪.[15:‬‬ ‫ُ‬
‫صاِدقو َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ه ُ‬ ‫َ‬
‫ه أولئ ِك ُ‬ ‫الل ِ‬

‫‪1‬‬
‫)( معارج القبول للشيخ الحافظ الحكمي )‪.(1/418‬‬
‫‪2‬‬
‫)( وهب بن منبه بن كامل اليماني الصنعاني روى عن أبي هريرة وأبي سعيد‬
‫وابن عباس وابن عمر‪ ,‬توفي ‪110‬هـ‪ ,‬انظر‪ :‬تهذيب التهذيب )‪.(1/167‬‬
‫‪3‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب الجنائز‪ ,‬باب‪ :‬من كان آخر كلمه‪ :‬ل إله إل الله )‪.(2/87‬‬
‫‪4‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬الدليل من مات على التوحيد )‪ (1/55‬رقم‬
‫‪.43‬‬
‫‪5‬‬
‫)( معارج القبول )‪.(2/419‬‬

‫‪161‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وفي الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال‪ :‬قال‬
‫رسول الله ×‪» :‬أشهد أن ل إله إل الله وأني رسول الله‪ ,‬ل يلقى‬
‫بهما عبد غير شاك فيهما إل دخل الجنة« )‪.(1‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬القبول لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه‪:‬‬
‫وقد قص الله عز وجل علينا من أنباء ما قد سبق من إنجاء‬
‫من قبلها‪ ,‬وانتقامه‬
‫ممن ردها وأباها‪.‬‬
‫َ‬
‫من‬ ‫ة ّ‬ ‫قْري َ ٍ‬ ‫في َ‬ ‫ك ُِ‬ ‫قب ْل ِ َ‬ ‫من َ‬ ‫سل َْنا ِ‬ ‫ما أْر َ‬ ‫ك َ‬ ‫وك َذَل ِ َ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫على‬ ‫َ‬ ‫وإ ِّنا َ‬ ‫ة َ‬ ‫م ٍ‬
‫على أ ّ‬ ‫َ‬ ‫جدَْنا آَباءََنا َ‬ ‫و َ‬‫نا َ‬ ‫ها إ ِ ّ‬ ‫مت َْرفو َ‬ ‫ُ‬ ‫ل ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ر إ ِل ّ َ‬ ‫ذي ٍ‬ ‫نّ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م‬‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫جد‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫ّ َ‬ ‫ما‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫دى‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ب‬
‫ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ئ‬
‫ْ‬
‫ج‬‫َُ ْ ِ‬‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫قا‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫دو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫ق‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫هم‬ ‫ِ‬ ‫آ ََ ِ‬
‫ر‬ ‫ثا‬
‫مَنا‬ ‫ْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫فا‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫رو‬‫ِ ُ‬ ‫ف‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫ْ ِ ُ ْ ِ ِ‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ِّ ِ َ‬ ‫ب‬ ‫نا‬ ‫إ‬ ‫لوا‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫علي ْ ِ َ َ ْ‬
‫ك‬ ‫ء‬ ‫با‬ ‫آ‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ن" ]الزخرف‪.[25-23 :‬‬ ‫مكذِّبي َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ة ال ُ‬ ‫قب َ ُ‬
‫عا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ف كا َ‬ ‫َ‬ ‫فان ْظُْر كي ْ َ‬
‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ِ‬
‫سل ً إ َِلى َ‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬ول َ َ َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫م ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ك َُر ُ‬ ‫قب ْل ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫سل َْنا ِ‬ ‫قدْ أْر َ‬ ‫َ‬
‫قا‬‫ح ّ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫موا َ‬ ‫جَر ُ‬‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫فان ْت َ َ‬ ‫ت َ‬ ‫هم ِبال ْب َي َّنا ِ‬ ‫ءو ُ‬ ‫جا ُ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]الروم‪.[47:‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫صُر ال ُ‬ ‫علي َْنا ن َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه عن‬
‫النبي × قال‪» :‬مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل‬
‫ضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكل‬ ‫الغيث الكثير أصاب أر ً‬
‫والعشب الكثير‪ ,‬وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها‬
‫الناس فشربوا وسقوا وزرعوا‪ ,‬وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي‬
‫قيعان ل تمسك ماء ول تنبت كل‪ ,‬فذلك مثل من فقه في دين الله‬
‫سا‬‫ومثل من لم يرفع بذلك رأ ً‬ ‫ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم‪,‬‬
‫ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به«)‪.(2‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬النقياد لما دلت عليه‪ ,‬المنافي لترك ذلك‪:‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬وأ َِنيبوا إَلى ربك ُم َ‬
‫ه‪] " ...‬الزمر‪:‬‬ ‫موا ل َ ُ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫وأ ْ‬ ‫َ ّ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪.[54‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ه لل ِ‬
‫ه ُ‬‫ج َ‬‫و ْ‬ ‫م َ‬ ‫سل َ َ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬
‫م ّ‬‫ن ِديًنا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫و َ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]النساء‪.[125 :‬‬ ‫س ٌ‬‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫و ُ‬‫ه َ‬‫و ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫س ٌ‬ ‫ح ِ‬‫م ْ‬‫و ُ‬ ‫ه َ‬‫و ُ‬
‫ه َ‬ ‫ه إ َِلى الل ِ‬
‫ه ُ‬‫ج َ‬
‫و ْ‬‫م َ‬ ‫سل ِ ْ‬‫من ي ُ ْ‬ ‫و َ‬ ‫وقال تعالى‪َ +:‬‬
‫قى"‬ ‫وث ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ة ال ُ‬ ‫و ِ‬‫عْر َ‬ ‫ْ‬
‫ك ِبال ُ‬ ‫س َ‬
‫م َ‬‫ست َ ْ‬‫دا ْ‬‫ق ِ‬‫ف َ‬‫َ‬
‫]لقمان‪.[22:‬‬

‫‪1‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬الدليل من مات على التوحيد )‪(1/57،56‬‬
‫رقم ‪.27‬‬
‫‪2‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب العلم‪ ,‬باب‪ :‬فضل من عَِلم وعلم )‪ (1/32‬رقم ‪.79‬‬

‫‪162‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫ما‬‫في َ‬ ‫ك ِ‬ ‫مو َ‬ ‫حك ّ ُ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫ك ل َ يُ ْ‬


‫َ‬
‫وَرب ّ َ‬ ‫فل َ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ت‬ ‫ضي ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ما َ‬ ‫م ّ‬ ‫جا ّ‬ ‫حَر ً‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫في أن ْ ُ‬ ‫دوا ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫م ل يَ ِ‬ ‫َ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫جَر ب َي ْن َ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫َ‬
‫ما" ]النساء‪.[65 :‬‬ ‫لي‬
‫َ ْ ِ ً‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫موا‬ ‫ّ‬
‫و ُ َ ُ‬‫ل‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫قال ابن كثير في تفسيرها‪) :‬يقسم الله تعالى بنفسه الكريمة‬
‫كم الرسول × في جميع المور‪,‬‬ ‫المقدسة أنه ل يؤمن أحد حتى ُيح ّ‬
‫فما حكم به فهو الحق الذي يجب النقياد له باطًنا وظاهًرا‪ ,‬ولهذا‬
‫ت‬
‫ضي ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ما َ‬ ‫م ّ‬ ‫جا ّ‬ ‫حَر ً‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫في أ َن ْ ُ‬ ‫دوا ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫م ل َ يَ ِ‬ ‫قال‪+ :‬ث ُ ّ‬
‫ما" أي‪ :‬إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فل‬ ‫لي‬
‫َ ْ ِ ً‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫موا‬ ‫سل ّ ُ‬ ‫وي ُ َ‬ ‫َ‬
‫جا مما حكمت به‪ ,‬وينقادون لك في‬ ‫يجدون في أنفسهم حر ً‬
‫ما كلًيا من غير ممانعة ول‬ ‫الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسلي ً‬
‫مدافعة‪ ,‬ول منازعة‪ ,‬كما ورد في الحديث‪» :‬والذي نفسي بيده ل‬
‫يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبًعا لما جئت به« )‪.(2)((1‬‬
‫الشرط الخامس‪ :‬الصدق المنافي للكذب‪:‬‬
‫يواطئ قلبه لسانه‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬ ‫من قلبه‪,‬‬ ‫أن يقولها صدًقا‬
‫م لَ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وهو‪ ‬أ َ‬
‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫َ‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫آ‬ ‫لوا‬ ‫قو‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫كوا‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫س‬
‫ُ‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫‪+‬الم‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫َ ّ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ِ ْ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫نو‬ ‫فت َ ُ‬ ‫يُ ْ‬
‫ن" ]العنكبوت‪.[3-1:‬‬ ‫ِ ِ َ‬ ‫بي‬ ‫ذ‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫َ َ ْ َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ال ّ ِ َ َ َ‬
‫د‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫ذي‬
‫وم ِ‬ ‫وِبال ْي َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫مّنا ِبالل ِ‬ ‫لآ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫من ي َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫و ِ‬ ‫َ وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫وال ِ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫عو‬ ‫ُ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫خا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ني‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫هم ب ِم‬ ‫ما ُ‬ ‫و َ‬ ‫ر َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ال ِ‬
‫َ‬ ‫ل ّ ُأ َ‬
‫‪‬‬
‫هم‬ ‫ب‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫رو‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫َ ُ ْ َ َ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫عو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫خ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫و َ‬
‫َ ِ ِ‬ ‫‪‬‬
‫ذاب أ َِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫كاُنوا‬ ‫ما‬ ‫ٌ ِ َ‬‫ب‬ ‫م‬ ‫لي‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ َ َ ً َ ُ ْ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ضا‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫َ َ ُ ُ‬ ‫د‬ ‫زا‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ض‬
‫م َ ٌ‬ ‫ر‬ ‫ّ‬
‫ن" ]البقرة‪.[10-8 :‬‬ ‫ذُبو َ‬ ‫ي َك ْ ِ‬
‫وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي ×‪:‬‬
‫دا عبده ورسوله‬ ‫محم ً‬ ‫»ما من أحد يشهد أن ل إله إل الله وأن‬
‫صدًقا من قلبه إل حرمه الله على النار« )‪.(3‬‬
‫قال العلمة ابن القيم‪» :‬والتصديق بل إله إل الله يقتضي‬
‫الذعان والقرار بحقوقها وهي شرائع السلم التي هي تفصيل‬
‫هذه الكلمة‪ ,‬بالتصديق بجميع أخباره وامتثال أوامره واجتناب‬
‫نواهيه‪ ..‬فالمصدق بها على الحقيقة هو الذي يأتي بذلك كله‪,‬‬
‫ومعلوم أن عصمة المال والدم على الطلق لم تحصل إل بها‬
‫وبالقيام بحقها‪ ,‬وكذلك النجاة من العذاب على الطلق لم تحصل‬

‫‪1‬‬
‫)( الحديث مروي في الربعين النووية ص ‪ ,134‬قال فيه النووي‪ :‬وهو حديث‬
‫حسن صحيح رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫)( تفسير ابن كثير )‪.(1/533‬‬
‫‪3‬‬
‫ما )‪ (1/47‬رقم ‪.128‬‬‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب العلم‪ ,‬باب‪ :‬من خص بالعلم قو ً‬
‫‪163‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إل بها وبحقها«)‪.(1‬‬


‫وقال ابن رجب‪) :‬أما من قال‪ :‬ل إله إل الله بلسانه‪ ,‬ثم أطاع‬
‫الشيطان وهواه في معصية الله ومخالفته فقد كذب فعله قوله‪,‬‬
‫ونقص من كمال توحيده بقدر معصية الله في طاعة الشيطان‬
‫ل‬‫سِبي ِ‬ ‫عن َ‬ ‫ك َ‬ ‫ضل ّ َ‬ ‫في ُ ِ‬ ‫وى َ‬ ‫ه َ‬ ‫ع ال ْ َ‬ ‫ول َ ت َت ّب ِ ِ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫والهوى‪ ,‬قال‬
‫ه" ]ص‪.(2) ([26:‬‬ ‫الل ِ‬
‫الشرط السادس‪ :‬الخلص‪:‬‬
‫وهو تصفية بصالح النية عن جميع شوائب الشرك)‪.(3‬‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ص" ]الزمر‪.[3 :‬‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫دي ُ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬أل َ لل ِ‬
‫ُ‬
‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫صي َ‬ ‫خل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫دوا الل َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫مُروا إ ِل ّ ل ِي َ ْ‬ ‫ما أ ِ‬ ‫و َ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫فاءَ" ]البينة‪.[5:‬‬ ‫حن َ َ‬ ‫ن ُ‬ ‫دي َ‬ ‫ال ّ‬
‫وفي »الصحيح« عن أبي هريرة عن النبي ×‪» :‬أسعد الناس‬
‫صا من قلبه«‪» ,‬أو‬ ‫بشفاعتي من قال‪ :‬ل إله إل الله خال ً‬
‫نفسه«)‪.(4‬‬
‫وقال الفضيل بن عياض)‪-(5‬رحمه الله‪» :-‬إن العمل إذا كان‬
‫صا لم‬ ‫صا ولم يكن صواًبا لم يقبل‪ ,‬وإذا كان صواًبا ولم يكن خال ً‬ ‫خال ً‬
‫صا صواًبا‪ ,‬والخالص أن يكون لله‪ ,‬والصواب‬ ‫ً‬ ‫خال‬ ‫يكون‬ ‫حتى‬ ‫يقبل‪,‬‬ ‫ُ‬
‫أن يكون على السنة«)‪.(6‬‬
‫الشرط السابع‪ :‬المحبة لهذه الكلمة‪ ,‬ولما اقتضته ودلت عليه‪,‬‬
‫ولهلها العاملين بها الملتزمين لشروطها‪ ,‬وبغض ما ناقض ذلك‪:‬‬
‫دا‬ ‫خذُ من دون الل َ‬
‫دا ً‬ ‫ه أن ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫من ي َت ّ َ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫و ِ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ه" ]البقرة‪،[165:‬‬ ‫ِ‬ ‫لل‬ ‫با‬ ‫ح‬
‫ّ ُ ّ‬ ‫د‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫نوا‬ ‫ب َ ِ َ ِ َ َ ُ‬
‫م‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ح ّ‬ ‫م كَ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫حّبون َ ُ‬ ‫يُ ِ‬
‫ه‬
‫عن ِدين ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫من ي ّْرت َدّ َ ِ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ها ال ِ‬ ‫تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬ ‫وقال‬
‫عَلى‬ ‫ف يأ ْ‬
‫ة َ‬ ‫ه أِذل ّ ٍ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫بو‬‫ّ‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫ُ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫ح‬‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫و‬
‫ُ َِ ْ ْ ٍ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ؤ ْمِنين أ َ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫س‬
‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ل‬
‫َ ِ ِ‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫دو‬
‫ِ َ ُ َ ِ ُ َ‬ ‫ه‬ ‫جا‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ري‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫لى‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ة‬
‫ّ ٍ‬‫ز‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ا ُ ِ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬
‫ة لئ ِم ٍ" ]المائدة‪.[54 :‬‬ ‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫نل ْ‬ ‫خافو َ‬ ‫ُ‬ ‫ول َ ي َ َ‬ ‫َ‬
‫‪1‬‬
‫)( التبيان في أقسام القرآن لبن القيم‪ ,‬ص ‪.43‬‬
‫‪2‬‬
‫)( كلمة الخلص لبن رجب‪ ,‬ص ‪.28‬‬
‫‪3‬‬
‫)( معارج القبول )‪.(2/423‬‬
‫‪4‬‬
‫)( صحيح البخاري‪ ,‬كتاب العلم‪ ,‬باب الحرص على الحديث )‪ (3/38‬رقم ‪.99‬‬
‫‪5‬‬
‫)( هو أبو علي الفضيل بن عياض بن مسعود الطالقاني الصل‪ ,‬الزاهد العابد‬
‫الثقة المام المشهور‪ ,‬كان أول أمره من قطاع الطرق‪ ,‬ثم تنسك وسمع‬
‫الحديث بالكوفة‪ ,‬مات سنة ‪ 187‬هـ‪ ,‬حلية الولياء ‪ ,8/84‬سير أعلم النبلء )‬
‫‪.(8/421‬‬
‫‪6‬‬
‫)( مجموع الفتاوى )‪.(3/124‬‬

‫‪164‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وفي الحديث الصحيح‪» :‬ثلث من كن فيه وجد بهن حلوة‬


‫اليمان‪ :‬أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ,‬وأن يحب‬
‫المرء ل يحبه إل لله‪ ,‬وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه‬
‫الله منه كما يكره أن يقذف في النار« )‪.(1‬‬
‫وقال الشيخ حافظ الحكمي)‪(2‬رحمه الله‪) :‬وعلمة حب العبد‬
‫ربه‪ :‬تقديم محابه وإن خالفت هواه‪ ,‬وبغض ما يبغض ربه وإن مال‬
‫إليه هواه‪ ,‬وموالة من والى الله ورسوله‪ ,‬ومعاداة من عاداه‪,‬‬
‫واتباع رسوله ×‪ ,‬واقتفاء أثره‪ ,‬وقبول هداه( )‪.(3‬‬
‫ويقول ابن القيم في »النونية«‪:‬‬
‫على محبته بل عصيان‬ ‫شرط المحبة أن توافق من‬
‫تحب‬
‫فك ما يحب فأنت ذو بهتان‬ ‫فإذا ادعيت له المحبة من‬
‫خل‬
‫حًبا له ما ذاك في إمكان‬ ‫أتحب أعداء الحبيب وتدعي‬
‫أين المحبة يا أخا‬ ‫دا أحبابه‬
‫وكذا تعادي جاه ً‬
‫الشيطان؟‬
‫)‪(4‬‬
‫والركان‬ ‫ليس العبادة غير توحيد‬
‫المحبة‬
‫وبعد أن بينت حقيقة اليمان وشروطه التي يتحقق بها التمكين‬
‫لدين الله والنصرة على العداء يتضح لنا‪ :‬أن الفرد بغير اليمان‬
‫الحقيقي بالله‪ ,‬ريشة في مهب الريح‪ ,‬ل تستقر على حال‪ ,‬ول‬
‫تسكن إلى قرار‪ ,‬والنسان بغير الدين السلمي يتحول إلى حيوان‬
‫شره‪ ,‬أو وحش مفترس‪ ,‬ل تستطيع الثقافة الوضعية ول القانون‬
‫الجاهلي أن يحدا من شراهته أو يمنعاه من الفتراس‪.‬‬
‫والمجتمع بغير دين صحيح‪ ,‬وإيمان قوي‪ ,‬مجتمع متوحش‬
‫مظلم متألم‪ ,‬وإن لمعت فيه بوارق الحضارة المهترئة وامتل‬
‫بأدوات الرفاهية وأسباب النعيم الحسي‪ ,‬فهو مجتمع البقاء فيه‬
‫للقوى‪ ,‬ل للفضل والتقى‪ ,‬مجتمع تقرأ التعاسة والشقاء في‬
‫وجوه أصحابه‪ ,‬وإن زينوا وجوههم بأنواع الصباغ والمحسنات‪,‬‬
‫وركبوا الطائرات‪ ,‬وسكنوا العمارات واغتصبوا أعظم الثروات‪ ,‬فهو‬
‫مجتمع تافه رخيص هزيل‪ ,‬لن غايات أهله غايات ساذجة‪ ,‬سطحية‬
‫‪1‬‬
‫)( صحيح البخاري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬حلوة اليمان )‪ (1/11‬رقم ‪.16‬‬
‫‪2‬‬
‫)( هو الشيخ العلمة حافظ أحمد الحكمي‪ ,‬عالم سلفي من منطقة تهامة‪ ,‬ولد‬
‫سنة ‪1342‬هـ‪ ,‬بقرية السلم بالقرب من جيزان‪ ,‬كان آية في الذكاء وسرعة‬
‫الحفظ والفهم‪ ,‬تتلمذ على يد الشيخ الداعية عبد الله القرعاوي توفي سنة‬
‫‪1377‬هـ‪ ,‬وعمره ‪ ,35‬انظر ترجمته في مقدمة معارج القبول بقلم ابنه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫)( معارج القبول )‪.(2/424‬‬
‫‪4‬‬
‫)( النونية‪ ,‬ص ‪.158‬‬

‫‪165‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ن‬
‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬‫والفروج‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬ ‫ْ‬
‫هزيلة ل تتجاوز شهوات البطون‬
‫ْ‬
‫وى‬‫مث ْ ً‬‫والّناُر َ‬
‫م َ‬
‫عا ُ‬
‫ل الن ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ما ت َأك ُ‬ ‫وي َأك ُُلو َ‬
‫ن كَ َ‬ ‫ن َ‬ ‫عو َ‬ ‫مت ّ ُ‬
‫فُروا ي َت َ َ‬ ‫كَ َ‬
‫م" ]محمد‪.[12 :‬‬ ‫ه ْ‬‫لّ ُ‬
‫بخلف مجتمع اليمان والسلم المبني على الحب في الله والرضا‬
‫بكل ما صدر عن الله عز وجل واهب الحياة ومنشئ الخلق‪ ,‬وصاحب‬
‫المر والنهي المطلق في الوجود كله‪ ,‬وهذا أمر طبيعي‪ ,‬في أن يحب‬
‫النسان ربه‪ ,‬وخالقه ورازقه‪ ,‬لن النفوس مجبولة على حب من أحسن‬
‫إليها‪ ,‬وأي إحسان كإحسان من خلق فقدر وشرع فيسر‪ ,‬وجعل النسان‬
‫في أحسن تقويم‪ ,‬ووعد من أطاعه بجنة الخلد التي فيها ما ل عين رأت‬
‫ول أذن سمعت‪ ,‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫لهذا كله ولكثر منه‪ ,‬أحب المؤمنون ربهم حًبا ل يقاس بغيره‬
‫مما هو دونه‪ ,‬فقدموا أنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله‪,‬‬
‫بل تردد أو منة‪ ,‬بل اعتبروا ذلك تفضل ً من الله عليهم‪ ,‬أن فتح لهم‬
‫باب الجهاد والستشهاد في سبيله ويسر لهم أسبابه‪ ,‬فقاموا بذلك‬
‫الواجب خير قيام)‪.(1‬‬
‫إن اليمان الحقيقي بالله‪ ,‬هو الذي ينبعث منه الحب في الله الذي‬
‫يحرك إرادة القلب‪ ,‬ويوجهها إلى المحبوبات وترك المحظورات‪,‬‬
‫وكلما ازداد اليمان بالله في نفس المؤمن كلما ازدادت المحبة في‬
‫وا‪ ,‬والكدر صفاء‪ ,‬واللم شفاء‪,‬‬ ‫الله لديه قوة وصلبة‪ ,‬وتحول المر حل ً‬
‫جها ًوالبتلء رحمة‪ ,‬والحجام عن نصرة أهل الحق خيانة‪,‬‬ ‫والنصرة دا‪,‬‬
‫عا عن السلم‪.‬‬ ‫وتراج ً‬
‫فالحب في الله أخص من الرضا وأعمق أثًرا حيث إنه الضمان‬
‫الوحيد لترابط المجتمع واحترام حقوقه)‪ ,(2‬ولذلك ورد في الحديث‬
‫الشريف‪ » :‬ل تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا‪ ,‬ول تؤمنوا حتى‬
‫تحابوا‪ ,‬أول أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟‬
‫أفشوا السلم بينكم«)‪.(3‬‬
‫فحقيقة المحبة في الله ل تتم إل بموافقة الباري جل وعل في‬
‫حب ما يحب‬
‫وبغض ما يبغض)‪.(4‬‬
‫ولذلك فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلهم إيماًنا من كان أقربهم‬
‫إلى الله في محبته‪ ,‬وأقواهم في طاعته‪ ,‬وأتمهم عبودية له)‪.(5‬‬

‫‪1‬‬
‫انظر‪ :‬كتاب اليمان وأثره في الحياة‪ ,‬د‪ .‬القرضاوي‪ ,‬ص ‪.12-5‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫انظر‪ :‬الموالة والمعاداة للجلعود )‪.(1/245‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫رواه مسلم‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬بيان ل يدخل الجنة إل المؤمنون )‪ (1/74‬رقم ‪.93‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫انظر‪ :‬مجموعة التوحيد‪ ,‬ص ‪.423-422‬‬ ‫)(‬

‫‪166‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وهذه الصفات تستلزم محبة الرسول × ومحبة ما جاء به من‬


‫عند الله‪ ,‬ومحبة المؤمنين بهذا الدين‪ ,‬وإيثارهم على النفس‬
‫بالمال والنصرة والتأييد والنضمام في حزبهم حيث إنهم حزب‬
‫الله من انضم إلى حزب الله فقد أفلح في دنياه وأخراه‪.‬‬
‫إن اليمان بالله‪ ,‬والحب في الله‪ ,‬وما يترتب عليهما قواعد‬
‫متلزمة ينبني بعضها على البعض الخر‪ ,‬ويتأثر اللحق منها‬
‫بالسابق‪ ,‬فإذا قوي اليمان بالله في نفس المؤمن ازداد الحب في‬
‫الله‪ ,‬وازدادت الفعال المترتبة على ذلك‪ ,‬حتى تصبح الجماعة‬
‫المسلمة‪ ,‬كخليا الدم في الجسم تعمل لغرض واحد‪ ,‬وهدف‬
‫واحد‪ ,‬وفي إطار واحد‪ ,‬عند ذلك تصبح الجماعة المسلمة بنية حية‬
‫قوية صامدة قادرة على أداء رسالتها ودورها العظيم في حق‬
‫نفسها‪ ,‬وفي حق البشرية جمعاء)‪.(1‬‬
‫ولذلك جعل الله تعالى رابطة الدين واليمان فوق كل الروابط‬
‫الجاهلية الفاسدة مثل رابطة الدم‪ ,‬ورابطة اللون أو اللغة‪ ,‬أو‬
‫رابطة الوطن أو القليم أو رابطة الحرفة‪ ,‬أو الطبقة‪ ,‬أو غير ذلك‬
‫من الروابط الجاهلية التي تختلف اختلًفا جذرًيا مع أصول‬
‫السلم ومنطلقاته في الموالة والمعاداة والحب والبغض‪ ,‬قال‬
‫وأ ُن َْثى‬ ‫ر َ‬ ‫ٍ‬ ‫من ذَك َ‬ ‫كم ّ‬ ‫قَنا ُ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫س إ ِّنا َ‬ ‫ها الّنا ُ‬
‫َ‬
‫تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫عن ْدَ الل ِ‬ ‫م ِ‬ ‫مك ُ ْ‬ ‫ن أك َْر َ‬ ‫فوا إ ِ ّ‬ ‫عاَر ُ‬ ‫ل ل ِت َ َ‬ ‫قَبائ ِ َ‬ ‫و َ‬ ‫عوًبا َ‬ ‫ش ُ‬ ‫م ُ‬ ‫عل َْناك ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ر" ]الحجرات‪.[13:‬‬ ‫ِ ٌ‬‫بي‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ٌ‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ْ ِ‬‫إ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫أ َت ْ‬
‫فالمقياس لتفاوت الفراد في السلم هو التقوى والعمل‬
‫الصالح‪ ,‬وهذا المبدأ يحقق العدل بالنسبة لكافة المنتمين إليه‪,‬‬
‫ويسع العالم أجمع دون أي تمييز بينهم فيما عدا التقوى والعمل‬
‫الصالح)‪.(2‬‬
‫إن اليمان الحقيقي يجعل من أتباعه أخوة متحابين يعملون‬
‫ه‬
‫ل الل ِ‬ ‫حب ْ ِ‬ ‫موا ب ِ َ‬ ‫ص ُ‬ ‫عت َ ِ‬ ‫وا ْ‬ ‫على رضا مولهم العظيم‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫م‬ ‫ت‬
‫ْ ُ ْ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫ت الل ِ َ ْ ْ ِ‬
‫إ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ه‬ ‫م َ‬ ‫ع َ‬ ‫واذْك ُُروا َن ِ ْ‬ ‫قوا َ‬ ‫فّر ُ‬ ‫ول َ ت َ َ‬ ‫عا َ‬ ‫مي ً‬ ‫ج ِ‬ ‫ََ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وكن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫نا‬ ‫ً‬ ‫وا‬ ‫ِ َ‬ ‫خ‬‫ْ‬ ‫إ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ح‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫ص‬‫ْ‬ ‫ف َ‬ ‫أ‬‫ف‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫لو‬ ‫ق‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ف‬ ‫ً‬ ‫ء‬ ‫دا‬‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫أ‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ها‬ ‫ْ‬
‫ْ ّ َ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫ر‬‫ِ‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫ّ َ‬ ‫م‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫ح‬‫ُ‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[103:‬‬ ‫دو َ‬ ‫هت َ ُ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫عل ّك ُ ْ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫م آَيات ِ ِ‬ ‫ل َك ُ ْ‬
‫إن الفهم الصحيح لحقيقة اليمان وكلمة التوحيد لها آثار في‬
‫حياة النسان‪ ,‬وتلك الثار لها أثر في التمكين‪ ,‬فمن أهم هذه‬
‫الثار‪:‬‬
‫‪ -1‬ما تنشئه في النفس من النفة وعزة النفس بحيث ل يقوم‬
‫‪5‬‬
‫)( انظر‪ :‬مجموعة التوحيد‪ ,‬ص ‪.423 ،422‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬الموالة والمعاداة )‪.(1/246‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(1/246‬‬

‫‪167‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫دونه شيء لنه ل نافع إل الله‪ ,‬وهو المحيي والمميت‪ ,‬وهو صاحب‬
‫الحكم والسلطة والسيادة‪ .‬ومن ثم ينزع من القلب كل خوف إل‬
‫منه سبحانه‪ ,‬فل يطاطئ الرأس أمام أحد من الخلق‪ ,‬ول يتضرع‬
‫إليه‪ ,‬ول يتكفف له‪ ,‬ول يرتع من كبريائه وعظمته‪ ,‬لن الله هو‬
‫العظيم القادر‪ ,‬وهذا بخلف المشرك والكافر‪.‬‬
‫‪ -2‬ينشأ من اليمان بهذه الكلمة من أنفة النفس وعزتها‪:‬‬
‫تواضع من غير ذل‪ ,‬وترفع من غير كبر‪ ,‬فل يكاد ينفخ أوداجه‬
‫شيطان الغرور ويزهيه بقوته وكفاءته لنه يعلم ويستيقن أن الله‬
‫الذي وهبه كل ما عنده قادر على سلبه إياه إذا شاء‪ ,‬أما الملحد‬
‫فإنه يتكبر ويبطر إذا حصلت له نعمة عاجلة‪.‬‬
‫‪ -3‬المؤمن بهذه الكلمة‪ :‬يعلم علم اليقين أنه ل سبيل إلى‬
‫النجاة والفلح إل بتزكية النفس والعمل الصالح‪.‬‬
‫‪ -4‬من آثار اليمان الصحيح عدم تسرب اليأس‪ ,‬والبعد عن‬
‫القنوط‪ ,‬لنه يؤمن أن الملك والخزائن لله رب العالمين‪ ,‬لذلك‬
‫فهو على طمأنينة وسكينة‪ ,‬وأمل‪ ,‬حتى ولو طرد العبد أو أهين‬
‫وضاقت عليه سبل العيش‪.‬‬
‫من آثار كلمة اليمان والتوحيد في نفس العبد إعطاء قوة‬ ‫‪-5‬‬
‫عظيمة من العزم والقدام والصبر والثبات والتوكل والتطلع إلى‬
‫معالي المور ابتغاء مرضاة الله تعالى‪ ,‬مع شعوره أن وراءه قوة‬
‫مالك السماء والرض‪ ,‬فيكون ثباته ورسوخه وصلبته التي يستمدها‬
‫من هذا التصور‪ ,‬كالجبال الراسية‪ ,‬وأنى للكفر والشرك بمثل هذه‬
‫القوة والثبات؟‪.‬‬
‫من آثار اليمان الحقيقي تشجيع النسان وامتلء قلبه جرأة؛‬ ‫‪-6‬‬
‫لن الذي يجبن النسان ويوهن عزمه شيئان‪ :‬حبه للنفس والمال‬
‫دا ًغير الله يميت النسان‪ ,‬فإيمان‬ ‫والهل‪ ,‬أو اعتقاده أن هناك أح‬
‫ل ًمن هذين السببين‪ ,‬فيجعله‬ ‫المرء بل إله إل الله يرفع عن قبله ك‬
‫بأن الله هو المالك الوحيد لنفسه وماله‪ ,‬فعندئذ يضحي في‬ ‫موق ً‬
‫نا‬
‫سبيل مرضاة ربه بكل غال ورخيص عنده‪ .‬وينزع الثاني بأن يلقي في‬
‫روعه أنه ل يقدر على سلب الحياة منه إنسان ول حيوان ول قنبلة ول‬
‫مدفع‪ ,‬ول سيف ول حجر‪ ,‬وإنما يقدر ذلك الله وحده‪ .‬من أجل ذلك ل‬
‫يكون في الدنيا أشجع ول أجرأ ممن يؤمن بالله تعالى‪ ,‬فل يكاد يخيفه‬
‫أو يثبت في وجهه زحف الجيوش‪ ,‬ول السيوف المسلولة‪ ,‬ول مطر‬
‫الرصاص والقنابل‪.‬‬
‫ومن‪ -‬ثمار اليمان الصحيح‪ ,‬التحلي بالخلق الرفيعة والتطهر من‬ ‫‪7‬‬
‫الخلق الوضيعة‪.‬‬
‫صا على التمسك‬ ‫‪ -8‬ومن ثمار اليمان على العبد تجعله حري ً‬
‫بشرع الله تعالى ومحاف ً‬
‫ظا عليه‪.‬‬
‫‪ -9‬ومن ثمار اليمان تربية العبد على أن يكون جندًيا من جنود‬
‫‪168‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الدعوة التي تسعى لتحكيم شرع الله وتمكين دينه سبحانه‬


‫وتعالى‪.‬‬
‫إن من شروط التمكين لدين الله تعالى في الرض تحقيق‬
‫اليمان الذي يريده الله وبّينه رسوله × وتجسد في حياة أصحابه‪.‬‬
‫إن اليمان المطلوب هو الذي يبعثنا على الحركة والهمة‪,‬‬
‫والنشاط والسعي‪ ,‬والجهد والمجاهدة‪ ,‬والجهاد والتربية‪,‬‬
‫والستعلء والعزة‪ ,‬والثبات واليقين)‪.(1‬‬
‫يقول الشيخ حسن البنا رحمه الله تعالى مفرًقا بين إيمان‬
‫خامل وإيمان عامل‪ ,‬إيمان المسلم القاعد وإيمان المسلم الداعية‬
‫تحت عنوان »إيماننا«‪:‬‬
‫»والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا في اليمان بهذا المبدأ‪,‬‬
‫أنه عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم‪ ,‬ل يريدون أن ينزلوا‬
‫على حكمه ول أن يعملوا بمقتضاه‪ ..‬على أنه إيمان ملتهب‬
‫مشتعل قوي يقظ في نفوس الخوان المسلمين‪ ,‬ظاهرة نفسية‬
‫عجيبة نلمسها ويلمسها غيرنا في نفوسنا نحن الشرقيين‪ :‬أن‬
‫نؤمن بالفكرة إيماًنا يخيل للناس حيث نتحدث إليهم عنها أنها‬
‫ستحملنا على نسف الجبل وبذل النفس والمال واحتمال‬
‫المصاعب ومقارعة الخطوب حتى ننتصر بها أو تنتصر بنا‪ ,‬حتى إذا‬
‫هدأت ثائرة الكلم وانفض نظام الجمع‪ ,‬نسي كل إيمانه وغفل عن‬
‫فكرته‪ ,‬فهو ل يفكر في العمل لها‪ ,‬ول يحدث نفسه بأن يجاهد‬
‫أضعف الجهاد في سبيلها‪ ,‬بل قد يبالغ في هذه الغفلة وهذا‬
‫النسيان‪ ,‬حتى يعمل على ضدها وهو يشعر أو ل يشعر‪ ..‬أو لست‬
‫تضحك عجًبا حين ترى رجل من رجال الفكر والعمل والثقافة في‬
‫دا من‬‫ساعات النهار‪ :‬ملح ً‬ ‫ساعتين اثنتين متجاورتين من‬
‫دا مع العابدين«)‪.(2‬‬‫الملحدين‪ ,‬وعاب ً‬
‫إن اليمان الذي جاء به القرآن الكريم وبينه سيد الخلق‬
‫دا حبيس‬ ‫أجمعين عليه أفضل الصلة والتسليم ليس إيماًنا مجر ً‬
‫دائرة الذهن والتصور؛ بل هو تصديق يتبعه عمل‪ ,‬وإقرار يتبعه‬
‫التزام‪ ,‬واعتقاد يتبعه خضوع‪.‬‬
‫فحقيقة اليمان في القرآن الكريم تدفع العبد المؤمن إلى‬
‫ص‬‫ص بالحق وثبات عليه‪ ,‬وتوا ٍ‬ ‫والتزام وحركة‪ ,‬وتوا ٍ‬ ‫جهاد ودعوة‪,‬‬
‫بالصبر وحث عليه)‪.(3‬‬
‫يقول سيد قطب رحمه الله‪) :‬والعمل الصالح هو الثمرة‬
‫الطيبة لليمان‪ ,‬والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬في ظلل اليمان‪ ,‬ص ‪.63‬‬
‫‪2‬‬
‫)( رسائل حسن البنا‪ ,‬ص ‪.16‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬في ظلل اليمان‪ ,‬ص ‪.64‬‬

‫‪169‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تستقر فيها حقيقة اليمان في القلب‪ ,‬فاليمان حقيقة إيجابية‬


‫متحركة‪ ,‬ما إن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق‬
‫ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح‪ ..‬هذا هو اليمان‬
‫دا ل يتحرك‪ ,‬كامًنا ل يتبدى في‬ ‫السلمي‪ ..‬ل يمكن أن يظل خام ً‬
‫صورة حية خارج ذات المؤمن‪.‬‬
‫فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت‪ ,‬شأنه‬
‫شأن الزهرة ل ُتمسك أريجها‪ ,‬فهو ينبعث منها انبعاًثا طبيعًيا‪ ,‬وإل‬
‫فهو غير موجود‪.‬‬
‫ومن هنا قيمة اليمان‪ ..‬إنه حركة وعمل وبناء وتعمير‪ ..‬يتجه‬
‫شا وسلبية وانزواء في مكنونات‬ ‫إلى الله‪ ..‬إنه ليس انكما ً‬
‫الضمير‪ ..‬وليس مجرد النوايا الطيبة التي ل تتمثل في حركة‪,‬‬
‫وهذه طبيعة السلم البارزة التي تجعل منه قوة كبرى في صميم‬
‫الحياة)‪.(1‬‬
‫إن اليمان قوة دافعة وطاقة مجمعة‪ ,‬فما كادت حقيقته تستقر‬
‫في القلب حتى تتحرك لتعمل‪ ,‬ولتحقق ذاتها في الواقع‪ ,‬ولتوائم‬
‫بين صورتها المضمرة وصورتها الظاهرة‪ ,‬كما أنها تستولي على‬
‫مصادر الحركة في الكائن البشري كلها‪ ,‬وتدفعها في الطريق‪.‬‬
‫»ذلك سر قوة العقيدة في النفس‪ ,‬وسر قوة النفس بالعقيدة‪,‬‬
‫سر تلك الخوارق التي صنعتها العقيدة في الرض‪ ,‬وما تزال في كل‬
‫يوم تصنعها الخوارق التي تغير وجه الحياة من يوم إلى يوم‪ ,‬وتدفع‬
‫بالفرد وتدفع بالجماعة إلى التضحية بالعمر الفاني المحدود في سبيل‬
‫الحياة الكبرى التي ل تفنى‪ ,‬وتقف بالفرد القليل الضئيل أمام قوى‬
‫السلطان وقوى المال وقوى الحديد والنار‪ ,‬فإذا هي كلها تنهزم أمام‬
‫العقيدة الدافعة في روح فرد المؤمن‪ ,‬وما هو الفرد الفاني المحدود‬
‫عا‪ ً ,‬ولكنها القوى الكبرى الهائلة التي‬
‫الذي هزم تلك القوى جمي‬
‫استمدت منها تلك الروح‪ ,‬والينبوع المتفجر الذي ل ينضب ول ينحسر‬
‫ول يضعف«)‪.(2‬‬
‫»تلك الخوارق التي تأتي بها العقيدة الدينية في حياة الفراد وفي‬
‫حياة الجماعات ل تقوم على خرافة غامضة‪ ,‬ول تعتمد على التهويل‬
‫والرؤى‪ ,‬إنها تقوم على أسباب مدركة وعلى قواعد ثابتة‪ ,‬إن العقيدة‬
‫الدينية فكرة كلية تربط النسان بقوى الكون الظاهرة والخصبة‪,‬‬
‫وتثبت روحه بالثقة والطمأنينة‪ ,‬وتمنحه القدرة على مواجهة القوى‬
‫الزائلة والوضاع الباطلة‪ ,‬بقوة اليقين في النصر‪ ,‬وقوة الثقة في الله‪,‬‬
‫وهي تفسر للفرد علقاته بما حوله من الناس والحداث والشياء‪,‬‬
‫وتوضح له غايته واتجاهه وطريقه‪ ,‬وتجمع القوى والطاقات حول‬
‫محور واحد‪ ,‬وتوجيهها في اتجاه واحد‪ ,‬تمضي إليه مستنيرة الهدف‪,‬‬
‫‪1‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(6/3967،3966‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(6/3353‬‬

‫‪170‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫في قوة وفي ثقة وفي يقين«‪.‬‬


‫ويضاعف قوتها أنها تمضي مع الخط الثابت الذي يمضي فيه‬
‫الكون كله ظاهرة وخافية‪ ,‬وأن كل ما في الكون من قوى مكنونة‬
‫ها إيمانًيا‪ ,‬فيلتقي المؤمن في طريقه‪ ,‬وينضم إلى زحفها‬
‫تتجه اتجا ً‬
‫الهائل لتغليب الحق على الباطل مهما يكن للباطل من قوة‬
‫ظاهرة لها في العيون بريق«)‪.(1‬‬
‫وبهذا لعلي أكون قد أوضحت حقيقة اليمان التي نسعى‬
‫ليجادها في أفراد المة والجماعة المسلمة لنقطع خطوة نحو‬
‫التمكين المنشود‪.‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(6/3353‬‬

‫‪171‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثاني‬
‫تحقيـــــــــق العبـــــــادة‬
‫ل‪ :‬معنى العبادة في اللغة والشرع‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫أ‪ -‬في اللغة‪ :‬العبادة والعبدية والعبودية‪ :‬الطاعة)‪.(1‬‬
‫وفي لسان العرب‪ :‬أصل العبودية‪ :‬الخضوع والتذلل‪.‬‬
‫والتعبد‪ :‬التنسك‪ ,‬والعبادة‪ :‬الطاعة‪.‬‬
‫والتعبد‪ :‬التذلل‪ ,‬والتعبيد‪ :‬التذليل‪.‬‬
‫بعير معبد‪ :‬مذلل‪ ,‬وطريق معبد‪ :‬مسلوك مذلل)‪.(2‬‬
‫دا إلى‬‫ويرى أبو العلى المودوي في معنى العبادة استنا ً‬
‫الستعمال اللغوي لمادة )ع ب د( أن أصل معنى العبادة هو‬
‫الذعان الكلي‪ ,‬والخضوع الكامل والطاعة المطلقة)‪.(3‬‬
‫ب‪ -‬العبادة في الشرع‪ :‬خضوع وحب)‪ ,(4‬والعبادة المأمور بها‬
‫العبد تتضمن معنى الذل والخضوع لله‪ ,‬ومعنى الحب فهي تتضمن‬
‫غاية الذل لله بغاية المحبة له)‪.(5‬‬
‫قال ابن تيمية ‪-‬رحمه الله‪) :-‬والله هو المعبود الذي يستحق‬
‫غاية الحب والعبودية والجلل والكرام والخوف والرجاء‪.(6) (.....‬‬
‫وينص ابن القيم ‪-‬رحمه الله‪ :-‬على أن )العبادة تجمع أصلين‬
‫غاية الحب بغاية الذل والخضوع()‪ .(7‬ودعائم هذه العبادة التي‬
‫تنتظم أعمال النسان كلها القلبية‪ ,‬والعملية الفردية والجماعية‪:‬‬
‫المحبة والخوف والرجاء‪ ,‬وقد جعل ابن القيم هذه الثلث في قلب‬
‫المؤمن‪) :‬بمنزلة الطائر‪ ,‬فالمحبة رأسه‪ ,‬والخوف والرجاء جناحاه‬
‫فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران‪ ,‬ومتى قطع‬
‫الرأس مات الطائر‪ ,‬ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد‬

‫‪1‬‬
‫القاموس المحيط كتاب )الدال(‪ ,‬فصل )العين( ‪.378‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫لسان العرب‪ ,‬كتاب الدال‪ ,‬فصل العين المهملة ‪.3/271‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫المصطلحات الربعة في القرآن للمودودي‪ ,‬ص ‪.97‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫العبادة في السلم للقرضاوي‪ ,‬ص ‪.31‬‬ ‫)(‬
‫‪5‬‬
‫انظر‪ :‬مجموع الفتاوى )‪.(1/207‬‬ ‫)(‬
‫‪6‬‬
‫المصدر نفسه )‪.(28/35‬‬ ‫)(‬
‫‪7‬‬
‫مدارج السالكين )‪.(1/74‬‬ ‫)(‬

‫‪172‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وكاسر( )‪ ,(1‬وبهذا يتضح مفهوم العبادة في الشرع‪.‬‬


‫ثانًيا‪ :‬حقيقة العبادة‪:‬‬
‫إن من شروط التمكين لدين الله تحقيق العبادة لله في دنيا‬
‫الناس وعلى الجماعة المسلمة أن تفهم حقيقة العبادة في القرآن‬
‫الكريم وسنة سيد المرسلين ×‪ ,‬وأن تعمل على نشر المفهوم‬
‫الصحيح لمعنى العبادة في شرايين المة حتى تخرج من الوهام‬
‫والمغالطات والخرافات التي ما أنزل الله بها من سلطان‪.‬‬
‫لقد ساد بين الناس مفاهيم خاطئة للعبادة‪ ,‬صرفت عقولهم‬
‫وقلوبهم وأعمالهم عن هذه الوظيفة التشريفية التي خلق الله‬
‫النسان من أجلها‪ ,‬وسخر له كل شيء في نفسه وفي الكون من‬
‫حوله‪ ,‬ليقوم بها وفق أمر خالقه‪ ,‬وعند تأمل القرآن الكريم‬
‫والسنة النبوية وما تحويه من أخبار وأوامر ونواه ووعد ووعيد‪ ,‬نجد‬
‫كلها تدور حول تقرير ألوهية الله سبحانه وتعالى وعبودية النسان‬
‫له‪.‬‬
‫فإذا كان خلق النسان وتسخير الكون له‪ ,‬وإيجاد العقل‬
‫والقلب والرادة فيه‪ ,‬وإرسال الرسل وإنزال الكتب وخلق الجنة‬
‫والنار‪ ,‬وقبيل ذلك وبعده ما تقتضيه صفات الباري ‪-‬جل وعل‪ -‬من‬
‫ما‪ ,‬خلق كل شيء‬ ‫ما علي ً‬
‫كونه في ذاته وأفعاله سبحانه وتعالى حكي ً‬
‫فقدره تقديًرا‪ ,‬ولم يخلق شيًئا عبًثا ولم يوجد شيًئا لغير حكمة‪,‬‬
‫وإذا كان القرآن المجيد‪ ,‬وما فيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد‬
‫جاء لجل هذه المهمة العظيمة‪ ,‬أل وهي تعبيد الخلق كلهم لله‬
‫سبحانه فكيف يصح حينئذ أن يتصور أن العبادة هي النية النقية‬
‫وحسب‪ ,‬أو أنها الشعائر التعبدية فقط‪ ,‬أو أنها لبعض نشاطات‬
‫النسان دون بعض‪ ,‬أو لبعض أفعاله وأحواله دون بعض‪.‬‬
‫بل إن دائرة العبادة التي خلق الله لها النسان‪ ,‬وجعلها غايته‬
‫في الحياة‪ ,‬ومهمته في الرض‪ ,‬دائرة رحبة واسعة‪ ,‬إنها تشمل‬
‫شئون النسان كلها‪ ,‬وتستوعب حياته جميًعا‪ ,‬وتستغرق كل‬
‫مناشطه وأعماله)‪ ,(2‬وبهذا المعنى الشامل‪ ,‬فهم السلف الصالح‬
‫دا كان أو جماعة‪ ,‬وقد لخص هذا المعنى الشامل‬ ‫عبادة النسان فر ً‬
‫للعبادة وحدد ماهيتها شيخ السلم ابن تيمية ‪-‬رحمه الله تعالى‪-‬‬
‫حين قال‪) :‬العبادة‪ :‬هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه‪ :‬من‬
‫القوال والعمال الباطنة والظاهرة‪ ,‬فالصلة والزكاة والصيام‬
‫والحج‪ ,‬وصدق الحديث‪ ,‬وأداء المانة‪ ,‬وبر الوالدين‪ ,‬وبر الوالدين‪,‬‬
‫وصلة الرحام‪ ,‬والوفاء بالعهود‪ ,‬والمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ,‬والجهاد للكفار والمنافقين‪ ,‬والحسان إلى الجار واليتامى‬
‫‪1‬‬
‫)( مدارج السالكين )‪.(1/517‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬العبادة في السلم للقرضاوي ص ‪.53‬‬

‫‪173‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والمسكين وابن السبيل والمملوك من الدميين والبهائم‪ ,‬والدعاء‬


‫والذكر والقراءة‪ ,‬وأمثال ذلك من العبادة‪ ,‬وكذلك حب الله‬
‫ورسوله وخشية الله والنابة إليه وإخلص الدين له‪ ,‬والصبر‬
‫لحكمه‪ ,‬والشكر لنعمه‪ ,‬والرضا بقضائه‪ ,‬والتوكل عليه‪ ,‬والرجاء‬
‫لرحمته‪ ,‬والخوف لعذابه‪ ,‬وأمثال ذلك هي من العبادة لله‪.(1) (..‬‬
‫وبهذا التعريف الجامع ل يمكن أن يخرج أي شيء من‬
‫نشاطات النسان وأعماله‪ ,‬سواء كان ذلك في العبادات المحضة‪,‬‬
‫أو في المعاملت المشروعة‪ ,‬أو في العادات التي طبع النسان‬
‫على فعلها‪.‬‬
‫أما في العبادات والمعاملت المشروعة فإنها مما يحبه الله‬
‫ويرضاه‪ ,‬وهذا أمره الشرعي الدائر بين الحكام الخمسة التي‬
‫اصطلح عليها الفقهاء وهي‪) :‬الواجب‪ ,‬والمحرم‪ ,‬والمستحب‪,‬‬
‫والمكروه‪ ,‬والمباح( أما في العادات فالذي لم يحدد منها بأوامر‬
‫الشرع‪ ,‬ولم يتقيد بأحكامه على وجه الخصوص‪ ,‬فإنه ل يخرج عن‬
‫كونه داخل ً تحت عمومات الشرع باعتبار عبودية النسان في كل‬
‫أحواله لله سبحانه‪ ,‬وباعتبار أن )العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه‬
‫ضا جاءت الشريعة بلزوم عادات‬ ‫الله‪ ,‬أو فيما يكرهه‪ ,‬فلهذا أي ً‬
‫السابقين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها إلى غيرها‬
‫من غير حاجة( )‪.(2‬‬
‫وإن كان ينبغي لنا هنا الشارة إلى أن الصل في العبادات‬
‫المحضة المنع حتى يرد ما يدل على مشروعيتها‪ ,‬وأن أصل‬
‫العادات العفو حتى يرد ما يدل على منعها‪ ,‬وذلك مبني على )أن‬
‫تصرفات العباد من القوال والفعال نوعان‪ :‬عبادات يصلح بها‬
‫دينه‪ ,‬وعادات يحتاجون إليها في دنياهم‪ ,‬فباستقراء أصول‬
‫الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله‪ ,‬أو أحبها ل يثبت المر‬
‫بها إل بالشرع‪ ,‬وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما‬
‫يحتاجون إليه‪ ,‬والصل فيه عدم الحظر‪ ,‬فل يحظر منه إل ما‬
‫حظره الله سبحانه وتعالى‪ ,‬وذلك لن المر والنهي هما شرع الله‪,‬‬
‫والعبادة لبد أن يكون مأموًرا بها‪ ,‬فما لم يثبت أنه مأمور به‪ ,‬كيف‬
‫يحكم عليه بأنه عبادة؟!‪.‬‬
‫وما لم يثبت من العبادات أنه منهي عنه‪ ,‬كيف يحكم عليه أنه‬
‫محظور؟ والعادات الصل فيها العفو‪ ,‬فل يحظر منها إل ما حرم(‬
‫)‪.(3‬‬
‫وهذا التقسيم في الحظر والباحة ل يخرج شيًئا من أفعال‬
‫‪1‬‬
‫)( مجموع الفتاوى )‪.(10/150‬‬
‫‪2‬‬
‫)( اقتضاء الصراط المستقيم )‪.(1/399‬‬
‫‪3‬‬
‫)( مجموع الفتاوى )‪.(117-29/116‬‬

‫‪174‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫النسان العادية من دائرة العبادة لله‪ ,‬ولكن ذلك يختلف في‬


‫درجته ما بين عبادة محضة وعادة مشوبة بالعبادة‪ ,‬وعادة تتحول‬
‫بالنية والقصد إلى عبادة‪ ,‬لن المباحات يؤجر عليها بالنية والقصد‬
‫الحسن إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة‪ ,‬أو المندوبة أو تكميل ً‬
‫لشيء منهما( )‪.(1‬‬
‫وقال النووي في شرحه لحديث »في بضع أحدكم‬
‫صدقة«)‪) :(2‬وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية‬
‫الصادقة( )‪.(3‬‬
‫ومن ذلك يتضح‪) :‬أن الدين كله داخل في العبادة‪ ,‬والدين‬
‫منهاج الله جاء ليسع الحياة كلها‪ ,‬وينظم جميع أمورها من أدب‬
‫الكل والشرب وقضاء الحاجة إلى بناء الدولة‪ ,‬وسياسة الحكم‪,‬‬
‫وسياسة المال‪ ,‬وشئون المعاملت والعقوبات‪ ,‬وأصول العلقات‬
‫الدولية في السلم والحرب‪.‬‬
‫إن الشعائر التعبدية من صلة‪ ,‬وصوم‪ ,‬وزكاة‪ ,‬لها أهميتها‬
‫ومكانتها ولكنها ليست العبادة كلها؛ بل هي جزء من العبادة التي‬
‫يريدها الله تعالى‪.‬‬
‫إن مقتضى العبادة المطالب بها النسان‪ ,‬أن يجعل المسلم‬
‫أقواله وأفعاله وتصرفاته وسلوكه وعلقاته مع الناس وفق المناهج‬
‫والوضاع التي جاءت بها الشريعة السلمية‪ ,‬يفعل ذلك طاعة لله‬
‫ما لمره‪.(4) (..‬‬ ‫واستسل ً‬
‫والدليل على المفهوم الشامل للعبادة‪ ,‬من الكتاب والسنة‬
‫وفعل الصحابة رضي الله عنهم‪ :‬فأما من القرآن الكريم فقوله‬
‫ن" ]الذاريات‪،[56:‬‬ ‫دو ِ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫س إ ِل ّ ل ِي َ ْ‬ ‫وال ِن ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ج ّ‬ ‫ت ال ْ ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬ ‫تعالى‪َ +ُ :‬‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫حا‬
‫َ ُ ْ َ ُ‬ ‫ب‬‫س‬ ‫و‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ِ َ ِ‬‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫دا‬‫ً‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ِ ً َ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫دوا‬ ‫ب‬
‫َ ْ ُ ُ‬ ‫ع‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫م ُ ُ ِ‬
‫إ‬ ‫روا‬ ‫ما أ ِ‬ ‫و َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫كي‬ ‫س ِ‬ ‫ون ُ ُ‬ ‫صلِتي َ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن" ]التوبة‪+ ,[31:‬قل إ ِ ّ‬ ‫ركو َ‬ ‫ْ‬
‫ما ي ُش ِ‬ ‫ع ّ‬ ‫َ‬
‫وب ِذَل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ُ َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ري‬ ‫ِ‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫عا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫لل‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫و‬‫َ َ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َُ‬
‫مُروا إ ِل ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫نا أ َ‬
‫ما أ ِ‬ ‫َ َ‬‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫‪,‬‬ ‫[‬‫‪163،162‬‬ ‫]النعام‪:‬‬ ‫"‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬‫ُ ْ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫أ ْ ُ َ‬
‫ت‬ ‫ر‬ ‫م‬
‫ِ‬
‫صل َ َ‬
‫ة‬ ‫موا ال ّ‬ ‫قي ُ‬ ‫وي ُ ِ‬ ‫فاءَ َ‬ ‫حن َ َ‬ ‫ن ُ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫صي َ‬ ‫خل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫دوا الل َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫ل ِي َ ْ‬
‫ة" ]البينة‪.[5:‬‬ ‫م ِ‬ ‫ن القي ّ َ‬‫َ‬ ‫وذَل ِك ِدي ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وي ُؤُتوا الّزكاةَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ومن السنة أحاديث كثيرة بعضها في عموم العادات بدون‬
‫تخصيص وبعضها الخر في أفراد السلوك العادي‪ ,‬وفي هذا الخير‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬حقيقة البدعة وأحكامها للغامدي )‪.(1/19‬‬
‫‪2‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب الزكاة‪ ,‬باب أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من‬
‫المعروف )‪.(1/697‬‬
‫‪3‬‬
‫)( شرح النووي مع مسلم‪ ,‬كتاب الزكاة‪ ,‬باب كل نوع من المعروف صدقة )‬
‫‪.(7/97‬‬
‫‪4‬‬
‫)( مقاصد المكلفين‪ ,‬د‪ .‬عمر الشقر ص ‪.47-46‬‬

‫‪175‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫دليل وتشبيه على المعنى العام المقصود إثباته هنا فمن ذلك‪:‬‬
‫قوله ×‪» :‬إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة‪ ,‬وهو يحتسبها‬
‫كانت له صدقة« )‪.(1‬‬
‫قوله ×‪» :‬كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم«)‪.(2‬‬
‫قوله ×‪» :‬دينار أنفقته في سبيل الله‪ ,‬ودينار أنفقته‬
‫في رقبة‪ ,‬ودينار تصدقت به على المسكين‪ ,‬ودينار‬
‫أنفقته على أهلك‪ ,‬أعظمها أجًرا الذي أنفقته على‬
‫أهلك« )‪.(3‬‬
‫سلمي من النا س عليه صدقة‪ ,‬كل يوم تطلع فيه‬ ‫وقال ×‪» :‬كل ُ‬
‫الشم س تعدل بين الثنين صدقة‪ ,‬وتعين الرجل على دابته فيحمل عليها‪,‬‬
‫أو ترفع له متاعه صدقة‪ ,‬والكلمة الطيبة صدقة‪ ,‬وكل خطوة تخطوها‬
‫إلى الصلة صدقة‪ ,‬ودل الطريق صدقة‪ ,‬وتميط الذى عن الطريق‬
‫صدقة«)‪.(4‬‬
‫وأما الستدلل على عموم العبادة وشمولها لحياة النسان‬
‫بفعل السلف وفهمهم ففيما روى البخاري في صحيحه عن أبي‬
‫بردة)‪ (5‬في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن‪ ,‬وفي آخره‬
‫قال أبو موسى لمعاذ‪ :‬فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال‪» :‬أنام أول‬
‫الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم فأقرأ ما كتب الله لي‪,‬‬
‫فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي«)‪ .(6‬وفي كلم معاذ رضي‬
‫الله عنه‪ ,‬دليل أن المباحات يؤجر عليها بالقصد والنية‪.‬‬
‫وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شئون الحياة كلها وكله‬
‫ما بالشروط التية‪:‬‬ ‫حرص على إتقانها لكونها عبادة لله تعالى ملتز ً‬
‫عا في نظر السلم‪ ,‬أما العمال‬ ‫‪ -1‬أن يكون العمل مشرو ً‬
‫التي ينكرها الدين‬
‫فل تكون عبادة بأي حال من الحوال‪ ,‬قال الرسول ×‪ ..» :‬إن‬
‫الله تعالى طيب ل يقبل‬

‫‪1‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬ما جاء أن العمال بالنيات )‪ (1/24‬رقم‬
‫‪.55‬‬
‫‪2‬‬
‫)( سلسلة الحاديث الصحيحة لللباني )‪.(3/22‬‬
‫‪3‬‬
‫)( رواه مسلم‪ ,‬كتاب الزكاة‪ ,‬باب‪ :‬النفقة على العيال والمملوك )‪.(1/191‬‬
‫‪4‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب الصلح‪ ,‬باب‪ :‬فضل الصلح بين الناس )‪ (3/227‬رقم‬
‫‪.2707‬‬
‫‪5‬‬
‫)( هو التابعي الثقة أبو بردة حارث‪ ,‬وقيل عامر بن أبي موسى عبد الله بن‬
‫قيس الشعري‪ ,‬ثقة كثير الحديث‪ ,‬تولى قضاء الكوفة للحجاج‪ ,‬ثم عزله‪ ,‬ت‬
‫‪107‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬سير أعلم النبلء )‪.(4/343‬‬
‫‪6‬‬
‫)( البخاري‪ ,‬كتاب المغازي‪ ,‬باب‪ :‬بعثة أبي موسى ومعاذ إلى اليمن )‪(5/156‬‬
‫رقم ‪.43،42‬‬

‫‪176‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫إل طيًبا‪.(1) «..‬‬


‫‪ -2‬أن تصحبه النية الصالحة‪ ,‬فينوي المسلم إعفاف نفسه‪,‬‬
‫وإغناء أسرته‪ ,‬ونفع أمته‪ ,‬وعمارة الرض كما أمره الله رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يؤدي العمل بإتقان وإحسان‪ ,‬قال النبي ×‪» :‬إن الله‬
‫كتب الحسان على‬
‫كل شيء‪.(2) «..‬‬
‫‪ -4‬أن يلتزم في عمله حدود الله تعالى‪ ,‬فل يظلم‪ ,‬ول يخون‪,‬‬
‫ول يغش‪ ,‬ول يجور‪.‬‬
‫)‪(3‬‬
‫‪ -َ 5‬أل يشغله عمله لمعاشه عن َواجباته الدينية َ ‪ .‬قال تعالى‪:‬‬
‫ن‬
‫ع ْ‬‫م َ‬‫ول َدُك ُ ْ‬
‫ول َ أ ْ‬‫م َ‬ ‫وال ُك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫هك ُُ ْ‬ ‫ْ‬
‫مُنوا ل َ ت ُل ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫ن"]المنافقون‪:‬‬ ‫سُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ْ‬
‫ف‬
‫ّ َ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ر الل‬ ‫كْ ِ‬ ‫ِذ‬
‫‪.[9‬‬
‫إن من أخطر النحرافات التي وقعت فيها الجيال المتأخرة‬
‫من المسلمين انحرافهم في تصور مفهوم معنى العبادة‪ ..‬وحين‬
‫يعقد النسان مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق الذي‬
‫كانت الجيال الولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة‪,‬‬
‫والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الجيال المعاصرة‪ ,‬ل‬
‫يستغرب كيف هوت هذه المة من عليائها لتصبح في هذا‬
‫الحضيض الذي نعيشه اليوم‪ ,‬وكيف هبطت من مقام الريادة‪,‬‬
‫والقيادة للبشرية كلها لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه المم‬
‫ب)‪.(4‬‬
‫ة الذئا ُ‬‫تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريس َ‬
‫إن من شروط التمكين أن يكون مفهوم العبادة في حس‬
‫الجيل‪ ,‬إن عبادة الله هي غاية الوجود النساني كله‪ ,‬ما نفهم من‬
‫ن"‬
‫دو ِ‬ ‫س إ ِل ّ ل ِي َ ْ‬
‫عب ُ ُ‬ ‫وال ِن ْ َ‬
‫ن َ‬ ‫ت ال ْ ِ‬
‫ج ّ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ق ُ‬ ‫ما َ‬
‫و َ‬
‫قول الله سبحانه‪َ + :‬‬
‫]الذاريات‪.[56:‬‬
‫لقد كان الجيل الول لهذه المة يفهم الحياة كلها على أنها‬
‫عبادة تشمل الصلة والنسك‪ ,‬وتشمل العمل كله‪ ,‬وتشمل لحظة‬
‫الترويح كذلك‪ ,‬فل شيء في حياة النسان كلها خارج من دائرة‬
‫العبادة‪ ,‬وإنما هي ساعة بعد ساعة في أنواع مختلفة من العبادة‪,‬‬
‫كلها عبادة وإن اختلفت أنواعها ومجالتها)‪.(5‬‬
‫‪1‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب الزكاة‪ ,‬باب‪ :‬قبول الصدقة من الكسب الطيب )‪.(2/703‬‬
‫‪2‬‬
‫)( مسلم شرح النووي‪ ,‬كتاب العبد‪ ,‬باب‪ :‬المر بإحسان الذبح )مجلد ‪ (5‬ج ‪,13‬‬
‫ص ‪.106‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬العبادة في السلم‪ ,‬د‪ .‬القرضاوي‪ ,‬ص ‪.63،62‬‬
‫‪4‬‬
‫)( انظر‪ :‬مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب‪ ,‬ص ‪.173‬‬
‫‪5‬‬
‫)( المصدر السابق نفسه‪ ,‬ص ‪.204-203‬‬

‫‪177‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وبهذا الفهم العميق لمفهوم العبادة حققت تلك المة في‬


‫سالف عهدها ما حققته من منجزات في كل اتجاه‪ ,‬فحين كانت‬
‫تمارس المة إيمانها الحق‪ ,‬وعبادتها الحقة‪ ,‬وكانت الخلق في‬
‫حسها جزًءا من العبادة المفروضة على المسلم‪ ,‬حدثت إنجازات‬
‫هائلة لم تتكرر في التاريخ‪ ,‬ففي أقل من نصف قرن امتد الفتح‬
‫السلمي من الهند شرًقا إلى المحيط غرًبا‪ ,‬وهي سرعة مذهلة ل‬
‫مثيل لها في التاريخ كله‪ ,‬ولم يكن الكسب هو الرض‬
‫التي فتحت‪ ,‬وإنما كان الكسب العظم هو القلوب التي اهتدت‬
‫جا)‪.(1‬‬
‫بنور الله فدخلت في دين الله أفوا ً‬
‫وما كانت تلك المة لتقدر على دك حصون الشرك‪ ,‬واقتلعها‬
‫بمثل هذه السهولة‪ ,‬وبمثل هذه السرعة‪ ,‬وما كانت لتقدر على‬
‫إبراز تلك المثل الرفيعة التي أبرزتها في عالم الواقع‪ ,‬من إقامة‬
‫العدل الرباني في الرض‪ ,‬ونظافة التعامل‪ ,‬والوفاء بالمواثيق‪,‬‬
‫وشجاعة النفس‪ ,‬والبطولة الفذة في ميدان الحرب والسلم‬
‫سواء‪ ,‬وما كانت لتقدر على إنشاء حركتها العلمية الضخمة‪ ,‬ول‬
‫حركتها الحضارية السامقة‪ ..‬ما كانت لتقدر على ذلك كله‪ ,‬ول‬
‫على شيء منه‪ ,‬لول هذا الحساس العميق لديها بأنها في ذلك كله‬
‫تقوم بالعبادة التي خلق الله النسان من أجلها وتقوم به بذات‬
‫الحس الذي تؤدي به الصلة)‪.(2‬‬
‫ما وعمل ً عند الجيال المسلمة‬ ‫هكذا كانت العبادة تصوًرا وفه ً‬
‫الولى)‪ ,(3‬ولن يصلح آخر هذه المة إل بما صلح به أولها؛ تصحيح‬
‫ل‪ ,‬ثم إقامة بناء جديد على المفاهيم الصحيحة‬ ‫المفاهيم أو ً‬
‫للسلم)‪.(4‬‬
‫إن قضية العبادة ليست قضية شعائر‪ ,‬وإنما هي قضية دينونة‬
‫واتباع‪ ,‬وإنها لذلك استحقت كل هذه الرسل والرسالت‪ ,‬وكل هذا‬
‫الهتمام)‪.(5‬‬
‫وحتى تستحق المة السلمية اليوم وعد الله بالتمكين فإن‬
‫عليها أن تصيغ حياتها كلها صياغة جديدة على منهج الله رب‬
‫العالمين‪ ,‬لتصبح كلها عبادة من لحظة التكليف إلى لحظة الموت‪,‬‬
‫ل تند ّ عنها لحظة واحدة من لحظات الوعي‪ ,‬ول لمحة‪ ,‬ول خاطر‪,‬‬
‫ول لون من ألوان النشاط)‪ ,(6‬امتثال ً وتحقي ً‬
‫قا لقول الله تعالى‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫المصدر السابق نفسه‪ ,‬ص ‪.222‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫انظر‪ :‬مفاهيم ينبغي أن تصحح‪ ,‬ص ‪.192‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ,‬ص ‪.59‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫انظر‪ :‬مفاهيم ينبغي أن تصحح‪ ,‬ص ‪.251-250‬‬ ‫)(‬
‫‪5‬‬
‫انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(4/1943‬‬ ‫)(‬
‫‪6‬‬
‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ,‬ص ‪.59‬‬ ‫)(‬

‫‪178‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫ب‬‫ه َر ّ‬ ‫ماِتي لل ِ‬ ‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫ي َ‬ ‫حَيا َ‬‫م ْ‬


‫و َ‬
‫كي َ‬ ‫س ِ‬‫ون ُ ُ‬ ‫صل َِتي َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫ق ْ‬ ‫‪ُ +‬‬
‫ن" ]النعام‪.[162:‬‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫عال ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫إن من أسباب ضياع المة وضعفها‪ ,‬وانهزامها أمام أعدائها‬
‫فقدها لشرط مهم من شروط التمكين أل وهو تحقيق العبودية‬
‫بمفهومها الشامل الصحيح‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬أهمية الجانب العبادي في حياة النسان‪:‬‬
‫إن العبادات التي سنها الله لنا ذات تأثير شامل مشرق‪ ,‬ولها‬
‫أخطر المهمات في تمكين الحقائق العليا للرسالت اللهية‪,‬‬
‫وتحقيق الفطرة النسانية على وجهها الصحيح المستقيم‪ ,‬طالما‬
‫تمثلت فيها عناصر الحب والذل‪ ,‬والرجاء والخوف ونحوها‪ ,‬ومعلوم‬
‫دا أصلًيا‪ ,‬وهو التوجه إلى الواحد‬ ‫لدى العلماء أن للعبادة مقص ً‬
‫الصمد‪ ,‬وإفراده بالعبادة في كل حال‪ ,‬طلًبا لرضا الله‪ ,‬والفوز‬
‫بالدرجات العل‪ ,‬وهناك مقاصد تابعة للعبادة‪ :‬صلح النفس‪,‬‬
‫واكتساب الفضيلة‪ ,‬فالصلة مثل ً أصل مشروعيتها الخضوع لله‬
‫تعالى‪ ,‬وإخلص التوجه إليه‪ ,‬والنتصاب على قدم الذلة والصغار‬
‫صل َ َ‬
‫ة‬ ‫قم ِ ال ّ‬ ‫وأ َ ِ‬‫بين يديه‪ ,‬وتذكير النفس بذكره‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ء‬
‫شا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫هى‬ ‫صل َةَ ت َن ْ َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫وقال‪+ :‬إ ِ ّ‬ ‫ري" ]طه‪,[14:‬‬ ‫ذ ْك ْ ِ‬‫لِ ِ‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه أكب َُر" ]العنكبوت‪ [45:‬يعني أن اشتمال‬ ‫ذكُر الل ِ‬‫ول ِ‬ ‫ر َ‬ ‫من ْك ِ‬ ‫وال ُ‬ ‫َ‬
‫الصلة على التذكير بالله هو المقصود الصلي‪ ,‬ثم إن لها مقاصد‬
‫تابعة كالستراحة إليها من أنكاد الدنيا وإنجاح الحاجات كصلة‬
‫الستخارة وصلة الحاجة‪ ,‬وكذلك سائر العبادات لها فوائد أخروية‬
‫وهي العامة‪ ,‬وفوائد دنيوية وهي كلها تابعة للفائدة الصلية وهي‬
‫النقياد والخضوع لله)‪.(1‬‬
‫وإذا تأملنا في مهمة العبادة يمكننا أن نستخلص‬
‫التي‪:‬‬
‫‪ -1‬تثبيت العتقاد‪:‬‬
‫إن روح العبادة هو إشراب القلب حب الله تعالى‪ ,‬وهيبته‪,‬‬
‫ما بما‬
‫وخشيته والشعور الغامر بأنه رب الكون ومليكه‪ ,‬والتوجه دائ ً‬
‫شرع من شعائر ونسك‪ ,‬باعتبارها مظهًرا عملًيا دائًبا لصدق‬
‫النسان في دعوى اليمان‪ ,‬وتذكيًرا مستمًرا بسلطان الله العلى‪,‬‬
‫دا لجذوة اليقين في الله‪ ,‬ورجاء فضله وثوابه‪.‬‬ ‫وإلهاًبا متجد ً‬
‫ولنأخذ مثال ً عبادًيا لتثبيت معنى التوحيد‪ ,‬وإجلل الله تعالى‪,‬‬
‫وهو )الذان( وقد شرع بدخول أوقات الصلة المفروضة‪ ,‬فهو‬
‫يتكرر في اليوم والليلة خمس مرات‪ ,‬وينادي به منادي المسلمين‬
‫صوًتا في كل مكان يوجد به تجمع إسلمي‪ ,‬ولو كان أدنى الجمع‬
‫من المسلمين‪ ,‬بل شرع مع ذلك للمسافر‪ ,‬والمنفرد‪ ,‬ولو كان في‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬العبادة في السلم للقرضاوي‪.49-48 :‬‬

‫‪179‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ن عظيمة ليس مجرد العلم بدخول‬ ‫بادية لما يمثله من معا ٍ‬


‫الوقت‪.‬‬
‫إن المؤذن حين ينادي بصوته العلى‪) :‬الله أكبر الله أكبر( ثم‬
‫عا أن يردده معه كل مسلم ومسلمة حين‬ ‫يكررها‪ ,‬يطلب شر ً‬
‫يسمعون هذا القول الجل‪ ,‬لينسكب في مشاعر الجميع وفي‬
‫أوقات متكررة متقاربة‪ ,‬معنى الكبرياء المطلق لله رب العالمين‪,‬‬
‫وأنه تعالى فوق كل شيء وأكبر من كل شيء‪ ,‬فينبغي أن يعتز به‬
‫وحده‪ ,‬ويلوذ بحماه وكنفه‪ ,‬ويستعلي فوق أعناق الطواغيت‬
‫والجبارين بهذا النداء الجهير‪ ,‬الذي أراد الله عز وجل أن يتواطأ‬
‫عليه المجتمع كله‪ ,‬وأن يظل حتى المنفرد على صلة دائمة به‪.‬‬
‫فإذا تقرر هذا المعنى عاد النداء الجل ليمل الفاق‪) :‬أشهد أن‬
‫ل إله إل الله( وهو تذكير يومي بالعهد والميثاق الذي أعطاه العبد‬
‫لربه بأن ل يعبد ول يطيع إل ربه الكبر‪ ,‬المنفرد بالكبرياء في‬
‫السموات والرض‪.‬‬
‫دا رسول‬ ‫ثم يأتي الشق الثاني من الشهادة‪) :‬أشهد أن محم ً‬
‫ضا بالطريق الذي تؤخذ عنه‬ ‫الله( وهو كما علمت إقرار متكرر أي ً‬
‫العبادة المشروعة‪ ,‬والتي ل تصح إل بالتلقي عن الوحي اللهي‬
‫الذي جاء به المعصوم ×‪.‬‬
‫ثم تأتي رابًعا‪ :‬الدعوة إلى الصلة نفسها في جملتين فقط‪:‬‬
‫)حي على الصلة‪ ,‬حي على الصلة( لن الذان كما قلنا أبعد مدى‪,‬‬
‫وأشمل آثاًرا‪.‬‬
‫سا‪ :‬الدعوة العامة إلى الصلح المطلق‪ ,‬المتمثل‬ ‫ثم تأتي خام ً‬
‫في الستجابة لهذا الدين اللهي الغر‪ ,‬ومثله وتعاليمه‪ ,‬وفي‬
‫مقدمتها الصلة بداهة)‪.(1‬‬
‫ولذلك يعود الشارع بالمؤذن إلى نقطة البدء ليكبر في الختام‬
‫التأكيد على تفرده تعالى بالكبرياء‪ ,‬وإعلن التوحيد بصيغة القرار‬
‫والثبات بعد صيغة الشهادة السابقة )الله أكبر‪ ,‬الله أكبر‪ ,‬ل إله إل‬
‫الله( معنى هذا أن الذان وحده يجري على ألسنة المؤمنين‪,‬‬
‫ويسكب في ضمائرهم‪ ,‬ويغرس في حياتهم ووجدانهم إفراد الله‬
‫تعالى بالكبرياء )ثلثين( مرة يومًيا‪ ,‬وإفراده تعالى بصفة اللوهية‬
‫الذي تفرده بالعبادة والطاعة »خمس عشرة« مرة‪ ,‬وهو نداء ل‬
‫يتقيد بحدود معبد‪ ,‬أو مسجد‪ ,‬وإنما ينطلق ليدخل كل بيت‪,‬‬
‫ويصافح كل سمع‪ ,‬ويطرق كل قلب يريد الهدى‪.‬‬
‫وإذا كان هذا هدف الوسيلة في تقرير الصول العليا فإن القصد‬
‫را‪ ,‬فقد فرضها‬ ‫نا‪ ,‬وأتم مظه ً‬
‫الذي تؤدي إليه )وهي الصلة( أعظم شأ ً‬
‫‪1‬‬
‫)( وسطية القرآن في العبادة والخلق والتشريع‪ ,‬ص ‪.40‬‬

‫‪180‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الله على كل بالغ من الذكور والناث خمس مرات في اليوم والليلة‪,‬‬


‫وهي تبدأ بالتكبير ويطلب من المصلي تكرار هذه الجملة )الله أكبر(‬
‫عا ًوتسعين مرة( عدا ما يقرع سمعه‬ ‫في صلوات الفرض فقط )أرب‬
‫بعددها من صلوات إمامه إذا صلى جماعة‪ ,‬فضل ًعن السنن الراتبة‬
‫والنوافل المطلقة وهي أضعاف ذلك‪.‬‬
‫عا‪,‬‬‫ثم إن العبد يتلو كتاب ربه في صلته‪ ,‬ويحني له ظهره راك ً‬
‫دا‪ ,‬وداعًيا‪,‬‬ ‫حا‪ ,‬وحام ً‬ ‫ما‪ ,‬ومسب ً‬ ‫دا‪ ,‬ويناجي موله معظ ً‬ ‫ويخر بجبهته ساج ً‬
‫وليس هناك في الوجود أسمى وأجل من هذه الشعيرة في ربط العبد‬
‫بهذا السلطان اللهي‪ ,‬وإلهاب نفسه بمعاني عظمته وسموه)‪.(1‬‬
‫إن الصلة عندما تؤخذ على وجهها الصحيح ‪-‬واحة وراحة‪-‬‬
‫يسكن إلى ظلها المؤمن كلما مسه تعب الحياة ولغوبها‪ ,‬وهذا‬
‫عا ‪ ‬إ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫هُلو ً‬‫ق َ‬‫خل ِ َ‬ ‫ن ُ‬‫سا َ‬ ‫ن ال ِن ْ َ‬ ‫مصداق قول الله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫عا ‪ ‬إ ِل ّ‬‫مُنو ً‬ ‫خي ُْر َ‬ ‫ْ‬
‫ه ال َ‬ ‫س ُ‬ ‫م ّ‬
‫ذا َ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫عا ‪َ ‬‬‫جُزو ً‬ ‫شّر َ‬‫ه ال ّ‬ ‫س ُ‬
‫م ّ‬ ‫َ‬
‫ن" ]المعارج‪-19 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫دا‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ِ ْ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ص‬‫َ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ذي‬‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫لي‬ ‫ص‬
‫ا ُ َ‬
‫م‬‫ْ‬ ‫ل‬
‫‪.[23‬‬
‫‪ -2‬تثبيت القيم الخلقية‪:‬‬
‫فقد جاء المنهاج الرباني في العبادة ليتمم مكارم الخلق‪,‬‬
‫ويدعو الناس إلى المثل العليا‪ ,‬والفضائل الكريمة كالصبر‪,‬‬
‫والمثابرة‪ ,‬والسماحة‪ ,‬والسخاء‪ ,‬والصدق‪ ,‬والتي تحقق للنسان‬
‫سعادته في الدنيا فضل ً عن الخرة‪ ,‬وللعبادات بأنواعها مهمة‬
‫عظيمة في تثبيت هذه الخلق‪ ,‬وتدعيمها‪ ,‬وغرسها في نفس‬
‫المؤمن ووجدانه‪) ,‬فالصلة( مثل ً تعود المؤمن الصبر‪ ,‬والدأب‪,‬‬
‫خا في النفس‪,‬‬ ‫قا راس ً‬ ‫والخلص والنظام‪ ,‬حتى تصبح جميًعا خل ً‬
‫فالمسلم النائم حين يقوم من لذة النوم على نداء المؤذن‬
‫»الصلة خير من النوم«‪ ,‬وكذلك حين ينسحب من ضجيج السواق‬
‫والبيع والشراء ملبًيا لنداء »حي على الصلة«‪ ,‬ثم ل يزال دأبه‬
‫هكذا عبر الساعات‪ ,‬واليام‪ ,‬والعوام‪ ,‬فهذا وأمثاله لبد أن تتربى‬
‫فيهم هذه المعاني الخلقية العالية)‪.(2‬‬
‫و)الزكاة( التي أخذت من معنى الزيادة‪ ,‬والنماء‪ ,‬والتطهير‪ ,‬لها‬
‫‪-‬هي الخرى‪ -‬أكبر الثر في تنقية الخلق من زخم الشح والبخل‬
‫والمساك‪ ,‬وفي طبعه بطبائع البذل‪ ,‬والعطاء والسخاء‪ ,‬كذلك‬
‫تستل صدور المحتاجين‪ ,‬وتبدل به شيًئا من خلق الحب‪ ,‬والمودة‪,‬‬
‫أو على القل سلمة الصدور‪ ,‬فتشيع في المجتمع تبًعا لذلك كل‬
‫الناس بمشاعر اللفة‪,‬‬ ‫صلتمن أ َ‬ ‫علئق التداني والتقارب‪ ,‬وتتداخل‬
‫ة‬ ‫صد َ َ‬
‫ق ً‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ل‬
‫ْ َ ِ ْ َ‬‫وا‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫‪+‬‬ ‫وإلى مثل هذا يشير قوله تعالى‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬المنهاج القرآني في التشريع‪ ,‬ص ‪.458‬‬
‫‪2‬‬
‫)( وسطية القرآن في العبادة والخلق والتشريع‪ ,‬ص ‪.42‬‬

‫‪181‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫سك َ ٌ‬
‫ن‬ ‫ك َ‬‫صل َت َ َ‬
‫ن َ‬
‫م إِ ّ‬
‫ه ْ‬ ‫ل َ َ‬
‫ص ّ‬ ‫وت َُز ّ‬ ‫ت ُطَ ّ‬
‫علي ْ ِ‬ ‫و َ‬
‫ها َ‬
‫م بِ َ‬
‫ه ْ‬
‫كي ِ‬ ‫م َ‬
‫ه ْ‬
‫هُر ُ‬
‫م" ]التوبة‪.[103 :‬‬ ‫لّ ُ‬
‫ه ْ‬
‫و)الصوم( له عمله الساسي في تربية الرادة النسانية‪,‬‬
‫والضمير الحي اليقظ الذي يتعامل على أساس من رقابة الله‬
‫تعالى له‪ ,‬واطلعه عليه‪ ,‬فضل ً عن غرس خليقة الصبر‪ ,‬والضبط‬
‫النفسي بالمساك الطويل عن شهوتي البطن والفرج وبالكف عن‬
‫اللغو‪ ,‬والصخب‪ ,‬والقدرة على تغيير عاداته حتى ل يتعود الجمود‪,‬‬
‫أوتستعبده‬
‫)‪(1‬‬
‫عاداته وتقاليده ‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬إصلح الجانب الجتماعي‪:‬‬
‫ويظهر ذلك في الصلة ودورها في إيجاد العلقات الجتماعية‪,‬‬
‫وذلك واضح في الحكمة من صلة الجماعة‪ ,‬لن اجتماع المسلمين‬
‫راغبين في الله‪ ,‬راجين‪ ,‬راهبين‪ ,‬مسلمين وجوههم إليه خاصية‬
‫عجيبة في نزول البركات‪ ,‬وتدلي الرحمة‪ ,‬فيحدث التعاون‪,‬‬
‫والتعارف‪ ,‬والوحدة والجتماع على الخير‪.‬‬
‫ثم تأتي صلة الجمعة‪ :‬فتجمع أهل الحي على هيئة جامعة أكثر‬
‫من ذلك في كل يوم جمعة‪ ,‬حيث شرع الله لنا خطبتها تذكيًرا‬
‫ما للمسلمين بما يصلح دينهم ودنياهم‪ ,‬كحد أدنى للتثقيف‬ ‫وتعلي ً‬
‫العام في أمور الدين‪ ,‬ثم تأتي صلة العيد‪ ,‬فتجمع أهل المدينة‬
‫كلها مرتين في السنة في عيد الفطر والضحى‪ ,‬يخرجن البكار‬
‫والعواتق)‪ ,(2‬بل والحيض يشهدن الخير ودعوة المسلمين‪ ,‬ويعتزلن‬
‫)‪(3‬‬
‫المصلى كما جاء في الحديث الصحيح الذي ترويه أم عطية‬
‫)‪(4‬‬
‫رضي الله عنها قالت‪» :‬أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور« ‪.‬‬
‫)‪(5‬‬

‫هذا عدا ما شرعه الله تعالى لنا من صلوات جامعة في‬


‫مناسبات شتى‪ ,‬كالستسقاء والخسوف والكسوف والجنائز‪,‬‬
‫والتراويح في رمضان‪ ,‬إن الصلة ‪-‬لو وعى المسلمون حقيقتها‪-‬‬
‫لهي توجيه وتنظيم اجتماعي كامل‪ ,‬يتمثل فيه المجتمع الكبير‪,‬‬
‫وبقدر ما يحسن المسلمون هذه الصلة‪ ,‬وما تعنيه من معان‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬المنهاج القرآني في التشريع‪ ,‬ص ‪.460‬‬
‫‪2‬‬
‫)( العواتق‪ :‬جمع عاتقة وهي التي عتقت من الخدمة أو من قهر أبويها‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫)( هي نسيبة بنت الحارث وقيل بنت كعب من فقهاء الصحابة ت ‪70‬هـ‪ ,‬انظر‪:‬‬
‫سير أعلم النبلء )‪.(2/318‬‬
‫‪4‬‬
‫)( ذوات الخدور‪ :‬الستور‪.‬‬
‫‪5‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب العيدين‪ ,‬باب‪ :‬خروج النساء والحيض إلى المصلى )‬
‫‪.(2/9‬‬

‫‪182‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وتوجيهات‪ ,‬بقدر ما يرجى لهم إحسان الحياة في اجتماعاتهم‪ ,‬ول‬


‫فرق في هذا المنهاج بين المسجد والمجتمع‪ ,‬فكلهما تجمع يجب‬
‫أن يخضع لدين الله وتعاليمه)‪.(1‬‬
‫أما الزكاة‪ :‬في حقيقتها واجب مالي يؤخذ من الغنياء ليرد‬
‫على الفقراء وذوي الحاجة من الغارمين والرقاء وغيرهم‪ ,‬وهي‬
‫ضا للتعاون الجتماعي‪,‬‬ ‫بذلك تمثل الحد الدنى المفروض فر ً‬
‫والتكافل القتصادي بين أبناء المة الواحدة‪ ,‬لذلك جعل الله تعالى‬
‫معظم مصارفها اجتماعية بحتة‪ ,‬بأوسع المدلولت الجتماعية في‬
‫القديم أو الحديث على السواء‪ ,‬وكما جاءت صلة العيد لتوسع‬
‫ضا »زكاة الفطر« لتوسع‬ ‫دائرة الجتماع في الصلة‪ ,‬تأتي هنا أي ً‬
‫قاعدة التكافل والتعاون إلى أقصى حد‪.‬‬
‫أما الثر الجتماعي لفريضة )الحج( فواسع شامل‪ ,‬ول زالت‬
‫آثاره تظهر كل يوم بجديد من حكمة الله تعالى في تشريعه‪ ,‬وقد‬
‫الكريم إلى كثير من ذلك‪ ,‬قال تعالى‪+َ :‬ل َي ْ َ‬
‫س‬ ‫القرآنح َ‬ ‫أشار‬
‫ن‬
‫ّ ْ‬ ‫م‬ ‫تم‬ ‫ُ‬ ‫ض‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫ّ ّ ْ‬ ‫ك‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ض‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫غوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫ٌ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫عل َي ْ ْ ُ‬
‫ج‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫رام ِ" ]البقرة‪.[198 :‬‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫ر ال َ‬ ‫ع ِ‬‫مش َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫عن ْدَ ال َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ت فاذكُروا الل َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫عَرفا ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫روى البخاري بسنده عن ابن عباس قال‪) :‬كانت عكاظ‪,‬‬
‫ومجنة‪ ,‬وذو المجاز أسواًقا في الجاهلية‪ ,‬فتأتموا أن يتجروا في‬
‫م‬‫عل َي ْك ُ ْ‬ ‫س َ‬ ‫فسألوا‪ (2‬رسول الله فنزلت َالية‪+ :‬ل َي ْ َ‬ ‫موسم الحج‪,‬‬
‫ج‬
‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫س ِبال َ‬ ‫ّ‬ ‫)‬
‫في الّنا ِ‬ ‫ُ‬
‫وأذن ِ‬ ‫ح" ]البقرة‪ , [َ 198 :‬وقال تعالى‪َ +ْ :‬‬
‫ُ‬
‫ج َْنا ٌ‬ ‫ُ‬
‫ق ‪‬‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ي‬ ‫عم‬ ‫َ‬ ‫ج‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ك‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫تي‬‫ِ‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫ر‬
‫ٍ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ضا‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ك‬ ‫لى‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫جا‬ ‫َ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫تو‬‫ُ‬ ‫أ‬ ‫يَ‬
‫ه" ]الحج‪.[28،27:‬‬ ‫م الل ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫س‬ ‫ا‬ ‫روا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫ي‬‫و‬
‫َ ُ ْ َ َ‬‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫دوا‬ ‫َ ُ‬ ‫ه‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫لِ َ‬
‫ي‬
‫والمنافع المشهودة كلمة جامعة تشمل المنافع الروحية‬
‫والمادية والجتماعية والسياسية والثقافية‪ ,‬والقتصادية وسائر ما‬
‫يطلق عليه اسم )المنفعة(‪ ,‬وقد جعلت غاية من غايات الحج‬
‫وتقديمها على ذكر الله تعالى إيذان ببالغ أهميتها في مراتب‬
‫المنافع والحكم الشرعية‪ ,‬وإن من أعظم هذه الفوائد جمع‬
‫أطراف المة المسلمة كل عام‪ ,‬وما يحققه من استنفار جزء من‬
‫كل إقليم سنوًيا ليركبوا الخطار والسفار‪ ,‬ويقطعوا السهول‬
‫والقفار‪ ,‬أو يمتطوا الجواء والبحار‪ ,‬ويتركوا الولد والهل والديار‬
‫فيجتمع المسلمون من أطراف الرض‪ ,‬ويلتقي الشرقي‬
‫بالمغربي‪ ,‬والمصري بالهندي‪ ,‬في مؤتمر جامع‪ ,‬ورحلة مباركة‪,‬‬
‫وليحققوا عملًيا دعوة القرآن بالسير في الرض‪ ,‬والسياحة في‬
‫الفاق‪ ,‬ومطالعة المشاهد المقدسة‪ ,‬ومنازل الوحي‪ ,‬وآثار النبوة‬
‫منذ أبي النبياء إبراهيم إلى خاتمهم محمد × ثم مدارج الصحابة‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬المنهاج القرآني في التشريع‪.462 :‬‬
‫‪2‬‬
‫)( رواه البخاري‪ ,‬كتاب التفسير‪ ,‬باب‪ :‬ليس عليكم جناح )‪ (5/186‬رقم ‪.4519‬‬

‫‪183‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫رضي الله عنهم‪ ,‬التي تهب على المسلمين منها روح الخلص‪,‬‬
‫والبذل‪ ,‬والعطاء والنقياد المطلق لمر الله عز وجل)‪.(1‬‬
‫دا‪,‬‬
‫ومن ناحية أخرى فالحج نظام يوجب على الجميع زًيا واح ً‬
‫وحركة واحدة‪ ,‬وكلمة واحدة‪ ,‬وطاعة واحدة‪ .‬وبتثبيت العتقاد‪,‬‬
‫والخلق وإصلح الجتماع تأخذ العبادات السلمية دورها العظيم‬
‫في بناء الحياة النسانية على أرفع القواعد‪ ,‬وأنبل الغايات‪,‬‬
‫وأكرمها وأطهرها‪ ,‬وتأخذ بالنسان إلى أفق أرفع من التراب‬
‫والطين‪ ,‬ومتاع الحياة الفانية‪ ,‬حيث تربطه بالحي الباقي‪ ,‬وبالنعيم‬
‫الخالد‪ ,‬فهي غسيل مستمر لدران المادة‪ ,‬وتهذيب لطغيانها‪,‬‬
‫وعبادات السلم تقوم في أساسها على مراعاة الرقابة اللهية‪,‬‬
‫وابتغاء الخرة‪ ,‬دون واسطة بين العبد وربه في العبادات كلها‬
‫وتحرر النسان من عبودية الكهنوت وطقوسها ورسومها)‪.(2‬‬
‫ما بالًغا ببيان حقيقة العبودية‬
‫إن القرآن الكريم اهتم اهتما ً‬
‫ودعوة الناس إلى تحقيقها كما ينبغي‪ ,‬كما ب ّّين شروط قبول‬
‫العبادة وأمر المسلمين باللتزام بها‪ ,‬ووجه الناس إلى مفاهيم‬
‫أصيلة في العبودية وحذرهم من الشرك ومن النحراف عن معنى‬
‫العبودية الصحيح‪ ,‬كما أشار إلى أهمية الجانب العبادي في حياة‬
‫الناس في تثبيت العتقاد‪ ,‬وتأسيس القيم والخلق وزرعها‬
‫وغرسها في نفوس المؤمنين‪ ,‬كما اهتم ببيان الجانب العبادي في‬
‫إصلح النواحي الجتماعية‪ ,‬وركز القرآن في توجيهاته الكريمة في‬
‫مجال العبادة على إفراد الله وحده في العبادة وتحرير العبادة من‬
‫رق الكهنوت‪ ,‬واهتم بمسألة التوازن بين الروح والجسد‪ ,‬وفتح‬
‫مجال الرخص والتخفيضات في العبادة‪ ,‬هذا كله من أجل أن‬
‫تحقق المة عبوديتها لخالقها سبحانه وتعالى من أيسر الطرق‬
‫وأسهل السبل وأخف التكاليف‪ ,‬وجعل طريق تحقيق العبودية‬
‫طا من شروط التمكين لهذه المة العظيمة‪.‬‬ ‫شر ً‬
‫إن تقرير حقيقة العبودية في حياة الناس يصحح تصوراتهم‬
‫ومشاعرهم‪ ,‬كما يصحح حياتهم وأوضاعهم‪ ,‬فل يمكن أن تستقر‬
‫التصورات والمشاعر‪ ,‬ول أن تستقر الحياة والوضاع‪ ,‬على أساس‬
‫سليم قويم‪ ,‬إل بهذه المعرفة وما يتبعها من إقرار‪ ,‬وما يتبع القرار‬
‫من آثار عندما تستقر هذه الحقيقة بجوانبها في نفوس الناس‬
‫وفي حياتهم يلتزمون بمنهجه وشريعته ويستشعرون العزة أمام‬
‫المتجبرين والطغاة‪ ,‬حين يخرون لله راكعين ساجدين يذكرونه ول‬
‫دا إل الله تصلح حياتهم وترقى وتكرم على‬ ‫يذكرون أح ً‬
‫هذا الساس‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬المنهاج القرآني في التشريع‪.465 :‬‬
‫‪2‬‬
‫)( المصدر نفسه‪.468 :‬‬

‫‪184‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫إن استقرار هذه الحقيقة الكبيرة في نفوس المسلمين وتعليق‬


‫أنظارهم بالله وحده‪ ,‬وتعليق قلوبهم برضاه‪ ,‬وأعمالهم بتقواه‪,‬‬
‫ونظام حياتهم بإذنه وشرعه ومنهجه دون سواه‪ ..‬في هذه الحياة‪..‬‬
‫فأما ما يجزي الله به المؤمنين المقربين بالعبودية العاملين‬
‫للصالحات في الخرة‪ ,‬فهو كرم منه وفضل في حقيقة المر‬
‫وفيض من عطاء الله)‪.(3‬‬
‫إن الذين يستنكفون عن عبودية الله‪ ,‬يذلون لعبوديات من هذه‬
‫الرض ل تنتهي‪.‬‬
‫يذلون لعبودية الهوى والشهوة‪ ,‬أو عبودية الوهم والخرافة‪,‬‬
‫ويذلون لعبودية البشر من أمثالهم‪ ,‬ويحنون لهم الجباه‪ ..‬ويحكمون‬
‫في حياتهم وأنظمتهم وشرائعهم وقوانينهم وقيمهم وموازينهم‬
‫دا من البشر هم وهم سواء أمام الله‪.‬‬ ‫عبي ً‬
‫***‬

‫‪3‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(2/820‬‬

‫‪185‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثالث‬
‫محاربــــــــــة الشـــــــرك‬
‫ومن شروط التمكين المهمة؛ محاربة الشرك بجميع أشكاله‬
‫وأنواعه؛ ولذلك على الجماعة المسلمة والتي تسعى لتحكيم شرع‬
‫الله تعالى أن تعرف حقيقة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلنه‬
‫وأنواعه وأن تنقي صفها منه بجميع الساليب الشرعية‪ ,‬ول يمكن‬
‫للنسان أن يحذر من الشرك وأن يحذر غيره إل إذا عرفه وعرف‬
‫خطره‪.‬‬
‫ومعرفة الشرك وما يتعلق به له فوائد عديدة‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن النسان يمكنه بمعرفة الشرك أن يحذر من الوقوع‬
‫فيه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه يمكنه أن يحذر غيره‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه يظهر له بذلك حسن السلم والتوحيد‪ ,‬وذلك أنه‬
‫إذا عرف الشرك وظهر له بطلنه‪ ,‬عرف أن ضده وهو التوحيد‬
‫أفضل العمال‪ ,‬وبضدها تتميز الشياء إلى غير ذلك من الفوائد‪.‬‬
‫ولهذه السباب وغيرها فقد اهتم الدعاة الصادقون والعلماء‬
‫المخلصون والقادة الربانيون ببيان الشرك وأقسامه وأسبابه‬
‫وخطره وجميع ما يتعلق به‪ ,‬وبينوا أن تحقيق اليمان الصحيح ل‬
‫يتم ول يقبل من صاحبه إل بترك الشرك والبعد عنه‪.‬‬
‫يقول الشيخ السعدي ‪-‬رحمه الله‪) :-‬ول يتم توحيد العبادة حتى‬
‫يخلص العبد لله في جميع إرادته وأقواله وأفعاله‪ ,‬وحتى يدع‬
‫عا‬
‫الشرك الكبر المنافي للتوحيد كل المنافاة‪ ,‬وهو أن يصرف نو ً‬
‫من العبادة لغير الله تعالى‪ ,‬وتحقيق هذا التوحيد وتمامه أن يدع‬
‫الشرك الصغر وهو‪ :‬كل وسيلة يتوسل بها إلى الشرك الكبر‬
‫كالحلف بغير الله‪ ,‬ويسير‬
‫الرياء ونحو ذلك( )‪.(1‬‬
‫أما حقيقة الشرك بالله‪) :‬أن يعبد المخلوق كما يعبد الله‪ ,‬أو‬
‫يعظم كما يعظم الله‪ ,‬أو يصرف له نوع من خصائص الربوبية‬
‫واللوهية( )‪.(2‬‬
‫أما أقسام الشرك فقسمه العلماء إلى نوعين‪ :‬شرك في‬
‫الربوبية‪ ,‬وشرك في اللوهية قال السعدي ‪-‬رحمه الله‪) :-‬الشرك‬
‫‪1‬‬
‫)( الفتاوى السعدية للعلمة عبد الرحمن السعدي‪ ,‬ص ‪.13‬‬
‫‪2‬‬
‫)( الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة لعبد الرزاق العباد‪,‬‬
‫ص ‪.178‬‬

‫‪186‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫قا‬
‫نوعان‪ :‬شرك في ربوبيته تعالى كشرك الثانوية الذين يثبتون خال ً‬
‫مع الله‪ ,‬وشرك في ألوهيته‪ ,‬كشرك المشركين الذين يعبدون الله‬
‫ويعبدون غيره ويشركون بينه وبين المخلوقين‪ ,‬ويسوونهم مع الله‬
‫في خصائص ألوهيته( )‪.(1‬‬
‫لقد وردت النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة في التحذير‬
‫من الشرك‪ ,‬وبيان خطره‪ ,‬وأنه أعظم ذنب عصى الله به‪ ,‬وأنه ل‬
‫دا ل نصير له ول حميم ول‬ ‫أضل من فاعله‪ ,‬وأنه مخلد في النار أب ً‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ه ل َ يَ ْ‬
‫فُر أن ي ُشَرك ب ِ ِ‬ ‫غ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫شفيع يطاع‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫د‬ ‫ق ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ه َ‬ ‫رك ِبالل ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ش‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫شا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫ك لِ َ‬ ‫ن ذَل ِ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫فُر َ‬ ‫غ ِ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫َ‬
‫ما" ]النساء‪.[48:‬‬ ‫ً‬ ‫ظي‬‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ما‬‫ِ ً‬ ‫ْ‬ ‫ث‬ ‫إ‬ ‫رى‬ ‫فت َ َ‬ ‫ا ْ‬
‫ما‬ ‫فُر َ‬ ‫غ ِ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ك بِ ِ‬ ‫شَر َ‬ ‫فُر َأن ي ُ ْ‬ ‫غ ِ‬ ‫ه ل َ يَ ْ‬ ‫ن الل َ‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ضل َل ً‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫ق‬ ‫ف َ‬ ‫ه َ‬ ‫ِ‬ ‫بالل‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ك‬ ‫ر‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫شا‬ ‫من ي ّ َ‬ ‫ك لِ َ‬ ‫ن ذَل ِ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ُ‬
‫ما‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ه‬ ‫بالل‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫"‬‫دا‬ ‫عي‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫[‪،‬‬ ‫‪116‬‬ ‫]النساء‪:‬‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫بَ‬
‫في‬ ‫ّ ُ ِ‬ ‫ح‬ ‫ري‬ ‫ال‬ ‫ه‬
‫ِ ُِ‬ ‫ب‬ ‫وي‬ ‫ه‬
‫ْ ُ ْ َ ْ ِ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ط‬ ‫ال‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫خ‬
‫َ ْ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫ما‬ ‫ّ َ‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫َ ّ ِ َ‬ ‫ر‬ ‫خ‬
‫ك‬‫ي إ ِل َي ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ح‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫[‪،‬‬ ‫‪31‬‬ ‫]الحج‪:‬‬ ‫"‬ ‫ق‬
‫ٍ‬ ‫حي‬ ‫ِ‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫كا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫مل َ‬
‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫من‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ن" ]الزمر‪.[65 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫ول َِت َ ُ‬ ‫َ‬
‫والحاديث الواردة في ذم المشركين كثيرة منها‪:‬‬
‫حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‪ :‬سمعت رسول‬
‫الله × يقول‪» :‬من مات يشرك بالله شيًئا دخل النار« )‪.(2‬‬
‫وحديث جابر بن عبد الله قال‪ :‬سمعت رسول الله × يقول‪:‬‬
‫»من لقى الله ل يشرك به شيًئا دخل الجنة« )‪.(3‬‬
‫وحديث أبي بكرة)‪ (4‬رضي الله عنه قال‪ :‬كنا عند رسول الله‬
‫× فقال‪» :‬أل أنبئكم بأكبر الكبائر« ثلًثا »الشراك بالله وعقوق‬
‫الوالدين وشهادة الزور« وكان رسول الله × متكًئا فجلس‪ ,‬فما‬
‫زال يكررها حتى قلنا ليته سكت«)‪.(5‬‬
‫إن تفشي الشرك في المجتمعات السلمية سبب في ضياعها‬
‫وانحرافها عن هدى المولى عز وجل‪ ,‬فمن أعظم الظلم‪ ,‬وأبعد‬
‫الضلل‪ ,‬عدم إخلص العبادة لرب العالمين وتسوية المخلوق مع‬
‫الخلق العليم‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( الرياض الناضرة للسعدي‪ ,‬ص ‪.244‬‬
‫‪2‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬من مات ل يشرك بالله شيًئا )‪ (1/94‬رقم ‪.92‬‬
‫‪3‬‬
‫)( المصدر السابق نفسه‪ ,‬رقم ‪.92‬‬
‫‪4‬‬
‫)( هو نفيع بن الحارث بن كلدة بن عمرو أبو بكرة الثقفي‪ ,‬تدلى إلى رسول الله‬
‫× من حصن الطائف في )بكرة( فاشتهر بأبي بكرة وأسلم وأعتقه رسول الله‬
‫× يومئذ‪ ,‬وكان من فضلء الصحابة وسكن البصرة توفي بالبصرة سنة ‪50‬هـ‪,‬‬
‫انظر‪ :‬أسد الغابة )‪ ,(5/38‬الصابة )‪.(3/542‬‬
‫‪5‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب اليمان‪ ,‬باب‪ :‬بيان الكبائر )‪ (1/91‬رقم ‪.143‬‬

‫‪187‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫فالله وحده المتفرد بالعبودية فهو مالك النفع والضر‪ ,‬الذي ما‬
‫من نعمة إل منه‪ ,‬ل يدفع النقم إل هو الذي له الكمال المطلق من‬
‫جميع الوجوه‪ ,‬والغنى التام لجميع وجوه العتبارات‪.‬‬
‫إن الشرك هو الذنب الوحيد المتميز عن بقية الذنوب بعدم‬
‫المغفرة لصاحبه إذا مات ولم يتب منه‪ ,‬وأما بقية الذنوب فإن‬
‫صاحبها إن مات ولم يتب منها فإنه تحت مشيئة الله إن شاء عذبه‬
‫وإن شاء غفر له‪.‬‬
‫إن الذنوب التي دون الشرك جعل الله لمغفرتها أسباًبا كثيرة‬
‫كالحسنات الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا والبرزخ ويوم‬
‫القيامة‪ ,‬وكدعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة الشافعين‪ ,‬ومن‬
‫دون ذلك كله رحمته التي أحق بها أهل اليمان والتوحيد‪ ,‬وهذا‬
‫بخلف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة‪,‬‬
‫وأغلق دونه أبواب الرحمة‪ ,‬فل تنفعه الطاعات دون التوحيد‪ ,‬ول‬
‫تفيده الشدائد والمحن شيًئا‪.‬‬
‫إن الشرك بالله تمجه وترفضه الفطرة السليمة‪ ,‬ولقد بقى‬
‫البشر بعد آدم قروًنا طويلة وهم أمة واحدة على التوحيد والهدي‪,‬‬
‫ثم أدخلت عليهم الشياطين الشرور المتنوعة بطرق كثيرة‪ ,‬فكان‬
‫قوم نوح قد مات منهم أناس صالحون فحزنوا عليهم فجاءهم‬
‫إبليس وأمرهم أن يصوروا تماثيلهم ليتذكروا أحوالهم‪ ,‬فكان هذا‬
‫باب الشر العظيم‪.‬‬
‫فلما مات الذين صوروهم لهذا المعنى خلف من بعدهم خلف‬
‫قل فيهم العلم واستفزهم الشيطان وأغواهم حتى أوقعهم في‬
‫حا عليه السلم يعرفونه ويعرفون‬ ‫الشرك‪ ,‬ثم بعث الله فيهم نو ً‬
‫ما‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫وم ِ ا ْ‬ ‫َ‬
‫وأمانته وكمال أخلقه فقال‪َ+ :‬يا ق ْ‬ ‫صدقه‬
‫ه" ]العراف‪ .[59:‬إل أنهم عصوه وما آمن معه إل‬ ‫ه َ‬
‫غي ُْر ُ‬ ‫ن إ ِل َ ٍ‬ ‫م ْ‬‫كم ّ‬ ‫لَ ُ‬
‫قليل‪.‬‬
‫إن الله تعالى خلق الناس على فطرة التوحيد ثم استطاعت‬
‫الوثنية المظلمة‬ ‫الشياطين أن تميل بالناس وتنحرف بهم نحو‬
‫ث‬
‫ع َ‬ ‫ب‬‫ف‬‫َ‬ ‫ة‬ ‫ُ‬ ‫والشرك العظيم‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫َ َ‬ ‫ً‬ ‫ن الّنا ُ ّ ً َ ِ َ‬
‫د‬ ‫ح‬ ‫وا‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫س‬ ‫كا َ‬
‫ن" ]البقرة‪.[213:‬‬ ‫ري َ‬ ‫ذ ِ‬‫من ِ‬ ‫و ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ري َ‬ ‫ش ِ‬ ‫مب َ ّ‬‫ن ُ‬ ‫ه الن ّب ِّيي َ‬ ‫الل ُ‬
‫أي‪ :‬أن الناس كانوا على ملة آدم عليه السلم حتى عبدوا‬
‫حا عليه السلم فكان أول رسول بعثه‬ ‫إليهم نو ً‬ ‫الصنام فبعث الله‬
‫الله إلى أهل الرض)‪.(1‬‬
‫ه‬
‫ت الل ِ‬ ‫فطَْر َ‬ ‫فا ِ‬ ‫حِني ً‬ ‫ن َ‬ ‫ِ‬ ‫دي‬
‫ك ِلل ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ج َ‬‫و ْ‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ق ْ‬ ‫فأ َ ِ‬‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن‬ ‫دي ُ‬ ‫َ‬
‫ه ذَل ِك ال ّ‬ ‫ق الل ِ‬ ‫ْ‬ ‫دي َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فطََر ال َّنا َ‬ ‫ال ِّتي َ‬
‫خل ِ‬ ‫ل لِ َ‬
‫َ‬
‫ها ل ت َب ْ ِ‬ ‫علي ْ َ‬ ‫س َ‬
‫َ‬
‫ن" ]الروم‪.[30:‬‬ ‫مو َ‬ ‫عل ُ‬ ‫س ل َ يَ ْ‬ ‫ن أك ْث ََر الّنا ِ‬ ‫ولك ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫قي ّ ُ‬‫ال ْ َ‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(1/250‬‬

‫‪188‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬
‫َ‬ ‫في ك ُ ّ ُ‬ ‫ول َ َ‬
‫دوا‬‫عب ُ ُ‬
‫نا ْ‬ ‫سول ً أ ِ‬ ‫ة ّر ُ‬‫م ٍ‬
‫لأ ّ‬ ‫عث َْنا ِ‬‫قد ْ ب َ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ت" ]النحل‪ .[36:‬وقال ×‪»:‬كل مولود يولد‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫جت َن ُِبوا الطاغو َ‬ ‫وا ْ‬‫ه َ‬
‫الل َ‬
‫على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه« )‪.(1‬‬
‫وهذه الدلة الدامغة التي ذكرناها تدل على أن الناس كانوا‬
‫على التوحيد وأن الشرك طارئ وحادث فيهم‪.‬‬
‫إن الجماعة المسلمة التي رضيت بالله رًبا وبالسلم ديًنا‬
‫وبمحمد × رسول ً تحرص على تحقيق التوحيد ومحاربة الشرك‬
‫وهي تسعى لتحكيم شرع الله‪ ,‬لنها تعلم علم اليقين أن من‬
‫شروط التمكين وإقامة دولة السلم تحقيق التوحيد وتهذيبه‬
‫وتصفيته من الشرك الكبر والصغر‪ ,‬ومن البدع القولية‬
‫والعتقادية‪ ,‬والبدع الفعلية العملية‪ ,‬ومن المعاصي وذلك بكمال‬
‫الخلص لله في القوال والفعال والرادات‪ ,‬وبالسلمة من‬
‫الشرك الكبر المناقض لصل التوحيد‪ ,‬ومن الشرك الصغر‬
‫المنافي لكماله وبالسلمة من البدع)‪ ,(2‬وتربي الناس على‬
‫الستعانة بالله في جميع أمور حياتهم والستعانة به والنذر له‬
‫والذبح له وحده سبحانه وتعالى وأن تكون الحاكمية لله رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫وهي تحارب شرك القبور‪ ,‬وكذلك شرك القوانين الوضعية‬
‫وتدعو إلى إفراد العبودية لله وحده في جميع شئون الحياة‬
‫ن‬‫ل إِ ّ‬ ‫ق ْ‬‫النسانية‪ ,‬ولسان حالها ومقالها قول الله تعالى‪ُ + :‬‬
‫ن ‪ ‬لَ‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫عال ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬‫ه َر ّ‬‫ماِتي لل ِ‬‫م َ‬‫و َ‬
‫ي َ‬ ‫حَيا َ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫كي َ‬
‫س ِ‬
‫ون ُ ُ‬‫صل َِتي َ‬ ‫َ‬
‫ه" ]النعام‪.[162،163:‬‬ ‫ك لَ ُ‬
‫ري َ‬‫ش ِ‬ ‫َ‬
‫لذلك لبد من محاربة الشرك ومداخله وألوانه وجميع طرقه‬
‫لن الشرك ذلة في الدنيا وعذاب أليم في الخرة‪ ,‬ولن من‬
‫متطلبات اليمان ولوازمه محاربة ضده أل وهو الشرك‪.‬‬
‫وبعد أن ذكرت الية الكريمة شروط الستخلف والتمكين‬
‫والمن‪ ,‬أرشدت اليات التي بعدها إلى كيفية المحافظة على هذا‬
‫التمكين والمن‪ ،‬وإلى العدة الفعلية للمة السلمية أل وهي‪:‬‬
‫التصال بالله‪ ,‬وتقويم القلب بإقامة الصلة‪ ,‬والستعلء على الشح‪,‬‬
‫وتطهير النفس والجماعة بإيتاء الزكاة‪ ,‬وطاعة الرسول × والرضا‬
‫بحكمه‪ ,‬وتنفيذ شريعة الله في الصغيرة والكبيرة‪ ,‬وتحقيق المنهج‬
‫ن" ]النمل‪ [46:‬في الرض من‬ ‫مو َ‬
‫ح ُ‬ ‫عل ّك ُ ْ‬
‫م ت ُْر َ‬ ‫الذي أراده للحياة‪+ :‬ل َ َ‬
‫الفساد والنحدار والخوف والقلق والضلل‪ ,‬وفي الخرة من‬
‫الغضب والعذاب والنكال‪ .‬إن المة السلمية عندما تسير على‬
‫‪1‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب القدر‪ ,‬باب‪ :‬كل مولود يولد على الفطرة )‪ (4/2047‬رقم‬
‫‪.2658‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة‪ ,‬ص ‪.191‬‬

‫‪189‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫نهج الله تعالى وتحكم شرعه في الحياة‪ ,‬وترتضيه في كل‬


‫أمورها‪ ..‬يتحقق وعد الله بالستخلف والتمكين والمن‪ ,‬وما من‬
‫مرة خالفت عن هذا النهج والطريق القويم إل تخلفت في ذيل‬
‫القافلة‪ ,‬وذلت‪ ,‬وطرد دينها من الهيمنة على البشرية‪ ,‬واستبد بها‬
‫الخوف‪ ,‬وتخطفها العداء‪.‬‬
‫إن وعد الله ل يتبدل ول يتغير إذا أقمنا الشروط‪ ,‬فإذا أردنا‬
‫الوعد فعلينا بتحقيق الشروط ول أحد أوفى بعهده من الله‬
‫تعالى)‪.(1‬‬
‫آثار الشرك‪:‬‬
‫إن الشرك الذي يقع فيه النسان له آثاره الوبيلة في دنياه‬
‫دا أم جماعة‪ ,‬فمن تلك الثار‪:‬‬ ‫وآخرته‪ ,‬سواء أكان الواقع فيه فر ً‬
‫‪ -1‬إطفاء نور الفطرة‪:‬‬
‫قال تعالى‪+ :‬وإذْ أ َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫هو‬ ‫من ظُ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ني آدَ َ‬ ‫من ب َ َِ‬ ‫ك ِ‬ ‫خذَ َرب ّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ِ‬
‫قاُلوا ب ََلى‬ ‫م َ‬ ‫ت ب َِرب ّك ُ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫م أل َ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫عَلى أ َن ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫هد َ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫وأ َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ذُّري ّت َ ُ‬
‫نا" ]العراف‪.[172:‬‬ ‫هد ْ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫َ‬
‫وعلى هذا فإن الشرك نقض للميثاق الذي أخذه الله على‬
‫البشر وهم في عالم الذر‪ ,‬كما أنه انحراف عن الغاية التي خلق‬
‫ن‬ ‫ج ّ‬ ‫ت ال ْ ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬ ‫الله الجن والنس من أجلها‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]الذاريات‪.[56:‬‬ ‫دو ِ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫س إ ِل ّ ل ِي َ ْ‬ ‫وال ِن ْ َ‬ ‫َ‬
‫إن النسان يستمد من حقيقة التوحيد إشراقته ونوره وسداد‬
‫أمره‪ ,‬فإذا أشرك بالله تصبح أعماله كسراب بقيعة يحسبه‬
‫الظمآن ماء‪ .‬وتصبح َ حاله وأعماله معتمة مظلمة‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬
‫ن‬
‫مآ ُ‬ ‫ه الظّ ْ‬ ‫سب ُ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ة يَ ْ‬ ‫ع ٍ‬ ‫قي َ‬ ‫ب بِ ِ‬ ‫سَرا ٍ‬ ‫م كَ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫مال ُ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫فُروا أ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫فا‬ ‫ّ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ه‬
‫َ ُ‬ ‫د‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫د‬ ‫ج‬
‫ْ َ َ َ َ َ‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫ً‬
‫ئا‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫د‬
‫ُ ْ َ ِ ْ ُ‬‫ج‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫جا‬ ‫َ‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫تى‬ ‫ّ‬ ‫ح‬ ‫ما َ‬ ‫ً‬ ‫ء‬ ‫َ‬
‫ي‬
‫ج ّ‬ ‫رل ّ‬ ‫ّ‬ ‫ح ٍ‬ ‫في ب َ ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫ما ٍ‬ ‫ُ‬
‫و كظل َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‪‬أ ْ‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫ع ال ِ‬ ‫ري ُ‬ ‫ِ‬ ‫س‬
‫ه َ‬ ‫والل ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ساب َ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ِ‬
‫ت‬ ‫ما ٌ‬ ‫ب ظُل ُ َ‬ ‫حا ٌ‬ ‫س َ‬ ‫ه َ‬ ‫ق ِ‬ ‫و ِ‬‫ف ْ‬ ‫من َ‬ ‫ج ّ‬ ‫و ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ َ‬ ‫ق ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫من َ‬ ‫ج ّ‬ ‫و ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫شاهُ َ‬ ‫غ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫م‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫من‬ ‫َ َ‬‫و‬ ‫ها‬‫َ‬ ‫را‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫خ‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ٍ ِ‬‫إ‬ ‫ض‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ض‬‫ُ‬ ‫ع‬‫بَ ْ‬
‫ر" ]النور‪.[40،39 :‬‬ ‫ُ ٍ‬ ‫نو‬ ‫من‬ ‫ُ ِ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫را‬ ‫ُ ُ ُ ً‬‫نو‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫يَ ْ َ ِ‬
‫ع‬ ‫ج‬
‫‪ -2‬القضاء على منازع النفس الرفيعة‪:‬‬
‫إن النف س المتعلقة بالله المتطلعة إلى رضاه ل تستغرقها شهوات‬
‫ما إلى‬
‫الح س ول تنصرف بكليتها إلى متاع الرض القريب‪ ,‬إنما تتطلع دائ ً‬
‫المثل العليا والقيم الرفيعة‪ ,‬وإلى الترفع عن الدن س في كل صوره‬
‫ما‬
‫وأشكاله‪ ,‬سواء أكان فاحشة من الفواح ش التي حرمها الله‪ ,‬أو ظل ً‬
‫يقفه النسان من أجل شهوة رخيصة‬ ‫خسي ً‬
‫يقع على النا س‪ ,‬أو موق ًفا سا‬
‫‪1‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/2530‬‬

‫‪190‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫أو مطلب من مطالب الحياة الدنيا‪.‬‬


‫ولكن حين تهتز حقيقة التوحيد في النفس ويغشيها الشرك‬
‫فإن النفس تنحط فتشغلها الرض‪ ,‬يشغلها المتاع الزائل فتتكالب‬
‫عليه وتنسى القيم العليا والجهاد من أجل إقامتها وتحقيقها‪,‬‬
‫سا على هذا المتاع الزائل يتقاتل من‬ ‫عا خسي ً‬ ‫ويكون جهادها صرا ً‬
‫أجله الفراد والدول والشعوب‪ ,‬وتصبح الحياة البشرية محكومة‬
‫بقانون الغاب‪ ,‬القوي يأكل الضعيف‪ ,‬والغلبة للقوة ل لصاحب‬
‫دا في الجاهلية المعاصرة في كل‬ ‫نراه سائ ً‬ ‫الحق‪ ..‬وهو المر الذي‬
‫ه‬
‫ك ِبالل ِ‬ ‫ر ْ‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫ي‬ ‫من‬
‫َ َ َ ُ‬‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قال‬ ‫‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫الحياة‬ ‫منحى من مناحي‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ح‬ ‫ري‬
‫ّ ُ‬ ‫ال‬ ‫ه‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫وي‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫و‬
‫ْ ُ ْ َ ْ ِ‬‫أ‬ ‫ر‬‫ي‬ ‫ط‬‫ال‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫ط‬ ‫خ‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫ما‬ ‫س‬
‫ّ َ‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫م َ‬ ‫خّر ِ‬‫ما َ‬‫فك َأن ّ َ‬
‫ق" ]الحج‪.[31:‬‬ ‫حي ٍ‬ ‫س ِ‬
‫ن َ‬ ‫م َ‬
‫كا ٍ‬ ‫في َ‬ ‫ِ‬
‫‪ -3‬القضاء على عزة النفس ووقوع صاحبه في العبودية‬
‫الذليلة‪:‬‬
‫إن العزة الحقيقية تستمد من اليمان بالله وحده‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬
‫ن" ]المنافقون‪ ,[8:‬ولكن‬ ‫مِني َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ول ِل ْ ُ‬‫ه َ‬ ‫سول ِ ِ‬‫ول َِر ُ‬ ‫ه ال ْ ِ‬
‫عّزةُ َ‬ ‫ولل ِ‬ ‫‪َ +‬‬
‫المشرك ل يعرف هذه العزة ول يتذوقها‪ ,‬إنه عبد؛ ولكنها عبودية‬
‫ذليلة لنها ليست عبودية لله‪ ,‬الكريم الرحيم‪ ,‬الذي ُيعز عباده‬
‫بعزته‪ ,‬إنه عبد لبشر مثله يتحكم فيه فيذله‪ ,‬أو عبد لشهواته‪:‬‬
‫شهوة المال أو شهوة الجنس أو شهوة السلطان‪ ..‬كلها عبودية‬
‫عا وتمكًنا وتجبًرا في الرض‪.‬‬ ‫ذليلة وإن بدت لول وهلة متا ً‬
‫ثم يذهب هذا المتاع الزائل الذي تذل له أعناق الرجال‪ ,‬ويأتي‬
‫الذي يقفون فيه موقف الخزي الكبر أمام العزيز الجبار‪:‬‬
‫ما َ‬ ‫اليوم َ‬
‫‪+‬أ َ َ‬
‫كاُنوا‬ ‫هم ّ‬‫جاءَ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ‪ ‬ثُ ّ‬ ‫سِني َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬
‫عَنا ُ‬
‫م َت ّ ْ‬
‫ت ِإن ّ‬ ‫فَرأي ْ َ‬
‫ن" ]الشعراء‪-205 :‬‬
‫عو َ‬‫مت ّ ُ‬
‫كاُنوا ي ُ َ‬ ‫ما َ‬ ‫هم ّ‬ ‫عن ْ ُ‬‫غَنى َ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬‫ُيو َ‬
‫‪.[207‬‬
‫‪ -4‬تمزيق وحدة النفس البشرية‪:‬‬
‫إن الشرك يشتت وحدة النفس البشرية ويمزقها‪ ,‬فيصلي‬
‫النسان ‪-‬إذا صلى‪ -‬لله ويبيع ويشتري ويبتغي الرزق باسم إله آخر‬
‫يحل له الربا ويحل له الغش والخداع بغية الربح‪ ,‬ويمارس شهواته‬
‫حل له العلقات غير المشروعة ويزين له‬ ‫باسم إله ثالث ي ُ ِ‬
‫الخبائث‪ ,‬وقد يتوجه إلى بشر مثله أو إلى صنم من الصنام‬
‫فيطلب منه البركة أو يطلب منه أن يقربه إلى الله زلفى‪ ..‬وهكذا‬
‫تتشتت نفسه في محاولة استرضاء هذه الرباب المتعددة التي‬
‫كثيًرا ما يكون لكل منها مطالب تخالف مطالب الخرى وتعارضها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬ركائز اليمان لمحمد قطب‪ ,‬ص ‪.141،140‬‬

‫‪191‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫)‪(2‬‬
‫وفي النهاية يفقد نفسه بعد أن يفقد أمنه وطمأنينته‪:‬‬
‫جل ً‬ ‫مث َل ً ّر ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫ضَر َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ن‬
‫ِ‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫و‬‫َ‬
‫ْ ِ‬‫ت‬‫س‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ل‬‫ٍ‬ ‫ج‬
‫ُ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ما‬ ‫َ‬
‫َ ً‬ ‫ل‬‫س‬ ‫ً‬ ‫ل‬‫ج‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫سو‬ ‫َُ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫شا‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫م‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ش‬ ‫ُ‬ ‫ه‬
‫في ِ‬ ‫ِ‬
‫م لَ‬ ‫ه‬
‫ُ ُ ْ‬‫ر‬ ‫َ‬ ‫ث‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫أ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ب‬
‫ِ َ‬‫ه‬ ‫لل‬ ‫د‬ ‫م‬
‫َ ْ ُ‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ن" ]الزمر‪.[29:‬‬ ‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫‪ -5‬إحباط العمل‪:‬‬
‫ك‬‫قب ْل ِ َ‬
‫من َ‬ ‫ن ِ‬ ‫وإ َِلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫َ‬ ‫ي إ ِل َي ْ َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫قدْ ُأو ِ‬
‫ح‬ ‫ول َ َ‬
‫قال تعالى‪َ +َ :‬‬
‫ن"‬‫ري َ‬ ‫س ِ‬
‫خا ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ولت َكون َ ّ‬ ‫ملك َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ع َ‬‫ن َ‬ ‫َ‬
‫حب َط ّ‬ ‫شَرك ْ َ‬
‫ت لي َ ْ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫ل َئ ِ ْ‬
‫]الزمر‪.[65 :‬‬
‫هذه بعض الثار التي تحدث للنسان الذي يقع في الشرك ول‬
‫شك أن تلك الثار تبعد المجتمع من التمكين الرباني‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬ركائز اليمان‪ ,‬ص ‪.145-144‬‬

‫‪192‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫المبحث الرابع‬
‫تقـــــوى الله عز وجـــــل‬
‫حَنا‬ ‫وا ل َ َ‬ ‫وات ّ َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬‫ه َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ول َو أ َن أ َ‬
‫فت َ ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫قَرى آ َ‬ ‫ء وال َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ّ‬
‫كن ك َذُّبوا‪"...‬‬ ‫ول َ ِ‬ ‫ض‬
‫ْ ِ َ‬‫ر‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ما‬ ‫ن ال ّ َ‬
‫س‬ ‫م َ‬ ‫ت ّ‬ ‫م ب ََر َ‬
‫كا ٍ‬ ‫ه ْ‬
‫ِ‬ ‫عل َي ْ‬
‫َ‬
‫]العراف‪.[96:‬‬
‫إن من شروط التمكين المهمة ‪-‬التي نضيفها إلى المباحث‬
‫السابقة‪ -‬تقوى الله عز وجل‪ ,‬لن تقوى الله لها ثمرات عظيمة‬
‫م‬‫في الدنيا والخرة‪ ,‬وهذه الثمرات تظهر على الفراد‪ ,‬ومن ث ّ‬
‫على الجماعة المسلمة التي تسعى لتحكيم شرع الله والتمكين‬
‫لدينه‪ .‬إن تقوى الله تعالى تجعل بين العبد وبين ما يخشاه من ربه‬
‫ومن غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك‪ ,‬وهي أن تعمل‬
‫بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله‪ ,‬وأن تترك معصية‬
‫الله على نور من الله تخاف عقاب الله‪.‬‬
‫ل‪ :‬ثمرات التقوى العاجلة والجلة‪:‬‬ ‫أو ً‬
‫‪ -1‬المخرج من كل ضيق والرزق من حيث ل يحتسب العبد‪:‬‬
‫ه‬
‫ق ُ‬‫وي َْرُز ْ‬
‫جا‪َ ‬‬ ‫خَر ً‬‫م ْ‬
‫ه َ‬‫عل ل ّ ُ‬ ‫ج َ‬‫ه يَ ْ‬‫ق الل َ‬‫من ي ّت ّ ِ‬ ‫و َ‬‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ب" ]الطلق‪.[3،2 :‬‬ ‫س ُ‬ ‫ث ل َ يَ ْ‬
‫حت َ ِ‬ ‫حي ْ ُ‬‫ن َ‬‫م ْ‬
‫ِ‬
‫‪ -2‬السهولة واليسر في كل أمر‪:‬‬
‫َ‬
‫سًرا"‬ ‫ه يُ ْ‬‫ر ِ‬
‫م ِ‬
‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬‫عل ل ّ ُ‬ ‫ج َ‬‫ه يَ ْ‬‫ق الل َ‬‫من ي َت ّ ِ‬ ‫و َ‬‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫]الطلق‪.[4:‬‬
‫قال سيد قطب رحمه الله‪» :‬واليسر في المر غاية ما يرجوه‬
‫النسان‪ ,‬وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله المور ميسرة لعبد من‬
‫عباده؛ فل عنت ول مشقة ول عسر ول ضيق يأخذ المور بيسر‬
‫في شعوره وتقديره‪ ,‬وينالها بيسر في حركته وعمله‪ ,‬ويرضاها‬
‫ي‬
‫ي ن َدِ ّ‬‫خ ّ‬‫حصيلتها( ونتيجتها‪ ,‬ويعيش من هذا في يسر َر ِ‬ ‫بيسر في‬
‫حتى يلقى الله«)‪. 1‬‬
‫‪ -3‬تيسير العلم النافع‪:‬‬
‫ء‬
‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ب ِك ُ ّ‬
‫والل ُ‬
‫ه َ‬
‫م الل ُ‬ ‫عل ّ ُ‬
‫مك ُ ُ‬ ‫وي ُ َ‬
‫ه َ‬ ‫وات ّ ُ‬
‫قوا الل َ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫م" ]البقرة‪.[282 :‬‬
‫عِلي ٌ‬
‫َ‬
‫قال العلمة محمد رشيد رضا‪) :‬أي اتقوا لله في جميع ما‬
‫أمركم به ونهاكم عنه‪ ,‬وهو يعلمكم ما فيه قيام مصالحكم وحفظ‬
‫أموالكم وتقوية رابطتكم‪ ,‬فإنكم لول هدايته ل تعلمون ذلك‪ ,‬وهو‬
‫‪1‬‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(6/3602‬‬

‫‪193‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫سبحانه العليم بكل شيء‪ ,‬فإذا شرع شيًئا فإنما يشرعه عن علم‬
‫محيط بأسباب درء المفاسد وجلب المصالح لمن تبعه شرعه‪,‬‬
‫وكرر لفظ الجللة لكمال التذكير وقوة التأثير( )‪ ,(1‬لقد تكرر لفظ‬
‫ه‬
‫والل ُ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫مك ُ ُ‬ ‫عل ّ ُ‬ ‫وي ُ َ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫وات ّ ُ‬ ‫الجللة في قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫م" ثلث مرات‪ ,‬فالولى حث على التقوى‪,‬‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ب ِك ُ ّ‬
‫والثانية وعد ٌ بإنعامه‪ ,‬والثالثة تعظيم شأنه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪ -4‬إطلق نور البصيرة‪:‬‬
‫نا" ]النفال‪:‬‬ ‫قا ً‬ ‫فْر َ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ل ّك ُ ْ‬ ‫ج َ‬‫ه يَ ْ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫قال تعالى‪ِ+ :‬إن ت َت ّ ُ‬
‫را يفرق به‬ ‫إن تقوى الله تعالى في المور كلها تعطي صاحبها نو ً‬ ‫‪.[29‬‬
‫بين الحق والباطل‪ ,‬وبين دقائق الشبهات التي ل يعلمهن كثير من‬
‫الناس‪ ,‬وعندما تسيطر تقوى الله على الصف المسلم يصبح يتحرك‬
‫بفرقان رباني‪.‬‬
‫‪ -5‬محبة الله عز وجل ومحبة ملئكته والقبول في الرض‪:‬‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ن الل َ‬ ‫فإ ِ ّ‬ ‫قى َ‬ ‫وات ّ َ‬ ‫ه َ‬ ‫د ِ‬
‫ه ِ‬ ‫ع ْ‬‫فى ب ِ َ‬ ‫و َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ب ََلى َ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[76 :‬‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله × أنه قال‪:‬‬
‫»إذا أحب الله العبد قال لجبريل‪ :‬قد أحببت فلًنا فأحبه‪ ,‬فيحبه‬
‫جبريل عليه السلم‪ ,‬ثم ينادي في أهل السماء‪ ,‬إن الله قد أحب‬
‫فلًنا فأحبوه‪ ,‬فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في‬
‫الرض«)‪.(2‬‬
‫‪ -6‬نصرة الله عز وجل وتأييده وتسديده‪:‬‬
‫ه‬
‫قوا الل َ‬ ‫وات ّ ُ‬ ‫المقصودة بقول الله عز وجل‪َ + :‬‬ ‫المعية‬ ‫وهي‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]البقرة‪ .[194:‬فهذه المعية هي‬ ‫ُ ّ ِ َ‬ ‫قي‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫َ َ َ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫موا‬ ‫عل َ ُ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫معية التأييد والنصرة والتسديد‪ ,‬وهي معية الله عز وجل لنبيائه‬
‫وأوليائه‪ ,‬ومعيته للمتقين والصابرين وهي تقتضي التأييد والحفظ‬
‫خا َ‬
‫فا‬ ‫قال تعالى َلموسى عليه السلم وهارون‪+ :‬ل َ ت َ َ‬ ‫َ‬ ‫والعانة كما‬
‫رى" ]طه‪.[46:‬‬ ‫وأ َ‬ ‫ع َ‬ ‫م ُ‬
‫س َ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫عك ُ َ‬ ‫م َ‬ ‫إ ِن ِّني َ‬
‫َ‬
‫ما‬
‫ن َ‬ ‫م أي ْ َ‬ ‫عك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫أما المعية العامة مثل قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ول َ‬ ‫ِ َ‬ ‫س‬ ‫نا‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬‫ست َ ْ‬ ‫م" ]الحديد‪ .[4 :‬وقوله‪+ :‬ي َ ْ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ضى ِ‬ ‫ما ل َ ي َْر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م إ ِذْ ي ُب َي ُّتو َ‬ ‫ه ْ‬‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫ل" ]النساء‪ .[108:‬فتستوجب من العبد الحذر والخوف ومراقبة‬ ‫و ِ‬ ‫ال ْق ْ‬
‫َ‬
‫الله عز وجل‪.‬‬
‫‪ -7‬البركات من السماء والرض‪:‬‬
‫‪1‬‬
‫)( تفسير المنار )‪.(3/128‬‬
‫‪2‬‬
‫)( مسلم‪ ,‬كتاب البر والصلة والداب‪ ,‬باب‪ :‬إذا أحب الله تعالى )‪ (4/2030‬رقم‬
‫‪.2637‬‬

‫‪194‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫حَنا‬ ‫فت َ ْ‬ ‫وا ل َ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫وات ّ َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫قَرى آ َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫وأ ّ‬


‫قال تعالى‪+ :‬ول َ َ‬
‫َ ْ‬
‫ض‪] "....‬العراف‪.[96 :‬‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫ما‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م ب ََر َ‬ ‫َ َ‬
‫ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫ت ّ‬ ‫كا ٍ‬ ‫ه ْ‬ ‫علي ْ ِ‬
‫قَرى" أي‪:‬‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫وأ ّ‬
‫قال القاسمي رحمه الله‪+ :‬ول َ َ‬
‫َ ْ‬
‫وا" أي‪ :‬الكفر‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ّ‬ ‫ت‬‫وا‬‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫ورسله‬ ‫مُنوا" أي‪ :‬بالله‬ ‫مهَْلكة ‪+‬آ َ‬ ‫القرى ال ُ‬
‫ض"‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫ما‬ ‫ّ َ‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ٍ ّ َ‬ ‫ت‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫ر‬ ‫ب‬ ‫م‬
‫ْ ِ ْ َ َ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫‪+‬‬ ‫والمعاصي‬
‫ْ ِ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب‪ ,‬مكان ما‬
‫أصابهم من فنون العقوبات التي بعضها من السماء وبعضها من‬
‫الرض( )‪.(1‬‬
‫ويدل على هذا المعنى قوله عز وجل‪َ + :‬‬
‫موا‬ ‫قا ُ‬ ‫ست َ َ‬ ‫وا ْ‬ ‫وأن ل ّ ِ‬ ‫َ‬
‫قا" ]الجن‪.[16:‬‬ ‫غد َ ً‬ ‫ماءً َ‬ ‫هم ّ‬ ‫قي َْنا ُ‬ ‫س َ‬ ‫ةل ْ‬ ‫ق ِ‬ ‫ري َ‬ ‫عَلى الطّ ِ‬ ‫َ‬
‫فانظر إلى بركات التقوى‪ ,‬واعلم أن ما نحن فيه من قلة‬
‫البركة ونقص الثمار وكثرة الفات والمراض إنما هو نتيجة حتمية‬
‫هَر‬ ‫لضعف وازع التقوى وكثرة المعاصي‪ ,‬كما َيقول تعالى‪+ :‬ظَ َ‬
‫م‬
‫ه ْ‬‫ق ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫س ل ِي ُ ِ‬ ‫دي الّنا ِ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫ر بِ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫وال ْب َ ْ‬ ‫َ‬ ‫في ال ْب َّر‬ ‫سادُ ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن" ]الروم‪.[41:‬‬ ‫عو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م ي َْر ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫عل ّ ُ‬ ‫مُلوا ل َ َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ض ال ّ ِ‬ ‫ع َ‬ ‫بَ ْ‬
‫‪ -8‬البشرى وهي الرؤيا الصالحة وثناء الخلق ومحبتهم‪:‬‬
‫م‬ ‫ول َ ُ‬ ‫ف َ َ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬أ َل َ إن أ َ‬
‫ه ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫علي ْ ِْ‬ ‫و ٌ‬ ‫ْ‬ ‫خ‬ ‫ول َِياءَ الل ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ ّ‬
‫في‬ ‫شَرى ِ‬ ‫م الب ُ ْ‬ ‫ن ‪ ‬لَ ُ‬
‫ه ُ‬ ‫قو َ‬‫كاُنوا ي َت ّ ُ‬‫و َ‬ ‫م ُ َ َ‬
‫نوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ‪ ‬ال ّ ِ‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ة‪] "...‬يونس‪.[64-62:‬‬ ‫خَر ِ‬ ‫في ال ِ‬ ‫و ِ‬ ‫َ‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫د‬‫ال‬ ‫ة‬
‫ِ‬ ‫يا‬
‫َ‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫ال ْ‬
‫والبشرى في الحياة الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين‬
‫في غير مكان من كتابه‪ ,‬وعن النبي ×‪» :‬الرؤيا الصالحة من الله«‬
‫)‪ .(2‬وعنه ×‪» :‬لم يبق من النبوة إل المبشرات« قالوا‪ :‬وما‬
‫المبشرات؟ قال‪» :‬الرؤيا الصالحة« )‪.(3‬‬
‫وعن أبي ذر ‪ ‬قال‪ :‬قلت لرسول الله ×‪ :‬الرجل يعمل العمل‬
‫لله ويحبه الناس فقال‪» :‬تلك عاجل بشرى المؤمن« )‪ .(4‬وقد رأينا‬
‫من الموفقين في العمل السلمي ثناء الناس على أعمالهم في‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫‪ -9‬الحفظ من كيد العداء ومكرهم‪:‬‬
‫م‬ ‫م ك َي ْدُ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ضّرك ُ ْ‬ ‫قوا ل َ ي َ ُ‬ ‫وت َت ّ ُ‬
‫صب ُِروا َ‬ ‫وِإن ت َ ْ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ط"‬ ‫حي ٌ‬ ‫م ِ‬
‫ُ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫شي ًْئا إ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫]آل عمران‪.[120 :‬‬
‫‪1‬‬
‫انظر‪ :‬محاسن التأويل )‪.(7/221‬‬ ‫)(‬
‫‪2‬‬
‫البخاري‪ ,‬كتاب الرؤيا‪ ,‬باب‪ :‬رؤيا الصالحين )‪ (8/88‬رقم ‪.6986‬‬ ‫)(‬
‫‪3‬‬
‫البخاري‪ ,‬كتاب الرؤيا‪ ,‬باب المبشرات )‪ (8/89‬رقم ‪.6990‬‬ ‫)(‬
‫‪4‬‬
‫مسلم‪ ,‬كتاب الرؤيا‪ ,‬باب المبشرات )‪.(4/2034‬‬ ‫)(‬

‫‪195‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫قال ابن كثير ‪-‬رحمه الله‪) :-‬يرشدهم تعالى إلى السلمة من‬
‫شر الشرار وكيد الفجار باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على‬
‫الله الذي هو محيط بأعدائهم‪ ,‬فل حول ول قوة لهم إل به‪ ,‬وهو‬
‫الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن( )‪.(1‬‬
‫إنه تعليم من الله تعالى للمسلمين في كيفية الستعانة على‬
‫أعداء الله وكيدهم‪.‬‬
‫‪ -10‬حفظ الذرية الضعاف بعناية الله تعالى عز وجل‪:‬‬
‫ة‬‫م ذُّري ّ ً‬ ‫ه ْ‬‫ف ًِ‬ ‫خل ْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫كوا ِ‬ ‫و ت ََر ُ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ش ال ّ ِ‬ ‫خ َ‬ ‫ول ْي َ ْ‬ ‫قال تعالى‪ََ + :‬‬
‫دا"‬ ‫ً‬ ‫دي‬ ‫ِ‬ ‫س‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬
‫َ َ َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫م‬ ‫عل ْ ِ ْ‬
‫ه‬ ‫ي‬ ‫فوا َ‬ ‫خا ُ‬‫فا َ‬ ‫عا ً‬ ‫ض َ‬ ‫ِ‬
‫]النساء‪ ,[9:‬وفي الية إشارة إلى إرشاد المسلمين الذي يخشون‬
‫ترك ذرية ضعاف بالتقوى في سائر شئونهم حتى تحفظ أبناؤهم‬
‫ويدخلوا تحت حفظ‬
‫الله وعنايته‪ ,‬ويكون في إشعارها تهديد بضياع أولدهم إن فقدوا‬
‫تقوى الله‪ ,‬وإشارة‬
‫إلى أن تقوى الصول تحفظ الفروع‪ ,‬وأن الرجال الصالحين‬
‫يحفظون في ذريتهم الضعاف كما في آية‪َ + :‬‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫ف َ‬ ‫داُر َ‬ ‫ج َ‬ ‫ما ال ْ ِ‬ ‫وأ ّ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ك َن ٌْز ل ّ ُ‬ ‫حت َ ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫ة َ‬ ‫دين َ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫في ال ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫ن ي َِتي َ‬ ‫مي ْ ِ‬‫غل َ َ‬ ‫ل َِ ُ‬
‫حا" ]الكهف‪ .[82:‬فإن الغلمين حفظا ببركة أبيهما في‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫أُبو ُ‬
‫أنفسهما ومالهما)‪.(2‬‬
‫‪ -11‬سبب لقبول العمال التي بها سعادة العباد في الدنيا‬
‫والخرة‪:‬‬
‫ن" ]المائدة‪.[27:‬‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫قب ّ ُ‬ ‫ما ي َت َ َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬إ ِن ّ َ‬
‫ولهذا لبد من الدعاة العاملين والعلماء الراسخين من‬
‫استحضار هذه المعاني العظيمة‪ ,‬فإن أعمالنا مهما كان حجمها‬
‫وتضحياتنا مهما كانت ضخامتها ل تقبل إل من المتقين‪ ,‬لنهم هم‬
‫الذين يستشعرون أن كل خير هو من الله وحده‪.‬‬
‫‪ -12‬سبب النجاة من عذاب الدنيا‪:‬‬
‫قال الله تعالى‪َ + :‬‬
‫مى‬ ‫ع َ‬ ‫حّبوا ال ْ َ‬ ‫ست َ َ‬ ‫فا ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫هدَي َْنا ُ‬ ‫ف َ‬ ‫مودُ َ‬ ‫ما ث َ ُ‬ ‫وأ ّ‬ ‫َ‬
‫كاُنوا‬ ‫ما َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫هو ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ة ال ْ َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ع َ‬ ‫صا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫خذَت ْ ُ‬ ‫فأ َ َ‬ ‫دى َ‬ ‫ه َ‬ ‫عَلى ال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ن" ]فصلت‪:‬‬ ‫ُ‬
‫وكاُنوا يت ّقو َ‬ ‫َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫جي َْنا ال ِ‬ ‫ون َ ّ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫سُبو َ‬ ‫ْ‬
‫ي َك ِ‬
‫‪.[18،17‬‬
‫إن الله تعالى سلم أهل اليمان والتقوى من بين أظهر‬
‫الكافرين دون أن يمسهم سوء أو أن ينالهم من ذلك ضرر‪ ,‬بسبب‬

‫‪1‬‬
‫)( تفسير القرآن العظيم )‪.(1/329‬‬
‫‪2‬‬
‫)( انظر‪ :‬محاسن التأويل للقاسمي )‪.(5/47‬‬

‫‪196‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫إيمانهم وتقواهم لله تعالى‪.‬‬


‫تكفير السيئات وهو سبب النجاة من النار‪ ,‬وعظم الجر وهو‬ ‫‪13 -‬‬
‫سبب الفوز بدرجة الجنة‪:‬‬
‫م‬
‫عظِ ْ‬ ‫وي ُ ْ‬‫ه َ‬ ‫سي َّئات ِ ِ‬‫ه َ‬ ‫عن ْ ُ‬‫فْر َ‬ ‫ه ي ُك َ ّ‬ ‫ق الل َ‬ ‫من ي ّت ّ ِ‬ ‫و َ‬‫َقال تعالى‪َ + :‬‬
‫را" ]الطلق‪.[5:‬‬‫ج ً‬
‫هأ ْ‬ ‫لَ ُ‬
‫قال ابن كثير رحمه الله‪):‬أي يذهب عنهم المحظور‪ ,‬ويجزل لهم‬
‫الثواب على العمل اليسير()‪.(1‬‬
‫‪ -14‬ميراث الجنة‪ ,‬فهم أحق الناس بها وأهلها‪ ,‬بل ما أعد الله‬
‫الجنة إل لصحاب هذه الرتبة العلية والجوهرة البهية‪:‬‬
‫ن‬ ‫من َ‬
‫كا َ‬ ‫عَباِدَنا َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ث ِ‬ ‫ر ُ‬‫ة ال ِّتي ُنو ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫جن ّ ُ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ت ِل ْ َ‬
‫قّيا" ]مريم‪ ,[63:‬فهم الورثة الشرعيون لجنة الله عز وجل‪.‬‬ ‫تَ ِ‬
‫‪ -15‬وهم ل يذهبون إلى الجنة سيًرا على أقدامهم بل‬
‫يحشرون إليها ركباًنا‪:‬‬
‫مع أن الله عز وجل يقرب إليهم الجنة تحية لهم ودفًعا‬
‫َ‬
‫ن غي َْر‬ ‫قي َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫جن ّ ُ‬‫ت ال ْ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫وأ ُْزل ِ َ‬
‫لمشقتهم‪ ,‬كما قال تعالى‪َ + :‬‬
‫د" ]ق‪.[31:‬‬‫عي ٍ‬ ‫بَ ِ‬
‫دا"‬‫ف ً‬‫و ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬‫ن إ َِلى الّر ْ‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬‫شُر ال ْ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫و َ‬‫قال تعالى‪+ :‬ي َ ْ‬
‫]مريم‪.[85:‬‬
‫‪ -16‬وهي تجمع بين المتحابين من أهلها حين تنقلب كل‬
‫صداقة ومحبة إلى عداوة ومشقة‪:‬‬
‫و إ ِل ّ‬
‫عدُ ّ‬‫ض َ‬ ‫ع ٍ‬ ‫م ل ِب َ ْ‬‫ه ْ‬
‫ض ُ‬‫ع ُ‬‫ذ بَ ْ‬‫مئ ِ ٍ‬ ‫خل ّءُ ي َ ْ‬
‫و َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ال ِ‬
‫ن" ]الزخرف‪.[67:‬‬ ‫قي َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬
‫ومن بركة التقوى أن الله عز وجل ينزع ما قد يعلق بقلوبهم‬
‫من الضغائن والغل فتزداد مودتهم وتتم محبتهم وصحبتهم‪ ,‬قال‬
‫سل َ ٍ‬
‫م‬ ‫ها ب ِ َ‬ ‫خُلو َ‬ ‫ن ‪ ‬ادْ ُ‬ ‫عُيو ٍ‬‫و ُ‬‫ت ّ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫في َ‬ ‫ن ِ‬ ‫قي َ‬‫مت ّ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫تعالى‪+:‬إ ِ ّ‬
‫عَلى‬ ‫واًنا َ‬ ‫ِ َ‬‫خ‬
‫ْ‬ ‫إ‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫غ‬‫ّ ْ ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫هم‬ ‫ر‬ ‫دو‬
‫ُ ُ ِ ِ‬ ‫ص‬ ‫في‬ ‫ن‪ِ َ َ َ َ َ ‬‬
‫ما‬ ‫نا‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫مِني َ‬ ‫آ ِ‬
‫ن"]الحجر‪.[47-45:‬‬ ‫َ‬
‫مت َقاب ِِلي َ‬ ‫ر ّ‬ ‫سُر ٍ‬ ‫ُ‬
‫إن هذه الثمار العظيمة عندما تمس شغاف قلوب العاملين‬
‫طا ربانًيا موصول ً‬ ‫في الدعوة السلمية تضفي على العمل محي ً‬
‫بالله‪ ,‬متصلة حلقة الدنيا بالخرة‪ ,‬كما أن الحرص على تقوى الله‬
‫تعالى يكسب الصف السلمي صفات رفيعة وأخلًقا حميدة‪,‬‬
‫ومكارم نفيسة تجعله أهل ً لتمكين شرع الله على يديه‪ .‬ومن أهم‬
‫كا في حركته‬ ‫هذه الصفات التي تجعل الصف المسلم متماس ً‬

‫‪1‬‬
‫)( تفسير ابن كثير )‪.(4/382‬‬

‫‪197‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الدءوبة نحو تحكيم شرع الله‪:‬‬


‫ثانًيا‪ :‬صفات المتقين‪:‬‬
‫‪ -1‬الصدق‪ ,‬فهم أصدق الناس إيماًنا‪ ,‬وأصدقهم أقوال ً وأعما ً‬
‫ل‪,‬‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫دقوا المرسلين قال تعالى‪ُ+ :‬أول َئ ِ َ‬ ‫ص ّ‬ ‫وهم الذين ُ َ‬
‫ن" ]البقرة‪.[177 :‬‬ ‫َ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ت‬
‫ُ ّ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬‫ُ ُ‬ ‫ه‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫َ‬
‫وأو ِ‬
‫ئ‬ ‫ل‬ ‫قوا َ‬ ‫صد َ ُ‬ ‫َ‬
‫قوا‪ "...‬في‬ ‫صد َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫قال القاسمي ‪ -‬رحمه الله ‪+ :-‬أولئ ِ َ‬
‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ِ‬
‫إيمانهم لنهم حققوا اليمان القلبي بالقوال والفعال‪ ،‬فلم تغيرهم‬
‫الحوال ولم تزلزلهم الهوال‪ ،‬وفيه إشعار ُ بأن من لم يفعل‬
‫ن"‬‫قو َ‬ ‫مت ّ ُ‬‫م ال ْ ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫وأول َئ ِ َ‬ ‫أفعالهم لم يصدق في دعوة اليمان‪َ + :‬‬
‫عن الكفر وسائر الرذائل‪ ،‬وتكرير الشارة لزيادة تنويه بشأنهم‬
‫وتوسيط الضمير للشارة إلى انحصار التقوى فيهم)‪ .(1‬وقد رغب‬
‫النبي × في هذه الخصلة النبيلة والرتبة الجليلة فقال ×‪» :‬وما‬
‫يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقا«‬
‫)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬ومن صفاتهم‪ ،‬أنهم يعظمون شعائر الله عز وجل‪ :‬قال الله‬
‫وى‬ ‫ق َ‬ ‫من ت َ ْ‬ ‫ها ِ‬ ‫فإ ِن ّ َ‬ ‫ه َ‬ ‫عائ َِر الل ِ‬ ‫ش َ‬ ‫م َ‬ ‫عظّ ْ‬ ‫من ي ُ َ‬ ‫و َ‬ ‫ك َ‬ ‫تعالى‪+ :‬ذَل ِ َ‬
‫ب" ]الحج‪.[32 :‬‬ ‫قُلو ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫إن المتقين يعظمون طاعة الله وأمره فيدفعهم ذلك إلى‬
‫طاعته‪ ,‬ويعظمون كذلك ما نهى الله عنه فيدفعهم ذلك عن‬
‫معصيته‪.‬‬
‫‪ -3‬ويتحرون العدل ويحكمون به‪ ،‬ول يحملنهم بغض أحد على‬
‫دُلوا‬ ‫َ‬
‫ع ِ‬ ‫عَلى أل ّ ت َ ْ‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن َ‬ ‫شَنآ ُ‬ ‫م َ‬ ‫من ّك ُ ْ‬ ‫ر َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ول َ ي َ ْ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫قالو أ َ‬ ‫تركه‪,‬‬
‫ما‬ ‫ب‬
‫ِ ٌ ِ َ‬ ‫ر‬ ‫بي‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫إ‬
‫َ ِ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫وا‬
‫َ‬ ‫وى‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫لل‬‫ِ‬ ‫ب‬
‫ُ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫لوا‬ ‫د ُ‬
‫ع ِ‬ ‫ا ْ‬
‫ن" ]المائدة‪.[8 :‬‬ ‫َ‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫م‬‫ع َ‬ ‫تَ ْ‬
‫وفي الية تعليم وإرشاد على وجوب العدل مع الكفار الذين‬
‫هم أعداء الله‪ ،‬فما الظن بوجوبه مع المؤمنين الذين هم أولياؤه‬
‫وأحباؤه‪.‬‬
‫والمرسلين وصحابة‬ ‫‪ -4‬يتبعون سبيل الصادقين من النبياء‬
‫مُنوا‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ِ‬ ‫سيد الولين والخرين ×‪ ,‬قال تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ن" ]التوبة‪.[119 :‬‬ ‫قي َ‬ ‫صاِد ِ‬ ‫ع ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫كوُنوا َ‬ ‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫ات ّ ُ‬
‫فل شك أن من صفات المتقين أنهم ينتهجون منهج الصحابة‬
‫رضي الله عنهم‪ ،‬لنهم أولى الناس بهذه الصفات التي أمرنا الله‬
‫أن نكون مع أهلها‪ ،‬فقد شهد الله لهم الصدق‪ ،‬وشهد لهم رسوله‬
‫×‪ ،‬فل يجوز لحد أن يلزمهم بشيء‪ ،‬أو يتهمهم بما برأهم الله عز‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير القاسمي )‪.(3/54‬‬
‫ن" )‬
‫قي َ‬
‫صاِد ِ‬
‫ع ال ّ‬
‫م َ‬ ‫)( البخاري‪ ,‬كتاب الدب‪ ,‬باب قول الله تعالى‪ُ + :‬‬
‫كوُنوا َ‬
‫‪2‬‬

‫‪.(7/124‬‬

‫‪198‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وجل منه ورسوله ×‪ ،‬فالصحابة كلهم عدول‪ ،‬وظهرت فيهم من‬


‫علمات الصدق واليمان واليقين ما يجعل العاقل يقطع بتعديلهم‪،‬‬
‫فمن تقوى الله عز وجل موالتهم ومحبتهم ونصرتهم والحتجاج‬
‫بإجماعهم‪ ،‬وفهم الكتاب والسنة على منهجهم وطريقتهم‪ ،‬وبغض‬
‫من يبغضهم وبغير الحق يذكرهم)‪.(1‬‬
‫دعون ما ل بأس به حذًرا مما به بأس ويتقون الشبهات‪،‬‬ ‫‪ -5‬ي َ َ‬
‫إن المتقين يتورعون عن الشبهات وعما يرتابون فيه مما ليس‬
‫بينا‪ ،‬وذلك أدعى أن يتورعوا عن الحرام البين‪ ،‬ومن اجترأ‬ ‫حلل ً‬ ‫ً‬
‫على الشبهة اجترأ كذلك على الحرام‪.‬‬
‫ولهذا قال رسول الله ×‪» :‬إن الحلل بّين وإن الحرام بين‬
‫وبينهما أمور مشتبهات ل يعلمهن كثير من الناس‪ ،‬فمن اتقى‬
‫الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه‪ ،‬ومن وقع في الشبهات وقع‬
‫في الحرام« )‪.(2‬‬
‫ولبد من التنبه لمر مهم وهو أن التدقيق في التوقف عن‬
‫الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها وتشابهت أعماله في‬
‫التقوى والورع‪ ،‬فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة ثم يريد‬
‫أن يتورع عن شيء من دقائق الشبهات فإنه ل يحتمل ذلك‪ ،‬بل ينكر‬
‫عليه‪ ،‬كما قال ابن عمر رضي الله عنهما لمن سأله من أهل العراق‪:‬‬
‫عن دم البعوض يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين‪،‬‬
‫وسمعت رسول الله × يقول‪»:‬هما ريحانتاي من الدنيا« )‪.(3‬‬
‫ب‬ ‫فوا أ َ ْ‬
‫قَر ُ‬ ‫ع ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫وأ ْ‬
‫‪ -6‬إنهم يعفون ويصفحون‪ :‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫َ‬
‫سي ّئ َ ٌ‬
‫ة‬ ‫ة َ‬ ‫سي ّئ َ ٍ‬ ‫جَزاءُ َ‬ ‫و َ‬‫‪َ +‬‬ ‫وى" ]البقرة‪ .[َ 237 :‬وقال َتعالى‪:‬‬ ‫ق َ‬ ‫ِللت ّ ْ‬
‫ب‬
‫ّ‬ ‫ح‬‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ن‬
‫ِ ِّ ُ‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬ ‫ر‬
‫ْ ُ ُ‬ ‫ج‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ح‬
‫َ ْ َ‬‫َ‬ ‫ل‬‫ص‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫َ ْ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫مث ْل ُ َ‬
‫ها‬ ‫ّ‬
‫ن" ]الشورى‪.[4 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫فأخبر عز وجل أن من اتصف بهذه الصفة فأجره في ذلك‬
‫على الله عز وجل كما رغبهم الله عز وجل في َمغفرته إذا َفعلوا‬
‫ن أن‬ ‫حّبو َ‬ ‫حوا أل َ ت ُ ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫ص َ‬ ‫ول ْي َ ْ‬ ‫فوا َ‬ ‫ع ُ‬ ‫ول ْي َ ْ‬ ‫ذلك‪ ,‬فقال عز وجل‪َ + :‬‬
‫م" ]النور‪.[22 :‬‬ ‫ٌ‬ ‫حي‬ ‫ِ‬ ‫ر‬
‫ٌ ّ‬‫ر‬ ‫فو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫ه‬
‫والل ُ‬‫م َ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫فَر الل ُ‬ ‫غ ِ‬
‫يّ ْ‬
‫غي ْ َ‬
‫ظ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫مي َ‬ ‫كاظِ ِ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫وقال تعالى في وصف المتقين‪َ + :‬‬
‫ن" ]آل عمران‪:‬‬ ‫ني‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫با ُ‬ ‫ل‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬
‫والل ُ‬ ‫س َ‬ ‫وال ْ َ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫ع ِ‬
‫ن َ‬ ‫في َ‬ ‫عا ِ‬ ‫َ‬
‫‪ .[134‬فالحسان وصف من أوصاف المتقين‪ ،‬ولم يعطفه على ما‬
‫سبقه من الصفات‪ ،‬بل صاغه بهذه الصيغة تمييًزا له بكونه محبوًبا‬
‫عند الله تعالى)‪.(4‬‬
‫‪ -7‬ومن صفاتهم أنهم غير معصومين من الخطايا إل من‬
‫انظر‪ :‬الجامع لحكام القرآن للقرطبي )‪.(8/289‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب‪ :‬من استبرأ لدينه )‪ (1/22‬رقم ‪.22‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري‪ ،‬فضائل الصحابة‪ ،‬باب مناقب الحسن والحسين )‪.(4/261‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬تفسير المنار )‪.(135 ،4/134‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪199‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫عصمه الله عز وجل من النبياء غير أنهم ل يفارقون الكبائر‪ ،‬ول‬


‫يصرون على الصغائر‪ ،‬بل كلما وقعوا في صغيرة رجعوا إلى الله‬
‫ن‬
‫بالتوبة والستغفار والعمل الصالح عمل بقول الله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫فإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ن ت َذَك ُّروا َ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫ف ّ‬ ‫م َ‬
‫طائ ِ ٌ‬ ‫ه ْ‬
‫س ُ‬
‫م ّ‬
‫ذا َ‬‫وا إ ِ َ‬ ‫ن ات ّ َ‬
‫ق ْ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن" ]العراف‪.[201 :‬‬ ‫صُرو َ‬‫مب ْ ِ‬ ‫هم ّ‬ ‫ُ‬
‫شأن المؤمنين المتقين إذا مسهم طائف من الشيطان‬
‫لحملهم على محاكاة الجاهلين والخوض معهم وعلى غير ذلك من‬
‫المعاصي والفساد تذكروا فأبصروا فحذروا وسلموا‪ ،‬وإن زلوا تابوا‬
‫وأنابوا)‪.(1‬‬
‫إن هذه الصفات عندما تتغلغل في نفوس الدعاة والعلماء وأبناء‬
‫المسلمين تكون المة المسلمة جديرة بنصر الله وتوفيقه‪ ،‬وبهذا نكون‬
‫قد فصلنا أهم شروط التمكين المتمثلة في اليمان بالله والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬والعبادة‪ ،‬ومحاربة الشرك وتقوى الله عز وجل‪.‬‬

‫الفصل الثاني‬
‫أســـــــباب التمكــــــــــين‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن الخذ بالسباب التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه‬
‫سيد المرسلين ×‪ ،‬وقد أمر‬ ‫القرآن الكريم‪ ،‬وحثنا على الخذ بها‬
‫عُتم‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ست َط ْ‬‫ما ا ْ‬
‫م ّ‬‫ه ْ‬
‫دوا ل ُ‬‫ع ّ‬
‫وأ ِ‬‫الله تعالى بالعداد الشامل فقال‪َ + :‬‬
‫ل" ]النفال‪.[60 :‬‬ ‫ط ال ْ َ‬
‫خي ْ ِ‬ ‫من ّرَبا ِ‬
‫و ِ‬
‫ة َ‬‫و ٍ‬ ‫من ُ‬
‫ق ّ‬ ‫ّ‬
‫والعداد في حقيقته أخذ بالسباب‪.‬‬
‫وأشارت الية الكريمة إلى المر بإعداد‪:‬‬
‫‪ -2‬ومن رباط الخيل‪.‬‬ ‫‪ -1‬ما استطعتم من قوة‪.‬‬
‫والغاية‪:‬‬
‫‪ -1‬ترهبون به عدو الله وعدوكم‪ -2 .‬وآخرين من دونهم ل‬
‫تعلمونهم‪.‬‬
‫وإعداد القوة‪ ،‬لفظ عام يشمل كل قوة‪ ،‬فقوة العقيدة‬
‫واليمان قوة‪ ،‬وقوة الصف والتلحم قوة‪ ،‬وقوة السلح والساعد‬
‫قوة‪ .‬ورباط الخيل إشارة إلى السلح الثقيل‪ ،‬وإشارة إلى وجوب‬
‫وجوده في أيدي المسلمين ل تأخذه شراء أو هبة من أحد‪.‬‬
‫ول يمنع من الحفاظ على الخيل كجزء من العداد السلمي‪،‬‬
‫لنها عند اللتحام أقوى من التحام الفراد بغير أفراس‪ ،‬وقد أثبتت‬
‫الحروب الحديثة أهمية الخيل كما حدث للمجاهدين في جبال‬
‫)( نفس المصدر السابق )‪.(9/550‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪200‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الفغان ضد الشيوعيين‪ ،‬وفي جنوب السودان ضد النصارى‪.‬‬


‫إن الية الكريمة تضع أذهان المسلمين على العداد الشامل‪،‬‬
‫المعنوي والمادي‪ ،‬العلمي والفقهي على مستوى الفراد‬
‫والجماعات‪ ،‬وتدخل في طياتها‪ ،‬العداد التربوي‪ ،‬والسلوكي‪،‬‬
‫والعداد المالي‪ ،‬والعداد العلمي‪ ،‬والسياسي والمني‬
‫والعسكري‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫كما أن الية الكريمة وضحت أن العداد يحتاج إلى إنفاق هائل‬
‫ووعدت بالتعويض في الدنيا والجزاء في الخرة لتحفز المسلمين‬
‫في‬ ‫ء ِ‬‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫قوا ِ‬‫ف ُ‬‫ما ت ُن ْ ِ‬
‫و َ‬
‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫وتحثهم على ذلك‪ ,‬قال‬
‫ف إل َيك ُم َ‬
‫ن" ]النفال‪.[60 :‬‬
‫مو َ‬‫م ل َ ت ُظْل َ ُ‬‫وأن ْت ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫و ّ ِ ْ‬ ‫ه يُ َ‬
‫ل الل ِ‬
‫سِبي ِ‬
‫َ‬
‫المبحث الول‬
‫سنة الخذ بالسباب وإرشاد القرآن للعداد‬
‫أولً‪ :‬سنة الخذ بالسباب‪:‬‬
‫إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلقة مباشرة مع سنن‬
‫التمكين سنة الخذ بالسباب‪ ،‬ولذلك يجب على الفراد والجماعات‬
‫العاملة للتمكين لدين الله فهمها واستيعابها وإنزالها على أرض‬
‫الواقع‪.‬‬
‫قال المام الرازي‪ :‬أصل السبب في اللغة‪ :‬الحبل‪ ،‬قالوا‪ :‬ول‬
‫يدعي الحبل سبًبا حتى ينزل ويصعد به‪ ,‬ومنه قوله تعالى‪:‬‬
‫ع‪] "...‬الحج‪ .[15 :‬ثم‬ ‫قطَ ْ‬‫م ل ْي َ ْ‬ ‫ء ثُ ّ‬‫ما ِ‬
‫س َ‬‫ب إ َِلى ال ّ‬ ‫سب َ ٍ‬ ‫مدُدْ ب ِ َ‬ ‫فل ْي َ ْ‬
‫‪َ +‬‬
‫قيل لكل شيء سبب لنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريده‪ ,‬قال‬
‫سب ًَبا" ]الكهف‪ [85 :‬أي طريقا‪ ،‬وأسباب السموات‬ ‫تعالى‪َ َ + :‬‬
‫ع َ‬ ‫فأت ْب َ َ‬
‫أبوابها‪ ،‬لن الوصول إلى السماء يكون بدخولها‪ ،‬قال تعالى مخبرا‬
‫َ‬ ‫عّلي أ َب ْل ُ ُ‬
‫ت"‬
‫وا ِ‬‫ما َ‬‫س َ‬‫ب ال ّ‬ ‫سَبا َ‬‫ب‪ ‬أ ْ‬ ‫سَبا َ‬ ‫غ ال ْ‬ ‫عن فرعون‪+ :‬ل ّ َ‬
‫]غافر‪ [37 - 36 :‬والمودة بين القوم تسمى سببا لنهم بها يتواصلون‪.‬‬
‫والسبب في اصطلح الشرع‪ :‬ما يوصل إلى الشيء ول يؤثر فيه‬
‫كالوقت للصلة)‪.(1‬‬
‫واستعير السبب لكل ما يتوصل به إلى أمر من المور)‪ ،(2‬إن‬
‫سنة الخذ بالسباب مقررة في كتاب الله تعالى‪ ،‬ولقد وجه الله‬
‫عباده المؤمنين إلى وجوب مراعاة هذه السنة في كل شئونهم‬
‫الدنيوية والخروية سواء‪.‬‬
‫سول ُ ُ‬
‫ه‬ ‫وَر ُ‬
‫م َ‬ ‫مل َك ُ ْ‬
‫ع َ‬
‫ه َ‬‫سي ََرى الل ُ‬ ‫ف َ‬ ‫مُلوا َ‬ ‫ع َ‬‫لا ْ‬ ‫و ُ‬
‫ق ِ‬ ‫ْقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]التوبة‪[105 :‬‬ ‫مُنو َ‬‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬‫وال ُ‬‫َ‬
‫)( انظر‪ :‬مفاتيح الغيب )‪.(2/626‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬مفردات القرآن كتاب السين‪ ،‬ص ‪ ،220‬المعجم الوسيط‪ ،‬ص ‪.426‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪201‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ض ذَُلول ً َ‬ ‫َ‬
‫شوا‬ ‫م ُ‬ ‫فا ْ‬ ‫م الْر َ‬ ‫ل ل َك ُ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ج َ‬ ‫ذي َ‬ ‫و ال ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫وقال سبحانه‪ُ + :‬‬
‫شوُر" ]الملك‪..[15 :‬‬ ‫ه الن ّ ُ‬ ‫َ‬
‫وإ ِلي ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ق ِ‬ ‫من ّرْز ِ‬ ‫وك ُلوا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ها َ‬ ‫مَناك ِب ِ َ‬ ‫في َ‬ ‫ِ‬
‫ولقد أخبرنا القرآن الكريم أن الله تعالى طلب من السيدة‬
‫مريم أن تباشر‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫هّزي إ ِلي ْ ِ‬ ‫و ُ‬ ‫السباب وهي في أشد حالت ضعفها‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ق ْ‬ ‫خل َ ِ‬
‫ط‬ ‫سا ِ‬ ‫ة تُ َ‬ ‫ع الن ّ ْ‬ ‫جذ ْ ِ‬ ‫بِ ِ‬
‫جن ِّيا" ]مريم‪.[25 :‬‬ ‫ك ُرطًَبا َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫وهكذا يؤكد القرآن الكريم على ضرورة مباشرة السباب في كل‬
‫المور والحوال)‪.(1‬‬
‫»ولقد قدر الله سبحانه وتعالى لدينه أن ينتصر‪ ،‬وللمسلمين‬
‫أن ُيمكنوا‪ ،‬وللمشركين أن ينهزموا‪ ،‬ومع ذلك فهل قال الله تعالى‬
‫للمسلمين‪ :‬ما دمت قدرت لكم النصر والتمكين فاقعدوا وانتظروا‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫دوا ل َ ُ‬ ‫ع ّ‬ ‫وأ َ ِ‬ ‫إنفاذي قدري‪ ،‬وهو لبد نافذ؟ كل‪ ،‬وإنما قال لهم‪َ + :‬‬
‫و‬
‫ه ُ َ ِ ِ َ ُ ّ‬
‫د‬ ‫ع‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫بو‬ ‫ل ت ُْر ِ‬ ‫خي ْ ِ‬ ‫ط ال ْ َ‬ ‫من ّرَبا ِ‬ ‫و ِ‬
‫ة َ‬ ‫و ٍ‬ ‫ق ّ‬‫من ُ‬ ‫عُتم ّ‬ ‫ست َطَ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ّ‬
‫شاءُ‬ ‫و يَ َ‬ ‫َ‬
‫َ ْ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫[‬ ‫‪60‬‬ ‫]النفال‪:‬‬ ‫‪"...‬‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬
‫ض" ]محمد‪.[4 :‬‬ ‫ع ٍ‬ ‫م ب ِب َ ْ‬‫ضك ُ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫و بَ ْ‬‫كن ل ّي َب ْل ُ َ‬ ‫ول َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫صَر ِ‬ ‫ه ل َن ْت َ َ‬ ‫الل ُ‬
‫ت‬‫وي ُث َب ّ ْ‬ ‫م َ‬ ‫صْرك ُ ْ‬ ‫ه ي َن ْ ُ‬ ‫صُروا الل َ‬ ‫َ وقال عز وجل‪ِ+ :‬إن ت َن ْ ُ‬
‫م" ]محمد‪ [7 :‬فلبد من اتخاذ السباب للنصر والتمكين‪،‬‬
‫)‪(2‬‬
‫مك ُ ْ‬ ‫دا َ‬ ‫ق َ‬‫أ ْ‬
‫وإن كان ذلك قدًرا مقدوًرا من عند الله ‪.‬‬
‫»وليس الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عاجزا عن نصرة الحق بغير‬
‫الدوات البشرية‪ ،‬وهو الذي يقول للشيء كن فيكون‪ ،‬ولكن هكذا‬
‫اقتضت مشيئته وهكذا تجري سننه«)‪.(3‬‬
‫ورسول الله × وهو أفضل المتوكلين كان أوعى الناس لهذه‬
‫السنة الربانية‪ ،‬فكان وهو يؤسس لبناء الدولة السلمية يأخذ بكل‬
‫ما في وسعه من أسباب‪ ،‬ول يترك شيئا يسير جزافا‪ ،‬والمتتبع‬
‫للسيرة النبوية يلمس ذلك تماما‪» ..‬ففي الهجرة ‪ -‬على سبيل‬
‫المثال ‪ -‬لم يترك رسول الله × أمرا من المور إل أعد له عدته‪،‬‬
‫وحسب له حسابه‪ ،‬ورسم له خطته على نحو يستوعب كل‬
‫الطاقات والوسائل‪.‬‬
‫فقد أعد النبي × الرواحل والدليل‪ ،‬واختار الرفيق والمكان‬
‫الذي سيتوارى فيه ‪ -‬هو وصاحبه ‪ -‬حتى يهدأ الطلب‪ ،‬ويفتر‬
‫الحماس‪ ،‬وأحاط ذلك كله بما يمكن للبشر من أخذ الحذر‪،‬‬
‫والكتمان‪ ،‬وأسباب الحتياط‪ ،‬وترك للرادة اللهية ‪ -‬بعد ذلك ‪ -‬ما‬
‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن لمحمد سيد‪ ،‬ص ‪.248‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مفاهيم ينبغي أن تصحح لمحمد قطب‪ ،‬ص ‪ 263 ،262‬بتصرف يسير‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( حول التفسير السلمي للتاريخ محمد قطب‪ ،‬ص ‪.104‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪202‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫ل حيلة له فيه)‪.(1‬‬
‫وكذلك المر بالنسبة لغزوة بدر‪ ،‬وأحد‪ ،‬والحزاب‪ ...‬وجميع‬
‫غزواته ×‬
‫وكل أموره‪.‬‬
‫وكان × يوجه أصحابه دائما إلى مراعاة هذه السنة الربانية‪،‬‬
‫في أمورهم الدنيوية والخروية على السواء‪ ,‬ففي أمورهم كان‬
‫النبي × يرشدهم دائما إلى الخذ بما يمكن من أسباب للوصول‬
‫إلى حياة كريمة بعيدا عن ذل السؤال ومهانة العوز والحاجة‪ ،‬روى‬
‫أبو داود والترمذي عن أنس ‪ ‬أن رجل من النصار أتى النبي ×‬
‫فسأله عطاء‪ ،‬فقال الرسول ×‪ :‬أما في بيتك شيء؟ قال‪:‬‬
‫بلى‪ .‬حلس نلبس بعضه‪ ،‬ونبسط بعضه‪ ،‬وقعب نشرب فيه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ائتني بهما‪ ،‬فأتاه بهما‪ ،‬فأخذهما رسول الله × بيده وقال‪ :‬من‬
‫يشتري مني هذين؟ قال رجل‪ :‬أنا آخذهما بدرهم‪ ،‬قال رسول‬
‫الله ×‪ :‬من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلثا‪ ،‬فقال رجل‪ :‬أنا‬
‫آخذهما بدرهمين‪ ،‬فأعطاهما إياه فأخذ الدرهمين‪ ،‬وأعطاهما‬
‫ما فانبذه إلى أهلك‪،‬‬ ‫النصاري‪ ،‬وقال له‪ :‬اشتر بأحدهما طعا ً‬
‫واشتر بالخر قدوما فائتني به‪ ،‬فأتاه به‪ ،‬فشد فيه رسول‬
‫عودا بيده‪ ،‬ثم قال‪ :‬اذهب فاحتطب وبع‪ ،‬ول أرينك‬ ‫ً‬ ‫الله ×‬
‫خمسة عشر يوما‪ ,‬فجاء وقد أصاب عشرة دراهم‪ ،‬فاشترى‬
‫طعاما‪ ,‬فقال له رسول الله ×‪ :‬هذا خير‬ ‫ً‬ ‫ببعضها ثوبًا‪ ،‬وببعضها‬
‫لك من أن تجئ المسألة نكتة سوداء في وجهك يوم‬
‫القيامة)‪.(2‬‬
‫»وهذا نفس المعنى الذي أشار إليه أمير المؤمنين عمر بن‬
‫الخطاب ‪ ‬حين قال للكسالى القابعين في المسجد ينتظرون‬
‫الرزق‪ :‬ل يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول‪» :‬اللهم ارزقني«‬
‫وقد علم أن السماء ل تمطر ذهًبا ول فضة‪ ،‬وإن الله تعالى يقول‪:‬‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫صل َةُ َ‬ ‫ذا ُ‬‫فإ ِ َ‬‫‪َ +‬‬
‫م ْ‬ ‫غوا ِ‬‫واب ْت َ ُ‬
‫ض َ‬
‫في الْر ِ‬ ‫شُروا ِ‬
‫فان ْت َ ِ‬ ‫ت ال ّ‬‫ضي َ ِ‬
‫ق ِ‬
‫ه‪] "...‬الجمعة‪.[10 :‬‬ ‫ل الل ِ‬‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬‫َ‬
‫نعم‪ ،‬لبد من بذل الجهد‪ ،‬لن الخذ بالسباب والكدح للحصول‬
‫على ما يرغب النسان في تحقيقه هو ذاته من سنن الله‬
‫تعالى‪.(3) «...‬‬
‫وكذلك بالنسبة لمر الخرة‪ ،‬لبد من الخذ بالسباب حتى يصل‬
‫ن‬ ‫م ْ‬
‫و َ‬‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫النسان إلى ما يرجو من رحمة الله وجنته‪ ،‬قال‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أ ََرادَ ال َ ِ‬
‫ن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ل‬‫أو‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ن‬
‫م ٌ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫و ُ‬
‫ه َ‬
‫و ُ‬
‫ها َ‬
‫عي َ َ‬
‫س ْ‬ ‫عى ل َ َ‬
‫ها َ‬ ‫س َ‬
‫و َ‬
‫خَرةَ َ‬
‫كوًرا" ]السراء‪ [19 :‬لقد كان في وجدان المة‬ ‫ش ُ‬
‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫عي ُ ُ‬
‫س ْ‬
‫َ‬
‫)( أولويات الحركة السلمية في المرحلة المقبلة‪ ,‬د‪ .‬القرضاوي‪ ،‬ص ‪.18 ،17‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( رواه أبو داود‪ ،‬كتاب الزكاة‪ ،‬باب‪ :‬ما تجوز فيه المسألة )‪.(2/120‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( حول تفسير التاريخ السلمي‪ ،‬ص ‪.89‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪203‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫السلمية في عصرها الزاهر أن إيمانها بقدرة الله ‪ -‬تعالى ‪-‬‬


