You are on page 1of 9

‫ةةةةةةةة ةةةة ةةةةةةة ةةةة ةةةةةة ةةةة ةةة‬

‫لم أكن أعتقد يوما بأن زيارة أقوم بها للمغرب ستزلزلني وتحدث في نفسي كل هذا التأثير‪ .‬وبأنها‬
‫ستكون بداية لرحلة شاقة مع ذاتي أراجع فيها بجّد ما غرسته فينا الخطابات السياسية المكثفة ‪ -‬على‬
‫مّر عقود‪ -‬من أفكار جاهزة وأحكام مّقننة ومفاهيم مغلوطة‪ ،‬وما أنتجته فينا من ردود أفعال ومن‬
‫‪.‬انعكاسات شرطية‬
‫وعندما وجدتني‪ ،‬أسجل‪،‬على غير عادتي‪ ،‬وبتلقائية‪ ،‬هذه النطباعات‪ ،‬كنت أنوي أن أرجع إليها كما‬
‫‪ٌ.‬يرجع إلي ألُبوم صور حوى ذكريات جميلة نريد أن نحميها وأن نجنّبها الترّهل بعوامل الزمن‬
‫‪...‬ولم أفكر يوما أن تتعدى كتابتي – بحكم تخصصي – مجال العلوم الفيزيائية أو مجال البحث العلمي‬
‫وبعد عودتي إلي الجزائر حاولت أن أنقل لبعض ا لزملء في الجامعة عّينة من هذه النطباعات‬
‫جر هو نتاج من الرواسب ذاتها ‪ ...‬عندها رأيت من واجبي‪،‬‬ ‫فاصطدمت بجدار متين من الرفض و التح ّ‬
‫وإن لم يكن من اختصاصي‪ ،‬البحث عن وسيلة أخرى ليصال بعضا من هذه الخواطر‪ ،....‬وأنا أعي‬
‫بأنني ل املك ناصية الدب ‪ ،‬و أدرك بان ما كتبته ل يتعدى ذاتيتي الضيقة‪ ،‬وبأن به الكثير من النبهار‬
‫قد يصل حّد المغالة ‪ ،‬وأّنه ل يرقى إلى ا لدراسة الجاّدة والتحليل الموضوعي ‪ ...‬وأنا ل أّدعي ذلك ول‬
‫أرمي إليه‪ ،‬كل ما أرومه هو أن يشاركني إخواني من الجزائريين والمغاربة جوانب من رحلة حررت‬
‫جر على أفكاري و تشّد إلى الرض نفسا تتوق‬ ‫نفسي من الكثير من الغلل التي كانت تكّبل رؤاي و تح ُ‬
‫‪ ...‬إلى التحليق في ملكوت ال و رحابه الواسعة‬
‫كنت آنذاك) صيف ‪ (1999‬أستاذة تعليم ثانوي و طالبة علم أبحث في ميدان جديد في بلدي هو طرق‬
‫تدريس المواد العلمية )يدعوه البعض تعليمية العلوم( في وقت كان فيه البحث العلمي عندنا – نظرا‬
‫للظروف المأساوية التي كنا نمر بها – لغوا و ترفا‪. .‬بينما أصبح تطوير المناهج التعليمية ضرورة‬
‫و أولوّية ‪...‬وعزمت على الذهاب إلي المغرب ‪ ،‬بإيعاز و تشجيع من إخوان مغاربة‪ ،‬للطلع على‬
‫‪ ....‬الشواط الطيبة التي ُقطعت هناك في هذا المجال والستفادة منها‬
‫وصلت مطار هواري بومدين محّملة بأفكار جاهزة ‪....‬فالمغرب في ذاكرة جيلي هو معقل لقوى‬
‫المبريالية و رمز للرجعية و الستبداد و قهر الشعوب ‪ ،‬وهو بلد السحر والشعوذة والجوع والفقر‬
‫المدقع والدروشة والتضليل بالدين‪ ،‬وهو بلد المذلة" وسيدي ول لل " والنحناء و الركوع للشخاص‬
‫‪.‬و تقبيل اليادي‬
‫المغرب في ذاكرتنا هو بلد الظلم و الطماع التوسعية التي غدرت بنا قبل أن تلتئم جراحنا‪ ،‬وقبل أن‬
‫تجف دماء شهدائنا ‪ ،‬هو بلد العتداء الجبان لعام ‪ 1963‬الذي طعننا في ظهورنا ليئد فرحتنا‬
‫بالستقلل و ليحني رؤوسنا التي كانت ترنو إلى التمتع بشمس النعتاق و الحرية ‪ ،‬و هو قبل ذلك قد‬
‫خان العهد و خذلنا إذ قبل استقلله ‪ ...‬استقلل مبتورا‪ ..‬في حين كان مجاهدونا يعملون على تحرير كّل‬
‫منطقة المغرب العربي ‪ ...‬المغرب هو التهديد لخلق شبابنا بأنواع المناكر والمخدرات و فنون العهر‬
‫‪ ...‬و الموبقات‬

‫أردت أن أعيش الرحلة منذ النطلق‪ ،‬فكانت على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية المغربية‪.‬فاجأتني‬
‫اللباقة الفائقة للطاقم ورقة المضيفات و خفتهن والنوعية الراقية للخدمات ‪..‬‬
‫كان مقعدي مقابل لمقعد سّيدة مصحوبة بابنها الصبي و ابنتها الرضيعة ‪ ،‬ابتسمنا لبعضنا عندما بدأت‬
‫الطفلة تتواصل معي بصوتها و بالتلويح بيديها ‪،‬وعندما عرفت من لهجتها أنها من المغرب‪ .‬بدأت‬
‫أتفرس في وجهها خلسة و أحّدق في ملمحها و أراقب تصرفاتها‪...‬و كأنني ‪ ،‬بدون وعي مني‪،‬أحاول‬
‫أن أطابق في نفسي بين صورتين مختلفتين‪ .‬راقني كثيرا جمالها الطبيعي ورقتها و عنايتها الفائقة‬
‫بطفليها ‪ .‬ولم نلبث أن بدأنا نتجاذب أطراف الحديث بتلقائية كبيرة وكأننا نتعارف منذ مدة‪ .‬هي سيدة من‬
‫مكناس زوجة جزائري ‪ ،‬كانت تسكن في حي الكاليتوس بضواحي العاصمة‪ -‬و هو من المناطق التي‬
‫كانت تعاني الويل في تلك الفترة‪ -‬هي لم تتحّدث عن هذه المعاناة ‪ ،‬ول اشتكت من اليام و الليالي‬

