Professional Documents
Culture Documents
موسم الهجرة إلى الشمال إحدى أكثر الروايات العربية شعبية وإثارة للجدل في القرن العشرين .وقد مت تناولها بشكل كبير على أنها حتليل
درامي للسياسات الكولونيالية ،حيث يدرك الراوي خطورة حتوله إلى عربي « متأورب» يرغب في إشفاء غليله باالنتقام من الشمال /الغرب الذي »
شرقنه« ( .)١بالطبع معظم نقاد رواية الطيب صالح ركزَّوا هذه القراءة ،انطالقا ً من اتخاذ مصطفى سعيد شخصية شرقية ساعية إلى اخضاع
النساء االجنليزيات من أجل أن يثأر جملتمعه متبعا ً نفس الطرق التي مت بها اختراق وامتالك اجلنوب /شرق بواسطة الشمال/الغرب.
مثل هذه القراءات للرواية عادة ما تؤدي إلى التركيز على شخصية مصطفى سعيد ،والذي هو حقيقة بطل ثانوي؛ وهذه تؤدي أيضا ً لربط القراءة
الكولونيالية للكتاب بالقراءة اجلنسية.
تأسيسا ً على هذه القراءات ،أركز على التصورات الذكورية في الرواية .هذه التصورات بداية تثير اشكاليات ومن ثم تفضي إلى فهم القراءة
الكولونيالية واجلنسية املعقدة في قرية سودانية كما يراها رجل سوداني متأورب .ذلك إن الراوي اجملهول هو الذي يكشف ان الرواية بقدر ما هي
حول معضلة ذكورته ،بقدرما هي حول جنسنة السياسات الكولونيالية .يواجه الراوي ثالثة أنواع من الذكورة:
رجل زائف ،ذاتي ،شهواني متأورب ،سوداني مغرور مدفوع جنسياً ،يرغب في تدمير نفسه عبر اجلنس؛ ورجل من جيل أبوي قدمي يعيش ببساطة
منتظرا ً أجله بصبر ومعيرا ً قليل اهتمام إلى نفسه.
أوال ً عبر العجز وثانيا ً عبر ر ّد الفعل .يرفض الراوي النموذجني األولني ،ويُض ِّمن عناصر النموذج الثالث فيما هو أساسا قطيعة جذرية مع الذكورة.
ً
فهو يتبنى فردية تتجاوز النوع من أجل توازن الذات واجملتمع.
شواطئ الذات
٢
بدأ ً من السطر األول ( والحقا ً في الرواية) يقدم الراوي القارئ إلى عالم ذكوري مفترضا ً ان جمهوره ذكور « :عدت إلى أهلي يا سادتي بعد
غيبة طويلة ،سبعة أعوام على وجه التحديد ،كنت خاللها أتعلم في أوروبا » القرية التي عاد إليها هذا الرجل اجملهول ،هي عالم يهيمن عليه
الرجال،مجتمع أبوي خانق « ،حيث النساء ضحية لعبة السلطة والغواية » ( « ، )٢هذا البلد فيه الرجال قوامون على النساء » (.)٩
يقول ود الريس ،وهو رأي ظل يردده محجوب صديق الراوي « أنت تعرف نظام احلياة هنا .املرأة للرجل» ( .)10حيث يشاهد الرجال وحدهم مرتبطني
باألرض ،قاماتهم متكئة على احملاريث أو منحنية على املعاول يحرثون األرض .مثل هذا الرمز القضيبي دائما ً يرد باالرتباط مع مصطفى سعيد.
الرجال يتناولون طعامهم في الديوان مع بعضهم البعض ،وتأتي اإلشارة إلى الرجال وحدهم كحكايات متناقلة ،متاما ً كما يحكي الراوي هذه
الرواية إلى رجال آخرين ،ورمبا يتم نقلها إلى أبناء مصطفى سعيد الذين هما حتت رعايته ،حكايات نادرة عن النيل وأساطير الفيضانات ،هي بعض
حكاوي اآلباء لألبناء .في هذه القرية حيث يستيقظ الراوي » في الغرفة التي تشهد جدرانها على ترهات حياتي في طفولتها ومطلع شبابها«
( )١١سوف يعاني الراوي نضجا ً آخر ومعرفة لنمط الرجل الذي سيكونه.
٣
ألول وهلة يبدو انه رجل مغرور ،فالراوي يحكي للقراء مبباهاة « فقد كنت أحسب أن املاليني العشرة في القطر كلهم سمعوا بانتصاري (
األكادميي) في اخلارج » ( ، )12ويواصل حديثه إلى مصطفى سعيد متصنعا ً التواضع بأنه كان ينقب في حياة شاعر إجنليزي مغمور .واغتاظ حينما
ضحك الرجل ملء وجهه متناسيا ً وقاره العلمي.
إال انه من الواضح ان الراوي سوف يتغير ،ألنه يقول « واحلق يقال كنت تلك األيام مزهوا ً بنفسي حسن الظن بها » ( . )13انه مصطفى سعيد
بكشفه عن أكذوبة شخصيته سوف يغير رؤية الراوي عن طبيعته الذكورية ،بإلقائه في خضم شكوكه مما يدفعه جتاه مجتمع إنساني أكثر
صدقاً.
٤
مثل هذه املعاجلة تقتضي انفصال الراوي عن مصطفى سعيد ،ليس ألن االثنان مدفوعان ذاتياً ،بل ألنهما باستمرار يبدوان كصورة مرآة
لبعضهما البعض ،من رجل يفترض ان الراوي ابن ملصطفى سعيد إلى توهم الراوي إنعكاس صورته على املرآة انها مصطفى سعيد .وتشير
( باتريشيا جيسي) ان ابتسامة مصطفى سعيد » كانت غامضة مثل شخص يحدث نفسه« ( ، )14وهذه إحدى أولى املصادفات التي تشير
إلى االزدواجية بني الراوي ومصطفى سعيد .انه مثل مصطفى سعيد تعلم في اجنلترا ،وقضى سبع سنوات باخلارج ،نفس السنوات التي
قضاها مصطفى سعيد في السجن الغتياله امرأة اجنليزية ( جني مورس)؛ ويتعلق الراوي بحب حسنة بنت محمود أرملة مصطفى سعيد،
وفي نهاية الكتاب ،يسبح الراوي في النيل في ذات املوقع الذي غرق فيه مصطفى سعيد.