‫المطلقة‪ ،‬وقضائه وقدره ل يتعارض مع اتخاذ السباب‪.‬‬
‫لقد كانوا يدركون أن لله ‪ -‬تعالى ‪ -‬سننا في هذا الكون وفي‬
‫حياة البشر غير قابلة للتغيير‪ ،‬ومع أن لله تعالى سننا خارقة تملك‬
‫أن تصنع كل شيء ول يعجزها شيء إل أن الله جلت قدرته قد‬
‫قضى أن تكون سنته الجارية ثابتة في الحياة الدنيا‪ ،‬وأن تكون‬
‫سننه الخارقة استثناء لها‪ ،‬وكلتاهما معلقة بمشيئة الله‪.‬‬
‫لذلك كان في حسهم أنه لبد لهم من مجاراة السنن الجارية‬
‫إذا رغبوا في الوصول إلى نتيجة معينة في واقع حياتهم‪ ،‬أي أنه‬
‫لبد من اتخاذ السباب المؤدية إلى النتائج بحسب تلك السنن‬
‫الجارية)‪.(1‬‬
‫ولقد أصاب المسلمين في أحد ما أصابهم‪ ،‬لنهم لم يستجمعوا‬
‫المقدمات التي تنتج النصر ولم يكن المشركون أولى بالله منهم‪،‬‬
‫ولكن هذه سنة الله‪ ،‬فالله ‪ -‬تعالى ‪ -‬قد وضع للنصر أسبابا كثيرة‪،‬‬
‫وأوجب على عباده رعايتها‪ ،‬فمن أبى فل يلومن إل نفسه‪.‬‬
‫وإن تأخر المسلمين اليوم عن القيادة العالمية لشعوب الرض‬
‫لم يكن ظلما وقع بهم‪ ،‬بل كان نتيجة طبيعية لقوم نسوا رسالتهم‪،‬‬
‫وحطوا مكانتها‪ ،‬وشابوا معدنها بركام هائل من الوهام في مجال‬
‫العلم والعمل على سواء‪ ،‬وأهملوا السنن الربانية‪ ,‬وظنوا أن‬
‫هذا من‬ ‫التمكين قد يكون بالماني والحلم‪ ،‬ولكن هيهات‪ ،‬بل‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ما َ‬ ‫صميم العدل اللهي)‪ ,(2‬قال تعالى‪+ :‬ذَل ِ َ‬
‫ديك ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قدّ َ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫َ‬
‫د" ]آل عمران‪.[182 :‬‬ ‫عِبي ِ‬ ‫س ب ِظَل ّم ٍ ل ّل ْ َ‬ ‫ه ل َي ْ َ‬‫ن الل َ‬ ‫وأ ّ‬ ‫َ‬
‫ولكن إذا كان هذا عقاب الله للمؤمنين الذين عصوه‪ ،‬فما بال‬
‫الكافرين الذين جحدوه سبحانه بالمرة‪ ،‬ومع ذلك فإنهم متمكنون‬
‫في الرض ‪ -‬من الناحية المادية غاية التمكين؟‬
‫إن هؤلء الكفار لم يبلغوا ما بلغوه لنهم أقرب من الله أو أرضى‬
‫له‪ ،‬ولم يبلغوا ما بلغوا بسحر أو بمعجزة أو لنهم خلق آخر متميز‪،‬‬
‫ولم يقيموا الصناعات أو يجوبوا البحار‪ ،‬أو يخترقوا أجواء الفضاء لن‬
‫عقيدتهم حق‪ ،‬أو لن فكرهم سليم‪ ،‬إنهم بلغوا ذلك لن السبيل إلى‬
‫هذا التقدم درب مفتوح لجميع خلق الله مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬برهم‬
‫ها‬
‫زين َت َ َ‬ ‫و ِ‬‫حَياة َ الدّن َْيا َ‬ ‫ريد ُ ال ْ َ‬‫ن يُ ِ‬ ‫من َ‬
‫كا َ‬ ‫وفاجرهم‪ ,‬قال َ تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]هود‪.[15 :‬‬ ‫سو َ‬ ‫ُ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ب‬
‫ُْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ها‬‫َ‬ ‫في‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫م ِ َ َ ْ‬
‫ه‬‫ُ‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫في‬ ‫مال َ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ع َ‬‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ّ َ‬
‫ف إ ِلي ْ ِ‬ ‫نُ َ‬
‫إن الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬جعل التمكين في الحياة يمضي‬
‫بالجهد البشري‪ ،‬وبالطاقة البشرية على سنن ربانية ثابتة‪ ،‬وقوانين‬
‫ل تتبدل ول تتحول‪ ،‬فمن يقدم الجهد الصادق ويخضع لسنن الحياة‬
‫)( انظر‪ :‬مفاهيم ينبغي أن تصحح‪ ،‬ص ‪.263 ،262‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الغزو الثقافي يمتد من فراغنا للغزالي‪ ،‬ص ‪.150 :147‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪204‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫يصل على قدر جهده وبذله وعلى قدر سعيه وعطائه‪.‬‬


‫إنها السنة التي أرادها الله في هذه الحياة‪ ،‬إنها مشيئته وسننه‬
‫وإرادته)‪.(1‬‬
‫ب‪ -‬التوكل على الله والخذ بالسباب‪:‬‬
‫التوكل على الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ل يمنع من الخذ‬
‫بالسباب‪ ،‬فالمؤمن يتخذ السباب من باب اليمان بالله وطاعته‬
‫فيما أمر به من اتخاذها‪ ،‬ولكنه ل يجعل السباب التي تنشئ‬
‫النتائج فيتوكل عليها)‪.(2‬‬
‫ولقد أرشدنا النبي × في أحاديث كثيرة ضرورة الخذ‬
‫بالسباب مع التوكل على الله تعالى‪ ،‬كما نبه ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬على‬
‫عدم تعارضها‪.‬‬
‫‪ -1‬عن أنس بن مالك ‪ ‬قال‪ :‬جاء رجل إلى النبي × على‬
‫ناقة له‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله أدعها وأتوكل؟ فقال‪) :‬اعقلها‬
‫وتوكل( )‪.(3‬‬
‫وهذا الحديث أصل في التوكل وفيه المر باتخاذ السباب‬
‫والحتراز مع‬
‫المر بالتوكل)‪.(4‬‬
‫‪ -2‬وعن عمر بن الخطاب ‪ ‬عن النبي × قال‪» :‬لو أنكم‬
‫توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير‪ ،‬تغدو‬
‫خماصا‪ ،‬وتعود بطانا« )‪.(5‬‬
‫وفي هذا الحديث الشريف حث على التوكل على الله مع‬
‫الشارة إلى أهمية الخذ بالسباب حيث أثبت الغدو والرواح للطير‬
‫مع ضمان الله تعالى الرزق لها)‪.(6‬‬
‫إن العمل بسنة الخذ بالسباب من صميم تحقيق العبودية لله‬
‫تعالى‪ ،‬وهو المر الذي خلق له العبيد‪ ،‬وأرسلت به الرسل‪،‬‬
‫وأنزلت لجله الكتب‪ ،‬وبه قامت السموات والرض‪ ،‬وله وجدت‬
‫الجنة والنار‪ ،‬فالقيام بالسباب المأمور بها محض العبودية)‪.(7‬‬
‫إن القرآن الكريم أرشدنا إلى الخذ بالسباب وأرشدنا أل‬
‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.252‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ :‬ص ‪.253‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( رواه الترمذي في صفة القيامة باب )‪ (4/668) (60‬رقم ‪.537‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬التوكل على الله تعالى وعلقته بالسباب‪ ،‬د‪ .‬عبد الله الدميجي‪ ،‬ص‬ ‫‪4‬‬

‫‪.179‬‬
‫)( الترمذي‪ ،‬كتاب الزهد‪ ،‬باب التوكل على الله )‪ (4/573‬رقم ‪ ،2344‬حسن‬ ‫‪5‬‬

‫صحيح‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.254‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪.(2/130‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪205‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫نعتمد عليها وحدها وإنما نتوكل على الله مع الخذ بها‪ ,‬وعلى‬
‫المسلم أن يتقي في باب السباب أمرين‪:‬‬
‫‪ -1‬العتماد عليها‪ ،‬والتوكل عليها‪ ،‬والثقة بها ورجاؤها وخوفها‪,‬‬
‫فهذا شرك يرق ويغلظ‪ ،‬وبين ذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬ترك ما أمر الله به من السباب‪ ،‬هذا أيضا قد يكون كفرا‬
‫وظلما وبين ذلك‪ ,‬بل على العبد أن يفعل ما أمره الله به من‬
‫المر‪ ،‬ويتوكل على الله توكل من يعتقد أن المر كله بمشيئة الله‪،‬‬
‫سبق بها علمه‪ ،‬وحكمه‪ ،‬وأن السبب ل يضر ول ينفع ول يعطي ول‬
‫يمنع‪ ,‬ول يقضي ول يحكم‪ ،‬ول يحصل للعبد ما ل تسبق له به‬
‫المشيئة اللهية ول يصرف عنه ما سبق به الحكم والعلم‪ ،‬فيأتي‬
‫بالسباب إتيان من ل يرى النجاة والفرح والوصول إل بها‪ ،‬ويتوكل‬
‫على الله توكل من يرى أنها ل تنجيه ول تحصل له فلحا ول توصله‬
‫دا‪ ,‬ويضرع‬‫إلى المقصود‪ ،‬فيجرد عزمه للقيام بها حرصا واجتها ً‬
‫قلبه من العتماد عليها والركون إليها تجريدا للتوكل واعتمادا على‬
‫الله وحده)‪ .(1‬وقد جمع النبي × بين هذين الصلين في الحديث‬
‫الصحيح‪ ،‬حيث يقول‪» :‬احرص على ما ينفعك‪ ،‬واستعن بالله‬
‫ول تعجز‪.(2) «...‬‬
‫فأمره بالحرص على السباب والستعانة بالمسبب ونهاه عن‬
‫العجز وهو نوعان‪:‬‬
‫‪ -1‬تقصير في السباب وعدم الحرص عليها‪.‬‬
‫‪ -2‬وتقصير في الستعانة بالله وترك تجريدها‪.‬‬
‫فالدين كله ظاهره وباطنه‪ ،‬وشرائعه وحقائقه تحت هذه‬
‫الكلمات النبوية)‪.(3‬‬
‫إن استيعاب وفهم سنة الخذ بالسباب لفراد المة السلمية‬
‫وجماعتها من ضروريات فقه التمكين لهذا الدين‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬إرشاد القرآن للعداد‪:‬‬
‫إن أمر التمكين لهذا الدين يحتاج إلى جميع أنواع القوى‪ ،‬على‬
‫اختلفها وتنوعها‪ ،‬ولذلك اهتم القرآن الكريم اهتماما كبيرا في‬
‫إرشاد المة للخذ بأسباب القوة وأوجب الله تعالى على المة‬
‫الخذ بأسبابها‪ ،‬لن التمكين لهذا الدين طريقه الوصول إلى القوى‬
‫بمفهومها الشامل‪ ،‬وقد قال الصوليون‪» :‬وما ل يتم الواجب إل به‬
‫فهو واجب«)‪.(4‬‬
‫مدارج السالكين )‪.(3/501‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مسلم‪ :‬كتاب القدر باب المر بالقوة )‪ (4/2052‬رقم ‪.2664‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬مدارج السالكين )‪.(3/501‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫في ظلل القرآن )‪ (2/919‬تفسير آية ‪ 54‬من سورة المائدة‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪206‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫إن القرآن الكريم أوجب على أتباعه إعداد القوة بصورة‬


‫ة‬
‫و ٍ‬ ‫ق ّ‬ ‫من ُ‬ ‫عُتم ّ‬ ‫ست َطَ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫دوا ل َ ُ‬ ‫ع ّ‬ ‫وأ َ ِ‬‫تعالى‪َ +:‬‬ ‫واضحة‪ ,‬قال‬
‫ن‬ ‫ري‬
‫ِ َ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫وآ‬ ‫م‬
‫ّ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫و‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫و‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫بو‬ ‫ُ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ُ‬
‫ِ ْ‬‫ت‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫خ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ط‬
‫من ّرَبا ِ‬ ‫و ِ‬ ‫َ‬
‫من‬ ‫ِ‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ن‬‫ت‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫م‬
‫ُ َ ْ ُ ُ َْ َ َ ُ ْ ِ‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬
‫َ ْ ُ َ ُ ُ‬‫مو‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫دو‬
‫ُ ِ ِ ْ‬ ‫من‬ ‫ِ‬
‫ن"]النفال‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ل َ ت ُظْل َ ُ‬ ‫وأن ْت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ف إ ِل َي ْك ُ ْ‬ ‫و ّ‬ ‫ه يُ َ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫ء ِ‬‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫‪.[60‬‬
‫شرح الية الكريمة‪:‬‬
‫)‪(1‬‬
‫العداد‪ :‬تهيئة الشيء للمستقبل ‪ .‬والضمير في »لهم« راجع‬
‫إلى الكفار‪.‬‬
‫)‪(2‬‬
‫عُتم" قال ابن كثير‪ :‬أي مهما أمكنكم ‪،‬‬ ‫ست َطَ ْ‬
‫ما ا ْ‬
‫وقوله‪ّ + :‬‬
‫وهذا التعبير القرآني يشير إلى أقصى حدود الطاقة‪ ،‬بحيث ل تقعد‬
‫العصبة المسلمة عن سبب من أسباب القوة يدخل في طاقتها)‪.(3‬‬
‫والمراد بالقوة هنا‪ :‬ما يكون سببا لحصول القوة‪ ،‬وذكر الفخر‬
‫الرازي فيه وجوها‪:‬‬
‫‪ -1‬المراد من القوة أنواع السلحة‪.‬‬
‫‪ -2‬ورد أن النبي ×قرأ الية الكريمة على المنبر وقال‪» :‬أل إن‬
‫القوة الرمي« قالها ثلثا)‪.(4‬‬
‫‪ -3‬قال بعضهم‪ :‬القوة هي الحصون‪.‬‬
‫‪ -4‬قال أصحاب المعاني‪ :‬الولى أن يقال‪ :‬هذا عام في كل ما‬
‫يتقوى به على‬
‫حرب العدو‪ ،‬وكل ما هو آلة للغزو والجهاد‪ ،‬فهو من جملة‬
‫القوة‪ ،‬وقوله عليه السلم‪» :‬القوة الرمي« ل ينفي كون‬
‫غير الرمي معتبرا كما أن قوله‪:‬‬
‫»الحج عرفة« )‪ .(5‬وقوله‪» :‬الدين النصيحة« )‪ (6‬ل ينفي‬
‫اعتبار غيره‪ ،‬بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من‬
‫المقصود وكذا هنا)‪.(7‬‬
‫كما يساعد على هذا الفهم مجيء كلمة »قوة« هنا نكرة ل‬
‫معرفة‪ ,‬فهي تشمل كل سلح معروف أو سيعرف مع الزمن‬
‫المتجدد فهي تتسع لعداد الطائرات والصواريخ والدبابات‪ ..‬وكل‬
‫السلحة التي لها التأثير الحاسم في المعركة)‪.(8‬‬
‫)( تفسير المنار )‪.(5/53‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير القرآن العظيم )‪.(2/122‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(2/1553‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( مسلم مع شرح النووي‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب‪ :‬فضل الرمي )‪.(13/64‬‬ ‫‪4‬‬

‫)‪ (3،‬مسلم‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب‪ :‬إن الدين النصيحة )‪.(1/74‬‬ ‫‪5‬‬
‫‪6‬‬

‫)( تفسير المنار )‪.(5/53‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.89‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪207‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ومعنى »رباط الخيل« قال النسفي‪ :‬هي اسم للخيل التي‬


‫ترابط في سبيل الله تعالى)‪ ،(1‬وقال صاحب تفسير المنار‪ :‬الرباط‬
‫في أصل اللغة‪ :‬الحبل الذي يربط به الدابة‪،‬‬
‫ه" أي‪:‬‬‫ن بِ ِ‬ ‫ورباط الخيل‪ :‬حبسها واقتناؤها)‪ ,(2‬ومعنى ‪+‬ت ُْر ِ‬
‫هُبو َ‬
‫تخزون‪ ،‬كما قال الطبري)‪ ،(3‬وقال ابن كثير‪ :‬تخوفون به)‪ ،(4‬وقال‬
‫الشيخ المراغي‪ :‬الرهبة‪ :‬هي الخوف‬
‫المقترن بالضطراب)‪.(5‬‬
‫م" قال الطبري‪ :‬هم كل عدو‬ ‫ه ْ‬
‫دون ِ ِ‬
‫من ُ‬
‫ن ِ‬
‫ري َ‬
‫خ ِ‬
‫وآ َ‬
‫ومعنى ‪َ +‬‬
‫للمسلمين غير الذي أمر النبي ×؛ أن يشرد بهم من خلفه)‪،(6‬‬
‫وذكر الفخر الرازي فيه وجوها ثم قال‪ :‬وأصح ما قيل في‬
‫المقصود منهم‪» :‬أنهم المنافقون«)‪.(7‬‬
‫ذكر الله تعالى في هذه الية الكريمة ما لجله أمر بإعداد هذه‬
‫م‬‫وك ُ ْ‬
‫عد ُ ّ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬
‫و الل ِ‬
‫عد ُ ّ‬
‫ه َ‬
‫ن بِ ِ‬
‫هُبو َ‬
‫الشياء‪ ,‬فقال جل شأنه‪+ :‬ت ُْر ِ‬
‫ن‪ "...‬ذلك أن الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين‬ ‫ري َ‬
‫خ ِ‬
‫وآ َ‬
‫َ‬
‫للجهاد ومستعدين له ومستكملين لجميع السلحة واللت خافوهم‬
‫وذلك الخوف يفيد أموًرا كثيرة‪:‬‬
‫‪ -1‬أنهم ل يتجرءون على دخول دار السلم‪.‬‬
‫‪ -2‬أنهم إذا اشتد خوفهم فربما التزموا من عند أنفسهم دفع‬
‫الجزية‪.‬‬
‫‪ -3‬أنه ربما صار ذلك داعيا إلى اليمان لما يرون من قوة أهله‬
‫وعزته‪.‬‬
‫‪ -4‬أنهم ل يعينون سائر الكفار‪.‬‬
‫‪ -5‬أن يصير ذلك سببا لمزيد الزينة في دار السلم)‪.(8‬‬
‫ويقول صاحب الظلل‪ :‬السلم يأمر بأعداد القوة على اختلف‬
‫صنوفها وألوانها وأسبابها‪ ،‬فلبد للسلم من قوة ينطلق بها في‬
‫الرض لتحرير النسان‪.‬‬
‫وأهمية القوة بالنسبة للدعوة السلمية تتلخص في أمور‪:‬‬

‫انظر‪ :‬تفسير النسفي‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تفسير المنار )‪.(10/16‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تفسير الطبري )‪(6/22‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تفسير ابن كثير )‪(2/322‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تفسير المراغي )‪(4/23‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫تفسير الطبري )‪(6/22‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫مفاتيح الغيب )‪.(7/533‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫المصدر نفسه )‪ (7/324‬وما بعدها‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪208‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫من الذين يختارون هذه العقيدة على‬


‫المر الول‪ :‬أن تؤ ّ‬
‫حريتهم في اختيارها فل ُيصدون عنها‪ ،‬ول يفتنون كذلك بعد‬
‫اعتناقها‪.‬‬
‫المر الثاني‪ :‬أن ترهب هذه القوة أعداء السلم‪ ،‬فل يفكروا‬
‫في العتداء على حرمات السلم‪.‬‬
‫المر الثالث‪ :‬أن يبلغ الرعب بهؤلء العداء أل يفكروا في‬
‫الوقوف في وجه الدين السلمي وهو ينطلق لتبليغ كلمة الله إلى‬
‫النسان في كل الرض‪.‬‬
‫المر الرابع‪ :‬أن تحطم هذه القوة كل قوة في الرض تتخذ‬
‫لنفسها صفة »اللوهية« من دون الله رب العالمين)‪.(1‬‬
‫وبما أن المة السلمية أمة مجاهدة‪ ،‬فلبد أن تكون هذه المة‬
‫قوية حتى تستطيع أن تنهض بهذه الرسالة التي أنيطت بها‪ ،‬ولذلك‬
‫حث النبي × المؤمنين أن يكونوا أقوياء‪ ،‬وعلى أن يحصلوا كل‬
‫أسباب القوة‪ ،‬فقال ×‪» :‬المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من‬
‫المؤمن الضعيف«)‪.(2‬‬
‫وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يحصلوا كل أسباب القوة‪،‬‬
‫فهم يواجهون نظاما عالميا وقوى دولية ل تعرف إل لغة القوة‪,‬‬
‫فعليهم أن يقرعوا الحديد بالحديد‪ ،‬ويقابلوا الريح بالعصار‪،‬‬
‫ويقاتلوا الكفر وأهله بكل ما يقدرون عليه‪ ،‬وبكل ما امتدت إليه‬
‫يدهم وبكل ما اكتشف النسان ووصل إليه العلم في ذلك العصر‬
‫من سلح وعتاد واستعداد حربي‪ ،‬ل يقصرون في ذلك ول‬
‫يعجزون)‪.(3‬‬
‫إن هذا العداد الشامل من أجل تمكين الله يدخل تحت‬
‫مسمى الجهاد والذي بدونه يستحال التمكين لشرع الله‬
‫وإقامة دولة تحكم بمنهج الله‪ ،‬يقول الشيخ محمد الغزالي‪:‬‬
‫»إن التغيير السلمي الذي تنشده المة السلمية ل يمكن‬
‫تحقيقه من غير جهاد‪ ،‬وبدون صياغة جيل مجاهد‪ ،‬فالمهمة‬
‫التغييرية مهمة شاقة‪ ،‬فالقوى الظاهرة والخفية القابضة‬
‫على الزمام في عالمنا قوى شريرة‪ ،‬وقد هيأها أعداء لهذا‬
‫الدور من زمن بعيد‪ ،‬وهي تعمل ليل نهار على خفت صوت‬
‫السلم بشتى الطرق والوسائل‪ ,‬وإزالة هذه القوى‪ ،‬وإقامة‬
‫السلم مكانها ليس بالمر السهل‪ ،‬فهي ستتشبث بمواقعها‬
‫حتى النفس الخير وذلك يحتاج أول وقبل كل شيء إلى‬
‫)( في ظلل القرآن )‪ (3/3154‬مع تصرف‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مسلم مع شرح النووي كتاب ‪(215 /16) ،6‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ لبي الحسن الندوي‪ ،‬ص ‪.225‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪209‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تربية جهادية تخرج أنماطا من المجاهدين‪ ،‬يحبون الموت‬


‫كما يحب الناس الحياة‪ ،‬ويعيشون ه ّم السلم وقضاياه‬
‫ليلهم ونهارهم‪ .‬لبد من بناء قاعدة صلبة متينة تستطيع أن‬
‫تصمد في هذا الصراع الجبار‪ ,‬وتقف في وجه المؤامرات‪،‬‬
‫وتجاهد في كل المجالت والجبهات‪ ،‬وتدفع ثمن التمكين‬
‫لدين الله في الرض من زهرة‬
‫أبنائها الشهداء)‪. (1‬‬
‫»إن الواجب على المة السلمية اليوم لتنهض وتتقدم وتترقى‬
‫في مصاعد المجد أن تجاهد ‪-‬بمالها ونفسها‪ -‬الجهاد الذي أمرها‬
‫الله به في القرآن الكريم مرارا عديدة‪ ،‬فالجهاد بالمال والنفس‬
‫هو العلم العلى الذي يهتف بالعلوم كلها‪ ،‬فإذا تعلمت المة هذا‬
‫العلم وعملت به دانت لها سائر العلوم والمعارف«)‪.(2‬‬
‫***‬

‫)( ركائز اليمان بين العقل والقلب‪ ،‬ص ‪ 75‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ المير شكيب أرسلن‪ ،‬ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.164‬‬

‫‪210‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫المبحث الثاني‬
‫الســــــــباب المعنــــــوية‬
‫ويحتل العداد المعنوي المكانة الولى‪ ،‬حتى إن التمكين‬
‫ليرتبط بالدرجة الولى بمدى الخذ بهذه السباب ومن أهمها‪:‬‬
‫أولً‪ :‬إعداد الفراد الربانيين‪:‬‬
‫ولقد رسم لنا النبي × منهجا متميزا في تربية الفراد على‬
‫معاني الربانية وتحمل أداء رسالة رب البرية‪ ،‬وكان × مهتما ببناء‬
‫القاعدة الصلبة وتربية أتباعه على معاني العقيدة الصحيحة‪ ،‬فقد‬
‫حرص × منذ اليوم الول من بعثته على أن يعطي الناس التصور‬
‫الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم‪ ،‬مدركا أن هذا التصور سيورث‬
‫التصديق واليقين عند من صفت نفوسهم‪ ،‬واستقامت فطرتهم‪،‬‬
‫ولقد ركز النبي × في تربيته لصحابه على عدة جوانب منها‪:‬‬
‫أن الله منزه عن النقائص‪ ،‬موصوف بالكمالت التي ل‬ ‫‪-1‬‬
‫تتناهى فهو سبحانه واحد ل شريك له‪ ،‬ولم يتخذ صاحبة ول ولدا‪.‬‬
‫وأنه سبحانه خالق كل شيء‪ ،‬ومالكه‪ ،‬ومدبر أمره ‪+‬أ َل َ‬ ‫‪-2‬‬
‫ق‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫خ‬‫َ‬ ‫ه ال ْ‬
‫لَ ُ‬
‫مُر" ]العراف‪.[54 :‬‬ ‫وال ْ‬ ‫َ‬
‫وأنه تعالى جده مصدر كل نعمة في هذا الوجود‪ ،‬دقت‬ ‫‪-3‬‬
‫ه"‬ ‫ن الل ِ‬
‫م َ‬ ‫ة َ‬
‫ف ِ‬ ‫م ٍ‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫من‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫كم‬ ‫ب‬ ‫ما‬
‫َ َ ِ‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫خفيت‬ ‫أو‬ ‫ظهرت‬ ‫عظمت‪،‬‬ ‫أو‬
‫]النحل‪.[53 :‬‬
‫وأن علمه محيط بكل شيء‪ ،‬فل تخفى عليه خافية في‬
‫الرض‪ ،‬ول في السماء‪ ،‬ول ما يخفى النسان وما يعلن‪+:‬وأ َ‬
‫‪-4‬‬
‫ن‬‫َ ّ‬ ‫الله َ َ‬
‫عل ْ ً‬
‫ما" ]الطلق‪.[12 :‬‬ ‫ء ِ‬
‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫حا َ‬
‫ط ب ِك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫قدْ أ َ‬ ‫َ‬
‫وأنه سبحانه يقيد على النسان أعماله بواسطة ملئكته‪،‬‬ ‫‪-5‬‬
‫في كتاب ل يترك صغيرة ول كبيرة إل أحصاها‪ ،‬وسينشر ذلك في‬
‫ل إ ِل ّ‬
‫و ٍ‬ ‫من َ‬
‫ق ْ‬ ‫ف ُ‬
‫ظ ِ‬ ‫ما ي َل ْ ِ‬
‫اللحظة المناسبة والوقت المناسب ‪َ +‬‬
‫د" ]ق‪.[18 :‬‬
‫عِتي ٌ‬
‫ب َ‬
‫قي ٌ‬ ‫ل َدَي ْ ِ‬
‫ه َر ِ‬
‫وأنه سبحانه يبتلي عباده بأمور تخالف ما يحبون‪ ،‬وما‬ ‫‪-6‬‬
‫يهوون‪ ،‬ليعرف الناس معادنهم‪ ،‬من منهم يرضى بقضاء الله‬
‫وقدره‪ ،‬ويسلم له ظاهرا وباطنا‪ ،‬فيكون جديرا بالخلفة والمامة‬
‫والسيادة‪ ،‬ومن منهم يغضب ويسخط‪ ،‬فل يساوي شيئا‪ ،‬ول يسند‬
‫خل َق ال ْموت وال ْحياةَ ل ِيبل ُوك ُ َ‬
‫م أي ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫َ ْ َ ْ‬ ‫َ ْ َ َ َ َ‬ ‫ذي َ َ‬‫إليه شيء‪+ :‬ال ّ ِ‬

‫‪211‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مل ً" ]الملك‪.[2 :‬‬ ‫َ‬


‫ع َ‬
‫ن َ‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬
‫أ ْ‬
‫وأنه سبحانه يوفق ويؤيد وينصر من لجأ إليه‪ ،‬ولذ‬ ‫‪-7‬‬
‫ي‬
‫ول ِي ّ َ‬
‫ن َ‬
‫بحماه‪ ،‬ونزل على حكمه في كل ما يأتي وما يذر‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ن" ]العراف‪:‬‬ ‫حي َ‬ ‫وّلى ال ّ‬
‫صال ِ ِ‬ ‫و ي َت َ َ‬
‫ه َ‬
‫و ُ‬ ‫ل ال ْك َِتا َ‬
‫ب َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي ن َّز َ‬ ‫الل ُ‬
‫‪.[196‬‬
‫وأنه وأن حقه سبحانه وتعالى على العباد أن يعبدوه‪،‬‬ ‫‪-8‬‬
‫ن‬ ‫م‬
‫ّ َ‬ ‫كن‬‫ُ‬ ‫و‬ ‫د‬
‫ُ ْ َ‬ ‫ب‬‫ع‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫فا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ل‬
‫َ ِ‬ ‫ب‬ ‫‪+‬‬ ‫شيئا‪:‬‬ ‫به‬ ‫يشركوا‬ ‫فل‬ ‫ويوحدوه‪،‬‬
‫ن" ]الزمر‪.[66 :‬‬
‫ري َ‬ ‫ال ّ‬
‫شاك ِ ِ‬
‫وأنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬حدد مضمون هذه العبودية‪ ،‬وهذا‬ ‫‪-9‬‬
‫التوحيد في القرآن العظيم‪.‬‬
‫وظل × يطرق معهم هذه الجوانب‪ ،‬ويكرر على أصحابه ومن‬
‫آمن به‪ ,‬ويفتح عيونهم عليها من خلل الكتاب المنظور‪ ،‬والكون‬
‫المسطور حتى خشعت قلوبهم وسمت أرواحهم‪ ,‬وطهرت‬
‫نفوسهم‪ ،‬ونشأ لديهم تصور وإدراك لحقيقة ومضمون اللوهية‬
‫يخالف تصورهم الول‪ ،‬وإدراكهم القديم)‪.(1‬‬
‫واهتم × بغرس حقيقة المصير وسبيل النجاة لصحابه موقنا‬
‫أن من عرف منهم عاقبته‪ ،‬وسبيل النجاة والفوز في هذه العاقبة‪،‬‬
‫سيسعى بكل ما أوتي من قوة ووسيلة لسلوك هذا السبيل‪ ،‬حتى‬
‫يظفر غدا بهذه النجاة‪ ,‬وذلك الفوز‪ ،‬وركز × في هذا البيان على‬
‫الجوانب التالية‪:‬‬
‫أن هذه الحياة الدنيا مهما طالت فهي إلى زوال‪ ،‬وأن‬ ‫‪-1‬‬
‫ة الدّن َْيا‬ ‫حَيا ِ‬ ‫ْ‬
‫ل ال َ َ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫متاعها َمهما عظم‪ ،‬فإنه قليل حقير‪+ :‬إ ِن ّ َ‬
‫ما‬‫ّ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ت‬‫ه َ َ ُ‬
‫با‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ط بِ ِ‬ ‫خت َل َ َ‬ ‫فا ْ‬ ‫ء َ‬‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ء أن َْزل َْناهُ ِ‬ ‫ما ٍ‬ ‫كَ ْ َ‬
‫ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫َ‬
‫خُرف َ‬ ‫ض ُز ْ‬ ‫ت الْر ُ‬ ‫خذ ِ‬‫َ‬ ‫ذا أ َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫مَ َ‬ ‫عا ُ‬ ‫والن ْ َ‬ ‫يأكل الناس‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ها‬ ‫ها أ ََتا َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫رو‬ ‫د‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ها‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫ه‬‫ْ‬ ‫َوازين َت ّوظَ ُن َ أ َ‬
‫ََ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ََ ّ ّ ْ َ َ ّ‬
‫س‬ ‫م‬ ‫بال‬ ‫ن‬ ‫غ‬
‫ْ َ ْ َ ِ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫دا‬ ‫صي‬
‫َ َ َ َ َ ِ ً‬ ‫ح‬ ‫ها‬ ‫نا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫را‬ ‫و َ َ ًَ‬
‫ها‬ ‫ن‬ ‫مُرَنا ل َي ْل ً أ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫ْ ِ‬
‫ع‬
‫مَتا ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن" ]يونس‪ُ + .[24 :‬‬ ‫فكُرو َ‬ ‫ّ‬ ‫وم ٍ ي َت َ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫ل الَيا ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫ك َذَل ِك ن ُ َ‬
‫َ‬
‫ل" ]النساء‪.[77 :‬‬ ‫قِلي ٌ‬ ‫الدّن َْيا َ‬
‫وأن كل الخلق إلى الله راجعون‪ ،‬وعن أعمالهم‬ ‫‪-2‬‬
‫مسئولون ومحاسبون‪ ,‬وفي الجنة أو في النار مستقرون‪:‬‬
‫دى" ]القيامة‪.[36 :‬‬ ‫س ً‬ ‫ك ُ‬ ‫ن َأن ي ُت َْر َ‬ ‫سا ُ‬ ‫ب ال ِن ْ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬
‫َ‬
‫‪+‬أي َ ْ‬
‫وأن نعيم الجنة ينسى كل تعب ومرارة في الدنيا‪،‬‬ ‫‪-3‬‬
‫)( انظر‪ :‬منهج الرسول × في غرس الروح الجهادية‪ ،‬د‪ .‬سيد نوح‪ ،‬ص ‪:10‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.160‬‬

‫‪212‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وكذلك عذاب النار ينسي كل راحة وحلوة في هذه الدنيا‪:‬‬


‫ما َ‬ ‫‪+‬أ َ َ َ‬
‫كاُنوا‬ ‫هم ّ‬ ‫جاءَ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ‪ ‬ثُ ّ‬‫سِني َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬‫عَنا ُ‬
‫مت ّ ْ‬‫ت ِإن َ ّ‬ ‫فَرأي ْ َ‬
‫ن" ]الشعراء‪- 205 :‬‬ ‫عو َ‬ ‫مت ّ ُ‬
‫كاُنوا ي ُ َ‬ ‫ما َ‬ ‫هم ّ‬ ‫عن ْ ُ‬
‫غَنى َ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬
‫ُيو َ‬
‫‪.[207‬‬
‫في الّيام ِ ال ْ َ‬ ‫سل َ ْ‬ ‫َ‬
‫ة"‬‫خال ِي َ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫فت ُ ْ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫هِنيًئا ب ِ َ‬ ‫شَرُبوا َ‬ ‫وا ْ‬‫‪+‬ك ُُلوا َ‬
‫]الحاقة‪.[24 :‬‬
‫وأن الناس مع زوال الدنيا‪ ،‬واستقرارهم في الجنة‪ ،‬أو‬ ‫‪-4‬‬
‫في النار‪ ،‬سيمرون بسلسلة طويلة من الهوال والشدائد‪َ+ :‬يا‬
‫ن َزل َْزل َ َ‬ ‫َ‬
‫م‪‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ع ِ‬ ‫يءٌ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ة َ‬ ‫ع ِ‬ ‫سا َ‬‫ة ال َ ّ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫قوا َرب ّك ُ ْ‬ ‫س ات ّ ُ‬‫ها الّنا ُ‬ ‫أي ّ َ‬
‫ع كُ ّ‬
‫ل‬ ‫ض ُ‬ ‫وت َ َ‬ ‫ت َ‬ ‫ع ْ‬ ‫ض َ‬‫ما أْر َ‬ ‫ع ّ‬ ‫ة َ‬ ‫ع ٍ‬ ‫ض َ‬ ‫مْر ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫ل كُ ّ‬ ‫ه ُ‬‫ها ت َذْ َ‬ ‫ون َ َ‬‫م ت ََر ْ‬ ‫و َ‬ ‫يَ ْ‬
‫كاَرى‬ ‫س َ‬ ‫ِ ُ‬ ‫ب‬ ‫هم‬ ‫ُ‬ ‫ما‬‫َ َ‬‫و‬ ‫رى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫س‬
‫َ ُ‬ ‫س‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫رى‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫و‬ ‫ها‬
‫َ ْ ٍ َ ْ َ َ َ‬‫َ‬ ‫ل‬‫م‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ذا‬
‫د" ]الحج‪.[1،2 :‬‬ ‫ِ ٌ‬‫دي‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ن‬
‫َ ِ ّ َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫ل‬‫ع ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫و ً‬‫م يَ ْ‬ ‫فْرت ُ ْ‬‫ن ِإن ك َ َ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ت َت ّ ُ‬ ‫فك َي ْ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫عول ً"‬ ‫ف‬‫ْ‬ ‫م‬
‫َ َ ْ ُ ُ َ ُ‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫ِ ٌ ِ ِ‬ ‫ر‬ ‫ط‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫من‬‫شيًبا ‪ ‬ال ّ َ ُ ُ‬
‫ء‬ ‫ما‬ ‫س‬ ‫ن ِ‬ ‫دا َ‬‫ول ْ َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫]المزمل‪.[18 ،17 :‬‬
‫وسبيل النجاة من شر هذه الهوال‪ ،‬ومن تلك الشدائد‪،‬‬ ‫‪-5‬‬
‫والظفر بالجنة والبعد عن النار)‪ ،(1‬باليمان بالله تعالى وعمل‬
‫مُلوا‬‫ع ِ‬
‫و َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫الصالحات ابتغاء مرضاته ‪+‬إ ِ ّ‬
‫وُز‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ر‬ ‫ها‬
‫َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ها‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ري‬ ‫ج ِ‬‫ت تَ ْ‬
‫جّنا ٌ‬‫م َ‬ ‫ت لَ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫حا ِ‬
‫صال ِ َ‬
‫ال ّ‬
‫ال ْك َِبيُر" ]البروج‪.[11 :‬‬
‫ومضى × كذلك يبصرهم ويذكرهم بدورهم ورسالتهم في‬
‫الرض‪ ،‬ومنزلتهم ومكانتهم عند الله‪ ،‬وظل × معهم على هذه‬
‫الحال من التبصير والتذكير حتى انقدح في ذهنهم ما لهم عند‬
‫الله‪ ،‬وما دورهم‪ ،‬ورسالتهم في الرض‪ ،‬وتأثرا بتربيته الحميدة‬
‫تولدت الحماسة والعزيمة في نفوس أصحابه‪ ،‬فانطلقوا عاملين‬
‫بالليل والنهار بكل ما في وسعهم‪ ،‬وما في طاقتهم دون فتور أو‬
‫توان‪ ،‬ودون كسل أو ملل‪ ،‬ودون خوف من أحد إل من الله‪ ،‬ودون‬
‫طمع في مغنم أو جاه إل أداء هذا الدور وهذه الرسالة‪ ،‬لتحقيق‬
‫السعادة في الدنيا والفوز والنجاة في الخرة)‪.(2‬‬
‫دا ربانيا وكانت‬ ‫وكان × يحرص على إعداد أصحابه إعدا ً‬
‫خطواته تتم بكل هدوء وتدرج وسرية‪ ،‬وانصبت أهدافه التربوية‬
‫على تعليم الكتاب والسنة وتلوة القرآن الكريم وتطهير النفوس‬
‫من أمراضها‪ ،‬وإعداد الفراد لتحمل تكاليف الدعوة والرسالة‪،‬‬
‫وكان شعار هذه المرحلة هو توجيه المولى عز وجل لنبيه ×‬
‫صب ِْر‬ ‫والدعاة من بعده ذلك التوجيه المتمثل في قوله تعالى‪ْ َ + :‬‬
‫وا‬

‫)( انظر‪ :‬منهج الرسول × في غرس الروح الجهادية‪ ،‬د‪ .‬سيد نوح ص ‪.34 :19‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪213‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ن‬
‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫ي يُ ِ‬ ‫ش ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ة َ‬ ‫دا ِ‬ ‫غ َ‬ ‫هم ِبال ْ َ‬ ‫ن َرب ّ ُ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ي َدْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ع ال ّ ِ‬ ‫م َ‬‫ك َ‬ ‫س َ‬ ‫ف َ‬ ‫نَ ْ‬
‫ول َ‬ ‫ة الدّن َْيا َ َ‬ ‫حَيا ِ‬ ‫ْ‬
‫ة ال َ‬ ‫زين َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ريدُ ِ‬ ‫م تُ ْ ِ‬ ‫ه ْ‬‫عن ْ ُ‬‫عي َْناك َ‬
‫ْ‬
‫عد ُ َ‬
‫ْ‬
‫ول َت َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ج َ‬ ‫و ْ‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫ر‬
‫ْ ُ ُ‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫كا‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫َ ُ َ‬ ‫وا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ذ‬‫ِ‬ ‫عن‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ل‬‫ق‬‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ْ‬
‫غ‬ ‫أ‬ ‫ن‬
‫َ ْ‬‫م‬ ‫ع‬‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ط‬ ‫تُ‬
‫طا" ]الكهف‪.[28 :‬‬ ‫فُر ً‬ ‫ُ‬
‫فالية الكريمة تأمر النبي × بأن يصبر على تقصير وأخطاء‬
‫المستجيبين لدعوته‪ ،‬وأن يصبر على كثرة تساؤلتهم خاصة إن‬
‫كانت خاطئة‪ ،‬وأن يصبر على ترددهم في قبول التوجيهات‪ ،‬وأن‬
‫يجتهد في تصبيرهم على فتنة أعداء الدعوة‪ ،‬وأن يوضح لهم‬
‫طبيعة طريق الدعوة‪ ،‬وأنها شاقة‪ ,‬وأن ل يغرر مغرر ليبعده عنهم‪،‬‬
‫وأن ل يسمع فيهم منتقصا‪ ،‬ول يطيع فيهم متكبرا أغفل الله قلبه‬
‫عن حقيقة المور وجوهرها)‪.(1‬‬
‫هذه المنهجية التي رسمها رسول الله × في إعداد الفراد‬
‫إعدادا ربانيا على زعماء وقادة الحركات السلمية أن يسيروا‬
‫على نفس المنهج الذي سار عليه رسول الله ×‪ ,‬والذي في‬
‫حقيقته تفسير للقرآن الكريم‪ ،‬وإن اليات الكريمة السابقة من‬
‫سورة الكهف تصف لنا الشخصية الربانية في عدة صفات منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬الصبر‪:‬‬
‫ك"‪.‬‬ ‫س َ‬‫ف َ‬ ‫صب ِْر ن َ ْ‬‫وا ْ‬‫في قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫إن كلمة الصبر تتردد في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي ×‬
‫ويوصى الناس بعضهم بعضا وتبلغ أهميتها أن تصير صفة من أربع‬
‫للفئة الناجية من الخسران‪.‬‬
‫ر ‪ ‬إ ِل ّ‬ ‫س ٍ‬‫خ ْ‬‫في ُ‬ ‫ن لَ ِ‬‫سا َ‬ ‫ن ال ِن ْ َ‬ ‫ر‪ ‬إ ِ ّ‬ ‫ص ِ‬
‫ع ْ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫ّ قال تعالى‪َ + :‬‬
‫وا‬
‫ص ْ‬ ‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ق َ‬‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫وا ِبال َ‬‫ص ْ‬
‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬
‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬
‫ملوا ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ع ِ‬‫و َ‬
‫مُنوا َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬
‫ال ِ‬
‫ر" ]العصر‪ [3-1 :‬فحكم المولى عز وجل على جميع الناس‬ ‫ِبال ّ ِ‬
‫ْ‬ ‫ب‬‫ص‬
‫بالخسران إل من أتى بهذه المور الربعة‪.‬‬
‫‪ -1‬اليمان بالله‪.‬‬
‫‪ -2‬العمل الصالح‪.‬‬
‫‪ -3‬التواصي بالحق‪.‬‬
‫‪ -4‬التواصي بالصبر‪.‬‬
‫لن نجاة النسان ل تكون إل إذا أكمل النسان نفسه باليمان‬
‫والعمل الصالح وكمل غيره بالنصح والرشاد‪ ،‬فيكون قد جمع بين‬
‫حق الله‪ ،‬وحق العباد‪ ،‬والتواصي بالصبر ضرورة لن القيام على‬
‫اليمان والعمل الصالح‪ ،‬وحراسة الحق والعدل من أعسر ما‬
‫يواجه الفرد والجماعة‪ ،‬ولبد من الصبر على جهاد النفس‪ ،‬وجهاد‬

‫)( انظر‪ :‬الطريق إلى جماعة المسلمين‪ ،‬ص ‪.170‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪214‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الغير‪ ،‬والصبر على الذى والمشقة‪ ،‬والصبر على تبجح الباطل‪،‬‬


‫والصبر على طول الطريق وبطء المراحل‪ ،‬وانطماس المعالم‬
‫وبعد النهاية)‪.(1‬‬
‫إن كلمة الصبر قصيرة سهلة ل تجاوز ثلثة حروف‪ ,‬يستطيع‬
‫كل إنسان أن ينطقها‪ ،‬وأن يوصي بها‪ ،‬ولكن معاناتها أمر آخر‪,‬‬
‫والصبر في حقيقته أنواع منها‪ ،‬صبر عن المعاصي وهو واجب على‬
‫كل مؤمن فضل عن الدعاة‪ ،‬وصبر على الطاعات‪ ،‬وهو واجب كل‬
‫مؤمن فضل عن الدعاة وإن كان عليهم أن يستزيدوا من‬
‫الطاعات‪ ،‬لن اليمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي‪.‬‬
‫وصبر على البلء‪ ،‬وهو وإن كان واجبا على المؤمن‪ ،‬إل أنه‬
‫بالنسبة للداعية أوجب لما يترتب على الدعوة من تعرض للبلء‪.‬‬
‫ب‪ -‬كثرة الدعاء واللحاح على الله‪:‬‬
‫ة‬
‫دا ِ‬ ‫غ َ‬ ‫م ِبال ْ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن َرب ّ ُ‬ ‫عو َ‬ ‫وهذا يظهر في قوله تعالى‪+ :‬ي َدْ ُ‬
‫ي" ]النعام‪ ,[52 :‬فالدعاء باب عظيم‪ ،‬فإذا فتح للعبد تتابعت‬ ‫ش ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫َ‬
‫عليه الخيرات‪ ،‬وانهالت عليه البركات‪ ،‬فلبد من تربية الفراد‬
‫الذين يعدون لحمل الرسالة وأداء المانة على حسن الصلة بالله‬
‫وكثرة الدعاء‪ ،‬لن ذلك من أعظم وأقوى عوامل النصر‪ ,‬قال‬
‫ة‬
‫و َ‬ ‫ُ‬ ‫فإ ِّني َ‬ ‫عّني َ‬ ‫سأ َل َ َ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫ب دَ َ‬
‫ع‬
‫ْ‬ ‫جي ُ‬ ‫بأ ِ‬ ‫ري ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫عَباِدي َ‬ ‫ك ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫بي‬ ‫نوا‬ ‫م‬ ‫ؤ‬‫ْ‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫لي‬ ‫بوا‬ ‫جي‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ن‬ ‫عا‬ ‫ذا َ‬
‫د‬ ‫ع إِ َ‬
‫َ ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ن" ]البقرة‪.[186 :‬‬ ‫ُ َ‬ ‫دو‬ ‫ش‬‫ُ‬ ‫ي َْر‬
‫َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫ج ْ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫عوِني أ ْ‬ ‫م اد ْ ُ‬ ‫ل َرب ّك ُ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ن" ]غافر‪:‬‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫دا‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ج‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫س‬‫َ‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫با‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫رو‬ ‫ست َك ْب ِ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫م" ]النفال‪.[9 :‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ب‬‫ْ َ َ‬ ‫جا‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬
‫َ ّ ْ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ثو‬ ‫ُ‬ ‫غي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫‪+‬‬ ‫‪.‬‬ ‫[‬ ‫‪60‬‬
‫َ وقد أمر الله بالذكر والدعاء عند لقاء العدو‪ ,‬قال تعالى‪َ+ :‬يا‬
‫ه ك َِثيًرا‬ ‫واذْك ُُروا الل َ‬ ‫فاث ْب ُُتوا َ‬ ‫ة َ‬ ‫فئ َ ً‬ ‫م ِ‬ ‫قيت ُ ْ‬ ‫ذا ل َ ِ‬ ‫مُنوا إ ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫أي ّ َ‬
‫ن" ]النفال‪.[45 :‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ع‬‫لّ َ‬
‫لنه سبحانه النصير‪ ,‬فنعم المولى ونعم النصير‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫كيم ِ" ]آل عمران‪:‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ز ال ْ َ‬ ‫زي ِ‬ ‫ع ِ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫د الل ِ‬ ‫عن ْ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫صُر إ ِل ّ ِ‬ ‫ما الن ّ ْ‬ ‫و َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫‪ ,[126‬ولهذا كان النبي × يدعو ربه في معاركه ويستغيث به‪،‬‬
‫فينصره ويمده بجنوده‪ ،‬ومن ذلك أنه نظر × يوم بدر إلى‬
‫المشركين وهم ألف وأصحابه ثلثمائة وتسعة عشر رجل‪,‬‬
‫فاستقبل × القبلة ورفع يديه واستغاث بالله‪ ،‬وما زال يطلب‬
‫المدد من الله وحده مادا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه‪ ،‬فأتاه‬
‫أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه‪ ،‬ثم التزمه من ورائه وقال‪:‬‬
‫يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك‪ ,‬فإنه سينجز لك ما وعدك‪ ،‬فأنزل‬
‫)( انظر‪ :‬الظلل )‪.(6/3968‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪215‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫م أ َّني‬‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫جا َ‬‫ست َ َ‬ ‫فا ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫غيُثو َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫وجل‪+ :‬إ ِذْ ت َ ْ‬ ‫الله عز‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]النفال‪ [9 :‬فأمده الله‬ ‫في َ‬ ‫مْرِد ِ‬ ‫ة ُ‬ ‫ملئ ِك ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬‫ف ّ‬ ‫م )ب ِ‪(1‬أل ٍ‬ ‫مدّك ُ ْ‬ ‫م ِ‬
‫ُ‬
‫بالملئكة ‪ ..‬وهكذا كان يدعو الله في جميع معاركه ومن ذلك‬
‫قوله‪» :‬اللهم منزل الكتاب‪ ،‬سريع الحساب‪ ،‬مجري السحاب‪،‬‬
‫هازم الحزاب‪ ،‬اللهم اهزمهم وزلزلهم وانصرنا عليهم« وكان‬
‫يقول عند لقاء العدو »اللهم أنت عضدي‪ ،‬وأنت نصيري‪ ،‬بك أجول‪،‬‬
‫وبك أصول‪ ،‬وبل أقاتل« )‪.(2‬‬
‫ج‪ -‬الخلص‪:‬‬
‫ه" ]الكهف‪ [28 :‬ولبد‬ ‫ه ُ‬ ‫ج َ‬ ‫و ْ‬ ‫ن َ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫ويظهر في قوله تعالى‪+ :‬ي ُ ِ‬
‫عند إعداد الفراد إعدادا ربانيا أن يتربى المسلم على أن تكون‬
‫أقواله وأعماله وجهاده كلها لوجه الله وابتغاء مرضاته وحسن‬
‫مثوبته‪ ،‬من غير نظر إلى مغنم أو جاه أو لقب أو تقدم أو تأخر‪,‬‬
‫وحتى يصبح جنديا من أجل العقيدة والمنهج الرباني ولسان حاله‬
‫ه‬‫ماِتي لل ِ‬ ‫م َ‬‫و َ‬ ‫ي َ‬‫حَيا َ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫كي َ‬ ‫ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ون ُ ُ‬ ‫تي َ‬ ‫صل َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫ق ْ‬ ‫قوله تعالى‪ُ + :‬‬
‫ت" ]النعام‪.[162 :‬‬ ‫ِ ْ ُ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ب‬ ‫و‬
‫ُ َ ِ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ري‬‫ِ‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫َر ّ‬
‫إن الخلص ركن من أركان قبول العمل‪ ،‬ومعلوم أن العمل‬
‫عند الله تعالى ل يقبل إل بالخلص وتصحيح النية وبموافقة السنة‬
‫والشرع‪.‬‬
‫وبالخلص تتحقق صحة الباطن‪ ،‬وقد جاء فيه قوله ×‪» :‬إنما‬
‫العمال بالنيات«)‪ (3‬فهذا هو ميزان الباطن‪ ،‬وأما في موافقة‬
‫)‪(4‬‬
‫عمل ليس عليه أمرنا فهو رد« ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫السنة‪ ،‬فقد قال ×‪» :‬من عمل‬
‫من‬ ‫و َ‬
‫الله المرين في أكثر من آية‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬ ‫وقد جمع‬
‫سكَ‬ ‫م َ‬ ‫ست َ ْ‬‫دا ْ‬ ‫َ‬
‫ن فق ِ‬ ‫َ‬ ‫س ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ه إ ِلى الل ِ‬ ‫َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ج َ‬ ‫و ْ‬
‫م َ‬ ‫سل ِ ْ‬ ‫يُ ْ‬
‫قى" ]لقمان‪ ،[22 :‬فإسلم الوجه لله‪ ،‬إخلص القصد‬ ‫وث ْ َ‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ة‬‫ِ‬ ‫ِبال ْ ْ َ‬
‫و‬ ‫ر‬ ‫ع‬
‫ُ‬
‫والعمل له‪ ،‬والحسان فيه‪ ،‬ومتابعة الرسول × وسنته‪.‬‬
‫د‪ -‬الثبات‪:‬‬
‫ة‬
‫زين َ َ‬‫ريدُ ِ‬ ‫م تُ ِ‬‫ه ْ‬‫عن ْ ُ‬‫ك َ‬ ‫عي َْنا َ‬
‫عد ُ َ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬‫ْ ويظهر في قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ة الدّن َْيا" ]الكهف‪ .[28 :‬وهذا الثبات المذكور فرع عن ثبات‬ ‫حَيا ِ‬‫ال َ‬
‫ن‬‫ِ َ‬ ‫م‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قال‬ ‫الرباني‪،‬‬ ‫الداعية‬ ‫به‬ ‫يتسم‬ ‫أن‬ ‫ينبغي‬ ‫أعم‬
‫من‬ ‫هم ّ‬ ‫من ْ ُ‬‫ف ِ‬‫ه َ‬‫عل َي ْ ِ‬ ‫ه َ‬‫دوا الل َ‬ ‫ه ُ‬ ‫عا َ‬ ‫ما َ‬‫قوا َ‬‫صد َ ُ‬
‫ل َ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ر َ‬
‫ن ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ديل ً" ]الحزاب‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ما ب َدّلوا ت َب ْ ِ‬
‫و َ‬ ‫من َينت َظُِر َ‬ ‫هم ّ‬ ‫من ْ ُ‬‫و ِ‬
‫ه َ‬ ‫حب َ ُ‬‫ضى ن َ ْ‬ ‫ق َ‬ ‫َ‬
‫‪.[23‬‬
‫)( مسلم )‪ (3/1383‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب المداد بالملئكة )‪ (3/1383‬رقم‬ ‫‪1‬‬

‫‪.1763‬‬
‫)( صحيح أبي داود )‪ (2/499‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب‪ :‬ما يدعي عند اللقاء )‪(2/499‬‬ ‫‪2‬‬

‫رقم ‪.2291‬‬
‫)( صحيح أبي داود )‪.(2/286‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البخاري )‪ ،(5/172‬كتاب آيات القرآن‪ ،‬باب‪ :‬إن الناس قد جمعوا )‪.(5/203‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪216‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫ففي الية الكريمة ثلثة صفات‪ ،‬إيمان ورجولة وصدق‪ ,‬ترتب‬


‫ما‬‫و َ‬
‫من َينت َظُِر َ‬
‫هم ّ‬
‫من ْ ُ‬
‫و ِ‬
‫ه َ‬
‫حب َ ُ‬
‫ضى ن َ ْ‬
‫ق َ‬‫من َ‬
‫عليها أن منهم ‪ّ +‬‬
‫ب َدُّلوا ت َب ْ ِ‬
‫ديل ً"‪.‬‬
‫وعلى ذلك يتضح أن الثبات يحتاج إلى ثلثة عناصر‪ :‬إيمان‪،‬‬
‫ورجولة‪ ،‬وصدق‪ .‬إيمان يبعث على التمسك بالقيم الرفيعة‬
‫والتثبت بها‪ ،‬وباعث على التضحية بالنفس ليبقي المبدأ الرفيع‪،‬‬
‫ورجولة محركة للنفس نحو هذا الهدف‪ ،‬غير مهتمة بالصغائر‬
‫والصغار‪ ،‬وإنما دائما دافعة نحو الهدف السمى والمبدأ الرفيع‪.‬‬
‫وصدق يحول دون التحول أو التغير أو التبديل‪ ،‬ومن ثم يورث‬
‫هذا كله‪ ،‬الثبات الذي ل يتلون معه النسان وإن رأى شعاع‬
‫السيف على رقبته أو رأى حبل المشنقة ينتظره أو رأى دنيا‬
‫يصيبها أو امرأة ينكحها‪.‬‬
‫ول شك أن اللبنات التي تعد لحمل أعباء الجهاد تحتاج إلى‬
‫الثبات الذي يعين على تحقيق الهداف السامية والغايات الجميلة‬
‫والقيم الرفيعة)‪.(1‬‬
‫هـ‪ -‬تربية الفراد على اليمان بالقضاء والقدر‪:‬‬
‫إن استيعاب حقيقة القضاء والقدر واليمان بها كما جاءت في‬
‫القرآن والسنة تجعل أفراد المسلمين ينطلقون في هذه الحياة‬
‫انطلقة هادفة نحو المقاصد النبيلة‪.‬‬
‫وقد جاءت الدلة من القرآن الكريم توضح قضية القدر‪ ,‬قال‬
‫دوًرا" ]الحزاب‪ ,[38 :‬وقال‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫و َ‬
‫ق ُ‬ ‫قدًَرا ّ‬ ‫مُر الل ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬
‫ر" ]القمر‪ ,[49 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ب‬
‫ُ ِ‬ ‫ه‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫خ‬‫َ‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫تعالى‪+ َ :‬إ ِ‬
‫ديًرا" ]الفرقان‪ .[2 :‬وأما أدلة‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫ت‬ ‫ه‬
‫ّ َ ُ َ ِ‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬
‫ْ‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ق‬
‫خل َ‬ ‫و َ‬
‫‪َ +‬‬
‫)‪(2‬‬
‫السنة‪ ،‬فقد قال ×‪» :‬وتؤمن بالقدر خيره وشره« ‪.‬‬
‫وروى مسلم في الصحيح عن طاوس قال‪» :‬أدركت ناسا من‬
‫أصحاب رسول الله × يقولون‪ :‬كل شيء بقدر‪ ،‬قال‪ :‬وسمعت‬
‫عبد الله بن عمر يقول‪» :‬كل شيء بقدر حتى العجز والكيس أو‬
‫الكيس والعجز«)‪.(3‬‬
‫وقال ×‪» :‬وإن أصابك شيء فل تقل لو أني فعلت كذا كان‬
‫كذا وكذا‪ ,‬ولكن قل قدر الله وما شاء فعل« )‪.(4‬‬
‫إن اليمان بالقضاء والقدر يجعل الفراد العاملين في الدعوة‬
‫دعوة الله بين التكوين والتمكين‪ ،‬د‪ .‬علي جريشة‪ ،‬ص ‪.92 ،91‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مسلم‪ ,‬كتاب اليمان‪ ،‬باب ما جاء في القدر )‪ (1/38‬رقم ‪.8‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مسلم‪ ,‬كتاب القدر‪ ،‬باب كل شيء بقدر )‪ (4/2045‬رقم ‪.2655‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مسلم‪ ,‬كتاب القدر‪ ،‬باب المر بالقوة وترك العجز )‪ (4/2053‬رقم ‪.2664‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪217‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والذين يسعون لتحكيم شرع الله تعالى يتذوقون ثمارا كثيرة‬


‫تجعلهم يبذلون الغالي والرخيص من أجل عقيدتهم ودينهم وكتاب‬
‫ربهم وسنة نبيهم‪.‬‬
‫ويستفيدون من تلك الثمار اليانعة في مسيرتهم الدعوية‬
‫المباركة‪ ،‬بل هذه الثمرات تعود بالخير العميم على الفراد‬
‫والمجتمعات في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫ومن أهم هذه الثمرات‪:‬‬
‫‪ -1‬أداء عبادة الله عز وجل‪ ،‬فالقدر مما تعبدنا الله سبحانه‬
‫وتعالى باليمان به‪.‬‬
‫‪ -2‬اليمان بالقدر طريق الخلص من الشرك‪ ،‬لن الذي يؤمن‬
‫بالقدر على الوجه الصحيح يتخلص من آفات ربما توقعه في‬
‫الشرك بالله‪ ،‬أما اليمان الصحيح بالقدر فهو طريق توحيد الله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫‪ -3‬الشجاعة والقدام‪ ،‬فالذي يؤمن بالقدر يعلم أنه لن يموت‬
‫ل‬
‫إل إذا جاء أجله ول يناله إل ما كتب له‪ ،‬فيقدم غير هياب‪ ،‬ول مبا ٍ‬
‫بما يناله من الذى والمصائب في سبيل الله‪ ،‬كما قال أمير‬
‫المؤمنين علي بن أبي طالب ‪:‬‬
‫يوم ل يقدر أو يوم قدر‬ ‫أي يومي من الموت أفر‬
‫)‪(1‬‬
‫وإذا قدر ل ينجى الحذر‬ ‫يوم ما قد ل أرهبه‬

‫‪ -4‬قوة اليمان‪ ،‬فالذي يؤمن بالقدر يقوى إيمانه‪ ،‬فل يتخلى‬


‫عنه ول يتزعزع أو يتضعضع مهما ناله في ذلك طالما في سبيل‬
‫الله‪.‬‬
‫‪ -5‬الصبر والحتساب ومواجهة الصعاب‪ ،‬فالذين ل يؤمنون‬
‫بالقدر ربما يؤدي الجزع ببعضهم إلى أن يكفروا بالله‪ ،‬وبعضهم‬
‫يجن‪ ،‬وبعضهم يصبح موسوسا‪ ،‬وبعضهم يلجأ إلى المخدرات‪،‬‬
‫وبعضهم يقتل نفسه‪ ،‬ولذلك يكثر النتحار في البلد التي ل يؤمن‬
‫أهلها بالقدر كأمريكا‪ ،‬والسويد والنرويج‪ ،‬بل إن المر وصل‬
‫بالسويد إلى أن يفتحوا مستشفيات للنتحار‪ ،‬وأسباب ذلك ترجع‬
‫إلى أمور تافهة‪ ،‬فبعضهم ينتحر بسبب تخلي خطيبته عنه‪ ,‬وبعضهم‬
‫بسبب رسوبه في المتحان‪ ,‬وبعضهم بسبب وفاة المطرب الذي‬
‫يحبه‪ ،‬وقد يكون النتحار جماعيا)‪.(2‬‬
‫)( ديوان المام علي ص)‪.(80 ،79‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬اليمان بالقضاء والقدر لمحمد إبراهيم‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪218‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬
‫َ‬
‫ة إ ِل ّ ب ِإ ِذْ ِ‬
‫ن‬ ‫صيب َ ٍ‬
‫م ِ‬
‫من ّ‬
‫ب ِ‬
‫صا َ‬ ‫‪ -6‬الهداية كما قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ما أ َ‬
‫د‬
‫ه ِ‬
‫ه يَ ْ‬
‫ن ِبالل ِ‬‫م ْ‬ ‫من ي ُ ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫و َ‬
‫ه َ‬ ‫الل ِ‬
‫ه" ]التغابن‪.[11 :‬‬ ‫قل ْب َ ُ‬
‫َ‬
‫‪ -7‬الكرم‪ ،‬فالذي يؤمن بالقدر‪ ،‬وأن الفقر والغنى بيد الله‪ ,‬وأنه‬
‫ل يفتقر إل إذا قدر الله له ذلك‪ ،‬فإنه ينفق ول يبالي‪.‬‬
‫‪ -8‬الخلص‪ ،‬فالذي يؤمن بالقدر ل يعمل لجل الناس‪ ،‬لعلمه‬
‫أنهم ل ينفعونه إل بشيء قد كتبه الله له‪.‬‬
‫‪ -9‬إحسان الظن بالله وقوة الرجاء‪ ،‬فالمؤمن بالقدر حسن‬
‫الظن بالله‪ ،‬قوى الرجاء به في كل أحواله‪.‬‬
‫‪ -10‬الخوف والحذر من الله‪ ،‬فالمؤمن بالقدر على حذر من‬
‫الله تعالى‪ ،‬إذ ل يأمن مكر الله إل القوم الخاسرون‪ ،‬فل يغتر‬
‫بعمله مهما كان كثيرا‪ ،‬فإن القلوب بين أصبعين من أصابع‬
‫الرحمن يقلبها حيث يشاء والخواتيم علمها عند الله‪.‬‬
‫‪ -11‬اليمان بالقدر يقضي على كثير من المراض التي تفتك‬
‫بالمجتمعات وتزرع الحقاد بينهم‪ ,‬وذلك مثل رذيلة الحسد‪،‬‬
‫فالمؤمن ل يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله‪ ،‬فاليمان‬
‫منه بأن الله هو الذي رزقهم وقدر لهم ذلك‪ ،‬فأعطى من شاء‬
‫ومنع من شاء ابتلء وامتحانا منه عز وجل‪ ،‬وأنه حين يحسد غيره‪،‬‬
‫إنما يعترض على القدر)‪.(1‬‬
‫‪ -12‬التوكل واليقين والستسلم لله‪ ،‬والعتماد عليه كما قال‬
‫ه ل ََنا" ]التوبة‪.[51 :‬‬
‫ب الل ُ‬‫ما ك َت َ َ‬ ‫قل ّلن ي ّ ِ‬
‫صيب ََنا إ ِل ّ َ‬ ‫تعالى‪ُ + :‬‬
‫عدم العتماد على الكهان والمنجمين والمشعوذين والتمسح‬ ‫‪-13‬‬
‫بأتربة القبور ودعاء غير الله‪ ،‬وصرف شيء من أنواع العبادة لغير‬
‫الله‪ ،‬لنها ل تملك لنفسها نفعا ول ضرا‪.‬‬
‫‪ -14‬التواضع‪ ،‬فالمؤمن بالقدر إذا رزقه الله بمال‪ ،‬أو جاه‪ ،‬أو‬
‫علم‪ ،‬أو غير ذلك تواضع لله‪ ،‬لعلمه أن هذا من الله‪ ،‬ولو شاء الله‬
‫لنتزعه منه‪ ،‬وإنه على كل شيء قدير‪.‬‬
‫‪ -15‬ومن ثمرات اليمان بالقدر‪ ،‬السلمة من العتراض على‬
‫أحكام الله الشرعية‪ ،‬وأقداره الكونية والتسليم لله في ذلك كله‪.‬‬
‫‪ -16‬ومن ثمراته الجد والحزم في المور‪ ,‬والحرص على كل‬
‫خير ديني أو دنيوي‪ ،‬كما في قوله ×‪» :‬احرص على ما ينفعك‬
‫واستعن بالله ول تعجز‪ ،‬وإن أصابك شيء فل تقل لو‬
‫أني فعلت كذا كان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء‬
‫)( انظر‪ :‬مجلة البحوث السلمية‪ ،‬عدد ‪ ،34‬ص ‪ ،250‬مبحث وسطية أهل السنة‬ ‫‪1‬‬

‫في القدر‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫فعل«)‪.(1‬‬
‫‪ -17‬الشكر‪ ،‬فالمؤمن بالقدر يعلم أن ما به من نعمة فمن‬
‫الله وحده‪ ،‬وأن الله هو الدافع لكل مكروه ونقمة‪ ،‬فينبعث بسبب‬
‫ذلك إلى شكر الله إذ هو المنعم المتفضل الذي قدر له ذلك وهو‬
‫المستحق للشكر‪ ،‬وهذا ل يعني أل يشكر الناس‪.‬‬
‫‪ -18‬الرضا‪ ،‬فيرضى بالله ربا مدبرا مشرعا‪ ،‬فتمتلئ نفسه‬
‫بالرضا عن ربه فإذا رضي بالله أرضاه الله عز وجل‪» ،‬فالرضا باب‬
‫الله العظم وجنة الدنيا‪ ،‬ومستراح العابدين «)‪.(2‬‬
‫حرمت منه أمم‬ ‫‪ -19‬فرح المؤمن بذلك اليمان بالقدر الذي ُ‬
‫فب ِذَل ِكَ‬
‫ه َ‬‫مت ِ ِ‬
‫ح َ‬
‫وب َِر ْ‬
‫ه َ‬
‫ل الل ِ‬
‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫ل بِ َ‬‫ق ْ‬‫كثيرة‪ ,‬قال تعالى‪ُ + :‬‬
‫ن" ]يونس‪.[58 :‬‬ ‫عو َ‬‫م ُ‬
‫ج َ‬‫ما ي َ ْ‬
‫م ّ‬‫خي ٌْر ّ‬
‫و َ‬
‫ه َ‬
‫حوا ُ‬ ‫فل ْي َ ْ‬
‫فَر ُ‬ ‫َ‬
‫‪ -20‬الستقامة على المنهج سواء في السراء والضراء‪ ،‬فالعباد‬
‫فيهم قصور‪ ،‬ونقص وضعف ل يستقيمون على منهج سواء إل من‬
‫آمن بالقدر‪ ،‬فإن النعمة ل تبطره والمصيبة ل تقنطه‪.‬‬
‫‪ -21‬عدم اليأس من انتصار الحق‪ ,‬فالمؤمن بالقدر يعلم‬
‫علم اليقين أن العاقبة للمتقين‪ ،‬وأن قدر الله في ذلك نافذ ل‬
‫محالة‪ ،‬فل يدب اليأس إلى قلبه‪ ،‬ول يعرف إليه طريقا مهما‬
‫احلولكت ظلمة الباطل‪.‬‬
‫‪ -22‬علو الهمة وعدم الرضا بالدون‪ ،‬وعدم الرضا بالواقع‬
‫الليم‪ ،‬فالمؤمن بالقدر تجده عالي الهمة ل يرضى بالدون ول‬
‫بالواقع الليم المر‪ ،‬ول يستسلم له محتجًا بالقدر‪ ،‬إذ أن هذا ليس‬
‫مجال الحتجاج بالقدر‪ ،‬لنه ليس من المصائب‪ ،‬والحتجاج بالقدر‬
‫إنما يسوغ عند المصائب دون المعائب‪ ،‬بل إن إيمانه بالقدر يحتم‬
‫سعيا حثيثًا لتغيير هذا الواقع حسب قدرته‬
‫ً‬ ‫عليه أن يسعى‬
‫واستطاعته)‪.(3‬‬
‫‪ -23‬اليمان بالقدر على وجه الحقيقة يكشف للنسان حكمة‬
‫سى‬‫ع َ‬ ‫و َ‬‫َالله عز وجل فيما يقدره من خير أو شر‪ ,‬قال َ تعالى‪َ + :‬‬
‫شي ْئاً‬ ‫حّبوا َ‬
‫سى أن ت ُ ِ‬ ‫ع َ‬‫و َ‬‫م َ‬‫خي ٌْر ل ّ َك ُ ْ‬‫و َ‬ ‫ه َ‬
‫و ُ‬‫شي ًْئا َ‬
‫هوا َ‬ ‫أن ت َك َْر ُ‬
‫ن" ]البقرة‪.[216 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫عل ُ‬ ‫َ‬
‫م ل تَ ْ‬ ‫وأن ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫عل ُ‬ ‫ه يَ ْ‬
‫والل ُ‬‫م َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫شّر لك ْ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬
‫و ُ‬
‫َ‬
‫)‪(4‬‬
‫كامنة‬ ‫كم نعمة ل تستقل‬
‫بشكرها‬
‫)( مسلم‪ ،‬كتاب القدر‪ ،‬باب المر بالمعروف والنهي عن المنكر )‪ (4/2052‬رقم‬ ‫‪1‬‬

‫‪.2664‬‬
‫)( جامع العلوم والحكم لبن رجب )‪.(2/476‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬اليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬ص ‪.29‬‬ ‫‪3‬‬

‫)(‪ (2) ,‬انظر‪ :‬جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى‪ ،‬للغرناطي )‪.(3/52‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪220‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وقال آخر‪:‬‬
‫طي الحوادث محبوب‬ ‫تجري المور على حكم‬
‫ومكروه‬ ‫القضاء وفي‬
‫)‪(1‬‬
‫أرجوه‬ ‫وربما سرني ما كنت‬
‫أحذره‬
‫‪ -24‬ومن ثمراته‪ :‬عزة النفس والقناعة والتحرر من رق‬
‫المخلوقين‪ ،‬فالمؤمن بالقدر يعلم أن رزقه مكتوب‪ ،‬وأنه لن يموت‬
‫حتى يستوفي رزقه‪ ،‬ويدرك أن الله كافيه وحسبه ورازقه‪ ،‬وأن‬
‫العباد مهما حاولوا إيصال الرزق له‪ ،‬أو منعه عنه فلن يستطيعوا‬
‫إل بشيء قد كتبه الله‪ ،‬فينبعث بذلك إلى القناعة وعزة النفس‬
‫والجمال في الطلب وترك التكالب على الدنيا والتحرر من رق‬
‫المخلوقين‪ ،‬وقطع الطمع مما في أيديه‪ ,‬والتوجه بالقلب إلى رب‬
‫العالمين‪ ،‬وهذا أساس فلحه ورأس نجاحه)‪.(2‬‬
‫‪ -25‬سكون القلب وطمأنينة النفس وراحة البال‪ ،‬فهذه‬
‫المور من ثمرات اليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬وهي هدف منشود‪،‬‬
‫فكل من على وجه البسيطة يبتغيها ويبحث عنها‪ ،‬وإنك لتجد عند‬
‫خواص المسلمين من العلماء العاملين‪ ،‬والعباد القانتين المتبعين‪،‬‬
‫من سكون القلب‪ ،‬وطمأنينة النفس ما ل يخطر على بال‪ ،‬ول‬
‫يدور حول ما يشبهه خيال فلهم في ذلك الشأن القدم المعلي‬
‫والنصيب الوفى‪ ,‬فهذا أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ‪‬‬
‫يقول‪» :‬أصبحت وما لي سرور إل في مواضع القضاء والقدر«)‪.(3‬‬
‫وهذا شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬يقول‪) :‬إن في‬
‫الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الخرة( )‪.(4‬‬
‫ويقول مقولته المشهورة التي قالها عندما اقتيد إلى السجن‪:‬‬
‫)ما يصنع أعدائي بي‪ ،‬أنا جنتي وبستاني في صدري‪ ،‬أينما رحلت‬
‫فهي معي ل تفارقني‪ ،‬إن حبسي خلوة‪ ،‬وقتلي شهادة‪ ،‬وإخراجي‬
‫من بلدي سياحة( )‪.(5‬‬
‫إن هذه الثمار المباركة نتيجة طبيعية عندما يتربى الفراد على‬
‫مفهوم القضاء والقدر كما جاء في القرآن الكريم وسنة سيد‬
‫المرسلين‪ ,‬وتجعلهم يسعون بما يملكون من أجل التمكين لدين‬
‫الله وإقامة شرع الله ويستبشرون بسقوط الشهداء في الطريق‬
‫ول يهابون أحدا إل الله تعالى‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫)( انظر‪ :‬جنة الرضا في التسليم لما قدر اللهـ وقضى‪،‬ـ للغرناطي ) ‪3/529‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪(30 ،29‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( جامع العلوم والحكم )‪.(1/287‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الشهادة الزكية في ثناء الئمة على ابن تيمية لمرعي الحنبلي‪ ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( شيخ السلم ابن تيمية جهاده ودعوته وعقيدته‪ ،‬أحمد القطان ومحمد الزين‪،‬‬ ‫‪5‬‬

‫ص ‪.101‬‬

‫‪221‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫هذه بعض الصفات والمعاني المهمة التي يجب أن يتربى عليها‬


‫الفراد حتى يكونوا ربانيين‪ ،‬فعند وصولنا إلى إعداد الفرد الرباني‪،‬‬
‫نكون قد قطعنا خطوة طيبة في الخذ بسبب مهم من أسباب‬
‫التمكين‪.‬‬
‫ثانًيا‪ :‬القيادة الربانية‪:‬‬
‫إن من أخطر عوائق التمكين غياب القيادة الربانية‪ ,‬وذلك أن‬
‫قادة المة هم عصب حياتها‪ ،‬وبمنزلة الرأس من جسدها‪ ،‬فإذا‬
‫صلح القادة صلحت المة‪ ,‬وإذا فسد القادة صار هذا الفساد إلى‬
‫المة‪ ،‬ولقد فطن أعداء السلم لهمية القيادة في حياة المة‬
‫السلمية‪ ،‬ولذلك حرصوا كل الحرص على أل يمكنوا القيادات‬
‫الربانية من امتلك نواصي المور وأزمة الحكم في المة‬
‫السلمية‪ ,‬ففي خطة لويس التاسع أوصى بـ »عدم تمكين البلد‬
‫السلمية والعربية من أن يقوم بها حاكم صالح« كما أوصى بـ‬
‫»العمل على إفساد أنظمة الحكم في البلد السلمية بالرشوة‬
‫والفساد والنساء‪ ،‬حتى تنفصل القاعدة عن القمة«)‪.(1‬‬
‫وصرح المستشرق البريطاني »مونتجومري وات« في جريدة‬
‫التايمز اللندنية قائل‪» :‬إذا وجد القائد المناسب الذي يتكلم الكلم‬
‫المناسب عن السلم فإن من الممكن لهذا الدين أن يظهر‬
‫كإحدى القوى السياسية العظمى في العالم مرة أخرى«)‪ ،(2‬وقال‬
‫المستشرق الصهيوني‪» :‬برنارد لويس« تحت عنوان‪» :‬عودة‬
‫السلم« في دراسة نشرها عام ‪1976‬م‪ ...» :‬إن غياب القيادة‬
‫العصرية المثقفة؛ القيادة التي تخدم السلم بما يقتضيه العصر‬
‫من علم وتنظيم‪ ،‬إن غياب هذه القيادة قد قيدت حركة السلم‬
‫كقوة منتصرة‪ ،‬ومنع غياب هذه القيادات الحركات السلمية من‬
‫أن تكون منافسا خطيرا على السلطة في العالم السلمي‪ ,‬لكن‬
‫هذه الحركات يمكن أن تتحول إلى قوى سياسية هائلة إذا تهيأ‬
‫لهذا النوع من القيادة«)‪.(3‬‬
‫ويظهر للباحث أهمية القيادة الربانية في فقه التمكين‪ ،‬وقد‬
‫تكلم العلماء عن صفات القائد الرباني ونجملها في أمور ونركز‬
‫على بعضها بالتفصيل‪ ،‬فمن أهم هذه الصفات‪ :‬سلمة المعتقد‪،‬‬
‫والعلم الشرعي‪ ،‬والثقة بالله‪ ،‬والقدوة‪ ،‬والصدق‪ ،‬والكفاءة‪،‬‬
‫والشجاعة‪ ،‬والمروءة‪ ،‬والزهد‪ ،‬وحب التضحية‪ ،‬وحسن اختياره‬
‫لمعاونيه‪ ،‬والتواضع‪ ،‬وقبول التضحية‪ ،‬والحلم‪ ،‬والصبر وعلو الهمة‪،‬‬
‫و التميز بخفة الروح والدعابة‪ ،‬والحزم والرادة القوية‪ ،‬والعدل‬
‫والحترام المتبادل والقدرة على حل المشكلت‪ ،‬والقدرة على‬
‫التعليم وإعداد القادة‪ ،‬وغير ذلك من الصفات‪.‬‬
‫)( قادة الغرب يقولون‪ ،‬جلل العالم ص ‪.63‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( قادة العالم يقولون‪ ،‬ص ‪.25‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.185‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪222‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫إن من أهم أسباب التمكين أن يتولى أمور الدعوة وقيادة‬


‫المسلمين قيادة ربانية قد جرى اليمان في قلبها وعروقها‬
‫وانعكست ثماره على جوارحها وتفجرت صفات التقوى في‬
‫أعمالها وسكناتها وأحوالها‪.‬‬
‫إن القيادة الربانية تستطيع أن تنتقل بفضل الله وتوفيقه‬
‫بالحركة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة‪ ,‬ولبد أن يكون‬
‫العلماء الربانيون هم قلب القيادة الربانية وعقلها المفكر حتى‬
‫تسير الحركة والمة على بصيرة وهدى وعلم‪.‬‬
‫ولبد أن نحدد من هم العلماء الذين يكونون على رأس القيادة‬
‫الربانية‪.‬‬
‫والعلماء المقصودون هم‪ :‬العارفون بشرع الله‪ ،‬المتفقهون في‬
‫وبصيرة‪ ،‬الذين وهبهم الله‬ ‫دينه‪ ،‬العاملون بعلمهم على هدى‬
‫َ‬ ‫قد ُ‬ ‫ت ال ْ ِ‬
‫ما‬‫و َ‬
‫ً َ‬‫را‬‫ثي‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫را‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫خ‬‫َ‬ ‫ي‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫أو‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ة‬ ‫حك ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ؤ َ‬ ‫من ي ُ ْ‬ ‫و َ‬
‫الحكمة ‪َ ُ +‬‬
‫ب" ]البقرة‪.[269 :‬‬ ‫ِ‬ ‫با‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ُ‬
‫لو‬ ‫أو‬ ‫ي َذّك ُّر إ ِل ّ‬
‫والعلماء هم‪ :‬الذين جعل الله عز وجل عماد الناس عليهم في‬
‫الفقه‪ ،‬والعلم‪ ,‬وأمور الدين والدنيا)‪.(1‬‬
‫والعلماء هم‪) :‬فقهاء السلم‪ ،‬ومن دار الفتيا على أقوالهم بين‬
‫عنوا بضبط قواعد الحلل‬ ‫النام الذين خصوا باستنباط الحكام‪ ،‬و ُ‬
‫والحرام( )‪.(2‬‬
‫العظيمة بالجتهاد‬ ‫والعلماء هم‪ :‬أئمة الدين‪ ،‬نالوا َهذه المنزلة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫دو َ ِ ْ ِ َ‬
‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ه ُ‬
‫ة يَ ْ‬
‫م ً‬ ‫م أئ ِ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫عل َْنا ِ‬
‫ج َ‬ ‫و َ‬
‫والصبر واليقين ‪َ +‬‬
‫ن" ]السجدة‪.[24 :‬‬ ‫قُنو َ‬ ‫كاُنوا ِبآَيات َِنا ُيو ِ‬ ‫و َ‬ ‫صب َُروا َ‬ ‫َ‬
‫والعلماء هم‪ :‬ورثة النبياء‪ ،‬ورثوا عنهم العلم‪ ،‬فهم يحملونه في‬
‫صدورهم وينطبع في الجملة ‪ -‬على أعمالهم ‪ -‬ويدعون الناس‬
‫إليه‪ ،‬والعلماء هم‪ :‬الفرقة التي نفرت من هذه المة لتتفقه في‬
‫ن‬‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬‫الدعوة‪ ،‬ومهمة النذار ‪َ +‬‬ ‫دين الله‪ ،‬ثم تقوم بواجب‬
‫م‬‫ه ْ‬
‫من ْ ُ‬ ‫ة ّ‬ ‫ق ٍ‬ ‫فْر َ‬ ‫ل ِ‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫فَر ِ‬ ‫ول َ ن َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫ف‬ ‫فُروا َ‬
‫كا‬ ‫ن ل َِين ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫عوا‬ ‫ج ُ‬‫ذا َر َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ُ‬‫و َ‬ ‫ذُروا َ‬
‫ق ْ‬ ‫ول ُِين ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ف ّ‬ ‫ة ل ِي َت َ َ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫َ‬
‫دي ِ‬ ‫في ال ّ‬ ‫هوا ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫ف ٌ‬
‫ن" ]التوبة‪.[122 :‬‬ ‫حذَُرو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫عل ّ ُ‬ ‫م لَ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫إ ِلي ْ ِ‬
‫والعلماء هم هداة الناس الذين ل يخلو زمان منهم حتى يأتي‬
‫أمر الله‪ ،‬فهم رأس الطائفة المنصورة إلى قيام الساعة‪ ,‬يقول‬
‫الرسول ×‪) :‬ل تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله ل‬
‫يضرهم من خذلهم‪ ،‬أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم‬

‫)( تفسير الطبري )‪.(3/327‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( ابن القيم‪ ،‬أعلم الموقعين )‪.(1/7‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪223‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ظاهرون على الناس( )‪.(1‬‬


‫كيف يعرف العلماء؟‬
‫إن العلماء يعرفون بعلمهم‪ ،‬فالعلم هو الميزة التي تميزهم‬
‫عن غيرهم‪ ،‬فهم إن جهل الناس نطقوا بالعلم الموروث عن إمام‬
‫المرسلين × )ويعرفون برسوخ أقدامهم في مواطن الشبهة‪،‬‬
‫حيث تزيغ الفهام فل يسلم إل من آتاه الله العلم‪ ،‬أو من اتبع أهل‬
‫العلم(‪.‬‬
‫فالعلماء أطواد ثابتة‪ ،‬لنهم أهل اليقين الراسخ الذي اكتسبوه‬
‫بالعلم‪ ،‬يقول المام ابن قيم الجوزية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬إن الراسخ‬
‫في العلم لو وردت عليه من الشبهة بعدد أمواج البحر ما أزالت‬
‫يقينه‪ ،‬ول قدحت فيه شكا‪ ،‬لنه قد رسخ في العلم فل تستفزه‬
‫س العلم وجيشه مغلولة‬ ‫الشبهات‪ (2،‬بل إذا وردت عليه ردها حر ُ‬
‫مغلوبة( ) ‪.‬‬
‫إن العلماء يعرفون ‪-‬أيضا‪ -‬بجهادهم‪ ،‬ودعوتهم إلى الله عز‬
‫وجل‪ ,‬وبذلهم الوقات‪ ،‬والجهود في سبيل الله‪.‬‬
‫ويعرفون بنسكهم وخشيتهم لله‪ ،‬لنهم أعرف الناس بالله‪,‬‬
‫ن‬
‫ماءُ إ ِ ّ‬‫عل َ َ‬
‫ه ال ْ ُ‬
‫عَباِد ِ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬
‫ه ِ‬
‫شى الل َ‬‫خ َ‬‫ما ي َ ْ‬
‫يقول الله عز وجل‪+ :‬إ ِن ّ َ‬
‫فوٌر" ]فاطر‪.[28 :‬‬ ‫زيٌز َ‬
‫غ ُ‬ ‫ع ِ‬
‫ه َ‬‫الل َ‬
‫وقال المام ابن تيمية رحمه الله‪» :‬ومن له في المة لسان‬
‫صدق عام بحيث يثني عليه ويحمد في جماهير أجناس المة‪،‬‬
‫فهؤلء أئمة الهدى ومصابيح الدجى«)‪.(3‬‬
‫وهذا حق‪ ،‬فالمسلمون شهداء الله في أرضه)‪.(4‬‬
‫وعن أنس بن مالك ‪ ‬قال‪ :‬مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا‬
‫فقال النبي ×‪» :‬وجبت«‪ .‬ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا‪،‬‬
‫فقال‪» :‬وجبت«‪ .‬فقال عمر بن الخطاب ‪ :‬ما وجبت؟‬
‫قال‪» :‬هذا أثنيتم عليه خيرا‪ ،‬فوجبت له الجنة‪ ،‬وهذا‬
‫أثنيتم عليه شرا‪ ،‬فوجبت له النار‪ ,‬أنتم شهداء الله في‬
‫الرض«)‪.(5‬‬
‫ومما يعرف به العالم شهادة مشايخه له بالعلم‪ ،‬فقد دأب‬
‫علماء المسلمين من سلف هذه المة ومن تبعهم بإحسان على‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب العتصام‪ ،‬باب قول النبي ×‪» :‬ل تزال‪ (8/189) «...‬رقم‬ ‫‪1‬‬

‫‪.7311‬‬
‫)( مفتاح دار السعادة )‪.(1/140‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الفتاوى )‪.(11/43‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬د‪ .‬اللويحق‪ ،‬ص ‪.26‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الجنائز‪ ،‬باب‪ :‬ثناء الناس على الميت )‪ (2/132‬رقم ‪.1367‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪224‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫توريث علومهم‪ ،‬الذين يتبوؤون من بعدهم منازلهم وتصبح لهم‬


‫الريادة‪ ،‬والمامة في المة‪ ،‬ول يتصدر هؤلء التلميذ حتى يروا‬
‫إقرار مشايخهم لهم بالعلم‪ ،‬وإذنهم لهم بالتصدر‪ ،‬والفتاء‬
‫والتدريس‪.‬‬
‫قال المام مالك ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬ل ينبغي لرجل يرى نفسه‬
‫أهل لشيء حتى‬
‫يسأل من كان أعلم منه‪ ،‬وما أفتيت حتى سألت ربيعة)‪ (1‬ويحيى‬
‫)‪(2‬‬
‫بن سعيد‬
‫)‪(3‬‬
‫فأمراني بذلك‪ ،‬ولو نهياني لنتهيت( ‪.‬‬
‫وقال‪ ...) :‬ليس كل من أحب أن يجلس في المسجد للتحديث‬
‫والفتيا جلس‪ ،‬حتى يشاور فيه أهل الصلح والفضل‪ ،‬وأهل الجهة‬
‫من المسجد‪ ،‬فإن رأوه أهل لذلك جلس‪ ,‬وما جلست حتى شهد‬
‫لي سبعون شيخًا من أهل العلم أني موضع ذلك( )‪.(4‬‬
‫هذه بعض الدلئل الدالة على علم العالم‪ ،‬أما المناصب ونحوها‬
‫ليست الدليل على العلم‪.‬‬
‫إن العلماء ل يحددون ويختارون عن طريق النتخابات‪ ،‬ول عن‬
‫طريق التعيين الوظيفي‪ ،‬أو الشهادات الجامعية والدرجات‬
‫واللقاب العلمية‪ ،‬فكأين من عالم في تاريخ المة تصدر وعل‬
‫ذكره‪ ،‬وأصبح إماما للمة كلها‪ ،‬وهو لم يعرف المناصب‪ ،‬وما المام‬
‫أحمد بن حنبل‪ ،‬وابن تيمية إل مثل من هذا التاريخ الطويل‪.‬‬
‫وهذا ل يعني أن كل من عين في منصب علمي ليس بعالم‪،‬‬
‫بل المراد أن المنصب ليس دليل على العلم‪ ،‬وإل فإن الشأن‬
‫عندما يكون الحاكم خيرا‪ ،‬أن يكون الولة‪ ،‬والقضاة‪ ،‬والمفتون‬
‫كذلك‪ ،‬بل قد يوجد في عهد ظالم قضاة عادلون ومفتون ثقات)‪.(5‬‬
‫وهناك ملحظة مهمة جدا أل وهي التفريق بين العلماء وبين ما‬
‫قد يشتبه بهم‪.‬‬
‫فلبد من التفريق بين العلماء والقراء‪:‬‬
‫إن هناك بونًا شاسعًا بين القارئ للعلوم الشرعية والفقيه فيها‪.‬‬
‫إن القارئ لديه نتف وجزئيات أمسك بها من خلل قراءته‬
‫لبعض الكتب‪ ،‬وإطلعه على أقوال أهل العلم فهو لم يعان العلم‪،‬‬
‫)( هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن فروخ المام المفتي‪ ،‬عالم الوقت مفتي‬ ‫‪1‬‬

‫المدينة المشهور بربيعة الرأي‪ ،‬كان من أهل الجتهاد )ت ‪136‬هـ(‪ ,‬سير أعلم‬
‫النبلء )‪.(6/89‬‬
‫)( هو المام يحيى بن سعيد أبو سعيد القطان توفي )‪198‬هـ(‪ ,‬تهذيب التهذيب‬ ‫‪2‬‬

‫‪.11/16‬‬
‫)( صفة الفتوى والمستفتي لبن حمدان )‪.(7‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( ابن فرحون الديباج ص )‪.(21‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص ‪.28‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪225‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫حَلق‪ ،‬ولذلك فإنه‬ ‫ولم يشافه العلماء‪ ،‬ولم يزاحمهم بالركب في ال ِ‬


‫وإن رأيته متضلعا في موضوع من موضوعات الفقه والشريعة إل‬
‫أنه يغلق عليه عندما يسأله في مسألة من مسائل العلم)‪.(1‬‬
‫أما العالم الفقيه فليس كأولئك‪ ،‬بل هو ذو فهم شامل عام‬
‫للسلم‪ ،‬وإطلع على مجمل الحكام الشرعية‪ ،‬فهو لم يقرأ نتفا‪،‬‬
‫بل درس العلوم الشرعية دراسة شمولية عامة‪ ،‬فمر على مسائل‬
‫العلم واستطاع تخريجها على أصولها وأصبحت لديه ملكة فهم‬
‫النصوص‪ ،‬وعرف مقاصد الشريعة وأهدافها‪.‬‬
‫إن علمه لم يأته من قراءة ليلة‪ ،‬بل من سهر الليالي ومعاناة‬
‫اليام‪ ،‬فشأن العلماء أنهم ل يقفون عند حد في التعلم‪ ،‬بل هم‬
‫دائمو الطلب‪ ،‬دائبو التعلم)‪.(2‬‬
‫ولبد ‪ -‬أيضا ‪ -‬من التفريق بين العلماء والمفكرين والمثقفين‪،‬‬
‫إن مفكري المة لهم مكانتهم‪ ،‬وبعضهم قد نفع الله عز وجل بهم‬
‫نفعا كبيرا‪ ،‬ولكنهم مع ذلك لن يغنوا عن العلماء شيئا إل في حدود‬
‫علمهم وقدرتهم‪ .‬كما أن المثقفين وهم فئة من الخيار الصالحين‬
‫ذوي تخصصات علمية برزوا فيها سواء في العلوم التجريبية مثل‪:‬‬
‫الطب والهندسة والكيمياء أو في العلوم المسماة بـ‪» :‬العلوم‬
‫النسانية« مثل علم النفس‪ ،‬وعلم التربية‪ ،‬وعلم الجتماع‪ ,‬فهؤلء‬
‫مرجعا فيها‬
‫ً‬ ‫حمد لهم تخصصهم في مثل هذه العلوم فصاروا‬ ‫وإن ُ‬
‫فإنهم غير مختصين في العلوم الشرعية‪ ،‬وهم في الصطلح‬
‫العلمي الشرعي جمهور المسلمين‪ ،‬وعوامهم الذين يجب أن‬
‫يكونوا وراء العلماء‪.‬‬
‫ويجب أن يرجعوا للعلماء في أمور الشريعة‪ ،‬ويكونوا عونًا لهم‬
‫في شرح واقع تخصصاتهم‪ ،‬فالطبيب يشرح المور الطبية‪،‬‬
‫والقتصادي يشرح الجوانب القتصادية العصرية وهكذا‪ ،‬وإن كلم‬
‫هؤلء )المفكرين( والمثقفين يجب أن يكون محكومًا بالشرع‪ ،‬وأما‬
‫إذا بنى هؤلء المثقفون و)المفكرون( كلمهم في أمور الشريعة‪،‬‬
‫وأحوال المة العامة على أساس من العقول والهواء‪ ،‬وإطلق‬
‫القول بالمصالح دون نظر في كتاب الله وسنة رسوله × وأقوال‬
‫العلماء الراسخين‪ ،‬فإنهم بذلك يكونون أشبه بأهل الكلم وقد‬
‫)أجمع أهل الفقه والثار من جميع المصار أن أهل الكلم أهل بدع‬
‫وزيغ ول يعدون عند الجميع في جميع المصار في طبقات العلماء‪،‬‬
‫وإنما العلماء أهل الثر والفقه ويتفاضلون فيه بالتقان والفهم( )‪.(3‬‬
‫ولبد من التفريق بين العلماء والخطباء والوعاظ‪:‬‬
‫)( نفس المصدر السابق‪ ,‬ص ‪.32‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( جامع بيان العلم لبن عبد البر )‪(2/96‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪226‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫قال ابن مسعود ‪» :‬إنكم في زمان كثير علماؤه قليل‬


‫)‪(1‬‬
‫خطباؤه‪ ،‬وإن بعدكم زمانا كثير خطباؤه والعلماء فيه قليل« ‪.‬‬
‫إن العالم قد يكون عييا ل يحسن الكلم‪ ،‬أو هو ‪ -‬بطبعه ‪ -‬قليل‬
‫الكلم غير قادر على الخطابة‪ ،‬وقد يكون من العوام من هو بليغ‬
‫اللسان يقلب اللفاظ كيف يشاء‪.‬‬
‫هذا التفريق مهم جدا فيما بين العلماء الراسخين وممن يشتبه‬
‫بهم‪ ،‬ولذلك لبد أن يقود العمل السلمي القادة الربانيون وعلى‬
‫رأسهم العلماء الراسخون‪.‬‬
‫إن الشريعة السلمية أعطت اعتبارا للعلماء وبنته على أمرين‬
‫مهمين‪:‬‬
‫‪ -1‬أن طاعتهم طاعة لله عز وجل ولرسوله × فالتزام أمرهم‬
‫واجب‪.‬‬
‫‪ -2‬أن طاعتهم ليست مقصودة لذاتها‪ ،‬بل هي تبع لطاعة الله‬
‫ورسوله ×‪.‬‬
‫والدلة على هذه المنزلة وهذا العتبار للعلماء في الشريعة‬
‫غير منحصرة فمنها‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عوا‬‫طي ُ‬
‫مُنوا أ ِ‬‫نآ َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬‫ُ‬
‫الدليل الول‪ :‬قوله‬
‫الله َ‬
‫م" ]النساء‪.[59 :‬‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫ر ِ‬‫م ِ‬ ‫وأوِلي ال ْ‬ ‫َ‬
‫سول َ‬ ‫عوا الّر ُ‬ ‫طي ُ‬
‫وأ ِ‬‫َ َ‬
‫وقد اختلف المفسرون في أولي المر منهم على أقوال‪:‬‬
‫فقيل‪ :‬هم السلطين وذوو القدرة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬هم أهل العلم‪.‬‬
‫قال ابن عباس رضي الله عنهما‪» :‬يعني أهل الفقه والدين‪،‬‬
‫وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم‪ ،‬ويأمرونهم‬
‫بالمعروف‪ ،‬وينهونهم عن المنكر فأوجب الله سبحانه طاعتهم‬
‫على عباده«)‪.(2‬‬
‫ويقول ابن كثير ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬والظاهر والله أعلم أنها عامة‬
‫في كل أولي المر من المراء والعلماء«)‪.(3‬‬
‫يقول المام ابن قيم الجوزية ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬والتحقيق أن‬
‫المراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم‪ ،‬فطاعتهم تبع‬
‫لطاعة العلماء‪ ،‬فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه‬
‫العلم‪ ،‬فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول ×‪ ،‬فطاعة‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الدب المفرد‪ ،‬ص ‪ ،346‬ح ‪.789‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير الطبري )‪.(5/149‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تفسير ابن كثير )‪(1/518‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪227‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المراء تبع لطاعة لعلماء‪ ،‬ولما كان قيام السلم بطائفتي العلماء‬
‫والمراء‪ ،‬وكان الناس لهم تبعا‪ ،‬كان صلح العالم بصلح هاتين‬
‫الطائفتين‪ ،‬وفساده بفسادهما«)‪.(1‬‬
‫أوجب الرجوع‬ ‫الدليل الثاني‪ :‬أن الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬
‫ْ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫إليهم وسؤالهم عما أشكل قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ل الذّك ِ‬
‫ر‬ ‫سألوا أ ْ‬ ‫فا ْ‬
‫ن" ]النبياء‪.[7 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬
‫ِإن ك ُن ُْتم ل َ ت َ ْ‬
‫يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫)وعموم هذه الية‪ ،‬فيها مدح أهل العلم‪ ،‬وأن أعلى أنواعه‪ :‬العلم‬
‫بالكتاب المنزل‪ ،‬فإن الله أمر من ل يعلم بالرجوع إليهم في جميع‬
‫الحوادث‪ ,‬وفي ضمنه تعديل لهل العلم وتزكية لهم حيث أمر‬
‫بسؤالهم وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعية( )‪.(2‬‬
‫الدليل الثالث‪ :‬أن الله ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عظم قدرهم‬
‫فأشهدهم دون غيرهم على أعظم مشهود‪.‬‬
‫شهد الل َ‬
‫مل َئ ِك َ ُ‬
‫ة‬ ‫وال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه إ ِل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ه ل َ إ ِل َ َ‬ ‫ه أن ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ يقول سبحانه‪َ ِ َ +:‬‬
‫م"‬‫ُ‬ ‫كي‬‫ِ‬ ‫ح‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ز‬‫ُ‬ ‫زي‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ِ َ ِ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ط‬
‫ِ‬ ‫س‬
‫ْ‬ ‫ق‬‫ِ‬ ‫ما ِبال ْ‬ ‫قائ ِ ً‬ ‫عل ْم ِ َ‬ ‫وأوُلو ال ْ ِ‬ ‫َ‬
‫]آل عمران‪.[18 :‬‬
‫قال العلمة السعدي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في تفسيره لهذه الية‪:‬‬
‫)وفي هذه الية فضيلة العلم والعلماء‪ ،‬لن الله خصهم بالذكر من‬
‫دون البشر‪ ،‬وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملئكته‪ ،‬وجعل‬
‫شهادتهم من أكبر الدلة والبراهين على توحيده ودينه‪ ،‬وجزائه‪,‬‬
‫وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة‪.‬‬
‫وفي ضمن ذلك تعديلهم‪ ،‬وأن الخلق تبع لهم‪ ،‬وأنهم هم الئمة‬
‫المتبوعون‪ ،‬وفي هذا من الفضل والشرف وعلو المكانة ما ل‬
‫يقادر قدره( )‪.(3‬‬
‫الدليل الرابع‪ :‬أنهم أهل الفهم عن الله عز وجل‪:‬‬
‫ها‬ ‫قل ُ َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫و َ‬ ‫س َ‬ ‫ها ِللّنا ِ‬ ‫رب ُ َ‬‫ض ِ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫مَثا ُ‬ ‫ك ال ْ‬ ‫وت ِل ْ َ‬
‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]العنكبوت‪.[43 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫إ ِل ّ ال ْ َ‬
‫عال ِ ُ‬
‫إن المثال تضرب للناس كلهم ولكن تعقلها وفهمها خاص بأهل‬
‫العلم‪ ,‬قال ابن كثير ‪ -‬رحمه الله‪) :‬وما يفهمها ويتدبرها إل‬
‫الراسخون في العلم المتضلعون منه( )‪.(4‬‬
‫وقال الشيخ ابن سعدي ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬وما يعقلها( أي‪:‬‬
‫بفهمها وتدبرها وتطبيقها على ما ضربت له‪ ،‬وعقلها في القلب‪،‬‬
‫أعلم الموقعين )‪ (1/10‬بتحقيق عبد الرؤوف سعد‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تفسير السعدي )‪.(4/206‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تفسير السعدي )‪.(1/265‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تفسير القرآن العظيم )‪.(3/414‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪228‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫)إل العالمون(‪ :‬أي‪ :‬أهل العلم الحقيقي الذي وصل العلم إلى‬
‫قلوبهم‪.‬‬
‫وهذا مدح للمثال التي يضربها‪ ،‬وحث على تدبرها وتعقلها‪،‬‬
‫ومدح لمن يعقلها‪ ،‬وأنه عنوان على أنه من أهل العلم‪ ،‬فعلم أن‬
‫من لم يعقلها ليس من العالمين)‪.(1‬‬
‫الدليل الخامس‪ :‬أن أهل العلم أبصر الناس بالبشر ومداخل‬
‫م‬‫و َ‬ ‫ي ال ْي َ ْ‬ ‫خْز َ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫عل ْ َ‬‫ن ُأوُتوا ال ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قا َ‬ ‫الشر‪ ،‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]النحل‪.[27 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬ ‫كا ِ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫سوءَ َ‬ ‫وال ْ ّ‬ ‫َ‬
‫قال الشيخ العلمة ابن سعدي ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫ن‬
‫م" أي‪ :‬العلماء الربانيون ‪+‬إ ِ ّ‬ ‫عل ْ َ‬ ‫ن ُأوُتوا ال ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قا َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫سوءَ" أي‪ :‬سوء العذاب‬ ‫وال ّ‬ ‫ْ‬ ‫م" أي‪ :‬يوم القيامة ‪َ +‬‬ ‫و َ‬ ‫ْ‬
‫ي الي َ ْ‬ ‫خْز َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ن"‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬ ‫كا ِ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫وفي هذه فضيلة أهل العلم‪ ،‬وأنهم الناطقون بالحق في هذه‬
‫الدنيا‪ ،‬ويوم يقوم الشهاد‪ ،‬وأن لقولهم اعتبارا عند الله وعند‬
‫خلقه)‪.(2‬‬
‫ن ُأوُتوا‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬
‫ْ ْويقول َسبحانه في سياق قصة قارون‪َ + :‬‬
‫خي ٌْر‪] "....‬القصص‪.[80 :‬‬ ‫ه َ‬ ‫ب الل ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫م ثَ َ‬ ‫وي ْلك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ‬ ‫ال ِ‬
‫فأهل العلم هنا كانوا متميزين عن غيرهم‪ ،‬فهم بصراء بالشر‬
‫وعلماء بالخير‪ ،‬فلما رأوا الناس يتمنون مثل ما أوتي قارون‪،‬‬
‫حذروهم من الشر‪ ،‬وبينوا لهم الخير‪ ،‬وأن الدار الخرة خير لمن‬
‫آمن وعمل صالحا‪.‬‬
‫العلماء على‬ ‫‪ +‬وأ َ‬ ‫ولم يعرف هؤلء الذين تمنوا حظوظ الدنيا أن‬
‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫ب‬‫ص‬ ‫بقارون عندها‪:‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ َ َ‬
‫س ُ‬
‫ط‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫اللهن ويك َأ َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫قو‬
‫الحق إل حينما حلت عقوبة‬
‫س يَ ُ‬ ‫م َ‬
‫ََ َ ْ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ِبال ْ‬ ‫كان َ ُ‬ ‫وا َ‬ ‫من ّ ْ‬ ‫تَ َ‬
‫عل َي َْنا‬ ‫ه َ‬ ‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ن‬‫ّ ّ‬ ‫م‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ر‬
‫َ ِ ِ ْ ََ َ ِ ُ ْ‬‫د‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫با‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ن‬‫ّ َ ِ ْ‬‫م‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫شا‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ز‬‫ال ّ ْ‬
‫ر‬
‫ن"]القصص‪.[82 :‬‬ ‫َ‬ ‫رو‬ ‫ِ ُ‬ ‫ف‬ ‫كا‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ح‬ ‫ُ ِ ُ‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫خ َ َ َِ َ ْ ّ ُ‬
‫ن‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫ي‬‫و‬ ‫نا‬ ‫ب‬ ‫ف‬ ‫س‬ ‫لَ َ‬
‫ولما كان العلماء هم العارفين بالشر صاروا هم الذين ينهون‬
‫ن‬‫م الّرّبان ِّيو َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه ُ‬‫ها ُ‬ ‫ول َ ي َن ْ َ‬ ‫تعالى‪+ :‬ل َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫قالث ْم وأ َ‬ ‫الناس عن الوقوع فيه‪،‬‬
‫ما كاُنوا‬ ‫س َ‬ ‫ت لب ِئ ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫س ْ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ه ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬‫ه ُ‬‫ول ِ ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫عن َ‬ ‫حَباُر َ‬ ‫وال ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]المائدة‪.[63 :‬‬ ‫عو َ‬ ‫صن َ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫أي‪ :‬هل نهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس عن هذه الشرور‬
‫العظيمة‪ ،‬وهم ‪ -‬أي‪ :‬العلماء ‪ -‬العارفون بالشر ومداخل الشر‬
‫فكان لزاما أن يبينوا للناس‪.‬‬
‫والنا س عليهم لزوم طاعة العلماء والستجابة لتحذيرهم من الشر‬
‫)( تفسير السعدي )‪.(6/89‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير السعدي )‪(4/196‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪229‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ونهيهم عن المعاصي)‪.(1‬‬
‫هذه بعض الدلة في القرآن الكريم‪ ،‬وأقوال المفسرين فيها‬
‫ترشدنا إلى أهمية العلماء في قيادة المة وقيادة الصفوة التي‬
‫تقود المة‪.‬‬
‫وقد جاءت الحاديث النبوية في إرشاد المة إلى منزلة‬
‫العلماء‪:‬‬
‫الدليل الول‪ :‬أن العلماء ورثة النبياء‪ ،‬وهم‬
‫المفضلون بعد النبياء على سائر البشر‪:‬‬
‫عن أبي الدرداء)‪  (2‬قال‪ :‬سمعت رسول الله × يقول‪:‬‬
‫»فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على‬
‫سائر الكواكب‪ ،‬وإن العلماء ورثة النبياء‪ ،‬وإن النبياء‬
‫درهما‪ ،‬ولكنهم ورثوا العلم‪ ,‬فمن‬ ‫لم يورثوا دينارا ول‬
‫أخذه أخذ بحظ وافر« )‪.(3‬‬
‫قال المام ابن رجب)‪ - (4‬رحمه الله ‪» :-‬يعني أنهم ورثوا ما‬
‫جاء به النبياء من العلم‪ ،‬فهم خلفوا النبياء في أممهم بالدعوة‬
‫إلى الله وإلى طاعته‪ ،‬والنهي عن معاصي الله والذود عن دين‬
‫الله«)‪.(5‬‬
‫الدليل الثاني‪ :‬إن العلماء هم المبلغون عن النبياء‪:‬‬
‫قال الرسول ×‪» :‬تسمعون ويسمع منكم‪ ،‬ويسمع ممن يسمع‬
‫منكم« )‪.(6‬‬
‫فبين × أن هذا العلم يؤخذ بالتلقي وكل جيل من أهل العلم‬
‫يبلغه لمن بعدهم‪.‬‬
‫وهؤلء المبلغون هم المستحقون لدعوة النبي ×‪» :‬نضر الله‬
‫عبدا سمع مقالتي‪ ،‬فحفظها ووعاها‪ ،‬وأداها‪ ،‬فرب‬ ‫ً‬
‫حامل فقه غير فقيه‪ ،‬ورب حامل فقه إلى من هو‬
‫أفقه منه«‪.‬‬
‫ولقد جمع العلماء بين نقل أقوال الرسول × إلى من بعدهم‪،‬‬
‫وفقه تلك القوال وفهمها‪ ،‬فالعالم حامل فقه وفقيه‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص)‪(53‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( هو الصحابي الجليل عويمر بن عامر الخزرجي النصاري‪ ،‬توفي عام ‪133‬هـ‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫الصابة )‪.(3/46‬‬
‫)( رواه أبو داود‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬باب الحث على طلب العلم )‪ (317/3‬رقم‬ ‫‪3‬‬

‫‪.3641‬‬
‫)( هو عبد الرحمن بن أحمد بن رجب البغدادي ثم الدمشقي‪ ،‬توفي ‪795‬هـ‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫شذرات الذهب )‪.(6/339‬‬


‫)( شرح حديث‪ :‬أبي الدرداء في طلب العلم‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( أبو داود‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬فضل نشر العلم )‪ (3/322‬رقم ‪.3660‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪230‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الدليل الثالث‪ :‬أن الله أراد بهم الخير‪:‬‬


‫عن ابن عباس ومعاوية رضي الله عنهما قال‪ :‬قال رسول الله‬
‫×‪» :‬من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين« )‪.(1‬‬
‫قال شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله تعالى ‪) :-‬وكل أمة ‪-‬‬
‫قبل مبعث نبينا‬
‫محمد × ‪ -‬فعلماؤها شرارها إل المسلمين فإن علماءهم خيارهم(‬
‫)‪.(2‬‬
‫إن الحاديث في مكانة العلماء كثيرة ونكتفي بهذا القدر‪ ،‬إن‬
‫الذين يقودون المة بغير علم يفسدون أكثر مما يصلحون‪ ،‬وإن‬
‫العلماء مثل الماء النافع حيثما سقطوا نفعوا‪ ،‬وليس للناس عوض‬
‫ألبتة عن العلماء إل أن يكون لهم عوض عن الشمس والعافية‪ ،‬ول‬
‫أقصد من كلمي هذا وإطنابي في مكانة العلماء ومنزلتهم في‬
‫الشريعة أن نقدس ذواتهم وأشخاصهم‪ ،‬فنصبح كبني إسرائيل‪:‬‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خ ُ‬
‫ن الل ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫م أْرَباًبا ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫هَبان َ ُ ُ‬‫وُر ْ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫حَباَر ُ‬ ‫ذوا أ ْ‬ ‫‪+‬ات ّ َ‬
‫دا ل ّ‬‫ح ً‬
‫وا ِ‬ ‫ها‬
‫ِ ً َ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫دوا‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬‫ع‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫روا‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫َ َ ْ َ َ َ‬‫ي‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ح‬‫َ‬ ‫سي‬
‫ِ‬ ‫وال ْ َ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ن" ]التوبة‪.[31 :‬‬ ‫كو َ‬ ‫ر ُ‬‫ش ِ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫ع ّ‬
‫ه َ‬‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ه إ ِل ّ ُ‬ ‫إ ِل َ َ‬
‫إن الطاعة عندنا‪ ،‬واعتبار العلماء في شرعنا ليس مقصودا‬
‫لذاته‪ ،‬بل لما قام فيهم من العلم بالله والعلم عن الله عز وجل‪,‬‬
‫وليس سؤال العامي إياهم سؤال عن رأيهم الشخصي‪ ،‬ول عن‬
‫حكمهم الذاتي‪ ،‬بل سؤال عما يفهمون عن الله ‪ -‬عز وجل ‪ -‬عن‬
‫رسوله ×‪.‬‬
‫ولبد أن ننبه إلى أمر عظيم أل وهو أن بعض المنسوبين إلى‬
‫الخير والصلح اليوم يعتبرون للعلماء منزلة وطاعة في بعض‬
‫جوانب الحياة‪ ،‬ويرون أن هناك جوانب أخرى ليس للعلماء فيها‬
‫اعتبار‪ ،‬وإنما العتبار لغيرهم من المفكرين أو الساسة أو الدعاة‬
‫أو قادة الجماعات أو غيرهم‪ ,‬وهذا أمر ل شك أنه غير صحيح‪ ،‬لن‬
‫العلماء يفهمون السياسة الشرعية‪ ،‬وأمور الجهاد‪ ،‬والهدنة‬
‫والمصالح والمفاسد وغير ذلك من الحكام التي تتناول مظاهر‬
‫الحياة جميعا‪.‬‬
‫وعلى المختصين في جوانب الحياة من الكوادر القتصادية‪،‬‬
‫والسياسية‪ ،‬والطبية‪ ،‬والعسكرية أن يبينوا واقع تخصصاتهم إلى‬
‫العلماء الربانيين حتى يطبق العلماء الحكم الشرعي على الوقائع‬
‫المتجددة‪.‬‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب فرض الخمس‪ ،‬باب‪ :‬قول الله ‪+‬فلله خمسه" )‪ (4/60‬رقم‬ ‫‪1‬‬

‫‪.3116‬‬
‫)( رفع الملم عن الئمة العلم )ص ‪.(11‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪231‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وهناك ملحظة مهمة‪ ،‬أل وهي أن العلماء جاء اعتبارهم عن‬


‫طريق الشرع فإنه ل يرفع هذا العتبار إل الشرع‪ ,‬فإذا قارف‬
‫العالم عمل أو قال قول يخرم دينه‪ ،‬ويجعله غير أهل لمامة المة‪،‬‬
‫ول يستحق أن يكون على رأس قيادتها فإنه يزال عنه اعتبار‬
‫طاعته وأخذ قوله‪ ،‬وأما إذا كان رفع اعتبار هذا العالم جاء من جهة‬
‫عدم رضا الناس برأيه أو عزله‪ ،‬أو حسد قرنائه له‪ ،‬فإن ذلك ليس‬
‫هادما لعتباره‪ ،‬وإل لهدمنا اعتبار أئمة الهدى‬
‫‪ -‬من أمثال‪ :‬أحمد بن حنبل‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬وغيرهما رحمهم الله ‪-‬‬
‫الذين مروا بأحوال وأزمان لم يعتبر الناس لهم فيها رأيا حتى‬
‫أيدهم الله بتأييده)‪.(3‬‬
‫إن العلماء في مسيرة الحياة السلمية دائما وأبدا يتصدرون‬
‫شعوبهم وأممهم‪ ,‬وبهم تقام الدول ويمكن لشرعه على أيديهم‬
‫وإليهم المرجع عند الفتن والملحم والمحن‪ ،‬فلبد من إعطاء‬
‫العلماء الربانيين المستوعبين لواقعهم العاملين بكتاب ربهم وسنة‬
‫نبيهم × والملمين بتاريخ المم والدول والشعوب دورهم الطبيعي‬
‫في المة عموما وفي الحركات السلمية خصوصا فهذا من فقه‬
‫التمكين‪.‬‬
‫ول شك أننا اليوم في محنة عظيمة وفتن أليمة كقطع الليل‬
‫المظلم ومن شأن الفتن أن تشتبه المور فيها‪ ،‬ويكثر الخلط‬
‫وتزيغ الفهام والعقول‪ ,‬والحكمة حينذاك إنما هي للجماعة التي‬
‫يمثل العلماء رأسها‪ ،‬فالواجب على الناس‪ :‬الراعي والرعية الخذ‬
‫برأي العلماء والصدور عن قولهم‪ ،‬لن اشتغال عموم الناس‬
‫بالفتن وإبداء الرأي فيها ينتج عنه مزيد فتنة وتفرق للمة‪ ،‬فالمور‬
‫العلم والرأي‪ ,‬يقول‬ ‫مردها إلى أهل‬ ‫العامة من المن أو الخوف‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫و ِ‬ ‫خ ْ‬
‫و ال َ‬ ‫نأ ِ‬ ‫ُ‬ ‫م ِ‬
‫ن ال ْ‬ ‫م َ‬‫مٌر ّ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫جاءَ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫َالله عز وجل‪َ + :‬‬
‫م‬
‫ه ْ‬
‫من ْ ُ‬ ‫ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ال‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫و‬
‫َِ َ‬‫ل‬ ‫سو‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫دو‬ ‫ّ‬ ‫و َر‬ ‫ول َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫عوا ب ِ ِ‬ ‫ذا ُ‬ ‫أ َ‬
‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ض‬
‫ْ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬
‫ُ ْ َ ْ‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫طو‬ ‫ُ‬ ‫ب‬‫ْ‬
‫ْ ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ه‬
‫َ ُ‬‫م‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫لَ‬
‫قِليل ً" ]النساء‪.[83 :‬‬ ‫ن إ ِل ّ َ‬ ‫طا َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫عت ُ ُ‬ ‫ه ل َت ّب َ ْ‬ ‫مت ُ ُ‬‫ح َ‬ ‫وَر ْ‬ ‫َ‬
‫إن الناس في الفتن يحتاجون إلى فقه المصالح والمفاسد‪،‬‬
‫والعلم بمراتبها فوق حاجتهم إلى العلم بآحاد النصوص الحاكمة‬
‫على القضايا المعينة‪ ,‬إذ ليست المنكرات العامة المتعلقة‬
‫بالسياسة الشرعية ‪-‬وهي في الغالب سبب الفتن‪ -‬كمسائل‬
‫الطهارة والصلة والحج والحوال الشخصية يقوم فيها الحق ‪-‬‬
‫غالبا ‪ -‬على الدلة التفصيلية‪ ،‬بل قيام العلم في ذلك على أسس‬
‫منها‪:‬‬
‫‪ -1‬الدلة الشرعية العامة والقواعد التي يدخل تحتها أمور‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪232‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫‪ -2‬مقاصد الشريعة‪.‬‬
‫‪ -3‬الموازنة بين المصالح والمفاسد‪.‬‬
‫‪ -4‬الدلة التفصيلية‪.‬‬
‫ول يمكن للعوام‪ ،‬بل وصغار العلم فهم القضايا الكلية العامة‪،‬‬
‫وإن كان يمكنهم فهم النصوص الجزئية‪ ،‬وكذلك فهم مقاصد‬
‫الشريعة ل يكون إل باستقراء مجمل النصوص وتصرفات الشارع‪،‬‬
‫ففقه المقاصد فقه عزيز‪ ،‬ل يناله كل أحد بل ل يصل إليه إل من‬
‫ارتقى في مدارج العلم‪ ،‬واطلع على واقع الحال‪ ،‬وقلب النظر في‬
‫الحتمالت التي‬
‫يظن حدوثها‪.‬‬
‫والموازنة بين المصالح والمفاسد تحتاج إلى فهم للشريعة‬
‫ومقاصدها وفهم للواقع ومراتب المصالح والمفاسد وهذا كله ل‬
‫يكون إل للعلماء)‪ .(1‬إن تصدر العامة الذين ل يفهمون كتاب الله‬
‫وسنة رسوله × يشتت المسلمين ويفرق وحدتهم‪ ،‬لن العوام ل‬
‫يتصور اتفاقهم على أمر إذا لم يكن لهم سراة يصدرون عن‬
‫رأيهم‪ ،‬ولذلك كان الرد إلى أهل الحل والعقد‪.‬‬
‫إن قيام مسألة النكار في المور العامة هو على فهم مسألة‬
‫عظيمة هي‪ ،‬المكان وعدم المكان‪ ,‬وتحديد هذا المكان وعدمه‬
‫ليس إلى جمهور الناس وعوامهم‪ ،‬بل هو إلى العلماء بشرع الله‬
‫البصراء بواقع الناس)‪.(2‬‬
‫فلبد من وضع الثقة بالعلماء الربانيين‪ ،‬فكثير من الناس من‬
‫يطالب العلماء بعمل من العمال هم عنه ممتنعون‪ ،‬وما امتناعهم‬
‫عنه إل لنظرهم من مآلت المور وعواقبها‪.‬‬
‫إذ بعض المصالح قد يمتنع عنه لما يؤدي إليه من المآل من‬
‫المفاسد العظمى‪ ،‬والدين السلمي يراعي المصالح‪ ،‬فل يقر‬
‫اعتبار مصلحة دنيا على حساب وقوع مفسدة عظمى‪.‬‬
‫أل ترى أن قتل المنافق الثابت نفاقه‪ ،‬المعروف باستهزائه‬
‫بآيات الله وبرسوله ×‪ ،‬وبالمؤمنين‪ ..‬أمر مشروع بل موجب‬
‫للقتل‪ ،‬وهو الردة ومفارقة الدين؟‬
‫فقد امتنع عنه النبي × لما يفضي إليه هذا القتل من المفاسد‪,‬‬
‫فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما)‪ (3‬أنه قال‪ :‬كنا مع النبي ×‬
‫في غزاة‪ ،‬فكسع رجل من المهاجرين رجل من النصار‪ ،‬فقال‬
‫النصاري‪ :‬يا للنصار‪ ،‬وقال المهاجري‪ ،‬يا للمهاجرين‪ ،‬فقال رسول‬
‫)( انظر‪ :‬قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص ‪.121‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.123‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( هو جابر بن عبد الله النصاري السلمي‪ ،‬من أهل بيعة الرضوان‪ ،‬شهد مع‬ ‫‪3‬‬

‫النبي × ‪ 19‬غزوة‪) ،‬ت ‪78‬هـ( وقيل غير ذلك‪ ،‬انظر‪ :‬الستيعاب )‪، 2/109‬‬
‫‪.(110‬‬

‫‪233‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الله ×‪» :‬ما بال دعوى الجاهلية« قالوا‪ :‬يا رسول الله‪ ,‬كسع رجل‬
‫من المهاجرين رجل من النصار‪ ,‬فقال‪» :‬دعوها فإنها منتنة«‬
‫فسمعها عبد الله بن أبي‪ ،‬فقال‪ :‬قد فعلوها‪ ،‬والله لئن رجعنا إلى‬
‫المدينة ليخرجن العز منها الذل‪ ,‬قال عمر‪ :‬دعني أضرب عنق‬
‫هذا المنافق‪ ،‬فقال‪» :‬دعه ل يتحدث الناس أن محمدا يقتل‬
‫أصحابه« )‪.(1‬‬
‫إن النبي × امتنع عن قتل المنافق خشية أن يتحدث الناس أن‬
‫رسول الله × يقتل أصحابه في وقت كانت الدعوة فيه في طور‬
‫النتشار‪ ،‬مما ينفر الناس عن اليمان برسالة محمد ×‪ ,‬وهذا‬
‫المحظور أعظم من المصلحة المتحققة بقتل هذا المنافق)‪.(2‬‬
‫إن وضع الثقة في العلماء الربانيين لخطوة مباركة نحو تحكيم‬
‫شرع الله والتمكين لدينه‪.‬‬
‫إن القيادة الربانية والتي على رأسها العلماء الذين وصلوا إلى‬
‫درجة النظر في فقه السلم من كتاب الله وسنة رسوله × هم‬
‫الذين يجب أن يقودوا العمل السلمي والدعوة إلى الله‪.‬‬
‫إن أعداءنا من اليهود والنصارى والملحدة والعلمانيين أيقنوا‬
‫أن من أسباب قوة المسلمين التفافهم حول علمائهم وقادتهم‪،‬‬
‫لذلك شنوا هجوما عنيفا من أجل زعزعة ثقة المة في علمائها‬
‫وقادتها‪ ,‬واستعملوا أساليب متنوعة للتشويه والطعن فيهم لن‬
‫العلماء هم الوصلة الحقيقية بين المة وقرآنها وسنة نبيها ×‪.‬‬
‫وقد لحظ الستعمار الوروبي الحديث ذلك‪ ،‬وما الثورات التي‬
‫فجرت الستعمار إل بقيادة العلماء والقادة الربانيين من المغرب‬
‫إلى المشرق في كل ديار المسلمين‪.‬‬
‫ولذلك قام اليهود والنصارى والملحدة بتشويه صورة القادة‬
‫والعلماء بواسطة المسرح‪ ،‬والتلفاز‪ ،‬والمجلة والجريدة‪ ,‬والنوادي‪,‬‬
‫والغناء وكل وسائل العلم‪ .‬وإذا أردت أن تعرف هجومهم‬
‫العلمي ابتداء من العقود الماضية‪ ،‬فلتراجع كتاب المشايخ‬
‫والستعمار للستاذ حسني عثمان‪ ،‬فإنه أكد أن القيادة الحكيمة‬
‫وهي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى‪ ،‬وإقامة دولة السلم توقن‬
‫إيقانا جازما أن المجتمع لن يكون إسلميا بجرة قلم‪ ،‬أو بقرار‬
‫يصدر من ملك أو رئيس أو مجلس قيادة أو برلمان‪.‬‬
‫إنما يتحقق ذلك بطرق التدرج‪ ،‬والعداد والتهيئة الفكرية‬
‫والنفسية والخلقية والجتماعية‪ ,‬وإقامة البدائل السلمية‬
‫للوضاع الجاهلية التي تأسست عليها مؤسسات عدة لزمنة‬
‫عديدة‪.‬‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب التفسير‪ ،‬باب تفسير سورة المنافقين )‪ (79-6‬رقم ‪.4907‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬قواعد في التعامل مع العلماء‪ ،‬ص ‪.180‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪234‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫فهي تعين الهدف‪ ،‬وتضع الخطة وتحدد المراحل‪ ،‬بوعي‬


‫وصدق‪ ،‬بحيث تنتقل من مرحلة إلى مرحلة بتخطيط وتنظيم‬
‫وإرادة قوية معتمدة على الله تعالى حتى تصل المسيرة إلى‬
‫مرحلة التمكين الفعلي لدولة السلم المنشودة‪.‬‬
‫إن القيادة الربانية الحكيمة والتي تسعى لتحكيم شرع الله‬
‫تعطي للعلوم بأنواعها أهمية وخصوصا علوم الشرع‪ ,‬وتركز على‬
‫علم المقاصد‪ ،‬وفقه الموازنات‪ ،‬وفقه الخلف‪ ،‬وفقه الولويات‪،‬‬
‫وفقه السنن الربانية لهميتها في زماننا هذا‪ ،‬بل هي من أفضل‬
‫العدة بعد تقوى الله تعالى للعاملين من أجل تحكيم شرع الله‪.‬‬
‫إن القيادة الربانية الحكيمة هي التي تفجر طاقات المة وهي‬
‫التي تحتضن السلم وتنهجه قلبا وقالبا‪ ،‬جوهرا ومنظرا‪ ،‬وعقيدة‬
‫وشريعة‪ ,‬ودينا ودولة‪ ,‬وهي التي تصبح وتمسي وهمها عقيدتها‬
‫وأمتها‪ ،‬وهي التي تسعى بكل ما تملك لحل المشاكل التي تواجهها‬
‫وتعمل بكل جهد وإخلص للقضاء على عوائق التمكين الداخلية‬
‫والخارجية‪.‬‬
‫ثالًثا‪ :‬محاربة أسباب الفرقة‪:‬‬
‫إن النحراف عن كتاب الله وسنة رسوله × وهدى الصحابة‬
‫والتابعين‪ ،‬له أسباب كثيرة‪ ،‬منها خارجية أجنبية ومنها داخلية ذاتية‪.‬‬
‫ومن أهم السباب الخارجية‪:‬‬
‫‪ -1‬اتساع الفتوحات السلمية‪ ،‬واختلط المسلمين بالشعوب‬
‫والمم الخرى‪ ،‬وتأثرهم بأفكارهم وثقافاتهم‪.‬‬
‫‪ -2‬دخل كثير من أبناء الشعوب الخرى في السلم ولم‬
‫ينصهروا في‬
‫عقيدة السلم‪ ،‬وتصوراته كما ينبغي‪ ،‬وحملوا معهم موروثاتهم‬
‫القديمة ونشروا شبهاتهم بين المسلمين‪.‬‬
‫‪ -3‬اندساس بعض الملحدة واليهود والمجوس وغيرهم من‬
‫أصحاب المعتقدات المنحرفة في السلم بقصد الكيد له‪ ،‬والنيل‬
‫منه‪ ,‬وبغية هدمه وتحريفه وتبديله‪ ,‬وذلك بإبعاد المسلمين عن‬
‫دينهم الصحيح بالتشكيك وإثارة الشبهات‪ ،‬وابتداع العقائد المخالفة‬
‫لهدى السلم الصحيح‪ ،‬ونشروا معتقدات فاسدة‪ ،‬ومناهج منحرفة‬
‫)‪(1‬‬
‫من أمثلة هؤلء‪:‬‬
‫‪ -‬عبد الله بن سبأ)‪ (2‬اليهودي الذي تظاهر بالسلم في خلفة‬
‫)( انظر‪ :‬وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق‪ ،‬د‪ .‬جمال بادي‪ ،‬ص ‪.136 ،135‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( عبد الله بن سبأ اليهودي قيل‪ :‬أصله من صنعاء وقيل غير ذلك رأس الطائفية‬ ‫‪2‬‬

‫السبئية التي كانت تقول بألوهية علي ‪ ,‬أظهر السلم ونشر الفتنة بين‬
‫المسلمين وتذرع بحب آل البيت وكانت له مصائب عظيمة على المسلمين‪,‬‬

‫‪235‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫عثمان ‪ ,‬وسعى في المصار يدس أفكار الغلو في علي ‪‬‬


‫ابتداء بأنه هو وصي رسول الله × وانتهاء بادعاء اللوهية‪ ,‬فيه‬
‫وغير ذلك من العتقادات التي كانت أساس الرفض)‪.(1‬‬
‫‪ -‬وبشر المريسى)‪ (2‬اليهودي الذي كان له دور كبير في فتنة‬
‫خلق القرآن‪ ،‬وتعطيل صفات رب العالمين)‪ .(3‬وغيرهم كثير من‬
‫أهل الزيغ والضلل ممن نشروا البدع‪ ،‬والمعتقدات الفاسدة‪،‬‬
‫والتصورات المنحرفة‪ ،‬ول شك أن السباب الخارجية ساهمت في‬
‫فرقة المة وتمزيق وحدتها وهي من الموضوعات المتشعبة‬
‫والطويلة والتي لبد من دراستها دراسة عميقة متأنية تكشف من‬
‫خللها أسبابها وأثرها في المة مثل‪ :‬غزو المغول‪ ،‬والحملت‬
‫الصليبية‪ ،‬وترجمة الفلسفات اليونانية والهندية‪ ...‬إلخ‪ ،‬ورغم أهمية‬
‫السباب الخارجية فإن السباب الداخلية كان لها الثر الكبر في‬
‫إحداث الفرقة وتقسيم صف الجماعة المسلمة‪ ..‬وتنقسم السباب‬
‫الداخلية إلى أسباب عامة)‪ (4‬وأسباب منهجية‪ ،‬وأهم السباب‬
‫العامة هي‪:‬‬
‫‪ -1‬البتداع‪.‬‬
‫‪ -2‬الجهل‪.‬‬
‫‪ -3‬اتباع الهوى‪.‬‬
‫‪ -4‬تحكيم العقل وتقديمه على النصوص‪.‬‬
‫‪ -5‬الهجوم القبيح على أهل السنة‪.‬‬
‫وأما السباب المنهجية فجامعها‪ ،‬مخالفة منهج أهل السنة في‬
‫النظر والستدلل)‪:(5‬‬
‫أ‪ -‬البتداع‪:‬‬
‫حا‪:‬‬
‫تعريف البدعة لغة واصطل ً‬
‫لغة‪ :‬تطلق البدعة في اللغة على الشيء المخترع على غير‬
‫مثال سابق‪ ،‬ويقال لمن أتى بأمر لم يسبقه إليه أحد‪ ،‬أبدع وتبدع‪:‬‬
‫أي‪ :‬أتى ببدعة)‪ ,(6‬فهي تطلق على المر المحدث سواء كان‬
‫محمودًا أو مذمومًا‪.‬‬
‫توفي ‪40‬هـ‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬مقالت السلميين للشعري )‪.(1/86‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( هو بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي العدوي‪ ،‬فقيه معتزلي‪ ،‬عارف‬ ‫‪2‬‬

‫بالفلسفة‪ ،‬رمى بالزندقة‪ ,‬توفي ‪218‬هـ‪ ,‬ميزان العتدال )‪.(1/323‬‬


‫)( انظر‪ :‬وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق‪ ،‬ص ‪.136‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( نص الشاطبي على أن أسباب الوقوع في الختلف ثلثة أمور وهي‪ :‬الجهل‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫واتباع الهوى‪ ،‬والتصميم على اتباع العوائد وإن فسدت وإن كانت مخالفة للحق‬
‫)العتصام‪.(180 – 2/172 :‬‬
‫)( انظر‪ :‬وجوب لزوم الجماعة وذم التفرق‪ ،‬ص ‪.137‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( القاموس المحيط للفيروز آبادي )‪ ,(4 ،3/3‬الصحاح للجوهري )‪(3/1183‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪236‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫أما اصطلحًا‪ :‬طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة‬


‫يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫يتبين من التعريفات السابقة أن المعنى اللغوي أعم وأشمل‬
‫من المعنى الشرعي‪.‬‬
‫ول شك أن البتداع في الدين من أعظم أسباب التفرق‪ ،‬بل‬
‫هو أعظمها وكان من العوامل التي ساهمت في القضاء على‬
‫وحدة المة السلمية‪ ،‬وشتتت شملها وحادت بسببه فرق كثيرة‬
‫عما كان عليه رسول الله × وأصحابه‪ .‬إن المجتمع المسلم كان‬
‫متوحدا متآلفا‪ ،‬حتى خرجت البدع على الناس بسمومها وروائحها‬
‫الكريهة‪ ،‬فقوضت بنيان المة‪ ،‬وشتتت شملها‪ ،‬ونخرت في كيانها‪،‬‬
‫كما نخر السوس في الحب‪ ،‬وسرت في جسم المة كما يسري‬
‫السرطان في الدم‪ ،‬أو النار في الهشيم‪ ،‬فلذلك نرى من أسباب‬
‫التمكين للمة ووحدة الصف محاربة البدع وذمها وتنفير المسلمين‬
‫منها‪ ،‬وبيان مضارها وأخطارها وسوء منقلب أهلها‪.‬‬
‫ولقد سار علماء المة على مر العصور‪ ،‬وكر الدهور‪ ،‬وتوالي‬
‫الزمان على هذا النهج في محاربة البدعة‪ ،‬وإماتتها‪ ،‬وإظهار السنة‬
‫وإحيائها‪.‬‬
‫ومن المور التي تظهر خطورة البدعة فيها‪ ،‬ما يصيب المة‬
‫بسببها من العداوة والبغضاء والشحناء‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬والبدعة مقرونة بالفرقة‪ ،‬كما‬
‫أن السنة مقرونة بالجماعة( )‪.(1‬‬
‫ويقول الدكتور توفيق الواعي‪» :‬ومن سمات أهل البدع‬
‫مفارقة الجماعة وشق عصا الطاعة على جماعة المسلمين‪ ،‬لن‬
‫الهواء نزعات وسبل تفرق الجادة«)‪.(2‬‬
‫إن البدع أصابت المة في وحدة صفها واجتماع شملها وقوة‬
‫بنيانها‪ ،‬ولقد أرشدنا القرآن الكريم وأرشدتنا السنة النبوية إلى‬
‫التمسك بحبل الله المتين ونوره المبين وترك البدع والحداث في‬
‫الدين‪.‬‬
‫ول َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫عوهُ َ‬‫فات ّب ِ ُ‬ ‫قي ً‬
‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬
‫طي ُ‬ ‫صَرا ِ‬‫ذا ِ‬ ‫ن َ‬
‫وأ ّ‬ ‫َ‬
‫عن‬
‫م َ‬ ‫فّرقَ ب ِك ُ ْ‬‫فت َ َ‬‫ل َ‬
‫سب ُ َ‬
‫عوا ال ّ‬ ‫ت َت ّب ِ ُ‬
‫ه" ]النعام‪.[153 :‬‬ ‫سِبيل ِ ِ‬ ‫َ‬
‫‪ -‬وعن عائشة رضي الله عنها قالت‪ :‬قال رسول الله ×‪» :‬من‬

‫)( الستقامة )‪.(1/42‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البدع والمصالح المرسلة‪ ،‬ص ‪.214‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪237‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد« )‪.(1‬‬


‫إن محاربة البدع والتمسك بما كان عليه رسول الله ×‬
‫وأصحابه والقتداء بهم طريق الوحدة واجتماع كلمة المة‪ ,‬وقوة‬
‫بنيانها ورصانة دعائمها‪ ،‬ومتانة قواعدها وإرجاع مجدها وعزتها‪,‬‬
‫ومن أهم السباب للتمكين لهذا الدين‪.‬‬
‫ب‪ -‬الجهل‪:‬‬
‫إن الجهل من أعظم أسباب الوقوع في المحرمات جميعها من‬
‫كفر وفسوق وعصيان‪ ،‬ومن أعظم الجهل القول على الله بغير‬
‫علم‪ ،‬وقد جعله الله عز وجل أعلى مراتب المحرمات وأعلى‬
‫ة‬
‫زين َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫حّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫درجة من الشراك به سبحانه‪ ,‬قال تعالى‪ُ + :‬‬
‫ي‬
‫ِ َ‬ ‫ه‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫ز‬ ‫ن ال ّ ْ‬
‫ر‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫وال ْطّي َّبا ِ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫عَباِد ِ‬ ‫ج لِ ِ‬ ‫خَر َ‬ ‫ه ال ِّتي أ َ ْ‬ ‫الل ِ‬
‫ة ك َذَل ِكَ‬ ‫م ِ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬ ‫و َ‬ ‫ة يَ ْ‬ ‫ص ً‬ ‫خال ِ َ‬ ‫ة الدّن َْيا َ‬ ‫حَيا ِ‬ ‫في ال َ‬ ‫ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫ن" ]العراف‪.[32 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫عل ُ‬ ‫َ‬ ‫وم ٍ ي َ ْ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫َ‬ ‫ص ُ‬ ‫نُ َ‬
‫ق ْ‬ ‫ل الَيا ِ‬ ‫ف ّ‬
‫يقول ابن القيم ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬وأصل الشرك والكفر‪ ،‬هو القول‬
‫على الله بل علم()‪.(2‬‬
‫وقد نهى الله عباده أن ينسبوا إلى دينه تحليل شيء أو تحريمه‬
‫من عند أنفسهم‪،‬‬
‫ول َ‬ ‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫فقال‬ ‫برهان‪،‬‬ ‫ول‬ ‫الله‬ ‫من‬ ‫حجة‬ ‫ليس لديهم فيه‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫را‬
‫َ َ ٌ‬ ‫ح‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ل‬‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ب‬ ‫ِ َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬
‫ِ َ ُ ُ‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ف‬
‫ُ‬ ‫ص‬ ‫ما ت َ ِ‬ ‫قوُلوا ل ِ َ‬ ‫تَ ُ‬
‫ه‬
‫على الل ِ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن ي َفت َُرو َ‬ ‫ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن ال ِ‬ ‫ب إِ ّ‬ ‫ذ َ‬ ‫ه الك ِ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫على الل ِ‬ ‫َ‬ ‫ل ّت َفت َُروا َ‬ ‫ْ‬
‫ن" ]النحل‪.[116 :‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫ب ل َ يُ ْ‬ ‫ذ َ‬ ‫ال ْك َ ِ‬
‫فافتراء الكذب على الله عز وجل أمر خطير وعظيم‪ ،‬فهو تعد‬
‫إضلل‬ ‫على جانب اللوهية‪ ،‬وتطاول على الله عز وجل‪ ،‬وفيه‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫للعباد‪ ،‬وصد ّ لهم عن دين الله الحق‪ ،‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن أظل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ف َ‬
‫علم ٍ"‬ ‫ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫غي ْ ِ‬ ‫س بِ َ‬ ‫ل الّنا َ‬ ‫ض ّ‬ ‫ذًبا ل ِي ُ ِ‬ ‫ه كَ ِ‬ ‫عَلى الل ِ‬ ‫فت ََرى َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫م ّ‬ ‫ِ‬
‫]النعام‪.[144 :‬‬
‫ق‬
‫من َّرْز ٍ‬ ‫كم َ ّ‬ ‫ه لَ ُ‬ ‫ل َالل ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫ل أَرأي ُْتم ّ‬
‫ق ْ َ َ‬ ‫وقال تعالى‪ُ + :‬‬
‫ه‬
‫على الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ُ‬
‫ن لك ْ‬ ‫َ‬ ‫ه أِذ َ‬ ‫حلل قل آلل ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫و َ‬ ‫ما َ‬ ‫حَرا ً‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫عل ُْتم ّ‬ ‫ج َ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]يونس‪.[59 :‬‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫تَ ْ‬
‫ن"‬ ‫قي َ‬ ‫صاِد ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِإن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫هان َك ُ ْ‬ ‫هاُتوا ب ُْر َ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫وقال تعالى‪ُ + :‬‬
‫]البقرة‪.[111 :‬‬
‫ذا أ َ َ‬ ‫من َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ة ّ‬ ‫و أَثاَر ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ل َ‬ ‫قب ْ ِ‬ ‫ب ّ‬ ‫وقال تعالى‪+:‬ائ ُْتوِني ب ِك َِتا ٍ‬
‫ن" ]الحقاف‪.[4 :‬‬ ‫قي َ‬ ‫صاِد ِ‬ ‫م َ‬ ‫عل ْم ٍ ِإن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الصلح‪ ،‬باب‪ :‬إذا اصطلحوا على صلح )‪ (3/22‬رقم ‪.2697‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مدارج السالكين )‪.(1/373‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪238‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وهذه تربية للمؤمنين‪ ،‬ودعوة للناس أجمعين‪ ،‬بأن يأخذوا الحق‬


‫ويبحثوا عنه من مصدره الصحيح وهو الوحي فقط ل غير‪ ،‬وأن أي‬
‫شيء لم يقم عليه دليل ول برهان من وحي الله فإنه باطل‬
‫مرفوض‪ ,‬وإذا انتقلنا إلى السنة النبوية‪ ،‬وجدنا إخبار النبي × أن‬
‫من أشراط الساعة قبض العلم وظهور الجهل‪ ،‬فعن أنس بن‬
‫مالك ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول‬
‫الله ×‪» :‬إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل«)‪.(1‬‬
‫وقال ×‪» :‬إن الله ل يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من‬
‫العباد‪ ،‬ولكن يقبض العلم بقبض العلماء‪ ،‬حتى إذا لم‬
‫سئلوا فأفتوا بغير‬ ‫الناس‪(2‬رءوسا جهالً ف ُ‬ ‫عالما اتخذ‬
‫ً‬ ‫يبق‬
‫)‬
‫ضلوا وأضلوا« ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫علم ف َ‬
‫وقال النووي رحمه الله‪) :‬هذا الحديث بين أن المراد بقبض‬
‫العلم في الحاديث السابقة المطلقة ليس هو محوه من صدور‬
‫حفاظه‪ ،‬ولكن معناه أن يموت حملته ويتخذ الناس جهال بجهالتهم‬
‫فيضلون ويضلون( )‪.(3‬‬
‫إن الجهل من السباب المؤدية إلى الختلف والتفرق والبتعاد‬
‫عن الحق والبعد عنه ورده‪ ،‬وبالتالي تأخير نصر الله وتمكين دينه‬
‫في الرض‪ ،‬ولذلك لبد من معرفة أسباب الجهل ومن ثم‬
‫معالجتها‪ ،‬ومن أخطر المور أن يكون على مقدمة الحركة‬
‫السلمية قيادة تجهل كتاب الله وسنة رسوله ×‪ ,‬ول تعطي‬
‫للعلماء أي وزن أو اهتمام‪ ،‬بل تعمل على تهميشهم والنيل منهم‪،‬‬
‫وتجعل من عقولهم وأهوائها مصادر للجتهادات الحركية والفكرية‬
‫والسلوكية‪ ،‬ومن المعلوم أن ما سوى الشرع موزون وليس‬
‫بميزان‪ ،‬ومحكوم وليس بحاكم‪ ،‬ولذلك وقع كثير من العقلنيين‬
‫ومن المتصوفة وغيرهم في‬
‫التخبط والضلل والبدع‪ ,‬وبالتالي ساهموا في تفريق المة‬
‫وتشتيتها وإبعادها عن تحكيم شرع ربها‪.‬‬
‫والدواء النافع للجهل هو العلم‪ ،‬وقد وردت نصوص كثيرة من‬
‫الكتاب والسنة في الحث على طلبه والثناء على أهله وذكر‬
‫فضله)‪.(4‬‬
‫جـ‪ -‬الهوى‪:‬‬
‫عرف أهل اللغة الهوى بأنه‪» :‬محبة النسان للشيء وغلبته‬
‫)( البخاري كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬رفع العلم‪ ،‬وظهور الجهل )‪ (1/33‬رقم ‪.80‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬كيف يقبض العلم )‪ (1/39‬رقم ‪.100‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( شرح النووي‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬رفع العلم وقبضه )‪ (337 ،2/336‬رقم‬ ‫‪3‬‬

‫‪.2136‬‬
‫)( انظر‪ :‬وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق ص ‪.171‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪239‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫على قلبه«)‪.(1‬‬
‫وأما في الصطلح‪ :‬ميلن النفس إلى ما تستلذه من الشهوات‬
‫من غير داعية الشرع)‪.(2‬‬
‫ويعتبر اتباع الهوى من أهم السباب في نشأة الكثير من‬
‫الفرق الضالة‪ ،‬والطوائف المنحرفة‪ ،‬لن أصحاب هذه الفرق‬
‫قدموا أهواءهم على الشرع أول‪ ،‬ثم حاولوا جاهدين أن يستدلوا‬
‫بالشريعة على أهوائهم‪ ،‬وحرفوا النصوص والدلة لتوافق ما هم‬
‫عليه من البدع‪ ،‬فلم يأخذوا الدلة الشرعية مأخذ الفتقار إليها‪ ،‬بل‬
‫اعتمدوا على آرائهم وعقولهم في تقرير ما هم عليه‪ ،‬ثم جعلوا‬
‫الشريعة مصدرا ثانويا‪ ،‬نظروا فيها بناء على ما قرروه وأصلوه‪،‬‬
‫ولجل ذلك كان علماء السلف الصالح يطلقون على أهل البدع‬
‫وفرق الضللة لفظة »أهل الهواء«)‪ ،(3‬بل كانوا يطلقونها على كل‬
‫من خرج عن موجب الكتاب والسنة من العلماء والعباد)‪.(4‬‬
‫ولذلك فكل مخالف لما بعث الله به رسوله × من الوامر‬
‫والنواهي‪ ،‬والعبادات‪ ،‬والطاعات إنما يكون متبعا لهواه‪ ،‬ول يكون‬
‫متبعا لدين شرعه الله تبارك وتعالى)‪.(5‬‬ ‫ً‬
‫والهوى من السباب التي لجلها خالفت كثير من المم أنبياءها‬
‫فاستكبروا ولم يقبلوا الحق والهدى والنور الذي جاءتهم به‬
‫أنبياؤهم‪ ،‬عليهم السلم‪.‬‬
‫سل َْنا‬ ‫ل َ‬ ‫قدْ أ َ َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ل َ َ‬
‫وأْر َ‬ ‫سَراِئي َ َ َ‬ ‫ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ‬ ‫خذَْنا ِ‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫وى أن ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ما ل ت َ ْ‬ ‫ل بِ َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ه ْ‬‫جاءَ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫سل ً ك ُل ّ َ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫ه ْ‬‫ِ‬ ‫إ ِل َي ْ‬
‫ن" ]المائدة‪.[70 :‬‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫قا ي َ ْ‬ ‫ري ً‬ ‫ف ِ‬ ‫و َ‬‫قا ك َذُّبوا َ‬ ‫ري ً‬ ‫ف ِ‬ ‫َ‬
‫إن الله تعالى ذكر داود عليه السلم وبّين في كتابه أسباب‬
‫المحافظة على التمكين وذكر من ذلك البتعاد عن الهوى‪ ,‬قال‬
‫َ‬ ‫عل َْنا َ‬
‫ن‬
‫م ب َي ْ َ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫فا ْ‬ ‫ض َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫ة ِ‬ ‫خِلي َ‬
‫ف ً‬ ‫ك َ‬ ‫ج َ‬ ‫ودُ إ ِّنا َ‬ ‫دا ُ‬ ‫تعالى‪َ+ :‬يا َ‬
‫ن‬
‫ه إِ ّ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬‫عن َ‬ ‫ضلك َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫في ُ ِ‬‫وى َ‬ ‫ه َ‬ ‫ْ‬
‫ع ال َ‬ ‫َ‬
‫ول ت َت ّب ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫س ِبال ْ َ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ال ّّنا ِ‬
‫سوا‬ ‫ن‬ ‫ما‬
‫ِ ُ ِ َ َ ُ‬ ‫ب‬ ‫د‬ ‫دي‬‫ش‬‫َ‬ ‫ب‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِ ُ ْ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫بي‬
‫َ ِ ِ‬ ‫س‬ ‫عن‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬ ‫ض‬
‫ن َ ِ‬
‫ي‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ِ‬
‫ب" ]ص‪.[26 :‬‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬ ‫و َ‬ ‫يَ ْ‬
‫يقول ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬ونفس الهوى ‪ -‬وهو الحب‬
‫والبغض الذي في النفس‪ -‬ل يلم عليه‪ ،‬فإن ذلك قد ل يملك‪ ,‬وإنما‬

‫لسان العرب )‪.(15/371‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫التعريفات للجرجاني‪ ،‬ص ‪.257‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬العتصام )‪.(2/176‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬الفتاوى )‪.(28/133‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫انظر‪ :‬جامع العلوم والحكم لبن رجب‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪240‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫يلم على اتباعه«)‪.(1‬‬


‫وقال في موضع آخر‪» :‬ومجرد الحب والبغض هوى‪ ،‬لكن‬
‫المحرم اتباعه حبه وبغضه بغير هدى من الله «)‪.(2‬‬
‫إن اتباع الهوى من أسباب الفرقة‪ ,‬والفرقة من أسباب تأخر‬
‫التمكين‪ ،‬فإذن فعلى المخلصين من أبناء المة السلمية‪،‬‬
‫الحريصين على تحكيم شرع الله تعالى‪ ،‬محاربة الهوى وقلع‬
‫جذوره وأسبابه من النفوس‪.‬‬
‫إن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بأن يتقوه بفعل ما أمرهم‬
‫به من الجتماع على دينه متحابين متعاونين على الخير‪ ،‬وأن ل‬
‫يموتوا إل وهم مستسلمين لمره منقادين لطاعته مبتعدين عن‬
‫معصيته‪.‬‬
‫إن محاربة الهواء طريق نحو الجتماع والئتلف‪ ،‬ونحو الخذ‬
‫بأسباب التمكين لهذا الدين‪.‬‬
‫جهودًضخمة في العمل السلمي‪ ،‬وأمرض‬ ‫ا‬ ‫إن اتباع الهواء شتت‬
‫قلوبا كانت حية‪.‬‬
‫ً‬
‫إن العلج الناجع والبلسم الشافي لمن ابتلى بشيء من‬
‫الهوى‪ ،‬إلزام النفس بالكتاب والسنة‪ ،‬واتباع منهج السلف الصالح‬
‫وتربية النفس باستمرار على التقوى والخشية من الله تعالى‪،‬‬
‫واتهام النفس ومحاسبتها دائما فيما يصدر منها وعدم الغترار‬
‫بأهوائها وتزييناتها وخداعها‪ ،‬والكثار من استشارة أهل العلم‬
‫واليمان واستجلء آرائهم حول ما يريد أن يقوله ويفعله‪ ،‬وكذلك‬
‫ترويض النفس على استنصاح الخرين وتقبل الراء الصحيحة‬
‫الصائبة وإن كانت مخالفة لما في النفس‪ ،‬وتعويدها على التريث‬
‫وعدم الستعجال في إصدار الحكام وإمضاء العمال‪ ،‬والحذر من‬
‫ردود الفعال التي قد يكون فيها إفراط وتفريط وغلو أو تقصير‪،‬‬
‫وجهل وبغي وعدوان‪ ،‬وإكثار المرء من الدعاء والتضرع إلى الله‬
‫تعالى بأن يجنبه اتباع الهوى ومضلت الفتن‪ ,‬ويسأله تعالى أن‬
‫يوفقه لقول كلمة الحق في الغضب والرضا‪ ،‬ويكثر من الدعاء‬
‫الذي علمه رسول الله × لمته‪» :‬وأسألك كلمة الحق في الرضا‬
‫والغضب«)‪ ،(3‬ومن قوله ×‪» :‬اللهم إني اعوذ بك من‬
‫منكرات الخلق والعمال والهواء«)‪.(4‬‬
‫)( الفتاوى )‪.(28/131‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الفتاوى )‪.(28/133‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( النسائي‪ ،‬كتاب السهو‪ ،‬باب‪ :‬الدعاء بعد الذكر )‪ (3/55‬صححه اللباني رحمه‬ ‫‪3‬‬

‫الله‪.‬‬
‫)( رواه الترمذي وصححه اللباني ‪-‬رحمه الله‪ -‬كما في صحيح سنن الترمذي )‬ ‫‪4‬‬

‫‪(3/183‬‬

‫‪241‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫د‪ -‬تقديم العقل وتحكيمه على النصوص‪:‬‬


‫إن المدرسة العقلية وعلى رأسها المعتزلة حكمت العقل‪،‬‬
‫وجعلته مصدرا أوليا للتلقي ودخلت بالعقل في غير مجاله‪ ,‬وركبوا‬
‫مسلك أهل الكلم ودخلوا في جدل مع الفلسفة في قضايا‬
‫اليمان‪ ،‬والسماء والصفات‪ ،‬والغيبيات‪ ,‬وابتعدت المة عن أوامر‬
‫الله‪ ،‬ودخلوا في مجال الترف الفكري‪ ,‬وتأثر كثير من العلماء‬
‫بكتب اليونان وعلومهم الفلسفية‪ ،‬وأعرضوا عن منهج الستدلل‬
‫المستمد من الكتاب والسنة الذي سار عليه السلف والئمة‬
‫الثقات‪ ,‬ونشأت فرق كلمية متعددة كل فرقة ترد على الخرى‬
‫وحادت عن الصراط المستقيم‪ ،‬ووقعت هي الخرى في أخطاء‬
‫كثيرة وجسيمة نتيجة استعمالها المنهج العقلني نفسه في الرد‬
‫الرباني الذي يقول الله‬
‫المنهجحق َ‬ ‫الخصوم‪ ،‬وعدم اعتمادها على‬
‫سيًرا"‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫على ‪+‬ول َ يأ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫س َ‬
‫ح َ‬
‫وأ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫با‬
‫ِ‬ ‫ك‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ئ‬‫ج‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ٍ ِ‬‫ل‬ ‫ث‬‫م‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫تو‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فيه‪:‬‬
‫]الفرقان‪.[33 :‬‬
‫ولو تمسك الجميع بالكتاب و السنة وجعلوهما المصدر الوحيد‬
‫للتلقي‪ ،‬وأعرضوا عما خالفهما‪ ،‬واتبعوا منهج سلف المة في فهم‬
‫أحكام الدين‪ ،‬أصوله وفروعه‪ ،‬لما حصل الذي حصل‪ ،‬ولكن ما‬
‫وقعوا فيه كان نتيجة حتمية لتحكيم العقل في مجال غير المجال‬
‫الذي خلق له‪.‬‬
‫يقول الشاطبي‪) :‬إن الله جعل للعقول في إدراكها حدا تنتهي‬
‫إليه ل تتعداه‪ ،‬ولم يجعل لها سبيلً إلى الدراك في كل مطلوب(‬
‫)‪.(1‬‬
‫إن العاقل اللبيب هو الذي يعرف حقيقة ما أنعم الله عليه من‬
‫نعمة العقل فل يدخله في مسالك ودروب لم يخلق لها‪ ،‬وإنما‬
‫يستعمل عقله في عمارة الرض والكون والحياة‪ ،‬ويتأمل ويتدبر‬
‫في كتاب الله وسنة رسوله ×‪ ,‬وينتهج منهج القرآن في معرفة‬
‫حقيقة العقل‪ ،‬ومكانته ودوره فل يتقدم على أحكام الشرع أبدا‪،‬‬
‫بل ينقاد إليها انقيادا حكيما رزينا مسترشدا بنور الوحي الذي يحرر‬
‫العقل من الخرافات والخزعبلت‪ ،‬ويحثه على النظر في الكون‬
‫والتحرر من التقليد والهوى والتعصب‪.‬‬
‫إن إقحام العقل في غير مجاله كما فعل أهل الكلم والهواء‬
‫شتت المة وفرقها‪ ,‬وجعلها تبتعد عن كتاب ربها وسنة نبيها ×‪،‬‬
‫ولقد تخبط كثير من علماء الكلم في دياجير الظلم وحيرة‬
‫ن الله عليهم وألهمهم رشدهم في آخر حياتهم‬ ‫م ّ‬
‫العقول حتى َ‬
‫فتابوا إلى الله عز وجل وندموا على ما كان منهم‪ ,‬وتحسروا على‬
‫إضاعة أعمارهم في القيل والقال‪ ،‬واعترفوا بخطأ الطريق الذي‬
‫)( العتصام )‪.(2/318‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪242‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫ساروا فيه‪ ،‬وأن منهج القرآن والسنة الذي سلكه السلف الصالح‬
‫هو أفضل السبل على الطلق ونذكر من هؤلء العلم‪:‬‬
‫‪ -1‬الجويني)‪ - (1‬رحمه الله‪:-‬‬
‫لقد ذم علم الكلم في آخر حياته ونصح المة أن يجتنبوه‪،‬‬
‫حيث قال‪» :‬ل تشتغلوا بعلم الكلم‪ ،‬فلو عرفت أن الكلم يبلغ بي‬
‫ما بلغ ما اشتغلت به «)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬أبو حامد الغزالي )‪: (3‬‬
‫نصر مذهب السلف في آخر حياته وقال‪» :‬الدليل على أن‬
‫مذهب السلف هو الحق‪ ،‬أن نقيضه بدعة‪ ،‬والبدعة مذمومة‬
‫وضللة«)‪.(4‬‬
‫ذمه لعلم الكلم‪ ،‬حيث قال‪» :‬إن الصحابة رضي الله عنهم‬
‫كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد‬
‫× فما زادوا على أدلة القرآن شيئا‪ ،‬وما ركبوا ظهر اللجاج في‬
‫وضع المقاييس العقلية‪ ،‬وترتيب المقدمات‪ ,‬كل ذلك لعلمهم بأن‬
‫ذلك مثار الفتن ومنبع التشويش‪ ,‬ومن ل يقنعه أدلة القرآن ل‬
‫يقمعه إل السيف والسنان‪ ،‬فما بعد بيان الله بيان«)‪.(5‬‬
‫إن المنهجية الخاطئة التي قدمت العقل على النقل أدت إلى‬
‫فساد النتائج وبالتالي إلى ظهور الفرق واختلف المناهج‬
‫والتصورات والقيم والمعتقدات‪ ,‬وكل ذلك أثر في وحدة المة‬
‫وساهم في تمزيقها وتشتيتها وتفريقها وإضعافها‪ ،‬وزوال هيبتها‬
‫وملكها وسلطانها‪ ,‬ولذلك أرى أن محاربة المدارس الكلمية‬
‫والنزعات الفلسفية ودعوة الناس إلى اللتزام بكتاب الله وسنة‬
‫سيد النام × من أسباب التمكين‪.‬‬
‫هـ‪ -‬التقليد والتعصب والحرص على اتباع العوائد‪:‬‬
‫‪ -1‬تعريف التقليد لغة واصطلحا‪:‬‬
‫‪ -‬التقليد لغة‪ :‬هو جعل القلدة في العنق)‪.(6‬‬
‫‪ -‬اصطلحا‪ :‬هو الرجوع إلى قوة ل حجة لقائله عليه)‪.(7‬‬
‫)( هو إمام الحرمين عبد الملك بن عبد الله بن يوسف أبو المعالي ركن الدين‪,‬‬ ‫‪1‬‬

‫كان من أذكياء العالم‪ ،‬توفي ‪478‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬العبر )‪.(2/339‬‬


‫)( طبقات الشافعية للسبكي )‪(3/260‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( هو محمد بن محمد الغزالي الطوسي له مائتا مصنف‪ ,‬توفي عام ‪505‬هـ‪,‬‬ ‫‪3‬‬

‫شذرات الذهب )‪.(3/10‬‬


‫)( إلجام العوام عن علم الكلم‪ ،‬ص ‪.96‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( نفس المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.90 – 89‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( الصحاح للجوهري )‪.(2/527‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( جامع بيان العلم وفضله لبن عبد البر )‪.(2/117‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪243‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -2‬تعريف التعصب لغة واصطلحا‪:‬‬


‫)‪(1‬‬
‫‪ -‬التعصب لغة‪ :‬من العصبية‪ ،‬وتعصب‪ ،‬أي‪ :‬شد العصابة ‪.‬‬
‫‪ -‬أما اصطلحا‪ :‬بأن تجعل ما يصدر عن شخص ما من الرأي‬
‫وُيروى له من الجتهاد حجة عليك وعلى سائر العباد)‪.(2‬‬
‫إن التقليد والتعصب من أعظم أسباب التفرق والنحراف عن‬
‫منهج الله الرباني‪ ،‬ومن أهم العوامل التي أدت إلى انتشار البدع‬
‫والهواء بين الناس‪ ،‬وفشت في أوساطهم‪ ،‬وحالت بينهم وبين‬
‫سماع الحق والهدى‪ ،‬وتركوا بسببها طريق الكتاب الكريم‬
‫والسنة المطهرة‪.‬‬
‫وقد ذم الله تعالى الذين يعرضون عن اتباع الحق والنقياد له‪،‬‬
‫عوا‬‫م ات ّب ِ ُ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫هَ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫وإ ِ َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫فقالما أ َ‬ ‫بحجة تقليد الباء والجداد‪,‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫و كا َ‬ ‫َ‬
‫َ ْ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫با‬
‫َ‬ ‫آ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫ف‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬‫ّ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫ل‬‫قاُلوا ب َ ْ‬
‫ه َ‬‫ل الل ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬‫َ‬
‫ن" ]البقرة‪.[170 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫هت َ ُ‬ ‫ول َ ي َ ْ‬‫شي ًْئا َ‬ ‫ن َ‬ ‫قُلو َ‬
‫ع ِ‬‫م ل َ يَ ْ‬‫ه ْ‬
‫ؤ ُ‬ ‫آَبا ُ‬
‫إن التقليد المذموم إنما هو التقليد في الباطل‪ ،‬وأما التقليد‬
‫في الحق فهو في الحقيقة اتباع ل تقليد‪.‬‬
‫ومن اليات أيضا التي جاءت في ذم التقليد وأهله قوله تبارك‬
‫وإ َِلى‬ ‫ه َ‬ ‫ل َالل ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫وا إ َِلى َ‬ ‫عال َ ْ‬ ‫م تَ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫وإ ِ َ‬ ‫وتعالى‪َ + :‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫و كا َ‬ ‫َ ْ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ء‬‫با‬
‫َ‬ ‫آ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫ج‬‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ب‬‫س‬‫ْ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫ل‬
‫سو ِ‬ ‫الّر ُ‬
‫ن" ]المائدة‪.[104 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬
‫َ ْ ُ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ئا‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫مو‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫َ ْ ُ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ؤ ْ‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫آَبا ُ‬
‫قال ابن كثير‪) :‬أي إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه‬
‫وترك ما حرمه قالوا‪ :‬يكفينا ما وجدنا عليه الباء والجداد من‬
‫الطرائق والمسالك( )‪.(3‬‬
‫فالتقليد العمى والتعصب‪ ،‬يؤديان إلى مهاوي الردى ويقودان‬
‫صاحبهما إلى مسالك الغواية والضلل‪ ،‬ويصدان عن اتباع النور‬
‫والهدى‪ ،‬فتكون النتيجة تخبطا وانتكاسا في الدنيا وهلكا وخسرانا‬
‫في الخرة)‪.(4‬‬
‫لقد انتشر مرض التعصب والتقليد في شعوب المة السلمية‬
‫لسيما في العصور المتأخرة‪ ،‬وأصبح هو الساس والصل‪ ،‬ونتج‬
‫عن تفشيه نتائج وخيمة وأمور جسيمة‪.‬‬
‫يصف المام الشوكاني ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬حال المة السلمية‬
‫عندما انقادت للتقليد واتبعت العوائد السيئة فيقول‪» :‬وبهذه‬
‫الصحاح للجوهري )‪.(1/182‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫أدب الطلب ومنتهى الدب للشوكاني‪ ،‬ص ‪.7‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تفسير القرآن العظيم لبن كثير )‪.(2/213‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫في ظلل القرآن لسيد قطب )‪ (2/991‬بتصرف‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪244‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الذريعة الشيطانية‪ ،‬والوسيلة الطاغوتية بقى المشرك من‬