‫‪1‬‬
‫الحالكة التي قهرت سكان هذا الحي ‪ ،‬و كأّنها تعتبر ذلك من السنن الكونية أو لعلها تدخله في باب‬
‫البتلء‪ .. ...‬لكنها تحّدثت عن جارات لها و قريبات لزوجها يلححن عليها بالسؤال " زوجك كان عصبيا‬
‫جدا و متمّردا و قاسيا ‪ ...‬ماذا فعلت لتجعليه طيبا هكذا؟ " ‪ ،‬وكانت تجيب ما استطاعت مطّعمة إجابتها‬
‫ح لتكشف عنه ‪....‬سر آخر يتعدى‬ ‫سر و تل ّ‬
‫ن سائلتها تبقى تبحث عن ال ّ‬ ‫ببعض النصائح‪...‬لكن فطنت أ ّ‬
‫الصبر والقناعة و حسن المعاشرة و الطاعة و‪ ..‬سّر تملكه هي بدون ريب‪..‬لكونها مغربّية " مروكية"‬
‫ت قبل أن ُتكمل‪ ..‬فضحكت و بدأت اسألها عن المغرب و أنا أداعب ابنتها التي‬ ‫لكنها تتكّتم عليه ‪ ...‬ضحك ُ‬
‫انسجمت معي كثيرا ‪ ..‬لمست في هذه السيدة صبر المرآة العربية وشجاعتها وكفاحها وقناعتها‬
‫‪..‬وطاعتها لزوجها وإخلصها له‬
‫طة القطار مشدوهة أتأمل من حولي و ما‬ ‫ت في مح ّ‬ ‫وطئت رجلي لّول مّرة أرض المملكة المغربية‪..‬وقف ُ‬
‫حولي ‪،‬وقف قبالتي في الرصيف الخر رجل ذو أنف كبير و بشرة صفراء و لحية كثيفة و قّبعة‪...‬حّدق‬
‫ي هكذا ‪ ،‬و كأنه‬
‫في طويل ‪..‬تلقت نظراتنا لثوان ‪ ..‬ساءلت نفسي ‪ :‬فيما يفّكر هذا الرجل و هو ينظر إل ّ‬
‫طن إلى أنني جزائرية ترى يهوديا لّول مّرة ؟‬ ‫يدعوني أن أدنو منه أكثر لتحّقق من آدميته‪ .‬تراه هل تف ّ‬

‫انتابني إحساس غريب‪ .‬و قوي ‪...‬مزيج من الحاسيس المتضاربة‪ ...‬لم املك تحليلها‪..‬لكنها هّزت‬
‫ت يومها أنني سأرجع منّ‬ ‫معالما بداخلي و حّركت أوتارا في أعماقي‪..‬و قرعت طبول في رأسي‪..‬و أيقن ُ‬
‫ت بالخوف الشديد على نفسي‪ ...‬خوف من أن أفقد اتزانا‬ ‫ي الكثير ‪..‬وأحسس ُ‬‫رحلتي هذه و قد تغّير ف ّ‬
‫شا ‪ ..‬إّل أنني عانيت الكثير من أجل إرسائه‪ .‬و أعاني أكثر للمحافظة عليه‪،‬‬ ‫فكرّيا و وجدانّيا ‪ ..‬وإن كان ه ّ‬
‫وان استدعى ذلك أحيانا كثيرة إخماد صوت نفسي كّلما همست لي أن افتحي أبواب و منافذ قلبك المغلقة‬
‫بإحكام و أفسحي الطريق لنور ال‪....‬و أّنى لي أن أبني توازنا جديدا أكثر استقرارا وأقدر على الصمود‬
‫و قد نال مّني التعب و كادت الحداث التي دامت أمدا أن ُتصّيرني شبحا يتحّرك آليا و ل يلوي على‬
‫‪ ....‬شيء‬
‫ت صوت هواجسي و أجلت الصغاء إليها وقّررت أن أخوض غمار التجربة بكل عمق‬ ‫‪ .‬أسك ّ‬
‫نزلت بفندق "شيل" و هو فندق راق في مدينة الرباط ‪ ..‬فنفسي الجريحة تاقت إلى شيء من الترف‬
‫ن لفظي" سيدي"و "لّل " ليسا من مظاهر‬ ‫المحظور عليها منذ سنين ‪ ...‬وهناك‪..‬لم ألبث أن أيقنت أ ّ‬
‫الذل التي تكّرس التفاوت الجتماعي كما لّقنونا ‪ ،‬بل هما من ألفاظ الدب التي تكثر هنا‪ ،‬فرجل العمال‬
‫النازل بالفندق ينادي لعامل بسيط بلفظ "سيدي " ‪ ،‬وجميع سائقي التاكسي ‪ ،‬وعمال الفندق والمطاعم‬
‫ساسا في نفسي ‪ ...‬أنا التي كنت أستنكر ذلك‬ ‫يخاطبونني بلفظ " للل" ول أنكر أن ذلك يداعب وترا ح ّ‬
‫‪...‬يشدة‬
‫كان يقيم في الفندق مجموعة من الئمة جاؤوا من فاس لحياء المولد النبوي الشريف ) العيد علي حد‬
‫تعبيريهم( في الرباط ‪ ،‬راقبتهم عن بعد كأّول عينة من المغاربة تصادفني‪ ..‬أعجبتني أناقة مظهرهم‬
‫)بجلبيبهم الجميلة مختلفة اللوان ( ونظافتهم ‪ ،‬و شدتني رقتهم و لباقتهم في الكلم‪ ،‬وهّزني إنشادهم‬
‫و تراتيلهم ‪ .‬صليت العصر في مسجد السنة ‪ .‬داخل المساجد التقيت بفتيات جامعيات تبدو عليهن آيات‬
‫العفة والذكاء المتوقد‪ ،‬رحبن بي بحرارة و تحدثن معي بالكثير من الحرية‪ ،‬وعبرن بالكثير من التذمر‬
‫والسى عن الوضاع الجتماعية المتردية في المغرب‪ ،‬وعن طموحاتهن ومشاريعهن وعن المل الذي‬
‫‪....‬كان يعقده الخوان المغاربة على بوادر التغييرات اليجابية في الجزائر‪ ،‬قبل النكسة‬
‫في اليوم التالي سألت عمال من الفندق عن الماكن السياحية و المعالم الثرية في الرباط ‪ .‬تمشيت في‬
‫‪ ...‬المدينة العريقة ‪..‬يصاحبني احساس بالمن و المان لم أذق طعمه منذ أمد‬
‫قطعت مسافات كبيرة مشيا على القدام ‪ .‬جلست في أماكن عامة و ساومت بعض السلع‪. . .‬تفرست في‬
‫الوجوه‪.. ..‬النظرات صافية والوجوه مبتسمة و اللفاظ مهذبة‪ ..‬صبر في المعاملة و " طول بال "‬
‫غريبة‪ .‬تلفت انتباهك سرعة البديهة وروح الدعابة‪ ......‬أناس يحترمون مواقعهم وحدودهم‪ ....‬ل‬
‫تتداخل أطوال المواج‪ ..‬تحس بذاتك و تحس بغيرك‪ ...‬يتحدثون بصوت منخفض و بأدب‪ ...‬هنا ل تطرق‬
‫أسماعك أصواتا ل تستسيغها ول ُتجبر على تتبع أحاديث ل تحبها‪ ...‬ول تحدق فيك العين بشراهة أو‬
‫عدوانية‪ ....‬ودون أن تطلب المساعدة تجد دائما متطوعين لخدمتك و توجيهك بمجرد ما ُيلحظ عليك‬

