Professional Documents
Culture Documents
لم أكن أعتقد يوما بأن زيارة أقوم بها للمغرب ستزلزلني وتحدث في نفسي كل هذا التأثير .وبأنها
ستكون بداية لرحلة شاقة مع ذاتي أراجع فيها بجّد ما غرسته فينا الخطابات السياسية المكثفة -على
مّر عقود -من أفكار جاهزة وأحكام مّقننة ومفاهيم مغلوطة ،وما أنتجته فينا من ردود أفعال ومن
.انعكاسات شرطية
وعندما وجدتني ،أسجل،على غير عادتي ،وبتلقائية ،هذه النطباعات ،كنت أنوي أن أرجع إليها كما
ٌ.يرجع إلي ألُبوم صور حوى ذكريات جميلة نريد أن نحميها وأن نجنّبها الترّهل بعوامل الزمن
...ولم أفكر يوما أن تتعدى كتابتي – بحكم تخصصي – مجال العلوم الفيزيائية أو مجال البحث العلمي
وبعد عودتي إلي الجزائر حاولت أن أنقل لبعض ا لزملء في الجامعة عّينة من هذه النطباعات
جر هو نتاج من الرواسب ذاتها ...عندها رأيت من واجبي، فاصطدمت بجدار متين من الرفض و التح ّ
وإن لم يكن من اختصاصي ،البحث عن وسيلة أخرى ليصال بعضا من هذه الخواطر ،....وأنا أعي
بأنني ل املك ناصية الدب ،و أدرك بان ما كتبته ل يتعدى ذاتيتي الضيقة ،وبأن به الكثير من النبهار
قد يصل حّد المغالة ،وأّنه ل يرقى إلى ا لدراسة الجاّدة والتحليل الموضوعي ...وأنا ل أّدعي ذلك ول
أرمي إليه ،كل ما أرومه هو أن يشاركني إخواني من الجزائريين والمغاربة جوانب من رحلة حررت
جر على أفكاري و تشّد إلى الرض نفسا تتوق نفسي من الكثير من الغلل التي كانت تكّبل رؤاي و تح ُ
...إلى التحليق في ملكوت ال و رحابه الواسعة
كنت آنذاك) صيف (1999أستاذة تعليم ثانوي و طالبة علم أبحث في ميدان جديد في بلدي هو طرق
تدريس المواد العلمية )يدعوه البعض تعليمية العلوم( في وقت كان فيه البحث العلمي عندنا – نظرا
للظروف المأساوية التي كنا نمر بها – لغوا و ترفا. .بينما أصبح تطوير المناهج التعليمية ضرورة
و أولوّية ...وعزمت على الذهاب إلي المغرب ،بإيعاز و تشجيع من إخوان مغاربة ،للطلع على
....الشواط الطيبة التي ُقطعت هناك في هذا المجال والستفادة منها
وصلت مطار هواري بومدين محّملة بأفكار جاهزة ....فالمغرب في ذاكرة جيلي هو معقل لقوى
المبريالية و رمز للرجعية و الستبداد و قهر الشعوب ،وهو بلد السحر والشعوذة والجوع والفقر
المدقع والدروشة والتضليل بالدين ،وهو بلد المذلة" وسيدي ول لل " والنحناء و الركوع للشخاص
.و تقبيل اليادي
المغرب في ذاكرتنا هو بلد الظلم و الطماع التوسعية التي غدرت بنا قبل أن تلتئم جراحنا ،وقبل أن
تجف دماء شهدائنا ،هو بلد العتداء الجبان لعام 1963الذي طعننا في ظهورنا ليئد فرحتنا
بالستقلل و ليحني رؤوسنا التي كانت ترنو إلى التمتع بشمس النعتاق و الحرية ،و هو قبل ذلك قد
خان العهد و خذلنا إذ قبل استقلله ...استقلل مبتورا ..في حين كان مجاهدونا يعملون على تحرير كّل
منطقة المغرب العربي ...المغرب هو التهديد لخلق شبابنا بأنواع المناكر والمخدرات و فنون العهر
...و الموبقات
أردت أن أعيش الرحلة منذ النطلق ،فكانت على متن طائرة تابعة للخطوط الجوية المغربية.فاجأتني
اللباقة الفائقة للطاقم ورقة المضيفات و خفتهن والنوعية الراقية للخدمات ..