٥
شبح مصطفى سعيد يخيم على الرواية مهددا ً بالهيمنة على السرد ،بذات القدر الذي يالزم فيه شبحه ذهن الراوي منذ اليوم األول لعودته إلى
البلدة « فجأة تذكرت وجها ً رأيته بني املستقبلني لم أعرفه ،سألتهم عنه ..وقال أبي هذا مصطفى سعيد»( » ، )15صورة مصطفى سعيد القلقة
التي حتوم كشبح« ( د .علي عبداهلل عباس ــ مالحظات على رواية موسم الهجرة إلى الشمال وعرس الزين ــ السودان في رسائل ومدونات ــ
مجلد ٤٧٩١ ٥٤ص ، )60 ٦٤تشير أساسا ً إلى أن مصطفى سعيد قد مات ،حكم على نفسه باملوت مع جني مورس دون أن يتبعها ( ، )٣وعودته
إلى السودان ما هي إال محض انتظار ذاتي للتنفيذ ،متاما ً مثل غموض ابتسامته » كالطيف الساخر«.
ويضيف مصطفى سعيد إلى حالة ال وجوده بتالوته شعرا ً اجنليزيا ً مليء باالشارات إلى رجال متوهمني:
« هؤالء نساء فال ندرز
ينتظرن الضائعني
ينتظرن الضائعني الذين أبدا ً لن يجيء بهم القطار
إلى أحضان هؤالء النسوة ذوات الوجوه امليتة
ينتظرن الضائعون ( )...في عتمة الليل» (.)16
تالوة مصطفى سعيد ألبيات الشعر االجنليزية لم تبدد توهم الراوي عنه كمزارع سوداني بسيط ،بل قدمت فكرة الذكورة كقناع ،حتت وهم أن
النساء الزائفات ينتظرن املعانقة ،بذات القدر الذي توحي به عبارة » وحملني القطار إلى محطة فكتوريا وعالم جني مورس» للراوي والقارئ ان
أكذوبة مصطفى سعيد سوف تضعه وجها ً لوجه مع املرأة االجنليزية القدرية.
قدم نفسه كشرقي متوحش وغريب من أجل غواية إثارة الراوي ملصطفى سعيد جعلته يكشف عن نفسه انه ( أكذوبة) ،عطيل مزيف ،رجل ّ
النساء ،واألهم من ذلك ان رؤى مصطفى سعيد الشعرية اربكت عالم الراوي املتصالح ،وعجلت بأزمة هويته الذكورية » وخامرني بغتة شعور
فظيع ،شيء مثل الكابوس كأمنا نحن الرجال اجملتمعني في تلك الغرفة لم نكن حقيقة ،إمنا وهما ً من األوهام« (.)17
6
إذا كان الراوي املتأورب بانهماكه الذاتي وغروره كان في خطر دائم من أن يصبح مثل مصطفى سعيد ،فإن روايته تنذره بذلك .مصطفى سعيد
الذي نشأ يتيما ً بدا وكأنه ورث عن أمه نزعة االتخفي ( ص ، )٣بالتأكيد لم يكن يتأثر بشيء » كان مثل شيء كرة املطاط تلقيها في املاء فال تبتل،
ترميها على األرض فتقفز« » آلة صماء« ( ، )17رغم كل ثقافته وإرادته احلرة املفترضة ومستقبله املشرق ،لم يختر مصطفى سعيد أكثر من أن
عليهمحاصرتهن ،وكقمم جبال كي يولج ذاته املندفعة فيهن
ّ يكون غازياً ،رجل سوف » يحرر إفريقيا بذكره« ( ، )19والذي يعتبر النساء كاملدن
كالوتد .فاجلنس عنده يحقق قمة األنانية كما قال ،ومع ذلك فإن الصور التي تختزل مصطفى سعيد كلها ثاقبة وقضيبية «عقلي كان مدية
حادة تقطع في برودة وفعالية » ويقول « عقلي يقطع كأسنان محراث » ( ، )20والحقا ً الصور الدقيقة للقوس والسهم ترتبط بقدره القضيبي
مع جني مورس «وتر القوس مشدود ،وال بد للسهم أن ينطلق» (.)21
إن تشبيه عقل مصطفى سعيد » كمدية حادة« أو بأسلحة شبيهة ( القوس ــ السيف ــ الرمح ــ النشاب) تتناسل حتى تبلغ ذروة التداعي
املوضوعي ،وصورة مصطفى سعيد » كجراح« في غرفة نومه « غرفة عمليات في مستشفى» ( ، )٢٢هذه الصورة متزج فكرة العنف القضيبي
مع فعل من نوع ذكورة مستشرقة ( .)٤في السرير يغرز مصطفى سعيد اخلنجر في صدر جني مورس ويقتلها في دوامة االنحدار العنيدة للرمز
الشرقي القدري املفتون باألنثى الغربية ( ، )٥والتي بدورها امتألت رعبا ً مرضيا ً بالشخصية القضيبية الغربية اآلتية من اجلنوب /الشرق ،جني
أمسكت باخلنجر بلهفة » فاحتة فخذيها أكثر« » وتأوهت« ( ، )23وضغط مصطفى سعيد اخلنجر في صدرها حتى غاب وأخيرا ً امتلكها وهي
تتوسله » تعال معي .تعال معي .ال تدعني أذهب وحدي« ( .)24حتالف ثنائي مزاوجة بني اجلنس واملوت في هذه النهاية القدرية .غير أن مصطفى
سعيد أناني جدا ً حتى في اتباع موضوع شهوته إلى العالم اآلخر ،وباملقابل يعود إلى اجلنوب/الشرق ،حيث في غرفة سرية متمركزة أوروبيا ً يحتفظ
بصور النساء األوروبيات الالئي اغتصبهن ،وصورة جلني مورس ومع الكتب األوروبية ،مدفأة بكامل هيئتها ــ كراسي فكتورية ــ مرآة ــ كتب ودفاتر،
صور زيتية .هذا هو مركز الكون الشخصي ملصطفى سعيد ،احساسه البارد كأن جوف صدره « مصبوب بالصخر» ( )25ولكنه مشكل بالكتابات
والصور :ذكريات عن نفسه وغزواته اجلنسية العقيمة.