‫‪2‬‬
‫التردد ) أشنو تبغي أ الشريفة ؟(‪ ،‬يبادرون بعرض و مساعدتهم وان كان طريقك يخالف طريقهم‪ ،‬وان‬
‫ي كامرأة )احظي‬‫طلهم ‪ ..‬وهم ينصحون بالحذر إذا رأوا في الطريق بعض الخطورة عل ّ‬ ‫كان هذا يع ّ‬
‫راسك ( و بالحتراس )سّولي العيالت( ويرشدون الى الماكن الجميلة‪ ،‬دون أن ينتظروا جزاء ول‬
‫شكورا‪ ،‬فهم يوّلون راجعين قبل أن تلتفت إليهم شاكرا ) بل جميل (‬

‫زرت في اليوم التاالي ضريح محمد الخامس رحمه ال بمقاطعة حسان‪ ..‬و هو معلم رائع‪...‬كما زرت‬
‫شارع التقدم و سوقه الشعبي ‪ ،‬اشتريت ذرى مشوية و زيتونا ) ما أكثر أنواعه هنا و ما أشهاها(‪،‬‬
‫غب في بضاعته ‪..‬انبهرت بمستوى لغته و‬ ‫ووقفت لمدة طويلة أمام عشاب أو طبيب شعبي و هو ير ّ‬
‫سعة اطلعه وسرعته الفائقة في الحديث و براعته في الدعاية لسلعته‪ .‬انه فعل تحفة أثرية تجعلك‬
‫تحس بأّنك تسافر عبر الزمن إلى أسواق في بغداد في قرون ولت ‪ .‬و في السويقة ‪ ،‬استغربت لقبالي‬
‫على أكل )الببوش( أي الحلزون و ما كنت أعتقد أنني سأقوم بذلك يوما ‪ ..‬فنظافة الباعة توحي بالثقة ‪،‬‬
‫جع فضولك و تقضي على ترددك‪..‬‬ ‫و حسن معاملتهم تش ّ‬
‫سرت بمحاذاة البحر أن وصلت إلى مكان وجدت فيه الناس يستقلون مركبا صغيرا بدرهم واحد ‪,‬‬
‫و كل مركب بتسع لستة راكبين‪ ،‬يقطعون عبره نهر" بورقراق" قاصدين الضفة الخرى حيث مدينة‬
‫"السل"‪ ..‬انتظرت مركبا فارغا ‪ ،‬صعدت فيه ‪ ،‬حييت صاحبه و اتفقت معه أن يّقلني بمفردي‪ ..‬طلبت‬
‫ن من سكان السل أن بمكنني من التجول عبر طول الوادي و أن‬ ‫من عمي العربي ‪ ،‬و هو شيخ مس ّ‬
‫يحكي لي عن المنطقة و تاريخها ‪ ..‬استمتعت برفقته و دهشت لسعة إطلعه وحكمته و قناعته و شكرته‬
‫على دعوته لي لزيارة أهله و أكل الحوت ‪ ..‬كان ذلك عصر يوم جميل مشمس من ايام شهر جوان ‪..‬‬
‫وقفت في المركب أتأمل روعة المكان‪ ..‬و حين وصلنا إلى شاطئ الرباط ‪ ،‬لم أقدر على مقاومة نداء‬
‫البحر‪ ..‬فقفزت من المركب ‪ ..‬طمأنت عمي العربي ‪ ..‬و لّوحت بيدي مطمئنة جماعة من الشباب سبحوا‬
‫من الشاطئ ليهموا بإنقاذي‪..‬إذ رأوني في الماء بكامل ملبسي ‪...‬‬
‫عند رجوعي إلى الفندق فوجئت بوجود فرقة موسيقية أتحفتنا بأغاني شجية من الملحون أدتها بوقار‬
‫و خلقت جوا من الطرب الراقي ‪.‬‬
‫مررت بمحلت راقية مثل "المرجان" و" السلم"‪ ،‬و بقصور رائعة مثل قصر السلطان زايد آل‬
‫جه إلى )التمارة (‪ ،‬أزور سيدة مغربية كانت دعتني‬ ‫نهيان‪ ،‬وبشواطئ جميلة‪ ،‬ومناظر خلبة و انا أتو ّ‬
‫للعشاء عندها ‪ ،‬وهي كاتبة في إدارة متحصلة على ليسانس أدب عربي ‪.،‬كان الستقبال رائعا والمعاملة‬
‫تلقائية والجو السري ممتازا‪ ،‬و كانت الشقة " من أربعة غرف" جميلة و منظمة بذوق رفيع في حي‬
‫نظيف و هادئ ‪ ...‬لم أكن أتوقع أن مغاربة من طبقة الموظفين البسطاء‪ ،‬يعيشون في هذا المستوى‪..‬‬
‫واستغربت كثيرا عندما ذكرت لي السيدة ‪ ،‬أنها‪ ،‬بمرتبها‪ ،‬تدفع إيجار البيت وحقوق تمدرس طفليها في‬
‫مدرسة خاصة‪..‬وأحسست ‪ -‬و أنا أقارن بإمكانياتي المادية و بمستوى المعيشة الذي يمكن أن توفره لي‪-‬‬
‫بالكثير من الغبن مطعما بالسى‪...‬‬

‫في اليوم الثالث حضرت مناقشة أطروحة تخرج في الطب في مستشفي ابن سينا حول مرض الربو‬
‫للدكتورة " بشرى المخلوف " من الراشدية‪ ، .،‬تعرفت عليها في قطار الدار البيضاء – الرباط الذي‬
‫اقلني من المطار‪،‬دارت بيننا مناقشة ودية و كأننا نتعارف منذ مدة‪ ،‬داخل قاعة المناقشة وجدت جوا‬
‫‪.‬إسلميا ساميا ‪ ،‬وروح الخوة والتعاون‪ ،‬وكرما فائقا‬
‫‪-‬‬ ‫كما زرت المنظمة السلمية للتربية والعلوم ‪ ،‬وحصلت على مراجع هامة لها علقة ببحثي وأوصاني أحد‬
‫المسؤولين هناك بالتصال بالجنة الوطنية بالجزائر لبقى على إطلع على مشاريع المنظمة‬
‫ونشاطاتها ‪..‬و أحسست مّرة أخرى بالغبن الشديد‪.‬إذ اكتشفت أننا بالجزائر آخر من يعلم ومن يستفيد من‬
‫مشاريع المنظمات العربية و السلمية والدولية في هذا الميدان ‪ ، ،‬وسبق وان لمست ذلك عند زيارتي‬
‫‪..‬لمقرات اليونسكو ولمقر اللكسو بتونس‬