كان مقعدي مقابل لمقعد سّيدة مصحوبة بابنها الصبي و ابنتها الرضيعة ،ابتسمنا لبعضنا عندما بدأت
الطفلة تتواصل معي بصوتها و بالتلويح بيديها ،وعندما عرفت من لهجتها أنها من المغرب .بدأت
أتفرس في وجهها خلسة و أحّدق في ملمحها و أراقب تصرفاتها...و كأنني ،بدون وعي مني،أحاول
أن أطابق في نفسي بين صورتين مختلفتين .راقني كثيرا جمالها الطبيعي ورقتها و عنايتها الفائقة
بطفليها .ولم نلبث أن بدأنا نتجاذب أطراف الحديث بتلقائية كبيرة وكأننا نتعارف منذ مدة .هي سيدة من
مكناس زوجة جزائري ،كانت تسكن في حي الكاليتوس بضواحي العاصمة -و هو من المناطق التي
كانت تعاني الويل في تلك الفترة -هي لم تتحّدث عن هذه المعاناة ،ول اشتكت من اليام و الليالي
1
الحالكة التي قهرت سكان هذا الحي ،و كأّنها تعتبر ذلك من السنن الكونية أو لعلها تدخله في باب
البتلء .. ...لكنها تحّدثت عن جارات لها و قريبات لزوجها يلححن عليها بالسؤال " زوجك كان عصبيا
جدا و متمّردا و قاسيا ...ماذا فعلت لتجعليه طيبا هكذا؟ " ،وكانت تجيب ما استطاعت مطّعمة إجابتها
ح لتكشف عنه ....سر آخر يتعدى سر و تل ّ
ن سائلتها تبقى تبحث عن ال ّ ببعض النصائح...لكن فطنت أ ّ
الصبر والقناعة و حسن المعاشرة و الطاعة و ..سّر تملكه هي بدون ريب..لكونها مغربّية " مروكية"
ت قبل أن ُتكمل ..فضحكت و بدأت اسألها عن المغرب و أنا أداعب ابنتها التي لكنها تتكّتم عليه ...ضحك ُ
انسجمت معي كثيرا ..لمست في هذه السيدة صبر المرآة العربية وشجاعتها وكفاحها وقناعتها
..وطاعتها لزوجها وإخلصها له
طة القطار مشدوهة أتأمل من حولي و ما ت في مح ّ وطئت رجلي لّول مّرة أرض المملكة المغربية..وقف ُ
حولي ،وقف قبالتي في الرصيف الخر رجل ذو أنف كبير و بشرة صفراء و لحية كثيفة و قّبعة...حّدق
ي هكذا ،و كأنه
في طويل ..تلقت نظراتنا لثوان ..ساءلت نفسي :فيما يفّكر هذا الرجل و هو ينظر إل ّ
طن إلى أنني جزائرية ترى يهوديا لّول مّرة ؟ يدعوني أن أدنو منه أكثر لتحّقق من آدميته .تراه هل تف ّ
انتابني إحساس غريب .و قوي ...مزيج من الحاسيس المتضاربة ...لم املك تحليلها..لكنها هّزت
ت يومها أنني سأرجع منّ معالما بداخلي و حّركت أوتارا في أعماقي..و قرعت طبول في رأسي..و أيقن ُ
ت بالخوف الشديد على نفسي ...خوف من أن أفقد اتزانا ي الكثير ..وأحسس ُرحلتي هذه و قد تغّير ف ّ
شا ..إّل أنني عانيت الكثير من أجل إرسائه .و أعاني أكثر للمحافظة عليه، فكرّيا و وجدانّيا ..وإن كان ه ّ
وان استدعى ذلك أحيانا كثيرة إخماد صوت نفسي كّلما همست لي أن افتحي أبواب و منافذ قلبك المغلقة
بإحكام و أفسحي الطريق لنور ال....و أّنى لي أن أبني توازنا جديدا أكثر استقرارا وأقدر على الصمود
و قد نال مّني التعب و كادت الحداث التي دامت أمدا أن ُتصّيرني شبحا يتحّرك آليا و ل يلوي على
....شيء
ت صوت هواجسي و أجلت الصغاء إليها وقّررت أن أخوض غمار التجربة بكل عمق .أسك ّ
نزلت بفندق "شيل" و هو فندق راق في مدينة الرباط ..فنفسي الجريحة تاقت إلى شيء من الترف
ن لفظي" سيدي"و "لّل " ليسا من مظاهر المحظور عليها منذ سنين ...وهناك..لم ألبث أن أيقنت أ ّ
الذل التي تكّرس التفاوت الجتماعي كما لّقنونا ،بل هما من ألفاظ الدب التي تكثر هنا ،فرجل العمال
النازل بالفندق ينادي لعامل بسيط بلفظ "سيدي " ،وجميع سائقي التاكسي ،وعمال الفندق والمطاعم
ساسا في نفسي ...أنا التي كنت أستنكر ذلك يخاطبونني بلفظ " للل" ول أنكر أن ذلك يداعب وترا ح ّ
...يشدة
كان يقيم في الفندق مجموعة من الئمة جاؤوا من فاس لحياء المولد النبوي الشريف ) العيد علي حد
تعبيريهم( في الرباط ،راقبتهم عن بعد كأّول عينة من المغاربة تصادفني ..أعجبتني أناقة مظهرهم
)بجلبيبهم الجميلة مختلفة اللوان ( ونظافتهم ،و شدتني رقتهم و لباقتهم في الكلم ،وهّزني إنشادهم
و تراتيلهم .صليت العصر في مسجد السنة .داخل المساجد التقيت بفتيات جامعيات تبدو عليهن آيات
العفة والذكاء المتوقد ،رحبن بي بحرارة و تحدثن معي بالكثير من الحرية ،وعبرن بالكثير من التذمر
والسى عن الوضاع الجتماعية المتردية في المغرب ،وعن طموحاتهن ومشاريعهن وعن المل الذي
....كان يعقده الخوان المغاربة على بوادر التغييرات اليجابية في الجزائر ،قبل النكسة
في اليوم التالي سألت عمال من الفندق عن الماكن السياحية و المعالم الثرية في الرباط .تمشيت في
...المدينة العريقة ..يصاحبني احساس بالمن و المان لم أذق طعمه منذ أمد
قطعت مسافات كبيرة مشيا على القدام .جلست في أماكن عامة و ساومت بعض السلع. . .تفرست في
الوجوه.. ..النظرات صافية والوجوه مبتسمة و اللفاظ مهذبة ..صبر في المعاملة و " طول بال "
غريبة .تلفت انتباهك سرعة البديهة وروح الدعابة ......أناس يحترمون مواقعهم وحدودهم ....ل