٧
غير أن مقتنياته هذه فقط تكشف مدى خواء رمز مصطفى سعيد ،وأساسا ً رمز القضيب الشرقي « للقسوة اجلنسانية» ( ، )26وباألحرى
يصح هذا في ضوء ممارسة قدماء املصريني لعبادة القضيب ( بوردو ص ، )٧٨وألسلوب مصطفى سعيد الغريب جداً ،اجلنوبي /الشرقي في سحر
نساء لندن ( من آن همند وشيال غرينوود إلى إزابيال سيمور وجني مورس) نساء « اقتراح ملرجعية وسلطة ذكورية » ( بوردو )٧٨إذن مثل كل الرموز
القضيبية يثير مصطفى سعيد في النساء رعبا ً من أجل « سلطانه« الذي يعتمد حتديدا ً على » التفوق الذكوري» الشرقي ( بوردو )٧٨ويصبح
رمزا ً » للمدخل الالمحسوس والذي ينفتح إلى حدود عربدة باخوسية ،وأحاسيس جنسية هذيانية ( فرانتز فانون )٧٧١حتى ميكنه االستيالء على
« الصدور البيضاء ( من أجل أن) أسيطر على احلضارة البيضاء وشرفها وأجعلهما ملكي» ( ، )27في « عالم دعاني إلى معركة ،عالم كل ما فيه
اسئلة محق أو نصر» (.)٦
وفي محاولته امتالك النساء البيض بفعل جنسي لكولونيالية معكوسة وتسييس ،إال أن مصطفى سعيد في النهاية يحاول فقط أن
ميتلك ،أن يصبح أنانياً ،وراضيا ً عن نفسه .هو الذكر الشهواني ،املدفوع ذاتياً ،والذي » يهتم كثيرا ً لالشباع اجلنسي« ،أكثر من أي شيء ( .)28غير
أن مصطفى سعيد هو ذكر مثالي العربي الغازي ألهل بلدته .وفي القطار موظف متقاعد يبدو أصغر من سنه بعشرين عاماً ،يتذكر امجاد
مصطفى سعيد عندما كان طالبا ً معه في كلية غردون في السودان ( ..» )29ونتوقع أن يصير له شأن عظيم« ( .)30ويتذكر شاب محاضر في
اجلامعة » وعلى وجهه ذات الفرح الذي حملته على وجه املأمور املتقاعد« » ،مصطفى سعيد كان أول سوداني يتزوج اجنليزية« ( .)31وقال أحد الوزراء
السودانيني وهو ميجد مصطفى سعيد » يا له من رجل ،إنه أعظم االفريقيني الذين عرفتهم ..يا إلهي ،ذلك الرجل كانت النساء تتساقط عليه
كالذباب« (.)32
٨
غير إنه بخالف إشارة الراوي االفتتاحية عن سنواته السبع التي قضاها في اجنلترا ،والتي تعكس سنوات حبس مصطفى سعيد في إجنلترا،
واملشهد اخلتامي و املثير للراوي وهو يسبح في النيل ،ناسخا ً أسلوب موت مصطفى سعيد املفترض ،فكل أوجه شخصية الراوي ومعاناتها توحي
للقارئ بأنه سوف لن ينسخ منوذج مصطفى سعيد في صورته الذكورية .بل على عكس فإن مصطفى سعيد ،عند عودته للعيش في السودان،
أثبت قوة فعالة لتغيير اجملتمع و زلك مبساعدته الق ِّيمة في جلنة تنظيم املشروع الزراعي ( ، )٣٣فإن الراوي و من خالل عمله كموظف بيروقراطي
في احلكومة السودانية ويعمل مع النخبة احلاكمة املرائية ،و التي ال هم لها إال بطونها ومتعها احلسية ،بدا تافها ً ) ( ، )34فالراوي لم يقدم أي
شيء إلى مجتمعه ،كما أشار الي ذلك محجوب ،صديق طفولته « وأنت ماذا تصنع في اخلرطوم ؟ وما قيمة ان يكون واحد منّا في احلكومة
وال يعمل شيئاً» ( )35ويجيب الراوي بأسى « املوظفوناملدنيون أمثالي ال يستطيعون أن يغيروا شيئا ً » ( .)36وفي رواية الطيب صالح « الدولة..
مؤسسة ذكورية» ( كونيل ، )٣٧تؤكد على عنّة الراوي ورؤسائه الذين املعجبون بفحولة مصطفى سعيد ( .)37وعندما أتيحت للراوي الفرصة في
أن ينقذ حسنة بنت محمود ،أرملة مصطفى سعيد ،من قدرها السيء في أن تتزوج ود الريس قسراً ،وذلك باتخاذها زوجا ً له ،وبالتالي يحل نفسه
محل الرجل الذي ظن خطأ انه شبيهه من عدة أوجه ،إال أن الراوي لم يفعل ذلك .وهكذا ،في البدء عبر الرفض الظاهر وتاليا ً عن طريق محاكاة
مشهد السباحة في النيل ،كما سيبني الحقا ً في نهاية الكتاب ــ فالراوي يرفض جتسيد مصطفى سعيد كنموذج للفحولة ،مدركا ً انها ليست
أكثر من « أنانيته وغروره ..هذه املهزلة» ( .)38بالتأكيد فالراوي في دخيلة نفسه أيضاً ،يهزأ ،من القلب ،لنوع الرجل الذي كانه مصطفى سعيد،
متقدما ً نحو انعكاس صورته على املرآة في الغرفة السرية ،ظانا ً إياها مصطفى سعيد « وخطوت نحوه في حقد» ( ، )39ومن ثم اشعاله النار
في قسم من الغرفة .بالطبع إن الراوي ،بعمله هذا ،يعبر عن كراهية كبيرة جلانب من نفسه ،والتي متادت في غيها ومنت مستبدة بهواجس رواية
مصطفى سعيد ،وبإحراقه مقتنيات مصطفى سعيد وحتى هجره ملنزل مصطفى سعيد وسباحته في النهر ،كلها صورة معكوسة ملا فعله
مصطفى سعيد مبقتنياته الشرقية أمام جني مورس ،وتعكس أيضا ً الطريقة التي مات بها مصطفى سعيد ،ولكن في النهاية ،إن قرارات الـراوي
و أفكاره واملشهد النهائي للكتاب وهو مأخوذ بني الشمال واجلنوب الشرق والغرب في النهر الرمزي ،هي التي ستقرر ما إذا كان سوف يتخذ اخلطوة
التراجيدية النهائية نحو تبني شخصية مصطفى سعيد ،أم سيضرب نحو شاطئ جديد.