‫الجاهلية على شركه‪ ،‬واليهودي على يهوديته‪ ,‬والنصراني على‬
‫نصرانيته‪ ,‬والمبتدع على بدعته‪ ،‬وصار المعروف منكرا والمنكر‬
‫معروفا‪ ،‬وتبدلت المة بكثير من المسائل الشرعية وغيرها‪ ،‬وألفوا‬
‫ذلك ومرنت عليه نفوسهم وقبلته قلوبهم وأنسوا إليه‪ ,‬حتى لو أراد‬
‫من يتصدى للرشاد أن يحملهم على المسائل الشرعية البيضاء‬
‫النقية التي تبدلوا بها غيرها لنفروا عن ذلك‪ ،‬ولم تقبله طبائعهم‪،‬‬
‫ونالوا ذلك المرشد بكل المكروه‪ ،‬ومزقوا عرضه بكل لسان‪،‬‬
‫وهكذا كثير موجود في كل فرقة من الفرق ل ينكره إل من هو‬
‫منهم في غفلة«)‪.(1‬‬
‫إن نتائج التعصب و التقليد جسيمة وخطيرة من أشدها عدم‬
‫قبول الحق‪ ،‬ورده إذا جاء من المخالف‪ ،‬وهذا إلى جانب كونه‬
‫مؤديا إلى العداوة والبغضاء والتفرق‪ ،‬فهو خصلة ذميمة من خصال‬
‫اليهود‪ ،‬والذين أمرنا الله تعالى ورسوله ×‪ ،‬بمجانبة طريقهم‬
‫وعدم التشبه بهم‪.‬‬
‫قاُلوا‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬‫مآ ِ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫قي َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫وإ ِ َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫قال‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ؤمن بما أ ُ‬
‫ق‬
‫ّ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ُ‬
‫ُ َ َ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ء‬‫را‬ ‫و‬
‫ِ َ َ َ‬‫ما‬ ‫ب‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫فرو‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ز‬‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫نُ ْ ِ ُ ِ َ‬
‫م" ]البقرة‪.[91 :‬‬ ‫قا َ َ َ ُ ْ‬
‫ه‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫صد ّ ً‬‫م َ‬ ‫ُ‬
‫إن محاربة التعصب والتقليد هو في حقيقته محاربة لسباب‬
‫الفرقة وبالتالي خطوة نحو الخذ بأسباب التمكين‪ ،‬فعلى العاملين‬
‫في مجال الدعوة أن يعالجوا هذه المراض المعضلة من التعصب‬
‫والتقليد واتباع العوائد السيئة التي كانت سببا في تفريق المة‬
‫شيعا وأحزابا‪.‬‬
‫هذه هي أهم السباب التي كان لها أثر مباشر في فرقة المة‬
‫وهناك أسباب أخرى ولكن اكتفينا بالهم خوفا من الطالة‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬الخذ بأصول الوحدة والتحاد والجتماع‪:‬‬ ‫ً‬
‫إذا كانت الفرقة هي طريق النحطاط‪ ،‬فإن الوحدة هي سبيل‬
‫الرتقاء وتبوؤ المكانة الفاضلة من جديد‪.‬‬
‫إن اتحاد المة السلمية على أسس من ديننا العظيم أمل كل‬
‫المسلمين الصادقين في كل مكان‪ ،‬ذلك أن السلم هو الذي جعل‬
‫ن‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫ما ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫من العرب المتناحرين إخوة في دين الله ‪+‬إ ِن ّ َ‬
‫ة" ]الحجرات‪ .[10 :‬كما أن السلم بعقيدته الصحيحة وعبادته‬ ‫و ٌ‬‫خ َ‬‫إِ ْ‬
‫الصادقة‪ ،‬وأخلقه الرفيعة‪ ،‬صهر المم والشعوب والحضارات التي‬
‫دخلت فيه وجعل منهم أمة واحدة مترابطة ترابط الجسد الواحد‪,‬‬

‫)( الدر النفيس في إخلص كلمة التوحيد للشوكاني‪ ،‬ص)‪.(29 – 28‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪245‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ل فرق بين الفارسي ول البربري‪ ،‬ول الرومي ول العربي إل‬


‫بالتقوى‪.‬‬
‫وأصبحت أمة السلم أمة واحدة في عقيدتها وتصوراتها‬
‫ومنهجها‪ ،‬وانعكس ذلك في توادهم وتراحمهم فيما بينهم وأصبحوا‬
‫كالجسد الواحد‪ ،‬الذي يخفق فيه قلب واحد‪ ,‬وتسري فيه روح‬
‫واحدة‪ ,‬ويتأثر كل عضو فيه بما يصيب بقية العضاء أو هو كالجدار‬
‫المتين الذي تجتمع لبناته لتشكل فيما بينها وحدة واحدة متماسكة‬
‫متراصة‪.‬‬
‫وفي اعتقادي أن من الهمية بمكان أن تهتم الحركات‬
‫السلمية في كل القطار بالصول المهمة التي يجتمع عليها‬
‫المسلمون في كل بلد‪ ،‬ومن ثم تجتمع عليها المة حتى يكون‬
‫التحاد على أصول قوية ثابتة‪.‬‬
‫قوا‬‫فّر ُ‬‫ول َ ت َ َ‬
‫عا َ َ‬ ‫مي ً‬‫ج ِ‬
‫هَ َ‬‫ل الل ِ‬ ‫حب ْ ِ‬ ‫موا ب ِ َ‬ ‫ص ُ‬ ‫عت َ ِ‬ ‫وا ْ‬‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن‬ ‫ي‬‫ب‬
‫َ َ ْ َ‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫أ‬‫ف‬‫َ‬ ‫ء‬
‫َ ً‬‫دا‬‫ع‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ت‬
‫ْ ُ ْ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫م‬
‫ْ ْ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ت‬‫م َ‬ ‫واذْك ُُروا ن ِ َْ‬
‫ع َ‬ ‫َ‬
‫واًنا" ]آل عمران‪.[103 :‬‬ ‫خ َ‬ ‫ه إِ ْ‬‫مت ِ ِ‬‫ع َ‬ ‫م ب ِن ِ ْ‬ ‫حت ُ ْ‬
‫صب َ ْ‬
‫فأ ْ‬ ‫م َ‬‫قُلوب ِك ُ ْ‬
‫ُ‬
‫إن طريق الوحدة والتعاون والتآخي والجتماع على البر‬
‫والتقوى طريق أهل السنة والجماعة الذين التزموا في جميع‬
‫أمورهم بما كان عليه رسول الله × وأصحابه في العقائد والخلق‬
‫والعبادة والمعاملت وكل شئون الحياة‪ .‬وأهم أسس وأصول أهل‬
‫السنة والجماعة هي‪:‬‬
‫العتصام بالكتاب والسنة‪ ،‬وحصر التلقي لحكام الدين؛ أصوله‬
‫وفروعه في هذا المصدر‪ ،‬وأن يرد الخلف إليهما عند التنازع‪ ،‬وأن‬
‫ل يعارضا بشيء من المعارضات‬
‫ل بمعقول ول رأي‪ ،‬ول قياس‪ ،‬ول ذوق‪ ،‬ول وجد ول مكاشفة‪ ،‬ول‬
‫منام‪ ،‬ول‬
‫غير ذلك)‪.(1‬‬
‫إن الكتاب والسنة هما الميزان الذي توزن به القوال والعمال‬
‫والمعتقدات‪ ،‬وهما الحق الذي يجب اتباعه‪ ،‬وبه يحصل الفرقان‬
‫بين الحق والباطل‪ ،‬وما سواه من كلم الناس يعرض عليه‪ ،‬فإن‬
‫وافقه قبل‪ ،‬وإل رد على صاحبه)‪.(2‬‬
‫إن أهل السنة والجماعة يحتجون بالقرآن والسنة‪ ،‬ل يفرقون‬
‫بينهما‪ ,‬كما هو حال أهل البدع‪ ،‬فالسنة مبينة للقرآن موضحة له‪،‬‬
‫ول يمكن أن يستغنى عنهما بالقرآن وحده بحال من الحوال‪ ،‬وهي‬
‫حجة في العقائد كما أنها حجة في الحكام‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬مجموع الفتاوى )‪.(29 ،28 /13‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر السابق‪(468 -12/467) ،(11/582) ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪246‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫فعن أبي هريرة ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول الله ×‪» :‬إن الله‬
‫يرضى لكم ثلثا‪ ،‬أن تعبدوه ول تشركوا به شيئا‪ ،‬وأن‬
‫تعتصموا بحبل الله جميعًا ول تفرقوا‪ ،‬وأن تناصحوا من‬
‫وله الله أمركم«)‪.(1‬‬
‫إن طريق العتصام بحبل الله أن نلتزم بكتاب الله وسنة‬
‫رسوله ×‪ ,‬وهذا الصل من آكد الصول في هذا الدين العظيم‪،‬‬
‫يقول ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫»وهذا الصل العظيم‪ :‬وهو السلم‪ ،‬ومما عظمت وصية الله‬
‫تعالى به في كتابه ومما عظم ذمه لمن تركه من أهل الكتاب‬
‫وغيرهم‪ ،‬ومما عظمت به وصية النبي ×‪ ،‬في مواطن عامة‬
‫وخاصة«)‪.(2‬‬
‫ولذلك أمر الله تعالى ورسوله × بكل ما يحفظ على‬
‫المسلمين جماعتهم وألفتهم‪ ،‬ونهيا عن كل ما يعكر صفو هذا المر‬
‫العظيم‪ ،‬إن ما حصل من فرقة بين المسلمين وتدابر وتقاطع‪،‬‬
‫وتناحر‪ ،‬بسبب عدم مراعاة هذا الصل وضوابطه‪ ،‬مما ترتب عليه‬
‫شيعا وأحزابًا‬
‫ً‬ ‫تفرق في الصفوف‪ ،‬وضعف في التحاد‪ ،‬وأصبحوا‬
‫كل حزب بما لديهم فرحون‪.‬‬
‫وهذا المر وإن كان مما قدره الله عز وجل كونًا‪ ،‬ووقع كما‬
‫قدر‪ ,‬إل أنه ‪-‬سبحانه‪ -‬لم يأمر به شرعًا‪ ،‬فوحدة المسلمين‬
‫واجتماعهم مطلب شرعي‪ ،‬ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة‪،‬‬
‫بل من أهم أسباب التمكين لدين الله تعالى‪ ,‬ونحن مأمورون‬
‫ه ل َ يُ َ‬
‫غي ُّر‬ ‫ن الل َ‬‫بالصبر قال تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬ ‫بالتواصي بالحق والتواصي‬
‫م" ]الرعد‪.[11 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ما ب ِ َ‬
‫ه ْ‬
‫س ِ‬
‫ما ب ِأن ْف ِ‬
‫غي ُّروا َ‬
‫حّتى ي ُ َ‬
‫وم ٍ َ‬
‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫فلبد من تضافر الجهود بين الدعاة وقادة الحركات السلمية‬
‫وبين علماء المسلمين‪ ،‬وطلبة العلم لصلح ذات البين إصلحًا‬
‫حقيقيا ل تلفيقًيا لن أنصاف الحلول تفسد أكثر مما تصلح‪ ,‬قال‬ ‫ً‬
‫الشيخ السعدي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬الجهاد نوعان‪ :‬جهاد يقصد به‬
‫صلح المسلمين‪ ،‬وإصلحهم في عقائدهم وأخلقهم وآدابهم‪،‬‬
‫وجميع شئونهم الدينية والدنيوية‪ ،‬وفي تربيتهم العلمية‪ ,‬وهذا النوع‬
‫هو الجهاد وقوامه‪ ،‬وعليه يتأسس النوع الثاني‪ ،‬وهو جهاد يقصد به‬
‫دفع المعتدين على السلم والمسلمين من الكفار والمنافقين‬
‫والملحدين وجميع أعداء الدين ومقاومتهم‪ ,‬وهذا نوعان‪ :‬جهاد‬
‫بالحجة والبرهان واللسان‪ ،‬وجهاد بالسلح المناسب في كل وقت‬

‫)( أخرجه المام أحمد )‪(26 ،1/8‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مجموع الفتاوى )‪.(22/359‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪247‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وزمان« )‪.(1‬‬
‫ثم أفرد فصل بعنوان »الجهاد المتعلق بالمسلمين بقيام اللفة‬
‫واتفاق الكلمة«)‪ ،(2‬وبعد أن ذكر اليات والحاديث الدالة على‬
‫وجوب تعاون المسلمين ووحدتهم قال‪» :‬فإن من أعظم الجهاد‬
‫السعي في تحقيق هذا الصل في تأليف قلوب المسلمين‪،‬‬
‫واجتماعهم على دينهم ومصالحهم الدينية والدنيوية«)‪.(3‬‬
‫ولذلك نرى أن الخذ بالسباب نحو تأليف قلوب المسلمين‬
‫وتوحيد صفهم‬
‫من أعظم الجهاد لن هذه الخطوة مهمة جدا في إعزاز المسلمين‬
‫وإقامة دولتهم‪ ،‬وتحكيم شرع ربهم‪.‬‬
‫ومن أهم السباب في تحقيق هذا الهدف المنشود أن‬
‫يجتمع المسلمون على أصول ثابتة‪:‬‬
‫أ‪ -‬وحدة العقيدة‪:‬‬
‫ل يمكن أن تقوم وحدة للمسلمين‪ ،‬ما لم تجمعهم عقيدة‬
‫واحدة‪ ،‬والعقيدة تشكل أساسا مهما في البناء الفردي‬
‫والجتماعي‪ ,‬وهي القاعدة التي تقوم عليها العمال والعلقات‬
‫والخلق‪ ،‬فإذا كانت العقيدة مشوهة أو مزورة فإن البناء ل‬
‫يستقيم‪ ،‬ول يستطيع أن يواجه العاصير والفتن حتى ينهار‪.‬‬
‫وإن العقيدة التي تصلح لجمع شتات المسلمين هي ما كان‬
‫منبعها كتاب الله وسنة رسوله ×‪ ,‬ويمكن التدليل على كل أصل‬
‫من أصولها‪ ،‬أو جزئية من جزئياتها‪ ،‬ثم إن السلف الصالح الذين‬
‫استقاموا على عقيدة السلم الحق دونوا هذه العقيدة تدوينا‬
‫يميزها عن عقائد أهل الفرق والضلل)‪.(4‬‬
‫إن سلمة العتقاد وصحته هي الطريق الوحيد لقامة المجتمع‬
‫المسلم المترابط المتآلف‪ ،‬ول سبيل إلى اجتماع المة السلمية‬
‫قاطبة‪ ،‬ووحدة صفها‪ ،‬وعزها وسعادتها في الدنيا والخرة إل‬
‫بالعودة الصحيحة إلى السلم الصافي‪ ،‬النقي‪ ،‬الخالص من‬
‫شوائب الشرك والبدع والهواء والتعصب واتباع العوائد الفاسدة‪،‬‬
‫وهذا يتطلب من كل مسلم أن ينبذ كل المذاهب والمناهج الحادثة‬
‫المخالفة لما كان عليه سلف المة‪ ،‬وأن تكون له عناية فائقة‬
‫بمذهب السلف الصالح‪ ،‬وعقيدتهم ومنهجهم‪.‬‬
‫يقول شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬وإذا تأمل اللبيب‬

‫)( وجوب التعاون بين المسلمين‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪1‬‬

‫)(‪ (3) ,‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪2‬‬


‫‪3‬‬
‫)( المصدر نفسه‪،‬ـ ص ‪.5‬‬

‫)( كيف تستعيد المة السلمية مكانتها من جديد؟ د‪ .‬الشقر‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪248‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الفاضل هذه المور)‪ (1‬تبين له أن مذهب السلف والئمة في غاية‬


‫الستقامة والسداد‪ ،‬والصحة والطراد‪ ،‬وأنه مقتضى المعقول‬
‫الصريح‪ ،‬والمنقول الصحيح‪ ،‬وأن من خالفه كان مع تناقض قوله‬
‫خارجا عن موجب العقل‬ ‫ً‬ ‫المختلف الذي يؤفك عنه من أفك‪,‬‬
‫)‪(2‬‬
‫والسمع‪ ،‬مخالفا للفطرة والسمع( ‪.‬‬
‫إن طريق التمكين لبد فيه من وحدة الصف السلمي‪ ،‬ووحدة‬
‫الصف ليس لها من سبيل إل السلم الصحيح‪ ،‬والسلم الصحيح‬
‫مصدره القرآن والسنة‪ ,‬والطريق لفهم القرآن والسنة هي طريق‬
‫رسول الله × وأصحابه الكرام‪ ،‬والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬ومن سار‬
‫على نهجهم وطريقتهم إلى يوم الدين‪.‬‬
‫‪ -1‬من القرآن الكريم‪:‬‬
‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫ما ت َب َي ّ َ‬ ‫د َ‬ ‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ق الّر ُ‬ ‫قْ ِ‬ ‫شا ِ‬ ‫من ي ُ َ‬ ‫و َ‬‫ْ قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ه‬
‫صل ِ ِ‬‫ون ُ ْ‬ ‫ولى َ‬ ‫ّ‬ ‫ما ت َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ول ِ‬ ‫ن نُ َ‬‫مِني َ‬ ‫ْ‬
‫مؤ ِ‬ ‫ل ال ُ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫غي َْر َ‬ ‫ع َ‬ ‫وي َت ّب ِ ْ‬‫دى َ‬ ‫ه َ‬ ‫ال ُ‬
‫صيًرا" ]النساء‪.[115 :‬‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ساءَ ْ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ه‬ ‫ج َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫ري َ‬ ‫ج ِ‬‫ها ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫وُلو َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫قو َ‬ ‫ساب ِ ُ‬ ‫وال ّ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫م‬ ‫ه‬
‫ْ ُ ْ‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ي‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ن‬
‫ِ ِ ْ َ ٍ ّ ِ َ‬ ‫سا‬ ‫ح‬ ‫إ‬ ‫ب‬ ‫هم‬ ‫ُ‬ ‫عو‬ ‫ن ّ َ ُ‬
‫ب‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬ ‫ر َ‬ ‫صا ِ‬‫والن ْ َ‬ ‫َ‬
‫ه" ]التوبة‪.[100 :‬‬ ‫عن ْ ُ‬ ‫ضوا َ‬ ‫وَر ُ‬ ‫َ‬
‫فوعد من اتبع غير سبيلهم بعذاب جهنم‪ ،‬ووعد متبعهم بالجنة‬
‫والرضوان‪.‬‬
‫‪ -2‬من السنة‪:‬‬
‫عن عبد الله بن مسعود ‪ ‬قال‪ :‬قال رسول الله ×‪» :‬خير‬
‫الناس قرني ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم الذين يلونهم‪ ،‬ثم‬
‫يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه‪ ،‬ويمينه شهادته«‬
‫)‪.(3‬‬
‫‪ -3‬ومن أقوال السلف الصالح‪:‬‬
‫عن ابن مسعود ‪» :‬اتبعوا ول تبتدعوا‪ ،‬فقد كفيتم« وعنه‬
‫)‪(4‬‬

‫‪» :‬من كان متأسيا فليتأس بأصحاب رسول الله ×‪ ،‬فإنهم كانوا‬
‫أبر هذه المة قلوبا‪ ،‬وأعمقها علما‪ ،‬وأقلها تكلفا‪ ،‬وأقومها هديا‪،‬‬
‫وأحسنها حالً‪ ،‬قوم اختارهم الله لصحبة نبيه‪ ،‬وإقامة دينه‪،‬‬
‫فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم‪ ،‬فإنهم كانوا على الهدى‬

‫)( المر‪ ،‬يقصد اختلف أهل البدع في مسائل العتقاد‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مجموع الفتاوى )‪.(213 ، 5/212‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الصحابة‪ ،‬باب فضل الصحابة )‪ (4/1963‬رقم ‪.2533‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( أخرجه مالك في الموطأ‪ ،‬كتاب الجامع‪ ،‬باب النهي عن القول بالقدر‪ ،‬رقم‬ ‫‪4‬‬

‫‪.1619‬‬

‫‪249‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المستقيم«)‪.(1‬‬
‫ب‪ -‬تحكيم الكتاب والسنة‪:‬‬
‫إن المسلمين ل يكون لهم شأن‪ ,‬ول عز‪ ،‬ول نصير‪ ،‬ول فلح‬
‫في الدنيا ول نجاة في الخرة‪ ،‬إل بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله‬
‫×‪ ،‬على مستوى الفراد‪ ،‬والسر والجماعات‪ ،‬والقبائل‪ ,‬ومن ثم‬
‫على مستوى الدولة عند الوصول إليها‪.‬‬
‫والدلة القرآنية الكريمة تدل على وجوب التحاكم إلى شرع‬
‫الله على مستوى المحكومين‪ ،‬وكذلك أمرت الحكام بذلك‪.‬‬
‫‪ -1‬من القرآن الكريم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عوا‬ ‫طي ُ‬ ‫وأ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫عوا الل َ‬ ‫طي ُ‬ ‫مُنوا أ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬ ‫ُ‬
‫قال‬
‫م فِإن‬ ‫َ‬ ‫من ْك ْ‬‫ُ‬ ‫ر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫وأوِلي ال ْ‬ ‫سول َ‬ ‫َ‬ ‫الّر ُ‬
‫م‬ ‫ل ِإن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫سو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬‫َ ّ‬ ‫وال‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫دو‬ ‫ّ‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ع‬‫ْ‬ ‫ت ََناَز‬
‫خي ٌْر‬ ‫ك َ‬ ‫ر ذَل ِ َ‬
‫ِ‬
‫خ‬ ‫ِ‬ ‫ه وال ْ ْي َوم ُال َ‬ ‫ِ‬ ‫بالل‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫ؤَ ِ‬‫تُ ْ‬
‫ِ‬
‫ويل ً" ]النساء‪.[59 :‬‬
‫ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫حسن ِت َأ ْ‬
‫ِ‬ ‫و ْ َ ُ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫ذي أن َْز َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫و ال‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وقال تعالى‪+ :‬أ َ‬
‫ب يع ِل َمون أ َّ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫ما َ‬ ‫حك ً‬ ‫غي َ‬ ‫ه أب ْت َ ِ‬ ‫غي َْر الل ِ‬ ‫ف َ‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫ن‬ ‫َِ َ َ ْ ُ َ‬ ‫تا‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫َ ِ َ َ ْ َ ُ ُ‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ص‬‫ف ّ‬ ‫م َ‬ ‫ب ُ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫إ ِل َي ْك ُ ُ‬
‫ت‬ ‫م ْ‬ ‫وت َ ّ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫ري َ‬ ‫مت َ ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فل ت َكون َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫من ّرب ّك ِبال َ‬ ‫َ‬ ‫ل ّ‬ ‫من َّز ٌ‬ ‫ُ‬
‫ع‬ ‫مي‬
‫ّ ِ ُ‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ُ َ ّ ِ ِ ِ َ ِ ِ َ ُ َ‬‫ت‬ ‫ما‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ل‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫َ ْ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ً‬
‫قا‬ ‫د‬
‫ِ ْ‬ ‫ص‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ة َ ّ‬
‫ب‬ ‫ر‬ ‫م ُ‬ ‫ك َل ِ َ‬
‫م" ]النعام‪.[115 ،114 :‬‬ ‫عِلي ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ه إ َِلى‬ ‫م ُ‬ ‫حك ْ ُ‬
‫ف ُ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫ه ِ‬ ‫في ِ‬ ‫م ِ‬ ‫فت ُ ْ‬ ‫خت َل َ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫و َ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ب" ]الشورى‪.[10 :‬‬ ‫ه أِني ُ‬ ‫وإ ِلي ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫بي‬ ‫ه َر ّ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ه ذَل ِك ُ ُ‬ ‫الل ِ‬
‫‪ -2‬ومن السنة‪:‬‬
‫عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪ :‬خطب رسول الله × في‬
‫حجة الوداع فقال‪» :‬يا أيها الناس‪ :‬إني قد تركت فيكم ما‬
‫إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا‪ ،‬كتاب الله وسنتي« )‪.(2‬‬
‫‪ -3‬ومن أقوال السلف‪:‬‬
‫قال ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬وكان من أعظم ما أنعم الله به‬
‫عليهم ‪ -‬أي السلف الصالح ‪ -‬اعتصامهم بالكتاب والسنة‪ ،‬فكان‬
‫من الصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه‬
‫ل يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن‪ ،‬ل برأيه ول بذوقه‪ ،‬ول‬
‫معقوله‪ ،‬ول قياسه‪ ،‬ول وجده‪ ،‬فإنهم ثبت عنهم بالبراهين‬
‫القطعيات واليات البينات أن الرسول × جاء بالهدى ودين الحق‪،‬‬

‫)( حلية الولياء )‪.(1/379‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الحج‪ ،‬باب حجة النبي × )‪ (2/890‬رقم ‪.1218‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪250‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم( )‪.(1‬‬


‫إن حرص كل مسلم على تحكيم شرع الله تعالى على نفسه‬
‫وأسرته ومجتمعه خطوة أصيلة نحو وحدة المة‪ ,‬والقتراب من‬
‫نصر الله تعالى‪ ،‬كما أن للتحاكم إلى شرع الله تعالى آثارا دنيوية‬
‫وآخروية‪.‬‬
‫الثار الدنيوية‪ :‬الستخلف والتمكين‪ ،‬والمن والستقرار‪ ،‬والنصر‬
‫والفتح‪ ،‬والعز والشرف‪ ،‬وبركة العيش ورغد الحياة والهداية والتثبيت‪،‬‬
‫وانتشار الفضائل وانزواء الرذائل‪.‬‬
‫أما الثار الخروية‪ :‬فالمغفرة وتكفير السيئات‪ ،‬والثواب‬
‫العظيم عند الله تعالى‪ ،‬والحياة الحقة الدائمة‪ ،‬وعلو المنزلة‬
‫ومعية التكريم‪.‬‬
‫جـ‪ -‬صدق النتماء إلى السلم‪:‬‬
‫ومن الصول المهمة في توحيد صفوف المسلمين أن يجتهد‬
‫الدعاة إلى الله في تحصين المسلمين من المناهج والنظريات‬
‫والدعوات الرضية التي تفنن أصحابها في تزويقها وتزيينها‪ ،‬وكانت‬
‫سببا مهما في تشتيت ولء المسلمين‪ ,‬وفقد كثير من أبناء‬
‫المسلمين هويتهم‪ ،‬ومسخ شخصيتهم بفعل التضليل المستمر‬
‫الذي يمارسه شياطين النس والجن بمختلف الوسائل‪ ،‬ومن‬
‫أسباب جمع صفوف المة وتحقيق الوحدة بينها الدعوة إلى‬
‫اللتزام بالسلم عقيدة وشريعة‪ ،‬ومنهج حياة‪ ،‬والعتزاز بالنتساب‬
‫إلى هذا الدين‪ ،‬ونبذ كل ما يخالفه ويضاده‪.‬‬
‫إن السلم منهج حياة‪ ،‬والعبودية لله معلم كبير في حياة‬
‫المسلم‪ ,‬والمسلمون ‪-‬وفق هذا المنهج والفهم‪ -‬يشكلون أمة‬
‫واحدة في مقابلة التجمعات البشرية‪.‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫س ُ‬‫ح َ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫و َ‬
‫والمسلم الصادق يعتز بالنتساب إلى السلم‪َ + :‬‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫قا َ‬
‫ل إ ِن ِّني ِ‬ ‫و َ‬‫حا َ‬‫صال ِ ً‬
‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ع ِ‬‫و َ‬‫ه َ‬ ‫عا إ َِلى الل ِ‬ ‫من دَ َ‬ ‫م ّ‬‫ول ً ّ‬ ‫ق ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]فصلت‪ [33 :‬نص المولى عز وجل على أن أفضل‬ ‫َ‬ ‫مي‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫س‬‫ا ُ ْ‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬
‫الناس هم الذين يعلنون انتسابهم إلى السلم‪.‬‬
‫وكثير من المسلمين اليوم فقدوا انتماءهم‪ ،‬فأخذوا يبحثون عن‬
‫عقائد ومذاهب وأقوام ينتسبون إليها‪ ،‬أل وإن الراية الحق هي راية‬
‫السلم‪ ،‬ل راية الوطان‪ ،‬أو القوام أو الحزاب‪ ،‬أو التجمعات‬
‫الضالة‪ ،‬والتوحيد والنتساب إلى السلم ملة إبراهيم عليه السلم‪:‬‬
‫فا" ]النحل‪.[123 :‬‬ ‫حِني ً‬ ‫مل ّ َ‬ ‫‪+‬ث ُم أ َوحيَنا إل َي َ َ‬
‫م َ‬‫هي َ‬ ‫ة إ ِب َْرا ِ‬ ‫ع ِ‬‫ن ات ّب ِ ْ‬
‫كأ ِ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ّ ْ َ ْ‬

‫)( مجموع الفتاوى )‪.(13/28‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪251‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫د‪ -‬طلب الحق والتحري في ذلك‪:‬‬


‫إن هذا الصل العظيم أل وهو طلب الحق والتحري للوصول‬
‫إليه يقوي وحدة صف العاملين لتحكيم شرع الله‪ ,‬وهو من أهم‬
‫سمات الربانيين الذين صفت نفوسهم وتطهرت قلوبهم بكتاب‬
‫الله وسنة رسوله ×‪.‬‬
‫إن الله تعالى في كتابه الكريم‪ ،‬بين أنه ل يوجد منزلة ثالثة بين‬
‫ل"‬‫ضل َ ُ‬ ‫ق إ ِل ّ ال ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫عدَ ال ْ َ‬ ‫ما َ‬
‫ذا ب َ ْ‬ ‫الحق والباطل‪ ,‬فقال سبحانه‪َ + :‬‬
‫ف َ‬
‫]يونس‪.[32 :‬‬
‫قال القرطبي ‪-‬رحمه الله ‪» :-‬قال علماؤنا‪ :‬حكمت هذه الية‬
‫بأنه ليس بين الحق والباطل منزلة ثالثة في هذه المسالة التي‬
‫هي توحيد الله تعالى‪ ،‬وكذلك هو المر في نظائرها‪ ،‬وهي مسائل‬
‫الصول فإن الحق فيها في طرف واحد«)‪.(1‬‬
‫والحق لبد فيه من اليقين‪ ،‬ول يكفي فيه مجرد الظن‪ ،‬قال‬
‫م‬‫عِلي ٌ‬‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫شي ًْئا إ ِ ّ‬‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬‫غِني ِ‬ ‫ن ل َ يُ ْ‬‫ن الظّ ّ‬ ‫تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ن" ]يونس‪.[36 :‬‬ ‫عُلو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬
‫ف َ‬ ‫بِ َ‬
‫)‪(2‬‬
‫قال ابن كثير‪» :‬أي ل يجدي شيئا ول يقوم أبدا مقام الحق« ‪,‬‬
‫وقد عد النبي × رد الحق وعدم قبوله‪ ،‬من الكبر الذي هو من‬
‫أشنع الخصال وأردأ الفعال‪.‬‬
‫)‪(3‬‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬الكبر بطر الحق وغمط الناس« ‪.‬‬
‫إن بطر الحق هو دفعه وإنكاره ترفعا وتكبرا واستعلء‪ ،‬وأما‬
‫غمط الناس فهو احتقارهم‪.‬‬
‫إن الحق هو ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة‪ ،‬وعلى كل‬
‫مسلم أن يتبع‬
‫فل َ‬‫ي َ‬ ‫َ َ‬‫دا‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ع‬‫ِ َ‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قال‬ ‫وتبينه‪,‬‬ ‫علمه‬ ‫شرعي‬ ‫كل دليل‬
‫ن" ]البقرة‪.[38 :‬‬ ‫حَزُنو َ‬‫م يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫ول ُ‬ ‫م َ‬
‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫علي ْ ِ‬‫ف َ‬ ‫و ٌ‬ ‫خ ْ‬ ‫َ‬
‫ومن أهم الوسائل التي تعين على طلب الحق والتحري في‬
‫ذلك‪ ،‬تقوى الله عز وجل‪ ،‬والخلص والتجرد‪ ،‬واللجوء إلى الله عز‬
‫وجل والفتقار إليه‪ ،‬وتدبر الكتاب والسنة واتباع سبيل السابقين‬
‫الولين‪ ،‬والصحبة الطيبة‪.‬‬
‫هـ‪ -‬تحقيق الخوة بين أفراد المسلمين‪:‬‬
‫إن من الصول العظيمة التي تحقق وحدة الصف وقوة‬
‫التلحم‪ ،‬ومتانة التماسك بين أفراد المسلمين تحقيق الخوة في‬
‫)( الجامع لحكام القرآن )‪.(8/336‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير القرآن العظيم )‪.(4/255‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب تحريم الكبر )‪.(1/65‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪252‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫أوساطهم‪ ،‬إن الخوة منحة من الله عز وجل‪ ،‬يعطيها الله‬


‫للمخلصين من عباده والصفياء والتقياء من أوليائه وجنده وحزبه‪.‬‬
‫ه‬‫ك الل ُ‬ ‫سب َ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ن َ‬ ‫فإ ِ ّ‬ ‫ك َ‬ ‫عو َ‬ ‫خد َ ُ‬ ‫دوا َأن ي َ ْ‬ ‫ري ُ‬ ‫وِإن ي ّ ِ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫قال‬
‫و‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ؤمِنين ‪ ‬وأ َ‬ ‫ْ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫هو ال ّذي أ َ‬
‫ِ ِ ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫َُ َ‬
‫ن‬‫ولك ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن قلوب ِ ِ‬ ‫ت ب َي ْ َ‬ ‫ما ألف ْ‬ ‫عا ّ‬ ‫مي ً‬ ‫ج ِ‬ ‫ض َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫ت َ‬ ‫أنفق َ َ‬
‫ه أل ّ‬
‫م" ]النفال‪.[63 ،62 :‬‬ ‫ٌ‬ ‫كي‬ ‫ِ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ز‬‫ٌ‬ ‫زي‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫إ‬
‫ُ ْ ِ ُ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫الل َ‬
‫وهي قوة إيمانية تورث شعورا عميقا بعاطفة صادقة ومحبة‬
‫وود‪ ،‬واحترام‪ ،‬وثقة متبادلة‪ ،‬مع كل من تربطنا بهم عقيدة التوحيد‬
‫ومنهج السلم الخالد‪ ،‬يتبعها ويستلزمها تعاون وإيثار ورحمة وعفو‬
‫ما‬‫وتسامح‪ ،‬وتكافل وتآزر‪ ,‬وهي ملزمة لليمان قال تعالى‪+ :‬إ ِن ّ َ‬
‫ة" ]الحجرات‪.[10 :‬‬ ‫و ٌ‬
‫خ َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ول يوق حلوة اليمان إل من أشرب هذه الخوة‪ ،‬قال رسول‬
‫الله ×‪» :‬ثلث من كن فيه وجد حلوة اليمان‪ ،‬أن يكون‬
‫الله ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن يحب المرء ل‬
‫يحبه إل الله‪ ،‬وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن‬
‫يقذف في النار«)‪.(1‬‬
‫إن القرآن الكريم يرسم لنا صورة جميلة لصحاب رسول الله‬
‫عَلى‬ ‫داءُ َ‬ ‫ل الله وال ّذين مع َ‬ ‫سو ُ‬
‫ش ّ‬ ‫هأ ِ‬ ‫ِ َ ِ َ َ َ ُ‬ ‫مدٌ ّر ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬ ‫×‪ ,‬قال تعالى‪ُ + :‬‬
‫ن‬
‫ّ َ‬ ‫م‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ض‬
‫ْ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫غو‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ب‬‫ي‬
‫ُ ّ ً َْ َ‬‫دا‬ ‫ج‬ ‫س‬ ‫عا‬ ‫ّ‬
‫ماءُ ب َي ْ َ ُ ْ َ َ ُ ْ ُ ً‬
‫ك‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫را‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ح َ‬ ‫ر ُر َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ال ْك ُ ّ‬
‫جوِد"‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س ُ‬ ‫ر ال ّ‬ ‫ن أث ِ‬ ‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫جو ِ‬ ‫و ُ‬‫في ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫سي َ‬ ‫واًنا ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ر ْ‬ ‫و ِ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ِ‬
‫]الفتح‪.[29 :‬‬
‫إن القرآن الكريم حين وضع بينَ دفتيه هذه الصورة‪ ،‬إنما‬
‫ر ُر َ َ ُ‬
‫ء‬ ‫ما‬ ‫ح‬ ‫فا ِ‬ ‫عَلى ال ْك ُ ّ‬ ‫داءُ َ‬ ‫ش ّ‬ ‫يخبرنا بتكريم الله عز وجل فهم ‪+‬أ ِ‬
‫م"‪.‬‬ ‫ه ْ‬ ‫ب َي ْن َ ُ‬
‫أشداء على الكفار ولو كان فيهم الباء والقرابة والبناء‪ ،‬رحماء‬
‫بينهم‪ ،‬وهذه الخوة في الحق‪ ،‬أخوة في الدين‪ ،‬إن الخوة في الله‬
‫من أهم السباب التي تعمل على الصمود في وجه أعتى المحن‬
‫التي تنزل بالمسلمين‪ ،‬كما أن الفهم المتبادل والكامل للخوة في‬
‫الله من أسباب تماسك صفوف المسلمين وقوتهم‪ ,‬ومن أسباب‬
‫شموخهم والتمكين لهم)‪ ،(2‬إن النبي × اعتمد على معاني الخوة‬
‫وعمل على تحقيقها وجعلها من الوسائل المهمة في بناء المجتمع‬
‫السلمي والدولة السلمية‪ ،‬وأن أهمية هذا الساس تظهر في‬
‫الجوانب التالية‪:‬‬
‫‪ -‬إن أي دولة ل يمكن أن تنهض وتقوم إل على أساس من‬
‫)( البخاري‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب حلوة اليمان )‪.(1/11‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬رسالة التعاليم‪ ،‬د‪ .‬محمد عبد الله الخطيب‪ ،‬ص ‪.296‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪253‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وحدة المة وتساندها‪ ،‬ول يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم‬


‫بغير التآخي والمحبة المتبادلة‪ ،‬فكل جماعة ل تؤلف بينها آصرة‬
‫المودة والتآخي الحقيقية‪ ،‬ل يمكن أن تتحد حول مبدأ ما‪ ،‬وما لم‬
‫يكن التحاد حقيقة قائمة في المة أو الجماعة‪ ،‬فل يمكن أن تتألف‬
‫منها الدولة‪ .‬على أن التآخي لبد أن يكون مسبوقا بعقيدة يتم‬
‫اللقاء عليها واليمان بها‪ ،‬فالتآخي بين شخصين يؤمن كل منهما‬
‫بفكرة أو عقيدة مخالفة للخرى خرافة ووهم‪ ،‬خصوصا إذا كانت‬
‫تلك الفكرة أو العقيدة مما يحمل صاحبها على سلوك معين في‬
‫الحياة العملية‪ ,‬ومن أجل ذلك فقد جعل رسول الله × أساس‬
‫الخوة التي جمع عليها أفئدة أصحابه‪ ،‬العقيدة السلمية التي جاء‬
‫بها من عند الله تعالى‪ ,‬والتي تضع الناس كلهم في مصاف‬
‫العبودية الخالصة لله تعالى دون العتبار لي فارق إل فارق‬
‫التقوى والعمل الصالح‪ ،‬إذ ليس من المتوقع أن يسود الخاء‬
‫والتعاون واليثار بين أناس شتتتهم العقائد والفكار المختلفة‬
‫فأصبح كل منهم ملكا لنانيته وأهوائه‪.‬‬
‫إن المجتمع ‪ -‬أي مجتمع ‪ -‬إنما يختلف عن مجموعة ما من‬
‫الناس منتشرة متفككة بشيء واحد هو قيام مبدأ التعاون‬
‫والتناصر فيما بين أشخاص هذا المجتمع‪ ،‬وفي كل نواحي الحياة‬
‫ومقوماتها‪ ،‬فإن كان هذا التعاون والتناصر قائمين دون ميزان‬
‫العدل والمساواة فيما بينهم‪ ،‬فذلك هو المجتمع الظالم المنحرف‪.‬‬
‫وإذا كان المجتمع المسلم إنما يقوم على أساس من العدالة‬
‫في الستفادة من أسباب الحياة والرزق‪ ،‬فما الذي يضمن سلمة‬
‫هذه العدالة وتطبيقها على خير وجه؟‬
‫إن الضمانة الطبيعية والفطرية الولى لذلك‪ ،‬إنما هي التآخي‬
‫والتآلف‪.‬‬
‫إن تحقق مبادئ العدالة والمساواة بين الفراد‪ ،‬فإنها ل تحقق‬
‫ما لم تقم على أساس من التآخي والمحبة فيما بينهم‪ ،‬بل إن هذه‬
‫المبادئ ل تعدو أن تكون حينئذ مصدر أحقاد وضغائن تشيع بين‬
‫أفراد ذلك المجتمع‪ ,‬ومن شأن الحقاد والضغائن أن تحمل في‬
‫طيها بذور الظلم والطغيان في أشد الصور والشكال‪.‬‬
‫من أجل هذا اتخذ رسول الله × من حقيقة التآخي الذي أقامه‬
‫بين المهاجرين والنصار أساسا لمبادئ العدالة الجتماعية التي‬
‫قام على تطبيقها أعظم وأروع نظام اجتماعي في العالم‪ ،‬ولقد‬
‫تدرجت مبادئ هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكام وقوانين شرعية‬
‫ملزمة‪.‬‬
‫ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على تلك »الرضية« الولى‪،‬‬
‫أل وهي الخوة السلمية ولول هذه الخوة العظيمة التي تأسست‬

‫‪254‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫بدورها على حقيقة العقيدة السلمية لما كان لتلك المبادئ أي أثر‬
‫تطبيقي وإيجابي في شد أزر المجتمع السلمي ودعم كيانه)‪.(1‬‬
‫لم يكن ما أقامه الرسول × بين أصحابه من مبدأ التآخي‬
‫مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم‪ ،‬وإنما كان حقيقة‬
‫عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلقات القائمة بين النصار‬
‫والمهاجرين‪ ،‬ولذلك جعل النبي × من هذه الخوة مسئولية‬
‫حقيقية تشيع بين هؤلء الخوة‪ ,‬وكانت هذه المسئولية محققة‬
‫فيما بينهم على خير وجه‪ .‬لقد كانت رابطة الخوة بين الصحابة‬
‫الكرام من أسباب قوتهم ونصرة الله لهم‪.‬‬
‫إن مناط الخوة وأساسها‪ ،‬إنما هو رابط السلم وعقيدته‬
‫الصحيحة وهي من أهم أسباب وحدة الصف‪ ،‬وقوة البنيان بين‬
‫أفراد المة المسلمة التي تسعى لتحكيم شرع الله تعالى‪ ،‬كما ل‬
‫ننسى أن من أسباب وحدة صفوف المة‪ :‬العلم النافع‪ ،‬والخلص‬
‫وتجريد المتابعة‪ ،‬وغير ذلك من السباب المعنوية التي جاءت في‬
‫كتاب الله وسنة رسوله × لتوحيد صفوف المة إل أنني ذكرت‬
‫أهمها خوفا من الطناب والطالة‪.‬‬
‫إن التحابب بين المسلمين والحرص على روابط الخوة‬
‫المستمدة من اليمان والعقيدة سر قوة المة‪ ،‬ومفتاح نجاحها‪.‬‬
‫***‬

‫)( انظر‪ :‬فقه السيرة‪ ,‬د‪ .‬البوطي‪ ،‬ص ‪.201‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪255‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثالث‬
‫الســــــــباب الماديـــــــة‬
‫بعد أن بينت أهم أسباب التمكين المعنوية رأيت من المناسب‬
‫أن أتطرق إلى السباب والوسائل المادية المهمة‪ ،‬من تدريب‪،‬‬
‫وإعداد عدة‪ ،‬وتوفير كوادر في كل مناشط الحياة‪ ،‬وهذا يحتاج إلى‬
‫تخطيط وإدارة واعية‪ ،‬وتنظيم متين يشرف على إعداد خطة بينة‬
‫المعالم‪ ،‬محددة الهداف‪ ،‬متطورة المناهج‪ ،‬شرعية في أسبابها‬
‫ووسائلها‪ ،‬ل تعتمد على الشخاص والفراد وإنما تهتم بنظام‬
‫المؤسسات حتى يستمر النشاط ويتطور ويراعى الوصول إلى‬
‫المعلومات الصحيحة‪ ،‬والحصاءات الدقيقة‪ ،‬وتعتمد على‬
‫الدراسات والمكانات‪ ،‬والتحليلت العلمية‪ ،‬والمقارنات‬
‫الموضوعية والمكانات المادية والبشرية القائمة والمحتملة‪،‬‬
‫وتدرس جميع العوائق المادية والمعنوية‪ ،‬الداخلية والخارجية‪،‬‬
‫الواقعية والمتوقعة‪ ،‬دون تهويل أو تهوين‪ .‬ويشرف على وضع هذه‬
‫الفاق والخطط البعيدة جهاز متخصص متكامل من خبراء‬
‫ضا يستعينون بكل من‬ ‫متمكنين‪ ,‬متنوعي الثقافة يكمل بعضهم بع ً‬
‫يرون الستفادة منه برأي أو معلومة‪ ،‬من أفراد أو أجهزة أو لجان‬
‫متخصصة‪ ,‬ومن الضروري بمكان أن تهتم الحركة بمبدأ التفرغ‪،‬‬
‫والتخصص‪ ،‬ومراكز المعلومات وبالعداد المادي‪ ،‬والمني‬
‫والسياسي والعلمي والعسكري‪.‬‬
‫أولً‪ :‬التفرغ‪ ،‬والتخصص‪ ،‬ومراكز البحوث‪:‬‬
‫أ‪ -‬التفرغ‪:‬‬
‫إن من أسباب التمكين لهذا الدين والنطلق بدعوة الله بين‬
‫الناس أن تهتم الحركات السلمية على المستوى القطري‪،‬‬
‫والقليمي والدولي بمبدأ التفرغ لصحاب القدرات المتميزة في‬
‫المواقع المهمة‪ ,‬وخصوصا في مجال العلم والفكر‪ ،‬ومجال التربية‬
‫والتكوين‪ ،‬ومجال الدعوة والعلم‪ ،‬ومجال السياسة والتخطيط‪،‬‬
‫ومجال القتصاد والمال‪ ،‬ومجال المن والستخبارات‪ ،‬وكل‬
‫مجالت الحياة اللزمة لتحكيم شرع الله على جميع أفراد الشعب‬
‫ومؤسسات الدولة‪.‬‬
‫إن العمال العظيمة تحتاج إلى أوقات كبيرة وجهود ضخمة‬
‫وهمم عالية‪ ،‬ولذلك تضطر الحركة السلمية إلى مبدأ التفرغ مع‬
‫التنوع والتكامل‪ ،‬حتى تسد كل الثغرات في العمل السلمي‪ ،‬ول‬
‫يقع تركيز في جانب فيتضخم على جانب آخر فيهمل‪ ،‬ول بد من‬
‫توفير المال اللزم لهذه المشاريع لنها من أعظم القربات إلى‬
‫‪256‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الله تعالى‪ ,‬كما يجوز أخذ مال الزكاة أو الصدقة أو الوقف أو‬
‫الوصية أو الهبة أو الهدية لسد هذه الثغرات المهمة‪.‬‬
‫كما ينبغي توفير كل ما يحتاجه المتفرغ وذووه من الجر‬
‫الكافي حتى يتفرغ للعطاء والبذل مع مراعاة عدم السراف‬
‫والبذخ‪ ,‬ولبد من الخوف من الله تعالى عند اختيار المتفرغ بحيث‬
‫يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب دون محاباة لعمرو أو‬
‫ْ‬
‫ن"‬ ‫مي ُ‬ ‫ي ال َ ِ‬
‫و ّ‬ ‫ت ال ْ َ‬
‫ق ِ‬ ‫جْر َ‬
‫ست َأ َ‬
‫نا ْ‬
‫م ِ‬
‫خي َْر َ‬
‫ن َ‬‫زيد)‪ ،(1‬قال تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫]القصص‪.[26 :‬‬
‫ب‪ -‬إعداد المختصين‪:‬‬
‫من الضرورات اللزمة التوجه لعداد متخصصين في جوانب‬
‫الحياة كافة‪ ،‬إن عصرنا في حاجة شديدة للتخصص الدقيق‪ ،‬فإن‬
‫الذكاء وحده والعقل اللمعي وحده ل يكفي والمواهب وحدها ل‬
‫تكفي‪ ،‬والموسوعية في كل فن والفتاء في كل علم ل يفيد‪.‬‬
‫فالذي يفيد الدراسة العلمية المتخصصة‪ ،‬القادرة على أن‬
‫تساير العصر‪ ،‬وتلبي الحاجة وتتقن العمل الذي يسند إليها‪ ,‬وهذا‬
‫الحسان أو التقان ل يتم في عصرنا إل بالتخصص‪ ،‬وما ل يتم‬
‫الواجب إل به فهو واجب‪.‬‬
‫يقول الدكتور القرضاوي في هذا الباب‪) :‬خذ مثل موضوعًا‬
‫كالعلم‪ ،‬وما يتطلبه من تخصصات متنوعة‪ ,‬إن كتابة النص علم‪،‬‬
‫وكتابته في صورة حوار علم‪،‬وإخراجه علم‪ ،‬وأداؤه وتنفيذه علم‪،‬‬
‫وتسويقه علم‪ ،‬والخراج الذاعي غير الخراج التلفزيوني‪ ،‬غير‬
‫الخراج المسرحي‪.(2) (...‬‬
‫إن الحركات السلمية غنية بالنوابغ والقدرات والكفاءات‬
‫القادرة على أسلمة كل المواقع الحيوية والمفصلية في الحياة‬
‫وإنما تحتاج إلى ترتيب أولوياتها وتوجيه طاقاتها بحيث ل تتكدس‬
‫ول تتراكم النوابغ في مجالت الهندسة والطب والصيدلة‪ ،‬وإنما‬
‫تتوزع على مواقع أخرى في الدراسات النسانية والجتماعية من‬
‫علوم النفس والتربية والجتماع والقتصاد والعلوم السياسية‬
‫بحيث تدخل أدمغة الحركات السلمية في صميم مجتمعاتها ول‬
‫تترك أي مجال حيوي يؤثر في الحياة النسانية‪.‬‬
‫إن مبدأ التخصص يعين الحركات السلمية على سد الثغرات‬
‫المتعددة في جوانب الحياة المتنوعة والتي لبد من دخولها من‬
‫أجل التمكين لدين الله تعالى‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬أولويات الحركة السلمية للقرضاوي‪ ،‬ص ‪.193‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.195‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪257‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن اليهود والنصارى والملحدة تسابقوا للهيمنة على الدراسات‬


‫النسانية والجتماعية من علوم النفس والتربية والقتصاد‪،‬‬
‫والعلوم السياسية والعلمية والقتصادية لعلمهم أن ذلك يمكنهم‬
‫من الصدارة في توجيه المم والمجتمعات ولم يتركوا حتى مجال‬
‫الدب والقصة والنقد )‪..(3‬إلخ‪.‬‬
‫جـ‪ -‬الهتمام بمراكز المعلومات والبحوث‪:‬‬
‫إن الهتمام بمراكز البحوث وتطوير مراكز المعلومات من أهم‬
‫حاجات العصر وأولوياته‪ ,‬وإسناد هذه المور إلى متخصصين ذوي‬
‫كفاءات عالية يشرفون على تسيير أجهزة متطورة تلئم العصر‬
‫وتطوراته واحتياجاته ومشاكله وهمومه‪.‬‬
‫لقد تعددت مصادر المعلومات والثقافات‪ ،‬وتقدمت وسائل‬
‫الحصول عليها‪ ،‬ووسائل تخزينها ثم تصنيفها‪ ،‬ثم الستفادة منها‬
‫عند الحاجة والفائدة‪ ،‬ولذلك لبد من الستفادة منها حتى نملك‬
‫معلومات كافية عن أعدائنا‪ ،‬وأصدقائنا وأنفسنا‪.‬‬
‫ولقد ساهمت بعض المراكز في توعية المة وترشيدها‪،‬‬
‫وتوضيح الخطار المحيطة بها وعالجت بعض المشاكل الواقعة‬
‫فيها ومن هذه المراكز‪:‬‬
‫‪ -1‬معهد الدراسات السياسية في باكستان‪:‬‬
‫تأسس المعهد في إسلم آباد عام ‪1399‬هـ ‪1979 -‬م مع بداية‬
‫القرن الخامس عشر الهجري‪ ،‬ليكون أول معهد من نوعه في‬
‫العالم السلمي لتبني قضايا المة السلمية ووحدتها‪ ،‬وهو معهد‬
‫بحثي تدريبي يقوم بالبحوث والدراسات التي تتعلق بالسياسات‬
‫العامة ورسم الستراتيجيات‪.‬‬
‫قام المعهد بحوارات متخصصة حول القضية الفغانية والنظام‬
‫العالمي الجديد والحكومة السودانية والقضية الفلسطينية‪،‬‬
‫والخطار المحدقة بباكستان‪ ،‬وعقد ندوات ومؤتمرات لخدمة‬
‫قضايا المة في المحيط المحلي‪ ،‬والقليمي والعالمي‪.‬‬
‫كما ضم المعهد العديد من الوحدات والقسام أهمها‪ :‬وحدة‬
‫الشئون العالمية للعالم السلمي‪ ،‬وحدة الشئون القتصادية‪،‬‬
‫دراسات المرأة‪ ،‬التعليم‪ ،‬تنمية الموارد البشرية‪ ،‬الشئون‬
‫الباكستانية والكشميرية‪ ،‬القسم العربي‪ ،‬وحدة المعلومات‪.‬‬
‫أصدر هذا المعهد تقريرا سياسيا أسبوعيا )قضايا دولية( ساهم‬
‫في رفع مستوى الوعي السياسي بين أفراد المة‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬أولويات الحركة السلمية للقرضاوي ص ‪.195‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪258‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫‪ -2‬مركز البحوث والدراسات في قطر‪:‬‬


‫تشرف وزارة الوقاف والشئون السلمية في قطر عليه‬
‫ويهتم بتشجيع العلماء والباحثين الذين يهتمون بمعالجة قضايا‬
‫الحياة المعاصرة‪ ،‬ومشكلتها‪ ،‬ويهتمون بالتحصين الثقافي والتغيير‬
‫الحضاري‪ ،‬وترشيد الصحوة في ضوء القيم السلمية‪ ،‬واستطاع‬
‫المركز أن يقدم للمة مجموعة من البحوث اتسمت بالصالة‬
‫والحاطة والموضوعية والمنهجية‪ ,‬وأضافت هذه البحوث شيئا‬
‫جديدا للقارئ المسلم وأصدرت هذه البحوث في كتب نافعة تحت‬
‫سلسلة كتاب المة ساهمت مساهمة فعلية في توجيه أبناء المة‬
‫نحو الخير والرشاد والسداد ومن أهم هذه الكتب‪:‬‬
‫‪ -1‬مشكلت في طريق الحياة السلمية‪ ،‬لمحمد الغزالي‪.‬‬
‫‪ -2‬الصحوة السلمية بين الجمود والتطرف‪ ،‬د‪ .‬يوسف‬
‫القرضاوي‪.‬‬
‫‪ -3‬حول إعادة تشكيل العقل المسلم‪ ،‬د‪ .‬عماد الدين خليل‪.‬‬
‫‪ -4‬الستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري‪ ،‬د‪ .‬محمود‬
‫حمدي‪.‬‬
‫‪ -5‬الحرمان والتخلف في ديار المسلمين‪ ،‬د‪ .‬نبيل صبحي‬
‫الطويل‪.‬‬
‫‪ -6‬البنوك السلمية‪ ،‬د‪ .‬جمال الدين عطية‪.‬‬
‫‪ -7‬المدخل إلى الدب السلمي‪ ،‬د‪ .‬نجيب الكيلني‪.‬‬
‫‪ -8‬إخراج المة المسلمة وعوامل صحتها ومرضها‪ ،‬د‪ .‬ماجد‬
‫عرسان‪.‬‬
‫‪ -9‬اليهود والتحالف مع القوياء‪ ،‬د‪ .‬نعمان السامرائي‪.‬‬
‫‪ -10‬وثيقة مؤتمر السكان والتنمية‪ ،‬د‪ .‬الحسيني جاد‪.‬‬
‫‪ -11‬في الغزو الفكري‪ ،‬د‪ .‬أحمد السايح‪.‬‬
‫‪ -12‬الصياغة السلمية لعلم الجتماع‪ ،‬منصور زويد‪.‬‬
‫‪-13‬المسلمون في السنغال‪ ،‬معالم الحاضر وآفاق المستقبل‬
‫للستاذ عبد القادر محمد سيل‪.‬‬
‫‪-14‬المخدرات من القلق إلى الستعباد‪ ،‬د‪ .‬محمد الهواري‪،‬‬
‫وغير ذلك من الكتب النافعة والمؤصلة التي أفادت المة‪.‬‬
‫إن هذه الدراسات المنهجية المدروسة والتي يقوم عليها أهل‬
‫التخصص لها أثرها في نهضة المة والخذ بيدها نحو الرقى‬
‫والتقدم والزدهار والتمكين لدين الله تعالى‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -3‬مركز الدراسات الستراتيجية في السودان‪:‬‬


‫أصدر هذا المركز كتاب الستراتيجية القومية الشاملة )‪1992‬‬
‫‪2002 -‬هـ( ودل الكتاب على جهد مشكور‪ ،‬وعمل متواصل‪،‬‬
‫وإحكام دقيق من حيث التخطيط‬
‫ووضوح الهداف‪ ،‬وبيان الوسائل وتحديد المراحل لكل شئون‬
‫الدولة السلمية في السودان فمثل‪:‬‬
‫‪ -‬وضع المركز أبحاثا قيمة في قطاع التنمية الجتماعية‪ ,‬واهتم‬
‫بالجوانب الخلقية‪ ,‬وبالرقي الجتماعي‪ ،‬والرعاية الجتماعية‪،‬‬
‫ورعاية الطفولة‪ ،‬والشباب والمرأة‪ ،‬والتكافل‪ ،‬والعمل التطوعي‬
‫والخيري‪ ،‬والتعليم العالي‪ ،‬والتعليم العام‪ ،‬والتخطيط العمراني‬
‫والسكان‪ ،‬وتنمية السياحة والرياضة والبيئة‪.‬‬
‫ولقد ظهرت آثار طيبة في المجتمع السوداني بفضل الله ثم‬
‫بالجهود المشكورة والتخطيط السليم الذي أشرف على تنفيذه‬
‫قطعت أشواط في توسيع التعليم‬ ‫أبناء المسلمين في السودان‪ ،‬ف ُ‬
‫وإنشاء الجامعات‪ ,‬وظهرت الخدمات الجتماعية لكل قطاعات‬
‫الشعب مع ما تمر به الدولة من تضييق عالمي ومحاربة علنية‬
‫لمشروعها الحضاري السلمي الذي قامت من أجله‪.‬‬
‫‪ -‬وفي قطاع الثقافة والعلم‪ ،‬بين المركز الهداف والدوار‬
‫والدوات والمراحل اللزمة للسياسة الثقافية‪ ،‬وتشريعاتها‬
‫معتمدين في ذلك على التخطيط الحديث والعبقرية السلمية‬
‫والعقلية اليمانية‪ .‬واستطاع العلم في السودان أن يحقق بعض‬
‫أهدافه وكانت له مساهمات واضحة في إحياء روح الجهاد وكشف‬
‫مخططات العداء بواسطة وكالت النباء وشبكات التصال‬
‫ومجال العلم اللكتروني والعلم الداخلي والخارجي‪.‬‬
‫‪ -‬أما في مجال العلوم والتقنية فبين المركز المواجهات‬
‫والهداف ومراحل التنفيذ والوسائل من معلومات وبحوث‬
‫ومؤسسات وطاقات بشرية‪ ,‬ونظم قانونية‪ ،‬وإمكانات مادية‪,‬‬
‫وبرمج ذلك في برامج واضحة للعالم‪.‬‬
‫وظهرت للوجود الكوادر السودانية في مجال النفط والتنقيب‬
‫عن المعادن‪ ,‬وأصبح السودان ينتج النفط وبعد قليل بإذن الله‬
‫تعالى سيصدره‪.‬‬
‫‪ -‬أما قطاع السياسة والنظام العالمي‪ ،‬فقد وضح معنى الحكم‬
‫التحادي والنظام السياسي‪ ،‬والعمل النقابي والفئوي‪ ،‬والنظام‬
‫العدلي‪ ،‬وتعرض للجبهة الداخلية الجنوبية ومحاور التحرك لتحقيق‬
‫السلم ووضع خطة لعادة التأهيل والستيعاب والتعمير لبناء‬

‫‪260‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫الجنوب‪.‬‬
‫وبفضل الله تعالى ثم بالتخطيط السليم استطاع السودان أن‬
‫يفشل مخططات العداء وأن يقطع شوطا بعيدا في قضاياه‬
‫السياسية والداخلية‪ ،‬وظهر من أبنائه أداء سياسي متميز ونبوغ فذ‬
‫أقنع الصدقاء والعداء بقدرتهم في إدارة اللعبة السياسية‪.‬‬
‫‪ -‬وفي قطاع العلقات الخارجية‪ ،‬تعرض المركز للتغييرات‬
‫السياسية الدولية للعقد المقبل‪ ،‬وطبيعة القوى السياسية في‬
‫الحياة الدولية‪ ،‬وتوازن المصالح وتوازن القوى‪ ،‬ووضع الهداف‬
‫العليا لسياسة السودان الخارجية في السياسة القليمية والدولية‪،‬‬
‫وتعرض للمواجهات وللوسائل في تحقيق العلقات الخارجية‪،‬‬
‫ووضع خططا وبرامج لتدعيم وزارة الخارجية وتطوير الوزارة في‬
‫مجالتها البشرية والمادية وأجهزتها ومعداتها‪.‬‬
‫وحقق السودان بفضل الله تعالى انتصارات رائعة في‬
‫السياسة الدولية واستطاع أن يعقد علقات متينة مع دول قوية‬
‫مثل الصين‪ ،‬وروسيا‪ ،‬وفرنسا‪ ،‬كما استطاع أن يشكل علقات‬
‫حيوية مع جنوب إفريقيا‪ ،‬ونيجيريا وغيرها من الدول السلمية‬
‫والعربية والسيوية والفريقية‪.‬‬
‫إن السودان اليوم يمثل تجربة رائعة وفريدة من نوعها لنصار‬
‫المشروع السلمي الحضاري‪ ،‬وسوف نتعرض للتجربة السودانية‬
‫عند تكلمنا عن مراحل التنفيذ واختيار السلميين لخيار القوة في‬
‫الوصول للحكم‪.‬‬
‫‪ -‬أما في قطاع المن والدفاع‪ ،‬فبّين المواجهات والهداف‪،‬‬
‫ووضع المبادئ الساسية للشرطة والبرامج الرئيسية في مجال‬
‫منع الجريمة واكتشاف ما يقع منها‪ ،‬ووضع قانونا للوراق الثبوتية‬
‫والهجرة وتأهيل رجال الشرطة على مستوى الضباط وضباط‬
‫الصف‪ ،‬وتزويدهم بكل الوسائل الحديثة لداء مهمتهم على أكمل‬
‫وجه‪.‬‬
‫إن الشعب السوداني بكل فصائله عندما يقارن بين الحالة‬
‫المنية في عهد النقاذ ومن قبلهم يسلم بأن الدولة السلمية‬
‫استطاعت بفضل الله أن تحقق المن والسلمة لمواطنيها‬
‫والفضل ما شهدت به العداء‪.‬‬
‫إن من أهم السباب المادية التي يجب علينا أن نهتم بها في عملنا‬
‫الدءوب لتمكين دين الله الهتمام بالتفرغ وإعداد المتخصصين‪،‬‬
‫وإنشاء المراكز التي تهتم بالبحاث والعلوم‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬التخطيط والدارة‪:‬‬
‫إن التخطيط السليم والدارة الناجحة في العمل السلمي من‬

‫‪261‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫السباب الكيدة في التمكين لدين الله تعالى‪ ،‬ولقد عرف بعض‬


‫الباحثين التخطيط بأنه »جسر الحاضر والمستقبل«)‪.(1‬‬
‫إن التخطيط في المفهوم القرآني هو الستعداد في الحاضر‬
‫لما يواجه النسان في عمله أو حياته في المستقبل‪ ،‬وعلى هذا‬
‫فإن الداري المسلم يكون قد عرف التخطيط لن الله تبارك‬
‫وتعالى قد وجه إلى ذلك في آيات كثيرة‪.‬‬
‫ول َ‬ ‫خَرةَ َ‬ ‫داَر ال َ ِ‬ ‫ه ال ّ‬‫ك الل ُ‬ ‫ما آَتا َ‬
‫في َ‬‫غ ِ‬ ‫واب ْت َ ِ‬‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن الدّن َْيا" ]القصص‪.[77 :‬‬ ‫م َ‬ ‫صيب َ َ‬
‫ك ِ‬ ‫س نَ ِ‬ ‫َتن َ‬
‫إنه توجيه رباني للتخطيط في هذه الدنيا لمقابلة مصير الخرة‬
‫من‬ ‫و ِ‬‫ة َ‬
‫و ٍ‬‫ق ّ‬ ‫من ُ‬ ‫عُتم ّ‬ ‫ست َطَ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م ّ‬ ‫دوا ل َ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫وأ َ ِ‬
‫ع ّ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫وقال‬
‫ل‪] "..‬النفال‪.[60 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫خ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ط‬‫ِ‬ ‫ّرَبا‬
‫يقول الدكتور عبد الرحمن الضحيان‪) :‬هذه الية دعوة للدارة‬
‫السلمية بالعمل والتخطيط والستعداد بقوة لمواجهة أمر‬
‫مستقبلي قد يحدث لدار السلم وأمته‪ ،‬والقوة هنا تفهم بمفهوم‬
‫العصر‪ ،‬فقد تفهم بالقوة البدنية‪ ،‬وذلك ببناء الرجال الشداء‪،‬‬
‫القوياء في إيمانهم وأبدانهم وقوة السلح بكل أنواعه‪ ،‬وحسب ما‬
‫تخرجه المصانع من أنواع السلحة حتى القوة والطاقة الذرية‬
‫وذلك ببناء المصانع النووية السلمية وحمايتها من ضرب العداء‬
‫لها‪ ،‬وذلك كله لرهاب عدو الله وأعداء النسانية‪ ,‬وحماية دار‬
‫م"‪ ,‬مفهوم‬ ‫ه ْ‬‫دوا ل َ ُ‬ ‫وأ َ ِ‬
‫ع ّ‬ ‫السلم من العداء‪ ،‬كما في آية ‪َ +‬‬
‫التخطيط الطويل الجل الذي يجب أن تأخذ به الدولة السلمية‬
‫وإدارتها الحكيمة حتى تحمي شوكة وقوة السلم( )‪.(2‬‬
‫إن المثلة في القرآن الكريم على أهمية التخطيط كثيرة‬
‫فمنها‪:‬‬
‫أ‪ -‬يوسف عليه السلم‪:‬‬
‫ضرب القرآن الكريم مثل للتخطيط السليم الذي قام على‬
‫أسس منطقية فأمكن بذلك تلفي مجاعة كانت تهدد الناس جميعا‬
‫بالهلك ‪ -‬بسبب التخطيط السليم الذي قام به يوسف عليه‬
‫السلم وهو أمين على الخزائن ‪ -‬وذلك حين فسر الرؤيا التي‬
‫ك‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫مل ِ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬‫قوله تعالى‪َ + :‬‬ ‫ْ‬
‫جاءت على لسان ملك مصر في‬
‫َ‬
‫ع‬
‫سب ْ َ‬
‫و َ‬ ‫ف َ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ع َ‬
‫ع ِ‬ ‫سب ْ ٌ‬
‫ن َ‬ ‫ه ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ن ي َأكل ُ‬ ‫ما ٍ‬ ‫س َ‬ ‫ت ِ‬ ‫قَرا ٍ‬ ‫ع بَ َ‬ ‫سب ْ َ‬
‫إ ِّني أَرى َ‬
‫ر" ]يوسف ‪ [43‬وتولى يوسف عليه السلم تفسير‬
‫َ‬ ‫ض ٍ‬
‫خ ْ‬‫ت ُ‬ ‫سن ْب ُل َ ٍ‬
‫ُ‬
‫م‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫صد‬ ‫ح‬‫َ‬ ‫ما‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫با‬
‫ً‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫ني‬
‫ِ‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬‫س‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫عو‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ز‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫‪+‬‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫الرؤيا‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]يوسف‪.[47 :‬‬ ‫ما ت َأك ُُلو َ‬ ‫م ّ‬ ‫قِليل ً ّ‬ ‫ه إ ِل ّ َ‬ ‫سنب ُل ِ ِ‬ ‫في ُ‬ ‫فذَُروهُ ِ‬ ‫َ‬
‫)( التخطيط والرقابة أساس نجاح الدارة‪ ،‬د‪ .‬عبد الفتاح دياب حسين‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الدارة في السلم نقل عن التخطيط والرقابة أساس نجاح الدارة ص‬ ‫‪2‬‬

‫‪.97‬‬

‫‪262‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫إن يوسف عليه السلم فسر الرؤيا وزاد عليها أن قدم خطة‬
‫عملية تستغرق القطر كله والشعب المصري كله‪ ،‬أي أن خطته‬
‫اعتمدت على التشغيل الكامل للمة والبرمجة الكاملة للوقت‪ ،‬ثم‬
‫التشغيل الكامل لطاقة كل فرد في المة‪ ،‬وهذا الذي أراده يوسف‬
‫ن" إن الذي يخطط له‬ ‫عو َ‬ ‫عليه السلم وعبر عنه بقوله ‪+‬ت َْزَر ُ‬
‫يوسف عليه السلم هو مضاعفة النتاج وتقليل الستهلك‪ ،‬لن‬
‫الزمات والظروف الستثنائية تحتاج إلى سلوك استثنائي‪ ،‬ولن‬
‫سلوك الناس في الزمات غير سلوكهم في الظروف العادية‪،‬‬
‫استرخاء وبطالة‪ ،‬فإن هذه المة تكون في حالة خلل خطير يحتاج‬
‫إلى علج ومعالج خبير)‪.(3‬‬
‫إن يوسف عليه السلم قسم خطته إلى ثلث مراحل‪:‬‬
‫‪ -1‬تزرعون سبع سنين دأبا‪.‬‬
‫‪ -2‬ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد‪.‬‬
‫‪ -3‬ثم يأتي عام يغاث فيه الناس‪.‬‬
‫وتظهر ملمح هذه الخطة في التي‪:‬‬
‫‪ -1‬الطابع الغالب على المرحلة الولى هو النتاج والدخار مع‬
‫استهلك محدود‪ ،‬فيوسف عليه السلم حدد خطط النتاج بالزراعة‬
‫وحدد استمرار النتاج الزراعي سبع سنين العمل فيها دائب ل‬
‫ينقطع‪ ،‬ومع هذا الجهد الكبير في النتاج المستمر كان هناك تحديد‬
‫ْ‬
‫ن" وأمر‬ ‫ما ت َأك ُُلو َ‬
‫م ّ‬‫قِليل ً ّ‬ ‫واضح للستهلك يبدو في قوله‪+ :‬إ ِل ّ َ‬
‫يوسف بحفظ السنابل المخزونة من الغلل كاملة كما هي‬
‫ه"‪.‬‬‫سنب ُل ِ ِ‬
‫في ُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫فذَُروهُ ِ‬
‫‪ -2‬فإذا ما انتهت سنوات النتاج السبع‪ ،‬بما فيها من جهد‬
‫متصل دائب‪ ،‬واستهلك محدود كان على الخطة أن تقابل تحديًا‬
‫ضخما هو توفير القوات سبع سنين عجاف‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬بعد‬ ‫ً‬
‫النتاج والجهد الدائب في المرحلة الولى سيأتي تحمل أيضا في‬
‫المرحلة الثانية وهو تحمل يحتاج إلى تنظيم دقيق يصل فيه‬
‫الطعام إلى كل فم‪.‬‬
‫‪ -3‬ومع هذا التحمل والتنظيم الدقيق‪ ،‬ينبغي أل تأتي هذه‬
‫السنوات العجاف على كل المدخرات‪ ،‬وإنما كان يوسف عليه‬
‫ن" فكان هذا‬ ‫صُنو َ‬‫ح ِ‬‫ما ت ُ ْ‬
‫م ّ‬‫قِليل ً ّ‬ ‫السلم واضحا في قوله ‪+‬إ ِل ّ َ‬
‫الجزء المدخر هو »الخميرة« التي تستطيع بها المة أن تقابل‬
‫متطلبات البذر الجديد بعد السنوات العجاف‪ ،‬أي إعادة استثمار‬
‫المدخرات‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬د‪ .‬أحمد نوفل‪ ،‬ص ‪.409‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪263‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫كان على يوسف عليه السلم أن يوازن بين ثلثة جوانب‪،‬‬


‫الول النتاج‪ ،‬والثاني الستهلك‪ ،‬والثالث الدخار‪ ،‬وأن يعيد‬
‫استثمار المدخرات‪.‬‬
‫ومن طبيعة التطور أن تختلف »تفاصيل الصورة« ولكن‬
‫أساسها سيظل قائما عميقا في ديننا وتراثنا‪.(1) ..‬‬
‫وتظهر معالم التخطيط والدارة في كلمات يوسف عليه‬
‫السلم حيث إن التخطيط يعتبر وظيفة أساسية من وظائف‬
‫الدارة التي ل يمكن لها أن تكون فعالة بدونها‪ ،‬كما أن التخطيط‬
‫في حقيقته يعتمد على دعامتين وخمسة عناصر‪ ،‬أما الدعامتان‬
‫فهما‪ :‬التنبؤ والهداف‪ ،‬وأما العناصر فهي‪ :‬السياسات والوسائل‬
‫والدوات والموارد المادية والبشرية والجراءات والبرامج الزمنية‬
‫والموازنة التخطيطية التقديرية)‪.(2‬‬
‫إن كتب علم الدارة والتخطيط الحديث تقول‪ :‬إنه ل إدارة‬
‫فعالة إل بتنظيم ووفق تخطيط سليم مسبق‪ ,‬وهذا عين الذي‬
‫زاوله يوسف عليه السلم‪ ،‬لقد جاء الحكم يوم جاء وبرنامجه‬
‫الصلحي السياسي والقتصادي والجتماعي والثقافي والتربوي‬
‫والعلمي والزراعي كل ذلك في ذهنه قد أعد إعدادا كامل دقيقا‪.‬‬
‫إن دعامتي التخطيط‪ :‬التنبؤ‪ ،‬والهداف‪:‬‬
‫أما التنبؤ فاستشراف المستقبل واستشفاف التي‪ ،‬وهذا عين‬
‫ما كان من يوسف بما علمه الله تعالى‪ ,‬ثم نجده أيضا قد حدد‬
‫الهداف في مضاعفة النتاج وتقنين الستهلك أو ترشيده‪ ،‬ثم‬
‫تخزين الطعام وهذا يقتضي خطة تفصيلية لن الهدف العام الكبير‬
‫ليس شيئا إن لم يقترن بخططه التفصيلية‪ ,‬وهنا يأتي دور‬
‫السياسات والوسائل والدوات والموارد البشرية والجراءات‬
‫والبرامج الزمنية والموازنة التقديرية‪.‬‬
‫هذا هو ما فعله يوسف عليه السلم على ضوء علم الدارة‬
‫الحديث‪ ,‬وإن كان القرآن الكريم حصر كلم يوسف عليه السلم‬
‫في جمل جامعة وجيزة ولم يشر إلى تنمية النسان‪ ،‬لكنها‬
‫قطعا ضمن الخطة‪ ،‬لن القرآن الكريم علمنا أن النسان‬ ‫ً‬ ‫متضمنة‬
‫إنما هو نفسيته ومضمونه ومحتواه وأن تغيير الخارج بدون تغيير‬
‫الداخل ل يغير نقيرًا‪.‬‬
‫لقد وضع يوسف عليه السلم العنصر البشري في خطته لعلمه‬
‫أنه ل تنجح خطة ليس وراءها النسان الذي ينفذها‪ ،‬وأما منهجه‬
‫في التعامل مع النسان فقد ظهر في دعوته للسجينين للتوحيد‬
‫وبذلك يكون منهجه في الرتقاء بالنسان الذي هو عدة الحضارة‬
‫)( مواقف إسلمية‪ ،‬د‪ .‬عبد العزيز كامل‪ ،‬ص)‪.(86 – 83‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬سورة يوسف‪ ..‬دراسة تحليلية ص)‪(416 ، 415‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪264‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫ومحرك النهضة ومنفذ البرامج ومنجز المشاريع دعوته للتوحيد‬


‫وتعليمه حقيقة اليمان بالله وهذا الكون وهذه الحياة‪.‬‬
‫إن فائدة التغيير الخارجي تزول إذا لم يكن هناك إنسان أمين‬
‫على منجزات التغيير الخارجي ويحمل القيم الداخلية التي تضمن‬
‫استمرارية التغيير الخارجي‪ ،‬صحته وصدقه وأمانته‪ ،‬إن التغيير‬
‫يجب أن يمارسه النسان في المحتوى النفسي‪ ،‬فيطور وينمي‬
‫ذاته باتجاه الفضل ثم يجسد محتواه النفسي تغييرًا خارجيّا‪،‬‬
‫ويحوله إلى ممارسة وتطبيق و تحقيق‪ ،‬لن أحوال الناس‬
‫وأوضاعها الجتماعية من الفساد أو الخير ل تتغير إل إذا تغير‬
‫محتوى النسان‪ ،‬وما هو عليه من الحق أو الباطل‪ ,‬هذا هو منطق‬
‫القرآن والحياة‪ ،‬لكي يرسي نظاما لبد أن يهيئ له إنسانا أول‪.‬‬
‫إذ طورنا النظام ومفاهيمه دون النسان ومفاهيمه فسرعان‬
‫ما يتسرب الفساد من النسان إلى النظام‪ ،‬فيقوضه أكثر مما‬
‫يتسرب الصلح من النظام إلى النسان فيصلحه‪ ،‬لن النانية‬
‫وحب الذات والجشع أقوى من نصوص القوانين والنظمة ما لم‬
‫تذهبها التربية الداخلية العميقة‪ ,‬والخلق الكريمة المبنية على‬
‫معرفة الله وحبه والخوف منه)‪.(1‬‬
‫إن اليات القرآنية الكريمة أشارت إلى جوانب أخرى ارتبط بها‬
‫نجاح الخطة ارتباطا مباشرا‪ ،‬وأهمها جانبان يجمعهما عنصر واحد‬
‫هو العنصر البشري وعلقته بنجاح الخطة‪:‬‬
‫‪ -1‬استعداد يوسف عليه السلم على أن يشرف على تنفيذ‬
‫هذه الخطة وكان هذا الستعداد بعد أن بدد ظلل الشك وأوهام‬
‫التهم عن نفسه‪ ،‬وبذلك حدث التكامل القوي بين الخطة‬
‫والمخططين‪ ،‬بين حساب الرقام وحساب الخلق‪ ،‬بين السس‬
‫المادية والقيم الروحية في المجتمع‪ ،‬بين الدين والحياة)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬الجانب الثاني‪ :‬يتجلى في اختيار المعاونين الذين ساعدوه‬
‫في عمله‪ ،‬فكان من رجال يوسف عليه السلم العون الصادق‬
‫على تنفيذ أوامره بدقة وهدوء)‪.(3‬‬
‫كما أشارت اليات القرآنية إلى المعلومات اليقينية التي بنى‬
‫ْ‬
‫د‬
‫ع ِ‬
‫من ب َ ْ‬ ‫م ي َأِتي ِ‬ ‫السلم خطته‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬ث ُ ّ‬ ‫يوسفشعليه ْ‬ ‫عليها‬
‫ما‬‫م ّ‬ ‫ً‬
‫قِليل ّ‬ ‫ن إ ِل ّ َ‬ ‫م لَ ُ‬
‫ه ّ‬ ‫مت ُ ْ‬
‫قدّ ْ‬‫ما َ‬ ‫دادٌ ي َأك ُل ْ َ‬
‫ن َ‬ ‫ع ِ َ‬
‫سب ْ ٌ‬
‫ك َ‬‫ذَل ِ َ‬
‫ن" ]يوسف‪.[48 :‬‬ ‫صُنو َ‬
‫ح ِ‬‫تُ ْ‬
‫إن من معالم الخطة السياسية والقتصادية الناجحة أن تكون‬
‫مبنية على معلومات يقينية صادقة حقيقية ل على الخيال الشعري‬
‫)( انظر‪ :‬سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬ص)‪.(418،419‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬ص ‪.420‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مواقف إسلمية‪ ،‬ص ‪.89 – 86‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪265‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المجنح الذي ل يرتبط بالواقع‪ ،‬ومن هنا صارح يوسف عليه السلم‬
‫الشعب بالشدائد التي تنتظره‪ ،‬لكنها ليست المصارحة التي تثبط‬
‫أو تقعد عن العمل‪ ,‬ولكنها التي تدفع للعمل وتزيد الهمة وتضاعف‬
‫من‬
‫الجهد والطاقة‪.‬‬
‫إن السبع التي تلي الرخاء ستكون مجدبة ل تعطي بل تأخذ‬
‫وتأكل فهي تقتضي حرصا واحتياطا)‪.(1‬‬
‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪):-‬ثم يأتي من بعد ذلك سبع‬
‫شداد ‪ -‬ل زرع فيهن ‪ -‬يأكلن ما قدمتم لهن‪ ,‬وكأن هذه السنوات‬
‫هي التي تأكل بذاتها كل ما يقدم لها لشدة نهمها وجوعها‪+ :‬إ ِل ّ‬
‫ن" أي إل قليل مما تحفظونه وتصونونه من‬ ‫صُنو َ‬ ‫ح ِ‬‫ما ت ُ ْ‬ ‫قِليل ً ّ‬
‫م ّ‬ ‫َ‬
‫التهامها‪ ،‬ثم تنقضي هذه السنوات الشداد العجاف المجدبة‪ ،‬التي‬
‫تأتي على ما خزنتم وادخرتم من سنوات الخصب‪ ,‬تنقضي ويعقبها‬
‫عام رخاء‪ ،‬يغاث الناس فيه بالزرع والماء‪ ،‬وتنمو كرومهم‬
‫فيعصرونها خمرا وسمسمهم وخسهم فيعصرونها زيتًا‪ .‬وهنا نلحظ‬
‫أن هذا العام الرخاء ل يقابله رمز في رؤيا الملك فهو إذن من‬
‫العلم اللدني الذي علمه الله يوسف عليه السلم‪ ،‬فبشر به‬
‫الساقي ليبشر الملك والناس‪ ،‬بالخلص من الجدب والجوع بعام‬
‫رخي رغيد‪.(2) (...‬‬
‫ونلحظ في اليات القرآنية الكريمة التي تكلمت عن خطة‬
‫يوسف عليه السلم عنصر المل والتفاؤل‪ ,‬وهذا المر مهم في‬
‫د ذَل ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ه‬
‫في ِ‬ ‫م ِ‬ ‫عا ٌ‬
‫ك َ‬ ‫ع ِ‬
‫من ب َ ْ‬ ‫الخطة الناجحة‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ث ُ ّ‬
‫م ي َأِتي ِ‬
‫ن" ]يوسف‪.[49 :‬‬ ‫صُرو َ‬
‫ع ِ‬
‫ه يَ ْ‬
‫في ِ‬‫و ِ‬ ‫س َ‬‫ث الّنا ُ‬ ‫غا ُ‬
‫يُ َ‬
‫إن بعد الشدة التي أشار إليها يوسف انفراجا ورخاء‪ ،‬وستعود‬
‫المور بإذن الله تعالى إلى سيرتها الولى‪ ،‬ولكن بداية العودة‬
‫تكون عاما مباركا غير معهود العطاء وفرة وكثرة‪ ،‬وكأن الخير فيه‬
‫سيفيض بغير جهد‪ ،‬فهو عام فيه يغاث الناس أي‪ :‬يسقون الغيث‪،‬‬
‫أو يغاثون‪ :‬ينجدون من الغوث‪ ،‬وكل ذلك متلزم‪» ،‬وفيه يعصرون«‬
‫إشارة أخرى إلى فيض الخير‪ ،‬فل يلجأ الناس إلى العصر للثمار إل‬
‫بعد أن تفيض عن حاجة الستهلك الساسية وهي الكل‪.‬‬
‫ولبد من المل والتفاؤل في أي خطة‪ ،‬وإل فإن كان ل أمل‬
‫فما الداعي إلى العمل‪ ،‬ولقد حرك يوسف عليه السلم دوافع‬
‫العمل عندهم بتحذيرهم من شدة سنوات القحط‪ ،‬ثم حركها ثانية‬
‫بفتح نافذة المل)‪.(3‬‬

‫)( انظر‪ :‬سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬ص ‪.427‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/1994‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬سورة يوسف دراسة تحليلية‪ ،‬ص ‪.428‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪266‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫إن يوسف عليه السلم كان مظلومًا مضطهدًا في سجن‬


‫الملك وهو يملك من المعلومات والخطط ما يجعله في محل قوة‬
‫عند المفاوضة إل أنه ل يشترط لنفسه شيئا‪ ،‬بل جادت نفسه‬
‫الزكية بالتفضل بالخير والعطاء والنصح والرشاد بدون أي مقابل‬
‫من الخلق‪ ،‬وهذه الخلق الكريمة والصفات الجميلة يكرم الله بها‬
‫من يريد أن يجعله قدوة لدينه ومعلما لدعوته‪ ،‬كما نلحظ أن‬
‫يوسف عليه السلم كان مستوعبا لفقه الخلف حيث إن الملك‬
‫وشعبه بعيدون عن منهج الله‪ ،‬منغمسون في مناهج الجاهلية‪ ,‬ومع‬
‫هذا التقى معهم في الخير المحض والسعي نحو إنقاذ البلد‬
‫والعباد من محنة المجاعة والقحط‪ ,‬وهذه السعة في الفهم‬
‫والستيعاب العميق يحتاجها من يتصدى لدعوة الناس ودفعهم نحو‬
‫تمكين دين الله في الرض‪.‬‬
‫لقد كان من ثمار تدبير يوسف عليه السلم وتخطيطه أن‬
‫حفظ شعًبا من الهلك والجوع وخرج من الشدائد وعاد إلى‬
‫الرخاء‪ .‬وفي هذا القصص القرآني إشارات إلى واقع تخطيطي‬
‫لكي ندرك أن السلم ل يقوم على التخمين أو التواكل‪ ،‬ولكنه‬
‫يهتم بأدق الساليب وأعمقها سواء في جوانب القتصاد أو‬
‫السياسة أو غيرها‪.‬‬
‫ب‪ -‬من سيرة سيد الخلق × ‪:‬‬
‫إن سيرة الرسول × معلم بارز في جميع جوانب الحياة‬
‫ونلحظ من سيرته العطرة جانب التخطيط وإحكام الدارة ودقة‬
‫التنظيم في كل مراحل دعوته‪ ،‬فإذا نظرنا مثل إلى الهجرة النبوية‬
‫نجد أن الرسول × وضع لها خطة احتوت على هذه العناصر‪:‬‬
‫تحديد الهدف‪ ،‬تنظيم الوسائل‪ ،‬رسم أسلوب التنفيذ‪ ،‬محاولة التنبؤ‬
‫بالمستقبل‪ ،‬ولذلك‬
‫نلحظ التي‪:‬‬
‫‪ -‬تحديد الهدف‪:‬‬
‫لقد حدد النبي × هدفه من الهجرة‪ ،‬وهو مغادرته هو وأصحابه‬
‫مكة إلى المدينة آمنين‪ ،‬ثم نشر دعوة السلم في بيئة جديدة‬
‫تتطلع إلى رسالة رب العالمين‪ ،‬وتدافع عن المؤمنين وتدفع عنهم‬
‫في‬ ‫جد ْ ِ‬
‫ه يَ ِ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫جْر ِ‬ ‫ها ِ‬ ‫من ي ُ َ‬ ‫و َ‬‫الذى‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫جًرا‬ ‫ها‬
‫َ ُ َ ِ‬‫م‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫من‬‫ِ‬ ‫ج‬
‫ْ‬ ‫ر‬‫ُ‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫َ َ‬‫و‬ ‫ة‬‫ً‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫س‬‫ما ك َِثي ً َ َ‬
‫و‬ ‫را‬ ‫غ ً‬‫مَرا َ‬‫ض ُ‬ ‫ِ‬ ‫ال َْر‬
‫عَلى‬ ‫جُرهُ َ‬ ‫عأ ْ‬ ‫ق َ‬ ‫و َ‬
‫قد ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ت َ‬ ‫و ُ‬
‫م ْ‬‫ه ال ْ َ‬‫رك ْ ُ‬ ‫م ي ُدْ ِ‬‫ه ثُ ّ‬‫سول ِ ِ‬ ‫وَر ُ‬‫ه َ‬ ‫إ َِلى الل ِ‬
‫ما" ]النساء‪.[100 :‬‬ ‫حي ً‬ ‫ه غفوًرا ّر ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬
‫الل ِ‬
‫‪ -‬تنظيم الوسائل واختيار المكان‪:‬‬
‫فحين أوحى الله إلى نبيه بالهجرة‪ ،‬كانت الوسيلة والسبيل إلى‬

‫‪267‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تحقيق هذا المر‪ ،‬هو التخطيط والتدبير حتى يضمن نجاح مهمته‪،‬‬
‫ولقد كان للهجرة مقدماتها ومنها‪:‬‬
‫‪ -1‬حسن اختيار الرسول × للمكان‪ ،‬وكان هذا بوحي من الله‬
‫عز وجل‪.‬‬
‫‪ -2‬والمدينة لنها توفي بالمقصد‪ ،‬وتتناسب مع الهدف‪.‬‬
‫‪ -3‬وبها صلت القربى‪ ،‬بنو النجار أخوال جده عبد المطلب من‬
‫قبيلتي الوس والخزرج‪.‬‬
‫‪ -4‬الموقع القتصادي للمدينة حيث غنائها بمائها وزرعها‬
‫وثروتها التجارية‪.‬‬
‫‪ -5‬منيعة بحصونها ولها سيادة وسلطان بأهلها من الوس‬
‫والخزرج‪.‬‬
‫‪ -6‬تجارة مكة تمر عبرها إلى الشام‪ ،‬لموقعها الستراتيجي‪.‬‬
‫‪ -7‬مجاورة أهلها لهل الكتاب وسماعهم منهم‪ ،‬يجعلهم أكثر‬
‫قربا للستماع للدعوة الجديدة‪.‬‬
‫* التمهيد للهجرة‪:‬‬
‫‪ -‬بيعة العقبة الولى‪:‬‬
‫كانت خير تمهيد لتنفيذ الهجرة ثم تلتها بيعة العقبة الثانية ثم‬
‫بيعة العقبة الكبرى‪ ،‬والعقبة مكان مرتفع شرقي مكة على يسار‬
‫الطريق للقاصد منى من مكة‪ ،‬ولقد لقى الرسول × في العقبة‬
‫الولى‪:‬‬
‫‪ -1‬ستة نفر كلهم من الخزرج‪.‬‬
‫‪ -2‬دعاهم وعرض عليهم السلم فاستجابوا‪.‬‬
‫‪ -3‬انصرفوا إلى المدينة وبدأوا ينشرون السلم فيها‪.‬‬
‫‪ -4‬لم تبق دار من دور النصار إل فيها ذكر لرسول الله ×‪.‬‬
‫‪ -5‬واعدوا النبي × أن يقابلوه في الموسم القادم في نفس‬
‫المكان‪.‬‬
‫‪ -‬بيعة العقبة الثانية‪:‬‬
‫ولما حل الموسم جاء من المدينة اثنا عشر رجل من قبيلة‬
‫الخزرج منهم النفر الستة الذين بايعوه في العقبة الولى‪ ،‬واثنان‬
‫من قبيلة الوس‪:‬‬
‫‪268‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫‪ -1‬التقى بهم رسول الله × وأسلموا جميعا‪.‬‬


‫‪ -2‬بايعوا رسول الله × على السمع والطاعة‪.‬‬
‫‪ -3‬سميت هذه العقبة ببيعة النساء لنهم لم يبايعوا على‬
‫القتال‪ ،‬وإنما على الدخول في السلم‪.‬‬
‫‪ -4‬أرسل معهم الرسول × ابن أم مكتوم ومصعب بن عمير‬
‫ليعلماهم القرآن ويفقهاهم في الدين‪.‬‬
‫‪ -5‬أسلم على يدي مصعب أكثر أهل المدينة ولذا يسمى فاتح‬
‫المدينة)‪.(1‬‬
‫بيعة العقبة الثالثة ‪ -‬أو الكبرى ‪:-‬‬
‫وفد على مكة في العالم الثالث في موسم الحج جماعة من‬
‫يثرب بلغت عدتهم ثلثة وسبعين رجل وامرأتين منهم أحد عشر‬
‫من الوس‪ ,‬فواعدهم الرسول × أن يلقاهم عند العقبة‪ ،‬فبايعهم‬
‫على السلم وعبادة الله‪ ،‬وأل يشركوا به شيئا‪ ،‬ثم على حمايته إن‬
‫قدم المدينة‪.‬‬
‫وتدل وقائع هذه البيعات الثلث على التي‪:‬‬
‫‪ -1‬على مبلغ ودقة الحكام في التخطيط‪.‬‬
‫‪ -2‬نجحت هذه المرحلة التي تعتبر بمثابة العداد والتحضير‬
‫للهجرة‪.‬‬
‫‪ -3‬دقة اختيار الوقت المناسب لعقد المعاهدة وهو موسم‬
‫الحج‪ ،‬حتى ل يلفت النظار إليه من المشركين المتربصين‪.‬‬
‫‪ -4‬دقة الختيار في الموعد حيث جعل بعد ثلث الليل‪ ،‬حتى‬
‫يمكن اجتناب العقبات التي تتوقع من المشركين‪ ،‬وكان هذا‬
‫الختيار مساعدا في نجاح الخطة‪.‬‬
‫‪ -5‬تنظيم النبي × في العقبة الثالثة للوس والخزرج وجعل‬
‫من بين السبعين اثني عشر نقيبا‪ ،‬تسعة من الخزرج وثلثة من‬
‫الوس‪ ,‬وهذا يدل على بعد نظر النبي × ومقدرته على ترتيب‬
‫وتنظيم الطاقات‪.‬‬
‫‪ -6‬نلحظ مراعاة التدرج في تنفيذ الخطة‪ ,‬وهذا يدل على‬
‫رجاحة عقل المخطط ومراعاته لمقتضيات الحوال وسنة التدرج‬
‫للوصول إلى الهدف المنشود‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬الدعاة والتخطيط‪ ،‬د‪ .‬محمد عبد الله الخطيب‪ ،‬ص ‪.61-59‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪269‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -7‬مراعاة جميع الظروف المحيطة ووضع الوسائل المناسبة‪،‬‬


‫وترتب على هذا التخطيط الرشيد التي‪:‬‬
‫‪ -‬دخول بعض البشر دين السلم في البيعة الولى‪.‬‬
‫‪ -‬زيادة العدد إلى الضعف في الثانية وإرسال المربي الذي‬
‫يتعهد ويعلم ويربي النواة الولى في المدينة‪.‬‬
‫‪ -‬الوصول مع أهل يثرب إلى معاهدة دفاعية في البيعة‬
‫الخيرة‪.‬‬
‫‪ -‬تنفيذ أمر الهجرة‪.‬‬
‫تحرك المهاجرون من مكة إلى المدينة ويظهر عنصر التخطيط‬
‫الدقيق في التي‪:‬‬
‫‪ -1‬خروج المسلمين من مكة متفرقين‪.‬‬
‫‪ -2‬التزام مبدأ السرية التامة‪.‬‬
‫‪ -3‬التحمل والصبر من أجل العقيدة والدين‪.‬‬
‫‪ -4‬كانت هجرة الصحابة رضي الله عنهم تمهيدا لخطة هجرة‬
‫النبي ×)‪.(1‬‬
‫وحان وقت الهجرة للنبي ×‪ ,‬وشرع النبي × في التنفيذ‬
‫ونلحظ التي‪:‬‬
‫وجود التنظيم الدقيق للهجرة حتى نجحت رغم ما كان يكتنفها‬ ‫‪-1‬‬
‫من صعاب وعقبات‪.‬‬
‫وذلك أن كل أمر من أمور الهجرة كان مدروسا دراسة وافية‬
‫بحيث لم ُتترك ثغرة واحدة للعدو ينفذ منها‪ ,‬ولم ُيترك شأن من‬
‫شئونها للمصادفة أو للحظوظ العمياء‪ ،‬فلقد تمت الرحلة المثيرة‬
‫التي لم يعرف أخطر منها في التاريخ في سبيل الحق بطريقة‬
‫سرية‪ ،‬لم يعلم بها أحد‪ ،‬وفي تكتم شديد وحرص بالغ‪ ،‬حتى لقد‬
‫قال الرسول × لبي بكر عندما أراد أن يفضي إليه بنبأ الهجرة‪:‬‬
‫»أخرج عني من عندك؟« ول شك أن السرية في رسم‬
‫الخطط هي ضمان النجاح وعدته‪ ،‬ولقد بلغ الحتياط مداه‪ ،‬باتخاذ‬
‫طرق غير مألوفة للقوم‪ ،‬والستعانة على ذلك بخبير يعرف‬
‫مسالك البادية ومسارب الصحراء‪ ..‬ولو كان ذلك الخبير مشركا ما‬
‫دام يملك خبرات جيدة ومحل ثقة في تنفيذ المهمة‪ ,‬واختياره ×‬
‫لشخصيات عاقلة رزينة تتوقد ذكاء لتقوم بالمعاونة في شئون‬
‫الهجرة‪ ،‬ووضع × كل فرد في عمله المناسب‪ ،‬فقام علي ‪‬‬
‫)( انظر‪ :‬الدعاة والتخطيط‪ ،‬ص ‪.63 -61‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪270‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫بدوره المنوط به ونام في فراش النبي ×‪ ,‬وحققت تلك الفكرة‬


‫أهدافها وخرج رسول الله × والمشركون معلقة أبصارهم بمضجع‬
‫الرسول ×‪ ،‬وأحكم × أموره وأوصى عليا ‪ ‬برد الودائع إلى‬
‫أهلها‪ ،‬وكان عبد الله بن أبي بكر يقوم بدور جمع المعلومات‬
‫وكشف تحركات العدو‪ ،‬وأسماء ذات النطاقين تحمل التموين من‬
‫مكة إلى الغار وسط جنون المشركين بحثا عن النبي × ليقتلوه‪،‬‬
‫وعامر بن فهيرة الراعي يسدد أقدام المسيرة التاريخية بأغنامه‬
‫كيل يستدل بها القوم‪ ,‬ويمد النبي × وصاحبه باللحم واللبن‪ ،‬وعبد‬
‫الله بن أريقط‪ ،‬دليل الهجرة المين‪ ،‬وخبير الصحراء البصير ينتظر‬
‫في يقظة إشارة البدء من الرسول الكريم × ليأخذ الركب طريقه‬
‫من الغار إلى المدينة‪ ،‬فهذا تدبير للمور على نحو رائع دقيق‪،‬‬
‫واحتياط للظروف بأسلوب حكيم‪ ،‬ووضع كل شخص في مكانه‬
‫المناسب‪ ،‬وسد لجميع الثغرات‪ ,‬وتغطية جميلة لكل‬
‫مطالب الرحلة‪ ،‬واقتصار على العدد اللزم من الشخاص من غير‬
‫زيادة ول إسراف‪ ،‬لقد أخذ × بالسباب المعقولة أخذا قويا حسب‬
‫استطاعته مع توكله على الله‬
‫وتفويض أمره إليه)‪.(1‬‬
‫إن تخطيط الرسول × للهجرة النبوية المباركة دليل واضح‬
‫على أن التخطيط ضروري لمزاولة أي نشاط بشري مهما يكن‬
‫نوعه‪ ،‬يستوي في ذلك أن يكون القائم به فردا أو جماعة‪ ،‬وأن‬
‫يستهدف شأنا من شئون السلم أو في شئون الحرب‪ ،‬وإذا كان‬
‫التخطيط ‪ -‬اصطلحا ‪ -‬من مستحدثات العصر فإنه معنى يضرب‬
‫بجذوره في أعماق القدم‪ ،‬قد اقترن بحياة الفرد وحياة المجتمع‬
‫منذ كان النسان على الرض‪ ،‬فقد شاء الله‬
‫‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬أن يزوده بهذه القدرة المستمدة من العقل‬
‫لحفظ الجنس البشري حتى تستمر الحياة عبر مراحل نموها‬
‫المتعاقبة‪ ،‬وكل امرئ خلقه الله في هذه الحياة يباشر التخطيط‬
‫تلقائيا في جميع خطواته وفي مختلف تصرفاته دون أن يدري‬
‫المدلول العلمي‬
‫لما يقوم به‪.‬‬
‫فالصانع والزارع والعامل كل منهم يخطط ليومه وغده‪ ،‬إذ‬
‫يحدد مطالبه والتزاماته ويحدد قدراته على الوفاء بها مستعينا في‬
‫ذلك بحصيلة تجاربه السابقة‪ ,‬ومقدرا للظروف الطارئة المحتملة‪،‬‬
‫وهكذا فالتخطيط لبد أن يكون النسان مستخدما له في سائر‬
‫حياته لكي يستطيع أن يصل إلى أهدافه المرجوة)‪.(2‬‬
‫إن التخطيط من الفطرة التي فطر الله الناس عليها‪ ،‬ولذلك‬
‫)( انظر‪ :‬الهجرة في القرآن‪ ،‬أحزمي سامعون جزولي‪ ،‬ص ‪.363 -361‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الهجرة في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.359‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪271‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫استخدم رسول الله × التخطيط في كل مراحل دعوته‪ ,‬إيمانه‬


‫منه بأن التخطيط أساس من السس في إنجاح أي عمل من‬
‫العمال‪ ،‬ولبد منه للبلوغ إلى المقصود وأنه ركيزة أساسية يقوم‬
‫عليها هذا الدين‪ ،‬ولذلك فإن السلم قد دعانا إلى الخذ به‪ ،‬بل‬
‫وجعله نظاما لحياة المسلمين لنه ضرورة لبد منها)‪ ،(1‬وهذا‬
‫ينسجم مع الفهم الصحيح لمعنى التوكل على الله‬
‫واليمان بالقدر‪.‬‬
‫)إن العمل السلمي اليوم يتصدى لتحقيق أشرف وأعظم‬
‫إنجاز في دنيانا‪ ,‬وهو التمكين لدين الله في الرض وإقامة الخلفة‬
‫السلمية على رأس دولة السلم العالمية‪ ،‬التي تجمع كلمة‬
‫المسلمين‪ ،‬وتحكم شرع الله في الرض‪ ،‬وتسترد كل شبر أرض‬
‫اغتصبت من الوطن السلمي‪ ،‬بل وتكسب أرضا جديدة للسلم‪،‬‬
‫وذلك بتبليغ هذا الدين الحق إلى الناس كافة حتى ل تكون فتنة‬
‫ويكون الدين كله لله‪ .‬فالمر الطبيعي أن يسير العمل لتحقيق هذا‬
‫الهدف العظيم بتخطيط دقيق‪ ،‬وأل يكون ارتجاليّا أو ردود أفعال‬
‫فيقسم الهدف الكبير إلى أهداف مرحلية‪ ،‬وتوضع الخطة لكل‬
‫منها‪ ،‬والوسائل اللزمة ويتابع التنفيذ وهكذا( )‪.(2‬‬
‫إن الهتمام بأصول وقواعد التخطيط وممارسته في الحياة‬
‫الدنيا وفق التصور السلمي الصحيح من السباب المهمة لتمكين‬
‫دين الله‪.‬‬
‫ثالثـا‪ :‬العداد القتصادي‪:‬‬
‫إن من أسباب التمكين أن تهتم الحركات السلمية بالجانب‬
‫القتصادي‪ ،‬لن القوة القتصادية هي عصب الحياة الدنيا وقوامها‪،‬‬
‫والضعيف فيها يقهر ول يحسب له حساب إل في ظل شرع الله‬
‫حين يحكم‪ ،‬ولذلك ينبغي على الحركات السلمية أن تعتمد على‬
‫الذات في موارد ثابتة‪ ،‬وهذا من النفرة التي أمرنا الله )عز وجل(‬
‫بإعدادها لمواجهة العداء ونشر الدين‪ ،‬والستغناء عن مد يد‬
‫الستجداء‪ ،‬مما يوفر للدعوة والدعاة حرية التحرك‪ ،‬واتخاذ القرار‬
‫دون ضغوط كابحة للنشاط السلمي من أي جهة كانت‪ ,‬إضافة‬
‫إلى ما توفره القوة المادية من ثقل إعلمي واجتماعي وسياسي‬
‫هي بأمس الحاجة إليه)‪.(3‬‬
‫كما أن حاجات العمل المتعددة تحتاج إلى أموال طائلة‬
‫لتغطيتها‪ ،‬والمطلوب من الحركات السلمية أن تعد من رجالها‬
‫من التجار المسلمين من تظهر على سلوكه أخلق السلم في‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.360‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬قضايا أساسية على طريق الدعوة للستاذ مصطفى مشهور نقلً عن‬ ‫‪2‬‬

‫الدعاة والتخطيط‪ ،‬ص ‪.28‬‬


‫)( البيان‪ :‬العدد ‪ 118‬جمادى الخرة ‪1418‬هـ‪ ،‬ص ‪.9‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪272‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫التعاملت التجارية‪ ,‬وتزوده بالخبرات الميدانية بحيث يقتحم مع‬


‫إخوانه مجالت التجارة الدولية والسواق العالمية‪ ,‬ويعمل على‬
‫توحيد جهود التجار المسلمين وإيجاد شبكات للتعاون المثمر بحيث‬
‫يقارعون الشركات اليهودية والشيوعية والنصرانية ويبذلون ما في‬
‫وسعهم من أجل هيمنة القتصاد السلمي على السواق العالمية‬
‫ويحررون شعوب المسلمين من سيطرة الفكر الرأسمالي الدخيل‬
‫والشيوعي‪.‬‬
‫إن على التجار المسلمين أن يستوعبوا علم القتصاد السلمي‬
‫الذي ينسجم مع تصور السلم للكون والنسان والحياة‪ ،‬والذي‬
‫في طياته حل لمتطلبات العصر الحديث وبخاصة أن العالم‬
‫السلمي يمتلك من الطاقات البشرية والمادية ما يمكنه من بناء‬
‫اقتصاد سليم قوي يواجه التيارات القتصادية المتصارعة‪ ,‬وينقذ‬
‫البشرية من الويلت القتصادية التي تعيشها‪.‬‬
‫وعليهم أن يسعوا إلى أسلمة المؤسسات القتصادية بحيث‬
‫تنسجم مع النظام السلمي على جميع المستويات‪ ،‬كما عليهم أن‬
‫يعمقوا فاعلية المؤسسات السلمية حتى يتم تطويرها ويستفاد‬
‫من أخطائها‪ ,‬وتعالج العوائق التي تحدث في طريقها‪ ،‬ولقد نجحت‬
‫الحركة السلمية في تركيا نجاحا جيدا وأصبحت لها مؤسسات‬
‫قوية ثابتة ولها تأثير وأداء متميز في الشارع التركي‪ ،‬ولقد‬
‫استطاعت الحركة السلمية في السودان أن تخوض تجارب رائدة‬
‫في البنوك السلمية وفي المؤسسات القتصادية وتوظيف‬
‫فريضة الزكاة لحل مشاكل المسلمين‪ ،‬وكذلك الحركات السلمية‬
‫في اليمن والردن وماليزيا وأندونيسيا‪ ،‬وأصبح بحمد الله لها بنوك‬
‫إسلمية ومستشفيات ومؤسسات عملقة إل أن العداء يضيقون‬
‫عليها ويحاربونها‪.‬‬
‫إن الحركات السلمية فهمت معادلة المال وهيمنة القتصاد‬
‫فهما جيدا وأصبحت ترى التاجر المسلم من صناع الحياة‪ ،‬بل هم‬
‫صناع الصناع‪ ,‬يقول الستاذ محمد أحمد الراشد في هذا الصدد‪:‬‬
‫حا من إسرافهم القديم‬ ‫)وعلى خطة الدعوة أن تتوب توبة نصو ً‬
‫في تعليم الدعاة كراهة المال وحب الوظائف الحكومية‪.(1) (..‬‬
‫وطلب في كتاب صناعة الحياة من الدعاة أن يهتموا بجمع‬
‫المال ولينزل منهم نفر إلى السوق‪ ،‬لن في ذلك مردود دعوي‪،‬‬
‫وذكر اليهود الذين استحوذوا على الموال والسواق ونحن ل نجيد‬
‫إل سبهم‪ ،‬ونضجر من المارون والقباط والبهرة والقاديانية‬
‫والمبتدعة والقليات إذ كان منهم السبق إلى المال‪ ،‬بتسهيل‬
‫الدوائر الستعمارية لهم ذلك في فترة الستعمار جزما‪،‬‬
‫وبمساعدة من قوى خفية أخرى‪ ،‬ولكننا لم نحسن غير‬
‫)( صناعة الحياة‪ ،‬ص ‪.46‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪273‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫سبهم وشتمهم‪.‬‬
‫إن قوة القتصاد السلمي ووصول الموال إلى قبضة‬
‫المسلمين ستكون عامل من عوامل قوة الدعوة السلمية‪,‬‬
‫وستتحكم المنظومة السلمية على القتصاد العالمي وستعرض‬
‫على العالم سوقًا إسلمية ومنظومة شركات إسلمية‪.‬‬
‫وسترتفع رايات المسلمين ومعنوياتهم عندما يرون رجال‬
‫المال المسلمين الذين ينفقون أموالهم سرا وعلنية ابتغاء مرضاة‬
‫الله‪ ,‬وينطلق الدعاة في كل مكان مبشرين ومنذرين وخلفهم‬
‫مؤسسات وشركات تدعمهم وتقف بجانبهم‪ ،‬كل على ثغر‪ ،‬وكل‬
‫يسعى لتمكين دين الله في الرض‪.‬‬
‫إن العداد المالي والقوة القتصادية ستكون في خدمة المة‬
‫والدعوة والسياسة والفكر‪ ،‬وسيسند حركة التغيير الشاملة من‬
‫أجل التمكين لدين الله في الرض‪.‬‬
‫ولبد أن تهتم الحركات السلمية بميدان الصناعة والزراعة‬
‫والعقار والستيراد والتصدير‪ ،‬وبخاصة في البلد الحرة التي ل ينال‬
‫أموالنا فيها ظلم‪ ،‬وفي العالم الكبير الفسيح متسع للستثمار)‪.(1‬‬
‫إن الهيمنة على القتصاد وتحكيم شرع الله فيه جهاد عظيم‬
‫ولها آثار على المجتمعات البشرية من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬إنقاذ البشرية وبخاصة المسلمون من مساوئ النظمة‬
‫الوضعية حتى إن علماء الغرب يقولون بذلك‪ ،‬يقول جاك أوستري‪:‬‬
‫إن طريق النتماء ليس محصورا في المذهبين المعروفين بل‬
‫هناك مذهب اقتصادي ثالث راجح هو المذهب السلمي)‪ ،(2‬وبذلك‬
‫يتحرر المسلمون من التبعية القتصادية ويبرز للعالم هذا النظام‪،‬‬
‫ومن هنا تأتي أهمية طريق النظام القتصادي في السلم‪ ،‬وبيان‬
‫الحكام الشرعية لمعالجة جميع مشاكل الحياة‪.‬‬
‫‪ -2‬استغلل الموارد البشرية والمادية السلمية استغلل‬
‫اقتصاديا يؤدي إلى الرفاهية العامة للشعوب السلمية مما يساعد‬
‫المسلمين على قيام الصناعات الثقيلة‪ ,‬وبذلك تتحقق للمسلمين‬
‫القوة والمنعة التي تحرر أراضيهم المحتلة‪ ,‬كل ذلك وفق برامج‬
‫تنمية متكاملة‪ ،‬فالسلم ليس مجرد تراث‪ ،‬بل فيه طريق التنمية‬
‫السليم‪ ،‬وبذلك ل يبقى العالم السلمي مجرد سوق مالي وسلعي‬
‫للشرق أو الغرب‪.‬‬
‫‪ -3‬وجود القتصاد السلمي يؤدي إلى الوحدة السياسية بين‬
‫شعوب السلم‪ ،‬حيث إن القتصاد ينطلق من الشريعة‪ ،‬والشريعة‬
‫)( صناعة الحياة‪ ،‬ص ‪.47 ،46‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( السلم والتنمية القتصادية‪ ,‬جاك أوستري‪ ،‬ترجمة نبيل الطويل‪ ،‬ص ‪.1000‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪274‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫تنادي بوحدة المسلمين‪ ،‬لن وحدة القتصاد تؤدي إلى وحدة‬


‫السياسة‪ ،‬وهذا ما تسعى إليه دول غير إسلمية مثل دول السوق‬
‫الوروبية المشتركة‪.‬‬
‫‪ -4‬تحقيق القوة القتصادية والسياسية يؤدي إلى عودة‬
‫السلم إلى أيامه الزاهرة ويؤدي بالتالي إلى سيطرة السلم‬
‫على مسرح السياسة والقتصاد في العالم‪ ،‬وتصبح المة السلمية‬
‫خير أمة وأقوى قوة فكرية وحضارية ومادية في العالم‪.‬‬
‫‪ -5‬إذا بنى الفكر وبخاصة الفكر القتصادي السلمي على‬
‫أساس سليم من العقيدة والسس التي وضحناها فإن الطريق‬
‫إلى الكتشافات والمخترعات الحديثة سيكون مفتوحا‪ ،‬وستوظف‬
‫المفاهيم إلى واقع حي عملي في معترك الحياة‪ ،‬وبذلك نبعد‬
‫جميع الفكار الدخيلة على المة السلمية من رأسمالية‬
‫واشتراكية‪.‬‬
‫إن العقيدة السلمية ما جاءت إل لهداية البشر إلى ما فيه‬
‫السعادة في الدارين)‪ ،(1‬والتي من ضمنها الجانب المادي‬
‫القتصادي‪.‬‬
‫ولقد اهتم السلم بالموارد المالية وبين طرق الكسب‬
‫المشروع‪ ،‬كالبيوع والميراث والوصايا والهبات وغيرها‪ ،‬ووضح‬
‫طرق الكسب غير المشروع‪ ،‬كالربا والغرر‪ ،‬والغش والحتكار‬
‫وغيرها‪ ,‬وكانت موارد الدولة السلمية في زمن النبي × والخلفاء‬
‫من بعده من الزكاة‪ ,‬والغنائم والفيء‪ ،‬والخراج والتجارة‪.‬‬
‫إن الحركات السلمية التي تسعى لتقوية جوانبها القتصادية‬
‫والمالية وتوظيفها في دعوة الله تعالى قد أخذت بسبب مهم من‬
‫أسباب التمكين المادي‪.‬‬
‫إن من القواعد المهمة في القتصاد السلمي‪ :‬العمل على‬
‫تحقيق الكتفاء‬
‫الذاتي للمة‪.‬‬
‫بمعنى أنها يجب أن يكون لديها من الخبرات والوسائل والدوات‬
‫ما يجعلها قادرة على أن تنتج ما يفي بحاجاتها المادية والمعنوية‪،‬‬
‫ويسد ثغراتها المدنية والعسكرية‪ ،‬عن طريق ما يسميه الفقهاء‬
‫فروض الكفاية‪ ،‬وهي تشمل كل علم أو عمل أو صناعة أو مهارة‬
‫يقوم بها أمر الناس في دينهم أو دنياهم‪ ،‬فالواجب عليهم حينئذ‬
‫تعلمهما وتعليمها وإتقانها حتى ل يكون المسلمون عالة على غيرهم‪،‬‬
‫ول يتحكم فيهم سواهم من المم الخرى‪.‬‬
‫وبغير هذا الستغناء والكتفاء‪ ،‬لن يتحقق لهم العزة التي كتب‬
‫)( انظر‪ :‬النظام القتصادي في السلم‪ ,‬محمود الخطيب‪ ،‬ص ‪.75 ،74‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪275‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ن"‬‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬‫ول ِل ْ ُ‬‫ه َ‬‫سول ِ ِ‬ ‫ول َِر ُ‬ ‫عّزةُ َ‬ ‫ه ال ْ ِ‬


‫ولل ِ‬ ‫الله لهم في كتابه‪َ + :‬‬
‫]المنافقون‪.[8 :‬‬
‫وبغيره لن يتحقق لهم الستقلل والسيادة الحقيقية‪ ,‬وهو ما‬
‫ن‬
‫مِني َ‬
‫ؤ ِ‬‫م ْ‬ ‫عَلى ال ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬ ‫كا ِ‬ ‫ه ل ِل ْ َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ع َ‬ ‫وَلن ي َ ْ‬
‫ج َ‬ ‫ذكره القرآن‪َ + :‬‬
‫سِبيل ً" ]النساء‪.[141 :‬‬‫َ‬
‫على المم‪ ،‬وهو‬ ‫والشهادةك ُم أ ُ‬ ‫ولن يتحقق لهم مكان الستاذية‬
‫س ً‬
‫طا‬ ‫و َ‬ ‫َ‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫م‬
‫ْ ّ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫ج‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫وك َذَل ِ‬
‫المذكور في قوله سبحانه‪َ + :‬‬
‫م‬‫ْ ْ‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫سو‬ ‫ّ ُ‬‫ر‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫عَلى الّنا ِ َ َ‬
‫ي‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫داءَ َ‬
‫ه َ‬
‫ش َ‬‫كوُنوا ُ‬ ‫ل ّت َ ُ‬
‫دا"‬
‫هي ً‬
‫ش ِ‬ ‫َ‬
‫]البقرة‪.[143 :‬‬
‫فل عزة لمة يكون سلحها من صنع غيرها‪ ،‬يبيعها منه ما‬
‫يشاء‪ ،‬متى شاء‪ ،‬بالشروط التي يشاء ويكف يده عنها أنى شاء‬
‫وكيف شاء‪.‬‬
‫ول سيادة حقيقية لمة تعتمد على خبراء أجانب عنها في أخص‬
‫أمورها‪ ،‬وأدق شئونها‪ ،‬وأخطر أسرارها‪.‬‬
‫ول استقلل لمة ل تملك زراعة قوتها في أرضها‪ ،‬ول تجد‬
‫الدواء لمرضاها‪ ،‬ول تقدر على النهوض بصناعة ثقيلة‪ ،‬إل باستيراد‬
‫اللة والخبرة من غيرها‪.‬‬
‫ول أستاذية لمة ل تستطيع أن تبلغ دعوتها عن طريق الكلمة‬
‫المقروءة أو المسموعة أو المصورة المرئية إل بشرائها من أهلها‬
‫القادرين عليها‪ ،‬مادامت ل تصنع مطبعة‪ ,‬ولبد لتجار المسلمين‬
‫ورجال الموال وأهل التخصص في القتصاد من حركات إسلمية‬
‫وعموم المة أن يسلكوا سبيل الكتفاء والتحرر من التبعية الغربية‬
‫أو الشرقية‪.‬‬
‫ومن المور التي تعين على الكتفاء‪:‬‬
‫‪ -1‬ضرورة التخطيط‪:‬‬
‫لبد من التخطيط القائم على الحصاء الدقيق‪ ،‬والرقام‬
‫الحقيقية‪ ،‬والمعرفة اللزمة بالحاجات المطلوبة ومراتبها ومدى‬
‫أهميتها‪ ،‬والمكانات الموجودة‪ ،‬ومدى القدرة على تنميتها‬
‫والوسائل الميسورة لتلبية الحاجات والتطلع إلى الطموحات‪.‬‬
‫‪ -2‬تهيئة الطاقات البشرية وحسن توزيعها‪:‬‬
‫ويكون ذلك بتطوير النظام التعليمي والتدريبي‪ ،‬بحيث يهيئ لها‬
‫الطاقات والكفايات البشرية المتنوعة في كل مجال تحتاج إليه‪،‬‬
‫وأن تطور نظامها الداري والمالي بحيث تنمي هذه الطاقات‪،‬‬

‫‪276‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وتحسن تجنيدها‪ ،‬وتوزيعها على شتى الختصاصات بالعدل‪ ،‬اهتداء‬


‫ول َ ن َ َ‬
‫فَر‬ ‫فل َ ْ‬‫ة َ‬‫ف ً‬ ‫فُروا َ‬
‫كا ّ‬ ‫ن ل َِين ِ‬‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬‫بقوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ذُروا‬ ‫ول ُِين ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫هوا‬ ‫ُ‬ ‫ق‬‫ّ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ة‬
‫ٌ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫طا‬‫َ‬ ‫م‬‫ة ّ ُ ْ‬
‫ه‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ق ٍ‬ ‫فْر َ‬ ‫ل ِ‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫ِ‬
‫ن" ]التوبة‪ ,[122 :‬وملء‬ ‫َ‬ ‫رو‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِ ْ ِ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫عوا‬ ‫ج‬
‫َ َ ُ‬ ‫ر‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ْ َ ُ ْ ِ‬‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬‫َ‬
‫الثغرات التي تهمل ‪ -‬عادة أو غفلة ‪ -‬بالحوافز أو باللتزام‪.‬‬
‫ووضع كل إنسان في المكان المناسب له‪ ،‬والحذر من إسناد‬
‫المر لغير أهله »إذا وسد المر إلى غير أهله فانتظر‬
‫الساعة«)‪ ،(1‬ومن ثم كان حرص السلم على الثروة البشرية‬
‫والمحافظة عليها والعمل على تنميتها‪ :‬جسميا وعقليا وروحيا‬
‫وعلميا ومهنيا‪.‬‬
‫‪ -3‬حسن استغلل الموارد المتاحة‪:‬‬
‫بحيث ل نهدر شيئا منها ونحافظ عليها باعتبارها أمانة يجب أن‬
‫ُترعى‪ ،‬ونعمة يجب أن ُيشكر الله تعالى باستخدامها أحسن‬
‫استخدام‪ ،‬وأمثله‪.‬‬
‫ويحسن بنا هنا إلى أن نشير إلى قوله تعالى في الوصية بمال‬
‫َ‬
‫حّتى‬ ‫ن َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬‫يأ ْ‬ ‫ه َ‬‫ل ال ْي َِتيم ِ إ ِل ّ ِبال ِّتي ِ‬ ‫ما َ‬ ‫قَرُبوا َ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬ ‫اليتيم‪َ + َ :‬‬
‫شدّهُ" ]السراء‪.[34 :‬‬ ‫غأ ُ‬ ‫ي َب ْل ُ َ‬
‫وقد تكرر ذلك في القرآن الكريم بهذه الصيغة نفسها‪ ،‬فلم‬
‫يكتف القرآن منا أن نقرب مال اليتيم بطريقة حسنة وحسب‪ ،‬بل‬
‫بالتي هي أحسن‪ ،‬فإذا كانت هناك طريقتان لتنمية مال اليتيم‬
‫والمحافظة عليه‪ ،‬إحداهما حسنة جيدة والخرى أحسن منها‬
‫وأجود‪ ،‬كان الواجب علينا أن نستخدم التي هي أحسن وأجود‪ ،‬بل‬
‫حرام علينا أل نستخدم إل التي هي أحسن‪ ،‬كما هو مفهوم التعبير‬
‫بالنهي وأسلوب القصر‪.‬‬
‫ومال المة في مجموعه أشبه بمال اليتيم‪ ،‬والمؤسسات التي‬
‫ترعاه أشبه بولي اليتيم ولهذا يجب أن نحافظ عليه وننميه بالتي‬
‫هي أحسن‪.‬‬
‫‪ -4‬التنسيق بين فروع النتاج‪:‬‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬إذا تبايعتم بالعينة )‪ ، (2‬ورضيتم‬
‫بالزرع‪ ،‬وتبعتم أذناب البقر‪ ،‬وتركتم الجهاد في سبيل‬
‫الله سلط الله عليكم ذل ّ ل ينزعه عنكم حتى تراجعوا‬
‫دينكم« )‪ ،(3‬ففي هذا الحديث إشارة إلى أن الكتفاء بالزراعة‬
‫وحدها‪ ،‬وما يتبعها من الخلد إلى الحياة الخاصة المعبر عنها باتباع‬

‫)( البخاري في صحيحه‪ ،‬وفي مشكاة المصابيح رقم )‪.(5439‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( العينة‪ :‬أن يبيع السلعة بثمن معلوم لجل ثم يشتريها منه في الحال بأقل‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( صحيح الجامع الصغير‪ ،‬ص ‪.433‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪277‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أذناب البقر‪ ،‬وترك الجهاد في سبيل الله وما يتطلبه من إعداد‬


‫القوة‪ ،‬يعرض المة لخطر الذل والستعمار‪ ،‬وهذا بالضرورة يحتاج‬
‫إلى نوع من الصناعات لبد أن يتوافر في المة‪ ،‬إذ ما ل يتم‬
‫الواجب إل به فهو واجب‪.‬‬
‫ولقد أنزل في كتابه سورة الحديد تنبيها منه على أهمية هذا‬
‫ْ‬ ‫المعدن الخطير‪ ،‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫د‬
‫ش ِ ٌ‬
‫دي‬ ‫س َ‬ ‫ه ب َأ ٌ‬ ‫في ْ ِ‬‫ديدَ ِ‬ ‫وأن َْزل َْنا ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫ديدٌ"‬ ‫ش ِ‬‫س َ‬ ‫ه ب َأ ٌ‬ ‫في ِ‬‫س" ]الحديد‪ .[25 :‬ففي قوله‪ِ + :‬‬ ‫ع ِللّنا ِ‬
‫ف ُ‬‫مَنا ِ‬
‫و َ‬
‫َ‬
‫س"‬‫ِ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫لل‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫ُ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫و‬‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫وفي‬ ‫الحربية‪،‬‬ ‫الصناعات‬ ‫إلى‬ ‫إشارة‬
‫إشارة إلى الصناعات المدنية وبهذا تكتمل قوة المة في سلمها‬
‫وحربها‪.‬‬
‫‪ -5‬تشغيل الثروة النقدية‪:‬‬
‫بحيث تخرج النقود من قمقم »الكنز« إلى ساحة الحركة‪ ،‬والعمل‪،‬‬
‫فإن النقود لم تخلق لتحب س وتكتنز‪ ،‬إنما خلقت لتتداول وتنتقل من يد‬
‫ينتفع بها‪ ،‬أو رأ س مال لشركة أو‬ ‫إلى يد؛ ثمنا لبيع أو أجرا لعمل‪ ،‬أو ناعي ً‬
‫مضاربة‪ ،‬فهي وسيلة لغراض شتى‪ ،‬وليست غرضا في ذاتها‪.‬‬
‫هذه بعض الخطوط العريضة للوصول إلى الكتفاء الذاتي‬
‫وتحرير المة من العبودية القتصادية لغيرها‪ ،‬والقتراب بها نحو‬
‫تمكين دينها‪ ،‬كما ننبه على أهمية توزيع الزكاة ورعاية أموال‬
‫الوقاف ووضعها في محلها الصحيح فيه من الثروات الهائلة‪ ,‬فلبد‬
‫من تحرير الوقاف فإنها تصل إلى المليين في البلدان السلمية‬
‫ولم تستثمر كما ينبغي من أجل تقوية دعوة الله والتمكين في‬
‫الرض‪.‬‬
‫رابًعا‪ :‬العداد العلمي‪:‬‬
‫للعلم أهميته الخطيرة في العصر الحديث‪ ،‬وقد نال اهتماما‬
‫بالغا من كل الدول حتى أنشئت له كليات خاصة وهي »كليات‬
‫العلم«‪ ,‬وأنشئت له وزارات خاصة وهي »وزارات العلم« التي‬
‫تشرف على مختلف وسائل ونواحي العلم في الدولة‪ ,‬ويعين‬
‫وزير لها من أكفأ الوزراء وأشدهم ولء لنظام الحكم القائم في‬
‫الدولة‪ ،‬وذلك لخطره الكبير وأهميته في هذا العصر الذي انتشرت‬
‫فيه وتقدمت العلوم الحديثة والمخترعات المتعددة والنظريات‬
‫المختلفة‪ ،‬فللعلم تأثيره على الفرد والسرة والمجتمع والدولة‬
‫والمجتمع الدولي كله‪.‬‬
‫وتتضح أهمية العلم في التي‪:‬‬
‫تزويد الناس بالمعلومات والحقائق وغيرها من ضروب‬ ‫‪-1‬‬
‫المعرفة وآخر الحداث والخبار‪ ،‬لتشبع رغبتهم الملحة للمعرفة‪،‬‬
‫وموا المور التي حولهم في المجتمع تقويما عادل ويفهموا طبيعة‬ ‫ويق ّ‬
‫البيئة التي يعيشون فيها ويتمكنوا من التكيف معها والتجاوب مع‬

‫‪278‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫أفرادها‪.‬‬
‫‪ -2‬نشر الوعي والحقائق الثابتة وتثقيف العقول وتنوير‬
‫الذهان‪ ،‬ومحاربة الخرافات والساطير والبدع الضارة حتى يتغير‬
‫أسلوب الحياة وتتغير الفكار إلى الفضل والحسن وذلك بعرض‬
‫الجوانب اليجابية من الحياة عرضا إعلميا مناسبا وعرض‬
‫المعلومات والفكار الحديثة والعصرية التي تؤدي لنهضة المة‬
‫وزيادة وعيها وثقافتها‪.‬‬
‫‪ -3‬دفع عجلة التنمية القتصادية والجتماعية والسياسية‬
‫وإحداث التغيير فيها للفضل‪ ،‬وذلك بتخطيط إعلمي سليم يتم به‬
‫نقل التقنية الحديثة إلى أقصى مدى من البث والدعاية‪ ,‬ويلزم‬
‫هذا العلم ويواكب خطوات التقدم القتصادي والجتماعي‬
‫والسياسي وشرح حقائقه وأهدافه‪.‬‬
‫‪ -4‬المحافظة على شخصية المجتمع بكل معتقداته وآدابه‬
‫وتراثه وتاريخه‪ ,‬وتعميق كل هذا بوسائل العلم المختلفة حتى‬
‫يظل المجتمع متماسكا بشخصيته المعروفة باستمرار‪.‬‬
‫‪ -5‬تحقيق الترابط التام بين الحاكم والمحكوم بحيث تنسجم‬
‫وتتوافق القاعدة العريضة من المجتمع مع القمة مما يدفع‬
‫المجتمع إلى التقدم السريع والعمل البناء‪.‬‬
‫‪ -6‬قلب الحكومات وإيجاد الضطرابات‪ :‬فقد يقوم العلم‬
‫بذلك نتيجة للصراع الفكري أو الصراع الجتماعي أو الصراع‬
‫السياسي‪ ,‬فتذاع أخبار وحقائق تثير الناس مما يخلق الفوضى في‬
‫المجتمع‪ ,‬ويكون من نتيجة ذلك تغيير الوزارات أو قلب الحكومات‬
‫أو تقرير مصائر الدول أو إيجاد الحقد والكراهية نحو طبقة معينة‬
‫أو مجتمع معين)‪ (1‬إلى غير ذلك من المور‪.‬‬
‫ولقد أرشد القرآن الكريم المة إلى الخذ بأسلوب العلم في‬
‫دعوة الخلق ونهج نهجا متميزا في إيصال الحقائق إلى الناس؛ فمثل‬
‫نرى القرآن الكريم جعل الحداث مدخل إلى قلوب الناس وعقولهم‬
‫لرشادهم وتوجيههم لما فيه السعادة والفلح في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫فنجده ينزل في كثير من الحيان إثر حادثة أو سؤال مراعيا‬
‫في ذلك الوقت المناسب وما نزل منه ابتداء فأسبابه قائمة في‬
‫الواقع وإن لم يكن لحادثة معينة‪.‬‬
‫وقد سأل اليهود الرسول × عن هذه الظاهرة الغريبة‪ ،‬التي ما‬
‫عهدوها من قبل في الكتب السماوية السابقة والتي كانت تنزل‬
‫جملة واحدة‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة السلمية والعلم عند المودودي لفاروق الصاوي‪ ،‬ص ‪،20‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪.21‬‬

‫‪279‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‪) :‬قالت اليهود‪ :‬يا أبا‬
‫القاسم لول أنزل هذا القرآن جملة واحدة كما أنزلت التوراة على‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫)‪(2‬‬
‫موسى‪ ،‬فنزل قوله تعالى ردا على سؤالهم ‪َ + :‬‬
‫ك ل ِن ُث َب ّ َ‬
‫ت‬ ‫حدَةً ك َذَل ِ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ة َ‬‫مل َ ً‬
‫ج ْْ‬
‫ن ُ‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫قْرآ ُ‬ ‫عل َي ْ ِ‬
‫ل َ‬ ‫ول َ ن ُّز َ‬ ‫فُروا ل َ ْ‬‫كَ َ‬
‫جئ َْناكَ‬ ‫ّ‬
‫ل إ ِل ِ‬ ‫َ‬
‫مث ٍ‬ ‫َ‬
‫ول ي َأُتون َك ب ِ َ‬‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬
‫وَرت ّلَناهُ ت َْرِتيل ‪َ ‬‬ ‫ك َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫به فؤاد‬
‫سيًرا" ]الفرقان‪.[33 ،32 :‬‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫ِبا ِل ْحق َ َ‬
‫ف ِ‬ ‫س َ‬‫ح َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ِ َ ّ َ‬
‫إن نزول القرآن الكريم منجما حسب الحداث والوقائع كان له‬
‫أهداف إعلمية عظيمة ل يمكن تحقيقها في مدة قصيرة من‬
‫الزمن إل بهذا السلوب المعجز‪.‬‬
‫ومن أهم هذه الهداف العلمية‪:‬‬
‫‪ -1‬مساعدة الرسول × على حل المشاكل الجتماعية‬
‫المتجددة‪ ،‬فمن ذلك أن عبد الله بن رواحة تزوج من أمة له‬
‫سوداء بعد أن أعتقها إثر ضربه لها وهي أمة مؤمنة‪ ,‬فطعن عليه‬
‫ناس من المسلمين فقالوا‪ :‬تزوج أمة وكانوا يريدون أن ينكحوا‬
‫إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم‪ ,‬فنزل قوله تعالى‪:‬‬
‫َ‬
‫خي ٌْر‬‫ة َ‬ ‫من َ ٌ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ّ‬ ‫م ٌ‬ ‫ول َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ّ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫حّتى ي ُ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫كا ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬
‫َ‬ ‫حوا ال ْ ُ‬ ‫ول َ ت َن ْك ِ ُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ح ُّتى‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫كي‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫ْ‬
‫َ ُ َ ِ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫حوا‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫و‬‫ْ َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ج‬‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫و‬‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫ّ‬
‫ك‬ ‫م أول َئ ِ َ‬ ‫جب َك ُ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ول ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ر ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ش‬‫م ْ‬ ‫من ّ‬ ‫خي ٌْر ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ٌ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عب ْدٌ ّ‬ ‫ول َ َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫يُ ْ‬
‫ة ب ِإ ِذْن ِ ِ‬
‫ه‬ ‫فَر ِ‬ ‫غ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫ة َ‬ ‫جن ّ ِ‬ ‫عو إ َِلى ال ْ َ‬ ‫ه ي َدْ ُ‬ ‫والل ُ‬ ‫ر َ‬ ‫ن إ َِلى الّنا ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ي َدْ ُ‬
‫ن" ]البقرة‪.[221 :‬‬ ‫م ي َت َذَكُرو َ‬‫ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫عل ُ‬ ‫ّ‬ ‫سل َ‬ ‫َ‬ ‫نا‬‫ّ‬ ‫لل‬
‫ِ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫يا‬ ‫َ‬ ‫آ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫وي ُب َ‬‫َ‬
‫ِ‬
‫فكان العرف السائد في الجاهلية وحتى ظهور السلم أن‬
‫التفاضل بين الناس بالنساب والحساب فقط‪ ،‬وكان هذا الحدث‬
‫وما حصل فيه من استغراب وقيل وقال قد أتاح الفرصة لعلم‬
‫الناس بمقياس السلم الحقيقي في التفاضل بين الناس؛ وهو‬
‫تقوى الله عز وجل واليمان به وبرسوله ×‪ .‬وهذا المقياس فيه‬
‫رفع من شأن المؤمن وإعلم بشرفه على الكافر‪ ،‬ولو كان هذا‬
‫المؤمن عبدا أو أمة‪ ،‬وكما ل يخفى فإن فيه تصغيرا لشأن الكافر‬
‫وإعلما بتفاهته ولو كان أشرف الناس في حسبه ونسبه‪ .‬ونزول‬
‫هذه اليات عقب هذا الحدث الذي هيأ النفوس وأثار انتباهها إعلم‬
‫لكل الطرفين بذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬مساعدة الرسول × في الجابة الموجهة إليه من قبل‬
‫المؤمنين أو الكافرين؛ عندما بعث المشركون إلى اليهود بالمدينة‬
‫يسألونهم عن أمره فقالت اليهود عنه أشياء ثلثة‪ ،‬فإن لم يجب‬
‫عنها أو أجاب عنها جميعا فهو ليس بنبي‪ ,‬وإن أجاب عن اثنين ولم‬
‫يجب عن الثالث فهو نبي وهذه المور الثلثة هي‪:‬‬
‫* فتية فقدوا في الزمن الول ما كان من أمرهم؟‬
‫)( التقان في علوم القرآن للسيوطي )‪(1/42‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪280‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫* رجل بلغ شرق الرض وغربها‪ ..‬ما خبره؟‬


‫* وعن الروح؟‬
‫فسأله القرشيون عن هذه الشياء فوعدهم بالجابة عليها في‬
‫اليوم التالي ولم يقل إن شاء الله »قال مجاهد‪ :‬إن الوحي تأخر عنه‬
‫اثنتي عشرة ليلة«) ‪ (1,‬وقيل غير ذلك حتى كثر القيل والقال بين‬
‫محمدا غدًا وقد أصبحنا ل يخبرنا‬ ‫ً‬ ‫الناس‪ ،‬وقال قائل قريش‪ :‬وعدنا‬
‫بشيء‪ .‬واشتد الحزن على الرسول ×بسبب ذلك حتى إذا تهيأت‬
‫نفوس الناس وتوترت أعصابهم والتفتت أنظارهم لنتيجة هذا الحدث‬
‫العظيم الذي يعتبر من أهم الدلة والبراهين على صدق الرسول ×‬
‫وأنه مرسل من عند الله نزل الوحي من الله يقول بشأن الفتية‪:‬‬
‫‪+‬أ َم حسبت أ َ َ‬
‫ن آَيات َِنا‬ ‫م ْ‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫قيم ِ َ‬ ‫والّر ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ب ال ْك َ ْ‬‫حا َ‬ ‫ص َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْ َ ِ ْ َ‬
‫جًبا" ]الكهف‪.[9 :‬‬ ‫ع َ‬‫َ‬
‫عن ِذي‬ ‫ك َ‬ ‫سأُلون َ َ‬ ‫َ‬
‫وي َ ْ‬ ‫ونزل فيمن بلغ الشرق والغرب ‪َ +‬‬
‫ن" ]الكهف‪.[83 :‬‬ ‫قْرن َي ْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫ل الّرو ُ‬ ‫ق ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫ن الّرو ِ‬ ‫ع ِ‬ ‫ك َ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫َ ونزل في الروح ‪َ +‬‬
‫ر َرّبي" ]السراء‪.[85 :‬‬ ‫م ِ‬ ‫أ ْ‬
‫فأجاب عن اثنين من السئلة ولم يجب عن واحد‪ ،‬المر الذي جعل‬
‫القرشيين وغيرهم يوقنون بصدق دعوى الرسول ×بأنه مرسل وأنه‬
‫صادق أمين كما عهدوه‪ .‬وهكذا كان القرآن الكريم يجيب عن كل‬
‫سؤال يوجه إلى الرسول ×سواء كان هذا السؤال من المؤمنين أو‬
‫الكافرين‪ ،‬أو كان لغرض التثبت والتأكد أو للسترشاد والمعرفة)‪.(2‬‬
‫ولقد تعددت الغراض العلمية من نزول القرآن منجما‬
‫فبالضافة إلى ما ذكرنا ثمت أغراض أخرى منها‪ :‬رفع معنوية‬
‫الرسول × من وقت لخر بتبشيره بالنصر على العداء وحمايته‪،‬‬
‫وفضح أعداء هذا الدين من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب‪,‬‬
‫تنبيه الرسول × وأصحابه من وقت لخر على أخطائهم‪ ,‬من ذلك‬
‫ما وقع للرسول × مع أسرى المشركين يوم بدر)‪.(3‬‬
‫ولقد أرشد القرآن الكريم إلى الدستور العلمي في القرآن‬
‫في قوله تعالى‪:‬‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ر ‪ ‬إ ِل ّ ال ّ ِ‬ ‫س ٍ‬ ‫خ ْ‬ ‫في ُ‬ ‫ن لَ ِ‬ ‫سا َ‬ ‫ن ال ِن ْ َ‬ ‫ر ‪ ‬إِ ّ‬ ‫ص ِ‬ ‫وال ْ َ‬
‫ع ْ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ر"‬ ‫صب ْ ِ‬
‫وا ِبال ّ‬ ‫ص ْ‬ ‫وا َ‬‫وت َ َ‬ ‫ق َ‬‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫وا ِبال َ‬ ‫ص ْ‬ ‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬‫ت َ‬ ‫حا ِ‬‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫]العصر‪ [3 -1 :‬حيث استنبط متخصصو العلم من هذه السورة‬
‫)( تفسير البغوي بهامش الخازن )‪.(4/181‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬السلوب العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.18‬‬ ‫‪2‬‬

‫)(المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.21 – 18‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪281‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الدستور العلمي المكون من‪:‬‬


‫‪ -1‬العلم واليمان‪.‬‬
‫‪ -2‬العمل الصالح‪.‬‬
‫‪ -3‬تبليغ الرسالة‪.‬‬
‫واستنبطوا قواعد السلوب العلمي في القرآن من قوله‬
‫ة‬
‫سن َ ِ‬‫ح َ‬ ‫ة ال ْ َ‬ ‫عظَ ِ‬ ‫و ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وال ْ َ َ‬ ‫ة َ‬ ‫م ِ‬‫حك ْ َ‬ ‫ك ِبال ْ ِ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫سِبي َ ِ‬ ‫ع إ َِلى َ‬ ‫تعالى‪+ :‬ادْ ُ‬
‫ضلّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫عل ُ‬‫َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّك ُ‬ ‫ن إِ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫يأ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م ِبالِتي َ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫جاِدل ْ ُ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫قُبوا‬ ‫عا ِ‬ ‫ف َ‬‫م َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫عا‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫إ‬ ‫و‬
‫َ َ َ ِ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫دي‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ه‬ ‫م‬
‫ُ ِ ُ ْ‬‫ْ‬ ‫ل‬‫با‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫بي‬
‫َ ِ‬‫س‬ ‫عن‬ ‫َ‬
‫ن‪‬‬ ‫صاِبري َ‬ ‫خي ٌْر ّلل ّ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫مل ُ‬ ‫صب َْرت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ول َئ ِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م بِ ِ‬ ‫قب ْت ُ ْ‬ ‫عو ِ‬ ‫ما ُ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ ِ‬ ‫بِ ِ‬
‫في‬ ‫ُ‬
‫ول ت َك ِ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫حَز ْ‬
‫ّ‬
‫ول ت َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫صب ُْرك إ ِل ِبالل ِ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬ ‫صب ِْر َ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫هم‬ ‫ن‬ ‫ذي‬
‫ِ َ ّ ْ َ ِ َ ُ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫وا‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ع‬
‫َ َ َ‬‫م‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ِ ّ‬ ‫إ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫رو‬ ‫ُ‬
‫ضي ْ ٍ ّ ّ َ ْ ُ‬
‫ك‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫م‬ ‫ق‬ ‫َ‬
‫ن" ]النحل‪.[128 -125 :‬‬ ‫سُنو َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫فهذه اليات وضعت قواعد وأسس واضحة للسلوب العلمي‬
‫القولي منه والعملي التي لبد للمسلمين أن يلتزموا بها عند‬
‫قيامهم بتبليغ هذه الرسالة إلى الناس‪ ,‬إذا أرادوا تحقيق أهدافهم‬
‫وغايتهم)‪.(1‬‬
‫ومن أهم هذه القواعد‪:‬‬
‫‪ -1‬الحكمة‪:‬‬
‫هي حسن اختيار السلوب العلمي المناسب للمخاطبين‬
‫وتنويعه حسب الظروف والزمان والتدرج في إيصال الرسالة‬
‫العلمية حتى ل يشق على المخاطبين استيعابها‪.‬‬
‫‪ -2‬الموعظة الحسنة‪:‬‬
‫هي التوجيهات التي يقدمها صاحب الرسالة للناس عن طريق‬
‫الوامر والنواهي المقرونة بالترغيب والترهيب بقصد نصحهم‬
‫وإرشادهم معتمدا على إيقاظ شعورهم ومحاولة إثارة انفعالتهم‬
‫نحو ما يدعو له بعد اطمئنانهم له نفسيا واقترابهم منه)‪.(2‬‬
‫‪ -3‬الجدال بالتي هي أحسن‪:‬‬
‫فإن كان المدعو يرى أن ما هو عليه حق أو كان داعية إلى‬
‫باطل يجادل باللين واللطف بل تحامل عليه ول تقبيح له حتى‬
‫يطمئن إلى صاحب الرسالة ويشعر أن هدفه هو الوصول إلى‬
‫الحقيقة ل غير‪.‬‬
‫‪ -4‬الجهاد‪:‬‬

‫)( انظر‪ :‬السلوب العلمي في القرآن‪ ،‬ص ‪.33‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬مذكرات في الدعوة السلمية‪ ،‬عبد الغفار عزيز‪ ،‬ص ‪.5‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪282‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫ه"‬ ‫م بِ ِ‬ ‫قب ْت ُ ْ‬‫عو ِ‬‫ما ُ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ ِ‬ ‫قُبوا ب ِ ِ‬ ‫عا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫م َ‬ ‫قب ْت ُ ْ‬ ‫عا َ‬ ‫ن َ‬ ‫وإ ِ ْ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫]النحل‪ ,[126 :‬فلبد من الدفاع عن هذه العقيدة وعن حريتها وحرية‬
‫القائمين على تبليغها »لكي ل تهون في نفوس الناس‪ ,‬فالدعوة‬
‫المهينة ل يعتنقها أحد«)‪.(1‬‬
‫‪ -5‬القدوة الحسنة‪:‬‬
‫ن" ]النحل‪ ,[126 :‬فالعفو‬ ‫صاِبري َ‬ ‫خي ٌْر ّلل ّ‬ ‫و َ‬ ‫ه َ‬ ‫م لَ ُ‬ ‫صب َْرت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ول َئ ِ ْ‬
‫‪َ +‬‬
‫عند المقدرة في بعض الحيان يكون أعمق أثرا وأكثر فائدة من‬
‫النتقام والضرب بيد من حديد على يد الظالم يصبح حتميا‪ ،‬لن‬
‫فيه دفع الضرر وإعلما لمن خلفهم ولكل من سولت له نفسه‬
‫الضرار بهذه الدعوة وأهلها أن هذا هو المصير الذي ينتظره‪،‬‬
‫والجدير بالذكر أن هاتين القاعدتين )أعني)‪(2‬الجهاد والقدوة‬
‫الحسنة( تمثلن السلوب العلمي العملي في السلم‪ ..‬وبعد أن‬
‫أرشدنا القرآن الكريم إلى القواعد الساسية للسلوب العلمي‬
‫الناجح الذي تنتهجه في نشر هذه الدعوة الخالدة‪ ،‬أشار إشارة‬
‫واضحة إلى ما سيلقيه الرسول × والمسلمون من أساليب‬
‫إعلمية مضادة شيطانية للقضاء على هذه الرسالة والنيل منها‪,‬‬
‫فحثهم على الصبر في هذا الصراع العلمي المرير بين الحق‬
‫والباطل وأن العاقبة ستكون له وللمؤمنين‪ ,‬والخزي والفشل‬
‫ن‬
‫َ‬ ‫رو‬ ‫مك ُ ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬
‫م ّ‬ ‫ق ّ‬ ‫ضي ْ ٍ‬ ‫في َ‬ ‫ك ِ‬ ‫ول َ ت َ ُ‬ ‫لعداء هذا الدين قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]النحل‪،127:‬‬ ‫سُنو َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫وال ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ع ال ّ ِ‬ ‫م َ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫‪ ‬إِ ّ‬
‫‪.[128‬‬
‫ومن الملحظ أن القرآن الكريم قد انتهج هذا الدستور مع‬
‫الرسول ×‪ ,‬فأول ما نزل من القرآن الكريم هو إعلم الرسول ×‬
‫قرأ ْ‬
‫اليماني العريض« ‪ ,‬قال َتعالى‪+ :‬ا ْ ْ َ‬
‫)‪(3‬‬
‫بحقيقة »قاعدة التصور‬
‫قَرأ‬ ‫ق‪‬ا ْ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫سا‬‫ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫خ‬‫َ‬ ‫خل َ َ‬
‫ق‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫سم ِ َرب ّ َ‬ ‫ِبا ْ‬
‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫‪‬‬
‫ّ‬ ‫ْ‬
‫م‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫سا‬
‫ِْ َ َ َ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ل‬ ‫با‬
‫َ ِ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫‪‬‬ ‫م‬ ‫َ ُ‬‫ر‬ ‫ك‬ ‫ال‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫وَرب ّ‬‫َ‬
‫م" ]العلق‪.[5-1 :‬‬ ‫عل َ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫»فالله هو الذي خلق وهو الذي علم‪ ,‬فمنه البدء والنشأة‪ ,‬ومنه‬
‫التعليم والمعرفة‪ ..‬والنسان يتعلم ما يتعلم ويعلم ما يعلم‪..‬‬
‫فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق‬
‫والذي علم«)‪.(4‬‬
‫وكانت هذه هي البداية مع الرسول × فأول ما نزل عليه من‬
‫القرآن الكريم كان الهدف منه إعلم الرسول × بقاعدة التصور‬
‫اليماني واليمان بها‪ ،‬فلما علم هذه القاعدة وآمن بها أمره الله‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/2202‬‬ ‫‪1‬‬

‫)(‪ (3) ,‬انظر السلوب العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬محمد الطلبي‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪2‬‬
‫‪3‬‬
‫)( انظر‪ :‬السلوبـ العلميـ في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(6/3939‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪283‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تعالى »بالعبادات الفاضلة والقاصرة«)‪ (1‬عليه ×‪ ,‬ومن أهمها‬


‫َ‬
‫قم ِ‬‫ل‪ُ ‬‬ ‫م ُ‬ ‫مّز ّ‬ ‫ها ال ْ َ ُ‬‫قراءة القرآن وصلة الليل‪َ ,‬قال تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫عل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫زدْ َ‬ ‫و ِ‬ ‫قِليل ً ‪ ‬أ ْ‬ ‫ه َ‬‫من ْ ُ‬
‫ص ِ‬‫ق ْ‬ ‫و ان ُ‬ ‫هأ ِ‬‫ف ُ‬ ‫قِليل ً ‪ ‬ن ِ ْ‬
‫ص َ‬ ‫ل إ ِل ّ َ‬ ‫الل ّي ْ َ‬
‫تيل ً" ]المزمل‪.[4-1 :‬‬ ‫ن ت َْر ِ‬
‫قْرآ َ‬‫ل ال ْ ُ‬‫وَرت ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ولما علم الرسول × حقيقة قاعدة »التصور اليماني« وعمل‬
‫بمقتضاها‪ ،‬صار عنده استعداد ذاتي لتصدير هذه الرسالة إلى‬
‫الناس‪ ،‬فعندها أمره الله تعالى »بإعلن هذه الدعوة والصدع‬
‫قم َ َ‬ ‫َ‬
‫وَرب ّ َ‬ ‫مدّث ُّر ‪ْ ُ ‬‬ ‫ها ال ْ ُ‬
‫)‪(2‬‬
‫ك‬ ‫ذْر ‪َ ‬‬ ‫فأن ْ ِ‬ ‫بها« قال تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ر" ]المدثر‪.[3 - 1 :‬‬ ‫فك َب ّ ْ‬
‫َ‬
‫كما أن القرآن الكريم غني بالساليب العلمية سواء كانت‬
‫قولية أو عملية‪ ،‬فمن القولية مثل‪ :‬أسلوب الهدم والبناء‪ ،‬والتقابل‪،‬‬
‫التبشير بغد أفضل‪ ،‬الجدل‪ ،‬التهديد‪ ،‬تشويه الصورة‪ ،‬تحسين‬
‫الصورة‪ ،‬ومن الساليب العلمية العملية‪ ،‬القدوة الحسنة‪ ،‬العفو‬
‫عند المقدرة‪ ،‬الثبات على الحق)‪.(3‬‬
‫ولقد مارس الرسول × المنهج القرآني العلمي‪ ،‬وقام ببعض‬
‫العمال العظيمة التي حققت أهداًفا إعلمية وساهمت في انتشار‬
‫هذا الدين والتمكين له في قلوب العباد وفي البلد فمثل‪:‬‬
‫‪ -1‬الهجرة‪:‬‬
‫اضطهد المكيون الرسول × حتى وصل بهم المر إلى التفكير‬
‫فُروا‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫مك ُُر ب ِ َ‬ ‫وإ ِذْ ي َ ْ‬‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫التخلص منه‪ ,‬قال‬
‫ك أَ‬ ‫ك أَ‬ ‫في‬
‫ه‬‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ر‬‫ُ‬ ‫ك‬
‫َ ْ ُ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ي‬‫و‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫رو‬ ‫ُ‬
‫َ ْ ُ‬‫ك‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫جو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫و‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫تو‬ ‫ُ‬ ‫ل ِي ُث ْ ِ‬
‫ب‬
‫ن" ]النفال‪ ,[30 :‬فأمره الله تعالى بالهجرة‬ ‫ري‬
‫َ ِ ِ َ‬ ‫ك‬ ‫ما‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬‫ْ ُ‬ ‫ي‬‫خ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫والل‬ ‫َ‬
‫ه إِ ْ‬
‫ذ‬ ‫صَرهُ الل ُ‬ ‫قد ْ ن َ َ‬ ‫ف َ‬ ‫صُروهُ َ‬ ‫َإلى المدينة قال تعالى‪+ :‬إ ِل ّ َتن ُ‬
‫ر إِ ْ‬
‫ذ‬ ‫غا ِ‬‫في ال ْ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن إ ِذْ ُ‬ ‫ي اث ْن َي ْ ِ‬ ‫فُروا َثان ِ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫خَر َ‬ ‫أ ْ‬
‫عَنا" ]التوبة‪.[40 :‬‬ ‫م‬
‫َ َ َ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫ْ َ ْ ِ ّ‬‫ن‬ ‫ز‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ح‬‫ِ‬ ‫صا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫يَ‬
‫فخرج الرسول × ومعه أبو بكر الصديق متوجها إلى المدينة‬
‫تنفيذا لمر الله تعالى له‪ ,‬ولم يكن خروج الرسول × من مكة إلى‬
‫المدينة خوفا ول هربا من المشركين »بل تعليم للمة ضرورة أخذ‬
‫الحيطة في الزمات وليقف على تحركات قريش ويعلم مقاصدهم‬
‫ولينكشف ما اعتزموا عليه«)‪.(4‬‬
‫وكان هذا العمل من الرسول ×من أبلغ الساليب العلمية في‬
‫السلم وكانت له آثار إعلمية في داخل مكة وخارجها‪ ،‬فأهل مكة‬
‫شعروا بأن هؤلء لم يتركوا أهلهم ووطنهم وأموالهم إل من أجل قوة‬

‫)(‪ (2) ,‬تفسير السعدي‪.(7/508) ،‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪2‬‬
‫)( تفسير السعدي ) ‪.(7/508‬‬

‫)( انظر‪ :‬السلوب العلمي في القرآن‪ ،‬ص ‪.60 :36‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( تفسير السعدي )‪.(2/236‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪284‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫إيمانهم بصدق ما هم عليه من حق‪ .‬كما أن هذه الهجرة »أوجدت‬


‫في مكة‪ ,‬ولفت هذا الفراغ المكيين للتغييرات التي حدثت‬ ‫كبيرً‬
‫فراغا ا‬
‫ً‬
‫في مجتمعهم ومن أهمها‪ ..‬ظهور هذا الدين)‪(1‬ولم تقتصر آثار الهجرة‬
‫على مكة وحدها »فإن وجود عناصر مكية في المدينة لفت انتباه‬
‫جميع من فيها وفي ذلك إعلن كبير‪ ..‬عن هذا الدين«)‪.(2‬‬
‫ومن هنا كانت الهجرة أسلوبًا إعلميّا فريدًا قل أن يكون له‬
‫مثيل في التاريخ)‪.(3‬‬
‫‪ -2‬بناء المسجد‪:‬‬
‫عَلى‬ ‫ُ‬ ‫في َ‬
‫س َ‬ ‫س َ‬ ‫جد ٌ أ ّ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫دا ل ّ َ‬ ‫ه َأب َ ً‬
‫مَ ِ ِ‬ ‫ق ْ‬‫قال تعالى‪+ :‬ل َ ت َ ُ‬
‫َ‬
‫جالٌ‬‫ر َ‬‫ه ِ‬ ‫في ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫في ِ‬‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫ق أن ت َقو َ‬ ‫ح ّ‬‫وم ٍ أ َ‬ ‫ل يَ ْ‬ ‫و ِ‬ ‫نأ ّ‬‫م ْ‬‫وى َ ِ‬ ‫الت ّ ْ‬
‫ق َ‬
‫ن" ]التوبة‪.[108 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫مط ّ‬ ‫ْ‬
‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬‫والل ُ‬
‫هُروا َ‬ ‫َ‬
‫ن أن ي َت َط ّ‬ ‫حّبو َ‬ ‫يّ ِ‬
‫سواء كانت هذه الية نزلت في قباء أو المسجد النبوي‬
‫الشريف فإن الملحظ أن أول عمل قام به الرسول × عند‬
‫قدومه إلى المدينة هو بناء مسجد‪ ,‬ولم يكن الهدف الوحيد من‬
‫هذا المسجد هو الصلة‪ ،‬بل كان مركزًا إسلمًيا عاما يجتمع فيه‬
‫المسلمون من جميع القبائل ليتعلموا فيه أمور دينهم)‪ .(4‬ويقول‬
‫الدكتور إبراهيم إمام‪» :‬أراد النبي × فيما يبدو أن يبني مكانا ل‬
‫ينتمي إلى هذه القبيلة أو تلك‪ ,‬ول يجتمع فيه أفراد من أسرة‬
‫خاصة بل أن يشيد مكانا للجميع وهو بيت الله«)‪.(5‬‬
‫وفي هذا إعلم لجميع المسلمين الموجودين في المدينة‬
‫وغيرها أن هذا الدين دين الله وأنه يقضي على العصبيات مهما‬
‫مقياس التفاضل فيه إنما هو‬ ‫كانت وعلى أي أساس وجدت‪ ،‬وأن‬
‫ه‬ ‫الل‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬
‫ِ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َبتقوى الله عز وجل‪ ,‬قال تعالى‪ّ ِ + :‬‬
‫إ‬
‫م" ]الحجرات‪ ,[13 :‬فلو أقام المسجد في بيت من بيوت‬ ‫قاك ُ ْ‬ ‫أت ْ َ‬
‫إحدى القبيلتين الموجودتين في المدينة لوجدت القبيلة الخرى‬
‫تفضيل لها‪ ,‬فكان هذا العمل من‬ ‫ً‬ ‫في نفسها شيئا من ذلك واعتبرته‬
‫الرسول × فيه من الحكمة ما ل يخفى‪.‬‬
‫والحقيقة أنه ما من مكان في الرض يستطيع تحقيق ما‬
‫يحققه المسجد من توحيد في الكلمة والجهود والقضاء على‬
‫العصبيات إذا وجد من يحسن الستفادة منه من الناحية‬
‫العلمية)‪.(6‬‬
‫‪ -3‬بيعة الرضوان‪:‬‬
‫العلم في صدر السلم‪ ,‬عبد اللطيف حمزة‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬السلوب العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫العلم والسلم‪ ,‬إبراهيم إمام‪ ،‬ص ‪.73‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫انظر‪ :‬السلوب العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪285‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫عون َ َ‬
‫ك‬ ‫ن إ ِذْ ي َُباي ِ ُ‬‫مِني َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ي الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫قدْ َر ِ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ل َ َ‬
‫ة‬
‫كين َ َ‬ ‫س ِ‬
‫ل ال ّ‬ ‫م فأن َْز َ‬ ‫َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ة َ‬ ‫ت ال ّ‬
‫في قلوب ِ ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫م َ‬ ‫عل ِ َ‬ ‫ف َ‬ ‫جَر ِ‬ ‫شَ َ‬ ‫ح َ‬
‫َ‬
‫تَ ْ‬
‫ريًبا" ]الفتح‪.[18 :‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫حا‬
‫ً‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫م‬
‫ُ ْ‬‫ه‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ثا‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫ع ِ ْ َ‬
‫م‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫خرج رسول الله × مع بعض أصحابه وكانوا نحوا من ألف‬
‫وخمسمائة من المدينة قاصدين بيت الله الحرام للزيارة‪ ,‬وكان‬
‫هذا بعد غزوة الحزاب بعام »فلما اقتربوا من مكة وجدوا قريشا‬
‫تستعد لقتالهم‪ ،‬فبعث إليهم الرسول × عثمان بن عفان يقترح‬
‫عليهم عقد صلح بين الفريقين وسرت شائعة بأن عثمان قد‬
‫قتل«)‪.(1‬‬
‫فلجأ الرسول × إلى أسلوب إعلمي يشعر القرشيين بقوة‬
‫المسلمين وأنهم على استعداد لقتالهم والنتصار عليهم فجمع‬
‫أصحابه ودعاهم إلى المبايعة »فبايعوه تحت شجرة على قتال‬
‫المشركين وأن ل يفروا حتى يموتوا« فلما علمت قريش بهذه‬
‫البيعة وأن المسلمين عازمون على الدخول في الحرب معهم‬
‫دخل الرعب في قلوبهم‪ ,‬واضطروا في الدخول في المفاوضات‬
‫السلمية التي كانت الهدف الساسي للرسول × من استخدام‬
‫هذا السلوب‪ .‬وكانت قريش ترفض هذه المفاوضات فعقد معهم‬
‫»هدنة الحديبية« التي اعتبرها الله ‪-‬تعالى‪ -‬فتحا للمؤمنين وامتن‬
‫مِبيًنا" ]الفتح‪.[1 :‬‬ ‫حا ّ‬ ‫فت ْ ً‬‫ك َ‬ ‫حَنا ل َ َ‬ ‫فت َ ْ‬ ‫بها على رسوله × بقوله‪+ :‬إ ِّنا َ‬
‫‪ -4‬البعثات النبوية‪:‬‬
‫ه‬
‫د ِ‬ ‫عَلى َ‬
‫عب ْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫قا َ‬ ‫فْر َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫ذي ن َّز َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ت ََباَر َ‬
‫ذيًرا" ]الفرقان‪.[1 :‬‬ ‫ن نَ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬ ‫ن ل ِل ْ َ‬‫كو َ‬ ‫ل ِي َ ُ‬
‫في هذه الية الغاية التي من أجلها أنزل القرآن على الرسول‬
‫×‪ ,‬وهي إنذار العالمين وتخويفهم من بأس الله ونقمته‪ ,‬وبيان‬
‫رضا الله من سخطه‪ ،‬وفي هذا دللة واضحة على أن هذه الرسالة‬
‫عالمية »وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد‪ ,‬ومن‬
‫نهج إلى نهج عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده‬
‫ليكون للعالمين نذيرا«)‪.(2‬‬
‫وإذا كانت هذه الدعوة عالمية فلبد أن يكون إعلمها كذلك‪،‬‬
‫فالرسول × والمسلمون مكلفون بتبليغ هذه الرسالة إلى جميع‬
‫الناس بشتى الساليب العلمية‪.‬‬
‫ولذا فإننا نرى الرسول × عند أول فرصة وجدها بعد صلح‬
‫الحديبية قام بإرسال البعوث الدينية إلى القبائل العربية المجاورة‪,‬‬
‫)( العلم في صدر السلم‪ ،‬ص ‪.161‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(5/2548‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪286‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫وإلى المم خارج الجزيرة العربية للتبشير بهذه الرسالة تنفيذا‬


‫لمر الله تعالى بتعميم هذه الرسالة‪.‬‬
‫ولقد حقق هذا النوع من الساليب عدة أهداف من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬إشعار العرب والعجم وغيرهم »أن السلم ليس خاصا‬
‫بالعرب وحدهم ولكنه عام لجميع الناس«)‪.(1‬‬
‫قبول هذه الدعوة والترحيب بها من قبل بعض المراء والملوك‬ ‫‪-2‬‬
‫الموجهة إليهم كما فعل المقوقس والنجاشي‪ ,‬وإن كان البعض رفضها‬
‫وأساء الرد على صاحبها كما فعل كسرى‪.‬‬
‫وهذا النوع من الساليب ليستخدم في عصرنا هذا لتوثيق‬
‫الروابط السياسية والقتصادية والجتماعية بين الدول عن طريق‬
‫السفارات والمبعوثين الدبلوماسيين)‪.(2‬‬
‫ومن خلل هذه المعالم القرآنية والممارسة النبوية الشريفة نتيقن‬
‫أن الهتمام بالعلم وتوظيفه لخدمة الدعوة والتمكين لدين الله من‬
‫الوسائل المهمة واللزمة للحركات السلمية المعاصرة‪ ،‬ولقد‬
‫استطاعت بعض الحركات السلمية مثل التركية أن تستخدم القنوات‬
‫الفضائية والذاعية والتلفزيونية والجرائد والمجلت لخدمة الدعوة‬
‫السلمية‪ ,‬وحققت نتائج مبشرة في هذا الميدان‪ .‬وكذلك الحركة‬
‫السودانية التي تحاول أن تجعل من وسائل العلم وسيلة لخدمة‬
‫السلم في العالم‪ ,‬وأثبتت للعالم أجمع أن الكوادر السلمية قادرة‬
‫على أن تقدم للعالم أروع المثلة في العيش للقضايا النسانية من‬
‫خلل التصور السلمي‪.‬‬
‫إن الخذ بالوسائل العلمية المعاصرة يساعد الحركات‬
‫السلمية والدعاة إلى السلم عموما بالتعريف بأهداف الدعوة‬
‫ومقاصدها‪ ،‬ليعلم الناس أن قضية السلم قضية عادلة‪ ،‬ل كما‬
‫يصورها العداء بنعوت وأسماء زائفة تخالف الحقيقة‪ ،‬إن في‬
‫عصرنا يمكن توظيف وسائل العلم المقروءة والمسموعة‬
‫والمرئية للقيام بوظيفة البلغ المبين‪ ،‬وإيصال رسالة السلم إلى‬
‫جميع الفئات الجتماعية‪ ،‬حيث يستفيد الدعاة من التطور التقني‬
‫الهائل في مجالت التصال لتبليغ دعوتهم ونشر أفكارهم‬
‫وعقيدتهم)‪.(3‬‬
‫ولقد ترك لنا الداعية الكبير والعالم القدير زعيم الجماعة‬
‫السلمية في باكستان العلمة أبو العلي المودودي تجربة رائعة‬
‫في توظيف المجال العلمي للدعوة السلمية تركت آثارا على‬
‫المحيط المحلي للدعوة والمحيط العالمي‪ ,‬واستفاد من جميع‬
‫)( العلم في صدر السلم‪ ،‬ص ‪.155‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬السلوب العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.65‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البيان‪ ،‬العدد‪ ،118 :‬ص ‪.10‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪287‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الوسائل العلمية المتاحة لديه من صحافة‪ ،‬ومؤلفات‪،‬‬


‫ومحاضرات‪ ،‬ومجالس‪ ،‬ومراسلت ومكاتبات‪ ،‬وفتاوى وتفسير‬
‫وقدوة حسنة وخدمات اجتماعية ولقاءات في الذاعة‪ ,‬وأثمرت‬
‫تلك الجهود عن ظهور آثار عالمية ونجحت في تحقيق بيان السلم‬
‫للناس‪:‬‬
‫أ‪ -‬الثار المحلية‪:‬‬
‫‪ -1‬إنقاذ المسلمين من خدعة القومية الهندية الواحدة‪.‬‬
‫‪ -2‬هدم سيطرة الحضارة الغربية على المسلمين‪.‬‬
‫‪ -3‬جمع الرأي العام على المطالبة بتطبيق الشريعة‪.‬‬
‫‪ -4‬المساهمة الفعالة في قيام باكستان‪.‬‬
‫‪ -5‬إزالة الجمود الديني والمزج بين القديم والحديث‪.‬‬
‫‪ -6‬تكوين عمل منظم لعادة السلم عن طريق الجماعة‬
‫السلمية‪.‬‬
‫‪ -7‬إبراز أخلق السلم السياسية ونظافتها على عكس‬
‫السياسة المعاصرة‪.‬‬
‫‪ -8‬إثراء الدب والفكر السلمي‪.‬‬
‫‪ -9‬جمع شمل العلماء على معالي المور‪.‬‬
‫‪ -10‬اتساع دائرة التعاون وخدمة الخلق‪.‬‬
‫‪ -11‬إبراز الوجه الشمولي للسلم)‪.(1‬‬
‫ب‪ -‬آثار إعلم المودودي العالمية‪:‬‬
‫‪ -1‬توعية العرب والمسلمين بحقيقة السلم‪.‬‬
‫‪ -2‬فضح التآمر الصليبي وغاراته على العالم السلمي‪.‬‬
‫‪ -3‬تنشيط وإثراء البحوث والدراسات السلمية على العالم‪.‬‬
‫‪ -4‬إقناع الناس بالسلم)‪.(2‬‬
‫إن الخذ بوسائل العلم الحديثة يعيين الدعاة إلى‬
‫الله على توصيل المور التية إلى الناس‪:‬‬
‫‪ -1‬الدعوة إلى الله‪:‬‬
‫بتعريف الناس بحقيقة السلم ونظرته للخلق العليم والكون‬
‫والحياة والنسان‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة السلمية والعلم عند المودودي‪ ،‬ص ‪.389 :383‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر السابق‪ ،‬ص ‪.407 :403‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪288‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫‪ -2‬تعريف المسلمين بحقائق الدين‪:‬‬


‫من عقائد ومعاملت وسلوك وأخلق‪ ،‬وتربيتهم تربية صالحة‬
‫وإعدادهم إعدادا يتناسب مع رسالتهم السلمية‪ ،‬ومسئوليتهم في‬
‫الحياة‪.‬‬
‫‪ -3‬إبراز دور السلم‪:‬‬
‫وكيف أنه قام بإخراج الناس من الظلمات إلى النور‪ ,‬ومن‬
‫ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والخرة‪ ،‬وكيف انتصرت القلة المؤمنة‬
‫بتمسكها بدين الله‪.‬‬
‫‪ -4‬استنفار المة للدعوة والجهاد‪:‬‬
‫وحشد الطاقات حتى تقوى المة وتصبح صفًا واحدًا متينًا‪،‬‬
‫وتكون مرهوبة الجانب فل يطمع فيها العداء‪ ،‬ول يستخف بقوتها‬
‫الكفار‪ ،‬بل يعملون لها ألف حساب‪.‬‬
‫‪ -5‬الرد على الشبهات‪:‬‬
‫التي يثيرها أعداء السلم التقليديون من يهود ونصارى ودحض‬
‫مفترياتهم وإبطال حججهم الزائفة‪.‬‬
‫‪ -6‬الرد على النظريات والمذاهب المادية الحديثة‪:‬‬
‫كالشيوعية والشتراكية والرأسمالية والفاشية والنازية‬
‫والوجودية والماسونية واليهودية‪ ...‬إلخ‪ ،‬ودحض مفترياتها وبيان‬
‫دين الله الحق عنها)‪ ,(1‬وغير ذلك من المور‪.‬‬
‫إن من الهمية بمكان الخذ بوسائل العلم بحيث يوظفها‬
‫العاملون في الدعوة السلمية لخدمة السلم والتمكين له في‬
‫دنيا الناس‪.‬‬
‫سا‪ :‬العداد المني‪:‬‬ ‫خام ً‬
‫إن من أهم أسباب التمكين أن ينشأ الحس المني للفراد‬
‫العاملين منذ دخولهم في العمل الجماعي‪ ,‬وأن تشكل لجان‬
‫ومكاتب‪ ,‬وتتحول مع توسع الحركة إلى مؤسسات ثم إلى وزارة‬
‫بعد وصول السلميين إلى الحكم‪.‬‬
‫أ‪ -‬ولقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية هذا الجانب في آيات‬
‫عديدة منها‪:‬‬
‫م‬‫ه ْ‬‫ب لَ ُ‬ ‫و ن ّي ْل ً إ ِل ّ ك ُت ِ َ‬
‫عد ُ ّ‬
‫ن َ‬‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫ول َ ي ََناُلو َ‬‫‪ -1‬قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ح" ]التوبة‪.[120 :‬‬ ‫صال ِ ٌ‬
‫ل َ‬ ‫م ٌ‬
‫ع َ‬
‫ه َ‬
‫بِ ِ‬
‫وتشير الية الكريمة على أن كل نيل من العدو عليه جزاء)‪,(2‬‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة السلمية والعلم عند المودودي‪ ،‬ص ‪.27 ،26‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪(4/11‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪289‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وإن استطلع أخبار العدو ومعرفة مواطن الضعف فيه‪ ،‬ومواقع‬