‫‪3‬‬
‫‪-‬‬ ‫في أغدال ‪ ،‬ذهبت إلى الجامعة أسأل عن الستاذ " صالح بن يامنة " و هوأستاذ مختص في تعليم العلوم‬
‫الفيزيائية و باحث تشيط و مشرف معروف في هذا الميدان ‪ ،‬لعله يساعدني على فك بعض اللغاز في‬
‫‪.‬بحثي و على إيضاح الرؤية ‪ ..‬فقيل لي بأنه أصبح مسؤول على مديرية الدعم بوزارة التربية‬
‫جهني إلى ذوي الختصاص في‬ ‫زرته هناك ‪..‬على غير موعد ‪ ..‬كان استقباله أكثر من لئق‪ ..‬و ّ‬
‫‪,‬كلية العلوم بالسمللية و المدرسة العليا للساتذة بمراكش‬
‫مساءا حضرت مسرحية " جار ومجرور"‪ ..‬شدني جمال السيناريو و حسن الداء‪،‬و الشجاعة في‬
‫الطرح ‪ ،‬وأعجبني جو المسرح‪ .‬اذ كان الجمهور متفرجا ممتازا‪.‬‬

‫توجهت الى مدينة فاس عبر القطار‪ ..‬الطبيعة رائعة‪ ..‬كل شبر من الراضي مستغل خير استغلل‪..‬‬
‫جنات غناء‪ ،‬والخير وفير‪. .‬وتحسرت وأنا أعيش ثانية مرارة الحساس الذي انتابني وأنا أ سافر إلى‬
‫تونس برا انطلقا من الجزائر‪ ،‬مرورا بالراضي الجرداء‪ ،‬التي التهمتها الشواك‪ ،‬وتلك التي التهمها‬
‫السمنت‪ ،‬وتلك التي تحولت إلي مستنقعات وإلى أماكن لرمي القاذورات‪ ....‬دخل إلى العربة التي كنت‬
‫فيها رجل تبدو عليه علمات الوجاهة رفقة زوجته وابنته‪ ..‬حّيوني بوقار‪ ..‬بعد مدة خرج الرجل من‬
‫ي بأدب و احترام‬
‫العربة‪ ،‬وعاد يستدعى زوجته وابنته و يأخذ متاعه ‪ ...‬ثّم رجع بعد قليل ‪ ..‬نظر إل ّ‬
‫خن ‪..‬تأثرت كثيرا بهذا الموقف‬ ‫ي منين بّدلتا المكان ‪ ،‬بحيث أنا كنكمي "‪.‬أي أد ّ‬‫سمحي ل َ‬‫وقال معتذرا " ا ّ‬
‫الراقي ‪...‬‬
‫أحسست بنوع من الخشوع و أنا أدخل مدينة فاس ‪..‬و كأني ألج إليها من باب التاريخ ‪ ..‬كّل منظر هنا ‪..‬‬
‫كل ركن‪ ..‬يفوح بعبير الماضي و بعطر المجاد‪ ..‬أمجادنا التي هي أمجادهم ‪... ..‬واغرورقت عيناي‬
‫ن لنا نفس الذاكرة ‪ ..‬و أننا نشترك في نفس الصول ‪ ..‬نفس‬ ‫بالدموع و أنا كأنما أدرك للمرة الولى با ّ‬
‫‪ ..‬المجاد‪ ..‬و نتلقى في بوتقة واحدة في أمس قريب غير بعيد عن يومنا المشؤوم هذا‬
‫أردت أن يكون جامع القرويين أول معلم أزوره‪....‬دخلت ا لقصبة ‪ ..‬الزقة ضيقة غاصة بالمارة‪..‬لكن ل‬
‫تدافع و ل سباب ‪ ..‬ل مشادات ول اختلسات ‪ ..‬الرجال يحترمون النساء و يفسحون أمامهن الطريق‪..‬‬
‫و الباعة يعرضون سلعهم أو خدماتهم بهدوء و براعة ‪ ...‬التجار منتشرون في مناطق حسب الحرف ‪:‬‬
‫الجزارين ‪ ،‬العطارين ‪ ،‬الدباغين ‪ ،‬النحاسين‪ ...‬دخلت بعض الدكاكين أمّتع عيني بروعة جمال القفاطين‬
‫المغربية ‪ ..‬وقفت أمام لّبان أستمتع بشرب كأس من " الرائب" وأنا أصغي بطرب إلى الصوات‬
‫‪..‬المنبعثة من دكاكين الحرفيين‬
‫و صلت إلى جامع القرويين و بداخلي عرس‪..‬فهذا المكان المبارك كان و ل يزال منارة للعلم و الدين ‪..‬‬
‫و أعرف في بلدي من يتشرف بأنه نهل العلم من هذا المنبع الصيل الصافي ‪ ..‬و يذّكر بذلك كلما أراد‬
‫أن ينبه إلى رفعة مستواه العلمي‪ ..‬عند عتبة المسجد توقفت للحظة للتأكد ‪ ..‬إذ رأيت الرجال و النساء‬
‫يدخلون و يخرجون من باب واحدة‪...‬وهم يتلقون في باحة المسجد ‪ ،‬عكس ما هو معمول به عندنا ‪.‬‬
‫تنقلت في مختلف أرجاء المكان المقدس ‪ ،‬و صليت المغرب هناك ‪ُ ..‬أعجبت بسيدات متقدمات في السن‬
‫يقرأن القرآن الكريم و يرتلنه بأحكامه ‪ .‬و بفتيات في مقتبل العمر في منتهى الرقة و الجمال يصلين‬
‫بخشوع ويسألن باهتمام عن أمور الدنيا و الدين ‪ ..‬و دون أدنى مجهود مني ُقّدمت لي عدة دعوات‬
‫لزيارة أخوات في بيوتهن و حتى للقامة عندهن‪...‬خرجت رفقة فتاتين جامعيتين متشوقتين لمعرفة‬
‫أخبار الجزائر و الجزائريين ‪ ..‬قمنا بالتجوال في أرجاء المدينة القديمة )فاس البالي( و كانت ترن في‬
‫‪ ) ..‬أذني كلمات من القصيدة الشعبية ) خلخال عويشة‬

‫في اليوم التالي خرجت بمفردي عازمة على أن أسيح في المدينة ‪ ...‬فلورانس ‪ ،‬مسجد تاجموعت ‪،‬‬
‫مسجد يوسف بن تاشفين ‪ ،‬سيدي حرازم ‪ ،‬مولي إدريس ‪ ,‬منتزه المرينيين ‪ ،‬دار السلح ‪ ....‬مناظر‬
‫رائعة‪ ..‬والمباني فيها الكثير من النسجام و التناسق‪ ،‬والتواصل مع الماضي ‪ .‬و تعكس الكثير من‬
‫الذوق و الحساس بالجمال‪ ،‬و الحس المدني‪...‬المغاربة بارعون في البستنة ‪...‬مرة أخرى أحسست‬
‫‪..‬بغصة‪....‬و أنا أسترجع في عمراننا مظاهرا للفوضى و التسيب و ا لعنف والتخلف‬

‫‪4‬‬
‫ذهبت إلى جامعة" ظهر المهراس" طلبا للستفادة من أساتذتها و باحثيها في ميدان تخصصي ‪ ..‬فلم‬
‫ي بذلك‬‫‪...‬يبخلوا عل ّ‬
‫ما سخيناش بك آختي " عبارة رقيقة رددها علي الكثيرون من أهل فاس ‪...‬و يعلم ال مقدار ما "‬
‫‪.‬أحسست به من ألم و أنا أغادر هذه لبلدة الطيبة‬