٩
هناك أربعة اشواطئ للنجاة ،ومع ذلك ،فإن منوذج مصطفى سعيد هو فقط أحد الطرق التي ميكن اتباعها ،وود الريس أيضا ً نوع آخر من الذكور
في الراوية ،وشبيه مصطفي سعيد ظاهريا ً ،إال انه يختلف عنه أساساً ،فاالثنان « أنانيان جداً» ( ، )40وود الريس أيضا ً مفرط جنسياً ،ولكنه
مختلف عن مصطفي سعيد فهو ال يفكر إلاّ في اجلنسفقط ،كما أشارت بنت مجذوب املسترجلة « عقلك كله في رأس ذكرك ،ورأس ذكرك
صغير مثل عقلك» ( .)41ود الريس يعبر عن نشاطه اجلنسي عبر الزواج ،ورغباته الدنيوية حتمله علي اجلهل ( ، )42ولذا كان عزمه على أن يتزوج
حسنة بنت محمود ،متجاهالً أخذ موافقتها ،مؤكدا ً أن النساء في القرية السودانية ،متاما ً كالنساء االجنليزيات ملصطفى سعيد ليس إال متاع(
وأبلغ مثل غرفته السرية) ( .)43بعكس مصطفى سعيد ،فإن ذكورة ود الريس الفظة حتتقر أخذ موافقة النساء وحتتقر رغباتهن على السواء،
مثل اغتصابه اآلثم حلسنة بنت محمود .وكما ذكر د .علي د .عبداهلل عباس » املرأة بالنسبة لود الريس هي مجرد شيء« ( ، )٤٤وعلى عكس جد
فضل أن يختار اجلنس بدال ً عن االستعداد لآلخرة ( .)45من املناسب إذن انه سوف يجد املوت في اجلنس؛متصاب ٍّ الراوي ،فإن ود الريس كرجل ككهل
ً
وبتحوير ساخر لرواية مصطفى سعيد ،فإن حسنة بنت محمود األرملة السودانية للرجل الغازي بأوروبا ،تطعن زوجها اجلائع جنسيا ،ود الريس،
عدة مرات في « بطنه وفي صدره وفي محسنه» ( ، )46بينما عضها هو في كل شبر من جسمها ،وأخيرا ً متكن من قتلها قبل أن ميوت.
إ ّن وفاته أسعدت زوجته الكبيرة ( مبروكة) التي قالت إن زوجها الشهواني » حفر قبره بيده« (.)47
10
إلى حد ما كما أشار د .علي عبداهلل عباس ،الطيب صالح ينتقد أسلوب معاملة النساء في القرية عبر شخصية ود الريس ،ولكن الراوي هو
الذي يقدم بوضوح شديد أكذوبة ود الريس الذكورية ،والتي ال يتري « في املرأة غير انها امرأة»وكان قد توقع ماذا سيحدث عندم سمع صوت حسنة
يشق عتمة الليل كشفرة سكني حادة ( ، )48و مبا أنه ليس « معصوما ً من جرثومة العدوى» ( ، )49الشبق الذي أصاب مصطفى سعيد وود الريس،
فإنه عزم على أن ال يتزوج حسنة بنت محمود ،ألنه آنذاك سوف يكون وببساطة قد امتلك امرأة من أجل أن يحول دون امتالكها بواسطة رجل آخر،
وعليه سوف يكون متاما ً مثل ود الريس ،والذي يعرف الراوي انه سبق أن تزوج امرأة ،ألن زوجها احملتضر طلب منه « أوصيك بزوجتي خيراً ،ولم يجد
خيرا ً من زواجها» ( ، )50والراوي يدرك ايضا ً انه بعكس اقتراب مصطفى سعيد من املوت عبر اجلنس ،فإن ود الريس يدرأ عن نفسه املوت عبر اجلنس:
وحسنة هي « القربان الذي يريد ود الريس أن يذبحه على حافة القبر ،ويرشي به املوت فيمهله عاما ً أو عامني» ( ، )51ولكن حل الراوي ــ أو موقفه
املتراجع ــ العاجز يظهر إدانة محجوب له « ملاذا لم تفعل أنت؟ ملاذا لم تتزوجها؟ فقط تفلح في الكالم»()٧( .)52
١١
إ ّن الغمز املستمر للراوي بواسطة محجوب حول عجزه ،ومداعبته صديقه القدمي بأنه «مجنون مثل ود الريس» و « أصبحت عاشق آخر الزمن»
وادعاؤه أن حسنة « ..ما كانت تستاهل الدفن» ( ، )53مختذال ً إياها إلى شيء وهي ميتة ،متاما ً كما كانت شيئا ً في حياة ود الريس ،كل هذا الغمز ا
يدفع الراوي في أن يتصرف بتهور ،فيبدأ بضرب وركل صديقه بعنف مدافعا ً عن كل محاولة لوصفه كقروي وزير نساء كما مت تصوير ود الريس ،وفي
النهاية ،رمبا كانت سلب ّية الراوي سببا ً في موت حسنة ،ولكن زواجه منها قد يجعل الراوي متماهيا ً مع النموذج الذكوري والذي ميثله مصطفى
سعيد وإلى حد كبير ود الريس ،ورغم ذلك ،فإن حب الراوي حلسنة يثير اشكاليات وتعقيدات :فهو يشعر أن هذا احلب غير عادي ،ألنه يفسخ العهد
الذي قطعه ملصطفى سعيد بأنه سيكون وصيا ً على زوجته وابنيه ،غير انه من أجل أن يؤمن لها وألبنائها حياة مستقرة كوصي ،عليه أن يتزوجها
لينقذها من أن تُكره على زواج ود الريس ،على كل ،فهو وبعمله هذا ،يعبر عن خيانته لزوجته وابنته ،معترفا ً صراحة أن حسنــة بنت محمود هي
« املرأة الوحيدة التي أحببتها» ( .)54رمبا مأخوذا ً بهذه اخليارات وبشكوكه النفسية ،فالراوي ال يتعرض إال استجابة إلى اهانات محجوب ،وعنفه
جتاه صديق طفولته ،هو ردة فعل ضد التجانس االجتماعي القوي والوحيد لعاطفة الذكر في النص ،والتي وضعت الراوي نهائيا ً إلى جانب املرأة.