‫آلياته ومنشآته يعتبر نيل لن ذلك يوصل للتخطيط السليم المؤدي‬
‫إلى الظفر به‪.‬‬
‫ف‬
‫س َ‬ ‫من ّيو ُ‬ ‫سوا ِ‬ ‫س َُ‬ ‫ح ّ‬ ‫فت َ َ‬ ‫هُبوا َ‬ ‫ي اذ ْ َ‬ ‫تعالى‪َ+ :‬يا ب َن ِ ّ‬ ‫َ ‪ -2‬قال‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ح الل ِ‬ ‫و ِ‬ ‫من ّر ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ه ل ي َي ْأ ُ‬ ‫ه إ ِن ّ ُ‬ ‫ح الل ِ‬ ‫و ِ‬ ‫من ّر ْ‬ ‫سوا ِ‬ ‫ول ت َي ْأ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫خي ِ‬ ‫وأ ِ‬ ‫َ‬
‫ن" ]يوسف‪.[87 :‬‬ ‫فُرو َ‬ ‫كا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫و ُ‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إِ‬
‫وجه الستدلل‪ :‬أن يعقوب عليه السلم قد طلب من أبنائه‬
‫أن يتحسسوا ويبحثوا عن يوسف وأخيه‪ ،‬وفي هذا إقرار من أحد‬
‫أنبياء الله في جمع المعلومات عن الخرين‪ ،‬ويعتبر جمع‬
‫المعلومات من العناصر الساسية في علم الستخبارات‪ ،‬ويؤكد‬
‫َ‬
‫سوا")‪.(1‬‬ ‫ول َ ت َي ْأ ُ‬ ‫على مبدأ جمع المعلومات ‪َ +‬‬
‫قا َ َ‬
‫م‬‫ما ل َ ْ‬ ‫ت بِ َ‬ ‫حط ُ‬ ‫لأ َ‬ ‫ف َ‬ ‫د َ‬ ‫عي ٍ‬ ‫غي َْر ب َ ِ‬ ‫ث َ‬ ‫مك َ َ‬ ‫ف َ‬ ‫‪ -3‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫سب َأ ٍ ب ِن َب َأ ٍ‬ ‫من َ‬ ‫ك ِ‬ ‫جئ ْت ُ َ‬ ‫و ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ط بِ ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫تُ ِ‬
‫ن" ]النمل‪.[22 :‬‬ ‫يَ ِ ٍ‬ ‫قي‬
‫إن الية الكريمة ذكرت مبدأ من مبادئ الستخبارات وهو مبدأ‬
‫جمع المعلومات‪ ,‬حيث إن الظروف التي جمعت فيها المعلومات‬
‫جُنودُهُ‬ ‫ن ُ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫شَر ل ِ ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫و ُ‬ ‫قوله تعالى‪َ + :‬‬ ‫هي ظروف حرب بدليل‬
‫ن" ]النمل‪ ,[17 :‬نلحظ‬ ‫عو َ‬ ‫م ُيوَز ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ط‬ ‫وال‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ْ ِ‬
‫ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫وال ِن ْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ج ّ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫في هذه الية تطبيق عناصر الستخبارات التي هي‪:‬‬
‫‪ -‬إقرار مبدأ الحصول على المعلومات‪:‬‬
‫سَننظُُر‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫إذ أقر سليمان الهدهد ثم أرسله مرة أخرى‪َ + :‬‬
‫هب‬ ‫ن" ]النمل‪ [27 :‬ثم قال‪+ :‬اذْ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫َ‬ ‫صد َ ْ‬ ‫َ‬
‫كاِذِبي َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫كن َ َ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ق َ‬ ‫أ َ‬
‫ذا‬ ‫ما َ‬‫فان ْظُْر َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫عن ْ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫و ّ‬ ‫م تَ َ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫ق ْ َ‬
‫ه إ ِلي ْ ِ‬ ‫فأل ْ ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ب ّك َِتاِبي َ‬
‫ن" ]النمل‪.[28 :‬‬ ‫عو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫ي َْر ِ‬
‫‪ -‬عرض المعلومات المجمعة‪:‬‬
‫من ك ُ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ت ِ‬ ‫وأوت ِي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫مل ِك ُ ُ‬ ‫مَرأةً ت َ ْ‬ ‫تا ْ‬ ‫جد ّ‬ ‫و َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬إ ِّني َ‬
‫ن‬ ‫دو‬ ‫ج‬
‫َ َ ْ َ َ َ َْ ُ ُ َ‬‫س‬ ‫ي‬ ‫ها‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫جد‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫م‬ ‫ٌ‬ ‫ظي‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫ش َ‬ ‫عْر ٌ‬ ‫ها َ‬ ‫ول َ َ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫مال ُ‬ ‫ع َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ‬
‫م الشي ْطا ُ‬ ‫ّ‬ ‫ه ُ‬ ‫نل ُ‬ ‫َ‬ ‫وَزي ّ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ّ‬
‫م ِ‬ ‫ِللش ْ‬
‫ن‪] " ...‬النمل‪.[24 ،23 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫هت َ ُ‬ ‫م ل َ يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫بي‬ ‫س‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫صد ّ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫‪ -‬تقييم المعلومات المعروضة وتقرير مدى صحتها‪:‬‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]النمل‪:‬‬
‫كاِذِبي َ‬ ‫م َ‬
‫ت ِ‬ ‫م ُ‬
‫كن َ‬ ‫تأ ْ‬‫ق َ‬ ‫سَننظُُر أ َ‬
‫صد َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫قا َ‬
‫‪.[27‬‬
‫‪ -‬تحليل ودراسة المعلومات واستخلص النتائج المفيدة منها‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلم‪ ,‬عبد الله علي‪ ،‬ص ‪.105‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪290‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫‪ -‬إمداد المسئولين وإطلع القادة على المعلومات‪:‬‬


‫فالهدهد كجندي من جنود سليمان رأى أن من واجبه أن يأتي‬
‫بما حصل عليه من معلومات إلى مسئوله وهو سليمان)‪ (1‬عليه‬
‫ن"]النمل‪.[22 :‬‬ ‫قي ٍ‬ ‫سب َأ ٍ ب ِن َب َأ ٍ ي َ ِ‬ ‫من َ‬ ‫ك ِ‬ ‫جئ ْت ُ َ‬ ‫و ِ‬‫السلم‪َ + :‬‬
‫‪ -‬المباغتة والمفاجأة في جمع المعلومات وتوصيلها وغير ذلك‬
‫من الدروس والعبر‪:‬‬
‫ن‬
‫ج ّ‬ ‫ن ال ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫جُنودُهُ َ ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫شَر ل ِ ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫و ُ‬ ‫‪ -4‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫واِدي‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫وا‬ ‫ت‬ ‫أ‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫تى‬ ‫ح‬ ‫ن‬ ‫عو‬ ‫ز‬ ‫يو‬ ‫م‬ ‫ف ُ ْ‬
‫ه‬ ‫ر َ‬ ‫والطّي ْ‬ ‫س َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫وال ِن ْ ِ‬ ‫َ‬
‫م لَ‬ ‫ك‬
‫َ َ َِ ْ‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫سا‬ ‫م‬ ‫لوا‬ ‫خ‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫م‬
‫ّ ْ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ها‬ ‫ي‬
‫ْ َ ْ ٌ َ ّ َ‬‫أ‬ ‫يا‬ ‫ة‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫م ِ‬ ‫الن ّ ْ‬
‫ن" ]النمل‪،17 :‬‬ ‫عُرو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫م ل َ يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫جُنودُهُ َ‬ ‫و ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ما ُ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫من ّك ُ ْ‬ ‫حطِ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫‪.[18‬‬
‫نلحظ في هذه اليات الكريمة أن المعلومات السابقة ل تقتصر‬
‫على بني البشر‪ ,‬فقد يستفيد منها الحيوان والطير‪ ،‬إذ استفاد‬
‫النمل من المعلومات السابقة‪ ،‬فاستعمل وسائل النذار المبكر‪ ،‬إذ‬
‫قالت نملة بلغة جنسها حسب ما وصلت إليه من معلومات‪:‬‬
‫ادخلوا مساكنكم حفاظا على حياتكم لن سليمان وجنوده ربما‬
‫يدوسون بأرجلهم فوقكم فتحطمون بغير قصد‪ ،‬فقد بينت السبب‬
‫في توجيه هذا النذار إلى جماعتها من النمل بفضل المعلومات‬
‫المسبقة التي حصلت عليها)‪.(2‬‬
‫عن‬ ‫ه َ‬ ‫ت بِ ِ‬ ‫صَر ْ‬ ‫فب َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫صي ِ‬ ‫ق ّ‬ ‫ه ُ‬ ‫خت ِ ِ‬ ‫ت لُ ْ‬ ‫قال َ ْ‬ ‫و َ‬ ‫‪ -5‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫مَنا‬ ‫حّر ْ‬ ‫و َ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫عُرو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫م ل َ يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ب َ‬ ‫جن ُ ٍ‬ ‫ُ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ل ب َي ْ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫لى‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫قا‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ض‬‫ِ‬ ‫را‬ ‫م‬
‫َ َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬
‫ن"‬ ‫حو َ‬ ‫ص ُ‬ ‫ه َنا ِ‬ ‫م لَ ُ‬ ‫ه ْ‬‫و ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫فُلون َ ُ‬ ‫ي َك ْ ُ‬
‫]القصص‪.[12،11:‬‬
‫ونلحظ في اليات التي‪:‬‬
‫‪ -‬استخدام أم موسى مبدأ جمع المعلومات والحصول عليها‬
‫ه" والتقصي إنما هو‬
‫صي ِ‬ ‫ه ُ‬
‫ق ّ‬ ‫ت لُ ْ‬
‫خت ِ ِ‬ ‫قال َ ْ‬
‫و َ‬
‫في حفاظها على ابنها ‪َ +‬‬
‫تتبع الثر وجمع المعلومات‪.‬‬
‫‪ -‬اختيار العنصر المين والحريص في جمع المعلومات لتكون‬
‫صحيحة وموثقة وأمينة‪ ،‬وقبل ذلك حريصة على تلك المعلومات‬
‫ه"‪.‬‬ ‫ت لُ ْ‬
‫خت ِ ِ‬ ‫قال َ ْ‬
‫و َ‬
‫‪َ +‬‬
‫فأم موسى لم تختر غير أخته‪ ،‬لن الخت تعتبر من الحريصين‬
‫والمناء على تلك المصلحة‪ ,‬وهي تندفع من ذاتها في جمع‬

‫)( انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلم‪ ،‬ص ‪.108‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/141‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪291‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المعلومات وتحصيل الخبار‪ ،‬والمهم بمكان أن يكون العنصر‬


‫المرسل في عملية الستخبارات مندفعًا من ذاته حريصًا على‬
‫المصلحة المرسل إليها‪.‬‬
‫ه"‬ ‫صي ِ‬ ‫ق ّ‬ ‫‪ -‬التقصي والتتبع بدون إشارة أو جلب أنظار ‪ُ +‬‬
‫]القصص‪.[11 :‬‬
‫إذ نفهم من كلمة التقصي النتباه وعدم إثارة النظار‪ ،‬ودليل‬
‫ذلك أنها بصرت به دون أن يشعروا بها‪.‬‬
‫‪ -‬دقة الملحظة وقوة الفراسة أثناء جمع المعلومات‬
‫ن" ]القصص‪.[11 :‬‬ ‫عُرو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫م ل َ يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ب َ‬ ‫جن ُ ٍ‬ ‫عن ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ت بِ ِ‬ ‫صَر ْ‬ ‫فب َ ُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫‪ -‬استعملت أخت موسى شكل من أشكال الستخبارات‬
‫العصرية وهو التخريب الفكري‪ ،‬فبعد أن نظرت إليهن وهن غير‬
‫ت‬‫ل ب َي ْ ٍ‬ ‫ه ِ‬ ‫عَلى أ َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل أدُل ّك ُ ْ‬
‫ه ْ َ‬ ‫ت َ‬ ‫قال َ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫قادرات على إرضاعه ‪َ +‬‬
‫ن" ]القصص‪.[12 :‬‬ ‫ه َ ِ ُ َ‬
‫حو‬ ‫ص‬ ‫نا‬ ‫م لَ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫فُلون َ ُ‬ ‫ي َك ْ ُ‬
‫وقد قصدت إبعاد موسى عن المراضع‪ ،‬ليخلص إلى أمها دون‬
‫إشعارهم أنها منه بسبيل‪.‬‬
‫‪ -‬محاولة تحقيق الهدف أثناء جمع المعلومات‪ ،‬فأخت موسى‬
‫لم تكتف بأن تعرف مكان موسى لتخبر أمها بمكانه‪ ،‬وإنما هي‬
‫تقصت الخبار‪ ،‬وتوصلت إلى مكانه‪ ,‬وحاولت إعادته إلى أمه‪ ،‬وقد‬
‫نجحت في هذا)‪.(1‬‬
‫َ‬
‫م" ]النساء‪:‬‬ ‫حذَْرك ُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫مُنوا ُ‬ ‫ن آَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫‪ -6‬قال تعالى‪ََ + :‬يا أي ّ َ‬
‫ل‬ ‫سو َ‬ ‫عوا الّر ُ‬ ‫طي ُ‬ ‫وأ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫عوا الل َ‬ ‫طي ُ‬ ‫وأ ِ‬ ‫‪ ,[71‬وقال تعالى ‪َ +‬‬
‫م‬ ‫حذَْر ُ‬ ‫خ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫حذَُروا" ]المائدة‪ ,[92 :‬وقال‬
‫ه ْ‬ ‫ذوا َ ِ‬ ‫ولي َأ ُ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫وا َ ْ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫غ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫روا‬ ‫ُ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ّ‬ ‫د‬ ‫و‬
‫ْ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫س‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫مي ْل َ ً‬ ‫عل َي ْ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ة" ]النساء‪.[102 :‬‬ ‫حد َ ً‬ ‫وا ِ‬ ‫ة َ‬ ‫كم ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ميُلو َ‬ ‫في َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫عت ِك ُ ْ‬ ‫مت ِ َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫َ‬
‫إن العداد المني والستخباراتي في العمل السلمي من‬
‫مظاهر الحذر واليقظة‪ ،‬لنها تحول دون مفاجآت العداء‪ ,‬وتطبيق‬
‫ليات القرآن السابقة‪ ،‬كما أن السعي للحصول على المعلومات‬
‫عن العدو الداخلي أو الخارجي حتى يكون التخطيط على أساس‬
‫من أسباب القوة ومظاهرها التي أمر السلم بإعدادها من أسباب‬
‫ما‬‫م ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫دوا ل َ ُ‬ ‫ع ّ‬ ‫وأ َ ِ‬ ‫التمكين التي ذكرت في قوله تعالى‪َ +ْ :‬‬
‫و‬‫عد ُ ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ن بِ ِ‬ ‫هُبو َ‬ ‫ل ت ُْر ِ‬ ‫خي ْ ِ‬ ‫ط ال َ‬ ‫من ّرَبا ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ة َ‬ ‫و ٍ‬ ‫ق ّ‬ ‫من ُ‬ ‫عُتم ّ‬ ‫ست َطَ ْ‬ ‫ا ْ‬
‫م" ]النفال‪.[60 :‬‬ ‫ّ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬
‫هذه بعض الرشادات القرآنية إلى الخذ بهذا المبدأ والعداد له‬
‫والهتمام به‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلم‪ ،‬ص ‪.112 ،111‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪292‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫ب‪ -‬أما السيرة النبوية على صاحبها أفضل الصلة والتسليم‬


‫فقد تركت لنا معالم مهمة وخطوطا عريضة في هذا الجانب‬
‫المهم في حياة المسلمين‪ ،‬فنجد في الفترة المكية من معالمها‬
‫الكتمان والسرية‪ ،‬ولذلك نجد أن الرسول × اختار دار الرقم بن‬
‫أبي الرقم كمقر سري للدعوة‪ ,‬وكان رسول الله × يربي أتباعه‬
‫على العقيدة والخلق الرفيعة استعدادا لمرحلة قادمة‪ ،‬وكان‬
‫اختياره دار الرقم بسبب‪:‬‬
‫إن‪-1‬الرقم لم يكن معروفا بإسلمه‪ ،‬فما كان يخطر ببال أحد أن‬
‫يتم لقاء محمد × بداره‪.‬‬
‫‪ -2‬إن الرقم بن أبي الرقم ‪ ‬من بني مخزوم‪ ,‬وقبيلة بني‬
‫مخزوم هي التي تحمل لواء التنافس والحرب ضد بني هاشم فلو‬
‫كان الرقم معروفا بإسلمه فل يخطر في البال أن يكون اللقاء‬
‫في داره لن هذا يعني أنه يتم في قلب صفوف العدو‪.‬‬
‫‪ -3‬إن الرقم بن أبي الرقم كان فتى عند إسلمه‪ ،‬فلقد كان‬
‫في حدود السادسة عشرة من عمره‪ ،‬ويوم تفكر قريش في‬
‫البحث عن التجمع السلمي فلن يخطر في بالها أن تبحث في‬
‫بيوت الفتيان الصغار من أصحاب محمد ×‪ ,‬بل يتجه نظرها وبحثها‬
‫إلى بيوت كبار أصحابه‪ ،‬أو بيته هو نفسه عليه الصلة والسلم‪،‬‬
‫فقد يخطر على ذهنهم أن يكون مكان التجمع على الغلب في‬
‫أحد دور بني هاشم‪ ،‬أو في بيت أبي بكر ‪ ‬أو غيره‪ ،‬ومن أجل‬
‫هذا نجد أن اختياره × هذا البيت كان في غاية الحكمة من الناحية‬
‫المنية‪ ،‬ولم نسمع أبدا أن قريشا داهمت ذات يوم هذا المركز‬
‫وكشفت مكان اللقاء)‪.(1‬‬
‫ونلحظ أن النبي × يهتم ببناء الجهاز المني لدعوته ويزرع‬
‫أتباعه في وسط القبائل من أجل السعي لتمكين دعوة السلم‪،‬‬
‫فعندما أسلم عمرو بن عنبسة أمره النبي × أن يكتم إسلمه‬
‫ويلتحق بأهله‪ ،‬وإذا نظرنا في قصة إسلم أبي ذر رأيت الجوانب‬
‫المنية بارزة في تلك السيرة العطرة‪.‬‬
‫وفي بيعة العقبة الثانية نلحظ أن المسلمين رتبوا هذا اللقاء‬
‫ترتيبا رفيعا‪ ،‬فأخذوا بجميع الحتياطات المنية من حيث الزمان‬
‫والمكان‪ ،‬وعقدوا التفاق عقدا متينا وحققوا ما أرادوا‪،‬‬
‫والمشركون في غفلة عما يحدث‪ ،‬وفي هجرة النبي × قمم‬
‫شامخة في مجال الترتيب المني والتخطيط الستخباراتي‪ ،‬وبعد‬
‫أن انتقل النبي × إلى المدينة نجده يهتم بجمع المعلومات عن‬
‫أعدائه‪ ,‬ويربي أصحابه تربية أمنية فريدة من نوعها‪:‬‬

‫)( المنهج الحركي للسيرة النبوية )‪.(1/49‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪293‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -1‬روي عن الرسول × أنه بعث عبد الله بن جحش ‪ ‬في‬


‫السنة الثانية للهجرة في اثني عشر رجل من المهاجرين‪ ،‬وزوده‬
‫بكتاب مختوم أمره أن ل ينظر فيه حتى يسير يومين ويصل إلى‬
‫موقع معلوم حدده له‪ ،‬فلما وصل ذلك المكان وآن وقت فض‬
‫الكتاب‪ ،‬فضه فإذا فيه »إذا نظرت في كتابي هذا فامض على‬
‫اسم الله وبركاته‪ ،‬ل تكرهن أحدا من أصحابك على السير معك‪,‬‬
‫وامض فيمن تبعك حتى تأتي بطن نخلة فترصد بها عير قريش‬
‫وتعلم لنا من أخبارهم«)‪.(1‬‬
‫نلحظ في هذه المهمة أمورا منها‪:‬‬
‫‪ -1‬إن هذه السرية كانت سرية استطلع‪ ،‬غايتها مراقبة العدو‬
‫واستطلع أخباره على نحو السرايا الستكشافية التي تضعها‬
‫الجيوش أمامها‪ ،‬أو على جانبها‪ ،‬أو على نحو المغافر المامية في‬
‫جهة القتال‪ ،‬وكانت مهمتها المراقبة‪ ،‬والستطلع فقط دون‬
‫التعرض للعداء بالتحرش أو الحتكاك أو القتال‪ ،‬وهذا ما يسمى‬
‫الستخبارات الهجومية‪ ،‬هدفها جمع المعلومات عن العدو فقط‬
‫لمصلحة الدولة السلمية‪.‬‬
‫‪ -2‬إن الرسول × أمر أن تبقى سرية حتى على من يحملها‬
‫وسينفذها أخذا بالحتياط اللزم وخوفا من تسرب أدنى معلومة‬
‫للعدو‪ ،‬وتربية لصحابه أن المعلومة تكون على قدر الحاجة)‪.(2‬‬
‫وفي غزوة بدر ترك النبي × دروسًا وعبرًا وحكمًا لجمع‬
‫المعلومات عن العداء وتوظيفها لنزع النصر من المشركين‪،‬‬
‫فنلحظ أن النبي × جمع معلومات متكاملة عن العداء‪ ،‬وقام ×‬
‫بالشراف على جهاز الستخبارات وساهم بنفسه وبغيره في جمع‬
‫المعلومات عن مشركي مكة‪ ،‬ويمكن لنا أن نحصر أساليب‬
‫الستطلع التي قام بها النبي × للحصول على المعلومات من‬
‫مشركي مكة‪:‬‬
‫‪ -‬أرسل بسيسة بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء حتى يأتياه‬
‫بخبر عير أبي سفيان فعادا وأخبراه بموعد وصول العير)‪.(3‬‬
‫‪ -‬قيامه ×‪ ،‬وبصحبته أبو بكر الصديق ‪ ‬بتحري المكان الذي‬
‫توجد فيه قريش‪ ،‬وقد حصل له ما أراد عندما وقف على شيخ من‬
‫العرب وسأله عن المكان الذي توجد فيه قريش‪.‬‬
‫‪ -‬استنطاق السيرين اللذين قبض عليهما الصحابة‪ ,‬واستفاد ×‬
‫من استنطاق هذين السيرين أمورا مهمة جدا منها‪:‬‬

‫)( سنن البيهقي )‪.(9/12‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلم‪ ،‬ص ‪.114‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب المارة‪ ،‬باب ثبوت الجنة للشهيد )‪ (3/1510‬رقم ‪.1501‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪294‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫‪ -‬عدد أفراد جيش المشركين‪ ،‬موقع قريش‪ ،‬قيادة جيش‬


‫المشركين‪ ،‬ومن فيه من أشراف مكة)‪.(1‬‬
‫وعتم النبي × على المشركين أخبار المسلمين‪ ,‬وقام بأمر‬
‫الكتمان خير قيام‪ ،‬وكان صفة بارزة له في غزواته كلها‪ ،‬فعن‬
‫كعب بن مالك ‪ ‬قال‪) :‬كان رسول الله × قلما يريد غزوة إل‬
‫ورى بغيرها‪.(2) (...‬‬
‫وفي غزوة بدر مارس رسول الله × هذا العمل المني ليرشد‬
‫الجيال على مر العصور وكر الدهور إلى أهميته وتجلي ذلك في‬
‫التي‪:‬‬
‫‪ -‬سؤاله × الشيخ الذي لقيه في بدر عن محمد وجيشه وعن‬
‫قريش وجيشها‪.‬‬
‫‪ -‬تورية الرسول × في إجابته عن سؤال الشيخ‪» :‬مم أنتما؟«‬
‫بقوله‪» :‬نحن من ماء« وهو جواب يقتضيه المقام‪ ،‬فقد أراد به‬
‫الرسول × كتمان أخبار جيش المسلمين‪.‬‬
‫وفي انصرافه فور استجوابه كتمان ‪ -‬أيضا ‪ -‬وهو دليل على ما‬
‫يتمتع به رسول‬
‫الله × من الحكمة‪ ،‬فلو أنه أجاب هذا الشيخ ثم وقف عنده لكان‬
‫هذا سببًا في طلب الشيخ بيان المقصود من قوله ×‪» :‬من ماء«‬
‫)‪.(3‬‬
‫‪ -‬أمره × بقطع الجراس من البل يوم بدر‪ ،‬فعن عائشة‬
‫رضي الله عنها أن رسول الله × أمر بالجراس أن تقطع من‬
‫أعناق البل يوم بدر‪.‬‬
‫‪ -‬كتمانه × خبر الجهة التي يقصدها عندما أراد الخروج إلى‬
‫بدر‪ ،‬حيث قال ×‪ ...» :‬إن لنا طلبة فمن كان ظهره حاضًرا‬
‫فليركب معنا‪.(4) «...‬‬
‫وقد استدل المام النووي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬بهذا الحديث على‬
‫استحباب التورية‬
‫في الحرب‪ ،‬وأن ل يبين القائد الجهة التي يقصدها‪ ،‬لئل يشيع هذا‬
‫الخبر‬
‫فيحذرهم العدو()‪.(5‬‬
‫وكان × يهتم بحركة عدوه ولذلك كانت حركة الختراق في‬
‫انظر‪ :‬العبقرية العسكرية‪ ،‬لواء محمد فرج‪ ،‬ص ‪.58 ،57‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ،‬باب‪ :‬المداد بالملئكة )‪ (3/1383‬رقم ‪.1767‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬ابن هشام )‪.(1/616‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب المارة‪ ،‬باب ثبوت الجنة للشهيد )‪.1901 (3/1501‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫انظر‪ :‬شرح النووي لصحيح مسلم )‪.(13/45‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪295‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫القبائل المعادية واسعة جدا‪ ،‬ولذلك باغت × أعداءه مرات عديدة‪،‬‬


‫وأفشل خططهم العدائية‪ ،‬ولما أرادت قريش أن تباغت رسول‬
‫الله × بعد بدر كان مكتب استخبار مكة التابع للقيادة في المدينة‬
‫يبعث بالمعلومات أول بأول إلى قيادته‪.‬‬
‫لقد حرص الرسول × على استطلع أخبار قريش‪ ،‬وكان‬
‫يستعين بعمه العباس‪ ،‬قال ابن عبد البر)‪ - (1‬رحمه الله ‪) :-‬وكان‬
‫‪ ‬يكتب بأخبار المشركين إلى رسول الله × وكان المسلمون‬
‫يتقوون به بمكة‪ ،‬وكان يحب أن يقدم على رسول الله × فكتب‬
‫إليه رسول الله × أن مقامك في مكة خير( )‪.(2‬‬
‫لقد كان جهاز الستخبارات السلمية في مكة دقيقا جدا وحقق‬
‫نجاحات مهمة‪ ،‬ولقد قاد العباس بن عبد المطلب هذا الجهاز بكل‬
‫جدارة ونشاط‪ ،‬وكانت معلوماته دقيقة وبياناته صحيحة‪ ,‬فمن هذه‬
‫المعلومات التي وصلت رسالته إلى النبي ×‪) :‬إن قريشًا قد‬
‫أجمعت المسير إليك فما كنت صانعًا إذا حلوا بك فاصنعه‪ ،‬وقد‬
‫توجهوا إليك في ثلثة آلف وقادوا مائتي فرس وفيهم سبعمائة درع‬
‫وثلثة آلف بعير وأوعبوا)‪ (3‬من السلح()‪.(4‬‬
‫لقد احتوت هذه الرسالة على أمور مهمة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬معلومات مؤكدة عن تحرك قوات المشركين نحو المدينة‪،‬‬
‫ولذلك استعد النبي × وشرع في أخذ العدة لمواجهة هذا الجيش‬
‫العرمرم‪.‬‬
‫حجم الجي ش وقدرته القتالية وهذا يعين على وضع خطة تواجه‬ ‫‪-2‬‬
‫هذه القوات الزاحفة‪.‬‬
‫إن النبي × لم يكتف بمعلومات المخابرات المكية‪ ،‬بل حرص‬
‫على أن تكون معلوماته على هذا العدو متجددة مع تلحق الزمن‪،‬‬
‫وفي هذا إرشاد لقادة المسلمين إلى أهمية متابعة الخبار التي‬
‫يتولد عنها وضع خطط واستراتيجيات نافعة‪ ،‬فحين وصل جيش‬
‫المشركين إلى مكان يقال له العرض)‪ ،(5‬أرسل الرسول ×‬
‫عدده‪ ،‬ورجع‬ ‫عدده و ُ‬
‫الحباب بن المنذر فدخل بين جيش مكة وحزر َ‬
‫وأخبر النبي ×‪ ,‬ولما بلغ الجيش ذا الحليفة أرسل الرسول ×‬
‫عينين له وهما‪ :‬ابنا فضالة‪ ،‬فاعترضا لقريش بالعقيق فسارا معهم‬

‫)( هو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر‪ ,‬توفي ‪463‬هـ‪ ،‬تذكرة الحفاظ )‬ ‫‪1‬‬

‫‪.(3/1128‬‬
‫)( الستيعاب )‪.(2/812‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( استوعبه‪ :‬إذا أخذه أجمع‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( مغازي الواقدي )‪.(1/204‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( العِْرض‪ :‬هو الجرف‪ ،‬موضع في المدينة‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪296‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫حتى نزلوا بالوطاء ثم رجعا إلى المدينة وأخبرا الرسول ×‬


‫بذلك)‪.(1‬‬
‫ولقد حرص النبي × على حصر تلك المعلومات على المستوى‬
‫القيادي خوفا من أن يؤثر هذا الخبر على معنويات المسلمين قبل‬
‫ي الرسالة‬ ‫إعداد العدة من تخطيط وترتيب‪ ،‬ولذلك حين قرأ أب ّ‬
‫على النبي × استكتمه ما فيها وحينما دخل بيت سعد بن الربيع‬
‫قال‪) :‬أفي البيت أحد؟( فقال سعد‪ :‬ل‪ ،‬فتكلم بحاجتك‪ ،‬فأخبره‬
‫بكتاب العباس بن عبد المطلب‪ ،‬فانصرف رسول الله × واستكتم‬
‫سعدا الخبر)‪.(2‬‬
‫وفي هذا تعليم للقيادة السلمية على أهمية كتم السرار وما‬
‫يتصل بها حتى عن أقرب الناس إليهم من زوجات وأولد ومن في‬
‫حكمهم‪ ،‬وإذا دعت الضرورة إلى نشر شيء من ذلك‪ ،‬فينبغي أن‬
‫يكون لمن يحفظ السر حتى ل يلحق المسلمين بسبب ذلك ضرر‪.‬‬
‫وبعد أن عقد × المجلس الستشاري وُوضعت الخطة‬
‫المناسبة‪ ،‬اختار × الوقت المناسب للتحرك والطريق التي تناسب‬
‫خطته‪ ،‬فقد تحرك بعد منتصف الليل‪ ،‬حيث يكون الجو هادئا‪،‬‬
‫غالبا‪ -‬في‬
‫ً‬ ‫والحركة قليلة وفي هذا الوقت بالذات يكون العداء ‪-‬‬
‫نوم عميق‪ ،‬لن العياء ومشقة السفر قد أخذا منهم مجهودًا كبيرًا‪.‬‬
‫ومن المعروف من نام بعد تعب يكون ثقيل النوم‪ ،‬فل يشعر‬
‫بالصوات العالية والحركة الثقيلة‪.‬‬
‫قال الواقدي ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬ونام رسول الله × حتى أدلج‪،‬‬
‫فلما كان من السحر قال‪» :‬أين الدلء؟« ( )‪ (3‬ثم إنه × اختار‬
‫الطريق المناسب الذي يسلكه حتى يصل إلى أرض المعركة‪,‬‬
‫وذكر صفة ينبغي أن تتوافر في هذا الطريق وهو السرية‪ ،‬حتى ل‬
‫يرى العداء جيش المسلمين‪ ،‬فقال × لصحابه‪» :‬من رجل يخرج‬
‫بنا على القوم من طريق ل يمر بنا عليهم؟« فأبدى أبو خيثمة ‪‬‬
‫استعداده قائل‪ :‬أنا يا رسول الله ونفذ به بين بساتين بني‬
‫الحارثة)‪ .(4‬ولشك في أن مروره × بين الشجار والبساتين يدلنا‬
‫على حرصه × على الخذ بالحتياطات المنية المناسبة في أثناء‬
‫السير‪ ،‬لن الطرق العامة تكشف للعداء عن مقدار قوات‬
‫المسلمين وهذا أمر محذور‪.‬‬
‫فالرسول × يعلم المة الخذ بالسرية من حيث المكان‪ ,‬ومن‬

‫انظر‪ :‬المغازي للواقدي )‪.(208 ،1/206‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المغازي للواقدي )‪.(205 ،1/204‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(1/206،208‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬ابن هشام )‪.(3/65‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪297‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫حيث الزمان‪ ،‬لئل يتمكن العداء من معرفة قواتهم فيضعوا‬


‫الخطط المناسبة لمجابهتها‪ ،‬وبذلك يذهب تنظيم القادة وإعدادهم‬
‫مهب الرياح)‪.(1‬‬
‫وفي غزوة الخندق يظهر دور جهاز أمن الدولة السلمية بارزًا‪,‬‬
‫فقد كان يتابع أخبار الحزاب ويرصد تحركاتهم ويزود القيادة‬
‫بجميع المعلومات‪ ،‬فقام فرع مكة المني بإرسال معلومات دقيقة‬
‫ساعدت القيادة في رسم الخطط قبل وصول العداء للمدينة‪،‬‬
‫وأرسل × طليعة تتابع المور على كثب وترسل المعلومات‬
‫الدقيقة‪ ،‬ولقد كان حفر الخندق مفاجأة مذهلة لعداء السلم‬
‫وأبطل خطتهم التي رسموها‪ ,‬وكان من عوامل تحقيق هذه‬
‫المفاجأة ما قام به المسلمون من إتقان رفيع لسرية الخطة‬
‫وسرعة إنجازها‪ ،‬وكان هذا السلوب الجديد في القتال له أثر في‬
‫إضعاف معنويات الحزاب وتشتيت قواتهم ومارس × سلح‬
‫التشكيك والدعاية لتمزيق ما بين الحزاب من ثقة وتضامن بعد‬
‫أن ساق المولى عز وجل نعيم بن مسعود الغطفاني إلى رسول‬
‫الله × ليعلن إسلمه وقال له‪ :‬يا رسول الله إن القوم لم يعلموا‬
‫بإسلمي فمرني بما شئت‪ ،‬فقال له رسول الله ×‪ :‬إنما أنت فينا‬
‫رجل واحد فخذل عنا إن استطعت‪ ،‬فإن الحرب خدعة‪.(2) ..‬‬
‫فقام نعيم بن مسعود بزرع الشك بين الطراف المتحالفة بأمر‬
‫من رسول الله ‪×،‬فأغرى اليهود بطلب رهائن من قريش لئل تدعهم‬
‫وتنصرف عن الحصار‪ ،‬وقال لقريش بأن اليهود إنما تطلب الرهائن‬
‫لتسليمها للمسلمين ثمنا لعودتها إلى صلحهم‪ ،‬لقد اشتهرت قصة نعيم‬
‫بن مسعود في كتب السيرة وإن كانت ل تثبت من الناحية الحديثية إل‬
‫إنها ل تتنافى مع قواعد السياسة الشرعية فالحرب خدعة)‪ .(3‬وقد‬
‫نجحت دعاية نعيم بن مسعود أيما نجاح‪ ،‬فغرست روح التشكيك‬
‫وعدم الثقة بين قادة الحزاب‪ ،‬مما أدى إلى كسر شوكتهم وتهبيط‬
‫عزمهم‪ ،‬وكان من أسباب نجاح مهمة نعيم قيامها على السس‬
‫التالية‪:‬‬
‫أنه أخفى إسلمه عن كل الطراف‪ ،‬بحيث وثق كل طرف فيما‬ ‫‪-1‬‬
‫قدمه له من نصح‪.‬‬
‫كر بني قريظة بمصير بني قينقاع وبني النضير‬‫‪ -2‬أنه ذ ّ‬
‫صرهم بالمستقبل الذي ينتظرهم إن هم استمروا في حربهم‬ ‫وب ّ‬
‫للرسول ×‪ .‬فكان هذا الساس سببًا في تغيير أفكارهم وقلب‬
‫مخططاتهم العدوانية‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬القيادة العسكرية في عهد الرسول ×‪ ،‬ص ‪.468‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(4/13‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬السيرة النبوية الصحيحة )‪.(2/530‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪298‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫‪ -3‬أنه نجح في إقناع كل الطراف بأن يكتم كل طرف ما قاله‬


‫له‪ ,‬وفي استمرار هذا الكتمان نجاح في مهمته‪ ،‬فلو انكشف أمره‬
‫لدى أي طرف من الطراف لفشلت مهمته‪ ،‬وقد حققت مساعي‬
‫نعيم في تخذيل بني قريظة أمرين مهمين لجيش النبي × وهما‪:‬‬
‫‪ -1‬أن المسلمين بعد انسحاب بني قريظة من التحالف مع‬
‫الحزاب أصبحوا في أمان لن هؤلء اليهود كانوا يسكنون المدينة‬
‫فلو بقوا في هذا التحالف لما أمن المسلمون من توجيه طعنة لهم‬
‫من الخلف لنهم مشغولون بمواجهة خصمهم من المام‪.‬‬
‫‪ -2‬أن المسلمين اطمأنوا إلى أن بني قريظة سيتسمرون في‬
‫إمدادهم بالمؤن التي يتطلبها الموقف‪ ،‬وذلك لشدة حاجتهم إليها‪,‬‬
‫وانشغالهم عن توفيرها بمواجهة العداء)‪.(1‬‬
‫وكلف × الزبير بتتبع أحوال بني قريظة وجمع المعلومات عن‬
‫نواياهم‪ ،‬ومدى التزامهم بالعهد‪ ،‬ورصد تحركهم المريب)‪ .(2‬ومع‬
‫أخذه × بكل السباب إل أنه × كان كثير التضرع والدعاء‬
‫والستعانة بالله وخصوصا في مغازيه وعندما اشتد الكرب على‬
‫المسلمين أكثر مما سبق حتى بلغت القلوب الحناجر وزلزلوا‬
‫زلزال شديدا وجاء المسلمون إلى النبي × وقالوا‪ :‬يا رسول الله‬
‫هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال‪ :‬نعم‪» :‬اللهم‬
‫استر عوراتنا وآمن روعاتنا«)‪.(3‬‬
‫ودعا ×‪» :‬اللهم منزل الكتاب سريع الحساب‪ ،‬اهزم‬
‫الحزاب‪ ،‬اهزمهم وزلزلهم«)‪.(4‬‬
‫وقال ×‪» :‬ل إله إل الله وحده‪ ،‬أعز جنده ونصر عبده وغلب‬
‫الحزاب وحده فل شيء بعده«)‪.(5‬‬
‫فاستجاب الله ‪ -‬سبحانه ‪ -‬دعاء نبيه ×‪ ,‬فأقبلت بشائر الفرج‪،‬‬
‫فقد صرفهم الله بحوله وقوته‪ ,‬وزلزل أبدانهم وأنزل الرعب في‬
‫قلوبهم وشتت جمعهم بالخلف‪ ،‬ثم أرسل عليهم الريح الباردة‬
‫الشديدة‪ ,‬وألقى الرعب في قلوبهم وأنزل جنودا من عنده سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وكان × يتابع المر وأحب أن يتحرى عما حدث عن قرب‬
‫فقال‪» :‬أل رجل يأتينا بخبر القوم‪ ،‬جعله الله معي يوم القيامة«‬
‫)‪ ،(6‬فاستعمل × أسلوب الترغيب وكرره ثلث مرات‪ ,‬وعندما لم‬

‫انظر‪ :‬القيادة العسكرية في عهد الرسول ص )‪(477‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلم‪ ،‬ص ‪.119‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫رواه أحمد في مسنده عن أبي سعيد الخدري عن أبيه )‪.(8/18‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬باب‪ :‬غزوة الخندق‪ (5/59) ،‬رقم ‪.4115‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬باب‪ :‬غزوة الخندق‪ (5/59) ،‬رقم ‪.4115‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب الجهاد والسير‪ ,‬باب غزوة الحزاب )‪ (3/1414‬رقم ‪.1788‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪299‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫يجدِ هذا السلوب لجأ إلى أسلوب الجزم والحزم في المر‪ ،‬فعين‬
‫واحدا بنفسه فقال‪» :‬قم يا حذيفة فائتنا بخبر القوم‪ ،‬ول تذعرهم‬ ‫ً‬
‫ي«‪.‬‬ ‫عل ّ‬
‫وفي هذا معنى تربوي وهو أن القيادة الناجحة هي التي توجه‬
‫جنودها إلى أهدافها عن طريق الترغيب والتشجيع‪ ،‬ول تلجأ إلى‬
‫المر والحزم إل عند الضرورة‪.‬‬
‫قال حذيفة ‪»:‬فمضيت كأنما أمشي في حمام فإذا أبو سفيان‬
‫يصلى ظهره بالنار فوضعت سهما في كبد القوس وأردت أن أرميه‬
‫ثم ذكرت قول رسول الله ×‪ :‬ل تذعرهم علي‪,‬ولو رميته لصبته‬
‫فرجعت كأنما أمشي في حمام‪ ،‬فأتيت النبي ×وأصابني البرد حين‬
‫رجعت وقررت‪ ,‬فأخبرت رسول الله ×فألبسني فضل عباءة كانت‬
‫عليه يصلي فيها‪ ،‬فلم أبرح نائما حتى الصبح‪ ،‬فلما أن أصبح قال‬
‫رسول الله ×‪» :‬قم يا نومان« )‪.(1‬‬
‫ونستنبط من هذا الموقف دروسًا مهمة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬اختيار الرسول × حذيفة ‪ ‬ليقوم بمهمة التجسس على‬
‫الحزاب يدل على معرفته × بمعادن الرجال‪ ،‬وأن معدن حذيفة‬
‫معدن ثمين)‪ ,(2‬فهو شجاع ول يقوم بهذه العمال إل من كان ذا‬
‫شجاعة نادرة‪ ،‬فهذا العمل يكلفه حياته فلو اكتشفه العداء لكانت‬
‫عقوبته الموت صلبا‪ ،‬ومع هذا أقدم على تنفيذ الوامر‪.‬‬
‫‪ -2‬وضوح المر العسكري الذي وجهه الرسول × إلى حذيفة‪.‬‬
‫‪ -3‬النضباط العسكري الذي كان يتحلى به حذيفة في تنفيذ‬
‫الوامر ونجاحه في الدور الذي أمر به وقيامه بالمهمة خير قيام‪،‬‬
‫ورجع وقدم المعلومات اليقينية الصادقة للرسول ×‪.‬‬
‫وفي فتح مكة لما قرر النبي × فتحها حرص على مباغتة‬
‫قريش‪ ,‬وكتم المر حتى ل يصل الخبر إلى قريش فتعد العدة‬
‫لمجابهته وتصده قبل أن يبدأ في تنفيذ هدفه‪ ,‬وشرع في الخذ‬
‫بالسباب التية لتحقيق مبدأ المباغتة‪:‬‬
‫‪ -1‬أنه كتم أمره حتى عن أقرب الناس إليه‪:‬‬
‫قال ابن إسحاق ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬إن أبا بكر دخل على عائشة‬
‫وهي تغربل حنطة فقال‪ :‬ما هذا؟ أمركم رسول الله × بالجهاز؟‬
‫قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬وإلى أين؟ قالت‪ :‬ما سمى لنا شيئًا‪ ،‬غير أنه قد‬
‫أمرنا بالجهاز( )‪.(3‬‬
‫ضم‪:‬‬‫‪ -2‬أنه بعث سرية بقيادة أبي قتادة إلى بطن إ َ‬
‫)( المصدر نفسه‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( السيرة النبوية دراسة تحليلية‪ ،‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬ص ‪.366‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(4/282‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪300‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫بعث النبي × قبل مسيرة مكة سرية مكونة من ثمانية رجال‬


‫وذلك لسدال الستار على نيته الحقيقية‪ ،‬وفي ذلك يقول ابن‬
‫سعد‪) :‬لما هم رسول الله × بغزو أهل مكة بعث أبا قتادة بن‬
‫ضم)‪ ،(1‬ليظن ظان أن‬ ‫ربعي في ثمانية نفر سرية إلى بطن إ َ‬
‫رسول الله × توجه إلى تلك الناحية ولن تذهب بذلك الخبار‪...‬‬
‫شب)‪،(2‬‬ ‫خ ُ‬
‫فمضوا ولم يلقوا جمعا فانصرفوا حتى انتهوا إلى ذي ُ‬
‫فبلغهم أن رسول الله × قد توجه إلى مكة‪ ،‬فأخذوا على »بيبن«‬
‫حتى لقوا النبي × بالسقيا)‪.(4) .(3‬‬
‫‪ -3‬أنه بعث العيون لمنع وصول المعلومات إلى العداء‪:‬‬
‫بث رسول الله × عيونه داخل المدينة وخارجها حتى ل تنتقل‬
‫أخباره إلى قريش وأخذ رسول الله × بالنقاب)‪ ،(5‬فكان عمر بن‬
‫الخطاب ‪ ‬يطوف على النقاب قيما بهم فيقول‪» :‬ل تدعوا أحدا‬
‫يمر بكم تنكرونه إل رددتموه‪ ..‬إل من سلك إلى مكة فإنه يتحفظ‬
‫به ويسأل عنه أو ناحية مكة«‪.‬‬
‫‪ -4‬دعاؤه × بأخذ العيون والخبار عن قريش‪:‬‬
‫فعندما أعلم رسول الله × الناس أنه سائر إلى مكة وأمر‬
‫بالجد والتهيؤ قال‪) :‬اللهم خذ العيون والخبار عن قريش‬
‫حتى نبغتها في بلدها( )‪.(6‬‬
‫وهذا شأن النبي × في أموره يأخذ بكل السباب البشرية ول‬
‫ينسى التضرع والدعاء لرب البرية ليستمد منه التوفيق والسداد‪.‬‬
‫‪ -5‬إحباط محاولة تجسس حاطب لصالح قريش‪:‬‬
‫عندما أكمل النبي × استعداده للسير إلى فتح مكة‪ ،‬كتب‬
‫حاطب بن أبي بلتعة كتابا إلى مكة يخبرهم فيه نبأ تحرك النبي ×‬
‫إليهم‪ ،‬ولكن الله سبحانه وتعالى أطلع نبيه × عن طريق الوحي‬
‫على هذه الرسالة‪ ،‬فقضى × على هذه المحاولة وهي في مهدها‪،‬‬
‫فأرسل النبي × عليا والمقداد فأمسكا بالمرأة في روضة خاخ‬
‫على بعد اثني عشر ميل من المدينة‪ ،‬وهدداها أن يفتشاها إن لم‬
‫تخرج الكتاب فسلمته لهما‪ ،‬ثم استدعى حاطب ‪ ‬للتحقيق‬
‫ي‪ ،‬إني كنت امرأ ملصقا من‬ ‫فقال‪) :‬يا رسول الله‪ ،‬ل تعجل عل ّ‬
‫قريش ‪ -‬يقول‪ :‬كنت حليفا ‪ -‬ولم أكن من أنفسها‪ ،‬وكان من معك‬
‫من المهاجرين من لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم‪،‬‬
‫)( بطن إضم‪ :‬وادي المدينة الذي تجتمع فيه الوديان الثلثة‪ :‬بطحان‪ ،‬وقناة‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫والعقيق‪.‬‬
‫ميل عن‬
‫ً‬ ‫)( ذو خشب‪ :‬موضع على مرحلة من المدينة إلى الشام يبعد ‪35‬‬ ‫‪2‬‬

‫المدينة‪.‬‬
‫)( السقيا‪ :‬موضع يقع في وادي القرى‪ :‬معجم البلدان )‪.(3/288‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الطبقات الكبرى لبن سعد )‪.(2/132‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( النقاب جمع نقب وهو كالعريف على القوم‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(4/282‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪301‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون‬


‫قرابتي‪ ،‬ولم أفعله ارتدادا عن ديني ول رضا بالكفر بعد السلم‪.‬‬
‫فقال رسول الله ×‪) :‬أما إنه قد صدقكم( فقال عمر ‪ :‬يا‬
‫رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق فقال‪» :‬إنه قد شهد‬
‫بدرا‪ ،‬وما يدريك لعل الله اطلع على من شهد بدرا‬
‫َفقال‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)‪َ .(1‬فأنزل الله‪َ+ :‬يا‬
‫ن‬‫قو َ‬ ‫ول َِياءَ ت ُل ْ ُ‬ ‫مأ ْ‬ ‫وك ُ ْ‬ ‫عد ُ ّ‬ ‫و َ‬ ‫وي َ‬ ‫عدُ ّ‬ ‫ذوا َ‬ ‫خ ُ‬ ‫مُنوا ل َ ت َت ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫أي ّ َ‬
‫ن‬‫جو َ‬ ‫ر ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ق يُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫جاءَكم ّ‬ ‫ُ‬ ‫ما َ‬ ‫قدْ كفُروا ب ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ة َ‬ ‫ود ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ْ‬
‫م ِبال َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫إ ِلي ْ ِ‬
‫م‬
‫جت ُ ْ‬ ‫خَر ْ‬ ‫م َ‬ ‫م ِإن كن ْت ُ ْ‬ ‫ه َرب ّك ْ‬ ‫مُنوا ِبالل ِ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م أن ت ُ ْ‬ ‫وإ ِّياك ْ‬ ‫ل َ‬ ‫سو َ‬ ‫الّر ُ‬
‫م‬ ‫ه‬
‫ِ ِ ْ‬‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫رو‬ ‫س‬‫ِ‬
‫َ َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ضا‬ ‫َ‬ ‫ر‬‫َ ْ‬‫م‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫غا‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫وا‬‫َ‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫بي‬ ‫س‬
‫َ َ َِ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫دا‬‫ً‬ ‫ها‬ ‫ج َ‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ف‬‫ْ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ي‬‫ف‬‫َ‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫نا‬‫ِبال ْ َ َ ّ ِ َ َ‬
‫أ‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫د‬ ‫و‬ ‫م‬
‫َ َ ُ‬ ‫ْ ُ ْ َ َ‬ ‫ْ ُ ْ َ َ‬ ‫ُ ِ َ‬
‫ل" ]الممتحنة‪.[1 :‬‬ ‫سِبي ِ‬ ‫واءَ ال ّ‬ ‫س َ‬
‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫نجد من خلل قصة حاطب أن النبي × له فقه عميق في‬
‫معاملة أصحابه وحرص شديد على الوفاء لهم وإقالة عثرات ذوي‬
‫السوابق الحسنة‪ ،‬لقد جعل × من ماضي حاطب ‪ ‬المجيد سببا‬
‫في العفو عنه‪.‬‬
‫من خلل اليات القرآنية الكريمة والممارسة النبوية لهذا الباب‬
‫تظهر الحاجة للحركات السلمية ودولها المسلمة ليجاد أجهزة‬
‫أمنية استخباراتية متطورة تحمي السلم والمسلمين من أعدائها‬
‫اليهود والنصارى والملحدة‪ ,‬وتعمل على حماية الصف المسلم‬
‫في الداخل من اختراقات العداء فيه‪ ،‬وتجتهد لرصد أعمال‬
‫المعارضين والمحاربين للسلم حتى تستفيد القيادة من‬
‫المعلومات التي تقدمها لها أجهزتها المؤمنة المينة‪ ,‬ولبد أن‬
‫تؤسس هذه الجهزة على قواعد منبعها القرآن الكريم والسنة‬
‫النبوية وتكون أخلق رجالها قمة رفيعة تمثل صفات رجال المن‬
‫المسلمين‪.‬‬
‫إن اهتمام المسلمين بهذا المر يجنبها المفاجآت العدوانية‪,‬‬
‫وقد كتب »صن تزو« مشيرا لهمية ذلك‪:‬‬
‫»إذا عرفت العدو وعرفت نفسك فليس هناك ما يدعوك إلى‬
‫أن تخاف نتائج‬
‫مائة معركة‪ ،‬وإذا عرفت نفسك ولم تعرف العدو‪ ،‬فإنك سوف‬
‫تواجه الهزيمة في‬
‫كل معركة«)‪.(2‬‬
‫إن بناء الجهزة المنية ومكاتب المعلومات التي تقدم للقيادة‬
‫التقارير لوضع الخطط المناسبة على أثرها لي س أمرا جديدا‪ ،‬بل هو‬
‫موغل في تاريخ النسانية‪ ،‬وكذلك في تاريخ المسلمين‪.‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب المغازي‪ ،‬باب غزوة الفتح )‪ (5/105‬رقم ‪.4274‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الستخبارات العسكرية في السلم‪ ،‬ص ‪.311‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪302‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬

‫إن من أسباب التمكين المهمة إعطاء هذا المر حقه من‬


‫الهتمام والرتقاء به وتطويره بما يناسب أحوال العصر الذي نحن‬
‫فيه‪.‬‬
‫وبعد أن تكلمنا عن أسباب التمكين المعنوية والمادية ل أدعي‬
‫أنني حصرتها وإنما تكلمت عن بعضها وإل فإن السباب وحدها‬
‫تحتاج إلى أبحاث مستقلة‪.‬‬

‫‪303‬‬
‫مراحـــــــــل التمكـــين‬
‫وأهدافـــــه‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪305‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫إن التمكين لدين الله في الرض يمر بمراحل لبد منها‪ ,‬وهذه‬
‫المراحل هي‪ :‬مرحلة التعريف‪ ،‬ومرحلة العداد والتربية‪ ،‬ومرحلة‬
‫المغالبة‪ ،‬ومرحلة الظهور‪ ,‬وكل هذه المراحل سنستعرضها في‬
‫مباحث مستقلة في هذا الباب ‪ -‬إن شاء الله ‪ -‬ونركز على السنن‬
‫الربانية التي تمر بها حركة التمكين لدين الله تعالى‪.‬‬
‫وأما أهداف التمكين فجامعها قول الله تعالى‪:‬‬
‫وا‬ ‫صل َةَ َ‬
‫وآت َ ُ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫قا ُ‬‫ض أَ َ‬‫ِ‬ ‫في ال َْر‬ ‫م ِ‬ ‫مك ّّنا ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ن ِإن ّ‬ ‫‪ +‬ال ّ ِ‬
‫ذي َ َ‬
‫ة‬
‫قب َ ُ‬‫عا ِ‬ ‫ه َ‬
‫ولل ِ‬‫ر َ‬‫من ْك َ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫الّز َ‬
‫ع ِ‬
‫وا َ‬ ‫ه ْ‬‫ون َ َ‬
‫ف َ‬
‫عُرو ِ‬‫م ْ‬
‫مُروا ِبال َ‬ ‫وأ َ‬ ‫كاةَ َ‬ ‫ُ‬
‫ر" ]الحج‪.[41 :‬‬ ‫ال ُ ِ‬
‫مو‬
‫ويدخل تحت مفهوم هذه الية الكريمة أهداف الدولة السلمية‬
‫التي تسعى لتحقيقها‪ ,‬وهي في حقيقتها تحقيق العبودية لله بحيث‬
‫ل يعبد في الرض سواه‪ ,‬ومحاربة الباطل بأشكاله وأنواعه‪،‬‬
‫ومناصرة الحق وأتباعه‪ .‬ففي هذا الباب نحاول أن نبين أهداف‬
‫التمكين التي تسعى الدولة لتحقيقها من ترسيخ دعائم الدولة‪،‬‬
‫ونظام الحكم الشرعي‪ ،‬وإيجاد الحاكم الصالح‪ ،‬والرعية الصالحة‪،‬‬
‫ووضع نظام عام للدولة‪ ،‬ونشر دعوة الله في العالم كله وإقامة‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ,‬وجلب المصالح للمة ودفع‬
‫المفاسد وإحياء الخلق الكريمة وإحياء فريضة الجهاد وغير ذلك‬
‫من المور التي سنوضحها في هذا الباب تحت مباحث متعددة‬
‫بإذن الله تعالى‪.‬‬
‫***‬

‫‪306‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الفصل الول‬
‫مراحــــــــل التمكـــــــين‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن دعوة الله أمانة يتحملها أهل اليمان الصحيح‪ ،‬وهذه المانة‬
‫ثقيلة في حد ذاتها‪ ،‬وكذلك حملها وأداؤها‪ ،‬والوفاء بها‪ ،‬فكيف وهي‬
‫متعلقة بدين الله تعالى؟‬
‫ولذلك من أعظم المانات وأشدها ثقل أمانة الدعوة التي‬
‫تحتاج إلى رجال مؤمنين يتخلقون بأفضل الخلق الربانية‬
‫ونفوسهم مليئة باليمان العميق‪ ،‬فهم على استعداد تام لتبليغ دين‬
‫الله‪ ,‬ولذلك يسعون بدين الله حتى يتمكن من قلوب الناس‬
‫وإقامة دولة اليمان والسلم‪.‬‬
‫إن مرحلة التمكين أو إقامة دولة اليمان تسبقها مراحل‬
‫استخلصها العلماء من دراسة كتاب الله ودراسة التاريخ المتأنية‪،‬‬
‫ولعل من أهم هذه المراحل‪:‬‬
‫‪ -‬مرحلة الدعوة والتعريف بالسلم‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة المغالبة‪.‬‬
‫‪ -‬مرحلة الظهور‪.‬‬
‫وسنحاول خلل هذا الفصل دراسة هذه المراحل وتحديد السمات‬
‫التي تتميز بها كل مرحلة وكيفية تحقيقها والنتقال بها إلى المرحلة التي‬
‫تليها لسيما المرحلة الخيرة مرحلة التمكين‪.‬‬
‫إن استيعاب مراحل التمكين يعين الدعاة إلى الله على تحقيق‬
‫هدفهم المنشود من التمكين لهذا الدين كما يبصرهم بحقيقة‬
‫الطريق‪ ,‬ومعرفة عوائق التمكين التي تعترض تحقيق أهدافهم‬
‫وكيفية التغلب عليها من خلل القرآن الكريم وسيرة سيد‬
‫المرسلين‪ ,‬وتاريخ المة المجيد والتعامل مع سنن الله الربانية‬
‫المبثوثة في الكون والحياة والشعوب والمجتمعات‪.‬‬

‫‪307‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الول‬
‫مرحلة الدعوة والتعريف بالسلم‬
‫إن الخطوة الولى في سبيل إقامة الدولة المسلمة أو التمكين‬
‫للسلم هو التعريف به والدعوة إليه‪ ،‬وقد كان هذا نهج النبياء‬
‫والمرسلين ومنهج القرآن‪ ،‬والدعاة إلى الله هم ورثة النبياء‪،‬‬
‫والنبياء عليهم السلم ل يورثون مال ول عقارا‪ ،‬ولكنهم يورثون‬
‫علما ودعوة ومبادئ وقيما وأخلقا وعقيدة صحيحة وتصورا سليما‬
‫للكون والحياة والنسان والخلق العليم‪.‬‬
‫إن الله سبحانه وتعالى قد بين لنا في كتابه وظيفة رسل الله‬
‫سل َْنا ِ‬ ‫َ‬
‫سول ً‬ ‫م َر ُ‬‫فيك ُ ْ‬ ‫ما أْر َ‬ ‫والدعاة إليه كما في قوله تعالى‪+ :‬ك َ َ‬
‫ب‬ ‫ْ‬
‫م الك َِتا َ‬ ‫ُ‬
‫مك ُ‬ ‫ّ‬
‫عل ُ‬ ‫وي ُ َ‬‫م َ‬ ‫كيك ُ ْ‬
‫وي َُز ّ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫م آَيات َِنا َ‬ ‫م ي َت ُْلو َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫ن" ]البقرة‪.[151 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫عل ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م ت َكوُنوا ت َ ْ‬ ‫َ‬
‫ما ل ْ‬ ‫مكم ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫عل ُ‬ ‫وي ُ َ‬
‫َ‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬
‫َ‬
‫وتمثل هذه الواجبات المور التية‪:‬‬
‫م‬‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫أولً‪ :‬تبليغ وحي الله إلى الناس‪ ،‬وتعريفهم به ‪+‬ي َت ُْلو َ‬
‫آَيات َِنا" ويكون هذا التبليغ بالمور التية‪:‬‬
‫‪ -1‬شرح أصول السلم وقواعده للناس‪.‬‬
‫‪ -2‬تفسير نصوص القرآن والسنة تفسيرا متبعا لمنهج السلف‬
‫وملئما للعصر الذي يتم فيه التفسير من حيث السلوب‬
‫والوسيلة‪.‬‬
‫‪ -3‬جمع الناس على السلم ومبادئه وأخلقه وتوجيههم نحو‬
‫الفهم والعمل‪.‬‬
‫‪ -4‬استهداف كل الناس بالدعوة سواء كانوا مشركين أو‬
‫نصارى أو يهودا أو ملحدة أو علمانيين أو منافقين أو‬
‫فاسقين أو عصاة مع إعطاء الولوية للصف الداخلي‬
‫للمة)‪.(1‬‬
‫‪ -5‬بيان الخطار التي تواجهها المة السلمية من أعدائها‬
‫والعمل على اجتيازها في حدود ما تتطلبه المرحلة‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬تزكية الناس‪ ،‬أي تزكية نفوسهم وتطهير وتنميتها‬
‫بالخيرات والبركات في الدنيا والخرة‪ ،‬بحيث يصير النسان في‬
‫الدنيا مستحقًا للوصاف المحمودة‪ ،‬وفي الخرة الجر والمثوبة‪،‬‬
‫م" والتزكية بهذا‬ ‫كيك ُ ْ‬‫وي َُز ّ‬
‫وذلك في قوله سبحانه وتعالى‪َ + :‬‬
‫من‬ ‫َ‬ ‫كي‬‫ّ‬ ‫ز‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫المعنى‪ ،‬تارة تنسب إلى الله‬
‫)( انظر‪ :‬حقيقة الدعوة إلى الله‪ ,‬د‪ .‬علي عبد الحليم )‪.(1/263‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪308‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫شاءُ‪] "...‬النساء‪ [49 :‬وتارة تنسب إلى النبي × لكونه واسطة في‬ ‫يَ َ‬
‫م"‪.‬‬ ‫ُ‬
‫وي َُزكيك ْ‬‫ّ‬ ‫وصول ذلك إلى الناس كما في هذه الية ‪َ +‬‬
‫فالداعية إلى الله يطهر نفوس الناس بوحي الله‪ ،‬وينمي‬
‫أرواحهم وعقولهم وأبدانهم‪ ،‬ويرتفع بهم إلى المستوى الذي كرمه‬
‫ربه وفضله على كثير من خلقه‪.‬‬
‫وهذه التزكية تربية ذات منهج ووسائل تنقل النسان من واقعه‬
‫إلى ما هو أفضل وأكرم وأحسن له في أمر دينه ودنياه‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬التعليم‪ ،‬تعليم الناس العلم النافع‪ ،‬أي القرآن والحكمة‪،‬‬
‫ب‬‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫مك ُ ُ‬ ‫عل ّ ُ‬ ‫وي ُ َ‬‫وذلك في قوله سبحانه من هذه الية‪َ + :‬‬
‫ة" فهو واجب النبي ×‪ ,‬وواجب الدعاة إلى الله إلى يوم‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫وال ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ب" هو القرآن الكريم‪ ،‬وهو هدى للناس كل الناس‪،‬‬ ‫الدين و‪+‬ال ْك َِتا َ‬
‫فما من خير للبشرية في دينها ودنياها إل نوه عنه القرآن الكريم‪،‬‬
‫ما‬‫وما من شيء من هذا وذاك إل اشتمل عليه القرآن الكريم‪ّ + :‬‬
‫ل‬‫ل كُ ّ‬ ‫صي َ‬ ‫ف ِ‬ ‫وت َ ْ‬ ‫ء" ]النعام‪َ + ,[28 :‬‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫من َ‬ ‫ب ِ‬ ‫في ال ْك َِتا ِ‬ ‫فّرطَْنا ِ‬ ‫َ‬
‫ء" ]النحل‪.[89 :‬‬ ‫ي ٍ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ء" ]يوسف‪ [111 :‬و ‪+‬ت ِب َْياًنا لك ّ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫إن تعليم الناس كتاب الله وسنة رسوله × ينقلهم من ظلم‬
‫الجهل إلى نور العلم‪ ،‬ومن ضلل الباطل إلى هداية الحق‪ ،‬وهذا‬
‫ن" أي‬ ‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫كوُنوا ت َ ْ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫كم ّ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ّ ُ‬
‫وي ُ َ‬‫يظهر في قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫يبصركم بحاضركم‪ ،‬ويرسم لكم أسلم طريق لمستقبلكم‪.‬‬
‫إن هذه الواجبات المنوطة بالدعاة تحتاج إلى تميز إيماني‬
‫وتفوق روحاني‪ ،‬ورصيد علمي وزاد ثقافي ورجاحة عقل وقوة‬
‫حجة‪ ،‬ورحابة صدر وسماحة نفس حتى يستطيع الدعاة تحقيق‬
‫واجباتهم المذكورة‪.‬‬
‫إن القرآن الكريم قد بّين واجبات الدعاة في آيات كثيرة‪ ,‬ومن‬
‫ن‬‫غو َ‬ ‫ن ي ُب َل ّ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫اليات الجامعة في هذا الباب قوله تعالى‪+َ :‬ال ّ ِ‬
‫فى‬ ‫وك َ َ‬ ‫ه َ‬ ‫دا إ ِل ّ الل َ‬ ‫ح ً‬ ‫نأ َ‬ ‫و َ‬ ‫ش ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ول َ ي َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ون َ ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫خ َ‬ ‫وي َ ْ‬
‫ه َ‬ ‫ت الل ِ‬ ‫سال َ ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ِ‬
‫سيًبا" ]الحزاب‪.[29 :‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ِبالل ِ‬
‫إن التقصير في القيام بهذا الواجب‪ ،‬إثم ومعصية‪ ,‬ولقد بّين‬
‫ما‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫َالمولى عز وجل ذلك في قوله تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫في‬ ‫ِ ِ‬ ‫س‬ ‫نا‬ ‫ما َ ّ ّ ُ ِ ّ‬
‫لل‬ ‫ه‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫د َ‬ ‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫دى ِ‬ ‫ه َ‬ ‫وال ْ ُ‬ ‫ت َ‬ ‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬ ‫مُ َ‬ ‫أن َْزل َْنا ِ‬
‫ن" ]البقرة‪.[159 :‬‬ ‫عُنو َ‬ ‫ّ‬
‫م الل ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫عن ُ ُ‬ ‫ْ‬
‫وي َل َ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫عن ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب أولئ ِك َيل َ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫والمعنى أن من عرف الحق‪ ،‬فقد وجب عليه أن يبينه للناس‪،‬‬
‫ومن لم يفعل فقد أثم‪.‬‬
‫كما نعى الله ذلك الكتمان على أهل الكتاب في قوله تعالى‪:‬‬

‫‪309‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ُ‬ ‫وإ ِذْ أ َ َ‬


‫س‬‫ه ِللّنا ِ‬ ‫ب ل َت ُب َي ّن ُن ّ ُ‬
‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ميَثاقَ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ه ِ‬ ‫خذَ الل ُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫مًنا‬‫ه ثَ َ‬‫وا ب ِ ِ‬ ‫شت ََر ْ‬ ‫وا ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫ر ِ‬
‫هو ِ‬ ‫ُ‬
‫وَراءَ ظ ُ‬ ‫ذوهُ َ‬ ‫َ‬
‫ه فن َب َ ُ‬ ‫مون َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ول ت َكت ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[187 :‬‬ ‫شت َُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫ئ‬ ‫فب ِ‬‫قِليل ً َ‬ ‫َ‬
‫وإذا كانت آيات القرآن الكريم قد أوجبت على الدعاة‪ ،‬وأهل‬
‫العلم‪ ،‬أن يبلغوا الناس بهذا العلم‪ ,‬فإن السنة المطهرة شارحة‬
‫القرآن قد فاضت بالحاديث في هذا المجال‪.‬‬
‫روى المام البخاري بسنده‪ ،‬عن ابن عباس رضي الله عنهما‪،‬‬
‫باب تحريض النبي × وفد عبد القيس)‪ (1‬على أن يحفظوا اليمان‬
‫والعلم‪ ،‬ويخبروا من وراءهم‪ ,‬قال مالك بن الحويرث)‪ ،(2‬وهو من‬
‫بني عبد قيس‪ :‬قال لنا النبي ×‪» :‬ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم«‪.‬‬
‫وعن ابن عباس قال‪ :‬قال النبي ×‪ ،‬لما قدم إليه وفد عبد القيس‪:‬‬
‫ن الوفد ‪ -‬أو من القوم؟ قالوا‪ :‬ربيعة‪ ,‬فقال‪» :‬مرحبا بالقوم‬ ‫م ْ‬ ‫» َ‬
‫‪ -‬أو الوفد ‪ -‬غير خزايا ول ندامى«‪ ,‬قالوا‪ :‬إنا نأتيك من شقة‬
‫بعيدة‪ ،‬وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر‪ ،‬ول نستطيع أن نأتيك‬
‫إل في شهر حرام‪ ،‬فمرنا بأمر نخبر به من وراءنا‪ ،‬ندخل به الجنة‪،‬‬
‫فأمرهم بأربعة ونهاهم عن أربعة‪ :‬أمرهم باليمان بالله عز وجل‬
‫وحده قال‪» :‬هل تدرون ما اليمان بالله وحده؟« قالوا‪ :‬الله‬
‫ورسوله أعلم‪ ،‬قال‪» :‬شهادة أن ل إله إل الله‪ ،‬وأن محمدًا رسول‬
‫الله‪ ،‬وإقام الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬وتعطوا الخمس‬
‫من المغنم«‪.‬‬
‫)‪(6‬‬ ‫)‪(5‬‬ ‫)‪(4‬‬ ‫)‪(3‬‬
‫ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت ‪ -‬قال شعبة ‪ :‬ربما‬
‫قال‪ :‬النقير)‪ (7‬وربما قال‪ :‬المقير)‪.(8‬‬
‫قال‪» :‬احفظوه وأخبروه من وراءكم« )‪.(9‬‬
‫وروى البخاري بسنده‪ ،‬عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي‬
‫الله عنهما‪ ،‬أن رسول الله × قال‪» :‬بلغوا عني ولو آية‪ ،‬وحدثوا‬
‫ي متعمدا‪ ،‬فليتبوأ مقعده‬ ‫إسرائيل ول حرج‪ ,‬ومن كذب عل ّ‬ ‫عن بني‬
‫من النار« )‪.(10‬‬
‫)( عبد قيس‪ :‬من القبائل التي كانت تسكن الجزيرة العربية وهي من بطون‬ ‫‪1‬‬

‫ربيعة‪.‬‬
‫)( هو مالك بن الحويرث‪ ،‬أبو سليمان الليثي‪ ،‬صحابي نزل البصرة‪ ،‬مات سنة‬ ‫‪2‬‬

‫أربع وسبعين‪ ،‬انظر‪ :‬تقريب التهذيب‪ ،‬ص)‪.(516‬‬


‫)( الدباء‪ :‬القرع‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( الجرة أو الجرار الخضر تعمل من الطين‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( ما طلي بالزفت‬ ‫‪5‬‬

‫)( هو شعبة بين الحجاج الوردي أبو بسطام الواسطي‪ ،‬ثقة‪ ،‬حافظ متقن‪ ,‬كان‬ ‫‪6‬‬

‫مدافعا عن السّنة‪ ،‬ت ‪ 160‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬تقريب التهذيب‪ ،‬ص ‪.266‬‬‫ً‬


‫)( أصل النخلة ينقر فيتخذ منه وعاء‪.‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( ما طلي بالقار‪.‬‬ ‫‪8‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب‪ :‬أداء الخمس )‪ (1/23‬رقم ‪.53‬‬ ‫‪9‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب أحاديث النبياء‪ ،‬باب ما ذكر من بني إسرائيل )‪ (4/175‬رقم‬ ‫‪10‬‬

‫‪.4361‬‬

‫‪310‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وخلصة اليات الكريمة والسنة النبوية الشريفة فرضية العين‬


‫على من توافرت فيه الهلية لممارسة العمل في هذه المرحلة أل‬
‫وهي مرحلة التعريف‪.‬‬
‫وعندما يكون المتصدرون لمرحلة التعريف دعاة ربانيين‬
‫يمكنهم أن يحققوا هذه الهداف‪:‬‬
‫‪ -1‬التعريف بالسلم تعريفًا صحيحًا‪:‬‬
‫ويكون ذلك بشرح أصول السلم وقواعده‪ ،‬وآدابه‪ ،‬وأخلقه‪،‬‬
‫ومنهجه ونظامه في حياة الناس‪ ،‬ويفسر للمدعو كل مجمل‪،‬‬
‫ويوضح له كل غامض‪ ,‬وييسر له كل ما يتصور أنه عسير أو صعب‪،‬‬
‫ويكون ذلك وفق تخطيط وتنظيم وتنسيق بين الدعاة‪ ،‬كما‬
‫يستدعي هذا العمل تخصصا يوزع بين الدعاة حتى يصل السلم‬
‫إلى كل إنسان مهما كان مستواه التعليمي أو الثقافي‪ ،‬أو‬
‫الجتماعي‪.‬‬
‫‪ -2‬تكوين قاعدة عريضة من المدعوين‪:‬‬
‫تكون هذه القاعدة على أسس من الفهم السليم والستيعاب‬
‫العميق لحقيقة السلم وأخلقه وآدابه بحيث تكون هذه القاعدة‬
‫من شرائح المجتمع المتنوعة‪ ،‬من فلحين وأصحاب حرف ومصانع‬
‫وعمال‪ ،‬وتلميذ في المدارس وطلب في الجامعات وموظفين‬
‫في الحكومة أو القطاع العام أو الخاص‪ ,‬ومن المثقفين أصحاب‬
‫الثقافات المتعددة وأعضاء النقابات المهنية والمنتمين للحزاب‬
‫السياسية‪ ،‬وأصحاب الرأي والفكر‪ ،‬وأعضاء هيئات التدريس في‬
‫الجامعات وغير ذلك من شرائح المجتمع‪ .‬والواجب على الدعاة‬
‫في مرحلة الدعوة والتعريف بالسلم أن يعملوا على إيصال‬
‫الدعوة السلمية إليهم بصورة قادرة على مواكبة العصر‬
‫ومتطلباته والمتغيرات وظروفها‪ ،‬وأن يضعوا لهم تصورات دقيقة‬
‫لمشكلت الحياة من منظور إسلمي يدل على شمولية هذا الدين‪,‬‬
‫وأنه يتناول مظاهر الحياة جميعا من دولة ووطن‪ ,‬وحكومة وأمة‪,‬‬
‫وخلق وقوة‪ ،‬وعدالة ورحمة‪ ،‬وثقافة وقانون‪ ,‬وعلم وقضاء‪,‬‬
‫وعقيدة صادقة‪ ,‬وعبادة صحيحة سواء بسواء‪ ,‬ويكون تكوين‬
‫القاعدة الصلبة التي تحمل السلم بالتنسيق والتعاون بين الدعاة‬
‫أنفسهم فتهتم مجموعة من الدعاة بتثقيف المزارعين وتربيتهم‪،‬‬
‫وأخرى في أوساط أصحاب الصناعات والحرف‪ ،‬ودعاة يعملون‬
‫في مجال طلب العلم‪ ,‬ودعاة في أوساط النتماءات الموالية أو‬
‫المعادية للسلم‪ ,‬وآخرون في مجال النقابات‪ ،‬وفي مجال أصحاب‬
‫النتماءات السياسية والحزبية‪ ،‬وفي مجال أصحاب الفكر والرأي‬
‫وفي هيئات التدريس في الجامعات‪ ،‬ويكون بين الدعاة تعاون‬

‫‪311‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وثيق وتنسيق مستمر وتنظيم دقيق وتخطيط رشيد وإدارة واعية‬


‫وقيادة حازمة‪ ,‬ولبد من توافر صفات الدعاة فيهم وإل عاد ذلك‬
‫الجهد بمردود سيئ على الدعوة والمدعوين وعلى العمل‬
‫السلمي كله‪.‬‬
‫إن أمر التعاون بين الدعاة واجب شرعي‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬
‫ْ‬ ‫وُنوا َ َ‬ ‫ول َ ت َ َ‬ ‫عَلى اْلبّر َ‬
‫والت ّ ْ‬
‫على ا ِ ِ‬
‫م‬ ‫ث‬ ‫ل‬ ‫عا َ‬ ‫وى َ‬
‫ق َ‬ ‫وُنوا َ‬ ‫عا َ‬ ‫وت َ َ‬
‫‪َ +‬‬
‫ن" ]المائدة‪.[2 :‬‬
‫وا ِ‬ ‫عد ْ َ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫َ‬
‫إن الدعوة ليست محصورة في مجال معين‪ ،‬أو وسيلة واحدة‪،‬‬
‫بل هي ميدان رحب ولها وسائل شتى‪ ,‬وذلك يعني أنه لبد من‬
‫بذل جهود عظيمة ولبد من إدراك أن الداعية مهما تعددت مواهبه‬
‫فإنها تقصر عن البداع والتقان في كل مجال‪ ،‬فهناك من يستطيع‬
‫الخطابة ويجيدها‪ ،‬وهناك من يحسن التأليف ويتقنه‪ ،‬وهناك من‬
‫ينشر العلم ويدرسه‪ ،‬وهناك من يعرف العمل السياسي‪ ،‬وآخر‬
‫يبدع في العمل الخيري‪ ،‬وهكذا ول يتصور أن تغطى هذه المجالت‬
‫إل باستفراغ كل داعية جهده في مجال إتقانه ليحصل التكامل‪،‬‬
‫ورحم الله المام مالكا إمام دار الهجرة الذي نصب نفسه في‬
‫ميدان من أعظم ميادين الدعوة وهو نشر العلم الشرعي‪ ,‬فكتب‬
‫إليه من يدعوه إلى غير ذلك)‪ (1‬فقال‪» :‬إن الله قسم العمال كما‬
‫قسم الرزاق‪ ,‬فرب رجل فتح له في الصلة ولم يفتح له في‬
‫الصوم‪ ،‬وآخر فتح له في الصدقة‪ ،‬ولم يفتح له في الصوم‪ ،‬وآخر‬
‫فتح له في الجهاد‪ ،‬فنشر العلم من أفضل أعمال البر‪ ,‬وقد رضيت‬
‫بما فتح الله لي فيه‪ ،‬وما أظن ما أنا فيه بدون ما أنت فيه‪ ،‬وأرجو‬
‫أن يكون كلنا على خير وبر«)‪.(2‬‬
‫ول يشك أحد أن المة السلمية تشكو لخالقها قلة الدعاة‬
‫وغلبة الجهل‪ ،‬وضياع العلم‪ ،‬وتفشي المنكرات مما تحتاج معه إلى‬
‫جهود ضخمة لصلح الحوال‪ ,‬ول يكون ذلك إل بالتعاون لستثمار‬
‫هذه المكانات بأقصى ما يمكن والفادة من التجارب‪ ،‬وتبادل‬
‫الخبرات‪.‬‬
‫إن أعداء السلم يحرصون على بث أسباب الشقاق‪ ،‬وزرع‬
‫بذور النزاع بين المسلمين عموما‪ ،‬وأعيانهم من العلماء والدعاة‬
‫خصوصا‪ ،‬وهذا يحقق لهم من الهداف والغايات ما ل يستطيعون‬
‫بلوغه بجهدهم وكيدهم‪ ،‬وذلك أن الهدم من الداخل أشد فتكا‬
‫وأعظم ضررا‪ ،‬ولذا كان خطر المنافقين أكبر وأظهر‪ ,‬وإن عدم‬
‫إدراك هذه الحقيقة يجعل الداعية يخالف إخوانه من الدعاة بدل‬
‫من أعداء الله‪ ،‬ويتفرغ لتسقط أخطائهم وتتبع عثراتهم‪ ،‬فيفرح‬
‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬د‪ .‬علي بادحدح‪ ،‬ص ‪.147‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نزهة الفضلء )‪.(2/625‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪312‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بذلك أعداء الله‪ ،‬بل إنهم يسعون لذلك ويثيرونه‪ ،‬فعلى الداعية‬
‫الحصيف أن يفوت عليهم الفرصة وأن يخذلهم باتباع الحق‪ ,‬وفهم‬
‫حقيقة الختلف المبني على الجتهاد وإحسان الظن بإخوانه‪،‬‬
‫والتماس العذر لهم‪ ،‬والحرص على حماية أعراضهم وسمعتهم‪،‬‬
‫والحرص على التعاون‪ ،‬وإشاعة الخير)‪ ,(1‬وله في ذلك نماذج من‬
‫الئمة والعلماء‪ ,‬فهذا المام أحمد بن حنبل جاء في سيرته أنه إذا‬
‫بلغه عن شخص صلح أو زهد وقيام بحق واتباع لمر سأل عنه‪،‬‬
‫وأحب أن يجري بينه وبينه معرفة‪ ،‬وأحب أن يعرف أحواله‪ ،‬وهذا‬
‫الشافعي يناظر يونس الصدفي فيختلفان ويفترقان‪ ,‬قال يونس‪:‬‬
‫فلقيني )أي الشافعي( فأخذ بيدي ثم قال‪ :‬يا أبا موسى أل يستقيم‬
‫أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة)‪ ،(2‬وهذا ابن المبارك‬
‫سمع رجل ينال من آخر وينتقده فقال له ابن المبارك‪ :‬هل قاتلت‬
‫الترك؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فهل قاتلت الفرس؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬فهل‬
‫قاتلت الديلم؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬أفسلم منك الترك والفرس والديلم‬
‫ول يسلم منك أخوك المسلم؟ )‪.(3‬‬
‫فكن أنت محتال لزلته عذرا‬ ‫إذا ما بدت من صاحب لك‬
‫زلة‬
‫كأن به عن كل فاحشة وقرا‬ ‫أحب الفتى ينفي الفواحش‬
‫سمعه‬
‫ول مانع خيرا ول قائل هجرا‬ ‫سليم دواعي الصدر ل‬
‫باسط أذى‬
‫إن في أعدائنا كفاية لستنفاد جهودنا في حربهم‪ ،‬ومواجهتهم‪,‬‬
‫فكيف نغفل عن هذا ونوجه سهامنا لبعضنا؟ )‪.(4‬‬
‫إن نجاح الدعاة في تنظيم جهودهم ووضعها وفق خطة‬
‫شاملة وتوحيد قيادتهم يعين العاملين في مجال الدعوة على‬
‫تحقيق أهدافهم‪ ,‬ويستطيعون أن يبذلوا طاقاتهم في البناء‬
‫وانتقاء العناصر الجيدة التي تعتز وتنتمي إلى السلم وتثبت‬
‫على هذا العتزاز وتتجرد ممن سواه‪ ،‬وتورثه إلى غيرها من‬
‫الناس‪ ،‬وممن يظهر حماسهم والتزامهم الحاسم بكل ما هو‬
‫إسلمي‪ .‬ويستطيع الدعاة أن يفرزوا قاعدة قوية بين الناس‬
‫تؤمن بالعمل الجماعي للسلم وتراه فرضا عليها‪ ،‬وعلى كل‬
‫المسلمين القادرين على العمل‪ ,‬وتكون تلك القاعدة طليعة‬
‫لقاعدة أوسع من العاملين للسلم‪ ،‬في عمل جماعي تشرف‬
‫عليه لجان مشكلة على جميع مستوياته الفكرية‪ ,‬والثقافية‪،‬‬
‫والجتماعية‪ ،‬والقتصادية والسياسية‪ ،‬والتربوية‪ ،‬والحركية‬
‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.149‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( نزهة الفضلء‪ ،‬تهذيب سير أعلم النبلء‪ ،‬د‪ .‬محمد حسن عقيل‪.(2/734) ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫)(‪ (4) ,‬انظر مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.147‬‬ ‫‪3‬‬


‫‪4‬‬
‫)( انظر مقوماتـ الداعية الناجح‪،‬ـ ص ‪.147‬‬

‫‪313‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والدعوية وفق خطط مجهزة‪ ،‬وتنظيم محكم‪ ،‬وإدارة واعية‬


‫وتربية عميقة‪ ,‬يشرف عليها علماء ربانيون وفقهاء عاملون‬
‫مستوعبون للحياة النسانية وقضاياها ومشكلتها‪.‬‬
‫وسائل الدعاة في هذه المرحلة‪:‬‬
‫لقد انتشر في هذا العصر العلم وكثرت فيه وسائل العلم‬
‫والتربية وازدهرت فيه الخطابة والكتابة وعمت الجامعات في كل‬
‫مكان‪ ،‬وكذلك المدارس في المدن والقرى والجبال والسهول‬
‫والرياف‪ ،‬وتدفقت السيول من المطبوعات والمنشورات من‬
‫المطابع ودور النشر‪ ،‬ونبغ فيها علماء باحثون‪ ،‬ووعاظ مرشدون‪،‬‬
‫فلهذا يجب على الدعاة أن يتبعوا كل أسلوب يوصلهم إلى قلوب‬
‫الناس‪ ,‬ويحقق الهدف المطلوب من نشر الدعوة‪ ،‬وعليهم أن‬
‫يعتمدوا الساليب الحديثة التي استغلها أعداء السلم في بث‬
‫عقائدهم‪ ،‬ونشر أفكارهم وعلمهم‪ ,‬وعليهم أن يطوروا هذه‬
‫الساليب حتى ل تتعارض مع دعوتهم ول تصدم بقواعد الدين)‪.(1‬‬
‫وقد حدد القرآن الكريم الساليب العامة للدعوة السلمية في آيات‬
‫ة‬
‫م ِ‬‫حك ْ َ‬‫ك ِبال ْ ِ‬‫َ‬
‫ل َرب ّ َ‬ ‫ع إ َِلى َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫كريمة‪ ,‬منها قوله تعالى‪+ :‬ادْ ُ‬
‫ن" ]النحل‪:‬‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫يأ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫م ِبالِتي ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ْ‬
‫جاِدل ُ‬ ‫و َ‬
‫ة َ‬
‫سن َ ِ‬ ‫ة ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫عظَ ِ‬
‫و ِ‬ ‫وال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫َ‬
‫‪.[125‬‬
‫ك"‬‫ل َرب ّ َ‬ ‫ع إ َِلى َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫ولنستشعر إعجاز القرآن في قوله‪+ :‬ادْ ُ‬
‫ونشعر بمدى أبعاد الطلق الذي جاء في هذه الية‪ ،‬وأبعاد التقييد‬
‫ك" ما حدد وما‬ ‫ل َرب ّ َ‬‫سِبي ِ‬ ‫الذي جاء فيها فأطلق وقال‪+ :‬إ َِلى َ‬
‫عين شيئا معينا خاصا‪ ،‬فيدخل في ذلك الحث على الصلة ودعوة‬
‫الناس إلى مكارم الخلق والفضيلة وإلى تطبيق شرع الله على‬
‫ك" يحوي كل شيء ويمتد على‬ ‫ل َرب ّ َ‬
‫سِبي ِ‬
‫أنفسهم وأهليهم‪َ + ,‬‬
‫اتساع جميع الفاق‪ ،‬وهو ل يختص بالخطابة ول يختص بالكتابة ول‬
‫ع" والدعوة عامة شاملة‬ ‫يختص بالوعظ والنصيحة إنما قال ‪+‬ادْ ُ‬
‫هذه المعاني كلها‪ ،‬وهذه الساليب كلها )‪.(2‬‬
‫ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى‪) :‬إن الدعوة دعوة إلى‬
‫سبيل‪ ،‬ل لشخص الداعية ول لقومه‪ ،‬والدعوة بالحكمة والنظر في‬
‫أحوال المخاطبين وظروفهم والقدر الذي يبينه لهم في كل مرة‬
‫حتى ل يثقل عليهم ول يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها‪،‬‬
‫والطريقة التي يخاطبهم بها والتنويع في هذه الطريقة حسب‬
‫مقتضياتها‪ ،‬فل تستبد به الحماسة والندفاع والغيرة فيتجاوز‬
‫الحكمة في هذا كله وفي سواه( )‪.(3‬‬

‫)( انظر‪ :‬أسس الدعوة‪ ،‬محمد سيد الوكيل‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬حكمة الدعوة وصفة الدعاة لبي الحسن الندوي‪ ،‬ص ‪.8‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( )‪ (2‬في ظلل القرآن )‪.(4/2198‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪314‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ويقول أيضا‪) :‬بالموعظة الحسنة التي تدخل إلى القلوب‬


‫برفق‪ ،‬وتتعمق المشاعر بلطف‪ ،‬ل بالزجر والتأنيب في غير‬
‫موجب‪ ،‬ول بفضح الخطاء التي قد تقع عن جهل أو عن حسن نية‪،‬‬
‫فإن الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة‪ ،‬ويؤلف‬
‫القلوب النافرة‪ ،‬ويأتي بخير من الزجر والتأنيب والتوبيخ( )‪.(1‬‬
‫ويقول أيضا في معنى الجدل بالتي هي أحسن‪) :‬أي بل تحامل‬
‫على المخالف ول ترذيل له ول تقبيح‪ ،‬حتى يطمئن الداعي ويشعر‬
‫أن ليس هدفه هو الغلبة في الجدل‪ ،‬ولكن القناع والوصول إلى‬
‫الحق( )‪.(2‬‬
‫وعليه تكون الساليب العامة للدعوة إلى الله ثلثة هي‪:‬‬
‫‪ -1‬الحكمة‪.‬‬
‫‪ -2‬الموعظة الحسنة‪.‬‬
‫‪ -3‬المجادلة بالتي هي أحسن ‪.‬‬
‫)‪(3‬‬

‫وعلى الدعاة أن ل يغفلوا الوسائل الحديثة التي ظهرت في‬


‫هذا العصر‪ ،‬وكان لها الثر الكبير في سلوك الناس ومعاملتهم‬
‫وأفكارهم ومن هذه الوسائل‪:‬‬
‫‪ -1‬وسائل العلم‪:‬‬
‫وهي بجميع أنواعها أسلوب جيد إذا أحسن استغلله‪ ،‬فالصحف‬
‫اليومية والمجلت الشهرية أو السبوعية‪ ،‬والنشرات الدورية‪،‬‬
‫والوسائل السمعية )الذاعة( والوسائل البصرية )التلفاز ‪-‬‬
‫والتسجيل المرئي ‪ -‬الفيديو( وحتى )اللة الحاسبة الدقيقة(‬
‫)الكمبيوتر(‪ ,‬فكل هذه الوسائل يمكن أن تستخدم في مجال‬
‫الدعوة ويمكن استخدام القصة للتأثير في نفس السامع والقارئ‪,‬‬
‫والتمثيليات الهادفة التي تبعث في النفوس الطموح‪ ،‬وتثير فيها‬
‫حب الجهاد في سبيل الله وتدعو إلى الفضائل والخلق الحميدة‪،‬‬
‫وهناك الناشيد الحماسية التي تشعل في النفوس الحماس‬
‫والنطلق للدعوة في سبيل الله‪ ،‬وفي تاريخنا مادة دسمة تغذي‬
‫هذه الموضوعات‪.‬‬
‫لشك أننا إذا قدمنا للناس هذه اللوان من الساليب وهي‬
‫تحمل في معانيها ما تدعو إليه من العقيدة الصحيحة‪ ،‬واليمان‬
‫العميق‪ ،‬والخلق الفاضلة‪ ،‬والمثل العالية والداب والتقاليد التي‬
‫نعتز بها‪ ،‬نكون قد ولجنا إلى قلوبهم من حيث يجب أن نلج‪ ,‬ونكون‬
‫قد قدمنا لهؤلء المولعين بهذه الساليب عوضا عما يلهثون وراءه‬
‫‪1‬‬
‫)( في ظلل القرآن ) ‪.(4/2198‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪.(4/2302‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الدعوة السلمية بين الفردية والجماعية‪ ،‬سليمان مرزوق‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪315‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من هذه التفاهات التي استولت على عقولهم فأضلتها عن الحق‪،‬‬


‫فحينئذ نستطيع أن نتحكم في قلوب الناس وعقولهم‪ ،‬فنملها‬
‫بالحق بدل الباطل‪ ,‬ونغذيها بالفضائل بدل الرذائل‪ ,‬ونوجههم إلى‬
‫الخير والصلح)‪.(1‬‬
‫‪ -2‬الكتب والبحوث‪:‬‬
‫امتلت الدنيا بالمؤلفات‪ ،‬وأصبح في كل بيت مكتبة‪ ،‬بل في‬
‫كل مكتب مكتبة‪ ،‬وكثرت دور النشر‪ ،‬وشجع تقدم فن الطباعة‬
‫على مضاعفة المطبوعات بشكل هائل‪.‬‬
‫إن الكتب والمجلت الجنسية والروايات والقصص‪ ،‬وكتب‬
‫الجريمة والفساد‪ ،‬وكتب الفكار الهدامة والمنحرفة انتشرت‬
‫في دنيا الناس انتشار النار في الهشيم بكل اللغات والوسائل‪،‬‬
‫فيجب على الدعاة أن يكتبوا الكتب والبحوث بأسلوب سهل‬
‫ممتع و جذاب يفهمه عامة الناس وخاصتهم‪ ،‬وتعرف الناس‬
‫بالسلم وتشرح لهم تعاليمه‪ ,‬وتقنعهم أنه منهج كامل يتناول‬
‫جميع ا‪ ،‬وأنه كفيل بإسعاد الناس وجلب الرخاء‬‫ً‬ ‫شئون الحياة‬
‫والمن والسلم لهم جميعا‪ ,‬حيث إنه أوجد حضارة مشرقة‬
‫صحيح ا‪ ،‬ويحسن أن تعرض‬ ‫ً‬ ‫وتاريخا مجيدا يوم أن ُ‬
‫طبق تطبيقا‬
‫هذه الفكار ونظيراتها في كتيبات يسهل حملها كما تسهل‬
‫قراءتها بحيث تكون كل فكرة أو بحث في كتيب على حدة‪،‬‬
‫وتتسلسل في ربط قوي‪ ،‬وجاذبية مؤثرة تجعل القارئ ل ينتهي‬
‫من كتيب حتى يجد نفسه مشدودا إلى قراءة الذي يليه)‪.(2‬‬
‫وهكذا يسعى الدعاة إلى توظيف كل الوسائل من الخطبة‬
‫والمحاضرة والدرس والمناظرة‪ ..‬إلخ للتعريف بدعوة السلم‪،‬‬
‫ولبد لهم من استيعاب فقه المر بالمعروف والنهي عن المنكر‬
‫ووسائله وأساليبه والهتمام بإقامة المنشآت والمؤسسات النافعة‬
‫التي تجلب الخير للناس وتدفع عنهم الشر‪ .‬ولبد أن يكون الدعاة‬
‫الذين يتصدون لتعليم الناس وتعريفهم بدعوة السلم قدوة بين‬
‫الناس‪ ،‬لن القدوة هي الصورة الحية للفكرة‪ ،‬والتطبيق العملي‬
‫للدعوة‪ ،‬والتوضيح الجلي للحجة‪ ،‬ولشك أنها من أعظم أسباب‬
‫بذر المحبة في القلوب‪ ،‬ووجود القناعة في العقول‪ ,‬وكثير من‬
‫المدعوين ينتفعون بالسيرة ولسيما العامة وأرباب العلوم‬
‫القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والخلق الفاضلة والعمال‬
‫الصالحة ما ل ينتفعون من القوال التي قد ل يفهمونها)‪.(3‬‬
‫ولله در ابن القيم حيث قال‪» :‬إن الناس قد أحسنوا القول‬
‫فمن وافق قوله فعله فذاك الذي أصاب حظه‪ ,‬ومن خالف قوله‬
‫)( انظر‪ :‬أسس الدعوة‪ ،‬د‪ .‬محمد السيد الوكيل‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬كيف ندعو الناس‪ ،‬عبد البديع خضر‪ ،‬ص ‪.75‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مجموع الفتاوى‪ ،‬ابن باز )‪.(3/110‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪316‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫فعله فذاك إنما يوبخ نفسه«)‪.(1‬‬


‫ولبد من التأكيد على أهمية عنصر القدوة وخطورة انعدامه‬
‫حيث »يستطيع النسان أن يكون عالما جهبذا في الكيمياء أو‬
‫العلوم أو الطب أو الهندسة أو غير ذلك من العلوم التي أمرنا الله‬
‫بتعلمها لتعمر الدنيا‪ ،‬ولكن هذه العلوم ل تتطلب منا قيدا سلوكيا‪،‬‬
‫فقد تكون عالما في أي فرع من هذه العلوم وسلوكك تبعا لهواك‪,‬‬
‫ولكن هذا ل يفسد الحقيقة أنك عالم في علمك لن النبوغ ل يضع‬
‫قيدا على الخلق‪ ,‬إل علم الدين فإنك إن كنت من علمائه أو‬
‫الداعين إليه أو المتدينين المخلصين لبد أن تكون قدوة حسنة لما‬
‫تدعو إليه وإل لما استمع إليك أحد)‪.(2‬‬
‫قال شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬قال غير واحد من‬
‫السلف‪:‬‬
‫)‪(3‬‬
‫الحكمة معرفة الدين والعمل به( ‪.‬‬
‫والعلم بل عمل حجة على صاحبه يوم القيامة‪ ،‬ولهذا َ حذر الله‬
‫ها‬‫المؤمنين أن يقولوا ما ل يفعلون‪ ,‬فقال عز وجل‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫قًتا ِ َ‬
‫د‬ ‫عن‬ ‫م ْ‬ ‫عُلو َ‬
‫ن ‪ ‬ك َب َُر َ‬ ‫ما ل َ ت َ ْ‬
‫ف َ‬ ‫ن َ‬‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬‫مُنوا ل ِ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ا َل ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن" ]الصف‪.[3 ،2 :‬‬ ‫ُ‬
‫علو َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما ل ت َف َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫أن ت َقولوا َ‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫هل لنفسك كان ذا التعليم‬ ‫يا أيها الرجل المعلم غيره‬

‫فإذا انتهت عنه فأنت‬ ‫ابدأ بنفسك فانهها عن غيها‬


‫حكيم‬
‫بالعلم منك وينفع التعليم‬ ‫فهناك يقبل ما تقول ويقتدى‬

‫كيما يصح به وأنت سقيم‬ ‫تصف الدواء لذي السقام‬


‫من الضنا‬
‫نصحا وأنت من الرشاد‬ ‫أراك تلقح بالرشاد عقولنا‬
‫عديم‬
‫)‪(4‬‬
‫عظيم‬ ‫ل تنه عن خلق وتأتي مثله‬

‫عدة الدعاة القائمين على هذه المرحلة‪:‬‬


‫أولً‪ :‬التميز اليماني والتفوق الروحي‪:‬‬

‫الفوائد‪ ،‬ص ‪.192‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الدعوة قواعد وأصول‪ ،‬جمعة أمين‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫درء تعارض العقل والنقل )‪.(23 ،9/22‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬الحكمة في الدعوة إلى الله‪ ،‬ص ‪.97‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪317‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن التميز في مجال اليمان عقيدة صحيحة‪ ،‬ومعرفة جازمة‪،‬‬


‫وتأثيًرا قوًيا يعد ‪ -‬بل نزاع ‪ -‬أهم المقومات وأولى الولويات‬
‫بالنسبة للداعية‪ ،‬لكي يكون الداعية عظيم اليمان بالله‪ ،‬شديد‬
‫الخوف منه‪ ،‬صادق التوكل عليه‪ ،‬دائم المراقبة له‪ ،‬كثير النابة‬
‫إليه‪ ،‬لسانه رطب بذكر الله‪ ،‬وعقله مفكر في ملكوت الله‪ ،‬وقلبه‬
‫مستحضر للقاء الله‪ ،‬مجتهد في الطاعات‪ ،‬مسابق إلى الخيرات‪،‬‬
‫صوام بالنهار قوام بالليل‪ ،‬مع تحري الخلص التام‪ ،‬وحسن الظن‬
‫بالله‪ ،‬وهذا هو عنوان الفلح وسمت الصلح‪ ،‬ومفتاح النجاح إذ هو‬
‫تحقيق لمعنى العبودية الخالصة لله وهي التي تجلب التوفيق من‬
‫الله‪ ,‬فإذا بالداعية مسدد‪ ،‬إن عمل أجاد‪ ،‬وإن حكم أصاب‪ ،‬وإن‬
‫تكلم أفاد)‪.(1‬‬
‫يقول ابن القيم ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬التزام عبوديته من الذل‬
‫والخضوع والنابة وامتثال أمر سيده‪ ،‬واجتناب نهيه‪ ،‬ودوام‬
‫الفتقار إليه‪ ،‬واللجوء إليه‪ ،‬والستعانة به‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬وعياذ‬
‫العبد به ولياذه به‪ ،‬وأن ل يتعلق قلبه بغيره محبة وخوفا ورجاء‪،‬‬
‫وفيه أيضا أنه عبد من جميع الوجوه‪ :‬صغيرً ا وكبيرً ا‪ ،‬حيً ا وميتًا‪،‬‬
‫مطيع ا وعاصيً ا‪ ،‬معافى ومبتلى‪ ،‬بالروح والقلب واللسان‬ ‫ً‬
‫والجوارح‪ ،‬وفيه أيضا أن مالي ونفسي ملك لك فإن العبد وما‬
‫ي بكل ما أنا‬ ‫يملك لسيده‪ ،‬وفيه أيضً ا أنك أنت الذي مننت عل ّ‬
‫فيه من نعمة فذلك كله من إنعامك على عبدك‪ ,‬وفيه أيضً ا أني‬
‫ل أتصرف فيما خولتني من مالي ونفسي إل بأمرك‪ ،‬كما ل‬
‫ضر ا ول‬
‫ً‬ ‫يتصرف العبد إل بإذن سيده‪ ,‬وإني ل أملك لنفسي‬
‫نشور ا فإن صح له شهود ذلك فقد‬ ‫ً‬ ‫نفع ا‪ ،‬ول موتً ا ول حياة ول‬
‫ً‬
‫قال إني عبدك حقيقة«)‪.(2‬‬
‫ول يتصور للداعية نجاح وتوفيق‪ ،‬أو تمييز وقبول دون أن يكون‬
‫عظيما »إذ كيف تدعو الناس إلى أحد وصلتك به‬
‫ً‬ ‫حظه من اليمان‬
‫)‪(3‬‬
‫واهية ومعرفتك به قليلة« ‪.‬‬
‫وهذه الغاية العظمى تتصل أكثر شيء بأعمال القلوب التي‬
‫تخفى على الناس ول يعلمها إل علم الغيوب‪ ،‬إل أن آثار ذلك‬
‫تظهر بوضوح في القوال والفعال‪ ,‬فإن »عكوف القلب على الله‬
‫تعالى وجمعه عليه‪ ،‬والخلوة به‪ ،‬والنقطاع عن الشتغال بالخلق‬
‫والنتقال به وحده سبحانه بحيث يصير ذكره وحبه‪ ،‬والقبال عليه‬
‫في محل هموم القلب وخطراته‪ ،‬فيستولي عليه بدلها‪ ،‬ويصير‬
‫الهم كله به‪ ،‬والخطرات كلها بذكره والتفكر في تحصيل مراضيه‬

‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.34‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الفوائد‪ ،‬ص ‪.35 ،34‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مع الله‪ ,‬الشيخ محمد الغزالي‪ ،‬ص ‪.188‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪318‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وما يقرب منه‪ ,‬فيصير أنسه بالله بدل عن أنسه بالخلق‪ ،‬فيعده‬
‫بذلك لنسه به يوم الوحشة في القبور حين ل أنيس‪ ,‬ول ما يفرح‬
‫به سواه«)‪.(1‬‬
‫كل ذلك ينعكس على الداعية فتظهر على شخصيته آثار‬
‫اليمان الصحيح المتحرك ومن أبرزها‪:‬‬
‫‪ -1‬التحرر من عبودية غير الله‪:‬‬
‫اليمان قوة عظمى يستعلي بها المؤمن على كل قوى الرض‪،‬‬
‫وكل شهوات الدنيا ويصبح حرا ل سلطان لحد عليه إل لله‪ ،‬فل‬
‫يخاف إل الله‪ ،‬ول يذل إل لله‪ ،‬ول يطلب إل من الله‪ ,‬ول يأمل إل‬
‫من الله‪ ،‬ول يتوكل إل على الله‪ ،‬ولليمان تأثير كبير في أعظم‬
‫أمرين يسيطران على حياة البشر وهما‪ :‬الخوف على الرزق‪،‬‬
‫والخوف على الحياة‪.‬‬
‫أما الول‪ :‬فل يخفى كم أذل الحرص أعناق الرجال‪ ،‬وكم‬
‫يشغل الناس حب المال‪ ,‬وكم باع أناس مبادئهم‪ ،‬وخانوا أمتهم‬
‫وتنكروا لماضيهم لما ذهب الذهب بأبصارهم وسبي قلوبهم‪ ،‬أما‬
‫المؤمن فحقائق اليمان تمل قلبه فل يتأثر بشيء من هذا لن في‬
‫ما‬‫و َ‬‫م َ‬ ‫قك ُ ْ‬
‫رْز ُ‬‫ء ِ‬ ‫ما ِ‬‫س َ‬‫في ال ّ‬ ‫و ِ‬‫قلبه قول الحق جل وعل‪َ + :‬‬
‫ن" ]الذاريات‪.[22 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫ُتو َ‬
‫ق‬
‫ه الّرْز َ‬ ‫عن ْدَ الل ِ‬ ‫غوا ِ‬ ‫فاب ْت َ ُ‬‫ولنه يعلم من بيده الرزق‪َ + :‬‬
‫ه" ]العنكبوت‪ [17 :‬وأنه ل يملك أحد من‬ ‫شك ُُروا ل َ ُ‬ ‫وا ْ‬ ‫دوهُ َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫ه لَ‬ ‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ُ ِ‬‫دو‬ ‫من‬ ‫ن‬ ‫دو‬
‫ِ َ َ ْ ُ ُ َ ِ‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫ِ ّ‬ ‫إ‬ ‫‪+‬‬ ‫شيئا‬ ‫ذلك‬ ‫من‬ ‫البشر‬
‫قا" ]العنكبوت‪ ,[17 :‬وفوق ذلك يعلم حقيقة الرزق‬ ‫رْز ً‬
‫م ِ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫كو َ‬ ‫مل ِ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫خي ٌْر‬‫ك َ‬ ‫رْزقُ َرب ّ َ‬ ‫و‬
‫َ ِ‬ ‫‪+‬‬ ‫بقوله‪:‬‬ ‫ويرتبط‬ ‫المحدودة‬ ‫وقيمته‬ ‫الدنيا‬ ‫في‬
‫قى" ]طه‪.[131 :‬‬ ‫وأ َب ْ َ‬ ‫َ‬
‫فاٍد" ]ص‪.[54 :‬‬ ‫من ن ّ َ‬ ‫ه ِ‬ ‫َ‬
‫ما ل ُ‬ ‫قَنا َ‬ ‫رْز ُ‬ ‫َ‬
‫ذا ل ِ‬ ‫ه َ‬‫ن َ‬ ‫وقوله‪+:‬إ ِ ّ‬
‫وحديث المصطفى ×‪» :‬لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح‬
‫بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء« )‪.(2‬‬
‫ومن هذه المنطلقات اليمانية قال الشافعي ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫وإذا مت لست أعدم قبرا‬ ‫أنا إن عشت لست أعدم‬
‫قوتا‬
‫ً‬
‫)‪(3‬‬
‫قهرا‬ ‫همتي همة الملوك ونفسي‬

‫)( زاد المعاد )‪.(2/87‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الترمذي‪ ،‬كتاب الزهد‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في هوان الدنيا على الله‪ ،‬حديث رقم‬ ‫‪2‬‬

‫‪.2320‬‬
‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪319‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أما الثاني‪ :‬فيقين المؤمن أن الموت والحياة بيد الله‪ ،‬وأنه ل‬


‫ينجي حذر من قدر‪ ،‬وأن المة لو اجتمعت على أن يضروه بشيء‬
‫ل يضروه إل بشيء قد كتبه الله عليه‪ ،‬وأن الموت ليس بالقدام‬
‫كوُنوا‬‫ما ت َ ُ‬ ‫َ‬
‫وأن السلمة ليست بالحجام‪ ,‬كما قال تعالى‪+ :‬أي ْن َ َ‬
‫ة" ]النساء‪,[78 :‬‬ ‫م َ‬
‫شي ّدَ ٍ‬ ‫ج ّ‬
‫في ب ُُرو ٍ‬
‫م ِ‬ ‫ول َ ْ‬
‫و ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ت َ‬
‫و ُ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ركك ّ ُ‬‫ي ُدْ ِ‬
‫ومن هنا يتميز المؤمن عن غيره فبينما ترتجف القلوب وتنسكب‬
‫الدموع‪ ،‬وتعلو التوسلت‪ ،‬وتقدم التنازلت‪ ،‬حرصا على الحياة نجد‬
‫المؤمن كالطود الشامخ يهتف مع خبيب بن عدي قائل‪:‬‬
‫على أي جنب كان في الله‬ ‫ولست أبالي حين أقتل‬
‫مصرعي‬ ‫مسلما‬
‫ويتذكر قول علي بن أبي طالب‪:‬‬
‫يوم ل يقدر أو يوم قدر‬ ‫أي يومي من الموت أفر‬
‫)‪(1‬‬
‫ومن المقدور ل ينجو الحذر‬ ‫يوم ل يقدر ل أرهبه‬

‫ول ينسى خبر سحرة فرعون لما آمنوا وهددوا بالموت هتفوا‬
‫َ‬
‫ة‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫حَيا َ‬ ‫ذ ِ‬
‫ه ِ‬
‫ضي َ‬ ‫ما ت َ ْ‬
‫ق ِ‬ ‫ض إ ِن ّ َ‬ ‫ت َ‬
‫قا ٍ‬ ‫ما أن َ‬
‫ض َ‬
‫ق ِ‬ ‫فا ْ‬
‫قائلين‪َ + :‬‬
‫الدّن َْيا" ]طه‪.[72 :‬‬
‫‪ -2‬الخشية من الله‪:‬‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫وهي من أعظم آثار اليمان وأبرز أوصاف المؤمنين ‪+‬ال ّ ِ‬
‫ن" ]النبياء‪:‬‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ُ‬ ‫ع ِ‬‫سا َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬
‫هم ّ‬ ‫و ُ‬‫ب َ‬ ‫م ِبال ْ َ‬
‫غي ْ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن َرب ّ ُ‬ ‫و َ‬ ‫خ َ‬
‫ش ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫‪.[49‬‬
‫ن‬
‫و َ‬ ‫ش ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ول َ ي َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ون َ ُ‬
‫ش ْ‬ ‫خ َ‬‫وي َ ْ‬
‫ه َ‬ ‫سال َ ِ‬
‫ت الل ِ‬ ‫ر َ‬‫ن ِ‬ ‫غو َ‬ ‫ن ي ُب َل ّ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ ‪ +‬ال ّ ِ‬
‫ه" ]الحزاب‪.[39 :‬‬ ‫ّ‬
‫دا إ ِل الل َ‬ ‫ح ً‬ ‫أ َ‬
‫وقدوتهم في ذلك النبي × حيث يقول‪» :‬إني لخشاكم لله‬
‫وأتقاكم له« )‪.(2‬‬
‫»والخشية أخص من الخوف‪ ،‬فهي خوف مقرون بمعرفة«)‪،(3‬‬
‫وعندما تعمر الخشية والخوف قلب الداعية المؤمن يتميز عن‬
‫الغافلين والعابثين؛ لن الخوف يحول بين صاحبه وبين محارم الله‪,‬‬
‫قال إبراهيم بن سفيان‪» :‬إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع‬
‫الشهوات منها وطرد الدنيا عنها«)‪.(4‬‬

‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب النكاح‪) ،‬الفتح ‪.(9/104‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين‪ ،‬ص ‪.269‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين‪ ،‬ص ‪.270‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪320‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وقال الفضيل بن عياض‪» :‬من خاف الله لم يضره أحد‪ ،‬ومن‬


‫خاف غير الله لم ينفعه أحد«)‪ ،(1‬وهذه الخشية دافعة للطاعة »وما‬
‫استعان عبد على دينه بمثل الخشية من الله«)‪ .(2‬والداعية له رتبة‬
‫عليا من اليمان »تجعل خشيته لله أسرع إلى فؤاده من أي رهبة‬
‫تخامر نفسه أمام ذي سلطان«)‪ .(3‬والخشية أساس مراقبة الله‬
‫ترقى بالمؤمن إلى درجة الحسان وأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم‬
‫يكن يراه فإن الله يراه)‪.(4‬‬
‫‪ -3‬حسن الصلة بالله‪:‬‬
‫والمقصود بها إقامة الفرائض‪ ،‬والستكثار من النوافل‪،‬‬
‫والشتغال بالذكار‪ ،‬والمداومة على الستغفار وكثرة التلوة‬
‫القرآنية‪ ،‬والحرص على المناجاة الربانية‪ ،‬وغير ذلك من القربات‬
‫والطاعات‪ ,‬لن العبادة زاد يتقوى به الداعية‪ ،‬فالصلة صلة بينه‬
‫وبين موله‪ ،‬ول مناص من تميزه في حرصه عليها‪ ،‬وتبكيره إليها‬
‫وخشوعه فيها‪ ،‬وتطويله لها‪ ،‬وشهودها مع الجماعة وله في ذلك‬
‫قدوات سالفة‪ ,‬فسعيد بن المسيب ما فاتته الصلة في جماعة‬
‫أربعين سنة)‪.(5‬‬
‫والربيع بن خيثم كان يقاد إلى الصلة وبه الفالج‪ ،‬فلما روجع‬
‫في ذلك قال‪» :‬إني أسمع حي على الصلة فإن استطعتم أن‬
‫تأتوها ولو حبوا«)‪ (6‬ولست أدري كيف يكون داعية من يتخلف عن‬
‫الصلوات في الجماعات سيما في الفجر والعصر والعشاء مع ما‬
‫ورد في أدائها من تعظيم الجر‪ ،‬وما جاء في فواتها من التحذير‬
‫من الثم والوزر‪ ،‬وقد ترخص كثيرون في ذلك فل يهمهم التبكير‪،‬‬
‫ول يعنيهم إدراك التكبير‪ ،‬ولست أدري ما يقول هؤلء إذا سمعوا‬
‫مقالة إبراهيم بن زيد التيمي‪» :‬إذا رأيت الرجل يتهاون في‬
‫التكبيرة الولى فاغسل يدك منه«)‪ ،(7‬وبماذا يعلقون إذا علموا أن‬
‫سعيد بن عبد العزيز التنوخي »كان إذا فاتته صلة الجماعة‬
‫بكى«)‪.(8‬‬
‫والحقيقة أن المر في هذا يطول والتفريط فيه من بعض‬
‫الدعاة كثير وخطير‪ ،‬ونصوص الكتاب والسنة أشهر من أن تذكر‪.‬‬
‫والذكر عظيم المنزلة فهو »منشور الولية الذي من أعطيه‬
‫اتصل‪ ،‬ومن منعه عزل‪ ،‬وهو قوت قلوب القوم الذي متى فارقها‬
‫نزهة الفضلء‪.(2/661) ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(1/513‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مع الله‪ ،‬ص ‪.190‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫نزهة الفضلء )‪.(1/370‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(1/381‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫نزهة الفضلء )‪(1/468‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫تهذيب مدارج السالكين‪ ،‬ص ‪.463‬‬ ‫)(‬ ‫‪8‬‬

‫‪321‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫صارت الجساد لها قبورا‪ ،‬وعمارة ديارهم التي إذا تعطلت عنه‬
‫صارت بورا‪ ،‬وهو سلحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق‪ ،‬وماؤهم‬
‫الذي يطفئون به التهاب الحريق‪ ،‬ودواء أسقامهم الذي متى‬
‫فارقهم انتكست َ به القلوب«)‪ (1‬والذكر هو العبادة المطلوبة بل حد‬
‫ه ِذك ًْرا ك َِثيًرا"‬ ‫مُنوا اذْك ُُروا الل َ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬‫ينتهي إليه ‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫ح‬
‫سب ّ ْ‬‫ف َ‬‫ل َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ء‬
‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫آ‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫به‬ ‫تختص‬ ‫وقت‬ ‫]الحزاب‪ [41 :‬وبل‬
‫ر‬
‫ِ‬ ‫ها‬‫ف الن ّ َ‬‫وأ َطَْرا َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ضى" ]طه‪ [130 :‬وبل حال تستثنى منه ‪+‬ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ك ت َْر َ‬‫عل ّ َ‬
‫لَ َ‬
‫م" ]آل عمران‪.[191 :‬‬ ‫ه ْ‬‫جُنوب ِ ِ‬‫عَلى ُ‬ ‫و َ‬ ‫دا َ‬‫عو ً‬ ‫و ُ‬
‫ق ُ‬ ‫ما َ‬ ‫قَيا ً‬ ‫ه ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ي َذْك ُُرو َ‬
‫والذاكرون هم السابقون في رياض الجنة يرتعون‪ ,‬وبوصية‬
‫المصطفى × يعملون‪ ،‬وبمباهاة الملئكة يسعدون)‪.(2‬‬
‫والستغفار من أعظم الذكار وكان المصطفى × يستغفر في‬
‫اليوم والليلة سبعين مرة)‪.(3‬‬
‫وأخبر أمته أن »من لزم الستغفار جعل الله له من كل ضيق‬
‫مخرجا‪ ،‬ومن كل هم فرجا ورزقه من حيث ل يحتسب« )‪ ،(4‬ولذا‬
‫فلبد للداعية من الذكار ليحيى الله قلبه‪ ،‬ولبد له من الستغفار‬
‫ليمحو الله ذنبه‪.‬‬
‫وأعظم الذكر تلوة القرآن التي هي من أقوى الصلت بالله‬
‫التي يحتاجها الدعاة‪ ،‬ولها أثرها في واقع الدعوة والحياة‪» ،‬ومن‬
‫الصلة بالله إعزاز كتاب الله وإدمان تلوته وتدبر معانيه‪ ،‬وعقد‬
‫مقارنة مستمرة بين المثل التي يحدو العالم إليها‪ ،‬والواقع الذي‬
‫ثوى الناس فيه‪ ،‬لتكون هذه المقارنة حافزا على تذكير الناس‬
‫بالحق‪ ،‬وقيادتهم إلى الله‪ ،‬وتأهليهم‪ ،‬وقرب الداعية من كتاب الله‬
‫يجب أن يكون متعة لروحه وسكنا لفؤاده وشعاعا لعقله‪ ،‬ووقودا‬
‫لحركته ومرقاة لدرجته«)‪ ،(5‬والصلة بالقرآن موجبة للتميز كما قال‬
‫ابن مسعود ‪» :‬ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس‬
‫نائمون‪ ،‬وبنهاره إذا الناس مفطرون‪ ،‬وبحزنه إذا الناس يفرحون‪،‬‬
‫وببكائه إذا الناس يضحكون‪ ،‬وبصمته إذا الناس يخوضون‪،‬‬
‫وبخشوعه إذا الناس يختالون‪ ،‬وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكيًا‬
‫محزونا حكيمًا حليمًا سكينًا‪ ،‬ول ينبغي لحامل القرآن أن يكون‬ ‫ً‬
‫)‪(6‬‬
‫صياحا ول حديدًا« ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫جافيا ول غافلً ول سخابًا ول‬ ‫ً‬
‫والخلصة أن التميز اليماني من أعظم أسباب نجاح الداعية‪،‬‬
‫إذ ليس النجاح بفصاحة اللسان ول قوة البرهان ول كثرة العوان‪،‬‬
‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.463‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.42 ،41‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب الدعوات‪ ،‬باب استغفار النبي × )‪ (2/178‬رقم ‪.1518‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫أبو داود‪ ،‬كتاب الصلة‪ ،‬باب‪ :‬الستغفار )‪ (2/178‬رقم ‪.1518‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫مع الله‪ ،‬ص ‪.191‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫الفوائد‪ ،‬ص ‪.192‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪322‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بل هو مع ذلك وقبل ذلك بتوفيق الله الذي يخص به أولياءه‪ ,‬ول‬
‫شك »أن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله لدفع الناس إلى‬
‫سبيله‪ ،‬لبد أن يكون شعورهم بالله أعمق‪ ،‬وارتباطهم به أوثق‪،‬‬
‫وشغلهم به أدوم‪ ،‬ورقابتهم له أوضح«)‪.(1‬‬
‫لقد قصر بعض الدعاة والجماعات السلمية في العناية بهذا‬
‫الجانب المهم بسبب تضخيم العناية بالجوانب الفكرية والسياسية‬
‫وغيرها‪ ,‬والمطلوب التوازن والشمولية وإعطاء كل جانب حقه من‬
‫الهتمام‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬الرصيد العلمي والزاد الثقافي‪:‬‬
‫وهذا أساس لبد منه حتى يجد الناس عند الداعية إجابة‬
‫للتساؤلت‪ ،‬وحلول للمشكلت‪ ,‬إضافة إلى ذلك هو العدة التي بها‬
‫يعلم الناس أحكام الشرع‪ ،‬ويبصرهم بحقائق الواقع‪ ،‬وبه أيضا‬
‫يكون الداعية قادرا على القناع وتفنيد الشبهات‪ ،‬ومتقنا في‬
‫العرض‪ ،‬ومبدعا في التوعية والتوجيه)‪» .(2‬وإذا كانت الدعوة إلى‬
‫الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها فهي ل تحصل إل بالعلم‬
‫الذي يدعو به وإليه‪ ،‬ولبد من كمال الدعوة من البلوغ في العلم‬
‫إلى حد يصل إليه السعي«)‪ .(3‬والخوض في غمار الدعوة وميادينها‬
‫لبد للداعي من علم وإل ترتب على ذلك آثار وخيمة لن »العامل‬
‫على غير علم كالسالك على غير طريق‪ ،‬والعامل على غير علم ما‬
‫يفسد أكثر مما يصلح«)‪.(4‬‬
‫وكما قال معاذ بن جبل ‪» :‬العلم إمام العمل والعمل تابعه‪،‬‬
‫وهذا ظاهر فإن القصد العمل‪ ،‬والعمل إن لم يكن بعلم كان جهل‬
‫وضلل واتباعا للهوى«)‪.(5‬‬
‫وطبيعة مهمة الداعي خطيرة ونظرة الناس إليه‪ ،‬واعتدادهم‬
‫به‪ ،‬وأخذهم عنه يجعل أمر العلم »أشد ضرورة للداعي إلى الله‬
‫لن ما يقوم به من الدين منسوب إلى رب العالمين‪ ،‬فيجب أن‬
‫يكون الداعي على بصيرة وعلم بما يدعو إليه‪ ،‬وبشرعية ما يقوله‬
‫ويفعله ويتركه‪ ،‬فإذا فقد العلم المطلوب اللزم له كان جاهل بما‬
‫يريده‪ ,‬ووقع في الخبط والخلط والقول على الله ورسوله بغير‬
‫علم‪ ،‬فيكون ضرره أكثر من إصلحه‪ ،‬وقد يأمر بالمنكر وينهى عن‬
‫المعروف لجهله بما أحله الشرع وأوجبه وبما منعه وحرمه «)‪.(6‬‬
‫ولبد للداعية أن يوقن أن »العلم أشرف ما رغب فيه الراغب‬
‫مع الله‪ ،‬ص ‪.190‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.45‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مفتاح السعادة )‪(1/154‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(1/130‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫مجموع فتاوى ابن تيمية )‪.(136 ،28/135‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫أصول الدعوة‪ ،‬د‪ .‬عبد الكريم زيدان‪ ،‬ص ‪.135‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪323‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وأفضل ما طلب‪ ،‬وجد فيه الطالب‪ ،‬وأنفع ما كسب واقتناه‬


‫الكاسب«)‪.(1‬‬
‫والخذ بالعلم آخذ بالبداية الصحيحة إذ العلم مقدم على القول‬
‫َ‬
‫فْر‬‫غ ِ‬‫ست َ ْ‬ ‫وا ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ه إ ِل ّ الل ُ‬ ‫ه ل َ إ ِل َ َ‬ ‫م أن ّ ُ‬ ‫عل َ ْ‬ ‫فا ْ‬ ‫والعمل‪ ,‬كما قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ك" ]محمد‪.[19 :‬‬ ‫ذنب ِ َ‬ ‫لِ َ‬
‫وبالعلم يحوز الداعية الرفعة في الميزان الرباني ُ وفق قوله‬
‫م‬‫عل ْ َ‬ ‫ن أوُتوا ال ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ع الل ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫تعالى‪+ :‬ي َْر َ‬
‫ت" ]المجادلة‪.[11 :‬‬ ‫جا ٍ‬ ‫دََر َ‬
‫والسعي في طلب العلم تحقيق للغاية التي أرادها الله ووجه‬
‫ة‬
‫ف ٌ‬ ‫م َ‬
‫طائ ِ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫ة ّ‬ ‫ق ٍ‬ ‫فْر َ‬ ‫ل ِ‬ ‫من ك ُ ّ‬ ‫فَر ِ‬ ‫ول َ ن َ َ‬ ‫فل َ ْ‬‫إليها في قوله‪َ + :‬‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ذُروا َ‬ ‫ف ّ‬ ‫ل ِي َت َ َ‬
‫عوا إ ِلي ْ ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫ذا َر َ‬ ‫ه ْ‬ ‫م ُ‬ ‫و َ‬‫ق ْ‬ ‫ول ُِين ِ‬ ‫ن َ‬ ‫دي ِ‬ ‫في ال ّ‬ ‫هوا ِ‬ ‫ق ُ‬
‫ن"‬‫َ‬ ‫رو‬ ‫عل ّ ُ ْ َ ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫لَ َ‬
‫]التوبة‪.[122:‬‬
‫فقد جعل الله المة فرقتين »أوجب على إحداهما الجهاد في‬
‫سبيله وعلى الخرى التفقه في دينه‪ ،‬لئل ينقطع جميعهم عن‬
‫الجهاد فتندرس الشريعة‪ ،‬ول يتوفروا على طلب العلم فتغلب‬
‫الكفار على الملة‪ ،‬فحرس بيضة السلم بالمجاهدين‪ ،‬وحفظ‬
‫شريعة‬
‫اليمان بالمتعلمين‪ ،‬وأمر بالرجوع إليهم في النوازل ومسألتهم‬
‫ر ِإن ك ُن ُْتم‬ ‫ل الذّك ْ َ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫سأ َُلوا أ َ ْ‬ ‫فا ْ‬ ‫عن الحوادث‪ ,‬فقال عز وجل‪َ + :‬‬
‫ن‬ ‫م َ‬ ‫مٌر ّ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫جاءَ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫وإ ِ َ‬ ‫ن" ]النحل‪ [43َ :‬وقال تعالى‪َ + :‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫ل َ تَ ْ‬
‫وإ ِلى‬ ‫َ‬ ‫ل َ‬ ‫سو ِ‬ ‫دوهُ إ ِلى الّر ُ‬ ‫َ‬ ‫و َر ّ‬ ‫ول ْ‬‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫عوا ب ِ ِ‬ ‫ذا ُ‬ ‫فأ َ‬ ‫و ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫و ال َ‬‫ْ‬ ‫نأ ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫م ِ‬ ‫ُال ْ‬
‫ه" ]النساء‪.[83 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫طو‬ ‫ب‬ ‫ْ‬
‫َ َ ْ ِ‬‫ن‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫ُ ْ َ َ ُ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫ر‬
‫ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫لي‬ ‫أو ِ‬
‫وإذا سلك الداعية طريق العلم حظى بالخيرية الربانية الثابتة‬
‫في حديث رسول‬
‫الله ×‪» :‬من سلك طريقًا يلتمس به علما سهل الله به طريقًا من‬
‫طرق الجنة« )‪.(2‬‬
‫وإذا نال الداعية حظا وافيا من العلم واندرج في سلك طلبة‬
‫العلم فإنه يكون في مجتمعه نبراسا يهتدى به‪ ,‬كما قال ابن القيم‬
‫عن الفقهاء‪» :‬إنهم في الرض بمنزلة النجوم في السماء‪ ,‬بهم‬
‫يهتدي في الظلماء‪ ،‬حاجة الناس إليهم أعظم من حاجتهم إلى‬
‫الطعام والشراب‪ ،‬وطاعتهم أفرض عليهم من طاعة المهات‬
‫والباء«)‪ .(3‬وعندما يتحرك الداعية ناشرا علمه ساعيا بين الناس‬
‫ناعيا عليهم الغفلة والفساد فإنه يحظى بشرف الوصف‬ ‫ً‬ ‫بالصلح‪,‬‬

‫)( أدب الدنيا والدين للماوردي‪ ،‬ص ‪40‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أبو داود‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬باب الحث على العلم )‪ (4/57‬رقم ‪.3641‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( أعلم الموقعين )‪.(1/9‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪324‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الذي ذكره المام أحمد حين قال‪» :‬الحمد لله الذي جعل في كل‬
‫فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى‬
‫ويصبرون منهم على الذى‪ ،‬يحيون بكتاب الله تعالى الموتى‪،‬‬
‫ويبصرون بنور الله أهل العمى‪ ،‬فكم من قتيل لبليس قد أحيوه‪،‬‬
‫وكم من ضال تائه قد هدوه‪ ،‬فما أحسن أثرهم على الناس وما‬
‫أقبح الناس عليهم«)‪ .(1‬وأهل العلم والبصيرة من الدعاة شهد‬
‫التاريخ أنهم »هم من اهتدى بهم الحائر‪ ،‬وسار بهم الواقف‪ ،‬وأقبل‬
‫بهم المعرض‪ ،‬وكمل بهم الناقص‪ ،‬ورجع بهم الناكص‪ ،‬وتقوى‬
‫بهم الضعيف«)‪.(2‬‬
‫ومن أهم العلوم التي يجب أن يهتم بها الدعاة علم القدوم‬
‫على الخرة الذي قل وجوده بين الناس‪ ،‬وبين طلب العلم‪ ،‬والذي‬
‫بدونه ل يعتبر العالم عالما وإن حفظ الشروح والمتون والحكام‪,‬‬
‫ومل رأسه منها ورددها على لسانه‪ .‬إن هذا العلم لب العلوم‬
‫وغايته‪ ،‬وكل مسلم محتاج إليه‪ ,‬والعالم أشد حاجة إليه‪ ،‬والداعي‬
‫أحوج من الجميع إليه‪ .‬إن هذا العلم هو الذي فقهه الصحابة‬
‫الكرام وأشربت به قلوبهم وتنورت به عقولهم فضنوا بوقتهم أن‬
‫يذهب سدى من غير طاعة الله ودعوة إليه‪ ،‬فاجتهدوا في أمور‬
‫الخير وسارعوا في الخيرات‪ ،‬وحرصوا على الطاعات وتسابقوا‬
‫في الدرجات حتى‬
‫جاءتهم آجالهم)‪.(3‬‬
‫إن الداعية عندما يتصدر للوعظ والرشاد والتربية والتعليم‬
‫مطالب بقدر من العلم والثقافة التي تعينه على مهمته‪ ،‬وتؤهله‬
‫لها‪ ،‬والمهم من ذلك يتركز في جانبين‪:‬‬
‫أ‪ -‬الجانب الشرعي‪:‬‬
‫لبد للداعية أن يعرف »أن أولى العلوم وأفضلها علم الدين‪،‬‬
‫لن الناس بمعرفته يرشدون وبجهله يضلون«)‪ ,(4‬وعلى الداعية أن‬
‫يتعلم الحد الدنى من العلوم الشرعية الساسية ومن أهمها ما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬علم العقيدة السلمية‪ :‬أن يتعلم أصول العقيدة من كتاب‬
‫معتمد مختصر على مذهب أهل السنة والجماعة ككتاب‪ :‬لمعة‬
‫العتقاد لبن قدامة‪ ،‬أو غيره‪.‬‬
‫‪ -2‬علم التفسير‪ :‬أن يطلع على تفسير موجز موثوق يشتمل‬
‫على معاني الكلمات وأسباب النزول والمعنى الجمالي‪ ،‬ويفيد في‬

‫انظر‪ :‬أصول الدعوة‪ ،‬ص ‪.328‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مقومات الدعوة والداعية‪ ،‬ص ‪.52 ،51‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬أصول الدعوة‪ ،‬ص ‪.328‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬مقومات الدعوة والداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.53 -51‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪325‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ذلك بعض المصاحف المطبوع على هامشها أسباب النزول‬


‫ومعاني الكلمات‪ ،‬ثم يجعل له زادا في دراسة متأنية لتفسير بعض‬
‫السور والجزاء المكية والمدنية من كتاب معتمد متوسط مثل‬
‫»تفسير ابن كثير«‪.‬‬
‫‪ -3‬علم الحديث‪ :‬أن يدرس كتابًا من كتب الحديث الجامعة‬
‫المختصرة مثل »مختصر صحيح البخاري« أو »مختصر صحيح‬
‫مسلم« ويمكن أن يطالع كتابا من كتب الحديث العامة المصونة‬
‫في جملتها من الحاديث الضعيفة والمشتملة على أهم البواب‬
‫التي يحتاج إليها في اليمان والفضائل والداب مثل كتاب »رياض‬
‫الصالحين«‪ ,‬ويحسن أن يطلع على بعض كتب الحديث المختصة‬
‫بموضوعات معينة‪ ,‬ففي أحاديث الحكام »بلوغ المرام« وفي‬
‫الذكار »أذكار النووي« وفي الشمائل »شمائل الترمذي« ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ -4‬علم الفقه‪ :‬أن يدرس مختصرا في فقه العبادات‬
‫والمعاملت‪ ،‬وقد يضيف ما يحتاجه من البواب على مذهب من‬
‫المذاهب الربعة المشتهرة ول مانع من أن يهتم‬
‫بفقه الحديث‪.‬‬
‫‪ -5‬علم السيرة والتاريخ‪ :‬أن يدرس مختصرا في سيرة‬
‫الرسول × مثل »تهذيب سيرة ابن هشام« ومن الكتب المعاصرة‬
‫النافعة »الرحيق المختوم« للمباركفوري‪ ،‬وأن يطالع على القل‬
‫على تاريخ الخلفاء الراشدين‪.‬‬
‫‪ -6‬مفاتيح العلوم‪ :‬أن يدرس مختصرا في أصول الفقه مثل‬
‫»الوجيز في أصول الفقه« د‪ .‬عبد الكريم زيدان‪» ،‬تيسير مصطلح‬
‫الحديث« للطحان‪» ،‬مباحث في علوم القرآن« للقطان‪» ،‬مقدمة‬
‫شيخ السلم ابن تيمية« في أصول التفسير‪.‬‬
‫‪ -7‬علوم اللغة‪ :‬أن يدرس مختصرا في النحو »كالجرومية« أو‬
‫»ملحة العراب« وكذلك في البلغة والدب يحتاج إلى دراسة‬
‫موجزة في مثل كتاب »البلغة الواضحة« لعلي الجارم)‪.(1‬‬
‫وهذه العلوم الساسية يحتاج الداعية فيها إلى إرشادات عامة‬
‫أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬التدرج في كل علم من الدنى إلى العلى‪ ،‬ومن اليسر‬
‫إلى الصعب‪ ،‬وليعلم »أن للعلوم أوائل تؤدي إلى أواخرها‪،‬‬
‫ومداخل تفضي إلى حقائقها‪ ،‬فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي‬
‫إلى أواخرها‪ ،‬وبمداخلها ليفضي إلى حقائقها‪ ،‬ول يطلب الخر قبل‬
‫الول‪ ،‬ول الحقيقة قبل المدخل‪ ،‬فل يدرك الخر ول يعرف الحقيقة‬

‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.53 -51‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪326‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫لن البناء على غير أساس ل يبنى والثمر من غير غرس ل‬


‫يجنى«)‪.(1‬‬
‫وهذا ابن خلدون‪ ،‬يوضح لك الطريق فيقول‪) :‬اعلم أن تلقين‬
‫العلوم للمتعلمين يكون مفيدا إذا كان على التدرج شيئا فشيئا‬
‫وقليل قليل( )‪.(2‬‬
‫وقال ابن شهاب الزهري المحدث المام‪» :‬من رام العلم‬
‫جملة ذهب عنه جملة‪ ،‬ولكن الشيء بعد الشيء مع اليام والليالي‬
‫«)‪.(3‬‬
‫‪ -2‬الحرص على التلقي عن الشيوخ كل في فنه‪ ,‬وأل يعتمد‬
‫على الطلع المجرد وحده‪ ،‬فهذه العلوم ليست كالصحف‬
‫والمجلت يكتفي فيها بالقراءة والطلع‪ ،‬وكما قيل‪» :‬من كان‬
‫شيخه كتابه فخطؤه أكثر من صوابه«)‪.(4‬‬
‫وصدق الشاعر حيث يقول‪:‬‬
‫أخا جهل لدراك العلوم‬ ‫يظن الغمر أن الكتب تهدي‬
‫مدارك قد تدق عن الفهيم‬ ‫وما علم الجهول بأن فيها‬
‫يضل عن الصراط المستقيم‬ ‫ومن أخذ العلوم بغير شيخ‬
‫)‪(5‬‬
‫وآفته من الفهم السقيم‬ ‫وكم من عائب قول صحيحا‬

‫وكتب السلف وتراجم العلماء مليئة بأسماء شيوخهم‪،‬‬


‫وسيرتهم مع من تلقوا عنهم‪ ،‬وكتب أهل العلم طافحة بآداب‬
‫الطالب مع شيخه مما يدل على بدهية‬
‫ذلك عندهم)‪.(6‬‬
‫قال الشاطبي‪» :‬من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية‬
‫التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام«)‪.(7‬‬
‫‪ -3‬الصبر والملزمة‪ ،‬وترك النتقال من علم إلى علم قبل‬
‫تمامه‪ ،‬ومن شيخ إلى شيخ قبل الستفادة منه‪ ،‬ومن كتاب إلى‬
‫كتاب قبل إحكامه‪ .‬قال الزرنوجي‪» :‬ينبغي أن يثبت ويصبر على‬
‫أستاذه‪ ،‬وعلى كتاب حتى ل يتركه أبتر‪ ،‬وعلى فن حتى ل يشغل‬

‫أدب الدنيا والدين‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مقدمة ابن خلدون‪ ،‬ص ‪.533‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫جامع بيان العلم وفضله‪ ،‬ص ‪.138‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.54‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.54‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.55‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫الموافقات للشاطبي‪.(1/9) ،‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪327‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بفن آخر قبل أن يتقن الول‪ ،‬وعلى بلد حتى ل ينتقل إلى بلد آخر‬
‫من غير ضرورة‪ ,‬فإن ذلك كله يفرق المور ويشغل القلب ويضيع‬
‫الوقات ويؤذي العلم«)‪.(1‬‬
‫ب‪ -‬الثقافة السلمية‪:‬‬
‫ل شك أن الداعية يحتاج بشكل ملح إلى الثقافة العامة وكذلك‬
‫الثقافة المعاصرة‪» :‬إن حركة الداعية حركة واسعة‪ ،‬وانتشاره‬
‫كبير واتصالته كثيرة وهو ل شك يلتقي بأنواع كثيرة من البشر‪,‬‬
‫كل له مزاجه وثقافته واطلعه‪ ,‬فلبد للداعية أن يشبع هذه‬
‫الثقافات ويلم بشيء منها حتى يشارك من يخاطبه كل حسب‬
‫ثقافته كمدخل من مداخل الدعوة«)‪.(2‬‬
‫ولبد من العتراف بوجود الخلل في هذه الثقافات عند كثير‬
‫من الدعاة »فهناك عجز في المعرفة بالحاضر المعيش والواقع‬
‫المعاصر‪ ،‬وهناك جهل بالخرين نقع فيه بين التهويل والتهوين‪ ,‬مع‬
‫أن الخرين يعرفون عنا كل شيء وقد كشفونا حتى النخاع‪ ،‬بل‬
‫هناك جهل بأنفسنا فنحن إلى اليوم ل نعرف حقيقة مواطن القوة‬
‫فينا ول نقاط الضعف لدينا‪ ،‬وكثيرا ما نضخم الشيء الهين‪ ،‬ونهون‬
‫الشيء العظيم‪ ،‬سواء في إمكاناتنا أم في عيوبنا«)‪.(3‬‬
‫إن من المهم بمكان أن يتمكن الداعية عند عرضه للسلم من‬
‫بيان محاسن الدين‪ ،‬ومقاصد الشريعة‪ ،‬ويفند مزاعم خصوم‬
‫السلم وشبهاتهم‪ ،‬وإظهار الكمال في أنظمة السلم الجتماعية‬
‫والقتصادية وغيرها‪ ،‬وأنها ترعى جميع المصالح وتسد أبواب‬
‫الفساد‪ ،‬وأنها صالحة ومصلحة لكل زمان ومكان‪ ,‬وأمثال هذه‬
‫الموضوعات‪ ,‬ومن المهم بمكان‪ ،‬أن يستوعب الداعية المذاهب‬
‫الفكرية المعاصرة كالشيوعية والرأسمالية‪ ،‬والقومية والبعثية‬
‫والماسونية‪ ،‬وأن يبين عوارها وبطلنها وما تعارض مع العقيدة‬
‫السلمية ودين السلم‪ ،‬وأن يكون على دراية بأساليب العداء‬
‫وغزوهم الفكري والدور العملي للصهيونية والماسونية‬
‫ومخططاتهم وأساليبهم‪ ،‬والتنصير ومؤسساته وأدواره‪ ،‬وأن يطالع‬
‫الكتب النافعة في هذا المجال مثل »الغارة على العالم‬
‫السلمي« تأليف أ‪.‬ل ‪ -‬شاتليه‪ ,‬وترجمة محب الدين الخطيب‬
‫ومساعد اليافي وأساليب الغزو الفكري للدكتور على جريشة‬
‫ومحمد شريف وغيرها من الكتب‪.‬‬
‫إذا توافر للداعية رصيد علمي مناسب وزاد ثقافي جيد كان‬
‫ذلك سببا مهما في نجاح الداعية في مرحلة التعريف‪.‬‬
‫)( تعليم المتعلم للزرنوجي‪ ،‬ص ‪.44‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الدعوة قواعد وأصول‪ ،‬ص ‪.71‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( أولويات الحركة السلمية‪ ,‬ص ‪.21‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪328‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ثالثًا‪ :‬رجاحة العقل وقوة الحجة‪:‬‬


‫إن توافر الذهن الوقاد والعقل النير ميزة كبرى يتحلى بها‬
‫الداعية حتى يستطيع أن يرجح بين الراء المختلفة‪ ,‬ويحلل المور‬
‫ويدلل على الصواب‪ ،‬ويرتب الولويات ويختار الوقات‪ ،‬وينتهز‬
‫الفرصة المناسبة‪ ،‬ويتخلص من المشكلت‪ ،‬ويقوى على الرد على‬
‫الشبهات‪ ،‬والتكيف مع الزمات‪ ،‬وربما يلتقي الداعية بأصناف من‬
‫المدعوين يحتاج الداعية معهم إلى إقامة الحجة العقلية‪ ,‬ومن‬
‫هؤلء‪:‬‬
‫‪ -1‬الكافرون الذين ل يؤمنون بالكتاب والسنة‪.‬‬
‫‪ -2‬المعتدون بعقولهم المقدمون لها على النص النقلي‪.‬‬
‫‪ -3‬المخدوعون بالشبهات‪.‬‬
‫‪ -4‬المعاندون الذين يتبعون الباطل تبعا لمصالحهم ويسعون‬
‫إلى إضلل غيرهم‪.‬‬
‫الواقعون تحت تأثير الوضاع والعراف الخاطئة حتى ألفوها‬ ‫‪-5‬‬
‫صوابًوهناك أساليب كثيرة مستنبطة من الكتاب والسنة في‬‫ورأوها ا‪,‬‬
‫إقامة الحجة العقلية واستخدام القيسة المنطقية وهي تعين الدعاة‬
‫على التأثير في الناس وخصوصا عند التفكر العميق والتأمل الهادئ‪.‬‬
‫ومن هذه الساليب المهمة‪:‬‬
‫أ‪ -‬أسلوب المقارنة‪:‬‬
‫وذلك بعرض أمرين أحدهما هو الخير المطلوب الترغيب فيه‪،‬‬
‫والخر هو الشر المطلوب الترهيب منه‪ ،‬وذلك باستثارة العقل‬
‫للتفكر في كل المرين وعاقبتهما للوصول ‪ -‬بعد المقارنة)‪ - (1‬ومن‬
‫أمثلة ذلك‪:‬‬
‫ن‬ ‫عَلى ت َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ -1‬قال جل وعل‪+:‬أ َ‬
‫م َ‬
‫وى ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ه َ‬ ‫س ب ُن َْيان َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ن َأ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫جُر ٍ‬‫شفا ُ‬ ‫َ‬ ‫على َ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫س ب ُن َْيان َ ُ‬‫س َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫خي ٌْر أم ّ‬ ‫ن َ‬ ‫وا ٍ‬ ‫ض َ‬ ‫ر ْ‬ ‫و ِ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ِ‬
‫م‬
‫و َ‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫دي‬ ‫ِ‬ ‫ه‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫والل‬
‫َ َ‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ه‬‫َ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ر‬‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫في‬
‫ِ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ب‬
‫َ ِ‬‫ر‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫ر‬
‫ها ٍ‬
‫َ‬
‫ن"]التوبة‪.[109 :‬‬ ‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ظا‬‫ّ‬ ‫ال‬
‫قال القرطبي‪» :‬وهذه الية ضرب مثل لهم‪ ،‬أي من أسس‬
‫بنيانه على السلم خير أم من أسس بنيانه على الشرك والنفاق‪,‬‬
‫وبين أن بناء الكافر كبناء على جرف جهنم يتهور بأهله فيها‪ ،‬وفي‬
‫هذه الية دليل على أن كل شيء ابتدئ بنية تقوى الله تعالى‬
‫والقصد لوجهه الكريم فهو الذي يبقى ويسعد به صاحبه ويصعد‬
‫إلى الله ويرفع إليه«)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬ومن المثلة النبوية التي تبين استخدام النبي × لسلوب‬
‫)( انظر‪ :‬مقومات ا لداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.60 ،59‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير القرطبي )‪.(8/265‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪329‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المقارنة قوله ×‪» :‬إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء‬


‫كحامل المسك‪ ،‬ونافخ الكير‪ ,‬فحامل المسك إما أن يحذيك وإما‬
‫أن تبتاع منه‪ ،‬وإما أن تجد منه ريحًا طيبة‪ ،‬ونافخ الكير إما أن‬
‫يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة« )‪.(1‬‬
‫قال النووي‪» :‬وفيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير‬
‫والمروءة ومكارم الخلق والعلم والدب والنهي عن مجالسة أهل‬
‫الشر والبدع‪ ,‬ومن يغتاب الناس ويكثر فجره وبطالته ونحو ذلك‬
‫من النواع المذمومة«)‪.(2‬‬
‫ب‪ -‬أسلوب التقرير‪:‬‬
‫وهو أسلوب يؤول بالمرء بعد المحاكمة العقلية إلى القرار‬
‫بالمطلوب الذي هو‬
‫مضمون الدعوة‪.‬‬
‫‪ -1‬ومن المثلة القرآنية على ذلك‪:‬‬
‫َ‬
‫ل ل َِبي ِ‬
‫ه‬ ‫قا َ‬ ‫م ‪ ‬إ ِذْ َ‬ ‫هي َ‬ ‫م ن َب َأ إَ ِب َْرا ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫عل ُي ْ ِ‬
‫ل َ َ‬ ‫وات ْ ُ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ها‬ ‫َ‬
‫لل َ‬ ‫َ‬
‫ما فن َظ ّ‬ ‫َ‬ ‫صَنا ً‬ ‫عب ُدُ أ ْ‬ ‫ن ‪ ‬قالوا ن َ ْ‬ ‫َ‬ ‫دو َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫عون َك ُ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫و َين َ‬ ‫ن‪‬أ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫م إ ِذْ ت َدْ ُ‬ ‫عون َك ُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫س َ‬ ‫ل يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫في َ‬ ‫عاك ِ ِ‬ ‫َ‬
‫أَ‬
‫قا َ‬
‫ل‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫عُلو َ‬ ‫ف َ‬ ‫ك يَ ْ‬ ‫جدَْنا آَباءََنا ك َذَل ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫قاُلوا ب َ ْ‬
‫ل‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫َ‬ ‫ضّرو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وي‬
‫أَ َ َ‬ ‫ْ‬
‫ن‪‬‬ ‫مو َ‬ ‫قدَ ُ‬ ‫م ال ْ‬ ‫ؤك ُ ُ‬ ‫وآَبا ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ‪ ‬أن ْت ُ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫فَرأي ُْتم ّ‬
‫و‬
‫ه َ‬ ‫ف ُ‬ ‫قِني َ‬ ‫خل َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ‪ ‬ال ّ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫و ِلي إ ِل ّ َر ّ‬ ‫عد ُ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫فإ ِن ّ ُ‬ ‫َ‬
‫و‬
‫ه َ‬‫ف ُ‬ ‫ت َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ر ْ‬ ‫م ِ‬‫ذا َ‬ ‫وإ ِ َ‬
‫ن‪َ ‬‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫قي ِ‬ ‫س ِ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫مِني َ‬ ‫ع ُ‬ ‫و ي ُط ِ‬ ‫ه َ‬‫ذي ُ‬
‫ّ‬
‫وال ِ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫دي ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن" ]الشعراء‪ .[81 -69 :‬وهنا‬ ‫يي‬
‫ّ ُ ْ ِ ِ‬‫ح‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ث‬ ‫ني‬ ‫ت‬‫مي‬
‫ُ ِ ُ ِ‬ ‫ي‬ ‫ذي‬ ‫َ ِ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫ِ ِ‬ ‫في‬ ‫ش‬ ‫ْ‬ ‫يَ‬
‫ستكون الجابات بالنفي‪ ,‬فعقولهم تمنعهم أن يقولوا إن أصنامهم‬
‫تسمع دعاءهم أو تجيب رجاءهم‪ ،‬وهذا يؤدي إلى عدم جدوى هذه‬
‫الصنام‪ ,‬وبالتالي الستسلم العقلي بوجود وألوهية الخالق الذي‬
‫جاء في هذه اليات وصف أفعاله سبحانه وتعالى)‪.(3‬‬
‫‪ -2‬ومن المثلة الحديثية‪:‬‬
‫عن أبي هريرة ‪ ‬أن رجل أتى النبي × فقال مستنكرًا‬
‫ومسترشدًا‪ :‬يا رسول الله ولد لي غلم أسو‍د ! فقال‪ :‬هل لك من‬
‫إبل؟ قال‪ :‬نعم! قال ما ألوانها؟ قال‪ :‬حمر‪ ،‬قال‪ :‬هل فيها من‬
‫أورق؟ )‪ (4‬قال‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪ :‬فأنى ذلك؟ قال‪ :‬لعله نزعه عرق‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فلعل ابنك نزعه عرق)‪.(5‬‬

‫)( مسلم‪،‬كتاب البر والصلة‪ ،‬باب‪ :‬استحباب مجالسة الصالحين‪)،‬النووي( )‬ ‫‪1‬‬

‫‪(6/178‬‬
‫)( المصدر نفسه )‪.(6/178‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.62‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( أورق‪ :‬أي أسمر )النهاية في غريب الحديث( )‪.(5/175‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( البخاري‪،‬كتاب الطلق‪ ،‬باب‪ :‬إذا عّرض بنفي الولد‪ ،‬الفتح )‪.(9/442‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪330‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫مستفتيا عما وقع له من الريبة‪ ،‬فلما‬ ‫ً‬ ‫فهذا الرجل جاء سائلً‬
‫ضرب له المثل أذعن‪ ،‬وقال ابن العربي‪» :‬فيه دليل على صحة‬
‫القياس والعتبار بالنظر«)‪.(1‬‬
‫جـ‪ -‬أسلوب المرار والبطال‪:‬‬
‫وهو أسلوب قوي في إفحام المعاندين أصحاب الغرور‬
‫والصلف بإمرار أقوالهم وعدم العتراض على بعض حججهم‬
‫الباطلة منعا للجدل والنزاع خلوصا إلى حجة قاطعة تدمغهم‬
‫وتبطل بها حجتهم تلك فتبطل الولى بالتبع‪.‬‬
‫ومن المثلة القرآنية‪:‬‬
‫َ‬
‫ذي‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬ ‫إبراهيم مع النمرود‪+ :‬أل َ ْ‬ ‫قصةه أ َ‬ ‫قال تعالى في‬
‫م‬‫هي ُ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬‫قا َ‬ ‫ك إ ِذْ َ‬ ‫مل ْ َ‬‫ُ‬ ‫ه ال ْ‬
‫ُ‬ ‫ن آَتاهُ الل‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫في َرب‬ ‫م ِ‬ ‫هي َ‬ ‫ج إ ِب َْرا ِ‬ ‫حا ّ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫قا َ‬ ‫ت َ‬ ‫مي‬ ‫ل أ ََنا أ ُحيي وأ ُ‬ ‫َ‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫مي‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫يي‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ي‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َر َ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬
‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ِ ّ‬ ‫إ‬‫ف‬‫َ‬ ‫م‬
‫إ ِب ْ َْرا ِ ُ‬
‫هي‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬ ‫ي َأِتي ِبال ّ‬
‫ه َ‬ ‫ب فب ُ ِ‬ ‫ر ِ‬
‫غ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ها ِ‬ ‫ت بِ َ‬ ‫ق فأ ِ‬ ‫رْ ِ‬
‫ش ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ش ْ‬
‫م‬
‫و َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫دي‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫والل‬ ‫ف َ َ‬ ‫ر‬ ‫ذي ك َ َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ن" ]البقرة‪.[258 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫وقد أحسن صاحب الظلل في توضيح هذا السلوب حيث قال‪:‬‬
‫»عّرف إبراهيم بالصفة التي ل يمكن أن يشاركه فيها أحد‪ ،‬ول‬
‫يمكن أن يزعمها أحد‪ ...‬وهذا الملك يسأله عمن يدين له بالربوبية‪،‬‬
‫حِيي‬‫ذي ي ُ ْ‬ ‫ي ال ّ ِ‬
‫ويراه مصدر الحكم والتشريع وغيره‪ ،‬قال ‪َ+‬رب ّ َ‬
‫ت" فهو من ثم الذي يحكم ويشرع‪ ،‬ثم قال تعليقا على قوله‬ ‫مي‬
‫وي ُ ِ‬
‫ت" لم يرد إبراهيم عليه السلم أن‬ ‫تعالى‪+ُ :‬أ ََنا أ ُحيي ُ‬ ‫َ‬
‫مي ُ‬ ‫وأ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫يسترسل معه في جدل حول معنى الحياء والماتة مع رجل‬
‫يماري ويداور في تلك الحقيقة الهائلة‪ ،‬حقيقة منح الحياة وسلبها‪،‬‬
‫هذا السر الذي لم تدرك منه البشرية حتى اليوم شيئا‪ ،‬وعندئذ‬
‫عدل عن هذه السنة الكونية الحقيقية إلى سنة أخرى ظاهرة‬
‫مرئية‪ ،‬وعدل عن طريقة العرض المجرد للسنة الكونية والصفة‬
‫ت" إلى طريقة‬ ‫مي ُ‬ ‫وي ُ ِ‬
‫حِيي َ‬ ‫ي ال ّ ِ‬
‫ذي ي ُ ْ‬ ‫اللهية في قوله‪َ+ :‬رب ّ َ‬
‫التحدي‪ ,‬وطلب تغيير سنة الله لمن ينكر وتنعت ويجادل في الله‬
‫«)‪.(2‬‬
‫وعلق بمثل قوله السعدي في تفسيره فقال‪» :‬فلما رآه‬
‫قال إبراهيم‬ ‫الخليل مموها تمويها ربما راج على الهمج والرعاع‬
‫ه ي َأ ِْتي‬ ‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫ملزما بتصديق قوله‪ :‬إن كان كما يزعم ‪َ +‬‬
‫فإ ِ ّ‬
‫ق‪ "...‬الية فأتى )أي إبراهيم( بهذا الذي ل‬ ‫ر ِ‬ ‫ش ِ‬‫م ْ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬
‫س ِ‬
‫م ِ‬ ‫ِبال ّ‬
‫ش ْ‬

‫)( فتح الباري )‪.(9/444‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(1/298‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪331‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫يقبل الترويج والتزوير والتمويه«)‪.(1‬‬


‫ول ريب أن الداعية مطالب بتفهم هذه الساليب والفادة منها‬
‫ليكتسب فطنة تساعده على تقرير المسائل وإقامة الحجة‬
‫وسرعة البديهة‪.‬‬
‫ولقد كان لئمة الدعاة أقوال ومواقف دلت على رجاحة‬
‫عقولهم وقوة حجتهم‪ ،‬فهذا القاضي أبو بكر الباقلني سأله بعض‬
‫النصارى بحضرة ملكهم فقال‪ :‬ما فعلت زوجة نبيكم؟ وما كان من‬
‫أمرها بما رميت من الفك؟ فقال الباقلني على البديهة‪ :‬هما‬
‫امرأتان ذكرتا بسوء‪ ،‬مريم وعائشة فبرأهما الله عز وجل‪ ,‬وكانت‬
‫عائشة ذات زوج ولم تأت بولد‪ ،‬وأتت مريم بولد ولم يكن لها‬
‫زوج)‪.(2‬‬
‫فكان هذا الجواب في غاية الروعة والفحام‪ ،‬لن ذلك الخبيث‬
‫أراد التعريض والحراج بقصة حادثة الفك التي اتهمت فيها عائشة‬
‫رضي الله عنها‪ ،‬فأجاب الباقلني بأن هذه فرية برأها الله منها‬
‫ولكنه قرن ذلك بذكر مريم‪ ،‬ليشير إلى أن براءة عائشة عقل‬
‫أولى‪ ،‬لن لو تطرق إلى العقل احتمال الريبة فهو في حق مريم‬
‫أعظم‪ ،‬فإن قبلتم أيها النصارى براءتها فيلزمكم قبول براءة‬
‫عائشة من باب أولى)‪.(3‬‬
‫رابعا‪ :‬رحابة الصدر وسماحة النفس‪:‬‬ ‫ً‬
‫إن الداعية الرباني في العادة يتحلى برحابة الصدر وسماحة‬
‫النفس ليستوعب الناس ويستميلهم للخير والحق‪» ,‬فالناس في‬
‫حاجة إلى كنف رحيم‪ ،‬وإلى رعاية فائقة‪ ،‬وإلى بشاشة سمحة‪،‬‬
‫وإلى ود يسعهم‪ ،‬وحلم ل يضيق بجهلهم وضعفهم ونقصهم‪ ،‬في‬
‫حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ول يحتاج منهم إلى عطاء ويحل‬
‫همومهم ول يعنيهم بهمه ويجدون عنده دائما الهتمام والرعاية‬
‫والعطف والسماحة والود والرضا«)‪.(4‬‬
‫وهكذا كان قلب رسول الله ×‪ ,‬وهكذا كانت حياته مع الناس‬
‫»ما غضب لنفسه قط ول ضاق صدره بضعفهم البشري‪ ،‬ول‬
‫احتجز لنفسه شيئا من أغراض هذه الحياة‪ ،‬بل أعطاهم كل ما‬
‫ملكت يداه في سماحة ندية‪ ،‬ووسعهم حلمه وبره وعطفه ووده‬
‫الكريم‪ ،‬وما من واحد منه عاشره‪ ،‬أو رآه إل امتل قلبه بحبه‪ ،‬نتيجة‬
‫لما أفاض عليه × من نفسه الكبيرة والرحيبة«)‪.(5‬‬

‫)( تفسير السعدي )‪.(1/320‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(9/135‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬ص ‪.70‬‬ ‫‪3‬‬

‫)(‪ (4) ,‬في ظلل القرآن )‪.(501 – 1/500‬‬ ‫‪4‬‬


‫‪5‬‬
‫)( في ظلل القرآن ) ‪.(501 – 1/500‬‬

‫‪332‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫إن هذه الخلق مهمة في تكوين الداعية يحتاج أن يجتهد في‬


‫اكتسابها لنها وقود محرك له في دعوته كما أنها ترفع كفاءة‬
‫القبول‪ ،‬وتكبح جماح النفعالت النفسية ذات الثار السلبية‪،‬‬
‫وتتجلى هذه الخلق في عدد من الصفات توضحها وتبين أثرها‬
‫ومن أهمها‪:‬‬
‫أ‪ -‬الرحمة والشفقة‪:‬‬
‫»إن الداعي لبد أن يكون ذا قلب ينبض بالرحمة والشفقة‬
‫على الناس‪ ،‬وإرادة الخير لهم والنصح لهم‪ ،‬ومن شفقته عليهم‬
‫دعوتهم إلى السلم‪ ،‬لن في هذه الدعوة نجاتهم من النار‬
‫وفوزهم برضوان الله تعالى‪ ،‬وأن يحب لهم ما يحب لنفسه‬
‫وأعظم ما يحبه لنفسه اليمان والهدى فهو يحب ذلك إليهم«)‪.(1‬‬
‫وهذا الشعور الغامر بالشفقة على الناس يبعث في النفس‬
‫الحزن والسى على حال المعرضين والعاصين‪ ،‬ويتولد إثر ذلك‬
‫قوة نفسية دافعة لستنقاذهم من الخطر المحدق بهم‪ ،‬والهلك‬
‫القادمين إليه‪ ،‬وما أبلغ وأدق النص القرآني في بيان هذه الصفة‬
‫م‬
‫ه ْ‬ ‫عَلى آَثا ِ‬
‫ر ِ‬ ‫ك َ‬‫س َ‬‫ف َ‬ ‫ع نّ ْ‬
‫خ ٌ‬
‫ك َبا ِ‬ ‫عل ّ َ‬
‫َ‬ ‫فل َ َ‬
‫عند الرسول الكريم ×‪َ + :‬‬
‫سفا" ]الكهف‪.[6 :‬‬ ‫ً‬ ‫ثأ َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ذا ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫ه َ‬
‫مُنوا ب ِ َ‬
‫ؤ ِ‬ ‫ِإن ل ّ ْ‬
‫م يُ ْ‬
‫تأمل هذه اليات فإنه‪» :‬من فرط شفقته × داخله الحزن‬
‫لمتناعهم عن اليمان‪ ،‬فهون الله سبحانه عليه الحال‪ ،‬بما يشبه‬
‫م كل هذا؟ ليس في امتناعهم ‪-‬‬ ‫العتاب في الظاهر كأنه قال له‪ :‬ل ِ َ‬
‫)‪(2‬‬
‫في عدنا ‪ -‬أثر‪ ،‬ول في الدين من ذلك ضرر ‪.‬‬
‫فالرحمة ‪ -‬كما ترى ‪ -‬باعث دافع ومحرك للدعوة استنقاذا‬
‫للناس من الهلك‪ ،‬وهي في الوقت نفسه عامل استمرار واطراد‬
‫وتوسيع لدائرة الستيعاب والتأثير رغم الصد والعراض)‪.(3‬‬
‫ب‪ -‬الحلم والناة‪:‬‬
‫إن الحلم‪» :‬فضيلة خلقية نافعة‪ ..‬تقع في قمة عالية دونها‬
‫منحدرات‪ ،‬فهو أناة حكيمة بين التسرع والهمال أو التواني‪،‬‬
‫وضبط للنفس بين الغضب وبلدة الطبع‪ ،‬ورزانة بين الطيش‬
‫وجمود الحساس«)‪.(4‬‬
‫والناة عند الداعية إلى الله تعالى »تسمح له بأن يحكم أموره‪،‬‬
‫ويضع الشياء في مواضعها‪ ،‬بخلف العجلة فإنها تعرضه للكثير من‬
‫الخطاء‪ ،‬والخفاق‪ ،‬وتعرضه للتعثر والرتباك‪ ،‬ثم تعرضه للتخلف‬

‫)( أصول الدعوة‪ ،‬ص ‪.344 ،343‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( لطائف الشارات للقشيري )‪.(1/377‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الخلق السلمية لعبد الرحمن حبنكة )‪.(2/325‬‬ ‫‪3‬‬

‫)(‪(2) ,‬الخلق السلمية )‪.(2/353‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪333‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من حيث يريد السبق‪ ،‬ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب‬
‫بحرمانه‪ ،‬وبخلف التباطؤ والكسل فهو أيضا يعرض للتخلف‬
‫والحرمان من تحقق النتائج التي يرجوها«)‪ ،(1‬وقد امتدح النبي ×‬
‫الشج فقال‪» :‬إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله‪ :‬الحلم‬
‫والناة« )‪.(2‬‬
‫ومن المثلة من سيرة النبي × ما رواه أنس بن مالك حيث‬
‫قال‪» :‬جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد فزجره الناس‪،‬‬
‫فنهاهم النبي ×‪ ,‬فلما قضى بوله أمر النبي × بذنوب ماء أهريق‬
‫عليه«)‪.(3‬‬
‫لقد كانت مواقف النبي × التي تبين حلمه كثيرة جدا‪.‬‬
‫جـ‪ -‬العفو والصفح‪:‬‬
‫ومن مستلزمات الحلم الذي فيه كظم للغيظ وضبط للغضب‪،‬‬
‫ثم الناة التي فيها تبصر بالمور وتأن في التصرف مع الستناد‬
‫للرحمة بالجاهلين‪ ,‬كل ذلك يثمر العفو والصفح »لن القلوب‬
‫الكبيرة قلما تستجيشها دوافع القسوة فهي أبدا إلى الصفح‬
‫والحنان أدنى منها إلى الحفيظة والضغان«)‪ .(4‬وما دام الداعي‬
‫المسلم ينظر إلى من يدعوه نظرة الرحمة والشفقة عليهم فإنه‬
‫فو ْ‬
‫مْر‬ ‫وأ ُ‬ ‫ع ْ َ َ‬ ‫ذ ال ْ َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ويصفح عنهم في حق نفسه‪ ،‬قال تعالى‪ُ + :‬‬ ‫يعفورف وأ َ‬
‫ن" ]العراف‪.[199 :‬‬ ‫َ‬ ‫لي‬‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫جا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ض‬
‫ِ ْ‬ ‫ر‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫ع ْ ِ َ‬ ‫ِبال ْ ُ‬
‫ِ‬
‫فإذا كان هذا هو شأن الداعي المسلم بالنسبة لمن يدعوهم‬
‫ويحتمل صدور الذى منهم فإن عفو الداعي وصفحه عن أصحابه‬
‫م‬ ‫ه ْ‬‫وْر ُ‬ ‫شا ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫فْر ل َ ُ‬ ‫غ ِ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫وا ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫عن ْ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ع ُ‬ ‫فا ْ‬ ‫أوسع‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ر" ]آل عمران‪.[159 :‬‬ ‫م ِ‬
‫في ال ْ‬ ‫ِ‬
‫وعندما وقعت حادثة الفك‪ ،‬كان وقعها على آل أبي بكر شديدا‬
‫فلما نزلت البراءة حلف أبو بكر ‪ ‬أل ينفق على مسطح بن أثاثة‪,‬‬
‫منك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ل ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫ل ُأوُلو ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ول َ ي َأ ْت َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫قوله‬ ‫فأنزل الله َ في ذلك‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ة أن ي ُ ْ‬
‫ري َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ها ِ‬ ‫م َ‬ ‫وا َل ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫مَ َ‬ ‫وال َ‬ ‫ؤُتوا أوِلي القْرَبى َ‬ ‫ع ِ‬‫س َ‬
‫وال ّ‬ ‫َ‬
‫فَر‬ ‫غ ِ‬‫ن أن ي ّ ْ‬ ‫حّبو َ‬ ‫حوا أل َ ت ُ ِ‬ ‫ف ُ‬‫ص َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫و‬‫َ‬ ‫فوا‬ ‫ُ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫و‬‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫بي‬
‫ََ ِ ِ‬ ‫س‬ ‫في‬ ‫ِ‬
‫م" ]النور‪ .[22 :‬فصفح الصديق وعفا‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر ّر ِ‬ ‫غ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫والل ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه لك ُ ْ‬‫الل ُ‬
‫واستمر في نفقته على مسطح‪.‬‬
‫إن رحابة الصدر وسماحة النفس تتضمن الرحمة التي تدعو‬
‫التأثير‬
‫ذلكهي أ َ‬ ‫إلى الحلم الذي يقود إلى العفو‪ ,‬فيكون من وراء‬
‫ن‬ ‫س‬
‫ِ َ ْ َ ُ‬ ‫ح‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ع ِبال ّ‬ ‫ف ْ‬ ‫التلقائي لن النسان يتأثر بالحسان ‪+‬ادْ َ‬
‫‪1‬‬
‫)( الخلق السلميةـ ) ‪.(2/353‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب‪ :‬المر باليمان بالله ورسوله )‪.(1/48‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الطهارة‪ ،‬باب‪ :‬صب الماء على البول في المسجد )الفتح( )‬ ‫‪3‬‬

‫‪.(1/324‬‬
‫)( خلق المسلم‪ ،‬ص ‪.204‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪334‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬
‫َ‬
‫م" ]فصلت‪.[34 :‬‬
‫مي ٌ‬
‫ح ِ‬
‫ي َ‬
‫ول ِ ّ‬ ‫وةٌ ك َأن ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫دا َ‬‫ع َ‬
‫ه َ‬ ‫وب َي ْن َ ُ‬
‫ك َ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬
‫ذي ب َي ْن َ َ‬ ‫َ‬
‫فإ ِ َ‬
‫وهذا أمر مشاهد حيث نرى أن من كان سمح النفس يستطيع‬
‫»أن يظفر بأكبر قسط من محبة الناس له‪ ،‬وثقة الناس به‪ ،‬لنه‬
‫يعاملهم بالسماحة والبشر ولين الجانب‪ ،‬والتغاضي عن السيئات‬
‫والنقائص‪ ،‬فإذا دعاه الواجب إلى تقديم النصح كان في نصحه‬
‫رقيقا لينا‪ ،‬سمحا‪ ،‬يسر بالنصيحة ول يريد الفضيحة‪ ،‬يسد الثغرات‬
‫ول ينشر الزلت والعثرات«)‪.(1‬‬
‫هذه يعض العدة التي لبد منها للدعاة الذين يتصدرون الناس‬
‫لدعوتهم إلى السلم‪.‬‬
‫المراعاة والتدرج في السلم‪:‬‬
‫إن المراعاة والتدرج لزمان للتغيير وحصول الستجابة‪ ،‬لن‬
‫تغيير النفوس وإزاحتها عن مألوفاتها‪ ،‬ونقلها من ميولها أمر ليس‬
‫سهل‪ ،‬كما أن تغيير العراف التي تجذرت في النفوس‪ ،‬واستقرت‬
‫في العقول وتواطأ الناس عليها ل تتغير بأمر يصدر أو دعوة توجه‪،‬‬
‫ولذلك لبد في الدعاة من مراعاة الطبائع والفهام‪ ،‬والمقاصد‬
‫والنيات‪ ،‬والحوال الخاصة‪ ،‬والعراف والعوائد العامة‪ ،‬والولويات‪،‬‬
‫والمصالح والمفاسد‪ ،‬والوقات عندما يتصدرون لدعوة الناس‬
‫وتعريفهم بالسلم‪.‬‬
‫إن التدرج سنة ربانية من سنن الله تعالى في خلقه وكونه‪،‬‬
‫وهو من السنن الهامة التي يجب على المة أفرادا وجماعات أن‬
‫تراعيها وهي تعمل للتمكين‪.‬‬
‫ومراعاة سنة التدرج في العمل للتمكين يعني أن تتدرج المة‬
‫في عملها للتمكين من السهل إلى الصعب‪ ،‬ومن الصعب إلى‬
‫الصعب‪ ,‬ومن الهدف القريب إلى الهدف البعيد‪ ،‬ومن الخطة‬
‫الجزئية إلى الخطة الكلية)‪ ...(2‬وهكذا‪.‬‬
‫فلقد بدأت الدعوة السلمية في زمن النبي × متدرجة تسير‬
‫بالناس سيرا دقيقا‪ ،‬حيث بدأت بمرحلة الصطفاء والتأسيس ثم‬
‫مرحلة المواجهة والمقارنة ثم مرحلة النصر والتمكين‪ ،‬وما كان‬
‫يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت واحد وإل كانت المشقة‬
‫والعجز‪ ،‬وما كان يمكن كذلك أن يقدم واحد منها على الخرى‪،‬‬
‫وإل كان الخلل والرباك)‪.(3‬‬
‫واعتبار هذه السنة في غاية الهمية »ذلك أن بعض العاملين‬
‫في حقل الدعوة السلمية يحسبون أن التمكين يمكن أن يتحقق‬
‫)( الخلق السلمية )‪.(2/443‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.226‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( منهج أهل السنة والجماعة في قضية التغيير‪ ،‬ص ‪ 69 ،68‬بتصرف‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪335‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بين عشية وضحاها‪ ،‬ويريدون أن يغيروا الواقع الذي تحياه المة‬


‫السلمية في طرفة عين‪ ،‬دون نظر في العواقب‪ ،‬ودون‬
‫فهم للظروف والملبسات المحيطة بهذا الواقع‪ ،‬ودون إعداد جيد‬
‫للمقدمات‪ ،‬أو‬
‫)‪(1‬‬
‫للساليب والوسائل« ‪.‬‬
‫وقد وجه الله تعالى أنظارنا إلى هذه السنة في أكثر من‬
‫موقع‪ ،‬فالله تعالى خلق السموات والرض في ستة أيام‪ ،‬يعلمها‬
‫سبحانه ويعلم مقدارها‪ ،‬وكان ‪ -‬جل شأنه ‪ -‬قادرا على خلقها في‬
‫أقل من لمح البصر‪.‬‬
‫وكذلك بالنسبة لطوار خلق النسان والحيوان والنبات كلها‬
‫تندرج في مراحل حتى تبلغ نماءها وكمالها ونضجها وفق سنة الله‬
‫تعالى الحكيمة‪.‬‬
‫وسنة التدرج ثابتة في التشريع السلمي بصورة بينة ملموسة‪،‬‬
‫وهذا من تيسير السلم على البشر‪ ،‬إنه راعى معهم سنة التدرج‬
‫فيما يشرعه لهم إيجابا وتحريما‪ ،‬فتجده حين فرض الفرائض‬
‫كالصلة والصيام والزكاة فرضها على مراحل‪ ،‬ودرجات حتى‬
‫انتهت إلى الصورة الخيرة التي استقرت عليها)‪.(2‬‬
‫ولقد أشارت السيدة عائشة رضي الله عنها إلى سنة التدرج‬
‫في التشريع ونزول القرآن فقالت‪» :‬إنما أنزل القرآن سورا فيها‬
‫ذكر الجنة والنار‪ ،‬حتى إذا ثاب الناس إلى السلم نزل الحلل‬
‫والحرام‪ ،‬ولو نزل أول شيء ل تشربوا الخمر ول تزنوا لقالوا‪ :‬ل‬
‫ندع الخمر ول الزنا أبدا«)‪.(3‬‬
‫وأوضح مثال معروف في هذه القضية هو التدرج في تحريم‬
‫الخمر‪ :‬فلقد كانت متغلغلة في نفوس الناس بصورة كبيرة‪ ،‬فكان‬
‫من الحكمة أن يفطموا عنها‬
‫بطريقة تدريجية)‪.(4‬‬
‫وكان القضاء على الرق خاضعًا لسنة التدرج‪ .‬يقول الدكتور‬
‫القرضاوي‪» :‬ولعل رعاية السلم للتدرج هي التي جعلته ل يقدم‬
‫على إلغاء نظام الرق الذي كان نظاما سائدا في العالم كله عند‬
‫ظهور السلم‪ ،‬وكان محاولة إلغائه تؤدي إلى زلزلة في الحياة‬
‫الجتماعية والقتصادية‪ ,‬فكانت الحكمة في تضييق روافده‪ ،‬بل‬
‫ردمها كلها‪ ،‬ما وجد إلى ذلك سبيل‪ ،‬وتوسيع مصارفه إلى أقصى‬
‫حد‪ ،‬فيكون ذلك بمثابة إلغاء الرق‬

