Professional Documents
Culture Documents
ظهُورِهَا وََلكِنّ
ج وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ
يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْأَهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَ ّ
الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا وَاتّقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ ()189
الهلة جمع هلل ،وسمى هللً لن النسان ساعة يراه يهل ،أي يرفع صوته بالتهليل ،ويجيب
الحق سبحانه وتعالى الجواب الذي يحمل كل التفاصيل عن القمر ،وهو الكوكب الذي خضع
لنشاطات العقل حتى يكتشفه ،والعرب القدامى لم يكونوا يعلمون شيئا عن ذلك القمر ،ولكنهم كانوا
يؤرخون به ،وعلمهم به لم يزد على حدود انتفاعهم به .ولم يصلوا إلى الترف العقلي الذي
يتأملون به آيات ال في الكون ،فكل آيات الكون يُنتفع بها ثم ينشط العقل بعد ذلك ،فنعرف
السبب ،وقد ل ينشط العقل فتظل الفائدة هي الفائدة.
وأراد الحق سبحانه أن يلفتنا لمبدأ هام ،وهو أن يعلمنا كيف نستفيد من اليات الكونية مثل القمر،
ل يكفي ظهوره واختفاؤه ،وتغير حجمه ،لن هذه لن يتسع لها العقل ،بل نستفيد منه كميقات،
ونستخدمه لقياس الزمن .فإذا كنا ونحن نعيش في القرن العشرين ،لم يعرف العلماء سببا لظواهر
القمر ،فكيف كان حال الذين سألوا عنها منذ أربعة عشر قرنا؟
قال العلماء المعاصرون في تفسيراتهم مثلً :إن الشمس مثل حجم الرض مليونا وربع مليون
مرة ،والقمر أصغر من الرض ،وعندما تأتي الرض بين الشمس والقمر برغم حجم الشمس
الهائل فإن الرض تحجب جزءا من القمر ،هذا الجزء المحجوب بقدر تدوير القوس المحجوب
من الرض ويصبح هذا الجزء من القمر مظلما.
إن القمر وجوده ثابت لكن الرض عندما توجد بينه وبين الشمس فهي التي تحجب عنه ضوء
الشمس ،ويكبر حجم نوره كلما تزحزحت الرض بعيدا عنه .وعندما تنزاح الرض بعيدا عنه
كلية يظهر في السماء بدرا كاملً ،ثم تعود الرض بعد ذلك لتحجب عنه جزءا من الشمس،
ويزداد ذلك يوما بعد يوم ،فينقص ضوء الشمس المنعكس عليه تبعا لذلك ،فيقل تدريجيا حتى تأتي
الرض بينه وبين الشمس فل يظهر منه شيء.
ونقول نحن :إننا عندما ل نرى القمر ل في الليل ول في النهار برغم أنه موجود في مكانه،
نقول :إنه مستور في ظل الرض ،لذلك ل نراه .وهذه الظاهرة ل تحدث للشمس لن جرم
الشمس كبير جدا .وعندما يحدث فإن الثر يكون قليل ،ويسمى بالكسوف.
وعندما التفت العرب للكون قالوا :ما بال الهلل يصبح هكذا ثم يكبر حتى يصير بدرا ،فقال الحق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س وَالْحَجّ } إنهم هم يسألون عن الهلة ودورتها ،فقطع ال عليهم
عز وجلُ { :قلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ
س وَالْحَجّ } .إن هذا المر
خيط تفكيرهم وأعطاهم الخلصة والنتيجة ،فقالُ { :قلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ
هو الذي يستطيع العقل في ذلك الزمان أن يعرفه ،أما ما وراء ذلك فانتظروا حتى يكشف الزمن
عنه ،وجهلكم به ل يقلل من نفعكم.
لقد كانت كل إجابة لي سؤال في ذلك الزمان تحتوي على ما يتسع العقل لدراكه ساعة التشريع،
أما بقية الجابة فالحق يتركها للزمن.
ول يعطينا إل ما يفيد التشريع ،مثال ذلك :كانوا قديما يقولون :الرض كرة وأثبت لنا العلم أنها
كذلك ،ورأيناها بالقمار الصناعية وانتهت القضية.
وعندما سأل العرب عن الهلة أخبرنا الحق بأنها مواقيت ،والمواقيت جمع ميقات ،والميقات من
الوقت ،والوقت هو الزمن ،ونعرف أن كل حدث من الحداث يحتاج إلى زمن وإلى مكان .إذن
فالزمان والمكان مرتبطان بالحدث فل يوجد زمان ول مكان إل إذا وجد حدث.
والذي يقول :كيف كان الزمن قبل أن يخلق ال الخلق؟ .نقول له :الزمن وُجد للحادث وهو
المخلوقات وال قديم ،وما دام ال قديما وليس حادثا فل زمان ول مكان ،ل تقل متى ول أين؛ لن
متى وأين مخلوقة .وكيف نعرف الوقت؟ نحن نعرف الوقت بأنه مقدار من الزمن ،لمقدار من
الحركة ولمقدار من الفعل.
وأين المكان في هذا التعريف؟ إن الزمان يتحكم أحيانا في المكان ،فيقول الزمان هو الصل،
والمكان طارئ عليه ،ومرة أخرى يكون المكان هو الصل ،والزمان هو الطارئ عليه ،ومرة
ثالثة يتلزم الثنان الزمان والمكان.
ونحن في مصر إذا أردنا الحج فإننا نبدأ الحرام عند رابغ ،ونُسمي رابغ ميقات أهل مصر أي
هي المكان الذي ل يتجاوزه من مر عليه إل وهو محرم.
إذن فالميقات قد أطلق على مكان هو رابغ ،ومن فور وصول النسان المصري إلى رابغ بغية
الحج يحرم ،سواء كان الوقت صباحا أو ظهرا أو عصرا أو مغربا.
ولكن عندما نبدأ في الصوم فإن الزمن يصبح هو الصل في صومك في أي مكان تذهب إليه ،إن
الزمان هو الذي يحدد مواعيد الصوم :في طنطا أو لندن أو في طوكيو ،وهكذا نعرف كيف يكون
الزمن ميقاتا.
إذن فمرة يكون الزمن هو المتحكم في الميقات والمكان طارئ عليه ،ومرة يكون المكان هو الذي
يتحكم في الميقات ،والزمن طارئ عليه ،ومرة يتحكم الزمان والمكان معا في الفعل مثل يوم
عرفة.
وهكذا نعرف معنى } َموَاقِيتُ لِلنّاسِ { ،فنحن بالهلل نعرف بدء شهر رمضان ،ونعرف به عيد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الفطر ،وكذلك موسم الحج وعدة المرأة ،والشهر الحرم ،إن كل هذه المور إنما نعرفها
بالمواقيت .وشاء الحق أن يجعل الهلل هو أسلوب تعريفنا تلك المور وجعل الشمس لتدلنا على
اليوم فقط ،وإن كان لها عمل آخر في البروج التي يتعلق بها حالة الطقس والجو ،والزراعة،
شمْسَ ضِيَآ ًء وَا ْلقَمَرَ نُورا }[يونس]5 :
ج َعلَ ال ّ
ولذلك قالُ {:هوَ الّذِي َ
وانظر إلى الدقة في الداء وكيف يشرح الحق للنسان ماهية النور ،وماهية الضوء .إن الشمس
مضيئة بذاتها ،أما القمر فهو منير؛ لن ضوءه من غيره؛ فهو مثل قطعة الحجر اللمعة التي
تنعكس عليها أشعة الشمس فتعطينا نورا.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من مناخ بلدهم.
وهكذا نجد أن حكمة ال اقتضت أن تدور مواقيت العبادات على سائر أيام السنة حتى يستطيع كل
الناس حسب ظروفهم المناخية أن يؤدوا العبادات بل مشقة .إذن فالمنازل شائعة في البروج ،وهذا
سبب قول بعض العلماء :إن ليلة القدر تمر دائرة في كل ليالي السنة ،وذلك حسب سياحة المنازل
في البروج.
إذن فهناك بروج للشمس ،ومنازل للقمر ،ومواقع للنجوم ،ومواقع النجوم التي يقسم بها ال سبحانه
عظِيمٌ }[الواقعة]76-75 :
سمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَسَمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ َ
في قوله {:فَلَ ُأقْ ِ
ولعل وقتا يأتي يكشف ال فيها للبشرية أثر مواقع النجوم على حياة الخلق وذلك عندما تتهيأ
النفوس لذلك وتقدر العقول على استيعابه.
إذن كل شيء في الكون له نظام :للشمس بروج ،وللقمر منازل ،وللنجوم مواقع .وكل أسرار
الكون ونواميسه ونظامه في هذه المخلوقات ،وقد أعطانا ال من أسرار الهلة أنها مواقيت للناس
والحج .وعندما تكلم سبحانه عن الحج أراد أن يعطينا حكما متعلقا به؛ فقد كانت هناك قبائل من
العرب تعرف بالحمس ،هؤلء الحمس كانوا متشددين في دينهم ومتحمسين له ،ومنهم كانت
قريش ،وكنانة ،وخثعم ،وجشم ،وبنو صعصاع بن عامر .وكان إذا حج الفرد من هؤلء ل يدخل
بيته من الباب لنه أشعث أغبر من أداء مناسك الحج .ويحاول أن يدخل بيته على غير عادته،
لذلك كان يدخل من ظهر البيت ،وكان ذلك تشددا منهم ،لم يرد ال أن يُشرَعه .حتى ل يطلع على
شيء يكرهه في زوجه أو أهله .وأراد سبحانه عندما ذكر مناسك الحج في القرآن أن ينقي
ظهُورِهَا
المناسك من هذه العادة المألوفة عند العرب فقال } :وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ُ
وَلَـاكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَىا وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا وَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ { أي ل تجعلوا المسائل
شكلية ،فنحن نريد أصل البر وهو الشيء الحسن النافع.
والملحظ أن كلمة " البر " في هذه الية جاءت مرفوعة ،لن موقعها من العراب هو " اسم ليس
" وهي تختلف عن كلمة " البر " التي جاءت من قبل في قوله تعالى } :لّيْسَ الْبِرّ أَن ُتوَلّواْ
ق وَا ْل َمغْرِب { التي جاءت منصوبة؛ لن موقعها من العراب هو " خبر مقدم
وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ
لليس " .حاول المستشرقون أن يأخذوا هذا الختلف في الرفع والنصب على القرآن الكريم.
ونقول لهم :أنتم قليلو الفطنة والمعرفة باللغة العربية ،فماذا نفعل لكم؟ .يصح أن نجعل الخبر مبتدأ
فنقول " :زيد مجتهد " ،هذا إذا كنا نعلم زيدا ونجهل صفته ،فجعلنا زيدا مبتدأ ،ومجتهدا خبرا.
لكن إذا كنا نعرف إنسانا مجتهدا ول نعرف من هو؛ فإننا نقول " :المجتهد زيد ".
إذن فمرة يكون السم معروفا لك فتلحق به الوصف ،ومرة تجهل السم وتعرف الوصف فتلحق
السم بالوصف .وهذا سر اختلف الرفع والنصب في كلمة " البر " في كل من اليتين .ونقول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للمستشرقين :إن لكل كلمة في القرآن ترتيبا ومعنى ،فل تتناولوا القرآن بالجهل ،ثم تثيروا
الشكالت التي ل تقلل من قيمة الكتاب ولكنها تكشف جهلكم.
ثم ما هو " البر "؟ قلنا :إن البر هو الشيء الحسن النافع .ولو ترك ال لنا تحديد " البر " لختلفت
قدرة كل منا على فهم الحسن والنافع باختلف عقولنا؛ فأنت ترى هذا " حسنا "؛ وذاك يرى شيئا
آخر ،وثالث يرى عكس ما تراه ،لذلك يخلع ال يدنا من بيان معنى البر ،ويحدد لنا سبحانه
مواصفات الحسن النافع ،فما من واحد ينحرف ويميل إلى شيء إل وهو يعتقد أنه هو الحسن
النافع ،ولذلك يقول الحق } :وَلَـاكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَىا وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا {.
إن هذا يدلنا على أن كل غاية لها طريق يوصل إليها ،فاذهب إلى الغاية من الطريق الذي يوصل
إليها .ويتبع الحق قوله عن البر } :وَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ { .ل تزال كلمة التقوى هي الشائعة
في هذه السورة ،وكل حكم يعقبه السبب من تشريعه وهو التقوى.
ونعرف أن معنى التقوى هو أن تتقي معضلت الحياة ،ومشكلتها بأن تلتزم منهج ال .وساعة
ترى منهج ال وتطبقه فأنت اتقيت المشكلت ،أما من يعرض عن تقوى ال فإن الحق يقول عن
ش ًة ضَنكا }[طه]124 :
مصيره {:فَإِنّ لَهُ َمعِي َ
ول يظن أحد أن التقوى هي اتقاء النار ،ل ،إنها أعم من ذلك ،إنها اتقاء المشكلت والمخاطر
التي تنشأ من مخالفة منهج ال .وليعلم النسان أن كل مخالفة منهج ال .وليعلم النسان أن كل
مخالفة ارتكبها لبد أن يمر عليها يوم تُرتكب فيه هذه المخالفة كما ارتكبها في غيره ،فمن ل
يحب أن تُجرى فيه المخالفات فعليه أل يرتكب المخالفات في غيره.
وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضية أخرى ،وهذه القضية الخرى هي التي تميز المة السلمية
بخصوصية فريدة؛ لنه سبحانه قد أوجد وفطر هذه المة على منهاج قويم لم تظفر به أمة من
قبل ،وهذه الخصوصية هي أن ال قد أمن أمة محمد على أن تؤدب الخارجين على منهج ال؛
فقديما كانت السماء هي التي تُؤدب هؤلء الخارجين عن المنهج .كان الرسول يشرح ويبلغ
المنهج ،فإن خالفه الناس تتدخل السماء وتعاقبهم ،إما بصاعقة ،وإما بعذاب ،وإما بفيضان ،وإما
بأي وسيلة .ولم يكن الرسل مكلفين بحمل وقسر الناس على المنهج .وحين سأل بنو إسرائيل ربهم
أن يقاتلوا ،لم يكن قتالهم من أجل الدين مصداقا للية الكريمة {:قَالُو ْا َومَا لَنَآ َألّ ُنقَاتِلَ فِي سَبِيلِ
اللّ ِه َوقَدْ أُخْ ِرجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا }[البقرة]246 :
علة القتال ـ إذن ـ أنهم أُخرجوا من بيوتهم وأُجبروا على ترك أولدهم ،فهم عندما سألوا القتال
لم يسألوه للدفاع عن العقيدة ،وإنما لنهم أخرجوا من ديارهم وأولدهم.
أما أمة محمد صلى ال عليه وسلم فهي التي أمنها ال على أن يكون في يدها الميزان ،وليس هذا
الميزان ميزان تسلط ،وإنما هو ميزان يحمي كرامة النسان بأن يصون له حرية اختياره بالعقل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي خلقه ال ،فل إكراه في اليمان بال .وقد شرع ال القتال لمة محمد ل ليفرض به دينا،
ولكن ليحمي اختيارك في أن تختار الدين الذي ترتضيه .وهو يمنع سدود الطغيان التي تحول
دونك ودون أن تكون حرا مختارا في أن تقبل التكليف.
ولذلك فالذين يحاولون أن يلصقوا بالسلم تهمة أنه انتشر بالسيف نقول لهم :إن حججهم ساقطة
واهية ،وكذلك قولهم :إن السلم عندما يفرض الجزية فكأنه جاء لجباية الموال ،نقول لهؤلء:
جزية على مَنْ؟ جزية على غير المؤمن ،ومادام قد فُرضت عليه جزية فمعنى ذلك أنه أباح له أن
يكون غير مؤمن ،لو كان السلم يُكره الناس على اعتناقه لما كان هناك مَنْ نأخذ عليه جزية.
إذن فالسلم لم يُكرهه ،وإنما حماه من القوة التي تسيطر عليه حتى ل يُكرهه أحد على ترك
دينه ،وهو حر بعد ذلك في أن يسلم أو ل يسلم .وكأن الذين ينتقدون السلم يدافعون عنه؛
فسهامهم قد ارتدت إليهم.
وهنا تساؤل قد يثور :إذا كان المر كذلك فلماذا كانت حروب المسلمين؟ نقول :إن حروب
السلم كانت لمواجهة الذين يفرضون العقائد الباطلة على غيرهم ،وجاء السلم ليقول لهؤلء:
ارفعوا أيديكم عن الناس واجعلوهم أحرارا في أن يختاروا الدين المناسب .ولماذا تركهم السلم
أحرارا؟ لنه واثق أن النسان مادام على حريته في أن يختار فل يمكن أن يجد إل الحق واضحا
في السلم .ولذلك فكثير من الناس الذين يقرأون قوله تعالى {:لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ[} ..البقرة:
]256
شدُ مِنَ ا ْل َغيّ
ل يفطنون إلى أن العلة واضحة في قوله ـ سبحانه ـ من الية نفسها } قَد تّبَيّنَ الرّ ْ
{ .إذن فالمسألة واضحة لماذا نُكره الناس وقد وضح أمامهم الحق والباطل؟ نحن فقط نمنع الذين
يفرضون عقائدهم الباطلة على الناس؛ فأنت تستطيع أن تُكره القالب ،لكن ل تستطيع أن تُكره
القلب .ونحن نريد أن ينبع اليمان من القلب ،ولهذا يقول الحق لسيدنا رسول ال صلى ال عليه
سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
وسلمَ {:لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ضعِينَ }[الشعراء]4-3 :
َلهَا خَا ِ
إن ال ل يريد أعناقا ،لو كان يريد أعناقا لما استطاع أحد أن يخرج عن قدره ـ سبحانه ـ من
يُريد ال أن يبتليه بمرض أو موت فلن ينجو من قدره .إن الحق يريد إيمان قلوب ل رضوخ
قوالب .فالذي يجبر الخرين على اليمان بالكرباج لن يتبعه أحد ،وهو نفسه غير مؤمن بما
يفرضه على الناس .ولو كان مؤمنا به لما فرضه على الناس بالقسر؛ إنهم سيقبلونه عن طواعية
واختيار عندما يتبيّن لهم أنه الحق المناسب لصلح حياتهم.
ونحن نلتفت حولنا فنجد أن النظم والحكومات التي تفرض مبادئها بالسوط والقهر تتساقط تباعا،
فعندما تتخلى هذه الحكومات عن السوط والبطش فإن الشعوب تتخلى عن تلك الفكار .والقرآن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هنا يعالج هذه المسألة عندما يتحدث عن القتال وتشريع القتال ،المر الذي اختص به الحق أمة
السلم .وهو سبحانه لم يأذن بالقتال خلل فترة الدعوة المكية التي استمرت ثلثة عشر عاما ،ثم
أذن به بعد الهجرة إلى المدينة.
وقد كان من الضروري أن يتأخر أمر القتال؛ لن الحق أراد أولً أن يلتفت المسلمون إلى اتباع
عفُو ْا وَاصْفَحُواْ
المنهج حتى يكونوا لغيرهم قدوة ،ويروا فيهم أسوة حسنة ،لذلك قال الحق {:فَا ْ
حَتّىا يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ }[البقرة]109 :
ن وَا ْلمُنَا ِفقِينَ َو َدعْ َأذَا ُهمْ }[الحزاب]48 :
وقال سبحانه أيضاَ {:ولَ ُتطِعِ ا ْلكَافِرِي َ
لماذا كل هذا التدرج؟ لن الحق سبحانه وتعالى علم أن الدعوة للسلم ستدخل البيوت العربية،
فسيضم البيت الواحد كافرا بال ومؤمنا بال ،ولو أنه سبحانه وتعالى شرع القتال من البداية لصار
في كل بيت معركة.
ثم إن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن تلك القبائل العربية بها كثير من خفة وطيش وسفه؛ وكانوا
يقتتلون لتفه السباب؛ فمن أجل ناقة ضربها كليب بسهم في ضرعها فماتت اشتعلت الحرب
أربعين سنة .وفي ذلك يقول الشاعر عند الحفيظة والغضب:قـوم إذا الشـر أبـدى ـ
ناجـذيـه لـهـم ـ طـاروا إلـيـه زرافـات ووحـدانـاوالثاني يقول:ل يسـألـون
أخـاهـم حـين يندبهـم في النـائبـات عـلى مـا قـال بـرهـاناأي أنهم ل يسألون أخاهم:
" لماذا نحارب؟ " ،وإنما يحاربون بل سبب ولي سبب ،فالحمية الرعناء تدفعهم للقتال بل سبب.
وفي مقابل ذلك كانت عندهم نخوة للحق ،فعندما يرون شخصا قد ظلمه غيره؛ تأخذهم النخوة،
ويأخذون على يد الظالم ،وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يهيج فيهم النخوة حين يرون الضعاف
من المسلمين مستضعفين ،وقد عزلهم بعض من القوم في شعب أبي طالب وجوعوهم وقاطعوهم
حتى اجتمع الخمسة العظام في مكة وقالوا " :كيف نقبل أن نأكل ونشرب ونأتي نساءنا وبنو هاشم
وبنو المطلب محصورون في الشعب ل يأكلون ول يشربون ول يتبايعون ".
لقد كانوا كفارا ،وبرغم ذلك وقفوا موقفا عظيما وقالوا :هاتوا الصحيفة التي تعاهدنا فيها على أن
نقاطع بني هاشم وبني المطلب ونقطعها؛ واتفقوا على ذلك .وكانوا خمسة من سادات مكة هم:
هشام بن عمرو ،وزهير بن أبي أمية ،وأبو البحتري بن هاشم ،وزمعة ابن السود ،والمطعم بن
عدي .وكانوا قادة النخوة التي أنهت مقاطعة المسلمين .هكذا نرى أن العرب كانوا يتسمون
بالحمية الرعناء وتقابلها النخوة في الحق.
ويعلم الحق سبحانه وتعالى أن نقل أمة العرب مما اعتادته ليس أمرا سهلً ،لذلك أخذهم برفق
ال َهوَادة .والذين يقولون :لماذا لم يحارب المسلمون أعداءهم من أول وهلة ولماذا لم يقتلوا صناديد
الكفر في مكة؟
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نقول لهم :إن كثيرا من الذين كنتم ترون قتالهم في بداية الدعوة السلمية هم الذين نشروا راية
السلم من بعد ذلك ،ومثال ذلك خالد بن الوليد ،الذي كان قائدا مغوارا في صفوف المشركين،
وقاتل المسلمين في أول حياته ،ثم هداه ال للسلم وأصبح سيف ال المسلول ،ماذا لو قتل هذا
القائد الفذ على أيدي المسلمين؟ كان مثل هذا الفعل سيتسبب في حرمان المسلمين من موهبته ،تلك
الموهبة التي أسهمت في معظم الفتوحات السلمية في الشام والعراق.
إذن شاءت حكمة ال أن يستبقي أمثال خالد وهم خصوم للسلم في بدء الدعوة لن ال قد أعد
لهم دورا يخدمون به السلم .والذين نالوا من السلم أول هم الذين ستبقى عندهم الحرارة حتى
يعملوا عملً يغفر ال لهم به ما قد سبق.
انظر إلى عكرمة بن أبي جهل كان شوكة في ظهر المسلمين في بداية الدعوة ،ثم أسلم وأبلى بلء
حسنا ،ولما أصيب في موقعة اليرموك وأوشكت روحه أن تصعد إلى خالقها نظر إلى قائده خالد
بن الوليد وقال :أهذه ميتة تُرضى عني رسول ال؟ .كأنه كان يعلم أن رسول ال كان قد غضب
عليه قبل أن يسلم.
وعمرو بن العاص داهية المسلمين الذي لوله ما فُتحت مصر .فقد كسب بدهائه أهل مصر
فامتنعوا عن قتاله ،وناظرهم بعد ذلك حتى استل حقدهم على المسلمين ،وأبان لهم أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قال موصياتهم " استوصوا بالقبطيين خير لن لهم رحما وذمة " وفوق هذا
فقد أرسله النبي صلى ال عليه وسلم إلى بعض العرب يستقرهم إلى السلم.
إذن فمن رحمة ال أنه لم يشأ تشريع القتال من البداية ،وإل لكنا فقدنا كثيرا من قادة السلم
العظام الذين حملوا لواء الدعوة السلمية فيما بعد ،وكل إنسان استقاه السلم وهو خصم وعدو
للسلم ،قدر ال له بعد السلم دورا يخدم به الدين الخاتم.
ومن هنا نفهم الحكمة من تأخير القتال في السلم ،لن ال أراد أن يمحص ويختبر ،وأل يدخل
هذا الدين إل من يتحمل متاعب هذا الدين ،ومشاقه لنه سيكون مأمونا على مجد أمة ،وعلى منهج
سماء ،وتلك أمور ل يصلح لها أي واحد من الناس.
وقد كان من الممكن أن ينصر ال دينه من أول وهلة دون تدخل من المسلمين ،وكان معنى ذلك
أن الناس سيتساوون في اليمان أولهم وآخرهم ،ولكن شاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يجعل لهذا
الدين رجالً يفدونه بأرواحهم وأموالهم لينالوا الشهادة ويرتفعوا إلى مصاف النبيين .لذلك جاء
المر بالقتال متأخرا وبالتدريج؛ لقد جاء المر بالقتال في أول مرحلة بقول ال تعالىَ } :وقَاتِلُواْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم وَلَ َتعْتَدُواْ{ ...
()193 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ ()190
َوقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم وَلَا َتعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ
وسبب نزول هذه الية أن رسول ال صلى ال عليه وسلم اشتاق هو وصحابته إلى البيت الحرام،
وأرادوا أن يعتمروا ،فجاءوا في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة .وأرادوا أن يؤدوا
العمرة .فلما ذهبوا وكانوا في مكان اسمه الحديبية ،ووقفت أمامهم قريش وقالت :ل يمكن أن
يدخل محمدٌ وأصحابه مكة.
وقامت مفاوضات بين الطرفين ،ورضي رسول ال بعدها أن يرجع هذا العام على أن يأتي في
العام القادم ،وتُخلى لهم مكة ثلثة أيام في شهر ذي القعدة.
وكان الرسول صلى ال عليه وسلم قد بشر أصحابه بأنهم سيدخلون المسجد الحرام محلقين
ومقصرين ،وشاع ذلك الخبر ،وفرح به المسلمون وسعدوا ،ثم فوجئوا بمفاوضات رسول ال
ورجوعه على بعد نحو عشرين كيلو مترا من مكة وحزن الصحابة .حتى عمر بن الخطاب
رضي ال عنه غضب وقال للنبي صلى ال عليه وسلم :ألست رسول ال؟ ألست على الحق؟ فرد
عليه سيدنا أبو بكر قائل :الزم غرزك يا عمر إنه لرسول ال.
وقد أظهرت هذه الواقعة موقفا لم المؤمنين أم سلمة رضي ال عنها ،وهو موقف يعبر عن
الحنان والرحمة والمشورة اللينة الهينة .فحينما دخل عليها رسول ال وقال لها :هلك المسلمون يا
أم سلمة ،أمرتهم فلم يمتثلوا.
فانظر إلى مهمة الزوجة عندما يعود إليها زوجها مهموما ،هنا تتجلى وظيفتها في السكن ،قالت أم
سلمة :اعذرهم يا رسول ال؛ إنهم مكروبون .كانت نفوسهم مشتاقة لن يدخلوا بيت ال الحرام
محلقين ومقصرين ،ثم حرموا منها وهم على بعد أميال منها ،اعمد إلى ما أمرك ال فافعله ول
تُكلم أحدا ،فإن رأوك فعلت ،علموا أن ذلك عزيمة.
وأخذ رسول ال بنصيحة أم سلمة ،وصنع ما أمره به ال ،وتبعه كل المسلمين ،وانتهت المسألة.
وقبل أن يرجعوا للمدينة لم يشأ ال أن يطيل على الذين انتقدوا الموقف حتى ل يظل الشرخ في
نفوس المؤمنين ،وتلك عملية نفسية شاقة ،لذلك لم يُطل ال عليهم السبب ،وجاء بالعلة قائل لهم:
ما يحزنكم في أن ترجعوا إلى المدينة؛ أنتم لكم إخوان مؤمنون في مكة وقد أخفوا إيمانهم وهم
مندسون بين الكفار ،فلو أنكم دخلتم ،وقاتلوكم ،ستقاتلون الجميع مؤمنين وكافرين ،فتقتلون إخوانا
لكم ،فلو كان هؤلء الخوان المؤمنون متميزين في جانب من مكة لذنت لكم بقتال المشركين؛
سجِدِ الْحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفا
كما تريدون .واقرأ قول ال تعالىُ {:همُ الّذِينَ َكفَرُو ْا َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ
ن وَنِسَآءٌ ّمؤْمِنَاتٌ لّمْ َتعَْلمُوهُمْ أَن تَطَئُو ُهمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مّ ْنهُمْ ّمعَ ّرةٌ
أَن يَبْلُغَ َمحِلّ ُه وََل ْولَ رِجَالٌ ّم ْؤمِنُو َ
حمَتِهِ مَن َيشَآءُ َلوْ تَزَيّلُواْ َل َعذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُواْ مِ ْنهُمْ عَذَابا أَلِيما }[الفتح:
خلَ اللّهُ فِي رَ ْ
ِبغَيْرِ عِلْمٍ لّ ُيدْ ِ
]25
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بعد نزول الية عرف المسلمون أن المتناع كان لعلة ولحكمة ،فلما جاءوا في العام التالي قال ال
شهْرِ الْحَرَا ِم وَالْحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ }[البقرة]194:
شهْرُ ا ْلحَرَامُ بِال ّ
لهم {:ال ّ
وكان الحق يطمئنهم ،فالذين صدوكم في ذي القعدة من ذلك العام ستقاتلونهم وستدخلون في ذي
القعدة من العام القادم .وخاف المسلمون إن جاءوا في العام المقبل أن تنقض قريش العهد وتقاتلهم،
ونزل قول الحق:
حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ { [البقرة]190 :
} َوقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم َولَ َتعْ َتدُواْ إِنّ اللّ َه لَ ُي ِ
وعندما نتأمل قوله تعالىَ } :وقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ { فإننا نجد أن الحق سبحانه يؤكد على كلمة }
فِي سَبِيلِ اللّهِ { لنه يريد أن يضع حدا لجبروت البشر ،ولبد أن تكون نية القتال في سبيل ال ل
أن يكون القتال بنية الستعلء والجبروت والطغيان فل قتال من أجل الحياة ،أو المال أو لضمان
سوق اقتصادي ،وإنما القتال لعلء كلمة ال ،ونصرة دين ال ،هذا هو غرض القتال في السلم.
حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ { والحق ينهى عن
} َوقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم َولَ َتعْ َتدُواْ إِنّ اللّ َه لَ ُي ِ
العتداء ،أي ل يقاتل مسلم من لم يقاتله ول يعتدي.
وهب أن قريشا هي التي قاتلت ،ولكن أناسا كالنساء والصبيان والعجزة لم يقاتلوا المسلمين مع
أنهم في جانب من قاتل ،لذلك ل يجوز قتالهم ،نعم على قدر الفعل يكون رد الفعل .ماذا؟ لن في
قتال النساء والعجزة اعتداء ،وهو سبحانه ل يحب المعتدين .لكن قتال المؤمنين إنما يكون لرد
العدوان ،ول بداية عدوان.
ويقول الحق من بعد ذلك } :وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َثقِفْ ُتمُوهُم وَأَخْ ِرجُوهُمْ مّنْ حَ ْيثُ أَخْ َرجُوكُ ْم وَا ْلفِتْنَةُ أَشَدّ
مِنَ ا ْلقَ ْتلِ{ ...
()194 /
ونحن نسمع كلمة " ثقافة " ،وكلمة " ثقاف " ،والثقافة هي يسر التعلم ،أو أن تلم بطرف من
الشياء المتعددة ،وبذلك يصبح فلن مثقفا أي لديه كمّ من المعلومات ،ويعرف بعض الشيء عن
كل شيء ،ثم يتخصص في فرع من فروع المعرفة فيعرف كل شيء عن شيء واحد.
كل هذه المعاني مأخوذة من المور المحسة ،والتثقيف عند العرب هو تقويم الغصن ،فقد كان
العرب يأخذون أغصان الشجر ليجعلوها رماحا وعصيا ،والغصن قد يكون معوجا أو به نتوء،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكان العربي يثقفه ،أي يزيل زوائده واعوجاجه ،ثم يأتي بالثقاف وهو قطعة من الحديد المعقوف
ليقوّم بها المعوج من الغصان كما يفعل عامل التسليح بحديد البناء.
كأن المُ َثقّف هو الذي يعدل من شيء معوج في الكون؛ فهو يعرف هذه وتلك ،وأصبح ذا تقويم
سليم .وهكذا نجد أن معاني اللغة وألفاظها مشتقة من المحسات التي أمامنا .وقولهَ { :ث ِقفْتُمُوهُم }
أي " وجدتموهم " ،فثقف الشيء أي وجده.
والحق يقول {:فَِإمّا تَ ْثقَفَ ّنهُمْ فِي ا ْلحَ ْربِ فَشَرّدْ ِبهِم }[النفال]57 :
أي شردهم حيث تجدهم .ويقول الحق { :وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َث ِقفْ ُتمُوهُم } أي ل تقولوا إنهم أخرجوكم
من هنا ،وإنما أخرجوهم من حيث أخرجوكم ،أي من أي مكان أنتم فيه ،وعن ذلك لن تكونوا
معتدين .وقوله تعالى { :وَأَخْ ِرجُوهُمْ مّنْ حَ ْيثُ أَخْ َرجُوكُمْ } يذكرنا بمنطق مشابه في آية أخرى
منها قوله تعالى {:وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِ ِه وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }[النحل:
]126
وقوله تعالى {:وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثُْلهَا[} ...الشورى]40 :
وعندما نبحث في ثنايا هذه النصوص { وَجَزَآءُ سَيّ َئةٍ سَيّئَةٌ مّثُْلهَا } " قد يرد هذا الخاطر " أخذت
حقي ممن أساء إلي ،وانتقمت منه بعمل يماثل العمل الذي فعله معي ،هل يقال :إنني فعلت سيئة؟
وحتى نفهم المسألة نقول :الحق سبحانه وتعالى يأتي في بعض الحايين بلفظ " المشاكلة " وهي
ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحته ،ومثل ذلك قولهَ { :و َمكَرُو ْا َو َمكَرَ اللّهُ } ،إن ال ل
يمكر ،وإنما اللفظ جاء للمشاكلة ،أو أن اللفظ الكريم قد جاء في استيفاء حقك بكلمة { سَيّ َئةٌ مّثُْلهَا }
لينبهك إلى أن استيفاء حقك بمثل ما صنع بك يعتبر سيئة إذا ما وازناه بالصفح والعفو عن
عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ
المسيء ،يشير إلى ذلك سبحانه في نهاية هذه الية بقولهَ { :فمَنْ َ
حبّ الظّاِلمِينَ } وبمثل ذلك كان ختام الية السابقة { وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }.
لَ ُي ِ
شدّ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ } ،والفتنة مأخوذة من المر الحسي ،فصائغ الذهب يأخذ
ويقول الحق { :وَا ْلفِتْنَةُ أَ َ
قطعة الذهب فيضعها في النار فتنصهر ،فإذا ما كان يشوبها معدن غريب عن الذهب فهو يخرج
ويبقى الذهب خالصا ،فكأن الفتنة ابتلء واختبار ،وقد فعل المشركون ما هو أسوأ من القتل ،فقد
حاولوا من قبل أن يفتنوا المؤمنين في دينهم بالتعذيب ،فخرج المؤمنون فرارا بدينهم.
والحق يأمر المسلمين في قتالهم مع أهل الشرك أن يراعوا حرمة البيت الحرام ،فل ينتهكوها
بالقتال إل إذا قاتلهم أهل الشرك.
وهكذا نجد أن أول أمر بالقتال إنما جاء لصد العدوان ،وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسقط من
أيدي خصوم السلم ورقة قد يلعبون بها مع المسلمين ،فهم يعلمون أن المؤمنين بالسلم
سيحترمون الشهر الحرم ويحترمون المكان الحرام ويحترمون الحرام فل يقاتلون؛ وربما أغرى
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذلك خصوم السلم أل يقاتلوا المسلمين إل في الشهر الحرم ،ويظنون أن المسلمين قد يتهيبون
أن يقاتلوهم ،فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يشرع لهم ما يناسب مثل هذا المر فأذن لهم في
القتال ،فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام ،وإن قاتلوكم في المكان الحرام
فقاتلوهم في المكان الحرام ،وإن قاتلوكم وأنتم حُرم فقاتلوهم؛ لن الحرمات قصاص.
إذن أسقط الحق الورقة من أيدي الكافرين .إن الحق سبحانه وتعالى يعلل ذلك بأنه وإن كان القتال
في الشهر الحرام وفي المكان الحرام وفي حال الحرام صعبا وشديدا فالفتنة في دين ال أشد من
القتل ،لن الفتنة إنما جاءت لِتُفسِد على الناس دينهم ،صحيح أنها ل تعوق الناس عن أن يتدينوا،
ولكنها تفتن الذين تدينوا ،وقد حاولوا إجبار المسلمين الوائل بالتعذيب حتى يرتدوا عن الدين،
وكان ذلك أشد من القتل لنها فتنة في الدين.
إن ال هو الذي شرع الشهر الحرام فكيف يُفتن المؤمنون عن دين ال ويُحملون على الشرك به ثم
تقولون بعد ذلك إننا في الشهر الحرام؟ إن الشهر الحرام لم يكن حراما إل لن ال هو الذي
حرمه ،فالفتنة في ال شرك وهو أشد من أن نقاتل في الشهر الحرام ،ولذلك فل داعي أن يتحرج
أحد من القتال في الشهر الحرام عندما يفتن في دينه .وحينئذ نعلم أن القتال إنما جاء دفاعا.
عمّن آمن فقط؟ أو كما
وبعد ذلك هل يظل القتال دفاعا كما يريد خصوم السلم أن يجعلوه دفاعا َ
يريد الذين يحاولون أن يدفعوا عن السلم أنه دين قتال ويقولون :ل ،السلم إنما جاء بقتال
عمّن آمن فقط؟ أم عن مطلق إنسان نريد
عمّن؟ هل دفاع َ
الدفاع فقط .نقول لهؤلء :قتال الدفاع َ
أن ندفع عنه ما يؤثر في اختيار دينه؟
عمّن لم
عمّن آمن ،ندفع عنه مَنْ يعتدي عليه ،وأيضا َ
هو دفاع أيضا ،وسنسميه دفاعا ،ولكنه دفاع َ
يؤمن ندفع عنه من يؤثر عليه في اختيار دينه لنحمي له اختياره ،ل لنحمله على الدين ،ولكن
لنجعله حرا في الختيار؛ فالقوى التي تفرض على الناس دينا نزيحها من الطريق ،ونعلن دعوة
ن وقف أمام هذه الدعوة نحاربه؛ لنه يفسد على الناس اختيار دينهم ،وفي هذا أيضا
السلم ،فمَ ْ
دفاع.
جدِ الْحَرَامِ حَتّىا ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ { لنكم أحرى وأجدر أن تحترموا تحريم ال
} َولَ ُتقَاتِلُو ُهمْ عِنْدَ ا ْلمَسْ ِ
للمسجد الحرام ،لكن إذا هم اجترأوا على القتال في المسجد الحرام فقد أباح سبحانه لكم أيها
المسلمون أن تقاتلوهم عند المسجد الحرام ما داموا قد قاتلوكم فيه } .فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُو ُهمْ كَذَِلكَ
غفُورٌ رّحِيمٌ { .وما أسمى هذا الدين.
جَزَآءُ ا ْلكَافِرِينَ * فَإِنِ ان َت َهوْاْ فَإِنّ اللّهَ َ
إننا ل نؤاخذهم بعد أن انتهوا إلى اليمان بما قدمت أيديهم من الجتراء على أهل اليمان ما داموا
قد آمنوا ،ولذلك نرى عمر بن الخطاب وقد مر على قاتل أخيه زيد بن الخطاب :وأشار رجل
وقال :هذا قاتل زيد .فقال عمر :وماذا أصنع به وقد أسلم؟ لقد عصم السلم دمه.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد انتهت المسألة بإسلمه ،فاليمان بال أعز على المؤمن من دمه ومن نفسه وحين يؤمن فقد
انتهت الخصومة .وهذا وحشي قاتل حمزة ،يقابله رسول ال صلى ال عليه وسلم وكل ما يصنعه
رسول ال هو أن يزوي وجهه عنه ،لكنه ل يقتله ول يثأر منه .وهند زوجة أبي سفيان التي أكلت
كبد حمزة ،أسلمت وانتهت فعلتها بإسلمها .إذن ،فالسلم ليس دين حقد ول ثأر ول تصفية
حسابات ،فإذا كان الدم يغلي في مواجهة الكفر ،فإن إيمان الكافر بالسلم يعطيه السلمة ،هذا هو
الدين.
()195 /
أي ما داموا قد كفوا عما يصنعون من الفتنة بالدعوة والشرك بال وَزُجِروا بالدين المر فانزجروا
عن الكفر ،بعدها ل شيء لنا عندهم؛ لن ال غفور رحيم ،فل يصح أن يشيع في نفوسنا الحقد
على ما فعلوه بنا قديما ،بل نحتسب ذلك عند ال ،وما داموا قد آمنوا فذلك يكفينا .والحق سبحانه
وتعالى بعد أن أعطانا مراحل القتال ودوافعه قالَ { :وقَاتِلُو ُهمْ حَتّىا لَ َتكُونَ فِتْنَ ٌة وَ َيكُونَ الدّينُ
للّهِ} ...
()196 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ديانة أنفسهم أو من الديانات التي فرضها الطغيان عليهم ،وعندما نأخذهم من ديانات الطغيان،
ومن الديانات التي زينها الناس إلى ديانات الخالق فهذه مسألة حسن بالنسبة لهم ،وتلك مهمة
سامية .كأنك بهذه المهمة السامية تريد أن ترشد العقل النساني وتصرفه وتمنعه من أن يَديِنَ
لمساو له؛ إلى أن يدين لمن خلقه .وعلى صاحب مثل هذا العقل أن يشكر من يوجهه إلى هذا
الصواب .ولذلك يُجلى الحق سبحانه وتعالى هذه الحقيقة فيقول على لسان الرسولُ {:قلْ مَآ أَسَْأُلكُمْ
خذَ إِلَىا رَبّهِ سَبِيلً }[الفرقان]57 :
عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ ِإلّ مَن شَآءَ أَن يَتّ ِ
فكأننا لو نظرنا إلى عمل الرسول بالنسبة إلينا بمنظار القتصاد لوجب أن يكون له أجر ،لنه يقدم
المنفعة لنا ،وبرغم ما قدمه من منفعة فهو ل يأخذ أجرا؛ لنه زاهد في الجر؛ فإنه يعلم أن الجر
من المساوي له قليل مهما عظم وهو يريد الجر ممن خلقه ،وهذا طمع في العلى؛ لنه ل يعطي
الجر على اليمان إل ال سبحانه وتعالى ،وهو الذي يعطي بل حدود.
ع ْدوَانَ ِإلّ عَلَى الظّاِلمِينَ } أي أنهم إذا
ويختتم الحق هذه الية الكريمة بقوله { :فَإِنِ انْ َتهَواْ فَلَ ُ
انتهوا إلى عدم قتالكم ،فأنتم لن تعتدوا عليهم ،بل ستردون عدوان الظالم منهم .والظالم حين
يعتدي يظن أنه لن يقدر عليه أحد ،والحق يطلب منا أن نقول له :بل نقدر عليك ،ونعتدي عليك
شهْرِ الْحَرَا ِم وَالْحُ ُرمَاتُ
شهْرُ الْحَرَامُ بِال ّ
بمثل ما اعتديت علينا .ويعطينا الحق حيثية ذلك فيقول { :ال ّ
ِقصَاصٌ} ...
()197 /
شهْرِ ا ْلحَرَا ِم وَا ْلحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ َفمَنِ اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَى
شهْرُ ا ْلحَرَامُ بِال ّ
ال ّ
عَلَ ْيكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ ()194
والمقصود هو أنه إذا ما قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام ،فإذا ما اعتدوا على
حرمة زمان فالقصاص يكون في زمان مثله ،وإن اعتدوا في حرمة مكان يكن القصاص بحرمة
مكان مثله ،وإذا كان العتداء بحرمة إحرام ،يكون الرد بحرمة إحرام مثله؛ لن القصاص هو أن
تأخذ للمظلوم مثل ما فعل الظالم.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يخفف وقع المر على المؤمنين الذين رُدوا عام الحديبية في ذي
القعدة سنة ست من الهجرة وأعادهم المشركون إلى المدينة ،فاقتص ال منهم بأن أعادهم في ذي
القعدة في العام القابل في السنة السابعة من الهجرة ،فإن كانوا قد مُنعوا في الشهر الحرام فقد أراد
ال أن يعودوا لزيارة البيت في الشهر الحرام في الزمان نفسه.
وقوله الحق { :وَا ْلحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ } يقتضي منا أن نسأل :كيف يكون ذلك؟ وما هو الشيء
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحرام؟ إن الشيء الحرام هو ما يُحظر هتكه ،والشيء الحلل هو المُطلق والمأذون فيه .فهل
يعني ذلك أن الذي يقوم بعمل حرام نقتص منه بعمل مماثل؟
هل إذا زنى رجل بامرأة نقول له نقتص منك بالزنى فيك؟ ل .إن القصاص في الحرمات ل يكون
إل في المأذون به وكذلك إذا سرق مني إنسان مالً وليس لدي بينة ،لكني مقتنع بأنه هو الذي
سرق هل أقتص منه بأن أسرق منه؟ ل ،إن القصاص إنما يكون في المر المعروف الواضح ،أما
المر المختفي فل يمكن أن نقتص منه بمثل ما فعل.
لكن هب أن أحد القارب ممّنْ تجب نفقتهم عليك وامتنعت أنت عن النفقة على هذا النسان ،وهذا
أمر محرم عليك ،وما دام المر علنيا فله أن يأخذ من مالك فيأكل وتكون المسألة قصاصا .وهب
أن زوجتك تشتكي من بخلك وتقصيرك ،كما " اشتكت هند زوجة أبي سفيان لرسول ال صلى ال
عليه وسلم من بخل زوجها فقال لها :خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك ".
ومثال آخر ،هب أن ضيفا بمنزلك ورفضت أن تكرمه ،وانتهز فرصة بعدك عن المكان الذي
يجلس فيه ثم تناول شيئا وأكله .ل يكون تعديا عليك ما لم يكن داخل في محرم آخر ،وبعد ذلك
يترك الحق لولي المر تنظيم هذه المور حتى ل تصير المسائل إلى الفوضى.
وقوله الحقَ { :فمَنِ اعْ َتدَىا عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُواْ عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْتَدَىا عَلَ ْي ُكمْ } يدعونا إلى اليقظة حتى
ل يخدعنا أحد ويدعي اليمان وهو يريد النتقام .ويجب أن نتمثل قول الشاعر:إن عـادت
العقـرب عـدنا لهـا وكـانـت النـعـل لهـا حـاضرةويختم الحق الية الكريمة بقوله:
{ وَا ّتقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ } أي ل تظنوا أن ال مّل َككُم فيهم شيئا ،بل أنتم وهم
مملوكون جميعا ل .ويقول الحق من بعد ذلك { :وَأَ ْن ِفقُواْ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلَ تُ ْلقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
حسِنُواْ} ...
ال ّتهُْلكَ ِة وَأَ ْ
()198 /
وهذه الية جاءت بعد آيات القتال ،ومعناها :أعدوا أنفسكم للقتال في سبيل ال.
وقوله الحقَ { :ولَ تُ ْلقُواْ بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } تقتضي منا أن نعرف أن كلمة " تهلكة " على وزن
َت ْفعُله ول نظير لها في اللغة العربية إل هذا اللفظ ،ل يوجد على وزن َت ْفعُله في اللغة العربية
سوى كلمة " تهْلُكة " ،والتهلكة هي الهلك ،والهلك هو خروج الشيء عن حال إصلحه بحيث
ل يُدرى أين يذهب ،ومثال ذلك هلك النسان يكون بخروج روحه .والحق يقول {:لّ َيهِْلكَ مَنْ
حيّ عَن بَيّ َنةٍ }[النفال]42 :
هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالهلك ضد الحياة ،وعلى النسان أن يعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة التي نراها،
إنما حياة كل شيء بحساب معين فحياة الحيوان لها قانونها ،وحياة النبات لها قانونها ،وحياة
الجماد لها قانونها ،بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعل " يهلك " أمام " يحيى " وهو سبحانه
جهَهُ }[القصص]88 :
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
القائلُ {:كلّ َ
فلسنا نحن فقط الذين يهلكون ،ول الحيوانات ،ول النباتات وإنما كل شيء بما فيه الجماد ،كأن
الجماد يهلك مثلنا ،وما دام يهلك فله حياة ولكن ليست مثل حياتنا ،وإنما حياة بقانونه هو ،فكل
شيء مخلوق لمهمة يؤديها ،فهذه هي حياته.
وقوله الحقَ { :ولَ تُ ْلقُواْ بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } يكشف لنا بعضا من روائع الداء البياني في
القرآن؛ ففي الجملة الواحدة تعطيك الشيء ومقابل الشيء ،وهذا أمر ل نجده في أساليب البشر؛
فالحق في هذه الية يقول لنا { :وَأَ ْنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي أنفقوا في الجهاد ،كما يقول بعدها:
{ َولَ تُ ْلقُواْ بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } لماذا؟ لن النفاق هو إخراج المال إلى الغير الذي يؤدي لك
مهمة تفيد في العداد لسبيل ال ،كصناعة السلحة أو المدادات التموينية ،أو تجهيز مبانٍ
وحصون ،هذه أوجه أنفاق المال .والحق يقولَ { :ولَ تُ ْلقُواْ بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } .وكلمة " ألقى "
تفيد أن هناك شيئا عاليا وشيئا أسفل منه ،فكأن ال يقول :ل تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ،وهل سيلقي
الواحد منا نفسه إلى التهلكة ،أو أن يلقي نفسه في التهلكة بين عدوه؟ ل ،إن اليد المغلولة عن
النفاق في سبيل ال هي التي تُلقي بصاحبها إلى التهلكة؛ لنه إن امتنع عن ذلك اجترأ العدو
عليه ،وما دام العدو قد اجترأ على المؤمنين فسوف يفتنهم في دينهم ،وإذا فتنهم في دينهم فقد
هلكوا .إذن فالستعداد للحرب أنفى للحرب ،وعندما يراك العدو قويا فهو يهابك ويتراجع عن
قتالك.
والحق سبحانه ـ كما يريد منا في تشريع القتال أن نقاتل ـ يأمرنا أن نزن أمر القتال وزنا دقيقا
بحسم ،فل تأخذنا الريحية الكذبة ول الحمية الرعناء ،فيكون المعنى :ول تقبلوا على القتال إل
إن كان غالب الظن أنكم ستنتصرون ،فحزم القدام قد يطلب منك أن تقيس المور بدقة،
فالشجاعة قد تقتضي منك أن تحجم وتمتنع عن القتال في بعض الحيان ،لتنتصر من بعد ذلك
ساعة يكمل العداد له.
والمعنى الول يجعلك تنفق في سبيل ال ول تلقي بيدك إلى التهلكة بترك القتال .والمعنى الثاني
أي ل تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بأن تقبلوا على القتال بل داع أو بل إعداد كافٍ .إن الحق يريد من
المؤمنين أن يزنوا المسائل وزنا يجعلهم ل يتركون الجهاد فيهلكوا؛ لن خصمهم سيجترئ عليهم،
ول يحببهم في أن يلقوا بأيديهم إلى القتال لمجرد الرغبة في القتال دون الستعداد له .وهذا هو
الحزم اليماني ،إنها جملة واحدة أعطتنا عدة معان.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسِنُواْ {.
حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ { الحق يقول } :وَأَ ْ
ويذيل الحق الية الكريمة بقوله } :وَأَحْسِنُواْ إِنّ اللّهَ ُي ِ
والحسان كما علمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أن تعبد ال ـ أي تطيع أوامره ـ كأنك
تراه ،فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
مشكلة الناس هذه اليام أنهم يتشبهون بـ " فإنه يراك " ،فعملوا الدوائر التليفزيونية المغلقة في
المحلت الكبرى حتى تتم مراقبة سير العمل في أرجاء المحل ،هذه فعل البشر .لكن انظر إلى
تسامي اليمان ،إنه يأمرك أنت أن ترى ال ،فل تؤد العمل أداء شكليا يرفع عنك العتب ،بل عليك
أن تؤدي العمل بقصد الحسان في العمل.
والحسان في كل شيء هو إتقانه إتقانا بحيث يصنع النسان لغيره ما يحب أن يصنعه غيره له،
ولو تعامل الناس على هذا الساس لمتازت كل الصناعات ،لكن إذا ساد الغش فأنت تغش غيرك،
وغيرك يغشك ،وبعد ذلك كلنا نجأر بالشكوى ،وعلينا إذن أن نحسن في كل شيء :مثل نحسن في
النفاق ،ولن نحسن في النفاق إل إذا أحسنا في الكدح الذي يأتي بثمرة ما ننفق؛ لن الكدح ثمرته
مال ،ول إنفاق إل بمال ،فتخرج من عائد كدحك لتصرفه في المناسب من المور.
ودائرة الحسان ل تقتصر على القتال فقط ،فالمر هنا عام ،ول تعتقد أنه أمر في زاوية من زوايا
الدين جاءت لتخدم جزئية من جزئيات الحياة ،إنما كل زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم كل
جزئيات الحياة ،فالحسان إذا كان بالمال فهذا يقتضي أن يحسن النسان الحركة في الرض،
ل يكفيه ويكفي من يعول ،ثم يفيض لديه ما يحسن به.
ويعمل عم ً
إذا لم يتوافر المال ،فعليك أن تُحسن بجاهك وتشفع لغيرك ،والجاه قد قومه السلم أي جعل له
قيمة ،فعلى صاحب الجاه أن يشفع بجاهه ليساعد أصحاب الحقوق في الحصول على حقوقهم،
وعلى الوجيه أيضا أن يأخذ الضعيف في جواره ويحميه من عسف وظلم القوي ،وعليه بجاهه أن
يقيم العدل في البيئة التي يعيش فيها.
والوجاهة تعني أن يكون للنسان احترام أو وزن أو تقدير ،وهذه الشياء لها مسبقات في إحسان
الشخص ،ل يأخذها بل سبب ،إنما سبقها عمل جعل له وجاهة عند الناس .فالناس في العادة ل
يحترمون إل من يكون له لون من الفضل عليهم ،فكأنه احترام مدفوع الثمن ،وليس احتراما
مجانيّا .وقد يكون الحسان بالعلم .أو بفضل القوة ،بإعانة الضعيف .أو بإكساب الخبرة للخرين.
أو بتفريج كربة عن مسلم.
إذن وجوه الحسان في الشياء كثيرة ،وكلها تخدم قضية اليمان .وعندما يرى الكافر المؤمنين
وكل واحد منهم يحسن عمله فإن ذلك يغريه باليمان .وإذا سألنا :ما الذي زهد دنيانا المعاصرة
في ديننا؟ فسوف نجد أن العالم ينظر إلى دين ال من خلل حركة المسلمين ،وهي حركة غير
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إسلمية في غالبيتها .صحيح أن بعضا من عقلء الغرب وفلسفته ل يأخذون الدين من حركة
المسلمين ،وهذا منتهى العدالة منهم لنه ربما كان بعض المسلمين غير ملتزمين بدينه ،فل يأخذ
أحد السلم منه لمجرد أنه مسلم.
وأتباع الديانات الخرى يعرفون أن هناك أفعالً جرمها دينهم .وما دام هناك أفعال جرمها الدين
وسن لها عقوبة فذلك دليل على أنها قد تقع ،فأنت عندما ترى شخصا ينتسب إلى السلم ويسرق،
هل تقول :إن المسلمين لصوص .ل ،إن عليك أن تنظر إلى تشريعات السلم هل جرمت السارق
أو لم تجرمه؟ فل يقولن أحد :انظر إلى حال المسلمين ،ولكن لننظر إلى قوانين السلم ،لن ال
قدر على البشر أن يقوموا بالفعال حسنها وسيئها ،ولذلك أثاب على العمل الصالح وعاقب على
العمل السييء.
والعقلء والمفكرون يأخذون الدين من مبادئ الدين نفسه ،ول يأخذونه من سلوك الناس ،فقد
يجوز أن تقع عين المراقب على مُخالف في مسألة يحرمها الدين .فل تأخذ الفعل الخاطئ على أنه
السلم ،وإنما خذه على أنه خارج على السلم.
وساعة يرانا العالم محسنين في كل شيء فنحن نعطيهم السوة التي كان عليها أجدادنا ،وجعلت
السلم يمتد ذلك المد الخرافي السطوري حتى وصل في نصف قرن إلى آخر الدنيا في الشرق،
وإلى آخرها في الغرب ،وبعد ذلك ينحسر سياسيا عن الرض ،ولكن يظل كدين ،وبقى من
السلم هذا النظام الذي يجذب له الناس .إن السلم له مناعة في خميرته الذاتية إنه يحمل
مقومات بقائه وصلحيته ،وهو الذي يجذب غير المسلمين له فيؤمنون به ،وليس المسلمون هم
الذين يجذبون الناس للسلم.
ولذلك أقول :لو أن التمثيل السياسي للمم السلمية في البلد غير السلمية المتحضرة قد أخذ
بمبادئ السلم لكان أسوة حسنة .وانظر إلى عاصمة واحدة من عواصم الدول الغربية تجد فيها
أكثر من ثلث وستين سفارة إسلمية ،وكل سفارة يعمل فيها جهاز يزيد على العشرين ،هب أن
هؤلء كانوا أسوة إسلمية في السلوك والمعاملت في عاصمة غير إسلمية ،حينئذ يجد أهل ذلك
البلد جالية إسلمية ملتزمة ولم تفتنها زخارف المدنية :ل يشربون الخمر ،ول يرقصون ،ول
يترددون على الماكن السيئة السمعة ،ول تتبرج نساؤهم ،بال أل يلفت النظر سلوكُ هؤلء؟
لكن ما يحدث ـ للسف ـ هو أن أهل الغرب ـ على باطلهم ـ غلبوا بني السلم ـ على
حقهم ـ وأخذوهم إلى تحللهم ،وهذا التباع العمى يجعل الغربيين يقولون :لو كان في السلم
مناعة لحفظ أبناءه من الوقوع فيما وقعنا فيه.
حبّ
إذن الحسان من المسلمين أكبر دعاية ودعوة إلى دين السلم .إن الحق يقول } :إِنّ اللّهَ ُي ِ
حسِنِينَ { والحب كما نعرفه هو ميل قلب المحب إلى المحبوب ،وذلك المر يكون بالنسبة
ا ْلمُ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للبشر ،لكن بالنسبة للحق هو تودد الخالق بالرحمة والكرامة على المخلوق ،والحق سبحانه وتعالى
شيْءٍ
يحب من عباده أن يكونوا على خُلقه ،فكما أن ال أحسن كل شيء خلقه } الّذِي أَحْسَنَ ُكلّ َ
خََلقَهُ { يريد من عباده وقد تفضل عليهم بالعقل المفكر فيخطط ،وبالطاقات فتبرز التفكير إلى عمل
يريد الحق منا أن يكون رائدنا في كل عمل أن نحسنه ،حتى نكون متخلقين بأخلق ال ،فتشيع
كلمة " ال " هذا اللفظ الكريم الذي يستقبل به النسان كل جميل في أي صنعة فيقول " :ال ".
إذن تشيع كلمة " ال " نغمة في الوجود تعليقا على كل شيء حسن ،حتى الذي ل يؤمن بذلك الله
يقول أيضا " :ال " ،كأن الفطرة التي فطر ال الناس عليها تنطق بأن كل حسن يجب أن يُنسب
إلى ال سواء كان ال هو الذي فعل مباشرة كالسباب والكونيات والنواميس ،أو خلق الذي فعل
الحسن ،فكل المور تؤول إلى ال.
ولو علم الذين ل يحسنون أعمالهم بماذا يحرمون الوجود لتحسروا على أنفسهم ،وليتهم يحرمون
الوجود من كلمة " ال " ،ولكنهم يجعلون مكان " ال " كلمة خبيثة فيشيعون القبح في الوجود،
وحين يشيع القبح في الوجود يكون النسان في عمومه هو الخاسر.
حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ { تشجيع لكل من يلي عملً أن يحسنه ليكون على أخلق ال.
فقول ال } :إِنّ اللّهَ ُي ِ
ي َولَ َتحِْلقُواْ
حصِرْ ُتمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْد ِ
ج وَا ْل ُعمْ َرةَ للّهِ فَإِنْ أُ ْ
وبعد ذلك يقول الحق } :وَأَ ِتمّواْ الْحَ ّ
سكُمْ حَتّىا يَبُْلغَ ا ْلهَ ْديُ َمحِلّهُ{ ...
ُرؤُو َ
()199 /
والنسق القرآني نسق عجيب ،فأنتم تذكرون أنه تكلم عن الصيام .ورمضان يأتي قبل أشهر الحج،
فكان طبيعيا أن يتكلم عن الحج بعد أن تكلم عن رمضان وعن الهلة وعن جعل الهلة مواقيت
للناس والحج كما أن هناك شيئا آخر يستدعي أن يتكلم في الحج وهو الكلم عن القتال في الشهر
جدِ ا ْلحَرَامِ حَتّىا ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ }
الحرم ،وعن البيت الحرام فقد قال سبحانهَ {:ولَ ُتقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ا ْلمَسْ ِ
[البقرة]191 :
ج وَا ْل ُعمْ َرةَ للّهِ } نفهم
إذن فالكلم عن الحج يأتي في سياقه الطبيعي .وحين يقول ال { :وَأَ ِتمّواْ الْحَ ّ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منه أن المر بإتمام الشيء ل يكون إل إذا جاء المر بفرض هذا الفعل ،فكأنك بدأت في العمل
بعد التشريع به ،ويريد منك سبحانه ألّ تحج فقط ،ولكن يريد منك أن تتمه وتجعله تامّا مستوفيا
لكل مطلوبات المشرع له.
ج وَا ْل ُعمْ َرةَ } لقائل أن يقول :إن الحج شيء والعمرة شيء آخر،
وساعة يقول الحق { :وَأَ ِتمّواْ الْحَ ّ
بدليل عطفها عليه ،والعطف يقتضي المغايرة كما يقتضي المشاركة ،فإن وجدت مشاركة ولم
توجد مغايرة فل يصح العطف ،بل لبد أن يوجد مشاركة ومغايرة .والمشاركة بين الحج والعمرة
أن كليهما نسك وعباده ،وأما المغايرة فهي أن للحج زمنا مخصوصا ويشترط فيه الوقوف بعرفة،
وأما العمرة فل زمن لها ول وقفة فيها بعرفة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في مشروعية الحج {:وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْ َتطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلً }[آل عمران]97:
ولم يأت في تلك الية بذكر العمرة ،ومنها نعرف أن الحج شيء والعمرة شيء آخر ،والمفروض
علينا هو الحج .ولذلك أقول دائما لبد لنا أن نأخذ القرآن جملة واحدة ،ونأتي بكل اليات التي
تتعلق بالموضوع لنفهم المقصود تماما ،فحين يقول الحق في قرآنه أيضا { :وَأَ ِتمّواْ الْحَجّ وَا ْل ُعمْرَةَ
للّهِ } نعرف من ذلك أن العمرة غير الحج ،وحين تقرأ قول ال في سورة براءة {:وَأَذَانٌ مّنَ اللّهِ
لكْبَرِ }[التوبة]3 :
جاَ
وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ َيوْمَ الْحَ ّ
نعرف أن هناك حجّا أكبر ،وحجّا ثانيا كبيرا .ولذلك فآية { وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ } جاءت
بالبيت المحرم ،وهو القدر المشترك في الحج والعمرة .ونعرف أن الحج الكبر هو الحج الذي
يقف فيه المسلم بعرفة؛ لن الرسول صلى ال عليه وسلم قال " :الحج عرفة " .وهو الحج الكبر؛
لن الحشد على عرفة يكون كبيرا ،وهو يأتي في زمن مخصوص ويُشترط فيه الوقوف بعرفة.
إذن قوله تعالى { :وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ } الحج هو القصد إلى مُعظّم وهو { حِجّ الْبَ ْيتِ } ،
أما العمرة فهي الحج الكبير وزمانها شائع في كل السنة ،والقاصدون للبيت يتوزعون على العام
كله .وذلك قد ثبت بالتشريع بقوله سبحانه { :وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ }.
وما دام جاء بالمر المشترك في قوله :حج البيت فهو يريد الحج الكبر والحج الكبير.
والحق سبحانه وتعالى يخاطب عباده ويعلم أن بعض الناس سيقبلون على العبادات إقبالً شكليا،
وقد يقبلون على العبادة لغراض أخرى غير العبادة ،فكان لبد أن يبين القصد من الحج والعمرة،
وأن المطلوب هو إتمامهما ،ولبد أن يكون القصد ل ل لشيء آخر ،ل ليقال " الحاج فلن " ،أو
ليشتري سلعا رخيصة ويبيعها بأغلى من ثمنها بعد عودته.
ل ل يقال " :المصلى فلن
ونحن نعلم أن الحج هو العبادة الوحيدة التي يستمر اقترانها بفاعلها ،فمث ً
" ول " المزكي فلن " ،فإن كان الحاج حريصا على هذا اللقب ،وهو دافعه من وراء عبادته فل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج وَا ْل ُعمْ َرةَ للّهِ
بد أل يخرج بعبادته عن غرضها المشروعة من أجله ،إن الحق يقول } :وَأَ ِتمّواْ الْحَ ّ
{ .وكلمة " ل " تخدمنا في قضايا متعددة ،فما هي هذه القضايا؟
إن المسلم عندما يريد أن يحج ل فل يصح أن يحج إل بمال شرع ال وسائله .كثير من الناس
حين يسمعون الحديث الشريف " :من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ".
يعتقدون أن النسان له أن يرتكب ما يشاء من معاص ومظالم ،ثم يظن أن حجة واحدة تُسقط عنه
كل ذنوبه ،نقول لهؤلء :أولً :لبد أن تكون الحجة ل
وثانيا :أن تكون من مال حلل ،وما دامت ل ومن مال حلل فل بد أن تعرف ما هي الذنوب
التي تسقط عنه بعد الحج ،فليست كل الذنوب تسقط ،وإنما الذنوب المتعلقة بال سبحانه وتعالى؛
لن الذنب المتعلق بال أنت لم تظلم ال به لكن ظلمت نفسك ،ولكن الذنب المتعلق بالبشر فيه
إساءة لهم أو انتقاص من حقوقهم ،وبالتالي فإن ظلم العباد ل يسقط إل برد حقوق العباد.
ونعرف أن العمرة هي قصد البيت الحرام في مطلق زمان من العام ،والحج قصد البيت في
خصوص زمان من العام ،ويقول بعض العلماء :إن هذا تكليف وذاك تكليف ،فهل يجوز أداؤهما
معا ،أم كل تكليف يؤدى بمعزل عن الخر؟
وبعضهم تناول ملحظيات الفضل والحسن ،فالذي يقول :إن الفراد بالحج أحسن ،فذلك لنه خص
كل نُسك بسفرة ،والذي يقول :يؤديهما معا ويحرم بالحج والعمرة معا بإحرام واحد ،فيذهب أولً
ويأتي بنسك العمرة ،ثم يظل على إحرامه إلى أن يخرج إلى الحج ،وفي هذه الحالة يكون قد قرن
المرين معا؛ أي أداهما بإحرام واحد وهذا ما يفضله بعض من العلماء؛ لن ال علم أن العبد قد
أدى نسكين بإحرام واحد ،وهناك إنسان متمتع أي يؤدي العمرة ،ثم يتحلل منها ،وبعد ذلك يأتي
قبل الحج ليحرم بالحج ،وهذا اسمه التمتع ،وهو متمتع لنه تحلل من الحرام ،ومن العلماء من
يقول :إن التمتع أحسن لنه فصل بين أمرين بما أخرجه عن العادة ،أحرم ثم تحلل ثم أحرم.
إذن كل عالم له ملحظ ،فكأن ال ل يريد أن يضيق على خلقه في أداء نُسك على أي لون من
اللوان .وقد احتاط المشرع سبحانه وتعالى عند التكليف ،واحترم كل الظروف سواء كانت
الظروف التي قد تقع من غير غريم وهو القدريات ،أو تقع من غريم،وهي التي لها أسباب أخرى
حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ {.
فقال } :فَإِنْ أُ ْ
وأحصرتم تعني مُنعْتُم .وهناك " حصر " وهي للقدريات ،وهناك " أحصر " وتكون بفعل فاعل
مثل تدخل العدو كما حوصر رسول ال صلى ال عليه وسلم في عام الحديبية ،وقيل له ل تدخل
مكة هذا العام ،لذلك فالحق سبحانه وتعالى يخفف عنا وكأنه يقول لنا :أنا ل أهدر تهيؤ العباد ،ول
نيتهم ول استعدادهم ول إحرامهم؛ فإن أُحصِروا } َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ { والهدى هو ما يتم
ذبحه تقربا إلى ال ،وكفارة عما حَدث.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُمْ حَتّىا يَبْلُغَ ا ْل َه ْديُ مَحِلّهُ { أي إلى أن يبلغ المكان
ثم يقول بعد ذلك } :وَلَ َتحِْلقُواْ ُرؤُو َ
المخصص لذلك ،هذا إن كنت سائق الهدى ،أما إن لم تكن سائق الهدى فليس ضروريا أن تذبحه،
ويكفي أن تكلف أحدا يذبحه لك ،وقوله الحقَ } :فمَن َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى الْحَجّ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ
{ تعني أنه يصح أن يذبح النسان الهدي قبل عرفة ،ويصح أن نؤخره ليوم النحر ،ويصح أن
يذبحه بعد ذلك كله.
} َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ { تعني أيضا إن كان الحصول على الهدى سهلً ،سواء لسهولة دفع ثمنه،
أو لسهولة شرائه ،فقد توجد الثمان ول يوجد المُثمّن " .والهدي " هو ما يُهدى للحرم ،أو ما
يهدي النسان إلى طريق الرشاد ،والمعنى مأخوذ من الهُدى ،وهو الغاية الموصلة للمطلوب.
سكُمْ حَتّىا يَبْلُغَ ا ْل َه ْديُ مَحِلّهُ َفمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضا َأوْ ِبهِ أَذًى مّن
وقوله تعالى } :وَلَ َتحِْلقُواْ ُرؤُو َ
رّأْسِهِ َففِدْيَةٌ { فالمريض الذي ل يستطيع أن يذبح الهدي وعنده أذى من رأسه " كالصحابي الذي
كان في رأسه قمل ،وكان يسبب له ألما ،فقال له رسول ال " :احلق رأسك وصم ثلثة أيام أو
أطعم ستة مساكين أو أنسك بشاة ".
إنها تشريعات متعاقبة وكل تشريع له مناسبة ،فكما شرع لمن أحصر ما استيسر من الهدى ،كذلك
شرع لمن حلق رأسه لمرض أن كان به أذى من رأسه ،شرع له ثلثة أشياء :صيام أو صدقة أو
نسك.
والمتأمل لهذه الشياء الثلثة يجد أنها مرتبة ترتيبا تصاعديا .فالصيام هو أمر ل يتعدى النفع
المباشر فيه إلى الغير ،والصدقة عبادة يتعدى النفع فيها للغير ،ولكن بقدر محدود لنها إطعام ستة
أفراد مثلً ،والنسك هو ذبيحة ،ولحمها ينتفع به جمع كبير من الناس.
فانظر إلى الترقي في النفع ،إما صوم ثلثة أيام ،وإما إطعام ستة مساكين ،وإما ذبح ذبيحة أي
شاة .إن هذا تصعيد من الضعف للقوى كل بحسب طاقته ومقدرته.
والحق سبحانه وتعالى ساعة يشرع كفارات معينة فذلك من أجل مراعاة العمليات المطلوبة في
الحج ،والمناسبة لظروف وحالة المسلم ،فأباح له في حالة التمتع مثل أن يقسم الصوم إلى
مرحلتين :ثلثة أيام في الحج ،وسبعة إذا رجعتم .إنه الترقي في التشريعات ،واختيار لليسر الذي
يجعل المؤمن يخرج من المأزق الذي هو فيه.
سكٍ فَِإذَآ َأمِن ُتمْ َفمَن
} َفمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضا َأوْ بِهِ أَذًى مّن رّ ْأسِهِ َففِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ َأوْ صَ َدقَةٍ َأوْ نُ ُ
ج وَسَ ْبعَةٍ إِذَا
َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى الْحَجّ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ َفمَن لّمْ َيجِدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَ ّ
جعْتُمْ {.
رَ َ
جدْ { معناها أنه ل يملك ،وهذا الذي ل يملك نقول له :ل تفعل كما يفعل كثير
وكلمة } َفمَن لّمْ يَ ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من الناس قبل أن يطوفوا ،إن بعضهم يذهب للسوق ويشتري الهدايا ،وبعد ذلك ساعة وجوب
الهدي عليه يقول :ليس معي ولذلك سأصوم .هنا نقول له :ألم يكن ثمن تلك الهدايا يصلح لشراء
الهدي؟
إنه لمر غريب أن تجد الحاج يشتري هدايا ل حصر لها؛ ساعات وأجهزة كهربائية ويمل
حقائبه ،ثم يقول ل أجد ما أشتري به الهدي .أليس ذلك غشا وخداعا؟ إن من يفعل ذلك يغش
نفسه.
إذن قوله تعالىَ } :فمَن لّمْ َيجِدْ { يعني ل يجد حقا ،ل من تنفذ أمواله في الهدايا ،ثم يصبح صفر
اليدين ،ولذلك فالذين يحسنون أداء النسك ل يشترون هداياهم إل بعد تمام أداء المطلوب في
النسك ،وإن بقي معهم مال اشتروا على قدر ما معهم.
والذين ينفقون أموالهم في شراء الهدايا ثم يأتون عند } َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ { ويقولون ليس معنا
ثمن الهدى وسنصوم ،الغريب أنهم ل يتذكرون الصوم إل عند عودتهم ،ألم يكن الفضل للواحد
منهم أن يصوم من البداية ،ومن لحظة أن يعرف أنه ل يملك ثمن الهدى ويدخل في الحرام
للعمرة؟
إن المفروض أن يبدأ في صوم الثلثة أيام حتى يكون عذره مسبقا وليس لحقا وبعض العلماء
أباح صوم أيام التشريق ،وأيام التشريق الثلثة هي التي تلي يوم العيد لنهم كانوا " يشرقون اللحم
" أي يبسطونه في الشمس ليحف ويقدد .وبعد ذلك عندما ينتهي من أداء المناسك إما أن يصوم
السبعة اليام في الطريق وهو عائد ،أو عندما يصل لمنزله ،إن له أن يختار ما يناسبه } َفمَن لّمْ
جعْتُمْ تِ ْلكَ عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ { ومعروف أن } ثَلثَةِ { و }
جدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجّ وَسَ ْبعَةٍ إِذَا رَ َ
يَ ِ
عشَ َرةٌ { ،وذلك حتى ل يظن الناس أن المقصود إما صوم ثلثة أيام وإما
وَسَ ْبعَةٍ { تساوي } َ
عشَ َرةٌ كَامِلَةٌ { حتى ل يلتبس الفهم.
سبعة أيام ،ولذلك قالَ } :
وربما أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا إلى أن الصائم سيصوم عشرة أيام فهي كاملة بالنسبة
لداء النسك .وليس الذابح بأفضل من الصائم ،فما دام لم يجد ثمن الهدى وصام العشرة اليام ،فله
الجر والثواب كمن وجد وذبح .فإياك أن تظن أن الصيام قد يُنقص الجر أو هو أقل من الذبح.
سجِدِ ا ْلحَرَامِ { .وهذا التشريع مقصود به من لم
ويقول الحق } :ذاِلكَ ِلمَن لّمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَ ْ
يكن أهله مقيمين بمكة .ونعرف أن حدود المسجد الحرام هي اثنا عشر ميل ،والمقيم داخل هذه
المسافة ل يلزمه ذبح ول صوم ،لماذا؟ بعض العلماء قال :لن المقيمين حول المسجد الحرام
طوافهم دائم فيغنيهم عن العمرة ،فإن حج ل يدخل في هذا التشريع.
ويختم الحق هذه الية بقوله } :وَا ّتقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ { .كيف يقول الحق :إنه
شديد العقاب في التيسيرات التي شرعها؟ أي :إياكم أن تغشوا في هذه التيسيرات ،فليس من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المعقول أو من المقبول أن ندلس شيئا فيها ،لذلك حذرنا سبحانه من الغش في هذه المناسك
بقوله } :وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ {.
ق وَلَ
ث وَلَ فُسُو َ
شهُرٌ ّمعْلُومَاتٌ َفمَن فَ َرضَ فِيهِنّ ا ْلحَجّ فَلَ َر َف َ
ويقول الحق بعد ذلك } :ا ْلحَجّ أَ ْ
جدَالَ فِي ا ْلحَجّ{ ...
ِ
()200 /
شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنْ ِزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ } ولم يذكر شهور
ولنا أن نلحظ أن الحق قال في الصومَ { :
الحج :شوالً وذا القعدة وعشرة من ذي الحجة كما ذكر رمضان ،لن التشريع في رمضان خاص
به فل بد أن يعين زمنه ،لكن الحج كان معروفا عند العرب قبل السلم ،ويعلمون شهوره وكل
شيء عنه؛ فالمر غير محتاج لذكر أسماء الشهور الخاصة به ،والشهور المعلومة هي :شوال
وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة وتنتهي بوقفة عرفات وبأيام منى ،وشهر الحج ل يستغرق
منه سوى عشرة أيام ،ومع ذلك ضمه لشوال وذي القعدة ،لن بعض الشهر يدخل في الشهر.
وكلمة { ّمعْلُومَاتٌ } تعطينا الحكمة من عدم ذكر أسماء شهور الحج ،لنها كانت معلومة عندهم.
{ َفمَن فَ َرضَ فِيهِنّ ا ْلحَجّ } والفرق ليس من النسان إنما الفرض من ال الذي فرض الحج ركنا،
وأنت إن ألزمت به نفسك نية وفعلً ،وشرعت ونويت الحج في الزمن المخصوص للحج تكون قد
فرضت على نفسك الحج لهذا الموسم الذي تختاره وهو ملزم لك .وقوله سبحانه " :فرض " يدل
على أنك تلتزم بالحج وإن كان مندوبا .أي غير مفروض.
جدَالَ فِي الْحَجّ } .والرفث للسان ،وللعين.
{ َفمَن فَ َرضَ فِيهِنّ ا ْلحَجّ فَلَ َر َفثَ وَلَ فُسُوقَ وَلَ ِ
وللجوارح الخرى رفث ،كلها تلتقي في عملية الجماع ومقدماته ،ورفث اللسان في الحج أن يذكر
مسألة الجماع ،ورفث العين أن ينظر إلى المرأة بشهوة .فالرفث هو كل ما يأتي مقدمة للجماع ،أو
هو الجماع أو ما يتصل به بالكلمة أو بالنظرة ،أو بالفعل.
والرفث وإن أُبيح في غير الحج فهو محرم في الحج ،أما الفسوق فهو محرم في الحج وفي غير
الحج ،فكأن ال ينبه إلى أنه وإن جاز أن يحدث من المسلم فسوق في غير الحج ،فليس من الدب
أن يكون المسلم في بيت ال ويحدث ذلك الفسوق منه ،إنّ الفسوق محرم في كل وقت ،والحق ينبه
هنا المسرف على نفسه ،وعليه أن يتذكر إن كان قد فسق بعيدا عن بيت ال فليستح أن يعصي ال
في بيت ال؛ فالذاهب إلى بيت ال يبغي تكفير الذنوب عن نفسه ،فهل يُعقل أن يرتكب فيه ذنوبا؟
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لبد أن تستحي أيها المسلم وأنت في بيت ال ،واعلم أن هذا المكان هو المكان الوحيد الذي
يُحاسب فيه على مجرد الرادة.
ويقول ال عز وجلَ {:ومَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُ ْلمٍ نّ ِذ ْقهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الحج]25 :
إذن الرفث حلل في مواضع ،لكنه َيحْرُمُ في البيت الحرام ،ولكن الفسوق ممتنع في كل وقت،
وامتناعه أشد في البيت الحرام.
والجدال وإن كان مباحا في غير الحج فل يصح أن يوجد في الحج.
ولنا أن نعرف أن مرتبة الجدال دون مرتبة الفسوق ،ودون مرتبة العصيان ،والرسول قال " :من
حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " لم يقل " :ولم يجادل " إن بشرية الرسول تراعي
ظروف المسلمين ،فمن المحتمل أن يصدر جدال من الحاج نتيجة فعل استثاره ،فكأن عدم ذكر
الجدال في الحديث فسحة للمؤمن ولكن ل يصح أن نتمادى فيها .والجدال ممكن في غير الحج
بدليلَ {:وجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ }[النحل]125 :
إنما الحج ل جدال فيه.
والجدال هو أن يلف كل واحد من الطرفين على الخر ليطوقه بالحجة .ثم انظر إلى تقدير الحق
لظروف البشر وعواطف البشر والعتراف بها والتقنين لمر واقع معترف به ،فالحج يُخرج
النسانَ من وطنه ومن مكان أهله ،ومن ماله ،ومما َأِلفَ واعتاد من حياة .وحين يخرج النسان
هذا الخروج فقد تضيق أخلق الناس؛ لنهم جميعا يعيشون عيشة غير طبيعية؛ فهناك من ينام في
غرفة مشتركة مع ناس ل يعرفهم ،وهناك أسرة تنام في شقة مشتركة ليس فيها إل دورة مياه
واحدة ،ومن الجائز أن يرغب أحد في قضاء حاجته في وقت قضاء حاجة شخص آخر ،وحين
تكون هذه المسألة موجودة ل رأي لنسان ،ولذلك يقال " :ل رأي لحاقن " أي ل رأي لمحصور..
أي لمن يريد قضاء حاجته من بول ،وكذلك الشأن في الحاقب وهو الذي يحتبس غائطه لنها
مسألة ُتخِل توازن النسان.
إذن فالحياة في الحج غير طبيعية ،وظروف الناس غير طبيعية ،لذلك يحذرنا الحق من الدخول
في جدل؛ لنه ربما كان الضيق من تغيير نظام الحياة سببا في إساءة معاملة الخرين ،والحق
يريد أن يمنع هذا الضيق من أن يؤثر في علقتنا بالخرين .وقد أثبتت التجربة أن من يذهبون
للحج في جماعة إما أن يعودوا متحابين جدا ،وإما أعداء ألداء.
ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره في أثناء الحج،
وليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند ال ،وليشتغل
بأنس ال ،وليتحمل في جانبه كل شيء ،ويكفي أنه في بيت ال وفي ضيافته.
والحق سبحانه وتعالى يقولَ } :ومَا َتفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّهُ وَتَزَوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَىا {.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فبعد أن نهانا الحق بقوله } :فَلَ َر َفثَ وَلَ فُسُوقَ وَلَ جِدَالَ فِي الْحَجّ { وتلك أمور سلبية وهي
أفعال على النسان أن يمتنع عنها ،وهنا يتبع الحق الفعال السلبية بالمر بالفعال اليجابية ،أفعال
الخير التي يعلمها ال.
إن ال يريد أن نجمع في العبادة بين أمرين ،سلب وإيجاب ،سلب ما قال عن الرفث والفسوق
والجدال ،ويريد أن نوجب ونوجد فعلَ } .ومَا َت ْفعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّهُ {.
وما هو ذلك الخير؟ إنها المور المقابلة للمسائل المنهي عنها ،فإذا كان النسان ل يرفث في الحج
فمطلوب منه أن يعف في كلمه وفي نظرته وفي أسلوبه وفي علقته بامرأته الحلل له ،فيمتنع
عنها ما دام محرما ويطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق ،من بر وخير.
وفي الجدال نجد أن مقابله هو الكلم بالرفق والدب واللين وبحلوة السلوب وبالعطف على
الناس ،هذا هو المقصود بقولهَ } :ومَا َتفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّهُ { .وكلمة من قوله } مِنْ خَيْرٍ
{ للبتداء ،كأن ال سبحانه وتعالى يريد منك أن تصنع خيرا وهو سبحانه يرى أقل شيء من
الخير؛ ولذلك قالَ } :يعَْلمْهُ اللّهُ { .فكأنه خير ل يراه أحد؛ فالخير الظاهر يراه كل الناس؛ والتعبير
} َيعَْلمْهُ اللّهُ { أي الخير مهما صغر ،ومهما قل فإن ال يعلمه ،وكثير من الخيرات تكون هواجس
بالنية ،ويجازي ال على الخير بالجزاء الذي يناسبه.
وقول الحق } :وَتَزَوّدُواْ { والزاد :هو ما يأخذه المسافر ليتقوى به على سفره ،وكان هذا أمرا
مألوفا عند العرب قديما؛ لن المكان الذي يذهبون إليه ليس فيه طعام .وكل هذه الظروف تغيرت
الن ،وكذلك تغيرت عادات الناس التي كانت تذهب إلى هناك .كانت الناس قديما تذهب إلى الحج
ومعها أكفانها ،ومعها ملح طعامها ،ومعها الخيط والبرة ،فلم يكن في مكة والمدينة ما يكفي
الناس ،وأصبح الناس يذهبون الن إلى هناك ليأتوا بكماليات الحياة ،وأصبحت ل تجد غرابة في
أن فلنا جاء من الحج ومعه كذا وكذا .كأن الحق سبحانه وتعالى جعل من كل ذلك إيذانا بأنه
شيْءٍ[} ..القصص]57 :
أخبر قديما يوم كان الوادي غير ذي زرع فقالُ {:يجْبَىا إِلَيْهِ َثمَرَاتُ ُكلّ َ
وانظر إلى دقة الداء القرآني في قوله } :يُجْبَىا { ومعناها يؤخذ بالقوة وليس باختيار من يذهب
به ،فكأن من يذهب بالثمرات بكل ألوانها إلى هناك مرغم أن يذهب بها ،وهو رزق من عند ال،
وليس من يد الناس.
وهذا تصديق لقوله تعالى {:وَارْ ُز ْقهُمْ مّنَ ال ّثمَرَاتِ[} ...إبراهيم]37 :
وقوله الحق } :وَتَ َزوّدُواْ { مأخوذة ـ كما عرفنا ـ من الزيادة ،والزاد هو طعام المسافر ،ومن
يدخر شيئا لسفر فهو فائض وزائد عن استهلك إقامته ،ويأخذه حتى يكفيه مئونة السؤال أو
الستشراف إلى السؤال؛ لن الحج ذلة عبودية ،وذلة العبودية يريدها ال له وحده .فمن ل يكون
عنده مؤونة سفره فربما يذل لشخص آخر ،ويطلب منه أن يعطيه طعاما ،وال ل يريد من الحاج
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن يذل لحد ،ولذلك يطلب منه أن يتزود بقدر حاجته حتى يكفي نفسه ،وتظل ذلته سليمة لربه،
فل يسأل غير ربه ،ول يستشرف للسؤال من الخلق ،ومَنْ يسأل أو يستشرف فقد أخذ شيئا من
ذلته المفروض أن تكون خالصة في هذه المرحلة ل وهو يوجهها للناس ،وال يريدها له خالصة.
وإن لم يعط الناس السائل والمستشرق للسؤال فربما سرق أو نهب قدر حاجته ،وتتحول رحلته من
قصد البر إلى الشر .وكان بعض أهل اليمن يخرجون إلى الحج بل زاد ويقولون " :نحن
متوكلون ،أنذهب إلى بيت ال ول يطعمنا؟ " .ثم تضطرهم الظروف لن يسرقوا ،وهذا سبب
وجود النهب والسرقة في الحج .إن إلحاح الجوع قد يدفع النسان لن ينهب ويسرق ليسد حاجته.
ومن هنا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على النفس البشرية هذا الشر فقال } :وَتَ َزوّدُواْ { إنه
أمر من ال بالتزود في هذه الرحلة التي ينقطع فيها النسان عن ماله وعن أهله وعن أحبابه وعن
معارفه ،ويقول سبحانه } :وَتَ َزوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَىا { ونعرف أن الزاد هو ما تَقي به نفسك
من الجوع والعطش ،وإذا كان التزود فيه خير لستبقاء حياتك الفانية ،فما بالك بالحياة البدية التي
ل فناء فيها ،أل تحتاج إلى زاد أكبر؟ فكأن الزاد في الرحلة الفانية يعلمك أن تتزود للرحلة
الباقية.
إذن فقوله } :فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَىا { يشمل زاد الدنيا والخرة .وال سبحانه وتعالى يذكرنا
حسّة وينقلنا منها إلى المور المعنوية ،ولكن إذا نظرت بعمق وصدق وحق وجدت
بالمور المُ َ
المور المعنوية أقوى من المور الحسية .ولذلك نلحظ في قوله سبحانه وتعالى {:يَابَنِي ءَا َدمَ قَدْ
سوْءَا ِت ُكمْ }[العراف]26 :
أَنزَلْنَا عَلَ ْيكُمْ لِبَاسا ُيوَارِي َ
هذا أمر حسي .ويفيدنا ويزيدنا سبحانه " ريشا " إنه ـ سبحانه ـ ل يواري السوءة فقط ،وإنما
زاد المر إلى الكماليات التي يتزين بها ،وهذه الكماليات هي الريش ،أي ما يتزين به النسان ،ثم
قال الحق {:وَلِبَاسُ ال ّت ْقوَىا ذاِلكَ خَيْرٌ }[العراف]26 :
أي أنعمت عليكم باللباس والريش ،ولكن هناك ما هو خير منهما وهو } لِبَاسُ ال ّتقْوَىا { .فإن كنت
تعتقد في اللباس الحسي أنه سَترَ عورتك ووقاك حرا وبردا وتزينت بالريش منه فافهم أن هذا أمر
حسي ،ولكن المر الفضل هو لباس التقوى ،لماذا؟ لن مفضوح الخرة شر من مفضوح الدنيا.
إذن فقوله } :وَتَزَوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَىا وَا ّتقُونِ ياُأوْلِي الَلْبَابِ { .يعني أن الحق يريد منك
أن تتزود للرحلة زادا يمنعك عن السؤال والستشراف أو النهب أو الغصب ،وأحذر أن يدخل فيه
شيء مما حرم ال ،ولكن تزودك في دائرة } :وَاتّقُونِ ياُأوْلِي الَلْبَابِ { أي يا أصحاب العقول ،ول
ح ّكمُوا عقولهم في القضية ،لنه جل
ينبه ال الناس إلى ما فيهم من عقل إل وهو يريد منهم أن ُي َ
ح ْكمُ العقل في صف أمر
ح ّك ْمتَ عقلك في القضية فسيكون ُ
حكّ َم عقلك ،فإن َ
شأنه يريد منك أن ُت َ
ال.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولما كان ال ـ سبحانه ـ بسعة لطفه ورحمته ـ يريد في هذه الشعيرة المقدسة والرحلة المباركة
أن يتعاون الناس ،أذِنَ لجماعة من الحجاج أن تقوم على خدمة الخرين تيسيرا لهم .ومن العجيب
أن الذين يقومون بخدمة الحجاج يُرخصُ ال لهم في الحج أن ينفروا قبل غيرهم؟ لن تلك مصلحة
ضرورية .فهب أن الناس جميعا امتنعوا عن خدمة بعضهم بعضا فمن الذي يقوم بمصالح الناس؟
إذن لبد أن يذهب أناس وحظهم العمل لخدمة الحجاج ،وال ـ سبحانه وتعالى ـ بين ذلك
علَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْ َتغُواْ َفضْلً مّن رّ ّب ُكمْ فَإِذَآ َأ َفضْتُم مّنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُواْ
ووضحه بقوله } :لَيْسَ َ
اللّهَ{ ...
()201 /
شعَرِ
لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْلًا مِنْ رَ ّبكُمْ فَإِذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِ ْندَ ا ْلمَ ْ
الْحَرَا ِم وَا ْذكُرُوهُ َكمَا هَدَا ُك ْم وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ الضّالّينَ ()198
{ لَ ْيسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ } أي ل إثم عليكم ول حرج { أَن تَبْ َتغُواْ َفضْلً مّن رّ ّبكُمْ } أي أن تتكسبوا في
الحج وهو نسك عبادي ،والمكسب الذي يأتي فيه هو فضل من ال .وقديما كانوا يقولون :فيه "
حاج " ،وفيه " داجّ " ،واحدة بالحاء وواحدة بالدال " ،فالداجّ " هو الذي يذهب إلى الراضي
المقدسة للتجارة فقط ،ونقول له :ل مانع أن تذهب لتحج وتتاجر؛ لنك ستيسر أمرا؛ لننا إن
منعناه فمن الذي يقوم بأمر الحجيج؟
ولماذا قال الحق { :تَبْ َتغُواْ َفضْلً مّن رّ ّبكُمْ } ولم يقل رزقا؟ .لقد أوضح الحق في الية التي قبلها:
ألّ تذهبوا إلّ ومعكم زادكم .إذن أنت ل تريد زادا بعملك هذا ،أي ل تذهب إلى الحج لتأكل من
التجارة ،إنما تذهب ومعك زادك وما تأتي به هو زائد عن حاجتك ويكون فضلً من ال سبحانه
وتعالى ،وهو جل شأنه يريد منك ألّ يكون في عملك المباح حرجٌ؛ فنفى الجناح عنه؛ فأنت قد
جئت ومعك الكل والشرب ويكفيك أن تأخذ الربح المعقول ،فل يكون فيه شائبة ظلم كالستغلل
لحاجة الحجيج ،لذلك أسماه " فضلً " يعني أمرا زائدا عن الحاجة.