13
مصطفى سعيد ،أيضا ً يحب حاج أحمد لصبره وتقواه ،ونشاطه ،رغم بلوغه التسعني.
« ها ذاك رجل» ( ، )60قالها مصطفى سعيد .حاج أحمد أيضا ً يعرف سر شخصية مصطفى سعيد املتضخمة ذكورة ،بالرغم من أنه لم يفض
جده الذي عاش على سجيته عاش عمرا ً طويالً ،رابطا ًالسر ألحد ،وال حتى للراوي نفسه » ،جدك يعرف السر« ( ، )61الراوي يحس بروع ورهبة جتاه ّ
تتسام فوق الزمن » وذلك الصوت النحيل املطمئن ،يقوم جسرا ً بيني وبني الساعة القلقة التي لم تتشكل بعد، ٍ بني املوت وامليالد في حلظة
الساعات التي استوعبت أحداثها ومضت ،وأصبحت لبنات في صرح له مدلوالت وأبعاد ،نحن مبقاييس العالم الصناعي األوروبي ،فالحون فقراء،
ولكنني حني أعانق جدي أحس بالغنى ،كأنها نغمة من دقات قلب الكون نفسه« ( ، )62حقا ً ان اجلد هو « رمز ومعلم الحتاد االنسان مع الطبيعة
والكون» و « جزء من التاريخ » ( .)63وقد أوصى مصطفى سعيد الراوي على ولديه « ألنني حملت فيك صورة جدك» ( .)64ويتمنى مصطفى سعيد
أن التوازن الذي حمله في الراوي ،االرتباط باألرض واجملتمع ،والذي ورثه الراوي عن جده ،سوف متكن الوصي من حماية ولديه من االصــابة بجرثومــة
« عدوى الرحيل» ( ، )65مبعنى آخر فإن مصطفى سعيد يرى في الراوي مجموعة من أفضل القيم الذكورية ،تلك الشبيهة بجده ،والتي يتمنى أن
تنتقل إلى ولديه عبر االحتكاك بالراوي ،مانعة إياهما من اختيار الشخصية الذكورية الذاتية الشبقة التي تبناها في اجنلترا ،والتي الزمته كظله
حتى مماته.
14
ولكن الراوي ال ميكن أن يتبنى القيم األبوية جليل جده ،وعلى وجه اخلصوص موافقتهم على الزواج القسري لود الريس إلى حسنة حاج أحمد
يشجع الراوي على اقناع حسنة بنت محمود لتتزوج ود الريس ،ولكن الراوي يصر على أن حسنة » حرة التصرف» ( ، )٦٦ويحس « بغيظ حقيقي»
( )67جتاه موقف جده ،إنه ليس من شاكلة الذاكرة األبوية جلده أو أبيه ( الذي ضحك من ردة فعل الراوي لزواج حسنة عنوة إلى ود الريس) (، )68
فالراوي من نسيج مختلف « ،فيزداد الغيظ في صدري ضراوة» ( ، )69ويرفض مناقشة األمر مع جده حاج أحمد » وسمعت جدي ينادي ورائي فلم
التفت« ( ، )70فالراوي على يقني من أن الزواج األبوي القسري لود الريس من حسنة هو شر متاما ً كما هو واثق من أن » ..املوت وامليالد وفيضان النيل،
وحصاد القمح« ،هني « جزءا ً من نظام الكون» (.)71
15
جدهالتقليدية متاما ً مثل رفضه ملصطفى سعيد وود الريس كنموذجني للذكر ،يتركز حول معاملتهم للمرأة، إن مقت الراوي لشخص ّية ّ
وبشكل خاص معاملتهم حلسنة بنت محمود (.)٨
إن الراوي يكره الكيفية التي عامل بها ود الريس وحاج أحمد حسنة ( وكيف ينظر إليها رجال مثل محجوب) ،ومقتهلذكريات مصطفى سعيد
في غرفته السرية ،هي التي دفعته للتحرك :مشاجرته حملجوب ،إحراقه جزء من الغرفة ،دخوله في النيل في محاولة مليالد ثان « عاريا ً متاما ً كما
ولدتني أمي» وفي يأس » ال بد من القيام بعمل ما« ( ، )72إال أن الراوي لم يكن ينوي اتباع خطى مصطفى سعيد ،كما رأينا ،هذه محاكمة مائية،
تعميد وبحث من الراويعن الشاطئ الذكوري الرابع.
16
ذلك الشاطئ هو هوية الراوي ،ـ « غرميي في الداخل وال بد من مواجهته» ( ، )73و بعد رفضه للنموذجني املتمثلني في مصطفى سعيد وود
الريس ،وابتعده إلى حد ما عن جده احملافظ وانحيازه الذكوري ،فإن الراوي في الواقع ال يسبح نحو الشاطئ وفي مشهد العاجز متاماً ،يصرخ طالبا ً
النجدة .ان هذا النداء للمساعدة ،على كل ،هو الذي يشير إلى ميالد الراوي االجتماعي ،انه ليس « رجل« وحسب ،بل إنسان تسامى فوق حدود
النوع ،ويدرك فرديته ،ويررك فس نفس القت واقعه االجتماعي.