‫آفات على الطريق – السيد محمد نوح )‪.(1/27‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.127‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫رواه البخاري‪ ،‬كتاب فضائل القرآن‪ ،‬باب‪ :‬تأليف القرآن‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ,‬ص ‪.228‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪336‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بطريق التدرج«)‪.(1‬‬
‫يقول أبو العلي المودودي‪» :‬إننا درسنا القرآن الكريم والسنة‬
‫المطهرة دراسة عميقة علمنا كيف وبأي تدرج وانسجام تم التغيير‬
‫السلمي في بلد العرب‪ ،‬ومنها إلى العالم كله على يد النبي ×‪,‬‬
‫فلقد كانت المور تسير رويدا رويدا حسب مجراها الطبيعي حتى‬
‫تستقر في مستقرها الذي أراده الله رب العالمين‪.(2) «...‬‬
‫إن المة السلمية التي تتطلع اليوم إلى تمكين الله تعالى لها لبد‬
‫أن تراعي في عملها سنة التدرج‪ ،‬فما هدم في أعوام ل يمكن أن‬
‫يبنى في أيام‪ ,‬فعليها أن تتبنى سياسة النفس الطويل والصبر‬
‫الجميل‪ ،‬فتصبر على البذرة حتى تنبت‪ ،‬وعلى النبتة حتى تورق‪ ،‬وعلى‬
‫الورقة حتى تزهر‪ ،‬وعلى الزهرة حتى تثمر‪ ،‬وعلى الثمرة حتى تنضج‪،‬‬
‫وتؤتي أكلها بإذن ربها)‪.(3‬‬
‫وينبغي للدعاة العاملين اليوم للسلم أن‪» :‬يراعوا في عملهم‬
‫سنة التدرج في تحقيق ما يريدون من أهداف‪ ،‬آخذين في العتبار‬
‫سمو الهدف ومبلغ المكانات وكثرة المعوقات‪ ,‬فل ينبغي أن‬
‫يستعجل الشيء قبل أن يبلغ الجل المقدور لمثله‪ ،‬فإن الزرع إذا‬
‫حصد قبل إبانه‪ ،‬والثمر إذا قطف قبل أوانه ل ينتفع به النفع‬
‫المرجو‪ ،‬بل قد يضر ول ينفع‪ ,‬فإذا كان النبات ل يؤتي أكله إل بعد‬
‫أشهر أو سنة‪ ,‬وبعض الشجر ل يثمر قبل سنوات عدة فإن بعض‬
‫العمال الكبيرة ل تقطع ثمارها إل بعد عقود من السنين‪ ,‬وكلما‬
‫كان العمل عظيما وقاعدته متسعة كانت ثمرته أبطأ‪.‬‬
‫وقد يبدأ جيل عمل تأسيسيا ذا شأن فل يستفيد منه الجيل‬
‫الثاني‪ ،‬أو الثالث‪ ،‬أو ما بعد ذلك‪ ،‬ول ضير في ذلك ما دام كل‬
‫شيء يسير في خطه المعلوم وطريقه المرسوم«)‪.(4‬‬
‫نعم فالقدار طويلة النفاس‪ ،‬والصراع بين الحق والباطل ل‬
‫جولتين‪ ,‬إنه قد‬ ‫تنكشف عقباه في سنة أو سنتين‪ ,‬ول في جولة أو‬
‫ة‬ ‫ن‬‫س‬ ‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫)‪(5‬‬
‫ِ َ َ ٍ‬ ‫عن ْدَ َر ّ‬
‫ب‬ ‫ما ِ‬
‫و ً‬
‫ن يَ ْ‬
‫وإ ِ ّ‬
‫يستوعب السنين والقرون ‪َ +..‬‬
‫ن" ]الحج‪.[47 :‬‬‫دو َ‬‫ع ّ‬
‫ما ت َ ُ‬
‫م ّ‬
‫ّ‬
‫إن استيعاب سنة التدرج يعين الدعاة على التعامل الصحيح مع‬
‫الناس ولبد للدعاة الذين يعرفون الناس بالسلم أن تكون لهم‬
‫قدرة على التخطيط والتنظيم وحسن الدارة‪ ،‬ول يخفى أن هذه‬
‫المور المذكورة من صميم كل مرحلة من مراحل التمكين بل هي‬
‫من صميم أي عمل يراد له أن يحقق أهدافه‪ ،‬وأن يصل إلى غايته‪.‬‬
‫الخصائص العامة للسلم للقرضاوي‪ ،‬ص ‪ 166‬وما بعدها‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.229‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬جيل النصر المنشود‪ ،‬للقرضاوي ص ‪.23‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الصحوة السلمية بين الجمود والتطرف‪ ،‬ص ‪.107 ،106‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫علل وأدوية للغزالي‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪337‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن مرحلة التعريف تحتاج إلى الدعاة أن يهتموا بالتخطيط‬


‫والتنظيم وحسن الدارة‪.‬‬
‫فبالتخطيط يمكن أن يستفاد من الموارد المادية والمعنوية‬
‫والبشرية‪ ،‬على أفضل وجه ممكن‪ ،‬وبأقل تكاليف ممكنة‪ ،‬وفي‬
‫الوقت المناسب‪.‬‬
‫وبالتنظيم‪ :‬يمكن تحديد الواجبات والختصاصات بين الفراد‬
‫ويمكن تحديد الوقات التي تؤدي فيها العمال‪ ،‬بغية الوصول إلى‬
‫الهداف التي حددت من ذي قبل‪ ،‬وهو عمل يجب أن يمارسه‬
‫الدعاة إلى الله‪ ،‬بل يتمرسوا به‪ ،‬ويجيدوه‪ ،‬لنه ل ينجح عمل بدون‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وبحسن الدارة‪ :‬يمكن إخراج التخطيط والتنظيم إلى حيز‬
‫الوجود للعمل والتنفيذ‪ ،‬وتحدد الطاقات وتوظف مهماتها في‬
‫العمل‪ ،‬وفق ما تقتضيه الخطة وما يتطلبه النظام ويمكن تأمين‬
‫الموارد المالية اللزمة في هذه المرحلة‪ ،‬بحيث تكون موارد ثابتة‬
‫يمكن على ضوء ثباتها هذا أن توضع ميزانية للعمل‪ ،‬وأن يخضع‬
‫لجدولية مالية وزمانية‪ ,‬ويمكن تنسيق جهود الفراد أو المجموعات‬
‫المشاركة في العمل‪ ،‬بحيث تغطي احتياجات العمل في هذه‬
‫المرحلة‪ ،‬وتحقق أهدافه مع تحديد الجهد المطلوب من كل فرد أو‬
‫وم العمل‬ ‫مجموعة أيا كان هذا الجهد‪ ،‬وبحسن الدارة يمكن أن يق ّ‬
‫في كل مرحلة من مراحله‪ ،‬والستفادة من هذا التقويم للوصول‬
‫إلى الحسن‪ ،‬وتقويم الداء في الزمان والمكان‪ ،‬و تقويم النتائج‬
‫التي حققها العمل‪ ،‬وتقويم الفراد والمجموعات‪.‬‬
‫إن تقويم العمل وفق إدارة محكمة ينتج عنه‪ :‬تجويد العمل على‬
‫قدر المستطاع‪ ،‬والمحافظة عليه من النحراف عن أهدافه‪،‬‬
‫والمحافظة على الستمرارية‪ ،‬والمحافظة على النضباط‪.‬‬
‫ولبد من الشارة إلى موضوع مهم‪ ،‬أل وهو أن العمل الدعوي‬
‫في مكان قد يحتاج إلى خطة وتنظيم وإدارة‪ ،‬تختلف عن احتياجه‬
‫إليها في مكان آخر‪.‬‬
‫وهذا حق‪ ,‬وهو أمر تطلب فيه المرونة‪ ،‬وسعة الفق‪ ،‬وعمق‬
‫النظر إلى المور‪ ،‬لكن بغض النظر عن هذا الختلف‪ ،‬فليست‬
‫العبرة أبدا بنوعية العداد‪ ،‬هرميا كان أو رأسيا‪ ،‬أو رئاسيا أو‬
‫استشاريا‪ ،‬أو غير ذلك‪ ,‬وإنما العبرة بضرورة ممارسة التنظيم‬
‫للعمل‪ ،‬وبضرورة اختيار النوع الملئم للناس والبيئات‪ ،‬التي يطبق‬
‫فيها أي نوع من أنواع التنظيم‪ ,‬كل ذلك ينظر إليه بمنظار الحتياج‬
‫من جانب‪ ،‬وبمنظار القدرة على تحقيق الهداف من جانب آخر‪,‬‬
‫ول بأس أبدا بأي نوع من أنواع التنظيم‪ ،‬التي ذكرنا أو سواها مما‬
‫يصل إليه أذهان الدعاة إلى الله‪ ،‬ما دام هذا التنظيم ل ينطوي‬

‫‪338‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫على شيء مما حرم الله)‪.(1‬‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم‪.(302 -1/295) ،‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪339‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الثاني‬
‫مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة‬
‫إن رسل الله الكرام عليهم أفضل الصلوات والسلم عندما‬
‫بلغوا رسالت الله إلى أقوامهم‪ ،‬اختاروا من الناس من استجاب‬
‫لدعوتهم وغرسوا في نفوسهم المعاني اليمانية والخلق الربانية‬
‫حتى يستطيعوا أن يحملوا معهم دعوة الله إلى الناس‪ ،‬فهذا‬
‫رسول الله موسى قام بهذه المهمة الشاقة‪ ,‬وذاك رسول الله‬
‫عيسى الذي اختار أنصاره الحواريين الذين حملوا دعوته ورسالته‬
‫من بعده‪ ,‬وإن كان بعضهم انحرف عن المنهج الرباني الصحيح‪،‬‬
‫ومن سيرة النبي × نرى أن هذه المرحلة واضحة المعالم في‬
‫اختيار العناصر التي لها استعداد لتحمل تكاليف ومشاق ومصاعب‬
‫الدعوة إلى الله‪.‬‬
‫وقد اهتم كثير من الدعاة إلى الله بهذه المرحلة وأعطوها‬
‫اهتماما خاصا على مر العصور‪ ،‬وكر الدهور‪ ،‬ول زال المهتمون‬
‫بأمر الدعوة والذين يسعون لتطبيق شرع الله تعالى يعطون هذه‬
‫المرحلة أوقاتهم وجهدهم‪ ،‬ولقد أرشد َالقرآن الكريم المة إلى‬
‫عُتم‬‫ست َطَ ْ‬
‫ما ا ْ‬ ‫م ّ‬‫ه ْ‬ ‫دوا ل َ ُ‬ ‫ع ّ‬
‫وأ ِ‬
‫الهتمام بالعداد في قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ه‬‫و الل ِ‬‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫بو‬‫ه ُ‬
‫ل ت ُْر ِ‬ ‫ط ال ْ َ‬
‫خي ْ ِ‬ ‫من ّرَبا ِ‬ ‫و ِ‬
‫ة َ‬ ‫و ٍ‬ ‫ق ّ‬‫من ُ‬ ‫ّ‬
‫م‪] "...‬النفال‪.[60 :‬‬ ‫ُ‬
‫عد ُ ّ ْ‬
‫ك‬‫و‬ ‫و َ‬
‫َ‬
‫إن العداد في الية الكريمة كلمة عامة تبدأ بالعداد النفسي‪،‬‬
‫وتنتهي بكل أنواع العداد المادية التي قد تحتاج إليها المعركة‪،‬‬
‫والمسلم في هذه المرحلة بالذات عليه أن يعد نفسه للقاء أعداء‬
‫الله‪ ،‬فيأخذ نفسه بكل أسباب القوة‪ ،‬ويحول بينه وبين أي سبب‬
‫من أسباب الضعف‪ ،‬ويعيش منتظرا ذلك اليوم الذي يجاهد فيه‬
‫في سبيل الله‪ ،‬ويقاتل أعداءه‪ ،‬ويسعى لزالة الحواجز التي تمنع‬
‫دخول الناس في السلم‪ ،‬وتمنع تحكيم شرع الرحمن)‪.(1‬‬
‫إن مرحلة اختيار العناصر اللزمة لتحمل الدعوة وتربيتهم على‬
‫الكتاب والسنة‬
‫من أهم المراحل في تمكين دين الله‪ ،‬كما أن أهدافها أكثر دقة‬
‫من أهداف المرحلة‬
‫التي قبلها‪.‬‬
‫أول‪ :‬أهم أهداف هذه المرحلة‪:‬‬
‫الهدف الول‪ :‬الصطفاء‪:‬‬
‫وهو الختيار والنتقاء للعناصر التي أنهت مرحلة التعريف‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم )‪.(1/447‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪340‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بنجاح حتى يتأهلوا لحمل أعباء وتكاليف الجهاد في مرحة المغالبة‪،‬‬


‫والشروع لهيمنة السلم من خلل دولة محكمة)‪ .(1‬وهذا الصطفاء‬
‫له معايير أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬القدرة الروحية‪ :‬ويكون لدى الشخص المختار استعداد‬
‫في هذه المرحلة من الناحية الروحية إذا توافرت فيه بعض‬
‫الصفات من أهمها‪ :‬صفاء الروح‪ ،‬الشعور بمراقبة الله‪ ،‬أن يظهر‬
‫حبه لله في سلوكه‪ ،‬وكذلك ارتباطه الوثيق بالله‪.‬‬
‫‪ -2‬القدرة العقلية‪ :‬وأهم الصفات التي تؤهل الشخص من‬
‫الناحية العقلية‪ ،‬الذكاء الذي يساعده على العلم والتحصيل‪ ،‬ونبذ‬
‫غِني‬ ‫ن ل َ يُ ْ‬ ‫ن الظّ ّ‬ ‫المسلمات القائمة على الظنون والوهام‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫شي ًْئا" ]يونس‪ ,[36 :‬وأن يتصف في الحكم على الناس‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫والشياء بالتأني والتثبت في كل المور‪ ،‬لن التسرع يوقع في‬
‫الخطأ من جانب ويضيع كثيرا من الفرص للتعرف الحقيقي على‬
‫َ‬
‫مُنوا ِإن‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫تعالى ‪َ+‬يا أي ّ َ‬ ‫قالُنوا َ‬ ‫الناس من جانب آخر‪,‬‬
‫هال َ ٍ‬
‫ة‬ ‫ج َ‬ ‫ما ب ِ َ‬‫و ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫بوا‬ ‫ُ‬ ‫صي‬‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ق ب ِن َب َأ ٍ‬
‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫م َ‬ ‫جاءَك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]الحجرات‪ ,[6 :‬وأن يتصف‬ ‫َ‬ ‫مي‬
‫ِ‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫حوا‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ِ‬
‫ب‬‫ص‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ف‬
‫بعمق النظر‪ ،‬وقدرته على التدبر واستنباط الحكم الكامنة في‬
‫المخلوقات‪ ،‬لن ذلك ينضج الفكر ويزيد اليمان‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ما إ ِل ّ‬ ‫َ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ه َ‬ ‫ما ب َي ْن َ ُ‬‫و َ‬ ‫ض َ‬ ‫والْر َ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫قَنا ال ّ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬‫‪َ +‬‬
‫ق" ]الحجر‪.[85 :‬‬ ‫ِبال ْ َ ّ‬
‫ح‬
‫‪ -3‬القوة البدنية‪ :‬وذلك أن هذه المرحلة إعداد لمرحلة‬
‫الجهاد‪ ،‬فليس بأهل لها إل رجل ً قوي البدن‪ ,‬سليم الحواس‪ ،‬خالًيا‬
‫من المراض والعاهات‪ ،‬ومن كان قادرا على أن يأخذ نفسه وبدنه‬
‫بأسباب القوة‪ ،‬ويباعد بين نفسه وبدنه وبين أسباب الضعف فذلك‬
‫شخص مطلوب‪.‬‬
‫‪ -4‬القدرة الحركية‪ :‬وتتحقق القدرة الحركية في الشخص إذا‬
‫توافرت فيه صفات نذكر منها‪ :‬الرغبة في الختلط بالناس‪ ،‬وعقد‬
‫الصلت بهم‪ ،‬والقدرة على جذب الناس إليه‪ ،‬والقدرة على التأثير‬
‫في الناس‪ ،‬وتصنيفهم‪ .‬وتكون هذه الصفات من مقومات‬
‫الشخصية المختارة‪.‬‬
‫‪ 5‬القدرة النتاجية‪:‬يكون قد استقطب وضم للصف السلمي‬ ‫‪-‬‬
‫آخر أو آخرين‪ ،‬لصفوف العمل السلمي عموما‪ ،‬أو إلى صفوف‬
‫مرحلة الدعوة والتبليغ‪ ,‬وأن يتصف باليجابية الفعالة القادرة على‬
‫العمل وأن يكون متحمسا للعمل ل يفتر عنه‪ ،‬وأن يكون محسنا في‬
‫العمل الذي يسند إليه‪ ,‬وأن يكون ذا علقة جيدة بالناس‪ ،‬وأن يكون‬
‫قد فقه تماما معنى كونه داعية إلى الله‪ ،‬ومن لم تتوافر له هذه‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم )‪.(1/421‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪341‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الصفات‪ ،‬أو تلك الشروط‪ ،‬وفق تلك المعايير التي ذكرنا يكون له‬
‫انسجام وملءمة لطاقته‬
‫اً‬ ‫موقع آخر في العمل السلمي أكثر‬
‫وقدراته‪ ،‬وأفيد للعمل‪ ،‬لن من المور التي تهلك العمال توسيدها‬
‫إلى غير أهلها‪.‬‬
‫الهدف الثاني‪ :‬التوظيف‪:‬‬
‫أي تحديد العمل للفرد‪ ،‬وتقديره في حدود إمكانات الفرد‬
‫وطاقته‪ ,‬ويحدد له الزمن المناسب لداء العمل‪ ,‬وإسناد العمل‬
‫المناسب للفرد المناسب يستوجب على من يشرف على العمل‬
‫أن يكون على علم ووعي وإدراك لما يلي‪:‬‬
‫الهدف من كل عمل من العمال‪.‬‬ ‫‪ -1‬تحديد‬
‫الوسائل التي تكفل للعمل النجاح‬ ‫‪ -2‬تحديد‬
‫الفرد والفراد الملئمين للعمل‪.‬‬ ‫‪ -3‬تحديد‬
‫الطار الزمني للعمل‪.‬‬ ‫‪ -4‬تحديد‬
‫الهدف الثالث‪ :‬العداد والتربية‪:‬‬
‫ونعني بهذا الهدف تهيئة الفراد وتجهيزهم وتنمية قواهم الجسدية‬
‫والخلقية والعقلية‪ ،‬ليكونوا أقوياء قادرين على حمل أعباء الجهاد في‬
‫سبيل الله‪ ،‬ولذلك تعتبر مرحلة العداد والتربية من أهم مراحل‬
‫الدعوة إلى الله‪ ،‬لنها تكون أفرادا متكاملي البناء‪ ،‬وحسبهم أنهم‬
‫قادرون على حمل أعباء الجهاد الذي كما هو معروف سنام السلم‪،‬‬
‫وأعلى منزلة بين منازله‪.‬‬
‫الهدف الرابع‪ :‬النضباط‪:‬‬
‫وذلك بالوصول بالفراد إلى النضباط وحفظهم بالحزم حفظا‬
‫جيدا‪ ،‬وإحكام إعدادهم وتكوينهم والقيام على أمرهم خير قيام‪.‬‬
‫إن حياة المسلم العادي منضبطة في كل شيء‪ ،‬وفق القوانين‬
‫التي جاء بها السلم‪ ,‬فمن باب أولى الذين يعدون لحمل تكاليف‬
‫الجهاد‪ ,‬فالمسلم منضبط وفق الشرع في العقيدة والفكر‪ ،‬وفي‬
‫العبادة‪ ،‬وفي الخلق والسلوك وفي المعاملت كلها‪ ،‬وفي الكلم‬
‫والصمت وفي الزي والمأكل والمشرب والمنكح‪ ،‬وفي النوم‬
‫واليقظة‪ ،‬وفي الحقوق والواجبات‪ ،‬وفي محاسبة النفس‪ ,‬وفي‬
‫الدعوة إلى الله والعمل من أجل السلم‪ ،‬وفي اللتزام بوعده‬
‫وموعده‪ ،‬وفي النتماء والعتزاز بأنه مسلم‪.‬‬
‫وليس المسلمون في ذلك سواء فمنهم من ينضبط وفق هذه‬
‫المعايير‪ ،‬ومنهم من يقصر في بعضها‪ ،‬ومنهم من يلبس عليه‬

‫‪342‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الشيطان أو الهوى أمره فل ينضبط‪ ,‬ولقد كان من حكمة الله‬


‫سبحانه ورحمته بالناس‪ ،‬أن جعل لعدم النضباط عقوبات مقدرة‬
‫»حدودا« ليلتزم الناس بأدب السلم وخلقه‪ ،‬ومنهجه‪ ،‬ونظامه‪.‬‬
‫إن مرحلة العداد والتربية من أهدافها الصيلة‪ ،‬أن يتربى‬
‫المسلم على النضباط في كل شيء وفق المعايير والقوانين التي‬
‫شرعها الله سبحانه وتعالى ليحقق الخذ بها سعادة الدنيا والخرة‪.‬‬
‫ومن أهم الوسائل لتحقيق هذه الهداف أن يتعهد الفراد‬
‫المستهدفون في هذه المرحلة من قبل مشرف مختص ليشرف‬
‫على تربيتهم أسبوعيًا‪ ،‬وفق دراسة معينة‪ ،‬وُيتعهدوا أيضا كل شهر‬
‫ونصف ببرنامج مكثف‪ ,‬وتستخدم الدورات والندوات والمخيمات‬
‫والمعسكرات والرحلت لتحقيق هذه الهداف السامية‪ ،‬أما‬
‫البرنامج المعد لهذه المرحلة فيحتوي على تربية روحية وعقلية‬
‫وجسمية واجتماعية وخلقية‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬التربية الروحية‪:‬‬
‫ر‬ ‫َ‬ ‫ح ُ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬
‫م ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫ل الّرو ُ‬ ‫ق ِ‬ ‫ن الّرو ِ‬ ‫ع ِ‬ ‫ك َ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫ُ‬
‫قال‬
‫قِليل ً" ]السراء‪ [85 :‬وقال‬ ‫عل ْم ِ إ ِل ّ َ‬ ‫من ال ْ ِ‬ ‫ّ‬ ‫تم‬ ‫ُ‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫ما‬ ‫َرّبي َ َ‬
‫و‬
‫م‬‫تعالى‪+ :‬ث ّ‬‫ُ‬ ‫حي" ]ص‪ [72 :‬وقال‬ ‫من ّرو ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫في ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫ون َف ْ‬ ‫َ‬ ‫تعالى‪َ +:‬‬
‫صاَر‬ ‫ب‬ ‫ع وال َ‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ح‬ ‫رو‬ ‫من‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫َ‬
‫خ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ون َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫واهُ َ‬ ‫َ‬ ‫س ّ‬ ‫َ‬
‫ن" ]السجدة‪ .[9 :‬ولتزكية الروح‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫َ‬
‫وتربيتها طرق عدة من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬التدبر في كون الله ومخلوقاته وفي كتاب الله تعالى حتى‬
‫ن‬ ‫وتعالى‪ ,‬قال تعالى‪+َ :‬إ ِ ّ‬ ‫تشعر بعظمة الخالق وحكمته سبحانه‬
‫َ‬
‫ة أّيام ٍ‬ ‫ست ّ ِ‬ ‫في ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫والْر َ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خل َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫م الل ُ‬ ‫َرب ّك ُ ُ‬
‫حِثيًثا‬ ‫ه َ‬ ‫ُ‬
‫هاَر َي َطلب ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل ال َن ّ َ‬ ‫شي اللي ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫غ ِ‬ ‫ش يُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫عْر ِ‬ ‫على ال َ‬
‫ْ‬
‫وى َ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ما ْ‬
‫ق‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬
‫ُ َ ُ َ َ ٍ ِ ْ ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫را‬ ‫خ‬
‫ّ‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫جو‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫َ َ َ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ْ َ َ‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ش‬ ‫ّ‬ ‫وال‬ ‫َ‬
‫ن" ]العراف‪.[54 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫عال َ ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫ه َر ّ‬ ‫ك الل ُ‬ ‫مُر ت ََباَر َ‬ ‫وال ْ‬ ‫َ‬
‫التأمل في علم الله الشامل وإحاطته الكاملة بكل ما في‬ ‫‪-2‬‬
‫بل بما في عالم الغيب والشهادة‪ ،‬لن ذلك يمل الروح والقلب‬ ‫الكون‪،‬‬
‫بعظمة الله ويطهر النفس من الشكوك والمراض‪.‬‬
‫و‬
‫ه َ‬ ‫ها إ ِل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫ب ل َ يَ ْ‬ ‫غي ْ ِ‬ ‫ح ال ْ َ‬ ‫فات ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫عن ْدَهُ َ‬ ‫و ِ‬ ‫قال تعالى‪َ ْ + :‬‬
‫ة إ ِل ّ‬ ‫وَرق ٍ‬ ‫َ‬ ‫من َ‬ ‫س قط ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ما َت َ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ر َ‬ ‫ح ِ‬ ‫والب َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫في الب َّر َ‬ ‫ما ِ‬ ‫م َ‬ ‫عل َ ُ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫َ‬
‫س‬ ‫ب‬‫يا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫ٍّ َ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ط‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ها‬ ‫عل َ ُ َ‬ ‫م‬ ‫يَ ْ‬
‫َِ ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫م َ‬ ‫عل ُ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫كم َ ِباللي ْ ِ‬ ‫فا ُ‬ ‫و ّ‬ ‫ذي ي َت َ َ‬ ‫و ال ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ب ّ‬ ‫في ك َِتا ٍ‬ ‫إ ِل ّ ِ‬
‫م‬ ‫مى ث ّ‬ ‫ُ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫جل ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ضى أ َ‬ ‫ه ل ِي ُق َ‬ ‫ْ‬ ‫في ِ‬ ‫م ِ‬ ‫عثك ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫م ي َب ْ َ‬ ‫رث ّ‬ ‫ُ‬ ‫ها ِ‬ ‫حُتم ِبالن ّ َ‬ ‫جَر ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]النعام‪.[60 ،59 :‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ع َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫كم ب ِ َ‬ ‫م ي ُن َب ّئ ُ ُ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫عك ُ ْ‬ ‫ج ُ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ر‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إِ‬
‫‪ -3‬عبادة الله من أعظم الوسائل لتربية الروح وأجلها قدرا‪ ،‬إذ‬
‫العبادة هي غاية التذلل لله سبحانه‪ ,‬ول يستحقها إل الله وحده‪،‬‬

‫‪343‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ضى رب َ َ‬
‫دوا إ ِل ّ إ ِّيا ُ‬
‫ه‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫ك أل ّ ت َ ْ‬ ‫َ ّ‬ ‫ق َ‬ ‫و َ‬ ‫ولذلك قال سبحانه‪َ + :‬‬
‫ساًنا" ]السراء‪.[23 :‬‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫وال ِدَي ْ ِ‬ ‫وِبال ْ َ‬ ‫َ‬
‫والعبادات التي تسمو بالروح وتطهر النفس نوعان‪:‬‬
‫النوع الول‪ :‬العبادات المفروضة كالطهارة‪ ،‬والصلة‪،‬‬
‫والصيام‪ ،‬والزكاة‪،‬‬
‫والحج وغيرها‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬العبادات بمعناها الواسع‪ ،‬الذي يشمل كل عمل‬
‫يعمله النسان أو يتركه‪ ،‬بل كل شعور يقبل عليه النسان تقرًبا به‬
‫إلى الله تعالى‪ ،‬بل يدخل فيها كل شعور يطرده النسان من‬
‫نفسه تقربا به إلى الله تعالى‪ ،‬مادامت نية المتعبد بهذا العمل هي‬
‫إرضاء الله سبحانه وتعالى‪ ،‬فكل المور‪ ،‬مع نية التقرب إلى الله‬
‫سبحانه وتعالى عبادة يثاب صاحبها‪ ،‬وتربى روحه تربية حسنة)‪.(1‬‬
‫إن أثر تربية الروح يتمثل في أمور عديدة نشير إلى أهمها فيما‬
‫يلي‪ :‬توثيق صلة النسان بربه سبحانه وتعالى‪ ،‬وتوضيح صلة‬
‫النسان بالكون وما فيه‪ ،‬وترشيد هذه الصلة‪ ،‬وتحبيب النسان‬
‫لخيه المسلم‪ ،‬وحرصه على هدايته وحب الخير له‪ ,‬وتحبيب‬
‫النسان لمخلوقات الله كلها‪ ،‬والتعامل معها‪ ،‬وفق منهج السلم‬
‫ونظامه‪ ،‬وتحبيب النسان في الخير عموما والتقرب به إلى الله‪,‬‬
‫واستعلء النسان على شهواته‪ ،‬وسيطرته على نزعاته‪ ،‬وتوجيه‬
‫ذلك كله‪ ،‬وفق منهج الله‪ ،‬ونظامه في الحياة الدنيا‪ ،‬واستعلء‬
‫النسان على القوة المادية‪ ،‬وعدم الوقوع في أسرها‪ ،‬بل إعطاؤها‬
‫حجمها الصحيح‪ ،‬ومكانها المناسب‪ ،‬وتتكون في العبد ملكة يستمد‬
‫بها القوة من الله وحده)‪.(2‬‬
‫ثالثًا‪ :‬التربية العقلية‪:‬‬
‫ونعني بها تربية المخ وتنمية قدرته على النظر والتأمل والتفكر‬
‫والتدبر‪ ،‬وذلك هو الذي يؤهله لحمل أعباء الدعوة إلى الله‪ ،‬وهذا‬
‫المطلب القرآني أرشد إليه ربنا سبحانه وتعالى في محكم تنزيله‪،‬‬
‫في‬ ‫ذا ِ‬ ‫ما َ‬‫ل ان ْظُُروا َ‬ ‫ق ِ‬ ‫وجعله أمرًا لكل إنسان‪ ,‬قال تعالى‪ُ + :‬‬
‫َ‬
‫وم ٍ ل ّ‬ ‫َ‬
‫عن ق ْ‬ ‫ُ‬
‫والن ّذُر َ‬ ‫ت َ‬ ‫غِني ال ََيا ُ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫و َ‬ ‫ض َ‬ ‫والْر ِ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن" ]يونس‪.[101 :‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬‫يُ ْ‬
‫في‬ ‫سيُروا ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن َ‬ ‫سن َ ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫قب ْل ِك ُ ْ‬ ‫من َ‬ ‫ت ِ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫قدْ َ‬ ‫وقوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]آل عمران‪:‬‬ ‫ذِّبي َ‬ ‫َ‬ ‫مك‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ة ال‬ ‫قب َ ُ‬
‫عا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ف كا َ‬‫َ‬ ‫فان ْظُُروا ك َي ْ َ‬ ‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫ال َْر‬
‫فان ْظُُروا‬ ‫ض َ‬ ‫َ‬ ‫ق ْ‬ ‫‪ .[137‬وقوله سبحانه‪ُ + :‬‬
‫في َ الْر َ ِ‬ ‫سيُروا ِ‬ ‫ل ِ‬
‫ه‬
‫ن الل َ‬ ‫خَرةَ إ ِ ّ‬ ‫ئ الن ّشأةَ ال ِ‬ ‫ْ‬ ‫ش ُ‬ ‫ه ُين ِ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ق ثُ ّ‬ ‫خل ْ َ‬‫ف ب َدَأ َ ال ْ َ‬ ‫ك َي ْ َ‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم )‪.(1/472،471‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم )‪.(1/472،471‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪344‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ديٌر" ]العنكبوت‪.[20 :‬‬ ‫ق ِ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عَلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬


‫مَباَر ٌ‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫ب أن َْزل َْناهُ إ ِل َي ْ َ‬
‫ك ُ‬ ‫وقوله سبحانه وتعالى‪+ ُ :‬ك َِتا ٌ‬
‫ب"‬ ‫ِ‬ ‫با‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ول ِي َت َذَك َّر أوُلو ال‬‫ه َ‬‫ل ّي َدّب ُّروا آَيات ِ ِ‬
‫]ص‪.[29 :‬‬
‫ه ‪ ‬أ َّنا‬ ‫م ِ‬ ‫عا ِ‬ ‫ن إ َِلى طَ َ‬ ‫سا ُ‬ ‫ر ال ِن ْ َ َ‬ ‫فل َْينظُ ِ‬ ‫وقوله جل شأنه‪َ + :‬‬
‫َ‬
‫ها‬
‫َ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫‪‬‬ ‫قا‬ ‫ّ‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫ض‬‫ْ َ‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫م‬‫صّبا ‪ ‬ث ُ ّ‬ ‫ماءَ َ‬ ‫صب َب َْنا ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫با ‪‬‬ ‫غل ْ ً‬ ‫ق ُ‬ ‫دائ ِ َ‬ ‫ح َ‬ ‫و َ‬ ‫خل ً ‪َ ‬‬ ‫ون َ ْ‬ ‫وَزي ُْتوًنا َ َ‬ ‫ضًبا ‪َ ‬‬ ‫ق ْ‬ ‫و َ‬ ‫با َ‬ ‫عن َ ًَ‬ ‫و ِ‬ ‫حّبا ‪َ ‬‬ ‫َ‬
‫م" ]عبس‪.[32 -24 :‬‬ ‫مك ُ ْ‬ ‫عا ِ‬ ‫ولن ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫عا ل ّك ُ ْ‬ ‫مَتا ً‬ ‫وأّبا ‪َ ‬‬ ‫ة َ‬ ‫ه ً‬ ‫فاك ِ َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫والعقل إحدى طاقات النسان المهمة‪ ,‬ولذلك اهتمت التربية‬
‫السلمية بالنظر إليه وجعله المولى عز وجل مناط التكليف عند‬
‫النسان‪ ،‬فمن حرم العقل لجنون أو غيره‪ ،‬فهو غير مكلف‪ ،‬أو قد‬
‫ه‬
‫ك بِ ِ‬ ‫س لَ َ‬ ‫ما ل َي ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫ق ُ ُ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫سقط عنه التكليف‪ ،‬قال‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ؤا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬‫وال ْب َ َ َ َ‬
‫ر‬ ‫ص‬ ‫ع َ‬ ‫م َ‬ ‫س ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫عل ْ ٌ‬ ‫ِ‬
‫ؤول ً" ]السراء‪ [36 :‬كما يعتبر العقل نعمة من الله على‬ ‫س ُ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫النسان‪ ،‬يتمكن بها من قبول العلم واستيعابه‪.‬‬
‫ولذلك وضع السلم لتربية العقل منهجًا يتمثل في عدد من‬
‫النقاط من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬تجريد العقل من المسلمات المبنية على الظن والتخمين‪،‬‬
‫أو التبعية والتقليد‪ ,‬فقد حذر القرآن الكريم من ذلك‪ ،‬في اليات‬
‫الكريمة التالية‪:‬‬
‫غِني‬ ‫ن ل َ يُ ْ‬ ‫ن الظّ ّ‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ن إ ِل ّ الظّ ّ‬ ‫عو َ‬ ‫قوله تعالى‪ِ+ :‬إن ي َت ّب ِ ُ‬
‫شي ًْئا" ]النجم‪.[28 :‬‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ه آَباءََنا‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫في َْنا َ‬ ‫ما أ َل ْ َ‬ ‫ع َ‬ ‫ل ن َت ّب ِ ُ‬ ‫قاُلوا ب َ ْ‬ ‫وقوله سبحانه‪َ + :‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن" ]البقرة‪:‬‬ ‫دو َ‬ ‫هت َ ُ‬ ‫ول ي َ ْ‬ ‫َ‬ ‫شي ًْئا َ‬ ‫ن َ‬ ‫قلو َ‬ ‫ع ِ‬ ‫م ل َ يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ؤ ُ‬ ‫ن آَبا ُ‬ ‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫أ َ‬
‫‪.[170‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫‪ -2‬إلزام العقل بالتحري والتثبت‪ ,‬قال َتعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ما‬ ‫و ً‬ ‫ق ْ‬ ‫صيُبوا َ‬ ‫فت َب َي ُّنوا أن ت ُ ِ‬ ‫ق ب ِن َب َأ ٍ َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫م َ‬ ‫جاءَك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِإن َ‬ ‫آ َ‬
‫ن" ]الحجرات‪.[6 :‬‬ ‫مي‬
‫َ ُ ْ َ ِ ِ َ‬ ‫د‬ ‫نا‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫حوا‬ ‫بِ َ َ ٍ ُ ْ ِ ُ‬
‫ب‬‫ص‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ها‬ ‫ج‬
‫‪ -3‬دعوة العقل إلى التدبر والتأمل في نواميس الكون‪ ,‬قال‬
‫ما إ ِل ّ‬ ‫َ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ه َ‬ ‫ما ب َي ْن َ ُ‬ ‫و َ‬ ‫ض َ‬ ‫والْر َ‬ ‫ت َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫قَنا ال ّ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬
‫ق" ]الحجر‪.[85 :‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫‪ -4‬دعوة العقل إلى التأمل في حكمة ما شرع الله لعباده من‬
‫عبادات‪ ،‬ومعاملت‪ ,‬وأخلق وآداب‪ ،‬وأسلوب حياة كامل‪ ،‬في‬
‫السلم والحرب‪ ،‬في القامة والسفر‪ ،‬لن ذلك فوق أن ينضج‬

‫‪345‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫العقل وينميه بتعرفه على تلك الحكم‪ ،‬يعطيه أحسن الفرص‬


‫ليطبق الشرع الرباني في حياته‪ ،‬ول يبغي عنه حول‪ ،‬لما فيه من‬
‫السكينة والطمأنينة والسعادة البشرية‪ ،‬ولن الله سبحانه وتعالى‬
‫ن ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ه ل ِي ُب َي ّ َ‬ ‫ريدُ الل ُ‬ ‫إنما شرع ما شرع ّلذلك‪ ,‬قال سبحانه‪+ :‬ي ُ ِ‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫والل‬ ‫ْ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ب‬ ‫وي َُتو َ‬ ‫م َ‬ ‫قب ْل ِك ُ ْ‬ ‫من َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫سن َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫دي َك ُ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذي ََ‬ ‫ريدُ ال ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫تو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ري‬ ‫َ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫والل‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫م‬ ‫ٌ‬ ‫كي‬ ‫ِ‬ ‫ح‬‫َ‬ ‫م‬‫ٌ‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬
‫ه أن‬ ‫ريدُ الل ُ‬ ‫ما ‪ ‬ي ُ ِ‬ ‫ظي ً‬ ‫ع ِ‬ ‫مي ْل ً َ‬ ‫ميُلوا َ‬ ‫ت أن ت َ ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ش َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫عو َ‬ ‫ي َت ّب ِ ُ‬
‫عيفا" ]النساء‪.[28 -26 :‬‬ ‫ً‬ ‫ض ِ‬ ‫ن َ‬ ‫سا ُ‬ ‫ق ال ِن ْ َ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫و ُ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫عن ْك ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ف َ‬ ‫خ ّ‬ ‫يُ َ‬
‫ما‬ ‫م إ ِل ّ َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ َ‬ ‫كم ّ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫ص َ‬ ‫ف ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫و َ‬ ‫وقال سبحانه‪َ + :‬‬
‫ن‬ ‫إ‬
‫ٍ ِ ّ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫ر‬‫ِ ْ ِ‬ ‫ي‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫ب‬ ‫هم‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫وا‬ ‫ه‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ب‬
‫َ ِ‬ ‫ن‬ ‫لو‬ ‫ّ‬ ‫ض‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫را‬ ‫ثي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫وإ ِ ّ‬ ‫ه َ‬ ‫م إ ِل َي ْ ِ‬ ‫رْرت ُ َ ْ‬ ‫ضطُ‬ ‫ا ْ‬
‫َ ِ‬ ‫ً‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ن" ]النعام‪.[119 :‬‬ ‫دي َ‬ ‫عت َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِبال ُ‬ ‫عل ُ‬ ‫وأ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫َرب ّك ُ‬ ‫َ‬
‫إن علماء المة وفقهاءها على مر العصور والزمان منذ بزوغ‬
‫السلم إلى عصرنا الحاضر غاصوا في حكم التشريع وحكمته‬
‫وتركوا للعالم كله رصيدا هائل ضخما في أبواب الفقه السلمي‪،‬‬
‫والمعاملت بين الناس كان من أسباب سعادة الدنيا والخرة لمن‬
‫التزم بالمنهج الرباني)‪.(1‬‬
‫‪ -5‬دعوة العقل إلى النظر في سنة الله في الناس عبر التاريخ‬
‫البشري‪ ،‬ليتعظ الناظر في تاريخ الباء والجداد والسلف‪ ,‬ويتأمل‬
‫في سنن الله في المم والشعوب والدول‪.‬‬
‫ن‬ ‫من َ‬ ‫من َ‬ ‫هل َك ْ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬أ َل َم يروا ك َم أ َ‬
‫قْر ٍ‬ ‫هم ّ‬ ‫قب ْل ِ ِْ‬ ‫كن ل ّك ُم وأ َ‬ ‫ِ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ َ َ ْ‬
‫ماءَ‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫نا‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫م‬ ‫ما ْ َ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ض َ‬ ‫مك ّّنا ُ‬
‫ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ْ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬
‫عل َ‬
‫ّ‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ري‬ ‫ِ‬ ‫ج‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ج‬‫َ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫را‬ ‫ً‬ ‫را‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫هم‬ ‫َ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫هم بذُُنوبهم وأ َن ْ َ ْ‬
‫ن"‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫قْرًنا آ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫د ِ‬ ‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫شأَنا ِ‬ ‫ِ ِ ْ َ‬ ‫هل َك َْنا ُ ْ ِ‬ ‫فأ ْ‬ ‫َ‬
‫]النعام‪.[6 :‬‬
‫ما‬ ‫م لَ ّ‬ ‫قب ْل ِك ُ ْ‬ ‫من َ‬ ‫ن ِ‬ ‫قُرو َ‬ ‫هل َك َْنا ال ْ ُ‬ ‫قد ْ أ َ ْ‬ ‫ول َ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫مُنوا‬ ‫ْ‬
‫ما كاُنوا ل ِي ُؤ ِ‬ ‫َ‬ ‫و َ‬ ‫ت َ‬ ‫هم ِبالب َي َّنا ِ‬ ‫ْ‬ ‫سل ُ‬ ‫ُ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫جاءَت ْ ُ‬ ‫و َ‬ ‫موا َ‬ ‫ظَل َ ُ‬
‫في‬ ‫ف ِ‬ ‫خلئ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫علَناك ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ج َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ‪ ‬ثُ ّ‬ ‫مي َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫و َ‬ ‫ق ْ‬ ‫زي ال َ‬ ‫ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫ك َذَ َل ِك ن َ ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]يونس‪.[14 ،13 :‬‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ف تَ ْ‬ ‫هم ل َِننظَر ك َي ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫د ِ‬ ‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫الْر ِ‬
‫فَينظُُروا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض َ‬ ‫في َ الْر َ ِ‬ ‫م َيسي ُِروا ِ‬ ‫و لَ ْ‬ ‫وقال سبحانه‪+ :‬أ َ‬
‫ة‬
‫و ً‬‫ق ّ‬ ‫م ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫شد ّ ِ‬ ‫م كاُنوا أ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬ ‫من َ‬
‫َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ة ال ّ ِ‬ ‫قب َ ُ‬ ‫عا ِ‬ ‫ن َ‬
‫َ‬ ‫كا َ‬ ‫ف َ‬ ‫ك َي َْ َ‬
‫م‬ ‫ه ْ‬ ‫جاءَت ْ ُ‬ ‫و َ‬ ‫ها َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫ع َ‬ ‫ما َ‬ ‫م ّ‬ ‫ها أكث ََر ِ‬ ‫ْ‬ ‫مُرو َ‬ ‫ع َ‬ ‫و َ‬ ‫ض َ‬ ‫وأَثاُروا الْر َ‬ ‫َ‬
‫كاُنوا‬ ‫كن َ‬ ‫ول َ ِ‬ ‫َ ُ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫ُ َ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫هم ِبال ْب َي َّنا‬ ‫سل ُ ُ‬ ‫َُر ُ‬
‫ن" ]الروم‪.[9 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َظْل ِ ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬ ‫أن ْ ُ‬
‫وهذا هو المنهج الرباني للعقل لكي ل يضل في التيه‪ ،‬الذي‬
‫ضل فيه كثير من الفلسفة الذين قدسوا العقل وأعطوه أكثر مما‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/475‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪346‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫يستحق‪.‬‬
‫وأما الثار العملية من هذا التوجيه الرباني في العقل فتتمثل‬
‫في أمور من أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬تنقية العقل من الوهم والخرافة‪ ،‬والدجل والمسلمات‬
‫المبنية على الظنون والوهام وتربيته على التريث والتثبت‪ ،‬حتى ل‬
‫يتسرع فيظلم ويندم وحينئذ ل‬
‫ينفع الندم‪.‬‬
‫‪ -2‬تعويد العقل على إدراك حقيقة هذا الكون الذي يعيش فيه‬
‫وإلزامه بأن يتعرف على الحق عن قرب ويقين‪.‬‬
‫‪ -3‬إقدار العقل على التأمل والنظر في حكمة الله سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فيما شرعه للناس من منهج ونظام‪ ،‬يحقق لهم سعادة‬
‫الدارين‪ ،‬وتمكين العقل من التأمل في تاريخ البشرية‪ ،‬وهذا‬
‫التاريخ هو أكبر كتاب وأوسعه أبوابًا وفصول ليخرج بفائدة جليلة‬
‫يستطيع أن يقارن بدقة وحسم بين الكفر واليمان‪ ،‬وأعمال‬
‫المؤمنين وضلل الكافرين‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬تربية الجسم‪:‬‬ ‫ً‬
‫إن الله تعالى أخبرنا أنه خلق آدم عليه السلم من سللة من‬
‫والبصرأ َ‬ ‫طين‪ ،‬ثم سواه ونفخ فيه من َروحه‪ ،‬وجعل له السمع‬
‫وب َدَ‬ ‫خل َ ُ َ‬
‫ه‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ء َ‬‫ي ٍ‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذي أ ْ‬ ‫والفؤاد‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬ال ّ ِ‬
‫من‬ ‫ة ّ‬ ‫َ‬
‫سل َل ٍ‬ ‫من ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫َ‬
‫سل ُ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫ع َ‬‫ج َ‬‫م َ‬ ‫ن ‪ ‬ثُ ّ‬ ‫طي‬
‫من ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫ِ‬ ‫سا‬
‫ق ال ِن ْ َ‬ ‫خل ْ َ‬‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬
‫م‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ّ ِ ِ َ َ َ‬‫ح‬ ‫رو‬ ‫من‬‫ِ ِ ِ‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫َ‬
‫خ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫وا‬ ‫س‬ ‫م‬
‫ّ ِ ٍ َ ّ َ ّ َُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ث‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫هي‬ ‫م‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ما‬ ‫ّ‬
‫ن" ]السجدة‪-7 :‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫ما ت َ ْ‬‫قِليل ً ّ‬ ‫فئ ِدَةَ َ‬ ‫وال ْ‬ ‫َ َ‬‫ر‬ ‫صا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬‫ل‬ ‫وا‬‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫س‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫‪.[9‬‬
‫وهذه اليات إشارة إلى أن النسان يتكون من طاقات ثلث‬
‫منحها الله للنسان‪ :‬طاقة العقل‪ ،‬وطاقة الروح‪ ،‬وطاقة الجسم‪،‬‬
‫استخلفهَ الله في الرض‪ ،‬وطلب منه أن يعمرها‪ ,‬قال سبحانه‪:‬‬ ‫ثم‬
‫ها" ]هود‪.[61 :‬‬ ‫في‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫ك‬‫ر‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ت‬‫س‬ ‫وا‬ ‫ض‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫كم‬‫ُ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫أن‬‫َ‬ ‫و‬
‫ْ ِ َ ْ َ ْ َ َ ْ ِ َ‬ ‫ّ َ‬ ‫‪َ ُ +‬‬
‫ه‬
‫وقد بينت منهج السلم في تربية الروح والعقل‪ ،‬ولبد من بيان‬
‫منهج القرآن الكريم في تربية الجسم البشري‪ ،‬بحيث يؤدي‬
‫وظيفته دون إسراف أو تقتير‪ ،‬ودون محاباة لطاقة من طاقاته‪،‬‬
‫على حساب طاقة أخرى‪ ،‬ولذلك أرشد القرآن إلى ما أحله الله‬
‫من الطيبات‪ ،‬واجتناب ما حرم الله من الخبائث‪ ,‬وأنكر على أولئك‬
‫الذين يحرمون أبدانهم من تلبية حاجاتها على الوجه المشروع‪،‬‬
‫ه‬
‫ع َ ِ ِ‬
‫د‬ ‫با‬ ‫ج لِ ِ‬ ‫ه ال ِّتي أ َ ْ‬
‫خَر َ‬ ‫ة الل ِ‬‫زين َ َ‬
‫م ِ‬‫حّر َ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ل َ‬ ‫ق ْ‬‫فقد قال تعالى‪ُ + :‬‬
‫ق" ]العراف‪.[32 :‬‬ ‫ن الّرْز ِ‬‫م َ‬
‫ت ِ‬ ‫وال ْطّي َّبا ِ‬
‫َ‬

‫‪347‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫َ‬
‫ما‬‫ت َ‬ ‫موا طَي َّبا ِ‬ ‫حّر ُ‬‫مُنوا ل َ ت ُ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫َ وقال تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫َ‬ ‫ن‪‬‬ ‫دي َ‬ ‫عت َ ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل َ يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫دوا إ ِ ّ‬ ‫عت َ ُ‬‫ول َ ت َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫ل الل ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫أ َ‬
‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫وا‬
‫َ‬ ‫با‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ق‬‫َ‬ ‫ز‬‫َ‬ ‫ر‬‫ّ َ‬‫ما‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫لوا‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫َ‬
‫ن"‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫بِ ِ ُ ِ ُ َ‬
‫نو‬ ‫ؤ‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫]المائدة‪.[88 ،87 :‬‬
‫ول شك أن تحقيق هذه الحاجات‪ ،‬يمكن النسان من أداء‬
‫وظائفه‪ ،‬التي وظفه الله لها في الرض من عبادة الله واستخلف‬
‫في الرض‪ ،‬وإعمارها‪ ،‬وتعارف وتعاون وتناصر وتمكن وأمر‬
‫بمعروف ونهي عن المنكر وجهاد في سبيل الله‪ ،‬وبغير تحقيقها ل‬
‫يكون شيء من ذلك)‪.(1‬‬
‫ولذلك ضبطت الشريعة ‪ -‬على نحو دقيق ‪ -‬حاجات الجسم البشري‬
‫على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ -1‬ضبط حاجته إلى الطعام والشراب بقول الله تعالى‪:‬‬
‫فوا"‬‫ر ُ‬ ‫ول َ ت ُ ْ‬
‫س ِ‬ ‫‪+‬وك ُُلوا َ‬
‫وا ْ‬
‫شَرُبوا َ‬
‫]العراف‪.[31 :‬‬
‫‪ -2‬وضبط حاجته إلى الملبس والمأوى‪ ،‬بأن أوجب من اللباس‬
‫ما يستره العورة‪ ،‬ويحفظ الجسم‪ ،‬من عاديات الحر والبرد‪،‬‬
‫وأوجب ما يكون زينة عند الذهاب إلى المسجد قال تعالى‪َ+ :‬يا‬
‫د" ]العراف‪[31 :‬‬ ‫ج ٍ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عن ْدَ ك ُ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫زين َت َك ُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ب َِني آدَ َ‬
‫كم‬‫ل لَ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ج َ‬ ‫ه َ‬‫والل ُ‬ ‫‪ -3‬وضبط الحاجة إلى المأوى بقوله تعالى‪َ +:‬‬
‫سك ًَنا" ]النحل‪.[8:‬‬ ‫م َ‬ ‫من ب ُُيوت ِك ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫‪ -4‬وضبط حاجته إلى الزواج والسرة‪ ،‬بإباحة النكاح‪ ،‬بل إيجابه‬
‫في بعض‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قال‬
‫عَلى أ َزواجهم أ َ‬
‫واللواط‪،‬‬ ‫والمخادنة‪،‬‬ ‫الزنا‬ ‫وتحريم‬ ‫الحيان‪،‬‬
‫ت‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫ما‬ ‫و‬
‫َ ِ ِ ْ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ظو‬ ‫ُ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫حا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ف ُ ِ ِ ْ‬
‫ه‬ ‫ج‬ ‫رو‬ ‫م لِ ُ‬ ‫ه ْ‬
‫َُ‬
‫وَراءَ ذَل ِ َ‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫غى‬‫َ‬ ‫ت‬‫ب‬
‫َ ِ ْ َ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬‫ِ َ‬ ‫مي‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫م‬
‫ْ ُ َ‬ ‫ر‬ ‫ي‬‫غ‬‫َ‬ ‫م‬
‫ِّ ُ ْ‬‫ه‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫م‬‫أ ْ َُ ُ ُ ْ‬
‫ه‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫ي‬
‫ن" ]المؤمنون‪.[7 -5 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫عا ُ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫فأول َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫‪ -5‬وضبط حاجته إلى التملك والسيادة‪ ،‬بأن أباح التملك للمال‬
‫والعقار‪ ،‬ولكن حرم الحتكار‪ ،‬واكتناز الموال‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ة الدّن َْيا"]الكهف‪.[46:‬‬ ‫حَيا ِ‬ ‫ة ال ْ َ‬ ‫زين َ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫وال ْب َُنو َ‬ ‫ل َ‬ ‫ما ُ‬ ‫‪+‬ال ْ َ‬
‫‪ -6‬وضبط السلم السيادة بتحريم الظلم والعدوان والبغي‪,‬‬
‫ن" ]النعام‪ [21 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫ح ال ّ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫ه ل َ يُ ْ‬ ‫قال َتعالى‪+ :‬إ ِن ّ ُ‬
‫سبحانه وتعالى‬ ‫أنه‬ ‫مع‬ ‫با" ]الفرقان‪[37 :‬‬ ‫ً‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫عت َدَْنا ِلل ّ‬
‫ظا‬ ‫وأ ْ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ة‬ ‫م‬
‫ْ ّ ً‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫نا‬ ‫ْ‬
‫َ َ َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ج‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قال‬ ‫وسطا‬ ‫المة‬ ‫هذه‬ ‫جعل‬
‫َ‬
‫س" ]البقرة‪.[143 :‬‬ ‫داءَ َ َ‬ ‫كوُنوا ُ‬ ‫طا ل ّت َ ُ‬ ‫س ً‬
‫على الّنا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ش َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫)( فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/487‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪348‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪ -7‬وضبط حاجته إلى العمل والنجاح‪ ،‬بأن جعل من اللزم أن‬


‫يكون العمل مشروعا‪ ،‬وغير ضار بأحد من الناس‪ ،‬ونادى على‬
‫المسلمين أن يعملوا في هذه الحياة الدنيا ما يكفل لهم القيام‬
‫بعبء الدعوة والدين‪ ،‬وما يدخرون عند الله سبحانه‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫مُلو َ‬ ‫فَينظَُر ك َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]العراف‪:‬‬ ‫ع َ‬ ‫ف تَ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫فك ُ ْ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫وي َ ْ‬ ‫‪َ +‬‬
‫‪ [129‬وربط العمل باليمان في كثير من آيات القرآن الكريم‪،‬‬
‫ن‬‫وتعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬ ‫وشرط في العمل أن يكون صالحا‪ ،‬قال سبحانه‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫جَر َ‬ ‫عأ ْ‬ ‫ضي ُ‬ ‫ت إ ِّنا ل َ ن ُ ِ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬‫و َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ا َل ّ ِ‬
‫مل " ]الكهف‪.[30 :‬‬ ‫ً‬ ‫ع َ‬ ‫ن َ‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫أ ْ‬
‫مُر‬ ‫ْ‬
‫ه ي َأ ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫بل طالب بالحسان في العمل‪ ،‬فقال سبحانه‪+:‬إ ِ ّ‬
‫ن"‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫وال ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عد ْ ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫]النحل‪.[90:‬‬
‫‪ -8‬وضبط النجاح بأن يكون الهدف من العمل الناجح وجه الله‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ه ُ‬ ‫ج َ‬ ‫و ْ‬ ‫م َ‬ ‫سل َ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ِديًنا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫ورضاه‪ ,‬قال سبحانه‪َ + :‬‬
‫ن" ]النساء‪.[125 :‬‬ ‫س ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫ه َ‬ ‫لل ِ‬
‫‪ -9‬وضبط حاجة الجسم إلى الراحة والسترواح‪ ،‬بأن حذر من‬
‫السراف فيها‪ ،‬حتى ل تتحول إلى دعة وكسل‪ ,‬والصل في‬
‫الشريعة السلمية أنها خالية من كل إعنات‪ ،‬أو إرهاق للنسان‪,‬‬
‫سَر"‬ ‫ع ْ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ريدُ ب ِك ُ ُ‬ ‫ول َ ي ُ ِ‬ ‫سَر َ‬ ‫م ال ْي ُ ْ‬ ‫ه ب ِك ُ ُ‬ ‫ريدُ الل ُ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ي ُ ِ‬
‫]البقرة‪.[185 :‬‬
‫ن‬‫سا ُ‬ ‫ق ال ِن ْ َ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫و ُ‬ ‫م َ‬ ‫عن ْك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ف َ‬ ‫خ ّ‬ ‫ه َأن ي ُ َ‬ ‫ريدُ الل ُ‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬ي ُ ِ‬
‫فا" ]النساء‪.[28 :‬‬ ‫عي ً‬ ‫ض ِ‬ ‫َ‬
‫وحذر سبحانه من الدعة والبطر‪ ،‬والغترار بالنعمة‪ ,‬قال‬
‫ك‬‫فت ِل ْ َ‬ ‫ها َ‬ ‫شت َ َ‬ ‫عي َ‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ة ب َطَِر ْ‬ ‫قْري َ ٍ‬ ‫من َ‬ ‫هل َك َْنا ِ‬ ‫م أَ ْ‬ ‫وك َ ْ‬ ‫سبحانه‪َ + :‬‬
‫ن‬‫ُ‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫د‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫كن‬ ‫َ‬ ‫س‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫م‬‫م ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه ْ‬ ‫ساك ِن ُ ُ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ن"‬ ‫ال ْ َ ِ ِ َ‬
‫ثي‬ ‫ر‬ ‫وا‬
‫]القصص‪.[58 :‬‬
‫هم‬ ‫ر ِ‬ ‫من ِدَيا ِ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خَر ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫كال ّ ِ‬ ‫كوُنوا َ‬ ‫ول َ ت َ ُ‬ ‫َ وقال سبحانه‪َ + :‬‬
‫ما‬‫ه بِ َ‬ ‫والل ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫عن َ‬ ‫ن َ‬ ‫دو َ‬ ‫ص ّ‬ ‫وي َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫رَئاءَ ال ٌّنا ِ‬ ‫و ِ‬ ‫ب َطًرا َ‬
‫حيط" ]النفال‪.[47 :‬‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ع َ‬ ‫يَ ْ‬
‫هذه بعض التعاليم من منهج السلم في تربية الجسم‪ ،‬حتى‬
‫يستطيع أن يتحمل أثقال الجهاد وهموم الدعوة وصعوبة الحياة‪.‬‬
‫ول شك أن كل هذه النواع من تربية السلم للجسم‪ ،‬يحتاج إليها‬
‫كل الناس‪ ،‬ولكن المنضمين إلى مرحلة العداد والتربية يحتاجون‬
‫إلى هذه المور احتياجا أساسيا‪.‬‬
‫خامسا‪ :‬تربية الحس الجتماعي‪:‬‬ ‫ً‬
‫‪349‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لقد اهتم القرآن الكريم بنزعة التربية الجتماعية في النسان‬


‫ووضع لها دعائم‪:‬‬
‫الدعامة الولى‪ :‬تنمية حب النسان لخيه النسان المؤمن‪:‬‬
‫وتلك القاعدة التي ترتكز عليها الحاسة الجتماعية في البشر‬
‫عموما‪ ،‬ويتضح هذا من سيرة النبي × عندما وصل إلى المدينة‬
‫فآخى بين المهاجرين والنصار في الله‪ ،‬وأصبحوا إخوة‪ ,‬وسجل‬
‫ذلك في وثيقة مكتوبة‪ ،‬نقشت في قلب كل مؤمن‪ ،‬بل صاروا‬
‫ساريا حتى نزل‬ ‫الخوة‪ ،‬وظل هذا التوارث‬ ‫يتوارثون بمقتضى هذه‬
‫ولى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ع ُ‬ ‫حام ِ ب َ ْ‬ ‫وأولو الْر َ‬ ‫قول الله تبارك وتعالى‪َ + :‬‬
‫م" ]النفال‪.[75 :‬‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ش‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬‫ه إِ ّ‬ ‫ب الل ِ‬ ‫في ك َِتا ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫ع ٍ‬ ‫ب ِب َ ْ‬
‫فألغى التوارث‪ ،‬وبقيت الخوة في الله على ما كانت عليه‪ ،‬من‬
‫قوة ووثاقة‪ ,‬ول تزال بين الواعين من المؤمنين حتى اليوم‪ ،‬ولقد‬
‫ن‬‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ال ْ ُ‬ ‫تأكدت الخوة بين المؤمنين بقوله سبحانه ‪+‬إ ِن ّ َ‬
‫ة" ]الحجرات‪.[10 :‬‬ ‫و ٌ‬ ‫خ َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ولقد كان من مقتضى فقه النصار للخوة في الله‪ ،‬أن حملوا‬
‫أعباء إخوانهم المهاجرين‪ ،‬ومدح الله سبحانه ذلك الفقه والعمل‪،‬‬
‫من‬ ‫ن ِ‬ ‫ما َ‬ ‫لي َ‬ ‫وا ِ‬ ‫داَر َ‬ ‫ءوا ال ّ‬ ‫و ُ‬ ‫ن ت َب َ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫وأثنى عليه بقوله سبحانه‪َ + :‬‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫دو‬ ‫ص‬ ‫في‬ ‫ن‬ ‫دو‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫جَر ِ ِ ْ‬
‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫ها َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫بو َ‬ ‫ح‬
‫م يُ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫لى أَ َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫ما ّ ُ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬
‫م‬ ‫ه‬
‫َ ِ ِ ْ‬‫ب‬ ‫ن‬ ‫كا‬ ‫و‬
‫ِ ِ ْ َ ْ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫رو‬ ‫ِ‬
‫َ ُ ُ‬ ‫ث‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫توا‬ ‫ُ‬ ‫أو‬ ‫ّ ّ‬ ‫م‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ج‬‫َ َ‬ ‫حا‬
‫ن"‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫فُأول َئ ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ح نَ ْ‬ ‫ش ّ‬ ‫من ُيوقَ ُ‬ ‫و َ‬‫ة َ‬ ‫ص ٌ‬ ‫صا َ‬ ‫خ َ‬ ‫َ‬
‫]الحشر‪.[9 :‬‬
‫الدعامة الثانية‪ :‬استجابة السلم لحاجات المجتمع كاستجابته‬
‫لحاجات الفرد‪:‬‬
‫وقد عمل على تحقق حاجات المجتمع في إطار ما أحل الله‪،‬‬
‫وبحيث ل يضر بأحد من الناس‪ .‬ومن حاجات المجتمع)‪:(1‬‬
‫‪ -1‬التعاون والتكافل‪:‬‬
‫لقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالتعاون وأوجبه عليهم‪,‬‬
‫عَلى‬ ‫وُنوا َ‬ ‫عا َ‬ ‫ول َ ت َ َ‬ ‫وى َ‬ ‫ق َ‬ ‫والت ّ ْ‬ ‫عَلى اْلبّر َ‬ ‫وُنوا َ‬ ‫عا َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫قال‬
‫ب" ]المائدة‪:‬‬ ‫عقا ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ديدُ ال ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫وات ّقوا الل َ‬ ‫ُ‬ ‫ن َ‬ ‫وا ِ‬ ‫عد ْ َ‬ ‫ْ‬
‫وال ُ‬ ‫ال ِث ْم ِ َ‬
‫‪.[2‬‬
‫‪ -2‬التناصر والتواصي بالحق والصبر‪:‬‬
‫ر ‪ ‬إ ِل ّ‬ ‫س ٍ‬ ‫خ ْ‬ ‫في ُ‬ ‫ن لَ ِ‬ ‫سا َ‬ ‫ن ال ِن ْ َ‬ ‫ر ‪ ‬إِ ّ‬ ‫ص ِ‬ ‫ع ْ‬ ‫وال ْ َ‬ ‫ّ قال تعالى‪َ + :‬‬
‫وا‬‫ص ْ‬ ‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫وا ِبال َ‬ ‫ص ْ‬ ‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ملوا ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ِ‬
‫ر" ]العصر‪ [3 -1 :‬والتواصي بالحق يدفع عن الناس كل‬ ‫ِبال ّ ِ‬
‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ص‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/507‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪350‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫مصيبة ويقضي على المنكرات والثام التي في المجتمع ويجعلها‬


‫تنحسر‪ ،‬والتواصي بالصبر يجعل المجتمع تسري فيه العدالة‬
‫ويرتفع الظلم وتسوده المودة وتزول العجلة‪.‬‬
‫‪ -3‬الحث على التراحم بين أفراد المجتمع‪:‬‬
‫عَلى‬ ‫َ‬
‫داءُ َ‬ ‫ش ّ‬ ‫هأ ِ‬ ‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سو ُ‬ ‫مدٌ ّر ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬ ‫قال تعالى‪ُ + :‬‬
‫م" ]الفتح‪ .[29 :‬وأثنى سبحانه وتعالى على‬ ‫ماءُ ب َي ْ ُ ْ‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ح َ‬ ‫ر ُر َ‬ ‫ِ‬ ‫فا‬ ‫ال ْك ُ ّ‬
‫ن‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫م َ‬ ‫المؤمنين المتراحمين في قوله سبحانه‪+ :‬ث ُ ّ‬
‫ة ‪ُ ‬أول َئ ِكَ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫مْر َ‬ ‫وا ِبال ْ َ‬ ‫ص ْ‬ ‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫ر َ‬ ‫صب ْ ِ‬ ‫وا ِبال ّ‬ ‫ص ْ‬ ‫وا َ‬ ‫وت َ َ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫آَ َ‬
‫ة" ]البلد‪.[18 ،17 :‬‬ ‫من َ ِ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫حا‬ ‫َ‬ ‫ص‬
‫أ ْ‬
‫وهذه اليات لم تحصر حاجات المجتمع‪ ،‬بل حثته بمفهومها‬
‫العام على المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وعلى جلب‬
‫المصالح ودفع المفاسد‪ ،‬والجهاد في سبيل الله وتجهيز الغزاة‬
‫وعلى تأمين العيش الكريم لكل أفراده)‪.(1‬‬
‫الدعامة الثالثة‪ :‬تحديد الصفات التي يجب أن تسود المجتمع‪:‬‬
‫ُ‬
‫ة الدّن َْيا‬ ‫حَيا ِ‬ ‫ع ال ْ َ‬ ‫مَتا ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ْ‬ ‫ش‬ ‫من َ‬ ‫ما َأوِتيُتم ّ‬ ‫ف َ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫م‬
‫َ ّ ِ ْ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫َ َ‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫قى‬ ‫َ‬ ‫خي ْ ٌ َ ْ‬
‫ب‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ه َ‬ ‫عن ْدَ الل ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫وإ ِ َ‬ ‫َ ِ َ ََ‬ ‫ش‬ ‫ح‬ ‫وا‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ِ ِ َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ث‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ئ‬ ‫با‬ ‫َ‬ ‫ك‬
‫َ ِ َ َ ْ َ ِ ُ َ َ ِ َ‬ ‫ن‬ ‫بو‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ي َت َ َ‬
‫موا‬ ‫قا ُ‬ ‫وأ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫جاُبوا ل َِرب ّ ِ‬ ‫ست َ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫فُرو َ‬ ‫غ ِ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ضُبوا َ ُ‬ ‫غ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫ن‪‬‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫م ي ُن ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫ز‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫ما‬
‫ُ ْ َ ّ َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫رى‬ ‫َ‬ ‫شو‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫َ ْ َُ ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ص‬
‫ّ‬ ‫ال‬
‫سي ّئ َ ٍ‬
‫ة‬ ‫جَزاءُ َ‬ ‫و َ‬ ‫نَ ‪َ ‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫م َين َت َ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ي ُ‬ ‫ُ‬ ‫غ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫م ال ْ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫صا‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ذا‬ ‫ن إِ َ‬ ‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫وال ّ‬ ‫َ‬
‫ه لَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه إ ِن ّ ُ‬ ‫على ُالل ِ‬ ‫جُرهُ َ‬ ‫ح فأ ْ‬ ‫صل َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫عفا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ها ف َ‬ ‫مثل َ‬ ‫ة ّ‬ ‫سي ّئ ٌ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫ك َ‬ ‫فأول َئ ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫م ِ‬ ‫عدَ ظُل ْ ِ‬ ‫صَر ب َ ْ‬ ‫ن ان ْت َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ول َ َ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫ن‬‫مو َ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫من‬ ‫هم‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫َ َ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َ‬ ‫ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ّ‬ ‫‪‬‬ ‫َ ِ ٍ‬ ‫ّ‬ ‫ع ْ ِ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫ٌ‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ُ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫ق‬
‫َ ّ‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫غ‬
‫ْ ِ ِ َ ْ ِ‬ ‫ب‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫َ َ َ ْ ُ َ ِ‬ ‫ن‬ ‫غو‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫نا‬ ‫َ ّ‬ ‫ال‬
‫ر"‬ ‫مو‬ ‫م ال ُ‬ ‫ز‬ ‫ْ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫إ‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫أِلي‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ ِ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫ٌ‬
‫]الشورى‪.[43 -36 :‬‬
‫لقد ذكرت اليات الكريمة الصفات الرفيعة والتي إن سادت في‬
‫المجتمع يصبح سعيدا راشدا‪.‬‬
‫فقد أشارت إلى اليمان بالله‪ ،‬والتوكل عليه سبحانه‪ ،‬واجتناب‬
‫كل إثم وفاحشة والصفح والتسامح‪ ،‬والستجابة لكل ما أمر الله‬
‫به‪ ،‬وإقام الصلة‪ ،‬وممارسة الشورى في كل ما يعنيهم من أمر‪،‬‬
‫والنفاق في سبيل الله ووجوه الخير‪ ،‬والنتصاف من كل عدو‬
‫للسلم والمسلمين‪ ،‬وهو مقتضى العدل‪ ،‬والعفو والتسامح مع‬
‫القدرة على النتصاف‪ ،‬وهو مقتضى الحسان‪ ,‬والنتصار بعد‬
‫الظلم‪ ،‬والصبر على المظالم والتجاوز عن الظالم لعل الله يهديه‬
‫بشرط أل يكون ذلك مؤديا إلى الفساد والشر والدعوة للمعرفة‪,‬‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/508‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪351‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وهكذا يكون المجتمع السلمي)‪.(1‬‬


‫الدعامة الرابعة‪ :‬تأكيد خيرية هذا المجتمع‪:‬‬
‫الذي انصهر في تعاليم السلم ووضعه في مقدمة المجتمعات‬
‫لقيادته كلها إلى اليمان والمنهج الرباني والحق والخير ُوالصلح‬
‫ة‬
‫م ٍ‬‫خي َْر أ ّ‬‫م َ‬‫ُوالسعادة في الدنيا والخرة‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ر‬ ‫َ‬
‫من ْك ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫ع ِ‬ ‫ن َ‬‫و َ‬‫ه ْ‬ ‫وت َن ْ َ‬
‫ف َ‬
‫عُرو ِ‬‫م ْ‬ ‫مُرو َ‬
‫س َتأ ُ‬
‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬
‫ر َ‬‫خ ِ‬ ‫أ ْ‬
‫ه" ]آل عمران‪.[110 :‬‬ ‫ن ِبالل ِ‬
‫مُنو َ‬‫ؤ ِ‬‫وت ُ ْ‬‫َ‬
‫وهذه خيرية تقوم على اليمان‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬والمر‬
‫بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬بعيدة كل البعد عن الخيرية‬
‫العرقية‪ ،‬والجنسية‪ ،‬والقومية‪ ,‬كما زعمت أمة اليهود‪ ،‬وانخدعت‬
‫أمة اللمان بالعرقية منذ خمسة عقود فكفلتها وكلفت العالم كله‬
‫حربا دامية مات فيها مليين من البشر‪.‬‬
‫هذه الدعائم التي يجب أن تسود في المجتمع‪ ,‬وينبغي أن يقوم‬
‫برنامج هذه المرحلة عليها‪ ,‬وأن يوزع على كل المشرفين في مرحلة‬
‫العداد في القرى والرياف والحواضر والبوادي والمدن والبلديات‪,‬‬
‫ولشك أن مرحلة العداد والتربية من أهم المراحل التي يبني عليها‬
‫الهداف في الوصول إلى التمكين وسيادة شرع الله على العالمين‬
‫وإقامة دولة اليمان والتوحيد‪.‬‬
‫سا‪ :‬عدة القائمين على مرحلة العداد والتربية‪:‬‬ ‫ساد ً‬
‫مما ل ريب فيه أن الذين يشرفون على مرحلة العداد والتربية‬
‫لهم مواصفات خاصة من التميز اليماني والتفوق الروحاني‪،‬‬
‫والرصيد العلمي والزاد الثقافي ورجاحة العقل وقوة الحجة‪،‬‬
‫ورحابة الصدر‪ ،‬وسماحة النفس‪ ،‬والخبرات والتجارب الكثيرة‪،‬‬
‫والسياسة الحكيمة‪ ,‬وسوف نركز على أمرين خوفا من الطالة‪:‬‬
‫أ‪ -‬الخبرات والتجارب‪:‬‬
‫إن التجربة لها الثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات‬
‫وهي من أعظم اكتساب الحكمة‪ ،‬والتجربة ل تخرج الحكمة عن‬
‫ُ‬
‫ما ب ِكم‬ ‫كونها فضل ً يؤتيه الله من يشاء‪ ،‬فإنه المعطي الوهاب ‪َ +‬‬
‫و َ‬
‫ه" ]النحل‪ [53 :‬ولكنه سبحانه جعل لكل شيء‬‫ن الل ِ‬
‫م َ‬ ‫ة َ‬
‫ف ِ‬ ‫م ٍ‬
‫ع َ‬
‫من ن ّ ْ‬
‫ّ‬
‫سببا يوصل إليه‪ ،‬والتجربة في العلم اختبار منظم لظاهرة أو‬
‫ظواهر يراد ملحظتها ملحظة دقيقة منهجية للكشف عن نتيجة‬
‫ما‪ ،‬أو تحقيق غرض معين‪ ،‬وما يعمل أول لتلفي النقص في شيء‬
‫وإصلحه)‪ ,(2‬ويقال‪ :‬جربه تجربة‪ :‬اختبره‪ ،‬ورجل مجرب‪ ،‬أي‪ :‬عرف‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/509‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المعجم الوسيط‪ ،‬مادة‪ :‬جرب )‪.(1/114‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪352‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المور)‪ ،(1‬تقول‪ :‬جربت الشيء تجريبا‪ :‬اختبرته مرة بعد أخرى‪،‬‬


‫والسم التجربة والجمع تجارب)‪.(2‬‬
‫وعن معاوية)‪  (3‬قال‪» :‬ل حكيم إل ذو تجربة«)‪ ,(4‬ومن‬
‫المعلوم أن الحكيم لبد له من تجارب قد أحكمته‪ ،‬ولهذا قيل‪» :‬ل‬
‫حليم إل ذو كثرة‪ ،‬ول حكيم إل ذو تجربة«)‪.(5‬‬
‫وبهذا نقول إن الداعية إلى الله إذا خالط الناس‪ ،‬وعرف‬
‫عاداتهم وتقاليدهم‪ ،‬وأخلقهم الجتماعية‪ ،‬ومواطن الضعف‪،‬‬
‫والقوة سيركز على ما ينفع الناس‪ ،‬ويضع الشياء في مواضعها‪،‬‬
‫لنه قد جربهم‪ ،‬فالتجارب تنمي المواهب والقدرات‪ ،‬وتزيد البصير‬
‫صبًرا‪ ،‬والحليم حلما‪ ،‬وتجعل العاقل حكيما‪ ،‬وقد تشجع الجبان‪،‬‬
‫وتسخي البخيل‪ ،‬وقد تلين قلب القاسي‪ ،‬وتقوي قلب الضعيف‪،‬‬
‫ومن زادته التجارب عمى إلى عماه فهو من الحمقى الذين طبع‬
‫الله على قلوبهم فهم ل يفقهون)‪.(6‬‬
‫وأعظم الناس تجربة وأكملهم حكمة النبياء عليهم الصلة‬
‫والسلم‪ ،‬لنهم صفوة البشر اصطفاهم الله ربهم‪ ،‬ثم أرسلهم‬
‫لخراج الناس من الظلمات إلى النور‪ ،‬ومع هذا ما بعث الله من‬
‫نبي إل رعى الغنم‪ ،‬كما قال ×‪» :‬نعم كنت أرعاها على قراريط‬
‫لهل مكة« )‪ (7‬والحكمة من ذلك ‪ -‬والله أعلم ‪ -‬أن الله ‪ -‬عز وجل‬
‫‪ -‬يلهم النبياء قبل النبوة رعي الغنم‪ ،‬ليحصل لهم التمرين‬
‫والتجربة برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم‪ ،‬ولن في‬
‫مخالطتهم ما يحصل لهم الحلم‪ ،‬والشفقة كما قال ×‪» :‬أتاكم أهل‬
‫اليمن هم أرق أفئدة‪ ,‬وألين قلوًبا‪ ،‬اليمان يمان‪ ،‬والحكمة يمانية‪،‬‬
‫والفخر والخيلء في أصحاب البل‪ ،‬والسكينة والوقار في أهل‬
‫الغنم« )‪ ,(8‬ولنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في‬
‫المرعى‪ ،‬ونقلها من مسرح إلى مسرح‪ ،‬ودفع عدوها‪ ،‬من سبع‬
‫وغيره كالسارق‪ ،‬وعلموا اختلف طبائعها‪ ،‬وشدة تفرقها مع‬
‫ضعفها‪ ،‬واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على المة‬
‫وعرفوا اختلف طبائعها وتفاوت عقولها‪ ،‬فجبروا كسرها‪ ،‬ورفقوا‬
‫بضعيفها‪ ،‬وأحسنوا التعاهد لها‪ ،‬فيكون تحملهم المشقة ذلك أسهل‬
‫مما لو كلفوا القيام بذلك من أول وهلة‪ ،‬لما يحصل لهم من‬
‫التدريب على ذلك برعي الغنم‪ ،‬وخصت الغنم بذلك لكونها أضعف‬
‫)( القاموس المحيط‪ ،‬باب فصل جيم‪ ،‬ص ‪.85‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصباح المنير‪ ،‬مادة جرب‪ ،‬ص ‪.59‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( هو الصحابي كاتب الوحي وصهر الرسول ×‪ ,‬تولى خلفة المسلمين وتوفي‬ ‫‪3‬‬

‫عام ‪60‬هـ‪ ،‬سير أعلم النبلء )‪.(3/119‬‬


‫)( البخاري مع الفتح‪ ،‬كتاب الدب‪ ،‬باب‪ :‬ل يلدغ المؤمن من جحر مرتين )‬ ‫‪4‬‬

‫‪.(10/529‬‬
‫)( الترمذي‪ ،‬كتاب البر والصلة‪ ،‬باب‪ :‬ما جاء في التجارب )‪.(4/379‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( انظر‪ :‬هكذا علمتني الحياة‪ ،‬للسباعي‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الجارة‪ ،‬باب‪ :‬رعي الغنم )‪.(3/65‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب‪ :‬تفاضل أهل اليمان )‪.(1/71‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪353‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من غيرها‪ ،‬ولن تفرقها أكثر من تفرق البل والبقر‪ ،‬لمكان ضبط‬
‫البل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة‪ ،‬ومع أكثرية تفرقها‬
‫فهي أسرع انقيادا من غيرها)‪.(1‬‬
‫ثم بعد رعيهم الغنم جربوا الناس‪ ،‬وعرفوا طبائعهم‪ ،‬فازدادوا‬
‫تجارب إلى تجاربهم‪ ،‬ولهذا قال موسى × لمحمد × عندما‬
‫فرضت عليه الصلة خمسين صلة في كل يوم ليلة السراء‬
‫والمعراج‪» :‬إن أمتك ل تستطيع خمسين صلة كل يوم‪ ،‬وإني والله‬
‫جربت الناس قبلك‪ ،‬وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة‪ ،‬فارجع‬
‫إلى ربك فاسأله التخفيف لمتك‪ ,‬فما زال النبي × يراجع ربه‬
‫ويضع عنه حتى أمر بخمس صلوات كل يوم« )‪.(2‬‬
‫فموسى × قد جرب الناس‪ ،‬وعلم أن أمة محمد × أضعف‬
‫من بني إسرائيل أجسادا‪ ،‬وأقل منهم قوة‪ ،‬والعادة أن ما يعجز‬
‫عنه القوي فالضعيف من باب أولى)‪.(3‬‬
‫فالداعية بتجاربه بالسفر‪ ،‬ومعاشرته الجماهير‪ ،‬وتعرفه على‬
‫عوائد الناس وعقائدهم‪ ،‬وأوضاعهم‪ ،‬ومشكلتهم‪ ،‬واختلف‬
‫طبائعهم وقدراتهم‪ ،‬سيكون له الثر الكبير في نجاح دعوته‬
‫وابتعاده عن الوقوع في الخطأ‪ ،‬لنه إذا وقع في خطأ في منهجه‬
‫في الدعوة إلى الله‪ ،‬أو أموره الخرى ل يقع فيه مرة أخرى‪ ،‬وإذا‬
‫خدع مرة لم يخدع مرة أخرى‪ ،‬بل يستفيد من تجاربه وخبراته‬
‫ولهذا قال ×‪» :‬ل يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين« )‪.(4‬‬
‫وقال‪» :‬كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون« )‪.(5‬‬
‫وسبيل الستفادة من التجارب والخبرات هو خوضها‪ ,‬فمثل من‬
‫أراد إصلح المتدينين وتوجيههم فعليه أن يعيش معهم في‬
‫مساجدهم‪ ،‬ومجتمعاتهم‪ ،‬ومجالسهم‪ ،‬وإذا أراد إصلح الفلحين‬
‫والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم‪ ،‬وإذا أراد أن يصلح‬
‫المعاملت التجارية بين الناس‪ ،‬فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم‬
‫ومتاجرهم‪ ،‬وأنديتهم‪ ،‬ومجالسهم‪ ،‬وإذا أراد أن يصلح الوضاع‬
‫السياسية فعليه أن يختلط بالسياسيين ويتعرف إلى تنظيماتهم‬
‫ويستمع لخطبهم‪ ،‬ويقرأ لهم برامجهم‪ ,‬ثم يتعرف إلى البيئة التي‬
‫يعيشون فيها‪ ،‬والثقافة التي حصلوا عليها والتجاه الذي يندفعون‬
‫نحوه‪ ،‬ليعرف كيف يخاطبهم بما ل تنفر منه نفوسهم‪ ،‬وكيف‬
‫يسلك في إصلحهم بما ل يدعوهم إلى محاربته عن كره نفس‬
‫واندفاع عاطفي‪ ,‬فيحرم نفسه من الدعوة إلى الله ويحرم الناس‬
‫انظر‪ :‬الحكمة في الدعوة إلى الله‪ ،‬ص ‪.104‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫البخاري مع الفتح‪ ،‬كتاب مناقب النصار‪ ،‬باب‪ :‬المعراج )‪.(7/202‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬الحكمة في الدعوة إلى الله‪ ،‬ص ‪.105‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري مع الفتح‪ ,‬كتاب مناقب النصار‪ ،‬باب‪ :‬المعراج )‪.(7/202‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الترمذي‪ ،‬كتاب صفة القيامة‪ ،‬باب‪ :‬حدثنا هناد )‪.(4/659‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪354‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫من علم)‪ ،(1‬وهذا يؤهله إلى أن يحدث الناس بما يعرفون ول‬
‫يحدثهم حديثا ل تبلغه عقولهم‪ ،‬قال علي ‪» :‬حدثوا الناس بما‬
‫يعرفون‪ ،‬أتحبون أن يكذب الله ورسوله«)‪.(2‬‬
‫وقال ابن مسعود ‪» :‬ما أنت بمحدث قومًا حديثًا ل تبلغه‬
‫عقولهم إل كان‬
‫لبعضهم فتنة«)‪.(3‬‬
‫وهكذا ينبغي أن يكون الدعاة المسئولون عن إعداد الربانيين‬
‫حتى يورثوهم خبراتهم وتجاربهم في الحياة ومعرفتهم بشئون‬
‫الناس)‪.(4‬‬
‫ب‪ -‬أن يكون ذا سياسة حكيمة‪:‬‬
‫إن النبي × هو أسوتنا وقدوتنا‪ ،‬وإمام الدعاة إلى الله‪ ،‬فقد‬
‫عظيما في سياسته الحكيمة فكان له عظيم النفع‬ ‫ً‬ ‫سلك مسلكًا‬
‫والثر في نجاح دعوته‪ ،‬وإنشاء دولته‪ ،‬وقوة سلطانه‪ ،‬ورفعة‬
‫مقامه‪ ،‬ولم يعرف في تاريخ السياسات البشرية أن رجل من‬
‫الساسة المصلحين في أي أمة من المم كان له مثل هذا الثر‬
‫من من المصلحين المبرزين ‪ -‬سواء كان قائدا محنكا‪ ،‬أو‬ ‫العظيم‪ ،‬و َ‬
‫مربيا حكيما ‪ -‬اجتمع لديه من رجاحة العقل‪ ،‬وأصالة الرأي‪ ،‬وقوة‬
‫العزم‪ ،‬وصدق الفراسة ما اجتمع في رسول الله ×؟ ولقد برهن‬
‫على وجود ذلك فيه‪ ،‬صحة رأيه‪ ،‬وصواب تدبيره‪ ،‬وحسن تأليفه‪،‬‬
‫ومكارم أخلقه ×)‪.(5‬‬
‫وأهم الطرق في السياسة الحكيمة في الدعوة إلى الله كثيرة‬
‫منها ما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬تحري أوقات الفراغ‪ ،‬والنشاط‪ ،‬والحاجة عند المدعوين‪:‬‬
‫حتى ل يملوا عن الستماع ويفوتهم من الرشاد والتعليم‬
‫النافع‪ ،‬والنصائح الغالية الشيء الكثير‪ ،‬وقد ثبت عن النبي × أنه‬
‫كان يتخول أصحابه بالموعظة كراهة السآمة عليهم‪ ،‬فعن عبد الله‬
‫بن مسعود ‪ ‬قال‪» :‬كان النبي × يتخولنا بالموعظة في اليام‬
‫كراهة السآمة علينا«)‪.(6‬‬
‫ولهذا طبق الصحابة هذه السياسة‪ ،‬فقد كان عبد الله بن‬

‫)( انظر‪ :‬السيرة النبوية دروس وعبر‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫‪1‬‬

‫ما دون قوم )‬


‫)( البخاري مع الفتح‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬من خص بالعلم قو ً‬
‫‪2‬‬

‫‪.(1/225‬‬
‫)( مسلم‪ ،‬في المقدمة‪ ،‬باب‪ :‬النهي عن الحديث بكل ما سمع )‪.(1/111‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬الحكمة من الدعوة إلى الله‪ ،‬ص ‪.106‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( انظر‪ :‬هداية المرشدين‪ ،‬للشيخ علي بن محفوظ‪ ،‬ص ‪.31 ،24‬‬ ‫‪5‬‬

‫ما دون قوم )‬‫)( البخاري مع الفتح‪ ,‬كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬من خص بالعلم قو ً‬
‫‪6‬‬

‫‪.(1/225‬‬

‫‪355‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مسعود يذكر الناس في كل خميس‪ ،‬فقال له رجل‪ :‬يا أبا عبد‬


‫الرحمن‪ ،‬لوددت أنك ذكرتنا كل يوم‪ ،‬قال‪» :‬أما إنه يمنعني من‬
‫ذلك أني أكره أن أملكم‪ ،‬وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي‬
‫× يتخولنا بها مخافة السآمة علينا«)‪.(1‬‬
‫وقد ثبت عنه × أنه قال‪» :‬يسروا ول تعسروا‪ ،‬وبشروا ول‬
‫تنفروا« )‪.(2‬‬
‫‪ -2‬أن يحرص على سلح التأليف بالعفو عند المقدرة‪:‬‬
‫فيعمل على أن يضع الحسان في مكان الساءة‪ ،‬واللين في‬
‫موضع المؤاخذة‪ ،‬والصبر على الذى‪ ،‬فيقابل الذى بالصبر‬
‫الجميل‪ ،‬ويقابل الحمق بالرفق والحلم‪ ،‬ويقابل العجلة والطيش‬
‫بالناة والتثبت‪ ،‬وبذلك يملك قلوب إخوانه والمدعوين إلى السلم‬
‫عموما‪.‬‬
‫وبمثل هذه المعاملة الحسنة جمع النبي × قلوب أصحابه حوله‬
‫فتفانوا في محبته والدفاع عنه‪ ،‬وعن دعوته بمؤازرته ومناصرته‪،‬‬
‫وقد مدح الله رسوله × وأمره بالعفو والصفح والستغفار لمن‬
‫و ُ َ‬
‫ت‬ ‫كن‬ ‫ول َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫ت لَ ُ‬ ‫ه ِلن َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ة ّ‬ ‫م ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫ما َر ْ‬ ‫فب ِ َ‬ ‫تبعه من المؤمنين ‪َ +‬‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫عن ْ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ع ُ‬ ‫َ‬
‫ول ِك فا ْ‬ ‫َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضوا ِ‬ ‫َ‬
‫ب لن ْف ّ‬ ‫َ‬ ‫قل ْ ِ‬ ‫ظ ال ْ َ‬ ‫غِلي َ‬ ‫ظا َ‬ ‫ف ّ‬ ‫َ‬
‫وك ْ‬
‫ل‬ ‫ّ‬ ‫فت َ َ‬ ‫ت َ‬ ‫م َ‬ ‫عَز ْ‬
‫ذا َ‬ ‫فإ ِ َ‬‫ر َ‬ ‫م ِ‬ ‫في ال ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫وْر ُ‬ ‫شا ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫فْر ل ُ‬ ‫غ ِ‬ ‫ست َ ْ‬
‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[159 :‬‬ ‫َ‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ي‬
‫َ ُ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫لى‬ ‫ع َ‬
‫َ‬
‫م‬‫عن ِت ّ ْ‬‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫عل َي ْ ِ‬‫زيٌز َ‬ ‫ع ِ‬ ‫م َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن أ َن َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ّ‬ ‫سو ٌ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جاءَك ُ ْ‬ ‫قدْ َ‬ ‫‪+‬ل َ َ‬
‫م" ]التوبة‪.[128 :‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ف ّر ِ‬ ‫ن َرؤو ٌ‬ ‫ُ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫م ِبال ُ‬ ‫ُ‬
‫علي ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫ص َ‬ ‫ري ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫‪ -3‬عدم مواجهة أحد بعينه عندما يريد أن يؤدبه أو يزجره‬
‫مادام يجد في الموعظة العامة كفاية‪:‬‬
‫وهذا من السياسة البالغة في منتهى الحكمة‪ ،‬ولهذا كان النبي‬
‫× يسلك هذا السلوب الحكيم‪ ،‬فعندما فقد × ناسا في بعض‬
‫الصلوات‪ ،‬فقال‪» :‬والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر‬
‫بحطب فيحطب‪ ،‬ثم آمر بالصلة فيؤذن لها‪ ،‬ثم آمر رجل‬
‫يؤم الناس‪ ،‬ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فأحرق‬
‫عليهم بيوتهم«)‪.(3‬‬
‫وقال ×‪» :‬ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في‬
‫الصلة« فاشتد قوله في ذلك حتى قال‪» :‬لينتهن عن ذلك أو‬
‫لتخطفن أبصارهم«)‪.(4‬‬
‫البخاري كتاب العلم‪ ،‬باب‪ :‬كان النبي يتخولهم بالموعظة )‪.(1/3‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه )‪ (1/3‬رقم ‪.69‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب الذان‪ ،‬باب‪ :‬وجوب صلة الجماعة )‪ (1/179‬رقم ‪.644‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب الذان‪ ،‬باب‪ :‬رفع البصر في الصلة )‪ (1/205‬رقم ‪.750‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪356‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وقال ×‪» :‬ما بال أقوام قالوا كذا وكذا‪ ،‬لكني أصلي وأنام‪،‬‬
‫وأصوم وأفطر‪ ،‬وأتزوج النساء‪ ،‬فمن رغب عن سنتي فليس‬
‫مني«)‪.(1‬‬
‫ولما بلغه أن قوما اشترطوا الولء بعد بيع المة فخطب الناس‬
‫فقال‪» :‬ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله‪ ،‬من‬
‫اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له‪ ،‬وإن شرط مائة‬
‫مرة‪ ،‬شرط الله أحق وأوثق« )‪.(2‬‬
‫وهذا إرشاد نبوي حكيم في عدم مواجهة الناس بالعتاب ستًرا‬
‫فا‪ ,‬ويستطيع أن يخاطب الناس عن طريق‬ ‫قا بهم‪ ،‬وتلط ً‬ ‫عليهم ورف ً‬
‫مخاطبة الجمهور إذا كان المدعو المقصود بينهم ومن جملتهم‬
‫وهذا من أحكم الساليب‪.‬‬
‫‪ -4‬إعطاء الوسائل صورة ما تصل إليه‪:‬‬
‫كقوله ×‪» :‬من دل على خير فله مثل أجر فاعله«)‪.(3‬‬
‫فقد صور × الدللة على فعل الخير في صورة الفعل نفسه‪،‬‬
‫وكقوله ×‪» :‬من جهز غازيا فقد غزا« )‪.(4‬‬
‫وقال ×‪» :‬إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه‪ ،‬قيل‪ :‬يا‬
‫رسول الله‪ ،‬وكيف يلعن الرجل والديه؟‪ ،‬قال‪ :‬يسب الرجل أبا‬
‫الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه«)‪.(5‬‬
‫وهذا أصل في سد الذرائع‪ ،‬ويؤخذ منه أن من آل فعله إلى‬
‫محرم يحرم عليه ذلك الفعل وإن لم يقصد إلى ما يحرم)‪ ،(6‬كما‬
‫ه‬
‫ن الل ِ‬‫دو ِ‬
‫من ُ‬ ‫ن ِ‬‫عو َ‬ ‫ن ي َدْ ُ‬
‫ذي َ‬ ‫سّبوا ال ّ ِ‬ ‫ول َ ت َ ُ‬‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫علم ٍ" ]النعام‪.[108 :‬‬ ‫ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫غي ْ ِ‬‫وا ب ِ َ‬
‫عدْ ً‬ ‫ه َ‬ ‫سّبوا الل َ‬ ‫َ‬
‫في َ ُ‬
‫من يسب أبا الغير وأمه صورة من يسب‬ ‫فقد أعطى النبي ×‬
‫والديه‪ ،‬لنه تسبب في سبهما‪.‬‬
‫‪ -5‬أن تكون له مقدرة على ضرب المثال‪:‬‬
‫قال ×‪» :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا‪ ،‬وشبك‬
‫بين أصابعه« )‪.(7‬‬
‫وقد مثل النبي × المؤمنين في تبادل الرحمة والمودة‬
‫مسلم‪ ،‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب‪ :‬علمه × وشدة خشيته )‪.(4/1829‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب العتق‪ ،‬باب‪ :‬إنما الولء لمن أعتق )‪.(2/1142‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب المارة‪ ،‬باب‪ :‬فضل إعانة الغازي في سبيل الله )‪.(3/1506‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر السابق نفسه )‪.(3/1507‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب الدب‪ ،‬باب‪ :‬ل يسب الرجل والديه )‪ (7/92‬رقم ‪.5973‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫انظر‪ :‬الحكمة في الدعوة إلى الله‪ ،‬ص ‪.111‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫البخاري‪ ،‬كتاب الصلة‪ ،‬باب‪ :‬تشبيك الصابع )‪ (1/565‬رقم ‪.481‬‬ ‫)(‬ ‫‪7‬‬

‫‪357‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والعطف بالجسد في‬


‫روابطه العضوية‪ ،‬إذا مرض عضو مرضت باقي العضاء فقال‪:‬‬
‫»مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد‪ ،‬إذا‬
‫اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد‬
‫بالسهر والحمى«)‪.(1‬‬
‫وهذه من أهم الوسائل التي إذا وصل إليها الداعية أصبحت له‬
‫سياسة حكيمة في معرفة الناس وتربيتهم وإعدادهم‪ ،‬وعلى الخ‬
‫الداعية المربي أن يلم بفقه الدعوة وأسسها وأصولها التي تقوم‬
‫عليها حتى يسير في دعوته على بصيرة‪ ،‬ول شك أن فهم هذه‬
‫عو إ َِلى‬‫سِبيِلي أ َدْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ذ ِ‬‫ه ِ‬‫ل َ‬ ‫الركان يدخل في قوله تعالى‪ُ + :‬‬
‫ق ْ‬
‫َ‬
‫ما أَنا‬ ‫عَلى بصير َ‬
‫و َ‬‫ه َ‬‫ن الل ِ‬‫حا َ‬‫سب ْ َ‬‫و ُ‬ ‫عِني َ‬‫ن ات ّب َ َ‬
‫م ِ‬
‫و َ‬
‫ة أَنا َ‬‫َ ِ َ ٍ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ِ‬
‫ن" ]يوسف‪.[108 :‬‬ ‫كي‬
‫ِ ِ َ‬‫ر‬‫ش‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬‫م َ‬
‫ِ‬
‫إن فهم أساليب الدعوة ووسائلها يعطي الداعية كفاءة‬
‫وبصيرة وتزيده إتقانا وخبرة‪.‬‬
‫سابعا‪ :‬صفات جيل التمكين‪:‬‬
‫في مرحلة العداد والتربية يهتم المشرفون عليها من الدعاة‬
‫بصفات جيل التمكين ويعملون على غرسها في نفوس العناصر‬
‫التي اختيرت لهذه المرحلة؛ لعلمهم اليقيني أن لجيل التمكين‬
‫صفات خاصة‪ ،‬تميزه عن غيره من الجيال وسمات يعرف بها‪,‬‬
‫ذلك أنه الجيل الذي يعد ليكون مؤهل لنصر الله وسببا لعادة مجد‬
‫المة التي اختارها الله لعلء كلمته ونصر دينه وعقيدته‪ ،‬وعندما‬
‫تبرز صفات جيل التمكين في الصف السلمي يكون مؤهل للتغلب‬
‫على التحديات التي تواجهه سواء كانت محلية‪ ،‬أو كانت داخلية‪ ،‬أو‬
‫كانت عالمية‪ ،‬ويمكننا تقسيم صفات جيل التمكين إلى‪ :‬صفات‬
‫إيمانية‪ ،‬صفات سلوكية أخلقية‪ ،‬صفات حركية ودعوية‪ ،‬صفات‬
‫نفسية‪.‬‬
‫أ‪ -‬صفات إيمانية‪:‬‬
‫‪ -1‬ربانية وإخلص‪ :‬يعيش جيل التمكين الرباني في الدنيا‬
‫بقلوب أهل الخرة‪ ,‬ويعيشون فوق الرض وقلوبهم تهفو إلى رضا‬
‫المولى عز وجل ودخول جناته‪ ,‬ورفقة النبيين والصديقين‬
‫والشهداء والصالحين‪ .‬وأبرز ما يميزهم عن غيرهم أنهم مخلصون‬
‫لله رب العالمين‪ ،‬فإذا جاءتهم الدنيا جعلوها في أيديهم ولم‬
‫يدخلوها في قلوبهم‪ ،‬ل يعبدون الشخاص‪ ,‬ول الهواء‪ ,‬ول‬
‫الطاغوت أيا كان فقد تبين لهم الرشد من الغي‪ ,‬فكفروا‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الدب‪ ،‬باب‪ :‬رحمة الناس والبهائم‪ (1/103) ،‬رقم ‪.6011‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪358‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بالطاغوت وآمنوا بالله وحده فاستمسكوا بالعروة الوثقى ل‬


‫انفصام لها‪.‬‬
‫‪ -2‬الشعور بمعية الله عز وجل‪ :‬وهذا الشعور يدفع العبد‬
‫المؤمن إلى الصدع بالحق ويطلق صاحبه الجبن والخوف والهلع‪,‬‬
‫ويحدث في النفس انقلبا نفسيا في حياة الداعية‪ ,‬ولنتذكر حين‬
‫قال أصحاب موسى‪ :‬إنا لمدركون قال موسى ‪ -‬عليه السلم ‪:-‬‬
‫ن" ]الشعراء‪.[62 :‬‬ ‫دي ِ‬‫ه ِ‬‫سي َ ْ‬ ‫ي َرّبي َ‬ ‫ع َ‬ ‫م ِ‬‫ن َ‬ ‫‪+‬ك َل ّ إ ِ ّ‬
‫‪ -3‬غرباء في هذه الدنيا‪ :‬إن هذا الصنف هو الذي أشار‬
‫إليه رسول الله × حين قال‪» :‬بدأ السلم غريبًا وسيعود غريبًا كما‬
‫بدأ فطوبى للغرباء‪ ،‬قيل‪ :‬ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال‪ :‬الذين‬
‫يصلحون إذا فسد الناس« )‪.(1‬‬
‫والمسلم إذا شرح الله صدره للسلم ومل قلبه باليمان يستسهل‬
‫كل صعب ويستعذب كل كدر‪ ،‬إن هذا الغريب يرسل للناس من‬
‫الشعة الهادية ما ينير لهم الطريق‪ ،‬فهي ليست غربة عزلة وفرار‪،‬‬
‫ولكنها غربة رفعة وسمو وحرص على إيصال دعوته للجميع‪ ،‬فهو ل‬
‫بعيدعن الناس‪ ،‬بل يتفاعل معهم ويحمل‬ ‫يعيش في برج عاج ا ً‬
‫همومهم ويعاونهم في حل مشاكلهم‪ ,‬فالناس جزء منه وهو جزء منهم‬
‫فل يتصور أن يتعالى عليهم‪.‬‬
‫‪ -4‬طلب آخرة‪ :‬لعلمهم بأن متاع الدنيا قليل وبأنه ينتهي‬
‫فِتيل ً"‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ول َ ت ُظْل َ ُ‬ ‫قى َ‬ ‫ن ات ّ َ‬‫م ِ‬ ‫خي ٌْر ل ّ َ‬
‫خَرةُ َ‬ ‫وال َ ِ‬ ‫ويزول ‪َ +‬‬
‫]النساء‪ [77 :‬ولذلك تنشئ سعة في نفوسهم‪ ،‬ورقة في مشاعرهم‪،‬‬
‫وتحررا من المادة وظلمها‪.‬‬
‫‪ -5‬أوابون توابون‪ :‬يجب أن يتربى المسلمون على الحذر‬
‫من معصية الله أكثر مما نحذر من أعداء الله‪ ،‬ويجب أن نخاف‬
‫المعاصي‪ ،‬والمسالك التي تقرب منها سدا للذريعة وبعدا عن‬
‫الفتنة واتقاء للشبهة‪ ،‬ونستغفر الله ونذكره كثيرا إذا وقعنا في‬
‫ة أَ‬ ‫عُلوا َ‬
‫و‬
‫ش ً ْ‬ ‫ح َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ف َ‬‫ذا َ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬‫معصية‪َ ,‬فهذه ميزة الصالحين ‪َ +‬‬
‫من‬ ‫و َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ُ‬
‫فُروا ل ِذُنوبُِ ِ‬ ‫َ‬ ‫غ‬
‫ست َ ْ‬‫فا ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م ذَك َُروا الل َ‬ ‫ه ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬ ‫موا أن ْ ُ‬ ‫ظَل َ ُ‬
‫م‬‫ه ْ‬‫و ُ‬‫علوا َ‬ ‫ما َ‬
‫ف َ‬ ‫على َ‬ ‫َ‬ ‫صّروا َ‬ ‫م يُ ِ‬ ‫َ‬
‫ول ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ب إ ِل ّ الل ُ‬ ‫فُر الذُّنو َ‬ ‫غ ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[135 :‬‬ ‫يَ ْ ُ َ‬
‫مو‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬
‫ورحم الله عمر الفاروق ‪ ‬عندما وصى سعد بن أبي وقاص‬
‫وهو في مسيره إلى حرب الفرس‪ ،‬فقال‪ ...» :‬أما بعد‪ ,‬فإني‬
‫آمرك ومن معك من الجناد بتقوى الله على كل حال‪ ،‬فإن تقوى‬
‫الله أفضل العدة على العدو وأقوى المكيدة)‪ (2‬في الحرب‪ ،‬وآمرك‬
‫)( مسلم‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب‪ :‬بيان أن السلم بدأ غريبًا )‪ (1/130‬رقم ‪.145‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المكيدة‪ :‬الخديعة‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪359‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ومن معك أن تكونوا أشد احتراسا منكم من عدوكم‪ ،‬فإن ذنوب‬


‫الجيش أخوف عليهم من عدوهم‪ ،‬وإنما ينصر المسلمون بمعصية‬
‫عدوهم لله‪ ،‬ولول ذلك لم تكن بهم قوة‪ ،‬لن عددنا ليس كعددهم‪،‬‬
‫وعدتنا ليست كعدتهم‪ ،‬فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل‬
‫علينا في القوة‪ ،‬وإل ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا‪ ،‬فاعلموا‬
‫أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون‪،‬‬
‫فاستحيوا منهم‪ ،‬ول تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله‪ ،‬ول‬
‫تقولوا إن عدونا شر منا ولن يسلط علينا وإن أسأنا ‪ ،‬فرب قوم‬
‫سلط عليم شر منهم‪ ،‬كما سلط على بني إسرائيل ‪ -‬لما عملوا‬
‫ن‬ ‫و َ‬
‫كا َ‬ ‫ر َ‬ ‫خل َ َ‬
‫ل الدَّيا ِ‬ ‫سوا ِ‬‫جا ُ‬ ‫بالمعاصي ‪ -‬كفار المجوس ‪َ +‬‬
‫ف َ‬
‫عول ً" ]السراء‪ .[5 :‬وسلوا الله العون على أنفسكم‪ ،‬كما‬ ‫م ْ‬
‫ف ُ‬ ‫دا ّ‬
‫ع ً‬
‫و ْ‬
‫َ‬
‫)‪(3‬‬
‫تسألونه النصر على عدوكم‪. «...‬‬
‫وهذه مفاهيم إيمانية يجب أن تعيشها المة‪:‬‬
‫‪ -1‬اليقين والثقة بمنهج الله وهو الحق وما عداه باطل‪.‬‬
‫‪ -2‬الوعي بدورها ومهمتها وهي الشهادة على العالمين ولن‬
‫تتحقق إل بالعيش مع الكتاب والسنة‪.‬‬
‫‪ -3‬اليقين بضخامة الجر وعظم المنزلة المترتبة على القيام‬
‫بالشهادة‪.‬‬
‫‪ -4‬اليقين بنصر الله وأنه لبد آت‪.‬‬
‫‪ -5‬اليقين بأن نصر الله ل يتنزل جزافا‪.‬‬
‫ب‪ -‬صفات سلوكية وأخلقية‪:‬‬
‫ولبد لجيل التمكين من صفات أخلقية سلوكية يجب أن يتحلى‬
‫بها ومن أبرزها‪:‬‬
‫‪ -1‬الصدق‪ :‬وهو سلوك وصف الله عز وجل به أنبياءه عليهم‬
‫ق‬
‫صاِد َ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫عي َ‬
‫ل إ ِن ّ ُ‬ ‫ما ِ‬‫س َ‬‫ب إِ ْ‬‫في ال ْك َِتا ِ‬ ‫واذْك ُْر ِ‬ ‫السلم‪َ + :‬‬
‫سول ً ن ّب ِّيا" ]مريم‪ ,[54 :‬واتصف به حبيبنا × حتى‬ ‫َ ُ‬‫ر‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫كا‬ ‫و َ‬‫د َ‬ ‫ع ِ‬ ‫و ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫قبل بعثته‪ ،‬ووصف به ربنا سبحانه الرجال‪ ,‬فقال تعالى‪ِ + :‬‬
‫ه‪] "...‬الحزاب‪:‬‬ ‫عل َي ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل َ‬‫ه ُ‬‫عا َ‬‫ما َ‬ ‫قوا َ‬ ‫صد َ ُ‬‫ل َ‬ ‫جا ٌ‬
‫ر َ‬ ‫ن ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫‪.[23‬‬
‫م‬ ‫جعَل َْنا ِ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫الصبر‪ :‬خلق وصف الله تعالى به الدعاة ‪+‬وَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ‪-2‬‬
‫صب َُروا‪] "...‬السجدة‪ [24 :‬وهو خلق لزم‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫مرَِنا ل ّ‬ ‫ن ب ِأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ة ي َهْ ُ‬ ‫م ً‬ ‫أئ ِ ّ‬
‫فى‬ ‫و ّ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ما‬
‫ِ َ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫‪+‬‬ ‫الصبر‬ ‫جزاء‬ ‫الداعية‬ ‫يعلم‬ ‫أن‬ ‫ويكفي‬ ‫للداعية‬
‫ب" ]الزمر‪.[10 :‬‬ ‫َ‬
‫سا ٍ‬‫ح َ‬ ‫ر ِ‬ ‫غي ْ ِ‬‫م بِ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫جَر ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫صاب ُِرو َ‬ ‫ال ّ‬
‫ولنا في قدوتنا × أسوة حسنة في صبره على أهل مكة وما‬
‫)( إتمام الوفاء للخضري‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪360‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫لقاه عند عودته من الطائف وغيرها‪.‬‬


‫‪ -3‬الحب واليثار‪ :‬أي يرى الخ أن إخوانه أولى به من‬
‫نفسه‪ ،‬فهو يحب لهم الخير ويعمل على هدايتهم‪ ,‬ولبد أن يفصح‬
‫لهم عن حبه لهم ويخبرهم به‪ ،‬وأن يترجمه لهم في تصرفاته‪ ،‬فإن‬
‫هذا أدعى إلى التفاف الناس حوله واستجابتهم له‪ .‬وأعلى مراتب‬
‫الحب اليثار وأدناها سلمة الصدر‪ ،‬وأن يكون لخوانه كالبنيان يشد‬
‫ن‬‫فإ ِ ّ‬‫ك َ‬
‫َ‬
‫عو َ‬ ‫خد َ ُ‬‫دوا َأن ي َ ْ‬ ‫ري ُ‬‫ِ‬ ‫وِإن ي ّ‬ ‫َ‬ ‫تعالى‪+ :‬‬ ‫َ‬ ‫بعضه بعضا)‪ ,(1‬قال‬
‫وأ ل ّ َ‬
‫ف‬ ‫ن‪ََ ‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وِبال ْ ُ‬ ‫هَ َ‬
‫ر ِ‬
‫ص ِ‬ ‫ك ب ِن َ ْ‬ ‫ذي أي ّدَ َ‬ ‫و ا َل ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ُ‬‫ك الل ُ‬ ‫سب َ َ‬
‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫ف ْ‬ ‫ّ‬
‫ما أل َ‬ ‫ّ‬ ‫عا‬‫ً‬ ‫مي‬‫ِ‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ما‬ ‫ََ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫أن‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ُ ِ ِ ْ ْ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫بَ‬
‫ْ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫م‬
‫َ ْ ُ ْ ِ ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫ب‬ ‫ف‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬
‫ِ ِ ْ َ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫لو‬ ‫ق‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫بَ ْ َ‬
‫ي‬
‫م" ]النفال‪.[63 ،62 :‬‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬‫زيٌز َ‬ ‫ع ِ‬ ‫َ‬
‫‪ -4‬العطاء والبذل والجود‪ :‬وهي صفة بارزة في حياة‬
‫المؤمن فهي قاعدة المجتمع المؤمن المتكافل المتضامن‪ ،‬عن‬
‫أنس ‪ ‬أن رسول الله × »لم يكن يسأل شيئا إل أعطاه‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫فأتاه رجل فسأله فأمر له بشياه كثيرة بين جبلين من شياه‬
‫الصدقة‪ ،‬فرجع إلى قومه فقال‪ :‬يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي‬
‫عطاء من ل يخشى الفقر«)‪ .(2‬ونعم العطاء هذا الذي يجعل‬
‫البعض يحب السلم وأهله ويفتح البواب الموصدة والقلوب‬
‫المغلقة‪ ،‬إن اليثار على النفس مع الحاجة قمة عليا يجب لمن‬
‫وصل إلى مرحلة العداد والتربية أن يكون له فيها نصيب كبير‪.‬‬
‫ومراتب الجود واليثار كثيرة منها‪:‬‬
‫‪ -‬الجود بالنفس وهو أعلى المراتب‪.‬‬
‫‪ -‬الجود بالعلم وبذله‪.‬‬
‫‪ -‬الجود بالنفع بالجاه كالمشي في قضاء مصالح المسلمين‪.‬‬
‫‪ -‬الجود بالصبر والحتمال‪.‬‬
‫‪ -‬الجود بالراحة فيتعب في قضاء مصالح غيره‪.‬‬
‫‪ -‬الجود بترك ما في أيدي الناس لهم‪ ,‬فل يلتفت إليه بقلبه ول‬
‫يتعرض له بحاله ول بلسانه وغير ذلك من أنواع الجود‪.‬‬
‫‪ -5‬العفة والستغناء عن الناس‪ :‬إنه جيل مرتبط بالله‬
‫عز وجل ل يعمل إل لله‪ ,‬ول يسأل إل الله‪ ,‬فهو غني بالله ولذلك‬
‫يتطلعون إل إلى فضل الله ول يرجون إل‬ ‫امتلت نفوسهم عفة ل‬
‫قيٌر"‬ ‫ر َ‬
‫ف ِ‬ ‫ي‬‫خ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ز‬ ‫ني ل ِما َ‬
‫أن‬ ‫ب إِ ّ‬
‫ٍ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫رحمة الله‪َ+ :‬ر ّ‬
‫)( انظر‪ :‬نظرات في رسالة التعليم‪ ،‬ص ‪.294‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب الفضائل‪ ،‬باب‪ :‬كان رسول الله × أحسن الناس خلقا )‬ ‫‪2‬‬

‫‪ (4/1804‬رقم ‪.2312‬‬

‫‪361‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫]القصص‪.[24 :‬‬
‫ورضي الله عن ابن عوف عندما عرض عليه أخوه سعد بن‬
‫الربيع ‪ ‬أن يشاطره ماله وبيته ويتزوج إحدى نسائه فقال له‪:‬‬
‫بارك الله لك في مالك وأهلك ولكن دلني على السوق)‪.(1‬‬
‫لقد علم أن الغنى في قناعة النفس ورضا القلب وغناه عن‬
‫التطلع لما في أيدي الناس من حظوظ الدنيا‪.‬‬
‫جـ‪ -‬الصفات الحركية والدعوية‪:‬‬
‫‪ -1‬يجب أن يتولد لدى جيل التمكين شعور ذاتي‬
‫بمسئولية العمل للسلم‪ :‬واستعداد كامل لتلبية حاجات‬
‫هذه المسئولية من النفس والجهد‪ ،‬فهو ل ينتظر التكليف الحركي‬
‫لينهض بالعباء والمسئوليات‪ ،‬وإنما يتولد في أعماقه شعور‬
‫بالمسئولية ويجري في عروقه إحساس رباني بالتكليف‪.‬‬
‫فهذا أبو بكر الصديق ‪ ‬عندما التزم بالسلم تفجرت فيه‬
‫الذاتية الحركية فذهب إلى بلل بن رباح‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف‪،‬‬
‫وعثمان بن عفان والزبير بن العوام‪ ،‬ودعاهم للسلم فأسلموا‪،‬‬
‫وقد ذكر لنا القرآن الكريم قصة مؤمن آل فرعون وكيف قام‬
‫بدعوة قومه إلى اليمان بدعوة موسى عليه السلم‪.‬‬
‫‪ -2‬يؤمن بالواقعية والعملية‪ :‬فهو بعيد عن الغوغائية‬
‫ويحتكم إلى الحقائق ل إلى الوهام‪ ،‬ول ينسى وهو يتطلع إلى‬
‫السماء أنه واقع على الرض‪ ،‬فل يجري وراء خيال كاذب ول أماني‬
‫موهومة فيسبح في غير ماء‪ ،‬ويطير بغير جناح‪ ،‬جيل كبير المال‬
‫ولكنه واقعي التفكير‪ ،‬ول ييأس من روح الله ول يقنط من رحمة‬
‫ربه لكنه يعرف حدود قدراته‪ ،‬ودوائر إمكاناته‪ ،‬يراعي سنن الله‬
‫في كونه كما يراعي أحكامه في شرعه ويتبنى سياسة النفس‬
‫الطويل والصبر الجميل‪ ،‬يؤمن بالعلم ويحترم العقل‪ ،‬ول يتبع‬
‫الظن وما تهوى النفس‪ ،‬ويرفض الخرافة‪.‬‬
‫‪ -3‬جيل عمل وبناء جماعي‪ :‬فل يقف أبناؤه عند التغني‬
‫بأمجاد الماضي‪ ،‬ول عند النواح على هزائم الحاضر‪ ،‬ول عند‬
‫التمني لنتصارات المستقبل‪ ،‬إنما يؤمن بالعمل والعطاء والنتاج‪،‬‬
‫وأن اليمان الحق ما وقر في القلب وصدقه العمل‪ ،‬وما خلق الله‬
‫ن‬ ‫الناس إل ليعملوا بل ما خلقهم إل ‪+‬ل ِيبل ُوك ُم أ َيك ُ َ‬
‫س ُ‬‫ح َ‬
‫مأ ْ‬‫َ ْ َ ْ ّ ْ‬
‫مل ً" ]الملك‪.[2 :‬‬
‫ع َ‬
‫َ‬
‫وقد علموا من حقائق التاريخ وقراءة الواقع أن أهل الباطل‬
‫يتكتلون حول باطلهم فأولى بأهل الحق أن يتجمعوا حول حقهم‬
‫)( انظر‪ :‬أسد الغابة )‪.(2/196‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪362‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬
‫َ‬
‫م‬ ‫فا ك َأن ّ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ص ّ‬
‫ه َ‬
‫سِبيل ِ ِ‬
‫في َ‬ ‫قات ُِلو َ‬
‫ن ِ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ح ّ‬
‫ه يُ ِ‬
‫ن الل َ‬‫‪+‬إ ِ ّ‬
‫ص" ]الصف‪.[4 :‬‬ ‫صو ٌ‬ ‫مْر ُ‬‫ن ّ‬‫ب ُن َْيا ٌ‬
‫لهذا صمموا على أن يبحثوا على أشباههم ممن ينشدون الحق‬
‫ويرفضون الباطل‪ ,‬ويدعون إلى الخير وينكرون الشر‪ ,‬ويأمرون‬
‫بالمعروف وينهون عن المنكر‪ ،‬فمضوا في طريق العمل الجماعي‬
‫يعملون في صمت‪ ،‬ويبنون في صبر ويجاهدون بل كلل‪ ،‬ول ملل‪،‬‬
‫وعزموا على أن يكونوا متعاونين على البر والتقوى متكاتفين في‬
‫السراء والضراء‪.‬‬
‫‪ -4‬جيل دعوة وجهاد‪ :‬كما كان الصحابة من المهاجرين‬
‫والنصار ل يشغلهم جهاد عن جهاد ول ميدان عن ميدان‪ ,‬فهم‬
‫دائما في صراع متواصل مع الفجرة في الداخل والكفرة في‬
‫الخارج‪ ،‬ل يلقون سلحهم ول يستريحون من كفاحهم حتى ل تكون‬
‫فتنة ويكون الدين كله لله‪.‬‬
‫قد ترى أحدهم وهو العربي يقاوم الزحف الشيوعي الحمر‬
‫الصرب في البوسنة‪,‬‬ ‫في أفغانستان‪ ،‬وترى آخر وهو أفغاني يقاتل‬
‫َ‬
‫ض"‬‫ع ٍ‬ ‫ول َِياءُ ب َ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ع ُ‬ ‫فُروا ب َ ْ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫فالكفر ملة واحدة ‪َ +‬‬
‫]النفال‪.[73 :‬‬
‫َ‬
‫ض" ]التوبة‪:‬‬ ‫ع ٍ‬ ‫ول َِياءُ ب َ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ض ُ‬‫ع ُ‬‫ت بَ ْ‬‫مَنا ُ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫وال ْ ُ‬‫ن َ‬
‫مُنو َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫‪َ +‬‬
‫‪.[71‬‬
‫يجاهدون في سبيل الله في كل معركة تطلبهم وبكل سلح‬
‫يمكنهم‪.‬‬
‫‪ -5‬جيل توازن واعتدال‪ :‬فهم متوازنون معتدلون على‬
‫صراط مستقيم ل يميلون إلى اليمين ول ينحرفون إلى الشمال‪ ,‬ل‬
‫يغرقون في الماديات ول يغرقون في الروحانيات‪ ،‬يعلمون أن‬
‫لربهم عليهم حقا وأن لنفسهم عليهم حقا‪ ،‬وأن لسرهم عليهم‬
‫حقا‪ ،‬ولمجتمعهم عليهم حقا‪ ,‬فهم يعطون كل ذي حق حقه‪ ،‬غير‬
‫جانحين إلى الفراط ول مائلين إلى التفريط‪ ،‬يأخذون بالعزائم ول‬
‫يغفلون الرخص‪ ,‬فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى‬
‫عزائمه‪ ..‬يبشرون ول ينفرون‪ ،‬وييسرون ول يعسرون‪ ،‬ويجادلون‬
‫ة‬‫عظَ ِ‬‫و ِ‬ ‫وال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ة َ‬
‫م ِ‬ ‫ك ِبال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬ ‫ل َرب ّ َ‬‫سِبي َ ِ‬ ‫ع إ َِلى َ‬ ‫بالتي هي أحسن ‪+‬ادْ ُ‬
‫ن" ]النحل‪ .[125 :‬يفرقون‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬‫يأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫م ِبا‬ ‫جاِدل ْ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫و َ‬
‫ة َ‬
‫سن َ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ح َ‬
‫بين الصول والفروع‪ ،‬والكليات والجزئيات‪ ،‬والقضايا المصيرية‬
‫والمسائل الجانبية‪ ،‬ويمزجون بين الروح والمادة‪ ،‬والعقل والقلب‪،‬‬
‫وبين الثبات على الغايات والتطور في الساليب‪ ،‬بين أداء‬
‫الواجبات وطلب الحقوق‪ ،‬بين الحرص على القديم والستفادة من‬
‫الجديد‪ ،‬فل ينقطعون عن الماضي ول ينعزلون عن الحاضر‪،‬‬
‫فرسان بالنهار ورهبان بالليل‪ ،‬ل تلهيهم نافلة عن فريضة ول فرض‬
‫‪363‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫عن مثله‪.‬‬
‫‪ -6‬جيل منضبط‪ :‬يعيش جو النطلقة بضوابطه فيتحرك‬
‫بدعوته وفكره بين الناس مراعيا الضوابط الحركية حتى ل تكون‬
‫حركة غوغاء‪ ,‬ول تمنعه الطاعة من إبداء آرائه في جو من‬
‫الصراحة والوضوح وتتسع صدوره لراء المخالفين‪ ،‬ول يجد‬
‫غضاضة في التنازل عن رأيه إذا استقر رأي الشورى على رأي‬
‫آخر‪ ،‬يعرف ما الذي يعلن من دعوته فل يتردد في الجهر به‬
‫وتعليمه للناس‪ ,‬وما الذي يسر فل يبوح به ول لقرب الناس إليه‪.‬‬
‫د‪ -‬الصفات النفسية‪:‬‬
‫من الصفات النفسية التي يجب أن يتحلى بها جيل التمكين‪:‬‬
‫‪ -1‬إرادة قوية ل يتطرق إليها لين ول ضعف‪ :‬يقول‬
‫ن ك َِثيٌر َ‬ ‫َ‬
‫هُنوا‬
‫و َ‬
‫ما َ‬ ‫ف َ‬ ‫رب ّّيو َ‬
‫ِ‬ ‫ه‬
‫ع ُ‬
‫م َ‬‫ل َ‬ ‫ي َ‬
‫قات َ َ‬ ‫من ن ّب ِ ّ‬‫وك َأّين ّ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬
‫َ‬
‫نوا" ]آل‬ ‫ست َ َ‬
‫كا ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫فوا‬‫ُ‬ ‫ع‬ ‫ُ‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫ما‬ ‫و‬
‫َ َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ل‬
‫ِ ِ‬‫بي‬ ‫س‬‫َ‬ ‫في‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫صاب َ ْ‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫ما أ َ‬
‫لِ َ‬
‫عمران‪ [146 :‬ومن مظاهرها‪:‬‬
‫‪ -‬معرفة الهدف والصرار على تحقيقه والوفاء له‪.‬‬
‫‪ -‬الهمة العالية والعمل الدائب المتواصل‪.‬‬
‫‪ -‬محاسبة النفس بشدة والنتصار عليها‪.‬‬
‫مخالطة الناس والصبر على أذاهم‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الصبر وتحمل المشاق والصعاب والتغاضي عن الهفوات‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬الصراحة في الحق والنصياع له والعتراف بالخطأ وعدم‬
‫إفشاء السر‪.‬‬
‫‪ -‬استشراف المل وعدم اليأس وسياسة النفس الطويل‪.‬‬
‫‪ -2‬تضحية عزيزة ل يحول دونها طمع ول بخل‪:‬‬
‫ومن مظاهر التضحية العزيزة‪:‬‬
‫‪ -‬وضع الدعوة في قمة الولويات مع استصحاب نية‬
‫التضحية‪.‬‬
‫‪ -‬القدوة في بذل العزيز على النفس )المال ‪ -‬الراحة ‪-‬‬
‫النفس ‪ -‬فراق الهل‪(...‬‬
‫‪ -‬تربية من يعولهم على البذل والعطاء والتضحية‪.‬‬
‫ربط المصير بالمصير وأن يوطن ظروفه مع ظروف‬ ‫‪-‬‬
‫‪364‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الدعوة‪.‬‬
‫‪ -‬تخليص النفس من كل مظاهر الطمع والبخل‪.‬‬
‫‪ -‬تقديم مصلحة الدعوة على المصلحة الفردية‪.‬‬
‫‪ -‬الستعداد الكامل لتنفيذ المر على أي حال وتحت أي‬
‫ظرف‪.‬‬
‫‪ -3‬وفاء ثابت ل يعدو عليه تلون ول غدر‪ :‬ومن أنواع‬
‫الوفاء‪ :‬وفاء مع الله ‪ -‬مع الدعوة ‪ -‬مع الخوة ‪ -‬مع النفس ‪ -‬مع‬
‫الناس‪.‬‬
‫ومن مظاهر الوفاء الثابت‪:‬‬
‫‪ -‬العتراف بالجميل وتوريث الدعوة وفتح مجالت عمل‬
‫جديدة‪.‬‬
‫‪ -‬الستمرارية في العمل حتى في أحلك الظروف‪.‬‬
‫‪ -‬المصارحة والنصيحة بآدابها الشرعية‪.‬‬
‫‪ -‬حمل الهل والقارب على احترام الدعوة والتحمس لها‪.‬‬
‫‪ -‬تفقد الغائب والشعور بآلم الخرين‪.‬‬
‫‪ -‬إيثار المصلحة الدعوية على المصلحة الفردية‪.‬‬
‫‪ -‬الذب والدفاع عن السلم وقياداته وعلمائه‪.‬‬
‫‪ -4‬ومعرفة بالمبدأ وإيمان به وتقدير له يعصم‬
‫من الخطأ فيه أو النحراف عنه أو المساومة عليه‬
‫أو الخديعة بغيره‪:‬‬
‫‪ -‬إخلص الوجهة لله وتصحيح النية دائما‪.‬‬
‫‪ -‬وضوح الهدف وطبيعة الطريق وكيفية الوصول إلى‬
‫الهداف‪.‬‬
‫‪ -‬استشعار ثقل المانة والتبعة الملقاة على الدعاة‪.‬‬
‫‪ -‬التمسك بالقرآن والسنة وفهم السلف الصالح‪.‬‬
‫‪ -‬العمل الجاد والمتواصل الذي يؤدي إلى أفضل النتائج بأقل‬
‫مجهود‪.‬‬
‫‪ -‬عدم الجتهاد في الثوابت‪.‬‬
‫‪ -‬محاسبة النفس واتهامها عند الختلف‪.‬‬
‫‪ -5‬التزان النفسي »النفعالي«‪ :‬وهي صفة مهمة‬
‫يجب أن يتصف بها صاحب الشخصية السوية المتزنة‪ ,‬ومن أهم‬

‫‪365‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مظاهر التزان النفسي‪:‬‬


‫‪ -‬الثقة بالله عز وجل وفي نصره وتأييده لوليائه وحسن‬
‫التوكل عليه‪.‬‬
‫‪ -‬ملك النفس عند الغضب‪.‬‬
‫‪ -‬العاطفة المتزنة‪.‬‬
‫‪ -‬وضع المور في نصابها وحجمها دون تضخيم ول تصغير‪.‬‬
‫‪ -‬البعد عن الحساسية المفرطة وأن يؤخذ الكلم على أحسن‬
‫محمل‪.‬‬
‫‪ -‬النضباط والكتمان وعدم الثرثرة‪.‬‬
‫‪ -‬البعد عن النطوائية‪.‬‬
‫ذلكم هو الجيل الذي ننشده وتنشده معنا المة بكاملها‪ ،‬وهو‬
‫الجيل الذي تعمل القوى العالمية على إجهاضه‪ ،‬وشغله عن‬
‫معاركه ومعارك أمته الكبرى بمعارك جانبية تافهة‪ ،‬وإغراقه في‬
‫دوامة من الجدل ل يخرج منها‪ ،‬إن هذا الجيل هو جيل النصر الذي‬
‫تتحرر على يديه كل أرض دنسها الطواغيت والفجار‪ ،‬هو الذي‬
‫ترتفع به راية الله في أرض الله‪ ،‬هذا الجيل هو الجدير بأن يتنزل‬
‫عليه نصر الله عز وجل‪ ،‬عندما كانت صفات جيل التمكين متمكنة‬
‫في الجيل السلمي الول استطاع ذلك الجيل‪:‬‬
‫‪ -‬أن يحرر الجزيرة العربية من دنس الصهيونية في بني‬
‫النضير وبني المصطلق وبني قينقاع وخيبر‪.‬‬
‫‪ -‬أن يستأصل شأفة الوثنية في بدر والحزاب وفتح مكة‪.‬‬
‫‪ -‬أن ينكس رايات الصهيونية في اليرموك وحطين‪.‬‬
‫‪ -‬أن يهزم المجوسية في القادسية‪.‬‬
‫نحن نحتاج اليوم إلى جيل كالجيل الذي كان منه‪:‬‬
‫‪ -‬الحاكم الذي ل يستنكف عن العتراف بالخطأ فيقول في‬
‫‪» ‬أصابت المرأة وأخطأ عمر«)‪.(1‬‬ ‫شجاعة كما قال عمر ‪:‬‬
‫‪ -‬الحاكم الذي يحرض الرعية على مراقبته والنصح له‪ ,‬فيقول‬
‫كما قال الصديق ‪» :‬إني وليت عليكم ولست بخيركم‪ ،‬فإن‬
‫أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني«)‪.(2‬‬
‫‪ -‬والعالم الرباني الذي ل تفتقده مسيرة الجهاد فيعطي العلم‬

‫)( سنن البيهقي )‪ (7/233‬قال البيهقي‪ :‬هذا منقطع ومع انقطاعه فيه مجالد‬ ‫‪1‬‬

‫وهو ضعيف‪.‬‬
‫)( الطبري في تاريخه )‪.(4/30‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪366‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫حقه‪ ،‬والجهاد حقه‪ ،‬ولكل حقه‪ ،‬ويكون إمام محراب وقائد حرب‬
‫مثله كمثل عبد الله بن المبارك ‪ ‬المجاهد الذي كتب إلى أخ له‬
‫عابد اعتكف في الحرم وترك مسيرة الجهاد فقال له‪:‬‬
‫)‪(1‬‬
‫تلعب‬ ‫يا عابد الحرمين لو أبصرتنا‬
‫إن النبي × حرص كل الحرص في طور الدعوة السرية أن‬
‫يربي أصحابه على صفات جيل التمكين‪ ,‬ونلحظ من خلل دراستنا‬
‫للسيرة أنه × قام بإعلن الدعوة على قريش والمشركين بعد‬
‫العداد الجيد وبناء القاعدة الصلبة على أسس عقدية وخلقية‬
‫وأمنية وتنظيمية‪ ،‬وحان موعد إعلن الدعوة بنزول قوله تعالى‪:‬‬
‫ن‪] "...‬الشعراء‪ [214 :‬فخرج رسول الله‬ ‫شيَرت َ َ‬
‫ك ال ْ‬ ‫‪َ +‬‬
‫قَرِبي َ‬ ‫ع ِ‬‫ذْر َ‬‫وأن ِ‬‫َ‬
‫× حتى صعد الصفا فهتف‪ :‬يا صباحاه‪ ,‬فاجتمعت إليه قريش‪،‬‬
‫فقال‪» :‬يا بني فلن‪ ،‬يا بني عبد مناف‪ ،‬يا بني عبد‬
‫المطلب‪ ،‬أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيل تخرج بسفح هذا‬
‫الجبل أكنتم مصدقي؟« قالوا‪ :‬ما جربنا عليك كذبا‪ ،‬قال‪:‬‬
‫»فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد«‪ ,‬فقال أبو لهب‪ :‬تبا‬
‫)‪(2‬‬
‫دا‬
‫ت يَ َ‬‫َلك‪ ،‬أما جمعتنا إل لهذا ثم قام ‪ ,‬فنزلت هذه السورة ‪+‬ت َب ّ ْ‬
‫ب" ]المسد‪.[1 :‬‬ ‫وت َ ّ‬‫ب َ‬ ‫أِبي ل َ َ‬
‫ه ٍ‬
‫»ومن الطبيعي أن يبدأ الرسول × دعوته العلنية بإنذار‬
‫عشيرته القربين‪ ،‬إذ إن مكة بلد توغلت فيه الروح القبلية‪ ،‬فبدء‬
‫الدعوة بالعشيرة قد يعين على نصرته وتأييده وحمايته‪ ،‬كما أن‬
‫القيام بالدعوة في مكة لبد أن يكون له أثر خاص لما لهذا البلد‬
‫من مركز ديني خطير‪ ،‬فجلبها إلى حظيرة السلم لبد أن يكون‬
‫له وقع كبير على بقية القبائل‪ ،‬على أن هذا ل يعني أن رسالة‬
‫السلم كانت في أدوارها الولى محدودة بقريش‪ ،‬لن السلم كما‬
‫يتجلى من القرآن اتخذ الدعوة في قريش خطوة أولى لتحقيق‬
‫رسالته العالمية«)‪.(3‬‬
‫ولقد كانت النتيجة المباشرة لهذا الصدع هي الصد والعراض‬
‫والسخرية واليذاء والتكذيب‪ ،‬والكيد المدبر المدروس‪ ،‬ولقد اشتد‬
‫الصراع بين النبي × وصحبه‪ ،‬وبين شيوخ الوثنية وزعمائها‪ ,‬وأصبح‬
‫الناس في مكة يتناقلون أخبار ذلك الصراع في كل مكان‪ ،‬وهذا‬
‫في حد ذاته مكسب عظيم للدعوة‪ ،‬ساهم فيه أشد وألد أعدائها‪،‬‬
‫ممن كانوا يشيعون في القبائل قالة السوء عنها‪ ،‬فليس كل الناس‬
‫يسلمون بدعاوى القرشيين‪ ،‬بل كان يوجد من مختلف القبائل من‬
‫يتابع الخبار‪ ،‬ويتحرى الصواب فيظفر به‪.‬‬
‫وكانت الوسيلة العلمية في ذلك العصر تناقل الناس للخبار‬
‫)( انظر‪ :‬عبد الله بن المبارك المام القدوة لمحمد عثمان‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( دراسة في السيرة‪ ،‬عماد الدين خليل‪ ،‬ص ‪.66‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الغرباء الولون‪ ،‬سلمان العودة‪ ،‬ص ‪.167‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪367‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مشافهة وسمع القاصي والداني بنبوة الرسول ×‪ ,‬وأصبح هذا‬


‫الحدث العظيم حديث الناس في كل مكان‪ ،‬وبدأ رسول الله ×‬
‫يشق طريقه لكسر الحصار المفروض على الدعوة‪ ،‬والنتقال بها‬
‫إلى مواقع جديدة بعد أن رفضت قريش الستجابة والنقياد للحق‬
‫المبين)‪ ,(2‬وكان موقفهم كموقف القوام السابقة من رسلهم‬
‫وتعرض النبي × وأصحابه لسنة البتلء‪.‬‬
‫ثامنًا‪ :‬سنة البتلء‪:‬‬
‫البتلء ‪ -‬بصفة عامة ‪ -‬سنة الله تعالى في خلقه‪ ,‬وهذا واضح‬
‫عل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ج َ‬ ‫ذي َ‬ ‫و ال ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫و ُ‬ ‫من اليات َالقرآنية الكريمة‪ ،‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫جا‬ ‫ر‬
‫ع ٍ َ‬‫د‬ ‫ض‬ ‫وقَ ب َ ْ‬ ‫ف ْ‬ ‫م َ‬ ‫ضك ُ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫ع بَ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫وَر َ‬ ‫ض َ‬ ‫خل َئ ِ َ‬
‫َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف الْر ِ‬ ‫َ‬
‫عَلى‬ ‫ما‬
‫ِّ َ َ َ َ َ‬ ‫نا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫نا‬ ‫إ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫[‬ ‫‪165‬‬ ‫]النعام‪:‬‬ ‫"‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫تا‬‫َ‬ ‫آ‬ ‫ما‬ ‫في‬
‫ِ َ َ‬
‫مل ً" ]الكهف‪[7 :‬‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫هم أ َيهم أ َ‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ها‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ة‬ ‫ن‬ ‫زي‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ْ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬
‫َ‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫الْر ِ ِ‬
‫ض‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ِ َ ْ َ ْ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ل‬‫ب‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫يا‬ ‫ح‬ ‫ل‬
‫َ ْ َ َ َ َ‬ ‫وا‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ق‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫‪+‬‬ ‫شأنه‪:‬‬ ‫وقال جل‬
‫غفوُر" ]الملك‪ [2 :‬وقال‪+ :‬إ ِّنا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫زيُز ال َ‬ ‫ْ‬ ‫ً‬ ‫أ َيك ُ َ‬
‫ع َِ‬ ‫و ال َ‬
‫ْ‬
‫ه َ‬
‫و ُ‬ ‫مل َ‬ ‫ع َ‬ ‫ن َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ّ ْ‬
‫ه" ]النسان‪.[2 :‬‬ ‫ج ن ّب ْت َِلي ِ‬ ‫ٍ‬ ‫شا‬‫َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ة‬
‫ٍ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ط‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫سا‬
‫ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ق‬ ‫َ‬
‫والبتلء مرتبط بالتمكين ارتباطا وثيقا‪ ،‬فلقد جرت سنة الله ‪-‬‬
‫تعالى‪ -‬أل يمكن لمة إل بعد أن تمر بمراحل الختبار المختلفة‪،‬‬
‫وإل بعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الحداث‪ ،‬فيميز الله الخبيث‬
‫من الطيب‪.‬‬
‫وهي سنة جارية على المة السلمية ل تتخلف‪ ،‬فقد شاء الله‬
‫‪ -‬تعالى ‪ -‬أن يبتلي المؤمنين‪ ،‬ويختبرهم ليمحص إيمانهم‪ ،‬ثم يكون‬
‫لهم التمكين في الرض بعد ذلك‪.‬‬
‫ولذلك جاء هذا المعنى على لسان المام الشافعي حين سأله‬
‫كن‪ ،‬أو يبتلى؟ فقال المام‬ ‫رجل‪ :‬أيهما أفضل للمرء‪ ،‬أن يم ّ‬
‫كن حتى يبتلى‪ ،‬فإن الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬ابتلى نوحًا‬ ‫الشافعي‪ :‬ل يم ّ‬
‫وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا صلوات الله وسلمه عليهم‬
‫أجمعين‪ ,‬فلما صبروا مكنهم فل يظن أحد أن يخلص من اللم‬
‫البتة‪.‬‬
‫وابتلء المؤمنين قبل التمكين أمر حتمي من أجل التمحيص‪،‬‬
‫ليقوم بنيانهم بعد ذلك على تمكن ورسوخ‪ ،‬وهذا البتلء للمؤمنين‬
‫ابتلء الرحمة ل ابتلء الغضب‪ ،‬وابتلء الختيار ل مجرد الختبار‪.‬‬
‫فلو أن قائدا أراد إعدادا للفوز في معركة ضارية‪ ،‬أيكون من‬
‫الرحمة بهم أن يخفف لهم التدريب ويهون عليهم العداد‪ ،‬أم‬
‫تكون الرحمة الحقيقية أن يشد عليهم في التدريب على قدر ما‬
‫)( انظر‪ :‬الفوائد لبن القيم‪ ،‬ص ‪.283‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪368‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫تقتضيه المعركة الضارية التي يعدهم من أجلها؟‬


‫والمؤمنون هم حزب الله وجنوده ‪ -‬ولله المثل العلى ‪-‬‬
‫والمعركة التي يعدهم من أجلها هي المعركة العظمى‪ ،‬معركة‬
‫الحق والباطل‪ ,‬والنتيجة المطلوبة من المعركة ليست مجرد‬
‫النصر‪ ،‬وإنما هي بعد ذلك إقرار المنهج الرباني في الرض بكل‬
‫المعاني والقيم التي يحملها ذلك المنهج‪ ،‬وهي المانة التي تعرض‬
‫لحملها النسان بقدر الله‪.‬‬
‫وحمل المانة ‪ -‬بعد النتصار على الباطل ‪ -‬ل يصلح له كل‬
‫الناس‪ ،‬إنما يحتاج لقوم مختارين‪ ،‬يعدون إعدادا خاصا ليحسنوا‬
‫القيام به)‪.(1‬‬
‫وقد علم الله تعالى أن البتلء هو وسيلة العداد لهذه‬
‫المهمة العظيمة‪ ,‬وفي قصة طالوت شاهد على ذلك)‪(2‬؛‬
‫فطالوت كان مقدما على معركة ومعه جيش من أمة مغلوبة‪،‬‬
‫عرفت الهزيمة في تاريخها مرة بعد مرة‪ ،‬وهو يواجه أمة غالبة‪،‬‬
‫فلبد إ ً ذا من قوة كامنة في ضمير الجيش تقف أمام القوى‬
‫الظاهرة الغالبة‪ ،‬هذه القوة الكامنة ل تكون إل في الرادة التي‬
‫تضبط الشهوات والنزوات‪ ،‬وتصمد للحرمان والمشاق‪،‬‬
‫وتستعلي على الضرورات والحاجات‪ ،‬وتؤثر الطاعة وتحتمل‬
‫تكاليفها‪ ,‬فتجتاز البتلء بعد البتلء‪ .‬فلبد للقائد إ ًذا أن يبلو‬
‫جيشه وصموده وصبره‪ ،‬صموده أولً للرغبات والشهوات‬
‫وصبره ثانيً ا على الحرمان والمتاعب‪ .‬ولقد اختار طالوت هذه‬
‫التجربة وهم عطاش ليعلم من يصبر معه ممن ينقلب على‬
‫عقبيه)‪.(3‬‬
‫م‬‫مب ْت َِليك ُ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫قا َ‬ ‫جُنوِد َ‬ ‫ت ِبال ْ ُ‬ ‫طاُلو ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ص َ‬ ‫ف َ‬ ‫ما َ‬ ‫فل َ ّ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ه‬
‫فإ ِن ّ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫م ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫ْ‬
‫م ي َط َ‬ ‫ّ‬
‫من ل ْ‬ ‫و َ‬ ‫مّني َ‬ ‫س ِ‬ ‫فلي ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ب ِ‬ ‫ر َ‬ ‫ش ِ‬ ‫من َ‬ ‫ف َ‬ ‫ر َ‬ ‫ه ٍ‬ ‫ب ِن َ َ‬
‫قِليل ً"‬ ‫ه إ ِل ّ َ‬ ‫ن‬‫م‬
‫ِ ْ ُ‬ ‫بوا‬
‫ِ ُ‬ ‫ر‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ه‬ ‫د‬
‫ِ َ ِ ِ‬‫ي‬ ‫ب‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ر‬‫ْ‬ ‫ُ‬
‫غ‬ ‫ف‬‫َ َ َ‬ ‫ر‬ ‫ت‬‫غ‬‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫َ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ني‬ ‫م ّ‬ ‫ِ‬
‫]البقرة‪ .[249 :‬ولقد بين الله تعالى هذا المر للمة السلمية حتى‬
‫تكون على بينة من طريقها‪ ،‬ورسالتها وطبيعة هذا الطريق وتلك‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫وجاء ذلك في مواضع متعددة‪ ،‬وبأساليب مختلفة في القرآن‬
‫ف‬
‫و ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫مَ َ‬ ‫ء ّ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫كُ ْ‬ ‫ون ّ‬‫ول َن َب ْل ُ َ‬
‫الكريم؛ من ذلك قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫خلوا‬ ‫م أن ت َدْ ُ‬ ‫سب ْت ُ ْ‬‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫]البقرة‪ [155 :‬وقوله تعالى‪+ :‬أ ْ‬ ‫ْ‬
‫ع‪"..‬‬ ‫جو ِ‬ ‫وال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ه ُ‬ ‫ست ْ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫كم ّ‬ ‫قب ْل ِ ُ‬ ‫من َ‬ ‫وا ِ‬ ‫َ‬
‫خل ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ل ال ِ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫كم ّ‬ ‫ما ي َأت ِ ُ‬ ‫َ‬
‫ول ّ‬ ‫ة َ‬ ‫ال ْ َْ‬
‫جن ّ َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل الّر ُ‬ ‫قو َ‬ ‫حّتى ي َ ُ‬ ‫زُلوا َ‬ ‫وُزل ْ ِ‬ ‫ضّراءُ َ‬ ‫وال ّ‬ ‫ساءُ َ‬ ‫ال ْب َأ َ‬
‫)( انظر‪ :‬حول التفسير السلمي للتاريخ لمحمد قطب‪ ،‬ص ‪.112 ،111‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.235‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(1/268‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪369‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫آمُنوا معه مَتى ن َصر الل َ‬


‫]البقرة‪:‬‬ ‫ب"‬ ‫ري ٌ‬ ‫ق ِ‬ ‫ه َ‬ ‫صَر الل ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫ه أل َ إ ِ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫‪.[214‬‬
‫م" ]آل عمران‪:‬‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫وأ َن ْ ُ‬‫م َ‬ ‫وال ِك ُ ْ‬‫م َ‬
‫َ‬
‫في أ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫و ّ‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬ل َت ُب ْل َ ُ‬
‫‪ [186‬ومن الملحظ من خلل اليات الكريمة أن تقرير سنة البتلء‬
‫على المة السلمية جاء في أقوى صورة من‬
‫الجزم والتأكيد)‪.(1‬‬
‫وهذه سنة الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬في العقائد‪ ،‬والدعوات‪ ،‬لبد من بلء‪،‬‬
‫ولبد من أذى في الموال والنفس‪ ,‬ولبد من صبر ومقاومة‬
‫واعتزام‪.‬‬
‫إنه الطريق إلى الجنة وقد )حفت الجنة بالمكاره‪ ،‬وحفت‬
‫النار بالشهوات( )‪ (2‬كما أخبر النبي ×‪ ,‬ثم إنه الطريق الذي ل‬
‫طريق غيره لنشاء الجماعة التي تحمل هذه الدعوة‪ ،‬وتنهض‬
‫بتكاليفها‪ ،‬طريق التربية للمة السلمية‪ ،‬وإخراج مكنوناتها من‬
‫الخير‪ ،‬والقوة والحتمال‪ ،‬وهو طريق المزاولة العملية للتكاليف‪،‬‬
‫والمعرفة لحقيقة الناس‪ ،‬وحقيقة الحياة‪ ،‬وذلك ليثبت على هذه‬
‫الدعوة أصلب أصحابها عودا وأقواهم شكيمة‪ ،‬فهؤلء هم الذين‬
‫يصلحون لحملها‪ ،‬والصبر عليها‪ ،‬فهم عليها مؤتمنون)‪.(3‬‬
‫إن البتلء مكمل لحقيقة اليمان‪ ،‬لن اليمان أمانة الله ‪ -‬تعالى ‪-‬‬
‫في الرض‪ ،‬وهذه المانة ل يحملها إل من هم أهل لها‪ ،‬وفيهم على‬
‫حملها قدرة‪ ،‬وفي قلوبهم تجرد لها وإخل ص‪ ،‬والذين يؤثرونها على‬
‫الراحة والدعة‪ ،‬وعلى المن والسلمة‪ ،‬وعلى كل صنوف المتاع‬
‫والغراء)‪.(4‬‬
‫»وحقيقة اليمان ل يتم تمامها في جماعة حتى تتعرض‬
‫للتجربة والمتحان والبتلء‪ ،‬وحتى يتعرف كل فرد فيها على‬
‫حقيقة طاقته‪ ،‬وعلى حقيقة غايته ثم تتعرف الجماعة على حقيقة‬
‫ساعة‬ ‫هذه اللبنات في‬ ‫تماسك‪+‬أ َ‬ ‫اللبنات التي تتألف منها‪ ،‬ومدى‬
‫س َأن‬ ‫ُ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ح‬‫َ‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫الشدة«)‪ .(5‬وفي هذا يقول الله‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫فت َّنا ال ّ ِ‬‫قدْ َ‬ ‫ول َ َ‬ ‫َ‬ ‫ن‪‬‬‫فت َُنو َ‬ ‫م ل َ يُ ْ‬ ‫ه ْ‬
‫و ُ‬ ‫َ‬ ‫مّنا‬‫قوُلوا آ َ‬ ‫كوا َأن ي َ ُ‬ ‫ي ُت َْر ُ‬
‫ن‬‫م ّ‬ ‫َ‬
‫عل َ‬ ‫ولي َ ْ‬ ‫َ‬ ‫صدَقوا َ‬ ‫ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ه ال ِ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫م ّ‬ ‫َ‬
‫عل َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م فلي َ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫من قب ْل ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ال ْ َ‬
‫ن" ]العنكبوت‪.[3 ،2 :‬‬ ‫كاِذِبي َ‬
‫الفتنة‪ :‬المتحان بشدائد التكاليف من مفارقة الوطان‪،‬‬
‫ومجاهدة العداء‪ ,‬وسائر الطاعات الشاقة‪ ،‬وهجر الشهوات‪،‬‬
‫وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في النفس والموال ومصابرة‬

‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن الكريم‪ ،‬ص ‪.237‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مسلم‪ ،‬كتاب الجنة ‪ -‬وصف نعيمها وأهلها )‪.(4/2174‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪.(2/1090‬‬ ‫في ظلل القرآن )‪.(1/593‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬
‫‪4‬‬

‫)( تفسير النسفي )‪.(3/249‬‬ ‫المصدر نفسه )‪.(1/529‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪370‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الكفار على أذاهم وكيدهم)‪.(1‬‬


‫َ وقال ابن كثير ‪ -‬رحمه الله ‪) :-‬والستفهام في قوله تعالى‪:‬‬
‫س" إنكاري‪ ،‬ومعناه‪ :‬أن الله سبحانه لبد أن يبتلي‬ ‫ب الّنا ُ‬ ‫س َ‬
‫ح ِ‬
‫‪+‬أ َ‬
‫عباده المؤمنين بحسب ما عندهم من اليمان)‪ ,(2‬كما جاء في‬
‫ء‪ ،‬ثم الصالحون‪،‬‬ ‫الحديث الصحيح‪» :‬أشد الناس بلءً النبيا ُ‬
‫ثم المثل فالمثل‪ :‬يبتلي الرجل على حسب دينه فإن‬
‫كان في دينه صلبة زيد له في البلء«)‪.(3‬‬
‫ولقد بين رسول الله × أن البتلء صفة لزمة للمؤمن‪ ،‬حيث‬
‫قال‪» :‬مثل المؤمن كمثل الزرع ل تزال الريح تميله‪ ،‬ول يزال‬
‫المؤمن يصيبه البلء‪ ،‬ومثل المنافق كمثل شجرة الرز ل تهتز حتى‬
‫تستحصد«)‪.(4‬‬
‫وفي ظلل الية الكريمة السابقة يقول سيد قطب ‪ -‬رحمه‬
‫الله ‪» :-‬إن اليمان ليس كلمة تقال‪ ،‬إنما هو حقيقة ذات تكاليف‪،‬‬
‫وأمانة ذات أعباء‪ ,‬وجهاد يحتاج إلى صبر‪ ،‬وجهد يحتاج إلى احتمال‪،‬‬
‫فل يكفي أن يقول الناس‪ :‬آمنا‪ ،‬وهم ل يتركون لهذه الدعوى حتى‬
‫يتعرضوا للفتنة‪ ،‬فيثبتوا‪ ،‬ويخرجوا من الفتنة صافية عناصرهم‪،‬‬
‫خالصة قلوبهم‪ ،‬كما تفتن النار الذهب‪ ،‬لتفصل بينه وبين العناصر‬
‫الرخيصة العالقة به‪ ،‬حتى يصبح خالصا ثمينا رفيعا‪ ،‬وهذا هو أصل‬
‫كلمة »الفتنة« اللغوي‪ ،‬وله دللته وظله‪ ،‬وإيحاؤه‪ ،‬وكذلك تصنع‬
‫الفتنة في قلوب المؤمنين«)‪» (5‬حين تصهرهم بنار البتلء فتخرج‬
‫من نفوسهم ما قد يكون فيها من خبث وشهوات وأهواء‪ ،‬حتى‬
‫يكونوا خالصين لله متجردين له‪ ,‬صالحين لحمل المانة التي‬
‫أناطها الله بهم«)‪ (6‬أل وهي أمانة كريمة‪ ،‬وهي أمانة ثقيلة‪ ،‬ومن‬
‫ثم تحتاج إلى طراز خاص‪ ،‬يصبر على البتلء ويعلو فوق المحن)‪.(7‬‬
‫إن سنة البتلء جارية في المم والدول والشعوب‬
‫والمجتمعات‪ ,‬والمة السلمية أمة من المم‪ ،‬فسنة الله تعالى‬
‫فيها جارية ل تتبدل ول تتغير‪ ،‬إن البتلء سنة الله العامة في الحياة‬
‫والحياء‪ ،‬وسنته سبحانه في الرسل والرسالت‪ ،‬ورسول الله ×‬
‫ليس بدعا من الرسل‪ ،‬فكان لبد أن تجري عليه سنة البتلء كما‬
‫جرت على إخوانه المرسلين‪ ،‬ومع ما له × من عظيم القدر‬
‫ومنتهى الشرف‪ ،‬إل أنه قد حظي من البلء بالحمل الثقيل والعناء‬
‫الطويل)‪ ،(8‬وتعرض الصحابة الكرام ‪ -‬رضي الله عنهم ‪ -‬من البلء‬
‫ما تنوء به الرواسي الشامخات‪ .‬لقد أجمع المشركون على‬
‫‪1‬‬

‫)( سنن الترمذي )‪ (4/601‬حديث حسن‬ ‫)( تفسير ابن كثير )‪.(3/405‬‬ ‫‪2‬‬

‫صحيح‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( مسلم شرح النووي )مجلد ‪ (17/151) (6‬كتاب القيامة والجنة والنار‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(2/1090‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( حول التفسير السلمي للتاريخ‪ ،‬ص ‪.182 ،181‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( انظر‪ :‬في ظلل القرآن )‪.(2/1090‬‬ ‫‪7‬‬

‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص)‪.(241 ،240‬‬ ‫‪8‬‬

‫‪371‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫محاربة الدعوة السلمية لنها عرت واقعهم الجاهلي وعابت‬


‫آلهتهم وسفهت أحلمهم؛ آي آراءهم وأفكارهم وتصوراتهم عن‬
‫الحياة والنسان والكون‪ ،‬فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولت‬
‫ليقاف الدعوة‪ ،‬وإسكات صوتها أو تحجيمها وتحديد مجال‬
‫انتشارها‪.‬‬
‫ومن هذه الساليب‪:‬‬
‫‪ -1‬محاولة قريش لبعاد أبي طالب عن مناصرة وحماية رسول‬
‫الله ×‪ ,‬فذهبت وفود قريش إلى أبي طالب للتنبيه والتهديد‬
‫بالمنازلة إن لم يكف ابن أخيه عن هذه الدعوة‪ ,‬ثم أرسلوا وفدا‬
‫للمساومة حيث يطلبون محمدًا × مقابل رجل منهم »عمارة بن‬
‫الوليد« ليقتلوا هذا الذي خالف دينهم وفرق جماعتهم وسفه‬
‫أحلمهم ‪ -‬كما يدعون ‪ -‬فكانت قولة أبي طالب البالغة الدللة‪:‬‬
‫»والله لبئس ما تساومونني‪ ،‬أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم‬
‫ابني فتقتلونه‪ ،‬هذا والله ما ل يكون أبدا«)‪ ,(1‬ومما جعل أبا طالب‬
‫يصر على موقفه صلبة الرسول × ووثوقه بالحق الذي عليه‪،‬‬
‫وعدم التنازل أو المداهنة في الحق الذي قامت عليه السموات‬
‫والرض‪.‬‬
‫‪ -2‬التجاه إلى إيذاء المسلمين؛ فوثبت كل قبيلة على من‬
‫فيهم من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم‪ ،‬ولم يقدموا‬
‫على هذه المحاولة إل حينما أدركوا وقوف أبي طالب ومن معه‬
‫من عشيرته إلى جوار النبي ×‪.‬‬
‫وكان الهدف من هذه المحاولة هو الضغط على رسول الله ×‬
‫كي يتراجع ويكف عما يدعو إليه‪ ,‬ولكن المحاولة فشلت حينما‬
‫أدركوا صلبة المؤمنين‪ ،‬وصلبة الرسول ×‪.‬‬
‫‪ -3‬عرض المغريات والمساومات‪ ،‬لقد تركت قريش المساند‬
‫لرسول الله × »أبا طالب« لن المحاولت فشلت معه‪ ،‬ولن‬
‫عصبته واقفة إلى صفه‪ ،‬ومن ثم لبد من مواجهة صاحب الدعوة‬
‫لصرفه عن دعوته‪ ،‬فعرض عليه المال والشرف والسيادة على‬
‫مكة‪ ,‬وجعله ملكا على قريش‪ ،‬وكان المفاوض للرسول ×‬
‫والعارض عليه تلك العروض هو عتبة بن ربيعة)‪ (2‬في بداية المر‪,‬‬
‫ثم عرضت عليه من قبل مجموعة من أشراف قريش‪ ,‬وبالرغم‬
‫من ذلك الغراء الذي تضعف أمامه القلوب البشرية ومن أراد‬
‫الدنيا وطمع في مغانمها إل أن رسول الله × اتخذ موقفًا حاسمًا‬
‫في وجه الباطل دون مراغمة أو مداهنة‪ ،‬أو الدخول في دهاء‬
‫سياسي أو محاولة وجود رابطة استعطاف أو استلطاف مع زعماء‬

‫)( انظر‪ :‬ابن هشام )‪.(1/267‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬السيرة النبوية لبن كثير )‪.(504 ،1/503‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪372‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫قريش)‪ ،(1‬لن قضية العقيدة تقوم على الوضوح والصراحة والبيان‬


‫دا عن المداهنة والتنازل‪ ،‬ولذلك كان رد رسول الله ×‪» :‬ما بي‬ ‫بعي ً‬
‫ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم‪ ،‬ول الشرف‬
‫فيكم‪ ،‬ول الملك عليكم‪ ،‬ولكن الله بعثني إليكم رسولً‪ ،‬وأنزل علي‬
‫كتابا‪ ,‬وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا‪ ،‬فبلغتكم رسالة ربي‬ ‫ً‬
‫ونصحت لكم‪ ،‬فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم من الدنيا‬
‫ي أصبر لمر الله حتى يحكم الله بيني‬ ‫وإن تردوا عل ّ‬ ‫والخرة‪،‬‬
‫)‪(2‬‬
‫وبينكم« ‪.‬‬
‫بهذا الموقف اليماني الثابت رجع كيدهم في نحورهم‪ ،‬وثبتت‬
‫قضية من أخطر قضايا العقيدة السلمية وهي خلوص العقيدة من‬
‫أي شائبة غريبة عنها سواء في جوهرها أم في الوسيلة الموصلة‬
‫إليها)‪.(3‬‬
‫‪ -4‬مطالب التحدي‪ :‬أخذ عناد المشركين يقوى ولجاجتهم‬
‫تشتد‪ ,‬وقد أرادوا إحراج الرسول × وتحديه بمطالبته بالتيان‬
‫بمعجزات تثبت نبوته‪.‬‬
‫قال عبد الله بن عباس‪ :‬قالت قريش للنبي‪ :‬ادع لنا ربك أن‬
‫يجعل الصفا ذهًبا ونؤمن بك‪ ،‬قال‪» :‬وتفعلون؟« قالوا‪ :‬نعم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫فدعا فأتاه جبريل فقال‪» :‬إن ربك عز وجل يقرأ عليك السلم‬
‫ويقول‪ :‬إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا‪ ،‬فمن كفر بعد ذلك منهم‬
‫عذبته عذابًا ل أعذبه أحدًا من العالمين‪ ،‬وإن شئت فتحت لهم باب‬
‫التوبة والرحمة« قال‪» :‬بل باب التوبة والرحمة« )‪.(4‬‬
‫ل‬‫ع ْ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬
‫ج َ‬ ‫الية‪َ + :‬‬ ‫قال ابن عباس‪» :‬فأنزل الله عز وجل هذه‬
‫د‬ ‫ع‬
‫َ ُ َ‬‫ْ‬
‫ق‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ط‬ ‫س‬
‫َ ْ ِ‬ ‫ب‬‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ل‬ ‫سطْ َ‬
‫ها ك ُ ّ‬ ‫ول َ ت َب ْ ُ‬ ‫ق َ‬
‫ك َ‬ ‫ة إ َِلى ُ‬
‫عن ُ ِ‬ ‫غُلول َ ً‬‫م ْ‬
‫ك َ‬ ‫ي َدَ َ‬
‫سوًرا" ]السراء‪.«[29 :‬‬ ‫ح ُ‬ ‫م ْ‬‫ما ّ‬ ‫مُلو ً‬‫َ‬
‫لقد كان الهدف من تلك المطالب هو شن حرب إعلمية ضد‬
‫الدعوة والداعية وتآمًرا على الحق كي تبتعد القبائل العربية عنه‬
‫×‪ ,‬لنهم يطالبون بأمور يدركون أنها ليست من طبيعة هذه‬
‫الدعوة ولهذا أصروا عليها‪ ،‬بل لقد صرحوا بأن لو تحقق شيء من‬
‫ذلك فلن يؤمنوا أيضا بهذه الدعوة‪ ،‬وهذا كله محاولة منهم لظهار‬
‫عجز الرسول × واتخاذ ذلك ذريعة لمنع الناس عن اتباعه)‪,(5‬‬
‫وسيتضح هذا في المحاولت القادمة‪.‬‬
‫‪ -5‬المساومة لقتسام العبادة والزعامة‪ ،‬وهي محاولة لخماد‬
‫صوت الدعوة بالتفاق معا على حل وسط حتى يضمنوا بقاء‬

‫انظر‪ :‬الوفود في العهد المكي‪ ،‬وأثره العلمي لعلي السطل‪ ،‬ص ‪.37‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬تاريخ صدر السلم‪ ،‬ص ‪.38‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫السيرة النبوية لبن كثير )‪ (1/483‬إسناده جيد‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الوفود في العهد المكي‪ ،‬ص ‪.51 -40‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪373‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫مكانتهم أمام القبائل الخرى‪ ،‬ومنعها أيضا من الدخول في هذا‬


‫الدين الجديد‪ ,‬وهي محاولة ماكرة لن السير في ركاب الباطل‬
‫خطوة واحدة معنى هذا سقوط صاحب الحق في هاوية النحراف‬
‫ونزلت سورة الكافرون »للمفاضلة الحاسمة بين عبادة وعبادة‪،‬‬
‫ومنهج ومنهج‪ ،‬وتصور وتصور‪ ،‬وطريق وطريق‪ ،‬نعم نزلت نفًيا بعد‬
‫دا بعد توكيد‪ ،‬بأنه ل لقاء بين الحق‬
‫ما بعد جزم‪ ،‬وتوكي ً‬
‫نفي‪ ،‬وجز ً‬
‫والباطل‪ ,‬ول اجتماع بين النور والظلم‪ ،‬والمر ل يحتاج إلى‬
‫مداهنة أو مراوغة أو مصالح مشتركة أو مسائل داخلية‪ ...‬إلخ«)‪.(1‬‬
‫‪ -6‬الستعانة باليهود‪ :‬لقد وجدت قريش نفسها عاجزة أمام‬
‫دعوة الحق‪ ,‬وكان المعبر عن هذا العجز النضر بن الحارث الذي‬
‫صرخ قائل‪» :‬يا معشر قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أتيتم‬
‫له بحيلة بعد‪ ..‬فانظروا في شأنكم‪ ،‬فإنه والله لقد نزل بكم أمر‬
‫عظيم«)‪.(2‬‬
‫فقرروا بعد ذلك إرسال النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط‬
‫إلى اليهود لمعرفة حقيقة هذه الدعوة ل لكي يتبعوها ولكن‬
‫لدراكها أن رسول الله × لم يجب على مطالبهم التي طلبوها‪،‬‬
‫ولمعرفتهم بحقد اليهود المنصب على النبياء جميعا وأصحاب‬
‫الحق أينما كانوا ومعرفتهم بأخبار الولين‪ ،‬فقد يمدونهم بأشياء‬
‫تظهر عجز الرسول × فيحققوا بذلك هدفهم الدعائي أمام القبائل‬
‫العربية‪ ,‬ولم يدروا بسلوكهم هذا أنهم نقلوا أخبار الدعوة‬
‫السلمية إلى خارج مكة مهما كان غرضهم وهدفهم‪ ،‬وبالرغم من‬
‫فرحة قريش بالمور التعجيزية التي أتوا بها من عند يهود إل أن‬
‫الله أحبط محاولتهم بالجابة عليها كما جاء في سورة الكهف عن‬
‫أهل الكهف وذي القرنين ثم عن الروح في سورة السراء‪،‬‬
‫فأقيمت الحجة على المل من قريش وزعماء اليهود)‪.(3‬‬
‫‪ -7‬الدعاية العلمية في المواسم ضد النبي × بأنه ساحر‬
‫ليصرفوا الناس عنه‪.‬‬
‫‪ -8‬اليذاء النفسي في شخص رسول الله ×‪ ,‬وقد تمثل هذا‬
‫اليذاء بالعراض والتكذيب واتهامه بالشعر والسحر والكهانة‬
‫والجنون وغمزه بكل عيب والستهزاء به وشتمه وإيذائه بالكلمات‬
‫القبيحة‪ ,‬ورسول الله × صابر محتسب)‪ ،(4‬وكذلك من أنواع اليذاء‬
‫النفسي إيذاء وتعذيب أصحابه وهو ينظر‪ ،‬وحثو التراب على رأسه‬
‫وهو يصلي‪ ،‬ووضع الوساخ والدماء على باب بيته والشوك في‬
‫طريقه)‪.(5‬‬

‫انظر‪ :‬الوفود في العهد المكي‪ ،،‬ص ‪.61 -58‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬تاريخ صدر السلم‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.41‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬الروض النف )‪.(2/33‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(128 ،127 ،103 ،2/48‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪374‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الحصار القتصادي والجتماعي‪ ،‬وقد تمثل هذا في محاربة تجار‬ ‫‪-9‬‬


‫المسلمين كما ذكرنا من تهديد أبي جهل لمن أسلم من التجار‬
‫بالضافة إلى الحصار العام الذي تم في شعب أبي طالب‪ ،‬حيث تم‬
‫حصار بني عبد المطلب وبني هاشم للضغط على أبي طالب وقومه‬
‫للتخلي عن نصرة محمد ‪×,‬وكانت بنود التفاقية »الصحيفة« التي‬
‫كتبها زعماء قريش فيما بينهم على محاصرة بني هاشم وبني عبد‬
‫المطلب مسلمهم وكافرهم على السواء‪:‬‬
‫أ‪ -‬عدم الزواج منهم أو إليهم‪.‬‬
‫)‪(1‬‬
‫ب‪ -‬وأل يبيعوهم شيئًا ول يبتاعوا منهم ‪.‬‬
‫وكانت اتفاقية قاسية عزموا على تنفيذ بنودها‪ ,‬ولذلك اتفقوا‬
‫على تعليقها في جوف الكعبة للزيادة في توثيقها‪ ,‬وإن كانت هذه‬
‫الوثيقة بهذه الكيفية تعطي ظلل عن عجز قريش واختلف كلمتها‬
‫ولهذا خافوا من أنهم إذا ما اتفقوا دون كتابة وتعليق في الكعبة قد‬
‫يحصل نكوص عن ذلك ولهذا فعلوا تلك الصحيفة وتعاقدوا‬
‫عليها)‪.(2‬‬
‫وبالرغم من أن الحصار القتصادي في شعب أبي طالب كان‬
‫يشمل بني هاشم وبني عبد المطلب مسلمهم وكافرهم على‬
‫السواء إل أن هناك نوعا آخر من الحصار القتصادي مارسه كفار‬
‫قريش على بقية المسلمين‪ ,‬فقد كان أبو لهب إذا ما قدمت‬
‫القوافل التجارية إلى مكة يطوف السواق ويقول‪ :‬يا معشر التجار‬
‫غالوا على أصحاب محمد ×‪ ..‬فأنا ضامن أن ل خسارة عليكم‪..‬‬
‫فيزيدون عليهم في السلعة أضعافا حتى يرجع المسلم إلى‬
‫أطفاله وهم يتصايحون من الجوع ليست في يديه شيء‪ ،‬ثم يذهب‬
‫التجار إلى أبي لهب فيعوضهم في تجارتهم)‪ ,(3‬ومع هذا فلم يتراجع‬
‫أحد منهم عن دينه‪ ،‬بل زاده ذلك العذاب صبًرا وتجلدا وعمل في‬
‫سبيل دينه)‪.(4‬‬
‫‪ -1‬اليذاء الجسدي‪:‬‬
‫فقوى البغي والطغيان حينما تجد الثبات والصلبة عند‬
‫المؤمنين قد بلغت مداها وأن اليذاء النفسي والحصار القتصادي‬
‫والجتماعي‪ ،‬والعزل‪ ..‬إلخ ل تجدي أمام صلبة اليمان في نفوس‬
‫الفئة المؤمنة‪ ،‬حينما تصبح تلك الصورة بارزة أمام قوى الطاغوت‬
‫يطيش عقلها وتلجأ إلى البطش الجسدي مهما كلفها ذلك من‬
‫عواقب)‪.(5‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪.(2/101‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬تاريخ صدر السلم‪ ،‬ص ‪.43‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الروض النف )‪.(128 ،2/127‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬تاريخ صدر السلم‪ ،‬ص ‪.44‬‬ ‫‪4‬‬

‫)(‪ (3) ,‬المصدر نفسه ص ‪.44‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪375‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ونلحظ هنا من خلل ما سبق أن البطش قد وجه ضد المؤمنين‬


‫من أصحاب رسول الله ‪×,‬فتعرضوا للتنكيل والتعذيب وتولت كل‬
‫قبيلة شأن المسلمين من أبنائها سواء من الحرار أم من العبيد‪ ،‬أم‬
‫من النساء أم من الرجال‪ ،‬ومنهم من قتل تحت التعذيب كسمية أم‬
‫عمار رضي الله عنهما‪ ،‬ولقد ضرب المسلمون الوائل أروع المثل في‬
‫الصبر وقوة التحمل)‪.(1‬‬
‫وكان × وهو في تلك المحن والشدائد والبلء يربي أصحابه‬
‫على‪:‬‬
‫‪ -‬التأسي بالسابقين من النبياء والمرسلين وأتباعهم في تحمل‬
‫الذى في سبيل الله ويضرب لهم المثلة في ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬التعلق بما أعده الله في الجنة للمؤمنين الصابرين من‬
‫النعيم‪ ،‬وعدم الغترار بما في أيدي الكافرين من زهرة الحياة‬
‫الدنيا‪.‬‬
‫‪ -‬التطلع للمستقبل الذي ينصر الله فيه السلم في هذه الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬ويذل فيه أهل الشرك والعصيان‪.‬‬
‫ومع هذا كله كان × مع هذه الشياء كلها كان يخطط ويستفيد‬
‫من السباب المادية المتعددة‪ ،‬لرفع الذى والظلم عن أتباعه‪،‬‬
‫وكف المشركين عن فتنتهم‪ ،‬وإقامة الدولة التي تجاهد في سبيل‬
‫الدين‪ ،‬وتتيح الفرصة لكل مسلم أن يعبد ربه حيث يشاء‪ ,‬وتزيل‬
‫الحواجز والعقبات والتي تعترض طريق الدعوة إلى الله)‪.(2‬‬
‫لقد فكر النبي × بالخروج بالدعوة من مكة لتحقيق أمور من‬
‫أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬البحث عن موطن يأمن فيه المسلمون على دينهم‪،‬‬
‫ويسلمون من أذى قريش وفتنتها حيث ل تطالهم يدها‪ ،‬ول يمتد‬
‫إليهم بطشها‪.‬‬
‫‪ -2‬البحث عن بيئة تقبل الدعوة‪ ،‬وتستجيب لها‪ ،‬في مقابل‬
‫عنت القرشيين وكنودهم‪ ،‬ومن هذه البيئة تنطلق إلى آفاق‬
‫الرض‪ ،‬تحقيقا لمر الله بالتبليغ للعالمين)‪ (3‬وتم له ذلك × وهاجر‬
‫إلى المدينة ودخل مرحلة التمكين‪.‬‬
‫لقد تعرض أصحاب رسول الله × لشد أنواع التعذيب‪ ,‬فإذا‬
‫كان المشركون الولون يعذبون أولياء الله بالرمضاء والنار ‪ -‬في‬
‫بعض الحيان ‪ -‬فإن تعذيب آلت الكهرباء الطويل أشد‪ ،‬وإذا كان‬
‫الكفار السابقون يصلبون أولياء الله على الجدران والخشاب وفي‬
‫جذوع النخل‪ ,‬فإن أعداء الله يصلبون أولياءه الن على أعمدة‬
‫‪1‬‬
‫)( تاريخـ صدر السلم‪،‬ـ ص ‪.44‬‬