وكل ابتغاء الرزق وابتغاء الفضل ل يصح أن يغيب عن ذهن مبتغي الرزق والفضل ،فكله من
عند ال .إياك أن تقول :قوة أسباب ،وإياك أن تقول :ذكاء أو احتياط ،فل شيء من ذلك كله؛ لن
الرزق كله من ال هو فضل من ال .ول ضرر عليك أن تبتغي الفضل من الرب؛ لنه هو الخالق
وهو المربي .ونحن مربوبون له ،فل غضاضة أن تطلب الفضل من ال.
شعَرِ الْحَرَامِ } .وأنت حين
ثم يقول الحق بعد ذلك { :فَإِذَآ َأ َفضْتُم مّنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ عِندَ ا ْلمَ ْ
تمل كأسا عن آخرها فهي تفيض بالزائد على جوانبها ،إذن فالفائض معناه شيء افترق عن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الموجود للزيادة.
قوله { :فَِإذَآ َأ َفضْتُم مّنْ عَ َرفَاتٍ } تدل على أن ال قد حكم بأن عرفات ستمتلئ امتلء ،وكل من
يخرج منها كأنه فائض عن العدد المحدد لها .وهذا حكم من ال في الحج .وأنت إذا ما شهدت
المشهد ـ كتبه ال للمسلمين جميعا .إن شاء ال ـ سترى هذه المسألة ،فكأن إناءً قد امتل ،وذلك
يفيض منه .ول تدري من أين يأتي الحجيج ول إلى أين يذهبون .ومن ينظر من يطوفون بالبيت
يظن أنهم كتل بشرية ،وكذلك إذا فاض الحجيج في مساء يوم عرفة يخيل إليك عندما تنظر إليهم
أنه ل فارق بينهم؛ ولذلك يقال :سالت عليه شعاب الحي كأنها سيل.
وقال الشاعر:فسـالت عليه شعـاب الحي حـين دعـا أصـحـابه بـوجـوه
كالـدنـانـيروقال آخر:ولمـا قضـيـنا مـن مـنى كـل حـاجـة ومسـح بـالركـان من
هـو ماسحأخـذنا بـأطـراف الحـاديـث بـينـنـا وسـالـت بأعـناق المـطي
الباطحأي كأنه سيل متدفق ،هكذا تماما تكون الفاضة من عرفات .وعندما تتأمل الناس
المتوجهين إلى " مزدلفة " تتعجب أين كان كل هذا الجمع؟ ترى الوديان يسير فيها الناس
والمركبات كأنهم السيل ول تستطيع أن تفرق شخصا من مجموعة ،وفي موقف الحجيج إفاضتان:
إفاضة من عرفات ،ثم إفاضة ثانية بينتها الية التي بعدها يقول ـ سبحانه ـ { :ثُمّ َأفِيضُواْ مِنْ
غفُورٌ رّحِيمٌ }
س وَاسْ َتغْفِرُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ
حَ ْيثُ َأفَاضَ النّا ُ
()202 /
وعرفات ننطقها بمنطوقين :مرة نقول " عرفات " كما وردت في هذه الية ،ومرة ننطقها " عرفة
" كما في قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :الحج عرفة " .وعرفات جمع ،وعرفة مفرد.
هذه الكلمة أصبحت علما على المكان الفسيح الذي يجتمع فيه الحجيج في التاسع من ذي الحجة،
ول تظن أنها جبل ،فإذا سمعت " :جبل عرفات " كما يقول الناس فافهم أن المقصود هو الجبل
المنسوب إلى عرفات .وليس عرفات في ذاتها ،ولذلك تجد أناسا كثيرين يظنون أنهم إن لم
يصعدوا الجبل المسمى بجبل الرحمة الذي عند الصخرات التي وقف عليها رسول ال في حجة
الوداع فكأن النسان منهم لم يحج .نقول لهم :ل .الوقوف يكون في الوادي ،والجبل المجاور
للوادي أسميناه جبل عرفات ،فالجبل هو المنسوب لعرفات وليس الوادي هو المنسوب للجبل.
وأصل كلمة عرفة وردت فيها أقوال كثيرة .وهناك فرق بين السم يكون وصفا ثم يصير اسما.
علَما من أول المر .وقلنا :إنه إذا سميت العَلَم من أول المر فل ضرورة أن
وبين أن يكون َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يكون فيه معنى اللفظ؛ فقد تسمى واحدا شقيا بـ " سعيد " ،وتُسمى زنجية بـ " قمر " ،وهذا ل
سمّي ابني
يُسمى " وصفا " وإنما يُسمى عَلََما إل أن الناس حين يسمون يتفاءلون بالصل ،فيقال :أُ َ
" سعيدا " تفاؤل بأن يكون " سعيدا " ،وعندما تكون بنتا فقد تعطيها اسما مخالفا لحالها ،فقد تكون
دميمة وتسميها " جميلة " تفاؤلً بالسم .هنا يكون أخذ العلم للتفاؤل .والعرب عندما كانوا يسمون
السماء كانوا يتفاءلون بها .مثلً كانوا يسمون " صخرا " ليتفاءلوا به أمام العداء .ويسمون " كلبا
" حتى ل يجرؤ عليه أحد.
وقيل لعربي :إنكم تحسنون أسماء عبيدكم فتقولون " سعيدا " و " سعدا " و " فضلً " وتسيئون
أسماء أبنائكم؛ تسمونهم " :مُرة " " ،كلبا " " ،صخرا " قال العربي :نعم؛ لننا نسمي أبناءنا
لعدائنا ليكونوا في نحورهم ،ونسمي عبيدنا لنا .وكلمة " عرفة " هي الن علم على مكان ،لكن
سبب تسميتها فيه خلف :قيل :لن آدم هبط في مكان وحواء هبطت في مكان ،وظل كلهما
يبحث عن الخر حتى تلقيا في هذا المكان ،فسُمي " عرفة ".
والحديث عن آدم وحواء يقتضينا أن نبحث عن سبب تفرقهما الذي جعل كل منهما يبحث عن
الخر ،إذا كان ال عز وجل خلقهما ليكونا زوجين فلماذا فرقهما؟ .لك أن تتصور حال آدم وهو
مخلوق في عالم غريب واسع بمفرده ،وينظر حوله فل يجد بشرا مثله ،بال أل يشتاق لنسان
يؤنس وحدته؟.
وماذا يكون حاله عندما يرى إنسانا؟ .لشك أنه سيقابله باشتياق شديد .من أجل هذا فرق ال
بينهما وجعل كلّ منهما يبحث عن إنسان يؤنس وحشته ،ولو ظل كل منهما بجوار الخر فربما
كان المر عاديا .وهكذا أراد ال لكل من آدم وحواء أن يشتاق كل منهما للخر ،فأبعدهما عن
بعضهما ثم تلقيا بعد طول بعاد ،فكان الشوق للقاء .وبعد اللقاء تأتي المودة والرحمة واللفة
والسكن ،وهو مطلوب الحياة لزوجين .وهناك قول آخر بخصوص تسمية عرفات :إن سيدنا آدم
قالت له الملئكة وهو في ذلك المكان :اعرف ذنبك وتب إلى ربك فقال {:رَبّنَا ظََلمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ
حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[العراف]23 :
َت ْغفِرْ لَنَا وَتَ ْر َ
فيكون بذلك قد عرف زلته وعرف كيف يتوب .أو حينما أراد ال أن ُيعَلّم إبراهيم عليه السلم،
وهو الذي دعا ربّه أن يجعل أفئدة الناس وقلوبهم تميل وتهوى هذا المكان .إن إبراهيم رأى في
المنام أن يذبح ابنه .وتلك مسألة شاقة من ثلثة وجوه :المشقة الولى أنها رؤيا وليست وحيا.
والمشقة الثانية أنه ابنه الوحيد ،والمشقة الثالثة أنه هو الذي سيذبحه.
إنها ثلث مشقات صعاب ،وليس من المعقول أن تمر هذه المسألة على أبي النبياء بيسر
وسهولة ،بل لبد أنه تحدّث فيها كثيرا بينه وبين نفسه ،وهل هي رؤيا أم ماذا؟ .ومن هنا سُمي
اليوم الذي قبل يوم عرفة بيوم التروية .وعندما تأكد سيدنا إبراهيم بأن رؤيا النبياء حق عرف أنه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لبد أن ينفذ ما رأى .والمكان الذي عرف فيه حقيقة الرؤيا سُمي عرفة .أو أنه حين جاءت له
الرؤيا بذبح ابنه فالشيطان لم يدع مثل هذه الفرصة تمر ،وكان لبد أن يدخل ليوسوس لبراهيم.
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف]16 :
ل ْقعُدَنّ َلهُمْ صِرَا َ
أليس هو القائلَ {:
فعندما تمثل الشيطان لبراهيم رجمه بالحصى سبعا في المرة الولى ،ثم عاوده مرة أخرى
فرجمه سبعا ،وجاءه في الثالثة فرجمه سبعا ،بعدها لم يأت له ثانية ،فجرى إبراهيم مخافة أن
يلحقه ،ولذلك سُمى المكان بالمزدلفة ،والمزدلف هو المسرع ،ويسمى " ذا المجاز " أي أنه اجتاز
المزدلفة ،ويكون قد عرف المسألة عند عرفة.
أو أن جبريل كان يعرفه المناسك في هذا المكان ،فيقول له :عرفتَ؟ فيرد إبراهيم " :عرفتُ " .أو
أن النسان يعرف فيها ربه في آخر ما شرع له من أركان فكل منا عرف الركان :هذا عرف،
وذاك عرف ،وثالث ،ورابع ،وهكذا فيكون كلنا :عرفات ،ويصبح المكان عبودية ل .اشترك فيها
جميع الحجاج.
شعَرِ ا ْلحَرَامِ { .والمشعر الحرام في مزدلفة} :
} فَِإذَآ َأ َفضْتُم مّنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ عِندَ ا ْلمَ ْ
فَا ْذكُرُواْ اللّهَ { معناها أن ال يَسّر لكم هذه الرحلة الشاقة ،وجاء بكم آمّين وقاصدين بيت ال
الحرام ،ثم تعودون مغفورا لكم ،وهي مسألة تستحق أن تذكروا ال بالشكر والعرفان.
} وَا ْذكُرُوهُ َكمَا َهدَاكُمْ {؛ لن هدايته لكم وتعليمكم أقصر طريقة يوصل إلى الخير هو تحية من ال
لخلقه ،والتحية يجب أن يُرَدّ عليها ،فكما هداكم اذكروه } .وَإِن كُنْتُمْ مّن قَبْلِهِ َلمِنَ الضّآلّينَ {؛ لنهم
طالما حجوا كثيرا ،في الجاهلية ،فأنتم كنتم تحجون بضلل ،والن تحجون بهدى } .ثُمّ َأفِيضُواْ
مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّاسُ { .قوله } :ثُمّ { تدل على أنه لبد من الوقوف بعرفة أو المبيت في مزدلفة؛
لن } ثُمّ { تدل على البعدية ببطء والتعقيب بتمهل.
إذن قوله } " :ثُمّ َأفِيضُواْ { حجة لمن قال :إنه لبد من المبيت في مزدلفة .وهذه الية نزلت لن
قريشا كانت ترى نفسها أهل الحرم فل يُطالبون أبدا بما يُطالب به سائر الناس ،ولذلك ل يذهبون
مع الناس إلى عرفات ،وال يريد بالحج المساواة بين الناس ،ولذلك قال النبي في حجة الوداع" :
كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ،لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على ال من
الجعلن " فلبد أن ينسخ ال مسلك قريش فقال } :ثُمّ َأفِيضُواْ مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّاسُ { يعني ل
تميز لكم ول تفرقة بين المسلمين.
وبعض المفسرين يقول :إن معنى{ مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّاسُ }المقصود به من حيث أفاض إبراهيم،
بمعنى أن سيدنا إبراهيم عليه السلم قد رسم مناسك الحج كلها بعد أن علمها ال له ،فالناس وإن
كانوا جمعا إل أن المراد بكلمة " الناس " هو " إبراهيم " .ول نستغرب أن يكون معنى " :الناس "
هو " إبراهيم " لن ال وصفه بأنه " أمة " .وكلمة الناس تُطلق على النسان الذي يجمع خصائص
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سدُونَ النّاسَ
متعددة؛ ولذلك قال ال عز وجل عن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم {:أَمْ َيحْ ُ
عَلَىا مَآ آتَا ُهمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ }[النساء]54 :
لقد وصف الحق رسول ال صلى ال عليه وسلم بالناس .والرجل الذي ذهب للمؤمنين يخبرهم
باستعداد المشركين لقتالهم نزل فيه قوله تعالى } :الّذِينَ قَالَ َلهُمُ النّاسُ { إنه إنسان واحد ومع ذلك
وصفه ال بالناس ،كأنه بتنبيهه للمسلمين يكون جمع كل صفات الخير في الناس.
غفُورٌ رّحِيمٌ { إنّ الحق سبحانه وتعالى يعلم أن بني آدم ل يمكن لهم أن
} وَاسْ َت ْغفِرُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ
يراعوا حقوقه كما يجب أن تُراعى ،فل بد أن تفلت منهم أشياء ،وهو سبحانه وتعالى يعلم ذلك؛
لنه خالقهم ،فأمرهم ـ جلت حكمته ـ أن يستغفروه؛ ليكفروا عن سيئاتهم.
شدّ ِذكْرا{ ...
س َككُمْ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ َك ِذكْ ِركُمْ آبَآ َءكُمْ َأوْ أَ َ
} فَِإذَا َقضَيْتُمْ مّنَا ِ
()203 /
س َككُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ كَ ِذكْ ِركُمْ آَبَا َءكُمْ َأوْ َأشَدّ ِذكْرًا َفمِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آَتِنَا فِي
فَإِذَا َقضَيْتُمْ مَنَا ِ
الدّنْيَا َومَا َلهُ فِي الْآَخِ َرةِ مِنْ خَلَاقٍ ()200
ونعرف أن " قضى " تأتي بمعان متعددة ،والعمدة في هذه المعاني فصل المر بالحكمة ،قد يُفصل
المر بحكمة لنه فرغ منه أداء { فَإِذَا َقضَيْتُمْ } أي إذا فرغتم من مناسككم ،هذه واحدة .وقد يكون
لنك فصلت المر بخبر يقين مثل قوله الحقَ {:و َقضَىا رَ ّبكَ َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ إِيّاهُ }[السراء]23 :
وقد يكون " قضى " بمعنى حكم حكما لزما كما تقول :قضى القاضي .إذن فكلها تدور حول
س َككُمْ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ } .أي إذا فرغتم من مناسككم ،والمناسك
معنى :فصل بحكمة { .فَإِذَا َقضَيْتُمْ مّنَا ِ
هي الماكن لعبادة ما ،فعرفات مكان للموقف ،و " مزدلفة " مكان للمشعر الحرام يبيت فيه
الحجاج .و " منى " منسك للمبيت أيضا ،إذن كل مكان فيه عبادة يُسمى " منسكا ".
وقوله سبحانه { :فَا ْذكُرُواْ اللّهَ } أي فل يزال ذكر ال دائما واردا في اليات ،كأنك حين توفق إلى
أداء شيء إياك أن تغتر ،بل اذكر ربك الذي شرع لك ثم وفقك وأعانك .وكأن الحق يريد أن
يضع نهاية لما تعودت عليه العرب في ذلك الزمان فقديما كانوا يحجون ،فإذا ما اجتمعت القبائل
في منى ،كانت كل قبيلة تقف بشاعرها أو بخطيبها ليعدد مآثره ومآثر آبائه ،وما كان لهم من
مفاخر في الجاهلية ويحملون الديات ،ويحملون الحمالت ،ويطعمون الطعام ،ويفعلون غير ذلك
من العادات ،فأراد ال سبحانه وتعالى أن ينهي فيهم هذه العادة التي هي التفاخر بالباء وبأعمالهم
فقال { :فَا ْذكُرُواْ اللّهَ َك ِذكْ ِركُمْ آبَآ َءكُمْ } والذكر معناه توجيه الفكر إلى شيء غير موجود ساعة تأتي
به ،ول يمكن أن يذكر النسان من أحداث الماضي إل الحدث الذي له الثر النافع فيه ،وعلى
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مقدار الثر النافع يكون الذكر.
وكانوا قديما يطعمون الطعام ،والذي يطعم الطعام يؤدي مهمة في مثل هذه البلد البُدائية ـ أي
البدوية ـ وكان من المبالغة في الجفنات أن بعضهم كالمطعم بن عدي مثلً كانت له جفنة يحكي
رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه كان يستظل بها ساعة الهجير .والجفنة هي الوعاء الذي
يوضع فيه الطعام ،فتأمل الجفنة كيف تكون؟!
ويحملون الحمالت ،بمعنى أنه إذا قامت قبيلة على قبيلة وقتلت منها خلقا كثيرا يتطوع منهم ذو
الحسب وذو المروءة وذو الشهامة وذو النجدة فيحمل كل هذه الثار في ماله .والديات هي التي
يتطوع بدفعها أهل الشهامة منهم إذا ما قتل قاتل قتيلً ،ول يقدر على أن يعطي ديته ،وكانت كل
تلك العمال هي المفاخر.
أراد الحق سبحانه وتعالى أن يردهم في كل شيء إلى ذاته ،فقال لهم :أنتم تذكرون آباءكم؛ لنهم
كانوا يفعلون كذا وكذا ،وآباؤكم يفتخرون بآبائهم ،انقلوها وسلسلوها إلى خالق كل الباء وكل
البشر ،فكل ما يجري من خير على يد الباء مرده إلى ال ،فإن ذكرتم آباءكم لما قدموه من خير،
فاذكروا من أمدهم بذلك الخير.
وهو يريد منهم أن يذكروا ال كذكرهم آباءهم؛ أو أشد ذكرا؛ لن كل كائن إنما يستحق من الذكر
على مقدار ما قدم من الخير ،ولن تجد كل الخير إل ل ،إذن لبد أن نذكر ال.
وأيضا فإن السلم أراد أن ينهي التفاخر بالباء ليجعل الفخر ذاتيا في نفس المؤمن ،أي فخرا من
عمل جليل نابع وحاصل من الشخص نفسه؛ ولذلك يقولون في أمثال هؤلء الذين يفخرون
بأسلفهم إنهم " :عظاميون " أي منسوبون إلى مجد صنعه من صاروا عظاما تضمها القبور ،وال
يريدنا أن نكون ذاتيين في مفاخرنا ،أي أن نفخر بما نفعل نحن ،ل بما فعل آباؤنا ،فالباء أفضوا
إلى ما قدموا ،ويريد ال أن يأخذ النسان ذاتية إيمانية تكليفية .ومن يريد أن يفتخر فليفتخر بنفسه
ولذلك يقول الشاعر:ول تـكـونـوا عظـامـيـين مـفـخـرة مـاضـيـهـم عـامـر
فـي حـاضر خـربل يـنـفع الحسـب المـوروث مـن قـدم إل ذوي هـمـة غـاروا
عـلـى الحـسـبوالعـود مـن مـثمـر إن لـم يلـد ثمـرا عَـدّوه مـهـمـا سَـمَـا
أصـلً مـن الحطبفالنبات الذي ليس له ثمرة ،يعتبره الناس مجرد حطب،ويريد الحق أن ينبه في
المؤمن ذاتية تفعل ،وليس ذاتية تفتخر بأنه كان وكان ،بل على كل إنسان أن يقدم ما يفتخر
به:لـيـس الفـتـى مـن يـقـول كان أبي إن الفـتـى مـن يـقـول هـأنـذاوعندما كان
العرب يتفاخر بعضهم على بعض يقول أحدهم للخر :يا أخي أنت تفتخر عليّ بماذا؟
فيرد عليه الثاني :أفتخر عليك بآبائي وأجدادي.
فيرد الول :اذكر جيدا أن مجد آبائك انتهى بك ،ومجد آبائي بدأ بي ،ولماذا ل أجعل لبائي الفخر
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بأنهم أنجبوني؟
وفي ذلك يقول أحدهم:قـالـوا أبـو الصقر من شيبان قلت لهم كـل لعـمـري ولـكـن مـنه
شـيـبانُوكـم أبٍ قـد عـل بـابـن ذُرَا شَ َرفٍ كـمـا عَـلـتْ بـرسـول ال عـدنـانُوما
دام القوم يفتخرون بحي منهم ،فهم يلتحمون بمن يعطيهم المدد ليكونوا شيئا باقيا ومؤثرا في
الوجود ،وليس بذلك الشيء المحدود المتمثل في أنه يطعم الطعام ،ويحمل الحمالت ويؤدي
الديات ،وإنما يكون بحمل رسالة النسانية العالمية.
شدّ ِذكْرا { .لن ذكركم ال سيصلكم بالمدد منه ،ويعطيكم
} فَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَ ِذكْ ِركُمْ آبَآ َء ُكمْ َأوْ أَ َ
المعونة لتكونوا أهل لقيادة حركة الحياة في الرض ،فتوطدوا فيها المن والسلم والرحمة
والعدل ،وهذا هو ما يجب أن يكون مجال للفخر.
وبعد ذلك يلفتنا الحق فيما يأتي إلى أن النسان إذا ما قضى المناسك كان أهل لن يضرع إلى
ال ،ويسأل ال بما يحب أن يسأله ،والسؤال ل يختلف باختلف همة السائلين ،وكانوا ل يسألون
ال إل قائلين :يا رب أعطني إبلً ،يا رب أعطني غنما ،يا رب أعطني بقرا ،ويا رب أعطني
حائطا ـ أي بستانا ـ ،يا رب كما أعطيت أبي أعطني.
صعّدُوها
ولم يكن في بالهم إل المور المادية ،وأراد ال أن يجعلهم يرتفعون بالمسألة ل ،وأن ُي َ
إلى شيء أخلد وأبقى وأنفع ،ومن هنا تأتي المزية اليمانية ،فإذا كنتم ستسألون ال متاعا من متاع
الدنيا فما الفارق بينكم وبين أهل الجاهلية؟
ذلك ما نفهمه من قول ال عز وجل في ختام هذه اليةَ } :فمِنَ النّاسِ مَن َيقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا
لقٍ { .فالعبد حين يؤدي مناسكه ل يجد نفسه أهل لن يسأل ال ،وما
َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَ َ
دمت قد وجدت نفسك أهل لن تسأل ال فاسأل ال بخير باق؛ لن النسان إنما ُيصَعدُ حاجته إلى
المسئول على مقدار مكانة المسئول ومنزلته؛ فقد تذهب لشخص تطلب منه عشرة قروش ،وقد
تذهب لخر أغنى من الول فتقول له :أعطني جنيها ،ولثالث :تطلب منه عشر جنيهات ،إنك
تطلب على قدر همة كل منهم في الجابة على سؤالك.
صعّدُوا مسألتهم ل وليطلبوا منه النافع
إذن ما دام العباد بعد أداء المناسك في موقف سؤال ل فل ُي َ
أبدا ،ول ينحطوا بالسؤال إلى المور الدنيوية الفانية البحتةَ } .فمِنَ النّاسِ مَن َيقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي
لقٍ { إن العبد قد ل يريد من دعائه ل إل الدنيا ،ول حظ ول
الدّنْيَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَ َ
نصيب له في الخرة ،ومثل هذا النسان يكون ساقط الهمة؛ لنه طلب شيئا في الدنيا الفانية،
صعّد همتنا اليمانية .ولذلك يتبعها بقوله الحقِ } :ومِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا
ويريد ال أن ُن َ
حسَنَ ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَ َن ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ {
َ
()204 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عذَابَ النّارِ ()201
حسَنَ ًة َوفِي الْآَخِ َرةِ حَسَنَةً َوقِنَا َ
َومِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آَتِنَا فِي الدّنْيَا َ
ولماذا لم ننس الدنيا هنا؟ لنها هي المزرعة للخرة .وقوله سبحانه { :آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً }
اختلف فيها العلماء؛ بعضهم ضيقها وقال :إن حسنة الدنيا هي المرأة الصالحة .وقال عن حسنة
الخرة إنها الجنة .ومنهم من قال :إن حسنة الدنيا هي العلم؛ لن عليه يُبْنَي العمل ،وفي حسنة
الخرة قال :إنها المغفرة؛ لنها أم المطالب.
ومن استعراض أقوال العلماء نجدهم يتفقون على أن حسنة الخرة هي ما يؤدي إلى الجنة مغفرة
ورحمة ،لكنهم اختلفوا في حسنة الدنيا .أقول :لماذا ل نجعل حسنة الدنيا أعم وأشمل فنقول :يا
حسّنُ الدنيا عندك لعبدك.
رب أعطنا كل ما يُ َ
عذَابَ النّارِ } وسبحانه وتعالى حين َيمْتَنّ على عباده يمتن
ويذيل الحق هذه الية بقولَ { :وقِنَا َ
عليهم بأن زحزحهم عن النار وأدخلهم الجنة ،كأن مجرد الزحزحة عن النار نعيم ،فإذا ما أدخل
الجنة بعد الزحزحة عن النار فكأنه أنعم على النسان بنعمتين؛ لنه سبحانه قال {:وَإِن مّنكُمْ ِإلّ
وَارِدُهَا }[مريم]71 :
ومعناها أن كل إنسان سيرى النار إما وهو في طريقه للجنة ،فيقول :الحمد ل ،اليمان أنجاني من
هذه النار وعذابها .فهو عندما يرى النار وبشاعة منظرها يحمد ال على نعمة السلم .التي أنجته
من النار .فإذا ما دخل الجنة ورأى نعيمها يحمد ال مرة ثانية .وكذلك يرى النار من هو من أهل
خلَ الْجَنّةَ َفقَدْ
العراف أي ل في النار ول في الجنة ،يقول الحقَ {:فمَن زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ
فَازَ }[آل عمران]185 :
ويقول الحق من بعد ذلك { :أُولَـا ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ّممّا كَسَبُو ْا وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }
()205 /
حسَابِ ()202
أُولَ ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ِممّا َكسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ
والنصيب هو الحظ ،وأما { ّممّا كَسَبُواْ } فنعرف من قبل أن فيه " كسب " وفيه " اكتساب ".
والكتساب فيه افتعال ،إنما الكسب هو أمر عادي ،ولذلك تجد أن الكتساب ل يكون إل في الشر؛
كأن الذي يفعل الشر يتكلف فيه ،لكن من يفعل الخير فذلك أمر طبيعي من النسان .والمقصود بـ
{ ّممّا كَسَبُواْ } هنا هو الكسب من استيفاء أعمالهم التي فعلوها في الحج إحراما ،وتلبية .وطوافا،
وسعيا ،وذهابا إلى " منى " ،وذهابا إلى " عرفات " ووقوفا بها ،وإفاضة إلى " مزدلفة " ،ورميا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للجمار .في " منى " ،وطواف إفاضة ،وكل هذا كسب للنسان الذي نال شرف الحج.
وعندما نقرأ { :وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ } فلنفهم أن السرعة هي أن يقل الزمن عن الحدث ،فبدل من
أن يأخذ الحدث منك ساعة ،وقد تنهيه في نصف ساعة ،وكل حدث له زمن،والحدث حين يكون له
زمن وتريد أن تقلل زمن الحدث فلبد أن تسرع فيه حتى تنجزه في أقل وقت .وتقليل الزمن
يقتضي سرعة الحركة في الفعل ،وذلك في الفعال العلجية التي تحتاج ُمعَالجة ،وعملً من
النسان ،لكن سبحانه يفعل بـ " كُن " ول يحتاج عمله إلى علج ،وبالتالي ل يحتاج إلى زمن،
إذن فهو سريع الحساب؛ لنه ل يحتاج إلى زمن ،ولنه ل يشغله شأن عن شأن ،وهذا هو الفرق
بين قدرة الواحد سبحانه وقدرة الحادث؛ لن الحادث عندما يؤدي عملً ،فهذا العمل يشغله عن
غيره من العمال ،فل يستطيع أن يؤدي عمليتين في وقت واحد ،لكن الواحد الحد ل يشغله فعل
عن فعل ،وبالتالي يفعل ما يريد وقتما يريد ولكل من يريد.
ولذلك سُئل المام علي بن أبي طالب :كيف يحاسب ال الخلئق جميعا في لحظة واحدة؟ .فقال" :
كما يرزقهم في ساعة واحدة " .فهو سبحانه الذي يرزقهم ،وكما يرزقهم يحاسبهم .ويقول الحق
من بعد ذلك { :وَا ْذكُرُواْ اللّهَ فِي أَيّامٍ ّمعْدُودَاتٍ} ...
()206 /
جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ َومَنْ تََأخّرَ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ ِلمَنِ ا ّتقَى
وَا ْذكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ َتعَ ّ
وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَ ّن ُكمْ إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ ()203
ونلحظ أن ذكر ال أمر شائع في جميع المناسك ،و { فِي أَيّامٍ ّم ْعدُودَاتٍ } أي في أيام التشريق.
في اليوم التاسع نكون في عرفة وليلة العاشر نبيت فيها بـ " مزدلفة " ،ثم بعد ذلك نفيض من
حيث أفاض الناس ،نذهب لرمي جمرة العقبة ،وبعضنا يذهب ليطوف طواف الفاضة وينهي
مناسكه ،أو قد يذهب ليذبح ويتحلل التحلل الصغر ،إن لم يكن معه امرأة ،وإن طاف فهو يتحلل
التحلل الكبر .أما اليام المعدودات أي أيام التشريق فهي اليام الثلثة بعد يوم النحر .وقد سميت
بذلك نسبة إلى الشروق ،والشروق خاص بالشمس ،كانوا قديما إذا ما ذبحوا ذبائحهم سميت هذه
اليام بأيام التشريق .وعندما نسمع قوله { :فِي أَيّامٍ ّمعْدُودَاتٍ } نفهم منها أنها فوق يومين.
جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَلَ إِثْمَ عَلَ ْي ِه َومَن تََأخّرَ فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ ِلمَنِ ا ّتقَىا }.
وبعد ذلك يقول الحقَ { :فمَن َتعَ ّ
جلَ فِي َي ْومَيْنِ } يدل على أن
قول الحق سبحانه وتعالى { :فِي أَيّامٍ ّمعْدُودَاتٍ } ثم قولهَ { :فمَن َتعَ ّ
كلمة " أيام " تطلق على الجمع وهو الكثر من يومين ،أي ثلثة أيام ،لكن الحق سبحانه وتعالى
جعل للقيام بيومين حكم القيام بالثلثة ،فإن تعجلت في يومين فل إثم عليك ومن قضى ثلثة أيام
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فل إثم عليه كيف يكون ذلك؟.
لن المسألة ليست زمنا ،ولكنها استحضار نية تعبدية ،فقد تجلس ثلثة أيام وأنت غير مستحضر
النية التعبدية؛ لذلك قال سبحانهِ { :لمَنِ ا ّتقَىا } ،فإياك أن تقارن الفعال بزمنها ،وإنما هي
بإخلص النية والتقوى فيها.
ويذيل الحق الية بالقول الكريم { :وَا ّتقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُوآ أَ ّنكُمْ إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ } .وقد جاء سبحانه
حشَرُونَ } لتتناسب زحمة الحج؛ لنه كما حشركم هذا الحشر وأنتم لكم اختيار،
وتعالى بكلمة { تُ ْ
هو سبحانه القادر أن يحشركم وليس لكم اختيار .فإذا كنت قد ذهبت باختيارك إلى هذا الحشر
البشري الكبير في الحج فاعرف أن الذي كلفك بأن تذهب باختيارك لتشارك في هذا الجتماع
الحشد هو القادر على أن يأتي بك وقد سلب منك الختيار .ويقول الحق من بعد ذلكَ { :ومِنَ
خصَامِ }
شهِدُ اللّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِ ِه وَ ُهوَ أََلدّ الْ ِ
النّاسِ مَن ُي ْعجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ
()207 /
خصَامِ ()204
شهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْ ِب ِه وَ ُهوَ أَلَدّ ا ْل ِ
َومِنَ النّاسِ مَنْ ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ
حبّ ا ْلفَسَادَ ()205
ل وَاللّهُ لَا ُي ِ
سَث وَالنّ ْ
سدَ فِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْر َ
سعَى فِي الْأَ ْرضِ لِ ُيفْ ِ
وَإِذَا َتوَلّى َ
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يضع أمامنا قضية وجودية ،وهذه القضية الوجودية هي أن كل عمل
له ظاهر وله باطن .ومن الجائز أن تتقن الظاهر وتدلس على الناس في الباطن ،فإذا كان الناس
لهم مع بعضهم ظاهر وباطن .فمن مصلحة النسان أن ينتمي هو والناس جميعا إلى عالم يعرف
فيه كل إنسان أن هناك إلها حكيما يعرف كل شيء عنا جميعا.
فإذا كان عندك شيء ل أعلمه ،وأنا عندي شيء أنت ل تعلمه كيف تسير مصالحنا؟ ولذلك فمن
ضروريات حياتنا أن نؤمن معا بإله يطلع على سرائرنا جميعا ،وهذا ما يجعلنا نلزم الدب .ولذلك
عمّ ْيتَ على قضاء الرض فلن تعمى على قضاء السماء ".
قيل " :إن َ
إذن فقضاء السماء وعلم ال بالغيب مسألة يجب أن نحمده عليها ،لنه هو الذي سيحمي كل واحد
منا من غيره .وعندما ستر ال غيبنا فذلك نعمة يجب أن نشكره عليها؛ لن النفوس متقلبة .فلو
علمت ما في نفسي عليك في لحظة قد ل يسرك ..وقد ل تنساه أبدا ويظل رأيك فيّ سيئا ،لكن
الظنون والراء تمر عندي وعندك وتنتهي .ولو اطلع كل منا على غيب الخر لكانت الحياة
مرهقة ،والقول المأثور يذكر ذلك " :لو تكاشفتم ما تدافنتم ".
إذن فمن رحمة ال ومن أكبر نعمه على خلقه أن ستر غيب خلقه عن خلقه .والحق يحذرنا ممن
قال فيهمَ { :ومِنَ النّاسِ مَن ُي ْعجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا } أي الذين يظهرون من خير خلف ما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يبطنون من شر ،ولذلك صور الشاعر هذه المسألة فقال:عـلى الـذم بـتنـا مجـمـعـين
وحـالنـا مـن الخـوف حـال المجـمـعين على الحمدأي لو تكاشفنا لقلنا كلنا ذما ،إنما كلنا
مداحون حين يلقى بعضنا بعضا كل يقول بلسانه ما ليس في قلبه .و " يعجبك قوله " فهل الممنوع
أن يعجبك القول؟ ل ،يعجبني القول ولكن في غير الحياة الدنيا ،فالقول الذي يعجب هو ما يتعلق
بأمر الحياة الخرة الباقية ليضمن لنا الخير عند من يملك كل الخير.
وكفى بالذي يسمع من مادح له مدحا ،والمادح نفسه يضمر في قلبه كرها له ،وكفى بذلك شهادة
تغفيل للممدوح ،بأنه يقول بينه وبين نفسه " :إن الممدوح غبي؛ لني أمدحه وهو مصدق مدحي له
" .إن ال سبحانه وتعالى ينبهنا إلى ضرورة أن يكون المسلم يقظا وفطنا ،ومن يقول لنا كلما
يعجبنا في الحياة نتهمه بأن كلمه ليس حسنا؛ لن خير الكلم هو ما يكون في المر الباقي.
ولذلك عندما أرسل خليفةُ المسلمين للمام جعفر الصادق يقول له :ـ لماذا ل تغشانا ـ أي ل
تزورنا ـ كما يغشانا الناس؟ فكتب المام جعفر الصادق للخليفة يقول :أما بعد فليس عندي من
الدنيا ما أخاف عليه ،وليس عندك من الخرة ما أرجوك له.
وكأنه يريد أن يقول له اتركنا وحالنا؛ أنت محتاج لمن يجلس معك ويمدحك ،وأنت ل تعلم أن أول
أناس لهم رأي سيء فيك هم من يمدحونك.
} َومِنَ النّاسِ مَن ُي ْعجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا { وهذه الية نزلت في الخنس ابن شريق الثقفي
ي ولقب بالخنس لنه خنس ورجع يوم بدر فلم يقاتل المسلمين مع قريش واعتذر لهم
واسمه أب ّ
بأن العير قد نجت من المسلمين وعادت إليهم ،وكان ساعة يقابل رسول ال صلى ال عليه وسلم
يظهر إسلمه ويلين القول للرسول ويدعي أنه يحبه ،ولكنه بعد أن خرج من عند رسول ال صلى
حمُر لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر .والية وإن نزلت
ال عليه وسلم مر بزرع و ُ
في الخنس فهي تشمل كل مُنافق.
خصَامِ { ل تقولوا " :ال يشهد " ،وإنما هاتوا شهداءكم
علَىا مَا فِي قَلْ ِب ِه وَ ُهوَ أَلَدّ ا ْل ِ
ش ِهدُ اللّهَ َ
} وَيُ ْ
ليشهدوا على صدق قولكم؛ لن معنى " ال يشهد " هو إخبار منك بأن ال يشهد لك .وأنت كاذب
في هذه ،وتريد أن تضفي المصداقية على كذبك بإقحام ال في المسألة.
شهِدُ ال على أني كذَا ،فقل له :هذا إخبار منك بأن ال يشهد ،وأنت
وساعة تسمع واحدا يقول لك :أُ ْ
قد تكذب في هذا الخبر ،أنا أفضل أن يشهد اثنان من البشر ول نقحم ال في هذه الشهادة} .
خصَامِ { وألد الخصام هو الفاسق في معصيته ،ويقال :فلن
شهِدُ اللّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِ ِه وَ ُهوَ أَلَدّ الْ ِ
وَيُ ْ
عنده لدد أي فسق في خصومته ،ويجادل بالباطل .ولذلك يقول الرسول صلى ال عليه وسلم " :إن
أبغض الرجال إلى ال هو اللد الخصم ".
ص وفي الوقت نفسه قاس في
يعني المجادل بالباطل الذي عنده قسوة في المعصية ،فهو عا ٍ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
معصيته .ولماذا هو ألد الخصام؟ لن الذي يجابهك بالمر يجعلك تحتاط له ،أما الذي يقابلك بنفاق
فهو الذي يريد أن يخدعك ،وهذا عنف في الخصومة فالخصم الواضح أفضل لنه يواجهك بما في
باطنه ،لكن إذا جابهت الذي يبطن خصومته ويظهر محبته يكون قاسيا عليك في خصومته؛ لنه
يريد أن يخدعك ويُبَ ّيتُ لك.
سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا { و } َتوَلّىا { :انصرف أي يقول لك ما يعجبك ،فإذا
} وَإِذَا َتوَلّىا َ
تولى عنك نقل المسألة إلى الحقيقة بإظهار ما كان يخفيه ،ويحتمل المعنى أنه إذا تولى شيئا آخر،
من الولية ،ففيه } َتوَلّىا { من التولي وهو النصراف والعراض ،وفيه } َتوَلّىا { من الولية.
سلَ { كانت الرض بدون تدخل
سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْرثَ وَالنّ ْ
} وَإِذَا َتوَلّىا َ
البشر مخلوقة على هيئة الصلح ،والفساد أمر طارئ من البشر.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شعُرُونَ }[البقرة]12-11 :
ن وَلَـاكِن لّ َي ْ
إِ ّنهُمْ ُهمُ ا ْل ُمفْسِدُو َ
ومن هنا نفهم أنهم ظنوا أن الرض تحتاج إلى حركتهم لصلحها ،برغم أن الرض بدون
حركتهم صالحة؛ لنهم ل يتحركون بمنهج ال.
إذن هذه الية نفهم منها أن النسان إذا } َتوَلّىا { بمعنى رجع أو تولى ولية سعى في الرض
ليفسد فيها؛ فكأن الفساد في الرض أمر طارئ وينتج من سعي النسان على غير منهج من ال.
وما دام للنسان اختيار فيجب أن يكون له منهج أعلى منه يصون ذلك الختيار ،فإن لم يكن له
منهج وسار على هواه فهو مفسد ل محالة.
وانظر إلى غباء الذي يفسد في الرض ،هل يظن أنه هو وحده الذي سيستفيد في الرض ،فأباح
لنفسه أن يفسد في الرض لغيره؟ إنه ينسى الحقيقة ،فكما يفسد لغيره ،فغيره يُفسد له ،فمن
الخاسر؟ كلنا سنخسر إذن.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النفاق كان دليل على قوة المسلمين ،ولذلك لم ينشأ النفاق في مكة ،وإنما نشأ في المدينة .فقد قال
الحقَ {:ومِنْ أَ ْهلِ ا ْل َمدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ال ّنفَاقِ }[التوبة]101 :
وربما يتساءل إنسان :وكيف تظهر هذه الظاهرة في البيئة اليمانية القوية في المدينة؟ ونقول :لن
السلم في مكة كان ضعيفا ،والضعيف ل ينافقه أحد ،والسلم في المدينة أصبح قويا ،والقوي
هو الذي ينافقه الناس.
إذن فوجود النفاق في المدينة كان ظاهرة صحية تدل على أن اليمان أصبح قويا بحيث يدعيه مَنْ
ليس عنده إسلم .وهؤلء كانوا يقولون قولً حسنا جميلً ،وقد يفعلون أمام من ينافقونه فعلً
يُعجب مَنْ يراهم أو يسمعهم ،ولكنهم ل يثبتون على الحق ،فإذا ما تولوا ،أي اختفوا عن أنظار
مَنْ ينافقونه رجعوا إلى أصلهم الكفري ،أو إذا ائتمنوا على شيء فهم يسعون في الرض فسادا.
والية هنا تتعرض لشيء يدل على فطنة المؤمنين ،إن الية فضحت مَنْ نافق وكان الخنس عمدة
في النفاق ،وفضيحة المنافق بهذه الصورة ،تدل على أن وراء محمد صلى ال عليه وسلم ووراء
المؤمنين بمحمد ،ربّا يخبرهم بمَنْ يدلس عليهم ،وأيضا ينبههم لضرورة أن تكون لهم فطنة بدليل
قول الحق } :وَإِذَا قِيلَ َلهُ اتّقِ اللّهَ َأخَذَ ْتهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالِثْمِ{ ...
()208 /
ول يقال له اتق ال إل إذا كان قد عرف أنه منافق ،وماداموا قد قالوا له ذلك فهذا دليل على أن
فطنتهم لم يجز عليها هذا النفاق .ونفهم من هذه الية أن المؤمن كَيّس فطن ،ولبد أن ينظر إلى
الشياء بمعيار اليقظة العقلية ،ول يدع نفسه لمجرد الصفاء الرباني ليعطيه القضية ،بل يريد ال
أن يكون لكل مؤمن ذاتية وكياسة.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ } فكأن المظهر الذي يقول أو يفعل به ،وينافي التقوى؛ لنه قول معجب ل
ينسجم مع باطن غير معجب ،صحيح أنه يصلي في الصف الول ،ويتحمس لقضايا الدين ،ويقول
القول الجميل الذي يعجب النبي صلى ال عليه وسلم ويعجب المؤمنين ،لكنه سلوك وقول صادر
عن نية فاسدة .ومعنى " اتق ال " أي ليكن ظاهرك موافقا لباطنك ،فل يكفي أن تقول قولً يُعجب،
ول يكفي أن تفعل فعلً يروق الغير؛ لن ال يحب أن يكون القول منسجما مع الفعل ،وأن يكون
فعل الجوارح منسجما مع نيات القلب.
إذن ،فالمؤمن لبد وأن تكون عنده فطنة ،وذكاء ،وألْمعِيّة ،ويرى تصرفات المقابل ،فل يأخذ
بظاهر المر .ول بمعسول القول ول بالفعل ،إن لم يصادف فيه انسجام فعل مع انسجام نية .ول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يكتفي بأن يعرف ذلك وإنما لبد أن يقول للمنافق حقيقة ما يراه حتى يقصر على المنافق أمد
النفاق ،لنه عندما يقول له " :اتق ال " يفهم المنافق أن نفاقه قد انكشف ،ولعله بعد ذلك يرتدع
عن النفاق ،وفي ذلك رحمة من المؤمن بالمنافق .وكل مَنْ يرى ويلمح بذكائه نفاقا من أحد هنا
يقول له " :اتق ال " فالمراد أن يفضح نفاقه ويقول له " :اتق ال " .فإذا قال له واحد " :اتق ال "
وقال له آخر " :اتق ال " ،وثالث ،ورابع ،فسيعرف تماما أن نفاقه قد انكشف ،ولم يعد كلمه
يعجب الناس.
خذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالِثْمِ } ،وتقييد العزة بالثم هنا يفيد أن العزة قد تكون بغير
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أَ َ
خذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالِثْمِ } ،فهناك إذن عزة بغير إثم .نعم ،لن العزة مطلوبة
إثم ،ومادام ال قد قال { :أَ َ
للمؤمن وال عز وجل حكم بالعزة لنفسه وللرسول وللمؤمنين {:ول العزة ولرسوله وللمؤمنين }
[المنافقون]8 :
وهذه عزة بالحق وليست بالثم .وما الفرق بين العزة بالحق وبين العزة بالثم؟ ولنستعرض
القرآن الكريم لنعرف الفرق .ألم يقل سحرة فرعون :فيما حكاه ال عنهمِ {:بعِ ّزةِ فِرْعَونَ إِنّا لَ َنحْنُ
ا ْلغَالِبُونَ }[الشعراء]44 :
شقَاقٍ }[ص]2 :
هذه عزة بالثم والكذب .وكذلك قوله تعالىَ {:بلِ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي عِ ّز ٍة وَ ِ
وهي عزة كاذبة أيضا أما قوله عز وجل:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غلبت تطغى ،إنما العزة بالثم التي إن غلبت تطغى ،إنما العزة بالحق إن غلبت تتواضع.
خذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالِثْمِ { أي أن النفة والكبرياء مقرونة بالثم ،والثم هو
} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أَ َ
جهَنّ ُم وَلَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ { .أي عزة هذه التي
المخالف للمأمور به من الحق سبحانه وتعالى } ،فَحَسْ ُبهُ َ
تقود في النهاية إلى النار؟ إنها ليست عزة ،ولكنها ذلة ،فل خير في عمل بعده النار ،ول شر في
عمل بعده الجنة .فإن أردت أن تكون عزيزا فتأمل عاقبتك وإلى أين ستذهب؟
} َفحَسْبُهُ { أي يكفيه هذا فضيحة لعزته بالثم ،وأما كلمة " مهاد " فمعناها شيء ممهد ومُوطأ ،أي
مريح في الجلوس والسير والقامة .ولذلك يسمون فراش الطفل المهد .وهل المهاد بهذه الصورة
يناسب العذاب؟ نعم يناسبه تماما؛ لن الذي يجلس في المهاد ل إرادة له في أن يخرج منه،
كالطفل فل قوة له في أن يغادر فراشه .إذن فهو قد فقد إرادته وسيطرته على أبعاضه .فإن كان
المهاد بهذه الصورة في النار فهو بئس المهاد .هذا لون من الناس وفي المقابل يعطينا ـ سبحانه
سهُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ{ ...
ـ لونا آخر من الناس فيقول سبحانهَ } :ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي َنفْ َ
()209 /
َومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّ ِه وَاللّهُ رَءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ ()207
وال سبحانه وتعالى ساعة يستعمل كلمة " يشري " يجب أن نلحظ أنها من الفعال التي تستخدم
في الشيء ومقابله ،فـ " شرى " يعني أيضا " باع " .إذن ،كلمة " شرى " لها معنيان ،واقرأ إن
شئت في سورة يوسف قوله تعالى {:وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ َبخْسٍ }[يوسف]20 :
أي باعوه بثمن رخيص .وتأتي أيضا بمعنى اشترى ،فالشاعر العربي القديم عنترة ابن شداد
يقول:فخاض غمارها وشرى وباعا .إذن " شرى " لغة ،تُستعمل في معنيين :إما أن تكون بمعنى "
باع " ،وإما أن تكون بمعنى " اشترى " ،والسياق والقرينة هما اللذان يحددان المعنى المقصود
منهم فقول عنترة " :شرى وباع " نفهم أن المقصود من " شري " هنا هو " اشترى " ،لنها مقابل
" باع " ،وقوله تعالى {:وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ َبخْسٍ }[يوسف]20 :
يوضحه سياق الية بأنهم باعوه .وهذا من عظمة اللغة العربية ،إنها لغة تريد أناسا يستقبلون اللفظ
بعقل ،ويجعلون السياق يتحكم في فهمهم للمعاني.
{ َومِنَ النّاسِ مَن َيشْرِي َنفْسَهُ } ونفهم " يشري " هنا بمعنى يبيع نفسه ،والذي يبيع نفسه هو الذي
يفقدها بمقابل .والنسان عندما يفقد نفسه فهو يضحي بها ،وعندما تكون التضحية ابتغاء مرضاة
ال فهي الشهادة في سبيله عز وجل ،كأنه باع نفسه وأخذ مقابلها مرضاة ال .ومثل ذلك قوله
سهُمْ }[التوبة]111 :
تعالى {:إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الحق يعطيهم الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم .إذن فقولهَ { :ومِنَ النّاسِ مَن َيشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَآءَ
مَ ْرضَاتِ اللّهِ } يعني باع نفسه وأخذ الجنة مقابلً لها ،هذا إذا كان معنى " يشري " هو باع.
وماذا يكون المعنى إذا كانت بمعنى اشترى؟ هنا نفهم أنه اشترى نفسه بمعنى أنه ضحى بكل
شيء في سبيل أن تسلم نفسه اليمانية .ومن العجب أن هذه الية قيل في سبب نزولها ما يؤكد
أنها تحتمل المعنيين ،معنى " باع " ومعنى " اشترى " فها هو ذا أبو يحيى الذي هو صهيب بن
سنان الرومي كان في مكة ،وقد كبر سنه ،وأسلم وأراد أن يهاجر ،فقال له الكفار :لقد جئت مكة
فقيرا وآويناك إلى جوارنا وأنت الن ذو مال كثير ،وتريد أن تهاجر بمالك.
فقال لهم :أإذا خليت بينكم وبين مالي أأنتم تاركوني؟
فقالوا :نعم.
قال :تضمنون لي راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟
قالوا :لك هذا.
إنه قد شرى نفسه بهذا السلوك واستبقاها إيمانيا بثروته ،فلما ذهب إلى المدينة لقيه أبو بكر وعمر
فقال له :ربح البيع يا أبا يحيى.
قال :وأربح ال كل تجارتكم.
وقال له سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم أخبرنا أن جبريل أخبره
بقصتك ،ويروي أن الرسول صلى ال عليه وسلم قال له :ربح البيع أبا يحيى.
إذن معنى الية وفق هذه القصة :أنه اشترى نفسه بماله ،وسياق الية يتفق مع المعنى نفسه .وهذه
من فوائد الداء القرآني حيث اللفظ الواحد يخدم معنيين متقابلين.
ولكن إذا كان المعنى أنه باعها فلذلك قصة أخرى ،ففي غزوة بدر ،وهي أول غزوة في السلم،
وكان صناديد قريش قد جمعوا أنفسهم لمحاربة المسلمين في هذه الغزوة ،وتمكن المسلمون من
ن قتلوا في هذه الغزوة واحد من
قتل بعض هؤلء الصناديد ،وأسروا منهم كثيرين أيضا ،وكان ِممّ ْ
صناديد قريش هو أبو عقبة الحارث بن عامر والذي قتله هو صحابي اسمه خبيب بن عدي
النصاري الوسي ،وهو من قبيل الوس بالمدينة ،وبعد ذلك مكر بعض الكفار فأرسلوا إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم وقالوا :يا رسول ال ،إننا قد أسلمنا ،ونريد أن ترسل إلينا قوما
ليعلمونا السلم .فأرسل لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم عشرة من أصحابه ليعلموهم القرآن،
فغدر الكافرون بهؤلء العشرة فقتلوهم إل خبيب بن عدي ،استطاع أن يفر بحياته ومعه صحابي
آخر اسمه زيد بن الدّثِنّة ،لكن خبيبا وقع في السر وعرف الذين أسروه أنه هو الذي قتل أبا عقبة
الحارث في غزوة بدر ،فباعوه لبن أبي عقبة ليقتله مقابل أبيه ،فلم يشأ أن يقتله وإنما صلبه حيا،
فلما تركه مصلوبا على الخشبة ،قال رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو في المدينة :من ينزل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خبيبا عن خشبته وله الجنة؟
قال الزبير :أنا يا رسول ال.
وقال المقداد :وأنا معه يا رسول ال.
فذهبا إلى مكة فوجدا خبيبا على الخشبة وقد مات وحوله أربعون من قريش يحرسونه ،فانتهزا
منهم غفلتهم وذهبا إلى الخشبة وانتزعا خبيبا وأخذاه ،فلما أفاق القوم لم يجدوا خبيبا فقاموا
يتتبعون الثر ليلحقوا بمن خطفوه ،فرآهم الزبير ،فألقى خبيبا على الرض ،ثم نظر إليه فإذا
بالرض تبتلعه فسمى بليع الرض .وبعد ذلك التفت إليهم ونزع عمامته التي كان يتخفى وراءها
وقال :أنا الزبير بن العوام ،أمي صفية بنت عبد المطلب ،وصاحبي المقداد ،فإن شئتم فاضلتكم ـ
يعني يفاخر كل منا بنفسه ـ وإن شئتم نازلتكم ـ يعني قاتلتكم ـ وإن شئتم فانصرفوا ،فقالوا:
ننصرف ،وانصرفوا ،فلما ذهب الزبير والمقداد إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم بشرهم بالجنة
التي صار إليها خبيب.
إذن فقد باع خبيب نفسه بالجنة .وعلى ذلك فإن ذهبت بسبب نزول الية إلى أبي يحيى صهيب بن
سنان الرومي تكون " شرى " بمعنى اشترى ،وإن ذهبت بسبب النزول إلى خبيب فتكون بمعنى:
باع.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()210 /
تبدأ الية بنداء الذين آمنوا بال وكأنه يقول لهم :يا مَنْ آمنتم بي استمعوا لحديثي .فلم يكلف ال
من لم يؤمن به وإنما خاطب الذين أحبوه وآمنوا به ،وماداموا قد أحبوا ال فلبد أن يتجه كل
مؤمن إلى من يحبه؛ لن ال لن يعطيه إل ما يسعده.
إذن فالتكليف من ال إسعادٌ لمن أحب { ،ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ْدخُلُواْ فِي السّ ْلمِ كَآفّةً } ،وكلمة " في "
تُفيد الظرفية ،ومعنى الظرفية أن شيئا يحتوي شيئا ،مثال ذلك الكوب الذي يحتوي الماء فنقول" :
الماء في الكوب " ،وكذلك المسجد يحتوي المصلين فنقول " :المصلون في المسجد ".
والظرفية تدل على إحاطة الظرف بالمظروف ،ومادام الظرف قد أحاط بالمظروف إذن فل جهة
يفلت منها المظروف من الظرف .ولذلك يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة التمكن من مسألة
خلِ }[طه]71 :
جذُوعِ النّ ْ
لصَلّبَ ّنكُمْ فِي ُ
الظرفية عندما يقول {:وَ ُ
إن الصلب دائما يكون على شيء ،وتشاء الية الكريمة أن تشرح لنا كيف يمكن أن يكون الصلب
متمكنا من المصلوب .فأنت إذا أردت أن تصلب شيئا على شيء فأنت تربطه على المصلوب
عليه ،فإذا ما بالغت في ربطه كأنك أدخلت المصلوب داخل المصلوب عليه.
ومثال ذلك ،هات عود كبريت وضعه على إصبعك ثم اربطه بخيط ربطا جيدا ،ستلحظ أن العود
قد غاص في جلدك .والحق يقول { :ادْخُلُواْ فِي السّ ْلمِ كَآفّةً } والسّلْم والسّلْمُ والسّلَم هو السلم،
فالمادة كلها واحدة؛ لن السلم ضد الحرب ،والسلم جاء لينهي الحرب بينك وبين الكون الذي
تعيش فيه لصالحك ولصالح الكون ولتكون في سلم مع ال وفي سلم مع الكون ،وفي سلم مع
الناس .وفي سلم مع نفسك.
قوله { :ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ } معناه حتى يكتنفكم السلم .إن ال هو الله الخالق للكون ولبد أن
تعيشوا في سلم معه؛ لنكم ل تؤمنون إل به إلها واحدا .فيجب علينا أن نعيش مع الرض
والسماء والكون في سلم؛ لن الكون الخاضع المقهور المسخر الذي ل يملك أن يخرج عما رُسم
له يعمل لخدمتك ول يعاندك.
والنسان حين يكون طائعا ُيسَرّ به كل شيء في الوجود؛ لن الوجود طائع ومُسبّح ،فساعة يجد
النسان مُسبّحا مثله يُسَرّ به لنه في سلم مع الكون .وأنت في سلم مع نفسك؛ لن لك إرادة،
وهذه الرادة َقهَرَ الُ لها كل جوارحك ،والذي تريده من أي عضو يفعله لك ،لكن هل يرضى أي
عضو عمّا تأمره به؟ تلك مسألة أخرى ،مثلً ،لسانك ينفعل بإرادتك ،فتقول به " :ل إله إل ال "
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقال به غيرنا من المشركين غير ذلك ،وأشركوا مع ال بشرا وغير بشر يعبدونهم وقال
الملحدون بألسنتهم والعياذ بال " :ل إله في الكون " ولم يعص اللسان أحدا من هؤلء لنه مقهور
لرادتهم.
وتنتهي إرادة النسان على لسانه وعلى جميع جوارحه يوم القيامة فيشهد عليه كما تشهد عليه
سائر أعضائه :الرجل ،واليدي ،والعيون ،والذان ،وكل عضو يقر بما كان يفعل به ،لنه ل
سيطرة للنسان على تلك البعاض في هذا اليوم .إنما السيطرة كلها للخالق العلى.
} ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ { .والحق حين ينادي المؤمنين بأن يدخلوا في السلم كافة
فالمعنى يحتمل أيضا أن الحق سبحانه وتعالى يخاطب المسلمين أل يأخذوا بعضا من الدين،
ويتركوا البعض الخر ،فيقول لهم :خذوا السلم كُله وطبقوه كاملً؛ لن السلم يمثل بناء له
أسس معلومة ،وقواعد واضحة ،فل يحاول أحد أن يأخذ شيئا من حكم بعيدا عن حكم آخر ،وإل
لحدث الخلل.
وعلى سبيل المثال قد تجد خلفا بين الزوج والزوجة ،وقد يؤدي الخلف إلى معارك وطلق،
وبعد ذلك نجد من يتهم السلم بأنه أعطى الرجل سيفا مسلطا على المرأة .ونقول لهم :ولماذا
تتهمون السلم؟ هل َدخَ ْلتَ على الزواج بمنطق السلم؟ .إن كنت قد دخلت على الزواج بمنطق
السلم فستجد القواعد المنظمة والتي تحفظ للمرأة كرامتها ،ولكن هناك مَنْ يدخل على الزواج
بغير منطق السلم ،فلما وقع في الزمة راح ينادي السلم .هل اختار الرجل مَنْ تشاركه حياته
بمقياس الدين؟ وهل وضع نُصب عينيه شروط اختيار الزوجة الصالحة التي جاءت في الحديث
الشريف:
عن أبي هريرة ـ رضي ال عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :تنكح المرأة لربع:
لمالها ،ولحسبها ،ولجمالها ،ولدينها ،فاظفر بذات الدين تربت يداك ".
هل فضّل الرجل ذات الدين على سواها؟ أم فضل مقياسا آخر؟ .وعندما جاء رجل ليخطب ابنة
من أبيها هل وضع الب مقاييس السلم في العتبار عند موافقته على هذا الزواج؟ هل فضلتم
ن ترضون دينه وخُلقُه؟ أم تركتم تلك القواعد .أنت تركت قواعد السلم فلماذا تلوم السلم عند
مَ ْ
سوء النتائج والعواقب؟.
إنك إن أردت أن تحاسب فل بد أن تأخذ كل أمورك بمقاييس السلم ،ثم تصرف بما يناسب
السلم .فإن كنت كذلك فالسلم يحميك من كل شيء .فالسلم يساند القوي في الكون ويساند
ال ُقوَى في النفس بحيث تعيش في سلم ول تتعاند؛ لن كل ذلك يقابله الحرب .والحرب إنما تنشأ
من تعاند القوي ،فتتعاند قوى نفسك في حرب مع نفسك ،وتتعاند قوى البشر في حرب مع البشر،
وتتعاند قواك مع قوى الكون الخرى ،فأنت تعاند الطبيعة وتعاند مع الحق سبحانه وتعالى.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فالتعاند ينشأ منه الحرب ،والحرب ل تنشأ إل إذا اختلفت الهواء .وأهواء البشر ل يمكن أن
تلتقي إل عندما تكون محروسة بقيم مَنْ ل هوى له ،ولذلك يقول ال عز وجل:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رب نعبدك وسنسعد جميعا بذلك ،واهدنا كلنا يا رب؛ لنك إن هديتني وحدي فسيستمتع غيري
بهدايتك لي ،وأنا سوف أشقى بضلله.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
استنباط أسرار ال في وجوده بالعلم التجريبي كما يحبون ،فإن أرادوا رقيا فل ُي ْعمِلُوا عقولهم
المخلوقة ل؛ في الكون المخلوق ل ،بالطاقة المخلوقة ل؛ ليسعدوا أنفسهم ويدفعوها إلى الرقي،
وإن انتهى أحد منهم إلى قضية كونية ،واكتشف سرا من السرار في الكون فهو لن يقدم للناس
جديدا في المنهج ،وسيأخذ الناس هذا الجديد ول يعارضونه.
إذن فمن الممكن أن يستنبط العلماء بعضا من أسرار قضايا الكون المادية بوساطة العلم التجريبي،
وهي أمور سيتفق عليها الناس ،ولكن البشر يمكن أن يختلفوا في المور النابعة من أهوائهم؛ لن
لكل واحد هوى ،وكل واحد يريد أن يتبع هواه ول يتبع هوى الخرين ،والحق سبحانه يريد أن
يعصمنا من الهواء لذلك قال لنا } :ا ْدخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً { أي ادخلوا في كل صور السلم،
حتى ل يأتي تناقض الهواء في المجتمع.
وكن أيها المؤمن في سلم مع نفسك فل يتناقض لسانك مع ما في قلبك ،فل تكن مؤمن اللسان كافر
القلب .كن منسجما مع نفسك حتى ل تعاني من صراع الملكات .وأيضا كن داخلً في السلم مع
الكون الذي تعيش فيه ،مع السماء ،مع الرض ،مع الحيوان ،مع النبات .كن في سلم مع كل تلك
حفِظها عليك.
المخلوقات لنها مخلوقة مسخرة طائعة ل ،فل تشذ أنت لتغضبها وتُ ْ
كن منسجما مع الزمن أيضا ،لن الزمن الذي يحدث فيه منك ما يخالف منهج ال سيلعنك هو
والمكان ،وإذا أردت أن تشيع سلمك في الكون فعليك كما علمك الرسول صلى ال عليه وسلم أن
تسالم كل الكون ،وكان الرسول صلى ال عليه وسلم يشيع السلم في الزمان والمكان ،وعلى
سبيل المثال كان صلى ال عليه وسلم أكثر الناس صياما في شعبان ،ولما سأله الصحابة عن هذا
أخبرهم أن شعبان شهر يهمله الناس لنه بين رجب ،ـ وهو من الشهر الحرم الربعة ـ وبين
رمضان ،فأحب أن يحيى ذلك الشهر الذي يغفل عنه الناس ،فكأن رسول ال صلى ال عليه وسلم
أراد أن يسعد الزمان بأن يشيع فيه لونا من العبادة فل يجعله أقل من الزمنة الخرى.
كذلك المكنة تريد أن تسعد بك ،فكل الماكن تسعد بذكر ال فيها .والحق ـ سبحانه ـ بعد أن
أمرنا جميعا بالدخول في السلم بافعل ول تفعل ،حذرنا من اتباع الشيطان لنه هو الذي يعمل على
ع ُدوّ مّبِينٌ { [البقرة:
طوَاتِ الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َلكُمْ َ
إبعادنا عن منهج ال فقال جل شأنهَ } :ولَ تَتّ ِبعُواْ خُ ُ
]208
ولماذا ل نتبع خطوات الشيطان؟ لن عداوته للنسان عداوة مسبقة ،وقف من آدم هذا الموقف،
وبعد ذلك أقسم بعزة ال أن يغويكم جميعا ،وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد حكى لنا القصة فكأنه
أعطانا المناعة ،أي أن الشيطان لم يفاجئنا .وإنما وضع الحق أمامنا قصة الشيطان مع آدم
واضحة جلية ليعطينا المناعة ،بدليل أننا حين نريد أن نصون أجسامنا نجعل لنفسنا مناعة قبل أن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يأتي المرض ،نُطعم أنفسنا ضد شلل الطفال ،وضد الكوليرا ،وضد كذا ،وكذا ،فكأن ال سبحانه
وتعالى يذكر قصة الشيطان مع أبينا آدم ليقول لنا :لحظوا أن عداوته مسبقة.
وما دام له معكم عداوة مسبقة فلن يأخذكم على غرة؛ لن ال نبهكم لتلك المسألة مع الخلق الول.
والشيطان عندما يُذكر في القرآن يراد به مرة عاصي الجن ،لن طائع الجن مثل طائع البشر
تماما ،ومرة يريد به شياطين النس .إذن من الجن شياطين ،ومن النس شياطين.
وحتى تستطيع أن تفرق بين ما يزينه الشيطان وبين ما تزينه لك نفسك ،فإن رأيت نفسك مصرا
على معصية من لون واحد فاعلم أن السبب هو نفسك ،لن النفس تريدك عاصيا من لون يشبع
نقصا فيها فهي تصر عليه :إنسان يحب المال فتتسلط عليه نفسه من جهة المال ،وإنسان آخر
يحب الجنس فتتسلط عليه نفسه من جهة النساء ،وثالث يحب الفخر والمديح فتتسلط عليه نفسه من
جهة مَنْ ينافقه .لكن الشيطان ل يصر على معصية بعينها ،فإن رآك قد امتنعت عن معصية فهو
يزين لك معصية أخرى؛ لنه يريدك عاصيا على أية جهة.
ع ُدوّ مّبِينٌ { .وليس هناك عداوة أوضح من
طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ َلكُمْ َ
خُوالحق يحذرنا } َولَ تَتّ ِبعُواْ ُ
غوِيَ ّنهُمْ
ك لُ ْ
عداوة الشيطان بعد أن وقف من آدم وقال ما أورده الحق على لسانه {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِت َ
ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص]83-82 :
أَ ْ
حكِيمٌ {
ويقول الحق من بعد ذلك } :فَإِن زَلَلْ ُتمْ مّن َبعْدِ مَا جَآءَ ْتكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
()211 /
حكِيمٌ ()209
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
والزّلة هي المعصية ،وهي مأخوذة من " زال " ،وزال الشيء أي خرج عن استقامته ،فكأن كل
شيء له استقامة ،والخروج عنه يعتبر زلل ،والزلل :هو الذنوب والمعاصي التي تُخالف بها
المنهج المستقيم.
{ مّن َب ْعدِ مَا جَآءَ ْتكُمُ الْبَيّنَاتُ } إنه سبحانه يوضح لنا أنه ل عذر لكم مطلقا في أن تزلوا؛ لنني
بينت لكم كل شيء ،ولم أترككم إلى عقولكم ،ومن المنطقي أن تستعملوا عقولكم استعمال صحيحا
لتديروا حركة الكون الذي استخلفتكم فيه ،ومع ذلك ،إن أصابتكم الغفلة فأنا أرسل الرسل .ولذلك
قال سبحانهَ {:ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ َرسُولً }[السراء]15 :
لقد رحم ال الخلق بإرسال الرسل ليبينوا للنسان الطريق الصحيح من الطريق المعوج .والحق
سبحانه وتعالى يترك بعض الشياء للبشر ليأتوا بفكر من عندهم ثم يرتضي السلم ما جاءوا به
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليعلمنا أن العقل إذا ما كان طبيعيا ومنطقيا فهو قادر على أن يهتدي إلى الحكم بذاته .وفي تاريخ
السلم نجد أن سيدنا عمر قد رأى أشياء واقترح بعضا من القتراحات ،ووافق عليها الرسول
صلى ال عليه وسلم ،ثم ينزل القرآن على وفق ما قاله عمر ،وقد يتساءل أحد قائل :ألم يكن النبي
صلى ال عليه وسلم أولى؟
نقول :لو كانت تلك الراء قد جاءت من النبي صلى ال عليه وسلم لما كان فيها غرابة؛ لن النبي
صلى ال عليه وسلم معصوم ويوحي إليه ،لكن ال يريد أن يقول لنا :أن العقل الفطري عندما
يصفو فهو يستطيع أن يهتدي للحكم الصحيح ،وإن لم يكن هناك حكم قد نزل من السماء .ولذلك
تستفز أحكام سيدنا عمر عددا كبيرا من المستشرقين ويقولون :أليس عندكم سوى عمر؟ لماذا ل
تقولون محمدا؟
نقول لهم :لقد تربى عمر في مدرسة النبي صلى ال عليه وسلم ،فما يقوله هو ،إنما قد أخذه عن
النبي صلى ال عليه وسلم ،وقد أقر عمر بذلك وقال " :ما عمر لول السلم " ،ونحن نستشهد
بعمر لنه بشر وليس رسولً ،ويسري عليه ما يسري على البشر ،فل يوحى إليه ولم يكن
معصوما.
إذن كأن الحق أراد أن ُيقَرّب لنا القدرة على الستنباط والفهم فنكون جميعا عمر؛ لن عمر
بالفطرة كان يهتدي إلى الصواب ،ويقول لرسول ال صلى ال عليه وسلم " :نفعل كذا " ،فينزل
الوحي موافقا لرأيه ،فكأن ال لم يكلفنا شططا ،إنما جاء تكليفه ليحمي العقول من أهواء النفس
التي تطمس العقول ،فآفة الرأي الهوى ،ولول وجود الهواء لكانت الراء كلها متفقة.
وقديما أعطوا لنا مثل بالمرأة التي جمعت الصيف والشتاء في ليلة واحدة ،فقد زوجت ابنها
وابنتها ،وعاش الربعة معها في حجرة واحدة ،ابنها معه زوجته ،وابنتها معها زوجها ،والمرأة
معهم ،تنام نوما قليل وتذهب لبنتها توصيها " :دفئي زوجك وأرضيه " فالجو بارد ،وتذهب لبنها
وتقول " :ابعد عن زوجتك فالدنيا حر ".
إن المكان واحد ،والليل واحد ،لكن المرأة جعلته صيفا وشتاء في وقت واحد والسبب هو هوى
سمَاوَاتُ
النفس .وال ـ سبحانه ـ يبين لنا ذلك في قوله {:وََلوِ اتّ َبعَ ا ْلحَقّ َأ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
ض َومَن فِيهِنّ }[المؤمنون]71 :
وَالَرْ ُ
إذن فالحق سبحانه وتعالى يعصمنا حين ُيشَرع لنا ،فالبشر يضيقون ذرعا بتقنينات أنفسهم
لنفسهم ،فيحاولون أن يخففوا من خطأ التقنين البشري ،فيقننوا أشياء يعدلون بها ما عندهم ،ولو
نظرت إلى ما عدلوه من قوانين لوجدته تعديل يلتقي مع السلم أو يقترب من السلم.
لقد سألوني في أمريكا :لماذا لم يظهر السلم فوق كل العقائد برغم أنكم تقولون :إن ال يقول في
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ { .ومع ذلك لم يظهر دينكم على كل الديان ،ولم يزل كثير من
كتابه } :لِيُ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الناس غير مسلمين سواء كانوا يهودا أو نصارى أو بل دين؟ قلت :لو فطنتم إلى قول ال } :وََلوْ
كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ { و } وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ { لدلكم ذلك على أن ظهور السلم قد تم مع وجود
كفار ،وظهوره مع وجود مشركين ،وإل لو ظهر ول شيء معه فممن يُكرَه؟ إن العقيدة التي
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ
يكرهها أهل الكفر هي التي تعزز وجود السلم .إذن } لِيُ ْ
ا ْلمُشْ ِركُونَ { يدل على أن ظهور السلم يعني وجود كافر ووجود مشرك كلهما سيكون موجودا
وسيكرهان انتشار الدين.
وعندما نرى أحداث الحياة تضطر البلد الغربية عندما يجدون خطأ تقنينهم فيحاولون أن يعدلوا
في التقنيات فل يجدون تعديل إل أن يذهبوا إلى أحكام السلم ،لكنهم لم يذهبوا إليه كدين إنما
ذهبوا إليه كنظام ،إن رجوعهم إلى السلم لدليل وتأكيد على صحة وسلمة أحكام السلم ،لنهم
لو أخذوا تلك الحكام كأحكام دين لقال غيرهم :قوم تعصبوا لدين آمنوا به فنفذوا أحكامه .ولكنهم
برغم كرههم للدين ،اضطروا لن يأخذوا بتعاليمه ،فكأنه ل حل عندهم إل الخذ بما ذهب إليه
السلم.
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ { قوة لنظام السلم ،ل لتؤمن به وإنما
إذن قول ال } :لِ ُي ْ
تضطر أن تلجأ إليه ،وكانوا في إيطاليا ـ على سبيل المثال ـ يعيبون على السلم الطلق
ويعتبرونه انتقاما لحقوق المرأة ،ولكن ظروف الحياة والمشكلت السرية اضطرتهم لباحة
الطلق ،فهل قننوه لن السلم قال به؟ ل ،ولكن لنهم وجدوا أن حل مشكلتهم ل يأتي إل منه.
وفي أمريكا عندما شنوا حملة شعواء على تناول الخمور ،هل حاربوها لن السلم حرمها؟ ل،
ولكن لن واقع الحياة الصحية طلب منهم ذلك .إذن } وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ { } ،وََلوْ كَ ِرهَ
ا ْلمُشْ ِركُونَ { :معناهما أنهم سيلجأون إلى نظام السلم ليحل قضاياهم .فإن لم يأخذوه كدين فسوف
يأخذونه نظاما.
حكِيمٌ { أي إياكم أن تظنوا أنكم
} فَإِن زََللْتُمْ مّن َبعْدِ مَا جَآءَ ْت ُكمُ الْبَيّنَاتُ فَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
بزللكم أخذتم حظوظ أنفسكم من ال ،فإن مرجعكم إلى ال وهو عزيز وعزته سبحانه هي أنه
يَغلب ول يُغلب ،فهو يدبر أمورنا برحمة وحكمة .ويقول الحق بعد ذلكَ } :هلْ يَنظُرُونَ ِإلّ أَن
يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مّنَ ا ْل َغمَامِ{ ...
()212 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن تداهمهم المور ويجدوا أنفسهم في كون وإن أخذ زخرفة فهو
يتحول إلى هشيم تذروه الرياح ،ويصير النسان أمام لحظة الحساب.
وقولهَ { :هلْ يَنظُرُونَ } مأخوذة من النظر .والنظر هو طلب الدراك لشيء مطلق .وطلب
الدراك لي شيء بأي شيء يُسمى نظرا .ومثال ذلك أننا نقول لي إنسان يتكلم في أي مسألة
معنوية :أليس عندك نظر؟ أي هل تملك قوة الدراك أم ل؟
إذن فالنظر هو طلب الدراك للشيء ،فإن طلبت أن ترى فهو النظر بالعين ،وإن طلبت أن تعرف
وتعلم؛ فهو النظر بالفكر وبالقلب .وأحيانا يُطلق النظر على النتظار ،وهو طلب إدراك ما يتوقع.
و { َهلْ يَنظُرُونَ ِإلّ أَن يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ } ،يعني هل ينتظرون إل أن تأتيهم الساعة وتفاجئهم في
الزمن الخاص؟ لنها لن تفاجئ أحدا في الزمن العام ،فسوف يكون لها آيات صغرى وآيات
كبرى ،ومعنى أن لها آيات صغرى وكبرى ،أن ذلك دليل على أن ال يمهلنا لنتدارك أنفسنا ،فل
يزال فاتحا لباب التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها.
وساعة نسمع قوله تعالىَ { :هلْ يَنظُرُونَ ِإلّ أَن يَأْتِ َيهُمُ اللّ ُه } نقول :ما الذي يؤجل دخولهم في
السلم كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ تماما كأن تقول لشخص أمامك :ماذا تنتظر؟ كذلك الحق يحثنا
على الدخول في السلم كافة وإل فماذا تنظرون؟
و { ِإلّ أَن يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مّنَ ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَل ِئكَةُ } ساعة تقول { :يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ } أو " جاء ربك "
أو يأتي سبحانه بمثل في القرآن مما نعرفه في المخلوقين من التيان والمجيء وكالوجه واليد،
شيْءٌ } فال موجود وأنت موجود ،فهل وجودك كوجوده؟ ل.
فلتأخذه في إطار { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
إن ال حي وأنت حي ،أحياتك كحياته؟ ل .وال سميع وأنت سميع ،أسمعك كسمعه؟ ل .وال
بصير وأنت بصير ،أبصرك كبصره؟ ل .وما دمت تعتقد أن له صفات مثلها فيك ،فتأخذها
شيْءٌ }.
بالنسبة ل في إطار { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
ولذلك يقول المحققون :إنك تؤمن بال كما أعطاك صورة اليمان به لكن في إطار ل يختلف عنه
شيْءٌ } ،وإن أمكن أن تتصور أي شيء فربك على خلف ما تتصور،
عمّا في أنه { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
لن ما خطر ببالك فإن ال سبحانه على خلف ذلك ،فبال النسان ل يخطر عليه إل الصور
المعلومة له ،وما دامت صورا معلومة فهي في خلق ال وهو سبحانه ل يشبه خلقه.
إن ساعة يتجلى الحق ،سيفاجئ الذين تصوروا ال على أية صورة ،أنه سبحانه على غير ما
تصوروا وسيأتيهم ال بحقيقة لم تكن في رءوسهم أبدا؛ لنه لو كانت صورة الحق في بال البشر
لكان معنى ذلك أنهم أصبحوا قادرين على تصوره ،وهو القادر ل ينقلب مقدورا عليه أبدا ،ومن
عظمته أن العقل ل يستطيع أن يتصوره ماديا.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات]21 :
ولذلك ضرب ال لنا مثلً يقرّب لنا المسألة ،فقالَ {:وفِي أَنفُ ِ
إن الروح الموجودة في مملكة جسمنا والتي إذا خرجت من إنسان صار جيفة ،وعاد بعد ذلك إلى
عناصر تتحلل وأبخرة تتصاعد ،هذه الروح التي في داخل كل منا لم يستطع أحد تصورها ،أو
تحديد مكانها أو شكلها ،هذه الروح المخلوقة ل لم نستطع أن نتصورها ،فكيف نستطيع أن
نتصور الخالق العظم؟
} َهلْ يَنظُرُونَ ِإلّ أَن يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ { يعني بما لم يكن في حسبانهم .هل ينتظرون حتى يروا ذلك
الكون المنسق البديع قد اندثر ،والكون كله تبعثر ،والشمس كورت والنجوم انكدرت ،وكل شيء
في الوجود تغير ،وبعد ذلك يفاجأون بأنهم أمام ربهم .فماذا ينتظرون؟.
إذن يجب أن ينتهزوا الفرصة قبل أن يأتي ذلك المر ،وقبل أن تفلت الفرصة من أيديهم ويُنهي
أمد رجوعهم إلى ال .لماذا يسوفون في أن يدخلوا في السلم كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ أينتظرون
أن يتغير ال؟ أو أن يتغير منهج ال؟ إن ذلك لن يحدث.
ونؤكد مرة أخرى أننا عندما نسمع شيئا يتعلق بالحق فيما يكون مثله في البشر فلنأخذه في إطار }
شيْءٌ { .فكما أنك آمنت بأن ل ذاتا ل كالذوات ،فيجب أن تعلم أن ل صفات ليست
لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
كالصفات ،وأن ل أفعالً ليست كالفعال ،فل تجعل ذات ال مخالفة لذوات الناس؛ ثم تأتي في
الصفات التي قال ال فيها عن نفسه وتجعلها مثل صفات الناس ،فإذا كان ال يجيء؛ فل تتصور
مجيئه أنه سيترك مكانا إلى مكان ،فهو سبحانه يكون في مكان بما ل يخلو عنه مكان ،تلك هي
العظمة.
فإذا قيلِ } :إلّ أَن يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ { فل تظن أن إتيانه كإتيانك ،لن ذاته ليست كذاتك ،ولن الناس في
اختلف درجاتهم تختلف أفعالهم ،فإذا كان الناس يختلفون في الفعال باختلف منازلهم ،وفي
الصفات باختلف منازلهم ،فالحق منزه عن كل شيء وكل تصور ،ولنأخذ كل شيء يتعلق به في
شيْءٌ {؛ ففعْل ربك يختلف عن فعلك .وإياك أن تُخضع فعله لقانون فعلك؛ لن
إطار } لَيْسَ َكمِثِْلهِ َ
فعلك يحتاج إلى علج وإلى زمن يختلف باختلف طاقتك وباختلف قدرتك ،وال ل يفعل الشياء
بعلج بحيث تأخذ منه زمنا ولكنه يقول } :كُنْ فَ َيكُونُ {.
كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عن النجاز الذي ل دخل لختيار البشر في أن
يخالفوا فيه فيقول :ساعة يجيء المر انخلعت كل قدرة لمخلوق عن ذلك المر وأصبح المر ل
وحده.
و } فِي ظَُللٍ مّنَ ا ْل َغمَامِ { .فيه شيء يظللك وفيه شيء تستظل به ،والشيء الذي يظللك ل يكون
لك ولية عليه في أن يظللك إلّ أن ترى أين ظله وتذهب إليه ،وشيء آخر تستطيع أنت التصرف
فيه كالمظلة تفتحها في أي مكان تريد.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة " ظلل " معناها أنها تستر عنك مصدر الضوء؛ ولذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن
عوُاْ اللّهَ }[لقمان]32 :
يصور لنا ذلك قال {:وَإِذَا غَشِ َيهُمْ ّموْجٌ كَالظَّللِ دَ َ
أي جاءهم الفزع الكبر كالظلة محيطا بهم ،فكأن ال يريد أن يخبرنا أن الكون سيندثر كله
وسيأتيك المر المفزع ،المر المفجع ،والمؤمن كان يتوقعه ،وسيدخل عليه بردا وسلما؛ لنه ما
آمن من أجله ،لكن الكافر سيصاب بالفزع الكبر؛ لنه فوجيء بشيء لم يكن في حسابه.
وقارن بين مجيء المر لمن يؤمله ،وبين مجيء المر لمن ل يؤمله .إن الحق سبحانه وتعالى
لمْرُ { فاعلم أن
ياَ
ضَقال :ساعة تجيء هذه الظلل والملئكة فقد قضى المر .وعندما تسمع } ُق ِ
المراد أن الفرصة أفلتت من أيدي الناس ،فمن لم يرجع إلى ربه قبل الن فليست له فرصة أن
لمْ ُر وَاسْ َت َوتْ عَلَى الْجُو ِديّ }[هود]44 :
ضيَ ا َ
يرجع .ومثال ذلك ما قاله الحق في قصة نوحَ {:و ُق ِ
أي انتهى كل شيء ،ولم يعد للناس قدرة على أن يرجعوا عما كانوا فيه .فال يقول :ماذا
تنتظرون؟ هل تنتظرون حتى يأتيكم هذا اليوم؟ لبد أن تنتهزوا الفرصة لترجعوا إلى ربكم قبل أن
لمُورُ {.
لمُورُ { ،ومرة تأتي } وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ ا ُ
تفلت منكم فرصة العودة } .وَإِلَى اللّهِ تَرْجَ ُع ا ُ
وفيه فرق بين " تَرجع المور " بفتح التاء وبين " تُرجع المور " بضم التاء .فكأن المور مندفعة
بذاتها ،ومرة تساق إلى ال .إن الراغب سيرجع إلى ربه بنفسه؛ لنه ذاهب إلى الخير الذي
ينتظره ،أما غير الراغب والذي كان ل يرجو لقاء ربه َفسَيُرجَع بالرغم عنه ،تأتي قوة أخرى
تُرجعه ،فمن لم يجيء رغَبا يأتي رهَبا.
سلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ َكمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آ َيةٍ بَيّنَ ٍة َومَن يُ َب ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ{ ...
ويقول الحق بعد ذلكَ } :
()213 /
سلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيّنَ ٍة َومَنْ يُبَ ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ
َ
ا ْل ِعقَابِ ()211
فكأن ال لم يحمل على بني إسرائيل ويريد منهم أن يقروا على أنفسهم بما أكرمهم به ال من خير
سابق؛ فساعة تقول " :اسأل فلنا عما فعلته معه " ،كأنك ل تأمر بالسؤال إل عن ثقة ،وأنه لن
يجد جوابا إل ما يؤيد قولك .والحق يبلغ رسوله صلى ال عليه وسلم أن يسأل بني إسرائيل عن
الخير السابق الذي غمرهم به وهو سبحانه عليهم أنهم لن يستطيعوا مع لددهم أن يتكلموا إل بما
يوافق القضية التي يقولها الحق وتصبح حجة عليهم.
سلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } ساعة تسمع { َكمْ } في مقام كهذا
والحق سبحانه وتعالى يقولَ { :
فافهم أنها كناية عن الخبار عن المر الكثير بخلف { كَمْ } التي تريد بها الستفهام .وأنت تقول:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" كم فعلت كذا مع فلن " و " كم صنعت معه معروفا " و " كم تهاونت معه " و " كم أكرمته ".
لذلك فعندما تسمع { كَمْ } هذه فاعرف أن معناها الكمية الكثيرة التي يُكنى بها على أن عدد ل
يحصى.
سلْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ } إن الحق يريد أن يضرب لنا مثلً كمثل إنسان يأكل
{ َ
خيرك وينكر معروفك ،ويشكوك إلى إنسان ،فترد أنت لم ينقل لك الشكوى :سله ماذا قدمت له من
جميل ،أنا لن أتكلم بل سأجعله هو يتكلم .وأنت ل تقول ذلك إل وأنت على ثقة من أنه ل يستطيع
أن يغير شيئا.
ألم يفلق لهم البحر؟ .ألم يجعل عصا موسى حية؟ ألم يظللهم ال بالغمام؟ ألم يعطهم ال المن
والسلوى؟ كل ذلك أعطاه ال لهم؛ فلم يشكروا نعمة ال ،فحل عليهم غضبه؛ أخذهم بالسنين
والجوع وأخذهم بالقمل والضفادع والدم ،كل ذلك فعله ال معهم ..وحين يقول الحق لرسوله:
سلْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ } فالقول منسحب على أمة رسول ال صلى ال عليه وسلم .فإذا جاءك واحد
{ َ
منهم فاسأله :كم آيةٍ أعطاها ال لكم فأنكرتموها ،وتلكأتم .وتعنّتّم { .كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّ َنةٍ } إن
{ َكمْ } تدل على الكمية الكبيرة ،و { مّنْ آيَةٍ } :معناها المر العجيب .و { بَيّنَةٍ } تعني المر
الواضح الذي ل يمكن أن يغفل عنه أحد.
شدِيدُ
سلْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ َومَن يُ َب ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِن َب ْعدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ َ
{ َ
ا ْل ِعقَابِ } .وكيف يبدل النسان نعمة ال؟ .إن نعمة ال حين تصيب خلقا فالواجب عليهم أن
يستقبلوها بالشكران ،ومعنى الشكران هو نسبتها إلى واهبها والستحياء أن يعصوا من أنعم عليهم
بها .فإذا استقبل الناس النعمة بغير ذلك فقد ُبدِلَت .ولذلك يقول الحق في آية أخرى { :أَلَمْ تَرَ إِلَى
الّذِينَ َبدّلُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرا } وما داموا قد بدلوها كفرا ،فيكون الكفر هو الذي جاء مكان اليمان.
إذن كان المطلوب أن يقابلوا النعمة باليمان ،بالزدياد في التقرب إلى ال ،لكنهم بدلوا النعمة
بالكفر.
} َومَن يُبَ ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِن َبعْدِ مَا جَآءَ ْتهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ { قد نفهم أن معنى } شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ
{ هو أمر يتعلق بالخرة ،ولعل أناسا يستبطئون الخرة ،أو أناسا غير مؤمنين بالخرة ،فلو كان
المر بالعقاب يقتصر على عقاب الخرة لشقي الناس بمن ل يؤمنون بالخرة ..أو يستبطئونها
لن هؤلء يعيثون في الرض فسادا؛ لنهم ل يخافون الخرة ول يؤمنون بها ،أو أنها ل تخطر
ببالهم.
فالذي يؤمن بأن هناك آخرة تأتي وسيكون فيها حساب ،هو الذي سيكون سلوكه على مقتضى ذلك
اليمان .أما الذي ل يؤمن أن هناك يوما آخر فالدنيا تشقى به .فإذا لم يعجل ال بلون من العقوبة
للذين ل يؤمنون بالخرة أو الذين يستبطئون الخرة لشقي الناس بهؤلء الذين ل يؤمنون أو
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يستبطئون.
وكل جماعة ل تقبل على منهج ال ،ويبدلون نعمة ال كفرا لبد أن يكون ل فيهم عقاب عاجل،
وذلك ليعلم الناس أن من لم يرتدع إيمانا وخوفا من اليوم الخر فعليه أن يرتدع مخافة أن يأتيه
العقاب في الدنيا .فالظالم إذا علم أن ظالما مثله لقي عقابه وحسابه في الدنيا فسيخاف أن يظل؛
وإن لم يكن مؤمنا بالخرة ،لنه سيتأكد أن الحساب واقع ل محالة .ولذلك ل يؤجل ال العقاب كله
إلى الخرة ولكن ينزل بعضا منه في الدنيا .ويقول الحق في الذين يبدلون نعمة ال كفرا {:أَلَمْ تَرَ
جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ }[إبراهيم:
إِلَى الّذِينَ َبدّلُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرا وََأحَلّواْ َقوْ َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ * َ
]29-28
هذه عقوبة الخرة ولن يتركهم ال في الدنيا دون أن ينالهم العقاب.
وحتى الذين يظلمون ويتعسفون مع أنهم مسلمون ل يتركهم ال بل عقاب في الدنيا حتى يأتيهم
يوم القيامة بل لبد أن يجيء لهم من واقع دنياهم ما يخيف الناس من هذه الخواتيم حتى تستقيم
حركة الحياة بين الناس جميعا ،وإل فسيكون الشقاء واقعا على الناس من هؤلء ومن الذين ل
يؤمنون بعقاب الخرة.
وكان بعض الصالحين يقول " :اللهم إن القوم قد استبطأوا آخرتك وغرهم حلمك فخذهم أخذ عزيز
مقتدر "؛ لنه سبحانه لو ترك عقابهم للخرة لفسدوا وكانوا فتنة لغيرهم من المؤمنين .ولذلك شاء
ال أن يجعل في منهج اليمان تجريما وعقوبة تقع في الدنيا ،لماذا؟ حتى ل يستشري فساد من
يشك في أمر الخرة .وشدة عقاب ال ل يجعلها في الخرة فقط ،بل جعلها في الدنيا أيضا؛ ولذلك
يقول ال سبحانه وتعالىَ {:ومَنْ أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِيشَ ًة ضَنكا وَنَحْشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ
عمَىا }[طه]124 :
أَ ْ
سخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُو ْا وَالّذِينَ ا ّتقَواْ
ثم يقول سبحانه وتعالى } :زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَ ْ
َف ْو َقهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ{ ...
()214 /
سخَرُونَ مِنَ الّذِينَ َآمَنُوا وَالّذِينَ ا ّت َقوْا َف ْوقَهُمْ َي ْومَ ا ْلقِيَامَ ِة وَاللّهُ
زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُوا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَ ْ
يَرْزُقُ مَنْ َيشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ ()212
يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين واقع النسان في الكون ،هذا الواقع الذي يدل على أنه سيد ذلك
الكون ،ومعنى ذلك أن كل الجناس تخدمه .وقد عرفنا أن الجماد يخدم النبات ،والجماد والنبات
يخدمان الحيوان ،والجماد والنبات والحيوان تخدم النسان ،فالنسان سيد هذه الجناس.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكان مقتضى العقل أن يبحث هذا السيد عن جنس أعلى منه ،فكما كانت الجناس التي دونه في
خدمته ،فلبد أن يكون هذا الجنس العلى يناسب سيادته ،ولن يجد شيئا في الوجود أبدا أعلى من
الجنس الذي ينتسب إليه ،لذلك كان المفروض أن يقول النسان :أنا أريد جنسا ينبهني عن نفسي؛
فأنا في أشد الحتياج إليه .فإذا جاء الرسل وقالوا :إن الذي أعلى منك أيها النسان هو ال وليس
كمثله شيء وتعالى عن كل الجناس .كان يجب على النسان أن يقول :مرحبا؛ لن معرفة ال
تحل له اللغز .والرسل إنما جاءوا ليحلوا للنسان لغزا يبحث عنه ،وكان على النسان أن يفرح
بمجيء الرسل ،وخصوصا أن ال عز وجل ل يريد خدمة منه ،إن النسان هو الذي يحتاج لعبادة
ال ليسخر له الكائنات ،ويعبده ليعزه .إذن فالمؤمن بين أمرين :بين خادم له مسخر وهو من دونه
من الجهاد والنبات والحيوان ،ومعطٍ متفضلٍ عليه مُختارٍ وهو أعلى منه .إنه هو ال.