تتداخل أطوال المواج ..تحس بذاتك و تحس بغيرك ...يتحدثون بصوت منخفض و بأدب ...هنا ل تطرق
أسماعك أصواتا ل تستسيغها ول ُتجبر على تتبع أحاديث ل تحبها ...ول تحدق فيك العين بشراهة أو
عدوانية ....ودون أن تطلب المساعدة تجد دائما متطوعين لخدمتك و توجيهك بمجرد ما ُيلحظ عليك
2
التردد ) أشنو تبغي أ الشريفة ؟( ،يبادرون بعرض و مساعدتهم وان كان طريقك يخالف طريقهم ،وان
ي كامرأة )احظيطلهم ..وهم ينصحون بالحذر إذا رأوا في الطريق بعض الخطورة عل ّ كان هذا يع ّ
راسك ( و بالحتراس )سّولي العيالت( ويرشدون الى الماكن الجميلة ،دون أن ينتظروا جزاء ول
شكورا ،فهم يوّلون راجعين قبل أن تلتفت إليهم شاكرا ) بل جميل (
زرت في اليوم التاالي ضريح محمد الخامس رحمه ال بمقاطعة حسان ..و هو معلم رائع...كما زرت
شارع التقدم و سوقه الشعبي ،اشتريت ذرى مشوية و زيتونا ) ما أكثر أنواعه هنا و ما أشهاها(،
غب في بضاعته ..انبهرت بمستوى لغته و ووقفت لمدة طويلة أمام عشاب أو طبيب شعبي و هو ير ّ
سعة اطلعه وسرعته الفائقة في الحديث و براعته في الدعاية لسلعته .انه فعل تحفة أثرية تجعلك
تحس بأّنك تسافر عبر الزمن إلى أسواق في بغداد في قرون ولت .و في السويقة ،استغربت لقبالي
على أكل )الببوش( أي الحلزون و ما كنت أعتقد أنني سأقوم بذلك يوما ..فنظافة الباعة توحي بالثقة ،
جع فضولك و تقضي على ترددك.. و حسن معاملتهم تش ّ
سرت بمحاذاة البحر أن وصلت إلى مكان وجدت فيه الناس يستقلون مركبا صغيرا بدرهم واحد ,
و كل مركب بتسع لستة راكبين ،يقطعون عبره نهر" بورقراق" قاصدين الضفة الخرى حيث مدينة
"السل" ..انتظرت مركبا فارغا ،صعدت فيه ،حييت صاحبه و اتفقت معه أن يّقلني بمفردي ..طلبت
ن من سكان السل أن بمكنني من التجول عبر طول الوادي و أن من عمي العربي ،و هو شيخ مس ّ
يحكي لي عن المنطقة و تاريخها ..استمتعت برفقته و دهشت لسعة إطلعه وحكمته و قناعته و شكرته
على دعوته لي لزيارة أهله و أكل الحوت ..كان ذلك عصر يوم جميل مشمس من ايام شهر جوان ..
وقفت في المركب أتأمل روعة المكان ..و حين وصلنا إلى شاطئ الرباط ،لم أقدر على مقاومة نداء
البحر ..فقفزت من المركب ..طمأنت عمي العربي ..و لّوحت بيدي مطمئنة جماعة من الشباب سبحوا
من الشاطئ ليهموا بإنقاذي..إذ رأوني في الماء بكامل ملبسي ...
عند رجوعي إلى الفندق فوجئت بوجود فرقة موسيقية أتحفتنا بأغاني شجية من الملحون أدتها بوقار
و خلقت جوا من الطرب الراقي .
مررت بمحلت راقية مثل "المرجان" و" السلم" ،و بقصور رائعة مثل قصر السلطان زايد آل
جه إلى )التمارة ( ،أزور سيدة مغربية كانت دعتني نهيان ،وبشواطئ جميلة ،ومناظر خلبة و انا أتو ّ
للعشاء عندها ،وهي كاتبة في إدارة متحصلة على ليسانس أدب عربي .،كان الستقبال رائعا والمعاملة
تلقائية والجو السري ممتازا ،و كانت الشقة " من أربعة غرف" جميلة و منظمة بذوق رفيع في حي
نظيف و هادئ ...لم أكن أتوقع أن مغاربة من طبقة الموظفين البسطاء ،يعيشون في هذا المستوى..
واستغربت كثيرا عندما ذكرت لي السيدة ،أنها ،بمرتبها ،تدفع إيجار البيت وحقوق تمدرس طفليها في
مدرسة خاصة..وأحسست -و أنا أقارن بإمكانياتي المادية و بمستوى المعيشة الذي يمكن أن توفره لي-
بالكثير من الغبن مطعما بالسى...
في اليوم الثالث حضرت مناقشة أطروحة تخرج في الطب في مستشفي ابن سينا حول مرض الربو
للدكتورة " بشرى المخلوف " من الراشدية ، .،تعرفت عليها في قطار الدار البيضاء – الرباط الذي
اقلني من المطار،دارت بيننا مناقشة ودية و كأننا نتعارف منذ مدة ،داخل قاعة المناقشة وجدت جوا
.إسلميا ساميا ،وروح الخوة والتعاون ،وكرما فائقا
- كما زرت المنظمة السلمية للتربية والعلوم ،وحصلت على مراجع هامة لها علقة ببحثي وأوصاني أحد
المسؤولين هناك بالتصال بالجنة الوطنية بالجزائر لبقى على إطلع على مشاريع المنظمة
ونشاطاتها ..و أحسست مّرة أخرى بالغبن الشديد.إذ اكتشفت أننا بالجزائر آخر من يعلم ومن يستفيد من
مشاريع المنظمات العربية و السلمية والدولية في هذا الميدان ، ،وسبق وان لمست ذلك عند زيارتي
..لمقرات اليونسكو ولمقر اللكسو بتونس
3
- في أغدال ،ذهبت إلى الجامعة أسأل عن الستاذ " صالح بن يامنة " و هوأستاذ مختص في تعليم العلوم
الفيزيائية و باحث تشيط و مشرف معروف في هذا الميدان ،لعله يساعدني على فك بعض اللغاز في
.بحثي و على إيضاح الرؤية ..فقيل لي بأنه أصبح مسؤول على مديرية الدعم بوزارة التربية
جهني إلى ذوي الختصاص في زرته هناك ..على غير موعد ..كان استقباله أكثر من لئق ..و ّ
,كلية العلوم بالسمللية و المدرسة العليا للساتذة بمراكش
مساءا حضرت مسرحية " جار ومجرور" ..شدني جمال السيناريو و حسن الداء،و الشجاعة في
الطرح ،وأعجبني جو المسرح .اذ كان الجمهور متفرجا ممتازا.