فالراوي يعي أهمية احلياة مع األسرة ،حياة ضاربة جذورها في اجملتمع واألرض ،كما بينها له جده ،ولكنه يبحث عن حياة اخري حيث كل فرد في
اجملتمع ــ رجل كان وامرأة ــ لهم قيمتهم ويعتمد عليهم انها ذكورة ليست محددة بالرجولة أو بكيفية معاملة الراوي للمرأة ــ على كل ،فهو
يظهر اهتماما ً ضئيالً بزوجته وابنته عبر النص ــ ولكنه بفردية مرتكزة على اجملتمع ،وعليه ،تقريبا ً يسود صوت أنثوي /ذكوري الصفحات األخيرة
من النص ،الصوت اجلديد للراوي ،ليس كصوت مصطفى سعيد « لم أدعه يكمل القصة» (.)74
17
الصوت اجلديد والهوية مع ما يحيط بهما ،يخلقان توازن بني الذات والغيرية » ،األنا« واجملتمع « :استقرت حركات جسمي مع قوى املاء إلى
تناسق مريح» ( .)75إن الراوي في مكان حيث كل اجتاهات البوصلة تتالقى ــ » تلفت مينة ويسرة فإذا أنا في منتصف الطريق بني الشمال واجلنوب«
( )76مركز عامله ( ، )٧٧إال انه يصرخ طالبا ً النجدة من اجملتمع ،هذه ليست فقط أزمة ذكورة بل معضلة وجود إنساني « ثم أصبحت بني العمى
والبصر ،كنت أعي وال أعي ،هل أنا نائم أم يقظان؟ هل أنا حي أم ميت؟ » ( .)78عندما يكون الراوي في النهر ،إنها حلظة خارج حدود الزمان ،شبيهة
إلى حد بعيد بتلك األحاسيس التي تسبق لقاؤه مع جده ( )79أو عندما كان في حلظة غائبا ً عن الوعي ،ابنا ً ملصطفى سعيد ( .)80الفرق هنا أن
معاناة الراوي ،حلظات احلياة املبهمة ومشارفته املوت ،كلها منفصلة متاما ً عن أي منوذج ذكوري ،حقيقة متت والدة جديدة للراوي ،فقد مت تزويد بروح
وهوية جديدتني » :وفجأة ،وبقوة ال أدري من أين جاءتني رفعت قامتي في املاء« ( ، )81في منتصف الطريق بني الشمال واجلنوب ،الشرق والغرب،
فوجئ الراوي بحالة من عدم اكتمال الوجود ،غير انه يحس بانتظام ،دقات قلوب الكون » في حلظة ال أدري هل طالت أم قصرت ..ساد السكون
والظالم فترة ..بعدها حملت السماء تبعد وتقرب والشاطئ يعلو ويهبط« ( ، )82وأخيرا ً يقرر ،ظمئي إلى سيجارة ،تذكر البدوي الذي صور حبه للحياة
بالتدخني » ،وأخذ يشفط الدخان بنهم فوق الوصف« ( ، )83متبعا ً ذلك بتلوي مصروع شارف املوت ،ثم عاد إنسانا ً إلى احلياة ،هذه الصورة الغريبة
للنشوة السريعة للشخص يبدو أنها أصابت الراوي في ذلك الوقت بسعادة خارقة ،حيث غنى واحتفل ورقص « ورقصوا كما ترقص البنات« (، )84
مجموعة من البدويني ،حيث بدت له كل واحدة منهن جميلة وكن متشابهات » كأنهن قبائل جن» ( ، )85وكما يدعى جون .إ .ديفدسون » ،التدخني
دائما ً فصل اجتماعي في 89مرجع سابق إلى الشمال« ( ص ، )٩٣في النهر ،تلك الرغبة العارمة للسيجارة » كانت جوعا ً كانت ظمأ« ( )86للحياة
واجملتمع وعجلت بـ«حلظة اليقظة من الكابوس» (.)87
18
وجد الراوي نفسه وهويته االنسانية ،فهو يدرك انه ليس جزءا ً من النهر ،ذلك ،إنه ال يرغب في أن ميوت ،وأيضا ً إنه وجد في شخصيته االنسانية
خارج مناذج الذكورة قوة ــ قوة تقوم على الفردية التي توازن الواجبات الشخصية اعتمادا ً على اجملتمع.
» فكرت إنني إذا مت في تلك اللحظة فإنني أكون قد مت كما ولدت ،دون إرادتي ،طوال حياتي لم اختر ولم أقرر ،إنني أقرر اآلن أنني اختار احلياة،
سأحيا ألن ثمة أناس قليلني أحب أن أبقى معهم أطول وقت ممكن ،وألن علي واجبات يجب أن أؤديها ..وحركت قدمي وذراعي بصعوبة حتى صارت
قامتي كلها فوق املاء ،وبكل ما بقيت لي من الطاقة صرخت ..النجدة ..النجدة« (.)٨٨
بالطبع الراوي هو » األنا« والطفرة السابقة تركز على جسده ونفسه ،ولكن مثل هذه الذاتية سويت في النهاية بصرخة االستغاثة البائسة،
السرد يثبت أن الراوي يحيا ( ، )89مؤكدا ً أهمية اجملتمع ،ألن أفراد اجملتمع هم الذين سوف ينقذون الراوي من نفسه في النهر .دون انكار ،فإن » الناس«
الذين سيبقى الراوي حيا ً ليروي لهم هذه الرواية هم ذكور ،وكثيرا ً مما سبق ــ وصايته على أبناء مصطفى سعيد ،مظهره الفتقاده االهتمام
بالنسبة ألمه ،تشير نحو استمرارية سيادة ذهنية ذكورية من جانب الراوي ،وعلى كل » ،فالراوي يعطي االنطباع بأنه سوف يؤكد عادته السابقة
بالتردد والسلبية« ( ، )90وحده الراوي هو الذي سيعاني أزمة وحل هويته الذاتية هو الشخصية الوحيدة التي تنمو وأيضا ً تتحول في الرواية ،بنهاية
الكتاب لم يختر الراوي » ولم أختر« ( ، )91لم يعد لديه عامله » عاملي كان عريضاً ،اآلن قد تقلص وارتد على عقبيه حتى صرت أنا وال عالم غيري«
( ، )92حقد الراوي على ما متثله ذكورة مصطفى سعيد ــ حقد الذات املتحولة عبر الشهوة الذاتية للجنس ونزوة امتالك النساء ــ تالشت ،وفي
النهاية انتصر بحبه لآلخرين ،وهو ما متناه الراوي ،وهو ما وجده ،باختصار عندما رقص مع البدو ،وانه استسلم لتوسله اليائس للنجدة من أولئك
الذين يحبهم وما زالوا يحبونه ،إنه مجتمعه.