فمن يأخذ واحدة ويترك واحدة فقد أخذ الدنى وترك العلى ،فيقول له الحق :خذ العلى .فإذا
كنت سعيدا بعطاء المخلوقات الدنى منك ،وتحب أن تستزيد منها فكيف ل تستزيد ممن هو أعلى
منك؟ .إنه ال.
والحق عندما يقول { :زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } فهو يريد أن يلفتنا إلى أن مقاييس الكافرين
مقاييس هابطة نازلة؛ لن الذي زُين لهم هو المر الدنى .ومن خيبة التقدير أن يأخذ النسان
المر الدنى ويفضله على العلى .وكلمة { زُيّنَ } عندما تأتي في القرآن تكون مبنية لما لم يسم
ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ
حبّ ال ّ
فاعله مثل قوله تعالى {:زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
الذّ َهبِ وَا ْل ِفضّةِ }[آل عمران]14 :
هناك { زُيّنَ لِلنّاسِ } وفي آية البقرة التي نحن بصددها { زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُواْ } لماذا قال الحق
هناك { :زُيّنَ لِلنّاسِ } ولماذا قال هنا { :زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ }؟ لقد قال الحق ذلك لن الذين كفروا
ليس عندهم إل الحياة الدنيا ،فالعلى ل يؤمنون به ،ولكن في مسألة الناس عامة عندما يقول ال
ب وَا ْل ِفضّةِ
ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َه ِ
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ
حبّ ال ّ
عز وجل { :زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
حسْنُ ا ْلمَآبِ } فهو سبحانه
س ّومَ ِة وَالَ ْنعَا ِم وَالْحَ ْرثِ ذاِلكَ مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِ ْن َدهُ ُ
وَالْخَ ْيلِ ا ْلمُ َ
يقول للناس :خذوا الحياة على قدرها .وزُينت يعني حسُنت .فمن الذي حسنها؟ لقد حسنها ال عز
وجل.
فكيف تنسى الذي حسنها لك ،وجعلها جميلة وجعلها تحت تصرفك.
كان يجب أن تأخذها وسيلة لليمان بمن رزقك إياها ،وكلما ترى شيئا جميل في الوجود تقول" :
سبحان ال " ،وتزداد إيمانا بال ،أما أن تأخذ المسألة وتعزلها عمن خلقها فذلك هو المقياس
النازل.
أو أن ال سبحانه وتعالى هو الذي زينها بأن جعل في الناس غرائز تميل إلى ما تعطيه هذه الحياة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الدنيا ،ونقول :هل أعطى سبحانه الغرائز ولم يعط منهجا لتعلية هذه الغرائز؟ ل ،لقد أعلى الغرائز
وأعطى المنهج لتعلية الغرائز ،فل تأخذ هذه وتترك تلك .ولذلك يقول الحق {:وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ
خَيْرٌ }[الكهف ]46 :والحق عندما يقول } :زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُواْ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا { فهو يفضح من يعتقدون
أنه ل حياة بعد هذه الحياة ،ونقول لهم :هذا مقياس نازل ،وميزان غير دقيق ،ودليل على الحمق؛
لنكم ذهبتم إلى الدنى وتركتم العلى .ومن العجيب أنكم فعلتم ذلك ثم يكون بينكم وبين من
اختار العلى هذه المفارقات .أنتم في الدنى وتسخرون من الذين التفتوا إلى العلى ،إن الحق
سخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ { .لماذا يسخرون منهم.
يقول } :وَيَ ْ
لن الذين آمنوا ملتزمون ،ومادام النسان ملتزما فسيعوق نفسه عن حركات الوجود التي تأتيه من
غير حل ،لكن هؤلء قد انطلقوا بكل قواهم وملكاتهم إلى ما يزين لهم من الحياة.
لذلك تجد إنسانا يعيش في مستوى دخله الحلل ،ول يملك إل حُلّةً واحدة " بدلة " ،وإنسانا آخر
يسرق غيره ،فتجد الثاني الذي يعيش على أموال غيره حسن المظهر والهندام وعندما يلتقي
الثنان تجد الذي ينهب يسخر من الذي يعيش على الحلل ،لماذا؟ لنه يعتبر نفسه في مقياس
أعلى منه ،يرى نفسه حسن الهندام و " الشياكة " فيحسم الحق هذه المسألة ويقول } :وَالّذِينَ ا ّتقَواْ
َف ْو َقهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ { .لماذا يوم القيامة ،أليسوا فوقهم الن؟
إن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المنظور المرئي للناس؛ لنهم ل ينظرون إلى الراحة النفسية
وهي انسجام ملكات النسان حينما يذهب لينام ،ولم يجرب على نفسه سقطة دينية ول سقطة
خلقية ،ول يؤذي أحدا ،ول يرتشي ،ول ينم ول يغتاب ،كيف يكون حاله عندما يستعرض أفعاله
يومه قبل نومه؟ لبد أن يكون في سعادة ل تقدر بمال الدنيا.
ولذلك لم يدخل ال هذا الحساس في المقارنة ،وإنما أدخل المسألة التي ل يقدر عليها أحد} .
وَالّذِينَ ا ّتقَواْ َف ْوقَهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ { .ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى {:إِنّ الّذِينَ أَجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ
حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَ ْهِلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَِإذَا
الّذِينَ آمَنُواْ َيضْ َ
رََأوْهُمْ قَالُواْ إِنّ هَـاؤُلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُرْسِلُواْ عَلَ ْي ِهمْ حَا ِفظِينَ }[المطففين]33-29 :
حكُونَ * عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ
ثم يقول الحق بعد ذلك {:فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َيضْ َ
ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َيفْعَلُونَ }
[المطففين]36-34 :
أي هل عرفنا أن نجازيهم؟ نقول :نعم يا رب .خصوصا أن ضحك الخرة ليس بعده بكاء.
} وَالّذِينَ ا ّتقَواْ َف ْو َقهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ { ولنلحظ أن الحق سبحانه وتعالى خالف السلوب في هذه الية،
لقد كان المفروض أن يقول :والذين آمنوا فوقهم .لكنه قال } :وَالّذِينَ ا ّتقَواْ َف ْو َقهُمْ { لنه قد يؤخذ
اليمان على أنه اسم ،فقد شاع عنك أنك مؤمن ،فأنت بهذا الوصف ل يكفي لتنال به المرتبة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السامية إل إذا كانت أفعالك تؤدي بك إلى التقوى.
فل تقل " :أنا مؤمن " ويقول غيرك " :أنا مؤمن " ،ويصبح المؤمنون مليارا من البشر في العالم،
نقول لهؤلء :أنتم لن تأخذوا اليمان بالسم وإنما تأخذون اليمان باللتزام بمنهج السماء .ولذلك
لم يقل ال " :والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة " وإنما قال } :وَالّذِينَ ا ّتقَواْ َف ْو َقهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ { ليعزل
السم عن الوصف .ويذيل الحق الية بالقول الكريم } :وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ { .ما
هو الرزق؟ الرزق عند القوم :هو كل ما ينتفع به؛ فكل شيء تنتفع به هو رزق .وطبقا لهذا
التعريف فاللصوص يعتبرون الحرام رزقا ،ولكنه رزق حرام.
والناس يقصرون كلمة الرزق على شيء واحد يشغل بالهم دائما وهو " المال " نقول لهم :ل ،إن
الرزق هو كل ما يُنتفع به ،فكل شيء يكون مجاله النتفاع يدخل في الرزق :علمك رزق ،وخُُلقُك
رزق ،وجاهك رزق ،وكل شيء تنتفع به هو رزق .ساعة تقول :إن كل ذلك رزق تأخذ قول
سوَآءٌ }[النحل]71 :
الَ {:فمَا الّذِينَ ُفضّلُواْ بِرَآدّي رِ ْز ِقهِمْ عَلَىا مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ َفهُمْ فِيهِ َ
كأن ال يريد من خلقه استطراق أرزاقهم على غيرهم ،وكل إنسان متميز وتزيد عنده حاجة عليه
أن يردها على الناس ،لكن الناس ل تفهم الرزق إل على أنه مال ،ول يفهمون أنه يطلق على كل
شيء ينتفعون به.
حسَابٍ { لبد أن
حسَابٍ { كلمة } ِبغَيْرِ ِ
إذا كان المر كذلك فما معنى } يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
نفهمها على أن الحساب يقتضي مُحاسِب ،ومُحَاسَب ،ومُحَاسَب عليه .وعلى هذا يكون } ِبغَيْرِ
حسَابٍ { ممن ولمن وفي ماذا؟
ِ
إنه رزق بغير حساب من ال؛ فقد يرزقك ال على قدر سعيك .وربما أكثر ،وهو يرزق بغير
حساب ،لنه ل توجد سلطة أعلى منه تقول له :لماذا أعطيت فلنا أكثر مما يستحق.
وهو يرزق بغير حساب؛ لن خزائنه ل تنفد .ويرزق بغير حساب؛ لنه ل يحكمه قانون ،وإنما
يعطي بطلقة القدرة .إنه جل وعل يعطي للكافر حتى تتعجب أنت وتقول :يعطي الكافر ول
يعطي المؤمن لماذا؟
إذا استطاع أحد أن يحاسبه فليسأله لماذا يفعل ذلك؟ إنه يعطي مقابل للحسنة سبعمائة ضعف بغير
حساب .إن الحساب إنما يأتي عندما تأخذ معدودا ،فإذا أخذت مثل مائة من ألف فأنت طرحت
معدودا من معدود فل بد أن ينقص ،وعندما تراه ينقص فأنت تخاف من العطاء.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن } يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ { تجعل كل إنسان يلزم أدبه إن رأى غيره قد رُزق أكثر منه؛
لنه ل يعلم حكمة ال فيها .وهناك أناس كثيرون عندما يعطيهم ال نعمة يقولون " :ربنا أكرمنا،
وعندما يسلبهم النعمة يقولون " :ربنا أهاننا " ،وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى {:فََأمّا الِنسَانُ إِذَا
لهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْزقَهُ فَيَقُولُ رَبّي
لهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَ ُه وَ َن ّعمَهُ فَ َيقُولُ رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّآ إِذَا مَا ابْتَ َ
مَا ابْتَ َ
أَهَانَنِ }[الفجر]16-15 :
كل .مخطئ أنت يا مَن اعتبرت النعمة إكراما من ال ،وأنت مخطئ أيضا يا مَن اعتبرت سلب
النعمة إهانة من ال؛ إن النعمة ل تكون إكراما من ال إل إذا وفقك ال في حسن التصرف في
هذه النعمة ،وحق النعمة في كل حال يكون بشكر المنعم ،وعدم النشغال بها عمن رزقك إياها.
حسَابٍ
ونحب أن نفهم ـ أيضا ـ أن قول ال سبحانه وتعالى } :وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
{ ينسحب على معنى آخر ،وهو أنه ـ سبحانه ـ ل يحب أن ُتقَدّر أنت رزقك بحساب حركة
عملك فقط؛ فحساب حركة عملك قد يخطئ .مثال ذلك الفلح الذي يزرع ويقدر رزقه فيما يُنْتَجُ
من الرض ،وربما جاءت آفة تذهب بكل شيء كما نلحظ ونشاهد ،ويصبح رزق الفلح في ذلك
الوقت من مكان آخر لم يدخل في حسابه أبدا.
ولهذا فإن على النسان أن يعمل في السباب ،ولكنه ل يأخذ حسابا من السباب ،ويظن أن ذلك
هو رزقه؛ لن الرزق قد يأتي من طريق لم يدخل في حسابك ول في حساباتك ،وقال الحق في
سبُ }[الطلق]3-2 :
ث لَ يَحْ َت ِ
جعَل لّهُ َمخْرَجا * وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ حَ ْي ُ
ذلكَ {:ومَن يَتّقِ اللّهَ يَ ْ
وبعد ذلك يقول لنا الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى ما يوضح لنا ويبين قضية العقيدة وموكب
الرسالت في الرض ،بداية وتسلسلً وتتابعا في رسل متعاقبين ،فقال الحق سبحانه وتعالى} :
ن َومُنذِرِينَ{ ...
كَانَ النّاسُ ُأمّةً وَاحِ َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ
()215 /
حكُمَ بَيْنَ
ن وَأَنْ َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِ َي ْ
ن َومُنْذِرِي َ
كَانَ النّاسُ ُأمّةً وَاحِ َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ
النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُوا فِيهِ َومَا اخْتََلفَ فِيهِ إِلّا الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيًا بَيْ َن ُهمْ َفهَدَى
اللّهُ الّذِينَ َآمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ ()213
ولقائل أن يقول :إذا كان الناس أمة واحدة ،وقد رتب ال بعث وإرسال النبيين على كونهم أمة
واحدة؛ فمن أين إذن جاء الخلف إلى حياة الناس؟ ونقول :لبد أن تُحمل هذه الية المجملة على
ح َدةً فَاخْتََلفُو ْا وََلوْلَ كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِن
آية أخرى مفصلة في قوله تعالىَ {:ومَا كَانَ النّاسُ ِإلّ ُأمّ ًة وَا ِ
رّ ّبكَ َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَِلفُونَ }[يونس]19 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لبد لنا إذن أن نأخذ هذه الية في ظل آية سورة يونس؛ فالحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب
العقل البشري يريد أن بخاطبه خطابا يوقظ فيه عقله وفكره حتى يستقبل كلم ال بجماع تفكيره،
وأن يكون القرآن كله حاضرا في ذهنك ،ويخدم بعضه بعضا.
ح َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ } .فقبل بعث ال النبيين كان الناس أمة واحدة يتبعون
{ كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ
آدم ،وقد بلغ الحق آدم المنهج بعد أن اجتباه وهداه ،وعلم آدم أبناءه منهج ال ،فظل الناس من
أبنائه على إيمان بعقيدة واحدة ،ولم ينشأ عندهم ما يوجب اختلف أهوائهم ،فالعالم كان واسعا،
وكانت القلة السكانية فيه هي آدم وأولده فقط ،وكان خير العالم يتسع للموجودين جميعا .إذن ل
تطاحن على شيء ،ومن يريد شيئا يأخذه ،وكانت الملكية مشاعة للجميع؛ لنه لم تكن هناك ملكية
لحد؛ فمن يريد أن يبني بيتا فله أن يبنيه ولو على عشرين فدانا ،ومن يريد أن يأكل فاكهة أو
يأخذ ثمرا من أي بستان فله أن يأخذ ما يريد.
ل ويتركها
والمثال على ذلك في حياتنا اليومية ،هناك رب السرة الذي يأتي بعشرين كيلو برتقا ً
أمام أولده ،وكل طفل يريد برتقالة أو أكثر فهو يأخذ ما يريد بل حرج ،لكن لو اشترى رب
البيت كيلو برتقالً واحدا فكل طفل يأخذ برتقالة واحدة فقط.
إذن كان الناس أمة واحدة ،أي لم توجد الطماع ،ولم يوجد حب الستئثار بالمنافع مما يجعلهم
يختلفون .إذن فأساس الختلف هو الطمع في متاع الدنيا ،ومن هنا ينشأ الهوى.
وكان من المفروض في آدم عليه السلم بعد أن بلغه ال المنهج أن يبلغه لولده ،وأن يتقبل أبناؤه
المنهج ،ولكن بعض أولده تمرد على المنهج ،ونشأ حب الستئثار من ضيق ال ُمسْتَأثر والمُنْتَفع
به ،ومن هنا نشأت الخلفات .ولنا في قصة هابيل وقابيل ما يوضح ذلك {:وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ
لقْتُلَ ّنكَ قَالَ إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ
ن الخَرِ قَالَ َ
ءَادَمَ بِا ْلحَقّ ِإذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَ ُتقُ ّبلَ مِن أَحَ ِد ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِ َ
ا ْلمُ ّتقِينَ }[المائدة]27 :
ونعرف أن آدم وحواء هما أصل الوجود ،حواء تلد توأمين في كل مرة ،وأراد آدم أن يزاوجهم
فكيف تكون المزاوجة وهم جميعا أبناؤه وأبناء عصر واحد؟ وكل منهم يعرف أن الذي أمامه هو
أخوه.
لقد واجه الشرع تلك المشكلة في ذلك الوقت ،واعتبر أن البعد هو بعد البطن ،أي أن الذي يولد
مع أخيه في بطن واحد فهو أخوه ،أما الذي وُلد بعده أو قبله فكأنه ليس أخاه ،لذلك كان آدم
وحواء يبادلن زواج البناء حسب ابتعاد البطون ،وكان الغرض من هذا التباعد أن تكون المرأة
وكأنها أجنبية عن أخيها.
روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي ال عنهما " :أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى
الخر ،وأن هابيل أراد أن يتزوج أخت قابيل وكان أكبر من هابيل وأخت قابيل أحسن فأراد قابيل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن يستأثر بها على أخيه .وأمره آدم عليه السلم أن يزوجه إياها فأبى ،فأمرهما أن يقربا قربانا
فقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب غنم ،وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه
فنزلت نارُ فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل ،فغضب وقال :لقتلنك حتى ل تنكح أختي،
فقال } :إِ ّنمَا يَ َتقَبّلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ {.
إذن ،كان ميلد أول خلف بين البشر حينما تنافس اثنان للستئثار بمنفعة ما ،وكان هذا مثالً
واضحا لما يمكن أن يحدث عندما تضيق المنافق عن الطماع.
ح َدةً { لكنهم اختلفوا لحظة الستئثار بالمنافع ،وأصبح لكل إنسان هوى .ولو
} كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ
شاء ال أن يجعل منهجه لدم منهجا دائما إلى أن تقوم الساعة لفعل .لكنه سبحانه برحمته يعلم أنه
خلقنا ،ويعلم أننا نعقل مرة ونسهو مرة ،ونلتزم مرة ،ونهمل مرة أخرى ،فشاء ال أن يواصل
ن َومُنذِرِينَ { .ومهمة "
لخلقه مواكب الرسل .ولذلك يأتي قول الحق } :فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ
التبشير والنذار " هي أن يتذكر الناس أن هناك جنة ونارا ،ولذلك يبشر كل رسول مَنْ آمن من
ن كفر من هؤلء القوم بالنار .ويذكرنا الحق سبحانه بأنه أشهدنا على أنفسنا
قومه بالجنة ،وينذر مَ ْ
سهِمْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ
خذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
على وحدانيته فقال {:وَإِذْ أَ َ
شهِدْنَآ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا َ
أَلَ ْ
ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }[العراف]173-172 :
أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ
يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية آدم من أصلبهم شاهدين على أنفسهم أن ال ربهم ومليكهم ،وأنه
ل إله إل هو كما أنه فطرهم على ذلك :ثم بعد أن أخرجهم إلى الوجود من آدم جاء للخلق الول
وهو آدم وأعطاه المنهج وكانت الهواء غير موجودة ،فظل المنهج مطبقا بين بني آدم .وبعد ذلك
تعددت الهواء ،وتعدد الهواء إنما ينشأ عن الستئثار بالمنافع ،وذلك بسبب الخوف من استئثار
الغير ،فنشأ حب الذات ،ولما كانت المنافع ل تتسع لطماع الناس فقد استشرى حب الستئثار
والتملك.
ونجد هذه المسألة واضحة حينما تتوافر السلع وتغمر السواق.
وتستطيع أن تشتري أي سلعة في أي وقت تحب ،وتجدها متوافرة ،عند ذلك ل توجد أزمة ،لكن
الزمة تنشأ عندما تقل الكميات المعروضة من السلع عن حاجة الناس ،فيتكالب الناس على
الستئثار بها .وهكذا نعرف أن المنافع عندما توجد ،وتكون دون الطماع هنا تتولد المشكلت.
ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالخلق ،ومن تمام علمه سبحانه بضعف البشر أمام أهوائهم
حقّ
وأمام استئثارهم بالمنافع ،أرسل الرسل إلى البشر ليبشروا ولينذروا } .وَأَن َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
ح ُكمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُواْ فِي ِه َومَا اخْتََلفَ فِيهِ ِإلّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِن َب ْعدِ مَا جَآءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ { فكأن
لِيَ ْ
الحق لم يشأ أن يترك البشر ليختلفوا ،وإنما الغفلة من الناس هي التي أوجدت هذا الختلف} .
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مِن َبعْدِ مَا جَآءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيا بَيْ َن ُهمْ { ومن هذا القول الحكيم نعرف أن الختلف ل ينشأ إل من
إرادة البغي ،والبغي هو أن يريد النسان أن يأخذ غير حقه .وما دام كل منا يريد أن يأخذ غير
حقه فل بد أن ينشأ البغض.
حقّ بِإِذْ ِنهِ { أي أن ال يهدي الذين آمنوا من كل قوم
} َفهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ ِلمَا اخْتََلفُواْ فِيهِ مِنَ الْ َ
بالرسول الذي جاء مبشرا ومنذرا وحامل منهج الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .وبذلك
يظل المنهج سائدا إلى أن تمضي فترة طويلة تغفل فيها النفوس ،وتبدأ من خللها المطامع ويحدث
النسيان لمنهج ال ،وتنشأ الهواء ،فيرسل ال الرسل ليعيدوا الناس إلى المنهج القويم ،واستمر هذا
المر حتى جاءت رسالة السلم خاتمة وبعث ال سيدنا محمدا صلى ال عليه وسلم للدنيا كافة،
وبذلك ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى أل ينشأ خلف في الصل؛ لننا لو كنا سنختلف في أصل
العقيدة لجرى علينا ما جرى على المم السابقة .هم اختلفوا فأرسل ال لهم رسل مبشرين
ومنذرين ،لكن أمة محمد صلى ال عليه وسلم أراد الحق لها منهجا واضحا يحميها من الختلف
في أصل العقيدة .وإن اختلف الناس من أمة محمد صلى ال عليه وسلم فعليهم أن يسترشدوا
بالمنهج الحق المتمثل في القرآن والسنة.
ونعرف أن من مميزاته صلى ال عليه وسلم أنه خاتم النبياء بحق ،ولن تجد في الموكب الرسالي
رسول أوكل له ال أن ينشئ حكما جديدا لم ينزل في كتاب ال إل سيدنا محمدا صلى ال عليه
وسلم .لقد أعطى ال سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم التفويض في أن يشرع عن ال؛ في
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ }[الحشر]7 :
ظل عصمة ال له فقد قال سبحانهَ {:ومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
إنه أمر واضح للمؤمنين بأن يأتمروا بأمر الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم ،لن ما يأمرهم به
فيه الصلح والخير ،وأن ينتهوا عما ينهاهم عنه؛ لنه صلى ال عليه وسلم إنما ينهي عن المور
التي ليس فيها خير لمة المسلمين.
ويأمر الحق جل وعل جماعة المسلمين بطاعة الرسول صلى ال عليه وسلم لنها من طاعة ال،
حفِيظا }[النساء:
فيقول جل وعل {:مّنْ ُيطِعِ الرّسُولَ َفقَدْ َأطَاعَ اللّ َه َومَن َتوَلّىا َفمَآ أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ
]80
وهكذا نرى أن طاعة الرسول صلى ال عليه وسلم من طاعة ال ،ومن يعرض عن طاعته فله
العقاب في الخرة .ويؤكد الحق سبحانه على طاعته وطاعة الرسول صلى ال عليه وسلم فيقول{:
حبّ ا ْلكَافِرِينَ }[آل عمران]32 :
ُقلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ فإِن َتوَّلوْاْ فَإِنّ اللّ َه لَ يُ ِ
هكذا نعرف أن طاعة الرحمن تستوجب طاعة الرسول صلى ال عليه وسلم .إذن فقد فوض ال
رسوله أن يُشَرّع للبشر .وهو ـ عليه الصلة والسلم ـ ما ينطق عن الهوى.
وميزة أخرى لمة المسلمين هي أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ترك لنا حق الجتهاد في
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المسائل التي لم يأتي فيها نص في القرآن ول من السنة ،أو ورد فيها نص ولكنه يحتمل أكثر من
معنىً ،ومعنى ذلك أن الحق سبحانه قد أمِنَ أمة محمد عليه الصلة والسلم بأن تصل بالجتهاد
لما يحسم أي خلف ،وأن أي اختلف لن يصل إلى الجوهر .فلو علم ال أزل أننا سوف نختلف
اختلفا في صحيح العقيدة لكان قد أرسل لنا رسلً.
ونحن نجد كل الختلفات بين طوائف المسلمين ل تخرج عن إطار فهم نصوص القرآن أو
أحاديث رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكل مسلم يريد أن يستقي دليله من الكتاب والسنة.
ومعنى ذلك أننا لن نترك الصل ،ولكن كل منا يريد أن يأخذ الحكم الصحيح بل إننا نجد أن بعضا
من المسلمين الذين لم يجدوا دليلهم من القرآن والسنة قد حاولوا أن يضعوا حديثا ينسبونه إلى
رسول ال ليبنوا عليه الحكم الذي يريدونه .وهؤلء مأواهم النار؛ لنهم نطقوا بلسان رسول ال
صلى ال عليه وسلم ما لم يقله الرسول الكريم لقد كذبوا عليه ،ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ
مقعده من النار.
إذن فكلنا نلتقي حول القرآن والسنة والنبوية ،أين المشكلة إذن؟ المشكلة هي أن يكون الناس
أذكياء وعلى علم حتى يعرفوا هل المأخوذ من القرآن مقبول أو غير مقبول؟ وهل الحاديث
المستند إليها بمقاييس الجرح والتعديل موجودة أو ل؟ إذن فحصافة الجتهاد والرأي عند أمة
محمد صلى ال عليه وسلم جعلتهم مأمونين على كل شيء في المنهج .وأن الخلف فيما بينهم لم
يصل إلى ما وصلت إليه المم السابقة ،ولكن عليهم أن ينتهوا ويرتقوا حتى يميزوا المور التي
تكون من غير معطيات القرآن ،ثم يريد قوم أن يحملوها على القرآن.
إن عليهم أل يفسروا القرآن حسب أهوائهم بل حسب ما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم ـ
حتى يكون هواهم تبعا لما جاء به ـ وعلينا أن ننتبه إلى أن ال قد أمِنَ أمة محمد صلى ال عليه
وسلم على القرآن وعلى رسالة السلم ،والقرآن ورسالة السلم لن يصيبها التغيير أو التحريف،
وكل ما هو مطلوب أن يكون المؤمنون أهل دقة وفطنة ،فإذا أراد إنسان أن يستغل أية سلطة
زمنية أو أن يجيء بحديث موضوع ليروج لباطله فعلى المسلمين أن يكشفوا سوء مقصد هذا
النسان.
فنحن نفهم أن ال شاء بالسلم حياة القيم ،كما شاء بالماء حياة المادة ،والماء حتى يظل ماء فل
بد أن يظل بل طعم ول لون ول رائحة ،فإذا أردت أن تجعل له طعما خرج عن خاصيته؛ ربما
أصبح مشروبا أو عصيرا أو غير ذلك ،وقد يحب بعض الناس نوعا من العصير ،لكن كل الناس
يحبون الماء؛ لن به تُصان الحياة ،فإذا رأيت دينا قد تلون بجماعة أو بهيئة أو بشكل فاعلم أن
ذلك خارج عن نطاق السلم .وكل جماعة تريد أن تصبغ دين ال بلون إنما يخرجونه عن
طبيعته الصلية ،ولذلك نجد أمتنا في مصر قد صانت علوم السلم بالزهر الشريف وكل عالم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من علماء السلم في أي بقعة من بقاع الرض مدين للزهر الشريف .ونجد أننا نحب آل بيت
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولكن ل نجد عندنا متشيعا واحدا ،وفي الوقت نفسه ل نجد واحدا
حسَنُ
يكره أبا بكر وعمر ،وهذا هو السلم الذي ل يتلون؛ لنه إسلم الفطرة {.صِ ْبغَةَ اللّ ِه َومَنْ أَ ْ
مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَةً }[البقرة]138 :
فالذين يحاولون في زمان من الزمنة أن يصبغوا الدين بشكل أو بطقوس أو بلون أو برسوم أو
هيئة خاصة نقول لهم :أنتم تريدون أن تُخرجوا السلم عن عموميته الفطرية التي أرادها ال له،
ولبد أن تقفوا عند حد الفطرة السلمية ،ول تلونوا السلم هذا التلوين .وبذلك نحقق قول ال} :
َفهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ ِلمَا اخْتََلفُواْ فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ
{ ونعرف أن الهداية معناها المر الموصل للغاية ،وحين ترد الهداية من ال سبحانه وتعالى فعلينا
أن نفهم أن الهداية من ال ترد على معنيين :المعنى الول هو الدللة على الطريق الموصل،
والمعنى الثاني هو المعونة.
وضربت من قبل المثل بشرطي المرور الذي يدلك على الطريق الموصل إلى الغاية التي تريدها،
فإن احترمت كلمه ونفذته فهو يعطي لك شيئا من المعونة ،بأن يسير معك أو يوصلك إلى المكان
الذي تريد .فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وله المثل العلى؟ إنه يهدي الجميع بمعنى يدلهم،
فالذين آمنوا به وأحبوه يهديهم هداية أخرى ،وهي أن يعينهم على ما أقاموا نفوسهم فيه .وبعضنا
يدخله العجب عندما يسمع قول الحق:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن هنا نفهم أن الهداية نوعان :هداية الدللة ،فهو " يهدي " أي يدل الناس على طريق الخير.
وهناك هداية أخرى معنوية ،وهي من ال ول دخل للرسول صلى ال عليه وسلم فيها ،وهي هداية
المعونة.
إذن قوله تعالى } :وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ { معناها :أنك تدل على الصراط المستقيم،
ولكن ال هو الذي يعين على هذه الهداية } .وَاللّهُ َيهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ { فعلينا أن
نستحضر اليات التي شاء ال أن يهدي فيها مؤمنا وأل يهدي آخر .ويقول الحق سبحانه {:وَاللّهُ
لَ َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة]264 :
معنى ذلك أن ال ل يهدي إل الذين آمنوا به .وهدايته للمؤمنين تكون بمعونتهم على الستمرار
في الهداية؛ فالكل قد جاءته هداية الدللة ولكن الحق يختص المؤمنين بهداية المعونة .والحق يقول
شفَا
ضوَانٍ خَيْرٌ أَم مّنْ َأسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىا َ
علَىا َتقْوَىا مِنَ اللّ ِه وَ ِر ْ
في ذلكَ {:أ َفمَنْ َأسّسَ بُنْيَانَهُ َ
جهَنّمَ وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }[التوبة]109 :
جُ ُرفٍ هَارٍ فَا ْنهَارَ ِبهِ فِي نَارِ َ
إن الحق يوضح لنا المقارنة بين الذي يؤسس بنيان حياته على تقوى من ال ابتغاء الخير والجنة،
وهو الذي جاءته هداية الدللة فاتبعها ،فجاءته هداية المعونة من ال .وبين ذلك الذي يؤسس بنيان
حياته على حرف واد متصدع آيل للسقوط فسقط به البنيان في نار جهنم ،إنه الذي جاءته هداية
الدللة فتجاهلها ،فلم تصله هداية المعونة ،ذلك هو الظالم المنافق الذي يريد السوء بالمؤمنين.
والحق تبارك وتعالى يقول {:اسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ َأ ْو لَ َتسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ إِن تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ سَ ْبعِينَ مَ ّرةً فَلَن َي ْغفِرَ
اللّهُ َلهُمْ ذاِلكَ بِأَ ّنهُمْ َكفَرُواْ بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَاللّهُ لَ َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلفَاسِقِينَ }[التوبة]80 :
إن الحق يبلغ رسوله أنه مهما استغفر للمنافقين الذين يُظهرون السلم ،ويبطنون الكفر فلن يغفر
ال لهم ،لماذا؟ لن هداية الدللة قد جاءت لهم فادعوا أنهم مؤمنون بها ،ولم تصلهم هداية
المعونة؛ لنهم يكفرون بال ورسوله ،وال ل يهدي مثل هؤلء القوم الفاسقين الخارجين بقولهم
حسِبْتُمْ أَن َتدْخُلُواْ الْجَنّةَ وََلمّا يَأْ ِتكُم مّ َثلُ الّذِينَ خََلوْاْ مِن
عن منهج ال .وبعد ذلك يقول الحقَ } :أمْ َ
قَبِْلكُم{ ...
()216 /
أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَنْ تَ ْدخُلُوا ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ مَسّ ْتهُمُ الْبَ ْأسَا ُء وَالضّرّا ُء وَزُلْزِلُوا
ل وَالّذِينَ َآمَنُوا َمعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ أَلَا إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ()214
حَتّى َيقُولَ الرّسُو ُ
أي أظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون ابتلءات تحدث لكم؟ إن الحق سبحانه ينفي هذا الظن ويقول:
ليس المر كذلك ،بل لبد من تحمل تبعات اليمان ،فلو كان اليمان بالقول لكان المر سهل ،لكن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ب اليمان هو العمل ،أي حمل النفس على منهج اليمان .لقد استكبر بعض من الذين
ص ِع ُ
الذي ُي َ
عاصروا محمدا صلى ال عليه وسلم أن يقولوا " :ل إله إل ال " لنهم فهموا مطلوبها؛ لن المر
لو اقتصر على مجرد كلمة تقال بل رصيد من عمل يؤديها ،لكان أسهل عليهم أن يقولوها ،لكنهم
كانوا ل يقولون إل الكلمة بحقها ،ولذلك أيقنوا تماما أنهم لو قالوا " :ل إله إل ال " لنتهت كل
معتقداتهم السابقة ،لكنهم لم يقولوها؛ لنهم أبوا وامتنعوا عن القيام بحقها وأداء مطلوبها.
إن الحق يقول { :أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَن َتدْخُلُواْ ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُم مّ َثلُ الّذِينَ خََلوْاْ مِن قَبِْلكُم مّسّ ْتهُمُ الْبَ ْأسَآءُ
وَالضّرّآءُ } فما العلقة بين هذه الية وما سبق من اليات؟ لقد كان الحديث عن بني إسرائيل
الذين حسبوا أنهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا ،وصارت لهم أهواء يحرفون بها المنهج .أما أمة
رسول ال صلى ال عليه وسلم فعليهم أن يستعدوا للبتلء ،وأن يعرفوا كيف يتحملون الصعاب.
ونحن نعرف في النحو أن هناك أدوات نفي وجزم .ومن أدوات النفي " لم " و " لما " فعندما
نقول " :لم يحضر زيد " فهذا حديث في الماضي ،ومن الجائز أن يحضر الن .ولكن إذا قلت" :
لما يحضر زيد " فالنفي مستمر حتى الن ،أي أنه لم يأتي حتى ساعة الكلم لكن حضوره ومجيئه
خلِ
ت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ َأسَْلمْنَا وََلمّا َيدْ ُ
متوقع .ولذلك يقول الحق {:قَاَل ِ
الِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ }[الحجرات]14 :
وعندما سمع العراب ذلك قالوا :نحمد ال ،فمازال هناك أمل أن نؤمن .لقد أراد ال أن يكون
العراب صادقين مع أنفسهم ،وقد نزلت هذه الية كما يقول بعض المفسرين في قوم من بني
أسد ،جاءوا إلى المدينة في سنة جدب ،وأعلنوا الشهادة لرسول ال صلى ال عليه وسلم وقالوا" :
ل إله إل ال محمد رسول ال " ،وكانوا يطلبون الصدقة ،ويحاولون أن يمنوا على الرسول صلى
ال عليه وسلم بأنهم لم يقاتلوه كما فعل غيرهم ،فجاءت هذه الية لتوضح أن اليمان درجة أرقى
من إظهار السلم .لكن ذلك ل يعني أنهم منافقون ،ولذلك يوضح القرآن الكريم أن إظهار
السلم ل يعني اليمان؛ لن اليمان عملية قلبية.
لقد أعلنوا الخضوع ل ،وأرادوا أن يقوموا بأعمال المسلمين نفسها لكن ليس هذا هو كل اليمان.
وهم قالوا { :آمَنّا } فقال الحق لهم :ل لم تؤمنوا وكونوا صادقين مع أنفسكم فاليمان عملية قلبية،
ول يقال إنك آمنت؛ لنها مسألة في قلبك ،ولكن قل أسلمت ،أي خضعت وفعلت مثلما يفعل
المؤمنون ،فهل فعلت ذلك عن إيمان أو غير إيمان.
حسِبْتُمْ أَن تَ ْدخُلُواْ الْجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُم مّ َثلُ الّذِينَ خََلوْاْ
إن ذلك هو موضوع آخر .هنا تقول اليةَ } :أمْ َ
مِن قَبِْلكُم { أي ل يمكن أن تدخلوا الجنة إل إذا جاءكم من البتلء مثل من سبقكم من المم ولبد
أن تُفتنوا وأن تمحصوا ببأساء وضراء ،ومن يثبت بعد ذلك فهو يستحق أن يدخل الجنة ،فل
تظنوا أنكم أمة متميزة عن غيركم في أمر الختبار ،فأنتم لن تدخلوا الجنة بل ابتلء ،بل على
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العكس سيكون لكم البتلء على قدر النعماء.
أنتم ستأخذون مكانة عالية في المم ولذلك لبد أن يكون ابتلؤكم على قدر مكانتكم ،فإن كنتم
ذوي مكانة عالية وستحملون الرسالة الخاتمة وتنساحون في الدنيا فل بد أن يكون ابتلؤكم على
قدر عظمة مسئوليتكم ومهمتكم.
} وََلمّا يَأْ ِتكُم مّ َثلُ الّذِينَ خََلوْاْ مِن قَبِْلكُم مّسّ ْتهُمُ الْبَأْسَآ ُء وَالضّرّآ ُء وَزُلْزِلُواْ { إن قول ال } :وََلمّا
{ يفيد بأن ما حدث للذين من قبلهم من ابتلء عليهم سيقع على المؤمنين مثله.
وعندما نتأمل قوله الحق } :وَزُلْزِلُواْ { فأنت تكتشف خاصية فريدة في اللغة العربية ،هذه الخاصية
هي تعبير الصوت عن واقعية الحركة ،فكلمة " زلزلوا " أصلها زلزلة ،وهذه الكلمة لها مقطعان
هما " زل ،زل " .و " زل " :أي سقط عن مكانه ،أو وقع من مكانه ،والثانية لها المعنى نفسه
أيضا ،أي وقع من مكانه ،فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر :وقوع أول ،ووقوع ثانٍ ،والوقوع
الثاني ليس امتدادا للوقوع الول؛ ولكنه في اتجاه معاكس ،فلو كانت في اتجاه واحد لجاءت رتيبة،
إن الزلة الثانية تأتي عكس الزلة الولى في التجاه ،فكأنها سقوط جهة اليمين مرة ،وجهة الشمال
مرة أخرى.
خلّ "
ل " الولى جهة اليمين ،و " َ
خّومثل ذلك " الخلخلة " أي حركة في اتجاهين معاكسين " َ
الثانية جهة اليسار ،وبهذا تستمر الخلخلة.
وهكذا " الزلزلة " تحمل داخلها تغير التجاه الذي يُسمى في الحركة بالقصور الذاتي .والمثال على
ذلك هو ما يحدث للنسان عندما يكون راكبا سيارة ،وبعد ذلك يأتي قائد السيارة فيعوقها بالكابح "
الفرامل " بقوة ،عندئذ يندفع الراكب للمام مرة ،ثم للخلف مرة أخرى ،وربما تكسر زجاج
السيارة المامي حسب قوة الندفاع؛ ما الذي تسبب في هذا الندفاع؟ إن السبب هو أن جسم
الراكب كان مهيأ لن يسير للمام؛ والسائق أوقف السيارة والراكب ل زال مهيأ للسير للمام،
فهو يرتج ،وقد يصطدم بأجزاء السيارة الداخلية عند وقوفها فجأة .وعملية " الزلزلة " مثل ذلك
تماما ،ففيها يصاب الشيء بالرتجاج للمام والخلف ،أو لليمين واليسار ،وفي أي جهتين
متعاكستين.
و } وَزُلْزِلُواْ { يعني أصابتهم الفاجعة الكبرى ،الملهية ،المتكررة ،وهي ل تتكرر على نمط واحد،
إنما يتعدد تكرارها ،فمرة يأخذها اليمان ،ثم تأخذها المصائب والحداث ،وتتكرر المسألة حتى
يقول الرسول صلى ال عليه وسلم والذين آمنوا معه } :مَتَىا َنصْرُ اللّهِ {؟
ويأتي بعده القول } :أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ { فهل يتساءلون أولً ،ثم يثوبون إلى رشدهم ويردون
على أنفسهم } أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ { أم أن ذلك إيضاح بأن المسألة تتأرجح بين } مَتَىا َنصْرُ
اللّهِ { وبين } أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {؟.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد بلغ الموقف في عصر رسول ال صلى ال عليه وسلم من الختيار والبتلء إلى القمة ،ومع
ذلك واصل الرسول صلى ال عليه وسلم والذين معه الستمساك باليمان .لقد مستهم البأساء
والضراء وزلزلوا ،أي أصابتهم رجفة عنيفة هزتهم ،حتى وصل المر من أثر هذه الهزة أن }
ل وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ مَتَىا َنصْرُ اللّهِ أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ { .إن مجيء السلوب
َيقُولَ الرّسُو ُ
بهذا الشكل } مَتَىا َنصْرُ اللّهِ { يعني استبطاء مجيء النصر أولً ،ثم التبشير من بعد ذلك في قوله
الحق } :أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ { .ولم يكن ذلك للشك والرتياب فيه .وهذا الستبطاء ،ثم التبشير
كان من ضمن الزلزلة الكبيرة ،فقد اختلطت الفكار :أناس يقولون } :مَتَىا َنصْرُ اللّهِ { فإذا
بصوت آخر من المعركة يرد عليهم قائل } :أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {.
وسياق الية يقتضي أن الذين قالوا } :مَتَىا َنصْرُ اللّهِ { هم الصحابة ،وأن الذي قال } :أَل إِنّ
َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ { هو رسول ال صلى ال عليه وسلم .ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى
قضية أخرى ،هذه القضية شاعت في هذه الصورة وهي ظاهرة سؤال المؤمنين عن الشياء،
وهي ظاهرة إيمانية صحية ،وكان في استطاعة المؤمنين أل يسألوا عن أشياء لم يأتي فيها تكليف
إيماني خوفا من أن يكون في الجابة عنها تقييد للحركة ،ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :ذروني ما تركتكم ،فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلفهم على أنبيائهم ،فإذا
أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ".
ورغم ذلك كانوا يسألون عن أدق تفاصيل الحياة ،وكانت هذه الظاهرة تؤكد أنهم عشقوا التكليف
من ال؛ فهم يريدون أن يبنوا كل تصرفاتهم بناءً إسلميا ،ويريدون أن يسألوا عن حكم السلم
في كل عمل ليعملوا على أساسه .يقول الحق سبحانه وتعالى } :يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْنفِقُونَ{ ...
()217 /
ن وَابْنِ السّبِيلِ
ن وَالَْأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ
يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلْ مَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَاِلدَيْ ِ
َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ ()215
والسؤال ورد من عمرو بن الجموح وكان شيخا كبيرا فقال :يا رسول ال ،إن مالي كثير فبماذا
أتصدق ،وعلى من أنفق؟ ولم يكن يسأل لنفسه فقط ،بل كان يترجم عن مشاعر غيره أيضا،
ولذلك جاءت الجابة عامة ل تخص السائل وحده ولكنها تشمل كل المؤمنين.
والسؤال عن { مَاذَا يُ ْنفِقُونَ }؛ فكأن الشيء المُنْفق هو الذي يسألون عنه ،والنفاق ـ كما نعرف
ـ يتطلب فاعلً هو المُنْفق؛ والشيء المُنفَق ـ هو المال ـ؛ ومن َفقَا عليه .وهم قد سألوا عن ماذا
ينفقون ،فكأن أمر النفاق أمر ُمسَلّمُ به ،لكنهم يريدون أن يعرفوا ماذا ينفقون؟ فيأتي السؤال على
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه الوجه ويجيء الجواب حامل الجابة عن ذلك الوجه وعن أمر زائد.
يقول الحق { :يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ } هذا هو السؤال ،والجواب { ُقلْ مَآ أَ ْنفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ
فَلِ ْلوَالِدَيْنِ } .إن الظاهر السطحي يظن أن السؤال هو فقط عن ماذا ينفقون؟ وأن الجواب جاء عن
المنفق عليه .نقول :ل ،لماذا نسيت قوله الحق :إن النفاق يجب أن كون من " خير " فالمال
المُنفق منه ل بد أن يتصف بأنه جاء من مصدر خير.
وبعد ذلك زاد وبيّن أنه :مادمتم تعتقدون أن النفاق واجب فعليكم أن تعلموا ما هو الشيء الذي
تنفقونه ،ومَنْ الذي يستحق أن يُ ْنفَقَ عليهُ { .قلْ مَآ أَ ْنفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ } .والخير هو الشيء الحسن
حمّل المؤمن دوائره الخاصة ،حتى
النافع .والمُ ْنفَق عليه هو دوائر الذي يُ ْنفِق؛ لن ال يريد أن ُي َ
حمّلني
تلتحم الدوائر مع بعضها فيكون قد حمّل المجتمع على كل المجتمع ،لنه سبحانه حين ُي َ
أسرتي ووالدي والقربين ،فهذه صيانة للهل ،وكل واحد منا له والدان وأقربون ،ودائرتي أنا
ي وأقاربي ،ثم تشيع في أمر آخر؛ في اليتامى والمساكين.
تشمل والد ّ
وهات كل واحد واحسب دوائره من الوالدين والقربين وما يكون حوله من اليتامى والمساكين
فستجد الدوائر المتماسكة قد شملت كل المحتاجين ،ويكون المجتمع قد حمل بعضه بعضا ،ول
يوجد بعد ذلك إل العاجز عن العمل .وعرفنا أن السائل هو " عمرو بن الجموح " ،وكانت له
قصة عجيبة؛ كان أعرج والعرج معذور من ال في الجهاد ،فليس على العمى حرج ،ول على
العرج حرج ول على المريض حرج " .وأراد الرسول صلى ال عليه وسلم أن يخرج من غزوة
فجاءه عمرو بن الجموح وقال :يا رسول ال ل تحرمني من الجهاد فإن أبنائي يحرمونني من
الخروج لعرجتي .قال له النبي صلى ال عليه وسلم :إن ال قد عذرك فيمن عذر .قال :ولكني يا
رسول ال أحب أن أطأ بعرجتي الجنة ".
هذا هو مَنْ سأل عن ماذا ينفقون ،فجاءت الجابة من الحقُ { :قلْ مَآ أَ ْن َفقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ } أي ما
أخرجتم من مال؛ لن النفاق يعني الخراج ،والخير هنا هو المال ،والنفاق يقتضي إخراج المال
عن ملكية النسان ببيع أو هبة أو صلة ،وأصل كلمة " النفاق " مأخوذ من " نفقت السوق " أي
راجت؛ لن السوق تقوم على البضاعة ،وحين تأتي إلى السوق ول تجد سلعا فذلك يعني أن
السوق رائجة ،ولكن عندما تجد البضائع مكدسة بالسوق فذلك يعني أن السوق لزالت قائمة.
إذن فمعنى " نفقت السوق " أي ذهبت كل البضائع كما تذهب الحياة من الدابة ،فعندما نقول :نفقت
لقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىا
ن وَا َ
الدابة ،أي ماتت .وأوجه النفاق بينها ـ سبحانه ـ في قوله } :فَلِ ْلوَاِلدَيْ ِ
ن وَابْنِ السّبِيلِ { .فهل كل يتيم محتاج؟ ربما يكون اليتيم قد ورث المال لكن علينا أن نفهم
وَا ْلمَسَاكِي ِ
أن المسألة ليست هي سد حاجة محتاج فقط ،ولكنها الوقوف بجانب ضعيف في أي زاوية من
زوايا الضعف؛ لن الطفل عندما يكون يتيما ولديه ماله ،ثم يراك تعطف عليه فهو يشعر أن أباه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لم يمت؛ لن أبوته باقية في إخوانه المؤمنين ،وبعد ذلك ل يشب على الحسد لولد آباؤهم
موجودين ،لكن حين يرى اليتيم كل أب مشغول بأبنائه عن أيتام مات أبوهم ،هنا يظهر فيه الحقد،
وتتربى فيه غريزة العتراض على القدر ،فيقول " لماذا أكون أنا الذي مات والدي؟ " ،ولكن
حين يرى الناس جميعا آباءه ،ويصلونه بالبسمة والود والترحاب والمعونة فلسوف يشعر أن من
له أب واحد يتركه الناس اعتمادا على وجود أبيه ،لكن حينما يموت أبوه فإن الناس تلتفت إليه
بالمودة والمحبة ،ويترتب على ذلك أن تشيع المحبة في المجتمع السلمي واللفة والرضا بقدر
ال ،ول يعترض أحد على وفاة أبيه ،فإن كان القدر قد أخذ أباه فقد ترك له آباء متعددين.
ولو علم الذين يرفضون المودة والعطف على اليتيم لن والده ترك له ما يكفيه ،لو علموا ما
يترتب على هذا التعاطف من نفع معنوي لتنافسوا على التعاطف معه؛ فليست المسألة مسألة حاجة
مادية ،وإنما هي حاجة معنوية.
وأنا أقول دائما :يجب أن نربي في الناشئة أن ال ل يأخذ أحدا من خلقه وفي الرض حاجة إليه؛
وارقبوا هذا المر فيمن حولكم تجدوا واحدا وقد تُوفى وترك أولدا صغارا فيحزن أهله ومعارفه؛
لنه ترك أولده صغارا ،وينسون المر من بعد ذلك ،وتمر فترة من الزمن ويفاجأ الناس بأن
أولد ذلك الرجل قد صاروا سادة الحي ،وكأن والدهم كان محبسا على رزقهم ،فحينما انتهى الب
فتح ال على البناء صنابير الرزق ،وذلك حتى ل يُفتَن إنسان في سبب.
وبعد النفاق على اليتامى نجد النفاق على المساكين وابن السبيل ،وقد عرفنا أن المسكين هو
المحتاج وابن السبيل هو المنقطع عن أهله وماله.
ويختم الحق هذه الية بقولهَ } :ومَا َتفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ { .إن ال يريد أن يرد الطبع
البشري إلى قضية هي :إياك أن تطلب جزاء الخير الذي تفعله مع هؤلء من أحد من الخلق،
ولكن اطلبه من ال ،وإياك أن تحاول أن يعلم الناس عنك أنك مُ ْنفِق على القارب واليتامى وابن
السبيل؛ لن الذين تريدهم أن يعلموا ل يقدرون لك على جزاء ،وعلمهم لن يزيدك شيئا ،وحسبك
أَنْ يعلم ال الذي أعطاك ،والذي أعطيت مما استخلفك فيه ابتغاء مرضاته .فحين ينفق الناس
لمرضاة الناس ،يلقون من بعد ذلك النكران والجحود فيكون من أعطى قد خسر ما أنفق ،واستبقى
الشر ممن أنفقه عليهم.
ولو أن النسان المسلم قصد بالنفاق وعمل الخير مرضاة الخالق العلى عز وجل لستبقى ما
أنفق من حسنات وثواب ليوم القيامة ،ولسخر ال له قلوب من تصدق عليهم بالمحبة والوفاء
بالمعروف ،وهذه عدالة من ال تتجلى في أنه يفعل مع المرائين ذلك؛ لنهم يعطون وفي بالهم
أنهم أعطوا له ،ولو أعطوا ال لما أنكر الخذ جميل العطاء .أنت أعطيته لمرضاته هو ،فكأن ال
يقول لك :سأتركك له ليجازيك ولهذا كان المتصدق في السر من السبعة الذين يظلهم ال في ظله
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يوم ل ظل إل ظله فمنهم .." :ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما تنفق يمينه "
وهذا هو الفضل في صدقة التطوع ،وأما الزكاة الواجبة فإعلنها أفضل ،وكذلك الحال بالنسبة
للصلة فالفريضة تكون إعلنها أفضل ،والنافلة يكون إسرارها أفضل .لكن لو عملت وفي بالك
ال فستجد أثر العطاء وفي وفاء من أخذ .فإياك أن تحاول ولو من طرف خفيّ أن يعلم الناس أنكم
تفعلون الخير .وبعد ذلك يرجع الحق إلى قضية سبق أن عالجها في قوله تعالىَ } :ولَ ُتقَاتِلُوهُمْ
جدِ الْحَرَامِ حَتّىا ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ { يرجع الحق إلى القتال فيتكلم عن المبدأ العام في القتال
عِنْدَ ا ْل َمسْ ِ
ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّلكُمْ{ ...
فيقول } :كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ
()218 /
كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمُ ا ْلقِتَالُ وَ ُهوَ كُ ْرهٌ َلكُمْ وَعَسَى أَنْ َتكْرَهُوا شَيْئًا وَ ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَعَسَى أَنْ تُحِبّوا شَيْئًا وَ ُهوَ
شَرّ َل ُك ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ ()216
إن كراهية القتال هي قضية فطرية يقولها الذي خلق النسان فهو سبحانه ل يعالج المر علجا
سوفسطائيا ،بمعنى أن يقول :وماذا في القتال؟ ل ،إن الخالق يقول :أعلم أن القتال مكروه .وحتى
إذا ما أصابك فيه ما تكره فأنت قد علمت أن الذي شرعه يُقدر ذلك .ولو لم يقل الحق إن القتال
كره :لفهم الناس أن ال يصور لهم المر العسير يسيرا.
إن ال عز وجل يقول للذين آمنوا :اعلموا أنكم مقبلون على مشقات ،وعلى متاعب ،وعلى أن
تتركوا أموالكم ،وعلى أن تتركوا لذتكم وتمتعكم .ولذلك نجد كبار الساسة الذين برعوا في السياسة
ونجحوا في قيادة مجتمعاتهم كانوا ل يحبون لشعوبهم أن تخوض المعارك إل مضطرين ،فإذا ما
اضطروا فهم يوضحون لجندهم أنهم يدرأون بالقتال ما هو أكثر شرا من القتال ،ومعنى ذلك أنهم
يعبئون النفس النسانية حتى تواجه الموقف بجماع قواها ،وبجميع ملكاتها ،وكل إرادتها.
والحق سبحانه وتعالى يقول { :كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ } إنه سبحانه يقول لنا :أعلم أن
القتال كره لكم ولكن أردت أن أشيع فيكم قضية ،هذه القضية هي أل تحكموا في القضايا الكبيرة
في حدود علمكم؛ لن علمكم دائما ناقص ،بل خذوا القضايا من خلل علمي أنا؛ لنني قد أشرع
مكروها ،ولكن يأتي منه الخير .وقد تَرَون حبا في شيء ويأتي منه الشر .ولذلك ينبهنا الحق إلى
أن كثيرا من المور المحبوبة عندنا يأتي منها الشر ،فيقول الواحد منا " :كنت أتوقع الخير من
هذا المر ،لكن الشر هو ما جاءني منه ".
وهناك أمور أخرى نظن أن الشر يأتي منها ،لكنها تأتي بالخير .ولذلك يترك الحق فلتات في
المجتمع حتى يتأكد الناس أن ال سبحانه وتعالى ل يُجري أمور الخير على مقتضيات ومقاييس
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علم العباد ،إنما يُجري الحكم على مقتضى ومقاييس وعلم رب العباد .ولننظر إلى ما رواه الحق
حقُبا *
ضيَ ُ
جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ َأوْ َأ ْم ِ
مثل للناس على ذلك {:وَإِذْ قَالَ مُوسَىا ِلفَتَاهُ ل أَبْرَحُ حَتّىا أَبْلُغَ َم ْ
غدَآءَنَا
خذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ سَرَبا * فََلمّا جَاوَزَا قَالَ ِلفَتَاهُ آتِنَا َ
جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا َنسِيَا حُو َت ُهمَا فَاتّ َ
فََلمّا بََلغَا مَ ْ
سفَرِنَا هَـاذَا َنصَبا * قَالَ أَرَأَ ْيتَ ِإذْ َأوَيْنَآ إِلَى الصّخْ َرةِ فَإِنّي نَسِيتُ ا ْلحُوتَ َومَآ أَنْسَانِيهُ
َلقَدْ َلقِينَا مِن َ
ِإلّ الشّ ْيطَانُ أَنْ أَ ْذكُ َر ُه وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبا * قَالَ ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلَىا آثَارِ ِهمَا
َقصَصا }[الكهف]64-60 :
إن موسى عليه السلم يسير مع فتاه إلى مجمع البحرين ،ويقال :إنه ملتقى بحرين في جهة
المشرق ،وكان معهما طعام هو حوت مملوح يأكلن منه ،لكن السفر والمشقة أنساهما الحوت
وانطلق الحوت بآية من ال إلى البحر ،وعندما وصل موسى إلى مجمع البحرين طلب من فتاه أن
يأتي بالطعام بعد طول التعب ،لكن الفتى يقول لموسى :إنه نسي الحوت ،ولم ينسه إياه إل
الشيطان.
وإن الحوت اتخذ طريقه إلى البحر ،فقال موسى :إن هذا ما كنا نطلبه علمة على وصولنا إلى
غايتنا وهي مجمع البحرين ،أي أمر الحوت وفقده هو الذي نطلب ،فإن الرجل الذي جئنا من أجله
هناك في هذا المكان ،وارتد موسى والغلم على آثارهما مرة أخرى.
فما الذي يحدث؟ يلتقي موسى عليه السلم بالعبد الصالح الخضر ،وهو ولي من أولياء ال ،علمه
ال العلم الرباني الذي يهبه ال لعباده المتقين كثمرة للخلص والتقوى .ويطلب موسى عليه
السلم من العبد الرباني سيدنا الخضر عليه السلم أن يتعلم منه بعض الرشد .لكن العبد الرباني
الذي وهبه ال من العلم ما يفوق استيعاب القدرة البشرية يقول لموسى عليه السلم {:قَالَ إِ ّنكَ لَن
تَسْ َتطِيعَ َم ِعيَ صَبْرا * َوكَيْفَ َتصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ ُتحِطْ بِهِ خُبْرا }[الكهف]68-67 :
لقد كان موسى على علم سابق بأن ضياع الحوت هو مسألة في ظاهرها شر لكن في باطنها خير؛
لن ذلك هو السبيل والعلمة التي يعرف بها موسى كيف يلتقي بالعبد الصالح .ويستمر السياق
نفسه في قصة موسى والعبد الصالح ،قصة ظاهرها الشر وباطنها الخير ،سواء في قصة السفينة
التي خرقها أو الغلم الذي قتله ،أو الجدار الذي أقامه.
لقد كان علم العبد الصالح علما ربانيا ،لذلك أراد موسى أن يتعلم بعضا من هذا العلم لكن العبد
الصالح ينبه موسى عليه السلم أن ما قد يراه هو فوق طاقة الصبر؛ لن الذي قد يراه موسى من
أفعال إنما قد يرى فيها شرا ظاهرا ،لكن في باطنها كل الخير.
وقَبِل موسى عليه السلم أن يقف موقف المتعلم بأدب مع العالم الذي وهبه ال العلم الرباني.
ويشترط العبد الرباني على موسى أل يسأل إل بعد أن يحدثه العبد الرباني عن السباب .ويلتقي
موسى والعبد الرباني بسفينة فيصعدان عليها ،ويخرق العبد الرباني السفينة ،فيقول موسى{:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أَخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْ ِرقَ أَهَْلهَا َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا ِإمْرا }[الكهف]71 :
ي صَبْرا }[الكهف]72 :
فيرد العبد الصالح {:أََلمْ َأ ُقلْ إِ ّنكَ لَن َتسْتَطِيعَ َم ِع َ
ويتذكر موسى أنه وعد العبد الصالح بالصبر ،لكن ما الذي يفعله موسى وقد وجد العبد الصالح
يخرق سفينة تحملهم في البحر؟ إنه أمر شاق على النفس .ولذلك يقول موسى {:لَ ُتؤَاخِذْنِي ِبمَا
ت َولَ تُ ْر ِهقْنِي مِنْ َأمْرِي عُسْرا }[الكهف]73 :
نَسِي ُ
إن موسى يعود إلى وعده للعبد الصالح ،ويطلب منه فقط أل يكلفه بأمور تفوق قدرته .وينطلق
العبد الصالح ومعه موسى عليه السلم ،فيجد العبد الصالح غلما فيقتله ،فيقول موسىَ {:أقَتَ ْلتَ
َنفْسا َزكِيّةً ِبغَيْرِ َنفْسٍ ّلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا ّنكْرا }[الكهف]74 :
ويُذكر العبد الصالح موسى أنه لن يستطيع الصبر معه ،ويعتذر موسى عما ل يعلم.
ويمر العبد الصالح ومعه موسى بقرية فطلبا من أهل القرية الضيافة ،لكن أهل القرية يرفضون
الضيافة ،ويجد العبد الصالح جدارا مائل يكاد يسقط فيبدأ في بنائه ،فيقول موسىَ {:لوْ شِ ْئتَ
خ ْذتَ عَلَيْهِ َأجْرا }[الكهف ]77 :ويكون الفراق بين العبد الصالح وموسى .ويخبر العبد الصالح
لَتّ َ
موسى بما لم يعلمه ولم يصبر عليه .إن خرق السفينة كان لنقاذ أصحابها من اغتصابها منهم؛
لن هناك ملكا كان يأخذ كل سفينة صالحة غصبا ،فأراد أن يعيبها ليتركها الملك لهؤلء
المساكين.
وقتل الغلم كان رحمة بأبويع المؤمنين ،كان هذا البن سيجلب لهما الطغيان والكفر ،وأراد ال أن
يبدله خيرا منه.
وأن الجدار الذي أقامه كان فوق كنز ،وكان ليتيمين من هذه القرية وكان والد الغلمين صالحا،
لذلك كان لبد من إعادة بناء الجدار حتى يبلغ الغلمان أشدهم ويستخرجا الكنز ويقول العبد
سطِـع عّلَيْهِ صَبْرا }
الصالح عن كل هذه العمالَ {:ومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي ذَِلكَ تَ ْأوِيلُ مَا َلمْ تَ ْ
[الكهف]82 :
إن العبد الصالح ل ينسب هذا العمل الرباني لنفسه ،ولكن ينسبه إلى الخالق الذي علمه .إذن
فالحق يطلق بعضا من قضايا الكون حتى ل يظن النسان أن الخير دائما فيما يحب ،وأن الشر
فيما يكره ،ولذلك يقول سبحانه } :وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُ ْم وَعَسَىا أَن ُتحِبّواْ شَيْئا
وَ ُهوَ شَرّ ّلكُمْ { فإن كان القتال كرها لكم ،فلعل فيه خيرا لكم .وبمناسبة ذكر الكُره نوضح أن هناك
" كَره " و " كُره " .إن " الكَره " بفتح الكاف :هو الشيء المكروه الذي تُحمل و ُتكْ َرهُ على فعله ،أما
" الكُره " بضم الكاف فهو الشيء الشاق.
وقد يكون الشيء مكروها وهو غير شاق ،وقد يكون شاقا ولكن غير مكروه .والحق يقول } :كُ ِتبَ
ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ { .ولنلحظ أن الحق دائما حينما يشرع فهو يقول } :كُ ِتبَ { ول يقول:
عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" كَتبت " ذلك حتى نفهم أن ال لن يشرع إل لمَنْ آمن به؛ فهو سبحانه لم يكتب على الكافرين أي
تكاليف ،وهل يكون من المنطقي أن يكلف ال مَنْ آمَن به ويترك الكافر بل تكليف؟
نعم ،إنه أمر منطقي؛ لن التكليف خير ،وقد ينظر بعض الناس إلى التكليف من زاوية أنه مُقيّد،
نقول لهم :لو كان التكليف اليماني يقيد لكلف ال به الكافر ،ولكن ال ل يكلف إل مَنْ يحبه ،إنه
سبحانه ل يأمر إل بالخير ،ثم إن ال ل يكلف إل مَنْ آمن به؛ لن العبد المؤمن مع ربه في عقد
اليمان.
إذن فال حين يقول " :كُتب " فمعنى ذلك أنه سبحانه يقصد أنه لم يقتحم على أحد حركة اختياره
الموهوبة له ،وال سبحانه وتعالى قد ترك للناس حرية الختيار في أن يؤمنوا أو ل يؤمنوا.
ومن آمن عن اختيار وطواعية فقد دخل مع ال في عقد إيمان ،وبمقتضى هذا العقد كتب ال عليه
التكاليف .ومن هذه التكاليف القتال ،فقال سبحانه } :كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ {.
وقوله } :عَلَ ْيكُمُ { يعني أن القتال ساعة يكتب ل يبدو من ظاهر أمره إل المشقة فجاءت } عَلَ ْي ُكمُ {
لتناسب المر .وبعد انتهاء القتال إذا انتصرنا فنحن نأخذ الغنائم ،وإذا انهزمنا واستشهدنا فلنا
الجنة.
ويعبر الحق عن ظاهر المر في القتال فيقول عنه } :وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُك ْم وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ
خَيْرٌ ّل ُك ْم وَعَسَىا أَن ُتحِبّواْ شَيْئا وَ ُهوَ شَرّ ّل ُكمْ { .إنها قضية عامة كما قلنا .لذلك فعلينا أن نرد
المر إلى من يعلمه } ،وَاللّهُ َيعَْل ُم وَأَنْتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ { فكل أمر علينا أن نرده إلى حكمة ال الذي
أجراه؛ لنه هو الذي يعلم.
وهناك قصة من التراث النساني تحكي قضية رجل من الصين ،وكان الرجل يملك مكانا متسعا
وفيه خيل كثيرة ،وكان من ضمن الخيل حصان يحبه .وحدث أن هام ذلك الحصان في المراعي
ولم يعد ،فحزن عليه ،فجاء الناس ليعزوه في فقده الحصان ،فابتسم وقال لهم :ومن أدراكم أن ذلك
شر لتعزوني فيه؟
وبعد مدة فوجئ الرجل بالجواد ومعه قطيع من الجياد يجره خلفه ،فلما رأى الناس ذلك جاءوا
ليهنئوه ،فقال لهم :وما أدراكم أن ذلك خير ،فسكت الناس عن التهنئة .وبعد ذلك جاء ابنه ليركب
الجواد فانطلق به ،وسقط الولد من فوق الحصان فانكسرت ساقه ،فجاء الناس مرة أخرى ليواسوا
الرجل فقال لهم :ومن أدراكم أن ذلك شر؟
وبعد ذلك قامت حرب فجمعت الحكومة كل شباب البلدة ليقاتلوا العدو ،وتركوا هذا البن؛ لن
ساقه مكسورة ،فجاءوا يهنئونه ،فقال لهم :ومن أدراكم أن ذلك خير؟ فعلينا أل نأخذ كل قضية
بظاهرها ،إن كانت خيرا أو شرا ،لكن علينا أن نأخذ كل قضية من قضايا الحياة في ضوء قول
سوْاْ عَلَىا مَا فَا َتكُ ْم َولَ َتفْرَحُواْ ِبمَآ آتَاكُمْ }[الحديد]23 :
الحقّ {:لكَيْلَ تَ ْأ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق هو القائل } :وَاللّهُ َيعَْل ُم وَأَنْتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ { .ول المثل العلى ،سبق لنا أن ضربنا المثل من
قبل بالرجل الحنون الذي يحب ولده الوحيد ويرجو بقاءه في الدنيا ،لذلك عندما يمرض البن
فالب يعطيه الدواء المر ،وساعة يعطيه الجرعة فالبن يكره الدواء ولكنه خير له .وبعد ذلك
شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ{ ...
يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن سؤال آخر يقول فيه } :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
()219 /
جدِ
شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه َوكُفْرٌ بِهِ وَا ْلمَسْ ِ
يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِنْدَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ وَلَا يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّى يَ ُردّوكُمْ
عمَاُلهُمْ فِي
طتْ أَ ْ
عَنْ دِي ِن ُكمْ إِنِ اسْ َتطَاعُوا َومَنْ يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ عَنْ دِي ِنهِ فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ فَأُولَ ِئكَ حَ ِب َ
صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ()217
الدّنْيَا وَالَْآخِ َر ِة وَأُولَ ِئكَ َأ ْ
والسؤال هنا ليس عن الشهر الحرام؛ لنه كان معروفا عندهم من أيام الجاهلية ولكن السؤال عن
القتال في الشهر الحرام ،فما جدوى السؤال إذن؟ إنه سؤال استفزازي ،والمسألة لها قصة.
ونعرف أن للسنة أثنى عشر شهرا ،وقد جعل ال فيها أربعة أشهر حرم :شهر واحد فرد وهو
رجب ،وثلثة سرد ،هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم .ومعنى أشهر حرم أي أن القتال محرم
فيها.
لقد علم ال كبرياء الخلق على الخلق ،لذلك جعل ال لخلقه ساترا يحمي كبرياءهم ،ومن هذه
السنن التي سنها ال هي حرمة القتال في الشهر الحرم ،والماكن الحرم ،فيجوز أن الحرب
تضر المحارب ،لكن كبرياءه أمام عدوه يمنعه من وقف القتال ،فيستمر في الحرب مهما كان
الثمن ،فيأتي الحق سبحانه وتعالى ويقول للمتحاربين :ارفعوا أيديكم في هذه الشهور لني حرمت
فيها القتال .وربما كان المحاربون أنفسهم يتمنون من أعماقهم أن يتدخل أحد ليوقف الحرب ،ولكن
كبرياءهم يمنعهم من التراجع ،وعندما يتدخل حكم السماء سيجد كل من الطرفين حجة ليتراجع مع
حفاظه على ماء الوجه .وكذلك جعل ال أماكن محرمة ،يحرم فيها القتال حتى يقول الناس إن ال
هو الذي حرمها ،وتكون لهم ستارا يحمي كبرياءهم.
إذن فالحق سبحانه وتعالى الذي خلق النسان أراد أن يصون النسان حتى يحقن الدماء ،فإذا ظل
الناس ثلثة أشهر بل حرب ،ثم شهرا آخر ،فنعموا في هذه الفترة بالسلم والراحة والهدوء ،فربما
يألفون السلم ،ول يفكرون في الحرب مرة أخرى ،لكن لو استمرت الحرب بل توقف لظل سعار
الحرب في نفوسهم ،وهذه هي ميزة الشهر الحرم.
والشهر الحرم حُ ُرمٌ في الزمان والمكان؛ لن الزمان والمكان هما ظرف الحداث ،فكل حدث
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحتاج زمانا ومكانا .وعندما يحرم الزمان ويحرم المكان فكل من طرفي القتال يأخذ فرصة
للهدوء.
إن الحق سبحانه وتعالى يعرض هنا قضية أراد بها خصوم السلم من كفار قريش واليهود أن
يثيروها؛ فقد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يرسل بعض السرايا للستطلع ،والسرية هي
عدد محدود من المقاتلين ،فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأرسل سرية على رأسها عبد
ال بن جحش السدي ابن عمة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأرسل معه ثمانية أفراد ،وجعله
أميرا عليهم ،وأعطاه كتابا وأمره أل يفتحه إل بعد مسيرة يومين ،وذلك حتى ل يعلم أحد أين
تذهب السرية ،وفي ذلك احتياط في إخفاء الخبر.
فلما سارت السرية ليلتين فتح عبد ال الكتاب وقرأه فإذا به :اذهب إلى " بطن نخلة " وهو مكان
بين مكة والطائف واستطلع عير قريش ،ول تُكره أحدا ممن معك على أن يسير مرغما ،بمعنى
أن يكون لكل فرد في السرية حرية الحركة ،فمن يفضل عدم السير فله هذا الحق.
وبينما هم في الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعقبة بن غَزْوان ،وذهبا يبحثان عن
البعير ،وبقى ستة مقاتلين مع عبد ال ،وذهب الستة إلى " بطن نخلة " فوجدوا " عمرو بن
الحضرمي " ومعه ثلثة على عير لقريش ،فدخلوا معهم في معركة ،وكان هذا اليوم في ظنهم هو
آخر جمادى الخرة ،لكن تبين لهم فيما بعد أنه أول رجب أي أنه أحد أيام شهر حرام.
وقتل المسلمون ابن الحضرمي ،قتله واقد بن عبد ال من أصحاب عبد ال ابن جحش ،وأسروا
اثنين ممن معه ،وفر واحد ،فلما حدث هذا ،وتبين لهم أنهم فعلوا ذلك في أول رجب ،عند ذلك
اعتبروا أن قتالهم وغنائمهم مخالفة لحرمة شهر رجب.
وثارت المسألة أخذا وردّا بين المسلمين قبل أن تتحدث فيها قريش حيث قالوا :إن محمدا يدعي
أنه يحترم المقدسات ويحترم الشهر الحرم ،ومع ذلك قاتل في الشهر الحرم ،وسفك دمنا ،وأخذ
أموالنا ،وأسر الرجال .فامتنع رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الغنائم والسرى حتى يفصل
ال في القضية فنزل حكم السماء في القضية بهذا القول الحكيم:
سجِدِ
شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَن سَبِيلِ اللّهِ َوكُفْرٌ بِ ِه وَا ْلمَ ْ
} َيسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِندَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ وَلَ يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّىا يَ ُردّوكُمْ
عمَاُل ُهمْ فِي
طتْ أَ ْ
عَن دِي ِن ُكمْ إِن اسْ َتطَاعُو ْا َومَن يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ عَن دِي ِنهِ فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ فَُأوْلـا ِئكَ حَ ِب َ
الدّنْيَا وَالخِ َر ِة وَُأوْلـا ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ { [البقرة]217 :
نحن مُسلّمون أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير ،ولكن انظروا يا كفار قريش إلى ما صنعتم
مع عبادنا وقارنوا بين كِبْر هذا وكِبْر ذاك .أنتم تقولون :إن القتال في الشهر الحرام مسألة كبيرة،
ولكن صدكم عن سبيل ال وكفركم به ،ومنعكم المسلمين من المسجد الحرام ،وإخراج أهل مكة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منها أكبر عند ال من القتال في الشهر الحرام ،فل تفعلوا ما هو أكبر من القتال في الشهر
الحرام ،ثم تأخذكم الغيرة على الحرمات.
فكأن الحق أراد أن يضع قضية واضحة هي :ل تؤخذوا من جزئيات التدين أشياء وتتحصنوا فيها
خلف كلمة حق وأنتم تريدون الباطل فالواقع يعرض الشياء ،ونحن نقول :نعم إن القتال في
الشهر الحرام كبير .ولكن يا كفار قريش اعلموا أن فتنة المؤمنين في دينهم وصدهم عن طريق
ال ،وكفركم به ـ سبحانه ـ وإهداركم حرمة البيت الحرام بما تصنعون فيه من عبادة غير ال،
وإخراجكم أهله منه ،إن هذه المور الثمة هي عند ال اكبر جرما وأشد إثما من القتال في
الشهر الحرم لسترداد المسلمين بعض حقهم لديكم.
ولهذا يرد الحق سهام المشركين في نحورهم } َولَ يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّىا يَرُدّوكُمْ عَن دِي ِنكُمْ إِن
اسْ َتطَاعُواْ { أي إياكم أن تعتقدوا أنهم سيحترمون الشهر الحرام ول المكان الحرام ،بل } وَلَ
يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ { أي وسيصرون ،ويداومون على قتالكم } حَتّىا يَ ُردّوكُمْ عَن دِي ِن ُكمْ إِن اسْتَطَاعُواْ
{ .وتأمل قوله } :إِن اسْتَطَاعُواْ { إن معناها تحد لهم بأنهم لن يستطيعوا أبدا فـ " إنْ " تأتي دائما
ت وَ ُهوَ كَافِرٌ فَُأوْلـا ِئكَ
في المر المشكوك فيه .ويتبع الحق } َومَن يَرْتَ ِددْ مِ ْنكُمْ عَن دِينِهِ فَ َي ُم ْ
عمَاُلهُمْ فِي الدّنْيَا وَالخِ َر ِة وَُأوْلـا ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ { سيظلون يقاتلونكم
طتْ أَ ْ
حَ ِب َ
حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .ثم يختم الحق الية بقضية يقول فيهاَ } :ومَن يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ
عمَلُ ُه وَ ُهوَ
عَن دِي ِنهِ { هذه الية يقابلها آية أخرى يقول الحق فيهاَ {:ومَن َيكْفُرْ بِالِيمَانِ َفقَدْ حَ ِبطَ َ
فِي الخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[المائدة]5 :
وإذا قارنّا بين اليتين نجد أن الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد ورد فيها قوله } :فَ َي ُمتْ
عمَلُهُ
وَ ُهوَ كَافِرٌ { وفي سورة المائدة لم يرد هذا وإنما ورد قولهَ } :ومَن َي ْكفُرْ بِالِيمَانِ َفقَدْ حَبِطَ َ
{ وقد اختلف العلماء في المسألة اختلفات جميلة .ولكنهم اتفقوا َأوّل على أن أي إنسان يرتد عن
السلم ثم يموت مرتدا فقد حبطت أعماله .ولكن اختلفهم تركز فيما لو رجع وآمن مرة ثانية،
أي لم يمت وهو كافر ،بل رجع فآمن بعد ردته ،فهل حبط عمله أم لم يحبط؟.
وللمام الشافعي رأي يقول :إن الذي يرتد عن الدين تحبط أعماله إن مات على الكفر ،أما إن عاد
وأسلم مرة أخرى فإن أعماله التي كانت قبل الرتداد تكون محسوبة له .والمام أبو حنيفة له رأي
مختلف فهو يقول :ل ،إن آية سورة المائدة ليس فيها } فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ { وعليه فإننا نحملها على
آية سورة البقرة التي ذكر فيها ذلك من باب حمل المطلق على المقيد ،وعلى ذلك فالذي يكفر بعد
إيمانه عمله محبط سواء رجع إلى اليمان بعد ذلك أو لم يرجع ،فل يحتسب له عمل.
أين موضوع الخلف إذن؟ .هي أن إنسانا آمن وأدى فريضة الحج ثم ل قدر ال كفر وارتد ،ثم
رجع فآمن أتظل له الحجة التي قام بها قبل الكفر أم تحبط ويطلب منه حج جديد؟ هذه هي نقطة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخلف .فالشافعي يرى أنه ل يحبط عمله مادام قد رَجع إلى اليمان لن ال قال } :فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ
كَافِرٌ { فمعنى ذلك أنه إن لم يمت على الكفر فإن عمله ل يحبط .ولكن ل يأخذ ثوابا على ذلك
الحج الذي سبق له أن أداه ،لقد التفت المام الشافعي رضي ال عنه إلى شيء قد يغفل عنه كثر
من الناس ،وهو أن الحج ركن من أركان السلم ،فالذي ل يحج وهو قادر على الحج فال يعاقبه
على تقصيره ،والذي حج ل يعاقب ويأخذ ثواب فعله.
فكأن العمال التي طلبها الحق سبحانه وتعالى إن لم تفعلها وكانت في استطاعتك عوقبت ،وإن
فعلتها يمر عملك بمرحلتين ،المرحلة الولى هي أل تُعاقب ،والمرحلة الثانية هي أن تُثاب على
الفعل .فالشافعي قال :إن الشخص إذا فعل فعلً يُثاب عليه النسان ،ثم كفر ،ثم عاد إلى السلم
فهو ل يُعاقب ،ولكنه يُثاب .أما المام أبو حنيفة فقد قال :إنه ل عبرة بعمله الذي سبق الردة
عمَاُلهُمْ { أي أبطلت وزالت ،وكأنها لم تكن .إن القرآن استخدم هنا
طتْ أَ ْ
مصداقا لقوله تعالى } :حَ ِب َ
كلمة " حبط " ،وهي تستخدم تعبيرا عن المر المحسوس فيقال " :حبطت الماشية " أي أصابها
مرض اسمه الحباط ،لنها تأكل لونا من الطعام تنتفخ به ،وعندما تنتفخ فقد تموت .والنبي عليه
الصلة والسلم يقول " :إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم ".
إنه صلى ال عليه وسلم يحذرنا من أن الخير قد يندس فيه شر ،مثلما يحدث في الربيع الذي ينبت
فيه من النبات الذي يعجب الماشية فتأكله فيأتيها مرض " الحُباط " ،فتنتفخ ثم تموت ،أو " يلم "
أي توشك أن تموت ،وكذلك العمال التي فعلها الكفار تصبح ظاهرة مثل انتفاخ البطن ،وكل هذه
العمليات الباطلة ستحبط كما تحبط الماشية التي أكلت هذا اللون من الخضر ،ثم انتفخت فيظن
المشاهد لها أنها سمنة؛ وبعد ذلك يفاجأ بأنه مرض .لقد أعطانا ال من هذا القول المعنى
المحسوس لتشابه الصورتين؛ فالماشية عندما تحبط تبدو وكأنها نمت وسمنت ،لكنه نمو غير
طبيعي إنه ليس شحما أو لحما ،لكنه ورم ،كذلك عمل الذين كفروا؛ عمل حابط ،وإن بدا أنهم قد
قاموا بأعمال ضخمة في ظاهرها أنها طيبة وحسنة.
ويقول بعض الناس :وهل يُعقل أن الكفار الذين صنعوا إنجازات قد استفادت منها البشرية ،هل
من المعقول أن تصير أعمالهم إلى هذا المصير؟ .لقد اكتشفوا علجا لمراض مستعصية وخففوا
آلم الناس ،وصنعوا اللت المريحة والنافعة .ونقول لصحاب مثل هذا الرأي :مهلً ،فهناك
قضية يجب أن نتفق عليها وهي أن الذي يعمل عملً؛ فهو يطلب الجر ممن عمل له ،فهل كان
هؤلء يعملون وفي بالهم ال أم في بالهم النسانية والمجد والشهرة ،وما داموا قد نالوا هذا الجر
عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ
في الدنيا فليس لهم أن ينتظروا أجرا في الخرة .لذلك يقول الحق {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
ج ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ َلمْ يَ ِ
ِبقِيعَةٍ يَحْسَ ُبهُ ال ّ
حسَابِ }[النور]39 :
الْ ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الكافر يظن أن أعماله صالحة نافعة لكنها في الخرة كالسراب الذي يراه النسان في
الصحراء فيظنه ماء ،ويجد نفسه في الخرة أمام لحظة الحساب فيوفيه ال حسابه بالعقاب ،وليس
لهم من جزاء إل النار ،وينطبق عليهم ما ينطبق على كل الكافرين بال ،وهو } وَُأوْلـائِكَ
َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ {.
هذا وإن الحق سبحانه وتعالى يوضح حقيقة المر للمؤمنين به وبرسوله صلى ال عليه وسلم حتى
يعطيهم مناعة إيمانية ضد آمال الكافرين في الضرار بالمؤمنين ،فيعلمنا أنهم لن يدخروا وسعا
حتى يردوكم عن دينكم؛ لن منهج ال دائما ل يخيف إل المبطلين؛ فالنسان السوي الذي يريد أن
يعايش العالم في سلم ويأخذ من الخير على قدر حركته في الوجود ل ترهقه سيادة مبادئ
السلم ،إنما تُرهق مبادئ السلم هؤلء الذين يريدون أن يسرقوا عرق وكدّ غيرهم وهم يبذلون
كل الجهد ويستخدمون كافة الساليب التي تصرف المسلمين عن دينهم ،ولكن هل يُمكّنهم ال من
ذلك؟ ل؛ فل يزال هناك أمل في الخير إن تمسكت أمة السلم بالمنهج الحق.
إنه سبحانه يعطي المناعة للمؤمنين ،والمناعة ـ كما نعرف ـ هي أن تنقل للسليم ميكروب
المرض بعد إضعافه ،وبذلك تأخذ أجهزة جسمه فرصة لن تنتصر على هذا الميكروب؛ لذلك قال
عمَاُلهُمْ { .إن الخلف
طتْ أَ ْ
ت وَ ُهوَ كَافِرٌ فَُأوْلـا ِئكَ حَبِ َ
الحقَ } :ومَن يَرْ َتدِدْ مِ ْنكُمْ عَن دِينِهِ فَ َيمُ ْ
الجوهري بين المؤمن والكافر ،هو أن المؤمن إنما يعمل العمل الصالح وفي نيته أن المكافئ هو
ال ،وهو يتجه بنية خالصة في كل عمل .ويأخذ بأسباب ال في العلم لينتفع به غيره من الناس؛
فتكون الفائدة عميمة وعظيمة ،وعلى المؤمن أن يكون سباقا إلى الكتشاف والختراع ونهضة
العالم المسلم ،وأن يكون المؤمن العالم منارة تشع بضوء اليمان أمام الناس ،ل أن يترك غيره
من الكافرين يصلون إلى المكتشفات العلمية وهو متواكل كسلن.
إن على المؤمن أن يأخذ بأسباب ال في الحياة؛ لن السلم هو دين ودنيا ،وهو دين العلم
والتقدم ،ويضمن لمن يعمل بمنهجه سعادة الدنيا وسعادة الخرة .وإذا كان المؤمن يستمتع بإنتاج
يصنعه الكافر فليعلم أن الكافر إنما أخذ أجره مُسخرا ممن عمل له ،أما المؤمن فحين يتفوق في
الصناعة والزراعة والعلم والكتشاف فهو يأخذ الجر في الدنيا وفي الخرة؛ لن الذي يعطي هنا
هو ال.
أما عمل الكافر فهو عمل من مسخر كالمطايا وكالجماد والنبات والحيوان المسخر لخدمة النسان.
وإذا كان ال قد ميز المؤمن على الكافر بالجر في الدنيا وحسن الثواب في الخرة ،أل يليق
بالمؤمن أن يسبق الكافر في تنمية المجتمع السلمي ،وأن يكون بعمله منارة هداية لمن حوله؟!
ويقول الحق من بعد ذلك } :إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَالّذِينَ هَاجَرُو ْا َوجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ُأوْلـا ِئكَ
ح َمتَ اللّهِ{ ...
يَرْجُونَ َر ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()220 /
غفُورٌ رَحِيمٌ
حمَةَ اللّ ِه وَاللّهُ َ
إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَ ِئكَ يَ ْرجُونَ َر ْ
()218
إن الية قد عددت ثلثة أصناف :الصنف الول هم الذين آمنوا ،والصنف الثاني هم الذين
هاجروا ،والصنف الثالث هم الذين جاهدوا .إن الذين آمنوا إيمانا خالصا لوجه ال ،وهاجروا
لنصرة الدين ،وجاهدوا من أجل أن تعلو كلمة السلم هؤلء قد فعلوا كل ذلك وهم يرجون رحمة
ال .ولقائل أن يقول :أليست الرحمة مسألة متيقنة عندهم؟
ونقول :ليس للعبد عند ال أمر متيقن؛ لنك قد ل نفطن إلى بعض ذنوبك التي لم تُحسن التوبة
منها ،ول التوبة عنها .وعليك أن نضع ذلك في بالك دائما ،وأن تتيقن من استحضار نية
الخلص ل في كل عمل تقوم به؛ فقد تحدثك نفسك بشيء قد يفسد عليك عملك ،وكذلك رسول
ال صلى ال عليه وسلم وهو سيد الخلق وسيد الموصولين بربهم يقول " :اللهم إني أعوذ بك من
علم ل ينفع وعمل ل يُرفع ودعاء ل يُسمع ".
إن الرسول الكريم وهو سيد المحتسبين في كل أعماله يعلمنا أن النفس قد تخالط صاحبها بشيء
يفسد الطاعة .وعلى المسلم أن يظل في محل الرجاء .والمؤمن الذي يثق في ربه ل يقول :إن
على ال واجبا أن يعمل لي كذا؛ لن أصل عبادتك ل سبق أن دفع ثمنها ،وما تناله من بعد ذلك
هو فضل من ال عليك ،مدفوع ثمنها لك إيجادا من عدم وإمدادا من عُدْم ،ومدفوع ثمنها بأن
متعك ال بكل هذه الشياء ،فلو قارنت بين ما طلبه ال منك ـ على فرض أنك ل تستفيد منه ـ
فقد أفدت مما قدم لك أول ،وكل خير يأتيك من بعد ذلك هو من فضل ال عليك ،والفضل يرجى
ول يُتيقن.
وعظمة الحق سبحانه وتعالى في أنك تدعوه خوفا وطمعا .ويقول هذا المثل ـ ول المثل العلى
ـ إن من عظمتك أمام والدك أنك تجد لك أبا تخاف منه ،وترغب أن يحقق لك بعضا من
أحلمك ،ولو اختلت واحدة من الثنتين لختلت البوة والبنوة.
كذلك عظمة الرب يُرغب ويُرهب :إن رغبت فيه ولم ترهبه فأنت ناقص اليمان ،وإن رهبت ولم
ترغب فإيمانك ناقص أيضا ،لذلك لبد من تلزم الثنتين :الرهبة والرغبة .ولو تبصّر النسان ما
فرضه ال عليه من تكاليف إيمانية لوجد أنه يفيد من هذه التكاليف أضعافا مضاعفة .فكل ما
يجازي به ال عباده إنما هو الفضل ،وهو الزيادة .وكل رزق للنسان إنما هو محض الفضل.
حبّ
خفْيَةً إِنّ ُه لَ يُ ِ
ومحض الفضل يُرجى ول يُتيقن .وها هو ذا الحق يقول {:ادْعُواْ رَ ّبكُمْ َتضَرّعا َو ُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ح َمتَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ
طمَعا إِنّ َر ْ
خوْفا وَ َ
حهَا وَادْعُوهُ َ
ا ْل ُمعْتَدِينَ * َولَ ُتفْسِدُواْ فِي الَرْضِ َبعْدَ ِإصْلَ ِ
حسِنِينَ }
ا ْلمُ ْ
[العراف]56-55 :
إن الدنيا كلها مسخرة تحت قهر الرحمن ومشيئته وتسخيره ،وله تمام التصرف في كل الكائنات
وهو الخالق البديع ،لذلك فليدع النسان ال بخشوع وخضوع في السر والعلنية ،والحق ل يحب
من يعتدي بالقول أو الرياء أو اليذاء.
إن اليمان يجب أن يكون خالصا ل ،فل يفسد النسان الرض بالشرك أو المعصية؛ لن الحق قد
وضع المنهج الحق لصلح الدنيا وهو القرآن ،ورسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ورحمة
ال قريبة من المطيعين للحق جل وعل.
إن عظمة الرب في أنه يُرغب ويُرهب؛ إن رغبت فيه ولم ترهبه فعملك غير مقبول ،وإن رهبته
ولم ترغبه فعملك غير مقبول .إن الرغب والرهب مطلوبان معا ،لذلك فالمؤمن المجاهد في سبيل
ال يرجو رحمة ال.
ح َمتَ اللّهِ { ما هي الرحمة؟ الرحمة أل تبتلى باللم من أول
والحق يقولُ } :أوْلـا ِئكَ يَرْجُونَ َر ْ
حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[السراء:
شفَآ ٌء وَ َر ْ
المر ،والحق سبحانه وتعالى يقول {:وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
]82
الشفاء هو أن تكون مصابا بداء ويبرئك ال منه ،لكن الرحمة ،هي أل يأتي الداء أصل } وَاللّهُ
غفُورٌ رّحِيمٌ {.
َ
وال سبحانه وتعالى يعلم عن عباده أن أحدا منهم قد ل يبرأ من أن يكون له ذنب .فلو حاسبنا
بالمعايير المضبوطة تماما فلسوف يتعب النسان منا ،ولذلك أحب أن أقول ـ دائما ـ مع إخواني
هذا الدعاء " :اللهم بالفضل ل بالعدل وبالحسان ل بالميزان وبالجبر ل بالحساب " .أي عاملنا
بالفضل ل بالعدل ،وبإحسانك ل بالميزان ،لن الميزان يتعبنا.
ولقد علمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن دخول الجنة ل يكون بالعمال وحدها ،ولكن بفضل
ال ورحمته ومغفرته .إن الرسول الكريم يقول " :لن يدخل أحدكم الجنة بعمله .فقالوا :ول أنت يا
رسول ال ،قال :ول أنا حتى يتغمدني ال برحمته ".
إذن فالمؤمن يرجو ال ول يشترط على ال ،إن المؤمن يتجه بعمله خالصا ل يرجو التقبل
خمْرِ
والمغفرة والرحمة ،وكل ذلك من فضل ال .ويأتي الحق لسؤال آخر } :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ
وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَآ إِ ْثمٌ كَبِيرٌ{ ...
()221 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س وَإِ ْث ُم ُهمَا َأكْبَرُ مِنْ َن ْفعِ ِهمَا وَيَسْأَلُو َنكَ
خمْرِ وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَا إِ ْثمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّا ِ
يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ
مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َعفْوَ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ الْآَيَاتِ َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ ()219
والخمر ـ كما نعرف ـ مأخوذة من الستر ،ويقال " :دخل فلن خمرة " أي في أيكة من الشجار
ملتفة فاختبأ فيها .و " الخِمار " هو القناع الذي ترتديه المسلمة لستر رأسها ،وهو مأخوذ أيضا من
نفس المادة .و " خامرة المر " أي خالطه .وكل هذه المعاني مأخوذة من عملية الستر .و "
الميسر " مأخوذ من اليسر؛ لنه يظهر للناس بمكاسب يسيرة بل تعب.
والخمر والميسر من المور التي كانت معروفة في الجاهلية .والسلم حين جاء ليواجه نُظُما
جاهلية واجه العقيدة بل هوادة ،ولم يجابهها ويواجهها على مراحل بل أزالها من أول المر،
ورفع راية " ل إله إل ال محمد رسول ال " ،ثم جاء السلم في المور التي تُعتبر من العادات
فبدأ يهونها؛ لن الناس كانت تألفها ،لذلك أخذها بشيء من الرفق والهوادة .وكان هذا من حكمة
الشرع ،فلم يجعل الحكام في أول المر عملية قسرية فقد يترتب عليها الخلل في المجتمع وفي
الوجود كله ،وإنما أخذ المور بالهوادة.