توجهت الى مدينة فاس عبر القطار ..الطبيعة رائعة ..كل شبر من الراضي مستغل خير استغلل..
جنات غناء ،والخير وفير. .وتحسرت وأنا أعيش ثانية مرارة الحساس الذي انتابني وأنا أ سافر إلى
تونس برا انطلقا من الجزائر ،مرورا بالراضي الجرداء ،التي التهمتها الشواك ،وتلك التي التهمها
السمنت ،وتلك التي تحولت إلي مستنقعات وإلى أماكن لرمي القاذورات ....دخل إلى العربة التي كنت
فيها رجل تبدو عليه علمات الوجاهة رفقة زوجته وابنته ..حّيوني بوقار ..بعد مدة خرج الرجل من
ي بأدب و احترام
العربة ،وعاد يستدعى زوجته وابنته و يأخذ متاعه ...ثّم رجع بعد قليل ..نظر إل ّ
خن ..تأثرت كثيرا بهذا الموقف ي منين بّدلتا المكان ،بحيث أنا كنكمي ".أي أد ّسمحي ل َوقال معتذرا " ا ّ
الراقي ...
أحسست بنوع من الخشوع و أنا أدخل مدينة فاس ..و كأني ألج إليها من باب التاريخ ..كّل منظر هنا ..
كل ركن ..يفوح بعبير الماضي و بعطر المجاد ..أمجادنا التي هي أمجادهم ... ..واغرورقت عيناي
ن لنا نفس الذاكرة ..و أننا نشترك في نفس الصول ..نفس بالدموع و أنا كأنما أدرك للمرة الولى با ّ
..المجاد ..و نتلقى في بوتقة واحدة في أمس قريب غير بعيد عن يومنا المشؤوم هذا
أردت أن يكون جامع القرويين أول معلم أزوره....دخلت ا لقصبة ..الزقة ضيقة غاصة بالمارة..لكن ل
تدافع و ل سباب ..ل مشادات ول اختلسات ..الرجال يحترمون النساء و يفسحون أمامهن الطريق..
و الباعة يعرضون سلعهم أو خدماتهم بهدوء و براعة ...التجار منتشرون في مناطق حسب الحرف :
الجزارين ،العطارين ،الدباغين ،النحاسين ...دخلت بعض الدكاكين أمّتع عيني بروعة جمال القفاطين
المغربية ..وقفت أمام لّبان أستمتع بشرب كأس من " الرائب" وأنا أصغي بطرب إلى الصوات
..المنبعثة من دكاكين الحرفيين
و صلت إلى جامع القرويين و بداخلي عرس..فهذا المكان المبارك كان و ل يزال منارة للعلم و الدين ..
و أعرف في بلدي من يتشرف بأنه نهل العلم من هذا المنبع الصيل الصافي ..و يذّكر بذلك كلما أراد
أن ينبه إلى رفعة مستواه العلمي ..عند عتبة المسجد توقفت للحظة للتأكد ..إذ رأيت الرجال و النساء
يدخلون و يخرجون من باب واحدة...وهم يتلقون في باحة المسجد ،عكس ما هو معمول به عندنا .
تنقلت في مختلف أرجاء المكان المقدس ،و صليت المغرب هناك ُ ..أعجبت بسيدات متقدمات في السن
يقرأن القرآن الكريم و يرتلنه بأحكامه .و بفتيات في مقتبل العمر في منتهى الرقة و الجمال يصلين
بخشوع ويسألن باهتمام عن أمور الدنيا و الدين ..و دون أدنى مجهود مني ُقّدمت لي عدة دعوات
لزيارة أخوات في بيوتهن و حتى للقامة عندهن...خرجت رفقة فتاتين جامعيتين متشوقتين لمعرفة
أخبار الجزائر و الجزائريين ..قمنا بالتجوال في أرجاء المدينة القديمة )فاس البالي( و كانت ترن في
) ..أذني كلمات من القصيدة الشعبية ) خلخال عويشة
في اليوم التالي خرجت بمفردي عازمة على أن أسيح في المدينة ...فلورانس ،مسجد تاجموعت ،
مسجد يوسف بن تاشفين ،سيدي حرازم ،مولي إدريس ,منتزه المرينيين ،دار السلح ....مناظر
رائعة ..والمباني فيها الكثير من النسجام و التناسق ،والتواصل مع الماضي .و تعكس الكثير من
الذوق و الحساس بالجمال ،و الحس المدني...المغاربة بارعون في البستنة ...مرة أخرى أحسست
..بغصة....و أنا أسترجع في عمراننا مظاهرا للفوضى و التسيب و ا لعنف والتخلف
4
ذهبت إلى جامعة" ظهر المهراس" طلبا للستفادة من أساتذتها و باحثيها في ميدان تخصصي ..فلم
ي بذلك...يبخلوا عل ّ
ما سخيناش بك آختي " عبارة رقيقة رددها علي الكثيرون من أهل فاس ...و يعلم ال مقدار ما "
.أحسست به من ألم و أنا أغادر هذه لبلدة الطيبة
عرضت علينا طوال الرحلة كانت ركبت في حافلة قاصدة الدار البيضاء … جميع الغاني التي ُ
لمطربين جزائريين ،فإضافة إلى أغنية " يا الرايح وين مسافر تروح تعيا وتوّلي" التي تسمعها في كل
مكان هنا في المغرب ،وبعض أغاني الراي ،استمعنا إلى أشرطة كاملة لدحمان الحراشي ،و إالى
أشرطة لرابح درياسة لم أستمع إليها قيل ذلك ..و أدهشني مدى تجاوب الركاب مع هذه الغاني...