‫)( الغرباء الولون‪ ،‬ص ‪.146‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.168‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪376‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الحديد المتصلة بتيار الكهرباء‪ ،‬وإذا كان أعداء الله كانوا يقلبون‬
‫أولياء الله على حر الرمضاء ظهرا بربط أيديهم ويجرونهم‬
‫بالحبال‪ ،‬فإن أعداء الله الن يسحبون أولياءه باللت السريعة‬
‫كالسيارات في الشوارع ويدخلون الواحد منهم عجلة السيارة بعد‬
‫أن يضموا رأسه مع رجليه ويديرونها باللت وهو مكشوف العورة‪،‬‬
‫ويملون الحواض بالماء الساخن في شدة الحر أيام الصيف‬
‫ويقذفون فيها بالمؤمن مجردا من ثيابه ويبقى فيها الساعات حتى‬
‫ينسلخ جلده‪ ،‬ويملونها في أيام الشتاء والبرد القارس بالماء البارد‬
‫ويلقونه فيها كذلك‪ ,‬ويودعون ولي الله في حجرة ضيقة لنومه‬
‫وطعامه وشرابه وفضلته ويجيعون الكلب المدربة ويضعونها معه‬
‫في حجرته لتنهش جسمه وتكثر من العواء والنباح على رأسه‪,‬‬
‫ويضربونه بالسياط حتى تسيل الدماء وقد تتجاوز دفعة الضرب‬
‫في المرة الواحدة خمسمائة سوط ويتركونه حتى يتورم جسمه‪،‬‬
‫ثم يلهبونه بالسياط في مواضع الضرب السابقة ويسيل قيحه‬
‫وينتن جسمه فل يسمحون لطبيب يداوي جراحه ويأمرونه مع‬
‫زملئه من أمثاله بالجري وهم في تلك الحال لمسافات طويلة‬
‫ومن أظهر التعب ضربوه حتى يغمى عليه أو يموت وهكذا)‪.(1‬‬
‫وهكذا تمر المحن والبتلءات على الفراد والجماعات لتصقل‬
‫العاملين في ساحة العمل السلمي على مستوى الفراد والجماعات‪,‬‬
‫وتمضي هذه السنة في كل الزمنة والمكنة إلى عصرنا الحاضر‪,‬‬
‫ويتعرض الدعاة إلى البلء والمحن ويمضون في طريقهم المرسوم‬
‫باستعلء إيماني عظيم ل يبالون غير نصرة دينهم ورفع كلمة الله في‬
‫الر ض‪ ,‬وينشد شاديهم في داخل السجون ومن وراء القضبان وهو يرى‬
‫أفواج رفاقه تشنق رقابهم كل يوم وينتظر نف س المصير فل يتزعزع‬
‫اليمان‪ ،‬وإنما يزداد صلبة وتشتاق النف س إلى خالقها‪ ,‬ورفقة النبيين‬
‫والصديقين والصالحين والشهداء‪ ،‬ويبين الشادي المؤمن أن الحرية هي‬
‫حرية القلب الذي خلقت عبوديته لخالقه وإن كبله أعداء الله بالقيود‬
‫وأحاطوه بأسوار السجون والمعتقلت فهو يقول‪:‬‬
‫أخي أنت حر بتلك القيود‬ ‫أخي أنت حر وراء السدود‬
‫فماذا يضيرك كيد العبيد‬ ‫إذا كنت بالله مستعصما‬

‫ول يخشى هذا الداعية الرباني على نفسه من الموت والعذاب‬


‫تحت سياط الجلدين إنما الخوف من أن يسأم من الجهاد ويترك‬
‫الكفاح فيطلق في إخوانه صرخته مذكرا لهم بواجب رفع الراية‬
‫ومواساة المجاهدين وضحاياهم فيقول‪:‬‬
‫وألقيت عن كاهليك السلح‬ ‫أخي هل تراك سئمت‬
‫الكفاح‬
‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله‪ ،‬د‪ .‬عبد الله القادري )‪.(2/215‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪377‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ويرفع رايتها من جديد‬ ‫فمن للضحايا يواسي‬


‫الجراح‬
‫ويحث إخوانه بالستمرار في طريق الدعوة والجهاد والحرص‬
‫على رضا الله‪:‬‬
‫طريقك قد خضبته الدماء‬ ‫أخي فامض ل تلتفت‬
‫)‪(1‬‬
‫للوراء‬
‫ول تتطلع لغير السماء‬ ‫ول تلتفت ههنا أو هناك‬

‫إن طور البلء لبد منه قبل التمكين‪ ,‬وتخرج الدعوة والدعاة‬
‫بعد هذا الطور أصلب عودا وأقوى مما كانت عليه لتنطلق لتحطيم‬
‫عروش الطغاة وتبدد الظلم لتبني حياة إسلمية صحيحة راشدة‪.‬‬
‫***‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله )‪ (2/223‬وهذا الشادي هو سيد قطب رحمه الله‬ ‫‪1‬‬

‫تعالى‪.‬‬

‫‪378‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المبحث الثالث‬
‫مرحـــــــلة المغالبــــــة‬
‫إن من أهم المراحل في العمل السلمي هي هذه المرحلة‪،‬‬
‫حيث هي مرحلة التركيز والتخصص‪ ،‬لسد ثغرات العمل السلمي‬
‫كله‪ ،‬من حيث الكم ومن حيث النوع ومن حيث الستجابة لكل‬
‫متطلبات الدعوة وأعبائها في كل مراحلها‪ ،‬كما أن هذه المرحلة‬
‫يعقبها التمكين لدين الله بإذنه سبحانه وتعالى‪ ،‬إن أجمع تعريف‬
‫لهذه المرحلة‪ :‬أنها مرحلة المؤمنين‪ ،‬الذين صدقوا ما عاهدوا الله‬
‫عليه‪ ،‬وأعدوا للعمل السلمي ما يحتاج إليه من حكمة وقوة‪ ،‬إنها‬
‫مرحلة المجاهدين في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العلياء)‪.(1‬‬
‫إن أفراد هذه المرحلة اكتسبوا من المعارف والخبرات‬
‫والتجارب والعلوم النافعة حتى وصلوا إلى النضج السليم‪ ،‬ولشك‬
‫أن لكل مرحلة من مراحل الدعوة السلمية أولويات تقدم على‬
‫غيرها‪ ،‬ومن أهم هذه الولويات أن يكون على رأس هذه المرحلة‬
‫فقهاء وعلماء قد بلغوا درجة النظر في الدين وفي معرفة كيف‬
‫تسعى لتحكيم شرع الله‪ ،‬إن العلماء هم‪ :‬هداة الناس الذين ل‬
‫يخلو زمان منهم حتى يأتي أمر الله‪ ,‬فهم رأس الطائفة المنصورة‬
‫إلى قيام الساعة‪ ,‬يقول الرسول ×‪» :‬ل تزال طائفة من أمتي‬
‫قائمة بأمر الله ل يضرهم من خذلهم‪ ،‬أو خالفهم حتى يأتي أمر‬
‫الله وهم ظاهرون على الناس«)‪.(2‬‬
‫ومن الولويات في هذه المرحلة‪:‬‬
‫الهتمام بالفراد المتخصصين القادرين على سد ثغرات العمل‬
‫السلمي في كل مجالته‪ ،‬بمعنى أن يختار من أفراد هذه المرحلة‬
‫مجموعات تتخصص في دراسة المجالت التي لبد منها في تكوين‬
‫الدول ليصبحوا علماء متخصصين في كل مجالت الحياة النسانية‪,‬‬
‫وتصبغ روح الشريعة عليها كلها‪ ،‬وعلى سبيل المثال في مجال علم‬
‫الجتماع‪ ،‬وفي مجال علم السياسة‪ ،‬وفي مجال القتصاد‪ ،‬وفي مجال‬
‫التربية‪ ،‬وفي مجال العلم‪ ،‬وفي مجال علوم الزراعة والمياه‪ ،‬وفي‬
‫مجال علوم طبقات الرض والتعدين‪ ،‬وفي مجال علوم الفضاء‪ ،‬وفي‬
‫مجال علوم الصناعة والتقنية‪ ،‬وفي كل مجال يحتاج إليه‪ ،‬وفي مجال‬
‫فقه الدعوة والحركة والتنظيم‪ ،‬وفي مجال فن القيادة والتخطيط‪،‬‬
‫وفي مجال ظروف العالم السلمي واحتياجاته‪ ،‬وفي كل مجال علمي‬
‫أو فني من هذه المجالت‪ ،‬يتفرع إلى عشرات التخصصات الدقيقة‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(1/524‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب العتصام‪ ،‬باب‪ :‬قول النبي ×‪» :‬ل تزال طائفة‪(8/189) «..‬‬ ‫‪2‬‬

‫رقم ‪.7311‬‬

‫‪379‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والكثر دقة)‪.(1‬‬
‫ومن الولويات‪:‬‬
‫تعميق النتماء للدين السلمي وللدعوة إلى الله‪ ,‬ويحرص‬
‫العاملون أن يتمثلوا السلم العملي في سلوكهم وأخلقهم بحيث‬
‫يصبحون أعلما حية للسلم ولدعوته‪ ،‬وكل ذلك طريقه عمق‬
‫النتماء إلى السلم‪ ،‬وعمق العتزاز به‪ ،‬ويحرص الخ العامل أن‬
‫يكون واسع الفق‪ ،‬عميق الفهم‪ ،‬متين الخلق قوي الجسم‪،‬‬
‫مستوعبا لقضايا العالم السلمي المعاصر‪ ،‬قادرا على تحليل هذه‬ ‫ً‬
‫القضايا‪ ،‬ومتصورا حل أو حلول لها في موضوعية وواقعية وتجريد‬
‫للحق‪ .‬إن أفراد هذه المرحلة حري بهم أن يكونوا متجذرين في‬
‫انتمائهم للسلم‪ ،‬ولدعوته ويعمقوا ولءهم لمنهج الرحمن ونظام‬
‫الدين وشريعة السلم‪ ,‬ويكونوا هم جنود هذه المرحلة من العمل‬
‫والتنفيذ والممارسة والتطبيق لكل ما تعلموه في المراحل‬
‫السابقة‪ ,‬مستمرين في أعمالهم‪ ،‬دون ملل أو تراخ‪ ،‬وأن يكونوا‬
‫أصحاب عزيمة صادقة‪ ،‬وإصرار في بلوغ الهدف‪ ،‬مع التأني‬
‫والصبر والجادة والحسان مع عدم استعجال النصر من الله‪ ،‬لن‬
‫ذلك أمر متروك لله سبحانه‪ ،‬يجعله على يد من يشاء من عباده‪،‬‬
‫)‪(2‬‬
‫ولكنه يقين سوف يتحقق ما دمنا بالحق عاملين مجاهدين‬
‫إن طبيعة مرحلة المغالبة تختلف عن سواها من المراحل‪،‬‬
‫ومجمل طبيعة هذه المرحلة يكمن في أنها‪ :‬مرحلة الجهاد‬
‫المتواصل‪ ،‬والصبر على البتلء‪ ،‬والصرار على مواصلة السعي‬
‫في الطريق‪ ،‬حتى تتحقق إحدى الحسنيين‪ :‬النصر‪ ،‬والتمكين لدين‬
‫الله في عباد الله‪ ،‬أو الحصول على الشهادة في سبيل الله‪ ،‬كما‬
‫لبد في هذه المرحلة من كمال الطاعة ولبد من اللتزام بتحقيق‬
‫الهداف المرسومة‪ ،‬ويمكننا القول بأن طبيعة هذه المرحلة يكمن‬
‫في كلمة واحدة‪ :‬الجهاد‪ ،‬ونعني به‪ :‬الجهاد بكل أنواعه‪ :‬جهاد‬
‫اللسان‪ ،‬وجهاد العمل في كل مجالته‪ ،‬وجهاد قتال أعداء الله‪،‬‬
‫وجهاد المرابطة في سبيل الله‪ ،‬وجهاد الستعداد لكل معركة في‬
‫سبيل الله‪ ،‬وجهاد لكل عمل يتطلبه السلم‪ ،‬ولبد لكل فرد وصل‬
‫إلى هذه المرحلة أن يكون جهده ووقته وماله في سبيل الله)‪.(3‬‬
‫وفي هذه المرحلة تكون الجماعة السلمية القائمة على أمر‬
‫الدعوة السلمية قد اقتفت سنة النبياء والرسل في دعوة المم‪,‬‬
‫فحرصت على غرس اليمان في النفوس وتوطيد العقيدة في‬
‫القلوب‪ ,‬ففي الحرص على هذا الصل العظيم سعادة للناس في‬
‫الدنيا والخرة‪ ,‬قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬ظل القرآن‬
‫المكي ينزل على رسول الله × ثلثة عشر عاما كاملة يحدثه فيها‬
‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(526 ،1/525‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه )‪.(1/527‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( فقه الدعوة إلى الله )‪.(532 ،1/531‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪380‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫عن قضية واحدة ل تتغير‪ ،‬ولكن طريقة عرضها ل تكاد تتكرر‪ ،‬لقد‬
‫كان يعالج القضية الولى‪ ،‬والقضية الكبرى‪ ،‬والقضية الساسية في‬
‫هذا الدين الجديد‪ ،‬قضية العقيدة‪ ،‬ممثلة في قاعدتها الرئيسية‪:‬‬
‫اللوهية والعبودية وما بينهما من علقة‪ ..‬ولم يتجاوز القرآن‬
‫المكي هذه القضية الساسية إلى شيء يقوم عليها من التعريفات‬
‫المتعلقة بنظام الحياة إل بعد أن علم الله أنها قد استوفت ما‬
‫تستحقه من البيان‪ ,‬وأنها استقرت استقرارًا متينًا ثابتًا في قلوب‬
‫العصبة المختارة من بني النسان التي قدر الله أن يقوم هذا‬
‫الدين عليها‪ ،‬وأن تتولى هي إنشاء النظام الواقعي الذي يتمثل فيه‬
‫هذا الدين«)‪ ،(1‬إن الهتمام بالجانب العقدي والمفهوم اليماني‬
‫وتربية المة عليه ينبغي أن يستمر إلى أن يلقى الله عز وجل‪،‬‬
‫فإنه مهما بلغ النسان من اليمان فإنه ل يستغنى عن التذكير به‬
‫والزدياد منه‪ ،‬ولبد من إعداد القاعدة الصلبة التي تلتحم مع‬
‫الجماهير وتتحرك نحو تطبيق شرع الله‪ ،‬والتمكين لدينه سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬قال سيد قطب رحمه الله وهو يقرر ضرورة إعداد هذه‬
‫القاعدة‪» :‬لقد كان الله سبحانه يعلم أن هذا المنهج‪ «...‬ثم تكلم‬
‫عن سنة البتلء‪ ،‬ثم قال‪» :‬فالتوسع الفقي قبل قيام هذه القاعدة‬
‫خطر ماحق يهدد وجود أية حركة ل تسلك طريق الدعوة الولى‬
‫من هذه الناحية ول تراعي طبيعة المنهج الحركي الرباني النبوي‬
‫الذي سارت عليه الجماعة«)‪.(2‬‬
‫وأجمل ذلك في مكان آخر بقوله‪» :‬لقد قامت كل عقيدة‬
‫بالصفوة المختارة ل بالزبد الذي يذهب جفاء ول بالهشيم الذي‬
‫تذروه الرياح«)‪.(3‬‬
‫لبد من الهتمام بتقوية اليمان وتزكية الخلق الفاضلة وكثرة‬
‫الطاعة لله ولرسوله ×‪ ,‬والبعد عن المعصية‪ ,‬والتوعية الكاملة‬
‫والفقه في الدين‪ ,‬ومعرفة مشكلت العصر وحلها‪ ،‬والتدريب‬
‫العملي على البذل والنفاق‪ ,‬وإيثار الدعوة السلمية بالنفس‬
‫والنفيس‪ ,‬والخلص الكامل‪ ،‬والتجرد لله وحده‪ ،‬وهذا العداد مع‬
‫صعوبته وطول مدته التي تحتاج إلى صبر وجلد خير من العجلة‬
‫في جمع جماهير ذوي عواطف تبهج النفس وتنعشها‪ ،‬عواطف‬
‫يظهر أصحابها الطاعة والحب والتفاني في سبيل العقيدة في‬
‫وقت الرخاء‪ ،‬أما وقت الشدة فإنها كالزبد الذي يذهب جفاء‬
‫والهشيم الذي تذروه الرياح)‪.(4‬‬
‫إن بناء القاعدة الصلبة على أسس من منهج أهل السنة‬

‫معالم في الطريق‪ ،‬ص)‪.(21 ،20‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫في ظلل القرآن )‪.(1/1577‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫في ظلل القرآن )‪.(1/1618‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(1/1618‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪381‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والجماعة يدخل ضمن الطائفة المنصورة التي تتحرك بهذا الدين‬


‫على جميع الثغرات‪.‬‬
‫ومن صفات الطائفة المنصورة من خلل الحاديث الصحيحة يتضح‬
‫التي‪:‬‬
‫أ‪ -‬أنها على الحق‪:‬‬
‫فهي طائفة من هذه المة تشربت المنهج الرباني الذي هو‬
‫)الحق( وما عداه الباطل‪ ،‬واستقرت على اللتزام به استقرار‬
‫المتمكن الذي ل يتزحزح‪ ,‬وهي طائفة متخصصة بـ )خصائص‬
‫الفرقة الناجية( أهل السنة والجماعة والتي تحرص أن تكون على‬
‫ما كان عليه رسول الله × وأصحابه‪ ،‬فهي متحققة من العلم‬
‫الصحيح المبني على الدليل الشرعي‪ ،‬ومن عمل القلب وعمل‬
‫الجوارح المواطئ لهذا العلم‪.‬‬
‫وقد تعددت عبارات الحاديث‪ ،‬وتنوعت في بيان أن هذه‬
‫الطائفة تحمل الحق الذي جاء به محمد × وتلتزم به من غير‬
‫تحريف ول تبديل‪ ،‬فجاء الحديث بأنهم )على الحق(‪.‬‬
‫وأنهم »على أمر الله« وأنهم »على هذا المر« وأنهم »على‬
‫الدين«‪.‬‬
‫وهذه اللفاظ تجتمع في الدللة على استقامتهم على الدين‬
‫الصحيح الذي بعث به محمد ×‪ ,‬وقد عبر × عن تمسك الطائفة‬
‫المنصورة بالحق‪ ،‬والدين‪ ،‬والمر بلفظ‪» :‬على« الدال على‬
‫التمكن والستقرار)‪.(1‬‬
‫وللطائفة المنصورة من ملزمة الحق واتباعه ما ليس لسائر‬
‫المسلمين‪ ،‬وهي إنما استحقت الذكر والنصر‪ ،‬لتمسكها بالحق‬
‫الكامل حين أعرض عنه الكثرون‪ ،‬ومن الجوانب البارزة في الحق‬
‫الذي استمسكت به حتى صارت طائفة منصورة ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬الستقامة في العتقاد وملزمة ما كان عليه النبي ×‬
‫وأصحابه ومجانبة البدع وأهلها‪ ،‬فهم أصحاب السنة الذين ليس‬
‫لهم اسم يعرفون به وينتمون إليه إل السنة‪ ،‬ل جهمية ول معتزلة‪،‬‬
‫ول غير ذلك من السماء الدالة على البدع والهواء«)‪.(2‬‬
‫‪ -2‬الستقامة في الهدى والسلوك الظاهر على المنهج النبوي‬
‫الموروث عن الصحابة رضي الله عنهم والسلمة من أسباب‬
‫الفسق والريبة والشهوة المحرمة‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬سلمان العودة‪ ،‬ص ‪.166‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬العتصام للشاطبي )‪ ،(1/58‬والنتقاء في فضائل الئمة الثلثة الفقهاء‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫لبن عبد البر‪ ،‬ص ‪.35‬‬

‫‪382‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪ -3‬الستقامة على الجهاد بالنفس والمال‪ ،‬والمر بالمعروف‪،‬‬


‫والنهي عن المنكر‪ ،‬وإقامة الحجة على العاملين‪.‬‬
‫‪ -4‬الستقامة في الحرص على توفير أسباب النصر المادية‬
‫والمعنوية‪ ،‬واستجماع المقومات التي يستنزل المؤمنون بها نصر‬
‫الله‪ ,‬ولشك أنهم إنما ينتصرون لملزمتهم للجادة المستقيمة من‬
‫جهة‪ ،‬ولبذلهم الجهد الواجب في تحصيل أسباب النصر من جهة‬
‫ثانية‪.‬‬
‫وبذل الجهد في تحصيل تلك السباب هو ‪-‬في الحقيقة ‪ -‬جزء‬
‫من الستقامة على الشريعة‪ ,‬إذ الشريعة تأمر بفعل السباب‬
‫واتخاذ الوسائل المؤدية إلى النتائج‪ ،‬بإذن الله‪ ,‬فليس صحيحًا أن‬
‫يقعد المسلم عن استخدام الوسائل المادية الممكنة‪ ،‬من الصناعة‬
‫والسلح والتخطيط‪ ،‬والدارة وغيرها‪ ،‬متوهما أن النصر يجيء‬
‫بدونها لن تحقيق ذلك هو من مقتضيات الستقامة على أمر الله‪.‬‬
‫ب‪ -‬أنها قائمة بأمر الله‪:‬‬
‫وهذه الخصيصة بارزة جدا في الوصف النبوي لهذه الطائفة‪،‬‬
‫فهم‪) :‬أمة قائمة بأمر الله( واسمهم‪» :‬الطائفة المنصورة« في‬
‫عدد من الحاديث وقيامهم بأمر الله يعني‪:‬‬
‫‪ -1‬أنهم تميزوا عن سائر الناس بحمل راية الدعوة إلى الله‪،‬‬
‫وإلى دينه‪ ،‬وشرعه وسنة نبيه ×‪ ,‬والقيام على نشر السنة بين‬
‫الناس بكل وسيلة ممكنة مشروعة‪ ،‬ودفع الشبهات عنها‪ ،‬وحمل‬
‫الناس عليه ‪ -‬مهما أمكن ذلك ‪ -‬والرد على مخالفيها من الكفرة‬
‫والمرتدين والمارقين والمنافقين والجاهلين‪.‬‬
‫‪ -2‬أنهم قائمون بمهمة المر بالمعروف‪ ,‬والنهي عن المنكر‬
‫باليد‪ ,‬واللسان‪ ،‬والقلب‪ ،‬معارضون لكل انحراف يقع بين‬
‫المسلمين‪ ،‬أيا كان نوعه‪ :‬سياسيًا‪ ,‬أو اجتماعيًا‪ ،‬أو اقتصاديًا‪ ،‬أو‬
‫عمليا‪ ،‬أو اعتقاديًا‪ ،‬فهم »أولو البقية« الذين ينهون عن الفساد في‬ ‫ً‬
‫ول َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ف‬‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قال‬ ‫الظالمون‪,‬‬ ‫يهلك‬ ‫حتى‬ ‫الناجون‬ ‫وهم‬ ‫الرض‬
‫ساِد‬
‫ف َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ع ِ‬‫ن َ‬‫و َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ة ي َن ْ َ‬
‫قي ّ ٍ‬‫م ُأوُلو ب َ ِ‬ ‫قب ْل ِك ُ َ ْ‬‫من َ‬ ‫ن ِ‬ ‫قُرو ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م ََ‬‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ع ال ِ‬‫وات ّب َ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫جي َْنا ِ‬
‫ن أن َ‬ ‫م ْ‬ ‫قِليل ً ّ‬
‫م ّ‬ ‫ض إ ِل ّ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫في الْر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ن" ]هود‪.[116 :‬‬ ‫مي‬
‫ُ ْ ِ ِ َ‬ ‫ر‬‫ج‬ ‫م‬ ‫نوا‬ ‫كا‬
‫ِ ِ َ ُ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫فوا‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫ْ ِ‬ ‫ت‬ ‫أ‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫موا‬‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ظ‬
‫جـ‪ -‬أنها تقوم بواجب الجهاد والقتال في سبيل الله‪:‬‬
‫وقد جاءت الحاديث النبوية في وصفهم بأنهم‪:‬‬
‫»يقاتلون على الحق«)‪.(1‬‬

‫)( أبو داود‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب‪ :‬دوام الجهاد )‪ (3/11‬رقم ‪.2484‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪383‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أو »يقاتلون على أمر الله«)‪.(1‬‬


‫وهذا يبين أنها لم تقف عند حد جهاد الكلمة ببيان‪ ،‬والدعوة‬
‫إليه بالحسنى‪ ،‬أو المر بالمعروف والنهي عن المنكر بين‬
‫المسلمين‪ ،‬بل تميزت ‪-‬مع ذلك ‪ -‬بالقيام بواجب الجهاد الشرعي‬
‫في سبيل الله‪ ،‬وقتال أعداء الله من الكفار والمنافقين وغيرهم‪.‬‬
‫وهذا يعني استمرار الجهاد والمواجهة العسكرية مع أعداء الله‬
‫يوم القيامة‪ ،‬لن الطائفة القائمة به باقية إلى يوم القيامة)‪.(2‬‬
‫والمقصود أن الجهاد ل ينقطع انقطاعا دائما مستمرا‪ ،‬بل ل‬
‫يزال في المة طائفة منصورة تجاهد في سبيل الله أعداء الله‪،‬‬
‫ولكن هذا ل يعارض ما ُوجد ويوجد في بعض المكنة وبعض‬
‫الزمنة من ترك الجهاد‪ ،‬مما أخبر به النبي × وحذر منه‪ ,‬فوقع في‬
‫المة كما أخبر‪ ،‬فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال‪ :‬سمعت النبي‬
‫× يقول‪» :‬إذا تبايعتم بالعينة)‪ ,(3‬وأخذتم أذناب البقر‪ ،‬ورضيتم‬
‫بالزرع‪ ،‬وتركتم الجهاد‪ ،‬سلط الله عليكم ذ ُل ّ ل ينزعه حتى ترجعوا‬
‫إلى دينكم«)‪.(4‬‬
‫فقد تترك عامة المة الجهاد في سبيل الله‪ ،‬وتخلد إلى الرض‪،‬‬
‫وتشتغل بالزرع أو غيره من شئون دنياها‪ ،‬وتلهو به عما أخرجت له‬
‫من الجهاد وحرب أعداء الله بالسلح‪ ،‬وعملها على إزالة العوائق‬
‫والعقبات التي تحول دون الجهاد‪ ،‬فإنه إذا وجب عليها القتال‬
‫والحرب لعداء الدين‪ ،‬فقد وجب عليها الستعداد لهذه الحرب‬
‫بكل وسيلة ممكنة‪ ,‬ووجب عليها السعي لزالة الموانع الحائلة‬
‫دون قيامها بالواجب‪ ،‬ما استطاعت إلى ذلك سبيلً‪ ,‬وبجهود هذه‬
‫الطائفة ترجع المة ‪ -‬عامة ‪ -‬إلى الجهاد‪ ،‬وتخوض الغمرات إلى‬
‫أعدائها‪ ،‬حتى ينصرها الله‪ ،‬ويعيد لها عزتها ومجدها وكرامتها‪ ،‬إن‬
‫الجهاد الذي بدأ في عهد الرسول × ل ينتهي حتى آخر الدهر‪،‬‬
‫قبيل قيام الساعة‪ ،‬والطائفة التي أكرمها الله تعالى بحمل الراية‬
‫جيل بعد جيل‪ ،‬ورعيل بعد رعيل‪ ،‬هي الطائفة المنصورة القائمة‬
‫بأمر الله)‪.(5‬‬
‫د‪ -‬أنها المجددة للمة أمر دينها‪:‬‬
‫إن التجديد لهذا الدين هو الخط المقابل للغربة‪ ،‬والمجددون‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب المارة‪ ،‬باب‪ :‬قوله × »ل تزال طائفة‪ (1/1524) «..‬رقم‬ ‫‪1‬‬

‫‪.176‬‬
‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.177‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( العينة‪ :‬هي أن يشتري من رجل سلعة بثمن معلوم مؤجل ثم يبيعها له بأقل‬ ‫‪3‬‬

‫من الثمن‪.‬‬
‫)( أبو داود‪ ،‬كتاب البيوع‪ ،‬باب‪ :‬النهي عن العينة )‪ (3/740‬رقم ‪.3462‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.182 ،181‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪384‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫هم الذين يدافعون غربة الدين‪ ،‬ويدفعونها‪ ،‬ويحيون ما اندرس‬


‫من الشرائع وهي بذلك تعمل على إحياء الدين‪ ،‬وتجديده‪ ،‬ودفع‬
‫الغربة عنه وعن أهله‪ ,‬وتتضاعف مسئولياتها وتعظم كلما ازداد‬
‫الشر والفساد في المة‪ ،‬واستفحل وتضاعف‪ ،‬فـ »التجديد إنما‬
‫يكون بعد الدروس وذاك هو غربة السلم«)‪.(1‬‬
‫وكما وعد رسول الله × بطائفة منصورة ظاهرة قائمة بأمر‬
‫الله إلى قيام الساعة‪ ،‬فقد وعد وعدا خاصا مندرجا في هذا الوعد‬
‫العام‪ ،‬وهو البشارة ببعثة من يجدد لهذه المة أمر دينها‪ ،‬فعن أبي‬
‫هريرة ‪ ‬عن رسول الله × قال‪» :‬إن الله يبعث لهذه المة على‬
‫رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها« )‪.(2‬‬
‫ولفظ )من( في الحديث يطلق على الفرد‪ ،‬وعلى الجماعة‪،‬‬
‫فيحتمل المعنى أن يكون المبعوث فردا‪ ،‬ويحتمل أن يكون جماعة‬
‫أو طائفة‪ ،‬فإن كان المجدد فردا‪ ،‬فلبد أنه من الطائفة المنصورة‪،‬‬
‫وهذا مما ل يحتاج إلى بيان‪ ,‬وإن كانت مهمة التجديد موكولة إلى‬
‫فئة‪ ،‬فهي الطائفة المنصورة ‪ -‬بل ريب ‪ -‬وذلك لن خصائص هذه‬
‫الطائفة هي الخصائص التي يحتاج إليها في تجديد الدين لهذه‬
‫المة‪.‬‬
‫وهذا ‪ -‬أي‪ :‬التجديد ‪ -‬قد يكون بفرد‪ ،‬وقد يكون بطائفة وكونه‬
‫بطائفة أغلب وهو ما رجحه الحافظ ابن حجر)‪ (3‬حيث قال‪» :‬ل‬
‫يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط‪ ،‬بل يكون المر‬
‫فيه ذكر في الطائفة وهو متجه‪ ,‬فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى‬
‫تجديدها ل ينحصر في نوع من أنواع الخير‪ ،‬ول يلزم أن جميع‬
‫خصال الخير كلها في شخص واحد إل أن يدعي ذلك في عمر بن‬
‫عبد العزيز‪ ،‬فإنه كان القائم بالمر على رأس المائة الولى‪،‬‬
‫باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها‪ ،‬ومن ثم أطلق أحمد‬
‫أنهم كانوا يحملون الحديث عليه‪ ،‬وأما من جاء بعده‪ ،‬فالشافعي‬
‫وإن كان متصفا بالصفات الجميلة‪ ،‬إل أنه لم يكن القائم بأمر‬
‫الجهاد والحكم بالعدل‪ ،‬فعلى هذا‪ ،‬كل من كان متصفا بشيء من‬
‫ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم ل«)‪ .(4‬وهناك‬
‫مجموعة من آراء الئمة تلتقي حول هذا الرأي كابن الثير‬
‫الجزري)‪ ،(5‬وابن كثير وغيرهما‪ ،‬ومن البديهي أن المجدد لهذا‬
‫الدين ‪ -‬لو كان فردا ‪ -‬ل يخرج من فراغ‪ ،‬ول يستطيع بمفرده ‪-‬‬
‫بحال من الحوال ‪ -‬أن يجدد الدين ‪ -‬كل الدين‪ -‬للمة ‪ -‬كل المة‪.-‬‬
‫)( الفتاوى لبن تيمية )‪.(18/297‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أبو داود‪ ،‬كتاب الملحم‪ ،‬باب‪ :‬ما يذكر في قرن المائة )‪ (4/280‬رقم ‪291‬‬ ‫‪2‬‬

‫إسناده صحيح‪.‬‬
‫)( هو أ حمد بن علي بن محمد العسقلني أبو الفضل )ت ‪852‬هـ( انظر‪ :‬العلم‬ ‫‪3‬‬

‫)‪.(179 – 1/178‬‬
‫)( فتح الباري‪ ،‬كتاب العتصام‪ ،‬باب‪» :‬ل تزال طائفة‪ (13/12) «...‬رقم ‪.7312‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( هو أبو السعادات مبارك بن محمد بن الثير توفي عام ‪606‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬جامع‬ ‫‪5‬‬

‫الصول‪.‬‬

‫‪385‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن من الواضح أن مثل هذا العمل الجبار التاريخي ل يضطلع‬


‫بمباشرة كل جوانبه فرد واحد‪ ،‬بل يحتاج إلى طائفة تتولى التجديد‬
‫في كل جوانب الحياة النسانية‪ ،‬فيكون منهم شجعان مقاتلون‪،‬‬
‫ومنهم فقهاء ومنهم محدثون‪ ،‬ومنهم زهاد‪ ،‬وآمرون بالمعروف‬
‫وناهون عن المنكر‪ ،‬ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير‪ ،‬ول يلزم أن‬
‫يكونوا مجتمعين بل قد يكونون متفرقين في أقطار الرض)‪.(1‬‬
‫هـ‪ -‬أنها ظاهرة إلى قيام الساعة‪:‬‬
‫وقد وصفت الحاديث النبوية الكريمة هذه الطائفة بكونها‬
‫ظاهرة على الحق إلى يوم القيامة‪ ,‬وكلمة الظهور تشتمل على‬
‫عدة معان فيما يبدو‪:‬‬
‫‪ -1‬بمعنى الوضوح والبيان‪ ،‬وعدم الستتار‪ ،‬فهم معروفون‬
‫بارزون مستعلون‪.‬‬
‫وهذا ‪ -‬في الجملة ‪ -‬وصف صحيح لهذه الطائفة‪ ،‬لن تصديقها‬
‫للدعوة‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والجهاد وإقامة الحجة‪،‬‬
‫يعني أنها ظاهرة‪ ،‬مشهورة‪ ,‬ولها مؤسساتها وأجهزتها ووسائلها‬
‫المعروفة‪ ،‬وقيام هذه الطائفة بواجب البلغ والدعوة‪ ،‬وحرب المنكر‪،‬‬
‫وقتال العداء‪ ،‬يقتضي أن تكون ظاهرة غير مستترة‪ ،‬حريصة على‬
‫التبليغ لصوت الحق لكل مسلم‪ ،‬بل ولكل إنسان وإن كان هذا ل يمنع‬
‫أن يستخفي بعض أفرادها بإسلمهم‪ ,‬أو بدعوتهم لملبسات خاصة‬
‫في مكان معين‪ ،‬وزمان معين‪ ،‬فالعبرة بالطائفة جملة‪ ،‬ل ببعض‬
‫أجزائها‪ ،‬أو بعض أفرادها‪ ،‬والعبرة بالحال العام المستمر الثابت‪ ،‬ل‬
‫بالحال المؤقت الطارئ‪.‬‬
‫‪ -2‬ثباتهم على ما هم عليه من الحق والدين‪ ،‬والستقامة‪،‬‬
‫والقيام بأمر الله‪ ،‬وجهاد أعدائه‪ ،‬بحيث ل يثنيهم عن ذلك شيء‬
‫من العقبات والعوائق والمثبطات‪ ،‬وغلبتهم بالحجة والبيان‬
‫وسيطرة منطقهم على العقول والقلوب‪ ،‬لما يعتمد عليه الحق‬
‫الصريح المقتبس من الكتاب والسنة‪ ،‬وهذا يدعو إلى اتباعهم‬
‫وموافقتهم‪ ،‬فالحق غلب والباطل خلب‪ ،‬وكلما كانت هذه الطائفة‬
‫أوسع علما‪ ،‬وأعظم فهما للوحي‪ ،‬وأكثر إدراكا لثقافة عصرها‪،‬‬
‫وأقدر على التعبير عن منهجها‪ ،‬كانت حجتها أغلب‪ ،‬وطريقتها‬
‫أصوب)‪.(2‬‬
‫‪ -3‬الظهور بمعنى الغلبة‪ ،‬وقد دلت النصوص على هذا المعنى‬
‫أوضح دللة‪ ،‬فقد وصفوا في الحاديث بكونهم ظاهرين‪ ،‬ول شك‬
‫أن الظهور يأتي كثيرا بمعنى الغلبة والتمكن والعلو والظفر‪ ،‬كما‬
‫َ‬
‫ن‬‫وِدي ِ‬
‫دى َ‬ ‫ه ِبال ْ ُ‬
‫ه َ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫س َ‬
‫ل َر ُ‬ ‫ذي أْر َ‬ ‫و ال ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫في قوله تعالى‪ُ +:‬‬
‫ه" ]التوبة‪ .[33 :‬وكما قال تعالى‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن كل ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫دي ِ‬
‫على ال ّ‬ ‫هَرهُ َ‬
‫ق ل ِي ُظ ِ‬
‫ح ّ‬
‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.187‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.192‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪386‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫حوا َ‬ ‫عدوهم َ َ‬ ‫‪َ َ +‬‬


‫ن"‬‫ري َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ظا ِ‬ ‫صب َ ُ‬‫فأ ْ‬ ‫عَلى َ ُ ّ ِ ْ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫فأي ّدَْنا ال ّ ِ‬
‫]الصف‪.[14 :‬‬
‫َ‬
‫ن"‬
‫هو َ‬ ‫ر ُ‬
‫كا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫و ُ‬‫ه َ‬ ‫مُر الل ِ‬ ‫هَر أ ْ‬ ‫وظ َ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫جاءَ ال ْ َ‬ ‫حّتى َ‬ ‫وقوله ‪َ +‬‬
‫]التوبة‪.[48 :‬‬
‫َ‬
‫و‬
‫مأ ْ‬ ‫موك ُ ْ‬ ‫ج ُ‬ ‫م ي َْر ُ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬‫هُروا َ‬ ‫م ِإن ي َظْ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وقوله‪+ :‬إ ِن ّ ُ‬
‫م" ]الكهف‪.[20 :‬‬ ‫ه ْ‬ ‫ّ‬ ‫دوك ُ ْ‬
‫ملت ِ ِ‬ ‫في ِ‬ ‫م ِ‬ ‫عي ُ‬‫يُ ِ‬
‫وقد أكد إرادة هذا المعنى مجيء روايات أخرى تكاد أن تكون‬
‫صريحة في ذلك‪ ،‬كقوله‪» :‬ظاهرين لعدوهم«)‪.(1‬‬
‫وقوله‪» :‬ظاهرين على من ناوأهم«)‪.(2‬‬
‫وقوله‪» :‬لعدوهم قاهرين«)‪.(3‬‬
‫ولشك أن هذا وعد رباني على لسان محمد ×‪ ,‬وليس يشك‬
‫مسلم في ثبوته وتحققه ووقوعه‪ ،‬خاصة وأصل الحديث ثابت متواتر‬
‫كما سبق‪ ،‬وهو يشمل الغلبة والقهر بالحجة‪ ،‬ويشتمل الغلبة المادية‬
‫والنصر في القتال‪ ،‬ويجوز أن تكون معاني الظهور السابقة ‪ -‬كلها ‪-‬‬
‫واردة وصحيحة‪ ,‬فتكون الطائفة المنصورة ظاهرة معلنة غير مستترة‪،‬‬
‫وظاهرة على الدين بالثبات عليه والتمكين منه‪ ،‬وظاهرة على عدوها‬
‫بالحجة والبيان وبالقوة والسنان)‪.(4‬‬
‫و‪ -‬أنها صابرة‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫رَنا ل َ ّ‬ ‫م ِ‬‫ن ب ِأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ة يَ ْ‬ ‫م ً‬ ‫م أئ ِ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫عل َْنا ِ‬‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫قال تعالى‪َ +:‬‬
‫ن"]السجدة‪.[24 :‬‬ ‫قُنو َ‬ ‫كاُنوا ِبآَيات َِنا ُيو ِ‬ ‫و َ‬‫صب َُروا َ‬ ‫َ‬
‫فن ّكَ‬‫خ ّ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ول ي َ ْ‬‫َ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َ‬ ‫عدَ الل ِ‬ ‫و ْ‬ ‫ن َ‬ ‫صب ِْر إ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫قال تعالى‪+ :‬فا ْ‬
‫ن"]الروم‪.[60 :‬‬ ‫قُنو َ‬ ‫ن ل َ ُيو ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫فقد خص الله الطائفة المنصورة من الصبر بخصيصة ليست‬
‫لغيرهم‪ ,‬فهم في هذا الخضم العنيف في الصراع بين الحق والباطل‬
‫يتسلحون بالصبر الجميل ويتحملون الشدائد والمصاعب من أذى‬
‫الكافرين والمنافقين والفاسقين والمخالفين عن سمته وطريقه‬
‫المستقيم‪ ،‬فل تستطيع القوة الظالمة أن تخرجهم عن منهجهم‬
‫وهدفهم الذي يسعون إليه‪ ،‬ولهذا وصف الرسول × هؤلء القوم‬
‫بأنهم‪» :‬ل يضرهم من كذبهم ول من خالفهم«)‪.(5‬‬
‫»ل يضرهم من خذلهم« )‪.(6‬‬
‫)( مسلم‪ ،‬كتاب المارة باب قوله ×‪» :‬ل تزال طائفة‪ (3/1524) «...‬رقم ‪.176‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أبو داود‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب‪ :‬دوام الجهاد‪ ،‬رقم )‪.(3/11) (2484‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الطبراني )الكبير( ترجمة أبي أمامة رقمها ‪.(8/171) 736‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.194 ،193‬‬ ‫‪4‬‬

‫ول َُنا" الية )‪(8/189‬‬ ‫ما َ‬


‫ق ْ‬ ‫)( البخاري‪ ،‬كتاب التوحيد‪ ،‬باب‪ :‬قول الله تعالى‪+ :‬إ ِن ّ َ‬
‫‪5‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب المارة‪ ،‬باب‪ :‬قول النبي ×‪» :‬ل تزال طائفة‪ (3/1523) «..‬رقم‬ ‫‪6‬‬

‫‪.170‬‬

‫‪387‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫»ول يبالون من خالفهم« )‪.(1‬‬


‫وهذه التعبيرات النبوية الكريمة تشير إلى أن هؤلء العاملين‬
‫الذين عرفوا أهدافهم وسلكوا طريقهم‪ ،‬فلم ينظروا إلى خلف‬
‫المخالفين وعوائق المخذلين‪ ،‬ول تكذيب العداء الحاقدين‪ ،‬وكانوا‬
‫يواجهون كل المتاعب بصبر وثبات ويقين)‪.(2‬‬
‫هذه أهم الصفات التي جاءت في الحاديث النبوية لوصف‬
‫الطائفة المنصورة والتي تسعى لتحقيق شرع الله تعالى‪ ,‬فعلى‬
‫الجماعات السلمية أن تعمل على تربية أتباعها على هذه‬
‫الصفات الجميلة والتي هي من أسباب النصر والتمكين الرباني‪.‬‬
‫إن القيادات السلمية التي تنهج منهج أهل السنة والجماعة‬
‫حريصة على صلة بعضها وخصوصا من يصل منهم إلى مرحلة‬
‫المغالبة حيث لبد أنه يحتاج إلى إخوانه حتى يعينوه على تحقيق‬
‫أهدافه‪.‬‬
‫إن تكالب العداء من أمم الكفر على أمتنا مزقها وحطم أخلقها‬
‫وهتك أعراضها‪ ،‬واستولوا على بلد المسلمين ونهبوا ثرواتهم‬
‫وخيراتهم‪ ،‬فهذه المصائب الجسام توجب على أهل السنة‪ ,‬ومن‬
‫اتصف بصفات الطائفة المنصورة أن يتعارفوا على إخوانهم من بلدان‬
‫شتى ويتعاونوا مع بعضهم في طريق العمل والدعوة والجهاد‪ ،‬فلبد‬
‫م ّالدعوة والجهاد من أهل السنة‬ ‫من تعارف وتعاون من يحملون ه‬
‫حتى تتوحد الجهود نحو تحقيق الهداف‪.‬‬
‫ويأتي دور العلماء الربانيين والقادة المخلصين في تنسيق‬
‫الجهود وتحقيق معنى النتساب للطائفة المنصورة المجاهدة‪،‬‬
‫بمعرفة حدود ما أنزل الله على رسوله وتعلم العلم الشرعي‬
‫المبني على الدليل من الكتاب والسنة في مجال العتقاد‬
‫والحكام والسلوك‪ ،‬والستعداد الدائم لتجاوز الخطاء وتصحيحها‪،‬‬
‫والتخلي عن كل ما ينافي حقيقة هذا النتساب الشريف‪ ،‬ومن‬
‫الراء والقوال والخلق وغيرها‪ ،‬وهذا ل يتم إل في جو من الفرح‬
‫والغبطة بالنقد الصحيح‪ ،‬وترك أسلوب التزكية المطلقة للقوال‬
‫والعمال والشخاص والجماعات‪ ،‬والسعي الدائم لتعديل المناهج‬
‫والمسالك على وفق الحق الذي تقتضيه شريعة الله‪ ,‬ويدل عليه‬
‫النص من القرآن والسنة‪ ،‬ووضع المسائل والقضايا في موقعها‬
‫الصحيح الذي تقتضيه الحكمة)‪.(3‬‬
‫وعلى القيادة الصالحة التي تقود العمل السلمي في بلد ما‬
‫ووصلت إلى مرحلة المغالبة أن تحرص على توثيق التعاون مع‬
‫)( رواه سعيد بن منصور‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب‪ :‬من قال‪ :‬الجهاد ماض‪ ،‬رقم ‪2376‬‬ ‫‪1‬‬

‫وله طرق تقويه‪.‬‬


‫)( انظر‪ :‬صفة الغرباء‪ ،‬ص ‪.205‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬من وسائل دفع الفرية للشيخ سلمان العودة‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪388‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫القائمين على أمر الدعوة في بلدهم وغيرها من القطار‬


‫السلمية‪ ,‬ولبد من تنسيق الجهود‪ ،‬بحيث يكمل بعضها بعضا‪ ،‬ول‬
‫تتناقض ول تتعارض‪ ،‬والتعاون واجب شرعي‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬
‫وى" ]المائدة‪.[2 :‬‬
‫ق َ‬ ‫عَلى اْلبّر َ‬
‫والت ّ ْ‬ ‫وُنوا َ‬
‫عا َ‬
‫وت َ َ‬
‫‪َ +‬‬
‫والتعاون ثمرة من ثمار التعارف بين العاملين في الدعوة‬
‫السلمية ممن حرصوا أن يكونوا ضمن كتائب التغيير السلمي‪،‬‬
‫وثمرة من توحيد منهج السير المنضبط بالدليل الشرعي من‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬وبذلك تجتمع القلوب وتزول أسباب الخلف التي‬
‫ينفذ منها الشيطان وجنوده من النس والجن لزرع الفرقة‬
‫والشتات بين المسلمين‪ ,‬ويكلل هذا وهذا بالتآزر والتعاون‬
‫والتناصر‪ ،‬لتجتمع قدرات المسلمين وتتوحد في مواجهة المحن‬
‫والشدائد المتمثلة في التحديات الكبيرة التي يزخر بها العصر‪,‬‬
‫ولتتناوب فئاتها في القيام بفروض الكفاية التي اضطلعت بها‪،‬‬
‫وشرفها الله لتحمل القيام بها من بين المسلمين‪ ،‬فتقوم كل فئة‬
‫بما تعجز عنه الخرى فالتعاون والتناصر يجعل الصف السلمي‬
‫أقوى في إمكاناته وقدراته‪ ،‬وأقدر على الستفادة من الفرص‬
‫المتنوعة التي تختلف بين مكان وآخر‪ ,‬وزمان وآخر‪ ،‬وأكثر دقة في‬
‫توزيع المهمات والواجبات وتوظيف الجهود والقدرات نحو‬
‫الهدف المنشود)‪.(1‬‬
‫فعلى الجماعة السلمية التي تربت على منهج أهل السنة‬
‫وفروعا‪ ،‬عقيدة وأخلقًا‪ ،‬فكرًا وتصورًا‪ ،‬عبادة‬‫ً‬ ‫والجماعة أصولً‬
‫ومعاملة‪ ،‬وحرصت أن تتصف بصفات الطائفة المنصورة‪ ,‬وجهزت‬
‫كوادرها المتنوعة ووصلت إلى مرحلة المغالبة أن تقود هذه‬
‫المرحلة بكل دقة وإحكام‪ ،‬وتخطيط وإتقان مستعينة بالواحد‬
‫الديان‪ ,‬وأن تستوعب الجانب العملي الحركي في السلم وأن‬
‫تقود حركة الجهاد الشاملة وفق أحكام الشريعة‪.‬‬
‫وأن تحسن إنزال أنواع الجهاد في ميادينها لسد الثغرات‬
‫المتنوعة وأن هذه النواع في مجموعها متكاملة‪ ،‬يقود بعضها إلى‬
‫بعض‪ ,‬وكل واحد مشروع لتحقيق الهدف السمى لدعوة السلم‪،‬‬
‫وهو تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى في‪:‬الفراد والجماعات‬
‫والمجتمعات‪ ،‬وفي داخل النفس وخارجها)‪ ،(2‬غي أن كل منها‬
‫يتعامل مع صنف آخر من العداء الذين يصدون عن تحقيق ذلك‬
‫الهدف‪ ،‬فيزيحه من الطريق أو يحد من فاعليته‪ ،‬والكل يلتقي عند‬
‫جعل العبودية خالصة لله تعالى‪ ،‬ورفع كلمة الله سبحانه في‬
‫الرض‪ ،‬وجعلها هي العليا‪ ،‬بأن تكون هي المرجع الوحيد للبشرية‬
‫في جميع نشاطاتها‪ ,‬ومن هنا كان لكل نوع من تلك النواع أهميته‬
‫الخاصة وكانت حاجة المؤمنين إلى ممارسة كل منها حاجة ماسة‪.‬‬
‫)( المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.68‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الجهاد ميادينه وأساليبه‪ ،‬د‪ .‬محمد نعيم ياسين‪ ،‬ص ‪.235‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪389‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والجماعة السلمية الواعية والتي تسعى أن يكون المجتمع‬


‫إسلميا وربانيًا لبد أن تجاهد في الله حق جهاده‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ّ‬
‫ه" ]الحج‪ [78 :‬وحق الجهاد هو‬
‫هاِد ِ‬ ‫ج‬ ‫ق‬
‫ّ ِ َ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫في‬
‫ِ‬ ‫دوا‬‫ُ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫جا‬
‫و َ‬
‫‪َ +‬‬
‫التصدي لكل عدو يقف أمام دعوة الله‪ ،‬وممارسة جميع النواع‬
‫الجهادية بكل حكمة وعقل ورزانة‪ ,‬وتقدير للمصالح والمفاسد‪,‬‬
‫ومعرفة تامة لمقاصد الشريعة والموازنة بين أفضل المصلحتين‬
‫وأقل الضررين بحيث تسد كل الثغور‪ ،‬ويسد المجال أمام كل‬
‫عدو‪ ،‬وهذه صفة من الصفات الربانية اللزم ظهورها في الصف‬
‫المتحرك لتمكين شرع الله والذي يذب ويجاهد من أجل هذا‬
‫الدين‪.‬‬
‫لقد جاءت اليات القرآنية والحاديث النبوية‪ ،‬والرشادات‬
‫الفقهية تبين فضل الجهاد وضرورته وأنواعه‪.‬‬
‫والواقع العملي يدلنا على أن أشكال الجهاد مرتبطة بعضها‬
‫جميعا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ببعض‪ ،‬فجهاد النفس هو في حقيقته‪ ،‬أصل تلك النواع‬
‫وهي متفرعة عنه ومعتمدة عليه‪ ،‬فهو بذرتها‪ ،‬وهو شرطها‪ ،‬وهو‬
‫عدتها‪ ،‬يقول ابن القيم ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬ولما كان جهاد أعداء الله‬
‫في الخارج فرعا عن جهاد العبد نفسه في ذات الله‪ ،‬كما قال‬
‫النبي ×‪» :‬المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله‪ ,‬والمهاجر من‬
‫هجر ما نهى الله عنه« )‪ .(1‬كان جهاد النفس مقدمًا على جهاد‬
‫العدو في الخارج وأصل له‪ ،‬فإنه من لم يجاهد نفسه أول‪ ،‬لتفعل‬
‫ما ُأمرت به‪ ،‬وتترك ما ُنهيت عنه‪ ،‬ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد‬
‫عدوه في الخارج «)‪.(2‬‬
‫‪ -‬وأما جهاد الشيطان فهو ضروري للتمكين من جهاد النفس‪،‬‬
‫وجهاد أعداء الله في الخارج‪ ،‬لن الشيطان عدو يثبط النسان عن‬
‫جهاد نفسه وجهاد الكفار والمنافقين والفاسقين‪ ،‬ولبد للعبد من‬
‫جهاده والتغلب عليه إذا أراد أن يتغلب على شهوات نفسه‪ ،‬وعلى‬
‫كل عدو يصد عن سبيل الله‪ :‬يقول ابن القيم بيانا لهذا المعنى بعد‬
‫أن بين أهمية جهاد النفس وجهاد أعداء الله في خارج النسان‪:‬‬
‫»وبينهما عدو ثالث ل يمكنه جهادهما إل بجهاده‪ ،‬وهو واقف بينهما‬
‫يثبط العبد عن جهادهما‪ ،‬ويخذله ويرجف به‪ ،‬ول يزال يخيل له ما‬
‫في جهادهما من المشاق وترك الحظوظ‪ ،‬وفوت اللذات‬
‫والمشتبهات‪ ,‬ول يمكنه أن يجاهد ذينك العدوين إل بجهاده‪ ،‬فكان‬
‫ن‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫جهاده هو الصل وهو الشيطان‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫وا" ]فاطر‪ [6 :‬والمر باتخاذه عدوا تنبيه‬
‫عد ُ ّ‬ ‫خ ُ‬
‫ذوهُ َ‬ ‫و َ‬
‫فات ّ ِ‬ ‫عدُ ّ‬ ‫ل َك ُ ْ‬
‫م َ‬

‫)( زاد المعاد )‪.(2/38‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب‪ :‬أمور الدين )‪ (1/10‬رقم ‪.10‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪390‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫على استفراغ الوسع في محاربته ومجاهدته‪.(1) «..‬‬


‫وأما جهاد الكفار والمنافقين وأهل المنكر فهو مشتمل على‬
‫جميع أنواع الجهاد‪ ،‬لنه جهاد النفس على التضحية باللذة العاجلة‬
‫في سبيل السعادة البدية‪ ،‬وهو في حقيقته مشتمل على جميع‬
‫أنواع العبادات الباطنة والظاهرة‪ ،‬فهو مشتمل على محبة الله عز‬
‫وجل والخلص له والتوكل عليه‪ ،‬وتسليم النفس والمال له‬
‫سبحانه‪ ,‬والصبر والزهد وغيرها«)‪ ،(2‬وكذلك جهاد الشيطان الذي‬
‫يزين القعود ويمني بالسلمة إل أنه من الجدير بالذكر أن هذا ل‬
‫يعني تساوي الجهاد وأشكاله من حيث الجر والفضل عند الله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫والمعيار في ذلك أشارت إليه اليات والحاديث هو مقادير‬
‫التضحية التي يقدمها المؤمن في سبيل الله تعالى‪ ,‬فمن كان أشد‬
‫تضحية كان أفضل عند الله عز وجل وأثقل في ميزانه سبحانه‬
‫لدللته على قوة اليمان بالله‪ ،‬وشدة الثقة بما عنده‪ .‬ولشك في‬
‫أن التضحية بالنفس هي أعلى أنواع التضحية وأكرمها عند الباري‬
‫تبارك وتعالى‪ ،‬إذ أثمن ما يملك العبد نفسه‪ ،‬وهي أصل كل ثمين‪،‬‬
‫ومرجع كل لذة في هذه الحياة الدنيا‪ ،‬فمن ضحى بها فقد بذل كل‬
‫ما يملك‪ ،‬ولم يستبق لنفسه شيئا‪ ،‬وإنما قدمها في سبيل ربه‪ ،‬فإن‬
‫كانت نيته خالصة لله تعالى‪ ،‬كان أكرم الشهداء عند رب العباد‪،‬‬
‫َ‬
‫ن غي ُْر‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫قا ِ‬ ‫وي ال ْ َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ُولذلك قال تعالى‪+ :‬ل َ ي َ ْ‬
‫م‬ ‫ه ْ‬ ‫وال ِ ِ‬ ‫مَ َ‬ ‫ه ب ِأ ْ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي َ ِ‬ ‫في َ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ه ُ‬ ‫جا ِ‬ ‫م َ‬ ‫وال ْ ُ‬ ‫ر َ‬ ‫ضَر ِ‬ ‫أو َِلي ال ّ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫ف‬‫ُ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫ه‬ ‫جا‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ض‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫م‬‫ه ْ‬ ‫وأ ن ْ ُ‬
‫ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ ِ ْ َْ ِ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫سْ ِ‬ ‫ف ِ‬
‫ع َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ض‬‫ّ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫و‬‫َ‬ ‫نى‬ ‫ُ ْ َ‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫الل‬ ‫د‬
‫ََ َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫و‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ِ ِ َ َ َ َ ً َ‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫ع‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫َ‬
‫ما" ]النساء‪ .[95 :‬وقال‬ ‫ظي ً‬ ‫ع ِ‬ ‫جًرا َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ع ِ‬ ‫قا ِ‬ ‫عَلى ال ْ َ‬ ‫نَ َ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫س َ‬ ‫ْ‬
‫حَرام ِ‬ ‫د ال َ‬ ‫ج ِ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ماَرةَ ال َ‬ ‫ع َ‬ ‫و ِ‬ ‫ج َ‬ ‫حا ّ‬ ‫ة ال َ‬
‫َ‬
‫قاي َ َ‬ ‫م ِ‬
‫ْ‬
‫علت ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫عز وجل‪+ :‬أ َ‬
‫ه لَ‬ ‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ل‬
‫َّ ِ ِ‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫جا‬
‫ِ َ َ‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫خ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫ِ َ َ ْ ِ‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ه‬ ‫بالل‬ ‫ن ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫كَ َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن ‪ ‬ال ِ‬ ‫مي َ‬ ‫م ال َظال ِ ِ‬ ‫و َ‬ ‫دي الق ْ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ه ل يَ ْ‬ ‫َ‬ ‫والل ُ‬ ‫ه َ‬ ‫عن ْدَ الل ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫وو َ‬ ‫ست َ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫م‬ ‫ه ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫في‬ ‫دوا‬ ‫ه‬ ‫جا‬ ‫و‬ ‫روا‬ ‫ج‬ ‫ها‬ ‫و‬ ‫نوا‬
‫ن"‬
‫َ ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫م ال َ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫عن ْد الله ِ و ُِ‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َُ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ُ‬ ‫مَ‬
‫آ َ‬
‫فائ ُِزو َ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ة‬‫ً‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ر‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫م‬ ‫ظ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ِ ْ‬ ‫ه‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫]التوبة‪.[20 ،19 :‬‬
‫ضل رسول الله × الجهاد بالنفس على الحج‪ ،‬وجعله‬ ‫ولذلك ف ّ‬
‫بعد اليمان)‪ ،(3‬ففي الصحيحين عن النبي × أنه سئل‪ :‬أي العمال‬
‫أفضل؟ قال‪» :‬إيمان بالله ورسوله‪ ،‬ثم جهاد في سبيله« قيل‪ :‬ثم‬
‫ماذا؟ قال‪» :‬ثم حج مبرور« )‪.(4‬‬

‫زاد المعاد )‪.(2/38‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬السياسة الشرعية لبن تيمية‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫فتح القدير للشوكاني )‪.(4/277‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫البخاري‪،‬كتاب الحج‪ ،‬باب فضل الحج المبرور )‪ (2/172‬رقم ‪.1519‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪391‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وقد روى المام مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي ‪‬‬


‫أن النبي × قال‪» :‬رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام‬
‫مرابطا مات مجاهدًا‪ ،‬وأجرى عليه رزقه‬ ‫ً‬ ‫شهر وقيامه‪ ،‬ومن مات‬
‫من الجنة وأمن الفتان«)‪ ،(1‬ولذلك أجمع العلماء على أن المقام‬
‫في ثغور المسلمين أفضل من المجاورة في المساجد الثلثة‪ ،‬لن‬
‫الرباط هو في الواقع‪ ،‬نوع من التضحية بالنفس أو الستعداد‬
‫لها)‪.(2‬‬
‫إن مرحلة المغالبة لبد لفرادها أن يكونوا قد استوعبوا مفهوم‬
‫الجهاد بعمومه وأن تكون كافة الكوادر في جميع المجالت‬
‫مستعدة للتحرك نحو تولي أمور الحكم وتحكيم شرع الله تعالى‪،‬‬
‫والتمكين لدينه‪.‬‬
‫إن حركة المسلمين في مرحلة المغالبة تهز عروش الطغاة‪،‬‬
‫وكلما قطعت الدعوة مرحلة من مراحلها ازداد فزع الظلمة‬
‫واقتربت نهاية الحكام الجاهلية‪.‬‬
‫إن سهام الدعاة موجهة إلى أسس تقوم عليها عروش الطغاة‪,‬‬
‫ومن أهم هذه السس التي تسعى الدعوة إلى نزعها‪:‬‬
‫‪ -1‬نزع مقاليد الحكم من أيديهم‪:‬‬
‫حتى تقف رغباتهم وأهواؤهم التي يمضونها بواسطة القوة‬
‫والسلح ويعذبون الناس‪ ،‬بل يقتلونهم من أجل أهوائهم‪ ،‬وكفرهم‬
‫ة‬
‫حَر ُ‬ ‫س َ‬ ‫ي ال ّ‬ ‫َ‬ ‫فأ ُل ْ ِ‬
‫ق‬ ‫كما فعل فرعون مع السحرة‪ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫مل ُ‬ ‫من ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫سى ‪ ‬قال آ َ‬ ‫َ‬ ‫مو َ‬ ‫و ُ‬ ‫ن َ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫ب َ‬ ‫مّنا ب َِر ّ‬ ‫قا َُلوا آ َ‬ ‫دا َ‬ ‫ج‬
‫س ّ‬
‫حَر‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل ًأ َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫َ‬
‫س ْ‬ ‫م ال ّ‬ ‫َ ُُ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ع‬‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ِ ُ ُ‬‫ك‬ ‫ر‬ ‫بي‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ن‬
‫َ‬
‫قطّعن أ َيديك ُ ْم ِوأ َُ‬ ‫ذ‬ ‫آ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫ق‬
‫في‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ب‬
‫َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ص‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫ٍ َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫َ ّ ْ‬‫م‬ ‫كم‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ج‬ ‫ر‬
‫َ ّ ْ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫َ‬
‫قى" ]طه‪.[71 ،70 :‬‬ ‫وأ َب ْ َ‬
‫ّ َ ً َ‬‫با‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ع‬ ‫د‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫أ‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬
‫ّ ْ ِ َ َ ْ ُ ّ ّ َ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ع‬‫ِ‬ ‫ذو‬ ‫ُ‬ ‫ج‬
‫ُ‬
‫فلو لم تكن مقاليد الحكم بيد فرعون ما كان ليقدم على هذا‬
‫الفعل الشنيع‪ ,‬وهكذا كل الفراعنة لول أن القوة بأيديهم ما‬
‫استطاعوا أن يفرضوا باطلهم ويمنعوا الناس‬
‫من الحق‪.‬‬
‫‪ -2‬تحرير الناس من عبودية المناهج الكفرية وعبادة الحكام‪:‬‬
‫الذين يضعون مناهج عقدية وسياسية واجتماعية واقتصادية‬
‫وعسكرية لتحقيق هدف واحد لهم‪ ،‬وهو إخضاع الناس عن طريق‬
‫الترغيب والغراء وعن طريق الترهيب واليذاء‪ ،‬ويستعين الحكام‬
‫في تحقق هذه الهداف الخبيثة بأصحاب النفوس المريضة الذين‬
‫يبجلون الحكام ويسعون لمرضاتهم من أجل مال زائل وجاه خادع‬
‫)( مسلم‪،‬كتاب المارة‪ ،‬باب فضل الرباط )‪ (1/1520‬رقم ‪.1913‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد ميادينه وأساليبه‪ ،‬د‪ .‬محمد ياسين‪ ،‬ص ‪.238‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪392‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وحظوة مذمومة‪ ,‬ويحرص الحكام على هذه الطبقة الذليلة‬


‫فيقدمون لهم ما يريدون من جاه ومال وسلطة قال ابن تيمية ‪-‬‬
‫رحمه الله ‪) :-‬وكذلك طالب الرئاسة والعلو في الرض قلبه رقيق‬
‫لمن يعينه عليها ولو كان في الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم‪ ،‬فهو‬
‫في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الموال والوليات ويعفو‬
‫عنهم ليطيعوه ويعينوه‪ ،‬فهو في الظاهر رئيس مطاع وفي‬
‫الحقيقة عبد مطيع لهم‪ ،‬والتحقيق أن كليهما فيه عبودية للخر‪،‬‬
‫وكلهما تارك لحقيقة عبادة الله وإذا كان تعاونهما على العلو في‬
‫الرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع‬
‫الطريق‪ ,‬فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه‬
‫يستعبده الخر«)‪.(1‬‬
‫‪ -3‬القضاء على القوانين والنظمة التي شرعوها لتخدم‬
‫أهواءهم‪:‬‬
‫والتي جعلوها بكيفية تجد لهم ما يريدون وتحريم ما ل‬
‫يشتهون‪،‬وتمكنهم من العتداء على النفوس والعراض والموال‪.‬‬
‫أمام رغباتهم وأهوائهم أي‬ ‫إن الطغاة ل يطيقون أن يقف‬
‫َ‬
‫وم ِ‬ ‫َ‬
‫ل َيا ق ْ‬ ‫عي ًْبا قا َ‬ ‫َ‬ ‫ش َ‬ ‫م ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫خا ُ‬ ‫نأ َ‬ ‫مدْي َ َ‬ ‫وإ َِلى َ‬ ‫قانون‪ ،‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫مكَيا َ‬
‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫صوا ال ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫تن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ ُ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫ه‬
‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ن‬ ‫كم ّ ْ‬ ‫م‬ ‫ما ل َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل َ‬ ‫عب ُ ُ‬ ‫ا ْ‬
‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ف‬ ‫خا‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ني‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫خ‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫را‬ ‫ني أ َ‬ ‫ْ‬
‫َ َ ْ ٍ‬ ‫َ‬
‫ْ‬
‫ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ ْ ِ ْ ٍْ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وا ِ َ َ ِ‬
‫إ‬ ‫ن‬ ‫زا‬ ‫مي‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ول َ‬‫ط َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫نَ ِبال ِ‬ ‫ميَزا َ‬ ‫وال ِ‬ ‫مكَيال َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وفوا ال ِ‬ ‫ُ‬ ‫مِ أ ْ‬ ‫و‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫يا‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ط‪‬‬ ‫ٍ‬ ‫حي‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ّ‬
‫ن‪‬‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫خسوا الّناس أ َ‬
‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫ض ُ‬ ‫َْ ِ‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ْ‬ ‫ث‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫و‬‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫يا‬ ‫َ‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫تَ‬
‫م‬‫ْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ْ َ َ َ‬‫و‬ ‫ن‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫م‬
‫ّ‬ ‫تم‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫إن‬ ‫ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ر‬ ‫ُْ ٌ‬‫ي‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ت‬ ‫بَ ّ ُ‬‫ي‬ ‫ق‬ ‫ِ‬
‫د‬ ‫ب‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫صل‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ع‬ ‫ش‬ ‫ُ‬ ‫يا‬ ‫لوا‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ظ‬
‫َ َ ْ ُ ُ‬ ‫ّ َْ ُ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪‬‬
‫َ‬ ‫في ٍ‬ ‫ح ِ‬ ‫بِ َ‬
‫م‬‫حِلي ُ‬ ‫ت ال َ‬‫ْ‬ ‫شاءُ إ ِن ّك لن ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ما ن َ َ‬ ‫وال َِنا َ‬ ‫م َ‬ ‫في أ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ع َ‬ ‫ْ‬
‫و أن ن ّف َ‬ ‫ؤَنا أ ْ‬ ‫آَبا ُ‬
‫د" ]هود‪.[87 -84 :‬‬ ‫شي ُ‬ ‫الّر ِ‬
‫‪ -4‬كشف الحقائق للناس وبيان خداعهم للعوام وغشهم بقلب‬
‫الحقائق‪:‬‬
‫وبيان كذبهم في إظهار النصح والخوف على مصالح الناس من‬
‫خطر الدعاة إلى الله في إقامة حكم الله في الرض‪ ,‬كما قال‬
‫سى‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫قت ُ ْ‬ ‫ن ذَُروِني أ َ ْ‬ ‫و ُ‬ ‫ع ْ‬ ‫فْر َ‬ ‫لَ ِ‬ ‫قا َ‬ ‫و َ‬ ‫الله عن فرعون‪َ +َ :‬‬
‫في‬ ‫ر‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ف‬ ‫ه إ ِّني أ َ ُ‬
‫خا‬ ‫ول ْي َدْ ُ‬
‫ُ ِ َ ِ‬ ‫ِ َ ْ ْ‬ ‫ُ َ ّ‬ ‫ع َرب ّ ُ‬ ‫ا َل َ‬
‫د" ]غافر‪ [26 :‬يعني موسى يخشى فرعون أن يضل‬ ‫سا َ‬ ‫ض ا لف َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ر‬
‫ْ ِ‬
‫موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم‪ ،‬وهذا كما يقال في المثل‪:‬‬
‫كرا‪ ،‬يعني واعظا يشفق على الناس من موسى‬ ‫مذ َ ّ‬ ‫صار فرعون)‪ُ (2‬‬
‫عليه السلم ‪.‬‬

‫)( الفتاوى )‪.(189-1‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير ابن كثير )‪.(4/76‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪393‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وقال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪ :-‬ولعله من الطريف أن نقف‬


‫ل‬‫ف َأن ي ُب َدّ َ‬ ‫خا ُ‬ ‫فرعون في قتل موسى‪+ :‬إ ِّني أ َ َ‬
‫د" أليست هي بعينها‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫في ال َ‬ ‫ْ‬ ‫حجةو َ‬
‫أمامك ُم أ َ‬
‫سا َ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ض‬
‫ْ ِ‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ه‬
‫ِ َ‬ ‫ظ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫أن‬ ‫ِدين َ ْ ْ‬
‫كلمة كل طاغية مفسد عن كل داعية مصلح‪ ،‬أليست هي بعينها‬
‫كلمة الباطل الكالح في وجه الحق الجميل‪ ،‬أليست هي بعينها‬
‫كلمة الخداع الخبيث لثارة الخواطر في وجه اليمان الهادي؟ إنه‬
‫منطق واحد يتكرر كلما التقى الحق والباطل واليمان والكفر‬
‫والصلح والطغيان على توالي الزمان واختلف المكان‪ ،‬والقصة‬
‫قديمة مكررة تعرض بين‬
‫الحين والحين)‪.(1‬‬
‫‪ -5‬كشف خطط الطغاة في جعل الناس شيعا وأحزابا‪:‬‬
‫ودعوة الناس للجتماع على كتاب الله وسنة َرسوله ×‪ ،‬قال‬
‫في ا َ‬
‫عا‬
‫شي َ ً‬‫ها ِ‬ ‫هل َ َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ع َ‬ ‫ج َ‬‫و َ‬
‫ض َ‬ ‫لْر ِ‬ ‫َ‬ ‫عل َ ِ‬‫ن َ‬ ‫و َ‬ ‫ع ْ‬ ‫فْر َ‬ ‫ن ِ‬ ‫تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫م‬
‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫سا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫يي‬ ‫ِ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫س‬ ‫َ‬
‫ْ َ ْ‬‫ي‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫أ‬ ‫ح‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ذ‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ّ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫طا‬‫َ‬ ‫ف‬
‫ع ُ‬ ‫ض ِ‬
‫ست َ ْ‬‫يَ ْ‬
‫ن" ]القصص‪.[4 :‬‬ ‫دي‬
‫ِ ِ َ‬ ‫س‬ ‫ف‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫َ ِ َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ه‬
‫إ ِن ّ ُ‬
‫هذه أهم السس التي تقوم عليها عروض الطغاة في الرض‪،‬‬
‫وأي أساس منها فقد كان جديرا بتحطيم تلك العروش ولسيما‬
‫الول منها والثاني)‪.(2‬‬
‫ولذلك يهتم الدعاة إلى الله في كل مراحل دعوتهم بتوجيه‬
‫السهام إلى تلك السس وخصوصا في مرحلة المغالبة حيث تنشط‬
‫كتائب المجاهدين بتوجيه الضربات المسددة إلى تلك السس‬
‫الطاغوتية‪ ,‬وبعد تدميرها يصل الدعاة بإذن الله تعالى بدعوتهم إلى‬
‫مرحلة التمكين‪.‬‬
‫إن هذه المرحلة المهمة من مراحل الدعوة يكون أفراد‬
‫الجماعة السلمية العاملة يسعون بكل إخلص وصدق على تنفيذ‬
‫مخططات دعوتهم وتحقيق أهدافهم‪ ،‬والدعوة في هذا الطور جهاد‬
‫وعمل متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية‪ ،‬وامتحان وابتلء ل‬
‫يصبر عليهما إل الصادقون‪ ،‬ولبد أن نهتم بالفرد اهتمامنا بالجماعة‬
‫ونهتم بالقاعدة اهتمامنا بالقيادة حرصا على بناء الصفوف بناء‬
‫إسلميا صحيحا‪ ،‬إن مراحل الدعوة التي تسبق مرحلة التمكين‬
‫متداخلة فيما بينها فمقدار نضج الجماعة في مرحلة التعريف‬
‫والعداد والمغالبة‪ ،‬تكون المور سائرة في الطريق الصحيح‪،‬‬
‫وبمقدار ما يكون التعريف صحيحا يكون العداد أسهل‪ ،‬وبمقدار ما‬
‫يكون العداد صحيحا تكون مرحلة المغالبة أحكم وأقوى‪ ،‬ومن ثم‬
‫فإن النضج في هذه القضايا بشكل عام هو مظهر النضج العملي‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(5/3078‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله‪ ،‬د‪ .‬عبد الله أحمد القادري )‪.(2/235‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪394‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫والنظري في الجماعة بقدر ما توجد عند الجماعة أجهزة مختصة‬


‫ناضجة في كل قضية من هذه القضايا يكون سيرنا قد أخذ مسراه‬
‫الكامل)‪.(1‬‬
‫وهناك ما يسمى مرحلة المغالبة بمرحلة التنفيذ ول مشاحة‬
‫في الصطلح‪ ,‬ويقول حسن البنا ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في هذه المرحلة‪:‬‬
‫»التنفيذ والدعوة في هذا الطور جهاد ل هوادة معه وعمل‬
‫متواصل في سبيل الوصول إلى الغاية وامتحان وابتلء ل يصبر‬
‫عليهما إل الصادقون‪ ،‬ول يكفل النجاح في هذا الطور إل كمال‬
‫الطاعة«)‪.(2‬‬
‫وقال‪) :‬ثم بعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والنتاج وكثيرا‬
‫ما تسير هذه المراحل الثلث‪ :‬أي التعريف والتكوين والتنفيذ جنبا‬
‫إلى جنب نظرا لوحدة الدعوة وقوة الرتباط بينهما جميعا‪،‬‬
‫فالداعي يدعو‪ ،‬وهو في نفس الوقت يتخير ويربي‪ ,‬وهو في‬
‫الوقت عينه يعمل وينفذ كذلك‪ ،‬ولكن ل شك في أن الغاية الخيرة‬
‫أو النتيجة الكاملة ل تظهر إل بعد عموم الدعاية‪ ،‬وكثرة النصار‬
‫ومتانة التكوين« )‪ ،(3‬ومن كلمه نفهم أن التنفيذ عنده نوعان‪:‬‬
‫تنفيذ يومي‪ ،‬وتنفيذ شامل‪ ،‬وأن التنفيذ اليومي مرتبط بموضوع‬
‫العمل المتواصل المكافئ‪ ,‬وأما التنفيذ الشامل فيرتبط بتحقيق‬
‫الهداف الكبرى)‪.(4‬‬
‫***‬

‫الدعوة إلى السلم‪ ،‬حسن أدهم جرار‪ ،‬ص ‪.121‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫آفاق التعلم‪ ،‬سعيد حوى‪ ،‬ص ‪.76‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ,‬ص ‪.76‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪ ,‬ص ‪.76‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪395‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الرابع‬
‫مرحــــلة التمكــــــــين‬
‫إن مرحلة التمكين هي ذروة العمل السلمي المنظم‪ ،‬وهي‬
‫تمثل الثمرة الناضجة إذا مثلت المراحل التي سبقتها التربة‬
‫الصالحة والبذرة الصالحة‪ ،‬والتعهد والرعاية‪ ،‬وأن الجهد الذي‬
‫أوصل إلى هذه المرحلة كله من توفيق الله‪ ،‬ويستطيع أن يمس‬
‫المؤمن أثر توفيق الله سبحانه وتعالى في الوصول إلى مرحلة‬
‫التمكين لدينه في الرض في دراسته القرآنية المتأنية‪ ،‬أو في‬
‫نظرته التاريخية المستوعبة للتاريخ السلمي المجيد ومرحلة‬
‫التمكين في الدعوة‬
‫إلى الله تعني أن الله تبارك وتعالى يمكن لدينه في الرض‪ ،‬عن‬
‫طريق المؤمنين الذين يعملون الصالحات‪ ،‬وأن هذا التمكين‬
‫يسبقه الستخلف والملك والسلطان‪ ,‬ويعقبه أمن بعد خوف‪ ،‬كما‬
‫أن الوصول إلى التمكين يكون بعد تحقق شروطه من إيمان‬
‫وعمل صالح‪ ،‬وتحقيق العبودية‪ ،‬ومحاربة الشرك‪ ،‬وتقوى الله‪ ،‬كما‬
‫طا منها إقامة الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬وطاعة‬ ‫أن لستمراره شرو ً‬
‫الرسول ×‪ ,‬وهذه الثلثة هي إجمال للسلم كله‪ ,‬فالصلة عماد‬
‫الدين وهي دليل السلم وعلمته‪ ،‬وهي تنهى عن الفحشاء‬
‫والمنكر‪ ،‬والزكاة تراحم وتكافل‪ ،‬ودفع لحاجات المحتاجين الذين‬
‫ء"‬ ‫قَرا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ت ل ِل ْ ُ‬ ‫قا ُ‬ ‫صد َ َ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫حدد الله سبحانه أنواعهم في آية ‪+‬إ ِن ّ َ‬
‫]التوبة‪ [60 :‬كما هي طهارة لقلب المزكي‪ ،‬وطهارة لماله‪ ،‬وطاعة‬
‫الرسول × هي اللتزام بكل ما أمر والنتهاء عن كل ما نهى‪,‬‬
‫ه‬
‫عدَ الل ُ‬ ‫و َ‬ ‫وذلك السلم كله‪ ,‬وما ذكرته يوضحه قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫في‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ف‬‫خل ِ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ت ل َي َ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫مَ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ َ ِ‬
‫ن لهم‬ ‫َ‬ ‫مك ّن َ ّ‬ ‫ولي ُ َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫من َ‬ ‫ّ‬ ‫ض كَ َ‬
‫فه ُم ْ أ َ‬ ‫قب ْل ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ن ِ‬
‫َ‬
‫ذي َ‬ ‫ف ال ِ‬
‫َ‬
‫خل َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ما ا ْ‬
‫ّ‬ ‫الْر ِ‬
‫مًنا‬ ‫َ ْ ِ َ ْ ِ ِ ْ ْ‬ ‫و‬ ‫خ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫هم‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫د‬
‫ُ ْ َ ُ َ ّ ّ ُ‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ضى‬ ‫ْ َ َ‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫م‬
‫ه ُ‬ ‫ِدين َ ُ‬
‫عدَ ذَل ِكَ‬ ‫من كفَر ب َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫و َ‬ ‫شي ًْئا َ‬ ‫ن ِبي َ‬ ‫ركو‬ ‫ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫َ‬
‫دون َِني ل ي ُ ْ‬ ‫ع ُب ُ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ة‬
‫كا َ‬ ‫وآُتوا الّز َ‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫موا‬ ‫قي‬‫ِ‬ ‫قو َن ‪ ‬وأ َ‬ ‫ُ‬ ‫س‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن" ]النور‪.[56 ،55 :‬‬ ‫مو‬
‫ْ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫ح‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫سو‬ ‫ّ ُ‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫عوا‬ ‫َ ِ ُ‬‫طي‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫وستظل الطاعة للرسول × وإقام الصلة وإيتاء الزكاة‪،‬‬
‫ن‬
‫ِ َ‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫‪+‬‬ ‫مصاحبة للتمكين ل تنفك عنه‪ ،‬ول ينفك عنها‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ة‬
‫كا َ‬ ‫وا الّز َ‬ ‫وآت َ ُ‬ ‫صل َةَ َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫قا ُ‬ ‫ض أَ َ‬ ‫في ال َْر‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫مك ّّنا ُ‬ ‫إن ّ‬
‫ر"‬ ‫مو‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫ب‬‫ق‬ ‫عا‬ ‫ه‬ ‫ولل‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫وا‬
‫ِ‬
‫ه‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫رو‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫روا‬ ‫ِ َ‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫م ُ‬ ‫وأ َ‬ ‫َ‬
‫]الحج‪.[41 :‬‬
‫وفي هذه الية النص على المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫وهو من صميم ما أمر الرسول × به)‪.(1‬‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(2/715‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪396‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫إن القرآن الكريم إذا تدبره المؤمنون وتفقهوا فيه رأوا حكما‬
‫وسننا تعين من أخذ بها للوصول إلى غايته النبيلة‪ ،‬ول شك أن‬
‫مرحلة التمكين وإن كانت قمة المراحل إل أنها ليست آخر‬
‫المراحل‪ ,‬فبعدها استمرار التمكين والمحافظة عليه‪ ،‬وإن من وراء‬
‫التمكين أموًرا عظيمة وأهوال ً جسيمة ومسئوليات كبرى أمام‬
‫التحديات الضخمة والعداء المتكالبين‪ .‬ولبد من استمرار الدعاة‬
‫إلى الله بواجبات مراحل التعريف والعداد والمغالبة والتمكين‬
‫إلى قيام الساعة‪ ،‬ويوم يعدل الدعاة عن هذا العمل الموازي‬
‫لمرحلة التمكين‪ ،‬فعندئذ يحدث التراجع والنتكاس وتنشأ الجيال‬
‫الجديدة فل تجد من يعّرفها‪ ،‬ول من يربيها ول من يفقهها ويعلمها‬
‫ويقودها‪.‬‬
‫إن بعض الناس قد يرون هذه المرحلة بعيدة المنال‪.‬‬
‫وإن بعضهم ليراها مستحيلة التحقيق‪.‬‬
‫وإن بعضهم ليراها قريبة جدا‪.‬‬
‫أما الذين يرونها بعيدة المنال‪ ،‬فهم على صواب طالما بقي‬
‫المسلمون غير محققين لشروط التمكين‪ ،‬لن التمكين لدين الله‬
‫في الرض حقيقة قرآنية ثابتة‪ ،‬إذا توافرت‬
‫لها شروطها)‪.(1‬‬
‫إن التمكين لدين الله في الرض مطلب عزيز دعا إليه الدين‪،‬‬
‫وعمل صالح يؤجر عليه فاعله أعظم الثواب‪ ،‬وليس العمل لتمكين‬
‫دين الله في الرض عسيرا‪ ،‬أو فوق مستوى طاقة المسلمين‪ ،‬لن‬
‫الله ل يكلف نفسا إل وسعها‪ ،‬بل ممكن وفي مقدور العاملين من‬
‫أجل السلم ولكونه ممكنا فقد وعد الله تعالى به المؤمنين الذين‬
‫يعملون الصالحات‪.‬‬
‫إن التمكين لدين الله في الرض إرادة إلهية كي يظهر هذا‬
‫الدين الخاتم َعلى الدين كله يوما من اليام‪ ،‬قال الله تعالى‪:‬‬
‫ه‬
‫هَر ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ه ِبال ْ ُ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫و ال ّ ِ‬
‫ق ل ِي ُظ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫وِدي ِ‬ ‫دى َ‬ ‫ه َ‬
‫ْ‬
‫ل َر ُ‬
‫َ‬
‫ذي أْر َ‬
‫ّ‬
‫ه َ‬ ‫‪ُ +‬‬
‫ن" ]الصف‪ ,[9 :‬وقد أمر‬ ‫ركو َ‬ ‫ُ‬ ‫مش ِ‬ ‫ْ‬ ‫رهَ ال ُ‬ ‫َ‬
‫وك ِ‬ ‫ول ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ن كل ِ‬‫ُ‬ ‫دي ِ‬ ‫عَلى ال ّ‬ ‫َ‬
‫الله نبيه × والمؤمنين أن يقيموا هذا الشرع أي يجعلوه قائمًا‪،‬‬
‫كم‬ ‫ع لَ ُ‬ ‫شَر َ‬ ‫دائما مستمرًا محفوظًا مستقرًا‪ ,‬قال الله تعالى‪َ + :‬‬ ‫ً‬
‫ما‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫ح‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫حا‬ ‫نو‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫صى‬ ‫و‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫دي‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ َ‬ ‫ْ َ َ ْ ََ ِ ْ‬ ‫ِ ِ ُ ً َ ِ‬ ‫ّ ِ َ َ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬
‫ول َ‬‫ن َ‬ ‫دي َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫قي ُ‬ ‫نأ ِ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫عي َ‬ ‫و ِ‬ ‫َ‬ ‫سى‬ ‫مو َ‬ ‫و ُ‬ ‫َ‬ ‫م‬‫هي َ‬ ‫ه إ ِب َْرا ِ‬ ‫صي َْنا ب ِ ِ‬ ‫و ّ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ه الل ُ‬ ‫م إ ِل َي ْ ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫عو ُ‬ ‫ما ت َدْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كي َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عَلى ال ْ ُ‬ ‫ه ك َب َُر َ‬ ‫في ِ‬ ‫قوا ِ‬ ‫فّر ُ‬ ‫ت َت َ َ‬
‫من‬ ‫ِ ْ َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫دي‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ي‬
‫َ َ ْ‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫شا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫ه‬
‫ِ‬
‫ِ ْ َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫بي‬ ‫ج ِ‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫يَ ْ‬
‫ب" ]الشورى‪.[13 :‬‬ ‫ي ُِني ُ‬
‫إن التمكين لدين الله هو الهدف الكبر لكل مفردات العمل‬
‫)( المصدر السابق نفسه )‪.(2/716‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪397‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من أجل السلم‪.‬‬


‫الدعوة بكل مراحلها وأهدافها ووسائلها‪.‬‬
‫والحركة‪ ،‬وكل ما يتصل بها من جهود وأعمال‪.‬‬
‫والتنظيم‪ ،‬وما يستهدفه في الدعوة والحركة‪.‬‬
‫والتربة بكل أنواعها وأهدافها ووسائلها‪.‬‬
‫وعلى العاملين لدين الله أن يبينوا لجماهير المة العريضة‬
‫أهمية تحقيق هذا‬
‫الهدف النبيل)‪.(1‬‬
‫إن النبي × سار بخطوات ثابتة نحو تحقيق الهداف‪ ،‬فكانت‬
‫مسيرته تسير جنبا إلى جنب في بناء العقيدة وتطهير النفوس من‬
‫أمراضها‪ ،‬وتربيتها بالخلق الفاضلة مع الهتمام بالجوانب الحركية‪،‬‬
‫والتخطيطية والسياسية والعلمية والجهادية وبناء دولة تحكم‬
‫شرع الله تعالى‪ ،‬وتسعى لتمكين دينه‪ ،‬فمنذ دخوله المدينة شرع‬
‫× لتحقيق الهداف التي هاجر من أجلها‪ ،‬ولذلك رأى من‬
‫الضروري واللزم إنشاء »دولة إسلمية« على قواعد متينة‬
‫وأسس راسخة‪ ,‬فكانت أولى خطواته المباركة بناء المسجد‬
‫الجامع‪ ,‬ثم أصدر الوثيقة للمؤاخاة بين المهاجرين والنصار‬
‫والمعاهدة مع اليهود‪ ،‬ولم يمض الوقت طويل حتى شكل جيشا‬
‫إسلميا مجاهدا لحماية الدولة والسعي على تحقيق أهدافها‪ ،‬لقد‬
‫قدر رسول الله × ظرفه وزمانه ومكانه‪ ,‬واستطاع أن يقود‬
‫أصحابه نحو التمكين معتمدا على الله تعالى وشارعا في الخذ‬
‫بالسباب المنية‪ ،‬والتربوية‪ ،‬والسياسية‪ ،‬والعلمية والقتصادية‪،‬‬
‫والعسكرية‪ ,‬وترك لنا معالم نيرة في مغازيه الميمونة‪ ،‬ودروسا‬
‫عظيمة في كيفية تحقيق النصر على العداء والتمكين لدين الله‬
‫تعالى‪ ،‬فبدأ بالسرايا فحققت أهدافها‪ ،‬ومضى يحاصر قوى البغي‬
‫والكفر والضلل حتى فتحت مكة‪ ,‬ومن ثم وحدت جزيرة العرب‬
‫وأثناء ذلك كان يوجه الضربات المحكمة إلى الوثنية في كل مكان‬
‫وإلى اليهود الذين نقضوا العهود وإلى ملوك الرض بدعوتهم‬
‫للسلم‪ ،‬وتم الفتح الكبر بفتح مكة الذي ترتب عليه نتائج من‬
‫أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬دخول مكة تحت نفوذ المسلمين وزوال دولة الكفر‬
‫وانطلقت كتائب السلم بعد ذلك لتحطيم بعض الجيوش في حنين‬
‫والطائف‪ ،‬ومن ثم إلى العالم أجمع‪.‬‬
‫‪ -2‬تطهير الكعبة من الصنام وإنهاء الوثنية في مكة بعد أن‬
‫دمرت أصنام القلوب وأصلحت العقائد الفاسدة والتصورات‬
‫المنحرفة‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬فقه المسئولية‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم‪ ،‬ص ‪.358‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪398‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪ -3‬استخدم النبي × أسلوب العفو عند المقدرة فأعلن العفو‬


‫العام وأحسن إلى أهل مكة مما كان سببا في دخول كثير من‬
‫زعمائهم السلم وتمكن اليمان من قلوبهم من أمثال عكرمة بن‬
‫أبي جهل‪ ،‬وصفوان بن أمية‪.‬‬
‫‪ -4‬أصبح المسلمون قوة عظمى في جزيرة العرب‪ ،‬وبعد فتح‬
‫مكة‪ ،‬وتحقق أمنية الرسول × بدخول قريش في السلم‪ ،‬برزت‬
‫قوة كبرى في الجزيرة العربية ل يستطيع أي تجمع قبلي الوقوف‬
‫في وجهها وهي مؤهلة لتوحيد العرب تحت راية السلم ثم‬
‫النطلق إلى القطار المجاورة‪ ،‬لزالة حكومات الظلم والطغيان‪،‬‬
‫وتأمين الحرية لخلق الله كي يدخلوا في دين الله‪ ،‬ويعبدوه وحده‬
‫من دون سواه)‪.(1‬‬
‫‪ -5‬تمكين الله للمؤمنين الصادقين بعدما ضحوا بالغالي‬
‫والنفيس وحققوا شروط التمكين وأخذوا بأسبابه‪ ,‬ول ننسى تلك‬
‫الصورة الرائعة وهي وقوف بلل فوق الكعبة مؤذنًا للصلة بعد أن‬
‫عذب في بطحاء مكة وهو يردد‪ :‬أحد أحد في أغلله وحديده‬
‫ويجروه الصبيان‪ ,‬ها هو اليوم قد صعد فوق الكعبة ويرفع صوته‬
‫الجميل بالذان وهو في نشوة اليمان‪ ،‬لقد قام النبي × بتبليغ‬
‫المانة‪ ،‬وأداء الرسالة ولحق بالرفيق العلى فجزاه الله عنا وعن‬
‫السلم خير الجزاء‪ ،‬وجاء الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم‪،‬‬
‫فتسلموا الراية‪ ،‬وساروا والمسلمون معهم على درب نبيهم × ما‬
‫غيروا وما بدلوا‪ ،‬بل ثبتوا على دينهم واندفعوا في مشارق الرض‬
‫ومغاربها يبلغون دعوة الله إلى البشرية‪ ,‬فهدى الله بهم من شاء‬
‫من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد‪ ،‬ومن ضيق الدنيا إلى‬
‫سعتها‪ ،‬ومن ظلم الديان إلى عدل السلم‪.‬‬
‫وكانت فترة الخلفة الراشدة التي ما تجاوزت ثلثين عاما‬
‫قصيرة في عمر الزمن ولكنها في ميزان القيم أقل من عمر‬
‫إمبراطورية ظلت قائمة في الرض عشرة قرون‪ ،‬فقد كانت تلك‬
‫السنوات القصيرة أعلى قمم صعدتها البشرية في تاريخها كله)‪.(2‬‬
‫وكان التمكين في هذه المرحلة في ذروتها التي لم تصل إليها‬
‫المة في أي وقت آخر‪ ،‬كما كان شامل‪ ،‬فكان يشمل تمكين الدين‬
‫والعشائر‪ ،‬وكان يشمل تمكين الدنيا‪ ،‬والسيادة السلمية برا‬
‫وبحرا‪ ،‬وسياسيا‪ ،‬واقتصاديا‪ ،‬وعلميا‪.‬‬
‫كبيرمن الزمان وفتح الله عليها‬
‫ولقد سعدت المة السلمية ردحًا ا ً‬
‫بركات‬
‫السماء والر ض‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬قيادة الرسول السياسية والعسكرية‪ ،‬ص ‪.129‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬حول التفسير السلمي للتاريخ‪ ،‬ص ‪.218‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪399‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وانتهت الخلفة الراشدة بتنازل المام الحسن بن علي عن‬


‫الخلفة لمعاوية بن أبي سفيان ‪-‬رضي الله عن الجميع‪ ،-‬عام‬
‫‪ 41‬هـ‪ ،‬وبدأت في تاريخ المة السلمية مرحلة جديدة‪.‬‬
‫وفي هذه المرحلة لم تستقر حياة المة السلمية في كل‬
‫جوانبها ‪ -‬على الفق العلى الذي كان وقت حياة الرسول ×‬
‫وخلفائه الراشدين‪ -‬ولكنها ظلت مع ذلك عالية بالنسبة لكل ما‬
‫عرفته الرض من نظم وقيم وحضارات)‪» (1‬فليس صحيحا ما‬
‫اندس في أوهام الكثيرين من أن السلم قد انتهى بعد فترة‬
‫الرسول × والخلفاء الراشدين‪ ،‬الصحيح ‪ -‬فقط ‪ -‬أن الفترة‬
‫المثالية قد انتهت وبدأت فترة عادية من تاريخ السلم«)‪.(2‬‬
‫ومع بداية الحكم الموي‪ ،‬بدأت مرحلة الملك العضوض‪ ،‬بنظامه‬
‫الوراثي ومظالمه‪ ،‬وبدأ أول كسر في المبادئ السلمية في سياسة‬
‫الحكم‪ ،‬وسياسة المال‪ ،‬رافق ذلك التخلي التدريجي من مجموع المة‬
‫عن مراقبة أعمال الحكام‪ ،‬وانصرافها التدريجي إلى أمورها‬
‫الخاصة)‪.(3‬‬
‫وعلى الرغم من هذا كله فقد كان حجم النحراف على عهد‬
‫المويين محدودا على أي حال‪ ،‬وإن بدا مجسما غليظا حين يقاس‬
‫بعهد الذروة )العهد النبوي‪ ،‬والخلفة الراشدة( الذي يبدو كل شيء‬
‫صغيرا حين يقاس إليه‪ ،‬فقد كانت المة على عقيدتها الصحيحة‪،‬‬
‫وأخلقها المتينة‪ ،‬فاتسعت الفتوحات السلمية حتى وصل‬
‫المسلمون إلى أبواب القسطنطينية‪ ،‬وامتدت دعوة السلم إلى‬
‫الهند شرقا‪ ،‬وإلى الشمال الفريقي غربا‪ ،‬وقويت دولة السلم‬
‫حتى غدت قوة يرهبها أعداؤها‪ ،‬ويعملون لها ألف حساب)‪.(4‬‬
‫ثم جاء العباسيون‪ ،‬وركبوا الخط الذي بدأه المويون‪ ،‬وزادت‬
‫فجوة النحراف في عهدهم وأضيف إليها انحرافات من نوع جديد‪،‬‬
‫فقد بقي الملك الوراثي العضوض‪ ،‬زادت سوأته حين جعلوه بالدور‪،‬‬
‫ولو جاء الدور على صبي ل يتجاوز الثانية عشرة ‪ -‬مما أثر على قوة‬
‫الدولة السلمية‪ ،‬فضل عما جرى من المؤامرات الرهيبة من أجل‬
‫تولي الملك‪ ،‬ووصل العنف السياسي مداه حتى وصل إلى مذابح‬
‫بشعة ل يتصور حصولها من مسلمين‪ .‬وأما السرف في بيت المال‪،‬‬
‫حرجً أن يعطي الشاعر لقاء أبيات‬ ‫ا‬ ‫فلقد كان الخليفة العباسي ل يجد‬
‫في مدحه مائة ألف من بيت مال المسلمين‪ ،‬هذا غير صور‬
‫النحرافات الخرى التي ليس هذا مجال حصرها‪ ،‬وأما مجموع المة‬
‫فقد صارت ترى هذا العبث ول تحرك ساكنًا)‪.(5‬‬
‫انظر‪ :‬هل نحن مسلمون؟ لمحمد قطب‪ ،‬ص ‪.100‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.101‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬واقعنا المعاصر لمحمد قطب‪ ،‬ص ‪ ،117‬وما بعدها‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.124‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.124‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪400‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫طبيعيًأن تنهار الدولة العباسية من وطأة هذه النحرافات‬ ‫وكان ا‬


‫مجتمعة‪ ،‬وجاء النهيار تحقيقا لسنن الله تعالى في الحياة البشرية‪،‬‬
‫ودخل التتار بغداد عاصمة الخلفة السلمية عام ‪656‬هـ‪ ،‬فذبحوا‬
‫الخليفة المعتصم‪ ،‬وذبحوا المسلمين‪ ،‬وأحرقوا كتب العلم التي كانت‬
‫تعمر بها بغداد‪ ،‬وألقى معظمها في نهر دجلة‪ ،‬وكانت تضم أعظم‬
‫تراث العالم في ماضيه وفي حاضره)‪.(1‬‬
‫وقد أجمع المؤرخون على أن السبب في هذه النكبة هو الغفلة‬
‫والترف‪،‬‬
‫ما‬‫و َ‬‫والستهانة بتعاليم السلم‪ ،‬وصدق الله العظيم إذ يقول‪َ + :‬‬
‫ن َرب ّ َ‬
‫ك‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]هود‪.[117 :‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ك ال ُ‬ ‫هل ِ َ‬
‫حو َ‬
‫صل ِ ُ‬‫م ْ‬‫ها ُ‬ ‫هل َ‬‫وأ ْ‬‫قَرى ب ِظلم ٍ َ‬ ‫ل ِي ُ ْ‬
‫وانهارت كذلك الدولة السلمية في الغرب‪ ،‬حيث استولى‬
‫الصليبيون على الندلس‪ ،‬وطردوا المسلمين منها بوحشية بالغة‪،‬‬
‫وانمحى الوجود السلمي من تلك البقعة من الرض التي كانت‬
‫مركزا للعلم والحضارة ردحا كبيرا من الزمان)‪.(2‬‬
‫وعلى الرغم من انهيار الدولة العباسية‪ ،‬إل أن المة السلمية‬
‫كانت ومازالت بخير كثير على الرغم من كل عناصر الفساد التي‬
‫تسربت خلل الحكم العباسي‪ ،‬ولم يكن انهيار الدولة العباسية هو‬
‫نهاية المة السلمية‪ ,‬فقد برزت إلى الوجود دولة إسلمية جديدة‪،‬‬
‫كنة في الرض زهاء‬ ‫فتية وهي الدولة العثمانية‪ ،‬والتي بقيت مم ّ‬
‫خمسة قرون استطاعت خللها أن تحفظ كيان المسلمين وأن‬
‫تحميهم من غارات الصليبيين المتتالية‪ ،‬بل وتوغلت في أوروبا‬
‫الصليبية‪ ،‬وفتحت للسلم أراضي وقلوبًا‪ ،‬فدخل الناس في‬
‫السلم بعشرات المليين‪ ،‬كما منعوا قيام الدولة اليهودية على‬
‫أرض السلم‪ ،‬وغير ذلك الكثير‪.‬‬
‫ولكن هذا وغيره ل ينفي وجود انحرافات كثيرة‪ ،‬سواء في‬
‫الدولة أو في حياة المة في ظل الدولة‪ ،‬وقد آتت هذه النحرافات‬
‫ثمارها السيئة على مدى اليام)‪.(3‬‬
‫‪-‬‬
‫فكانت هذه أول دولة للخلفة لم تستعرب‪.‬‬
‫‪ -‬وكان الوالي في آخر عهد الدولة العثمانية على أي قطر‬
‫يتولى لفترة محدودة ثم يعزل‪ ,‬فكان يجعل من فترة وليته فرصة‬
‫لجمع ثروة من المال تكفيه مدى الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬وأصاب الدولة العثمانية في آخر أيامها الجمود والتخلف في‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(7/183‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.138‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.138‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪401‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أرجائها‪.‬‬
‫‪-‬وتسلل العداء إلى كيان الدولة وشرعوا في نخرها‪ ،‬ودخلت‬
‫اليدي الجنبية وكانت بدايتها المشئومة في عهد السلطان سليم‪،‬‬
‫والذي اشتهر باسم سليمان القانوني)‪.(1‬‬
‫وأما المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬فقد كانت المة قد تخلت‬
‫عنه بالنسبة لحكامها منذ زمن بعيد‪ ،‬ولم يكن من المتوقع أن تعود إليه‬
‫في الجو العسكري الذي قامت فيه الدولة العثمانية‪.‬‬
‫‪ -‬وانشغل المسلمون عن دينهم الصحيح ببدع‪ ،‬وخرافات‪،‬‬
‫ص‪ ،‬وران عليهم جو التواكل والقعود عن الخذ بالسباب‪.‬‬ ‫ومعا ٍ‬
‫ولكن على الرغم من ذلك لم يكن السلم ذاته في نفوسهم‬
‫موضع نقاش ل بوصفه عقيدة‪ ،‬ول بوصفه منهجا للحكم‪ ،‬بل ظل‬
‫حيا محفوظا من التحريف والتبديل‪ ،‬وظلت مشاعل الصلح‬
‫متسلسلة بعضها من بعض ل تطفئها العواصف)‪.(2‬‬
‫ودخل العالم مرحلة جديدة من تاريخه مع بداية القرن السابع‬
‫عشر الميلدي حيث شن الغرب النصراني حروبه على أنحاء المة‬
‫السلمية‪ ،‬وقد سماها بعض الباحثين‪» :‬الحملت الصليبية‬
‫الخيرة«)‪.(3‬‬
‫وفي هذه المرة كان الموقف قد تغير كثيرا عن ذي قبل‪ ،‬فقد‬
‫انحرف المسلمون انحرافا شديدا عن حقيقة السلم‪ ،‬سواء في‬
‫التصور أو السلوك‪ ،‬وفسدت المفاهيم لدى المة السلمية‪.‬‬
‫‪ -‬ففسد مفهوم العقيدة‪ ،‬وانحصر في مجرد النطق بالشهادتين‬
‫دون النظر إلى العمل وتبع ذلك‪ :‬التواكل المقيت‪ ،‬والسلبية‪،‬‬
‫والوهن‪ ،‬والعجز‪.‬‬
‫وفسد مفهوم العبادة الشامل‪ ،‬فانحصر في شعائر التعبد‬
‫المحدودة‪.‬‬
‫وفسد كذلك مفهوم العمل الصالح فانحصر في مجرد الركعات‬
‫والتسبيحات والوراد‪.‬‬
‫‪ -‬وتخلف المسلمون كثيرا في مجالت الحياة‪ ،‬بعد أن عجزوا عن‬
‫الخذ بأسباب التقدم‪.‬‬
‫‪ -‬كما تقطعت أواصر الخاء بين المة السلمية‪ ،‬فضعفت قوتهم‪،‬‬
‫وذهبت هيبتهم)‪.(4‬‬
‫وقد ظلت هذه العوامل الرهيبة‪ ،‬وغيرها تساور العالم السلمي‪،‬‬
‫تولي الحكم من سنة ‪1520‬م إلى ‪1566‬م‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.152‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.152‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪402‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وتهدده‪ ,‬وتتسلل إلى قواعده في إصرار‪ ،‬ووراءها جميع قوى العالم‬


‫الجاهلي‪ ،‬ولكنها لم تبلغ أن تحطمه من أساسه‪ ،‬ولكنها مع تطاول‬
‫الزمان‪ ،‬ومع التجمع والترصد واستمرار ذلك ظلت تنقص منه شيئا‬
‫تهديدا‬
‫ً‬ ‫فشيئا‪ ،‬وتنحرف به عن أصوله رويدا حتى أثخنته فعل‪ ,‬وهددته‬
‫خطيرًا)‪.(1‬‬
‫لقد تجمعت انحرافات القرون الطويلة‪ ،‬وتفاعلت بعضها مع بعض‪،‬‬
‫فأدت في النهاية إلى زوال التمكين عن المة السلمية‪ ،‬وانهيارها من‬
‫الذروة السامقة إلى الهوة السحيقة)‪.(2‬‬
‫وحين جاءت الحروب الصليبية الخيرة‪ ,‬والمسلمون على هذا‬
‫الوضع كان الحتمال الكبر أن ينهاروا‪ ،‬ويسلموا أنفسهم للضياع‪،‬‬
‫وسقط العالم السلمي فريسة للحتلل الجنبي‪ ،‬وتقطعت‬
‫أوصاله بين براثن المغيرين‪.‬‬
‫ول يعني هذا ‪ -‬بطبيعة الحال ‪ -‬أن المة قد خربت‪ ،‬ول أن‬
‫الساحة قد خلت من المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ولكننا‬
‫حين نطلق ما نطلق من تعميمات نقصد بذلك الصورة الغالبة‪،‬‬
‫والصورة الغالبة هي التي تقرر الموقف العملي في الحقيقة‪،‬‬
‫وليست القلة المتميزة مهما يكن لها من تميز‪ ،‬إل أن يكون في‬
‫أيديها مقاليد المور)‪.(3‬‬
‫ويحفظ التاريخ السلمي كثيرا من أدوار البطولة في جهاد‬
‫المحتلين‪ ،‬لكنها كانت بطولت المنهزم‪ ،‬يضرب آخر ضرباته قبل‬
‫الستسلم‪ ,‬فقد كانت العقيدة قد توارت خلف الركام‪ ،‬فكان حقا‬
‫على الناس أن ينتهوا إلى الهزيمة والستسلم)‪.(4‬‬
‫نعم حدث هذا وكان لبد أن يحدث‪ ،‬لن المسلمين فقدوا‬
‫أسباب التمكين في الرض‪ ،‬فعصفت بهم الرياح الهوجاء‪ ،‬وأزالتهم‬
‫ما‬ ‫و َ‬‫لتلقي بهم في حضيض التخلف والتبعية ‪َ +‬‬ ‫من مكان الريادة‪،‬‬
‫ْ‬ ‫كاُنوا أ َ‬
‫ن" ]العراف‪ [160 :‬لقد‬ ‫مو َ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ظ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬
‫َ ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫كن‬‫ول َ ِ‬
‫موَنا َ‬ ‫ظَل َ ُ‬
‫مرت المة السلمية بثلث فترات نوعية‪:‬‬
‫‪ -1‬فترة التطبيق الفائق للسلم‪ ،‬وما صاحبها من تمكين فائق‪.‬‬
‫‪ -2‬فترة التطبيق العادي للسلم‪ ،‬وما صاحبها من التمكين‬
‫العادي‪.‬‬
‫‪ -3‬فترة النحسار وتزايد البعد عن حقيقة السلم‪ ،‬وما صاحبها‬

‫انظر‪ :‬هذا الدين لسيد قطب‪ ،‬ص ‪.39‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.163 ،162‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.163‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬واقعنا المعاصر‪ ،‬ص ‪.10‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪403‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من زوال التمكين وغلبة العداء)‪.(1‬‬


‫لقد كان لسباب زوال التمكين عن المة عوامل عديدة منها‪:‬‬
‫انحراف كثير من المسلمين عن الفهم الصحيح‬ ‫‪-1‬‬
‫للسلم‪ ،‬وانصرافهم عن الدين كعقائد وأعمال إلى ألفاظ‬
‫ومصطلحات‪.‬‬
‫إهمال كتاب الله تعالى وسنة رسوله ×‪ ،‬والخروج عن‬ ‫‪-2‬‬
‫السلم في نظام الحياة‪.‬‬
‫تفرق المسلمين‪ ،‬واحتدام الخلفات السياسية‬ ‫‪-3‬‬
‫والعصبية‪ ،‬والدينية‪ ،‬في صفوف المة السلمية‪.‬‬
‫ضعف القيادة السلمية‪ ،‬واستغلل الرياسة لتحقيق‬ ‫‪-4‬‬
‫الهواء والمصالح الشخصية بعيدا عن مصلحة السلم‬
‫والمسلمين‪.‬‬
‫موت روح الجهاد‪ ،‬وضعف أدواته‪.‬‬ ‫‪-5‬‬
‫التخلي عن الخذ بأسباب القوة الحسية‪.‬‬ ‫‪-6‬‬
‫تخلي المة السلمية عن القيام برسالتها حق القيام‬ ‫‪-7‬‬
‫من المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والدعوة إلى الله‪.‬‬
‫الجمود والتخلي عن الجهاد‪.‬‬ ‫‪-8‬‬
‫إهمال العلوم العلمية النافعة‪ ،‬والنشغال بفلسفات‬ ‫‪-9‬‬
‫عقيمة‪ ،‬وعلوم سقيمة‪.‬‬
‫‪ -10‬انتشار الدواء الخلقية والجتماعية‪.‬‬
‫‪ -11‬تصدع بناء الفرد المسلم‪ ،‬والبيت المسلم‪ ،‬والمجتمع‬
‫المسلم)‪.(2‬‬
‫وهكذا صارت المة بعد أن زال عنها التمكين إلى الزمة‬
‫الحالية‪ ،‬والتي ل شبيه لها على مدار التاريخ‪ ،‬وهي أزمة ل يستطيع‬
‫القلم أن يصفها‪ ،‬أو يحدد معالمها وإنما ينطق به واقع المة‬
‫المرير‪.‬‬

‫)( انظر‪ :‬التمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.21‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬مجموعة الرسائل‪ ،‬ص ‪ ،132 ،131‬ومجلة الوعي الكويتية‪ ،‬عدد ربيع‬ ‫‪2‬‬

‫الخر ‪1414‬هـ بتصرف‪.‬‬

‫‪404‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المبحث الخامس‬
‫الحركات السلمية ودورها في العودة إلى التمكين‬
‫بدأت بشائر العودة إلى التمكين ومظاهره مع الحركات‬
‫السلمية منذ القرنين الماضيين‪ ,‬وتوارثت الجيال الحاضرة تلك‬
‫التجارب التي تركت لنا معالم فقه التمكين‪ ,‬ومن أهم هذه‬
‫الحركات‪:‬‬
‫أولً‪ :‬حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪:‬‬
‫هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد‬
‫بن أحمد بن راشد التميمي‪ ،‬ولد سنة ‪1115‬هـ‪1703 ،‬م في بلدة‬
‫العينية الواقعة شمال الرياض‪ ,‬بينها وبين الرياض مسيرة سبعين‬
‫كيلو مترا‪ ،‬أو ما يقارب ذلك من جهة الغرب)‪.(1‬‬
‫ونشأ على حب العلم‪ ،‬فطلبه منذ صغره وظهر منه نبوغ‬
‫وتميز‪ ،‬فحفظ القرآن الكريم ودرس الفقه الحنبلي والتفسير‬
‫والحديث‪ ،‬وتتلمذ على كتب ابن تيمية في الفقه والعقائد والرأي‬
‫وأعجب بها أيما إعجاب‪ ,‬وتأثر بكتب ابن القيم‪ ،‬وابن عروة‬
‫الحنبلي وغيرهم من فحول هذا المنهل السلفي)‪.(2‬‬
‫ورحل في طلب العلم إلى مكة‪ ،‬والمدينة‪ ،‬والبصرة‪،‬‬
‫والحساء‪ ،‬وتعرض لفتن عديدة عندها جاهر بآرائه في العراق ثم‬
‫رجع بعد ذلك إلى نجد‪.‬‬
‫أ‪ -‬إعلن دعوته‪:‬‬
‫وعندما رجع إلى حريملء ببلد نجد بدأ بدعوته بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر والشتغال بالعلم والتعليم‪ ،‬والدعوة إلى عقيدة‬
‫التوحيد الصافية‪ ،‬وحذر من الشرك ومخاطره وأنواعه‪ ,‬وتعرض‬
‫لمحاولة اغتيال من بعض السفهاء في حريملء وانتقل بعد ذلك‬
‫إلى بلدته العينية وتلقاه أميرها بالترحيب وشجعه على أمر‬
‫الدعوة‪ ،‬فأقام الشرع ونفذ الحدود‪ ،‬وهدم القباب ولم يستمر في‬
‫حريملء طويل بسب بضغط أمير الحساء على أمير حريملء لقتل‬
‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب فخرج ماشيًا على القدام إلى‬
‫الدرعية‪.‬‬
‫ب‪ -‬تحالفه مع محمد بن سعود‪:‬‬
‫استطاع محمد بن عبد الوهاب أن يتحالف مع المير محمد بن‬
‫سعود الذي قدم ماله ورجاله من أجل دعوة التوحيد‪ ،‬وكان هذا‬
‫)( انظر‪ :‬إمام التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪ ،‬أحمد القطان‪ ،‬ص ‪.35‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.36‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪405‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫التحالف على أسس متينة‪ ,‬واستطاع الشيخ أن يواصل دعوته‬


‫للناس بالتعليم والرسائل‪ ،‬والوعظ‪ ,‬واستمر على هذا الحال يعلم‬
‫الناس ويكتب الرسائل ويدبجها بالحجج والبراهين والدلة على‬
‫صحة دعواه‪ ،‬يدعو إلى إزالة المنكر وهدم قباب القبور‪ ،‬وسد‬
‫ذرائع الشرك‪ ،‬وتحقيق العبودية لله وحده)‪ ،(1‬وظلت الدعوة‬
‫مسالمة متأنية‪ ،‬تطرق القلوب برفق وأناة‪ ،‬وتدعو إلى الله‬
‫بالحكمة والموعظة الحسنة‪ ،‬واستمر يعلم من يحضر دروسه‬
‫ويوضح عقيدته‪ ،‬ويشرح مبادئ دعوته للقاصي والداني‪ ،‬ولكنه رأى‬
‫أن اللين يقابل بالشدة‪ ،‬وأن الصدق يقابل بالكذب‪ ،‬والموعظة‬
‫الحسنة يرد عليها بالمؤامرات‪ ،‬فلم يكن بد من دخول مرحلة‬
‫الجهاد وتغيير المنكر بالقوة‪.‬‬
‫)‪(2‬‬
‫فما حيلة المضطر إل ركوبها‬ ‫إذا لم يكن إل السنة مركبا‬

‫وبدأ الشيخ يعاونه المير محمد بن سعود بإعداد العدة من‬


‫الرجال والسلح للخروج بجموع المجاهدين من الدرعية إلى خارج‬
‫حدودها لنشر الدعوة وتثبيت أركانها في الجزيرة وخارجها‪ ،‬وكان‬
‫الشيخ يشرف بنفسه على إعداد الرجال‪ ،‬وتجهيز الجيوش وبعث‬
‫السرايا‪ ,‬ويستمر مع ذلك على الدرس والتدريس‪ ،‬ومكاتبة الناس‪،‬‬
‫واستقبال الضيوف‪ ،‬وتوديع الوفود‪ ،‬فقد جمع الله له العلم والجاه‪،‬‬
‫والعزة والتمكين بعد جهاد طويل)‪ .(3‬وقد كان له نظر سياسي‬
‫ثاقب‪ ،‬وخبرة واسعة في أمور الحرب والسياسة ومما يذكر أنه‬
‫كان يشرف بنفسه على إعداد المجاهدين وتحضير الكتائب‬
‫وتسيير المقاتلين)‪.(4‬‬
‫واستمرت الحروب بين أنصار الدعوة وأعدائها سنين عديدة‬
‫وكان النصر حليف أصحاب الدعوة في أغلب المواقف‪ ,‬وكانت‬
‫القرى تسقط واحدة تلو الخرى‪ ،‬وفي عام ‪1178‬هـ ‪1773 -‬م‪،‬‬
‫فتحت الرياض بقيادة المير عبد العزيز بن محمد بن سعود‪ ،‬وفر‬
‫منها حاكمها السابق دهام بن دواس‪ ،‬وكان حاكما ظالما غشوما‪،‬‬
‫اعتدى على الدعاة مرارا‪ ،‬ونقض العهود التي أبرمها مع القائمين‬
‫على الدعوة‪ .‬وبعد فتح الرياض اتسعت رقعة الرض التي تخضع‬
‫للدعوة ودخل كثير من الناس في الدعوة مختارين‪ ،‬فقد أزيلت‬
‫العوائق التي كانت تصدهم عنها‪ ،‬وانفرجت المور بعد ضيق‪ ،‬وجاء‬
‫اليسر بعد العسر‪ ،‬وكثرت الموال‪ ،‬وهدأت الحوال‪ ,‬وأمن الناس‬
‫في ظل الدولة السلمية الفتية‪ ،‬التي حرم الناس من نعمة المن‬

‫انظر‪ :‬إمام التوحيد الشيخ محمد بن عبد الوهاب‪ ،‬ص ‪.46 ،45‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬استمرارية الدعوة‪ ،‬محمد السيد الوكيل )‪.(3/293‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬إمام التوحيد محمد بن عبد الوهاب‪ ،‬ص ‪.53‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫المصدر السابق نفسه‪ ،‬ص ‪.78‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪406‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫والستقرار مدة غيابها)‪.(1‬‬


‫لقد أخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالسنن لتمكين دين الله‬
‫تعالى‪ ،‬فنلحظ في دعوته أخذه بشروط التمكين ودعوة الناس‬
‫وتربيتهم عليها من اليمان بالله‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬وتحقيق العبودية‬
‫ومحاربة الشرك‪ ،‬وتقوى الله تعالى‪ ،‬وأخذه بأسباب التمكين‬
‫ويظهر حرصه على الخذ بالسباب في تحالفه مع المير محمد بن‬
‫سعود الذي وظف جيشه‪ ،‬وحكومته وماله وسلحه‪ ,‬ورجاله لخدمة‬
‫الدعوة‪ ،‬ومرت الدعوة بالمراحل الطبيعية من التعريف بها وإعداد‬
‫من يحملها‪ ،‬ومغالبة أعدائها والتمكين لها‪ ،‬ومر الشيخ بسنة‬
‫البتلء‪ ،‬ومارس سنة التدرج‪ ،‬وشرع في الخذ بسنة تغيير‬
‫النفوس‪ ،‬واستخدام سنة التدافع بين الحق والباطل‪ ،‬ولم يترك‬
‫سنة الخذ بالسباب‪ ،‬وهذا كله يدخل تحت فقه التمكين الذي‬
‫مارسه الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬حركة الشيخ أحمد بن عبد الحد السرهندي‪:‬‬
‫هو أحمد بن عبد الحد بن زين العابدين السرهندي يتصل نسبه‬
‫إلى سيدنا عمر بن الخطاب ‪ ,‬ولد ليلة الجمعة ‪ 14‬شوال‬
‫‪971‬هـ ‪1563 -‬م بمدينة سرهند ببلد الهند‪ ،‬وسماه والده »شيخ‬
‫أحمد« نشأ المام السرهندي في بيئة متضاربة فكريا‪ ،‬متعارضة‬
‫عقديا‪ ،‬مضطربة خلقيا‪ ،‬فقد ترعرع في عهد المبراطور جلل‬
‫الدين محمد أكبر‪ ،‬من أباطرة آل تيمور المغوليين الذي انحرف‬
‫عن السلم والذي سيطرت عليه فكرة حلول اللف الثاني من‬
‫عمر السلم‪ ،‬وقد تأثر بدعوة بعض الفلسفة المارقين عن‬
‫السلم بقولهم إن عمر السلم الطبيعي ألف عام‪ ،‬أما وقد‬
‫انقطعت‪ ،‬وبدأ اللف الثاني فإن الدنيا في حاجة إلى عهد جديد‬
‫تتابع فيه مسيرتها‪ ،‬كما أنها في حاجة ماسة إلى دين جديد يمارس‬
‫الناس من خلله حياتهم الدينية‪ ،‬وتشريع جديد ينظم شئونهم ويدبر‬
‫معاشهم‪ ،‬ويستغنون به عن الدين الذي سلف وذهابه بذهاب ألف‬
‫سنة من عمره‪ ,‬واستحوذت فكرة الدين الجديد على نفس الملك‬
‫أكبر‪ ,‬وشكل لجاًنا لنشر الدين الجديد ونشرها في نواحي الهند‪،‬‬
‫لقد كان ذلك الدين يحتوي على الشرك بكل أنواعه وأصنافه‪،‬‬
‫فدخلت عبادة الشمس والكواكب بدل من التوحيد الخالص‪،‬‬
‫وأبدلت عقيدة البعث والنشور بعقيدة التناسخ‪ ،‬وأحل الدين الجديد‬
‫الربا والقمار‪ ،‬والخمر والخنزير‪ ,‬وأباح الزنا وصدر قانون بتنظيمه‪,‬‬
‫وحرم ذبح البقر‪ ،‬وحرم الحجاب‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وانتشرت النظريات الفلسفية التي كانت تؤمن بأن العقل وحده‬
‫قادر على إدراك الحقائق الحاضرة منها‪ ,‬والغائبة‪ ,‬حتى استغنوا‬
‫بالعقل عن الرسل والرسالت وكل ما يتعلق بهما‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬استمرارية الدعوة‪ ،‬د‪ .‬محمد الوكيل )‪.(3/294‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪407‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وفي خضم هذه الضطرابات وتلك الفوضى كان المام‬


‫السرهندي قد قارب الثلثين من عمره‪ ،‬وكان قد تسلح بالعلوم‬
‫راجحا‪,‬‬
‫ً‬ ‫الدينية‪ ،‬وأصول أهل السنة وقد حباه الله ‪-‬عز وجل‪ -‬عقلً‬
‫وفكرا ثاقبًا‪ ,‬وذوقًا مرهفًا‪ ،‬وقلبًا واعيًا‪ ،‬فاستعمل كل مواهبه‬
‫ً‬
‫لخدمة السلم والمسلمين ووقف متحديًا كل هذه الفكار الضالة‬
‫كاشفا عورات هذه السخافات والبدع والخرافات‪ ،‬بل عمل حتى‬ ‫ً‬
‫وصل إلى بلط الملك أكبر في عهد ابنه وتغير الدين الباطل الذي‬
‫كانت عليه الدولة إلى دين السلم الصحيح)‪.(1‬‬
‫منهج المام السرهندي للوصول إلى مرحلة التمكين‪:‬‬
‫‪ -1‬اهتم بتعليم وتربية مجموعات هائلة من أفراد المة وأعدهم‬
‫إعدادا تربويا عمليا‪ ،‬دعويا رفيع المستوى ثم أرسلهم إلى القرى‬
‫والمدن لدعوة الناس‪.‬‬
‫‪ -2‬اهتم بنقد فكر الفلسفة المنحرف‪ ،‬والصوفية الباطلة من‬
‫أصحاب وحدة الوجود والحلول والتحاد‪ ,‬وبين الطريق الصحيح‬
‫لمعرفة الحق‪ ،‬والوصول اليقيني إلى معرفة الله الواحد من خلل‬
‫القرآن ومنهج أهل السنة والجماعة‪.‬‬
‫‪ -3‬حارب كل أنواع الشرك ومن أقواله في ذلك‪» :‬إن تعظيم‬
‫مظاهر الشرك وأعياد الجاهلية من أعظم أنواع الشرك بالله ‪ -‬عز‬
‫وجل ‪ -‬وإن من يعتقد بصحة دينين‪ ،‬وصلحيتهما في وقت واحد‪،‬‬
‫فهو مشرك‪ ،‬وإن من يعمل بأحكام السلم وأعمال الكفر‬
‫والشرك فهو مشرك‪ ،‬ول يتم السلم إل بالبراءة من الشرك‬
‫ومحادته ومعاداته‪ ،‬وإن التوحيد هو الشمئزاز والتبرم من كل‬
‫شائبة من شوائب الشرك)‪.«(2‬‬
‫اهتم بالدعوة إلى التوحيد الخالص‪ ،‬وخلود رسالة محمد ×‬ ‫‪-4‬‬
‫ودعم وحدة المسلمين وإعادتهم إلى حظيرة السلم‪ ،‬وكان سببا في‬
‫حماية المسلمين في بلد الهند من ردة محققة‪.‬‬
‫‪ -5‬قاوم المد الشيعي الذي اخترق البلط الملكي في عهد نور‬
‫الدين جهانكير بن الملك أكبر ورفع راية أهل السنة جهارا نهارا‪،‬‬
‫بل استطاع أن يصل إلى معسكر الملك وبلطه بواسطة تلميذه‬
‫بديع الدين السهارنبوري‪.‬‬
‫‪ -6‬اهتم بالمراء الذين ظهر منهم تدين‪ ،‬وفيهم شهامة وحب‬
‫للخير‪ ،‬فهذا المير خان جهان وكان الملك جهانكير يحبه حبا جما‪،‬‬
‫ويعتمد عليه في كثير من شئون الدولة كتب إليه السرهندي يحثه‬
‫على نصرة دين الله فيقول له‪» :‬لو جمعتم بين ما تتبوأون من‬
‫منصب كبير‪ ،‬وبين العمل على الشريعة السلمية‪ ،‬لديتم أمانة‬
‫)( استمرارية الدعوة والدعاة )‪.(207 – 3/205‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬رجال الفكر والدعوة للندوي )‪.(3/226‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪408‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫النبياء ‪ -‬عليهم الصلوات والتسليمات‪ -‬وأوضحتم الدين المتين‬


‫وأضأتموه وعممتموه‪ ،‬ولو جهدنا ‪ -‬نحن الفقراء ‪ -‬أنفسنا أعوامًا‬
‫طوال لما لحقنا بغبار أمثالكم من صقور السلم‪.‬‬
‫ً‬
‫)‪(1‬‬
‫وأعوان‬ ‫أل نفوس أبيّات لهم همم‬

‫طي ًفي التأثير على القادة والمراء‬


‫را با‬
‫وكانت لرسائله أث ً‬
‫والتفافهم حول القرآن والسنة‪.‬‬
‫‪ -7‬استطاع المام السرهندي بعد جهاد مرير‪ ،‬وبلء عظيم أن‬
‫يصل إلى الملك نفسه وأصبح من حاشيته ولم يترك جلساء السوء‬
‫ينفردون به بل عمل على دعوة قواد الجيش وحاشية الملك إلى‬
‫السلم الصحيح‪ ،‬وتأثروا بالمام السرهندي لما رأوا فيه من حسن‬
‫الخلق وغزارة العلم‪ ،‬وإخلص للدين‪ ،‬وزهد وورع متين‪ ،‬وحكمة‬
‫في الدعوة إلى الله‪ ،‬ولقد تعاون أولئك القادة مع المام‬
‫السرهندي من أجل التمكين لدين الله وما هي إل فترة وجيزة‬
‫حتى أزيل دين الملك أكبر‪ ،‬الذي فرضه على الرعية‪ ،‬وأعيد‬
‫للسلم‬
‫مكانته الرفيعة)‪.(2‬‬
‫لقد تأثر الملك جهانكير بمبادئ المام السرهندي وأقواله‪،‬‬
‫فاستبدل باللحاد اليمان‪ ،‬وأحل السلم محل الزندقة‪ ،‬وجاهر‬
‫بذلك على رءوس المل من قومه‪.‬‬
‫لقد أظهر الملك شعائر السلم ورفع أحكامه‪ ،‬وأعز أهله وبكى‬
‫كثيرا على سابق تفريطه‪.‬‬
‫إن المام السرهندي مدرسة مهمة في فقه التمكين وله‬
‫منهجية رائعة في أساليب الدعوة حققت نتائج عظيمة للمسلمين‬
‫في الهند‪.‬‬
‫إن القتراب من رجال الدولة والملوك والمراء من أجل‬
‫دعوتهم إلى السلم وتمكين دينه قام به العلماء والدعاة من‬
‫أمثال المام السرهندي وحققت نتائج طيبة في نصرة دين الله‪.‬‬
‫***‬

‫)( انظر‪ :‬استمرارية الدعوة )‪.(3/255‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( استمرارية الدعوة )‪.(3/250‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪409‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الفصل الثاني‬
‫أهـــــــــــداف التمكــــــــين‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫إن من القضايا المهمة التي يجب بحثها أهداف التمكين‬
‫ومقاصده الساسية‪ ،‬وإذا رجعنا لنصوص القرآن والسنة نجد أن‬
‫من أهداف التمكين ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬أن يتمكن المجتمع المسلم من إقامة سلطة سياسية‬
‫تستند على مبادئ واضحة وقواعد بينة وأصول متينة‪ ،‬وتستمد تلك‬
‫القواعد والصول من القرآن الكريم و نظام الحكومة في عصر‬
‫النبي × والزمن الراشدي حيث ساد القانون اللهي‪ ،‬والعدل بين‬
‫الناس‪ ,‬والمساواة‪ ,‬وظهرت مسئولية الحاكم‪ ،‬والرعية‪ ،‬وطبق‬
‫نظام الشورى‪ ،‬وإقامة نظام الحياة السلمية على المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والدعوة إلى الله‪ ،‬والجهاد في‬
‫ترجمة عملية‬ ‫سبيله‪ ،‬وإقامة الحدود‪ ...‬إلخ‪ ،‬وقد كان ذلك كله‬
‫َ‬ ‫في ال َْر‬
‫ةَ‬
‫صل َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫َ‬
‫ض أقا ُ‬ ‫ِ‬ ‫م ِ‬ ‫مك ّّنا ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ن ِإن ّ‬ ‫لقوله تعالى‪+ :‬الَّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ه‬
‫ولل ِ‬ ‫ر َ‬ ‫َ‬
‫من ْك ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫وا الّز َ‬
‫ع ِ‬
‫وا َ‬ ‫ه ْ‬
‫ون َ َ‬
‫ف َ‬‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬‫مُروا ِبال َ‬‫وأ َ‬ ‫كاةَ َ‬ ‫ة ال ُ‬ ‫وآت َ ُ‬ ‫َ‬
‫ر" ]الحج‪.[41 :‬‬ ‫ُ ِ‬ ‫مو‬ ‫ُ‬ ‫ق َ‬
‫ب‬ ‫عا ِ‬ ‫َ‬
‫كما يقول الدكتور مصطفى السباعي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬إن الية‬
‫الكريمة تصرح بالنتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين في هذا‬
‫القتال المشروع‪ ،‬فهي ليست استعمار الشعوب‪ ،‬ول أكل خيراتها‪،‬‬
‫ول انتهاب ثرواتها‪ ،‬ول إذلل كرامتها‪ ،‬وإنما هي نتائج لمصلحة‬
‫النسانية‪ ،‬ولفوائد المجتمعات فهي‪:‬‬
‫‪ -1‬لنشر السمو الروحي في العالم عن طريق العبادة‬
‫ة"‬‫صل َ َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫قا ُ‬ ‫‪+‬أ َ َ‬
‫‪ -2‬ولنشر العدالة الجتماعية بين الشعوب عن طريق الزكاة‬
‫ة"‬ ‫كا َ‬ ‫وا الّز َ‬ ‫وآت َ ُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫‪ -3‬ولتحقيق التعاون على خير المجتمع وكرامته ورقيه‬
‫‪َ +‬‬
‫ف"‬
‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬‫مُروا ِبال ْ َ‬ ‫وأ َ‬ ‫َ‬
‫وا‬
‫ه ْ‬ ‫ون َ َ‬‫‪ -4‬وللتعاون على مكافحة الشر والجريمة والفساد ‪َ +‬‬
‫ر"‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫من ْك َ ِ‬ ‫ع ِ‬ ‫َ‬
‫تلك هي النتائج التي تترتب على انتصار المؤمنين في قتالهم‬
‫أعداءهم من إقامة دولة إسلمية تعمل على سمو الروح‪ ،‬وتكافل‬
‫المجتمع‪ ،‬ورقي النسان عن طريق الخير‪ ،‬ومنع انحداره عن‬
‫طريق الشر‪ ،‬فأية غاية إنسانية أنبل من هذه الغاية التي شرع من‬

‫‪410‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫أجلها القتال في السلم)‪.(1‬‬


‫وا إ َِلى‬ ‫عال َ ْ‬ ‫م تَ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫وإ ِ َ‬ ‫الهدف قوله تعالى‪َ +َ :‬‬ ‫َويؤكد هذا‬
‫ن‬ ‫دو‬ ‫ص‬
‫ُ َ ِ ِ َ َ ُ ّ َ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫قي‬ ‫ف‬ ‫نا‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ت‬ ‫ي‬
‫ّ ُ َ ِ َ ْ َ‬ ‫أ‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫سو‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ل الل ُ َ ِ‬
‫إ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫م ْ‬ ‫ما قدّ َ‬ ‫َ‬ ‫ة بِ َ‬ ‫صيب َ ٌ‬ ‫م َِ‬ ‫هم ّ‬ ‫صاب َت ْ ُ‬ ‫ذا أ َ‬ ‫ف إِ َ‬ ‫دا ‪ ‬فكي ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫دو ً‬ ‫ص ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫عن ْ َ‬ ‫ََ‬
‫ساًنا‬ ‫ح َ‬ ‫ن أَردَْنا إ ِل ّ إ ِ ْ‬ ‫ه إِ ْ‬ ‫ن ِبالل ِ‬ ‫فو َ‬ ‫حل ِ ُ‬ ‫ك يَ ْ‬ ‫ءو َ‬ ‫جا ُ‬ ‫م َ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫دي ِ‬ ‫أي ْ ِ‬
‫قا" ]النساء‪.[61 ،60 :‬‬ ‫في ً‬ ‫و ِ‬ ‫وت َ ْ‬ ‫َ‬
‫فالله سبحانه وتعالى يبين هدف تمكين المة وغايته والذي‬
‫يتمثل في قيادة المة لنفسها وللبشرية بكتاب الله تعالى‪ ،‬الذي‬
‫نهى عن النحراف عن هذا النهج الرباني إلى تشريع آخر وهو‬
‫الطاغوت‪ ،‬هذه هي غاية وجود هذه المة والهدف َ من إقامة‬
‫ه‬
‫ل الل ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫من ل ّ ْ‬ ‫و َ‬ ‫دولتها‪ ،‬يقول الله تعالى‪َ + :‬‬
‫ما‬ ‫ب‬ ‫م‬
‫ْ َ ْ ْ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫من‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫‪.‬‬ ‫[‬ ‫‪44‬‬ ‫]المائدة‪:‬‬ ‫ن"‬ ‫فُرو َ‬ ‫كا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫فُأول َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن" ]المائدة‪ [45 :‬وقال تعالى‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أ َن َْز َ‬
‫ُ‬ ‫مو َ‬ ‫م الظال ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ه فأولئ ِك ُ‬ ‫ل الل ُ‬
‫ن"‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫فأول َئ ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ل َالل ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫من ل ّ ْ‬ ‫و َ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ه‬ ‫الل‬ ‫عوا‬ ‫طي‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ها‬ ‫ي‬ ‫أ‬ ‫يا‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬
‫َ‬ ‫ِ ُ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫َ ّ َ‬ ‫[‬‫‪47‬‬ ‫]المائدة‪:‬‬
‫في‬ ‫م ِ‬ ‫عت ُ ْ‬ ‫فِإن ت ََناَز ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫وُأوِلي ال‬ ‫ل َ‬ ‫سو َ‬ ‫عوا الّر ُ‬ ‫طي ُ‬ ‫وأ ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ن ِبالل ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬‫م تُ ْ‬ ‫ل ِْإن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫سو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫َ َ ّ‬ ‫وال‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫الل‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫دو‬ ‫ّ‬ ‫ر‬‫ُ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ء‬
‫ٍ‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ش‬
‫ويل ً" ]النساء‪ .[59 :‬فهذه‬ ‫ن ت َأ ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫خي ٌْر َ‬ ‫ك َ‬ ‫ر ذَل ِ َ‬ ‫خ ِ‬ ‫وم ِ ال َ ِ‬ ‫وال ْي َ ْ‬ ‫َ‬
‫اليات تحكم على من لم يحكم بما أنزل الله بالكفر والفسق‬
‫والظلم‪ ،‬وهي تدل على وجوب إقامة شرع الله في حياة الجماعة‬
‫المسلمة‪ ،‬وأنه ل طاعة لولة المور إل إذا قاموا بهذه الوظيفة‪،‬‬
‫التي تتمثل في تطبيق الشريعة السلمية التي أوصى الله تعالى‬
‫بها‪ ,‬والسنة تقرر أن طاعة ولة المر منصبة على تنفيذ الحكم‬
‫الشرعي‪ ،‬لقد بين الرسول × الهداف السامية من التمكين وهي‬
‫تطبيق شريعة الله‪ ،‬والقضاء على الظلم والنحراف في الرض‪،‬‬
‫ونشر السلم والدعوة إليه عقيدة ونظاما‪ ،‬وذلك لن الشريعة‬
‫السلمية لم تأت لقوم دون قوم‪ ،‬أو مجتمع دون مجتمع‪ ،‬بل‬
‫جاءت خاتمة لما قبلها من الشرائع‪ ،‬ومخاطب بها كل أفراد البشر‬
‫من حين بعثة محمد × إلى أن تنتهي الدنيا)‪.(2‬‬
‫وفيما يلي مباحث تتناول هذا الهدف وما ينتج عنه من مبادئ‬
‫وأسس‪:‬‬

‫)( السيرة النبوية للدكتور مصطفى السباعي‪ ،‬ص ‪.110 ،109‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬نظام الحكم في السلم‪ ،‬د‪ .‬عارف خليل أبو عيد‪ ،‬ص ‪.70 -68‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪411‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المبحث الول‬
‫إقامـــــة المجتمع المســـــــلم‬
‫إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع المسلم الذي تتحقق‬
‫فيه العبودية الشاملة لله تعالى‪ ،‬ولذلك لبد من إقامة دولة‬
‫السلم بدعائمها ودستورها‪ ،‬وقواعدها ومبادئها‪ ،‬ولبد من إقامة‬
‫فريضة المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬والدعوة إلى مكارم‬
‫الخلق‪ ،‬وتطبيق الحدود‪ ،‬وتعليم المة ما ينفعها في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬وممارسة قواعد النظام السياسي السلمي من الشورى‬
‫والعدالة والمساواة‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫أول‪ :‬إقامة دولة السلم ودعائمها ودستورها‪:‬‬
‫إن من الوسائل المهمة في تحقيق العبودية لله تعالى ‪-‬بحيث‬
‫ل يعبد في الرض سواه‪ -‬إقامة دولة إسلمية‪ ،‬تحارب الباطل‬
‫بأشكاله وأنواعه‪ ،‬وتناصر الحق وأتباعه‪ ,‬وللدولة السلمية دعائم‬
‫مهمة تقوم عليها‪ ،‬ومبادئ تستند لها وأهداف تسعى لتحقيقها‪،‬‬
‫وقواعد تعمل على ترسيخها‪ ،‬إن السعي لقامة دولة إسلمية‬
‫ينبعث من كون الدولة جزًءا من تحقيق السلم الشامل‪ ،‬ولم تكن‬
‫هذه الدولة فكرة نظرية مجردة‪ ،‬بل كانت واقعا عاشه المسلمون‬
‫فترة طويلة من الزمان قامت في كنفها حضارة وانتشر خللها‬
‫السلم في شتى أنحاء العالم‪ ،‬ورغم أن الدولة مرت بفترات من‬
‫القوة والضعف ودب الوهن في جسمها فإنها ظلت متمسكة‬
‫بالساس الذي قامت عليه‪ ،‬ولم تتنازل عن الميثاق الذي ربط‬
‫عراها وهو الكتاب والسنة‪ ،‬وتبلور من النظرية والتطبيق أسس‬
‫معينة ميزت الدولة السلمية وجعلتها نموذجا حاولت البشرية أن‬
‫ترتقي إليه من خلل نظمها النسانية ولكن هيهات‪.‬‬
‫أما تلك الدعائم التي قامت عليها الدولة السلمية وميزتها عن‬
‫غيرها فتتمثل‬
‫فيما يأتي‪:‬‬
‫القوة والضعف‪ ،‬والسلمة والمرض‪ ،‬ولكنها لم تتنازل أبدا عن‬
‫سر بقائها وهو دستورها الوحيد المتمثل في الكتاب والسنة‪ ،‬إن‬
‫أجيال المسلمين في الماضي البعيد‪ ،‬والحاضر القريب توقن إيقانا‬
‫راسخا بأن هناك ارتباطا وثيقا بين دولة السلم وعقيدة السلم‪،‬‬
‫فقوة الدولة رفعة للعقيدة‪ ،‬وحماية للعقيدة‪ ،‬ومما يدل على عمق‬
‫الشعور بالرتباط بين الدولة والعقيدة لدى جماهير المسلمين‬
‫خلل التاريخ السلمي أنه ‪-‬وكما هو موجود بكثرة في كتب‬
‫الحديث والسير والتاريخ‪ -‬كان علماء المسلمين وقواد جيوشهم‬
‫وأفاضل كل عصر‪ ،‬إذا بايعوا الخليفة منذ عهد أبي بكر فمن بعده‬
‫‪412‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫يبايعونه على كتاب الله وسنة رسول الله ×‪ ,‬فربطوا البيعة‬


‫بالكتاب والسنة لتظل الدولة قائمة عليهما‪ ،‬ولتستمد بقاءها ومبرر‬
‫وجودها من الحفاظ عليهما‪.‬‬
‫إن دولة السلم تمثل بين سائر الدول الدولة الصالحة القائمة‬
‫على العقيدة والشريعة ولبد لدولة الصلح أن تكون أركانها‬
‫ودعائمها صالحة كلها‪ ،‬ولذلك من أهداف التمكين تحقيق هذه‬
‫الدعائم المتمثلة في نظام حكم شرعي ورعية صالحة ملتزمة‬
‫بشرع الله‪ ،‬وحاكم صالح يسهر ويجتهد من أجل تحكيم شرع الله‬
‫وإليك بيان هذه الدعائم‪.‬‬
‫أ‪ -‬نظام الحكم الشرعي‪) :‬الحاكمية(‪:‬‬
‫إن النظام السلمي في الحكم يرتبط ارتباطا وثيقا بالدين‬
‫وأخلقه وعقيدته‪ ,‬فالواقع العملي يدل على ذلك‪ ،‬فخاصة‬
‫المسلمين في كل عصر منذ عهد أبي بكر ‪ ‬وطيلة عهود الخلفة‬
‫كانوا يبايعون الخلفاء والمراء على كتاب الله وسنة رسوله ×‪،‬‬
‫ويجعلون ذلك أساس الرتباط مع الدولة فكلما تمسك الولة‬
‫بالشريعة قويت الصرة بينهم وبين خاصة المة‪ ,‬وبالتالي عامتها‪،‬‬
‫ولقد اقترنت السياسة بالدين في السلم وارتبطت العقيدة‬
‫الصحيحة‪ ،‬ولم يبق في الرض عقيدة سليمة غيرها‪ ،‬وارتبطت‬
‫بالمعايير الخلقية التي ل تستمد إل من الدين‪ ،‬وما أحوج السياسة‬
‫إلى عقيدة تنطلق منها وأخلق تسير عليها)‪.(1‬‬
‫لقد جمع السلم بين الرسالة والخلفة‪ ،‬لن السلم غاية مراد‬
‫الله من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة‪ ،‬ولن امتزاج الدين والملك‬
‫ما‬‫و َ‬‫أكمل مظاهر التمكين في َالرض للمؤمنين قال تعالى‪َ + :‬‬ ‫َهو‬
‫ه" ]النساء‪ [64 :‬ولذلك‬ ‫ن الل ِ‬ ‫ْ‬
‫ِ ِ ِ‬‫ذ‬ ‫إ‬‫ب‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫طا‬ ‫ُ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ٍ ِ‬ ‫ل‬ ‫سو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫س‬‫َ‬ ‫أْر‬
‫أجمع أصحاب رسول الله × بعد وفاته على إقامة الخليفة لحفظ‬
‫نظام المة وتنفيذ الشريعة‪ ,‬ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة‬
‫ول من العامة‪ ،‬إل الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم‬
‫الهدى)‪.(2‬‬
‫إن تحقيق حاكمية الله على المة من خلل دولة مسلمة هو‬
‫محض العبودية لله‪ ،‬لن بذلك يتحقق التوحيد ويقوم الدين‪ ،‬قال‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ول َك ِ ّ‬
‫ن‬ ‫م َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫قي ّ ُ‬ ‫دي ُ‬‫ك ال ّ‬‫دوا إ ِل ّ إ ِّياهُ ذَل ِ َ‬ ‫عب ُ ُ‬‫مَر أل ّ ت َ ْ‬ ‫َتعالى‪+ :‬أ َ‬
‫ن" ]يوسف‪ [40:‬يعني‪» :‬ما الحكم الحق في‬ ‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬‫س ل َ يَ ْ‬ ‫أك ْث ََر الّنا ِ‬
‫الربوبية والعقائد والعبادات والمعاملت إل لله وحده يوحيه لمن‬
‫اصطفاه من رسله‪ ،‬ل يمكن لبشر أن يحكم فيه برأيه وهواه‪ ،‬ول‬
‫بعقله واستدلله‪ ,‬ول باجتهاده واستحسانه‪ ،‬فهذه القاعدة هي‬

‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪ (2/537‬عبد العزيز مصطفى‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬تفسير التحرير والتنوير )‪.(1/707‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪413‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أساس دين الله تعالى على ألسنة جميع رسله ل تختلف باختلف‬
‫الزمنة والمكنة«)‪.(1‬‬
‫ويقول الستاذ سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬لقد رسم يوسف‬
‫عليه السلم بهذه الكلمات القليلة الناصعة الحاسمة المنيرة كل‬
‫معالم هذا الدين‪ ،‬وكل مقومات هذه العقيدة‪ ،‬كما هز بها كل‬
‫هزا شديدًا‪.‬‬ ‫قوائم الشرك والطاغوت والجاهلية ّ‬
‫إن الطاغوت ل يقوم في الرض إل مدعيًا أخص خصائص‬
‫اللوهية‪ ،‬وهي الربوبية‪ ،‬أي حق تعبيد الناس لمره وشرعه‪،‬‬
‫ودينونتهم لفكره وقانونه‪ ,‬وهو إذ يزاول هذا في عالم الواقع يدعيه‬
‫‪ -‬ولم ينطق بلسانه ‪ -‬فالعمل دليل أقوى من القول‪ ،‬وإن‬
‫الطاغوت ل يقوم إل في غيبة الدين القيم والعقيدة الصالحة عن‬
‫قلوب الناس‪ ،‬فما يمكن أن يقوم وقد استقر في اعتقاد الناس‬
‫فعل أن الحكم لله وحده‪ ،‬لن العبادة ل تكون إل لله وحده‪،‬‬ ‫ً‬
‫والخضوع للحكم عبادة‪ ،‬بل هي)‪ (2‬أصل مدلول العبادة«)‪.(3‬‬
‫لقد نزل القرآن الكريم من أجل تحقيق العبودية والحاكمية لله‬
‫د‬
‫عب ُ ِ‬ ‫فا ْ‬ ‫ق َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ب ِبال ْ َ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫تعالى‪ ،‬قال سبحانه‪+ :‬إ ِّنا أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ص" ]الزمر‪[3 ،2 :‬‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫دي ُ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ن ‪ ‬أل َ لل ِ‬ ‫ديَ َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫صا ل ّ ُ‬ ‫خل ِ ً‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫الل َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ق‬
‫ّ‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫تا‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ز‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫‪+‬‬ ‫سبحانه‪:‬‬ ‫وقال‬
‫ه" ]النساء‪ [105 :‬فكما أن تحقيق العبودية‬ ‫ك الل ُ‬ ‫ما أ ََرا َ‬ ‫س بِ َ‬ ‫الّنا ِ‬
‫غاية من إنزال الكتاب فكذلك تطبيق الحاكمية غاية من إنزاله‪،‬‬
‫وكما أن العبادة ل تكون إل عن وحي منزل‪ ،‬فكذلك ل ينبغي أن‬
‫منزل‪ ،‬أو بما له أصل في شرع منزل)‪.(4‬‬ ‫يحكم إل بشرع ُ‬
‫قد أ َرسل َْنا رسل ََنا بال ْبيَنات َ‬
‫م‬‫ه ُ‬ ‫ع ُ‬ ‫م َ‬ ‫وأن َْزل َْنا َ‬ ‫ِ ََ‬ ‫ِ َ ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ل َ َ ْ ْ َ‬
‫د‬
‫دي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫وأن َْزلَنا ال َ‬ ‫ْ‬ ‫ط َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ْ‬
‫س ِبال ِ‬ ‫م الّنا ُ‬ ‫قو َ‬ ‫ن ل ِي َ ُ‬ ‫ميَزا َ‬ ‫وال ْ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ال ْك َِتا َْ‬
‫ه‬
‫صُر ُ‬ ‫من ي َن ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫عل َ َ‬ ‫ول ِي َ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ع ِللّنا ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫و َ‬ ‫ديدٌ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫س َ‬ ‫ه ب َأ ٌ‬ ‫في ِ‬ ‫ِ‬
‫زيٌز" ]الحديد‪ [25 :‬فالكتاب‬ ‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ي‬
‫ّ‬ ‫و‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫ِ ِ‬‫إ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫غ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ِ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫س‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫َ ُ‬ ‫و‬
‫عدل لقامة الناس على‬ ‫ً‬ ‫والميزان هما‪ :‬ما نقل صدقًا‪ ،‬وما شرع‬
‫رادعا لكل‬ ‫ً‬ ‫شريعة الحق اتباعًا للرسل‪ ،‬فمن أبى فقد جعل الحديد‬
‫معاند بعد قيام الحجة)‪ .(5‬إن إقامة حكم الله على المجتمع من‬
‫واذْك ُُروا‬ ‫خلل الدولة عهد وميثاق ذكره الله تعالى في قوله‪َ + :‬‬
‫م‬ ‫قل ْ ْ‬
‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ه إ ِذْ ُ‬ ‫كم ب ِ ِ‬ ‫ق ُ‬‫واث َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫ميَثا َ‬ ‫و ِ‬ ‫م َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬ ‫ه َ‬
‫َ‬ ‫ة الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ع َ‬‫نِ ْ‬
‫ر"‬ ‫دو ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫َ‬
‫م ب ِذا ِ‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫وات ّقوا الل َ‬ ‫ُ‬ ‫عَنا َ‬ ‫وأ ط ْ‬‫َ‬ ‫عَنا َ‬ ‫م ْ‬ ‫س ِ‬ ‫َ‬
‫]المائدة‪ [7 :‬فهذا تذكير من الله لعباده المؤمنين بنعمته عليهم في‬
‫تفسير المنار )‪.(12/309‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫هكذا الضمير في الصل المطبوع )هي( ولعل الوفق للسياق )هو(‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫في ظلل القرآن )‪(4/1991‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(1/433‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫انظر‪ :‬تفسير ابن كثير )‪.(4/315‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪414‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الشرع الذي شرعه لهم في هذا الدين العظيم‪ ،‬المرسل به‬


‫الرسول الكريم‪ ،‬وأخذ للعهد والميثاق عليهم في متابعته ونصرته‬
‫وإبلغه والقيام به‪ ،‬وهذا مقتضى البيعة التي كان الصحابة يبايعون‬
‫عليها رسول الله ×‪ ،‬على السمع والطاعة في المنشط والمكره‪،‬‬
‫حك ْ َ‬
‫م‬ ‫ف ُ‬‫كما أن الخلل بعهد الحاكمية جاهلية‪ ,‬قال تعالى‪+ :‬أ َ َ‬
‫ما ل ّ َ‬ ‫َ‬
‫وم ٍ‬ ‫ق ْ‬ ‫حك ْ ً‬‫ه ُ‬ ‫ن الل ِ‬‫م َ‬
‫ن ِ‬
‫س ُ‬‫ح َ‬
‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬
‫و َ‬
‫ن َ‬
‫غو َ‬
‫ة ي َب ْ ُ‬
‫هل ِي ّ ِ‬‫جا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن" ]المائدة‪ [50 :‬ففي الية الكريمة إنكار وتوبيخ وتعجب من‬ ‫قُنو َ‬ ‫ُيو ِ‬
‫حال من يتولى عن حكم الله وهو يبغي حكم غيره‪ ،‬والية تعبير‬
‫لليهود بأنهم مع كونهم أهل كتاب وعلم يبغون حكم الجاهلية التي‬
‫هي هوى وجهل ل يصدر عن كتاب ول يرجع إلى وحي)‪ .(1‬إن‬
‫تحقيق الحاكمية‪ ،‬تمكين للعبودية‪ ،‬وقيام بالغاية التي من أجلها‬
‫س‬‫ل ِن ْ َ‬ ‫وا‬‫ن َ‬ ‫ج ّ‬ ‫ت ال ْ ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ما َ‬ ‫و َ‬
‫خلق النسان والجان‪ ،‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫)‪(2‬‬
‫ن" ]الذاريات‪ [56 :‬أي ليطيعوه وحده ل شريك له ‪ .‬وإن‬ ‫دو ِ‬ ‫عب ُ ُ‬‫إ ِل ّ ل ِي َ ْ‬
‫المفهوم الواسع الرحيب للعبادة ليشمل علئق وأعمال كثيرة‪،‬‬
‫منها ما يمكن أن يقيمه الفراد ومنها ما ل يمكن تحقيقه على‬
‫الوجه الكمل إل في ظل دولة السلم‪ ،‬أو بمعنى آخر‪ :‬منها ما يتم‬
‫بالتحاكم ومنها ما يتم بالحكم‪ ،‬ولشك أن دولة السلم تقصد إلى‬
‫تهيئة المجتمع السلمي للقيام بالعبادة بهذا المعنى الشامل‪،‬‬
‫ونحن عندما نقول إن الدولة في السلم تقصد إلى تحقيق‬
‫العبودية فالمراد أنها تحمي أصول هذه العبودية ول تمكن أحدا من‬
‫العتداء عليها كما يحدث في الدول التي ل تحكم بما أنزل الله‪.‬‬
‫وإذا كان للعبادة أصلن أحدهما‪ :‬أن ل ُيعبد إل الله‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن ُيعبد بما أمر وشرع)‪ ,(3‬فإنه مما ل شك فيه أن‬
‫دولة السلم مسئولة عن حماية هذين الصلين بمحاربة الشرك‬
‫في داخلها وتعمل على تقليص نفوذه خارجها‪ ،‬وهي تحمي الشرع‬
‫ضد من يعتدي عليه بابتداع أو تحريف أو تغيير أو تبديل‪ ،‬وكل ذلك‬
‫يعين على تحقيق العبودية لله على الوجه المرضي‪ ،‬وعلى حماية‬
‫الدين من دخائل وانتحالت المضلين‪ ،‬وبهذا تكون الدولة إسلمية‬
‫بالمعنى الصحيح‪ ،‬فل ينبغي أبدا قصر مفهوم إقامة الدين على‬
‫العبادة بمعنى إقامة الشعائر‪ ،‬واعتبار الدولة التي تظهر بعض هذه‬
‫الشعائر مقيمة للدين‪ ،‬ومظهرة للعبودية بادعاء أنها تقيم من‬
‫السلم أهم ما فيه وهو العبادة‪.‬‬
‫يقول الشيخ أحمد شاكر‪» :‬فمن زعم أن الدين عبادة فقط‪،‬‬
‫فقد أنكر كل هذا)‪ ، (4‬وأعظم على الله الفرية‪ ،‬وظن أن لشخص‬
‫كائنا من كان‪ ،‬أو لهيئة كائنة من كانت أن تنسخ ما أوجب الله‬
‫تفسير ابن كثير )‪.(4/239‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫مجموع الفتاوى )‪.(10/173‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫يقصد بقية أمور الشريعة المتعلقة بالسياسة والقتصاد والجتماع‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪415‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫من طاعته والعمل بأحكامه‪ ،‬وما قال هذا مسلم قط‪ ،‬ول‬
‫يقوله‪،‬ومن قال فقد خرج عن ملة السلم جملة ورفضه كله‪،‬‬
‫وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم«)‪.(1‬‬
‫إن كلمة التوحيد »ل إله إل الله « أقرت أن الحاكمية لله عز‬
‫وجل‪ ،‬وهي من أولى خصائص اللوهية‪ ،‬التي ينفرد بها سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وليس لحد من البشر كائنا من كان‪ ،‬أن يدعيها‪ ,‬فالمشرع‬
‫والمحل والمحرم هو الله عز وجل‪ ،‬ومما ل شك فيه أن مفهوم‬
‫الحاكمية يشمل جميع نواحي الحياة النسانية‪ ،‬فإلى جانب العلقة‬
‫بين النسان وخالقه من شعائر تعبدية‪ ،‬فإن هذا المفهوم يشمل‬
‫أيضا العلقات بين النسان ونفسه‪ ،‬والعلقة بين النسان وأسرته‬
‫وأقاربه‪ ،‬وما له عليهم وما لهم عليه من حقوق التربية والرعاية‬
‫مثل‪ ،‬وكذلك علقة النسان بأخيه النسان وأخيرا علقة النسان‬
‫بالسلطة الحاكمة‪ ،‬فيطيعها ما دامت مطبقة لشرع الله ومنفذة‬
‫لوامره)‪.(2‬‬
‫لقد كانت الشريعة الربانية مهيمنة على المجتمع النبوي‪،‬‬
‫والمجتمع الراشدي‪ ،‬وفي العصر الول يتجلى في زمن عمر بن‬
‫عبد العزيز الذي صبغ أوامر دولته وإجراءاته في كل شئون الدولة‬
‫بصبغة الله تبارك وتعالى‪ ,‬وذلك ما أعلنه ‪ ‬منذ الساعات الولى‬
‫لتولية أمر المسلمين‪ ،‬إذ قال‪» :‬يا أيها الناس‪ :‬إنه ليس بعد نبيكم‬
‫نبي‪ ،‬وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليكم كتاب‪ ،‬فما أحل الله على‬
‫لسان نبيه فهو حلل إلى يوم القيامة‪ ،‬وما حرم الله على لسان‬
‫نبيه فهو حرام إلى يوم القيامة‪ ،‬أل إني لست بقاض‪ ،‬وإنما أنا‬
‫منفذ لله‪ ،‬ولست بمبتدع‪ ،‬ولكني متبع‪ ،‬أل إنه ليس لحد أن يطاع‬
‫بمعصية الله عز وجل‪.(3)«...‬‬
‫ويتضح من هذا‪ ،‬إدراك عمر لمفهوم الحاكمية لله عز وجل‪،‬‬
‫وإنه عازم على تطبيق حكم الله في كل أمر‪ ،‬وأنه منفذ لله‪،‬‬
‫وبذلك يحقق الخلفة في الرض بتطبيق شرعه في خلقه‪ ،‬وذلك‬
‫ما يبعث الله الرسل من أجله‪.‬‬
‫كما كتب ‪ ‬إلى العمال‪ ،‬فقال‪» :‬أما بعد‪ :‬فإن الله بعث‬
‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫عَلى ال ّ‬ ‫ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫محمدا ×‪ِ+ :‬بال ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫دي ِ‬ ‫هَرهُ َ‬‫ق ل ِي ُظ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫وِدي ِ‬
‫دى َ‬ ‫ه َ‬
‫ن" ]التوبة‪ [33 :‬وإن دين الله الذي بعث به‬ ‫ُ‬
‫ركو َ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬‫ره َ ا ل ْ ُ‬ ‫ول َ ْ‬
‫و كَ ِ‬ ‫َ‬
‫محمد × كتابه الذي أنزل عليه أن يطاع الله فيه‪ ،‬ويتبع أمره‪،‬‬
‫ويجتنب ما نهى عنه‪ ،‬وتقام حدوده‪ ،‬ويعمل بفرائضه‪ ,‬ويحل حلله‬
‫ويحرم حرامه‪ ،‬ويعترف بحقه‪ ،‬ويحكم بما أنزل فيه‪ ,‬فمن اتبع هدى‬
‫ل" ]الممتحنة‪:‬‬ ‫سِبي ِ‬
‫واءَ ال ّ‬
‫س َ‬‫ل َ‬‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬‫ف َ‬‫الله اهتدى‪ ،‬ومن صد عنه ‪َ +‬‬
‫)( الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر‪ ،‬ص ‪.89‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬النظام السياسي في السلم‪ ،‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬ص ‪.23‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬سيرة عمر بن عبد العزيز لبن الحكم‪ ،‬ص ‪.36 ،35‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪416‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪ [1‬وأن من طاعة الله التي أنزل في كتابه أن يفتح لهل السلم‬


‫باب الهجرة‪ ،‬وأن توضع الصدقات والخماس على قضاء الله‬
‫وفرائضه‪ ،‬وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر‪ ،‬ل يمنعون‬
‫ول يحبسون« )‪.(1‬‬
‫ففي هذا الكتاب نقل عمر مفهوم مبدأ الحاكمية لله إلى‬
‫عماله‪ ،‬وأنه يرغب إليهم تطبيق ذلك المبدأ على حقيقته‪ ،‬حيث‬
‫يتبين أنه عزم أن يكون أي قرار أو إجراء يتخذ في كل أنحاء‬
‫الدولة‪ ،‬بالنسبة لي أمر كان‪ ،‬لبد أن يخضع لحكم الله عز وجل‬
‫وتجري عليه سنة رسوله ×‪ ،‬وبذلك يكون تطبيق هذا المبدأ‬
‫الساسي‪ ،‬من قبل كافة الولة والعمال‪ ،‬في كل أنحاء الدولة‬
‫السلمية‪ ،‬بل ونجده في آخر الكتاب أوضح أن هناك قرارات‬
‫إدارية شرع في اتخاذها في حينه‪ ،‬مثل فتح باب الهجرة‪ ،‬وأن‬
‫تكون الجراءات المالية حسب قضاء الله‪ ،‬وأن تكون هناك حرية‬
‫استثمار الموال برا وبحرا‪ ،‬فكانت تأكيدا ودليل للولة‪ ،‬بأنه عازم‬
‫على إدارة الدولة في دائرة شرع الله وحكمه‪ ،‬وأن ذلك من طاعة‬
‫الله التي أنزل في كتابه الكريم‪ ،‬فأصدر أمر التنفيذ وقرنه‬
‫بالتطبيق)‪.(2‬‬
‫إن الدولة السلمية تجعل دستورها مستمدًا من كتاب الله‬
‫وسنة رسوله ×‪ ،‬وتستمد منهما أمهات الخلق وأساسيات‬
‫العقائد‪ ,‬فهو قانونهم الكبر الذي ترجع إليه كل القوانين الفرعية‪.‬‬
‫إن من أهداف مرحلة التمكين وضع نظام نابع من السلم‬
‫ومصادر الشريعة‪ ،‬يتناول كل مناشط حياة الناس‪ ،‬الفردية‬
‫والعامة‪ ،‬فلبد من وضع النظمة التالية على سبيل المثال‪:‬‬
‫‪ -1‬نظام التعليم في كل مراحله المعروفة‪ ،‬بل التعليم‬
‫المستمد بعد المرحلة التعليمية‪ ،‬يتناول‪ :‬التعليم‪ ،‬والتدريب‪،‬‬
‫والتثقيف‪.‬‬
‫‪ -2‬ونظام للعلم‪ ،‬ونظام للقتصاد والتجارة‪ ،‬والمصارف‪.‬‬
‫‪ -3‬ونظام لتنمية الثروة والموارد‪.‬‬
‫‪ -4‬ونظام لتعامل الفرد مع الدولة وتعامل الدولة مع الفرد‪،‬‬
‫بحيث يحفظ للدولة هيبتها‪ ،‬وللفرد كرامته وإنسانيته‪.‬‬
‫‪ -5‬نظام للجيش والتجنيد وما يتصل به‪.‬‬
‫‪ -6‬نظام سياسي للدولة‪ ،‬يوضح السس التي تقوم عليها‬
‫سياسة الدولة الداخلية والخارجية‪ ،‬وما فيهما من تفريعات ضخمة‪.‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.88‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬إدارة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬محمد القحطاني‪ ،‬ص ‪.278‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪417‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -7‬نظام للعمل والعمال ونقاباتهم‪.‬‬


‫‪ -8‬ونظام للخدمات التي تؤديها الدولة للمواطن مثل‪:‬‬
‫‪ -‬الخدمات الجتماعية العامة‪.‬‬
‫‪ -‬والخدمات الصحية‪.‬‬
‫‪ -‬والخدمات التي تقدمها المرافق العامة في الدولة‪.‬‬
‫‪ -9‬ونظام الدعوة إلى الله ونشرها على مستوى العالم كله‪.‬‬
‫‪ -10‬ونظام للتعامل مع الدول التي ل تدين بدين السلم‪.‬‬
‫‪ -11‬ونظام للمساجد والوقاف‪.‬‬
‫‪ -12‬ونظام للمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫وغير ذلك من النظمة التي تقتضيها مصالح الناس‪ ،‬أو دفع‬
‫المضار عنهم‪.‬‬
‫ولبد من أن تستقي هذه النظمة من مصادر الشريعة‬
‫السلمية وحدها‪.‬‬
‫ويشرف على تنفيذ هذه النظمة وكتابتها أهل التخصص ممن‬
‫تربوا في أحضان الدعوة وعاشوا للسلم وبالسلم)‪ .(1‬ولشك أن‬
‫الدستور السلمي تستمد أصوله من القرآن الكريم‪ ،‬والسنة‬
‫النبوية الصحيحة التي تعتبر بيانا وتفصيل لما في الكتاب‪ ،‬وكذلك‬
‫أعمال الخلفاء الراشدين ومذاهب المجتهدين‪ ،‬وما أجمعوا عليه‬
‫في كل عصر‪ ،‬وإن كان التشريع بمعنى التحليل والتحريم‪ ،‬ل يؤخذ‬
‫إل من الكتاب والسنة‪.‬‬
‫وأهم مصادر الدستور السلمي‪ ،‬يمكن تعددها فيما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬القرآن الكريم‪ :‬قال تعالى‪+ :‬إ ِّنا أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫ك ال ْك َِتا َ‬
‫ب‬
‫َ‬
‫ه" ]النساء‪.[105 :‬‬ ‫ما أَرا َ‬
‫ك الل ُ‬ ‫س بِ َ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫حك ُ َ‬
‫م ب َي ْ َ‬ ‫ق ل ِت َ ْ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ح ّ‬
‫فهو المصدر الول الذي يشتمل على جميع الحكام الشرعية‬
‫التي تتعلق بشئون الحياة البشرية‪ ،‬كما يتضمن مبادئ أساسية‬
‫وأحكاما قاطعة لصلح كل شعبة من شعب الحياة‪ ،‬كما بين‬
‫القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم‬
‫عليها دولتهم‪.‬‬
‫‪ -2‬السنة المطهرة‪ :‬هي المصدر الثاني الذي يستمد منه‬
‫الدستور السلمي أصوله ومن خللها يمكن معرفة الصيغ‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(2/741‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪418‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫التنفيذية والتطبيقية لحكام القرآن ممثلة في قيادة الرسول ×‬


‫للمة‪ ,‬ومن خلل السنة يمكن التعرف على نوعية المجتمع‬
‫المثالي الذي ينشده السلم‪.‬‬
‫‪ -3‬إجماع المة‪ :‬وخاصة الصحابة‪ ،‬وفي مقدمتهم الخلفاء‬
‫ما‬
‫د َ‬ ‫ع ِ‬ ‫من ب َ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ق الّر ُ‬ ‫ق ِْ‬‫شا ِ‬‫من ي ُ َ‬‫و َ‬ ‫الراشدون‪ ْ ،‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫وّلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫و‬‫ُ‬
‫َ َ‬ ‫ن‬ ‫ن‬ ‫ني‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ل‬
‫غ َ َ ِ ِ‬
‫بي‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ع َ‬
‫وي َت ّب ِ ْ‬
‫دى َ‬‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه ال ُ‬ ‫ت َب َي ّ َ‬
‫صيًرا" ]النساء‪.[115 :‬‬ ‫ون ُ ْ ِ ِ َ َ ّ َ َ َ َ ْ َ ِ‬
‫م‬ ‫ت‬ ‫ء‬ ‫سا‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ه‬‫ج‬ ‫ه‬ ‫ل‬‫ص‬ ‫َ‬
‫إن إجماع الصحابة ‪ -‬حكاما ومحكومين ‪ -‬في عصور الخلفة‬
‫الراشدة‪ ،‬ليس له إل معنى واحد‪ ،‬وهو الفهم الصحيح للكتاب‪،‬‬
‫والطريق السليم للعمل بالسنة‪ ،‬فهم الذين عاصروا عهد تنزيل‬
‫الكتاب‪ ،‬وعاشوا طريقة النبي × في إقامة حياة الناس عليه‪ ،‬فهم‬
‫أفهم الناس لروح الدين‪ ،‬وأعرف الناس بمقاصد الشرع‪ ،‬وأقدر‬
‫الناس على التمييز بين الحق والباطل‪ ،‬ومن المستبعد بل من‬
‫المحال أن يجتمعوا على باطل‪ ،‬لقول النبي ×‪» :‬إن أمتي ل‬
‫تجتمع على ضللة«)‪ ,(1‬ولهذا كان إجماعهم حجة يسوغ أن‬
‫تراعى وتوضع ضمن مصادر الدستور السلمي‪ ،‬وإجماع المة قد‬
‫يكون على فهم نص‪ ،‬ويجوز أن ينعقد الجماع عن اجتهاد وقياس‪،‬‬
‫ويكون حجة)‪.(2‬‬
‫م‬ ‫ه ْ‬
‫جاءَ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫والمجتهدين‪ :‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫وإ ِ َ‬
‫خوف أ َ‬
‫العلماء‬ ‫‪ -4‬مذهب‬
‫أ َمر من المن أ َ‬
‫دوهُ إ َِلى‬ ‫و َر ّ‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫َِ َ ْ‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫عوا‬ ‫ُ‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫و‬
‫ْ ِ ُِ‬ ‫ْ ٌ ّ َ‬
‫ه‬
‫طون َ ُ‬‫ست َن ْب ِ ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م ُ‬ ‫عل ِ َ‬
‫مل َ‬ ‫ه ْ‬‫من ْ ُ‬ ‫ر ِ‬ ‫وإ َِلى أوِلي ال ْ‬
‫م ِ‬ ‫ل َ‬‫سو ِ‬ ‫الّر ُ‬
‫م"]النساء‪.[83 :‬‬ ‫ه ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫ِ‬
‫)‪(3‬‬
‫والية دليل على الخذ بالجتهاد إذا عدم النص والجماع ‪,‬‬
‫ولن العلماء في أمة محمد × كالنبياء في بني إسرائيل‪ ،‬فهم‬
‫المؤتمنون على نقل العلم‪ ،‬والمفوضون في استنباط الحكام‬
‫المتجددة في عمومات الشريعة‪ ،‬ل لعصمة اختصوا بها ‪ -‬فليس‬
‫في السلم كهنوت ‪ -‬ولكن لهليتهم في أن يسموا »أهل الذكر«‬
‫ر ِإن ك ُن ُْتم ل َ‬ ‫ل الذّك ْ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫سأ َُلوا أ َ ْ‬‫فا ْ‬ ‫والله تعالى يقول‪َ + :‬‬
‫ن" ]النحل‪.[43 :‬‬ ‫مو َ‬ ‫عل َ ُ‬‫تَ ْ‬
‫فما ذهب إليه العلماء المجتهدون في المة وإن لم يكن حجة‬
‫في ذاته‪ ،‬إل أنه يساعد كثيرا في فهم روح الشريعة وقواعدها‪،‬‬
‫ومعالجة ما يستجد من قضايا في ضوء هذا الفهم‪ ،‬ثم إن لهم‬
‫القدرة على ضبط المناط في الحكام وقياس الفروع على‬
‫الصول فيها)‪.(4‬‬
‫ابن ماجه‪ ،‬كتاب الفتن‪ ،‬باب السواد العظم )‪ (2/464‬رقم ‪.4014‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬روضة الناظر وجنة المناظر )‪.(1/385‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(5/292‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬الدستور العلمي للمودودي‪ ،‬ص ‪.6 ،5‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪419‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وعلماء القرون الولى هم ‪ -‬ول شك ‪ -‬المقدمون في هذا‬