وإذا كانت الخمرة مأخوذة من الستر ،فماذا تستر؟ إنها تستر العقل بدليل أن من يتعاطاها يغيب
عن وعيه .ول يريد ال سبحانه وتعالى للنسان الذي كرمه ال بالعقل أن يأتي للشيء الذي كرمه
به ويُسَيّر به أمور الخلفة في الرض ويستره ويغيّبه ،لن من يفعل ذلك فكأنه رد على ال
النعمة التي أكرمه بها ،وهذا هو الحمق.
ثم إن كل الذي يتعاطون الخمر يبررون فعلهم بأنهم يريدون أن ينسوا هموم الدنيا ،ونسأل هؤلء:
وهل نسيان الهموم يمنع مصادرها؟ ل ،ولذلك فالسلم يطلب منك أن تعيش همومك لتواجهها
بجماع عقلك ،فإذا كانت هناك هموم ومشكلت فالسلم ل يريد منك أن تنساها ،ل ،بل لبد أن
توظف عقلك في مواجهتها ،وما دام المطلوب منك أن تواجه المشكلت بعقلك فل تأتي لمركز
إدارة المور الحياتية وهو العقل ،والذي يعينك على مواجهة المشكلت وتقهره بتغييبه عن العمل.
وهل النسيان يمنع المصائب؟ إن الذي يمنع المصائب هو أن تحاول بجماع فكرك أن تجد السبيل
للخروج منها ،فإذا كان المر ليس في استطاعتك فمن الحمق أن تفكر فيه؛ لن ال يريد منك أن
تريح عقلك في مثل هذه المور ،وإن كان المر له حل وفي استطاعتك حله ،فأنت تحتاج للعقل
بكامل قوته.
والحق سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه القضية بحكمة الحكيم ،ويعطينا عطاء لنحكم نحن في المر
ل وَالَعْنَابِ تَتّخِذُونَ
قبل أن يطلب منا .إنه ـ سبحانه ـ يمتن علينا ويقولَ {:ومِن َثمَرَاتِ النّخِي ِ
سكَرا وَرِزْقا حَسَنا }[النحل]67 :
مِنْهُ َ
سكَرا } مر عليها بل تعليق.
فعندما ذكر ال { َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعندما قال } :رِزْقا { وصفه بأنه } حَسَنا { فكان يجب أن نتنبه إلى أن ال يمهد لموقف السلم
من الخمر؛ فهو لم يصف " السكر " بأي وصف ،وجعل للرزق وصفا هو الحسن؛ فالناس عندما
يستخرجون من هذه الثمرات سكرا ،فهم قد أخرجوها عن الرزق الحسن ،لن هناك فرقا بين أن
تأخذ من العنب غذاءً وبين أن تخمره فتفسده وتجعله ساترا للعقل.
وبعد ذلك فهناك فرق بين تشريع ونصح .فعندما تنصح شخصا فأنت تقول له :سأدلك على طريق
الخير وأنت حر في أن تسير فيه أو ل تسير .وعندما تشرع وتضع الحكم ،فأنت تأمر هذا
الشخص أو ذاك بأن يفعل المر ول شيء سواه.
خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ { ،ذكر لنا المفاسد وترك لنا
والحق سبحانه وتعالى عندما قال } :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ
الحكم عليها ،قال سبحانه مُبَلغّا رسولهُ } :قلْ فِي ِهمَآ إِ ْثمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّاسِ { ولو لم يقل } َومَنَافِعُ
لِلنّاسِ { لستغرب الناس وقالوا :نحن نأخذ من الخمر منافع ،ونكتسب منها ،وننسى بها همومنا،
كانت هذه هي المنافع بالنسبة لهم ،لكن الحق يوضح أن إثمهما أكبر من نفعهما ،أي أن العائد من
وراء تعاطيهما أقل من الضرر الحادث منهما ،وهذا تقييم عادل ،فلم تكن المسألة قد دخلت في
نطاق التحريم ،لنها مازالت في منطقة النصح والرشاد.
وقوله تعالى } :وَإِ ْث ُمهُمَآ َأكْبَرُ مِن ّن ْف ِع ِهمَا { يجعل فيهما نوعا من الذنب ،لقد كان التدرج في الحكم
أمرا مطلوبا لنه سبحانه يعالج أمرا بإلف العادة ،فيمهد سبحانه ليخرجه عن العادة .والعادة شيء
يقود إلى العتياد؛ بحيث إذا مر وقت ولم يأت ما تعوّ َدتْ عليه نفسيتْك ودمك يحدث لك
اضطراب .وما دامت المسألة تقود إلى العتياد ،فالفضل أن تسد الباب من أوله وتمنع العتياد.
لقد كانت بداية الحكم في أمر الخمر أن أحدا من المسلمين شرب الخمر قبل أن تُحرم نهائيا ،وجاء
ليصلي ،فقالُ " :قلْ ياأَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ * أَعْ ُبدُ مَا َتعْبُدُونَ " وبعدها نزل تأديب الحق بقوله {:يَا أَ ّيهَا
سكَارَىا حَتّىا َتعَْلمُواْ مَا َتقُولُونَ[} ..النساء]43 :
ل َة وَأَنْتُمْ ُ
الّذِينَ آمَنُواْ لَ َتقْرَبُواْ الصّ َ
وفي ذلك تدريب لمَنْ اعتاد على الخمر أل يقربها؛ فالنسان الذي يصلي صدر عليه الحكم أل
يقرب الصلة وهو سكران ،فمتى يمتنع إذن؟ إنه يصحو من نومه فل يقرب الخمر حتى يصلي
الصبح ،ويقترب الظهر فيستعد للصلة ،ثم العصر بعد ذلك ،ويليه المغرب فالعشاء ،أي لن يصبح
عنده وقت ليشرب في الوقات التي ينتظر فيها الصلة ،إذن فل تصبح عنده فرصة إل في آخر
الليل ،فإذا ما جاء الليل يشرب له كأسا ثم يغط في نومه .ويكون الوقت الذي امتنع فيه عن الخمر
أطول من الوقت الذي يتعاطى فيه الخمر.
ولما بدأ تعودهم على الخمر يتزعزع ،حدثت بعض الخلفات والمشكلت التي دفعتهم لن يطلبوا
من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يوضح لهم حكما فاصلً في الخمر فنزل قوله تعالى:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ع َملِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ
ب وَالَ ْزلَمُ رِجْسٌ مّنْ َ
خمْ ُر وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَا ُ
{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا الْ َ
خمْ ِر وَا ْلمَيْسِ ِر وَ َيصُ ّدكُمْ
َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ * إِ ّنمَا يُرِيدُ الشّ ْيطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْ َن ُكمُ ا ْلعَدَا َو َة وَالْ َب ْغضَآءَ فِي الْ َ
لةِ َف َهلْ أَنْ ُتمْ مّن َتهُونَ }[المائدة]91-90 :
عَن ِذكْرِ اللّ ِه وَعَنِ الصّ َ
فقالوا :انتهينا يا رب.
إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد بتحريم الخمر أن يحفظ على النسان عقله؛ لن العقل هو مناط
التكليف للنسان ،وهو مناط الختيار بين البدائل ،فأراد الحق أن يصون للنسان تلك النعمة.
إن هدف الدين في المقام الول سلمة الضرورات الخمس التي ل يستغني عنها النسان :سلمة
النفس ،وسلمة العرض ،وسلمة المال ،وسلمة العقل ،وسلمة الدين .وكل التشريعات تدور
حول سلمة هذه الضرورات الخمس ،ولو نظرت إلى هذه الضرورات تجد أن الحفاظ عليها يبدأ
من سلمة العقل ،فسلمة العقل تجعله يفكر في دينه .وسلمة العقل تجعله يفكر في حركة الحياة.
وسلمة العقل تجعله يحتاط لصيانة العرض.
إذن فالعقل هو أساس العملية التكليفية التي تدور حولها هذه المسألة ،والحق سبحانه وتعالى يريد
أل يخمر النسان عقله بأي شيء مُسكر .حتى ل يحدث عدوان على هذه الضرورات الخمس.
وقد جمع ال في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بين الخمر والميسر ،وهو جل وعل
يريد أن يحمي غفلة الناس .فلعب الميسر يتمثل في صورته البسيطة في اثنين يجلسان أمام
بعضهما البعض ،وكل واحد منهما حريص على أن يأخذ ما في جيب الخر ،فأي أخوة تبقى بين
ل منهما حريص على أن يعيد الخر إلى منزله خاوي الجيوب فأي أخوة تكون بين
هؤلء؟ إن ك ّ
الثنين؟
ومن العجيب أنك ترى الذين يلعبون الميسر في صورة الصحاب ،ويحرص كل منهما على لقاء
الخر ،فأي خيبة في هذه الصداقة؟!
ومن العجيب أن يقر كل من الطرفين صاحبه على فعله ،يأخذ ماله ويبقى على صداقته ،والعجيب
الكبر هو التدليس والسرقة بين الذين يتعودون على لعب الميسر .ولو لحظت حياة هؤلء الذين
يلعبون الميسر تجدهم ينفقون ويبذرون بل احتياط ول ينتفعون أبدا بما يصل أيديهم من مال مهما
كان كثيرا ،لماذا؟
لن المال حين يُكتسب بيسر ،يُصرف منه بل احتياط ،هذا هو حال من يكسب ،أما بالنسبة
للخاسر فتجده يعيش في الحسرة واللم على ما فقد ،وتجده في فقر دائم ،وربما اضطر إلى
التضحية بعرضه وشرفه ،إن لم يبع ملبسه ،وأعز ما يملك ،ويحدث كل ذلك بأمان زائفة ،وآمال
كاذبة يزينها الشيطان للطرفين ،الذي كسب والذي خسر ،فالذي كسب يتمنى زيادة ما معه من مال
أكثر وأكثر ،والذي خسر يأمل أن يسترد ما خسره ويكسب.
وعندما يتعود النسان أن يكسب بدون حركة فكل شيء يهون عليه ،ويعتاد أن يعيش على الكسب
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السهل الرخيص ،وحين ل يجد من يستغفله ليلعب معه ربما سرق أو اختلس.
وهذا هو حال الذين يلعبون الميسر؛ إنهم أصحاب الرذائل في المجتمع ،فهم الذين يرتشون
ويسرقون ويعربدون ،ول أخلق عندهم وليس لهم صاحب ول صديق ،وبيوتهم منهارة ،وأسرهم
مفككة ،وعليهم اللعنة حتى في هيئتهم وهندامهم.
س وَإِ ْث ُم ُهمَآ َأكْبَرُ مِن
خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَآ إِ ْثمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّا ِ
ولذلك قال الحق } :يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ
ّن ْفعِ ِهمَا { وما دام الثم أكبر من النفع ،فقد رجح جانب الثم .هذا في العملية الذاتية ،أما في العملية
سكَارَىا }[النساء]43 :
ل َة وَأَنْتُمْ ُ
الزمنية فقد قال سبحانه {:لَ َتقْرَبُواْ الصّ َ
خمْ ُر وَا ْلمَيْسِرُ
وبعد ذلك أنهى ـ سبحانه ـ المسألة تماما بقوله الحق {:يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا الْ َ
ع َملِ الشّ ْيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[المائدة]90 :
وَالَنصَابُ وَالَ ْزلَمُ ِرجْسٌ مّنْ َ
ثم تمضي الية إلى سؤال آخر هو } وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ُقلِ ا ْل َع ْفوَ { إنه السؤال نفسه من عمرو
ن وَالْيَتَامَىا
ن وَالَقْرَبِي َ
بن الجموح وكان الجواب عليه من قبلُ هو } ُقلْ مَآ أَ ْنفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَاِلدَيْ ِ
ن وَابْنِ السّبِيلِ { وهنا جواب بشكل وصورة أخرى } ُقلِ ا ْل َعفْوَ { والعفو معناه الزيادة
وَا ْلمَسَاكِي ِ
خذْنَا أَهَْلهَا بِالْبَأْسَآءِ
وفي ذلك يقول الحق ـ سبحانه وتعالى ـَ {:ومَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نّ ِبيّ ِإلّ أَ َ
ع َفوْ ْا ّوقَالُواْ َقدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّآءُ
وَالضّرّآءِ َلعَّلهُمْ َيضّرّعُونَ * ُثمّ بَدّلْنَا َمكَانَ السّيّئَةِ الْحَسَ َنةَ حَتّىا َ
شعُرُونَ }[العراف]95-94 :
خذْنَاهُمْ َبغْ َت ًة وَهُ ْم لَ يَ ْ
وَالسّرّآءُ فَأَ َ
إن ال ـ جلت قدرته ـ يحذر وينذر لعل الناس تتذكر وتعتبر ،إنه ـ سبحانه ـ لم يرسل نبيّا
إلى قو ٍم فقابلوه بالتكذيب والنكران إلّ أخذهم وابتلهم بالفقر والبؤس والمرض والضر لعلهم
يتوبون إلى ربهم ويتذلّلون له ـ سبحانه ـ ليرفع عنهم ما ابتلهم به ،ثم لما لم يرجعوا ويقلعوا
عما هم فيه من الكفر والعناد اختبرهم وامتحنهم بالنعم؛ بالخصب والثراء والعافية والرخاء حتى
كثروا وزادت أموالهم وخيراتهم ،وقالوا ـ وهم في ظل تلك النعم ـ :إن ما يصيبنا من سراء
وضراء وخير وشر إنما هو سنة الكون ،وعادة الدهر ،فأسلفنا وآباؤنا كان يعتريهم مثل ما
يصيبنا ،ولما أصروا على كفرهم باغتهم ال بالعذاب ،وأنزل بهم العقاب المفاجئ .قلبهم ال بين
الشدة والرخاء ،وعالجهم بالضر واليسر ،حتى ل تكون لهم حجة على ال ،ولما ظهرت خسة
طبعهم وأقاموا على باطلهم أخذهم ال أخذ عزيز مقتدر .ولنتأمل قوله تعالى في ذلك {:وَلَقَدْ أَ ْرسَلنَآ
إِلَىا ُأمَمٍ مّن قَبِْلكَ فََأخَذْنَا ُهمْ بِالْبَأْسَآ ِء وَالضّرّآءِ َلعَّلهُمْ يَ َتضَرّعُونَ * فََلوْل ِإذْ جَآءَهُمْ بَ ْأسُنَا َتضَرّعُواْ
ستْ قُلُو ُبهُ ْم وَزَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ مَا كَانُواّ َي ْعمَلُونَ * فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ
وَلَـاكِن َق َ
خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبِْلسُونَ }
شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَ َ
أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
[النعام]44-42 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي لم نعجل بعقابهم بل تركناهم فتمادوا في المعصية حتى إذا فرحوا بما أتوا من النعمة والثروة
خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبِْلسُونَ { أي يائسون من رحمة ال أو نادمون متحسرون،
وكثرة العدد } ،أَ َ
ول ينفعهم الندم حينئذ .فقد فاتت الفرصة وضيّعوها على أنفسهم.
إن الحق ينزل هذا المر كعقاب وبه تكون النقلة صعبة ،إنهم يتمادون فيعاقبهم الحق عقابا
صاعقا ،كالذي يرفع كائنا في الفضاء ثم يتركه ليهوى على الرض ،والعفو هنا يمكن أن يكون
ع ِفيَ َلهُ مِنْ
بمعنى أنهم ازدادوا في الطغيان .وهناك معنى آخر للعفو فقد يأتي بمعنى التركَ {:فمَنْ ُ
شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ }[البقرة]178 :
أَخِيهِ َ
أي فمن ترك له أخوه شيئا فليأخذه .إذن فالعفو تارة يكون بمعنى الزيادة ،وتارة أخرى يكون
بمعنى الترك ،والحق هنا يقول } :وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َع ْفوَ { أي أن النفاق إنما يكون من
الزائد عن الحاجة ،فيكون معنى العفو هنا هو الزائد أو المتروك ،وهكذا نرى أن العفو واحد في
كل المرين ،فل تظن أن المعاني تتضارب؛ لن بها يتحقق المعنى المقصود في النهاية .فالعفو
هو الزيادة ،والعفو أيضا يؤخذ بمعنى الصفح.
إذن فالنفاق من الزائد عن الحاجة يحقق الصفح ويحقق الرفاهية في المجتمع .فالذي يزرع أرضا
وينتج ما يكفيه هو وعياله ويزيد ،فهل يترك ما يزيد عن حاجته ليفسد أم ينفق منه على قريبه أو
جاره المحتاج؟ أيهما أقرب إلى العقل والمنطق؟ وكان ذلك قبل أن يشرع الحق الزكاة بنظامها
المعروف .وما سر تبديلها من عفو إلى زكاة؟
لن الحق أراد أن يقدر حركة المتحرك ،فجعل حركته تخفف عنه ول تثقل عليه .لن حركة
المتحرك تنفع المتحرك ،أراد المتحرك أو لم يرد؛ ولذلك نجد " زكاة الركاز " وهي الزكاة
المفروضة على ما يوجد في باطن الرض من ثروات كالمعادن النفيسة والبترول وغيرها ،لقد
جعل الحق نصاب تلك الزكاة عشرين في المائة ،أي الخمس بينما الذي يحرث الرض ويبذر فيها
الحب ويتركها حتى ينزل المطر فتنمو فنصاب الزكاة هو العشر على ما أنتجته زراعته.
وأما الذي يزرع على ماء الري فعليه نصف العشر .والذي يتاجر كل يوم ويتعب فيذهب للمنتج
ويشتري منه ،ثم يوفر السلعة على البائع فيشتريها ،هذا نقول له :عليك اثنان ونصف في المائة (
)%2.5فقط.
إذن فالزكاة متناسبة مع الحركة والجهد ،كأن الحق يحمي الحركة النسانية من حمق التقنين
البشري .إن المتحرك القوي يدفعه ال ليزيد من حركته لينتفع المجتمع ،وأوكل ال للحاكم الذي
خلَ الغنياء بفضل ال
يتبع منهج السلم أن يأخذ من الثرياء ما يقيم به كرامة الفقراء .إِنْ بَ ِ
عليهم ،ولم ينفقوا على الفقراء من رزق ال؛ فالمنهج الحق يحمي المال من فساد الطمع ،ومن
فساد الكسل ،ويريد الحياة مستقيمة وآمنة للناس.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالذي ينفق من ماله على أهله يحيا وهو آمن .وكذلك من ينفق على أهله وتوابعه فتزداد دائرة
المان ،وهكذا لقد حمى ال بالزكاة طموح البشر من حمق التقنين من البشر ،فالمقنن من البشر
يأتي للمتحرك أكثر ويزيد عليه العباء ،نقول له :إن هذا المتحرك إن لم يقصد أن ينفع المجتمع
فالمجتمع سينتفع بجهده بالرغم عنه؛ فالنسان الذي يملك مال يُلقي ال خاطرا في باله ،فيقول" :
ماذا لو بنيت عمارة من عشرة أدوار ،وفي كل دور أربع شقق " ويحسب كم تعطيه تلك العمارة
من عائد كل شهر .إن هذا الرجل لم يكن في باله إل أن يربح ،فنتركه يفكر في الربح ،وعندما
نراقب الفائدة التي ستعود على المجتمع منه فسنجد الفائدة تعود على المجتمع من هذا العمل ،ولنا
أن نحسب كم فردا سوف يعمل في بناء تلك العمارة الجديدة؟ ابتداء من البنائين ومرورا بالنجارين
والحدادين والمبيضين والسباكين وغيرهم.
إن كل طبقات المجتمع الفقيرة تكون قد أفادت واستفادت من مال هذا الرجل قبل أن يدخل جيبه
مليم واحد؛ لقد ألقى ال في نفسه خاطرا ،فأخرج كل ما في جيبه ،وألقاه في جيوب الخرين قبل
أن توجد له عمارة .وهكذا يحمي ال حركة المتحرك لن حركته ستفيد سواه قصد إلى ذلك أو لم
يقصد.
أما إذا قلنا له :سنأخذ ما يزيد عن حاجتك قسرا فل بد أن يقول لنفسه " :سأجعل حركتي على قدر
حاجتي ول أزيد إل قليل " .والحق عز وجل ل يريد أن يشيع هذا المنطق بين الناس ،ولكن يريد
لهم أن يتحركوا في الحياة بالجدية والحلل ،وكلما تكثر حركتهم تقل الزكاة المفروضة عليهم ،لن
الحركة ل يستفيد منها صاحبها فقط ولكن يستفيد منها الجميع ،فبعضه يسكن ،وآخر يزرع ،وثالث
يعمل ،وخير للنسان أن يأكل من عمل يديه من أن يأكل من صدقات الناس وزكاتهم.
عن المقدام بن معد يكرب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ما أكل أحد طعاما قط خيرا
من أن يأكل من عمل يده ،وإن نبي ال داود عليه السلم كان يأكل من عمل يده ".
ويقول الحق من بعد ذلك } :فِي الدّنْيَا وَالخِ َر ِة وَيَسَْألُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَىا ُقلْ ِإصْلَحٌ ّلهُمْ خَيْرٌ{ ...
()222 /
إن الحق يبدأ هذه الية بقوله { :فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ } وكأنه يقول لنا :إياك أن تعتقدوا أن كل
تكليف من ال جزاؤه في الخرة فقط ،أبدا إن الجزاء سيصيبكم في الدنيا أيضا.
وتأمل سيرة المستقيمين الملتزمين بمنهج دينهم ومنهج الخلق في حياتهم تجدهم قد أخذوا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جزاءهم في الدنيا رضا وسعادة وأمنا حتى أنك تجد الناس تتساءل :كيف ربى فلن أولده ،وكيف
علمهم برغم أن مرتبه بسيط؟
هم ل يعلمون أن يد ال معه بالبركة في كل حركات حياته .فل تظن أن الجزاء مقصور على
الخرة فقط ،بل يعجل ال بالجزاء في الدنيا ،أما الخرة فهي زيادة ونحن نأخذ متاع الخرة
بفضل ال .قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لن يدخل أحدكم الجنة بعمله ،قالوا :ول أنت يا
رسول ال ،قال :ول أنا إل أن يتغمدني ال برحمته ".
وأحب أن يتأمل كل منا أحوال الناس المستقيمين في منهج الحياة ،ويرى كيف يعيشون وكيف
ينفقون على أولدهم ،ويتأمل البشر والرضا الذي يتمتعون به وكيف تخلو حياتهم من المشاكل
والعقد النفسية.
وكأنه سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن كل ما جاء في المنهج القويم ،إنما جاء لينظم لنا حركة الحياة
ويخرجنا من أهواء النفوس.
ونقول بعد أن استكمل الحق الكلم عن الحج وهو الركن الخامس من أركان السلم ،بين لنا
صنفين من المجتمع :أما الصنف الول فهو الصنف المنافق الذي ل ينسجم منطقه مع واقع قلبه
خصَامِ
شهِدُ اللّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِ ِه وَ ُهوَ أََلدّ الْ ِ
ونفسهَ {:ومِنَ النّاسِ مَن ُي ْعجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ
حبّ الفَسَادَ }[البقرة:
ل وَاللّ ُه لَ ُي ِ
سَث وَالنّ ْ
سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ الْحَ ْر َ
* وَإِذَا َتوَلّىا َ
]205-204
وليت هذا الصنف حين يتنبه إلى ذلك يرتدع ويرجع ،ل ،إنه إذا قيل له من ناصح محب مشفق" :
اتق ال " أخذته العزة بالثم!! .والصنف الخر في المجتمع هو من يشري نفسه ابتغاء مرضاة
ال ،ويتمثل ذلك في أنه إما أن يبيع نفسه في القتال فيكون شهيدا ،وإما أن يستبقيها استبقاءً يكون
فيه الخير لمنهج ال .فقال سبحانهَ {:ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَاللّهُ َرؤُوفٌ
بِا ْلعِبَادِ }[البقرة]207 :
ثم تكلم الحق عن الدخول في السلم كافة ،والدخول في السلم أي السلم يطلب منا أن ندخل جميعا
في كل أنواع السلم في الحياة ،سلم مع نفسك فل تتعارض ملكاتك ،فل تقول قولً يناقض قلبك،
وسِلمٌ مع المجتمع الذي تعيش فيه ،وسلم مع الكون الذي يخدمك جمادا ونباتا وحيوانا ،وسلم مع
طوَاتِ
خُخلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلَ تَتّ ِبعُواْ ُ
أمتك التي تعيش فيها ،فقال سبحانه {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْ ُ
الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َلكُمْ عَ ُدوّ مّبِينٌ }
[البقرة]208 :
كل ذلك يدلنا على أن الحق حين خلق الخلق ،وضع لهم المنهج الذي يضمن لهم السلمة والمن
في كل أطوار هذه الحياة ،فإن رأيت خللً أو اضطرابا في الكون ،أو رأيت خوفا أو قلقا فاعلم أن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منهجا من مناهج السلم قد عُطل .والحق سبحانه وتعالى حينما يأمرنا أن ندخل في السلم كافة
فهو سبحانه يحذرنا أننا إن زللنا عن المنهج فإن ال عزيز حكيم فل يغلبه أحد ،ول يقدر عليه
أحد ،فهو القادر القوي الذي يُجري كل شيء بحكمة ،فل تظنوا أنكم بذلك تسيئون إلى ال بالزلل
عن منهجه ،وإنما تسيئون إلى أنفسكم وإلى أبناء جنسكم؛ لن ال ل يُغلب.
وينبهنا الحق سبحانه تنبيها آخر ،إنه يلفتنا إلى أننا ل نملك أمر الساعة ،فالساعة تأتي بغتة
ومفاجئة ،وصاخة طامة ،مرجفة مزلزلة .فاحذروا أن تصيبكم هذه الرجفة وأنتم في غفلة عنها.
وكل ذلك لندخل أيضا في السلم في اليوم الخر ،وكأن الحق سبحانه يلفتنا إلى أن كلمات القرآن
ليست مجرد كلمات نظرية ،ولكنها كلمات الحكيم الخبير التي حكمت تاريخ المم التي سبقت
دعوة محمد صلى ال عليه وسلم.
فكم من آيات أرسلها الحق إلى بني إسرائيل فتلكأوا وكان منهم ما كان ،وشقوا هم ،وشقي بهم
المجتمع ،إذن فالكلم ليس كلما نظريا .ويريد ال لنا أن ننظر بعمق إلى أمور الحياة ،وأل ننظر
إلى سطحيات المور ،فيجب أل تخدعنا زينة الحياة الدنيا عن الحياة الخرة؛ لن الحياة الدنيا
َأمَدُها قصير ،وعلينا أن نقيس عمر الدنيا بأعمارنا منها ،وأعمارنا فيها قصيرة؛ لن منا من يموت
كبيرا ومنا من يموت صغيرا.
ويبين لنا الحق سبحانه أنه لم يترك خلقه هملً ،وإنما أرسل لهم رسُلً يبينون لهم منهج ال ،فكان
الناس أمة واحدة مجتمعة على الحق إلى أن تحركت الهواء في نفوسهم ،ومع ذلك رحمهم ال فلم
يسلمهم إلى الهواء ،بل استمر موكب الرسالت في البشر ،وكلما غلبتهم الهواء وطم الفساد،
أرسل الحق برحمته رسول لينبه إلى أن جاء الرسول الخاتم الذي ميزه ال بخلود منهجه ،وجعل
القيم في أمته .وصارت المة المحمدية هي حاملة أمانة حراسة المنهج الذي يصون حركة الحياة
في الرض؛ لن الحق سبحانه لم يأمن أمة سواها ،ولذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسلم
خاتم النبياء.
ثم نبهنا ال من بعد ذلك إلى أن نهاية النسان إلى نعيم ال في الجنة لن يأتي سهلً ميسورا ،بل
هو طريق محفوف بالمكارة ،فيجب أن تنبهوا أنفسكم وتروضوها وتدربوها على تحمل هذه
المكاره ،وتوطنوها على تحملها لتلك المشاق .كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :حفت
الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ".
ويمتن الحق من بعد ذلك على خلقه أنه أهدى للنسان الخليفة في الرض عقلً يفكر به ،وطاقة
تنفذ تخطيط العقل ،وكونا ماديا أمامه يتفاعل معه في الحركة :فالعقل يخطط ،والطاقة تنفذ في
المادة المخلوقة المسخرة ل .إذن فكل أدوات الحركة موجودة ل ،وليس لك أيها النسان أن تخلق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيئا فيها إل أن تُُوجه طاقات مخلوقة للعمل في مادة مخلوقة ،فأنت ل توجد شيئا.
وبعد ذلك يطلب الحق منك أيها المسلم أن تحافظ على حركة الحياة ،بأن تقدر للعاجز عن هذه
الحركة نصيبا من حركتك؛ لذلك فعليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك ،وتسع من تعول ،وتسع
العاجز عن الحركة .وبذلك تؤمّن السماء كل عاجز عن الحركة بحركة المتحركين من إخوانه
المؤمنين ،وهو سبحانه يطمئنك بأنك إذا فعلت ذلك وَأمّنْتَ العاجز ،فهو ـ جل وعل ـ يؤمنك
حين يطرأ عليك العجز.
لقد جعل ال سبحانه حالة الحياة دولً بين الناس ،فل يوجد قوم قادرون دائما ول قوم عاجزين
دائما ،بل يجعل الحق من القادرين بالمس عاجزين اليوم؛ ومن العاجزين بالمس قادرين اليوم؛
حتى تتوزع الحركة في الوجود .وحتى يعلم كل منا أن ال يطلب منك حين تقدر؛ ليعطيك حين
تعجز .لذلك طلب منا أن ننفق ،والنفقة على الغير ل تتأتى إل بعد استيفاء النسان ضروريات
حياته ،فكأن الحق يقول لك :إن عليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك وتسع أن تنفق على من
تعول ،وإل لو تحركت حركة على قدرك فقد ل تجد ما تنفقه.
وبعد ذلك يكلفنا سبحانه بأن كل مؤمن عليه أن يأخذ مسئولية النفاق على الدائرة القريبة منه؛
ليتحمل كل موجود في الحياة مسئولية قطاع من المجتمع مربوط به رباطا نَسَبِيّا؛ كالوالدين
والقربين .وأن نجعل الضعفاء من اليتام مشاعا على المجتمع مطلوبين من الجميع .سواءٌ كانت
تربطهم بنا قرابة أو ل تربطنا بهم قرابة فهم جميعا أقاربنا؛ لن ال كلفنا بأن نرعاهم.
ولكن هل يمكن أن يستقر منهج ال دون أن يعاديه أحد؟ طبعا ل؛ لذلك ينبهنا الحق إلى أننا سنجد
أقواما ل يسعدهم أن يطبق منهج ال في الوجود؛ لنهم ل يعيشون إل على مظالم الناس ،هؤلء
قوم سيسوؤهم أن يُطبق منهج ال ،فلتنتبهوا لهؤلء؛ ولذلك فرض الحق سبحانه القتال حتى نمنع
الفتنة بالكفر من الرض؛ لن الكفر يعدد اللهة في الكون وسيتبع كل إنسان الهوى ،ويصبح إلهه
هواه وستتعدد اللهة بتعدد الهواء ،ولذلك كتب ال على المؤمنين القتال وقال } :وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ
{ ،كل ذلك ليضمن لنا الغاية التي يريدها ،وهي الدخول في السلم والسلم والسلم كافة .وبعد
ذلك يطلب منا أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا وأن نهجر أوطاننا وأهلنا إن احتاجت إلى ذلك الحركة
ح َمتَ
اليمانية فقال {:إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ُأوْلـا ِئكَ يَرْجُونَ رَ ْ
غفُورٌ رّحِيمٌ }
اللّ ِه وَاللّهُ َ
[البقرة]218 :
ويلفتنا الحق بعد ذلك إلى قمة الجهاز التخطيطي في النسان ليحميه ويجعله جهازا سليما قادرا
على التخطيط بصفاء وحكمة وقوة ،وهو العقل ،ويلفتنا بضرورة أن نمنع عن العقل كل ما يخمره
أي يستره عن الحركة نمنع عنه الخمر لماذا؟ ليظل العقل كما يريده ال أداة الختيار بين البدائل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما دام العقل هو الذي يخطط للطاقة الموجودة في النسان لتعمل في المادة الموجودة في الكون
فيجب أن يظل هذا العقل المخطط سليما ،فل يحاول النسان أن يستره ،ول يقل أحد " :إني أستره
ل واحدا منك فقط ،ولكنها تريد عقلين،
من فرط زيادة المشكلت " ،ل :لن المشكلت ل تريد عق ً
فل تأتي للعقل الواحد لتطمسه بالخمر ،فمواجهة المشكلت تقتضي أن نخطط تخطيطا قويا.
وبعد ذلك يحذرنا الحق أن نأخذ من حركة الخرين بغير عرق وبغير جهد ،فيحذرنا من الميسر
وهو الرزق السهل ،والتحذير من الميسر إنما جاء ليضمن لكل إنسان أن يتحرك في الحياة حركة
سليمة ل خداع فيها .وكأن كل ما تقدم هو من إشراقات قوله الحق } :فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ { ومن
بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَىا ُقلْ ِإصْلَحٌ ّلهُمْ خَيْ ٌر وَإِنْ تُخَاِلطُوهُمْ
حكِيمٌ }[البقرة]220 :
خوَا ُنكُ ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِ وََلوْ شَآءَ اللّ ُه لَعْنَ َتكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
فَإِ ْ
ونعرف أن اليتامى قد ل يدخلون في دائرة المحتاجين لكن ال ينبهنا إلى أن المسألة في اليتيم
ليست مسألة احتياج إلى القتيات ،ولكنه في حاجة إلى أن نعوضه بالتكافل اليماني عما فقده من
الب ،وذلك يمنع عنه الحقد على الطفال الذين لم يمت آباؤهم .وحين يجد اليتيم أن كل المؤمنين
آباء له فيشعر بالتكافل الذي يعوضه حنان الب ول يعاني من نظرة السى التي ينظر بها إلى
أقرانه المتميزين عليه بوجود آبائهم ،وبذلك تخلع منه الحقد.
وكان المسلمون القدامى يخلطون أموالهم بأموال اليتامى ليسهلوا على أنفسهم ،وعلى أمر حركة
اليتيم مئونة العمل ،فلو أن يتيما دخل تحت وصاية إنسان ،وأراد هذا النسان أن يجعل لليتيم
القاصر حياة مستقلة وإدارة مستقلة ومسلكا مستقلً في الحياة لشق ذلك على نفس الرجل ،ولذلك
أذن ال أن يخلط الوصي ماله بمال اليتيم ،وأن يجعل حركة هذا المال من حركة ماله ،بما ل
يوجد عند الوصي مشقة .ولما نزل قوله تعالىَ {:ولَ َتقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ }
[النعام]152 :
وتحرج الناس ،وتساءلوا كيف يعاملون اليتيم خصوصا أن الحق سبحانه وتعالى قال {:إِنّ الّذِينَ
ظلْما إِ ّنمَا يَ ْأكُلُونَ فِي ُبطُو ِنهِمْ نَارا }[النساء]10 :
يَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ الْيَتَامَىا ُ
وكف الناس أيديهم عن أمر اليتامى ،وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسهل المر ،فأنزل القول
خوَا ُنكُمْ { والمخالطة تكون على أساس أن اليتامى
الحقُ } :قلْ ِإصْلَحٌ ّل ُهمْ خَيْ ٌر وَإِنْ ُتخَالِطُو ُهمْ فَإِ ْ
إخوانكم واحذروا جيدا أن يكون في هذا الخلط شيء ل يكون فيه إصلح لليتيم.
وإياكم أن تفهموا أن الشكلية الجتماعية تكفي الوصي في أن يكون مشرفا على مال اليتيم دون
حساب؛ لن ال يعلم المفسد من المصلح .فل يحاول أحد أن يقول أمام الناس :إنه قد فتح بيته
لليتيم وإنه يرعى اليتيم بينما المر على غير ذلك؛ لن ال يعلم المفسد من المصلح.
ويقول الحق } :وََلوْ شَآءَ اللّ ُه لَعْنَ َتكُمْ { والعنات هو أن توقع غيرك وتدخله في أمر فيه مشقة،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلو لم يبح ال لكم مخالطتهم لصابتكم مشقة فيسر ال للمؤمنين من الوصياء أن يخالطوا اليتامى،
ومعنى المخالطة :هو أن يُوحد الوصي حركة اليتيم مع حركته ،وأن يوحد معاش اليتيم مع
معاشه ،بدلً من أن يكون لليتيم على سبيل المثال أدوات طعام مستقلة ،وقد كان هذا هو الحاصل.
وكان يفسد ما يتبقى من الطعام؛ فلم تكن هناك وسائل صيانة وحفظ الطعمة مثل الثلجات ،وكان
ذلك ضررا باليتيم ،وضررا أيضا بمن يشرف عليه .لكن حين قال } :وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ { ،فكان
ذلك توفيرا للمشقة على الوصياء .فالمخالطة هي المعاشرة التي ل يتعثر فيه التمييز.
وقد درسنا في طفولتنا درسا بعنوان " الخلط والمزج " فالخلط هو أن تخلط على سبيل المثال
حبوب الفول مع حبوب العدس ،أو حبوب الرز مع حبوب البندق.
وعندما تأتي لتمييز صنف من آخر ،فأنت تستطيع ذلك ،وتستطيع أن تفصل الصنفين بعضا عن
بعض بالغربال؛ ولذلك فالمخالطة تكون بين الحبوب ونحوها.
أما المزج فهو في السوائل .والحق سبحانه يرشدنا أن نخالط اليتامى ل أن نمزج مالهم بمالنا؛ لن
اليتيم سيصل يوما إلى سن الرشد ،وسيكون على الوصي أن يفصل ماله عن مال اليتيم.
ويتابع الحق } :وَاللّهُ َيعْلَمُ ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِ { لن الوصي قد يدعي أمام الناس أنه يرعى حق
اليتيم ،وأنه يقوم بمصالحه ويحترم ماله ،لكن المر قد يختلف في النية وهو سبحانه لم يكل المر
إلى ظواهر فهم المجتمع لسلوك الوصي مع اليتيم وعن المخالطة ،بل نسب ذلك كله إلى رقابته
سبحانه ،وذلك حتى يحتاط النسان ويعرف أن رقابة ال فوق كل رقابة ،ولو شاء الحق لعنت
الوصياء وجعلهم يعملون لليتيم وحده ،ويفصلون بين حياة اليتيم وحياتهم ومعاشهم .وفي ذلك
مشقة شديدة على النفس .وحتى نفهم معنى العنت بدقة فلنقرأ قول الحق سبحانهَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة]128 :
رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
لقد جاءكم أيها المؤمنون رسول منكم ،عربي ومن قريش يبلغكم رسالة ال سبحانه وتعالى.
يحرص عليكم كيل تقعوا في مشقة أو تعيشوا في ضنك الكفر ،حريص على أن تكونوا من
المهتدين.
فالرسول صلى ال عليه وسلم لم يأتي من جنس الملئكة ،ولكن جاء من جنس البشر ،فل يقولن
أحد :إنه ل يصلح أسوة لي .إنه نشأ في مكة التي تعيش بها قريش ،وتاريخه معروف لقومه:
بدليل أنهم خلعوا عليه أول الوصاف المطلوبة والواجبة للرسالة وهي المانة ،فالحق جاء به من
البشر وليس بغريب عليهم ،وبمجرد أن أخبر بالوحي وجد أناسا آمنوا به قبل أن يقرأ قرآنا ،وقبل
أن يأتيهم بتحدٍ " .فعندما جاءه المََلكُ جبريلُ عليه السلم في غار حراء ،فقال :اقرأ .قال :ما أنا
بقارئ .فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد[ ،أي ضمني وعصرني ،والحكمة فيه شغله عن
اللتفات ليكون قلبه حاضرا] ثم أرسلني فقال :اقرأ ،قلت :ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بلغ مني الجهد ثم أرسلني وقال :اقرأ .فقلت :ما أنا بقارئ .فأخذني الثالثة فغطني ثم أرسلني فقال:
لكْرَمُ * الّذِى عَلّمَ بِا ْلقَلَمِ *
كاَ
ق الِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَ ْأ وَرَ ّب َ
} اقْرَأْ بِاسْمِ رَ ّبكَ الّذِي خَلَقَ * خََل َ
عَلّ َم الِنسَانَ مَا لَمْ َيعَْلمْ { فرجع بها رسول ال صلى ال عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على
خديجة بنت خويلد رضي ال عنها فقال لها " :زملوني .زملوني " .فزملوه حتى ذهب عنه الروع،
فقال لخديجة وأخبرها الخبر " :لقد خشيت على نفسي " لكن خديجة رضي ال عنها بحسن
استنباطها تقول " :كل وال ل يخزيك ال أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم
وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق " ".
إن خديجة رضوان ال عليها تستنبط أن من فيه هذه الخصال إنما هو مهيأ للرسالةَ {.لقَدْ جَآ َءكُمْ
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ }[التوبة]128 :
رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
أي محب لكم يشق عليه ويتعبه ما يشق عليكم ويتعبكم؛ ولذلك كان الرسول صلى ال عليه وسلم
مشغول بأمته .ويروي عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال " :أمتي .أمتي .أمتي " .والحق سبحانه
وتعالى يعلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم مشغول بأمته " .عن عبد ال بن عمرو بن العاص
أن النبي صلى ال عليه وسلم تل قول ال عز وجل في إبراهيم } َربّ إِ ّنهُنّ َأضْلَلْنَ كَثِيرا مّنَ
ك وَإِن
النّاسِ َفمَن تَ ِبعَنِي فَإِنّهُ مِنّي { ..الية .وقال عيسى عليه السلم } :إِن ُتعَذّ ْب ُهمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُد َ
حكِيمُ { فرفع يديه وقال :اللهم أمتي أمتي وبكى .فقال ال عز وجل" :
َت ْغفِرْ َل ُهمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك .فأتاه جبريل عليه الصلة والسلم فسأله
فأخبره رسول ال صلى ال عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال ال :يا جبريل اذهب إلى محمد
فقل :إنا سنرضيك في أمتك ول نسوؤك " ".
إننا عندما نتأمل دقة الجواب النبوي نعرف أن الرسول الكريم مشغول بأمته ،ولكنه ينظر إلى
نفسه على أنه أخ لكل مؤمن .والخ قد يتغير على أخيه؛ لذلك لم يشأ الرسول الكريم أن يُخرج
أمر المسلمين من يد ال ورحمته وهو الخالق الكريم إلى أمره هو صلى ال عليه وسلم.
إن الرسول يعرف أن ال أرحم بخلقه من أي إنسان ،حتى الرسول نفسه .نقول ذلك في معرض
حديثنا عن العنت الذي يمكن أن يصاحب النسان أن لم يرع حق ال في مال اليتيم؛ لن ال
حكِيمٌ
عزيز حكيم ،وهو الحق الذي يغلب ول يغلبه أحد .ونرى في قول الحق } :إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
{ أن صفة العزة متآزرة بصفة الحكمة.
وبعد ذلك يدخل معنا الحق سبحانه وتعالى في مسألة جديدة لو نظرنا إليها لوجدناها أساس أي
حركة في الحياة وفي المجتمع ،إنها مسألة الزواج .ويريد سبحانه أن يضمن الستقرار والسعادة
للكائن الذين كرمه وجعله خليفة في الرض ،وجعل كل الجناس مسخرة لخدمته.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الحق يريد أن يصدر ذلك الكائن عن ينبوع منهجي واحد؛ لن الهواء المتضاربة هي التي
تفسد حركة الحياة ،فأراد أن يصدر المجموع النساني كله عن ينبوع عقدي واحد ،وأراد أن
يحمي ذلك الينبوع من أن يتعثر بتعدد النزعات والهواء ،لذلك ينبهنا الحق إلى هذا الموقف .إنه
سبحانه يريد سلمة الوعاء الذي سيوجد ذلك النسان ،من بعد الزواج ،فبالزواج ينجب النسان
وتستمر الحياة بالتكاثر .ولذلك لبد من الدقة في اختيار الينبوع الذي يأتي منه النسل .فهو سبحانه
عجَبَ ْتكُمْ{ ...
لمَةٌ ّمؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِركَةٍ وََلوْ أَ ْ
ن َو َ
يقولَ } :ولَ تَ ْنكِحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِ ّ
()223 /
ن وَلََأمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ ُمشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْتكُ ْم وَلَا تُ ْن ِكحُوا
وَلَا تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِ ّ
ك وََلوْ أَعْجَ َب ُكمْ أُولَ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ
ا ْلمُشْ ِركِينَ حَتّى ُي ْؤمِنُوا وََلعَبْدٌ ُم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ
يَدْعُو إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِرَةِ بِِإذْنِ ِه وَيُبَيّنُ آَيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ ()221
إن الحق يقولَ { :ولَ تَ ْن ِكحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِنّ } ،وهذه أول لبنة في بناء السرة وبناء
المجتمع ،لنها لو لم تكن مؤمنة ،فماذا سوف يحدث؟ إنها ستشرف على تربية الطفل الوليد إشرافا
يتناسب مع إشراكها ،وأنت مهمتك كأب ومرب لن تتأتى إل بعد مدة طويلة تكون فيها المسائل قد
غُرست في الوليد ،فإياك أن يكون الرجل مؤمنا والمرأة مشركة؛ لن هذا يخل بنظام السرة فعمل
الم مع الوليد يؤثر في أوليات تكوينه إنه يؤثر في قيمه ،وتكوين أخلقه .وهذا أمر يبدأ من لحظة
أن يرى ويعي ،والطفل يقضي سنواته الولى في حضن أمه ،وبعد ذلك يكبر؛ فيكون في حضن
أبيه ،فإذا كانت الم مشركة والب مؤمنا فإن اليمان لن يلحقه إل بعد أن يكون الشرك قد أخذ
منه وتمكن وتسلط عليه.
ونعرف أن الطفولة في النسان هي أطول أعمار الطفولة في الكائنات كلها ،فهناك طفولة تمكث
ساعتين اثنتين مثل طفولة الذباب ،وهناك طفولة أخرى تستغرق شهرا ،وأطول طفولة إنما تكون
في النسان؛ لن هذه الطفولة مناسبة للمهمة التي سيقوم بها النسان ،كل الطفولت التي قبلها
طفولت لها مهمة سهلة جدا ،إنما النسان هو الذي ستأتي منه القيم ،لهذا كانت طفولته طويلة؛
طفَالُ مِن ُكمُ الْحُُلمَ فَلْيَسْتَ ْأذِنُواْ َكمَا
إنها تستمر حتى فترة بلوغ الحلم .والحق هو القائل {:وَإِذَا َبلَ َغ الَ ْ
حكِيمٌ }[النور]59 :
اسْتَ ْأذَنَ الّذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ كَذاِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمْ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
فكأن الطفل يظل طفلً إلى أن يبلغ الحلم ،فكم سنة إذن ستمر على الطفل؟ .وكم سنة سوف يتغذى
هذا الطفل من ينابيع الشرك إن كانت أمه مشركة؟ إنها فترة طويلة ل يمكن له من بعد ذلك أن
يكون مؤمنا غير مضطرب الملكات .وإن صلح مثل هذا النسان أن يكون مؤمنا فسيقوم إيمانه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على القهر والقسر والولية للب وسيكون مثل هذا اليمان عملية شكلية وليست مرتكزة ول
معتمدة على أساس صادق.
ونحن نعرف أن الثمرات التي ننعم نحن بأكلها ل يكون نضجها إل حين تنضج البذرة التي تتكوّن
منها شجرة جديدة ،وقبل ذلك تكون مجرد فاكهة فِجة وليس لها طعم .وقد أراد الحق أن ينبهنا إلى
هذا المر ليحرص النسان على أن يستبقى الثمرة إلى أن تنضج ويصير لها بذور.
إن المرأة ل تكون ثمرة طيبة إل إذا أنجبت مثلها ولدا صالحا نافعا ،يريد الحق للنشء أن يكون
غير مضطرب اليمان؛ لذلك يقولَ { :ولَ تَ ْنكِحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِنّ } أي إياكم أن تنخدعوا
لمَةٌ ّم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِركَ ٍة وََلوْ
بالمعايير الهابطة النازلة ،وعلى كل منكم أن يأخذ حكم ال { :وَ َ
أَعْجَبَ ْت ُكمْ } لن إعجاب النسان بالمرأة بصرف النظر عن اليمان سيكون إعجابا قصير العمر.
إن عمر الستمتاع بالجمال الحسي للمرأة إن جمعنا لحظاته فلن يزيد مجموعه عن شهر من
مجموع سنوات الزواج .فكل أسبوع يتم لقاء قد يستغرق دقائق وبعدها يذبل الجمال ،وتبقى القيم
هي المتحكمة ،ونحن نجد المرأة حين تتزوج ،ثم يبطئ الحمل فإنها تعاني من القلق وكذلك أهلها.
إن الرجل إن كان قد تزوجها للوسامة والقسامة والقوام والعينين ،فهذا كله سيبرد ويهدأ بعد فترة،
ثم توجد مقاييس أخرى لستبقاء الحياة ،وعندما يلتفت إليها النسان ول يجدها فهو يغرق في
الندم؛ لنها لم تكن في باله وقت أن اختار.
لذلك تريد المرأة أن تُمكن لنفسها بأن يكون عندها ولد لتربط الرجل بها ،وحتى يقول المجتمع" :
عليك أن تتحملها من أجل الولد "! فالرجل بعد الزواج يريد قيما أخرى غير القيم الحسية التي
كانت ناشئة أولً ،لذلك يحذرنا ال قائلًَ } :ولَ تَ ْن ِكحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِنّ { .وجاء قوله }
جبّ ما قبله ما دامت قد آمنت فقد انتهت المسألة.
حَتّىا ُي ْؤمِنّ { لن السلم يَ ُ
لمَةٌ ّم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مّن
وانظروا إلى دقة قوله سبحانه } :وَلَ تَ ْنكِحُواْ ا ْل ُمشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِنّ َو َ
مّشْ ِركَةٍ { أي إنّ المة المسلمة خير من حرة مشركة } ،وََلوْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ { لقد جاء قول الحق هنا
بمقاييس العجاب الحسي .ليلفتنا إلى أننا ل يصح أن نهمل مقاييس خالدة ونأخذ مقاييس بائدة
وزائلة.
ثم يقول الحق " :ول تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا " وهذا هو النظير في الخطاب وهو ليس
متقابل فهو لم يخاطب المؤمنات أل ينكحن المشركين ،إنما قال } وَلَ تُ ْنكِحُواْ ا ْل ُمشِ ِركِينَ حَتّىا
ُي ْؤمِنُواْ { وتلك دقة في الداء هنا؛ لن الرجل له الولية في أن يُنْكح ،فيأمره بقوله :ل تُنكح ،لكن
المرأة ليس لها ولية أن تُنكح نفسها .فنحن نعرف القاعدة الشرعية التي تقول " :ل نكاح إل بولي
" ،وهو لم يوجه حديثه للنساء؛ لن المرأة تتحكم فيها عاطفتها لكن وليها ينظر للمر من
مجموعة زوايا أخرى تحكم الموقف.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صحيح أننا نستأذن الفتاة البكر كي نضمن أن عاطفتها ليست مصدودة عن هذا الزواج ،لكن الب
أو ولي المر الرجل يقيس المسائل بمقاييس أخرى ،فلو تركنا للفتاة مقياسها لتهدم الزواج بمجرد
هدوء العاطفة ،وساعة تأتي المقاييس العقلية الخرى فلن تجد ذلك الزواج مناسبا لها فتفشل الحياة
الزوجية .لذلك يطالبنا السلم أن نستشير المرأة ،كي ل نأتيها بواحد تكرهه ،ولكن الذي يزوجها
إلى ذلك الرجل هو وليها؛ لن له المقاييس العقلية والجتماعية والخلقية التي قد ل تنظر إليها
الفتاة؛ فقد يبهرها في الشاب قوامه وحسن شكله وجاذبية حديثه ،لكن عندما تدخل المسألة في
حركة الحياة ودوامتها قد تجده إنسانا غير جدير بها.
ولكي تكون المسألة مزيجا من عاطفة بنت ،وعقل أب ،وخبرة أم ،كان لبد من استشارة الفتاة،
وأن يستنير الب برأي الم ،ثم يقول الب رأيه أخيرا ،وكل زواج يأتي بهذا السلوب فهو زواج
يحالفه التوفيق ،لن المعايير كلها مشتركة ،ل يوجد معيار قد اختل؛ فالب بنى حكما على أساس
موافقة البنة ،أما إذا رفضت الفتاة وكانت معايير الب صحيحة ،لكن البنة ليس لها تقبل لهذا
الرجل؛ لذلك فل يصح أن يتم هذا الزواج.
وكثير من الزيجات قد فشلت لننا لم نجد من يطبق منهج ال في الدخول إلى الزواج .وحين ل
يطبقون منهج ال في الدخول إلى الزواج ثم ُيقَابَلون بالفشل فهم يصرخون منادين قواعد السلم
لتنقذهم.
ونقول لهم :وهل دخلتم الزواج على دين ال؟ إنكم مادمتم قد دخلتم الزواج بآرائكم المعزولة عن
منهج ال فلتحلوا المسألة بآرائكم .فالدين ليس مسئولً إل عمن يدخل بمقاييسه ،لكن أن تدخل على
الزواج بغير مقاييس ال ثم تريد من ال أو من القائمين على أمر ال أن يحلوا لك المشاكل فذلك
ظلم منك لنفسك وللقائمين على أمر ال .وإن لم تحدث مثل هذه المشكلت لكنا قد اتهمنا منهج
ال .ولقلنا :قد تركنا منهج ال وسعدنا في حياتنا .ولذلك كان لبد أن تقع المشكلت.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالىَ } :ولَ تَ ْن ِكحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِنّ { هذه قضية لها سبب ،لكن
العبرة فيها بعموم موضوعها ل بخصوص سببها ،لقد كان السبب فيها هو ما روى أنه كان هناك
صحابي اسمه مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى مكة ليخرج
منها ناسا من المسلمين .وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها " عناق " وكانت تحبه ،وساعة رأته
أرادت أن تخلو به فقال لها :ويحك إن السلم قد حال بيننا ،فقالت له :تزوجني ،فقال لها:
أتزوجك لكن بعد أن أستأمر وأستأذن النبي صلى ال عليه وسلم ،فلما استأمره نزل قوله تعالى} :
لمَةٌ ّم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ {.
ن وَ َ
وَلَ تَ ْنكِحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِ ّ
لمَةٌ ّم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ { نزلت في خنساء وليدة
وقيل إن قوله تعالى } :وَ َ
سوداء كانت لحذيفة بن اليمان ،فقال لها حذيفة :يا خنساء قد ذكرت في المل العلى مع سوادك
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ودمامتك وأنزل ال ذكرك في كتابه ،فأعتقها حذيفة وتزوجها.
ك وََلوْ
ويتابع الحق فيقول } :وَلَ تُ ْنكِحُواْ ا ْل ُمشِ ِركِينَ حَتّىا ُي ْؤمِنُواْ وََلعَبْدٌ ّمؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِر ٍ
أَعْجَ َب ُكمْ { .إن المقاييس واحدة في اختيار شريك الحياة ،إنها الرغبة في بناء الحياة السرية على
أساس من الخير ،وغاية كل شيء هي التي تحدد قيمته ،وليست الوسيلة هي التي تحدد قيمة
الشيء ،فقد تسير في سبيل وطريق خطر وغايته فيها خير ،وقد تسير في سبيل مفروش بالورود
والرياحين وغايته شر ،ولذلك يقول الحقُ } :أوْلَـا ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ َيدْعُواْ إِلَى الْجَنّةِ
وَا ْل َمغْفِ َرةِ بِإِذْ ِن ِه وَيُبَيّنُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ {.
والذين يدعون إلى النار هم أهل الشرك .أما ال فهو يدعو إلى الجنة ،والمغفرة تأتي بإذن ال أي
بتيسير ال وتوفيقه .ونعرف جميعا الحكمة التي قالها المام " علي " كرم ال وجهه :ل خير في
خير بعده النار ،ول شر في شر بعده الجنة.
وقوله الحق؛ } َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ { ترد كثيرا ،هذا التذكر ماذا يفعل؟ إن التذكر يُشعرك بأن القضية
كانت معلومة والغفلة هي التي طرأت ،لكن الغفلة إذا تنبهت إليها ،فهي تذكرك ما كنت قد نسيته
من قبل ،لكن إن طالت الغفلة ،نُسى الصل فهذه هي الطامة ،التي تنطمس بها المسألة.
إذن فالتذكر يشمل مراحل :المرحلة الولى :أن تعرف إن لم تكن تعرف ،أو تعلم إن كنت تجهل،
والمرحلة الثانية :هي أن تتذكر إن كنت ناسيا ،أو توائم بين ما تعلم وبين ما تعمل؛ فالتذكر يوحي
لك بأن توائم ما بين معرفتك وسلوكك حتى ل تقع في الجهل ،والجهل معناه أن تعلم ما يناقض
الحقيقة .لقد أراد ال أن يصون النسان الذي اختار اليمان عندما حرم عليه الزواج بواحدة من
أهل الشرك.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن لمن جعله خليفة في الرض عقيدة واحدة يصدر عنها
السلوك النساني؛ لن العقائد إن توزعت حسب الهواء فسيتوزع السلوك حسب الهواء .وحين
يتوزع السلوك تتعاند حركة الحياة ول تتساند.
فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن وحدة العقيدة بدون مؤثر يؤثر فيها؛ فشرط في بناء اللبنة
ل ينكح مؤمن مشركة؛ لن المشركة في مثل هذه الحالة ستتولى حضانة الطفل
الولى للسرة أ ّ
لمدة طويلة هي ـ كما قلنا ـ أطول أعمار الطفولة في الكائن الحي .ولو كان الب مؤمنا والم
مشركة فالب سيكون مشغولً بحركة الحياة فتتأصل عن طريق الم معظم القيم التي تتناقض مع
اليمان.
وأراد الحق سبحانه وتعالى أيضا أل تتزوج المؤمنة مشركا؛ لنها بحكم زواجها من مشرك
ستنتقل إليه وإلى بيئته المشركة وإلى أسرته .وسينشأ طفلها الوليد في بيئة شركية فتتأصل فيه
الشياء القيمية التي تناقض اليمان .ويريد الحق سبحانه وتعالى بهذه الصيانة ،أي بعدم زواج
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المؤمن من مشركة ،وبعدم زواج المؤمنة من مشرك ،أن يحمي الحاضن الول للطفولة .وحين
يحمي الحاضن الول للطفولة يكون الينبوع الول الذي يصدر عنه تربية عقيدة الطفل ينبوعا
واحدا ،فل يتذبذب بين عقائد متعددة .لذلك جاء قول الحق:
عجَبَ ْتكُ ْم َولَ تُ ْنكِحُواْ
لمَةٌ ّم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِر َك ٍة وََلوْ أَ ْ
ن َو َ
} َولَ تَ ْنكِحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِ ّ
عجَ َبكُمْ ُأوْلَـا ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ
ك وََلوْ أَ ْ
ا ْلمُشِ ِركِينَ حَتّىا ُي ْؤمِنُو ْا وََلعَبْدٌ ّم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِر ٍ
يَدْعُواْ إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِ َرةِ بِِإذْنِ ِه وَيُبَيّنُ آيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ { [البقرة]221 :
كل ذلك حتى يصون الحق البيئة التي ينشأ فيها الوليد الجديد.
وعلينا أن نفهم أن الحق سبحانه وتعالى رخص للمؤمنين في أن ينكحوا أهل الكتاب بقوله الحق{:
حصَنَاتُ مِنَ
حلّ ّلهُ ْم وَا ْلمُ ْ
طعَا ُمكُمْ ِ
حلّ ّلكُ ْم وَ َ
طعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ ِ
حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ وَ َ
الْ َيوْمَ ُأ ِ
حصِنِينَ غَيْرَ
حصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ مِن قَبِْلكُمْ إِذَآ آتَيْ ُتمُوهُنّ أُجُورَهُنّ مُ ْ
ت وَا ْلمُ ْ
ا ْل ُم ْؤمِنَا ِ
عمَلُ ُه وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ }
ن َومَن َيكْفُرْ بِالِيمَانِ َفقَدْ حَ ِبطَ َ
خدَا ٍ
خذِي أَ ْ
ن َولَ مُتّ ِ
مُسَافِحِي َ
[المائدة]5 :
وقد وقف العلماء من مسألة ترخيص الحق للمؤمنين في أن يتزوجوا من أهل الكتاب موقفين:
الموقف الول :هو موقف مانع؛ لن بعض العلماء رأى أن أهل الكتاب قد ينحرفون في معتقداتهم
إلى ما يجعلهم في الشرك ،وقالوا :وهل هناك شرك أكثر من أن تُدعى الربوبية لبشر؟ والموقف
الثاني :أجاز بعض العلماء أن يتزوج النسان من كتابية ويجب عليه أن يسألها أهي تدين بألوهية
أحد من البشر أم تدين بال الواحد القهار؟ فإن كانت المسألة مجرد الخلف في الرسول فالمر
يهون ،أما إن كانت تؤمن بألوهية أحد من البشر بجانب ال فقد دخلت في الشرك وعلى المؤمن
أن يحتاط.
وإذا كان للرجل الولية وله أن يتزوج بكتابية فهو غالبا ما ينقلها إلى بيئته هو وستكون البيئة
المؤثرة واحدة ،ووجود الولية للب مع الوجود في البيئة اليمانية سيؤثر ويخفف من تأثير الم
الكتابية على أولدها ،وإن كان على النسان أن يتيقظ إلى أن هناك مسالك تتطلف وتتسلل ناحية
الشرك ،فمن الخير أن يبتعد المسلم عن ذلك ،وأن يتزوج ويعصم ويعفّ فتاة مسلمة.
وحين يحمي الحق سبحانه وتعالى الحضانة الولى للطفل فهو يريد أن يربي في الطفل عدم
التوزع ،وعدم التمزق ،وعدم التنافر بين ملكاته .وحين نضمن للطفل التواجد والنشأة في بيئة
متآلفة فهو ينشأ طفلً سويا .والسلم يريد أن يحافظ على سويّة هذا الطفل .ويقول بعض الناس:
ولماذا ل نوجد محاضن جماعية؟ وكأنهم بذلك يريدون أن يحلوا الشكال.
نقول لهم :إن الشكال لم يحل عند الذين فعلوا ذلك من قبلنا ،ولذلك فعندما نقرأ مؤلفاتهم مثل
كتاب " أطفال بل أسر " فسنجد أن الطفولة عندهم معذبة .ولماذا نذهب بعيدا؟ إننا عندما نتتبع
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كيفية النشأة الجماعية للطفال في إسرائيل فالبحوث العلمية تؤكد على أن الطفال يعيشون في
بؤس رهيب لدرجة أن التبول اللإرادي ينتشر بينهم حتى سن الشباب.
وكيف يغيب عن بالنا أن الطفل يظل حتى تصل سنه إلى عامين أو أكثر وهو يطلب أل يشاركه
في أمه أحد ،حتى وإن كان أخا له فهو يغار منه فما بالك بأطفال متعددين تقوم امرأة ليست أمهم
برعايتهم؟ ول يغني عن حنان الم حنان مائة مربية؛ فليس للمربيات جميعا قلب الم التي ولدت
الطفل ،فالحنانُ الذي تعطيه الم ليس حنانا شكليا ول وظيفيا ،ولكنه طبيعة حياة خلقها ال لتعطي
العطاء الصحيح ،لذلك لبد من إعطاء الطفل فترة يشعر فيها بأن أمه التي ولدته له وحده ،ول
يشاركه فيها أحد حتى لو كان أخا له ،وتمر عليه فترة بعد أن يخرج من مهد الطفولة الولى إلى
الشارع ليجد حركة الحياة ،ويجد القائمين على حركة الحياة هم الرجال وآباء أمثاله من الطفال
فيجب بعد ذلك أن ينسب إلى أب له كيان معروف في المجتمع الخارجي.
فمن مقومات تكوين الطفل أن يشعر أن له أمّا ل يشاركه فيها أحد ،وأن له أبا ل يشاركه فيه أحد.
وإن شاركه فيهما أحد فهم إخوته ويضمهم ويشملهم جميعا حنان الم ورعاية الب .لقد اعترف
أهل العلم بتربية الطفال أن احتياج الطفل لمه هو احتياج هام وأساسي للتربية لمدة عامين
وبضعة من الشهور ،والحق تبارك وتعالى حين أنزل على رسوله قبل أربعة عشر قرنا من الن؛
القول الحكيم الصادق بين هذه الحقيقة واضحة في أجلى صورهاَ {:ووَصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ
شهْرا حَتّىا ِإذَا بَلَغَ أَشُ ّد ُه وَبَلَغَ
حمْلُهُ َوفِصَالُهُ ثَلَثُونَ َ
ضعَتْهُ كُرْها وَ َ
حمَلَ ْتهُ ُأمّهُ كُرْها َو َو َ
حسَانا َ
إِ ْ
ل صَالِحا
ع َم َ
ي وَأَنْ أَ ْ
أَرْ َبعِينَ سَنَةً قَالَ َربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َع ْمتَ عََليّ وَعَلَىا وَالِ َد ّ
ك وَإِنّي مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ }[الحقاف]15 :
تَ ْرضَاهُ وََأصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِي إِنّي تُ ْبتُ إِلَ ْي َ
إن الم هي الحاضنة الطبيعية للطفل كما أرادها الحق .إذن ،فالحق يريد أن يحمي اللبنة الولى
في تكوين المجتمع وهي السرة في البناء ال َعقَدي من أن تتأثر بالشرك ،ويريد أن يحفظ للسرة
كيانا سليما.
ويعالج الحق بعد ذلك قضية التواصل مع المرأة أثناء فترة الحيض فيأتي التشريع ليقنن هذه
المسألة لن السلم جاء وفي الجو الجتماعي تياران:
تيار يرى أن الحائض هي امرأة تعاني من قذارة ،لذلك ل يمكن للزوج أن يأكل معها أو يسكن
معها أو يعاشرها أو يعيش معها في بيت واحد وكذلك أبناؤه .وتيار آخر يرى المرأة في فترة
الحيض امرأة عادية ل فرق بينها وبين كونها غير حائض أي تباشر حياتها الزوجية مع زوجها
دون تحوط أو تحفظ .كان الحال ـ إذن ـ متأرجحا بين الفراط والتفريط ،فجاء السلم ليضع
حدا لهذه المسألة فيقول الحق سبحانه وتعالى } :وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ
النّسَآءَ فِي ا ْلمَحِيضِ{ ...
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()224 /
طهُرْنَ فَإِذَا
ض وَلَا َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ
وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِي ِ
طهّرِينَ ()222
حبّ ا ْلمُ َت َ
ن وَيُ ِ
حبّ ال ّتوّابِي َ
طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ يُ ِ
تَ َ
حين تقرأ { ُهوَ أَذًى } فقد أخذت الحكم ممن يُؤمنُ على الحكام ،ول تناقش المسألة ،مهما قال
الطب من تفسيرات وتعليلت وأسباب نقل له :ل ،الذي خلق قالُ { :هوَ أَذًى } .والمحيض يطلق
على الدم ،ويراد به ـ أيضا ـ مكان الحيض ،ويراد به زمان الحيض.
وقوله تعالى عن المحيض إنه أذى يهيئ الذهن لن يتلقى حكما في هذا الذى ،وبذلك يستعد الذهن
للخطر الذي سيأتي به الحكم .وقد جاء الحكم بالحظر والمنع بعد أن سبقت حيثيته.
إن الحق سبحانه وتعالى وهو الخالق أراد أن تكون عملية الحيض في المرأة عملية كيماوية
ضرورية لحياتها وحياة النجاب .وأمر الرجال أن يعتزلوا النساء وهن حوائض؛ لن المحيض
أذى لهم .لكن هل دم الحيض أذى للرجال أو للنساء؟ إنه أذى للرجال والنساء معا؛ لن الية
أطلقت الذى ،ولم تحدد من المقصود به .والذي يدل على ذلك أن الحيض يعطي قذارة للرجل في
مكان حساس هو موضوع النزال عنده ،فإذا وصلت إليه الميكروبات تصيبه بأمراض خطيرة.
والذي يحدث أن الحق قد خلق رحم المرأة وفي مبيضيها عدد محدد معروف له وحده سبحانه
وتعالى من البويضات ،وعندما يفرز أحد المبيضين البويضة فقد ل يتم تلقيح البويضة ،فإن بطانة
الرحم المكون من أنسجة دموية تقل فيها نسبة الهرمونات التي كانت تثبت بطانة الرحم ،وعندما
تقل نسبة الهرمونات يحدث الحيض.
والحيض هو دم يحتوي على أنسجة غير حية ،وتصبح منطقة المهبل والرحم في حالة تهيج ،لن
منطقة المهبل والرحم حساسة جدا لنمو الميكروبات المسببة لللتهابات سواء للمرأة ،أو للرجل إن
جامع زوجته في فترة الحيض .والحيض يصيب المرأة بأذى في قوتها وجسدها؛ بدليل أن ال
ل تصوم وألّ تصلي إذن فالمسألة منهكة ومتعبة لها ،فل يجوز أن يرهقها الرجل
رخص لها أ ّ
بأكثر مما هي عليه.
إذن فقوله تعالىُ { :هوَ َأذًى } تعميم بأن الذى يصيب الرجل والمرأة .وبعد ذلك بين الحق أن
كلمة " أذى " حيثية تتطلب حكما يرد ،إما بالباحة وإما بالحظر ،وما دام هو أذى فلبد أن يكون
حظرا.
ض َولَ َتقْرَبُوهُنّ } والذي يقول :إن المحيض هو
يقول عز وجل { :فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي ا ْلمَحِي ِ
مكان الحيض يبني قوله بأن المحرم هو المباشرة الجنسية ،لكن ما فوق السرة وما فوق الملبس
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهو مباح ،فقوله الحق { :وَلَ َتقْرَبُوهُنّ } أي ل تأتوهن في المكان الذي يأتي منه الذى وهو دم
طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ } .و " يطهرن " من الطهور
طهُرْنَ فَإِذَا َت َ
الحيض { .حَتّىا َي ْ
طهّرْنَ } نجد أنه لم يقل " :فإذا طهرن " ،فما
مصدر طهر يطهر ،وعندما نتأمل قوله { :فَِإذَا تَ َ
الفرق بين " طهر " و " تطهر "؟
إنّ " يطهرن " معناها امتنع عنهن الحيض ،و " تطهرن " يعني اغتسلن من الحيض؛ ولذلك نشأ
خلف بين العلماء ،هل بمجرد انتهاء مدة الحيض وانقطاع الدم يمكن أن يباشر الرجل زوجته ،أم
لبد من النتظار حتى تتطهر المرأة بالغتسال؟.
وخروجا من الخلف نقول :إن قوله الحق " :تطهرن " يعني اغتسلن فل مباشرة قبل الغتسال.
ومن عجائب ألفاظ القرآن أن الكلمات تؤثر في استنباط الحكم ،ومثال ذلك قوله تعالى {:إِنّهُ َلقُرْآنٌ
طهّرُونَ }[الواقعة]79-77 :
كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ ّمكْنُونٍ * لّ َيمَسّهُ ِإلّ ا ْلمُ َ
ما المقصود إذن؟ هل المقصود أن القرآن ل يمسكه إل الملئكة الذين طهرهم ال من الخبث ،أو
أن للبشر أيضا حق المساك بالمصحف لنهم يتطهرون؟ بعض العلماء قال :إن المسألة لبد أن
طهّرُونَ { أي الذين طهرهم من شرع لهم
ندخلها في عموم الطهارة ،فيكون معنى } ِإلّ ا ْلمُ َ
التطهر؛ ولذلك فالمسلم حين يغتسل أو يتوضأ يكون قد حدث له أمران :التطهر والطهر.
فالتطهر بالفعل هو الوضوء أو الغتسال ،والطهر بتشريع ال ،فكما أن ال طهر الملئكة أصل
فقد طهرنا معشر النس تشريعا ،وبذلك نفهم الية على إطلقها ونرفع الخلف .وقول الحق في
طهُرْنَ { أي حتى يأذن ال لهن بالطهر ،ثم يغتسلن
الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :حَتّىا َي ْ
استجابة لتشريع ال لهن بالتطهر } .فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ { يعني في الماكن الحلل.
طهّرِينَ { وأراد الحق تبارك وتعالى أن يدخل عليك أنسا ،فكما
حبّ ا ْلمُتَ َ
ن وَيُ ِ
حبّ ال ّتوّابِي َ
} إِنّ اللّهَ ُي ِ
أنه طلب منك أن تتطهر ماديا فهو سبحانه قبل أيضا منك أن تتطهر معنويا بالتوبة ،لذلك جاء
بالمر حسيا ومعنويا .وبعد ذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بحكم جديد ،هذا الحكم ينهي إشكال
أثاره اليهود.
وقد كان اليهود يثيرون أن الرجل إذا أتى امرأته من خلف ولو في قُبلها ـ بضم القاف ـ جاء
الولد أحول " .القُبل " هو مكان التيان ،وليس معناه التيان في الدبر والعياذ بال كما كان يفعل
قوم لوط .ولّما كان هذا الشكال الذي أثاره اليهود ل أساس له من الصحة فقد أراد الحق أن يرد
سكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ...
على هذه المسألة فقال } :نِسَآ ُؤكُمْ حَ ْرثٌ ّلكُمْ فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ أَنّىا شِئْ ُت ْم َوقَ ّدمُو ْا لَنْفُ ِ
{
()225 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُمْ وَاتّقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ مُلَاقُو ُه وَبَشّرِ
نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َث ُكمْ أَنّى شِئْتُ ْم َوقَ ّدمُوا لِأَ ْنفُ ِ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ()223
إن الحق سبحانه وتعالى يفسح المجال للتمتع للرجل والمرأة على أي وجه من الوجه شريطة أن
يتم التيان في محل النبات .وقد جاء الحق بكلمة { حَ ْرثٌ } هنا ليوضح أن الحرث يكون في
مكان النبات { .فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ } وما هو الحرث؟ الحرث مكان استنبات النبات ،وقد قال تعالى{:
سلَ }[البقرة]205 :
ث وَالنّ ْ
وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْر َ
فأتوا المرأة في مكان الزرع ،زرع الولد ،أما المكان الذي ل ينبت منه الولد فل تقربوه .وبعض
الناس فهموا خطأ أن قوله { :فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ أَنّىا شِئْتُمْ } معناه إتيان المرأة في أي مكان ،وذلك
خطأ؛ لن قولهِ { :نسَآ ُؤكُمْ حَ ْرثٌ ّلكُمْ } يعني محل استنبات الزرع ،والزرع بالنسبة للمرأة والرجل
هو الولد ،فأتها في المكان الذي ينجب الولد على أي جهة شئت.
سكُمْ } أي إياك أن تأخذ المسألة على أنها استمتاع جنسي فحسب ،إنما
ويتابع الحقَ { :وقَ ّدمُواْ لَ ْنفُ ِ
يريد الحق سبحانه وتعالى بهذه اللذة الجنسية أن يحمي متاعب ما ينشأ من هذه اللذة؛ لن الذرية
التي ستأتي من أثر اللقاء الجنسي سيكون لها متاعب وتكاليف ،فلو لم يربطها ال سبحانه وتعالى
بهذه اللذة لزهد الناس في الجماع.
ومن هنا يربط الحق سبحانه وتعالى بين كدح الباء وشقائهم في تربية أولدهم بلذة الشهوة
الجنسية حتى يضمن بقاء النوع النساني .ومع هذا يحذرنا الحق أن نعتبر هذه اللذة الجنسية هي
سكُمْ } ،يعني انظروا جيدا إلى هذه المسألة على أل
الصل في إتيان النساء فقالَ { :وقَ ّدمُواْ لَ ْنفُ ِ
سكُمْ } أي ادخروا
تكون هي الغاية ،بل هي وسيلة ،فل تقلبوا الوسيلة إلى الغايةَ { ،وقَ ّدمُو ْا لَ ْنفُ ِ
لنفسكم شيئا ينفعكم في اليام المقبلة.
سكُمْ } أي ل تأخذوا المتاع اللحظي
إذن فالصل في العملية الجنسية النجابَ { .وقَ ّدمُواْ لَ ْنفُ ِ
العاجل على أنه هو الغاية بل خذوه لما هو آت .وكيف نقدم لنفسنا أو ماذا نفعل؟ حتى ل نشقى
بمَنْ يأتي ،وعليك أن تتبين هذه العملية فقدم لنفسك شيئا يريحك ،وافعل ما علمنا رسول ال صلى
ال عليه وسلم ..ساعة تأتي هذه النعمة وتقترب من زوجتك لبد أن تسمي ال ويقول " :اللهم
جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني " ،وعندما يأتي المسلم أهله وينشأ وليده فلن يكون
للشيطان عليه دخل .وقال بعض العلماء :ل يمكن أن يؤثر فيه سحر ،لماذا كل ذلك؟.
لنك ساعة استنبته أي زرعته ،ذكرت المُنْ ِبتَ وهو ال عز وجل .وما دمت ذكرت المنبت الخالق
فقد جعلت لبنك حصانة أبدية .وعلى عكس ذلك ينشأ الطفل الذي ينسى والده ال عندما يباشر
أهله فيقع أولده فريسة للشياطين.
سكُمْ } أي قدموا لها ما يريحكم وما يطيل أمد حياتكم وأعمالكم في الحياة؛ لنك
{ َوقَ ّدمُو ْا لَ ْنفُ ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عندما تقبل على المسألة بنية إنجاب الولد ،وتذكر ال وتستعيذ من الشيطان فينعم عليك الخالق
بالولد الصالح ،هذا الولد يدعو لك ،ويعلم أولده أن يدعوا لك ،وأولده يدعون لك ،وتظل المسألة
مسلسلة فل ينقطع عملك إلى أن تقوم الساعة ،وهنا تكون قدمت لنفسك أفضل ما يكون التقديم.
وهب أنك رُزقت المولود ثم مات ففجعت به واسترجعت واحتسبته عند ربك ،إنك تكون قد قدمته،
سكُمْ {.
ليغلق عليك بابا من أبواب النيران .إذن فكل أمر لبد أن تذكر فيه } َوقَ ّدمُواْ لَنْفُ ِ
لقُوهُ وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { معنى } ا ّتقُواْ اللّهَ { أي إياكم أن
ويقول الحق } :وَا ّتقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُواْ أَ ّنكُمْ مّ َ
تغضبوا ربكم في أي عمل من هذه العمال ،وكن أيها المسلم في هذه التقوى على يقين من أنك
ملقي ال ،ول تشك في هذا اللقاء أبدا .وما دمت ستتقي ال وتكون على يقين أنك تلقيه لم يبقى
جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَ ًة لَ ْيمَا ِنكُمْ{ ...
لك إل أن تُبَشّر بالجنة .وبعد ذلك يقول الحق سبحانهَ } :ولَ تَ ْ
()226 /
وفي الية ثلثة أشياء :أول :أن تبروا ،أي أن تفعلوا البر .والبر قد يكرهه النسان لنه شاق على
النفس .ثانيا :أن تتقوا ،أي أن تتجنبوا المعاصي ،والتقوى تكون أيضا شاقة في بعض الحيان.
ثالثا :أن تصلحوا بين الناس ،أي أن تصلحوا ذات البيْن ،وقد يكون في الصلح بين الناس مئونة
وذلك بعد أن تمتنعوا أن تجعلوا ال عرضة للقسم.
جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَةً لَ ْيمَانِكُمْ } فالعرضة هي الحجاب ،وهي ما يعترض
وحين يقول الحقَ { :ولَ َت ْ
بين شيئين { ،عُ ْرضَةً } هي ـ أيضا ـ المر الصالح لكل شيء ،فيقال " :فلن عرضة لكل
المهمات " .أي صالح .والعرضة ـ كما عرفنا ـ هي ما اعترض بين شيئين ،كأن يضع النسان
يده على عينيه فل يرى الضوء ،هنا تكون اليد " عُرْضة " بين عيني النسان والشمس إن النسان
يحجب بذلك عن نفسه الضوء.
كأن الحق يقول " :أنا ل أريد أن تجعلوا اليمين عرضة بين النسان وفعل الخير والبر والتقوى ".
فعندما يطلب منك واحد أن تبر من أساء إليك فقد تقول " :أنا أقسمت أل أبر هذا النسان " إنك
بذلك جعلت اليمين بال مانعا بينك وبين البر.
ويريد الحق بذلك القول أن ينبهنا إلى أن القسم به ل يجوز في منع البر أو صلة الرحم أو إصلح
بين الناس ..ومن حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليفعل الخير وليكفر عن يمينه لماذا؟ لن
المؤمن عندما يحلف على أل يفعل خيرا فهو يضع ال مانعا بينه وبين الخير ،وبذلك يكون قد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ناقض المؤمن نفسه بأن جعل المانع هو الحلف بال .إن ال هو صاحب المر بالبر والتقوى
جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَ ًة لَ ْيمَا ِنكُمْ } .أي أن الحق يريد
والصلح بين الناس .لذلك فالحق يقول { :وَلَ َت ْ
أن يحمي عمليات البر والتقوى والصلح بين الناس.
إنك إن حلفت أيها المؤمن أل تفعل هذه العمليات ،فالحق يريد لك أن تحنث في هذا القسم وأن
تفعل البر والتقوى والصلح بين الناس حتى ل تتناقض مع تشريع ال .ونحن عندما نجد
المجتمع وقد صنع فيه كل فرد البر ،واتقى فيه كل إنسان المعاصي ،ورأى فيه كل إنسان نزاعا
بين جماعتين فأصلح هذا النزاع ،أليس هذا دخول في السلم كافة .إذن فالحق يريد أن يستبقى
للناس ينابيع الخير وأل يسدوها أمام أنفسهم.
إن الحق هو المر بأل يجعل المؤمن اليمين مانعا بين النسان والبر ،أو بين النسان والتقوى ،أو
بين النسان والصلح بين الناس .ويتساهل السلم في مسألة التراجع والحنث في البر فيقول
السلف الصالح " :ل حنث خير من البر ".
إذن فالمجتمع الذي فيه صنع البر ،وتقوى المعاصي ،والصلح بين المتخاصمين يدخل في إطار{:
ا ْدخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً }[البقرة]208 :
والنسان قد يتعلل بأي سبب حتى يبتعد عن البر أو التقوى أو الصلح بين الناس ،بل يعمل شيئا
يريحه ويخلع عليه أنه ممتثل لمر ال ،ولنضرب لذلك مثل .سيدنا أبو بكر الصديق رضي ال
عنه بعد أن جاء مسطح بن أثاثة واشترك مع من خاضوا في الفك الذي اتهموا فيه أم المؤمنين
السيدة عائشة رضي ال عنها.
وخلصة المر أن عائشة رضي ال عنها زوجة رسول ال صلى ال عليه وسلم .كانت قد
خرجت مع الرسول الكريم في غزوة " بني المصطلق " وكان المر بالحجاب قد نزل لذلك
خرجت عائشة رضي ال عنها في هودج.
وقام الرسول بغزوته وحان وقت العودة .وفقدت عائشة عقدا لها .وكانت رضي ال عنها خفيفة
الوزن؛ لن الطعام في تلك اليام كان قليل .راحت عائشة رضي ال عنها تبحث عن عقدها
المفقود ،وعندما حملوا هودج عائشة رضي ال عنها لم يفطنوا أن عائشة ليست به .ووجدت
عائشة عقدها المفقود ،وكان جيش رسول ال قد ابتعد عنها .وظنت أنهم سيفتقدونها فيرجعون
إليها .وكان خلف الجيش صفوان بن المعطل السلمي وعرفته عائشة وأناخ راحلته وعادت عائشة
إلى المدينة .ودار حديث الفك بوساطة عبد ال بن أ َبيّ بن سلول رأس النفاق.
وكان الغم والحزن يصيبان السيدة عائشة طوال مدة كبيرة وأوضح الحق كذب هذا الحديث .وذاع
ما ذاع عن أم المؤمنين عائشة وهي زوجة رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل أن تكون بنت أبي
بكر .وأبو بكر صديّق رسول ال صلى ال عليه وسلم ولو أن غير عائشة حدث لها ما حدث
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لعائشة لكان موقف أبي بكر هو موقفه عندما جاء قريبه مسطح بن أثاثة واشترك في حديث الفك
مع من اشتركوا ثم يبرئ ال عائشة وينزل القول الذي يثبت براءة أم المؤمنين في حديث الفك،
وحين يبرئها ال يأتي أبو بكر وكان ينفق على مسطح فيقطع عنه النفقة ويقول " :وال ل أنفق
عليه أبدا " لماذا؟ لنه اشترك في حديث الفك .والمسألة في ظاهرها ورع .لذلك سيمتنع عن
النفقة على مسطح بن أثاثة لن مسطحا خاض في الفك .لكن انظر إلى مقاييس الكمال والجمال
والفضائل عند ال فقد أوضح الحق أن هذا طريق وذاك طريق آخر ،فيقول سبحانه وتعالىَ {:ولَ
ن وَا ْل ُمهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
سعَةِ أَن ُيؤْتُواْ ُأوْلِي ا ْلقُرْبَىا وَا ْلمَسَاكِي َ
ضلِ مِنكُ ْم وَال ّ
يَأْ َتلِ ُأوْلُواْ ا ْل َف ْ
غفُورٌ رّحِيمٌ }[النور]22 :
وَلْ َيعْفُو ْا وَلْ َيصْفَحُواْ َألَ تُحِبّونَ أَن َيغْفِرَ اللّهُ َلكُ ْم وَاللّهُ َ
فإذا كنت تحب أن يغفر ال لك ،أفل تغفر لمن فعل معك سيئة؟ .وما دمت تريد أن يغفر ال لك
فاغفر للناس خطأهم.
قالها الحق عز وجل لبي بكر؛ لنه وقف موقفا من رجل خاض في الفك مع من خاض ومع
ذلك يبلغه أن ذلك ل يصح.
جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَ ًة لَ ْيمَا ِنكُمْ أَن تَبَرّواْ { ل تقل :إني حلفت بال على أل افعل
قوله تعالىَ } :ولَ َت ْ
ذلك الخير ،ل افعله فال يرضى لك أن تحنث وتكفر عن يمينك.
سمِيعٌ عَلِيمٌ { .إن ال
س وَاللّهُ َ
جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَ ًة لَ ْيمَا ِنكُمْ أَن تَبَرّو ْا وَتَ ّتقُو ْا وَ ُتصْلِحُواْ بَيْنَ النّا ِ
} َولَ تَ ْ
عز وجل يبلغنا :أنا ل أريد أن تجعلوا الحلف بي عرضة ،يعني حاجزا أو مانعا عن فعل الخير.
مثلً لو طُلب منك أن تبر شخصا أساء إليك فل تقل :حلفت أل أبر به لنه ل يستحق ،عندها
تكون قد جعلت اليمين بال مانعا للبر .وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لك :ل ،أنا
متجاوز عن اليمين بي؛ إن حلفت أل تبر أو ل تتقي أو ل تصل رحما أو ل تصلح بين اثنيْن ،أنا
تسامحت في اليمين.
والحديث يقول " :من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن
يمينه " وهكذا يحمي ال سبحانه وتعالى فعل البر ويحمي التقوى ويحمي عمليات الصلح بين
الناس ،ولو كنت قد حلفت بال أل تفعلها ،لماذا؟ لنك عندما تحلف بال أل تفعل ،وتجعل ال
سبحانه وتعالى هو المانع ،فقد ناقضت التشريع نفسه؛ لن ال هو المر بالبر والصلح والتقوى،
فل تجعل يمين البشر مانعا من تنفيذ منهج رب البشر.
جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَ ًة لَ ْيمَا ِنكُمْ أَن تَبَرّو ْا وَتَ ّتقُو ْا وَ ُتصْلِحُواْ بَيْنَ النّاسِ { إن حلفت على ترك
} َولَ تَ ْ
واجب وجب أن ترجع في اليمين .احنث فيه وكفر عنه ،والحكم نفسه يسري على الذي يمنع
ممتلكاته كالدابة أو الماكينة أو السيارة من انتفاع الناس بها بحجة أنه حلف أل يعيرها لحد ،وذلك
أمر يحدث كثيرا في الرياف.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمِيعٌ عَلِيمٌ { .إنه سبحانه سميع باليمين
ويختم الحق سبحانه وتعالى الية بالقول الكريم } :وَاللّهُ َ
الذي حلفته ،وعليم بنيتك إن كانت خيرا أو شرا فل تتخذ اليمين حجة لن تمنع البر والتقوى
ل من أصول اعتبار اليمين
والصلح .والحق سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن اليمين يعطينا أص ً
هل هو يمين حقا أو لغو ،ومن رحمة ال أنه سبحانه وتعالى لم يأخذ إل اليمين الذي عقد القلب
عليه ،أي الذي يقصد صاحبه أل يحنث فيه ،أما لغو اليمين فقد تجاوز ال عنه.
مثلً ،اليمان الدارجة على ألسنة الناس كقولهم " :وال لو لم تفعل كذا لفعلت معك كذا " " ،وال
سأزورك " " ،وال ما كان قصدي " أو الحلف بناءً على الظن؛ كأن تحلف بقولك " :وال حدث
هذا " وأنت غير متأكد من تمام حدوثه ،لكن ليس في مقصدك الكذب.
أما اليمين الغموس فهي الحلف والقسم الذي تعرف كذبه وتحلف بعكس ما تعرف ،كأن تكون قد
شاهدت واحدا يسرق أو يقتل وتحلف بال أنه لم يسرق أو لم يقتل .من أجل ذلك كله يحسم ال
خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِن ُك ْم وَلَـاكِن ُيؤَاخِ ُذكُم ِبمَا َكسَ َبتْ
سبحانه وتعالى هذه القضية بقوله } :لّ ُيؤَا ِ
قُلُو ُبكُمْ{ ...
()227 /
وكان من المناسب أن تأتي هذه الية كل ما سبق لنه سبحانه أوضح لنا اليمين التي ل تقع وكأنه
قال لنا :ارجعوا فيها واحنثوا وسأقبل رجوعكم في مقابل أن تبروا وتتقوا وتصلحوا ،فإذا كان قد
قبل تراجعنا عن هذا اليمين فلن له مقابل في فعل الخير .وقوله الحقِ { :بمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ } هو
عقّدتّمُ الَ ْيمَانَ }[المائدة]89 :
خ ُذكُم ِبمَا َ
المعنى نفسه لقوله تعالى {:وَلَـاكِن ُيؤَا ِ
أي الشيء المعقود في النفس والذي رسخ داخل نفسك ،لكن الشيء الذي يمر على اللسان فل
يؤاخذنا ال به { .لّ ُيؤَاخِ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ } واليمان جمع يمين ،واليمين :هو الحلف أو
القسم ،وسمى يمينا؛ لنهم كانوا قديما إذا تحالفوا صرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه،
وذلك لن اليمين هو الجارحة الفاعلة.
وبالمناسبة ،فالجارحة الفاعلة إياك أن تظن أنها تفعل بالرياضة والتدريب ،وإنما تفعل بالخلق أي
كما خلقها ال ،فهي مجبرة على الفعل حسب خلقتها.
ولذلك عندما تجد إنسانا ويده اليمنى ل تعمل ويزاول أعماله باليسرى فل تحاول أن تجعله يستخدم
اليمنى بدل من اليسرى؛ لن محاولتك عبث لن يجدي؛ لن السبب في أنه يستخدم اليسرى بدل
من اليمنى سبب خلقي ،فالجهاز الخاص بالتحكم في الحركة في المخ هو الذي يقر هذا المر :إن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كان مخلوقا في النصف اليمن من المخ كانت اليد اليمنى هي الفاعلة ،وإن كان مخلوقا في
النصف اليسر من المخ فاليد اليسرى هي التي تعمل.
لذلك تجد الذي يكتب بيده اليسرى يتقن الكتابة بها أفضل من الذي يكتب باليمنى في بعض
الحيان ،ومن هنا نقول :إنه من الخطأ أن تحاول تغيير سلوك الذي يعمل بيده اليسرى بدلً من
اليمنى؛ لن ذلك عبث لن يصل لنتيجة.
وأحيانا تجد الجهاز المتحكم في حركة اليدين موجودا في منتصف ووسط المخ فيرسل حركات
متوازنة لليد اليمنى واليد اليسرى معا ،ولذلك تجد شخصا يكتب بيده اليمنى واليسرى معا
بالسرعة نفسها وبالتقان نفسه ،ويؤدي بها العمال بتلقائية عادية ،ول في خلقه شئون ،فهو
يعطينا الدليل على أنه ل تحكمه قواعد ،فهو قادر على أن يجعل اليد اليمنى تعمل ،وقادر على أن
يجعل اليد اليسرى تعمل ،أو يجعلهما يعملن معا بالقوة نفسها ،أو يجعل كلتا اليدين غير قابلتين
للعمل .إنها ليست عملية آلية خارجة عن إرادة ل ،بل كل شيء خاضع لرادته سبحانه.
خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِن ُكمْ } المقصود به الحلف ،والحلف من معانيه التقوية ،وهي
{ لّ ُيؤَا ِ
مأخوذة من الحِلْف ،وهو أن يتحالف الناس على عمل ما .ونحن عندما نتحالف على عمل فنحن
نقسّم العمل بيننا ،وعندما نفعل ذلك يسهل علينا جميعا أن نفعله { .لّ ُيؤَاخِ ُذ ُكمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي
غفُورٌ حَلِيمٌ } والكسب عملية إرادية .لنك ساعة
أَ ْيمَا ِنكُ ْم وَلَـاكِن ُيؤَاخِ ُذكُم ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُ ْم وَاللّهُ َ
تقسم بال دون أن تقصد فهو ل يؤاخذك ،وهذا دليل على أن ال واسع حليم .ويقول الحق سبحانه
غفُورٌ رّحِيمٌ }
شهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنّ اللّهَ َ
وتعالى بعد ذلك { :لّلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِن نّسَآ ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ أَ ْ
()228 /
يؤلون :أي يحلفون أل يقربوا أزواجهن في العملية المخصوصة ،ويريد الرجل أحيانا أن يؤدب
زوجته فيهجرها في الفراش بل يمين ،وبدون أن يحلف .وبعض الناس ل يستطيعون أن يمتنعوا
عن نسائهم من تلقاء أنفسهم ،فيحلفون أل يقربوهن حتى يكون اليمين مانعا ومشجعا له على ذلك.
وكان هذا المر مألوفا عند العرب قبل السلم.
كان الرجل يمتنع عن معاشرة زوجته في الفراش أي فترة من الزمن يريدها ،وبعضهم كان يحلف
أل يقرب زوجته زمنا محددا ،وقبل أن ينتهي هذا الزمن يحلف يمينا آخر ليزيد المدة فترة أخرى،
وهكذا حتى أصبحت المسألة عملية إذلل للمرأة ،وإعضال لها ،وامتناعا عن أداء حقها في
المعاشرة الزوجية .وكان ذلك إهدارا لحق الزوجة في الستمتاع بزوجها.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن ينهي هذه المسألة ،وهو سبحانه ل ينهيها لحساب طرف على
طرف ،وإنما بعدل الخالق الحكيم الرحيم بعباده .وكان من الممكن أن يجرمها ويحرمها نهائيا
ويمنع الناس منها .لكنه سبحانه عليم بخفايا وطبيعة النفوس البشرية ،فقد ترى امرأة أن تستغل
إقبال الرجل عليها ،إما لجمال فيها أو لتوقد شهوة الرجل ،فتحاول أن تستذله؛ لذلك أعطى ال
للرجل الحق في أن يمتنع عن زوجته أربعة أشهر ،أما أكثر من ذلك فالمرأة ل تطيق أن يمتنع
غفُورٌ رّحِيمٌ }
شهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنّ اللّهَ َ
زوجها عنها { .لّلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِن نّسَآ ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َب َعةِ أَ ْ
والسلم يريد أن يبني الحياة الزوجية على أساس واقعي ل على أفكار مجنحة ومجحفة ل تثبت
أمام الواقع ،فهو يعترف بالميول فيعليها ولكن ل يهدمها ،ويعترف بالغرائز فل يكتمها ولكن
يضبطها.
وهناك فرق بين الضبط والكبت؛ فإن الكبت يترك الفرصة للداء ليستشري خفيا حتى يتفجر في
نوازع النفس النسانية تفجرا على غير ميعاد وبدون احتياط ،لكن النضباط يعترف بالغريزة
ويعترف بالميول ،ويحاول فقط أن يهديها ول يهدمها .ويخضع البشر في كل أعمالهم لهذه
النظرية حتى في صناعتهم ،فالذين يصنعون المراجل البخارية مثل يجعلون في تلك المراجل التي
يمكن أن يضغط فيها الغاز ضغطا فيفجرها يجعلون لها متنفسا حتى يمكن أن يخفف الضغط
الزائد إن وجُد ،وقد يصممون داخلها نظاما آليا ل يتدخل فيه العقل بل تحكم اللة نفسها.
والحق سبحانه وتعالى وضع نظاما واضحا في خلقه الذين خلقهم ،وشرع لهم تكوين السرة على
أساس سليم .وبنى السلم هذا النظام أول على سلمة العقيدة ونصاعتها ووحدتها حتى ل تتوزع
المؤثرات في مكونات السرة ،لذلك منع المسلم من أن يتزوج من مشركة ،وحرم على المسلمة
أن تتزوج مشركا .وبعد ذلك علمنا معنى اللتقاء الغريزي بين الزوجين .ولقد أراد الحق سبحانه
وتعالى أل يطلق العنان للغريزة في كل زمان التواجد الزوجي ،فجعل المحيض فترة يحرم فيها
الجماع وقال:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه وتعالى متنفسا يتنفس فيه الزوج للتأديب الذي ينشد التهذيب والبقاء ،فشرع للرجل إن
رأى في امرأته إذلل له بجمالها وبحسنها ،وقد يكون رجل له مزاج خاص ورغبة جامحة في
هذه العملية؛ لذلك شرع ال له فترة من الفترات أن يحلف أل يقرب امرأته ،ولم يجعل ال تلك
الفترة مطلقة ،إنما قيدها بالحلف حتى يكون المر مضبوطا.
فالحق يريد العلج ل القسوة .فلو لم يكن الرجل مضبوطا بيمين فقد يُغير رأيه بأن يأتي زوجته،
شهُرٍ { أي إنّ لك أيها الزوج أن تحلف
ولذلك قال الحق } :لّلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِن نّسَآ ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ أَ ْ
أل تقرب زوجتك أربعة أشهر لكن إن زادت المدة على أربعة أشهر فهي لن تكون تأديبا بل
إضرارا .والخالق عز وجل يريد أن يؤدب ل أن يضر .فإذا ما تجاوزت المدة يكون الزوج متعديا
ول حق له.
إن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الميول والعواطف والغرائز ويقنن لها التقنين السليم .إنه عز
وجل يترك لنا ما يدلنا على ذلك ،ففي خلفة عمر بن الخطاب رضي ال عنه ،يمر عمر في
جوف الليل فيسمع امرأة تقول البيات المشهورة:تطاول هذه الليل وأسود جانبه وأرقنـي إل
خلـيـل ألعـبـهفوال لول ال تخشـى عواقبه لزلزل مـن هذا السرير جـوانبهمعنى ذلك أن
المرأة تعاني من الوحشة إلى الرجل ،وتوشك المعاناة أن تدفعها إلى سلوك غير قويم ،لكن تقوى
ال هي التي تمنعها من النحراف .ومن الجائز أن نتساءل كيف سمع عمر هذه المرأة وهو يسير
في الشارع ،وأقول :إن المرأة تأتي عندها هذه الحاسيس تترنم في سكون الليل ،وعندما يسكن
الليل ل تكون فيه ضجة فيسهل سماع ما يقال داخل البيوت ،ألم يسمع عمر كلم المرأة التي
تجادل ابنتها في غش اللبن؟
ولما سمع الفاروق كلم هذه المرأة التي تعاني من وحشة إلى الرجل ،ذهب بفطرته السليمة
وأَلمعيّته المشرقة إلى ابنته حفصة أم المؤمنين رضي ال عنها ،وقال لها :كم تصبر المرأة على
بعد الرجل ،فقالت :من ستة شهور إلى أربعة أشهر.
فسن عمر سنةً أصبحت دستورا فيما بعد ،وهي أل يبعد جندي من جنود المسلمين عن أهله أربعة
شهُرٍ { سبق
أشهر .إذن فقول الحق سبحانه وتعالى } :لّلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِن نّسَآ ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ أَ ْ
حادثة عمر ،ثم ترك الحق لواقع الحياة أن يبين لنا صدق ما قننه لنا ،ويأتي عمر ليستنبط الحكم
من واقع الحياة.
} فَإِنْ فَآءُو { أي فإن رجع الرجل ،وأراد أن يقترب من زوجته قبل مضي الربعة أشهر؛ فللرجل
أن يكفر عن يمينه وتنتهي المسألة .ولكن إذا مرت الشهور الربعة وتجاوزت المقاطعة مدتها
يؤمر الزوج بالرجوع عن اليمين أو بالطلق ،فإن امتنع الزوج طلقها الحاكم ،وقال بعض الفقهاء:
ن مضي مدة الربعة أشهر دون أن يرجع ويفئ يجعلها مطلقة طلقة واحدة بائنة .ولذلك يقول
إّ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمِيعٌ عَلِيمٌ {
الحق } :وَإِنْ عَ َزمُواْ الطّلَقَ فَإِنّ اللّهَ َ
()229 /
واختلف العلماء؛ هل تطلق الزوجة طلقة بائنة أو طلقة رجعية؟ ومعنى " طلق رجعي " مأخوذ
من اللفظ نفسه ،أي أن الزوج له الحق أن يراجع امرأته دون إذن منها أو رضا .أما الطلق
عقَد عليها عقدا جديدا بمهر جديد.
البائن فإنه ل عودة إل إذا َ
والطلقة في اليلء بينونة صغرى وهي التي تحتاج إلى عقد ومهر جديدين ،هذا إذا لم يسبق
طلقان .والبينونة الكبرى وهي التي توصف بأنها ذات الثلث ،فالزوجة فيها تطلق ثلث مرات،
فل يصح أن يعيدها الزوج إل إذا تزوجت زوجا غيره ،وعاشت معه حياة زوجية كاملة ،ثم طلقها
لي سبب من السباب ،وبعد ذلك يحق لزوجها القديم أن يراجعها ويعيدها إليه بعقد ومهر
جديدين ،لكن بعد أن يكتوي بغيرة زواجها من رجل آخر .والحق سبحانه وتعالى يعرض هذه
غفُورٌ رّحِيمٌ * وَإِنْ
شهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنّ اللّهَ َ
المسألة فيقول {:لّلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِن نّسَآ ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ َأ ْ
سمِيعٌ عَلِيمٌ }[البقرة]227-226 :
لقَ فَإِنّ اللّهَ َ
عَ َزمُواْ الطّ َ
فالسلم دين واقعي يعطي الزوج المسلم أشياء تنفس عن غضبه ،وأشياء تمكنه من أن يؤدب
زوجته ،ولكن السلم ل يحب أن يتمادى الرجل في التأديب .وإذا تمادى وتجاوز الربعة الشهر
نقول له :لبد أن يوجد حد فاصل.
وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه وتعالى في التكليف إلى أن يتكلم عن الطلق وقد تكلم من قبل عن
الزواج واليلء حتى وصل الطلق.
وعندما نتأمل موقف السلم من الطلق نجده يتكلم كلما واقعيا يناسب الميول النسانية؛ لننا ما
دمنا أغيارا فمن الممكن أن يطرأ على حياة الزوجين أحداث أو مشاعر لم تكن في الحسبان ساعة
الزواج .ويجوز أن يكون النسان في ساعة الزواج مدفوعا بحرارة ملكة واحدة ،وبعد ذلك عندما
يجئ واقع الحياة تتملكه ملكات متعددة ،وقد تسيطر عليه المسألة الجنسية ،وتدفعه للزواج ،وفي
سبيل إرضاء شهوته الجنسية قد يهمل بقية ملكات نفسه ،فإذا ما دخل واقع الزواج وهدأت شِرّة
وحرارة غرائز النسان تتنبه نفس النسان إلى مقاييس أخرى يريد أن يراها في زوجته فل يجدها
ويتساءل ما الذي أخفاها عنه؟
أخفاها سعار وعرامة النظرة الجنسية ،فقد نظر للمرأة قبل الزواج من زاوية واحدة ،ولم ينظر
لباقي الجوانب .مثل قد يجد الزوج أن أخلق الزوجة تتنافر مع أخلقه ،وقد يجد تفكيرها وثقافتها
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تتنافر مع تفكيره وثقافته ،وربما وجد عدم التوافق العاطفي بينه وبينها ولم يحدث تآلف نفسي
بينهما ،والعواطف ـ كما نعلم ـ ليس لها قوانين.
فمن الجائز أن يكون الرجل غير قادر على الكتفاء بوليمة جنسية واحدة ،فهو لذلك ل يبني حياته
على طهر ،وإنما يريد من امرأته أن تكون طاهرة عفيفة في حياتها معه ،بينما يعطي لنفسه
الحرية في أن يعدد ولئمه الجنسية مع أكثر من امرأة ،وربما يحدث العكس ،وذلك أن يجد الرجل
أنّ امرأة واحدة تكفيه ،لكن المرأة تريد أكثر من رجل.
وقد يكون الرجل طاهر السلوب في الحياة ،وتكون زوجته راغبة في أن يأتيها بالمال من أي
طريق ،فيختلفان .وقد تكون المرأة طاهرة السلوب في الحياة فل ترضى أن يتكسب زوجها من
مال حرام.
من هنا يأتي الشقاق ،إن الشقاق يأتي عندما يريد أحد الزوجين أن تكون حياتهما نظيفة طاهرة،
مستقيمة ،ول يرى الخر ذلك .مثل هذه الصورة موجودة في الواقع حولنا ،فكم من بيوت تشقى
عندما تختفي الوحدة السرية ،وتختلف نظرة أحد الزوجين للمور عن الخر.
وهذا هو سبب الشقاق الذي يحدث بين الزوجين عندما ل يكتفي أحد الزوجين بصاحبه .ولو اتفق
رجل وامرأته على العفاف ،والطهر ،والخيرية لستقامت أمور حياتهما .ولذلك يأتي السلم
سهِنّ
بتشريعاته السامية لتناسب كل ظروف الحياة فيقول الحق سبحانه } :وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
حلّ َلهُنّ أَن َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ{ ...
ثَلَثَةَ قُرُو ٍء َولَ يَ ِ
()230 /
حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ إِنْ كُنّ
سهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُو ٍء وَلَا يَ ِ
وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
ُي ْؤمِنّ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الَْآخِ ِر وَ ُبعُولَ ُتهُنّ َأحَقّ بِ َردّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلَاحًا وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ
حكِيمٌ ()228
ف وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
بِا ْل َمعْرُو ِ
سهِنّ ثَلَثَةَ
الية كلها تتضمن أحكاما تكليفية ،والحكم التكليفي الول هو { :وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
قُرُوءٍ } ولنا أن نلحظ أن الحكم لم يرد بصيغة المر ولكن جاء في صيغة الخبر ،فقال:
سهِنّ ثَلَثَةَ قُرُوءٍ } ،وحين يريد الحق سبحانه وتعالى حكما لزما ل
طّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
{ وَا ْلمُ َ
يأتي له بصيغة المر النشائي ،ولكن يأتي له بصيغة الخبر ،هذا آكد وأوثق للمر كيف؟
معنى ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يأمر فالمر يصادف من المؤمنين به امتثالً ،ويُطبق
المتثال في كل الجزئيات حتى ل تشذ عنه حالة من الحالت فصار واقعا يُحكى وليس تكليفا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُطلب ،وما دام قد أصبح المر واقعا يُحكي فكأن المسألة أصبحت تاريخا يُروى هو { :وَا ْلمُطَّلقَاتُ
سهِنّ ثَلَ َثةَ قُرُوءٍ } .ويجوز أن نأخذ الية على معنى آخر هو أن ال قد قال:
يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
سهِنّ } فيكون كلما خبريا.
طّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
{ وَا ْلمُ َ
وقلنا إن الكلم الخبري يحتمل الصدق والكذب ،إن ال قد قال ذلك فمن أراد أن يصدق كلم ال
فلينفذ الحكم ،ومن أراد أن يبارز ال بالتكذيب ول يصدقه فل ينفذ الحكم ،ويرى في نفسه آية عدم
التصديق وهي الخسران المبين ،أليس ذلك أكثر إلزاما من غيره؟ ومثل ذلك قوله تعالى{:
ن وَالطّيّبُونَ لِ ْلطّيّبَاتِ ُأوْلَـا ِئكَ مُبَرّءُونَ ِممّا
ت وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِي َ
ن وَالْخَبِيثُونَ لِ ْلخَبِيثَا ِ
الْخَبِيثَاتُ لِ ْلخَبِيثِي َ
َيقُولُونَ َلهُم ّم ْغفِ َرةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }[النور]26 :
إن هذا وإن كان كلما خبريا لكنه تشريع إنشائي يحتمل أن تطيع وأن تعصي ولكن ال يطلب منا
أن تكون القضية هكذا { ا ْلخَبِيثَاتُ ِللْخَبِيثِينَ } يعني أن ربكم يريد أن تكون { ا ْلخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ }
وأن تكون { الطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ } وليس معنى ذلك أن الواقع لبد أن يكون كما جاء في الية ،إنما
الواقع يكون كذلك لو نفذنا كلم ال وسيختلف إذا عصينا ال وتمردنا على شرعه .والمعنى نفسه
في قوله تعالىَ {:ومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا }[آل عمران]97 :
أي اجعلوا من يدخل البيت الحرام آمنا .ويحتمل أن يعصي أحد ال فل يجعل البيت الحرام آمنا.
سهِنّ ثَلَثَةَ قُرُوءٍ } هو حكم تكليفي يستحق النفاذ لمن
إذن فقوله الحق { :وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
يؤمن بال ،وقوله { :يَتَرَ ّبصْنَ } أي ينتظرن ،واللفظ هنا يناسب المقام تماما ،فالمتربصة هي
المطلقة ،ومعنى مطلقة أنها مزهود فيها ،وتتربص انتهاء عدتها حتى ترد اعتبارها بصلحيتها
سهِنّ }
للزواج من زوج آخر .ولم ينته القول الكريم بقوله { :يَتَرَ ّبصْنَ } وإنما قال { :يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
مع أن المتربصة هي نفسها المطلقة؛ ذلك لن النفس الواعية المكلفة والنفس المارة بالسوء
تكونان في صراع على الوقت وهو { ثَلَ َثةَ قُرُوءٍ } " ،وقروء " جمع " قرء " وهو إما الحيضة
وإما الطهر الذي بين الحيضتين .وقوله الحق سبحانه وتعالى { :ثَلَثَةَ قُرُوءٍ } وما المقصود به؟
هل هو الحيضة أو الطهر؟ إن المقصود به الطهر ،لنه قال " :ثلثة " بالتاء ،ونحن نعرف أن
التاء تأتي مع المذكر ،ول تأتي مع المؤنث ،و " الحيضة " مؤنثة و " الطهر " مذكر ،إذن { ،ثَلَثَةَ
قُرُوءٍ } هي ثلثة أطهار متواليات.
والعلة هي استبراء الرحم وإعطاء مهلة للزوجين في أن يراجعا نفسيهما ،فربما بعد الطهر الول
أو الثاني يشتاق أحدهما للخر ،فتعود المسائل لما كانت عليه ،لكن إذا مرت ثلثة أطهار فل أمل
ول رجاء في الرجوع.
خلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ { وما معنى الخلق؟
حلّ َلهُنّ أَن َيكْ ُتمْنَ مَا َ
ثم يقول الحق بعد ذلكَ } :ولَ َي ِ
الخلق هو إيجاد شيء كان معدوما ،وهذا الشيء الذي كان معدوما إما أن يكون حملً وإما أن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَْلهُنّ }
ضعْنَ َ
حمَالِ َأجَُلهُنّ أَن َي َ
لتُ الَ ْ
يكون حيضا ،وللحامل عدة جاءت في قوله الحق {.وَُأ ْو َ
[الطلق]4 :
أما المرأة الحائل وهي التي بدون حمل ،فعدتها أن تحيض وتطهر ثلث مرات وهناك حالة ثالثة
حضْنَ }
شهُ ٍر وَاللّئِي لَمْ َي ِ
هي {:وَاللّئِي يَئِسْنَ مِنَ ا ْل َمحِيضِ مِن نّسَآ ِئكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ َفعِدّ ُتهُنّ ثَلَ َثةُ أَ ْ
[الطلق]4 :
أي أن المرأة التي انقطعت عنها الدورة الشهرية فعدتها " ثلثة أشهر " الحكم نفسه للصغيرة التي
لم تحض بعد ،أي عدتها ثلثة أشهر .إذن فنظام العدة له حالت:
* إن كانت غير حامل فعدتها ثلثة قروء أي ثلثة أطهار إن كانت ممن يحضن
* إن كانت حامل فعدتها أن تضع حملها.
* وإن لم تكن حامل وقد بلغت سن اليأس ولم تعد تحيض ،أو كانت صغيرة لم تصل لسن
الحيض ،هذه وتلك عدتها ثلثة أشهر.
حلّ َلهُنّ أَن َيكْ ُتمْنَ مَا خََلقَ اللّهُ فِي أَ ْرحَا ِمهِنّ { يدل على أن المرأة لها
وقوله تعالى } :وَلَ َي ِ
شهادتها لنفسها في المر الذي يخصها ول يطلع عليه سواها .وهي التي تقرر المسألة بنفسها،
فتقول :أنا حامل أو ل ،وعليها أل تكتم ذلك ،فقد يجوز أن تكون حامل وبعد ذلك تكتم ما في
بطنها حتى ل تنتظر طول مدة الحمل وتتزوج رجلً آخر فينسب الولد لغير أبيه ،فغالبا ما يستمر
الحمل تسعة أشهر ولكن فيه استثناء ،فهناك حمل مدته سبعة شهور ،وأحيانا ستة شهور .وقد
تتزوج المرأة المطلقة بعد ثلثة شهور وتدعي أنها حامل من الزوج الجديد وأن حملها لم يستمر
سوى سبعة أشهر أو ستة أشهر.
وبعضنا يعرف قصة الحامل في ستة شهور ،فقد جاءوا بامرأة لسيدنا عثمان رضي ال عنه لنها
ولدت لستة أشهر ،فأراد أن يقيم عليها حد الزنى ،فتدخل المام علي ابن أبي طالب وقال :كيف
تقيم عليها الحد لنها ولدت لستة أشهر ،ألم تقرأ قول الحق سبحانه وتعالى؟ قال عثمان :وماذا قال
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ }
ضعْنَ َأ ْولَدَهُنّ َ
الحق في ذلك؟ فقرأ المام علي قول ال {:وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
[البقرة]233 :
حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْها
أي أنها ترضع الوليد لمدة أربعة وعشرين شهرا ،وفي آية أخرى قال الحقَ {:
شهْرا }[الحقاف]15 :
حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ
ضعَتْهُ كُرْها َو َ
َووَ َ
فإذا أخذنا من الية الولى أربعة وعشرين شهرا وهي مدة الرضاع وطرحناها من الثلثين شهرا
التي تجمع بين الحمل والرضاع في الية الثانية فهمنا أن الحمل قد يكون ستة أشهر .هنا قال
سيدنا عثمان متعجبا :وال ما فطنت لهذا.
حلّ َلهُنّ أَن
إذن فحمل الستة الشهور أمر ممكن ،ومن هنا نفهم الحكمة في قوله تعالىَ } :ولَ يَ ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َيكْ ُتمْنَ مَا خََلقَ اللّهُ فِي أَ ْرحَا ِمهِنّ { ،حتى ل تدعي المرأة أنها ليست حامل وتتزوج رجل آخر
وتنسب إليه ولدا ليس من صلبه ويترتب على ذلك أكثر من إشكال ،منها أل يرث الولد من الب
الول ،وأن محارمه لم تعد محرمة عليه ،فأخته من أبيه لم تعد أخته ،وكذلك عماته وخالته
وتنقلب الموازين ،هذا من جانب الب الصلي.
أما من جانب الزوج الثاني فالطفل يكتسب حقوقا غير مشروعة له ،سيرث منه ،وتصبح محارم
الرجل الثاني محارمه فيدخل عليهن بل حق ويرى عوراتهن ،وتحدث تداخلت غير مشروعة.
حلّ َلهُنّ أَن َيكْ ُتمْنَ مَا خََلقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ { هو قول يريد به الحق أن
إذن فقوله الحقَ } :ولَ َي ِ
تقوم الحياة على طهر وعلى شرف وعلى عفاف ،ول يعتدي أحد على حقوق الخر .هذا بالنسبة
للحمل .فكيف يكون الحال بالنسبة للحيض؟
أيضا ل يحل لها أن تكتم حيضها لتطيل زمن العدة مع زوجها .ويقول الحق } :إِن كُنّ ُي ْؤمِنّ بِاللّهِ
وَالْ َيوْمِ الخِرِ { .فما علقة اليمان هنا بالحكم الشرعي؟ إنها علقة وثيقة؛ لن الحمل أو الحيض
مسائل خفيفة ل يحكمها قانون ظاهر ،إنما الذي يحكمها هو عملية اليمان ،ولذلك قيل " :الغيب ل
يحرسه إل غيب " وما دام الشيء غائبا فلن يحرسه إل الغيب العلى وهو ال تعالى.
حقّ بِ َردّهِنّ فِي ذَِلكَ { والبعل هو الزوج ،وهو الرب والسيد والمالك،
ويتابع الحق } :وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ
وفي أثناء فترة التربص يكون الزوج أحق برد زوجته إلى عصمته ،وقوله تعالى } :وَ ُبعُولَ ُتهُنّ
حقّ بِرَدّهِنّ { هل يعني ذلك أن هناك أناسا يمكن أن يشاركوا الزوج في الرد؟ لن الحق جاء
أَ َ
حقّ { وفي ظاهرها تعطي الحق لغير الزواج أن يراجعوا؟ ل ،إنما المقصود هو أنه ل
بكلمة } أَ َ
حق لحد هنا إل للزوج ،فالرد خلل العدة من حق الزوج ،فليس للزوجة أن تقول :ل ،وليس
لولي الزوجة أن يقول :ل .فالزوج إذا أراد مراجعة زوجته وأبت وامتنعت هي وجب إيثار وتقديم
رغبته على رغبتها ،وكان هو أحق منها ،ول ينظر إلى قولها ،فإنه ليس لها في هذا المر حق
فقد رضيت به أولً .أما إذا انتهت العدة فالصورة تختلف ،لبد من الولي ،ولبد من عقد ومهر
جديدين واشتراط موافقة الزوجة.
حقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُواْ ِإصْلَحا { هذا إن أرادوا إصلحا .والرادة عمل
} وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ
غيبي ،فكأنها تهديد للزوجين ،إن التشريع يجيز لهما العودة ،لكن إذا كان الزوج يريد أن يردها
ليوقع بها الضرر لسبب في نفسه فالدين يقول له :ل ،ليس لك ذلك .وإن كان القضاء يجيز له
ردها ،إل أن ال يحرم عليه ذلك الظلم .إن من حق الزوج أن يرد زوجته ردا شرعيا للعفة من
الحصان ولغرض الزوجية ل لشيء آخر ،أما غير ذلك كالضرار بها والنتقام منها فل يجيز له
الدين ذلك.
أما قضائيا فالقضاء يعطيه الحق في ردها ول يستطيع أحد أن يقف أمامه مهما كانت السباب
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الكامنة في نفسه ،لكن عليه أن يتحمل وزر ذلك العمل .ويتابع الحق } :وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ
بِا ْل َمعْرُوفِ { أي أن للزوجة مثل ما للزوج ،لكن ما الذي لهن وما الذي عليهن؟
المثلية هنا في الجنس ،فكل منهما له حق على الخر حسب طبيعته ،الزوج يقدم للزوجة بعضا
من خدمات ،والزوجة تقدم له خدمات مقابلة؛ لن الحياة الزوجية مبنية على توزيع المسئوليات،
إن الرجل عليه مسئوليات تقتضيها طبيعته كرجل ،والمرأة عليها مسئوليات تحتمها طبيعتها
كأنثى .والرجل مطالب بالكدح والسعي من أجل النفاق .والمرأة مطالبة بأن توفر للرجل البيت
المناسب ليسكن إليها عندما يعود من مهمته في الحياة .ولذلك يقول ال عز وجلَ {:ومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ
ك ليَاتٍ ّل َقوْمٍ
حمَةً إِنّ فِي ذَِل َ
ج َعلَ بَيْ َنكُم ّموَ ّد ًة وَرَ ْ
سكُنُواْ إِلَ ْيهَا وَ َ
سكُمْ أَ ْزوَاجا لّ َت ْ
خََلقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
يَ َت َفكّرُونَ }[الروم]21 :
سكُنُواْ إِلَ ْيهَا { أي إنكم تتحركون من أجل الرزق
والسكن إلى شيء هو نقيض التحرك ،ومعنى } لّتَ ْ
طوال النهار ثم تعودون للراحة عند زوجاتكم ،فالرجل عليه الحركة ،والمرأة عليها أن تهيئ له
حسن القامة ،وجمال العشرة وحنان وعطف المعاملة .فالمسئوليات موزعة توزيعا عادلً ،فهناك
حق لك هو واجب على غيرك ،وهناك حق لغيرك وهو واجب عليك.
جةٌ { وهي درجة الولية والقوامة .ودرجة الولية تعطينا
ويقول الحق } :وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَ َ
مفهوما أعم وأشمل ،فكل اجتماع لبد له من قَيّم ،والقوامة مسئولية وليست تسلطا ،والذي يأخذ
القوامة فرصة للتسلط والتحكم فهو يخرج بها عن غرضها؛ فالصل في القوامة أنها مسئولية
لتنظيم الحركة في الحياة.
ول غضاضة على الرجل أن يأتمر بأمر المرأة فيما يتعلق برسالتها كامرأة وفي مجالت خدمتها،
أي في الشئون النسائية ،فكما أن للرجل مجاله ،فللمرأة مجالها أيضا.
والدرجة التي من أجلها رُفع الرجل هي أنه قوام أعلى في الحركة الدنيوية ،وهذه القوامة تقتضي
أن ينفق الرجل على المرأة تطبيقا لقوله الحق {:وَ ِبمَآ أَ ْن َفقُواْ مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ }[النساء]34 :
إذن فالنفاق واجب الرجل ومسئوليته ،وليعلم أن ال عزيز ل يحب أن يستذل رجل امرأة هي
مخلوق ل ،وال حكيم قادر على أن يقتص للمرأة لو فهم الرجل أن درجته فوق المرأة هي
للستبداد ،أو فهمت المرأة أن وجودها مع الرجل هي منة منها عليه ،فل استذلل في الزواج؛
لن الزواج أساسه المودة والمعرفة .ويقول الحق بعد ذلك } :الطّلَقُ مَرّتَانِ فَِإ ْمسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ
تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ{ ...
()231 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خذُوا ِممّا آَتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا إِلّا
حلّ َلكُمْ أَنْ تَأْ ُ
ن وَلَا يَ ِ
حسَا ٍ
الطّلَاقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ َتسْرِيحٌ بِإِ ْ
حدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْ َت َدتْ بِهِ تِ ْلكَ حُدُودُ
خفْتُمْ أَلّا ُيقِيمَا ُ
أَنْ يَخَافَا أَلّا ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ
اللّهِ فَلَا َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ ()229
هنا يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن الطلق بعد أن تحدث عن المطلقة في عدتها وكيفية ردها
ومراجعتها ،وإنه سبحانه يتحدث عن الطلق في حد ذاته .والطلق مأخوذ من النطلق
والتحرر ،فكأنه حل عقدة كانت موجودة وهي عقدة النكاح .وعقدة النكاح هي العقدة التي جعلها
ال عقدا مغلظا وهي الميثاق الغليظ ،فقال تعالى {:وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقا غَلِيظا }[النساء]21 :
إنه ميثاق غليظ لنه أباح للزوجين عورات الخر ،في حين أنه لم يقل عن اليمان إنه ميثاق
غليظ ،قال عنه " :ميثاق " فقط ،فكأن ميثاق الزواج أغلظ من ميثاق اليمان .والحق سبحانه
وتعالى يريد أن يربي في الناس حل المشكلت بأيسر الطرق .لذلك شرع لنا أن نحل عقدة النكاح،
ونهاية العقدة ليست كبدايتها ،ليست جذرية ،فبداية النكاح كانت أمرا جذريا ،أخذناه بإيجاب وقبول
وشهود وأنت حين تدخل في المر تدخله وأنت دارس لتبعاته وظروفه ،لكن المر في عملية
الطلق يختلف؛ فالرجل ل يملك أغمار نفسه ،فربما يكون السبب فيها هينا أو لشيء كان يمكن أن
يمر بغير الطلق؛ فيشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل للناس أناة وروية في حل العقدة فقال:
{ الطّلَقُ مَرّتَانِ } يعني مرة ومرة ،ولقائل أن يقول :كيف يكون مرتين ،ونحن نقول ثلثة؟ وقد
سأل رجلٌ رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقال يا رسول ال قال ال تعالى { :الطّلَقُ مَرّتَانِ }
فلم صار ثلثا؟
لقُ
فقال صلى ال عليه وسلم مبتسما { :فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ } .فكأن معنى { الطّ َ
مَرّتَانِ } ،أي أن لك في مجال اختيارك طلقتين للمرأة ،إنما الثالثة ليست لك ،لماذا؟ لنها من بعد
ذلك ستكون هناك بينونة كبرى ولن تصبح مسألة عودتها إليك من حقك ،وإنما هذه المرأة قد
أصبحت من حق رجل آخر {..حَتّىا تَ ْنكِحَ َزوْجا غَيْ َرهُ }[البقرة]230 :
أما قول الرجل لزوجته أنت " طالق ثلثا " يُعتبر ثلث طلقات أم ل؟ نقول :إن الزمن شرط
أساسي في وقوع الطلق ،يطلق الرجل زوجته مرة ،ثم تمضي فترة من الزمن ،ويطلقها مرة
أخرى فتصبح طلقة ثانية ،وتمضي أيضا فترة من الزمن وبعد ذلك نصل لقوله { :فَِإمْسَاكٌ
ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ } ولذلك فالية نصها واضح وصريح في أن الطلق بالثلث في لفظ
واحد ل يوقع ثلث طلقات ،وإنما هي طلقة واحدة ،صحيح أن سيدنا عمر رضي ال عنه جعلها
ثلث طلقات؛ لن الناس استسهلوا المسألة ،فرأى أن يشدد عليهم ليكفوا ،لكنهم لم يكفوا ،وبذلك
نعود لصل التشريع كما جاء في القرآن وهو { الطّلَقُ مَرّتَانِ }.
وحكمة توزيع الطلق على المرات الثلث ل في العبارة الواحدة ،أن الحق سبحانه يعطي فرصة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للتراجع .وإعطاء الفرصة ل يأتي في نفس واحد وفي جلسة واحدة.
إن الرجل الذي يقول لزوجته :أنت طالق ثلثا لم يأخذ الفرصة ليراجع نفسه ولو اعتبرنا قولته
هذه ثلث طلقات لتهدمت الحياة الزوجية بكلمة .ولكن عظمة التشريع في أن الحق سبحانه وزع
الطلق على مرات حتى يراجع النسان نفسه ،فربما أخطأ في المرة الولى ،فيمسك في المرة
الثانية ويندم .وساعة تجد التشريع يوزع أمرا يجوز أن يحدث ويجوز أل يحدث ،فل بد من وجود
فاصل زمني بين كل مرة .وبعض المتشدقين يريدون أن يبرروا للناس تهجمهم على منهج ال
فيقولون :إن ال حكم بأن تعدد الزوجات ل يمكن أن يتم فقال {:وَلَن تَسْ َتطِيعُواْ أَن َتعْدِلُواْ بَيْنَ
النّسَآ ِء وََلوْ حَ َرصْتُمْ }[النساء]129 :
ويقولون :إنّ ال اشترط في التعدد العدل ،ثم حكم بأننا لن نستطيع أن نعدل بين الزوجات مهما
حرصنا ،فكأنه رجع في التشريع ،هذا منطقهم .ونقول لهم :أكملوا قراءة الية تفهموا المعنى ،إن
الحق يقول } :وَلَن َتسْتَطِيعُواْ أَن َت ْعدِلُواْ بَيْنَ النّسَآ ِء وََلوْ حَ َرصْتُمْ { ثم فرع على النفي فقال {:فَلَ
َتمِيلُواْ ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ }[النساء]129 :
وما دام النفي قد فُرّع عليه فقد انتفى ،فالمر كما يقولون :نفي النفي إثبات .أن الستطاعة ثابتة
وباقية وكان قوله تعالى } :فَلَ َتمِيلُواْ ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ { إشارة إليها .وكذلك المر هنا } الطّلَقُ مَرّتَانِ
فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ { .فما دام قد قال } :فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ
{ وقال } :الطّلَقُ مَرّتَانِ { أي أن لكل فعل زمنا ،فذلك يتناسب مع حلقات التأديب والتهذيب ،وإل
فالطلق الثلث بكلمة واحدة في زمن واحد ،يكون عملية قسرية واحدة ،وليس فيها تأديب أو
خذُواْ ِممّآ آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئا
حلّ َلكُمْ أَن تَأْ ُ
إصلح أو تهذيب ،وفي هذه المسألة يقول الحقَ } :ولَ يَ ِ
{ لن المفروض في الزوج أن يدفع المهر نظير استمتاعه بالبضع ،فإذا ما حدث الطلق ل يحل
للمطلق أن يأخذ من مهره شيئا ،لكن الحق استثنى في المسألة فقالِ } :إلّ أَن َيخَافَآ َألّ ُيقِيمَا حُدُودَ
خفْتُمْ َألّ ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ بِهِ {.
اللّهِ فَإِنْ ِ
فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يجعل للمرأة مخرجا إن أريد بها الضرر وهي ل تقبل هذا
الضرر .فيأتي الحق ويشرع :وما دام قد خافا أل يقيما حدود ال ،فقد أذن لها أن افتدي نفسك
أيتها المرأة بشيء من مال ،ويكره أن يزيد على المهر إل إذا كان ذلك ناشئا عن نشوز منها
ومخالفة للزوج فل كراهة إذن في الزيادة على المهر.
وقد جاء الواقع مطابقا لما شرع ال عندما وقعت حادثة " جميلة " أخت " عبد ال ابن أبي " حينما
كانت زوجة لعبد ال بن قيس ،فقد ذهبت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقالت " :أنا ل
أتهمه في دينه ول خلقه ولكن ل أحب الكفر في السلم " وهي تقصد أنها عاشت معه وهي
تبغضه ،لذلك لن تؤدي حقه وذلك هو كفر العشير أي إنكار حق الزوج وترك طاعته.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهي قد قالت :إنها ل تتهمه ل في دينه ول في خلقه لتعبر بذلك عن معانٍ عاطفية أخرى ،فأراد
رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يعلم منها ذلك ،فقالت :لقد رفعت الخباء فوجدته في عدة رجال
فرأيته أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها ،فقال لها صلى ال عليه وسلم " " :أتردين
حديقته "؟ فقالت :وإن شاء زدته ،فقال صلى ال عليه وسلم :ل حاجة لنا بالزيادة ،ولكن ردي
عليه حديقته ".
ويُسمى هذا المر بالخلع ،أي أن تخلع المرأة نفسها من زوجها الذي تخاف أل تؤدي له حقا من
حقوق الزوجية ،إنها تخلع نفسها منه بمال حتى ل يصيبه ضرر ،فقد يريد أن يتزوج بأخرى وهو
حلّ َلكُمْ أَن
محتاج إلى ما قدم من مهر لمن تريد أن تخلع نفسها منه .ويتابع الحق سبحانهَ } :ولَ يَ ِ
حدَاهُنّ
خذُواْ ِممّآ آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئا { وهذا الشيء هو الذي قال عنه ال في مكان آخر {:وَآتَيْتُمْ إِ ْ
تَأْ ُ
قِنْطَارا }[النساء]20 :
ويتابع الحق الية بقولهِ } :إلّ أَن يَخَافَآ َألّ ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ { والمقصود هنا هما الزوجان ،ومن
خفْتُمْ َألّ
بعد ذلك تأتي مسئولية أولياء أمر الزوجين والمجتمع الذي يهمه أمرهما في قوله } :فَإِنْ ِ
حدُودَ اللّهِ
ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ بِهِ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتعْ َتدُوهَا َومَن يَ َت َعدّ ُ
فَُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ {.
وحدود ال هي ما شرعه ال لعباده حدا مانعا بين الحل والحرمة .وحدود ال إما أن ترد بعد
حدُودُ اللّهِ فَلَ
المناهي ،وإما أن ترد بعد الوامر ،فإن وردت بعد الوامر فإنه يقول } :تِ ْلكَ ُ
حدُودُ
َتعْتَدُوهَا { أي آخر غايتكم هنا ،ول تتعدوا الحد ،ولكن إن جاءت بعد النواهي يقول } :تِ ْلكَ ُ
اللّهِ فَلَ َتقْرَبُوهَا { ،لن الحق يريد أن يمنع النفس من تأثير المحرمات على النفس ،فتلح عليها أن
تفعل ،فإن كنت بعيدا عنها فالفضل أن تظل بعيدا.
وانظر جيدا فيما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن الحلل بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما
أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في
الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ،أل وإن لكل ملك حمى ،أل وإن حمى ال
في أرضه محارمه ".
وما دامت الحدود تشمل مناهي ال وتشمل أوامر ال فكل شيء مأمور به وكل شيء منهي عنه
يجب أن يظل في مجاله من الفعل في " افعل " ومن النهي في " ل تفعل " .وإذا انتقل نظام (افعل)
إلى دائرة (ل تفعل) وانتقل ما يدخل في دائرة " ل تفعل " إلى دائرة " افعل " ،هنا يختل نظام
الكون ،وما دام نظام الكون أصابه الخلل فقد حدث الظلم؛ فالظلم هو أن تنقل حق إنسان وتعطيه
لنسان آخر ،وتشريع الطلق حد من حدود ال ،فإن حاولت أن تأتي بأمر ل يناسب ما أمر ال به
ح ِدثُ ظلما.
في تنظيم اجتماعي فقد نقلت المأمور به إلى حيز المنهي عنه ،وبذلك تُ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه وتعالى حينما يعالج قضايا المجتمع يعالجها علجا يمنع وقوع المجتمع في
المراض والفات ،والبشر إن أحسنا الظن بهم في أنهم يشرعون للخير وللمصلحة ،فهم يشرعون
على قدر علمهم بالشياء ،لكننا ل نأمن أن يجهلوا شيئا يحدث ول يعرفوه ،فهم شرّعوا ِلمَا
عرفوا ،وإذا شرعوا لما عرفوا وفوجئوا بأشياء لم يعرفوها ماذا يكون الموقف؟ إن كانوا مخلصين
بحق داسوا على كبرياء غرورهم التشريعي وقالواُ :نعَدّل ما شرعنا ،وإن ظلوا في غلوائهم فمن
الذي يشقى؟ إن المجتمع هو الذي يشقى بعنادهم.
والحق سبحانه وتعالى ل يتهم الناس جميعا في أن منهم من ل يريد الخير ،ولكن هناك فرق بين
أن تريد خيرا وأل تقدر على الخير .أنت شرعت على قدر قدرتك وعلمك .ونعرف جميعا أن
شقاء التجارب في القوانين الجتماعية النظرية تقع على المجتمع.
ونعرف جيدا أن هناك فرقا بين العلم التجريبي المعملي والكلم النظري الهوائي؛ فالعلم التجريبي
يشقى به صاحب التجربة ،إن العَالِم يكد ويتعب في معمله وهو الذي يشقى ويضحي بوقته وبماله
وبصحته ويعيش في ذهول عن كل شيء إل تجربته التي هو بصددها ،فإذا ما انتهى إلى قضية
اكتشافية فالذي يسعد باكتشافه هو المجتمع .لكن المر يختلف في الشياء النظرية؛ لن الذي
يشقى بأخطاء المقننين من البشر هو المجتمع ،إلى أن يجيء مقنن يعطف على المجتمع ويعدل
خطأ من سبقه.
أما الحق سبحانه وتعالى فقد جاءنا بتشريع يحمي البشر من الشقاء ،فال ـ سبحانه ـ يتركنا في
العالم المادي التجريبي أحرارا .ادخلوا المعمل وستنتهون إلى أشياء قد تتفقون عليها ،لكن إياكم
واختلفات الهواء؛ لذلك تولى ال عز وجل تشريع ما تختلف فيه الهواء ،حتى يضمن أن
المجتمع ل يشقى بالخطأ من المشرعين ،لفترة من الزمن إلى أن يجيء مشرع آخر ويعدل للناس
ما أخطأ فيه غيره.
لذلك نجد في عالمنا المعاصر الكثير من القضايا النابعة من الهوى ،ويتمسك الناس فيها بأهوائهم،
ثم تضغط عليهم الحداث ضغطا ل يستطيعون بعدها أن يضعوا رءوسهم في الرمال ،بل لبد أن
يواجهوها ،فإذا ما واجهوها فإنهم ل يجدون حلً لها إل بما شرعه السلم ،ونجد أنهم التقوا مع
تشريعات السلم.
إن بعضا من الكارهين للسلم يقولون :أنتم تقولون عن دينكم :إنه جاء ليظهر على كل الديان،
مرة يقول القرآن:
شهِيدا }[الفتح:
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه َو َكفَىا بِاللّهِ َ
حقّ لِيُ ْ
سلَ َرسُولَهُ بِا ْلهُدَىا وَدِينِ الْ َ
{ ُهوَ الّذِي أَرْ َ
]28
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَاللّهُ مُ ِتمّ نُو ِرهِ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ * ُهوَ
ومرة يقول القرآن {:يُرِيدُونَ لِ ُي ْ
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }[الصف-8 :
حقّ لِ ُي ْ
سلَ رَسُولَهُ بِا ْلهُدَىا َودِينِ الْ َ
الّذِي أَ ْر َ
]9
ويستمر هؤلء الكارهون للسلم في قولهم ويضيفون :إن إسلمكم ليظهر على الدين كله حتى
الن بدليل أن هناك المليين لم يدخلوا السلم؟ ونقول لهم :أو يظهر على الدين كله بأن يؤمن
الناس بالسلم جميعا ،ل ،لو فطنوا على قول ال } :وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ { لعلموا أن إظهار
السلم على الدين لبد أن يلزمه وجود كافرين كارهين ،وما دام السلم موجودا مع كافرين
كارهين ،فهو لن يظهر كدين ،ولكنه يظهر عليهم ـ أي يغلبهم ـ كنظام يضطرون إليه ليحلوا
مشكلت مجتمعاتهم الكافرة ،فسيأخذون من أنظمة وقوانين السلم وهم كارهون ،ولذلك نجدهم
يستقون قوانينهم وإصلحاتهم الجتماعية من تعاليم السلم.
ولو كانوا سيأخذونه كدين لما قال الحق } :وَلَوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ { أو } وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ { لنهم
عندما يعتنقونه كدين فلن يبقى كاره أو مشرك .لكن حين يقول سبحانه } :وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ
{ و } وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمشْ ِركُونَ { فذلك يعني :أن اطمئنوا يا من آمنتم بمحمد صلى ال عليه وسلم
وأخذتم السلم دينا ،إن تجارب الحياة ستأتي لتثبت لدى الجاحدين صدق دينكم ،وصدق ال في
تقنينه لكم ،وسيضطر الكافرون والمشركون إلى كثير من قضايا إسلمكم ليأخذوها كنظام يحلون
بها مشاكلهم رغم عنادهم وإصرارهم على أن يكونوا ضد السلم.
وضربنا على ذلك مثلً بما حدث في إيطاليا التي بها الفاتيكان قبلة الكاثوليك الروحية؛ فقد
اضطروا لن يشرعوا قوانين تبيح الطلق ،وحدث مثل ذلك في أسبانيا وغيرها من الدول .انظر
كيف تراجعوا في مبادئ كانوا يعيبونها على السلم! لقد اضطرتهم ظروف الحياة لن يقننوا
إباحة الطلق تقنينا بشريا ل بتقنين إلهي .ومثل هذه الحداث تبين لنا مدى ثقتنا في ديننا ،وأن
مشكلت البشرية في بلد الكفر والشرك لن يحلها إل السلم ،فإن لم يأخذوه كدين فسيضطرون
إلى أخذه كنظام.
ومن شرف السلم أل يأخذوه كدين؛ لنهم لو آمنوا به لكانت أفعالهم وقوانينهم تطبيقا للسلم من
قوم مسلمين ،ولكن أن يظلوا كارهين للسلم ثم يأخذوا من مبادئ الدين الذي يكرهونه ما يصلح
مجتمعاتهم الفاسدة فذلك الفخر الكبر للسلم .إن هذا هو مفهوم قول الحق } :وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ
{ و } وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمشْ ِركُونَ { وإذا ما جاء لك أحد في هذه المسألة فقل :من شرف السلم أن يظل
في الدنيا مشرك ،وأن يظل في الدنيا هؤلء الكفار ثم يرغموا ليحلوا مسائل مجتمعاتهم بقضايا
السلم ،والسلم يفخر بأنه سبقهم منذ أربعة عشر قرنا إلى ما يلهثون وراءه الن بعد مضي كل
حلّ لَهُ مِن َبعْدُ حَتّىا تَ ْنكِحَ َزوْجا غَيْ َرهُ{ ...
هذا الزمن .ويقول الحق بعد ذلك } :فَإِنْ طَّل َقهَا فَلَ َت ِ
()232 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَا إِنْ
حلّ َلهُ مِنْ َبعْدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َزوْجًا غَيْ َرهُ فَإِنْ طَّل َقهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا أَنْ يَتَرَا َ
فَإِنْ طَّل َقهَا فَلَا َت ِ
حدُودُ اللّهِ يُبَيّ ُنهَا ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ ()230
ظَنّا أَنْ ُيقِيمَا حُدُودَ اللّ ِه وَتِ ْلكَ ُ
وسبق أن قال الحق { :الطّلَقُ مَرّتَانِ } وبعدها قال { :فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ }.
حلّ لَهُ مِن َبعْدُ حَتّىا تَ ْنكِحَ َزوْجا غَيْ َرهُ }.
وهنا يتحدث الحق عن التسريح بقوله { :فَإِنْ طَّلقَهَا فَلَ َت ِ
وذلك حتى يبين لنا أنه إن وصلت المور بين الزوجين إلى مرحلة الل عودة فلبد من درس
قاس؛ فل يمكن أن يرجع كل منهما للخر بسهولة .لقد أمهلهما ال بتشريع البينونة الصغرى التي
يعقبها مهر وعقد جديدان فلم يرتدعا ،فكان لبد من البينونة الكبرى ،وهي أن تتزوج المرأة بزوج
آخر وتجرب حياة زوجية أخرى .وبذلك يكون الدرس قاسيا.
وقد يأخذ بعض الرجال المسألة بصورة شكلية ،فيتزوج المرأة المطلقة ثلثا زواجا كامل الشروط
من عقد وشهود ومهر ،لكن ل يترتب على الزواج معاشرة جنسية بينهما ،وذلك هو " المحلل "
الذي نسمع عنه وهو ما لم يقره السلم.
فمن تزوج على أنه محلل ومن وافقت على ذلك المحلل فليعلما أن ذلك حرام على الثنين ،فليس
في السلم محلل ،ومن يدخل بنية المحلل ل تجوز له الزوجة ،وليس له حقوق عليها ،وفي الوقت
نفسه لو طلقها ذلك الرجل ل يجوز لها الرجوع لزوجها السابق ،لن المحلل لم يكن زوجا وإنما
حلّ لَهُ مِن َب ْعدُ حَتّىا تَ ْنكِحَ
تمثيل زوج ،والتمثيل ل يُثبت في الواقع شيئا .ولذلك قال الحق { :فَلَ َت ِ
َزوْجا غَيْ َرهُ }.
والمقصود هنا النكاح الطبيعي الذي ساقت إليه الظروف دون افتعال ول قصد للتحليل .وعندما
يطلقها ذلك الرجل لظروف خارجة عن الرادة وهي استحالة العشرة ،وليس لسباب متفق عليها،
عندئذ يمكن للزوج السابق أن يتزوج المرأة التي كانت في عصمته وطلقها من قبل ثلث مرات.
جعَآ إِن ظَنّآ أَن ُيقِيمَا حُدُودَ اللّ ِه وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّ ُنهَا ِل َقوْمٍ
{ فَإِن طَّل َقهَا فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَآ أَن يَتَرَا َ
َيعَْلمُونَ } أي أن يغلب على الظن أن المسائل التي كانت مثار خلف فيما مضى قد انتهت ووصل
الثنان إلى درجة من التعقل والحترام المتبادل ،وأخذا درسا من التجربة تجعل كل منهما يرضى
سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ} ...
جَلهُنّ فََأمْ ِ
بصاحبه .وبعد ذلك يقول الحق { :وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ أَ َ
()233 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُوهُنّ ضِرَارًا
سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ وَلَا ُت ْم ِ
وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ فََأ ْم ِ
خذُوا آَيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُ ْم َومَا أَنْ َزلَ
س ُه وَلَا تَتّ ِ
لِ َتعْتَدُوا َومَنْ َيفْ َعلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْ َ
شيْءٍ عَلِيمٌ ()231
ظكُمْ ِب ِه وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ
ح ْكمَةِ َيعِ ُ
ب وَالْ ِ
عَلَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلكِتَا ِ
ولنلحظ قوله { :وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ } ونسأل :هل إذا بلغت الجل وانتهت العدة ،هل
يوجد بعدها إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان؟ ،هل يوجد إل التسريح؟ .إن هناك آية بعد ذلك
ضوْاْ بَيْ َنهُمْ
جهُنّ إِذَا تَرَا َ
تقول {:وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ فَلَ َت ْعضُلُوهُنّ أَن يَنكِحْنَ أَ ْزوَا َ
بِا ْل َمعْرُوفِ }[البقرة]232 :
إذن نحن أمام آيتين كل منهما تبدأ بقوله { :وَِإذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ } .لكن تكملة الية
سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ } وتكملة الية الثانية هو { :فَلَ
الولى هو { :فََأ ْم ِ
جهُنّ } .ما سر هذا الختلف إذن؟
َت ْعضُلُوهُنّ أَن يَنكِحْنَ أَ ْزوَا َ
نقول :إن البلوغ يأتي بمعنيين ،المعنى الول :أن يأتي البلوغ بمعنى المقاربة مثل قوله تعالى:
سلُواْ ُوجُو َهكُمْ } .أي عندما تقارب القيام إلى الصلة فافعل ذلك.
{ ِإذَا ُقمْتُمْ ِإلَى الصّلةِ فاغْ ِ
والمعنى الثاني :يطلق البلوغ على الوصول الحقيقي والفعلي .إن النسان عندما يكون مسافرا
بالطائرة ويهبط في بلد الوصول فهو يلحظ أن الطيار يعلن أنه قد وصل إلى البلد الفلني .إذن
مرة يطلق البلوغ على القرب ومرة أخرى يطلق على البلوغ الحقيقي.
سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ }
وفي الية الولى { وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ فََأمْ ِ
هنا طلق الرجل زوجته لكن عدتها لم تنته بل قاربت على النتهاء فربما يمكنه أن يسرحها أو
يمسكها بإحسان ،وأصبح للزوج قدر من زمن العدة يبيح له أن يمسك أو يسرح ،لكنه زمن قليل.
إن الحق يريد أن يتمسك الزوج بالبقاء إلى آخر لحظة ويستبقي أسباب اللتقاء وعدم النفصال
حتى آخر لحظة ،وهذه علة التعبير بقوله { :فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ } أي قاربن بلوغ الجل .إن الحق
يريدنا أن نتمسك باستبقاء الحياة الزوجية إلى آخر فرصة تتسع للمساك ،فهي لحظة قد ينطق
فيها الرجل بكلمة يترتب عليها إما طلق ،وإما عودة الحياة الزوجية.
أما الية الثانية وهي قوله تعالى { :وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ فَلَ َت ْعضُلُوهُنّ أَن يَن ِكحْنَ
جهُنّ } فال سبحانه وتعالى يريد أن يحصر مناقشة السباب في النفصال أو الستمرار بين
أَ ْزوَا َ
الزوج والزوجة فقط فل تتعدى إلى غير الزوج والزوجة؛ لن بين الثنين من السباب ما قد
تجعل الواحد منهما يُلين جانبه للخر.
لكن إذا ما دخل طرف ثالث ليست عنده هذه فسوف تكبر في نفسه الخصومة ول توجد عنده
الحاجة فل يبقى على عشرة الزوجين .فإذا ما دخل الب أو الخ أو الم في النزاع فسوف تشتعل
الخصومة ،وكل منهم ل يشعر بإحساس كل من الزوجين للخر ،ول بليونة الزوج لزوجته ،ول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بمهادنة الزوجة لزوجها ،فهذه مسائل عاطفية ونفسية ل توجد إل بين الزوج والزوجة ،أما
الطراف الخارجية فل يربطها بالزوج ول بالزوجة إل صلة القرابة .ومن هنا فإن حرص تلك
الطراف الخارجية على بقاء عشرة الزوجين ل يكون مثل حرص كل من الزوجين على التمسك
بالخر.
ولذلك يجب أن نفهم أن كل مشكلة تحدث بين زوج وزوجته ول يتدخل فيها أحد تنتهي بسرعة
بدون أم أو أب أو أخ ،ذلك لنه تدخل طرفٍ خارجي ل يكون مالكا للدوافع العاطفية والنفسية
التي بين الزوجين ،أما الزوجان فقد تكفي نظرة واحدة من أحدهما للخر لن تعيد المور إلى
مجاريها .فقد يُعجب الرجل بجمال المرأة ويشتاق إليها ،فينسى كل شيء .وقد ترى المرأة في
الرجل أمرا ل تحب أن تفقده منه فتنسى ما حدث بينهما ،وهكذا.
لكن أين ذلك من أمها وأمه ،أو أبيها وأبيه؟ ليس بين هؤلء وبين الزوجين أسرار وعواطف
ومعاشرة وغير ذلك.
ولهذا فأنا أنصح دائما بأن يظل الخلف محصورا بين الزوج والزوجة؛ لن ال قد جعل بينهما
سيال عاطفيا .والسيال العاطفي قد يسيل إلى نزوع ورغبة في شيء ما ،وربما تكون هذه الرغبة
هي التي تصلح وتجعل كل من الطرفين يتنازل عن الخصومة والطلق .ولذلك شاءت إرادة ال
عز وجل أل يطلق الرجل زوجته وهي حائض ،لماذا؟
لن المرأة في فترة الحيض ل يكون لزوجها رغبة فيها ،وربما ينفر منها ،لكن يريد الحق عز
وجل أل يطلق الرجل زوجته إل في طهر لم يسبق له أن عاشرها فيه معاشرة الزوج زوجته
وبعد أن تغتسل من الحيض ،وذلك حتى ل يطلقها إل وهو في أشد الوقات رغبة لها.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن تكون الخلفات بين الزوج والزوجة في إطار الحياة الزوجية،
حتى يحفظهما سياج المحبة والمودة والرحمة .لكن تدخل الطراف الخرى يحطم هذا السياج ،أيا
كان الطرف أما أو أبا أو أخا.
ن ضِرَارا لّ َتعْتَدُواْ { أي ل تبق أيها الرجل على الحياة الزوجية من
سكُوهُ ّ
ويقول الحقَ } :ولَ ُتمْ ِ
أجل الضرار بالمرأة وإذللها ،ومعنى الضرار أنك تصنع شيئا في ظاهره أنك تريد الخير وفي
الباطن تريد الشر .ولذلك أطلق اللفظ على " مسجد الضرار " فظاهر بنائه أنه مسجد بني للصلة
فيه ،وفي الباطن كان الهدف منه هو الكفر والتفريق بين المؤمنين .وكذلك الضرار في الزواج؛
يقول الرجل أنا ل أريد طلقها وسأعيدها لبيتها ،يقول ذلك ويُبيت في نفسه أن يعيدها ليذلها وينتقم
منها ،وذلك ل يقره السلم؛ بل وينهى عنه.
ن ضِرَارا لّ َتعْ َتدُواْ َومَن َي ْف َعلْ
سكُوهُ ّ
إن الحق عز وجل يحذر من مثل هذا السلوك فيقولَ } :ولَ ُتمْ ِ
سهُ { فإياك أن تظن أنك حين تعتدي على زوجتك بعد أن تراجعها أنك ظلمتها هي،
ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل ،إنما أنت تظلم نفسك؛ لنك حين تعتدي على إنسان فقد جعلت ربه في جانبه ،فإن دعا عليك
قِبل ال دعوته ،وبذلك تحرم نفسك من رضا ال عنك ،فهل هناك ظلم أكثر من الظلم الذي يأتيك
بسخط ال عليك.
ويتابع الحق سبحانه وتعالىَ } :ومَن َي ْفعَلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظََلمَ َنفْسَ ُه َولَ تَتّخِذُواْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوا { أي
خذوا نظام ال على أنه نظام جاء ليحكم حركة الحياة حكما بل مراوغة وبل تحليق في خيال
كاذب ،إنما هو أمر واقعي ،فل يصح أن يهزأ أحد بما أنزله ال من أنظمة تصون حياة وكرامة
النسان رجلً كان أو امرأة.
ظكُمْ بِهِ { ونعمة ال عليهم
ح ْكمَةِ َي ِع ُ
ب وَالْ ِ
علَ ْيكُ ْم َومَآ أَن َزلَ عَلَ ْيكُمْ مّنَ ا ْلكِتَا ِ
} وَا ْذكُرُواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ َ
التي يذكرهم ال بها في معرض الحديث عن الطلق هي أنه ـ سبحانه ـ يلفتهم إلى ما كانوا
عليه قبل أن يشرع لهم أين كان حظ المرأة في الجاهلية في أمور الزواج والطلق ،وما أصبحت
عليه بعد نزول القرآن؟ لقد صارت حقوقها مصونة بالقرآن.
إن الحق عز وجل يمتن على المؤمنين ليلفت نظرهم إلى حالتهم قبل السلم؛ فقد كان الرجل
يطلق امرأته ويعيدها ،ثم يطلقها ويعيدها ولو ألف مرة دون ضابط أو رابط .وكان يحرم عليها
المعاشرة الزوجية شهورا ويتركها تتعذب بلوعة البعد عنه ،ول تستطيع أن تتكلم.
وكانت المرأة إذا مات زوجها تنفى من المجتمع فل تظهر أبدا ول تخرج من بيتها وكأنها
جرثومة ،وقبل ذلك كله كانت مصدر عار لبيها ،فكان يقتلها قبل أن تصل إلى سن البلوغ بدعوى
الحرص على عرضه وشرفه.
باختصار كان الزواج أقرب إلى المهازل منه إلى الجد ،فجاء السلم ،فحسم المور حتى ل تكون
فوضى بل ضوابط وبل قوانين .فاذكروا أيها المؤمنون نعمة ال عليكم بالسلم ،وانظروا إلى ما
أنعم به عليكم من نظام أسري يلهث العالم شرقه وغربه ليصل إلى مثله.
كنتم أمة بل حضارة وبل ثقافة ،تعبدون الصنام وتقيمون الحرب وتشعلونها بينكم على أتفه
السباب وأدونها ،وتجهلون القراءة والكتابة ،ثم نزل ال عليكم هذا التشريع الراقي الناضج الذي
لم تصل إليه أية حضارة حتى النَ .ألَ تذكرون هذه النعمة التي أنتم فيها بفضل من ال؟ لذلك
ظكُمْ بِهِ
ح ْكمَةِ َي ِع ُ
ب وَالْ ِ
علَ ْيكُ ْم َومَآ أَن َزلَ عَلَ ْيكُمْ مّنَ ا ْلكِتَا ِ
قال سبحانه } :وَا ْذكُرُواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ َ
{ والكتاب هو القرآن ،والحكمة هي سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم .ويختتم الحق تلك الية
شيْءٍ عَلِيمٌ {.
الكريمة بقول } :وَاتّقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ
فإياكم أن تتهموا دينكم بأنه قد فاته شيء من التشريع لكم ،فكل تشريع جاهز في السلم ،لن ال
عليم بما تكون عليه أحوال الناس ،فل يستدرك كون ال في الواقع على ما شرع ال في كتابه،
جَلهُنّ
لنه سبحانه خالق الكون ومنزل التشريع .وبعد ذلك يقول الحق } :وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ أَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهُنّ{ ...
فَلَ َت ْعضُلُوهُنّ أَن يَنكِحْنَ أَ ْزوَا َ
()234 /
{ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ } هنا أي فانتهت العدة ،ولم يستنفد الزوج مرات الطلق ،ولم يعد للزوج حق في
أن يراجعها إل بعد عقد ومهر جديدين .هب أن الزوج أراد أن يعيد زوجته إلى عصمته مرة
أخرى ،وهنا يتدخل أهل اللدد والخصومة من القارب ،ويقفون في وجه إتمام الزواج ،والزوجان
ربما كان كل منهما يميل إلى الخر ،وبينهما سيال عاطفي ونفسي ل يعلمه أحد ،لكن الذين دخلوا
في الخصومة من الهل يقفون في وجه عودة المور إلى مجاريها ،خوفا من تكرار ما حدث أو
لسباب أخرى ،وتقول لهؤلء :ما دام الزوجان قد تراضيا على العودة فل يصح أن يقف أحد في
طريق عودة المور إلى ما كانت عليه.
وقوله الحق { :فَلَ َت ْعضُلُوهُنّ } نعرف منه أن العضل هو المنع ،والكلم للهل والقارب وكل
جهُنّ } أي الذين طلقوهن
من يهمه مصلحة الطرفين من أهل المشورة الحسنة .و { أَن يَنكِحْنَ أَ ْزوَا َ
أول.
والمعنى :ل تمنعوا الزواج أن يعيدوا إلى عصمتهم زوجاتهم اللئي طلقوهن من قبل .وليعلم
الهل الذين يصرون على منع بناتهم من العودة لزواجهن أنهم بالتمادي في الخصومة يمنعون
فائدة التدرج في الطلق التي أراد حكمة ل.
إن حكمة التشريع في جعل الطلق مرة ،ومرتين هي أن من لم يصلح في المرأة الولى قد يصلح
في المرة الثانية ،وإذا كان ال العليم بنفوس البشر قد شرع لهم أن يطلقوا مرة ومرتين ،وأعطى
فسحة من الوقت لمن أخطأ في المرة الولى أل يخطئ في الثانية ،لذلك فل يصح أن يقف أحد
حجر عثرة أمام إعادة الحياة الزوجية من جديد.
جهُنّ } ونلحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى ينسب النكاح للنسوة،
وقوله الحق { :أَن يَنكِحْنَ أَ ْزوَا َ
فقال { :يَن ِكحْنَ } وهذا يقتضي رضاء المرأة عن العودة للزوج فل يمكن أن يطلقها أول ثم ل
يكون لها رأي في العودة إليه.
ضوْاْ بَيْ َنهُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ } وما داموا تراضوا ورأوا أن عودة كل منهم للخر أفضل،
{ ِإذَا تَرَا َ
فليبتعد أهل السوء الذين يقفون في وجه رضا الطرفين ،وليتركوا الحلل يعود إلى مجاريه.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طهَرُ } إن هذا تشريع
{ ذاِلكَ يُوعَظُ ِبهِ مَن كَانَ مِنكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ ذاِل ُكمْ أَ ْزكَىا َلكُ ْم وَأَ ْ
ربكم وهو موعظة لكم يا من تؤمنون بال ربا حكيما مشرعا وعالما بنوازع الخير في نفوس
البشر.
طهَرُ } تلفتنا إلى حرمة الوقوف في وجه المرأة التي تريد أن ترجع لزوجها الذي
وكلمة { وَأَ ْ
طلقها ثم انتهت العدة ،وأراد هو أن يتزوجها من جديد ،إن الحق يبلغنا :ول تقفوا في وجه
رغبتهما في العودة لي سبب كان ،لماذا يا رب؟
وتأتي الجابة في قوله الحق { :وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْ ُت ْم لَ َتعَْلمُونَ } تأمل جمال السياق القرآني وكيف
خدم قوله تعالى { :وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْ ُت ْم لَ َتعَْلمُونَ } المعنى الذي تريده اليات .إن ال يعلم وأنتم ل
تعلمون أن في عودة المور لمجاريها بين الزوجين أزكى وأطهر .ويقول الحق بعد ذلك:
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمّ ال ّرضَاعَةَ} ...
ضعْنَ َأ ْولَدَهُنّ َ
{ وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
()235 /
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ ال ّرضَاعَةَ وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ رِ ْز ُقهُنّ
ضعْنَ َأوْلَادَهُنّ َ
وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
س َعهَا لَا ُتضَارّ وَاِل َدةٌ ِبوَلَدِهَا وَلَا َموْلُودٌ َلهُ ِبوَلَ ِد ِه وَعَلَى
سوَ ُتهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ لَا ُتكَّلفُ َنفْسٌ إِلّا وُ ْ
َوكِ ْ
ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ فَإِنْ أَرَادَا ِفصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا وَإِنْ أَرَدْ ُتمْ أَنْ
ضعُوا َأوْلَا َدكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِذَا سَّلمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِبمَا
تَسْتَ ْر ِ
َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ()233
انظر إلى عظمة السلم ها هو ذا الحق سبحانه يتكلم عن إرضاع الوالدات لولدهن بعد عملية
الطلق ،فالطلق يورث الشقاق بين الرجل والمرأة ،والحق سبحانه وتعالى ينظر للمسألة نظرة
الرحيم العليم بعباده ،فيريد أن يحمي الثمرة التي نتجت من الزواج قبل أن يحدث الشقاق بين
البوين ،فيبلغنا :ل تجعلوا شقاقكم وخلفكم وطلقكم مصدر تعاسة للطفل البريء الرضيع.
وهذا كلم عن المطلقات اللتي تركن بيوت أزواجهن ،لن ال يقول بعد ذلك { :وَعلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ
سوَ ُتهُنّ } فذلك يعني أن
ن َوكِ ْ
سوَتُهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ } وما دامت الية تحدثت عن { رِ ْز ُقهُ ّ
ن َوكِ ْ
رِ ْز ُقهُ ّ
المرأة ووليدها بعيدة عن الرجل ،لنها لو كانت معه لكان رزق الوليد وكسوته أمرا مفروغا منه.
والحق سبحانه يفرض هنا حقا للرضيع ،وأمه لم تكن تستحقه لول الرضاع .وبعض الناس فهموا
خطأ أن الرزق والكسوة للزوجات عموما ونقول لهم :ل .إن الرزق والكسوة هنا للمطلقات اللتي
يرضعن فقط.
ويريد الحق سبحانه أن يجعل هذا الحق أمرا مفروغا منه ،فشرع حق الطفل في أن يتكفله والده
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالرزق والكسوة حتى يكون المر معلوما لديه حال الطلق.
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } نلحظ فيه أنه لم يأت بصيغة المر
ضعْنَ َأوْلَدَهُنّ َ
وقوله تعالى { :وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
فلم يقل :يا والدات أرضعن ،لن المر عرضة لن يطاع وأن يعصى ،لكن ال أظهر المسألة في
أسلوب خبري على أنها أمر واقع طبيعي ول يخالف.
سوَ ُتهُنّ } ولنتأمل عظمة الداء القرآني في قوله:
ن َوكِ ْ
ويقول الحق { :وَعلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ رِ ْز ُقهُ ّ
{ وَعلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ } إنه لم يقل " :وعلى الوالد " ،وجاء بـ { ا ْل َموْلُودِ لَهُ } ليكلفه بالتبعات في
الرزق والكسوة ،لن مسئولية النفاق على المولود هي مسئولية الوالد وليست مسئولية الم ،وهي
قد حملت وولدت وأرضعت والولد يُنسب للب في النهاية يقول الشاعر:فـإنـمـا أمـهـات
الـنـاس أوعـيـة مسـتـوعـادت وللبـاء أبـنـاءوما دام المولود منسوبا للرجل الب،
فعلى الب رزقه وكسوته هو وعليه أيضا رزق وكسوة أمه التي ترضعه بالمعروف المتعارف
عليه بما ل يسبب إجحافا وظلما للب في كثرة النفاق ،ويقول الحق { :لَ ُتكَّلفُ َنفْسٌ ِإلّ
س َعهَا } هنا الحديث عن الم والب .فل يصح أن ترهق المطلقة والد الرضيع بما هو فوق
وُ ْ
طاقته ،وعليها أن تكتفي بالمعقول من النفقة.
ويتابع الحق { :لَ ُتضَآ ّر وَاِل َدةٌ ِبوَلَدِهَا َولَ َموْلُودٌ لّهُ ِبوَلَ ِدهِ } ولزال الحق يُذك ُر الب بأن المولود
له هو ،وعليه أل يضر والدة الطفل بمنع النفاق على ابنه ،وأل يتركها تتكفف الناس من أجل
رزقه وكسوته ،وفي الوقت نفسه ُيذَكرُ الم :ل تجعلي رضيعك مصدر إضرار لبيه بكثرة
اللحاح في طلب الرزق والكسوة.
إنه عز وجل يضع لنا الطار الدقيق الذي يكفل للطفل حقوقه ،فهناك فرق بين رضيع ينعم بدفء
الحياة بين أبوين متعاشرين ،ووجوده بين أبوين غير متعاشرين.
والحق سبحانه وتعالى يعطينا لفتة أخرى هي أن والد المولود قد يموت فإذا ما مات الوالد فمن
الذي ينفق على الوليد الذي في رعاية أمه المطلقة؟ هنا يأتينا قول الحق بالجواب السريع } :وَعَلَى
ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذاِلكَ {.
إن الحق يقرر مسئولية النفاق على من يرث والد الرضيع ،صحيح أن الرضيع سيرث في والده،
لكن رعاية الوليد اليتيم هي مسئولية من يرث الوصاية وتكون له الولية على أموال الب إن
مات .وهكذا يضمن ال عز وجل حق الرضيع عند المولود له وهو أبوه إذا كان حيا ،وعند من
يرث الب إذا تُوفى.
وبذلك يكون ال عز وجل قد شَرّع لصيانة أسلوب حياة الطفل في حال وجود أبويه ،وشرع له في
حال طلق أبويه وأبوه حيّ وشرع له في حال طلق أبويه ووفاة أبيه .ويتابع الحق } :فَإِنْ أَرَادَا
علَ ْي ِهمَا {.
ِفصَالً عَن تَرَاضٍ مّ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَ جُنَاحَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
انظر إلى الرحمة في السلم؛ فطلق الرجل لزوجته ل يعني أن ما كان بينهما قد انتهى ،ويضيع
الولد ويشقون بسبب الطلق ،فقوله تعالى } :عَن تَرَاضٍ مّ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ { دليل على أن هناك
قضية مشتركة مازالت بين الطرفين وهي ما يتصل برعاية الولد ،وهذه القضية المشتركة لبد
أن يلحظ فيها حق الولد في عاطفة المومة ،وحقهم في عاطفة البوة ،حتى ينشأ الولد وهو
غير محروم من حنان الم أو الب ،وإن اختلفا حتى الطلق.
إن عليهما أن يلتقيا بالتشاور والتراضي في مسألة تربية الولد حتى يشعروا بحنان البوين،
ويكبر الولد دون آلم نفسية ،ويفهمون أن أمهم تقدر ظروفهم وكذلك والدهم وبرغم وجود
الشقاق والخلف بينهما فقد اتفقا على مصلحة الولد بتراضٍ وتشاور.
إن ما يحدث في كثير من حالت الطلق من تجاهل للولد بعد الطلق هي مسألة خطيرة؛ لنها
تترك رواسب وآثارا سلبية عميقة في نفوس الولد ،ويترتب عليها شقاؤهم وربما تشريدهم في
الحياة .وما ذنب أولد كان الكبار هم السبب المباشر في مجيئهم للحياة؟ أليس من الفضل أن
يوفر الباء لهم الظروف النفسية والحياتية التي تكفل لهم النشأة الكريمة؟ إن منهج ال أمامنا فلماذا
ل نطبقه لنسعد به وتسعد به الجيال القادمة؟
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ { لكن ماذا
ضعْنَ َأ ْولَدَهُنّ َ
والحق سبحانه وتعالى قال في أول الية } :وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
يكون الحال إن نشأت ظروف تقلل من فترة الرضاعة عن العامين ،أو نشأت ظروف خاصة
جعلت فترة الرضاعة أطول من العامين؟ هنا يقول الحق } :فَإِنْ أَرَادَا ِفصَالً عَن تَرَاضٍ مّ ْن ُهمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا {.
إنه جل وعل يبين لنا أن الفصال أي الفطام يجب أن يكون عن تراض وتشاور بين الوالدين ول
ضعُواْ َأ ْولَ َدكُمْ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ ِإذَا سَّلمْتُم
جناح عليهما في ذلك .ويقول الحق } :وَإِنْ أَرَدتّمْ أَن تَسْتَ ْر ِ
ضعُواْ َأ ْولَ َدكُمْ { أي أن تأتوا للطفل بمرضعة ،فإن أردتم ذلك
مّآ آتَيْتُم بِا ْل َمعْرُوفِ { ،و } أَن َتسْتَ ْر ِ
فل لوم عليكم في ذلك.
إن المطلق حين يوكل إلى الم أن ترضع وليدها فالطفل يأخذ من حنان الم الموجود لديها
بالفطرة ،لكن هب أن الم ليست لديها القدرة على الرضاع أو أن ظروفها ل تسعفها على أن
ترضعه لضعف في صحتها أو قوتها ،عند ذلك فالوالد مُطالب أن يأتي لبنه بمرضعة ،وهذه
المرضعة التي ترضع الوليد تحتاج إلى أن يعطيها الب ما يُسخّيها ويجعلها تقبل على إرضاع
الولد بأمانة ،والشراف عليه بصدق.
ويختم الحق هذه الية الكريمة بقوله } :وَا ّتقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ { ،إن الحق
يحذر أن يأخذ أحد أحكامه ويدعي بظاهر المر تطبيقها ،لكنه غير حريص على روح هذه
الحكام ،مثال ذلك الب الذي يريد أن يدلس على المجتمع ،فعندما يرى الب مرضعة ابنه أمام
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الناس فهو يدعي أنه ينفق عليها ،ويعطيها أجرها كامل ،ويقابلها بالحفاوة والتكريم بينما الواقع
يخالف ذلك.
إن ال يحذر من يفعل ذلك :أنت ل تعامل المجتمع وإنما تعامل ال و } اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ {.
شهُرٍ
سهِنّ أَرْ َب َعةَ أَ ْ
ويقول الحق بعد ذلك } :وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
وَعَشْرا{ ...
()236 /
والعدة ـ كما عرفنا ـ هي الفترة الزمنية التي شرعها ال بعد زواج انتهى بطلق أو بوفاة
الزوج .والعدة إما أن تكون بعد طلق ،وإما بعد وفاة زوج ،فإن كانت العدة بعد طلق فمدتها
ثلثة قروء ،والقرء ـ كما عرفنا ـ هو الحيضة أو الطهر ،فإن كانت المطلقة صغيرة لم تخض
بعد أو كانت كبيرة تعدت سن الحيض فالعدة تنقلب من القروء إلى الشهر وتصبح " ثلثة أشهر
".
وعرفنا أن من حق الزوج أن يراجع زوجته بينه وبين نفسه دون تدخل الزوجة أو ولي أمرها ،له
ذلك في أثناء فترة العدة في الطلق الرجعي ،فإن انتهت عدتها فقد سقط حقه في مراجعة الزوجة
بنفسه ،وله أن يراجعها ،ولكن بمهر وعقد جديدين ما دام قد بقى له حق أي لم يستنفد مرات
الطلق.
وقد قلنا :إن تعدت الطلقات اثنتين وأصبحت هناك طلقة ثانية فلبد من زوج آخر يتزوجها
بالطريقة الطبيعية ل بقصد أن يحللها للزوج الول .وأما عدة المتوفى عنها زوجها فقد عرفنا أن
القرآن ينص على أنها تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا ،هذا إن لم تكن حامل ،فإن كانت
حامل فعدتها أبعد الجلين ،فإن كان الجل البعد هو أربعة أشهر وعشرا فتلك عدتها ،وإن كان
الجل البعد هو الحمل فعدتها أن ينتهي الحمل .لكن أليس من الجائز أن يموت زوجها وهي في
الشهر التاسع من الحمل فتلد قبل أن يدفن؟ وهل يعني ذلك أن عدتها انتهت؟ ل ،إنها تنتهي بأبعد
الجلين وهو في هذه الحالة مرور أربعة أشهر وعشرا ،وإن قال بعض الفقهاء :إن عدة الحامل
بوضع الحمل.
لكن إذا لم يكن زوجها متوفّى عنها فعدتها أن تضع حملها ،وإن شاءت أن تتزوج بعد ذلك فلها
ذلك ولو بعد لحظة .وبعض الناس يفسرون الحكمة من جعل عدة المتوفى عنها زوجة أربعة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أشهر وعشرا ،فيقولون :لنها إن كانت حامل بذكر فسيظهر حملها عندما يتحرك بعد ثلثة أشهر،
وإن كانت حامل بأنثى فستتحرك بعد أربعة أشهر ونعطيها مهلة عشر ليالٍ.
ونقول لهم :جزاكم ال خيرا على تفسيركم ،لكن العدة ليست لستبراء الرحم؛ لنها لو كانت
لستبراء الرحم لنتهت عدة المرأة بمجرد ولدتها .ولو كان المر للتأكد من وجود حمل أو
عدمه ،لكانت عدتها ثلث حيضات إن كانت من ذوات الحيض ،وإن كانت من غير ذوات
الحيض لصغر أو لكبر سن لكانت عدتها ثلثة أشهر .لكن ال اختصها بأربعة أشهر وعشر وفاءً
لحق زوجها عليها وإكراما لحياتهما الزوجية.
إذن فال عز وجل جعل المتوفى عنها زوجها تتربص أقصى مدة يمكن أن تصبر عليها المرأة.
فالمرأة ساعة تكون متوفى عنها زوجها ل تخرج من بيتها ول تتزين ول تلقى أحدا وفاءً للزوج،
فإذا انتهت عدتها أي مضت عليها الربعة الشهر والعشرة } ،فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي
سهِنّ { وهو يعني أن تتزين في بيتها وتخرج دون إبداء زينة وأن يتقدم لها من يريد خطبتها.
أَ ْنفُ ِ
شهُرٍ وَعَشْرا { والمقصود بهذه المدة أربعة أشهر وعشر ليال.
وقوله تعالى } :أَرْ َبعَةَ َأ ْ
وهنا لفتة تشريعية إيمانية تدل على استطراق كل حكم شرعي في جميع المكلفين وإن لم يكن
الحكم ماسا لهم؛ فالمتوفى عنها زوجها تربصت أربعة أشهر وعشرا وبلغتها في مدة العدة ،وكان
من حكم ال عليها أل تتزين وأل تكتحل وأل تخرج من بيتها وفاءً لحق زوجها فإذا بلغت الجل
سهِنّ { ،ولم يقل :فل جناح عليهن .لقد وجه
وانتهى قال } :فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ
الخطاب هنا للرجال؛ لن كل مؤمن له ولية على كل مؤمنة ،فإذا رأى في سلوكها أو أسلوب
عنايتها بنفسها ما ينافي العدة فله أن يتدخل .مثل إذا رآها تتزين قال لها أو أرسل إليها من يقول
لها :لماذا تتزينين؟ إن قول ال } :فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ { يجعل للرجال قوامة على المتوفى عنها
زوجها ،فل يقولون :ل دخل لنا؛ لن الحكم اليماني حكم مستطرق في كل مؤمن وعلى كل
صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر]3 :
صوْاْ بِا ْلحَقّ وَتَوَا َ
مؤمن .فالحق سبحانه وتعالى يقول {:وَ َتوَا َ
إن قوله الحق } :وَ َتوَاصَوْاْ { ل يعني أن قوما خُصوا بأنهم يُوصون غيرهم وقوما آخرين يُوصيهم
غيرهُم ،بل كل واحد منا موصٍ في وقت؛ وموصىً من غيره في وقت آخر ،هذا هو معنى }
صوْاْ {.
وَ َتوَا َ
فإذا رأيت في غيرك ضعفا في أي ناحية من نواحي أحكام ال ،فلك أن توصيه .وكذلك إن رأى
غيرُك فيك ضعفا في أي ناحية من النواحي فله أن يوصيك ،وعندما نتواصى جميعا ل يبقى
لمؤمن بيننا خطأ ظاهر.
خصُ بالوصاية جماعة دون أخرى إنما الكل يتواصون ،لن الغيار البشرية
إذن فالية ل َت ُ
تتناوب الناس أجمعين .فأنت في فترة ضعفي رقيب علي ،فتوصيني ،وأنا في فترة ضعفك رقيب
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليك ،فأوصيك .ولذلك جاء قول الحق } :فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ { إنه سبحانه لم يوجه الخطاب للنساء،
ولكن خاطب به المؤمنين ولم يخص بالخطاب أولياء أمور النساء فحسب وإنما ترك الحكم للجميع
حتى ل يقول أحد :ل علقة لي بالمرأة التي توفى عنها زوجها ولتفعل ما تشاء .إن لها أن تتزين
بالمتعارف عليه إسلميا في الزينة ،ولها أن تتجمل في حدود ما أذن ال لها فيه.
ويختتم الحق هذه الية بقوله } :وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ { أي وال أعلم بما في نفسها وبما في
نيتها .وهب أنها فعلت أي فعل على غير مرأى من أحد فل تعتقد أن المجتمع وإن لم يشهد منها
ذلك أن المسألة انتهت ،ل ،إن ال عليم بما تفعل وإن لم يطلع عليها أحد من الناس.
إن الحق سبحانه وتعالى قد حمى بكل التشريعات السابقة حق الزوج حتى تنتهي العدة ،وحق
المتوفى عنها زوجها في أثناء العدة ،وحمى أيضا بكل التشريعات كرامة المرأة .وجعل المرأة
حرما ل يقترب منه أحد يخدش حجابها ،إنّ عليها عدة محسوبة في هذا الوقت لرجل آخر ،فل
يحق لحد أن يقترب منها.
لماذا؟ لن المرأة خاصة إذا كانت مطلقة قد تتملكها رغبة في أن تثأر لنفسها ولكرامتها ،وربما
تعجلت التزوج ،وربما كانت مسائل الفتراق أو الخلف ناشئة عن اندساس رغبة راغب فيها،
وبمجرد أن يتم طلقها وتعيش فترة العدة فقد يحوم حولها الراغبون فيها ،أو تستشرق هي من
ناحيتها من تراه صالحا كزوج لها .ولذلك يفرض الحق سياجا من الزمن ويجعل العدة كمنطقة
حرام ليحمي المرأة حماية موضوعية ل شكلية.
التشريع ـ لنه من إله رحيم ـ ل يهدر عواطف النفس البشرية :ل من ناحية الذي يرغب في
أن يتزوج ،ول من ناحية المرأة التي تستشرق أن تتزوج ،فيعالج هذه المسألة بدقة وبحزم وبحسم
خطْبَةِ النّسَآءِ{ ...
معا ـ جل شأنه ـَ } :ولَ جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ
()237 /
و { عَ ّرضْتُمْ } مأخوذة من التعريض .والتعريض :هو أن تدل على شيء ل بما يؤديه نصا ،ولكن
تعرض به تلميحا.
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل للعواطف تنفيسا من هذه الناحية ،والتنفيس ليس مجرد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تعبير عن العاطفة ،ولكنه رعاية للمصلحة ،فمن الجائز أنه لو حزم التعريض لكان في ذلك ضياع
فرصة الزواج للمرأة ،أو قد يفوت ـ هذا المنع ـ الفرصة على من يطلبها من الرجال؛ لذلك
يضع الحق القواعد التي تفرض على الرجل والمرأة معا أدب الحتياط ،وكأنه يقول لنا :أنا
أمنعكم أن تخطبوا في العدة أو تقولوا كلما صريحا وواضحا فيها ،لكن ل مانع من التلميح من
بعيد.
مثل يثنى الرجل على المرأة؛ ويعدد محاسنها بكلم ل يعد خروجا على آداب السلم مثل هذا
الكلم هو تلميح وتعريض ،وفائدته أنه يعبر عما في نفسه قائله تجاه المطلقة فتعرف رأيه فيها،
ولو لم يقل ذلك فربما سبقه أحد إليها وقطع عليه السبيل لنفاذ ما في نفسه ،ومنعه من أن يتقدم
لخطبتها بعد انتهاء العدة ،وقد يدفعه ذلك لن يفكر تفكيرا آخر :للتعبير بأسلوب وشكل خاطئ.
إذن فالتعريض له فائدة في أنه يُعرف المطلقة رأي فلن فيها حتى إن جاءها غيره ل توافق عليه
مباشرة .وهكذا نرى قبسا من رحمة ال سبحانه وتعالى بنا ،بأن جعل العدة كمنطقة حرام تحمي
المرأة ،وجعل التعريض فرصة للتعبير عن العاطفة التي تؤسس مصلحة من بعد ذلك.
إن الحق يقولَ { :ولَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَآءِ } والخطبة مأخوذة من مادة "
الخاء " و " الطاء " و " الباء " وتدل على أمور تشترك في عدة معالم :منها خُطبة بضم الخاء،
ومنها خَطْب وهو المر العظيم ،ومنها المعنى الذي نحن بصدده وهو الخِطبة بكسر الخاء .وكل
هذه المعالم تدل على أن هناك المر العظيم الذي يُعالج ،فالخطب أمر عظيم يهز الكيان ،وكذلك
الخُطبة ل يلقيها الخطيب إل في أمر ذي بال ،فيعظ المجتمع بأمر ضروري.
والخِطبة كذلك أمر عظيم؛ لنه أمر فاصل بين حياتين :حياة النطلق ،وحياة التقيد بأسرة
وبنظام .وكلها معان مشتركة في أمر ذي بال ،وأمر خطير .وهو سبحانه وتعالى يقولَ { :ولَ
سكُمْ } أي ل جناح عليكم أن
خطْبَةِ النّسَآءِ َأوْ َأكْنَنتُمْ فِي أَ ْنفُ ِ
جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ
وضعتم في أنفسكم أمرا يخفى على المرأة ،وللمسلم أن يكنن ويخفي في نفسه ما يشاء ،ولكن ما
الذي يُدري ويعلم المطلقة أنها في بالك يا من أسررت أمرها في نفسك؟ إنك لبد أن تلمح وأن
تعرض بأسلوب يليق باحترام المرأة.
ويقول الحق { :عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ سَ َت ْذكُرُو َنهُنّ } ،إن الذي خلقك يعلم أنها ما دامت في بالك ،ومات
زوجها عنها أو طلقها فقد أصبحت أمل بالنسبة لك ،فلو أنه ضيق عليك لعوق عواطفك،
ولضاعت منك الفرصة لن تتخذها زوجة من بعد ذلك ،ولهذا أباح الحق التعريض حتى ل يقع
أحدكم في المحظور وهو { لّ ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا } بأن تأخذوا عليهن العهد أل يتزوجن غيركم ،أو
يقول لها :تزوجيني.
بل عليه أن يعرض ول يفصح ول يصرح .إن المواعدة في السر أمر منهي عنه ،لكن المسموح
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
به هو التعريض بأدبِ } ،إلّ أَن َتقُولُواْ َق ْولً ّمعْرُوفا { كأن يقول " :يا سعادة من ستكون له زوجة
مثلك " .ومثل ذلك من الثناء الذي يُطرب المرأة .ونعلم جميعا أن المرأة في مثل حال المطلقة أو
المتوفى عنها زوجها تملك شفافية وألمعية تلتقط بها معنى الكلم ومراده.
عقْ َدةَ ال ّنكَاحِ حَتّىا يَبُْلغَ ا ْلكِتَابُ أَجََلهُ { وهكذا نرى أن مجرد العزم
ويتابع الحق } :وَلَ َتعْ ِزمُواْ ُ
الكيد أمر نهى عنه .والعزم مقدم على الفعل فإذا نهى عنه كان النهي عن الفعل أقوى وأشد
وأنهى ،فلك أن تنوى الزواج منها وتتوكل على ال ،لكن ل تجعله أمرا مفروغا منه ،إل بعد أن
تتم عدتها ،فإن بلغ الكتاب أجله وانتهت عدتها فاعزموا عقدة النكاح .فكأن عقدة النكاح تمر بثلث
مراحل:
المرحلة الولى :وهي التعريض أي التلميح.
والمرحلة الثانية :هي العزم الذي ل يصح ول يستقيم أن يتم إل بعد انتهاء فترة العدة.
والمرحلة الثالثة :هي العقد.
والمقصود بهذه المراحل أن يأخذ كل طرف فرصته للتفكير العميق في هذا المر الجاد ،فإن كان
التفكير قد هدى إلى العزم فإن للنسان أن يعقد بعد انتهاء العدة ،وإن كان التفكير قد اهتدى إلى
البتعاد وصرف النظر عن مثل هذا المر فللنسان ما يريد.
ويريد الحق من هذه المراحل أن يعطي الفرصة في التراجع إن اكتشف أحد الطرفين في الخر
أمرا ل يعجبه .وكل هذه الخطوات تدل على أن العقد ل يكون إل بعزم ،فل يوجد عقد دون عزم،
إن الحق يريد من المسلم أل يقدم على عقدة النكاح إل بعد عزم .والعزم معناه التصميم على أنك
تريد الزواج بحق الزواج وبكل مسئولياته ،وبكل مهر الزواج ،ومشروعيته ،وإعفافه؛ فالزواج
بدون أرضية العزم مصيره الفشل.
ومعنى العزم :أن تفكر في المسألة بعمق وروية في نفسك حتى تستقر على رأي أكيد ،ثم لك أن
تقبل على الزواج على أنه أمر له ديمومة وبقاء ل مجرد شهوة طارئة ليس لها أرضية من عزيمة
النفس عليها.
ولذلك فإن الزواج القائم على غير رويّة ،والمعلق على أسباب مؤقتة كقضاء الشهوة ل يستمر ول
ينجح .ومثل ذلك زواج المتعة؛ فالعلة في تحريم زواج المتعة أن المقدم عليه ل يريد به
الستمرار في الحياة الزوجية ،وما دام ل يقصد منه الديمومة فمعناه أنه هدف للمتعة الطارئة.
والذين يبيحون زواج المتعة مصابون في تفكيرهم؛ لنهم يتناسون عنصر القبال بديمومة على
الزواج ،فما الداعي لن تقيد زواجك بمدة؟ إن النكاح الصيل ل يُقيد بمثل هذه المدة .وتأمل حمق
هؤلء لتعلم أن المسألة ليست مسألة زواج ،إنما المسألة هي تبرير زنى ،وإل لماذا يشترط في
زواج المتعة أن يتزوجها لمدة شهر أو أكثر؟
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن النسان حين يشترط تقييد الزواج بمدة فذلك دليل على غباء تفكيره وسوء نيته؛ لن الزواج
الصيل هو الذي يدخل فيه بديمومة ،وقد ينهيه بعد ساعة إن وجد أن المر يستحق ذلك ،ولن
يعترض أحد على مثل هذا السلوك ،فلماذا تقيد نفسك بمدة؟ إن المتزوج للمتعة يستخدم الذكاء في
غير محله ،قد يكون ذكيا في ناحية ولكنه قليل الفطنة في ناحية أخرى.