زرت "درب غّلف" و السوق المركزي و مشيت في" المعارف" و أكلت الحوت عند " أمين" ..
طلعت على الختلف الكبير في مستويات المعيشة بين مختلف الحياء ...و مشيت في الزقة اّ
الضيقة - ..ماسحو الحذية منتشرون في كل مكان ) و كذا الحمالون ( لكن ل ترى عليهم بوادر الذل
وهم ل يلحون عليك ..تجولت في أحياء كثيرة تسكنها طبقات اجتماعية متابنية ...لم اسمع كلمة فاحشة
واحدة ....يتخاطب الناس بينهم بكلم مهذب )أنعام آختي ،أنعام آخوي ،أ الشريفة ،عافاك آختي ،نجاك
...).آخوي ،بصحة وراحة ،ال يسامح ،ال يعطيك الستر
ركبت سيارة أجرة قاصدة " باب مراكش" " ..أنعام أ الشمالية؟" … أراد السائق أن يعرف التجاه
الذي أقصده ..و هو يحسبني – كغيره ممن رآني لول مرة -من الشمال المغربي .وعندما تكلمت
حسبني من الشام ..فالجزائريين في اعتقاده )دوزيام فرنسيس( يتحدثون بالفرنسية .و عندما أجبت
بالنفي سألني ُمستبعدا )ربما لهندامي( :تونسية؟ ..قلت "ل" ..سكت ..و انتظر أن أواصل ..ولّما
طال صمتي ..خّمن ،و كأّنه تذّكر وجود جزيرة نائّية" ...دزيرّية" ..ثّم أضاف و قد تغيرت نبرات
صوته " فحاال فحال أحنا خوت ."..سائق آخر ،و هو شاب نشيط قال لي "الجزائري مزيان .....لكن
غيرأمشي امعاه نيشان"...
شباب ..مكان محترم ...هادئ و نظيف قصدت باب مراكش..و رأيت أن أقضي ليلة في دار لل ّ
و جميل الموقع يرتاده السياح من مختلف العمار و الجنسيات ..سمحت لي ليلتي تلك بالحتكاك بأناس
حّرم على الجانب جاؤوا من مختلف بقاع الرض ..و ُفتحت أمامي نافذة على العالم ..و قد جئت من بلد ُ
...منذ سنين طوال
في اليوم التالي ذهبت لزيارة السيد "عبد الجبار معطي" في المدرسة العليا للساتذة ...و هو أستاذ
قدير زارنا في الجزائر و كنت أنصت لمحاضراته بكل شغفّ ..أعجبت ببراعته في اللقاء و بسعة أفقه
و غزارة معلوماته و إتقانه للغتين العربية و الفرنسية ..ذهبت إليه دون سابق إشعار ..و كان منتهى
جها ..فوجدت فيه الخ الكريم ...دعاني للذهاب ي بعضا من وقته الثمين ناصحا و مو ّ أملي أن ينفق عل ّ
إلى منزله ..بيت جميل حديث البناء في "سيدي برنوسي" ..الجو السري راق ..أحسست منذ
ي..و لن أنسى ما حييت كرم الضيافة الذي حظيت به من قبل زوجته الوهلة الولى أنني بين أهلي و ذو ّ
وهي امرأة فاضلة و أم من الطراز الرفيع ..كما لن أنسى عفويتها و نشاطها الفائق و تربيتها الراقية
ح عليك بالسؤال إشباعا لبنائها و بناتها ووعيها الكبير بمسؤولياتها ...وأّثر في نفسي كثيرا أن ل أحد يل ّ
..لفضول ..بل إنهم ل يسألونك حتى كم تنوي البقاء عندهم
سؤال لم أجرأ على طرحه على أهل هذا البيت الطيب..بقي معلقا في نفسي لمّدة ":كيف أحظى بهذه
المعاملة الخوية وأنا أعلم بأن هذه السرة الكريمة عانت من سلوك بعض الجزائريين -و هم مع السف
من طبقة مثقفة -ومن جحودهم واستغللهم ؟" ..لكن هذا السؤال ما لبث أن تلشى عندما اقتربت منهم
أكثر .. ..فهذا الستاذ مغربي أصيل ..والكرم طبع فيه ..و هول يحمل ضغينة و ل يعّمم أحكاما ..خاصة
..عندما يتعلق المر بجزائريين
5
و لقد لمست هذا في عّدة مناسبات ..المغاربة يحسون بتعاطف كبير و بحنين للجزائر و للجزائريين...
حنين الخ الذي ُفصل عنوة عن أخيه...وهم يلتمسون لهم العذار " معليهش مساكين...أحنا فحال
فحال" ..واستغربت كثيرا أن أجد هذا التفهم من طرف مغاربة التقيت بهم ..تضرروا كثيرا من
معاملت جزائرية ...فمنهم من طرد في منتصف السبعينات فاقدا مصدر رزقه و كل ممتلكاته وُمبعدا عن
أقرب الناس إليه ...و منهم من لديه والد أو قريب قتل أو سجن لعشرات السنين في غياهب الصحراء...