‫عرضت علينا طوال الرحلة كانت‬ ‫ركبت في حافلة قاصدة الدار البيضاء … جميع الغاني التي ُ‬
‫لمطربين جزائريين‪ ،‬فإضافة إلى أغنية " يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتوّلي" التي تسمعها في كل‬
‫مكان هنا في المغرب ‪ ،‬وبعض أغاني الراي ‪،‬استمعنا إلى أشرطة كاملة لدحمان الحراشي‪ ،‬و إالى‬
‫أشرطة لرابح درياسة لم أستمع إليها قيل ذلك ‪ ..‬و أدهشني مدى تجاوب الركاب مع هذه الغاني‪...‬‬

‫زرت "درب غّلف" و السوق المركزي و مشيت في" المعارف" و أكلت الحوت عند " أمين" ‪..‬‬
‫طلعت على الختلف الكبير في مستويات المعيشة بين مختلف الحياء ‪ ...‬و مشيت في الزقة‬ ‫اّ‬
‫الضيقة ‪ - ..‬ماسحو الحذية منتشرون في كل مكان ) و كذا الحمالون ( لكن ل ترى عليهم بوادر الذل‬
‫وهم ل يلحون عليك ‪ ..‬تجولت في أحياء كثيرة تسكنها طبقات اجتماعية متابنية ‪...‬لم اسمع كلمة فاحشة‬
‫واحدة ‪ ....‬يتخاطب الناس بينهم بكلم مهذب )أنعام آختي‪ ،‬أنعام آخوي‪ ،‬أ الشريفة‪ ،‬عافاك آختي‪ ،‬نجاك‬
‫‪...).‬آخوي‪ ،‬بصحة وراحة‪ ،‬ال يسامح‪ ،‬ال يعطيك الستر‬
‫ركبت سيارة أجرة قاصدة " باب مراكش" ‪" ..‬أنعام أ الشمالية؟" … أراد السائق أن يعرف التجاه‬
‫الذي أقصده‪ ..‬و هو يحسبني – كغيره ممن رآني لول مرة‪ -‬من الشمال المغربي‪ .‬وعندما تكلمت‬
‫حسبني من الشام ‪ ..‬فالجزائريين في اعتقاده )دوزيام فرنسيس( يتحدثون بالفرنسية ‪ .‬و عندما أجبت‬
‫بالنفي سألني ُمستبعدا )ربما لهندامي( ‪ :‬تونسية؟ ‪ ..‬قلت "ل" ‪..‬سكت ‪ ..‬و انتظر أن أواصل ‪ ..‬ولّما‬
‫طال صمتي ‪ ..‬خّمن ‪ ،‬و كأّنه تذّكر وجود جزيرة نائّية‪" ...‬دزيرّية" ‪ ..‬ثّم أضاف و قد تغيرت نبرات‬
‫صوته " فحاال فحال أحنا خوت‪ ."..‬سائق آخر ‪ ،‬و هو شاب نشيط قال لي "الجزائري مزيان ‪.....‬لكن‬
‫غيرأمشي امعاه نيشان‪"...‬‬
‫شباب ‪ ..‬مكان محترم‪ ...‬هادئ و نظيف‬ ‫قصدت باب مراكش‪..‬و رأيت أن أقضي ليلة في دار لل ّ‬
‫و جميل الموقع يرتاده السياح من مختلف العمار و الجنسيات‪ ..‬سمحت لي ليلتي تلك بالحتكاك بأناس‬
‫حّرم على الجانب‬ ‫جاؤوا من مختلف بقاع الرض‪ ..‬و ُفتحت أمامي نافذة على العالم‪ ..‬و قد جئت من بلد ُ‬
‫‪...‬منذ سنين طوال‬
‫في اليوم التالي ذهبت لزيارة السيد "عبد الجبار معطي" في المدرسة العليا للساتذة ‪ ...‬و هو أستاذ‬
‫قدير زارنا في الجزائر و كنت أنصت لمحاضراته بكل شغف‪ّ ..‬أعجبت ببراعته في اللقاء و بسعة أفقه‬
‫و غزارة معلوماته و إتقانه للغتين العربية و الفرنسية ‪ ..‬ذهبت إليه دون سابق إشعار ‪ ..‬و كان منتهى‬
‫جها ‪ ..‬فوجدت فيه الخ الكريم ‪...‬دعاني للذهاب‬ ‫ي بعضا من وقته الثمين ناصحا و مو ّ‬ ‫أملي أن ينفق عل ّ‬
‫إلى منزله ‪ ..‬بيت جميل حديث البناء في "سيدي برنوسي" ‪ ..‬الجو السري راق ‪ ..‬أحسست منذ‬
‫ي‪..‬و لن أنسى ما حييت كرم الضيافة الذي حظيت به من قبل زوجته‬ ‫الوهلة الولى أنني بين أهلي و ذو ّ‬
‫وهي امرأة فاضلة و أم من الطراز الرفيع‪ ..‬كما لن أنسى عفويتها و نشاطها الفائق و تربيتها الراقية‬
‫ح عليك بالسؤال إشباعا‬ ‫لبنائها و بناتها ووعيها الكبير بمسؤولياتها‪ ...‬وأّثر في نفسي كثيرا أن ل أحد يل ّ‬
‫‪..‬لفضول‪ ..‬بل إنهم ل يسألونك حتى كم تنوي البقاء عندهم‬
‫سؤال لم أجرأ على طرحه على أهل هذا البيت الطيب‪..‬بقي معلقا في نفسي لمّدة ‪ ":‬كيف أحظى بهذه‬
‫المعاملة الخوية وأنا أعلم بأن هذه السرة الكريمة عانت من سلوك بعض الجزائريين‪ -‬و هم مع السف‬
‫من طبقة مثقفة ‪ -‬ومن جحودهم واستغللهم ؟"‪ ..‬لكن هذا السؤال ما لبث أن تلشى عندما اقتربت منهم‬
‫أكثر‪ .. ..‬فهذا الستاذ مغربي أصيل‪ ..‬والكرم طبع فيه‪ ..‬و هول يحمل ضغينة و ل يعّمم أحكاما ‪ ..‬خاصة‬
‫‪..‬عندما يتعلق المر بجزائريين‬

‫‪5‬‬
‫و لقد لمست هذا في عّدة مناسبات‪ ..‬المغاربة يحسون بتعاطف كبير و بحنين للجزائر و للجزائريين‪...‬‬
‫حنين الخ الذي ُفصل عنوة عن أخيه‪...‬وهم يلتمسون لهم العذار " معليهش مساكين‪...‬أحنا فحال‬
‫فحال" ‪ ..‬واستغربت كثيرا أن أجد هذا التفهم من طرف مغاربة التقيت بهم‪ ..‬تضرروا كثيرا من‬
‫معاملت جزائرية‪ ...‬فمنهم من طرد في منتصف السبعينات فاقدا مصدر رزقه و كل ممتلكاته وُمبعدا عن‬
‫أقرب الناس إليه‪ ...‬و منهم من لديه والد أو قريب قتل أو سجن لعشرات السنين في غياهب الصحراء‪...‬‬