19
ذات مصطفى سعيد قادته إلى املوت ،تدفعه شخصية مركبة ،ذكورة شرقية وغرور جنسي » ،لكل املقاصد واألغراض ( لـ) موته تلك الليلة« ،
مع جني مورس ( » ، )93مصطفى سعيد بنفسه يخبرنا » كانت حياتي قد اكتملت ليلتها« » ..ولم يكن ثمة مبرر للبقاء« ( ، )94كلما في األمر ــ
تأجلت ساعة التنفيذ« ( ، )95ود الريس أيضا ً في سعيه ليدمر نفسه موتا ً عبر اجلنس ،في املقابل ميوت على يدي نفس املرأة التي سعى المتالكها.
حتى حاج أحمد لم يكن لديه دافع للموت أو مقاومته ،مقضيا ً بقية حياته ورعا ً ولكن بسلبية ،وفقا ً للقواعد األبوية التي حددها االسالم ،الذي
أنقذ الراوي من أن يرسوا على إحدى شواطئ الذكورة الثالث امللوثة ،هو أيضاً ،مبعنى آخر ،السرد نفسه ،سرد يظهر رجل يتحرى حول معضلة
ذكورته ويعيد اكتشاف انسانيته ،فالراوي أنقذ بفضل وعيه الذاتي ،بإدراكه بأنه أيضا ً » لست معصوما ً من جرثومة العدوى« ( » ، )96عدوى األنانية،
الشهوة ،اجلنس العدوانية » ،عدوى الرحيل« ( )97التي أظهرت بواسطة مصطفى سعد وود الريس ،والتي » يتنزى بها جسم الكون« ( ، )98وتقود
إلى موت جني مورس ( ومصطفى سعيد مبعنى آخر) حيث » ،الكون مباضيه وحاضره ومستقبله اجتمع في نقطة واحدة ليس قبلها وال بعدها
شيء« ( ، )٩٩الراوي أيضا ً يضع نفسه عند مفترق طرق في النهر ،ولكن يعلم بوجود عالم فوقه وفوق أي ذكورة أنانية قد يختارها التباعها ،النهر
يطهر الراوي من أية جرثومة بدائية ،ارتداد ذكوري وجد منذ أزمان سحيقة وتُذكره بأن أمامه حياة اجتماعية ،حيث يستطيع الناس النضال ضد
القيود األبوية ،مقاومة أنانية الشهوة العنيفة ،ويتوقون إلى احلياة ال إلى املوت.
20
إنه الراوي وحده الذي يعمل بإرادة حرة في حلظة تسامي ووالدة جديدة ،يقاوم املوت في الوقت الذي يعيد فيه اكتشاف إنسانيته :احلياة ليست
حول الوجود ضمن احلدود املقيدة لدوافع الذكورة الذاتية ،بل هي ،حول العيش ببساطة وفي جتانس سويا ً مع احتياجات النفس والفضائل الكبرى
للمجتمع ،إال ان تلك الصرخة » النجدة« لم تلبث كونها حتذيرا ً » للسادة« والقارئ ،بل هي مبثابة رسالة من الطيب صالح إلى العالم أجمع،
بأن ليس هناك إنسان منعزل إلى نفسه ،مغرور ،وذو دوافع جنسية ذاتية ميكنه أن يعيش مبعزل عن اآلخرين .هذه قصة رويت لرجال آخرين ،قصة
حول الذكورة ،متاما ً كأساطير الفيضانات » يحدث بها اآلباء أبناءهم« ( ، )100إنها أيضا ً قصة تخبرهم أن ال يكونوا رجاال ً مثل آباءهم ،بل أن يكونوا
مواطنني في اجملتمع ،رواية الطيب صالح » موسم الهجرة إلى الشمال« تنادي ،في النهاية ،ليس بعالم للرجال ،بل مبجتمع أكثر إنسانية.
هوام�ش امل�ؤلف:
١سوف استخدم شمال /غرب وجنوب/شرق خالل هذا املقال لإلشارة إلى العالم األوروبي /الغرب في موازاة إفريقيا /الشرق ( في األصل االسالم) وذلك تباعا ً » شرقنة« (
) ORIENTALIZATIONهي عبارتي ،وأشير هنا تاريخيا ً إلى صناعة األوروبيني للرموز واجملازات والصور املقولبة عندما يتحدثون ،أو يكتبون عن » معرفتهم« عن الشرق ( عادة
العرب) من أجل دعم وتكريس رؤى األصولية العرقية في الشرق ( .إدوارد سعيد ــ االستشراق ــ ص )٢٣
يعتمد املؤلف برايان في استشهاداته على النسخة االجنليزية من رواية موسم الهجرة إلى الشمال :الصادرة عن بورتسماوث هاينمان .٩٦٩١واعتمد املترجم على طبعة
دار العودة ــ بيروت ــ الطبعة الثانية .٩٦٩١
( )٢إفلني أكاد » :السياسة اجلنسية« :النساء في رواية موسم الهجرة إلى الشمال ــ كتاب دراسة حاالت ــ حترير منى تقي الدين أميوني اجلامعة األمريكية بيروت ــ ٥٨٩١
( ص .)٤٦ ٥٥
( )٣ميكن مناقشة أن األكذوبة اخملتلقة ملصطفى سعيد كشرقي ،غازٍ قضيبي ،ميوت في معركة إرادته مع الشهيدة األوروبية جني مورس ،وتلك األكذوبة ثم اعتبارها مبدأ عاما ً
وإلى حد ما وأصبحت حياته ،ما هي إال ظالً لذاته السابقة ،عادت مرة أخرى إلى السودان لتتالشى وتخمل ببطء.
( )٤هذا التمثيل الذكوري يناسب قناع » الذات الشهوانية ،الشرقية الذكورية« الذي اختاره مصطفى سعيد ليرتديه ،لكي » تتضمن كل مفردات اخلطاب االستشراقي
اخملتلفة ..التي هي مجموعة صور متثيلية أو مجازات .هذه الصور هي للشرقي األصيل ــ أو االسالم ،الذي هو مجال اهتمامي األساسي هنا ــ كمطابقة أسلوب الذي
لشخصيات املسرحية« ( إدوارد سعيد ــ االستشراق ــ ص .)١٧
( )٥أنظر فراتز فانون ــ بخصوص عقدة الدوافع النفسجنسية خلق اسطورة » الزنوج ..فقط يتحينون الفرصة للوثوب على املرأة البيضاء« ( فرانزفانون ــ بشرة سوداء ،أقنعة
بيضاء ــ ٢٥٩١نيويورك ــ قروف .)٧٦٩١
( )٦قد يكون أكثر اختزاال ً أن نقول بأن الشرق مت صناعته ذكرا ً في هذا الكتاب ،فيما مت جعل الغرب أنثى ،املرأة االجنليزية جني مورس هي ذكر عدواني ،مثالً ،بينما يرفض الراوي أو
ينتقد عادات أبوية محددة في السودان ( مثل اتخاذه حسنة بنت محمود زوجة ثانية ،أو الطريقة التي بها يعامل ود الريس ويتحدث عن نسائه).