تجولت في شوارع " كازا" ..المدينة التي تجمع متناقضات عجيبة ككبريات المدن ..راقني الجو في
" ماك دونالد" .أكلت و أنا أتأّمل ما حولي و من حولي في المكان الذي يمتد على مرمى البصر ..تبادلت
ابتسامات مع أطفال تفيض السعادة من عيونهم و هم يلتهمون بنهم كبير أكلتهم المفضلة في علب
رائعة ..ووجدت أفكاري تحّلق في جّو آخر :أسماء المدارس والشوارع التي مررت بها في المغرب ،
باستثناء أسماء الملوك ،هي في الغالب أسماء بلدان أو مدن،أو زهور ،أو معاني جميلة ) مثل التقدم و
المعارف، (..أو معالم و أحداث ..أو شخصيات تاريخية عريقة تملؤك إحساسا بالعتزاز و بالمتداد
طول و عرضا...أسماء الشوارع ،والمدارس و الجامعات و المطارات في الجزائر ..هي أسماء
"ثورية" ،تذكرك على الدوام بالمحن و البؤس و الموت و المذابح ...تسد الفاق أمامك ...تجعلك تح ّ
س
بالحباط ..أو بالعتزاز المبالغ فيه المفرغ من معناه ،و الذي يغرس فيك العدوانية و الغرور و
الحساس الكاذب بالتفوق على بقية الشعوب ..و كثيرا ما تذمرت منذ طفولتي من هذه السماء
و الشعارات التي تغرس فيك توجها )ثوريا( وتشدك إلي الوراء بأغلل من حديد... ...ألم يستشهد آباؤنا
لنحيا نحن؟ أل توجد طرق أخرى للعتراف بتضحياتهم و لتخليد أسمائهم ،دون أن تتوجه أذهاننا
باستمرار إلى المعارك ودون أن ترتسم لدينا ديكورات الحرب؟
طلب مّنا كتابة موضوع إنشائي يدور حول حب و أذكر أنني في الصف السادس البتدائي عندما ُ
المدرسة كان من بين ما كتبت" ...أحلم أن يستبدل اسم مدرستي باسم عالم فذ من السلف مثل ابن
سينا أو جابر بن حيان أوبن الهيثم أو ابن باديس لنحتذي حذوهم .. .نحن نحترم الشهداء و ندين لهم
بالستقلل لكننا نريد أن نتجاوز فترة الحرب لنبني و طننا بالعلم و العمل و كان هذا أمل الشهداء .. ".
و كانت مدرستي تحمل اسم شهيد لم يحكوا لنا عنه شيئا يوما ..طبعا لم يعجب هذا الستطراد المعلمة،
و عزته إلى وقاحتي المعهودة ...فالشهداء هم سّر وجودنا وعلة حياتنا و منتهى انتمائنا ...و الحديث
عنهم وعن أمجادهم و بطولتهم وعن الثورة المظفرة و الحلف الطلسي و الستقلل المعجزة ..هو
خَونةُ....تصاب بدوار و يملؤكخبزنا اليومي :المكتسبات الثورية..المعارك ..مجاهدون ..شهداءَ ...
إحساس ُمحبط يخنقك :إحساس بأن جذورنا تمتد إلي عام ,1954وفي أحسن الحوال إلي عام
ي حّد أثمرت فينا هذه المجهودات التربوية ؟ . ..وإلى أي مدى ساهم هذا .. 1830واليوم أتساءل إلى أ ّ
التوجيه الثوري للذهان بجميع إفرازاته في تبني أبناء جيلي لمواقف" ثورية" و في نسج خيوط
المأساة التي سحقتنا لمد طويل ؟
اشتريت تذكرة قطار الدار البيضاء – مراكش ..تذكرة درجة ثانية هذه المرة طلبا لحتكاك أكبر مع
عامة الناس ..داخل القطار شّدني صوت مهّذب واضح منبعث من مكّبر ،يرحب بالمسافرين بلباقة ،يعلن
.عن دخول كل محطة ،ويعتذر باستمرار عن كل تأخير و يبّرره
ي مجهود للنسجام مع من حولي ..سألتني سيدة جالسة قبالتي عن انطباعاتي حول و كالعادة لم أبذل أ ّ
زيارتي و في مجرى الحديث عّبرت لها عن إعجابي بظاهرة أصادفها لّول مرة وهي ارتياد تلميذ
المدارس و طلبة الجامعات ،إناثا و ذكورا ،فرادى و جماعات للماكن العامة والحدائق يراجعون فيها
دروسهم بكل جدية – قلت ذلك و أنا أسترجع مناظرا مقّززة لحدائق عامة في بلدي أكلها الهمال
وتحولت إلى أوكار للفساد بجميع مظاهره -حركت السيدة رأسها مبتسمة و لم تعّلق .وعندما نزلت من
القطار استدرك أحد الشباب وهو طالب في السنة الخامسة طب قائل " سأشرح لك أسباب هذه
الظاهرة ..الصهد )شدة الحر( ،وضيق البيوت وانعدام المكتبات" استغربت لتوضيحاته فهو يعلم أنني
6
جزائرية ،ويعلم الحساسيات التي بين بلدينا ،ولم يمنعه ذلك من تقديم هذا التفسير حتى ل أنبهر بظاهر
الشياء..
انتزعني من شرودي صوت سيدة جالسة بجانبي و هي تسألني " هل زرت مسجد الحسن
الثاني؟" ..عّبرت لها عن إعجابي بشساعة المكان وجمال التصميم وروعة الموقع ودقة التنفيذ ..