إن على النسان أن يدخل على الزواج بعزيمة بعد تفكير عميق وروية ثم ينفذ العزم على عقد.
حذار أن تضع في نفسك مثل هذا الزواج المربوط على مطامع وأهداف في نفسك كعدم الديمومة
أو لهدف المتعة فقط ،فكل ما يفكر فيه بعض الناس من أطماع شهوانية ودنيوية هي أطماع زائلة.
اصرف كل هذه الفكار عنك؛ لنك إن أردت شيئا غير الديمومة في الزواج ،وإرادة العفاف؛
فال سبحانه يعلمه وسيرد تفكيرك نقمة عليك فاحذره.
إن ال سبحانه ل يحذر النسان من شيء إل إذا كان مما يغضبه سبحانه .لذلك يذيل الحق هذه
غفُورٌ حَلِيمٌ {.
سكُمْ فَاحْذَرُو ُه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َ
الية الكريمة بقوله } :وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي أَ ْنفُ ِ
وهو سبحانه يعلم ضعف النفس البشرية وأنها قد تضعف في بعض الحيان ،فإن كان قد حدث
منها شيء فال يعطيها الفرصة في أن يتوب صاحبها لنه سبحانه هو الغفور الحليم .وبعد ذلك
يقول الحق سبحانه } :لّ جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ إِن طَّلقْتُمُ النّسَآءَ مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ َأوْ َتفْرِضُواْ َلهُنّ فَرِيضَةً{ ...
()238 /
لَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا َلمْ َتمَسّوهُنّ َأوْ َتفْ ِرضُوا َلهُنّ فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ
حسِنِينَ ()236
حقّا عَلَى ا ْلمُ ْ
قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ َ
نحن نلحظ أن الكلم فيما تقدم كان عن الطلق للمدخول بها ،أو عن المرأة التي دخل بها زوجها
ومات عنها .ولكن قد تحدث بعض من المسائل تستوجب الطلق لمرأة غير مدخول بها .وتأتي
هذه الية لتتحدث عن المرأة غير المدخول بها ،وهي إما أن يكون الزوج لم يفرض لها صداقا،
وإما أن يكون قد فرض لها صداقا.
والطلق قبل الدخول له حكمان :فُرضت في العقد فريضة ،أو لم تفرض فيه فريضة ،فكأن عدم
فرض المهر ليس شرطا في النكاح ،بل إذا تزوجته ولم يفرض في هذا الزواج مهر فقد ثبت لها
مهر المثل والعقد صحيح .ودليل ذلك أن ال سبحانه وتعالى يقول { :لّ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِن طَّلقْتُمُ
النّسَآءَ مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ َأوْ َتفْرِضُواْ َلهُنّ فَرِيضَةً } ومعنى ذلك أنها كانت زوجة ولم يحدث دخول
للزوج بها.
ولنا أن نسأل ما هو المس؟ ونقول :فيه مس ،وفيه لمس ،وفيه ملمسة .فالنسان قد يمس شيئا،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن الماس ل يتأثر بالممسوس ،أي لم يدرك طبيعته أو حاله هل هو خشن أو ناعم؟ دافئ أو
بارد ،وإلى غير ذلك.
أما اللمس فل بد من الحساس بالشيء الملموس ،أما الملمسة فهي حدوث التداخل بين الشيئين.
إذن فعندنا ثلث مراحل :الولى هي :مس .والثانية :لمس .والثالثة :ملمسة .كلمة " المس " هنا
دلت على الدخول والوطء ،وهي أخف من اللمس ،وأيسر من أن يقول :لمستم أو باشرتم ،ونحن
نأخذ هذا المعنى؛ لن هناك سياقا قرآنيا في مكان آخر قد جاء ليكون نصا في معنى ،ولذلك
نستطيع من سياقه أن نفهم المعنى المقصود بكلمة " المس " هنا ،فقد قالت السيدة مريم {:قَاَلتْ
سسْنِي َبشَ ٌر وَلَمْ َأكُ َبغِيّا }[مريم]20 :
ل ٌم وَلَمْ َيمْ َ
أَنّىا َيكُونُ لِي غُ َ
إن القرآن الكريم يوضح على لسان سيدتنا مريم أن أحدا من البشر لم يتصل بها ذلك التصال
الذي ينشأ عنه غلم ،والتعبير في منتهى الدقة ،ولن المر فيه تعرض لعورة وأسرار؛ لذلك جاء
القرآن بأخف لفظ في وصف تلك المسألة وهو المس ،وكأن ال سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لها
إعفافا حتى في اللفظ ،فنفى مجرد مس البشر لها ،وليس الملمسة أو المباشرة برغم أن المقصود
باللفظ هو المباشرة؛ لن الية بصدد إثبات عفة مريم.
ولنتأمل أدب القرآن في تناول المسألة في الية التي نحن بصددها؛ فكأن الحق سبحانه وتعالى
يعبر عن اللفظ بنهاية مدلوله وبأخف التعبير.
والحق يقولَ { :أوْ َتفْ ِرضُواْ َلهُنّ فَرِيضَةً } وتعرف أن " َأوْ " عندما ترد في الكلم بين شيئين فهي
تعني " إما هذا وإما ذاك " ،فهل تفرض لهن فريضة مقابل المس؟.
إن الصل المقابل في } مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ { هو أن تمسوهن .ومقابل } َتفْ ِرضُواْ َلهُنّ فَرِيضَةً { هو:
أن ل تفرضوا لهن فريضة .كأن الحق عز وجل يقول :ل جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم
تمسوهن سواء فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لهن فريضة .وهكذا يحرص السلوب القرآني
على تنبيه الذهن في ملحظة المعاني.
ولنا أن نلحظ أن الحق قد جاء بكلمة " إن " في احتمال وقوع الطلق ،و " إن " ـ كما نعرف ـ
تستخدم للشك ،فكأن ال عز وجل ل يريد أن يكون الطلق مجترءا عليه ومحققا ،فلم يأت بـ "
إذا " ،بل جعلها في مقام الشك حتى تعزز الية قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :أبغض
الحلل إلى ال الطلق ".
ثم يقول الحق عز وجل بعد ذلكَ } :ومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ { أي إنّك إذا
طلقت المرأة قبل الدخول ،ولم تفرض لها فريضة فأعطها متعة .وقال العلماء في قيمة المتعة:
إنها ما يوازي نصف مهر مثيلتها من النساء؛ لنه كان من المفروض أن تأخذ نصف المهر ،وما
دام لم ُيحّدد لها مهرٌ فلها مثل نصف مهر مثيلتها من النساء .ويقول الحق } :عَلَى ا ْلمُوسِعِ َقدَ ُرهُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ قَدَ ُرهُ { أي ينبغي أن تكون المتعة في حدود تناسب حالة الزوج؛ فالموسع الغني:
عليه أن يعطي ما يليق بعطاء ال له ،والمقتر الفقير :عليه أن يعطي في حدود طاقته.
وقول القرآن } :ا ْلمُوسِعِ { مشتق من " أوسع " واسم الفاعل " موسع " واسم المفعول " موسع عليه
" ،فأي اسم من هؤلء يطلق على الزوج؟ إن نظرت إلى أن الزرق من الحق فهو " موسع عليه "
،وإن نظرت إلى أن الحق يطلب منه أن توسع حركة حياتك ليأتيك رزقك ،وعلى قدر توسيعها
يكون اتساع ال لك ،فهو " موسع ".
إذن فالموسع :هو الذي أوسع على نفسه بتوسيع حركة أسبابه في الحياة .والقتار هو القلل،
وعلى قدر السعة وعلى قدر القتار تكون المتعة .والحق سبحانه وتعالى حينما يطلب حكما تكليفيا
ل يقصد إنفاذ الحكم على المطلوب منه فحسب ،ولكنه يوزع المسئولية في الحق اليماني العام؛
فقولهَ } :ومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْلمُقْتِرِ قَدَ ُرهُ { يعني إذا وُجد من ل يفعل حكم ال فل
بد أن تتكاتفوا على إنفاذ أمر ال في أن يمتع كل واحد طلق زوجته قبل أن يدخل بها .والجمع في
المر وهو قولهَ } :ومَ ّتعُوهُنّ { دليل على تكاتف المة في إنفاذ حكم ال .وبعد ذلك قال } :وَإِن
ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِنصْفُ مَا فَ َرضْتُمْ{ ...
طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِن قَ ْبلِ أَن َتمَسّوهُ ّ
()239 /
ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِنصْفُ مَا فَ َرضْتُمْ إِلّا أَنْ َي ْعفُونَ َأوْ
وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُ ّ
سوُا ا ْل َفضْلَ بَيْ َنكُمْ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ
ح وَأَنْ َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى وَلَا تَ ْن َ
عقْ َدةُ ال ّنكَا ِ
َي ْعفُوَ الّذِي بِ َي ِدهِ ُ
َبصِيرٌ ()237
أي ما دام لم يدخل بها ولم يتمتع بها فل تأخذ المهر كله ،إنما يكون لها النصف من المهر .ولنعلم
أن هناك فرقا بين أن يوجد الحكم بقانون العدل ،وبين أن يُنظر في الحكم ناحية الفضل ،وأحكي
هذه الواقعة لنتعلم منها:
ذهب اثنان إلى رجل ليحكم بينهما فقال :احكم بيننا بالعدل .قال :أتحبون أن أحكم بينكما بالعدل؟
أم بما هو خير من العدل؟ فقال :وهل يوجد خير من العدل؟ قال :نعم .الفضل.
إن العدل يعطي كل ذي حق حقه ،ولكن الفضل يجعل صاحب الحق يتنازل عن حقه أو عن
بعض حقه .إذن فالتشريع حين يضع موازين العدل ل يريد أن يحرم النبع اليماني من أريحية
ضلَ بَيْ َنكُمْ }؛ فالعدل
سوُاْ ا ْلفَ ْ
الفضل؛ فهو يعطيك العدل ،ولكنه سبحانه يقول بعد ذلكَ { :ولَ تَن َ
وحده قد يكون شاقا وتبقى البغضاء في النفوس ،ولكن عملية الفضل تنهي المشاحة والمخاصمة
والبغضاء.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمشاحة إنما تأتي عندما أظن أني صاحب الحق ،وأنت تظن أنك صاحب الحق ،ومن الجائز أن
تأتي ظروف تزين لي فهمي ،وتأتي لك ظروف تزين لك فهمك ،فحين نتمسك بقضية العدل لن
نصل إلى مبلغ التراضي في النفوس البشرية .ولكن إذا جئنا للفضل تراضينا وانتهينا.
والحق سبحانه وتعالى يقول { :وَإِن طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِن قَ ْبلِ أَن َتمَسّوهُنّ } أي من قبل أن تدخلوا بهن {
صفُ مَا فَ َرضْتُمْ ِإلّ أَن َيعْفُونَ } والمقصود بـ {
َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً } يعني سميتم المهر { فَ ِن ْ
َي ْعفُونَ } هو الزوجة المطلقة.
إن بعض الجهلة يقولون والعياذ بال :إن القرآن فيه لحن .وظنوا أن الصحيح في اللغة أن يأتي
القول :إل أن يعفوا بدل من { ِإلّ أَن َي ْعفُونَ } .وهذا اللون من الجهل ل يفرق بين " واو الفعل " و
" واو الجمع " إنها هنا " واو الفعل " فقول الحقِ { :إلّ أَن َي ْعفُونَ } مأخوذ من الفعل " عفا " و "
يعفو ".
وهكذا نفهم أن للزوجة أن تعفو عن نصف مهرها وتتنازل عنه لزوجها .ويتابع الحقَ { :أوْ َي ْع ُفوَاْ
عقْ َدةُ ال ّنكَاحِ } والمقصود به الزوج وليس الولي ،لن سياق الية يفهم منه أن المقصود
الّذِي بِ َي ِدهِ ُ
به هو الزوج ،مع أن بعض المفسرين قالوا :إنه ولي الزوجة .ولنا أن نعرف أن الولي ليس له أن
يعفو في مسألة مهر المرأة؛ لن المهر من حق الزوجة ،فهو أصل مال ،وأصل رزق في حياة
الناس؛ لنه نظير التمتع بالبضع.
ولذلك تجد بعض الناس ل يصنعون شيئا بصداق المرأة ،ويدخرونه لها بحيث إذا مرض واحد
اشترت له من هذا الصداق ولو قرص اسبرين مثل؛ لنه علج من رزق حلل ،فقد يجعل ال فيه
الشفاء.
فالمرأة تحتفظ بصداقها الحلل لمثل هذه المناسبات لتصنع به شيئا يجعل ال فيه خيرا ،لنه من
رزق حلل ل غش فيه ول تدليس.
وأراد المفسرين الذين نادوا بأن ولي الزوجة هو الذي يعفو وأقول :لماذا يأتي ال بحكم تتنازل فيه
المرأة عن حقها وأن تعفو عن النصف ،والرجل ل يكون أريحيا ليعفو عن النصف؟ لماذا تجعل
السماء الغرم كله على المرأة؟ هل من المنطقي أن تعفو النساء أو يعفو الذي بيده عقد النكاح يعني
أولياء الزوجة ،فنجعل العفو يأتي من الزوجة ومن أوليائها؛ أي من جهة واحدة؟
سوُاْ ا ْل َفضْلَ بَيْ َنكُمْ { ،إن التقابل
إن علينا أن نحسن الفهم لسياق الفضل الذي قال ال فيهَ } :ولَ تَن َ
في العفو يكون بين الثنين ،بين الرجل والمرأة ،ونفهم منه المقصود بقوله تعالىَ } :أوْ َي ْعفُوَاْ الّذِي
عقْ َدةُ ال ّنكَاحِ { أنه هو الزوج ،فكما أن للمرأة أن تعفو عن النصف المستحق لها فللزوج أن
بِيَ ِدهِ ُ
يعفو أيضا عن النصف المستحق له.
ويقول الحق } :وَأَن َت ْعفُواْ َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَىا {؛ لن من الجائز جدا أن يظن أحد الطرفين أنه مظلوم،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإن أخذ النصف الذي يستحقه .لكن إذا لم يأخذ شيئا فذلك أقرب للتقوى وأسلم للنفوس .ولنا أن
ضلَ بَيْ َن ُكمْ { فحتى في مقام الخلف
سوُاْ ا ْل َف ْ
نتذكر دائما في مثل هذه المواقف قول الحقَ } :ولَ تَن َ
ضلَ بَيْ َنكُمْ { أي
سوُاْ ا ْل َف ْ
الذي يؤدي إلى أن يفترق رجل عن امرأة لم يدخل بها يقول الَ } :ولَ تَن َ
ل تجعلوها خصومة وثأرا وأحقادا ،واعلموا أن الحق سبحانه يجعل من بعض الشياء أسبابا
مقدورة لمقدور لم نعلمه .وهذه المسألة تجعل النسان ل يعتقد أن أسبابه هي الفاعلة وحدها.
ومثال ذلك :قد نجد رجل قد أعجب بواحدة رآها فتزوجها ،أو واحدة أخرى رآها شاب ولم
تعجبه ،ثم جاء لها واحد آخر فأعجب بها ،معنى ذلك أن ال عز وجل كتب لها القبول ساعة رأت
الشاب أهلً لها ورآها هي أهلً له .ولذلك كان الفلحون قديما يقولون :ل تحزن عندما يأتي واحد
عفّوا ـ بكسر العين
ليخطب ابنتك ول تعجبه؛ لنه مكتوب على جبهة كل فتاة :أيها الرجال ِ
وتشديد الفاء ـ عن نساء الرجال؛ فهي ليست له ،ولذلك فليس هذا الرجل من نصيبها .وعلينا أل
نهمل أسباب القدر في هذه المور؛ لن هذا أدعى أن نحفظ النفس البشرية من الحقاد والضغائن.
ويختم الحق الية بقوله } :إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ { إنه سبحانه يعلم ما في الصدور وما وراء
كل سلوك .وبعد ذلك تأتي آية لتثبت قضية إيمانية ،هذه القضية اليمانية هي أن تكاليف السلم
كلها تكاليف مجتمعة ،فل تستطيع أن تفصل تكليفا عن تكليف ،فل تقل " :هذا فرض تعبدي " و "
هذا مبدأ مصلحي " و " هذا أمر جنائي " ،ل .إن كل قضية مأمور بها من الحق هي قضية
إيمانية ُت َكوّنُ مع غيرها منهجا متكاملً .فبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطلق يقول} :
لةِ ا ْلوُسْطَىا{ ...
ت والصّ َ
حَا ِفظُواْ عَلَى الصَّلوَا ِ
()240 /
ثم يعود إلى السرة وإلى المتوفى عنها زوجها فيقول {:وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا
ح ْولِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي
ج ِهمْ مّتَاعا إِلَى الْ َ
َوصِيّةً لَزْوَا ِ
حكِيمٌ }[البقرة]240 :
ف وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
سهِنّ مِن ّمعْرُو ٍ
أَ ْنفُ ِ
صلَ بآية { :حَا ِفظُواْ عَلَى الصَّلوَاتِ } ..بين قضية واحدة هي قضية
إذن فالحق سبحانه وتعالى َف َ
الفراق بين الزوجين وقسمها قسمين ،وأدخل بينهما الحديث عن الصلة ،وذلك لينبهنا إلى وحدة
التكاليف اليمانية ،ونظرا لن الحق يتكلم هنا عن أشياء كل مظاهرها إما شقاق اختياري
بالطلق ،وإما افتراق قدري بالوفاة ،فأراد ال سبحانه وتعالى أن يدخل النسان في العملية
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التعبدية التي تصله بال الذي شرع الطلق والصلة وقدر الوفاة.
ولماذا اختار ال الصلة دون سائر العبادات لتقطع سياق الكلم عن تشريع الطلق والفراق؟ لن
الصلة هي التي تهب المؤمنين الطمئنان ،إن كانت أمور الزواج والطلق حزبتهم وأهمتهم في
شقاق الختيار في الطلقات التي وقعت أو عناء الفتراق بالوفاة .ولن يربط على قلوبهم إل أن
يقوموا لربهم ليؤدوا الصلة ،وقد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم أول من يفعل ذلك ،كان إذا
ما حزبه أمر قام إلى الصلة.
إن المؤمن يذهب إلى الخالق الذي أجرى له أسباب الزواج والطلق والفراق؛ ليسأله أن يخفف
عنه الهم والحزن .ومادام المؤمن قد اختار الذهاب إلى من يُجري القدار فله أن يعرف أن ال
الذي أجرى تلك القدار عليه لم يتركها بل أحكام ،بل وضع لكل أمر حكما مناسبا ،وما على
المؤمن إل أن يأخذ المور القدرية برضا ثم يذهب إلى ال قانتا وخاشعا ومصليا .لن المسألة
مسألة الطلق أو الوفاة فيها فزع وفراق اختيار أو فراق الموت القدري.
سطَىا } فنفهم أن المقصود في الية هي
لةِ ا ْلوُ ْ
ت والصّ َ
ويأتي قوله تعالى { :حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَا ِ
الصلوات الخمس ،فما المقصود بالصلة الوسطى؟
خلَ بَيْ ِتيَ ُم ْؤمِنا
ي وَِلمَن َد َ
غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ
ساعة يأتي خاص وعام مثل قوله تعالىّ {:ربّ ا ْ
ت َولَ تَ ِزدِ الظّاِلمِينَ ِإلّ تَبَارا }[نوح]28 :
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَا ِ
وَلِ ْل ُمؤْمِنِي َ
غفِرْ لِي وَلِوَاِل َديّ } ،وفي قوله:
فكم مرة دخل الب والمر هنا؟ لقد دخلوا في قوله تعالى { :ا ْ
خلَ بَيْ ِتيَ } ،وفي قوله { :وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتِ } ،أي دخلوا ثلث مرات.
{ وَِلمَن َد َ
إذن فإيجاد عام بعد خاص ،يعني أن يدخل الخاص في العام فيتكرر المر بالنسبة للخاص تكرارا
يناسب خصوصيته.
لةِ ا ْلوُسْطَىا } تفهم ذلك المعنى فإذا سألنا :ما معنى
ت والصّ َ
وقوله تعالى { :حَا ِفظُواْ عَلَى الصَّلوَا ِ
حافظوا؟ الجواب ـ إذن ـ يقتضي أن نفهم أن عندنا " حفظا " يقابل " النسيان " ،و " حفظا "
يقابله " التضييع " ،والثنان يلتقيان ،فالذي حفظ شيئا ونسيه فإنه قد ضيعه.
والذي حفظ مال ثم بدده ،لقد ضيعه أيضا ،إذن كلها معانٍ تلتقي في فقد الشيء ،فالحفظ معناه أن
تضمن بقاء شيء كان عندك؛ فإذا ما حفظت آية في القرآن فلبد أن تحفظها في نفسك ،ولو أنعم
ال عليك بمال فل بد أن تحافظ عليه.
وقوله } :حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَاتِ { معناه ل تضيعوها .ويُحتمل أيضا معنى آخر هو أنكم قد ذقتم
حلوة الصلة في القرب من معية ربكم ،وذلك أجدر وأولى أن تتمسكوا بها أكثر ،وذلك القول
يسري على الصلوات الخمس التي نعرفها.
لةِ ا ْلوُسْطَىا { ذكر للخاص بعد العام ،فكأن ال أمر بالمحافظة على ذلك
قوله تعالى } :والصّ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخاص مرتين ،مرة في دائرة العموم ومرة أخرى أفردها ال بالخصوص .وما العلة هنا في تفرد
الصلة الوسطى بالخصوص؟ إن " وسطى " هي تأنيث " أوسط " ،والوسط والوسطى هي المر
بين شيئين على العتدال ،أي أن الطرفين متساويان ،ول يكون الطرفان متساويين في العدد ـ
وهي الصلوات الخمس ـ إل إذا كانت الصلوات وترا؛ أي مفردة؛ لنها لو كان زوجية لما عرفنا
الوسطى فيها ،ومادام المقصود هو وسط الخمس ،فهي الصلة الثالثة التي يسبقها صلتان ويعقبها
صلتان ،هذا إن لحظت العدد ،باعتبار ترتيب الول والثاني والثالث والرابع والخامس.
وإذا كان العتبار بفريضة الصلة فإن أول صلة فرضها ال عز وجل هي صلة الظهر ،هذا
أول فرض ،وبعده العصر ،فالمغرب ،فالعشاء ،فالفجر .فإن أخذت الوسطى بالتشريع فهي صلة
المغرب وهذا رأي يقول به كثير من العلماء.
وإن أخذت الوسطى بحسب عدد ركعات الصلة فستجد أن هناك صلة قوامها ركعتان هي صلة
الفجر وصلة من أربع ركعات وهي صلة الظهر والعصر والعشاء ،وصلة من ثلثة ركعات
هي صلة المغرب .والوسط فيها هي الصلة الثلثية ،وهي وسط بين الزوجية والرباعية فتكون
هي صلة المغرب أيضا .وإن أخذتها بالنسبة للنهار فالصبح أول النهار والظهر بعده ثم العصر
والمغرب والعشاء ،فالوسطى هي العصر.
وإن أخذتها على أنها الوسط بين الجهرية والسرية فيحتمل أن تكون هي صلة الصبح أو صلة
المغرب؛ لن الصلوات السرية هي الظهر والعصر ،والجهرية هي المغرب والعشاء والفجر.
وبين العشاء والظهر تأتي صلة الصبح ،أو صلة المغرب باعتبار أنها تأتي بين الظهر والعصر
من ناحية ،والعشاء والصبح من ناحية أخرى.
وإن أخذتها لن الملئكة تجتمع فيها فهي في طرفي النهار والليل فذلك يعني صلة العصر أو
صلة الصبح .إذن ،فالوسط يأتي من العتبار الذي تُحسب به إن كان عددا أو تشريعا ،أو عدد
ركعات ،أو سرية أو جهرية أو بحسب نزول ملئكة النهار والليل ،وكل اعتبار من هؤلء له
حكم.
ولماذا أخفى ال ذكرها عنا؟ نقول :أخفاها لينتبه كل منا ويعرف أن هناك فرقا بين الشيء لذاته،
والشيء الذي يُبهم في سواه؛ ليكون كل شيء هو الشيء فيؤدي ذلك إلى المحافظة على جميع
الصلوات.
فما دامت الصلة الوسطى تصلح لن تكون الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فذلك
أدعى للمحافظة على الصلوات جميعا .فإبهام الشيء إنما جاء لشاعة بيانه .ولذلك أبهم ال ليلة
القدر للعلة نفسها وللسبب نفسه ،فبدل أن تكون ليلة قدر واحدة أصبحت ليال أقدار.
سطَىا { أي على الصلوات الخمس بصفة
لةِ ا ْلوُ ْ
كذلك قوله تعالى } :حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَاتِ والصّ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عامة وكل صلة تنفرد بصفة خاصة .ويريد الحق سبحانه أن نقوم لكل صلة ونحن قانتون،
والمر الواضح هو } َوقُومُواْ للّهِ قَانِتِينَ { وأصل القنوات في اللغة هو المداومة على الشيء ،وقد
حضر وحث القرآن الكريم على ديمومة طاعة ال ولزوم الخشوع والخضوع ،ونرى ذلك في قول
حمَةَ رَبّهِ ُقلْ َهلْ
حذَرُ الخِ َر َة وَيَرْجُواْ َر ْ
الحق الكريمَ {:أمّنْ ُهوَ قَا ِنتٌ آنَآءَ الّيلِ سَاجِدا َوقَآئِما يَ ْ
ن لَ َيعَْلمُونَ إِ ّنمَا يَتَ َذكّرُ ُأوْلُو ْا الَلْبَابِ }[الزمر]9 :
ن وَالّذِي َ
يَسْ َتوِي الّذِينَ َيعَْلمُو َ
إن الحق سبحانه يبلغ رسوله صلى ال عليه وسلم ليبلغنا نحن المسلمين المؤمنين برسالته أن
نقارن بين الذي يخشع ل في أثناء الليل فيقضيه قائما وساجدا يرجو رحمة ربه ،وبين الذي يدعو
ربه في الضراء وينساه في السراء ،هل يستوي الذين يعلمون حقوق ال فيطيعوه ويوحدوه والذين
ل يعلمون فيتركوا النظر والتبصر في أدلة قدرات ال؟ إن السبيل إلى ذكر ال هو تجديد الصلة به
والوقوف بين يديه مقيمين للصلة.
ونحن نتلقى المر بإقامة الصلة حتى في أثناء القتال ،لذلك شرع لنا صلة الخوف ،فالقتال هو
خفْتُمْ فَ ِرجَالً َأوْ ُركْبَانا { ،إننا
المسألة التي تخرج النسان عن طريق أمنه ،فيقول سبحانه } :فَإنْ ِ
حتى في أثناء القتال والخوف ل ننسى ذكر ال؛ لننا أحوج ما نكون إلى ال أثناء مواجهتنا للعدو،
ولذلك ل يصح أن نجعل السبب الذي يوجب أن نكون مع ال مبررا لن ننسى ال.
وكذلك المريض ،مادام مريضا فهو مع معية ال ،فل يصح أن ينقطع عن الصلة؛ لنه ل عذر
لتاركها ،حتى المريض إن لم يستطع أن يصلي واقفا صلى قاعدا ،فإن لم يستطع قاعدا؛ فليصل
مضطجعا ،ويستمر معه المر حتى لو اضطر للصلة برموش عينيه .كذلك إن خفتم من عدوكم
صلوا رجال ،يعني سائرين على أرجلكم أو ركبانا و " رجال " جمع " راجل " أي يمشي على
ل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن
ل وَعَلَىا ُك ّ
قدميه ،ومثال ذلك قوله الحق {:وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَا ً
ُكلّ فَجّ عَم ِيقٍ }[الحج ]27 :لقد كان الناس يؤدون فريضة الحج سيرا على القدام أو ركبانا على
إبل يضمرها السفر من كل مكان بعيد .إذن فالراجل هو من يمشي على قدميه.
والرجل مخلوقة لتحمل بني النسان :الواقف منهم ،وتقوم بتحريك المتحرك منهم ،فإن كان
النسان واقفا حملته رجله ،وإن كان ماشيا فإن رجليه تتحركان .والمقصود هنا أن الصلة واجبة
على المؤمنين سائرين على أقدامهم أو ركبانا.
هذه المسألة قد فصلها الحق سبحانه وتعالى في صلة الخوف بأن قسم المسلمين قسمين :قسما
يصلي مع النبي عليه الصلة والسلم في الركعة الولى ،ثم يتمون الصلة وحدهم ويأتي القسم
الخر ليأتم بالرسول في الركعة التي بعدها حتى تنتهي الصلة بالنسبة للرسول صلى ال عليه
وسلم ،وينتظرهم حتى يفرغوا من صلتهم ويسلم بهم ،فيكون الفريق الول أخذ فضل البدء مع
الرسول ،والفريق الخر أخذ فضل النتهاء من الصلة مع الرسول صلى ال عليه وسلم .وكان
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذلك في غزوة ذات الرقاع فكلٌ من الفرقتين كانت تقف في وجه العدو للحراسة في أثناء صلة
الفرقة الخرى.
ولي رأي في هذه المسألة هو أن صلة الخوف بالصور التي ذكرها الفقهاء إنما كانت للمعارك
التي يكون فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه ل يصح أن يكون هناك جيش يصلي خلف
النبي صلى ال عليه وسلم ويحرم الباقي من أن يصلي خلفه ،لذلك جعل ال بركة الصلة مع
رسول ال للقسمين.
لكن حينما انتقل رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الرفيق العلى فمن الممكن أن يكون للواقفين
أمام العدو إمام وللخرين إمام ،إذن كان تقسيم الصلة وراء المام في صلة الخوف إنما كان
لن المام هو المام العلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلم يشأ ال أن يحجب قوما عن
الصلة مع رسول ال عن قوم آخرين ،فقسم الصلة الواحدة بينهم .لكن في وقتنا الحالي الذي
انتظمت فيه المسائل ،وصار كل الناس على سواء ،ولم يعد رسول ال صلى ال عليه وسلم فينا،
خفْتُمْ فَرِجَالً َأوْ ُركْبَانا
لذلك يصح أن تُصلي كل جماعة بإمام خاص بهم .وقوله الحق } :فَإنْ ِ
{ نفهم منه الصلة ل تسقط حتى عند لقاء العدو ،فإذا حان وقت الصلة فعلى المؤمن أن يصليها
إذا استطاع فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين ويتابع الحق فيقول } :فَا ْذكُرُواْ اللّهَ َكمَا عَّل َمكُم مّا لَمْ
َتكُونُواْ َتعَْلمُونَ { أي اذكروا ال على أنه علمكم الشياء التي لم تكونوا تعلمونها ،فلو لم يعلمكم
فماذا كنتم تصنعون؟
وبعد ذلك يعود الحق لسياق الحديث عن المتوفى عنها زوجها فيقول } :وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِنكُمْ
ح ْولِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ{ ...
جهِمْ مّتَاعا إِلَى ا ْل َ
وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا َوصِيّ ًة لَ ْزوَا ِ
()241 /
شهُرٍ
سهِنّ أَرْ َب َعةَ أَ ْ
في آية سابقة قال الحق {:وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ
ف وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ }
سهِنّ بِا ْل َمعْرُو ِ
وَعَشْرا فَإِذَا بََلغْنَ أَجََلهُنّ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ
[البقرة]234 :
إذن نحن أمام حكمين للذين يتوفون ويذرون أزواجا ،حكم أن تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا،
وحكم آخر بأن للزوج حين تحضره الوفاة أو أسبابها أو مقدماتها أن ينصح ويوصي بأن تظل
الزوجة في بيته حول كامل ل تُهاج ،وتكون الربعة الشهر والعشر فريضة وبقية الحول والعام
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وصية ،إن شاءت أخذتها وإن شاءت عدلت عنها { .وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا َوصِيّةً }
هذه وصية من الزوج عندما تحضره الوفاة .إذن فالمتوفى عنها زوجها بين حكمين :حكم لزم
وهو فرض عليها بأن تظل أربعة أشهر وعشرا ،وحكم بأن يوصي الزوج بأن تظل حول كامل ل
تُهاج إل أن تخرج من نفسها .و { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } أي ل يخرجها أحد { .فَإِنْ خَ َرجْنَ فَلَ جُنَاحَ
حكِيمٌ } .إن لها الخيار أن تظل عاما حسب
سهِنّ مِن ّمعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
عَلَ ْيكُمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ
وصية زوجها ،ولها الخيار في أن تخرج بعد الربعة الشهر والعشر.
حقّا عَلَى ا ْلمُتّقِينَ }
ويقول الحق بعد ذلك { :وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ
()242 /
إن لكل المطلقات في أي صورة من الصور متاعا ،ولكنه سبحانه قد بين المتاع في كل واحدة
بدليل أنه أوضح لنا :إن لم تفرضوا لهن فريضة فقالَ { :ومَتّعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ َقدَ ُرهُ وَعَلَى
ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ } .وإن كنتم فرضتم لها مهرا فنصف ما فرضتم ،فكأن ال قد جعل لكل حالة حكما
يناسبها ،ولكل مطلقة متعة بالقدر الذي قاله سبحانه .وعندما نتأمل قول الحق من بعد ذلكَ { :كذَِلكَ
يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَاتِهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ }
()243 /
فنحن نعرف مما سبق أن اليات هي المور العجيبة ،والحق سبحانه وتعالى حين ينبه العقل إلى
استقبال حكم بالتعقل يكون العقل المحض لو وجه فكره إلى دراسة أسباب هذا الموضوع فلن
ينتهي إل إلى هذا الحكم .ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يترك لبعض المشادات في التعامل
والثارات في الخصومة أن تخرج عن حكم ما شرع ال في أي شيء من الشياء التي تقدمت ،ثم
يصيب المجتمع شر من المخالفة ،وكأنه بذلك يؤكد حكمته في تشريع ما شرع .وإل لو لم تحدث
من المخالفات شرور لقال الناس :إنه ل داعي للتشريع .ولتركوا التشريع دون أن يصيبهم شر.
إذن فحين ل نلتزم بالتشريع فالمنطق والكمال الكوني أن تحدث الشرور؛ لنه لو لم تحدث
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشرور لتهم الناس منهج ال وقالوا :إننا لم نلتزم يا رب بمنهجك ،ومع ذلك ل شرور عندنا.
فكأن الشرور التي نجدها في المجتمع تلفتنا إلى صدق ال وكمال حكمته في تحديد منهجه .وهكذا
يكون المخالفون لمنهج ال مؤيدين لمنهج ال .وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى علج قضية إيمانية
وهو أن ال حين يقدر قدرا ل يمكن لمخلوق أن يفلت من هذا القدر ،يقول سبحانه { :أََلمْ تَرَ إِلَى
حذَرَ ا ْل َم ْوتِ} ...
الّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ َ
()244 /
أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِ ْم وَ ُهمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َموْتِ َفقَالَ َل ُهمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمّ أَحْيَا ُهمْ إِنّ اللّهَ
شكُرُونَ ()243
س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َي ْ
ضلٍ عَلَى النّا ِ
لَذُو َف ْ
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى على ما يتعلق بالسرة المسلمة في حالة علج الفراق في
الزواج إما بالطلق وإما بالوفاة ،أراد الحق سبحانه وتعالى للمة السلمية أن تعرف أن أحدا لن
يفر من قدر ال إل إلى قدر ال ،فالمة السلمية هي المة التي أمنها على حمل رسالة ومنهج
السماء إلى الرض إلى أن تقوم الساعة ،فلم يعد محمد صلى ال عليه وسلم بأتى ول نبي يُبعث.
ولبد لمثل هذه المة أن تُربى تربية تناسب مهمتها التي حملها ال إليها .ولبد أن يضع الحق
سبحانه وتعالى بين يدي هذه المة كل ما لقته وصادفته مواكب الرسل في المة السابقة ليأخذوا
العبرة من المواقف ويتمثلوا المنهج ل من نظريات تُتلى ولكن من واقع قد دُرس ووقع في
المجتمع.
أراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أساس المسألة وهو أنه سبحانه واهب الحياة ول أحد
غيره ،وواهب الحياة هو الذي يأخذها .ولم يضع لهبة الحياة سببا عند الناس .وإنما هو سبحانه
الذي يحيى ويميت .وفي الحياة والموت استبقاء للنوع النساني ،ولكن استبقاء حياة الفراد إنما
ينشأ من التمول.
ويعالج الحق هذه المسألة بواقع سبق أن عاشه موسى عليه السلم مع قومه وهم بنو إسرائيل،
ونعرف أن قصة موسى مع قومه قد أخذت أوسع قصص القرآن؛ لنها المة التي أتعبت الرسل،
وأتعبت النبياء ،وكان لبد أن يعرض الحق هذا المر برمته على أمة محمد صلى ال عليه وسلم
من واقع ما حدث ،فقال سبحانه { :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَا ِرهِ ْم وَ ُهمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َموْتِ }.
ونعرف من هذا القول أن علة الخروج إنما كانت مخافة أن يموتوا .أما عن سبب هذا الموت فلم
تتعرض له اليات ،وإن تعرض المفسرون له وقالوا كلما طويلً ،فمنهم من قال :إنهم خرجوا
هربا من وباء يحل بالبلد خشية أن يموتوا ،وبعضهم قال :إنهم خرجوا فِرارا من عدو قد سُلط
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليهم ليستأصلهم ،المهم أنهم أرادوا أن يفروا خوفا من الموت.
إذن فالقرآن يعالج تلك المسألة من الزاوية التي تهم ،ولكن ما هو السبب ولماذا الخروج؟ فذلك
أمر ل يهم؛ لن القرآن ل يعطي تاريخا ،فلم يقل متى كانت الوقائع ول زمنها ،ول على يد من
كان هذا ،ول يحدد أشخاص القضية ،كل ذلك ل يهتم به القرآن .والذين يتعبون أنفسهم في البحث
عن تفاصيل تلك المور في القصص القرآني إنما يحاولون أن يربطوا الشياء بزمن مخصوص،
ومكان مخصوص وأشخاص مخصوصة.
ونقول لهم :إن القرآن لو أراد ذلك لفعل ،ولو كان ذلك له أصل في العبرة والعظة لبيّنه الحق لنا،
وأنتم تريدون إضعاف مدلول القصة بتلك التفاصيل؛ لن مدلول القصة إن تحدد زمنها ،فربما
قيل :إن الزمان الذي حدثت فيه كان يحتمل أن تحدث تلك المسألة والزمن الن لم يعد يحتملها،
وربما قيل :إن هذا المكان الذي وقعت فيه يحتمل حدوثها ،إنما المكنة الخرى ل تحتمل.
وكذلك لو حددها بشخصيات معينة لقيل :إنّ القصص ل يمكن أن تحدث إل على يد هذه
الشخصيات؛ لنها فلتات في الكون ل تتكرر.
إن ال حين يبهم في قصة ما عناصر الزمان والمكان والشخاص وعمومية المكنة إنه -سبحانه
-يعطي لها حياة في كل زمان وفي كل مكان وحياة مع كل شخص ،ول يستطيع أحد أن يقول:
إنها مشخصة .وأضرب دائما هذا المثل بالذين يحاولون أن يعرفوا زمن أهل الكهف ومكان أهل
الكهف وأسماء أهل الكهف وكلب أهل الكهف .نقول لهؤلء :أنتم ل تثرون القصة ،لنكم عندما
تحددون لها زمانا ومكانا وأشخاصا فسيقال :إنها ل تنفع إل للزمان الذي وقعت فيه.
ولذلك إذا أراد الحق أن يبهم فقد أبهم ليعمم ،وإن أراد أن يحدد فهو يشخّص ومثال ذلك قوله
حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا
تعالى {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَ ْ
صَالِحَيْنِ َفخَانَتَا ُهمَا فَلَمْ ُيغْنِيَا عَ ْن ُهمَا مِنَ اللّهِ شَيْئا َوقِيلَ ا ْدخُلَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ }[التحريم]10 :
لم يحدد الحق هنا اسم أي امرأة من هاتين المرأتين ،بل ذكر فقط المر المهم وهو أن كل منهما
كانت زوجة لرسول كريم ،ومع ذلك لم يستطع نوح عليه السلم أن يستلب العقيدة الكافرة من
زوجته ،ولم يستطع لوط عليه السلم أن يستلب العقيدة الكافرة من زوجته ،بل كانت كل من
المرأتين تتآمر ضد زوجها -وهو الرسول -مع قومها ،لذلك كان مصير كل منهما النار،
والعبرة من القصة أن اختيار العقيدة هو أمر متروك للنسان ،فحرية العقيدة أساس واضح من
أسس المنهج.
عوْنَ إِذْ قَاَلتْ َربّ
وأيضا قال سبحانه في امرأة فرعونَ {:وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرََأتَ فِرْ َ
عمَلِ ِه وَنَجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[التحريم]11 :
ن وَ َ
عوْ َ
ابْنِ لِي عِن َدكَ بَيْتا فِي ا ْلجَنّ ِة وَنَجّنِي مِن فِرْ َ
لم يذكر اسمها؛ لنه لم يهمنا في المسألة المهم أنها امرأة من ادعى اللوهية ،ومع ذلك لم يستطع
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن يقنع امرأته بأنه إله .لكن حينما أراد أن يشخص قال في مريم عليها السلمَ {:ومَرْيَمَ ابْ َنتَ
جهَا فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا َوصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِ ِه َوكَا َنتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ
حصَ َنتْ فَرْ َ
عمْرَانَ الّتِي أَ ْ
ِ
}[التحريم]12 :
لقد ذكرها الحق وذكر اسم والدها ،ذلك لن الحدث الذي حدث لها لن يتكرر في امرأة أخرى.
فالذين يحاولون أن ُيقَوّوا القصة بذكر تفاصيلها نقول لهم :أنتم تُفقرون القصة؛ فالمهم هو أن الحق
سبحانه وتعالى يريد أن يقول :إنهم خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت.
ونريد أن نقف موقفا لغويا عند قول الحق } :أََلمْ تَرَ { .أنت تقول لنسان } :أََلمْ تَرَ { يعني ألم ير
بعينيه ،وبال هل رسول ال صلى ال عليه وسلم وهل المؤمنون معه والمؤمنون بعده إلى أن تقوم
الساعة رأوا هذه المسألة؟ ل .لقد وصلتهم بوسيلة السماع وليس بالرؤية .ونحن نعلم أن الرؤية
تكون بالعين ،والسماع يكون بالذن ،والتذوق يكون باللسان ،والشم يكون بالنف ،واللمس يكون
باليد ،إن هذه هي الوسائل التي تعطي للعقل إدراكا وإحساسا لكي يعطي معنويات ،وفي ذلك اقرأ
لفْئِ َدةَ
سمْ َع وَالَ ْبصَارَ وَا َ
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
قوله تعالى {:وَاللّهُ َأخْرَ َ
شكُرُونَ }[النحل]78 :
َلعَّلكُمْ تَ ْ
إذن فوسيلة العلم تأتي من الحواس ،وسيدة الحواس هي العين؛ لنه من الممكن أن تسمع شيئا من
واحدٍ بتجربته هو ،لكن عندما ترى أنت بنفسك فتكون التجربة خاصة بك ،ولذلك يقال " :ليس مَن
رأى كمن سمع " ،فإذا أراد الحق أن يقول :ألم تعلم يا من أخاطبك بالقرآن خبر هؤلء القوم؟
فهو سبحانه يأتي بها على هذه الصورة } :أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُواْ مِن دِيَارِ ِهمْ { ويعني ألم تعلم
والعلم هنا بأي وسيلة؟ بالسمع .ولماذا لم يختصر سبحانه المسافة ويقول " :ألم تسمع " بدل من }
أَلَمْ تَرَ {؟ .إنه في قوله } :أََلمْ تَرَ { يخبرك بشيء سابق عن وجودك أو بشيء متأخر عن وجودك،
فعليك أن تستقبله استقبالك لما رأيته؛ لن ال الذي خلق الحواس هو ـ سبحانه ـ أصدق من
الحواس ،ولذلك جاء قوله تعالى في سورة الفيل {:أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل:
]1
إننا نعرف أن النبي صلى ال عليه وسلم ولد في عام الفيل ولم ير هذه الحادثة فكيف يقول ال له
ألم تر؟ إن المعنى من ذلك هو " ألم تعلم "؟ " ألم تسمع مني " ولم يقل " ألم تسمع "؟ لكي يؤكد له
أنه سيقول له حدثا هو لم يره ولكن الحق سيخبره به ،وإخبار الحق له كأنه يراه .فكأن ال يقول:
إن هذه مسألة مفروغ منها وساعة أخبرك بها فكأنك رأيتها.
ونحن نسمع في حياتنا قول الناس :إن فلنا ألمعي .ومعنى ذلك أنه يحدثك حديثا كأنه رأى أو
سمع.اللـمـعي الـذي يـظـن بـك الظـن كـأن قـد رأى وقـد سـمـعـاويحدثنا الحق
عن هؤلء القوم فيقول } :أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُواْ مِن دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ َفقَالَ َلهُمُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللّهُ مُوتُواْ ثُمّ أَحْيَا ُهمْ { .إنه سبحانه يخبرنا بأن المر الذي يفرون منه لحق بهم ،لنه ل يَحتاط
من قدر ال أحد ،لذلك أماتهم ال ثم أحياهم ليتعظوا .ولو أخر ال الحياء إلى يوم البعث فلن تؤثر
العبرة؛ لنه بعد يوم القيامة ل اعتبار ول تكليف ،وكل ذلك ل قيمة له.
حذَرَ ا ْل َم ْوتِ { بيان لعلة الخروج ،فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لهم أن هذه
وقوله تعالىَ } :
قضية ل ينفع فيها الحذر ،أنتم خرجتم خوفا من الموت سأميتكم والذي كنتم تطلبونه بعد الموت
سأحدث لكم غيره ،لذلك أحياهم إحياءً آخر حتى يتحسروا ،ويأخذوا أجلهم المكتوب } ثُمّ أَحْيَا ُهمْ
{ حتى يبين لكم أن أمر الموت بيده سبحانه سواءً كان خوفهم من الموت نابعا من أعدائهم أو من
وباء وطاعون ،فالمر في جوهره ل يختلف ،ولو أن الية ذكرت أنهم خرجوا خوفا من وباء ما
كنا فهمنا منها احتمال خروجهم خوفا من أعدائهم .إذن إبهام السبب المباشر في القضية أعطاها
ثراءً.
وقوله تعالى } :وَهُمْ أُلُوفٌ { يبين لنا مدى الخيبة والغباء الذي كانوا فيه ،لنهم كيف يخرجون
خائفين من العداء وهم ألوف مؤلفة .ولم يظهر واحد من هؤلء اللوف ليقول لهم :إن الموت
والحياة بيد ال } .أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُواْ مِن دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ َفقَالَ َلهُمُ اللّهُ مُوتُواْ
{.
وساعة تأمر مأمور منك بأمر فل بد أن يكون عندك طلقة قدرة أن تفعل ،وهل إذا قلت لحد:
مت ،سيموت؟ إذا أمات نفسه فقد قتلها ،وفرق كبير بين الموت والقتل .إنما الموت يأتي بل سبب
من الميت ،ولكن القتل ربما يكون بسبب النتحار أو بأي وسيلة أخرى ،المهم أنه قتل للنفس
وليس موتا.
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ
ويوضح لنا الحق الفرق بين القتل والموت حين يقولَ {:ومَا ُم َ
عقِبَيْهِ فَلَن َيضُرّ اللّهَ شَيْئا وَسَ َيجْزِي
عقَا ِبكُ ْم َومَن يَنقَلِبْ عَلَىا َ
سلُ َأفَإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ
الرّ ُ
اللّهُ الشّاكِرِينَ }[آل عمران]144 :
ولقد جاءت هذه الية في مجال استخلص العبر من هزيمة أحد حين شاع بين المسلمين أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قد قتل ،ففكر بعض منهم في الرتداد ،وجاء قول الحق موضحا
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو نبي سبقه رسل جاءوا بالمنهج ،والمة المسلمة التي أمنها
ال على تمام المنهج ل يصح أن يهتز اليمان فيها بموت الرسول الكريم؛ لن من ينقلب ويرتد
فلن يضر ال شيئا ،إنما الجزاء سيكون للشاكرين العارفين فضل منهج ال.
ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه جاء بالموت كمقابل للقتل ،وأوضح في الية التالية أمر الموت
ل َومَن يُرِدْ َثوَابَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَن
حين قالَ {:ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ ِإلّ بِِإذْنِ ال كِتَابا ّمؤَجّ ً
يُرِدْ َثوَابَ الخِ َرةِ ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا وَسَ َنجْزِي الشّاكِرِينَ }[آل عمران]145 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فأمر الموت مرهون بمشيئة ال وطلقة قدرته وتحديده لكل أجل بوقت معلوم ل يتقدم ول
يتأخر ،وسيلقى كل إنسان نتيجة عمله ،فمن عمل للدنيا فقط نال جزاءه فيها ،ومن عمل للخرة
فسيجزيه ال في دنياه وآخرته.
لذلك يصدر المر من الحق بقولهَ } :فقَالَ َلهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمّ َأحْيَا ُهمْ { فلم يكن بإرادتهم أن يصنعوا
موتهم ،أو أمر عودتهم إلى الحياة ،لكنه أمر تسخيري .إنهم يموتون بطلقة قدرته المتمثلة في "
كن فيكون " .ويعودون إلى الحياة بتمام طلقة القدرة المتمثلة في " كن فيكون " .فليس لهم رأي
في مسألة الموت أو العودة للحياة ،إنه أمر تسخيري ،كما قال الحق من قبل للرض والسماءُ {:ثمّ
طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت:
سمَآءِ وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ
اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ
]11
لقد شاءت قدرته أن يخلق السماء على هيئة دخان فوُجدت ،وخلقه للسماوات والرض على وفق
إرادته وهو هين عليه بمنزلة ما يقال للشيء احضر راضيا أو كارها ،فيسمع المر ويطيعه .وهذه
أمور تسخيرية من الخالق الكرم ،وليس للمخلوق من سماوات وأرض وما بينهما إل المتثال
للمر التسخيري من الخالق عز وجل .فعندما يقول الحق سبحانه } :مُوتُواْ ثُمّ أَحْيَا ُهمْ { فهذا أمر
تسخيري بالموت ،وأمر تسخيري بعودتهم إلى الحياة.
وأليس الموت هو ما خافوه وفروا منه واحتاطوا بالهرب منه؟ نعم ،لكن ل أحد بقادر على أن
يحتاط على قدر ال؛ لن الحق أراد لهم أن يعرفوا أن أحدا ل يفر من قدر ال إل لقدر ال .ولذلك
فسيدنا عمر بن الخطاب رضي ال عنه عندما أراد للناس أل تذهب إلى أرض فيها الطاعون.
قالوا له:
ـ أتفر من قدر ال؟
قال عمر :نعم :نِفرّ من قدر ال إلى قدر ال.
إن ذلك يجعل النسان في تسليم مطلق بكل جوارحه ل .صحيح على النسان أن يحتاط ،ولكن
القدر الذي يريده ال سوف ينفذ .والمؤمن يأخذ بالسباب ،ويسلم أمره إلى ال.
وقد يقول قائل :لماذا لم يترك ال هؤلء القوم من بني إسرائيل ليموتوا وإلى أن يأتي البعث يوم
القيامة ليحاسبهم.
وأقول :لقد أراد الحق سبحانه بالمر التسخيري بالحياء ثانية أن توجد العبرة والعظة ،ولتظل
ماثلة أمام أعين الخلق ومحفوظة في أكرم كتاب حفظه ال منهجا للناس وهو القرآن الكريم .إن
الحق أراد بالمر عظة واعتبارا وتجربة يموتون بأمر تسخيري ،ويعودون إلى الحياة بأمر
تسخيري آخر ،ثم يعيشون الحياة المقدرة لهم ويموتون بعدها حتف أنوفهم ،ولتظل عبرة ماثلة أمام
كل مؤمن حق ،فل يخاف الموت في سبيل ال.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد أراد ال بهذه التجربة أن نستخدم قضية الجهاد في سبيل ال ،فل يظن ظان أن القتال هو الذي
يسبب الموت ،إنما أمر الموت والحياة بيد واهب الحياة .وهاهو ذا قول خالد بن الوليد على فراش
الموت باقيا ليعرفه كل مؤمن بال:
ـ لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي شبرا إل وفيه ضربة سيف أو طعنه برمح،
وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر ،فل نامت أعين الجبناء.
إذن فأمر الحياة والموت ليس مرهونا بقتال أو غيره ،إنما هو محدد بمشيئة ال.
س لَ
س وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
ضلٍ عَلَى النّا ِ
ولننظر إلى تذييل الية حين يقول الحق } :إِنّ اللّهَ لَذُو َف ْ
شكُرُونَ { .وما الفضل؟ إنه أن تتلقى عطاءً يزيد على حاجتك .والحق سبحانه وتعالى ل يعطي
يَ ْ
الناس فقط على قدر حاجتهم إنما يعطيهم ما هو أكثر من حاجتهم .إذن فلو مات هؤلء القوم الذين
خرجوا من ديارهم خوفا من وباء أو عدو لكان هذا الموت فضل من عند ال؛ لنهم لو ماتوا
بالوباء لماتوا شهداء ،وهذا فضل من ال .ولو ماتوا في لقاء عدو وحاربوا في سبيل ال لنالوا
الشهادة أيضا ،وذلك فضل من ال.
لماذا يكون مثل هذا الموت فضل من ال؟ لننا جميعا سوف نموت ،فإن مات النسان استشهادا
في سبيله فهذا عطاء زائد .لكن أكثر الناس ل يشكرون؛ لنهم ل يعلمون مدى النعمة فيما يجريه
الحق سبحانه وتعالى عليهم من أمور؛ لن الناس لو علمت مدى النعمة فيما يجريه الحق عليهم
من أحداث بما فيها الحياء والماتة ،لشكروا ال على كل ما يجريه عليهم ،فالحق سبحانه وتعالى
ل يجري على البشر ،وهم من صنعته إل ما يصلح هذه الصنعة ،وإل ما هو خير لهذه الصنعة.
لقد استبقى الحق سبحانه هذه العبرة بما أجراه على بعض من بني إسرائيل لنرى أن القتال في
سبيل ال هو من نعم ال على العباد ،فل مهرب من قضاء ال .وهاهو ذا الشاعر العربي يقول:أل
أيها الزاجري أحضر الوغي وأن أشهد اللذات هل أنت مخلديفإن كنت ل تستطيع دفع منيتي
فدعني أبادرها بما ملكت يديإن الشاعر يسأل من يوجه له الدعوة ل إلى القتال ،ولكن إلى
الستمتاع بملذات الحياة قائلً :ما دمت ل تملك لي خلودا في هذه الحياة ول أنت بقادر على رد
الموت عني فدعني أقاتل في سبيل ال بما تملكه يداي.
وبعد الحديث عن محاولة هرب بعض من بني إسرائيل من قدر ال فأجرى عليهم الموت تسخيرا
وأعادهم إلى الحياة تسخيرا ،وهذا درس واضح للمؤمنين الذين سيأتي إليهم المر بالقتال في سبيل
ال .فل تبالوا أيها المؤمنون إن كان القتال يجلب لكم الموت؛ لن الموت يأتي في أي وقت .بعد
ذلك يقول الحقَ } :وقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ{ ...
()245 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمِيعٌ عَلِيمٌ ()244
َوقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ
إنه المر الواضح بالقتال في سبيل ال دون مخافة للموت .لماذا؟ لن واهب الحياة وكاتب الجل
سميع عليم ،سميع بأقوال من يقاتل وعليم بنواياه.
وكان الجهاد قديما عبئا ثقيلً على المجاهد؛ لنه كان يتحمل نفقة نفسه ويتحمل المركبة ـ حصانا
أو جملً ـ ويتحمل سلحه ،كان كل مجاهد ُيعِدّ عدته للحرب ،فكان ولبد إذا سمح لنفسه أن
تموت فمن باب أولى أن يسمح بماله ،وأن يجهز عدته للحرب ،وعلى ذلك كان القتال بالنفس
والمال أمرا ضروريا.
وقوله تعالىَ { :وقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي قاتلوا بأنفسكم ثم عرج إلى الموال فقال { :مّن ذَا الّذِي
ضعَافا كَثِي َرةً} ...
حسَنا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ
ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا َ
()246 /
جعُونَ
ط وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
ض وَيَبْسُ ُ
ضعَافًا كَثِي َر ًة وَاللّهُ َيقْ ِب ُ
عفَهُ لَهُ َأ ْ
حسَنًا فَ ُيضَا ِ
مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا َ
()245
ساعة تسمع { ُيقْرِضُ اللّهَ } فذلك أمر عظيم؛ لنك عندما تقرض إنسانا فكأنك تقرض ال ،ولكن
المسألة ل تكون واضحة ،لماذا؟ لن ذلك النسان سيستفيد استفادة مباشرة ،لكن عندما تنفق في
سبيل ال فليس هناك إنسان بعينه تعطيه ،وإنما أنت تعطي المعنى العام في قضية التدين ،وتعاملك
فيها يكون مع ال .كأنك تقرض ال حين تنفق من مالك لتعد نفسك للحرب.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينبهنا بكلمة القرض على أنه يطلب منا عملية ليست سهلة على
النفس البشرية ،وهو سبحانه يعلم بما طبع عليه النفوس .والقرض في اللغة معناه قضم الشيء
بالناب ،وهو سبحانه وتعالى يعلم أن عملية القراض هي مسألة صعبة ،وحتى يبين للناس أنه يعلم
صعوبتها جاء بقولهُ { :يقْ ِرضُ } ،إنه المقدر لصعوبتها ،ويقدر الجزاء على قدر الصعوبة.
{ مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا } .وما هو القرض الحسن؟ وهل إذا أقرضت عبدا من عباد
ال ل يكون القرض حسنا؟
أول إذا أقرضت عبدا من عباد ال فكأنك أقرضت ال ،صحيح أنت تعطي النسان ما ييسر له
الفرج في موقف متأزم ،وصحيح أيضا أنك في عملية الجهاد ل تعطي إنسانا بعينه وإنما تعطي
ال مباشرة ،وهو سبحانه يبلغنا :أن من يقرض عبادي فكأنه أقرضني .كيف؟ لن ال هو الذي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
استدعى كل عبد له للوجود ،فإذا احتاج العبد فإن حاجته مطلوبة لرزقه في الدنيا ،فإذا أعطى العبد
لخيه المحتاج فكأنه يقرض ال المتكفل برزق ذلك المحتاج.
وقوله تعالىُ { :يقْرِضُ اللّهَ } تدلنا على أن القرض ل يضيع؛ لن القرض شيء تخرجه من مالك
على أمل أن تستعيده ،وهو سبحانه وتعالى يطمئنك على أنه هو الذي سيقترض منك ،وأنه سيرد
ما اقترضه ،لكن ليس في صورة ما قدمت وإنما في صورة مستثمرة أضعافا مضاعفة ،إن الصل
ضعَافا
محفوظ ومستثمر ،ولذلك يقول { :مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ
كَثِي َرةً } إنها أضعاف كثيرة بمقاييس ال عز وجل ل بمقاييسنا كبشر.
والتعبير بالقرض الحسن هنا يدلنا على أن مصدر المال الذي تقرض منه لبد أن يكون من حلل،
ولذلك قيل للمرأة التي تتصدق من مال الزنا " :ليتها لم تزن ولم تتصدق ".
وقيل :إن القرض ثوابه أعظم من الصدقة ،مع أن الصدقة يجود فيها النسان بالشيء كله ،في
حين أن القرض هو دين يسترجعه صاحبه ،لن اللم في إخراج الصدقة يكون لمرة واحدة فأنت
تخرجها وتفقد المل فيها ،لكن القرض تتعلق نفسك به ،فكلما صبرت مرة أتتك حسنة ،كما أن
المتصدق عليه قد يكون غير محتاج ،ولكن المقترض ل يكون إل محتاجا.
والقرض من المال الذي لديك يجعل المال يتناقص ،لذلك فال يعطيك أضعافا مضاعفة نتيجة هذا
القرض ،وذلك مناسب تماما لقوله تعالىَ { :يقْ ِبضُ وَيَبْسُطُ } التي جاء بها في قوله تعالى { :وَاللّهُ
جعُونَ } أي ساعة تذهب إليه ويأخذ كل منا حقه بالحساب أي أن المال
ط وَإِلَيْهِ تُ ْر َ
سُض وَيَبْ ُ
َيقْبِ ُ
الذي تقرض منه ينقص في ظاهر المر ولكن ال ـ سبحانه ـ يزيده ويبسطه أضعافا مضاعفة
وفي الخرة يكون الجزاء جزيل.
ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانهَ } :ألَمْ تَرَ { تأكيدا للخبر الذي سيأتي
بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي ،يقول سبحانه } :أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ
مِن َبعْدِ مُوسَى{ ...
()247 /
أَلَمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ َبعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَ ِبيّ َل ُهمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَِلكًا ُنقَاتِلْ فِي سَبِيلِ
عسَيْتُمْ إِنْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ أَلّا ُتقَاتِلُوا قَالُوا َومَا لَنَا أَلّا ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَدْ ُأخْرِجْنَا
اللّهِ قَالَ َهلْ َ
مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْا إِلّا قَلِيلًا مِ ْنهُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ ()246
ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانهَ { :ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي ،يقول سبحانه { :أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ
مِن َبعْدِ مُوسَى} ...
()248 /
َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ اللّهَ قَدْ َب َعثَ َل ُكمْ طَالُوتَ مَِلكًا قَالُوا أَنّى َيكُونُ َلهُ ا ْلمُ ْلكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ َأحَقّ بِا ْلمُ ْلكِ
س ِم وَاللّهُ ُيؤْتِي
سطَةً فِي ا ْلعِلْ ِم وَا ْلجِ ْ
طفَاهُ عَلَ ْيكُمْ وَزَا َدهُ بَ ْ
سعَةً مِنَ ا ْلمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ اصْ َ
مِنْ ُه وَلَمْ ُي ْؤتَ َ
سعٌ عَلِيمٌ ()247
مُ ْلكَهُ مَنْ يَشَا ُء وَاللّ ُه وَا ِ
ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانهَ { :ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي
بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي ،يقول سبحانه { :أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ
مِن َبعْدِ مُوسَى} ...
()249 /
ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانهَ { :ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي
بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي ،يقول سبحانه { :أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ
مِن َبعْدِ مُوسَى} ...
()250 /
ط َعمْهُ فَإِنّهُ
صلَ طَالُوتُ بِا ْلجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِ َنهَرٍ َفمَنْ شَ ِربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي َومَنْ َلمْ يَ ْ
فََلمّا َف َ
مِنّي إِلّا مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْر َفةً بِيَ ِدهِ َفشَرِبُوا مِنْهُ إِلّا قَلِيلًا مِ ْن ُهمْ فََلمّا جَاوَ َزهُ ُه َو وَالّذِينَ َآمَنُوا َمعَهُ قَالُوا لَا
طَاقَةَ لَنَا الْ َيوْمَ ِبجَالُوتَ َوجُنُو ِدهِ قَالَ الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلَاقُو اللّهِ َكمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً كَثِي َرةً
بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ َمعَ الصّابِرِينَ ()249
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانهَ { :ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي
بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي ،يقول سبحانه { :أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ
مِن َبعْدِ مُوسَى} ...
()251 /
وََلمّا بَرَزُوا ِلجَالُوتَ وَجُنُو ِدهِ قَالُوا رَبّنَا َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْلقَوْمِ
ا ْلكَافِرِينَ ()250
ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانهَ { :ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي
بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي ،يقول سبحانه { :أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ
مِن َبعْدِ مُوسَى} ...
()252 /
ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانهَ { :ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي
بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي ،يقول سبحانه { :أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ
مِن َبعْدِ مُوسَى} ...
()253 /
سلِينَ ()252
ق وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْ َ
تِ ْلكَ آَيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَ ّ
ونعرف أن { تِ ْلكَ } إشارة يخاطب ال بها رسوله صلى ال عليه وسلم ،ويشير إلى اليات التي
سبقت والتي تدل على عظمة الحق وقيومته ،فقد قال الحق من قبل {:أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُواْ مِن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضلٍ عَلَى النّاسِ
دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ َفقَالَ َلهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمّ َأحْيَاهُمْ إِنّ اللّهَ لَذُو َف ْ
شكُرُونَ }[البقرة]243 :
س لَ يَ ْ
وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
وساعة طلبوا أن يقاتلوا ،وأن يبعث لهم ملكا ،وبعثه لهم ،وبعث لهم التابوت فيه سكينة ،أليست
هذه آيات أخرى؟ ومن بعد ذلك أراد الحق أن يأتي مقتل جالوت العملق الضخم على يد داود
الصبي الصغير .أليست هذه آية؟ وآية أخرى هي أن جماعة قليلة ـ بإقرارهم ـ حيث قالوا:
{ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّهِ } هذه الجماعة القليلة تدخل المعركة وتهزم الكثرة،
أليست هذه آية؟
وهل الرسول صلى ال عليه وسلم كان يعرف اليات التي سبقت رسالته؟ ل ،ولكنها من إخبار
ال له مع إقرار الجميع ،وخاصة الذين كفروا بمحمد صلى ال عليه وسلم؛ بأنه ل قرأ ول كتب
ول جلس إلى معلم ،ول أحد قال له شيئا؛ حتى الرحلة التي ذهب فيها للتجارة كان يصحبه فيها
أناس غيره ،ولو كانوا قد رأوه جالسا إلى أحد يعلمه شيئا ،لذاعوا أن محمدا قد جلس مع فلن،
وتعلم منه كذا وكذا .ولكن هذا لم يقله أحد؛ لنه لم يحدث أصل ،ولذلك كان إخباره صلى ال
عليه وسلم بما يعلمونه هم عندهم هو بعضا من أسرار معجزته ،إنه قد عرف الخبار السابقة
رغم أنه لم يقرأ ولم يكتب ولم يتلق علما من أحد .وقد تماحك بعض المشركين وقال :إن رسول
ال صلى ال عليه وسلم كان يجلس إلى فتى عند المروة يعلمه هذه الخبار ،فنزل القول الحق
ج ِميّ
عَحدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ
يدحض هذا الفتراء {:وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّن ُهمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ َبشَرٌ لّسَانُ الّذِي يُلْ ِ
وَهَـاذَا ِلسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل]103 :
لقد أثبت الحق أنها حجة باطلة ،وزعم كاذب من ناحيتهم .لن الذي ادّعوا أنه علم الرسول كان
أعجميا .ويقول الحق سبحانه لمحمد صلى ال عليه وسلم { :تِ ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَقّ }.
إن كلمة { آيَاتُ اللّهِ } تعني الشياء العجيبة ،و { نَتْلُوهَا } أي نجعل كلمة بعد كلمة ،وهي من "
ولي " أي جاء بعده بل فاصل { .نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَقّ } والحق هو الشيء الذي وقع موقعه حيث
ل يتغير عنه ،فل يتضارب أبدا.
فهب أن حادثة وقعت أمامك ،ثم سُئلت عنها ألف مرة في طيلة حياتك ستجد أن جوابك لن يختلف
عليها أبدا؛ لنك تحكي واقعا رأيته ،لكن لو كانت الحكاية كذبا؛ فستجد أن روايتك لها في المرة
الثانية تتغير؛ لنك ل تذكر ماذا قلت في المرة الولى؛ لنك ل تحكي عن واقع يأخذك وتلتزم به،
وكذلك الحق ل يتغير ،ول يتضارب ،ول يتعارض.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كُنت " " ،ما كُنت " ،و " ما كنت " ومثل قوله الحقَ {:ومَا كُنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ ِإذْ َقضَيْنَآ إِلَىا
لمْ َر َومَا كنتَ مِنَ الشّاهِدِينَ }[القصص]44 :
مُوسَى ا َ
أي ما كنت يا محمد حاضرا مع موسى في المكان الغربي من الجبل حين عهد ال إليه بأمر
الرسالة ،ولم تكن معاصرا لموسى ول شاهدا تبليغه للرسالة فكيف يكذبك قومك وأنت تتلو عليهم
ك َومَا كُنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يُ ْلقُون
أنباء السابقين؟ ومثال ذلك قوله الحق {:ذاِلكَ مِنْ أَنَبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَي َ
صمُونَ }[آل عمران]44 :
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْيَ َم َومَا كُ ْنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يَخْ َت ِ
َأقْ َ
إن الذي رواه القرآن لك يا محمد من الخبار الجليلة عمن اصطفاهم ال هي من الغيب الذي
أوحى ال به إليك .وما كنت حاضرا معهم وهم يقترعون بالسهام ليعلم بالقرعة من يقوم بشئون
مريم ،وما كنت معهم وهم يختصمون في نيل هذا الشرف النبيل .ومثال ذلك قوله الحق سبحانه{:
حمَةً مّن رّ ّبكَ لِتُنذِرَ َقوْما مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبِْلكَ
َومَا كُ ْنتَ ِبجَا ِنبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـاكِن رّ ْ
َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ }[القصص]46 :
أي ما كنت أيها الرسول حاضرا في جانب الطور حين نادينا موسى لما أتى الميقات وكلمه ربه
وناجاه ،ولكن ال أعلمك بهذا عن طريق الوحي رحمة بك وبأمتك ،ولتبلغه لقوم لم يأتهم رسول
من قبلك لعلهم يتذكرون ويؤمنون .ومثال ذلك قوله الحقَ {:وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا مَا
جعَلْنَاهُ نُورا ّنهْدِي بِهِ مَن نّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي
ن وَلَـاكِن َ
ل الِيمَا ُ
كُنتَ َتدْرِي مَا ا ْلكِتَابُ وَ َ
إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[الشورى]52 :
إن القرآن هو وحي منزل من عند ال ،يُعرّف المؤمنين النور إلى الهداية وتكاليف الحق ،ويهدي
من اختار الهدى ،وإنك يا محمد لتدعو بهذا القرآن إلى صراط مستقيم .إن كل } مَا كُنتَ { في
القرآن الكريم هي دليل على أن ما أخبرك به جبريل رسولً من عند ال إليك ،وحامل للوحي من
ال هو الحق؛ فتعلمه أنت يا محمد بطريقة خاصة وعلى نهج مخصوص ،رغم أنك لم تقرأ كتابا
ولم تجلس إلى معلم .وما تخبرهم به من آيات هي موافقة لما معهم ،وكان من الواجب أن يقولوا
إن الذي علمك هذا هو ال سبحانه وتعالى ،وكان يجب أن يقروا ويشهدوا بأنك من المرسلين.
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ{ ...
سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ
وبعد ذلك يقول الحق سبحانهِ } :ت ْلكَ الرّ ُ
()254 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سلُ } هي جمع لمفرد هو
سلُ } و { الرّ ُ
إن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى الرسل بقوله { :تِ ْلكَ الرّ ُ
" رسول " .والرسول هو المكلف بالرسالة .والرسالة هي الجملة من الكلم التي تحمل معنى إلى
سلُ }؟ ذلك ليدلك
هدف .ومادام الرسل جماعة فلماذا لم يقل الحق " هؤلء الرسل " وقال { تِ ْلكَ الرّ ُ
القرآن الكريم على أن الرسل مهما اختلفوا فهم مرسلون من قبل إله واحد وبمنهج واحد .وكما
عرفنا من قبل أن الشارة بـ " تلك " هي إشارة لمر بعيد .فعندما نشير إلى شيء قريب فإننا
نقول " :ذا " ،وعندما نستخدم صيغة الشارة مع الخطاب نقول " :ذاك " .وعندما نشير إلى
مؤنث فنقول " :ت " وعندما نشير إلى خطاب مؤنث " :تيك " .و " اللم " كما عرفنا هنا للبعد أو
للمنزلة العالية.
سلُ } هو إشارة إلى الرسل الذين يعلمهم سيدنا محمد عليه الصلة
إذن فقوله الحق { :تِ ْلكَ الرّ ُ
والسلم ،أو الرسل الذين تقدموا في السياق القرآني .والسياق القرآني الذي تقدم تحدث عن موسى
عليه السلم ،وعن عيسى عليه السلم ،وتكلم السياق عن أولي العزم من الرسل.
إن أردت الترتيب القرآني هنا ،فهو يشير إلى الذي تقدم في هذه السورة ،وإن أردت ترتيب
النزول تكون الشارة إلى من عَِلمَهُ الرسول من الرسل السابقين ،والمناسبة هنا أن الحق قد ختم
الية السابقة بقوله هناك { :وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } ،ولما كانت { وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } تفيد
بعضيته صلى ال عليه وسلم لكلية عامة ،كأنه يقول :إياكم أن تظنوا أنهم ماداموا قد اتفقوا في
أنهم مرسلون أو أنهم رسل ال ،أنهم أيضا متساوون في المنزلة ،ل ،بل كل واحد منهم له منزلته
العامة في الفضلية والخاصة في التفضيل .إنهم جميعا Wرسل من عند ال ،ولكن الحق يعطي
كل واحد منهم منزل خاصة في التفضيل.
فلماذا كان قول ال { :وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } يؤكد لنا أن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم من
بين الرسل فل تأخذ هذا المر على أساس أن كل الرسل متساوون في المكانة ،وتقول إنهم
متماثلون في الفضل .ل .إن ال قد فضل بعضهم على بعض.
وما هو التفضيل؟
إن التفضيل هو أن تأتي للغير وتعطيه ميزة ،وعندما تعطي له مزية عمن سواه قد يقول لك إنسان
ما " هذه محاباة " ،لذلك نقول لمن يقول ذلك :الزم الدقة ،ولتعرف أن التفضيل هو إيثار الغير
بمزية بدافع الحكمة ،أما المحاباة فهي إيثار الغير بمزية بدافع الهوى والشهوة ،فمثلً إذا أردنا أن
نختار أحدا من الناس لمنصب كبير ،فنحن نختار عددا من الشخصيات التي يمكن أن تنطبق
عليهم المواصفات ونقول " :هذا يصلح ،وهذا يصلح ،وهذا يصلح " و " هذا فيه ميزات عن ذاك "
وهكذا ،فإن نظرنا إليهم وقيمناهم بدافع الحكمة والكفاءة فهذا هو التفضيل ،ولكن إن اخترنا واحدا
لنه قريب أو صهر أو غير ذلك فهذا هو الهوى والمحاباة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن التفضيل هو أن تؤثر وتعطي مزية ولكن لحكمة ،وأما المحاباة فهي أن تؤثر وتعطي مزية،
ولكن لهوى في نفسك .فمثل هب أنك اشتريت قاربا بخاريا وركبته أنت وابنك الصغير ،ومعك
سائق القارب البخاري ،وأراد ابنك الصغير أن يسوق القارب البخاري ،وجلس مكان السائق وأخذ
يسوق .ولكن جاءت أمواج عالية واضطرب البحر فنهضت أنت مسرعا وأخذت الولد وأمرت
السائق أن يتولى القيادة ،وهنا قد يصرخ الولد ،فهل هذه محاباة منك للسائق؟ ل ،فلو كانت محاباة
لكانت لبنك ،لكنك أنت قد آثرت السائق لحكمة تعرفها وهي أنه أعلم بالقيادة من الولد الصغير.
إذن إذا نظرت إلى حيثية اليثار وحيثية التمييز لحكمة فهذا هو التفضيل ،ولكن في المحاباة يكون
الهوى هو الحاكم.
وكل أعمال الحق سبحانه وتعالى تصدر عن حكمة؛ لنه سبحانه ليس له هوى ول شهوة ،فكلنا
جميعا بالنسبة إليه سواء .إذن هو سبحانه حين يعطي مزية أو يعطي خيرا أو يعطي فضلية،
يكون القصد فيها إلى حكمة ما.
ضهُمْ
سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ
وحينما قال الحق } :وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ { جاء بعدها بالقول الكريم } :تِ ْلكَ الرّ ُ
عَلَىا َب ْعضٍ { وأعطانا نماذج التفضيل فقال } :منهم من كلم ال { .وساعة تسمع } منهم من كلم
ال { يأتي في الذهن مباشرة موسى عليه السلم ،وإل فال جل وعل قد كلم الملئكة.
ضهُمْ دَرَجَاتٍ { .ثم قال } :وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ { إنه
وبعد ذلك يقول الحق } :وَ َرفَعَ َب ْع َ
سبحانه قد حدد أول موسى عليه السلم بالوصف الغالب فقال } :كَلّمَ اللّهُ { وكذلك حدد سيدنا
عيسى عليه السلم بأنه قد وهبه اليات البينات .وبين موسى عليه السلم وعيسى عليه السلم قال
ضهُمْ دَ َرجَاتٍ { والخطاب في اليات لمحمد عليه الصلة والسلم .إذن ففيه كلم
الحق } وَ َرفَعَ َب ْع َ
عن الغير لمخاطب هو محمد صلى ال عليه وسلم.
وساعة يأتي التشخيص بالسم أو بالوصف الغالب ،فقد حدد المراد بالقضية ،ولكن ساعة أن يأتي
بالوصف ويترك لفطنة السامع أن يرد الوصف إلى صاحبه فكأنه من المفهوم أنه ل ينطبق قوله:
" ورفعنا بعضهم درجات " بحق إل على محمد صلى ال عليه وسلم وحده .وجاء بها سبحانه في
الوسط بين موسى عليه السلم وعيسى عليه السلم ،مع أن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يأت
في الوسط ،وإنما جاء آخر النبياء ،ولكنك تجد أن منهجه صلى ال عليه وسلم هو الوسط.
فاليهودية قد أسرفت في المادية بل روحانية ،والنصرانية قد أسرفت في الروحانية بل مادية،
والعالم يحتاج إلى وسطية بين المادية والروحية ،فجاء محمد صلى ال عليه وسلم ،فكأن محمدا
صلى ال عليه وسلم قطب الميزان في قضية الوجود.
وإذا أردنا أن نعرف مناطات التفضيل ،فإننا نجد رسول يرسله ال إلى قريته مثل سيدنا لوط
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مثل ،وهناك رسول محدود الرسالة أو عمر رسالته محدود ،وَلكِنْ هناك رسول واحد قيل له :أنت
مرسل للنس والجن ،ولكل من يوجد من النس والجن إلى أن تقوم الساعة إنّه هو محمد صلى
ال عليه وسلم.
فإذا كان التفضيل هو مجال العمل فهو لسيدنا محمد صلى ال عليه وسلم ،وإذا نظرنا إلى
المعجزات التي أنزلها ال لرسله ليثبتوا للناس صدق بلغهم عن ربهم ،نجد أن كل المعجزات قد
جاءت معجزاته كونية ،أي معجزات مادية حسية الذي يراها يؤمن بها ،فالذي رأى عصا موسى
وهي تضرب البحر فانفلق ،هذه معجزة مادية آمن بها قوم موسى ،والذي رأى عيسى عليه السلم
يبرئ الكمه والبرص فقد شهد المعجزة المادية وآمن بها ،ولكن هل لهذه المعجزات الن وجود
غير الخبر عنها؟ ل ليس لها وجود.
لكن محمد صلى ال عليه وسلم حينما يشاء ال أن يأتيه بالمعجزة ل يأتي له بمعجزة من جنس
المحسات التي تحدث مرة وتنتهي ،إنه سبحانه قد بعث محمدا صلى ال عليه وسلم إلى أن تقوم
الساعة ،فرسالته غير محدودة ،ولبد أن تكون معجزته صلى ال عليه وسلم غير محسة وإنما
تكون معقولة؛ لن العقل هو القدر المشترك عند الجميع ،لذلك كانت معجزته القرآن .ويستطيع
كل واحد الن أن يقول :محمد رسول ال وتلك معجزته.
إن معجزة رسولنا صلى ال عليه وسلم هي واقع محسوس .وفي مناط التطبيق للمنهج نجد أن
الرسل ما جاءوا ليشرعوا ،إنما كانوا ينقلون الحكام عن ال ،وليس لهم أن يشرعوا ،أما الرسول
خذُوهُ َومَا
محمد صلى ال عليه وسلم فهو الرسول الوحيد الذي قال ال لهَ {:ومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
َنهَاكُمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ }[الحشر]7 :
فهو صلى ال عليه وسلم قد اختصه ال بالتشريع أيضا ،أليست هذه مزية؟ إن المراد من المنهج
السماوي هو وضع القوانين التي تحكم حركة الحياة في الخلفة في الرض ،وتلك القوانين
ن من القوانين
نوعان :نوع جاء من ال ،وفي هذا نجد أن كل الرسل فيه سواء ،ولكنْ هناك نوع ثا ٍ
فوض ال فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يضع من التشريع ليلئم ما يرى ،وهذا تفضيل
للرسول صلى ال عليه وسلم.
ضهُمْ دَرَجَاتٍ { فهذا ل ينطبق إل على سيدنا محمد صلى ال
إذن حين يقول ال تعالى } :وَ َرفَعَ َب ْع َ
عليه وسلم .وهذا أكثر من التصريح بالسم .وأضرب هنا المثل ـ ول المثل العلى ـ أنت
أعطيت لولدك قلما عاديا ،ولولدك الثاني قلما مرتفع القيمة ،ولولدك الثالث ساعة ،أما الولد الرابع
فاشتريت له هدية غالية جدا ،ثم تأتي للولد وتقول لهم :أنا اشتريت لفلن قلما جافا ،ولفلن قلم
حبر ،واشتريت لفلن ساعة ،وبعضهم اشتريت له هدية ثمينة.
فـ " بعضهم " هذا قد عُرف بأنه البن الرابع الذي لم تذكر اسمه ،فيكون قد تعين وتحدد.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ مّ ْن ُهمْ مّن كَلّمَ اللّهُ { وحين تقول كلم ال إياك أن تغفل عن
سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ
} تِ ْلكَ الرّ ُ
قضية كلية تحكم كل وصف ل يوجد في البشر ،فأنا أتكلم وال يتكلم ،لكن أكلمه سبحانه مثل
كلمي؟ إن كنت تعتقد أن وجودي مثل وجوده فاجعل كلمي ككلمه ،وإن كان وجودي ليس
كوجوده فكيف يكون كلمي ككلمه؟
ربما يقول أحد :إن الكلم صوت وأحبال صوتية وغير ذلك ،نقول له :ل ،أنت ل تأخذ ما يخص
شيْءٌ { ونحن نأخذ كل وصف يرد عن ال بواسطة ال ،ول
ال سبحانه إل في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
نضع وصفا من عندنا ،وبعد ذلك ل نقارنه بوصف للبشر .فلله حياة ولك حياة .لكن أحياة أي منا
كحياته سبحانه؟ ل ،إن حياته ذاتية ،وحياة كل منا موهوبة مسلوبة ،فليست مثل حياته.
ت وَالَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَىا عَلَى
سمَاوَا ِ
وعندما يقول الحق {:اللّهُ الّذِي خََلقَ ال ّ
شفِيعٍ َأفَلَ تَ َت َذكّرُونَ }[السجدة]4 :
ي وَلَ َ
ا ْلعَرْشِ مَا َلكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَِل ّ
فهل جلوس الحق كجلوس الخلق؟ أو هل يكون كرسي الخالق ككرسي المخلوق؟ طبعا ل .ونحن
المؤمنين نأخذ كل صفة عن ال في نطاق التنزيه :سبحان ال وليس كمثله شيء ،فليس استواء ال
مثل استواء البشر ،وليس جلوس الحق مثل جلوس النسان.
ونضرب هذا المثل ـ ول المثل العلى من قبل ومن بعد ـ هب أن صاحبا لك دعاك لتأكل
عنده ،ثم دعاك أحد كبراء القوم لتأكل عنده ،لبد أنك تجد الطعام متفاوتا في جودته وأصنافه بين
كل مائة من موائد من دعوك ،فإذا كان البشر أنفسهم تتفاوت بينهم المور الوصفية تبعا لمقاماتهم
وقدراتهم وإمكاناتهم ،فإذا ما ترقيت بالصفة إلى خالق كل الشياء أيقنت أنه سبحانه مُنزه عن كل
من سواه ،وليس كمثله شيء.
إذن } كَلّمَ اللّهُ { تعني أنه أعلم رسوله بأي وسيلة من وسائل العلم } .مّ ْنهُمْ مّن كَلّمَ اللّ ُه وَ َرفَعَ
ضهُمْ دَ َرجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ { والحق سبحانه وتعالى يؤكد
َب ْع َ
دائما في الكلم عن سيدنا عيسى ـ أنّ عيسى ابن مريم مؤيد بروح القدس ـ؛ لن المسائل التي
تعرض لها سيدنا عيسى تتطلب أن تكون روح القدس دائما معه ،ولذلك يقول الحق سبحانه عنه{:
ت وَ َيوْمَ أُ ْب َعثُ حَيّا }[مريم]33 :
وَالسّلَمُ عََليّ َيوْ َم وُِل ْدتّ وَ َيوْمَ َأمُو ُ
ففي الميلد سيدنا عيسى تعرض لمشكلة؛ لنه ولد على غير طريقة ميلد الناس ،واتهمت فيها
أمه ،وجاء القرآن فنزهها ،وبرأها ،ووضع المر في نصابه الحق ،وأيضا في موته عندما أرادوا
أن يقتلوه.
وحين ننظر إلى الرسل نجد أن مقتضى أن يرسل ال رسلً إلى العالم هو أنه سبحانه قد خلق
الخلق غير مكرهين على فعل ،ول مسخرين كما تسخر بقية الجناس في الكون ،ودونه مباشرة
الحيوان الذي ينقص عنه العقل ،وبعد الحيوان يأتي جنس النبات الذي ينقص عنه الحس والحركة،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعد ذلك الجماد الذي ينقص عن النبات ،تلك هي أجناس الوجود .والنسان هو سيد هذه
الجناس .والسيادة جاءت له من ناحية أن الجناس كلها مسخرة لخدمته ل بالختيار ،ولكن بالقهر
والقسر.
فالشمس لم تجيء مرة لتقول :لم يعد الخلق يعجبونني لذلك لن أشرق لهم اليوم ول الهواء امتنع
عن أن يهب ،ول المطر امتنع عن أن ينزل ،ول الرض امتنعت عن أن تعطي النبات عناصر
غذائه ،إن النسان يركب الدابة ويسيرها كما يحب وكما يريد ،ل شيء يتأبى أبدا على النسان.
وأنت أيها النسان الجنس الوحيد الذي وهبك ال الختيار لتمارس مهمتك في الوجود ،فإن شئت
فعلت كذا ،وإن شئت لم تفعل كذا.
ولكن ال لم يدعك هكذا على إطلقك ،بل إنّ فيه أمورا تصير برغم أنفك وأنت مسخر فيها ،ل
تستطيع ـ مثل ـ أن تتحكم في يوم ميلدك ،ول في يوم وفاتك ،ول فيما ينزل عليك من
الحداث الخارجة عنك ،ول فيما يدور من الحركة في بدنك ،كل ذلك أنت مسخر فيه فل تنفلت
من قبضة ربك .ولكنك مختار في أشياء.
ونعرف أنه سبحانه وتعالى قهر أجناسا على أن تكون كما يريد ،وكما يحب ،وتلك صفة القدرة؛
لن صفة القهر تفيد السيطرة .فإذا ما ترك جنسا يختار أن يؤمن ،ويختار أل يؤمن ،وإن آمن
يختار أن يطيع ويختار أن يعصي ،فهذه تثبت المحبوبية ل سبحانه وتعالى لمن اختار وآثر طاعة
ال على المعصية.
ونحن نعرف أن القهر يخضع القوالب لكنه ل يخضع القلب .فأنت تستطيع أن تهدد إنسانا بمسدس
وتقول له " :اسجد لي " فيسجد لك ،لكنك ل تستطيع أن تقول له ـ وهو تحت التهديد ـ " أحبني
" .فالحق سبحانه وتعالى يترك لنا اليمان بالختيار ،ويترك لنا الطاعة والمعصية اختيارا ،ليعلم
من يأتيه حبا ومن يأتيه قهرا.
والعالم كله يأتي ل قهرا .وأنت أيها النسان في ذاتك أشياء أنت مقهور فيها .ومن هنا ثبتت ل
تعالى القدرة .وبقى أن تثبت له الحب .والعبد الصالح هو الذي يطيعه عن حب .ونحن قد سبق لنا
ل ـ ول المثل العلى ـ وقلنا إن إنسانا عنده خادمان واحد اسمه سعد والخر
أن ضربنا مث ً
اسمه سعيد ،سعد قيده صاحبه بحبل ويجره قائل " :يا سعد " فهل لسعد أل يجيء؟ ل.
لكن صاحب العبدين ترك لسعيد الحرية ،وعندما يناديه فهو يأتيه.
إذن ،أيهما يحبه ،الذي جاء بالحبل أم الذي جاء بالمحبة؟ إذن ،فمن كرامة النسان أن يثبت ل
صفة المحبة إن آمن بال؛ لنه سبحانه وتعالى لو شاء أن يهدي الناس جميعا ما استطاع أي واحد
منهم أن يكفر به ،ولو شاء أن يكون مطاعا دائما ما استطاع واحد أن يعصيه أبدا .ولذلك قلنا :إن
ج َمعِينَ }[ص]82 :
إبليس كان عالما حينما قال أمام ال تعالى {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أقسم الشيطان ل بعزته سبحانه عن خلقه ،وكأنه قال :أنت يا رب لو كنت تحتاج عباد فأنا ل
أستطيع أن آخذهم ،لكن لنك عزيز عليهم ،إن أرادوا أن يؤمنوا آمنوا ،وإن أرادوا أل يؤمنوا لم
يؤمنوا؛ فهذا هو المدخل الذي سأدخل منه .ولذلك استثنى الشيطان بعضا من العباد لنه لن
يستطيع أن يجد لوسوسته لديهم مدخلِ {:إلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص]83 :
أي إن الذي يريد ال أن يستخلصه لنفسه فلن يستطيع الشيطان أن يقترب منه .إذن فإبليس ليس
داخلً في معركة مع ال تعالى ،ولكنه في معركة معنا نحن .ولقد أوضح الحق ذلك حين جاء
ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْل ُمخَْلصِينَ }[ص:
غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
على لسان إبليس في القرآن {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ
]83-82
إذن لو أراد ال أن نكون طائعين جميعا ،أيستطيع واحد أن يعصي؟ ل يستطيع .ولو أرادنا
مؤمنين جميعا ،أيستطيع واحد أن يكفر؟ ل يستطيع .إنما شاء ال تعالى لبعض المور والفعال
أن يتركها لختيارك؛ لنه يريد أن يعرف من الذي يأتيه طوعا وليظل العبد بين الخوف والرجاء؛
ولذلك يقول الرسول صلى ال عليه وسلم " :لو يعلم المؤمن ما عند ال من العقوبة ما طمع بجنته
أحد ،ولو يعلم الكافر ما عند ال من الرحمة ما قنط من جنته أحد ".
ولهذا فإن مطلوب الرتفاع اليماني ،والرتفاع اليقيني أن تحب ال لذات ال .وهو سبحانه يجري
عليك من الحداث ما يشاء ،وتظل تحبه فيباهي ال بك الملئكة فتقول الملئكة :يا رب يحبك
لنعمتك عليه فيقول لهم :وأسلب نعمتي ول يزال يحبني ،ويسلب الحق النعمة لكن العبد ل يزال
يحب ال ،فهو يحب ال ول يحب نعمته لنه سبحانه ذات تحب لذاتها بصرف النظر عن أنه
يعطينا النعم.
إذن الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل يحملون منهج ال لمَنْ يريد أن يعلن حبه ل ،وأن يكون
خليفة في الرض بحق ،وأن يُصلح في الكون ول يفسده .ونعرف أن الصلح له مرتبتان :أن
تترك الصالح بطبيعته فل تفسده ،أو أن تزيد الصالح صلحا .فل تأتي على عين الماء التي تتدفق
للناس وتردمها ،ولكنك تتركها على صلحها إن لم تستطع أن تزيدها إصلحا.
وقد تستطيع أن تزيد عين الماء صلحا؛ فبدلً من أن يذهب الناس متعبين إلى العين ويحملون
منها الماء ،قد تصنع لهم مضخة عالية لها خزان ترفع إليه الماء وتمد " المواسير " وتوصل المياه
إلى منازلهم .فأنت بذلك تزيد المر الصالح صلحا ،وهذه خلفة وعمارة في الوجود .فإن لم
تستطع أن تزيد الصالح صلحا فجنبنا شر إفسادك ،ودع الحال كما هي عليه ،واقعد كما أنت عالة
في الكون.
ولو أن النسان كان منصفا في الكون لسأل نفسه :مَنْ الذي اهتدى إلى صناعة الرغيف الذي
نأكله الن؟ وسيعرف أنه قد أخذ تجارب الناس من أول آدم حتى وصل إلى صناعة هذا الرغيف،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهناك إنسان زرع القمح ،وهناك إنسان آخر هداه ال أن يطحن هذا القمح ،وهو سبحانه هدى
ل ليفصل الدقيق عن النخالة ،ثم هداه أن يعجن الدقيق حتى يجد له طعما
النسان أن يصنع منخ ً
أفضل .ولشك أنه ترك مرة قطعة من العجين ثم شُغل عنها بأي شاغل أو بأي سبب ثم رجع لها
مرة أخرى فوجدها متخمرة ،فلما خبزها خرج له العيش أفضل طعما ،إنه سبحانه قدر فهدى ،وإل
كيف تأتي هذه التجربة الطويلة؟
ومثال آخر :إن النسان حين ينظف ثوبه ،لو أنه استعرض أعمال من سبقوه في هذا الموضوع
منذ آدم ،لعلم أن كل واحد سبقه في الوجود أعطاه مرحلة من النفعية إلى أن وصل للغسالة
الكهربائية التي تغسل له بدون تعب ،كل هذه الشياء جاءت له بهدايات من ال .وقد قلت مرة:
لماذا طبخت الناس " الكوسة " ولم تطبخ " الخيار "؟ إن هذه دليل على أن هناك تجارب كثيرة
مرت على النسان حتى يميز طعم الكوسة المطبوخة عن الخيار ،وكذلك طبخ الناس الملوخية ولم
يطبخوا النعناع ،مع أن النعناع أحسن منها ،حدث ذلك؛ لن هناك تجارب وصلتنا بأن النعناع ل
يُستساغ طعمه مطبوخا.