( )٧على وجه الدقة ،إن حديث الراوي املقنع ،والذي يشكل السرد في الكتاب ،سرد قصد به أن يوضح ملستمعيه الذكور ضرر هذه النماذج الذكورية والبديل األفضل لشخصية
اجتماعية.
( )٨بالطبع ظهور قلة من النساء في الرواية ،أفضت إلى تغبيش فكرة الذكورة ،والتي كثيرا ً ما مت تصوير سماتها الذكورة املفترضة للهيمنة والعنف اجلنسي :بشاعة اخصاء
واغتيال حسنة لزوجها ود الريس ،هو عبارة عن تكرار ذات النهج الذي اتبعه مصطفى سعيد في قتل جني مورس املهيمنة دوما ً وعدوانية جنسياً ،زوجة ود الريس الكبرى وهي
تتصرف على غير العادة قالت » أي واهلل يا ولدي« عند سماعها نبأ موته و»زغردت« ( موسم الهجرة ص ، )٠٣١وحدها بنت مجذوب ،امرأة طاعنة في السن ،تدخن وتختلط
بالرجال » وهي تضحك بصوتها الرجالي املبحوح« ( موسم الهجرة ص )٩٧وحدها من غير احتشام هي القادرة على رواية حادثة مقتل ود الريس .رواية ال يستطيع أحد اعادتها،
مثل هذه املشاهد تظهر تبني أكثر التعابير الذكورية عنفا ً من أجل مقاومة األبوية التي دوما ً تكرسها تلك التعابير ( مثل عندما » يتخذ« ود الريس النساء كزوجات حينما
يشاء مبا فيهن حسنة).
٩موسم الهجرة إلى الشمال ــ ص ١٠١
10مرجع سابق ص ٢٠١
١١مرجع سابق ص ٥
12مرجع سابق ص ٢١
13مرجع سابق ص ٢١
14مرجع سابق ص٨
15مرجع سابق ص ٦
16مرجع سابق ص ٩
17مرجع سابق ص ٠١
18مرجع سابق ص ٢١ ١١
19مرجع سابق ص ٣١
20مرجع سابق ص ٥١ ٤١
21مرجع سابق ص ٦١
22مرجع سابق ص ٨١
23مرجع سابق ص ٦٦١
24مرجع سابق ص ٧٦١
25مرجع سابق ص ٠٣
26إدوارد سعيد ــ االستشراق ص ٤
27فرانتزفانون ص ٣٦
28مطر ص ٧١١
29مرجع سابق ص ٤٥
30مرجع سابق ص ٦٥
31مرجع سابق ص ٢٥
32مرجع سابق ص ٢٢١
٣٣مرجع سابق ص ٦١و٤٠١
34مرجع سابق ص ٣٢١
35مرجع سابق ص ٠٢١
36مرجع سابق ص ٣٢١
37انظر جيسي ٢٣١
38مرجع سابق ص ٦٥١
39مرجع سابق ص ٦٣١
40د .علي عبداهلل عباس ص ١٥
41مرجع سابق ص ٧٨
42سليمان غطاس ٣٩
43سليمان غطاس ص ٠٠١
٤٤د .علي عبداهلل عباس ص ٩٤
45نصر٩٩
46مرجع سابق ص ٨٢١
47مرجع سابق ص ٠٣١
48مرجع سابق ص ٢٨
49مرجع سابق ص ٧٠١
50مرجع سابق ص ٣٨
51مرجع سابق ص ٢٩
52مرجع سابق ص ٣٣١
53مرجع سابق ص ٤٣١
54مرجع سابق ص ٣٤١
٥٥أحمد عبدالرحيم نصر ص ٤٩
56مرجع سابق ص ٥٧ ٤٧
57مرجع سابق ص ٦٨
58مرجع سابق ص ٦٧ ٥٧
59مرجع سابق ص ٩
60مرجع سابق ص ٤١
61مرجع سابق ص ٤١
62مرجع سابق ص ٧٧
63مرجع سابق ص ٦٠١
64موسم الهجرة ص ١٧
65موسم الهجرة ص ١٧
٦٦مرجع سابق ٩٨
67موسم الهجرة ٠٩
68مرجع سابق ص ٠٩
69مرجع ص ٠٩
70مرجع سابق ص ٠٩
71مرجع سابق ص ٠٩
72مرجع سابق ص ٨٦١
73مرجع سابق ص ٥٣١
74مرجع سابق ص ٨٦١
75مرجع سابق ٩٦١ ٨٦١
76مرجع سابق ص ٩٦١
٧٧محمد صديق ص ٣٠١
78مرجع سابق ص ٩٦١
79مرجع سابق ص ٧٧
80مرجع سابق ص ٠٦ ٩٥
١٨مرجع سابق ص ٩٦١
٢٨مرجع سابق ص ٠٧١
٣٨مرجع سابق ص ٢١١
٤٨مرجع سابق ص ٦١١
٥٨مرجع سابق ص ٧١١
٦٨مرجع سابق ص ٠٧١
٧٨مرجع سابق ص ٠٧١
٨٨مرجع سابق ص ١٧١ ٠٧١
٩٨أنظر جيسي ٨٣١
٠٩جيسي ٨٣١
١٩مرجع سابق ص ٠٣١
٢٩مرجع سابق ٥٣١
٣٩د .علي عبداهلل عباس ص ٤٥
٤٩مرجع سابق ص ٢٧ ١٧
٥٩د .علي عبداهلل عباس ص ٤٥
٦٩مرجع سابق ص ٧٠١
٧٩مرجع سابق ص ١٧
٨٩مرجع سابق ص ٧٠١
٩٩مرجع سابق ص ٧٦١
100مرجع سابق ص ٩٤