لكنني أضفت أن ما لم يعجبني هو اختلط )أو اقتراب ( مكان العبادة بأماكن اللهو و اللعب ...قالت بدون
تحمس "ذلك المكان كان سيتسع ليواء كل المغاربة المحتاجين إلي سكن" ،وعندما بقينا لوحدنا في
العربة قالت " ل أقصد من حيث المساحة فقط بل أعني من حيث تكاليف البناء التي دفعت من جيوبنا
"..
و استغربت بشدة أن أسمع منها مثل هذا التعليق ...من قال بان المغاربة يخافون من ظلهم ول يقربون
...السياسة ؟ ...أم هي رياح الديموقراطية لم تخطئ طريقها إلى المغرب
ن الموظفين المغاربة ل يعملون وقت الصلة ) 11سا كان ذلك يوم جمعة ..اكتشفت من حركة الشارع أ ّ
ن لهم الوقت الكافي للستعداد للعبادة ....و هم بعد ذلك ينتشرون في الرض يبتغون – 15سا( و أ ّ
فضل من ال ..كما أن الكثير من الخواص " تجارا و غيرهم " يجعلون من يوم الجمعة يوم راحة
...لهم
نزلت في فندق بسيط لكنه نظيف في " غليز" و هو ملك للسيد " بناني" ،رجل محترم كنت قد التقيته
و زوجته الطبيبة في فندق "عمور" بفاس ..خرجت لزيارة " البهجة" المدينة الجميلة الحمراء داخل
عربة جميلة يجّرها حصان....الحرارة تلفح الوجوه ..لكن انخفاض الرطوبة يجعلها محتملة ..وصلت
إلى جامع الفناء "لفنا" ..ساحة الغرائب ..نزلت ...ووقفت لمّدة أتأّمل ما يحدث فيها من عجائب
المور ...كالتفاف جمهور كبير من الرجال و النساء من جميع المستويات مكونين حلقة ..تتربع في
الوسط امرأة متوسطة السن تهمس في أذن رجل ببدلة أنيقة و ربطة عنق و هو جالس القرفصاء و
يستمع إليها بخشوع...ثم جاء دور رجل آخر ..ثم امرأة ...كان الصمت يخيم على المكان ...ما لبثت أن
غادرت هذا المشهد و اتجهت نحو "بائع لحريرة" ..اعترض طريقي شخص كأنه خرج لتّوه من كتاب
أصفر للتاريخ ..فزعت و صرخت عندما وضع أفعى حول عنقي ...أسرعت في مشيتي تفاديا لموقف
مشابه ..احتسيت صحن "الحريرة" واقفة و أنا مبهوتة لما يحدث أمامي..
مشيت بعدها نحو القلعة..الطريق جميل و شاعري ..تتبعني شاب على دراجة ...هرولت في مشيتي ..ثم
ن معاكساته كانت مهّذبة و رقيقة و أنه لمغيرت منحى طريقي ..لكنه بقي يسير ورائي – ل أنكر أ ّ
ينبس بكلمة مِؤذية – استجمعت كل شجاعتي و وقفت ...استدرت نحوه قائلة " سر في حالك" ..أحنى
.رأسه و عاد أدراجه دون أدنى تعليق
ت في اليوم التالي جامعة السمللية حيث ل أعرف أحدا و ل يعرفني احد...سألت عن مخبر قصد ُ
جهت إلى السيد " بّواب" و كان حينها مديرا ..تأثرت لحسن استقباله ..قادني التعليمية "ديداكتيك" فُو ّ
إلى المخبر ..فرحت لجُو العمل السائد هناك ..لمست عند هؤلء الخوة )أذكر من بينهم السيد فؤاد
شفيقي( إقبال طيبا على البحث في هذا التخصص الجديد .واستغلل جيدا للمكانيات المتوفرة لديهم-
على قلتها -ومقدرة على توظيف تقنيات البحث و إطلعا على مختلف التجاهات و استفادة من مختلف
المناهج ...كما وجدت لديهم قناعة بإمكانية التكامل مع الجزائريين و رغبة في تكوين علقات تعاون
..معهم ووعيا بضرورة توحيد الرؤى
ت أنني – وأنا أخطو الخطوات الولى في هذا الميدان – قد نهلت من مراجع مغربية في علوم وتذكر ُ
ي أستاذ فاضل كان آنذاك مستشارا ثقافيا في التربية و البستمولوجيا و تعليمية العلوم ..جاد بها عل ّ
ن أول من لجأت إليه طالبة يد المساعدة هو الستاذ محمد كوحيلة من سفارة المغرب بالجزائر .و أ ّ
ي بآرائه القيمة و توجيهاته و نصائحه التي المدرسة العليا للساتذة بمراكش ..راسلته..فلم يبخل عل ّ
أنارت طريقي في رسالة الماجستير و أجلت الكثير من الطلسم… و سأطل ممتنة للستاذين الجليلين ..
..حافظة للجميل
7
رجعت إلى الفندق..جاء السيد بناني و زوجته و اصطحباني إلى بيتهما الجميل..وهناك تعرفت على
أطفالها الربعة المتقاربين في السن ..كلهم في المرحلة البتدائية من التعليم : ..فاروق و علي و عمر و
هند ) و ليغفروا لي إذا خانتني الذاكرة إّنما لختيار السماء دللة كبيرة( ..أربعة من الملئكة فيهم
الكثير من براءة الطفولة و رقتها و تلقائيتها..و روح الدعابة و اتقاد الذكاء و الدب الجم و التربية
الدينية الراقية ..و من سياق الحديث عرفت أنهم يدرسون في مدارس أجنبية )فرنسية و أنجليزية(...ل
..أنكر استغرابي حينها...إذ أنهم يتخاطبون بلسان عربي مبين
التعليم الجنبي هنا ..التكوين الراقي و إتقان اللغات ..ل يطمس الشخصية إذن ..ول يخلخل ُبنى الهوية..