‫تجولت في شوارع " كازا"‪ ..‬المدينة التي تجمع متناقضات عجيبة ككبريات المدن ‪ ..‬راقني الجو في‬
‫" ماك دونالد"‪ .‬أكلت و أنا أتأّمل ما حولي و من حولي في المكان الذي يمتد على مرمى البصر‪ ..‬تبادلت‬
‫ابتسامات مع أطفال تفيض السعادة من عيونهم و هم يلتهمون بنهم كبير أكلتهم المفضلة في علب‬
‫رائعة‪ ..‬ووجدت أفكاري تحّلق في جّو آخر‪ :‬أسماء المدارس والشوارع التي مررت بها في المغرب ‪،‬‬
‫باستثناء أسماء الملوك‪ ،‬هي في الغالب أسماء بلدان أو مدن‪،‬أو زهور‪ ،‬أو معاني جميلة ) مثل التقدم و‬
‫المعارف‪، (..‬أو معالم و أحداث‪ ..‬أو شخصيات تاريخية عريقة تملؤك إحساسا بالعتزاز و بالمتداد‬
‫طول و عرضا‪...‬أسماء الشوارع‪ ،‬والمدارس و الجامعات و المطارات في الجزائر‪ ..‬هي أسماء‬
‫"ثورية"‪ ،‬تذكرك على الدوام بالمحن و البؤس و الموت و المذابح‪ ...‬تسد الفاق أمامك‪ ...‬تجعلك تح ّ‬
‫س‬
‫بالحباط ‪ ..‬أو بالعتزاز المبالغ فيه المفرغ من معناه‪ ،‬و الذي يغرس فيك العدوانية و الغرور و‬
‫الحساس الكاذب بالتفوق على بقية الشعوب‪ ..‬و كثيرا ما تذمرت منذ طفولتي من هذه السماء‬
‫و الشعارات التي تغرس فيك توجها )ثوريا( وتشدك إلي الوراء بأغلل من حديد‪... ...‬ألم يستشهد آباؤنا‬
‫لنحيا نحن؟ أل توجد طرق أخرى للعتراف بتضحياتهم و لتخليد أسمائهم‪ ،‬دون أن تتوجه أذهاننا‬
‫باستمرار إلى المعارك ودون أن ترتسم لدينا ديكورات الحرب؟‬
‫طلب مّنا كتابة موضوع إنشائي يدور حول حب‬ ‫و أذكر أنني في الصف السادس البتدائي عندما ُ‬
‫المدرسة كان من بين ما كتبت" ‪ ...‬أحلم أن يستبدل اسم مدرستي باسم عالم فذ من السلف مثل ابن‬
‫سينا أو جابر بن حيان أوبن الهيثم أو ابن باديس لنحتذي حذوهم‪ .. .‬نحن نحترم الشهداء و ندين لهم‬
‫بالستقلل لكننا نريد أن نتجاوز فترة الحرب لنبني و طننا بالعلم و العمل و كان هذا أمل الشهداء ‪.. ".‬‬
‫و كانت مدرستي تحمل اسم شهيد لم يحكوا لنا عنه شيئا يوما‪ ..‬طبعا لم يعجب هذا الستطراد المعلمة‪،‬‬
‫و عزته إلى وقاحتي المعهودة ‪ ...‬فالشهداء هم سّر وجودنا وعلة حياتنا و منتهى انتمائنا‪ ...‬و الحديث‬
‫عنهم وعن أمجادهم و بطولتهم وعن الثورة المظفرة و الحلف الطلسي و الستقلل المعجزة‪ ..‬هو‬
‫خَونة‪ُ....‬تصاب بدوار و يملؤك‬‫خبزنا اليومي ‪ :‬المكتسبات الثورية‪..‬المعارك‪ ..‬مجاهدون‪ ..‬شهداء‪َ ...‬‬
‫إحساس ُمحبط يخنقك ‪ :‬إحساس بأن جذورنا تمتد إلي عام ‪ ,1954‬وفي أحسن الحوال إلي عام‬
‫ي حّد أثمرت فينا هذه المجهودات التربوية ؟ ‪. ..‬وإلى أي مدى ساهم هذا‬ ‫‪ .. 1830‬واليوم أتساءل إلى أ ّ‬
‫التوجيه الثوري للذهان بجميع إفرازاته في تبني أبناء جيلي لمواقف" ثورية" و في نسج خيوط‬
‫المأساة التي سحقتنا لمد طويل ؟‬

‫اشتريت تذكرة قطار الدار البيضاء – مراكش ‪ ..‬تذكرة درجة ثانية هذه المرة طلبا لحتكاك أكبر مع‬
‫عامة الناس‪ ..‬داخل القطار شّدني صوت مهّذب واضح منبعث من مكّبر ‪ ،‬يرحب بالمسافرين بلباقة‪ ،‬يعلن‬
‫‪.‬عن دخول كل محطة‪ ،‬ويعتذر باستمرار عن كل تأخير و يبّرره‬
‫ي مجهود للنسجام مع من حولي ‪ ..‬سألتني سيدة جالسة قبالتي عن انطباعاتي حول‬ ‫و كالعادة لم أبذل أ ّ‬
‫زيارتي و في مجرى الحديث عّبرت لها عن إعجابي بظاهرة أصادفها لّول مرة وهي ارتياد تلميذ‬
‫المدارس و طلبة الجامعات ‪ ،‬إناثا و ذكورا‪ ،‬فرادى و جماعات للماكن العامة والحدائق يراجعون فيها‬
‫دروسهم بكل جدية – قلت ذلك و أنا أسترجع مناظرا مقّززة لحدائق عامة في بلدي أكلها الهمال‬
‫وتحولت إلى أوكار للفساد بجميع مظاهره‪ -‬حركت السيدة رأسها مبتسمة و لم تعّلق ‪ .‬وعندما نزلت من‬
‫القطار استدرك أحد الشباب وهو طالب في السنة الخامسة طب قائل " سأشرح لك أسباب هذه‬
‫الظاهرة ‪ ..‬الصهد )شدة الحر(‪ ،‬وضيق البيوت وانعدام المكتبات" استغربت لتوضيحاته فهو يعلم أنني‬