‫المضمار‪ ،‬ثم يقدم العالم كلما كان أكثر قربا من علماء السلف‬
‫في الهدى والسمت وعمق الفهم‪ ،‬وغزارة العلم‪ ،‬فمذاهب العلماء‬
‫المجتهدين هي رابع مصادر الدستور السلمي)‪.(1‬‬
‫إن الدستور السلمي للدولة الصالحة يشتمل على قواعد‬
‫ونظم توضح نظام الحكم وتنظيم السلطات العامة وارتباط بعضها‬
‫ببعض‪ ،‬وتحديد كل سلطة من السلطات الثلث‪ ،‬التشريعية‬
‫والقضائية‪ ،‬والتنفيذية بكل دقة ووضوح‪ ،‬وتوضيح حقوق الفراد‬
‫على الدولة‪ ،‬وواجباتهم نحوها‪ ،‬والحقوق بكل تفصيلتها معنوية‬
‫ومادية‪ ،‬وكذلك الواجبات واللتزامات ووضع القوانين المفصلة‬
‫للدستور مثل‪:‬‬
‫القانون المدني‪ ،‬والقانون الجنائي‪ ،‬والقانون العام بحيث يكون‬
‫ذلك كله مستمدا من المصادر المذكورة‪ ،‬إن هذه الدعامة عندما‬
‫تقوم على ما ينبغي تقوى الدولة المسلمة وتحمي أنظمة الحياة‬
‫من عبث العابثين الذين ل يدركون الحق في سياسة الرعية‪ ،‬أو‬
‫يدركونه لكنهم ينحرفون عنه‪ ،‬لقد جاءت هذه الشريعة لسد حاجة‬
‫المسلمين من الحكام فما توفى رسول الله × إل وقد بّين لمته‬
‫كل شيء‪ ،‬ولم يبق للعلماء في ذلك من دور إل إظهار حكم الله‬
‫ورسوله وتفسير النصوص الشرعية وفق قواعد السلم الكلية‪.‬‬
‫إن تطبيق الشريعة السلمية يحقق نتائج طيبة في حياة‬
‫المسلمين‪ ،‬ومن هذه النتائج تهذيب النفس من الشرور والثام‬
‫وترويضها على الخير‪ ،‬لذا كان الوازع الديني ثمرة من ثمارها يمنع‬
‫من ارتكاب الجريمة‪ ،‬ويحاسب النفس عليها‪ ،‬ويكون ماثل أمام‬
‫العين مما يجعل النفس تخشى الله وتتقيه دائما وأبدا‪ ،‬كما أنها‬
‫تحقق المساواة بين المسلمين في الحقوق والواجبات وتنشر‬
‫العدالة في الدولة السلمية لجميع ساكنيها‪ ،‬كما أن في تطبيقها‬
‫نزول البركة‪ ،‬وتوالي النعم‪ ،‬إذ ليس هنالك طريق مستقل لحسن‬
‫الجزاء في الخرة‪ ،‬وطريق مستقل لصلح الحياة في الدنيا إنما‬
‫هو طريق واحد‪ ،‬تصلح به الدنيا والخرة‪ ،‬وفي تطبيقها بركات في‬
‫النفوس وبركات في المشاعر وبركات في طيبات الحياة‪ ،‬فالبركة‬
‫قد تكون مع القليل إذا أحسن النتفاع به‪ ،‬ومن نتائج تطبيقها بناء‬
‫مجتمع إسلمي معتز بدينه وعقيدته بما التزمه من سلوك مصدره‬
‫كتاب الله وسنة رسوله ×‪ ,‬ففيهما المواد اللزمة لبناء الفرد‬
‫المسلم والجماعة المسلمة والمة المسلمة والدولة المسلمة‪،‬‬
‫كما أن من النتائج حفز الهمم‪ ،‬وبعث النفوس إلى الخذ بأسباب‬
‫العلم والحضارة والرقي والتقدم لما تضمنته تلك الشريعة من‬
‫الدعوة إلى الحياة كما أنها تتضمن نبذ عفن الحياة الحضاري‬

‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/542‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪420‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫لمجتمعات الرذيلة أيا كانت وأينما وجدت)‪.(1‬‬


‫ب‪ -‬الحاكم الصالح‪:‬‬
‫إن الحاكم إذا كان صالحا‪ ،‬مستوفيا للصفات الشرعية‪ ،‬فإنه‬
‫يكون إحدى الدعائم القوية التي تشد من أزر دولة السلم وتعينها‬
‫على القيام بوظائفها السامية خير قيام‪ ،‬استجلبا للخير ودفعا‬
‫للشر‪.‬‬
‫وبقدر ما يأتي الخير ويكثر في وجود المام الصالح‪ ،‬بقدر ما‬
‫يتفاعل الشر وتتفاقم الفتن في حالة خلو الزمان منه‪ ،‬يقول‬
‫المام أحمد رحمه الله‪» :‬الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس‬
‫« ويقول أيضا‪» :‬لبد للناس من حاكم‪ ،‬أتذهب حقوق الناس؟« )‪.(2‬‬
‫والصل في المام أن يكون صالحا في نفسه‪ ،‬قدوة لغيره‪،‬‬
‫فكلمة )المام( نفسها تدل على ذلك‪ ،‬فمعنى المام‪ :‬القدوة‪ ،‬ومنه‬
‫قيل لخشبة البناء‪ :‬إمام‪ ،‬ويقال للطريق‪ :‬إمام‪ ،‬لنه يؤم فيه‬
‫المسالك‪ ،‬أي يقصد)‪.(3‬‬
‫عل ُ َ‬
‫ك‬ ‫جا ِ‬ ‫وقد قال الله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلم‪+ :‬إ ِّني َ‬
‫ما" ]البقرة‪ [124 :‬أي »جعلناك إماما للناس يأتمون بك‬ ‫ما ً‬
‫س إِ َ‬‫ِللّنا ِ‬
‫في الخصال‪ ،‬ويقتدي بك الصالحون «)‪.(4‬‬
‫ولهذا فإن الذين يفتقدون إلى الصلح ل يستحقون المامة‪،‬‬
‫من‬ ‫و ِ‬‫فإبراهيم عليه السلم قال لربه بعد ما بشره بالمامة‪َ + :‬‬
‫ذُّري ِّتي" ]البقرة‪ [124 :‬على جهة الستفهام‪ ،‬أي ومن ذريتي يا رب‬
‫ماذا يكون؟ فأخبره الله تعالى أن فيهم عصاة ظالمين ل‬
‫ن" ]البقرة‪:‬‬ ‫مي َ‬
‫ظال ِ ِ‬‫دي ال ّ‬ ‫ه ِ‬‫ع ْ‬‫ل َ‬ ‫يستحقون المامة‪ ,‬قال ‪+‬ل َ ي ََنا ُ‬
‫‪ [124‬والعهد المراد في الية هو‪ :‬النبوة أو المامة‪ ،‬أو ولية‬
‫المر)‪.(5‬‬
‫ن"‬‫مي َ‬ ‫دي ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ه ِ‬‫ع ْ‬ ‫قال القرطبي في تفسيره‪+ :‬ل َ ي ََنا ُ‬
‫ل َ‬
‫)استدل جماعة من العلماء بهذه الية على أن المام يكون من‬
‫أهل العدل والحسان‪ ،‬والفضل مع القوة على القيام بذلك‪ ,‬وهو‬
‫الذي أمر النبي × أل ينازعوا المر أهله‪ ،‬فأما أهل الفسوق والجور‬
‫والظلم فليسوا بأهله( )‪ ,(6‬وفي الية إشارة إلى أن المامة والعدل‬
‫فيها‪ ،‬أمانة وعهد‪ ،‬والجور والظلم فيها‪ ،‬خيانة لذلك العهد وهذا‬
‫يقال في كل ولية شرعية‪ ،‬يقول الشيخ رشيد رضا في تفسيره‬

‫انظر‪ :‬تطبيق الشريعة السلمية‪ ،‬د‪ .‬عبد الله الطريقي‪ ،‬ص ‪.61 ،60‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫الحكام السلطانية لبي يعلي‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬لسان العرب‪ ،‬مادة )أمم( )‪.(1/134‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تفسير القرطبي )‪.(2/107‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫تفسير الطبري )‪.(3/24‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫تفسير القرطبي )‪.(2/108‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪421‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لهذه الية‪» :‬الولية العامة الشرعية حق أهل اليمان والعدل‪،‬‬


‫والله تعالى لن يعهد بإمامة الناس وتولي أمورهم للظالمين‪ ،‬فكل‬
‫حاكم ظالم فهو ناقض لعهد‬
‫الله تعالى«)‪.(1‬‬
‫إن وجود الحاكم الصالح ضرورة إسلمية لتدعيم الدولة‬
‫الحاكمة بما أنزل الله‪ ،‬ولذلك نجد أن الشريعة السلمية قد‬
‫أوجبت تنصيبه‪ ،‬بحيث توافر الجماع على ذلك منذ عهد‬
‫الصحابة)‪ ،(2‬بل خلف معتبر‪ ,‬والصل في وجوب تنصيب المام‪ ،‬أن‬
‫الصحابة لما اختلفوا في سقيفة بني ساعدة‪ ،‬قالت النصار‪ :‬منا‬
‫أمير ومنكم أمير‪ ،‬دفعهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقالوا‪:‬‬
‫إن العرب ل تدين إل لهذا الحي من قريش‪ ،‬ودارت بين الفريقين‬
‫محاورات ومناظرات انتهت إلى مبايعة أبي بكر ‪ ‬خليفة لرسول‬
‫الله ×‪ ,‬فلول أن المامة واجبة لما ساغت تلك المحاورة‬
‫والمناظرة‪ ،‬ولقال قائل‪ :‬ليست في قريش‬
‫ول غيرهم)‪.(3‬‬
‫لقد كان إجماع الصحابة على ضرورة تنصيب خليفة مستمدا من‬
‫نصوص الكتاب والسنة الواضحة الدللة على هذا الوجوب)‪،(4‬‬
‫وحسمت الشريعة أمر المامة بكل وضوح‪ ،‬فجعلت شروطا في‬
‫المامة‪ ،‬وزادت الشريعة من ضبط هذا المر بأن جعلت أمر الترجيح‬
‫بهذه الشروط راجعا إلى خاصة المة المعروفين بـ )أهل الحل‬
‫والعقد(‪ .‬وأهل الحل والعقد ينظرون في الشروط التي حددتها‬
‫الشريعة لولي المر‪ ،‬وينوبون عن المة في اختيار رجل مستوف لتلك‬
‫الشرائط التي تعتبر المعيار الشرعي للصلح المطلوب في الحاكم‪.‬‬
‫ومن الجدير ذكره هنا‪ ،‬أن أهل الحل والعقد أنفسهم يخضعون‬
‫لشروط حددها أهل العلم من أهمها‪ :‬العدالة‪ ،‬العلم الذي يتوصل‬
‫به إلى معرفة من يستحق المامة‪ ،‬والثالث أن يكون من أهل‬
‫الرأي والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للمامة أصلح)‪.(5‬‬
‫وهذه المور ينص عليها دستور الدولة المستمد من الكتاب‬
‫والسنة المطهرة‪ ،‬كما أن الدستور يتضمن شروط المامة‬
‫العظمى‪ .‬إن الشريعة السلمية انفردت بكثير من السرار‬
‫والحكم مؤادها في النهاية أل يقدم لهذا المنصب الجليل إل من‬
‫يغلب على الظن أنه أهل لقيادة خير أمة أخرجت للناس‪ ،‬وهذه‬
‫الشروط منها ما هي شروط صحة‪ ،‬ومنها ما هي شروط كمال‪.‬‬
‫تفسير المنار )‪.(1/113‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬مراتب الجماع للمام أبي محمد بن حزم‪ ،‬ص ‪.124‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬الحكام السلطانية لبي يعلي‪ ،‬ص ‪.19‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/482‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫الحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي‪ ،‬ص ‪ 19‬وللماوردي‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪422‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الشرط الول‪ :‬السلم‪:‬‬


‫َ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫يا أي ّ َ‬ ‫والشارة إليه في قوله تعالى‪+ :‬‬
‫ل وَُ‬ ‫أ َطيعوا الله َ‬
‫م" ]النساء‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ال‬
‫)‪ِ ْ (1‬‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫أو‬ ‫سو َ َ‬ ‫عوا الّر ُ‬ ‫طي ُ‬ ‫وأ ِ‬‫َ َ‬ ‫ِ ُ‬
‫‪ ،[59‬أي ذوي أمركم ومن ولوه من المسلمين ‪.‬‬
‫وقال النووي رحمه الله‪) :‬أجمع العلماء على أن المامة ل‬
‫تنعقد لكافر‪ ،‬وعلى أنه لو طرأ عليه الكفر انعزل‪ ،‬قال‪ :‬وكذا لو‬
‫ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها()‪.(2‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬العدالة‪:‬‬
‫والعدالة هي التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل مع ترك‬
‫المعاصي‪ ,‬وكل ما يخل بالمروءة‪ ،‬وهي تثبت بالستفاضة‬
‫والشهرة)‪.(3‬‬
‫الشرط الثالث‪ :‬الذكورة‪:‬‬
‫أجمع العلماء على أن المرأة ل يجوز أن تكون إماما)‪.(4‬‬
‫قال الشنقيطي رحمه الله‪) :‬من شروط المام العظم كونه‬
‫ذكرا‪ ،‬ول خلف في ذلك بين العلماء‪ ،‬ويدل له ما ثبت في صحيح‬
‫البخاري وغيره أن النبي × لما بلغه أن فارسا ملكوا ابنة كسرى‪،‬‬
‫قال‪» :‬لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة«()‪.(5‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬القدرة وسلمة الحواس‪:‬‬
‫في‬ ‫ة ِ‬‫سطَ ً‬‫وَزادَهُ ب َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬ ‫فاهُ َ‬ ‫صطَ َ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الل َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫شاءُ" ]البقرة‪.[247 :‬‬ ‫من ي َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ك‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫تي‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ؤ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫والل‬ ‫سم ِ َ‬‫ج ْ‬ ‫وال ْ ِ‬
‫عل ْم ِ َ‬
‫ال ْ ِ‬
‫قال الشنقيطي‪» :‬أي يكون سليم العضاء‪ ،‬غير زمن ول أعمى‬
‫ونحو ذلك«)‪.(6‬‬
‫الشرط الخامس‪ :‬القرشية‪:‬‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬إن هذا المر في قريش‪ ،‬ل يعاديها أحد‬
‫إل كبه الله في النار على وجهه ما أقاموا الدين«)‪ ،(7‬وشرط‬
‫القرشية قد اختلف في كونه شرط صحة أو شرط كمال‪ ،‬وذهب‬
‫الجمهور إلى أنه شرط صحة‪ ،‬وكما أن شرط القرشية قيد بشرط‬
‫)( انظر‪ :‬تفسير الطبري )‪ (8/503‬تحقيق أحمد شاكر‪.‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( شرح صحيح مسلم للنووي )‪.(12/229‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الحكام السلطانية للفراء‪ ،‬ص ‪.4‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬الفصل بين الملل والنحل )‪ ,(4/110‬ومراتب الجماع‪ ،‬ص ‪.125‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الفتن‪ ،‬باب‪ ،18 :‬حديث رقم ‪ ،7099‬فتح الباري )‪.(13/58‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( أضواء البيان )‪(1/57‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( البخاري‪،‬كتاب الحكام‪ ،‬باب‪ :‬المراء من قريش‪ ،‬فتح الباري )‪ (13/122‬رقم‬ ‫‪7‬‬

‫‪.7139‬‬

‫‪423‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وهو‪ :‬إقامة الدين الذي هو المطلب من وراء المامة‪.‬‬


‫الشرط السادس‪ :‬الحرية‪:‬‬
‫ل خلف بين العلماء في أن من شروط المام العظم أن‬
‫يكون حرا‪ ،‬فل يجوز أن يكون قائد المة من العبيد‪ ،‬ونقل عنهم‬
‫الجماع على ذلك)‪.(1‬‬
‫الشرط السابع‪ :‬البلوغ‪:‬‬
‫لبد لمن يتولى أمر المسلمين أن يكون رجل‪ ،‬فالصبيان ل يليق‬
‫أن يلوا المور العظام‪ ،‬والجماع منعقد على عدم جواز إمامة‬
‫الصبي لعدم قدرته على القيام بأعباء الحكم )‪.(2‬‬
‫الشرط الثامن‪ :‬العقل‪:‬‬
‫ل نزاع بين أهل العلم في أن المجنون أو المعتوه ل تجوز‬
‫إمامته »لن المامة تدبير‪ ،‬والعقل آلة التدبير‪ ،‬فإذا ذهب العقل‬
‫ذهب التدبير«)‪.(3‬‬
‫الشرط التاسع‪ :‬العلم المؤدي إلى الجتهاد‪:‬‬
‫وهو شرط عند علماء المسلمين في المام‪ ،‬بحيث يصلح أن‬
‫يكون قاضيا من قضاة المسلمين وحتى يمكنه الستغناء عن‬
‫استفتاء غيره في الملمات والحوادث‪.‬‬
‫وصرح الشاطبي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬بعدم صحة عقد المامة لمن‬
‫لم ينل رتبة الجتهاد والفتوى‪ ،‬فقال‪» :‬إن العلماء نقلوا التفاق‬
‫على أن المامة الكبرى ل تنعقد إل لمن نال رتبة الجتهاد والفتوى‬
‫في علوم الشرع«)‪.(4‬‬
‫وذهب بعض العلماء إلى أن هذا شرط كمال وليس شرط‬
‫صحة‪ ،‬ومن رأى أنه شرط صحة أجاز ولية غير المجتهد عند‬
‫الضرورة‪ ,‬وهذا ما صرح به الشاطبي بقوله‪» :‬إذا فرض خلو‬
‫الزمان عن مجتهد يظهر بين الناس‪ ،‬وافتقروا إلى إمام يقدمونه‬
‫لجريان الحكام وتسكين ثورة الثائرين والحياطة على دماء‬
‫المسلمين وأموالهم‪ ،‬فلبد من إقامة المثل ممن ليس بمجتهد‪،‬‬
‫لنا بين أمرين‪ ،‬إما أن يترك الناس فوضى‪ ،‬وهو عين الفساد‬
‫والهرج‪ ،‬وإما أن يقدموه فيزول الفساد به‪ ،‬ول يبقى إل فوات‬
‫الجتهاد«)‪.(5‬‬
‫الشرط العاشر‪ :‬الحنكة في أمور الحرب والسلم‪:‬‬
‫انظر‪ :‬الحكام السلطانية لبي يعلي‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫تفسير القرطبي )‪ ،(1/270‬انظر‪ :‬الفصل بين الملل والنحل )‪(4/11‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪(2/494‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫العتصام للشاطبي )‪.(2/126‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫العتصام للشاطبي )‪.(2/126‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪424‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫فينبغي لولي أمر المسلمين أن يكون ذا خبرة ورأي حصيف‬


‫في أمور الحرب مثل‪ :‬تدبير الجيوش‪ ،‬وسد الثغور وحماية بيضة‬
‫المسلمين ومنازلة العداء‪ ,‬وحسن الستفادة من الصدقاء‪،‬‬
‫وكذلك في أمور السلم بأن يملك زمام المة ويأخذ من ظالمها‬
‫لمظلومها ولضعيفها من قويها‪ ،‬ويقيمها على الحق ويقيم بها‬
‫الحق)‪.(1‬‬
‫وعد القاضي أبو يعلي من شرط المام »أن يكون قيما بأمر‬
‫الحرب والسياسة وإقامة الحدود‪ ،‬ل تلحقه رأفة في ذلك«)‪ ،(2‬وهذا‬
‫الشرط من شروط الصحة عنده وعند الماوردي)‪ ,(3‬وكذلك ابن‬
‫خلدون)‪.(4‬‬
‫على أن الشروط المعتبرة‪ ،‬رغم نص العلماء عليها‪ ،‬ليست‬
‫ضربة لزب كلها‪ ،‬بحيث لو وجد شخص فيه معظمها ل تنعقد له‬
‫المامة حتى توجد فيه كلها‪ ،‬ل‪ ،‬بل إن في المر مرونة تناسب‬
‫تغير الحوال بل قال القرطبي‪» :‬يجوز نصب المفضول مع وجود‬
‫الفاضل خوف الفتنة وأل يستقيم أمر المة‪ ,‬وذلك أن المام إنما‬
‫نصب لدفع العدو وحماية البيضة وسد الخلل‪ ،‬واستخراج الحقوق‬
‫وإقامة الحدود‪ ،‬وجباية الموال لبيت المال وقسمتها على أهلها‪،‬‬
‫فإذا خيف بإقامة الفضل الهرج والفساد وتعطيل المور التي‬
‫لجلها ينصب المام‪ ،‬كان ذلك عذرا ظاهرا في العدول عن‬
‫الفاضل للمفضول‪ ،‬ويدل على ذلك أيضا علم عمر وسائر المة‬
‫وقت الشورى بأن الستة)‪ ،(5‬فيهم فاضل ومفضول«)‪.(6‬‬
‫ول شك أن من أهداف مرحلة التمكين تقديم الحاكم الصالح الذي‬
‫تتدعم به‬
‫دولة السلم‪.‬‬
‫إن إقامة الدستور على نهج كتاب الله وسنة رسوله × وبيان‬
‫شروط الحاكم من خلله من أهداف مرحلة التمكين‪ ،‬إن القرآن‬
‫الكريم ذكر للحاكم الصالح صفات وملمح ل تقف عند حد الجزاء‬
‫والصحة‪ ،‬وإنما تتجاوزهما إلى حد السمو والرفعة‪ ,‬وكيف ل يكون‬
‫المر كذلك‪ ،‬والحاكم هو أسوة العامة‪ ,‬وقائد الخاصة‪ ،‬والفرد الول‬
‫في المة‪ ،‬المقدم لقيادة الركب في كل المهمات والملمات‪.‬‬
‫إن في القرآن كثيرا من الصفات العظيمة التي يحبها المولى‬

‫)( انظر‪ :‬تفسير القرطبي )‪.(1/270‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الحكام السلطانية لبي يعلي‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الحكام السلطانية للماوردي‪ ،‬ص ‪.6‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( انظر‪ :‬المقدمة‪ ،‬ص ‪.193‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( الستة هم الذين نصح عمر ‪ ‬المسلمين أن يختاروا واحدا منهم لولية المر‬ ‫‪5‬‬

‫بعده حين طلب إليه أن يعهد عهدا‪ ،‬وهم‪ :‬علي‪ ،‬وعثمان‪ ،‬وعبد الرحمن بن‬
‫عوف‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬والزبير بن العوام‪ ،‬وطلحة بن عبيد الله‪.‬‬
‫)( تفسير القرطبي )‪.(5/259‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪425‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫عز وجل‪ ,‬وسنرى ذلك بإذن الله في بعض شخصيات المرسلين‪.‬‬


‫جـ‪ -‬الرعية الصالحة‪:‬‬
‫إن من أهداف مرحلة التمكين إيجاد دعائم دولة السلم ومن‬
‫أهمها الهتمام بالرعية وتربيتها على نهج رب البرية لتصبح مؤمنة‬
‫بربها مصلحة في حياتها‪ ,‬تتحمل إقامة الحياة السلمية على‬
‫شريعة الله وتقوم بإلزام الحكام على الستقامة على شريعة الله‪,‬‬
‫فالرعية هي التي تمد الحاكم بشرعية الولية‪ ،‬وتوظيفهم في‬
‫مهمة تحكيم شرع الله‪ ،‬قال القرطبي‪» :‬إقامة مراسيم الدين‬
‫واجبة على المسلمين‪ ،‬ثم المام ينوب عنهم«)‪.(1‬‬
‫فالرعية الصالحة قيمة على مسلك الولة‪ ،‬بحيث إذا زاغوا عن‬
‫السبيل ردتهم‪ ،‬وإذا اعوجوا قومتهم‪ ،‬فإن أبوا إل النحراف‬
‫والبتعاد عن الطريق المستقيم خلعتهم وأبعدتهم‪ ,‬والمة المسلمة‬
‫ليست كأية أمة‪ ،‬ول ينبغي لشعوبها أن تكون رعية كأية رعية‪،‬‬
‫تساق فتنساق‪ ,‬وتوجه فتتوجه‪ ،‬إنها أمة صاحبة رسالة وحاملة‬
‫أمانة‪ ،‬اختارها الله بين المم وأرسل فيها أفضل الرسول‪ ،‬وأنزل‬
‫إليها أحسن الكتب‪ ،‬وخصها بأفضل شريعة وكفلها بأسمى رسالة‬
‫ن‬
‫مُرو َ‬‫س َتأ ُ‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫ر َ‬ ‫خ ِ‬‫ة أُ ْ‬ ‫م ٍ‬
‫ُ‬
‫خي َْر أ ّ‬ ‫م َ‬ ‫كما قال سبحانه‪+ :‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ه" ]آل عمران‪:‬‬ ‫بالل ِ‬ ‫ن ِ‬
‫)‪(2‬‬
‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫وت ُ ْ‬
‫ر َ‬ ‫من ْك َ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫ع ِ‬‫ن َ‬ ‫و َ‬‫ه ْ‬
‫وت َن ْ َ‬
‫ف َ‬
‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬‫ِبال ْ َ‬
‫‪ [110‬فهم خير الناس للناس وأنفع الناس للناس ‪.‬‬
‫إن أمة السلم تحتاج لكي تقوم بمهمتها في هداية الناس‬
‫للخير إلى أن تكون صالحة في نفسها مصلحة لغيرها‪ ،‬فهي‬
‫الشهيدة على المم لنها أمة الوسط‪.‬‬
‫طا ل ّت َ ُ‬‫س ً‬ ‫ك جعل َْناك ُ ُ‬
‫كوُنوا‬ ‫و َ‬‫ة ََ‬ ‫م ً‬ ‫مأ ّ‬ ‫ْ‬ ‫وك َذَل ِ َ َ َ‬ ‫سبحانه‪َ + :‬‬ ‫قال‬
‫دا" ]البقرة‪:‬‬‫هي ً‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬ ‫سو ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ش ِ‬ ‫علي ْك ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫وي َكو َ‬ ‫س َ‬ ‫على الّنا ِ‬ ‫داءَ َ‬‫ه َ‬‫ش َ‬
‫‪ .[143‬إن الدستور السلمي في دولة الشريعة بّين حقوق الرعية‬
‫على الحاكم وحقوق الراعي على المحكومين بدقة متناهية‪.‬‬
‫إن من أهداف مرحلة التمكين بيان حقوق الرعية على‬
‫الراعي وحث الحاكم على تنفيذها‪ ،‬ومن أهم هذه الحقوق‪:‬‬
‫‪ -1‬العمل على البقاء على عقيدة المة صافية نقية‪.‬‬
‫‪ -2‬بذل السباب المؤدية إلى وحدة المة‪.‬‬
‫‪ -3‬أن يعمل الولة على حماية المة من المفسدين‬
‫والمحاربين‪.‬‬
‫‪ -4‬أن يعملوا على حماية المة من أعداء الخارج‪.‬‬

‫)( تفسير القرطبي )‪(12/261‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير ابن كثير )‪.(1/369‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪426‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫‪ -5‬إعداد المة إعداد جهاديا‪.‬‬


‫‪ -6‬حفظ ما وضعت الشريعة لجله‪.‬‬
‫تحصيل الصدقات وأموال الزكاة والخراج والفيء وصرفها في‬ ‫‪-7‬‬
‫مصارفها الشرعية‪.‬‬
‫‪ -8‬تحري المانة في اختيار أرباب المناصب‪.‬‬
‫‪ -9‬إعطاء حقوق الرعية وما يستحقونه في بيت المال من غير‬
‫سرف ول تقتير‪ ،‬ودفعه في وقت ل تقديم فيه ول تأخير‪.‬‬
‫‪ -10‬الشراف المباشر على سير المور بين الرعية في كل‬
‫النواحي الدارية التي تتعلق بما يصلح أحوالهم)‪.(1‬‬
‫فإذا استوفت الرعية حقوقها من ولتها فلبد أن تؤدي واجباتها‬
‫إليهم‪ ,‬فإن لولة المر حقوقا على الرعية واجبة في أعناقهم‪،‬‬
‫ولذلك فإن من أهداف مرحلة التمكين بيان هذه الحقوق في‬
‫دستور الدولة وتذكير الناس باللتزام بها‪.‬‬
‫ومن واجبات الرعية تجاه الولة‪:‬‬
‫‪ -1‬الطاعة‪:‬‬
‫عوا‬ ‫قال تعالى‪+:‬يا أ َيها ال ّذين آمُنوا أ َطيعوا الله َ‬
‫طي ُ‬
‫وأ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ِ ُ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫َ ّ َ‬ ‫ل ُ‬
‫من ْك ُ ْ‬
‫م"]النساء‪.[59 :‬‬ ‫ر ِ‬ ‫وأوِلي ال ِ‬
‫م‬
‫ْ‬ ‫سو َ َ‬
‫الّر ُ‬
‫قال القرطبي‪» :‬لما تقدم إلى الولة في الية المتقدمة وبدأ‬
‫بهم فأمرهم بأداء المانات‪ ،‬وأن يحكموا بين الناس بالعدل‪ ،‬تقدم‬
‫في هذه الية فأمر الرعية بطاعته جل وعل أول وهي امتثال‬
‫أوامره واجتناب نواهيه‪ ،‬ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى‬
‫ثالثا‪ ،‬على قول الجمهور وأبي هريرة وابن‬ ‫عنه‪ ،‬ثم بطاعة المراء ً‬
‫عباس وغيرهم«)‪.(2‬‬
‫وفي المجتمع السلمي‪ ،‬الشريعة فوق الجميع‪ ،‬يخضع لها‬
‫الحاكم والمحكوم‪ ،‬ولهذا فإن طاعة الحكام مقيدة دائما بطاعة‬
‫الله ورسوله‪ ،‬كما قال رسول الله ×‪» :‬ل طاعة في المعصية إنما‬
‫الطاعة في المعروف« )‪.(3‬‬
‫‪ -2‬النصرة‪:‬‬
‫فالواجب على الرعية نصرة المام الحاكم بما أنزل الله‬
‫ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين وجهاد العدو‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(323 – 2/315‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير القرطبي )‪.(5/259‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الحكام‪ ،‬باب السمع والطاعة للمام‪ ،‬حديث رقم ‪) 7145‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪.(8/135‬‬

‫‪427‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وى" ]المائدة‪.[2 :‬‬


‫ق َ‬ ‫عَلى اْلبّر َ‬
‫والت ّ ْ‬ ‫وُنوا َ‬‫عا َ‬
‫وت َ َ‬
‫‪َ +‬‬
‫قال ×‪» :‬من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد منكم‪ ،‬يريد‬
‫أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه« )‪ ,(1‬ومن نصرة‬
‫المام أل يهان‪ ،‬ومن معاضدته أن يحترم‪ ،‬وأن يكرم‪ ,‬فقوامته على‬
‫المة وقيادته لها لعلء كلمة الله‪ ،‬تستوجب تبجيله وإجلله‬
‫وإجلل‪ ،‬وإكراما لشرع الله سبحانه الذي ينافح‬ ‫ً‬ ‫وإكرامه تبجيلً‬
‫ويدافع عنه‪ ،‬يقول رسول‬
‫الله ×‪» :‬إن من إجلل الله تعالى‪ :‬إكرام ذي الشيبة المسلم‪،‬‬
‫وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه‪ ،‬وإكرام ذي السلطان‬
‫المقسط« )‪.(2‬‬
‫‪ -3‬النصح‪:‬‬
‫إن السلم أوجب على الرعية أن تناصح ولة أمرها قال ×‪:‬‬
‫»الدين النصيحة ‪ -‬ثلثا ‪ -‬قال الصحابة‪ :‬لمن يا رسول الله؟ قال‪:‬‬
‫لله ‪-‬عز وجل‪ -‬ولكتابه ولرسوله ولئمة المسلمين وعامتهم« )‪.(3‬‬
‫وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يتناصحون ‪ -‬رعاة ورعية‬
‫‪ ,-‬فهذا عمر ‪ ‬درة الولة‪ ،‬وفخر الئمة في هذه المة يقول‬
‫ي عيوبي«)‪.(4‬‬
‫للرعية‪» :‬رحم الله من أهدى إل ّ‬
‫‪ -4‬التقويم‪:‬‬
‫لقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء المة على الستقامة‬
‫رهن باستقامة ولتها‪ ،‬فهذا أبو بكر ‪ ‬عندما اختير للخلفة‪ ،‬قام‬
‫في الصحابة خطيبا فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه بالذي هو‬
‫أهله‪» :‬أما بعد‪ ،‬أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم‪،‬‬
‫فإن أحسنت فأعينوني‪ ،‬وإن أسأت فقوموني‪ ،‬الصدق أمانة‪،‬‬
‫والكذب خيانة‪ ،‬والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه‬
‫إن شاء الله‪ ,‬والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء‬
‫الله‪ ،‬ل يدع قوم الجهاد في سبيل الله إل خذلهم الله بذل‪ ،‬ول‬
‫تشيع الفاحشة في قوم إل عمهم الله بالبلء‪ ،‬أطيعوني ما أطعت‬
‫الله ورسوله‪ ،‬فإذا عصيت الله ورسوله‪ ،‬فل طاعة لي عليكم‪،‬‬
‫قوموا إلى صلتكم يرحمكم الله«)‪.(5‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب المارة باب حكم من فرق أمر المسلمين )‪ (3/1480‬رقم‬ ‫‪1‬‬

‫‪.1852‬‬
‫)( رواه أبو داود‪ ،‬كتاب الدب‪ ,‬باب تنزيل الناس منازلهم‪ ،‬رقم الحديث ‪،4822‬‬ ‫‪2‬‬

‫وصححه اللباني‪ ،‬انظر‪ :‬صحيح سننه أبي داود )‪ (3/1918‬رقم ‪.4053‬‬


‫)( مسلم‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب بيان أن الدين النصيحة )‪ (1/74‬رقم ‪.55‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( أورده المام الدارمي في مقدمة سننه )‪.(1/169‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( البداية والنهاية لبن كثير )‪ (6/306‬وقال ابن كثير‪ :‬إسناده صحيح‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪428‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وكان عمر ‪ ‬ل يكتفي بإنصاف الناس من نفسه‪ ،‬حتى‬


‫ينصفهم من عماله وولته‪ ،‬ويسأل الرعية عمن أساء منهم‪ ،‬وكان‬
‫يقول‪» :‬إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم وليشتموا‬
‫أعراضكم ويأخذوا أموالكم‪ ،‬ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب‬
‫ي‪،‬‬‫ظلمه‪(1‬عامله بمظلمة فل إذن له عل ّ‬ ‫ربكم وسنة نبيكم‪ ،‬فمن‬
‫)‬
‫ي حتى أقصه منه« ‪.‬‬ ‫ليرفعها إل ّ‬
‫إن العلقة بين الراعي والراعية ‪ -‬كما تحدد الشريعة معالمها ‪-‬‬
‫هي علقة التعاون والتعاضد مع النزاهة والتجرد‪ ،‬فهي علقة هدفها‬
‫إعلء كلمة الله‪.‬‬
‫إن من أهداف مرحلة التمكين تحقيق دعائم الدولة في دنيا‬
‫الوجود المتمثلة في نظام حكم شرعي‪ ،‬وحاكم صالح‪ ،‬ورعية‬
‫صالحة مصلحة‪.‬‬
‫ثانيًا‪ :‬إقامة قواعد النظام السلمي‪:‬‬
‫ويدخل ضمنا في أهداف التمكين الحرص على إقامة قواعد‬
‫النظام السلمي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم‪ ,‬ومن أهم‬
‫هذه القواعد الشورى‪ ،‬والعدل‪ ،‬والمساواة‪ ،‬والحريات‪.‬‬
‫أ‪ -‬الشورى‪:‬‬
‫إن تداول الرأي في الحوادث مارسته الشعور منذ أقدم‬
‫العصور‪ ،‬مارسه العرب والفرس‪ ،‬والمصريون‪ ،‬والهنود‪ ،‬والرومان‪،‬‬
‫والصينيون‪ ،‬ومارسه الملوك والفراعنة‪ ،‬ولم يوجد شعب ول أمة‬
‫إل مارسته في القديم والحديث‪.‬‬
‫إن ملكة سبأ عندما وصلها كتاب من سليمان عليه السلم‬
‫يدعوها فيه إلى الذعان بالوحدانية والربوبية وإلى الطاعة‬
‫والسلم دعت المل وهم أشراف الناس من قومها ووجوههم‬
‫ه‬
‫م ‪ ‬إ ِن ّ ُ‬ ‫ري ٌ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب كَ‬ ‫ي ك َِتا ٌ‬ ‫ّ‬ ‫ي إ ِل َ‬ ‫َ‬ ‫المقربون)‪ (2‬إليها قالت‪+ :‬إ ِّني أ ُل ْ ِ‬
‫ق‬
‫عُلوا‬ ‫حي ُم َِ ‪ ‬أل ّ ت َ ْ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫مَ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ه الّر ْ‬ ‫سم ِ الل ِ‬ ‫ه بِ ْ‬ ‫وإ ِن ّ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َ ْي ْ َ‬ ‫من ُ‬ ‫ِ‬
‫في‬ ‫فُتوِني ِ‬ ‫مل أ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ها‬ ‫ي‬
‫ْ َ ّ َ‬ ‫أ‬ ‫يا‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫ن‬ ‫مي‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫تو‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫قا ْطع ً َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ َ‬
‫‪‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ح ُ‬ ‫قاُلوا ن َ ْ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫دو ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫ش َ‬ ‫حّتى ت َ ْ‬ ‫مًرا َ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫ت َ ِْ َ‬ ‫ما ُ‬
‫كن ُ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫أُ ْ‬
‫ما َ‬
‫ذا‬ ‫ري َ‬ ‫فانظُ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫مُر إ ِل َي ْ ِ‬ ‫وال ْ‬ ‫د َ‬ ‫دي ٍ‬‫ش ِ‬ ‫س َ‬ ‫وأولو ب َأ ٍ‬
‫ة َ ُ‬ ‫و ٍ‬ ‫ق ّ‬ ‫أوُلو ُ‬
‫ْ‬
‫ن" ]النمل‪.[33-29 :‬‬ ‫ري َ‬ ‫م ِ‬ ‫ت َأ ُ‬
‫إن القرآن الكريم يقدم لنا درسا في الخذ بنظام الشورى‪ ،‬إذ‬
‫يقص علينا قصة ملكة سبأ عندما تلقت تهديد سليمان بالزحف على‬
‫مملكتها‪ ,‬فلم تنفرد باتخاذ موقف لوحدها ثم تطلب تنفيذه‪ ،‬وإنما‬
‫)‪(3‬‬
‫جمعت أشراف قومها وطلبت منهم الراء في هذا الموضع الخطير ‪.‬‬
‫)( الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(2/533‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬عز الدين التميمي‪ ،‬ص ‪.17‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬دعوة سليمان‪ ،‬علي منسي عشكان‪ ،‬ص ‪.69‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪429‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن الشورى واجبة على الحاكم في الشريعة السلمية‪ ,‬وإلى‬


‫هذا القول ذهب كثير من العلماء والفقهاء‪ ،‬فل يحل للحاكم أن‬
‫يتركها وأن ينفرد برأيه دون مشورة المسلمين من أهل الشورى‪،‬‬
‫كما ل يحل للمة السلمية أن تسكت على ذلك‪ ،‬وأن تتركه ينفرد‬
‫بالرأي دونها‪ ،‬ويستبد بالمر دون أن يشركها فيه‪ ،‬فإن أقدم على‬
‫هذا المر فقد ارتكب منكرا‪ ،‬ينبغي عليها أن تنكره عليه‪ ،‬أخذا‬
‫بحديث رسول الله × الذي رواه المام مسلم رحمه الله قال‪:‬‬
‫قال رسول الله ×‪» :‬من رأى منكم منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم‬
‫يستطع فبلسانه‪ ،‬فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف اليمان« )‪.(1‬‬
‫فالحاكم المستبد آثم بتركه واجب الستشارة‪ ،‬والمة آئمة‬
‫لتركها واجب المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وبوسع المة إذا‬
‫كانت متماسكة على قلب رجل واحد عزله وتحرير المة منه ومن‬
‫)‪(2‬‬
‫ظلمه واستبداده‪ ،‬بل الشرع يفرض عليها ذلك‪ ،‬قال ابن عطية‬
‫رحمه الله تعالى‪» :‬والشورى من قواعد الشريعة وعزائم الحكام‪،‬‬
‫ومن ل يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب‪ ،‬هذا ما ل خلف‬
‫فيه«)‪.(3‬‬
‫وقال الجصاص الحنفي)‪ - (4‬رحمه الله ‪ -‬في تفسيره بأحكام‬
‫م"‬ ‫م ُ‬ ‫القرآن معقبا على قوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ه ْ‬
‫شوَرى ب َي ْن َ ُ‬‫)‪(5‬‬
‫ه ْ‬
‫مُر ُ‬
‫وأ ْ‬
‫َ‬
‫]الشورى‪ [38 :‬وهذا يدل على أننا مأمورون بها ‪.‬‬
‫قال الطاهر بن عاشور‪» :‬مجموع كلم الجصا ص يدل على أن‬
‫مذهب أبي حنيفة وجوبها«)‪.(6‬‬
‫وقال النووي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬واختلف أصحابنا هل كانت‬
‫الشورى واجبة على رسول الله × أم كانت سنة في حقه كما في‬
‫حقنا‪ ،‬والصحيح عندهم وجوبها‪ ،‬وهو المختار‪ ,‬قال الله تعالى‬
‫ر" والمختار الذي عليه جمهور الفقهاء‬ ‫م ِ‬
‫في ال ْ‬
‫م ِ‬
‫ه ْ‬
‫وْر ُ‬ ‫و َ‬
‫شا ِ‬ ‫‪َ +‬‬
‫)‪(7‬‬
‫ومحققو الصول أن المر للوجوب « ‪.‬‬
‫وقال شيخ السلم ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬ل غنى لولي‬
‫)( مختصر صحيح البخاري للمنذري‪ ،‬ص ‪ ،16‬رقم الحديث ‪.34‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( هو عبد الحق بن غالب بن عبد الرحمن بن عبد الرءوف بن تمام بن عطية‪،‬‬ ‫‪2‬‬

‫يكنى أبا محمد‪ ،‬وهو من نسل زيد ابن محارب‪ ,‬وكان فقيها عالما بالتفسير‬
‫والحكام والحديث والفقه والنحو واللغة‪ ,‬توفي عام ‪546‬هـ‪ ،‬انظرالديباج‬
‫المذهب في معرفة علماء المذهب‪ ،‬ص ‪.175 ،174‬‬
‫)( المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز )‪.(3/397‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( هو أبو بكر أحمد بن علي الرازي كان مشهورا بالزهد والورع‪ ,‬تبحر في‬ ‫‪4‬‬

‫العلوم وتلقى على يديه خلق كثير توفي ‪370‬هـ‪ ،‬الطبقات السنية في تراجم‬
‫الحنفية )‪.(480 – 1/477‬‬
‫)( أحكام القرآن للجصاص )‪.(3/386‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( التحرير والتنوير )‪.(4/149‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( شرح النووي على مسلم )‪.(4/76‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪430‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المر عن المشاورة‪ ،‬فإن الله تعالى أمر بها نبيه ×‪ ,‬فقال تعالى‪:‬‬
‫ذا‬ ‫ر َ‬
‫فإ ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫في ال ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬‫وْر ُ‬ ‫شا ِ‬ ‫و َ‬ ‫م َ‬‫ه ْ‬‫فْر ل َ ُ‬ ‫غ ِ‬
‫ست َ ْ‬
‫وا ْ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬‫عن ْ ُ‬‫ف َ‬ ‫ع ُ‬‫فا ْ‬‫‪َ +‬‬
‫ن" ]آل‬ ‫ّ‬
‫وكِلي َ‬ ‫مت َ َ‬ ‫ْ‬
‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ه إِ ّ‬‫على الل ِ‬ ‫َ‬ ‫ل َ‬ ‫ّ‬
‫وك ْ‬ ‫ت َ‬
‫فت َ َ‬ ‫م َ‬‫عَز ْ‬
‫َ‬
‫عمران‪.« (1) [159 :‬‬
‫ولقد ذهب إلى وجوب الشورى على الحاكم جماهير العلماء من‬
‫المحدثين‪ ،‬وإليك بعضهم‪:‬‬
‫قال الستاذ حسن البنا ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬ومن حق المة السلمية‬
‫أن تراقب الحاكم أدق مراقبة‪ ،‬وأن تشير عليه بما ترى فيه من الخير‪,‬‬
‫وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها‪ ،‬وأن يأخذ بالصالح من آرائها‪،‬‬
‫ر"‬ ‫م ِ‬ ‫في ال ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫وْر ُ‬ ‫شا ِ‬ ‫و َ‬ ‫وقد أمر الله الحاكمين بذلك فقال‪+ :‬‬
‫م"‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫رى‬ ‫شو‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫وأثنى على المؤمنين خيرًا فقال‪+ :‬و َأ َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ )ْ‪ْ (ُ 2‬‬
‫ونصت على ذلك سنة رسول الله × « ‪.‬‬
‫وقال الستاذ المودودي‪» :‬والمير حتم عليه أن يسوس البلد‬
‫بمشاورة أهل الحل والعقد أعضاء مجلس الشورى‪ ،‬وهو أمير‬
‫مادام مزودًا بثقة المة «)‪.(3‬‬
‫وقال‪» :‬وخامسة قواعد الدولة السلمية حتمية تشاور قادة‬
‫الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم‬
‫وإمضاء نظام حكم الشورى«)‪.(4‬‬
‫وقال الشيخ شلتوت‪(5)-‬رحمه الله ‪» :-‬أما الشورى فهي أسا س‬
‫الحكم الصالح‪ ،‬وهي السبيل إلى تبين الحق‪ ،‬ومعرفة الراء الناضجة‪،‬‬
‫من العناصر التي تقوم عليها الدولة‬ ‫عنصر‬
‫أمر بها القرآن‪ ،‬وجعلها ا ً‬
‫السلمية‪ ،‬ففي الكتاب الكريم سورة عرفت باسم‪) :‬الشورى( وقد‬
‫عنصرا من‬ ‫ً‬ ‫سميت بذلك لنها السورة الوحيدة التي قررت الشورى‬
‫اته طهارة القلب‬ ‫عناصر الشخصية اليمانية الحقة‪ ،‬ونظمتها في عقد‪ ،‬حب‬
‫واليمان والتوكل‪ ،‬وطهارة الجوارح من الثم والفواح ش‪ ،‬ومراقبة الله‬
‫بإقامة الصلة وحسن التضامن بالشورى«)‪.(6‬‬
‫وقال الشيخ محمد أبو زهرة)‪ - (7‬رحمه الله ‪» :-‬أما الشرط‬
‫الثالث فهو أن يكون الختيار بشورى المسلمين‪ ،‬والصل في ذلك‬
‫‪ () 1‬السياسة الشرعية في إصلح الراعي والرعية‪ ،‬ص ‪.135‬‬
‫‪ () 2‬مجموعة الرسائل للستاذ حسن البنا‪ ،‬ص ‪.361‬‬
‫‪ () 3‬نظام الحياة في السلم – النظام السياسي‪ ،‬ص ‪.36‬‬
‫‪ () 4‬الخلفة والملك‪ ،‬ص ‪.41‬‬
‫‪ () 5‬هو أحد علماء مصر المشهورين‪ ،‬وشيخ الزهر الشريف‪ ،‬له مؤلفات كثيرة‬
‫في الفقه والتفسير والثقافة العامة‪ ،‬توفي عام ‪1964‬هـ‪.‬‬
‫‪ () 6‬السلم عقيدة وشريعة‪ ،‬ص ‪.459 ،458‬‬
‫هو( الشيخ الجليل محمد أبو زهرة أحد فحول علماء مصر المعدودين‪ ,‬كان جريئًا‬‫‪) 7‬‬
‫عن السلم‪ ،‬ل يخشى في ذلك لومة لئم‪ ،‬له مصنفات كثيرة في‬ ‫مدافعً‬
‫في الحق‪ ،‬ا‬
‫الفقه والصول وتاريخ التشريع‪ ,‬ومن كتبه علم أصول الفقه‪ ،‬والمام مالك‪،‬‬
‫والشافعي‪ ،‬وأبو حنيفة‪ ,‬وأحمد‪ ،‬وابن حزم‪ ،‬وابن تيمية‪ ،‬وتاريخ المذاهب السلمية‪.‬‬

‫‪431‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫هو أن الحكم السلمي في أصل وضعه شورى‪ ،‬لقوله تعالى‪:‬‬


‫ر" وللتزام النبي × في عامة أموره التي‬ ‫م ِ‬
‫في ال ْ‬‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫وْر ُ‬ ‫شا ِ‬ ‫و َ‬‫‪َ +‬‬
‫كانت تهم المسلمين‪ ،‬ولم ينزل فيها وحي‪ ...‬وإذا كان الحكم‬
‫السلمي في أصله شوريا فلبد أن يكون الختيار شوريا أيضا‪ ،‬لنه‬
‫ل يمكن أن يكون الحكم شوريا ويكون الخليفة مفروضا بحكم‬
‫الوراثة‪ ،‬إذ إن الوراثة والشورى نقيضان ل يجتمعان في باب‬
‫واحد«)‪.(1‬‬
‫وقال الشيخ عبد الوهاب خلف)‪» :(2‬والناظر في آيات القرآن‬
‫الكريم وصحاح السنة يتبين أن الحكومة السلمية دستورية‪ ،‬وأن‬
‫خاصا بفرد وإنما هو للمة ممثلة في أهل الحل‬ ‫ّ‬ ‫المر فيها ليس‬
‫والعقد‪ ،‬لن الله سبحانه جعل أمر المسلمين شورى بينهم‪ ،‬وساق‬
‫وصفهم بهذا مساق الوصاف الثابتة‪ ،‬والسجايا اللزمة كأمة شأن‬
‫السلم ومن مقتضياته‪ ..‬وإذا كان المسلمون أهملوا تنظيم هذه‬
‫الشورى حتى ذهبت روحها‪ ،‬وجرؤ بعضهم أن يقول‪ :‬إنها مندوبة ل‬
‫محتومة‪ ،‬وصمت الذان عن سماعها‪ ،‬وأضاعوا البيعة ومسخوها‬
‫حتى جعلوها أمرا صوريا‪ ،‬ل يحقق الغرض منها ول يشعر بإرادة‬
‫المة «)‪.(3‬‬
‫وقال الستاذ عبد القادر عودة)‪ - (4‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫»والسلم يرد نظام الحكم في الجماعة إلى الشورى‪،‬‬
‫لتستطيع الجماعة أن تختار الحكام الصالحين للقيام بأمر الله في‬
‫الجماعة‪ ،‬ولتستطيع أن تعزلهم كلما عجزوا عن أداء واجباتهم أو‬
‫حادوا عن الطريق القويم‪ ،‬كما أن نظام الشورى يحول بين‬
‫الحكام وبين السئثار بشئون الجماعة‪ ،‬إذ يجعل الجماعة رقيبة‬
‫على الحكام الذين اختارتهم‪ ،‬وقد جاء السلم بنظام الشورى‬
‫وطبقه المسلمون قبل أن تعرفه الدول الغربية بأحد عشر قرنا‬
‫م‬ ‫على القل‪ ،‬وقد فرض هذا النظام بقوله تعالى‪َ + :‬‬
‫ه ْ‬‫مُر ُ‬
‫وأ ْ‬
‫َ‬
‫ر" ]آل عمران‪:‬‬ ‫م ِ‬
‫في ال ْ‬ ‫م ِ‬
‫ه ْ‬
‫وْر ُ‬ ‫و َ‬
‫شا ِ‬ ‫م" وبقوله‪َ + :‬‬‫ه ْ‬‫رى( ب َي ْن َ ُ‬ ‫شو َ‬‫ُ‬
‫)‪5‬‬
‫‪. .[159‬‬

‫)( تاريخ المذاهب السلمية في السياسة والعقائد‪ ،‬ص ‪.94 ،93‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( ولد سنة ‪1880‬م بكفر الزيات والتحق بالزهر الشريف سنة ‪1900‬م‪ ،‬بعد أن‬ ‫‪2‬‬

‫حفظ القرآن الكريم ودرس في مدرسة القضاء الشرعي‪ ،‬وتخرج فيها عام‬
‫‪1915‬م‪ ،‬وعين مدرسًا بها وشارك في ثورة ‪1919‬م‪ ,‬فبرزت مواهبه الخطابية‬
‫والكتابية ومارس القضاء ودرس في كلية الحقوق بجامعة القاهرة )‪ (22‬سنة‪،‬‬
‫توفي ‪1956‬م‪ ،‬مقدمة كتابه أصول الفقه‪.‬‬
‫)( السياسة الشرعية أو نظام الدولة في الشئون الدستورية والخارجية والمالية‪،‬‬ ‫‪3‬‬

‫ص ‪.29-25‬‬
‫)( عبد القادر عودة من كبار المحامين في مصر‪ ،‬درس الحقوق ونبغ فيها‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫ودرس الفقه السلمي الجنائي دراسة شاملة‪ ،‬وواعية‪ ,‬وألف فيه كتابه المشهور‬
‫التشريع الجنائي السلمي‪ ،‬وهو من أفضل الكتب في هذا المجال أعدمه جمال‬
‫عبد الناصر في محنة الخوان المسلمين في مصر وكان إعدامه – رحمه الله –‬
‫سنة ‪1955‬م‪.‬‬
‫)( السلم وأوضاعنا القانونية‪ ،‬ص ‪.132 – 122‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪432‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وقال الستاذ عبد الكريم زيدان ‪ -‬حفظه الله ‪» :-‬إن وكالة‬


‫رئيس الدولة عن المة وكالة مقيدة‪ ،‬ومن قيودها أن يشاور المة‪،‬‬
‫لن المشاورة ورد بها النص الشرعي‪ ،‬فل تملك المة التنازل‬
‫عنها‪ ،‬لن سلطتها محدودة بحدود الشرع فل تستطيع أن تفوض‬
‫وكيلها ‪ -‬رئيس الدولة ‪ -‬استعمال سلطانها إل بهذا القيد‪ ،‬قيد‬
‫الشورى‪ ،‬سواء صرحت بهذا عند انتخابه أو لم تصرح«)‪.(1‬‬
‫ولقد استدل القائلون بوجوب الشورى بالكتاب والسنة وسيرة‬
‫الخلفاء الراشدين ‪ -‬رضي الله عنهم أجمعين ‪ -‬والمعقول‪.‬‬
‫الدلة من القرآن الكريم‪:‬‬
‫ت‬‫كن َ‬‫و ُ‬ ‫ول َ ْ‬‫م َ‬ ‫ت لَ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫ه ِلن َ‬ ‫ن الل ِ‬ ‫م َ‬‫ة ّ‬ ‫م ٍ‬‫ح َ‬‫ما َر ْ‬ ‫فب ِ َ‬‫‪ -1‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫م‬‫ه ْ‬ ‫عن ْ ُ‬‫ف َ‬ ‫ع ُ‬ ‫َ‬
‫ول ِك فا ْ‬ ‫َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضوا ِ‬ ‫َ‬
‫ب لن ْف ّ‬ ‫َ‬ ‫قل ْ ِ‬
‫ظ ال ْ َ‬ ‫غِلي َ‬‫ظا َ‬ ‫ف ّ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ّ‬
‫وك ْ‬ ‫فت َ َ‬‫ت َ‬ ‫م َ‬ ‫عَز ْ‬
‫ذا َ‬ ‫فإ ِ َ‬‫ر َ‬‫م ِ‬‫في ال ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫وْر ُ‬ ‫شا ِ‬ ‫و َ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫َ‬
‫فْر ل ُ‬ ‫غ ِ‬‫ست َ ْ‬
‫وا ْ‬ ‫َ‬
‫ن" ]آل عمران‪.[159 :‬‬ ‫لي‬ ‫ّ‬
‫ُ َ َ ِ َ‬‫ك‬ ‫و‬ ‫ت‬‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ح‬
‫َ ُ ِ ّ‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬
‫ِ ِ ّ‬‫إ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫لى‬ ‫ع َ‬
‫َ‬
‫لقد نزلت هذه الية بعد غزوة أحد وما جرى فيها من أحداث‬
‫وآلم حلت بالمسلمين‪ ،‬وكان القرار في الخروج مبنيا على‬
‫الشورى‪ ،‬وحتى ل تنشأ فكرة استبعاد الشورى عند بعض الصحابة‬
‫نزلت هذه الية‪ ،‬تأمر رسول الله × بأن يعفو عن المؤمنين وأن‬
‫يستغفر لهم ويشاورهم في المر‪ ,‬ولو كان نتيجة الشورى مرة‪،‬‬
‫كما حدث في أحد‪.‬‬
‫وإذا كان الله تبارك وتعالى قد أمر رسول الله × ‪-‬وهو أرجح‬
‫الناس عقل‪ ،‬وأقواهم رأيا‪ -‬بالشورى‪ ،‬فالمر في حق غيره من‬
‫الحكام والمراء والسلطين آكد وأوجب‪ ،‬ومن المعروف عند‬
‫علماء الصول أن المر يفيد الوجوب ما ل ترد قرينة تصرفه من‬
‫الوجوب إلى الندب‪ ،‬وصيغة »وشاورهم« صيغة أمر‪ ،‬وهي تدل‬
‫على وجوب الشورى‪ ،‬ولم ترد قرينة تصرفها من الوجوب إلى‬
‫الندب‪ ،‬بل جاءت النصوص الخرى من الكتاب والسنة تؤكد هذا‬
‫الوجوب وتؤيده)‪.(2‬‬
‫قال الفخر الرازي في تفسيره‪» :‬ظاهر المر للوجوب‪ ،‬فقوله‪:‬‬
‫)وشاورهم‪ ،‬يقتضي الوجوب( )‪.(3‬‬
‫وقال أبو حيان الندلسي)‪» :(4‬في هذه الية دليل على‬
‫المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه والتفكر فيه‪ ،‬وأن ذلك مطلوب‬
‫شرعا خلفا لما كان عليه بعض العرب من ترك الشورى‪ ،‬ومن‬

‫)( الفرد والدولة في الشريعة السلمية‪ ،‬ص ‪.37 ،36‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬حكم الشورى في السلم‪ ،‬ونتيجتها‪ ،‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬ص ‪.32 ،31‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( التفسير الكبير‪.(9/67) :‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( هو محمد بن يوسف بن علي بن حيان الغرناطي الديب النحوي اللغوي‬ ‫‪4‬‬

‫مفسر ومحدث‪ ,‬توفي عام ‪745‬هـ‪ ،‬شذرات الذهب )‪.(147 – 6/145‬‬

‫‪433‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الستبداد برأيه من غير فكر في عاقبة«)‪.(1‬‬


‫وقال الستاذ محمد رشيد رضا ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في تفسيره‬
‫ر"‪» :‬أي في المر العام‬ ‫م ِ‬
‫في ال ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫وْر ُ‬‫شا ِ‬ ‫و َ‬
‫لقوله تعالى‪َ + :‬‬
‫الذي هو سياسة المة‪ ،‬في الحرب والسلم‪ ،‬والخوف والمن‪ ،‬وغير‬
‫ذلك من مصالحهم الدنيوية‪ ،‬أي أدام المشاورة وواظب عليها كما‬
‫فعلت قبل الحرب في هذه الموقعة )غزوة أحد( وإن أخطأوا‬
‫الرأي‪ ،‬فإن الخير كل الخير في تربيتهم على العمل بالمشاورة‬
‫دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابا‪ ،‬لما في ذلك من النفع‬
‫لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم‬
‫)المشاورة(‪ ،‬والخطر على المة في تفويض أمرهم إلى الرجل‬
‫الواحد أشد وأكبر«)‪.(2‬‬
‫وقال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وبهذا النص الجازم‬
‫ر" يقرر السلم هذا المبدأ في نظام‬ ‫م ِ‬‫في ال ْ‬ ‫م ِ‬‫ه ْ‬
‫وْر ُ‬‫شا ِ‬ ‫و َ‬
‫‪َ +‬‬
‫الحكم ‪ -‬حتى ومحمد رسول الله × هو الذي يتوله ‪ -‬وهو نص‬
‫قاطع ل يدع للمة المسلمة شكا في أن الشورى مبدأ أساسي‪ ،‬ل‬
‫يقوم السلم على أساس سواه«)‪.(3‬‬
‫وقال أيضا‪» :‬لو كان وجود القيادة الراشدة في المة يكفي‬
‫ويسد مسد مزاولة الشورى في أخطر الشئون لكان وجود محمد‬
‫× ومعه الوحي من الله ‪-‬سبحانه وتعالى ‪ -‬كافيا لحرمان الجماعة‬
‫المسلمة يومها من حق الشورى! وبخاصة على ضوء النتائج‬
‫المريرة التي صاحبتها في ظل الملبسات الخطيرة لنشاة المة‬
‫المسلمة‪ ،‬ولكن وجود محمد رسول الله × ومعه الوحي اللهي‬
‫ووقوع تلك الحداث‪ ،‬ووجود تلك الملبسات‪ ،‬لم يلغ هذا الحق لن‬
‫الله ‪-‬سبحانه ‪ -‬يعلم أنه لبد من مزاولته في أخطر الشئون‪،‬‬
‫ومهما تكن النتائج‪ ،‬ومهما تكن الخسائر‪ ،‬ومهما يكن انقسام‬
‫الصف‪ ،‬ومهما تكن كلها جزئيات ل تقوم أمام إنشاء المة‬
‫الراشدة‪ ،‬المدربة بالفعل على الحياة‪ ،‬المدركة لتبعات الرأي‬
‫والعمل‪ ،‬الواعية لنتائج الرأي والعمل‪ ،‬ومن هنا جاء المر اللهي‬
‫م‬ ‫فْر ل َ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫غ ِ‬
‫ست َ ْ‬
‫وا ْ‬
‫م َ‬‫ه ْ‬ ‫عن ْ ُ‬
‫ف َ‬
‫ع ُ‬‫فا ْ‬‫في هذا الوقت بالذات ‪َ +‬‬
‫ر" ليقرر المبدأ في مواجهة أخطر الخطار‬ ‫م ِ‬‫في ال ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬
‫وْر ُ‬‫شا ِ‬ ‫و َ‬
‫َ‬
‫التي صاحبت استعماله‪ ،‬وليثبت هذا القرار في حياة المة‬
‫المسلمة أيا كانت هذه الخطار التي تقع في أثناء التطبيق‪،‬‬
‫وليسقط الحجة الواهية التي تثار لبطال هذا المبدأ في حياة المة‬
‫المسلمة‪ ،‬كلما نشأ عن استعماله بعض العواقب التي تبدو سيئة‪،‬‬
‫ولو كان هو انقسام الصف‪ ،‬كما وقع في أحد والعدو على البواب‪،‬‬
‫لن وجود المة الراشدة مرهون بهذا المبدأ‪ ،‬ووجود المة الراشدة‬
‫)( البحر المحيط )‪.(2/47‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( تفسير المنار )‪.(4/166‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/501‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪434‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫أكبر من كل خسارة أخرى في الطريق)‪.(1‬‬


‫موا‬ ‫قا ُ‬ ‫وأ َ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫جاُبوا ل َِرب ّ ِ‬ ‫ست َ َ‬
‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬ ‫‪-2‬‬
‫ن"‬ ‫ف ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ل َةَ وأ َ‬
‫قو َ‬ ‫م ي ُن ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ق‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫ر‬ ‫ما‬
‫ْ َ ّ َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫رى‬ ‫َ‬ ‫شو‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ر‬ ‫م‬
‫َ ْ ُ ْ‬ ‫ص‬
‫ال ّ‬
‫]الشورى‪ ,[38 :‬لقد قرنت الية الكريمة الشورى بين المسلمين‬
‫بإقامة الصلة‪ ،‬فدل ذلك على أن حكم الشورى كحكم الصلة‪،‬‬
‫وحكم الصلة واجبة شرعا‪ ،‬فكذلك الشورى واجبة شرعا)‪.(2‬‬
‫إن هذه الية قد نزلت في سورة سميت سورة الشورى‪ ،‬وهي‬
‫مكية‪ ,‬ولقد جاءت مؤكدة أن تكون الشورى صفة ملزمة للجماعة‬
‫السلمية‪ ،‬وسلوكا اجتماعيا ل يغادرهم قبل قيام الدولة السلمية‬
‫وبعد قيامها‪ ،‬فإن كلمة أمرهم من ألفاظ العموم تشمل جميع‬
‫شئونهم العامة وحياتهم المشتركة)‪.(3‬‬
‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬في تفسيره لهذه الية‪» :‬والتعبير‬
‫يجعل أمرهم كله شورى‪ ،‬لصبغ الحياة كلها بهذه الصبغة‪ ،‬وهو كما قلنا‬
‫نص مكي قبل قيام الدولة السلمية‪.‬‬
‫فهذا الطابع إذن أعم وأشمل من الدولة في حياة المسلمين‪،‬‬
‫إنه طابع الجماعة السلمية في كل حالتها‪ ،‬ولو كانت الدولة‬
‫بمعناها الخاص لم تقم بعد‪.‬‬
‫والواقع أن الدولة في السلم ليست سوى إفراز طبيعي‬
‫للجماعة وخصائصها الذاتية‪ ،‬والجماعة تتضمن الدولة‪ ،‬تنهض وإياها‬
‫بتحقيق المنهج السلمي وهيمنته على الحياة الفردية والجماعية‪.‬‬
‫ومن ثم كان طابع الشورى في الجماعة مبكرا‪ ،‬وكان مدلوله‬
‫أوسع وأعمق من محيط الدولة وشئون الحكم فيها‪ ،‬إنه طابع ذاتي‬
‫للحياة السلمية‪ ،‬وسمة مميزة للجماعة المختارة لقيادة البشرية‪،‬‬
‫وهي من ألزم صفات القيادة«)‪.(4‬‬
‫ويقول الستاذ عبد القادر عودة ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬الشورى دعامة‬
‫وى الله‬ ‫المميزة للمسلمين‪ ،‬س ّ‬ ‫من دعائم اليمان وصفة من الصفات‬
‫م‬ ‫ه‬
‫َ ِ ْ‬‫ّ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫بوا‬ ‫ُ‬ ‫جا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫س‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وا‬
‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫بينها وبين الصلة والنفاق في قوله‪:‬‬
‫ْ‬ ‫قاموا الصل َةَ َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫نا‬ ‫ق‬ ‫ز‬ ‫ر‬
‫َ ْ َ ُ ْ َ ِ ّ َ َ َ ُ ْ‬ ‫ما‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫رى‬ ‫شو َ‬ ‫م ُ‬ ‫ه ْ‬ ‫مُر ُ‬ ‫وأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫وأ َ ُ‬ ‫َ‬
‫ن" ]الشورى‪[38:‬‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬‫ي ُن ْ ِ‬
‫فجعل للستجابة لله نتائج بين لنا أبرزها‪ ،‬وأظهرها‪ ،‬وهي إقامة‬
‫الصلة والشورى والنفاق‪ ،‬وإذا كانت الشورى من اليمان فإنه ل‬
‫يكمل إيمان قوم يتركون الشورى‪ ،‬ول يحسن إسلمهم إذا لم‬
‫يقيموا الشورى إقامة صحيحة‪ ،‬ومادامت الشورى صفة لزمة‬
‫المصدر نفسه )‪.(4/502‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬النظام السياسي في السلم لبي فارس‪ ،‬ص ‪.90‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬حكم الشورى في السلم ونتيجتها‪ ،‬ص ‪.40‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫في ظلل القرآن )‪.(6/3165‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪435‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫للمسلم ل يكمل إيمانه إل بتوفرها‪ ،‬فهي إذن فريضة إسلمية‬


‫واجبة على الحاكمين والمحكومين‪ ،‬فعلى الحاكم أن يستشير في‬
‫كل أمور الحكم والدارة‪ ،‬والسياسة‪ ،‬والتشريع‪ ،‬وكل ما يتعلق‬
‫بمصلحة الفراد أو المصلحة العامة‪ ،‬وعلى المحكومين أن يشيروا‬
‫على الحاكم بما يرونه في هذه المسائل كلها‪ ،‬سواء استشارهم‬
‫الحاكم أو لم يستشرهم«)‪.(1‬‬
‫والحاديث القولية والسنة الفعلية الدالة على وجوب الشورى‬
‫كثيرة ونكتفي بما ذكرنا خوفا من الطالة ومن خلل الدراسة‬
‫الوافية لمسألة الشورى يتضح أن القول بالوجوب أرجح من الندب‬
‫والعلم عند الله‪.‬‬
‫ولقد اختلف العلماء هل الشورى معلمة أو ملزمة‪ ،‬ولقد‬
‫اخترت في هذا البحث كونها ملزمة وهو الذي ينسجم مع أهداف‬
‫التمكين‪ ،‬والواقع المعاش للمة‪ ،‬ولقد ذهب جمهور العلماء‬
‫والفقهاء في العصر الحديث إلى أن الشورى بنتيجتها للمام‬
‫ملزمة‪ ,‬وعليه أن يأخذ برأي الغلبية وإن كان رأي الغلبية يخالف‬
‫رأيه الذي يرجح أنه أصوب من رأيهم‪ ،‬ولقد كان آخر رأي صدر‬
‫عن الستاذ المودودي في هذا الشأن أن الشورى ملزمة للمير‪،‬‬
‫وليس له أن ينفرد برأيه ويخالف رأي أهل الشورى أو أغلبيتهم‪.‬‬
‫قال المودودي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وخامسة قواعد الدولة‬
‫السلمية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين‬
‫والنزول على رضاهم ورأيهم‪ ،‬وإمضاء نظام الحكم بالشورى‪،‬‬
‫م‬ ‫و َ‬ ‫م ُ‬ ‫يقول تعالى‪َ + :‬‬
‫ه ْ‬‫وْر ُ‬
‫شا ِ‬ ‫م" ويقول‪َ + :‬‬‫ه ْ‬ ‫شوَرى ب َي ْن َ ُ‬ ‫ه ْ‬‫مُر ُ‬ ‫وأ ْ‬ ‫)‪َ (2‬‬
‫ر" ‪.‬‬‫م ِ‬
‫في ال ْ‬‫ِ‬
‫م" تتطلب بذاتها خمسة‬ ‫م ُ‬ ‫َ‬
‫ه ْ‬‫شوَرى ب َي ْن َ ُ‬ ‫ه ْ‬‫مُر ُ‬‫وأ ْ‬ ‫إن قاعدة‪َ + :‬‬
‫أمور‪ :‬خامسها التسليم بما يجمع عليه أهل الشورى أو أكثريتهم‪،‬‬
‫أما أن يستمع ولي المر إلى آراء جميع أهل الشورى ثم يختار هو‬
‫بنفسه بحرية تامة‪ ،‬فإن الشورى في هذه الحالة تفقد معناها‬
‫وقيمتها‪ ،‬فالله َلم يقل‪» :‬تؤخذ آراؤهم ومشورتهم في أمرهم«‬
‫م" يعني أن تسير أمورهم‬ ‫ه ْ‬ ‫شوَرى ب َي ْن َ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ه ْ‬‫مُر ُ‬ ‫وأ ْ‬‫وإنما قال‪َ + :‬‬
‫بتشاور فيما بينهم‪ ،‬وتطبيق هذا القول اللهي ل يتم بأخذ الرأي‬
‫فقط‪ ،‬وإنما من الضروري لتنفيذه وتطبيقه أن تجري المور وفق‬
‫ما يتقرر بالجماع‬
‫أو بالكثرية«)‪.(3‬‬
‫وقال الشيخ شلتوت ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وضع السلم مبدأ‬
‫الشورى‪ ،‬وعمل به‬
‫)( السلم وأوضاعنا السياسية‪ ،‬ص ‪.193‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الخلفة والملك‪ ،‬ص ‪.42 ،41‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الحكومة السلمية‪ ،‬ص ‪.94‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪436‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫النبي × في حياته‪ ،‬والخليفتان من بعده‪ ،‬وكان له في صدر‬


‫السلم شأن تجلى به سمو السلم في تقرير حق النسان‪ ،‬وكان‬
‫فيه الحرية التامة في إبداء الرأي من أهل الرأي‪ ،‬وقد جاء في‬
‫بيان المصادر التي يجب على المؤمنين اتباع الحكام والنظم‬
‫َ‬
‫مُنوا‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ها ال ّ ِ‬
‫‪َ+‬يا أي ّ َ‬
‫ُ‬
‫والوامر الصادرة عنها‪ ،‬قوله تعالى‬
‫أ َطيعوا الله َ‬
‫م" ]النساء‪:‬‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫ر ِ‬ ‫م ِ‬‫وأوِلي ال ْ‬ ‫ل َ‬‫سو َ‬
‫عوا الّر ُ‬
‫طي ُ‬
‫وأ ِ‬
‫َ َ‬ ‫ِ ُ‬
‫‪ [59‬وإذا كانت إطاعة الله هي العمل بما تضمنه كتابه الواضح‬
‫الذي ل يحتمل الرأي‪ ،‬وكانت إطاعة الرسول × هي العمل بما‬
‫تضمنته أقواله التشريعية العامة الموثوق بنسبتها إليه‪ ،‬كان )أولو‬
‫المر( هم أهل النظر الذين عرفوا في المة بكمال الختصاص في‬
‫بحث الشئون وإدراك المصالح والغيرة عليها‪ ،‬وكانت طاعتهم هي‬
‫الخذ بما يتفقون عليه في المسألة ذات النظر والجتهاد‪ ،‬أو بما‬
‫يترجح فيها عن طريق الغلبية أو قوة البرهان«)‪.(1‬‬
‫وقال في كتابه من توجيهات السلم تعقيبا على موقف‬
‫السعدين سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ‪ -‬رضي الله عنهما ‪ -‬من‬
‫رفض إعطاء غطفان ثلث ثمار المدينة‪ ،‬وقد كان رسول الله ×‬
‫يرى ذلك‪:‬‬
‫»وهذه الحادثة تضع تقليدًا دستوريًا هامًا‪ ،‬وهو أن الحاكم ولو‬
‫كان رسول معصوما يجب عليه أل يستبد بأمر المسلمين‪ ،‬ول أن‬
‫يقطع برأي في شأن هام‪ ،‬ول أن يعقد معاهدة تلزم المسلمين‬
‫بأي التزام دون مشاورتهم وأخذ آرائهم‪ ،‬فإن فعل كان للمة حق‬
‫إلغاء كل ما استبد به من دونهم‪ ،‬وتمزيق كل معاهدة لم يكن لهم‬
‫فيها رأي«)‪.(2‬‬
‫ويقول الستاذ عبد الكريم زيدان‪» :‬الخذ برأي رئيس الدولة‬
‫سديد من الناحية النظرية‪ ،‬ولكن نظرا لضرورات الواقع‪ ،‬وتغير‬
‫النفوس‪ ،‬ورقة الدين‪ ،‬وضعف اليمان‪ ،‬وندرة الكفاء الملهمين‪،‬‬
‫كل هذا يقتضينا أن نأخذ بالرأي الثاني‪ ،‬فنلزم رئيس الدولة برأي‬
‫الكثرية بشروط‪ ،‬الول‪ :‬إذا لم يقتنع رئيس الدولة برأي الكثرية‬
‫فله أن يحيل الخلف إلى هيئة التحكيم‪ ،‬والثاني‪ :‬إذا لم يقتنع‬
‫برأي هيئة التحكيم‪ ،‬فله إجراء استفتاء عام حول موضوع الخلف‪،‬‬
‫الثالث‪ :‬أن يعطي حرية اتباع الرأي الذي يراه في الحوال‬
‫الستثنائية كحالة الحرب أو خطر يهدد سلمة البلد«)‪.(3‬‬
‫ول نريد أن نتوسع في نقل القوال لكثرة الباحثين والعلماء‬
‫الذين ذهبوا إلى أن الشورى ملزمة‪.‬‬

‫)( السلم عقيدة وشريعة‪ ،‬محمود شلتوت‪ ،‬ص ‪.462،463‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( من توجيهات السلم‪ ,‬محمود شلتوت‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الفرد والدولة في الشريعة السلمية‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪437‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫إن الله تعالى قد شرع نظام الشورى لحكم بالغة‪ ،‬ومقاصد‬


‫عظيمة‪ ،‬ولما فيها من المصالح الكبيرة‪ ،‬والفوائد الجليلة التي تعود‬
‫على المة والدولة والمجتمع بالخير والبركة ومن ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬يتعرض الحكام والقادة والرؤساء في كثير من الحيان‬
‫والظروف إلى اندفاعات عاطفية‪ ،‬تكون ذات نتائج سلبية وآثار‬
‫سيئة على حياة المة‪ ،‬وفي هذه الحالة تكون الشورى من أنجح‬
‫الضوابط لكبح جماح العواطف لدى الحكام والقادة والرؤساء‪,‬‬
‫ففي المشاورة عصمة لهم من القدام على أمور تضر بالمة وقد‬
‫ل يشعرون بضررها‪.‬‬
‫‪ -2‬الشورى نوع من الحوار المفتوح‪ ،‬ومن أحسن الساليب‬
‫لتوعية الرأي العام وتنويره‪ ،‬وتعزيز عوامل الحب والثقة بين‬
‫الحاكم والمحكومين‪ ،‬والقائد والمقودين‪ ،‬والرئيس والمرءوسين‪،‬‬
‫وهو خير أسلوب في الحكم لعزل الشكوك‪ ،‬ونفي الهواجس‬
‫وإزالة الوهام‪ ،‬ووقف الشائعات التي تنمو عادة في ظل الستبداد‬
‫وتنتشر في عتمة الغوغائية‪.‬‬
‫‪ -3‬تقضي مبادئ السلم بأن يشعر كل فرد أن له دورا في‬
‫حياة المجتمع والجماعة‪ ،‬والشورى تتيح الفرصة أمام كل فرد لكي‬
‫يقدم ما يستطيع من جهود وأفكار وآراء ومهارات لخير المجتمع‪،‬‬
‫كما تتيح الفرصة أمام كل فرد ليعبر عن رأيه في الشئون العامة‪.‬‬
‫‪ -4‬إن الشورى تمنح الدفء العاطفي‪ ،‬والتماسك الفكري‬
‫لفراد المة‪ ،‬وفيها إشعار الفرد بقيمته الذاتية‪ ،‬وقيمته الفكرية‪،‬‬
‫وقيمته النسانية‪ ،‬وتدفع أفراد المجتمع نحو الجتهاد والبداع‬
‫والرضا وتتفجر الطاقات وتتكشف المواهب المغمورة في المة‪.‬‬
‫‪ -5‬إن الشورى تساهم في علج ضروب الكبت الضاغطة‪،‬‬
‫وكوامن الحقاد الدفينة‪ ،‬وتطيح بكثير من الكظوم الخفية‪ ،‬وتدفع‬
‫رعايا الدولة للعطاء والحرص على ترسيخ النظام‪ ،‬وصدق الولء‪.‬‬
‫‪ -6‬وفي نظام الشورى تذكير للمة بأنها هي صاحبة السلطان‬
‫وتذكير لرئيس الدولة بأنه وكيل عنها في مباشرة الحكم‬
‫والسلطان‪.‬‬
‫‪ -7‬وفي المشاورة امتثال لمر الله بها‪ ،‬واقتداء برسول الله‬
‫×‪ ,‬وهذه المزية أرجح المزايا المتقدمة‪ ،‬وهذا أهم العوامل في‬
‫نجاح نظام الشورى)‪.(1‬‬
‫إن الشورى تمثل عمل سياسيا ضروريا لنجاح الدولة في تدبير‬
‫شئون المة‪ ،‬وهي تشكل منهجا حيويا يتوقف عليه انتصار الحق‬
‫في المجتمع‪ ،‬والتزام السداد في شئونه‪ ،‬كما يتوقف عليه احترام‬
‫)( انظر‪ :‬الشورى بين الصالة والمعاصرة لعز الدين التميمي‪ ،‬ص ‪.34 ،33‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪438‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫العقل في الدولة واحترام النسان في ظلها‪.‬‬


‫وهي ضمانة سياسية لستقرار الدولة وحمايتها من عوامل‬
‫الضعف‪ ،‬وهي سبيل رئيسي لسلمة المجتمع من الفوضى‪,‬‬
‫وسلمة الدعوة السلمية من العثار حين أداء دورها العظيم في‬
‫العالم‪ ،‬وهي تتطلب انتخاب الهيئة القيادية السياسية والجتماعية‬
‫لمراقبة الخطوط الساسية وضبطها طبقا لحكام الشريعة التي‬
‫تجسد المصالح الحقيقية للمة‪.‬‬
‫وهناك حقيقة ينبغي أن تتضح في العقول والذهان وهي أن بقاء‬
‫المجتمع قويا متمسكا بأهدافه السامية‪ ،‬وقيمة العليا يتطلب تعزيز‬
‫الدور السياسي الذي تضطلع به المة بمجموعها عن طريق ممارسة‬
‫الشورى التي شرعها الله للمؤمنين‪ ،‬فمن خلل الشورى يتأكد‬
‫السلطان السياسي الحقيقي الذي يقوم بمهمة الشراف الفعلي‬
‫والعقلي على المجتمع برمته‪.‬‬
‫وفي المجتمع السلمي تتقبل الراء وفقا لجدارتها‪ ،‬وبمقدار‬
‫انسجامها مع عقيدة المة ودستور الدولة‪ ,‬تلك الدولة التي من‬
‫شأنها أن تمنح الفراد قدرة على ابتكار الفكار الجديدة‪ ،‬والراء‬
‫الناضجة‪ ،‬وأن الدولة التي تنفذ المور دون معرفة بالحقائق‬
‫المتصلة بها‪ ،‬واستيعاب الظروف والملبسات المحيطة بها‪ ،‬ودون‬
‫اللتفات إلى رأي المة وسماع وجهة نظرها عن طريق ممثليها‬
‫إنما تقوم بمغامرة غير مأمونة في نتائجها‪ ,‬ول سليمة في نهايتها‪,‬‬
‫ولن تتوصل إلى حلول منطقية مبنية على أسس سليمة‪ ،‬ومن هنا‬
‫فإن اللمام بالواقع يمثل أمرًا شديد الهمية في فن الحكم‪ ,‬فكل‬
‫قرار سياسي مهما بلغت كفاءة الرئيس الذي يصدره ومكانته‬
‫السياسية العالية ‪ -‬سوف يكون حتما وبالتأكيد قرارا خاطئا إن هو‬
‫أخطأ في معرفة الواقع الذي يعالجه‪ ,‬وهذه القاعدة ل تنطبق على‬
‫القرارات السياسية وحدها‪ ،‬بل تنطبق أيضا على كل قرار أيا كان‬
‫نوعه وفي أي مجال من مجالت الحياة البشرية؛ في السياسة‬
‫والدارة‪ ,‬في الحياة العامة أو الخاصة على حد سواء‪ ،‬والقرآن‬
‫الكريم يرشدنا إلى هذه الحقيقة في عدد من اليات التي تؤكد‬
‫على ضرورة َ التثبت والتبين والتأني والبعد عن الستعجال‪ ،‬قال‬
‫فت َب َي ُّنوا‬‫ق ب ِن َب َأ ٍ َ‬‫س ُ‬‫فا ِ‬‫م َ‬‫جاءَك ُ ْ‬
‫مُنوا ِإن َ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬‫َتعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ن"‬‫مي َ‬ ‫م َناِد ِ‬ ‫علت ُ ْ‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما ف َ‬ ‫على َ‬ ‫َ‬ ‫حوا َ‬ ‫صب ِ ُ‬ ‫َ‬
‫ة فت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫هال ٍ‬ ‫ج َ‬
‫ما ب ِ َ‬‫و ً‬
‫ق ْ‬‫صيُبوا َ‬ ‫أن ت ُ ِ‬
‫]الحجرات‪ [6 :‬فهذه الية تتضمن ضرورة الحرص على اللمام‬
‫بالحقيقة والواقع إلماما كامل قبل إصدار القرارات في أي مجال‬
‫من مجالت الحياة‪.‬‬
‫فكل حاكم يريد لحكمه أن يستمر ولنظام دولته أن يستقر‬
‫عليه أن يكون حريصا على اللمام بحقيقة الوضاع ببلده‪،‬‬

‫‪439‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والشورى خير سبيل لتحقيق هذه الغاية)‪ .(1‬ول مانع من تنظيم‬


‫الشورى بتشكيل مجالس‪ ،‬أو تعيين نواب أو ممثلين لكل جماعة‪,‬‬
‫وإتاحة الفرصة للختيار بشرط أن يكون مرجعهم كتاب الله و سنة‬
‫رسوله ×‪ ،‬بحيث ل تتعارض توصياتهم أو قراراتهم أو تشريعاتهم‬
‫مع شرع الله عز وجل)‪.(2‬‬
‫ول مانع من ضبط ممارسة الشورى وفق نظام‪ ،‬أو منشور‪ ,‬أو‬
‫قانون يعرف فيه ولي المر حدود ما ينبغي أن يشاور فيه ومتى‬
‫وكيف؟ وتعرف المة حدود ما تستشار فيه ومتى؟ وكيف؟ لن‬
‫الشكل الذي الذي تتم به الشورى ليس مصبوبا في قالب حديدي‪،‬‬
‫فهو متروك للصورة الملئمة لكل بيئة وزمان‪.‬‬
‫إن القرآن الكريم لم يبين وسائل الشورى‪ ،‬كما لم يبين‬
‫وسائل تحقيق العدالة‪ ،‬بل ترك ذلك لتقدير الناس ينتهجون أحسن‬
‫الوسائل التي توصلهم إلى المطلوب على الوجه الكمل‪ ،‬وذلك‬
‫يتمشى مع فكرة صلحية السلم لكل زمان ومكان‪ ،‬ومع فكرة‬
‫يسر الدين وسلمة أحكامه من الحرج‪ ،‬ولذلك فسح السلم‬
‫محققا الشورى على‬
‫ً‬ ‫لتباعه المجال لختيار التنظيم الذي يرونه‬
‫وجهها المفيد‪.‬‬
‫إن أشكال الشورى وأساليب تطبيقها ووسائل تحقيقها وإجراءاتها‬
‫ليست من قبيل العقائد‪ ,‬وليست من القواعد الشرعية المحكمة التي‬
‫يجب التزامها بصورة واحدة في كل العصور والزمنة‪ ،‬وإنما هي‬
‫متروكة للتحري والجتهاد والبحث والختيار‪ ,‬أما أصل الشورى فإنه‬
‫من قبيل المحكم الثابت الذي ل يجوز تجاهله أو إهماله لن الشورى‬
‫في جميع المكنة والزمنة مفيدة ومجدية‪ ،‬والدكتاتورية أو حكم الفرد‬
‫في جميع المكنة والزمنة كريهة ومخربة‪.‬‬
‫إن شئون الحياة متعددة‪ ،‬ولكل شأن منها أناس هم المختصون‬
‫فيه وهم أهل معرفته‪ ،‬ومعرفة ما يجب أن يكون عليه‪ ،‬ففي المة‬
‫جانب القوة‪ ،‬وفي المة جانب القضاء‪ ،‬وفض المنازعات وحسم‬
‫الخصومات‪ ،‬وفيها جانب المال والقتصاد‪ ،‬وفيها جانب السياسة‬
‫وتدبير الشئون الداخلية والخارجية‪ ,‬وفيها جانب الفنون الدارية وفيها‬
‫جانب التعليم والتربية‪ ،‬وفيها جانب الهندسة‪ ،‬وفيها جانب العلوم‬
‫والمعارف النسانية‪ ،‬وفيها غير ذلك من الجوانب‪ ،‬ولكل جانب أناس‬
‫عرفوا فيه بنضج الراء‪ ،‬وعظيم الثار وطول الخبرة والمران‪.‬‬
‫هؤلء هم أهل الشورى في الشئون المختلفة‪ ،‬وهم الذين يجب‬
‫على المة أن تعرفهم بآثارهم وتمنحهم ثقتها‪ ،‬وتنيبهم عنها في‬
‫)( الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬ص ‪.37 ،36‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬دستور المة من القرآن والسنة‪ ،‬د‪ .‬عبد الناصر العطار‪ ،‬ص)‪،173‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪.(174‬‬

‫‪440‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الرأي‪ ,‬وهم الذين يرجع إليهم الحاكم لخذ رأيهم واستشارتهم‪،‬‬


‫وهم الوسيلة الدائمة في نظر السلم لمعرفة ما تسوس به المة‬
‫أمورها مما لم يرد في المصادر الشرعية ويحتاج إلى اجتهاد)‪.(1‬‬
‫ولذلك ينبغي أن يعتمد في الشورى على أصحاب الختصاص‬
‫والخبرة في المسائل المعروضة التي تحتاج إلى نوع من المعرفة‪,‬‬
‫ففي شئون الدين والحكام يستشار علماء الدين‪.‬‬
‫وفي شئون العمران والهندسة يستشار المهندسون‪.‬‬
‫وفي شئون الصناعة يستشار خبراء الصناعة‪.‬‬
‫وفي شئون التجارة يستشار خبراء التجارة‪.‬‬
‫وفي شئون الزراعة يستشار خبراء الزراعة‪ ،‬وهكذا وهنا لبد‬
‫من توجيه النظار إلى أنه من الضروري أن يكون علماء الدين‬
‫قاسما مشتركًا في هذه الشئون حتى ل يخرج المستشارون في‬ ‫ً‬
‫تقرير السياسات المتنوعة عن حدود الشريعة)‪.(2‬‬
‫هذه إشارة موجزة عن أهمية الشورى ومزاياها وفائدتها في‬
‫إقامة الدولة وتقويتها وبناء المجتمع السلمي المنشود والنهوض‬
‫به نحو المعالي‪.‬‬
‫ب‪ -‬العدالــــــــــة‪:‬‬
‫إن العدل هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع السلمي‬
‫والحكم السلمي فل وجود للسلم في مجتمع يسوده الظلم ول‬
‫يعرف العدل‪ ,‬ولذلك اهتم السلم بتقرير هذه القاعدة وتأسيسها‬
‫وتدعيمها‪ ،‬فأكثر الحديث عنها في اليات القرآنية الكريمة‬
‫والحاديث النبوية الشريفة مركز على أن الناس سواسية‬
‫ومتساوون أمام الشرع‪.‬‬
‫إن إقامة العدل بين الناس أفرادا وجماعات ودول‪ ،‬ليست من‬
‫المور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو المير وهواه‪ ،‬بل إن‬
‫إقامة العدل بين الناس في الدين السلمي تعد من أقدس‬
‫الواجبات وأهمها‪ ،‬قد أجمعت المة على وجوب العدل‪ ،‬قال الفخر‬
‫الرازي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬أجمعوا على أن من كان حاكما وجب عليه‬
‫أن يحكم بالعدل «)‪.(3‬‬
‫وهذا الحكم تؤيده النصوص من القرآن الكريم‪ ،‬والسنة‬
‫النبوية‪ ،‬ومن هذه النصوص‪:‬‬
‫ْ‬
‫ن" ]النحل‪:‬‬
‫سا ِ‬
‫ح َ‬
‫وال ْ‬‫ل َ‬ ‫مُر ِبال ْ َ‬
‫عد ْ ِ‬ ‫ه ي َأ ُ‬
‫ن الل َ‬‫‪ -1‬قال تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫)( انظر‪ :‬الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬ص ‪.57‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬ص ‪.59 ،58‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تفسير الرازي )‪.(10/141‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪441‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ [90‬وأمر الله بفعل كما هو معلوم يقتضي وجوبه‪.‬‬


‫ت‬ ‫ماَنا ِ‬ ‫دوا ال َ‬ ‫ؤ ّ‬ ‫م َأن ت ُ َ‬ ‫مُرك ُ ْ‬ ‫ه َيأ ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫‪ َ -2‬وقال تعالى‪+ :‬إ ِ ّ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫إ َِلى أ ْ‬
‫ل"‬ ‫ِ َ ْ ِ‬‫د‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫موا‬ ‫ْ ُ‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫نا‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫مت ُ ْ َ ْ َ‬
‫ي‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫حك َ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫وإ ِ َ‬ ‫ها َ‬ ‫هل ِ َ‬
‫]النساء‪.[58 :‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫مي َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ق ّ‬ ‫كوُنوا َ‬
‫َ‬
‫مُنوا ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫‪ -3‬وقال تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ن‬‫وال ِدَي ْ ِ‬ ‫و ال ْ َ‬ ‫م أَ ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫عَلى أن ْ ُ‬ ‫وَ َ‬ ‫ول َ ْ‬‫ه َ‬ ‫داءَ لل ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ش َ‬ ‫ط ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ِبال ْ ِ‬
‫فل َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫قيًرا َ‬ ‫و َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن ِإن َي َك ُ ْ‬ ‫وال ْ‬
‫ولى ب ِ ِ‬ ‫هأ ْ‬ ‫فالل ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ف ِ‬ ‫غن ِّيا أ ْ‬
‫ُ‬
‫قَرِبي َ‬
‫ْ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ن الل َ‬ ‫َ‬
‫ضوا فإ ِ ّ‬ ‫ر ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫و تُ ْ‬ ‫ووا أ ْ‬ ‫وِإن ت َل ُ‬ ‫دلوا َ‬ ‫ع ِ‬ ‫وى أن ت َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫عوا ال َ‬ ‫ت َت ّب ِ ُ‬
‫خِبيًرا" ]النساء‪.[135 :‬‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ع َ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ول َ‬ ‫ت َُ‬ ‫مْر َ‬ ‫ما أ ِ‬ ‫م كَ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫وا ْ‬ ‫ع َ‬ ‫فادْ َ ُ‬ ‫ك َ‬ ‫فل ِذَل ِ َ‬ ‫‪ -4‬وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ت‬
‫ْ ُ‬ ‫ر‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫ٍ َ‬ ‫ب‬ ‫تا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ل َ ُ ِ َ‬
‫ب‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫آ‬ ‫ق ْ‬ ‫و ُ‬‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫واءَ ُ‬ ‫ع أَ ْ‬
‫ه َ‬ ‫ت َت ّب ِ ْ‬
‫م" ]الشورى‪.[15 :‬‬ ‫ُ‬
‫دل ب َي ْن َك ُ‬ ‫َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ل ْ‬
‫ثم إن ترك العدل يعد ظلما‪ ،‬والله سبحانه وتعالى حرم الظلم‬
‫وذم أهله وتوعدهم بالعذاب الشديد يوم القيامة والهلك في‬
‫الدنيا)‪.(1‬‬
‫ل‬‫م ُ‬‫ع َ‬‫ما ي َ ْ‬ ‫ع ّ‬ ‫فل ً َ‬ ‫ه َ‬
‫غا ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫سب َ ّ‬
‫ح َ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬ ‫ّقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]إبراهيم‪.[42 :‬‬ ‫مو َ‬‫الظال ِ ُ‬
‫موا" ]النمل‪:‬‬ ‫ما ظَل َ ُ‬ ‫ة بِ َ‬
‫وي َ ً‬
‫خا ِ‬
‫م َ‬ ‫ه ْ‬
‫ك ب ُُيوت ُ ُ‬‫فت ِل ْ َ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫‪.[52‬‬
‫شروا ال ّذين ظَل َموا َ‬
‫م"‬‫ه ْ‬‫ج ُ‬‫وا َ‬ ‫وأْز َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ‬ ‫ح ُ ُ‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬ا ْ‬
‫]الصافات‪.[22 :‬‬
‫إن العدل في حياة هذه المة المحمدية الخاتمة واقع عاشته‬
‫ومارسته‪ ،‬وطبقته في واقع حياتها‪ ،‬على مر تاريخها الطويل‪ ،‬على‬
‫تفاوت في ذلك التطبيق بين زمان وزمان‪ ،‬ودولة ودولة‪ ،‬وحسب‬
‫اشتعال جذوة اليمان في قلوب الحاكمين‪ ،‬وخبوئها‪ ،‬لقد مارست‬
‫هذه المة العدل مع أعدائها وخصومها‪ ،‬وأهل ذمتها‪.‬‬
‫إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع السلمي الذي تسود‬
‫فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته بكل أشكاله‬
‫وأنواعه‪ ،‬فإذا نظرنا لتاريخ الدولة السلمية في زمن النبي ×‬
‫والخلفاء الراشدين‪ ،‬ومن سار على هديهم من التابعين رأينا صورا‬
‫مشرفة تدل على عظمة هذا الدين‪ ،‬وحب هذه المة للعدل‪:‬‬
‫فها هو × يقيد أصحابه من نفسه في طعنة طعنها إياه بالقدح‬
‫في بطنه أثناء تسويته الصف للقتال‪ ،‬روى ابن إسحاق)‪ (2‬أنه ×‪:‬‬

‫)( انظر‪ :‬النظام السياسي في السلم‪ ،‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬ص ‪.49‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪442‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫»عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح)‪ (1‬يعدل به القوم‪،‬‬
‫)‪(3‬‬
‫فمر بسواد بن غزية)‪ (2‬وهو مستقل من الصف‪ ،‬قال ابن هشام‬
‫ويقال‪ :‬مستنصل)‪ (4‬من الصف ‪ -‬فطعنه في بطنه بالقدح ‪ -‬وقال‪:‬‬
‫استو يا سواد‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله‬
‫بالحق والعدل فأقدني‪ ،‬فكشف رسول الله × عن بطنه وقال‪:‬‬
‫استقد‪ ،‬قال‪ :‬فاعتنقه فقبل بطنه‪ ،‬فقال‪ :‬ما حملك على هذا يا‬
‫سواد؟ قال‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬حضر ما ترى‪ ،‬فأردت أن يكون آخر‬
‫العهد بك أن يمس جلدي جلدك‪ ,‬فدعا له رسول الله × بخير‪«...‬‬
‫)‪.(5‬‬
‫وجاء يهودي يشتكي إليه أحد أصحابه قائل‪» :‬يا محمد‪ ،‬إن لي‬
‫على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها‪ ،‬قال‪ :‬أعطه حقه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫والذي نفسي بيده‪ ،‬ما أقدر عليها‪ ،‬قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر‬
‫فأرجو أن تغنمنا شيئا فأرجع فأقضيه‪ ،‬قال‪ :‬أعطه حقه‪ ،‬وكان‬
‫رسول الله × إذا قال ثلثا لم يراجع‪.(6) «...‬‬
‫وكان × يقيم حدود الله على من وجب عليه ذلك في عدل‬
‫وإنصاف ل تأخذه في ذلك لومة لئم ول قرابة قريب ول مكانة‬
‫شريف‪ ،‬فها هو × وهو الصادق المصدوق البار في قسمه‪ :‬لو أن‬
‫ابنته سرقت لقام عليها‪ ،‬ل يدفعه عنها كونها ابنة محمد ×‪.‬‬
‫أخرج المام البخاري عن عائشة رضي الله عنها‪» :‬أن قريشا‬
‫أهمتهم المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا‪ :‬من يكلم فيها‬
‫رسول الله × ومن يجترئ عليه إل أسامة فقال‪ :‬أتشفع في حد‬
‫من حدود الله؟ ثم قام فخطب فقال‪ :‬يا أيها الناس إنما‬
‫ضل من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف‬
‫تركوه‪ ,‬وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد‪ ،‬وايم‬
‫الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد‬
‫يدها«)‪.(7‬‬
‫وهكذا كان × يقيم العدل‪ ،‬وينفذ الحدود في دولته‪.‬‬
‫وهذا عمر بن الخطاب يقيم العدل والقسط بين الناس‪ ,‬يحكم‬
‫بالحق لرجل يهودي على مسلم‪ ،‬ولم يحمله كفر اليهودي على‬
‫)( هو العلمة الخباري أبو بكر القرشي الكلبي مولهم المدني صاحب السيرة‬ ‫‪2‬‬

‫النبوية‪ ,‬توفي عام ‪151‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬سير أعلم النبلء )‪.(7/25‬‬


‫)( القدح )بكسر القاف وبسكون الدال(‪ :‬السهم )لسان العرب‪.(2/556 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫مره النبي‬‫)( هو سواد بن غزية النصاري من بني عدي بن النجار‪ ،‬شهد بدرا وأ ّ‬
‫‪2‬‬

‫× على خيبر‪ ,‬انظر‪ :‬ابن حجر‪ ،‬الصابة )‪.(2/95‬‬


‫)( هو أبو محمد عبد الملك بن هشام بن أيوب النهلي وقيل الحميري‪ ،‬قام‬ ‫‪3‬‬

‫بتهذيب سيرة ابن إسحاق وهو من أئمة اللغة‪ ،‬توفي ‪418‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬سير أعلم‬
‫النبلء )‪.(10/429‬‬
‫)( مستنصل‪ :‬أي خارج من نصل‪ ،‬بمعنى خرج‪ ،‬لسان العرب )‪.(11/662‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( سيرة ابن هشام‪ (1/626) :‬تحقيق مصطفى السقا وزملئه‪.‬‬ ‫‪5‬‬

‫)( أخرجه أحمد )‪.(2/423‬‬ ‫‪6‬‬

‫)( البخاري‪،‬كتاب الحدود‪ ،‬باب كراهية الشفاعة إذا رفع إلى السلطان )‪(12/87‬‬ ‫‪7‬‬

‫رقم ‪.6788‬‬

‫‪443‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ظلمه والحيف عليه‪ ،‬أخرج المام مالك)‪ (1‬من طريق سعيد بن‬
‫المسيب‪» :‬أن عمر بن الخطاب ‪ ‬اختصم إليه مسلم ويهودي‪،‬‬
‫فرأى عمر أن الحق لليهودي فقضى له‪ ،‬فقال له اليهودي‪ :‬والله‬
‫لقد قضيت بالحق «)‪.(2‬‬
‫وكان ‪ ‬يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم‪ ،‬فإذا اجتمعوا قال‪ :‬يا‬
‫أيها الناس إني لم أبعث عمالي ليصيبوا من أبشاركم‪ ،‬ول من‬
‫أموالكم‪ ،‬إنما بعثتهم ليحجزوا بينكم‪ ،‬وليقسموا فيئكم بينكم‪ ،‬فمن‬
‫فعل به غير ذلك فليقم‪ ،‬فما قام أحد إل رجل واحد قام فقال‪ :‬يا‬
‫أمير المؤمنين أن عاملك فلنا ضربني مائة سوط‪ ،‬قال‪ :‬فيم‬
‫ضربته؟ قم فاقتص منه‪ ،‬فقام عمرو بن العاص فقال‪ :‬يا أمير‬
‫المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من‬
‫بعدك‪ ,‬فقال‪ :‬أنا ل أقيد‪ ،‬وقد رأيت رسول الله × يقيد من نفسه‪,‬‬
‫قال‪ :‬فدعنا فلنرضه‪ ،‬قال‪ :‬دونكم فأرضوه‪ ،‬فافتدى منه بمائتي‬
‫دينار كل سوط بدينارين)‪ ،(3‬وإن لم يرضوه لقاده)‪. (4‬‬
‫وجاء رجل من أهل مصر يشكو ابن عمرو بن العاص واليه‬
‫على مصر قائل‪» :‬يا أمير المؤمنين‪ ,‬عائذ بك من الظلم‪ ،‬قال‪:‬‬
‫عذت معاذا‪ ،‬قال‪ :‬سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته‪ ،‬فجعل‬
‫يضربني بالسوط ويقول‪ :‬أنا ابن الكرمين‪.‬‬
‫فكتب عمر إلى عمرو رضي الله عنهما يأمره بالقدوم ويقدم‬
‫بابنه معه‪ ،‬فقدم فقال عمر‪ :‬أين المصري؟ خذ السوط فاضرب‬
‫فجعله يضربه بالسوط ويقول عمر‪ :‬اضرب ابن الكرمين‪ ،‬قال‬
‫أنس‪ :‬فضرب‪ ،‬فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه‪ ،‬فما رفع عنه‬
‫حتى تمنينا أن يرفع عنه‪ ،‬ثم قال عمر للمصري‪ :،‬ضع على صلعة‬
‫عمرو‪ ،‬فقال‪ :‬يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد استفيت‬
‫منه‪ ،‬فقال عمر لعمرو‪ :‬مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم‬
‫أحرارا؟ قال‪ :‬يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني)‪.(5‬‬
‫فانظر إلى هذه المواقف الرائعة لعدالة هذه المة‪ ،‬رجل من‬
‫عامة الناس وفي رواية أنه ذمي من أقباط مصر‪ ،‬يتظلم فيعطى‬
‫حقه ويقاد من ابن المير‪ ,‬يجاء به وبأبيه ليعطي الرجل حقه‬
‫وينصف‪ ,‬ثم انظر إلى الحاضرين من أصحاب النبي × كيف أحبوا‬
‫ذلك وأيدوه »فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه« ل تشفيا منه‬
‫ول شماتة بعمرو وابنه‪ ،‬فالقوم فوق ذلك وأبعد ما يكونون عن‬
‫التشفي والشماتة‪ ،‬ولكنهم جيل أحب العدل وعاشه وتربى عليه‬
‫)( هو مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو‪ ،‬إمام دار الهجرة‪ ،‬ولد عام ‪53‬هـ‪،‬‬ ‫‪1‬‬

‫توفي ‪179‬هـ‪ ،‬انظر‪ :‬سير أعلم النبلء )‪.(135-8/49‬‬


‫)( الموطأ‪ ،‬كتاب القضية‪ ،‬باب الترغيب في القضاء بالحق‪ ،‬رقم الحديث‪.2 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( الطبقات الكبرى لبن سعد )‪(294 – 3/293‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( أقاده‪ :‬اقتص منه‪.‬‬ ‫‪4‬‬

‫)( انظر‪ :‬فتوح مصر و المغرب لبن عبد الحكم‪.226 ،225 :‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪444‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫على يد رسول الله ×‪ ،‬لذا فهو يبغض الجور ول يحب رؤيته في‬
‫فا لها في عقيدتها ودينها وشرعها‪ ،‬ويفرح‬ ‫المة ولو كان رجل ً مخال ً‬
‫أشد الفرح لرؤية العدالة ترمي بجذورها في أعماق المة ليؤخذ‬
‫حق ضعفائها وأتباعها من أقويائها)‪.(1‬‬
‫إن الناس إذا شعروا بإقامة العدالة في مجتمعهم‪ ،‬وسيادة‬
‫العدل في حياتهم‪ ،‬على المسلمين وغير المسلمين‪ ،‬تستقر‬
‫نفوسهم‪ ،‬وتطمئن قلوبهم‪ ،‬وتهدأ أحوالهم‪ ،‬ويزدهر مجتمعهم‬
‫ويعمهم الخير والمن والمان والسلمة والسلم)‪.(2‬‬
‫إن تحقق العدل اللهي في حياة البشرية هدف لكل مسلم‬
‫فرد أو جماعة‪ ,‬حاكم أو محكوم‪ ,‬ومن هنا كانت وظيفة كل نبي‬
‫د‬
‫ق ْ‬‫ورسول ومهمته أن يقيم في الناس القسط‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ل َ َ‬
‫أ َرسل َْنا رسل ََنا بال ْبيَنات َ‬
‫ن‬
‫ميَزا َ‬ ‫وال ْ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬‫ه ُ‬ ‫ع ُ‬
‫م َ‬ ‫وأن َْزل َْنا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ َ ّ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫ط"]الحديد‪.[25:‬‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫س ِبال ْ ِ‬ ‫م الّنا ُ‬ ‫قو َ‬ ‫ل ِي َ ُ‬
‫إن الدولة السلمية واجب عليها أن تقيم العدل بين الناس‬
‫وتفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل‬
‫إلى حقه بأيسر السبل وأسرعها‪ ،‬دون أن يكلفه ذلك جهد أو‬
‫مال)‪ ,(3‬وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق‬
‫صاحب الحق من الوصول إلى حقه‪.‬‬
‫لقد أوجب السلم على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس‬
‫دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الجتماعية‪ ،‬فهو‬
‫يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق ول يهمه أن يكون المحكوم‬
‫أصحاب عمل‪،‬‬ ‫عمال أو َ‬ ‫لهم أصدقاء أو أعداء‪ ,‬أغنياء أو فقراء‪،‬‬
‫دُلوا‬‫ع ِ‬‫عَلى أل ّ ت َ ْ‬ ‫وم ٍ َ‬‫ْ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ن‬
‫شَنآ ُ‬ ‫م َ‬ ‫من ّك ُ ْ‬ ‫ر َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ول َ ي َ ْ‬ ‫‪َ +‬‬ ‫قال تعالى‪:‬‬
‫هو أ َ‬
‫وى" ]المائدة‪ ,[8 :‬والمعنى ل يحملنكم‬ ‫َ‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ت‬ ‫لل‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫دُلوا ُ َ‬‫ع ِ‬‫ا ْ‬
‫بغض قوم على ظلمهم‪ ،‬ومقتضى هذا أنه ل يحملنكم حب قوم‬
‫على محاباتهم والميل معهم)‪.(4‬‬
‫يقول الستاذ أبو علي المودودي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬معقبا على‬
‫قوله تعالى‪ُ + :‬‬
‫م" ]الشورى‪ [15 :‬ما نصه‪:‬‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ُ‬‫د َ‬‫ع ِ‬ ‫تل ْ‬ ‫مْر ُ‬ ‫وأ ِ‬ ‫َ‬
‫»يعني أنني مأمور بالنصاف دون عداوة‪ ،‬فليس من شأني أن‬
‫أتعصب لحد أو ضد أحد‪ ،‬وعلقتي بالناس كلهم سواء‪ ،‬وهي علقة‬
‫العدل والنصاف‪ ،‬فأنا نصير من كان الحق في جانبه‪ ،‬وخصيم من‬
‫كان الحق ضده‪ ،‬وليس في ديني أي امتيازات لي فرد كائنا من‬
‫كان‪ ،‬وليس لقاربي حقوق‪ ،‬وللغرباء عني حقوق أخرى‪ ،‬ول للكابر‬
‫عندي مميزات ل يحصل عليها الصاغر‪ ،‬والشرفاء والوضعاء عندي‬

‫وسطية أهل السنة بين الفرق‪ ،‬ص ‪.170‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫النظام السياسي في السلم‪ ،‬ص ‪.54‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫النظام السياسي في السلم‪ ،‬ص ‪.58‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫النظام السياسي في السلم‪ ،‬ص ‪.52‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪445‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫سواء‪ ،‬فالحق حق للجميع والذنب والجرم ذنب للجميع‪ ،‬والحرام‬


‫حرام على الكل والحلل حلل للكل‪ ،‬والفرض فرض على الكل‬
‫حتى أنا نفسي لست مستثنى من سلطة القانون اللهي«)‪.(1‬‬
‫إن من أهداف التمكين إقامة المجتمع المسلم الذي يسود فيه‬
‫العدل بين الناس‪ ،‬ولبد من إقامة القضاء المستقل في الدولة‬
‫المسلمة بحيث ل يتعرض القضاء لي ضغوط كانت‪ ,‬ويصبحون‬
‫لهم الحرية في إصدار أحكامهم العادلة فيما يعرض عليهم من‬
‫قضايا في حرية تامة ول تأخذهم في إقامة العدل لومة لئم‪،‬‬
‫القوي والضعيف‪ ،‬الحاكم والمحكوم‪ ،‬المسلم والذمي‪ ،‬الراعي‬
‫والمرعي‪ ،‬المير والحقير‪ ..‬كل أمام القضاء سواء‪.‬‬
‫جـ‪ -‬المســــــــــــــــــاواة‪:‬‬
‫يعد مبدأ المساواة أحد المبادئ العامة التي أقرها السلم‪ ،‬وهي‬
‫من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم‪ ،‬ولقد أقر هذا‬
‫المبدأ وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر‪.‬‬
‫المساواة قوله‬ ‫ومما ورد َ في القرآن الكريم تأكيدا لمبدأ‬
‫َ‬
‫وأن ْثى‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خل َ ْ‬
‫قَنا ُ‬
‫ر َ‬ ‫من َذك ٍ‬ ‫كم ّ‬ ‫س إ ِّنا َ‬ ‫ها الّنا ُ‬ ‫تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ه‬
‫عن ْدَ الل ِ‬
‫م ِ‬‫مك ْ‬‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ن أكَر َ‬ ‫فوا إ ِ ّ‬‫عاَر ُ‬
‫ل ل ِت َ َ‬ ‫و َ‬
‫قَبائ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫با‬
‫ً‬ ‫عو‬
‫ُ‬ ‫م ُ‬
‫ش‬ ‫عل َْناك ُ ْ‬
‫ج َ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫م" ]الحجرات‪.[13 :‬‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫أ َت ْ‬
‫وقال الرسول عليه الصلة والسلم‪» :‬يا أيها الناس أل إن‬
‫ربكم واحد‪ ،‬وإن أباكم واحد‪ ،‬أل ل فضل لعربي على‬
‫أعجمي ول لعجمي على عربي‪ ،‬ول أحمر على أسود‪،‬‬
‫ول لسود على أحمر إل بالتقوى«)‪.(2‬‬
‫إن هذا المبدأ كان من أهم المبادئ التي جذبت الكثير من‬
‫الشعوب قديما نحو السلم‪ ،‬فكان هذا المبدأ مصدرا من مصادر‬
‫القوة للمسلمين الولين)‪ ،(3‬وليس المقصود بالمساواة هنا‬
‫»المساواة العامة« بين الناس جميعا‪ ،‬في كل أمور الحياة‪ ،‬كما‬
‫ينادي بعض المخدوعين ويرون ذلك عدل)‪ ،(4‬فالختلف في‬
‫المواهب والقدرات‪ ،‬والتفاوت في الدرجات غاية من غايات‬
‫الخلق)‪ ،(5‬ولكن المقصود المساواة التي دعت إليها الشريعة‬
‫السلمية‪ ،‬مساواة مقيدة بأحوال فيها التساوي‪ ،‬وليست مطلقة‬
‫في جميع الحوال)‪ ،(6‬فالمساواة تأتي في معاملة الناس أمام‬
‫الشرع والقضاء وكافة الحكام السلمية‪ ،‬والحقوق العامة دون‬
‫الحكومة السلمية‪ ،‬ص ‪.202‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫مسند المام أحمد )‪.(5/411‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬مبادئ نظام الحكم في السلم‪ ،‬عبد الحميد متولي‪ ،‬ص ‪.385‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫انظر‪ :‬الخلق السلمية وأسسها للميداني )‪.(1/624‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫انظر‪ :‬فلسفة التربية السلمية‪ ،‬ماجد عرسان الكيلني‪ ،‬ص ‪.179‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫انظر‪ :‬الثقافة السلمية وتحديات العصر‪ ،‬شوكت محمد‪ ،‬ص ‪.308‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪446‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫تفريق بسبب الصل‪ ،‬أو الجنس‪ ،‬أو اللون‪ ،‬أو الثروة‪ ،‬أو الجاه‪ ،‬أو‬
‫غيرها)‪.(1‬‬
‫إن السلم جعل المساواة بين المسلمين في العبادات‬
‫والمعاملت والحدود وغيرها‪ ,‬فما من عبادة إل وتبرز فيها‬
‫المساواة بين الناس بشكل واضح‪ ،‬فالصلة مثل نجد فيها الناس‬
‫جميعا غنيهم وفقيرهم‪ ,‬حاكمهم ومحكومهم‪ ،‬شريفهم ووضيعهم‬
‫يصلون في مكان واحد هو المسجد‪ ،‬ويقفون صفوفا متراصة‪,‬‬
‫الفقير بجانب الغني والحاكم بجانب المحكوم‪ ،‬وفي صلة العيد‬
‫نجد الناس يقفون جميعا على صعيد واحد وفي العراء ل يظلهم‬
‫شيء‬
‫من الحر‪.‬‬
‫وفي الحج ماذا يلحظ المسلم‪ ،‬إنه يجد الناس قد جاءوا‬
‫من كل حدب وصوب‪ ،‬ومن كل فج عميق بلغات متباينة‬
‫وألوان مختلفة‪ ،‬ومن أوطان متعددة‪ ،‬وأجناس شتى‪،‬‬
‫ثياب ا بيضاء‪ ،‬ويقفون موقفً ا واحدً ا هو عرفة‪،‬‬
‫يلبسون ً‬
‫ويطوفون طوافا معينا في وقت معين‪ ،‬يقومون بسائر‬
‫المناسك متساوين ل يتفاضلون في الهيئة والوقت وغير‬
‫ذلك‪.‬‬
‫والصوم فريضة الله على الجميع‪ ،‬فقراء وأغنياء‪ ,‬ذكورًا وإناثًا‪،‬‬
‫قوما على قوم أو طبقة على طبقة أو حاكما على‬ ‫ً‬ ‫لم يميز‬
‫محكوم‪ ،‬فأوجبه على جميع الناس ولم يعف منه أحدا حتى ولو‬
‫كان رئيس الدولة متى توافرت فيه شروط الوجوب‪ ،‬وكذلك‬
‫الزكاة فقد فرضت على سائر القادرين عليها دون أن يستثنى أحد‬
‫منهم حتى ولو كان كريما سخيا يبذل أكثر من الزكاة المستحقة‬
‫في ماله‪ ،‬وفي الحدود وسائر العقوبات فإن الناس أمام الشرع‬
‫سواء)‪.(2‬‬
‫إن الناس جميعا في نظر السلم سواسية‪ ،‬الحاكم والمحكوم‪،‬‬
‫الرجال والنساء‪ ،‬العرب والعجم‪ ،‬البيض والسود‪ ،‬لقد ألغى‬
‫السلم الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو‬
‫الطبقة‪ ,‬والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء‪.‬‬
‫وجاءت ممارسات المسلمين التطبيقية خير شاهد على ذلك‪،‬‬
‫فهذا أبو بكر في أول خطبة له بعد أن تولى الخلفة يقول‪» :‬وليت‬
‫عليكم ولست بخيركم‪ ،‬فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت‬
‫فقوموني‪ ،‬القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه‪،‬‬
‫والضعيف فيكم قوي عنده حتى آخذ له حقه«)‪.(3‬‬

‫)( انظر‪ :‬مبادئ علم الدارة‪ ،‬محمد نور الدين‪ ،‬ص ‪.116‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬النظام السياسي في السلم‪ ،‬ص ‪.44‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية لبن كثير )‪.(5/248‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪447‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وهذا عمر بن الخطاب ‪ ‬يقول في خطبة له‪» :‬أيها الناس من‬


‫ي اعوجاجا فليقومه‪ ،‬فيقف رجل من وسط الناس يقول‪ :‬يا‬ ‫رأى ف ّ‬
‫عمر لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا‪ ،‬فيقول عمر‪:‬‬
‫الحمد لله الذي جعل في أمة محمد × من يقوم اعوجاج عمر بحد‬
‫سيفه«)‪.(1‬‬
‫وهذا عمر بن عبد العزيز لما تولى الخلفة أقسم أنه يود أن‬
‫يساوي في المعيشة بين نفسه وعشيرته‪ ،‬وبين الناس‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫»أما والله لوددت أنه بدئ بي‪ ،‬وبلحمتي‪ ،‬التي أنا منها‪ ،‬حتى‬
‫يستوي عيشنا وعيشكم‪ ،‬أما والله لو أردت غير هذا من الكلم‪،‬‬
‫لكان اللسان به منبسطا‪ ،‬ولكنت بأسبابه عارفا«)‪ ،(2‬وقال في‬
‫خطبة له‪....» :‬وما منكم من أحد تبلغنا حاجته‪ ،‬إل أحببت أن أسد‬
‫من حاجته‪ ،‬ما قدرت عليه‪.(3) «...‬‬
‫ولقد مارس عمر بن عبد العزيز مبدأ المساواة بين الناس‪ ،‬في‬
‫الحقوق والواجبات في كل مجالت الحياة‪ ،‬فلم يميز بين الناس‬
‫في حقهم‪ ،‬في تولي الوظائف والوليات‪ ،‬ولم يعط أحدًا كائنًا من‬
‫كان شيئًا ليس فه فيه حق‪ ،‬فقد ساوى بين أمراء وأشراف بني‬
‫أمية وبين الناس‪ ,‬فمنع عنهم العطايا والرزاق الخاصة‪ ،‬وقال لهم‬
‫حين كلموه في ذلك‪» :‬لن يتسع مالي لكم‪ ،‬وأما هذا المال ‪ -‬الذي‬
‫في بيت مال المسلمين ‪ -‬فإنما حقكم فيه كحق رجل‪ ،‬بأقصى‬
‫برك الغماد«)‪ ،(4‬فكانت سياسته المالية تقوم على مبدأ المساواة‪،‬‬
‫فبيت المال لجميع المسلمين‪ ،‬ولكل واحد منهم حق أن يأخذ منه‬
‫أسوة بغيره‪ ،‬فل يكون حكرا على فئات معينة من الناس‪ ،‬وعندما‬
‫رأى أمراء بني أمية قد استحوذوا على قطع واسعة من الرض‬
‫وجعلوها حمى‪ ،‬يحرم من الستفادة منها عامة الناس‪ ،‬فقال‪» :‬إن‬
‫الحمى يباح للمسلمين عامة‪ ..‬وإنما المام فيها كرجل من‬
‫)‪(5‬‬
‫المسلمين‪ ،‬إنما هو الغيث ينزله الله لعباده‪ ،‬فهم فيه سواء« ‪.‬‬
‫كما ساوى بين من أسلم من أهل الديان الخرى من النصارى‬
‫واليهود‪ ،‬وبين المسلمين‪ ،‬وعمل على كسر حاجز التنافر بينهم‪,‬‬
‫فقال‪ ..» :‬فمن أسلم من نصراني أو يهودي‪ ،‬أو مجوسي من أهل‬
‫الجزية اليوم‪ ،‬فخالط عامة المسلمين في دارهم‪ ،‬وفارق‬
‫داره التي كان بها‪ ،‬فإن له ما للمسلمين‪ ،‬وعليه ما عليهم‪ ،‬وعليهم‬
‫أن يخالطوه وأن يواسوه‪.(6)«..‬‬

‫انظر‪ :‬نظام الحكم في السلم‪ ،‬د‪ .‬عارف خليل‪ ،‬ص ‪.271‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سيرة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ابن عبد الحكم‪ ،‬ص ‪.112‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫تاريخ المم والملوك )‪.(6/571‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫تاريخ الخلفاء للسيوطي‪ ،‬ص ‪.237 ،236‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫سيرة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ص ‪.81‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.79‬‬ ‫)(‬ ‫‪6‬‬

‫‪448‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫وفي مجال المساواة بين الناس أمام القضاء‪ ،‬وأحكام السلم‬


‫نكتفي بهذا الموقف‪ ،‬كان عمر فيه أحد أطراف النزاع أمام‬
‫القاضي وتفصيل ذلك أنه‪» :‬أتى رجل من أهل مصر عمر بن عبد‬
‫العزيز‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أمير المؤمين‪ ،‬إن عبد العزيز ‪ -‬يقصد والد‬
‫عمر ‪ -‬أخذ أرضي ظلما‪ ،‬قال‪ :‬وأين أرضك يا عبد الله؟ قال‪:‬‬
‫حلوان‪ ،‬قال عمر‪ :‬أعرفها ولي شركاء ‪ -‬أي شركاء في حلوان ‪-‬‬
‫وهذا الحاكم بيننا‪ ،‬فمشى عمر إلى الحاكم فقضى عليه‪ ،‬فقال‬
‫عمر‪ :‬قد أنفقنا عليها‪ ،‬قال القاضي‪ :‬ذلك بما نلتم من غلتها‪ ،‬فقد‬
‫نلتم مثل نفقتكم‪ ،‬فقال عمر‪ :‬لو حكمت بغير هذا ما وليت لي‬
‫أمرا أبدا‪ ،‬وأمر بردها «)‪.(1‬‬
‫وكان عمر يقيم وزنًا لمبدأ المساواة بين المسلمين‪ ،‬حتى في‬
‫المور العامة‪ ،‬ومن ذلك أمره بأن ل ُيخص أناس بدعاء المسلمين‪،‬‬
‫والصلة عليهم‪ ،‬فكتب إلى أمير الجزيرة يقول‪ ...» :‬وقد بلغني أن‬
‫ناسا من القصاص قد أحدثوا صلة على أمرائهم‪ ،‬عدل ما يصلون‬ ‫ً‬
‫على النبي ×‪ ,‬فإذا جاءك كتابي هذا‪ ،‬فمر القصاص‪ ،‬فليجعلوا‬
‫صلتهم على النبي × خاصة‪ ،‬وليكن دعاؤهم للمؤمنين والمسلمين‬
‫عامة‪ ،‬وليدعوا ما سوى ذلك«)‪.(2‬‬
‫ومن ذلك يتضح اهتمام عمر بالمساواة بين عامة الناس‪ ،‬حتى‬
‫في الدعاء لهم‪ ،‬ول يختص أحد بالدعاء‪ ,‬فالمسلمون عامة في‬
‫حاجة إلى دعوة الله عز وجل لهم‪ ،‬والله سبحانه وتعالى جدير‬
‫بالجابة)‪ .(3‬ولم يكتف عمر بالخذ بمبدأ المساواة بنفسه فحسب‪،‬‬
‫بل كان يأمر عماله وولته بذلك فقد كتب إلى عامله على المدينة‬
‫يقول له‪» :‬اخرج للناس‪ ،‬فآس بينهم في المجلس والمنظر‪ ،‬ول‬
‫يكون أحد الناس آثر عندك من أحد ول تقولن هؤلء من أهل بيت‬
‫أمير المؤمنين‪ ،‬فإن أهل بيت أمير المؤمنين وغيرهم عندي اليوم‬
‫سواء‪ ،‬بل أنا أحرى أن أظن بأهل بيت أمير المؤمنين أنهم يقهرون‬
‫من نازعهم«)‪.(4‬‬
‫وبعد هذا العرض الموجز نرى أن الدولة السلمية لبد لها أن‬
‫تعمل على إنزال هذا المبدأ في دنيا الناس وعليها أن تراعي‬
‫التي‪:‬‬
‫‪ -1‬العلم بأن مبدأ المساواة ل يخلو من أنه أمر تعبدي‪ ،‬تؤجر‬
‫عليه من خالق الخلق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫‪ -2‬إسقاط العتبارات الطبقية‪ ،‬والعرقية‪ ،‬والقبلية‪ ،‬والعنصرية‪،‬‬
‫والقومية‪ ،‬والوطنية‪ ،‬والقليمية وغير ذلك من الشعارات الماحقة‬
‫عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم‪ ،‬ماجدة زكريا‪ ،‬ص ‪.210‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫سيرة عمر بن عبد العزيز لبن الجوزي‪ ،‬ص ‪.273‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬إدارة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ص ‪.299‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الطبقات لبن سعد )‪.(5/343‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪449‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫لمبدأ المساواة النسانية‪ ،‬والتي تقوم عليها وتستحسنها بعض‬


‫الجماعات‪ ،‬والدول‪ ،‬والمؤسسات‪ ،‬بل والمجتمعات وإحلل المعيار‬
‫اللهي بدل عنها للتفاضل‪ ،‬أل وهو )التقوى(‪.‬‬
‫‪ -3‬ضرورة مراعاة مبدأ تكافؤ الفرص للجميع‪ ،‬ول يراعى أحد‬
‫لجاهه أو سلطانه‪ ،‬أو حسبه‪ ،‬أو نسبه‪ ،‬وإنما الفرص للجميع وكل‬
‫حسب قدراته‪ ،‬وكفاءاته‪ ،‬ومواهبه‪ ،‬وطاقته‪ ،‬وإنتاجه‪.‬‬
‫إن تطبيق مبدأ المساواة بين رعايا الدولة السلمية يقوي‬
‫صفها‪ ،‬ويوحد كلمتها وينتج عنه مجتمع متماسك متراحم يعيش‬
‫لعقيدة‪ ،‬ومنهج ومبدأ‪.‬‬
‫د‪ -‬الحريــــــــات‪:‬‬
‫نعني بالحرية في نظر السلم ممارسة الفراد لكل حق من‬
‫الحقوق الشخصية )الجانب المادي( والفكرية )الجانب المعنوي(‬
‫التي ل تتعارض مع أحكام الشريعة وتعاليمها‪ ،‬ول تصطدم مع‬
‫المصالح الجماعية‪ ،‬ول تتنافى مع الداب الجتماعية)‪.(1‬‬
‫لذا فالحرية العامة للنسان من المور الساسية في حياته‪،‬‬
‫فهي جزء ل يتجزأ من تكوينه النفسي وتركيبه السلوكي منذ أن‬
‫وجد‪ ،‬ولكن الدنيا لم تعرف حرية بالمعنى الذي جاءت به رسالة‬
‫السلم)‪ ,(2‬فالحرية في السلم ل تحتاج إلى أي تحديد من‬
‫السلطة أو اعتراف‪ ،‬ول يحتاج المسلم للوصول إلى حريته العامة‬
‫إلى اتخاذ أي إجراء‪ ،‬إذ كفل السلم حق المسلم في الحرية‬
‫فكانت أحد مبادئ الحكم التي أقرها السلم‪ ،‬ولقد حرص رسول‬
‫الله × والخلفاء الراشدون من بعده على تطبيق هذا المبدأ‪ ،‬بمنح‬
‫المسلمين وغيرهم حقهم في الحرية‪ ،‬وتربية المة على ذلك)‪.(3‬‬
‫حقوق الفراد‪:‬‬
‫إن لكل فرد في الدولة السلمية حقوقا‪ ،‬وقد كفل‬
‫السلم هذه الحقوق وطالب المسلمين بالحفاظ عليها‪،‬‬
‫مادام الفرد واحدا من رعية الدولة السلمية‪ ،‬أي مواطنا‬
‫فيها‪ ،‬سواء أكان مسلما أو كتابيا التزم بدستور الدولة‪،‬‬
‫وخضع لنظامها العام‪ ،‬ولم يتمرد أو يخرج عن الدولة)‪. (4‬‬
‫‪ -1‬حق الحياة‪:‬‬
‫إن السلم صان حق الحياة لكل الناس داخل الدولة السلمية‬
‫مبادئ الثقافة السلمية‪ ،‬لمحمد النبهان‪ ،‬ص ‪.361 ،360‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫السلم تربية النسان‪ ،‬إبراهيم سعادة‪ ،‬ص ‪.139‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫إدارة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ص ‪.309‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نظام الحكم في السلم‪ ،‬د‪ .‬عارف خليل‪ ،‬ص ‪.151‬‬ ‫انظر‪:‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪450‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫أو خارجها‪ ،‬للمسلم وغير المسلم‪ ،‬ل يستثنى من ذلك إل الذي‬


‫يقف في وجه الدولة السلمية‪ ,‬ول يجوز للدولة أن تعتدي على‬
‫حياة أي شخص إل إذا ارتكب جرما يؤاخذ عليه الشرع‪ ،‬ويعاقب‬
‫عليه القانون السلمي‪ ،‬ول يقف السلم عند حد حرمة العتداء‬
‫على النفس‪ ،‬بل أوجب على الدولة تقديم الرعاية‪ ،‬وتوفير العيش‬
‫الكريم لكل فرد لم يستطع الحصول عليه سواء أكان من‬
‫المسلمين أم من غير المسلمين‪ ،‬إذا وجد المال في بيت المال‬
‫وهذا أمر متفق عليه بين المسلمين‪ ،‬والشواهد التاريخية منذ العهد‬
‫النبوي تدل دللة قاطعة على كفالة الدولة للمحتاجين من أفراد‬
‫المجتمع في الدولة السلمية‪ ،‬دون تمييز بين المسلمين وغير‬
‫المسلمين‪ ،‬وعلى هذا فإن الدولة السلمية من واجبها منع التعدي‬
‫على أرواح الفراد‪ ،‬ودفع الظلم عنهم‪ ،‬وتحقيق الكفاية للمجتمع)‪.(1‬‬
‫لقد اهتمت الدولة السلمية بكل رعاياها حتى المولود الذي‬
‫يولد في السلم‪ ,‬فهذا مثل رائع يدل على هذا الهتمام‪ ،‬كان‬
‫الفاروق ‪ ‬يفرض لكل من بلغ سن الفطام عطاء من بيت مال‬
‫المسلمين‪ ،‬فكان الباء ينتظرون بشوق ليوم فطام أبنائهم إذ‬
‫يذهبون بهم إلى صاحب الديوان‪ ،‬فيسجل أسماءهم وعطاءهم‬
‫السنوي‪ ،‬ولعل بعض الناس كانوا يعجلون فطام أبنائهم من أجل‬
‫العطاء فيضرون بالبناء ويستفيدون بالعطاء وما كان عمر يعلم‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وبينما الفاروق يحرس في قافلة دخلت المدينة ليل‪ ،‬وكان معه‬
‫عبد الرحمن بن عوف سمع صوت بكاء طفل‪ ،‬فتوجه نحوه‪ ،‬فقال‬
‫لمه‪ :‬اتقي الله وأحسني إلى صبيك‪ ،‬ثم عاد إلى مكانه‪ ،‬فلما كان‬
‫آخر الليل سمع بكاءه فأتى أمه فقال‪ :‬ويحك إني لراك أم سوء‪،‬‬
‫ما لي أرى ابنك ل يقر منذ الليلة؟‬
‫قالت‪ :‬يا عبد الله قد أبرمتني منذ الليلة )أي أضجرتني( إني‬
‫أريغه)‪ (2‬عن الفطام فيأبى‪ ،‬قال‪ :‬ولم؟ قالت‪ :‬لن عمر ل يفرض إل‬
‫شهرا‪ ،‬قال‪ :‬ويحك يا‬
‫ً‬ ‫للفطيم‪ ،‬قال‪ :‬وكم له؟ قالت‪ :‬كذا وكذا‬
‫تعجليه‪ ،‬فصلى الفجر وما يتبين الناس قراءته من غلبة البكاء‪،‬‬
‫فلما سلم قال‪ :‬ل بؤسًا لعمر كم قتل من أولد المسلمين‪ ،‬ثم أمر‬
‫مناديا فنادى‪ :‬أن ل تعجلوا صبيانكم عن الفطام فإنا نفرض لكل‬
‫مولود في السلم وكتب بذلك إلى الفاق)‪.(3‬‬
‫ونستخلص من الحادثة عدة أمور‪:‬‬
‫إحاطة الفاروق المباشرة بشئون الرعية وتتبعه أخبارهم‬ ‫‪-‬‬
‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.152 ،151‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( أريغه عن الفطام‪ :‬أي أريده أن ينفطم‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مجمع الزوائد )‪ (7 ،6/6‬وصحح الحديث‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪451‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫بنفسه حيث علم بقدوم القافلة ومنزلهم‪.‬‬


‫القدوة الحسنة منه حيث أخذ معه سيدا آخر من عظماء‬ ‫‪-‬‬
‫الصحابة هو عبد الرحمن بن عوف لحراسة القافلة ولم‬
‫يكلف أحدا من المسلمين‪.‬‬
‫بحثه وتحقيقه عن بكاء الصغير‪ ,‬ما سببه؟ وتكراره النصيحة‬ ‫‪-‬‬
‫لمه حتى خرج بالسبب الذي كان سببا في إسعاد كثير من‬
‫المسلمين آباء وأبناء‪.‬‬
‫مسارعته إلى حل المشكلت بأفضل الطرق وأقومها‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ -‬تعميمه ذلك القرار الحكيم على الوليات في الدولة‪،‬‬
‫فأصبح كل مولود في السلم يتعين له عطاؤه السنوي‪ .‬إن‬
‫قديما‬
‫ً‬ ‫هذا العمل ل يوجد له نظير في التاريخ البشري كله‬
‫وحديثا)‪.(1‬‬
‫ً‬
‫وعامل أهل الكتاب معاملة رفيعة »فعندما مر بباب قوم وعليه‬
‫سائل يسأل ‪ -‬شيخ ضرير البصر ‪ -‬فضرب عضده من خلفه وقال‪:‬‬
‫من أي أهل الكتاب أنت؟ فقال‪ :‬يهودي‪ ،‬قال‪ :‬فما ألجأك إلى ما‬
‫أرى؟ قال‪ :‬أسأل الجزية‪ ,‬والحاجة‪ ،‬والسن‪ ،‬قال‪ :‬فأخذ عمر بيده‬
‫وذهب به إلى منزله فرضخ له بشيء من المنزل)‪ ،(2‬ثم أرسل إلى‬
‫خازن بيت المال‪ ،‬فقال‪ :‬انظر هذا وضرباءه‪ ،‬فوالله ما أنصفناه إن‬
‫أكلنا شيبته ثم نخذله عند الهرم‪ ،‬ووضع عنه الجزية وعن‬
‫ضربائه«)‪ ،(3‬وقد كتب إلى عماله معمما عليهم هذا المر ‪ .‬إن‬
‫)‪(4‬‬

‫حق الحياة الكريمة في الدولة السلمية محفوظ لكل رعاياها‪.‬‬


‫‪ -2‬حرية العمل‪:‬‬
‫إن الدستور السلمي يبيح لرعاياه الحرية القتصادية المتمثلة‬
‫في حرية العمل والتملك‪ ,‬وقد دعا السلم الناس إلى العمل‬
‫ض ذَُلول ً‬ ‫َ‬
‫م الْر َ‬ ‫ل ل َك ُ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫ج َ‬ ‫ذي َ‬‫و ال ّ ِ‬
‫ه َ‬ ‫وحثهم عليه قال تعالى‪ُ + :‬‬
‫شوُر"‬ ‫ه الن ّ ُ‬ ‫َ‬
‫وإ ِلي ْ ِ‬‫َ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ق‬‫ِ‬ ‫ز‬‫ْ‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫من‬‫ِ‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫وك ُ‬
‫ها َ‬
‫مَناك ِب ِ َ‬
‫في َ‬
‫شوا ِ‬ ‫م ُ‬ ‫َ‬
‫فا ْ‬
‫]الملك‪.[15 :‬‬
‫إن من حق الفرد في الدولة السلمية أن يمارس جميع‬
‫الشئون القتصادية بشرط أل يخرج إلى دائرة المحرمات التي‬
‫منعتها الشريعة الغراء مثل الربا‪ ،‬والغش‪ ،‬والحتكار‪ ،‬والقمار فإذا‬
‫وقع الفرد في المحرمات تتدخل الدولة لمنعه من أجل المحافظة‬
‫انظر‪ :‬أولويات الفاروق‪ ،‬د‪ .‬غالب القرشي‪ ،‬ص ‪.364 ،363‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫رضخ‪ :‬أعطاه شيئًا ليس بالكثير‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫أحكام أهل الذمة لبن القيم )‪.(1/38‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫نصب الراية للزيلعي )‪.(3/453‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪452‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫على مصلحة المة التي قدرتها الشريعة وأحكمتها بتوجيهاتها‪.‬‬


‫لقد أباحت الشريعة حرية التجارة والكسب وحرص الخلفاء‬
‫على حماية هذا النوع من الحرية‪ ,‬فهذا عمر بن عبد العزيز قد أكد‬
‫في كتاب له إلى عماله‪ ،‬على ضرورة منح الناس حرية استثمار‬
‫أموالهم‪ ،‬والتجار بها في البر أو البحر على حد سواء فقال‪...» :‬‬
‫وأن يبتغي الناس بأموالهم في البر والبحر ل ُيمنعون ول‬
‫ُيحبسون‪.(1)«...‬‬
‫وفي شأن البر والبحر‪ ،‬وأنهما مما سخر الله لعباده لبتغاء‬
‫فضله‪ ،‬ولحرية الكسب فيهما يقول‪» :‬وأما البحر فإنا نرى سبيله‬
‫ي‬
‫ر َ‬‫ج ِ‬ ‫م ال ْب َ ْ‬
‫حَر ل ِت َ ْ‬ ‫خَر ل َك ُ ُ‬
‫س ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬‫قال سبحانه‪+ :‬الل ُ‬ ‫َ‬
‫سبيل البر‪،‬‬
‫ه" ]الجاثية‪ [11 :‬فأذن فيه‬ ‫ل‬‫ض‬
‫ْ ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫غوا‬‫ُ‬ ‫في ِ ِ ْ ِ ِ َ ِ َ ْ َ‬
‫ت‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ه‬ ‫ك ِ‬ ‫فل ْ ُ‬
‫ال ْ ُ‬
‫أن يتجر فيه من شاء‪ ،‬وأرى أن ل نحول بين أحد من الناس وبينه ‪-‬‬
‫يقصد البحر ‪ -‬فإن البر والبحر لله جميعا‪ ،‬سخرهما لعباده يبتغون‬
‫فيهما من فضله‪ ،‬فكيف نحول بين عباد الله وبين معايشهم«)‪.(2‬‬
‫‪ -3‬حرية النقد والحرية الشخصية‪:‬‬
‫إن المجتمع السلمي في أصله كالجسد الواحد قال تعالى‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫مُرو َ‬ ‫ض ي َأ ُ‬ ‫ع ٍ‬ ‫ول َِياءُ ب َ ْ‬‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ع ُ‬‫ت بَ ْ‬ ‫مَنا ُ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫وال ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫وال ْ ُ‬ ‫‪َ +‬‬
‫ن‬ ‫ْ‬
‫وي ُؤُتو َ‬‫صلةَ َ‬ ‫َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مو َ‬ ‫قي ُ‬ ‫وي ُ ِ‬‫ر َُ‬ ‫َ‬
‫من ْكَ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫َ‬ ‫ع ِ‬‫ن َ‬ ‫و َ‬‫ه ْ‬ ‫وي َن ْ َ‬‫ف َ‬‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬
‫ن‬‫ه إِ ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫م ُ‬‫ح ُ‬‫سي َْر َ‬‫ك َ‬ ‫ه أولئ ِ َ‬ ‫سول ُ‬ ‫وَر ُ‬ ‫ه َ‬‫ن الل َ‬ ‫عو َ‬ ‫طي ُ‬‫وي ُ ِ‬ ‫َ‬
‫الّزكاةَ َ‬
‫م" ]التوبة‪.[71 :‬‬ ‫زي ٌ َ ِ ٌ‬
‫كي‬ ‫ح‬ ‫ز‬ ‫ع ِ‬‫ه َ‬ ‫الل َ‬
‫وفي السنة النبوية طائفة من الحاديث توجب على الفراد‬
‫محاسبة السلطة ونصحها‪ ,‬ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو‬
‫سعيد الخدري قال‪ :‬سمعت رسول الله × يقول‪» :‬من رأى منكم‬
‫منكرا فليغيره بيده‪ ,‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ,‬فإن لم يستطع‬
‫فبقلبه وذلك‬
‫أضعف اليمان« )‪.(3‬‬
‫إن الدستور السلمي منح للمسلمين الحرية السياسية‪ ،‬إذ ل‬
‫طاعة لمخلوق في معصية الخالق‪ ،‬حتى وإن كان حاكما أو واليا‪،‬‬
‫وقد بينا في بحثنا هذا موقف الخلفاء الراشدين‪ ،‬وهذا عمر بن عبد‬
‫العزيز عندما تولى الخلفة أعاد المور إلى نصابها وأعلن استئناف‬
‫الحرية السياسية وشجع على المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪،‬‬
‫منكرا على الناس واقعهم المظلم‪ ،‬وأن السلم ل يرضى‬
‫السكوت على الظلم‪ ،‬فقد خطب الناس يوما فقال‪ ...» :‬أل ل‬
‫)( سيرة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬ابن عبد الحكم‪ ،‬ص ‪.78‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.82‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم بشرح النووي‪.(2/22) ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪453‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫سلمة لمرئ في خلف السنة‪ ،‬ول طاعة لمخلوق في معصية‬


‫الله‪ ،‬أل وإنكم تسمون الهارب من ظلم إمامه العاصي‪ ،‬أل وإن‬
‫أولهما بالمعصية‬
‫المام الظالم«)‪.(1‬‬
‫ولقد قام هذا الخليفة العادل بالتنازل عن الخلفة عقب إعلن‬
‫العهد له بالخلفة‪ ،‬وطلب من الئمة أن تختار لهم خليفة‪ ،‬فاختاره‬
‫واسعا للرأي‬
‫ً‬ ‫مجال‬
‫ً‬ ‫أهل الحل والعقد وبايعته المة‪ ،‬ولقد أعطاهم‬
‫والتعبير وأتاح لكل متظلم أن يشكو من ظلمه‪ ,‬وأطلق للكلمة‬
‫حريتها‪ ،‬وترك للناس حرية التعبير‪ ،‬قال القاسم بن محمد بن أبي‬
‫بكر الصديق)‪  (2‬عندما تولى عمر بن عبد العزيز الخلفة‪» :‬اليوم‬
‫ينطق كل من كان ل ينطق«)‪ ,(3‬وهذا وصف موجز رائع يدل على‬
‫الحرية في دولة عمر بن عبد العزيز‪.‬‬
‫إن حرية النقد‪ ،‬والتعبير تبني مجتمعا سليما صالحا للتطور‬
‫والتقدم والزدهار‪ ،‬وتقضي على أمراض النفاق والتزلف وهي من‬
‫أخطر المراض التي تضعف المجتمع‪ ،‬وتجعله ينحدر في الضعف‬
‫والهوان والضياع‪.‬‬
‫إن السلم احترم النسان وقدره وأعطاه ما يضمن له حريته‬
‫الشخصية‪ ،‬من حرية التنقل‪ ،‬فله أن ينتقل من مكان إلى آخر‪ ،‬وأن‬
‫يخرج من البلد ويعود إليها دون أن يكون هناك أي قيد على هذا‬
‫وخروجا‬
‫ً‬ ‫التنقل‪ ،‬إل ما تقتضيه مصلحة البلد كمنع السفر دخولً‬
‫حين انتشار الوباء‪ ،‬وفقا لحديث الرسول ×‪» :‬إذا سمعتم به‬
‫بأرض فل تقدموا عليه‪ ،‬وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فل‬
‫تخرجوا فرارا منه«)‪.(4‬‬
‫ومن الحريات الشخصية التي كفلها السلم لكل فرد في‬
‫الدولة حق المن‪ ،‬فل يجوز في نظر الشريعة حبس شخص إل‬
‫بسبب جريمة تستحق العقوبة‪ ،‬لن الصل في هذه الحالت أن‬
‫النسان برئ حتى تثبت إدانته‪ ,‬فالمسكن مصون في السلم‪ ،‬فل‬
‫يجوز َاقتحامه من غير استئذان إل عند الضرورة)‪ ,(5‬قال تعالى‪:‬‬
‫حّتى‬‫م َ‬ ‫خُلوا ب ُُيوًتا َ‬
‫غي َْر ب ُُيوت ِك ُ ْ‬ ‫مُنوا ل َ ت َدْ َ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫‪َ+‬يا ْأي ّ َ‬
‫ها" ]النور‪.[27 :‬‬ ‫هل ِ َ‬
‫على أ ْ‬ ‫َ‬ ‫موا َ‬ ‫ّ‬
‫سل ُ‬ ‫وت ُ َ‬
‫َ‬ ‫سوا‬‫ُ‬ ‫ست َأن ِ‬
‫تَ ْ‬
‫***‬

‫)( سيرة عمر بن عبد العزيز للمام ابن الجوزي‪ ،‬ص ‪.240‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( هو حفيد أبي بكر الصديق‪ ،‬تابعي من الفقهاء السبعة‪ ,‬توفي عام ‪112‬هـ‪ ،‬ابن‬ ‫‪2‬‬

‫سعد )‪.(5/344‬‬
‫)( الطبقات لبن سعد )‪(5/344‬‬ ‫‪3‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الحيل‪ ،‬باب ما يكره من الحتيال في الفرار من الطاعون )‬ ‫‪4‬‬

‫‪ (8/28‬رقم ‪.6973‬‬
‫)( انظر‪ :‬نظام الحكم في السلم‪ ،‬د‪ .‬عارف خليل‪ ،‬ص ‪.155‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪454‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫المبحث الثاني‬
‫نشــــــــر الدعوة إلـــى الله‬
‫وذلك أن دين السلم‪ ،‬دين دعوة مستمرة‪ ،‬ل تتوقف‪ ،‬حتى‬
‫تتوقف الحياة البشرية من على وجه الرض‪.‬‬
‫وممارسة الدعوة بعد التمكين هي الممارسة المجدية القادرة‬
‫على الوصول إلى أهدافها‪ ,‬لن دولة وحكومة ترعيانها وتؤيدانها‪،‬‬
‫والحق مهما كان واضحًا‪ ،‬فإنه بحاجة إلى قوة تؤيده وتحميه‪ ،‬ذاك‬
‫الشأن هو سنة من سنن الله في الرض‪ ،‬إن الدولة المحكمة‬
‫لشرع الله هي المناط بها إعداد وتهيئة وحماية الدعاة‪ ،‬وتوفير‬
‫السبل والوسائل المعينة لهم على القيام بهذه المهمة‪ ،‬وهي‬
‫المسئولة أيضا عن نشر هذه الدعوة في أرجاء الرض وربط‬
‫السياسة الخارجية على السس الدعوية العقدية‪ ،‬قبل بنائها على‬
‫السس المصلحية النفعية‪ ،‬وذلك كما كان يفعل رسول الله ×‬
‫َكان يقوم بتبليغ الدعوة ُإلى الفاق امتثال لقول الله تعالى‪َ+ :‬يا‬
‫ع ْ‬
‫ل‬ ‫ف َ‬ ‫م تَ ْ‬‫وِإن ل ّ ْ‬
‫ك َ‬ ‫من ّرب ّ َ‬ ‫ك ِ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬‫ز َ‬
‫ما أن ْ ِ‬ ‫غ َ‬‫ل ب َل ّ ْ‬
‫سو ُ‬ ‫ها الّر ُ‬ ‫أي ّ َ‬
‫ه لَ‬ ‫َ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫ِ ِ ّ‬‫س‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫م‬ ‫ص‬
‫ُ َ ْ ِ ُ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫والل‬ ‫َ‬
‫ف َ َ ْْ َ ِ َ ْ َ ُ َ‬
‫ه‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫سا‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫غ‬‫ّ‬ ‫ل‬‫ب‬ ‫ما‬ ‫َ‬
‫ن" ]المائدة‪.[67 :‬‬ ‫ري َ‬‫ف ِ‬ ‫َ‬
‫م الكا ِ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫دي الق ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫وقد امتثل × للمر وأرسل إلى ملوك الرض فكتب إلى ملك‬
‫كتابا إل إذا كان مختومًا‪ ،‬فاتخذ‬ ‫ً‬ ‫الروم‪ ،‬فقيل له‪ :‬إنهم ل يقرأون‬
‫خاتما من فضة‪ ,‬وختم به الكتب إلى الملوك‪ ،‬وبعث كتًبا ورسل ً‬ ‫ً‬
‫إلى ملوك فارس والروم‪ ،‬والحبشة ومصر والبلقاء واليمامة في‬
‫يوم واحد‪ ،‬ثم بعث إلى حكام عمان والبحرين واليمن وغيرهم)‪.(1‬‬
‫إن الدولة المسلمة من أهدافها دعوة الناس إلى دين الله‪,‬‬
‫ولذلك ربما تؤسس وزارة أو مؤسسة أو هيئة خاصة بأمور الدعوة‬
‫وظيفتها إعانة الدعاة للتغلب على هموم الدعوة‪ ،‬بكل ما أوتيت‬
‫من إمكانات فهي التي تشرف على‪:‬‬
‫‪ -1‬إعداد الدعاة على المستوى الذي يتطلبه العصر الذي‬
‫يعيشون فيه‪ ،‬والمجتمع الذي يمارسون فيه الدعوة‪ ،‬إعدادا علميا‬
‫فنيا ميدانيا‪.‬‬
‫‪ -2‬تنظيم وسائل العلم والتنسيق بينها لتؤدي مهمتها في‬
‫الدعوة إلى الله‪.‬‬
‫‪ -3‬توجيه دعوة الله إلى عامة المسلمين والمقصرين في حق‬
‫دينهم‪ ,‬وتوجيه الدعوة إلى غير المسلمين في العالم كله إلى غير‬
‫ذلك‪ ،‬ودعوة المة المسلمة إلى الله تكون بالمر بالمعروف‬
‫)( انظر‪ :‬زاد المعاد لبن القيم )‪.(124- 1/119‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪455‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫والنهي عن المنكر‪ ،‬وإقامة الحدود‪ ،‬والدعوة إلى الخلق الكريمة‬


‫بكل الوسائل الشرعية‪ ،‬وأما خارج المة‪ ،‬فمن أعظم الوسائل‬
‫الجهاد في سبيل الله‪.‬‬
‫أولً‪ :‬إحياء المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪:‬‬
‫إن من وسائل الدعوة إحياء فريضة المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر من خلل إشراف الدولة‪ ،‬لن فريضة المر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر هي جزء من سياسة الدولة السلمية الحاكمة‬
‫بما أنزل الله‪ ،‬فهي ليست مجرد جهد شخصي من المتطوعين‬
‫أصحاب النوايا الطيبة‪ ،‬وليست أصواتا تعلو فوق المنابر تخاطب‬
‫البناء التحتي للمجتمع الذي ل يملك حول ول قوة حيال منكرات‬
‫ومفاسد مدخولة على حياة الناس‪ ..‬ل‪ ،‬ليس المر كذلك ولكن‬
‫المر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن من أركان خطة الدولة‬
‫في إقامة الدين الذي تستمد الدولة شرعيتها منه‪.‬‬
‫فعبادة المر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير‪،‬‬
‫هي الرضية التي تنطلق منها السياسات العلمية والتثقيفية‬
‫والتعليمية والجتماعية والمالية‪ ،‬وشتى النواحي التي ينعكس أثرها‬
‫على الدين سلبا أو إيجابا‪ ،‬فبهذا تكون الدولة مقيمة لشعائر‬
‫السلم الظاهرة التي بها تعرف أنها دار إسلم‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله‪ ...» :‬وولي المر إنما نصب ليأمر‬
‫بالمعروف وينهى عن المنكر‪ ،‬وهذا هو مقصود الولية‪ ،‬فإذا كان‬
‫كن من المنكر‪ ،‬كان قد أتى بضد المقصود‪ ،‬مثل من‬ ‫الوالي يم ّ‬
‫نصبته ليعينك على عدوك فأعان عدوك عليك‪ ،‬وبمنزلة من أخذ‬
‫مال يجاهد به في سبيل الله‪ ،‬فقاتل به المسلمين«)‪.(1‬‬
‫وواضح من كلمه ‪-‬رحمه الله‪ -‬أن واجب الولة إقامة هذه‬
‫الشعيرة وتمكين الناس من أدائها‪ ،‬ل منعهم منها‪.‬‬
‫إن المة ل تكون خير أمة أخرجت للناس إل بالمر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر واليمان بالله‪ .‬وبإقامة هذه الشعيرة تتوطد‬
‫دعائم المجتمع السلمي على أسس الحق والخير‪ ،‬وبه تقمع‬
‫والمشاغبين على نهج السلم‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬ ‫المناوئينة أ ُ‬ ‫دعاوى‬
‫ْ‬ ‫خير أ ُ‬
‫ف‬
‫ِ‬ ‫رو‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫َ ِ َ ْ ُ‬‫با‬ ‫ن‬ ‫رو‬ ‫م‬
‫ُ ُ‬ ‫تأ‬
‫َ‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫لل‬
‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ج‬ ‫ر‬
‫ِ َ ْ‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫م‬
‫ْ َ ّ ٍ‬ ‫َ‬ ‫‪+‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬
‫ه" ]آل عمران‪.[110 :‬‬ ‫ن ِبالل ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫ْ‬
‫وت ُؤ ِ‬
‫ر َ‬ ‫َ‬
‫من ْك ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫ع ِ‬
‫ن َ‬ ‫و َ‬‫ه ْ‬ ‫وت َن ْ َ‬
‫َ‬
‫إن المر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عنوان خيرية هذه‬
‫المة‪ ،‬حتى إن الية قدمته في الذكر قبل اليمان‪ ،‬لن اليمان‬
‫والدين ل يحفظان في حياة المسلمين دون المر بالمعروف‬
‫والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫)( مجموع الفتاوى )‪.(28/303‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪456‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ومما يدل على أن الدين يضيع إذا لم يأتمر الناس بالمعروف‬


‫ويتناهون عن المنكر ما حدث لبني إسرائيل‪ ،‬إذ كان إهمالهم لتلك‬
‫الفريضة بداية النهاية لفقدهم رتبة التفضيل على ألسنة الرسل‪،‬‬
‫عَلى‬ ‫ل َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫من ب َِني إ ِ ْ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ع َ‬ ‫كما قال تعالى‪+ :‬ل ُ ِ‬
‫َ‬
‫وكاُنوا‬ ‫وا َ‬ ‫ص ْ‬
‫ع َ‬‫ما َ‬ ‫َ‬
‫م ذَل ِك ب ِ َ‬ ‫مْري َ َ‬
‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ِ‬ ‫عي َ‬‫و ِ‬‫ود َ َ‬ ‫دا ُ‬ ‫ن َ‬ ‫سا ِ‬ ‫لِ َ‬
‫ما‬
‫َ َ‬‫س‬ ‫ْ‬ ‫ئ‬ ‫ب‬‫َ‬
‫ُ ِ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ر‬
‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫من‬
‫ّ‬ ‫عن‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫ْ‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫دو‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫ع‬‫يَ ْ‬
‫ن" ]المائدة‪.[79 ،78 :‬‬ ‫عُلو َ‬ ‫ْ‬
‫ف‬
‫َ َ‬ ‫ي‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫كا‬ ‫َ‬
‫إن من واجبات الدولة المسلمة العمل على إحياء هذه الشعبة‬
‫)المر بالمعروف والنهي عن المنكر( وإعداد من يقوم عليها فقها‪،‬‬
‫وخلقا‪ ،‬وتفرغا‪ ،‬واحتسابا لوجه الله تعالى‪.‬‬
‫بل إن الدولة تقوم بإنشاء هيئة خاصة بالمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر لها مؤسساتها ونظمها وقوانينها ولوائحها‪ ,‬تقوم هذه‬
‫الهيئة بإلزام الناس بمنهج السلم في الحياة وتقف الحكومة من‬
‫وراء هذه الهيئة وتدعمها‪ ،‬ويدخل تحت المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر إقامة الحدود‪ ،‬وجلب المصالح‪ ،‬وإحياء الخلق الكريمة‪،‬‬
‫فإقامة حدود الله وفق تطبيق أمثل وأحكام عادلة‪ ،‬أمن للمة‬
‫واستقرار للمجتمع وثبات للدين‪ ،‬وقوة للدولة‪ ،‬ورضا لرب العباد‪,‬‬
‫يقول ابن القيم رحمه الله‪» :‬الحدود جعلها الله تعالى زواجر‬
‫للنفوس وعقوبة ونكالً وتطهيًرا فشرعها من أعظم مصالح العباد‬
‫في المعاش والمعاد‪ ,‬بل ل تتم سياسة ملك من ملوك الرض إل‬
‫بزواجر وعقوبات«)‪.(1‬‬
‫وإن من يستقرئ أحوال المجتمعات القديمة والمعاصرة يرى‬
‫ما تصنعه من وسائل وأجهزة‪ ،‬وما تستحدثه من فلسفات ومناهج‬
‫وأساليب تقف من ورائها مؤسسات علمية وتربوية وفنية إلى‬
‫جانب السياسات التشريعية والتنفيذية‪ ،‬كل هذا من أجل تثبيت‬
‫أركان المبادئ التي تقوم عليها هذه المجتمعات ومنع ما قد‬
‫يتهددها من أخطار‪ .‬ومجتمع السلم يقوم بمبادئ الدين الحق‪،‬‬
‫وهذا الدين به تحفظ ضروريات الناس من عقيدة ومال وعرض‬
‫وعقل‪ ،‬فكان لبد من المحافظة عليه‪ ،‬محافظة على هذه‬
‫الضروريات‪.‬‬
‫وهذه المحافظة على الضروريات‪ ،‬من أجلها شرعت الحدود‪،‬‬
‫قال الغزالي رحمه الله‪» :‬ومقصود الشرع من الخلق خمسة‪،‬‬
‫وهو‪ :‬أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم‪،‬‬
‫فكل ما يتضمن حفظ هذه الصول الخمسة هو مصلحة‪ ,‬وكل ما‬
‫يفوت هذه الصول الخمسة فهو مفسدة ودفعها مصلحة«)‪.(2‬‬

‫)( أعلم الموقعين عن رب العالمين )‪.(3/184‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(1/457‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪457‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وعندما تحمي الدولة السلمية كل واحد من رعاياها على هذا‬


‫قدرا كبيرًا من معنى إقامة الدين في‬
‫ً‬ ‫النحو فل شك أنها قد حققت‬
‫الرض‪ .‬فهي ستمنع بذلك‪ ,‬أو تعمل على منع الكفر والقتل والزنا‬
‫والسرقة والسكر وما شابه ذلك من آفات المجتمع التي ل تقوم‬
‫على الدين‪.‬‬
‫والحدود الشرعية جديرة بتحقيق ذلك كله‪ ,‬فقضاء الشرع بقتل‬
‫الكافر المضل‪ ،‬وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعة من يفتنون‬
‫الخلق عن دينهم‪ ،‬وقضاؤه بإيجاب القصاص‪ ،‬الذي به حفظ‬
‫النفوس‪ ،‬وإيجاب حد شرب الخمر‪ ،‬الذي به حفظ العقول‪ ،‬التي‬
‫هي ملك التكليف‪ ،‬وإيجاب حد الشرب‪ ،‬الذي به حفظ النسل‬
‫سّراق‪ ،‬بما يحفظ الموال التي‬
‫صاب وال ّ‬
‫والنساب وإيجاب زجر الغُ ّ‬
‫هي معاش الخلق‪ ،‬كل هذا مما يعتبر من الضروريات التي ل يصلح‬
‫أمر الناس إل بها‪.‬‬
‫وللسلم نظامه الخاص في إقامة المجتمع على الدين عن‬
‫طريق إقامة الحدود فهو يبذل كل المساعي‪ ،‬ويسلك كل الطرق‬
‫لمنع وقوع الجرائم والمخالفات‪ ،‬فإذا وقعت كان علجه لها هو‬
‫الناجح في محو آثارها‪ ،‬والناجع في إنجاء المجتمع من شره)‪ ،(1‬إن‬
‫مرحلة التمكين من أهدافها أن يسود شرع الله في كل شئون‬
‫الحياة‪.‬‬
‫إن تلك الفرائض المنوطة بدولة السلم الحاكمة بما أنزل الله‪،‬‬
‫تطبيقا لحدود الله وإقامة لشريعته‪ ..‬إنما هي متفرعة عن قيامها أول‬
‫بإيجاد واقع عملي في حياة الناس‪ ،‬تقوم بعد ذلك بمقتضاه بتطبيق‬
‫الحدود وتنفيذ الشرائع‪ ,‬فلبد إذن من واقع عملي إصلحي يتكفل‬
‫بتوفير المطعم للجوعان‪ ،‬والملبس للعريان‪ ،‬والزوجة للعزب‪،‬‬
‫والعون للمحتاج‪ ،‬ثم تحاسب بعد ذلك بمقتضى الشرع من استبد به‬
‫النزق فخرج عن حدود الله‪ ،‬وخالف مبادئ الدين‪.‬‬
‫إن غاية التشريع السلمي هي إسعاد الناس وإصلحهم‪،‬‬
‫ن‬
‫ه ِ ُ َ ّ َ‬
‫ي‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ريدُ الل ُ‬ ‫الحرج عنهم‪ ,‬قال ُتعالى‪+ :‬ي ُ ِ‬ ‫وتيسير أمرهم ورفع‬
‫ه‬
‫والل ُ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫علي ْك ْ‬ ‫ب َ‬ ‫وي َُتو َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫من قب ْل ِك ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬‫ّ‬ ‫سن َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫دي َك ُ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫وي َ ْ‬‫م َ‬ ‫ل َك ُ ْ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذي َ‬ ‫ريدُ ال ِ‬ ‫وي ُ ِ‬‫م َ‬‫علي ْك ْ‬ ‫ب َ‬ ‫ريدُ أن ي َُتو َ‬ ‫ه َ يُ ِ‬‫والل ُ‬ ‫م‪َ ‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫عِلي ٌ‬ ‫َ‬
‫ه َأن‬ ‫ُ‬ ‫الل‬ ‫د‬ ‫ري‬
‫ُ ِ ُ‬ ‫ي‬ ‫‪‬‬ ‫ما‬‫ً‬ ‫ظي‬
‫ِ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫ل‬ ‫ي‬
‫َ ْ‬‫م‬ ‫ُ‬
‫لوا‬ ‫مي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫أن‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ه‬
‫َ َ‬ ‫ش‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫يَ ِ ُ َ‬
‫عو‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ت‬
‫عيفا" ]النساء‪ [28 -26 :‬إذن‬ ‫ً‬ ‫ض ِ‬ ‫ن َ‬ ‫سا ُ‬ ‫ق ال ِن ْ َ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫و ُ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫عن ْك ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ف َ‬ ‫خ ّ‬ ‫يُ َ‬
‫فإصلح دنيا الناس أساس‪ ،‬وتطبيق أحكام الحدود والقصاص‬
‫وغيره‪ ،‬والجراءات الوقائية إنما هي محافظة على ذلك الصلح‬
‫حتى ل يعكر صفوه بفتنة محارب عدواني‪ ،‬أو شهواني زان‪ ،‬أو لص‬
‫سارق‪ ،‬أو ملحد مارق‪.‬‬
‫)( الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(1/457‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪458‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫إن من أهداف مرحلة التمكين إنزال منهج السلم الصلحي‬


‫في دنيا الناس والذي يدور حول مصالح ثلث‪:‬‬
‫‪ -1‬درس المفاسد‪ ،‬المعروف عند أهل الصول بالضروريات‪.‬‬
‫‪ -2‬جلب المصالح‪ ،‬المعروف عندهم بالحاجيات‪.‬‬
‫الجري على مكارم الخلق ومحاسن العادات المعروف عند‬
‫)‪(1‬‬
‫‪-3‬‬
‫الصوليين بالتحسينات والتتميمات ‪ ،‬وبإقامة حكم الله تتحقق هذه‬
‫المصالح الثلث‪ ،‬وبالتالي تصلح أحوال الدنيا وتستقيم على منهج الله‪،‬‬
‫ومن ثم يكون ذلك صلحاً لخرة الناس أيضًا‪.‬‬
‫وعلى وجه الجمال يمكننا تتبع مقاصد الشريعة في الحكم‬
‫السلمي بإلقاء نظرة على تشريعاته الهادفة لتحقيق المقاصد‬
‫الثلثة‪:‬‬
‫أ‪ -‬درء المفاسد‪ ،‬وهو المعبر عنه بالضروريات‪ ،‬وا لمراد به درؤها‬
‫عن ستة أشياء‪:‬‬
‫‪ -1‬الديــــــــــن‪:‬‬
‫جاءت أحكام الشرع حاسمة في درء أي مفسدة قد تلحق‬
‫بالدين‪ ،‬فكان أن شرع السلم الجهاد لدفع الفتنة وإعلء كلمة‬
‫ن‬
‫كو َ‬‫وي َ ُ‬‫ة َ‬‫فت ْن َ ٌ‬‫ن ِ‬ ‫كو َ‬‫حّتى ل َ ت َ ُ‬‫م َ‬‫ه ْ‬‫قات ُِلو ُ‬‫و َ‬‫الله‪ ،‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ه" ]البقرة‪.[193 :‬‬ ‫ه لل ِ‬‫ن ك ُل ّ ُ‬‫دي ُ‬‫ال ّ‬
‫ن‬
‫كو َ‬‫وي َ ُ‬‫ة َ‬‫فت ْن َ ٌ‬‫ن ِ‬ ‫كو َ‬‫حّتى ل َ ت َ ُ‬‫م َ‬‫ه ْ‬‫قات ُِلو ُ‬‫و َ‬‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ه" ]النفال‪.[39 :‬‬ ‫ه لل ِ‬‫ن ك ُل ّ ُ‬‫دي ُ‬‫ال ّ‬
‫فالولى في قتال من بدأ المسلمين بالظلم‪ ،‬والثانية استغرقت‬
‫كل فتنة وكل كفر من كافر‪ ،‬فالقتال فيها محاربة للكفر الذي يعتبر‬
‫أكبر تهديد للدين‪ ،‬ولهذا »كله« بالتأكيد الحصري)‪.(2‬‬
‫وقد روى أبو بكر الصديق عن رسول الله × قوله‪» :‬أمرت أن‬
‫أقاتل الناس حتى يقولوا ل إله إل الله فمن قالها فقد عصم مني‬
‫ماله ونفسه إل بحقه‪ ،‬وحسابه على الله« وقال أبو بكر ‪» :‬والله‬
‫لقاتلن من فرق بين الصلة والزكاة‪ ,‬فإن الزكاة حق المال والله‬
‫لو منعوني عقال كانوا يؤدونه إلى رسول الله × لقاتلنهم على‬
‫منعه«)‪.(3‬‬
‫وهو قتال من أجل نشر الدعوة للدين‪ ،‬وقال ×‪» :‬من بدل‬

‫)( انظر‪ :‬الموافقات )‪.(16-2/8‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(1/466‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( مسلم‪ ،‬كتاب اليمان‪ ،‬باب‪ :‬المر بقتال الناس حتى يقولوا ل إله إل الله )‬ ‫‪3‬‬

‫‪ (1/51‬رقم ‪.32‬‬

‫‪459‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫)‪(1‬‬
‫وهو من أجل حفظ الدين من عبث المرتدين‪.‬‬ ‫دينه فاقتلوه«‬
‫‪ -2‬النفس‪:‬‬
‫جاءت شريعة السلم بأحكام القصاص للمحافظة على‬
‫النفس‪ ،‬ودرء المفاسد الناشئة عن شيوع القتل وسفك الدماء‬
‫َ‬
‫م‬‫عل َي ْك ُ ُ‬
‫ب َ‬ ‫مُنوا ك ُت ِ َ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬ ‫المحرمة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫قت َْلى" ]البقرة‪.[178 :‬‬ ‫في ال ْ َ‬ ‫ص ِ‬ ‫صا ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ُ‬
‫ب‬‫حَياةٌ َيا أوِلي الل َْبا ِ‬ ‫ص َ‬‫صا ِ‬ ‫ق َ‬ ‫في ال ْ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ول َك ُ ْ‬ ‫َ ّوقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن" ]البقرة‪[179 :‬‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬‫علك ُ ْ‬ ‫ل َ‬
‫َ‬
‫سلطاًنا‬ ‫ْ‬ ‫ه ُ‬‫ول ِي ّ ِ‬ ‫ْ‬
‫علَنا ل ِ َ‬‫ج َ‬ ‫َ‬
‫ما فقدْ َ‬‫َ‬ ‫مظلو ً‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫من قت ِ َ‬ ‫و َ‬
‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫ن‬
‫ِ ِ ُ‬ ‫إ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫رف ِ‬ ‫س ِ‬ ‫فل َ ي ُ ْ‬ ‫َ‬
‫صوًرا" ]السراء‪.[33 :‬‬ ‫َ ُ‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫‪ -3‬العقل‪:‬‬
‫وقد جاءت الحكام الشرعية بالمحافظة على العقل الذي ميز‬
‫وكرمه‪ ,‬فحرمت الخمر التي تذهب بالعقل وتغيبه‬ ‫الله به النسان‬
‫سُر‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫نوا‬ ‫م‬‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ها‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫يا‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫كما قال‬
‫ْ ُ َ َ ْ ِ‬ ‫ِّ َ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫َ ّ َ‬
‫ه"‬
‫جت َن ُِبو ُ‬
‫ن فا ْ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫شي ْطا ِ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫م ِ‬
‫ع َ‬‫ن َ‬‫م ْ‬‫س ّ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ر ْ‬‫م ِ‬ ‫َ‬
‫والْزل َ ُ‬ ‫ب َ‬
‫صا ُ‬
‫والن َ‬‫َ‬
‫ن" ]المائدة‪ [91 ،90 :‬وقال رسول‬ ‫َ‬ ‫هو‬ ‫َ‬
‫ّ ُ‬ ‫ت‬ ‫من‬ ‫تم‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫‪+‬‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫إلى‬
‫الله ×‪» :‬كل مسكر خمر وكل خمر حرام« )‪ ،(2‬وشرع إقامة الحد‬
‫على السكران‪ ،‬وحرم المخدرات والمفترات التي تؤثر على‬
‫سلمة العقل)‪.(3‬‬
‫‪ -4‬النسب‪:‬‬
‫جاءت الشريعة لدفع كل مفسدة تلحق بالنساب‪ ،‬فإلى جانب‬
‫تحريم الزنى‬
‫ول َ ت َ ْ‬
‫قَرُبوا‬ ‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫من‬ ‫المعلوم‬ ‫الزناة‬ ‫على‬ ‫الحد‬ ‫وإيجاب‬
‫سِبيل ً" ]السراء‪.[32 :‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫سا‬‫َ َ‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ه‬
‫الّزَنى ِ ّ ُ‬
‫ن‬ ‫إ‬
‫مائ َ َ‬
‫ة‬ ‫ما ِ‬ ‫ه َ‬‫من ْ ُ‬
‫د ّ‬ ‫ح ٍ‬‫وا ِ‬
‫ل َ‬‫دوا ك ُ ّ‬ ‫جل ِ ُ‬
‫فا ْ‬ ‫والّزاِني َ‬ ‫ة َ‬ ‫وقوله‪+ :‬الّزان ِي َ ُ‬
‫ة" ]النور‪.[2 :‬‬ ‫جل ْدَ ٍ‬
‫َ‬
‫وإلى حد الرجم للمحصنين ‪ -‬إلى جانب ذلك‪ ،‬أوجبت الشريعة‬
‫العدة على النساء عند مفارقة الزواج بطلق أو موت‪ ،‬لئل يختلط‬
‫ماء الرجل بماء رجل آخر في رحم المرأة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫ء" ]البقرة‪.[228 :‬‬ ‫قُرو ٍ‬‫ة ُ‬‫ن ث َل َث َ َ‬‫ه ّ‬ ‫س ِ‬
‫ف ِ‬ ‫ن ب ِأ َن ْ ُ‬ ‫ص َ‬ ‫ت ي َت ََرب ّ ْ‬ ‫قا ُ‬ ‫مطَل ّ َ‬ ‫وال ْ ُ‬
‫‪َ +‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الجهاد‪ ،‬باب‪ :‬ل يعذب الله‪ ،‬فتح الباري )‪.(6/173‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( البخاري‪ ،‬كتاب الشربة‪ ،‬باب‪ :‬الخمر من العسل‪ ،‬فتح الباري )‪ (10/44‬رقم‬ ‫‪2‬‬

‫‪.5585‬‬
‫)( انظر‪ :‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي )‪.(1/467‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪460‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ص َ‬ ‫جا ي َت ََرب ّ ْ‬
‫وا ً‬‫ن أْز َ‬‫وي َذَُرو َ‬‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ن ِ‬ ‫و َ‬ ‫و ّ‬
‫ف ْ‬ ‫ن ي ُت َ َ‬
‫َ‬ ‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬‫َ وقال‪َ َ + :‬‬
‫شًرا" ]البقرة‪ .[234 :‬وكذلك منعت‬ ‫ع ْ‬ ‫و َ‬ ‫ر َ‬ ‫ه ٍ‬ ‫ش ُ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫ع َ‬‫ن أْرب َ َ‬ ‫ه ّ‬‫س ِ‬ ‫ب ِأن ْ ُ‬
‫ف ِ‬
‫الشريعة نكاح الحامل حتى تضع‪ ،‬حتى ل يسقي الرجل بماء غيره‪,‬‬
‫ن"‬‫ه ّ‬‫مل َ ُ‬
‫ح ْ‬ ‫ن َ‬‫ع َ‬
‫ض ْ‬‫ن َأن ي َ َ‬
‫ه ّ‬ ‫جل ُ ُ‬
‫َ‬
‫لأ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ت ال ْ‬ ‫وأول َ ُ‬
‫فقال تعالى‪ُ + :‬‬
‫َ‬
‫]الطلق‪.[4 :‬‬
‫وهذه الحكام كلها يؤول تنفيذها إلى القاضي المسلم في‬
‫الدولة المسلمة إضافة إلى مسئولية الناس الشخصية عن تبعاتها‬
‫في المجتمع المسلم‪.‬‬
‫‪ -5‬العرض‪:‬‬
‫إن شريعة السلم كفلت كل وسائل حماية العرض‪ ،‬فنهت‬
‫المسلم عن أن يتكلم في حق أخيه بأي شيء يؤذيه‪ ،‬وأوجبت حد‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫القذف ثمانين جلدة‪ ،‬على من ْيقذف‪ َ ,‬قال تعالى‪َ + :‬‬
‫م‬‫ه ْ‬‫دو ُ‬ ‫جل ِ ُ‬‫فا ْ‬ ‫داءَ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ش َ‬ ‫ة ُ‬ ‫ع ِ‬
‫م ي َأُتوا ب ِأْرب َ َ‬ ‫م لَ ْ‬ ‫ت ثُ ّ‬ ‫صَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫ي َْر ُ‬
‫ة" ]النور‪.[4 :‬‬ ‫جل ْدَ ً‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫ما‬‫ثَ َ‬
‫ضا"‬ ‫ع ً‬ ‫كم ب َ ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ع ُ‬ ‫غَتب ب ّ ْ‬ ‫ول َ ي َ ْ‬ ‫وحرمت الشريعة الغيبة‪َ + :‬‬
‫]الحجرات‪.[12 :‬‬
‫َ‬
‫ول َ‬ ‫م َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫مُزوا أن ْ ُ‬ ‫ول َ ت َل ْ ِ‬ ‫ونهت عن ْ اللمز والتنابز باللقاب‪َ +:‬‬
‫ب" ]الحجرات‪.[11 :‬‬ ‫قا ِ‬ ‫ت ََناب َُزوا ِبالل َ‬
‫وحرمت اللعن والسب وعموم الذى للمؤمنين‪ ,‬قال تعالى‪:‬‬
‫سُبوا‬ ‫ما اك ْت َ َ‬ ‫ر َ‬
‫غي ْ ِ‬‫ت بِ َ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫م ْ‬
‫ؤ ِ‬ ‫وال ْ ُ‬‫ن َ‬ ‫مِني َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫ذو َ‬ ‫ؤ ُ‬‫ن يُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫‪َ +‬‬
‫مِبيًنا" ]الحزاب‪.[58 :‬‬ ‫ما ّ‬‫وإ ِث ْ ً‬ ‫هَتاًنا َ‬ ‫ملوا ب ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫حت َ َ‬
‫دا ْ‬ ‫ق ِ‬ ‫ف َ‬‫َ‬
‫‪ -6‬المال‪:‬‬
‫جاءت الشريعة السلمية لحفظ أموال الناس التي هي قوام‬
‫كل وسيلة لخذ المال بغير حق شرعي‪،‬‬ ‫السلم‬ ‫حرمل َ ت َأ ْ‬ ‫حياتهم‪ ،‬وقد‬
‫ل" ]البقرة‪:‬‬ ‫ط‬ ‫با‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫م‬ ‫لوا أ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫فقال‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ‬
‫‪ ,[188‬وحرم السرقة وأوجب الحد على من ثبت عليه تلك‬
‫قطَ ُ‬
‫عوا‬ ‫فا ْ‬ ‫ة َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ر َ‬‫سا ِ‬ ‫وال ّ‬ ‫رقُ َ‬ ‫سا ِ‬ ‫وال ّ‬ ‫َالجريمة‪ ,‬فقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ه" ]المائدة‪.[38 :‬‬ ‫ن الل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫سَبا ن َكال ّ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫جَزاءً ب ِ َ‬
‫ما َ‬‫ه َ‬‫دي َ ُ‬
‫أي ْ ِ‬
‫وكذلك حرم السلم الربا الذي يهدد مصالح الفراد واقتصاد‬
‫مُنوا ل َ ت َأ ْك ُُلوا الّرَبا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫َالدول‪ ،‬فقال تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ‬
‫ة" ]آل عمران‪.[130 :‬‬ ‫ف ً‬ ‫ع َ‬ ‫ضا َ‬
‫م َ‬‫فا ّ‬‫عا ً‬‫ض َ‬ ‫أ ْ‬
‫وحرم كذلك الغش والحتكار والنهب والختلس والغلول وغير‬
‫ذلك من أشكال العتداء على المال‪ ،‬وكل ذلك داخل في أكل‬
‫أموال الناس بالباطل المنهي عنه‪.‬‬

‫‪461‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫وبتوافر الحماية لهذه العناصر الستة‪ ،‬يقصد المنهج التشريعي‬


‫السلمي إلى إصلح حياة الناس‪ ،‬بدرء المفاسد عنها‪ ،‬وقدم‬
‫السلم درء المفاسد على جلب المصالح رغم أن درءها هو في‬
‫حد ذاته مصلحة كبرى‪ ،‬إذ بذلك يمنع الشر أول‪ ،‬ثم يستجلب‬
‫الخير‪ .‬فهذا إصلح بالسلب وذلك باليجاب وهو ما نعنيه من قولنا‪:‬‬
‫إن الدعوة إلى الله من أهداف التمكين وذلك بإنزال منهج السلم‬
‫الصلحي في دنيا الناس والذي يدور حول مصالح ثلث‪ :‬درء‬
‫المفاسد‪ ،‬وجلب المصالح‪ ،‬والجري على مكارم الخلق‪.‬‬
‫ب‪ -‬جلب المصالح »المعروف بالحاجيات«‪:‬‬
‫إن جلب المصالح مجاله واسع رحيب‪ ,‬فالشريعة فتحت أبواب‬
‫الحلل على مصاريعها في جميع مناحي المعيشة وجعلت هذا‬
‫الحلل أسلوب حياة تحرسه الدولة وتزيل العقبات من طريقه‪،‬‬
‫فكل نوع من التكسب والنتاج والصناعة والفن والثقافة ل يدخل‬
‫في محرم‪ ،‬إنما هو من حقوق الناس‪ ،‬ليس لحد أن يحرمه عليهم‬
‫غوا‬‫ح َأن ت َب ْت َ ُ‬ ‫جَنا ٌ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫س َ‬ ‫أو يحرمهم منه‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ل َي ْ َ‬
‫من ّرب ّك ُ ْ‬
‫م" ]البقرة‪.[198 :‬‬ ‫ضل ً ّ‬‫ف ْ‬‫َ‬
‫من‬‫ن ِ‬‫غو َ‬ ‫ض ي َب ْت َ ُ‬ ‫َ‬
‫في الْر ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫رُبو َ‬
‫ض ِ‬
‫ن يَ ْ‬
‫خُرو َ‬
‫وآ َ‬‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫ه" ]المزمل‪.[20 :‬‬ ‫ل الل ِ‬ ‫ض ِ‬‫ف ْ‬ ‫َ‬
‫وقد جاء الشرع المطهر بإباحة المصالح المتبادلة بين الفرد‬
‫والمجتمع على الوجه المشروع‪ ،‬ليستجلب كل مصلحته من الخر‪،‬‬
‫كالبيوع والجارات والمساقاة والمضاربة وما يجري مجرى ذلك‪.‬‬
‫جـ‪ -‬إحياء مكارم الخلق ومحاسن العادات بين الناس‪:‬‬
‫إن الرسول الكريم × قال‪» :‬إنما بعثت لتمم مكارم الخلق«‬
‫)‪.(1‬‬
‫إن الدولة السلمية من واجبها أن تهيئ جوا تنشأ فيه مكارم‬
‫الخلق‪ ،‬ومحاسن العمال من الطهر والعفاف والنقاء‪ ،‬تحرسه‬
‫شريعة المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وتحميه شعيرة‬
‫الحسبة‪ ،‬والدعوة إلى الله‪ ،‬لتكون أساسا للمعاملة بين الصغير‬
‫والكبير‪ ،‬والغني والفقير‪ ،‬والولي والمولى‪ ،‬والراعي والرعية‪.‬‬
‫إن إقامة المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وتنفيذ الحدود‬
‫والدعوة إلى مكارم الخلق‪ ،‬وتعليم المة أمر دينها يترتب عليه‬
‫فوائد ومصالح عامة للمة والفراد‪ ،‬والحكام والمحكومين‪ ,‬ومن‬
‫أهم هذه الفوائد‪:‬‬
‫‪ -1‬إقامة الملة والشريعة وحفظ العقيدة والدين لتكون كلمة‬
‫الله هي العليا‪:‬‬
‫)( أحمد في مسنده )‪ (2/381‬وصححه أحمد شاكر‪ ،‬انظر‪ :‬تحقيق المسند )‬ ‫‪1‬‬

‫‪ (18/80‬رقم ‪.8939‬‬

‫‪462‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫ق إ ِل ّ َأن‬
‫ح ّ‬ ‫ر َ‬ ‫غي ْ ِ‬
‫هم ب ِ َ‬ ‫ر ِ‬‫من ِدَيا ِ‬ ‫جوا ِ‬ ‫ر ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن أُ ْ‬‫ذي َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ال ّ ِ‬
‫ض‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قوُلوا َرب َّنا الل ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫ع ٍ‬ ‫م ب ِب َ ْ‬‫ه ْ‬‫ض ُ‬ ‫ع َ‬‫س بَ ْ‬‫ه الّنا َ‬ ‫ع الل ِ‬ ‫ول دَف ُ‬
‫َ‬ ‫ول ْ‬ ‫ه َ‬
‫م‬ ‫ها اس ُ‬ ‫في َ‬ ‫َ‬
‫جدُ ي ُذْكُر ِ‬ ‫سا ِ‬‫م َ‬‫و َ‬
‫ت َ‬ ‫وا ٌ‬
‫صل َ‬ ‫و َ‬ ‫ع َ‬ ‫وب ِي َ ٌ‬‫ع َ‬ ‫م ُ‬‫وا ِ‬
‫ص َ‬
‫ت َ‬ ‫م ْ‬
‫هد ّ َ‬‫لّ ُ‬
‫ه" ]الحج‪.[40 :‬‬ ‫الل ِ‬
‫إن النسان لبد له من أمر ونهي ودعوة‪ ,‬فمن لم يأمر بالخير‬
‫ويدعُ إليه أمر بالشر)‪.(1‬‬
‫‪ -2‬رفع العقوبات العامة‪:‬‬
‫َ‬
‫ت‬‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫فب ِ َ‬ ‫ة َ‬ ‫صيب َ ٍ‬‫م ِ‬ ‫من ّ‬ ‫كم ّ‬ ‫صاب َ ُ‬ ‫ما أ َ‬ ‫و َ‬ ‫َ قال تعالى‪َ + :‬‬
‫م" ]الشورى‪ [30 :‬وقال أيضا في الجواب عن سبب مصابهم‬
‫َ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫أي ْ ِ‬
‫م" ]آل عمران‪.[165 :‬‬ ‫ِ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫س‬ ‫ُ‬
‫ف‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫د‬ ‫ن‬
‫ُ َ ِ ْ ِ ْ ِ ْ‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ق‬‫ُ‬ ‫‪+‬‬ ‫أحد‪:‬‬ ‫يوم‬
‫فالكفر والمعاصي بأنواعها سبب للمصائب والمهالك‪.‬‬
‫ُ‬
‫م أوُلو‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫قب ْل ِك ُ ْ‬‫من َ‬ ‫ن ِ‬ ‫قُرو ِ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ول َ َ‬ ‫فل َ ْ‬ ‫وقال تعالى‪َ + :‬‬
‫جي َْنا‬ ‫أن‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ً‬ ‫ل‬‫لي‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫د‬ ‫سا‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ّ ّ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ع ِ‬
‫ن َ‬ ‫و َ‬ ‫ه ْ‬‫ة ي َن ْ َ‬ ‫قي ّ ٍ‬ ‫بَ ِ‬
‫م" ]هود‪.[116 :‬‬ ‫ه ْ‬‫من ْ ُ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ها‬ ‫هل ُ َ‬‫وأ ْ‬ ‫قَرى ب ِظُل ْم ٍ َ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫هل ِ َ‬ ‫ك ل ِي ُ ْ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬‫وقال‪َ + :‬‬
‫ن" ]هود‪.[117 :‬‬ ‫حو َ‬ ‫صل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫وهذه إشارة تكشف عن سنة من سنن الله في المم‪ ،‬فإن‬
‫المة التي يقع فيها الظلم والفساد فيجدان من ينهض لدفعهما هي‬
‫أمم ناجية ل يأخذها الله بالعذاب والتدمير‪ ،‬أما المم التي يظلم‬
‫فيها الظالمون‪ ،‬ويفسد فيها المفسدون فل ينهض من يدفع الظلم‬
‫والفساد‪ ،‬أو يكون فيها من يستنكر ذلك‪ ،‬ولكنه ل يبلغ أن يؤثر في‬
‫الواقع الفاسد فهي أمم مهددة بالدمار والهلك كما هي سنة الله‬
‫تعالى في خلقه‪ .‬وبهذا تعلم أن دعاة الصلح المناهضين للطغيان‬
‫والظلم والفساد هم صمام المان للشعوب‪ ،‬وهذا يبرز قيمة كفاح‬
‫المكافحين للخير والصلح الواقفين للظلم والفساد‪ ،‬إنهم ل يؤدون‬
‫واجبهم لربهم ولدينهم فحسب‪ ،‬إنما هم يحولون بهذا دون أممهم‬
‫وغضب الله واستحقاق النكال والضياع«)‪.(2‬‬
‫‪ -3‬استنزال الرحمة من الله تعالى‪ ،‬لن الطاعة والمعروف‬
‫سببان للنعمة‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م"‬ ‫زيدَن ّك ُ ْ‬ ‫مل ِ‬ ‫شك َْرت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ل َئ ِ ْ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫وإ ِذْ ت َأذّ َ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫]إبراهيم‪ .[7 :‬والقيام بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر نوع من‬
‫العبودية لله‪.‬‬
‫)( انظر‪ :‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬خالد السبت‪ ،‬ص ‪.72‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(4/1933‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪463‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -4‬شد ظهر المؤمن وتقويته ورفع عزيمته وإرغام أنف‬


‫المنافق‪:‬‬
‫فإن المؤمن يقوى ويعتز حينما ينتشر الخير والصلح ويوحد‬
‫الله ل يشرك به وتضمحل المنكرات على إثر ذلك‪ ،‬بينما يخنس‬
‫المنافق بذلك ويكون ذلك سببا لغمه وضيق صدره وحسرته‪ ،‬لنه‬
‫ل يحب ظهور هذا المر ول ذيوعه بين الخلق)‪.(1‬‬
‫قال الثوري ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬إذا أمرت بالمعروف شددت ظهر‬
‫المؤمن‪ ،‬وإذا نهيت عن المنكر أرغمت أنف المنافق«)‪.(2‬‬
‫‪ -5‬تحقيق وصف الخيرية في هذه المة‪:‬‬
‫ن‬
‫مُرو َ‬ ‫س َتأ ُ‬‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫ر َ‬ ‫خ ِ‬‫ة أُ ْ‬ ‫م ٍ‬
‫ُ‬
‫خي َْر أ ّ‬ ‫م َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ه" ]آل عمران‪:‬‬ ‫ن ِبالل ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬‫وت ُ ْ‬ ‫ر َ‬ ‫َ‬
‫من ْك ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ع ِ‬ ‫ن َ‬ ‫و َ‬ ‫ه ْ‬‫وت َن ْ َ‬‫ف َ‬ ‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬
‫‪ .[110‬وقال عمر ‪ ‬في تفسير هذه الية‪» :‬من سره أن يكون من‬
‫هذه المة فليؤد شرط الله فيها«)‪.(3‬‬
‫‪ -6‬التجافي عن صفات المنافقين‪:‬‬
‫إن من أخص صفات المؤمنين القيام بهذا العمل الطيب‪ ,‬قال‬
‫َ‬
‫ض‬
‫ٍ‬ ‫ع‬
‫ول َِياءُ ب َ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ع ُ‬ ‫ت بَ ْ‬ ‫مَنا ُ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وال ْ ُ‬‫َ‬ ‫ن‬
‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وال ْ ُ‬ ‫تعالى‪َ + :‬‬ ‫ْ‬
‫صل َ َ‬
‫ة‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫مو‬ ‫قي‬
‫ُ ْ ِ َ ُ ِ ُ َ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ِ َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ف‬ ‫رو‬ ‫ن ِ َ ْ ُ‬
‫ع‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫مُرو َ‬ ‫ي َأ ُ‬
‫ِ‬ ‫ن الّز َ‬
‫ة" ]التوبة‪.[71 :‬‬ ‫كا َ‬ ‫ؤُتو َ‬‫وي ُ ْ‬‫َ‬
‫ثانيًا‪ :‬الجهاد في سبيل الله‪:‬‬
‫إن الخطار التي تهدد الدولة المسلمة كثيرة جدا‪ ،‬منها ما قد‬
‫يأتي من داخل الدولة‪ ،‬وهذا يتكفل نشر العلم والدعوة‪ ,‬والمر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وإقامة الحدود بالتصدي له‪ ،‬أما ما‬
‫قد يجيء من خارج حدود الدولة السلمية‪ ،‬فإن منه ما يكف شره‬
‫بالبيان‪ ،‬ومنه ما ل سبيل إلى قطع دابره إل بالسيف والسنان‪.‬‬
‫ولكي يحقق الحكم السلمي مقصده في إقامة الدين في‬
‫الرض بل معوقات‪ ،‬فلبد أن يكون مستعدا لما قد يكون في‬
‫الطريق من عقبات ترد الدعوة‪ ،‬أو تصد الدعاة عن القيام بواجب‬
‫نشر الحق ولهذا كان لبد أن تتهيأ دولة السلم لما تواجه به هذه‬
‫الظروف‪ ،‬وتعد المة للجهاد دائما ضد كل متصدر للوقوف في‬
‫طريق كتائب الحق المتحركة نحو رضا الله‪ ،‬وإذا كان الجهاد‬
‫وسيلة من وسائل إقامة الدين في الرض‪ ،‬فإن »إقامة حكم الله‬
‫في الرض والتمكين لدينه‪ ،‬غاية من غايات الجهاد في سبيل الله‪،‬‬
‫والذي يجب أن يسعى لتحقيق هذه الغاية هم المسلمون الذين‬
‫آمنوا بها وذاقوا حلوتها‪ ,‬وعلموا أن من حق البشر عليهم أن‬
‫)( انظر‪ :‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬خالد السبت‪ ،‬ص ‪.77‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬للخلل‪ ،‬ص ‪.67‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( تفسير الطبري‪.(5/102) ،‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪464‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫يسعوا لسعادهم بها‪ ،‬ولو كان الناس يقبلون دعوة المسلمين إلى‬
‫تحكيم هذا الكتاب عليهم أن يكتفوا بالدعوة إلى ذلك لنه يحقق‬
‫الهدف‪ ،‬ولكن أكثر الناس ل يكفيهم أن يرفضوا تحكيم كتاب الله‪،‬‬
‫بل إنهم يقفون محاربين من أراد تحكيمهم بكل ما أوتوا من قوة‪،‬‬
‫وهذا يحتم على أولياء الله أن يجاهدوا أعداءه الذين يحاربونهم‬
‫من أجله«)‪.(1‬‬
‫إن الدولة السلمية التي تسعى لتحقيق أهداف التمكين من‬
‫واجباتها تشكيل وزارة للجهاد في سبيل الله‪ ،‬ووضع نظام للجهاد‬
‫يتلءم مع قيم الدين وآدابه في إعداد الجنود‪ ،‬بعيدة عن النظمة‬
‫الوافدة أو المستوردة‪ ،‬إن العداد للجهاد والهتمام به ليس عدوانا‬
‫على أحد‪ ،‬حتى ولو كان من غير المسلمين‪ ،‬إنما هو تأمين لحاضر‬
‫المسلمين ومستقبلهم وحماية لرضهم وعرضهم ومالهم ودينهم‬
‫ونفوسهم أمام أي معتد على واحدة من هذه التي يعتز بها كل‬
‫إنسان إن كان من أصحاب الفطر السوية)‪.(2‬‬
‫إن الجهاد في سبيل الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬من أهم مقومات التمكين‪،‬‬
‫والحديث عن الجهاد للحاطة بكل جوانبه أمر ل يحتمله هذا البحث‬
‫المتواضع‪ ،‬ذلك أن أمر الجهاد عظيم فهو جزء ل يتجزأ من العقيدة‬
‫السلمية ومن رسالة المة السلمية‪.‬‬
‫إن الجهاد في سبيل الله مقوم أساسي من مقومات التمكين‬
‫للمة‪ ،‬وإن الجهاد والتمكين مرتبطان ارتباطًا وثيقًا‪ ,‬فل تمكين إل‬
‫بجهاد‪ ،‬فإذا صدق الجهاد كان التمكين بإذن رب العالمين)‪.(3‬‬
‫إن طبيعة هذا الدين‪ :‬الجهاد وإنه من أخص خصائص المة‬
‫السلمية‪ ،‬ولهذا لم يتركه المسلمون ولم يفرطوا فيه في أي‬
‫عصر من عصورهم‪.‬‬
‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫ه َ‬ ‫في الل ِ‬ ‫دوا ِ‬ ‫ه ُ‬
‫جا ِ‬‫و َ‬ ‫قال تعالى مخاطبا المة السلمية‪َ + :‬‬
‫ج‬ ‫ر‬
‫َ ٍ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ن‬
‫ِ‬ ‫دي‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ل َ‬ ‫ع َ‬‫ج َ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬
‫َ‬ ‫جت ََباك ُ ْ‬
‫م‬ ‫وا ْ‬ ‫ه َ‬
‫ه ُ‬ ‫هاِد َ ِ‬ ‫ج َ‬ ‫ِ‬
‫في‬ ‫َ ِ‬ ‫و‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫من‬ ‫ن‬ ‫مي‬
‫ُ ْ ِ ِ َ ِ‬ ‫ل‬‫س‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ما‬ ‫س‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫م‬
‫ْ ِْ َ ِ َ ُ َ َ ّ‬ ‫هي‬ ‫را‬ ‫ب‬‫إ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫بي‬ ‫ِ‬ ‫أ‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫مل ّ‬ ‫ّ‬
‫عَلى‬ ‫داءَ َ‬ ‫ه َ‬‫ش َ‬ ‫كوُنوا ُ‬ ‫وت َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬‫دا َ‬ ‫هي ً‬‫ِ‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫سو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫س" ]الحج‪»[78 :‬فالقرآن الكريم صريح في هذا النص الكريم أن‬ ‫الّنا ِ‬
‫الجهاد في سبيل الله فريضة على المسلمين‪ ،‬كما فرض عليهم‬
‫الصلة والصيام والزكاة والحج‪ ،‬وقد كشف الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬عن سر‬
‫هذا التكليف‪ ،‬وحكمة هذه الفريضة التي افترضها على المسلمين‪,‬‬
‫ين ّ لهم أنه اجتباهم واصطفاهم دون الناس ليكونوا سواس خلقه‪,‬‬ ‫فب‬
‫وأمناء على شريعته‪ ,‬وخلفاءه في أرضه‪ ,‬وورثة رسله في‬

‫)( الجهاد في سبيل الله حقيقته وغايته‪ ،‬د‪ .‬عبد الله القادري )‪.(2/159‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬فقه الدعوة إلى الله )‪.(745 ،2/744‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬تمكين للمة السلمية‪ ،‬ص ‪.73‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪465‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫دعوته«)‪.(1‬‬
‫والية الكريمة ‪ -‬السابقة ‪ -‬جمعت كل ضروب الجهاد وأبوابه‪،‬‬
‫من قتال العدو ومن العداد لذلك ومن بذل المال والنفس‪،‬‬
‫ومجاهدة الشهوات‪ ،‬ومجاهدة الشيطان‪ ،‬وتشمل الجهاد باللسان‬
‫والدب والفكر والسياسة والقتصاد‪ ..‬جهادا كامل يستوعب طاقة‬
‫المة كلها‪ ،‬ويستوعب مواهبها وقدراتها‪ ،‬فذلك أصل معنى الجهاد‪:‬‬
‫»استفراغ الوسع والطاقة‪ ،‬وهو معنى مستمر ممتد ل يتوقف«)‪.(2‬‬
‫والجهاد بهذا المعنى الشامل فرض عين أما القتال ‪ -‬وهو نوع‬
‫من أنواع الجهاد ‪ -‬فهو كفاية‪ ،‬ول يتعين إل في الحالت التية‪:‬‬
‫‪ -1‬إذا التقى الصفان‪.‬‬
‫‪ -2‬إذا نزل الكفار ببلدة فيتعين على أهلها قتالهم‪.‬‬
‫‪ -3‬إذا استنفر المام قوما لزمهم النفرة معه‪.‬‬
‫‪ -4‬قال ابن قدامة في المغني‪» :‬وأقل ما يفعله المام مرة كل‬
‫عام«)‪.(3‬‬
‫إن الجهاد ضروري لقيام الدعوة واستمرارها‪ ،‬وهو وسيلة من‬
‫وسائلها‪ ,‬يقول الستاذ‪ /‬عدنان النحوي‪» :‬ونحن ‪ -‬معشر أمة‬
‫السلم ‪ -‬ل نريد القتال أساسا لجل القتال‪ ،‬ول لجل الحرب‪,‬‬
‫وكذلك فلسنا أعداء لحد من الناس من حيث البتداء‪ ،‬ولكن لنا‬
‫من بين الناس أعداء الذين هم أعداء الله‪ ،‬والذين يوقدون نار‬
‫الحرب‪ ،‬ويسعون للفساد في الرض‪ ،‬ويفتنون الناس عن اليمان‪،‬‬
‫وت‬ ‫ويصدون عن سبيل الله‪ ،‬والمؤمن يمضي بدعوته جاهدا كي يف ّ‬
‫فرصة الفساد والفساد‪ ،‬ويطفئ نار الفتنة والهلك حتى تمضي‬
‫الدعوة السلمية تشق طريقها‪ ،‬فإن أبوا إل المضي في إشعال‬
‫الفتنة والسعي في الفساد‪ ،‬فإنه ل مفر من القتال‪ ،‬وكما يقولون‪:‬‬
‫آخر الدواء الكي«)‪.(4‬‬
‫»فالجهاد في سبيل الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬ليس هدفا منفصل عن‬
‫الدعوة إلى الله‪ ،‬بل هو مرتبط بها ارتباطا كامل‪ ،‬يدور القتال لجل‬
‫الدعوة‪ ،‬ويتوقف لجل الدعوة فهو إذن وسيلة من وسائل الدعوة‬
‫إلى الله‪ ،‬وقوة من قواها لخراج الناس من عبادة العباد إلى‬
‫عبادة الله الواحد الحد‪ ،‬وليمض الجيل المؤمن بالدعوة بكل‬
‫قواها‪ ،‬وسلمة نهجها حتى تكون كلمة الله هي العليا‪.‬‬
‫وهو كذلك وسيلة من وسائل حماية الدعوة وحماية المسلمين‬
‫أنفسا‪ ،‬ودارا‪ ,‬وثروات‪ ،‬ومنهاجا‪ ،‬وهو كذلك وسيلة لدفع الدعوة‬
‫الرسائل‪ ،‬حسن البنا‪ ،‬ص ‪.40 ،49‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫لقاء المؤمنين‪ ،‬عدنان النحوي )‪ (2/159‬بتصرف‪.‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫المغني )‪.(10/265‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫لقاء المؤمنين )‪.(2/199‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪466‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫في الرض حتى تبلغ الناس كافة‪ ،‬حين ل تنفع الحكمة والموعظة‬
‫الحسنة‪ ،‬ول يكفي جهاد اللسان والبيان‪ ،‬وحين تصد الدعوة عن‬
‫غايتها‪ ،‬وتقفل الدروب والمسالك أمامها‪ ،‬وتبذل الجهود لخنقها«)‪.(1‬‬
‫»وإذا انعزل القتال ‪ -‬الذي هو صورة من صور الجهاد في‬
‫سبيل الله ‪ -‬عن الدعوة بصورة أو بأخرى‪ ،‬وإذا فقد أهدافه‬
‫اليمانية وخصائصه الربانية‪ ،‬فقد جوهره وحقيقته‪ ،‬وأصبح قتالً‬
‫كقتال سائر الناس في الرض‪ ،‬عدوانًا وظلمًا‪ ،‬واستعمارًا‪ ،‬ونهبًا‪,‬‬
‫وجرائم تتلوها جرائم‪ ،‬وحمية جاهلية‪ ،‬السلم منها برئ«)‪.(2‬‬
‫ومن أهم خصائص الجهاد أنه »في سبيل الله«‪:‬‬
‫إن المتدبر لكتاب الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬يجد أن كلمة »في سبيل‬
‫دا‪ ,‬ومعنى واسعًا‪ ،‬ففي معظم آيات الجهاد‬ ‫عمقا بعي ً‬‫ً‬ ‫الله« تأخذ‬
‫ه" أو‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫تأتي لفظة »الجهاد« مقرونة بقوله تعالى‪ِ + :‬‬
‫فيَنا"‪.‬‬ ‫ه" أو ‪ِ +‬‬ ‫في الل ِ‬ ‫‪ِ +‬‬
‫ل‬‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫م ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫وأ َن ْ ُ‬
‫م َ‬‫وال ِك ُ ْ‬‫م َ‬
‫َ‬
‫دوا ب ِأ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫جا ِ‬ ‫و َ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ه" ]التوبة‪.[41 :‬‬‫الل ِ‬
‫ه" ]الحج‪:‬‬ ‫هاِد ِ‬ ‫ج َ‬ ‫ق ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َ‬ ‫في الل ِ‬ ‫دوا ِ‬ ‫ه ُ‬
‫جا ِ‬‫و َ‬ ‫وقال جل شأنه‪َ + :‬‬
‫‪.[78‬‬
‫سب ُل ََنا"‬
‫م ُ‬ ‫ه ْ‬‫دي َن ّ ُ‬‫ه ِ‬‫فيَنا ل َن َ ْ‬ ‫دوا ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫جا َ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬‫وقال سبحانه‪َ + :‬‬
‫]العنكبوت‪.[69 :‬‬
‫وإن لم ترد مثل هذه الكلمات فإنها تكون مفهومة ضمنا بحيث‬
‫يظل الجهاد في السلم جهادا في سبيل الله »فقط« وليس في‬
‫سبيل شيء آخر)‪.(3‬‬
‫وقد سئل رسول الله × عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل‬
‫حمية‪ ،‬ويقاتل رياء‪ ،‬أي ذلك في سبيل الله؟ فقال‪» :‬من قاتل‬
‫لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله« )‪ .(4‬إن الجهاد في‬
‫سبيل الله له أهداف من أهمها‪ :‬إقامة حكم الله ونظام السلم‬
‫في الرض‪ ،‬دفع عدوان الكافرين‪ ،‬نيل الشهادة في سبيل الله‪،‬‬
‫تصفية الصف السلمي من عناصر الفساد‪ ,‬كما أن له ثمرات‪:‬‬
‫إعزاز المسلمين وإذلل الكافرين‪ ،‬وحدة صفوف المسلمين‪ ،‬هداية‬
‫المجاهدين وتسديد خطواتهم‪ ،‬دخول الناس أفواجا في هذا الدين‪،‬‬
‫التزام المسلمين بالسلم‪ ،‬والحرص على حمايته‪ ،‬وعدم التفريط‬
‫فيه‪ ،‬إسعاد الناس بنور السلم‬
‫وعدله ورحمته‪.‬‬
‫المصدر نفسه )‪.(2/164‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫المصدر نفسه )‪.(2/86‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫انظر‪ :‬لقاء المؤمنين )‪.(2/192‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الترمذي‪ ،‬كتاب فضائل الجهاد‪ ،‬باب ما جاء فيمن يقاتل رياء )‪.(4/179‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫‪467‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أ‪ -‬أهداف الجهاد في الدولة السلمية‪:‬‬


‫إن الغاية العليا للجهاد في سبيل الله هي إعلء كلمة الله‬
‫ت‬‫ُ‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫خ‬ ‫ما َ‬ ‫و َ‬‫كما قال تعالى‪َ + :‬‬ ‫لتحقيق عبادته وحده ل شريك له‪،‬‬
‫ُ‬
‫ما‬ ‫و‬
‫ّ ْ ٍ َ َ‬ ‫ق‬ ‫ز‬ ‫ر‬ ‫من‬ ‫ّ‬ ‫هم‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ ُ ِ ْ ُ‬ ‫د‬ ‫ري‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫دو ِ‬ ‫س إ ِل ّ ل ِي َ ْ‬
‫عب ُ ُ‬ ‫وال ِن ْ َ‬ ‫نَ َ‬ ‫ج ّ‬ ‫ا ُل ْ ِ‬
‫ن"‬ ‫مِتي ُ‬ ‫ْ‬
‫ة ال َ‬ ‫و ِ‬ ‫ُ‬
‫ذو الق ّ‬ ‫ْ‬ ‫و الّرّزاقُ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ن ‪ ‬إِ ّ‬ ‫مو ِ‬ ‫ع ُ‬ ‫ْ‬
‫ريدُ أن ي ُط ِ‬ ‫أ ِ‬
‫]الذاريات‪ .[58-56 :‬ومفهوم العبادة شامل لنشاط النسان كله‬
‫ي‬
‫حَيا َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫و َ‬ ‫كي ُ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ون ُ ُ‬ ‫تي َ‬ ‫صل َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫ق ْ‬ ‫ويفسر ذلك قوله سبحانه‪ُ + :‬‬
‫وأَنا‬ ‫ت َ‬ ‫مْر ُ‬ ‫َ‬
‫وب ِذَل ِك أ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ريك ل ُ‬ ‫َ‬ ‫ن‪‬ل ش ِ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫مي َ‬‫عال َ ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫ه َر ّ‬ ‫ماِتي لل ِ‬ ‫م َ‬ ‫و َ‬ ‫ََ‬
‫ن" ]النعام‪.[164 ،163 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫و‬
‫أ ّ‬
‫ومن أجل هذه الغاية جاهد جنود الدولة السلمية في عصرها‬
‫الزاهر‪ ،‬وقد سأل رستم قائد الفرس ربعي بن عامر‪ :‬ما جاء بكم؟‬
‫فقال‪ :‬ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله‪,‬‬
‫ومن ضيق الدنيا إلى سعتها‪ ,‬ومن جور الديان إلى عدل السلم‪،‬‬
‫فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه‪ ,‬فمن قبل ذلك قبلنا منه‬
‫ورجعنا عنه‪ ,‬ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله‪،‬‬
‫قال‪ :‬وما موعود الله؟ قال‪ :‬الجنة لمن مات على قتال من أبى‬
‫والظفر لمن بقي«)‪.(1‬‬
‫وقال ابن تيمية ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬والجهاد مقصوده أن تكون‬
‫كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين لله‪ ،‬فمقصوده إقامة دين‬
‫الله‪ ،‬ل استيفاء الرجل حظه‪ ،‬كان ما يصاب‬
‫به المجاهد في نفسه وماله أجره على الله‪ ,‬فإن الله اشترى من‬
‫المؤمنين أنفسهم وأموالهم‬
‫بأن لهم الجنة«)‪.(2‬‬
‫هذه هي الغاية العليا الشاملة للجهاد في سبيل الله‪ ،‬ويمكننا‬
‫أن ندخل نقطتين تحت أهداف الجهاد في الدولة السلمية منها‪:‬‬
‫‪ -1‬إقامة حكم الله ونظام السلم في الرض‪:‬‬
‫إن إقامة حكم الله في الرض هدف من أهداف الجهاد‪ ،‬ولذلك‬
‫تسعى الدولة المسلمة لتحقيق هذا الهدف من خلل أجهزتها‬
‫ومؤسساتها وتوظيف كل إمكاناتها‪ ،‬وفتح المجال للمسلمين‬
‫للسعي الدءوب من أجل إنزال حكم الله‪ ،‬ونظام السلم في دنيا‬
‫الناس‪ ،‬ليتمتعوا بحكم الله الذي يؤتي كل ذي حق حقه بل نقص‪.‬‬
‫ن‬‫م ب َي ْ َ‬ ‫حك ُ َ‬‫ق ل ِت َ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ب ِبال ْ َ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫قال تعالى‪+ :‬إ ِّنا أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫ما" ]النساء‪:‬‬ ‫صي ً‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫خائ ِِني َ‬ ‫ن ل ّل ْ َ‬ ‫ول َ ت َك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ك الل ُ‬ ‫ما أ ََرا َ‬ ‫س بِ َ‬ ‫الّنا ِ‬
‫‪.[105‬‬
‫)( البداية والنهاية لبن كثير )‪.(7/39‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الفتاوى )‪.(15/170‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪468‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وجاهد السلم ليقيم في‬


‫الرض نظامه الخاص ويقرره ويحميه‪ ،‬وهو وحده النظام الذي‬
‫يحقق حرية النسان تجاه أخيه النسان حينما يقرر أن هناك‬
‫عبودية واحدة لله الكبير المتعال‪ ,‬ويلغي في الرض عبودية البشر‬
‫للبشر في جميع أشكالها‪ ،‬وصورها‪ ,‬فليس هناك فرد ول طبقة ول‬
‫أمة تشرع الحكام للناس وتستذلهم عن طريق التشريع‪ ،‬إنما‬
‫هنالك رب واحد للناس جميعا هو الذي يشرع لهم على السواء‪,‬‬
‫وإليه وحده يتجهون بالطاعة والخضوع كما يتجهون إليه وحده‬
‫باليمان والعبادة سواء‪ ،‬فل طاعة في هذا النظام لبشر إل أن‬
‫يكون منفذا لشريعة الله موكل عن الجماعة ليقوم بهذا التنفيذ‬
‫حيث ل يملك أن يشرع هو ابتداء لن التشريع من شأن اللوهية‬
‫وحدها‪ ،‬وهو مظهر اللوهية في حياة البشر‪ ,‬فل يجوز أن يزاوله‬
‫إنسان فيدعي لنفسه مقام اللوهية وهو واحد من العبيد‪ ..‬جاهد‬
‫السلم ليقيم هذا النظام الرفيع في الرض ويقرره ويحميه‪ ,‬وكان‬
‫من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الطاغية التي تقوم على عبودية‬
‫البشر للبشر والتي يدعي فيها العبيد مقام اللوهية ويزاولون فيها‬
‫وظيفة اللوهية بغير حق‪ ،‬ولم يكن بد أن تقاومه تلك النظم‬
‫الطاغية في الرض كلها وتناصبه العداء‪ ،‬ولم يكن بد كذلك أن‬
‫يسحقها السلم سحقا ليعلن نظامه الرفيع في الرض‪ ,‬وما يزال‬
‫هذا الجهاد لقامة هذا النظام الرفيع مفروضا على المسلمين‬
‫ه" ]البقرة‪:‬‬
‫ن لل ِ‬
‫دي ُ‬‫ن ال ّ‬ ‫وي َ ُ‬
‫كو َ‬ ‫ة َ‬
‫فت ْن َ ٌ‬
‫ن ِ‬ ‫حّتى ل َ ت َ ُ‬
‫كو َ‬ ‫م َ‬
‫ه ْ‬‫قات ُِلو ُ‬
‫و َ‬
‫‪َ +‬‬
‫‪ [193‬فل تكون هناك ألوهية للعبيد في الرض ول دينونة‬
‫لغير الله«)‪.(1‬‬
‫‪ -2‬دفع عدوان الكافرين‪:‬‬
‫‪ -1‬إن من أهداف الجهاد في الدولة السلمية دفع عدوان‬
‫الكافرين‪ ،‬وهذا العدوان أنواع منها‪:‬‬
‫‪ -‬أن يعتدي الكفار على فئة مؤمنة مستضعفة في‬
‫لسيما إذا لم تستطع أن تنتقل إلى بلد تأمن فيها‬ ‫أرض الكفار‪:‬‬
‫على دينها‪ ،‬فإن الواجب على الدولة السلمية أن تعد العدة لمجاهدة‬
‫الكفار الذين اعتدوا على تلك الطائفة حتى يخلصوها من الظلم‬
‫والعتداء الواقع عليها)‪.(2‬‬
‫ن‬ ‫شُرو َ‬ ‫ن يَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫ل ِ‬ ‫قات ِ ْ‬ ‫فل ْي ُ َ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫قت َ ْ‬
‫ل‬ ‫في ُ ْ‬‫ه َ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫قات ِ ْ‬‫من ي ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ا َل ْ َ‬
‫سِبي َ ِ‬ ‫في َ‬ ‫ل ِ‬ ‫َ‬ ‫و َ‬‫ة َ‬ ‫خَر ِ‬ ‫حَياةَ الدّن َْيا ِبال ِ‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫قات ِلو َ‬ ‫م ل َ تُ َ‬ ‫ما لك ُ ْ‬ ‫و َ‬‫ما ‪َ ‬‬ ‫ظي ً‬
‫ع ِ‬ ‫جًرا َ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ؤِتي ِ‬‫ف نُ ْ‬ ‫و َ‬‫س ْ‬ ‫ب َ‬
‫ف َ‬ ‫غل ِ ْ‬
‫و يَ ْ‬‫أ ْ‬
‫ء‬
‫سا ِ‬ ‫ن‬‫وال‬
‫ّ َ ِ َ ّ َ‬ ‫ل‬ ‫جا‬ ‫ر‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫في‬ ‫ع‬ ‫ض‬
‫ِ َ ُ ْ َ ْ َ ِ َ ِ َ‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫وا‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫بي‬
‫َ ِ ِ‬‫س‬ ‫في‬ ‫ِ‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(3/295‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله‪ ،‬د‪ .‬عبد الله القادري )‪.(2/162‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪469‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ة‬
‫قْري َ ِ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫ذ ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫جَنا ِ‬ ‫ر ْ‬ ‫ِ‬ ‫ن َرب َّنا أ َ ْ‬
‫خ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫دا ِ‬ ‫ول ْ َ‬ ‫وال ْ ّ ِ‬ ‫َ‬
‫من‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫عل لَنا ِ‬ ‫ج َ‬ ‫وا ْ‬ ‫َ‬ ‫يا‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ل‬ ‫من‬ ‫ِ‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫عل‬ ‫َ‬ ‫ج‬
‫ْ‬ ‫وا‬ ‫َ‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ه‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫م‬
‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ظا‬ ‫ال‬
‫صيًرا" ]النساء‪.[75 ،74 :‬‬ ‫ك نَ ِ‬ ‫ل ّدُن ْ‬
‫قال القرطبي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬حض على الجهاد‪ ،‬ويتضمن‬
‫تخليص المستضعفين من أيدي الكفرة المشركين الذين‬
‫يسومونهم سوء العذاب ويفتنونهم عن الدين‪ ،‬فأوجب تعالى‬
‫الجهاد لعلء كلمته وإظهار دينه واستنقاذ المؤمنين الضعفاء من‬
‫عباده‪ ،‬وإن كان في ذلك تلف النفوس‪ ,‬وتخليص الساري واجب‬
‫على جماعة المسلمين إما بالقتال وإما بالموال وذلك أوجب‬
‫لكونها دون النفوس‪ ،‬إذ هي أهون منها«)‪.(1‬‬
‫وقال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬جاهد السلم‪ ...‬ليدفع عن‬
‫المؤمنين الفتنة التي كانوا يسامونها وليكفل لهم المن على‬
‫أنفسهم وأموالهم وعقيدتهم‪ ,‬وقرر ذلك المبدأ العظيم‪ ...:‬والفتنة‬
‫أشد من القتل‪ ،‬فاعتبر العتداء على العقيدة واليذاء بسببها وفتنة‬
‫أهلها أشد من العتداء على الحياة ذاتها‪ ،‬فالعقيدة أعظم قيمة في‬
‫الحياة وفق هذا المبدأ العظيم‪ ,‬وإذا كان المؤمن مأذونا في القتال‬
‫ليدفع عن حياته وعن ماله فهو من باب أولى مأذون في القتال‬
‫ليدفع عن عقيدته ودينه‪.(2) «...‬‬
‫‪ -‬أن يعتدي الكفار على ديار المسلمين‪:‬‬
‫قات ُِلون َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫قات ُِلوا ِ‬ ‫و َ‬ ‫قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ث‬‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫واقت ُلو ُ‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫دي َ َ‬ ‫عت َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬‫َ‬ ‫ن َ الل َ‬ ‫دوا إ ِ ّ‬ ‫عت َ ُ‬ ‫ول َ ت َ ْ‬ ‫َ‬
‫ةأ َ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ثَ ِ‬
‫شدّ‬ ‫فت ْن َ ُ‬‫وال ِ‬ ‫م َ‬ ‫جوك ْ‬ ‫خَر ُ‬ ‫ثأ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫هم ّ‬ ‫جو ُ‬ ‫ر ُ‬ ‫ِ‬ ‫خ‬ ‫وأ ْ‬ ‫َ‬ ‫هم‬ ‫مو ُ‬ ‫فت ُ ُ‬
‫حّتى‬ ‫حَرام ِ َ‬ ‫د ال ْ َ‬ ‫ج ِ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عن ْدَ ال ْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫قات ُِلو ُ‬ ‫ول َ ت ُ َ‬ ‫ل َ‬ ‫قت ْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫جَزاءُ‬ ‫َ‬
‫م كذل ِك َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه ْ‬ ‫م فاقت ُلو ُ‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه فِإن قات َلوك ْ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫في ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫قات ِلوك ْ‬ ‫ُ‬ ‫يُ َ‬
‫م" ]البقرة‪-190 :‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر ّر ِ‬ ‫غ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫فإ ِ ّ‬ ‫وا َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ن ان ْت َ َ‬ ‫فإ ِ ِ‬ ‫ن‪َ ‬‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬ ‫كا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫‪.[192‬‬
‫قد نص الفقهاء على أنه إذا اعتدى الكفار على ديار المسلمين‬
‫يتعين الجهاد للدفاع عن الديار‪ ،‬لن العدو إذا احتلها سام المسلمين‬
‫عذابا ونفذ فيها أحكام الكفر وأجبر أهلها على الخضوع له‪ ،‬فتصبح دار‬
‫كفر بعد أن كانت دار إسلم‪ ،‬قال ابن قدامة رحمه الله‪» :‬وتعين‬
‫الجهاد في ثلثة مواضع‪ ...‬الثاني‪ :‬إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله‬
‫قتالهم ودفعهم«)‪.(3‬‬
‫وقال بعض علماء الحنفية »وحاصله إن كل موضع خيف هجوم‬
‫العدو منه فرض على المام أو على أهل ذلك الموضع حفظه‪ ،‬وإن‬
‫لم يقدروا فرض على القرب إليهم إعانتهم إلى حصول الكفاية‬
‫)( تفسير القرطبي )‪.(5/279‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( في ظلل القرآن )‪.(3/294‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( المغني )‪.(9/197‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪470‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بمقاومة العدو«)‪.(1‬‬
‫أن ينشر العدو الظلم بين رعاياها‪ ،‬ولو كانوا كفاًرا ‪ -‬لن الله‬
‫سبحانه حرم على عباده الظلم‪ ،‬والعدل في الرض واجب لكل‬
‫الناس‪ ،‬وإذا لم يدفع المسلمون الظلم عن المظلومين أثموا لنهم‬
‫مأمورون بالجهاد في الرض لحقاق الحق وإبطال الباطل‪ ,‬ونشر‬
‫العدل والقضاء على الظلم‪ ,‬ول فلح لهم إل بذلك وهو المر‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬وما كانوا خير أمة أخرجت للناس‬
‫س‬
‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫ر َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ة أُ ْ‬ ‫م ٍ‬
‫ُ‬
‫خي َْر أ ّ‬ ‫م َ‬ ‫إل بذلك كما قال تعالى‪+ :‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ه"‬ ‫ن ِبالل ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ْ‬
‫وت ُؤ ِ‬ ‫ر َ‬ ‫َ‬
‫من ْك ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن َ‬ ‫و َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وت َن ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مُرو َ‬ ‫َتأ ُ‬
‫على‬ ‫وم ٍ َ‬ ‫ْ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫نآ‬ ‫َ‬ ‫ش‬ ‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ِ َ‬ ‫ر‬ ‫ج‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬ ‫‪,‬‬ ‫[‬ ‫‪110‬‬ ‫عمران‪:‬‬ ‫]آل‬
‫ه‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫وى‬ ‫ق‬‫ْ‬ ‫ت‬ ‫لل‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫هو أ َ‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ا‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ ِ ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫أل ْ‬
‫َ‬ ‫ت‬
‫ن" ]المائدة‪.[8 :‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ع َ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫خِبيٌر ب ِ َ‬ ‫َ‬
‫ومن العدل كف الظلم عن المظلوم الكافر الذي يبغضه‬
‫المسلم لكفره‪ ،‬قال السرخسي ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وإن كان ‪ -‬يقصد‬
‫أحد ملوك أهل الحرب ‪ -‬طلب الذمة على أن يترك يحكم في أهل‬
‫مملكته بما شاء من قتل أو صلب أو غيره بما ل يصلح في دار‬
‫السلم لم يجب إلى ذلك‪ ،‬لن التقرير على الظلم مع إمكان المنع‬
‫منه حرام«)‪.(2‬‬
‫إن من واجب الدولة المسلمة أن تجاهد في سبيل الله للقضاء‬
‫على الظلم والظالمين)‪.(3‬‬
‫‪ -‬الوقوف ضد الدعاة إلى الله ومنعهم من تبليغ دعوة الله‪ ،‬إن‬
‫المسلمين مفروض عليهم من قبل المولى عز وجل أن يبلغوا‬
‫سِبيِلي‬ ‫ه َ‬ ‫ذ ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫رسالت الله للناس كافة‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ +:‬‬
‫عَلى بصير َ‬ ‫أ َدْ ُ‬
‫ه‬
‫ن الل ِ‬ ‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫و ُ‬ ‫عِني َ‬ ‫ن ات ّب َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫و َ‬ ‫ة أَنا َ‬ ‫َ ِ َ ٍ‬ ‫ه َ‬ ‫عو َ إ َِلى الل ِ‬
‫ن" ]يوسف‪.[108 :‬‬ ‫كي َ‬ ‫ر ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬‫ما أَنا ِ‬ ‫و َ‬ ‫َ‬
‫وأعداء الله يصدون أولياءه عن تبليغ عباده دعوته ول يتركون‬
‫لهم سبيل إلى الناس‪ ,‬كما ل يأذنون للدعاة أن يسمعوا الدعوة‬
‫إلى الله للناس‪ ،‬ويضعون العراقيل‪ ،‬والحواجز بين الدعوة ودعاتها‬
‫والناس‪ ،‬ولذلك أوجب الله عز وجل على عباده المؤمنين قتال كل‬
‫من يصد عن سبيل الله تعالى‪.‬‬
‫َ‬
‫ض ّ‬
‫ل‬ ‫هأ َ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫عن َ‬ ‫دوا َ‬ ‫ص ّ‬ ‫و َ‬ ‫فُروا َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ قال تعالى‪+ :‬ال ّ ِ‬
‫ما‬‫مُنوا ب ِ َ‬ ‫وآ َ‬ ‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ملوا ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫نوا َ‬ ‫م ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬ ‫َ‬ ‫م‪‬‬ ‫ه ْ‬ ‫مال َ ُ‬ ‫ع َ‬ ‫أ ْ‬
‫م‬ ‫ه‬
‫َ َ ْ ُ ْ‬‫ن‬ ‫ع‬ ‫ر‬ ‫ّ‬
‫ف‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫َ ّ ِ َ ّ ّ ِ ْ‬ ‫ر‬ ‫من‬ ‫ق‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫َُ َ ّ ٍ َ ُ َ‬‫و‬ ‫د‬ ‫م‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ن ُّز‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عوا‬ ‫ن كفُروا ات ّب َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م ‪ ‬ذَل ِك ب ِأ ّ‬ ‫ه ْ‬ ‫ح َبال ُ‬ ‫صل َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫سي َّئات ِ ِ‬ ‫َ‬
‫)( حاشية ابن عابدين )‪.(4/124‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( المبسوط للسرخسي )‪.(10/85‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله للقادري )‪.(166 ،1/165‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪471‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫ل َ‬
‫ك‬ ‫م ك َذَل ِ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ِ‬ ‫من ّرب ّ‬ ‫ق ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫عوا ال ْ َ‬ ‫مُنوا ات ّب َ ُ‬ ‫ن آَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫وأ ّ‬ ‫ال َْباطِ َ َ‬
‫ن كفُروا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ِ‬‫ّ‬ ‫قيت ُ ُ‬ ‫ذا ل ِ‬ ‫َ‬ ‫م ‪ ‬فإ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫هَْ‬ ‫َ‬
‫مَثال ُ‬ ‫سأ ْ‬
‫ْ‬ ‫ه ِللّنا ِ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫ر ُ‬ ‫ض ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ما‬
‫ِ ّ‬ ‫إ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ثا‬ ‫َ‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫دوا‬ ‫ّ‬ ‫ش‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫مو‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫خن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ث‬ ‫أ‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫تى‬ ‫ّ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ب‬‫ِ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ر‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ب‬
‫َ‬ ‫ر‬
‫ف ْ‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫و‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ها‬ ‫ر‬
‫َ ْ ُ ْ َ َ َ‬ ‫زا‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫ض‬ ‫ت‬ ‫تى‬ ‫ح‬ ‫ء‬ ‫دا‬ ‫ف‬
‫َ ّ َ ْ ُ َ ِ ّ ِ َ ً َ ّ‬‫ما‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫نا‬ ‫م‬
‫َ ْ‬ ‫َ َ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫وال ّ ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ٍ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫كن ل ّي َب ْل ُ‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ول َ‬
‫َ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫من ْ‬‫صَر ِ‬ ‫ه ل َن ْت َ َ‬ ‫شاءُ الل ُ‬ ‫يَ َ‬
‫م" ]محمد‪.[4 -1 :‬‬ ‫ه ْ‬ ‫مال ُ‬ ‫َ‬ ‫ع َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫فلن ي ُ ِ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫في َ‬ ‫قت ِلوا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وجاهد السلم‪ ..‬لتقرير حرية‬
‫العقيدة ‪ -‬فقد جاء السلم بأكمل تصور للوجود والحياة‪ ,‬وبأرقى‬
‫نظام لتطور الحياة‪ ،‬جاء بهذا الخير ليهديه إلى البشرية كلها ويبلغ‬
‫إلى أسماعها وإلى قلوبها‪ ،‬فمن شاء بعد البيان والبلغ فليؤمن‬
‫ومن شاء فليكفر‪ ,‬ول إكراه في الدين‪ ،‬ولكن ينبغي قبل ذلك أن‬
‫تزول العقبات من طريق إبلغ هذا الخير للناس كافة كما جاء من‬
‫عند الله للناس كافة‪ ,‬وأن تزول الحواجز التي تمنع الناس أن‬
‫يسمعوا وأن يقتنعوا وأن ينضموا إلى موكب الهدى إذا أرادوا‪ ،‬ومن‬
‫هذه الحواجز أن تكون هناك نظم طاغية في الرض تصد الناس‬
‫عن الستماع إلى الهدى وتفتن المهتدين أيضا‪ ،‬فجاهد السلم‬
‫ليحطم هذه النظم الطاغية وليقيم مكانها نظاما عادل يكفل حرية‬
‫الدعوة إلى الحق في كل مكان‪ ,‬وما يزال هذا الهدف قائما وما‬
‫يزال الجهاد مفروضا على المسلمين ليبلغوه وإن كانوا مسلمين«‪.‬‬
‫هذه بعض أهداف الجهاد التي تتحقق عند إقامة هذه‬
‫الفريضة)‪.(1‬‬
‫ب‪ -‬بعض ثمرات إقامة الجهاد في سبيل الله‪:‬‬
‫إن ثمرات إقامة الجهاد في سبيل الله كثيرة منها‪:‬‬
‫‪ -1‬إعزاز المسلمين وإذلل الكافرين‪:‬‬
‫إن الجهاد في سبيل الله يعد قمة المر بالمعروف والنهي عن‬
‫بصفات القيادة‬ ‫المة‬ ‫المنكر‪ ,‬ووصف المولى عز وجل هذه‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫س‬
‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫ر َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫م ٍ‬ ‫خي َْر أ ّ‬ ‫م َ‬ ‫الرشيدة في قوله تعالى‪+ :‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ه"‬ ‫ن ِبالل ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫وت ُ ْ‬ ‫ر َ‬ ‫من ْك ِ‬ ‫َ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫ع ِ‬ ‫ن َ‬ ‫و َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وت َن ْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مُرو َ‬ ‫َتأ ُ‬
‫]آل عمران‪.[110 :‬‬
‫ف‬
‫عُرو ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫قال القرطبي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬قوله‪َ+ :‬تأ ُ‬
‫ر" مدح لهذه المة ما أقاموا ذلك واتصفوا‬ ‫من ْك َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫ن َ‬ ‫و َ‬ ‫ه ْ‬‫وت َن ْ َ‬ ‫َ‬
‫به‪ ،‬فإذا تركوا التغيير وتواطأوا على المنكر زال عنهم اسم المدح‬
‫ولحقهم اسم الذم وكان ذلك سببا لهلكهم)‪.(2‬‬
‫قال سيد قطب ‪ -‬رحمه الله ‪» :-‬وهذا ما ينبغي أن تدركه المة‬
‫المسلمة لتعرف حقيقتها وقيمتها‪ ,‬وتعرف أنها أخرجت لتكون‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(3/294‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الجامع لحكام القرآن )‪.(4/173‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪472‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫طليعة وتكون لها القيادة بما أنها هي خير أمة والله يريد أن تكون‬
‫القيادة للخير ل للشر في هذه الرض«)‪.(1‬‬
‫إن هذه المة تعمل على نشر الخير‪ ،‬وصيانة المجتمعات من‬
‫عوامل الفساد‪ ،‬لكي تبني مجتمعات صالحة على أسس من‬
‫المبادئ‪ ،‬والعتقادات‪ ،‬والتصورات‪ ،‬والنظم‪ ،‬والخلق‪ ،‬والمعارف‪،‬‬
‫والعلوم المستمدة من المنهج الرباني الحكيم‪.‬‬
‫وهذه الهداف النبيلة تجعل قيادة المة تنازل قوى البغي في‬
‫ميادين الجهاد‪ ،‬لن القوى الكافرة‪ ،‬دائما وأبدا تعد العدة وتبذل‬
‫جهدها للقضاء على السلم والمسلمين‪ ،‬ولهذا تركب المة‬
‫صهوات المجد‪ ،‬وتسل سيوفها ضد أعداء البشرية ممن يعتقدون‬
‫الكفر والضلل والفساد‪ ،‬فتكون ثمرة هذا الجهاد المبارك القضاء‬
‫على شوكة الكفر وإذللهم وإنزال الرعب في قلوبهم وتطهير‬
‫الرض من سيطرتهم‪.‬‬
‫إن المشركين والكفار ل يراعون في المسلمين ‪-‬إذا قدروا‬
‫هُروا‬ ‫وِإن ي َظْ َ‬ ‫ف َ‬ ‫عليهم‪ -‬عهدا ول قرابة‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬ك َي ْ َ‬
‫ة" ]التوبة‪.[80 :‬‬ ‫م ً‬ ‫ول َ ِذ ّ‬ ‫م إ ِل ّ َ‬ ‫فيك ُ ْ‬ ‫قُبوا ِ‬ ‫م ل َ ي َْر ُ‬ ‫عل َي ْك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫وأول َئ ِ َ‬
‫ك‬ ‫ة َ‬ ‫م ً‬ ‫ول َ ِذ ّ‬ ‫ن إ ِل ّ َ‬ ‫م ٍ‬ ‫ؤ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫في ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫قُبو َ‬ ‫وقال تعالى‪+ :‬ل َ ي َْر ُ‬
‫ن" ]التوبة‪.[10 :‬‬ ‫دو َ‬ ‫عت َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫ُ‬
‫حّتى‬ ‫صاَرى َ‬ ‫ول َ الن ّ َ‬ ‫هودُ َ‬ ‫ك ال ْي َ ُ‬ ‫عن َ‬ ‫ضى َ‬ ‫ن ت َْر َ‬ ‫ول َ ْ‬ ‫وقال‪َ + :‬‬
‫م" ]البقرة‪ .[120 :‬لهذا كان الجهاد في سبيل الله هو‬ ‫ه ْ‬ ‫مل ّت َ ُ‬ ‫ع ِ‬ ‫ت َت ّب ِ َ‬
‫الفيصل بين المسلمين وأعدائهم لنه يثمر ‪ -‬بإذن الله ‪ -‬القضاء‬
‫على قوة الكفر وإذلل طغاته وخزيهم وإلقاء الرعب في قلوبهم‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫وَردّ الل ُ‬ ‫وغنيمة للمسلمين المجاهدين كما قال‪َ + :‬‬
‫ن‬ ‫ني‬ ‫م‬ ‫ؤ‬‫ْ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫الل‬ ‫فى‬ ‫وك َ َ‬ ‫خي ًْرا َ‬ ‫م ي ََناُلوا َ‬ ‫م لَ ْ‬ ‫ه ْ‬ ‫كَ َ‬
‫ُ ِ ِ َ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫غي ْ َظِ ِ‬ ‫فُروا ب ِ َ‬
‫هم‬ ‫هُرو ُ‬ ‫ن ظا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ِ‬ ‫وأن َْز َ‬ ‫زيًزا ‪َ ‬‬ ‫ع ِ‬ ‫وّيا َ‬ ‫هق ِ‬ ‫َ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫وكا َ‬ ‫ل َ‬ ‫قَتا َ‬
‫َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫م‬‫ه ُ‬ ‫ُ‬ ‫في ُ‬ ‫قذ َ َ‬ ‫و َ‬ ‫ْ‬
‫قلوب ِ ُ ِ‬ ‫قا ِ‪ ‬وأ َ‬ ‫ف‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫صي ِ‬ ‫صَيا ْ ِ‬ ‫من َ‬
‫ُ‬
‫ب ِ‬ ‫ل الك َِتا ِ‬ ‫ه ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫م‬‫ْ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫ر‬
‫َ ْ َ‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫ري‬ ‫ِ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫رو‬ ‫س‬
‫َ ُ َ َ َ َ ِ ُ َ َ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫لو‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫ق‬ ‫ت‬ ‫قا‬ ‫ً‬ ‫ري‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ْ‬ ‫الّر‬
‫ه‬‫ن الل ُ‬ ‫كا َ‬ ‫و َ‬ ‫ها َ‬ ‫ؤو َ‬ ‫م ت َطَ ُ‬ ‫ضا ل ّ ْ‬ ‫وأْر ً‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وال َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫وأ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫وِدَياَر ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫أ َْر َ‬
‫ديًرا" ]الحزاب‪.[27-25 :‬‬ ‫ق ِ‬ ‫ء َ‬ ‫ي ٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عَلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫إن الله تعالى قد رتب على الجهاد قتال الكافرين وتعذيب‬
‫أعداء الله وخزيهم ونصر المجاهدين عليهم وشفاء صدور‬
‫المؤمنين الذين أوغر أعداء الله صدورهم وإذهاب غيظ قلوبهم بما‬
‫يدخل عليهم من السرور بكسر شوكة أعداء الله والقضاء على‬
‫َ‬ ‫قات ُِلو ُ‬
‫ديك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ه ب ِأي ْ ِ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫عذّب ْ ُ‬ ‫م يُ َ‬ ‫ه ْ‬ ‫قوتهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ + :‬‬
‫ن‪‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤ ِ‬ ‫ْ‬ ‫وم ٍ ّ‬ ‫َ‬
‫دوَر ق ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫وي َش ِ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫م َ َ‬ ‫صْرك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫ُ‬
‫وي َن ْ ُ‬
‫َ‬
‫م َ‬ ‫ه ْ‬ ‫ز ِ‬ ‫خ ِ‬ ‫وي ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫والل ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫شا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫من‬ ‫َ‬ ‫لى‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫الل‬ ‫ب‬‫ُ‬ ‫تو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫لو‬ ‫ق‬ ‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫)( في ظلل القرآن )‪.(1/447‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪473‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫م" ]التوبة‪.[15 ،14 :‬‬


‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬
‫م َ‬
‫عِلي ٌ‬
‫َ‬
‫لقد قام النبي × بحركة الجهاد واستطاع أن يقضي على‬
‫شوكة الكفر في الجزيرة‪ ،‬ويرد كيد اليهود عليهم‪ ،‬ووجه ضربات‬
‫موفقة للنصارى‪ ,‬وسار الصديق ‪ ‬على نفس المنهج وخاض‬
‫حروب الردة وقضى على مسيلمة الكذاب وسجاح وغيرهما‪،‬‬
‫فكانت معاركه ضد المرتدين من أكبر السباب لنصر السلم‬
‫وأهله وبعد انتهاء حروب الردة قام بحركة الجهاد ضد الفرس‪،‬‬
‫والروم‪ ,‬واستمر الخلفاء من بعده على نفس المنوال‪ ،‬وامتدت‬
‫رقعة السلم من الصين شرقا إلى المحيط الطلسي غربا‬
‫وأخذت جيوش السلم تدك معاقل النصرانية في أوروبا وبسطت‬
‫نفوذها على بلدان كثيرة منها«)‪.(1‬‬
‫‪ -2‬دخول الناس في دين الله أفواجا‪:‬‬
‫إن أهل الباطل يستهينون بأهل الحق ويستضعفونهم ما لم‬
‫يكونوا أعزة‪ ،‬والتاريخ يشهد على أن الناس يحترمون الحق الذي‬
‫تحرسه القوة‪ ،‬وعندما يكون أهل الحق أعزة يدخل الناس في دين‬
‫الله أفواجا‪ ،‬فعندما أسس × دولة السلم واكتملت لها المقومات‬
‫اللزمة وشرعت في بعث السرايا‪ ،‬والقيام بالغزوات ضد أعداء‬
‫السلم ووقعت بينهم وبين المسلمين معارك كان النتصار في‬
‫الغالب للمسلمين على المشركين‪ ,‬وبلغت قوة المسلمين ذروتها‬
‫عندما وقع الصلح بينهم وبين المشركين في الحديبية حيث اعترف‬
‫أهل الكفر بدولة تعقد المعاهدات وتفاوض وتصالح‪ ,‬وكثر الداخلون‬
‫في السلم‪ ،‬وعندما نقضت قريش الصلح غزا رسول الله × مكة‬
‫وفتحها ودخلها مظفرا فماذا كان بعد هذا الفتح المبين؟ )‪.(2‬‬
‫قال محمد بن إسحاق‪] :‬ولما افتتح الرسول × مكة وفرغ من‬
‫تبوك وأسلمت ثقيف وبايعت‪ ،‬ضربت إليه وفود العرب من كل‬
‫وجه‪ .‬قال ابن هشام‪» :‬حدثني أبو عبيدة أن ذلك في سنة تسع‬
‫وأنها كانت تسمى الوفود‪ ،‬قال ابن إسحاق‪ :‬وإنما كانت العرب‬
‫تربص بإسلمها أمر هذا الحي من قريش لن قريشا كانوا إمام‬
‫الناس وهاديتهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل بن‬
‫إبراهيم‪ ,‬وقادة العرب ل ينكرون ذلك‪ ،‬وكانت قريش هي التي‬
‫نصبت الحرب لرسول الله × وخلفه‪ ,‬فلما افتتحت مكة ودانت له‬
‫قريش ودخولها السلم عرفت العرب أنهم ل طاقة لهم بحرب‬
‫رسول الله × ول عداوته فدخلوا في دين الله ‪-‬كما قال عز وجل‪-‬‬
‫أفواجا يضربون إليه من كل وجه«)‪.(3‬‬
‫واستمر المر كذلك بعد انتقال النبي × للرفيق العلى‪ ،‬فكان‬
‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله )‪.(2/423‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( الجهاد في سبيل الله )‪.(453 ،2/452‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(5/40‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪474‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫الجهاد هو الذي يقضي على حركات التمرد والشقاق ويجبرهم‬


‫على الخضوع للسلم‪ ,‬والنقياد لشرعه‪ ،‬واحترام أهله‪ ،‬فكان أبو‬
‫بكر الصديق ‪ ‬مدركا ذلك تماما الدراك‪ ,‬فكان له مواقف رائعة‬
‫تدل على فهمه العميق لفقه التمكين‪ ،‬وقدرته الفذة على‬
‫المحافظة على دولة السلم التي أقامها النبي × ومن أهم‬
‫المواقف‪:‬‬
‫إنفاذ جيش أسامة‪:‬‬
‫لقد ظهر فقه الصديق وحكمته عند إصراره على إرسال جيش‬
‫أسامة بن زيد رضي الله عنهما من عدة وجوه‪:‬‬
‫إنفاذه بعث أسامة ‪ ‬على الرغم من شدة الحوال ومعارضة‬
‫بعض الصحابة‪ ،‬وذلك امتثال لمر النبي ×‪ ،‬وأصر على أن تستمر‬
‫الحملة العسكرية في تحركها إلى الشام مهما كانت الظروف‬
‫والحوال والنتائج‪ ،‬وفشلت كافة المحاولت الهادفة لقناع الصديق‬
‫كي يتخلى عن فكرة إرسال جيش أسامة‪ ،‬وعندما كثر اللحاح‬
‫على أبي بكر‪ ،‬دعا عامة المهاجرين والنصار إلى اجتماع المجلس‬
‫لمذاكرة هذا المر معهم‪ ,‬وبّين لهم أن إنفاذ جيش أسامة هو‬
‫مشروع وضعه رسول الله × وعلينا تنفيذه مهما بلغت الصعاب‬
‫والمتاعب وقال‪» :‬أيها الناس‪ ،‬والله لو خطفتني الكلب والذئاب‬
‫لنفذت أسامة وجيشه كما أراد رسول الله × ل راد لقضاء قضى‬
‫به رسول الله × ولو لم يبق في القرى غيري لنفذته‪ ،‬والله لن‬
‫ي من أن أبدأ بشيء قبل أمر رسول الله‬ ‫تتخطفني الطير أحب إل ّ‬
‫× «)‪.(1‬‬
‫ولما أشار بعض الناس على أبي بكر أن يولي أمر الجيش رجلً‬
‫أقدم سنّا من أسامة‪ ،‬غضب لذلك‪ ،‬لن رسول الله × هو الذي‬
‫أمر أسامة على هذا الجيش‪ ،‬فل يريد ‪ ‬أن يغير شيئًا فعله‬
‫رسول الله ×‪.‬‬
‫وأوصى الصديق ذلك الجيش المظفر بهذه الوصايا‪» :‬ل‬
‫تخونوا‪ ،‬ول تغدروا‪ ،‬ول تغلوا‪ ،‬ول تمثلوا‪ ،‬ول تقتلوا طفلً‪ ,‬ول شيخًا‬
‫كبيًرا‪ ،‬ول امرأة‪ ,‬ول تعزقوا)‪ (2‬نخل‪ ،‬ول تحرقوه‪ ،‬ول تقطعوا شجرة‬
‫مثمرة‪ ،‬ول تذبحوا شاة ول بقرة ول بعيرًا إل للكل‪ ,‬وإذا مررتم‬
‫بقوم فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له‪،‬‬
‫وإذا لقيتم قوما فحصوا)‪ (3‬أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل‬
‫العصائب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه‪ ،‬فإذا قرب عليكم‬
‫الطعام فاذكروا اسم الله‪ ،‬يا أسامة‪ :‬اصنع ما أمرك نبي الله ببلد‬

‫)( تاريخ السلم للذهبي عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬ص ‪.20‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( ول تعزقوا‪ :‬ل تكسروا‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( فحصوا‪ :‬كشفوا‪.‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪475‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫قضاعة‪ ،‬ائت آبل‪ ،‬ول تقصر من أمر رسول الله × ثم ودعه من‬
‫الجرف ورجع «)‪.(1‬‬
‫والجرف‪ :‬موضع قرب المدينة‪ ،‬وهذه التعاليم النسانية‬
‫الرفيعة‪ ،‬استمدها الصديق ‪ ‬من فهمه العميق لحقيقة السلم‬
‫وهي ترد على كل من يتهم السلم بأنه دين الهمجية والوحشية‬
‫والعسف)‪.(2‬‬
‫وسار أسامة حتى انتهى لما أمره به رسول الله ×‪ ,‬فبعث‬
‫الجنود إلى بلد قضاعة وأغار أسامة على »أبني« فسبى وغنم‪،‬‬
‫ورجع إلى المدينة ظافرا بعد أن غاب عنها أربعين يوما‪ ,‬وكان إنفاذ‬
‫جيش أسامة من أعظم المور نفعا للمسلمين‪ ،‬فإن العرب قالوا‪:‬‬
‫»لول أن لهؤلء قوة ما خرج مثل هؤلء من عندهم ولكن ندعهم‬
‫حتى يلقوا الروم‪ ،‬فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم ورجعوا سالمين‬
‫فثبتوا على السلم«)‪.(3‬‬
‫لقد أثبتت اليام والحداث سلمة رأي الصديق وصواب قراره‬
‫الذي اعتزم تنفيذه معتمدا في ذلك على الدقة التامة في التزام‬
‫المنهج النبوي‪ ،‬والمر النبوي‪ ,‬والتصميم الملهم في وقته المناسب‬
‫والنظر البعيد إلى المستقبل‪.‬‬
‫وقد اعترف كبار الصحابة بصواب ما ذهب إليه الصديق ورد‬
‫عمر فيما بعد قولته المشهورة‪» :‬ليلة من أبي بكر خير من عمر‬
‫وآل عمر«)‪.(4‬‬
‫إن بعث أسامة في تلك اللحظة الحرجة لم يحدث أي أثر‬
‫سلبي على الموقف السلمي العام كما ظن الكثيرون‪ ،‬بل على‬
‫العكس فإنه أحدث آثارا إيجابية أفادت الموقف العسكري‬
‫والسياسي والدعوى آنيا وفيما بعد‪ ,‬فقد أحدث هذا الجيش في‬
‫أثناء مسيرته رعبا وخوفا لدى القبائل وأصحاب الديان الخرى‬
‫الذين اشرأبت أعناقهم عندما رأوا الفتنة قد ذر قرنها في الجزيرة‬
‫العربية بعد وفاة النبي ×‪ ،‬فكان الجيش ل يمر بحي من أحياء‬
‫العرب إل أرعبوا منهم وقالوا‪» :‬ما خرج هؤلء من قوم إل وبهم‬
‫منعة شديدة«)‪ .(5‬ولهذا فإن بعث أسامة كان حربا نفسية رائعة‬
‫فيما حققته من مكاسب‪.‬‬
‫إن اختيار الطريق السهل في بعض الحيان يورد المهالك‪ ،‬و‬
‫لكن أبا بكر اختار في تلك اللحظة الطريق الصعب الشاق المؤدي‬
‫إلى النجاة والنصر والفوز‪ ,‬وكان حزما وحسما سجلهما التاريخ‬
‫تاريخ المم والملوك للطبري )‪.(4/47‬‬ ‫)(‬ ‫‪1‬‬

‫انظر‪ :‬الخلفاء الراشدون‪ ،‬عبد الوهاب النجار‪ ،‬ص ‪.47‬‬ ‫)(‬ ‫‪2‬‬

‫البداية والنهاية )‪.(305 ،6/304‬‬ ‫)(‬ ‫‪3‬‬

‫الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬ص ‪.84‬‬ ‫)(‬ ‫‪4‬‬

‫البداية والنهاية )‪.(6/308‬‬ ‫)(‬ ‫‪5‬‬

‫‪476‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫لهذا الخليفة الراشد الملهم)‪.(1‬‬


‫رضي الله عنك يا أبا بكر‪ ,‬لقد كان يدرك ما وراء خروج هذا‬
‫الجيش بعد وفاة الرسول × التي جعلت أعداء السلم يتطلعون‬
‫للقضاء على السلم‪ ،‬كان يدرك ‪ ‬ما في طاعة الله ورسوله من‬
‫الخير من جهة‪ ،‬وما في إظهار القوة التي ل يحترم العداء سواها‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬فكانت هذه النتيجة الرفيعة لذلك القرار التاريخي‬
‫العظيم)‪.(2‬‬
‫‪ -‬حروب الردة‪:‬‬
‫قام أبو بكر الصديق ‪ ‬بحرب المرتدين وجهز الجيوش لكل‬
‫ناحية من نواحي الجزيرة العربية‪ ,‬فنصر الله السلم وأذل الكفر‬
‫وكانت النتيجة خلل سنة واحدة كما قال ابن كثير ‪ -‬رحمه الله ‪:-‬‬
‫»استهلت هذه السنة ‪ -‬يعني سنة اثنتي عشرة للهجرة ‪ -‬وجيوش‬
‫الصديق وأمراؤه الذين بعثهم لقتال أهل الردة جوالون في البلد‬
‫يمينا وشمال لتمهيد قواعد السلم وقتال الطغاة من النام حتى‬
‫رد شارد الدين بعد ذهابه‪ ,‬ورجع الحق إلى نصابه وتمهدت جزيرة‬
‫العرب وصار البعيد القصى كالقريب الدنى‪.(3) «...‬‬
‫إن كل واقعة من حرب الردة تشهد بأن أهل الباطل ل‬
‫يحترمون أهل الحق إل بالقوة والجهاد‪ ,‬ولقد ترتب على حروب‬
‫الردة عدة نتائج من أهمها‪:‬‬
‫‪ -‬لقد تكسرت وتحطمت قوى الشر من يهود ونصارى‪ ،‬ووثنيين‬
‫الذين تستروا تحت شعارات عدة أمام صلبة التوحيد وحقيقة‬
‫التصور السليم‪ ،‬والقيادة الحكيمة‪ ,‬وتركت لنا الحداث الجسيمة‬
‫ثروة ضخمة في معاملة المرتدين وأحكامهم‪ ،‬وفي المنهج الصحيح‬
‫لمعاملة الخارجين عن دولة السلم العظيمة‪.‬‬
‫‪ -‬استطاعت القيادة السلمية بزعامة الصديق ‪ ‬أن تجعل من‬
‫الجزيرة العربية قاعدة للنطلق لفتح العالم أجمع‪ ،‬وأصبحت الجزيرة‬
‫هي النبع الصافي الذي يتدفق منه السلم ليصل إلى أصقاع الرض‬
‫بواسطة رجال عركتهم الحياة‪ ،‬وأصبحوا من أهل الخبرات المتعددة‬
‫في مجالت التربية‪ ،‬والتعليم‪ ،‬والجهاد وإقامة شرع الله الشامل‬
‫لسعاد بني النسان حيثما كان‪.‬‬
‫‪ -‬كانت حروب الردة إعدادا ربانيا للفتوحات السلمية حيث‬
‫تميزت الرايات وظهرت القدرات‪ ،‬وتفجرت الطاقات‪ ،‬واكتشفت‬
‫قيادات ميدانية‪ ،‬وتفنن القادة في الساليب والخطط الحربية‬
‫وبرزت مؤهلت الجندية الصادقة المطيعة المنضبطة الواعية التي‬
‫تقاتل وهي تعلم على ماذا تقاتل‪ ،‬وتقدم كل شيء وهي تعلم من‬
‫)( انظر‪ :‬الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬ص ‪.84‬‬ ‫‪1‬‬

‫)( انظر‪ :‬الجهاد في سبيل الله )‪.(2/455‬‬ ‫‪2‬‬

‫)( البداية والنهاية )‪.(6/342‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪477‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أجل ماذا تضحي وتبذل‪ ،‬ولذا كان الداء فائقا والتفاني عظيما)‪.(1‬‬
‫‪ -‬الفتوحات السلمية‪:‬‬
‫بعد أن انتهت حروب الردة‪ ،‬وتوحدت كلمة المسلمين‪،‬‬
‫وأصبحت لهم قاعدة صلبة في جزيرة العرب كلها‪ ،‬تحركت قيادة‬
‫المة بزعامة الصديق ‪ ‬لتحقيق وعد الله بنصر دينه‪ ،‬وإقامة‬
‫شرعه‪ ،‬ودعوة الناس لعبادة الله‪ ،‬وتحقيق عبوديته الشاملة في‬
‫كل نواحي الحياة والممات‪ ،‬وكان لبد من تحرك المسلمين لزالة‬
‫كل العقبات التي تقف في وجه أداء هذه المانة للناس أجمعين‪،‬‬
‫حتى ل تكون فتنة ويكون الدين كله لله‪ ،‬وبذلك تتحقق سيادة‬
‫شرع الله الحكيم على بني البشر‪ ،‬ويصبح الجميع يدينون بحاكمية‬
‫الله سبحانه وتعالى المطلقة المتمثلة في خضوع الجميع لحكام‬
‫الله ورسوله ×‪.‬‬
‫لقد كان المسلمون بقيادة الصديق ‪‬على يقين بما أخبر الله‬
‫ورسوله من النصر والتمكين‪ ،‬وهذا اليقين من أخلق النصر في جيل‬
‫ن‬
‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫عنهم ‪ -‬انطلقا من قوله سبحانه‪+ َ :‬ي ُ َ ِ‬ ‫اللهه بأ َ‬ ‫الصحابة ‪-‬رضي‬
‫ه‬
‫ِ َ‬‫ر‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ل‬
‫َ ْ‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫ِ‬ ‫نو‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ت‬
‫ُ ُ ّ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫والل‬ ‫ِ ْ َ‬‫م‬ ‫ه‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫وا‬ ‫ِ ََ‬‫ْ‬
‫ف‬ ‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ر‬‫فُئوا ُنو َ‬ ‫ل ِي ُطْ ِ‬
‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫وِدي ِ‬ ‫دى َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه ِبال ْ ُ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫س َ‬ ‫ذي أْر َ‬ ‫و ال ّ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن‪ُ ‬‬ ‫فُرو َ‬ ‫كا ِ‬‫ال ْ َ‬
‫ن" ]الصف‪[9 ،8 :‬‬ ‫ركو َ‬‫ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫رهَ ال ُ‬ ‫وك ِ‬‫َ‬ ‫ول ْ‬‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن كل ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫دي ِ‬ ‫على ال ّ‬ ‫هَرهُ َ‬ ‫ل ِي ُظ ِ‬
‫ة‬
‫حَيا ِ‬ ‫في ال ْ َ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫َ َ‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫وا‬‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ر‬
‫ُ ُ ُ ُ‬ ‫ر‬ ‫ص‬ ‫نن‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬‫‪+‬‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫وقال‬
‫هاُد" ]غافر‪.[51 :‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫الدّن ْ َ َ َ ْ َ َ‬
‫ي‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬‫و‬ ‫يا‬
‫لقد كان التحرك نحو العراق والشام من أجل نشر دين الله‬
‫تعالى مرحلة طبيعية بعد انتهاء حروب الردة‪ ،‬فشرع الصديق ‪‬‬
‫في إرسال الجيوش إلى العراق بقيادة خالد وأزاحت الطواغيت‬
‫من على رقاب الناس‪ ،‬واستجاب العباد لدين الفطرة ودخلوا فيه‬
‫أفواجا‪ ،‬ووجه جيوشه نحو الشام وواصل الخلفاء الراشدون من‬
‫بعده المسيرة التي ساهمت في إدخال أمم وشعوب في دين الله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫‪ -3‬إسعاد الناس بنور السلم وعدله ورحمته‪:‬‬
‫إن الجهاد في سبيل الله يحقق الرحمة للبشرية في الرض‪،‬‬
‫ويدفع الظلم والعتداء‪ ،‬ويسعد الناس بهذا الدين الذي هو نور‪،‬‬
‫ي‬
‫ول ِ ّ‬
‫ه َ‬ ‫ويخرجهم من ظلمات الكفر والضلل‪ ،‬قال تعالى‪+ :‬الل ُ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫وال ّ ِ‬‫ر َ‬‫ت إ َِلى الّنو ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫ن الظّل ُ َ‬ ‫م َ‬ ‫هم ّ‬ ‫ج ُ‬
‫ر ُ‬ ‫خ ِ‬‫مُنوا ي ُ ْ‬ ‫ن آ ََ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ر إ ِلى‬ ‫ن الّنو ِ‬ ‫م َ‬‫هم ّ‬‫جون َ ُ‬ ‫ر ُ‬ ‫خ ِ‬‫ت يُ ْ‬‫غو ُ‬ ‫ّ‬
‫م الطا ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫ؤ ُ‬‫ول َِيا ُ‬
‫فُروا أ ْ‬ ‫كَ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ت أول َئ ِ َ‬
‫ن" ]البقرة‪:‬‬ ‫دو َ‬‫خال ِ ُ‬‫ها َ‬
‫في َ‬‫م ِ‬ ‫ه ْ‬ ‫ر ُ‬ ‫ب الّنا ِ‬‫حا ُ‬ ‫ص َ‬
‫كأ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫الظّل ُ َ‬
‫‪.[257‬‬
‫وما أروع جهاد ذي القرنين في القرآن الكريم حيث تحرك‬
‫)( انظر‪ :‬تاريخ صدر السلم‪ ،‬ص ‪.143 ،142‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪478‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬

‫بجيوشه من أجل دعوة الله الخالدة‪ ،‬ووظف كل إمكاناته من أجل‬


‫نشر التوحيد وتعريف الناس بخالقهم‪ .‬ولقد جمع بين الفتوحات‬
‫العظيمة بحد السيف وفتوحات القلوب باليمان والحسان‪ ،‬فكان‬
‫إذا ظفر بأمة أو شعب دعاهم إلى الحق واليمان بالله تعالى قبل‬
‫العقاب أو الثواب‪ ،‬وكان حريصا على العمال الصلحية في كل‬
‫القاليم والبلدان التي فتحها‪ ،‬فسعى في بسط سلطان الحق‪،‬‬
‫والعدالة في الرض‪ ،‬شرقًا وغربًا‪ ،‬فلم يتعامل مع القوم المغلوبين‬
‫بالظلم أو الجور أو التعسف أو التجبر أو الطغيان أو البطش‪،‬‬
‫م‬ ‫من ظَل َ‬ ‫ما‬ ‫ل أَ‬ ‫قا َ‬ ‫وإنما عاملهم بهذا الدستور الرباني‪َ + :‬‬
‫َ‬
‫ذابا ن ّك ْرا ‪ ‬وأ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ما‬ ‫َ ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ع ُ ُ َ ً‬ ‫ع‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫في ُ َ‬‫ه َ‬ ‫م ي َُردّ إ َِلى َرب ّ ِ‬ ‫ه ثُ ّ‬ ‫عذّب ُ ُ‬ ‫ف نُ َ‬ ‫و َ‬ ‫س ْ‬ ‫ف َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫لل ُ‬‫َ‬ ‫قو ُ‬ ‫سن َ ُ‬ ‫و َ‬ ‫سَنى َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ْ‬
‫جَزاءً ال ُ‬ ‫ه َ‬ ‫فل ُ‬‫َ‬ ‫حا َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ع ِ‬ ‫و َ‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫ن آَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫سًرا" ]الكهف‪.[88 ،87 :‬‬ ‫ي‬ ‫نا‬
‫ِ ْ ْ ِ َ ُ ْ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ولقد وجد في إحدى رحلته الجهادية الدعوية قوما ل يكادون‬
‫يفقهون قول‪ ،‬وقد وقع عليهم ظلم عظيم‪ ،‬وتخوفوا من قدوم يأجوج‬
‫ومأجوج عليهم‪ ،‬فعرضوا عليه المال من أجل أن يبني لهم سدا فقام‬
‫بمدافعة الظلم المتوقع واعتذر عن أخذ الخراج‪ ،‬وشرع في نقلهم من‬
‫الجهل إلى العلم‪ ،‬والتخلف إلى التقدم‪ ،‬والكسل إلى العمل‪ ،‬والضعف‬
‫خي ٌْر‬ ‫ه َرّبي َ‬ ‫في ِ‬ ‫مك ّّني ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ل َ‬ ‫قا َ‬ ‫إلى القوة قال تعالى‪َ + :‬‬
‫قو َ‬
‫ما ‪ ‬آُتوِني ُزب ََر‬ ‫م َردْ ً‬ ‫ه ْ‬ ‫وب َي ْن َ ُ‬‫م َ‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫ع ْ‬ ‫ج َ‬‫ةأ ْ‬ ‫عيُنوِني ب ِ ُ ّ ٍ‬ ‫فأ َ ِ‬ ‫َ‬
‫حّتى‬ ‫خوا َ‬ ‫ُ‬
‫ن قال انف ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫ْ‬
‫صدَ َفي ْ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫وى ب َي ْ ُ َ‬ ‫سا َ‬ ‫ذا َ‬ ‫د َ‬ ‫دي ِ‬ ‫ح ِ‬ ‫ال َ‬
‫قطًْرا" ]الكهف‪.[96 ،95 :‬‬ ‫ه ِ‬ ‫علي ْ ِ‬ ‫غ َ‬ ‫ر ْ‬‫ِ‬ ‫ْ‬
‫ف‬ ‫أ‬ ‫ني‬ ‫ِ‬ ‫تو‬ ‫ُ‬ ‫آ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫را‬‫ً‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫ج‬‫َ‬ ‫إِ َ‬
‫ذا‬
‫لقد كان ذو القرنين حريصا على مصلحة الناس‪ ،‬ناصحا لهم فيما‬
‫يعود عليهم بالنفع‪ ،‬ولهذا طلب منهم المعونة الجسدية‪ ،‬لما في ذلك‬
‫تنشيط لهم ورفع لمعنوياتهم‪ .‬ومن نصحه وإخلصه لهم‪ ،‬أنه بذل ما‬
‫في الوسع والخدمة أكثر مما كانوا يطلبون‪ ,‬فهم طلبوا منه أن يجعل‬
‫بينهم وبين القوم المفسدين سدا‪ ،‬أما هو فقد وعد بأن يجعل بينهم‬
‫ردمً»والردم هو الحاجز الحصين‪ ،‬والحجاب المتين وهو أكبر من‬ ‫ا‪:‬‬
‫)‪(1‬‬
‫السد وأوثق‪ ،‬فوعدهم بفوق ما يرجون« ‪.‬‬
‫قو َ‬ ‫فأ َ ِ‬
‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ع ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫عيُنوِني ب ِ ُ ّ ٍ‬ ‫إن قول الله تعالى‪َ + :‬‬
‫ما" ]الكهف‪ [95 :‬فيه معلم بارز في تضافر الجهود‬ ‫م َردْ ً‬ ‫ه ْ‬ ‫وب َي ْن َ ُ‬ ‫َ‬
‫وتوحيد الطاقات والقدرات والقوى‪.‬‬
‫لقد استطاع ذو القرنين أن يفجر طاقات المستضعفين‬
‫ووجههم نحو التكامل‪ ،‬لتحقيق الخير والغايات المنشودة‪.‬‬
‫إن المجتمعات البشرية غنية بالطاقات المتعددة في المجالت‬
‫المتنوعة في ساحات الفكر والمال والتخطيط والتنظيم‪ ،‬والقوى‬
‫)( روح المعاني )‪.(16/40‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪479‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫المادية ويأتي دور القيادة الربانية في المة لتربط بين كل الخيوط‬


‫والخطوط والتنسيق بين المواهب والطاقات وتتجه بها نحو المة‬
‫ورفعتها‪.‬‬
‫إن أمتنا السلمية مليئة بالمواهب الضائعة والطاقات‬
‫المعطلة‪ ،‬والموال المهدورة والوقات المبددة‪ ،‬والشباب‬
‫الحيارى‪ ،‬وهي تنتظر من قياداتها في كل القطار والدول والبلدان‬
‫لكي تأخذ بقاعدة ذي القرنين في الجمع والتنسيق والتعاون‬
‫ة"‪.‬‬ ‫و ٍ‬ ‫ق ّ‬ ‫عيُنوِني ب ِ ُ‬ ‫فأ َ ِ‬
‫ومحاربة الجهل والكسل والتخلف)‪َ + (1‬‬
‫لقد كان ذو القرنين يستخدم جيوشه وقوته كوسيلة من‬
‫وسائل الدعوة ونشر العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم‪،‬‬
‫ومحاربة أهل الفساد‪.‬‬
‫هذه أهم ثمرات إقامة الجهاد في سبيل الله تعالى‪.‬‬
‫إن الجهاد في هذه المة ماض إلى يوم القيامة‪ ،‬ول مكانة لهذه‬
‫المة بدون الجهاد‪ ،‬فهو روحها‪ ،‬وفي وجوده حياتها‪ ،‬وتاريخ المة‬
‫السلمية خير شاهد على ذلك‪ ،‬وإن الهداف الكبرى التي تسعى‬
‫لها المة ل يمكن تحقيقها إل بجيل مجاهد يحب الموت كما يحب‬
‫العداء الحياة‪ ،‬ول يمكن رفع الذلة التي فرضت عليها إل بالجهاد‪،‬‬
‫ول تستطيع أن تبلغ دعوة الله إلى الناس أجمعين بدون قيود أو‬
‫حواجز إل بالجهاد‪.‬‬
‫ه ْ َ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫جاَر ٍ‬ ‫عَلى ت ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ل أدّّلك ْ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ال ّ ِ‬‫قال تعالى‪َ+ :‬يا أي ّ َ َ‬
‫ه‬
‫سول ِ ِ‬ ‫وَر ُ‬ ‫هَ َ‬ ‫ن ِبالل ِ‬ ‫م َُنو َ‬
‫ؤ ِ‬‫ب أِليم ٍ ‪ ‬ت ُ ْ‬ ‫ع َ‬
‫ذا ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫كم ّ‬ ‫جي ُ‬ ‫ت ُن ْ ِ‬
‫خي ٌْر‬‫م َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ف‬‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫أ‬ ‫و‬
‫ْ َ‬‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫م‬ ‫أ‬
‫ِ ْ َ‬ ‫ب‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ل‬ ‫بي‬
‫َ ِ ِ‬ ‫س‬‫َ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫دو‬
‫ُ‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫جا‬
‫َ‬ ‫وت ُ‬
‫َ‬
‫ن"‪.‬‬‫مو َ‬ ‫ل‬
‫ْ ْ ُ‬‫ع‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ل ّك ُ ْ ِ‬
‫إ‬ ‫م‬
‫***‬

‫)( مع قصص السابقين )‪.(2/342‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪480‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــة‬

‫الخاتمــــــــة‬
‫• إن فقه التمكين يعني دراسة أنواعه وشروطه وأسبابه‬
‫ومراحله وأهدافه ومعوقاته ومقوماته من أجل رجوع المة إلى ما‬
‫كانت عليه من السلطة والنفوذ والمكانة في دنيا الناس وتطبيق‬
‫شرع الله عز وجل‪.‬‬
‫• إن النصر والتمكين للمؤمنين له وجوه عدة‪ ،‬وصور متنوعة‬
‫من أهمها تبليغ الرسالة‪ ،‬وهزيمة العداء‪ ،‬وإقامة الدولة‪.‬‬
‫• إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم‪،‬‬
‫تمكين الله تعالى للدعاة بتبليغ الرسالة وأداء المانة‪ ،‬واستجابة‬
‫الخلق لهم‪ ,‬ومن أمثلة ذلك‪ :‬أصحاب القرية وأصحاب الخدود‪،‬‬
‫وتمكين الله تعالى لرسول الله × لتبليغ الرسالة في مكة‪.‬‬
‫• إن من أنواع التمكين‪ ،‬هلك الكفار ونجاة المؤمنين‬
‫ونصرهم في المعارك كالذي حدث في قصة نوح عليه السلم مع‬
‫قومه‪ ،‬وموسى عليه السلم مع قوم فرعون‪ ،‬وطالوت مع جالوت‪،‬‬
‫ونبينا × في مغازيه كبدر وغيرها‪.‬‬
‫• إن من سنن الله الماضية في المجتمعات والشعوب والمم‬
‫سنة إنجاء المؤمنين المصدقين من أوليائه‪ ،‬المعترفين برسالة‬
‫رسله وأنبيائه وإهلك الكافرين المكذبين لهم من أعدائه‪.‬‬
‫• إن السنن الربانية ثابتة في الكون وتقع على النسان في‬
‫كل زمان ومكان‪ ,‬وسنة التدافع من السنن التي تتعلق بالتمكين‬
‫تعلقا وثيقا وهي من أهم سنن الله في الشعوب والمم‪.‬‬
‫• إن تولي أهل التوحيد واليمان أعباء الحكم لدولة غير‬
‫مؤمنة نوع من أنواع التمكين‪ ،‬وقد أشار القرآن الكريم لهذا النوع‬
‫من التمكين في قصة يوسف عليه السلم‪ ،‬ولقد شاركت بعض‬
‫الحركات السلمية حكوماتها في الحكم وحققت إنجازات مهمة‬
‫للسلم من أهمها‪ :‬تجربة اليمن‪ ،‬والردن‪ ,‬وتركيا‪.‬‬
‫• إن من أنواع التمكين التي ذكرت في القرآن الكريم وصول‬
‫أهل التوحيد واليمان الصحيح إلى سدة الحكم وتوليهم لمقاليد‬
‫الدولة‪ ،‬كما حدث لداود وسليمان عليهما السلم وذي القرنين‪.‬‬
‫• إن الستخلف في الرض والتمكين لدين الله‪ ،‬وإبدال‬
‫الخوف أمنًا وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه‪.‬‬

‫‪481‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫• إن من شروط التمكين تحقيق اليمان بكل معانيه وجميع‬


‫أركانه‪ ،‬وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه والحرص على كل‬
‫أنواع الخير وصنوف البر‪.‬‬
‫• إن من شروط التمكين لدين الله تحقيق العبادة في دنيا‬
‫الناس وعلى المسلمين أن يفهموا حقيقة العبادة في القرآن‬
‫الكريم وسنة سيد المرسلين عليه أفضل الصلة والتسليم وأن‬
‫يعملوا على نشر مفهوم العبادة الصحيح في شرايين المة حتى‬
‫تخرج من الوهام والمغالطات والخرافات التي ما أنزل الله بها‬
‫من سلطان‪.‬‬
‫• من شروط التمكين المهمة‪ ،‬محاربة الشرك بجميع أشكاله‬
‫وأنواعه‪ ،‬ولذلك على الجماعة المسلمة والتي تسعى لتحكيم شرع‬
‫الله تعالى أن تعرف حقيقة الشرك وخطره وأسبابه وأدلة بطلنه‬
‫وأنواعه‪ ,‬وأن تنقي صفها منه بكل الساليب الشرعية ول يمكن‬
‫للنسان أن يحذر من الشرك وأن يحذر غيره إل إذا عرفه وعرف‬
‫خطره‪.‬‬
‫• إن من شروط التمكين المهمة تقوى الله عز وجل‪ ،‬لن‬
‫تقوى الله تعالى لها ثمرات عظيمة في الدنيا والخرة‪ ,‬وهذه‬
‫الثمرات تظهر على الفراد والمجتمع الذي يسعى لتحكيم شرع‬
‫الله والتمكين لدينه‪.‬‬
‫• إن الخذ بالسباب التي تؤدي إلى التمكين أمر أرشدنا إليه‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬وحثنا على الخذ بها سيد المرسلين ×‪ ,‬وقد أمر‬
‫ست َطَ ْ‬
‫عُتم‬ ‫ما ا ْ‬
‫م ّ‬ ‫دوا ل َ ُ‬
‫ه ْ‬ ‫وأ َ ِ‬
‫ع ّ‬ ‫الشامل فقال‪َ + :‬‬ ‫الله تعالى بالعداد‬
‫ل" ]النفال‪ [60 :‬والعداد في حقيقته‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫خ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ط‬
‫ِ‬ ‫با‬
‫َ‬ ‫من ّر‬‫و ِ‬
‫ة َ‬
‫و ٍ‬ ‫من ُ‬
‫ق ّ‬ ‫ّ‬
‫أخذ بالسباب‪.‬‬
‫• إن من أهم السنن الربانية التي ترتبط بعلقة مباشرة مع‬
‫سنن التمكين سنة الخذ بالسباب‪ ،‬ولذلك يجب على الفراد‬
‫والجماعات العاملة للتمكين لدين الله من فهمها واستيعابها‬
‫وإنزالها على أرض الواقع‪.‬‬
‫• إن العمل بسنة الخذ بالسباب من صميم تحقيق العبودية‬
‫لله تعالى وهو المر الذي خلق له العبيد‪ ،‬وأرسلت به الرسل‪،‬‬
‫وأنزلت لجله الكتب‪ ،‬وبه قامت السموات والرض‪ ،‬وله وجدت‬
‫الجنة والنار‪ ،‬فالقيام بالسباب المأمور بها محض العبودية‪.‬‬
‫• إن أسباب التمكين تنقسم إلى نوعين‪ :‬أسباب معنوية‪،‬‬
‫ومادية‪ ،‬فمن أهم السباب المعنوية‪ ،‬إعداد الفراد الربانيين‪،‬‬

‫‪482‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــة‬

‫والقيادة الربانية‪ ،‬ومحاربة أسباب الفرقة‪ ،‬التي من أهمها‪:‬‬


‫البتداع‪ ،‬والجهل‪ ،‬واتباع الهوى‪ ،‬وتحكيم العقل وتقديمه على‬
‫النصوص ومخالفة منهج أهل السنة في النظر والستدلل‪.‬‬
‫• ومن أسباب التمكين المعنوية الخذ بأصول الوحدة والتحاد‬
‫والجتماع المتمثلة في وحدة العقيدة‪ ،‬وتحكيم الكتاب والسنة‪،‬‬
‫وصدق النتماء إلى السلم‪ ،‬وطلب الحق والتحري في ذلك‪،‬‬
‫وتحقيق الخوة بين أفراد المسلمين‪.‬‬
‫• إن من أسباب التمكين المادية‪ ،‬الهتمام بمبدأ التفرع‬
‫والتخصص‪ ،‬ومراكز البحوث‪ ،‬والتخطيط والدارة‪ ،‬والهتمام بالقوة‬
‫القتصادية‪ ،‬والعداد العلمي‪.‬‬
‫• إن التمكين لدين الله في الرض يمر بمراحل لبد منها‬
‫وهذه المراحل هي‪ :‬مرحلة التعريف‪ ،‬ومرحلة العداد والتربية‪،‬‬
‫ومرحلة المغالبة‪ ،‬ومرحلة الظهور‪.‬‬
‫• إن الخطوة الولى في سبيل إقامة الدولة المسلمة أو‬
‫التمكين للسلم هو التعريف به والدعوة إليه‪.‬‬
‫• إن عدة الدعاة القائمين على مرحلة التعريف هي‪ :‬التمييز‬
‫اليماني‪ ،‬والتفوق الروحي‪ ،‬والرصيد العلمي‪ ،‬والزاد الثقافي‪،‬‬
‫ورجاحة العقل‪ ،‬وقوة الحجة‪ ،‬ورحابة الصدر وسماحة النفس‪.‬‬
‫• إن من السنن المهمة في فقه التمكين فهم سنة التدرج‪,‬‬
‫ومراعاة تدرج المة من السهل إلى الصعب‪ ،‬ومن الصعب إلى‬
‫الصعب‪ ،‬ومن الهدف القريب إلى الهدف البعيد‪ ،‬ومن الخطة‬
‫الجزئية إلى الخطة الكلية‪.‬‬
‫• إن رسل الله الكرام عليهم أفضل الصلوات والسلم عندما‬
‫بلغوا رسالت الله إلى أقوامهم‪ ،‬اختاروا من الناس من استجاب‬
‫لدعوتهم وغرسوا في نفوسهم المعاني اليمانية والخلق الربانية‬
‫حتى استطاعوا أن يحملوا معهم دعوة الله إلى الناس‪.‬‬
‫• إن عدة القائمين على مرحلة العداد والتربية أمور كثيرة‬
‫من أهمها‪ ،‬الخبرات والتجارب‪ ،‬وأن يكون القائمون أصحاب‬
‫سياسة حكيمة‪.‬‬
‫• في مرحلة العداد والتربية يهتم المشرفون عليها بغرس‬
‫صفات جيل التمكين في نفوس العناصر التي اختيرت لهذه‬
‫المرحلة‪ ،‬إن سنة البتلء مرتبطة بالتمكين‪ ،‬ارتباطا وثيقا‪ ،‬فلقد‬
‫جرت سنة الله ‪ -‬تعالى ‪ -‬أل ُيمكن لها إل بعد أن تمر بمراحل‬

‫‪483‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الختبار المختلفة وبعد أن ينصهر معدنها في بوتقة الحداث‪ ،‬فيميز‬


‫الله الخبيث من الطيب‪.‬‬
‫• إن مرحلة المغالبة هي مرحلة التركيز والتخصيص‪ ،‬لسد‬
‫ثغرات العمل السلمي كله‪ ،‬من حيث الكم ومن حيث النوع‪ ,‬ومن‬
‫حيث الستجابة لكل متطلبات الدعوة وأعبائها‪.‬‬
‫• إن بناء القاعدة الصلبة على أسس من منهج أهل السنة‬
‫والجماعة يدخل ضمن الطائفة المنصورة التي تتحرك بهذا الدين‬
‫على جميع الثغرات‪.‬‬
‫• إن من صفات الطائفة المنصورة من خلل الحاديث‬
‫الصحيحة هي‪ :‬أنها على الحق وأنها قائمة بأمر الله‪ ،‬وأنها تقوم‬
‫بواجب الجهاد والقتال في سبيل الله‪ ،‬وأنها المجددة للمة أمر‬
‫دينها‪ ،‬وأنها ظاهرة إلى قيام الساعة‪ ،‬وأنها صابرة‪.‬‬
‫• إن مرحلة التمكين هي ذروة العمل السلمي المنظم‪،‬‬
‫وهي تمثل الثمرة الناضجة من الجهود التي بذلت في المراحل‬
‫التي سبقتها‪.‬‬
‫• إن بشائر العودة إلى التمكين ومظاهره بدأت مع الحركات‬
‫السلمية منذ قرنين ماضيين‪ ,‬وتوارثت الجيال الحاضرة تلك‬
‫التجارب التي تركت لنا معالم في فقه التمكين‪ ,‬ومن أهم هذه‬
‫الحركات حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في شبه الجزيرة‬
‫العربية‪ ،‬وحركة الشيخ أحمد بن عبد الحد السرهندي في الهند‪.‬‬
‫• إن من أهم أهداف التمكين‪ :‬إقامة المجتمع المسلم‪ ،‬ونشر‬
‫الدعوة إلى الله‪.‬‬
‫وبعد‪ ..‬فهذه الرسالة قد تمت بحمد الله ومنته و كرمه أضعها‬
‫بين يدي قارئها‪ ،‬ول أدعي الكمال فيها‪:‬‬
‫أذنت في إصلحه لمن فعل‬ ‫وما بها من خطأ ومن خلل‬

‫فذا وذا من أجمل الوصاف‬ ‫لكن بشرط العلم والنصاف‬


‫)‪(1‬‬
‫سبحانه بحبله اعتصامي‬ ‫والله يهدي سبل السلم‬

‫ي أول وآخرا‪ ،‬وأسأله سبحانه‬‫ن به عل ّ‬


‫فلله الحمد على ما م ّ‬
‫بأسمائه الحسنى وصفاته العل‪ ،‬أن يجعل هذه الرسالة لوجهه‬
‫خالصة‪ ،‬ولعباده نافعة‪ ،‬وأن ينفعني بها يوم ل ينفع مال ول بنون إل‬
‫)( اقتباس من منظومة ابن عاصم‪ ،‬ص ‪.12‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪484‬‬
‫الخاتمــــــــــــــــة‬

‫من أتى الله بقلب سليم‪ ،‬وأن ينفعنا بما كتبنا وقرأنا وسمعنا‪.‬‬
‫عَلى‬
‫م َ‬‫سل َ ٌ‬
‫و َ‬
‫ن‪َ ‬‬ ‫ص ُ‬
‫فو َ‬ ‫ما ي َ ِ‬
‫ع ّ‬
‫ة َ‬
‫عّز ِ‬‫ب ال ْ ِ‬‫ك َر ّ‬ ‫ن َرب ّ َ‬‫حا َ‬‫سب ْ َ‬ ‫‪ُ +‬‬
‫ب‬‫ه َر ّ‬ ‫مدُ لل ِ‬‫ْ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫وا‬‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لي‬‫ِ‬ ‫س‬
‫مْر َ‬‫ال ْ ُ‬
‫ن" ]الصافات‪.[182 -180 :‬‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫عال ِ‬‫ال ْ َ‬
‫***‬

‫‪485‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫توصيات البحث‬
‫أسأل الله أن تكون هذه التوصيات خالصة لوجهه الكريم وأن‬
‫يهيئ لها القبول‪ ،‬والسباب‪ ،‬لتكون واقعا حيا في دنيا المسلمين‪.‬‬
‫توصيات إلى زعماء المة السلمية‪:‬‬
‫بأن يتقوا الله في أعمالهم وأقوالهم‪ ،‬وفي حركاتهم وسكناتهم‪،‬‬
‫وأن يلتزموا بمنهج الله تعالى وشريعته‪ ،‬وأن يعملوا على تفجير‬
‫طاقات المة ويحرصوا على توظيفها بما يعود بالخير على السلم‬
‫والمسلمين‪ ،‬ويربوا شبابها على الرجولة والشهامة والبطولة‪،‬‬
‫ويمنعوا أسباب العجز والكسل والخمول‪.‬‬
‫توصيات إلى الجامعات السلمية‪:‬‬
‫أوصى رجال المة القائمين على جامعاتها كجامعة أم درمان‬
‫السلمية‪ ,‬وجامعة المدينة المنورة‪ ،‬وأم القرى بمكة‪ ,‬والزهر‬
‫الشريف بمصر وغيرها‪ ،‬أن يقوموا بواجبهم تجاه الدعوة إلى الله‬
‫تعالى‪ ،‬وأل يكتفوا بمجرد البحاث والتأليف والكتابة والمحاضرة‪،‬‬
‫والمقالة‪ ،‬وإنما عليهم أن ينتشروا في أوساط الناس لتعليمهم‬
‫وتوجيههم وتربيتهم وتثقيفهم‪ ,‬فالناس في أشد الحاجة إلى علمهم‬
‫وجهدهم‪.‬‬
‫وأن يوجهوا طلبهم نحو البحاث التي تنفع السلم والمسلمين‬
‫وتعالج قضاياهم المعاصرة‪ ،‬والمستجدة‪ ,‬وأن يحرصوا على تخريج‬
‫أجيال واعية‪ ،‬تستوعب حقيقة السلم‪ ،‬وتحرص على نشره بين‬
‫الناس بكل الساليب المعاصرة وأن يكون لهؤلء الطلبة‬
‫المتخرجين المقدرة على التصدي لمحاولت الغزو الفكري‪ ،‬التي‬
‫يقوم بها أعداء السلم من مبشرين ومستشرقين وعلمانيين‬
‫ويهود ونصارى وملحدة‪.‬‬
‫توصيات إلى أبناء المة السلمية‪:‬‬
‫أن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة نبيه × ليستمدوا منهما‬
‫عقائدهم وأخلقهم وعبادتهم‪ ،‬وأن يكونوا يدا واحدة في وجه‬
‫أعدائهم‪.‬‬
‫وأن يسعوا بكل ما يملكون من أجل استرداد أراضيهم‪،‬‬
‫ومقدساتهم‪ ،‬وإقامة حكم إسلمي في كل الراضي‪.‬‬
‫وعلى المة السلمية أن تتعامل مع سنن الله وقوانينه معاملة‬
‫المستبصر والعارف بها وأن تعمل على البذل والعطاء في كل‬
‫مجالت الحياة‪.‬‬
‫وأن تتحرر من هيمنة الستعمار والتبعية له بكل أشكالها‬
‫‪486‬‬
‫توصيات البحـــث‬

‫وصورها‪ ،‬وأنواعها وأصنافها‪.‬‬


‫وأخيرًا‪:‬‬
‫فإنني أوصي كل فرد من أفراد المة تصله هذه الكلمات‪:‬‬
‫• أن يتقي الله في إسلمه ودينه وعقيدته‪.‬‬
‫• وأن يعمل على أن ل يؤتى السلم من قبله‪.‬‬
‫• وأن يكون جنديا مخلصا لعقيدته‪ ،‬وأن يشارك ما استطاع‬
‫في العمل ورفع البناء حتى يأذن الله تعالى بالتمكين‬
‫للسلم والمسلمين‪.‬‬
‫***‬

‫‪487‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫أهم مصادر ومراجع البحث‬


‫‪ -1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ -2‬إتمام الوفاء‪ ،‬محمد الخضري بك‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1992‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬أحكام القرآن‪ ،‬أبو بكر أحمد بن علي الرازي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد صادق‬
‫قمحاوي‪ ،‬الناشر‪ ،‬دار الصحف‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -4‬أحكام القرآن لبي بكر بن العربي‪ ،‬تحقيق‪ :‬علي محمد البجاوي‪ ،‬دار‬
‫المعرفة‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ -5‬أحكام أهل الذمة‪ :‬شمس الدين محمد بن أبي بكر )ابن القيم( )ت‬
‫‪751‬هـ( تحقيق‪ :‬د‪ .‬صبحي الصالح‪ ،‬دار العلم للمليين‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية ‪1401‬هـ‪.‬‬
‫‪ -6‬إدارة عمر بن عبد العزيز‪ ،‬محمد القحطاني‪ ،‬جامعة أم القرى‪ ،‬مكة‬
‫المكرمة‪ ،‬السعودية‪ ،‬الطبعة الولى‪1416 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -7‬أدب الطالب ومنتهى الدب‪ ،‬لمحمد علي الشوكاني‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت‪ ,‬الطبعة الولى ‪1402‬هـ‪.‬‬
‫‪ -8‬أدب الدنيا والدين‪ ،‬أبو الحسن علي بن محمد الماوردي‪ ،‬علق عليه‪:‬‬
‫علي مصطفى السقا‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الرابعة‬
‫‪1398‬هـ‪.‬‬
‫‪ -9‬استمرارية الدعوة والدعاة‪ ،‬محمد السيد الوكيل‪ ،‬دار المجتمع‪ ،‬المدينة‪،‬‬
‫السعودية‪ ،‬الطبعة الولى ‪1414‬هـ‪1994 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -10‬أسس الدعوة‪ ،‬محمد السيد الوكيل‪ ،‬دار النشر السلمية‪.‬‬
‫‪ -11‬أصول الدعوة‪ ،‬د‪ .‬عبد الكريم زيدان‪ ،‬مكتبة المنار السلمية‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫طبعة ‪1410‬هـ‪.‬‬
‫‪ -12‬أصول الفقه السلمي‪ ،‬د‪ .‬حسن الهدل‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬صنعاء ‪ -‬اليمن‪،‬‬
‫طبعة ‪1993‬م‪.‬‬
‫‪ -13‬أصول الفكر السياسي في القرآن الكريم‪ ،‬د‪ .‬عبد القادر التيجاني‪ ،‬دار‬
‫البشير‪ ،‬عمان ‪ -‬الردن‪ ،‬الطبعة الولى‪1416 ،‬هـ ‪1995 -‬م‪.‬‬
‫‪ -14‬أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ محمد المين‬
‫الشنقيطي‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪ ،‬سنة ‪1403‬هـ‪1983 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -15‬أعلم الموقعين عن رب العالمين‪ ،‬المام ابن القيم‪ ،‬مراجعة وتعليق‪:‬‬
‫طه عبد الرؤوف سعد‪ ،‬دار الجيل بيروت ‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -16‬آفات على الطريق‪ ،‬سيد نوح‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬المنصورة‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة‬
‫الخامسة ‪1400‬هـ‪1980 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -17‬اقتضاء الصراط المستقيم للشيخ أحمد بن عبد السلم بن تيمية‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬د‪ .‬ناصر عبد الكريم العقل‪ ،‬الطبعة الولى ‪1404‬هـ‪ ،‬مطابع‬
‫العبيكان‪.‬‬
‫‪ -18‬إمام التوحيد الشيخ محمد عبده‪ ،‬أحمد القطان‪ ،‬مكتبة السندس‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1409‬هـ‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -19‬التقان في علوم القرآن للسيوطي‪ ،‬مطبعة البابي الحلبي‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -20‬الحكام السلطانية لبي يعلي الفراء‪ ،‬مصطفى البابي الحلبي‪ ،‬مصر‪.‬‬

‫‪488‬‬
‫المراجـــــــــــــــع‬

‫‪ -21‬الستخبارات العسكرية في السلم‪ ،‬عبد الله علي السلمة مناصرة‪،‬‬


‫مؤسسة الرسالة‪،‬‬
‫بيروت ‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية‪1412 ,‬هـ‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -22‬الستقامة لبن تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد رشاد سالم‪ ،‬طبعة جامعة المام‬
‫محمد بن سعود السلمية‪ ،‬الولى ‪1403‬هـ‪.‬‬
‫‪ -23‬السلوب العلمي في القرآن الكريم‪ ،‬لمحمد الطلبي‪ ،‬مكتبة البلغ‪،‬‬
‫جدة ‪ -‬السعودية‪ ،‬الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1991 -‬م‪.‬‬
‫‪ -24‬السلم عقيدة وشريعة‪ ،‬دار الشروق بالقاهرة‪ ،‬الطبعة الرابعة سنة‬
‫الطبع ‪1968‬م‪.‬‬
‫‪ -25‬السلم وأوضاعنا القانونية‪ ،‬عبد القادر عودة‪ ،‬الناشر المختار السلمي‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة الخامسة سنة ‪1397‬هـ‪.‬‬
‫‪ -26‬السلم وتربية النسان‪ ،‬إبراهيم سعادة‪ ،‬مكتبة المنار‪ ،‬الزرقاء ‪ -‬الردن‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1405‬هـ‪.‬‬
‫‪ -27‬السلم والحضارة للندوة العالمية للشباب‪ ،‬أبحاث ووقائع اللقاء الرابع‬
‫للندوة العالمية للشباب السلمي المنعقد في الرياض ‪ 27‬ربيع الثاني‬
‫‪1399‬هـ‪ ،‬الموافق من ‪ 25 - 18‬مارس ‪1979‬م ‪ -‬الناشر شركة دار‬
‫العلم للطباعة بالسعودية‪ ،‬الطبعة الثالثة‪.‬‬
‫‪ -28‬السلم وأوضاعنا القانونية‪ ،‬عبد القادر عودة‪ ،‬الناشر المختار السلمي‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة الخامسة سنة ‪1397‬هـ‪.‬‬
‫‪ -29‬الصابة في تمييز الصحابة‪ ،‬للحافظ أحمد بن حجر العسقلني‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫علي محمد البجاوي‪ ،‬دار نهضة مصر‪.‬‬
‫‪ -30‬العتصام‪ ،‬أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي‪ ،‬تعليق محمد رشيد‬
‫رضا‪ ،‬دار المعرفة ‪ -‬بيروت‪.‬‬
‫‪ -31‬العلم في صدر السلم‪ ,‬عبد اللطيف حمزة‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -32‬المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬خالد السبت‪ ،‬المنتدى السلمي‪،‬‬
‫لندن‪ ،‬الطبعة الولى ‪1415‬هـ‪1995 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -33‬أولويات الحركة السلمية في المرحلة القادمة‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪،‬‬
‫مكتبة وهبة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪1411 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -34‬أولويات الفاروق‪ ،‬غالب عبد الكافي القرشي‪ ،‬المكتب السلمي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬مكتبة الحرمين الرياض‪ ،‬الطبعة الولى ‪1403‬هـ ‪1983 -‬م‪.‬‬
‫‪ -35‬اليمان والحياة‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪,‬‬
‫الطبعة العاشرة‪1405 ،‬هـ‪1984 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -36‬اليمان بالقضاء والقدر‪ ،‬محمد إبراهيم الحمد‪ ،‬دار ابن خزيمة‪ ،‬الرياض‬
‫بالسعودية‪ ،‬الطبعة الولى ‪1415‬هـ‪.‬‬
‫‪ -37‬اليمان لبن تيمية‪ ،‬دار الحديث بجوار إدارة الزهر‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫حققه هاشم محمد الشاذلي‪.‬‬
‫‪ -38‬البداية والنهاية‪ ،‬لبن كثير‪ ،‬مطبعة دار الفكر العربي‪.‬‬
‫‪ -39‬البحر المحيط‪ ،‬محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت‬
‫‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1403‬هـ‪1983 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -40‬البدعة والمصالح المرسلة‪ ،‬د‪ .‬توفيق يوسف الواعي‪ ،‬مكتبة دار التراث‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬الطبعة الولى ‪1404‬هـ‪.‬‬

‫‪489‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -41‬البيان‪ ,‬العدد ‪ 18‬جمادى الخرة ‪1418‬هـ‪.‬‬


‫‪ -42‬التحرير والتنوير‪ ،‬للشيخ محمد الطاهر بن عاشور‪ ،‬دار الكتب الشرقية‪،‬‬
‫تونس‪.‬‬
‫‪ -43‬التخطيط والرقابة‪ ،‬نجاح الدارة‪ ،‬د‪ .‬عبد الفتاح دياب حسن‪ ،‬سلسلة‬
‫مطبوعات المجموعة الستشارية العربية‪ ،‬الطبعة الثانية‪.‬‬
‫‪ -44‬التفسير السلمي للتاريخ‪ ،‬د‪ .‬عماد الدين خليل‪ ،‬دار العلم للمليين‪،‬‬
‫بيروت ‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة الولى ‪1975‬م‪.‬‬
‫‪ -45‬التقوى الغاية المنشودة والدرة المفقودة‪ ،‬أحمد فريد‪ ،‬دار العميمي‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الولى ‪1417‬هـ‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -46‬التعريفات للجرجاني‪ ،‬دار الكتب العلمية‪.‬‬
‫‪ -47‬التغيير على منهاج النبوة‪ ،‬جمعة أمين عبد العزيز‪ ،‬دار الدعوة‪،‬‬
‫السكندرية‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1416‬هـ‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -48‬التمكين للمة السلمية في ضوء القرآن الكريم‪ ،‬لمحمد السيد محمد‬
‫يوسف‪ ،‬الطبعة الولى ‪1418‬هـ‪1997 ،‬م‪ ،‬دار السلم بالقاهرة‪.‬‬
‫‪ -49‬التوكل على الله وعلقته بالسباب‪ ،‬د‪ .‬عبد الله عمر الدميجي‪ ،‬دار‬
‫الوطن‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الولى ‪1417‬هـ‪.‬‬
‫‪ -50‬الثقافة السلمية وتحديات العصر‪ ،‬شوكت محمد عليان‪ ،‬دار الرشيد‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬طبعة سنة ‪1401‬هـ‪.‬‬
‫‪ -51‬الجهاد في سبيل الله‪ ،‬د‪ .‬عبد الله أحمد القادري‪ ،‬دار المنارة‪ ،‬جدة‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪1413‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -52‬الجهاد ميادينه وأساليبه‪ ،‬د‪ .‬محمد نعيم ياسين‪ ،‬دار الفرقان‪ ،‬عمان ‪-‬‬
‫الردن‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1406‬هـ‪1986 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -53‬الجهاد في سبيل الله‪ ،‬سعيد القحطاني‪ ،‬الطبعة الولى‪1411 ،‬هـ‪،‬‬
‫السفير‪ ,‬الرياض‪.‬‬
‫‪ -54‬إلجام العوام عن علم الكلم‪ ،‬أبو حامد الغزالي‪ ،‬مكتبة الجندي‪ ،‬القاهرة‬
‫‪ -‬مصر‪.‬‬
‫‪ -55‬الجامع لحكام القرآن‪ ،‬للمام ا لقرطبي‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة ‪1987‬م‪.‬‬
‫‪ -56‬الحركات السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬د‪ .‬أحمد النعيمي‪ ،‬دار البشير‪،‬‬
‫عمان‪ ،‬الردن‪ ،‬الطبعة الولى ‪1413‬هـ ‪1993 -‬م‪.‬‬
‫‪ -57‬الحركة السلمية الحديثة في تركيا‪ ،‬محمد مصطفى الطحان‪ ,‬مطابع‬
‫دار الطباعة والنشر السلمية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -58‬الحكمة في الدعوة إلى الله‪ ،‬سعيد بن علي بن وهف القحطاني‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1992 -‬م‪ ،‬توزيع مؤسسة الجريسي‪.‬‬
‫‪ -59‬الحكم والتحاكم في خطاب الوحي‪ ،‬عبد العزيز مصطفى كامل‪ ،‬دار‬
‫طيبة‪ ،‬الطبعة الولى ‪1415‬هـ ‪1995 -‬م‪.‬‬
‫‪ -60‬الحكومة السلمية للمودودي‪ ،‬ترجمة أحمد إدريس‪ ،‬نشر المختار‬
‫السلمي للطباعة والنشر‪ ,‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الولى ‪1397‬هـ‪1977 -‬م‪.‬‬
‫‪ -61‬الخصائص العامة للسلم د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬مكتبة وهبة القاهرة‪،‬‬
‫مصر‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1409‬هـ‪1989 ،‬م‪.‬‬

‫‪490‬‬
‫المراجـــــــــــــــع‬

‫‪ -62‬الخلفاء الراشدون‪ ،‬عبد الوهاب النجار‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪،‬‬


‫الطبعة الولى ‪1406‬هـ ‪1986 -‬م‪.‬‬
‫‪ -63‬الخلفة والملك للمودودي‪ ،‬تعريف أحمد إدريس‪ ،‬دار القلم‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى‪ ،‬سنة ‪1398‬هـ ‪1978 -‬م‪.‬‬
‫‪ -64‬الخلق السلمية‪ ،‬عبد الرحمن حبنكة الميداني‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق‪.‬‬
‫‪ -65‬الدعاة والتخطيط‪ ،‬د‪ .‬محمد عبد اللطيف الخطيب‪ ،‬دار المنار الحديثة‪،‬‬
‫مصر‪ ،‬الطبعة الولى ‪1410‬هـ‪1989 -‬م‪.‬‬
‫‪ -66‬الدعوة إلى السلم‪ ،‬حسن أدهم إبراهيم‪.‬‬
‫‪ -67‬الدعوة السلمية بين الفردية والجماعية‪ ،‬سليمان مرزوق منشورات‬
‫مكتبة المنار‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة الولى‪1407 ،‬هـ‪1986 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -68‬الدعوة قواعد وأصول‪ ،‬جمعة أمين عبد العزيز‪ ،‬دار الدعوة للطبع‬
‫والنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1409‬هـ‪.‬‬
‫‪ -69‬الديباج المذهب في معرفة علماء المذهب‪ ،‬وبهامشه كتاب البتهاج‬
‫بتطريز الديباج‪ ,‬الناشر‪ :‬دار الكتب العلمية بيروت‪.‬‬
‫‪ -70‬الروض النف في شرح السيرة النبوية لبن هشام‪ ،‬لبي القاسم عبد‬
‫الرحمن بن عبد الله السهيلي )‪581 - 508‬هـ(‪ ,‬ومعه السيرة النبوية‬
‫للمام ابن هشام‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن الوكيل‪ ،‬دار الكتب الحديثة سنة‬
‫‪1387‬هـ‪.‬‬
‫‪ -71‬الرياض الناظرة‪ ،‬عبد الرحمن السعدي‪ ،‬مكتبة المعارف‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة‪1400 ،‬هـ‪1980 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -72‬الزهد‪ ،‬لهناد بن السري‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد الرحمن بن عبد الجبار الفريوائي‪،‬‬
‫دار الخلفاء للكتاب السلمي‪ ،‬الطبعة الولى ‪1406‬هـ‪.‬‬
‫‪ -73‬السياسة الشرعية أو نظام الدولة‪ ،‬عبد الوهاب خلف‪ ،‬الناشر‪:‬‬
‫المطبعة السلفية ومكتبتها‪ ,‬سنة الطبع ‪1350‬هـ‪.‬‬
‫‪ -74‬السياسة الشرعية لشيخ السلم ابن تيمية‪ ،‬قدم له الستاذ محمد‬
‫المبارك‪ ،‬سنة الطبع ‪1386‬هـ‪1966 ،‬م‪ ،‬دار الكتب العربية‪ ،‬بيروت ‪-‬‬
‫لبنان‪.‬‬
‫‪ -75‬السيرة النبوية‪ ،‬دروس وعبر‪ ،‬د‪ .‬مصطفى السباعي‪ ،‬الطبعة الثامنة‪،‬‬
‫‪1405‬هـ‪ ،‬المكتب السلمي‪.‬‬
‫‪ -76‬السيرة النبوية الصحيحة‪ ،‬د‪ .‬أكرم ضياء العمري‪ ،‬الناشر‪ :‬مكتة العلوم‬
‫والحكم‪ ،‬المدينة المنورة‪ ،‬الطبعة الولى سنة ‪1412‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -77‬السيرة النبوية‪ ،‬لبن كثير‪ ،‬للمام أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي‬
‫)‪774 - 701‬هـ( تحقيق‪ :‬مصطفى عبد الواحد‪ ،‬الطبعة الثانية سنة‬
‫‪1398‬هـ‪ ،‬دار الفكر بيروت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -78‬السير والمغازي لبن إسحاق‪ ،‬تحقيق‪ :‬سهيل زكار‪.‬‬
‫‪ -79‬الشريعة‪ ،‬للجري‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد حامد الفقي‪ ,‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة الولى ‪1403‬هـ‪.‬‬
‫‪ -80‬الشهادة الزكية في ثناء الئمة على ابن تيمية‪ ،‬مرعي بن يوسف‪ ،‬دار‬
‫الفرقان‪ ،‬دار الرسالة‪ ،‬الطبعة الولى ‪1404‬هـ‪1983 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -81‬الشورى بين الصالة والمعاصرة‪ ،‬عز الدين التميمي‪ ،‬دار البشير‪،‬‬
‫عمان‪ ،‬الردن‪ ،‬الطبعة الولى ‪1405‬هـ‪1985 ،‬م‪.‬‬

‫‪491‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -82‬الشيخ عبد الرحمن السعدي وجهوده في توضيح العقيدة‪ ،‬عبد الرزاق‬


‫بن عبد المحسن العباد‪ ،‬مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1411‬هـ‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -83‬الصحاح‪ ،‬للجوهري‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد عبد الغفور عطار‪ ،‬الطبعة الثانية‬
‫‪1399‬هـ‪.‬‬
‫‪ -84‬الصحوة السلمية بين الجمود والتطرف‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬دار‬
‫الوفاء‪ ،‬المنصورة ‪ -‬مصر‪ ،‬الطبعة الولى‪1412 ،‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -85‬الصحوة السلمية منطلق الصالة وإعادة بناء المة على طريق الله‪،‬‬
‫أنور الجندي‪ ،‬دار العتصام‪.‬‬
‫‪ -86‬الطبقات الكبرى لبن سعد‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪1405 ،‬هـ‪1985 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -87‬الطريق إلى جماعة المسلمين‪ ،‬حسين بن محسن بن علي بن جابر‪،‬‬
‫الطبعة الخامسة ‪1413‬هـ‪1992 ،‬م‪ ،‬دار الوفاء المنصورة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -88‬العبادة في السلم‪ ،‬د‪ .‬يوسف القرضاوي‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبعة الثانية عشرة‪1405 ،‬هـ‪1985 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -89‬العبر في خبر من غبر‪ ،‬لبي عبد الله الذهبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أبي هاجر محمد‬
‫بسيوني زغلول‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الولى ‪1405‬هـ‪.‬‬
‫‪ -90‬العبقرية العسكرية في غزوات الرسول‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة ‪1977‬هـ‪.‬‬
‫‪ -91‬الغرباء الولون‪ ،‬سلمان العودة‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬الدمام ‪ -‬السعودية‪،‬‬
‫‪1412‬هـ‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -92‬الغزو الثقافي يمتد في فراغنا‪ ،‬محمد الغزالي‪ ،‬دار الصحوة‪ ،‬القاهرة‬
‫‪1408‬هـ‪1987 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -93‬الفتاوى السعدية‪ ،‬لعبد الرحمن السعدي‪ ،‬الدار السعدية‪ ،‬الرياض ‪-‬‬
‫السعودية‪ ،‬مطبعة الكيلني‪.‬‬
‫‪ -94‬الفرد والدولة في الشريعة السلمية‪ ،‬عبد الكريم زيدان‪ ،‬الناشر‪:‬‬
‫التحاد السلمي العالمي للمنظمات الطلبية‪ ،‬سنة الطبع ‪1395‬هـ‪،‬‬
‫‪1975‬م‪.‬‬
‫‪ -95‬الفوائد‪ :‬المام ابن القيم‪ ،‬دار الدعوة‪ ،‬السكندرية‪.‬‬
‫‪ -96‬القاموس المحيط‪ ،‬للفيروز آبادي‪ ،‬الناشر‪ :‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت ‪-‬‬
‫لبنان‪.‬‬
‫‪ -97‬القصص القرآني في سورة الكهف‪ ،‬لمحمد متولي الشعراوي‪،‬‬
‫منشورات مكتبة الشعراوي السلمية‪.‬‬
‫‪ -98‬الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر القوانين في مصر‪ ،‬أحمد محمد‬
‫شاكر‪.‬‬
‫‪ -99‬المبسوط شمس الدين السرخسي‪ ،‬مطبعة السعادة‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى‪.‬‬
‫‪ -100‬المدخل إلى الفقه السلمي‪ ،‬د‪ .‬عبد الله الدرعان‪ ،‬مكتبة التوبة‪،‬‬
‫الرياض‪ ،‬الطبعة الولى ‪1413‬هـ‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -101‬المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي‪ ،‬لحمد بن محمد‬
‫الفيومي‪ ،‬ت ‪770‬هـ‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬المكتبة العلمية‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -102‬المصطلحات الربعة في القرآن‪ ،‬أبو العلى المودودي‪ ,‬تعريب محمد‬

‫‪492‬‬
‫المراجـــــــــــــــع‬

‫كاظم‪ ،‬دار القلم‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة السادسة ‪1397‬هـ‪.‬‬


‫‪ -103‬المعالم الرئيسية للسس التاريخية والفكرية لحزب السلمة‪ ،‬محمد‬
‫حرب عبد الحميد‪،‬‬
‫ندوة اتجاهات الفكر السلمي المعاصر المنعقدة في البحرين‪ ،‬من ‪22‬‬
‫‪ 25 -‬شباط ‪1985‬م‪.‬‬
‫‪ -104‬المعجم الوسيط‪ :‬مجمع اللغة العربية‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬الطبعة الثانية‪،‬‬
‫المكتبة السلمية‪ ،‬استانبول ‪ -‬تركيا‪.‬‬
‫‪ -105‬المغني‪ ،‬لبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي‪ ،‬مكتبة‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة الولى‪.‬‬
‫‪ -106‬المفردات في غريب القرآن‪ ،‬لبي القاسم الحسين بن محمد الراغب‬
‫الصبهاني‪ ،‬تحقيق‪ :‬سيد كيلني‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -107‬الملل والنحل‪ ،‬الشهرستاني‪ ،‬محمد عبد الكريم‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد العزيز‬
‫محمد الوكيل‪ ،‬مؤسسة الحلبي وشركاه ‪1387‬هـ‪1968 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -108‬الموطأ‪ :‬المام مالك بن أنس تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبد الباقي‪ ،‬دار‬
‫إحياء الكتب العربية‪ ،‬عيسى الحلبي وشركاه‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -109‬المواقف في أصول الشريعة‪ :‬أبو إسحاق إبراهيم بن موسى‬
‫الشاطبي‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -110‬الموالة والمعاداة في الشريعة السلمية‪ ،‬محماس بن عبد الله‬
‫الجعلود‪ ،‬دار اليقين‪ ،‬المنصورة‪ ،‬مصر‪ ،‬دار الفرقان الرياض ‪ -‬السعودية‪،‬‬
‫الطبعة الولى‪1407 ،‬هـ‪1987 -‬م‪.‬‬
‫‪ -111‬المنهاج الحركي للسيرة النبوية‪ ،‬منير الغضبان‪ ،‬مكتبة المنار‪ ،‬الردن‬
‫‪ -‬الزرقاء‪ ،‬الطبعة السادسة ‪1411‬هـ ‪1990 -‬م‪.‬‬
‫‪ -112‬المنهاج القرآني في التشريع‪ ،‬د‪ .‬عبد الستار فتح الله سعيـد‪ ،‬مطابع‬
‫دار الطباعة السلمية‪ ،‬الطبعة الولى ‪1413‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -113‬النظام السياسي في السلم‪ ،‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬دار الفرقان‪،‬‬
‫عمان ‪ -‬الردن‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1407‬هـ ‪1986 -‬م‪.‬‬
‫‪ -114‬النظام السياسي للمودودي‪ ،‬مطبوع مع مجموعة كتب سميت نظرية‬
‫السلم وهديه في السياسة والقانون والدستور سنة الطبع ‪1387‬هـ ‪-‬‬
‫‪1967‬م‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬ترجمة خليل حسن‪.‬‬
‫‪ -115‬النظام القتصادي في السلم‪ ،‬محمود إبراهيم الخطيب‪ ،‬مكتبة‬
‫الحرمين‪ ،‬الرياض‪ ،‬الطبعة الولى ‪1409‬هـ‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -116‬النهاية في غريب الحديث والثر للمام مجد الدين أبي السعادات‬
‫المبارك بن محمد الجزري المعروف بابن الثير‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمود محمد‬
‫الطناحي‪ ،‬الناشر‪ :‬المكتبة السلمية طبعة دار التراث العربي‪ ،‬بيروت ‪-‬‬
‫لبنان‪.‬‬
‫‪ -117‬النونية القحطانية‪ ،‬لبي محمد عبد الله القحطاني الندلسي‪ ،‬مكتبة‬
‫السوادي للتوزيع‪ ,‬جدة‪ ،‬الطبعة الثانية‪1409 ،‬هـ‪1988 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -118‬الهجرة في القرآن‪ ،‬أحزمي سامعون جزولي‪ ،‬مكتبة الرشد‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫الطبعة الولى‪1417 ،‬هـ ‪1996 -‬م‪.‬‬
‫‪ -119‬الوفود في العهد المكي وأثرها العلمي‪ ،‬لعلي رضوان أحمد‬

‫‪493‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫السطل‪ ،‬الطبعة الولى ‪1404‬هـ ‪1984 -‬م‪ ،‬دار المنار الردن ‪-‬‬
‫الزرقاء‪.‬‬
‫‪ -120‬الولء والبراء‪ ،‬محمد سعيد القحطاني‪ ،‬دار طيبة‪ ,‬مكة المكرمة‪،‬‬
‫الرياض‪ ،‬الطبعة السادسة‪1413 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -121‬تاريخ الخلفاء‪ ،‬للسيوطي‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ نشر‪.‬‬
‫‪ -122‬تاريخ السلم للذهبي عهد الخلفاء الراشدين‪ ،‬تحقيق‪ :‬عمر عبد السلم‬
‫تدمري‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى ‪1407‬هـ‪1987 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -123‬تاريخ المذاهب السلمية في السياسة والعقائد لبي زهرة محمد أبو‬
‫زهرة‪ ,‬دار الفكر العربي‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -124‬تاريخ المم والملوك‪ ،‬الطبري‪ ،‬أبو جعفر محمد بن جرير‪ ،‬تحقيق‪ :‬أبو‬
‫الفضل إبراهيم‪ ،‬دار سويدان‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ -125‬تحديات سياسية تواجه الحركة السلمية‪ ،‬مصطفى الطحان‪ ،‬مؤسسة‬
‫الفلح‪ ،‬الكويت‪.‬‬
‫‪ -126‬تذكرة الحفاظ للذهبي شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي كنيته أبو‬
‫عبد الله ت‪748 :‬هـ ‪1348-‬م‪ ،‬مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية‪،‬‬
‫بحيدر آباد ‪ -‬الهند ‪ -‬الطبعة الثالثة سنة ‪1957‬م‪.‬‬
‫‪ -127‬تطبيق الشريعة السلمية‪ ،‬د‪ .‬عبد الله عبد المحسن الطريقي‪،‬‬
‫مؤسسة الرسالة‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة الولى‪1415 ،‬هـ‪1995 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -128‬تعليم المتعلم طريق التعلم‪ :‬برهان الدين الزرنوجي‪ ،‬تحقيق‪ :‬صلح‬
‫محمد الحيمي ونذير حمدان‪ ،‬دار ابن كثير‪ ،‬الطبعة الثانية‪1407 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -129‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬ابن كثير أبو الفداء إسماعيل‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد‬
‫العزيز غنيم‪ ،‬وحمد أحمد عاشور‪ ،‬ومحمد إبراهيم البناء‪ ،‬مطبعة‬
‫الشعب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪.‬‬
‫‪ -130‬تفسير البغوي‪ ،‬المسمى معالم التنزيل‪ ،‬لبي محمد الحسين بن مسعود‬
‫الفراء البغوي الشافعي‪ ،‬تحقيق‪ :‬خالد عبد الرحمن العك‪ ،‬ومروان‬
‫سوار‪ ،‬دار المعرفة بيروت‪.‬‬
‫‪ -131‬تفسير البيقاعي المسمى »نظم الدرر في تناسب اليات والسور«‬
‫للمام برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البيقاعي‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة الولى ‪1415‬هـ‪1995 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -132‬تفسير السعدي المسمى تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلم‬
‫المنان‪ ،‬للشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد زهري‬
‫النجار‪ ،‬المؤسسة السعدية بالرياض ‪1997‬م‪.‬‬
‫‪ -133‬تفسير الطبري المسمى جامع البيان عن تأويل القرآن‪ ،‬لبن جرير‬
‫الطبري‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان ‪1405‬هـ‪.‬‬
‫‪ -134‬تفسير المنار‪ ،‬محمد رشيد رضا‪ ،‬دار المعرفة‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ -135‬تفسير المنير‪ ،‬د‪ .‬وهبة الزحيلي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى ‪1411‬هـ ‪1991 -‬م‪.‬‬
‫‪ -136‬تفسير المراغي‪ :‬حمد مصطفى المراغي‪ ،‬دار الفكر بيروت ‪ -‬لبنان‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة ‪1392‬هـ‪1974 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -137‬تفسير اللوسي المسمى روح المعاني في تفسير القرآن العظيم‬
‫والسبع المثاني‪ :‬شهاب الدين السيد محمود اللوسي البغدادي‪ ،‬طبعة‬

‫‪494‬‬
‫المراجـــــــــــــــع‬

‫مكتبة دار التراث‪ ،‬القاهرة‪.‬‬


‫‪ -138‬تفسير النسفي مدارك التنزيل وحقائق التأويل‪ ،‬المام أبو البركات عبد‬
‫الله بن أحمد بن محمود النسفي‪.‬‬
‫تهذيب التهذيب‪ ،‬ابن حجر أحمد العسقلني‪ ،‬دائرة المعارف النظامية‬ ‫‪-139‬‬
‫بالهند‪ ،‬الطبعة الولى ‪1325‬هـ‪.‬‬
‫‪ -140‬تهذيب مدارج السالكين‪ ،‬للمام ابن القيم‪ ،‬عبد المنعم صالح العلي‬
‫العزى‪ ،‬دار المطبوعات الحديثة‪ ،‬جدة ‪ -‬السعودية‪.‬‬
‫‪ -141‬جامع بيان العلم وفضله لبن عبد البر‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بيروت ‪-‬‬
‫لبنان‪.‬‬
‫‪ -142‬جامع الصول في أحاديث الرسول لبن الثير‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد القادر‬
‫الرناؤوط‪ ،‬مكتبة الحلواني‪ ،‬الطبعة الولى ‪1372‬هـ ‪1932 -‬م‪.‬‬
‫‪ -143‬جامع العلوم والحكم لبن رجب الحنبلي‪ ،‬تحقيق‪ :‬شعيب الرناؤوط‬
‫وإبراهيم باجس‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬الطبعة الثالثة‪1412 ،‬هـ‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -144‬جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضى‪ ،‬لبي يحيى محمد بن‬
‫عاصم الغرناطي‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬صلح جرار‪ ،‬دار البشير ‪1410‬هـ‪.‬‬
‫‪ -145‬جيل النصر المنشود‪ :‬يوسف القرضاوي‪ ،‬مكتبة وهبة القاهرة ‪ -‬مصر‪،‬‬
‫‪1414‬هـ‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -146‬حاشية رد المختار‪ ،‬محمد أمين بن عابدين‪ ،‬مصطفى البابي وأولده‪.‬‬
‫‪ -147‬حديث القرآن الكريم عن غزوات الرسول × ‪ ،‬د‪ .‬أبو بدر محمد بن‬
‫بكر آل عابد‪ ،‬دار الغرب السلمي بيروت‪ ،‬الطبعة الولى‪.‬‬
‫‪ -148‬حقيقة البدع وأحكامها‪ ،‬سيعد ناصر الغامدي‪ ،‬مكتبة الرشد الرياض‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -149‬حقيقة النتصار‪ ،‬ناصر سليمان العمر‪ ،‬دار الوطن للنشر‪ ،‬الرياض‬
‫السعودية‪ ،‬الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪.‬‬
‫‪ -150‬حكم المشاركة في الوزارة والمجالس النيابية‪ ،‬عمر الشقر‪ ،‬دار‬
‫النفائس‪ ،‬عمان ‪ -‬الردن‪ ،‬الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -151‬حكم الشورى في السلم ونتيجتها‪ ,‬د‪ .‬محمد أبو فارس‪ ،‬دار الفرقان‬
‫عمان ‪ -‬الردن‪ ،‬الطبعة الولى ‪1408‬هـ ‪1988 -‬م‪.‬‬
‫‪ -152‬حكمة الدعوة وصفة الدعاة لبي الحسن الندوي‪ ،‬دار عرفات مطبعة‬
‫ندوة العلماء‪ ،‬الهند‪.‬‬
‫‪ -153‬حلية الولياء وطبقات الصفياء لبي نعيم الصبهاني‪ ،‬دار الكتاب‬
‫العربي‪ ،‬بيروت الطبعة الثالثة‪1400 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -154‬حول التفسير السلمي للتاريخ‪ ،‬محمد قطب‪ ،‬المجموعة السلمية‪،‬‬
‫الطبعة الثالثة بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -155‬خلق المسلم‪ :‬محمد الغزالي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬الطبعة السادسة ‪1406‬هـ‪.‬‬
‫دعوة‪ -‬الله بين التكوين والتمكين‪ ،‬د‪ .‬علي جريشة‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة‬ ‫‪156‬‬
‫الولى ‪1406‬هـ‪1986 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -157‬درء تعارض العقل والنقل‪ ،‬للمام ابن تيمية‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬محمد رشاد‬
‫سالم‪ ،‬طبع جامعة المام محمد بن سعود السلمية‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1399‬هـ‪.‬‬
‫‪ -158‬دراسة في السيرة النبوية‪ ،‬د‪ .‬عماد الدين خليل‪ ،‬دار النفائس بيروت‪،‬‬

‫‪495‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫الطبعة الحادية عشرة ‪1409‬هـ ‪1989 -‬م‪.‬‬


‫‪ -159‬دستور المة في القرآن والسنة‪ ،‬د‪ .‬عبد الناصر العطار‪ ،‬عمر الشقر‪،‬‬
‫دار النفائس‪ ،‬عمان ‪ -‬الردن‪ ،‬الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -160‬ديوان المام علي‪ ،‬جمعه وطبعه‪ :‬نعيم زرزور‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫‪ -161‬ذو القرنين القائد الفاتح والحاكم الصالح‪ ،‬محمد خير رمضان يوسف‪،‬‬
‫دار القلم‪ ،‬دمشق الطبعة الولى‪1406 ،‬هـ ‪1986 -‬م‪.‬‬
‫‪ -162‬رجال الفكر والدعوة للمام السرهندي‪ ،‬لبي الحسن الندوي‪ ،‬دار‬
‫القلم‪ ،‬الكويت‪ ،‬الطبعة الولى ‪1403‬هـ‪1983 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -163‬ركائز اليمان بين العقل والقلب‪ ،‬محمد الغزالي‪ ,‬دار العتصام‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬مصر‪ ،‬الطبعة السادسة ‪1399‬هـ ‪1979 -‬م‪.‬‬
‫‪ -164‬ركائز اليمان‪ ،‬محمد قطب‪ ,‬مركز الدراسات والعلم‪ ,‬دار إشبيلية‪،‬‬
‫الرياض‪ ,‬الطبعة الولى ‪1417‬هـ ‪1997 -‬م‪.‬‬
‫‪ -165‬روضة الطالبين‪ ،‬يحيى بن شرف النووي‪ ،‬المكتب السلمي‪ ،‬بيروت ‪-‬‬
‫لبنان‪.‬‬
‫‪ -166‬سنن أبي داود سليمان بن الشعث‪ ،‬تحقيق‪ :‬عزت عبيد الدعاس‪،‬‬
‫حمص‪ ،‬الناشر‪ :‬محمد السيد‪.‬‬
‫‪ -167‬سنن الترمذي‪ ،‬لبي عيسى الترمذي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أحمد شاكر‪ ,‬مطبعة‬
‫مصطفى الحلبي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ -168‬سنن البيهقي‪ ،‬أبو بكر أحمد البيهقي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -169‬سنن ابن ماجه‪ ،‬محمد بن يزيد القزويني‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد فؤاد عبد‬
‫الباقي‪ ،‬طبع عيسى الحلبي وشركاه‪.‬‬
‫‪ -170‬سنن النسائي أحمد بن شعيب‪ ،‬الناشر‪ :‬دار إحياء التراث العربي‪-‬‬
‫بيروت‪.‬‬
‫‪ -171‬سير أعلم النبلء‪ ،‬الذهبي‪ ،‬شمس الدين محمد بن أحمد الذهبي‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬شعيب الرناؤوط‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ,‬الطبعة الثانية‪1402 ،‬هـ‪،‬‬
‫‪1982‬م‪.‬‬
‫‪ -172‬سيرة عمر بن عبد العزيز لبن الحكم‪ ،‬مكتبة وهبة‪ ،‬دمشق‪1373 ،‬هـ‪.‬‬
‫‪ -173‬سيرة عمر بن عبد العزيز لبن الجوزي‪ ،‬تحقيق‪ :‬نعيم زرزور‪ ،‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬بيروت طبعة عام ‪1404‬هـ‪.‬‬
‫‪ -174‬سورة يوسف دراسة وتحليل‪ ،‬د‪ .‬أحمد نوفل‪ ،‬دار الفرقان‪ ،‬عمان ‪-‬‬
‫الردن‪ ،‬الطبعة الولى ‪1409‬هـ‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -175‬شذرات الذهب في أخبار من ذهب لبن العماد الحنبلي‪ ،‬دار الفاق‬
‫الجديدة بيروت‪.‬‬
‫‪ -176‬شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة‪ ،‬الللكائي‪ ،‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬أحمد‬
‫بن سعد حمدان الغامدي‪ ،‬دار طيبة الرياض ‪ -‬السعودية‪.‬‬
‫‪ -177‬شرح الطحاوية‪ ،‬لمحمد بن محمد بن أبي العز الحنفي‪ ،‬المكتب‬
‫السلمي‪ ،‬بيروت الطبعة الرابعة ‪1391‬هـ‪.‬‬
‫‪ -178‬شرح القصائد السبع‪ ،‬للقاضي حسين بن أحمد الزوزني‪ ،‬تحقيق‪:‬‬
‫يوسف علي بدوي‪ ،‬دار ابن كثير دمشق‪ ،‬الطبعة الولى ‪1410‬هـ‪،‬‬

‫‪496‬‬
‫المراجـــــــــــــــع‬

‫‪1989‬م‪.‬‬
‫‪ -179‬شرح الكوكب المنير‪ ،‬لمحمد بن أحمد الفتوحي‪ ،‬دار العبيكان الرياض‬
‫‪ -‬السعودية‪ ،‬طبعة ‪1413‬هـ‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -180‬شرح النووي على صحيح مسلم‪ ،‬يحيى بن شرف النووي‪ ،‬المطبعة‬
‫المصرية ومكتبتها بالقاهرة ‪1349‬هـ‪.‬‬
‫‪ -181‬شيخ السلم ابن تيمية‪ ..‬جهاده ودعوته وعقيدته‪ ،‬تأليف أحمد‬
‫القطان ومحمد الزين‪ ،‬مراجعة الشيخ عبد العزيز بن باز‪ ،‬مكتبة الندى‬
‫الكويت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1409‬هـ‪.‬‬
‫‪ -182‬صحيح مسلم للمام أبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري‬
‫النيسابوري‪ ،‬دار الحديث القاهرة‪ ،‬الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -183‬صفة الغرباء‪ ،‬سلمان العودة‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1412‬هـ‪،‬‬
‫‪1991‬م‪ ،‬المملكة العربية السعودية‪.‬‬
‫‪ -184‬صناعة الحياة‪ ،‬محمد أحمد الراشد‪ ،‬دار المنطلق‪ ،‬دار المجتمع‬
‫السعودية‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1412‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -185‬عمر بن عبد العزيز وسياسته في رد المظالم‪ ،‬ماجدة زكريا فيصل‪،‬‬
‫مكتبة الطالب الجامعي‪ ،‬مكة المكرمة‪ ،‬طبعة سنة ‪1407‬هـ‪.‬‬
‫‪ -186‬علل وأدوية للغزالي‪ ،‬دار الدعوة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر ‪1411‬هـ‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -187‬فتح الباري بشرح صحيح البخاري لبن حجر العسقلني‪ ,‬تصحيح‬
‫وتعقيب عبد العزيز بن باز‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬طبعة ‪1411‬هـ‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -188‬فتح المجيد لكتاب التوحيد‪ ،‬عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ‪ ،‬المكتبة‬
‫السلفية‪ ،‬المدينة المنورة‪ ،‬الطبعة الخامسة‪.‬‬
‫‪ -189‬فتح القدير‪ ،‬محمد بن علي بن محمد الشوكاني‪ ،‬دار الخير‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -190‬فقه الدعوة إلى الله‪ ,‬د‪ .‬علي عبد الحليم محمود‪ ،‬دار الوفاء‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫طبعة ‪1410‬هـ‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -191‬فقه الدعوة السلمية والعلم عند المودودي‪ ،‬فاروق عبد الغني‬
‫الصاوي‪،‬دار المنار الحديثة مصر‪ ،‬الطبعة الولى ‪1413‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -192‬فقه المسئولية‪ ،‬د‪ .‬علي عبد الحليم محمود‪ ،‬دار التوزيع والنشر‬
‫السلمية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الطبعة الولى ‪1415‬هـ‪1995 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -193‬فلسفة التربية السلمية‪ ،‬ماجد عرسان الكيلني‪ ،‬مكتبة هادي‪ ،‬مكة‬
‫المكرمة طبعة عام ‪1409‬هـ‪.‬‬
‫‪ -194‬في ظلل اليمان‪ ,‬صلح عبد الفتاح الخالدي‪ ،‬مكتبة المنار الردن ‪-‬‬
‫الزرقاء‪ ،‬الطبعة الولى ‪1407‬هـ ‪1987 -‬م‪.‬‬
‫‪ -195‬في فقه الولويات دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة‪ ،‬د‪ .‬يوسف‬
‫القرضاوي‪ ،‬الطبعة الولى ‪1415‬هـ ‪1995 -‬م‪.‬‬
‫‪ -196‬نظريات التغيير‪ ،‬منير شفيق‪ ،‬الناشر للطباعة والنشر والتوزيع‬
‫والعلن بيروت ‪ -‬لبنان‪ ،‬الطبعة الولى ‪1415‬هـ ‪1994 -‬م‪.‬‬
‫‪ -197‬قيادة الرسول السياسية والعسكرية‪ ،‬تأليف أحمد راتب عرموش‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1409‬هـ‪1989 ،‬م‪ ،‬دار النفائس بيروت ‪ -‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -198‬قادة الغرب يقولون دمروا السلم أبيدوا أهله‪ ,‬جلل العالم‪ ،‬مؤسسة‬
‫الرسالة‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪ ،‬طبعة ‪1405‬هـ‪1985 ،‬م‪.‬‬

‫‪497‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪ -199‬قصص الرحمن في ظلل القرآن‪ ،‬لحمد فائز الحمصي‪ ،‬مؤسسة‬


‫الرسالة‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الولى ‪1415‬هـ‪1995 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -200‬قواعد التعامل مع العلماء‪ ،‬د‪ .‬عبد الرحمن بن معل اللويحق‪ ,‬دار‬
‫الوراق‪ ،‬السعودية‪ ،‬الطبعة الولى ‪1415‬هـ‪1994 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -201‬كيف تستعيد المة السلمية مكانتها؟ عمر الشقر‪ ،‬دار النفائس‪،‬‬
‫عمان‪ ،‬الردن‪ ،‬الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -202‬كيف ندعو الناس؟ عبد البديع صقر ‪ -‬الطبعة السادسة‪ ,‬المكتب‬
‫السلمي‪1397 ،‬هـ‪1977 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -203‬لسان العرب‪ ،‬لبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم‪ ،‬دار صادر‬
‫بيروت‪.‬‬
‫‪ -204‬لطائف الشارات تفسير القشيري‪ ,‬تحقيق‪ :‬د‪ .‬إبراهيم بسيوني‪،‬‬
‫الهيئة المصرية العامة للكتاب‪ ،‬الطبعة الثانية‪1981 :‬م‪.‬‬
‫‪ -205‬لقاء المؤمنين لعدنان النحوي‪ ،‬مطابع الفرزدق التجارية‪ ،‬الرياض ‪-‬‬
‫السعودية‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1405‬هـ‪1985 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -206‬لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ المير شكيب أرسلن‪،‬‬
‫دار النشر‪ ،‬القاهرة ‪ -‬مصر‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -207‬مباحث في التفسير الموضوعي‪ ،‬مصطفى مسلم‪ ،‬دار القلم‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1410‬هـ‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -208‬مبادئ الثقافة السلمية‪ ،‬لمحمد النبهاني‪ ،‬دار البحوث العلمية‪ ،‬الكويت‬
‫‪1403‬هـ‪.‬‬
‫‪ -209‬مبادئ علم الدارة‪ ،‬محمد نور الدين عبد الرزاق‪ ،‬مكتبة الخدمات‬
‫الحديثة جدة ‪ -‬السعودية‪ ،‬الطبعة الولى بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -210‬مبادئ نظام الحكم في السلم‪ ،‬عبد الحميد متولي‪ ،‬دار المعارف‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬الطبعة الولى‪.‬‬
‫‪ -211‬مجاز القرآن لبي عبيد معمر التميمي تحقيق‪ :‬د‪ .‬محمد فؤاد‬
‫سزكين‪ ،‬دار الفكر‪ ,‬الطبعة الثانية ‪1390‬هـ‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -212‬مجلة الوعي السلمي الكويتية‪ ،‬ربيع الخر ‪1414‬هـ‪1995 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -213‬مجمع الزوائد ومنبع الفوائد‪ ،‬للحافـظ نور الدين علي بن أبي بكر‬
‫الهيثمي‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1967‬م‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪ -214‬مجموعة الرسائل للشيخ حسن البنا‪ ،‬دار الدعوة السكندرية‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1411‬هـ‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -215‬مجموع فتاوى ابن باز‪ ،‬الشيخ عبد العزيز عبد الله بن باز‪ ،‬مكتبة‬
‫المعارف للنشر والتوزيع‪ ،‬طبعة ‪1413‬هـ‪.‬‬
‫‪ -216‬محاسن التأويل‪ ،‬محمد جمال القاسمي‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بيروت ‪ -‬لبنان‪،‬‬
‫بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -217‬مختصر صحيح مسلم‪ ,‬زكي الدين عبد العظيم المنذري تحقيق‪:‬‬
‫محمد ناصر الدين اللباني‪ ،‬بيروت‪ ،‬المكتب السلمي‪.‬‬
‫‪ -218‬مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين لبن قيم الجوزية‪،‬‬
‫تحقيق‪ :‬محمد حامد الفقي‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت ‪1392‬هـ‪.‬‬

‫‪498‬‬
‫المراجـــــــــــــــع‬

‫‪ -219‬ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ أبو الحسن علي الندوي‪ ،‬دار‬
‫نهر النيل‪ ،‬القاهرة ‪ -‬مصر‪ ،‬الطبعة الثامنة ‪1409‬هـ‪1989 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -220‬مذكرات في الدعوة السلمية‪ ,‬عبد الغفار محمد عزيز‪ ,‬دار المعارف‬
‫السعودية للطباعة والنشر‪.‬‬
‫‪ -221‬مراتب الجماع‪ :‬أبو محمد علي بن حزم‪ ،‬دار الفاق‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى ‪1978‬م‪.‬‬
‫‪ -222‬مشاركة السلميين في السلطة‪ ،‬عزام التميمي‪ ،‬مركز أبحاث‬
‫الديمقراطية في جامعة ويستمنستر في لندن في العشرين من شباط‬
‫)فبراير( ‪1993‬م‪.‬‬
‫‪ -223‬معارج القبول شرح سلم الوصول إلى علم الصول في التوحيد‪،‬‬
‫تأليف الشيخ الحافظ أحمد حكمي ‪ -‬رحمه الله ‪ -‬بتعليق عمر محمود‬
‫أبو عمر‪ ،‬الناشر‪ :‬دار ابن القيم للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الولى‬
‫‪1410‬هـ‪1990 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -224‬معالم علي الطريق‪ :‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ,‬القاهرة‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى ‪1400‬هـ‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -225‬مع الله )دراسات في الدعوة والدعاة(‪ ,‬محمد الغزالي‪ ,‬دار الكتب‬
‫الحديثة‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪1369‬هـ‪.‬‬
‫‪ -226‬مع قصص السابقين‪ ،‬صلح عبد الفتاح الخالدي‪ ،‬دار القلم‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى ‪1409‬هـ ‪1989 -‬م‪.‬‬
‫‪ -227‬مفاتيح الغيب )التفسير الكبير(‪ ,‬فخر الرازي‪ ،‬محمد عمر بن الحسين‬
‫الرازي‪ ،‬دار الغد العربي‪ ،‬القاهرة ‪ -‬مصر‪ ،‬الطبعة الولى‪.‬‬
‫‪ -228‬مفاهيم ينبغي أن تصحح‪ ،‬محمد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة ‪ -‬مصر‪،‬‬
‫الطبعة الثامنة ‪1413‬هـ‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -229‬مفتاح دار السعادة‪ ،‬للمام ابن القيم‪ ,‬دار الكتب العلمية بيروت‪.‬‬
‫‪ -230‬مقاصد الشريعة السلمية‪ ،‬زيد بن محمد الرماني‪ ،‬دار الغيث‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫السعودية‪ ،‬الطبعة الولى‪.‬‬
‫‪ -231‬مقاصد المكلفين‪ ،‬د‪ .‬عمر الشقر‪ ،‬مكتبة الفلح‪ ,‬الكويت‪ ،‬الطبعة‬
‫الولى ‪1401‬هـ‪.‬‬
‫‪ -232‬مقدمة ابن خلدون‪ ،‬دار القلم بيروت‪ ,‬الطبعة الولى ‪1987‬م‪.‬‬
‫‪ -233‬مقومات الداعية الناجح‪ ،‬د‪ .‬علي عمر بادحدح‪ ،‬دار الندلس الخضراء‪،‬‬
‫السعودية‪ ،‬الطبعة الولى ‪1417‬هـ‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -234‬من توجيهات السلم‪ ،‬محمود شلتوت‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬طبع‬
‫مؤسسة دار الشعب‪.‬‬
‫‪ -235‬منهج أهل السنة في قضية التغيير د‪ .‬السيد محمد نوح‪ ،‬دار الوفاء‬
‫المنصورة‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1412‬هـ‪1991 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -236‬منهج الرسول في غرس الروح الجهادية في نفوس أصحابه‪ ،‬د‪ .‬السيد‬
‫محمد السيد نوح‪ ،‬الطبعة الولى ‪1411‬هـ ‪1990 -‬م‪ ،‬نشرته جامعة‬
‫المارات العربية‪.‬‬
‫‪ -237‬مواقف إسلمية‪ ,‬د‪ .‬عبد العزيز كامل‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬سلسلة اقرأ‬

‫‪499‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪1970‬م‪.‬‬
‫‪ -238‬ملمح المجتمع المسلم‪ ،‬د‪ .‬القرضاوي‪ ،‬مكتبة وهبة القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫الطبعة الولى ‪1414‬هـ‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -239‬ميزان العتدال للمام الذهبي‪ ،‬تحقيق‪ :‬علي محمد البجاوي‪ ،‬دار‬
‫المعرفة بيروت‪.‬‬
‫‪ -240‬نظام الحياة في السلم للمودودي‪ ،‬ترجمة محمد عاصم حداد‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،‬سنة الطبع ‪1377‬هـ‪1958 ،‬م‪ ،‬دار الفكر ‪ -‬دمشق‪.‬‬
‫‪ -241‬نظام الحكم في السلم‪ ،‬د‪ .‬عارف خليل أبو عيد‪ ،‬دار النفائس‪،‬‬
‫عمان ‪ -‬الردن‪ ،‬الطبعة الولى ‪1416‬هـ‪.‬‬
‫‪ -242‬نظرات في رسالة التعاليم‪ ،‬محمد عبد الله الخطيب‪ ،‬محمد عبد الحليم‬
‫حامد‪ ،‬دار التوزيع والنشر السلمية‪.‬‬
‫‪ -243‬نزهة الفضلء في تهذيب سير أعلم النبلء‪ ،‬تأليف‪ :‬المام الذهبي‪،‬‬
‫تهذيب‪ :‬محمد حسن عقيل موسى‪ ،‬دار الندلس الخضراء‪ ،‬جدة‪,‬‬
‫الطبعة الولى‪.‬‬
‫‪ -244‬نظرية السلم وهديه في السياسة والقانون والدستور‪ ،‬أبو العلى‬
‫المودودي‪ ،‬تقديم‪ :‬محمد عاصم حداد‪ ،‬سنة الطبع ‪1387‬هـ‪1967 ،‬م‪،‬‬
‫دار الفكر‪.‬‬
‫‪ -245‬نصب الراية للزيلعي‪ ،‬جمال الدين الزيلعي‪ ،‬دار إحياء التراث العربي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪1393‬هـ‪.‬‬
‫‪ -246‬هداية المرشدين إلى طريق الوعظ والخطابة‪ ،‬للشيخ علي محفوظ‪،‬‬
‫الطبعة التاسعة ‪1399‬هـ‪ ،‬دار العتصام‪.‬‬
‫‪ -247‬هذا الدين‪ ،‬سيد قطب‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة ‪ -‬مصر‪ ،‬الطبعة الرابعة‬
‫عشرة ‪1412‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -248‬هكذا علمتني الحياة‪ ،‬د‪ .‬مصطفى السباعي‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪1406‬هـ‪،‬‬
‫المكتب السلمي‪.‬‬
‫‪ -249‬هل نحن مسلمون؟ لمحمد قطب‪ ،‬مؤسسة المدينة‪ ،‬السعودية‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة‪1410 ،‬هـ ‪1989 -‬م‪.‬‬
‫‪ -250‬واقعنا المعاصر‪ ،‬محمد قطب‪ ،‬مؤسسة المدينة‪ ،‬السعودية‪ ،‬الطبعة‬
‫الثالثة‪1410 ،‬هـ ‪1989 -‬م‪.‬‬
‫‪ -251‬وجوب التعاون بين المسلمين‪ ،‬عبد الرحمن السعدي‪ ،‬المعارف ‪-‬‬
‫الرياض‪ ،‬طبعة ‪1402‬هـ‪.‬‬
‫‪ -252‬وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق‪ ،‬جمال الدين بن أحمد بن بشير‬
‫بادي‪ ،‬دار الوطن‪ ،‬الرياض‪ ،‬السعودية الطبعة الولى‪1412 :‬هـ‪.‬‬
‫‪ -253‬وسائل دفع الغربة‪ ،‬سلمان العودة‪ ،‬دار ابن الجوزي‪ ،‬الحساء ‪-‬‬
‫السعودية‪ ،‬الطبعة الولى ‪1412‬هـ‪1992 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -254‬وسطية أهل السنة بين الفرق‪ ،‬د‪ .‬محمد باكريم محمد عبد الله‪ ،‬دار‬
‫الراية‪ ،‬الرياض ‪ -‬السعودية‪ ،‬الطبعة الولى‪1415 ،‬هـ‪1994 ،‬م‪.‬‬
‫‪ -255‬وفيات العيان وأنـبـاء الزمان‪ ،‬لبن خلكان أبو العباس شمس الدين‬
‫أحمد‪ ،‬تحقيق‪ :‬إحسان عباس‪ ،‬دار صادر بيروت‪.‬‬
‫‪ -256‬يقظة السلم في تركيا‪ ،‬أنور الجندي‪ ،‬دار النصار‪ ،‬القاهرة‪1979 ،‬م‪.‬‬

‫‪500‬‬
‫المراجـــــــــــــــع‬

‫***‬

‫‪501‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫‪502‬‬
‫الفهـــــــــــــــــرس‬

‫فهرس الموضوعات‬
‫الهداء ‪3...............................................................‬‬
‫المقدمة ‪5.............................................................‬‬
‫التمهيد ‪13..............................................................‬‬
‫الباب الول‬
‫أنواع التمكين في القرآن الكريم‬
‫تمهيد ‪21................................................................‬‬
‫الفصل الول‪ :‬تبليغ الرسالة وأداء المانة ‪23.....................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬أصحاب القرية ‪23..................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬أصحاب الخدود ‪30................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬تمكين الله تعالى لرسول الله × لتبليغ الرسالة‬
‫في مكة ‪35.............................................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬هلك الكافرين ونجاة المؤمنين ونصرهم في‬
‫المعارك ‪45.............................................................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬قصة نجاة نوح عليه السلم وهلك قومه ‪47. .‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬موسى عليه السلم مع فرعون ‪51.............‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬قصة طالوت عليه السلم مع بني إسرائيل ‪64‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬الرسول صلوات الله وسلمه عليه مع قومه ‪76‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬في المشاركة في الحكم ‪83.....................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬أدلة المانعين والقائلين بالجواز في المشاركة‬
‫بالحكم‪84...............................................................‬‬
‫أول‪ :‬أدلة المانعين من المشاركة في الحكم ‪84.................‬‬
‫ثانيا‪ :‬أدلة القائلين بالجواز ‪85.......................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬شواهد من التاريخ الحديث في المشاركة ‪89‬‬
‫أول‪ :‬الحركة السلمية في الردن ‪89..............................‬‬
‫ثانيا‪ :‬الحركة السلمية في اليمن ‪98..............................‬‬
‫ثالثا‪ :‬الحركة السلمية في تركيا ‪107...............................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬إقامة الدولة ‪123.....................................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬تمكين الله تعالى لداود وسليمان عليهما السلم‬
‫‪124‬‬
‫أول‪ :‬داود عليه السلم ‪124............................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬فقه التمكين عند سليمان عليه السلم ‪132.................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬فقه التمكين عند ذي القرنين ‪144...............‬‬
‫أول‪ :‬من هو ذو القرنين؟‪144..........................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬معالم التمكين عند ذي القرنين ‪146..........................‬‬
‫ثالثا‪ :‬أخلقه القيادية وفقهه في إحياء الشعوب ‪149..............‬‬

‫‪503‬‬
‫تبصير المؤمنين بفقه النصر والتمكين في القرآن الكريم‬

‫رابعا‪ :‬المفاهيم الحضارية والدروس والعبر ‪158...................‬‬


‫الباب الثاني‪ :‬شروط التمكين وأسبابه‬
‫تمهيد ‪165................................................................‬‬
‫الفصل الول‪ :‬شروط التمكين ‪166..................................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬اليمان بالله والعمل الصالح ‪166..................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬تحقيق العبادة ‪188..................................‬‬
‫أول‪ :‬معنى العبادة في اللغة والشرع ‪188..........................‬‬
‫ثانيا‪ :‬حقيقة العبادة ‪189...............................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬أهمية الجانب العبادي في حياة النسان ‪195................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬محاربة الشرك ‪203................................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬تقوى الله عز وجل‪210.............................‬‬
‫أول‪ :‬ثمرات التقوى العاجلة والجلة ‪210............................‬‬
‫ثانيا‪ :‬صفات المتقين ‪215..............................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬أسباب التمكين ‪218.................................‬‬
‫تمهيد ‪218................................................................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬سنة الخذ بالسباب وإرشاد القرآن للعداد ‪219‬‬
‫أول‪ :‬سنة الخذ بالسباب ‪219........................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬إرشاد القرآن للعداد ‪225......................................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬السباب المعنوية ‪230..............................‬‬
‫أول‪ :‬إعداد الفراد الربانيين ‪230......................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬القيادة الربانية ‪242..............................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬محاربة أسباب الفرقة ‪257.....................................‬‬
‫رابعا‪ :‬الخذ بأصول الوحدة والتحاد والجتماع‪269................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬السباب المادية ‪281...............................‬‬
‫أول‪ :‬التفرغ‪ ،‬والتخصص‪ ،‬ومراكز البحوث ‪281.....................‬‬
‫ثانيا‪ :‬التخطيط والدارة ‪287...........................................‬‬
‫ثالثا‪ :‬العداد القتصادي ‪300..........................................‬‬
‫رابعا‪ :‬العداد العلمي ‪306...........................................‬‬
‫خامسا‪ :‬العداد المني‪319............................................‬‬
‫الباب الثالث‪ :‬مراحل التمكين وأهدافه‬
‫تمهيد ‪337................................................................‬‬
‫الفصل الول‪ :‬مراحل التمكين ‪338..................................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬مرحلة الدعوة والتعريف بالسلم ‪339...........‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬مرحلة اختيار العناصر التي تحمل الدعوة ‪375.‬‬
‫أول‪ :‬أهم أهداف هذه المرحلة ‪376..................................‬‬
‫ثانيا‪ :‬التربية الروحية ‪378..............................................‬‬

‫‪504‬‬
‫الفهـــــــــــــــــرس‬

‫ثالثا‪ :‬التربية العقلية ‪380...............................................‬‬


‫رابعا‪ :‬تربية الجسم ‪383................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬تربية الحس الجتماعي ‪385................................‬‬
‫سادسا‪ :‬عدة القائمين على مرحلة العداد ‪388...................‬‬
‫سابعا‪ :‬صفات جيل التمكين ‪395.....................................‬‬
‫ثامنا‪ :‬سنة البتلء ‪406..................................................‬‬
‫المبحث الثالث‪ :‬مرحلة المغالبة ‪418................................‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬مرحلة التمكين ‪437.................................‬‬
‫المبحث الخامس‪ :‬الحركات السلمية ودورها في العودة إلى‬
‫التمكين‪447..............................................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬أهداف التمكين ‪453..................................‬‬
‫المبحث الول‪ :‬إقامة المجتمع المسلم‪455.........................‬‬
‫أول‪ :‬إقامة دولة السلم ودعائمها ودستورها ‪455.................‬‬
‫ثانيا‪ :‬إقامة قواعد النظام السلمي ‪475............................‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬نشر الدعوة إلى الله ‪505.........................‬‬
‫أول‪ :‬إحياء المر بالمعروف والنهي عن المنكر ‪506...............‬‬
‫ثانيا‪ :‬الجهاد في سبيل الله ‪515......................................‬‬
‫أ‪ -‬أهداف الجهاد في سبيل الله ‪519.................................‬‬
‫ب‪ -‬بعض ثمرات الجهاد في سبيل الله ‪524........................‬‬
‫الخاتمة ‪434..............................................................‬‬
‫توصيات البحث‪539.....................................................‬‬
‫أهم مصادر ومراجع البحث‪541.......................................‬‬
‫فهرس الموضوعات‪557...............................................‬‬

‫***‬

‫‪505‬‬

You might also like