..ول يمنع من التحكم في اللغة الم و ل يعني التغريب
" -المغرب غابة ما تبحثين عنه تجدينه" ،عبارة قالها لي احد الخوة المغاربة المقيمين بالجزائر،
أدركت معناها عند نهاية زيارتي هذه ...غابة بتنوعها و وفرتها ..لكّننا لم نسمع إل عن وجهها المقفر و
مناطقها الجرداء ....لم تبلغ بي السذاجة درجة أنني لم أقف على مظاهر لم ترقني ولم يمنعي انبهاري
من الطلع على وجه آخر للمغرب ،لكنه وجه لم يفاجئني هذه المرة لنه ل يمكن أن يبلغ درجة
الفضاعة التي يتوقعها من جاء من الجزائر ...و هذه بعض ملمح هذا الوجه :
..عايشت الفقر المدقع الذي يهوي بصاحبه إلي الحضيض -
شباب تعج بهم شوراع الرباط يشمون خرقة داكنة ويترنحون في مشيتهم وهم خطرون ل أحد -
...يلحقهم ول يحسون بأنهم مهددون
-يتحدث الكثير من الشباب عن تفشي الرشوة وأنها القاعدة وليست الستثناء فل توظيف بدون
ن المتحانات و المسابقات شكلية وهذا يجعلهم– خاصة أصحاب الشهادات منهم -يحسون رشاوى كما أ ّ
بإحباط شديد ...ولقد عاينت بنفسي بعض مظاهر ذلك في إحدى المصالح الدارية ،إذ لمست تأثير ورقة
من 10دراهم على سرعة الخدمات المقدمة و نوعيتها ..
كل واحد داخل سوق رأسه " و" اشكون أداها فيك "....هذا ما تلتمسه جليا هنا و يجيبك علي " -
الكثير من التساؤلت ..مثل قلة التكافل الجتماعي في المدن الكبرى و الحرية الكبيرة التي تتمتع بها
بعض البنات و المستغلة أحيانا في الفساد ..والظاهرة الجديدة التي انتشرت نسبيا و المتمثلة في زواج
المغربيات من أجانب غير مسلمين – وقد يمثل بعضهم دور من أسلم داخل مسجد يدخله للمرة الولى و
...الخيرة -و من هؤلء أفارقة قادمين من مناطق نائية و مجتمعات بدائية
استغربت من أشخاص من مختلف المستويات الجتماعية والثقافية يبدون تفهما بل أحيانا نوعا من -
التعاطف مع نساء فاسدات -رغم تقدم بعضهن في السن -بحجة أنهن في حاجة مادية...أو هم ينظرون
للمر على أنه ظاهرة طبيعية لم يخُل منها مجتمع على مّر العصور ...و لهم في ذلك أكثر من طرح ..ذلك
..رغم نواقيس الخطر التي تدق بقوة
-استمعت إلي شخصيات في مراكز علمية و إدارية مرموقة تتحدث بعدم استنكار ) حتى ل أقول بقناعة(
أدهشني عن خورا ق المنجمين مثل الحاجة" بريكة" في شويطر بمراكش وزبائنها من الطبقة الراقية
والمثقفة ...و عن صعوبة الحصول على موعد عندها ....وعن صدق تنبؤاتها...
-سألت أستاذا متمّكنا وذا كفاءة عالية " و هو من ا لشاوية" عن نتيجة ترشحه لحد المناصب
الدارية ،فأجاب بأن أستاذا آخر فاز بالمنصب لنه قريب منه في المؤهلت لكّنه من" الشرفاء "…
ن النتيجة لم تفاجئه إطلقا و " المقياس" ل هممت بإبداء استنكاري الشديد و لكنني أحجمت إذ أ ّ
يضايقه و ل اعتراض له عليه ..بل هو مقّر به ،مدافع عنه ..قلت فقط " لكن ل شريف و ل وضيع
ن أكرمنا عنده أتقانا ..و هو سبحانه ف شريف العمل ..و كلنا عباد ال و إ ّ بالّنسب في السلم ..و الشري ُ
ما جعل محّمدا أبا أحد من رجالنا...و كّلنا من آدم و آدم من تراب..و "..كنت أنظر إليه ..لم يلق كلمي
ن هذه القناعة متجّذرة في نفسه ..ول يمكن لرأيي أن ي صدى في نفسه – اللهم إّل التذّمر -ففهمت أ ّ أ ّ
يغّبر من المر شيئا..
8
ن السفار هي من أهم مصادر للعلم ..هذا ما تفطن إليهدامت زيارتي للمغرب أسبوعين ..اكتشفت أ ّ
ن قراءة عشرات الكتب حول المغرب ما كان ليعّوضني عن الحتكاك و أسلفنا و عملوا به ...و أ ّ
.المعاينة و ما كان ليترك في نفسي مثل هذا الثر
رافقني إلي المطار سيدة مغربية وزوجها ،كانا في منتهى الكرم و الرقة...أحسست وأنا أصافحهما
ممتّنة موّدعة بأنني أتقيأ مزيجا أسودا مرا ..مزيجا كان رغيفي اليومي خلل سنين طوال .دخل
جوفي ..واستقّر في أعماقي وأصابني بمغص دائم كثيرا ما تحكم في نفسيتي..و شكل رصيدي الكبير
...من الكبرياء و الغرور والذاتية و الحقد و العدوانية
.عندما وطئت قدماي أرض الطائرة انتابني إحساس قوي بالحنين إلي المغرب
منى المالكي
الجزائر
mouna_elmalki@hotmail.com
9