وأنت لو نظرت إلى أي شيء تستفيد به اليوم ،وقدرت العمال التي تداولته من يوم أن وُجد،
ستجد أن الحق قد قدر لكل إنسان عملً ومجالً ،وظل يخدمك أنت .ومادمت قد خُدمتَ بهؤلء
الناس كلهم من أول آدم وحتى اليوم ،فل بد أن تنظر لترى ماذا ستقدم لمن يأتي من بعدك ،فل
تكن كسولً في الحياة؛ تأخذ خير غيرك كله في الوجود ،وبعد ذلك ل تعطي أي شيء ،بل لبد أن
يكون لك عطاء ،فكما أخذت من بيئتك لبد أن تعطي هذه البيئة ،ولو لم يوجد هذا لما ارتقت
الحياة؛ لن معنى ارتقاء الحياة أن إنسانا أخذ خبرة من سبقوه ،وحاول أن يزيد عليها ،أي أن يأخذ
أكبر ثمرة بأقل مجهود.
فلو قدر الناس جهد النسان الذي ابتكر " العجلة " مثل التي تسير عليها السيارة لكان عليهم أن
يستغفروا ال له بمقدار ما أراحهم ،فبعد أن كان النسان يحمل على أكتافه قصارى ما يحملَ ،وفّر
عليه مَن اختراع هذا أن يحمل ويتعب ،وجعله يحمل أكبر كمية وينقلها بأقل مجهود.
إذن لبد أن تنظر إلى النعم التي تستفيد بها الن وترى كم مرحلة مرت بها ،وهل صنعها الناس
هكذا أم تعبوا وكدوا واجتهدوا منذ بدء الوجود على الرض ،وعرف النسان جيل بعد جيل كيفية
تطوير تلك الشياء ،وقد يحدث خطأ في مرحلة معينة فيبدأ الصلح أو التحسين وهكذا .فأنت
عندما تجد أن العالم قدم لك كل هذه المنتجات ،لبد أن تسأل نفسك :ما الذي ستقدمه أنت لهذا
العالم ،وبذلك تظل الحلقة النسانية مرتقية ومتصلة.
والحق سبحانه يرسل الرسل ويضع المنهج " :افعل كذا " و " ل تفعل كذا " ،حتى تستقيم حياة
الناس على الرض ،لكن الناس غلبت عليهم الغفلة عن أمر المنهج؛ ولذلك تظهر في الوجود
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فسادات بقدر الغفلة ،وعندما يزداد الفساد يبعث الحق سبحانه رسول جديدا يذكرهم بالمنهج مرة
أخرى ،وعندما يأتي الرسول يؤمن به بعض من الناس ويحاربون معه ،وينتصر الرسول وتستقر
مبادئ ال في الرض ،ثم تمر فترة وتأتي الغفلة فيحدث الخلف ،فهناك أناس يتمسكون بمنهج
ال ،وأناس يفرطون في هذا المنهج ،ويحدث الخلف وتقوم المعارك.
ولو كان الحق سبحانه وتعالى يريد الكون بل معارك بين حق وباطل لجعل الحق مسيطرا سيطرة
تسخير .لكن ال تعالى أعطانا تمكينا ،وأعطانا اختبارا؛ لذلك نجد من ينشأ مؤمنا ،ومن ينشأ
كافرا ،نجد الطائع ،ونجد العاصي ،هذا فريق ،وهذا فريق .وإياك أن تفهم أن وجود الكافرين في
الرض ،أو وجود العصاة في الكون دليل على أنهم غير داخلين في حوزة ال ،ل .بل إن ال
تعالى هو الذي أعطاهم هذا الختيار ،ولو شاء ال أن يجعل الناس أمة واحدة لما استطاع إنسان
أن يخرج على مراد ال.
وفي الية التي نحن بصددها جاء الحق بأولي العزم من الرسل :سيدنا موسى عليه السلم،
ورسول ال صلى ال عليه وسلم ،وسيدنا عيسى عليه السلم وبعد ذلك يقول سبحانه:
ت وَلَـاكِنِ اخْتََلفُواْ َفمِ ْنهُمْ مّنْ آمَنَ
} وََلوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَ َتلَ الّذِينَ مِن َبعْ ِدهِم مّن َبعْدِ مَا جَآءَ ْت ُهمُ الْبَيّنَا ُ
َومِ ْنهُمْ مّن كَفَ َر وََلوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُو ْا وَلَـاكِنّ اللّهَ َيفْ َعلُ مَا يُرِيدُ { [البقرة]253 :
إذن ما الذي جعل الناس تقتتل فيما بينها؟ إنه الختلف بين الناس ،لقد اختلفوا فاقتتلوا .لكن أل
يمكن أن يكونوا قد اختلفوا ولم يقتتلوا؟ إن ذلك لو حدث لكان إجماعا على الفساد .والحق سبحانه
ل يريد أن يحدث الجماع على الفساد ،فإن لم يسيطر الخير على أمور البشر فل أقل من أن يظل
عنصر الخير موجودا ،ويأتي واحد ليجد عنصر الخير وينميه.
إن الحق سبحانه ل يمحو في أزمنة الباطل معالم الخير والفعال الحسنة ،بل يستبقي ـ سبحانه ـ
معالم الخير والفعال الحسنة ليذهب إليها أي إنسان يريد الخير ،وقد يكون الخير ضعيفا ،ولكن
ال ل يمحوه؛ لنه يعطي به دفعة جديدة لمؤمنين جدد يرفعون راية الحق ،وإن بدأوا ضعفاء.
ولذلك نجد الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم يقول " :لول عباد ال ركع وصبية ُرضّع وبهائم
رتع لصب عليكم العذاب صبا ".
إن الرسول صلى ال عليه وسلم ينبهنا أل ننظر إلى الضعفاء على أنهم عالة وأننا أقوياء لمجرد
أنهم يعيشون في أكنافنا .بل قد يكونون سياج لطف ورحمة كما في الحديث السابق.
إن ال سبحانه وتعالى رفع عنا العذاب من أجل وجود الضعفاء بيننا ،لن في الضعاف يوجد
شيء من الخير ،ولتظل في الوجود خلية من الخير حتى إذا ما أراد الوجود أن يفيق إلى الرشد
فإنه سيجد من الخير ما يرشده .إذن لول القتتال لعم الفساد ،وانتهت المسألة .لكن الناس اختلفت
فمنهم من آمن ،ومنهم من كفر } ،وََلوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ { أي لظلوا على منهج واحد من الكفر
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أو من الفساد ،لكن ال يفعل ما يريد .وفي القتتال ـ كما نعرف ـ هناك تضحيات بالنفس،
وتضحيات من أجل أن تظل القيم السماوية على الرض.
وتقتضي التضحية إما أن يجود النسان بنفسه وإما أن يجود بماله ،ولذلك فمن المناسب هنا أن
نتكلم عن النفقة وهي الجود بالمال ،وخاصة أنه في الزمن القديم كان المقاتل هو الذي يجهز عدة
قتاله :فرسه ،رمحه ،سيفه ،سهامه ،لذلك فهو يحتاج إلى إنفاق ،ويتكلم الحق عن هذه المسألة لن
المر بصدد استبقاء خلية اليمان المصورة في المنهج السماوي الذي جاء به الرسل؛ ليظل هذا
المنهج في الرض حتى يفيء إليه الناس إن صدمهم الشر أو صدمهم الباطل فيقول } :ياأَ ّيهَا الّذِينَ
آمَنُواْ أَ ْنفِقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاكُم{ ...
()255 /
شفَاعَةٌ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا أَ ْنفِقُوا ِممّا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا بَ ْيعٌ فِي ِه وَلَا خُلّ ٌة وَلَا َ
وَا ْلكَافِرُونَ ُهمُ الظّاِلمُونَ ()254
ونحن نعرف أن كل نداء من الحق يبدأ بقوله تعالى { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } إنما يدل على أن ما
يأتي من بعد هذا القول هو تكليف لمن آمن بال ،وليس تكليفا للناس على إطلقهم؛ لن ال ل
يكلف من كفر به ،إنما يكلف ال من آمن به ،ومن اجتاز ذلك وأصبح في اليقين اليماني فهو أهل
لمخاطبة ال له ،فكأنه يجد في القول الرباني نداء يقول له :يا من آمن بي إلها حكيما قادرا
مشرعا لك ،أنا أريد منك أن تفعل هذا المر.
إذن اليمان هو حيثية كل حكم ،فأنت تفعل ذلك لماذا؟ ل تقل :لن حكمته كذا وكذا .ل .ولكن قل:
لن ال الذي آمنت به أمرني بهذه الفعال ،سواء فهمت الحكمة منها أو لم تفهمها ،بل ربما كان
إقبالك على أمر أمرك ال به وأنت ل تفهم له حكمة أشد في اليمان من تنفيذك لمر تعرف
حكمته.
ولو أن إنسانا قال له الطبيب :إن الخمر التي تشربها تفسد كبدك وتعمل فيك كذا وكذا ،وبعد ذلك
امتنع عن الخمر ،صحيح أن امتناعه عن الخمر صادف طاعة ل ،لكن هل هو امتنع لن ال قال؟
ل ،لم يمتنع لن ال قال ،ولكنه امتنع لن الطبيب قال ،فإيمانه بالطبيب أكثر من إيمانه برب
الطبيب .أما المؤمن فيقول :أنا ل أشرب الخمر؛ لن ال قد حرمها ،ولماذا انتظر حتى يقول لي
الطبيب :إن كبدك سيضيع بسبب الخمر ،فالرحمة هي أل يجيء الداء.
إن الحق يقول { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَ ْنفِقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاكُم } أي أنا ل أطلب منكم أن تنفقوا علي،
ولكن أنفقوا من رزقي عليكم؛ لن الرزق يأتي من حركة النسان ،وحركة النسان تحتاج طاقة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تتحرك في شيء أو مادة ،وهذه الحركة تأتي على ترتيب فكر ،وهذا الفكر رتبه من خلقه،
والجوارح التي تنفعل ،واليد التي تتحرك ،والرّجل التي تمشي خلقها ال ،والمادة التي تفعل بها
مخلوقة ل .وسنأخذ الزارع نموذجا ،نجد أن الرض التي فيها العناصر مخلوقة ل ،إذن فالنسان
يعمل بالعقل الذي خلقه ال ،ويخطط بالجوارح التي خلقها ال لتأتي له بالطاقة التي يعمل بها في
المادة التي خلقها ال لتعطي للنسان خيرها ..فأي شيء للنسان إذن؟
ومع ذلك إن حصل للنسان خير من هذا كله فهو سبحانه ل يقول " :إنه لي " بل أمنحه لك أيها
النسان ،ولكن أعطني حقي فيه ،وحقي لن آخذه لي ولكن هو لخيك المسكين ،والحق يقول {:مَآ
ط ِعمُونِ }[الذاريات]57 :
ق َومَآ أُرِيدُ أَن يُ ْ
أُرِيدُ مِ ْنهُم مّن رّزْ ٍ
وإياك أن تقول :ما دخلي أنا بالمسكين؟ عليك أن تعلم أنّ المسكنة عَرَض ،والعرض من الممكن
أن يلحق بك أنت.
فل تُقدّر أنك معطٍ دائما ،ولكن قدر أنك ربما حدث لك ما يجعلك تأخذ لَ أنْ تعطي .الحق يقول
لك :أعط المسكين وأنت غني؛ لنه سبحانه سيقول للناس :أن يعطوك وأنت فقير ،فقدّر حكم ال
ساعة يُطلب منك ،ليحميك ساعة أن يُطلب لك ،وبذلك تتوازن المسألة.
ومع أنه سبحانه هو الذي يرزق ،فهو يريد منكم أيها العباد أن تتعاونوا وأن يحب بعضكم بعضا،
حتى تُمحى الضغائن من قلوبكم؛ لن النسان الضعيف ـ ضعفا طبيعيا وليس ضعف التسول أو
الكسل أو الحتراف ،بل ضعف عدم القدرة على العمل ـ هو مسئولية المؤمنين ،فسبحانه وتعالى
يجعل القوي مسئول أن يساعدك وأنت ضعيف.
وأنت حين ترى ـ وأنت ضعيف ل تقدر ـ القوياء الذين قدروا لم ينسوك ،وذكروك بما عندهم،
عندئذ تعلم أنك في بيئة متساندة تحب لك الخير ،فإن رأيت نعمة تنالك إن عجزت فأنت ل
تحسدها أبدا ،ول تحقد على معطيها ،بل تتمنى من حلوة وقعها في نفسك ـ لنها جاءتك عن
حاجة ـ تتمنى لو أن ال قدرك لتردها ،فيكون المجتمع مجتمعا متكافلً متضامنا.
فحين يقول ال تعالى } :أَ ْنفِقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاكُم { فأنتم ل تتبرعون لذات ال بل تنفقون مما رزقكم،
ومن فضل ال عليكم أنه احترم أثر عملكم ونسبه لكم حتى وإن احتاج أخوك ،فهو سبحانه يقول{:
جعُونَ
ط وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
ض وَيَبْسُ ُ
ضعَافا كَثِي َر ًة وَاللّهُ َيقْ ِب ُ
عفَهُ لَهُ َأ ْ
حسَنا فَ ُيضَا ِ
مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا َ
}[البقرة]245 :
إن الحق سبحانه قد اعتبر النفقة في سبيل ال هي قرض من العبد للرب الخالق الوهاب لكل
رزق .وحتى نفهم معنى النفقة أقول :قد قلنا من قبل :إن الكلمة مأخوذة من مادة " النون والفاء
والقاف " ،ويقال :نفقت السوق أي انتهت بسرعة وتم تبادل البضائع فيها بالثمان المقررة لها،
ونحن نعرف أن التجارة تعني مقايضة بين سلع وأثمان .والسلعة هي ما يستفاد بها مباشرة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والثمن ما ل يستفاد به مباشرة.
فعندما تكون جائعا أيغنيك أن يكون عندك جبل من ذهب؟ إن هذا الجبل من الذهب أنت ل تستفيد
منه مباشرة ،أما فائدتك من رغيف الخبز فهي استفادة مباشرة ،وكذلك كوب الماء الممتلئ ،تستفيد
منه مباشرة ،والملبس التي ترتديها أنت تستفيد منها مباشرة .إذن فالذي يستفاد منه مباشرة اسمه
سلعة ،والذي ل يستفاد منه مباشرة نسميه ثمنا .ولذلك يقول لنا الحق إنذارا وتحذيرا من العتزاز
بالمال:
شفَاعَةٌ
} ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَ ْن ِفقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاكُم مّن قَ ْبلِ أَن يَأْ ِتيَ َيوْ ٌم لّ بَيْعٌ فِي ِه َولَ خُلّةٌ وَلَ َ
وَا ْلكَافِرُونَ ُهمُ الظّاِلمُونَ { [البقرة]254 :
إن الحق سبحانه ينبهنا أن ننفق من رزقه لنا من قبل أن يأتي اليوم الخر الذي ل بيع فيه؛ أي ل
مجال فيه لستبدال أثمان بسلع أو العكس ،وأيضا ل يكون في هذا اليوم " خُلة " ،ومعنى " خلة
هي الود الخالص ،وهي العلقة التي تقوم بين اثنين فيصير كل منهما موصلً بالخر بالمحبة؛
ل منكما منفصل عن الخر وإن ربطت بينكم العاطفة وفي الخرة سيكون كل إنسان
لن كُ ّ
مشغول بأمر نفسه.
إن اليوم الخر ليس فيه بيع ول شراء ول فيه خلة ول شفاعة ،وهذه هي المنافذ التي يمكن
للنسان أن يستند عليها .فأنت ل تملك ثمنا تشتري به ،ول يملك غيرك سلعة في الخرة ،إذن
فهذا الباب قد سد .وكذلك ل يوجد خلة أو شفاعة ،والشفاعة هذه مأذون فيها .إن كانت ممن أذن
له ال أن يشفع فهي في يد ال ،ومعنى " شفيع " مأخوذة من الشفع والوتر .الوتر واحد والشفع
اثنان ،فكأن الشفيع يضم صوته لصوتي لنقضي هذه الحاجة عند فلن .فيتشفع النسان بإنسان له
جاه عند المشفوع عنده حتى ينفذ له ما يطلب .ولكن هذه الوسائل في الخرة غير موجودة .فل
بيع ول خلة ول شفاعة؛ فأنتم إذا أنفقتم اتقيتم ذلك اليوم ،فانتهزوا الفرصة من قبل أن يأتي يوم ل
بيع فيه ول خلة ول شفاعة.
وهذه هي أبواب النجاة المظنونة عند البشر التي تُغلق في هذا اليوم العظيم .وكأن الحق سبحانه
وتعالى يقول :أنا لم أفوت فرصة على خلقي؛ خلقي هم الذين ظلموا أنفسهم ووقفوا أنفسهم هذا
الموقف ،فأنا لم أظلمهم .لذلك يذيل الحق الية بقوله } :وَا ْلكَافِرُونَ هُمُ الظّاِلمُونَ {.
وبعد أن تكلم ال سبحانه وتعالى عن الرسل ،وعن الختلف ،وعن القتال لتثبيت منهج الحق،
وعن النفاق ،يوضح لنا التصور اليماني الصحيح الذي في ضوئه جاءت كل هذه المسائل .فقد
حيّ ا ْلقَيّومُ...
جاء موكب الرسالت كلها من أجل هذا المنهج فقال سبحانه } :اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ الْ َ
{
()256 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ مَنْ ذَا الّذِي
حيّ ا ْلقَيّومُ لَا تَ ْأخُ ُذهُ سِنَ ٌة وَلَا َنوْمٌ َلهُ مَا فِي ال ّ
اللّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ الْ َ
شيْءٍ مِنْ عِ ْلمِهِ إِلّا ِبمَا شَا َء وَسِعَ
خ ْلفَهُ ْم وَلَا ُيحِيطُونَ ِب َ
شفَعُ عِنْ َدهُ إِلّا بِإِذْ ِنهِ َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا َ
يَ ْ
ظ ُهمَا وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ ()255
حفْ ُ
ض وَلَا يَئُو ُدهُ ِ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ
كُرْسِيّهُ ال ّ
ونقف بالتأمل الن عند قوله الحق { :اللّهُ لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ } .إن كلمة { اللّهُ } هي عََلمٌ على واجب
الوجود .وعندما نقول " :ال " فإن الذهن ينصرف إلى الذات الواجبة الوجود.
ما معنى " واجبة الوجود "؟ إن الوجود قسمان :قسم واجب ،وقسم ممكن .والقسم الواجب هو
الضروري الذي يجب أن يكون موجودا ،والحق سبحانه وتعالى حين أعلمنا باسمه { اللّهُ } أعطانا
فكرة على أن كلمة { اللّهُ } هذه يتحدى بها ـ سبحانه ـ أن يُسمى بها سواه .ولو كنا جميعا
مؤمنين لكان احترامنا لهذا التحدي نابعا من اليمان .ولكنْ هنا كافرون بال ومتمردون وملحدون
يقولون " :ال خرافة " ،ومع ذلك هل يجرؤ واحد من هؤلء أن يسمي نفسه { اللّهُ }؟
لم يفعل أحد هذا؛ لن ال تحدى بذلك ،فلم يجرؤ واحد أن يدخل في هذه التجربة .وعدم جرأة
الكفار والملحدة في أن يدخلوا في هذه التجربة دليل على أن كفرهم غير وطيد في نفوسهم ،فلو
كان كفرهم صحيحا لقالوا :سنسمي ونرى ما يحدث ،ولكن هذا لم يحدث.
إذن { اللّهُ } علم واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال .وبعد ذلك جاء بالقضية الساسية
وهي قوله تعالى { :لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ } وهنا نجد النفي ونجد الثبات ،النفي في { لَ إِلَـاهَ } ،
والثبات في { ِإلّ ُهوَ } .والنفي تخلية والثبات تحلية .خلى سبحانه نفسه من وجود الشريك له ثم
أثبت لنا وحدانيته .و " ل إله إل ال " أي ل معبود بحق إل ال .ونعرف أن بعضنا من البشر في
فترات الغفلة قد عبدوا أصناما وعبدوا الكواكب .ولكن هل كانت آلهة بحق أم بباطل؟ لقد كانت
آلهة بباطل .ودليل صدق هذه القضية التي هي " ل إله إل ال " ،أي ل معبود إل ال أن أحدا من
تلك اللهة لم يعترض على صدق هذه القضية .إذن فهذا الكلم هو حق وصدق.
وإن ادعى أحد غير ذلك ،نقول له :إن ال قد أخبرنا أنه ل معبود بحق غيره؛ لنه هو الذي خلق
وهو الذي رزق ،وقال :أنا الذي خلقت .إن كان هذا الكلم صحيحا فهو صادق فيه ،فل نعبد إل
هو .وإن كان هذا الكلم غير صحيح ،وأن أحدا غيره هو الذي خلق هذا الكون فأين هذا الحد
الذي خلق ،ثم ترك من لم يخلق ليأخذ الكون منه ويقول " :أنا الذي خلق الكون "؟ إنه أمر من
اثنين ،المر الول :هو أنه ليس هناك إله غيره .فالقضية ـ إذن ـ منتهية .والمر الخر :هو
أنه لو كان هناك آلهة أخرى ،وبعد ذلك جاء واحد وقال " :أنا الله وليس هناك إله إل أنا ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن كانوا لم يعلموا بها ،فهم ل يصلحون أن يكونوا آلهة ،وإن كانوا قد علموا فلماذا لم يقولوا :ل.
نحن اللهة ،وهذا الكلم كذب؟ وكما بعث ال رسل بمعجزات كان عليهم أن يبعثوا رسول
بمعجزات .فصاحب الدعوة إذا ادّعاها ولم يوجد معارض له ،تثبت الدعوى إلى أن يوجد مُنازِع.
إذن كلمة " ل إله إل ال " معها دليل الصدق؛ لنه إما أن يكون هذا الكلم حقا وصدقا فتنتهي
المسألة ،وإن لم يكن حقا فأين الله الذي خلق والذي يجب أن يُعبد بعد أن سمع من جاء ليأخذ منه
هذه القضية؟ وبعد ذلك ل نسمع له حسا ول حركة ،ول يتكلم ،ول نعلم عنه شيئا ،فما هو شأنه؟
إما أنه لم يعلم فل يصلح أن يكون إلها؛ لنه لو كان قد علم ولم يرد فليست له قوة .ولذلك ربنا
سبحانه يأتي بهذه القضية من ناحية أخرى فيقولُ {:قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ
عمّا َيقُولُونَ عُُلوّا كَبِيرا }[السراء]43-42 :
إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً * سُبْحَانَهُ وَ َتعَالَىا َ
فلو كان عند تلك اللهة المزعومة مظاهر قوة لذهبوا إلى ال سبحانه وتعالى وأنكروا ألوهيته ،ولو
كان هناك إله غير ال لحدثت معركة بين اللهة ،ولكن هذا لم يحدث .فالكلمة " ل إله إل ال "
صدق في ذاتها حتى عند من ينكرها ،والدليل فيها هو عدم وجود المنازع لهذه الدعوى؛ لنه إن
لم يوجد منازع فقد ثبت أنه سبحانه ل إله إل ال .وإن وجد المنازع نقول :أين هو؟
وأضرب هذا المثل ـ ول المثل العلى ـ هب أننا في اجتماع ،وبعد ذلك وجدنا حافظة نقود،
فعرضناها على الموجودين ،فلم نجد لها صاحبا ،ثم جاء واحد كان معنا وخرج ،وقال :يا قوم
بينما كنت أجلس معكم ضاعت حافظة نقودي .ولما لم يدعها واحد منا لنفسه فهي إذن حافظته
هو.
إذن " ل إله إل ال " هي قضية تمتلئ بالصدق والحق ،وال هو المعبود الذي يُ َتوَجّه إليه بالعبادة،
والعبادة هي الطاعة .فمعنى عابد أي طائع ،وكل طاعة تقتضي أمرا وتقتضي نهيا ،ومادامت
العبادة تقتضي أمرا وتقتضي نهيا ،فل بد أن يكون المأمور والمنهي صالحا أن يفعل وصالحا ألّ
يفعل .فعندما نقول له :افعل كذا كمنهج إيمان ،فهو صالح لئل يفعل .وعندما نقول له :ل تفعل فهو
صالح لن يفعل ،وإل لو لم يكن صالحا أل يفعل أيقول له " افعل "؟ ل ،ل يقول له ذلك .ولو كان
صالحا أل يفعل أيقول له " ل تفعل "؟ إن ذلك غير ممكن.
إذن لبد أن يكون صالحا لهذه وتلك وإل لكان المر والنهي عبثا ول طائل من ورائهما .لذلك
عندما أرادوا أن يقصروا السلم في العبادات الطقسية التي هي شهادة ل إله إل ال ،وأن محمدا
رسول ال ،والصلة ،والصوم ،والزكاة ،والحج ،قالوا :هل هذا هو كل السلم ،وقالوا :إنه دين
يعتمد على المظاهر فقط ،قلنا لهم :ل ،إن السلم هو كل حركة في الحياة تناسب خلفة النسان
ض وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود]61 :
في الرض؛ لن ال يقول في كتابه الكريمُ {:هوَ أَنشََأكُمْ مّنَ الَرْ ِ
} وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا { أي طلب منكم أن تعمروها ،فكل حركة في الحياة تؤدي إلى عمار الرض
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهي من العبادة ،فل تأخذ العبادة على أنها صوم وصلة فقط؛ لن الصوم والصلة وغيرهما هي
الركان التي ستقوم عليها حركة الحياة التي سَيُبني عليها السلم ،فلو جعلت السلم هو هذه
الركان فقط لجعلت السلم أساسا بدون مبنى ،فهذه هي الركان التي يُبني عليها السلم ،فإذن
السلم هو كل ما يناسب خلفة النسان في الرض يبيّن ذلك ويؤكده قول ال تعالىُ {:هوَ أَنشََأكُمْ
ن الَ ْرضِ وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود]61 :
مّ َ
ويخرج إلينا أناس يقولون :نحن ليس لنا إل أن نعبد ول نعمل .ونقول لي منهم :كم تأخذ الصلة
منك في اليوم؟ ساعة مثل .والزكاة كم تأخذ منك في العالم يوما واحدا في العام؟ والصوم كم يأخذ
منك من وقت؟ نهار أيام شهر واحد .وفريضة الحج أتأخذ منك أكثر من رحلة واحدة في عمرك؟
فبال عليك ماذا تفعل في الباقي من عمرك من بعد ذلك وهو كثير؟ إنك ل تأخذ أكثر من ساعة
في اليوم للصلة ،ول تأخذ أكثر من يوم في السنة لخراج الزكاة ،وتقضي شهرا في السنة تصوم
نهاره .وتحج مرة واحدة في عمرك ،فماذا تفعل في بقية الزمان ،ستأكل وتلبس ،ستطلب رغيف
الخبز للطعام فمن الذي سيصنعه لك؟ إن هذا الرغيف يمر بمراحل حتى يصير لقمة تأكلها.
ويحتاج إلى أكثر من علم وأكثر من حركة وأكثر من طاقة.
إن المحل الذي يبيعه فقط ول يخبزه يحتاج إلى واجهة من زجاج أو غيره ،ولبد أن يعمل فيه من
يذهب بعربته إلى المخبز ليحمل الخبز ،وينقله إلى المحل ويبيعه وإذا نظرت إلى الفرن فسوف
تجد مراحل عدة من تسليم وتسلم للدقيق ،ثم إلى العجين ،وإلى النار التي توقد بالمازوت ،ويقوم
بذلك عمال يحتاجون لمن يخطط لهم ،وقبل ذلك كان الدقيق مجرد حبوب ،وتم طحنها لتصير
دقيقا ،وهناك مهندسون يديرون الماكينات التي تطحن ،ويعملون على صيانتها ،وبعد ذلك الرض
التي نبت فيها القمح وكيف تم حرثها ،وتهيئتها للزراعة ،وريها ،وتسميدها ،وزرعها ،وحصدها،
وكيف دُ ِرسَ القشر والسنابل ،وكيف تتم تذريته من بعد ذلك ،لفصل الحبوب عن التبن ،وتعبئة
الحبوب ،إلى غير ذلك؟
انظر كم من الجهد أخذ رغيف الخبز الذي تأكله ،وكم من الطاقات وكم رجال للعمل ،فكيف
تستسيغ لنفسك أن يصنعوه لك ،وأنت فقط جالس لتصلي وتصوم؟ ل ،إياك أن تأخذ عمل غيرك
دون جهد منك.
مثال آخر ،أنت تلبس جلبابا ،كم أخذ هذا الجلباب من غزل ونسج وخيط؟ إذن فل تقعد ،وتنتفع
بحركة المتحرك في الحياة ،وتقول :أنا مخلوق للعبادة فقط ،فليست هذه هي العبادة ،ولكن العبادة
هي أن تطيع ال في كل ما أمر ،وأن تنتهي عن كل ما نهى في إطار قوله تعالىُ } :هوَ أَنشََأ ُكمْ
ن الَ ْرضِ وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا { إن كل عمل يعتبر عبادة ،وإل ستكون " تنبلً " في الوجود.
مّ َ
واليمان الحق يقتضي منك أن تنتفع بعملك ول تعتمد على عمل غيرك.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الحق سبحانه وتعالى قد استخلفنا في الرض من أجل أن نعمرها .ومن حسن العبادة أن نتقن
كل عمل وبذلك ل نقيم أركان السلم فقط ،ولكن نقيم الركان والبنيان معا .ونكون قد أدينا
مسئولية اليمان ،وطابق كل فعل من أفعالنا قولنا " :ل إله إل ال ".
ولقد عرفنا أن كلمة } اللّهُ { هي علَم على واجب الوجود ،وهي السم الذي اختاره ال لنفسه
وأعلمنا به ،ول أسماء كثيرة كما روى في الحديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم حين سأل
ال بكم اسم هو له أنزله في كتابه أو علمه أحدا من خلقه ـ أي خصّه به ـ أو استأثر به في علم
الغيب عنده ،فل تظنن أن أسماء ال هي كلها هذه السماء التي نعرفها ،ولكن هذه السماء هي
التي أذن ال سبحانه وتعالى بأن نعلمها.
ومن الجائز ،أو من لفظ الحديث نعلم أن ال قد يُعلّم بعضا من خلقه أسماء له ،ويستأثر لنفسه
بأسماء سنعرفها يوم القيامة حين نلقاه ،وحين نتكلم عن السماء الخرى نجد أنها ملحوظ فيها
الصفة ،ولكنها صارت أسماء لنها الصفة الغالبة ،فإذا قيل " :قادر " نجد أننا نستخدم هذه الكلمة
لوصف واحد من البشر ،ولكن " القادر إذا أطلق انصرف إلى القادر العلى وهو ال .وكذلك "
السميع " ،و " البصير " .و " العليم ".
إننا نجد أن بعضا من أسماء ال سبحانه وتعالى له مقابل ،ومن أسماء ال الحسنى ما ل تجد له
مقابلً .فإذا قيل " المحيي " تجد " المميت " و " المعز " تجد " المذل " ،لنها صفة يظهر أثرها
في الغير ،فهو مميت لغيره ،ومعزّ لغيره ،ومذل لغيره ،لكن الصفة إن لم يوجد لها مقابل نسميها
صفة ذات ،فهو " حي " ول نأتي بالمقابل إنما " مُحيي " نأتي بالمقابل وهو " المميت " ،فهذه
اسمها صفة فعل.
فصفات الفعل يتصف بها وبمقابلها لنها في الغير .لكن صفة الذات ل يتصف إل بها.
وحينما قال الحق } :اللّهُ { فهو سبحانه يريد أن يعطينا بعض تجليات ال في أسمائه ،فقال " :ال
ل إله إل هو " ليحقق لنا صفة التوحيد ،ويجب أن نعلم أن " إل " هنا ليست أداة استثناء ،لنها لو
كانت أداة استثناء فكأنك تنفي أن توجد آلهة ويكون ال من ضمن هذه اللهة التي نفيتها وذلك غير
صحيح .وإنما المراد أنه ل آلهة أبدا غير ال فهو واحد ل شريك له ،وأنه ل معبود بحق إل هو
فكلمة " إلّ " ليست للستثناء وإنما هي بمعنى غير ،أي ل إله غير ال.
وقد عرفنا أن هذه القضية معها دليلها ،وإل فلو كان هناك إله آخر لقال لنا :إنه موجود .لكن ل
إله إل هو سبحانه أبلغنا } اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ { .وأعجبني ما قاله الدكتور عبد الوهاب عزام ـ
رحمة ال عليه ـ وكان متأثرا بالشاعر الباكستاني " إقبال " ،كان للشاعر إقبال شيء اسمه "
المثاني " ،أي أن يقول بيتين من الشعر في معنى ،وبيتين من الشعر في معنى ،وكان يغلب على
شعر إقبال الفلسفة السلمية والفكر السلمي ،وقد تأثر الدكتور عبد الوهاب عزام بشعر إقبال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فجعل له مثاني أيضا يناظر فيها " إقبال " ،فيقول:إنمـا التـوحـيـد إيجـاب وسـلـب
وفيـهـما للنفـس عـزم ومضـاءوقوله " :إنما التوحيد إيجاب وسلب " هو قول متأثر بالقضية
الكهربية .فيقول :إنما التوحيد إيجاب وسلب فيهما للنفس عزم ومضاء .فأنت عندما تقول " ل إله "
،فـ " ل " للنفي ،وعندما تكمل قولك " :إل ال " فـ " إل " للثبات ،ويكمل الدكتور عزام قوله:
ل وإل قوة قاهرة .فهما في القلب قطبا الكهرباء كأن الكهرباء تأتي بأنك تسلب وتوجب .فاليجاب
في " إل " والسلب في " ل " .ومادام فيه إيجاب وسلب ،إذن ففيه شرارة كهرباء.
حيّ { هو أول صفة يجب أن تكون لذلك الله ،لن
حيّ ا ْلقَيّومُ { ،و } ا ْل َ
} اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ الْ َ
القدرة بعد الحياة ،والعلم بعد الحياة .فكل صفة لبد أن تأتي بعدها الذكر وإل فليست صفة من
صفات ال أسبق من صفة ول متقدمة عليها فكلها قديمة ل أول لها ،فلو كان عدما فكيف تأتي
الصفات على العدم؟ ،وكلمة " حيّ " عندما نسمعها نقول :ما هو الحي؟ .إن الفلسفة قد احتاروا
جدَ ما يُدْ َركْ.
في تفسيرها .فمنهم من قال :الحيّ هو الذي يكون على صفة تجعله مُدْرِكا إن وُ ِ
كأن الفيلسوف الذي قال ذلك :يعني بالحياة حياتنا نحن ،وما دوننا كأنه ليس فيه إدراك.
ونقول لصاحب هذا الرأي :ل ،إن أردت الحياة بالمعنى الواسع الدقيق فلبد أن تقول :الحياة هي
أن يكون الشيء على الصفة التي تبقى صلحيته لمهمته هذا هو ما يجب أن يكون عليه التعريف،
حيّ { :هو الذي يكون على صفة تُبقى له صلحيته لمهمته ،مثال ذلك النبات ،مادمت تجده
فـ } ا ْل َ
ينمو ،إذن ففيه حياة تبقى له صلحية مهمته .فلو قطع لنتهت الصلحية .ومثال النسان عندما
يموت تنتهي صلحيته لمهمته ،والعناصر الجامدة عندما تأتي مع بعضها تتفاعل ،هذا التفاعل
فرع وجود الحياة ،لكنها حياة مناسبة لها وليست مثل حياتنا.
أنت مثلً ترى " الزلط " الناعم الملس ،تجده على مقدار واحد؟ ل ،إن أشكاله مختلفة ،وهذا دليل
على أن هناك مراحل للحجر الواحد منها ،ولو استمرت تلك الحجار في بيئتها الطبيعية فل شك
أن هذه الكبيرة تتفتت يوما وتصير صغيرة ثم تكبر مرة أخرى ،لكن النسان حين يستخدم هذه
الحجار تكون قد خرجت من بيئتها .ومن حكمة ال أنه ل يوجد شيء تنتهي جدواه أبدا ،بل هو
سبحانه يهيئ لكل شيء مهمة أخرى.
إذن فكل كائن يكون على صفة تُبقى له صلحيته لمهمة ،وتكون له حياة مناسبة لتلك المهمة .نحن
ل نأتي بهذا الكلم من عندنا ،ولكننا نأتي بهذا الكلم لننا نقرأ القرآن بإمعان وتدبر ،ونقول :ماذا
حيّ
يقابل الحياة في القرآن؟ إنه الهلك بدليل أن ال قال {:لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ
عَن بَيّنَةٍ }[النفال]42 :
حيّ { غير هالك .والهالك ل يكون حيا ،ويقول تعالى في
إذن فالحياة مقابلة للهلك .و } ا ْل َ
جهَهُ }[القصص]88 :
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
الخرةُ {:كلّ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى ذلك أن كل الجناس من أعلها إلى أدناها ،سواء النسان ،أو الملئكة ،أو الحيوان أو
النبات ،كلها ستكون هالكة ،ومادام كل شيء سيهلك يوم القيامة فكأنه لم يكن هالكا قبل ذلك ،وله
حياة مناسبة له .أليست الحجارة شيئا ،وستدخل في الهلك يوم القيامة؟ .إذن فهي قبل ذلك غير
هالكة .لكننا نحن البشر ل نفطن إلى ذلك ونفهم الحياة فقط على أنها الحس والحركة الظاهرة .مع
أن العلماء قد أثبتوا أنه حتى الذرة فيها دوران ،ولها حياة .وأنت عندما تنظر بالمجهر على ورقة
من النبات ،وترى ما بها من خضر وخليا ،وتشاهد العمليات التي تحدث بها ،وتقول :هذه حياة
أرقى من حياتنا ،وأدق منها.
إذن فكل شيء له حياة ،إياك أن تظن أنك أنت الذي تهلكها ،فعندما تأتي بحجر وتدقه أو تضعه
في الفرن لتصنع الجير؛ إياك أن تقول :إنك أذهبت من الحجار الحياة المناسبة لها ،أنت فقط قد
حولت مهمتها من حجر صلب ،وصارت لها مهمة أخرى ،فالمسائل تتسلسل إلى أن يصير لكل
شيء في الوجود حياة تناسب المهمة التي يصلح لها.
وانظر إلى مهمة الحق ،ما شكلها؟ إنها الحياة العليا ،وهو الحي العلى وحي ل تُسلب منه الحياة،
لن أحدا لم يعطه الحياة ،بل حياته سبحانه ذاتية ،فهذا هو الحي على إطلقه.
حيّ { وأثر
إذن فالحي على إطلقه هو ال والحق سبحانه وتعالى قال } :اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ ا ْل َ
صفة هذه موجود في كل الصفات الخرى فقال } :ا ْلقَيّومُ { .والقيوم هو صفة مبالغة في قائم.
ومثلها قولنا " :ال غفور " لكن أل يوجد غافر؟ يوجد غافر ،لكن " غفور " هي صفة مبالغة.
وقد يقول قائل :هل صفات ال فيها صفة قوية وأخرى ضعيفة؟ .نقول :ل ،فصفات ال ل يصح
أن توصف بالضعف أو بالقوة ،صفات ال نظام واحد .وحتى نفهم ذلك فنضرب هذا المثل ـ ول
المثل العلى ـ نحن نقول :كلنا نأكل كي نستبقي حياتنا ،فكل واحد منا " آكل " ،لكن عندما
نقول :فلن أكول ،فمعنى ذلك أنه أخذ صفة الكل التي كلنا شركة فيها وزاد فيها فنقول عليه" :
أكّال " أو " أكول ".
من أي ناحية تأتي هذه الزيادة؟ قد تأتي الزيادة من أنك تأكل في العادة رغيفا وهو يأكل رغيفين
أو ثلثة ،إذن فالحدث له في الكل أثر كبير ،فنقول عليه :أكول .وقد يأكل معك رغيفا في الوجبة
الواحدة ،لكنه يأكل خمس وجبات بدل من ثلث وجبات؛ فيكون أيضا أكول ،إذن فـ " أكول " إما
مبالغة في الحدث نفسه وإما بتكرار الحدث.
ونحن ننظر إلى صفات ال ونقول :إنها ل تحتمل القوة والضعف في ذات الحدث ،إنما في
تكررها بالنسبة للمخلوقين جميعا ،فال غافر لهذا ،وغافر لذاك ،وغافر لكل عاص يتوب ،إذن
فالحدث يتكرر ،فيكون " غفورا " وغفارا " .وهذا ما يحل لنا الشكال في كثير من المور ،فعندما
يقول سبحانهَ {:ومَا رَ ّبكَ ِبظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت]46 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فنحن هنا نجد قضية لغوية تقول :إنك إذا جئت بصيغة المبالغة ،وأثبتها ،تكون الصيغة الخرى
القل منها ثابتة بالضرورة ،مثال ذلك عندما نقول :فلن " علّم " أو " عالم " ،فما دمت أثبت له
الصفة القوية؛ تكون الصفة الضعيفة موجودة ،لكن إذا نفيت الصفة المبالغ فيها قد تكون الصفة
الخرى موجودة ،فهو ليس " علمة " لكنه قد يكون " علما " أو عالما " ،فإذا قلت :فلن "
علمة " فقد أثبت له الدنى أيضا ،فيكون " علّما " أو " عالما " .لكن إذا نفيت عنه " علمة "
انتفى عنه الباقي؟ ل ،إذن فنفي الكثر ل ينفي القل.
لكن إذا أُثبت الكثر ثبت القل ،وإذا نفيت الكثر فلن ينتفي القل ،فإذا قلت :ال ليس بظلم
للعبيد ،نفيت الكثر.
صحيح أنه غير مبالغ في الظلم ،فهل يمكن أن يكون ظالما؟ على حسب ما قلنا :إذا نفينا الكثر ل
ينتفي القل نقول:ل ،لننا هنا يجب أن نأخذ القضية الولى في أن المبالغة في الحدث والمبالغة
في الفعل تأتي مرة في ذات الحدث ،ومرة في تكرار الحدث؛ فيكون معاذ ال ـ ظلّما ،ولذلك لم
يقل :بظلّم للعبد ،بل قال :بظلّم للعبيد.
إذن فهذا العبد يحتاج ظالما ،والعبد الخر يحتاج ظالما ،وذاك يحتاج ظالما! فعندما يظلم كل
هؤلء يكون ظلما ،ولذلك نفاها سبحانه وقالَ } :ومَا رَ ّبكَ بِظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ {.
والحق هنا يقول " :قيوم " وهذه صفة مبالغة من قائم ،فالصل فيها :القائم على أمر بيته ،والقائم
على أمر رعيته ،والقائم على أمر المدرسة ،والقائم على أمر هذه الدارة ،ومعنى قائم على
أمرها :أنه متولي شئونها ،فكأن القيام هو مظهر الشراف .فنحن ل نقول " :قاعد على إدارتها ".
وعندما نقول " قيوم " فمعناها أنه أوسع في القيام .كيف جاء هذا التساع؟ .لن القائم قد يكون
قائما بغيره ،لكن حين يكون قائما بذاته ،وغيره يستمد قيامه منه ،فهو قائم على كل نفس وهو
سمّو ُهمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ ُقلْ َ
ت وَ َ
علَىا ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َب ْ
سبحانه القائلَ {:أ َفمَنْ ُهوَ قَآئِمٌ َ
ل َومَن
ِبمَا لَ َيعَْلمُ فِي الَ ْرضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ ا ْل َقوْلِ َبلْ زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُواْ َمكْرُهُ ْم َوصُدّواْ عَنِ السّبِي ِ
ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }[الرعد]33 :
إن المشركين قد بلغو السفه في جحودهم فجعلوا ل شركاء في العبادة ،فهل يستطيع أحد أن يبلغ
تلك المرتبة العالية ،مرتبة خلق العالم والقيام على كل أمر فيه ،صغر أو كبر؟ .إنه الحافظ
المراقب لكل نفس ،العالم بكل ما خفي وظهر ،وهذه الوثان ل تضر ول تنفع ،فكيف تتوهمون يا
من أشركتم بال له ندا ،إن الحق مُنزه عن ذلك بقيامه على كل نفس وكل الخلق .لكن أهل
الضلل أغواهم ضللهم فلم يعد لهم هاد بعد ال.
إن الحق سبحانه قائم بذاته ،وقائم على غيره .والغير إن كان قائما إنما يستمد منه القيام .فلبد أن
يكون " قيوما " ،ومن قيومته أنه } لَ تَأْخُ ُذهُ سِنَ ٌة َولَ َنوْمٌ { ،وقيل في كتب العلم :إن قوم بني
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إسرائيل سألوا موسى عليه السلم :أينام ربنا؟.
فأوحى ال إليه :أن آت بزجاجتين وضعهما في يد إنسان ،ودعه إلى أن ينام ،ثم انظر الجواب.
فلما وضع في يده الزجاجتين ونام .انكسرت الزجاجتان فقال :هو كذلك ،هو قائم على أمر السماء
والرض ،ولو كانت تأخذه سنة أو نوم لتحطمت الدنيا.
وهو سبحانه } لَ تَ ْأخُ ُذهُ سِ َن ٌة َولَ َنوْمٌ { .و " السنة " هي أول ما يأتي من النعاس؛ أي النوم
الخفيف ،فالواحد منا يكون جالسا ثم يغفو ،لكن النوم هو " السُباتْ العميق " ،فلما قال } :لَ تَ ْأخُ ُذهُ
سِنَةٌ { قالوا :إنه يتغلب على النوم الخفيف لكن؛ هل يقدر على مقاومة النوم العميق؟.
فقال الحق عن نفسه } :لَ تَ ْأخُ ُذهُ سِ َن ٌة َولَ َنوْمٌ { .وعرفنا أن السنة هي :النعاس الذي يأتي في أول
ل في العين وفي الجفن ،فعندما يذهب إنسان في النوم؛ فإن أثر ذلك
النوم ،ومظهرها يبدو أو ً
يظهر في عينيه ،ولذلك يقولون :إن العين هي الجارحة التي يمكن أن تعرف بها أحوال النسان،
وقد اكتشفوا في عصرنا الحديث أن الشرايين ل يمكن أن يعرفوا حالتها بالضبط إل من العين.
فالفتور الذي يأتي في العين أولً هو السنة أو مقدمات النوم ونسميه :النعاس.
} لَ تَ ْأخُ ُذهُ سِ َن ٌة َولَ َنوْمٌ { أتريدون تطمينا من إله لمألوه ،ومن معبود لعابد ،ومن خالق لمخلوق
أكثر من أنه يقول للعابد المخلوق " :نم أنت ملء جفونك ،واسترح؛ لن ربك ل ينام " .ماذا تريد
أكثر من هذا؟ هو سبحانه يعلم أنه خلقك ،وأنك تحتاج إلى النوم ،وأثناء نومك فهناك أجهزة في
جسمك تعمل .أإذا نمت وقف قلبك؟ أإذا نمت انقطع نفسك؟ أإذا نمت وقفت معدتك من حركتها
الدودية التي تهضم؟ أإذا نمت توقفت أمعاؤك عن امتصاص المادة الغذائية؟ ل ،بل كل شيء في
دولبك يقوم بعمله .فمن الذي يُشرف على هذه العمليات لو كان ربك نائما؟
إذن فأنت تنام وهو ل ينام .وبال هل هذه عبودية تُذلنا أو تُعزنا؟ إنها عبودية تُعزنا؛ فالذي نعبده
يقول :ناموا أنتم؛ لنني ل تأخذني سنة ول نوم .وإياك أن تفهم أنه ل تأخذه سنة ول نوم ،وأن
شيئا في كونه يخرج على مراده ،ل؛ لن كل ما في السماوات والرض له ،فل شيء ول أحد
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ {.
يخرج عن قدرته .ولذلك يقول الحق } :لّهُ مَا فِي ال ّ
شفَعُ عِنْ َدهُ ِإلّ بِِإذْنِهِ { إنّه سبحانه وتعالى يوضح :أنا أعطيتك
ويتابع سبحانه بقوله } :مَن ذَا الّذِي يَ ْ
الراحة في الدنيا ،وحتى الكافر جعلته يتنعم بنعمي ،ولم أجعل السباب تضن عليه ،وأعطيته مادام
قد اجتهد في تلك السباب مما يدل على أنني ليس عندي محاباة ،قلت للسباب :يا أسباب من
يُحسنك يأخذك ولو كان كافرا بي .لكنه سيأتي يوم القيامة وليس للكافر إل العذاب ،لنه ما دام قد
عمل في الدنيا وأحسن عملً فقد أخذ جزاءه ،فإياكم أن تظنوا كما قالوا " :هؤلء شفعاؤنا عند ال "
،وجاء فيهم قول الحق {:وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ َيضُرّ ُه ْم َولَ يَن َف ُعهُ ْم وَ َيقُولُونَ هَـاؤُلءِ
عمّا
ت َولَ فِي الَ ْرضِ سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَىا َ
سمَاوَا ِ
ش َفعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ُقلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ ِبمَا لَ َيعْلَمُ فِي ال ّ
ُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُشْ ِركُونَ }[يونس]18 :
إن هؤلء الذين افتروا على ال بالشرك به ،واتخذوا أصناما باطلة ل تضرهم ول تنفعهم.
يقولون عن هذه الصنام :إنها تشفع لهم عند ال في الخرة ،ويأمر الحق سبحانه رسوله محمدا
صلى ال عليه وسلم أن يبلغ المشركين :قل لهم يا محمد :هل تخبرون ال بشريك ل يعلم ال له
وجودا في السماوات ول في الرض ،وهو الخالق لكل ما في السماوات والرض ومُنزه سبحانه
عن أن يكون له شريك في الُملك.
لقد أرادوا أن يخلوا بقضية التوحيد ويجعلوا ل شركاء ويقولون :إن هؤلء الشركاء هم الذين
سيشفعون لنا عند ال .فيقول الحق سبحانه :إن الشفاعة ل يمكن أن تكون عندي إل لمن أذنت له
شفَعُ عِنْ َدهُ
أن يشفع.إن الشفاعة ليست حقا لحد .ولكنها عطاء من ال ،لذلك يقول } :مَن ذَا الّذِي يَ ْ
ِإلّ بِإِذْنِهِ {.
ويقول الحقَ } :يعَْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ { .ساعة يتعرض العلماء إلى } :مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا
خَ ْل َفهُمْ { يشرحون لنا أن ما بين اليدين أي ما أمامك ،وما خلفك أي ما وراءك ،وما بين يدي
النسان يكون :مواجها للة الدراك الرائدة وهي العين ،فهو أمر يُشهد.
والذي في الخلف يكون غيبا ل يراه ،كأن ما بين اليد يراد به المشهود والذي في الخلف يراد به
الغيب ،فهو } َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ { أي يعلم مشهدهم وغيبهم ،ويطلق " ما بين اليد "
إطلقا آخر .إننا قد نسأل عمّا بين يديك .هل هو مواجه لك أو غير مواجه؟ فلو كان أمامك بشر،
فهل هم قادمون إليك أو راحلون عنك؟
إنهم إن كانوا راحلين عنك فقد سبقوك وقد جئت أنت من بعدهم ،ومن وراءك سيأتي من بعدك.
أي أن الحق سبحانه يخبرنا أنه يعلم الماضي والمستقبل .فمرة يعلم الحق ما بين أيديهم ،أي العالم
المشهود ويسمونه " عالم الملك " ،وما خلفهم أي الغيب ،ويسمونه " عالم الملكوت " .إنه يعلم
المشهود لهم والخفي عنهم .وكما يقول الحق {:وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُهوَ وَ َيعْلَمُ مَا فِي
ب َولَ يَا ِبسٍ ِإلّ
ط ٍ
ت الَ ْرضِ َولَ رَ ْ
سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي ظُُلمَا ِ
الْبَ ّر وَالْبَحْرِ َومَا َت ْ
فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }[النعام]59 :
إن عند ال علم جميع الغيب ويحيط علمه بكل شيء ،ول تخفى عليه خافية .إنها إحاطة من كل
شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ { .إنه الحق يعلم
ناحيةَ } .يعَْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم َومَا خَ ْل َفهُ ْم َولَ ُيحِيطُونَ ِب َ
مطلق العلم .وكون الحق يعلم فإن ذلك ل ينفي أن يكون غيره يعلم أيضا ،لكن علم البشر هو
بعض علم موهوب من الخالق لعباده.
فعندما يقول واحد :أنا أقول الشعر .فهل منع ذلك القول أحدا آخر من أن يقول الشعر؟ ل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنه لم يقل :ما يقول الشعر إل أنا.
شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ { ،و " العلم " هو الصفة التي تعلم
ويقول سبحانهَ } :ولَ يُحِيطُونَ ِب َ
الشياء على وفق ما هي عليه ،هذا هو العلم .وصفة ال وعلمه أعظم من أن يحاط بهم ،لنها لو
أحيطت لحددت ،وكمالت ال ل تحدد ،مثلما ترى شيئا يعجبك فتقول :هذه قدرة ال ،هل هي قدرة
شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ
ال أو مقدور ال؟ إنها مقدور ال أي أثر القدرة ،فعندما يقولَ } :ولَ يُحِيطُونَ ِب َ
ِبمَا شَآءَ { أي من معلومه.
" ويحيطون " هي دقة في الداء ،لنك قد تدرك معلوما من جهة وتجهله من جهات ،فأوضح
سبحانه :أنك ل تقدر أن تحيط بعلم ال أو قدرته؛ لن معنى الحاطة أنك تعرف كل شيء ،مثل
المحيط على الدائرة ،لكن ذلك ل يمنع أن نعلم جزئية ما ،ونحن نعلم بما آتانا ال من قوانين
الستنباط ،فهناك مقدمات نستنبط منها نتائج ،مثل الطالب الذي يحل مسألة جبر ،أو تمرين
هندسة ،أيعلم هذه الطالب غيبا؟ ل ،ولكنه يأخذ مقدمات موضوعة له ويصل إلى نتائج معروفة
شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ
سلفا لستاذه .وأنت ل تحيط بعلم إل بما شاء لك ال أن تحيطَ } ،ولَ ُيحِيطُونَ بِ َ
ِبمَا شَآءَ {.
وقول الِ } :إلّ ِبمَا شَآءَ { هو إذن منه سبحانه بأنه سيتفضل على خلقه بأن يشاء لهم أن يعلموا
شيئا من معلومه ،وكان هذا المعلوم خفيا عنهم ومستورا في أسرار الكون ،ثم يأذن ال للسر أن
ينكشف ،وكل شيء اكتشفه العقل البشري ،كان مطمورا في علم الغيب وكان سرا من أسرار ال،
وبعد ذلك أذن ال للسر أن ينكشف فعرفناه ،بمشيئته سبحانه .فكل سر في الكون له ميلد
كالنسان تماما ،أي أن له ميعادا يظهر فيه ،وهذا الميعاد يسمى مولد السر .لقد كان هذا السر
موجودا وكان العالم يستفيد منه وإن لم يعلمه .لقد كنا نحن نستفيد ـ على سبيل المثال ـ من
قانون الجاذبية ولم نكن نعلم قانون الجاذبية ،وكذلك النسبية كنا نستفيد منها ولم نكن نعلمها ،وهذا
ق َوفِي
ما يبينه لنا الحق في موضع آخر من القرآن الكريم ،قال تعالى {:سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
شهِيدٌ }[فصلت]53 :
شيْءٍ َ
حقّ َأوَلَمْ َيكْفِ بِرَ ّبكَ أَنّهُ عَلَىا ُكلّ َ
سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ الْ َ
أَنفُ ِ
ما دام قال سبحانه } :سَنُرِيهِمْ { ،فهذا يعني أنه سبحانه سيولد لنا أسرارا جديدة ،وهذا الميلد
إيجادا وإنما هو إظهار ،ولذلك يقول الناس عن السرار العلمية :إنها اكتشافات جديدة ،لقد تأدبوا
في القول مع أن كثيرا منهم غير متدينين ،قالوا :اكتشفنا كذا ،كأن ما اكتشفوه كان موجودا وهم ل
يقصدون هذا الدب .إنما هي جاءت كذلك ،أما المؤمنون فيقولون :لقد أذن ال لذلك السر أن
يولد.
شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ { فيه تحد واضح .فحتى إذا اجتمع البشر مع
وقولهَ } :ولَ ُيحِيطُونَ ِب َ
بعضهم فلن يحيطوا بشيء إل بإذنه .وهذا تحد للكل حين يشاء سبحانه أن يجد إظهار سر في
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوجود ،فهذا السر يولد ،وقد يكون إظهار السر موافقا لبحث الناس مثل العالم الذي يجلس في
معمله ليجرب في العناصر والتفاعلت ،ويهتدي لهذه وهذه ،إنه يتعب كثيرا كي يعرف بعضا من
السرار ،ونحن ل ندري بتعبه وجهده إل يوم أن يكشف سره.
لقد أخذ المقدمات التي وضعها ال في الكون حتى إذا تتبعناها نصل إلى سره ،مثلما نريد أن نصل
إلى الولد فنتزوج حتى يأتي ،وقد يأذن ال مرارا كثيرة أن يولد السر بدون أن يشتغل الخلق
بمقدماته ،لكن ميعاد ميلد السر قد جاء ولم ينشغل العلماء بمقدماته؛ فيخرجه ال لي مخترع
كنتيجة لخطأ في تجربة ما.
وعندما نبحث في تاريخ معظم الكتشافات نجدها كذلك ،لقد جاءت مصادفة ،فهناك عالم يبحث في
مجال ما ،فتخرج له حقيقة أخرى كانت مخفية عنا جميعا .لقد جاء ميعاد ميلدها على غير بحث
من الخلق ،فجاء ال بها في طريق آخر لغيرها ،وفي بعض الحيان يوفق ال عالما يبحث
المقدمات ويكشف له السر الذي يبحث عنه.
ع ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ { تعني أن النسان قد يصادف السر بالبحث،
شيْءٍ مّنْ ِ
إذن ،فـ } َولَ ُيحِيطُونَ بِ َ
ومرة يأتي سر آخر في مجال البحث عن غيره ،فال ل يضن بكشف السر حتى لو لم يشتغلوا به
ونسميها نحن ـ مصادفة ـ إن كل شيء يجري في الكون إنما يجري بمقدار ،وهذا هو الذي
يفرق لنا بين معرفة غيب كان موجودا وله مقدمات في كون ال نستطيع أن نصل إليه بها ،وشيء
مستور عند ال ليست له مقدمات؛ إن شاء سبحانه أعطاه من عنده تفضل؛ من باب فضل الجود
ل بذل المجهود وهو سبحانه يفيضه في " المصادفة " هنا ويفيضه فيما ل مقدمات له على بعض
أصفيائه من خلقه ،ليعلم الناس جميعا أن ل فيوضات على بعض عبيده الذين وَالَهُمُ ال بمحبته
وإشراقاته وتجليه.
لكن هل هذا يعني أن باستطاعتنا أن نعرف كل الغيب؟ ل ،فالغيب قسمان :غيب جعل ال له في
كونه مقدمات ،إن استعملناها نصل إليه ،ككثير من الكتشافات ،وإذا شاء ال أن يولد سر ما ولم
نبحث عنه فهو يعطيه لنا " مصادفة " من باب فيض الجود ل بذل المجهود .ونوع آخر من الغيب
ليست له مقدمات ،وهذا ما استأثر ال بعلمه إل أنه قد يفيض به على بعض خلقه كما يقول
ظهِرُ عَلَىا غَيْ ِبهِ َأحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ فَإِنّهُ َيسُْلكُ مِن بَيْنِ
سبحانه {:عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ
يَدَيْهِ َومِنْ خَ ْلفِهِ َرصَدا }
[الجن]27-26 :
إن ال هو عالم الغيب فل يُطلع أحدا من خلقه على غيبه إل من ارتضاه واصطفاه من البشر،
لذلك فل أحد يستطيع أن يتعلم هذا اللون من الغيب .ولذلك فل يوجد من يفتح دكانا لعلم الغيب
يذهب إليه النسان ليسأله عن الغيب .إن الحق يقول {:وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُه َو وَ َيعْلَمُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ب وَلَ
ط ٍ
ض َولَ َر ْ
سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الَ ْر ِ
مَا فِي الْبَ ّر وَالْبَحْ ِر َومَا تَ ْ
يَابِسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }[النعام]59 :
وهو سبحانه ل يعطي المفتاح لحد من خلقه .وقد يريد ال أن يعطي لواحد كرامة ،فأعطاه كلمة
على لسانه قد يكون هو غير مدرك لها! فيقول :من يسمح هذا القول وينتفع به .فلن قال لي :كذا
وكذا ..يا سلم! وهذا فيض من ال على عبده حين يبين ال لنا أنه يوالي هؤلء العباد الصالحين.
شيْءٍ { تعني أقل القليل .وقوله سبحانه} :
شيْءٍ { نجد أن كلمة } بِ َ
وقوله الحقَ } :ولَ يُحِيطُونَ بِ َ
ت وَالَرْضَ { يعلمنا أن الحق فيما يتكلم به عن نفسه
سمَاوَا ِ
مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآ َء وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ
ولخلقه فيه نظائر ،كالوجود ،هو سبحانه موجود وأنت موجود ،كالغني هو غني وأنت غني،
كالعلم هو عالم وأنت تكون عالما ،فهل نقول :إن الصفة ل كالصفة عندنا؟ ل ،كذلك كل ما يرد
بالنسبة للغيب فيما يتعلق بال إضافة أو وصفا؛ ل تأخذها بالمناسب عندك؛ بل خذها في إطار }
شيْءٌ { .فإذا قيل ل يد ،قل :هو له يد كما أن له وجودا؛ وبما أن وجوده ليس
لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
شيْءٌ { ،فإذا قال } :وَسِعَ كُرْسِيّهُ
كوجودي فيده ليست كيدي بل افهمها في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
شيْءٌ { .فل تقل له
{ نقول :هو قال هذا ،ومادام قال هذا فسنأخذ هذه الكلمة في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
كرسي وسيقعد عليه مثلنا ،ل .لقد وجدنا من قال :أين يوجد ال؟!! متى وجد؟!! وقلنا ونقول" :
متى " و " أين " ل تأتي بالنسبة ل ،إنها تأتي بالنسبة لكم أنتم ،لماذا؟ لن " متى " زمان و " أين "
مكان .والزمان والمكان ظرفان للحدث ،فالشيء الحادث هو الذي له زمان ومكان ،مثال ذلك أن
أقول " :أنا شربت " ومادام قد حدث الشرب فيكون له زمان ومكان ،لكن هب أنني لم أشرب،
أيكون هناك زمان أو مكان؟! ل ،فمادام ال ليس حدثا فليس متعلقا به زمان أو مكان ،لن الزمان
خِلقَت به ،ول تقل "
والمكان نشأ عندما خلق ال وأحدث هذا الكون ،فل تقل " :متى " لن " متى " ُ
خِلقَت به ولن " متى " و " أين " ظرفان؛ هذه للزمان ،وهذه للمكان ،والزمان
أين " لن أين ُ
والمكان فرعا الحديث.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تنوب " أي يعتمد عليهم في المور الجسيمة.
وحين يُنسب شيء من ذلك للحق سبحانه وتعالى .فإن السلف لهم فيها كلم والخلف لهم فيها كلم،
شيْءٌ
والسلف يقولون :كما قال ال نأخذها ولكن نضع كيفيتها وتصورها في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
{ ،وبعضهم قال :نؤولها بما يُثبت لها صفة من الصفات ،كما يثبتون قدرة الحق بقوله الحكيم {:يَدُ
اللّهِ َف ْوقَ أَيْدِيهِمْ }[الفتح]10 :
سمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَي ْي ٍد وَإِنّا
أي أن قدرة ال فوق قدرتهم ،وكما قال سبحانه عن قدرته في الخلق {:وَال ّ
سعُونَ }[الذاريات]47 :
َلمُو ِ
إن كمال قدرة ال أحكمت خلق السماء ،والحق سبحانه مقدس َومُنَ ّزهٌ عن أن يتصور المخلوق
كلمة " يد " بالنسبة ل .ونحن نقول :ال قال ذلك ،ونأخذها من ال؛ لنه أعلم بذاته وبنفسه،
ل يكون له شبيه أو نظير ،كما أثبتنا ل كثيرا من الصفات ،في خلق ال مثلها ومع
ونُحيلها إلى أ ّ
ذلك نقول :علمه ل كعلمنا ،وبصره ل كبصرنا ،فلماذا يكون كرسيه مثل كرسينا؟ .فتكون في
شيْءٌ {.
إطار } لَيْسَ َكمِثِْلهِ َ
والعلماء قالوا عن الكرسي :إنه ما يُعتمد عليه ،فهل المقصود علمه؟ .نعم .وهل المقصود سلطانه
وقدرته؟ .نعم ،لن كلمة " كرسي " توحي بالجلوس فوقه ،والنسان ل يجلس عن قيام إل إذا
استتب له المر ،ولذلك يسمونه " كرسي الملك "؛ لن المر الذي يحتاج إلى قيام وحركة ل
يجعلك تجلس على الكرسي ،فعندما تقعد على الكرسي ،فمعنى ذلك أن المر قد استتب ،إذن فهو
بالنسبة ل السلطان ،والقهر ،والغلبة ،والقدرة.
ت وَالَرْضَ { فوسع الشيء أي :دخل في وسعه
سمَاوَا ِ
أو نقول :مادام قال } :وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ
واحتماله " .والسماوات والرض " نحن نفهمها أنها كائنات كبيرة بالنسبة لنا ،إنه سبحانه يقول{:
س لَ َيعَْلمُونَ }[غافر]57 :
س وَلَـاكِنّ َأكْـثَرَ النّا ِ
ت وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّا ِ
سمَاوَا ِ
لَخَ ْلقُ ال ّ
وعندما يقول :إن الكرسي وسع السماوات والرض ،إذن ،فهو أعظم من السماوات والرض أي
دخل في وسعه السماوات والرض.
ولذلك " يقول أبو ذر الغفاري رضي ال عنه( :سألت النبي صلى ال عليه وسلم عن الكرسي
فقال :يا أبا ذر ما السماوات السبع والرضون السبع عند الكرسي إل كحلقة ملقاة بأرض فلة.
وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلة على تلك الحلقة) ".
والبشرية بكل ما وصلت له من إنجازات علمية قد وصلت إلى القمر فقط وهو مجرد ضاحية من
ضواحي الرض ،ومفصول عنا بمسافة تقاس بالثواني الضوئية ،ولقد تعودنا في حياتنا أن
نستخدم وحدات الميل والكيلومتر لقياس الطوال والبعاد الكبيرة ،لكننا اكتشفنا أن هذه الوحدات
ليست ذات نفع في قياس أبعاد النجوم؛ لننا نعرف مثل أن الشمس تبعد عن الرض ثلثة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتسعين مليونا من الميال ،ولكن عندما نريد أن نرصد المسافة بيننا وبين أحد النجوم فلسوف
نضطر إلى استخدام أعداد كثيرة من الصفار أمام رقم ما ،وهذا يجعل التعبير غير عملي ،ولهذا
السبب وضع علماء الفلك وحدة ملئمة لقياس أبعاد النجوم وهي ما نسميه السنة الضوئية .ونحن
نعرف أن سرعة الضوء حوالي ثلثمائة ألف كيلومتر في الثانية .ولذلك فقياس أي مسافة بيننا
وبين أي نجم في السماء أمر يحتاج إلى حسابات دقيقة وكثيرة ودراسة علوم متعددة.
فالشمس بيننا وبينها ثلثة وتسعون مليونا من الميال ويصلنا ضوؤها في خلل ثماني دقائق وثلث
الدقيقة .والشعرى اليمانية وهي ألمع نجوم السماء يصل إلينا ضؤوها في تسع سنوات ضوئية.
إذن فالسنة الضوئية هي وحدة لقياس المسافات الفلكية .ونحن نذهل عندما نعرف أن بعض النجوم
يصل ضؤوها إلينا في خمسين سنة ضوئية!! كل ذلك ونحن لم نصل بعد إلى السماء الدنيا ،فما
بالنا ببقية السماوات؟ إذن فحدود ملك ال فوق تصورنا .ولنا أن نعرف أي تكريم من الحق
ضهَا
للمؤمنين حين يصور لنا ضخامة الجنة يقول سبحانه {:سَا ِبقُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن رّ ّب ُك ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
ضلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو
ع ّدتْ لِلّذِينَ آمَنُواْ بِاللّ ِه وَرُسُِلهِ ذَِلكَ َف ْ
سمَآ ِء وَالَ ْرضِ أُ ِ
َكعَ ْرضِ ال ّ
ا ْل َفضْلِ ا ْلعَظِيمِ }[الحديد]21 :
هذه هي الجنة التي أعدها ال للمؤمنين بال ورسله الذين يسارعون إلى طلب غفران ال .فإذا كان
عرض الجنة هو السماوات والرض ،فما طولها إذن؟ وكم يكون بعدها؟ والعرض كما نعرف هو
أقل البعدين.
إذن يجب أن نفهم أن هناك عوالم أخرى غير السماء والرض ،لكن عيوننا ل تبصر فقط إل ما
سمَاوَاتِ
أراده الحق لنا من السماء والرض ،ولذلك فعندما نسمع قول الحق } :وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ
وَالَرْضَ { فلنا أن نتخيل أي عظمة هي عظمة كرسي ذي الجلل والكرام.
ظ ُهمَا { ،ومعنى آده الشيء ،أي
حفْ ُ
ض َولَ َيؤُو ُدهُ ِ
ت وَالَرْ َ
سمَاوَا ِ
إن الحق يقول } :وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ
أثقله .وحتى نفهم ذلك هب أن إنسانا يستطيع أن يحمل عشرة كيلوجرامات ،فإن زدنا هذا الحمل
إلى عشرين من الكيلوجرامات فإن الحمل يثقل عليه ،ويجعل عموده الفقري معوجا حتى يستطيع
أن يقاوم الثقل.
فإن زدنا الحمل أكثر فقد يقع الرجل على الرض من فرط زيادة الوزن الثقيل.
ظ ُهمَا { أي أنه ل يثقل على ال حفظ السماوات والرض .إن السماء
حفْ ُ
إذن فمعنى } َولَ َيؤُو ُدهُ ِ
والرض وهما فوق اتساع رؤية البشر؛ فقد وسعهما الكرسي الرباني .وقال بعض المفسرين :إذا
كان الكرسي ل يثقل عليه حفظ السماوات والرض فما بالنا بصاحب الكرسي!!؟
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ أَن تَزُولَ وَلَئِن
سكُ ال ّ
هاهو ذا الحق سبحانه وتعالى يطمئنا فيقول {:إِنّ اللّهَ ُي ْم ِ
غفُورا }[فاطر]41 :
س َك ُهمَا مِنْ َأحَدٍ مّن َب ْع ِدهِ إِنّهُ كَانَ حَلِيما َ
زَالَتَآ إِنْ َأ ْم َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنه الحق وحده سبحانه وتعالى الذي يحفظ السماوات والرض في توازن عجيب ومذهل ،ولئن
قُدّرَ لهما أن تزول .فلن يحفظهما أحد بعد ال ،أي ل يستطيع أحد إمساكهما؛ فهما قائمتان بقدرة
الواحد القهار ،وإذا أراد ال أن تزول فل يستطيع أحدٌ أن يمسكهما ويمنعهما من الزوال.
وإذا كانت هذه الشياء الضخمة من صنع ال وهو فوقها ،فإنه عندما يصف نفسه بأنه " عليّ " و "
عظيم " فذلك أمر طبيعي .إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا تذييلً منطقيا يقتضيه ما تقدمت به الية
الجليلة :آية الكرسي ،إنه الحق يقول } :وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلعَظِيمُ { وكلمة " عليّ " صيغة مبالغة في
العلو .و " العليّ " هو الذي ل يوجد ما هو أعلى منه فكل شيء دونه.
هذه الية الكريمة التي نحن بصددها نعرفها بآية الكرسي؛ لن كلمة " الكرسي " هي الظاهرة
فيها .وكلمة " الكرسي " فيها :تعني السلطان والقهر والقدرة والملكية وكلها مأخوذة من صفات
الحق جل وعل.
إنه ل إله إل هو .إنه الحي .إنه القيوم .إنه الذي ل تأخذه سنة ول نوم.
والشفاعة عنده مأذون فيها بإرادته هو وحده وليس بإرادة سواه .وهو العليم بكل شيء ،الذي يسع
كرسيه السماوات والرض وهو العليّ فل أعلى منه ،وهو العظيم بمطلق العظمة .وتتجمع كل
هذه الصفات لتضع أمامنا أصول التصور في العقيدة اليمانية ،وقد وردت فيها أحاديث كثيرة،
ومنها نستخلص أنها آية لها قدرها ومقدارها عند ال " .فعن أبي هريرة رضي ال عنه قال" :
وكلني رسول ال صلى ال عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو الطعام فأخذته
وقلت وال لرفعنك إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قال :إني محتاج ،وعليّ عيال ،ولي
حاجة شديدة .قال :فخليت عنه ،فأصبحت فقال النبي صلى ال عليه وسلم ـ يا أبا هريرة " :ما
فعل أسيرك البارحة "؟ قال :قلت يا رسول ال :شكا حاجة شديدة وعيال ،فرحمته ،فخليت سبيله،
قال " :أما إنه كذبك وسيعود " فعرفت أنه سيعود لقول رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ إنه
سيعود ،فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت :لرفعنك إلى رسول ال ـ صلى ال عليه
وسلم ـ قال :دعني فإني محتاج ،وعلي عيال ل أعود ،فرحمته وخليت سبيله ،فأصبحت فقال لي
رسول ال صلى ال عليه وسلم :يا أبا هريرة " :ما فعل أسيرك "؟ فقلت يا رسول ال :شكا حاجة
شديدة وعيال فرحمته فخليت سبيله قال " :أما إنه قد كذبك وسيعود " فرصدته الثالثة ،فجاء يحثو
من الطعام فأخذته فقلت لرفعنك إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهذا آخر ثلث مرات أنك
تزعم ل تعود ،قال :دعني أعلمك كلمات ينفعك ال بها قلت :ما هي؟
قال :إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي " ال ل إله إل هو الحي القيوم " حتى تختم الية؛
فإنه لن يزال عليك من ال حافظ ،ول يقربنك شيطان حتى تصبح ،فخليت سبيله ،فأصبحت فقال
لي رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما فعل أسيرك البارحة "؟ قلت يا رسول ال :زعم أنه
يعلمني كلمات ينفعني ال بها فخليت سبيله قال " :ما هي " قلت :قال لي :إذا أويت إلى فراشك
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم " ال ل إله إل هو الحي القيوم " ،وقال لي :لن يزال عليك
من ال حافظ ول يقربك شيطان حتى تصبح ،وكانوا (أي الصحابة) أحرص شيء على تعلم
الخير ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم " :أما أنه قد صدقك وهو كذوب ،تعلم من تخاطب منذ
ثلث ليال يا أبا هريرة؟ قال :ل ،قال صلى ال عليه وسلم " :ذاك الشيطان " ".
وعن أبي هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :سورة البقرة فيها سيدة آي القرآن ل
تقرأ في بيت فيه شيطان إل خرج منه ـ آية الكرسي ".
وعن أبي أمامه قال " :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " من قرأ دبر كل صلة آية الكرسي لم
يمنعه من دخول الجنة إل أن يموت ".
وعن علي كرم ال وجهه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من قرأها ـ يعني آية
الكرسي ـ حين يأخذ مضجعه آمنه ال تعالى على داره ،ودار جاره ،وأهل دويرات حوله ".
كل هذه المعاني قد وردت في أفضال هذه الية الكريمة ،وقد جلس العلماء يبحثون عن سر هذه
المسألة فقال واحد منهم :انظروا إلى أسماء ال الموجودة فيها.
وبالفعل قام أحد العلماء بحصر أسماء ال الحسنى فيها ،فوجد أن فيها ستة عشر اسما من أسماء
ال ،وبعضهم قال :إن بها سبعة عشر اسما من أسماء ال الحسنى ،وبعضهم قال أن فيها واحدا
وعشرين اسما من أسماء ال ،كل ذلك من أجل أن يستنبطوا منها أشياء ،ويعلموا فضل وفضائل
هذه الية الكريمة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و " هو " في قوله سبحانه " وهو العلي العظيم " اسم من أسمائه تعالى.
و " العلي " اسم من أسمائه جل وعل.
و " العظيم " كذلك اسم من أسمائه سبحانه وتعالى.
لكنّ عالما آخر قال :إنها سبعة عشر اسما من أسماء ال؛ لنك لم تحسب الضمير في المصدر
المشتق منه الفعل الموجود بقوله " :حفظهما " إن الضمير في " هما " يعود إلى السماوات
والرض .و " الحفظ " مصدر .فمن الذي يحفظ السماوات والرض؟ إنه ال سبحانه وتعالى،
وهكذا أصبحوا سبعة عشر اسما من أسماء ال الحسنى في آية الكرسي.
وعالم ثالث قال :ل ،أنتم تجاهلتم أسماء أخرى؛ لن في الية الكريمة أسماء واضحة للحق جل
وعل ،وهناك أسماء مشتقة ،مثال ذلك:
ال ل إله إل هو .الحي هو .القيوم هو .العلي هو .العظيم هو.
ولكن العلماء قالوا ردا على ذلك :صحيح أنها أسماء مشتقة ولكنها صارت أعلما.
المهم أن في الية الكريمة ستة عشر اسما ،وإن حسبنا الضمير المستتر في " حفظهما " نجد أنها
سبعة عشر اسما ،وإذا حسبنا الضمير الموجود في المشتقات مثل " الحي هو " و " القيوم هو " و
" العلي هو " و " العظيم هو " .صارت أسماء ال الحسنى الموجودة في هذه الية الكريمة واحدا
وعشرين اسما .إذن هي آية قد جمعت قدرا كبيرا من أسماء ال ،ومن ذلك جاءت عظمتها.
وهذه الية الكريمة قد بيّنت ووضحت قواعد التصور اليماني ،وأنشأت عقيدة متكاملة يعتز
المؤمن أن تكون هذه العقيدة عقيدته.
ي القيوم
والية في ذاتها تتضمن حيثيات اليمان ،إنه ما دام هو ال ل إله إل هو ،وما دام هو الح ّ
على أمر السماء والرض ،وكل شيء بيده ،وهو العلي العظيم ،فكل هذه مبررات لن نؤمن به
سبحانه وتعالى ،وأن نعتز بأن نعتقد هذه المعتقدات ،وتكون هي الدليل على أن المؤمن فخور بهذا
الدين الذي كان أمر اللوهية المطلقة واضحا وبيّنا فيه.
ولذلك فمن الطبيعي أل يقهر الحق أحدا على اليمان به إكراها ،لن الذي يقهر أحدا على عقيدة
ما ،هو أول مَنْ يعتقد أنه لول الكراه على هذه العقيدة لما اعتقدها أحد .ونحن في حياتنا اليومية
نجد أن أصحاب المبادئ الباطلة هم الذين يمسكون السياط من أجل إكراه الناس على السير على
مبادئهم .وكل من أصحاب هذه المبادئ الباطلة يعلم تمام العلم أنه لو ترك السوط والقهر ما سار
إنسان على مثل هذه المبادئ الباطلة.
ولو كان أحد من أصحاب هذه المبادئ الباطلة معتقدا أن مبدأه سليم لقال :أطرح هذا المبدأ على
الناس ،وأترك لهم الخيار؛ لنه في هذه الحالة سيكون واثقا من مبدئه .أما الذي يقهر الناس إكراها
بالسوط أو السلطان ليعتقدوا مبدأ ما ،فهو أول من يشك في هذا المبدأ ،وهو أول من يعتقد أنه مبدأ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
باطل .مثل هؤلء نراهم عندما تضعف أيديهم عن استعمال السوط أو السلطان فإن أمر مبدئهم
ينهزم ويسقط بنيانه.
شدُ مِنَ ا ْل َغيّ{ ...
والحق سبحانه وتعالى بعد ذلك يقول } :لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّ ْ
()257 /
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا نحن العباد المؤمنين ولسائر البشرية أنه { :لَ ِإكْرَاهَ فِي
الدّينِ } .والكراه هو أن تحمل الغير على فعل ل يرى هو خيرا في أن يفعله .أي ل يرى
الشخص المكرَه فيه خيرا حتى يفعله.
ولكن هناك أشياء قد نفعلها مع من حولنا لصالحهم ،كأن نرغم البناء على المذاكرة ،وهذا أمر
لصالح البناء ،وكأن نجبر الطفال المرضى على تناول الدواء .ومثل هذه المور ليست إكراها،
إنما هي أمور نقوم بها لصالح من حولنا؛ لن أحدا ل يسره أن يظل مريضا.
إن الكراه هو أن تحمل الغير على فعل من الفعال ل يرى فيه هو الخير بمنطق العقل السليم.
ولذلك يقول الحق سبحانه { :لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ } .ومعنى هذه الية أن ال لم يكره خلقه ـ وهو
خالقهم ـ على دين ،وكان من الممكن أن ال يقهر النسان المختار ،كما قهر السماوات والرض
والحيوان والنبات والجماد ،ول أحد يستطيع أن يعصى أمره .فيقول سبحانهّ {:لوْ يَشَآءُ اللّهُ َلهَدَى
جمِيعا }[الرعد]31 :
النّاسَ َ
لكن الحق يريد أن يعلم من يأتيه محبا مختارا وليس مقهورا ،أن المجيء قهرا يثبت له القدرة،
ول يثبت له المحبوبية ،لكن من يذهب له طواعية وهو قادر أل يذهب فهذا دليل على الحب،
فيقول تعالى { :لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ } أي أنا لم أضع مبدأ الكراه ،وأنا لو شئت لمن من في
الرض كلهم جميعا .فهل الرسل الذين أرسلهم سبحانه يتطوعون بإكراه الناس؟ .ل ،إنّ الرسول
جاء لينقل عن ال ل ليكره الناس ،وهو سبحانه قد جعل خلقه مختارين ،وإل لو أكرههم لما أرسل
جمِيعا َأفَأَنتَ
الرسل ،ولذلك يقول المولى عز وجل {:وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ لمَنَ مَن فِي الَ ْرضِ كُّل ُهمْ َ
ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّىا َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }[يونس]99 :
إن الرسول له مهمة البلغ عن ال؛ لن ال لم يرد خلقه مكرهين على التدين ،إذن فالمبلغ عنه ل
يُكره خلقه على التدين ،إل أن هنا لبسا .فهناك فرق بين القهر على الدين ،والقهر على مطلوب
الدين ،هذا هو ما يحدث فيه الخلف.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تقول لمسلم :لماذا ل تصلي؟ يقول لك { :لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ } ،ويدعي أنه مثقف ،ويأتيك بهذه
الية ليلجمك بها ،فتقول له :ل { .لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ } عقيدة وإيمانا ،إنما إن آمنت وأعلنت أنك
آمنت بال وصرت معنا مسلما فل بد أن تعرف أنك إن كسرت حكما من أحكام السلم نطلب
منك أن تؤديه ،أنت حر أن تؤمن أو ل تؤمن ،لكن حين التزمت باليمان ،فعليك مسئولية تنفيذ
مطلوب اليمان ،وإل حسب تصرفك أنه من تصرفات السلم ،فإذا كنت تشرب خمرا فإنك حر؛
لنك كافر مثلً ،لكن أتؤمن ثم تشرب خمرا!؟ ل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الهلك .ويقول الحق إيضاحا للرشد والغي في آية أخرى من آيات القرآن الكريم {:سََأصْ ِرفُ عَنْ
ق وَإِن يَ َروْاْ ُكلّ آيَ ٍة لّ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ
حّآيَاتِي الّذِينَ يَ َتكَبّرُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
لَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ ا ْل َغيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً ذاِلكَ بِأَ ّنهُمْ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا َوكَانُواْ عَ ْنهَا غَافِلِينَ }
[العراف]146 :
إن الحق يعلمنا أن المتكبرين في الرض بغير حق لن يستطيعوا الفوز برؤية آيات ال ودلئل
قدرته ،وحتى إن رأوا السبيل الصحيح فلن يسيروا فيه ،وإن شاهدوا طريق الضلل سلكوا فيه
لنهم يكذبون بآيات الرحمن ويغفلون عنها .والغي ـ أيضا ـ هو ضلل الطريق ،فعندما يسير
إنسان في الصحراء ويضل الطريق يقال عنه " :فلن قد غوى " أي فقد التجاه الصحيح في
السير ،وقد يتعرض لمخاطر جمة كلقاء الوحوش وغير ذلك .ويوضح لنا الحق طريق الرشد
بمنطوق آخر في قوله الحق {:وَأَنّا لَ نَدْرِي أَشَرّ أُرِيدَ ِبمَن فِي الَ ْرضِ أَمْ أَرَادَ ِبهِمْ رَ ّب ُهمْ رَشَدا }
[الجن]10 :
إن الجن قد ظنوا كما ظن بعض من معشر النس أن ال لن يبعث أحدا بعد الموت أو لن يرسل
رسولً من البشر لهداية الكون .وقد طلب الجن بلوغ السماء فوجدوها قد مُلئت حرسا من الملئكة
وشُهبا محرقة .وإن الجن ل يعلمون السر في حراسة السماء وهل في ذلك شَرّ بالبشر أو أراد ال
بهم خيرا وهدى .إذن فالرّشْد ـ بضم الراء وتسكين الشين ـ وال َرشَد بفتح الراء وفتح الشين
كلهما يوضح الطريق الموصل للنجاة .ويقابل الرشد الغيّ.
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَىا { أول :نلحظ أن
ت وَ ْي ْؤمِن بِاللّهِ َفقَدِ اسْ َتمْ َ
ويتابع الحقَ } :فمَنْ َيكْفُرْ بِالطّاغُو ِ
الحق هنا قد قدم الكفران بالطاغوت ،ثم جاء باليمان بال؛ لن المر يتطلب التخلية أول والتحلية
ثانيا ،لبد أن يتخلى النسان من الطاغوت فل يدخل على أنه يؤمن بال وفي قلبه الطاغوت،
فنحن قبل أن نكوي الثوب نغسله وننظفه ،والتخلية قبل التحلية.
وما هو " الطاغوت "؟ إنه من مادة " طغى " ،وكلمة " طاغوت " مبالغة في الطغيان .لم يقل:
طاغ ،بل طاغوت ،مثل جبروت ،والطاغوت إما أن يطلق على الشيطان ،وإما أن يُطلق على من
يعطون أنفسهم حق التشريع في َكفّرون وينسبون من يشاءون إلى اليمان حسب أهوائهم ،ويعطون
أشياء بسلطة زمنية من عندهم ،ويُطلق أيضا على السحرة والدجالين ،ويُطلق على كل من طغى
وتجاوز الحد في أي شيء ،فكلمة " طاغوت " مبالغة ،وقد تكون هذه المبالغة متعددة اللوان،
فمرة يكون الطاغي شيطانا ،ومرة يكون الطاغي كاهنا ،ومرة يكون ساحرا أو دجالً ،ومرة يكون
حاكما.
ومادة " الطاغوت " تدل على أن الموصوف بها هو من تزيده الطاعة له طغيانا ،فعندما يجربك
خفّ
في حاجة صغيرة ،فتطيعه فيها فيزداد بتلك الطاعة طغيانا عليك .والحق سبحانه يقول {:فَاسْتَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سقِينَ }[الزخرف]54 :
َق ْومَهُ فَأَطَاعُوهُ إِ ّنهُمْ كَانُواْ َقوْما فَا ِ
ويزيد في المر حتى يصير طاغية ،ول يوجد أحد استهل عمله بالطغيان العالي ،إنما يبدأ المر
خطوة خطوة ،كأي نظام ديكتاتوري قهري ،إنه يبدأ بـ (جس نبض) فإن صبر الناس ،ازداد هذا
النظام في القسوة حتى يصير طاغوتا ،إذن فالطاغوت هو الذي تستزيده الطاعة طغيانا ،وتُطلق
على الشيطان؛ لنه هو الساس ،وعلى الذين يتكلمون باسم الدين للسلطة الزمنية (سواء كانوا
كهانا أو غيرهم) ،وتُطلق على الذين يسحرون ويدجلون ،لنهم طغوا بما علموه؛ إنهم يستعملون
أشياء يتعبون بها الناس ،وقد جاءت الكلمة هنا بصيغة المبالغة لشتمالها على كل هذه المعاني،
وإذا استعرضنا الكلمة في القرآن نجد أن " الطاغوت " ترد مذكرة في بعض الحيان ،وقد وردت
مؤنثة في آية واحدة في القرآن:
{ وَالّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطّاغُوتَ أَن َيعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللّهِ َل ُهمُ الْبُشْرَىا فَ َبشّرْ عِبَادِ }[الزمر]17 :
لقد أوضحت هذه الية أنهم تركوا كل أنواع الطغيان وأصنافه ،أي إن الذين اجتنبوا اللوان
المتعددة من الطغيان هم الذين يتجهون بالعبادة الخالصة ل ،ولهم البشرىَ } .فمَنْ َي ْكفُرْ بِالطّاغُوتِ
سكَ { غير كلمة " مسك " .لن }
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا { وكلمة } اسْ َتمْ َ
وَ ْيؤْمِن بِاللّهِ َفقَدِ اسْ َتمْ َ
سكَ { تدل على أن فيه مجاهدة في المسك ،والذي يتدين يحتاج إلى مجاهدة في التدين؛ لن
اسْ َتمْ َ
الشيطان لن يتركه ،فل يكفي أن تمسك ،بل عليك أن تستمسك ،كلما وسوس الشيطان لك بأمر
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ
فعليك أن تستمسك بالتدين ،هذا يدل على أن هناك مجاهدة وأخذا وردّاَ } .فقَدِ اسْ َتمْ َ
{ والعروة هي العلقة ،مثلما نقول " :عروة الدول " ،التي تمسكها منه ،وهذه عادة ما تكون
مصنوعة من الحبل الملفوف المتين ،و " الوثقى " هي تأنيث " الوثق " أي أمر موثوق به،
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا { ،قد يكون تشبيها بعروة الدلو لن النسان يستخدم الدلو
وقولهَ } :فقَدِ اسْ َت ْم َ
ليأتي بالماء ،وبالماء حياة البدن،وبالدين حياة القيم.
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَىا { كأنه ساعة جاء بكلمة " عروة " يأتي بالدلو في بال النسان،
} َفقَدِ اسْ َتمْ َ
والدلو تأتي بالماء ،والماء به حياة البدن ،إذن فهذه تعطينا إيحاءات التصور واضحةَ } ،فقَدِ
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا { ،وما دامت " عروة وثقى " التي هي الدين واليمان بال ،وما دامت
اسْ َتمْ َ
هي الدين وحبل ال فهذه وثقى ،وما دامت " وثقى " فل انفصام لها ،وعلينا أن نعرف أن فيه
انفصاما .وفيه انفصام الول بالفاء والثاني بالقاف.
النفصام :يمنع التصال الداخلي؛ مثلما تنكسر اليد لكنها تظل معلقة ،والنقصام :أن يذهب كل
سمِيعٌ عَلِيمٌ { توحي بأن
جزء بعيدا عن الخر أي فيه بينونة ،والحق يقول } :لَ انفِصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ
عملية الطاغوت ستكون دائما وسوسة ،وهذه الوسوسة هي :الصوت الذي يُغري بالكلم المعسول،
ولذلك أخذت كلمة " وسوسة الشيطان " من وسوسة الحُليّ ،ووسوسة الذهب هي رنين الذهب ،أي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسوسة مغرية مثل وسوسة الشيطان ،وال عليم بكل أمر .ويقول الحق بعد ذلك } :اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ
جهُمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ{ ...
آمَنُواْ يُخْ ِر ُ
()258 /
جهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ َكفَرُوا َأوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ
اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ َآمَنُوا يُخْ ِر ُ
مِنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ()257
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وليهم بما أوضح لهم من الدلة على اليمان ،هل هناك حُب أكثر من هذا؟ هل تركنا لنبحث عن
الدلة أو أنه لفتنا إلى الدلة؟
وتلك هي ولية من وليات ال .فقبل أن نؤمن أوجد لنا الدلة ،وعندما آمنا وَالنَا بالمعونة ،وإن
حاربنا خصومنا يكن معنا ،وبعد ذلك تستمر الولية إلى أن يعطينا الجزاء الوفى في الخرة ،إذن
فهو وليّ في كل المراحل ،بالدلة قبل اليمان ولي.
ومع اليمان استصحابا يكون ناصرنا على خصومنا وخصومه .وفي الخرة هو وليّنا بالمحبة
والعطاء ويعطينا عطاءً غير محدود ،إذن فوليته ل تنتهي.
ج ُهمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ { إنه سبحانه يخرجهم من ظلمات الجهل
} اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ ُيخْرِ ُ
إلى نور اليمان؛ لن الظلمات عادة تنطمس فيها المرائي ،فل يمكن أن ترى شيئا إل إذا كان
هناك ضوء يبعث لك من المرئي أي أشعة تصل إليك ،فإن كانت هناك ظلمة فمعنى ذلك أنه ل
يأتي من الشياء أشعة فل تراها ،وعندما يأتي النور فأنت تستبين الشياء ،هذه في المور
ج ُهمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر وَالّذِينَ كَفَرُواْ َأوْلِيَآؤُهُمُ
المُحسّة؛ وكذلك في مسائل القيمُ } ،يخْرِ ُ
الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ مّنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ {.