‫‪6‬‬
‫جزائرية‪ ،‬ويعلم الحساسيات التي بين بلدينا ‪ ،‬ولم يمنعه ذلك من تقديم هذا التفسير حتى ل أنبهر بظاهر‬
‫الشياء‪..‬‬
‫انتزعني من شرودي صوت سيدة جالسة بجانبي و هي تسألني " هل زرت مسجد الحسن‬
‫الثاني؟" ‪..‬عّبرت لها عن إعجابي بشساعة المكان وجمال التصميم وروعة الموقع ودقة التنفيذ ‪..‬‬
‫لكنني أضفت أن ما لم يعجبني هو اختلط )أو اقتراب ( مكان العبادة بأماكن اللهو و اللعب ‪ ...‬قالت بدون‬
‫تحمس "ذلك المكان كان سيتسع ليواء كل المغاربة المحتاجين إلي سكن"‪ ،‬وعندما بقينا لوحدنا في‬
‫العربة قالت " ل أقصد من حيث المساحة فقط بل أعني من حيث تكاليف البناء التي دفعت من جيوبنا‬
‫‪"..‬‬
‫و استغربت بشدة أن أسمع منها مثل هذا التعليق‪ ...‬من قال بان المغاربة يخافون من ظلهم ول يقربون‬
‫‪...‬السياسة ؟‪ ...‬أم هي رياح الديموقراطية لم تخطئ طريقها إلى المغرب‬
‫ن الموظفين المغاربة ل يعملون وقت الصلة ) ‪11‬سا‬ ‫كان ذلك يوم جمعة‪ ..‬اكتشفت من حركة الشارع أ ّ‬
‫ن لهم الوقت الكافي للستعداد للعبادة‪ ....‬و هم بعد ذلك ينتشرون في الرض يبتغون‬ ‫– ‪15‬سا( و أ ّ‬
‫فضل من ال ‪ ..‬كما أن الكثير من الخواص " تجارا و غيرهم " يجعلون من يوم الجمعة يوم راحة‬
‫‪...‬لهم‬
‫نزلت في فندق بسيط لكنه نظيف في " غليز" و هو ملك للسيد " بناني" ‪ ،‬رجل محترم كنت قد التقيته‬
‫و زوجته الطبيبة في فندق "عمور" بفاس ‪ ..‬خرجت لزيارة " البهجة" المدينة الجميلة الحمراء داخل‬
‫عربة جميلة يجّرها حصان‪....‬الحرارة تلفح الوجوه‪ ..‬لكن انخفاض الرطوبة يجعلها محتملة ‪ ..‬وصلت‬
‫إلى جامع الفناء "لفنا" ‪ ..‬ساحة الغرائب ‪..‬نزلت‪ ...‬ووقفت لمّدة أتأّمل ما يحدث فيها من عجائب‬
‫المور‪ ...‬كالتفاف جمهور كبير من الرجال و النساء من جميع المستويات مكونين حلقة‪ ..‬تتربع في‬
‫الوسط امرأة متوسطة السن تهمس في أذن رجل ببدلة أنيقة و ربطة عنق و هو جالس القرفصاء و‬
‫يستمع إليها بخشوع‪...‬ثم جاء دور رجل آخر‪ ..‬ثم امرأة ‪ ...‬كان الصمت يخيم على المكان ‪ ...‬ما لبثت أن‬
‫غادرت هذا المشهد و اتجهت نحو "بائع لحريرة"‪ ..‬اعترض طريقي شخص كأنه خرج لتّوه من كتاب‬
‫أصفر للتاريخ ‪ ..‬فزعت و صرخت عندما وضع أفعى حول عنقي ‪ ...‬أسرعت في مشيتي تفاديا لموقف‬
‫مشابه‪ ..‬احتسيت صحن "الحريرة" واقفة و أنا مبهوتة لما يحدث أمامي‪..‬‬
‫مشيت بعدها نحو القلعة‪..‬الطريق جميل و شاعري‪ ..‬تتبعني شاب على دراجة ‪ ...‬هرولت في مشيتي‪ ..‬ثم‬
‫ن معاكساته كانت مهّذبة و رقيقة و أنه لم‬‫غيرت منحى طريقي ‪ ..‬لكنه بقي يسير ورائي – ل أنكر أ ّ‬
‫ينبس بكلمة مِؤذية – استجمعت كل شجاعتي و وقفت ‪ ...‬استدرت نحوه قائلة " سر في حالك"‪ ..‬أحنى‬
‫‪.‬رأسه و عاد أدراجه دون أدنى تعليق‬
‫ت في اليوم التالي جامعة السمللية حيث ل أعرف أحدا و ل يعرفني احد‪...‬سألت عن مخبر‬ ‫قصد ُ‬
‫جهت إلى السيد " بّواب" و كان حينها مديرا‪ ..‬تأثرت لحسن استقباله‪ ..‬قادني‬ ‫التعليمية "ديداكتيك" فُو ّ‬
‫إلى المخبر‪ ..‬فرحت لجُو العمل السائد هناك ‪ ..‬لمست عند هؤلء الخوة )أذكر من بينهم السيد فؤاد‬
‫شفيقي( إقبال طيبا على البحث في هذا التخصص الجديد‪ .‬واستغلل جيدا للمكانيات المتوفرة لديهم‪-‬‬
‫على قلتها ‪ -‬ومقدرة على توظيف تقنيات البحث و إطلعا على مختلف التجاهات و استفادة من مختلف‬
‫المناهج‪ ...‬كما وجدت لديهم قناعة بإمكانية التكامل مع الجزائريين و رغبة في تكوين علقات تعاون‬
‫‪..‬معهم ووعيا بضرورة توحيد الرؤى‬
‫ت أنني – وأنا أخطو الخطوات الولى في هذا الميدان – قد نهلت من مراجع مغربية في علوم‬ ‫وتذكر ُ‬
‫ي أستاذ فاضل كان آنذاك مستشارا ثقافيا في‬ ‫التربية و البستمولوجيا و تعليمية العلوم ‪ ..‬جاد بها عل ّ‬
‫ن أول من لجأت إليه طالبة يد المساعدة هو الستاذ محمد كوحيلة من‬ ‫سفارة المغرب بالجزائر ‪ .‬و أ ّ‬
‫ي بآرائه القيمة و توجيهاته و نصائحه التي‬ ‫المدرسة العليا للساتذة بمراكش ‪ ..‬راسلته‪..‬فلم يبخل عل ّ‬
‫أنارت طريقي في رسالة الماجستير و أجلت الكثير من الطلسم… و سأطل ممتنة للستاذين الجليلين ‪..‬‬
‫‪ ..‬حافظة للجميل‬

‫‪7‬‬
‫رجعت إلى الفندق‪..‬جاء السيد بناني و زوجته و اصطحباني إلى بيتهما الجميل‪..‬وهناك تعرفت على‬
‫أطفالها الربعة المتقاربين في السن‪ ..‬كلهم في المرحلة البتدائية من التعليم‪ : ..‬فاروق و علي و عمر و‬
‫هند ) و ليغفروا لي إذا خانتني الذاكرة إّنما لختيار السماء دللة كبيرة(‪ ..‬أربعة من الملئكة فيهم‬
‫الكثير من براءة الطفولة و رقتها و تلقائيتها‪..‬و روح الدعابة و اتقاد الذكاء و الدب الجم و التربية‬
‫الدينية الراقية ‪ ..‬و من سياق الحديث عرفت أنهم يدرسون في مدارس أجنبية )فرنسية و أنجليزية(‪...‬ل‬
‫‪..‬أنكر استغرابي حينها‪...‬إذ أنهم يتخاطبون بلسان عربي مبين‬
‫التعليم الجنبي هنا‪ ..‬التكوين الراقي و إتقان اللغات‪ ..‬ل يطمس الشخصية إذن ‪..‬ول يخلخل ُبنى الهوية‪..‬‬
‫‪..‬ول يمنع من التحكم في اللغة الم و ل يعني التغريب‬

‫‪ " -‬المغرب غابة ما تبحثين عنه تجدينه"‪ ،‬عبارة قالها لي احد الخوة المغاربة المقيمين بالجزائر‪،‬‬
‫أدركت معناها عند نهاية زيارتي هذه‪ ...‬غابة بتنوعها و وفرتها‪ ..‬لكّننا لم نسمع إل عن وجهها المقفر و‬
‫مناطقها الجرداء‪ ....‬لم تبلغ بي السذاجة درجة أنني لم أقف على مظاهر لم ترقني ولم يمنعي انبهاري‬
‫من الطلع على وجه آخر للمغرب‪ ،‬لكنه وجه لم يفاجئني هذه المرة لنه ل يمكن أن يبلغ درجة‬
‫الفضاعة التي يتوقعها من جاء من الجزائر‪ ...‬و هذه بعض ملمح هذا الوجه ‪:‬‬
‫‪..‬عايشت الفقر المدقع الذي يهوي بصاحبه إلي الحضيض ‪-‬‬
‫شباب تعج بهم شوراع الرباط يشمون خرقة داكنة ويترنحون في مشيتهم وهم خطرون ل أحد ‪-‬‬
‫‪...‬يلحقهم ول يحسون بأنهم مهددون‬
‫‪ -‬يتحدث الكثير من الشباب عن تفشي الرشوة وأنها القاعدة وليست الستثناء فل توظيف بدون‬
‫ن المتحانات و المسابقات شكلية وهذا يجعلهم– خاصة أصحاب الشهادات منهم‪ -‬يحسون‬ ‫رشاوى كما أ ّ‬
‫بإحباط شديد‪ ...‬ولقد عاينت بنفسي بعض مظاهر ذلك في إحدى المصالح الدارية‪ ،‬إذ لمست تأثير ورقة‬
‫من ‪ 10‬دراهم على سرعة الخدمات المقدمة و نوعيتها ‪..‬‬
‫كل واحد داخل سوق رأسه " و" اشكون أداها فيك "‪....‬هذا ما تلتمسه جليا هنا و يجيبك علي " ‪-‬‬
‫الكثير من التساؤلت‪ ..‬مثل قلة التكافل الجتماعي في المدن الكبرى و الحرية الكبيرة التي تتمتع بها‬
‫بعض البنات و المستغلة أحيانا في الفساد ‪..‬والظاهرة الجديدة التي انتشرت نسبيا و المتمثلة في زواج‬
‫المغربيات من أجانب غير مسلمين – وقد يمثل بعضهم دور من أسلم داخل مسجد يدخله للمرة الولى و‬
‫‪...‬الخيرة‪ -‬و من هؤلء أفارقة قادمين من مناطق نائية و مجتمعات بدائية‬
‫استغربت من أشخاص من مختلف المستويات الجتماعية والثقافية يبدون تفهما بل أحيانا نوعا من ‪-‬‬
‫التعاطف مع نساء فاسدات ‪ -‬رغم تقدم بعضهن في السن ‪ -‬بحجة أنهن في حاجة مادية‪...‬أو هم ينظرون‬
‫للمر على أنه ظاهرة طبيعية لم يخُل منها مجتمع على مّر العصور‪ ...‬و لهم في ذلك أكثر من طرح‪ ..‬ذلك‬
‫‪ ..‬رغم نواقيس الخطر التي تدق بقوة‬
‫‪ -‬استمعت إلي شخصيات في مراكز علمية و إدارية مرموقة تتحدث بعدم استنكار ) حتى ل أقول بقناعة(‬
‫أدهشني عن خورا ق المنجمين مثل الحاجة" بريكة" في شويطر بمراكش وزبائنها من الطبقة الراقية‬
‫والمثقفة ‪ ...‬و عن صعوبة الحصول على موعد عندها‪ ....‬وعن صدق تنبؤاتها‪...‬‬
‫‪ -‬سألت أستاذا متمّكنا وذا كفاءة عالية " و هو من ا لشاوية" عن نتيجة ترشحه لحد المناصب‬
‫الدارية ‪ ،‬فأجاب بأن أستاذا آخر فاز بالمنصب لنه قريب منه في المؤهلت لكّنه من" الشرفاء "…‬
‫ن النتيجة لم تفاجئه إطلقا و " المقياس" ل‬ ‫هممت بإبداء استنكاري الشديد و لكنني أحجمت إذ أ ّ‬
‫يضايقه و ل اعتراض له عليه‪ ..‬بل هو مقّر به ‪ ،‬مدافع عنه‪ ..‬قلت فقط " لكن ل شريف و ل وضيع‬
‫ن أكرمنا عنده أتقانا‪ ..‬و هو سبحانه‬ ‫ف شريف العمل‪ ..‬و كلنا عباد ال و إ ّ‬ ‫بالّنسب في السلم‪ ..‬و الشري ُ‬
‫ما جعل محّمدا أبا أحد من رجالنا‪...‬و كّلنا من آدم و آدم من تراب‪..‬و‪ "..‬كنت أنظر إليه‪ ..‬لم يلق كلمي‬
‫ن هذه القناعة متجّذرة في نفسه ‪ ..‬ول يمكن لرأيي أن‬ ‫ي صدى في نفسه – اللهم إّل التذّمر‪ -‬ففهمت أ ّ‬ ‫أ ّ‬
‫يغّبر من المر شيئا‪..‬‬

‫‪8‬‬
‫ن السفار هي من أهم مصادر للعلم‪ ..‬هذا ما تفطن إليه‬‫دامت زيارتي للمغرب أسبوعين‪ ..‬اكتشفت أ ّ‬
‫ن قراءة عشرات الكتب حول المغرب ما كان ليعّوضني عن الحتكاك و‬ ‫أسلفنا و عملوا به‪ ...‬و أ ّ‬
‫‪ .‬المعاينة و ما كان ليترك في نفسي مثل هذا الثر‬
‫رافقني إلي المطار سيدة مغربية وزوجها‪ ،‬كانا في منتهى الكرم و الرقة‪...‬أحسست وأنا أصافحهما‬
‫ممتّنة موّدعة بأنني أتقيأ مزيجا أسودا مرا‪ ..‬مزيجا كان رغيفي اليومي خلل سنين طوال‪ .‬دخل‬
‫جوفي ‪ ..‬واستقّر في أعماقي وأصابني بمغص دائم كثيرا ما تحكم في نفسيتي‪..‬و شكل رصيدي الكبير‬
‫‪...‬من الكبرياء و الغرور والذاتية و الحقد و العدوانية‬
‫‪.‬عندما وطئت قدماي أرض الطائرة انتابني إحساس قوي بالحنين إلي المغرب‬
‫منى المالكي‬
‫الجزائر‬
‫‪mouna_elmalki@hotmail.com‬‬

‫‪9‬‬

You might also like