هل هم دخلوا النور يا ربنا؟ لنا أن نفهم أن المقصود هنا هم المرتدون الذين وسوس لهم الشيطان
فأدخلهم في ظلمات الكفر بعد أن كانوا مؤمنين ،أو } يُخْ ِرجُو َنهُمْ مّنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ { ،أي
يحولون بينهم وبين النور فيمنعونهم من اليمان كما يقول واحد:
أما دريت أن أبي أخرجني من ميراثه؟ إن معنى ذلك أنه كان له الحق في التوريث ،وأخرجه
والده من الميراث .وهذا ينطبق على الذين تركوا اليمان ،وفضلوا الظلمات .والقرآن يوضح أمر
الخروج من الظلمة إلى النور ومن الكفر إلى اليمان في مواقع أخرى ،كقول سيدنا يوسف
خمْرا
عصِرُ َ
خلَ َمعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ َأحَدُ ُهمَآ إِنّي أَرَانِي أَ ْ
للشابين اللذين كانا معه في السجن {:وَدَ َ
ح ِملُ َف ْوقَ رَأْسِي خُبْزا تَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَ ْأوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْل ُمحْسِنِينَ
َوقَالَ الخَرُ إِنّي أَرَانِي َأ ْ
طعَامٌ تُرْ َزقَانِهِ ِإلّ نَبّأْ ُت ُكمَا بِتَ ْأوِيلِهِ قَ ْبلَ أَن يَأْتِ َي ُكمَا ذاِل ُكمَا ِممّا عَّلمَنِي رَبّي إِنّي تَ َر ْكتُ
* قَالَ لَ يَأْتِي ُكمَا َ
مِلّةَ َقوْ ٍم لّ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ كَافِرُونَ }[يوسف]37-36 :
فهل كان سيدنا يوسف في ملة القوم الكافرين ثم تركها؟ ل ،إنه لم يدخل أساسا إلى ملة القوم الذين
ل يؤمنون بال .إن هذه الملة كانت أمامه ،لكنه تركها ورفض الدخول فيها وتمسك بملة إبراهيم
عليه السلم .وفي التعبير ما فيه من تأكيد حرية الختيار .وهناك آية أخرى يقول فيها الحق{:
ي لَ َيعْلَمَ َبعْدَ عِلْمٍ شَيْئا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ
وَاللّهُ خََل َقكُمْ ثُمّ يَ َت َوفّاكُ ْم َومِنكُم مّن يُ َردّ إِلَىا أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ ِل َك ْ
قَدِيرٌ }[النحل]70 :
إن معنى الية أن ال قد خلقنا جميعا ،وقدر لكل منا أجلً ،فمنا من يموت صغيرا ،ومنا من يبلغ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أرذل العمر ،فيعود إلى الضعف وتقل خليا نشاطه فل يعلم ما كان يعلمه .وليس معنى الية أن
النسان يوجد في أرذل العمر ثم يرد إلى الطفولة.
وعندما يقول الحق } :وَالّذِينَ َكفَرُواْ َأوْلِيَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ مّنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ { فالحق
أورد هنا كلمة أولياء عن الطاغوت ،لن الطاغوت كما قلنا :ألوان متعددة ،الشيطان طاغوت،
والدجال طاغوت ،والساحر طاغوت.
وجاء الحق بالخبر مفردا وهو الطاغوت لمبتدأ جمع وهو أولياء ،ووصف هؤلء الولياء
للطاغوت بأنهم يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات.
لقد أفرد ال الطاغوت وأورد بالجمع الفراد الذين ينقلهم الطاغوت إلى الظلمات .ولماذا لم يقل ال
هنا " :طواغيت " بدل من طاغوت؟ إن الطاغوت كلمة تتم معاملتها هنا كما نقول " :فلن عدل "
أو " الرجلن عدل " أو " الرجال عدل " .وعلى هذا القياس جاءت كلمة طاغوت ،فالشيطان
والدجال والكاهن والساحر والحاكم بغير أمر ال؛ كلهم طاغوت ،لقد التزمت الية بالفراد
والتذكير .فالطاغوت تُطلق على الواحد أو الثنين أو الجماعة ،أي أن المُخرجين من النور إلى
الظلمات هم أولياء الطاغوت ،أو من اتخذوا الطواغيت أولياء ،وهم إلى النار خالدون .والدخول
للنار يكون للطواغيت ويكون لتباع الطواغيت ،كما يقول الحق في كتابه {:إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْ ُبدُونَ مِن
جهَنّمَ أَنتُمْ َلهَا وَا ِردُونَ }[النبياء]98 :
صبُ َ
ح َ
دُونِ اللّهِ َ
إن أتباع الطواغيت ،والطواغيت في نار جهنم .وقانا ال وإياكم عذابها .ويريد الحق سبحانه
وتعالى أن يعطينا صورة واقعية في الكون من قوله } :اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ { ،فهو الولي ،وهو
الناصر فيقول سبحانه } :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ{ ...
()259 /
أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آَتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ
قَالَ أَنَا أُحْيِي وَُأمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
الّذِي َكفَ َر وَاللّهُ لَا َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ ()258
وساعة تسمع { َألَمْ تَرَ }؛ فأنت تعلم أنها مكونة من همزة هي " أ " وحرف نفي وهو " لم " ،
ومنفي هو " تر " والهمزة :تأتي هنا للنكار ،والنكار نفي بتقريع ،ولكنها لم تدخل على فعل
مثبت حتى يقال :إنها أنكرت الفعل بعدها ،مثلما تقول للولد :أتضرب أباك! هنا الهمزة جاءت ل
لتستفهم وإنما أتت تنكر هذه الفعلة ،لن الفعل بعدها مثبت وهو " تضرب " ،وجاءت الهمزة قبله
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فتسمى " همزة إنكار " للتقريع .إذن فالنكار :نفي بتقريع إذا دخلت على فعل منفي.
وما دام النكار نفيا والفعل بعدها منفيٌ فكأنك نفيت النفي ،إذن فقد أثبته ،كأنه سبحانه عندما يقول
للرسول صلى ال عليه وسلم { :أََلمْ تَرَ } فالمقصود " أنت رأيت " .ولماذا لم يقل له :أرأيت؟ لقد
جاء بها بأسلوب النفي كي تكون أوقع ،فقد يكون مجيء الثبات تلقينا للمسئول ،فعندما يقول لك
صديق :أنت لم تسأل عني وأنت تهملني .فأنت قد ترد عليه قائل :ألم أساعدك وأنت ضعيف؟ ألم
آخذ بيدك وأنت مريض؟
لقد سبق أن قدمت خدماتك لهذا الصديق ،ولكنك تريد أن تنكر النفي الذي يقوله هو ،وهكذا نعلم
أن نفي النفي إثبات ،ولذلك فنحن نأخذ من قوله تعالى من هذه العبارة { أَلَمْ تَرَ } على معنى :أنت
رأيت ،والرؤية تكون بالعين .فهل رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهو المخاطب الول
بالقرآن الكريم من ربه ـ هل رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الحادثة أيام إبراهيم؟ طبعا
ل ،فكأن { أَلَمْ تَرَ } هنا تأتي بمعنى :ألم تعلم.
ولماذا جاء بـ { أَلَمْ تَرَ } هنا؟ لقد جاء بها لنعلم أن ال حين يقول " :ألم تعلم " فكأنك ترى ما
يخبرك به ،وعليك أن تأخذه على أنه مصدق كأنك رأيته بعينك .فالعين هي حاسة من حواسك،
والحاسة قد تخدع ،ولكن ربك ل يخدع ،إذن فـ { أََلمْ تَرَ } تعني " :ألم تعلم علم اليقين " ،وكأنك
صحَابِ ا ْلفِيلِ }
قد رأيت ما يخبرك به ال ،ولذلك يقول تعالى للرسولَ {:ألَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأ ْ
[الفيل]1 :
والرسول ولد عام الفيل ،فلم ير هذه الحادثة ،وكأن ال يخبره بها ويقول له :ألم تعلم ،وكأنه يقول
له :اعلم علما يقينا كأنك تراه؛ لن ربك أوثق من عينيك ،وعندما يقال { :أَلَمْ تَرَ } فالمراد بها "
ألم تر كذا " ،لكن الحق قال { :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } واستعمال حرف { إِلَى }
هنا يشير إلى أمر عجيب قد حدث ومثال ذلك ما نقوله أحيانا :ألم تر إلى زيد يفعل كذا.
فكأن ما فعله زيد أمر عجيب ،وكأنه ينبه هنا إلى اللتفات إلى نهاية المر ،لن " إلى " تفيد
الوصول إلى غاية ،فكأنها مسألة بلغت الغاية في العجب ،فل تأخذها كأنك رأيتها فقط ،ولكن انظر
إلى نهايتها فيما حدث.
والحق يقول هنا } :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ { و } إِلَى { جاءت هنا لتدل على أنه
أمر بلغ من العجب غاية بعيدة ،وهو بالفعل قد بلغ من العجب غاية بعيدة ،والحق سبحانه وتعالى
لم يقل لنا من هو ذلك النسان الذي حاج إبراهيم في ربه ،لنه ل يعنينا التشخيص سواءً كان
النمروذ أو غيره.
فإذا ذهب بعض المفسرون إلى القول :إنه ملك واسمه النمروذ .فإننا نقول لهم شكرا لجتهادكم،
ولكن لو شاء ال تحديد اسم الرجل لحدده لنا ،والذي يهمنا هو أنه واحد خرج على رسول ال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إبراهيم عليه السلم وجادله في هذه المسألة ،والتشخيص هنا ليس ضروريا ،والحق سبحانه
وتعالى حينما يريد شيوع المر وإمكان حدوثه في أي زمان أو مكان فإن ال ل يشخص المر،
فأي إنسان في أي مكان قد يحاجج أي مؤمن .وليس كذلك المر بالنسبة لي تشخيص أو تحديد،
ومثال ذلك هؤلء الذين يريدون أن يعرفوا قصة أهل الكهف ،ويتساءلون :أين ومتى ،وكم عددهم،
ومن هم؟
ونقول :لو جاءت واحدة من هؤلء لفسدت القصة؛ لنه لو حددنا زمانها سيأتي واحد يقول لك:
مثل ذلك الزمان الذي حدثت فيه القصة كان يسمح بها .ولو حددنا المكان سيقول آخر :إن المكان
كان يسمح بهذه المسألة .ولو حددنا الشخاص بأسمائهم فلن وفلن ،فسيقول ثالث :إن مثل هذه
الشخصيات يمكن أن يصدر منها مثل هذا السلوك وأنّى لنا بقوة إيمان هؤلء؟
والحق لم يحدد الزمان والمكان والشخاص وجاء بها مبهمة ليدل على أن أي فتية في أي زمان
وفي أي مكان يقولون ما يقولون ،ولو شخصها في واحد لفسد المراد .للنظر إلى دقة الحق حين
ضرب مثل للذين كفروا بامرأة نوح وامرأة لوط حين قال جل وعل {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ
حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَا ُهمَا فََلمْ ُيغْنِيَا عَ ْن ُهمَا
َكفَرُواْ امْرََأتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَ ْ
مِنَ اللّهِ شَيْئا َوقِيلَ ادْخُلَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ }[التحريم]10 :
ولم يحدد لنا اسم امرأة من هاتين المرأتين ،بل ذكر المر المهم فقط؛ وهو أن كل منهما زوجة
لرسول كريم ،ولكن كل منهما أصرت على الكفر فدخلتا النار .ولكن الحق سبحانه وتعالى حين
أراد التخصيص بحادث لن يتكرر في أي زمان أو مكان جاء بذكر السيدة مريم بالتشخيص
جهَا فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا
حصَ َنتْ فَرْ َ
عمْرَانَ الّتِي أَ ْ
والتحديد الواضح حين قالَ {:ومَرْيَمَ ابْ َنتَ ِ
َوصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِ ِه َوكَا َنتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ }[التحريم]12 :
تحديد الحق لمريم بالسم والحادث لماذا؟ لن الواقعة غير قابلة للتكرار من أيّةِ امرأة أخرى.
التشخيص هنا واجب؛ لنه لن تلد امرأة من غير زوج إل هذه ،إنما إذا كانت المسألة ستتكرر في
أي زمان أو مكان فهو سبحانه يأتي بوصفها العام ،ومثال ذلك قول الحق } :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ
إِبْرَا ِهمَ { فلم يقل لنا :من هو؟ " حاجّ " أصلها " حاجج " ،مثل " قاتل " و " شارك " .وعندما يكون
هناك حرفان مثلن ،فنحن نسكن الول وندغم الثاني فيه وذلك للتخفيف ،فتصير (حاج) ،و " حاج
" من مادة " فاعل " التي تأتي للمشاركة ،وحتى نفهم معنى " المشاركة " .إليكم هذا المثال:
نحن نقول :قاتل زيد عَمرا ،أو نقول :قاتل عمرو زيدا ،ومعنى ذلك أن كُلّ منهما قد تقاتل،
وكلهما فاعل ومفعول في الوقت نفسه ،لكننا غلبنا جانب الفاعل في واحد ،وجانب المفعول في
الثاني .برغم أن كل منهما فاعل ومفعول معا.
ومثال آخر ،حين نقول :شارك زيد عمرا ،وشارك عمرو زيدا ،إذن فالمفاعلة جاءت من الثنين،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا فاعل وهذا مفعول ،لكننا عادة نُغلب الفاعلية فيمن بدأ ،والمفعولية في الثاني ،وإن كان الثاني
فاعل أيضا .ولذلك يقول الشاعر عندما يريد أن يشرح حال إنسان يمشي في مكان فيه حيات
كثيرة ومتحرزا من أن حية تلدغه فقال:قـد سـالم الحـيـات مـنـه القـدم الفـعـوان
والشـجـاع القـشـعـماإن الشاعر هنا يصف لنا إنسانا سار في مكان مليء بالحيات ،وعادة ما
يخاف النسان أن تلدغه حية ،لكن هذا النسان الموصوف في هذا البيت نجد أن الحيات قد
سالمت قدمه ،أي لم تلدغه لنه لم َيهِجْها ،والثعابين عادة ل تلدغ إل من يبدأها بالهاجة ،نجد هنا
أن الفاعل هو الحيات؛ لنها سالمت قدمه .ويصح أيضا أن نقول :إن القدم هي التي سالمت
الحيات.
ونحن نعرف من قواعد اللغة ما درسناه قديما ما يسمى بالبدل ،والبدل يأخذ حكم المبدل منه ،فإن
كان المبدل منه مجرورا كان البدل كذلك .هنا جاءت " الحيات " في هذا البيت من الشعر مرفوعة
ولكن الفعوانَ جاءت في البيت منصوبة مع أنها بدل من مرفوع هو " الحيات " لنه لحظ ما
فيها أيضا من المفعولية فأتى بها منصوبة .كما أن بالمكان أن تُقرأ " الحيات " بالنصب و " القدم
" بالرفع لن كل منهما فاعل ومفعول من حيث المسالمة.
وكذلك في قول الحق سبحانه } :أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَا ِهمَ { نحن نلحظ أن كلمة } إِبْرَاهِمَ
{ تأتي في الية الكريمة منصوبة بالفتحة ،أي يغلب عليها المفعولية .فمن إذن الذي حاجّ إبراهيم؟
إنه شخص ما ،وهو الفاعل؛ لنه الذي بدأ بالمحاجّة ،وهكذا تدلنا الية الكريمة ،وتصف الية ذلك
الرجل } أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ { أي أن الرجل هو الذي بدأ الحجاج قائل لبراهيم :من ربك؟
فقال إبراهيم عليه السلم } :رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِـي وَ ُيمِيتُ { وهذه هي براعة القرآن في أن يترك
الشيء ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى أصله ،فقوله الحق } :إِذْ قَالَ إِبْرَا ِهمَ رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِـي
وَ ُيمِيتُ { فكأن الذي حاج إبراهيم سأله :من ربك؟ فقال إبراهيم } :رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ {.
ولنا أن نلحظ أن هذه الية قد جاءت بعد قوله الحق في الية السابقة } :اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ { ،
والولية هي النصر والمحبة والمعونة ،فيريد سبحانه أن يبين لنا كيف أعان ال إبراهيم على من
حاجه ،إل أن الذي حاج إبراهيم دخل في متاهات السفسطة بعد أن سمع قول إبراهيم } :رَ ّبيَ الّذِي
يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ { ،وقد جاء الحق بـ } يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ {؛ لن تلك القضية هي التي لم ي ّدعِ أحد
أنه فعلها ،ولم يدّع أحد أنه شريك فيها ،حتى الكافرون إذا سألتهم :من الذي خلق؟ يقولون ال.
إذن فهذه قضية ثابتة .إل أن الخصم الذي حاجّ إبراهيم أراد أن ينقل المحاجة نقلة سفسطائية.
والسفسطة كما نعلم هي الكلم الذي يطيل الجدل بل نهاية.
وقال الرجل الذي يحاج إبراهيم عليه السلم :إذا كان ربك الذي يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت.
فسأله إبراهيم عليه السلم؛ كيف تحيي أنت وتميت؟
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قال الرجل :أنا أقدر أن أقتل ما عندي من مساجين وأقدر أل أقتلهم ،فالذي لم أقتله كأنني أحييته،
والذي قتلته فقد أمته.
ولم يقل سيدنا إبراهيم لنتفق أول ما الحياة؟ وما الموت؟ ذلك أن إبراهيم خليل الرحمن لم يشأ أن
يطيل هذه المجادلة ،فجاء له بأمر يُلجمه من البداية وينتهي الجدل ،فقال له } :فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي
شمْسِ مِنَ ا ْل َمشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ { .وهكذا أنهى سيدنا إبراهيم هذا
بِال ّ
الجدل .كان من الممكن أن يدخل معه سيدنا إبراهيم في جدل ،ويقول له :ما هي الحياة؟
ونحن نعرف أن الحياة هي إعطاء المادة ما يجعلها متحركة حساسة مريدة مختارة ،أما الموت
فهو إخراج الروح من الجسد ،فالذي يقتل إنسانا؛ إنما يخرج روحه من جسده ،والقتل يختلف عن
الموت؛ لن الموت خروج الروح من الجسد بدون جرح ،أو نقض بنية ،أو عمل يفعله النسان
في بدنه كالنتحار.
وقد يكون النسان جالسا مكانه وينتهي عمره فيموت ،ول أحد قادر قبل ذلك أن يقول له :مت
فيموت ،هذا هو الموت ،لكن إزهاق الروح بجرح جسيم أو نقض بنية فهذا هو القتل وليس
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن
الموت ،ولذلك يجعل ال القتل مقابلً للموت ،في قوله تعالىَ {:ومَا ُم َ
عقِبَيْهِ فَلَن َيضُرّ اللّهَ شَيْئا
علَىا َ
عقَا ِبكُ ْم َومَن يَنقَِلبْ َ
سلُ َأفَإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ
قَبْلِهِ الرّ ُ
ل َومَن يُرِدْ َثوَابَ الدّنْيَا
وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ * َومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ ِإلّ بِإِذْنِ ال كِتَابا ّمؤَجّ ً
ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَن يُ ِردْ َثوَابَ الخِ َرةِ ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ }
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بأنه ل يقدر عليها إل واهب الحياة الذي وضع مقومات خاصة في البنية النسانية حتى تسكنها
الروح ،وهو القادر على أن يسلب الروح بأمر غير مُحس.
أما القتل فهو أن تجرح إنسانا فيموت ،أو تنقض بنيته ،تكسر له رأسه مثلً ،أما " الماتة " فهي
أن تنقبض حياته بمجرد المر دون أن تقربه ،هل أحد من البشر يقدر على هذه؟ ل .إذن فالذي
حاج إبراهيم لم يحي الذي قال :إنه سيتركه بدون عقوبة ،إنه لم يقتله ،لكنه أبقى الحياة التي كانت
فيه ،هذا إذا أردنا أن ندخل في جدل.
ل للموت ،صحيح أنهما ينتهيان بأن ل روح ،لكنْ هناك فرق بين أن تؤخذ
وال قد جعل القتل مقاب ً
الروح بدون هذه الوسائل .وأن تترك الروحُ البدنَ لن بنيته قد تهدمت .وإياك أن تظن أن الروح
ل تخضع لقوانين معينة ،إن الروح ل تحل إل في مادة خاصة ،فإذا انتهت المقومات الخاصة في
المادية فالروح ل تسكنها ،فل تقل :إنه عندما ضربه على رأسه أماته! ل ،هو لم يخرج الروح
لن الروح بمجرد ما انتهت البنية تختفي.
والمثال الذي يوضح ذلك :لنفترض أن أمامنا نورا ،إذا كسرت الزجاجة يذهب النور .هل
الزجاجة هي النور؟ ل ،لكن الكهرباء ل تظهر إل في هذه الزجاجة ،كذلك الروح ل توجد إل في
بنية لها مواصفات خاصة ،إذن فالقاتل ل يخرج الروح ولكنه يهدم البنية بأمر محس؛ فالمر
الغيبي وهو الروح ل يسكن في بنية مهدومة.
} أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ { ،انظر إلى الطغيان أتجعل إيتاء الم ْلكُ
وهو نعمة وسيلة إلى التمرد على من أنعم عليك بهذا؟ أتجعل شكر النعمة بأنك تخالف المنعم؟ من
الذي أبطره؟ أأبطره أن آتاه ال الملك؟ وكيف يعين ال واحدا ليس مؤمنا به؟ والمُ ْلكُ ـ بمعنى
حكّمَ إنسانا على
المر والنهي ـ إنما يكون للمبلغ عن ال ،إنما الملك الخر مُ ْلكُ السلطان بأن ُي َ
جماعة ،فمن الجائز أن يكون مؤمنا ،وأن يكون كافرا.
وقوله } أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِـي وَ ُيمِيتُ { هو جواب على من قال" :
من ربك " فجاءته إجابة إبراهيم عليه السلم } رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ قَالَ أَنَا ُأحْيِـي وَُأمِيتُ
{ وعرفنا ما في هذا المر من سفسطة ،فلم يقل له إبراهيم :أأنت تُحيي وتميت ،بل ينقله إلى أمر
آخر ،كأنه قد قال له :اترك المر الغيبي وهو الروح ،وتعالى للمر المشهود } قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ {.
اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
ولن ال ولي الذي آمنوا فهو سبحانه لم يلهم المحاج أن يَ ُردّ؛ كان يستطيع أن يقول له :اجعل من
يأتي بها من المشرق يأتِ بها من المغرب ،لكنه لم يقلها! مما يدل على أنه غبي! أو يكون ذكيا
فيقول :إن الرب الذي معه بهذا الشكل قد يفعلها ،فخاف .إذن فـ } اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ { حقا.
ج ُهمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ { .وما معنى كلمة " ُب ِهتَ "؟ إن البهت يأخذ ثلث
وهو سبحانه } ُيخْرِ ُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صور :الصورة الولى :الدهشة؛ َنقَله فيما يمكن أن تحدث فيه مماحكة إلى مال تحدث فيه
مماحكة وجدال ،أراد أن يجد أمرا يرد به فلم يقدر ،مثلما قال :أنا أحيي وأميت ،لقد هش ،وأول
ما فاجأه هو الدهش ،ثم كان التحيّر ،أراد أن يجد أي مخرج من هذه الورطة فلم يجد ،إذن فقد
هُزم .فهذه هي نهاية البَهت .فـ " بُهت " تعني أنه دهش أول ،فتحير في أن يرد ثانيا ،فكان نتيجة
ذلك أنه هُزم ثالثا ،وهذا أمر ليس بعجيب؛ لنه مادام كافرا فليس له ولي ،أو وليه من ل يقدر }
َأوْلِيَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ { ،أما إبراهيم خليل الرحمن فوليه ال.
ويختم الحق الية بقوله } :وَاللّهُ لَ َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ { ل يهديهم إلى برهان ،ول إلى دليل،
ول إلى حجة ،لن وليهم الشيطان } ،وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ { والية التي تأتي من بعد ذلك
كلها ستتدخل في الحياة والموت ،ومن المهم أن الية تدخل في الحياة والموت كي ل نفهم أن
إبراهيم إنما ترك المحاجة مع ذلك الذي حاجّه في أمر الموت والحياة هربا من الكلم فيها ،لذلك
يريد ال أن يستوفي تلك القضية استيفاء في قصص متعددة ،ويبسط الحق القضية التي عدل عنها
إبراهيم وهي الموت والحياة فيقول سبحانهَ } :أوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىا قَرْ َي ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا
شهَا{ ...
عُرُو ِ
()260 /
شهَا قَالَ أَنّى يُحْيِي َه ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا فََأمَاتَهُ اللّهُ
َأوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ
مِئَةَ عَامٍ ثُمّ َبعَثَهُ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالَ َبلْ لَبِ ْثتَ مِ َئةَ عَامٍ فَا ْنظُرْ إِلَى
س وَانْظُرْ إِلَى ا ْل ِعظَامِ كَ ْيفَ نُنْشِزُهَا
جعََلكَ آَيَةً لِلنّا ِ
ك وَلِنَ ْ
حمَا ِر َ
ك وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّ ْه وَا ْنظُرْ إِلَى ِ
طعَا ِم َ
َ
شيْءٍ َقدِيرٌ ()259
حمًا فََلمّا تَبَيّنَ َلهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
ثُمّ َنكْسُوهَا لَ ْ
وعندما ننظر إلى بداية الية نجدها تبدأ بـ " أو " ،وما بعد " أو " يكون معطوفا على ما قبلها،
فكأن الحق يريد أن يقول لنا :أو (أَلَمْ تَرَ) إلى مثل الذي مر على قرية.
وعندما تسمع كلمة { قَرْيَةٍ } فإنها تفيد تجمع جماعة من الناس يسكنون في مكان محدود ،ونفهم
أن الذي مر على هذه القرية ليس من سكانها ،إنما هو قد مر عليها سياحة في رحلة .ونلحظ كذلك
أن الحق سبحانه لم يشأ أن يأتي لنا باسم القرية أو باسم الذي مر عليها.
قال البعض :إنه هو أرمياء بن حلقيا أو هو الخضر ،أو هو عزير ،وقد قلنا من قبل :إنه إذا أبهم
الحق فمعناه :ل تشخص المر ،فيمكن لي أحد أن يحدث معه هذا.
شهَا } وحتى
{ َأوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىا قَرْيَةٍ } .وقالوا :إنها بيت المقدس { ،وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُو ِ
نفهم معنى خاوية على عروشها ،لنا أن نعرف أنني عندما أقول " :أنا خويان " أي " أنا بطني
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خاوية " " :جوعان " فـ " خاوية " المقصود بها أنها قرية خالية من السكان ،وقد تكون أبنيتها
منصوبة ،لكن ليس فيها سكان ،والحق بقوله عن تلك القرية :إنها خاوية على عروشها ،و "
العرش " يطلق على البيت من الخيام ،ويطلق كما نعرف على السقف ،فإذا قال { :خَاوِيَةٌ عَلَىا
شهَا } أي أن العرش قد سقط أول ،ثم سقطت الجدران عليه ،مثلما نقول في لغتنا العامية" :
عُرُو ِ
جاب عاليها على واطيها ".
وعندما يمر إنسان على قرية مثل هذه القرية فل بد أن مشهدها يكون شيئا لفتا للنظر ،قال:
{ أَنّىا ُيحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا } فكأنه يسأل عن القرية ،وعن إماتة وإحياء الناس الذين
يسكنون القرية .والحق حين يذكر القرية في القرآن فهو يقصد في بعض الحيان الحديث عن
أهلها مثل قوله تعالى {:وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَاّلعِيْرَ الّتِي َأقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ }[يوسف:
]82
إن أبناء يعقوب عليه السلم حين عادوا من مصر وتركوا أخاهم الصغر مع يوسف عليه السلم
قالوا لبيهم :أرسل من يأتيك بشهادة أهل مصر واسأل بنفسك زملءنا الذين كانوا معنا في القافلة،
وسيقولون لك :إننا قد تركنا أخانا بمصر .لكن سؤال الذي مر على القرية الخاوية على عروشها
هو سؤال عن أهلها.
{ أَنّىا ُيحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا } وساعة تسمع { أَنّىا } فهي تأتي مرة بمعنى " كيف " ،
ومرة تأتي بمعنى " :من أين " ،والمناسب لها هنا هو أن يكون السؤال كالتالي " :كيف يحيي ال
هذه بعد موتها "؟ وقوله هذا يدل على أنه مؤمن ،فهو ل يشك في أن قضية الحياء من ال ،وإنما
يريد أن يعرف الكيفية ،فكأنه مؤمن بأن ال هو الذي يحيي ويميت ،وهذه ستأتي في قصة سيدنا
إبراهيم:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأضرب هذا المثل ـ ول المثل العلى ـ فمُصمم الملبس عندما يقوم بتفصيل أزياء جميلة،
أنت تراها ،فأنت تتيقن من أنه صانعها ،ولكنك تتعجب فقط من دقة الصنعة ،وتقول له :بال كيف
عملت هذه؟ كأنك قد عشقت الصنعة! فتشوقت إلى معرفة كيف صارت ،فما بالنا بصنعة الحق
تبارك وتعالى؟ إنك تندهش وتتعجب لتعيش في ظل السر السائح من الخالق في المخلوق ،وتريد
أن تنعم بهذه النعم.
ومثال آخر ـ ول المثل العلى من قبل ومن بعد ـ أنت ترى مثل لوحة رسمها رسام ،فتقول
له :بال كيف مزجت هذه اللوان؟ أنت ل تشك في أنه قد مزج اللوان .بل تريد أن تسعد نفسك
بأن تعرف كيف رسمها ،إذن فقوله وقول إبراهيم بالسؤال في الحياء والماتة فيما يأتي ليس
معناه أنه غير مؤمن بل هو عاشق ومشتاق لن يعرف الكيفية؛ ليعيش في جو البداع الجمالي
الذي أنشأ هذه الصنعة.
ونعلم أن إحياء الناس سيترتب عليه إحياء القرية ،فالنسان هو باعث الحركة التي تعمر الوجود،
والناس لهم حياة ولهم موت ،والقرية بأنقاضها وجدرانها وعروشها لها حياة ولها موت .وعندما
سأل العبد هذا السؤال ،أراد ال أن تكون الجابة تجربة معاشة في ذات السائل؛ لذلك يأتي القرآن
بالقول } فََأمَاتَهُ اللّهُ مِاْ َئةَ عَامٍ {.
إن صاحب السؤال قد أراد أن يعرف الكيفية ،وطلبه هو إيمان دليل ،ليصبح فيما بعد إيمانا بواقع
مشاهد } فََأمَاتَهُ اللّهُ مِاْئَةَ عَامٍ { لقد جعل ال المر والتجربة في السائل ذاته وهذا إخبار ال .لقد
أماته مائة عام ،والعام هو الحول ،وقد سموا " الحول " عاما؛ لن الشمس تعوم في الفلك كله في
هذه المدة ،والعوم سَبْحٌ ،والحق يقول:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فماذا كان جواب الحق؟ قال الحق } :بَل لّبِ ْثتَ مِاْئَةَ عَامٍ { .إننا هنا أمام طرفين ويكاد المر أن
يصبح لغزا ،وطرف يقول } :لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ { ورب يقول } :بَل لّبِ ْثتَ مِاْئَةَ عَامٍ {.
ونريد أن نحل هذا اللغز .إن الحق سبحانه صادق ومُنزّه والعبد المؤمن صادق في حدود ما رأى
من أحواله .ونريد دليل على هذا ،ودليل على ذاك .نريد دليل على صدق العبد في قوله } :لَبِ ْثتُ
َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ { .ونريد من الحق سبحانه وتعالى دليل اطمئنان ل دليل برهان على أن الرجل
قد مات مائة عام وعاد إلى الحياة.
ونقول :إن في القصة ما يؤيد } لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ { ،وما يؤيد } بَل لّبِ ْثتَ مِاْ َئةَ عَامٍ { ،فقد
كان مع الرجل حماره ،وكان معه طعامه وشرابه من عصير وعنب وتين .فقال الحق سبحانه
وتعالى } :لّبِ ْثتَ مِاْ َئةَ عَامٍ { ،وأراد أن يدلل على الصدق في القضيتين معا قال } :فَا ْنظُرْ إِلَىا
ك وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّهْ { ،ونظر الرجل إلى طعامه وشرابه فوجد الطعام والشراب لم يتغيرا،
طعَا ِم َ
َ
وهذا دليل على أنه لم يمكث إل يوما أو بعض يوم ،وبذلك ثبت صدق الرجل ،بقيت قضية } مِاْئَةَ
عَامٍ {.
جعََلكَ آ َيةً لِلنّاسِ { وهذا القول يدل على أن هنا شيئا عجيبا،
ك وَلِنَ ْ
حمَا ِر َ
فقال الحق } :وَانْظُرْ إِلَىا ِ
وأراد ال أن يبين له بنظرة إلى الحمار دليلً على صدق مرور مائة عام ،ووجد الرجل حماره
وقد تحول عظاما مبعثرة ،ول يمكن أن يحدث ذلك في زمن قصير ،فإن موت الحمار أمر قد
يحدث في يوم ،لكن أن يرم جسمه ،ثم ينتهي لحمه إلى رماد ،ثم تبقى العظام مبعثرة ،فتلك قضية
تريد زمانا طويلً ل يتسع له إل مائة عام ،فكأن النظر إلى الحمار هو دليل على صدق مرور
مائة عام ،والنظر إلى الطعام دليل على صدق } َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ {.
فالقضية إذن قضية عجيبة ،وكيف طُوي الزمن في مسألة الطعام ،وكيف بُسط الزمن في مسألة
الحمار .إنه سبحانه يظهر لنا أنه هو القابض الباسط ،فهو الذي يقبض الزمن في حق شيء،
ويبسط الزمن في حق شيء آخر ،والشيئان متعاصران معا .وتلك العملية ل يمكن أن تكون إل
لقدرة طليقة ل تملكها النواميس الكونية ،وإنما هي التي تملك النواميس.
جعََلكَ آ َيةً لِلنّاسِ { ،فمن هم الناس الذين سيجعل ال من قضية الذي
وقد قال الحق سبحانه } :وَلِنَ ْ
مر على قرية آية لهم؟ كان لبد أن يوجد أناس في القصة ،لكن القرية خاوية على عروشها،
وليس فيها إنسان أو بنيان ،أهم الذين كانوا في القرية أم سواهم؟ قال بعض المفسرين هذا ،وقال
البعض الخر الرأي المضاد.
جعََلكَ آ َيةً لِلنّاسِ { هو قبض ال للزمن
وأصدق شيء يمكن أن يتصل بصدق ال في قوله } :وَلِنَ ْ
في حق شيء ،وبسطه في حق شيء آخر ،وعزيز كما قال جمهرة العلماء هو الذي مر على
قرية ،وعزيز هذا كان من الربعة الذين يحفظون التوراة ،فلم يحفظ التوراة إل أربعة :موسى،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعيسى ،وعزير ،ويوشع ،وقد أراه ال العظام وكيف ينشزها ويرفعها فتلتحم ثم يكسوها لحما ،أي
أراه عملية الحياء مشهديا ،وفي هذا إجابة للسؤال } :أَنّىا يُحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا {؟
والحق يقول } :وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَ ْيفَ نُ ْنشِزُهَا { و } نُنْشِ ُزهَا { أي نرفعها ،ورأى " عزير " كل
عظمة في حماره ،وهي ترفع من الرض ،وشاهد كل عظمة تركب مكانها ،وبعد تكوين الهيكل
العظمي للحمار بدأت رحلة كسوة العظام لحما ،وبعد ذلك تأتي الحياة.
لقد وجد عزير إجابة في نفسه ،ووجد إجابة في الحمار ،ومن بعد ذلك تذكر قريته التي خرج
منها ،وأراد العودة إليها ،فلما عاد إليها وجد أمرها قد تغير بما يتناسب مع مرور مائة عام ،وكان
في تلك القرية مولة لهم ،أي أمة في أسرته ،وكانت هذه المة قد عميت وأصبحت مقعدة ،فلما
دخل وقال :أنا العزير .قالت المة :ذهب العزيز من مائة عام ول ندري أين ذهب ولم يعد؟
قال :أنا العزير .قالت :إن للعزير علمة ،هذه العلمة أنه مجاب الدعوة ،ولم تنس نفسها .قالت:
فإن كنت العزير فادع ال أن يرد عليّ بصري وأن يخرجني من قعودي هذا .فدعا عزير ال
فبرئت ،فلما برئت؛ نظرت إليه فوجدته هو العزير فذهبت إلى قومها وأعلنت أن العزير قد عاد.
وبعد ذلك ذهب العزير إلى ابنه ،فوجده رجل قد تجاوز مائة سنة ،وكان العزير ل يزال شابا في
سن خمسين سنة.
ولذلك ترى الشاعر يقول مُلغزا :وما ابنٌ رأى أباه وهو في ضعف عمره؟ والمقصود بهذا اللغز
هو العزير الذي أماته ال وهو في الخمسين ثم أحياه ال في عمره نفسه بعد مائة عام ،والتقى
العزير بابنه .قال البن :كنت اسمع أن لبي علمة بين كتفيه " شامة " .فلما كشف العزير كتفه
لبنه وجد الشامة.
وتثبت أهل القرية من صدق عزير :بشيء آخر هو أن (بختنصر) حينما جاء إلى بيت المقدس
وخربها حرق التوراة ،إل أن رجل قال :إن أباه قد دفن في مكان ما نسخة من التوراة ،فجاءوا
بالنسخة ،قال العزير :وأنا أحفظها .وتل العزير التوراة كما وُجدت في النسخة ،فصدق القوم أنه
العزير ،وتعجب الناس وهم يشاهدون ابنا تخطى المائة وأبا في سن الخمسين .ولذلك يذيل الحق
شيْءٍ قَدِيرٌ {.
الية بالقول } :قَالَ أَعَْلمُ أَنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ
ألم يكن قبل ذلك يعلم أن ال على كل شيء قدير؟ نعم كان يعلم علم الستدلل ،وهو الن يعلم علم
المشهد ،علم الضرورة ،فليس مع العين أين.
شيْءٍ قَدِيرٌ { هي تأكيد وتعريف بقدرة ال على أن يبسط الزمن
إذن فـ } أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ
ويقبضه ،وقدرة ال على الحياء والماتة ،فصار يعلم حق اليقين بعد أن كان يعلم علم اليقين.
وهذه المسألة تفسر ما يقوله العلم الحديث عن تعليق الحياة .ومعنى تعليق الحياة هو يشبه ما تفعله
بعض الثعابين عندما تقوم بالبيات الشتوي ،أي تنكمش في الشتاء في ذاتها ول تُبدي حركة ،وتظل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هكذا إلى أن يذهب الشتاء ،ومدة البيات الشتوي ل تحتسب من عمر الثعابين ،ولذلك يقال :إن ذلك
هو عملية تعليق الحياة .وهذه العملية التي قد نفسر بها مسألة أهل الكهف .فأهل الكهف أيضا
مرت عليهم العملية نفسهاَ {:وكَذاِلكَ َبعَثْنَاهُمْ لِيَ َتسَآءَلُوا بَيْ َنهُمْ قَالَ قَا ِئلٌ مّ ْنهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما
َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ }[الكهف]19 :
إنهم لم يروا شيئا قد تغير فيهم .وبعد ذلك قال الحق سبحانه {:وَلَبِثُواْ فِي َكهْ ِفهِمْ ثَلثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ
وَازْدَادُواْ ِتسْعا }[الكهف]25 :
إن ال حدد الزمن الذي لبثوه ،بينما هم قالوا :إن الزمن هو يوم أو بعض يوم .ومعنى ذلك أنهم
عندما ناموا هذا اللون من النوم واستيقظوا وجدوا أنفسهم على حالتهم التي كانت قبل هذا اللون
من النوم .إذن فقد علق ال حياتهم .ونلحظ أن كل هذه العملية قد جاءت هنا في قصة العزير بعد
حيّ ا ْلقَيّو ُم لَ تَ ْأخُ ُذهُ سِ َن ٌة َولَ َنوْمٌ
آية الكرسي التي تصور العقيدة اليمانية {:اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ ا ْل َ
شفَعُ عِ ْن َدهُ ِإلّ بِإِذْنِهِ َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ
ت َومَا فِي الَ ْرضِ مَن ذَا الّذِي يَ ْ
سمَاوَا ِ
لّهُ مَا فِي ال ّ
ظ ُهمَا
حفْ ُ
ض وَلَ َيؤُو ُدهُ ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر َ
سعَ كُرْسِيّهُ ال ّ
شيْءٍ مّنْ عِ ْل ِمهِ ِإلّ ِبمَا شَآ َء وَ ِ
وَلَ ُيحِيطُونَ بِ َ
وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ }
[البقرة]255 :
وتصور قضية الحياة وقضية الموت ونعلم أن إبراهيم حين حاجّه الرجل وقال له } :أَنَا ُأحْيِـي
وَُأمِيتُ { نقل إبراهيم الحجة إلى الليل والنهار ،وطلب منه أن يعكس آية الليل والنهار ،فقال
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ {.
للرجل } :فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
وحتى ل يظن أحد أن إبراهيم عليه السلم إنما ترك الكلم عن الحياء والماتة فرارا من الجدل.
ونقل المر إلى الشمس ،لكن أراد ال أن يأتي بقصة هذا النسان الذي مر على قرية وهي
خاوية،فيحدث له كل ما تقدم ليثبت الحق لنا أن قضية الحياة وقضية الموت بيده وحده .وليخرج
الحق سبحانه أمر الحياة والموت عن مجال السفسطة الجدلية .وعرفنا أن قبل معنى السفسطة
الجدلية حينما تعرضنا لقول الذي حاج إبراهيم في ربه باثنين من المسجونين وقال :أنا أستطيع أن
ل قتل.
أقتل واحدا ،وأن أترك الثاني ب َ
هذه هي السفسطة :إنه لم يحيي ،بل أبقى حياة .وعرفنا أن الحياء ضد الماتة؛ لن الماتة هي
أن تخرج الروح من الجسد بدون جرح ،أو نقض بنية ،أو عمل يفعله النسان في البدن .أما إذا
فعل إنسان أي شيء من هذه الفعال ضد إنسان آخر فل يقال إنه أماته بل يقال لقد قتله .والموت
كما عرفنا غير القتل.
وتأتي بعد ذلك قصة لبراهيم أيضا بعد أن نقل الجدل مع الرجل إلى الشمس ،فبهت الرجل الذي
كفر ،أما إبراهيم عليه السلم فهو يؤمن بقدرة ال ،لكنه يريد أن يعرف الكيفية .إن إبراهيم عليه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السلم لم يكن شاكا لن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ
طمَئِنّ قَلْبِي { ".
قالَ } :ربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِـي ا ْل َموْتَىا قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِن قَالَ بَلَىا وَلَـكِن لّ َي ْ
ونحن المسلمين لم نشك في هذا المر .إذن ،فإبراهيم عليه السلم لم يشك من باب أولى بدليل
منطوق الية حين قال الحق سبحانه } :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِـي ا ْل َموْتَىا قَالَ َأوَلَمْ
طمَئِنّ قَلْبِي{ ...
ُت ْؤمِن قَالَ بَلَىا وَلَـكِن لّيَ ْ
()261 /
خذْ
طمَئِنّ قَلْبِي قَالَ فَ ُ
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِي ا ْل َموْتَى قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِيَ ْ
سعْيًا وَاعْلَمْ أَنّ
عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ
ج َعلْ عَلَى ُكلّ جَ َبلٍ مِ ْنهُنّ جُ ْزءًا ثُمّ ادْ ُ
أَرْ َبعَةً مِنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ ُثمّ ا ْ
حكِيمٌ ()260
اللّهَ عَزِيزٌ َ
إن إبراهيم عليه السلم يسأل :كيف تُحيي الموتى؟ أي أنه يطلب الحال التي تقع عليها عملية
الحياء .فإبراهيم عليه السلم ل يتكلم في الحياء ،وإنما كان شكه ـ عليه السلم ـ في أن ال
سبحانه قد يستجيب لطلبه في أن يريه ويطلعه على كيفية إحياء الموتى؟ ولنضرب هذا المثل ـ
ول المثل العلى من قبل ومن بعد ـ والمثل لتقريب المسألة من العقول؛ لن ال مُنزه عن أي
تشبيه.
إن الواحد منا يقول للمهندس :كيف بنيت هذا البيت؟ إن صاحب السؤال يشير إلى حدث وإلي
مُحْدَث وهو البيت الذي تم بناؤه .فهل معرفة الكيفية تدخل في عقيدة اليمان؟ ل.
طمَئِنّ
ولنعلم أول ما معنى :عقيدة؟ .إن العقيدة هي :أمر معقود ،وإذا كان هذا فكيف يقول { :لّيَ ْ
قَلْبِي }؟ فهل هذا دليل على أن إبراهيم قبل السؤال ،وقبل أن يجاب إليه ،لم يكن قلبه مطمئنا؟ ل،
لقد كان إبراهيم مؤمنا ،ولكنه يريد أن يزداد اطمئنانا ،لنه أدار بفكره الكيفية التي تكون عليها
عملية الحياء ،لكنه ل يعرف على أية صورة تكون.
إذن فالطمئنان جاء لمراد في كيفية مخصوصة تخرجه من متاهات كيفيات متصورة ومتخيلة،
ومادمت تريد الكيفية ،وهذه الكيفية ل يمكن أن نشرحها لك بكلم .بل لبد أن تكون تجربة عملية
واقعيةَ { ،فخُذْ أَرْ َبعَةً مّنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ } .و " صرهن " أي أملهن واضممهن إليك لتتأكد
من ذوات الطير ،ومن شكل كل طير ،حتى ل تتوهم أنه قد جاء لك طير آخر.
وقال المفسرون :إن الربعة من الطير هي :الغراب ،الطاووس ،الديك ،الحمامة ،وهكذا كان كل
طائر له شكلية مختلفة.
سعْيا } ،فهل أجرى سيدنا إبراهيم هذه
عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ
ج َعلْ عَلَىا ُكلّ جَ َبلٍ مّ ْنهُنّ جُزْءًا ُثمّ ادْ ُ
{ ُثمّ ا ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العملية أو اكتفى بأن شرح ال له الكيفية؟ إن القرآن لم يتعرض لهذه الحكاية ،فإما أن يكون ال قد
قال له الكيفية ،فإن أراد أن يتأكد منها فليفعل ،وإما أنه قد تيقن دون أن يجري تلك العملية .إن
القرآن لم يقل لنا هل أجرى سيدنا إبراهيم هذه العملية أم ل؟ والحق يقول مخاطبا إبراهيم
سعْيا } وكان المفروض أن يقول :يأتينك طيرانا .فكيف
عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ
بخطوات التجربة { :ثُمّ ادْ ُ
تسعى الطيور؟ إن الطير يطير في السماء وفي الجو .لكن الحق أراد بذلك أل يدع أي مجال
لختلط المر فقال " :سعيا " أي أن الطير سيأتي أمامه سائرا ،لقد نقل الحق المر من الطيران
إلى السعي كي يتأكد منها سيدنا إبراهيم ،إذن فلكي تتأكد يا إبراهيم ويزداد اطمئنانك جئنا بها من
طيور مختلفة وأنت الذي قطعتها ،وأنت الذي جعلت على كل جبل جزءا ،ثم أنت الذي دعوت
الطير فجاءتك سعيا.
وهنا ملحظية في طلقة القدرة ،وفي الفرق بين القدرة الواجبة لواجب الوجود ،وهو الحق سبحانه
وتعالى ،والقدرة الممنوحة من واجب الوجود وهو ال ـ سبحانه ـ لمنكر واجب الوجود وهو
النسان ،هذا له قدرة ،وذاك له قدرة؛ إن قدرة ال هي قدرة واجبة ،وقدرة النسان هي قدرة
ممكنة ،وقدرة ال ل ينزعها منه أحد ،وقدرة النسان ينزعها ال منه؛ فالنسان من البشر ،والبشر
تتفاوت قدراتهم؛ فحين تكون لحدهم قدرة فهناك آخر ل قدرة له ،أي عاجز .ويستطيع القادر من
البشر أن يعدي أثر قدرته إلى العاجز؛ فقد يحمل القادر كرسيا ليجلس عليه من ل يقدر على
حمله .لكن قدرة الحق تختلف.
كأن الحق سبحانه وتعالى يقول :أنا أعدي من قدرتي إلى من ل يقدر فيقدر ،أنا أقول للضعيف:
سعْيا { .إن
عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ
كن قادرا ،فيكون .وهذا ما نفهمه من قوله سبحانه لبراهيمُ } :ثمّ ادْ ُ
إبراهيم كواحد من البشر عاجز عن كيفية الحياء ،ولكن الحق يعطيه القدرة على أن ينادي
الطير ،فيأتي الطير سعيا.
إن الحق يعطي القدرة لبراهيم أن يدعو الطير فيأتي الطير سعيا .وهذا هو الفرق بين القدرة
ل منها ،ولكن قدرة وجب الوجود
الواجبة ،وبين القدرة الممكنة .إن قدرة الممكن ل يعديها أحدٌ لخا ٍ
تُعديها إلى من ل يقدر فيقدر ،ولذلك يأتي القول الحكيم بخصائص عيسى ابن مريم عليه السلم{:
وَرَسُولً إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي َقدْ جِئْ ُتكُمْ بِآيَةٍ مّن رّ ّبكُمْ أَنِي َأخُْلقُ َلكُمْ مّنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنفُخُ
حيِ ا ْل َموْتَىا بِإِذْنِ اللّ ِه وَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا تَ ْأكُلُونَ
ص وَأُ ْ
ل ْكمَ َه والَبْرَ َ
فِيهِ فَ َيكُونُ طَيْرا بِِإذْنِ اللّ ِه وَأُبْرِى ُء ا َ
ك ليَةً ّلكُمْ إِن كُنتُم ّمؤْمِنِينَ }[آل عمران]49:
َومَا َتدّخِرُونَ فِي بُيُو ِتكُمْ إِنّ فِي ذاِل َ
إن خصائص عيسى ابن مريم ل تكون إل بإذن من ال ،فقدرة عيسى عليه السلم أن يصنع من
الطين ما هو على هيئة الطير ،وإذا نفخ فيه بإذن ال لصبح طيرا ،وكذلك إبراء الكمه والبرص
وإحياء الموتى ،إن ذلك كله بإذن ممن؟ بإذن من ال.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكِيمٌ { .إن
وكذلك كان المر في تجربة سيدنا إبراهيم ،لذلك قال له الحق } :وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
ال عزيز أي ل يغلبه أحد .وهو حكيم أي يضع كل شيء في موقعه.
وكذلك يبسط الحق قصة الحياة وقصة الموت في تجربة مادية؛ ليطمئن قلب سيدنا إبراهيم ،وقد
جاءت قصة الحياة والموت؛ لن الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية كان في مسألة البعث
من الموت ،وكل كلمهم يؤدي إلى ذلك ،فهم تعجبوا من حدوث هذا المر {:قَالُواْ أَإِذَا مِتْنَا َوكُنّا
تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }[المؤمنون]82 :
سيَ خَ ْلقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ا ْلعِظَا َم وَ ِهيَ َرمِيمٌ * ُقلْ يُحْيِيهَا الّذِي
ل وَنَ ِ
وفي قول آخرَ {:وضَرَبَ لَنَا مَثَ ً
أَنشَأَهَآ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَ ُهوَ ِب ُكلّ خَ ْلقٍ عَلِيمٌ }
[يس]79-78 :
لقد أمر الحق سبحانه محمدا صلى ال عليه وسلم ليجيب على ذلك :قل يا محمد :يحييها الذي
أنشأها أول مرة؛ فقد خلقها من عدم ولذلك يقول الحق سبحانه {:وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ
حكِيمُ }[الروم]27 :
ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْ ِه وَلَهُ ا ْلمَ َثلُ الَعْلَىا فِي ال ّ
إن ال سبحانه وتعالى قادر على أن يبدأ الخلق على غير مثال ،ثم يعيده بعد الموت ،وإعادته
أهون عليه من ابتدائه بالنظر إلى مقاييس اعتقاد من يظن أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه؛ فال
له مطلق القدرة في خلقه ،وهو الغالب في ملكه ،وهو الحكيم في فعله وتقديره.
إن الذي يعيد إنما يعيد من موجود ،أما الذي بدأ فمن معدوم .فالهون هو العادة ،أما البتداء فهو
ابتداء من معدوم ،وكلهما من قدرة الحق سبحانه وتعالى .إن هذه القضية إنما تثبت اليوم الخر،
لن اليمان باليوم الخر هو الميزان العقدي فإن استقر في القلب فالنسان بكل جوارحه يتجه إلى
الفعال التي تسير على ضوء منهج ال لينال النسان الجزاء الوفى.
إن النسان حينما يفهم أن هناك حسابا وهناك جزاءً ،وهناك بعثا ،فهو يعرف أنه لم ينطلق في هذا
العالم ،ولم يفلت من الله الواحد القهار ،إن للنسان عودة ،فالذي يغتر بما آتاه ال نقول له :ل،
إنك لن تفلت من يد ال ،بل لك عودة بالموت وعودة بالبعث .وإذا ما استقرت في أذهان المسلمين
تلك العودة ،فكل إنسان يقيم حسابه على هذه العودة.
وبعد أن استقر المر في شأن الحياة والموت أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجيء بشيء هو ثمرة
الحياة في الكائن الحي وأول مظهر من مظاهر الحياة هو الحس والحركة .والحركة في الوجود
أرادها ال للنسان؛ لنه وهو الحق قد أراد النسان للخلفة في الرض .والخلفة في الرض
تقتضي أن يعمر النسان الرض ،كما قال ال سبحانه وتعالى {:اعْ ُبدُواْ اللّهَ مَا َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ
ُهوَ أَنشََأكُمْ مّنَ الَ ْرضِ وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود]61 :
إن خلفة النسان في الرض تقتضي أن يتحرك ويعمر الرض .وحين يريد ال منا أن نتحرك
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونعمر الرض فل بد من أعمال تنظم هذه الحركة ،ول بد من فنون متعددة تقوم على العمارة.
ويوزع ال الطاقات الفاعلة لهذه الفنون المتعددة ويجعلها مواهب مفكرة ومخططة في البشر .إن
الحق سبحانه لم يجعل من إنسان واحد مجمع مواهب ،بل نثر ال المواهب على الخلق ،وكل
واحد أخذ موهبة ما.
لماذا؟ لن ال قد أراد أن يتكامل العالم ول يتكرر؛ فالتكامل يوحي بالندماج فإذا كنت أنت تعرف
شيئا خاضعا لموهبتك ،وأنا ل أعرفه فأنا مضطر أن ألتحم بك ،وأنا أيضا قد أعرف شيئا وأنت ل
تعرفه ،لذلك تضطر أنت أن تلتحم بي.
وهذا اللون من اللتحام ليس التحام تفضل ،إنما هو التحام تعايش ضروري.
لكن لو أن كل واحد صار مجمع مواهب ،لستغنى عن غيره من البشر وأقام وحده بمفرده،
وينتهي احتياجه للمجتمع النساني .فكأن ال حين وزع أسباب الفضل على الخلق يريد منهم أن
يتكاملوا ويلتحم بعضهم ببعض ل التحام فضل ،ولكن التحام تعايش ضروري؛ لن واحدا يريد ما
ينتجه الخر بموهبته ،والخر يريد من إنسان غيره ما هو موهوب فيه .ولذلك فالناس بخير ما
تباينوا؛ لن كل منهم يحتاج إلى الخر.
ولذلك ل نجد أي تقدم في مجتمع إل إذا كانت المواهب في هذا المجتمع مختلفة ومتآزرة .أما حين
يوجد قوم لهم مواهب متحدة فلبد أن يقاتل بعضهم بعضا لكن عندما يكون كل واحد في حاجة
لموهبة الخر ،فهم يتعايشون؛ لن الحياة ل تسير إل بالكل ،ولذلك إذا استوت جماعة في
المواهب فل بد أن يتفانوا لنهم يتنافسون فيها ويريد كل واحد منهم أن يستأثر بها لنفسه ،لكن ل
أحد في المواهب المتكاملة يقول :لماذا يكون فلن أفضل مني ،لنه يعرف أنه من الضروري أن
يوجد المهندس والطبيب والصانع ،ولذلك تجد الوجود منظما بذاته التنظيم الطبيعي الذي يُوجد
قاعدة ويُوجد قمة ،فالقمة الصغيرة تحملها القاعدة الكبيرة .ولو عكست الهرم لصارت مشكلة؛ لن
المر في هذه الحالة سَ َيجّدُ به جوانب كثيرة ليس لها أساس ول ترتكز على شيء ،ولذلك فمن
الحكمة إذا رأيت في المجتمع واحدا قد ذهب إلى القمة فأعنه على أن يستمر متفوقا ،ول تصطرع
معه فتسقطوا جميعا ،فلبد من التفاضل كي ينشأ التكامل.
والحق سبحانه وتعالى يعرض لنا هذه القضية عرضا اجتماعيا وعرضا اقتصاديا؛ ليبين لنا أن
أصل الوجود يجب أن ينشأ على أمر اجتماعي وأمر اقتصادي ،لماذا؟ لن النسان مشغول أول
باستبقاء حياته ،ثم باستبقاء نوعه .واستبقاء حياة النسان بالقوت ،واستبقاء نوعه بالزواج.
واستبقاء الحياة بالقوت يحتاج إلى حركة في الحياة ،والحق يحترم ثمرتها ،وعندما يريد الحق أن
يرقق قلب المتحرك على أخيه العاجز فهو يقول {:مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا }[البقرة:
]245
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كما ضربنا المثل من قبل ـ ول المثل العلى ـ وقلنا :إن النسان يعطي أولده مصروفا ،وكل
واحد منهم يضعه في حصالته ،فهب أن واحدا من الولد اضطر إلى شيء عاجل كإجراء
جراحة ،هنا يذهب الرجل إلى أولده ويقول لهم :أقرضوني ما في حصالتكم لن أخاكم يحتاج
إلى عملية ،وسأرده لكم بعد ذلك مضاعفا .إن الب لم يرجع في هبته ليقول إن ما في الحصالت
هو مالي وسآخذه .ل ،هو مالكم ،لكنه سيكون دينا عندي.
كذلك يصنع ال مع الخلق فيوضح :بعضكم عاجز وبعضكم قادر ،وسأتكفل أنا بالعاجز ،واقترض
من القادر.
وكان ضروريا أن يكون بعضنا عاجزا ،حتى ل يظن أحد أن القوة ذاتية في النفس البشرية .ل،
إن القوة موهوبة؛ ويستطيع من وهبها أن يسلبها .وحتى يعرف صاحب القوة أن القوة ليست ذاتية
فيه ،ويجد بجانبه إنسانا آخر عاجزا .لكن هذا العاجز الذي سيلفت القوي إلى أن القوة ليست
ذاتية ،ما ذنبه؟
إنّ ال قد جعله وسيلة إيضاح في الكون وكأن الحق يقول :سنضمن لك أيها العاجز المستوى
اللئق من الحياة من أثر قدرة القادر ،وما دام من أثر قدرة القادر ،فهل سيتحرك القادر في الكون
على قدر " حاجته " أو على قدر " طاقته "؟ لبد أن يتحرك على قدر طاقته؛ لنه لو تحرك على
قدر حاجته فلن يجد ما يعطيه للعاجز.
ويتكلم الحق سبحانه وتعالى عن تلك القضية المهمة في البناء الجتماعي والبناء القتصادي بعد
إثبات قضية البعث والحياء والماتة لكي تكون ماثلة أمامنا وينتقل بنا الحق سبحانه وتعالى كي
يعطينا الكيان السلمي القتصادي الجتماعي فيقول جل شأنه } :مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي
سَبِيلِ اللّهِ َكمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ{ ...
()262 /
مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ
عفُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ()261
ُيضَا ِ
إن ال ينسب المال للبشر المتحركين؛ لنهم أخذوا هذه الموال بحركتهم .وفي موضع آخر من
القرآن يقول الحق {:وآتوهم من مال ال الذي آتاكم }[النور]33 :
إن المال كله مال ال ،وقد أخذه النسان بالحركة ،فاحترم ال هذه الحركة ،واحترم ال في
النسان قانون النفعية ،فجعل المال المتبقي من حركتك ملكا لك أيها النسان ،لكن إن أراد ال هذا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المال فسيأخذه ،ومن فضل ال على النسان أنه سبحانه حين يطلب من النسان بعضا من المال
المتبقي من حركته فهو يطلبه كقرض ،ويرده مضاعفا بعد ذلك.
إذن فالنفاق في سبيل ال يرده ال مضاعفا ،وما دام ال يضاعفه فهو يزيد ،لذلك ل تحزن ول
تخف على مالك؛ لنك أعطيته لمقتدر قادر واسع عليم .إنه الحق الذي يقدر على إعطاء كل واحد
حسب ما يريد هو سبحانه؛ إنه يعطي على قدر نية العبد وقدر إنفاقه .وهذه الية تعالج قضية
الشُح في النفس النسانية؛ فقد يكون عند النسان شيء زائد ،وتشح به نفسه ويبخل ،فيخاف أن
ينفق منه فينقص هذا الشيء.
وهنا تقول لك قضية اليمان :أنفق لنه سبحانه سيزيدك ،والحق سيعطيك مثلما يعطيك من
الرض التي تزرعها .أنت تضع الحبة الواحدة .فهل تعطيك حبة واحدة؟ ل .إن حبة القمح تعطي
كمية من العيدان وكل عود فيه سنبلة وهي مشتملة على حبوب كثيرة ،فإذا كانت الرض وهي
مخلوقة ل تضاعف لك ما تعطيه أفل يضاعف العطاء لك الذي خلقها؟ وإذا كان بعض من خلق
ال يضاعف لك ،فما بالك بال جل وعل؟
إن الرض الصماء بعناصرها تعطيك ،أئذا ما أخذت كيلة القمح من مخزنك لتبذرها في الرض
أيقال :إنك أنقصت مخزنك بمقدار كيلة القمح؟ ل؛ لنك ستزرع بها ،وأنت تنتظركم ستأتي من
حبوب ،وهذه أرض صماء مخلوقة ل ،فإذا كان المخلوق ل قد استطاع أن يعطيك بالحبة
سبعمائة ،أل يعطيك الذي خلق هذه الرض أضعاف ذلك؟
إنه كثير العطاء .والحق قد نسب للمنفقين الموال التي رزقهم ال بها فقال { :مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ
َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وكلمة { فِي سَبِيلِ اللّهِ } كلمة عامة ،يصح أن يكون معناها الجهاد ،أو
مصارف الصدقات؛ لن كل هذا في سبيل ال؛ لن الضعيف حين يجد نفسه في مجتمع متكافل،
ويجد صاحب القوة قد عدّى من أثر قوته وحركته إليه ،أيحقد على ذي القوة؟ ل؛ لن خيره يأتيه،
نضرب المثل في الريف نقول:
البهيمة التي تدر لبنا ساعة تسير في الحارة .فالكل كان يدعو ال لها ويقول " :يحميكي " لماذا؟
لن صاحبها يعطي كل من حوله من لبنها ومن جبنتها ومن سمنها ،لذلك يدعو لها الجميع ،ول
يربطها صاحبها ،ول يعلفها ،ول ينشغل عليها ،والخير القادم منها يذهب إلى كل الهل ،وحين
نجد مجتمعا بهذا الشكل ويجد العاجز من القوي معينا له ،هنا يقول العاجز :إنني في عالم متكامل.
وإذا ما وُجد في إنسان قوة وفي آخر ضعف؛ فالضعيف ل يحقد وإنما يقول :إن خير غيري
يصلني .وكذلك يطمئن الواهب أنه إن عجز في يوم ما سيجد من يكفله ـ والقدرة أغيار ـ ما دام
النسان من الغيار .فقد يكون قويا اليوم ضعيفا غدا.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى } :مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ { هو قانون يريد به ال أن يحارب
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشح في نفس المخلوقين ،إنه يقول لكل منا :انظر النظرة الواعية؛ فالرض ل تنقص من مخزنك
حين تعطيها كيلة من القمح! صحيح أنك أنقصت كيلة من مخزنك لتزرعها ،ولكنك تتوقع أن تأخذ
من الرض أضعافها .وإياك أن تظن أن ما تعطيه الرض يكون لك فيه ثقة ،وما يعطيه ال ل
ثقة لك فيه } .مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبُلَةٍ
سعٌ عَلِيمٌ { إن الية تعالج الشح ،وتؤكد أن الصدقة ل
عفُ ِلمَن يَشَآ ُء وَاللّ ُه وَا ِ
مّئَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَا ِ
تنقص ما عند النسان بل ستزيده .وبعد ذلك يقول تعالى } :الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ
لَ يُتْ ِبعُونَ مَآ أَ ْن َفقُواُ مَنّا َولَ أَذًى{ ...
()263 /
الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لَا يُتْ ِبعُونَ مَا أَ ْنفَقُوا مَنّا وَلَا أَذًى َلهُمْ أَجْرُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّب ِه ْم وَلَا
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ ()262
َ
إنها لقطة أخرى يوضح فيها الحق :إياك حين تنفق مالك في سبيل ال وأنت طامع في عطاء ال
أن تمن على من تعطيه أو تؤذيه .والمنّ هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه
أوجب عليه حقا له وأنه أصبح صاحب فضل عليه ،وكما يقولون في الريف (تعاير بها) ،والشاعر
يقول:وإنّ امرَأً أسدى إليّ صنيعة وذكّـرنيها مَـ ّرةً للـئـيمولذلك فمن الدب اليماني في
النسان أن ينسى أنه أهدى وينسى أنه أنفق ،ول يطلع أحدا من ذويه على إحسانه على الفقير أو
تصدقه عليه وخاصة الصغار الذين ل يفهمون منطق ال في الشياء ،فعندما يعرف ابني أنني
ل ابني َومَنّ على ابن جاري ،ربما أخذه غروره فعيّره هو ،ول يمكن
أعطي لجاري كذا ،ربما د ّ
أن يقدر هذا المر إل ُمكَّلفٌ يعرف الحكم بحيثيته من ال.
إن الحق يوضح لنا :إياك أن تتبع النفقة منّا أو أذى؛ لنك إن أتبعتها بالمنّ ماذا يكون الموقف؟
يكرهها ال ُمعْطَى الذي تصدقت بها عليه ويتولد عنده حقد ،ويتولد عنده بغض ،ولذلك حينما قالوا" :
اتق شر من أحسنت إليه " شرحوا ذلك بأن اتقاء شر ذلك النسان بأل تذكره بالحسان ،وإياك أن
تذكره بالحسان؛ لن ذلك يولد عنده حقدا.
ولذلك تجد كثيرا من الناس يقولون :كم صنعت بفلن وفلن الجميل ،هذا كذا وهذا كذا ،ثم
خرجوا عليّ فانكروه .وأقول لكل من يقول ذلك :ما دمت تتذكر ما أسديته إليهم فمن العدالة من
ال أن ينكروه ،ولو أنك عاملت ال لما أنكروه ،فما دمت لم تعامل ال ،فإنك تقابل بنكران ما
أنفقت.
فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسخي بالية الولى قلب المنفق ليبسط يده بالنفقة ،لذلك قال{ :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ يَحْزَنُونَ }.
ثُ ّم لَ يُتْ ِبعُونَ مَآ أَ ْنفَقُواُ مَنّا وَلَ َأذًى ّلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَلَ َ
فالحق سبحانه وتعالى طمأننا في الية الولى على أن الصدقة والنفقة ل تنقص المال بل تزيده،
وضرب لنا الحق سبحانه المثل بالرض التي تؤتينا بدل الحبة الواحدة سبعمائة حبة ،ثم يوضح
الحق لنا أن آفة النفاق أن يكون مصحوبا بـ " المنّ " أو " الذى "؛ لن ذلك يفسد قضية
الستطراق الصفائي في الضعفاء والعاجزين ،ولذلك يقول الحق سبحانه:
{ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُ ّم لَ يُتْ ِبعُونَ مَآ أَ ْنفَقُواُ مَنّا وَلَ َأذًى ّلهُمْ َأجْرُهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ }
[البقرة]262 :
انظر إلى الدقة الدائية في قوله الكريم { :ثُمّ لَ يُتْ ِبعُونَ مَآ أَ ْن َفقُواُ مَنّا َولَ َأذًى } .قد يستقيم الكلم
لو جاء كالتي " :الذين ينفقون أموالهم في سبيل ال ول يتبعون ما أنفقوا منا ول أذى " ،لكن
الحق سبحانه قد جاء بـ " ثم " هنا؛ لن لها موقعا.
إن المنفق بالمال قد ل يمن ساعة العطاء ،ولكن قد يتأخر المنفق بالمن ،فكأن الحق سبحانه وتعالى
ينبه كل مؤمن:
يجب أن يظل النفاق غير مصحوب بالمن وأن يبتعد المنفق عن المن دائما ،فل يمتنع عن المن
فقط وقت العطاء ،ولكن لبد أن يستمر عدم المن حتى بعد العطاء وإن طال الزمن.
إن " ثم " تأتي في هذا المعنى لوجود مسافة زمنية تراخى فيها النسان عن فعل المن .فالحق يمنع
المن منعا متصلً متراخيا ،ل ساعة العطاء فحسب ،ولكن بعد العطاء أيضا .وشوقي أمير
الشعراء ـ رحمه ال ـ عندما كتب الشعر في حمل الثقال وضع أبياتا من الشعر في مجال حمل
الثقال النفسية ،فقال:أحمـلت دَيـنـا في حياتك مرة؟ أحمـلت يـوما في الضـلوع
غليل؟أحمـلت مَنـا في النهار ُمكَرّرا؟ والليـلِ مِـن مُسْـدٍ إليك جمـيل؟وبعد أن عدد شوقي
أوجه الحمال الثقيلة في الحياة قال:تـلك الحـيـاة وهـذه أثقالها وُزِنَ الحـديدُ بـهـا فعـاد
ن ول
ضئيلكأن المن إذن عبء نفسي كبير .ويطمئن الحق سبحانه من ينفقون أموالهم دون مَ ّ
أذى في سبيل ال بأن لهم أجرا عند ربهم .وكلمة " الجر " ـ واليضاح من عند الرب ـ هي
طمأنة إلى أن المر قد أحيل إلى موثوق بأدائه ،وإلى قادر على هذا الداء .أما الذي يمن أو
يؤذي فقد أخذ أجره بالمن أو الذى ،وليس له أجر عند ال؛ لن الذي يمن أو يؤذي لم يتصور
ب الضعيف ،وإنما تصور الضعيف.
َر ّ
والمنفق في سبيل ال حين يتصور رب الضعيف ،وأن رب الضعيف هو الذي استدعاه إلى
الوجود ،وهو الذي أجرى عليه الضعف ،فهو يؤمن أن ال هو الكفيل برزق الضعيف ،وحين ينفق
القوي على الضعيف فإنما يؤدي عن ال ،ولذلك نجد في أقوال المقربين:
" إننا نضع الصدقة في يد ال قبل أن نضعها في يد الضعيف " ولننظر إلى ما فعلته سيدتنا فاطمة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم .لقد راحت تجلو الدرهم وتطيبه ،فلما قيل لها :ماذا تصنعين؟
قالت :أجلو درهما وأطيبه لني نويت أن أتصدق به .فقيل لها :أتتصدقين به مجلوا ومعطرا؟
قالت الزهراء بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم :لني أعلم أنه يقع في يد ال قبل أن يقع في يد
الفقير .إن الجر يكون عند من يغليه ويعليه ويرتفع بقيمته وهو الخالق الوهاب.
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ { لماذا لم يقل ال :ول خوف منهم؟ .لن
ولنتأمل قول الحقَ } :ولَ َ
خ ْوفٌ عَلَ ْي ِهمْ { أن هناك عنصرا ثالثا سيتدخل .إنه تدخل من
الحق يريد أن يوضح لنا بقولهَ } :ولَ َ
شخص قد يظهر للنسان المنفق أنه محب له ،فيقول :ادخر لليام القادمة ،ادخر لولدك.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنه قد تصدق بشيء فرفع وصرف عنه ال شيئا ضارا ،فيفرح بذلك القلب المؤمن .وبعد ذلك
ينبهنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية مهمة هي :إن لم تَجُد أيها المؤمن بمالك فأحسن بمقالك،
فإن لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بحسن الرد ،والرسول صلى ال عليه وسلم يقول " :اتقوا
النار ولو بشق تمرة ،فمن لم يجد فبكلمة طيبة ".
والحق سبحانه وتعالى يحدد القضية في هذه اليةَ } :ق ْولٌ ّمعْرُوفٌ َو َم ْغفِ َرةٌ خَيْرٌ مّن صَ َدقَةٍ يَتْ َب ُعهَآ
أَذًى وَاللّهُ غَ ِنيّ حَلِيمٌ{ ...
()264 /
ما معنى { َقوْلٌ ّمعْرُوفٌ }؟ إننا في العادة نجد أن المعروف مقابل للمنكر ،كأن المر الخَيّر أمر
متعارف عليه بالسجية ،وكأن المتعارف عليه دائما من جنس الجمال ومن جنس الخير ،أما المر
الذي تنكره النفس فمن جنس الشر وجنس القبح .ولذلك يقول الحقَ { :ق ْولٌ ّمعْرُوفٌ } فكأن من
شأن الجمال ومن شأن الحسن أن يكون معروفا ،ومن شأن النقيض أن يكون منكرا ،إذن فالقول
المعروف هو أن ترد السائل الرد الجميل بحيث ل تمتلئ نفسه بالحفيظة عليك ،وبحيث ل توبخه
لنّه سألك ،وإذا كان السائل قد تجهم عليك تجهم المحتاج فاغفر له ذلك ،لماذا؟
لن هناك إنسانا تلهب ظهره سياط الحاجة ،ويراك أهل لغنى أو ليسار أو جدة وسعة من المال،
وقد يزيد بالقول واللسان قليلً عليك ،وربما تجاوز أدب الحديث معك ،فعليك أن تتحمله.
وإذا كنت أنت أيها العبد تصنع المعاصي التي تغضب ال ،ويحلم الحق عليك ويغفرها لك ول
يعذبك بها ،فإذا ما صنع إنسان معك شيئا فكن أيضا صاحب قول معروف ومغفرة وحلم؛ إن الحق
سبحانه يقول لناَ { :ألَ تُحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ َلكُمْ }؟
إننا جميعا نحب أن يغفر ال لنا ،ولذلك يجب أن نغفر لغيرنا وخصوصا للمحتاج .والحق حين
يقول { :وَاللّهُ غَ ِنيّ حَلِيمٌ } ففي ذلك تنبيه للقادر الذي حرم الفقير ،وكأنه يقول له :إنما حرمت
نفسك أيها القادر من أجر ال .إنك أيها القادر حين تحرم فقيرا ،فأنت المحروم؛ لن ال غني
ل َومَن
خُعوْنَ لِتُن ِفقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َفمِنكُم مّن يَبْ َ
عنك ،وهو سبحانه يقول {:هَا أَنتُمْ هَـا ُؤلَءِ تُدْ َ
ي وَأَنتُمُ ا ْل ُفقَرَآ ُء وَإِن تَ َتوَّلوْاْ يَسْتَ ْب ِدلْ َقوْما غَيْ َركُمْ ثُ ّم لَ َيكُونُواْ
س ِه وَاللّهُ ا ْلغَ ِن ّ
خلُ عَن ّنفْ ِ
خلْ فَإِ ّنمَا يَبْ َ
يَبْ َ
َأمْثَاَلكُم }[محمد]38 :
إن ال غني بقدرته المطلقة ،غني وقادر أن يستبدل بالقوم البخلء قوما يسخون بما أفاء ال عليهم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من رزق في سبيل ال .فالذي يمسك عن العطاء إنما منع عن نفسه باب رحمة .ولذلك يقول
ن وَالَذَىا} ...
الحق { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَ تُ ْبطِلُو ْا صَ َدقَا ِتكُم بِا ْلمَ ّ
()265 /
فالذي يتصدق ويتبع صدقته بالمن والذى ،إنما يُبطل صدقته ،وخسارته تكون خسارتين :الخسارة
الولى أنه أنقص ماله بالفعل؛ لن ال لن يعوض عليه؛ لنه أتبع الصدقة بما يبطلها من المن
والذى ،والخسارة الخرى هي الحرمان من الثواب؛ فالذي ينفق ليقول الناس عنه إنه ينفق ،عليه
أن يعرف أن الحق يوضح لنا :أنه يعطي الجر على قاعدة أن الذي يدفع الجر هو من عملت له
العمل.
إن النسان على محدودية قدرته يعطي الجر لمن عمل له عمل ،والذي يعمل من أجل أن يقول
الناس إنه عمل ،فليأخذ أجره من القدرة المحدودة للبشر ،ولذلك قال لنا رسول ال صلى ال عليه
وسلم عن الذي يفعل الحسنة أو الصدقة ليقال عنه إنه فعل ،فإنه يأتي يوم القيامة ول يجد أجرا له.
وقد جاء في الحديث الشريف " :ورجل آتاه ال من أنواع المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال
ل أنفقت فيه لك ،قال :كذبت إنما
ما عملت فيها؟ قال :ما تركت من شيء تجب أن أنفق فيه إ ّ
أردت أن يقال :فلن جواد فقد قيل ،فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار ".
إياك إذن أن تقول :أنا أنفقت ولم يوسع ال رزقي؛ لن ال قد يبتليك ويمتحنك ،فل تفعل الصدقة
من أجل توسيع الرزق ،فعطاء ال للمؤمن ليس في الدنيا فقط ،ولكن ال قد يريد أل يعطيك في
الفانية وأبقى لك العطاء في الباقية وهي الخرة .وهو خير وأبقى.
ب } والصفوان هو
ص ْفوَانٍ عَلَ ْيهِ تُرَا ٌ
والحق يقولَ { :ولَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفمَثَُلهُ َكمَ َثلِ َ
الحجر الملس ،ويُسمى المروة والذي نسميه بالعامية " الزلطة " .ويقال للصلع " صفوان " ،أي
رأسه أملس كالمروة .والشيء الملس هو الذي ل مسام له يمكن أن تدركها العين المدركة ،إنما
يدرك النسان هذه المسام بوضع الحجر تحت المجهر .وعندما يكون الشيء ناعما قد يأتي عليه
تراب ،ثم يأتي المطر فينزل على التراب وينزلق التراب من على الشيء الملس ،ولو كان
بالحجر بعض من الخشونة ،لبقى شيء من التراب بين النتوءات ،فالذي ينفق ماله رئاء الناس،
كالصفوان يتراكم عليه التراب ،وينزل المطر على التراب فيزيله كلّه فيصير المر { :لّ َيقْدِرُونَ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ ّممّا كَسَبُواْ } أي فقدوا القدرة على امتلك أي شيء؛ لن ال جعل ما لهم من عمل
عَلَىا َ
هباء منثورا.
وهؤلء كالحجر الصفوان الذي عليه تراب فنزل عليه وابل ..أي مطر شديد فتركه صلدا ..تلك
هي صفات من قصدوا بالنفاق رئاء الناس ،فيبطل ال جزاءهم؛ لن ال ل يوفقهم إلى الخير
والثواب .ويأتي ال بالمقابل ،وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة ال فيقولَ { :ومَثَلُ الّذِينَ
سهِمْ} ...
يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَتَثْبِيتا مّنْ أَ ْنفُ ِ
()266 /
سهِمْ َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ
َومَثَلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَ ْنفُ ِ
ل وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ ()265
طّض ْعفَيْنِ فَإِنْ لَمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ فَ َ
فَآَ َتتْ ُأكَُلهَا ِ
إن ابتغاء مرضاة ال في النفاق تعني خروج الرياء من دائرة النفاق ،فيكون خالصا لوجهه ـ
سبحانه ـ وأما التثبيت من أنفسهم ،فهو لنفسهم أيضا .فكأن النفس اليمانية تتصادم مع النفس
الشهوانية ،فعندما تطلب النفس اليمانية أي شيء فإن النفس الشهوانية تحاول أن تمنعها .وتتغلب
النفس اليمانية على النفس الشهوانية وتنتصر ل.
سهِمْ } هو أن يتثبت المؤمن على أن يحب نفسه حبا أعمق ل حبا
والمراد بـ { وَتَثْبِيتا مّنْ أَ ْنفُ ِ
أحمق .إذن فعملية النفاق يجب أن تكون أول إنفاقا في سبيل ال ،وتكون بتثبيت النفس بأن وهب
المؤمن أول دمه ،وثبت نفسه ثانيا بأن وهب ماله ،وهكذا يتأكد التثبيت فيكون كما تصوره الية
طلّ وَاللّهُ ِبمَا
ضعْفَيْنِ فَإِن لّمْ ُيصِ ْبهَا وَابِلٌ َف َ
الكريمةَ {:كمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ
َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }[البقرة]265 :
والجنة كما عرفنا تُطلق في اللغة على المكان الذي يوجد به زرع كثيف أخضر لدرجة أنه يستر
من يدخله .ومنها " جن " أي " ستر " ،ومن يدخل هذه الجنة يكون مستورا.
إن الحق يريد أن يضرب لنا المثل الذي يوضح الصنف الثاني من المنفقين في سبيل ال ابتغاء
مرضاته وتثبيتا من أنفسهم اليمانية ضد النفس الشهوانية ،فيكون الواحد منهم كمن دخل جنة
كثيفة الزرع ،وهذه الجنة توجد بربوة عالية ،وعندما تكون الجنة بربوة عالية فمعنى ذلك أنها
محاطة بأمكنة وطيئة ومنخفضة عنها ،فماذا يفعل المطر بهذه الجنة التي توجد على ربوة؟ وقد
أخبرنا الحق بما يحدث لمثل هذه الجنة قبل أن يتقدم العلم الحديث ويكتشف آثار المياه الجوفية
على الزراعة.
فهذه الجنة التي بربوة ل تعاني مما تعاني منه الرض المستوية ،ففي الرض المستوية قد توجد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المياه الجوفية التي تذهب إلى جذور النبات الشعرية وتفسدها بالعطن ،فل تستطيع هذه الجذور أن
تمتص الغذاء اللزم للنبات ،فيشحب النبات بالصفرار أول ثم يموت بعد ذلك ،إنّ الجنة التي
بربوة تستقبل المياه التي تنزل عليها من المطر ،وتكون لها مصارف من جميع الجهات الوطيئة
التي حولها ،وترتوي هذه الجنة بأحدث ما توصل إليه العلم من وسائل الري ،إنها تأخذ المياه من
أعلى ،أي من المطر ،فتنزل المياه على الوراق لتؤدي وظيفة أولى وهي غسل الوراق.
إن أوراق النبات ـ كما نعلم ـ مثل الرئة بالنسبة للنسان مهمتها التنفس ،فإذا ما نزل عليها ماء
المطر فهو يغسل هذه الوراق مما يجعلها تؤدي دورها فيما نُسميه نحن في العصر الحديث
بالتمثيل الكلوروفيلي .وبعد ذلك تنزل المياه إلى الجذور لتذيب العناصر اللزمة في التربة لغذاء
النبات ،فتأخذ الجذور حاجتها من الغذاء المذاب في الماء ،وينزل الماء الزائد عن ذلك في
المصارف المنخفضة.
()267 /
ل وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ
أَ َيوَدّ َأحَ ُدكُمْ أَنْ َتكُونَ َلهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِي ٍ
عصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَ َر َقتْ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ الْآَيَاتِ َلعَّلكُمْ
ض َعفَاءُ فََأصَا َبهَا إِ ْ
وََأصَابَهُ ا ْلكِبَ ُر وَلَهُ ذُرّيّ ٌة ُ
تَ َت َفكّرُونَ ()266
إن الحق سبحانه يشركنا في الصورة كأنه يريد أن يأخذ منا الشهادة الواضحة .فهل يود أحدكم أن
تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها النهار له فيها من كل الثمرات .ونعلم أن النخيل
والعناب هما من أهم ثمار نَتاج المجتمع الذي نزل به القرآن الكريم .ونعرف أن هناك حدائق
فيها نخيل وأعناب ،ويضيف إليها صاحبها أشجارا من الخوخ وأشجارا من الفواكة الخرى.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلْنَا لَحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ
ولذلك يقول الحق في أصحاب الجنة {:وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلً رّجُلَيْنِ َ
جعَلْنَا بَيْ َن ُهمَا زَرْعا * كِلْتَا ا ْلجَنّتَيْنِ آ َتتْ ُأكَُلهَا وَلَمْ َتظْلِم مّنْهُ شَيْئا َوفَجّرْنَا خِلَل ُهمَا
خلٍ َو َ
حفَفْنَا ُهمَا بِ َن ْ
وَ َ
خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ
ل وَأَعَزّ َنفَرا * وَدَ َ
َنهَرا * َوكَانَ لَهُ َثمَرٌ َفقَالَ ِلصَاحِبِ ِه وَ ُهوَ ُيحَاوِ ُرهُ أَنَا َأكْثَرُ مِنكَ مَا ً
جدَنّ
ظَاِلمٌ لّ َنفْسِهِ قَالَ مَآ َأظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا * َومَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَ ًة وَلَئِن رّدِدتّ ِإلَىا رَبّي لَ ِ
خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف]36-32 :
كأن الجنتين هنا فيهما أشياء كثيرة ،فيهما أعناب ،وزادهما ال عطاء النخيل ،ثم الزرع ،وهذا
يسمى في اللغة عطف العام على الخاص ،أو عطف الخاص على العام ،ليذكر الشيء مرتين،
مرة بخصوصه ،ومرة في عموم غيره .وعندما يتحدث الحق سبحانه عن جنة الخرة فإنه يقول
مرة {:أَعَدّ اللّهُ َل ُهمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ذاِلكَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ }[التوبة]89 :
لقد هيأ ال للمؤمنين به ،المقاتلين في سبيل نصرة دينه وإعلء كلمته جنات تتخللها النهار ،وذلك
لوّلُونَ
ناَ
هو الفوز والنجاح الكبير .ومرة أخرى يتحدث الحق عن جنة الخرة بقوله {:وَالسّا ِبقُو َ
ضيَ اللّهُ عَ ْنهُ ْم وَ َرضُواْ عَ ْن ُه وَأَعَدّ َلهُمْ جَنّاتٍ
ن وَالَ ْنصَارِ وَالّذِينَ اتّ َبعُوهُم بِِإحْسَانٍ ّر ِ
مِنَ ا ْل ُمهَاجِرِي َ
تَجْرِي َتحْ َتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدا ذاِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ }[التوبة]100 :
إن الحديث عن النهار التي تجري تحت الجنة يأتي مرة مسبوقا بـ " مِن " .ومرة أخرى غير
مسبوق بـ " مِن " .فعندما يأتي الحديث عن تلك النهار التي تحت الجنة مسبوقا بـ " مِن " فإن
ذلك يوحي أن نبعها ذاتي فيها والمائية مملوكة لها.
وعندما يأتي الحديث عن تلك النهار التي تجري تحت الجنة مسبوق بـ " مِن " ،فمعنى ذلك أن
نبع هذه النهار غير ذاتي فيها ،ولكنه يجري تحتها بإرادة ال فل يجرؤ أحد أن يمنع الماء عن
هذه الجنة التي أعدها ال للمؤمنين .وعندما يشركنا الحق في التساؤل:
ل وَأَعْنَابٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ َلهُ فِيهَا مِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ
ح ُدكُمْ أَن َتكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ
{ أَ َيوَدّ أَ َ
عصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَ َر َقتْ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ اليَاتِ
ض َعفَآءُ فََأصَا َبهَآ إِ ْ
وََأصَابَهُ ا ْلكِبَ ُر وَلَهُ ذُرّيّ ٌة ُ
َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ } [البقرة]266 :
إن الجنة التي بهذه الصفة وفيها الخير الكثير ،لكن صاحبها يصيبه الكبر ،ولم تعد في صحته فتوة
الشباب ،إنه محاط بالخير وهو أحوج ما يكون إلى ذلك الخير؛ لنه أصبح في الكبر وليس له
طاقة يعمل بها ،وهكذا تكون نفسه معلقة بعطاء هذه الجنة ،ل لنفسه فقط ولكن لذريته من
الضعفاء.
وهذه قمة التصوير للحتياج للخير ،ل للنفس فقط ولكن للبناء الضعفاء أيضا.
إننا أمام رجل محاط بثلثة ظروف .الظرف الول :هو الجنة التي فيها من كل خير.
والظرف الثاني :هو الكبر والضعف والعجز عن العمل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والظرف الثالث :هو الذرية من الضعفاء.
فيطيح بهذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت ،فأي حسرة يكون فيها الرجل؟ إنها حسرة شديدة.
كذلك تكون حسرة من يفعل الخير رئاء الناس .والعصار كما نعرف هو الريح الشديد المصحوبة
برعد وبرق ومطر وقد يكون فيه نار ،هذا إذا كانت الشحنات الكهربائية ناتجة من تصادم السحب
أو حاملة لقذائف نارية من بركان ثائر .هكذا يكون حال من ينفق ماله رئاء الناس .ابتداء مطمع
وانتهاء موئس أي ميئوس منه.
إذن فكل إنسان مؤمن عليه أن يتذكر ساعة أن ينفق هذا البتلء المثير للطمع ،وذلك النتهاء
المليء باليأس .إنها الفجيعة الشديدة .ويصورها الشاعر بقوله:فأصبحت من ليلى الغداة كقابض
على الماء خانته فروج الصابعويقول آخر:كما أبرقت قوما عطاشا غمامة فلما رأوهـا أقشـعت
وتجـلتإن الذي يرائي يخسر كل حاجاته ،ول يقدر على شيء مما كسب .ويقول الحق من بعد
ذلك } :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَ ْنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ{ ...
()268 /
إن هذه الية تعطي صورا تحدث في المجتمع البشري .وكانت هذه الصور تحدث في مجتمع
المدينة بعد أن أسس فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم دولة السلم .فبعض من الناس كانوا
يحضرون العِذق من النخل ويعلقه في المسجد من أجل أن يأكل منه من يريد ،والعِذق هو فرع
قوي من النخل يضم الكثير من الفروع الصغيرة المعلقة عليها ثمار البلح .وكان بعضهم يأتي
حشَف الصغيرة المعلقة عليها ثمار البلح .وكان بعضهم يأتي بعذق غير
بعذق غير ناضج أو بال َ
ناضج أو بالحشف وهو أردأ التمر ،فأراد ال أن يجنبهم هذا الموقف ،حتى ل يجعلوا ل ما
يكرهون ،فأنزل هذا القول الحكيم { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَ ْن ِفقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ }.
إن النفاق يجب أن يكون من الكسب الطيب الحلل ،فل تأتي بمال من مصدر غير حلل لتنفق
منه على أوجه الخير .فال طيب ل يقبل إل طيبا .ول يكون النفاق من رُذَال وردِيء المال.
ن الَ ْرضِ }
ويحدد الحق سبحانه وتعالى وسيلة النفاق من عطائه فيقولَ { :و ِممّآ َأخْرَجْنَا َلكُم مّ َ
وهو سبحانه يذكرنا دائما حين يقول { :أَ ْنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ } أل نظن الكسب هو الصل
في الرزق .ل ،إن الكسب هو حركة موهوبة لك من ال .إنك أيها العبد إنما تتحرك بطاقة
موهوبة لك من ال ،وبفكر ممنوح لك من ال ،وفي أرض سخرها لك ال ،إنها الدوات المتعددة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التي خصك بها ال وليس فيها ما تملكه أنت من ذاتيتك .ولكن الحق يحترم حركة النسان وسعيه
إلى الرزق فيقول { :أَ ْنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ }.
ويحذرنا الحق من أن نختار الخبيث وغير الصالح من نتاج عملنا لننفق منه بقوله سبحانه { :وَلَ
تَ َي ّممُواْ ا ْلخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْن ِفقُونَ } أي ل يصح ول يليق أن نأخذ لنفسنا طيبات الكسب ونعطي ال
رديء الكسب وخبيثه؛ لن الواحد منا ل يرضى لنفسه أن يأخذ لطعامه أو لعياله هذا الخبيث غير
حمِيدٌ } أي
الصالح لننفق منه أو لنأكله { .وَلَسْ ُتمْ بِآخِذِيهِ ِإلّ أَن ُت ْغمِضُواْ فِي ِه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ
أنك أيها العبد المؤمن لن ترضى لنفسك أن تأكل من الخبيث إل إذا أغمضت عينيك ،أو تم تنزيل
سعره لك؛ كأن يعرض عليك البائع شيئا متوسط الجودة أو شيئا رديئا بسعر يقل عن سعر الجيد.
لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا بهذه الصور أوجه النفاق:
* إن النفقة ل تنقص المال وإنما تزيده سبعمائة مرة.
* إن النفقة ل يصح أن يبطلها النسان بالمن والذى.
* إن القول المعروف خير من الصدقة المتبوعة بالمن أو الذى.
* إن النفاق ل يكون رئاء الناس إنما يكون ابتغاءً لمرضاة ال.
هذه اليات الكريمة تعالج آفات النفاق سواءً آفة الشح أو آفة المن أو الذى ،أو النفاق من أجل
التظاهر أمام الناس ،أو النفاق من رديء المال .وبعد ذلك يقول سبحانه { :الشّيْطَانُ َيعِ ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ
وَيَ ْأمُ ُركُم بِا ْلفَحْشَآءِ} ...
()269 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا