You are on page 1of 220

‫تفسير الشعراوي‬

‫ظهُورِهَا وََلكِنّ‬
‫ج وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ُ‬
‫يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْأَهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَ ّ‬
‫الْبِرّ مَنِ ا ّتقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا وَاتّقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ (‪)189‬‬

‫الهلة جمع هلل‪ ،‬وسمى هللً لن النسان ساعة يراه يهل‪ ،‬أي يرفع صوته بالتهليل‪ ،‬ويجيب‬
‫الحق سبحانه وتعالى الجواب الذي يحمل كل التفاصيل عن القمر‪ ،‬وهو الكوكب الذي خضع‬
‫لنشاطات العقل حتى يكتشفه‪ ،‬والعرب القدامى لم يكونوا يعلمون شيئا عن ذلك القمر‪ ،‬ولكنهم كانوا‬
‫يؤرخون به‪ ،‬وعلمهم به لم يزد على حدود انتفاعهم به‪ .‬ولم يصلوا إلى الترف العقلي الذي‬
‫يتأملون به آيات ال في الكون‪ ،‬فكل آيات الكون يُنتفع بها ثم ينشط العقل بعد ذلك‪ ،‬فنعرف‬
‫السبب‪ ،‬وقد ل ينشط العقل فتظل الفائدة هي الفائدة‪.‬‬
‫وأراد الحق سبحانه أن يلفتنا لمبدأ هام‪ ،‬وهو أن يعلمنا كيف نستفيد من اليات الكونية مثل القمر‪،‬‬
‫ل يكفي ظهوره واختفاؤه‪ ،‬وتغير حجمه‪ ،‬لن هذه لن يتسع لها العقل‪ ،‬بل نستفيد منه كميقات‪،‬‬
‫ونستخدمه لقياس الزمن‪ .‬فإذا كنا ونحن نعيش في القرن العشرين‪ ،‬لم يعرف العلماء سببا لظواهر‬
‫القمر‪ ،‬فكيف كان حال الذين سألوا عنها منذ أربعة عشر قرنا؟‬
‫قال العلماء المعاصرون في تفسيراتهم مثلً‪ :‬إن الشمس مثل حجم الرض مليونا وربع مليون‬
‫مرة‪ ،‬والقمر أصغر من الرض‪ ،‬وعندما تأتي الرض بين الشمس والقمر برغم حجم الشمس‬
‫الهائل فإن الرض تحجب جزءا من القمر‪ ،‬هذا الجزء المحجوب بقدر تدوير القوس المحجوب‬
‫من الرض ويصبح هذا الجزء من القمر مظلما‪.‬‬
‫إن القمر وجوده ثابت لكن الرض عندما توجد بينه وبين الشمس فهي التي تحجب عنه ضوء‬
‫الشمس‪ ،‬ويكبر حجم نوره كلما تزحزحت الرض بعيدا عنه‪ .‬وعندما تنزاح الرض بعيدا عنه‬
‫كلية يظهر في السماء بدرا كاملً‪ ،‬ثم تعود الرض بعد ذلك لتحجب عنه جزءا من الشمس‪،‬‬
‫ويزداد ذلك يوما بعد يوم‪ ،‬فينقص ضوء الشمس المنعكس عليه تبعا لذلك‪ ،‬فيقل تدريجيا حتى تأتي‬
‫الرض بينه وبين الشمس فل يظهر منه شيء‪.‬‬
‫ونقول نحن‪ :‬إننا عندما ل نرى القمر ل في الليل ول في النهار برغم أنه موجود في مكانه‪،‬‬
‫نقول‪ :‬إنه مستور في ظل الرض‪ ،‬لذلك ل نراه‪ .‬وهذه الظاهرة ل تحدث للشمس لن جرم‬
‫الشمس كبير جدا‪ .‬وعندما يحدث فإن الثر يكون قليل‪ ،‬ويسمى بالكسوف‪.‬‬
‫وعندما التفت العرب للكون قالوا‪ :‬ما بال الهلل يصبح هكذا ثم يكبر حتى يصير بدرا‪ ،‬فقال الحق‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س وَالْحَجّ } إنهم هم يسألون عن الهلة ودورتها‪ ،‬فقطع ال عليهم‬
‫عز وجل‪ُ { :‬قلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ‬
‫س وَالْحَجّ }‪ .‬إن هذا المر‬
‫خيط تفكيرهم وأعطاهم الخلصة والنتيجة‪ ،‬فقال‪ُ { :‬قلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ‬
‫هو الذي يستطيع العقل في ذلك الزمان أن يعرفه‪ ،‬أما ما وراء ذلك فانتظروا حتى يكشف الزمن‬
‫عنه‪ ،‬وجهلكم به ل يقلل من نفعكم‪.‬‬
‫لقد كانت كل إجابة لي سؤال في ذلك الزمان تحتوي على ما يتسع العقل لدراكه ساعة التشريع‪،‬‬
‫أما بقية الجابة فالحق يتركها للزمن‪.‬‬

‫ول يعطينا إل ما يفيد التشريع‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬كانوا قديما يقولون‪ :‬الرض كرة وأثبت لنا العلم أنها‬
‫كذلك‪ ،‬ورأيناها بالقمار الصناعية وانتهت القضية‪.‬‬
‫وعندما سأل العرب عن الهلة أخبرنا الحق بأنها مواقيت‪ ،‬والمواقيت جمع ميقات‪ ،‬والميقات من‬
‫الوقت‪ ،‬والوقت هو الزمن‪ ،‬ونعرف أن كل حدث من الحداث يحتاج إلى زمن وإلى مكان‪ .‬إذن‬
‫فالزمان والمكان مرتبطان بالحدث فل يوجد زمان ول مكان إل إذا وجد حدث‪.‬‬
‫والذي يقول‪ :‬كيف كان الزمن قبل أن يخلق ال الخلق؟‪ .‬نقول له‪ :‬الزمن وُجد للحادث وهو‬
‫المخلوقات وال قديم‪ ،‬وما دام ال قديما وليس حادثا فل زمان ول مكان‪ ،‬ل تقل متى ول أين؛ لن‬
‫متى وأين مخلوقة‪ .‬وكيف نعرف الوقت؟ نحن نعرف الوقت بأنه مقدار من الزمن‪ ،‬لمقدار من‬
‫الحركة ولمقدار من الفعل‪.‬‬
‫وأين المكان في هذا التعريف؟ إن الزمان يتحكم أحيانا في المكان‪ ،‬فيقول الزمان هو الصل‪،‬‬
‫والمكان طارئ عليه‪ ،‬ومرة أخرى يكون المكان هو الصل‪ ،‬والزمان هو الطارئ عليه‪ ،‬ومرة‬
‫ثالثة يتلزم الثنان الزمان والمكان‪.‬‬
‫ونحن في مصر إذا أردنا الحج فإننا نبدأ الحرام عند رابغ‪ ،‬ونُسمي رابغ ميقات أهل مصر أي‬
‫هي المكان الذي ل يتجاوزه من مر عليه إل وهو محرم‪.‬‬
‫إذن فالميقات قد أطلق على مكان هو رابغ‪ ،‬ومن فور وصول النسان المصري إلى رابغ بغية‬
‫الحج يحرم‪ ،‬سواء كان الوقت صباحا أو ظهرا أو عصرا أو مغربا‪.‬‬
‫ولكن عندما نبدأ في الصوم فإن الزمن يصبح هو الصل في صومك في أي مكان تذهب إليه‪ ،‬إن‬
‫الزمان هو الذي يحدد مواعيد الصوم‪ :‬في طنطا أو لندن أو في طوكيو‪ ،‬وهكذا نعرف كيف يكون‬
‫الزمن ميقاتا‪.‬‬
‫إذن فمرة يكون الزمن هو المتحكم في الميقات والمكان طارئ عليه‪ ،‬ومرة يكون المكان هو الذي‬
‫يتحكم في الميقات‪ ،‬والزمن طارئ عليه‪ ،‬ومرة يتحكم الزمان والمكان معا في الفعل مثل يوم‬
‫عرفة‪.‬‬
‫وهكذا نعرف معنى } َموَاقِيتُ لِلنّاسِ { ‪ ،‬فنحن بالهلل نعرف بدء شهر رمضان‪ ،‬ونعرف به عيد‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الفطر‪ ،‬وكذلك موسم الحج وعدة المرأة‪ ،‬والشهر الحرم‪ ،‬إن كل هذه المور إنما نعرفها‬
‫بالمواقيت‪ .‬وشاء الحق أن يجعل الهلل هو أسلوب تعريفنا تلك المور وجعل الشمس لتدلنا على‬
‫اليوم فقط‪ ،‬وإن كان لها عمل آخر في البروج التي يتعلق بها حالة الطقس والجو‪ ،‬والزراعة‪،‬‬
‫شمْسَ ضِيَآ ًء وَا ْلقَمَرَ نُورا }[يونس‪]5 :‬‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫ولذلك قال‪ُ {:‬هوَ الّذِي َ‬
‫وانظر إلى الدقة في الداء وكيف يشرح الحق للنسان ماهية النور‪ ،‬وماهية الضوء‪ .‬إن الشمس‬
‫مضيئة بذاتها‪ ،‬أما القمر فهو منير؛ لن ضوءه من غيره؛ فهو مثل قطعة الحجر اللمعة التي‬
‫تنعكس عليها أشعة الشمس فتعطينا نورا‪.‬‬

‫ج َعلَ فِيهَا سِرَاجا َو َقمَرا مّنِيرا }‬


‫إن القمر منير بضوء غيره‪ ،‬ولذلك يقول الحق في آية أخرى‪ {:‬وَ َ‬
‫[الفرقان‪]61 :‬‬
‫والسراج في هذه الية هو الشمس التي فيها حرارة‪ ،‬وجعلها الحق ذات بروج‪ ،‬أما القمر فله‬
‫س ضِيَآ ًء وَا ْل َقمَرَ نُورا‬
‫شمْ َ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫منازل وهو منير بضوء غيره؛ وفي ذلك يقول الحق‪ُ {:‬هوَ الّذِي َ‬
‫حسَابَ }[يونس‪]5 :‬‬
‫ن وَالْ ِ‬
‫عدَدَ السّنِي َ‬
‫َوقَدّ َرهُ مَنَا ِزلَ لِ َتعَْلمُواْ َ‬
‫إذن‪ ،‬فعدد السنين وحسابها يأتي من القمر‪ ،‬وفي زماننا إذا أرادوا أن يضبطوا المعايير الزمنية فهم‬
‫يقيمونها بحساب القمر؛ فقد وجدوا أن الحساب بالقمر أضبط من الحساب بالشمس؛ فالحساب‬
‫بالشمس يختل يوما كل عدد من السنين‪.‬‬
‫ولنفهم الفرق بين منازل القمر وبروج الشمس‪ .‬إن البروج هي أسماء من اللغة السريانية‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫برج الحمل‪ ،‬والثور‪ ،‬والجوزاء‪ ،‬والسرطان‪ ،‬والعذراء‪ ،‬والسد‪ ،‬والميزان‪ ،‬والعقرب‪ ،‬والقوس‪،‬‬
‫والجدي‪ ،‬والدلو‪ ،‬والحوت‪ ،‬وعددها اثنا عشر برجا هذه هي أبراج الشمس‪ ،‬ويتعلق بها مواعيد‬
‫الزرع والطقس والجو‪ ،‬ويحب أن نفهم أن ل في البروج أسرارا‪ ،‬بدليل أن الحق سبحانه وتعالى‬
‫سمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ {‪.‬‬
‫جعلها قسما حين يقول‪ } :‬وَال ّ‬
‫ولذلك تجد أن التوقيت في الشمس ل يختلف؛ فالشهور التي تأتي في البرد‪ ،‬والتي تأتي في الحر‬
‫هي هي‪ ،‬وكذلك التي تأتي في الخريف‪ ،‬والربيع‪ ،‬وبين السنة الشمسية والسنة القمرية أحد عشر‬
‫يوما‪ ،‬والسنة القمرية هي التي تستخدم في التحديد التاريخي للشهور العربية ونعرف بداية كل‬
‫شهْرا }[التوبة‪]36 :‬‬
‫شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ َ‬
‫ع ّدةَ ال ّ‬
‫شهر بالهلل‪ {:‬إِنّ ِ‬
‫ولذلك كانت تكاليف العبادة محسوبة بالقمر حتى تسيح المنازل القمرية في البروج الشمسية‪ ،‬فيأتي‬
‫التكليف في كل جو وطقس من أجواء السنة‪ ،‬فل تصوم رمضان في صيف دائم‪ ،‬ول في شتاء‬
‫دائم‪ ،‬ولكن ُيقَّلبُ ال مواعيد العبادات على سائر أيام السنة‪ ،‬والذين يعيشون في المناطق الباردة‬
‫مثلً لو كان الحج ثابتا في موسم الصيف لما استطاعوا أن يؤدوا الفريضة‪ ،‬ولكن يدور موسم‬
‫الحج في سائر الشهور فعندما يأتي الحج في الشتاء ييسر لهم مهمة أداء الفريضة في مناخ قريب‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من مناخ بلدهم‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن حكمة ال اقتضت أن تدور مواقيت العبادات على سائر أيام السنة حتى يستطيع كل‬
‫الناس حسب ظروفهم المناخية أن يؤدوا العبادات بل مشقة‪ .‬إذن فالمنازل شائعة في البروج‪ ،‬وهذا‬
‫سبب قول بعض العلماء‪ :‬إن ليلة القدر تمر دائرة في كل ليالي السنة‪ ،‬وذلك حسب سياحة المنازل‬
‫في البروج‪.‬‬
‫إذن فهناك بروج للشمس‪ ،‬ومنازل للقمر‪ ،‬ومواقع للنجوم‪ ،‬ومواقع النجوم التي يقسم بها ال سبحانه‬
‫عظِيمٌ }[الواقعة‪]76-75 :‬‬
‫سمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَسَمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ َ‬
‫في قوله‪ {:‬فَلَ ُأقْ ِ‬
‫ولعل وقتا يأتي يكشف ال فيها للبشرية أثر مواقع النجوم على حياة الخلق وذلك عندما تتهيأ‬
‫النفوس لذلك وتقدر العقول على استيعابه‪.‬‬

‫إذن كل شيء في الكون له نظام‪ :‬للشمس بروج‪ ،‬وللقمر منازل‪ ،‬وللنجوم مواقع‪ .‬وكل أسرار‬
‫الكون ونواميسه ونظامه في هذه المخلوقات‪ ،‬وقد أعطانا ال من أسرار الهلة أنها مواقيت للناس‬
‫والحج‪ .‬وعندما تكلم سبحانه عن الحج أراد أن يعطينا حكما متعلقا به؛ فقد كانت هناك قبائل من‬
‫العرب تعرف بالحمس‪ ،‬هؤلء الحمس كانوا متشددين في دينهم ومتحمسين له‪ ،‬ومنهم كانت‬
‫قريش‪ ،‬وكنانة‪ ،‬وخثعم‪ ،‬وجشم‪ ،‬وبنو صعصاع بن عامر‪ .‬وكان إذا حج الفرد من هؤلء ل يدخل‬
‫بيته من الباب لنه أشعث أغبر من أداء مناسك الحج‪ .‬ويحاول أن يدخل بيته على غير عادته‪،‬‬
‫لذلك كان يدخل من ظهر البيت‪ ،‬وكان ذلك تشددا منهم‪ ،‬لم يرد ال أن يُشرَعه‪ .‬حتى ل يطلع على‬
‫شيء يكرهه في زوجه أو أهله‪ .‬وأراد سبحانه عندما ذكر مناسك الحج في القرآن أن ينقي‬
‫ظهُورِهَا‬
‫المناسك من هذه العادة المألوفة عند العرب فقال‪ } :‬وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ُ‬
‫وَلَـاكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَىا وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا وَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ { أي ل تجعلوا المسائل‬
‫شكلية‪ ،‬فنحن نريد أصل البر وهو الشيء الحسن النافع‪.‬‬
‫والملحظ أن كلمة " البر " في هذه الية جاءت مرفوعة‪ ،‬لن موقعها من العراب هو " اسم ليس‬
‫" وهي تختلف عن كلمة " البر " التي جاءت من قبل في قوله تعالى‪ } :‬لّيْسَ الْبِرّ أَن ُتوَلّواْ‬
‫ق وَا ْل َمغْرِب { التي جاءت منصوبة؛ لن موقعها من العراب هو " خبر مقدم‬
‫وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ‬
‫لليس "‪ .‬حاول المستشرقون أن يأخذوا هذا الختلف في الرفع والنصب على القرآن الكريم‪.‬‬
‫ونقول لهم‪ :‬أنتم قليلو الفطنة والمعرفة باللغة العربية‪ ،‬فماذا نفعل لكم؟‪ .‬يصح أن نجعل الخبر مبتدأ‬
‫فنقول‪ " :‬زيد مجتهد " ‪ ،‬هذا إذا كنا نعلم زيدا ونجهل صفته‪ ،‬فجعلنا زيدا مبتدأ‪ ،‬ومجتهدا خبرا‪.‬‬
‫لكن إذا كنا نعرف إنسانا مجتهدا ول نعرف من هو؛ فإننا نقول‪ " :‬المجتهد زيد "‪.‬‬
‫إذن فمرة يكون السم معروفا لك فتلحق به الوصف‪ ،‬ومرة تجهل السم وتعرف الوصف فتلحق‬
‫السم بالوصف‪ .‬وهذا سر اختلف الرفع والنصب في كلمة " البر " في كل من اليتين‪ .‬ونقول‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للمستشرقين‪ :‬إن لكل كلمة في القرآن ترتيبا ومعنى‪ ،‬فل تتناولوا القرآن بالجهل‪ ،‬ثم تثيروا‬
‫الشكالت التي ل تقلل من قيمة الكتاب ولكنها تكشف جهلكم‪.‬‬
‫ثم ما هو " البر "؟ قلنا‪ :‬إن البر هو الشيء الحسن النافع‪ .‬ولو ترك ال لنا تحديد " البر " لختلفت‬
‫قدرة كل منا على فهم الحسن والنافع باختلف عقولنا؛ فأنت ترى هذا " حسنا "؛ وذاك يرى شيئا‬
‫آخر‪ ،‬وثالث يرى عكس ما تراه‪ ،‬لذلك يخلع ال يدنا من بيان معنى البر‪ ،‬ويحدد لنا سبحانه‬
‫مواصفات الحسن النافع‪ ،‬فما من واحد ينحرف ويميل إلى شيء إل وهو يعتقد أنه هو الحسن‬
‫النافع‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪ } :‬وَلَـاكِنّ الْبِرّ مَنِ ا ّتقَىا وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَ ْبوَا ِبهَا {‪.‬‬

‫إن هذا يدلنا على أن كل غاية لها طريق يوصل إليها‪ ،‬فاذهب إلى الغاية من الطريق الذي يوصل‬
‫إليها‪ .‬ويتبع الحق قوله عن البر‪ } :‬وَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ {‪ .‬ل تزال كلمة التقوى هي الشائعة‬
‫في هذه السورة‪ ،‬وكل حكم يعقبه السبب من تشريعه وهو التقوى‪.‬‬
‫ونعرف أن معنى التقوى هو أن تتقي معضلت الحياة‪ ،‬ومشكلتها بأن تلتزم منهج ال‪ .‬وساعة‬
‫ترى منهج ال وتطبقه فأنت اتقيت المشكلت‪ ،‬أما من يعرض عن تقوى ال فإن الحق يقول عن‬
‫ش ًة ضَنكا }[طه‪]124 :‬‬
‫مصيره‪ {:‬فَإِنّ لَهُ َمعِي َ‬
‫ول يظن أحد أن التقوى هي اتقاء النار‪ ،‬ل‪ ،‬إنها أعم من ذلك‪ ،‬إنها اتقاء المشكلت والمخاطر‬
‫التي تنشأ من مخالفة منهج ال‪ .‬وليعلم النسان أن كل مخالفة منهج ال‪ .‬وليعلم النسان أن كل‬
‫مخالفة ارتكبها لبد أن يمر عليها يوم تُرتكب فيه هذه المخالفة كما ارتكبها في غيره‪ ،‬فمن ل‬
‫يحب أن تُجرى فيه المخالفات فعليه أل يرتكب المخالفات في غيره‪.‬‬
‫وبعد ذلك ينتقل الحق إلى قضية أخرى‪ ،‬وهذه القضية الخرى هي التي تميز المة السلمية‬
‫بخصوصية فريدة؛ لنه سبحانه قد أوجد وفطر هذه المة على منهاج قويم لم تظفر به أمة من‬
‫قبل‪ ،‬وهذه الخصوصية هي أن ال قد أمن أمة محمد على أن تؤدب الخارجين على منهج ال؛‬
‫فقديما كانت السماء هي التي تُؤدب هؤلء الخارجين عن المنهج‪ .‬كان الرسول يشرح ويبلغ‬
‫المنهج‪ ،‬فإن خالفه الناس تتدخل السماء وتعاقبهم‪ ،‬إما بصاعقة‪ ،‬وإما بعذاب‪ ،‬وإما بفيضان‪ ،‬وإما‬
‫بأي وسيلة‪ .‬ولم يكن الرسل مكلفين بحمل وقسر الناس على المنهج‪ .‬وحين سأل بنو إسرائيل ربهم‬
‫أن يقاتلوا‪ ،‬لم يكن قتالهم من أجل الدين مصداقا للية الكريمة‪ {:‬قَالُو ْا َومَا لَنَآ َألّ ُنقَاتِلَ فِي سَبِيلِ‬
‫اللّ ِه َوقَدْ أُخْ ِرجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا }[البقرة‪]246 :‬‬
‫علة القتال ـ إذن ـ أنهم أُخرجوا من بيوتهم وأُجبروا على ترك أولدهم‪ ،‬فهم عندما سألوا القتال‬
‫لم يسألوه للدفاع عن العقيدة‪ ،‬وإنما لنهم أخرجوا من ديارهم وأولدهم‪.‬‬
‫أما أمة محمد صلى ال عليه وسلم فهي التي أمنها ال على أن يكون في يدها الميزان‪ ،‬وليس هذا‬
‫الميزان ميزان تسلط‪ ،‬وإنما هو ميزان يحمي كرامة النسان بأن يصون له حرية اختياره بالعقل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذي خلقه ال‪ ،‬فل إكراه في اليمان بال‪ .‬وقد شرع ال القتال لمة محمد ل ليفرض به دينا‪،‬‬
‫ولكن ليحمي اختيارك في أن تختار الدين الذي ترتضيه‪ .‬وهو يمنع سدود الطغيان التي تحول‬
‫دونك ودون أن تكون حرا مختارا في أن تقبل التكليف‪.‬‬
‫ولذلك فالذين يحاولون أن يلصقوا بالسلم تهمة أنه انتشر بالسيف نقول لهم‪ :‬إن حججهم ساقطة‬
‫واهية‪ ،‬وكذلك قولهم‪ :‬إن السلم عندما يفرض الجزية فكأنه جاء لجباية الموال‪ ،‬نقول لهؤلء‪:‬‬
‫جزية على مَنْ؟ جزية على غير المؤمن‪ ،‬ومادام قد فُرضت عليه جزية فمعنى ذلك أنه أباح له أن‬
‫يكون غير مؤمن‪ ،‬لو كان السلم يُكره الناس على اعتناقه لما كان هناك مَنْ نأخذ عليه جزية‪.‬‬

‫إذن فالسلم لم يُكرهه‪ ،‬وإنما حماه من القوة التي تسيطر عليه حتى ل يُكرهه أحد على ترك‬
‫دينه‪ ،‬وهو حر بعد ذلك في أن يسلم أو ل يسلم‪ .‬وكأن الذين ينتقدون السلم يدافعون عنه؛‬
‫فسهامهم قد ارتدت إليهم‪.‬‬
‫وهنا تساؤل قد يثور‪ :‬إذا كان المر كذلك فلماذا كانت حروب المسلمين؟ نقول‪ :‬إن حروب‬
‫السلم كانت لمواجهة الذين يفرضون العقائد الباطلة على غيرهم‪ ،‬وجاء السلم ليقول لهؤلء‪:‬‬
‫ارفعوا أيديكم عن الناس واجعلوهم أحرارا في أن يختاروا الدين المناسب‪ .‬ولماذا تركهم السلم‬
‫أحرارا؟ لنه واثق أن النسان مادام على حريته في أن يختار فل يمكن أن يجد إل الحق واضحا‬
‫في السلم‪ .‬ولذلك فكثير من الناس الذين يقرأون قوله تعالى‪ {:‬لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ‪[} ..‬البقرة‪:‬‬
‫‪]256‬‬
‫شدُ مِنَ ا ْل َغيّ‬
‫ل يفطنون إلى أن العلة واضحة في قوله ـ سبحانه ـ من الية نفسها } قَد تّبَيّنَ الرّ ْ‬
‫{‪ .‬إذن فالمسألة واضحة لماذا نُكره الناس وقد وضح أمامهم الحق والباطل؟ نحن فقط نمنع الذين‬
‫يفرضون عقائدهم الباطلة على الناس؛ فأنت تستطيع أن تُكره القالب‪ ،‬لكن ل تستطيع أن تُكره‬
‫القلب‪ .‬ونحن نريد أن ينبع اليمان من القلب‪ ،‬ولهذا يقول الحق لسيدنا رسول ال صلى ال عليه‬
‫سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ‬
‫وسلم‪َ {:‬لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫ضعِينَ }[الشعراء‪]4-3 :‬‬
‫َلهَا خَا ِ‬
‫إن ال ل يريد أعناقا‪ ،‬لو كان يريد أعناقا لما استطاع أحد أن يخرج عن قدره ـ سبحانه ـ من‬
‫يُريد ال أن يبتليه بمرض أو موت فلن ينجو من قدره‪ .‬إن الحق يريد إيمان قلوب ل رضوخ‬
‫قوالب‪ .‬فالذي يجبر الخرين على اليمان بالكرباج لن يتبعه أحد‪ ،‬وهو نفسه غير مؤمن بما‬
‫يفرضه على الناس‪ .‬ولو كان مؤمنا به لما فرضه على الناس بالقسر؛ إنهم سيقبلونه عن طواعية‬
‫واختيار عندما يتبيّن لهم أنه الحق المناسب لصلح حياتهم‪.‬‬
‫ونحن نلتفت حولنا فنجد أن النظم والحكومات التي تفرض مبادئها بالسوط والقهر تتساقط تباعا‪،‬‬
‫فعندما تتخلى هذه الحكومات عن السوط والبطش فإن الشعوب تتخلى عن تلك الفكار‪ .‬والقرآن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هنا يعالج هذه المسألة عندما يتحدث عن القتال وتشريع القتال‪ ،‬المر الذي اختص به الحق أمة‬
‫السلم‪ .‬وهو سبحانه لم يأذن بالقتال خلل فترة الدعوة المكية التي استمرت ثلثة عشر عاما‪ ،‬ثم‬
‫أذن به بعد الهجرة إلى المدينة‪.‬‬

‫وقد كان من الضروري أن يتأخر أمر القتال؛ لن الحق أراد أولً أن يلتفت المسلمون إلى اتباع‬
‫عفُو ْا وَاصْفَحُواْ‬
‫المنهج حتى يكونوا لغيرهم قدوة‪ ،‬ويروا فيهم أسوة حسنة‪ ،‬لذلك قال الحق‪ {:‬فَا ْ‬
‫حَتّىا يَأْ ِتيَ اللّهُ بَِأمْ ِرهِ }[البقرة‪]109 :‬‬
‫ن وَا ْلمُنَا ِفقِينَ َو َدعْ َأذَا ُهمْ }[الحزاب‪]48 :‬‬
‫وقال سبحانه أيضا‪َ {:‬ولَ ُتطِعِ ا ْلكَافِرِي َ‬
‫لماذا كل هذا التدرج؟ لن الحق سبحانه وتعالى علم أن الدعوة للسلم ستدخل البيوت العربية‪،‬‬
‫فسيضم البيت الواحد كافرا بال ومؤمنا بال‪ ،‬ولو أنه سبحانه وتعالى شرع القتال من البداية لصار‬
‫في كل بيت معركة‪.‬‬
‫ثم إن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن تلك القبائل العربية بها كثير من خفة وطيش وسفه؛ وكانوا‬
‫يقتتلون لتفه السباب؛ فمن أجل ناقة ضربها كليب بسهم في ضرعها فماتت اشتعلت الحرب‬
‫أربعين سنة‪ .‬وفي ذلك يقول الشاعر عند الحفيظة والغضب‪:‬قـوم إذا الشـر أبـدى ـ‬
‫ناجـذيـه لـهـم ـ طـاروا إلـيـه زرافـات ووحـدانـاوالثاني يقول‪:‬ل يسـألـون‬
‫أخـاهـم حـين يندبهـم في النـائبـات عـلى مـا قـال بـرهـاناأي أنهم ل يسألون أخاهم‪:‬‬
‫" لماذا نحارب؟ " ‪ ،‬وإنما يحاربون بل سبب ولي سبب‪ ،‬فالحمية الرعناء تدفعهم للقتال بل سبب‪.‬‬
‫وفي مقابل ذلك كانت عندهم نخوة للحق‪ ،‬فعندما يرون شخصا قد ظلمه غيره؛ تأخذهم النخوة‪،‬‬
‫ويأخذون على يد الظالم‪ ،‬وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يهيج فيهم النخوة حين يرون الضعاف‬
‫من المسلمين مستضعفين‪ ،‬وقد عزلهم بعض من القوم في شعب أبي طالب وجوعوهم وقاطعوهم‬
‫حتى اجتمع الخمسة العظام في مكة وقالوا‪ " :‬كيف نقبل أن نأكل ونشرب ونأتي نساءنا وبنو هاشم‬
‫وبنو المطلب محصورون في الشعب ل يأكلون ول يشربون ول يتبايعون "‪.‬‬
‫لقد كانوا كفارا‪ ،‬وبرغم ذلك وقفوا موقفا عظيما وقالوا‪ :‬هاتوا الصحيفة التي تعاهدنا فيها على أن‬
‫نقاطع بني هاشم وبني المطلب ونقطعها؛ واتفقوا على ذلك‪ .‬وكانوا خمسة من سادات مكة هم‪:‬‬
‫هشام بن عمرو‪ ،‬وزهير بن أبي أمية‪ ،‬وأبو البحتري بن هاشم‪ ،‬وزمعة ابن السود‪ ،‬والمطعم بن‬
‫عدي‪ .‬وكانوا قادة النخوة التي أنهت مقاطعة المسلمين‪ .‬هكذا نرى أن العرب كانوا يتسمون‬
‫بالحمية الرعناء وتقابلها النخوة في الحق‪.‬‬
‫ويعلم الحق سبحانه وتعالى أن نقل أمة العرب مما اعتادته ليس أمرا سهلً‪ ،‬لذلك أخذهم برفق‬
‫ال َهوَادة‪ .‬والذين يقولون‪ :‬لماذا لم يحارب المسلمون أعداءهم من أول وهلة ولماذا لم يقتلوا صناديد‬
‫الكفر في مكة؟‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نقول لهم‪ :‬إن كثيرا من الذين كنتم ترون قتالهم في بداية الدعوة السلمية هم الذين نشروا راية‬
‫السلم من بعد ذلك‪ ،‬ومثال ذلك خالد بن الوليد‪ ،‬الذي كان قائدا مغوارا في صفوف المشركين‪،‬‬
‫وقاتل المسلمين في أول حياته‪ ،‬ثم هداه ال للسلم وأصبح سيف ال المسلول‪ ،‬ماذا لو قتل هذا‬
‫القائد الفذ على أيدي المسلمين؟ كان مثل هذا الفعل سيتسبب في حرمان المسلمين من موهبته‪ ،‬تلك‬
‫الموهبة التي أسهمت في معظم الفتوحات السلمية في الشام والعراق‪.‬‬

‫إذن شاءت حكمة ال أن يستبقي أمثال خالد وهم خصوم للسلم في بدء الدعوة لن ال قد أعد‬
‫لهم دورا يخدمون به السلم‪ .‬والذين نالوا من السلم أول هم الذين ستبقى عندهم الحرارة حتى‬
‫يعملوا عملً يغفر ال لهم به ما قد سبق‪.‬‬
‫انظر إلى عكرمة بن أبي جهل كان شوكة في ظهر المسلمين في بداية الدعوة‪ ،‬ثم أسلم وأبلى بلء‬
‫حسنا‪ ،‬ولما أصيب في موقعة اليرموك وأوشكت روحه أن تصعد إلى خالقها نظر إلى قائده خالد‬
‫بن الوليد وقال‪ :‬أهذه ميتة تُرضى عني رسول ال؟‪ .‬كأنه كان يعلم أن رسول ال كان قد غضب‬
‫عليه قبل أن يسلم‪.‬‬
‫وعمرو بن العاص داهية المسلمين الذي لوله ما فُتحت مصر‪ .‬فقد كسب بدهائه أهل مصر‬
‫فامتنعوا عن قتاله‪ ،‬وناظرهم بعد ذلك حتى استل حقدهم على المسلمين‪ ،‬وأبان لهم أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قال موصياتهم " استوصوا بالقبطيين خير لن لهم رحما وذمة " وفوق هذا‬
‫فقد أرسله النبي صلى ال عليه وسلم إلى بعض العرب يستقرهم إلى السلم‪.‬‬
‫إذن فمن رحمة ال أنه لم يشأ تشريع القتال من البداية‪ ،‬وإل لكنا فقدنا كثيرا من قادة السلم‬
‫العظام الذين حملوا لواء الدعوة السلمية فيما بعد‪ ،‬وكل إنسان استقاه السلم وهو خصم وعدو‬
‫للسلم‪ ،‬قدر ال له بعد السلم دورا يخدم به الدين الخاتم‪.‬‬
‫ومن هنا نفهم الحكمة من تأخير القتال في السلم‪ ،‬لن ال أراد أن يمحص ويختبر‪ ،‬وأل يدخل‬
‫هذا الدين إل من يتحمل متاعب هذا الدين‪ ،‬ومشاقه لنه سيكون مأمونا على مجد أمة‪ ،‬وعلى منهج‬
‫سماء‪ ،‬وتلك أمور ل يصلح لها أي واحد من الناس‪.‬‬
‫وقد كان من الممكن أن ينصر ال دينه من أول وهلة دون تدخل من المسلمين‪ ،‬وكان معنى ذلك‬
‫أن الناس سيتساوون في اليمان أولهم وآخرهم‪ ،‬ولكن شاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يجعل لهذا‬
‫الدين رجالً يفدونه بأرواحهم وأموالهم لينالوا الشهادة ويرتفعوا إلى مصاف النبيين‪ .‬لذلك جاء‬
‫المر بالقتال متأخرا وبالتدريج؛ لقد جاء المر بالقتال في أول مرحلة بقول ال تعالى‪َ } :‬وقَاتِلُواْ‬
‫فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم وَلَ َتعْتَدُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)193 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ (‪)190‬‬
‫َوقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم وَلَا َتعْتَدُوا إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬

‫وسبب نزول هذه الية أن رسول ال صلى ال عليه وسلم اشتاق هو وصحابته إلى البيت الحرام‪،‬‬
‫وأرادوا أن يعتمروا‪ ،‬فجاءوا في ذي القعدة من السنة السادسة من الهجرة‪ .‬وأرادوا أن يؤدوا‬
‫العمرة‪ .‬فلما ذهبوا وكانوا في مكان اسمه الحديبية‪ ،‬ووقفت أمامهم قريش وقالت‪ :‬ل يمكن أن‬
‫يدخل محمدٌ وأصحابه مكة‪.‬‬
‫وقامت مفاوضات بين الطرفين‪ ،‬ورضي رسول ال بعدها أن يرجع هذا العام على أن يأتي في‬
‫العام القادم‪ ،‬وتُخلى لهم مكة ثلثة أيام في شهر ذي القعدة‪.‬‬
‫وكان الرسول صلى ال عليه وسلم قد بشر أصحابه بأنهم سيدخلون المسجد الحرام محلقين‬
‫ومقصرين‪ ،‬وشاع ذلك الخبر‪ ،‬وفرح به المسلمون وسعدوا‪ ،‬ثم فوجئوا بمفاوضات رسول ال‬
‫ورجوعه على بعد نحو عشرين كيلو مترا من مكة وحزن الصحابة‪ .‬حتى عمر بن الخطاب‬
‫رضي ال عنه غضب وقال للنبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬ألست رسول ال؟ ألست على الحق؟ فرد‬
‫عليه سيدنا أبو بكر قائل‪ :‬الزم غرزك يا عمر إنه لرسول ال‪.‬‬
‫وقد أظهرت هذه الواقعة موقفا لم المؤمنين أم سلمة رضي ال عنها‪ ،‬وهو موقف يعبر عن‬
‫الحنان والرحمة والمشورة اللينة الهينة‪ .‬فحينما دخل عليها رسول ال وقال لها‪ :‬هلك المسلمون يا‬
‫أم سلمة‪ ،‬أمرتهم فلم يمتثلوا‪.‬‬
‫فانظر إلى مهمة الزوجة عندما يعود إليها زوجها مهموما‪ ،‬هنا تتجلى وظيفتها في السكن‪ ،‬قالت أم‬
‫سلمة‪ :‬اعذرهم يا رسول ال؛ إنهم مكروبون‪ .‬كانت نفوسهم مشتاقة لن يدخلوا بيت ال الحرام‬
‫محلقين ومقصرين‪ ،‬ثم حرموا منها وهم على بعد أميال منها‪ ،‬اعمد إلى ما أمرك ال فافعله ول‬
‫تُكلم أحدا‪ ،‬فإن رأوك فعلت‪ ،‬علموا أن ذلك عزيمة‪.‬‬
‫وأخذ رسول ال بنصيحة أم سلمة‪ ،‬وصنع ما أمره به ال‪ ،‬وتبعه كل المسلمين‪ ،‬وانتهت المسألة‪.‬‬
‫وقبل أن يرجعوا للمدينة لم يشأ ال أن يطيل على الذين انتقدوا الموقف حتى ل يظل الشرخ في‬
‫نفوس المؤمنين‪ ،‬وتلك عملية نفسية شاقة‪ ،‬لذلك لم يُطل ال عليهم السبب‪ ،‬وجاء بالعلة قائل لهم‪:‬‬
‫ما يحزنكم في أن ترجعوا إلى المدينة؛ أنتم لكم إخوان مؤمنون في مكة وقد أخفوا إيمانهم وهم‬
‫مندسون بين الكفار‪ ،‬فلو أنكم دخلتم‪ ،‬وقاتلوكم‪ ،‬ستقاتلون الجميع مؤمنين وكافرين‪ ،‬فتقتلون إخوانا‬
‫لكم‪ ،‬فلو كان هؤلء الخوان المؤمنون متميزين في جانب من مكة لذنت لكم بقتال المشركين؛‬
‫سجِدِ الْحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفا‬
‫كما تريدون‪ .‬واقرأ قول ال تعالى‪ُ {:‬همُ الّذِينَ َكفَرُو ْا َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ‬
‫ن وَنِسَآءٌ ّمؤْمِنَاتٌ لّمْ َتعَْلمُوهُمْ أَن تَطَئُو ُهمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مّ ْنهُمْ ّمعَ ّرةٌ‬
‫أَن يَبْلُغَ َمحِلّ ُه وََل ْولَ رِجَالٌ ّم ْؤمِنُو َ‬
‫حمَتِهِ مَن َيشَآءُ َلوْ تَزَيّلُواْ َل َعذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُواْ مِ ْنهُمْ عَذَابا أَلِيما }[الفتح‪:‬‬
‫خلَ اللّهُ فِي رَ ْ‬
‫ِبغَيْرِ عِلْمٍ لّ ُيدْ ِ‬
‫‪]25‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بعد نزول الية عرف المسلمون أن المتناع كان لعلة ولحكمة‪ ،‬فلما جاءوا في العام التالي قال ال‬
‫شهْرِ الْحَرَا ِم وَالْحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ }[البقرة‪]194:‬‬
‫شهْرُ ا ْلحَرَامُ بِال ّ‬
‫لهم‪ {:‬ال ّ‬
‫وكان الحق يطمئنهم‪ ،‬فالذين صدوكم في ذي القعدة من ذلك العام ستقاتلونهم وستدخلون في ذي‬
‫القعدة من العام القادم‪ .‬وخاف المسلمون إن جاءوا في العام المقبل أن تنقض قريش العهد وتقاتلهم‪،‬‬
‫ونزل قول الحق‪:‬‬
‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ { [البقرة‪]190 :‬‬
‫} َوقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم َولَ َتعْ َتدُواْ إِنّ اللّ َه لَ ُي ِ‬
‫وعندما نتأمل قوله تعالى‪َ } :‬وقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ { فإننا نجد أن الحق سبحانه يؤكد على كلمة }‬
‫فِي سَبِيلِ اللّهِ { لنه يريد أن يضع حدا لجبروت البشر‪ ،‬ولبد أن تكون نية القتال في سبيل ال ل‬
‫أن يكون القتال بنية الستعلء والجبروت والطغيان فل قتال من أجل الحياة‪ ،‬أو المال أو لضمان‬
‫سوق اقتصادي‪ ،‬وإنما القتال لعلء كلمة ال‪ ،‬ونصرة دين ال‪ ،‬هذا هو غرض القتال في السلم‪.‬‬
‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ { والحق ينهى عن‬
‫} َوقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم َولَ َتعْ َتدُواْ إِنّ اللّ َه لَ ُي ِ‬
‫العتداء‪ ،‬أي ل يقاتل مسلم من لم يقاتله ول يعتدي‪.‬‬
‫وهب أن قريشا هي التي قاتلت‪ ،‬ولكن أناسا كالنساء والصبيان والعجزة لم يقاتلوا المسلمين مع‬
‫أنهم في جانب من قاتل‪ ،‬لذلك ل يجوز قتالهم‪ ،‬نعم على قدر الفعل يكون رد الفعل‪ .‬ماذا؟ لن في‬
‫قتال النساء والعجزة اعتداء‪ ،‬وهو سبحانه ل يحب المعتدين‪ .‬لكن قتال المؤمنين إنما يكون لرد‬
‫العدوان‪ ،‬ول بداية عدوان‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َثقِفْ ُتمُوهُم وَأَخْ ِرجُوهُمْ مّنْ حَ ْيثُ أَخْ َرجُوكُ ْم وَا ْلفِتْنَةُ أَشَدّ‬
‫مِنَ ا ْلقَ ْتلِ‪{ ...‬‬

‫(‪)194 /‬‬

‫ل وَلَا ُتقَاتِلُو ُهمْ عِنْدَ‬


‫وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َث ِقفْ ُتمُوهُمْ وَأَخْرِجُو ُهمْ مِنْ حَ ْيثُ َأخْرَجُوكُ ْم وَا ْلفِتْنَةُ َأشَدّ مِنَ ا ْلقَ ْت ِ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ حَتّى ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ َكذَِلكَ جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ (‪)191‬‬
‫ا ْلمَ ْ‬

‫ونحن نسمع كلمة " ثقافة " ‪ ،‬وكلمة " ثقاف " ‪ ،‬والثقافة هي يسر التعلم‪ ،‬أو أن تلم بطرف من‬
‫الشياء المتعددة‪ ،‬وبذلك يصبح فلن مثقفا أي لديه كمّ من المعلومات‪ ،‬ويعرف بعض الشيء عن‬
‫كل شيء‪ ،‬ثم يتخصص في فرع من فروع المعرفة فيعرف كل شيء عن شيء واحد‪.‬‬
‫كل هذه المعاني مأخوذة من المور المحسة‪ ،‬والتثقيف عند العرب هو تقويم الغصن‪ ،‬فقد كان‬
‫العرب يأخذون أغصان الشجر ليجعلوها رماحا وعصيا‪ ،‬والغصن قد يكون معوجا أو به نتوء‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فكان العربي يثقفه‪ ،‬أي يزيل زوائده واعوجاجه‪ ،‬ثم يأتي بالثقاف وهو قطعة من الحديد المعقوف‬
‫ليقوّم بها المعوج من الغصان كما يفعل عامل التسليح بحديد البناء‪.‬‬
‫كأن المُ َثقّف هو الذي يعدل من شيء معوج في الكون؛ فهو يعرف هذه وتلك‪ ،‬وأصبح ذا تقويم‬
‫سليم‪ .‬وهكذا نجد أن معاني اللغة وألفاظها مشتقة من المحسات التي أمامنا‪ .‬وقوله‪َ { :‬ث ِقفْتُمُوهُم }‬
‫أي " وجدتموهم " ‪ ،‬فثقف الشيء أي وجده‪.‬‬
‫والحق يقول‪ {:‬فَِإمّا تَ ْثقَفَ ّنهُمْ فِي ا ْلحَ ْربِ فَشَرّدْ ِبهِم }[النفال‪]57 :‬‬
‫أي شردهم حيث تجدهم‪ .‬ويقول الحق‪ { :‬وَاقْتُلُوهُمْ حَ ْيثُ َث ِقفْ ُتمُوهُم } أي ل تقولوا إنهم أخرجوكم‬
‫من هنا‪ ،‬وإنما أخرجوهم من حيث أخرجوكم‪ ،‬أي من أي مكان أنتم فيه‪ ،‬وعن ذلك لن تكونوا‬
‫معتدين‪ .‬وقوله تعالى‪ { :‬وَأَخْ ِرجُوهُمْ مّنْ حَ ْيثُ أَخْ َرجُوكُمْ } يذكرنا بمنطق مشابه في آية أخرى‬
‫منها قوله تعالى‪ {:‬وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِ ِه وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }[النحل‪:‬‬
‫‪]126‬‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثُْلهَا‪[} ...‬الشورى‪]40 :‬‬
‫وعندما نبحث في ثنايا هذه النصوص { وَجَزَآءُ سَيّ َئةٍ سَيّئَةٌ مّثُْلهَا } " قد يرد هذا الخاطر " أخذت‬
‫حقي ممن أساء إلي‪ ،‬وانتقمت منه بعمل يماثل العمل الذي فعله معي‪ ،‬هل يقال‪ :‬إنني فعلت سيئة؟‬
‫وحتى نفهم المسألة نقول‪ :‬الحق سبحانه وتعالى يأتي في بعض الحايين بلفظ " المشاكلة " وهي‬
‫ذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحته‪ ،‬ومثل ذلك قوله‪َ { :‬و َمكَرُو ْا َو َمكَرَ اللّهُ } ‪ ،‬إن ال ل‬
‫يمكر‪ ،‬وإنما اللفظ جاء للمشاكلة‪ ،‬أو أن اللفظ الكريم قد جاء في استيفاء حقك بكلمة { سَيّ َئةٌ مّثُْلهَا }‬
‫لينبهك إلى أن استيفاء حقك بمثل ما صنع بك يعتبر سيئة إذا ما وازناه بالصفح والعفو عن‬
‫عفَا وََأصْلَحَ فَأَجْ ُرهُ عَلَى اللّهِ إِنّهُ‬
‫المسيء‪ ،‬يشير إلى ذلك سبحانه في نهاية هذه الية بقوله‪َ { :‬فمَنْ َ‬
‫حبّ الظّاِلمِينَ } وبمثل ذلك كان ختام الية السابقة { وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }‪.‬‬
‫لَ ُي ِ‬
‫شدّ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ } ‪ ،‬والفتنة مأخوذة من المر الحسي‪ ،‬فصائغ الذهب يأخذ‬
‫ويقول الحق‪ { :‬وَا ْلفِتْنَةُ أَ َ‬
‫قطعة الذهب فيضعها في النار فتنصهر‪ ،‬فإذا ما كان يشوبها معدن غريب عن الذهب فهو يخرج‬
‫ويبقى الذهب خالصا‪ ،‬فكأن الفتنة ابتلء واختبار‪ ،‬وقد فعل المشركون ما هو أسوأ من القتل‪ ،‬فقد‬
‫حاولوا من قبل أن يفتنوا المؤمنين في دينهم بالتعذيب‪ ،‬فخرج المؤمنون فرارا بدينهم‪.‬‬

‫والحق يأمر المسلمين في قتالهم مع أهل الشرك أن يراعوا حرمة البيت الحرام‪ ،‬فل ينتهكوها‬
‫بالقتال إل إذا قاتلهم أهل الشرك‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن أول أمر بالقتال إنما جاء لصد العدوان‪ ،‬وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسقط من‬
‫أيدي خصوم السلم ورقة قد يلعبون بها مع المسلمين‪ ،‬فهم يعلمون أن المؤمنين بالسلم‬
‫سيحترمون الشهر الحرم ويحترمون المكان الحرام ويحترمون الحرام فل يقاتلون؛ وربما أغرى‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذلك خصوم السلم أل يقاتلوا المسلمين إل في الشهر الحرم‪ ،‬ويظنون أن المسلمين قد يتهيبون‬
‫أن يقاتلوهم‪ ،‬فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يشرع لهم ما يناسب مثل هذا المر فأذن لهم في‬
‫القتال‪ ،‬فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام‪ ،‬وإن قاتلوكم في المكان الحرام‬
‫فقاتلوهم في المكان الحرام‪ ،‬وإن قاتلوكم وأنتم حُرم فقاتلوهم؛ لن الحرمات قصاص‪.‬‬
‫إذن أسقط الحق الورقة من أيدي الكافرين‪ .‬إن الحق سبحانه وتعالى يعلل ذلك بأنه وإن كان القتال‬
‫في الشهر الحرام وفي المكان الحرام وفي حال الحرام صعبا وشديدا فالفتنة في دين ال أشد من‬
‫القتل‪ ،‬لن الفتنة إنما جاءت لِتُفسِد على الناس دينهم‪ ،‬صحيح أنها ل تعوق الناس عن أن يتدينوا‪،‬‬
‫ولكنها تفتن الذين تدينوا‪ ،‬وقد حاولوا إجبار المسلمين الوائل بالتعذيب حتى يرتدوا عن الدين‪،‬‬
‫وكان ذلك أشد من القتل لنها فتنة في الدين‪.‬‬
‫إن ال هو الذي شرع الشهر الحرام فكيف يُفتن المؤمنون عن دين ال ويُحملون على الشرك به ثم‬
‫تقولون بعد ذلك إننا في الشهر الحرام؟ إن الشهر الحرام لم يكن حراما إل لن ال هو الذي‬
‫حرمه‪ ،‬فالفتنة في ال شرك وهو أشد من أن نقاتل في الشهر الحرام‪ ،‬ولذلك فل داعي أن يتحرج‬
‫أحد من القتال في الشهر الحرام عندما يفتن في دينه‪ .‬وحينئذ نعلم أن القتال إنما جاء دفاعا‪.‬‬
‫عمّن آمن فقط؟ أو كما‬
‫وبعد ذلك هل يظل القتال دفاعا كما يريد خصوم السلم أن يجعلوه دفاعا َ‬
‫يريد الذين يحاولون أن يدفعوا عن السلم أنه دين قتال ويقولون‪ :‬ل‪ ،‬السلم إنما جاء بقتال‬
‫عمّن آمن فقط؟ أم عن مطلق إنسان نريد‬
‫عمّن؟ هل دفاع َ‬
‫الدفاع فقط‪ .‬نقول لهؤلء‪ :‬قتال الدفاع َ‬
‫أن ندفع عنه ما يؤثر في اختيار دينه؟‬
‫عمّن لم‬
‫عمّن آمن‪ ،‬ندفع عنه مَنْ يعتدي عليه‪ ،‬وأيضا َ‬
‫هو دفاع أيضا‪ ،‬وسنسميه دفاعا‪ ،‬ولكنه دفاع َ‬
‫يؤمن ندفع عنه من يؤثر عليه في اختيار دينه لنحمي له اختياره‪ ،‬ل لنحمله على الدين‪ ،‬ولكن‬
‫لنجعله حرا في الختيار؛ فالقوى التي تفرض على الناس دينا نزيحها من الطريق‪ ،‬ونعلن دعوة‬
‫ن وقف أمام هذه الدعوة نحاربه؛ لنه يفسد على الناس اختيار دينهم‪ ،‬وفي هذا أيضا‬
‫السلم‪ ،‬فمَ ْ‬
‫دفاع‪.‬‬

‫جدِ الْحَرَامِ حَتّىا ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ { لنكم أحرى وأجدر أن تحترموا تحريم ال‬
‫} َولَ ُتقَاتِلُو ُهمْ عِنْدَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫للمسجد الحرام‪ ،‬لكن إذا هم اجترأوا على القتال في المسجد الحرام فقد أباح سبحانه لكم أيها‬
‫المسلمون أن تقاتلوهم عند المسجد الحرام ما داموا قد قاتلوكم فيه‪ } .‬فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُو ُهمْ كَذَِلكَ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ {‪ .‬وما أسمى هذا الدين‪.‬‬
‫جَزَآءُ ا ْلكَافِرِينَ * فَإِنِ ان َت َهوْاْ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫إننا ل نؤاخذهم بعد أن انتهوا إلى اليمان بما قدمت أيديهم من الجتراء على أهل اليمان ما داموا‬
‫قد آمنوا‪ ،‬ولذلك نرى عمر بن الخطاب وقد مر على قاتل أخيه زيد بن الخطاب‪ :‬وأشار رجل‬
‫وقال‪ :‬هذا قاتل زيد‪ .‬فقال عمر‪ :‬وماذا أصنع به وقد أسلم؟ لقد عصم السلم دمه‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد انتهت المسألة بإسلمه‪ ،‬فاليمان بال أعز على المؤمن من دمه ومن نفسه وحين يؤمن فقد‬
‫انتهت الخصومة‪ .‬وهذا وحشي قاتل حمزة‪ ،‬يقابله رسول ال صلى ال عليه وسلم وكل ما يصنعه‬
‫رسول ال هو أن يزوي وجهه عنه‪ ،‬لكنه ل يقتله ول يثأر منه‪ .‬وهند زوجة أبي سفيان التي أكلت‬
‫كبد حمزة‪ ،‬أسلمت وانتهت فعلتها بإسلمها‪ .‬إذن‪ ،‬فالسلم ليس دين حقد ول ثأر ول تصفية‬
‫حسابات‪ ،‬فإذا كان الدم يغلي في مواجهة الكفر‪ ،‬فإن إيمان الكافر بالسلم يعطيه السلمة‪ ،‬هذا هو‬
‫الدين‪.‬‬

‫(‪)195 /‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪)192‬‬


‫فَإِنِ انْ َت َهوْا فَإِنّ اللّهَ َ‬

‫أي ما داموا قد كفوا عما يصنعون من الفتنة بالدعوة والشرك بال وَزُجِروا بالدين المر فانزجروا‬
‫عن الكفر‪ ،‬بعدها ل شيء لنا عندهم؛ لن ال غفور رحيم‪ ،‬فل يصح أن يشيع في نفوسنا الحقد‬
‫على ما فعلوه بنا قديما‪ ،‬بل نحتسب ذلك عند ال‪ ،‬وما داموا قد آمنوا فذلك يكفينا‪ .‬والحق سبحانه‬
‫وتعالى بعد أن أعطانا مراحل القتال ودوافعه قال‪َ { :‬وقَاتِلُو ُهمْ حَتّىا لَ َتكُونَ فِتْنَ ٌة وَ َيكُونَ الدّينُ‬
‫للّهِ‪} ...‬‬

‫(‪)196 /‬‬

‫ع ْدوَانَ إِلّا عَلَى الظّاِلمِينَ (‪)193‬‬


‫َوقَاتِلُوهُمْ حَتّى لَا َتكُونَ فِتْنَ ٌة وَ َيكُونَ الدّينُ لِلّهِ فَإِنِ انْ َت َهوْا فَلَا ُ‬

‫سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن َيقُولُواْ آمَنّا وَ ُه ْم لَ‬


‫وعرفنا أن الفتنة ابتلء واختبار والحق يقول‪َ {:‬أحَ ِ‬
‫ُيفْتَنُونَ }[العنكبوت‪]2 :‬‬
‫إن الحق يختبر اليمان بالفتنة‪ ،‬ويرى الذين يُعلنون اليمان هل يصبرون على ما فيه من ابتلءآت‬
‫أم ل؟ فلو كان دخول السلم ل يترتب عليه دخول في حرب أو قتال ول يترتب عليه استشهاد‬
‫بعض المؤمنين لكان المر مغريا لكثير من الناس بالدخول في السلم‪ ،‬لكن ال جعل لهم الفتنة‬
‫في أن يُهزَموا ويُقتل منهم عدد من الشهداء‪ ،‬وذلك حتى ل يدخل الدين إل الصفوة التي تحمل‬
‫كرامة الدعوة‪ ،‬وتتولى حماية الرض من الفساد‪ ،‬فل بد أن يكون المؤمنون هم خلصة الناس‪.‬‬
‫لذلك قال سبحانه‪َ { :‬وقَاتِلُوهُمْ حَتّىا لَ َتكُونَ فِتْنَةٌ }‪ .‬معنى أن يكون الدين ل‪ ،‬أي تخرجوهم من‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ديانة أنفسهم أو من الديانات التي فرضها الطغيان عليهم‪ ،‬وعندما نأخذهم من ديانات الطغيان‪،‬‬
‫ومن الديانات التي زينها الناس إلى ديانات الخالق فهذه مسألة حسن بالنسبة لهم‪ ،‬وتلك مهمة‬
‫سامية‪ .‬كأنك بهذه المهمة السامية تريد أن ترشد العقل النساني وتصرفه وتمنعه من أن يَديِنَ‬
‫لمساو له؛ إلى أن يدين لمن خلقه‪ .‬وعلى صاحب مثل هذا العقل أن يشكر من يوجهه إلى هذا‬
‫الصواب‪ .‬ولذلك يُجلى الحق سبحانه وتعالى هذه الحقيقة فيقول على لسان الرسول‪ُ {:‬قلْ مَآ أَسَْأُلكُمْ‬
‫خذَ إِلَىا رَبّهِ سَبِيلً }[الفرقان‪]57 :‬‬
‫عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ ِإلّ مَن شَآءَ أَن يَتّ ِ‬
‫فكأننا لو نظرنا إلى عمل الرسول بالنسبة إلينا بمنظار القتصاد لوجب أن يكون له أجر‪ ،‬لنه يقدم‬
‫المنفعة لنا‪ ،‬وبرغم ما قدمه من منفعة فهو ل يأخذ أجرا؛ لنه زاهد في الجر؛ فإنه يعلم أن الجر‬
‫من المساوي له قليل مهما عظم وهو يريد الجر ممن خلقه‪ ،‬وهذا طمع في العلى؛ لنه ل يعطي‬
‫الجر على اليمان إل ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو الذي يعطي بل حدود‪.‬‬
‫ع ْدوَانَ ِإلّ عَلَى الظّاِلمِينَ } أي أنهم إذا‬
‫ويختتم الحق هذه الية الكريمة بقوله‪ { :‬فَإِنِ انْ َتهَواْ فَلَ ُ‬
‫انتهوا إلى عدم قتالكم‪ ،‬فأنتم لن تعتدوا عليهم‪ ،‬بل ستردون عدوان الظالم منهم‪ .‬والظالم حين‬
‫يعتدي يظن أنه لن يقدر عليه أحد‪ ،‬والحق يطلب منا أن نقول له‪ :‬بل نقدر عليك‪ ،‬ونعتدي عليك‬
‫شهْرِ الْحَرَا ِم وَالْحُ ُرمَاتُ‬
‫شهْرُ الْحَرَامُ بِال ّ‬
‫بمثل ما اعتديت علينا‪ .‬ويعطينا الحق حيثية ذلك فيقول‪ { :‬ال ّ‬
‫ِقصَاصٌ‪} ...‬‬

‫(‪)197 /‬‬

‫شهْرِ ا ْلحَرَا ِم وَا ْلحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ َفمَنِ اعْتَدَى عَلَ ْي ُكمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْ َتدَى‬
‫شهْرُ ا ْلحَرَامُ بِال ّ‬
‫ال ّ‬
‫عَلَ ْيكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ (‪)194‬‬

‫والمقصود هو أنه إذا ما قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم في الشهر الحرام‪ ،‬فإذا ما اعتدوا على‬
‫حرمة زمان فالقصاص يكون في زمان مثله‪ ،‬وإن اعتدوا في حرمة مكان يكن القصاص بحرمة‬
‫مكان مثله‪ ،‬وإذا كان العتداء بحرمة إحرام‪ ،‬يكون الرد بحرمة إحرام مثله؛ لن القصاص هو أن‬
‫تأخذ للمظلوم مثل ما فعل الظالم‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يخفف وقع المر على المؤمنين الذين رُدوا عام الحديبية في ذي‬
‫القعدة سنة ست من الهجرة وأعادهم المشركون إلى المدينة‪ ،‬فاقتص ال منهم بأن أعادهم في ذي‬
‫القعدة في العام القابل في السنة السابعة من الهجرة‪ ،‬فإن كانوا قد مُنعوا في الشهر الحرام فقد أراد‬
‫ال أن يعودوا لزيارة البيت في الشهر الحرام في الزمان نفسه‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ { :‬وَا ْلحُ ُرمَاتُ ِقصَاصٌ } يقتضي منا أن نسأل‪ :‬كيف يكون ذلك؟ وما هو الشيء‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحرام؟ إن الشيء الحرام هو ما يُحظر هتكه‪ ،‬والشيء الحلل هو المُطلق والمأذون فيه‪ .‬فهل‬
‫يعني ذلك أن الذي يقوم بعمل حرام نقتص منه بعمل مماثل؟‬
‫هل إذا زنى رجل بامرأة نقول له نقتص منك بالزنى فيك؟ ل‪ .‬إن القصاص في الحرمات ل يكون‬
‫إل في المأذون به وكذلك إذا سرق مني إنسان مالً وليس لدي بينة‪ ،‬لكني مقتنع بأنه هو الذي‬
‫سرق هل أقتص منه بأن أسرق منه؟ ل‪ ،‬إن القصاص إنما يكون في المر المعروف الواضح‪ ،‬أما‬
‫المر المختفي فل يمكن أن نقتص منه بمثل ما فعل‪.‬‬
‫لكن هب أن أحد القارب ممّنْ تجب نفقتهم عليك وامتنعت أنت عن النفقة على هذا النسان‪ ،‬وهذا‬
‫أمر محرم عليك‪ ،‬وما دام المر علنيا فله أن يأخذ من مالك فيأكل وتكون المسألة قصاصا‪ .‬وهب‬
‫أن زوجتك تشتكي من بخلك وتقصيرك‪ ،‬كما " اشتكت هند زوجة أبي سفيان لرسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم من بخل زوجها فقال لها‪ :‬خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك وولدك "‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ ،‬هب أن ضيفا بمنزلك ورفضت أن تكرمه‪ ،‬وانتهز فرصة بعدك عن المكان الذي‬
‫يجلس فيه ثم تناول شيئا وأكله‪ .‬ل يكون تعديا عليك ما لم يكن داخل في محرم آخر‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫يترك الحق لولي المر تنظيم هذه المور حتى ل تصير المسائل إلى الفوضى‪.‬‬
‫وقوله الحق‪َ { :‬فمَنِ اعْ َتدَىا عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُواْ عَلَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْتَدَىا عَلَ ْي ُكمْ } يدعونا إلى اليقظة حتى‬
‫ل يخدعنا أحد ويدعي اليمان وهو يريد النتقام‪ .‬ويجب أن نتمثل قول الشاعر‪:‬إن عـادت‬
‫العقـرب عـدنا لهـا وكـانـت النـعـل لهـا حـاضرةويختم الحق الية الكريمة بقوله‪:‬‬
‫{ وَا ّتقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ } أي ل تظنوا أن ال مّل َككُم فيهم شيئا‪ ،‬بل أنتم وهم‬
‫مملوكون جميعا ل‪ .‬ويقول الحق من بعد ذلك‪ { :‬وَأَ ْن ِفقُواْ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلَ تُ ْلقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى‬
‫حسِنُواْ‪} ...‬‬
‫ال ّتهُْلكَ ِة وَأَ ْ‬

‫(‪)198 /‬‬

‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ (‪)195‬‬


‫وَأَنْ ِفقُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلَا تُ ْلقُوا بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنّ اللّهَ ُي ِ‬

‫وهذه الية جاءت بعد آيات القتال‪ ،‬ومعناها‪ :‬أعدوا أنفسكم للقتال في سبيل ال‪.‬‬
‫وقوله الحق‪َ { :‬ولَ تُ ْلقُواْ بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } تقتضي منا أن نعرف أن كلمة " تهلكة " على وزن‬
‫َت ْفعُله ول نظير لها في اللغة العربية إل هذا اللفظ‪ ،‬ل يوجد على وزن َت ْفعُله في اللغة العربية‬
‫سوى كلمة " تهْلُكة " ‪ ،‬والتهلكة هي الهلك‪ ،‬والهلك هو خروج الشيء عن حال إصلحه بحيث‬
‫ل يُدرى أين يذهب‪ ،‬ومثال ذلك هلك النسان يكون بخروج روحه‪ .‬والحق يقول‪ {:‬لّ َيهِْلكَ مَنْ‬
‫حيّ عَن بَيّ َنةٍ }[النفال‪]42 :‬‬
‫هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالهلك ضد الحياة‪ ،‬وعلى النسان أن يعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة التي نراها‪،‬‬
‫إنما حياة كل شيء بحساب معين فحياة الحيوان لها قانونها‪ ،‬وحياة النبات لها قانونها‪ ،‬وحياة‬
‫الجماد لها قانونها‪ ،‬بدليل أن الحق سبحانه وتعالى جعل " يهلك " أمام " يحيى " وهو سبحانه‬
‫جهَهُ }[القصص‪]88 :‬‬
‫ل وَ ْ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ‬
‫القائل‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫فلسنا نحن فقط الذين يهلكون‪ ،‬ول الحيوانات‪ ،‬ول النباتات وإنما كل شيء بما فيه الجماد‪ ،‬كأن‬
‫الجماد يهلك مثلنا‪ ،‬وما دام يهلك فله حياة ولكن ليست مثل حياتنا‪ ،‬وإنما حياة بقانونه هو‪ ،‬فكل‬
‫شيء مخلوق لمهمة يؤديها‪ ،‬فهذه هي حياته‪.‬‬
‫وقوله الحق‪َ { :‬ولَ تُ ْلقُواْ بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } يكشف لنا بعضا من روائع الداء البياني في‬
‫القرآن؛ ففي الجملة الواحدة تعطيك الشيء ومقابل الشيء‪ ،‬وهذا أمر ل نجده في أساليب البشر؛‬
‫فالحق في هذه الية يقول لنا‪ { :‬وَأَ ْنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي أنفقوا في الجهاد‪ ،‬كما يقول بعدها‪:‬‬
‫{ َولَ تُ ْلقُواْ بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ } لماذا؟ لن النفاق هو إخراج المال إلى الغير الذي يؤدي لك‬
‫مهمة تفيد في العداد لسبيل ال‪ ،‬كصناعة السلحة أو المدادات التموينية‪ ،‬أو تجهيز مبانٍ‬
‫وحصون‪ ،‬هذه أوجه أنفاق المال‪ .‬والحق يقول‪َ { :‬ولَ تُ ْلقُواْ بِأَ ْيدِيكُمْ إِلَى ال ّتهُْلكَةِ }‪ .‬وكلمة " ألقى "‬
‫تفيد أن هناك شيئا عاليا وشيئا أسفل منه‪ ،‬فكأن ال يقول‪ :‬ل تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة‪ ،‬وهل سيلقي‬
‫الواحد منا نفسه إلى التهلكة‪ ،‬أو أن يلقي نفسه في التهلكة بين عدوه؟ ل‪ ،‬إن اليد المغلولة عن‬
‫النفاق في سبيل ال هي التي تُلقي بصاحبها إلى التهلكة؛ لنه إن امتنع عن ذلك اجترأ العدو‬
‫عليه‪ ،‬وما دام العدو قد اجترأ على المؤمنين فسوف يفتنهم في دينهم‪ ،‬وإذا فتنهم في دينهم فقد‬
‫هلكوا‪ .‬إذن فالستعداد للحرب أنفى للحرب‪ ،‬وعندما يراك العدو قويا فهو يهابك ويتراجع عن‬
‫قتالك‪.‬‬
‫والحق سبحانه ـ كما يريد منا في تشريع القتال أن نقاتل ـ يأمرنا أن نزن أمر القتال وزنا دقيقا‬
‫بحسم‪ ،‬فل تأخذنا الريحية الكذبة ول الحمية الرعناء‪ ،‬فيكون المعنى‪ :‬ول تقبلوا على القتال إل‬
‫إن كان غالب الظن أنكم ستنتصرون‪ ،‬فحزم القدام قد يطلب منك أن تقيس المور بدقة‪،‬‬
‫فالشجاعة قد تقتضي منك أن تحجم وتمتنع عن القتال في بعض الحيان‪ ،‬لتنتصر من بعد ذلك‬
‫ساعة يكمل العداد له‪.‬‬

‫والمعنى الول يجعلك تنفق في سبيل ال ول تلقي بيدك إلى التهلكة بترك القتال‪ .‬والمعنى الثاني‬
‫أي ل تلقوا بأيديكم إلى التهلكة بأن تقبلوا على القتال بل داع أو بل إعداد كافٍ‪ .‬إن الحق يريد من‬
‫المؤمنين أن يزنوا المسائل وزنا يجعلهم ل يتركون الجهاد فيهلكوا؛ لن خصمهم سيجترئ عليهم‪،‬‬
‫ول يحببهم في أن يلقوا بأيديهم إلى القتال لمجرد الرغبة في القتال دون الستعداد له‪ .‬وهذا هو‬
‫الحزم اليماني‪ ،‬إنها جملة واحدة أعطتنا عدة معان‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسِنُواْ {‪.‬‬
‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ { الحق يقول‪ } :‬وَأَ ْ‬
‫ويذيل الحق الية الكريمة بقوله‪ } :‬وَأَحْسِنُواْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫والحسان كما علمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أن تعبد ال ـ أي تطيع أوامره ـ كأنك‬
‫تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه فإنه يراك "‪.‬‬

‫مشكلة الناس هذه اليام أنهم يتشبهون بـ " فإنه يراك " ‪ ،‬فعملوا الدوائر التليفزيونية المغلقة في‬
‫المحلت الكبرى حتى تتم مراقبة سير العمل في أرجاء المحل‪ ،‬هذه فعل البشر‪ .‬لكن انظر إلى‬
‫تسامي اليمان‪ ،‬إنه يأمرك أنت أن ترى ال‪ ،‬فل تؤد العمل أداء شكليا يرفع عنك العتب‪ ،‬بل عليك‬
‫أن تؤدي العمل بقصد الحسان في العمل‪.‬‬
‫والحسان في كل شيء هو إتقانه إتقانا بحيث يصنع النسان لغيره ما يحب أن يصنعه غيره له‪،‬‬
‫ولو تعامل الناس على هذا الساس لمتازت كل الصناعات‪ ،‬لكن إذا ساد الغش فأنت تغش غيرك‪،‬‬
‫وغيرك يغشك‪ ،‬وبعد ذلك كلنا نجأر بالشكوى‪ ،‬وعلينا إذن أن نحسن في كل شيء‪ :‬مثل نحسن في‬
‫النفاق‪ ،‬ولن نحسن في النفاق إل إذا أحسنا في الكدح الذي يأتي بثمرة ما ننفق؛ لن الكدح ثمرته‬
‫مال‪ ،‬ول إنفاق إل بمال‪ ،‬فتخرج من عائد كدحك لتصرفه في المناسب من المور‪.‬‬
‫ودائرة الحسان ل تقتصر على القتال فقط‪ ،‬فالمر هنا عام‪ ،‬ول تعتقد أنه أمر في زاوية من زوايا‬
‫الدين جاءت لتخدم جزئية من جزئيات الحياة‪ ،‬إنما كل زاوية من زوايا الدين جاءت لتخدم كل‬
‫جزئيات الحياة‪ ،‬فالحسان إذا كان بالمال فهذا يقتضي أن يحسن النسان الحركة في الرض‪،‬‬
‫ل يكفيه ويكفي من يعول‪ ،‬ثم يفيض لديه ما يحسن به‪.‬‬
‫ويعمل عم ً‬
‫إذا لم يتوافر المال‪ ،‬فعليك أن تُحسن بجاهك وتشفع لغيرك‪ ،‬والجاه قد قومه السلم أي جعل له‬
‫قيمة‪ ،‬فعلى صاحب الجاه أن يشفع بجاهه ليساعد أصحاب الحقوق في الحصول على حقوقهم‪،‬‬
‫وعلى الوجيه أيضا أن يأخذ الضعيف في جواره ويحميه من عسف وظلم القوي‪ ،‬وعليه بجاهه أن‬
‫يقيم العدل في البيئة التي يعيش فيها‪.‬‬

‫والوجاهة تعني أن يكون للنسان احترام أو وزن أو تقدير‪ ،‬وهذه الشياء لها مسبقات في إحسان‬
‫الشخص‪ ،‬ل يأخذها بل سبب‪ ،‬إنما سبقها عمل جعل له وجاهة عند الناس‪ .‬فالناس في العادة ل‬
‫يحترمون إل من يكون له لون من الفضل عليهم‪ ،‬فكأنه احترام مدفوع الثمن‪ ،‬وليس احتراما‬
‫مجانيّا‪ .‬وقد يكون الحسان بالعلم‪ .‬أو بفضل القوة‪ ،‬بإعانة الضعيف‪ .‬أو بإكساب الخبرة للخرين‪.‬‬
‫أو بتفريج كربة عن مسلم‪.‬‬
‫إذن وجوه الحسان في الشياء كثيرة‪ ،‬وكلها تخدم قضية اليمان‪ .‬وعندما يرى الكافر المؤمنين‬
‫وكل واحد منهم يحسن عمله فإن ذلك يغريه باليمان‪ .‬وإذا سألنا‪ :‬ما الذي زهد دنيانا المعاصرة‬
‫في ديننا؟ فسوف نجد أن العالم ينظر إلى دين ال من خلل حركة المسلمين‪ ،‬وهي حركة غير‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إسلمية في غالبيتها‪ .‬صحيح أن بعضا من عقلء الغرب وفلسفته ل يأخذون الدين من حركة‬
‫المسلمين‪ ،‬وهذا منتهى العدالة منهم لنه ربما كان بعض المسلمين غير ملتزمين بدينه‪ ،‬فل يأخذ‬
‫أحد السلم منه لمجرد أنه مسلم‪.‬‬
‫وأتباع الديانات الخرى يعرفون أن هناك أفعالً جرمها دينهم‪ .‬وما دام هناك أفعال جرمها الدين‬
‫وسن لها عقوبة فذلك دليل على أنها قد تقع‪ ،‬فأنت عندما ترى شخصا ينتسب إلى السلم ويسرق‪،‬‬
‫هل تقول‪ :‬إن المسلمين لصوص‪ .‬ل‪ ،‬إن عليك أن تنظر إلى تشريعات السلم هل جرمت السارق‬
‫أو لم تجرمه؟ فل يقولن أحد‪ :‬انظر إلى حال المسلمين‪ ،‬ولكن لننظر إلى قوانين السلم‪ ،‬لن ال‬
‫قدر على البشر أن يقوموا بالفعال حسنها وسيئها‪ ،‬ولذلك أثاب على العمل الصالح وعاقب على‬
‫العمل السييء‪.‬‬
‫والعقلء والمفكرون يأخذون الدين من مبادئ الدين نفسه‪ ،‬ول يأخذونه من سلوك الناس‪ ،‬فقد‬
‫يجوز أن تقع عين المراقب على مُخالف في مسألة يحرمها الدين‪ .‬فل تأخذ الفعل الخاطئ على أنه‬
‫السلم‪ ،‬وإنما خذه على أنه خارج على السلم‪.‬‬
‫وساعة يرانا العالم محسنين في كل شيء فنحن نعطيهم السوة التي كان عليها أجدادنا‪ ،‬وجعلت‬
‫السلم يمتد ذلك المد الخرافي السطوري حتى وصل في نصف قرن إلى آخر الدنيا في الشرق‪،‬‬
‫وإلى آخرها في الغرب‪ ،‬وبعد ذلك ينحسر سياسيا عن الرض‪ ،‬ولكن يظل كدين‪ ،‬وبقى من‬
‫السلم هذا النظام الذي يجذب له الناس‪ .‬إن السلم له مناعة في خميرته الذاتية إنه يحمل‬
‫مقومات بقائه وصلحيته‪ ،‬وهو الذي يجذب غير المسلمين له فيؤمنون به‪ ،‬وليس المسلمون هم‬
‫الذين يجذبون الناس للسلم‪.‬‬
‫ولذلك أقول‪ :‬لو أن التمثيل السياسي للمم السلمية في البلد غير السلمية المتحضرة قد أخذ‬
‫بمبادئ السلم لكان أسوة حسنة‪ .‬وانظر إلى عاصمة واحدة من عواصم الدول الغربية تجد فيها‬
‫أكثر من ثلث وستين سفارة إسلمية‪ ،‬وكل سفارة يعمل فيها جهاز يزيد على العشرين‪ ،‬هب أن‬
‫هؤلء كانوا أسوة إسلمية في السلوك والمعاملت في عاصمة غير إسلمية‪ ،‬حينئذ يجد أهل ذلك‬
‫البلد جالية إسلمية ملتزمة ولم تفتنها زخارف المدنية‪ :‬ل يشربون الخمر‪ ،‬ول يرقصون‪ ،‬ول‬
‫يترددون على الماكن السيئة السمعة‪ ،‬ول تتبرج نساؤهم‪ ،‬بال أل يلفت النظر سلوكُ هؤلء؟‬
‫لكن ما يحدث ـ للسف ـ هو أن أهل الغرب ـ على باطلهم ـ غلبوا بني السلم ـ على‬
‫حقهم ـ وأخذوهم إلى تحللهم‪ ،‬وهذا التباع العمى يجعل الغربيين يقولون‪ :‬لو كان في السلم‬
‫مناعة لحفظ أبناءه من الوقوع فيما وقعنا فيه‪.‬‬

‫حبّ‬
‫إذن الحسان من المسلمين أكبر دعاية ودعوة إلى دين السلم‪ .‬إن الحق يقول‪ } :‬إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫حسِنِينَ { والحب كما نعرفه هو ميل قلب المحب إلى المحبوب‪ ،‬وذلك المر يكون بالنسبة‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للبشر‪ ،‬لكن بالنسبة للحق هو تودد الخالق بالرحمة والكرامة على المخلوق‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى‬
‫شيْءٍ‬
‫يحب من عباده أن يكونوا على خُلقه‪ ،‬فكما أن ال أحسن كل شيء خلقه } الّذِي أَحْسَنَ ُكلّ َ‬
‫خََلقَهُ { يريد من عباده وقد تفضل عليهم بالعقل المفكر فيخطط‪ ،‬وبالطاقات فتبرز التفكير إلى عمل‬
‫يريد الحق منا أن يكون رائدنا في كل عمل أن نحسنه‪ ،‬حتى نكون متخلقين بأخلق ال‪ ،‬فتشيع‬
‫كلمة " ال " هذا اللفظ الكريم الذي يستقبل به النسان كل جميل في أي صنعة فيقول‪ " :‬ال "‪.‬‬
‫إذن تشيع كلمة " ال " نغمة في الوجود تعليقا على كل شيء حسن‪ ،‬حتى الذي ل يؤمن بذلك الله‬
‫يقول أيضا‪ " :‬ال " ‪ ،‬كأن الفطرة التي فطر ال الناس عليها تنطق بأن كل حسن يجب أن يُنسب‬
‫إلى ال سواء كان ال هو الذي فعل مباشرة كالسباب والكونيات والنواميس‪ ،‬أو خلق الذي فعل‬
‫الحسن‪ ،‬فكل المور تؤول إلى ال‪.‬‬
‫ولو علم الذين ل يحسنون أعمالهم بماذا يحرمون الوجود لتحسروا على أنفسهم‪ ،‬وليتهم يحرمون‬
‫الوجود من كلمة " ال " ‪ ،‬ولكنهم يجعلون مكان " ال " كلمة خبيثة فيشيعون القبح في الوجود‪،‬‬
‫وحين يشيع القبح في الوجود يكون النسان في عمومه هو الخاسر‪.‬‬
‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ { تشجيع لكل من يلي عملً أن يحسنه ليكون على أخلق ال‪.‬‬
‫فقول ال‪ } :‬إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫ي َولَ َتحِْلقُواْ‬
‫حصِرْ ُتمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْد ِ‬
‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ للّهِ فَإِنْ أُ ْ‬
‫وبعد ذلك يقول الحق‪ } :‬وَأَ ِتمّواْ الْحَ ّ‬
‫سكُمْ حَتّىا يَبُْلغَ ا ْلهَ ْديُ َمحِلّهُ‪{ ...‬‬
‫ُرؤُو َ‬

‫(‪)199 /‬‬

‫سكُمْ حَتّى يَ ْبلُغَ ا ْلهَ ْديُ‬


‫حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ وَلَا َتحِْلقُوا ُرءُو َ‬
‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ لِلّهِ فَإِنْ ُأ ْ‬
‫وَأَ ِتمّوا ا ْلحَ ّ‬
‫سكٍ فَإِذَا َأمِنْ ُتمْ َفمَنْ‬
‫ن صِيَامٍ َأ ْو صَ َدقَةٍ َأوْ ُن ُ‬
‫مَحِلّهُ َفمَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ مَرِيضًا َأوْ ِبهِ أَذًى مِنْ َرأْسِهِ َففِدْ َيةٌ مِ ْ‬
‫ج وَسَ ْب َعةٍ إِذَا‬
‫َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى الْحَجّ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ َفمَنْ لَمْ َيجِدْ َفصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَ ّ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ وَاتّقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ‬
‫جعْتُمْ تِ ْلكَ عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ ذَِلكَ ِلمَنْ لَمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَ ْ‬
‫رَ َ‬
‫شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ (‪)196‬‬

‫والنسق القرآني نسق عجيب‪ ،‬فأنتم تذكرون أنه تكلم عن الصيام‪ .‬ورمضان يأتي قبل أشهر الحج‪،‬‬
‫فكان طبيعيا أن يتكلم عن الحج بعد أن تكلم عن رمضان وعن الهلة وعن جعل الهلة مواقيت‬
‫للناس والحج كما أن هناك شيئا آخر يستدعي أن يتكلم في الحج وهو الكلم عن القتال في الشهر‬
‫جدِ ا ْلحَرَامِ حَتّىا ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ }‬
‫الحرم‪ ،‬وعن البيت الحرام فقد قال سبحانه‪َ {:‬ولَ ُتقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ا ْلمَسْ ِ‬
‫[البقرة‪]191 :‬‬
‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ للّهِ } نفهم‬
‫إذن فالكلم عن الحج يأتي في سياقه الطبيعي‪ .‬وحين يقول ال‪ { :‬وَأَ ِتمّواْ الْحَ ّ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫منه أن المر بإتمام الشيء ل يكون إل إذا جاء المر بفرض هذا الفعل‪ ،‬فكأنك بدأت في العمل‬
‫بعد التشريع به‪ ،‬ويريد منك سبحانه ألّ تحج فقط‪ ،‬ولكن يريد منك أن تتمه وتجعله تامّا مستوفيا‬
‫لكل مطلوبات المشرع له‪.‬‬
‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ } لقائل أن يقول‪ :‬إن الحج شيء والعمرة شيء آخر‪،‬‬
‫وساعة يقول الحق‪ { :‬وَأَ ِتمّواْ الْحَ ّ‬
‫بدليل عطفها عليه‪ ،‬والعطف يقتضي المغايرة كما يقتضي المشاركة‪ ،‬فإن وجدت مشاركة ولم‬
‫توجد مغايرة فل يصح العطف‪ ،‬بل لبد أن يوجد مشاركة ومغايرة‪ .‬والمشاركة بين الحج والعمرة‬
‫أن كليهما نسك وعباده‪ ،‬وأما المغايرة فهي أن للحج زمنا مخصوصا ويشترط فيه الوقوف بعرفة‪،‬‬
‫وأما العمرة فل زمن لها ول وقفة فيها بعرفة‪.‬‬
‫ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في مشروعية الحج‪ {:‬وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْ َتطَاعَ إِلَيْهِ‬
‫سَبِيلً }[آل عمران‪]97:‬‬
‫ولم يأت في تلك الية بذكر العمرة‪ ،‬ومنها نعرف أن الحج شيء والعمرة شيء آخر‪ ،‬والمفروض‬
‫علينا هو الحج‪ .‬ولذلك أقول دائما لبد لنا أن نأخذ القرآن جملة واحدة‪ ،‬ونأتي بكل اليات التي‬
‫تتعلق بالموضوع لنفهم المقصود تماما‪ ،‬فحين يقول الحق في قرآنه أيضا‪ { :‬وَأَ ِتمّواْ الْحَجّ وَا ْل ُعمْرَةَ‬
‫للّهِ } نعرف من ذلك أن العمرة غير الحج‪ ،‬وحين تقرأ قول ال في سورة براءة‪ {:‬وَأَذَانٌ مّنَ اللّهِ‬
‫لكْبَرِ }[التوبة‪]3 :‬‬
‫جاَ‬
‫وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ َيوْمَ الْحَ ّ‬
‫نعرف أن هناك حجّا أكبر‪ ،‬وحجّا ثانيا كبيرا‪ .‬ولذلك فآية { وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ } جاءت‬
‫بالبيت المحرم‪ ،‬وهو القدر المشترك في الحج والعمرة‪ .‬ونعرف أن الحج الكبر هو الحج الذي‬
‫يقف فيه المسلم بعرفة؛ لن الرسول صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬الحج عرفة "‪ .‬وهو الحج الكبر؛‬
‫لن الحشد على عرفة يكون كبيرا‪ ،‬وهو يأتي في زمن مخصوص ويُشترط فيه الوقوف بعرفة‪.‬‬
‫إذن قوله تعالى‪ { :‬وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ } الحج هو القصد إلى مُعظّم وهو { حِجّ الْبَ ْيتِ } ‪،‬‬
‫أما العمرة فهي الحج الكبير وزمانها شائع في كل السنة‪ ،‬والقاصدون للبيت يتوزعون على العام‬
‫كله‪ .‬وذلك قد ثبت بالتشريع بقوله سبحانه‪ { :‬وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ }‪.‬‬

‫وما دام جاء بالمر المشترك في قوله‪ :‬حج البيت فهو يريد الحج الكبر والحج الكبير‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يخاطب عباده ويعلم أن بعض الناس سيقبلون على العبادات إقبالً شكليا‪،‬‬
‫وقد يقبلون على العبادة لغراض أخرى غير العبادة‪ ،‬فكان لبد أن يبين القصد من الحج والعمرة‪،‬‬
‫وأن المطلوب هو إتمامهما‪ ،‬ولبد أن يكون القصد ل ل لشيء آخر‪ ،‬ل ليقال " الحاج فلن " ‪ ،‬أو‬
‫ليشتري سلعا رخيصة ويبيعها بأغلى من ثمنها بعد عودته‪.‬‬
‫ل ل يقال‪ " :‬المصلى فلن‬
‫ونحن نعلم أن الحج هو العبادة الوحيدة التي يستمر اقترانها بفاعلها‪ ،‬فمث ً‬
‫" ول " المزكي فلن " ‪ ،‬فإن كان الحاج حريصا على هذا اللقب‪ ،‬وهو دافعه من وراء عبادته فل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ج وَا ْل ُعمْ َرةَ للّهِ‬
‫بد أل يخرج بعبادته عن غرضها المشروعة من أجله‪ ،‬إن الحق يقول‪ } :‬وَأَ ِتمّواْ الْحَ ّ‬
‫{‪ .‬وكلمة " ل " تخدمنا في قضايا متعددة‪ ،‬فما هي هذه القضايا؟‬
‫إن المسلم عندما يريد أن يحج ل فل يصح أن يحج إل بمال شرع ال وسائله‪ .‬كثير من الناس‬
‫حين يسمعون الحديث الشريف‪ " :‬من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه "‪.‬‬
‫يعتقدون أن النسان له أن يرتكب ما يشاء من معاص ومظالم‪ ،‬ثم يظن أن حجة واحدة تُسقط عنه‬
‫كل ذنوبه‪ ،‬نقول لهؤلء‪ :‬أولً‪ :‬لبد أن تكون الحجة ل‬
‫وثانيا‪ :‬أن تكون من مال حلل‪ ،‬وما دامت ل ومن مال حلل فل بد أن تعرف ما هي الذنوب‬
‫التي تسقط عنه بعد الحج‪ ،‬فليست كل الذنوب تسقط‪ ،‬وإنما الذنوب المتعلقة بال سبحانه وتعالى؛‬
‫لن الذنب المتعلق بال أنت لم تظلم ال به لكن ظلمت نفسك‪ ،‬ولكن الذنب المتعلق بالبشر فيه‬
‫إساءة لهم أو انتقاص من حقوقهم‪ ،‬وبالتالي فإن ظلم العباد ل يسقط إل برد حقوق العباد‪.‬‬
‫ونعرف أن العمرة هي قصد البيت الحرام في مطلق زمان من العام‪ ،‬والحج قصد البيت في‬
‫خصوص زمان من العام‪ ،‬ويقول بعض العلماء‪ :‬إن هذا تكليف وذاك تكليف‪ ،‬فهل يجوز أداؤهما‬
‫معا‪ ،‬أم كل تكليف يؤدى بمعزل عن الخر؟‬
‫وبعضهم تناول ملحظيات الفضل والحسن‪ ،‬فالذي يقول‪ :‬إن الفراد بالحج أحسن‪ ،‬فذلك لنه خص‬
‫كل نُسك بسفرة‪ ،‬والذي يقول‪ :‬يؤديهما معا ويحرم بالحج والعمرة معا بإحرام واحد‪ ،‬فيذهب أولً‬
‫ويأتي بنسك العمرة‪ ،‬ثم يظل على إحرامه إلى أن يخرج إلى الحج‪ ،‬وفي هذه الحالة يكون قد قرن‬
‫المرين معا؛ أي أداهما بإحرام واحد وهذا ما يفضله بعض من العلماء؛ لن ال علم أن العبد قد‬
‫أدى نسكين بإحرام واحد‪ ،‬وهناك إنسان متمتع أي يؤدي العمرة‪ ،‬ثم يتحلل منها‪ ،‬وبعد ذلك يأتي‬
‫قبل الحج ليحرم بالحج‪ ،‬وهذا اسمه التمتع‪ ،‬وهو متمتع لنه تحلل من الحرام‪ ،‬ومن العلماء من‬
‫يقول‪ :‬إن التمتع أحسن لنه فصل بين أمرين بما أخرجه عن العادة‪ ،‬أحرم ثم تحلل ثم أحرم‪.‬‬

‫إذن كل عالم له ملحظ‪ ،‬فكأن ال ل يريد أن يضيق على خلقه في أداء نُسك على أي لون من‬
‫اللوان‪ .‬وقد احتاط المشرع سبحانه وتعالى عند التكليف‪ ،‬واحترم كل الظروف سواء كانت‬
‫الظروف التي قد تقع من غير غريم وهو القدريات‪ ،‬أو تقع من غريم‪،‬وهي التي لها أسباب أخرى‬
‫حصِرْتُمْ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ {‪.‬‬
‫فقال‪ } :‬فَإِنْ أُ ْ‬
‫وأحصرتم تعني مُنعْتُم‪ .‬وهناك " حصر " وهي للقدريات‪ ،‬وهناك " أحصر " وتكون بفعل فاعل‬
‫مثل تدخل العدو كما حوصر رسول ال صلى ال عليه وسلم في عام الحديبية‪ ،‬وقيل له ل تدخل‬
‫مكة هذا العام‪ ،‬لذلك فالحق سبحانه وتعالى يخفف عنا وكأنه يقول لنا‪ :‬أنا ل أهدر تهيؤ العباد‪ ،‬ول‬
‫نيتهم ول استعدادهم ول إحرامهم؛ فإن أُحصِروا } َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ { والهدى هو ما يتم‬
‫ذبحه تقربا إلى ال‪ ،‬وكفارة عما حَدث‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكُمْ حَتّىا يَبْلُغَ ا ْل َه ْديُ مَحِلّهُ { أي إلى أن يبلغ المكان‬
‫ثم يقول بعد ذلك‪ } :‬وَلَ َتحِْلقُواْ ُرؤُو َ‬
‫المخصص لذلك‪ ،‬هذا إن كنت سائق الهدى‪ ،‬أما إن لم تكن سائق الهدى فليس ضروريا أن تذبحه‪،‬‬
‫ويكفي أن تكلف أحدا يذبحه لك‪ ،‬وقوله الحق‪َ } :‬فمَن َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى الْحَجّ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ‬
‫{ تعني أنه يصح أن يذبح النسان الهدي قبل عرفة‪ ،‬ويصح أن نؤخره ليوم النحر‪ ،‬ويصح أن‬
‫يذبحه بعد ذلك كله‪.‬‬
‫} َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْل َه ْديِ { تعني أيضا إن كان الحصول على الهدى سهلً‪ ،‬سواء لسهولة دفع ثمنه‪،‬‬
‫أو لسهولة شرائه‪ ،‬فقد توجد الثمان ول يوجد المُثمّن‪ " .‬والهدي " هو ما يُهدى للحرم‪ ،‬أو ما‬
‫يهدي النسان إلى طريق الرشاد‪ ،‬والمعنى مأخوذ من الهُدى‪ ،‬وهو الغاية الموصلة للمطلوب‪.‬‬
‫سكُمْ حَتّىا يَبْلُغَ ا ْل َه ْديُ مَحِلّهُ َفمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضا َأوْ ِبهِ أَذًى مّن‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَلَ َتحِْلقُواْ ُرؤُو َ‬
‫رّأْسِهِ َففِدْيَةٌ { فالمريض الذي ل يستطيع أن يذبح الهدي وعنده أذى من رأسه " كالصحابي الذي‬
‫كان في رأسه قمل‪ ،‬وكان يسبب له ألما‪ ،‬فقال له رسول ال‪ " :‬احلق رأسك وصم ثلثة أيام أو‬
‫أطعم ستة مساكين أو أنسك بشاة "‪.‬‬

‫إنها تشريعات متعاقبة وكل تشريع له مناسبة‪ ،‬فكما شرع لمن أحصر ما استيسر من الهدى‪ ،‬كذلك‬
‫شرع لمن حلق رأسه لمرض أن كان به أذى من رأسه‪ ،‬شرع له ثلثة أشياء‪ :‬صيام أو صدقة أو‬
‫نسك‪.‬‬
‫والمتأمل لهذه الشياء الثلثة يجد أنها مرتبة ترتيبا تصاعديا‪ .‬فالصيام هو أمر ل يتعدى النفع‬
‫المباشر فيه إلى الغير‪ ،‬والصدقة عبادة يتعدى النفع فيها للغير‪ ،‬ولكن بقدر محدود لنها إطعام ستة‬
‫أفراد مثلً‪ ،‬والنسك هو ذبيحة‪ ،‬ولحمها ينتفع به جمع كبير من الناس‪.‬‬

‫فانظر إلى الترقي في النفع‪ ،‬إما صوم ثلثة أيام‪ ،‬وإما إطعام ستة مساكين‪ ،‬وإما ذبح ذبيحة أي‬
‫شاة‪ .‬إن هذا تصعيد من الضعف للقوى كل بحسب طاقته ومقدرته‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى ساعة يشرع كفارات معينة فذلك من أجل مراعاة العمليات المطلوبة في‬
‫الحج‪ ،‬والمناسبة لظروف وحالة المسلم‪ ،‬فأباح له في حالة التمتع مثل أن يقسم الصوم إلى‬
‫مرحلتين‪ :‬ثلثة أيام في الحج‪ ،‬وسبعة إذا رجعتم‪ .‬إنه الترقي في التشريعات‪ ،‬واختيار لليسر الذي‬
‫يجعل المؤمن يخرج من المأزق الذي هو فيه‪.‬‬
‫سكٍ فَِإذَآ َأمِن ُتمْ َفمَن‬
‫} َفمَن كَانَ مِنكُم مّرِيضا َأوْ بِهِ أَذًى مّن رّ ْأسِهِ َففِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ َأوْ صَ َدقَةٍ َأوْ نُ ُ‬
‫ج وَسَ ْبعَةٍ إِذَا‬
‫َتمَتّعَ بِا ْل ُعمْ َرةِ إِلَى الْحَجّ َفمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ َفمَن لّمْ َيجِدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَ ّ‬
‫جعْتُمْ {‪.‬‬
‫رَ َ‬
‫جدْ { معناها أنه ل يملك‪ ،‬وهذا الذي ل يملك نقول له‪ :‬ل تفعل كما يفعل كثير‬
‫وكلمة } َفمَن لّمْ يَ ِ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من الناس قبل أن يطوفوا‪ ،‬إن بعضهم يذهب للسوق ويشتري الهدايا‪ ،‬وبعد ذلك ساعة وجوب‬
‫الهدي عليه يقول‪ :‬ليس معي ولذلك سأصوم‪ .‬هنا نقول له‪ :‬ألم يكن ثمن تلك الهدايا يصلح لشراء‬
‫الهدي؟‬
‫إنه لمر غريب أن تجد الحاج يشتري هدايا ل حصر لها؛ ساعات وأجهزة كهربائية ويمل‬
‫حقائبه‪ ،‬ثم يقول ل أجد ما أشتري به الهدي‪ .‬أليس ذلك غشا وخداعا؟ إن من يفعل ذلك يغش‬
‫نفسه‪.‬‬
‫إذن قوله تعالى‪َ } :‬فمَن لّمْ َيجِدْ { يعني ل يجد حقا‪ ،‬ل من تنفذ أمواله في الهدايا‪ ،‬ثم يصبح صفر‬
‫اليدين‪ ،‬ولذلك فالذين يحسنون أداء النسك ل يشترون هداياهم إل بعد تمام أداء المطلوب في‬
‫النسك‪ ،‬وإن بقي معهم مال اشتروا على قدر ما معهم‪.‬‬
‫والذين ينفقون أموالهم في شراء الهدايا ثم يأتون عند } َفمَا اسْتَ ْيسَرَ مِنَ ا ْلهَ ْديِ { ويقولون ليس معنا‬
‫ثمن الهدى وسنصوم‪ ،‬الغريب أنهم ل يتذكرون الصوم إل عند عودتهم‪ ،‬ألم يكن الفضل للواحد‬
‫منهم أن يصوم من البداية‪ ،‬ومن لحظة أن يعرف أنه ل يملك ثمن الهدى ويدخل في الحرام‬
‫للعمرة؟‬
‫إن المفروض أن يبدأ في صوم الثلثة أيام حتى يكون عذره مسبقا وليس لحقا وبعض العلماء‬
‫أباح صوم أيام التشريق‪ ،‬وأيام التشريق الثلثة هي التي تلي يوم العيد لنهم كانوا " يشرقون اللحم‬
‫" أي يبسطونه في الشمس ليحف ويقدد‪ .‬وبعد ذلك عندما ينتهي من أداء المناسك إما أن يصوم‬
‫السبعة اليام في الطريق وهو عائد‪ ،‬أو عندما يصل لمنزله‪ ،‬إن له أن يختار ما يناسبه } َفمَن لّمْ‬
‫جعْتُمْ تِ ْلكَ عَشَ َرةٌ كَامِلَةٌ { ومعروف أن } ثَلثَةِ { و }‬
‫جدْ َفصِيَامُ ثَلثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجّ وَسَ ْبعَةٍ إِذَا رَ َ‬
‫يَ ِ‬
‫عشَ َرةٌ { ‪ ،‬وذلك حتى ل يظن الناس أن المقصود إما صوم ثلثة أيام وإما‬
‫وَسَ ْبعَةٍ { تساوي } َ‬
‫عشَ َرةٌ كَامِلَةٌ { حتى ل يلتبس الفهم‪.‬‬
‫سبعة أيام‪ ،‬ولذلك قال‪َ } :‬‬

‫وربما أراد الحق سبحانه وتعالى أن ينبهنا إلى أن الصائم سيصوم عشرة أيام فهي كاملة بالنسبة‬
‫لداء النسك‪ .‬وليس الذابح بأفضل من الصائم‪ ،‬فما دام لم يجد ثمن الهدى وصام العشرة اليام‪ ،‬فله‬
‫الجر والثواب كمن وجد وذبح‪ .‬فإياك أن تظن أن الصيام قد يُنقص الجر أو هو أقل من الذبح‪.‬‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ {‪ .‬وهذا التشريع مقصود به من لم‬
‫ويقول الحق‪ } :‬ذاِلكَ ِلمَن لّمْ َيكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ا ْلمَ ْ‬
‫يكن أهله مقيمين بمكة‪ .‬ونعرف أن حدود المسجد الحرام هي اثنا عشر ميل‪ ،‬والمقيم داخل هذه‬
‫المسافة ل يلزمه ذبح ول صوم‪ ،‬لماذا؟ بعض العلماء قال‪ :‬لن المقيمين حول المسجد الحرام‬
‫طوافهم دائم فيغنيهم عن العمرة‪ ،‬فإن حج ل يدخل في هذا التشريع‪.‬‬
‫ويختم الحق هذه الية بقوله‪ } :‬وَا ّتقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ {‪ .‬كيف يقول الحق‪ :‬إنه‬
‫شديد العقاب في التيسيرات التي شرعها؟ أي‪ :‬إياكم أن تغشوا في هذه التيسيرات‪ ،‬فليس من‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المعقول أو من المقبول أن ندلس شيئا فيها‪ ،‬لذلك حذرنا سبحانه من الغش في هذه المناسك‬
‫بقوله‪ } :‬وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ {‪.‬‬
‫ق وَلَ‬
‫ث وَلَ فُسُو َ‬
‫شهُرٌ ّمعْلُومَاتٌ َفمَن فَ َرضَ فِيهِنّ ا ْلحَجّ فَلَ َر َف َ‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬ا ْلحَجّ أَ ْ‬
‫جدَالَ فِي ا ْلحَجّ‪{ ...‬‬
‫ِ‬

‫(‪)200 /‬‬

‫ج َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ‬


‫جدَالَ فِي الْحَ ّ‬
‫ق وَلَا ِ‬
‫شهُرٌ َمعْلُومَاتٌ َفمَنْ فَ َرضَ فِيهِنّ الْحَجّ فَلَا َر َفثَ وَلَا ُفسُو َ‬
‫الْحَجّ أَ ْ‬
‫خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّ ُه وَتَ َزوّدُوا فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَى وَا ّتقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (‪)197‬‬

‫شهْرُ َر َمضَانَ الّذِي أُنْ ِزلَ فِيهِ ا ْلقُرْآنُ } ولم يذكر شهور‬
‫ولنا أن نلحظ أن الحق قال في الصوم‪َ { :‬‬
‫الحج‪ :‬شوالً وذا القعدة وعشرة من ذي الحجة كما ذكر رمضان‪ ،‬لن التشريع في رمضان خاص‬
‫به فل بد أن يعين زمنه‪ ،‬لكن الحج كان معروفا عند العرب قبل السلم‪ ،‬ويعلمون شهوره وكل‬
‫شيء عنه؛ فالمر غير محتاج لذكر أسماء الشهور الخاصة به‪ ،‬والشهور المعلومة هي‪ :‬شوال‬
‫وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة وتنتهي بوقفة عرفات وبأيام منى‪ ،‬وشهر الحج ل يستغرق‬
‫منه سوى عشرة أيام‪ ،‬ومع ذلك ضمه لشوال وذي القعدة‪ ،‬لن بعض الشهر يدخل في الشهر‪.‬‬
‫وكلمة { ّمعْلُومَاتٌ } تعطينا الحكمة من عدم ذكر أسماء شهور الحج‪ ،‬لنها كانت معلومة عندهم‪.‬‬
‫{ َفمَن فَ َرضَ فِيهِنّ ا ْلحَجّ } والفرق ليس من النسان إنما الفرض من ال الذي فرض الحج ركنا‪،‬‬
‫وأنت إن ألزمت به نفسك نية وفعلً‪ ،‬وشرعت ونويت الحج في الزمن المخصوص للحج تكون قد‬
‫فرضت على نفسك الحج لهذا الموسم الذي تختاره وهو ملزم لك‪ .‬وقوله سبحانه‪ " :‬فرض " يدل‬
‫على أنك تلتزم بالحج وإن كان مندوبا‪ .‬أي غير مفروض‪.‬‬
‫جدَالَ فِي الْحَجّ }‪ .‬والرفث للسان‪ ،‬وللعين‪.‬‬
‫{ َفمَن فَ َرضَ فِيهِنّ ا ْلحَجّ فَلَ َر َفثَ وَلَ فُسُوقَ وَلَ ِ‬
‫وللجوارح الخرى رفث‪ ،‬كلها تلتقي في عملية الجماع ومقدماته‪ ،‬ورفث اللسان في الحج أن يذكر‬
‫مسألة الجماع‪ ،‬ورفث العين أن ينظر إلى المرأة بشهوة‪ .‬فالرفث هو كل ما يأتي مقدمة للجماع‪ ،‬أو‬
‫هو الجماع أو ما يتصل به بالكلمة أو بالنظرة‪ ،‬أو بالفعل‪.‬‬
‫والرفث وإن أُبيح في غير الحج فهو محرم في الحج‪ ،‬أما الفسوق فهو محرم في الحج وفي غير‬
‫الحج‪ ،‬فكأن ال ينبه إلى أنه وإن جاز أن يحدث من المسلم فسوق في غير الحج‪ ،‬فليس من الدب‬
‫أن يكون المسلم في بيت ال ويحدث ذلك الفسوق منه‪ ،‬إنّ الفسوق محرم في كل وقت‪ ،‬والحق ينبه‬
‫هنا المسرف على نفسه‪ ،‬وعليه أن يتذكر إن كان قد فسق بعيدا عن بيت ال فليستح أن يعصي ال‬
‫في بيت ال؛ فالذاهب إلى بيت ال يبغي تكفير الذنوب عن نفسه‪ ،‬فهل يُعقل أن يرتكب فيه ذنوبا؟‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لبد أن تستحي أيها المسلم وأنت في بيت ال‪ ،‬واعلم أن هذا المكان هو المكان الوحيد الذي‬
‫يُحاسب فيه على مجرد الرادة‪.‬‬
‫ويقول ال عز وجل‪َ {:‬ومَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُ ْلمٍ نّ ِذ ْقهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الحج‪]25 :‬‬
‫إذن الرفث حلل في مواضع‪ ،‬لكنه َيحْرُمُ في البيت الحرام‪ ،‬ولكن الفسوق ممتنع في كل وقت‪،‬‬
‫وامتناعه أشد في البيت الحرام‪.‬‬
‫والجدال وإن كان مباحا في غير الحج فل يصح أن يوجد في الحج‪.‬‬

‫ولنا أن نعرف أن مرتبة الجدال دون مرتبة الفسوق‪ ،‬ودون مرتبة العصيان‪ ،‬والرسول قال‪ " :‬من‬
‫حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه " لم يقل‪ " :‬ولم يجادل " إن بشرية الرسول تراعي‬
‫ظروف المسلمين‪ ،‬فمن المحتمل أن يصدر جدال من الحاج نتيجة فعل استثاره‪ ،‬فكأن عدم ذكر‬
‫الجدال في الحديث فسحة للمؤمن ولكن ل يصح أن نتمادى فيها‪ .‬والجدال ممكن في غير الحج‬
‫بدليل‪َ {:‬وجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ }[النحل‪]125 :‬‬
‫إنما الحج ل جدال فيه‪.‬‬
‫والجدال هو أن يلف كل واحد من الطرفين على الخر ليطوقه بالحجة‪ .‬ثم انظر إلى تقدير الحق‬
‫لظروف البشر وعواطف البشر والعتراف بها والتقنين لمر واقع معترف به‪ ،‬فالحج يُخرج‬
‫النسانَ من وطنه ومن مكان أهله‪ ،‬ومن ماله‪ ،‬ومما َأِلفَ واعتاد من حياة‪ .‬وحين يخرج النسان‬
‫هذا الخروج فقد تضيق أخلق الناس؛ لنهم جميعا يعيشون عيشة غير طبيعية؛ فهناك من ينام في‬
‫غرفة مشتركة مع ناس ل يعرفهم‪ ،‬وهناك أسرة تنام في شقة مشتركة ليس فيها إل دورة مياه‬
‫واحدة‪ ،‬ومن الجائز أن يرغب أحد في قضاء حاجته في وقت قضاء حاجة شخص آخر‪ ،‬وحين‬
‫تكون هذه المسألة موجودة ل رأي لنسان‪ ،‬ولذلك يقال‪ " :‬ل رأي لحاقن " أي ل رأي لمحصور‪..‬‬
‫أي لمن يريد قضاء حاجته من بول‪ ،‬وكذلك الشأن في الحاقب وهو الذي يحتبس غائطه لنها‬
‫مسألة ُتخِل توازن النسان‪.‬‬
‫إذن فالحياة في الحج غير طبيعية‪ ،‬وظروف الناس غير طبيعية‪ ،‬لذلك يحذرنا الحق من الدخول‬
‫في جدل؛ لنه ربما كان الضيق من تغيير نظام الحياة سببا في إساءة معاملة الخرين‪ ،‬والحق‬
‫يريد أن يمنع هذا الضيق من أن يؤثر في علقتنا بالخرين‪ .‬وقد أثبتت التجربة أن من يذهبون‬
‫للحج في جماعة إما أن يعودوا متحابين جدا‪ ،‬وإما أعداء ألداء‪.‬‬
‫ولذلك يطلب إلينا الحق أن يصبر كل إنسان على ما يراه من عادات غيره في أثناء الحج‪،‬‬
‫وليحتسب خروجه عن عاداته وعن رتابة أموره وعن أنسه بأهله يحتسب ذلك عند ال‪ ،‬وليشتغل‬
‫بأنس ال‪ ،‬وليتحمل في جانبه كل شيء‪ ،‬ويكفي أنه في بيت ال وفي ضيافته‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪َ } :‬ومَا َتفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّهُ وَتَزَوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَىا {‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فبعد أن نهانا الحق بقوله‪ } :‬فَلَ َر َفثَ وَلَ فُسُوقَ وَلَ جِدَالَ فِي الْحَجّ { وتلك أمور سلبية وهي‬
‫أفعال على النسان أن يمتنع عنها‪ ،‬وهنا يتبع الحق الفعال السلبية بالمر بالفعال اليجابية‪ ،‬أفعال‬
‫الخير التي يعلمها ال‪.‬‬
‫إن ال يريد أن نجمع في العبادة بين أمرين‪ ،‬سلب وإيجاب‪ ،‬سلب ما قال عن الرفث والفسوق‬
‫والجدال‪ ،‬ويريد أن نوجب ونوجد فعل‪َ } .‬ومَا َت ْفعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّهُ {‪.‬‬

‫وما هو ذلك الخير؟ إنها المور المقابلة للمسائل المنهي عنها‪ ،‬فإذا كان النسان ل يرفث في الحج‬
‫فمطلوب منه أن يعف في كلمه وفي نظرته وفي أسلوبه وفي علقته بامرأته الحلل له‪ ،‬فيمتنع‬
‫عنها ما دام محرما ويطلب منه أن يفعل ما يقابل الفسوق‪ ،‬من بر وخير‪.‬‬
‫وفي الجدال نجد أن مقابله هو الكلم بالرفق والدب واللين وبحلوة السلوب وبالعطف على‬
‫الناس‪ ،‬هذا هو المقصود بقوله‪َ } :‬ومَا َتفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ َيعَْلمْهُ اللّهُ {‪ .‬وكلمة من قوله } مِنْ خَيْرٍ‬
‫{ للبتداء‪ ،‬كأن ال سبحانه وتعالى يريد منك أن تصنع خيرا وهو سبحانه يرى أقل شيء من‬
‫الخير؛ ولذلك قال‪َ } :‬يعَْلمْهُ اللّهُ {‪ .‬فكأنه خير ل يراه أحد؛ فالخير الظاهر يراه كل الناس؛ والتعبير‬
‫} َيعَْلمْهُ اللّهُ { أي الخير مهما صغر‪ ،‬ومهما قل فإن ال يعلمه‪ ،‬وكثير من الخيرات تكون هواجس‬
‫بالنية‪ ،‬ويجازي ال على الخير بالجزاء الذي يناسبه‪.‬‬
‫وقول الحق‪ } :‬وَتَزَوّدُواْ { والزاد‪ :‬هو ما يأخذه المسافر ليتقوى به على سفره‪ ،‬وكان هذا أمرا‬
‫مألوفا عند العرب قديما؛ لن المكان الذي يذهبون إليه ليس فيه طعام‪ .‬وكل هذه الظروف تغيرت‬
‫الن‪ ،‬وكذلك تغيرت عادات الناس التي كانت تذهب إلى هناك‪ .‬كانت الناس قديما تذهب إلى الحج‬
‫ومعها أكفانها‪ ،‬ومعها ملح طعامها‪ ،‬ومعها الخيط والبرة‪ ،‬فلم يكن في مكة والمدينة ما يكفي‬
‫الناس‪ ،‬وأصبح الناس يذهبون الن إلى هناك ليأتوا بكماليات الحياة‪ ،‬وأصبحت ل تجد غرابة في‬
‫أن فلنا جاء من الحج ومعه كذا وكذا‪ .‬كأن الحق سبحانه وتعالى جعل من كل ذلك إيذانا بأنه‬
‫شيْءٍ‪[} ..‬القصص‪]57 :‬‬
‫أخبر قديما يوم كان الوادي غير ذي زرع فقال‪ُ {:‬يجْبَىا إِلَيْهِ َثمَرَاتُ ُكلّ َ‬
‫وانظر إلى دقة الداء القرآني في قوله‪ } :‬يُجْبَىا { ومعناها يؤخذ بالقوة وليس باختيار من يذهب‬
‫به‪ ،‬فكأن من يذهب بالثمرات بكل ألوانها إلى هناك مرغم أن يذهب بها‪ ،‬وهو رزق من عند ال‪،‬‬
‫وليس من يد الناس‪.‬‬
‫وهذا تصديق لقوله تعالى‪ {:‬وَارْ ُز ْقهُمْ مّنَ ال ّثمَرَاتِ‪[} ...‬إبراهيم‪]37 :‬‬
‫وقوله الحق‪ } :‬وَتَ َزوّدُواْ { مأخوذة ـ كما عرفنا ـ من الزيادة‪ ،‬والزاد هو طعام المسافر‪ ،‬ومن‬
‫يدخر شيئا لسفر فهو فائض وزائد عن استهلك إقامته‪ ،‬ويأخذه حتى يكفيه مئونة السؤال أو‬
‫الستشراف إلى السؤال؛ لن الحج ذلة عبودية‪ ،‬وذلة العبودية يريدها ال له وحده‪ .‬فمن ل يكون‬
‫عنده مؤونة سفره فربما يذل لشخص آخر‪ ،‬ويطلب منه أن يعطيه طعاما‪ ،‬وال ل يريد من الحاج‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أن يذل لحد‪ ،‬ولذلك يطلب منه أن يتزود بقدر حاجته حتى يكفي نفسه‪ ،‬وتظل ذلته سليمة لربه‪،‬‬
‫فل يسأل غير ربه‪ ،‬ول يستشرف للسؤال من الخلق‪ ،‬ومَنْ يسأل أو يستشرف فقد أخذ شيئا من‬
‫ذلته المفروض أن تكون خالصة في هذه المرحلة ل وهو يوجهها للناس‪ ،‬وال يريدها له خالصة‪.‬‬

‫وإن لم يعط الناس السائل والمستشرق للسؤال فربما سرق أو نهب قدر حاجته‪ ،‬وتتحول رحلته من‬
‫قصد البر إلى الشر‪ .‬وكان بعض أهل اليمن يخرجون إلى الحج بل زاد ويقولون‪ " :‬نحن‬
‫متوكلون‪ ،‬أنذهب إلى بيت ال ول يطعمنا؟ "‪ .‬ثم تضطرهم الظروف لن يسرقوا‪ ،‬وهذا سبب‬
‫وجود النهب والسرقة في الحج‪ .‬إن إلحاح الجوع قد يدفع النسان لن ينهب ويسرق ليسد حاجته‪.‬‬
‫ومن هنا أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقطع على النفس البشرية هذا الشر فقال‪ } :‬وَتَ َزوّدُواْ { إنه‬
‫أمر من ال بالتزود في هذه الرحلة التي ينقطع فيها النسان عن ماله وعن أهله وعن أحبابه وعن‬
‫معارفه‪ ،‬ويقول سبحانه‪ } :‬وَتَ َزوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّتقْوَىا { ونعرف أن الزاد هو ما تَقي به نفسك‬
‫من الجوع والعطش‪ ،‬وإذا كان التزود فيه خير لستبقاء حياتك الفانية‪ ،‬فما بالك بالحياة البدية التي‬
‫ل فناء فيها‪ ،‬أل تحتاج إلى زاد أكبر؟ فكأن الزاد في الرحلة الفانية يعلمك أن تتزود للرحلة‬
‫الباقية‪.‬‬
‫إذن فقوله‪ } :‬فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَىا { يشمل زاد الدنيا والخرة‪ .‬وال سبحانه وتعالى يذكرنا‬
‫حسّة وينقلنا منها إلى المور المعنوية‪ ،‬ولكن إذا نظرت بعمق وصدق وحق وجدت‬
‫بالمور المُ َ‬
‫المور المعنوية أقوى من المور الحسية‪ .‬ولذلك نلحظ في قوله سبحانه وتعالى‪ {:‬يَابَنِي ءَا َدمَ قَدْ‬
‫سوْءَا ِت ُكمْ }[العراف‪]26 :‬‬
‫أَنزَلْنَا عَلَ ْيكُمْ لِبَاسا ُيوَارِي َ‬
‫هذا أمر حسي‪ .‬ويفيدنا ويزيدنا سبحانه " ريشا " إنه ـ سبحانه ـ ل يواري السوءة فقط‪ ،‬وإنما‬
‫زاد المر إلى الكماليات التي يتزين بها‪ ،‬وهذه الكماليات هي الريش‪ ،‬أي ما يتزين به النسان‪ ،‬ثم‬
‫قال الحق‪ {:‬وَلِبَاسُ ال ّت ْقوَىا ذاِلكَ خَيْرٌ }[العراف‪]26 :‬‬
‫أي أنعمت عليكم باللباس والريش‪ ،‬ولكن هناك ما هو خير منهما وهو } لِبَاسُ ال ّتقْوَىا {‪ .‬فإن كنت‬
‫تعتقد في اللباس الحسي أنه سَترَ عورتك ووقاك حرا وبردا وتزينت بالريش منه فافهم أن هذا أمر‬
‫حسي‪ ،‬ولكن المر الفضل هو لباس التقوى‪ ،‬لماذا؟ لن مفضوح الخرة شر من مفضوح الدنيا‪.‬‬
‫إذن فقوله‪ } :‬وَتَزَوّدُواْ فَإِنّ خَيْرَ الزّادِ ال ّت ْقوَىا وَا ّتقُونِ ياُأوْلِي الَلْبَابِ {‪ .‬يعني أن الحق يريد منك‬
‫أن تتزود للرحلة زادا يمنعك عن السؤال والستشراف أو النهب أو الغصب‪ ،‬وأحذر أن يدخل فيه‬
‫شيء مما حرم ال‪ ،‬ولكن تزودك في دائرة‪ } :‬وَاتّقُونِ ياُأوْلِي الَلْبَابِ { أي يا أصحاب العقول‪ ،‬ول‬
‫ح ّكمُوا عقولهم في القضية‪ ،‬لنه جل‬
‫ينبه ال الناس إلى ما فيهم من عقل إل وهو يريد منهم أن ُي َ‬
‫ح ْكمُ العقل في صف أمر‬
‫ح ّك ْمتَ عقلك في القضية فسيكون ُ‬
‫حكّ َم عقلك‪ ،‬فإن َ‬
‫شأنه يريد منك أن ُت َ‬
‫ال‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولما كان ال ـ سبحانه ـ بسعة لطفه ورحمته ـ يريد في هذه الشعيرة المقدسة والرحلة المباركة‬
‫أن يتعاون الناس‪ ،‬أذِنَ لجماعة من الحجاج أن تقوم على خدمة الخرين تيسيرا لهم‪ .‬ومن العجيب‬
‫أن الذين يقومون بخدمة الحجاج يُرخصُ ال لهم في الحج أن ينفروا قبل غيرهم؟ لن تلك مصلحة‬
‫ضرورية‪ .‬فهب أن الناس جميعا امتنعوا عن خدمة بعضهم بعضا فمن الذي يقوم بمصالح الناس؟‬
‫إذن لبد أن يذهب أناس وحظهم العمل لخدمة الحجاج‪ ،‬وال ـ سبحانه وتعالى ـ بين ذلك‬
‫علَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْ َتغُواْ َفضْلً مّن رّ ّب ُكمْ فَإِذَآ َأ َفضْتُم مّنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُواْ‬
‫ووضحه بقوله‪ } :‬لَيْسَ َ‬
‫اللّهَ‪{ ...‬‬

‫(‪)201 /‬‬

‫شعَرِ‬
‫لَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْ َتغُوا َفضْلًا مِنْ رَ ّبكُمْ فَإِذَا َأ َفضْتُمْ مِنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُوا اللّهَ عِ ْندَ ا ْلمَ ْ‬
‫الْحَرَا ِم وَا ْذكُرُوهُ َكمَا هَدَا ُك ْم وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ َلمِنَ الضّالّينَ (‪)198‬‬

‫{ لَ ْيسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ } أي ل إثم عليكم ول حرج { أَن تَبْ َتغُواْ َفضْلً مّن رّ ّبكُمْ } أي أن تتكسبوا في‬
‫الحج وهو نسك عبادي‪ ،‬والمكسب الذي يأتي فيه هو فضل من ال‪ .‬وقديما كانوا يقولون‪ :‬فيه "‬
‫حاج " ‪ ،‬وفيه " داجّ " ‪ ،‬واحدة بالحاء وواحدة بالدال‪ " ،‬فالداجّ " هو الذي يذهب إلى الراضي‬
‫المقدسة للتجارة فقط‪ ،‬ونقول له‪ :‬ل مانع أن تذهب لتحج وتتاجر؛ لنك ستيسر أمرا؛ لننا إن‬
‫منعناه فمن الذي يقوم بأمر الحجيج؟‬
‫ولماذا قال الحق‪ { :‬تَبْ َتغُواْ َفضْلً مّن رّ ّبكُمْ } ولم يقل رزقا؟‪ .‬لقد أوضح الحق في الية التي قبلها‪:‬‬
‫ألّ تذهبوا إلّ ومعكم زادكم‪ .‬إذن أنت ل تريد زادا بعملك هذا‪ ،‬أي ل تذهب إلى الحج لتأكل من‬
‫التجارة‪ ،‬إنما تذهب ومعك زادك وما تأتي به هو زائد عن حاجتك ويكون فضلً من ال سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬وهو جل شأنه يريد منك ألّ يكون في عملك المباح حرجٌ؛ فنفى الجناح عنه؛ فأنت قد‬
‫جئت ومعك الكل والشرب ويكفيك أن تأخذ الربح المعقول‪ ،‬فل يكون فيه شائبة ظلم كالستغلل‬
‫لحاجة الحجيج‪ ،‬لذلك أسماه " فضلً " يعني أمرا زائدا عن الحاجة‪.‬‬
‫وكل ابتغاء الرزق وابتغاء الفضل ل يصح أن يغيب عن ذهن مبتغي الرزق والفضل‪ ،‬فكله من‬
‫عند ال‪ .‬إياك أن تقول‪ :‬قوة أسباب‪ ،‬وإياك أن تقول‪ :‬ذكاء أو احتياط‪ ،‬فل شيء من ذلك كله؛ لن‬
‫الرزق كله من ال هو فضل من ال‪ .‬ول ضرر عليك أن تبتغي الفضل من الرب؛ لنه هو الخالق‬
‫وهو المربي‪ .‬ونحن مربوبون له‪ ،‬فل غضاضة أن تطلب الفضل من ال‪.‬‬
‫شعَرِ الْحَرَامِ }‪ .‬وأنت حين‬
‫ثم يقول الحق بعد ذلك‪ { :‬فَإِذَآ َأ َفضْتُم مّنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ عِندَ ا ْلمَ ْ‬
‫تمل كأسا عن آخرها فهي تفيض بالزائد على جوانبها‪ ،‬إذن فالفائض معناه شيء افترق عن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الموجود للزيادة‪.‬‬
‫قوله‪ { :‬فَِإذَآ َأ َفضْتُم مّنْ عَ َرفَاتٍ } تدل على أن ال قد حكم بأن عرفات ستمتلئ امتلء‪ ،‬وكل من‬
‫يخرج منها كأنه فائض عن العدد المحدد لها‪ .‬وهذا حكم من ال في الحج‪ .‬وأنت إذا ما شهدت‬
‫المشهد ـ كتبه ال للمسلمين جميعا‪ .‬إن شاء ال ـ سترى هذه المسألة‪ ،‬فكأن إناءً قد امتل‪ ،‬وذلك‬
‫يفيض منه‪ .‬ول تدري من أين يأتي الحجيج ول إلى أين يذهبون‪ .‬ومن ينظر من يطوفون بالبيت‬
‫يظن أنهم كتل بشرية‪ ،‬وكذلك إذا فاض الحجيج في مساء يوم عرفة يخيل إليك عندما تنظر إليهم‬
‫أنه ل فارق بينهم؛ ولذلك يقال‪ :‬سالت عليه شعاب الحي كأنها سيل‪.‬‬
‫وقال الشاعر‪:‬فسـالت عليه شعـاب الحي حـين دعـا أصـحـابه بـوجـوه‬
‫كالـدنـانـيروقال آخر‪:‬ولمـا قضـيـنا مـن مـنى كـل حـاجـة ومسـح بـالركـان من‬
‫هـو ماسحأخـذنا بـأطـراف الحـاديـث بـينـنـا وسـالـت بأعـناق المـطي‬
‫الباطحأي كأنه سيل متدفق‪ ،‬هكذا تماما تكون الفاضة من عرفات‪ .‬وعندما تتأمل الناس‬
‫المتوجهين إلى " مزدلفة " تتعجب أين كان كل هذا الجمع؟ ترى الوديان يسير فيها الناس‬
‫والمركبات كأنهم السيل ول تستطيع أن تفرق شخصا من مجموعة‪ ،‬وفي موقف الحجيج إفاضتان‪:‬‬
‫إفاضة من عرفات‪ ،‬ثم إفاضة ثانية بينتها الية التي بعدها يقول ـ سبحانه ـ‪ { :‬ثُمّ َأفِيضُواْ مِنْ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }‬
‫س وَاسْ َتغْفِرُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬
‫حَ ْيثُ َأفَاضَ النّا ُ‬

‫(‪)202 /‬‬

‫غفُورٌ َرحِيمٌ (‪)199‬‬


‫س وَاسْ َت ْغفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬
‫ثُمّ َأفِيضُوا مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّا ُ‬

‫وعرفات ننطقها بمنطوقين‪ :‬مرة نقول " عرفات " كما وردت في هذه الية‪ ،‬ومرة ننطقها " عرفة‬
‫" كما في قول الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬الحج عرفة "‪ .‬وعرفات جمع‪ ،‬وعرفة مفرد‪.‬‬
‫هذه الكلمة أصبحت علما على المكان الفسيح الذي يجتمع فيه الحجيج في التاسع من ذي الحجة‪،‬‬
‫ول تظن أنها جبل‪ ،‬فإذا سمعت‪ " :‬جبل عرفات " كما يقول الناس فافهم أن المقصود هو الجبل‬
‫المنسوب إلى عرفات‪ .‬وليس عرفات في ذاتها‪ ،‬ولذلك تجد أناسا كثيرين يظنون أنهم إن لم‬
‫يصعدوا الجبل المسمى بجبل الرحمة الذي عند الصخرات التي وقف عليها رسول ال في حجة‬
‫الوداع فكأن النسان منهم لم يحج‪ .‬نقول لهم‪ :‬ل‪ .‬الوقوف يكون في الوادي‪ ،‬والجبل المجاور‬
‫للوادي أسميناه جبل عرفات‪ ،‬فالجبل هو المنسوب لعرفات وليس الوادي هو المنسوب للجبل‪.‬‬
‫وأصل كلمة عرفة وردت فيها أقوال كثيرة‪ .‬وهناك فرق بين السم يكون وصفا ثم يصير اسما‪.‬‬
‫علَما من أول المر‪ .‬وقلنا‪ :‬إنه إذا سميت العَلَم من أول المر فل ضرورة أن‬
‫وبين أن يكون َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يكون فيه معنى اللفظ؛ فقد تسمى واحدا شقيا بـ " سعيد " ‪ ،‬وتُسمى زنجية بـ " قمر " ‪ ،‬وهذا ل‬
‫سمّي ابني‬
‫يُسمى " وصفا " وإنما يُسمى عَلََما إل أن الناس حين يسمون يتفاءلون بالصل‪ ،‬فيقال‪ :‬أُ َ‬
‫" سعيدا " تفاؤل بأن يكون " سعيدا " ‪ ،‬وعندما تكون بنتا فقد تعطيها اسما مخالفا لحالها‪ ،‬فقد تكون‬
‫دميمة وتسميها " جميلة " تفاؤلً بالسم‪ .‬هنا يكون أخذ العلم للتفاؤل‪ .‬والعرب عندما كانوا يسمون‬
‫السماء كانوا يتفاءلون بها‪ .‬مثلً كانوا يسمون " صخرا " ليتفاءلوا به أمام العداء‪ .‬ويسمون " كلبا‬
‫" حتى ل يجرؤ عليه أحد‪.‬‬
‫وقيل لعربي‪ :‬إنكم تحسنون أسماء عبيدكم فتقولون " سعيدا " و " سعدا " و " فضلً " وتسيئون‬
‫أسماء أبنائكم؛ تسمونهم‪ " :‬مُرة " ‪ " ،‬كلبا " ‪ " ،‬صخرا " قال العربي‪ :‬نعم؛ لننا نسمي أبناءنا‬
‫لعدائنا ليكونوا في نحورهم‪ ،‬ونسمي عبيدنا لنا‪ .‬وكلمة " عرفة " هي الن علم على مكان‪ ،‬لكن‬
‫سبب تسميتها فيه خلف‪ :‬قيل‪ :‬لن آدم هبط في مكان وحواء هبطت في مكان‪ ،‬وظل كلهما‬
‫يبحث عن الخر حتى تلقيا في هذا المكان‪ ،‬فسُمي " عرفة "‪.‬‬
‫والحديث عن آدم وحواء يقتضينا أن نبحث عن سبب تفرقهما الذي جعل كل منهما يبحث عن‬
‫الخر‪ ،‬إذا كان ال عز وجل خلقهما ليكونا زوجين فلماذا فرقهما؟‪ .‬لك أن تتصور حال آدم وهو‬
‫مخلوق في عالم غريب واسع بمفرده‪ ،‬وينظر حوله فل يجد بشرا مثله‪ ،‬بال أل يشتاق لنسان‬
‫يؤنس وحدته؟‪.‬‬

‫وماذا يكون حاله عندما يرى إنسانا؟‪ .‬لشك أنه سيقابله باشتياق شديد‪ .‬من أجل هذا فرق ال‬
‫بينهما وجعل كلّ منهما يبحث عن إنسان يؤنس وحشته‪ ،‬ولو ظل كل منهما بجوار الخر فربما‬
‫كان المر عاديا‪ .‬وهكذا أراد ال لكل من آدم وحواء أن يشتاق كل منهما للخر‪ ،‬فأبعدهما عن‬
‫بعضهما ثم تلقيا بعد طول بعاد‪ ،‬فكان الشوق للقاء‪ .‬وبعد اللقاء تأتي المودة والرحمة واللفة‬
‫والسكن‪ ،‬وهو مطلوب الحياة لزوجين‪ .‬وهناك قول آخر بخصوص تسمية عرفات‪ :‬إن سيدنا آدم‬
‫قالت له الملئكة وهو في ذلك المكان‪ :‬اعرف ذنبك وتب إلى ربك فقال‪ {:‬رَبّنَا ظََلمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ‬
‫حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[العراف‪]23 :‬‬
‫َت ْغفِرْ لَنَا وَتَ ْر َ‬
‫فيكون بذلك قد عرف زلته وعرف كيف يتوب‪ .‬أو حينما أراد ال أن ُيعَلّم إبراهيم عليه السلم‪،‬‬
‫وهو الذي دعا ربّه أن يجعل أفئدة الناس وقلوبهم تميل وتهوى هذا المكان‪ .‬إن إبراهيم رأى في‬
‫المنام أن يذبح ابنه‪ .‬وتلك مسألة شاقة من ثلثة وجوه‪ :‬المشقة الولى أنها رؤيا وليست وحيا‪.‬‬
‫والمشقة الثانية أنه ابنه الوحيد‪ ،‬والمشقة الثالثة أنه هو الذي سيذبحه‪.‬‬
‫إنها ثلث مشقات صعاب‪ ،‬وليس من المعقول أن تمر هذه المسألة على أبي النبياء بيسر‬
‫وسهولة‪ ،‬بل لبد أنه تحدّث فيها كثيرا بينه وبين نفسه‪ ،‬وهل هي رؤيا أم ماذا؟‪ .‬ومن هنا سُمي‬
‫اليوم الذي قبل يوم عرفة بيوم التروية‪ .‬وعندما تأكد سيدنا إبراهيم بأن رؤيا النبياء حق عرف أنه‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لبد أن ينفذ ما رأى‪ .‬والمكان الذي عرف فيه حقيقة الرؤيا سُمي عرفة‪ .‬أو أنه حين جاءت له‬
‫الرؤيا بذبح ابنه فالشيطان لم يدع مثل هذه الفرصة تمر‪ ،‬وكان لبد أن يدخل ليوسوس لبراهيم‪.‬‬
‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف‪]16 :‬‬
‫ل ْقعُدَنّ َلهُمْ صِرَا َ‬
‫أليس هو القائل‪َ {:‬‬
‫فعندما تمثل الشيطان لبراهيم رجمه بالحصى سبعا في المرة الولى‪ ،‬ثم عاوده مرة أخرى‬
‫فرجمه سبعا‪ ،‬وجاءه في الثالثة فرجمه سبعا‪ ،‬بعدها لم يأت له ثانية‪ ،‬فجرى إبراهيم مخافة أن‬
‫يلحقه‪ ،‬ولذلك سُمى المكان بالمزدلفة‪ ،‬والمزدلف هو المسرع‪ ،‬ويسمى " ذا المجاز " أي أنه اجتاز‬
‫المزدلفة‪ ،‬ويكون قد عرف المسألة عند عرفة‪.‬‬
‫أو أن جبريل كان يعرفه المناسك في هذا المكان‪ ،‬فيقول له‪ :‬عرفتَ؟ فيرد إبراهيم‪ " :‬عرفتُ "‪ .‬أو‬
‫أن النسان يعرف فيها ربه في آخر ما شرع له من أركان فكل منا عرف الركان‪ :‬هذا عرف‪،‬‬
‫وذاك عرف‪ ،‬وثالث‪ ،‬ورابع‪ ،‬وهكذا فيكون كلنا‪ :‬عرفات‪ ،‬ويصبح المكان عبودية ل‪ .‬اشترك فيها‬
‫جميع الحجاج‪.‬‬
‫شعَرِ ا ْلحَرَامِ {‪ .‬والمشعر الحرام في مزدلفة‪} :‬‬
‫} فَِإذَآ َأ َفضْتُم مّنْ عَ َرفَاتٍ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ عِندَ ا ْلمَ ْ‬
‫فَا ْذكُرُواْ اللّهَ { معناها أن ال يَسّر لكم هذه الرحلة الشاقة‪ ،‬وجاء بكم آمّين وقاصدين بيت ال‬
‫الحرام‪ ،‬ثم تعودون مغفورا لكم‪ ،‬وهي مسألة تستحق أن تذكروا ال بالشكر والعرفان‪.‬‬

‫} وَا ْذكُرُوهُ َكمَا َهدَاكُمْ {؛ لن هدايته لكم وتعليمكم أقصر طريقة يوصل إلى الخير هو تحية من ال‬
‫لخلقه‪ ،‬والتحية يجب أن يُرَدّ عليها‪ ،‬فكما هداكم اذكروه‪ } .‬وَإِن كُنْتُمْ مّن قَبْلِهِ َلمِنَ الضّآلّينَ {؛ لنهم‬
‫طالما حجوا كثيرا‪ ،‬في الجاهلية‪ ،‬فأنتم كنتم تحجون بضلل‪ ،‬والن تحجون بهدى‪ } .‬ثُمّ َأفِيضُواْ‬
‫مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّاسُ {‪ .‬قوله‪ } :‬ثُمّ { تدل على أنه لبد من الوقوف بعرفة أو المبيت في مزدلفة؛‬
‫لن } ثُمّ { تدل على البعدية ببطء والتعقيب بتمهل‪.‬‬
‫إذن قوله‪ } " :‬ثُمّ َأفِيضُواْ { حجة لمن قال‪ :‬إنه لبد من المبيت في مزدلفة‪ .‬وهذه الية نزلت لن‬
‫قريشا كانت ترى نفسها أهل الحرم فل يُطالبون أبدا بما يُطالب به سائر الناس‪ ،‬ولذلك ل يذهبون‬
‫مع الناس إلى عرفات‪ ،‬وال يريد بالحج المساواة بين الناس‪ ،‬ولذلك قال النبي في حجة الوداع‪" :‬‬
‫كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب‪ ،‬لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على ال من‬
‫الجعلن " فلبد أن ينسخ ال مسلك قريش فقال‪ } :‬ثُمّ َأفِيضُواْ مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّاسُ { يعني ل‬
‫تميز لكم ول تفرقة بين المسلمين‪.‬‬
‫وبعض المفسرين يقول‪ :‬إن معنى{ مِنْ حَ ْيثُ َأفَاضَ النّاسُ }المقصود به من حيث أفاض إبراهيم‪،‬‬
‫بمعنى أن سيدنا إبراهيم عليه السلم قد رسم مناسك الحج كلها بعد أن علمها ال له‪ ،‬فالناس وإن‬
‫كانوا جمعا إل أن المراد بكلمة " الناس " هو " إبراهيم "‪ .‬ول نستغرب أن يكون معنى‪ " :‬الناس "‬
‫هو " إبراهيم " لن ال وصفه بأنه " أمة "‪ .‬وكلمة الناس تُطلق على النسان الذي يجمع خصائص‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سدُونَ النّاسَ‬
‫متعددة؛ ولذلك قال ال عز وجل عن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ {:‬أَمْ َيحْ ُ‬
‫عَلَىا مَآ آتَا ُهمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ }[النساء‪]54 :‬‬
‫لقد وصف الحق رسول ال صلى ال عليه وسلم بالناس‪ .‬والرجل الذي ذهب للمؤمنين يخبرهم‬
‫باستعداد المشركين لقتالهم نزل فيه قوله تعالى‪ } :‬الّذِينَ قَالَ َلهُمُ النّاسُ { إنه إنسان واحد ومع ذلك‬
‫وصفه ال بالناس‪ ،‬كأنه بتنبيهه للمسلمين يكون جمع كل صفات الخير في الناس‪.‬‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ { إنّ الحق سبحانه وتعالى يعلم أن بني آدم ل يمكن لهم أن‬
‫} وَاسْ َت ْغفِرُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ َ‬
‫يراعوا حقوقه كما يجب أن تُراعى‪ ،‬فل بد أن تفلت منهم أشياء‪ ،‬وهو سبحانه وتعالى يعلم ذلك؛‬
‫لنه خالقهم‪ ،‬فأمرهم ـ جلت حكمته ـ أن يستغفروه؛ ليكفروا عن سيئاتهم‪.‬‬
‫شدّ ِذكْرا‪{ ...‬‬
‫س َككُمْ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ َك ِذكْ ِركُمْ آبَآ َءكُمْ َأوْ أَ َ‬
‫} فَِإذَا َقضَيْتُمْ مّنَا ِ‬

‫(‪)203 /‬‬

‫س َككُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ كَ ِذكْ ِركُمْ آَبَا َءكُمْ َأوْ َأشَدّ ِذكْرًا َفمِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آَتِنَا فِي‬
‫فَإِذَا َقضَيْتُمْ مَنَا ِ‬
‫الدّنْيَا َومَا َلهُ فِي الْآَخِ َرةِ مِنْ خَلَاقٍ (‪)200‬‬

‫ونعرف أن " قضى " تأتي بمعان متعددة‪ ،‬والعمدة في هذه المعاني فصل المر بالحكمة‪ ،‬قد يُفصل‬
‫المر بحكمة لنه فرغ منه أداء { فَإِذَا َقضَيْتُمْ } أي إذا فرغتم من مناسككم‪ ،‬هذه واحدة‪ .‬وقد يكون‬
‫لنك فصلت المر بخبر يقين مثل قوله الحق‪َ {:‬و َقضَىا رَ ّبكَ َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ إِيّاهُ }[السراء‪]23 :‬‬
‫وقد يكون " قضى " بمعنى حكم حكما لزما كما تقول‪ :‬قضى القاضي‪ .‬إذن فكلها تدور حول‬
‫س َككُمْ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ }‪ .‬أي إذا فرغتم من مناسككم‪ ،‬والمناسك‬
‫معنى‪ :‬فصل بحكمة‪ { .‬فَإِذَا َقضَيْتُمْ مّنَا ِ‬
‫هي الماكن لعبادة ما‪ ،‬فعرفات مكان للموقف‪ ،‬و " مزدلفة " مكان للمشعر الحرام يبيت فيه‬
‫الحجاج‪ .‬و " منى " منسك للمبيت أيضا‪ ،‬إذن كل مكان فيه عبادة يُسمى " منسكا "‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬فَا ْذكُرُواْ اللّهَ } أي فل يزال ذكر ال دائما واردا في اليات‪ ،‬كأنك حين توفق إلى‬
‫أداء شيء إياك أن تغتر‪ ،‬بل اذكر ربك الذي شرع لك ثم وفقك وأعانك‪ .‬وكأن الحق يريد أن‬
‫يضع نهاية لما تعودت عليه العرب في ذلك الزمان فقديما كانوا يحجون‪ ،‬فإذا ما اجتمعت القبائل‬
‫في منى‪ ،‬كانت كل قبيلة تقف بشاعرها أو بخطيبها ليعدد مآثره ومآثر آبائه‪ ،‬وما كان لهم من‬
‫مفاخر في الجاهلية ويحملون الديات‪ ،‬ويحملون الحمالت‪ ،‬ويطعمون الطعام‪ ،‬ويفعلون غير ذلك‬
‫من العادات‪ ،‬فأراد ال سبحانه وتعالى أن ينهي فيهم هذه العادة التي هي التفاخر بالباء وبأعمالهم‬
‫فقال‪ { :‬فَا ْذكُرُواْ اللّهَ َك ِذكْ ِركُمْ آبَآ َءكُمْ } والذكر معناه توجيه الفكر إلى شيء غير موجود ساعة تأتي‬
‫به‪ ،‬ول يمكن أن يذكر النسان من أحداث الماضي إل الحدث الذي له الثر النافع فيه‪ ،‬وعلى‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مقدار الثر النافع يكون الذكر‪.‬‬
‫وكانوا قديما يطعمون الطعام‪ ،‬والذي يطعم الطعام يؤدي مهمة في مثل هذه البلد البُدائية ـ أي‬
‫البدوية ـ وكان من المبالغة في الجفنات أن بعضهم كالمطعم بن عدي مثلً كانت له جفنة يحكي‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه كان يستظل بها ساعة الهجير‪ .‬والجفنة هي الوعاء الذي‬
‫يوضع فيه الطعام‪ ،‬فتأمل الجفنة كيف تكون؟!‬
‫ويحملون الحمالت‪ ،‬بمعنى أنه إذا قامت قبيلة على قبيلة وقتلت منها خلقا كثيرا يتطوع منهم ذو‬
‫الحسب وذو المروءة وذو الشهامة وذو النجدة فيحمل كل هذه الثار في ماله‪ .‬والديات هي التي‬
‫يتطوع بدفعها أهل الشهامة منهم إذا ما قتل قاتل قتيلً‪ ،‬ول يقدر على أن يعطي ديته‪ ،‬وكانت كل‬
‫تلك العمال هي المفاخر‪.‬‬
‫أراد الحق سبحانه وتعالى أن يردهم في كل شيء إلى ذاته‪ ،‬فقال لهم‪ :‬أنتم تذكرون آباءكم؛ لنهم‬
‫كانوا يفعلون كذا وكذا‪ ،‬وآباؤكم يفتخرون بآبائهم‪ ،‬انقلوها وسلسلوها إلى خالق كل الباء وكل‬
‫البشر‪ ،‬فكل ما يجري من خير على يد الباء مرده إلى ال‪ ،‬فإن ذكرتم آباءكم لما قدموه من خير‪،‬‬
‫فاذكروا من أمدهم بذلك الخير‪.‬‬

‫وهو يريد منهم أن يذكروا ال كذكرهم آباءهم؛ أو أشد ذكرا؛ لن كل كائن إنما يستحق من الذكر‬
‫على مقدار ما قدم من الخير‪ ،‬ولن تجد كل الخير إل ل‪ ،‬إذن لبد أن نذكر ال‪.‬‬
‫وأيضا فإن السلم أراد أن ينهي التفاخر بالباء ليجعل الفخر ذاتيا في نفس المؤمن‪ ،‬أي فخرا من‬
‫عمل جليل نابع وحاصل من الشخص نفسه؛ ولذلك يقولون في أمثال هؤلء الذين يفخرون‬
‫بأسلفهم إنهم‪ " :‬عظاميون " أي منسوبون إلى مجد صنعه من صاروا عظاما تضمها القبور‪ ،‬وال‬
‫يريدنا أن نكون ذاتيين في مفاخرنا‪ ،‬أي أن نفخر بما نفعل نحن‪ ،‬ل بما فعل آباؤنا‪ ،‬فالباء أفضوا‬
‫إلى ما قدموا‪ ،‬ويريد ال أن يأخذ النسان ذاتية إيمانية تكليفية‪ .‬ومن يريد أن يفتخر فليفتخر بنفسه‬
‫ولذلك يقول الشاعر‪:‬ول تـكـونـوا عظـامـيـين مـفـخـرة مـاضـيـهـم عـامـر‬
‫فـي حـاضر خـربل يـنـفع الحسـب المـوروث مـن قـدم إل ذوي هـمـة غـاروا‬
‫عـلـى الحـسـبوالعـود مـن مـثمـر إن لـم يلـد ثمـرا عَـدّوه مـهـمـا سَـمَـا‬
‫أصـلً مـن الحطبفالنبات الذي ليس له ثمرة‪ ،‬يعتبره الناس مجرد حطب‪،‬ويريد الحق أن ينبه في‬
‫المؤمن ذاتية تفعل‪ ،‬وليس ذاتية تفتخر بأنه كان وكان‪ ،‬بل على كل إنسان أن يقدم ما يفتخر‬
‫به‪:‬لـيـس الفـتـى مـن يـقـول كان أبي إن الفـتـى مـن يـقـول هـأنـذاوعندما كان‬
‫العرب يتفاخر بعضهم على بعض يقول أحدهم للخر‪ :‬يا أخي أنت تفتخر عليّ بماذا؟‬
‫فيرد عليه الثاني‪ :‬أفتخر عليك بآبائي وأجدادي‪.‬‬
‫فيرد الول‪ :‬اذكر جيدا أن مجد آبائك انتهى بك‪ ،‬ومجد آبائي بدأ بي‪ ،‬ولماذا ل أجعل لبائي الفخر‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بأنهم أنجبوني؟‬
‫وفي ذلك يقول أحدهم‪:‬قـالـوا أبـو الصقر من شيبان قلت لهم كـل لعـمـري ولـكـن مـنه‬
‫شـيـبانُوكـم أبٍ قـد عـل بـابـن ذُرَا شَ َرفٍ كـمـا عَـلـتْ بـرسـول ال عـدنـانُوما‬
‫دام القوم يفتخرون بحي منهم‪ ،‬فهم يلتحمون بمن يعطيهم المدد ليكونوا شيئا باقيا ومؤثرا في‬
‫الوجود‪ ،‬وليس بذلك الشيء المحدود المتمثل في أنه يطعم الطعام‪ ،‬ويحمل الحمالت ويؤدي‬
‫الديات‪ ،‬وإنما يكون بحمل رسالة النسانية العالمية‪.‬‬
‫شدّ ِذكْرا {‪ .‬لن ذكركم ال سيصلكم بالمدد منه‪ ،‬ويعطيكم‬
‫} فَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَ ِذكْ ِركُمْ آبَآ َء ُكمْ َأوْ أَ َ‬
‫المعونة لتكونوا أهل لقيادة حركة الحياة في الرض‪ ،‬فتوطدوا فيها المن والسلم والرحمة‬
‫والعدل‪ ،‬وهذا هو ما يجب أن يكون مجال للفخر‪.‬‬
‫وبعد ذلك يلفتنا الحق فيما يأتي إلى أن النسان إذا ما قضى المناسك كان أهل لن يضرع إلى‬
‫ال‪ ،‬ويسأل ال بما يحب أن يسأله‪ ،‬والسؤال ل يختلف باختلف همة السائلين‪ ،‬وكانوا ل يسألون‬
‫ال إل قائلين‪ :‬يا رب أعطني إبلً‪ ،‬يا رب أعطني غنما‪ ،‬يا رب أعطني بقرا‪ ،‬ويا رب أعطني‬
‫حائطا ـ أي بستانا ـ‪ ،‬يا رب كما أعطيت أبي أعطني‪.‬‬

‫صعّدُوها‬
‫ولم يكن في بالهم إل المور المادية‪ ،‬وأراد ال أن يجعلهم يرتفعون بالمسألة ل‪ ،‬وأن ُي َ‬
‫إلى شيء أخلد وأبقى وأنفع‪ ،‬ومن هنا تأتي المزية اليمانية‪ ،‬فإذا كنتم ستسألون ال متاعا من متاع‬
‫الدنيا فما الفارق بينكم وبين أهل الجاهلية؟‬
‫ذلك ما نفهمه من قول ال عز وجل في ختام هذه الية‪َ } :‬فمِنَ النّاسِ مَن َيقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا‬
‫لقٍ {‪ .‬فالعبد حين يؤدي مناسكه ل يجد نفسه أهل لن يسأل ال‪ ،‬وما‬
‫َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَ َ‬
‫دمت قد وجدت نفسك أهل لن تسأل ال فاسأل ال بخير باق؛ لن النسان إنما ُيصَعدُ حاجته إلى‬
‫المسئول على مقدار مكانة المسئول ومنزلته؛ فقد تذهب لشخص تطلب منه عشرة قروش‪ ،‬وقد‬
‫تذهب لخر أغنى من الول فتقول له‪ :‬أعطني جنيها‪ ،‬ولثالث‪ :‬تطلب منه عشر جنيهات‪ ،‬إنك‬
‫تطلب على قدر همة كل منهم في الجابة على سؤالك‪.‬‬
‫صعّدُوا مسألتهم ل وليطلبوا منه النافع‬
‫إذن ما دام العباد بعد أداء المناسك في موقف سؤال ل فل ُي َ‬
‫أبدا‪ ،‬ول ينحطوا بالسؤال إلى المور الدنيوية الفانية البحتة‪َ } .‬فمِنَ النّاسِ مَن َيقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي‬
‫لقٍ { إن العبد قد ل يريد من دعائه ل إل الدنيا‪ ،‬ول حظ ول‬
‫الدّنْيَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِنْ خَ َ‬
‫نصيب له في الخرة‪ ،‬ومثل هذا النسان يكون ساقط الهمة؛ لنه طلب شيئا في الدنيا الفانية‪،‬‬
‫صعّد همتنا اليمانية‪ .‬ولذلك يتبعها بقوله الحق‪ِ } :‬ومِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ رَبّنَآ آتِنَا فِي الدّنْيَا‬
‫ويريد ال أن ُن َ‬
‫حسَنَ ًة َوفِي الخِ َرةِ حَسَ َن ًة َوقِنَا عَذَابَ النّارِ {‬
‫َ‬

‫(‪)204 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عذَابَ النّارِ (‪)201‬‬
‫حسَنَ ًة َوفِي الْآَخِ َرةِ حَسَنَةً َوقِنَا َ‬
‫َومِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ رَبّنَا آَتِنَا فِي الدّنْيَا َ‬

‫ولماذا لم ننس الدنيا هنا؟ لنها هي المزرعة للخرة‪ .‬وقوله سبحانه‪ { :‬آتِنَا فِي الدّنْيَا حَسَنَةً }‬
‫اختلف فيها العلماء؛ بعضهم ضيقها وقال‪ :‬إن حسنة الدنيا هي المرأة الصالحة‪ .‬وقال عن حسنة‬
‫الخرة إنها الجنة‪ .‬ومنهم من قال‪ :‬إن حسنة الدنيا هي العلم؛ لن عليه يُبْنَي العمل‪ ،‬وفي حسنة‬
‫الخرة قال‪ :‬إنها المغفرة؛ لنها أم المطالب‪.‬‬
‫ومن استعراض أقوال العلماء نجدهم يتفقون على أن حسنة الخرة هي ما يؤدي إلى الجنة مغفرة‬
‫ورحمة‪ ،‬لكنهم اختلفوا في حسنة الدنيا‪ .‬أقول‪ :‬لماذا ل نجعل حسنة الدنيا أعم وأشمل فنقول‪ :‬يا‬
‫حسّنُ الدنيا عندك لعبدك‪.‬‬
‫رب أعطنا كل ما يُ َ‬
‫عذَابَ النّارِ } وسبحانه وتعالى حين َيمْتَنّ على عباده يمتن‬
‫ويذيل الحق هذه الية بقول‪َ { :‬وقِنَا َ‬
‫عليهم بأن زحزحهم عن النار وأدخلهم الجنة‪ ،‬كأن مجرد الزحزحة عن النار نعيم‪ ،‬فإذا ما أدخل‬
‫الجنة بعد الزحزحة عن النار فكأنه أنعم على النسان بنعمتين؛ لنه سبحانه قال‪ {:‬وَإِن مّنكُمْ ِإلّ‬
‫وَارِدُهَا }[مريم‪]71 :‬‬
‫ومعناها أن كل إنسان سيرى النار إما وهو في طريقه للجنة‪ ،‬فيقول‪ :‬الحمد ل‪ ،‬اليمان أنجاني من‬
‫هذه النار وعذابها‪ .‬فهو عندما يرى النار وبشاعة منظرها يحمد ال على نعمة السلم‪ .‬التي أنجته‬
‫من النار‪ .‬فإذا ما دخل الجنة ورأى نعيمها يحمد ال مرة ثانية‪ .‬وكذلك يرى النار من هو من أهل‬
‫خلَ الْجَنّةَ َفقَدْ‬
‫العراف أي ل في النار ول في الجنة‪ ،‬يقول الحق‪َ {:‬فمَن زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ‬
‫فَازَ }[آل عمران‪]185 :‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ { :‬أُولَـا ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ّممّا كَسَبُو ْا وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }‬

‫(‪)205 /‬‬

‫حسَابِ (‪)202‬‬
‫أُولَ ِئكَ َلهُمْ َنصِيبٌ ِممّا َكسَبُوا وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ‬

‫والنصيب هو الحظ‪ ،‬وأما { ّممّا كَسَبُواْ } فنعرف من قبل أن فيه " كسب " وفيه " اكتساب "‪.‬‬
‫والكتساب فيه افتعال‪ ،‬إنما الكسب هو أمر عادي‪ ،‬ولذلك تجد أن الكتساب ل يكون إل في الشر؛‬
‫كأن الذي يفعل الشر يتكلف فيه‪ ،‬لكن من يفعل الخير فذلك أمر طبيعي من النسان‪ .‬والمقصود بـ‬
‫{ ّممّا كَسَبُواْ } هنا هو الكسب من استيفاء أعمالهم التي فعلوها في الحج إحراما‪ ،‬وتلبية‪ .‬وطوافا‪،‬‬
‫وسعيا‪ ،‬وذهابا إلى " منى " ‪ ،‬وذهابا إلى " عرفات " ووقوفا بها‪ ،‬وإفاضة إلى " مزدلفة " ‪ ،‬ورميا‬
‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للجمار‪ .‬في " منى " ‪ ،‬وطواف إفاضة‪ ،‬وكل هذا كسب للنسان الذي نال شرف الحج‪.‬‬
‫وعندما نقرأ‪ { :‬وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ } فلنفهم أن السرعة هي أن يقل الزمن عن الحدث‪ ،‬فبدل من‬
‫أن يأخذ الحدث منك ساعة‪ ،‬وقد تنهيه في نصف ساعة‪ ،‬وكل حدث له زمن‪،‬والحدث حين يكون له‬
‫زمن وتريد أن تقلل زمن الحدث فلبد أن تسرع فيه حتى تنجزه في أقل وقت‪ .‬وتقليل الزمن‬
‫يقتضي سرعة الحركة في الفعل‪ ،‬وذلك في الفعال العلجية التي تحتاج ُمعَالجة‪ ،‬وعملً من‬
‫النسان‪ ،‬لكن سبحانه يفعل بـ " كُن " ول يحتاج عمله إلى علج‪ ،‬وبالتالي ل يحتاج إلى زمن‪،‬‬
‫إذن فهو سريع الحساب؛ لنه ل يحتاج إلى زمن‪ ،‬ولنه ل يشغله شأن عن شأن‪ ،‬وهذا هو الفرق‬
‫بين قدرة الواحد سبحانه وقدرة الحادث؛ لن الحادث عندما يؤدي عملً‪ ،‬فهذا العمل يشغله عن‬
‫غيره من العمال‪ ،‬فل يستطيع أن يؤدي عمليتين في وقت واحد‪ ،‬لكن الواحد الحد ل يشغله فعل‬
‫عن فعل‪ ،‬وبالتالي يفعل ما يريد وقتما يريد ولكل من يريد‪.‬‬
‫ولذلك سُئل المام علي بن أبي طالب‪ :‬كيف يحاسب ال الخلئق جميعا في لحظة واحدة؟‪ .‬فقال‪" :‬‬
‫كما يرزقهم في ساعة واحدة "‪ .‬فهو سبحانه الذي يرزقهم‪ ،‬وكما يرزقهم يحاسبهم‪ .‬ويقول الحق‬
‫من بعد ذلك‪ { :‬وَا ْذكُرُواْ اللّهَ فِي أَيّامٍ ّمعْدُودَاتٍ‪} ...‬‬

‫(‪)206 /‬‬

‫جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ َومَنْ تََأخّرَ فَلَا إِ ْثمَ عَلَيْهِ ِلمَنِ ا ّتقَى‬
‫وَا ْذكُرُوا اللّهَ فِي أَيّامٍ َمعْدُودَاتٍ َفمَنْ َتعَ ّ‬
‫وَاتّقُوا اللّهَ وَاعَْلمُوا أَ ّن ُكمْ إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ (‪)203‬‬

‫ونلحظ أن ذكر ال أمر شائع في جميع المناسك‪ ،‬و { فِي أَيّامٍ ّم ْعدُودَاتٍ } أي في أيام التشريق‪.‬‬
‫في اليوم التاسع نكون في عرفة وليلة العاشر نبيت فيها بـ " مزدلفة " ‪ ،‬ثم بعد ذلك نفيض من‬
‫حيث أفاض الناس‪ ،‬نذهب لرمي جمرة العقبة‪ ،‬وبعضنا يذهب ليطوف طواف الفاضة وينهي‬
‫مناسكه‪ ،‬أو قد يذهب ليذبح ويتحلل التحلل الصغر‪ ،‬إن لم يكن معه امرأة‪ ،‬وإن طاف فهو يتحلل‬
‫التحلل الكبر‪ .‬أما اليام المعدودات أي أيام التشريق فهي اليام الثلثة بعد يوم النحر‪ .‬وقد سميت‬
‫بذلك نسبة إلى الشروق‪ ،‬والشروق خاص بالشمس‪ ،‬كانوا قديما إذا ما ذبحوا ذبائحهم سميت هذه‬
‫اليام بأيام التشريق‪ .‬وعندما نسمع قوله‪ { :‬فِي أَيّامٍ ّمعْدُودَاتٍ } نفهم منها أنها فوق يومين‪.‬‬
‫جلَ فِي َي ْومَيْنِ فَلَ إِثْمَ عَلَ ْي ِه َومَن تََأخّرَ فَل إِ ْثمَ عَلَيْهِ ِلمَنِ ا ّتقَىا }‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول الحق‪َ { :‬فمَن َتعَ ّ‬
‫جلَ فِي َي ْومَيْنِ } يدل على أن‬
‫قول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬فِي أَيّامٍ ّمعْدُودَاتٍ } ثم قوله‪َ { :‬فمَن َتعَ ّ‬
‫كلمة " أيام " تطلق على الجمع وهو الكثر من يومين‪ ،‬أي ثلثة أيام‪ ،‬لكن الحق سبحانه وتعالى‬
‫جعل للقيام بيومين حكم القيام بالثلثة‪ ،‬فإن تعجلت في يومين فل إثم عليك ومن قضى ثلثة أيام‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فل إثم عليه كيف يكون ذلك؟‪.‬‬
‫لن المسألة ليست زمنا‪ ،‬ولكنها استحضار نية تعبدية‪ ،‬فقد تجلس ثلثة أيام وأنت غير مستحضر‬
‫النية التعبدية؛ لذلك قال سبحانه‪ِ { :‬لمَنِ ا ّتقَىا } ‪ ،‬فإياك أن تقارن الفعال بزمنها‪ ،‬وإنما هي‬
‫بإخلص النية والتقوى فيها‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية بالقول الكريم‪ { :‬وَا ّتقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُوآ أَ ّنكُمْ إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ }‪ .‬وقد جاء سبحانه‬
‫حشَرُونَ } لتتناسب زحمة الحج؛ لنه كما حشركم هذا الحشر وأنتم لكم اختيار‪،‬‬
‫وتعالى بكلمة { تُ ْ‬
‫هو سبحانه القادر أن يحشركم وليس لكم اختيار‪ .‬فإذا كنت قد ذهبت باختيارك إلى هذا الحشر‬
‫البشري الكبير في الحج فاعرف أن الذي كلفك بأن تذهب باختيارك لتشارك في هذا الجتماع‬
‫الحشد هو القادر على أن يأتي بك وقد سلب منك الختيار‪ .‬ويقول الحق من بعد ذلك‪َ { :‬ومِنَ‬
‫خصَامِ }‬
‫شهِدُ اللّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِ ِه وَ ُهوَ أََلدّ الْ ِ‬
‫النّاسِ مَن ُي ْعجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ‬

‫(‪)207 /‬‬

‫خصَامِ (‪)204‬‬
‫شهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْ ِب ِه وَ ُهوَ أَلَدّ ا ْل ِ‬
‫َومِنَ النّاسِ مَنْ ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ‬
‫حبّ ا ْلفَسَادَ (‪)205‬‬
‫ل وَاللّهُ لَا ُي ِ‬
‫سَ‬‫ث وَالنّ ْ‬
‫سدَ فِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْر َ‬
‫سعَى فِي الْأَ ْرضِ لِ ُيفْ ِ‬
‫وَإِذَا َتوَلّى َ‬

‫يريد الحق سبحانه وتعالى أن يضع أمامنا قضية وجودية‪ ،‬وهذه القضية الوجودية هي أن كل عمل‬
‫له ظاهر وله باطن‪ .‬ومن الجائز أن تتقن الظاهر وتدلس على الناس في الباطن‪ ،‬فإذا كان الناس‬
‫لهم مع بعضهم ظاهر وباطن‪ .‬فمن مصلحة النسان أن ينتمي هو والناس جميعا إلى عالم يعرف‬
‫فيه كل إنسان أن هناك إلها حكيما يعرف كل شيء عنا جميعا‪.‬‬
‫فإذا كان عندك شيء ل أعلمه‪ ،‬وأنا عندي شيء أنت ل تعلمه كيف تسير مصالحنا؟ ولذلك فمن‬
‫ضروريات حياتنا أن نؤمن معا بإله يطلع على سرائرنا جميعا‪ ،‬وهذا ما يجعلنا نلزم الدب‪ .‬ولذلك‬
‫عمّ ْيتَ على قضاء الرض فلن تعمى على قضاء السماء "‪.‬‬
‫قيل‪ " :‬إن َ‬
‫إذن فقضاء السماء وعلم ال بالغيب مسألة يجب أن نحمده عليها‪ ،‬لنه هو الذي سيحمي كل واحد‬
‫منا من غيره‪ .‬وعندما ستر ال غيبنا فذلك نعمة يجب أن نشكره عليها؛ لن النفوس متقلبة‪ .‬فلو‬
‫علمت ما في نفسي عليك في لحظة قد ل يسرك‪ ..‬وقد ل تنساه أبدا ويظل رأيك فيّ سيئا‪ ،‬لكن‬
‫الظنون والراء تمر عندي وعندك وتنتهي‪ .‬ولو اطلع كل منا على غيب الخر لكانت الحياة‬
‫مرهقة‪ ،‬والقول المأثور يذكر ذلك‪ " :‬لو تكاشفتم ما تدافنتم "‪.‬‬
‫إذن فمن رحمة ال ومن أكبر نعمه على خلقه أن ستر غيب خلقه عن خلقه‪ .‬والحق يحذرنا ممن‬
‫قال فيهم‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَن ُي ْعجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا } أي الذين يظهرون من خير خلف ما‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يبطنون من شر‪ ،‬ولذلك صور الشاعر هذه المسألة فقال‪:‬عـلى الـذم بـتنـا مجـمـعـين‬
‫وحـالنـا مـن الخـوف حـال المجـمـعين على الحمدأي لو تكاشفنا لقلنا كلنا ذما‪ ،‬إنما كلنا‬
‫مداحون حين يلقى بعضنا بعضا كل يقول بلسانه ما ليس في قلبه‪ .‬و " يعجبك قوله " فهل الممنوع‬
‫أن يعجبك القول؟ ل‪ ،‬يعجبني القول ولكن في غير الحياة الدنيا‪ ،‬فالقول الذي يعجب هو ما يتعلق‬
‫بأمر الحياة الخرة الباقية ليضمن لنا الخير عند من يملك كل الخير‪.‬‬
‫وكفى بالذي يسمع من مادح له مدحا‪ ،‬والمادح نفسه يضمر في قلبه كرها له‪ ،‬وكفى بذلك شهادة‬
‫تغفيل للممدوح‪ ،‬بأنه يقول بينه وبين نفسه‪ " :‬إن الممدوح غبي؛ لني أمدحه وهو مصدق مدحي له‬
‫"‪ .‬إن ال سبحانه وتعالى ينبهنا إلى ضرورة أن يكون المسلم يقظا وفطنا‪ ،‬ومن يقول لنا كلما‬
‫يعجبنا في الحياة نتهمه بأن كلمه ليس حسنا؛ لن خير الكلم هو ما يكون في المر الباقي‪.‬‬
‫ولذلك عندما أرسل خليفةُ المسلمين للمام جعفر الصادق يقول له‪ :‬ـ لماذا ل تغشانا ـ أي ل‬
‫تزورنا ـ كما يغشانا الناس؟ فكتب المام جعفر الصادق للخليفة يقول‪ :‬أما بعد فليس عندي من‬
‫الدنيا ما أخاف عليه‪ ،‬وليس عندك من الخرة ما أرجوك له‪.‬‬

‫وكأنه يريد أن يقول له اتركنا وحالنا؛ أنت محتاج لمن يجلس معك ويمدحك‪ ،‬وأنت ل تعلم أن أول‬
‫أناس لهم رأي سيء فيك هم من يمدحونك‪.‬‬
‫} َومِنَ النّاسِ مَن ُي ْعجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا { وهذه الية نزلت في الخنس ابن شريق الثقفي‬
‫ي ولقب بالخنس لنه خنس ورجع يوم بدر فلم يقاتل المسلمين مع قريش واعتذر لهم‬
‫واسمه أب ّ‬
‫بأن العير قد نجت من المسلمين وعادت إليهم‪ ،‬وكان ساعة يقابل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يظهر إسلمه ويلين القول للرسول ويدعي أنه يحبه‪ ،‬ولكنه بعد أن خرج من عند رسول ال صلى‬
‫حمُر لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر‪ .‬والية وإن نزلت‬
‫ال عليه وسلم مر بزرع و ُ‬
‫في الخنس فهي تشمل كل مُنافق‪.‬‬
‫خصَامِ { ل تقولوا‪ " :‬ال يشهد " ‪ ،‬وإنما هاتوا شهداءكم‬
‫علَىا مَا فِي قَلْ ِب ِه وَ ُهوَ أَلَدّ ا ْل ِ‬
‫ش ِهدُ اللّهَ َ‬
‫} وَيُ ْ‬
‫ليشهدوا على صدق قولكم؛ لن معنى " ال يشهد " هو إخبار منك بأن ال يشهد لك‪ .‬وأنت كاذب‬
‫في هذه‪ ،‬وتريد أن تضفي المصداقية على كذبك بإقحام ال في المسألة‪.‬‬
‫شهِدُ ال على أني كذَا‪ ،‬فقل له‪ :‬هذا إخبار منك بأن ال يشهد‪ ،‬وأنت‬
‫وساعة تسمع واحدا يقول لك‪ :‬أُ ْ‬
‫قد تكذب في هذا الخبر‪ ،‬أنا أفضل أن يشهد اثنان من البشر ول نقحم ال في هذه الشهادة‪} .‬‬
‫خصَامِ { وألد الخصام هو الفاسق في معصيته‪ ،‬ويقال‪ :‬فلن‬
‫شهِدُ اللّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِ ِه وَ ُهوَ أَلَدّ الْ ِ‬
‫وَيُ ْ‬
‫عنده لدد أي فسق في خصومته‪ ،‬ويجادل بالباطل‪ .‬ولذلك يقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن‬
‫أبغض الرجال إلى ال هو اللد الخصم "‪.‬‬
‫ص وفي الوقت نفسه قاس في‬
‫يعني المجادل بالباطل الذي عنده قسوة في المعصية‪ ،‬فهو عا ٍ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫معصيته‪ .‬ولماذا هو ألد الخصام؟ لن الذي يجابهك بالمر يجعلك تحتاط له‪ ،‬أما الذي يقابلك بنفاق‬
‫فهو الذي يريد أن يخدعك‪ ،‬وهذا عنف في الخصومة فالخصم الواضح أفضل لنه يواجهك بما في‬
‫باطنه‪ ،‬لكن إذا جابهت الذي يبطن خصومته ويظهر محبته يكون قاسيا عليك في خصومته؛ لنه‬
‫يريد أن يخدعك ويُبَ ّيتُ لك‪.‬‬
‫سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا { و } َتوَلّىا {‪ :‬انصرف أي يقول لك ما يعجبك‪ ،‬فإذا‬
‫} وَإِذَا َتوَلّىا َ‬
‫تولى عنك نقل المسألة إلى الحقيقة بإظهار ما كان يخفيه‪ ،‬ويحتمل المعنى أنه إذا تولى شيئا آخر‪،‬‬
‫من الولية‪ ،‬ففيه } َتوَلّىا { من التولي وهو النصراف والعراض‪ ،‬وفيه } َتوَلّىا { من الولية‪.‬‬
‫سلَ { كانت الرض بدون تدخل‬
‫سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْرثَ وَالنّ ْ‬
‫} وَإِذَا َتوَلّىا َ‬
‫البشر مخلوقة على هيئة الصلح‪ ،‬والفساد أمر طارئ من البشر‪.‬‬

‫ونعرف أن الفساد لم يطرأ على أي أمر إل وللنسان فيه دخل‪.‬‬


‫لماذا اشتكينا أزمة قوت ولم نشتك أزمة هواء؟ لن الهواء ل تدخل للنسان فيه‪ ،‬وبمقدار تدخل‬
‫النسان يكون الفساد‪ .‬لقد تدخلنا قليلً في المياه فجاء في ذلك فساد‪ ،‬فلم نحسن نقلها في مواسير‬
‫جيدة فوصلت لنا ملوثة‪ ،‬أو زاد عليها الكلور أو نقص‪ .‬وبقدر ما يكون التدخل يكون الفساد‪ ،‬أما‬
‫في الزمن القديم فقد كان النسان يذهب إلى مصدر الماء المباشر في البار ويأخذ الماء الطبيعي‬
‫الذي خلقه ال بل تدخل من النسان ولم يكن تلوث أو غيره‪.‬‬
‫إذن على مقدار وجود النسان في حركة الحياة غير المُرشّدة باليمان بال ينشأ الفساد‪ ،‬ولذلك كان‬
‫لبد له من منهج سماوي للنسان‪ .‬والكائنات غير النسان ليس لها منهج وهي مخلوقة بالغريزة‬
‫وتؤدي مهمتها فقط؛ فالدابة لم تمتنع يوما عن ركوبك عليها‪ ،‬ولم تمتنع أن تحمل عليها أثقالك‪ ،‬أو‬
‫تستعين بها في الحرث‪ ،‬أو الري‪ ،‬حتى عندما تذبحها ل تمتنع عليك‪ ،‬لماذا؟ لنها مخلوقة بالغريزة‬
‫التي تؤدي بها الحركة النافعة بدون اختيار منها‪ .‬وإذا امتنعت في وقت فإنما يكون ذلك لمر‬
‫طارئ كمرض مثل‪.‬‬
‫لكن الذي له اختيار لبد أن يكون له منهج يقول له‪ :‬افعل هذا ول تفعل تلك‪ .‬فإن استقام مع‬
‫المنهج في " افعل " و " ل تفعل " سارت حياته بشكل متوازن‪ ،‬لكن إذا لم يستقم تفسد الحياة‪ .‬وهذا‬
‫سدَ فِ ِيهَا { ‪ ،‬كأن الفساد هو الذي‬
‫سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْ ِ‬
‫ما نفهمه من قوله تعالى‪ } :‬وَإِذَا َتوَلّىا َ‬
‫يحتاج إلى عمل‪ ،‬اترك الطبيعة والمخلوقات كما هي تجدها تعمل في انضباط وكمال على ما‬
‫يرام‪.‬‬
‫سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ‬
‫إذن فالفساد طارئ من النسان الذي يحيا بل منهج لنه } وَإِذَا َتوَلّىا َ‬
‫فِ ِيهَا { فكأن الصل في الرض وما فيها جاء على هيئة الصلح‪ ،‬فإن لم تزد الصالح صلحا فل‬
‫سدُواْ فِي الَ ْرضِ قَالُواْ إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصِْلحُونَ * أَل‬
‫تحاول أن تفسده‪ .‬قال تعالى‪ {:‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ لَ ُتفْ ِ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شعُرُونَ }[البقرة‪]12-11 :‬‬
‫ن وَلَـاكِن لّ َي ْ‬
‫إِ ّنهُمْ ُهمُ ا ْل ُمفْسِدُو َ‬
‫ومن هنا نفهم أنهم ظنوا أن الرض تحتاج إلى حركتهم لصلحها‪ ،‬برغم أن الرض بدون‬
‫حركتهم صالحة؛ لنهم ل يتحركون بمنهج ال‪.‬‬
‫إذن هذه الية نفهم منها أن النسان إذا } َتوَلّىا { بمعنى رجع أو تولى ولية سعى في الرض‬
‫ليفسد فيها؛ فكأن الفساد في الرض أمر طارئ وينتج من سعي النسان على غير منهج من ال‪.‬‬
‫وما دام للنسان اختيار فيجب أن يكون له منهج أعلى منه يصون ذلك الختيار‪ ،‬فإن لم يكن له‬
‫منهج وسار على هواه فهو مفسد ل محالة‪.‬‬
‫وانظر إلى غباء الذي يفسد في الرض‪ ،‬هل يظن أنه هو وحده الذي سيستفيد في الرض‪ ،‬فأباح‬
‫لنفسه أن يفسد في الرض لغيره؟ إنه ينسى الحقيقة‪ ،‬فكما يفسد لغيره‪ ،‬فغيره يُفسد له‪ ،‬فمن‬
‫الخاسر؟ كلنا سنخسر إذن‪.‬‬

‫سلَ‪[ { ...‬البقرة‪]205 :‬‬


‫سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْرثَ وَالنّ ْ‬
‫} وَإِذَا َتوَلّىا َ‬
‫والحرث له معنيان‪ :‬فمرة يُطلق على الزرع‪ ،‬ومرة يُطلق على النساء‪ ،‬المعنى الول ورد في قوله‬
‫شتْ فِيهِ غَنَمُ ا ْلقَوْمِ }[النبياء‪]78 :‬‬
‫ح ُكمَانِ فِي الْحَ ْرثِ ِإذْ َنفَ َ‬
‫تعالى‪ {:‬وَدَاوُو َد وَسُلَ ْيمَانَ إِذْ يَ ْ‬
‫فالحرث في الية معناه‪ :‬الزرع‪ ،‬والزرع ناتج عن إثارة الرض وإهاجتها‪ .‬وعملك يا أيها النسان‬
‫أن تهيج الرض وتثيرها‪ ،‬وتأتي بالبذر الذي خلقه ال في الرض التي خلقها ال‪ ،‬وتسقيها بالماء‬
‫الذي خلقه ال‪ ،‬وتكبر في الهواء الذي خلقه ال‪ ،‬ولذلك يلفتنا وينبهنا الحق ـ سبحانه ـ فيقول‪{:‬‬
‫َأفَرَأَيْتُم مّا َتحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة‪]64-63 :‬‬
‫والمعنى الثاني‪ :‬يُطلق الحرث على المرأة في قوله تعالى‪ِ {:‬نسَآ ُؤكُمْ حَ ْرثٌ ّلكُمْ }[البقرة‪]223 :‬‬
‫وإذا كان حرث الزرع هدفه إيجاد النبات فكذلك المرأة حتى تلد الولد‪ .‬ويقول سبحانه وتعالى‪{:‬‬
‫فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ أَنّىا شِئْتُمْ }[البقرة‪]223 :‬‬
‫وأراد المتحللون الباحيون أن يُطلقوا إتيان المرأة في جميع جسدها‪ ،‬نقول لهم‪ :‬لحظوا قوله‪" :‬‬
‫حرثكم " والحرث محل النبات‪ ،‬فالتيان يكون في محل النبات فقط‪ ،‬ل تفهمها تعميما وإنما هي‬
‫تخصيص‪ .‬ويتابع الحق وصف الذي يقول القول الحسن‪ ،‬ولكنه يسعى في الرض بالفساد‬
‫سلَ {‪ .‬والنسل هو النجال والذرية‪.‬‬
‫ث وَالنّ ْ‬
‫فيقول‪ } :‬وَ ُيهِْلكَ الْحَ ْر َ‬
‫ب الفَسَادَ { أي أن الحق يريد منكم إن لم تدخلوا بطاقة ال التي‬
‫ح ّ‬
‫ويذيل الحق الية‪ } :‬وَاللّ ُه لَ يُ ِ‬
‫خلقها لكم فكرا وعطاء‪ ،‬فعلى القل اتركوا المسألة كما خلقها ال؛ لن ال ل يحب أن تفسدوا فيما‬
‫خلقه صالحا في ذاته‪.‬‬
‫وما سبق في هذه الية هو مجرد صورة من صور استقبال الدعوة السلمية في أول عهدها‪ ،‬من‬
‫الذين كانوا ينافقون واقعها القوي‪ ،‬فيأتون بأقوال تُعجب‪ ،‬وبأفعال تُعجب من ينافق‪ .‬ونعرف أن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النفاق كان دليل على قوة المسلمين‪ ،‬ولذلك لم ينشأ النفاق في مكة‪ ،‬وإنما نشأ في المدينة‪ .‬فقد قال‬
‫الحق‪َ {:‬ومِنْ أَ ْهلِ ا ْل َمدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى ال ّنفَاقِ }[التوبة‪]101 :‬‬
‫وربما يتساءل إنسان‪ :‬وكيف تظهر هذه الظاهرة في البيئة اليمانية القوية في المدينة؟ ونقول‪ :‬لن‬
‫السلم في مكة كان ضعيفا‪ ،‬والضعيف ل ينافقه أحد‪ ،‬والسلم في المدينة أصبح قويا‪ ،‬والقوي‬
‫هو الذي ينافقه الناس‪.‬‬
‫إذن فوجود النفاق في المدينة كان ظاهرة صحية تدل على أن اليمان أصبح قويا بحيث يدعيه مَنْ‬
‫ليس عنده إسلم‪ .‬وهؤلء كانوا يقولون قولً حسنا جميلً‪ ،‬وقد يفعلون أمام من ينافقونه فعلً‬
‫يُعجب مَنْ يراهم أو يسمعهم‪ ،‬ولكنهم ل يثبتون على الحق‪ ،‬فإذا ما تولوا‪ ،‬أي اختفوا عن أنظار‬
‫مَنْ ينافقونه رجعوا إلى أصلهم الكفري‪ ،‬أو إذا ائتمنوا على شيء فهم يسعون في الرض فسادا‪.‬‬
‫والية هنا تتعرض لشيء يدل على فطنة المؤمنين‪ ،‬إن الية فضحت مَنْ نافق وكان الخنس عمدة‬
‫في النفاق‪ ،‬وفضيحة المنافق بهذه الصورة‪ ،‬تدل على أن وراء محمد صلى ال عليه وسلم ووراء‬
‫المؤمنين بمحمد‪ ،‬ربّا يخبرهم بمَنْ يدلس عليهم‪ ،‬وأيضا ينبههم لضرورة أن تكون لهم فطنة بدليل‬
‫قول الحق‪ } :‬وَإِذَا قِيلَ َلهُ اتّقِ اللّهَ َأخَذَ ْتهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالِثْمِ‪{ ...‬‬

‫(‪)208 /‬‬

‫جهَنّ ُم وَلَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ (‪)206‬‬


‫وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ َأخَذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالْإِثْمِ َفحَسْبُهُ َ‬

‫ول يقال له اتق ال إل إذا كان قد عرف أنه منافق‪ ،‬وماداموا قد قالوا له ذلك فهذا دليل على أن‬
‫فطنتهم لم يجز عليها هذا النفاق‪ .‬ونفهم من هذه الية أن المؤمن كَيّس فطن‪ ،‬ولبد أن ينظر إلى‬
‫الشياء بمعيار اليقظة العقلية‪ ،‬ول يدع نفسه لمجرد الصفاء الرباني ليعطيه القضية‪ ،‬بل يريد ال‬
‫أن يكون لكل مؤمن ذاتية وكياسة‪.‬‬
‫{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ } فكأن المظهر الذي يقول أو يفعل به‪ ،‬وينافي التقوى؛ لنه قول معجب ل‬
‫ينسجم مع باطن غير معجب‪ ،‬صحيح أنه يصلي في الصف الول‪ ،‬ويتحمس لقضايا الدين‪ ،‬ويقول‬
‫القول الجميل الذي يعجب النبي صلى ال عليه وسلم ويعجب المؤمنين‪ ،‬لكنه سلوك وقول صادر‬
‫عن نية فاسدة‪ .‬ومعنى " اتق ال " أي ليكن ظاهرك موافقا لباطنك‪ ،‬فل يكفي أن تقول قولً يُعجب‪،‬‬
‫ول يكفي أن تفعل فعلً يروق الغير؛ لن ال يحب أن يكون القول منسجما مع الفعل‪ ،‬وأن يكون‬
‫فعل الجوارح منسجما مع نيات القلب‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬فالمؤمن لبد وأن تكون عنده فطنة‪ ،‬وذكاء‪ ،‬وألْمعِيّة‪ ،‬ويرى تصرفات المقابل‪ ،‬فل يأخذ‬
‫بظاهر المر‪ .‬ول بمعسول القول ول بالفعل‪ ،‬إن لم يصادف فيه انسجام فعل مع انسجام نية‪ .‬ول‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يكتفي بأن يعرف ذلك وإنما لبد أن يقول للمنافق حقيقة ما يراه حتى يقصر على المنافق أمد‬
‫النفاق‪ ،‬لنه عندما يقول له‪ " :‬اتق ال " يفهم المنافق أن نفاقه قد انكشف‪ ،‬ولعله بعد ذلك يرتدع‬
‫عن النفاق‪ ،‬وفي ذلك رحمة من المؤمن بالمنافق‪ .‬وكل مَنْ يرى ويلمح بذكائه نفاقا من أحد هنا‬
‫يقول له‪ " :‬اتق ال " فالمراد أن يفضح نفاقه ويقول له‪ " :‬اتق ال "‪ .‬فإذا قال له واحد‪ " :‬اتق ال "‬
‫وقال له آخر‪ " :‬اتق ال " ‪ ،‬وثالث‪ ،‬ورابع‪ ،‬فسيعرف تماما أن نفاقه قد انكشف‪ ،‬ولم يعد كلمه‬
‫يعجب الناس‪.‬‬
‫خذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالِثْمِ } ‪ ،‬وتقييد العزة بالثم هنا يفيد أن العزة قد تكون بغير‬
‫{ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أَ َ‬
‫خذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالِثْمِ } ‪ ،‬فهناك إذن عزة بغير إثم‪ .‬نعم‪ ،‬لن العزة مطلوبة‬
‫إثم‪ ،‬ومادام ال قد قال‪ { :‬أَ َ‬
‫للمؤمن وال عز وجل حكم بالعزة لنفسه وللرسول وللمؤمنين‪ {:‬ول العزة ولرسوله وللمؤمنين }‬
‫[المنافقون‪]8 :‬‬
‫وهذه عزة بالحق وليست بالثم‪ .‬وما الفرق بين العزة بالحق وبين العزة بالثم؟ ولنستعرض‬
‫القرآن الكريم لنعرف الفرق‪ .‬ألم يقل سحرة فرعون‪ :‬فيما حكاه ال عنهم‪ِ {:‬بعِ ّزةِ فِرْعَونَ إِنّا لَ َنحْنُ‬
‫ا ْلغَالِبُونَ }[الشعراء‪]44 :‬‬
‫شقَاقٍ }[ص‪]2 :‬‬
‫هذه عزة بالثم والكذب‪ .‬وكذلك قوله تعالى‪َ {:‬بلِ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي عِ ّز ٍة وَ ِ‬
‫وهي عزة كاذبة أيضا أما قوله عز وجل‪:‬‬

‫صفُونَ }[الصافات‪]180 :‬‬


‫عمّا َي ِ‬
‫{ سُبْحَانَ رَ ّبكَ َربّ ا ْلعِ ّزةِ َ‬
‫فتلك هي العزة الحقيقة‪ ،‬إذن فالعزة هي القوة التي َتغِْلبُ‪ ،‬ول َيغْلِبها أحد‪ .‬أما العزة بالثم فهي أنفة‬
‫الكبرياء المقرونة بالذنب والمعصية‪ .‬والحق سبحانه وتعالى يقول لكل من يريد هذا اللون من‬
‫العزة بالثم‪ :‬إن كانت عندك عزة فلن يقوى عليك أحد‪ ،‬ولكن يا سحرة فرعون يا من قلتم بعزة‬
‫فرعون إنا لنحن الغالبون‪ ،‬أنتم الذي خررتم سجدا لموسى وقلتم‪ {:‬قَالُواْ آمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * َربّ‬
‫مُوسَىا وَهَارُونَ }[الشعراء‪]48-47 :‬‬
‫ولم تنفعكم عزة فرعون؛ لنها عزة بالثم‪ ،‬لقد جاءت العزة بالحق فغلبت العزة بالثم‪ .‬لذلك يبين‬
‫لنا الحق سبحانه وتعالى أن العزة حتى ل تكون بالثم‪ ،‬يجب أن تكون على الكافر بال‪ ،‬وتكون‬
‫ذلة على المؤمن بال‪ {.‬أَذِلّةٍ عَلَى ا ْل ُمؤْمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[المائدة‪]54 :‬‬
‫حمَآءُ بَيْ َنهُمْ }[الفتح‪]29 :‬‬
‫وكذلك قوله الحق‪ {:‬أَشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ رُ َ‬
‫وهذا دليل العزة بالحق‪ ،‬وعلمتها أنها ساعة تغلب تكون في منتهى النكسار‪ ،‬ولنا القدوة في‬
‫سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو الذي خرج من مكة لنه لم يستطع أن يحمي الضعفاء‬
‫من المؤمنين‪ ،‬وبعد ذلك يعود إلى مكة فاتحا بنصر ال‪ ،‬ويدخل مكة ورأسه ينحني من التواضع‬
‫ل حتى يكاد أن يمس قربوس سرج دابته‪ ،‬تلك هي القوة‪ ،‬وهي على عكس العزة بالثم التي إن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غلبت تطغى‪ ،‬إنما العزة بالثم التي إن غلبت تطغى‪ ،‬إنما العزة بالحق إن غلبت تتواضع‪.‬‬
‫خذَتْهُ ا ْلعِ ّزةُ بِالِثْمِ { أي أن النفة والكبرياء مقرونة بالثم‪ ،‬والثم هو‬
‫} وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتّقِ اللّهَ أَ َ‬
‫جهَنّ ُم وَلَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ {‪ .‬أي عزة هذه التي‬
‫المخالف للمأمور به من الحق سبحانه وتعالى‪ } ،‬فَحَسْ ُبهُ َ‬
‫تقود في النهاية إلى النار؟ إنها ليست عزة‪ ،‬ولكنها ذلة‪ ،‬فل خير في عمل بعده النار‪ ،‬ول شر في‬
‫عمل بعده الجنة‪ .‬فإن أردت أن تكون عزيزا فتأمل عاقبتك وإلى أين ستذهب؟‬
‫} َفحَسْبُهُ { أي يكفيه هذا فضيحة لعزته بالثم‪ ،‬وأما كلمة " مهاد " فمعناها شيء ممهد ومُوطأ‪ ،‬أي‬
‫مريح في الجلوس والسير والقامة‪ .‬ولذلك يسمون فراش الطفل المهد‪ .‬وهل المهاد بهذه الصورة‬
‫يناسب العذاب؟ نعم يناسبه تماما؛ لن الذي يجلس في المهاد ل إرادة له في أن يخرج منه‪،‬‬
‫كالطفل فل قوة له في أن يغادر فراشه‪ .‬إذن فهو قد فقد إرادته وسيطرته على أبعاضه‪ .‬فإن كان‬
‫المهاد بهذه الصورة في النار فهو بئس المهاد‪ .‬هذا لون من الناس وفي المقابل يعطينا ـ سبحانه‬
‫سهُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّهِ‪{ ...‬‬
‫ـ لونا آخر من الناس فيقول سبحانه‪َ } :‬ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي َنفْ َ‬

‫(‪)209 /‬‬

‫َومِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّ ِه وَاللّهُ رَءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ (‪)207‬‬

‫وال سبحانه وتعالى ساعة يستعمل كلمة " يشري " يجب أن نلحظ أنها من الفعال التي تستخدم‬
‫في الشيء ومقابله‪ ،‬فـ " شرى " يعني أيضا " باع "‪ .‬إذن‪ ،‬كلمة " شرى " لها معنيان‪ ،‬واقرأ إن‬
‫شئت في سورة يوسف قوله تعالى‪ {:‬وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ َبخْسٍ }[يوسف‪]20 :‬‬
‫أي باعوه بثمن رخيص‪ .‬وتأتي أيضا بمعنى اشترى‪ ،‬فالشاعر العربي القديم عنترة ابن شداد‬
‫يقول‪:‬فخاض غمارها وشرى وباعا ‪.‬إذن " شرى " لغة‪ ،‬تُستعمل في معنيين‪ :‬إما أن تكون بمعنى "‬
‫باع " ‪ ،‬وإما أن تكون بمعنى " اشترى " ‪ ،‬والسياق والقرينة هما اللذان يحددان المعنى المقصود‬
‫منهم فقول عنترة‪ " :‬شرى وباع " نفهم أن المقصود من " شري " هنا هو " اشترى " ‪ ،‬لنها مقابل‬
‫" باع " ‪ ،‬وقوله تعالى‪ {:‬وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ َبخْسٍ }[يوسف‪]20 :‬‬
‫يوضحه سياق الية بأنهم باعوه‪ .‬وهذا من عظمة اللغة العربية‪ ،‬إنها لغة تريد أناسا يستقبلون اللفظ‬
‫بعقل‪ ،‬ويجعلون السياق يتحكم في فهمهم للمعاني‪.‬‬
‫{ َومِنَ النّاسِ مَن َيشْرِي َنفْسَهُ } ونفهم " يشري " هنا بمعنى يبيع نفسه‪ ،‬والذي يبيع نفسه هو الذي‬
‫يفقدها بمقابل‪ .‬والنسان عندما يفقد نفسه فهو يضحي بها‪ ،‬وعندما تكون التضحية ابتغاء مرضاة‬
‫ال فهي الشهادة في سبيله عز وجل‪ ،‬كأنه باع نفسه وأخذ مقابلها مرضاة ال‪ .‬ومثل ذلك قوله‬
‫سهُمْ }[التوبة‪]111 :‬‬
‫تعالى‪ {:‬إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن الحق يعطيهم الجنة مقابل أنفسهم وأموالهم‪ .‬إذن فقوله‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَن َيشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَآءَ‬
‫مَ ْرضَاتِ اللّهِ } يعني باع نفسه وأخذ الجنة مقابلً لها‪ ،‬هذا إذا كان معنى " يشري " هو باع‪.‬‬
‫وماذا يكون المعنى إذا كانت بمعنى اشترى؟ هنا نفهم أنه اشترى نفسه بمعنى أنه ضحى بكل‬
‫شيء في سبيل أن تسلم نفسه اليمانية‪ .‬ومن العجب أن هذه الية قيل في سبب نزولها ما يؤكد‬
‫أنها تحتمل المعنيين‪ ،‬معنى " باع " ومعنى " اشترى " فها هو ذا أبو يحيى الذي هو صهيب بن‬
‫سنان الرومي كان في مكة‪ ،‬وقد كبر سنه‪ ،‬وأسلم وأراد أن يهاجر‪ ،‬فقال له الكفار‪ :‬لقد جئت مكة‬
‫فقيرا وآويناك إلى جوارنا وأنت الن ذو مال كثير‪ ،‬وتريد أن تهاجر بمالك‪.‬‬
‫فقال لهم‪ :‬أإذا خليت بينكم وبين مالي أأنتم تاركوني؟‬
‫فقالوا‪ :‬نعم‪.‬‬
‫قال‪ :‬تضمنون لي راحلة ونفقة إلى أن أذهب إلى المدينة؟‬
‫قالوا‪ :‬لك هذا‪.‬‬
‫إنه قد شرى نفسه بهذا السلوك واستبقاها إيمانيا بثروته‪ ،‬فلما ذهب إلى المدينة لقيه أبو بكر وعمر‬
‫فقال له‪ :‬ربح البيع يا أبا يحيى‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأربح ال كل تجارتكم‪.‬‬
‫وقال له سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم أخبرنا أن جبريل أخبره‬
‫بقصتك‪ ،‬ويروي أن الرسول صلى ال عليه وسلم قال له‪ :‬ربح البيع أبا يحيى‪.‬‬

‫إذن معنى الية وفق هذه القصة‪ :‬أنه اشترى نفسه بماله‪ ،‬وسياق الية يتفق مع المعنى نفسه‪ .‬وهذه‬
‫من فوائد الداء القرآني حيث اللفظ الواحد يخدم معنيين متقابلين‪.‬‬
‫ولكن إذا كان المعنى أنه باعها فلذلك قصة أخرى‪ ،‬ففي غزوة بدر‪ ،‬وهي أول غزوة في السلم‪،‬‬
‫وكان صناديد قريش قد جمعوا أنفسهم لمحاربة المسلمين في هذه الغزوة‪ ،‬وتمكن المسلمون من‬
‫ن قتلوا في هذه الغزوة واحد من‬
‫قتل بعض هؤلء الصناديد‪ ،‬وأسروا منهم كثيرين أيضا‪ ،‬وكان ِممّ ْ‬
‫صناديد قريش هو أبو عقبة الحارث بن عامر والذي قتله هو صحابي اسمه خبيب بن عدي‬
‫النصاري الوسي‪ ،‬وهو من قبيل الوس بالمدينة‪ ،‬وبعد ذلك مكر بعض الكفار فأرسلوا إلى‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وقالوا‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إننا قد أسلمنا‪ ،‬ونريد أن ترسل إلينا قوما‬
‫ليعلمونا السلم‪ .‬فأرسل لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم عشرة من أصحابه ليعلموهم القرآن‪،‬‬
‫فغدر الكافرون بهؤلء العشرة فقتلوهم إل خبيب بن عدي‪ ،‬استطاع أن يفر بحياته ومعه صحابي‬
‫آخر اسمه زيد بن الدّثِنّة‪ ،‬لكن خبيبا وقع في السر وعرف الذين أسروه أنه هو الذي قتل أبا عقبة‬
‫الحارث في غزوة بدر‪ ،‬فباعوه لبن أبي عقبة ليقتله مقابل أبيه‪ ،‬فلم يشأ أن يقتله وإنما صلبه حيا‪،‬‬
‫فلما تركه مصلوبا على الخشبة‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو في المدينة‪ :‬من ينزل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خبيبا عن خشبته وله الجنة؟‬
‫قال الزبير‪ :‬أنا يا رسول ال‪.‬‬
‫وقال المقداد‪ :‬وأنا معه يا رسول ال‪.‬‬
‫فذهبا إلى مكة فوجدا خبيبا على الخشبة وقد مات وحوله أربعون من قريش يحرسونه‪ ،‬فانتهزا‬
‫منهم غفلتهم وذهبا إلى الخشبة وانتزعا خبيبا وأخذاه‪ ،‬فلما أفاق القوم لم يجدوا خبيبا فقاموا‬
‫يتتبعون الثر ليلحقوا بمن خطفوه‪ ،‬فرآهم الزبير‪ ،‬فألقى خبيبا على الرض‪ ،‬ثم نظر إليه فإذا‬
‫بالرض تبتلعه فسمى بليع الرض‪ .‬وبعد ذلك التفت إليهم ونزع عمامته التي كان يتخفى وراءها‬
‫وقال‪ :‬أنا الزبير بن العوام‪ ،‬أمي صفية بنت عبد المطلب‪ ،‬وصاحبي المقداد‪ ،‬فإن شئتم فاضلتكم ـ‬
‫يعني يفاخر كل منا بنفسه ـ وإن شئتم نازلتكم ـ يعني قاتلتكم ـ وإن شئتم فانصرفوا‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫ننصرف‪ ،‬وانصرفوا‪ ،‬فلما ذهب الزبير والمقداد إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم بشرهم بالجنة‬
‫التي صار إليها خبيب‪.‬‬
‫إذن فقد باع خبيب نفسه بالجنة‪ .‬وعلى ذلك فإن ذهبت بسبب نزول الية إلى أبي يحيى صهيب بن‬
‫سنان الرومي تكون " شرى " بمعنى اشترى‪ ،‬وإن ذهبت بسبب النزول إلى خبيب فتكون بمعنى‪:‬‬
‫باع‪.‬‬

‫وهكذا نجد أن اللفظ الواحد في القرآن الكريم يحتمل أكثر من واقع‪.‬‬


‫وخبيب بن عدي هذا قالت فيه ماويّة ابنة الرجل الذي اشتراه ليعطيه لعقبة ليقتله مقابل أبيه‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫وال لقد رأيت خبيبا يأكل قطفا من العنب كرأس النسان! ووال ما في مكة حائط ـ بستان ـ‬
‫ول عنب وإنما هو رزق ساقه ال له‪.‬‬
‫ولما جاءوا ليقتلوه قال‪ :‬أنظروني أصلّ ركعتين‪ .‬فصلى ركعتين ونظر إلى القوم وقال‪ :‬وال لول‬
‫أني أخاف أن تقولوا إنه زاد في الصلة لكي نبطئ بقتله لزدت‪ .‬وقال قبل أن يقتلوه‪ :‬اللهم أحصهم‬
‫عددا‪ ،‬واقتلهم بددا‪ ،‬ول تبق منهم أحدا‪ .‬ثم هتف وقال‪:‬ولسـت أبالـي حـين أقـتل مسـلما‬
‫عـلى أي جـنـب كـان فـي ال مصـرعـيوكان ذلك آخر ما قاله‪.‬‬
‫ويقول الحق‪ } :‬وَاللّهُ َرؤُوفٌ بِا ْلعِبَادِ { وما العلقة بين ما سبق وبين رءوف بالعباد؟ مادام ال‬
‫رءوفا بالعباد فلم يشأ ال أن يجعل ذلك أمرا كليا في كل مسلم‪ ،‬وإنما جعلها فلتات لتثبت صدق‬
‫القضية اليمانية‪ ،‬لنه ل يريد أن يضحي كل المسلمين بأنفسهم‪ ،‬وإنما يريد أن يستبقي منا أناسا‬
‫يحملون الدعوة‪.‬‬
‫وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى أصناف الناس الذين يستقبلون الدعوة كفرا ونفاقا‪ ،‬ومَنْ‬
‫يقابلهم ممن يستقبلونها إيمانا خالصا‪ ،‬نادى جميع المؤمنين فقال‪ } :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي‬
‫ع ُدوّ مّبِينٌ {‬
‫طوَاتِ الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َلكُمْ َ‬
‫السّ ْلمِ كَآفّ ًة َولَ تَتّ ِبعُواْ خُ ُ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)210 /‬‬

‫ع ُدوّ مُبِينٌ (‪)208‬‬


‫طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ َلكُمْ َ‬
‫خُ‬‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ْدخُلُوا فِي السّ ْلمِ كَافّ ًة وَلَا تَتّ ِبعُوا ُ‬

‫تبدأ الية بنداء الذين آمنوا بال وكأنه يقول لهم‪ :‬يا مَنْ آمنتم بي استمعوا لحديثي‪ .‬فلم يكلف ال‬
‫من لم يؤمن به وإنما خاطب الذين أحبوه وآمنوا به‪ ،‬وماداموا قد أحبوا ال فلبد أن يتجه كل‬
‫مؤمن إلى من يحبه؛ لن ال لن يعطيه إل ما يسعده‪.‬‬
‫إذن فالتكليف من ال إسعادٌ لمن أحب‪ { ،‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ْدخُلُواْ فِي السّ ْلمِ كَآفّةً } ‪ ،‬وكلمة " في "‬
‫تُفيد الظرفية‪ ،‬ومعنى الظرفية أن شيئا يحتوي شيئا‪ ،‬مثال ذلك الكوب الذي يحتوي الماء فنقول‪" :‬‬
‫الماء في الكوب " ‪ ،‬وكذلك المسجد يحتوي المصلين فنقول‪ " :‬المصلون في المسجد "‪.‬‬
‫والظرفية تدل على إحاطة الظرف بالمظروف‪ ،‬ومادام الظرف قد أحاط بالمظروف إذن فل جهة‬
‫يفلت منها المظروف من الظرف‪ .‬ولذلك يعطينا الحق سبحانه وتعالى صورة التمكن من مسألة‬
‫خلِ }[طه‪]71 :‬‬
‫جذُوعِ النّ ْ‬
‫لصَلّبَ ّنكُمْ فِي ُ‬
‫الظرفية عندما يقول‪ {:‬وَ ُ‬
‫إن الصلب دائما يكون على شيء‪ ،‬وتشاء الية الكريمة أن تشرح لنا كيف يمكن أن يكون الصلب‬
‫متمكنا من المصلوب‪ .‬فأنت إذا أردت أن تصلب شيئا على شيء فأنت تربطه على المصلوب‬
‫عليه‪ ،‬فإذا ما بالغت في ربطه كأنك أدخلت المصلوب داخل المصلوب عليه‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ ،‬هات عود كبريت وضعه على إصبعك ثم اربطه بخيط ربطا جيدا‪ ،‬ستلحظ أن العود‬
‫قد غاص في جلدك‪ .‬والحق يقول‪ { :‬ادْخُلُواْ فِي السّ ْلمِ كَآفّةً } والسّلْم والسّلْمُ والسّلَم هو السلم‪،‬‬
‫فالمادة كلها واحدة؛ لن السلم ضد الحرب‪ ،‬والسلم جاء لينهي الحرب بينك وبين الكون الذي‬
‫تعيش فيه لصالحك ولصالح الكون ولتكون في سلم مع ال وفي سلم مع الكون‪ ،‬وفي سلم مع‬
‫الناس‪ .‬وفي سلم مع نفسك‪.‬‬
‫قوله‪ { :‬ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ } معناه حتى يكتنفكم السلم‪ .‬إن ال هو الله الخالق للكون ولبد أن‬
‫تعيشوا في سلم معه؛ لنكم ل تؤمنون إل به إلها واحدا‪ .‬فيجب علينا أن نعيش مع الرض‬
‫والسماء والكون في سلم؛ لن الكون الخاضع المقهور المسخر الذي ل يملك أن يخرج عما رُسم‬
‫له يعمل لخدمتك ول يعاندك‪.‬‬
‫والنسان حين يكون طائعا ُيسَرّ به كل شيء في الوجود؛ لن الوجود طائع ومُسبّح‪ ،‬فساعة يجد‬
‫النسان مُسبّحا مثله يُسَرّ به لنه في سلم مع الكون‪ .‬وأنت في سلم مع نفسك؛ لن لك إرادة‪،‬‬
‫وهذه الرادة َقهَرَ الُ لها كل جوارحك‪ ،‬والذي تريده من أي عضو يفعله لك‪ ،‬لكن هل يرضى أي‬
‫عضو عمّا تأمره به؟ تلك مسألة أخرى‪ ،‬مثلً‪ ،‬لسانك ينفعل بإرادتك‪ ،‬فتقول به‪ " :‬ل إله إل ال "‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقال به غيرنا من المشركين غير ذلك‪ ،‬وأشركوا مع ال بشرا وغير بشر يعبدونهم وقال‬
‫الملحدون بألسنتهم والعياذ بال‪ " :‬ل إله في الكون " ولم يعص اللسان أحدا من هؤلء لنه مقهور‬
‫لرادتهم‪.‬‬

‫وتنتهي إرادة النسان على لسانه وعلى جميع جوارحه يوم القيامة فيشهد عليه كما تشهد عليه‬
‫سائر أعضائه‪ :‬الرجل‪ ،‬واليدي‪ ،‬والعيون‪ ،‬والذان‪ ،‬وكل عضو يقر بما كان يفعل به‪ ،‬لنه ل‬
‫سيطرة للنسان على تلك البعاض في هذا اليوم‪ .‬إنما السيطرة كلها للخالق العلى‪.‬‬
‫} ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ {‪ .‬والحق حين ينادي المؤمنين بأن يدخلوا في السلم كافة‬
‫فالمعنى يحتمل أيضا أن الحق سبحانه وتعالى يخاطب المسلمين أل يأخذوا بعضا من الدين‪،‬‬
‫ويتركوا البعض الخر‪ ،‬فيقول لهم‪ :‬خذوا السلم كُله وطبقوه كاملً؛ لن السلم يمثل بناء له‬
‫أسس معلومة‪ ،‬وقواعد واضحة‪ ،‬فل يحاول أحد أن يأخذ شيئا من حكم بعيدا عن حكم آخر‪ ،‬وإل‬
‫لحدث الخلل‪.‬‬
‫وعلى سبيل المثال قد تجد خلفا بين الزوج والزوجة‪ ،‬وقد يؤدي الخلف إلى معارك وطلق‪،‬‬
‫وبعد ذلك نجد من يتهم السلم بأنه أعطى الرجل سيفا مسلطا على المرأة‪ .‬ونقول لهم‪ :‬ولماذا‬
‫تتهمون السلم؟ هل َدخَ ْلتَ على الزواج بمنطق السلم؟‪ .‬إن كنت قد دخلت على الزواج بمنطق‬
‫السلم فستجد القواعد المنظمة والتي تحفظ للمرأة كرامتها‪ ،‬ولكن هناك مَنْ يدخل على الزواج‬
‫بغير منطق السلم‪ ،‬فلما وقع في الزمة راح ينادي السلم‪ .‬هل اختار الرجل مَنْ تشاركه حياته‬
‫بمقياس الدين؟ وهل وضع نُصب عينيه شروط اختيار الزوجة الصالحة التي جاءت في الحديث‬
‫الشريف‪:‬‬
‫عن أبي هريرة ـ رضي ال عنه ـ عن النبي صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬تنكح المرأة لربع‪:‬‬
‫لمالها‪ ،‬ولحسبها‪ ،‬ولجمالها‪ ،‬ولدينها‪ ،‬فاظفر بذات الدين تربت يداك "‪.‬‬
‫هل فضّل الرجل ذات الدين على سواها؟ أم فضل مقياسا آخر؟‪ .‬وعندما جاء رجل ليخطب ابنة‬
‫من أبيها هل وضع الب مقاييس السلم في العتبار عند موافقته على هذا الزواج؟ هل فضلتم‬
‫ن ترضون دينه وخُلقُه؟ أم تركتم تلك القواعد‪ .‬أنت تركت قواعد السلم فلماذا تلوم السلم عند‬
‫مَ ْ‬
‫سوء النتائج والعواقب؟‪.‬‬
‫إنك إن أردت أن تحاسب فل بد أن تأخذ كل أمورك بمقاييس السلم‪ ،‬ثم تصرف بما يناسب‬
‫السلم‪ .‬فإن كنت كذلك فالسلم يحميك من كل شيء‪ .‬فالسلم يساند القوي في الكون ويساند‬
‫ال ُقوَى في النفس بحيث تعيش في سلم ول تتعاند؛ لن كل ذلك يقابله الحرب‪ .‬والحرب إنما تنشأ‬
‫من تعاند القوي‪ ،‬فتتعاند قوى نفسك في حرب مع نفسك‪ ،‬وتتعاند قوى البشر في حرب مع البشر‪،‬‬
‫وتتعاند قواك مع قوى الكون الخرى‪ ،‬فأنت تعاند الطبيعة وتعاند مع الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن فالتعاند ينشأ منه الحرب‪ ،‬والحرب ل تنشأ إل إذا اختلفت الهواء‪ .‬وأهواء البشر ل يمكن أن‬
‫تلتقي إل عندما تكون محروسة بقيم مَنْ ل هوى له‪ ،‬ولذلك يقول ال عز وجل‪:‬‬

‫سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ َومَن فِيهِنّ }[المؤمنون‪]71 :‬‬


‫س َدتِ ال ّ‬
‫حقّ أَ ْهوَآ َءهُمْ َلفَ َ‬
‫{ وََلوِ اتّبَعَ الْ َ‬
‫لماذا؟‪ .‬دعك من الكون الصم حولك‪ ،‬أو دعك من الكون الذي ل اختيار له في أن يفعل أو ينفعل‬
‫لك؛ فهو فاعل أو منفعل لك بدون اختيار منه‪ ،‬ولكن انظر إلى البشر من جنسك‪ ،‬فما الذي يجعل‬
‫هوى إنسان يسيطر على أهواء غيره؟‪.‬‬
‫ما الذي زاده ذلك النسان حتى تكون أنت تابعا له؟ أو يكون تابعا لك؟‪ .‬وفي قانون التبعية ل‬
‫يمكن إل أن يكون التابع مؤمنا بأن المتبوع أعلى منه‪ ،‬ول يمكن لبشر أن توجد عنده هذه الفوقية‬
‫أبدا‪ .‬لذلك لبد للبشر جميعا أن يكونوا تبعا لقوة آمنوا بأنها فوقهم جميعا‪ .‬فحين نؤمن ندخل في‬
‫السلم‪ ،‬ول يوجد تعاند بين أي قوى وقوة أخرى؛ لني لست خاضعا لك‪ ،‬وأنت لست خاضعا لي‪،‬‬
‫وأنا وأنت مسلمون لقوة أعلى مني ومنك‪ ،‬ويشترط في القوة التي نتبعها طائعين أل يكون لها‬
‫مصلحة فيما تشرع‪.‬‬
‫إن المشرعين من البشر يراعون مصالحهم حين يشرعون‪ ،‬فمشرع الشيوعية يضع تشريعه ضد‬
‫الرأسمالية‪ ،‬ومشرع الرأسمالية يضع تشريعه ضد الشيوعية‪ ،‬لكن عندما يكون المشرع غير منتفع‬
‫بما يشرع‪ ،‬فهذا هو تشريع الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وحين ندخل في السلم ندخل جميعا ل يشذ منا أحد‪ ،‬ذلك معنى } ادْخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً { ‪ ،‬هذا‬
‫معنى وارد‪ ،‬وهناك معنى آخر وارد أيضا وهو ادخلوا في السلم أي السلم بجميع تكاليفه بحيث‬
‫ل تتركوا تكليفا يشذ منكم‪.‬‬
‫وحين يأتي المعنى الول فلننا لو لم ندخل في السلم جميعا لشقي الذين يُسلمون بالذين ل‬
‫يُسلمون؛ لن الذي يُسلم سيهذب سلوكه بالنسبة للخرين‪ ،‬ويكون نفع المسلم لسواه‪ ،‬ويشقى المسلم‬
‫بعد إسلم من لم يسلم‪ ،‬فمن مصلحتنا جميعا أن نكون جميعا مسلمين‪ .‬والذين ل يدركون هذه‬
‫ضلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }[المائدة‪]105 :‬‬
‫الحقيقة يفسرون قول ال تعالى‪ {:‬لَ َيضُ ّركُمْ مّن َ‬
‫ضمْن هدايتكم أن تُ َبصّروُا من لم يؤمن بأن يؤمن؛ لن مصلحتكم أن‬
‫على غير ظاهرها‪ ،‬فمن ِ‬
‫تسلموا جميعا‪ ،‬فإذا أسلمت أنت فسيعود إسلمك على الغير؛ لن سلوكك سيصبح مستقيما مهذبا‪،‬‬
‫والذي لم يسلم سيصبح سلوكه غير مستقيم وغير مهذب‪ ،‬وستشقى أنت به‪ .‬إذن فمن مصلحتك أن‬
‫تقضي وقتا طويلً وتتحمل عناء كبيرا في أن تدعو غيرك ليدخل في السلم‪ .‬وإياك أن تقول‪ :‬إن‬
‫ذلك يضيع عليك فرص الحياة‪ .‬ل إنه يضمن لك فرص الحياة‪ ،‬ولن يضيع وقتك لنك ستحمي‬
‫نفسك من شرور غير المسلم‪.‬‬
‫وأذكر جيدا أننا حين تكلمنا في فاتحة الكتاب قلنا‪ :‬إن ال يُعلمنا أن نقول‪ } :‬إياك نعبد { فكلنا يا‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رب نعبدك وسنسعد جميعا بذلك‪ ،‬واهدنا كلنا يا رب؛ لنك إن هديتني وحدي فسيستمتع غيري‬
‫بهدايتك لي‪ ،‬وأنا سوف أشقى بضلله‪.‬‬

‫فمن مصلحتنا جميعا أن نكون مهديين جميعا‪.‬‬


‫ضلّ‬
‫خلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً { أي جميعا‪ .‬أما معنى قوله تعالى‪ } :‬لَ َيضُ ّركُمْ مّن َ‬
‫هذا على معنى } ادْ ُ‬
‫إِذَا اهْتَدَيْ ُتمْ { أي ل تتحملون أوزار ضللهم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر‪ .‬أما المعنى‬
‫الثاني فادخلوا في السلم بحيث ل يشذ منكم أحد‪ .‬ويأخذ شيئا وبعضا من السلم ويترك بعضا‬
‫منه‪ ،‬فأنت تريد أن تبني حياتك‪ .‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم شرح أن للسلم أسسا هي‬
‫الركان الخمسة‪ ،‬وإياك أن تأخذ ثلثة أركان وتترك ركنين؛ لن هندسة السلم مبنية على خمسة‬
‫أركان‪.‬‬
‫وقد قال لي أحد المهندسين‪ :‬إننا نستطيع أن ننشئ بنيانا على ثلثة أركان أو على أربعة أو على‬
‫خمسة‪ .‬فقلت له‪ :‬ولكن حين تجعل البنيان على أربعة أركان‪ ،‬وتوزيع الحمال والثقال على أربعة‬
‫أسس‪ ،‬هل يمكنك حين تُنشئ أن تجعلها ثلثة أركان فقط؟‪ .‬قال‪ :‬ل‪.‬‬
‫قلت‪ :‬إذن فالبناء إنما ينشأ من البداية على السس التي تريدها‪ ،‬ولذلك فأنت توزع القوى على‬
‫ثلثة أو أربعة أو خمسة من البداية‪ .‬وال سبحانه وتعالى شاء أن يجعل أسس السلم خمسة‪،‬‬
‫وبعد ذلك يُبْنَى السلم‪ ،‬وحين يبنى السلم فإياك أن تأخذ لبنة من السلم دون لبنة‪ ،‬بل يُؤخذ‬
‫السلم كله‪ ،‬فالضرر الواقع في العالم السلمي إنما هو ناتج من التلفيقات التي تحدث في العالم‬
‫المسلم‪ .‬تلك التلفيقات التي تحاول أن تأخذ بعضا من السلم وتترك بعضا‪ ،‬وهذا هو السبب في‬
‫التعب والضرر؛ لن السلم لبد أن يؤخذ كله مرة واحدة‪ .‬إذن } ا ْدخُلُواْ فِي السّ ْلمِ كَآفّةً { يعني‬
‫إياكم أن تتركوا حكما من الحكام‪ .‬إن الذي يتعب المنتسبين إلى الدين الن أننا نريد أن نلفق حياة‬
‫إسلمية في بلد تأخذ قوانينها من بلد غير إسلمية‪.‬‬
‫إذن حتى ننجح في حياتنا‪ ،‬فلبد أن نأخذ السلم كله‪ .‬وللسف فإن كثيرا من حكام البلد المسلمة‬
‫لمْرِ مِ ْنكُمْ‬
‫ل وَُأوْلِي ا َ‬
‫ل يأخذون من السلم إل آخر قوله تعالى‪َ } :‬أطِيعُواْ اللّ َه وَأَطِيعُواْ الرّسُو َ‬
‫لمْرِ مِ ْنكُمْ { ويتركون } أَطِيعُواْ اللّ َه وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ {‪.‬‬
‫{ إنهم يأخذون } وَُأوْلِي ا َ‬
‫وأقوال‪ :‬لماذا تأخذون الخيرة وتتركون ما قبلها؟ إن ال لم يجعل لولي المر طاعة مستقلة بل‬
‫لمْرِ مِ ْنكُمْ { ليدل على أن طاعة ولي المر من باطن‬
‫ل وَُأوْلِي ا َ‬
‫قال‪َ } :‬أطِيعُواْ اللّ َه وَأَطِيعُواْ الرّسُو َ‬
‫طاعة ال وطاعة الرسول‪ .‬فنحن ل نريد تلفيقا في السلم‪ ،‬خذوه كاملً‪ ،‬تستريحوا أنتم ونستريح‬
‫نحن معكم‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى يريد بدعوتنا إلى دخول السلم أن يعصم الناس من فتنة اختلف‬
‫أهوائهم فخفف ورفع عن خلقه ما يمكن أن يختلفوا فيه‪ ،‬وتركهم أحرارا في أن يزاولوا مهمة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫استنباط أسرار ال في وجوده بالعلم التجريبي كما يحبون‪ ،‬فإن أرادوا رقيا فل ُي ْعمِلُوا عقولهم‬
‫المخلوقة ل؛ في الكون المخلوق ل‪ ،‬بالطاقة المخلوقة ل؛ ليسعدوا أنفسهم ويدفعوها إلى الرقي‪،‬‬
‫وإن انتهى أحد منهم إلى قضية كونية‪ ،‬واكتشف سرا من السرار في الكون فهو لن يقدم للناس‬
‫جديدا في المنهج‪ ،‬وسيأخذ الناس هذا الجديد ول يعارضونه‪.‬‬

‫إذن فمن الممكن أن يستنبط العلماء بعضا من أسرار قضايا الكون المادية بوساطة العلم التجريبي‪،‬‬
‫وهي أمور سيتفق عليها الناس‪ ،‬ولكن البشر يمكن أن يختلفوا في المور النابعة من أهوائهم؛ لن‬
‫لكل واحد هوى‪ ،‬وكل واحد يريد أن يتبع هواه ول يتبع هوى الخرين‪ ،‬والحق سبحانه يريد أن‬
‫يعصمنا من الهواء لذلك قال لنا‪ } :‬ا ْدخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً { أي ادخلوا في كل صور السلم‪،‬‬
‫حتى ل يأتي تناقض الهواء في المجتمع‪.‬‬
‫وكن أيها المؤمن في سلم مع نفسك فل يتناقض لسانك مع ما في قلبك‪ ،‬فل تكن مؤمن اللسان كافر‬
‫القلب‪ .‬كن منسجما مع نفسك حتى ل تعاني من صراع الملكات‪ .‬وأيضا كن داخلً في السلم مع‬
‫الكون الذي تعيش فيه‪ ،‬مع السماء‪ ،‬مع الرض‪ ،‬مع الحيوان‪ ،‬مع النبات‪ .‬كن في سلم مع كل تلك‬
‫حفِظها عليك‪.‬‬
‫المخلوقات لنها مخلوقة مسخرة طائعة ل‪ ،‬فل تشذ أنت لتغضبها وتُ ْ‬
‫كن منسجما مع الزمن أيضا‪ ،‬لن الزمن الذي يحدث فيه منك ما يخالف منهج ال سيلعنك هو‬
‫والمكان‪ ،‬وإذا أردت أن تشيع سلمك في الكون فعليك كما علمك الرسول صلى ال عليه وسلم أن‬
‫تسالم كل الكون‪ ،‬وكان الرسول صلى ال عليه وسلم يشيع السلم في الزمان والمكان‪ ،‬وعلى‬
‫سبيل المثال كان صلى ال عليه وسلم أكثر الناس صياما في شعبان‪ ،‬ولما سأله الصحابة عن هذا‬
‫أخبرهم أن شعبان شهر يهمله الناس لنه بين رجب‪ ،‬ـ وهو من الشهر الحرم الربعة ـ وبين‬
‫رمضان‪ ،‬فأحب أن يحيى ذلك الشهر الذي يغفل عنه الناس‪ ،‬فكأن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫أراد أن يسعد الزمان بأن يشيع فيه لونا من العبادة فل يجعله أقل من الزمنة الخرى‪.‬‬
‫كذلك المكنة تريد أن تسعد بك‪ ،‬فكل الماكن تسعد بذكر ال فيها‪ .‬والحق ـ سبحانه ـ بعد أن‬
‫أمرنا جميعا بالدخول في السلم بافعل ول تفعل‪ ،‬حذرنا من اتباع الشيطان لنه هو الذي يعمل على‬
‫ع ُدوّ مّبِينٌ { [البقرة‪:‬‬
‫طوَاتِ الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َلكُمْ َ‬
‫إبعادنا عن منهج ال فقال جل شأنه‪َ } :‬ولَ تَتّ ِبعُواْ خُ ُ‬
‫‪]208‬‬

‫ولماذا ل نتبع خطوات الشيطان؟ لن عداوته للنسان عداوة مسبقة‪ ،‬وقف من آدم هذا الموقف‪،‬‬
‫وبعد ذلك أقسم بعزة ال أن يغويكم جميعا‪ ،‬وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد حكى لنا القصة فكأنه‬
‫أعطانا المناعة‪ ،‬أي أن الشيطان لم يفاجئنا‪ .‬وإنما وضع الحق أمامنا قصة الشيطان مع آدم‬
‫واضحة جلية ليعطينا المناعة‪ ،‬بدليل أننا حين نريد أن نصون أجسامنا نجعل لنفسنا مناعة قبل أن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يأتي المرض‪ ،‬نُطعم أنفسنا ضد شلل الطفال‪ ،‬وضد الكوليرا‪ ،‬وضد كذا‪ ،‬وكذا‪ ،‬فكأن ال سبحانه‬
‫وتعالى يذكر قصة الشيطان مع أبينا آدم ليقول لنا‪ :‬لحظوا أن عداوته مسبقة‪.‬‬

‫وما دام له معكم عداوة مسبقة فلن يأخذكم على غرة؛ لن ال نبهكم لتلك المسألة مع الخلق الول‪.‬‬
‫والشيطان عندما يُذكر في القرآن يراد به مرة عاصي الجن‪ ،‬لن طائع الجن مثل طائع البشر‬
‫تماما‪ ،‬ومرة يريد به شياطين النس‪ .‬إذن من الجن شياطين‪ ،‬ومن النس شياطين‪.‬‬
‫وحتى تستطيع أن تفرق بين ما يزينه الشيطان وبين ما تزينه لك نفسك‪ ،‬فإن رأيت نفسك مصرا‬
‫على معصية من لون واحد فاعلم أن السبب هو نفسك‪ ،‬لن النفس تريدك عاصيا من لون يشبع‬
‫نقصا فيها فهي تصر عليه‪ :‬إنسان يحب المال فتتسلط عليه نفسه من جهة المال‪ ،‬وإنسان آخر‬
‫يحب الجنس فتتسلط عليه نفسه من جهة النساء‪ ،‬وثالث يحب الفخر والمديح فتتسلط عليه نفسه من‬
‫جهة مَنْ ينافقه‪ .‬لكن الشيطان ل يصر على معصية بعينها‪ ،‬فإن رآك قد امتنعت عن معصية فهو‬
‫يزين لك معصية أخرى؛ لنه يريدك عاصيا على أية جهة‪.‬‬
‫ع ُدوّ مّبِينٌ {‪ .‬وليس هناك عداوة أوضح من‬
‫طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ َلكُمْ َ‬
‫خُ‬‫والحق يحذرنا } َولَ تَتّ ِبعُواْ ُ‬
‫غوِيَ ّنهُمْ‬
‫ك لُ ْ‬
‫عداوة الشيطان بعد أن وقف من آدم وقال ما أورده الحق على لسانه‪ {:‬قَالَ فَ ِبعِزّ ِت َ‬
‫ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص‪]83-82 :‬‬
‫أَ ْ‬
‫حكِيمٌ {‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬فَإِن زَلَلْ ُتمْ مّن َبعْدِ مَا جَآءَ ْتكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫(‪)211 /‬‬

‫حكِيمٌ (‪)209‬‬
‫فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتكُمُ الْبَيّنَاتُ فَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫والزّلة هي المعصية‪ ،‬وهي مأخوذة من " زال " ‪ ،‬وزال الشيء أي خرج عن استقامته‪ ،‬فكأن كل‬
‫شيء له استقامة‪ ،‬والخروج عنه يعتبر زلل‪ ،‬والزلل‪ :‬هو الذنوب والمعاصي التي تُخالف بها‬
‫المنهج المستقيم‪.‬‬
‫{ مّن َب ْعدِ مَا جَآءَ ْتكُمُ الْبَيّنَاتُ } إنه سبحانه يوضح لنا أنه ل عذر لكم مطلقا في أن تزلوا؛ لنني‬
‫بينت لكم كل شيء‪ ،‬ولم أترككم إلى عقولكم‪ ،‬ومن المنطقي أن تستعملوا عقولكم استعمال صحيحا‬
‫لتديروا حركة الكون الذي استخلفتكم فيه‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬إن أصابتكم الغفلة فأنا أرسل الرسل‪ .‬ولذلك‬
‫قال سبحانه‪َ {:‬ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ َرسُولً }[السراء‪]15 :‬‬
‫لقد رحم ال الخلق بإرسال الرسل ليبينوا للنسان الطريق الصحيح من الطريق المعوج‪ .‬والحق‬
‫سبحانه وتعالى يترك بعض الشياء للبشر ليأتوا بفكر من عندهم ثم يرتضي السلم ما جاءوا به‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ليعلمنا أن العقل إذا ما كان طبيعيا ومنطقيا فهو قادر على أن يهتدي إلى الحكم بذاته‪ .‬وفي تاريخ‬
‫السلم نجد أن سيدنا عمر قد رأى أشياء واقترح بعضا من القتراحات‪ ،‬ووافق عليها الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم ينزل القرآن على وفق ما قاله عمر‪ ،‬وقد يتساءل أحد قائل‪ :‬ألم يكن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم أولى؟‬
‫نقول‪ :‬لو كانت تلك الراء قد جاءت من النبي صلى ال عليه وسلم لما كان فيها غرابة؛ لن النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم معصوم ويوحي إليه‪ ،‬لكن ال يريد أن يقول لنا‪ :‬أن العقل الفطري عندما‬
‫يصفو فهو يستطيع أن يهتدي للحكم الصحيح‪ ،‬وإن لم يكن هناك حكم قد نزل من السماء‪ .‬ولذلك‬
‫تستفز أحكام سيدنا عمر عددا كبيرا من المستشرقين ويقولون‪ :‬أليس عندكم سوى عمر؟ لماذا ل‬
‫تقولون محمدا؟‬
‫نقول لهم‪ :‬لقد تربى عمر في مدرسة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فما يقوله هو‪ ،‬إنما قد أخذه عن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد أقر عمر بذلك وقال‪ " :‬ما عمر لول السلم " ‪ ،‬ونحن نستشهد‬
‫بعمر لنه بشر وليس رسولً‪ ،‬ويسري عليه ما يسري على البشر‪ ،‬فل يوحى إليه ولم يكن‬
‫معصوما‪.‬‬
‫إذن كأن الحق أراد أن ُيقَرّب لنا القدرة على الستنباط والفهم فنكون جميعا عمر؛ لن عمر‬
‫بالفطرة كان يهتدي إلى الصواب‪ ،‬ويقول لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬نفعل كذا " ‪ ،‬فينزل‬
‫الوحي موافقا لرأيه‪ ،‬فكأن ال لم يكلفنا شططا‪ ،‬إنما جاء تكليفه ليحمي العقول من أهواء النفس‬
‫التي تطمس العقول‪ ،‬فآفة الرأي الهوى‪ ،‬ولول وجود الهواء لكانت الراء كلها متفقة‪.‬‬
‫وقديما أعطوا لنا مثل بالمرأة التي جمعت الصيف والشتاء في ليلة واحدة‪ ،‬فقد زوجت ابنها‬
‫وابنتها‪ ،‬وعاش الربعة معها في حجرة واحدة‪ ،‬ابنها معه زوجته‪ ،‬وابنتها معها زوجها‪ ،‬والمرأة‬
‫معهم‪ ،‬تنام نوما قليل وتذهب لبنتها توصيها‪ " :‬دفئي زوجك وأرضيه " فالجو بارد‪ ،‬وتذهب لبنها‬
‫وتقول‪ " :‬ابعد عن زوجتك فالدنيا حر "‪.‬‬

‫إن المكان واحد‪ ،‬والليل واحد‪ ،‬لكن المرأة جعلته صيفا وشتاء في وقت واحد والسبب هو هوى‬
‫سمَاوَاتُ‬
‫النفس‪ .‬وال ـ سبحانه ـ يبين لنا ذلك في قوله‪ {:‬وََلوِ اتّ َبعَ ا ْلحَقّ َأ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ‬
‫ض َومَن فِيهِنّ }[المؤمنون‪]71 :‬‬
‫وَالَرْ ُ‬
‫إذن فالحق سبحانه وتعالى يعصمنا حين ُيشَرع لنا‪ ،‬فالبشر يضيقون ذرعا بتقنينات أنفسهم‬
‫لنفسهم‪ ،‬فيحاولون أن يخففوا من خطأ التقنين البشري‪ ،‬فيقننوا أشياء يعدلون بها ما عندهم‪ ،‬ولو‬
‫نظرت إلى ما عدلوه من قوانين لوجدته تعديل يلتقي مع السلم أو يقترب من السلم‪.‬‬
‫لقد سألوني في أمريكا‪ :‬لماذا لم يظهر السلم فوق كل العقائد برغم أنكم تقولون‪ :‬إن ال يقول في‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ {‪ .‬ومع ذلك لم يظهر دينكم على كل الديان‪ ،‬ولم يزل كثير من‬
‫كتابه‪ } :‬لِيُ ْ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الناس غير مسلمين سواء كانوا يهودا أو نصارى أو بل دين؟ قلت‪ :‬لو فطنتم إلى قول ال‪ } :‬وََلوْ‬
‫كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ { و } وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ { لدلكم ذلك على أن ظهور السلم قد تم مع وجود‬
‫كفار‪ ،‬وظهوره مع وجود مشركين‪ ،‬وإل لو ظهر ول شيء معه فممن يُكرَه؟ إن العقيدة التي‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ‬
‫يكرهها أهل الكفر هي التي تعزز وجود السلم‪ .‬إذن } لِيُ ْ‬
‫ا ْلمُشْ ِركُونَ { يدل على أن ظهور السلم يعني وجود كافر ووجود مشرك كلهما سيكون موجودا‬
‫وسيكرهان انتشار الدين‪.‬‬
‫وعندما نرى أحداث الحياة تضطر البلد الغربية عندما يجدون خطأ تقنينهم فيحاولون أن يعدلوا‬
‫في التقنيات فل يجدون تعديل إل أن يذهبوا إلى أحكام السلم‪ ،‬لكنهم لم يذهبوا إليه كدين إنما‬
‫ذهبوا إليه كنظام‪ ،‬إن رجوعهم إلى السلم لدليل وتأكيد على صحة وسلمة أحكام السلم‪ ،‬لنهم‬
‫لو أخذوا تلك الحكام كأحكام دين لقال غيرهم‪ :‬قوم تعصبوا لدين آمنوا به فنفذوا أحكامه‪ .‬ولكنهم‬
‫برغم كرههم للدين‪ ،‬اضطروا لن يأخذوا بتعاليمه‪ ،‬فكأنه ل حل عندهم إل الخذ بما ذهب إليه‬
‫السلم‪.‬‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ { قوة لنظام السلم‪ ،‬ل لتؤمن به وإنما‬
‫إذن قول ال‪ } :‬لِ ُي ْ‬
‫تضطر أن تلجأ إليه‪ ،‬وكانوا في إيطاليا ـ على سبيل المثال ـ يعيبون على السلم الطلق‬
‫ويعتبرونه انتقاما لحقوق المرأة‪ ،‬ولكن ظروف الحياة والمشكلت السرية اضطرتهم لباحة‬
‫الطلق‪ ،‬فهل قننوه لن السلم قال به؟ ل‪ ،‬ولكن لنهم وجدوا أن حل مشكلتهم ل يأتي إل منه‪.‬‬
‫وفي أمريكا عندما شنوا حملة شعواء على تناول الخمور‪ ،‬هل حاربوها لن السلم حرمها؟ ل‪،‬‬
‫ولكن لن واقع الحياة الصحية طلب منهم ذلك‪ .‬إذن } وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ { ‪ } ،‬وََلوْ كَ ِرهَ‬
‫ا ْلمُشْ ِركُونَ {‪ :‬معناهما أنهم سيلجأون إلى نظام السلم ليحل قضاياهم‪ .‬فإن لم يأخذوه كدين فسوف‬
‫يأخذونه نظاما‪.‬‬
‫حكِيمٌ { أي إياكم أن تظنوا أنكم‬
‫} فَإِن زََللْتُمْ مّن َبعْدِ مَا جَآءَ ْت ُكمُ الْبَيّنَاتُ فَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫بزللكم أخذتم حظوظ أنفسكم من ال‪ ،‬فإن مرجعكم إلى ال وهو عزيز وعزته سبحانه هي أنه‬
‫يَغلب ول يُغلب‪ ،‬فهو يدبر أمورنا برحمة وحكمة‪ .‬ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬هلْ يَنظُرُونَ ِإلّ أَن‬
‫يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مّنَ ا ْل َغمَامِ‪{ ...‬‬

‫(‪)212 /‬‬

‫ضيَ الَْأمْ ُر وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَعُ الُْأمُورُ (‬


‫َهلْ يَنْظُرُونَ إِلّا أَنْ يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مِنَ ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَلَا ِئكَ ُة َو ُق ِ‬
‫‪)210‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون أن تداهمهم المور ويجدوا أنفسهم في كون وإن أخذ زخرفة فهو‬
‫يتحول إلى هشيم تذروه الرياح‪ ،‬ويصير النسان أمام لحظة الحساب‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬هلْ يَنظُرُونَ } مأخوذة من النظر‪ .‬والنظر هو طلب الدراك لشيء مطلق‪ .‬وطلب‬
‫الدراك لي شيء بأي شيء يُسمى نظرا‪ .‬ومثال ذلك أننا نقول لي إنسان يتكلم في أي مسألة‬
‫معنوية‪ :‬أليس عندك نظر؟ أي هل تملك قوة الدراك أم ل؟‬
‫إذن فالنظر هو طلب الدراك للشيء‪ ،‬فإن طلبت أن ترى فهو النظر بالعين‪ ،‬وإن طلبت أن تعرف‬
‫وتعلم؛ فهو النظر بالفكر وبالقلب‪ .‬وأحيانا يُطلق النظر على النتظار‪ ،‬وهو طلب إدراك ما يتوقع‪.‬‬
‫و { َهلْ يَنظُرُونَ ِإلّ أَن يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ } ‪ ،‬يعني هل ينتظرون إل أن تأتيهم الساعة وتفاجئهم في‬
‫الزمن الخاص؟ لنها لن تفاجئ أحدا في الزمن العام‪ ،‬فسوف يكون لها آيات صغرى وآيات‬
‫كبرى‪ ،‬ومعنى أن لها آيات صغرى وكبرى‪ ،‬أن ذلك دليل على أن ال يمهلنا لنتدارك أنفسنا‪ ،‬فل‬
‫يزال فاتحا لباب التوبة ما لم تطلع الشمس من مغربها‪.‬‬
‫وساعة نسمع قوله تعالى‪َ { :‬هلْ يَنظُرُونَ ِإلّ أَن يَأْتِ َيهُمُ اللّ ُه } نقول‪ :‬ما الذي يؤجل دخولهم في‬
‫السلم كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ تماما كأن تقول لشخص أمامك‪ :‬ماذا تنتظر؟ كذلك الحق يحثنا‬
‫على الدخول في السلم كافة وإل فماذا تنظرون؟‬
‫و { ِإلّ أَن يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ فِي ظَُللٍ مّنَ ا ْل َغمَا ِم وَا ْلمَل ِئكَةُ } ساعة تقول‪ { :‬يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ } أو " جاء ربك "‬
‫أو يأتي سبحانه بمثل في القرآن مما نعرفه في المخلوقين من التيان والمجيء وكالوجه واليد‪،‬‬
‫شيْءٌ } فال موجود وأنت موجود‪ ،‬فهل وجودك كوجوده؟ ل‪.‬‬
‫فلتأخذه في إطار { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫إن ال حي وأنت حي‪ ،‬أحياتك كحياته؟ ل‪ .‬وال سميع وأنت سميع‪ ،‬أسمعك كسمعه؟ ل‪ .‬وال‬
‫بصير وأنت بصير‪ ،‬أبصرك كبصره؟ ل‪ .‬وما دمت تعتقد أن له صفات مثلها فيك‪ ،‬فتأخذها‬
‫شيْءٌ }‪.‬‬
‫بالنسبة ل في إطار { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫ولذلك يقول المحققون‪ :‬إنك تؤمن بال كما أعطاك صورة اليمان به لكن في إطار ل يختلف عنه‬
‫شيْءٌ } ‪ ،‬وإن أمكن أن تتصور أي شيء فربك على خلف ما تتصور‪،‬‬
‫عمّا في أنه { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫لن ما خطر ببالك فإن ال سبحانه على خلف ذلك‪ ،‬فبال النسان ل يخطر عليه إل الصور‬
‫المعلومة له‪ ،‬وما دامت صورا معلومة فهي في خلق ال وهو سبحانه ل يشبه خلقه‪.‬‬
‫إن ساعة يتجلى الحق‪ ،‬سيفاجئ الذين تصوروا ال على أية صورة‪ ،‬أنه سبحانه على غير ما‬
‫تصوروا وسيأتيهم ال بحقيقة لم تكن في رءوسهم أبدا؛ لنه لو كانت صورة الحق في بال البشر‬
‫لكان معنى ذلك أنهم أصبحوا قادرين على تصوره‪ ،‬وهو القادر ل ينقلب مقدورا عليه أبدا‪ ،‬ومن‬
‫عظمته أن العقل ل يستطيع أن يتصوره ماديا‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات‪]21 :‬‬
‫ولذلك ضرب ال لنا مثلً يقرّب لنا المسألة‪ ،‬فقال‪َ {:‬وفِي أَنفُ ِ‬
‫إن الروح الموجودة في مملكة جسمنا والتي إذا خرجت من إنسان صار جيفة‪ ،‬وعاد بعد ذلك إلى‬
‫عناصر تتحلل وأبخرة تتصاعد‪ ،‬هذه الروح التي في داخل كل منا لم يستطع أحد تصورها‪ ،‬أو‬
‫تحديد مكانها أو شكلها‪ ،‬هذه الروح المخلوقة ل لم نستطع أن نتصورها‪ ،‬فكيف نستطيع أن‬
‫نتصور الخالق العظم؟‬
‫} َهلْ يَنظُرُونَ ِإلّ أَن يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ { يعني بما لم يكن في حسبانهم‪ .‬هل ينتظرون حتى يروا ذلك‬
‫الكون المنسق البديع قد اندثر‪ ،‬والكون كله تبعثر‪ ،‬والشمس كورت والنجوم انكدرت‪ ،‬وكل شيء‬
‫في الوجود تغير‪ ،‬وبعد ذلك يفاجأون بأنهم أمام ربهم‪ .‬فماذا ينتظرون؟‪.‬‬
‫إذن يجب أن ينتهزوا الفرصة قبل أن يأتي ذلك المر‪ ،‬وقبل أن تفلت الفرصة من أيديهم ويُنهي‬
‫أمد رجوعهم إلى ال‪ .‬لماذا يسوفون في أن يدخلوا في السلم كافة؟ ما الذي ينتظرونه؟ أينتظرون‬
‫أن يتغير ال؟ أو أن يتغير منهج ال؟ إن ذلك لن يحدث‪.‬‬
‫ونؤكد مرة أخرى أننا عندما نسمع شيئا يتعلق بالحق فيما يكون مثله في البشر فلنأخذه في إطار }‬
‫شيْءٌ {‪ .‬فكما أنك آمنت بأن ل ذاتا ل كالذوات‪ ،‬فيجب أن تعلم أن ل صفات ليست‬
‫لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫كالصفات‪ ،‬وأن ل أفعالً ليست كالفعال‪ ،‬فل تجعل ذات ال مخالفة لذوات الناس؛ ثم تأتي في‬
‫الصفات التي قال ال فيها عن نفسه وتجعلها مثل صفات الناس‪ ،‬فإذا كان ال يجيء؛ فل تتصور‬
‫مجيئه أنه سيترك مكانا إلى مكان‪ ،‬فهو سبحانه يكون في مكان بما ل يخلو عنه مكان‪ ،‬تلك هي‬
‫العظمة‪.‬‬
‫فإذا قيل‪ِ } :‬إلّ أَن يَأْتِ َيهُمُ اللّهُ { فل تظن أن إتيانه كإتيانك‪ ،‬لن ذاته ليست كذاتك‪ ،‬ولن الناس في‬
‫اختلف درجاتهم تختلف أفعالهم‪ ،‬فإذا كان الناس يختلفون في الفعال باختلف منازلهم‪ ،‬وفي‬
‫الصفات باختلف منازلهم‪ ،‬فالحق منزه عن كل شيء وكل تصور‪ ،‬ولنأخذ كل شيء يتعلق به في‬
‫شيْءٌ {؛ ففعْل ربك يختلف عن فعلك‪ .‬وإياك أن تُخضع فعله لقانون فعلك؛ لن‬
‫إطار } لَيْسَ َكمِثِْلهِ َ‬
‫فعلك يحتاج إلى علج وإلى زمن يختلف باختلف طاقتك وباختلف قدرتك‪ ،‬وال ل يفعل الشياء‬
‫بعلج بحيث تأخذ منه زمنا ولكنه يقول‪ } :‬كُنْ فَ َيكُونُ {‪.‬‬
‫كأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا صورة عن النجاز الذي ل دخل لختيار البشر في أن‬
‫يخالفوا فيه فيقول‪ :‬ساعة يجيء المر انخلعت كل قدرة لمخلوق عن ذلك المر وأصبح المر ل‬
‫وحده‪.‬‬
‫و } فِي ظَُللٍ مّنَ ا ْل َغمَامِ {‪ .‬فيه شيء يظللك وفيه شيء تستظل به‪ ،‬والشيء الذي يظللك ل يكون‬
‫لك ولية عليه في أن يظللك إلّ أن ترى أين ظله وتذهب إليه‪ ،‬وشيء آخر تستطيع أنت التصرف‬
‫فيه كالمظلة تفتحها في أي مكان تريد‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكلمة " ظلل " معناها أنها تستر عنك مصدر الضوء؛ ولذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن‬
‫عوُاْ اللّهَ }[لقمان‪]32 :‬‬
‫يصور لنا ذلك قال‪ {:‬وَإِذَا غَشِ َيهُمْ ّموْجٌ كَالظَّللِ دَ َ‬
‫أي جاءهم الفزع الكبر كالظلة محيطا بهم‪ ،‬فكأن ال يريد أن يخبرنا أن الكون سيندثر كله‬
‫وسيأتيك المر المفزع‪ ،‬المر المفجع‪ ،‬والمؤمن كان يتوقعه‪ ،‬وسيدخل عليه بردا وسلما؛ لنه ما‬
‫آمن من أجله‪ ،‬لكن الكافر سيصاب بالفزع الكبر؛ لنه فوجيء بشيء لم يكن في حسابه‪.‬‬
‫وقارن بين مجيء المر لمن يؤمله‪ ،‬وبين مجيء المر لمن ل يؤمله‪ .‬إن الحق سبحانه وتعالى‬
‫لمْرُ { فاعلم أن‬
‫ياَ‬
‫ضَ‬‫قال‪ :‬ساعة تجيء هذه الظلل والملئكة فقد قضى المر‪ .‬وعندما تسمع } ُق ِ‬
‫المراد أن الفرصة أفلتت من أيدي الناس‪ ،‬فمن لم يرجع إلى ربه قبل الن فليست له فرصة أن‬
‫لمْ ُر وَاسْ َت َوتْ عَلَى الْجُو ِديّ }[هود‪]44 :‬‬
‫ضيَ ا َ‬
‫يرجع‪ .‬ومثال ذلك ما قاله الحق في قصة نوح‪َ {:‬و ُق ِ‬
‫أي انتهى كل شيء‪ ،‬ولم يعد للناس قدرة على أن يرجعوا عما كانوا فيه‪ .‬فال يقول‪ :‬ماذا‬
‫تنتظرون؟ هل تنتظرون حتى يأتيكم هذا اليوم؟ لبد أن تنتهزوا الفرصة لترجعوا إلى ربكم قبل أن‬
‫لمُورُ {‪.‬‬
‫لمُورُ { ‪ ،‬ومرة تأتي } وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ ا ُ‬
‫تفلت منكم فرصة العودة‪ } .‬وَإِلَى اللّهِ تَرْجَ ُع ا ُ‬
‫وفيه فرق بين " تَرجع المور " بفتح التاء وبين " تُرجع المور " بضم التاء‪ .‬فكأن المور مندفعة‬
‫بذاتها‪ ،‬ومرة تساق إلى ال‪ .‬إن الراغب سيرجع إلى ربه بنفسه؛ لنه ذاهب إلى الخير الذي‬
‫ينتظره‪ ،‬أما غير الراغب والذي كان ل يرجو لقاء ربه َفسَيُرجَع بالرغم عنه‪ ،‬تأتي قوة أخرى‬
‫تُرجعه‪ ،‬فمن لم يجيء رغَبا يأتي رهَبا‪.‬‬
‫سلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ َكمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آ َيةٍ بَيّنَ ٍة َومَن يُ َب ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬‬

‫(‪)213 /‬‬

‫سلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيّنَ ٍة َومَنْ يُبَ ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ‬
‫َ‬
‫ا ْل ِعقَابِ (‪)211‬‬

‫فكأن ال لم يحمل على بني إسرائيل ويريد منهم أن يقروا على أنفسهم بما أكرمهم به ال من خير‬
‫سابق؛ فساعة تقول‪ " :‬اسأل فلنا عما فعلته معه " ‪ ،‬كأنك ل تأمر بالسؤال إل عن ثقة‪ ،‬وأنه لن‬
‫يجد جوابا إل ما يؤيد قولك‪ .‬والحق يبلغ رسوله صلى ال عليه وسلم أن يسأل بني إسرائيل عن‬
‫الخير السابق الذي غمرهم به وهو سبحانه عليهم أنهم لن يستطيعوا مع لددهم أن يتكلموا إل بما‬
‫يوافق القضية التي يقولها الحق وتصبح حجة عليهم‪.‬‬
‫سلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم } ساعة تسمع { َكمْ } في مقام كهذا‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪َ { :‬‬
‫فافهم أنها كناية عن الخبار عن المر الكثير بخلف { كَمْ } التي تريد بها الستفهام‪ .‬وأنت تقول‪:‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫" كم فعلت كذا مع فلن " و " كم صنعت معه معروفا " و " كم تهاونت معه " و " كم أكرمته "‪.‬‬
‫لذلك فعندما تسمع { كَمْ } هذه فاعرف أن معناها الكمية الكثيرة التي يُكنى بها على أن عدد ل‬
‫يحصى‪.‬‬
‫سلْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ } إن الحق يريد أن يضرب لنا مثلً كمثل إنسان يأكل‬
‫{ َ‬
‫خيرك وينكر معروفك‪ ،‬ويشكوك إلى إنسان‪ ،‬فترد أنت لم ينقل لك الشكوى‪ :‬سله ماذا قدمت له من‬
‫جميل‪ ،‬أنا لن أتكلم بل سأجعله هو يتكلم‪ .‬وأنت ل تقول ذلك إل وأنت على ثقة من أنه ل يستطيع‬
‫أن يغير شيئا‪.‬‬
‫ألم يفلق لهم البحر؟‪ .‬ألم يجعل عصا موسى حية؟ ألم يظللهم ال بالغمام؟ ألم يعطهم ال المن‬
‫والسلوى؟ كل ذلك أعطاه ال لهم؛ فلم يشكروا نعمة ال‪ ،‬فحل عليهم غضبه؛ أخذهم بالسنين‬
‫والجوع وأخذهم بالقمل والضفادع والدم‪ ،‬كل ذلك فعله ال معهم‪ ..‬وحين يقول الحق لرسوله‪:‬‬
‫سلْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ } فالقول منسحب على أمة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فإذا جاءك واحد‬
‫{ َ‬
‫منهم فاسأله‪ :‬كم آيةٍ أعطاها ال لكم فأنكرتموها‪ ،‬وتلكأتم‪ .‬وتعنّتّم‪ { .‬كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّ َنةٍ } إن‬
‫{ َكمْ } تدل على الكمية الكبيرة‪ ،‬و { مّنْ آيَةٍ }‪ :‬معناها المر العجيب‪ .‬و { بَيّنَةٍ } تعني المر‬
‫الواضح الذي ل يمكن أن يغفل عنه أحد‪.‬‬
‫شدِيدُ‬
‫سلْ بَنِي ِإسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ َومَن يُ َب ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِن َب ْعدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫{ َ‬
‫ا ْل ِعقَابِ }‪ .‬وكيف يبدل النسان نعمة ال؟‪ .‬إن نعمة ال حين تصيب خلقا فالواجب عليهم أن‬
‫يستقبلوها بالشكران‪ ،‬ومعنى الشكران هو نسبتها إلى واهبها والستحياء أن يعصوا من أنعم عليهم‬
‫بها‪ .‬فإذا استقبل الناس النعمة بغير ذلك فقد ُبدِلَت‪ .‬ولذلك يقول الحق في آية أخرى‪ { :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى‬
‫الّذِينَ َبدّلُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرا } وما داموا قد بدلوها كفرا‪ ،‬فيكون الكفر هو الذي جاء مكان اليمان‪.‬‬

‫إذن كان المطلوب أن يقابلوا النعمة باليمان‪ ،‬بالزدياد في التقرب إلى ال‪ ،‬لكنهم بدلوا النعمة‬
‫بالكفر‪.‬‬
‫} َومَن يُبَ ّدلْ ِن ْعمَةَ اللّهِ مِن َبعْدِ مَا جَآءَ ْتهُ فَإِنّ اللّهَ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ { قد نفهم أن معنى } شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ‬
‫{ هو أمر يتعلق بالخرة‪ ،‬ولعل أناسا يستبطئون الخرة‪ ،‬أو أناسا غير مؤمنين بالخرة‪ ،‬فلو كان‬
‫المر بالعقاب يقتصر على عقاب الخرة لشقي الناس بمن ل يؤمنون بالخرة‪ ..‬أو يستبطئونها‬
‫لن هؤلء يعيثون في الرض فسادا؛ لنهم ل يخافون الخرة ول يؤمنون بها‪ ،‬أو أنها ل تخطر‬
‫ببالهم‪.‬‬
‫فالذي يؤمن بأن هناك آخرة تأتي وسيكون فيها حساب‪ ،‬هو الذي سيكون سلوكه على مقتضى ذلك‬
‫اليمان‪ .‬أما الذي ل يؤمن أن هناك يوما آخر فالدنيا تشقى به‪ .‬فإذا لم يعجل ال بلون من العقوبة‬
‫للذين ل يؤمنون بالخرة أو الذين يستبطئون الخرة لشقي الناس بهؤلء الذين ل يؤمنون أو‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يستبطئون‪.‬‬
‫وكل جماعة ل تقبل على منهج ال‪ ،‬ويبدلون نعمة ال كفرا لبد أن يكون ل فيهم عقاب عاجل‪،‬‬
‫وذلك ليعلم الناس أن من لم يرتدع إيمانا وخوفا من اليوم الخر فعليه أن يرتدع مخافة أن يأتيه‬
‫العقاب في الدنيا‪ .‬فالظالم إذا علم أن ظالما مثله لقي عقابه وحسابه في الدنيا فسيخاف أن يظل؛‬
‫وإن لم يكن مؤمنا بالخرة‪ ،‬لنه سيتأكد أن الحساب واقع ل محالة‪ .‬ولذلك ل يؤجل ال العقاب كله‬
‫إلى الخرة ولكن ينزل بعضا منه في الدنيا‪ .‬ويقول الحق في الذين يبدلون نعمة ال كفرا‪ {:‬أَلَمْ تَرَ‬
‫جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ }[إبراهيم‪:‬‬
‫إِلَى الّذِينَ َبدّلُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرا وََأحَلّواْ َقوْ َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ * َ‬
‫‪]29-28‬‬
‫هذه عقوبة الخرة ولن يتركهم ال في الدنيا دون أن ينالهم العقاب‪.‬‬
‫وحتى الذين يظلمون ويتعسفون مع أنهم مسلمون ل يتركهم ال بل عقاب في الدنيا حتى يأتيهم‬
‫يوم القيامة بل لبد أن يجيء لهم من واقع دنياهم ما يخيف الناس من هذه الخواتيم حتى تستقيم‬
‫حركة الحياة بين الناس جميعا‪ ،‬وإل فسيكون الشقاء واقعا على الناس من هؤلء ومن الذين ل‬
‫يؤمنون بعقاب الخرة‪.‬‬
‫وكان بعض الصالحين يقول‪ " :‬اللهم إن القوم قد استبطأوا آخرتك وغرهم حلمك فخذهم أخذ عزيز‬
‫مقتدر "؛ لنه سبحانه لو ترك عقابهم للخرة لفسدوا وكانوا فتنة لغيرهم من المؤمنين‪ .‬ولذلك شاء‬
‫ال أن يجعل في منهج اليمان تجريما وعقوبة تقع في الدنيا‪ ،‬لماذا؟ حتى ل يستشري فساد من‬
‫يشك في أمر الخرة‪ .‬وشدة عقاب ال ل يجعلها في الخرة فقط‪ ،‬بل جعلها في الدنيا أيضا؛ ولذلك‬
‫يقول ال سبحانه وتعالى‪َ {:‬ومَنْ أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِيشَ ًة ضَنكا وَنَحْشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ‬
‫عمَىا }[طه‪]124 :‬‬
‫أَ ْ‬
‫سخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُو ْا وَالّذِينَ ا ّتقَواْ‬
‫ثم يقول سبحانه وتعالى‪ } :‬زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَ ْ‬
‫َف ْو َقهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ‪{ ...‬‬

‫(‪)214 /‬‬

‫سخَرُونَ مِنَ الّذِينَ َآمَنُوا وَالّذِينَ ا ّت َقوْا َف ْوقَهُمْ َي ْومَ ا ْلقِيَامَ ِة وَاللّهُ‬
‫زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُوا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا وَيَ ْ‬
‫يَرْزُقُ مَنْ َيشَاءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ (‪)212‬‬

‫يريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين واقع النسان في الكون‪ ،‬هذا الواقع الذي يدل على أنه سيد ذلك‬
‫الكون‪ ،‬ومعنى ذلك أن كل الجناس تخدمه‪ .‬وقد عرفنا أن الجماد يخدم النبات‪ ،‬والجماد والنبات‬
‫يخدمان الحيوان‪ ،‬والجماد والنبات والحيوان تخدم النسان‪ ،‬فالنسان سيد هذه الجناس‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكان مقتضى العقل أن يبحث هذا السيد عن جنس أعلى منه‪ ،‬فكما كانت الجناس التي دونه في‬
‫خدمته‪ ،‬فلبد أن يكون هذا الجنس العلى يناسب سيادته‪ ،‬ولن يجد شيئا في الوجود أبدا أعلى من‬
‫الجنس الذي ينتسب إليه‪ ،‬لذلك كان المفروض أن يقول النسان‪ :‬أنا أريد جنسا ينبهني عن نفسي؛‬
‫فأنا في أشد الحتياج إليه‪ .‬فإذا جاء الرسل وقالوا‪ :‬إن الذي أعلى منك أيها النسان هو ال وليس‬
‫كمثله شيء وتعالى عن كل الجناس‪ .‬كان يجب على النسان أن يقول‪ :‬مرحبا؛ لن معرفة ال‬
‫تحل له اللغز‪ .‬والرسل إنما جاءوا ليحلوا للنسان لغزا يبحث عنه‪ ،‬وكان على النسان أن يفرح‬
‫بمجيء الرسل‪ ،‬وخصوصا أن ال عز وجل ل يريد خدمة منه‪ ،‬إن النسان هو الذي يحتاج لعبادة‬
‫ال ليسخر له الكائنات‪ ،‬ويعبده ليعزه‪ .‬إذن فالمؤمن بين أمرين‪ :‬بين خادم له مسخر وهو من دونه‬
‫من الجهاد والنبات والحيوان‪ ،‬ومعطٍ متفضلٍ عليه مُختارٍ وهو أعلى منه‪ .‬إنه هو ال‪.‬‬
‫فمن يأخذ واحدة ويترك واحدة فقد أخذ الدنى وترك العلى‪ ،‬فيقول له الحق‪ :‬خذ العلى‪ .‬فإذا‬
‫كنت سعيدا بعطاء المخلوقات الدنى منك‪ ،‬وتحب أن تستزيد منها فكيف ل تستزيد ممن هو أعلى‬
‫منك؟‪ .‬إنه ال‪.‬‬
‫والحق عندما يقول‪ { :‬زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } فهو يريد أن يلفتنا إلى أن مقاييس الكافرين‬
‫مقاييس هابطة نازلة؛ لن الذي زُين لهم هو المر الدنى‪ .‬ومن خيبة التقدير أن يأخذ النسان‬
‫المر الدنى ويفضله على العلى‪ .‬وكلمة { زُيّنَ } عندما تأتي في القرآن تكون مبنية لما لم يسم‬
‫ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ‬
‫ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ‬
‫حبّ ال ّ‬
‫فاعله مثل قوله تعالى‪ {:‬زُيّنَ لِلنّاسِ ُ‬
‫الذّ َهبِ وَا ْل ِفضّةِ }[آل عمران‪]14 :‬‬
‫هناك { زُيّنَ لِلنّاسِ } وفي آية البقرة التي نحن بصددها { زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُواْ } لماذا قال الحق‬
‫هناك‪ { :‬زُيّنَ لِلنّاسِ } ولماذا قال هنا‪ { :‬زُيّنَ لِلّذِينَ كَفَرُواْ }؟ لقد قال الحق ذلك لن الذين كفروا‬
‫ليس عندهم إل الحياة الدنيا‪ ،‬فالعلى ل يؤمنون به‪ ،‬ولكن في مسألة الناس عامة عندما يقول ال‬
‫ب وَا ْل ِفضّةِ‬
‫ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َه ِ‬
‫ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ‬
‫حبّ ال ّ‬
‫عز وجل‪ { :‬زُيّنَ لِلنّاسِ ُ‬
‫حسْنُ ا ْلمَآبِ } فهو سبحانه‬
‫س ّومَ ِة وَالَ ْنعَا ِم وَالْحَ ْرثِ ذاِلكَ مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِ ْن َدهُ ُ‬
‫وَالْخَ ْيلِ ا ْلمُ َ‬
‫يقول للناس‪ :‬خذوا الحياة على قدرها‪ .‬وزُينت يعني حسُنت‪ .‬فمن الذي حسنها؟ لقد حسنها ال عز‬
‫وجل‪.‬‬

‫فكيف تنسى الذي حسنها لك‪ ،‬وجعلها جميلة وجعلها تحت تصرفك‪.‬‬
‫كان يجب أن تأخذها وسيلة لليمان بمن رزقك إياها‪ ،‬وكلما ترى شيئا جميل في الوجود تقول‪" :‬‬
‫سبحان ال " ‪ ،‬وتزداد إيمانا بال‪ ،‬أما أن تأخذ المسألة وتعزلها عمن خلقها فذلك هو المقياس‬
‫النازل‪.‬‬
‫أو أن ال سبحانه وتعالى هو الذي زينها بأن جعل في الناس غرائز تميل إلى ما تعطيه هذه الحياة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الدنيا‪ ،‬ونقول‪ :‬هل أعطى سبحانه الغرائز ولم يعط منهجا لتعلية هذه الغرائز؟ ل‪ ،‬لقد أعلى الغرائز‬
‫وأعطى المنهج لتعلية الغرائز‪ ،‬فل تأخذ هذه وتترك تلك‪ .‬ولذلك يقول الحق‪ {:‬وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ‬
‫خَيْرٌ }[الكهف‪ ]46 :‬والحق عندما يقول‪ } :‬زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُواْ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا { فهو يفضح من يعتقدون‬
‫أنه ل حياة بعد هذه الحياة‪ ،‬ونقول لهم‪ :‬هذا مقياس نازل‪ ،‬وميزان غير دقيق‪ ،‬ودليل على الحمق؛‬
‫لنكم ذهبتم إلى الدنى وتركتم العلى‪ .‬ومن العجيب أنكم فعلتم ذلك ثم يكون بينكم وبين من‬
‫اختار العلى هذه المفارقات‪ .‬أنتم في الدنى وتسخرون من الذين التفتوا إلى العلى‪ ،‬إن الحق‬
‫سخَرُونَ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ {‪ .‬لماذا يسخرون منهم‪.‬‬
‫يقول‪ } :‬وَيَ ْ‬
‫لن الذين آمنوا ملتزمون‪ ،‬ومادام النسان ملتزما فسيعوق نفسه عن حركات الوجود التي تأتيه من‬
‫غير حل‪ ،‬لكن هؤلء قد انطلقوا بكل قواهم وملكاتهم إلى ما يزين لهم من الحياة‪.‬‬
‫لذلك تجد إنسانا يعيش في مستوى دخله الحلل‪ ،‬ول يملك إل حُلّةً واحدة " بدلة " ‪ ،‬وإنسانا آخر‬
‫يسرق غيره‪ ،‬فتجد الثاني الذي يعيش على أموال غيره حسن المظهر والهندام وعندما يلتقي‬
‫الثنان تجد الذي ينهب يسخر من الذي يعيش على الحلل‪ ،‬لماذا؟ لنه يعتبر نفسه في مقياس‬
‫أعلى منه‪ ،‬يرى نفسه حسن الهندام و " الشياكة " فيحسم الحق هذه المسألة ويقول‪ } :‬وَالّذِينَ ا ّتقَواْ‬
‫َف ْو َقهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ {‪ .‬لماذا يوم القيامة‪ ،‬أليسوا فوقهم الن؟‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المنظور المرئي للناس؛ لنهم ل ينظرون إلى الراحة النفسية‬
‫وهي انسجام ملكات النسان حينما يذهب لينام‪ ،‬ولم يجرب على نفسه سقطة دينية ول سقطة‬
‫خلقية‪ ،‬ول يؤذي أحدا‪ ،‬ول يرتشي‪ ،‬ول ينم ول يغتاب‪ ،‬كيف يكون حاله عندما يستعرض أفعاله‬
‫يومه قبل نومه؟ لبد أن يكون في سعادة ل تقدر بمال الدنيا‪.‬‬
‫ولذلك لم يدخل ال هذا الحساس في المقارنة‪ ،‬وإنما أدخل المسألة التي ل يقدر عليها أحد‪} .‬‬
‫وَالّذِينَ ا ّتقَواْ َف ْوقَهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ {‪ .‬ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ أَجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ‬
‫حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَ ْهِلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَِإذَا‬
‫الّذِينَ آمَنُواْ َيضْ َ‬
‫رََأوْهُمْ قَالُواْ إِنّ هَـاؤُلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُرْسِلُواْ عَلَ ْي ِهمْ حَا ِفظِينَ }[المطففين‪]33-29 :‬‬
‫حكُونَ * عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ‬
‫ثم يقول الحق بعد ذلك‪ {:‬فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َيضْ َ‬
‫ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َيفْعَلُونَ }‬

‫[المطففين‪]36-34 :‬‬
‫أي هل عرفنا أن نجازيهم؟ نقول‪ :‬نعم يا رب‪ .‬خصوصا أن ضحك الخرة ليس بعده بكاء‪.‬‬
‫} وَالّذِينَ ا ّتقَواْ َف ْو َقهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ { ولنلحظ أن الحق سبحانه وتعالى خالف السلوب في هذه الية‪،‬‬
‫لقد كان المفروض أن يقول‪ :‬والذين آمنوا فوقهم‪ .‬لكنه قال‪ } :‬وَالّذِينَ ا ّتقَواْ َف ْو َقهُمْ { لنه قد يؤخذ‬
‫اليمان على أنه اسم‪ ،‬فقد شاع عنك أنك مؤمن‪ ،‬فأنت بهذا الوصف ل يكفي لتنال به المرتبة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السامية إل إذا كانت أفعالك تؤدي بك إلى التقوى‪.‬‬
‫فل تقل‪ " :‬أنا مؤمن " ويقول غيرك‪ " :‬أنا مؤمن " ‪ ،‬ويصبح المؤمنون مليارا من البشر في العالم‪،‬‬
‫نقول لهؤلء‪ :‬أنتم لن تأخذوا اليمان بالسم وإنما تأخذون اليمان باللتزام بمنهج السماء‪ .‬ولذلك‬
‫لم يقل ال‪ " :‬والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة " وإنما قال‪ } :‬وَالّذِينَ ا ّتقَواْ َف ْو َقهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ { ليعزل‬
‫السم عن الوصف‪ .‬ويذيل الحق الية بالقول الكريم‪ } :‬وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ {‪ .‬ما‬
‫هو الرزق؟ الرزق عند القوم‪ :‬هو كل ما ينتفع به؛ فكل شيء تنتفع به هو رزق‪ .‬وطبقا لهذا‬
‫التعريف فاللصوص يعتبرون الحرام رزقا‪ ،‬ولكنه رزق حرام‪.‬‬
‫والناس يقصرون كلمة الرزق على شيء واحد يشغل بالهم دائما وهو " المال " نقول لهم‪ :‬ل‪ ،‬إن‬
‫الرزق هو كل ما يُنتفع به‪ ،‬فكل شيء يكون مجاله النتفاع يدخل في الرزق‪ :‬علمك رزق‪ ،‬وخُُلقُك‬
‫رزق‪ ،‬وجاهك رزق‪ ،‬وكل شيء تنتفع به هو رزق‪ .‬ساعة تقول‪ :‬إن كل ذلك رزق تأخذ قول‬
‫سوَآءٌ }[النحل‪]71 :‬‬
‫ال‪َ {:‬فمَا الّذِينَ ُفضّلُواْ بِرَآدّي رِ ْز ِقهِمْ عَلَىا مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ َفهُمْ فِيهِ َ‬
‫كأن ال يريد من خلقه استطراق أرزاقهم على غيرهم‪ ،‬وكل إنسان متميز وتزيد عنده حاجة عليه‬
‫أن يردها على الناس‪ ،‬لكن الناس ل تفهم الرزق إل على أنه مال‪ ،‬ول يفهمون أنه يطلق على كل‬
‫شيء ينتفعون به‪.‬‬
‫حسَابٍ { لبد أن‬
‫حسَابٍ { كلمة } ِبغَيْرِ ِ‬
‫إذا كان المر كذلك فما معنى } يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ‬
‫نفهمها على أن الحساب يقتضي مُحاسِب‪ ،‬ومُحَاسَب‪ ،‬ومُحَاسَب عليه‪ .‬وعلى هذا يكون } ِبغَيْرِ‬
‫حسَابٍ { ممن ولمن وفي ماذا؟‬
‫ِ‬
‫إنه رزق بغير حساب من ال؛ فقد يرزقك ال على قدر سعيك‪ .‬وربما أكثر‪ ،‬وهو يرزق بغير‬
‫حساب‪ ،‬لنه ل توجد سلطة أعلى منه تقول له‪ :‬لماذا أعطيت فلنا أكثر مما يستحق‪.‬‬
‫وهو يرزق بغير حساب؛ لن خزائنه ل تنفد‪ .‬ويرزق بغير حساب؛ لنه ل يحكمه قانون‪ ،‬وإنما‬
‫يعطي بطلقة القدرة‪ .‬إنه جل وعل يعطي للكافر حتى تتعجب أنت وتقول‪ :‬يعطي الكافر ول‬
‫يعطي المؤمن لماذا؟‬
‫إذا استطاع أحد أن يحاسبه فليسأله لماذا يفعل ذلك؟ إنه يعطي مقابل للحسنة سبعمائة ضعف بغير‬
‫حساب‪ .‬إن الحساب إنما يأتي عندما تأخذ معدودا‪ ،‬فإذا أخذت مثل مائة من ألف فأنت طرحت‬
‫معدودا من معدود فل بد أن ينقص‪ ،‬وعندما تراه ينقص فأنت تخاف من العطاء‪.‬‬

‫لكن ال بخلف ذلك‪ ،‬إنه يعطي معدودا من غير معدود‪.‬‬


‫إذن ساعة تقرأ } ِبغَيْرِ حِسَابٍ { فقل إن الحساب إن كان واقعا من ال على الغير‪ ،‬فهو ل يعطي‬
‫على قدر العمل بل يزيد‪ ،‬ولن يحاسب نفسه ولن يُحاسبه أحد‪ {.‬مَا عِن َدكُمْ يَنفَدُ َومَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }‬
‫[النحل‪]96 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن } يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ { تجعل كل إنسان يلزم أدبه إن رأى غيره قد رُزق أكثر منه؛‬
‫لنه ل يعلم حكمة ال فيها‪ .‬وهناك أناس كثيرون عندما يعطيهم ال نعمة يقولون‪ " :‬ربنا أكرمنا‪،‬‬
‫وعندما يسلبهم النعمة يقولون‪ " :‬ربنا أهاننا " ‪ ،‬وفي ذلك يقول سبحانه وتعالى‪ {:‬فََأمّا الِنسَانُ إِذَا‬
‫لهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْزقَهُ فَيَقُولُ رَبّي‬
‫لهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَ ُه وَ َن ّعمَهُ فَ َيقُولُ رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّآ إِذَا مَا ابْتَ َ‬
‫مَا ابْتَ َ‬
‫أَهَانَنِ }[الفجر‪]16-15 :‬‬
‫كل‪ .‬مخطئ أنت يا مَن اعتبرت النعمة إكراما من ال‪ ،‬وأنت مخطئ أيضا يا مَن اعتبرت سلب‬
‫النعمة إهانة من ال؛ إن النعمة ل تكون إكراما من ال إل إذا وفقك ال في حسن التصرف في‬
‫هذه النعمة‪ ،‬وحق النعمة في كل حال يكون بشكر المنعم‪ ،‬وعدم النشغال بها عمن رزقك إياها‪.‬‬
‫حسَابٍ‬
‫ونحب أن نفهم ـ أيضا ـ أن قول ال سبحانه وتعالى‪ } :‬وَاللّهُ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ‬
‫{ ينسحب على معنى آخر‪ ،‬وهو أنه ـ سبحانه ـ ل يحب أن ُتقَدّر أنت رزقك بحساب حركة‬
‫عملك فقط؛ فحساب حركة عملك قد يخطئ‪ .‬مثال ذلك الفلح الذي يزرع ويقدر رزقه فيما يُنْتَجُ‬
‫من الرض‪ ،‬وربما جاءت آفة تذهب بكل شيء كما نلحظ ونشاهد‪ ،‬ويصبح رزق الفلح في ذلك‬
‫الوقت من مكان آخر لم يدخل في حسابه أبدا‪.‬‬
‫ولهذا فإن على النسان أن يعمل في السباب‪ ،‬ولكنه ل يأخذ حسابا من السباب‪ ،‬ويظن أن ذلك‬
‫هو رزقه؛ لن الرزق قد يأتي من طريق لم يدخل في حسابك ول في حساباتك‪ ،‬وقال الحق في‬
‫سبُ }[الطلق‪]3-2 :‬‬
‫ث لَ يَحْ َت ِ‬
‫جعَل لّهُ َمخْرَجا * وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ حَ ْي ُ‬
‫ذلك‪َ {:‬ومَن يَتّقِ اللّهَ يَ ْ‬
‫وبعد ذلك يقول لنا الحق سبحانه وتعالى في آية أخرى ما يوضح لنا ويبين قضية العقيدة وموكب‬
‫الرسالت في الرض‪ ،‬بداية وتسلسلً وتتابعا في رسل متعاقبين‪ ،‬فقال الحق سبحانه وتعالى‪} :‬‬
‫ن َومُنذِرِينَ‪{ ...‬‬
‫كَانَ النّاسُ ُأمّةً وَاحِ َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ‬

‫(‪)215 /‬‬

‫حكُمَ بَيْنَ‬
‫ن وَأَنْ َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِ َي ْ‬
‫ن َومُنْذِرِي َ‬
‫كَانَ النّاسُ ُأمّةً وَاحِ َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ‬
‫النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُوا فِيهِ َومَا اخْتََلفَ فِيهِ إِلّا الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيًا بَيْ َن ُهمْ َفهَدَى‬
‫اللّهُ الّذِينَ َآمَنُوا ِلمَا اخْتََلفُوا فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (‪)213‬‬

‫ولقائل أن يقول‪ :‬إذا كان الناس أمة واحدة‪ ،‬وقد رتب ال بعث وإرسال النبيين على كونهم أمة‬
‫واحدة؛ فمن أين إذن جاء الخلف إلى حياة الناس؟ ونقول‪ :‬لبد أن تُحمل هذه الية المجملة على‬
‫ح َدةً فَاخْتََلفُو ْا وََلوْلَ كَِلمَةٌ سَ َبقَتْ مِن‬
‫آية أخرى مفصلة في قوله تعالى‪َ {:‬ومَا كَانَ النّاسُ ِإلّ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫رّ ّبكَ َل ُقضِيَ بَيْ َنهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَِلفُونَ }[يونس‪]19 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لبد لنا إذن أن نأخذ هذه الية في ظل آية سورة يونس؛ فالحق سبحانه وتعالى ساعة يخاطب‬
‫العقل البشري يريد أن بخاطبه خطابا يوقظ فيه عقله وفكره حتى يستقبل كلم ال بجماع تفكيره‪،‬‬
‫وأن يكون القرآن كله حاضرا في ذهنك‪ ،‬ويخدم بعضه بعضا‪.‬‬
‫ح َدةً فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ }‪ .‬فقبل بعث ال النبيين كان الناس أمة واحدة يتبعون‬
‫{ كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫آدم‪ ،‬وقد بلغ الحق آدم المنهج بعد أن اجتباه وهداه‪ ،‬وعلم آدم أبناءه منهج ال‪ ،‬فظل الناس من‬
‫أبنائه على إيمان بعقيدة واحدة‪ ،‬ولم ينشأ عندهم ما يوجب اختلف أهوائهم‪ ،‬فالعالم كان واسعا‪،‬‬
‫وكانت القلة السكانية فيه هي آدم وأولده فقط‪ ،‬وكان خير العالم يتسع للموجودين جميعا‪ .‬إذن ل‬
‫تطاحن على شيء‪ ،‬ومن يريد شيئا يأخذه‪ ،‬وكانت الملكية مشاعة للجميع؛ لنه لم تكن هناك ملكية‬
‫لحد؛ فمن يريد أن يبني بيتا فله أن يبنيه ولو على عشرين فدانا‪ ،‬ومن يريد أن يأكل فاكهة أو‬
‫يأخذ ثمرا من أي بستان فله أن يأخذ ما يريد‪.‬‬
‫ل ويتركها‬
‫والمثال على ذلك في حياتنا اليومية‪ ،‬هناك رب السرة الذي يأتي بعشرين كيلو برتقا ً‬
‫أمام أولده‪ ،‬وكل طفل يريد برتقالة أو أكثر فهو يأخذ ما يريد بل حرج‪ ،‬لكن لو اشترى رب‬
‫البيت كيلو برتقالً واحدا فكل طفل يأخذ برتقالة واحدة فقط‪.‬‬
‫إذن كان الناس أمة واحدة‪ ،‬أي لم توجد الطماع‪ ،‬ولم يوجد حب الستئثار بالمنافع مما يجعلهم‬
‫يختلفون‪ .‬إذن فأساس الختلف هو الطمع في متاع الدنيا‪ ،‬ومن هنا ينشأ الهوى‪.‬‬
‫وكان من المفروض في آدم عليه السلم بعد أن بلغه ال المنهج أن يبلغه لولده‪ ،‬وأن يتقبل أبناؤه‬
‫المنهج‪ ،‬ولكن بعض أولده تمرد على المنهج‪ ،‬ونشأ حب الستئثار من ضيق ال ُمسْتَأثر والمُنْتَفع‬
‫به‪ ،‬ومن هنا نشأت الخلفات‪ .‬ولنا في قصة هابيل وقابيل ما يوضح ذلك‪ {:‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ‬
‫لقْتُلَ ّنكَ قَالَ إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ‬
‫ن الخَرِ قَالَ َ‬
‫ءَادَمَ بِا ْلحَقّ ِإذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَ ُتقُ ّبلَ مِن أَحَ ِد ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِ َ‬
‫ا ْلمُ ّتقِينَ }[المائدة‪]27 :‬‬
‫ونعرف أن آدم وحواء هما أصل الوجود‪ ،‬حواء تلد توأمين في كل مرة‪ ،‬وأراد آدم أن يزاوجهم‬
‫فكيف تكون المزاوجة وهم جميعا أبناؤه وأبناء عصر واحد؟ وكل منهم يعرف أن الذي أمامه هو‬
‫أخوه‪.‬‬

‫لقد واجه الشرع تلك المشكلة في ذلك الوقت‪ ،‬واعتبر أن البعد هو بعد البطن‪ ،‬أي أن الذي يولد‬
‫مع أخيه في بطن واحد فهو أخوه‪ ،‬أما الذي وُلد بعده أو قبله فكأنه ليس أخاه‪ ،‬لذلك كان آدم‬
‫وحواء يبادلن زواج البناء حسب ابتعاد البطون‪ ،‬وكان الغرض من هذا التباعد أن تكون المرأة‬
‫وكأنها أجنبية عن أخيها‪.‬‬
‫روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي ال عنهما‪ " :‬أن آدم كان يزوج ذكر كل بطن بأنثى‬
‫الخر‪ ،‬وأن هابيل أراد أن يتزوج أخت قابيل وكان أكبر من هابيل وأخت قابيل أحسن فأراد قابيل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أن يستأثر بها على أخيه‪ .‬وأمره آدم عليه السلم أن يزوجه إياها فأبى‪ ،‬فأمرهما أن يقربا قربانا‬
‫فقرب هابيل جذعة سمينة وكان صاحب غنم‪ ،‬وقرب قابيل حزمة من زرع من رديء زرعه‬
‫فنزلت نارُ فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل‪ ،‬فغضب وقال‪ :‬لقتلنك حتى ل تنكح أختي‪،‬‬
‫فقال‪ } :‬إِ ّنمَا يَ َتقَبّلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ {‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬كان ميلد أول خلف بين البشر حينما تنافس اثنان للستئثار بمنفعة ما‪ ،‬وكان هذا مثالً‬
‫واضحا لما يمكن أن يحدث عندما تضيق المنافق عن الطماع‪.‬‬
‫ح َدةً { لكنهم اختلفوا لحظة الستئثار بالمنافع‪ ،‬وأصبح لكل إنسان هوى‪ .‬ولو‬
‫} كَانَ النّاسُ ُأمّ ًة وَا ِ‬
‫شاء ال أن يجعل منهجه لدم منهجا دائما إلى أن تقوم الساعة لفعل‪ .‬لكنه سبحانه برحمته يعلم أنه‬
‫خلقنا‪ ،‬ويعلم أننا نعقل مرة ونسهو مرة‪ ،‬ونلتزم مرة‪ ،‬ونهمل مرة أخرى‪ ،‬فشاء ال أن يواصل‬
‫ن َومُنذِرِينَ {‪ .‬ومهمة "‬
‫لخلقه مواكب الرسل‪ .‬ولذلك يأتي قول الحق‪ } :‬فَ َب َعثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِي َ‬
‫التبشير والنذار " هي أن يتذكر الناس أن هناك جنة ونارا‪ ،‬ولذلك يبشر كل رسول مَنْ آمن من‬
‫ن كفر من هؤلء القوم بالنار‪ .‬ويذكرنا الحق سبحانه بأنه أشهدنا على أنفسنا‬
‫قومه بالجنة‪ ،‬وينذر مَ ْ‬
‫سهِمْ‬
‫شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ‬
‫خذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ‬
‫على وحدانيته فقال‪ {:‬وَإِذْ أَ َ‬
‫شهِدْنَآ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا َ‬
‫أَلَ ْ‬
‫ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }[العراف‪]173-172 :‬‬
‫أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ‬
‫يخبر سبحانه أنه استخرج ذرية آدم من أصلبهم شاهدين على أنفسهم أن ال ربهم ومليكهم‪ ،‬وأنه‬
‫ل إله إل هو كما أنه فطرهم على ذلك‪ :‬ثم بعد أن أخرجهم إلى الوجود من آدم جاء للخلق الول‬
‫وهو آدم وأعطاه المنهج وكانت الهواء غير موجودة‪ ،‬فظل المنهج مطبقا بين بني آدم‪ .‬وبعد ذلك‬
‫تعددت الهواء‪ ،‬وتعدد الهواء إنما ينشأ عن الستئثار بالمنافع‪ ،‬وذلك بسبب الخوف من استئثار‬
‫الغير‪ ،‬فنشأ حب الذات‪ ،‬ولما كانت المنافع ل تتسع لطماع الناس فقد استشرى حب الستئثار‬
‫والتملك‪.‬‬
‫ونجد هذه المسألة واضحة حينما تتوافر السلع وتغمر السواق‪.‬‬

‫وتستطيع أن تشتري أي سلعة في أي وقت تحب‪ ،‬وتجدها متوافرة‪ ،‬عند ذلك ل توجد أزمة‪ ،‬لكن‬
‫الزمة تنشأ عندما تقل الكميات المعروضة من السلع عن حاجة الناس‪ ،‬فيتكالب الناس على‬
‫الستئثار بها‪ .‬وهكذا نعرف أن المنافع عندما توجد‪ ،‬وتكون دون الطماع هنا تتولد المشكلت‪.‬‬
‫ومن رحمة الحق سبحانه وتعالى بالخلق‪ ،‬ومن تمام علمه سبحانه بضعف البشر أمام أهوائهم‬
‫حقّ‬
‫وأمام استئثارهم بالمنافع‪ ،‬أرسل الرسل إلى البشر ليبشروا ولينذروا‪ } .‬وَأَن َزلَ َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫ح ُكمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتََلفُواْ فِي ِه َومَا اخْتََلفَ فِيهِ ِإلّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِن َب ْعدِ مَا جَآءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ { فكأن‬
‫لِيَ ْ‬
‫الحق لم يشأ أن يترك البشر ليختلفوا‪ ،‬وإنما الغفلة من الناس هي التي أوجدت هذا الختلف‪} .‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مِن َبعْدِ مَا جَآءَ ْتهُمُ الْبَيّنَاتُ َبغْيا بَيْ َن ُهمْ { ومن هذا القول الحكيم نعرف أن الختلف ل ينشأ إل من‬
‫إرادة البغي‪ ،‬والبغي هو أن يريد النسان أن يأخذ غير حقه‪ .‬وما دام كل منا يريد أن يأخذ غير‬
‫حقه فل بد أن ينشأ البغض‪.‬‬
‫حقّ بِإِذْ ِنهِ { أي أن ال يهدي الذين آمنوا من كل قوم‬
‫} َفهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ ِلمَا اخْتََلفُواْ فِيهِ مِنَ الْ َ‬
‫بالرسول الذي جاء مبشرا ومنذرا وحامل منهج الحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه‪ .‬وبذلك‬
‫يظل المنهج سائدا إلى أن تمضي فترة طويلة تغفل فيها النفوس‪ ،‬وتبدأ من خللها المطامع ويحدث‬
‫النسيان لمنهج ال‪ ،‬وتنشأ الهواء‪ ،‬فيرسل ال الرسل ليعيدوا الناس إلى المنهج القويم‪ ،‬واستمر هذا‬
‫المر حتى جاءت رسالة السلم خاتمة وبعث ال سيدنا محمدا صلى ال عليه وسلم للدنيا كافة‪،‬‬
‫وبذلك ضمن لنا الحق سبحانه وتعالى أل ينشأ خلف في الصل؛ لننا لو كنا سنختلف في أصل‬
‫العقيدة لجرى علينا ما جرى على المم السابقة‪ .‬هم اختلفوا فأرسل ال لهم رسل مبشرين‬
‫ومنذرين‪ ،‬لكن أمة محمد صلى ال عليه وسلم أراد الحق لها منهجا واضحا يحميها من الختلف‬
‫في أصل العقيدة‪ .‬وإن اختلف الناس من أمة محمد صلى ال عليه وسلم فعليهم أن يسترشدوا‬
‫بالمنهج الحق المتمثل في القرآن والسنة‪.‬‬
‫ونعرف أن من مميزاته صلى ال عليه وسلم أنه خاتم النبياء بحق‪ ،‬ولن تجد في الموكب الرسالي‬
‫رسول أوكل له ال أن ينشئ حكما جديدا لم ينزل في كتاب ال إل سيدنا محمدا صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ .‬لقد أعطى ال سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم التفويض في أن يشرع عن ال؛ في‬
‫خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ }[الحشر‪]7 :‬‬
‫ظل عصمة ال له فقد قال سبحانه‪َ {:‬ومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ‬
‫إنه أمر واضح للمؤمنين بأن يأتمروا بأمر الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لن ما يأمرهم به‬
‫فيه الصلح والخير‪ ،‬وأن ينتهوا عما ينهاهم عنه؛ لنه صلى ال عليه وسلم إنما ينهي عن المور‬
‫التي ليس فيها خير لمة المسلمين‪.‬‬

‫ويأمر الحق جل وعل جماعة المسلمين بطاعة الرسول صلى ال عليه وسلم لنها من طاعة ال‪،‬‬
‫حفِيظا }[النساء‪:‬‬
‫فيقول جل وعل‪ {:‬مّنْ ُيطِعِ الرّسُولَ َفقَدْ َأطَاعَ اللّ َه َومَن َتوَلّىا َفمَآ أَ ْرسَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫‪]80‬‬
‫وهكذا نرى أن طاعة الرسول صلى ال عليه وسلم من طاعة ال‪ ،‬ومن يعرض عن طاعته فله‬
‫العقاب في الخرة‪ .‬ويؤكد الحق سبحانه على طاعته وطاعة الرسول صلى ال عليه وسلم فيقول‪{:‬‬
‫حبّ ا ْلكَافِرِينَ }[آل عمران‪]32 :‬‬
‫ُقلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ فإِن َتوَّلوْاْ فَإِنّ اللّ َه لَ يُ ِ‬
‫هكذا نعرف أن طاعة الرحمن تستوجب طاعة الرسول صلى ال عليه وسلم‪ .‬إذن فقد فوض ال‬
‫رسوله أن يُشَرّع للبشر‪ .‬وهو ـ عليه الصلة والسلم ـ ما ينطق عن الهوى‪.‬‬
‫وميزة أخرى لمة المسلمين هي أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ترك لنا حق الجتهاد في‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المسائل التي لم يأتي فيها نص في القرآن ول من السنة‪ ،‬أو ورد فيها نص ولكنه يحتمل أكثر من‬
‫معنىً‪ ،‬ومعنى ذلك أن الحق سبحانه قد أمِنَ أمة محمد عليه الصلة والسلم بأن تصل بالجتهاد‬
‫لما يحسم أي خلف‪ ،‬وأن أي اختلف لن يصل إلى الجوهر‪ .‬فلو علم ال أزل أننا سوف نختلف‬
‫اختلفا في صحيح العقيدة لكان قد أرسل لنا رسلً‪.‬‬
‫ونحن نجد كل الختلفات بين طوائف المسلمين ل تخرج عن إطار فهم نصوص القرآن أو‬
‫أحاديث رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكل مسلم يريد أن يستقي دليله من الكتاب والسنة‪.‬‬
‫ومعنى ذلك أننا لن نترك الصل‪ ،‬ولكن كل منا يريد أن يأخذ الحكم الصحيح بل إننا نجد أن بعضا‬
‫من المسلمين الذين لم يجدوا دليلهم من القرآن والسنة قد حاولوا أن يضعوا حديثا ينسبونه إلى‬
‫رسول ال ليبنوا عليه الحكم الذي يريدونه‪ .‬وهؤلء مأواهم النار؛ لنهم نطقوا بلسان رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ما لم يقله الرسول الكريم لقد كذبوا عليه‪ ،‬ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ‬
‫مقعده من النار‪.‬‬
‫إذن فكلنا نلتقي حول القرآن والسنة والنبوية‪ ،‬أين المشكلة إذن؟ المشكلة هي أن يكون الناس‬
‫أذكياء وعلى علم حتى يعرفوا هل المأخوذ من القرآن مقبول أو غير مقبول؟ وهل الحاديث‬
‫المستند إليها بمقاييس الجرح والتعديل موجودة أو ل؟ إذن فحصافة الجتهاد والرأي عند أمة‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم جعلتهم مأمونين على كل شيء في المنهج‪ .‬وأن الخلف فيما بينهم لم‬
‫يصل إلى ما وصلت إليه المم السابقة‪ ،‬ولكن عليهم أن ينتهوا ويرتقوا حتى يميزوا المور التي‬
‫تكون من غير معطيات القرآن‪ ،‬ثم يريد قوم أن يحملوها على القرآن‪.‬‬
‫إن عليهم أل يفسروا القرآن حسب أهوائهم بل حسب ما جاء به الرسول صلى ال عليه وسلم ـ‬
‫حتى يكون هواهم تبعا لما جاء به ـ وعلينا أن ننتبه إلى أن ال قد أمِنَ أمة محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم على القرآن وعلى رسالة السلم‪ ،‬والقرآن ورسالة السلم لن يصيبها التغيير أو التحريف‪،‬‬
‫وكل ما هو مطلوب أن يكون المؤمنون أهل دقة وفطنة‪ ،‬فإذا أراد إنسان أن يستغل أية سلطة‬
‫زمنية أو أن يجيء بحديث موضوع ليروج لباطله فعلى المسلمين أن يكشفوا سوء مقصد هذا‬
‫النسان‪.‬‬

‫فنحن نفهم أن ال شاء بالسلم حياة القيم‪ ،‬كما شاء بالماء حياة المادة‪ ،‬والماء حتى يظل ماء فل‬
‫بد أن يظل بل طعم ول لون ول رائحة‪ ،‬فإذا أردت أن تجعل له طعما خرج عن خاصيته؛ ربما‬
‫أصبح مشروبا أو عصيرا أو غير ذلك‪ ،‬وقد يحب بعض الناس نوعا من العصير‪ ،‬لكن كل الناس‬
‫يحبون الماء؛ لن به تُصان الحياة‪ ،‬فإذا رأيت دينا قد تلون بجماعة أو بهيئة أو بشكل فاعلم أن‬
‫ذلك خارج عن نطاق السلم‪ .‬وكل جماعة تريد أن تصبغ دين ال بلون إنما يخرجونه عن‬
‫طبيعته الصلية‪ ،‬ولذلك نجد أمتنا في مصر قد صانت علوم السلم بالزهر الشريف وكل عالم‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من علماء السلم في أي بقعة من بقاع الرض مدين للزهر الشريف‪ .‬ونجد أننا نحب آل بيت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولكن ل نجد عندنا متشيعا واحدا‪ ،‬وفي الوقت نفسه ل نجد واحدا‬
‫حسَنُ‬
‫يكره أبا بكر وعمر‪ ،‬وهذا هو السلم الذي ل يتلون؛ لنه إسلم الفطرة‪ {.‬صِ ْبغَةَ اللّ ِه َومَنْ أَ ْ‬
‫مِنَ اللّ ِه صِ ْبغَةً }[البقرة‪]138 :‬‬
‫فالذين يحاولون في زمان من الزمنة أن يصبغوا الدين بشكل أو بطقوس أو بلون أو برسوم أو‬
‫هيئة خاصة نقول لهم‪ :‬أنتم تريدون أن تُخرجوا السلم عن عموميته الفطرية التي أرادها ال له‪،‬‬
‫ولبد أن تقفوا عند حد الفطرة السلمية‪ ،‬ول تلونوا السلم هذا التلوين‪ .‬وبذلك نحقق قول ال‪} :‬‬
‫َفهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ ِلمَا اخْتََلفُواْ فِيهِ مِنَ ا ْلحَقّ بِِإذْنِ ِه وَاللّهُ َيهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ‬
‫{ ونعرف أن الهداية معناها المر الموصل للغاية‪ ،‬وحين ترد الهداية من ال سبحانه وتعالى فعلينا‬
‫أن نفهم أن الهداية من ال ترد على معنيين‪ :‬المعنى الول هو الدللة على الطريق الموصل‪،‬‬
‫والمعنى الثاني هو المعونة‪.‬‬
‫وضربت من قبل المثل بشرطي المرور الذي يدلك على الطريق الموصل إلى الغاية التي تريدها‪،‬‬
‫فإن احترمت كلمه ونفذته فهو يعطي لك شيئا من المعونة‪ ،‬بأن يسير معك أو يوصلك إلى المكان‬
‫الذي تريد‪ .‬فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وله المثل العلى؟ إنه يهدي الجميع بمعنى يدلهم‪،‬‬
‫فالذين آمنوا به وأحبوه يهديهم هداية أخرى‪ ،‬وهي أن يعينهم على ما أقاموا نفوسهم فيه‪ .‬وبعضنا‬
‫يدخله العجب عندما يسمع قول الحق‪:‬‬

‫عقَةُ ا ْلعَذَابِ ا ْلهُونِ ِبمَا كَانُواْ‬


‫خذَ ْتهُ ْم صَا ِ‬
‫{ وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَاهُمْ فَاسْ َتحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى ا ْلهُدَىا فَأَ َ‬
‫َيكْسِبُونَ * وَنَجّيْنَا الّذِينَ آمَنُو ْا َوكَانُواْ ي ّتقُونَ }[فصلت‪]18-17 :‬‬
‫بعضنا يتعجب متسائل‪ :‬كيف يقول سبحانه‪ :‬إنه هداهم‪ ،‬ثم استحبوا العمى على الهدى؟ ونقول‪ :‬إن‬
‫" هداهم " جاءت هنا بمعنى " دلّهم " لكنهم استحبوا العمى على الهدى‪ ،‬أما الذين استجابوا لهداية‬
‫الدللة وآمنوا فقد أعانهم ال وأنجاهم؛ لنهم عرفوا تقواه سبحانه‪.‬‬
‫ونحن نسمع بعض الناس يقولون‪ :‬ما دام ال يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم فما ذنب الذي لم‬
‫يهتد؟ نقول‪ :‬إن الحق يهدي من شاء إلى صراط مستقيم؛ أي يبين الطريق إلى الهداية‪ ،‬فمن يأخذ‬
‫بهداية الدللة يزده ال بهداية المعونة وييسر له ذلك المر‪ .‬ونحن نعلم أن ال نفى الهداية عن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم في آية‪ ،‬وأثبتها له في آية أخرى برغم أنه فعل واحد لفاعل واحد‪.‬‬
‫ك لَ َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْبتَ }[القصص‪:‬‬
‫قال الحق نافيا الهداية عن الرسول صلى ال عليه وسلم‪ {:‬إِ ّن َ‬
‫‪]56‬‬
‫والحق يذكر للرسول صلى ال عليه وسلم الهداية في موضع آخر فيقول له‪ {:‬وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي ِإلَىا‬
‫صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[الشورى‪]52:‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومن هنا نفهم أن الهداية نوعان‪ :‬هداية الدللة‪ ،‬فهو " يهدي " أي يدل الناس على طريق الخير‪.‬‬
‫وهناك هداية أخرى معنوية‪ ،‬وهي من ال ول دخل للرسول صلى ال عليه وسلم فيها‪ ،‬وهي هداية‬
‫المعونة‪.‬‬
‫إذن قوله تعالى‪ } :‬وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ { معناها‪ :‬أنك تدل على الصراط المستقيم‪،‬‬
‫ولكن ال هو الذي يعين على هذه الهداية‪ } .‬وَاللّهُ َيهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ { فعلينا أن‬
‫نستحضر اليات التي شاء ال أن يهدي فيها مؤمنا وأل يهدي آخر‪ .‬ويقول الحق سبحانه‪ {:‬وَاللّهُ‬
‫لَ َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة‪]264 :‬‬
‫معنى ذلك أن ال ل يهدي إل الذين آمنوا به‪ .‬وهدايته للمؤمنين تكون بمعونتهم على الستمرار‬
‫في الهداية؛ فالكل قد جاءته هداية الدللة ولكن الحق يختص المؤمنين بهداية المعونة‪ .‬والحق يقول‬
‫شفَا‬
‫ضوَانٍ خَيْرٌ أَم مّنْ َأسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىا َ‬
‫علَىا َتقْوَىا مِنَ اللّ ِه وَ ِر ْ‬
‫في ذلك‪َ {:‬أ َفمَنْ َأسّسَ بُنْيَانَهُ َ‬
‫جهَنّمَ وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }[التوبة‪]109 :‬‬
‫جُ ُرفٍ هَارٍ فَا ْنهَارَ ِبهِ فِي نَارِ َ‬
‫إن الحق يوضح لنا المقارنة بين الذي يؤسس بنيان حياته على تقوى من ال ابتغاء الخير والجنة‪،‬‬
‫وهو الذي جاءته هداية الدللة فاتبعها‪ ،‬فجاءته هداية المعونة من ال‪ .‬وبين ذلك الذي يؤسس بنيان‬
‫حياته على حرف واد متصدع آيل للسقوط فسقط به البنيان في نار جهنم‪ ،‬إنه الذي جاءته هداية‬
‫الدللة فتجاهلها‪ ،‬فلم تصله هداية المعونة‪ ،‬ذلك هو الظالم المنافق الذي يريد السوء بالمؤمنين‪.‬‬
‫والحق تبارك وتعالى يقول‪ {:‬اسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ َأ ْو لَ َتسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ إِن تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ سَ ْبعِينَ مَ ّرةً فَلَن َي ْغفِرَ‬
‫اللّهُ َلهُمْ ذاِلكَ بِأَ ّنهُمْ َكفَرُواْ بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَاللّهُ لَ َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلفَاسِقِينَ }[التوبة‪]80 :‬‬
‫إن الحق يبلغ رسوله أنه مهما استغفر للمنافقين الذين يُظهرون السلم‪ ،‬ويبطنون الكفر فلن يغفر‬
‫ال لهم‪ ،‬لماذا؟ لن هداية الدللة قد جاءت لهم فادعوا أنهم مؤمنون بها‪ ،‬ولم تصلهم هداية‬
‫المعونة؛ لنهم يكفرون بال ورسوله‪ ،‬وال ل يهدي مثل هؤلء القوم الفاسقين الخارجين بقولهم‬
‫حسِبْتُمْ أَن َتدْخُلُواْ الْجَنّةَ وََلمّا يَأْ ِتكُم مّ َثلُ الّذِينَ خََلوْاْ مِن‬
‫عن منهج ال‪ .‬وبعد ذلك يقول الحق‪َ } :‬أمْ َ‬
‫قَبِْلكُم‪{ ...‬‬

‫(‪)216 /‬‬

‫أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَنْ تَ ْدخُلُوا ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُمْ مَ َثلُ الّذِينَ خََلوْا مِنْ قَبِْلكُمْ مَسّ ْتهُمُ الْبَ ْأسَا ُء وَالضّرّا ُء وَزُلْزِلُوا‬
‫ل وَالّذِينَ َآمَنُوا َمعَهُ مَتَى َنصْرُ اللّهِ أَلَا إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ (‪)214‬‬
‫حَتّى َيقُولَ الرّسُو ُ‬

‫أي أظننتم أنكم تدخلون الجنة بدون ابتلءات تحدث لكم؟ إن الحق سبحانه ينفي هذا الظن ويقول‪:‬‬
‫ليس المر كذلك‪ ،‬بل لبد من تحمل تبعات اليمان‪ ،‬فلو كان اليمان بالقول لكان المر سهل‪ ،‬لكن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ب اليمان هو العمل‪ ،‬أي حمل النفس على منهج اليمان‪ .‬لقد استكبر بعض من الذين‬
‫ص ِع ُ‬
‫الذي ُي َ‬
‫عاصروا محمدا صلى ال عليه وسلم أن يقولوا‪ " :‬ل إله إل ال " لنهم فهموا مطلوبها؛ لن المر‬
‫لو اقتصر على مجرد كلمة تقال بل رصيد من عمل يؤديها‪ ،‬لكان أسهل عليهم أن يقولوها‪ ،‬لكنهم‬
‫كانوا ل يقولون إل الكلمة بحقها‪ ،‬ولذلك أيقنوا تماما أنهم لو قالوا‪ " :‬ل إله إل ال " لنتهت كل‬
‫معتقداتهم السابقة‪ ،‬لكنهم لم يقولوها؛ لنهم أبوا وامتنعوا عن القيام بحقها وأداء مطلوبها‪.‬‬
‫إن الحق يقول‪ { :‬أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَن َتدْخُلُواْ ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُم مّ َثلُ الّذِينَ خََلوْاْ مِن قَبِْلكُم مّسّ ْتهُمُ الْبَ ْأسَآءُ‬
‫وَالضّرّآءُ } فما العلقة بين هذه الية وما سبق من اليات؟ لقد كان الحديث عن بني إسرائيل‬
‫الذين حسبوا أنهم يدخلون الجنة بدون أن يبتلوا‪ ،‬وصارت لهم أهواء يحرفون بها المنهج‪ .‬أما أمة‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فعليهم أن يستعدوا للبتلء‪ ،‬وأن يعرفوا كيف يتحملون الصعاب‪.‬‬
‫ونحن نعرف في النحو أن هناك أدوات نفي وجزم‪ .‬ومن أدوات النفي " لم " و " لما " فعندما‬
‫نقول‪ " :‬لم يحضر زيد " فهذا حديث في الماضي‪ ،‬ومن الجائز أن يحضر الن‪ .‬ولكن إذا قلت‪" :‬‬
‫لما يحضر زيد " فالنفي مستمر حتى الن‪ ،‬أي أنه لم يأتي حتى ساعة الكلم لكن حضوره ومجيئه‬
‫خلِ‬
‫ت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ َأسَْلمْنَا وََلمّا َيدْ ُ‬
‫متوقع‪ .‬ولذلك يقول الحق‪ {:‬قَاَل ِ‬
‫الِيمَانُ فِي قُلُو ِبكُمْ }[الحجرات‪]14 :‬‬
‫وعندما سمع العراب ذلك قالوا‪ :‬نحمد ال‪ ،‬فمازال هناك أمل أن نؤمن‪ .‬لقد أراد ال أن يكون‬
‫العراب صادقين مع أنفسهم‪ ،‬وقد نزلت هذه الية كما يقول بعض المفسرين في قوم من بني‬
‫أسد‪ ،‬جاءوا إلى المدينة في سنة جدب‪ ،‬وأعلنوا الشهادة لرسول ال صلى ال عليه وسلم وقالوا‪" :‬‬
‫ل إله إل ال محمد رسول ال " ‪ ،‬وكانوا يطلبون الصدقة‪ ،‬ويحاولون أن يمنوا على الرسول صلى‬
‫ال عليه وسلم بأنهم لم يقاتلوه كما فعل غيرهم‪ ،‬فجاءت هذه الية لتوضح أن اليمان درجة أرقى‬
‫من إظهار السلم‪ .‬لكن ذلك ل يعني أنهم منافقون‪ ،‬ولذلك يوضح القرآن الكريم أن إظهار‬
‫السلم ل يعني اليمان؛ لن اليمان عملية قلبية‪.‬‬
‫لقد أعلنوا الخضوع ل‪ ،‬وأرادوا أن يقوموا بأعمال المسلمين نفسها لكن ليس هذا هو كل اليمان‪.‬‬
‫وهم قالوا‪ { :‬آمَنّا } فقال الحق لهم‪ :‬ل لم تؤمنوا وكونوا صادقين مع أنفسكم فاليمان عملية قلبية‪،‬‬
‫ول يقال إنك آمنت؛ لنها مسألة في قلبك‪ ،‬ولكن قل أسلمت‪ ،‬أي خضعت وفعلت مثلما يفعل‬
‫المؤمنون‪ ،‬فهل فعلت ذلك عن إيمان أو غير إيمان‪.‬‬

‫حسِبْتُمْ أَن تَ ْدخُلُواْ الْجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُم مّ َثلُ الّذِينَ خََلوْاْ‬
‫إن ذلك هو موضوع آخر‪ .‬هنا تقول الية‪َ } :‬أمْ َ‬
‫مِن قَبِْلكُم { أي ل يمكن أن تدخلوا الجنة إل إذا جاءكم من البتلء مثل من سبقكم من المم ولبد‬
‫أن تُفتنوا وأن تمحصوا ببأساء وضراء‪ ،‬ومن يثبت بعد ذلك فهو يستحق أن يدخل الجنة‪ ،‬فل‬
‫تظنوا أنكم أمة متميزة عن غيركم في أمر الختبار‪ ،‬فأنتم لن تدخلوا الجنة بل ابتلء‪ ،‬بل على‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العكس سيكون لكم البتلء على قدر النعماء‪.‬‬
‫أنتم ستأخذون مكانة عالية في المم ولذلك لبد أن يكون ابتلؤكم على قدر مكانتكم‪ ،‬فإن كنتم‬
‫ذوي مكانة عالية وستحملون الرسالة الخاتمة وتنساحون في الدنيا فل بد أن يكون ابتلؤكم على‬
‫قدر عظمة مسئوليتكم ومهمتكم‪.‬‬
‫} وََلمّا يَأْ ِتكُم مّ َثلُ الّذِينَ خََلوْاْ مِن قَبِْلكُم مّسّ ْتهُمُ الْبَأْسَآ ُء وَالضّرّآ ُء وَزُلْزِلُواْ { إن قول ال‪ } :‬وََلمّا‬
‫{ يفيد بأن ما حدث للذين من قبلهم من ابتلء عليهم سيقع على المؤمنين مثله‪.‬‬
‫وعندما نتأمل قوله الحق‪ } :‬وَزُلْزِلُواْ { فأنت تكتشف خاصية فريدة في اللغة العربية‪ ،‬هذه الخاصية‬
‫هي تعبير الصوت عن واقعية الحركة‪ ،‬فكلمة " زلزلوا " أصلها زلزلة‪ ،‬وهذه الكلمة لها مقطعان‬
‫هما " زل‪ ،‬زل "‪ .‬و " زل "‪ :‬أي سقط عن مكانه‪ ،‬أو وقع من مكانه‪ ،‬والثانية لها المعنى نفسه‬
‫أيضا‪ ،‬أي وقع من مكانه‪ ،‬فالكلمة تعطينا معنى الوقوع المتكرر‪ :‬وقوع أول‪ ،‬ووقوع ثانٍ‪ ،‬والوقوع‬
‫الثاني ليس امتدادا للوقوع الول؛ ولكنه في اتجاه معاكس‪ ،‬فلو كانت في اتجاه واحد لجاءت رتيبة‪،‬‬
‫إن الزلة الثانية تأتي عكس الزلة الولى في التجاه‪ ،‬فكأنها سقوط جهة اليمين مرة‪ ،‬وجهة الشمال‬
‫مرة أخرى‪.‬‬
‫خلّ "‬
‫ل " الولى جهة اليمين‪ ،‬و " َ‬
‫خّ‬‫ومثل ذلك " الخلخلة " أي حركة في اتجاهين معاكسين " َ‬
‫الثانية جهة اليسار‪ ،‬وبهذا تستمر الخلخلة‪.‬‬
‫وهكذا " الزلزلة " تحمل داخلها تغير التجاه الذي يُسمى في الحركة بالقصور الذاتي‪ .‬والمثال على‬
‫ذلك هو ما يحدث للنسان عندما يكون راكبا سيارة‪ ،‬وبعد ذلك يأتي قائد السيارة فيعوقها بالكابح "‬
‫الفرامل " بقوة‪ ،‬عندئذ يندفع الراكب للمام مرة‪ ،‬ثم للخلف مرة أخرى‪ ،‬وربما تكسر زجاج‬
‫السيارة المامي حسب قوة الندفاع؛ ما الذي تسبب في هذا الندفاع؟ إن السبب هو أن جسم‬
‫الراكب كان مهيأ لن يسير للمام؛ والسائق أوقف السيارة والراكب ل زال مهيأ للسير للمام‪،‬‬
‫فهو يرتج‪ ،‬وقد يصطدم بأجزاء السيارة الداخلية عند وقوفها فجأة‪ .‬وعملية " الزلزلة " مثل ذلك‬
‫تماما‪ ،‬ففيها يصاب الشيء بالرتجاج للمام والخلف‪ ،‬أو لليمين واليسار‪ ،‬وفي أي جهتين‬
‫متعاكستين‪.‬‬

‫و } وَزُلْزِلُواْ { يعني أصابتهم الفاجعة الكبرى‪ ،‬الملهية‪ ،‬المتكررة‪ ،‬وهي ل تتكرر على نمط واحد‪،‬‬
‫إنما يتعدد تكرارها‪ ،‬فمرة يأخذها اليمان‪ ،‬ثم تأخذها المصائب والحداث‪ ،‬وتتكرر المسألة حتى‬
‫يقول الرسول صلى ال عليه وسلم والذين آمنوا معه‪ } :‬مَتَىا َنصْرُ اللّهِ {؟‬
‫ويأتي بعده القول‪ } :‬أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ { فهل يتساءلون أولً‪ ،‬ثم يثوبون إلى رشدهم ويردون‬
‫على أنفسهم } أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ { أم أن ذلك إيضاح بأن المسألة تتأرجح بين } مَتَىا َنصْرُ‬
‫اللّهِ { وبين } أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {؟‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد بلغ الموقف في عصر رسول ال صلى ال عليه وسلم من الختيار والبتلء إلى القمة‪ ،‬ومع‬
‫ذلك واصل الرسول صلى ال عليه وسلم والذين معه الستمساك باليمان‪ .‬لقد مستهم البأساء‬
‫والضراء وزلزلوا‪ ،‬أي أصابتهم رجفة عنيفة هزتهم‪ ،‬حتى وصل المر من أثر هذه الهزة أن }‬
‫ل وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ مَتَىا َنصْرُ اللّهِ أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {‪ .‬إن مجيء السلوب‬
‫َيقُولَ الرّسُو ُ‬
‫بهذا الشكل } مَتَىا َنصْرُ اللّهِ { يعني استبطاء مجيء النصر أولً‪ ،‬ثم التبشير من بعد ذلك في قوله‬
‫الحق‪ } :‬أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {‪ .‬ولم يكن ذلك للشك والرتياب فيه‪ .‬وهذا الستبطاء‪ ،‬ثم التبشير‬
‫كان من ضمن الزلزلة الكبيرة‪ ،‬فقد اختلطت الفكار‪ :‬أناس يقولون‪ } :‬مَتَىا َنصْرُ اللّهِ { فإذا‬
‫بصوت آخر من المعركة يرد عليهم قائل‪ } :‬أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ {‪.‬‬
‫وسياق الية يقتضي أن الذين قالوا‪ } :‬مَتَىا َنصْرُ اللّهِ { هم الصحابة‪ ،‬وأن الذي قال‪ } :‬أَل إِنّ‬
‫َنصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ { هو رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى‬
‫قضية أخرى‪ ،‬هذه القضية شاعت في هذه الصورة وهي ظاهرة سؤال المؤمنين عن الشياء‪،‬‬
‫وهي ظاهرة إيمانية صحية‪ ،‬وكان في استطاعة المؤمنين أل يسألوا عن أشياء لم يأتي فيها تكليف‬
‫إيماني خوفا من أن يكون في الجابة عنها تقييد للحركة‪ ،‬ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ " :‬ذروني ما تركتكم‪ ،‬فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلفهم على أنبيائهم‪ ،‬فإذا‬
‫أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه "‪.‬‬
‫ورغم ذلك كانوا يسألون عن أدق تفاصيل الحياة‪ ،‬وكانت هذه الظاهرة تؤكد أنهم عشقوا التكليف‬
‫من ال؛ فهم يريدون أن يبنوا كل تصرفاتهم بناءً إسلميا‪ ،‬ويريدون أن يسألوا عن حكم السلم‬
‫في كل عمل ليعملوا على أساسه‪ .‬يقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْنفِقُونَ‪{ ...‬‬

‫(‪)217 /‬‬

‫ن وَابْنِ السّبِيلِ‬
‫ن وَالَْأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلْ مَا أَ ْنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَاِلدَيْ ِ‬
‫َومَا َت ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ (‪)215‬‬

‫والسؤال ورد من عمرو بن الجموح وكان شيخا كبيرا فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن مالي كثير فبماذا‬
‫أتصدق‪ ،‬وعلى من أنفق؟ ولم يكن يسأل لنفسه فقط‪ ،‬بل كان يترجم عن مشاعر غيره أيضا‪،‬‬
‫ولذلك جاءت الجابة عامة ل تخص السائل وحده ولكنها تشمل كل المؤمنين‪.‬‬
‫والسؤال عن { مَاذَا يُ ْنفِقُونَ }؛ فكأن الشيء المُنْفق هو الذي يسألون عنه‪ ،‬والنفاق ـ كما نعرف‬
‫ـ يتطلب فاعلً هو المُنْفق؛ والشيء المُنفَق ـ هو المال ـ؛ ومن َفقَا عليه‪ .‬وهم قد سألوا عن ماذا‬
‫ينفقون‪ ،‬فكأن أمر النفاق أمر ُمسَلّمُ به‪ ،‬لكنهم يريدون أن يعرفوا ماذا ينفقون؟ فيأتي السؤال على‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه الوجه ويجيء الجواب حامل الجابة عن ذلك الوجه وعن أمر زائد‪.‬‬
‫يقول الحق‪ { :‬يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ } هذا هو السؤال‪ ،‬والجواب { ُقلْ مَآ أَ ْنفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ‬
‫فَلِ ْلوَالِدَيْنِ }‪ .‬إن الظاهر السطحي يظن أن السؤال هو فقط عن ماذا ينفقون؟ وأن الجواب جاء عن‬
‫المنفق عليه‪ .‬نقول‪ :‬ل‪ ،‬لماذا نسيت قوله الحق‪ :‬إن النفاق يجب أن كون من " خير " فالمال‬
‫المُنفق منه ل بد أن يتصف بأنه جاء من مصدر خير‪.‬‬
‫وبعد ذلك زاد وبيّن أنه‪ :‬مادمتم تعتقدون أن النفاق واجب فعليكم أن تعلموا ما هو الشيء الذي‬
‫تنفقونه‪ ،‬ومَنْ الذي يستحق أن يُ ْنفَقَ عليه‪ُ { .‬قلْ مَآ أَ ْنفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ }‪ .‬والخير هو الشيء الحسن‬
‫حمّل المؤمن دوائره الخاصة‪ ،‬حتى‬
‫النافع‪ .‬والمُ ْنفَق عليه هو دوائر الذي يُ ْنفِق؛ لن ال يريد أن ُي َ‬
‫حمّلني‬
‫تلتحم الدوائر مع بعضها فيكون قد حمّل المجتمع على كل المجتمع‪ ،‬لنه سبحانه حين ُي َ‬
‫أسرتي ووالدي والقربين‪ ،‬فهذه صيانة للهل‪ ،‬وكل واحد منا له والدان وأقربون‪ ،‬ودائرتي أنا‬
‫ي وأقاربي‪ ،‬ثم تشيع في أمر آخر؛ في اليتامى والمساكين‪.‬‬
‫تشمل والد ّ‬
‫وهات كل واحد واحسب دوائره من الوالدين والقربين وما يكون حوله من اليتامى والمساكين‬
‫فستجد الدوائر المتماسكة قد شملت كل المحتاجين‪ ،‬ويكون المجتمع قد حمل بعضه بعضا‪ ،‬ول‬
‫يوجد بعد ذلك إل العاجز عن العمل‪ .‬وعرفنا أن السائل هو " عمرو بن الجموح " ‪ ،‬وكانت له‬
‫قصة عجيبة؛ كان أعرج والعرج معذور من ال في الجهاد‪ ،‬فليس على العمى حرج‪ ،‬ول على‬
‫العرج حرج ول على المريض حرج‪ " .‬وأراد الرسول صلى ال عليه وسلم أن يخرج من غزوة‬
‫فجاءه عمرو بن الجموح وقال‪ :‬يا رسول ال ل تحرمني من الجهاد فإن أبنائي يحرمونني من‬
‫الخروج لعرجتي‪ .‬قال له النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن ال قد عذرك فيمن عذر‪ .‬قال‪ :‬ولكني يا‬
‫رسول ال أحب أن أطأ بعرجتي الجنة "‪.‬‬
‫هذا هو مَنْ سأل عن ماذا ينفقون‪ ،‬فجاءت الجابة من الحق‪ُ { :‬قلْ مَآ أَ ْن َفقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ } أي ما‬
‫أخرجتم من مال؛ لن النفاق يعني الخراج‪ ،‬والخير هنا هو المال‪ ،‬والنفاق يقتضي إخراج المال‬
‫عن ملكية النسان ببيع أو هبة أو صلة‪ ،‬وأصل كلمة " النفاق " مأخوذ من " نفقت السوق " أي‬
‫راجت؛ لن السوق تقوم على البضاعة‪ ،‬وحين تأتي إلى السوق ول تجد سلعا فذلك يعني أن‬
‫السوق رائجة‪ ،‬ولكن عندما تجد البضائع مكدسة بالسوق فذلك يعني أن السوق لزالت قائمة‪.‬‬

‫إذن فمعنى " نفقت السوق " أي ذهبت كل البضائع كما تذهب الحياة من الدابة‪ ،‬فعندما نقول‪ :‬نفقت‬
‫لقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىا‬
‫ن وَا َ‬
‫الدابة‪ ،‬أي ماتت‪ .‬وأوجه النفاق بينها ـ سبحانه ـ في قوله‪ } :‬فَلِ ْلوَاِلدَيْ ِ‬
‫ن وَابْنِ السّبِيلِ {‪ .‬فهل كل يتيم محتاج؟ ربما يكون اليتيم قد ورث المال لكن علينا أن نفهم‬
‫وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫أن المسألة ليست هي سد حاجة محتاج فقط‪ ،‬ولكنها الوقوف بجانب ضعيف في أي زاوية من‬
‫زوايا الضعف؛ لن الطفل عندما يكون يتيما ولديه ماله‪ ،‬ثم يراك تعطف عليه فهو يشعر أن أباه‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لم يمت؛ لن أبوته باقية في إخوانه المؤمنين‪ ،‬وبعد ذلك ل يشب على الحسد لولد آباؤهم‬
‫موجودين‪ ،‬لكن حين يرى اليتيم كل أب مشغول بأبنائه عن أيتام مات أبوهم‪ ،‬هنا يظهر فيه الحقد‪،‬‬
‫وتتربى فيه غريزة العتراض على القدر‪ ،‬فيقول " لماذا أكون أنا الذي مات والدي؟ " ‪ ،‬ولكن‬
‫حين يرى الناس جميعا آباءه‪ ،‬ويصلونه بالبسمة والود والترحاب والمعونة فلسوف يشعر أن من‬
‫له أب واحد يتركه الناس اعتمادا على وجود أبيه‪ ،‬لكن حينما يموت أبوه فإن الناس تلتفت إليه‬
‫بالمودة والمحبة‪ ،‬ويترتب على ذلك أن تشيع المحبة في المجتمع السلمي واللفة والرضا بقدر‬
‫ال‪ ،‬ول يعترض أحد على وفاة أبيه‪ ،‬فإن كان القدر قد أخذ أباه فقد ترك له آباء متعددين‪.‬‬
‫ولو علم الذين يرفضون المودة والعطف على اليتيم لن والده ترك له ما يكفيه‪ ،‬لو علموا ما‬
‫يترتب على هذا التعاطف من نفع معنوي لتنافسوا على التعاطف معه؛ فليست المسألة مسألة حاجة‬
‫مادية‪ ،‬وإنما هي حاجة معنوية‪.‬‬
‫وأنا أقول دائما‪ :‬يجب أن نربي في الناشئة أن ال ل يأخذ أحدا من خلقه وفي الرض حاجة إليه؛‬
‫وارقبوا هذا المر فيمن حولكم تجدوا واحدا وقد تُوفى وترك أولدا صغارا فيحزن أهله ومعارفه؛‬
‫لنه ترك أولده صغارا‪ ،‬وينسون المر من بعد ذلك‪ ،‬وتمر فترة من الزمن ويفاجأ الناس بأن‬
‫أولد ذلك الرجل قد صاروا سادة الحي‪ ،‬وكأن والدهم كان محبسا على رزقهم‪ ،‬فحينما انتهى الب‬
‫فتح ال على البناء صنابير الرزق‪ ،‬وذلك حتى ل يُفتَن إنسان في سبب‪.‬‬
‫وبعد النفاق على اليتامى نجد النفاق على المساكين وابن السبيل‪ ،‬وقد عرفنا أن المسكين هو‬
‫المحتاج وابن السبيل هو المنقطع عن أهله وماله‪.‬‬

‫ويختم الحق هذه الية بقوله‪َ } :‬ومَا َتفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ {‪ .‬إن ال يريد أن يرد الطبع‬
‫البشري إلى قضية هي‪ :‬إياك أن تطلب جزاء الخير الذي تفعله مع هؤلء من أحد من الخلق‪،‬‬
‫ولكن اطلبه من ال‪ ،‬وإياك أن تحاول أن يعلم الناس عنك أنك مُ ْنفِق على القارب واليتامى وابن‬
‫السبيل؛ لن الذين تريدهم أن يعلموا ل يقدرون لك على جزاء‪ ،‬وعلمهم لن يزيدك شيئا‪ ،‬وحسبك‬
‫أَنْ يعلم ال الذي أعطاك‪ ،‬والذي أعطيت مما استخلفك فيه ابتغاء مرضاته‪ .‬فحين ينفق الناس‬
‫لمرضاة الناس‪ ،‬يلقون من بعد ذلك النكران والجحود فيكون من أعطى قد خسر ما أنفق‪ ،‬واستبقى‬
‫الشر ممن أنفقه عليهم‪.‬‬
‫ولو أن النسان المسلم قصد بالنفاق وعمل الخير مرضاة الخالق العلى عز وجل لستبقى ما‬
‫أنفق من حسنات وثواب ليوم القيامة‪ ،‬ولسخر ال له قلوب من تصدق عليهم بالمحبة والوفاء‬
‫بالمعروف‪ ،‬وهذه عدالة من ال تتجلى في أنه يفعل مع المرائين ذلك؛ لنهم يعطون وفي بالهم‬
‫أنهم أعطوا له‪ ،‬ولو أعطوا ال لما أنكر الخذ جميل العطاء‪ .‬أنت أعطيته لمرضاته هو‪ ،‬فكأن ال‬
‫يقول لك‪ :‬سأتركك له ليجازيك ولهذا كان المتصدق في السر من السبعة الذين يظلهم ال في ظله‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يوم ل ظل إل ظله فمنهم‪ .." :‬ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم شماله ما تنفق يمينه "‬
‫وهذا هو الفضل في صدقة التطوع‪ ،‬وأما الزكاة الواجبة فإعلنها أفضل‪ ،‬وكذلك الحال بالنسبة‬
‫للصلة فالفريضة تكون إعلنها أفضل‪ ،‬والنافلة يكون إسرارها أفضل‪ .‬لكن لو عملت وفي بالك‬
‫ال فستجد أثر العطاء وفي وفاء من أخذ‪ .‬فإياك أن تحاول ولو من طرف خفيّ أن يعلم الناس أنكم‬
‫تفعلون الخير‪ .‬وبعد ذلك يرجع الحق إلى قضية سبق أن عالجها في قوله تعالى‪َ } :‬ولَ ُتقَاتِلُوهُمْ‬
‫جدِ الْحَرَامِ حَتّىا ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ { يرجع الحق إلى القتال فيتكلم عن المبدأ العام في القتال‬
‫عِنْدَ ا ْل َمسْ ِ‬
‫ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّلكُمْ‪{ ...‬‬
‫فيقول‪ } :‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ‬

‫(‪)218 /‬‬

‫كُ ِتبَ عَلَ ْي ُكمُ ا ْلقِتَالُ وَ ُهوَ كُ ْرهٌ َلكُمْ وَعَسَى أَنْ َتكْرَهُوا شَيْئًا وَ ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَعَسَى أَنْ تُحِبّوا شَيْئًا وَ ُهوَ‬
‫شَرّ َل ُك ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ (‪)216‬‬

‫إن كراهية القتال هي قضية فطرية يقولها الذي خلق النسان فهو سبحانه ل يعالج المر علجا‬
‫سوفسطائيا‪ ،‬بمعنى أن يقول‪ :‬وماذا في القتال؟ ل‪ ،‬إن الخالق يقول‪ :‬أعلم أن القتال مكروه‪ .‬وحتى‬
‫إذا ما أصابك فيه ما تكره فأنت قد علمت أن الذي شرعه يُقدر ذلك‪ .‬ولو لم يقل الحق إن القتال‬
‫كره‪ :‬لفهم الناس أن ال يصور لهم المر العسير يسيرا‪.‬‬
‫إن ال عز وجل يقول للذين آمنوا‪ :‬اعلموا أنكم مقبلون على مشقات‪ ،‬وعلى متاعب‪ ،‬وعلى أن‬
‫تتركوا أموالكم‪ ،‬وعلى أن تتركوا لذتكم وتمتعكم‪ .‬ولذلك نجد كبار الساسة الذين برعوا في السياسة‬
‫ونجحوا في قيادة مجتمعاتهم كانوا ل يحبون لشعوبهم أن تخوض المعارك إل مضطرين‪ ،‬فإذا ما‬
‫اضطروا فهم يوضحون لجندهم أنهم يدرأون بالقتال ما هو أكثر شرا من القتال‪ ،‬ومعنى ذلك أنهم‬
‫يعبئون النفس النسانية حتى تواجه الموقف بجماع قواها‪ ،‬وبجميع ملكاتها‪ ،‬وكل إرادتها‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪ { :‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ } إنه سبحانه يقول لنا‪ :‬أعلم أن‬
‫القتال كره لكم ولكن أردت أن أشيع فيكم قضية‪ ،‬هذه القضية هي أل تحكموا في القضايا الكبيرة‬
‫في حدود علمكم؛ لن علمكم دائما ناقص‪ ،‬بل خذوا القضايا من خلل علمي أنا؛ لنني قد أشرع‬
‫مكروها‪ ،‬ولكن يأتي منه الخير‪ .‬وقد تَرَون حبا في شيء ويأتي منه الشر‪ .‬ولذلك ينبهنا الحق إلى‬
‫أن كثيرا من المور المحبوبة عندنا يأتي منها الشر‪ ،‬فيقول الواحد منا‪ " :‬كنت أتوقع الخير من‬
‫هذا المر‪ ،‬لكن الشر هو ما جاءني منه "‪.‬‬
‫وهناك أمور أخرى نظن أن الشر يأتي منها‪ ،‬لكنها تأتي بالخير‪ .‬ولذلك يترك الحق فلتات في‬
‫المجتمع حتى يتأكد الناس أن ال سبحانه وتعالى ل يُجري أمور الخير على مقتضيات ومقاييس‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫علم العباد‪ ،‬إنما يُجري الحكم على مقتضى ومقاييس وعلم رب العباد‪ .‬ولننظر إلى ما رواه الحق‬
‫حقُبا *‬
‫ضيَ ُ‬
‫جمَعَ الْ َبحْرَيْنِ َأوْ َأ ْم ِ‬
‫مثل للناس على ذلك‪ {:‬وَإِذْ قَالَ مُوسَىا ِلفَتَاهُ ل أَبْرَحُ حَتّىا أَبْلُغَ َم ْ‬
‫غدَآءَنَا‬
‫خذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ سَرَبا * فََلمّا جَاوَزَا قَالَ ِلفَتَاهُ آتِنَا َ‬
‫جمَعَ بَيْ ِن ِهمَا َنسِيَا حُو َت ُهمَا فَاتّ َ‬
‫فََلمّا بََلغَا مَ ْ‬
‫سفَرِنَا هَـاذَا َنصَبا * قَالَ أَرَأَ ْيتَ ِإذْ َأوَيْنَآ إِلَى الصّخْ َرةِ فَإِنّي نَسِيتُ ا ْلحُوتَ َومَآ أَنْسَانِيهُ‬
‫َلقَدْ َلقِينَا مِن َ‬
‫ِإلّ الشّ ْيطَانُ أَنْ أَ ْذكُ َر ُه وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبا * قَالَ ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلَىا آثَارِ ِهمَا‬
‫َقصَصا }[الكهف‪]64-60 :‬‬
‫إن موسى عليه السلم يسير مع فتاه إلى مجمع البحرين‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه ملتقى بحرين في جهة‬
‫المشرق‪ ،‬وكان معهما طعام هو حوت مملوح يأكلن منه‪ ،‬لكن السفر والمشقة أنساهما الحوت‬
‫وانطلق الحوت بآية من ال إلى البحر‪ ،‬وعندما وصل موسى إلى مجمع البحرين طلب من فتاه أن‬
‫يأتي بالطعام بعد طول التعب‪ ،‬لكن الفتى يقول لموسى‪ :‬إنه نسي الحوت‪ ،‬ولم ينسه إياه إل‬
‫الشيطان‪.‬‬

‫وإن الحوت اتخذ طريقه إلى البحر‪ ،‬فقال موسى‪ :‬إن هذا ما كنا نطلبه علمة على وصولنا إلى‬
‫غايتنا وهي مجمع البحرين‪ ،‬أي أمر الحوت وفقده هو الذي نطلب‪ ،‬فإن الرجل الذي جئنا من أجله‬
‫هناك في هذا المكان‪ ،‬وارتد موسى والغلم على آثارهما مرة أخرى‪.‬‬
‫فما الذي يحدث؟ يلتقي موسى عليه السلم بالعبد الصالح الخضر‪ ،‬وهو ولي من أولياء ال‪ ،‬علمه‬
‫ال العلم الرباني الذي يهبه ال لعباده المتقين كثمرة للخلص والتقوى‪ .‬ويطلب موسى عليه‬
‫السلم من العبد الرباني سيدنا الخضر عليه السلم أن يتعلم منه بعض الرشد‪ .‬لكن العبد الرباني‬
‫الذي وهبه ال من العلم ما يفوق استيعاب القدرة البشرية يقول لموسى عليه السلم‪ {:‬قَالَ إِ ّنكَ لَن‬
‫تَسْ َتطِيعَ َم ِعيَ صَبْرا * َوكَيْفَ َتصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ ُتحِطْ بِهِ خُبْرا }[الكهف‪]68-67 :‬‬
‫لقد كان موسى على علم سابق بأن ضياع الحوت هو مسألة في ظاهرها شر لكن في باطنها خير؛‬
‫لن ذلك هو السبيل والعلمة التي يعرف بها موسى كيف يلتقي بالعبد الصالح‪ .‬ويستمر السياق‬
‫نفسه في قصة موسى والعبد الصالح‪ ،‬قصة ظاهرها الشر وباطنها الخير‪ ،‬سواء في قصة السفينة‬
‫التي خرقها أو الغلم الذي قتله‪ ،‬أو الجدار الذي أقامه‪.‬‬
‫لقد كان علم العبد الصالح علما ربانيا‪ ،‬لذلك أراد موسى أن يتعلم بعضا من هذا العلم لكن العبد‬
‫الصالح ينبه موسى عليه السلم أن ما قد يراه هو فوق طاقة الصبر؛ لن الذي قد يراه موسى من‬
‫أفعال إنما قد يرى فيها شرا ظاهرا‪ ،‬لكن في باطنها كل الخير‪.‬‬
‫وقَبِل موسى عليه السلم أن يقف موقف المتعلم بأدب مع العالم الذي وهبه ال العلم الرباني‪.‬‬
‫ويشترط العبد الرباني على موسى أل يسأل إل بعد أن يحدثه العبد الرباني عن السباب‪ .‬ويلتقي‬
‫موسى والعبد الرباني بسفينة فيصعدان عليها‪ ،‬ويخرق العبد الرباني السفينة‪ ،‬فيقول موسى‪{:‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أَخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْ ِرقَ أَهَْلهَا َلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا ِإمْرا }[الكهف‪]71 :‬‬
‫ي صَبْرا }[الكهف‪]72 :‬‬
‫فيرد العبد الصالح‪ {:‬أََلمْ َأ ُقلْ إِ ّنكَ لَن َتسْتَطِيعَ َم ِع َ‬
‫ويتذكر موسى أنه وعد العبد الصالح بالصبر‪ ،‬لكن ما الذي يفعله موسى وقد وجد العبد الصالح‬
‫يخرق سفينة تحملهم في البحر؟ إنه أمر شاق على النفس‪ .‬ولذلك يقول موسى‪ {:‬لَ ُتؤَاخِذْنِي ِبمَا‬
‫ت َولَ تُ ْر ِهقْنِي مِنْ َأمْرِي عُسْرا }[الكهف‪]73 :‬‬
‫نَسِي ُ‬
‫إن موسى يعود إلى وعده للعبد الصالح‪ ،‬ويطلب منه فقط أل يكلفه بأمور تفوق قدرته‪ .‬وينطلق‬
‫العبد الصالح ومعه موسى عليه السلم‪ ،‬فيجد العبد الصالح غلما فيقتله‪ ،‬فيقول موسى‪َ {:‬أقَتَ ْلتَ‬
‫َنفْسا َزكِيّةً ِبغَيْرِ َنفْسٍ ّلقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا ّنكْرا }[الكهف‪]74 :‬‬
‫ويُذكر العبد الصالح موسى أنه لن يستطيع الصبر معه‪ ،‬ويعتذر موسى عما ل يعلم‪.‬‬

‫ويمر العبد الصالح ومعه موسى بقرية فطلبا من أهل القرية الضيافة‪ ،‬لكن أهل القرية يرفضون‬
‫الضيافة‪ ،‬ويجد العبد الصالح جدارا مائل يكاد يسقط فيبدأ في بنائه‪ ،‬فيقول موسى‪َ {:‬لوْ شِ ْئتَ‬
‫خ ْذتَ عَلَيْهِ َأجْرا }[الكهف‪ ]77 :‬ويكون الفراق بين العبد الصالح وموسى‪ .‬ويخبر العبد الصالح‬
‫لَتّ َ‬
‫موسى بما لم يعلمه ولم يصبر عليه‪ .‬إن خرق السفينة كان لنقاذ أصحابها من اغتصابها منهم؛‬
‫لن هناك ملكا كان يأخذ كل سفينة صالحة غصبا‪ ،‬فأراد أن يعيبها ليتركها الملك لهؤلء‬
‫المساكين‪.‬‬
‫وقتل الغلم كان رحمة بأبويع المؤمنين‪ ،‬كان هذا البن سيجلب لهما الطغيان والكفر‪ ،‬وأراد ال أن‬
‫يبدله خيرا منه‪.‬‬
‫وأن الجدار الذي أقامه كان فوق كنز‪ ،‬وكان ليتيمين من هذه القرية وكان والد الغلمين صالحا‪،‬‬
‫لذلك كان لبد من إعادة بناء الجدار حتى يبلغ الغلمان أشدهم ويستخرجا الكنز ويقول العبد‬
‫سطِـع عّلَيْهِ صَبْرا }‬
‫الصالح عن كل هذه العمال‪َ {:‬ومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي ذَِلكَ تَ ْأوِيلُ مَا َلمْ تَ ْ‬
‫[الكهف‪]82 :‬‬
‫إن العبد الصالح ل ينسب هذا العمل الرباني لنفسه‪ ،‬ولكن ينسبه إلى الخالق الذي علمه‪ .‬إذن‬
‫فالحق يطلق بعضا من قضايا الكون حتى ل يظن النسان أن الخير دائما فيما يحب‪ ،‬وأن الشر‬
‫فيما يكره‪ ،‬ولذلك يقول سبحانه‪ } :‬وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُ ْم وَعَسَىا أَن ُتحِبّواْ شَيْئا‬
‫وَ ُهوَ شَرّ ّلكُمْ { فإن كان القتال كرها لكم‪ ،‬فلعل فيه خيرا لكم‪ .‬وبمناسبة ذكر الكُره نوضح أن هناك‬
‫" كَره " و " كُره "‪ .‬إن " الكَره " بفتح الكاف‪ :‬هو الشيء المكروه الذي تُحمل و ُتكْ َرهُ على فعله‪ ،‬أما‬
‫" الكُره " بضم الكاف فهو الشيء الشاق‪.‬‬
‫وقد يكون الشيء مكروها وهو غير شاق‪ ،‬وقد يكون شاقا ولكن غير مكروه‪ .‬والحق يقول‪ } :‬كُ ِتبَ‬
‫ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ {‪ .‬ولنلحظ أن الحق دائما حينما يشرع فهو يقول‪ } :‬كُ ِتبَ { ول يقول‪:‬‬
‫عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫" كَتبت " ذلك حتى نفهم أن ال لن يشرع إل لمَنْ آمن به؛ فهو سبحانه لم يكتب على الكافرين أي‬
‫تكاليف‪ ،‬وهل يكون من المنطقي أن يكلف ال مَنْ آمَن به ويترك الكافر بل تكليف؟‬
‫نعم‪ ،‬إنه أمر منطقي؛ لن التكليف خير‪ ،‬وقد ينظر بعض الناس إلى التكليف من زاوية أنه مُقيّد‪،‬‬
‫نقول لهم‪ :‬لو كان التكليف اليماني يقيد لكلف ال به الكافر‪ ،‬ولكن ال ل يكلف إل مَنْ يحبه‪ ،‬إنه‬
‫سبحانه ل يأمر إل بالخير‪ ،‬ثم إن ال ل يكلف إل مَنْ آمن به؛ لن العبد المؤمن مع ربه في عقد‬
‫اليمان‪.‬‬
‫إذن فال حين يقول‪ " :‬كُتب " فمعنى ذلك أنه سبحانه يقصد أنه لم يقتحم على أحد حركة اختياره‬
‫الموهوبة له‪ ،‬وال سبحانه وتعالى قد ترك للناس حرية الختيار في أن يؤمنوا أو ل يؤمنوا‪.‬‬

‫ومن آمن عن اختيار وطواعية فقد دخل مع ال في عقد إيمان‪ ،‬وبمقتضى هذا العقد كتب ال عليه‬
‫التكاليف‪ .‬ومن هذه التكاليف القتال‪ ،‬فقال سبحانه‪ } :‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ {‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬عَلَ ْيكُمُ { يعني أن القتال ساعة يكتب ل يبدو من ظاهر أمره إل المشقة فجاءت } عَلَ ْي ُكمُ {‬
‫لتناسب المر‪ .‬وبعد انتهاء القتال إذا انتصرنا فنحن نأخذ الغنائم‪ ،‬وإذا انهزمنا واستشهدنا فلنا‬
‫الجنة‪.‬‬
‫ويعبر الحق عن ظاهر المر في القتال فيقول عنه‪ } :‬وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُك ْم وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ‬
‫خَيْرٌ ّل ُك ْم وَعَسَىا أَن ُتحِبّواْ شَيْئا وَ ُهوَ شَرّ ّل ُكمْ {‪ .‬إنها قضية عامة كما قلنا‪ .‬لذلك فعلينا أن نرد‬
‫المر إلى من يعلمه‪ } ،‬وَاللّهُ َيعَْل ُم وَأَنْتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ { فكل أمر علينا أن نرده إلى حكمة ال الذي‬
‫أجراه؛ لنه هو الذي يعلم‪.‬‬
‫وهناك قصة من التراث النساني تحكي قضية رجل من الصين‪ ،‬وكان الرجل يملك مكانا متسعا‬
‫وفيه خيل كثيرة‪ ،‬وكان من ضمن الخيل حصان يحبه‪ .‬وحدث أن هام ذلك الحصان في المراعي‬
‫ولم يعد‪ ،‬فحزن عليه‪ ،‬فجاء الناس ليعزوه في فقده الحصان‪ ،‬فابتسم وقال لهم‪ :‬ومن أدراكم أن ذلك‬
‫شر لتعزوني فيه؟‬
‫وبعد مدة فوجئ الرجل بالجواد ومعه قطيع من الجياد يجره خلفه‪ ،‬فلما رأى الناس ذلك جاءوا‬
‫ليهنئوه‪ ،‬فقال لهم‪ :‬وما أدراكم أن ذلك خير‪ ،‬فسكت الناس عن التهنئة‪ .‬وبعد ذلك جاء ابنه ليركب‬
‫الجواد فانطلق به‪ ،‬وسقط الولد من فوق الحصان فانكسرت ساقه‪ ،‬فجاء الناس مرة أخرى ليواسوا‬
‫الرجل فقال لهم‪ :‬ومن أدراكم أن ذلك شر؟‬
‫وبعد ذلك قامت حرب فجمعت الحكومة كل شباب البلدة ليقاتلوا العدو‪ ،‬وتركوا هذا البن؛ لن‬
‫ساقه مكسورة‪ ،‬فجاءوا يهنئونه‪ ،‬فقال لهم‪ :‬ومن أدراكم أن ذلك خير؟ فعلينا أل نأخذ كل قضية‬
‫بظاهرها‪ ،‬إن كانت خيرا أو شرا‪ ،‬لكن علينا أن نأخذ كل قضية من قضايا الحياة في ضوء قول‬
‫سوْاْ عَلَىا مَا فَا َتكُ ْم َولَ َتفْرَحُواْ ِبمَآ آتَاكُمْ }[الحديد‪]23 :‬‬
‫الحق‪ّ {:‬لكَيْلَ تَ ْأ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق هو القائل‪ } :‬وَاللّهُ َيعَْل ُم وَأَنْتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ {‪ .‬ول المثل العلى‪ ،‬سبق لنا أن ضربنا المثل من‬
‫قبل بالرجل الحنون الذي يحب ولده الوحيد ويرجو بقاءه في الدنيا‪ ،‬لذلك عندما يمرض البن‬
‫فالب يعطيه الدواء المر‪ ،‬وساعة يعطيه الجرعة فالبن يكره الدواء ولكنه خير له‪ .‬وبعد ذلك‬
‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ‪{ ...‬‬
‫يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن سؤال آخر يقول فيه‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬

‫(‪)219 /‬‬

‫جدِ‬
‫شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه َوكُفْرٌ بِهِ وَا ْلمَسْ ِ‬
‫يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِنْدَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ وَلَا يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّى يَ ُردّوكُمْ‬
‫عمَاُلهُمْ فِي‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫عَنْ دِي ِن ُكمْ إِنِ اسْ َتطَاعُوا َومَنْ يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ عَنْ دِي ِنهِ فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ فَأُولَ ِئكَ حَ ِب َ‬
‫صحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ (‪)217‬‬
‫الدّنْيَا وَالَْآخِ َر ِة وَأُولَ ِئكَ َأ ْ‬

‫والسؤال هنا ليس عن الشهر الحرام؛ لنه كان معروفا عندهم من أيام الجاهلية ولكن السؤال عن‬
‫القتال في الشهر الحرام‪ ،‬فما جدوى السؤال إذن؟ إنه سؤال استفزازي‪ ،‬والمسألة لها قصة‪.‬‬
‫ونعرف أن للسنة أثنى عشر شهرا‪ ،‬وقد جعل ال فيها أربعة أشهر حرم‪ :‬شهر واحد فرد وهو‬
‫رجب‪ ،‬وثلثة سرد‪ ،‬هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم‪ .‬ومعنى أشهر حرم أي أن القتال محرم‬
‫فيها‪.‬‬
‫لقد علم ال كبرياء الخلق على الخلق‪ ،‬لذلك جعل ال لخلقه ساترا يحمي كبرياءهم‪ ،‬ومن هذه‬
‫السنن التي سنها ال هي حرمة القتال في الشهر الحرم‪ ،‬والماكن الحرم‪ ،‬فيجوز أن الحرب‬
‫تضر المحارب‪ ،‬لكن كبرياءه أمام عدوه يمنعه من وقف القتال‪ ،‬فيستمر في الحرب مهما كان‬
‫الثمن‪ ،‬فيأتي الحق سبحانه وتعالى ويقول للمتحاربين‪ :‬ارفعوا أيديكم في هذه الشهور لني حرمت‬
‫فيها القتال‪ .‬وربما كان المحاربون أنفسهم يتمنون من أعماقهم أن يتدخل أحد ليوقف الحرب‪ ،‬ولكن‬
‫كبرياءهم يمنعهم من التراجع‪ ،‬وعندما يتدخل حكم السماء سيجد كل من الطرفين حجة ليتراجع مع‬
‫حفاظه على ماء الوجه‪ .‬وكذلك جعل ال أماكن محرمة‪ ،‬يحرم فيها القتال حتى يقول الناس إن ال‬
‫هو الذي حرمها‪ ،‬وتكون لهم ستارا يحمي كبرياءهم‪.‬‬
‫إذن فالحق سبحانه وتعالى الذي خلق النسان أراد أن يصون النسان حتى يحقن الدماء‪ ،‬فإذا ظل‬
‫الناس ثلثة أشهر بل حرب‪ ،‬ثم شهرا آخر‪ ،‬فنعموا في هذه الفترة بالسلم والراحة والهدوء‪ ،‬فربما‬
‫يألفون السلم‪ ،‬ول يفكرون في الحرب مرة أخرى‪ ،‬لكن لو استمرت الحرب بل توقف لظل سعار‬
‫الحرب في نفوسهم‪ ،‬وهذه هي ميزة الشهر الحرم‪.‬‬
‫والشهر الحرم حُ ُرمٌ في الزمان والمكان؛ لن الزمان والمكان هما ظرف الحداث‪ ،‬فكل حدث‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يحتاج زمانا ومكانا‪ .‬وعندما يحرم الزمان ويحرم المكان فكل من طرفي القتال يأخذ فرصة‬
‫للهدوء‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى يعرض هنا قضية أراد بها خصوم السلم من كفار قريش واليهود أن‬
‫يثيروها؛ فقد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يرسل بعض السرايا للستطلع‪ ،‬والسرية هي‬
‫عدد محدود من المقاتلين‪ ،‬فجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأرسل سرية على رأسها عبد‬
‫ال بن جحش السدي ابن عمة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأرسل معه ثمانية أفراد‪ ،‬وجعله‬
‫أميرا عليهم‪ ،‬وأعطاه كتابا وأمره أل يفتحه إل بعد مسيرة يومين‪ ،‬وذلك حتى ل يعلم أحد أين‬
‫تذهب السرية‪ ،‬وفي ذلك احتياط في إخفاء الخبر‪.‬‬
‫فلما سارت السرية ليلتين فتح عبد ال الكتاب وقرأه فإذا به‪ :‬اذهب إلى " بطن نخلة " وهو مكان‬
‫بين مكة والطائف واستطلع عير قريش‪ ،‬ول تُكره أحدا ممن معك على أن يسير مرغما‪ ،‬بمعنى‬
‫أن يكون لكل فرد في السرية حرية الحركة‪ ،‬فمن يفضل عدم السير فله هذا الحق‪.‬‬

‫وبينما هم في الطريق ضل بعير لسعد بن أبي وقاص وعقبة بن غَزْوان‪ ،‬وذهبا يبحثان عن‬
‫البعير‪ ،‬وبقى ستة مقاتلين مع عبد ال‪ ،‬وذهب الستة إلى " بطن نخلة " فوجدوا " عمرو بن‬
‫الحضرمي " ومعه ثلثة على عير لقريش‪ ،‬فدخلوا معهم في معركة‪ ،‬وكان هذا اليوم في ظنهم هو‬
‫آخر جمادى الخرة‪ ،‬لكن تبين لهم فيما بعد أنه أول رجب أي أنه أحد أيام شهر حرام‪.‬‬
‫وقتل المسلمون ابن الحضرمي‪ ،‬قتله واقد بن عبد ال من أصحاب عبد ال ابن جحش‪ ،‬وأسروا‬
‫اثنين ممن معه‪ ،‬وفر واحد‪ ،‬فلما حدث هذا‪ ،‬وتبين لهم أنهم فعلوا ذلك في أول رجب‪ ،‬عند ذلك‬
‫اعتبروا أن قتالهم وغنائمهم مخالفة لحرمة شهر رجب‪.‬‬
‫وثارت المسألة أخذا وردّا بين المسلمين قبل أن تتحدث فيها قريش حيث قالوا‪ :‬إن محمدا يدعي‬
‫أنه يحترم المقدسات ويحترم الشهر الحرم‪ ،‬ومع ذلك قاتل في الشهر الحرم‪ ،‬وسفك دمنا‪ ،‬وأخذ‬
‫أموالنا‪ ،‬وأسر الرجال‪ .‬فامتنع رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الغنائم والسرى حتى يفصل‬
‫ال في القضية فنزل حكم السماء في القضية بهذا القول الحكيم‪:‬‬
‫سجِدِ‬
‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَن سَبِيلِ اللّهِ َوكُفْرٌ بِ ِه وَا ْلمَ ْ‬
‫} َيسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِ ْنهُ َأكْبَرُ عِندَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ وَلَ يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّىا يَ ُردّوكُمْ‬
‫عمَاُل ُهمْ فِي‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫عَن دِي ِن ُكمْ إِن اسْ َتطَاعُو ْا َومَن يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ عَن دِي ِنهِ فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ فَُأوْلـا ِئكَ حَ ِب َ‬
‫الدّنْيَا وَالخِ َر ِة وَُأوْلـا ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ { [البقرة‪]217 :‬‬
‫نحن مُسلّمون أن القتال في الشهر الحرام أمر كبير‪ ،‬ولكن انظروا يا كفار قريش إلى ما صنعتم‬
‫مع عبادنا وقارنوا بين كِبْر هذا وكِبْر ذاك‪ .‬أنتم تقولون‪ :‬إن القتال في الشهر الحرام مسألة كبيرة‪،‬‬
‫ولكن صدكم عن سبيل ال وكفركم به‪ ،‬ومنعكم المسلمين من المسجد الحرام‪ ،‬وإخراج أهل مكة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫منها أكبر عند ال من القتال في الشهر الحرام‪ ،‬فل تفعلوا ما هو أكبر من القتال في الشهر‬
‫الحرام‪ ،‬ثم تأخذكم الغيرة على الحرمات‪.‬‬
‫فكأن الحق أراد أن يضع قضية واضحة هي‪ :‬ل تؤخذوا من جزئيات التدين أشياء وتتحصنوا فيها‬
‫خلف كلمة حق وأنتم تريدون الباطل فالواقع يعرض الشياء‪ ،‬ونحن نقول‪ :‬نعم إن القتال في‬
‫الشهر الحرام كبير‪ .‬ولكن يا كفار قريش اعلموا أن فتنة المؤمنين في دينهم وصدهم عن طريق‬
‫ال‪ ،‬وكفركم به ـ سبحانه ـ وإهداركم حرمة البيت الحرام بما تصنعون فيه من عبادة غير ال‪،‬‬
‫وإخراجكم أهله منه‪ ،‬إن هذه المور الثمة هي عند ال اكبر جرما وأشد إثما من القتال في‬
‫الشهر الحرم لسترداد المسلمين بعض حقهم لديكم‪.‬‬

‫ولهذا يرد الحق سهام المشركين في نحورهم } َولَ يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ حَتّىا يَرُدّوكُمْ عَن دِي ِنكُمْ إِن‬
‫اسْ َتطَاعُواْ { أي إياكم أن تعتقدوا أنهم سيحترمون الشهر الحرام ول المكان الحرام‪ ،‬بل } وَلَ‬
‫يَزَالُونَ ُيقَاتِلُو َنكُمْ { أي وسيصرون‪ ،‬ويداومون على قتالكم } حَتّىا يَ ُردّوكُمْ عَن دِي ِن ُكمْ إِن اسْتَطَاعُواْ‬
‫{‪ .‬وتأمل قوله‪ } :‬إِن اسْتَطَاعُواْ { إن معناها تحد لهم بأنهم لن يستطيعوا أبدا فـ " إنْ " تأتي دائما‬
‫ت وَ ُهوَ كَافِرٌ فَُأوْلـا ِئكَ‬
‫في المر المشكوك فيه‪ .‬ويتبع الحق } َومَن يَرْتَ ِددْ مِ ْنكُمْ عَن دِينِهِ فَ َي ُم ْ‬
‫عمَاُلهُمْ فِي الدّنْيَا وَالخِ َر ِة وَُأوْلـا ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ { سيظلون يقاتلونكم‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫حَ ِب َ‬
‫حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا‪ .‬ثم يختم الحق الية بقضية يقول فيها‪َ } :‬ومَن يَرْ َتدِدْ مِ ْن ُكمْ‬
‫عمَلُ ُه وَ ُهوَ‬
‫عَن دِي ِنهِ { هذه الية يقابلها آية أخرى يقول الحق فيها‪َ {:‬ومَن َيكْفُرْ بِالِيمَانِ َفقَدْ حَ ِبطَ َ‬
‫فِي الخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[المائدة‪]5 :‬‬
‫وإذا قارنّا بين اليتين نجد أن الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد ورد فيها قوله‪ } :‬فَ َي ُمتْ‬
‫عمَلُهُ‬
‫وَ ُهوَ كَافِرٌ { وفي سورة المائدة لم يرد هذا وإنما ورد قوله‪َ } :‬ومَن َي ْكفُرْ بِالِيمَانِ َفقَدْ حَبِطَ َ‬
‫{ وقد اختلف العلماء في المسألة اختلفات جميلة‪ .‬ولكنهم اتفقوا َأوّل على أن أي إنسان يرتد عن‬
‫السلم ثم يموت مرتدا فقد حبطت أعماله‪ .‬ولكن اختلفهم تركز فيما لو رجع وآمن مرة ثانية‪،‬‬
‫أي لم يمت وهو كافر‪ ،‬بل رجع فآمن بعد ردته‪ ،‬فهل حبط عمله أم لم يحبط؟‪.‬‬
‫وللمام الشافعي رأي يقول‪ :‬إن الذي يرتد عن الدين تحبط أعماله إن مات على الكفر‪ ،‬أما إن عاد‬
‫وأسلم مرة أخرى فإن أعماله التي كانت قبل الرتداد تكون محسوبة له‪ .‬والمام أبو حنيفة له رأي‬
‫مختلف فهو يقول‪ :‬ل‪ ،‬إن آية سورة المائدة ليس فيها } فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ كَافِرٌ { وعليه فإننا نحملها على‬
‫آية سورة البقرة التي ذكر فيها ذلك من باب حمل المطلق على المقيد‪ ،‬وعلى ذلك فالذي يكفر بعد‬
‫إيمانه عمله محبط سواء رجع إلى اليمان بعد ذلك أو لم يرجع‪ ،‬فل يحتسب له عمل‪.‬‬
‫أين موضوع الخلف إذن؟‪ .‬هي أن إنسانا آمن وأدى فريضة الحج ثم ل قدر ال كفر وارتد‪ ،‬ثم‬
‫رجع فآمن أتظل له الحجة التي قام بها قبل الكفر أم تحبط ويطلب منه حج جديد؟ هذه هي نقطة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الخلف‪ .‬فالشافعي يرى أنه ل يحبط عمله مادام قد رَجع إلى اليمان لن ال قال‪ } :‬فَ َي ُمتْ وَ ُهوَ‬
‫كَافِرٌ { فمعنى ذلك أنه إن لم يمت على الكفر فإن عمله ل يحبط‪ .‬ولكن ل يأخذ ثوابا على ذلك‬
‫الحج الذي سبق له أن أداه‪ ،‬لقد التفت المام الشافعي رضي ال عنه إلى شيء قد يغفل عنه كثر‬
‫من الناس‪ ،‬وهو أن الحج ركن من أركان السلم‪ ،‬فالذي ل يحج وهو قادر على الحج فال يعاقبه‬
‫على تقصيره‪ ،‬والذي حج ل يعاقب ويأخذ ثواب فعله‪.‬‬

‫فكأن العمال التي طلبها الحق سبحانه وتعالى إن لم تفعلها وكانت في استطاعتك عوقبت‪ ،‬وإن‬
‫فعلتها يمر عملك بمرحلتين‪ ،‬المرحلة الولى هي أل تُعاقب‪ ،‬والمرحلة الثانية هي أن تُثاب على‬
‫الفعل‪ .‬فالشافعي قال‪ :‬إن الشخص إذا فعل فعلً يُثاب عليه النسان‪ ،‬ثم كفر‪ ،‬ثم عاد إلى السلم‬
‫فهو ل يُعاقب‪ ،‬ولكنه يُثاب‪ .‬أما المام أبو حنيفة فقد قال‪ :‬إنه ل عبرة بعمله الذي سبق الردة‬
‫عمَاُلهُمْ { أي أبطلت وزالت‪ ،‬وكأنها لم تكن‪ .‬إن القرآن استخدم هنا‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫مصداقا لقوله تعالى‪ } :‬حَ ِب َ‬
‫كلمة " حبط " ‪ ،‬وهي تستخدم تعبيرا عن المر المحسوس فيقال‪ " :‬حبطت الماشية " أي أصابها‬
‫مرض اسمه الحباط‪ ،‬لنها تأكل لونا من الطعام تنتفخ به‪ ،‬وعندما تنتفخ فقد تموت‪ .‬والنبي عليه‬
‫الصلة والسلم يقول‪ " :‬إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم "‪.‬‬
‫إنه صلى ال عليه وسلم يحذرنا من أن الخير قد يندس فيه شر‪ ،‬مثلما يحدث في الربيع الذي ينبت‬
‫فيه من النبات الذي يعجب الماشية فتأكله فيأتيها مرض " الحُباط " ‪ ،‬فتنتفخ ثم تموت‪ ،‬أو " يلم "‬
‫أي توشك أن تموت‪ ،‬وكذلك العمال التي فعلها الكفار تصبح ظاهرة مثل انتفاخ البطن‪ ،‬وكل هذه‬
‫العمليات الباطلة ستحبط كما تحبط الماشية التي أكلت هذا اللون من الخضر‪ ،‬ثم انتفخت فيظن‬
‫المشاهد لها أنها سمنة؛ وبعد ذلك يفاجأ بأنه مرض‪ .‬لقد أعطانا ال من هذا القول المعنى‬
‫المحسوس لتشابه الصورتين؛ فالماشية عندما تحبط تبدو وكأنها نمت وسمنت‪ ،‬لكنه نمو غير‬
‫طبيعي إنه ليس شحما أو لحما‪ ،‬لكنه ورم‪ ،‬كذلك عمل الذين كفروا؛ عمل حابط‪ ،‬وإن بدا أنهم قد‬
‫قاموا بأعمال ضخمة في ظاهرها أنها طيبة وحسنة‪.‬‬
‫ويقول بعض الناس‪ :‬وهل يُعقل أن الكفار الذين صنعوا إنجازات قد استفادت منها البشرية‪ ،‬هل‬
‫من المعقول أن تصير أعمالهم إلى هذا المصير؟‪ .‬لقد اكتشفوا علجا لمراض مستعصية وخففوا‬
‫آلم الناس‪ ،‬وصنعوا اللت المريحة والنافعة‪ .‬ونقول لصحاب مثل هذا الرأي‪ :‬مهلً‪ ،‬فهناك‬
‫قضية يجب أن نتفق عليها وهي أن الذي يعمل عملً؛ فهو يطلب الجر ممن عمل له‪ ،‬فهل كان‬
‫هؤلء يعملون وفي بالهم ال أم في بالهم النسانية والمجد والشهرة‪ ،‬وما داموا قد نالوا هذا الجر‬
‫عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ‬
‫في الدنيا فليس لهم أن ينتظروا أجرا في الخرة‪ .‬لذلك يقول الحق‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫ج ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ َلمْ يَ ِ‬
‫ِبقِيعَةٍ يَحْسَ ُبهُ ال ّ‬
‫حسَابِ }[النور‪]39 :‬‬
‫الْ ِ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن الكافر يظن أن أعماله صالحة نافعة لكنها في الخرة كالسراب الذي يراه النسان في‬
‫الصحراء فيظنه ماء‪ ،‬ويجد نفسه في الخرة أمام لحظة الحساب فيوفيه ال حسابه بالعقاب‪ ،‬وليس‬
‫لهم من جزاء إل النار‪ ،‬وينطبق عليهم ما ينطبق على كل الكافرين بال‪ ،‬وهو } وَُأوْلـائِكَ‬
‫َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ {‪.‬‬

‫هذا وإن الحق سبحانه وتعالى يوضح حقيقة المر للمؤمنين به وبرسوله صلى ال عليه وسلم حتى‬
‫يعطيهم مناعة إيمانية ضد آمال الكافرين في الضرار بالمؤمنين‪ ،‬فيعلمنا أنهم لن يدخروا وسعا‬
‫حتى يردوكم عن دينكم؛ لن منهج ال دائما ل يخيف إل المبطلين؛ فالنسان السوي الذي يريد أن‬
‫يعايش العالم في سلم ويأخذ من الخير على قدر حركته في الوجود ل ترهقه سيادة مبادئ‬
‫السلم‪ ،‬إنما تُرهق مبادئ السلم هؤلء الذين يريدون أن يسرقوا عرق وكدّ غيرهم وهم يبذلون‬
‫كل الجهد ويستخدمون كافة الساليب التي تصرف المسلمين عن دينهم‪ ،‬ولكن هل يُمكّنهم ال من‬
‫ذلك؟ ل؛ فل يزال هناك أمل في الخير إن تمسكت أمة السلم بالمنهج الحق‪.‬‬
‫إنه سبحانه يعطي المناعة للمؤمنين‪ ،‬والمناعة ـ كما نعرف ـ هي أن تنقل للسليم ميكروب‬
‫المرض بعد إضعافه‪ ،‬وبذلك تأخذ أجهزة جسمه فرصة لن تنتصر على هذا الميكروب؛ لذلك قال‬
‫عمَاُلهُمْ {‪ .‬إن الخلف‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫ت وَ ُهوَ كَافِرٌ فَُأوْلـا ِئكَ حَبِ َ‬
‫الحق‪َ } :‬ومَن يَرْ َتدِدْ مِ ْنكُمْ عَن دِينِهِ فَ َيمُ ْ‬
‫الجوهري بين المؤمن والكافر‪ ،‬هو أن المؤمن إنما يعمل العمل الصالح وفي نيته أن المكافئ هو‬
‫ال‪ ،‬وهو يتجه بنية خالصة في كل عمل‪ .‬ويأخذ بأسباب ال في العلم لينتفع به غيره من الناس؛‬
‫فتكون الفائدة عميمة وعظيمة‪ ،‬وعلى المؤمن أن يكون سباقا إلى الكتشاف والختراع ونهضة‬
‫العالم المسلم‪ ،‬وأن يكون المؤمن العالم منارة تشع بضوء اليمان أمام الناس‪ ،‬ل أن يترك غيره‬
‫من الكافرين يصلون إلى المكتشفات العلمية وهو متواكل كسلن‪.‬‬
‫إن على المؤمن أن يأخذ بأسباب ال في الحياة؛ لن السلم هو دين ودنيا‪ ،‬وهو دين العلم‬
‫والتقدم‪ ،‬ويضمن لمن يعمل بمنهجه سعادة الدنيا وسعادة الخرة‪ .‬وإذا كان المؤمن يستمتع بإنتاج‬
‫يصنعه الكافر فليعلم أن الكافر إنما أخذ أجره مُسخرا ممن عمل له‪ ،‬أما المؤمن فحين يتفوق في‬
‫الصناعة والزراعة والعلم والكتشاف فهو يأخذ الجر في الدنيا وفي الخرة؛ لن الذي يعطي هنا‬
‫هو ال‪.‬‬
‫أما عمل الكافر فهو عمل من مسخر كالمطايا وكالجماد والنبات والحيوان المسخر لخدمة النسان‪.‬‬
‫وإذا كان ال قد ميز المؤمن على الكافر بالجر في الدنيا وحسن الثواب في الخرة‪ ،‬أل يليق‬
‫بالمؤمن أن يسبق الكافر في تنمية المجتمع السلمي‪ ،‬وأن يكون بعمله منارة هداية لمن حوله؟!‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَالّذِينَ هَاجَرُو ْا َوجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ُأوْلـا ِئكَ‬
‫ح َمتَ اللّهِ‪{ ...‬‬
‫يَرْجُونَ َر ْ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)220 /‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ‬
‫حمَةَ اللّ ِه وَاللّهُ َ‬
‫إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَالّذِينَ هَاجَرُوا وَجَا َهدُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولَ ِئكَ يَ ْرجُونَ َر ْ‬
‫(‪)218‬‬

‫إن الية قد عددت ثلثة أصناف‪ :‬الصنف الول هم الذين آمنوا‪ ،‬والصنف الثاني هم الذين‬
‫هاجروا‪ ،‬والصنف الثالث هم الذين جاهدوا‪ .‬إن الذين آمنوا إيمانا خالصا لوجه ال‪ ،‬وهاجروا‬
‫لنصرة الدين‪ ،‬وجاهدوا من أجل أن تعلو كلمة السلم هؤلء قد فعلوا كل ذلك وهم يرجون رحمة‬
‫ال‪ .‬ولقائل أن يقول‪ :‬أليست الرحمة مسألة متيقنة عندهم؟‬
‫ونقول‪ :‬ليس للعبد عند ال أمر متيقن؛ لنك قد ل نفطن إلى بعض ذنوبك التي لم تُحسن التوبة‬
‫منها‪ ،‬ول التوبة عنها‪ .‬وعليك أن نضع ذلك في بالك دائما‪ ،‬وأن تتيقن من استحضار نية‬
‫الخلص ل في كل عمل تقوم به؛ فقد تحدثك نفسك بشيء قد يفسد عليك عملك‪ ،‬وكذلك رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم وهو سيد الخلق وسيد الموصولين بربهم يقول‪ " :‬اللهم إني أعوذ بك من‬
‫علم ل ينفع وعمل ل يُرفع ودعاء ل يُسمع "‪.‬‬
‫إن الرسول الكريم وهو سيد المحتسبين في كل أعماله يعلمنا أن النفس قد تخالط صاحبها بشيء‬
‫يفسد الطاعة‪ .‬وعلى المسلم أن يظل في محل الرجاء‪ .‬والمؤمن الذي يثق في ربه ل يقول‪ :‬إن‬
‫على ال واجبا أن يعمل لي كذا؛ لن أصل عبادتك ل سبق أن دفع ثمنها‪ ،‬وما تناله من بعد ذلك‬
‫هو فضل من ال عليك‪ ،‬مدفوع ثمنها لك إيجادا من عدم وإمدادا من عُدْم‪ ،‬ومدفوع ثمنها بأن‬
‫متعك ال بكل هذه الشياء‪ ،‬فلو قارنت بين ما طلبه ال منك ـ على فرض أنك ل تستفيد منه ـ‬
‫فقد أفدت مما قدم لك أول‪ ،‬وكل خير يأتيك من بعد ذلك هو من فضل ال عليك‪ ،‬والفضل يرجى‬
‫ول يُتيقن‪.‬‬
‫وعظمة الحق سبحانه وتعالى في أنك تدعوه خوفا وطمعا‪ .‬ويقول هذا المثل ـ ول المثل العلى‬
‫ـ إن من عظمتك أمام والدك أنك تجد لك أبا تخاف منه‪ ،‬وترغب أن يحقق لك بعضا من‬
‫أحلمك‪ ،‬ولو اختلت واحدة من الثنتين لختلت البوة والبنوة‪.‬‬
‫كذلك عظمة الرب يُرغب ويُرهب‪ :‬إن رغبت فيه ولم ترهبه فأنت ناقص اليمان‪ ،‬وإن رهبت ولم‬
‫ترغب فإيمانك ناقص أيضا‪ ،‬لذلك لبد من تلزم الثنتين‪ :‬الرهبة والرغبة‪ .‬ولو تبصّر النسان ما‬
‫فرضه ال عليه من تكاليف إيمانية لوجد أنه يفيد من هذه التكاليف أضعافا مضاعفة‪ .‬فكل ما‬
‫يجازي به ال عباده إنما هو الفضل‪ ،‬وهو الزيادة‪ .‬وكل رزق للنسان إنما هو محض الفضل‪.‬‬
‫حبّ‬
‫خفْيَةً إِنّ ُه لَ يُ ِ‬
‫ومحض الفضل يُرجى ول يُتيقن‪ .‬وها هو ذا الحق يقول‪ {:‬ادْعُواْ رَ ّبكُمْ َتضَرّعا َو ُ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ح َمتَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ‬
‫طمَعا إِنّ َر ْ‬
‫خوْفا وَ َ‬
‫حهَا وَادْعُوهُ َ‬
‫ا ْل ُمعْتَدِينَ * َولَ ُتفْسِدُواْ فِي الَرْضِ َبعْدَ ِإصْلَ ِ‬
‫حسِنِينَ }‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫[العراف‪]56-55 :‬‬
‫إن الدنيا كلها مسخرة تحت قهر الرحمن ومشيئته وتسخيره‪ ،‬وله تمام التصرف في كل الكائنات‬
‫وهو الخالق البديع‪ ،‬لذلك فليدع النسان ال بخشوع وخضوع في السر والعلنية‪ ،‬والحق ل يحب‬
‫من يعتدي بالقول أو الرياء أو اليذاء‪.‬‬
‫إن اليمان يجب أن يكون خالصا ل‪ ،‬فل يفسد النسان الرض بالشرك أو المعصية؛ لن الحق قد‬
‫وضع المنهج الحق لصلح الدنيا وهو القرآن‪ ،‬ورسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ورحمة‬
‫ال قريبة من المطيعين للحق جل وعل‪.‬‬
‫إن عظمة الرب في أنه يُرغب ويُرهب؛ إن رغبت فيه ولم ترهبه فعملك غير مقبول‪ ،‬وإن رهبته‬
‫ولم ترغبه فعملك غير مقبول‪ .‬إن الرغب والرهب مطلوبان معا‪ ،‬لذلك فالمؤمن المجاهد في سبيل‬
‫ال يرجو رحمة ال‪.‬‬
‫ح َمتَ اللّهِ { ما هي الرحمة؟ الرحمة أل تبتلى باللم من أول‬
‫والحق يقول‪ُ } :‬أوْلـا ِئكَ يَرْجُونَ َر ْ‬
‫حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[السراء‪:‬‬
‫شفَآ ٌء وَ َر ْ‬
‫المر‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى يقول‪ {:‬وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫‪]82‬‬
‫الشفاء هو أن تكون مصابا بداء ويبرئك ال منه‪ ،‬لكن الرحمة‪ ،‬هي أل يأتي الداء أصل } وَاللّهُ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ {‪.‬‬
‫َ‬
‫وال سبحانه وتعالى يعلم عن عباده أن أحدا منهم قد ل يبرأ من أن يكون له ذنب‪ .‬فلو حاسبنا‬
‫بالمعايير المضبوطة تماما فلسوف يتعب النسان منا‪ ،‬ولذلك أحب أن أقول ـ دائما ـ مع إخواني‬
‫هذا الدعاء‪ " :‬اللهم بالفضل ل بالعدل وبالحسان ل بالميزان وبالجبر ل بالحساب "‪ .‬أي عاملنا‬
‫بالفضل ل بالعدل‪ ،‬وبإحسانك ل بالميزان‪ ،‬لن الميزان يتعبنا‪.‬‬
‫ولقد علمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن دخول الجنة ل يكون بالعمال وحدها‪ ،‬ولكن بفضل‬
‫ال ورحمته ومغفرته‪ .‬إن الرسول الكريم يقول‪ " :‬لن يدخل أحدكم الجنة بعمله‪ .‬فقالوا‪ :‬ول أنت يا‬
‫رسول ال‪ ،‬قال‪ :‬ول أنا حتى يتغمدني ال برحمته "‪.‬‬
‫إذن فالمؤمن يرجو ال ول يشترط على ال‪ ،‬إن المؤمن يتجه بعمله خالصا ل يرجو التقبل‬
‫خمْرِ‬
‫والمغفرة والرحمة‪ ،‬وكل ذلك من فضل ال‪ .‬ويأتي الحق لسؤال آخر‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ‬
‫وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَآ إِ ْثمٌ كَبِيرٌ‪{ ...‬‬

‫(‪)221 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س وَإِ ْث ُم ُهمَا َأكْبَرُ مِنْ َن ْفعِ ِهمَا وَيَسْأَلُو َنكَ‬
‫خمْرِ وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَا إِ ْثمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّا ِ‬
‫يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ‬
‫مَاذَا يُ ْن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َعفْوَ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ الْآَيَاتِ َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ (‪)219‬‬

‫والخمر ـ كما نعرف ـ مأخوذة من الستر‪ ،‬ويقال‪ " :‬دخل فلن خمرة " أي في أيكة من الشجار‬
‫ملتفة فاختبأ فيها‪ .‬و " الخِمار " هو القناع الذي ترتديه المسلمة لستر رأسها‪ ،‬وهو مأخوذ أيضا من‬
‫نفس المادة‪ .‬و " خامرة المر " أي خالطه‪ .‬وكل هذه المعاني مأخوذة من عملية الستر‪ .‬و "‬
‫الميسر " مأخوذ من اليسر؛ لنه يظهر للناس بمكاسب يسيرة بل تعب‪.‬‬
‫والخمر والميسر من المور التي كانت معروفة في الجاهلية‪ .‬والسلم حين جاء ليواجه نُظُما‬
‫جاهلية واجه العقيدة بل هوادة‪ ،‬ولم يجابهها ويواجهها على مراحل بل أزالها من أول المر‪،‬‬
‫ورفع راية " ل إله إل ال محمد رسول ال " ‪ ،‬ثم جاء السلم في المور التي تُعتبر من العادات‬
‫فبدأ يهونها؛ لن الناس كانت تألفها‪ ،‬لذلك أخذها بشيء من الرفق والهوادة‪ .‬وكان هذا من حكمة‬
‫الشرع‪ ،‬فلم يجعل الحكام في أول المر عملية قسرية فقد يترتب عليها الخلل في المجتمع وفي‬
‫الوجود كله‪ ،‬وإنما أخذ المور بالهوادة‪.‬‬
‫وإذا كانت الخمرة مأخوذة من الستر‪ ،‬فماذا تستر؟ إنها تستر العقل بدليل أن من يتعاطاها يغيب‬
‫عن وعيه‪ .‬ول يريد ال سبحانه وتعالى للنسان الذي كرمه ال بالعقل أن يأتي للشيء الذي كرمه‬
‫به ويُسَيّر به أمور الخلفة في الرض ويستره ويغيّبه‪ ،‬لن من يفعل ذلك فكأنه رد على ال‬
‫النعمة التي أكرمه بها‪ ،‬وهذا هو الحمق‪.‬‬
‫ثم إن كل الذي يتعاطون الخمر يبررون فعلهم بأنهم يريدون أن ينسوا هموم الدنيا‪ ،‬ونسأل هؤلء‪:‬‬
‫وهل نسيان الهموم يمنع مصادرها؟ ل‪ ،‬ولذلك فالسلم يطلب منك أن تعيش همومك لتواجهها‬
‫بجماع عقلك‪ ،‬فإذا كانت هناك هموم ومشكلت فالسلم ل يريد منك أن تنساها‪ ،‬ل‪ ،‬بل لبد أن‬
‫توظف عقلك في مواجهتها‪ ،‬وما دام المطلوب منك أن تواجه المشكلت بعقلك فل تأتي لمركز‬
‫إدارة المور الحياتية وهو العقل‪ ،‬والذي يعينك على مواجهة المشكلت وتقهره بتغييبه عن العمل‪.‬‬
‫وهل النسيان يمنع المصائب؟ إن الذي يمنع المصائب هو أن تحاول بجماع فكرك أن تجد السبيل‬
‫للخروج منها‪ ،‬فإذا كان المر ليس في استطاعتك فمن الحمق أن تفكر فيه؛ لن ال يريد منك أن‬
‫تريح عقلك في مثل هذه المور‪ ،‬وإن كان المر له حل وفي استطاعتك حله‪ ،‬فأنت تحتاج للعقل‬
‫بكامل قوته‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يرشدنا في هذه القضية بحكمة الحكيم‪ ،‬ويعطينا عطاء لنحكم نحن في المر‬
‫ل وَالَعْنَابِ تَتّخِذُونَ‬
‫قبل أن يطلب منا‪ .‬إنه ـ سبحانه ـ يمتن علينا ويقول‪َ {:‬ومِن َثمَرَاتِ النّخِي ِ‬
‫سكَرا وَرِزْقا حَسَنا }[النحل‪]67 :‬‬
‫مِنْهُ َ‬
‫سكَرا } مر عليها بل تعليق‪.‬‬
‫فعندما ذكر ال { َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وعندما قال‪ } :‬رِزْقا { وصفه بأنه } حَسَنا { فكان يجب أن نتنبه إلى أن ال يمهد لموقف السلم‬
‫من الخمر؛ فهو لم يصف " السكر " بأي وصف‪ ،‬وجعل للرزق وصفا هو الحسن؛ فالناس عندما‬
‫يستخرجون من هذه الثمرات سكرا‪ ،‬فهم قد أخرجوها عن الرزق الحسن‪ ،‬لن هناك فرقا بين أن‬
‫تأخذ من العنب غذاءً وبين أن تخمره فتفسده وتجعله ساترا للعقل‪.‬‬
‫وبعد ذلك فهناك فرق بين تشريع ونصح‪ .‬فعندما تنصح شخصا فأنت تقول له‪ :‬سأدلك على طريق‬
‫الخير وأنت حر في أن تسير فيه أو ل تسير‪ .‬وعندما تشرع وتضع الحكم‪ ،‬فأنت تأمر هذا‬
‫الشخص أو ذاك بأن يفعل المر ول شيء سواه‪.‬‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ { ‪ ،‬ذكر لنا المفاسد وترك لنا‬
‫والحق سبحانه وتعالى عندما قال‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ‬
‫الحكم عليها‪ ،‬قال سبحانه مُبَلغّا رسوله‪ُ } :‬قلْ فِي ِهمَآ إِ ْثمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّاسِ { ولو لم يقل } َومَنَافِعُ‬
‫لِلنّاسِ { لستغرب الناس وقالوا‪ :‬نحن نأخذ من الخمر منافع‪ ،‬ونكتسب منها‪ ،‬وننسى بها همومنا‪،‬‬
‫كانت هذه هي المنافع بالنسبة لهم‪ ،‬لكن الحق يوضح أن إثمهما أكبر من نفعهما‪ ،‬أي أن العائد من‬
‫وراء تعاطيهما أقل من الضرر الحادث منهما‪ ،‬وهذا تقييم عادل‪ ،‬فلم تكن المسألة قد دخلت في‬
‫نطاق التحريم‪ ،‬لنها مازالت في منطقة النصح والرشاد‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَإِ ْث ُمهُمَآ َأكْبَرُ مِن ّن ْف ِع ِهمَا { يجعل فيهما نوعا من الذنب‪ ،‬لقد كان التدرج في الحكم‬
‫أمرا مطلوبا لنه سبحانه يعالج أمرا بإلف العادة‪ ،‬فيمهد سبحانه ليخرجه عن العادة‪ .‬والعادة شيء‬
‫يقود إلى العتياد؛ بحيث إذا مر وقت ولم يأت ما تعوّ َدتْ عليه نفسيتْك ودمك يحدث لك‬
‫اضطراب‪ .‬وما دامت المسألة تقود إلى العتياد‪ ،‬فالفضل أن تسد الباب من أوله وتمنع العتياد‪.‬‬
‫لقد كانت بداية الحكم في أمر الخمر أن أحدا من المسلمين شرب الخمر قبل أن تُحرم نهائيا‪ ،‬وجاء‬
‫ليصلي‪ ،‬فقال‪ُ " :‬قلْ ياأَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ * أَعْ ُبدُ مَا َتعْبُدُونَ " وبعدها نزل تأديب الحق بقوله‪ {:‬يَا أَ ّيهَا‬
‫سكَارَىا حَتّىا َتعَْلمُواْ مَا َتقُولُونَ‪[} ..‬النساء‪]43 :‬‬
‫ل َة وَأَنْتُمْ ُ‬
‫الّذِينَ آمَنُواْ لَ َتقْرَبُواْ الصّ َ‬
‫وفي ذلك تدريب لمَنْ اعتاد على الخمر أل يقربها؛ فالنسان الذي يصلي صدر عليه الحكم أل‬
‫يقرب الصلة وهو سكران‪ ،‬فمتى يمتنع إذن؟ إنه يصحو من نومه فل يقرب الخمر حتى يصلي‬
‫الصبح‪ ،‬ويقترب الظهر فيستعد للصلة‪ ،‬ثم العصر بعد ذلك‪ ،‬ويليه المغرب فالعشاء‪ ،‬أي لن يصبح‬
‫عنده وقت ليشرب في الوقات التي ينتظر فيها الصلة‪ ،‬إذن فل تصبح عنده فرصة إل في آخر‬
‫الليل‪ ،‬فإذا ما جاء الليل يشرب له كأسا ثم يغط في نومه‪ .‬ويكون الوقت الذي امتنع فيه عن الخمر‬
‫أطول من الوقت الذي يتعاطى فيه الخمر‪.‬‬
‫ولما بدأ تعودهم على الخمر يتزعزع‪ ،‬حدثت بعض الخلفات والمشكلت التي دفعتهم لن يطلبوا‬
‫من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يوضح لهم حكما فاصلً في الخمر فنزل قوله تعالى‪:‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ع َملِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ‬
‫ب وَالَ ْزلَمُ رِجْسٌ مّنْ َ‬
‫خمْ ُر وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَا ُ‬
‫{ يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا الْ َ‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِ ِر وَ َيصُ ّدكُمْ‬
‫َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ * إِ ّنمَا يُرِيدُ الشّ ْيطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْ َن ُكمُ ا ْلعَدَا َو َة وَالْ َب ْغضَآءَ فِي الْ َ‬
‫لةِ َف َهلْ أَنْ ُتمْ مّن َتهُونَ }[المائدة‪]91-90 :‬‬
‫عَن ِذكْرِ اللّ ِه وَعَنِ الصّ َ‬
‫فقالوا‪ :‬انتهينا يا رب‪.‬‬
‫إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد بتحريم الخمر أن يحفظ على النسان عقله؛ لن العقل هو مناط‬
‫التكليف للنسان‪ ،‬وهو مناط الختيار بين البدائل‪ ،‬فأراد الحق أن يصون للنسان تلك النعمة‪.‬‬
‫إن هدف الدين في المقام الول سلمة الضرورات الخمس التي ل يستغني عنها النسان‪ :‬سلمة‬
‫النفس‪ ،‬وسلمة العرض‪ ،‬وسلمة المال‪ ،‬وسلمة العقل‪ ،‬وسلمة الدين‪ .‬وكل التشريعات تدور‬
‫حول سلمة هذه الضرورات الخمس‪ ،‬ولو نظرت إلى هذه الضرورات تجد أن الحفاظ عليها يبدأ‬
‫من سلمة العقل‪ ،‬فسلمة العقل تجعله يفكر في دينه‪ .‬وسلمة العقل تجعله يفكر في حركة الحياة‪.‬‬
‫وسلمة العقل تجعله يحتاط لصيانة العرض‪.‬‬
‫إذن فالعقل هو أساس العملية التكليفية التي تدور حولها هذه المسألة‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى يريد‬
‫أل يخمر النسان عقله بأي شيء مُسكر‪ .‬حتى ل يحدث عدوان على هذه الضرورات الخمس‪.‬‬
‫وقد جمع ال في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بين الخمر والميسر‪ ،‬وهو جل وعل‬
‫يريد أن يحمي غفلة الناس‪ .‬فلعب الميسر يتمثل في صورته البسيطة في اثنين يجلسان أمام‬
‫بعضهما البعض‪ ،‬وكل واحد منهما حريص على أن يأخذ ما في جيب الخر‪ ،‬فأي أخوة تبقى بين‬
‫ل منهما حريص على أن يعيد الخر إلى منزله خاوي الجيوب فأي أخوة تكون بين‬
‫هؤلء؟ إن ك ّ‬
‫الثنين؟‬
‫ومن العجيب أنك ترى الذين يلعبون الميسر في صورة الصحاب‪ ،‬ويحرص كل منهما على لقاء‬
‫الخر‪ ،‬فأي خيبة في هذه الصداقة؟!‬
‫ومن العجيب أن يقر كل من الطرفين صاحبه على فعله‪ ،‬يأخذ ماله ويبقى على صداقته‪ ،‬والعجيب‬
‫الكبر هو التدليس والسرقة بين الذين يتعودون على لعب الميسر‪ .‬ولو لحظت حياة هؤلء الذين‬
‫يلعبون الميسر تجدهم ينفقون ويبذرون بل احتياط ول ينتفعون أبدا بما يصل أيديهم من مال مهما‬
‫كان كثيرا‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن المال حين يُكتسب بيسر‪ ،‬يُصرف منه بل احتياط‪ ،‬هذا هو حال من يكسب‪ ،‬أما بالنسبة‬
‫للخاسر فتجده يعيش في الحسرة واللم على ما فقد‪ ،‬وتجده في فقر دائم‪ ،‬وربما اضطر إلى‬
‫التضحية بعرضه وشرفه‪ ،‬إن لم يبع ملبسه‪ ،‬وأعز ما يملك‪ ،‬ويحدث كل ذلك بأمان زائفة‪ ،‬وآمال‬
‫كاذبة يزينها الشيطان للطرفين‪ ،‬الذي كسب والذي خسر‪ ،‬فالذي كسب يتمنى زيادة ما معه من مال‬
‫أكثر وأكثر‪ ،‬والذي خسر يأمل أن يسترد ما خسره ويكسب‪.‬‬
‫وعندما يتعود النسان أن يكسب بدون حركة فكل شيء يهون عليه‪ ،‬ويعتاد أن يعيش على الكسب‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السهل الرخيص‪ ،‬وحين ل يجد من يستغفله ليلعب معه ربما سرق أو اختلس‪.‬‬

‫وهذا هو حال الذين يلعبون الميسر؛ إنهم أصحاب الرذائل في المجتمع‪ ،‬فهم الذين يرتشون‬
‫ويسرقون ويعربدون‪ ،‬ول أخلق عندهم وليس لهم صاحب ول صديق‪ ،‬وبيوتهم منهارة‪ ،‬وأسرهم‬
‫مفككة‪ ،‬وعليهم اللعنة حتى في هيئتهم وهندامهم‪.‬‬
‫س وَإِ ْث ُم ُهمَآ َأكْبَرُ مِن‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَآ إِ ْثمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّا ِ‬
‫ولذلك قال الحق‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ‬
‫ّن ْفعِ ِهمَا { وما دام الثم أكبر من النفع‪ ،‬فقد رجح جانب الثم‪ .‬هذا في العملية الذاتية‪ ،‬أما في العملية‬
‫سكَارَىا }[النساء‪]43 :‬‬
‫ل َة وَأَنْتُمْ ُ‬
‫الزمنية فقد قال سبحانه‪ {:‬لَ َتقْرَبُواْ الصّ َ‬
‫خمْ ُر وَا ْلمَيْسِرُ‬
‫وبعد ذلك أنهى ـ سبحانه ـ المسألة تماما بقوله الحق‪ {:‬يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا الْ َ‬
‫ع َملِ الشّ ْيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[المائدة‪]90 :‬‬
‫وَالَنصَابُ وَالَ ْزلَمُ ِرجْسٌ مّنْ َ‬
‫ثم تمضي الية إلى سؤال آخر هو } وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ُقلِ ا ْل َع ْفوَ { إنه السؤال نفسه من عمرو‬
‫ن وَالْيَتَامَىا‬
‫ن وَالَقْرَبِي َ‬
‫بن الجموح وكان الجواب عليه من قبلُ هو } ُقلْ مَآ أَ ْنفَقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَاِلدَيْ ِ‬
‫ن وَابْنِ السّبِيلِ { وهنا جواب بشكل وصورة أخرى } ُقلِ ا ْل َعفْوَ { والعفو معناه الزيادة‬
‫وَا ْلمَسَاكِي ِ‬
‫خذْنَا أَهَْلهَا بِالْبَأْسَآءِ‬
‫وفي ذلك يقول الحق ـ سبحانه وتعالى ـ‪َ {:‬ومَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مّن نّ ِبيّ ِإلّ أَ َ‬
‫ع َفوْ ْا ّوقَالُواْ َقدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّآءُ‬
‫وَالضّرّآءِ َلعَّلهُمْ َيضّرّعُونَ * ُثمّ بَدّلْنَا َمكَانَ السّيّئَةِ الْحَسَ َنةَ حَتّىا َ‬
‫شعُرُونَ }[العراف‪]95-94 :‬‬
‫خذْنَاهُمْ َبغْ َت ًة وَهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫وَالسّرّآءُ فَأَ َ‬
‫إن ال ـ جلت قدرته ـ يحذر وينذر لعل الناس تتذكر وتعتبر‪ ،‬إنه ـ سبحانه ـ لم يرسل نبيّا‬
‫إلى قو ٍم فقابلوه بالتكذيب والنكران إلّ أخذهم وابتلهم بالفقر والبؤس والمرض والضر لعلهم‬
‫يتوبون إلى ربهم ويتذلّلون له ـ سبحانه ـ ليرفع عنهم ما ابتلهم به‪ ،‬ثم لما لم يرجعوا ويقلعوا‬
‫عما هم فيه من الكفر والعناد اختبرهم وامتحنهم بالنعم؛ بالخصب والثراء والعافية والرخاء حتى‬
‫كثروا وزادت أموالهم وخيراتهم‪ ،‬وقالوا ـ وهم في ظل تلك النعم ـ‪ :‬إن ما يصيبنا من سراء‬
‫وضراء وخير وشر إنما هو سنة الكون‪ ،‬وعادة الدهر‪ ،‬فأسلفنا وآباؤنا كان يعتريهم مثل ما‬
‫يصيبنا‪ ،‬ولما أصروا على كفرهم باغتهم ال بالعذاب‪ ،‬وأنزل بهم العقاب المفاجئ‪ .‬قلبهم ال بين‬
‫الشدة والرخاء‪ ،‬وعالجهم بالضر واليسر‪ ،‬حتى ل تكون لهم حجة على ال‪ ،‬ولما ظهرت خسة‬
‫طبعهم وأقاموا على باطلهم أخذهم ال أخذ عزيز مقتدر‪ .‬ولنتأمل قوله تعالى في ذلك‪ {:‬وَلَقَدْ أَ ْرسَلنَآ‬
‫إِلَىا ُأمَمٍ مّن قَبِْلكَ فََأخَذْنَا ُهمْ بِالْبَأْسَآ ِء وَالضّرّآءِ َلعَّلهُمْ يَ َتضَرّعُونَ * فََلوْل ِإذْ جَآءَهُمْ بَ ْأسُنَا َتضَرّعُواْ‬
‫ستْ قُلُو ُبهُ ْم وَزَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ مَا كَانُواّ َي ْعمَلُونَ * فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ‬
‫وَلَـاكِن َق َ‬
‫خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبِْلسُونَ }‬
‫شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَ َ‬
‫أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬

‫[النعام‪]44-42 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي لم نعجل بعقابهم بل تركناهم فتمادوا في المعصية حتى إذا فرحوا بما أتوا من النعمة والثروة‬
‫خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبِْلسُونَ { أي يائسون من رحمة ال أو نادمون متحسرون‪،‬‬
‫وكثرة العدد‪ } ،‬أَ َ‬
‫ول ينفعهم الندم حينئذ‪ .‬فقد فاتت الفرصة وضيّعوها على أنفسهم‪.‬‬
‫إن الحق ينزل هذا المر كعقاب وبه تكون النقلة صعبة‪ ،‬إنهم يتمادون فيعاقبهم الحق عقابا‬
‫صاعقا‪ ،‬كالذي يرفع كائنا في الفضاء ثم يتركه ليهوى على الرض‪ ،‬والعفو هنا يمكن أن يكون‬
‫ع ِفيَ َلهُ مِنْ‬
‫بمعنى أنهم ازدادوا في الطغيان‪ .‬وهناك معنى آخر للعفو فقد يأتي بمعنى الترك‪َ {:‬فمَنْ ُ‬
‫شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ }[البقرة‪]178 :‬‬
‫أَخِيهِ َ‬
‫أي فمن ترك له أخوه شيئا فليأخذه‪ .‬إذن فالعفو تارة يكون بمعنى الزيادة‪ ،‬وتارة أخرى يكون‬
‫بمعنى الترك‪ ،‬والحق هنا يقول‪ } :‬وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َع ْفوَ { أي أن النفاق إنما يكون من‬
‫الزائد عن الحاجة‪ ،‬فيكون معنى العفو هنا هو الزائد أو المتروك‪ ،‬وهكذا نرى أن العفو واحد في‬
‫كل المرين‪ ،‬فل تظن أن المعاني تتضارب؛ لن بها يتحقق المعنى المقصود في النهاية‪ .‬فالعفو‬
‫هو الزيادة‪ ،‬والعفو أيضا يؤخذ بمعنى الصفح‪.‬‬
‫إذن فالنفاق من الزائد عن الحاجة يحقق الصفح ويحقق الرفاهية في المجتمع‪ .‬فالذي يزرع أرضا‬
‫وينتج ما يكفيه هو وعياله ويزيد‪ ،‬فهل يترك ما يزيد عن حاجته ليفسد أم ينفق منه على قريبه أو‬
‫جاره المحتاج؟ أيهما أقرب إلى العقل والمنطق؟ وكان ذلك قبل أن يشرع الحق الزكاة بنظامها‬
‫المعروف‪ .‬وما سر تبديلها من عفو إلى زكاة؟‬
‫لن الحق أراد أن يقدر حركة المتحرك‪ ،‬فجعل حركته تخفف عنه ول تثقل عليه‪ .‬لن حركة‬
‫المتحرك تنفع المتحرك‪ ،‬أراد المتحرك أو لم يرد؛ ولذلك نجد " زكاة الركاز " وهي الزكاة‬
‫المفروضة على ما يوجد في باطن الرض من ثروات كالمعادن النفيسة والبترول وغيرها‪ ،‬لقد‬
‫جعل الحق نصاب تلك الزكاة عشرين في المائة‪ ،‬أي الخمس بينما الذي يحرث الرض ويبذر فيها‬
‫الحب ويتركها حتى ينزل المطر فتنمو فنصاب الزكاة هو العشر على ما أنتجته زراعته‪.‬‬
‫وأما الذي يزرع على ماء الري فعليه نصف العشر‪ .‬والذي يتاجر كل يوم ويتعب فيذهب للمنتج‬
‫ويشتري منه‪ ،‬ثم يوفر السلعة على البائع فيشتريها‪ ،‬هذا نقول له‪ :‬عليك اثنان ونصف في المائة (‬
‫‪ )%2.5‬فقط‪.‬‬
‫إذن فالزكاة متناسبة مع الحركة والجهد‪ ،‬كأن الحق يحمي الحركة النسانية من حمق التقنين‬
‫البشري‪ .‬إن المتحرك القوي يدفعه ال ليزيد من حركته لينتفع المجتمع‪ ،‬وأوكل ال للحاكم الذي‬
‫خلَ الغنياء بفضل ال‬
‫يتبع منهج السلم أن يأخذ من الثرياء ما يقيم به كرامة الفقراء‪ .‬إِنْ بَ ِ‬
‫عليهم‪ ،‬ولم ينفقوا على الفقراء من رزق ال؛ فالمنهج الحق يحمي المال من فساد الطمع‪ ،‬ومن‬
‫فساد الكسل‪ ،‬ويريد الحياة مستقيمة وآمنة للناس‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالذي ينفق من ماله على أهله يحيا وهو آمن‪ .‬وكذلك من ينفق على أهله وتوابعه فتزداد دائرة‬
‫المان‪ ،‬وهكذا لقد حمى ال بالزكاة طموح البشر من حمق التقنين من البشر‪ ،‬فالمقنن من البشر‬
‫يأتي للمتحرك أكثر ويزيد عليه العباء‪ ،‬نقول له‪ :‬إن هذا المتحرك إن لم يقصد أن ينفع المجتمع‬
‫فالمجتمع سينتفع بجهده بالرغم عنه؛ فالنسان الذي يملك مال يُلقي ال خاطرا في باله‪ ،‬فيقول‪" :‬‬
‫ماذا لو بنيت عمارة من عشرة أدوار‪ ،‬وفي كل دور أربع شقق " ويحسب كم تعطيه تلك العمارة‬
‫من عائد كل شهر‪ .‬إن هذا الرجل لم يكن في باله إل أن يربح‪ ،‬فنتركه يفكر في الربح‪ ،‬وعندما‬
‫نراقب الفائدة التي ستعود على المجتمع منه فسنجد الفائدة تعود على المجتمع من هذا العمل‪ ،‬ولنا‬
‫أن نحسب كم فردا سوف يعمل في بناء تلك العمارة الجديدة؟ ابتداء من البنائين ومرورا بالنجارين‬
‫والحدادين والمبيضين والسباكين وغيرهم‪.‬‬
‫إن كل طبقات المجتمع الفقيرة تكون قد أفادت واستفادت من مال هذا الرجل قبل أن يدخل جيبه‬
‫مليم واحد؛ لقد ألقى ال في نفسه خاطرا‪ ،‬فأخرج كل ما في جيبه‪ ،‬وألقاه في جيوب الخرين قبل‬
‫أن توجد له عمارة‪ .‬وهكذا يحمي ال حركة المتحرك لن حركته ستفيد سواه قصد إلى ذلك أو لم‬
‫يقصد‪.‬‬
‫أما إذا قلنا له‪ :‬سنأخذ ما يزيد عن حاجتك قسرا فل بد أن يقول لنفسه‪ " :‬سأجعل حركتي على قدر‬
‫حاجتي ول أزيد إل قليل "‪ .‬والحق عز وجل ل يريد أن يشيع هذا المنطق بين الناس‪ ،‬ولكن يريد‬
‫لهم أن يتحركوا في الحياة بالجدية والحلل‪ ،‬وكلما تكثر حركتهم تقل الزكاة المفروضة عليهم‪ ،‬لن‬
‫الحركة ل يستفيد منها صاحبها فقط ولكن يستفيد منها الجميع‪ ،‬فبعضه يسكن‪ ،‬وآخر يزرع‪ ،‬وثالث‬
‫يعمل‪ ،‬وخير للنسان أن يأكل من عمل يديه من أن يأكل من صدقات الناس وزكاتهم‪.‬‬
‫عن المقدام بن معد يكرب أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬ما أكل أحد طعاما قط خيرا‬
‫من أن يأكل من عمل يده‪ ،‬وإن نبي ال داود عليه السلم كان يأكل من عمل يده "‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬فِي الدّنْيَا وَالخِ َر ِة وَيَسَْألُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَىا ُقلْ ِإصْلَحٌ ّلهُمْ خَيْرٌ‪{ ...‬‬

‫(‪)222 /‬‬

‫خوَا ُنكُ ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ‬


‫فِي الدّنْيَا وَالْآَخِ َرةِ وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَى ُقلْ ِإصْلَاحٌ َلهُمْ خَيْ ٌر وَإِنْ ُتخَالِطُو ُهمْ فَإِ ْ‬
‫حكِيمٌ (‪)220‬‬
‫ح وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَأَعْنَ َت ُكمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِ ِ‬

‫إن الحق يبدأ هذه الية بقوله‪ { :‬فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ } وكأنه يقول لنا‪ :‬إياك أن تعتقدوا أن كل‬
‫تكليف من ال جزاؤه في الخرة فقط‪ ،‬أبدا إن الجزاء سيصيبكم في الدنيا أيضا‪.‬‬
‫وتأمل سيرة المستقيمين الملتزمين بمنهج دينهم ومنهج الخلق في حياتهم تجدهم قد أخذوا‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جزاءهم في الدنيا رضا وسعادة وأمنا حتى أنك تجد الناس تتساءل‪ :‬كيف ربى فلن أولده‪ ،‬وكيف‬
‫علمهم برغم أن مرتبه بسيط؟‬
‫هم ل يعلمون أن يد ال معه بالبركة في كل حركات حياته‪ .‬فل تظن أن الجزاء مقصور على‬
‫الخرة فقط‪ ،‬بل يعجل ال بالجزاء في الدنيا‪ ،‬أما الخرة فهي زيادة ونحن نأخذ متاع الخرة‬
‫بفضل ال‪ .‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬لن يدخل أحدكم الجنة بعمله‪ ،‬قالوا‪ :‬ول أنت يا‬
‫رسول ال‪ ،‬قال‪ :‬ول أنا إل أن يتغمدني ال برحمته "‪.‬‬
‫وأحب أن يتأمل كل منا أحوال الناس المستقيمين في منهج الحياة‪ ،‬ويرى كيف يعيشون وكيف‬
‫ينفقون على أولدهم‪ ،‬ويتأمل البشر والرضا الذي يتمتعون به وكيف تخلو حياتهم من المشاكل‬
‫والعقد النفسية‪.‬‬
‫وكأنه سبحانه وتعالى يلفتنا إلى أن كل ما جاء في المنهج القويم‪ ،‬إنما جاء لينظم لنا حركة الحياة‬
‫ويخرجنا من أهواء النفوس‪.‬‬
‫ونقول بعد أن استكمل الحق الكلم عن الحج وهو الركن الخامس من أركان السلم‪ ،‬بين لنا‬
‫صنفين من المجتمع‪ :‬أما الصنف الول فهو الصنف المنافق الذي ل ينسجم منطقه مع واقع قلبه‬
‫خصَامِ‬
‫شهِدُ اللّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْبِ ِه وَ ُهوَ أََلدّ الْ ِ‬
‫ونفسه‪َ {:‬ومِنَ النّاسِ مَن ُي ْعجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ‬
‫حبّ الفَسَادَ }[البقرة‪:‬‬
‫ل وَاللّ ُه لَ ُي ِ‬
‫سَ‬‫ث وَالنّ ْ‬
‫سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ الْحَ ْر َ‬
‫* وَإِذَا َتوَلّىا َ‬
‫‪]205-204‬‬
‫وليت هذا الصنف حين يتنبه إلى ذلك يرتدع ويرجع‪ ،‬ل‪ ،‬إنه إذا قيل له من ناصح محب مشفق‪" :‬‬
‫اتق ال " أخذته العزة بالثم!!‪ .‬والصنف الخر في المجتمع هو من يشري نفسه ابتغاء مرضاة‬
‫ال‪ ،‬ويتمثل ذلك في أنه إما أن يبيع نفسه في القتال فيكون شهيدا‪ ،‬وإما أن يستبقيها استبقاءً يكون‬
‫فيه الخير لمنهج ال‪ .‬فقال سبحانه‪َ {:‬ومِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي َنفْسَهُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَاللّهُ َرؤُوفٌ‬
‫بِا ْلعِبَادِ }[البقرة‪]207 :‬‬
‫ثم تكلم الحق عن الدخول في السلم كافة‪ ،‬والدخول في السلم أي السلم يطلب منا أن ندخل جميعا‬
‫في كل أنواع السلم في الحياة‪ ،‬سلم مع نفسك فل تتعارض ملكاتك‪ ،‬فل تقول قولً يناقض قلبك‪،‬‬
‫وسِلمٌ مع المجتمع الذي تعيش فيه‪ ،‬وسلم مع الكون الذي يخدمك جمادا ونباتا وحيوانا‪ ،‬وسلم مع‬
‫طوَاتِ‬
‫خُ‬‫خلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً وَلَ تَتّ ِبعُواْ ُ‬
‫أمتك التي تعيش فيها‪ ،‬فقال سبحانه‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ادْ ُ‬
‫الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َلكُمْ عَ ُدوّ مّبِينٌ }‬

‫[البقرة‪]208 :‬‬
‫كل ذلك يدلنا على أن الحق حين خلق الخلق‪ ،‬وضع لهم المنهج الذي يضمن لهم السلمة والمن‬
‫في كل أطوار هذه الحياة‪ ،‬فإن رأيت خللً أو اضطرابا في الكون‪ ،‬أو رأيت خوفا أو قلقا فاعلم أن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫منهجا من مناهج السلم قد عُطل‪ .‬والحق سبحانه وتعالى حينما يأمرنا أن ندخل في السلم كافة‬
‫فهو سبحانه يحذرنا أننا إن زللنا عن المنهج فإن ال عزيز حكيم فل يغلبه أحد‪ ،‬ول يقدر عليه‬
‫أحد‪ ،‬فهو القادر القوي الذي يُجري كل شيء بحكمة‪ ،‬فل تظنوا أنكم بذلك تسيئون إلى ال بالزلل‬
‫عن منهجه‪ ،‬وإنما تسيئون إلى أنفسكم وإلى أبناء جنسكم؛ لن ال ل يُغلب‪.‬‬
‫وينبهنا الحق سبحانه تنبيها آخر‪ ،‬إنه يلفتنا إلى أننا ل نملك أمر الساعة‪ ،‬فالساعة تأتي بغتة‬
‫ومفاجئة‪ ،‬وصاخة طامة‪ ،‬مرجفة مزلزلة‪ .‬فاحذروا أن تصيبكم هذه الرجفة وأنتم في غفلة عنها‪.‬‬
‫وكل ذلك لندخل أيضا في السلم في اليوم الخر‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يلفتنا إلى أن كلمات القرآن‬
‫ليست مجرد كلمات نظرية‪ ،‬ولكنها كلمات الحكيم الخبير التي حكمت تاريخ المم التي سبقت‬
‫دعوة محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فكم من آيات أرسلها الحق إلى بني إسرائيل فتلكأوا وكان منهم ما كان‪ ،‬وشقوا هم‪ ،‬وشقي بهم‬
‫المجتمع‪ ،‬إذن فالكلم ليس كلما نظريا‪ .‬ويريد ال لنا أن ننظر بعمق إلى أمور الحياة‪ ،‬وأل ننظر‬
‫إلى سطحيات المور‪ ،‬فيجب أل تخدعنا زينة الحياة الدنيا عن الحياة الخرة؛ لن الحياة الدنيا‬
‫َأمَدُها قصير‪ ،‬وعلينا أن نقيس عمر الدنيا بأعمارنا منها‪ ،‬وأعمارنا فيها قصيرة؛ لن منا من يموت‬
‫كبيرا ومنا من يموت صغيرا‪.‬‬
‫ويبين لنا الحق سبحانه أنه لم يترك خلقه هملً‪ ،‬وإنما أرسل لهم رسُلً يبينون لهم منهج ال‪ ،‬فكان‬
‫الناس أمة واحدة مجتمعة على الحق إلى أن تحركت الهواء في نفوسهم‪ ،‬ومع ذلك رحمهم ال فلم‬
‫يسلمهم إلى الهواء‪ ،‬بل استمر موكب الرسالت في البشر‪ ،‬وكلما غلبتهم الهواء وطم الفساد‪،‬‬
‫أرسل الحق برحمته رسول لينبه إلى أن جاء الرسول الخاتم الذي ميزه ال بخلود منهجه‪ ،‬وجعل‬
‫القيم في أمته‪ .‬وصارت المة المحمدية هي حاملة أمانة حراسة المنهج الذي يصون حركة الحياة‬
‫في الرض؛ لن الحق سبحانه لم يأمن أمة سواها‪ ،‬ولذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫خاتم النبياء‪.‬‬
‫ثم نبهنا ال من بعد ذلك إلى أن نهاية النسان إلى نعيم ال في الجنة لن يأتي سهلً ميسورا‪ ،‬بل‬
‫هو طريق محفوف بالمكارة‪ ،‬فيجب أن تنبهوا أنفسكم وتروضوها وتدربوها على تحمل هذه‬
‫المكاره‪ ،‬وتوطنوها على تحملها لتلك المشاق‪ .‬كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬حفت‬
‫الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات "‪.‬‬

‫ويمتن الحق من بعد ذلك على خلقه أنه أهدى للنسان الخليفة في الرض عقلً يفكر به‪ ،‬وطاقة‬
‫تنفذ تخطيط العقل‪ ،‬وكونا ماديا أمامه يتفاعل معه في الحركة‪ :‬فالعقل يخطط‪ ،‬والطاقة تنفذ في‬
‫المادة المخلوقة المسخرة ل‪ .‬إذن فكل أدوات الحركة موجودة ل‪ ،‬وليس لك أيها النسان أن تخلق‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيئا فيها إل أن تُُوجه طاقات مخلوقة للعمل في مادة مخلوقة‪ ،‬فأنت ل توجد شيئا‪.‬‬
‫وبعد ذلك يطلب الحق منك أيها المسلم أن تحافظ على حركة الحياة‪ ،‬بأن تقدر للعاجز عن هذه‬
‫الحركة نصيبا من حركتك؛ لذلك فعليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك‪ ،‬وتسع من تعول‪ ،‬وتسع‬
‫العاجز عن الحركة‪ .‬وبذلك تؤمّن السماء كل عاجز عن الحركة بحركة المتحركين من إخوانه‬
‫المؤمنين‪ ،‬وهو سبحانه يطمئنك بأنك إذا فعلت ذلك وَأمّنْتَ العاجز‪ ،‬فهو ـ جل وعل ـ يؤمنك‬
‫حين يطرأ عليك العجز‪.‬‬
‫لقد جعل ال سبحانه حالة الحياة دولً بين الناس‪ ،‬فل يوجد قوم قادرون دائما ول قوم عاجزين‬
‫دائما‪ ،‬بل يجعل الحق من القادرين بالمس عاجزين اليوم؛ ومن العاجزين بالمس قادرين اليوم؛‬
‫حتى تتوزع الحركة في الوجود‪ .‬وحتى يعلم كل منا أن ال يطلب منك حين تقدر؛ ليعطيك حين‬
‫تعجز‪ .‬لذلك طلب منا أن ننفق‪ ،‬والنفقة على الغير ل تتأتى إل بعد استيفاء النسان ضروريات‬
‫حياته‪ ،‬فكأن الحق يقول لك‪ :‬إن عليك أن تتحرك في الحياة حركة تسعك وتسع أن تنفق على من‬
‫تعول‪ ،‬وإل لو تحركت حركة على قدرك فقد ل تجد ما تنفقه‪.‬‬
‫وبعد ذلك يكلفنا سبحانه بأن كل مؤمن عليه أن يأخذ مسئولية النفاق على الدائرة القريبة منه؛‬
‫ليتحمل كل موجود في الحياة مسئولية قطاع من المجتمع مربوط به رباطا نَسَبِيّا؛ كالوالدين‬
‫والقربين‪ .‬وأن نجعل الضعفاء من اليتام مشاعا على المجتمع مطلوبين من الجميع‪ .‬سواءٌ كانت‬
‫تربطهم بنا قرابة أو ل تربطنا بهم قرابة فهم جميعا أقاربنا؛ لن ال كلفنا بأن نرعاهم‪.‬‬
‫ولكن هل يمكن أن يستقر منهج ال دون أن يعاديه أحد؟ طبعا ل؛ لذلك ينبهنا الحق إلى أننا سنجد‬
‫أقواما ل يسعدهم أن يطبق منهج ال في الوجود؛ لنهم ل يعيشون إل على مظالم الناس‪ ،‬هؤلء‬
‫قوم سيسوؤهم أن يُطبق منهج ال‪ ،‬فلتنتبهوا لهؤلء؛ ولذلك فرض الحق سبحانه القتال حتى نمنع‬
‫الفتنة بالكفر من الرض؛ لن الكفر يعدد اللهة في الكون وسيتبع كل إنسان الهوى‪ ،‬ويصبح إلهه‬
‫هواه وستتعدد اللهة بتعدد الهواء‪ ،‬ولذلك كتب ال على المؤمنين القتال وقال‪ } :‬وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ‬
‫{ ‪ ،‬كل ذلك ليضمن لنا الغاية التي يريدها‪ ،‬وهي الدخول في السلم والسلم والسلم كافة‪ .‬وبعد‬
‫ذلك يطلب منا أن نجاهد بأموالنا وأنفسنا وأن نهجر أوطاننا وأهلنا إن احتاجت إلى ذلك الحركة‬
‫ح َمتَ‬
‫اليمانية فقال‪ {:‬إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ُأوْلـا ِئكَ يَرْجُونَ رَ ْ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }‬
‫اللّ ِه وَاللّهُ َ‬

‫[البقرة‪]218 :‬‬
‫ويلفتنا الحق بعد ذلك إلى قمة الجهاز التخطيطي في النسان ليحميه ويجعله جهازا سليما قادرا‬
‫على التخطيط بصفاء وحكمة وقوة‪ ،‬وهو العقل‪ ،‬ويلفتنا بضرورة أن نمنع عن العقل كل ما يخمره‬
‫أي يستره عن الحركة نمنع عنه الخمر لماذا؟ ليظل العقل كما يريده ال أداة الختيار بين البدائل‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وما دام العقل هو الذي يخطط للطاقة الموجودة في النسان لتعمل في المادة الموجودة في الكون‬
‫فيجب أن يظل هذا العقل المخطط سليما‪ ،‬فل يحاول النسان أن يستره‪ ،‬ول يقل أحد‪ " :‬إني أستره‬
‫ل واحدا منك فقط‪ ،‬ولكنها تريد عقلين‪،‬‬
‫من فرط زيادة المشكلت " ‪ ،‬ل‪ :‬لن المشكلت ل تريد عق ً‬
‫فل تأتي للعقل الواحد لتطمسه بالخمر‪ ،‬فمواجهة المشكلت تقتضي أن نخطط تخطيطا قويا‪.‬‬
‫وبعد ذلك يحذرنا الحق أن نأخذ من حركة الخرين بغير عرق وبغير جهد‪ ،‬فيحذرنا من الميسر‬
‫وهو الرزق السهل‪ ،‬والتحذير من الميسر إنما جاء ليضمن لكل إنسان أن يتحرك في الحياة حركة‬
‫سليمة ل خداع فيها‪ .‬وكأن كل ما تقدم هو من إشراقات قوله الحق‪ } :‬فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ { ومن‬
‫بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَىا ُقلْ ِإصْلَحٌ ّلهُمْ خَيْ ٌر وَإِنْ تُخَاِلطُوهُمْ‬
‫حكِيمٌ }[البقرة‪]220 :‬‬
‫خوَا ُنكُ ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِ وََلوْ شَآءَ اللّ ُه لَعْنَ َتكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫فَإِ ْ‬
‫ونعرف أن اليتامى قد ل يدخلون في دائرة المحتاجين لكن ال ينبهنا إلى أن المسألة في اليتيم‬
‫ليست مسألة احتياج إلى القتيات‪ ،‬ولكنه في حاجة إلى أن نعوضه بالتكافل اليماني عما فقده من‬
‫الب‪ ،‬وذلك يمنع عنه الحقد على الطفال الذين لم يمت آباؤهم‪ .‬وحين يجد اليتيم أن كل المؤمنين‬
‫آباء له فيشعر بالتكافل الذي يعوضه حنان الب ول يعاني من نظرة السى التي ينظر بها إلى‬
‫أقرانه المتميزين عليه بوجود آبائهم‪ ،‬وبذلك تخلع منه الحقد‪.‬‬
‫وكان المسلمون القدامى يخلطون أموالهم بأموال اليتامى ليسهلوا على أنفسهم‪ ،‬وعلى أمر حركة‬
‫اليتيم مئونة العمل‪ ،‬فلو أن يتيما دخل تحت وصاية إنسان‪ ،‬وأراد هذا النسان أن يجعل لليتيم‬
‫القاصر حياة مستقلة وإدارة مستقلة ومسلكا مستقلً في الحياة لشق ذلك على نفس الرجل‪ ،‬ولذلك‬
‫أذن ال أن يخلط الوصي ماله بمال اليتيم‪ ،‬وأن يجعل حركة هذا المال من حركة ماله‪ ،‬بما ل‬
‫يوجد عند الوصي مشقة‪ .‬ولما نزل قوله تعالى‪َ {:‬ولَ َتقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ }‬
‫[النعام‪]152 :‬‬
‫وتحرج الناس‪ ،‬وتساءلوا كيف يعاملون اليتيم خصوصا أن الحق سبحانه وتعالى قال‪ {:‬إِنّ الّذِينَ‬
‫ظلْما إِ ّنمَا يَ ْأكُلُونَ فِي ُبطُو ِنهِمْ نَارا }[النساء‪]10 :‬‬
‫يَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ الْيَتَامَىا ُ‬
‫وكف الناس أيديهم عن أمر اليتامى‪ ،‬وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يسهل المر‪ ،‬فأنزل القول‬
‫خوَا ُنكُمْ { والمخالطة تكون على أساس أن اليتامى‬
‫الحق‪ُ } :‬قلْ ِإصْلَحٌ ّل ُهمْ خَيْ ٌر وَإِنْ ُتخَالِطُو ُهمْ فَإِ ْ‬
‫إخوانكم واحذروا جيدا أن يكون في هذا الخلط شيء ل يكون فيه إصلح لليتيم‪.‬‬

‫وإياكم أن تفهموا أن الشكلية الجتماعية تكفي الوصي في أن يكون مشرفا على مال اليتيم دون‬
‫حساب؛ لن ال يعلم المفسد من المصلح‪ .‬فل يحاول أحد أن يقول أمام الناس‪ :‬إنه قد فتح بيته‬
‫لليتيم وإنه يرعى اليتيم بينما المر على غير ذلك؛ لن ال يعلم المفسد من المصلح‪.‬‬
‫ويقول الحق‪ } :‬وََلوْ شَآءَ اللّ ُه لَعْنَ َتكُمْ { والعنات هو أن توقع غيرك وتدخله في أمر فيه مشقة‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فلو لم يبح ال لكم مخالطتهم لصابتكم مشقة فيسر ال للمؤمنين من الوصياء أن يخالطوا اليتامى‪،‬‬
‫ومعنى المخالطة‪ :‬هو أن يُوحد الوصي حركة اليتيم مع حركته‪ ،‬وأن يوحد معاش اليتيم مع‬
‫معاشه‪ ،‬بدلً من أن يكون لليتيم على سبيل المثال أدوات طعام مستقلة‪ ،‬وقد كان هذا هو الحاصل‪.‬‬
‫وكان يفسد ما يتبقى من الطعام؛ فلم تكن هناك وسائل صيانة وحفظ الطعمة مثل الثلجات‪ ،‬وكان‬
‫ذلك ضررا باليتيم‪ ،‬وضررا أيضا بمن يشرف عليه‪ .‬لكن حين قال‪ } :‬وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ { ‪ ،‬فكان‬
‫ذلك توفيرا للمشقة على الوصياء‪ .‬فالمخالطة هي المعاشرة التي ل يتعثر فيه التمييز‪.‬‬
‫وقد درسنا في طفولتنا درسا بعنوان " الخلط والمزج " فالخلط هو أن تخلط على سبيل المثال‬
‫حبوب الفول مع حبوب العدس‪ ،‬أو حبوب الرز مع حبوب البندق‪.‬‬
‫وعندما تأتي لتمييز صنف من آخر‪ ،‬فأنت تستطيع ذلك‪ ،‬وتستطيع أن تفصل الصنفين بعضا عن‬
‫بعض بالغربال؛ ولذلك فالمخالطة تكون بين الحبوب ونحوها‪.‬‬
‫أما المزج فهو في السوائل‪ .‬والحق سبحانه يرشدنا أن نخالط اليتامى ل أن نمزج مالهم بمالنا؛ لن‬
‫اليتيم سيصل يوما إلى سن الرشد‪ ،‬وسيكون على الوصي أن يفصل ماله عن مال اليتيم‪.‬‬
‫ويتابع الحق‪ } :‬وَاللّهُ َيعْلَمُ ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِحِ { لن الوصي قد يدعي أمام الناس أنه يرعى حق‬
‫اليتيم‪ ،‬وأنه يقوم بمصالحه ويحترم ماله‪ ،‬لكن المر قد يختلف في النية وهو سبحانه لم يكل المر‬
‫إلى ظواهر فهم المجتمع لسلوك الوصي مع اليتيم وعن المخالطة‪ ،‬بل نسب ذلك كله إلى رقابته‬
‫سبحانه‪ ،‬وذلك حتى يحتاط النسان ويعرف أن رقابة ال فوق كل رقابة‪ ،‬ولو شاء الحق لعنت‬
‫الوصياء وجعلهم يعملون لليتيم وحده‪ ،‬ويفصلون بين حياة اليتيم وحياتهم ومعاشهم‪ .‬وفي ذلك‬
‫مشقة شديدة على النفس‪ .‬وحتى نفهم معنى العنت بدقة فلنقرأ قول الحق سبحانه‪َ {:‬لقَدْ جَآ َءكُمْ‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة‪]128 :‬‬
‫رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫لقد جاءكم أيها المؤمنون رسول منكم‪ ،‬عربي ومن قريش يبلغكم رسالة ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫يحرص عليكم كيل تقعوا في مشقة أو تعيشوا في ضنك الكفر‪ ،‬حريص على أن تكونوا من‬
‫المهتدين‪.‬‬

‫فالرسول صلى ال عليه وسلم لم يأتي من جنس الملئكة‪ ،‬ولكن جاء من جنس البشر‪ ،‬فل يقولن‬
‫أحد‪ :‬إنه ل يصلح أسوة لي‪ .‬إنه نشأ في مكة التي تعيش بها قريش‪ ،‬وتاريخه معروف لقومه‪:‬‬
‫بدليل أنهم خلعوا عليه أول الوصاف المطلوبة والواجبة للرسالة وهي المانة‪ ،‬فالحق جاء به من‬
‫البشر وليس بغريب عليهم‪ ،‬وبمجرد أن أخبر بالوحي وجد أناسا آمنوا به قبل أن يقرأ قرآنا‪ ،‬وقبل‬
‫أن يأتيهم بتحدٍ‪ " .‬فعندما جاءه المََلكُ جبريلُ عليه السلم في غار حراء‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ‪ .‬قال‪ :‬ما أنا‬
‫بقارئ‪ .‬فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد‪[ ،‬أي ضمني وعصرني‪ ،‬والحكمة فيه شغله عن‬
‫اللتفات ليكون قلبه حاضرا] ثم أرسلني فقال‪ :‬اقرأ‪ ،‬قلت‪ :‬ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثانية حتى‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بلغ مني الجهد ثم أرسلني وقال‪ :‬اقرأ‪ .‬فقلت‪ :‬ما أنا بقارئ‪ .‬فأخذني الثالثة فغطني ثم أرسلني فقال‪:‬‬
‫لكْرَمُ * الّذِى عَلّمَ بِا ْلقَلَمِ *‬
‫كاَ‬
‫ق الِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَ ْأ وَرَ ّب َ‬
‫} اقْرَأْ بِاسْمِ رَ ّبكَ الّذِي خَلَقَ * خََل َ‬
‫عَلّ َم الِنسَانَ مَا لَمْ َيعَْلمْ { فرجع بها رسول ال صلى ال عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على‬
‫خديجة بنت خويلد رضي ال عنها فقال لها‪ " :‬زملوني‪ .‬زملوني "‪ .‬فزملوه حتى ذهب عنه الروع‪،‬‬
‫فقال لخديجة وأخبرها الخبر‪ " :‬لقد خشيت على نفسي " لكن خديجة رضي ال عنها بحسن‬
‫استنباطها تقول‪ " :‬كل وال ل يخزيك ال أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب المعدوم‬
‫وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق " "‪.‬‬
‫إن خديجة رضوان ال عليها تستنبط أن من فيه هذه الخصال إنما هو مهيأ للرسالة‪َ {.‬لقَدْ جَآ َءكُمْ‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ }[التوبة‪]128 :‬‬
‫رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫أي محب لكم يشق عليه ويتعبه ما يشق عليكم ويتعبكم؛ ولذلك كان الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫مشغول بأمته‪ .‬ويروي عنه صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ " :‬أمتي‪ .‬أمتي‪ .‬أمتي "‪ .‬والحق سبحانه‬
‫وتعالى يعلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم مشغول بأمته‪ " .‬عن عبد ال بن عمرو بن العاص‬
‫أن النبي صلى ال عليه وسلم تل قول ال عز وجل في إبراهيم } َربّ إِ ّنهُنّ َأضْلَلْنَ كَثِيرا مّنَ‬
‫ك وَإِن‬
‫النّاسِ َفمَن تَ ِبعَنِي فَإِنّهُ مِنّي‪ { ..‬الية‪ .‬وقال عيسى عليه السلم‪ } :‬إِن ُتعَذّ ْب ُهمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُد َ‬
‫حكِيمُ { فرفع يديه وقال‪ :‬اللهم أمتي أمتي وبكى‪ .‬فقال ال عز وجل‪" :‬‬
‫َت ْغفِرْ َل ُهمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فسله ما يبكيك‪ .‬فأتاه جبريل عليه الصلة والسلم فسأله‬
‫فأخبره رسول ال صلى ال عليه وسلم بما قال وهو أعلم فقال ال‪ :‬يا جبريل اذهب إلى محمد‬
‫فقل‪ :‬إنا سنرضيك في أمتك ول نسوؤك " "‪.‬‬

‫إننا عندما نتأمل دقة الجواب النبوي نعرف أن الرسول الكريم مشغول بأمته‪ ،‬ولكنه ينظر إلى‬
‫نفسه على أنه أخ لكل مؤمن‪ .‬والخ قد يتغير على أخيه؛ لذلك لم يشأ الرسول الكريم أن يُخرج‬
‫أمر المسلمين من يد ال ورحمته وهو الخالق الكريم إلى أمره هو صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫إن الرسول يعرف أن ال أرحم بخلقه من أي إنسان‪ ،‬حتى الرسول نفسه‪ .‬نقول ذلك في معرض‬
‫حديثنا عن العنت الذي يمكن أن يصاحب النسان أن لم يرع حق ال في مال اليتيم؛ لن ال‬
‫حكِيمٌ‬
‫عزيز حكيم‪ ،‬وهو الحق الذي يغلب ول يغلبه أحد‪ .‬ونرى في قول الحق‪ } :‬إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫{ أن صفة العزة متآزرة بصفة الحكمة‪.‬‬
‫وبعد ذلك يدخل معنا الحق سبحانه وتعالى في مسألة جديدة لو نظرنا إليها لوجدناها أساس أي‬
‫حركة في الحياة وفي المجتمع‪ ،‬إنها مسألة الزواج‪ .‬ويريد سبحانه أن يضمن الستقرار والسعادة‬
‫للكائن الذين كرمه وجعله خليفة في الرض‪ ،‬وجعل كل الجناس مسخرة لخدمته‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن الحق يريد أن يصدر ذلك الكائن عن ينبوع منهجي واحد؛ لن الهواء المتضاربة هي التي‬
‫تفسد حركة الحياة‪ ،‬فأراد أن يصدر المجموع النساني كله عن ينبوع عقدي واحد‪ ،‬وأراد أن‬
‫يحمي ذلك الينبوع من أن يتعثر بتعدد النزعات والهواء‪ ،‬لذلك ينبهنا الحق إلى هذا الموقف‪ .‬إنه‬
‫سبحانه يريد سلمة الوعاء الذي سيوجد ذلك النسان‪ ،‬من بعد الزواج‪ ،‬فبالزواج ينجب النسان‬
‫وتستمر الحياة بالتكاثر‪ .‬ولذلك لبد من الدقة في اختيار الينبوع الذي يأتي منه النسل‪ .‬فهو سبحانه‬
‫عجَبَ ْتكُمْ‪{ ...‬‬
‫لمَةٌ ّمؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِركَةٍ وََلوْ أَ ْ‬
‫ن َو َ‬
‫يقول‪َ } :‬ولَ تَ ْنكِحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِ ّ‬

‫(‪)223 /‬‬

‫ن وَلََأمَةٌ ُم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ ُمشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْتكُ ْم وَلَا تُ ْن ِكحُوا‬
‫وَلَا تَ ْنكِحُوا ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّى ُي ْؤمِ ّ‬
‫ك وََلوْ أَعْجَ َب ُكمْ أُولَ ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ‬
‫ا ْلمُشْ ِركِينَ حَتّى ُي ْؤمِنُوا وََلعَبْدٌ ُم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْ ِر ٍ‬
‫يَدْعُو إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِرَةِ بِِإذْنِ ِه وَيُبَيّنُ آَيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ (‪)221‬‬

‫إن الحق يقول‪َ { :‬ولَ تَ ْن ِكحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِنّ } ‪ ،‬وهذه أول لبنة في بناء السرة وبناء‬
‫المجتمع‪ ،‬لنها لو لم تكن مؤمنة‪ ،‬فماذا سوف يحدث؟ إنها ستشرف على تربية الطفل الوليد إشرافا‬
‫يتناسب مع إشراكها‪ ،‬وأنت مهمتك كأب ومرب لن تتأتى إل بعد مدة طويلة تكون فيها المسائل قد‬
‫غُرست في الوليد‪ ،‬فإياك أن يكون الرجل مؤمنا والمرأة مشركة؛ لن هذا يخل بنظام السرة فعمل‬
‫الم مع الوليد يؤثر في أوليات تكوينه إنه يؤثر في قيمه‪ ،‬وتكوين أخلقه‪ .‬وهذا أمر يبدأ من لحظة‬
‫أن يرى ويعي‪ ،‬والطفل يقضي سنواته الولى في حضن أمه‪ ،‬وبعد ذلك يكبر؛ فيكون في حضن‬
‫أبيه‪ ،‬فإذا كانت الم مشركة والب مؤمنا فإن اليمان لن يلحقه إل بعد أن يكون الشرك قد أخذ‬
‫منه وتمكن وتسلط عليه‪.‬‬
‫ونعرف أن الطفولة في النسان هي أطول أعمار الطفولة في الكائنات كلها‪ ،‬فهناك طفولة تمكث‬
‫ساعتين اثنتين مثل طفولة الذباب‪ ،‬وهناك طفولة أخرى تستغرق شهرا‪ ،‬وأطول طفولة إنما تكون‬
‫في النسان؛ لن هذه الطفولة مناسبة للمهمة التي سيقوم بها النسان‪ ،‬كل الطفولت التي قبلها‬
‫طفولت لها مهمة سهلة جدا‪ ،‬إنما النسان هو الذي ستأتي منه القيم‪ ،‬لهذا كانت طفولته طويلة؛‬
‫طفَالُ مِن ُكمُ الْحُُلمَ فَلْيَسْتَ ْأذِنُواْ َكمَا‬
‫إنها تستمر حتى فترة بلوغ الحلم‪ .‬والحق هو القائل‪ {:‬وَإِذَا َبلَ َغ الَ ْ‬
‫حكِيمٌ }[النور‪]59 :‬‬
‫اسْتَ ْأذَنَ الّذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ كَذاِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمْ آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫فكأن الطفل يظل طفلً إلى أن يبلغ الحلم‪ ،‬فكم سنة إذن ستمر على الطفل؟‪ .‬وكم سنة سوف يتغذى‬
‫هذا الطفل من ينابيع الشرك إن كانت أمه مشركة؟ إنها فترة طويلة ل يمكن له من بعد ذلك أن‬
‫يكون مؤمنا غير مضطرب الملكات‪ .‬وإن صلح مثل هذا النسان أن يكون مؤمنا فسيقوم إيمانه‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على القهر والقسر والولية للب وسيكون مثل هذا اليمان عملية شكلية وليست مرتكزة ول‬
‫معتمدة على أساس صادق‪.‬‬
‫ونحن نعرف أن الثمرات التي ننعم نحن بأكلها ل يكون نضجها إل حين تنضج البذرة التي تتكوّن‬
‫منها شجرة جديدة‪ ،‬وقبل ذلك تكون مجرد فاكهة فِجة وليس لها طعم‪ .‬وقد أراد الحق أن ينبهنا إلى‬
‫هذا المر ليحرص النسان على أن يستبقى الثمرة إلى أن تنضج ويصير لها بذور‪.‬‬
‫إن المرأة ل تكون ثمرة طيبة إل إذا أنجبت مثلها ولدا صالحا نافعا‪ ،‬يريد الحق للنشء أن يكون‬
‫غير مضطرب اليمان؛ لذلك يقول‪َ { :‬ولَ تَ ْنكِحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِنّ } أي إياكم أن تنخدعوا‬
‫لمَةٌ ّم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِركَ ٍة وََلوْ‬
‫بالمعايير الهابطة النازلة‪ ،‬وعلى كل منكم أن يأخذ حكم ال‪ { :‬وَ َ‬
‫أَعْجَبَ ْت ُكمْ } لن إعجاب النسان بالمرأة بصرف النظر عن اليمان سيكون إعجابا قصير العمر‪.‬‬

‫إن عمر الستمتاع بالجمال الحسي للمرأة إن جمعنا لحظاته فلن يزيد مجموعه عن شهر من‬
‫مجموع سنوات الزواج‪ .‬فكل أسبوع يتم لقاء قد يستغرق دقائق وبعدها يذبل الجمال‪ ،‬وتبقى القيم‬
‫هي المتحكمة‪ ،‬ونحن نجد المرأة حين تتزوج‪ ،‬ثم يبطئ الحمل فإنها تعاني من القلق وكذلك أهلها‪.‬‬
‫إن الرجل إن كان قد تزوجها للوسامة والقسامة والقوام والعينين‪ ،‬فهذا كله سيبرد ويهدأ بعد فترة‪،‬‬
‫ثم توجد مقاييس أخرى لستبقاء الحياة‪ ،‬وعندما يلتفت إليها النسان ول يجدها فهو يغرق في‬
‫الندم؛ لنها لم تكن في باله وقت أن اختار‪.‬‬
‫لذلك تريد المرأة أن تُمكن لنفسها بأن يكون عندها ولد لتربط الرجل بها‪ ،‬وحتى يقول المجتمع‪" :‬‬
‫عليك أن تتحملها من أجل الولد "! فالرجل بعد الزواج يريد قيما أخرى غير القيم الحسية التي‬
‫كانت ناشئة أولً‪ ،‬لذلك يحذرنا ال قائلً‪َ } :‬ولَ تَ ْن ِكحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِنّ {‪ .‬وجاء قوله }‬
‫جبّ ما قبله ما دامت قد آمنت فقد انتهت المسألة‪.‬‬
‫حَتّىا ُي ْؤمِنّ { لن السلم يَ ُ‬
‫لمَةٌ ّم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مّن‬
‫وانظروا إلى دقة قوله سبحانه‪ } :‬وَلَ تَ ْنكِحُواْ ا ْل ُمشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِنّ َو َ‬
‫مّشْ ِركَةٍ { أي إنّ المة المسلمة خير من حرة مشركة‪ } ،‬وََلوْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ { لقد جاء قول الحق هنا‬
‫بمقاييس العجاب الحسي‪ .‬ليلفتنا إلى أننا ل يصح أن نهمل مقاييس خالدة ونأخذ مقاييس بائدة‬
‫وزائلة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق‪ " :‬ول تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا " وهذا هو النظير في الخطاب وهو ليس‬
‫متقابل فهو لم يخاطب المؤمنات أل ينكحن المشركين‪ ،‬إنما قال } وَلَ تُ ْنكِحُواْ ا ْل ُمشِ ِركِينَ حَتّىا‬
‫ُي ْؤمِنُواْ { وتلك دقة في الداء هنا؛ لن الرجل له الولية في أن يُنْكح‪ ،‬فيأمره بقوله‪ :‬ل تُنكح‪ ،‬لكن‬
‫المرأة ليس لها ولية أن تُنكح نفسها‪ .‬فنحن نعرف القاعدة الشرعية التي تقول‪ " :‬ل نكاح إل بولي‬
‫" ‪ ،‬وهو لم يوجه حديثه للنساء؛ لن المرأة تتحكم فيها عاطفتها لكن وليها ينظر للمر من‬
‫مجموعة زوايا أخرى تحكم الموقف‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صحيح أننا نستأذن الفتاة البكر كي نضمن أن عاطفتها ليست مصدودة عن هذا الزواج‪ ،‬لكن الب‬
‫أو ولي المر الرجل يقيس المسائل بمقاييس أخرى‪ ،‬فلو تركنا للفتاة مقياسها لتهدم الزواج بمجرد‬
‫هدوء العاطفة‪ ،‬وساعة تأتي المقاييس العقلية الخرى فلن تجد ذلك الزواج مناسبا لها فتفشل الحياة‬
‫الزوجية‪ .‬لذلك يطالبنا السلم أن نستشير المرأة‪ ،‬كي ل نأتيها بواحد تكرهه‪ ،‬ولكن الذي يزوجها‬
‫إلى ذلك الرجل هو وليها؛ لن له المقاييس العقلية والجتماعية والخلقية التي قد ل تنظر إليها‬
‫الفتاة؛ فقد يبهرها في الشاب قوامه وحسن شكله وجاذبية حديثه‪ ،‬لكن عندما تدخل المسألة في‬
‫حركة الحياة ودوامتها قد تجده إنسانا غير جدير بها‪.‬‬
‫ولكي تكون المسألة مزيجا من عاطفة بنت‪ ،‬وعقل أب‪ ،‬وخبرة أم‪ ،‬كان لبد من استشارة الفتاة‪،‬‬
‫وأن يستنير الب برأي الم‪ ،‬ثم يقول الب رأيه أخيرا‪ ،‬وكل زواج يأتي بهذا السلوب فهو زواج‬
‫يحالفه التوفيق‪ ،‬لن المعايير كلها مشتركة‪ ،‬ل يوجد معيار قد اختل؛ فالب بنى حكما على أساس‬
‫موافقة البنة‪ ،‬أما إذا رفضت الفتاة وكانت معايير الب صحيحة‪ ،‬لكن البنة ليس لها تقبل لهذا‬
‫الرجل؛ لذلك فل يصح أن يتم هذا الزواج‪.‬‬

‫وكثير من الزيجات قد فشلت لننا لم نجد من يطبق منهج ال في الدخول إلى الزواج‪ .‬وحين ل‬
‫يطبقون منهج ال في الدخول إلى الزواج ثم ُيقَابَلون بالفشل فهم يصرخون منادين قواعد السلم‬
‫لتنقذهم‪.‬‬
‫ونقول لهم‪ :‬وهل دخلتم الزواج على دين ال؟ إنكم مادمتم قد دخلتم الزواج بآرائكم المعزولة عن‬
‫منهج ال فلتحلوا المسألة بآرائكم‪ .‬فالدين ليس مسئولً إل عمن يدخل بمقاييسه‪ ،‬لكن أن تدخل على‬
‫الزواج بغير مقاييس ال ثم تريد من ال أو من القائمين على أمر ال أن يحلوا لك المشاكل فذلك‬
‫ظلم منك لنفسك وللقائمين على أمر ال‪ .‬وإن لم تحدث مثل هذه المشكلت لكنا قد اتهمنا منهج‬
‫ال‪ .‬ولقلنا‪ :‬قد تركنا منهج ال وسعدنا في حياتنا‪ .‬ولذلك كان لبد أن تقع المشكلت‪.‬‬
‫إذن فقول الحق سبحانه وتعالى‪َ } :‬ولَ تَ ْن ِكحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِنّ { هذه قضية لها سبب‪ ،‬لكن‬
‫العبرة فيها بعموم موضوعها ل بخصوص سببها‪ ،‬لقد كان السبب فيها هو ما روى أنه كان هناك‬
‫صحابي اسمه مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى مكة ليخرج‬
‫منها ناسا من المسلمين‪ .‬وكان يهوى امرأة في الجاهلية اسمها " عناق " وكانت تحبه‪ ،‬وساعة رأته‬
‫أرادت أن تخلو به فقال لها‪ :‬ويحك إن السلم قد حال بيننا‪ ،‬فقالت له‪ :‬تزوجني‪ ،‬فقال لها‪:‬‬
‫أتزوجك لكن بعد أن أستأمر وأستأذن النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلما استأمره نزل قوله تعالى‪} :‬‬
‫لمَةٌ ّم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ {‪.‬‬
‫ن وَ َ‬
‫وَلَ تَ ْنكِحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِ ّ‬
‫لمَةٌ ّم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِركَ ٍة وََلوْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ { نزلت في خنساء وليدة‬
‫وقيل إن قوله تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫سوداء كانت لحذيفة بن اليمان‪ ،‬فقال لها حذيفة‪ :‬يا خنساء قد ذكرت في المل العلى مع سوادك‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ودمامتك وأنزل ال ذكرك في كتابه‪ ،‬فأعتقها حذيفة وتزوجها‪.‬‬
‫ك وََلوْ‬
‫ويتابع الحق فيقول‪ } :‬وَلَ تُ ْنكِحُواْ ا ْل ُمشِ ِركِينَ حَتّىا ُي ْؤمِنُواْ وََلعَبْدٌ ّمؤْمِنٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِر ٍ‬
‫أَعْجَ َب ُكمْ {‪ .‬إن المقاييس واحدة في اختيار شريك الحياة‪ ،‬إنها الرغبة في بناء الحياة السرية على‬
‫أساس من الخير‪ ،‬وغاية كل شيء هي التي تحدد قيمته‪ ،‬وليست الوسيلة هي التي تحدد قيمة‬
‫الشيء‪ ،‬فقد تسير في سبيل وطريق خطر وغايته فيها خير‪ ،‬وقد تسير في سبيل مفروش بالورود‬
‫والرياحين وغايته شر‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪ُ } :‬أوْلَـا ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ َيدْعُواْ إِلَى الْجَنّةِ‬
‫وَا ْل َمغْفِ َرةِ بِإِذْ ِن ِه وَيُبَيّنُ آيَاتِهِ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ {‪.‬‬

‫والذين يدعون إلى النار هم أهل الشرك‪ .‬أما ال فهو يدعو إلى الجنة‪ ،‬والمغفرة تأتي بإذن ال أي‬
‫بتيسير ال وتوفيقه‪ .‬ونعرف جميعا الحكمة التي قالها المام " علي " كرم ال وجهه‪ :‬ل خير في‬
‫خير بعده النار‪ ،‬ول شر في شر بعده الجنة‪.‬‬
‫وقوله الحق؛ } َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ { ترد كثيرا‪ ،‬هذا التذكر ماذا يفعل؟ إن التذكر يُشعرك بأن القضية‬
‫كانت معلومة والغفلة هي التي طرأت‪ ،‬لكن الغفلة إذا تنبهت إليها‪ ،‬فهي تذكرك ما كنت قد نسيته‬
‫من قبل‪ ،‬لكن إن طالت الغفلة‪ ،‬نُسى الصل فهذه هي الطامة‪ ،‬التي تنطمس بها المسألة‪.‬‬
‫إذن فالتذكر يشمل مراحل‪ :‬المرحلة الولى‪ :‬أن تعرف إن لم تكن تعرف‪ ،‬أو تعلم إن كنت تجهل‪،‬‬
‫والمرحلة الثانية‪ :‬هي أن تتذكر إن كنت ناسيا‪ ،‬أو توائم بين ما تعلم وبين ما تعمل؛ فالتذكر يوحي‬
‫لك بأن توائم ما بين معرفتك وسلوكك حتى ل تقع في الجهل‪ ،‬والجهل معناه أن تعلم ما يناقض‬
‫الحقيقة‪ .‬لقد أراد ال أن يصون النسان الذي اختار اليمان عندما حرم عليه الزواج بواحدة من‬
‫أهل الشرك‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يضمن لمن جعله خليفة في الرض عقيدة واحدة يصدر عنها‬
‫السلوك النساني؛ لن العقائد إن توزعت حسب الهواء فسيتوزع السلوك حسب الهواء‪ .‬وحين‬
‫يتوزع السلوك تتعاند حركة الحياة ول تتساند‪.‬‬
‫فيريد الحق سبحانه وتعالى أن يضمن وحدة العقيدة بدون مؤثر يؤثر فيها؛ فشرط في بناء اللبنة‬
‫ل ينكح مؤمن مشركة؛ لن المشركة في مثل هذه الحالة ستتولى حضانة الطفل‬
‫الولى للسرة أ ّ‬
‫لمدة طويلة هي ـ كما قلنا ـ أطول أعمار الطفولة في الكائن الحي‪ .‬ولو كان الب مؤمنا والم‬
‫مشركة فالب سيكون مشغولً بحركة الحياة فتتأصل عن طريق الم معظم القيم التي تتناقض مع‬
‫اليمان‪.‬‬
‫وأراد الحق سبحانه وتعالى أيضا أل تتزوج المؤمنة مشركا؛ لنها بحكم زواجها من مشرك‬
‫ستنتقل إليه وإلى بيئته المشركة وإلى أسرته‪ .‬وسينشأ طفلها الوليد في بيئة شركية فتتأصل فيه‬
‫الشياء القيمية التي تناقض اليمان‪ .‬ويريد الحق سبحانه وتعالى بهذه الصيانة‪ ،‬أي بعدم زواج‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المؤمن من مشركة‪ ،‬وبعدم زواج المؤمنة من مشرك‪ ،‬أن يحمي الحاضن الول للطفولة‪ .‬وحين‬
‫يحمي الحاضن الول للطفولة يكون الينبوع الول الذي يصدر عنه تربية عقيدة الطفل ينبوعا‬
‫واحدا‪ ،‬فل يتذبذب بين عقائد متعددة‪ .‬لذلك جاء قول الحق‪:‬‬
‫عجَبَ ْتكُ ْم َولَ تُ ْنكِحُواْ‬
‫لمَةٌ ّم ْؤمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِر َك ٍة وََلوْ أَ ْ‬
‫ن َو َ‬
‫} َولَ تَ ْنكِحُواْ ا ْلمُشْ ِركَاتِ حَتّىا ُي ْؤمِ ّ‬
‫عجَ َبكُمْ ُأوْلَـا ِئكَ يَدْعُونَ إِلَى النّا ِر وَاللّهُ‬
‫ك وََلوْ أَ ْ‬
‫ا ْلمُشِ ِركِينَ حَتّىا ُي ْؤمِنُو ْا وََلعَبْدٌ ّم ْؤمِنٌ خَيْرٌ مّن مّشْ ِر ٍ‬
‫يَدْعُواْ إِلَى ا ْلجَنّ ِة وَا ْل َم ْغفِ َرةِ بِِإذْنِ ِه وَيُبَيّنُ آيَا ِتهِ لِلنّاسِ َلعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ { [البقرة‪]221 :‬‬
‫كل ذلك حتى يصون الحق البيئة التي ينشأ فيها الوليد الجديد‪.‬‬

‫وعلينا أن نفهم أن الحق سبحانه وتعالى رخص للمؤمنين في أن ينكحوا أهل الكتاب بقوله الحق‪{:‬‬
‫حصَنَاتُ مِنَ‬
‫حلّ ّلهُ ْم وَا ْلمُ ْ‬
‫طعَا ُمكُمْ ِ‬
‫حلّ ّلكُ ْم وَ َ‬
‫طعَامُ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ ِ‬
‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ وَ َ‬
‫الْ َيوْمَ ُأ ِ‬
‫حصِنِينَ غَيْرَ‬
‫حصَنَاتُ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ مِن قَبِْلكُمْ إِذَآ آتَيْ ُتمُوهُنّ أُجُورَهُنّ مُ ْ‬
‫ت وَا ْلمُ ْ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنَا ِ‬
‫عمَلُ ُه وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ }‬
‫ن َومَن َيكْفُرْ بِالِيمَانِ َفقَدْ حَ ِبطَ َ‬
‫خدَا ٍ‬
‫خذِي أَ ْ‬
‫ن َولَ مُتّ ِ‬
‫مُسَافِحِي َ‬
‫[المائدة‪]5 :‬‬
‫وقد وقف العلماء من مسألة ترخيص الحق للمؤمنين في أن يتزوجوا من أهل الكتاب موقفين‪:‬‬
‫الموقف الول‪ :‬هو موقف مانع؛ لن بعض العلماء رأى أن أهل الكتاب قد ينحرفون في معتقداتهم‬
‫إلى ما يجعلهم في الشرك‪ ،‬وقالوا‪ :‬وهل هناك شرك أكثر من أن تُدعى الربوبية لبشر؟ والموقف‬
‫الثاني‪ :‬أجاز بعض العلماء أن يتزوج النسان من كتابية ويجب عليه أن يسألها أهي تدين بألوهية‬
‫أحد من البشر أم تدين بال الواحد القهار؟ فإن كانت المسألة مجرد الخلف في الرسول فالمر‬
‫يهون‪ ،‬أما إن كانت تؤمن بألوهية أحد من البشر بجانب ال فقد دخلت في الشرك وعلى المؤمن‬
‫أن يحتاط‪.‬‬
‫وإذا كان للرجل الولية وله أن يتزوج بكتابية فهو غالبا ما ينقلها إلى بيئته هو وستكون البيئة‬
‫المؤثرة واحدة‪ ،‬ووجود الولية للب مع الوجود في البيئة اليمانية سيؤثر ويخفف من تأثير الم‬
‫الكتابية على أولدها‪ ،‬وإن كان على النسان أن يتيقظ إلى أن هناك مسالك تتطلف وتتسلل ناحية‬
‫الشرك‪ ،‬فمن الخير أن يبتعد المسلم عن ذلك‪ ،‬وأن يتزوج ويعصم ويعفّ فتاة مسلمة‪.‬‬
‫وحين يحمي الحق سبحانه وتعالى الحضانة الولى للطفل فهو يريد أن يربي في الطفل عدم‬
‫التوزع‪ ،‬وعدم التمزق ‪ ،‬وعدم التنافر بين ملكاته‪ .‬وحين نضمن للطفل التواجد والنشأة في بيئة‬
‫متآلفة فهو ينشأ طفلً سويا‪ .‬والسلم يريد أن يحافظ على سويّة هذا الطفل‪ .‬ويقول بعض الناس‪:‬‬
‫ولماذا ل نوجد محاضن جماعية؟ وكأنهم بذلك يريدون أن يحلوا الشكال‪.‬‬
‫نقول لهم‪ :‬إن الشكال لم يحل عند الذين فعلوا ذلك من قبلنا‪ ،‬ولذلك فعندما نقرأ مؤلفاتهم مثل‬
‫كتاب " أطفال بل أسر " فسنجد أن الطفولة عندهم معذبة‪ .‬ولماذا نذهب بعيدا؟ إننا عندما نتتبع‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كيفية النشأة الجماعية للطفال في إسرائيل فالبحوث العلمية تؤكد على أن الطفال يعيشون في‬
‫بؤس رهيب لدرجة أن التبول اللإرادي ينتشر بينهم حتى سن الشباب‪.‬‬
‫وكيف يغيب عن بالنا أن الطفل يظل حتى تصل سنه إلى عامين أو أكثر وهو يطلب أل يشاركه‬
‫في أمه أحد‪ ،‬حتى وإن كان أخا له فهو يغار منه فما بالك بأطفال متعددين تقوم امرأة ليست أمهم‬
‫برعايتهم؟ ول يغني عن حنان الم حنان مائة مربية؛ فليس للمربيات جميعا قلب الم التي ولدت‬
‫الطفل‪ ،‬فالحنانُ الذي تعطيه الم ليس حنانا شكليا ول وظيفيا‪ ،‬ولكنه طبيعة حياة خلقها ال لتعطي‬
‫العطاء الصحيح‪ ،‬لذلك لبد من إعطاء الطفل فترة يشعر فيها بأن أمه التي ولدته له وحده‪ ،‬ول‬
‫يشاركه فيها أحد حتى لو كان أخا له‪ ،‬وتمر عليه فترة بعد أن يخرج من مهد الطفولة الولى إلى‬
‫الشارع ليجد حركة الحياة‪ ،‬ويجد القائمين على حركة الحياة هم الرجال وآباء أمثاله من الطفال‬
‫فيجب بعد ذلك أن ينسب إلى أب له كيان معروف في المجتمع الخارجي‪.‬‬

‫فمن مقومات تكوين الطفل أن يشعر أن له أمّا ل يشاركه فيها أحد‪ ،‬وأن له أبا ل يشاركه فيه أحد‪.‬‬
‫وإن شاركه فيهما أحد فهم إخوته ويضمهم ويشملهم جميعا حنان الم ورعاية الب‪ .‬لقد اعترف‬
‫أهل العلم بتربية الطفال أن احتياج الطفل لمه هو احتياج هام وأساسي للتربية لمدة عامين‬
‫وبضعة من الشهور‪ ،‬والحق تبارك وتعالى حين أنزل على رسوله قبل أربعة عشر قرنا من الن؛‬
‫القول الحكيم الصادق بين هذه الحقيقة واضحة في أجلى صورها‪َ {:‬ووَصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ‬
‫شهْرا حَتّىا ِإذَا بَلَغَ أَشُ ّد ُه وَبَلَغَ‬
‫حمْلُهُ َوفِصَالُهُ ثَلَثُونَ َ‬
‫ضعَتْهُ كُرْها وَ َ‬
‫حمَلَ ْتهُ ُأمّهُ كُرْها َو َو َ‬
‫حسَانا َ‬
‫إِ ْ‬
‫ل صَالِحا‬
‫ع َم َ‬
‫ي وَأَنْ أَ ْ‬
‫أَرْ َبعِينَ سَنَةً قَالَ َربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َع ْمتَ عََليّ وَعَلَىا وَالِ َد ّ‬
‫ك وَإِنّي مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ }[الحقاف‪]15 :‬‬
‫تَ ْرضَاهُ وََأصْلِحْ لِي فِي ذُرّيّتِي إِنّي تُ ْبتُ إِلَ ْي َ‬
‫إن الم هي الحاضنة الطبيعية للطفل كما أرادها الحق‪ .‬إذن‪ ،‬فالحق يريد أن يحمي اللبنة الولى‬
‫في تكوين المجتمع وهي السرة في البناء ال َعقَدي من أن تتأثر بالشرك‪ ،‬ويريد أن يحفظ للسرة‬
‫كيانا سليما‪.‬‬
‫ويعالج الحق بعد ذلك قضية التواصل مع المرأة أثناء فترة الحيض فيأتي التشريع ليقنن هذه‬
‫المسألة لن السلم جاء وفي الجو الجتماعي تياران‪:‬‬
‫تيار يرى أن الحائض هي امرأة تعاني من قذارة‪ ،‬لذلك ل يمكن للزوج أن يأكل معها أو يسكن‬
‫معها أو يعاشرها أو يعيش معها في بيت واحد وكذلك أبناؤه‪ .‬وتيار آخر يرى المرأة في فترة‬
‫الحيض امرأة عادية ل فرق بينها وبين كونها غير حائض أي تباشر حياتها الزوجية مع زوجها‬
‫دون تحوط أو تحفظ‪ .‬كان الحال ـ إذن ـ متأرجحا بين الفراط والتفريط‪ ،‬فجاء السلم ليضع‬
‫حدا لهذه المسألة فيقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ‬
‫النّسَآءَ فِي ا ْلمَحِيضِ‪{ ...‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)224 /‬‬

‫طهُرْنَ فَإِذَا‬
‫ض وَلَا َتقْرَبُوهُنّ حَتّى َي ْ‬
‫وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النّسَاءَ فِي ا ْلمَحِي ِ‬
‫طهّرِينَ (‪)222‬‬
‫حبّ ا ْلمُ َت َ‬
‫ن وَيُ ِ‬
‫حبّ ال ّتوّابِي َ‬
‫طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ يُ ِ‬
‫تَ َ‬

‫حين تقرأ { ُهوَ أَذًى } فقد أخذت الحكم ممن يُؤمنُ على الحكام‪ ،‬ول تناقش المسألة‪ ،‬مهما قال‬
‫الطب من تفسيرات وتعليلت وأسباب نقل له‪ :‬ل‪ ،‬الذي خلق قال‪ُ { :‬هوَ أَذًى }‪ .‬والمحيض يطلق‬
‫على الدم‪ ،‬ويراد به ـ أيضا ـ مكان الحيض‪ ،‬ويراد به زمان الحيض‪.‬‬
‫وقوله تعالى عن المحيض إنه أذى يهيئ الذهن لن يتلقى حكما في هذا الذى‪ ،‬وبذلك يستعد الذهن‬
‫للخطر الذي سيأتي به الحكم‪ .‬وقد جاء الحكم بالحظر والمنع بعد أن سبقت حيثيته‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى وهو الخالق أراد أن تكون عملية الحيض في المرأة عملية كيماوية‬
‫ضرورية لحياتها وحياة النجاب‪ .‬وأمر الرجال أن يعتزلوا النساء وهن حوائض؛ لن المحيض‬
‫أذى لهم‪ .‬لكن هل دم الحيض أذى للرجال أو للنساء؟ إنه أذى للرجال والنساء معا؛ لن الية‬
‫أطلقت الذى‪ ،‬ولم تحدد من المقصود به‪ .‬والذي يدل على ذلك أن الحيض يعطي قذارة للرجل في‬
‫مكان حساس هو موضوع النزال عنده‪ ،‬فإذا وصلت إليه الميكروبات تصيبه بأمراض خطيرة‪.‬‬
‫والذي يحدث أن الحق قد خلق رحم المرأة وفي مبيضيها عدد محدد معروف له وحده سبحانه‬
‫وتعالى من البويضات‪ ،‬وعندما يفرز أحد المبيضين البويضة فقد ل يتم تلقيح البويضة‪ ،‬فإن بطانة‬
‫الرحم المكون من أنسجة دموية تقل فيها نسبة الهرمونات التي كانت تثبت بطانة الرحم‪ ،‬وعندما‬
‫تقل نسبة الهرمونات يحدث الحيض‪.‬‬
‫والحيض هو دم يحتوي على أنسجة غير حية‪ ،‬وتصبح منطقة المهبل والرحم في حالة تهيج‪ ،‬لن‬
‫منطقة المهبل والرحم حساسة جدا لنمو الميكروبات المسببة لللتهابات سواء للمرأة‪ ،‬أو للرجل إن‬
‫جامع زوجته في فترة الحيض‪ .‬والحيض يصيب المرأة بأذى في قوتها وجسدها؛ بدليل أن ال‬
‫ل تصوم وألّ تصلي إذن فالمسألة منهكة ومتعبة لها‪ ،‬فل يجوز أن يرهقها الرجل‬
‫رخص لها أ ّ‬
‫بأكثر مما هي عليه‪.‬‬
‫إذن فقوله تعالى‪ُ { :‬هوَ َأذًى } تعميم بأن الذى يصيب الرجل والمرأة‪ .‬وبعد ذلك بين الحق أن‬
‫كلمة " أذى " حيثية تتطلب حكما يرد‪ ،‬إما بالباحة وإما بالحظر‪ ،‬وما دام هو أذى فلبد أن يكون‬
‫حظرا‪.‬‬
‫ض َولَ َتقْرَبُوهُنّ } والذي يقول‪ :‬إن المحيض هو‬
‫يقول عز وجل‪ { :‬فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي ا ْلمَحِي ِ‬
‫مكان الحيض يبني قوله بأن المحرم هو المباشرة الجنسية‪ ،‬لكن ما فوق السرة وما فوق الملبس‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهو مباح‪ ،‬فقوله الحق‪ { :‬وَلَ َتقْرَبُوهُنّ } أي ل تأتوهن في المكان الذي يأتي منه الذى وهو دم‬
‫طهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ }‪ .‬و " يطهرن " من الطهور‬
‫طهُرْنَ فَإِذَا َت َ‬
‫الحيض‪ { .‬حَتّىا َي ْ‬
‫طهّرْنَ } نجد أنه لم يقل‪ " :‬فإذا طهرن " ‪ ،‬فما‬
‫مصدر طهر يطهر‪ ،‬وعندما نتأمل قوله‪ { :‬فَِإذَا تَ َ‬
‫الفرق بين " طهر " و " تطهر "؟‬
‫إنّ " يطهرن " معناها امتنع عنهن الحيض‪ ،‬و " تطهرن " يعني اغتسلن من الحيض؛ ولذلك نشأ‬
‫خلف بين العلماء‪ ،‬هل بمجرد انتهاء مدة الحيض وانقطاع الدم يمكن أن يباشر الرجل زوجته‪ ،‬أم‬
‫لبد من النتظار حتى تتطهر المرأة بالغتسال؟‪.‬‬

‫وخروجا من الخلف نقول‪ :‬إن قوله الحق‪ " :‬تطهرن " يعني اغتسلن فل مباشرة قبل الغتسال‪.‬‬
‫ومن عجائب ألفاظ القرآن أن الكلمات تؤثر في استنباط الحكم‪ ،‬ومثال ذلك قوله تعالى‪ {:‬إِنّهُ َلقُرْآنٌ‬
‫طهّرُونَ }[الواقعة‪]79-77 :‬‬
‫كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ ّمكْنُونٍ * لّ َيمَسّهُ ِإلّ ا ْلمُ َ‬
‫ما المقصود إذن؟ هل المقصود أن القرآن ل يمسكه إل الملئكة الذين طهرهم ال من الخبث‪ ،‬أو‬
‫أن للبشر أيضا حق المساك بالمصحف لنهم يتطهرون؟ بعض العلماء قال‪ :‬إن المسألة لبد أن‬
‫طهّرُونَ { أي الذين طهرهم من شرع لهم‬
‫ندخلها في عموم الطهارة‪ ،‬فيكون معنى } ِإلّ ا ْلمُ َ‬
‫التطهر؛ ولذلك فالمسلم حين يغتسل أو يتوضأ يكون قد حدث له أمران‪ :‬التطهر والطهر‪.‬‬
‫فالتطهر بالفعل هو الوضوء أو الغتسال‪ ،‬والطهر بتشريع ال‪ ،‬فكما أن ال طهر الملئكة أصل‬
‫فقد طهرنا معشر النس تشريعا‪ ،‬وبذلك نفهم الية على إطلقها ونرفع الخلف‪ .‬وقول الحق في‬
‫طهُرْنَ { أي حتى يأذن ال لهن بالطهر‪ ،‬ثم يغتسلن‬
‫الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪ } :‬حَتّىا َي ْ‬
‫استجابة لتشريع ال لهن بالتطهر‪ } .‬فَأْتُوهُنّ مِنْ حَ ْيثُ َأمَ َركُمُ اللّهُ { يعني في الماكن الحلل‪.‬‬
‫طهّرِينَ { وأراد الحق تبارك وتعالى أن يدخل عليك أنسا‪ ،‬فكما‬
‫حبّ ا ْلمُتَ َ‬
‫ن وَيُ ِ‬
‫حبّ ال ّتوّابِي َ‬
‫} إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫أنه طلب منك أن تتطهر ماديا فهو سبحانه قبل أيضا منك أن تتطهر معنويا بالتوبة‪ ،‬لذلك جاء‬
‫بالمر حسيا ومعنويا‪ .‬وبعد ذلك جاء الحق سبحانه وتعالى بحكم جديد‪ ،‬هذا الحكم ينهي إشكال‬
‫أثاره اليهود‪.‬‬
‫وقد كان اليهود يثيرون أن الرجل إذا أتى امرأته من خلف ولو في قُبلها ـ بضم القاف ـ جاء‬
‫الولد أحول‪ " .‬القُبل " هو مكان التيان‪ ،‬وليس معناه التيان في الدبر والعياذ بال كما كان يفعل‬
‫قوم لوط‪ .‬ولّما كان هذا الشكال الذي أثاره اليهود ل أساس له من الصحة فقد أراد الحق أن يرد‬
‫سكُمْ وَاتّقُواْ اللّهَ‪...‬‬
‫على هذه المسألة فقال‪ } :‬نِسَآ ُؤكُمْ حَ ْرثٌ ّلكُمْ فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ أَنّىا شِئْ ُت ْم َوقَ ّدمُو ْا لَنْفُ ِ‬
‫{‬

‫(‪)225 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكُمْ وَاتّقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَ ّنكُمْ مُلَاقُو ُه وَبَشّرِ‬
‫نِسَا ُؤكُمْ حَ ْرثٌ َلكُمْ فَأْتُوا حَرْ َث ُكمْ أَنّى شِئْتُ ْم َوقَ ّدمُوا لِأَ ْنفُ ِ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)223‬‬

‫إن الحق سبحانه وتعالى يفسح المجال للتمتع للرجل والمرأة على أي وجه من الوجه شريطة أن‬
‫يتم التيان في محل النبات‪ .‬وقد جاء الحق بكلمة { حَ ْرثٌ } هنا ليوضح أن الحرث يكون في‬
‫مكان النبات‪ { .‬فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ } وما هو الحرث؟ الحرث مكان استنبات النبات‪ ،‬وقد قال تعالى‪{:‬‬
‫سلَ }[البقرة‪]205 :‬‬
‫ث وَالنّ ْ‬
‫وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْر َ‬
‫فأتوا المرأة في مكان الزرع‪ ،‬زرع الولد‪ ،‬أما المكان الذي ل ينبت منه الولد فل تقربوه‪ .‬وبعض‬
‫الناس فهموا خطأ أن قوله‪ { :‬فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ أَنّىا شِئْتُمْ } معناه إتيان المرأة في أي مكان‪ ،‬وذلك‬
‫خطأ؛ لن قوله‪ِ { :‬نسَآ ُؤكُمْ حَ ْرثٌ ّلكُمْ } يعني محل استنبات الزرع‪ ،‬والزرع بالنسبة للمرأة والرجل‬
‫هو الولد‪ ،‬فأتها في المكان الذي ينجب الولد على أي جهة شئت‪.‬‬
‫سكُمْ } أي إياك أن تأخذ المسألة على أنها استمتاع جنسي فحسب‪ ،‬إنما‬
‫ويتابع الحق‪َ { :‬وقَ ّدمُواْ لَ ْنفُ ِ‬
‫يريد الحق سبحانه وتعالى بهذه اللذة الجنسية أن يحمي متاعب ما ينشأ من هذه اللذة؛ لن الذرية‬
‫التي ستأتي من أثر اللقاء الجنسي سيكون لها متاعب وتكاليف‪ ،‬فلو لم يربطها ال سبحانه وتعالى‬
‫بهذه اللذة لزهد الناس في الجماع‪.‬‬
‫ومن هنا يربط الحق سبحانه وتعالى بين كدح الباء وشقائهم في تربية أولدهم بلذة الشهوة‬
‫الجنسية حتى يضمن بقاء النوع النساني‪ .‬ومع هذا يحذرنا الحق أن نعتبر هذه اللذة الجنسية هي‬
‫سكُمْ } ‪ ،‬يعني انظروا جيدا إلى هذه المسألة على أل‬
‫الصل في إتيان النساء فقال‪َ { :‬وقَ ّدمُواْ لَ ْنفُ ِ‬
‫سكُمْ } أي ادخروا‬
‫تكون هي الغاية‪ ،‬بل هي وسيلة‪ ،‬فل تقلبوا الوسيلة إلى الغاية‪َ { ،‬وقَ ّدمُو ْا لَ ْنفُ ِ‬
‫لنفسكم شيئا ينفعكم في اليام المقبلة‪.‬‬
‫سكُمْ } أي ل تأخذوا المتاع اللحظي‬
‫إذن فالصل في العملية الجنسية النجاب‪َ { .‬وقَ ّدمُواْ لَ ْنفُ ِ‬
‫العاجل على أنه هو الغاية بل خذوه لما هو آت‪ .‬وكيف نقدم لنفسنا أو ماذا نفعل؟ حتى ل نشقى‬
‫بمَنْ يأتي‪ ،‬وعليك أن تتبين هذه العملية فقدم لنفسك شيئا يريحك‪ ،‬وافعل ما علمنا رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ..‬ساعة تأتي هذه النعمة وتقترب من زوجتك لبد أن تسمي ال ويقول‪ " :‬اللهم‬
‫جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني " ‪ ،‬وعندما يأتي المسلم أهله وينشأ وليده فلن يكون‬
‫للشيطان عليه دخل‪ .‬وقال بعض العلماء‪ :‬ل يمكن أن يؤثر فيه سحر‪ ،‬لماذا كل ذلك؟‪.‬‬
‫لنك ساعة استنبته أي زرعته‪ ،‬ذكرت المُنْ ِبتَ وهو ال عز وجل‪ .‬وما دمت ذكرت المنبت الخالق‬
‫فقد جعلت لبنك حصانة أبدية‪ .‬وعلى عكس ذلك ينشأ الطفل الذي ينسى والده ال عندما يباشر‬
‫أهله فيقع أولده فريسة للشياطين‪.‬‬
‫سكُمْ } أي قدموا لها ما يريحكم وما يطيل أمد حياتكم وأعمالكم في الحياة؛ لنك‬
‫{ َوقَ ّدمُو ْا لَ ْنفُ ِ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عندما تقبل على المسألة بنية إنجاب الولد‪ ،‬وتذكر ال وتستعيذ من الشيطان فينعم عليك الخالق‬
‫بالولد الصالح‪ ،‬هذا الولد يدعو لك‪ ،‬ويعلم أولده أن يدعوا لك‪ ،‬وأولده يدعون لك‪ ،‬وتظل المسألة‬
‫مسلسلة فل ينقطع عملك إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬وهنا تكون قدمت لنفسك أفضل ما يكون التقديم‪.‬‬

‫وهب أنك رُزقت المولود ثم مات ففجعت به واسترجعت واحتسبته عند ربك‪ ،‬إنك تكون قد قدمته‪،‬‬
‫سكُمْ {‪.‬‬
‫ليغلق عليك بابا من أبواب النيران‪ .‬إذن فكل أمر لبد أن تذكر فيه } َوقَ ّدمُواْ لَنْفُ ِ‬
‫لقُوهُ وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { معنى } ا ّتقُواْ اللّهَ { أي إياكم أن‬
‫ويقول الحق‪ } :‬وَا ّتقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُواْ أَ ّنكُمْ مّ َ‬
‫تغضبوا ربكم في أي عمل من هذه العمال‪ ،‬وكن أيها المسلم في هذه التقوى على يقين من أنك‬
‫ملقي ال‪ ،‬ول تشك في هذا اللقاء أبدا‪ .‬وما دمت ستتقي ال وتكون على يقين أنك تلقيه لم يبقى‬
‫جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَ ًة لَ ْيمَا ِنكُمْ‪{ ...‬‬
‫لك إل أن تُبَشّر بالجنة‪ .‬وبعد ذلك يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ولَ تَ ْ‬

‫(‪)226 /‬‬

‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)224‬‬


‫س وَاللّهُ َ‬
‫جعَلُوا اللّهَ عُ ْرضَةً لِأَ ْيمَا ِنكُمْ أَنْ تَبَرّوا وَتَ ّتقُوا وَتُصِْلحُوا بَيْنَ النّا ِ‬
‫وَلَا تَ ْ‬

‫وفي الية ثلثة أشياء‪ :‬أول‪ :‬أن تبروا‪ ،‬أي أن تفعلوا البر‪ .‬والبر قد يكرهه النسان لنه شاق على‬
‫النفس‪ .‬ثانيا‪ :‬أن تتقوا‪ ،‬أي أن تتجنبوا المعاصي‪ ،‬والتقوى تكون أيضا شاقة في بعض الحيان‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬أن تصلحوا بين الناس‪ ،‬أي أن تصلحوا ذات البيْن‪ ،‬وقد يكون في الصلح بين الناس مئونة‬
‫وذلك بعد أن تمتنعوا أن تجعلوا ال عرضة للقسم‪.‬‬
‫جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَةً لَ ْيمَانِكُمْ } فالعرضة هي الحجاب‪ ،‬وهي ما يعترض‬
‫وحين يقول الحق‪َ { :‬ولَ َت ْ‬
‫بين شيئين‪ { ،‬عُ ْرضَةً } هي ـ أيضا ـ المر الصالح لكل شيء‪ ،‬فيقال‪ " :‬فلن عرضة لكل‬
‫المهمات "‪ .‬أي صالح‪ .‬والعرضة ـ كما عرفنا ـ هي ما اعترض بين شيئين‪ ،‬كأن يضع النسان‬
‫يده على عينيه فل يرى الضوء‪ ،‬هنا تكون اليد " عُرْضة " بين عيني النسان والشمس إن النسان‬
‫يحجب بذلك عن نفسه الضوء‪.‬‬
‫كأن الحق يقول‪ " :‬أنا ل أريد أن تجعلوا اليمين عرضة بين النسان وفعل الخير والبر والتقوى "‪.‬‬
‫فعندما يطلب منك واحد أن تبر من أساء إليك فقد تقول‪ " :‬أنا أقسمت أل أبر هذا النسان " إنك‬
‫بذلك جعلت اليمين بال مانعا بينك وبين البر‪.‬‬
‫ويريد الحق بذلك القول أن ينبهنا إلى أن القسم به ل يجوز في منع البر أو صلة الرحم أو إصلح‬
‫بين الناس‪ ..‬ومن حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه فليفعل الخير وليكفر عن يمينه لماذا؟ لن‬
‫المؤمن عندما يحلف على أل يفعل خيرا فهو يضع ال مانعا بينه وبين الخير‪ ،‬وبذلك يكون قد‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ناقض المؤمن نفسه بأن جعل المانع هو الحلف بال‪ .‬إن ال هو صاحب المر بالبر والتقوى‬
‫جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَ ًة لَ ْيمَا ِنكُمْ }‪ .‬أي أن الحق يريد‬
‫والصلح بين الناس‪ .‬لذلك فالحق يقول‪ { :‬وَلَ َت ْ‬
‫أن يحمي عمليات البر والتقوى والصلح بين الناس‪.‬‬
‫إنك إن حلفت أيها المؤمن أل تفعل هذه العمليات‪ ،‬فالحق يريد لك أن تحنث في هذا القسم وأن‬
‫تفعل البر والتقوى والصلح بين الناس حتى ل تتناقض مع تشريع ال‪ .‬ونحن عندما نجد‬
‫المجتمع وقد صنع فيه كل فرد البر‪ ،‬واتقى فيه كل إنسان المعاصي‪ ،‬ورأى فيه كل إنسان نزاعا‬
‫بين جماعتين فأصلح هذا النزاع‪ ،‬أليس هذا دخول في السلم كافة‪ .‬إذن فالحق يريد أن يستبقى‬
‫للناس ينابيع الخير وأل يسدوها أمام أنفسهم‪.‬‬
‫إن الحق هو المر بأل يجعل المؤمن اليمين مانعا بين النسان والبر‪ ،‬أو بين النسان والتقوى‪ ،‬أو‬
‫بين النسان والصلح بين الناس‪ .‬ويتساهل السلم في مسألة التراجع والحنث في البر فيقول‬
‫السلف الصالح‪ " :‬ل حنث خير من البر "‪.‬‬

‫إذن فالمجتمع الذي فيه صنع البر‪ ،‬وتقوى المعاصي‪ ،‬والصلح بين المتخاصمين يدخل في إطار‪{:‬‬
‫ا ْدخُلُواْ فِي السّلْمِ كَآفّةً }[البقرة‪]208 :‬‬
‫والنسان قد يتعلل بأي سبب حتى يبتعد عن البر أو التقوى أو الصلح بين الناس‪ ،‬بل يعمل شيئا‬
‫يريحه ويخلع عليه أنه ممتثل لمر ال‪ ،‬ولنضرب لذلك مثل‪ .‬سيدنا أبو بكر الصديق رضي ال‬
‫عنه بعد أن جاء مسطح بن أثاثة واشترك مع من خاضوا في الفك الذي اتهموا فيه أم المؤمنين‬
‫السيدة عائشة رضي ال عنها‪.‬‬
‫وخلصة المر أن عائشة رضي ال عنها زوجة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬كانت قد‬
‫خرجت مع الرسول الكريم في غزوة " بني المصطلق " وكان المر بالحجاب قد نزل لذلك‬
‫خرجت عائشة رضي ال عنها في هودج‪.‬‬
‫وقام الرسول بغزوته وحان وقت العودة‪ .‬وفقدت عائشة عقدا لها‪ .‬وكانت رضي ال عنها خفيفة‬
‫الوزن؛ لن الطعام في تلك اليام كان قليل‪ .‬راحت عائشة رضي ال عنها تبحث عن عقدها‬
‫المفقود‪ ،‬وعندما حملوا هودج عائشة رضي ال عنها لم يفطنوا أن عائشة ليست به‪ .‬ووجدت‬
‫عائشة عقدها المفقود‪ ،‬وكان جيش رسول ال قد ابتعد عنها‪ .‬وظنت أنهم سيفتقدونها فيرجعون‬
‫إليها‪ .‬وكان خلف الجيش صفوان بن المعطل السلمي وعرفته عائشة وأناخ راحلته وعادت عائشة‬
‫إلى المدينة‪ .‬ودار حديث الفك بوساطة عبد ال بن أ َبيّ بن سلول رأس النفاق‪.‬‬
‫وكان الغم والحزن يصيبان السيدة عائشة طوال مدة كبيرة وأوضح الحق كذب هذا الحديث‪ .‬وذاع‬
‫ما ذاع عن أم المؤمنين عائشة وهي زوجة رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل أن تكون بنت أبي‬
‫بكر‪ .‬وأبو بكر صديّق رسول ال صلى ال عليه وسلم ولو أن غير عائشة حدث لها ما حدث‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لعائشة لكان موقف أبي بكر هو موقفه عندما جاء قريبه مسطح بن أثاثة واشترك في حديث الفك‬
‫مع من اشتركوا ثم يبرئ ال عائشة وينزل القول الذي يثبت براءة أم المؤمنين في حديث الفك‪،‬‬
‫وحين يبرئها ال يأتي أبو بكر وكان ينفق على مسطح فيقطع عنه النفقة ويقول‪ " :‬وال ل أنفق‬
‫عليه أبدا " لماذا؟ لنه اشترك في حديث الفك‪ .‬والمسألة في ظاهرها ورع‪ .‬لذلك سيمتنع عن‬
‫النفقة على مسطح بن أثاثة لن مسطحا خاض في الفك‪ .‬لكن انظر إلى مقاييس الكمال والجمال‬
‫والفضائل عند ال فقد أوضح الحق أن هذا طريق وذاك طريق آخر‪ ،‬فيقول سبحانه وتعالى‪َ {:‬ولَ‬
‫ن وَا ْل ُمهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬
‫سعَةِ أَن ُيؤْتُواْ ُأوْلِي ا ْلقُرْبَىا وَا ْلمَسَاكِي َ‬
‫ضلِ مِنكُ ْم وَال ّ‬
‫يَأْ َتلِ ُأوْلُواْ ا ْل َف ْ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }[النور‪]22 :‬‬
‫وَلْ َيعْفُو ْا وَلْ َيصْفَحُواْ َألَ تُحِبّونَ أَن َيغْفِرَ اللّهُ َلكُ ْم وَاللّهُ َ‬
‫فإذا كنت تحب أن يغفر ال لك‪ ،‬أفل تغفر لمن فعل معك سيئة؟‪ .‬وما دمت تريد أن يغفر ال لك‬
‫فاغفر للناس خطأهم‪.‬‬

‫قالها الحق عز وجل لبي بكر؛ لنه وقف موقفا من رجل خاض في الفك مع من خاض ومع‬
‫ذلك يبلغه أن ذلك ل يصح‪.‬‬
‫جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَ ًة لَ ْيمَا ِنكُمْ أَن تَبَرّواْ { ل تقل‪ :‬إني حلفت بال على أل افعل‬
‫قوله تعالى‪َ } :‬ولَ َت ْ‬
‫ذلك الخير‪ ،‬ل افعله فال يرضى لك أن تحنث وتكفر عن يمينك‪.‬‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ {‪ .‬إن ال‬
‫س وَاللّهُ َ‬
‫جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَ ًة لَ ْيمَا ِنكُمْ أَن تَبَرّو ْا وَتَ ّتقُو ْا وَ ُتصْلِحُواْ بَيْنَ النّا ِ‬
‫} َولَ تَ ْ‬
‫عز وجل يبلغنا‪ :‬أنا ل أريد أن تجعلوا الحلف بي عرضة‪ ،‬يعني حاجزا أو مانعا عن فعل الخير‪.‬‬
‫مثلً لو طُلب منك أن تبر شخصا أساء إليك فل تقل‪ :‬حلفت أل أبر به لنه ل يستحق‪ ،‬عندها‬
‫تكون قد جعلت اليمين بال مانعا للبر‪ .‬وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يقول لك‪ :‬ل‪ ،‬أنا‬
‫متجاوز عن اليمين بي؛ إن حلفت أل تبر أو ل تتقي أو ل تصل رحما أو ل تصلح بين اثنيْن‪ ،‬أنا‬
‫تسامحت في اليمين‪.‬‬
‫والحديث يقول‪ " :‬من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن‬
‫يمينه " وهكذا يحمي ال سبحانه وتعالى فعل البر ويحمي التقوى ويحمي عمليات الصلح بين‬
‫الناس‪ ،‬ولو كنت قد حلفت بال أل تفعلها‪ ،‬لماذا؟ لنك عندما تحلف بال أل تفعل‪ ،‬وتجعل ال‬
‫سبحانه وتعالى هو المانع‪ ،‬فقد ناقضت التشريع نفسه؛ لن ال هو المر بالبر والصلح والتقوى‪،‬‬
‫فل تجعل يمين البشر مانعا من تنفيذ منهج رب البشر‪.‬‬
‫جعَلُواْ اللّهَ عُ ْرضَ ًة لَ ْيمَا ِنكُمْ أَن تَبَرّو ْا وَتَ ّتقُو ْا وَ ُتصْلِحُواْ بَيْنَ النّاسِ { إن حلفت على ترك‬
‫} َولَ تَ ْ‬
‫واجب وجب أن ترجع في اليمين‪ .‬احنث فيه وكفر عنه‪ ،‬والحكم نفسه يسري على الذي يمنع‬
‫ممتلكاته كالدابة أو الماكينة أو السيارة من انتفاع الناس بها بحجة أنه حلف أل يعيرها لحد‪ ،‬وذلك‬
‫أمر يحدث كثيرا في الرياف‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ {‪ .‬إنه سبحانه سميع باليمين‬
‫ويختم الحق سبحانه وتعالى الية بالقول الكريم‪ } :‬وَاللّهُ َ‬
‫الذي حلفته‪ ،‬وعليم بنيتك إن كانت خيرا أو شرا فل تتخذ اليمين حجة لن تمنع البر والتقوى‬
‫ل من أصول اعتبار اليمين‬
‫والصلح‪ .‬والحق سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن اليمين يعطينا أص ً‬
‫هل هو يمين حقا أو لغو‪ ،‬ومن رحمة ال أنه سبحانه وتعالى لم يأخذ إل اليمين الذي عقد القلب‬
‫عليه‪ ،‬أي الذي يقصد صاحبه أل يحنث فيه‪ ،‬أما لغو اليمين فقد تجاوز ال عنه‪.‬‬
‫مثلً‪ ،‬اليمان الدارجة على ألسنة الناس كقولهم‪ " :‬وال لو لم تفعل كذا لفعلت معك كذا " ‪ " ،‬وال‬
‫سأزورك " ‪ " ،‬وال ما كان قصدي " أو الحلف بناءً على الظن؛ كأن تحلف بقولك‪ " :‬وال حدث‬
‫هذا " وأنت غير متأكد من تمام حدوثه‪ ،‬لكن ليس في مقصدك الكذب‪.‬‬
‫أما اليمين الغموس فهي الحلف والقسم الذي تعرف كذبه وتحلف بعكس ما تعرف‪ ،‬كأن تكون قد‬
‫شاهدت واحدا يسرق أو يقتل وتحلف بال أنه لم يسرق أو لم يقتل‪ .‬من أجل ذلك كله يحسم ال‬
‫خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِن ُك ْم وَلَـاكِن ُيؤَاخِ ُذكُم ِبمَا َكسَ َبتْ‬
‫سبحانه وتعالى هذه القضية بقوله‪ } :‬لّ ُيؤَا ِ‬
‫قُلُو ُبكُمْ‪{ ...‬‬

‫(‪)227 /‬‬

‫غفُورٌ حَلِيمٌ (‪)225‬‬


‫خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ وََلكِنْ ُيؤَاخِ ُذكُمْ ِبمَا َكسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ وَاللّهُ َ‬
‫لَا ُيؤَا ِ‬

‫وكان من المناسب أن تأتي هذه الية كل ما سبق لنه سبحانه أوضح لنا اليمين التي ل تقع وكأنه‬
‫قال لنا‪ :‬ارجعوا فيها واحنثوا وسأقبل رجوعكم في مقابل أن تبروا وتتقوا وتصلحوا‪ ،‬فإذا كان قد‬
‫قبل تراجعنا عن هذا اليمين فلن له مقابل في فعل الخير‪ .‬وقوله الحق‪ِ { :‬بمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُمْ } هو‬
‫عقّدتّمُ الَ ْيمَانَ }[المائدة‪]89 :‬‬
‫خ ُذكُم ِبمَا َ‬
‫المعنى نفسه لقوله تعالى‪ {:‬وَلَـاكِن ُيؤَا ِ‬
‫أي الشيء المعقود في النفس والذي رسخ داخل نفسك‪ ،‬لكن الشيء الذي يمر على اللسان فل‬
‫يؤاخذنا ال به‪ { .‬لّ ُيؤَاخِ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِنكُمْ } واليمان جمع يمين‪ ،‬واليمين‪ :‬هو الحلف أو‬
‫القسم‪ ،‬وسمى يمينا؛ لنهم كانوا قديما إذا تحالفوا صرب كل امرئ منهم يمينه على يمين صاحبه‪،‬‬
‫وذلك لن اليمين هو الجارحة الفاعلة‪.‬‬
‫وبالمناسبة‪ ،‬فالجارحة الفاعلة إياك أن تظن أنها تفعل بالرياضة والتدريب‪ ،‬وإنما تفعل بالخلق أي‬
‫كما خلقها ال‪ ،‬فهي مجبرة على الفعل حسب خلقتها‪.‬‬
‫ولذلك عندما تجد إنسانا ويده اليمنى ل تعمل ويزاول أعماله باليسرى فل تحاول أن تجعله يستخدم‬
‫اليمنى بدل من اليسرى؛ لن محاولتك عبث لن يجدي؛ لن السبب في أنه يستخدم اليسرى بدل‬
‫من اليمنى سبب خلقي‪ ،‬فالجهاز الخاص بالتحكم في الحركة في المخ هو الذي يقر هذا المر‪ :‬إن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كان مخلوقا في النصف اليمن من المخ كانت اليد اليمنى هي الفاعلة‪ ،‬وإن كان مخلوقا في‬
‫النصف اليسر من المخ فاليد اليسرى هي التي تعمل‪.‬‬
‫لذلك تجد الذي يكتب بيده اليسرى يتقن الكتابة بها أفضل من الذي يكتب باليمنى في بعض‬
‫الحيان‪ ،‬ومن هنا نقول‪ :‬إنه من الخطأ أن تحاول تغيير سلوك الذي يعمل بيده اليسرى بدلً من‬
‫اليمنى؛ لن ذلك عبث لن يصل لنتيجة‪.‬‬
‫وأحيانا تجد الجهاز المتحكم في حركة اليدين موجودا في منتصف ووسط المخ فيرسل حركات‬
‫متوازنة لليد اليمنى واليد اليسرى معا‪ ،‬ولذلك تجد شخصا يكتب بيده اليمنى واليسرى معا‬
‫بالسرعة نفسها وبالتقان نفسه‪ ،‬ويؤدي بها العمال بتلقائية عادية‪ ،‬ول في خلقه شئون‪ ،‬فهو‬
‫يعطينا الدليل على أنه ل تحكمه قواعد‪ ،‬فهو قادر على أن يجعل اليد اليمنى تعمل‪ ،‬وقادر على أن‬
‫يجعل اليد اليسرى تعمل‪ ،‬أو يجعلهما يعملن معا بالقوة نفسها‪ ،‬أو يجعل كلتا اليدين غير قابلتين‬
‫للعمل‪ .‬إنها ليست عملية آلية خارجة عن إرادة ل‪ ،‬بل كل شيء خاضع لرادته سبحانه‪.‬‬
‫خ ُذكُمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي أَ ْيمَا ِن ُكمْ } المقصود به الحلف‪ ،‬والحلف من معانيه التقوية‪ ،‬وهي‬
‫{ لّ ُيؤَا ِ‬
‫مأخوذة من الحِلْف‪ ،‬وهو أن يتحالف الناس على عمل ما‪ .‬ونحن عندما نتحالف على عمل فنحن‬
‫نقسّم العمل بيننا‪ ،‬وعندما نفعل ذلك يسهل علينا جميعا أن نفعله‪ { .‬لّ ُيؤَاخِ ُذ ُكمُ اللّهُ بِالّل ْغوِ فِي‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ } والكسب عملية إرادية‪ .‬لنك ساعة‬
‫أَ ْيمَا ِنكُ ْم وَلَـاكِن ُيؤَاخِ ُذكُم ِبمَا كَسَ َبتْ قُلُو ُبكُ ْم وَاللّهُ َ‬
‫تقسم بال دون أن تقصد فهو ل يؤاخذك‪ ،‬وهذا دليل على أن ال واسع حليم‪ .‬ويقول الحق سبحانه‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }‬
‫شهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫وتعالى بعد ذلك‪ { :‬لّلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِن نّسَآ ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ أَ ْ‬

‫(‪)228 /‬‬

‫غفُورٌ رَحِيمٌ (‪)226‬‬


‫شهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫لِلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِنْ نِسَا ِئ ِهمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ َأ ْ‬

‫يؤلون‪ :‬أي يحلفون أل يقربوا أزواجهن في العملية المخصوصة‪ ،‬ويريد الرجل أحيانا أن يؤدب‬
‫زوجته فيهجرها في الفراش بل يمين‪ ،‬وبدون أن يحلف‪ .‬وبعض الناس ل يستطيعون أن يمتنعوا‬
‫عن نسائهم من تلقاء أنفسهم‪ ،‬فيحلفون أل يقربوهن حتى يكون اليمين مانعا ومشجعا له على ذلك‪.‬‬
‫وكان هذا المر مألوفا عند العرب قبل السلم‪.‬‬
‫كان الرجل يمتنع عن معاشرة زوجته في الفراش أي فترة من الزمن يريدها‪ ،‬وبعضهم كان يحلف‬
‫أل يقرب زوجته زمنا محددا‪ ،‬وقبل أن ينتهي هذا الزمن يحلف يمينا آخر ليزيد المدة فترة أخرى‪،‬‬
‫وهكذا حتى أصبحت المسألة عملية إذلل للمرأة‪ ،‬وإعضال لها‪ ،‬وامتناعا عن أداء حقها في‬
‫المعاشرة الزوجية‪ .‬وكان ذلك إهدارا لحق الزوجة في الستمتاع بزوجها‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويريد الحق سبحانه وتعالى أن ينهي هذه المسألة‪ ،‬وهو سبحانه ل ينهيها لحساب طرف على‬
‫طرف‪ ،‬وإنما بعدل الخالق الحكيم الرحيم بعباده‪ .‬وكان من الممكن أن يجرمها ويحرمها نهائيا‬
‫ويمنع الناس منها‪ .‬لكنه سبحانه عليم بخفايا وطبيعة النفوس البشرية‪ ،‬فقد ترى امرأة أن تستغل‬
‫إقبال الرجل عليها‪ ،‬إما لجمال فيها أو لتوقد شهوة الرجل‪ ،‬فتحاول أن تستذله؛ لذلك أعطى ال‬
‫للرجل الحق في أن يمتنع عن زوجته أربعة أشهر‪ ،‬أما أكثر من ذلك فالمرأة ل تطيق أن يمتنع‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }‬
‫شهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫زوجها عنها‪ { .‬لّلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِن نّسَآ ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َب َعةِ أَ ْ‬
‫والسلم يريد أن يبني الحياة الزوجية على أساس واقعي ل على أفكار مجنحة ومجحفة ل تثبت‬
‫أمام الواقع‪ ،‬فهو يعترف بالميول فيعليها ولكن ل يهدمها‪ ،‬ويعترف بالغرائز فل يكتمها ولكن‬
‫يضبطها‪.‬‬
‫وهناك فرق بين الضبط والكبت؛ فإن الكبت يترك الفرصة للداء ليستشري خفيا حتى يتفجر في‬
‫نوازع النفس النسانية تفجرا على غير ميعاد وبدون احتياط‪ ،‬لكن النضباط يعترف بالغريزة‬
‫ويعترف بالميول‪ ،‬ويحاول فقط أن يهديها ول يهدمها‪ .‬ويخضع البشر في كل أعمالهم لهذه‬
‫النظرية حتى في صناعتهم‪ ،‬فالذين يصنعون المراجل البخارية مثل يجعلون في تلك المراجل التي‬
‫يمكن أن يضغط فيها الغاز ضغطا فيفجرها يجعلون لها متنفسا حتى يمكن أن يخفف الضغط‬
‫الزائد إن وجُد‪ ،‬وقد يصممون داخلها نظاما آليا ل يتدخل فيه العقل بل تحكم اللة نفسها‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى وضع نظاما واضحا في خلقه الذين خلقهم‪ ،‬وشرع لهم تكوين السرة على‬
‫أساس سليم‪ .‬وبنى السلم هذا النظام أول على سلمة العقيدة ونصاعتها ووحدتها حتى ل تتوزع‬
‫المؤثرات في مكونات السرة‪ ،‬لذلك منع المسلم من أن يتزوج من مشركة‪ ،‬وحرم على المسلمة‬
‫أن تتزوج مشركا‪ .‬وبعد ذلك علمنا معنى اللتقاء الغريزي بين الزوجين‪ .‬ولقد أراد الحق سبحانه‬
‫وتعالى أل يطلق العنان للغريزة في كل زمان التواجد الزوجي‪ ،‬فجعل المحيض فترة يحرم فيها‬
‫الجماع وقال‪:‬‬

‫{ فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي ا ْلمَحِيضِ }[البقرة‪]222 :‬‬


‫وهكذا يضبط الحق العلقة الجنسية بين الزوجين ضبطا سليما نظيفا‪.‬‬
‫الحق سبحانه وتعالى يعلم أن النفس البشرية ذات أغيار؛ لن النسان حادث له بداية ونهاية‪ ،‬وكل‬
‫ما يكون حادثا لبد أن يطرأ عليه تغيير‪ .‬فإذا ما التقى الرجل بالمرأة‪ .‬كان لبد من أن يتحدد هذا‬
‫اللقاء على ضوء من منهج ال؛ لن اللقاء إن تم على منهج البشر وعواطفهم كان المصير إلى‬
‫الفشل؛ لن مناهج البشر متغيرة وموقوتة‪ ،‬ولذلك يجب أن يكون لقاء الرجل بالمرأة على ضوء‬
‫معايير ال‪.‬‬
‫فال يعلم أن للنفس نوازع ومتغيرات‪ ،‬ومن الجائز جدا أن يحدث خلف بين الزوجين‪ ،‬فيجعل ال‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سبحانه وتعالى متنفسا يتنفس فيه الزوج للتأديب الذي ينشد التهذيب والبقاء‪ ،‬فشرع للرجل إن‬
‫رأى في امرأته إذلل له بجمالها وبحسنها‪ ،‬وقد يكون رجل له مزاج خاص ورغبة جامحة في‬
‫هذه العملية؛ لذلك شرع ال له فترة من الفترات أن يحلف أل يقرب امرأته‪ ،‬ولم يجعل ال تلك‬
‫الفترة مطلقة‪ ،‬إنما قيدها بالحلف حتى يكون المر مضبوطا‪.‬‬
‫فالحق يريد العلج ل القسوة‪ .‬فلو لم يكن الرجل مضبوطا بيمين فقد يُغير رأيه بأن يأتي زوجته‪،‬‬
‫شهُرٍ { أي إنّ لك أيها الزوج أن تحلف‬
‫ولذلك قال الحق‪ } :‬لّلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِن نّسَآ ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ أَ ْ‬
‫أل تقرب زوجتك أربعة أشهر لكن إن زادت المدة على أربعة أشهر فهي لن تكون تأديبا بل‬
‫إضرارا‪ .‬والخالق عز وجل يريد أن يؤدب ل أن يضر‪ .‬فإذا ما تجاوزت المدة يكون الزوج متعديا‬
‫ول حق له‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى هو خالق الميول والعواطف والغرائز ويقنن لها التقنين السليم‪ .‬إنه عز‬
‫وجل يترك لنا ما يدلنا على ذلك‪ ،‬ففي خلفة عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ ،‬يمر عمر في‬
‫جوف الليل فيسمع امرأة تقول البيات المشهورة‪:‬تطاول هذه الليل وأسود جانبه وأرقنـي إل‬
‫خلـيـل ألعـبـهفوال لول ال تخشـى عواقبه لزلزل مـن هذا السرير جـوانبهمعنى ذلك أن‬
‫المرأة تعاني من الوحشة إلى الرجل‪ ،‬وتوشك المعاناة أن تدفعها إلى سلوك غير قويم‪ ،‬لكن تقوى‬
‫ال هي التي تمنعها من النحراف‪ .‬ومن الجائز أن نتساءل كيف سمع عمر هذه المرأة وهو يسير‬
‫في الشارع‪ ،‬وأقول‪ :‬إن المرأة تأتي عندها هذه الحاسيس تترنم في سكون الليل‪ ،‬وعندما يسكن‬
‫الليل ل تكون فيه ضجة فيسهل سماع ما يقال داخل البيوت‪ ،‬ألم يسمع عمر كلم المرأة التي‬
‫تجادل ابنتها في غش اللبن؟‬
‫ولما سمع الفاروق كلم هذه المرأة التي تعاني من وحشة إلى الرجل‪ ،‬ذهب بفطرته السليمة‬
‫وأَلمعيّته المشرقة إلى ابنته حفصة أم المؤمنين رضي ال عنها‪ ،‬وقال لها‪ :‬كم تصبر المرأة على‬
‫بعد الرجل‪ ،‬فقالت‪ :‬من ستة شهور إلى أربعة أشهر‪.‬‬

‫فسن عمر سنةً أصبحت دستورا فيما بعد‪ ،‬وهي أل يبعد جندي من جنود المسلمين عن أهله أربعة‬
‫شهُرٍ { سبق‬
‫أشهر‪ .‬إذن فقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬لّلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِن نّسَآ ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ أَ ْ‬
‫حادثة عمر‪ ،‬ثم ترك الحق لواقع الحياة أن يبين لنا صدق ما قننه لنا‪ ،‬ويأتي عمر ليستنبط الحكم‬
‫من واقع الحياة‪.‬‬
‫} فَإِنْ فَآءُو { أي فإن رجع الرجل‪ ،‬وأراد أن يقترب من زوجته قبل مضي الربعة أشهر؛ فللرجل‬
‫أن يكفر عن يمينه وتنتهي المسألة‪ .‬ولكن إذا مرت الشهور الربعة وتجاوزت المقاطعة مدتها‬
‫يؤمر الزوج بالرجوع عن اليمين أو بالطلق‪ ،‬فإن امتنع الزوج طلقها الحاكم‪ ،‬وقال بعض الفقهاء‪:‬‬
‫ن مضي مدة الربعة أشهر دون أن يرجع ويفئ يجعلها مطلقة طلقة واحدة بائنة‪ .‬ولذلك يقول‬
‫إّ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ {‬
‫الحق‪ } :‬وَإِنْ عَ َزمُواْ الطّلَقَ فَإِنّ اللّهَ َ‬

‫(‪)229 /‬‬

‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)227‬‬


‫وَإِنْ عَ َزمُوا الطّلَاقَ فَإِنّ اللّهَ َ‬

‫واختلف العلماء؛ هل تطلق الزوجة طلقة بائنة أو طلقة رجعية؟ ومعنى " طلق رجعي " مأخوذ‬
‫من اللفظ نفسه‪ ،‬أي أن الزوج له الحق أن يراجع امرأته دون إذن منها أو رضا‪ .‬أما الطلق‬
‫عقَد عليها عقدا جديدا بمهر جديد‪.‬‬
‫البائن فإنه ل عودة إل إذا َ‬
‫والطلقة في اليلء بينونة صغرى وهي التي تحتاج إلى عقد ومهر جديدين‪ ،‬هذا إذا لم يسبق‬
‫طلقان‪ .‬والبينونة الكبرى وهي التي توصف بأنها ذات الثلث‪ ،‬فالزوجة فيها تطلق ثلث مرات‪،‬‬
‫فل يصح أن يعيدها الزوج إل إذا تزوجت زوجا غيره‪ ،‬وعاشت معه حياة زوجية كاملة‪ ،‬ثم طلقها‬
‫لي سبب من السباب‪ ،‬وبعد ذلك يحق لزوجها القديم أن يراجعها ويعيدها إليه بعقد ومهر‬
‫جديدين‪ ،‬لكن بعد أن يكتوي بغيرة زواجها من رجل آخر‪ .‬والحق سبحانه وتعالى يعرض هذه‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ * وَإِنْ‬
‫شهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫المسألة فيقول‪ {:‬لّلّذِينَ ُيؤْلُونَ مِن نّسَآ ِئهِمْ تَرَ ّبصُ أَرْ َبعَةِ َأ ْ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ }[البقرة‪]227-226 :‬‬
‫لقَ فَإِنّ اللّهَ َ‬
‫عَ َزمُواْ الطّ َ‬
‫فالسلم دين واقعي يعطي الزوج المسلم أشياء تنفس عن غضبه‪ ،‬وأشياء تمكنه من أن يؤدب‬
‫زوجته‪ ،‬ولكن السلم ل يحب أن يتمادى الرجل في التأديب‪ .‬وإذا تمادى وتجاوز الربعة الشهر‬
‫نقول له‪ :‬لبد أن يوجد حد فاصل‪.‬‬
‫وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه وتعالى في التكليف إلى أن يتكلم عن الطلق وقد تكلم من قبل عن‬
‫الزواج واليلء حتى وصل الطلق‪.‬‬
‫وعندما نتأمل موقف السلم من الطلق نجده يتكلم كلما واقعيا يناسب الميول النسانية؛ لننا ما‬
‫دمنا أغيارا فمن الممكن أن يطرأ على حياة الزوجين أحداث أو مشاعر لم تكن في الحسبان ساعة‬
‫الزواج‪ .‬ويجوز أن يكون النسان في ساعة الزواج مدفوعا بحرارة ملكة واحدة‪ ،‬وبعد ذلك عندما‬
‫يجئ واقع الحياة تتملكه ملكات متعددة‪ ،‬وقد تسيطر عليه المسألة الجنسية‪ ،‬وتدفعه للزواج‪ ،‬وفي‬
‫سبيل إرضاء شهوته الجنسية قد يهمل بقية ملكات نفسه‪ ،‬فإذا ما دخل واقع الزواج وهدأت شِرّة‬
‫وحرارة غرائز النسان تتنبه نفس النسان إلى مقاييس أخرى يريد أن يراها في زوجته فل يجدها‬
‫ويتساءل ما الذي أخفاها عنه؟‬
‫أخفاها سعار وعرامة النظرة الجنسية‪ ،‬فقد نظر للمرأة قبل الزواج من زاوية واحدة‪ ،‬ولم ينظر‬
‫لباقي الجوانب‪ .‬مثل قد يجد الزوج أن أخلق الزوجة تتنافر مع أخلقه‪ ،‬وقد يجد تفكيرها وثقافتها‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تتنافر مع تفكيره وثقافته‪ ،‬وربما وجد عدم التوافق العاطفي بينه وبينها ولم يحدث تآلف نفسي‬
‫بينهما‪ ،‬والعواطف ـ كما نعلم ـ ليس لها قوانين‪.‬‬
‫فمن الجائز أن يكون الرجل غير قادر على الكتفاء بوليمة جنسية واحدة‪ ،‬فهو لذلك ل يبني حياته‬
‫على طهر‪ ،‬وإنما يريد من امرأته أن تكون طاهرة عفيفة في حياتها معه‪ ،‬بينما يعطي لنفسه‬
‫الحرية في أن يعدد ولئمه الجنسية مع أكثر من امرأة‪ ،‬وربما يحدث العكس‪ ،‬وذلك أن يجد الرجل‬
‫أنّ امرأة واحدة تكفيه‪ ،‬لكن المرأة تريد أكثر من رجل‪.‬‬

‫وقد يكون الرجل طاهر السلوب في الحياة‪ ،‬وتكون زوجته راغبة في أن يأتيها بالمال من أي‬
‫طريق‪ ،‬فيختلفان‪ .‬وقد تكون المرأة طاهرة السلوب في الحياة فل ترضى أن يتكسب زوجها من‬
‫مال حرام‪.‬‬
‫من هنا يأتي الشقاق‪ ،‬إن الشقاق يأتي عندما يريد أحد الزوجين أن تكون حياتهما نظيفة طاهرة‪،‬‬
‫مستقيمة‪ ،‬ول يرى الخر ذلك‪ .‬مثل هذه الصورة موجودة في الواقع حولنا‪ ،‬فكم من بيوت تشقى‬
‫عندما تختفي الوحدة السرية‪ ،‬وتختلف نظرة أحد الزوجين للمور عن الخر‪.‬‬
‫وهذا هو سبب الشقاق الذي يحدث بين الزوجين عندما ل يكتفي أحد الزوجين بصاحبه‪ .‬ولو اتفق‬
‫رجل وامرأته على العفاف‪ ،‬والطهر‪ ،‬والخيرية لستقامت أمور حياتهما‪ .‬ولذلك يأتي السلم‬
‫سهِنّ‬
‫بتشريعاته السامية لتناسب كل ظروف الحياة فيقول الحق سبحانه‪ } :‬وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫حلّ َلهُنّ أَن َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ‪{ ...‬‬
‫ثَلَثَةَ قُرُو ٍء َولَ يَ ِ‬

‫(‪)230 /‬‬

‫حلّ َلهُنّ أَنْ َيكْ ُتمْنَ مَا خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ إِنْ كُنّ‬
‫سهِنّ ثَلَاثَةَ قُرُو ٍء وَلَا يَ ِ‬
‫وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫ُي ْؤمِنّ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الَْآخِ ِر وَ ُبعُولَ ُتهُنّ َأحَقّ بِ َردّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُوا ِإصْلَاحًا وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ‬
‫حكِيمٌ (‪)228‬‬
‫ف وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَجَةٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫بِا ْل َمعْرُو ِ‬

‫سهِنّ ثَلَثَةَ‬
‫الية كلها تتضمن أحكاما تكليفية‪ ،‬والحكم التكليفي الول هو‪ { :‬وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫قُرُوءٍ } ولنا أن نلحظ أن الحكم لم يرد بصيغة المر ولكن جاء في صيغة الخبر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫سهِنّ ثَلَثَةَ قُرُوءٍ } ‪ ،‬وحين يريد الحق سبحانه وتعالى حكما لزما ل‬
‫طّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫{ وَا ْلمُ َ‬
‫يأتي له بصيغة المر النشائي‪ ،‬ولكن يأتي له بصيغة الخبر‪ ،‬هذا آكد وأوثق للمر كيف؟‬
‫معنى ذلك أن الحق سبحانه وتعالى حين يأمر فالمر يصادف من المؤمنين به امتثالً‪ ،‬ويُطبق‬
‫المتثال في كل الجزئيات حتى ل تشذ عنه حالة من الحالت فصار واقعا يُحكى وليس تكليفا‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يُطلب‪ ،‬وما دام قد أصبح المر واقعا يُحكي فكأن المسألة أصبحت تاريخا يُروى هو‪ { :‬وَا ْلمُطَّلقَاتُ‬
‫سهِنّ ثَلَ َثةَ قُرُوءٍ }‪ .‬ويجوز أن نأخذ الية على معنى آخر هو أن ال قد قال‪:‬‬
‫يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫سهِنّ } فيكون كلما خبريا‪.‬‬
‫طّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫{ وَا ْلمُ َ‬
‫وقلنا إن الكلم الخبري يحتمل الصدق والكذب‪ ،‬إن ال قد قال ذلك فمن أراد أن يصدق كلم ال‬
‫فلينفذ الحكم‪ ،‬ومن أراد أن يبارز ال بالتكذيب ول يصدقه فل ينفذ الحكم‪ ،‬ويرى في نفسه آية عدم‬
‫التصديق وهي الخسران المبين‪ ،‬أليس ذلك أكثر إلزاما من غيره؟ ومثل ذلك قوله تعالى‪{:‬‬
‫ن وَالطّيّبُونَ لِ ْلطّيّبَاتِ ُأوْلَـا ِئكَ مُبَرّءُونَ ِممّا‬
‫ت وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِي َ‬
‫ن وَالْخَبِيثُونَ لِ ْلخَبِيثَا ِ‬
‫الْخَبِيثَاتُ لِ ْلخَبِيثِي َ‬
‫َيقُولُونَ َلهُم ّم ْغفِ َرةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }[النور‪]26 :‬‬
‫إن هذا وإن كان كلما خبريا لكنه تشريع إنشائي يحتمل أن تطيع وأن تعصي ولكن ال يطلب منا‬
‫أن تكون القضية هكذا { ا ْلخَبِيثَاتُ ِللْخَبِيثِينَ } يعني أن ربكم يريد أن تكون { ا ْلخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ }‬
‫وأن تكون { الطّيّبَاتُ لِلطّيّبِينَ } وليس معنى ذلك أن الواقع لبد أن يكون كما جاء في الية‪ ،‬إنما‬
‫الواقع يكون كذلك لو نفذنا كلم ال وسيختلف إذا عصينا ال وتمردنا على شرعه‪ .‬والمعنى نفسه‬
‫في قوله تعالى‪َ {:‬ومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا }[آل عمران‪]97 :‬‬
‫أي اجعلوا من يدخل البيت الحرام آمنا‪ .‬ويحتمل أن يعصي أحد ال فل يجعل البيت الحرام آمنا‪.‬‬
‫سهِنّ ثَلَثَةَ قُرُوءٍ } هو حكم تكليفي يستحق النفاذ لمن‬
‫إذن فقوله الحق‪ { :‬وَا ْلمُطَّلقَاتُ يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫يؤمن بال‪ ،‬وقوله‪ { :‬يَتَرَ ّبصْنَ } أي ينتظرن‪ ،‬واللفظ هنا يناسب المقام تماما‪ ،‬فالمتربصة هي‬
‫المطلقة‪ ،‬ومعنى مطلقة أنها مزهود فيها‪ ،‬وتتربص انتهاء عدتها حتى ترد اعتبارها بصلحيتها‬
‫سهِنّ }‬
‫للزواج من زوج آخر‪ .‬ولم ينته القول الكريم بقوله‪ { :‬يَتَرَ ّبصْنَ } وإنما قال‪ { :‬يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫مع أن المتربصة هي نفسها المطلقة؛ ذلك لن النفس الواعية المكلفة والنفس المارة بالسوء‬
‫تكونان في صراع على الوقت وهو { ثَلَ َثةَ قُرُوءٍ } ‪ " ،‬وقروء " جمع " قرء " وهو إما الحيضة‬
‫وإما الطهر الذي بين الحيضتين‪ .‬وقوله الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬ثَلَثَةَ قُرُوءٍ } وما المقصود به؟‬
‫هل هو الحيضة أو الطهر؟ إن المقصود به الطهر‪ ،‬لنه قال‪ " :‬ثلثة " بالتاء‪ ،‬ونحن نعرف أن‬
‫التاء تأتي مع المذكر‪ ،‬ول تأتي مع المؤنث‪ ،‬و " الحيضة " مؤنثة و " الطهر " مذكر‪ ،‬إذن‪ { ،‬ثَلَثَةَ‬
‫قُرُوءٍ } هي ثلثة أطهار متواليات‪.‬‬

‫والعلة هي استبراء الرحم وإعطاء مهلة للزوجين في أن يراجعا نفسيهما‪ ،‬فربما بعد الطهر الول‬
‫أو الثاني يشتاق أحدهما للخر‪ ،‬فتعود المسائل لما كانت عليه‪ ،‬لكن إذا مرت ثلثة أطهار فل أمل‬
‫ول رجاء في الرجوع‪.‬‬
‫خلَقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ { وما معنى الخلق؟‬
‫حلّ َلهُنّ أَن َيكْ ُتمْنَ مَا َ‬
‫ثم يقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬ولَ َي ِ‬
‫الخلق هو إيجاد شيء كان معدوما‪ ،‬وهذا الشيء الذي كان معدوما إما أن يكون حملً وإما أن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمَْلهُنّ }‬
‫ضعْنَ َ‬
‫حمَالِ َأجَُلهُنّ أَن َي َ‬
‫لتُ الَ ْ‬
‫يكون حيضا‪ ،‬وللحامل عدة جاءت في قوله الحق‪ {.‬وَُأ ْو َ‬
‫[الطلق‪]4 :‬‬
‫أما المرأة الحائل وهي التي بدون حمل‪ ،‬فعدتها أن تحيض وتطهر ثلث مرات وهناك حالة ثالثة‬
‫حضْنَ }‬
‫شهُ ٍر وَاللّئِي لَمْ َي ِ‬
‫هي‪ {:‬وَاللّئِي يَئِسْنَ مِنَ ا ْل َمحِيضِ مِن نّسَآ ِئكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ َفعِدّ ُتهُنّ ثَلَ َثةُ أَ ْ‬
‫[الطلق‪]4 :‬‬
‫أي أن المرأة التي انقطعت عنها الدورة الشهرية فعدتها " ثلثة أشهر " الحكم نفسه للصغيرة التي‬
‫لم تحض بعد‪ ،‬أي عدتها ثلثة أشهر‪ .‬إذن فنظام العدة له حالت‪:‬‬
‫* إن كانت غير حامل فعدتها ثلثة قروء أي ثلثة أطهار إن كانت ممن يحضن‬
‫* إن كانت حامل فعدتها أن تضع حملها‪.‬‬
‫* وإن لم تكن حامل وقد بلغت سن اليأس ولم تعد تحيض‪ ،‬أو كانت صغيرة لم تصل لسن‬
‫الحيض‪ ،‬هذه وتلك عدتها ثلثة أشهر‪.‬‬
‫حلّ َلهُنّ أَن َيكْ ُتمْنَ مَا خََلقَ اللّهُ فِي أَ ْرحَا ِمهِنّ { يدل على أن المرأة لها‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَلَ َي ِ‬
‫شهادتها لنفسها في المر الذي يخصها ول يطلع عليه سواها‪ .‬وهي التي تقرر المسألة بنفسها‪،‬‬
‫فتقول‪ :‬أنا حامل أو ل‪ ،‬وعليها أل تكتم ذلك‪ ،‬فقد يجوز أن تكون حامل وبعد ذلك تكتم ما في‬
‫بطنها حتى ل تنتظر طول مدة الحمل وتتزوج رجلً آخر فينسب الولد لغير أبيه‪ ،‬فغالبا ما يستمر‬
‫الحمل تسعة أشهر ولكن فيه استثناء‪ ،‬فهناك حمل مدته سبعة شهور‪ ،‬وأحيانا ستة شهور‪ .‬وقد‬
‫تتزوج المرأة المطلقة بعد ثلثة شهور وتدعي أنها حامل من الزوج الجديد وأن حملها لم يستمر‬
‫سوى سبعة أشهر أو ستة أشهر‪.‬‬
‫وبعضنا يعرف قصة الحامل في ستة شهور‪ ،‬فقد جاءوا بامرأة لسيدنا عثمان رضي ال عنه لنها‬
‫ولدت لستة أشهر‪ ،‬فأراد أن يقيم عليها حد الزنى‪ ،‬فتدخل المام علي ابن أبي طالب وقال‪ :‬كيف‬
‫تقيم عليها الحد لنها ولدت لستة أشهر‪ ،‬ألم تقرأ قول الحق سبحانه وتعالى؟ قال عثمان‪ :‬وماذا قال‬
‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ }‬
‫ضعْنَ َأ ْولَدَهُنّ َ‬
‫الحق في ذلك؟ فقرأ المام علي قول ال‪ {:‬وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬

‫[البقرة‪]233 :‬‬
‫حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْها‬
‫أي أنها ترضع الوليد لمدة أربعة وعشرين شهرا‪ ،‬وفي آية أخرى قال الحق‪َ {:‬‬
‫شهْرا }[الحقاف‪]15 :‬‬
‫حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ‬
‫ضعَتْهُ كُرْها َو َ‬
‫َووَ َ‬
‫فإذا أخذنا من الية الولى أربعة وعشرين شهرا وهي مدة الرضاع وطرحناها من الثلثين شهرا‬
‫التي تجمع بين الحمل والرضاع في الية الثانية فهمنا أن الحمل قد يكون ستة أشهر‪ .‬هنا قال‬
‫سيدنا عثمان متعجبا‪ :‬وال ما فطنت لهذا‪.‬‬
‫حلّ َلهُنّ أَن‬
‫إذن فحمل الستة الشهور أمر ممكن‪ ،‬ومن هنا نفهم الحكمة في قوله تعالى‪َ } :‬ولَ يَ ِ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َيكْ ُتمْنَ مَا خََلقَ اللّهُ فِي أَ ْرحَا ِمهِنّ { ‪ ،‬حتى ل تدعي المرأة أنها ليست حامل وتتزوج رجل آخر‬
‫وتنسب إليه ولدا ليس من صلبه ويترتب على ذلك أكثر من إشكال‪ ،‬منها أل يرث الولد من الب‬
‫الول‪ ،‬وأن محارمه لم تعد محرمة عليه‪ ،‬فأخته من أبيه لم تعد أخته‪ ،‬وكذلك عماته وخالته‬
‫وتنقلب الموازين‪ ،‬هذا من جانب الب الصلي‪.‬‬
‫أما من جانب الزوج الثاني فالطفل يكتسب حقوقا غير مشروعة له‪ ،‬سيرث منه‪ ،‬وتصبح محارم‬
‫الرجل الثاني محارمه فيدخل عليهن بل حق ويرى عوراتهن‪ ،‬وتحدث تداخلت غير مشروعة‪.‬‬
‫حلّ َلهُنّ أَن َيكْ ُتمْنَ مَا خََلقَ اللّهُ فِي أَرْحَا ِمهِنّ { هو قول يريد به الحق أن‬
‫إذن فقوله الحق‪َ } :‬ولَ َي ِ‬
‫تقوم الحياة على طهر وعلى شرف وعلى عفاف‪ ،‬ول يعتدي أحد على حقوق الخر‪ .‬هذا بالنسبة‬
‫للحمل‪ .‬فكيف يكون الحال بالنسبة للحيض؟‬
‫أيضا ل يحل لها أن تكتم حيضها لتطيل زمن العدة مع زوجها‪ .‬ويقول الحق‪ } :‬إِن كُنّ ُي ْؤمِنّ بِاللّهِ‬
‫وَالْ َيوْمِ الخِرِ {‪ .‬فما علقة اليمان هنا بالحكم الشرعي؟ إنها علقة وثيقة؛ لن الحمل أو الحيض‬
‫مسائل خفيفة ل يحكمها قانون ظاهر‪ ،‬إنما الذي يحكمها هو عملية اليمان‪ ،‬ولذلك قيل‪ " :‬الغيب ل‬
‫يحرسه إل غيب " وما دام الشيء غائبا فلن يحرسه إل الغيب العلى وهو ال تعالى‪.‬‬
‫حقّ بِ َردّهِنّ فِي ذَِلكَ { والبعل هو الزوج‪ ،‬وهو الرب والسيد والمالك‪،‬‬
‫ويتابع الحق‪ } :‬وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ‬
‫وفي أثناء فترة التربص يكون الزوج أحق برد زوجته إلى عصمته‪ ،‬وقوله تعالى‪ } :‬وَ ُبعُولَ ُتهُنّ‬
‫حقّ بِرَدّهِنّ { هل يعني ذلك أن هناك أناسا يمكن أن يشاركوا الزوج في الرد؟ لن الحق جاء‬
‫أَ َ‬
‫حقّ { وفي ظاهرها تعطي الحق لغير الزواج أن يراجعوا؟ ل‪ ،‬إنما المقصود هو أنه ل‬
‫بكلمة } أَ َ‬
‫حق لحد هنا إل للزوج‪ ،‬فالرد خلل العدة من حق الزوج‪ ،‬فليس للزوجة أن تقول‪ :‬ل‪ ،‬وليس‬
‫لولي الزوجة أن يقول‪ :‬ل‪ .‬فالزوج إذا أراد مراجعة زوجته وأبت وامتنعت هي وجب إيثار وتقديم‬
‫رغبته على رغبتها‪ ،‬وكان هو أحق منها‪ ،‬ول ينظر إلى قولها‪ ،‬فإنه ليس لها في هذا المر حق‬
‫فقد رضيت به أولً‪ .‬أما إذا انتهت العدة فالصورة تختلف‪ ،‬لبد من الولي‪ ،‬ولبد من عقد ومهر‬
‫جديدين واشتراط موافقة الزوجة‪.‬‬

‫حقّ بِرَدّهِنّ فِي ذَِلكَ إِنْ أَرَادُواْ ِإصْلَحا { هذا إن أرادوا إصلحا‪ .‬والرادة عمل‬
‫} وَ ُبعُولَ ُتهُنّ أَ َ‬
‫غيبي‪ ،‬فكأنها تهديد للزوجين‪ ،‬إن التشريع يجيز لهما العودة‪ ،‬لكن إذا كان الزوج يريد أن يردها‬
‫ليوقع بها الضرر لسبب في نفسه فالدين يقول له‪ :‬ل‪ ،‬ليس لك ذلك‪ .‬وإن كان القضاء يجيز له‬
‫ردها‪ ،‬إل أن ال يحرم عليه ذلك الظلم‪ .‬إن من حق الزوج أن يرد زوجته ردا شرعيا للعفة من‬
‫الحصان ولغرض الزوجية ل لشيء آخر‪ ،‬أما غير ذلك كالضرار بها والنتقام منها فل يجيز له‬
‫الدين ذلك‪.‬‬
‫أما قضائيا فالقضاء يعطيه الحق في ردها ول يستطيع أحد أن يقف أمامه مهما كانت السباب‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الكامنة في نفسه‪ ،‬لكن عليه أن يتحمل وزر ذلك العمل‪ .‬ويتابع الحق‪ } :‬وََلهُنّ مِ ْثلُ الّذِي عَلَ ْيهِنّ‬
‫بِا ْل َمعْرُوفِ { أي أن للزوجة مثل ما للزوج‪ ،‬لكن ما الذي لهن وما الذي عليهن؟‬
‫المثلية هنا في الجنس‪ ،‬فكل منهما له حق على الخر حسب طبيعته‪ ،‬الزوج يقدم للزوجة بعضا‬
‫من خدمات‪ ،‬والزوجة تقدم له خدمات مقابلة؛ لن الحياة الزوجية مبنية على توزيع المسئوليات‪،‬‬
‫إن الرجل عليه مسئوليات تقتضيها طبيعته كرجل‪ ،‬والمرأة عليها مسئوليات تحتمها طبيعتها‬
‫كأنثى‪ .‬والرجل مطالب بالكدح والسعي من أجل النفاق‪ .‬والمرأة مطالبة بأن توفر للرجل البيت‬
‫المناسب ليسكن إليها عندما يعود من مهمته في الحياة‪ .‬ولذلك يقول ال عز وجل‪َ {:‬ومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ‬
‫ك ليَاتٍ ّل َقوْمٍ‬
‫حمَةً إِنّ فِي ذَِل َ‬
‫ج َعلَ بَيْ َنكُم ّموَ ّد ًة وَرَ ْ‬
‫سكُنُواْ إِلَ ْيهَا وَ َ‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجا لّ َت ْ‬
‫خََلقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬
‫يَ َت َفكّرُونَ }[الروم‪]21 :‬‬
‫سكُنُواْ إِلَ ْيهَا { أي إنكم تتحركون من أجل الرزق‬
‫والسكن إلى شيء هو نقيض التحرك‪ ،‬ومعنى } لّتَ ْ‬
‫طوال النهار ثم تعودون للراحة عند زوجاتكم‪ ،‬فالرجل عليه الحركة‪ ،‬والمرأة عليها أن تهيئ له‬
‫حسن القامة‪ ،‬وجمال العشرة وحنان وعطف المعاملة‪ .‬فالمسئوليات موزعة توزيعا عادلً‪ ،‬فهناك‬
‫حق لك هو واجب على غيرك‪ ،‬وهناك حق لغيرك وهو واجب عليك‪.‬‬
‫جةٌ { وهي درجة الولية والقوامة‪ .‬ودرجة الولية تعطينا‬
‫ويقول الحق‪ } :‬وَلِلرّجَالِ عَلَ ْيهِنّ دَرَ َ‬
‫مفهوما أعم وأشمل‪ ،‬فكل اجتماع لبد له من قَيّم‪ ،‬والقوامة مسئولية وليست تسلطا‪ ،‬والذي يأخذ‬
‫القوامة فرصة للتسلط والتحكم فهو يخرج بها عن غرضها؛ فالصل في القوامة أنها مسئولية‬
‫لتنظيم الحركة في الحياة‪.‬‬
‫ول غضاضة على الرجل أن يأتمر بأمر المرأة فيما يتعلق برسالتها كامرأة وفي مجالت خدمتها‪،‬‬
‫أي في الشئون النسائية‪ ،‬فكما أن للرجل مجاله‪ ،‬فللمرأة مجالها أيضا‪.‬‬
‫والدرجة التي من أجلها رُفع الرجل هي أنه قوام أعلى في الحركة الدنيوية‪ ،‬وهذه القوامة تقتضي‬
‫أن ينفق الرجل على المرأة تطبيقا لقوله الحق‪ {:‬وَ ِبمَآ أَ ْن َفقُواْ مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ }[النساء‪]34 :‬‬
‫إذن فالنفاق واجب الرجل ومسئوليته‪ ،‬وليعلم أن ال عزيز ل يحب أن يستذل رجل امرأة هي‬
‫مخلوق ل‪ ،‬وال حكيم قادر على أن يقتص للمرأة لو فهم الرجل أن درجته فوق المرأة هي‬
‫للستبداد‪ ،‬أو فهمت المرأة أن وجودها مع الرجل هي منة منها عليه‪ ،‬فل استذلل في الزواج؛‬
‫لن الزواج أساسه المودة والمعرفة‪ .‬ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬الطّلَقُ مَرّتَانِ فَِإ ْمسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ‬
‫تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ‪{ ...‬‬

‫(‪)231 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خذُوا ِممّا آَتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئًا إِلّا‬
‫حلّ َلكُمْ أَنْ تَأْ ُ‬
‫ن وَلَا يَ ِ‬
‫حسَا ٍ‬
‫الطّلَاقُ مَرّتَانِ فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ َتسْرِيحٌ بِإِ ْ‬
‫حدُودَ اللّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْ َت َدتْ بِهِ تِ ْلكَ حُدُودُ‬
‫خفْتُمْ أَلّا ُيقِيمَا ُ‬
‫أَنْ يَخَافَا أَلّا ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ ِ‬
‫اللّهِ فَلَا َتعْتَدُوهَا َومَنْ يَ َتعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الظّاِلمُونَ (‪)229‬‬

‫هنا يتحدث الحق سبحانه وتعالى عن الطلق بعد أن تحدث عن المطلقة في عدتها وكيفية ردها‬
‫ومراجعتها‪ ،‬وإنه سبحانه يتحدث عن الطلق في حد ذاته‪ .‬والطلق مأخوذ من النطلق‬
‫والتحرر‪ ،‬فكأنه حل عقدة كانت موجودة وهي عقدة النكاح‪ .‬وعقدة النكاح هي العقدة التي جعلها‬
‫ال عقدا مغلظا وهي الميثاق الغليظ‪ ،‬فقال تعالى‪ {:‬وَأَخَذْنَ مِنكُم مّيثَاقا غَلِيظا }[النساء‪]21 :‬‬
‫إنه ميثاق غليظ لنه أباح للزوجين عورات الخر‪ ،‬في حين أنه لم يقل عن اليمان إنه ميثاق‬
‫غليظ‪ ،‬قال عنه‪ " :‬ميثاق " فقط‪ ،‬فكأن ميثاق الزواج أغلظ من ميثاق اليمان‪ .‬والحق سبحانه‬
‫وتعالى يريد أن يربي في الناس حل المشكلت بأيسر الطرق‪ .‬لذلك شرع لنا أن نحل عقدة النكاح‪،‬‬
‫ونهاية العقدة ليست كبدايتها‪ ،‬ليست جذرية‪ ،‬فبداية النكاح كانت أمرا جذريا‪ ،‬أخذناه بإيجاب وقبول‬
‫وشهود وأنت حين تدخل في المر تدخله وأنت دارس لتبعاته وظروفه‪ ،‬لكن المر في عملية‬
‫الطلق يختلف؛ فالرجل ل يملك أغمار نفسه‪ ،‬فربما يكون السبب فيها هينا أو لشيء كان يمكن أن‬
‫يمر بغير الطلق؛ فيشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل للناس أناة وروية في حل العقدة فقال‪:‬‬
‫{ الطّلَقُ مَرّتَانِ } يعني مرة ومرة‪ ،‬ولقائل أن يقول‪ :‬كيف يكون مرتين‪ ،‬ونحن نقول ثلثة؟ وقد‬
‫سأل رجلٌ رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فقال يا رسول ال قال ال تعالى‪ { :‬الطّلَقُ مَرّتَانِ }‬
‫فلم صار ثلثا؟‬
‫لقُ‬
‫فقال صلى ال عليه وسلم مبتسما‪ { :‬فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ }‪ .‬فكأن معنى { الطّ َ‬
‫مَرّتَانِ } ‪ ،‬أي أن لك في مجال اختيارك طلقتين للمرأة‪ ،‬إنما الثالثة ليست لك‪ ،‬لماذا؟ لنها من بعد‬
‫ذلك ستكون هناك بينونة كبرى ولن تصبح مسألة عودتها إليك من حقك‪ ،‬وإنما هذه المرأة قد‬
‫أصبحت من حق رجل آخر‪ {..‬حَتّىا تَ ْنكِحَ َزوْجا غَيْ َرهُ }[البقرة‪]230 :‬‬
‫أما قول الرجل لزوجته أنت " طالق ثلثا " يُعتبر ثلث طلقات أم ل؟ نقول‪ :‬إن الزمن شرط‬
‫أساسي في وقوع الطلق‪ ،‬يطلق الرجل زوجته مرة‪ ،‬ثم تمضي فترة من الزمن‪ ،‬ويطلقها مرة‬
‫أخرى فتصبح طلقة ثانية‪ ،‬وتمضي أيضا فترة من الزمن وبعد ذلك نصل لقوله‪ { :‬فَِإمْسَاكٌ‬
‫ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ } ولذلك فالية نصها واضح وصريح في أن الطلق بالثلث في لفظ‬
‫واحد ل يوقع ثلث طلقات‪ ،‬وإنما هي طلقة واحدة‪ ،‬صحيح أن سيدنا عمر رضي ال عنه جعلها‬
‫ثلث طلقات؛ لن الناس استسهلوا المسألة‪ ،‬فرأى أن يشدد عليهم ليكفوا‪ ،‬لكنهم لم يكفوا‪ ،‬وبذلك‬
‫نعود لصل التشريع كما جاء في القرآن وهو { الطّلَقُ مَرّتَانِ }‪.‬‬
‫وحكمة توزيع الطلق على المرات الثلث ل في العبارة الواحدة‪ ،‬أن الحق سبحانه يعطي فرصة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للتراجع‪ .‬وإعطاء الفرصة ل يأتي في نفس واحد وفي جلسة واحدة‪.‬‬

‫إن الرجل الذي يقول لزوجته‪ :‬أنت طالق ثلثا لم يأخذ الفرصة ليراجع نفسه ولو اعتبرنا قولته‬
‫هذه ثلث طلقات لتهدمت الحياة الزوجية بكلمة‪ .‬ولكن عظمة التشريع في أن الحق سبحانه وزع‬
‫الطلق على مرات حتى يراجع النسان نفسه‪ ،‬فربما أخطأ في المرة الولى‪ ،‬فيمسك في المرة‬
‫الثانية ويندم‪ .‬وساعة تجد التشريع يوزع أمرا يجوز أن يحدث ويجوز أل يحدث‪ ،‬فل بد من وجود‬
‫فاصل زمني بين كل مرة‪ .‬وبعض المتشدقين يريدون أن يبرروا للناس تهجمهم على منهج ال‬
‫فيقولون‪ :‬إن ال حكم بأن تعدد الزوجات ل يمكن أن يتم فقال‪ {:‬وَلَن تَسْ َتطِيعُواْ أَن َتعْدِلُواْ بَيْنَ‬
‫النّسَآ ِء وََلوْ حَ َرصْتُمْ }[النساء‪]129 :‬‬
‫ويقولون‪ :‬إنّ ال اشترط في التعدد العدل‪ ،‬ثم حكم بأننا لن نستطيع أن نعدل بين الزوجات مهما‬
‫حرصنا‪ ،‬فكأنه رجع في التشريع‪ ،‬هذا منطقهم‪ .‬ونقول لهم‪ :‬أكملوا قراءة الية تفهموا المعنى‪ ،‬إن‬
‫الحق يقول‪ } :‬وَلَن َتسْتَطِيعُواْ أَن َت ْعدِلُواْ بَيْنَ النّسَآ ِء وََلوْ حَ َرصْتُمْ { ثم فرع على النفي فقال‪ {:‬فَلَ‬
‫َتمِيلُواْ ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ }[النساء‪]129 :‬‬
‫وما دام النفي قد فُرّع عليه فقد انتفى‪ ،‬فالمر كما يقولون‪ :‬نفي النفي إثبات‪ .‬أن الستطاعة ثابتة‬
‫وباقية وكان قوله تعالى‪ } :‬فَلَ َتمِيلُواْ ُكلّ ا ْلمَ ْيلِ { إشارة إليها‪ .‬وكذلك المر هنا } الطّلَقُ مَرّتَانِ‬
‫فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ {‪ .‬فما دام قد قال‪ } :‬فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ‬
‫{ وقال‪ } :‬الطّلَقُ مَرّتَانِ { أي أن لكل فعل زمنا‪ ،‬فذلك يتناسب مع حلقات التأديب والتهذيب‪ ،‬وإل‬
‫فالطلق الثلث بكلمة واحدة في زمن واحد‪ ،‬يكون عملية قسرية واحدة‪ ،‬وليس فيها تأديب أو‬
‫خذُواْ ِممّآ آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئا‬
‫حلّ َلكُمْ أَن تَأْ ُ‬
‫إصلح أو تهذيب‪ ،‬وفي هذه المسألة يقول الحق‪َ } :‬ولَ يَ ِ‬
‫{ لن المفروض في الزوج أن يدفع المهر نظير استمتاعه بالبضع‪ ،‬فإذا ما حدث الطلق ل يحل‬
‫للمطلق أن يأخذ من مهره شيئا‪ ،‬لكن الحق استثنى في المسألة فقال‪ِ } :‬إلّ أَن َيخَافَآ َألّ ُيقِيمَا حُدُودَ‬
‫خفْتُمْ َألّ ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ بِهِ {‪.‬‬
‫اللّهِ فَإِنْ ِ‬
‫فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يجعل للمرأة مخرجا إن أريد بها الضرر وهي ل تقبل هذا‬
‫الضرر‪ .‬فيأتي الحق ويشرع‪ :‬وما دام قد خافا أل يقيما حدود ال‪ ،‬فقد أذن لها أن افتدي نفسك‬
‫أيتها المرأة بشيء من مال‪ ،‬ويكره أن يزيد على المهر إل إذا كان ذلك ناشئا عن نشوز منها‬
‫ومخالفة للزوج فل كراهة إذن في الزيادة على المهر‪.‬‬
‫وقد جاء الواقع مطابقا لما شرع ال عندما وقعت حادثة " جميلة " أخت " عبد ال ابن أبي " حينما‬
‫كانت زوجة لعبد ال بن قيس‪ ،‬فقد ذهبت إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقالت‪ " :‬أنا ل‬
‫أتهمه في دينه ول خلقه ولكن ل أحب الكفر في السلم " وهي تقصد أنها عاشت معه وهي‬
‫تبغضه‪ ،‬لذلك لن تؤدي حقه وذلك هو كفر العشير أي إنكار حق الزوج وترك طاعته‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهي قد قالت‪ :‬إنها ل تتهمه ل في دينه ول في خلقه لتعبر بذلك عن معانٍ عاطفية أخرى‪ ،‬فأراد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يعلم منها ذلك‪ ،‬فقالت‪ :‬لقد رفعت الخباء فوجدته في عدة رجال‬
‫فرأيته أشدهم سوادا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجها‪ ،‬فقال لها صلى ال عليه وسلم‪ " " :‬أتردين‬
‫حديقته "؟ فقالت‪ :‬وإن شاء زدته‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل حاجة لنا بالزيادة‪ ،‬ولكن ردي‬
‫عليه حديقته "‪.‬‬
‫ويُسمى هذا المر بالخلع‪ ،‬أي أن تخلع المرأة نفسها من زوجها الذي تخاف أل تؤدي له حقا من‬
‫حقوق الزوجية‪ ،‬إنها تخلع نفسها منه بمال حتى ل يصيبه ضرر‪ ،‬فقد يريد أن يتزوج بأخرى وهو‬
‫حلّ َلكُمْ أَن‬
‫محتاج إلى ما قدم من مهر لمن تريد أن تخلع نفسها منه‪ .‬ويتابع الحق سبحانه‪َ } :‬ولَ يَ ِ‬
‫حدَاهُنّ‬
‫خذُواْ ِممّآ آتَيْ ُتمُوهُنّ شَيْئا { وهذا الشيء هو الذي قال عنه ال في مكان آخر‪ {:‬وَآتَيْتُمْ إِ ْ‬
‫تَأْ ُ‬
‫قِنْطَارا }[النساء‪]20 :‬‬
‫ويتابع الحق الية بقوله‪ِ } :‬إلّ أَن يَخَافَآ َألّ ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ { والمقصود هنا هما الزوجان‪ ،‬ومن‬
‫خفْتُمْ َألّ‬
‫بعد ذلك تأتي مسئولية أولياء أمر الزوجين والمجتمع الذي يهمه أمرهما في قوله‪ } :‬فَإِنْ ِ‬
‫حدُودَ اللّهِ‬
‫ُيقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا فِيمَا افْتَ َدتْ بِهِ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتعْ َتدُوهَا َومَن يَ َت َعدّ ُ‬
‫فَُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ {‪.‬‬
‫وحدود ال هي ما شرعه ال لعباده حدا مانعا بين الحل والحرمة‪ .‬وحدود ال إما أن ترد بعد‬
‫حدُودُ اللّهِ فَلَ‬
‫المناهي‪ ،‬وإما أن ترد بعد الوامر‪ ،‬فإن وردت بعد الوامر فإنه يقول‪ } :‬تِ ْلكَ ُ‬
‫حدُودُ‬
‫َتعْتَدُوهَا { أي آخر غايتكم هنا‪ ،‬ول تتعدوا الحد‪ ،‬ولكن إن جاءت بعد النواهي يقول‪ } :‬تِ ْلكَ ُ‬
‫اللّهِ فَلَ َتقْرَبُوهَا { ‪ ،‬لن الحق يريد أن يمنع النفس من تأثير المحرمات على النفس‪ ،‬فتلح عليها أن‬
‫تفعل‪ ،‬فإن كنت بعيدا عنها فالفضل أن تظل بعيدا‪.‬‬
‫وانظر جيدا فيما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن الحلل بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما‬
‫أمور مشتبهات فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في‬
‫الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه‪ ،‬أل وإن لكل ملك حمى‪ ،‬أل وإن حمى ال‬
‫في أرضه محارمه "‪.‬‬
‫وما دامت الحدود تشمل مناهي ال وتشمل أوامر ال فكل شيء مأمور به وكل شيء منهي عنه‬
‫يجب أن يظل في مجاله من الفعل في " افعل " ومن النهي في " ل تفعل "‪ .‬وإذا انتقل نظام (افعل)‬
‫إلى دائرة (ل تفعل) وانتقل ما يدخل في دائرة " ل تفعل " إلى دائرة " افعل " ‪ ،‬هنا يختل نظام‬
‫الكون‪ ،‬وما دام نظام الكون أصابه الخلل فقد حدث الظلم؛ فالظلم هو أن تنقل حق إنسان وتعطيه‬
‫لنسان آخر‪ ،‬وتشريع الطلق حد من حدود ال‪ ،‬فإن حاولت أن تأتي بأمر ل يناسب ما أمر ال به‬
‫ح ِدثُ ظلما‪.‬‬
‫في تنظيم اجتماعي فقد نقلت المأمور به إلى حيز المنهي عنه‪ ،‬وبذلك تُ ْ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق سبحانه وتعالى حينما يعالج قضايا المجتمع يعالجها علجا يمنع وقوع المجتمع في‬
‫المراض والفات‪ ،‬والبشر إن أحسنا الظن بهم في أنهم يشرعون للخير وللمصلحة‪ ،‬فهم يشرعون‬
‫على قدر علمهم بالشياء‪ ،‬لكننا ل نأمن أن يجهلوا شيئا يحدث ول يعرفوه‪ ،‬فهم شرّعوا ِلمَا‬
‫عرفوا‪ ،‬وإذا شرعوا لما عرفوا وفوجئوا بأشياء لم يعرفوها ماذا يكون الموقف؟ إن كانوا مخلصين‬
‫بحق داسوا على كبرياء غرورهم التشريعي وقالوا‪ُ :‬نعَدّل ما شرعنا‪ ،‬وإن ظلوا في غلوائهم فمن‬
‫الذي يشقى؟ إن المجتمع هو الذي يشقى بعنادهم‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى ل يتهم الناس جميعا في أن منهم من ل يريد الخير‪ ،‬ولكن هناك فرق بين‬
‫أن تريد خيرا وأل تقدر على الخير‪ .‬أنت شرعت على قدر قدرتك وعلمك‪ .‬ونعرف جميعا أن‬
‫شقاء التجارب في القوانين الجتماعية النظرية تقع على المجتمع‪.‬‬
‫ونعرف جيدا أن هناك فرقا بين العلم التجريبي المعملي والكلم النظري الهوائي؛ فالعلم التجريبي‬
‫يشقى به صاحب التجربة‪ ،‬إن العَالِم يكد ويتعب في معمله وهو الذي يشقى ويضحي بوقته وبماله‬
‫وبصحته ويعيش في ذهول عن كل شيء إل تجربته التي هو بصددها‪ ،‬فإذا ما انتهى إلى قضية‬
‫اكتشافية فالذي يسعد باكتشافه هو المجتمع‪ .‬لكن المر يختلف في الشياء النظرية؛ لن الذي‬
‫يشقى بأخطاء المقننين من البشر هو المجتمع‪ ،‬إلى أن يجيء مقنن يعطف على المجتمع ويعدل‬
‫خطأ من سبقه‪.‬‬
‫أما الحق سبحانه وتعالى فقد جاءنا بتشريع يحمي البشر من الشقاء‪ ،‬فال ـ سبحانه ـ يتركنا في‬
‫العالم المادي التجريبي أحرارا‪ .‬ادخلوا المعمل وستنتهون إلى أشياء قد تتفقون عليها‪ ،‬لكن إياكم‬
‫واختلفات الهواء؛ لذلك تولى ال عز وجل تشريع ما تختلف فيه الهواء‪ ،‬حتى يضمن أن‬
‫المجتمع ل يشقى بالخطأ من المشرعين‪ ،‬لفترة من الزمن إلى أن يجيء مشرع آخر ويعدل للناس‬
‫ما أخطأ فيه غيره‪.‬‬
‫لذلك نجد في عالمنا المعاصر الكثير من القضايا النابعة من الهوى‪ ،‬ويتمسك الناس فيها بأهوائهم‪،‬‬
‫ثم تضغط عليهم الحداث ضغطا ل يستطيعون بعدها أن يضعوا رءوسهم في الرمال‪ ،‬بل لبد أن‬
‫يواجهوها‪ ،‬فإذا ما واجهوها فإنهم ل يجدون حلً لها إل بما شرعه السلم‪ ،‬ونجد أنهم التقوا مع‬
‫تشريعات السلم‪.‬‬
‫إن بعضا من الكارهين للسلم يقولون‪ :‬أنتم تقولون عن دينكم‪ :‬إنه جاء ليظهر على كل الديان‪،‬‬
‫مرة يقول القرآن‪:‬‬

‫شهِيدا }[الفتح‪:‬‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه َو َكفَىا بِاللّهِ َ‬
‫حقّ لِيُ ْ‬
‫سلَ َرسُولَهُ بِا ْلهُدَىا وَدِينِ الْ َ‬
‫{ ُهوَ الّذِي أَرْ َ‬
‫‪]28‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَاللّهُ مُ ِتمّ نُو ِرهِ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ * ُهوَ‬
‫ومرة يقول القرآن‪ {:‬يُرِيدُونَ لِ ُي ْ‬
‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ }[الصف‪-8 :‬‬
‫حقّ لِ ُي ْ‬
‫سلَ رَسُولَهُ بِا ْلهُدَىا َودِينِ الْ َ‬
‫الّذِي أَ ْر َ‬
‫‪]9‬‬
‫ويستمر هؤلء الكارهون للسلم في قولهم ويضيفون‪ :‬إن إسلمكم ليظهر على الدين كله حتى‬
‫الن بدليل أن هناك المليين لم يدخلوا السلم؟ ونقول لهم‪ :‬أو يظهر على الدين كله بأن يؤمن‬
‫الناس بالسلم جميعا‪ ،‬ل‪ ،‬لو فطنوا على قول ال‪ } :‬وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ { لعلموا أن إظهار‬
‫السلم على الدين لبد أن يلزمه وجود كافرين كارهين‪ ،‬وما دام السلم موجودا مع كافرين‬
‫كارهين‪ ،‬فهو لن يظهر كدين‪ ،‬ولكنه يظهر عليهم ـ أي يغلبهم ـ كنظام يضطرون إليه ليحلوا‬
‫مشكلت مجتمعاتهم الكافرة‪ ،‬فسيأخذون من أنظمة وقوانين السلم وهم كارهون‪ ،‬ولذلك نجدهم‬
‫يستقون قوانينهم وإصلحاتهم الجتماعية من تعاليم السلم‪.‬‬
‫ولو كانوا سيأخذونه كدين لما قال الحق‪ } :‬وَلَوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ { أو } وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ { لنهم‬
‫عندما يعتنقونه كدين فلن يبقى كاره أو مشرك‪ .‬لكن حين يقول سبحانه‪ } :‬وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ‬
‫{ و } وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمشْ ِركُونَ { فذلك يعني‪ :‬أن اطمئنوا يا من آمنتم بمحمد صلى ال عليه وسلم‬
‫وأخذتم السلم دينا‪ ،‬إن تجارب الحياة ستأتي لتثبت لدى الجاحدين صدق دينكم‪ ،‬وصدق ال في‬
‫تقنينه لكم‪ ،‬وسيضطر الكافرون والمشركون إلى كثير من قضايا إسلمكم ليأخذوها كنظام يحلون‬
‫بها مشاكلهم رغم عنادهم وإصرارهم على أن يكونوا ضد السلم‪.‬‬
‫وضربنا على ذلك مثلً بما حدث في إيطاليا التي بها الفاتيكان قبلة الكاثوليك الروحية؛ فقد‬
‫اضطروا لن يشرعوا قوانين تبيح الطلق‪ ،‬وحدث مثل ذلك في أسبانيا وغيرها من الدول‪ .‬انظر‬
‫كيف تراجعوا في مبادئ كانوا يعيبونها على السلم! لقد اضطرتهم ظروف الحياة لن يقننوا‬
‫إباحة الطلق تقنينا بشريا ل بتقنين إلهي‪ .‬ومثل هذه الحداث تبين لنا مدى ثقتنا في ديننا‪ ،‬وأن‬
‫مشكلت البشرية في بلد الكفر والشرك لن يحلها إل السلم‪ ،‬فإن لم يأخذوه كدين فسيضطرون‬
‫إلى أخذه كنظام‪.‬‬
‫ومن شرف السلم أل يأخذوه كدين؛ لنهم لو آمنوا به لكانت أفعالهم وقوانينهم تطبيقا للسلم من‬
‫قوم مسلمين‪ ،‬ولكن أن يظلوا كارهين للسلم ثم يأخذوا من مبادئ الدين الذي يكرهونه ما يصلح‬
‫مجتمعاتهم الفاسدة فذلك الفخر الكبر للسلم‪ .‬إن هذا هو مفهوم قول الحق‪ } :‬وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ‬
‫{ و } وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمشْ ِركُونَ { وإذا ما جاء لك أحد في هذه المسألة فقل‪ :‬من شرف السلم أن يظل‬
‫في الدنيا مشرك‪ ،‬وأن يظل في الدنيا هؤلء الكفار ثم يرغموا ليحلوا مسائل مجتمعاتهم بقضايا‬
‫السلم‪ ،‬والسلم يفخر بأنه سبقهم منذ أربعة عشر قرنا إلى ما يلهثون وراءه الن بعد مضي كل‬
‫حلّ لَهُ مِن َبعْدُ حَتّىا تَ ْنكِحَ َزوْجا غَيْ َرهُ‪{ ...‬‬
‫هذا الزمن‪ .‬ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬فَإِنْ طَّل َقهَا فَلَ َت ِ‬

‫(‪)232 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَا إِنْ‬
‫حلّ َلهُ مِنْ َبعْدُ حَتّى تَ ْنكِحَ َزوْجًا غَيْ َرهُ فَإِنْ طَّل َقهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا أَنْ يَتَرَا َ‬
‫فَإِنْ طَّل َقهَا فَلَا َت ِ‬
‫حدُودُ اللّهِ يُبَيّ ُنهَا ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ (‪)230‬‬
‫ظَنّا أَنْ ُيقِيمَا حُدُودَ اللّ ِه وَتِ ْلكَ ُ‬

‫وسبق أن قال الحق‪ { :‬الطّلَقُ مَرّتَانِ } وبعدها قال‪ { :‬فَِإمْسَاكٌ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ تَسْرِيحٌ بِِإحْسَانٍ }‪.‬‬
‫حلّ لَهُ مِن َبعْدُ حَتّىا تَ ْنكِحَ َزوْجا غَيْ َرهُ }‪.‬‬
‫وهنا يتحدث الحق عن التسريح بقوله‪ { :‬فَإِنْ طَّلقَهَا فَلَ َت ِ‬
‫وذلك حتى يبين لنا أنه إن وصلت المور بين الزوجين إلى مرحلة الل عودة فلبد من درس‬
‫قاس؛ فل يمكن أن يرجع كل منهما للخر بسهولة‪ .‬لقد أمهلهما ال بتشريع البينونة الصغرى التي‬
‫يعقبها مهر وعقد جديدان فلم يرتدعا‪ ،‬فكان لبد من البينونة الكبرى‪ ،‬وهي أن تتزوج المرأة بزوج‬
‫آخر وتجرب حياة زوجية أخرى‪ .‬وبذلك يكون الدرس قاسيا‪.‬‬
‫وقد يأخذ بعض الرجال المسألة بصورة شكلية‪ ،‬فيتزوج المرأة المطلقة ثلثا زواجا كامل الشروط‬
‫من عقد وشهود ومهر‪ ،‬لكن ل يترتب على الزواج معاشرة جنسية بينهما‪ ،‬وذلك هو " المحلل "‬
‫الذي نسمع عنه وهو ما لم يقره السلم‪.‬‬
‫فمن تزوج على أنه محلل ومن وافقت على ذلك المحلل فليعلما أن ذلك حرام على الثنين‪ ،‬فليس‬
‫في السلم محلل‪ ،‬ومن يدخل بنية المحلل ل تجوز له الزوجة‪ ،‬وليس له حقوق عليها‪ ،‬وفي الوقت‬
‫نفسه لو طلقها ذلك الرجل ل يجوز لها الرجوع لزوجها السابق‪ ،‬لن المحلل لم يكن زوجا وإنما‬
‫حلّ لَهُ مِن َب ْعدُ حَتّىا تَ ْنكِحَ‬
‫تمثيل زوج‪ ،‬والتمثيل ل يُثبت في الواقع شيئا‪ .‬ولذلك قال الحق‪ { :‬فَلَ َت ِ‬
‫َزوْجا غَيْ َرهُ }‪.‬‬
‫والمقصود هنا النكاح الطبيعي الذي ساقت إليه الظروف دون افتعال ول قصد للتحليل‪ .‬وعندما‬
‫يطلقها ذلك الرجل لظروف خارجة عن الرادة وهي استحالة العشرة‪ ،‬وليس لسباب متفق عليها‪،‬‬
‫عندئذ يمكن للزوج السابق أن يتزوج المرأة التي كانت في عصمته وطلقها من قبل ثلث مرات‪.‬‬
‫جعَآ إِن ظَنّآ أَن ُيقِيمَا حُدُودَ اللّ ِه وَتِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ يُبَيّ ُنهَا ِل َقوْمٍ‬
‫{ فَإِن طَّل َقهَا فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَآ أَن يَتَرَا َ‬
‫َيعَْلمُونَ } أي أن يغلب على الظن أن المسائل التي كانت مثار خلف فيما مضى قد انتهت ووصل‬
‫الثنان إلى درجة من التعقل والحترام المتبادل‪ ،‬وأخذا درسا من التجربة تجعل كل منهما يرضى‬
‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ‪} ...‬‬
‫جَلهُنّ فََأمْ ِ‬
‫بصاحبه‪ .‬وبعد ذلك يقول الحق‪ { :‬وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ أَ َ‬

‫(‪)233 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكُوهُنّ ضِرَارًا‬
‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ وَلَا ُت ْم ِ‬
‫وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ فََأ ْم ِ‬
‫خذُوا آَيَاتِ اللّهِ هُ ُزوًا وَا ْذكُرُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ عَلَ ْيكُ ْم َومَا أَنْ َزلَ‬
‫س ُه وَلَا تَتّ ِ‬
‫لِ َتعْتَدُوا َومَنْ َيفْ َعلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْ َ‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ (‪)231‬‬
‫ظكُمْ ِب ِه وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫ح ْكمَةِ َيعِ ُ‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫عَلَ ْيكُمْ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬

‫ولنلحظ قوله‪ { :‬وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ } ونسأل‪ :‬هل إذا بلغت الجل وانتهت العدة‪ ،‬هل‬
‫يوجد بعدها إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان؟‪ ،‬هل يوجد إل التسريح؟‪ .‬إن هناك آية بعد ذلك‬
‫ضوْاْ بَيْ َنهُمْ‬
‫جهُنّ إِذَا تَرَا َ‬
‫تقول‪ {:‬وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ فَلَ َت ْعضُلُوهُنّ أَن يَنكِحْنَ أَ ْزوَا َ‬
‫بِا ْل َمعْرُوفِ }[البقرة‪]232 :‬‬
‫إذن نحن أمام آيتين كل منهما تبدأ بقوله‪ { :‬وَِإذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ }‪ .‬لكن تكملة الية‬
‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ } وتكملة الية الثانية هو‪ { :‬فَلَ‬
‫الولى هو‪ { :‬فََأ ْم ِ‬
‫جهُنّ }‪ .‬ما سر هذا الختلف إذن؟‬
‫َت ْعضُلُوهُنّ أَن يَنكِحْنَ أَ ْزوَا َ‬
‫نقول‪ :‬إن البلوغ يأتي بمعنيين‪ ،‬المعنى الول‪ :‬أن يأتي البلوغ بمعنى المقاربة مثل قوله تعالى‪:‬‬
‫سلُواْ ُوجُو َهكُمْ }‪ .‬أي عندما تقارب القيام إلى الصلة فافعل ذلك‪.‬‬
‫{ ِإذَا ُقمْتُمْ ِإلَى الصّلةِ فاغْ ِ‬
‫والمعنى الثاني‪ :‬يطلق البلوغ على الوصول الحقيقي والفعلي‪ .‬إن النسان عندما يكون مسافرا‬
‫بالطائرة ويهبط في بلد الوصول فهو يلحظ أن الطيار يعلن أنه قد وصل إلى البلد الفلني‪ .‬إذن‬
‫مرة يطلق البلوغ على القرب ومرة أخرى يطلق على البلوغ الحقيقي‪.‬‬
‫سكُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ َأوْ سَرّحُوهُنّ ِب َمعْرُوفٍ }‬
‫وفي الية الولى { وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ فََأمْ ِ‬
‫هنا طلق الرجل زوجته لكن عدتها لم تنته بل قاربت على النتهاء فربما يمكنه أن يسرحها أو‬
‫يمسكها بإحسان‪ ،‬وأصبح للزوج قدر من زمن العدة يبيح له أن يمسك أو يسرح‪ ،‬لكنه زمن قليل‪.‬‬
‫إن الحق يريد أن يتمسك الزوج بالبقاء إلى آخر لحظة ويستبقي أسباب اللتقاء وعدم النفصال‬
‫حتى آخر لحظة‪ ،‬وهذه علة التعبير بقوله‪ { :‬فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ } أي قاربن بلوغ الجل‪ .‬إن الحق‬
‫يريدنا أن نتمسك باستبقاء الحياة الزوجية إلى آخر فرصة تتسع للمساك‪ ،‬فهي لحظة قد ينطق‬
‫فيها الرجل بكلمة يترتب عليها إما طلق‪ ،‬وإما عودة الحياة الزوجية‪.‬‬
‫أما الية الثانية وهي قوله تعالى‪ { :‬وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ فَلَ َت ْعضُلُوهُنّ أَن يَن ِكحْنَ‬
‫جهُنّ } فال سبحانه وتعالى يريد أن يحصر مناقشة السباب في النفصال أو الستمرار بين‬
‫أَ ْزوَا َ‬
‫الزوج والزوجة فقط فل تتعدى إلى غير الزوج والزوجة؛ لن بين الثنين من السباب ما قد‬
‫تجعل الواحد منهما يُلين جانبه للخر‪.‬‬
‫لكن إذا ما دخل طرف ثالث ليست عنده هذه فسوف تكبر في نفسه الخصومة ول توجد عنده‬
‫الحاجة فل يبقى على عشرة الزوجين‪ .‬فإذا ما دخل الب أو الخ أو الم في النزاع فسوف تشتعل‬
‫الخصومة‪ ،‬وكل منهم ل يشعر بإحساس كل من الزوجين للخر‪ ،‬ول بليونة الزوج لزوجته‪ ،‬ول‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بمهادنة الزوجة لزوجها‪ ،‬فهذه مسائل عاطفية ونفسية ل توجد إل بين الزوج والزوجة‪ ،‬أما‬
‫الطراف الخارجية فل يربطها بالزوج ول بالزوجة إل صلة القرابة‪ .‬ومن هنا فإن حرص تلك‬
‫الطراف الخارجية على بقاء عشرة الزوجين ل يكون مثل حرص كل من الزوجين على التمسك‬
‫بالخر‪.‬‬

‫ولذلك يجب أن نفهم أن كل مشكلة تحدث بين زوج وزوجته ول يتدخل فيها أحد تنتهي بسرعة‬
‫بدون أم أو أب أو أخ‪ ،‬ذلك لنه تدخل طرفٍ خارجي ل يكون مالكا للدوافع العاطفية والنفسية‬
‫التي بين الزوجين‪ ،‬أما الزوجان فقد تكفي نظرة واحدة من أحدهما للخر لن تعيد المور إلى‬
‫مجاريها‪ .‬فقد يُعجب الرجل بجمال المرأة ويشتاق إليها‪ ،‬فينسى كل شيء‪ .‬وقد ترى المرأة في‬
‫الرجل أمرا ل تحب أن تفقده منه فتنسى ما حدث بينهما‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫لكن أين ذلك من أمها وأمه‪ ،‬أو أبيها وأبيه؟ ليس بين هؤلء وبين الزوجين أسرار وعواطف‬
‫ومعاشرة وغير ذلك‪.‬‬
‫ولهذا فأنا أنصح دائما بأن يظل الخلف محصورا بين الزوج والزوجة؛ لن ال قد جعل بينهما‬
‫سيال عاطفيا‪ .‬والسيال العاطفي قد يسيل إلى نزوع ورغبة في شيء ما‪ ،‬وربما تكون هذه الرغبة‬
‫هي التي تصلح وتجعل كل من الطرفين يتنازل عن الخصومة والطلق‪ .‬ولذلك شاءت إرادة ال‬
‫عز وجل أل يطلق الرجل زوجته وهي حائض‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن المرأة في فترة الحيض ل يكون لزوجها رغبة فيها‪ ،‬وربما ينفر منها‪ ،‬لكن يريد الحق عز‬
‫وجل أل يطلق الرجل زوجته إل في طهر لم يسبق له أن عاشرها فيه معاشرة الزوج زوجته‬
‫وبعد أن تغتسل من الحيض‪ ،‬وذلك حتى ل يطلقها إل وهو في أشد الوقات رغبة لها‪.‬‬
‫إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن تكون الخلفات بين الزوج والزوجة في إطار الحياة الزوجية‪،‬‬
‫حتى يحفظهما سياج المحبة والمودة والرحمة‪ .‬لكن تدخل الطراف الخرى يحطم هذا السياج‪ ،‬أيا‬
‫كان الطرف أما أو أبا أو أخا‪.‬‬
‫ن ضِرَارا لّ َتعْتَدُواْ { أي ل تبق أيها الرجل على الحياة الزوجية من‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫ويقول الحق‪َ } :‬ولَ ُتمْ ِ‬
‫أجل الضرار بالمرأة وإذللها‪ ،‬ومعنى الضرار أنك تصنع شيئا في ظاهره أنك تريد الخير وفي‬
‫الباطن تريد الشر‪ .‬ولذلك أطلق اللفظ على " مسجد الضرار " فظاهر بنائه أنه مسجد بني للصلة‬
‫فيه‪ ،‬وفي الباطن كان الهدف منه هو الكفر والتفريق بين المؤمنين‪ .‬وكذلك الضرار في الزواج؛‬
‫يقول الرجل أنا ل أريد طلقها وسأعيدها لبيتها‪ ،‬يقول ذلك ويُبيت في نفسه أن يعيدها ليذلها وينتقم‬
‫منها‪ ،‬وذلك ل يقره السلم؛ بل وينهى عنه‪.‬‬
‫ن ضِرَارا لّ َتعْ َتدُواْ َومَن َي ْف َعلْ‬
‫سكُوهُ ّ‬
‫إن الحق عز وجل يحذر من مثل هذا السلوك فيقول‪َ } :‬ولَ ُتمْ ِ‬
‫سهُ { فإياك أن تظن أنك حين تعتدي على زوجتك بعد أن تراجعها أنك ظلمتها هي‪،‬‬
‫ذَِلكَ َفقَدْ ظَلَمَ َنفْ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل‪ ،‬إنما أنت تظلم نفسك؛ لنك حين تعتدي على إنسان فقد جعلت ربه في جانبه‪ ،‬فإن دعا عليك‬
‫قِبل ال دعوته‪ ،‬وبذلك تحرم نفسك من رضا ال عنك‪ ،‬فهل هناك ظلم أكثر من الظلم الذي يأتيك‬
‫بسخط ال عليك‪.‬‬

‫ويتابع الحق سبحانه وتعالى‪َ } :‬ومَن َي ْفعَلْ ذَِلكَ َفقَدْ ظََلمَ َنفْسَ ُه َولَ تَتّخِذُواْ آيَاتِ اللّهِ هُزُوا { أي‬
‫خذوا نظام ال على أنه نظام جاء ليحكم حركة الحياة حكما بل مراوغة وبل تحليق في خيال‬
‫كاذب‪ ،‬إنما هو أمر واقعي‪ ،‬فل يصح أن يهزأ أحد بما أنزله ال من أنظمة تصون حياة وكرامة‬
‫النسان رجلً كان أو امرأة‪.‬‬
‫ظكُمْ بِهِ { ونعمة ال عليهم‬
‫ح ْكمَةِ َي ِع ُ‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫علَ ْيكُ ْم َومَآ أَن َزلَ عَلَ ْيكُمْ مّنَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫} وَا ْذكُرُواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ َ‬
‫التي يذكرهم ال بها في معرض الحديث عن الطلق هي أنه ـ سبحانه ـ يلفتهم إلى ما كانوا‬
‫عليه قبل أن يشرع لهم أين كان حظ المرأة في الجاهلية في أمور الزواج والطلق‪ ،‬وما أصبحت‬
‫عليه بعد نزول القرآن؟ لقد صارت حقوقها مصونة بالقرآن‪.‬‬
‫إن الحق عز وجل يمتن على المؤمنين ليلفت نظرهم إلى حالتهم قبل السلم؛ فقد كان الرجل‬
‫يطلق امرأته ويعيدها‪ ،‬ثم يطلقها ويعيدها ولو ألف مرة دون ضابط أو رابط‪ .‬وكان يحرم عليها‬
‫المعاشرة الزوجية شهورا ويتركها تتعذب بلوعة البعد عنه‪ ،‬ول تستطيع أن تتكلم‪.‬‬
‫وكانت المرأة إذا مات زوجها تنفى من المجتمع فل تظهر أبدا ول تخرج من بيتها وكأنها‬
‫جرثومة‪ ،‬وقبل ذلك كله كانت مصدر عار لبيها‪ ،‬فكان يقتلها قبل أن تصل إلى سن البلوغ بدعوى‬
‫الحرص على عرضه وشرفه‪.‬‬
‫باختصار كان الزواج أقرب إلى المهازل منه إلى الجد‪ ،‬فجاء السلم‪ ،‬فحسم المور حتى ل تكون‬
‫فوضى بل ضوابط وبل قوانين‪ .‬فاذكروا أيها المؤمنون نعمة ال عليكم بالسلم‪ ،‬وانظروا إلى ما‬
‫أنعم به عليكم من نظام أسري يلهث العالم شرقه وغربه ليصل إلى مثله‪.‬‬
‫كنتم أمة بل حضارة وبل ثقافة‪ ،‬تعبدون الصنام وتقيمون الحرب وتشعلونها بينكم على أتفه‬
‫السباب وأدونها‪ ،‬وتجهلون القراءة والكتابة‪ ،‬ثم نزل ال عليكم هذا التشريع الراقي الناضج الذي‬
‫لم تصل إليه أية حضارة حتى الن‪َ .‬ألَ تذكرون هذه النعمة التي أنتم فيها بفضل من ال؟ لذلك‬
‫ظكُمْ بِهِ‬
‫ح ْكمَةِ َي ِع ُ‬
‫ب وَالْ ِ‬
‫علَ ْيكُ ْم َومَآ أَن َزلَ عَلَ ْيكُمْ مّنَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫قال سبحانه‪ } :‬وَا ْذكُرُواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ َ‬
‫{ والكتاب هو القرآن‪ ،‬والحكمة هي سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬ويختتم الحق تلك الية‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ {‪.‬‬
‫الكريمة بقول‪ } :‬وَاتّقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬
‫فإياكم أن تتهموا دينكم بأنه قد فاته شيء من التشريع لكم‪ ،‬فكل تشريع جاهز في السلم‪ ،‬لن ال‬
‫عليم بما تكون عليه أحوال الناس‪ ،‬فل يستدرك كون ال في الواقع على ما شرع ال في كتابه‪،‬‬
‫جَلهُنّ‬
‫لنه سبحانه خالق الكون ومنزل التشريع‪ .‬وبعد ذلك يقول الحق‪ } :‬وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَآءَ فَبََلغْنَ أَ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جهُنّ‪{ ...‬‬
‫فَلَ َت ْعضُلُوهُنّ أَن يَنكِحْنَ أَ ْزوَا َ‬

‫(‪)234 /‬‬

‫ضوْا بَيْ َنهُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ‬


‫جهُنّ إِذَا تَرَا َ‬
‫وَإِذَا طَّلقْتُمُ النّسَاءَ فَبََلغْنَ أَجََلهُنّ فَلَا َت ْعضُلُوهُنّ أَنْ يَ ْنكِحْنَ أَ ْزوَا َ‬
‫طهَ ُر وَاللّهُ َيعَْل ُم وَأَنْتُمْ لَا‬
‫ذَِلكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِ ْنكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآَخِرِ ذَِلكُمْ أَ ْزكَى َلكُمْ وَأَ ْ‬
‫َتعَْلمُونَ (‪)232‬‬

‫{ فَبََلغْنَ َأجََلهُنّ } هنا أي فانتهت العدة‪ ،‬ولم يستنفد الزوج مرات الطلق‪ ،‬ولم يعد للزوج حق في‬
‫أن يراجعها إل بعد عقد ومهر جديدين‪ .‬هب أن الزوج أراد أن يعيد زوجته إلى عصمته مرة‬
‫أخرى‪ ،‬وهنا يتدخل أهل اللدد والخصومة من القارب‪ ،‬ويقفون في وجه إتمام الزواج‪ ،‬والزوجان‬
‫ربما كان كل منهما يميل إلى الخر‪ ،‬وبينهما سيال عاطفي ونفسي ل يعلمه أحد‪ ،‬لكن الذين دخلوا‬
‫في الخصومة من الهل يقفون في وجه عودة المور إلى مجاريها‪ ،‬خوفا من تكرار ما حدث أو‬
‫لسباب أخرى‪ ،‬وتقول لهؤلء‪ :‬ما دام الزوجان قد تراضيا على العودة فل يصح أن يقف أحد في‬
‫طريق عودة المور إلى ما كانت عليه‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ { :‬فَلَ َت ْعضُلُوهُنّ } نعرف منه أن العضل هو المنع‪ ،‬والكلم للهل والقارب وكل‬
‫جهُنّ } أي الذين طلقوهن‬
‫من يهمه مصلحة الطرفين من أهل المشورة الحسنة‪ .‬و { أَن يَنكِحْنَ أَ ْزوَا َ‬
‫أول‪.‬‬
‫والمعنى‪ :‬ل تمنعوا الزواج أن يعيدوا إلى عصمتهم زوجاتهم اللئي طلقوهن من قبل‪ .‬وليعلم‬
‫الهل الذين يصرون على منع بناتهم من العودة لزواجهن أنهم بالتمادي في الخصومة يمنعون‬
‫فائدة التدرج في الطلق التي أراد حكمة ل‪.‬‬
‫إن حكمة التشريع في جعل الطلق مرة‪ ،‬ومرتين هي أن من لم يصلح في المرأة الولى قد يصلح‬
‫في المرة الثانية‪ ،‬وإذا كان ال العليم بنفوس البشر قد شرع لهم أن يطلقوا مرة ومرتين‪ ،‬وأعطى‬
‫فسحة من الوقت لمن أخطأ في المرة الولى أل يخطئ في الثانية‪ ،‬لذلك فل يصح أن يقف أحد‬
‫حجر عثرة أمام إعادة الحياة الزوجية من جديد‪.‬‬
‫جهُنّ } ونلحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى ينسب النكاح للنسوة‪،‬‬
‫وقوله الحق‪ { :‬أَن يَنكِحْنَ أَ ْزوَا َ‬
‫فقال‪ { :‬يَن ِكحْنَ } وهذا يقتضي رضاء المرأة عن العودة للزوج فل يمكن أن يطلقها أول ثم ل‬
‫يكون لها رأي في العودة إليه‪.‬‬
‫ضوْاْ بَيْ َنهُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ } وما داموا تراضوا ورأوا أن عودة كل منهم للخر أفضل‪،‬‬
‫{ ِإذَا تَرَا َ‬
‫فليبتعد أهل السوء الذين يقفون في وجه رضا الطرفين‪ ،‬وليتركوا الحلل يعود إلى مجاريه‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طهَرُ } إن هذا تشريع‬
‫{ ذاِلكَ يُوعَظُ ِبهِ مَن كَانَ مِنكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ ذاِل ُكمْ أَ ْزكَىا َلكُ ْم وَأَ ْ‬
‫ربكم وهو موعظة لكم يا من تؤمنون بال ربا حكيما مشرعا وعالما بنوازع الخير في نفوس‬
‫البشر‪.‬‬
‫طهَرُ } تلفتنا إلى حرمة الوقوف في وجه المرأة التي تريد أن ترجع لزوجها الذي‬
‫وكلمة { وَأَ ْ‬
‫طلقها ثم انتهت العدة‪ ،‬وأراد هو أن يتزوجها من جديد‪ ،‬إن الحق يبلغنا‪ :‬ول تقفوا في وجه‬
‫رغبتهما في العودة لي سبب كان‪ ،‬لماذا يا رب؟‬
‫وتأتي الجابة في قوله الحق‪ { :‬وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْ ُت ْم لَ َتعَْلمُونَ } تأمل جمال السياق القرآني وكيف‬
‫خدم قوله تعالى‪ { :‬وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْ ُت ْم لَ َتعَْلمُونَ } المعنى الذي تريده اليات‪ .‬إن ال يعلم وأنتم ل‬
‫تعلمون أن في عودة المور لمجاريها بين الزوجين أزكى وأطهر‪ .‬ويقول الحق بعد ذلك‪:‬‬
‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمّ ال ّرضَاعَةَ‪} ...‬‬
‫ضعْنَ َأ ْولَدَهُنّ َ‬
‫{ وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬

‫(‪)235 /‬‬

‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ ال ّرضَاعَةَ وَعَلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ رِ ْز ُقهُنّ‬
‫ضعْنَ َأوْلَادَهُنّ َ‬
‫وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫س َعهَا لَا ُتضَارّ وَاِل َدةٌ ِبوَلَدِهَا وَلَا َموْلُودٌ َلهُ ِبوَلَ ِد ِه وَعَلَى‬
‫سوَ ُتهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ لَا ُتكَّلفُ َنفْسٌ إِلّا وُ ْ‬
‫َوكِ ْ‬
‫ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذَِلكَ فَإِنْ أَرَادَا ِفصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا وَإِنْ أَرَدْ ُتمْ أَنْ‬
‫ضعُوا َأوْلَا َدكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِذَا سَّلمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِا ْل َمعْرُوفِ وَا ّتقُوا اللّ َه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ِبمَا‬
‫تَسْتَ ْر ِ‬
‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (‪)233‬‬

‫انظر إلى عظمة السلم ها هو ذا الحق سبحانه يتكلم عن إرضاع الوالدات لولدهن بعد عملية‬
‫الطلق‪ ،‬فالطلق يورث الشقاق بين الرجل والمرأة‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى ينظر للمسألة نظرة‬
‫الرحيم العليم بعباده‪ ،‬فيريد أن يحمي الثمرة التي نتجت من الزواج قبل أن يحدث الشقاق بين‬
‫البوين‪ ،‬فيبلغنا‪ :‬ل تجعلوا شقاقكم وخلفكم وطلقكم مصدر تعاسة للطفل البريء الرضيع‪.‬‬
‫وهذا كلم عن المطلقات اللتي تركن بيوت أزواجهن‪ ،‬لن ال يقول بعد ذلك‪ { :‬وَعلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ‬
‫سوَ ُتهُنّ } فذلك يعني أن‬
‫ن َوكِ ْ‬
‫سوَتُهُنّ بِا ْل َمعْرُوفِ } وما دامت الية تحدثت عن { رِ ْز ُقهُ ّ‬
‫ن َوكِ ْ‬
‫رِ ْز ُقهُ ّ‬
‫المرأة ووليدها بعيدة عن الرجل‪ ،‬لنها لو كانت معه لكان رزق الوليد وكسوته أمرا مفروغا منه‪.‬‬
‫والحق سبحانه يفرض هنا حقا للرضيع‪ ،‬وأمه لم تكن تستحقه لول الرضاع‪ .‬وبعض الناس فهموا‬
‫خطأ أن الرزق والكسوة للزوجات عموما ونقول لهم‪ :‬ل‪ .‬إن الرزق والكسوة هنا للمطلقات اللتي‬
‫يرضعن فقط‪.‬‬
‫ويريد الحق سبحانه أن يجعل هذا الحق أمرا مفروغا منه‪ ،‬فشرع حق الطفل في أن يتكفله والده‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالرزق والكسوة حتى يكون المر معلوما لديه حال الطلق‪.‬‬
‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } نلحظ فيه أنه لم يأت بصيغة المر‬
‫ضعْنَ َأوْلَدَهُنّ َ‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫فلم يقل‪ :‬يا والدات أرضعن‪ ،‬لن المر عرضة لن يطاع وأن يعصى‪ ،‬لكن ال أظهر المسألة في‬
‫أسلوب خبري على أنها أمر واقع طبيعي ول يخالف‪.‬‬
‫سوَ ُتهُنّ } ولنتأمل عظمة الداء القرآني في قوله‪:‬‬
‫ن َوكِ ْ‬
‫ويقول الحق‪ { :‬وَعلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ رِ ْز ُقهُ ّ‬
‫{ وَعلَى ا ْل َموْلُودِ لَهُ } إنه لم يقل‪ " :‬وعلى الوالد " ‪ ،‬وجاء بـ { ا ْل َموْلُودِ لَهُ } ليكلفه بالتبعات في‬
‫الرزق والكسوة‪ ،‬لن مسئولية النفاق على المولود هي مسئولية الوالد وليست مسئولية الم‪ ،‬وهي‬
‫قد حملت وولدت وأرضعت والولد يُنسب للب في النهاية يقول الشاعر‪:‬فـإنـمـا أمـهـات‬
‫الـنـاس أوعـيـة مسـتـوعـادت وللبـاء أبـنـاءوما دام المولود منسوبا للرجل الب‪،‬‬
‫فعلى الب رزقه وكسوته هو وعليه أيضا رزق وكسوة أمه التي ترضعه بالمعروف المتعارف‬
‫عليه بما ل يسبب إجحافا وظلما للب في كثرة النفاق‪ ،‬ويقول الحق‪ { :‬لَ ُتكَّلفُ َنفْسٌ ِإلّ‬
‫س َعهَا } هنا الحديث عن الم والب‪ .‬فل يصح أن ترهق المطلقة والد الرضيع بما هو فوق‬
‫وُ ْ‬
‫طاقته‪ ،‬وعليها أن تكتفي بالمعقول من النفقة‪.‬‬
‫ويتابع الحق‪ { :‬لَ ُتضَآ ّر وَاِل َدةٌ ِبوَلَدِهَا َولَ َموْلُودٌ لّهُ ِبوَلَ ِدهِ } ولزال الحق يُذك ُر الب بأن المولود‬
‫له هو‪ ،‬وعليه أل يضر والدة الطفل بمنع النفاق على ابنه‪ ،‬وأل يتركها تتكفف الناس من أجل‬
‫رزقه وكسوته‪ ،‬وفي الوقت نفسه ُيذَكرُ الم‪ :‬ل تجعلي رضيعك مصدر إضرار لبيه بكثرة‬
‫اللحاح في طلب الرزق والكسوة‪.‬‬
‫إنه عز وجل يضع لنا الطار الدقيق الذي يكفل للطفل حقوقه‪ ،‬فهناك فرق بين رضيع ينعم بدفء‬
‫الحياة بين أبوين متعاشرين‪ ،‬ووجوده بين أبوين غير متعاشرين‪.‬‬

‫والحق سبحانه وتعالى يعطينا لفتة أخرى هي أن والد المولود قد يموت فإذا ما مات الوالد فمن‬
‫الذي ينفق على الوليد الذي في رعاية أمه المطلقة؟ هنا يأتينا قول الحق بالجواب السريع‪ } :‬وَعَلَى‬
‫ا ْلوَا ِرثِ مِ ْثلُ ذاِلكَ {‪.‬‬
‫إن الحق يقرر مسئولية النفاق على من يرث والد الرضيع‪ ،‬صحيح أن الرضيع سيرث في والده‪،‬‬
‫لكن رعاية الوليد اليتيم هي مسئولية من يرث الوصاية وتكون له الولية على أموال الب إن‬
‫مات‪ .‬وهكذا يضمن ال عز وجل حق الرضيع عند المولود له وهو أبوه إذا كان حيا‪ ،‬وعند من‬
‫يرث الب إذا تُوفى‪.‬‬
‫وبذلك يكون ال عز وجل قد شَرّع لصيانة أسلوب حياة الطفل في حال وجود أبويه‪ ،‬وشرع له في‬
‫حال طلق أبويه وأبوه حيّ وشرع له في حال طلق أبويه ووفاة أبيه‪ .‬ويتابع الحق‪ } :‬فَإِنْ أَرَادَا‬
‫علَ ْي ِهمَا {‪.‬‬
‫ِفصَالً عَن تَرَاضٍ مّ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَ جُنَاحَ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫انظر إلى الرحمة في السلم؛ فطلق الرجل لزوجته ل يعني أن ما كان بينهما قد انتهى‪ ،‬ويضيع‬
‫الولد ويشقون بسبب الطلق‪ ،‬فقوله تعالى‪ } :‬عَن تَرَاضٍ مّ ْن ُهمَا وَتَشَاوُرٍ { دليل على أن هناك‬
‫قضية مشتركة مازالت بين الطرفين وهي ما يتصل برعاية الولد‪ ،‬وهذه القضية المشتركة لبد‬
‫أن يلحظ فيها حق الولد في عاطفة المومة‪ ،‬وحقهم في عاطفة البوة‪ ،‬حتى ينشأ الولد وهو‬
‫غير محروم من حنان الم أو الب‪ ،‬وإن اختلفا حتى الطلق‪.‬‬
‫إن عليهما أن يلتقيا بالتشاور والتراضي في مسألة تربية الولد حتى يشعروا بحنان البوين‪،‬‬
‫ويكبر الولد دون آلم نفسية‪ ،‬ويفهمون أن أمهم تقدر ظروفهم وكذلك والدهم وبرغم وجود‬
‫الشقاق والخلف بينهما فقد اتفقا على مصلحة الولد بتراضٍ وتشاور‪.‬‬
‫إن ما يحدث في كثير من حالت الطلق من تجاهل للولد بعد الطلق هي مسألة خطيرة؛ لنها‬
‫تترك رواسب وآثارا سلبية عميقة في نفوس الولد‪ ،‬ويترتب عليها شقاؤهم وربما تشريدهم في‬
‫الحياة‪ .‬وما ذنب أولد كان الكبار هم السبب المباشر في مجيئهم للحياة؟ أليس من الفضل أن‬
‫يوفر الباء لهم الظروف النفسية والحياتية التي تكفل لهم النشأة الكريمة؟ إن منهج ال أمامنا فلماذا‬
‫ل نطبقه لنسعد به وتسعد به الجيال القادمة؟‬
‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ { لكن ماذا‬
‫ضعْنَ َأ ْولَدَهُنّ َ‬
‫والحق سبحانه وتعالى قال في أول الية‪ } :‬وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫يكون الحال إن نشأت ظروف تقلل من فترة الرضاعة عن العامين‪ ،‬أو نشأت ظروف خاصة‬
‫جعلت فترة الرضاعة أطول من العامين؟ هنا يقول الحق‪ } :‬فَإِنْ أَرَادَا ِفصَالً عَن تَرَاضٍ مّ ْن ُهمَا‬
‫وَتَشَاوُرٍ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ِهمَا {‪.‬‬
‫إنه جل وعل يبين لنا أن الفصال أي الفطام يجب أن يكون عن تراض وتشاور بين الوالدين ول‬
‫ضعُواْ َأ ْولَ َدكُمْ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ ِإذَا سَّلمْتُم‬
‫جناح عليهما في ذلك‪ .‬ويقول الحق‪ } :‬وَإِنْ أَرَدتّمْ أَن تَسْتَ ْر ِ‬
‫ضعُواْ َأ ْولَ َدكُمْ { أي أن تأتوا للطفل بمرضعة‪ ،‬فإن أردتم ذلك‬
‫مّآ آتَيْتُم بِا ْل َمعْرُوفِ { ‪ ،‬و } أَن َتسْتَ ْر ِ‬
‫فل لوم عليكم في ذلك‪.‬‬

‫إن المطلق حين يوكل إلى الم أن ترضع وليدها فالطفل يأخذ من حنان الم الموجود لديها‬
‫بالفطرة‪ ،‬لكن هب أن الم ليست لديها القدرة على الرضاع أو أن ظروفها ل تسعفها على أن‬
‫ترضعه لضعف في صحتها أو قوتها‪ ،‬عند ذلك فالوالد مُطالب أن يأتي لبنه بمرضعة‪ ،‬وهذه‬
‫المرضعة التي ترضع الوليد تحتاج إلى أن يعطيها الب ما يُسخّيها ويجعلها تقبل على إرضاع‬
‫الولد بأمانة‪ ،‬والشراف عليه بصدق‪.‬‬
‫ويختم الحق هذه الية الكريمة بقوله‪ } :‬وَا ّتقُواْ اللّ َه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ { ‪ ،‬إن الحق‬
‫يحذر أن يأخذ أحد أحكامه ويدعي بظاهر المر تطبيقها‪ ،‬لكنه غير حريص على روح هذه‬
‫الحكام‪ ،‬مثال ذلك الب الذي يريد أن يدلس على المجتمع‪ ،‬فعندما يرى الب مرضعة ابنه أمام‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الناس فهو يدعي أنه ينفق عليها‪ ،‬ويعطيها أجرها كامل‪ ،‬ويقابلها بالحفاوة والتكريم بينما الواقع‬
‫يخالف ذلك‪.‬‬
‫إن ال يحذر من يفعل ذلك‪ :‬أنت ل تعامل المجتمع وإنما تعامل ال و } اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ {‪.‬‬
‫شهُرٍ‬
‫سهِنّ أَرْ َب َعةَ أَ ْ‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَالّذِينَ يُ َت َوفّوْنَ مِنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫وَعَشْرا‪{ ...‬‬

‫(‪)236 /‬‬

‫شهُ ٍر وَعَشْرًا فَإِذَا بََلغْنَ أَجََلهُنّ فَلَا‬


‫سهِنّ أَرْ َبعَةَ َأ ْ‬
‫وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫سهِنّ بِا ْل َمعْرُوفِ وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ (‪)234‬‬
‫جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬

‫والعدة ـ كما عرفنا ـ هي الفترة الزمنية التي شرعها ال بعد زواج انتهى بطلق أو بوفاة‬
‫الزوج‪ .‬والعدة إما أن تكون بعد طلق‪ ،‬وإما بعد وفاة زوج‪ ،‬فإن كانت العدة بعد طلق فمدتها‬
‫ثلثة قروء‪ ،‬والقرء ـ كما عرفنا ـ هو الحيضة أو الطهر‪ ،‬فإن كانت المطلقة صغيرة لم تخض‬
‫بعد أو كانت كبيرة تعدت سن الحيض فالعدة تنقلب من القروء إلى الشهر وتصبح " ثلثة أشهر‬
‫"‪.‬‬
‫وعرفنا أن من حق الزوج أن يراجع زوجته بينه وبين نفسه دون تدخل الزوجة أو ولي أمرها‪ ،‬له‬
‫ذلك في أثناء فترة العدة في الطلق الرجعي‪ ،‬فإن انتهت عدتها فقد سقط حقه في مراجعة الزوجة‬
‫بنفسه‪ ،‬وله أن يراجعها‪ ،‬ولكن بمهر وعقد جديدين ما دام قد بقى له حق أي لم يستنفد مرات‬
‫الطلق‪.‬‬
‫وقد قلنا‪ :‬إن تعدت الطلقات اثنتين وأصبحت هناك طلقة ثانية فلبد من زوج آخر يتزوجها‬
‫بالطريقة الطبيعية ل بقصد أن يحللها للزوج الول‪ .‬وأما عدة المتوفى عنها زوجها فقد عرفنا أن‬
‫القرآن ينص على أنها تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا‪ ،‬هذا إن لم تكن حامل‪ ،‬فإن كانت‬
‫حامل فعدتها أبعد الجلين‪ ،‬فإن كان الجل البعد هو أربعة أشهر وعشرا فتلك عدتها‪ ،‬وإن كان‬
‫الجل البعد هو الحمل فعدتها أن ينتهي الحمل‪ .‬لكن أليس من الجائز أن يموت زوجها وهي في‬
‫الشهر التاسع من الحمل فتلد قبل أن يدفن؟ وهل يعني ذلك أن عدتها انتهت؟ ل‪ ،‬إنها تنتهي بأبعد‬
‫الجلين وهو في هذه الحالة مرور أربعة أشهر وعشرا‪ ،‬وإن قال بعض الفقهاء‪ :‬إن عدة الحامل‬
‫بوضع الحمل‪.‬‬
‫لكن إذا لم يكن زوجها متوفّى عنها فعدتها أن تضع حملها‪ ،‬وإن شاءت أن تتزوج بعد ذلك فلها‬
‫ذلك ولو بعد لحظة‪ .‬وبعض الناس يفسرون الحكمة من جعل عدة المتوفى عنها زوجة أربعة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أشهر وعشرا‪ ،‬فيقولون‪ :‬لنها إن كانت حامل بذكر فسيظهر حملها عندما يتحرك بعد ثلثة أشهر‪،‬‬
‫وإن كانت حامل بأنثى فستتحرك بعد أربعة أشهر ونعطيها مهلة عشر ليالٍ‪.‬‬
‫ونقول لهم‪ :‬جزاكم ال خيرا على تفسيركم‪ ،‬لكن العدة ليست لستبراء الرحم؛ لنها لو كانت‬
‫لستبراء الرحم لنتهت عدة المرأة بمجرد ولدتها‪ .‬ولو كان المر للتأكد من وجود حمل أو‬
‫عدمه‪ ،‬لكانت عدتها ثلث حيضات إن كانت من ذوات الحيض‪ ،‬وإن كانت من غير ذوات‬
‫الحيض لصغر أو لكبر سن لكانت عدتها ثلثة أشهر‪ .‬لكن ال اختصها بأربعة أشهر وعشر وفاءً‬
‫لحق زوجها عليها وإكراما لحياتهما الزوجية‪.‬‬
‫إذن فال عز وجل جعل المتوفى عنها زوجها تتربص أقصى مدة يمكن أن تصبر عليها المرأة‪.‬‬

‫فالمرأة ساعة تكون متوفى عنها زوجها ل تخرج من بيتها ول تتزين ول تلقى أحدا وفاءً للزوج‪،‬‬
‫فإذا انتهت عدتها أي مضت عليها الربعة الشهر والعشرة‪ } ،‬فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي‬
‫سهِنّ { وهو يعني أن تتزين في بيتها وتخرج دون إبداء زينة وأن يتقدم لها من يريد خطبتها‪.‬‬
‫أَ ْنفُ ِ‬
‫شهُرٍ وَعَشْرا { والمقصود بهذه المدة أربعة أشهر وعشر ليال‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬أَرْ َبعَةَ َأ ْ‬
‫وهنا لفتة تشريعية إيمانية تدل على استطراق كل حكم شرعي في جميع المكلفين وإن لم يكن‬
‫الحكم ماسا لهم؛ فالمتوفى عنها زوجها تربصت أربعة أشهر وعشرا وبلغتها في مدة العدة‪ ،‬وكان‬
‫من حكم ال عليها أل تتزين وأل تكتحل وأل تخرج من بيتها وفاءً لحق زوجها فإذا بلغت الجل‬
‫سهِنّ { ‪ ،‬ولم يقل‪ :‬فل جناح عليهن‪ .‬لقد وجه‬
‫وانتهى قال‪ } :‬فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫الخطاب هنا للرجال؛ لن كل مؤمن له ولية على كل مؤمنة‪ ،‬فإذا رأى في سلوكها أو أسلوب‬
‫عنايتها بنفسها ما ينافي العدة فله أن يتدخل‪ .‬مثل إذا رآها تتزين قال لها أو أرسل إليها من يقول‬
‫لها‪ :‬لماذا تتزينين؟ إن قول ال‪ } :‬فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ { يجعل للرجال قوامة على المتوفى عنها‬
‫زوجها‪ ،‬فل يقولون‪ :‬ل دخل لنا؛ لن الحكم اليماني حكم مستطرق في كل مؤمن وعلى كل‬
‫صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر‪]3 :‬‬
‫صوْاْ بِا ْلحَقّ وَتَوَا َ‬
‫مؤمن‪ .‬فالحق سبحانه وتعالى يقول‪ {:‬وَ َتوَا َ‬
‫إن قوله الحق‪ } :‬وَ َتوَاصَوْاْ { ل يعني أن قوما خُصوا بأنهم يُوصون غيرهم وقوما آخرين يُوصيهم‬
‫غيرهُم‪ ،‬بل كل واحد منا موصٍ في وقت؛ وموصىً من غيره في وقت آخر‪ ،‬هذا هو معنى }‬
‫صوْاْ {‪.‬‬
‫وَ َتوَا َ‬
‫فإذا رأيت في غيرك ضعفا في أي ناحية من نواحي أحكام ال‪ ،‬فلك أن توصيه‪ .‬وكذلك إن رأى‬
‫غيرُك فيك ضعفا في أي ناحية من النواحي فله أن يوصيك‪ ،‬وعندما نتواصى جميعا ل يبقى‬
‫لمؤمن بيننا خطأ ظاهر‪.‬‬
‫خصُ بالوصاية جماعة دون أخرى إنما الكل يتواصون‪ ،‬لن الغيار البشرية‬
‫إذن فالية ل َت ُ‬
‫تتناوب الناس أجمعين‪ .‬فأنت في فترة ضعفي رقيب علي‪ ،‬فتوصيني‪ ،‬وأنا في فترة ضعفك رقيب‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليك‪ ،‬فأوصيك‪ .‬ولذلك جاء قول الحق‪ } :‬فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ { إنه سبحانه لم يوجه الخطاب للنساء‪،‬‬
‫ولكن خاطب به المؤمنين ولم يخص بالخطاب أولياء أمور النساء فحسب وإنما ترك الحكم للجميع‬
‫حتى ل يقول أحد‪ :‬ل علقة لي بالمرأة التي توفى عنها زوجها ولتفعل ما تشاء‪ .‬إن لها أن تتزين‬
‫بالمتعارف عليه إسلميا في الزينة‪ ،‬ولها أن تتجمل في حدود ما أذن ال لها فيه‪.‬‬
‫ويختتم الحق هذه الية بقوله‪ } :‬وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ { أي وال أعلم بما في نفسها وبما في‬
‫نيتها‪ .‬وهب أنها فعلت أي فعل على غير مرأى من أحد فل تعتقد أن المجتمع وإن لم يشهد منها‬
‫ذلك أن المسألة انتهت‪ ،‬ل‪ ،‬إن ال عليم بما تفعل وإن لم يطلع عليها أحد من الناس‪.‬‬

‫إن الحق سبحانه وتعالى قد حمى بكل التشريعات السابقة حق الزوج حتى تنتهي العدة‪ ،‬وحق‬
‫المتوفى عنها زوجها في أثناء العدة‪ ،‬وحمى أيضا بكل التشريعات كرامة المرأة‪ .‬وجعل المرأة‬
‫حرما ل يقترب منه أحد يخدش حجابها‪ ،‬إنّ عليها عدة محسوبة في هذا الوقت لرجل آخر‪ ،‬فل‬
‫يحق لحد أن يقترب منها‪.‬‬
‫لماذا؟ لن المرأة خاصة إذا كانت مطلقة قد تتملكها رغبة في أن تثأر لنفسها ولكرامتها‪ ،‬وربما‬
‫تعجلت التزوج‪ ،‬وربما كانت مسائل الفتراق أو الخلف ناشئة عن اندساس رغبة راغب فيها‪،‬‬
‫وبمجرد أن يتم طلقها وتعيش فترة العدة فقد يحوم حولها الراغبون فيها‪ ،‬أو تستشرق هي من‬
‫ناحيتها من تراه صالحا كزوج لها‪ .‬ولذلك يفرض الحق سياجا من الزمن ويجعل العدة كمنطقة‬
‫حرام ليحمي المرأة حماية موضوعية ل شكلية‪.‬‬
‫التشريع ـ لنه من إله رحيم ـ ل يهدر عواطف النفس البشرية‪ :‬ل من ناحية الذي يرغب في‬
‫أن يتزوج‪ ،‬ول من ناحية المرأة التي تستشرق أن تتزوج‪ ،‬فيعالج هذه المسألة بدقة وبحزم وبحسم‬
‫خطْبَةِ النّسَآءِ‪{ ...‬‬
‫معا ـ جل شأنه ـ‪َ } :‬ولَ جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ‬

‫(‪)237 /‬‬

‫علِمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ سَتَ ْذكُرُو َنهُنّ‬


‫سكُمْ َ‬
‫خطْبَةِ النّسَاءِ َأوْ َأكْنَنْتُمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫وَلَا جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ‬
‫عقْ َدةَ ال ّنكَاحِ حَتّى يَ ْبلُغَ ا ْلكِتَابُ أَجََلهُ‬
‫وََلكِنْ لَا ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا إِلّا أَنْ َتقُولُوا َقوْلًا َمعْرُوفًا وَلَا َتعْ ِزمُوا ُ‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ (‪)235‬‬
‫حذَرُوهُ وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬
‫سكُمْ فَا ْ‬
‫وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬

‫و { عَ ّرضْتُمْ } مأخوذة من التعريض‪ .‬والتعريض‪ :‬هو أن تدل على شيء ل بما يؤديه نصا‪ ،‬ولكن‬
‫تعرض به تلميحا‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يجعل للعواطف تنفيسا من هذه الناحية‪ ،‬والتنفيس ليس مجرد‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تعبير عن العاطفة‪ ،‬ولكنه رعاية للمصلحة‪ ،‬فمن الجائز أنه لو حزم التعريض لكان في ذلك ضياع‬
‫فرصة الزواج للمرأة‪ ،‬أو قد يفوت ـ هذا المنع ـ الفرصة على من يطلبها من الرجال؛ لذلك‬
‫يضع الحق القواعد التي تفرض على الرجل والمرأة معا أدب الحتياط‪ ،‬وكأنه يقول لنا‪ :‬أنا‬
‫أمنعكم أن تخطبوا في العدة أو تقولوا كلما صريحا وواضحا فيها‪ ،‬لكن ل مانع من التلميح من‬
‫بعيد‪.‬‬
‫مثل يثنى الرجل على المرأة؛ ويعدد محاسنها بكلم ل يعد خروجا على آداب السلم مثل هذا‬
‫الكلم هو تلميح وتعريض‪ ،‬وفائدته أنه يعبر عما في نفسه قائله تجاه المطلقة فتعرف رأيه فيها‪،‬‬
‫ولو لم يقل ذلك فربما سبقه أحد إليها وقطع عليه السبيل لنفاذ ما في نفسه‪ ،‬ومنعه من أن يتقدم‬
‫لخطبتها بعد انتهاء العدة‪ ،‬وقد يدفعه ذلك لن يفكر تفكيرا آخر‪ :‬للتعبير بأسلوب وشكل خاطئ‪.‬‬
‫إذن فالتعريض له فائدة في أنه يُعرف المطلقة رأي فلن فيها حتى إن جاءها غيره ل توافق عليه‬
‫مباشرة‪ .‬وهكذا نرى قبسا من رحمة ال سبحانه وتعالى بنا‪ ،‬بأن جعل العدة كمنطقة حرام تحمي‬
‫المرأة‪ ،‬وجعل التعريض فرصة للتعبير عن العاطفة التي تؤسس مصلحة من بعد ذلك‪.‬‬
‫إن الحق يقول‪َ { :‬ولَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النّسَآءِ } والخطبة مأخوذة من مادة "‬
‫الخاء " و " الطاء " و " الباء " وتدل على أمور تشترك في عدة معالم‪ :‬منها خُطبة بضم الخاء‪،‬‬
‫ومنها خَطْب وهو المر العظيم‪ ،‬ومنها المعنى الذي نحن بصدده وهو الخِطبة بكسر الخاء‪ .‬وكل‬
‫هذه المعالم تدل على أن هناك المر العظيم الذي يُعالج‪ ،‬فالخطب أمر عظيم يهز الكيان‪ ،‬وكذلك‬
‫الخُطبة ل يلقيها الخطيب إل في أمر ذي بال‪ ،‬فيعظ المجتمع بأمر ضروري‪.‬‬
‫والخِطبة كذلك أمر عظيم؛ لنه أمر فاصل بين حياتين‪ :‬حياة النطلق‪ ،‬وحياة التقيد بأسرة‬
‫وبنظام‪ .‬وكلها معان مشتركة في أمر ذي بال‪ ،‬وأمر خطير‪ .‬وهو سبحانه وتعالى يقول‪َ { :‬ولَ‬
‫سكُمْ } أي ل جناح عليكم أن‬
‫خطْبَةِ النّسَآءِ َأوْ َأكْنَنتُمْ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِيمَا عَ ّرضْتُمْ بِهِ مِنْ ِ‬
‫وضعتم في أنفسكم أمرا يخفى على المرأة‪ ،‬وللمسلم أن يكنن ويخفي في نفسه ما يشاء‪ ،‬ولكن ما‬
‫الذي يُدري ويعلم المطلقة أنها في بالك يا من أسررت أمرها في نفسك؟ إنك لبد أن تلمح وأن‬
‫تعرض بأسلوب يليق باحترام المرأة‪.‬‬
‫ويقول الحق‪ { :‬عَِلمَ اللّهُ أَ ّنكُمْ سَ َت ْذكُرُو َنهُنّ } ‪ ،‬إن الذي خلقك يعلم أنها ما دامت في بالك‪ ،‬ومات‬
‫زوجها عنها أو طلقها فقد أصبحت أمل بالنسبة لك‪ ،‬فلو أنه ضيق عليك لعوق عواطفك‪،‬‬
‫ولضاعت منك الفرصة لن تتخذها زوجة من بعد ذلك‪ ،‬ولهذا أباح الحق التعريض حتى ل يقع‬
‫أحدكم في المحظور وهو { لّ ُتوَاعِدُوهُنّ سِرّا } بأن تأخذوا عليهن العهد أل يتزوجن غيركم‪ ،‬أو‬
‫يقول لها‪ :‬تزوجيني‪.‬‬

‫بل عليه أن يعرض ول يفصح ول يصرح‪ .‬إن المواعدة في السر أمر منهي عنه‪ ،‬لكن المسموح‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫به هو التعريض بأدب‪ِ } ،‬إلّ أَن َتقُولُواْ َق ْولً ّمعْرُوفا { كأن يقول‪ " :‬يا سعادة من ستكون له زوجة‬
‫مثلك "‪ .‬ومثل ذلك من الثناء الذي يُطرب المرأة‪ .‬ونعلم جميعا أن المرأة في مثل حال المطلقة أو‬
‫المتوفى عنها زوجها تملك شفافية وألمعية تلتقط بها معنى الكلم ومراده‪.‬‬
‫عقْ َدةَ ال ّنكَاحِ حَتّىا يَبُْلغَ ا ْلكِتَابُ أَجََلهُ { وهكذا نرى أن مجرد العزم‬
‫ويتابع الحق‪ } :‬وَلَ َتعْ ِزمُواْ ُ‬
‫الكيد أمر نهى عنه‪ .‬والعزم مقدم على الفعل فإذا نهى عنه كان النهي عن الفعل أقوى وأشد‬
‫وأنهى‪ ،‬فلك أن تنوى الزواج منها وتتوكل على ال‪ ،‬لكن ل تجعله أمرا مفروغا منه‪ ،‬إل بعد أن‬
‫تتم عدتها‪ ،‬فإن بلغ الكتاب أجله وانتهت عدتها فاعزموا عقدة النكاح‪ .‬فكأن عقدة النكاح تمر بثلث‬
‫مراحل‪:‬‬
‫المرحلة الولى‪ :‬وهي التعريض أي التلميح‪.‬‬
‫والمرحلة الثانية‪ :‬هي العزم الذي ل يصح ول يستقيم أن يتم إل بعد انتهاء فترة العدة‪.‬‬
‫والمرحلة الثالثة‪ :‬هي العقد‪.‬‬
‫والمقصود بهذه المراحل أن يأخذ كل طرف فرصته للتفكير العميق في هذا المر الجاد‪ ،‬فإن كان‬
‫التفكير قد هدى إلى العزم فإن للنسان أن يعقد بعد انتهاء العدة‪ ،‬وإن كان التفكير قد اهتدى إلى‬
‫البتعاد وصرف النظر عن مثل هذا المر فللنسان ما يريد‪.‬‬
‫ويريد الحق من هذه المراحل أن يعطي الفرصة في التراجع إن اكتشف أحد الطرفين في الخر‬
‫أمرا ل يعجبه‪ .‬وكل هذه الخطوات تدل على أن العقد ل يكون إل بعزم‪ ،‬فل يوجد عقد دون عزم‪،‬‬
‫إن الحق يريد من المسلم أل يقدم على عقدة النكاح إل بعد عزم‪ .‬والعزم معناه التصميم على أنك‬
‫تريد الزواج بحق الزواج وبكل مسئولياته‪ ،‬وبكل مهر الزواج‪ ،‬ومشروعيته‪ ،‬وإعفافه؛ فالزواج‬
‫بدون أرضية العزم مصيره الفشل‪.‬‬
‫ومعنى العزم‪ :‬أن تفكر في المسألة بعمق وروية في نفسك حتى تستقر على رأي أكيد‪ ،‬ثم لك أن‬
‫تقبل على الزواج على أنه أمر له ديمومة وبقاء ل مجرد شهوة طارئة ليس لها أرضية من عزيمة‬
‫النفس عليها‪.‬‬
‫ولذلك فإن الزواج القائم على غير رويّة‪ ،‬والمعلق على أسباب مؤقتة كقضاء الشهوة ل يستمر ول‬
‫ينجح‪ .‬ومثل ذلك زواج المتعة؛ فالعلة في تحريم زواج المتعة أن المقدم عليه ل يريد به‬
‫الستمرار في الحياة الزوجية‪ ،‬وما دام ل يقصد منه الديمومة فمعناه أنه هدف للمتعة الطارئة‪.‬‬

‫والذين يبيحون زواج المتعة مصابون في تفكيرهم؛ لنهم يتناسون عنصر القبال بديمومة على‬
‫الزواج‪ ،‬فما الداعي لن تقيد زواجك بمدة؟ إن النكاح الصيل ل يُقيد بمثل هذه المدة‪ .‬وتأمل حمق‬
‫هؤلء لتعلم أن المسألة ليست مسألة زواج‪ ،‬إنما المسألة هي تبرير زنى‪ ،‬وإل لماذا يشترط في‬
‫زواج المتعة أن يتزوجها لمدة شهر أو أكثر؟‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن النسان حين يشترط تقييد الزواج بمدة فذلك دليل على غباء تفكيره وسوء نيته؛ لن الزواج‬
‫الصيل هو الذي يدخل فيه بديمومة‪ ،‬وقد ينهيه بعد ساعة إن وجد أن المر يستحق ذلك‪ ،‬ولن‬
‫يعترض أحد على مثل هذا السلوك‪ ،‬فلماذا تقيد نفسك بمدة؟ إن المتزوج للمتعة يستخدم الذكاء في‬
‫غير محله‪ ،‬قد يكون ذكيا في ناحية ولكنه قليل الفطنة في ناحية أخرى‪.‬‬
‫إن على النسان أن يدخل على الزواج بعزيمة بعد تفكير عميق وروية ثم ينفذ العزم على عقد‪.‬‬
‫حذار أن تضع في نفسك مثل هذا الزواج المربوط على مطامع وأهداف في نفسك كعدم الديمومة‬
‫أو لهدف المتعة فقط‪ ،‬فكل ما يفكر فيه بعض الناس من أطماع شهوانية ودنيوية هي أطماع زائلة‪.‬‬
‫اصرف كل هذه الفكار عنك؛ لنك إن أردت شيئا غير الديمومة في الزواج‪ ،‬وإرادة العفاف؛‬
‫فال سبحانه يعلمه وسيرد تفكيرك نقمة عليك فاحذره‪.‬‬
‫إن ال سبحانه ل يحذر النسان من شيء إل إذا كان مما يغضبه سبحانه‪ .‬لذلك يذيل الحق هذه‬
‫غفُورٌ حَلِيمٌ {‪.‬‬
‫سكُمْ فَاحْذَرُو ُه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َ‬
‫الية الكريمة بقوله‪ } :‬وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫وهو سبحانه يعلم ضعف النفس البشرية وأنها قد تضعف في بعض الحيان‪ ،‬فإن كان قد حدث‬
‫منها شيء فال يعطيها الفرصة في أن يتوب صاحبها لنه سبحانه هو الغفور الحليم‪ .‬وبعد ذلك‬
‫يقول الحق سبحانه‪ } :‬لّ جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ إِن طَّلقْتُمُ النّسَآءَ مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ َأوْ َتفْرِضُواْ َلهُنّ فَرِيضَةً‪{ ...‬‬

‫(‪)238 /‬‬

‫لَا جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِنْ طَّلقْتُمُ النّسَاءَ مَا َلمْ َتمَسّوهُنّ َأوْ َتفْ ِرضُوا َلهُنّ فَرِيضَ ًة َومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ‬
‫حسِنِينَ (‪)236‬‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ْ‬
‫قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ مَتَاعًا بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬

‫نحن نلحظ أن الكلم فيما تقدم كان عن الطلق للمدخول بها‪ ،‬أو عن المرأة التي دخل بها زوجها‬
‫ومات عنها‪ .‬ولكن قد تحدث بعض من المسائل تستوجب الطلق لمرأة غير مدخول بها‪ .‬وتأتي‬
‫هذه الية لتتحدث عن المرأة غير المدخول بها‪ ،‬وهي إما أن يكون الزوج لم يفرض لها صداقا‪،‬‬
‫وإما أن يكون قد فرض لها صداقا‪.‬‬
‫والطلق قبل الدخول له حكمان‪ :‬فُرضت في العقد فريضة‪ ،‬أو لم تفرض فيه فريضة‪ ،‬فكأن عدم‬
‫فرض المهر ليس شرطا في النكاح‪ ،‬بل إذا تزوجته ولم يفرض في هذا الزواج مهر فقد ثبت لها‬
‫مهر المثل والعقد صحيح‪ .‬ودليل ذلك أن ال سبحانه وتعالى يقول‪ { :‬لّ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ إِن طَّلقْتُمُ‬
‫النّسَآءَ مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ َأوْ َتفْرِضُواْ َلهُنّ فَرِيضَةً } ومعنى ذلك أنها كانت زوجة ولم يحدث دخول‬
‫للزوج بها‪.‬‬
‫ولنا أن نسأل ما هو المس؟ ونقول‪ :‬فيه مس‪ ،‬وفيه لمس‪ ،‬وفيه ملمسة‪ .‬فالنسان قد يمس شيئا‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولكن الماس ل يتأثر بالممسوس‪ ،‬أي لم يدرك طبيعته أو حاله هل هو خشن أو ناعم؟ دافئ أو‬
‫بارد‪ ،‬وإلى غير ذلك‪.‬‬
‫أما اللمس فل بد من الحساس بالشيء الملموس‪ ،‬أما الملمسة فهي حدوث التداخل بين الشيئين‪.‬‬
‫إذن فعندنا ثلث مراحل‪ :‬الولى هي‪ :‬مس‪ .‬والثانية‪ :‬لمس‪ .‬والثالثة‪ :‬ملمسة‪ .‬كلمة " المس " هنا‬
‫دلت على الدخول والوطء‪ ،‬وهي أخف من اللمس‪ ،‬وأيسر من أن يقول‪ :‬لمستم أو باشرتم‪ ،‬ونحن‬
‫نأخذ هذا المعنى؛ لن هناك سياقا قرآنيا في مكان آخر قد جاء ليكون نصا في معنى‪ ،‬ولذلك‬
‫نستطيع من سياقه أن نفهم المعنى المقصود بكلمة " المس " هنا‪ ،‬فقد قالت السيدة مريم‪ {:‬قَاَلتْ‬
‫سسْنِي َبشَ ٌر وَلَمْ َأكُ َبغِيّا }[مريم‪]20 :‬‬
‫ل ٌم وَلَمْ َيمْ َ‬
‫أَنّىا َيكُونُ لِي غُ َ‬
‫إن القرآن الكريم يوضح على لسان سيدتنا مريم أن أحدا من البشر لم يتصل بها ذلك التصال‬
‫الذي ينشأ عنه غلم‪ ،‬والتعبير في منتهى الدقة‪ ،‬ولن المر فيه تعرض لعورة وأسرار؛ لذلك جاء‬
‫القرآن بأخف لفظ في وصف تلك المسألة وهو المس‪ ،‬وكأن ال سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لها‬
‫إعفافا حتى في اللفظ‪ ،‬فنفى مجرد مس البشر لها‪ ،‬وليس الملمسة أو المباشرة برغم أن المقصود‬
‫باللفظ هو المباشرة؛ لن الية بصدد إثبات عفة مريم‪.‬‬
‫ولنتأمل أدب القرآن في تناول المسألة في الية التي نحن بصددها؛ فكأن الحق سبحانه وتعالى‬
‫يعبر عن اللفظ بنهاية مدلوله وبأخف التعبير‪.‬‬
‫والحق يقول‪َ { :‬أوْ َتفْ ِرضُواْ َلهُنّ فَرِيضَةً } وتعرف أن " َأوْ " عندما ترد في الكلم بين شيئين فهي‬
‫تعني " إما هذا وإما ذاك " ‪ ،‬فهل تفرض لهن فريضة مقابل المس؟‪.‬‬

‫إن الصل المقابل في } مَا لَمْ َت َمسّوهُنّ { هو أن تمسوهن‪ .‬ومقابل } َتفْ ِرضُواْ َلهُنّ فَرِيضَةً { هو‪:‬‬
‫أن ل تفرضوا لهن فريضة‪ .‬كأن الحق عز وجل يقول‪ :‬ل جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم‬
‫تمسوهن سواء فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لهن فريضة‪ .‬وهكذا يحرص السلوب القرآني‬
‫على تنبيه الذهن في ملحظة المعاني‪.‬‬
‫ولنا أن نلحظ أن الحق قد جاء بكلمة " إن " في احتمال وقوع الطلق‪ ،‬و " إن " ـ كما نعرف ـ‬
‫تستخدم للشك‪ ،‬فكأن ال عز وجل ل يريد أن يكون الطلق مجترءا عليه ومحققا‪ ،‬فلم يأت بـ "‬
‫إذا " ‪ ،‬بل جعلها في مقام الشك حتى تعزز الية قول الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أبغض‬
‫الحلل إلى ال الطلق "‪.‬‬
‫ثم يقول الحق عز وجل بعد ذلك‪َ } :‬ومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ { أي إنّك إذا‬
‫طلقت المرأة قبل الدخول‪ ،‬ولم تفرض لها فريضة فأعطها متعة‪ .‬وقال العلماء في قيمة المتعة‪:‬‬
‫إنها ما يوازي نصف مهر مثيلتها من النساء؛ لنه كان من المفروض أن تأخذ نصف المهر‪ ،‬وما‬
‫دام لم ُيحّدد لها مهرٌ فلها مثل نصف مهر مثيلتها من النساء‪ .‬ويقول الحق‪ } :‬عَلَى ا ْلمُوسِعِ َقدَ ُرهُ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَعَلَى ا ْل ُمقْتِرِ قَدَ ُرهُ { أي ينبغي أن تكون المتعة في حدود تناسب حالة الزوج؛ فالموسع الغني‪:‬‬
‫عليه أن يعطي ما يليق بعطاء ال له‪ ،‬والمقتر الفقير‪ :‬عليه أن يعطي في حدود طاقته‪.‬‬
‫وقول القرآن‪ } :‬ا ْلمُوسِعِ { مشتق من " أوسع " واسم الفاعل " موسع " واسم المفعول " موسع عليه‬
‫" ‪ ،‬فأي اسم من هؤلء يطلق على الزوج؟ إن نظرت إلى أن الزرق من الحق فهو " موسع عليه "‬
‫‪ ،‬وإن نظرت إلى أن الحق يطلب منه أن توسع حركة حياتك ليأتيك رزقك‪ ،‬وعلى قدر توسيعها‬
‫يكون اتساع ال لك‪ ،‬فهو " موسع "‪.‬‬
‫إذن فالموسع‪ :‬هو الذي أوسع على نفسه بتوسيع حركة أسبابه في الحياة‪ .‬والقتار هو القلل‪،‬‬
‫وعلى قدر السعة وعلى قدر القتار تكون المتعة‪ .‬والحق سبحانه وتعالى حينما يطلب حكما تكليفيا‬
‫ل يقصد إنفاذ الحكم على المطلوب منه فحسب‪ ،‬ولكنه يوزع المسئولية في الحق اليماني العام؛‬
‫فقوله‪َ } :‬ومَ ّتعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ قَدَ ُر ُه وَعَلَى ا ْلمُقْتِرِ قَدَ ُرهُ { يعني إذا وُجد من ل يفعل حكم ال فل‬
‫بد أن تتكاتفوا على إنفاذ أمر ال في أن يمتع كل واحد طلق زوجته قبل أن يدخل بها‪ .‬والجمع في‬
‫المر وهو قوله‪َ } :‬ومَ ّتعُوهُنّ { دليل على تكاتف المة في إنفاذ حكم ال‪ .‬وبعد ذلك قال‪ } :‬وَإِن‬
‫ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِنصْفُ مَا فَ َرضْتُمْ‪{ ...‬‬
‫طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِن قَ ْبلِ أَن َتمَسّوهُ ّ‬

‫(‪)239 /‬‬

‫ن َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً فَ ِنصْفُ مَا فَ َرضْتُمْ إِلّا أَنْ َي ْعفُونَ َأوْ‬
‫وَإِنْ طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ َتمَسّوهُ ّ‬
‫سوُا ا ْل َفضْلَ بَيْ َنكُمْ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ‬
‫ح وَأَنْ َت ْعفُوا َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَى وَلَا تَ ْن َ‬
‫عقْ َدةُ ال ّنكَا ِ‬
‫َي ْعفُوَ الّذِي بِ َي ِدهِ ُ‬
‫َبصِيرٌ (‪)237‬‬

‫أي ما دام لم يدخل بها ولم يتمتع بها فل تأخذ المهر كله‪ ،‬إنما يكون لها النصف من المهر‪ .‬ولنعلم‬
‫أن هناك فرقا بين أن يوجد الحكم بقانون العدل‪ ،‬وبين أن يُنظر في الحكم ناحية الفضل‪ ،‬وأحكي‬
‫هذه الواقعة لنتعلم منها‪:‬‬
‫ذهب اثنان إلى رجل ليحكم بينهما فقال‪ :‬احكم بيننا بالعدل‪ .‬قال‪ :‬أتحبون أن أحكم بينكما بالعدل؟‬
‫أم بما هو خير من العدل؟ فقال‪ :‬وهل يوجد خير من العدل؟ قال‪ :‬نعم‪ .‬الفضل‪.‬‬
‫إن العدل يعطي كل ذي حق حقه‪ ،‬ولكن الفضل يجعل صاحب الحق يتنازل عن حقه أو عن‬
‫بعض حقه‪ .‬إذن فالتشريع حين يضع موازين العدل ل يريد أن يحرم النبع اليماني من أريحية‬
‫ضلَ بَيْ َنكُمْ }؛ فالعدل‬
‫سوُاْ ا ْلفَ ْ‬
‫الفضل؛ فهو يعطيك العدل‪ ،‬ولكنه سبحانه يقول بعد ذلك‪َ { :‬ولَ تَن َ‬
‫وحده قد يكون شاقا وتبقى البغضاء في النفوس‪ ،‬ولكن عملية الفضل تنهي المشاحة والمخاصمة‬
‫والبغضاء‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمشاحة إنما تأتي عندما أظن أني صاحب الحق‪ ،‬وأنت تظن أنك صاحب الحق‪ ،‬ومن الجائز أن‬
‫تأتي ظروف تزين لي فهمي‪ ،‬وتأتي لك ظروف تزين لك فهمك‪ ،‬فحين نتمسك بقضية العدل لن‬
‫نصل إلى مبلغ التراضي في النفوس البشرية‪ .‬ولكن إذا جئنا للفضل تراضينا وانتهينا‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪ { :‬وَإِن طَّلقْ ُتمُوهُنّ مِن قَ ْبلِ أَن َتمَسّوهُنّ } أي من قبل أن تدخلوا بهن {‬
‫صفُ مَا فَ َرضْتُمْ ِإلّ أَن َيعْفُونَ } والمقصود بـ {‬
‫َوقَدْ فَ َرضْتُمْ َلهُنّ فَرِيضَةً } يعني سميتم المهر { فَ ِن ْ‬
‫َي ْعفُونَ } هو الزوجة المطلقة‪.‬‬
‫إن بعض الجهلة يقولون والعياذ بال‪ :‬إن القرآن فيه لحن‪ .‬وظنوا أن الصحيح في اللغة أن يأتي‬
‫القول‪ :‬إل أن يعفوا بدل من { ِإلّ أَن َي ْعفُونَ }‪ .‬وهذا اللون من الجهل ل يفرق بين " واو الفعل " و‬
‫" واو الجمع " إنها هنا " واو الفعل " فقول الحق‪ِ { :‬إلّ أَن َي ْعفُونَ } مأخوذ من الفعل " عفا " و "‬
‫يعفو "‪.‬‬
‫وهكذا نفهم أن للزوجة أن تعفو عن نصف مهرها وتتنازل عنه لزوجها‪ .‬ويتابع الحق‪َ { :‬أوْ َي ْع ُفوَاْ‬
‫عقْ َدةُ ال ّنكَاحِ } والمقصود به الزوج وليس الولي‪ ،‬لن سياق الية يفهم منه أن المقصود‬
‫الّذِي بِ َي ِدهِ ُ‬
‫به هو الزوج‪ ،‬مع أن بعض المفسرين قالوا‪ :‬إنه ولي الزوجة‪ .‬ولنا أن نعرف أن الولي ليس له أن‬
‫يعفو في مسألة مهر المرأة؛ لن المهر من حق الزوجة‪ ،‬فهو أصل مال‪ ،‬وأصل رزق في حياة‬
‫الناس؛ لنه نظير التمتع بالبضع‪.‬‬
‫ولذلك تجد بعض الناس ل يصنعون شيئا بصداق المرأة‪ ،‬ويدخرونه لها بحيث إذا مرض واحد‬
‫اشترت له من هذا الصداق ولو قرص اسبرين مثل؛ لنه علج من رزق حلل‪ ،‬فقد يجعل ال فيه‬
‫الشفاء‪.‬‬

‫فالمرأة تحتفظ بصداقها الحلل لمثل هذه المناسبات لتصنع به شيئا يجعل ال فيه خيرا‪ ،‬لنه من‬
‫رزق حلل ل غش فيه ول تدليس‪.‬‬
‫وأراد المفسرين الذين نادوا بأن ولي الزوجة هو الذي يعفو وأقول‪ :‬لماذا يأتي ال بحكم تتنازل فيه‬
‫المرأة عن حقها وأن تعفو عن النصف‪ ،‬والرجل ل يكون أريحيا ليعفو عن النصف؟ لماذا تجعل‬
‫السماء الغرم كله على المرأة؟ هل من المنطقي أن تعفو النساء أو يعفو الذي بيده عقد النكاح يعني‬
‫أولياء الزوجة‪ ،‬فنجعل العفو يأتي من الزوجة ومن أوليائها؛ أي من جهة واحدة؟‬
‫سوُاْ ا ْل َفضْلَ بَيْ َنكُمْ { ‪ ،‬إن التقابل‬
‫إن علينا أن نحسن الفهم لسياق الفضل الذي قال ال فيه‪َ } :‬ولَ تَن َ‬
‫في العفو يكون بين الثنين‪ ،‬بين الرجل والمرأة‪ ،‬ونفهم منه المقصود بقوله تعالى‪َ } :‬أوْ َي ْعفُوَاْ الّذِي‬
‫عقْ َدةُ ال ّنكَاحِ { أنه هو الزوج‪ ،‬فكما أن للمرأة أن تعفو عن النصف المستحق لها فللزوج أن‬
‫بِيَ ِدهِ ُ‬
‫يعفو أيضا عن النصف المستحق له‪.‬‬
‫ويقول الحق‪ } :‬وَأَن َت ْعفُواْ َأقْ َربُ لِل ّت ْقوَىا {؛ لن من الجائز جدا أن يظن أحد الطرفين أنه مظلوم‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإن أخذ النصف الذي يستحقه‪ .‬لكن إذا لم يأخذ شيئا فذلك أقرب للتقوى وأسلم للنفوس‪ .‬ولنا أن‬
‫ضلَ بَيْ َن ُكمْ { فحتى في مقام الخلف‬
‫سوُاْ ا ْل َف ْ‬
‫نتذكر دائما في مثل هذه المواقف قول الحق‪َ } :‬ولَ تَن َ‬
‫ضلَ بَيْ َنكُمْ { أي‬
‫سوُاْ ا ْل َف ْ‬
‫الذي يؤدي إلى أن يفترق رجل عن امرأة لم يدخل بها يقول ال‪َ } :‬ولَ تَن َ‬
‫ل تجعلوها خصومة وثأرا وأحقادا‪ ،‬واعلموا أن الحق سبحانه يجعل من بعض الشياء أسبابا‬
‫مقدورة لمقدور لم نعلمه‪ .‬وهذه المسألة تجعل النسان ل يعتقد أن أسبابه هي الفاعلة وحدها‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬قد نجد رجل قد أعجب بواحدة رآها فتزوجها‪ ،‬أو واحدة أخرى رآها شاب ولم‬
‫تعجبه‪ ،‬ثم جاء لها واحد آخر فأعجب بها‪ ،‬معنى ذلك أن ال عز وجل كتب لها القبول ساعة رأت‬
‫الشاب أهلً لها ورآها هي أهلً له‪ .‬ولذلك كان الفلحون قديما يقولون‪ :‬ل تحزن عندما يأتي واحد‬
‫عفّوا ـ بكسر العين‬
‫ليخطب ابنتك ول تعجبه؛ لنه مكتوب على جبهة كل فتاة‪ :‬أيها الرجال ِ‬
‫وتشديد الفاء ـ عن نساء الرجال؛ فهي ليست له‪ ،‬ولذلك فليس هذا الرجل من نصيبها‪ .‬وعلينا أل‬
‫نهمل أسباب القدر في هذه المور؛ لن هذا أدعى أن نحفظ النفس البشرية من الحقاد والضغائن‪.‬‬
‫ويختم الحق الية بقوله‪ } :‬إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ { إنه سبحانه يعلم ما في الصدور وما وراء‬
‫كل سلوك‪ .‬وبعد ذلك تأتي آية لتثبت قضية إيمانية‪ ،‬هذه القضية اليمانية هي أن تكاليف السلم‬
‫كلها تكاليف مجتمعة‪ ،‬فل تستطيع أن تفصل تكليفا عن تكليف‪ ،‬فل تقل‪ " :‬هذا فرض تعبدي " و "‬
‫هذا مبدأ مصلحي " و " هذا أمر جنائي " ‪ ،‬ل‪ .‬إن كل قضية مأمور بها من الحق هي قضية‬
‫إيمانية ُت َكوّنُ مع غيرها منهجا متكاملً‪ .‬فبعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطلق يقول‪} :‬‬
‫لةِ ا ْلوُسْطَىا‪{ ...‬‬
‫ت والصّ َ‬
‫حَا ِفظُواْ عَلَى الصَّلوَا ِ‬

‫(‪)240 /‬‬

‫خفْتُمْ فَرِجَالًا َأوْ ُركْبَانًا فَإِذَا‬


‫ت وَالصّلَاةِ ا ْلوُسْطَى َوقُومُوا لِلّهِ قَانِتِينَ (‪ )238‬فَإِنْ ِ‬
‫حَا ِفظُوا عَلَى الصَّلوَا ِ‬
‫َأمِنْتُمْ فَا ْذكُرُوا اللّهَ َكمَا عَّل َمكُمْ مَا َلمْ َتكُونُوا َتعَْلمُونَ (‪)239‬‬

‫ثم يعود إلى السرة وإلى المتوفى عنها زوجها فيقول‪ {:‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا‬
‫ح ْولِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي‬
‫ج ِهمْ مّتَاعا إِلَى الْ َ‬
‫َوصِيّةً لَزْوَا ِ‬
‫حكِيمٌ }[البقرة‪]240 :‬‬
‫ف وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫سهِنّ مِن ّمعْرُو ٍ‬
‫أَ ْنفُ ِ‬
‫صلَ بآية‪ { :‬حَا ِفظُواْ عَلَى الصَّلوَاتِ‪ } ..‬بين قضية واحدة هي قضية‬
‫إذن فالحق سبحانه وتعالى َف َ‬
‫الفراق بين الزوجين وقسمها قسمين‪ ،‬وأدخل بينهما الحديث عن الصلة‪ ،‬وذلك لينبهنا إلى وحدة‬
‫التكاليف اليمانية‪ ،‬ونظرا لن الحق يتكلم هنا عن أشياء كل مظاهرها إما شقاق اختياري‬
‫بالطلق‪ ،‬وإما افتراق قدري بالوفاة‪ ،‬فأراد ال سبحانه وتعالى أن يدخل النسان في العملية‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التعبدية التي تصله بال الذي شرع الطلق والصلة وقدر الوفاة‪.‬‬
‫ولماذا اختار ال الصلة دون سائر العبادات لتقطع سياق الكلم عن تشريع الطلق والفراق؟ لن‬
‫الصلة هي التي تهب المؤمنين الطمئنان‪ ،‬إن كانت أمور الزواج والطلق حزبتهم وأهمتهم في‬
‫شقاق الختيار في الطلقات التي وقعت أو عناء الفتراق بالوفاة‪ .‬ولن يربط على قلوبهم إل أن‬
‫يقوموا لربهم ليؤدوا الصلة‪ ،‬وقد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم أول من يفعل ذلك‪ ،‬كان إذا‬
‫ما حزبه أمر قام إلى الصلة‪.‬‬
‫إن المؤمن يذهب إلى الخالق الذي أجرى له أسباب الزواج والطلق والفراق؛ ليسأله أن يخفف‬
‫عنه الهم والحزن‪ .‬ومادام المؤمن قد اختار الذهاب إلى من يُجري القدار فله أن يعرف أن ال‬
‫الذي أجرى تلك القدار عليه لم يتركها بل أحكام‪ ،‬بل وضع لكل أمر حكما مناسبا‪ ،‬وما على‬
‫المؤمن إل أن يأخذ المور القدرية برضا ثم يذهب إلى ال قانتا وخاشعا ومصليا‪ .‬لن المسألة‬
‫مسألة الطلق أو الوفاة فيها فزع وفراق اختيار أو فراق الموت القدري‪.‬‬
‫سطَىا } فنفهم أن المقصود في الية هي‬
‫لةِ ا ْلوُ ْ‬
‫ت والصّ َ‬
‫ويأتي قوله تعالى‪ { :‬حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَا ِ‬
‫الصلوات الخمس‪ ،‬فما المقصود بالصلة الوسطى؟‬
‫خلَ بَيْ ِتيَ ُم ْؤمِنا‬
‫ي وَِلمَن َد َ‬
‫غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ‬
‫ساعة يأتي خاص وعام مثل قوله تعالى‪ّ {:‬ربّ ا ْ‬
‫ت َولَ تَ ِزدِ الظّاِلمِينَ ِإلّ تَبَارا }[نوح‪]28 :‬‬
‫ن وَا ْل ُم ْؤمِنَا ِ‬
‫وَلِ ْل ُمؤْمِنِي َ‬
‫غفِرْ لِي وَلِوَاِل َديّ } ‪ ،‬وفي قوله‪:‬‬
‫فكم مرة دخل الب والمر هنا؟ لقد دخلوا في قوله تعالى‪ { :‬ا ْ‬
‫خلَ بَيْ ِتيَ } ‪ ،‬وفي قوله‪ { :‬وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْلمُ ْؤمِنَاتِ } ‪ ،‬أي دخلوا ثلث مرات‪.‬‬
‫{ وَِلمَن َد َ‬
‫إذن فإيجاد عام بعد خاص‪ ،‬يعني أن يدخل الخاص في العام فيتكرر المر بالنسبة للخاص تكرارا‬
‫يناسب خصوصيته‪.‬‬
‫لةِ ا ْلوُسْطَىا } تفهم ذلك المعنى فإذا سألنا‪ :‬ما معنى‬
‫ت والصّ َ‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬حَا ِفظُواْ عَلَى الصَّلوَا ِ‬
‫حافظوا؟ الجواب ـ إذن ـ يقتضي أن نفهم أن عندنا " حفظا " يقابل " النسيان " ‪ ،‬و " حفظا "‬
‫يقابله " التضييع " ‪ ،‬والثنان يلتقيان‪ ،‬فالذي حفظ شيئا ونسيه فإنه قد ضيعه‪.‬‬

‫والذي حفظ مال ثم بدده‪ ،‬لقد ضيعه أيضا‪ ،‬إذن كلها معانٍ تلتقي في فقد الشيء‪ ،‬فالحفظ معناه أن‬
‫تضمن بقاء شيء كان عندك؛ فإذا ما حفظت آية في القرآن فلبد أن تحفظها في نفسك‪ ،‬ولو أنعم‬
‫ال عليك بمال فل بد أن تحافظ عليه‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَاتِ { معناه ل تضيعوها‪ .‬ويُحتمل أيضا معنى آخر هو أنكم قد ذقتم‬
‫حلوة الصلة في القرب من معية ربكم‪ ،‬وذلك أجدر وأولى أن تتمسكوا بها أكثر‪ ،‬وذلك القول‬
‫يسري على الصلوات الخمس التي نعرفها‪.‬‬
‫لةِ ا ْلوُسْطَىا { ذكر للخاص بعد العام‪ ،‬فكأن ال أمر بالمحافظة على ذلك‬
‫قوله تعالى‪ } :‬والصّ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الخاص مرتين‪ ،‬مرة في دائرة العموم ومرة أخرى أفردها ال بالخصوص‪ .‬وما العلة هنا في تفرد‬
‫الصلة الوسطى بالخصوص؟ إن " وسطى " هي تأنيث " أوسط " ‪ ،‬والوسط والوسطى هي المر‬
‫بين شيئين على العتدال‪ ،‬أي أن الطرفين متساويان‪ ،‬ول يكون الطرفان متساويين في العدد ـ‬
‫وهي الصلوات الخمس ـ إل إذا كانت الصلوات وترا؛ أي مفردة؛ لنها لو كان زوجية لما عرفنا‬
‫الوسطى فيها‪ ،‬ومادام المقصود هو وسط الخمس‪ ،‬فهي الصلة الثالثة التي يسبقها صلتان ويعقبها‬
‫صلتان‪ ،‬هذا إن لحظت العدد‪ ،‬باعتبار ترتيب الول والثاني والثالث والرابع والخامس‪.‬‬
‫وإذا كان العتبار بفريضة الصلة فإن أول صلة فرضها ال عز وجل هي صلة الظهر‪ ،‬هذا‬
‫أول فرض‪ ،‬وبعده العصر‪ ،‬فالمغرب‪ ،‬فالعشاء‪ ،‬فالفجر‪ .‬فإن أخذت الوسطى بالتشريع فهي صلة‬
‫المغرب وهذا رأي يقول به كثير من العلماء‪.‬‬
‫وإن أخذت الوسطى بحسب عدد ركعات الصلة فستجد أن هناك صلة قوامها ركعتان هي صلة‬
‫الفجر وصلة من أربع ركعات وهي صلة الظهر والعصر والعشاء‪ ،‬وصلة من ثلثة ركعات‬
‫هي صلة المغرب‪ .‬والوسط فيها هي الصلة الثلثية‪ ،‬وهي وسط بين الزوجية والرباعية فتكون‬
‫هي صلة المغرب أيضا‪ .‬وإن أخذتها بالنسبة للنهار فالصبح أول النهار والظهر بعده ثم العصر‬
‫والمغرب والعشاء‪ ،‬فالوسطى هي العصر‪.‬‬
‫وإن أخذتها على أنها الوسط بين الجهرية والسرية فيحتمل أن تكون هي صلة الصبح أو صلة‬
‫المغرب؛ لن الصلوات السرية هي الظهر والعصر‪ ،‬والجهرية هي المغرب والعشاء والفجر‪.‬‬
‫وبين العشاء والظهر تأتي صلة الصبح‪ ،‬أو صلة المغرب باعتبار أنها تأتي بين الظهر والعصر‬
‫من ناحية‪ ،‬والعشاء والصبح من ناحية أخرى‪.‬‬
‫وإن أخذتها لن الملئكة تجتمع فيها فهي في طرفي النهار والليل فذلك يعني صلة العصر أو‬
‫صلة الصبح‪ .‬إذن‪ ،‬فالوسط يأتي من العتبار الذي تُحسب به إن كان عددا أو تشريعا‪ ،‬أو عدد‬
‫ركعات‪ ،‬أو سرية أو جهرية أو بحسب نزول ملئكة النهار والليل‪ ،‬وكل اعتبار من هؤلء له‬
‫حكم‪.‬‬
‫ولماذا أخفى ال ذكرها عنا؟ نقول‪ :‬أخفاها لينتبه كل منا ويعرف أن هناك فرقا بين الشيء لذاته‪،‬‬
‫والشيء الذي يُبهم في سواه؛ ليكون كل شيء هو الشيء فيؤدي ذلك إلى المحافظة على جميع‬
‫الصلوات‪.‬‬

‫فما دامت الصلة الوسطى تصلح لن تكون الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فذلك‬
‫أدعى للمحافظة على الصلوات جميعا‪ .‬فإبهام الشيء إنما جاء لشاعة بيانه‪ .‬ولذلك أبهم ال ليلة‬
‫القدر للعلة نفسها وللسبب نفسه‪ ،‬فبدل أن تكون ليلة قدر واحدة أصبحت ليال أقدار‪.‬‬
‫سطَىا { أي على الصلوات الخمس بصفة‬
‫لةِ ا ْلوُ ْ‬
‫كذلك قوله تعالى‪ } :‬حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَاتِ والصّ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عامة وكل صلة تنفرد بصفة خاصة‪ .‬ويريد الحق سبحانه أن نقوم لكل صلة ونحن قانتون‪،‬‬
‫والمر الواضح هو } َوقُومُواْ للّهِ قَانِتِينَ { وأصل القنوات في اللغة هو المداومة على الشيء‪ ،‬وقد‬
‫حضر وحث القرآن الكريم على ديمومة طاعة ال ولزوم الخشوع والخضوع‪ ،‬ونرى ذلك في قول‬
‫حمَةَ رَبّهِ ُقلْ َهلْ‬
‫حذَرُ الخِ َر َة وَيَرْجُواْ َر ْ‬
‫الحق الكريم‪َ {:‬أمّنْ ُهوَ قَا ِنتٌ آنَآءَ الّيلِ سَاجِدا َوقَآئِما يَ ْ‬
‫ن لَ َيعَْلمُونَ إِ ّنمَا يَتَ َذكّرُ ُأوْلُو ْا الَلْبَابِ }[الزمر‪]9 :‬‬
‫ن وَالّذِي َ‬
‫يَسْ َتوِي الّذِينَ َيعَْلمُو َ‬
‫إن الحق سبحانه يبلغ رسوله صلى ال عليه وسلم ليبلغنا نحن المسلمين المؤمنين برسالته أن‬
‫نقارن بين الذي يخشع ل في أثناء الليل فيقضيه قائما وساجدا يرجو رحمة ربه‪ ،‬وبين الذي يدعو‬
‫ربه في الضراء وينساه في السراء‪ ،‬هل يستوي الذين يعلمون حقوق ال فيطيعوه ويوحدوه والذين‬
‫ل يعلمون فيتركوا النظر والتبصر في أدلة قدرات ال؟ إن السبيل إلى ذكر ال هو تجديد الصلة به‬
‫والوقوف بين يديه مقيمين للصلة‪.‬‬
‫ونحن نتلقى المر بإقامة الصلة حتى في أثناء القتال‪ ،‬لذلك شرع لنا صلة الخوف‪ ،‬فالقتال هو‬
‫خفْتُمْ فَ ِرجَالً َأوْ ُركْبَانا { ‪ ،‬إننا‬
‫المسألة التي تخرج النسان عن طريق أمنه‪ ،‬فيقول سبحانه‪ } :‬فَإنْ ِ‬
‫حتى في أثناء القتال والخوف ل ننسى ذكر ال؛ لننا أحوج ما نكون إلى ال أثناء مواجهتنا للعدو‪،‬‬
‫ولذلك ل يصح أن نجعل السبب الذي يوجب أن نكون مع ال مبررا لن ننسى ال‪.‬‬
‫وكذلك المريض‪ ،‬مادام مريضا فهو مع معية ال‪ ،‬فل يصح أن ينقطع عن الصلة؛ لنه ل عذر‬
‫لتاركها‪ ،‬حتى المريض إن لم يستطع أن يصلي واقفا صلى قاعدا‪ ،‬فإن لم يستطع قاعدا؛ فليصل‬
‫مضطجعا‪ ،‬ويستمر معه المر حتى لو اضطر للصلة برموش عينيه‪ .‬كذلك إن خفتم من عدوكم‬
‫صلوا رجال‪ ،‬يعني سائرين على أرجلكم أو ركبانا و " رجال " جمع " راجل " أي يمشي على‬
‫ل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن‬
‫ل وَعَلَىا ُك ّ‬
‫قدميه‪ ،‬ومثال ذلك قوله الحق‪ {:‬وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَا ً‬
‫ُكلّ فَجّ عَم ِيقٍ }[الحج‪ ]27 :‬لقد كان الناس يؤدون فريضة الحج سيرا على القدام أو ركبانا على‬
‫إبل يضمرها السفر من كل مكان بعيد‪ .‬إذن فالراجل هو من يمشي على قدميه‪.‬‬

‫والرجل مخلوقة لتحمل بني النسان‪ :‬الواقف منهم‪ ،‬وتقوم بتحريك المتحرك منهم‪ ،‬فإن كان‬
‫النسان واقفا حملته رجله‪ ،‬وإن كان ماشيا فإن رجليه تتحركان‪ .‬والمقصود هنا أن الصلة واجبة‬
‫على المؤمنين سائرين على أقدامهم أو ركبانا‪.‬‬
‫هذه المسألة قد فصلها الحق سبحانه وتعالى في صلة الخوف بأن قسم المسلمين قسمين‪ :‬قسما‬
‫يصلي مع النبي عليه الصلة والسلم في الركعة الولى‪ ،‬ثم يتمون الصلة وحدهم ويأتي القسم‬
‫الخر ليأتم بالرسول في الركعة التي بعدها حتى تنتهي الصلة بالنسبة للرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وينتظرهم حتى يفرغوا من صلتهم ويسلم بهم‪ ،‬فيكون الفريق الول أخذ فضل البدء مع‬
‫الرسول‪ ،‬والفريق الخر أخذ فضل النتهاء من الصلة مع الرسول صلى ال عليه وسلم‪ .‬وكان‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذلك في غزوة ذات الرقاع فكلٌ من الفرقتين كانت تقف في وجه العدو للحراسة في أثناء صلة‬
‫الفرقة الخرى‪.‬‬
‫ولي رأي في هذه المسألة هو أن صلة الخوف بالصور التي ذكرها الفقهاء إنما كانت للمعارك‬
‫التي يكون فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه ل يصح أن يكون هناك جيش يصلي خلف‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم ويحرم الباقي من أن يصلي خلفه‪ ،‬لذلك جعل ال بركة الصلة مع‬
‫رسول ال للقسمين‪.‬‬
‫لكن حينما انتقل رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الرفيق العلى فمن الممكن أن يكون للواقفين‬
‫أمام العدو إمام وللخرين إمام‪ ،‬إذن كان تقسيم الصلة وراء المام في صلة الخوف إنما كان‬
‫لن المام هو المام العلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فلم يشأ ال أن يحجب قوما عن‬
‫الصلة مع رسول ال عن قوم آخرين‪ ،‬فقسم الصلة الواحدة بينهم‪ .‬لكن في وقتنا الحالي الذي‬
‫انتظمت فيه المسائل‪ ،‬وصار كل الناس على سواء‪ ،‬ولم يعد رسول ال صلى ال عليه وسلم فينا‪،‬‬
‫خفْتُمْ فَرِجَالً َأوْ ُركْبَانا‬
‫لذلك يصح أن تُصلي كل جماعة بإمام خاص بهم‪ .‬وقوله الحق‪ } :‬فَإنْ ِ‬
‫{ نفهم منه الصلة ل تسقط حتى عند لقاء العدو‪ ،‬فإذا حان وقت الصلة فعلى المؤمن أن يصليها‬
‫إذا استطاع فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين ويتابع الحق فيقول‪ } :‬فَا ْذكُرُواْ اللّهَ َكمَا عَّل َمكُم مّا لَمْ‬
‫َتكُونُواْ َتعَْلمُونَ { أي اذكروا ال على أنه علمكم الشياء التي لم تكونوا تعلمونها‪ ،‬فلو لم يعلمكم‬
‫فماذا كنتم تصنعون؟‬
‫وبعد ذلك يعود الحق لسياق الحديث عن المتوفى عنها زوجها فيقول‪ } :‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِنكُمْ‬
‫ح ْولِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ‪{ ...‬‬
‫جهِمْ مّتَاعا إِلَى ا ْل َ‬
‫وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا َوصِيّ ًة لَ ْزوَا ِ‬

‫(‪)241 /‬‬

‫ح ْولِ غَيْرَ ِإخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا‬


‫ج ِهمْ مَتَاعًا إِلَى الْ َ‬
‫وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِ ْنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجًا َوصِيّةً لِأَ ْزوَا ِ‬
‫حكِيمٌ (‪)240‬‬
‫سهِنّ مِنْ َمعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫جُنَاحَ عَلَ ْي ُكمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬

‫شهُرٍ‬
‫سهِنّ أَرْ َب َعةَ أَ ْ‬
‫في آية سابقة قال الحق‪ {:‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِنكُ ْم وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا يَتَرَ ّبصْنَ بِأَ ْنفُ ِ‬
‫ف وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ }‬
‫سهِنّ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫وَعَشْرا فَإِذَا بََلغْنَ أَجََلهُنّ فَلَ جُنَاحَ عَلَ ْيكُمْ فِيمَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫[البقرة‪]234 :‬‬
‫إذن نحن أمام حكمين للذين يتوفون ويذرون أزواجا‪ ،‬حكم أن تتربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا‪،‬‬
‫وحكم آخر بأن للزوج حين تحضره الوفاة أو أسبابها أو مقدماتها أن ينصح ويوصي بأن تظل‬
‫الزوجة في بيته حول كامل ل تُهاج‪ ،‬وتكون الربعة الشهر والعشر فريضة وبقية الحول والعام‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وصية‪ ،‬إن شاءت أخذتها وإن شاءت عدلت عنها‪ { .‬وَالّذِينَ يُ َت َو ّفوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَ ْزوَاجا َوصِيّةً }‬
‫هذه وصية من الزوج عندما تحضره الوفاة‪ .‬إذن فالمتوفى عنها زوجها بين حكمين‪ :‬حكم لزم‬
‫وهو فرض عليها بأن تظل أربعة أشهر وعشرا‪ ،‬وحكم بأن يوصي الزوج بأن تظل حول كامل ل‬
‫تُهاج إل أن تخرج من نفسها‪ .‬و { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } أي ل يخرجها أحد‪ { .‬فَإِنْ خَ َرجْنَ فَلَ جُنَاحَ‬
‫حكِيمٌ }‪ .‬إن لها الخيار أن تظل عاما حسب‬
‫سهِنّ مِن ّمعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫عَلَ ْيكُمْ فِي مَا َفعَلْنَ فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫وصية زوجها‪ ،‬ولها الخيار في أن تخرج بعد الربعة الشهر والعشر‪.‬‬
‫حقّا عَلَى ا ْلمُتّقِينَ }‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬

‫(‪)242 /‬‬

‫حقّا عَلَى ا ْلمُ ّتقِينَ (‪)241‬‬


‫وَلِ ْلمُطَّلقَاتِ مَتَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ َ‬

‫إن لكل المطلقات في أي صورة من الصور متاعا‪ ،‬ولكنه سبحانه قد بين المتاع في كل واحدة‬
‫بدليل أنه أوضح لنا‪ :‬إن لم تفرضوا لهن فريضة فقال‪َ { :‬ومَتّعُوهُنّ عَلَى ا ْلمُوسِعِ َقدَ ُرهُ وَعَلَى‬
‫ا ْل ُمقْتِرِ َقدَ ُرهُ }‪ .‬وإن كنتم فرضتم لها مهرا فنصف ما فرضتم‪ ،‬فكأن ال قد جعل لكل حالة حكما‬
‫يناسبها‪ ،‬ولكل مطلقة متعة بالقدر الذي قاله سبحانه‪ .‬وعندما نتأمل قول الحق من بعد ذلك‪َ { :‬كذَِلكَ‬
‫يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَاتِهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ }‬

‫(‪)243 /‬‬

‫كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آَيَاتِهِ َلعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ (‪)242‬‬

‫فنحن نعرف مما سبق أن اليات هي المور العجيبة‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى حين ينبه العقل إلى‬
‫استقبال حكم بالتعقل يكون العقل المحض لو وجه فكره إلى دراسة أسباب هذا الموضوع فلن‬
‫ينتهي إل إلى هذا الحكم‪ .‬ولذلك تجد أن الحق سبحانه وتعالى يترك لبعض المشادات في التعامل‬
‫والثارات في الخصومة أن تخرج عن حكم ما شرع ال في أي شيء من الشياء التي تقدمت‪ ،‬ثم‬
‫يصيب المجتمع شر من المخالفة‪ ،‬وكأنه بذلك يؤكد حكمته في تشريع ما شرع‪ .‬وإل لو لم تحدث‬
‫من المخالفات شرور لقال الناس‪ :‬إنه ل داعي للتشريع‪ .‬ولتركوا التشريع دون أن يصيبهم شر‪.‬‬
‫إذن فحين ل نلتزم بالتشريع فالمنطق والكمال الكوني أن تحدث الشرور؛ لنه لو لم تحدث‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الشرور لتهم الناس منهج ال وقالوا‪ :‬إننا لم نلتزم يا رب بمنهجك‪ ،‬ومع ذلك ل شرور عندنا‪.‬‬
‫فكأن الشرور التي نجدها في المجتمع تلفتنا إلى صدق ال وكمال حكمته في تحديد منهجه‪ .‬وهكذا‬
‫يكون المخالفون لمنهج ال مؤيدين لمنهج ال‪ .‬وبعد ذلك ينتقل الحديث إلى علج قضية إيمانية‬
‫وهو أن ال حين يقدر قدرا ل يمكن لمخلوق أن يفلت من هذا القدر‪ ،‬يقول سبحانه‪ { :‬أََلمْ تَرَ إِلَى‬
‫حذَرَ ا ْل َم ْوتِ‪} ...‬‬
‫الّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ َ‬

‫(‪)244 /‬‬

‫أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِ ْم وَ ُهمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َموْتِ َفقَالَ َل ُهمُ اللّهُ مُوتُوا ثُمّ أَحْيَا ُهمْ إِنّ اللّهَ‬
‫شكُرُونَ (‪)243‬‬
‫س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َي ْ‬
‫ضلٍ عَلَى النّا ِ‬
‫لَذُو َف ْ‬

‫بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى على ما يتعلق بالسرة المسلمة في حالة علج الفراق في‬
‫الزواج إما بالطلق وإما بالوفاة‪ ،‬أراد الحق سبحانه وتعالى للمة السلمية أن تعرف أن أحدا لن‬
‫يفر من قدر ال إل إلى قدر ال‪ ،‬فالمة السلمية هي المة التي أمنها على حمل رسالة ومنهج‬
‫السماء إلى الرض إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬فلم يعد محمد صلى ال عليه وسلم بأتى ول نبي يُبعث‪.‬‬
‫ولبد لمثل هذه المة أن تُربى تربية تناسب مهمتها التي حملها ال إليها‪ .‬ولبد أن يضع الحق‬
‫سبحانه وتعالى بين يدي هذه المة كل ما لقته وصادفته مواكب الرسل في المة السابقة ليأخذوا‬
‫العبرة من المواقف ويتمثلوا المنهج ل من نظريات تُتلى ولكن من واقع قد دُرس ووقع في‬
‫المجتمع‪.‬‬
‫أراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أساس المسألة وهو أنه سبحانه واهب الحياة ول أحد‬
‫غيره‪ ،‬وواهب الحياة هو الذي يأخذها‪ .‬ولم يضع لهبة الحياة سببا عند الناس‪ .‬وإنما هو سبحانه‬
‫الذي يحيى ويميت‪ .‬وفي الحياة والموت استبقاء للنوع النساني‪ ،‬ولكن استبقاء حياة الفراد إنما‬
‫ينشأ من التمول‪.‬‬
‫ويعالج الحق هذه المسألة بواقع سبق أن عاشه موسى عليه السلم مع قومه وهم بنو إسرائيل‪،‬‬
‫ونعرف أن قصة موسى مع قومه قد أخذت أوسع قصص القرآن؛ لنها المة التي أتعبت الرسل‪،‬‬
‫وأتعبت النبياء‪ ،‬وكان لبد أن يعرض الحق هذا المر برمته على أمة محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫من واقع ما حدث‪ ،‬فقال سبحانه‪ { :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَا ِرهِ ْم وَ ُهمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َموْتِ }‪.‬‬
‫ونعرف من هذا القول أن علة الخروج إنما كانت مخافة أن يموتوا‪ .‬أما عن سبب هذا الموت فلم‬
‫تتعرض له اليات‪ ،‬وإن تعرض المفسرون له وقالوا كلما طويلً‪ ،‬فمنهم من قال‪ :‬إنهم خرجوا‬
‫هربا من وباء يحل بالبلد خشية أن يموتوا‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬إنهم خرجوا فِرارا من عدو قد سُلط‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليهم ليستأصلهم‪ ،‬المهم أنهم أرادوا أن يفروا خوفا من الموت‪.‬‬
‫إذن فالقرآن يعالج تلك المسألة من الزاوية التي تهم‪ ،‬ولكن ما هو السبب ولماذا الخروج؟ فذلك‬
‫أمر ل يهم؛ لن القرآن ل يعطي تاريخا‪ ،‬فلم يقل متى كانت الوقائع ول زمنها‪ ،‬ول على يد من‬
‫كان هذا‪ ،‬ول يحدد أشخاص القضية‪ ،‬كل ذلك ل يهتم به القرآن‪ .‬والذين يتعبون أنفسهم في البحث‬
‫عن تفاصيل تلك المور في القصص القرآني إنما يحاولون أن يربطوا الشياء بزمن مخصوص‪،‬‬
‫ومكان مخصوص وأشخاص مخصوصة‪.‬‬
‫ونقول لهم‪ :‬إن القرآن لو أراد ذلك لفعل‪ ،‬ولو كان ذلك له أصل في العبرة والعظة لبيّنه الحق لنا‪،‬‬
‫وأنتم تريدون إضعاف مدلول القصة بتلك التفاصيل؛ لن مدلول القصة إن تحدد زمنها‪ ،‬فربما‬
‫قيل‪ :‬إن الزمان الذي حدثت فيه كان يحتمل أن تحدث تلك المسألة والزمن الن لم يعد يحتملها‪،‬‬
‫وربما قيل‪ :‬إن هذا المكان الذي وقعت فيه يحتمل حدوثها‪ ،‬إنما المكنة الخرى ل تحتمل‪.‬‬

‫وكذلك لو حددها بشخصيات معينة لقيل‪ :‬إنّ القصص ل يمكن أن تحدث إل على يد هذه‬
‫الشخصيات؛ لنها فلتات في الكون ل تتكرر‪.‬‬
‫إن ال حين يبهم في قصة ما عناصر الزمان والمكان والشخاص وعمومية المكنة إنه ‪ -‬سبحانه‬
‫‪ -‬يعطي لها حياة في كل زمان وفي كل مكان وحياة مع كل شخص‪ ،‬ول يستطيع أحد أن يقول‪:‬‬
‫إنها مشخصة‪ .‬وأضرب دائما هذا المثل بالذين يحاولون أن يعرفوا زمن أهل الكهف ومكان أهل‬
‫الكهف وأسماء أهل الكهف وكلب أهل الكهف‪ .‬نقول لهؤلء‪ :‬أنتم ل تثرون القصة‪ ،‬لنكم عندما‬
‫تحددون لها زمانا ومكانا وأشخاصا فسيقال‪ :‬إنها ل تنفع إل للزمان الذي وقعت فيه‪.‬‬
‫ولذلك إذا أراد الحق أن يبهم فقد أبهم ليعمم‪ ،‬وإن أراد أن يحدد فهو يشخّص ومثال ذلك قوله‬
‫حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا‬
‫تعالى‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَ ْ‬
‫صَالِحَيْنِ َفخَانَتَا ُهمَا فَلَمْ ُيغْنِيَا عَ ْن ُهمَا مِنَ اللّهِ شَيْئا َوقِيلَ ا ْدخُلَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ }[التحريم‪]10 :‬‬
‫لم يحدد الحق هنا اسم أي امرأة من هاتين المرأتين‪ ،‬بل ذكر فقط المر المهم وهو أن كل منهما‬
‫كانت زوجة لرسول كريم‪ ،‬ومع ذلك لم يستطع نوح عليه السلم أن يستلب العقيدة الكافرة من‬
‫زوجته‪ ،‬ولم يستطع لوط عليه السلم أن يستلب العقيدة الكافرة من زوجته‪ ،‬بل كانت كل من‬
‫المرأتين تتآمر ضد زوجها ‪ -‬وهو الرسول ‪ -‬مع قومها‪ ،‬لذلك كان مصير كل منهما النار‪،‬‬
‫والعبرة من القصة أن اختيار العقيدة هو أمر متروك للنسان‪ ،‬فحرية العقيدة أساس واضح من‬
‫أسس المنهج‪.‬‬
‫عوْنَ إِذْ قَاَلتْ َربّ‬
‫وأيضا قال سبحانه في امرأة فرعون‪َ {:‬وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرََأتَ فِرْ َ‬
‫عمَلِ ِه وَنَجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[التحريم‪]11 :‬‬
‫ن وَ َ‬
‫عوْ َ‬
‫ابْنِ لِي عِن َدكَ بَيْتا فِي ا ْلجَنّ ِة وَنَجّنِي مِن فِرْ َ‬
‫لم يذكر اسمها؛ لنه لم يهمنا في المسألة المهم أنها امرأة من ادعى اللوهية‪ ،‬ومع ذلك لم يستطع‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أن يقنع امرأته بأنه إله‪ .‬لكن حينما أراد أن يشخص قال في مريم عليها السلم‪َ {:‬ومَرْيَمَ ابْ َنتَ‬
‫جهَا فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا َوصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِ ِه َوكَا َنتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ‬
‫حصَ َنتْ فَرْ َ‬
‫عمْرَانَ الّتِي أَ ْ‬
‫ِ‬
‫}[التحريم‪]12 :‬‬
‫لقد ذكرها الحق وذكر اسم والدها‪ ،‬ذلك لن الحدث الذي حدث لها لن يتكرر في امرأة أخرى‪.‬‬
‫فالذين يحاولون أن ُيقَوّوا القصة بذكر تفاصيلها نقول لهم‪ :‬أنتم تُفقرون القصة؛ فالمهم هو أن الحق‬
‫سبحانه وتعالى يريد أن يقول‪ :‬إنهم خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت‪.‬‬

‫ونريد أن نقف موقفا لغويا عند قول الحق‪ } :‬أََلمْ تَرَ {‪ .‬أنت تقول لنسان‪ } :‬أََلمْ تَرَ { يعني ألم ير‬
‫بعينيه‪ ،‬وبال هل رسول ال صلى ال عليه وسلم وهل المؤمنون معه والمؤمنون بعده إلى أن تقوم‬
‫الساعة رأوا هذه المسألة؟ ل‪ .‬لقد وصلتهم بوسيلة السماع وليس بالرؤية‪ .‬ونحن نعلم أن الرؤية‬
‫تكون بالعين‪ ،‬والسماع يكون بالذن‪ ،‬والتذوق يكون باللسان‪ ،‬والشم يكون بالنف‪ ،‬واللمس يكون‬
‫باليد‪ ،‬إن هذه هي الوسائل التي تعطي للعقل إدراكا وإحساسا لكي يعطي معنويات‪ ،‬وفي ذلك اقرأ‬
‫لفْئِ َدةَ‬
‫سمْ َع وَالَ ْبصَارَ وَا َ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ‬
‫قوله تعالى‪ {:‬وَاللّهُ َأخْرَ َ‬
‫شكُرُونَ }[النحل‪]78 :‬‬
‫َلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫إذن فوسيلة العلم تأتي من الحواس‪ ،‬وسيدة الحواس هي العين؛ لنه من الممكن أن تسمع شيئا من‬
‫واحدٍ بتجربته هو‪ ،‬لكن عندما ترى أنت بنفسك فتكون التجربة خاصة بك‪ ،‬ولذلك يقال‪ " :‬ليس مَن‬
‫رأى كمن سمع " ‪ ،‬فإذا أراد الحق أن يقول‪ :‬ألم تعلم يا من أخاطبك بالقرآن خبر هؤلء القوم؟‬
‫فهو سبحانه يأتي بها على هذه الصورة‪ } :‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُواْ مِن دِيَارِ ِهمْ { ويعني ألم تعلم‬
‫والعلم هنا بأي وسيلة؟ بالسمع‪ .‬ولماذا لم يختصر سبحانه المسافة ويقول‪ " :‬ألم تسمع " بدل من }‬
‫أَلَمْ تَرَ {؟‪ .‬إنه في قوله‪ } :‬أََلمْ تَرَ { يخبرك بشيء سابق عن وجودك أو بشيء متأخر عن وجودك‪،‬‬
‫فعليك أن تستقبله استقبالك لما رأيته؛ لن ال الذي خلق الحواس هو ـ سبحانه ـ أصدق من‬
‫الحواس‪ ،‬ولذلك جاء قوله تعالى في سورة الفيل‪ {:‬أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل‪:‬‬
‫‪]1‬‬
‫إننا نعرف أن النبي صلى ال عليه وسلم ولد في عام الفيل ولم ير هذه الحادثة فكيف يقول ال له‬
‫ألم تر؟ إن المعنى من ذلك هو " ألم تعلم "؟ " ألم تسمع مني " ولم يقل " ألم تسمع "؟ لكي يؤكد له‬
‫أنه سيقول له حدثا هو لم يره ولكن الحق سيخبره به‪ ،‬وإخبار الحق له كأنه يراه‪ .‬فكأن ال يقول‪:‬‬
‫إن هذه مسألة مفروغ منها وساعة أخبرك بها فكأنك رأيتها‪.‬‬
‫ونحن نسمع في حياتنا قول الناس‪ :‬إن فلنا ألمعي‪ .‬ومعنى ذلك أنه يحدثك حديثا كأنه رأى أو‬
‫سمع‪.‬اللـمـعي الـذي يـظـن بـك الظـن كـأن قـد رأى وقـد سـمـعـاويحدثنا الحق‬
‫عن هؤلء القوم فيقول‪ } :‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُواْ مِن دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ َفقَالَ َلهُمُ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اللّهُ مُوتُواْ ثُمّ أَحْيَا ُهمْ {‪ .‬إنه سبحانه يخبرنا بأن المر الذي يفرون منه لحق بهم‪ ،‬لنه ل يَحتاط‬
‫من قدر ال أحد‪ ،‬لذلك أماتهم ال ثم أحياهم ليتعظوا‪ .‬ولو أخر ال الحياء إلى يوم البعث فلن تؤثر‬
‫العبرة؛ لنه بعد يوم القيامة ل اعتبار ول تكليف‪ ،‬وكل ذلك ل قيمة له‪.‬‬

‫حذَرَ ا ْل َم ْوتِ { بيان لعلة الخروج‪ ،‬فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لهم أن هذه‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬‬
‫قضية ل ينفع فيها الحذر‪ ،‬أنتم خرجتم خوفا من الموت سأميتكم والذي كنتم تطلبونه بعد الموت‬
‫سأحدث لكم غيره‪ ،‬لذلك أحياهم إحياءً آخر حتى يتحسروا‪ ،‬ويأخذوا أجلهم المكتوب } ثُمّ أَحْيَا ُهمْ‬
‫{ حتى يبين لكم أن أمر الموت بيده سبحانه سواءً كان خوفهم من الموت نابعا من أعدائهم أو من‬
‫وباء وطاعون‪ ،‬فالمر في جوهره ل يختلف‪ ،‬ولو أن الية ذكرت أنهم خرجوا خوفا من وباء ما‬
‫كنا فهمنا منها احتمال خروجهم خوفا من أعدائهم‪ .‬إذن إبهام السبب المباشر في القضية أعطاها‬
‫ثراءً‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَهُمْ أُلُوفٌ { يبين لنا مدى الخيبة والغباء الذي كانوا فيه‪ ،‬لنهم كيف يخرجون‬
‫خائفين من العداء وهم ألوف مؤلفة‪ .‬ولم يظهر واحد من هؤلء اللوف ليقول لهم‪ :‬إن الموت‬
‫والحياة بيد ال‪ } .‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَ َرجُواْ مِن دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ َفقَالَ َلهُمُ اللّهُ مُوتُواْ‬
‫{‪.‬‬
‫وساعة تأمر مأمور منك بأمر فل بد أن يكون عندك طلقة قدرة أن تفعل‪ ،‬وهل إذا قلت لحد‪:‬‬
‫مت‪ ،‬سيموت؟ إذا أمات نفسه فقد قتلها‪ ،‬وفرق كبير بين الموت والقتل‪ .‬إنما الموت يأتي بل سبب‬
‫من الميت‪ ،‬ولكن القتل ربما يكون بسبب النتحار أو بأي وسيلة أخرى‪ ،‬المهم أنه قتل للنفس‬
‫وليس موتا‪.‬‬
‫حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ‬
‫ويوضح لنا الحق الفرق بين القتل والموت حين يقول‪َ {:‬ومَا ُم َ‬
‫عقِبَيْهِ فَلَن َيضُرّ اللّهَ شَيْئا وَسَ َيجْزِي‬
‫عقَا ِبكُ ْم َومَن يَنقَلِبْ عَلَىا َ‬
‫سلُ َأفَإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ‬
‫الرّ ُ‬
‫اللّهُ الشّاكِرِينَ }[آل عمران‪]144 :‬‬
‫ولقد جاءت هذه الية في مجال استخلص العبر من هزيمة أحد حين شاع بين المسلمين أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قد قتل‪ ،‬ففكر بعض منهم في الرتداد‪ ،‬وجاء قول الحق موضحا‬
‫أن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو نبي سبقه رسل جاءوا بالمنهج‪ ،‬والمة المسلمة التي أمنها‬
‫ال على تمام المنهج ل يصح أن يهتز اليمان فيها بموت الرسول الكريم؛ لن من ينقلب ويرتد‬
‫فلن يضر ال شيئا‪ ،‬إنما الجزاء سيكون للشاكرين العارفين فضل منهج ال‪.‬‬
‫ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه جاء بالموت كمقابل للقتل‪ ،‬وأوضح في الية التالية أمر الموت‬
‫ل َومَن يُرِدْ َثوَابَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَن‬
‫حين قال‪َ {:‬ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ ِإلّ بِِإذْنِ ال كِتَابا ّمؤَجّ ً‬
‫يُرِدْ َثوَابَ الخِ َرةِ ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا وَسَ َنجْزِي الشّاكِرِينَ }[آل عمران‪]145 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن فأمر الموت مرهون بمشيئة ال وطلقة قدرته وتحديده لكل أجل بوقت معلوم ل يتقدم ول‬
‫يتأخر‪ ،‬وسيلقى كل إنسان نتيجة عمله‪ ،‬فمن عمل للدنيا فقط نال جزاءه فيها‪ ،‬ومن عمل للخرة‬
‫فسيجزيه ال في دنياه وآخرته‪.‬‬

‫لذلك يصدر المر من الحق بقوله‪َ } :‬فقَالَ َلهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمّ َأحْيَا ُهمْ { فلم يكن بإرادتهم أن يصنعوا‬
‫موتهم‪ ،‬أو أمر عودتهم إلى الحياة‪ ،‬لكنه أمر تسخيري‪ .‬إنهم يموتون بطلقة قدرته المتمثلة في "‬
‫كن فيكون "‪ .‬ويعودون إلى الحياة بتمام طلقة القدرة المتمثلة في " كن فيكون "‪ .‬فليس لهم رأي‬
‫في مسألة الموت أو العودة للحياة‪ ،‬إنه أمر تسخيري‪ ،‬كما قال الحق من قبل للرض والسماء‪ُ {:‬ثمّ‬
‫طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت‪:‬‬
‫سمَآءِ وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ‬
‫اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ‬
‫‪]11‬‬
‫لقد شاءت قدرته أن يخلق السماء على هيئة دخان فوُجدت‪ ،‬وخلقه للسماوات والرض على وفق‬
‫إرادته وهو هين عليه بمنزلة ما يقال للشيء احضر راضيا أو كارها‪ ،‬فيسمع المر ويطيعه‪ .‬وهذه‬
‫أمور تسخيرية من الخالق الكرم‪ ،‬وليس للمخلوق من سماوات وأرض وما بينهما إل المتثال‬
‫للمر التسخيري من الخالق عز وجل‪ .‬فعندما يقول الحق سبحانه‪ } :‬مُوتُواْ ثُمّ أَحْيَا ُهمْ { فهذا أمر‬
‫تسخيري بالموت‪ ،‬وأمر تسخيري بعودتهم إلى الحياة‪.‬‬
‫وأليس الموت هو ما خافوه وفروا منه واحتاطوا بالهرب منه؟ نعم‪ ،‬لكن ل أحد بقادر على أن‬
‫يحتاط على قدر ال؛ لن الحق أراد لهم أن يعرفوا أن أحدا ل يفر من قدر ال إل لقدر ال‪ .‬ولذلك‬
‫فسيدنا عمر بن الخطاب رضي ال عنه عندما أراد للناس أل تذهب إلى أرض فيها الطاعون‪.‬‬
‫قالوا له‪:‬‬
‫ـ أتفر من قدر ال؟‬
‫قال عمر‪ :‬نعم‪ :‬نِفرّ من قدر ال إلى قدر ال‪.‬‬
‫إن ذلك يجعل النسان في تسليم مطلق بكل جوارحه ل‪ .‬صحيح على النسان أن يحتاط‪ ،‬ولكن‬
‫القدر الذي يريده ال سوف ينفذ‪ .‬والمؤمن يأخذ بالسباب‪ ،‬ويسلم أمره إلى ال‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬لماذا لم يترك ال هؤلء القوم من بني إسرائيل ليموتوا وإلى أن يأتي البعث يوم‬
‫القيامة ليحاسبهم‪.‬‬
‫وأقول‪ :‬لقد أراد الحق سبحانه بالمر التسخيري بالحياء ثانية أن توجد العبرة والعظة‪ ،‬ولتظل‬
‫ماثلة أمام أعين الخلق ومحفوظة في أكرم كتاب حفظه ال منهجا للناس وهو القرآن الكريم‪ .‬إن‬
‫الحق أراد بالمر عظة واعتبارا وتجربة يموتون بأمر تسخيري‪ ،‬ويعودون إلى الحياة بأمر‬
‫تسخيري آخر‪ ،‬ثم يعيشون الحياة المقدرة لهم ويموتون بعدها حتف أنوفهم‪ ،‬ولتظل عبرة ماثلة أمام‬
‫كل مؤمن حق‪ ،‬فل يخاف الموت في سبيل ال‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد أراد ال بهذه التجربة أن نستخدم قضية الجهاد في سبيل ال‪ ،‬فل يظن ظان أن القتال هو الذي‬
‫يسبب الموت‪ ،‬إنما أمر الموت والحياة بيد واهب الحياة‪ .‬وهاهو ذا قول خالد بن الوليد على فراش‬
‫الموت باقيا ليعرفه كل مؤمن بال‪:‬‬
‫ـ لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها وما في جسدي شبرا إل وفيه ضربة سيف أو طعنه برمح‪،‬‬
‫وهأنذا أموت على فراشي كما يموت العَيْر‪ ،‬فل نامت أعين الجبناء‪.‬‬

‫إذن فأمر الحياة والموت ليس مرهونا بقتال أو غيره‪ ،‬إنما هو محدد بمشيئة ال‪.‬‬
‫س لَ‬
‫س وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫ضلٍ عَلَى النّا ِ‬
‫ولننظر إلى تذييل الية حين يقول الحق‪ } :‬إِنّ اللّهَ لَذُو َف ْ‬
‫شكُرُونَ {‪ .‬وما الفضل؟ إنه أن تتلقى عطاءً يزيد على حاجتك‪ .‬والحق سبحانه وتعالى ل يعطي‬
‫يَ ْ‬
‫الناس فقط على قدر حاجتهم إنما يعطيهم ما هو أكثر من حاجتهم‪ .‬إذن فلو مات هؤلء القوم الذين‬
‫خرجوا من ديارهم خوفا من وباء أو عدو لكان هذا الموت فضل من عند ال؛ لنهم لو ماتوا‬
‫بالوباء لماتوا شهداء‪ ،‬وهذا فضل من ال‪ .‬ولو ماتوا في لقاء عدو وحاربوا في سبيل ال لنالوا‬
‫الشهادة أيضا‪ ،‬وذلك فضل من ال‪.‬‬
‫لماذا يكون مثل هذا الموت فضل من ال؟ لننا جميعا سوف نموت‪ ،‬فإن مات النسان استشهادا‬
‫في سبيله فهذا عطاء زائد‪ .‬لكن أكثر الناس ل يشكرون؛ لنهم ل يعلمون مدى النعمة فيما يجريه‬
‫الحق سبحانه وتعالى عليهم من أمور؛ لن الناس لو علمت مدى النعمة فيما يجريه الحق عليهم‬
‫من أحداث بما فيها الحياء والماتة‪ ،‬لشكروا ال على كل ما يجريه عليهم‪ ،‬فالحق سبحانه وتعالى‬
‫ل يجري على البشر‪ ،‬وهم من صنعته إل ما يصلح هذه الصنعة‪ ،‬وإل ما هو خير لهذه الصنعة‪.‬‬
‫لقد استبقى الحق سبحانه هذه العبرة بما أجراه على بعض من بني إسرائيل لنرى أن القتال في‬
‫سبيل ال هو من نعم ال على العباد‪ ،‬فل مهرب من قضاء ال‪ .‬وهاهو ذا الشاعر العربي يقول‪:‬أل‬
‫أيها الزاجري أحضر الوغي وأن أشهد اللذات هل أنت مخلديفإن كنت ل تستطيع دفع منيتي‬
‫فدعني أبادرها بما ملكت يديإن الشاعر يسأل من يوجه له الدعوة ل إلى القتال‪ ،‬ولكن إلى‬
‫الستمتاع بملذات الحياة قائلً‪ :‬ما دمت ل تملك لي خلودا في هذه الحياة ول أنت بقادر على رد‬
‫الموت عني فدعني أقاتل في سبيل ال بما تملكه يداي‪.‬‬
‫وبعد الحديث عن محاولة هرب بعض من بني إسرائيل من قدر ال فأجرى عليهم الموت تسخيرا‬
‫وأعادهم إلى الحياة تسخيرا‪ ،‬وهذا درس واضح للمؤمنين الذين سيأتي إليهم المر بالقتال في سبيل‬
‫ال‪ .‬فل تبالوا أيها المؤمنون إن كان القتال يجلب لكم الموت؛ لن الموت يأتي في أي وقت‪ .‬بعد‬
‫ذلك يقول الحق‪َ } :‬وقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‪{ ...‬‬

‫(‪)245 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)244‬‬
‫َوقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ َ‬

‫إنه المر الواضح بالقتال في سبيل ال دون مخافة للموت‪ .‬لماذا؟ لن واهب الحياة وكاتب الجل‬
‫سميع عليم‪ ،‬سميع بأقوال من يقاتل وعليم بنواياه‪.‬‬
‫وكان الجهاد قديما عبئا ثقيلً على المجاهد؛ لنه كان يتحمل نفقة نفسه ويتحمل المركبة ـ حصانا‬
‫أو جملً ـ ويتحمل سلحه‪ ،‬كان كل مجاهد ُيعِدّ عدته للحرب‪ ،‬فكان ولبد إذا سمح لنفسه أن‬
‫تموت فمن باب أولى أن يسمح بماله‪ ،‬وأن يجهز عدته للحرب‪ ،‬وعلى ذلك كان القتال بالنفس‬
‫والمال أمرا ضروريا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬وقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } أي قاتلوا بأنفسكم ثم عرج إلى الموال فقال‪ { :‬مّن ذَا الّذِي‬
‫ضعَافا كَثِي َرةً‪} ...‬‬
‫حسَنا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ‬
‫ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا َ‬

‫(‪)246 /‬‬

‫جعُونَ‬
‫ط وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬
‫ض وَيَبْسُ ُ‬
‫ضعَافًا كَثِي َر ًة وَاللّهُ َيقْ ِب ُ‬
‫عفَهُ لَهُ َأ ْ‬
‫حسَنًا فَ ُيضَا ِ‬
‫مَنْ ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَ ْرضًا َ‬
‫(‪)245‬‬

‫ساعة تسمع { ُيقْرِضُ اللّهَ } فذلك أمر عظيم؛ لنك عندما تقرض إنسانا فكأنك تقرض ال‪ ،‬ولكن‬
‫المسألة ل تكون واضحة‪ ،‬لماذا؟ لن ذلك النسان سيستفيد استفادة مباشرة‪ ،‬لكن عندما تنفق في‬
‫سبيل ال فليس هناك إنسان بعينه تعطيه‪ ،‬وإنما أنت تعطي المعنى العام في قضية التدين‪ ،‬وتعاملك‬
‫فيها يكون مع ال‪ .‬كأنك تقرض ال حين تنفق من مالك لتعد نفسك للحرب‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يريد أن ينبهنا بكلمة القرض على أنه يطلب منا عملية ليست سهلة على‬
‫النفس البشرية‪ ،‬وهو سبحانه يعلم بما طبع عليه النفوس‪ .‬والقرض في اللغة معناه قضم الشيء‬
‫بالناب‪ ،‬وهو سبحانه وتعالى يعلم أن عملية القراض هي مسألة صعبة‪ ،‬وحتى يبين للناس أنه يعلم‬
‫صعوبتها جاء بقوله‪ُ { :‬يقْ ِرضُ } ‪ ،‬إنه المقدر لصعوبتها‪ ،‬ويقدر الجزاء على قدر الصعوبة‪.‬‬
‫{ مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا }‪ .‬وما هو القرض الحسن؟ وهل إذا أقرضت عبدا من عباد‬
‫ال ل يكون القرض حسنا؟‬
‫أول إذا أقرضت عبدا من عباد ال فكأنك أقرضت ال‪ ،‬صحيح أنت تعطي النسان ما ييسر له‬
‫الفرج في موقف متأزم‪ ،‬وصحيح أيضا أنك في عملية الجهاد ل تعطي إنسانا بعينه وإنما تعطي‬
‫ال مباشرة‪ ،‬وهو سبحانه يبلغنا‪ :‬أن من يقرض عبادي فكأنه أقرضني‪ .‬كيف؟ لن ال هو الذي‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫استدعى كل عبد له للوجود‪ ،‬فإذا احتاج العبد فإن حاجته مطلوبة لرزقه في الدنيا‪ ،‬فإذا أعطى العبد‬
‫لخيه المحتاج فكأنه يقرض ال المتكفل برزق ذلك المحتاج‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ُ { :‬يقْرِضُ اللّهَ } تدلنا على أن القرض ل يضيع؛ لن القرض شيء تخرجه من مالك‬
‫على أمل أن تستعيده‪ ،‬وهو سبحانه وتعالى يطمئنك على أنه هو الذي سيقترض منك‪ ،‬وأنه سيرد‬
‫ما اقترضه‪ ،‬لكن ليس في صورة ما قدمت وإنما في صورة مستثمرة أضعافا مضاعفة‪ ،‬إن الصل‬
‫ضعَافا‬
‫محفوظ ومستثمر‪ ،‬ولذلك يقول‪ { :‬مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَاعِفَهُ َلهُ َأ ْ‬
‫كَثِي َرةً } إنها أضعاف كثيرة بمقاييس ال عز وجل ل بمقاييسنا كبشر‪.‬‬
‫والتعبير بالقرض الحسن هنا يدلنا على أن مصدر المال الذي تقرض منه لبد أن يكون من حلل‪،‬‬
‫ولذلك قيل للمرأة التي تتصدق من مال الزنا‪ " :‬ليتها لم تزن ولم تتصدق "‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن القرض ثوابه أعظم من الصدقة‪ ،‬مع أن الصدقة يجود فيها النسان بالشيء كله‪ ،‬في‬
‫حين أن القرض هو دين يسترجعه صاحبه‪ ،‬لن اللم في إخراج الصدقة يكون لمرة واحدة فأنت‬
‫تخرجها وتفقد المل فيها‪ ،‬لكن القرض تتعلق نفسك به‪ ،‬فكلما صبرت مرة أتتك حسنة‪ ،‬كما أن‬
‫المتصدق عليه قد يكون غير محتاج‪ ،‬ولكن المقترض ل يكون إل محتاجا‪.‬‬
‫والقرض من المال الذي لديك يجعل المال يتناقص‪ ،‬لذلك فال يعطيك أضعافا مضاعفة نتيجة هذا‬
‫القرض‪ ،‬وذلك مناسب تماما لقوله تعالى‪َ { :‬يقْ ِبضُ وَيَبْسُطُ } التي جاء بها في قوله تعالى‪ { :‬وَاللّهُ‬
‫جعُونَ } أي ساعة تذهب إليه ويأخذ كل منا حقه بالحساب أي أن المال‬
‫ط وَإِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫سُ‬‫ض وَيَبْ ُ‬
‫َيقْبِ ُ‬
‫الذي تقرض منه ينقص في ظاهر المر ولكن ال ـ سبحانه ـ يزيده ويبسطه أضعافا مضاعفة‬
‫وفي الخرة يكون الجزاء جزيل‪.‬‬

‫ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه‪َ } :‬ألَمْ تَرَ { تأكيدا للخبر الذي سيأتي‬
‫بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي‪ ،‬يقول سبحانه‪ } :‬أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ‬
‫مِن َبعْدِ مُوسَى‪{ ...‬‬

‫(‪)247 /‬‬

‫أَلَمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ َبعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَ ِبيّ َل ُهمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَِلكًا ُنقَاتِلْ فِي سَبِيلِ‬
‫عسَيْتُمْ إِنْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ أَلّا ُتقَاتِلُوا قَالُوا َومَا لَنَا أَلّا ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَدْ ُأخْرِجْنَا‬
‫اللّهِ قَالَ َهلْ َ‬
‫مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْا إِلّا قَلِيلًا مِ ْنهُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ (‪)246‬‬

‫ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه‪َ { :‬ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي‪ ،‬يقول سبحانه‪ { :‬أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ‬
‫مِن َبعْدِ مُوسَى‪} ...‬‬

‫(‪)248 /‬‬

‫َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ اللّهَ قَدْ َب َعثَ َل ُكمْ طَالُوتَ مَِلكًا قَالُوا أَنّى َيكُونُ َلهُ ا ْلمُ ْلكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ َأحَقّ بِا ْلمُ ْلكِ‬
‫س ِم وَاللّهُ ُيؤْتِي‬
‫سطَةً فِي ا ْلعِلْ ِم وَا ْلجِ ْ‬
‫طفَاهُ عَلَ ْيكُمْ وَزَا َدهُ بَ ْ‬
‫سعَةً مِنَ ا ْلمَالِ قَالَ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬
‫مِنْ ُه وَلَمْ ُي ْؤتَ َ‬
‫سعٌ عَلِيمٌ (‪)247‬‬
‫مُ ْلكَهُ مَنْ يَشَا ُء وَاللّ ُه وَا ِ‬

‫ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه‪َ { :‬ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي‬
‫بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي‪ ،‬يقول سبحانه‪ { :‬أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ‬
‫مِن َبعْدِ مُوسَى‪} ...‬‬

‫(‪)249 /‬‬

‫سكِينَةٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَ َبقِيّةٌ ِممّا تَ َركَ َآلُ مُوسَى وَ َآلُ‬


‫َوقَالَ َلهُمْ نَبِ ّيهُمْ إِنّ آَيَةَ مُ ْلكِهِ أَنْ يَأْتِ َيكُمُ التّابُوتُ فِيهِ َ‬
‫حمُِلهُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ إِنّ فِي َذِلكَ لَآَيَةً َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)248‬‬
‫هَارُونَ تَ ْ‬

‫ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه‪َ { :‬ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي‬
‫بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي‪ ،‬يقول سبحانه‪ { :‬أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ‬
‫مِن َبعْدِ مُوسَى‪} ...‬‬

‫(‪)250 /‬‬

‫ط َعمْهُ فَإِنّهُ‬
‫صلَ طَالُوتُ بِا ْلجُنُودِ قَالَ إِنّ اللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِ َنهَرٍ َفمَنْ شَ ِربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي َومَنْ َلمْ يَ ْ‬
‫فََلمّا َف َ‬
‫مِنّي إِلّا مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْر َفةً بِيَ ِدهِ َفشَرِبُوا مِنْهُ إِلّا قَلِيلًا مِ ْن ُهمْ فََلمّا جَاوَ َزهُ ُه َو وَالّذِينَ َآمَنُوا َمعَهُ قَالُوا لَا‬
‫طَاقَةَ لَنَا الْ َيوْمَ ِبجَالُوتَ َوجُنُو ِدهِ قَالَ الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُمْ مُلَاقُو اللّهِ َكمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً كَثِي َرةً‬
‫بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ َمعَ الصّابِرِينَ (‪)249‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه‪َ { :‬ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي‬
‫بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي‪ ،‬يقول سبحانه‪ { :‬أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ‬
‫مِن َبعْدِ مُوسَى‪} ...‬‬

‫(‪)251 /‬‬

‫وََلمّا بَرَزُوا ِلجَالُوتَ وَجُنُو ِدهِ قَالُوا رَبّنَا َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْلقَوْمِ‬
‫ا ْلكَافِرِينَ (‪)250‬‬

‫ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه‪َ { :‬ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي‬
‫بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي‪ ،‬يقول سبحانه‪ { :‬أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ‬
‫مِن َبعْدِ مُوسَى‪} ...‬‬

‫(‪)252 /‬‬

‫ح ْكمَةَ وَعَّلمَهُ ِممّا َيشَا ُء وََلوْلَا َد ْفعُ اللّهِ‬


‫ك وَالْ ِ‬
‫ت وَآَتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْل َ‬
‫َفهَ َزمُو ُهمْ بِإِذْنِ اللّ ِه َوقَ َتلَ دَاوُودُ جَالُو َ‬
‫علَى ا ْلعَاَلمِينَ (‪)251‬‬
‫ضلٍ َ‬
‫ض وََلكِنّ اللّهَ ذُو َف ْ‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َدتِ الْأَ ْر ُ‬
‫النّاسَ َب ْع َ‬

‫ثم ينتقل ال عز وجل إلى قضية أخرى يستهلها بقوله سبحانه‪َ { :‬ألَمْ تَرَ } تأكيدا للخبر الذي سيأتي‬
‫بعدها على أنه أمر واقع وقوع الشيء المرئي‪ ،‬يقول سبحانه‪ { :‬أََلمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ‬
‫مِن َبعْدِ مُوسَى‪} ...‬‬

‫(‪)253 /‬‬

‫سلِينَ (‪)252‬‬
‫ق وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْ َ‬
‫تِ ْلكَ آَيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَ ّ‬

‫ونعرف أن { تِ ْلكَ } إشارة يخاطب ال بها رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويشير إلى اليات التي‬
‫سبقت والتي تدل على عظمة الحق وقيومته‪ ،‬فقد قال الحق من قبل‪ {:‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ خَرَجُواْ مِن‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضلٍ عَلَى النّاسِ‬
‫دِيَارِ ِه ْم وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ا ْل َم ْوتِ َفقَالَ َلهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمّ َأحْيَاهُمْ إِنّ اللّهَ لَذُو َف ْ‬
‫شكُرُونَ }[البقرة‪]243 :‬‬
‫س لَ يَ ْ‬
‫وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫وساعة طلبوا أن يقاتلوا‪ ،‬وأن يبعث لهم ملكا‪ ،‬وبعثه لهم‪ ،‬وبعث لهم التابوت فيه سكينة‪ ،‬أليست‬
‫هذه آيات أخرى؟ ومن بعد ذلك أراد الحق أن يأتي مقتل جالوت العملق الضخم على يد داود‬
‫الصبي الصغير‪ .‬أليست هذه آية؟ وآية أخرى هي أن جماعة قليلة ـ بإقرارهم ـ حيث قالوا‪:‬‬
‫{ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّهِ } هذه الجماعة القليلة تدخل المعركة وتهزم الكثرة‪،‬‬
‫أليست هذه آية؟‬
‫وهل الرسول صلى ال عليه وسلم كان يعرف اليات التي سبقت رسالته؟ ل‪ ،‬ولكنها من إخبار‬
‫ال له مع إقرار الجميع‪ ،‬وخاصة الذين كفروا بمحمد صلى ال عليه وسلم؛ بأنه ل قرأ ول كتب‬
‫ول جلس إلى معلم‪ ،‬ول أحد قال له شيئا؛ حتى الرحلة التي ذهب فيها للتجارة كان يصحبه فيها‬
‫أناس غيره‪ ،‬ولو كانوا قد رأوه جالسا إلى أحد يعلمه شيئا‪ ،‬لذاعوا أن محمدا قد جلس مع فلن‪،‬‬
‫وتعلم منه كذا وكذا‪ .‬ولكن هذا لم يقله أحد؛ لنه لم يحدث أصل‪ ،‬ولذلك كان إخباره صلى ال‬
‫عليه وسلم بما يعلمونه هم عندهم هو بعضا من أسرار معجزته‪ ،‬إنه قد عرف الخبار السابقة‬
‫رغم أنه لم يقرأ ولم يكتب ولم يتلق علما من أحد‪ .‬وقد تماحك بعض المشركين وقال‪ :‬إن رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم كان يجلس إلى فتى عند المروة يعلمه هذه الخبار‪ ،‬فنزل القول الحق‬
‫ج ِميّ‬
‫عَ‬‫حدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ‬
‫يدحض هذا الفتراء‪ {:‬وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّن ُهمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ َبشَرٌ لّسَانُ الّذِي يُلْ ِ‬
‫وَهَـاذَا ِلسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل‪]103 :‬‬
‫لقد أثبت الحق أنها حجة باطلة‪ ،‬وزعم كاذب من ناحيتهم‪ .‬لن الذي ادّعوا أنه علم الرسول كان‬
‫أعجميا‪ .‬ويقول الحق سبحانه لمحمد صلى ال عليه وسلم‪ { :‬تِ ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَقّ }‪.‬‬
‫إن كلمة { آيَاتُ اللّهِ } تعني الشياء العجيبة‪ ،‬و { نَتْلُوهَا } أي نجعل كلمة بعد كلمة‪ ،‬وهي من "‬
‫ولي " أي جاء بعده بل فاصل‪ { .‬نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِا ْلحَقّ } والحق هو الشيء الذي وقع موقعه حيث‬
‫ل يتغير عنه‪ ،‬فل يتضارب أبدا‪.‬‬
‫فهب أن حادثة وقعت أمامك‪ ،‬ثم سُئلت عنها ألف مرة في طيلة حياتك ستجد أن جوابك لن يختلف‬
‫عليها أبدا؛ لنك تحكي واقعا رأيته‪ ،‬لكن لو كانت الحكاية كذبا؛ فستجد أن روايتك لها في المرة‬
‫الثانية تتغير؛ لنك ل تذكر ماذا قلت في المرة الولى؛ لنك ل تحكي عن واقع يأخذك وتلتزم به‪،‬‬
‫وكذلك الحق ل يتغير‪ ،‬ول يتضارب‪ ،‬ول يتعارض‪.‬‬

‫حقّ { ومادام الحق سبحانه هو الذي يقولها‪ ،‬فسيقولها لك حقيقة‪،‬‬


‫} تِ ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِالْ َ‬
‫وعندئذ يعرف الخرون أنك عرفت ما عندهم مما يخفونه في كتبهم يقوله بعضهم لبعض‪ ،‬هنا‬
‫يعرفون أنك من المرسلين‪ ،‬ولذلك نحن نجد في " ماكانات القرآن " التي يقول فيها تعالى‪ " :‬ما‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كُنت " ‪ " ،‬ما كُنت " ‪ ،‬و " ما كنت " ومثل قوله الحق‪َ {:‬ومَا كُنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ ِإذْ َقضَيْنَآ إِلَىا‬
‫لمْ َر َومَا كنتَ مِنَ الشّاهِدِينَ }[القصص‪]44 :‬‬
‫مُوسَى ا َ‬
‫أي ما كنت يا محمد حاضرا مع موسى في المكان الغربي من الجبل حين عهد ال إليه بأمر‬
‫الرسالة‪ ،‬ولم تكن معاصرا لموسى ول شاهدا تبليغه للرسالة فكيف يكذبك قومك وأنت تتلو عليهم‬
‫ك َومَا كُنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يُ ْلقُون‬
‫أنباء السابقين؟ ومثال ذلك قوله الحق‪ {:‬ذاِلكَ مِنْ أَنَبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَي َ‬
‫صمُونَ }[آل عمران‪]44 :‬‬
‫ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْيَ َم َومَا كُ ْنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يَخْ َت ِ‬
‫َأقْ َ‬
‫إن الذي رواه القرآن لك يا محمد من الخبار الجليلة عمن اصطفاهم ال هي من الغيب الذي‬
‫أوحى ال به إليك‪ .‬وما كنت حاضرا معهم وهم يقترعون بالسهام ليعلم بالقرعة من يقوم بشئون‬
‫مريم‪ ،‬وما كنت معهم وهم يختصمون في نيل هذا الشرف النبيل‪ .‬ومثال ذلك قوله الحق سبحانه‪{:‬‬
‫حمَةً مّن رّ ّبكَ لِتُنذِرَ َقوْما مّآ أَتَاهُم مّن نّذِيرٍ مّن قَبِْلكَ‬
‫َومَا كُ ْنتَ ِبجَا ِنبِ الطّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَـاكِن رّ ْ‬
‫َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ }[القصص‪]46 :‬‬
‫أي ما كنت أيها الرسول حاضرا في جانب الطور حين نادينا موسى لما أتى الميقات وكلمه ربه‬
‫وناجاه‪ ،‬ولكن ال أعلمك بهذا عن طريق الوحي رحمة بك وبأمتك‪ ،‬ولتبلغه لقوم لم يأتهم رسول‬
‫من قبلك لعلهم يتذكرون ويؤمنون‪ .‬ومثال ذلك قوله الحق‪َ {:‬وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا مَا‬
‫جعَلْنَاهُ نُورا ّنهْدِي بِهِ مَن نّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي‬
‫ن وَلَـاكِن َ‬
‫ل الِيمَا ُ‬
‫كُنتَ َتدْرِي مَا ا ْلكِتَابُ وَ َ‬
‫إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[الشورى‪]52 :‬‬
‫إن القرآن هو وحي منزل من عند ال‪ ،‬يُعرّف المؤمنين النور إلى الهداية وتكاليف الحق‪ ،‬ويهدي‬
‫من اختار الهدى‪ ،‬وإنك يا محمد لتدعو بهذا القرآن إلى صراط مستقيم‪ .‬إن كل } مَا كُنتَ { في‬
‫القرآن الكريم هي دليل على أن ما أخبرك به جبريل رسولً من عند ال إليك‪ ،‬وحامل للوحي من‬
‫ال هو الحق؛ فتعلمه أنت يا محمد بطريقة خاصة وعلى نهج مخصوص‪ ،‬رغم أنك لم تقرأ كتابا‬
‫ولم تجلس إلى معلم‪ .‬وما تخبرهم به من آيات هي موافقة لما معهم‪ ،‬وكان من الواجب أن يقولوا‬
‫إن الذي علمك هذا هو ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وكان يجب أن يقروا ويشهدوا بأنك من المرسلين‪.‬‬
‫ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ‪{ ...‬‬
‫سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ‬
‫وبعد ذلك يقول الحق سبحانه‪ِ } :‬ت ْلكَ الرّ ُ‬

‫(‪)254 /‬‬

‫ت وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ‬


‫ضهُمْ دَرَجَا ٍ‬
‫ضهُمْ عَلَى َب ْعضٍ مِ ْنهُمْ مَنْ كَلّمَ اللّ ُه وَ َرفَعَ َب ْع َ‬
‫سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ‬
‫تِ ْلكَ الرّ ُ‬
‫ت وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ وََلوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَ َتلَ الّذِينَ مِنْ َب ْعدِهِمْ مِنْ َب ْعدِ مَا جَاءَ ْتهُمُ‬
‫مَرْيَمَ الْبَيّنَا ِ‬
‫ن َومِ ْنهُمْ مَنْ َكفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وََلكِنّ اللّهَ َي ْف َعلُ مَا يُرِيدُ‬
‫ت وََلكِنِ اخْتََلفُوا َفمِ ْنهُمْ مَنْ َآمَ َ‬
‫الْبَيّنَا ُ‬
‫(‪)253‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سلُ } هي جمع لمفرد هو‬
‫سلُ } و { الرّ ُ‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى الرسل بقوله‪ { :‬تِ ْلكَ الرّ ُ‬
‫" رسول "‪ .‬والرسول هو المكلف بالرسالة‪ .‬والرسالة هي الجملة من الكلم التي تحمل معنى إلى‬
‫سلُ }؟ ذلك ليدلك‬
‫هدف‪ .‬ومادام الرسل جماعة فلماذا لم يقل الحق " هؤلء الرسل " وقال { تِ ْلكَ الرّ ُ‬
‫القرآن الكريم على أن الرسل مهما اختلفوا فهم مرسلون من قبل إله واحد وبمنهج واحد‪ .‬وكما‬
‫عرفنا من قبل أن الشارة بـ " تلك " هي إشارة لمر بعيد‪ .‬فعندما نشير إلى شيء قريب فإننا‬
‫نقول‪ " :‬ذا " ‪ ،‬وعندما نستخدم صيغة الشارة مع الخطاب نقول‪ " :‬ذاك "‪ .‬وعندما نشير إلى‬
‫مؤنث فنقول‪ " :‬ت " وعندما نشير إلى خطاب مؤنث‪ " :‬تيك "‪ .‬و " اللم " كما عرفنا هنا للبعد أو‬
‫للمنزلة العالية‪.‬‬
‫سلُ } هو إشارة إلى الرسل الذين يعلمهم سيدنا محمد عليه الصلة‬
‫إذن فقوله الحق‪ { :‬تِ ْلكَ الرّ ُ‬
‫والسلم‪ ،‬أو الرسل الذين تقدموا في السياق القرآني‪ .‬والسياق القرآني الذي تقدم تحدث عن موسى‬
‫عليه السلم‪ ،‬وعن عيسى عليه السلم‪ ،‬وتكلم السياق عن أولي العزم من الرسل‪.‬‬
‫إن أردت الترتيب القرآني هنا‪ ،‬فهو يشير إلى الذي تقدم في هذه السورة‪ ،‬وإن أردت ترتيب‬
‫النزول تكون الشارة إلى من عَِلمَهُ الرسول من الرسل السابقين‪ ،‬والمناسبة هنا أن الحق قد ختم‬
‫الية السابقة بقوله هناك‪ { :‬وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } ‪ ،‬ولما كانت { وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } تفيد‬
‫بعضيته صلى ال عليه وسلم لكلية عامة‪ ،‬كأنه يقول‪ :‬إياكم أن تظنوا أنهم ماداموا قد اتفقوا في‬
‫أنهم مرسلون أو أنهم رسل ال‪ ،‬أنهم أيضا متساوون في المنزلة‪ ،‬ل‪ ،‬بل كل واحد منهم له منزلته‬
‫العامة في الفضلية والخاصة في التفضيل‪ .‬إنهم جميعا ‪ W‬رسل من عند ال‪ ،‬ولكن الحق يعطي‬
‫كل واحد منهم منزل خاصة في التفضيل‪.‬‬
‫فلماذا كان قول ال‪ { :‬وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ } يؤكد لنا أن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم من‬
‫بين الرسل فل تأخذ هذا المر على أساس أن كل الرسل متساوون في المكانة‪ ،‬وتقول إنهم‬
‫متماثلون في الفضل‪ .‬ل‪ .‬إن ال قد فضل بعضهم على بعض‪.‬‬
‫وما هو التفضيل؟‬
‫إن التفضيل هو أن تأتي للغير وتعطيه ميزة‪ ،‬وعندما تعطي له مزية عمن سواه قد يقول لك إنسان‬
‫ما " هذه محاباة " ‪ ،‬لذلك نقول لمن يقول ذلك‪ :‬الزم الدقة‪ ،‬ولتعرف أن التفضيل هو إيثار الغير‬
‫بمزية بدافع الحكمة‪ ،‬أما المحاباة فهي إيثار الغير بمزية بدافع الهوى والشهوة‪ ،‬فمثلً إذا أردنا أن‬
‫نختار أحدا من الناس لمنصب كبير‪ ،‬فنحن نختار عددا من الشخصيات التي يمكن أن تنطبق‬
‫عليهم المواصفات ونقول‪ " :‬هذا يصلح‪ ،‬وهذا يصلح‪ ،‬وهذا يصلح " و " هذا فيه ميزات عن ذاك "‬
‫وهكذا‪ ،‬فإن نظرنا إليهم وقيمناهم بدافع الحكمة والكفاءة فهذا هو التفضيل‪ ،‬ولكن إن اخترنا واحدا‬
‫لنه قريب أو صهر أو غير ذلك فهذا هو الهوى والمحاباة‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن التفضيل هو أن تؤثر وتعطي مزية ولكن لحكمة‪ ،‬وأما المحاباة فهي أن تؤثر وتعطي مزية‪،‬‬
‫ولكن لهوى في نفسك‪ .‬فمثل هب أنك اشتريت قاربا بخاريا وركبته أنت وابنك الصغير‪ ،‬ومعك‬
‫سائق القارب البخاري‪ ،‬وأراد ابنك الصغير أن يسوق القارب البخاري‪ ،‬وجلس مكان السائق وأخذ‬
‫يسوق‪ .‬ولكن جاءت أمواج عالية واضطرب البحر فنهضت أنت مسرعا وأخذت الولد وأمرت‬
‫السائق أن يتولى القيادة‪ ،‬وهنا قد يصرخ الولد‪ ،‬فهل هذه محاباة منك للسائق؟ ل‪ ،‬فلو كانت محاباة‬
‫لكانت لبنك‪ ،‬لكنك أنت قد آثرت السائق لحكمة تعرفها وهي أنه أعلم بالقيادة من الولد الصغير‪.‬‬
‫إذن إذا نظرت إلى حيثية اليثار وحيثية التمييز لحكمة فهذا هو التفضيل‪ ،‬ولكن في المحاباة يكون‬
‫الهوى هو الحاكم‪.‬‬
‫وكل أعمال الحق سبحانه وتعالى تصدر عن حكمة؛ لنه سبحانه ليس له هوى ول شهوة‪ ،‬فكلنا‬
‫جميعا بالنسبة إليه سواء‪ .‬إذن هو سبحانه حين يعطي مزية أو يعطي خيرا أو يعطي فضلية‪،‬‬
‫يكون القصد فيها إلى حكمة ما‪.‬‬
‫ضهُمْ‬
‫سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ‬
‫وحينما قال الحق‪ } :‬وَإِ ّنكَ َلمِنَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ { جاء بعدها بالقول الكريم‪ } :‬تِ ْلكَ الرّ ُ‬
‫عَلَىا َب ْعضٍ { وأعطانا نماذج التفضيل فقال‪ } :‬منهم من كلم ال {‪ .‬وساعة تسمع } منهم من كلم‬
‫ال { يأتي في الذهن مباشرة موسى عليه السلم‪ ،‬وإل فال جل وعل قد كلم الملئكة‪.‬‬
‫ضهُمْ دَرَجَاتٍ {‪ .‬ثم قال‪ } :‬وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ { إنه‬
‫وبعد ذلك يقول الحق‪ } :‬وَ َرفَعَ َب ْع َ‬
‫سبحانه قد حدد أول موسى عليه السلم بالوصف الغالب فقال‪ } :‬كَلّمَ اللّهُ { وكذلك حدد سيدنا‬
‫عيسى عليه السلم بأنه قد وهبه اليات البينات‪ .‬وبين موسى عليه السلم وعيسى عليه السلم قال‬
‫ضهُمْ دَ َرجَاتٍ { والخطاب في اليات لمحمد عليه الصلة والسلم‪ .‬إذن ففيه كلم‬
‫الحق } وَ َرفَعَ َب ْع َ‬
‫عن الغير لمخاطب هو محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وساعة يأتي التشخيص بالسم أو بالوصف الغالب‪ ،‬فقد حدد المراد بالقضية‪ ،‬ولكن ساعة أن يأتي‬
‫بالوصف ويترك لفطنة السامع أن يرد الوصف إلى صاحبه فكأنه من المفهوم أنه ل ينطبق قوله‪:‬‬
‫" ورفعنا بعضهم درجات " بحق إل على محمد صلى ال عليه وسلم وحده‪ .‬وجاء بها سبحانه في‬
‫الوسط بين موسى عليه السلم وعيسى عليه السلم‪ ،‬مع أن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يأت‬
‫في الوسط‪ ،‬وإنما جاء آخر النبياء‪ ،‬ولكنك تجد أن منهجه صلى ال عليه وسلم هو الوسط‪.‬‬
‫فاليهودية قد أسرفت في المادية بل روحانية‪ ،‬والنصرانية قد أسرفت في الروحانية بل مادية‪،‬‬
‫والعالم يحتاج إلى وسطية بين المادية والروحية‪ ،‬فجاء محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكأن محمدا‬
‫صلى ال عليه وسلم قطب الميزان في قضية الوجود‪.‬‬

‫وإذا أردنا أن نعرف مناطات التفضيل‪ ،‬فإننا نجد رسول يرسله ال إلى قريته مثل سيدنا لوط‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مثل‪ ،‬وهناك رسول محدود الرسالة أو عمر رسالته محدود‪ ،‬وَلكِنْ هناك رسول واحد قيل له‪ :‬أنت‬
‫مرسل للنس والجن‪ ،‬ولكل من يوجد من النس والجن إلى أن تقوم الساعة إنّه هو محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم‪.‬‬
‫فإذا كان التفضيل هو مجال العمل فهو لسيدنا محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وإذا نظرنا إلى‬
‫المعجزات التي أنزلها ال لرسله ليثبتوا للناس صدق بلغهم عن ربهم‪ ،‬نجد أن كل المعجزات قد‬
‫جاءت معجزاته كونية‪ ،‬أي معجزات مادية حسية الذي يراها يؤمن بها‪ ،‬فالذي رأى عصا موسى‬
‫وهي تضرب البحر فانفلق‪ ،‬هذه معجزة مادية آمن بها قوم موسى‪ ،‬والذي رأى عيسى عليه السلم‬
‫يبرئ الكمه والبرص فقد شهد المعجزة المادية وآمن بها‪ ،‬ولكن هل لهذه المعجزات الن وجود‬
‫غير الخبر عنها؟ ل ليس لها وجود‪.‬‬
‫لكن محمد صلى ال عليه وسلم حينما يشاء ال أن يأتيه بالمعجزة ل يأتي له بمعجزة من جنس‬
‫المحسات التي تحدث مرة وتنتهي‪ ،‬إنه سبحانه قد بعث محمدا صلى ال عليه وسلم إلى أن تقوم‬
‫الساعة‪ ،‬فرسالته غير محدودة‪ ،‬ولبد أن تكون معجزته صلى ال عليه وسلم غير محسة وإنما‬
‫تكون معقولة؛ لن العقل هو القدر المشترك عند الجميع‪ ،‬لذلك كانت معجزته القرآن‪ .‬ويستطيع‬
‫كل واحد الن أن يقول‪ :‬محمد رسول ال وتلك معجزته‪.‬‬
‫إن معجزة رسولنا صلى ال عليه وسلم هي واقع محسوس‪ .‬وفي مناط التطبيق للمنهج نجد أن‬
‫الرسل ما جاءوا ليشرعوا‪ ،‬إنما كانوا ينقلون الحكام عن ال‪ ،‬وليس لهم أن يشرعوا‪ ،‬أما الرسول‬
‫خذُوهُ َومَا‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم فهو الرسول الوحيد الذي قال ال له‪َ {:‬ومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ‬
‫َنهَاكُمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ }[الحشر‪]7 :‬‬
‫فهو صلى ال عليه وسلم قد اختصه ال بالتشريع أيضا‪ ،‬أليست هذه مزية؟ إن المراد من المنهج‬
‫السماوي هو وضع القوانين التي تحكم حركة الحياة في الخلفة في الرض‪ ،‬وتلك القوانين‬
‫ن من القوانين‬
‫نوعان‪ :‬نوع جاء من ال‪ ،‬وفي هذا نجد أن كل الرسل فيه سواء‪ ،‬ولكنْ هناك نوع ثا ٍ‬
‫فوض ال فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يضع من التشريع ليلئم ما يرى‪ ،‬وهذا تفضيل‬
‫للرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ضهُمْ دَرَجَاتٍ { فهذا ل ينطبق إل على سيدنا محمد صلى ال‬
‫إذن حين يقول ال تعالى‪ } :‬وَ َرفَعَ َب ْع َ‬
‫عليه وسلم‪ .‬وهذا أكثر من التصريح بالسم‪ .‬وأضرب هنا المثل ـ ول المثل العلى ـ أنت‬
‫أعطيت لولدك قلما عاديا‪ ،‬ولولدك الثاني قلما مرتفع القيمة‪ ،‬ولولدك الثالث ساعة‪ ،‬أما الولد الرابع‬
‫فاشتريت له هدية غالية جدا‪ ،‬ثم تأتي للولد وتقول لهم‪ :‬أنا اشتريت لفلن قلما جافا‪ ،‬ولفلن قلم‬
‫حبر‪ ،‬واشتريت لفلن ساعة‪ ،‬وبعضهم اشتريت له هدية ثمينة‪.‬‬

‫فـ " بعضهم " هذا قد عُرف بأنه البن الرابع الذي لم تذكر اسمه‪ ،‬فيكون قد تعين وتحدد‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ مّ ْن ُهمْ مّن كَلّمَ اللّهُ { وحين تقول كلم ال إياك أن تغفل عن‬
‫سلُ َفضّلْنَا َب ْع َ‬
‫} تِ ْلكَ الرّ ُ‬
‫قضية كلية تحكم كل وصف ل يوجد في البشر‪ ،‬فأنا أتكلم وال يتكلم‪ ،‬لكن أكلمه سبحانه مثل‬
‫كلمي؟ إن كنت تعتقد أن وجودي مثل وجوده فاجعل كلمي ككلمه‪ ،‬وإن كان وجودي ليس‬
‫كوجوده فكيف يكون كلمي ككلمه؟‬
‫ربما يقول أحد‪ :‬إن الكلم صوت وأحبال صوتية وغير ذلك‪ ،‬نقول له‪ :‬ل‪ ،‬أنت ل تأخذ ما يخص‬
‫شيْءٌ { ونحن نأخذ كل وصف يرد عن ال بواسطة ال‪ ،‬ول‬
‫ال سبحانه إل في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫نضع وصفا من عندنا‪ ،‬وبعد ذلك ل نقارنه بوصف للبشر‪ .‬فلله حياة ولك حياة‪ .‬لكن أحياة أي منا‬
‫كحياته سبحانه؟ ل‪ ،‬إن حياته ذاتية‪ ،‬وحياة كل منا موهوبة مسلوبة‪ ،‬فليست مثل حياته‪.‬‬
‫ت وَالَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَىا عَلَى‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وعندما يقول الحق‪ {:‬اللّهُ الّذِي خََلقَ ال ّ‬
‫شفِيعٍ َأفَلَ تَ َت َذكّرُونَ }[السجدة‪]4 :‬‬
‫ي وَلَ َ‬
‫ا ْلعَرْشِ مَا َلكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَِل ّ‬
‫فهل جلوس الحق كجلوس الخلق؟ أو هل يكون كرسي الخالق ككرسي المخلوق؟ طبعا ل‪ .‬ونحن‬
‫المؤمنين نأخذ كل صفة عن ال في نطاق التنزيه‪ :‬سبحان ال وليس كمثله شيء‪ ،‬فليس استواء ال‬
‫مثل استواء البشر‪ ،‬وليس جلوس الحق مثل جلوس النسان‪.‬‬
‫ونضرب هذا المثل ـ ول المثل العلى من قبل ومن بعد ـ هب أن صاحبا لك دعاك لتأكل‬
‫عنده‪ ،‬ثم دعاك أحد كبراء القوم لتأكل عنده‪ ،‬لبد أنك تجد الطعام متفاوتا في جودته وأصنافه بين‬
‫كل مائة من موائد من دعوك‪ ،‬فإذا كان البشر أنفسهم تتفاوت بينهم المور الوصفية تبعا لمقاماتهم‬
‫وقدراتهم وإمكاناتهم‪ ،‬فإذا ما ترقيت بالصفة إلى خالق كل الشياء أيقنت أنه سبحانه مُنزه عن كل‬
‫من سواه‪ ،‬وليس كمثله شيء‪.‬‬
‫إذن } كَلّمَ اللّهُ { تعني أنه أعلم رسوله بأي وسيلة من وسائل العلم‪ } .‬مّ ْنهُمْ مّن كَلّمَ اللّ ُه وَ َرفَعَ‬
‫ضهُمْ دَ َرجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ وَأَيّدْنَاهُ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ { والحق سبحانه وتعالى يؤكد‬
‫َب ْع َ‬
‫دائما في الكلم عن سيدنا عيسى ـ أنّ عيسى ابن مريم مؤيد بروح القدس ـ؛ لن المسائل التي‬
‫تعرض لها سيدنا عيسى تتطلب أن تكون روح القدس دائما معه‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه عنه‪{:‬‬
‫ت وَ َيوْمَ أُ ْب َعثُ حَيّا }[مريم‪]33 :‬‬
‫وَالسّلَمُ عََليّ َيوْ َم وُِل ْدتّ وَ َيوْمَ َأمُو ُ‬
‫ففي الميلد سيدنا عيسى تعرض لمشكلة؛ لنه ولد على غير طريقة ميلد الناس‪ ،‬واتهمت فيها‬
‫أمه‪ ،‬وجاء القرآن فنزهها‪ ،‬وبرأها‪ ،‬ووضع المر في نصابه الحق‪ ،‬وأيضا في موته عندما أرادوا‬
‫أن يقتلوه‪.‬‬

‫وحين ننظر إلى الرسل نجد أن مقتضى أن يرسل ال رسلً إلى العالم هو أنه سبحانه قد خلق‬
‫الخلق غير مكرهين على فعل‪ ،‬ول مسخرين كما تسخر بقية الجناس في الكون‪ ،‬ودونه مباشرة‬
‫الحيوان الذي ينقص عنه العقل‪ ،‬وبعد الحيوان يأتي جنس النبات الذي ينقص عنه الحس والحركة‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبعد ذلك الجماد الذي ينقص عن النبات‪ ،‬تلك هي أجناس الوجود‪ .‬والنسان هو سيد هذه‬
‫الجناس‪ .‬والسيادة جاءت له من ناحية أن الجناس كلها مسخرة لخدمته ل بالختيار‪ ،‬ولكن بالقهر‬
‫والقسر‪.‬‬
‫فالشمس لم تجيء مرة لتقول‪ :‬لم يعد الخلق يعجبونني لذلك لن أشرق لهم اليوم ول الهواء امتنع‬
‫عن أن يهب‪ ،‬ول المطر امتنع عن أن ينزل‪ ،‬ول الرض امتنعت عن أن تعطي النبات عناصر‬
‫غذائه‪ ،‬إن النسان يركب الدابة ويسيرها كما يحب وكما يريد‪ ،‬ل شيء يتأبى أبدا على النسان‪.‬‬
‫وأنت أيها النسان الجنس الوحيد الذي وهبك ال الختيار لتمارس مهمتك في الوجود‪ ،‬فإن شئت‬
‫فعلت كذا‪ ،‬وإن شئت لم تفعل كذا‪.‬‬
‫ولكن ال لم يدعك هكذا على إطلقك‪ ،‬بل إنّ فيه أمورا تصير برغم أنفك وأنت مسخر فيها‪ ،‬ل‬
‫تستطيع ـ مثل ـ أن تتحكم في يوم ميلدك‪ ،‬ول في يوم وفاتك‪ ،‬ول فيما ينزل عليك من‬
‫الحداث الخارجة عنك‪ ،‬ول فيما يدور من الحركة في بدنك‪ ،‬كل ذلك أنت مسخر فيه فل تنفلت‬
‫من قبضة ربك‪ .‬ولكنك مختار في أشياء‪.‬‬
‫ونعرف أنه سبحانه وتعالى قهر أجناسا على أن تكون كما يريد‪ ،‬وكما يحب‪ ،‬وتلك صفة القدرة؛‬
‫لن صفة القهر تفيد السيطرة‪ .‬فإذا ما ترك جنسا يختار أن يؤمن‪ ،‬ويختار أل يؤمن‪ ،‬وإن آمن‬
‫يختار أن يطيع ويختار أن يعصي‪ ،‬فهذه تثبت المحبوبية ل سبحانه وتعالى لمن اختار وآثر طاعة‬
‫ال على المعصية‪.‬‬
‫ونحن نعرف أن القهر يخضع القوالب لكنه ل يخضع القلب‪ .‬فأنت تستطيع أن تهدد إنسانا بمسدس‬
‫وتقول له‪ " :‬اسجد لي " فيسجد لك‪ ،‬لكنك ل تستطيع أن تقول له ـ وهو تحت التهديد ـ " أحبني‬
‫"‪ .‬فالحق سبحانه وتعالى يترك لنا اليمان بالختيار‪ ،‬ويترك لنا الطاعة والمعصية اختيارا‪ ،‬ليعلم‬
‫من يأتيه حبا ومن يأتيه قهرا‪.‬‬
‫والعالم كله يأتي ل قهرا‪ .‬وأنت أيها النسان في ذاتك أشياء أنت مقهور فيها‪ .‬ومن هنا ثبتت ل‬
‫تعالى القدرة‪ .‬وبقى أن تثبت له الحب‪ .‬والعبد الصالح هو الذي يطيعه عن حب‪ .‬ونحن قد سبق لنا‬
‫ل ـ ول المثل العلى ـ وقلنا إن إنسانا عنده خادمان واحد اسمه سعد والخر‬
‫أن ضربنا مث ً‬
‫اسمه سعيد‪ ،‬سعد قيده صاحبه بحبل ويجره قائل‪ " :‬يا سعد " فهل لسعد أل يجيء؟ ل‪.‬‬

‫لكن صاحب العبدين ترك لسعيد الحرية‪ ،‬وعندما يناديه فهو يأتيه‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬أيهما يحبه‪ ،‬الذي جاء بالحبل أم الذي جاء بالمحبة؟ إذن‪ ،‬فمن كرامة النسان أن يثبت ل‬
‫صفة المحبة إن آمن بال؛ لنه سبحانه وتعالى لو شاء أن يهدي الناس جميعا ما استطاع أي واحد‬
‫منهم أن يكفر به‪ ،‬ولو شاء أن يكون مطاعا دائما ما استطاع واحد أن يعصيه أبدا‪ .‬ولذلك قلنا‪ :‬إن‬
‫ج َمعِينَ }[ص‪]82 :‬‬
‫إبليس كان عالما حينما قال أمام ال تعالى‪ {:‬قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أقسم الشيطان ل بعزته سبحانه عن خلقه‪ ،‬وكأنه قال‪ :‬أنت يا رب لو كنت تحتاج عباد فأنا ل‬
‫أستطيع أن آخذهم‪ ،‬لكن لنك عزيز عليهم‪ ،‬إن أرادوا أن يؤمنوا آمنوا‪ ،‬وإن أرادوا أل يؤمنوا لم‬
‫يؤمنوا؛ فهذا هو المدخل الذي سأدخل منه‪ .‬ولذلك استثنى الشيطان بعضا من العباد لنه لن‬
‫يستطيع أن يجد لوسوسته لديهم مدخل‪ِ {:‬إلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص‪]83 :‬‬
‫أي إن الذي يريد ال أن يستخلصه لنفسه فلن يستطيع الشيطان أن يقترب منه‪ .‬إذن فإبليس ليس‬
‫داخلً في معركة مع ال تعالى‪ ،‬ولكنه في معركة معنا نحن‪ .‬ولقد أوضح الحق ذلك حين جاء‬
‫ج َمعِينَ * ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْل ُمخَْلصِينَ }[ص‪:‬‬
‫غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ‬
‫على لسان إبليس في القرآن‪ {:‬قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ‬
‫‪]83-82‬‬
‫إذن لو أراد ال أن نكون طائعين جميعا‪ ،‬أيستطيع واحد أن يعصي؟ ل يستطيع‪ .‬ولو أرادنا‬
‫مؤمنين جميعا‪ ،‬أيستطيع واحد أن يكفر؟ ل يستطيع‪ .‬إنما شاء ال تعالى لبعض المور والفعال‬
‫أن يتركها لختيارك؛ لنه يريد أن يعرف من الذي يأتيه طوعا وليظل العبد بين الخوف والرجاء؛‬
‫ولذلك يقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬لو يعلم المؤمن ما عند ال من العقوبة ما طمع بجنته‬
‫أحد‪ ،‬ولو يعلم الكافر ما عند ال من الرحمة ما قنط من جنته أحد "‪.‬‬
‫ولهذا فإن مطلوب الرتفاع اليماني‪ ،‬والرتفاع اليقيني أن تحب ال لذات ال‪ .‬وهو سبحانه يجري‬
‫عليك من الحداث ما يشاء‪ ،‬وتظل تحبه فيباهي ال بك الملئكة فتقول الملئكة‪ :‬يا رب يحبك‬
‫لنعمتك عليه فيقول لهم‪ :‬وأسلب نعمتي ول يزال يحبني‪ ،‬ويسلب الحق النعمة لكن العبد ل يزال‬
‫يحب ال‪ ،‬فهو يحب ال ول يحب نعمته لنه سبحانه ذات تحب لذاتها بصرف النظر عن أنه‬
‫يعطينا النعم‪.‬‬
‫إذن الحق سبحانه وتعالى قد أرسل الرسل يحملون منهج ال لمَنْ يريد أن يعلن حبه ل‪ ،‬وأن يكون‬
‫خليفة في الرض بحق‪ ،‬وأن يُصلح في الكون ول يفسده‪ .‬ونعرف أن الصلح له مرتبتان‪ :‬أن‬
‫تترك الصالح بطبيعته فل تفسده‪ ،‬أو أن تزيد الصالح صلحا‪ .‬فل تأتي على عين الماء التي تتدفق‬
‫للناس وتردمها‪ ،‬ولكنك تتركها على صلحها إن لم تستطع أن تزيدها إصلحا‪.‬‬

‫وقد تستطيع أن تزيد عين الماء صلحا؛ فبدلً من أن يذهب الناس متعبين إلى العين ويحملون‬
‫منها الماء‪ ،‬قد تصنع لهم مضخة عالية لها خزان ترفع إليه الماء وتمد " المواسير " وتوصل المياه‬
‫إلى منازلهم‪ .‬فأنت بذلك تزيد المر الصالح صلحا‪ ،‬وهذه خلفة وعمارة في الوجود‪ .‬فإن لم‬
‫تستطع أن تزيد الصالح صلحا فجنبنا شر إفسادك‪ ،‬ودع الحال كما هي عليه‪ ،‬واقعد كما أنت عالة‬
‫في الكون‪.‬‬
‫ولو أن النسان كان منصفا في الكون لسأل نفسه‪ :‬مَنْ الذي اهتدى إلى صناعة الرغيف الذي‬
‫نأكله الن؟ وسيعرف أنه قد أخذ تجارب الناس من أول آدم حتى وصل إلى صناعة هذا الرغيف‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهناك إنسان زرع القمح‪ ،‬وهناك إنسان آخر هداه ال أن يطحن هذا القمح‪ ،‬وهو سبحانه هدى‬
‫ل ليفصل الدقيق عن النخالة‪ ،‬ثم هداه أن يعجن الدقيق حتى يجد له طعما‬
‫النسان أن يصنع منخ ً‬
‫أفضل‪ .‬ولشك أنه ترك مرة قطعة من العجين ثم شُغل عنها بأي شاغل أو بأي سبب ثم رجع لها‬
‫مرة أخرى فوجدها متخمرة‪ ،‬فلما خبزها خرج له العيش أفضل طعما‪ ،‬إنه سبحانه قدر فهدى‪ ،‬وإل‬
‫كيف تأتي هذه التجربة الطويلة؟‬
‫ومثال آخر‪ :‬إن النسان حين ينظف ثوبه‪ ،‬لو أنه استعرض أعمال من سبقوه في هذا الموضوع‬
‫منذ آدم‪ ،‬لعلم أن كل واحد سبقه في الوجود أعطاه مرحلة من النفعية إلى أن وصل للغسالة‬
‫الكهربائية التي تغسل له بدون تعب‪ ،‬كل هذه الشياء جاءت له بهدايات من ال‪ .‬وقد قلت مرة‪:‬‬
‫لماذا طبخت الناس " الكوسة " ولم تطبخ " الخيار "؟ إن هذه دليل على أن هناك تجارب كثيرة‬
‫مرت على النسان حتى يميز طعم الكوسة المطبوخة عن الخيار‪ ،‬وكذلك طبخ الناس الملوخية ولم‬
‫يطبخوا النعناع‪ ،‬مع أن النعناع أحسن منها‪ ،‬حدث ذلك؛ لن هناك تجارب وصلتنا بأن النعناع ل‬
‫يُستساغ طعمه مطبوخا‪.‬‬
‫وأنت لو نظرت إلى أي شيء تستفيد به اليوم‪ ،‬وقدرت العمال التي تداولته من يوم أن وُجد‪،‬‬
‫ستجد أن الحق قد قدر لكل إنسان عملً ومجالً‪ ،‬وظل يخدمك أنت‪ .‬ومادمت قد خُدمتَ بهؤلء‬
‫الناس كلهم من أول آدم وحتى اليوم‪ ،‬فل بد أن تنظر لترى ماذا ستقدم لمن يأتي من بعدك‪ ،‬فل‬
‫تكن كسولً في الحياة؛ تأخذ خير غيرك كله في الوجود‪ ،‬وبعد ذلك ل تعطي أي شيء‪ ،‬بل لبد أن‬
‫يكون لك عطاء‪ ،‬فكما أخذت من بيئتك لبد أن تعطي هذه البيئة‪ ،‬ولو لم يوجد هذا لما ارتقت‬
‫الحياة؛ لن معنى ارتقاء الحياة أن إنسانا أخذ خبرة من سبقوه‪ ،‬وحاول أن يزيد عليها‪ ،‬أي أن يأخذ‬
‫أكبر ثمرة بأقل مجهود‪.‬‬

‫فلو قدر الناس جهد النسان الذي ابتكر " العجلة " مثل التي تسير عليها السيارة لكان عليهم أن‬
‫يستغفروا ال له بمقدار ما أراحهم‪ ،‬فبعد أن كان النسان يحمل على أكتافه قصارى ما يحمل‪َ ،‬وفّر‬
‫عليه مَن اختراع هذا أن يحمل ويتعب‪ ،‬وجعله يحمل أكبر كمية وينقلها بأقل مجهود‪.‬‬
‫إذن لبد أن تنظر إلى النعم التي تستفيد بها الن وترى كم مرحلة مرت بها‪ ،‬وهل صنعها الناس‬
‫هكذا أم تعبوا وكدوا واجتهدوا منذ بدء الوجود على الرض‪ ،‬وعرف النسان جيل بعد جيل كيفية‬
‫تطوير تلك الشياء‪ ،‬وقد يحدث خطأ في مرحلة معينة فيبدأ الصلح أو التحسين وهكذا‪ .‬فأنت‬
‫عندما تجد أن العالم قدم لك كل هذه المنتجات‪ ،‬لبد أن تسأل نفسك‪ :‬ما الذي ستقدمه أنت لهذا‬
‫العالم‪ ،‬وبذلك تظل الحلقة النسانية مرتقية ومتصلة‪.‬‬
‫والحق سبحانه يرسل الرسل ويضع المنهج‪ " :‬افعل كذا " و " ل تفعل كذا " ‪ ،‬حتى تستقيم حياة‬
‫الناس على الرض‪ ،‬لكن الناس غلبت عليهم الغفلة عن أمر المنهج؛ ولذلك تظهر في الوجود‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فسادات بقدر الغفلة‪ ،‬وعندما يزداد الفساد يبعث الحق سبحانه رسول جديدا يذكرهم بالمنهج مرة‬
‫أخرى‪ ،‬وعندما يأتي الرسول يؤمن به بعض من الناس ويحاربون معه‪ ،‬وينتصر الرسول وتستقر‬
‫مبادئ ال في الرض‪ ،‬ثم تمر فترة وتأتي الغفلة فيحدث الخلف‪ ،‬فهناك أناس يتمسكون بمنهج‬
‫ال‪ ،‬وأناس يفرطون في هذا المنهج‪ ،‬ويحدث الخلف وتقوم المعارك‪.‬‬
‫ولو كان الحق سبحانه وتعالى يريد الكون بل معارك بين حق وباطل لجعل الحق مسيطرا سيطرة‬
‫تسخير‪ .‬لكن ال تعالى أعطانا تمكينا‪ ،‬وأعطانا اختبارا؛ لذلك نجد من ينشأ مؤمنا‪ ،‬ومن ينشأ‬
‫كافرا‪ ،‬نجد الطائع‪ ،‬ونجد العاصي‪ ،‬هذا فريق‪ ،‬وهذا فريق‪ .‬وإياك أن تفهم أن وجود الكافرين في‬
‫الرض‪ ،‬أو وجود العصاة في الكون دليل على أنهم غير داخلين في حوزة ال‪ ،‬ل‪ .‬بل إن ال‬
‫تعالى هو الذي أعطاهم هذا الختيار‪ ،‬ولو شاء ال أن يجعل الناس أمة واحدة لما استطاع إنسان‬
‫أن يخرج على مراد ال‪.‬‬
‫وفي الية التي نحن بصددها جاء الحق بأولي العزم من الرسل‪ :‬سيدنا موسى عليه السلم‪،‬‬
‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسيدنا عيسى عليه السلم وبعد ذلك يقول سبحانه‪:‬‬
‫ت وَلَـاكِنِ اخْتََلفُواْ َفمِ ْنهُمْ مّنْ آمَنَ‬
‫} وََلوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَ َتلَ الّذِينَ مِن َبعْ ِدهِم مّن َبعْدِ مَا جَآءَ ْت ُهمُ الْبَيّنَا ُ‬
‫َومِ ْنهُمْ مّن كَفَ َر وََلوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُو ْا وَلَـاكِنّ اللّهَ َيفْ َعلُ مَا يُرِيدُ { [البقرة‪]253 :‬‬
‫إذن ما الذي جعل الناس تقتتل فيما بينها؟ إنه الختلف بين الناس‪ ،‬لقد اختلفوا فاقتتلوا‪ .‬لكن أل‬
‫يمكن أن يكونوا قد اختلفوا ولم يقتتلوا؟ إن ذلك لو حدث لكان إجماعا على الفساد‪ .‬والحق سبحانه‬
‫ل يريد أن يحدث الجماع على الفساد‪ ،‬فإن لم يسيطر الخير على أمور البشر فل أقل من أن يظل‬
‫عنصر الخير موجودا‪ ،‬ويأتي واحد ليجد عنصر الخير وينميه‪.‬‬

‫إن الحق سبحانه ل يمحو في أزمنة الباطل معالم الخير والفعال الحسنة‪ ،‬بل يستبقي ـ سبحانه ـ‬
‫معالم الخير والفعال الحسنة ليذهب إليها أي إنسان يريد الخير‪ ،‬وقد يكون الخير ضعيفا‪ ،‬ولكن‬
‫ال ل يمحوه؛ لنه يعطي به دفعة جديدة لمؤمنين جدد يرفعون راية الحق‪ ،‬وإن بدأوا ضعفاء‪.‬‬
‫ولذلك نجد الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬لول عباد ال ركع وصبية ُرضّع وبهائم‬
‫رتع لصب عليكم العذاب صبا "‪.‬‬
‫إن الرسول صلى ال عليه وسلم ينبهنا أل ننظر إلى الضعفاء على أنهم عالة وأننا أقوياء لمجرد‬
‫أنهم يعيشون في أكنافنا‪ .‬بل قد يكونون سياج لطف ورحمة كما في الحديث السابق‪.‬‬
‫إن ال سبحانه وتعالى رفع عنا العذاب من أجل وجود الضعفاء بيننا‪ ،‬لن في الضعاف يوجد‬
‫شيء من الخير‪ ،‬ولتظل في الوجود خلية من الخير حتى إذا ما أراد الوجود أن يفيق إلى الرشد‬
‫فإنه سيجد من الخير ما يرشده‪ .‬إذن لول القتتال لعم الفساد‪ ،‬وانتهت المسألة‪ .‬لكن الناس اختلفت‬
‫فمنهم من آمن‪ ،‬ومنهم من كفر‪ } ،‬وََلوْ شَآءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ { أي لظلوا على منهج واحد من الكفر‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أو من الفساد‪ ،‬لكن ال يفعل ما يريد‪ .‬وفي القتتال ـ كما نعرف ـ هناك تضحيات بالنفس‪،‬‬
‫وتضحيات من أجل أن تظل القيم السماوية على الرض‪.‬‬
‫وتقتضي التضحية إما أن يجود النسان بنفسه وإما أن يجود بماله‪ ،‬ولذلك فمن المناسب هنا أن‬
‫نتكلم عن النفقة وهي الجود بالمال‪ ،‬وخاصة أنه في الزمن القديم كان المقاتل هو الذي يجهز عدة‬
‫قتاله‪ :‬فرسه‪ ،‬رمحه‪ ،‬سيفه‪ ،‬سهامه‪ ،‬لذلك فهو يحتاج إلى إنفاق‪ ،‬ويتكلم الحق عن هذه المسألة لن‬
‫المر بصدد استبقاء خلية اليمان المصورة في المنهج السماوي الذي جاء به الرسل؛ ليظل هذا‬
‫المنهج في الرض حتى يفيء إليه الناس إن صدمهم الشر أو صدمهم الباطل فيقول‪ } :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ‬
‫آمَنُواْ أَ ْنفِقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاكُم‪{ ...‬‬

‫(‪)255 /‬‬

‫شفَاعَةٌ‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا أَ ْنفِقُوا ِممّا رَ َزقْنَاكُمْ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا بَ ْيعٌ فِي ِه وَلَا خُلّ ٌة وَلَا َ‬
‫وَا ْلكَافِرُونَ ُهمُ الظّاِلمُونَ (‪)254‬‬

‫ونحن نعرف أن كل نداء من الحق يبدأ بقوله تعالى‪ { :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } إنما يدل على أن ما‬
‫يأتي من بعد هذا القول هو تكليف لمن آمن بال‪ ،‬وليس تكليفا للناس على إطلقهم؛ لن ال ل‬
‫يكلف من كفر به‪ ،‬إنما يكلف ال من آمن به‪ ،‬ومن اجتاز ذلك وأصبح في اليقين اليماني فهو أهل‬
‫لمخاطبة ال له‪ ،‬فكأنه يجد في القول الرباني نداء يقول له‪ :‬يا من آمن بي إلها حكيما قادرا‬
‫مشرعا لك‪ ،‬أنا أريد منك أن تفعل هذا المر‪.‬‬
‫إذن اليمان هو حيثية كل حكم‪ ،‬فأنت تفعل ذلك لماذا؟ ل تقل‪ :‬لن حكمته كذا وكذا‪ .‬ل‪ .‬ولكن قل‪:‬‬
‫لن ال الذي آمنت به أمرني بهذه الفعال‪ ،‬سواء فهمت الحكمة منها أو لم تفهمها‪ ،‬بل ربما كان‬
‫إقبالك على أمر أمرك ال به وأنت ل تفهم له حكمة أشد في اليمان من تنفيذك لمر تعرف‬
‫حكمته‪.‬‬
‫ولو أن إنسانا قال له الطبيب‪ :‬إن الخمر التي تشربها تفسد كبدك وتعمل فيك كذا وكذا‪ ،‬وبعد ذلك‬
‫امتنع عن الخمر‪ ،‬صحيح أن امتناعه عن الخمر صادف طاعة ل‪ ،‬لكن هل هو امتنع لن ال قال؟‬
‫ل‪ ،‬لم يمتنع لن ال قال‪ ،‬ولكنه امتنع لن الطبيب قال‪ ،‬فإيمانه بالطبيب أكثر من إيمانه برب‬
‫الطبيب‪ .‬أما المؤمن فيقول‪ :‬أنا ل أشرب الخمر؛ لن ال قد حرمها‪ ،‬ولماذا انتظر حتى يقول لي‬
‫الطبيب‪ :‬إن كبدك سيضيع بسبب الخمر‪ ،‬فالرحمة هي أل يجيء الداء‪.‬‬
‫إن الحق يقول‪ { :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَ ْنفِقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاكُم } أي أنا ل أطلب منكم أن تنفقوا علي‪،‬‬
‫ولكن أنفقوا من رزقي عليكم؛ لن الرزق يأتي من حركة النسان‪ ،‬وحركة النسان تحتاج طاقة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تتحرك في شيء أو مادة‪ ،‬وهذه الحركة تأتي على ترتيب فكر‪ ،‬وهذا الفكر رتبه من خلقه‪،‬‬
‫والجوارح التي تنفعل‪ ،‬واليد التي تتحرك‪ ،‬والرّجل التي تمشي خلقها ال‪ ،‬والمادة التي تفعل بها‬
‫مخلوقة ل‪ .‬وسنأخذ الزارع نموذجا‪ ،‬نجد أن الرض التي فيها العناصر مخلوقة ل‪ ،‬إذن فالنسان‬
‫يعمل بالعقل الذي خلقه ال‪ ،‬ويخطط بالجوارح التي خلقها ال لتأتي له بالطاقة التي يعمل بها في‬
‫المادة التي خلقها ال لتعطي للنسان خيرها‪ ..‬فأي شيء للنسان إذن؟‬
‫ومع ذلك إن حصل للنسان خير من هذا كله فهو سبحانه ل يقول‪ " :‬إنه لي " بل أمنحه لك أيها‬
‫النسان‪ ،‬ولكن أعطني حقي فيه‪ ،‬وحقي لن آخذه لي ولكن هو لخيك المسكين‪ ،‬والحق يقول‪ {:‬مَآ‬
‫ط ِعمُونِ }[الذاريات‪]57 :‬‬
‫ق َومَآ أُرِيدُ أَن يُ ْ‬
‫أُرِيدُ مِ ْنهُم مّن رّزْ ٍ‬
‫وإياك أن تقول‪ :‬ما دخلي أنا بالمسكين؟ عليك أن تعلم أنّ المسكنة عَرَض‪ ،‬والعرض من الممكن‬
‫أن يلحق بك أنت‪.‬‬

‫فل تُقدّر أنك معطٍ دائما‪ ،‬ولكن قدر أنك ربما حدث لك ما يجعلك تأخذ لَ أنْ تعطي‪ .‬الحق يقول‬
‫لك‪ :‬أعط المسكين وأنت غني؛ لنه سبحانه سيقول للناس‪ :‬أن يعطوك وأنت فقير‪ ،‬فقدّر حكم ال‬
‫ساعة يُطلب منك‪ ،‬ليحميك ساعة أن يُطلب لك‪ ،‬وبذلك تتوازن المسألة‪.‬‬
‫ومع أنه سبحانه هو الذي يرزق‪ ،‬فهو يريد منكم أيها العباد أن تتعاونوا وأن يحب بعضكم بعضا‪،‬‬
‫حتى تُمحى الضغائن من قلوبكم؛ لن النسان الضعيف ـ ضعفا طبيعيا وليس ضعف التسول أو‬
‫الكسل أو الحتراف‪ ،‬بل ضعف عدم القدرة على العمل ـ هو مسئولية المؤمنين‪ ،‬فسبحانه وتعالى‬
‫يجعل القوي مسئول أن يساعدك وأنت ضعيف‪.‬‬
‫وأنت حين ترى ـ وأنت ضعيف ل تقدر ـ القوياء الذين قدروا لم ينسوك‪ ،‬وذكروك بما عندهم‪،‬‬
‫عندئذ تعلم أنك في بيئة متساندة تحب لك الخير‪ ،‬فإن رأيت نعمة تنالك إن عجزت فأنت ل‬
‫تحسدها أبدا‪ ،‬ول تحقد على معطيها‪ ،‬بل تتمنى من حلوة وقعها في نفسك ـ لنها جاءتك عن‬
‫حاجة ـ تتمنى لو أن ال قدرك لتردها‪ ،‬فيكون المجتمع مجتمعا متكافلً متضامنا‪.‬‬
‫فحين يقول ال تعالى‪ } :‬أَ ْنفِقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاكُم { فأنتم ل تتبرعون لذات ال بل تنفقون مما رزقكم‪،‬‬
‫ومن فضل ال عليكم أنه احترم أثر عملكم ونسبه لكم حتى وإن احتاج أخوك‪ ،‬فهو سبحانه يقول‪{:‬‬
‫جعُونَ‬
‫ط وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬
‫ض وَيَبْسُ ُ‬
‫ضعَافا كَثِي َر ًة وَاللّهُ َيقْ ِب ُ‬
‫عفَهُ لَهُ َأ ْ‬
‫حسَنا فَ ُيضَا ِ‬
‫مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا َ‬
‫}[البقرة‪]245 :‬‬
‫إن الحق سبحانه قد اعتبر النفقة في سبيل ال هي قرض من العبد للرب الخالق الوهاب لكل‬
‫رزق‪ .‬وحتى نفهم معنى النفقة أقول‪ :‬قد قلنا من قبل‪ :‬إن الكلمة مأخوذة من مادة " النون والفاء‬
‫والقاف " ‪ ،‬ويقال‪ :‬نفقت السوق أي انتهت بسرعة وتم تبادل البضائع فيها بالثمان المقررة لها‪،‬‬
‫ونحن نعرف أن التجارة تعني مقايضة بين سلع وأثمان‪ .‬والسلعة هي ما يستفاد بها مباشرة‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والثمن ما ل يستفاد به مباشرة‪.‬‬
‫فعندما تكون جائعا أيغنيك أن يكون عندك جبل من ذهب؟ إن هذا الجبل من الذهب أنت ل تستفيد‬
‫منه مباشرة‪ ،‬أما فائدتك من رغيف الخبز فهي استفادة مباشرة‪ ،‬وكذلك كوب الماء الممتلئ‪ ،‬تستفيد‬
‫منه مباشرة‪ ،‬والملبس التي ترتديها أنت تستفيد منها مباشرة‪ .‬إذن فالذي يستفاد منه مباشرة اسمه‬
‫سلعة‪ ،‬والذي ل يستفاد منه مباشرة نسميه ثمنا‪ .‬ولذلك يقول لنا الحق إنذارا وتحذيرا من العتزاز‬
‫بالمال‪:‬‬
‫شفَاعَةٌ‬
‫} ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَ ْن ِفقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاكُم مّن قَ ْبلِ أَن يَأْ ِتيَ َيوْ ٌم لّ بَيْعٌ فِي ِه َولَ خُلّةٌ وَلَ َ‬
‫وَا ْلكَافِرُونَ ُهمُ الظّاِلمُونَ { [البقرة‪]254 :‬‬
‫إن الحق سبحانه ينبهنا أن ننفق من رزقه لنا من قبل أن يأتي اليوم الخر الذي ل بيع فيه؛ أي ل‬
‫مجال فيه لستبدال أثمان بسلع أو العكس‪ ،‬وأيضا ل يكون في هذا اليوم " خُلة " ‪ ،‬ومعنى " خلة‬
‫هي الود الخالص‪ ،‬وهي العلقة التي تقوم بين اثنين فيصير كل منهما موصلً بالخر بالمحبة؛‬
‫ل منكما منفصل عن الخر وإن ربطت بينكم العاطفة وفي الخرة سيكون كل إنسان‬
‫لن كُ ّ‬
‫مشغول بأمر نفسه‪.‬‬

‫إن اليوم الخر ليس فيه بيع ول شراء ول فيه خلة ول شفاعة‪ ،‬وهذه هي المنافذ التي يمكن‬
‫للنسان أن يستند عليها‪ .‬فأنت ل تملك ثمنا تشتري به‪ ،‬ول يملك غيرك سلعة في الخرة‪ ،‬إذن‬
‫فهذا الباب قد سد‪ .‬وكذلك ل يوجد خلة أو شفاعة‪ ،‬والشفاعة هذه مأذون فيها‪ .‬إن كانت ممن أذن‬
‫له ال أن يشفع فهي في يد ال‪ ،‬ومعنى " شفيع " مأخوذة من الشفع والوتر‪ .‬الوتر واحد والشفع‬
‫اثنان‪ ،‬فكأن الشفيع يضم صوته لصوتي لنقضي هذه الحاجة عند فلن‪ .‬فيتشفع النسان بإنسان له‬
‫جاه عند المشفوع عنده حتى ينفذ له ما يطلب‪ .‬ولكن هذه الوسائل في الخرة غير موجودة‪ .‬فل‬
‫بيع ول خلة ول شفاعة؛ فأنتم إذا أنفقتم اتقيتم ذلك اليوم‪ ،‬فانتهزوا الفرصة من قبل أن يأتي يوم ل‬
‫بيع فيه ول خلة ول شفاعة‪.‬‬
‫وهذه هي أبواب النجاة المظنونة عند البشر التي تُغلق في هذا اليوم العظيم‪ .‬وكأن الحق سبحانه‬
‫وتعالى يقول‪ :‬أنا لم أفوت فرصة على خلقي؛ خلقي هم الذين ظلموا أنفسهم ووقفوا أنفسهم هذا‬
‫الموقف‪ ،‬فأنا لم أظلمهم‪ .‬لذلك يذيل الحق الية بقوله‪ } :‬وَا ْلكَافِرُونَ هُمُ الظّاِلمُونَ {‪.‬‬
‫وبعد أن تكلم ال سبحانه وتعالى عن الرسل ‪ ،‬وعن الختلف‪ ،‬وعن القتال لتثبيت منهج الحق‪،‬‬
‫وعن النفاق‪ ،‬يوضح لنا التصور اليماني الصحيح الذي في ضوئه جاءت كل هذه المسائل‪ .‬فقد‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ‪...‬‬
‫جاء موكب الرسالت كلها من أجل هذا المنهج فقال سبحانه‪ } :‬اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ الْ َ‬
‫{‬

‫(‪)256 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ مَنْ ذَا الّذِي‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ لَا تَ ْأخُ ُذهُ سِنَ ٌة وَلَا َنوْمٌ َلهُ مَا فِي ال ّ‬
‫اللّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ الْ َ‬
‫شيْءٍ مِنْ عِ ْلمِهِ إِلّا ِبمَا شَا َء وَسِعَ‬
‫خ ْلفَهُ ْم وَلَا ُيحِيطُونَ ِب َ‬
‫شفَعُ عِنْ َدهُ إِلّا بِإِذْ ِنهِ َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا َ‬
‫يَ ْ‬
‫ظ ُهمَا وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ (‪)255‬‬
‫حفْ ُ‬
‫ض وَلَا يَئُو ُدهُ ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ‬
‫كُرْسِيّهُ ال ّ‬

‫ونقف بالتأمل الن عند قوله الحق‪ { :‬اللّهُ لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }‪ .‬إن كلمة { اللّهُ } هي عََلمٌ على واجب‬
‫الوجود‪ .‬وعندما نقول‪ " :‬ال " فإن الذهن ينصرف إلى الذات الواجبة الوجود‪.‬‬
‫ما معنى " واجبة الوجود "؟ إن الوجود قسمان‪ :‬قسم واجب‪ ،‬وقسم ممكن‪ .‬والقسم الواجب هو‬
‫الضروري الذي يجب أن يكون موجودا‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى حين أعلمنا باسمه { اللّهُ } أعطانا‬
‫فكرة على أن كلمة { اللّهُ } هذه يتحدى بها ـ سبحانه ـ أن يُسمى بها سواه‪ .‬ولو كنا جميعا‬
‫مؤمنين لكان احترامنا لهذا التحدي نابعا من اليمان‪ .‬ولكنْ هنا كافرون بال ومتمردون وملحدون‬
‫يقولون‪ " :‬ال خرافة " ‪ ،‬ومع ذلك هل يجرؤ واحد من هؤلء أن يسمي نفسه { اللّهُ }؟‬
‫لم يفعل أحد هذا؛ لن ال تحدى بذلك‪ ،‬فلم يجرؤ واحد أن يدخل في هذه التجربة‪ .‬وعدم جرأة‬
‫الكفار والملحدة في أن يدخلوا في هذه التجربة دليل على أن كفرهم غير وطيد في نفوسهم‪ ،‬فلو‬
‫كان كفرهم صحيحا لقالوا‪ :‬سنسمي ونرى ما يحدث‪ ،‬ولكن هذا لم يحدث‪.‬‬
‫إذن { اللّهُ } علم واجب الوجود المتصف بكل صفات الكمال‪ .‬وبعد ذلك جاء بالقضية الساسية‬
‫وهي قوله تعالى‪ { :‬لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ } وهنا نجد النفي ونجد الثبات‪ ،‬النفي في { لَ إِلَـاهَ } ‪،‬‬
‫والثبات في { ِإلّ ُهوَ }‪ .‬والنفي تخلية والثبات تحلية‪ .‬خلى سبحانه نفسه من وجود الشريك له ثم‬
‫أثبت لنا وحدانيته‪ .‬و " ل إله إل ال " أي ل معبود بحق إل ال‪ .‬ونعرف أن بعضنا من البشر في‬
‫فترات الغفلة قد عبدوا أصناما وعبدوا الكواكب‪ .‬ولكن هل كانت آلهة بحق أم بباطل؟ لقد كانت‬
‫آلهة بباطل‪ .‬ودليل صدق هذه القضية التي هي " ل إله إل ال " ‪ ،‬أي ل معبود إل ال أن أحدا من‬
‫تلك اللهة لم يعترض على صدق هذه القضية‪ .‬إذن فهذا الكلم هو حق وصدق‪.‬‬
‫وإن ادعى أحد غير ذلك‪ ،‬نقول له‪ :‬إن ال قد أخبرنا أنه ل معبود بحق غيره؛ لنه هو الذي خلق‬
‫وهو الذي رزق‪ ،‬وقال‪ :‬أنا الذي خلقت‪ .‬إن كان هذا الكلم صحيحا فهو صادق فيه‪ ،‬فل نعبد إل‬
‫هو‪ .‬وإن كان هذا الكلم غير صحيح‪ ،‬وأن أحدا غيره هو الذي خلق هذا الكون فأين هذا الحد‬
‫الذي خلق‪ ،‬ثم ترك من لم يخلق ليأخذ الكون منه ويقول‪ " :‬أنا الذي خلق الكون "؟ إنه أمر من‬
‫اثنين‪ ،‬المر الول‪ :‬هو أنه ليس هناك إله غيره‪ .‬فالقضية ـ إذن ـ منتهية‪ .‬والمر الخر‪ :‬هو‬
‫أنه لو كان هناك آلهة أخرى‪ ،‬وبعد ذلك جاء واحد وقال‪ " :‬أنا الله وليس هناك إله إل أنا "‪.‬‬

‫فأين هذه اللهة الخرى؟ ألم تعلم بهذه الحكاية؟‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن كانوا لم يعلموا بها‪ ،‬فهم ل يصلحون أن يكونوا آلهة‪ ،‬وإن كانوا قد علموا فلماذا لم يقولوا‪ :‬ل‪.‬‬
‫نحن اللهة‪ ،‬وهذا الكلم كذب؟ وكما بعث ال رسل بمعجزات كان عليهم أن يبعثوا رسول‬
‫بمعجزات‪ .‬فصاحب الدعوة إذا ادّعاها ولم يوجد معارض له‪ ،‬تثبت الدعوى إلى أن يوجد مُنازِع‪.‬‬
‫إذن كلمة " ل إله إل ال " معها دليل الصدق؛ لنه إما أن يكون هذا الكلم حقا وصدقا فتنتهي‬
‫المسألة‪ ،‬وإن لم يكن حقا فأين الله الذي خلق والذي يجب أن يُعبد بعد أن سمع من جاء ليأخذ منه‬
‫هذه القضية؟ وبعد ذلك ل نسمع له حسا ول حركة‪ ،‬ول يتكلم‪ ،‬ول نعلم عنه شيئا‪ ،‬فما هو شأنه؟‬
‫إما أنه لم يعلم فل يصلح أن يكون إلها؛ لنه لو كان قد علم ولم يرد فليست له قوة‪ .‬ولذلك ربنا‬
‫سبحانه يأتي بهذه القضية من ناحية أخرى فيقول‪ُ {:‬قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ‬
‫عمّا َيقُولُونَ عُُلوّا كَبِيرا }[السراء‪]43-42 :‬‬
‫إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً * سُبْحَانَهُ وَ َتعَالَىا َ‬
‫فلو كان عند تلك اللهة المزعومة مظاهر قوة لذهبوا إلى ال سبحانه وتعالى وأنكروا ألوهيته‪ ،‬ولو‬
‫كان هناك إله غير ال لحدثت معركة بين اللهة‪ ،‬ولكن هذا لم يحدث‪ .‬فالكلمة " ل إله إل ال "‬
‫صدق في ذاتها حتى عند من ينكرها‪ ،‬والدليل فيها هو عدم وجود المنازع لهذه الدعوى؛ لنه إن‬
‫لم يوجد منازع فقد ثبت أنه سبحانه ل إله إل ال‪ .‬وإن وجد المنازع نقول‪ :‬أين هو؟‬
‫وأضرب هذا المثل ـ ول المثل العلى ـ هب أننا في اجتماع‪ ،‬وبعد ذلك وجدنا حافظة نقود‪،‬‬
‫فعرضناها على الموجودين‪ ،‬فلم نجد لها صاحبا‪ ،‬ثم جاء واحد كان معنا وخرج‪ ،‬وقال‪ :‬يا قوم‬
‫بينما كنت أجلس معكم ضاعت حافظة نقودي‪ .‬ولما لم يدعها واحد منا لنفسه فهي إذن حافظته‬
‫هو‪.‬‬
‫إذن " ل إله إل ال " هي قضية تمتلئ بالصدق والحق‪ ،‬وال هو المعبود الذي يُ َتوَجّه إليه بالعبادة‪،‬‬
‫والعبادة هي الطاعة‪ .‬فمعنى عابد أي طائع‪ ،‬وكل طاعة تقتضي أمرا وتقتضي نهيا‪ ،‬ومادامت‬
‫العبادة تقتضي أمرا وتقتضي نهيا‪ ،‬فل بد أن يكون المأمور والمنهي صالحا أن يفعل وصالحا ألّ‬
‫يفعل‪ .‬فعندما نقول له‪ :‬افعل كذا كمنهج إيمان‪ ،‬فهو صالح لئل يفعل‪ .‬وعندما نقول له‪ :‬ل تفعل فهو‬
‫صالح لن يفعل‪ ،‬وإل لو لم يكن صالحا أل يفعل أيقول له " افعل "؟ ل‪ ،‬ل يقول له ذلك‪ .‬ولو كان‬
‫صالحا أل يفعل أيقول له " ل تفعل "؟ إن ذلك غير ممكن‪.‬‬

‫إذن لبد أن يكون صالحا لهذه وتلك وإل لكان المر والنهي عبثا ول طائل من ورائهما‪ .‬لذلك‬
‫عندما أرادوا أن يقصروا السلم في العبادات الطقسية التي هي شهادة ل إله إل ال‪ ،‬وأن محمدا‬
‫رسول ال‪ ،‬والصلة‪ ،‬والصوم‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والحج‪ ،‬قالوا‪ :‬هل هذا هو كل السلم‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه دين‬
‫يعتمد على المظاهر فقط‪ ،‬قلنا لهم‪ :‬ل‪ ،‬إن السلم هو كل حركة في الحياة تناسب خلفة النسان‬
‫ض وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود‪]61 :‬‬
‫في الرض؛ لن ال يقول في كتابه الكريم‪ُ {:‬هوَ أَنشََأكُمْ مّنَ الَرْ ِ‬
‫} وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا { أي طلب منكم أن تعمروها‪ ،‬فكل حركة في الحياة تؤدي إلى عمار الرض‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهي من العبادة‪ ،‬فل تأخذ العبادة على أنها صوم وصلة فقط؛ لن الصوم والصلة وغيرهما هي‬
‫الركان التي ستقوم عليها حركة الحياة التي سَيُبني عليها السلم‪ ،‬فلو جعلت السلم هو هذه‬
‫الركان فقط لجعلت السلم أساسا بدون مبنى‪ ،‬فهذه هي الركان التي يُبني عليها السلم‪ ،‬فإذن‬
‫السلم هو كل ما يناسب خلفة النسان في الرض يبيّن ذلك ويؤكده قول ال تعالى‪ُ {:‬هوَ أَنشََأكُمْ‬
‫ن الَ ْرضِ وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود‪]61 :‬‬
‫مّ َ‬
‫ويخرج إلينا أناس يقولون‪ :‬نحن ليس لنا إل أن نعبد ول نعمل‪ .‬ونقول لي منهم‪ :‬كم تأخذ الصلة‬
‫منك في اليوم؟ ساعة مثل‪ .‬والزكاة كم تأخذ منك في العالم يوما واحدا في العام؟ والصوم كم يأخذ‬
‫منك من وقت؟ نهار أيام شهر واحد‪ .‬وفريضة الحج أتأخذ منك أكثر من رحلة واحدة في عمرك؟‬
‫فبال عليك ماذا تفعل في الباقي من عمرك من بعد ذلك وهو كثير؟ إنك ل تأخذ أكثر من ساعة‬
‫في اليوم للصلة‪ ،‬ول تأخذ أكثر من يوم في السنة لخراج الزكاة‪ ،‬وتقضي شهرا في السنة تصوم‬
‫نهاره‪ .‬وتحج مرة واحدة في عمرك‪ ،‬فماذا تفعل في بقية الزمان‪ ،‬ستأكل وتلبس‪ ،‬ستطلب رغيف‬
‫الخبز للطعام فمن الذي سيصنعه لك؟ إن هذا الرغيف يمر بمراحل حتى يصير لقمة تأكلها‪.‬‬
‫ويحتاج إلى أكثر من علم وأكثر من حركة وأكثر من طاقة‪.‬‬
‫إن المحل الذي يبيعه فقط ول يخبزه يحتاج إلى واجهة من زجاج أو غيره‪ ،‬ولبد أن يعمل فيه من‬
‫يذهب بعربته إلى المخبز ليحمل الخبز‪ ،‬وينقله إلى المحل ويبيعه وإذا نظرت إلى الفرن فسوف‬
‫تجد مراحل عدة من تسليم وتسلم للدقيق‪ ،‬ثم إلى العجين‪ ،‬وإلى النار التي توقد بالمازوت‪ ،‬ويقوم‬
‫بذلك عمال يحتاجون لمن يخطط لهم‪ ،‬وقبل ذلك كان الدقيق مجرد حبوب‪ ،‬وتم طحنها لتصير‬
‫دقيقا‪ ،‬وهناك مهندسون يديرون الماكينات التي تطحن‪ ،‬ويعملون على صيانتها‪ ،‬وبعد ذلك الرض‬
‫التي نبت فيها القمح وكيف تم حرثها‪ ،‬وتهيئتها للزراعة‪ ،‬وريها‪ ،‬وتسميدها‪ ،‬وزرعها‪ ،‬وحصدها‪،‬‬
‫وكيف دُ ِرسَ القشر والسنابل‪ ،‬وكيف تتم تذريته من بعد ذلك‪ ،‬لفصل الحبوب عن التبن‪ ،‬وتعبئة‬
‫الحبوب‪ ،‬إلى غير ذلك؟‬
‫انظر كم من الجهد أخذ رغيف الخبز الذي تأكله‪ ،‬وكم من الطاقات وكم رجال للعمل‪ ،‬فكيف‬
‫تستسيغ لنفسك أن يصنعوه لك‪ ،‬وأنت فقط جالس لتصلي وتصوم؟ ل‪ ،‬إياك أن تأخذ عمل غيرك‬
‫دون جهد منك‪.‬‬

‫مثال آخر‪ ،‬أنت تلبس جلبابا‪ ،‬كم أخذ هذا الجلباب من غزل ونسج وخيط؟ إذن فل تقعد‪ ،‬وتنتفع‬
‫بحركة المتحرك في الحياة‪ ،‬وتقول‪ :‬أنا مخلوق للعبادة فقط‪ ،‬فليست هذه هي العبادة‪ ،‬ولكن العبادة‬
‫هي أن تطيع ال في كل ما أمر‪ ،‬وأن تنتهي عن كل ما نهى في إطار قوله تعالى‪ُ } :‬هوَ أَنشََأ ُكمْ‬
‫ن الَ ْرضِ وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا { إن كل عمل يعتبر عبادة‪ ،‬وإل ستكون " تنبلً " في الوجود‪.‬‬
‫مّ َ‬
‫واليمان الحق يقتضي منك أن تنتفع بعملك ول تعتمد على عمل غيرك‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى قد استخلفنا في الرض من أجل أن نعمرها‪ .‬ومن حسن العبادة أن نتقن‬
‫كل عمل وبذلك ل نقيم أركان السلم فقط‪ ،‬ولكن نقيم الركان والبنيان معا‪ .‬ونكون قد أدينا‬
‫مسئولية اليمان‪ ،‬وطابق كل فعل من أفعالنا قولنا‪ " :‬ل إله إل ال "‪.‬‬
‫ولقد عرفنا أن كلمة } اللّهُ { هي علَم على واجب الوجود‪ ،‬وهي السم الذي اختاره ال لنفسه‬
‫وأعلمنا به‪ ،‬ول أسماء كثيرة كما روى في الحديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم حين سأل‬
‫ال بكم اسم هو له أنزله في كتابه أو علمه أحدا من خلقه ـ أي خصّه به ـ أو استأثر به في علم‬
‫الغيب عنده‪ ،‬فل تظنن أن أسماء ال هي كلها هذه السماء التي نعرفها‪ ،‬ولكن هذه السماء هي‬
‫التي أذن ال سبحانه وتعالى بأن نعلمها‪.‬‬
‫ومن الجائز‪ ،‬أو من لفظ الحديث نعلم أن ال قد يُعلّم بعضا من خلقه أسماء له‪ ،‬ويستأثر لنفسه‬
‫بأسماء سنعرفها يوم القيامة حين نلقاه‪ ،‬وحين نتكلم عن السماء الخرى نجد أنها ملحوظ فيها‬
‫الصفة‪ ،‬ولكنها صارت أسماء لنها الصفة الغالبة‪ ،‬فإذا قيل‪ " :‬قادر " نجد أننا نستخدم هذه الكلمة‬
‫لوصف واحد من البشر‪ ،‬ولكن " القادر إذا أطلق انصرف إلى القادر العلى وهو ال‪ .‬وكذلك "‬
‫السميع " ‪ ،‬و " البصير "‪ .‬و " العليم "‪.‬‬
‫إننا نجد أن بعضا من أسماء ال سبحانه وتعالى له مقابل‪ ،‬ومن أسماء ال الحسنى ما ل تجد له‬
‫مقابلً‪ .‬فإذا قيل " المحيي " تجد " المميت " و " المعز " تجد " المذل " ‪ ،‬لنها صفة يظهر أثرها‬
‫في الغير‪ ،‬فهو مميت لغيره‪ ،‬ومعزّ لغيره‪ ،‬ومذل لغيره‪ ،‬لكن الصفة إن لم يوجد لها مقابل نسميها‬
‫صفة ذات‪ ،‬فهو " حي " ول نأتي بالمقابل إنما " مُحيي " نأتي بالمقابل وهو " المميت " ‪ ،‬فهذه‬
‫اسمها صفة فعل‪.‬‬

‫فصفات الفعل يتصف بها وبمقابلها لنها في الغير‪ .‬لكن صفة الذات ل يتصف إل بها‪.‬‬
‫وحينما قال الحق‪ } :‬اللّهُ { فهو سبحانه يريد أن يعطينا بعض تجليات ال في أسمائه‪ ،‬فقال‪ " :‬ال‬
‫ل إله إل هو " ليحقق لنا صفة التوحيد‪ ،‬ويجب أن نعلم أن " إل " هنا ليست أداة استثناء‪ ،‬لنها لو‬
‫كانت أداة استثناء فكأنك تنفي أن توجد آلهة ويكون ال من ضمن هذه اللهة التي نفيتها وذلك غير‬
‫صحيح‪ .‬وإنما المراد أنه ل آلهة أبدا غير ال فهو واحد ل شريك له‪ ،‬وأنه ل معبود بحق إل هو‬
‫فكلمة " إلّ " ليست للستثناء وإنما هي بمعنى غير‪ ،‬أي ل إله غير ال‪.‬‬
‫وقد عرفنا أن هذه القضية معها دليلها‪ ،‬وإل فلو كان هناك إله آخر لقال لنا‪ :‬إنه موجود‪ .‬لكن ل‬
‫إله إل هو سبحانه أبلغنا } اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ {‪ .‬وأعجبني ما قاله الدكتور عبد الوهاب عزام ـ‬
‫رحمة ال عليه ـ وكان متأثرا بالشاعر الباكستاني " إقبال " ‪ ،‬كان للشاعر إقبال شيء اسمه "‬
‫المثاني " ‪ ،‬أي أن يقول بيتين من الشعر في معنى‪ ،‬وبيتين من الشعر في معنى‪ ،‬وكان يغلب على‬
‫شعر إقبال الفلسفة السلمية والفكر السلمي‪ ،‬وقد تأثر الدكتور عبد الوهاب عزام بشعر إقبال‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فجعل له مثاني أيضا يناظر فيها " إقبال " ‪ ،‬فيقول‪:‬إنمـا التـوحـيـد إيجـاب وسـلـب‬
‫وفيـهـما للنفـس عـزم ومضـاءوقوله‪ " :‬إنما التوحيد إيجاب وسلب " هو قول متأثر بالقضية‬
‫الكهربية‪ .‬فيقول‪ :‬إنما التوحيد إيجاب وسلب فيهما للنفس عزم ومضاء‪ .‬فأنت عندما تقول " ل إله "‬
‫‪ ،‬فـ " ل " للنفي‪ ،‬وعندما تكمل قولك‪ " :‬إل ال " فـ " إل " للثبات‪ ،‬ويكمل الدكتور عزام قوله‪:‬‬
‫ل وإل قوة قاهرة‪ .‬فهما في القلب قطبا الكهرباء كأن الكهرباء تأتي بأنك تسلب وتوجب‪ .‬فاليجاب‬
‫في " إل " والسلب في " ل "‪ .‬ومادام فيه إيجاب وسلب‪ ،‬إذن ففيه شرارة كهرباء‪.‬‬
‫حيّ { هو أول صفة يجب أن تكون لذلك الله‪ ،‬لن‬
‫حيّ ا ْلقَيّومُ { ‪ ،‬و } ا ْل َ‬
‫} اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ الْ َ‬
‫القدرة بعد الحياة‪ ،‬والعلم بعد الحياة‪ .‬فكل صفة لبد أن تأتي بعدها الذكر وإل فليست صفة من‬
‫صفات ال أسبق من صفة ول متقدمة عليها فكلها قديمة ل أول لها‪ ،‬فلو كان عدما فكيف تأتي‬
‫الصفات على العدم؟‪ ،‬وكلمة " حيّ " عندما نسمعها نقول‪ :‬ما هو الحي؟‪ .‬إن الفلسفة قد احتاروا‬
‫جدَ ما يُدْ َركْ‪.‬‬
‫في تفسيرها‪ .‬فمنهم من قال‪ :‬الحيّ هو الذي يكون على صفة تجعله مُدْرِكا إن وُ ِ‬
‫كأن الفيلسوف الذي قال ذلك‪ :‬يعني بالحياة حياتنا نحن‪ ،‬وما دوننا كأنه ليس فيه إدراك‪.‬‬

‫ونقول لصاحب هذا الرأي‪ :‬ل‪ ،‬إن أردت الحياة بالمعنى الواسع الدقيق فلبد أن تقول‪ :‬الحياة هي‬
‫أن يكون الشيء على الصفة التي تبقى صلحيته لمهمته هذا هو ما يجب أن يكون عليه التعريف‪،‬‬
‫حيّ {‪ :‬هو الذي يكون على صفة تُبقى له صلحيته لمهمته‪ ،‬مثال ذلك النبات‪ ،‬مادمت تجده‬
‫فـ } ا ْل َ‬
‫ينمو‪ ،‬إذن ففيه حياة تبقى له صلحية مهمته‪ .‬فلو قطع لنتهت الصلحية‪ .‬ومثال النسان عندما‬
‫يموت تنتهي صلحيته لمهمته‪ ،‬والعناصر الجامدة عندما تأتي مع بعضها تتفاعل‪ ،‬هذا التفاعل‬
‫فرع وجود الحياة‪ ،‬لكنها حياة مناسبة لها وليست مثل حياتنا‪.‬‬
‫أنت مثلً ترى " الزلط " الناعم الملس‪ ،‬تجده على مقدار واحد؟ ل‪ ،‬إن أشكاله مختلفة‪ ،‬وهذا دليل‬
‫على أن هناك مراحل للحجر الواحد منها‪ ،‬ولو استمرت تلك الحجار في بيئتها الطبيعية فل شك‬
‫أن هذه الكبيرة تتفتت يوما وتصير صغيرة ثم تكبر مرة أخرى‪ ،‬لكن النسان حين يستخدم هذه‬
‫الحجار تكون قد خرجت من بيئتها‪ .‬ومن حكمة ال أنه ل يوجد شيء تنتهي جدواه أبدا‪ ،‬بل هو‬
‫سبحانه يهيئ لكل شيء مهمة أخرى‪.‬‬
‫إذن فكل كائن يكون على صفة تُبقى له صلحيته لمهمة‪ ،‬وتكون له حياة مناسبة لتلك المهمة‪ .‬نحن‬
‫ل نأتي بهذا الكلم من عندنا‪ ،‬ولكننا نأتي بهذا الكلم لننا نقرأ القرآن بإمعان وتدبر‪ ،‬ونقول‪ :‬ماذا‬
‫حيّ‬
‫يقابل الحياة في القرآن؟ إنه الهلك بدليل أن ال قال‪ {:‬لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ‬
‫عَن بَيّنَةٍ }[النفال‪]42 :‬‬
‫حيّ { غير هالك‪ .‬والهالك ل يكون حيا‪ ،‬ويقول تعالى في‬
‫إذن فالحياة مقابلة للهلك‪ .‬و } ا ْل َ‬
‫جهَهُ }[القصص‪]88 :‬‬
‫ل وَ ْ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ‬
‫الخرة‪ُ {:‬كلّ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومعنى ذلك أن كل الجناس من أعلها إلى أدناها‪ ،‬سواء النسان‪ ،‬أو الملئكة‪ ،‬أو الحيوان أو‬
‫النبات‪ ،‬كلها ستكون هالكة‪ ،‬ومادام كل شيء سيهلك يوم القيامة فكأنه لم يكن هالكا قبل ذلك‪ ،‬وله‬
‫حياة مناسبة له‪ .‬أليست الحجارة شيئا‪ ،‬وستدخل في الهلك يوم القيامة؟‪ .‬إذن فهي قبل ذلك غير‬
‫هالكة‪ .‬لكننا نحن البشر ل نفطن إلى ذلك ونفهم الحياة فقط على أنها الحس والحركة الظاهرة‪ .‬مع‬
‫أن العلماء قد أثبتوا أنه حتى الذرة فيها دوران‪ ،‬ولها حياة‪ .‬وأنت عندما تنظر بالمجهر على ورقة‬
‫من النبات‪ ،‬وترى ما بها من خضر وخليا‪ ،‬وتشاهد العمليات التي تحدث بها‪ ،‬وتقول‪ :‬هذه حياة‬
‫أرقى من حياتنا‪ ،‬وأدق منها‪.‬‬
‫إذن فكل شيء له حياة‪ ،‬إياك أن تظن أنك أنت الذي تهلكها‪ ،‬فعندما تأتي بحجر وتدقه أو تضعه‬
‫في الفرن لتصنع الجير؛ إياك أن تقول‪ :‬إنك أذهبت من الحجار الحياة المناسبة لها‪ ،‬أنت فقط قد‬
‫حولت مهمتها من حجر صلب‪ ،‬وصارت لها مهمة أخرى‪ ،‬فالمسائل تتسلسل إلى أن يصير لكل‬
‫شيء في الوجود حياة تناسب المهمة التي يصلح لها‪.‬‬

‫وانظر إلى مهمة الحق‪ ،‬ما شكلها؟ إنها الحياة العليا‪ ،‬وهو الحي العلى وحي ل تُسلب منه الحياة‪،‬‬
‫لن أحدا لم يعطه الحياة‪ ،‬بل حياته سبحانه ذاتية‪ ،‬فهذا هو الحي على إطلقه‪.‬‬
‫حيّ { وأثر‬
‫إذن فالحي على إطلقه هو ال والحق سبحانه وتعالى قال‪ } :‬اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ ا ْل َ‬
‫صفة هذه موجود في كل الصفات الخرى فقال‪ } :‬ا ْلقَيّومُ {‪ .‬والقيوم هو صفة مبالغة في قائم‪.‬‬
‫ومثلها قولنا‪ " :‬ال غفور " لكن أل يوجد غافر؟ يوجد غافر‪ ،‬لكن " غفور " هي صفة مبالغة‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬هل صفات ال فيها صفة قوية وأخرى ضعيفة؟‪ .‬نقول‪ :‬ل‪ ،‬فصفات ال ل يصح‬
‫أن توصف بالضعف أو بالقوة‪ ،‬صفات ال نظام واحد‪ .‬وحتى نفهم ذلك فنضرب هذا المثل ـ ول‬
‫المثل العلى ـ نحن نقول‪ :‬كلنا نأكل كي نستبقي حياتنا‪ ،‬فكل واحد منا " آكل " ‪ ،‬لكن عندما‬
‫نقول‪ :‬فلن أكول‪ ،‬فمعنى ذلك أنه أخذ صفة الكل التي كلنا شركة فيها وزاد فيها فنقول عليه‪" :‬‬
‫أكّال " أو " أكول "‪.‬‬
‫من أي ناحية تأتي هذه الزيادة؟ قد تأتي الزيادة من أنك تأكل في العادة رغيفا وهو يأكل رغيفين‬
‫أو ثلثة‪ ،‬إذن فالحدث له في الكل أثر كبير‪ ،‬فنقول عليه‪ :‬أكول‪ .‬وقد يأكل معك رغيفا في الوجبة‬
‫الواحدة‪ ،‬لكنه يأكل خمس وجبات بدل من ثلث وجبات؛ فيكون أيضا أكول‪ ،‬إذن فـ " أكول " إما‬
‫مبالغة في الحدث نفسه وإما بتكرار الحدث‪.‬‬
‫ونحن ننظر إلى صفات ال ونقول‪ :‬إنها ل تحتمل القوة والضعف في ذات الحدث‪ ،‬إنما في‬
‫تكررها بالنسبة للمخلوقين جميعا‪ ،‬فال غافر لهذا‪ ،‬وغافر لذاك‪ ،‬وغافر لكل عاص يتوب‪ ،‬إذن‬
‫فالحدث يتكرر‪ ،‬فيكون " غفورا " وغفارا "‪ .‬وهذا ما يحل لنا الشكال في كثير من المور‪ ،‬فعندما‬
‫يقول سبحانه‪َ {:‬ومَا رَ ّبكَ ِبظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت‪]46 :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فنحن هنا نجد قضية لغوية تقول‪ :‬إنك إذا جئت بصيغة المبالغة‪ ،‬وأثبتها‪ ،‬تكون الصيغة الخرى‬
‫القل منها ثابتة بالضرورة‪ ،‬مثال ذلك عندما نقول‪ :‬فلن " علّم " أو " عالم " ‪ ،‬فما دمت أثبت له‬
‫الصفة القوية؛ تكون الصفة الضعيفة موجودة‪ ،‬لكن إذا نفيت الصفة المبالغ فيها قد تكون الصفة‬
‫الخرى موجودة‪ ،‬فهو ليس " علمة " لكنه قد يكون " علما " أو عالما " ‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬فلن "‬
‫علمة " فقد أثبت له الدنى أيضا‪ ،‬فيكون " علّما " أو " عالما "‪ .‬لكن إذا نفيت عنه " علمة "‬
‫انتفى عنه الباقي؟ ل‪ ،‬إذن فنفي الكثر ل ينفي القل‪.‬‬
‫لكن إذا أُثبت الكثر ثبت القل‪ ،‬وإذا نفيت الكثر فلن ينتفي القل‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬ال ليس بظلم‬
‫للعبيد‪ ،‬نفيت الكثر‪.‬‬

‫صحيح أنه غير مبالغ في الظلم‪ ،‬فهل يمكن أن يكون ظالما؟ على حسب ما قلنا‪ :‬إذا نفينا الكثر ل‬
‫ينتفي القل نقول‪:‬ل‪ ،‬لننا هنا يجب أن نأخذ القضية الولى في أن المبالغة في الحدث والمبالغة‬
‫في الفعل تأتي مرة في ذات الحدث‪ ،‬ومرة في تكرار الحدث؛ فيكون معاذ ال ـ ظلّما‪ ،‬ولذلك لم‬
‫يقل‪ :‬بظلّم للعبد‪ ،‬بل قال‪ :‬بظلّم للعبيد‪.‬‬
‫إذن فهذا العبد يحتاج ظالما‪ ،‬والعبد الخر يحتاج ظالما‪ ،‬وذاك يحتاج ظالما! فعندما يظلم كل‬
‫هؤلء يكون ظلما‪ ،‬ولذلك نفاها سبحانه وقال‪َ } :‬ومَا رَ ّبكَ بِظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ {‪.‬‬
‫والحق هنا يقول‪ " :‬قيوم " وهذه صفة مبالغة من قائم‪ ،‬فالصل فيها‪ :‬القائم على أمر بيته‪ ،‬والقائم‬
‫على أمر رعيته‪ ،‬والقائم على أمر المدرسة‪ ،‬والقائم على أمر هذه الدارة‪ ،‬ومعنى قائم على‬
‫أمرها‪ :‬أنه متولي شئونها‪ ،‬فكأن القيام هو مظهر الشراف‪ .‬فنحن ل نقول‪ " :‬قاعد على إدارتها "‪.‬‬
‫وعندما نقول " قيوم " فمعناها أنه أوسع في القيام‪ .‬كيف جاء هذا التساع؟‪ .‬لن القائم قد يكون‬
‫قائما بغيره‪ ،‬لكن حين يكون قائما بذاته‪ ،‬وغيره يستمد قيامه منه‪ ،‬فهو قائم على كل نفس وهو‬
‫سمّو ُهمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ‬
‫جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ ُقلْ َ‬
‫ت وَ َ‬
‫علَىا ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا كَسَ َب ْ‬
‫سبحانه القائل‪َ {:‬أ َفمَنْ ُهوَ قَآئِمٌ َ‬
‫ل َومَن‬
‫ِبمَا لَ َيعَْلمُ فِي الَ ْرضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ ا ْل َقوْلِ َبلْ زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُواْ َمكْرُهُ ْم َوصُدّواْ عَنِ السّبِي ِ‬
‫ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }[الرعد‪]33 :‬‬
‫إن المشركين قد بلغو السفه في جحودهم فجعلوا ل شركاء في العبادة‪ ،‬فهل يستطيع أحد أن يبلغ‬
‫تلك المرتبة العالية‪ ،‬مرتبة خلق العالم والقيام على كل أمر فيه‪ ،‬صغر أو كبر؟‪ .‬إنه الحافظ‬
‫المراقب لكل نفس‪ ،‬العالم بكل ما خفي وظهر‪ ،‬وهذه الوثان ل تضر ول تنفع‪ ،‬فكيف تتوهمون يا‬
‫من أشركتم بال له ندا‪ ،‬إن الحق مُنزه عن ذلك بقيامه على كل نفس وكل الخلق‪ .‬لكن أهل‬
‫الضلل أغواهم ضللهم فلم يعد لهم هاد بعد ال‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه قائم بذاته‪ ،‬وقائم على غيره‪ .‬والغير إن كان قائما إنما يستمد منه القيام‪ .‬فلبد أن‬
‫يكون " قيوما " ‪ ،‬ومن قيومته أنه } لَ تَأْخُ ُذهُ سِنَ ٌة َولَ َنوْمٌ { ‪ ،‬وقيل في كتب العلم‪ :‬إن قوم بني‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إسرائيل سألوا موسى عليه السلم‪ :‬أينام ربنا؟‪.‬‬
‫فأوحى ال إليه‪ :‬أن آت بزجاجتين وضعهما في يد إنسان‪ ،‬ودعه إلى أن ينام‪ ،‬ثم انظر الجواب‪.‬‬
‫فلما وضع في يده الزجاجتين ونام‪ .‬انكسرت الزجاجتان فقال‪ :‬هو كذلك‪ ،‬هو قائم على أمر السماء‬
‫والرض‪ ،‬ولو كانت تأخذه سنة أو نوم لتحطمت الدنيا‪.‬‬
‫وهو سبحانه } لَ تَ ْأخُ ُذهُ سِ َن ٌة َولَ َنوْمٌ {‪ .‬و " السنة " هي أول ما يأتي من النعاس؛ أي النوم‬
‫الخفيف‪ ،‬فالواحد منا يكون جالسا ثم يغفو‪ ،‬لكن النوم هو " السُباتْ العميق " ‪ ،‬فلما قال‪ } :‬لَ تَ ْأخُ ُذهُ‬
‫سِنَةٌ { قالوا‪ :‬إنه يتغلب على النوم الخفيف لكن؛ هل يقدر على مقاومة النوم العميق؟‪.‬‬

‫فقال الحق عن نفسه‪ } :‬لَ تَ ْأخُ ُذهُ سِ َن ٌة َولَ َنوْمٌ {‪ .‬وعرفنا أن السنة هي‪ :‬النعاس الذي يأتي في أول‬
‫ل في العين وفي الجفن‪ ،‬فعندما يذهب إنسان في النوم؛ فإن أثر ذلك‬
‫النوم‪ ،‬ومظهرها يبدو أو ً‬
‫يظهر في عينيه‪ ،‬ولذلك يقولون‪ :‬إن العين هي الجارحة التي يمكن أن تعرف بها أحوال النسان‪،‬‬
‫وقد اكتشفوا في عصرنا الحديث أن الشرايين ل يمكن أن يعرفوا حالتها بالضبط إل من العين‪.‬‬
‫فالفتور الذي يأتي في العين أولً هو السنة أو مقدمات النوم ونسميه‪ :‬النعاس‪.‬‬
‫} لَ تَ ْأخُ ُذهُ سِ َن ٌة َولَ َنوْمٌ { أتريدون تطمينا من إله لمألوه‪ ،‬ومن معبود لعابد‪ ،‬ومن خالق لمخلوق‬
‫أكثر من أنه يقول للعابد المخلوق‪ " :‬نم أنت ملء جفونك‪ ،‬واسترح؛ لن ربك ل ينام "‪ .‬ماذا تريد‬
‫أكثر من هذا؟ هو سبحانه يعلم أنه خلقك‪ ،‬وأنك تحتاج إلى النوم‪ ،‬وأثناء نومك فهناك أجهزة في‬
‫جسمك تعمل‪ .‬أإذا نمت وقف قلبك؟ أإذا نمت انقطع نفسك؟ أإذا نمت وقفت معدتك من حركتها‬
‫الدودية التي تهضم؟ أإذا نمت توقفت أمعاؤك عن امتصاص المادة الغذائية؟ ل‪ ،‬بل كل شيء في‬
‫دولبك يقوم بعمله‪ .‬فمن الذي يُشرف على هذه العمليات لو كان ربك نائما؟‬
‫إذن فأنت تنام وهو ل ينام‪ .‬وبال هل هذه عبودية تُذلنا أو تُعزنا؟ إنها عبودية تُعزنا؛ فالذي نعبده‬
‫يقول‪ :‬ناموا أنتم؛ لنني ل تأخذني سنة ول نوم‪ .‬وإياك أن تفهم أنه ل تأخذه سنة ول نوم‪ ،‬وأن‬
‫شيئا في كونه يخرج على مراده‪ ،‬ل؛ لن كل ما في السماوات والرض له‪ ،‬فل شيء ول أحد‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ {‪.‬‬
‫يخرج عن قدرته‪ .‬ولذلك يقول الحق‪ } :‬لّهُ مَا فِي ال ّ‬
‫شفَعُ عِنْ َدهُ ِإلّ بِِإذْنِهِ { إنّه سبحانه وتعالى يوضح‪ :‬أنا أعطيتك‬
‫ويتابع سبحانه بقوله‪ } :‬مَن ذَا الّذِي يَ ْ‬
‫الراحة في الدنيا‪ ،‬وحتى الكافر جعلته يتنعم بنعمي‪ ،‬ولم أجعل السباب تضن عليه‪ ،‬وأعطيته مادام‬
‫قد اجتهد في تلك السباب مما يدل على أنني ليس عندي محاباة‪ ،‬قلت للسباب‪ :‬يا أسباب من‬
‫يُحسنك يأخذك ولو كان كافرا بي‪ .‬لكنه سيأتي يوم القيامة وليس للكافر إل العذاب‪ ،‬لنه ما دام قد‬
‫عمل في الدنيا وأحسن عملً فقد أخذ جزاءه‪ ،‬فإياكم أن تظنوا كما قالوا‪ " :‬هؤلء شفعاؤنا عند ال "‬
‫‪ ،‬وجاء فيهم قول الحق‪ {:‬وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ َيضُرّ ُه ْم َولَ يَن َف ُعهُ ْم وَ َيقُولُونَ هَـاؤُلءِ‬
‫عمّا‬
‫ت َولَ فِي الَ ْرضِ سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَىا َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ش َفعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ ُقلْ أَتُنَبّئُونَ اللّهَ ِبمَا لَ َيعْلَمُ فِي ال ّ‬
‫ُ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يُشْ ِركُونَ }[يونس‪]18 :‬‬
‫إن هؤلء الذين افتروا على ال بالشرك به‪ ،‬واتخذوا أصناما باطلة ل تضرهم ول تنفعهم‪.‬‬

‫يقولون عن هذه الصنام‪ :‬إنها تشفع لهم عند ال في الخرة‪ ،‬ويأمر الحق سبحانه رسوله محمدا‬
‫صلى ال عليه وسلم أن يبلغ المشركين‪ :‬قل لهم يا محمد‪ :‬هل تخبرون ال بشريك ل يعلم ال له‬
‫وجودا في السماوات ول في الرض‪ ،‬وهو الخالق لكل ما في السماوات والرض ومُنزه سبحانه‬
‫عن أن يكون له شريك في الُملك‪.‬‬
‫لقد أرادوا أن يخلوا بقضية التوحيد ويجعلوا ل شركاء ويقولون‪ :‬إن هؤلء الشركاء هم الذين‬
‫سيشفعون لنا عند ال‪ .‬فيقول الحق سبحانه‪ :‬إن الشفاعة ل يمكن أن تكون عندي إل لمن أذنت له‬
‫شفَعُ عِنْ َدهُ‬
‫أن يشفع‪.‬إن الشفاعة ليست حقا لحد‪ .‬ولكنها عطاء من ال‪ ،‬لذلك يقول‪ } :‬مَن ذَا الّذِي يَ ْ‬
‫ِإلّ بِإِذْنِهِ {‪.‬‬
‫ويقول الحق‪َ } :‬يعَْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ {‪ .‬ساعة يتعرض العلماء إلى‪ } :‬مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا‬
‫خَ ْل َفهُمْ { يشرحون لنا أن ما بين اليدين أي ما أمامك‪ ،‬وما خلفك أي ما وراءك‪ ،‬وما بين يدي‬
‫النسان يكون‪ :‬مواجها للة الدراك الرائدة وهي العين‪ ،‬فهو أمر يُشهد‪.‬‬
‫والذي في الخلف يكون غيبا ل يراه‪ ،‬كأن ما بين اليد يراد به المشهود والذي في الخلف يراد به‬
‫الغيب‪ ،‬فهو } َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ { أي يعلم مشهدهم وغيبهم‪ ،‬ويطلق " ما بين اليد "‬
‫إطلقا آخر‪ .‬إننا قد نسأل عمّا بين يديك‪ .‬هل هو مواجه لك أو غير مواجه؟ فلو كان أمامك بشر‪،‬‬
‫فهل هم قادمون إليك أو راحلون عنك؟‬
‫إنهم إن كانوا راحلين عنك فقد سبقوك وقد جئت أنت من بعدهم‪ ،‬ومن وراءك سيأتي من بعدك‪.‬‬
‫أي أن الحق سبحانه يخبرنا أنه يعلم الماضي والمستقبل‪ .‬فمرة يعلم الحق ما بين أيديهم‪ ،‬أي العالم‬
‫المشهود ويسمونه " عالم الملك " ‪ ،‬وما خلفهم أي الغيب‪ ،‬ويسمونه " عالم الملكوت "‪ .‬إنه يعلم‬
‫المشهود لهم والخفي عنهم‪ .‬وكما يقول الحق‪ {:‬وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُهوَ وَ َيعْلَمُ مَا فِي‬
‫ب َولَ يَا ِبسٍ ِإلّ‬
‫ط ٍ‬
‫ت الَ ْرضِ َولَ رَ ْ‬
‫سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي ظُُلمَا ِ‬
‫الْبَ ّر وَالْبَحْرِ َومَا َت ْ‬
‫فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }[النعام‪]59 :‬‬
‫إن عند ال علم جميع الغيب ويحيط علمه بكل شيء‪ ،‬ول تخفى عليه خافية‪ .‬إنها إحاطة من كل‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ {‪ .‬إنه الحق يعلم‬
‫ناحية‪َ } .‬يعَْلمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي ِه ْم َومَا خَ ْل َفهُ ْم َولَ ُيحِيطُونَ ِب َ‬
‫مطلق العلم‪ .‬وكون الحق يعلم فإن ذلك ل ينفي أن يكون غيره يعلم أيضا‪ ،‬لكن علم البشر هو‬
‫بعض علم موهوب من الخالق لعباده‪.‬‬
‫فعندما يقول واحد‪ :‬أنا أقول الشعر‪ .‬فهل منع ذلك القول أحدا آخر من أن يقول الشعر؟ ل‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنه لم يقل‪ :‬ما يقول الشعر إل أنا‪.‬‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ { ‪ ،‬و " العلم " هو الصفة التي تعلم‬
‫ويقول سبحانه‪َ } :‬ولَ يُحِيطُونَ ِب َ‬
‫الشياء على وفق ما هي عليه‪ ،‬هذا هو العلم‪ .‬وصفة ال وعلمه أعظم من أن يحاط بهم‪ ،‬لنها لو‬
‫أحيطت لحددت‪ ،‬وكمالت ال ل تحدد‪ ،‬مثلما ترى شيئا يعجبك فتقول‪ :‬هذه قدرة ال‪ ،‬هل هي قدرة‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ‬
‫ال أو مقدور ال؟ إنها مقدور ال أي أثر القدرة‪ ،‬فعندما يقول‪َ } :‬ولَ يُحِيطُونَ ِب َ‬
‫ِبمَا شَآءَ { أي من معلومه‪.‬‬
‫" ويحيطون " هي دقة في الداء‪ ،‬لنك قد تدرك معلوما من جهة وتجهله من جهات‪ ،‬فأوضح‬
‫سبحانه‪ :‬أنك ل تقدر أن تحيط بعلم ال أو قدرته؛ لن معنى الحاطة أنك تعرف كل شيء‪ ،‬مثل‬
‫المحيط على الدائرة‪ ،‬لكن ذلك ل يمنع أن نعلم جزئية ما‪ ،‬ونحن نعلم بما آتانا ال من قوانين‬
‫الستنباط‪ ،‬فهناك مقدمات نستنبط منها نتائج‪ ،‬مثل الطالب الذي يحل مسألة جبر‪ ،‬أو تمرين‬
‫هندسة‪ ،‬أيعلم هذه الطالب غيبا؟ ل‪ ،‬ولكنه يأخذ مقدمات موضوعة له ويصل إلى نتائج معروفة‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ‬
‫سلفا لستاذه‪ .‬وأنت ل تحيط بعلم إل بما شاء لك ال أن تحيط‪َ } ،‬ولَ ُيحِيطُونَ بِ َ‬
‫ِبمَا شَآءَ {‪.‬‬
‫وقول ال‪ِ } :‬إلّ ِبمَا شَآءَ { هو إذن منه سبحانه بأنه سيتفضل على خلقه بأن يشاء لهم أن يعلموا‬
‫شيئا من معلومه‪ ،‬وكان هذا المعلوم خفيا عنهم ومستورا في أسرار الكون‪ ،‬ثم يأذن ال للسر أن‬
‫ينكشف‪ ،‬وكل شيء اكتشفه العقل البشري‪ ،‬كان مطمورا في علم الغيب وكان سرا من أسرار ال‪،‬‬
‫وبعد ذلك أذن ال للسر أن ينكشف فعرفناه‪ ،‬بمشيئته سبحانه‪ .‬فكل سر في الكون له ميلد‬
‫كالنسان تماما‪ ،‬أي أن له ميعادا يظهر فيه‪ ،‬وهذا الميعاد يسمى مولد السر‪ .‬لقد كان هذا السر‬
‫موجودا وكان العالم يستفيد منه وإن لم يعلمه‪ .‬لقد كنا نحن نستفيد ـ على سبيل المثال ـ من‬
‫قانون الجاذبية ولم نكن نعلم قانون الجاذبية‪ ،‬وكذلك النسبية كنا نستفيد منها ولم نكن نعلمها‪ ،‬وهذا‬
‫ق َوفِي‬
‫ما يبينه لنا الحق في موضع آخر من القرآن الكريم‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬
‫شهِيدٌ }[فصلت‪]53 :‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫حقّ َأوَلَمْ َيكْفِ بِرَ ّبكَ أَنّهُ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ الْ َ‬
‫أَنفُ ِ‬
‫ما دام قال سبحانه‪ } :‬سَنُرِيهِمْ { ‪ ،‬فهذا يعني أنه سبحانه سيولد لنا أسرارا جديدة‪ ،‬وهذا الميلد‬
‫إيجادا وإنما هو إظهار‪ ،‬ولذلك يقول الناس عن السرار العلمية‪ :‬إنها اكتشافات جديدة‪ ،‬لقد تأدبوا‬
‫في القول مع أن كثيرا منهم غير متدينين‪ ،‬قالوا‪ :‬اكتشفنا كذا‪ ،‬كأن ما اكتشفوه كان موجودا وهم ل‬
‫يقصدون هذا الدب‪ .‬إنما هي جاءت كذلك‪ ،‬أما المؤمنون فيقولون‪ :‬لقد أذن ال لذلك السر أن‬
‫يولد‪.‬‬

‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ { فيه تحد واضح‪ .‬فحتى إذا اجتمع البشر مع‬
‫وقوله‪َ } :‬ولَ ُيحِيطُونَ ِب َ‬
‫بعضهم فلن يحيطوا بشيء إل بإذنه‪ .‬وهذا تحد للكل حين يشاء سبحانه أن يجد إظهار سر في‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الوجود‪ ،‬فهذا السر يولد‪ ،‬وقد يكون إظهار السر موافقا لبحث الناس مثل العالم الذي يجلس في‬
‫معمله ليجرب في العناصر والتفاعلت‪ ،‬ويهتدي لهذه وهذه‪ ،‬إنه يتعب كثيرا كي يعرف بعضا من‬
‫السرار‪ ،‬ونحن ل ندري بتعبه وجهده إل يوم أن يكشف سره‪.‬‬
‫لقد أخذ المقدمات التي وضعها ال في الكون حتى إذا تتبعناها نصل إلى سره‪ ،‬مثلما نريد أن نصل‬
‫إلى الولد فنتزوج حتى يأتي‪ ،‬وقد يأذن ال مرارا كثيرة أن يولد السر بدون أن يشتغل الخلق‬
‫بمقدماته‪ ،‬لكن ميعاد ميلد السر قد جاء ولم ينشغل العلماء بمقدماته؛ فيخرجه ال لي مخترع‬
‫كنتيجة لخطأ في تجربة ما‪.‬‬
‫وعندما نبحث في تاريخ معظم الكتشافات نجدها كذلك‪ ،‬لقد جاءت مصادفة‪ ،‬فهناك عالم يبحث في‬
‫مجال ما‪ ،‬فتخرج له حقيقة أخرى كانت مخفية عنا جميعا‪ .‬لقد جاء ميعاد ميلدها على غير بحث‬
‫من الخلق‪ ،‬فجاء ال بها في طريق آخر لغيرها‪ ،‬وفي بعض الحيان يوفق ال عالما يبحث‬
‫المقدمات ويكشف له السر الذي يبحث عنه‪.‬‬
‫ع ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ { تعني أن النسان قد يصادف السر بالبحث‪،‬‬
‫شيْءٍ مّنْ ِ‬
‫إذن‪ ،‬فـ } َولَ ُيحِيطُونَ بِ َ‬
‫ومرة يأتي سر آخر في مجال البحث عن غيره‪ ،‬فال ل يضن بكشف السر حتى لو لم يشتغلوا به‬
‫ونسميها نحن ـ مصادفة ـ إن كل شيء يجري في الكون إنما يجري بمقدار‪ ،‬وهذا هو الذي‬
‫يفرق لنا بين معرفة غيب كان موجودا وله مقدمات في كون ال نستطيع أن نصل إليه بها‪ ،‬وشيء‬
‫مستور عند ال ليست له مقدمات؛ إن شاء سبحانه أعطاه من عنده تفضل؛ من باب فضل الجود‬
‫ل بذل المجهود وهو سبحانه يفيضه في " المصادفة " هنا ويفيضه فيما ل مقدمات له على بعض‬
‫أصفيائه من خلقه‪ ،‬ليعلم الناس جميعا أن ل فيوضات على بعض عبيده الذين وَالَهُمُ ال بمحبته‬
‫وإشراقاته وتجليه‪.‬‬
‫لكن هل هذا يعني أن باستطاعتنا أن نعرف كل الغيب؟ ل‪ ،‬فالغيب قسمان‪ :‬غيب جعل ال له في‬
‫كونه مقدمات‪ ،‬إن استعملناها نصل إليه‪ ،‬ككثير من الكتشافات‪ ،‬وإذا شاء ال أن يولد سر ما ولم‬
‫نبحث عنه فهو يعطيه لنا " مصادفة " من باب فيض الجود ل بذل المجهود‪ .‬ونوع آخر من الغيب‬
‫ليست له مقدمات‪ ،‬وهذا ما استأثر ال بعلمه إل أنه قد يفيض به على بعض خلقه كما يقول‬
‫ظهِرُ عَلَىا غَيْ ِبهِ َأحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ فَإِنّهُ َيسُْلكُ مِن بَيْنِ‬
‫سبحانه‪ {:‬عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ‬
‫يَدَيْهِ َومِنْ خَ ْلفِهِ َرصَدا }‬

‫[الجن‪]27-26 :‬‬
‫إن ال هو عالم الغيب فل يُطلع أحدا من خلقه على غيبه إل من ارتضاه واصطفاه من البشر‪،‬‬
‫لذلك فل أحد يستطيع أن يتعلم هذا اللون من الغيب‪ .‬ولذلك فل يوجد من يفتح دكانا لعلم الغيب‬
‫يذهب إليه النسان ليسأله عن الغيب‪ .‬إن الحق يقول‪ {:‬وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُه َو وَ َيعْلَمُ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ب وَلَ‬
‫ط ٍ‬
‫ض َولَ َر ْ‬
‫سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الَ ْر ِ‬
‫مَا فِي الْبَ ّر وَالْبَحْ ِر َومَا تَ ْ‬
‫يَابِسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }[النعام‪]59 :‬‬
‫وهو سبحانه ل يعطي المفتاح لحد من خلقه‪ .‬وقد يريد ال أن يعطي لواحد كرامة‪ ،‬فأعطاه كلمة‬
‫على لسانه قد يكون هو غير مدرك لها! فيقول‪ :‬من يسمح هذا القول وينتفع به‪ .‬فلن قال لي‪ :‬كذا‬
‫وكذا‪ ..‬يا سلم! وهذا فيض من ال على عبده حين يبين ال لنا أنه يوالي هؤلء العباد الصالحين‪.‬‬
‫شيْءٍ { تعني أقل القليل‪ .‬وقوله سبحانه‪} :‬‬
‫شيْءٍ { نجد أن كلمة } بِ َ‬
‫وقوله الحق‪َ } :‬ولَ يُحِيطُونَ بِ َ‬
‫ت وَالَرْضَ { يعلمنا أن الحق فيما يتكلم به عن نفسه‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآ َء وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ‬
‫ولخلقه فيه نظائر‪ ،‬كالوجود‪ ،‬هو سبحانه موجود وأنت موجود‪ ،‬كالغني هو غني وأنت غني‪،‬‬
‫كالعلم هو عالم وأنت تكون عالما‪ ،‬فهل نقول‪ :‬إن الصفة ل كالصفة عندنا؟ ل‪ ،‬كذلك كل ما يرد‬
‫بالنسبة للغيب فيما يتعلق بال إضافة أو وصفا؛ ل تأخذها بالمناسب عندك؛ بل خذها في إطار }‬
‫شيْءٌ {‪ .‬فإذا قيل ل يد‪ ،‬قل‪ :‬هو له يد كما أن له وجودا؛ وبما أن وجوده ليس‬
‫لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫شيْءٌ { ‪ ،‬فإذا قال‪ } :‬وَسِعَ كُرْسِيّهُ‬
‫كوجودي فيده ليست كيدي بل افهمها في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫شيْءٌ {‪ .‬فل تقل له‬
‫{ نقول‪ :‬هو قال هذا‪ ،‬ومادام قال هذا فسنأخذ هذه الكلمة في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫كرسي وسيقعد عليه مثلنا‪ ،‬ل‪ .‬لقد وجدنا من قال‪ :‬أين يوجد ال؟!! متى وجد؟!! وقلنا ونقول‪" :‬‬
‫متى " و " أين " ل تأتي بالنسبة ل‪ ،‬إنها تأتي بالنسبة لكم أنتم‪ ،‬لماذا؟ لن " متى " زمان و " أين "‬
‫مكان‪ .‬والزمان والمكان ظرفان للحدث‪ ،‬فالشيء الحادث هو الذي له زمان ومكان‪ ،‬مثال ذلك أن‬
‫أقول‪ " :‬أنا شربت " ومادام قد حدث الشرب فيكون له زمان ومكان‪ ،‬لكن هب أنني لم أشرب‪،‬‬
‫أيكون هناك زمان أو مكان؟! ل‪ ،‬فمادام ال ليس حدثا فليس متعلقا به زمان أو مكان‪ ،‬لن الزمان‬
‫خِلقَت به‪ ،‬ول تقل "‬
‫والمكان نشأ عندما خلق ال وأحدث هذا الكون‪ ،‬فل تقل‪ " :‬متى " لن " متى " ُ‬
‫خِلقَت به ولن " متى " و " أين " ظرفان؛ هذه للزمان‪ ،‬وهذه للمكان‪ ،‬والزمان‬
‫أين " لن أين ُ‬
‫والمكان فرعا الحديث‪.‬‬

‫وعندما يوجد حدث فقل زمان ومكان‪.‬‬


‫إذن فما دام ال ليس حدثا‪ ،‬فإياك أن تقول فيه متى‪ ،‬وإياك أن تقول فيه أين‪ ،‬لن " متى " و " أين "‬
‫شيْءٌ { ‪،‬‬
‫سعَ كُرْسِيّهُ { نأخذه ـ كما قلنا في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫وليدة الحدث‪ .‬وقوله الحق‪ } :‬وَ ِ‬
‫الكرسي‪ :‬في اللغة من الكِرْس‪ .‬والكِرْسُ هو‪:‬التجميع‪ ،‬ومنه الكراسة وهي عدة أوراق مجمعة‪،‬‬
‫وكلمة " كرسي " استعملت في اللغة بمعنى الساس الذي يُبنى عليه الشيء‪ ،‬فمادة " الكرسي‬
‫" (الكاف والراء والسين) تدل على التجميع وتدل على الساس الذي تثبت عليه الشياء؛ فنقول‪:‬‬
‫اصنع لهذا الجدار كرسيّا‪ ،‬أي ضع لهذا الجدار أساسا يقوم عليه‪ .‬وتطلق أيضا على القوم والعلماء‬
‫الذين يقوم بهم المر فيما يشكل من الحداث‪ ،‬والشاعر العربي قال‪ " :‬كراسي في الحداث حين‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تنوب " أي يعتمد عليهم في المور الجسيمة‪.‬‬
‫وحين يُنسب شيء من ذلك للحق سبحانه وتعالى‪ .‬فإن السلف لهم فيها كلم والخلف لهم فيها كلم‪،‬‬
‫شيْءٌ‬
‫والسلف يقولون‪ :‬كما قال ال نأخذها ولكن نضع كيفيتها وتصورها في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫{ ‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬نؤولها بما يُثبت لها صفة من الصفات‪ ،‬كما يثبتون قدرة الحق بقوله الحكيم‪ {:‬يَدُ‬
‫اللّهِ َف ْوقَ أَيْدِيهِمْ }[الفتح‪]10 :‬‬
‫سمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَي ْي ٍد وَإِنّا‬
‫أي أن قدرة ال فوق قدرتهم‪ ،‬وكما قال سبحانه عن قدرته في الخلق‪ {:‬وَال ّ‬
‫سعُونَ }[الذاريات‪]47 :‬‬
‫َلمُو ِ‬
‫إن كمال قدرة ال أحكمت خلق السماء‪ ،‬والحق سبحانه مقدس َومُنَ ّزهٌ عن أن يتصور المخلوق‬
‫كلمة " يد " بالنسبة ل‪ .‬ونحن نقول‪ :‬ال قال ذلك‪ ،‬ونأخذها من ال؛ لنه أعلم بذاته وبنفسه‪،‬‬
‫ل يكون له شبيه أو نظير‪ ،‬كما أثبتنا ل كثيرا من الصفات‪ ،‬في خلق ال مثلها ومع‬
‫ونُحيلها إلى أ ّ‬
‫ذلك نقول‪ :‬علمه ل كعلمنا‪ ،‬وبصره ل كبصرنا‪ ،‬فلماذا يكون كرسيه مثل كرسينا؟‪ .‬فتكون في‬
‫شيْءٌ {‪.‬‬
‫إطار } لَيْسَ َكمِثِْلهِ َ‬
‫والعلماء قالوا عن الكرسي‪ :‬إنه ما يُعتمد عليه‪ ،‬فهل المقصود علمه؟‪ .‬نعم‪ .‬وهل المقصود سلطانه‬
‫وقدرته؟‪ .‬نعم‪ ،‬لن كلمة " كرسي " توحي بالجلوس فوقه‪ ،‬والنسان ل يجلس عن قيام إل إذا‬
‫استتب له المر‪ ،‬ولذلك يسمونه " كرسي الملك "؛ لن المر الذي يحتاج إلى قيام وحركة ل‬
‫يجعلك تجلس على الكرسي‪ ،‬فعندما تقعد على الكرسي‪ ،‬فمعنى ذلك أن المر قد استتب‪ ،‬إذن فهو‬
‫بالنسبة ل السلطان‪ ،‬والقهر‪ ،‬والغلبة‪ ،‬والقدرة‪.‬‬
‫ت وَالَرْضَ { فوسع الشيء أي‪ :‬دخل في وسعه‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫أو نقول‪ :‬مادام قال‪ } :‬وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ‬
‫واحتماله‪ " .‬والسماوات والرض " نحن نفهمها أنها كائنات كبيرة بالنسبة لنا‪ ،‬إنه سبحانه يقول‪{:‬‬
‫س لَ َيعَْلمُونَ }[غافر‪]57 :‬‬
‫س وَلَـاكِنّ َأكْـثَرَ النّا ِ‬
‫ت وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّا ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لَخَ ْلقُ ال ّ‬
‫وعندما يقول‪ :‬إن الكرسي وسع السماوات والرض‪ ،‬إذن‪ ،‬فهو أعظم من السماوات والرض أي‬
‫دخل في وسعه السماوات والرض‪.‬‬

‫ولذلك " يقول أبو ذر الغفاري رضي ال عنه‪( :‬سألت النبي صلى ال عليه وسلم عن الكرسي‬
‫فقال‪ :‬يا أبا ذر ما السماوات السبع والرضون السبع عند الكرسي إل كحلقة ملقاة بأرض فلة‪.‬‬
‫وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلة على تلك الحلقة) "‪.‬‬
‫والبشرية بكل ما وصلت له من إنجازات علمية قد وصلت إلى القمر فقط وهو مجرد ضاحية من‬
‫ضواحي الرض‪ ،‬ومفصول عنا بمسافة تقاس بالثواني الضوئية‪ ،‬ولقد تعودنا في حياتنا أن‬
‫نستخدم وحدات الميل والكيلومتر لقياس الطوال والبعاد الكبيرة‪ ،‬لكننا اكتشفنا أن هذه الوحدات‬
‫ليست ذات نفع في قياس أبعاد النجوم؛ لننا نعرف مثل أن الشمس تبعد عن الرض ثلثة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتسعين مليونا من الميال‪ ،‬ولكن عندما نريد أن نرصد المسافة بيننا وبين أحد النجوم فلسوف‬
‫نضطر إلى استخدام أعداد كثيرة من الصفار أمام رقم ما‪ ،‬وهذا يجعل التعبير غير عملي‪ ،‬ولهذا‬
‫السبب وضع علماء الفلك وحدة ملئمة لقياس أبعاد النجوم وهي ما نسميه السنة الضوئية‪ .‬ونحن‬
‫نعرف أن سرعة الضوء حوالي ثلثمائة ألف كيلومتر في الثانية‪ .‬ولذلك فقياس أي مسافة بيننا‬
‫وبين أي نجم في السماء أمر يحتاج إلى حسابات دقيقة وكثيرة ودراسة علوم متعددة‪.‬‬
‫فالشمس بيننا وبينها ثلثة وتسعون مليونا من الميال ويصلنا ضوؤها في خلل ثماني دقائق وثلث‬
‫الدقيقة‪ .‬والشعرى اليمانية وهي ألمع نجوم السماء يصل إلينا ضؤوها في تسع سنوات ضوئية‪.‬‬
‫إذن فالسنة الضوئية هي وحدة لقياس المسافات الفلكية‪ .‬ونحن نذهل عندما نعرف أن بعض النجوم‬
‫يصل ضؤوها إلينا في خمسين سنة ضوئية!! كل ذلك ونحن لم نصل بعد إلى السماء الدنيا‪ ،‬فما‬
‫بالنا ببقية السماوات؟ إذن فحدود ملك ال فوق تصورنا‪ .‬ولنا أن نعرف أي تكريم من الحق‬
‫ضهَا‬
‫للمؤمنين حين يصور لنا ضخامة الجنة يقول سبحانه‪ {:‬سَا ِبقُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن رّ ّب ُك ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ‬
‫ضلُ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو‬
‫ع ّدتْ لِلّذِينَ آمَنُواْ بِاللّ ِه وَرُسُِلهِ ذَِلكَ َف ْ‬
‫سمَآ ِء وَالَ ْرضِ أُ ِ‬
‫َكعَ ْرضِ ال ّ‬
‫ا ْل َفضْلِ ا ْلعَظِيمِ }[الحديد‪]21 :‬‬
‫هذه هي الجنة التي أعدها ال للمؤمنين بال ورسله الذين يسارعون إلى طلب غفران ال‪ .‬فإذا كان‬
‫عرض الجنة هو السماوات والرض‪ ،‬فما طولها إذن؟ وكم يكون بعدها؟ والعرض كما نعرف هو‬
‫أقل البعدين‪.‬‬
‫إذن يجب أن نفهم أن هناك عوالم أخرى غير السماء والرض‪ ،‬لكن عيوننا ل تبصر فقط إل ما‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫أراده الحق لنا من السماء والرض‪ ،‬ولذلك فعندما نسمع قول الحق‪ } :‬وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ‬
‫وَالَرْضَ { فلنا أن نتخيل أي عظمة هي عظمة كرسي ذي الجلل والكرام‪.‬‬
‫ظ ُهمَا { ‪ ،‬ومعنى آده الشيء‪ ،‬أي‬
‫حفْ ُ‬
‫ض َولَ َيؤُو ُدهُ ِ‬
‫ت وَالَرْ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫إن الحق يقول‪ } :‬وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ‬
‫أثقله‪ .‬وحتى نفهم ذلك هب أن إنسانا يستطيع أن يحمل عشرة كيلوجرامات‪ ،‬فإن زدنا هذا الحمل‬
‫إلى عشرين من الكيلوجرامات فإن الحمل يثقل عليه‪ ،‬ويجعل عموده الفقري معوجا حتى يستطيع‬
‫أن يقاوم الثقل‪.‬‬

‫فإن زدنا الحمل أكثر فقد يقع الرجل على الرض من فرط زيادة الوزن الثقيل‪.‬‬
‫ظ ُهمَا { أي أنه ل يثقل على ال حفظ السماوات والرض‪ .‬إن السماء‬
‫حفْ ُ‬
‫إذن فمعنى } َولَ َيؤُو ُدهُ ِ‬
‫والرض وهما فوق اتساع رؤية البشر؛ فقد وسعهما الكرسي الرباني‪ .‬وقال بعض المفسرين‪ :‬إذا‬
‫كان الكرسي ل يثقل عليه حفظ السماوات والرض فما بالنا بصاحب الكرسي!!؟‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ أَن تَزُولَ وَلَئِن‬
‫سكُ ال ّ‬
‫هاهو ذا الحق سبحانه وتعالى يطمئنا فيقول‪ {:‬إِنّ اللّهَ ُي ْم ِ‬
‫غفُورا }[فاطر‪]41 :‬‬
‫س َك ُهمَا مِنْ َأحَدٍ مّن َب ْع ِدهِ إِنّهُ كَانَ حَلِيما َ‬
‫زَالَتَآ إِنْ َأ ْم َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنه الحق وحده سبحانه وتعالى الذي يحفظ السماوات والرض في توازن عجيب ومذهل‪ ،‬ولئن‬
‫قُدّرَ لهما أن تزول‪ .‬فلن يحفظهما أحد بعد ال‪ ،‬أي ل يستطيع أحد إمساكهما؛ فهما قائمتان بقدرة‬
‫الواحد القهار‪ ،‬وإذا أراد ال أن تزول فل يستطيع أحدٌ أن يمسكهما ويمنعهما من الزوال‪.‬‬
‫وإذا كانت هذه الشياء الضخمة من صنع ال وهو فوقها‪ ،‬فإنه عندما يصف نفسه بأنه " عليّ " و "‬
‫عظيم " فذلك أمر طبيعي‪ .‬إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا تذييلً منطقيا يقتضيه ما تقدمت به الية‬
‫الجليلة‪ :‬آية الكرسي‪ ،‬إنه الحق يقول‪ } :‬وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلعَظِيمُ { وكلمة " عليّ " صيغة مبالغة في‬
‫العلو‪ .‬و " العليّ " هو الذي ل يوجد ما هو أعلى منه فكل شيء دونه‪.‬‬
‫هذه الية الكريمة التي نحن بصددها نعرفها بآية الكرسي؛ لن كلمة " الكرسي " هي الظاهرة‬
‫فيها‪ .‬وكلمة " الكرسي " فيها‪ :‬تعني السلطان والقهر والقدرة والملكية وكلها مأخوذة من صفات‬
‫الحق جل وعل‪.‬‬
‫إنه ل إله إل هو‪ .‬إنه الحي‪ .‬إنه القيوم‪ .‬إنه الذي ل تأخذه سنة ول نوم‪.‬‬
‫والشفاعة عنده مأذون فيها بإرادته هو وحده وليس بإرادة سواه‪ .‬وهو العليم بكل شيء‪ ،‬الذي يسع‬
‫كرسيه السماوات والرض وهو العليّ فل أعلى منه‪ ،‬وهو العظيم بمطلق العظمة‪ .‬وتتجمع كل‬
‫هذه الصفات لتضع أمامنا أصول التصور في العقيدة اليمانية‪ ،‬وقد وردت فيها أحاديث كثيرة‪،‬‬
‫ومنها نستخلص أنها آية لها قدرها ومقدارها عند ال‪ " .‬فعن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪" :‬‬
‫وكلني رسول ال صلى ال عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو الطعام فأخذته‬
‫وقلت وال لرفعنك إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قال‪ :‬إني محتاج‪ ،‬وعليّ عيال‪ ،‬ولي‬
‫حاجة شديدة‪ .‬قال‪ :‬فخليت عنه‪ ،‬فأصبحت فقال النبي صلى ال عليه وسلم ـ يا أبا هريرة‪ " :‬ما‬
‫فعل أسيرك البارحة "؟ قال‪ :‬قلت يا رسول ال‪ :‬شكا حاجة شديدة وعيال‪ ،‬فرحمته‪ ،‬فخليت سبيله‪،‬‬
‫قال‪ " :‬أما إنه كذبك وسيعود " فعرفت أنه سيعود لقول رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ إنه‬
‫سيعود‪ ،‬فرصدته فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت‪ :‬لرفعنك إلى رسول ال ـ صلى ال عليه‬
‫وسلم ـ قال‪ :‬دعني فإني محتاج‪ ،‬وعلي عيال ل أعود‪ ،‬فرحمته وخليت سبيله‪ ،‬فأصبحت فقال لي‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬يا أبا هريرة‪ " :‬ما فعل أسيرك "؟ فقلت يا رسول ال‪ :‬شكا حاجة‬
‫شديدة وعيال فرحمته فخليت سبيله قال‪ " :‬أما إنه قد كذبك وسيعود " فرصدته الثالثة‪ ،‬فجاء يحثو‬
‫من الطعام فأخذته فقلت لرفعنك إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهذا آخر ثلث مرات أنك‬
‫تزعم ل تعود‪ ،‬قال‪ :‬دعني أعلمك كلمات ينفعك ال بها قلت‪ :‬ما هي؟‬
‫قال‪ :‬إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي " ال ل إله إل هو الحي القيوم " حتى تختم الية؛‬
‫فإنه لن يزال عليك من ال حافظ‪ ،‬ول يقربنك شيطان حتى تصبح‪ ،‬فخليت سبيله‪ ،‬فأصبحت فقال‬
‫لي رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ما فعل أسيرك البارحة "؟ قلت يا رسول ال‪ :‬زعم أنه‬
‫يعلمني كلمات ينفعني ال بها فخليت سبيله قال‪ " :‬ما هي " قلت‪ :‬قال لي‪ :‬إذا أويت إلى فراشك‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم " ال ل إله إل هو الحي القيوم " ‪ ،‬وقال لي‪ :‬لن يزال عليك‬
‫من ال حافظ ول يقربك شيطان حتى تصبح‪ ،‬وكانوا (أي الصحابة) أحرص شيء على تعلم‬
‫الخير‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬أما أنه قد صدقك وهو كذوب‪ ،‬تعلم من تخاطب منذ‬
‫ثلث ليال يا أبا هريرة؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ذاك الشيطان " "‪.‬‬

‫وعن أبي هريرة قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬سورة البقرة فيها سيدة آي القرآن ل‬
‫تقرأ في بيت فيه شيطان إل خرج منه ـ آية الكرسي "‪.‬‬
‫وعن أبي أمامه قال‪ " :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " من قرأ دبر كل صلة آية الكرسي لم‬
‫يمنعه من دخول الجنة إل أن يموت "‪.‬‬
‫وعن علي كرم ال وجهه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬من قرأها ـ يعني آية‬
‫الكرسي ـ حين يأخذ مضجعه آمنه ال تعالى على داره‪ ،‬ودار جاره‪ ،‬وأهل دويرات حوله "‪.‬‬
‫كل هذه المعاني قد وردت في أفضال هذه الية الكريمة‪ ،‬وقد جلس العلماء يبحثون عن سر هذه‬
‫المسألة فقال واحد منهم‪ :‬انظروا إلى أسماء ال الموجودة فيها‪.‬‬
‫وبالفعل قام أحد العلماء بحصر أسماء ال الحسنى فيها‪ ،‬فوجد أن فيها ستة عشر اسما من أسماء‬
‫ال‪ ،‬وبعضهم قال‪ :‬إن بها سبعة عشر اسما من أسماء ال الحسنى‪ ،‬وبعضهم قال أن فيها واحدا‬
‫وعشرين اسما من أسماء ال‪ ،‬كل ذلك من أجل أن يستنبطوا منها أشياء‪ ،‬ويعلموا فضل وفضائل‬
‫هذه الية الكريمة‪.‬‬

‫والذين قالوا إن بها ستة عشر اسما من أسماء ال قالوا‪:‬‬


‫إن بها اسم علم واجب الوجود " ال "‪.‬‬
‫واسم " هو " في ل إله إل هو‪ :‬هو السم الثاني‪.‬‬
‫و " الحيّ " هو السم الثالث‪.‬‬
‫و " القيوم " هو السم الرابع‪.‬‬
‫وعندما ندقق في قول الحق " ل تأخذه سنة ول نوم " نجد أن الضمير في " ل تأخذه عائد إلى ذاته‬
‫ـ جل شأنه ـ‪..‬‬
‫و " له ما في السماوات وما في الرض " فيها ضمير عائد إلى ذاته سبحانه‪.‬‬
‫وكذلك الضمائر في قوله‪ " :‬عنده " و " بإذنه " و " يعلم " و " من علمه " و " بما شاء " و " كرسيه‬
‫" كلها تعود إلى ذاته جل شأنه‪.‬‬
‫و " ل يؤوده حفظهما " فيها ضمير عائد إلى ذاته كذلك‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫و " هو " في قوله سبحانه " وهو العلي العظيم " اسم من أسمائه تعالى‪.‬‬
‫و " العلي " اسم من أسمائه جل وعل‪.‬‬
‫و " العظيم " كذلك اسم من أسمائه سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫لكنّ عالما آخر قال‪ :‬إنها سبعة عشر اسما من أسماء ال؛ لنك لم تحسب الضمير في المصدر‬
‫المشتق منه الفعل الموجود بقوله‪ " :‬حفظهما " إن الضمير في " هما " يعود إلى السماوات‬
‫والرض‪ .‬و " الحفظ " مصدر‪ .‬فمن الذي يحفظ السماوات والرض؟ إنه ال سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫وهكذا أصبحوا سبعة عشر اسما من أسماء ال الحسنى في آية الكرسي‪.‬‬
‫وعالم ثالث قال‪ :‬ل‪ ،‬أنتم تجاهلتم أسماء أخرى؛ لن في الية الكريمة أسماء واضحة للحق جل‬
‫وعل‪ ،‬وهناك أسماء مشتقة‪ ،‬مثال ذلك‪:‬‬
‫ال ل إله إل هو‪ .‬الحي هو‪ .‬القيوم هو‪ .‬العلي هو‪ .‬العظيم هو‪.‬‬
‫ولكن العلماء قالوا ردا على ذلك‪ :‬صحيح أنها أسماء مشتقة ولكنها صارت أعلما‪.‬‬
‫المهم أن في الية الكريمة ستة عشر اسما‪ ،‬وإن حسبنا الضمير المستتر في " حفظهما " نجد أنها‬
‫سبعة عشر اسما‪ ،‬وإذا حسبنا الضمير الموجود في المشتقات مثل " الحي هو " و " القيوم هو " و‬
‫" العلي هو " و " العظيم هو "‪ .‬صارت أسماء ال الحسنى الموجودة في هذه الية الكريمة واحدا‬
‫وعشرين اسما‪ .‬إذن هي آية قد جمعت قدرا كبيرا من أسماء ال‪ ،‬ومن ذلك جاءت عظمتها‪.‬‬
‫وهذه الية الكريمة قد بيّنت ووضحت قواعد التصور اليماني‪ ،‬وأنشأت عقيدة متكاملة يعتز‬
‫المؤمن أن تكون هذه العقيدة عقيدته‪.‬‬

‫ي القيوم‬
‫والية في ذاتها تتضمن حيثيات اليمان‪ ،‬إنه ما دام هو ال ل إله إل هو‪ ،‬وما دام هو الح ّ‬
‫على أمر السماء والرض‪ ،‬وكل شيء بيده‪ ،‬وهو العلي العظيم‪ ،‬فكل هذه مبررات لن نؤمن به‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وأن نعتز بأن نعتقد هذه المعتقدات‪ ،‬وتكون هي الدليل على أن المؤمن فخور بهذا‬
‫الدين الذي كان أمر اللوهية المطلقة واضحا وبيّنا فيه‪.‬‬
‫ولذلك فمن الطبيعي أل يقهر الحق أحدا على اليمان به إكراها‪ ،‬لن الذي يقهر أحدا على عقيدة‬
‫ما‪ ،‬هو أول مَنْ يعتقد أنه لول الكراه على هذه العقيدة لما اعتقدها أحد‪ .‬ونحن في حياتنا اليومية‬
‫نجد أن أصحاب المبادئ الباطلة هم الذين يمسكون السياط من أجل إكراه الناس على السير على‬
‫مبادئهم‪ .‬وكل من أصحاب هذه المبادئ الباطلة يعلم تمام العلم أنه لو ترك السوط والقهر ما سار‬
‫إنسان على مثل هذه المبادئ الباطلة‪.‬‬
‫ولو كان أحد من أصحاب هذه المبادئ الباطلة معتقدا أن مبدأه سليم لقال‪ :‬أطرح هذا المبدأ على‬
‫الناس‪ ،‬وأترك لهم الخيار؛ لنه في هذه الحالة سيكون واثقا من مبدئه‪ .‬أما الذي يقهر الناس إكراها‬
‫بالسوط أو السلطان ليعتقدوا مبدأ ما‪ ،‬فهو أول من يشك في هذا المبدأ‪ ،‬وهو أول من يعتقد أنه مبدأ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫باطل‪ .‬مثل هؤلء نراهم عندما تضعف أيديهم عن استعمال السوط أو السلطان فإن أمر مبدئهم‬
‫ينهزم ويسقط بنيانه‪.‬‬
‫شدُ مِنَ ا ْل َغيّ‪{ ...‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى بعد ذلك يقول‪ } :‬لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّ ْ‬

‫(‪)257 /‬‬

‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ‬


‫لَا ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ َقدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ َفمَنْ َي ْكفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ ُي ْؤمِنْ بِاللّهِ َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)256‬‬
‫ا ْلوُ ْثقَى لَا ا ْن ِفصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ‬

‫إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا نحن العباد المؤمنين ولسائر البشرية أنه‪ { :‬لَ ِإكْرَاهَ فِي‬
‫الدّينِ }‪ .‬والكراه هو أن تحمل الغير على فعل ل يرى هو خيرا في أن يفعله‪ .‬أي ل يرى‬
‫الشخص المكرَه فيه خيرا حتى يفعله‪.‬‬
‫ولكن هناك أشياء قد نفعلها مع من حولنا لصالحهم‪ ،‬كأن نرغم البناء على المذاكرة‪ ،‬وهذا أمر‬
‫لصالح البناء‪ ،‬وكأن نجبر الطفال المرضى على تناول الدواء‪ .‬ومثل هذه المور ليست إكراها‪،‬‬
‫إنما هي أمور نقوم بها لصالح من حولنا؛ لن أحدا ل يسره أن يظل مريضا‪.‬‬
‫إن الكراه هو أن تحمل الغير على فعل من الفعال ل يرى فيه هو الخير بمنطق العقل السليم‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪ { :‬لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ }‪ .‬ومعنى هذه الية أن ال لم يكره خلقه ـ وهو‬
‫خالقهم ـ على دين‪ ،‬وكان من الممكن أن ال يقهر النسان المختار‪ ،‬كما قهر السماوات والرض‬
‫والحيوان والنبات والجماد‪ ،‬ول أحد يستطيع أن يعصى أمره‪ .‬فيقول سبحانه‪ّ {:‬لوْ يَشَآءُ اللّهُ َلهَدَى‬
‫جمِيعا }[الرعد‪]31 :‬‬
‫النّاسَ َ‬
‫لكن الحق يريد أن يعلم من يأتيه محبا مختارا وليس مقهورا‪ ،‬أن المجيء قهرا يثبت له القدرة‪،‬‬
‫ول يثبت له المحبوبية‪ ،‬لكن من يذهب له طواعية وهو قادر أل يذهب فهذا دليل على الحب‪،‬‬
‫فيقول تعالى‪ { :‬لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ } أي أنا لم أضع مبدأ الكراه‪ ،‬وأنا لو شئت لمن من في‬
‫الرض كلهم جميعا‪ .‬فهل الرسل الذين أرسلهم سبحانه يتطوعون بإكراه الناس؟‪ .‬ل‪ ،‬إنّ الرسول‬
‫جاء لينقل عن ال ل ليكره الناس‪ ،‬وهو سبحانه قد جعل خلقه مختارين‪ ،‬وإل لو أكرههم لما أرسل‬
‫جمِيعا َأفَأَنتَ‬
‫الرسل‪ ،‬ولذلك يقول المولى عز وجل‪ {:‬وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ لمَنَ مَن فِي الَ ْرضِ كُّل ُهمْ َ‬
‫ُتكْ ِرهُ النّاسَ حَتّىا َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }[يونس‪]99 :‬‬
‫إن الرسول له مهمة البلغ عن ال؛ لن ال لم يرد خلقه مكرهين على التدين‪ ،‬إذن فالمبلغ عنه ل‬
‫يُكره خلقه على التدين‪ ،‬إل أن هنا لبسا‪ .‬فهناك فرق بين القهر على الدين‪ ،‬والقهر على مطلوب‬
‫الدين‪ ،‬هذا هو ما يحدث فيه الخلف‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تقول لمسلم‪ :‬لماذا ل تصلي؟ يقول لك‪ { :‬لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ } ‪ ،‬ويدعي أنه مثقف‪ ،‬ويأتيك بهذه‬
‫الية ليلجمك بها‪ ،‬فتقول له‪ :‬ل‪ { .‬لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ } عقيدة وإيمانا‪ ،‬إنما إن آمنت وأعلنت أنك‬
‫آمنت بال وصرت معنا مسلما فل بد أن تعرف أنك إن كسرت حكما من أحكام السلم نطلب‬
‫منك أن تؤديه‪ ،‬أنت حر أن تؤمن أو ل تؤمن‪ ،‬لكن حين التزمت باليمان‪ ،‬فعليك مسئولية تنفيذ‬
‫مطلوب اليمان‪ ،‬وإل حسب تصرفك أنه من تصرفات السلم‪ ،‬فإذا كنت تشرب خمرا فإنك حر؛‬
‫لنك كافر مثلً‪ ،‬لكن أتؤمن ثم تشرب خمرا!؟ ل‪.‬‬

‫أنت بذلك تكسر حدا من حدود ال‪ ،‬وعليك العقاب‪.‬‬


‫ولنك مادمت قد علمت كعاقل رشيد مطلوب السلم‪ ،‬فعليك أن تنفذ مطلوب السلم‪ ،‬ولذلك لم‬
‫يكلف ال النسان قبل أن ينضج عقله بالبلوغ؛ حتى ل يقال‪ :‬إن ال قد أخذ أحدا باليمان وألزمه‬
‫به قبل أن يكتمل عقله‪ .‬بل ترك التكليف حتى ينضج النسان ويكتمل‪ ،‬حتى إذا دخل إلى دائرة‬
‫التكليف عرف مطلوباته‪ ،‬وهو حر أن يدخل إلى اليمان أو ل يدخل‪ ،‬لكن إن دخل سيُحاسب‪.‬‬
‫إذن فل يقل أحد عندما يسمع حكما من أحكام الدين‪ } :‬لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ {؛ لن هذه الية نزلت‬
‫بشأن العقيدة الساسية‪ ،‬فإن اتبعت هذه العقيدة صار لزاما عليك أن توفي بمطلوباتها‪ .‬وقد أراد‬
‫خصوم السلم أن يصعدوا هذه العملية فقالوا كذبا وافتراء‪ :‬إن السلم انتشر بحد السيف‪.‬‬
‫ونقول لهم‪ :‬لقد شاء ال أن ينشأ السلم ضعيفا ويُضطهد السابقون إليه كل أنواع الضطهاد‪،‬‬
‫ويُعذبون‪ ،‬ويُخرجون من ديارهم ومن أموالهم ومن أهلهم‪ ،‬ول يستطيعون عمل شيء‪ .‬إذن ففترة‬
‫الضعف التي مرت بالسلم أول فترة مقصودة‪.‬‬
‫ونقول لهم أيضا‪ :‬من الذي قهر وأجبر أول حامل للسيف أن يحمل السيف؟! والمسلمون ضعاف‬
‫ومغلبون على أمرهم‪ ،‬ل يقدرون على أن يحموا أنفسهم‪ ،‬إنكم تقعون في المتناقضات عندما‬
‫تقولون‪ :‬إن السلم ُنشِرَ بالسيف‪ .‬ويتحدثون عن الجزية رفضا لها‪ ،‬فنقول‪ :‬وما هي الجزية التي‬
‫يأخذها السلم من غير المسلمين كضريبة للدفاع عنهم؟ لقد كان المسلمون يأخذون الجزية من‬
‫البلد التي دخلها الفتح السلمي‪ ،‬أي أن هناك أناسا بقوا على دينهم‪ .‬ومادام هناك أناس باقون‬
‫على دينهم فهذا دليل على أن السلم لم يُكره أحدا‪.‬‬
‫وقول ال‪ } :‬لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ { علته أن الرشد واضح والغي واضح‪ ،‬ومادام المر واضحا فل‬
‫يأتي الكراه يأتي في وقت اللبس‪ ،‬وليس هناك لبس‪ ،‬لذلك يقول الحق‪ } :‬قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ‬
‫{‪ .‬ومادام الرشد بائنا من الغيّ فل إكراه‪ .‬لكن ال يعطيك الدلة‪ ،‬وأنت أيها النسان بعقلك يمكنك‬
‫أن تختار‪ ،‬كي تعرف أنك لو دخلت الدين للتزمت‪ ،‬وحوسبت على دخولك في الدين‪ ،‬فل تدخل‬
‫إل وأنت مؤمن واثق بأن ذلك هو الحق؛ لنه سيترتب عليه أن تقبل أحكام الدين عليك‪.‬‬
‫} لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ { والرشد‪ :‬هو طريق النجاة‪ ،‬و " الغي "‪ :‬هو طريق‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الهلك‪ .‬ويقول الحق إيضاحا للرشد والغي في آية أخرى من آيات القرآن الكريم‪ {:‬سََأصْ ِرفُ عَنْ‬
‫ق وَإِن يَ َروْاْ ُكلّ آيَ ٍة لّ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ‬
‫حّ‬‫آيَاتِي الّذِينَ يَ َتكَبّرُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ‬
‫لَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ ا ْل َغيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً ذاِلكَ بِأَ ّنهُمْ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا َوكَانُواْ عَ ْنهَا غَافِلِينَ }‬

‫[العراف‪]146 :‬‬
‫إن الحق يعلمنا أن المتكبرين في الرض بغير حق لن يستطيعوا الفوز برؤية آيات ال ودلئل‬
‫قدرته‪ ،‬وحتى إن رأوا السبيل الصحيح فلن يسيروا فيه‪ ،‬وإن شاهدوا طريق الضلل سلكوا فيه‬
‫لنهم يكذبون بآيات الرحمن ويغفلون عنها‪ .‬والغي ـ أيضا ـ هو ضلل الطريق‪ ،‬فعندما يسير‬
‫إنسان في الصحراء ويضل الطريق يقال عنه‪ " :‬فلن قد غوى " أي فقد التجاه الصحيح في‬
‫السير‪ ،‬وقد يتعرض لمخاطر جمة كلقاء الوحوش وغير ذلك‪ .‬ويوضح لنا الحق طريق الرشد‬
‫بمنطوق آخر في قوله الحق‪ {:‬وَأَنّا لَ نَدْرِي أَشَرّ أُرِيدَ ِبمَن فِي الَ ْرضِ أَمْ أَرَادَ ِبهِمْ رَ ّب ُهمْ رَشَدا }‬
‫[الجن‪]10 :‬‬
‫إن الجن قد ظنوا كما ظن بعض من معشر النس أن ال لن يبعث أحدا بعد الموت أو لن يرسل‬
‫رسولً من البشر لهداية الكون‪ .‬وقد طلب الجن بلوغ السماء فوجدوها قد مُلئت حرسا من الملئكة‬
‫وشُهبا محرقة‪ .‬وإن الجن ل يعلمون السر في حراسة السماء وهل في ذلك شَرّ بالبشر أو أراد ال‬
‫بهم خيرا وهدى‪ .‬إذن فالرّشْد ـ بضم الراء وتسكين الشين ـ وال َرشَد بفتح الراء وفتح الشين‬
‫كلهما يوضح الطريق الموصل للنجاة‪ .‬ويقابل الرشد الغيّ‪.‬‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَىا { أول‪ :‬نلحظ أن‬
‫ت وَ ْي ْؤمِن بِاللّهِ َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫ويتابع الحق‪َ } :‬فمَنْ َيكْفُرْ بِالطّاغُو ِ‬
‫الحق هنا قد قدم الكفران بالطاغوت‪ ،‬ثم جاء باليمان بال؛ لن المر يتطلب التخلية أول والتحلية‬
‫ثانيا‪ ،‬لبد أن يتخلى النسان من الطاغوت فل يدخل على أنه يؤمن بال وفي قلبه الطاغوت‪،‬‬
‫فنحن قبل أن نكوي الثوب نغسله وننظفه‪ ،‬والتخلية قبل التحلية‪.‬‬
‫وما هو " الطاغوت "؟ إنه من مادة " طغى " ‪ ،‬وكلمة " طاغوت " مبالغة في الطغيان‪ .‬لم يقل‪:‬‬
‫طاغ‪ ،‬بل طاغوت‪ ،‬مثل جبروت‪ ،‬والطاغوت إما أن يطلق على الشيطان‪ ،‬وإما أن يُطلق على من‬
‫يعطون أنفسهم حق التشريع في َكفّرون وينسبون من يشاءون إلى اليمان حسب أهوائهم‪ ،‬ويعطون‬
‫أشياء بسلطة زمنية من عندهم‪ ،‬ويُطلق أيضا على السحرة والدجالين‪ ،‬ويُطلق على كل من طغى‬
‫وتجاوز الحد في أي شيء‪ ،‬فكلمة " طاغوت " مبالغة‪ ،‬وقد تكون هذه المبالغة متعددة اللوان‪،‬‬
‫فمرة يكون الطاغي شيطانا‪ ،‬ومرة يكون الطاغي كاهنا‪ ،‬ومرة يكون ساحرا أو دجالً‪ ،‬ومرة يكون‬
‫حاكما‪.‬‬
‫ومادة " الطاغوت " تدل على أن الموصوف بها هو من تزيده الطاعة له طغيانا‪ ،‬فعندما يجربك‬
‫خفّ‬
‫في حاجة صغيرة‪ ،‬فتطيعه فيها فيزداد بتلك الطاعة طغيانا عليك‪ .‬والحق سبحانه يقول‪ {:‬فَاسْتَ َ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سقِينَ }[الزخرف‪]54 :‬‬
‫َق ْومَهُ فَأَطَاعُوهُ إِ ّنهُمْ كَانُواْ َقوْما فَا ِ‬
‫ويزيد في المر حتى يصير طاغية‪ ،‬ول يوجد أحد استهل عمله بالطغيان العالي‪ ،‬إنما يبدأ المر‬
‫خطوة خطوة‪ ،‬كأي نظام ديكتاتوري قهري‪ ،‬إنه يبدأ بـ (جس نبض) فإن صبر الناس‪ ،‬ازداد هذا‬
‫النظام في القسوة حتى يصير طاغوتا‪ ،‬إذن فالطاغوت هو الذي تستزيده الطاعة طغيانا‪ ،‬وتُطلق‬
‫على الشيطان؛ لنه هو الساس‪ ،‬وعلى الذين يتكلمون باسم الدين للسلطة الزمنية (سواء كانوا‬
‫كهانا أو غيرهم)‪ ،‬وتُطلق على الذين يسحرون ويدجلون‪ ،‬لنهم طغوا بما علموه؛ إنهم يستعملون‬
‫أشياء يتعبون بها الناس‪ ،‬وقد جاءت الكلمة هنا بصيغة المبالغة لشتمالها على كل هذه المعاني‪،‬‬
‫وإذا استعرضنا الكلمة في القرآن نجد أن " الطاغوت " ترد مذكرة في بعض الحيان‪ ،‬وقد وردت‬
‫مؤنثة في آية واحدة في القرآن‪:‬‬

‫{ وَالّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطّاغُوتَ أَن َيعْبُدُوهَا وَأَنَابُواْ إِلَى اللّهِ َل ُهمُ الْبُشْرَىا فَ َبشّرْ عِبَادِ }[الزمر‪]17 :‬‬
‫لقد أوضحت هذه الية أنهم تركوا كل أنواع الطغيان وأصنافه‪ ،‬أي إن الذين اجتنبوا اللوان‬
‫المتعددة من الطغيان هم الذين يتجهون بالعبادة الخالصة ل‪ ،‬ولهم البشرى‪َ } .‬فمَنْ َي ْكفُرْ بِالطّاغُوتِ‬
‫سكَ { غير كلمة " مسك "‪ .‬لن }‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا { وكلمة } اسْ َتمْ َ‬
‫وَ ْيؤْمِن بِاللّهِ َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫سكَ { تدل على أن فيه مجاهدة في المسك‪ ،‬والذي يتدين يحتاج إلى مجاهدة في التدين؛ لن‬
‫اسْ َتمْ َ‬
‫الشيطان لن يتركه‪ ،‬فل يكفي أن تمسك‪ ،‬بل عليك أن تستمسك‪ ،‬كلما وسوس الشيطان لك بأمر‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ‬
‫فعليك أن تستمسك بالتدين‪ ،‬هذا يدل على أن هناك مجاهدة وأخذا وردّا‪َ } .‬فقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫{ والعروة هي العلقة‪ ،‬مثلما نقول‪ " :‬عروة الدول " ‪ ،‬التي تمسكها منه‪ ،‬وهذه عادة ما تكون‬
‫مصنوعة من الحبل الملفوف المتين‪ ،‬و " الوثقى " هي تأنيث " الوثق " أي أمر موثوق به‪،‬‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا { ‪ ،‬قد يكون تشبيها بعروة الدلو لن النسان يستخدم الدلو‬
‫وقوله‪َ } :‬فقَدِ اسْ َت ْم َ‬
‫ليأتي بالماء‪ ،‬وبالماء حياة البدن‪،‬وبالدين حياة القيم‪.‬‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَىا { كأنه ساعة جاء بكلمة " عروة " يأتي بالدلو في بال النسان‪،‬‬
‫} َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫والدلو تأتي بالماء‪ ،‬والماء به حياة البدن‪ ،‬إذن فهذه تعطينا إيحاءات التصور واضحة‪َ } ،‬فقَدِ‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا { ‪ ،‬وما دامت " عروة وثقى " التي هي الدين واليمان بال‪ ،‬وما دامت‬
‫اسْ َتمْ َ‬
‫هي الدين وحبل ال فهذه وثقى‪ ،‬وما دامت " وثقى " فل انفصام لها‪ ،‬وعلينا أن نعرف أن فيه‬
‫انفصاما‪ .‬وفيه انفصام الول بالفاء والثاني بالقاف‪.‬‬
‫النفصام‪ :‬يمنع التصال الداخلي؛ مثلما تنكسر اليد لكنها تظل معلقة‪ ،‬والنقصام‪ :‬أن يذهب كل‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ { توحي بأن‬
‫جزء بعيدا عن الخر أي فيه بينونة‪ ،‬والحق يقول‪ } :‬لَ انفِصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ‬
‫عملية الطاغوت ستكون دائما وسوسة‪ ،‬وهذه الوسوسة هي‪ :‬الصوت الذي يُغري بالكلم المعسول‪،‬‬
‫ولذلك أخذت كلمة " وسوسة الشيطان " من وسوسة الحُليّ‪ ،‬ووسوسة الذهب هي رنين الذهب‪ ،‬أي‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسوسة مغرية مثل وسوسة الشيطان‪ ،‬وال عليم بكل أمر‪ .‬ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ‬
‫جهُمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ‪{ ...‬‬
‫آمَنُواْ يُخْ ِر ُ‬

‫(‪)258 /‬‬

‫جهُمْ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ وَالّذِينَ َكفَرُوا َأوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ‬
‫اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ َآمَنُوا يُخْ ِر ُ‬
‫مِنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (‪)257‬‬

‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا }‬


‫إن ال وليّ الذين آمنوا ما دام { َفمَنْ َي ْكفُرْ بِالطّاغُوتِ وَيْ ْؤمِن بِاللّهِ َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫وكأن الحق يشرح ذلك بهذه الية‪ ،‬فما دام العبد سيتصل بالعروة الوثقى ويستمسك بها‪ ،‬وهذه‬
‫ليست لها انفصام فقد صارت وليته ل‪ ،‬وكلمة " وليّ " إذا سمعتها هي من " وَِليَ " أي‪ :‬جاء‬
‫الشيء بعد الشيء من غير فاصل؛ هذا يليه هذا‪ ،‬وما دام يليه من غير فاصل فهو القرب له‪ ،‬وما‬
‫دام هو القرب له إذن فهو أول من يفزع لينقذ‪ ،‬فقد يسير معي إنسان فإذا التوت قدمي أناديه؛ لنه‬
‫القرب مني‪ ،‬وهو الذي سينجدني‪.‬‬
‫فل يوجد فاصل‪ ،‬وما دام ل يوجد فاصل فهو أول من تناديه‪ ،‬وأول من يفزع إليك بدون أن‬
‫تصرخ له؛ لن من معك ل تقل له‪ :‬خذ بيدي‪ ،‬إنه من نفسه يأخذ بيدك بل شعور‪ ،‬إذن فكلمة‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ } ‪ ،‬فل يريدك أن‬
‫{ اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ } إذا نظرت إليها وجدتها تنسجم أيضا مع { َ‬
‫تناديه؛ لن هناك من تصرخ عليه لينجدك‪ ،‬وهو لن تصرخ عليه؛ لنه سميع وعليم‪ { ،‬اللّهُ وَلِيّ‬
‫الّذِينَ آمَنُواْ }‪.‬‬
‫وكلمة " وليّ " أيضا منها (مولى) ومنها (وال)‪ { ،‬وَلِيّ الّذِينَ آمَنُواْ } أي هو الذي يتولى شئونهم‬
‫وأمورهم‪ ،‬كما تقول‪ :‬الوالي الذي تولى أمر الرعية‪ ،‬وكلمة " مولى " مرة تطلق على السيد‪ ،‬ومرة‬
‫تطلق على خادمه‪ ،‬ولذلك يقول الشاعر‪:‬مولك يا مولي طالب حاجة أي عبدك يا سيدي طال‬
‫ي " تعني القريب‪ ،‬فإذا كان العبد في حاجة‬
‫بحاجة‪ ،‬فهي تستعمل في معان مترابطة؛ لننا قلنا‪ " :‬وَلِ ّ‬
‫إلى شيء فمن أول من ينصره؟ سيده‪ ،‬وإذا نادى السيد‪ ،‬فمن أول مجيب له؟ إنه خادمه‪ ،‬إذن‬
‫ل وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ }‪ .‬وقوله الحق‪{ :‬‬
‫فيُطلق على السيد ويُطلق على العبد‪ ،‬ويُطلق على الوالي‪ { ،‬ا ُ‬
‫الّذِينَ آمَنُواْ } يعني جماعة فيها أفراد كثيرة‪ ،‬كأنه يريد من الذين آمنوا أن يجعلوا إيمانهم شيئا‬
‫واحدا‪ ،‬وليسوا متعددين‪ ،‬أو أن ولية ال لكل فرد على حدة تكون ولية لجميع المؤمنين‪ ،‬وما‬
‫داموا مؤمنين فل تضارب في الوليات؛ لنهم كلهم صادرون وفاعلون عن إيمان واحد‪ ،‬ومنهج‬
‫واحد‪ ،‬وعن قول واحد‪ ،‬وعن فعل واحد‪ ،‬وعن حركة واحدة‪.‬‬
‫وكيف يكون { اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ }؟ إنه وليهم أي ناصرهم‪ .‬ومحبهم ومجيبهم ومعينهم‪ ،‬هو‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وليهم بما أوضح لهم من الدلة على اليمان‪ ،‬هل هناك حُب أكثر من هذا؟ هل تركنا لنبحث عن‬
‫الدلة أو أنه لفتنا إلى الدلة؟‬
‫وتلك هي ولية من وليات ال‪ .‬فقبل أن نؤمن أوجد لنا الدلة‪ ،‬وعندما آمنا وَالنَا بالمعونة‪ ،‬وإن‬
‫حاربنا خصومنا يكن معنا‪ ،‬وبعد ذلك تستمر الولية إلى أن يعطينا الجزاء الوفى في الخرة‪ ،‬إذن‬
‫فهو وليّ في كل المراحل‪ ،‬بالدلة قبل اليمان ولي‪.‬‬

‫ومع اليمان استصحابا يكون ناصرنا على خصومنا وخصومه‪ .‬وفي الخرة هو وليّنا بالمحبة‬
‫والعطاء ويعطينا عطاءً غير محدود‪ ،‬إذن فوليته ل تنتهي‪.‬‬
‫ج ُهمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ { إنه سبحانه يخرجهم من ظلمات الجهل‬
‫} اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ ُيخْرِ ُ‬
‫إلى نور اليمان؛ لن الظلمات عادة تنطمس فيها المرائي‪ ،‬فل يمكن أن ترى شيئا إل إذا كان‬
‫هناك ضوء يبعث لك من المرئي أي أشعة تصل إليك‪ ،‬فإن كانت هناك ظلمة فمعنى ذلك أنه ل‬
‫يأتي من الشياء أشعة فل تراها‪ ،‬وعندما يأتي النور فأنت تستبين الشياء‪ ،‬هذه في المور‬
‫ج ُهمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر وَالّذِينَ كَفَرُواْ َأوْلِيَآؤُهُمُ‬
‫المُحسّة؛ وكذلك في مسائل القيم‪ُ } ،‬يخْرِ ُ‬
‫الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ مّنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ {‪.‬‬
‫هل هم دخلوا النور يا ربنا؟ لنا أن نفهم أن المقصود هنا هم المرتدون الذين وسوس لهم الشيطان‬
‫فأدخلهم في ظلمات الكفر بعد أن كانوا مؤمنين‪ ،‬أو } يُخْ ِرجُو َنهُمْ مّنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ { ‪ ،‬أي‬
‫يحولون بينهم وبين النور فيمنعونهم من اليمان كما يقول واحد‪:‬‬
‫أما دريت أن أبي أخرجني من ميراثه؟ إن معنى ذلك أنه كان له الحق في التوريث‪ ،‬وأخرجه‬
‫والده من الميراث‪ .‬وهذا ينطبق على الذين تركوا اليمان‪ ،‬وفضلوا الظلمات‪ .‬والقرآن يوضح أمر‬
‫الخروج من الظلمة إلى النور ومن الكفر إلى اليمان في مواقع أخرى‪ ،‬كقول سيدنا يوسف‬
‫خمْرا‬
‫عصِرُ َ‬
‫خلَ َمعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ َأحَدُ ُهمَآ إِنّي أَرَانِي أَ ْ‬
‫للشابين اللذين كانا معه في السجن‪ {:‬وَدَ َ‬
‫ح ِملُ َف ْوقَ رَأْسِي خُبْزا تَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَ ْأوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْل ُمحْسِنِينَ‬
‫َوقَالَ الخَرُ إِنّي أَرَانِي َأ ْ‬
‫طعَامٌ تُرْ َزقَانِهِ ِإلّ نَبّأْ ُت ُكمَا بِتَ ْأوِيلِهِ قَ ْبلَ أَن يَأْتِ َي ُكمَا ذاِل ُكمَا ِممّا عَّلمَنِي رَبّي إِنّي تَ َر ْكتُ‬
‫* قَالَ لَ يَأْتِي ُكمَا َ‬
‫مِلّةَ َقوْ ٍم لّ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ كَافِرُونَ }[يوسف‪]37-36 :‬‬
‫فهل كان سيدنا يوسف في ملة القوم الكافرين ثم تركها؟ ل‪ ،‬إنه لم يدخل أساسا إلى ملة القوم الذين‬
‫ل يؤمنون بال‪ .‬إن هذه الملة كانت أمامه‪ ،‬لكنه تركها ورفض الدخول فيها وتمسك بملة إبراهيم‬
‫عليه السلم‪ .‬وفي التعبير ما فيه من تأكيد حرية الختيار‪ .‬وهناك آية أخرى يقول فيها الحق‪{:‬‬
‫ي لَ َيعْلَمَ َبعْدَ عِلْمٍ شَيْئا إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ‬
‫وَاللّهُ خََل َقكُمْ ثُمّ يَ َت َوفّاكُ ْم َومِنكُم مّن يُ َردّ إِلَىا أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ ِل َك ْ‬
‫قَدِيرٌ }[النحل‪]70 :‬‬
‫إن معنى الية أن ال قد خلقنا جميعا‪ ،‬وقدر لكل منا أجلً‪ ،‬فمنا من يموت صغيرا‪ ،‬ومنا من يبلغ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أرذل العمر‪ ،‬فيعود إلى الضعف وتقل خليا نشاطه فل يعلم ما كان يعلمه‪ .‬وليس معنى الية أن‬
‫النسان يوجد في أرذل العمر ثم يرد إلى الطفولة‪.‬‬
‫وعندما يقول الحق‪ } :‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ َأوْلِيَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْ ِرجُو َنهُمْ مّنَ النّورِ إِلَى الظُّلمَاتِ { فالحق‬
‫أورد هنا كلمة أولياء عن الطاغوت‪ ،‬لن الطاغوت كما قلنا‪ :‬ألوان متعددة‪ ،‬الشيطان طاغوت‪،‬‬
‫والدجال طاغوت‪ ،‬والساحر طاغوت‪.‬‬

‫وجاء الحق بالخبر مفردا وهو الطاغوت لمبتدأ جمع وهو أولياء‪ ،‬ووصف هؤلء الولياء‬
‫للطاغوت بأنهم يخرجون الذين كفروا من النور إلى الظلمات‪.‬‬
‫لقد أفرد ال الطاغوت وأورد بالجمع الفراد الذين ينقلهم الطاغوت إلى الظلمات‪ .‬ولماذا لم يقل ال‬
‫هنا‪ " :‬طواغيت " بدل من طاغوت؟ إن الطاغوت كلمة تتم معاملتها هنا كما نقول‪ " :‬فلن عدل "‬
‫أو " الرجلن عدل " أو " الرجال عدل "‪ .‬وعلى هذا القياس جاءت كلمة طاغوت‪ ،‬فالشيطان‬
‫والدجال والكاهن والساحر والحاكم بغير أمر ال؛ كلهم طاغوت‪ ،‬لقد التزمت الية بالفراد‬
‫والتذكير‪ .‬فالطاغوت تُطلق على الواحد أو الثنين أو الجماعة‪ ،‬أي أن المُخرجين من النور إلى‬
‫الظلمات هم أولياء الطاغوت‪ ،‬أو من اتخذوا الطواغيت أولياء‪ ،‬وهم إلى النار خالدون‪ .‬والدخول‬
‫للنار يكون للطواغيت ويكون لتباع الطواغيت‪ ،‬كما يقول الحق في كتابه‪ {:‬إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْ ُبدُونَ مِن‬
‫جهَنّمَ أَنتُمْ َلهَا وَا ِردُونَ }[النبياء‪]98 :‬‬
‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫دُونِ اللّهِ َ‬
‫إن أتباع الطواغيت‪ ،‬والطواغيت في نار جهنم‪ .‬وقانا ال وإياكم عذابها‪ .‬ويريد الحق سبحانه‬
‫وتعالى أن يعطينا صورة واقعية في الكون من قوله‪ } :‬اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ { ‪ ،‬فهو الولي‪ ،‬وهو‬
‫الناصر فيقول سبحانه‪ } :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ‪{ ...‬‬

‫(‪)259 /‬‬

‫أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَاجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آَتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ‬
‫قَالَ أَنَا أُحْيِي وَُأمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫الّذِي َكفَ َر وَاللّهُ لَا َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ (‪)258‬‬

‫وساعة تسمع { َألَمْ تَرَ }؛ فأنت تعلم أنها مكونة من همزة هي " أ " وحرف نفي وهو " لم " ‪،‬‬
‫ومنفي هو " تر " والهمزة‪ :‬تأتي هنا للنكار‪ ،‬والنكار نفي بتقريع‪ ،‬ولكنها لم تدخل على فعل‬
‫مثبت حتى يقال‪ :‬إنها أنكرت الفعل بعدها‪ ،‬مثلما تقول للولد‪ :‬أتضرب أباك! هنا الهمزة جاءت ل‬
‫لتستفهم وإنما أتت تنكر هذه الفعلة‪ ،‬لن الفعل بعدها مثبت وهو " تضرب " ‪ ،‬وجاءت الهمزة قبله‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فتسمى " همزة إنكار " للتقريع‪ .‬إذن فالنكار‪ :‬نفي بتقريع إذا دخلت على فعل منفي‪.‬‬
‫وما دام النكار نفيا والفعل بعدها منفيٌ فكأنك نفيت النفي‪ ،‬إذن فقد أثبته‪ ،‬كأنه سبحانه عندما يقول‬
‫للرسول صلى ال عليه وسلم‪ { :‬أََلمْ تَرَ } فالمقصود " أنت رأيت "‪ .‬ولماذا لم يقل له‪ :‬أرأيت؟ لقد‬
‫جاء بها بأسلوب النفي كي تكون أوقع‪ ،‬فقد يكون مجيء الثبات تلقينا للمسئول‪ ،‬فعندما يقول لك‬
‫صديق‪ :‬أنت لم تسأل عني وأنت تهملني‪ .‬فأنت قد ترد عليه قائل‪ :‬ألم أساعدك وأنت ضعيف؟ ألم‬
‫آخذ بيدك وأنت مريض؟‬
‫لقد سبق أن قدمت خدماتك لهذا الصديق‪ ،‬ولكنك تريد أن تنكر النفي الذي يقوله هو‪ ،‬وهكذا نعلم‬
‫أن نفي النفي إثبات‪ ،‬ولذلك فنحن نأخذ من قوله تعالى من هذه العبارة { أَلَمْ تَرَ } على معنى‪ :‬أنت‬
‫رأيت‪ ،‬والرؤية تكون بالعين‪ .‬فهل رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ وهو المخاطب الول‬
‫بالقرآن الكريم من ربه ـ هل رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الحادثة أيام إبراهيم؟ طبعا‬
‫ل‪ ،‬فكأن { أَلَمْ تَرَ } هنا تأتي بمعنى‪ :‬ألم تعلم‪.‬‬
‫ولماذا جاء بـ { أَلَمْ تَرَ } هنا؟ لقد جاء بها لنعلم أن ال حين يقول‪ " :‬ألم تعلم " فكأنك ترى ما‬
‫يخبرك به‪ ،‬وعليك أن تأخذه على أنه مصدق كأنك رأيته بعينك‪ .‬فالعين هي حاسة من حواسك‪،‬‬
‫والحاسة قد تخدع‪ ،‬ولكن ربك ل يخدع‪ ،‬إذن فـ { أََلمْ تَرَ } تعني‪ " :‬ألم تعلم علم اليقين " ‪ ،‬وكأنك‬
‫صحَابِ ا ْلفِيلِ }‬
‫قد رأيت ما يخبرك به ال‪ ،‬ولذلك يقول تعالى للرسول‪َ {:‬ألَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأ ْ‬
‫[الفيل‪]1 :‬‬
‫والرسول ولد عام الفيل‪ ،‬فلم ير هذه الحادثة‪ ،‬وكأن ال يخبره بها ويقول له‪ :‬ألم تعلم‪ ،‬وكأنه يقول‬
‫له‪ :‬اعلم علما يقينا كأنك تراه؛ لن ربك أوثق من عينيك‪ ،‬وعندما يقال‪ { :‬أَلَمْ تَرَ } فالمراد بها "‬
‫ألم تر كذا " ‪ ،‬لكن الحق قال‪ { :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ } واستعمال حرف { إِلَى }‬
‫هنا يشير إلى أمر عجيب قد حدث ومثال ذلك ما نقوله أحيانا‪ :‬ألم تر إلى زيد يفعل كذا‪.‬‬

‫فكأن ما فعله زيد أمر عجيب‪ ،‬وكأنه ينبه هنا إلى اللتفات إلى نهاية المر‪ ،‬لن " إلى " تفيد‬
‫الوصول إلى غاية‪ ،‬فكأنها مسألة بلغت الغاية في العجب‪ ،‬فل تأخذها كأنك رأيتها فقط‪ ،‬ولكن انظر‬
‫إلى نهايتها فيما حدث‪.‬‬
‫والحق يقول هنا‪ } :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ { و } إِلَى { جاءت هنا لتدل على أنه‬
‫أمر بلغ من العجب غاية بعيدة‪ ،‬وهو بالفعل قد بلغ من العجب غاية بعيدة‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى‬
‫لم يقل لنا من هو ذلك النسان الذي حاج إبراهيم في ربه‪ ،‬لنه ل يعنينا التشخيص سواءً كان‬
‫النمروذ أو غيره‪.‬‬
‫فإذا ذهب بعض المفسرون إلى القول‪ :‬إنه ملك واسمه النمروذ‪ .‬فإننا نقول لهم شكرا لجتهادكم‪،‬‬
‫ولكن لو شاء ال تحديد اسم الرجل لحدده لنا‪ ،‬والذي يهمنا هو أنه واحد خرج على رسول ال‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إبراهيم عليه السلم وجادله في هذه المسألة‪ ،‬والتشخيص هنا ليس ضروريا‪ ،‬والحق سبحانه‬
‫وتعالى حينما يريد شيوع المر وإمكان حدوثه في أي زمان أو مكان فإن ال ل يشخص المر‪،‬‬
‫فأي إنسان في أي مكان قد يحاجج أي مؤمن‪ .‬وليس كذلك المر بالنسبة لي تشخيص أو تحديد‪،‬‬
‫ومثال ذلك هؤلء الذين يريدون أن يعرفوا قصة أهل الكهف‪ ،‬ويتساءلون‪ :‬أين ومتى‪ ،‬وكم عددهم‪،‬‬
‫ومن هم؟‬
‫ونقول‪ :‬لو جاءت واحدة من هؤلء لفسدت القصة؛ لنه لو حددنا زمانها سيأتي واحد يقول لك‪:‬‬
‫مثل ذلك الزمان الذي حدثت فيه القصة كان يسمح بها‪ .‬ولو حددنا المكان سيقول آخر‪ :‬إن المكان‬
‫كان يسمح بهذه المسألة‪ .‬ولو حددنا الشخاص بأسمائهم فلن وفلن‪ ،‬فسيقول ثالث‪ :‬إن مثل هذه‬
‫الشخصيات يمكن أن يصدر منها مثل هذا السلوك وأنّى لنا بقوة إيمان هؤلء؟‬
‫والحق لم يحدد الزمان والمكان والشخاص وجاء بها مبهمة ليدل على أن أي فتية في أي زمان‬
‫وفي أي مكان يقولون ما يقولون‪ ،‬ولو شخصها في واحد لفسد المراد‪ .‬للنظر إلى دقة الحق حين‬
‫ضرب مثل للذين كفروا بامرأة نوح وامرأة لوط حين قال جل وعل‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ‬
‫حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَا ُهمَا فََلمْ ُيغْنِيَا عَ ْن ُهمَا‬
‫َكفَرُواْ امْرََأتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَ ْ‬
‫مِنَ اللّهِ شَيْئا َوقِيلَ ادْخُلَ النّارَ مَعَ الدّاخِلِينَ }[التحريم‪]10 :‬‬
‫ولم يحدد لنا اسم امرأة من هاتين المرأتين‪ ،‬بل ذكر المر المهم فقط؛ وهو أن كل منهما زوجة‬
‫لرسول كريم‪ ،‬ولكن كل منهما أصرت على الكفر فدخلتا النار‪ .‬ولكن الحق سبحانه وتعالى حين‬
‫أراد التخصيص بحادث لن يتكرر في أي زمان أو مكان جاء بذكر السيدة مريم بالتشخيص‬
‫جهَا فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا‬
‫حصَ َنتْ فَرْ َ‬
‫عمْرَانَ الّتِي أَ ْ‬
‫والتحديد الواضح حين قال‪َ {:‬ومَرْيَمَ ابْ َنتَ ِ‬
‫َوصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ رَ ّبهَا َوكُتُبِ ِه َوكَا َنتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ }[التحريم‪]12 :‬‬
‫تحديد الحق لمريم بالسم والحادث لماذا؟ لن الواقعة غير قابلة للتكرار من أيّةِ امرأة أخرى‪.‬‬

‫التشخيص هنا واجب؛ لنه لن تلد امرأة من غير زوج إل هذه‪ ،‬إنما إذا كانت المسألة ستتكرر في‬
‫أي زمان أو مكان فهو سبحانه يأتي بوصفها العام‪ ،‬ومثال ذلك قول الحق‪ } :‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ‬
‫إِبْرَا ِهمَ { فلم يقل لنا‪ :‬من هو؟ " حاجّ " أصلها " حاجج " ‪ ،‬مثل " قاتل " و " شارك "‪ .‬وعندما يكون‬
‫هناك حرفان مثلن‪ ،‬فنحن نسكن الول وندغم الثاني فيه وذلك للتخفيف‪ ،‬فتصير (حاج)‪ ،‬و " حاج‬
‫" من مادة " فاعل " التي تأتي للمشاركة‪ ،‬وحتى نفهم معنى " المشاركة "‪ .‬إليكم هذا المثال‪:‬‬
‫نحن نقول‪ :‬قاتل زيد عَمرا‪ ،‬أو نقول‪ :‬قاتل عمرو زيدا‪ ،‬ومعنى ذلك أن كُلّ منهما قد تقاتل‪،‬‬
‫وكلهما فاعل ومفعول في الوقت نفسه‪ ،‬لكننا غلبنا جانب الفاعل في واحد‪ ،‬وجانب المفعول في‬
‫الثاني‪ .‬برغم أن كل منهما فاعل ومفعول معا‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ ،‬حين نقول‪ :‬شارك زيد عمرا‪ ،‬وشارك عمرو زيدا‪ ،‬إذن فالمفاعلة جاءت من الثنين‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا فاعل وهذا مفعول‪ ،‬لكننا عادة نُغلب الفاعلية فيمن بدأ‪ ،‬والمفعولية في الثاني‪ ،‬وإن كان الثاني‬
‫فاعل أيضا‪ .‬ولذلك يقول الشاعر عندما يريد أن يشرح حال إنسان يمشي في مكان فيه حيات‬
‫كثيرة ومتحرزا من أن حية تلدغه فقال‪:‬قـد سـالم الحـيـات مـنـه القـدم الفـعـوان‬
‫والشـجـاع القـشـعـماإن الشاعر هنا يصف لنا إنسانا سار في مكان مليء بالحيات‪ ،‬وعادة ما‬
‫يخاف النسان أن تلدغه حية‪ ،‬لكن هذا النسان الموصوف في هذا البيت نجد أن الحيات قد‬
‫سالمت قدمه‪ ،‬أي لم تلدغه لنه لم َيهِجْها‪ ،‬والثعابين عادة ل تلدغ إل من يبدأها بالهاجة‪ ،‬نجد هنا‬
‫أن الفاعل هو الحيات؛ لنها سالمت قدمه‪ .‬ويصح أيضا أن نقول‪ :‬إن القدم هي التي سالمت‬
‫الحيات‪.‬‬
‫ونحن نعرف من قواعد اللغة ما درسناه قديما ما يسمى بالبدل‪ ،‬والبدل يأخذ حكم المبدل منه‪ ،‬فإن‬
‫كان المبدل منه مجرورا كان البدل كذلك‪ .‬هنا جاءت " الحيات " في هذا البيت من الشعر مرفوعة‬
‫ولكن الفعوانَ جاءت في البيت منصوبة مع أنها بدل من مرفوع هو " الحيات " لنه لحظ ما‬
‫فيها أيضا من المفعولية فأتى بها منصوبة‪ .‬كما أن بالمكان أن تُقرأ " الحيات " بالنصب و " القدم‬
‫" بالرفع لن كل منهما فاعل ومفعول من حيث المسالمة‪.‬‬
‫وكذلك في قول الحق سبحانه‪ } :‬أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَا ِهمَ { نحن نلحظ أن كلمة } إِبْرَاهِمَ‬
‫{ تأتي في الية الكريمة منصوبة بالفتحة‪ ،‬أي يغلب عليها المفعولية‪ .‬فمن إذن الذي حاجّ إبراهيم؟‬
‫إنه شخص ما‪ ،‬وهو الفاعل؛ لنه الذي بدأ بالمحاجّة‪ ،‬وهكذا تدلنا الية الكريمة‪ ،‬وتصف الية ذلك‬
‫الرجل } أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ { أي أن الرجل هو الذي بدأ الحجاج قائل لبراهيم‪ :‬من ربك؟‬
‫فقال إبراهيم عليه السلم‪ } :‬رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِـي وَ ُيمِيتُ { وهذه هي براعة القرآن في أن يترك‬
‫الشيء ثقة بأن السامع يرد كل شيء إلى أصله‪ ،‬فقوله الحق‪ } :‬إِذْ قَالَ إِبْرَا ِهمَ رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِـي‬
‫وَ ُيمِيتُ { فكأن الذي حاج إبراهيم سأله‪ :‬من ربك؟ فقال إبراهيم‪ } :‬رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ {‪.‬‬

‫ولنا أن نلحظ أن هذه الية قد جاءت بعد قوله الحق في الية السابقة‪ } :‬اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ { ‪،‬‬
‫والولية هي النصر والمحبة والمعونة‪ ،‬فيريد سبحانه أن يبين لنا كيف أعان ال إبراهيم على من‬
‫حاجه‪ ،‬إل أن الذي حاج إبراهيم دخل في متاهات السفسطة بعد أن سمع قول إبراهيم‪ } :‬رَ ّبيَ الّذِي‬
‫يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ { ‪ ،‬وقد جاء الحق بـ } يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ {؛ لن تلك القضية هي التي لم ي ّدعِ أحد‬
‫أنه فعلها‪ ،‬ولم يدّع أحد أنه شريك فيها‪ ،‬حتى الكافرون إذا سألتهم‪ :‬من الذي خلق؟ يقولون ال‪.‬‬
‫إذن فهذه قضية ثابتة‪ .‬إل أن الخصم الذي حاجّ إبراهيم أراد أن ينقل المحاجة نقلة سفسطائية‪.‬‬
‫والسفسطة كما نعلم هي الكلم الذي يطيل الجدل بل نهاية‪.‬‬
‫وقال الرجل الذي يحاج إبراهيم عليه السلم‪ :‬إذا كان ربك الذي يحيي ويميت فأنا أحيي وأميت‪.‬‬
‫فسأله إبراهيم عليه السلم؛ كيف تحيي أنت وتميت؟‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قال الرجل‪ :‬أنا أقدر أن أقتل ما عندي من مساجين وأقدر أل أقتلهم‪ ،‬فالذي لم أقتله كأنني أحييته‪،‬‬
‫والذي قتلته فقد أمته‪.‬‬
‫ولم يقل سيدنا إبراهيم لنتفق أول ما الحياة؟ وما الموت؟ ذلك أن إبراهيم خليل الرحمن لم يشأ أن‬
‫يطيل هذه المجادلة‪ ،‬فجاء له بأمر يُلجمه من البداية وينتهي الجدل‪ ،‬فقال له‪ } :‬فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْل َمشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ {‪ .‬وهكذا أنهى سيدنا إبراهيم هذا‬
‫بِال ّ‬
‫الجدل‪ .‬كان من الممكن أن يدخل معه سيدنا إبراهيم في جدل‪ ،‬ويقول له‪ :‬ما هي الحياة؟‬
‫ونحن نعرف أن الحياة هي إعطاء المادة ما يجعلها متحركة حساسة مريدة مختارة‪ ،‬أما الموت‬
‫فهو إخراج الروح من الجسد‪ ،‬فالذي يقتل إنسانا؛ إنما يخرج روحه من جسده‪ ،‬والقتل يختلف عن‬
‫الموت؛ لن الموت خروج الروح من الجسد بدون جرح‪ ،‬أو نقض بنية‪ ،‬أو عمل يفعله النسان‬
‫في بدنه كالنتحار‪.‬‬
‫وقد يكون النسان جالسا مكانه وينتهي عمره فيموت‪ ،‬ول أحد قادر قبل ذلك أن يقول له‪ :‬مت‬
‫فيموت‪ ،‬هذا هو الموت‪ ،‬لكن إزهاق الروح بجرح جسيم أو نقض بنية فهذا هو القتل وليس‬
‫حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن‬
‫الموت‪ ،‬ولذلك يجعل ال القتل مقابلً للموت‪ ،‬في قوله تعالى‪َ {:‬ومَا ُم َ‬
‫عقِبَيْهِ فَلَن َيضُرّ اللّهَ شَيْئا‬
‫علَىا َ‬
‫عقَا ِبكُ ْم َومَن يَنقَِلبْ َ‬
‫سلُ َأفَإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ‬
‫قَبْلِهِ الرّ ُ‬
‫ل َومَن يُرِدْ َثوَابَ الدّنْيَا‬
‫وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ * َومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ ِإلّ بِإِذْنِ ال كِتَابا ّمؤَجّ ً‬
‫ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَن يُ ِردْ َثوَابَ الخِ َرةِ ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا وَسَنَجْزِي الشّاكِرِينَ }‬

‫[آل عمران‪]145-144 :‬‬


‫وقد أوضح لنا ال سبحانه وتعالى الفرق بين الموت والقتل‪ ،‬وجعل كل منهما مقابلً للخر‪ ،‬فعندما‬
‫أشيع أن رسول ال قد قتل‪َ ،‬همّ بعض المسلمين بالرتداد إلى الكفر‪ ،‬فأنكر ال عليهم ذلك قائلً‪ :‬إن‬
‫محمدا رسول من عند ال قد مات من قبله المرسلون أفإن مات أو قتل رجعتم عن اليمان للكفر‪،‬‬
‫ومَنْ يفعل ذلك فإنما يضر نفسه‪ ،‬والثواب عند ال للثابتين على منهج ال الشاكرين لنعمه‪ ،‬أوضح‬
‫لنا الحق أن موت أي إنسان ل يمكن أن يحدث إل بإذن ال‪ ،‬وقد كتب ال ذلك في كتاب مشتمل‬
‫على الجال‪.‬‬
‫ويريد ال أن يُنبهنا ويُلفتنا إلى حقيقة هامة وهي أن الرسل في جدلهم مع أممهم أو مع المناقشين‬
‫لهم ل يكون الهدف أنّ النبي يظفر بالغلبة وإنما يكون الهدف بالنسبة للرسول أو النبي أن يصل‬
‫إلى الحقيقة‪ ،‬ولذلك لم يتوقف إبراهيم عليه السلم مع الرجل الذي يحاجّه في ال عند نقطة الحياء‬
‫والماتة؛ لنه رأى في مناقشة الرجل لونا من السفسطة‪.‬‬
‫وعلينا ونحن نتدبر آيات القرآن بالخواطر اليمانية أن نفهم الفرق بين الماتة والقتل‪ .‬الصحيح أن‬
‫الماتة والقتل يشتركان في أمر واحد وهو خروج الروح من الجسد‪ .‬والماتة تختلف عن القتل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بأنه ل يقدر عليها إل واهب الحياة الذي وضع مقومات خاصة في البنية النسانية حتى تسكنها‬
‫الروح‪ ،‬وهو القادر على أن يسلب الروح بأمر غير مُحس‪.‬‬
‫أما القتل فهو أن تجرح إنسانا فيموت‪ ،‬أو تنقض بنيته‪ ،‬تكسر له رأسه مثلً‪ ،‬أما " الماتة " فهي‬
‫أن تنقبض حياته بمجرد المر دون أن تقربه‪ ،‬هل أحد من البشر يقدر على هذه؟ ل‪ .‬إذن فالذي‬
‫حاج إبراهيم لم يحي الذي قال‪ :‬إنه سيتركه بدون عقوبة‪ ،‬إنه لم يقتله‪ ،‬لكنه أبقى الحياة التي كانت‬
‫فيه‪ ،‬هذا إذا أردنا أن ندخل في جدل‪.‬‬
‫ل للموت‪ ،‬صحيح أنهما ينتهيان بأن ل روح‪ ،‬لكنْ هناك فرق بين أن تؤخذ‬
‫وال قد جعل القتل مقاب ً‬
‫الروح بدون هذه الوسائل‪ .‬وأن تترك الروحُ البدنَ لن بنيته قد تهدمت‪ .‬وإياك أن تظن أن الروح‬
‫ل تخضع لقوانين معينة‪ ،‬إن الروح ل تحل إل في مادة خاصة‪ ،‬فإذا انتهت المقومات الخاصة في‬
‫المادية فالروح ل تسكنها‪ ،‬فل تقل‪ :‬إنه عندما ضربه على رأسه أماته! ل‪ ،‬هو لم يخرج الروح‬
‫لن الروح بمجرد ما انتهت البنية تختفي‪.‬‬
‫والمثال الذي يوضح ذلك‪ :‬لنفترض أن أمامنا نورا‪ ،‬إذا كسرت الزجاجة يذهب النور‪ .‬هل‬
‫الزجاجة هي النور؟ ل‪ ،‬لكن الكهرباء ل تظهر إل في هذه الزجاجة‪ ،‬كذلك الروح ل توجد إل في‬
‫بنية لها مواصفات خاصة‪ ،‬إذن فالقاتل ل يخرج الروح ولكنه يهدم البنية بأمر محس؛ فالمر‬
‫الغيبي وهو الروح ل يسكن في بنية مهدومة‪.‬‬

‫} أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ { ‪ ،‬انظر إلى الطغيان أتجعل إيتاء الم ْلكُ‬
‫وهو نعمة وسيلة إلى التمرد على من أنعم عليك بهذا؟ أتجعل شكر النعمة بأنك تخالف المنعم؟ من‬
‫الذي أبطره؟ أأبطره أن آتاه ال الملك؟ وكيف يعين ال واحدا ليس مؤمنا به؟ والمُ ْلكُ ـ بمعنى‬
‫حكّمَ إنسانا على‬
‫المر والنهي ـ إنما يكون للمبلغ عن ال‪ ،‬إنما الملك الخر مُ ْلكُ السلطان بأن ُي َ‬
‫جماعة‪ ،‬فمن الجائز أن يكون مؤمنا‪ ،‬وأن يكون كافرا‪.‬‬
‫وقوله } أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي ُيحْيِـي وَ ُيمِيتُ { هو جواب على من قال‪" :‬‬
‫من ربك " فجاءته إجابة إبراهيم عليه السلم } رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ قَالَ أَنَا ُأحْيِـي وَُأمِيتُ‬
‫{ وعرفنا ما في هذا المر من سفسطة‪ ،‬فلم يقل له إبراهيم‪ :‬أأنت تُحيي وتميت‪ ،‬بل ينقله إلى أمر‬
‫آخر‪ ،‬كأنه قد قال له‪ :‬اترك المر الغيبي وهو الروح‪ ،‬وتعالى للمر المشهود } قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ {‪.‬‬
‫اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫ولن ال ولي الذي آمنوا فهو سبحانه لم يلهم المحاج أن يَ ُردّ؛ كان يستطيع أن يقول له‪ :‬اجعل من‬
‫يأتي بها من المشرق يأتِ بها من المغرب‪ ،‬لكنه لم يقلها! مما يدل على أنه غبي! أو يكون ذكيا‬
‫فيقول‪ :‬إن الرب الذي معه بهذا الشكل قد يفعلها‪ ،‬فخاف‪ .‬إذن فـ } اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ { حقا‪.‬‬
‫ج ُهمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ {‪ .‬وما معنى كلمة " ُب ِهتَ "؟ إن البهت يأخذ ثلث‬
‫وهو سبحانه } ُيخْرِ ُ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صور‪ :‬الصورة الولى‪ :‬الدهشة؛ َنقَله فيما يمكن أن تحدث فيه مماحكة إلى مال تحدث فيه‬
‫مماحكة وجدال‪ ،‬أراد أن يجد أمرا يرد به فلم يقدر‪ ،‬مثلما قال‪ :‬أنا أحيي وأميت‪ ،‬لقد هش‪ ،‬وأول‬
‫ما فاجأه هو الدهش‪ ،‬ثم كان التحيّر‪ ،‬أراد أن يجد أي مخرج من هذه الورطة فلم يجد‪ ،‬إذن فقد‬
‫هُزم‪ .‬فهذه هي نهاية البَهت‪ .‬فـ " بُهت " تعني أنه دهش أول‪ ،‬فتحير في أن يرد ثانيا‪ ،‬فكان نتيجة‬
‫ذلك أنه هُزم ثالثا‪ ،‬وهذا أمر ليس بعجيب؛ لنه مادام كافرا فليس له ولي‪ ،‬أو وليه من ل يقدر }‬
‫َأوْلِيَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ { ‪ ،‬أما إبراهيم خليل الرحمن فوليه ال‪.‬‬
‫ويختم الحق الية بقوله‪ } :‬وَاللّهُ لَ َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ { ل يهديهم إلى برهان‪ ،‬ول إلى دليل‪،‬‬
‫ول إلى حجة‪ ،‬لن وليهم الشيطان‪ } ،‬وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ { والية التي تأتي من بعد ذلك‬
‫كلها ستتدخل في الحياة والموت‪ ،‬ومن المهم أن الية تدخل في الحياة والموت كي ل نفهم أن‬
‫إبراهيم إنما ترك المحاجة مع ذلك الذي حاجّه في أمر الموت والحياة هربا من الكلم فيها‪ ،‬لذلك‬
‫يريد ال أن يستوفي تلك القضية استيفاء في قصص متعددة‪ ،‬ويبسط الحق القضية التي عدل عنها‬
‫إبراهيم وهي الموت والحياة فيقول سبحانه‪َ } :‬أوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىا قَرْ َي ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا‬
‫شهَا‪{ ...‬‬
‫عُرُو ِ‬

‫(‪)260 /‬‬

‫شهَا قَالَ أَنّى يُحْيِي َه ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا فََأمَاتَهُ اللّهُ‬
‫َأوْ كَالّذِي مَرّ عَلَى قَرْيَ ٍة وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُو ِ‬
‫مِئَةَ عَامٍ ثُمّ َبعَثَهُ قَالَ َكمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َي ْومًا َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ قَالَ َبلْ لَبِ ْثتَ مِ َئةَ عَامٍ فَا ْنظُرْ إِلَى‬
‫س وَانْظُرْ إِلَى ا ْل ِعظَامِ كَ ْيفَ نُنْشِزُهَا‬
‫جعََلكَ آَيَةً لِلنّا ِ‬
‫ك وَلِنَ ْ‬
‫حمَا ِر َ‬
‫ك وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّ ْه وَا ْنظُرْ إِلَى ِ‬
‫طعَا ِم َ‬
‫َ‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‪)259‬‬
‫حمًا فََلمّا تَبَيّنَ َلهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ثُمّ َنكْسُوهَا لَ ْ‬

‫وعندما ننظر إلى بداية الية نجدها تبدأ بـ " أو " ‪ ،‬وما بعد " أو " يكون معطوفا على ما قبلها‪،‬‬
‫فكأن الحق يريد أن يقول لنا‪ :‬أو (أَلَمْ تَرَ) إلى مثل الذي مر على قرية‪.‬‬
‫وعندما تسمع كلمة { قَرْيَةٍ } فإنها تفيد تجمع جماعة من الناس يسكنون في مكان محدود‪ ،‬ونفهم‬
‫أن الذي مر على هذه القرية ليس من سكانها‪ ،‬إنما هو قد مر عليها سياحة في رحلة‪ .‬ونلحظ كذلك‬
‫أن الحق سبحانه لم يشأ أن يأتي لنا باسم القرية أو باسم الذي مر عليها‪.‬‬
‫قال البعض‪ :‬إنه هو أرمياء بن حلقيا أو هو الخضر‪ ،‬أو هو عزير‪ ،‬وقد قلنا من قبل‪ :‬إنه إذا أبهم‬
‫الحق فمعناه‪ :‬ل تشخص المر‪ ،‬فيمكن لي أحد أن يحدث معه هذا‪.‬‬
‫شهَا } وحتى‬
‫{ َأوْ كَالّذِي مَرّ عَلَىا قَرْيَةٍ }‪ .‬وقالوا‪ :‬إنها بيت المقدس‪ { ،‬وَ ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُو ِ‬
‫نفهم معنى خاوية على عروشها‪ ،‬لنا أن نعرف أنني عندما أقول‪ " :‬أنا خويان " أي " أنا بطني‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خاوية "‪ " :‬جوعان " فـ " خاوية " المقصود بها أنها قرية خالية من السكان‪ ،‬وقد تكون أبنيتها‬
‫منصوبة‪ ،‬لكن ليس فيها سكان‪ ،‬والحق بقوله عن تلك القرية‪ :‬إنها خاوية على عروشها‪ ،‬و "‬
‫العرش " يطلق على البيت من الخيام‪ ،‬ويطلق كما نعرف على السقف‪ ،‬فإذا قال‪ { :‬خَاوِيَةٌ عَلَىا‬
‫شهَا } أي أن العرش قد سقط أول‪ ،‬ثم سقطت الجدران عليه‪ ،‬مثلما نقول في لغتنا العامية‪" :‬‬
‫عُرُو ِ‬
‫جاب عاليها على واطيها "‪.‬‬
‫وعندما يمر إنسان على قرية مثل هذه القرية فل بد أن مشهدها يكون شيئا لفتا للنظر‪ ،‬قال‪:‬‬
‫{ أَنّىا ُيحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا } فكأنه يسأل عن القرية‪ ،‬وعن إماتة وإحياء الناس الذين‬
‫يسكنون القرية‪ .‬والحق حين يذكر القرية في القرآن فهو يقصد في بعض الحيان الحديث عن‬
‫أهلها مثل قوله تعالى‪ {:‬وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَاّلعِيْرَ الّتِي َأقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ }[يوسف‪:‬‬
‫‪]82‬‬
‫إن أبناء يعقوب عليه السلم حين عادوا من مصر وتركوا أخاهم الصغر مع يوسف عليه السلم‬
‫قالوا لبيهم‪ :‬أرسل من يأتيك بشهادة أهل مصر واسأل بنفسك زملءنا الذين كانوا معنا في القافلة‪،‬‬
‫وسيقولون لك‪ :‬إننا قد تركنا أخانا بمصر‪ .‬لكن سؤال الذي مر على القرية الخاوية على عروشها‬
‫هو سؤال عن أهلها‪.‬‬
‫{ أَنّىا ُيحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا } وساعة تسمع { أَنّىا } فهي تأتي مرة بمعنى " كيف " ‪،‬‬
‫ومرة تأتي بمعنى‪ " :‬من أين " ‪ ،‬والمناسب لها هنا هو أن يكون السؤال كالتالي‪ " :‬كيف يحيي ال‬
‫هذه بعد موتها "؟ وقوله هذا يدل على أنه مؤمن‪ ،‬فهو ل يشك في أن قضية الحياء من ال‪ ،‬وإنما‬
‫يريد أن يعرف الكيفية‪ ،‬فكأنه مؤمن بأن ال هو الذي يحيي ويميت‪ ،‬وهذه ستأتي في قصة سيدنا‬
‫إبراهيم‪:‬‬

‫{ أَرِنِي كَ ْيفَ تُحْيِـي ا ْل َموْتَىا }[البقرة‪]260 :‬‬


‫هو ل يشك في أن ال يُحيي الموتى‪ ،‬إنما يريد أن يرى كيف تتم هذه الحكاية؛ لن الذي يريد أن‬
‫يعرف كيفية الشيء‪ ،‬لبد أن متعجب من وجود هذا الشيء‪ ،‬فيتساءل‪ :‬كيف تم عمل هذا الشيء؟‬
‫مثلما نرى الهرام‪ ،‬ونحن ل نشك أن الهرام مبنية بهذا الشكل‪ ،‬لكننا نتساءل فقط‪ :‬كيف بنوها؟‬
‫كيف نقلوا الحجارة بضخامتها لعلى ولم يكن هناك سقالت أو روافع آلية؟ إذن فنحن نتعجب‬
‫فقط‪ ،‬والتعجب فرع اليمان بالحدث‪.‬‬
‫والسؤال عن الكيفية معناه التيقن من الحدث‪ ،‬فقول الحق‪ } :‬أَنّىا يُحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ {‪ ..‬يعني‪:‬‬
‫كيف يُحيي ال هذه القرية بعد موتها‪ ،‬فكأن القائل ل يشك في أن ال يُحيي‪ ،‬ولكنه يريد الكيفية‪،‬‬
‫والكيفية ليست مناط إيمان‪ ،‬فال لم ينهنا عن التعرف عن الكيفية؛ فهو يعلم أننا نؤمن بأنه قادر‬
‫على إيجاد هذا الحدث‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأضرب هذا المثل ـ ول المثل العلى ـ فمُصمم الملبس عندما يقوم بتفصيل أزياء جميلة‪،‬‬
‫أنت تراها‪ ،‬فأنت تتيقن من أنه صانعها‪ ،‬ولكنك تتعجب فقط من دقة الصنعة‪ ،‬وتقول له‪ :‬بال كيف‬
‫عملت هذه؟ كأنك قد عشقت الصنعة! فتشوقت إلى معرفة كيف صارت‪ ،‬فما بالنا بصنعة الحق‬
‫تبارك وتعالى؟ إنك تندهش وتتعجب لتعيش في ظل السر السائح من الخالق في المخلوق‪ ،‬وتريد‬
‫أن تنعم بهذه النعم‪.‬‬
‫ومثال آخر ـ ول المثل العلى من قبل ومن بعد ـ أنت ترى مثل لوحة رسمها رسام‪ ،‬فتقول‬
‫له‪ :‬بال كيف مزجت هذه اللوان؟ أنت ل تشك في أنه قد مزج اللوان‪ .‬بل تريد أن تسعد نفسك‬
‫بأن تعرف كيف رسمها‪ ،‬إذن فقوله وقول إبراهيم بالسؤال في الحياء والماتة فيما يأتي ليس‬
‫معناه أنه غير مؤمن بل هو عاشق ومشتاق لن يعرف الكيفية؛ ليعيش في جو البداع الجمالي‬
‫الذي أنشأ هذه الصنعة‪.‬‬
‫ونعلم أن إحياء الناس سيترتب عليه إحياء القرية‪ ،‬فالنسان هو باعث الحركة التي تعمر الوجود‪،‬‬
‫والناس لهم حياة ولهم موت‪ ،‬والقرية بأنقاضها وجدرانها وعروشها لها حياة ولها موت‪ .‬وعندما‬
‫سأل العبد هذا السؤال‪ ،‬أراد ال أن تكون الجابة تجربة معاشة في ذات السائل؛ لذلك يأتي القرآن‬
‫بالقول } فََأمَاتَهُ اللّهُ مِاْ َئةَ عَامٍ {‪.‬‬
‫إن صاحب السؤال قد أراد أن يعرف الكيفية‪ ،‬وطلبه هو إيمان دليل‪ ،‬ليصبح فيما بعد إيمانا بواقع‬
‫مشاهد } فََأمَاتَهُ اللّهُ مِاْئَةَ عَامٍ { لقد جعل ال المر والتجربة في السائل ذاته وهذا إخبار ال‪ .‬لقد‬
‫أماته مائة عام‪ ،‬والعام هو الحول‪ ،‬وقد سموا " الحول " عاما؛ لن الشمس تعوم في الفلك كله في‬
‫هذه المدة‪ ،‬والعوم سَبْحٌ‪ ،‬والحق يقول‪:‬‬

‫{ َو ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[ يس‪]40 :‬‬


‫ولذلك نسميه عاما‪ } .‬فََأمَاتَهُ اللّهُ مِاْئَةَ عَامٍ ثُمّ َبعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِ ْثتَ قَالَ لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ { ‪،‬‬
‫فكأن ال قال له كلما كما كلم موسى‪ ،‬أو سمع صوتا أو ملكا أو أن أحدا من الموجودين رأى‬
‫التجربة‪ .‬فالمهم أن هناك سؤالً وجوابا‪ .‬ويخبرنا الحق سبحانه بحوار دار في هذا الشأن‪ ،‬السؤال‬
‫هو‪ :‬كم لبثت؟ فأجاب الرجل‪ :‬لبثت يوما أو بعض يوم‪.‬‬
‫وإجابة الرجل تعني أنه قد تشكك‪ ،‬فقد وجد اليوم قد قارب على النتهاء أو انتهى‪ ،‬أو أنه عندما‬
‫رأى الشمس مشرقة أجاب هذه الجابة‪ } :‬لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ { أو يكون قد قال ذلك؛ لنه ل‬
‫يستطيع أن يتحكم في تقدير الزمن‪ .‬فهل هو صادق في قوله أو كاذب؟ إنه صادق‪ ،‬لنه لم ير شيئا‬
‫قد تغير فيه ليحكم بمقدار التغير‪ ،‬فلو كان قد حلق لحيته مثلً‪ ،‬وقام بعد ذلك ليجد لحيته قد طالت‪،‬‬
‫أو قد نام بشعر أسود‪ ،‬وقام بعد ذلك بشعر أشيب‪ ،‬فلو حدثت أية تغيرات فيه لكان قد لمسها‪ ،‬لكنه‬
‫لم يجد تغيرا‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فماذا كان جواب الحق؟ قال الحق‪ } :‬بَل لّبِ ْثتَ مِاْئَةَ عَامٍ {‪ .‬إننا هنا أمام طرفين ويكاد المر أن‬
‫يصبح لغزا‪ ،‬وطرف يقول‪ } :‬لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ { ورب يقول‪ } :‬بَل لّبِ ْثتَ مِاْئَةَ عَامٍ {‪.‬‬
‫ونريد أن نحل هذا اللغز‪ .‬إن الحق سبحانه صادق ومُنزّه والعبد المؤمن صادق في حدود ما رأى‬
‫من أحواله‪ .‬ونريد دليل على هذا‪ ،‬ودليل على ذاك‪ .‬نريد دليل على صدق العبد في قوله‪ } :‬لَبِ ْثتُ‬
‫َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ {‪ .‬ونريد من الحق سبحانه وتعالى دليل اطمئنان ل دليل برهان على أن الرجل‬
‫قد مات مائة عام وعاد إلى الحياة‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن في القصة ما يؤيد } لَبِ ْثتُ َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ { ‪ ،‬وما يؤيد } بَل لّبِ ْثتَ مِاْ َئةَ عَامٍ { ‪ ،‬فقد‬
‫كان مع الرجل حماره‪ ،‬وكان معه طعامه وشرابه من عصير وعنب وتين‪ .‬فقال الحق سبحانه‬
‫وتعالى‪ } :‬لّبِ ْثتَ مِاْ َئةَ عَامٍ { ‪ ،‬وأراد أن يدلل على الصدق في القضيتين معا قال‪ } :‬فَا ْنظُرْ إِلَىا‬
‫ك وَشَرَا ِبكَ لَمْ يَتَسَنّهْ { ‪ ،‬ونظر الرجل إلى طعامه وشرابه فوجد الطعام والشراب لم يتغيرا‪،‬‬
‫طعَا ِم َ‬
‫َ‬
‫وهذا دليل على أنه لم يمكث إل يوما أو بعض يوم‪ ،‬وبذلك ثبت صدق الرجل‪ ،‬بقيت قضية } مِاْئَةَ‬
‫عَامٍ {‪.‬‬
‫جعََلكَ آ َيةً لِلنّاسِ { وهذا القول يدل على أن هنا شيئا عجيبا‪،‬‬
‫ك وَلِنَ ْ‬
‫حمَا ِر َ‬
‫فقال الحق‪ } :‬وَانْظُرْ إِلَىا ِ‬
‫وأراد ال أن يبين له بنظرة إلى الحمار دليلً على صدق مرور مائة عام‪ ،‬ووجد الرجل حماره‬
‫وقد تحول عظاما مبعثرة‪ ،‬ول يمكن أن يحدث ذلك في زمن قصير‪ ،‬فإن موت الحمار أمر قد‬
‫يحدث في يوم‪ ،‬لكن أن يرم جسمه‪ ،‬ثم ينتهي لحمه إلى رماد‪ ،‬ثم تبقى العظام مبعثرة‪ ،‬فتلك قضية‬
‫تريد زمانا طويلً ل يتسع له إل مائة عام‪ ،‬فكأن النظر إلى الحمار هو دليل على صدق مرور‬
‫مائة عام‪ ،‬والنظر إلى الطعام دليل على صدق } َيوْما َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ {‪.‬‬

‫فالقضية إذن قضية عجيبة‪ ،‬وكيف طُوي الزمن في مسألة الطعام‪ ،‬وكيف بُسط الزمن في مسألة‬
‫الحمار‪ .‬إنه سبحانه يظهر لنا أنه هو القابض الباسط‪ ،‬فهو الذي يقبض الزمن في حق شيء‪،‬‬
‫ويبسط الزمن في حق شيء آخر‪ ،‬والشيئان متعاصران معا‪ .‬وتلك العملية ل يمكن أن تكون إل‬
‫لقدرة طليقة ل تملكها النواميس الكونية‪ ،‬وإنما هي التي تملك النواميس‪.‬‬
‫جعََلكَ آ َيةً لِلنّاسِ { ‪ ،‬فمن هم الناس الذين سيجعل ال من قضية الذي‬
‫وقد قال الحق سبحانه‪ } :‬وَلِنَ ْ‬
‫مر على قرية آية لهم؟ كان لبد أن يوجد أناس في القصة‪ ،‬لكن القرية خاوية على عروشها‪،‬‬
‫وليس فيها إنسان أو بنيان‪ ،‬أهم الذين كانوا في القرية أم سواهم؟ قال بعض المفسرين هذا‪ ،‬وقال‬
‫البعض الخر الرأي المضاد‪.‬‬
‫جعََلكَ آ َيةً لِلنّاسِ { هو قبض ال للزمن‬
‫وأصدق شيء يمكن أن يتصل بصدق ال في قوله‪ } :‬وَلِنَ ْ‬
‫في حق شيء‪ ،‬وبسطه في حق شيء آخر‪ ،‬وعزيز كما قال جمهرة العلماء هو الذي مر على‬
‫قرية‪ ،‬وعزيز هذا كان من الربعة الذين يحفظون التوراة‪ ،‬فلم يحفظ التوراة إل أربعة‪ :‬موسى‪،‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وعيسى‪ ،‬وعزير‪ ،‬ويوشع‪ ،‬وقد أراه ال العظام وكيف ينشزها ويرفعها فتلتحم ثم يكسوها لحما‪ ،‬أي‬
‫أراه عملية الحياء مشهديا‪ ،‬وفي هذا إجابة للسؤال‪ } :‬أَنّىا يُحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْ ِتهَا {؟‬
‫والحق يقول‪ } :‬وَانْظُرْ إِلَى العِظَامِ كَ ْيفَ نُ ْنشِزُهَا { و } نُنْشِ ُزهَا { أي نرفعها‪ ،‬ورأى " عزير " كل‬
‫عظمة في حماره‪ ،‬وهي ترفع من الرض‪ ،‬وشاهد كل عظمة تركب مكانها‪ ،‬وبعد تكوين الهيكل‬
‫العظمي للحمار بدأت رحلة كسوة العظام لحما‪ ،‬وبعد ذلك تأتي الحياة‪.‬‬
‫لقد وجد عزير إجابة في نفسه‪ ،‬ووجد إجابة في الحمار‪ ،‬ومن بعد ذلك تذكر قريته التي خرج‬
‫منها‪ ،‬وأراد العودة إليها‪ ،‬فلما عاد إليها وجد أمرها قد تغير بما يتناسب مع مرور مائة عام‪ ،‬وكان‬
‫في تلك القرية مولة لهم‪ ،‬أي أمة في أسرته‪ ،‬وكانت هذه المة قد عميت وأصبحت مقعدة‪ ،‬فلما‬
‫دخل وقال‪ :‬أنا العزير‪ .‬قالت المة‪ :‬ذهب العزيز من مائة عام ول ندري أين ذهب ولم يعد؟‬
‫قال‪ :‬أنا العزير‪ .‬قالت‪ :‬إن للعزير علمة‪ ،‬هذه العلمة أنه مجاب الدعوة‪ ،‬ولم تنس نفسها‪ .‬قالت‪:‬‬
‫فإن كنت العزير فادع ال أن يرد عليّ بصري وأن يخرجني من قعودي هذا‪ .‬فدعا عزير ال‬
‫فبرئت‪ ،‬فلما برئت؛ نظرت إليه فوجدته هو العزير فذهبت إلى قومها وأعلنت أن العزير قد عاد‪.‬‬
‫وبعد ذلك ذهب العزير إلى ابنه‪ ،‬فوجده رجل قد تجاوز مائة سنة‪ ،‬وكان العزير ل يزال شابا في‬
‫سن خمسين سنة‪.‬‬

‫ولذلك ترى الشاعر يقول مُلغزا‪ :‬وما ابنٌ رأى أباه وهو في ضعف عمره؟ والمقصود بهذا اللغز‬
‫هو العزير الذي أماته ال وهو في الخمسين ثم أحياه ال في عمره نفسه بعد مائة عام‪ ،‬والتقى‬
‫العزير بابنه‪ .‬قال البن‪ :‬كنت اسمع أن لبي علمة بين كتفيه " شامة "‪ .‬فلما كشف العزير كتفه‬
‫لبنه وجد الشامة‪.‬‬
‫وتثبت أهل القرية من صدق عزير‪ :‬بشيء آخر هو أن (بختنصر) حينما جاء إلى بيت المقدس‬
‫وخربها حرق التوراة‪ ،‬إل أن رجل قال‪ :‬إن أباه قد دفن في مكان ما نسخة من التوراة‪ ،‬فجاءوا‬
‫بالنسخة‪ ،‬قال العزير‪ :‬وأنا أحفظها‪ .‬وتل العزير التوراة كما وُجدت في النسخة‪ ،‬فصدق القوم أنه‬
‫العزير‪ ،‬وتعجب الناس وهم يشاهدون ابنا تخطى المائة وأبا في سن الخمسين‪ .‬ولذلك يذيل الحق‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ {‪.‬‬
‫الية بالقول‪ } :‬قَالَ أَعَْلمُ أَنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫ألم يكن قبل ذلك يعلم أن ال على كل شيء قدير؟ نعم كان يعلم علم الستدلل‪ ،‬وهو الن يعلم علم‬
‫المشهد‪ ،‬علم الضرورة‪ ،‬فليس مع العين أين‪.‬‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ { هي تأكيد وتعريف بقدرة ال على أن يبسط الزمن‬
‫إذن فـ } أَعْلَمُ أَنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫ويقبضه‪ ،‬وقدرة ال على الحياء والماتة‪ ،‬فصار يعلم حق اليقين بعد أن كان يعلم علم اليقين‪.‬‬
‫وهذه المسألة تفسر ما يقوله العلم الحديث عن تعليق الحياة‪ .‬ومعنى تعليق الحياة هو يشبه ما تفعله‬
‫بعض الثعابين عندما تقوم بالبيات الشتوي‪ ،‬أي تنكمش في الشتاء في ذاتها ول تُبدي حركة‪ ،‬وتظل‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هكذا إلى أن يذهب الشتاء‪ ،‬ومدة البيات الشتوي ل تحتسب من عمر الثعابين‪ ،‬ولذلك يقال‪ :‬إن ذلك‬
‫هو عملية تعليق الحياة‪ .‬وهذه العملية التي قد نفسر بها مسألة أهل الكهف‪ .‬فأهل الكهف أيضا‬
‫مرت عليهم العملية نفسها‪َ {:‬وكَذاِلكَ َبعَثْنَاهُمْ لِيَ َتسَآءَلُوا بَيْ َنهُمْ قَالَ قَا ِئلٌ مّ ْنهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا َيوْما‬
‫َأوْ َب ْعضَ َيوْمٍ }[الكهف‪]19 :‬‬
‫إنهم لم يروا شيئا قد تغير فيهم‪ .‬وبعد ذلك قال الحق سبحانه‪ {:‬وَلَبِثُواْ فِي َكهْ ِفهِمْ ثَلثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ‬
‫وَازْدَادُواْ ِتسْعا }[الكهف‪]25 :‬‬
‫إن ال حدد الزمن الذي لبثوه‪ ،‬بينما هم قالوا‪ :‬إن الزمن هو يوم أو بعض يوم‪ .‬ومعنى ذلك أنهم‬
‫عندما ناموا هذا اللون من النوم واستيقظوا وجدوا أنفسهم على حالتهم التي كانت قبل هذا اللون‬
‫من النوم‪ .‬إذن فقد علق ال حياتهم‪ .‬ونلحظ أن كل هذه العملية قد جاءت هنا في قصة العزير بعد‬
‫حيّ ا ْلقَيّو ُم لَ تَ ْأخُ ُذهُ سِ َن ٌة َولَ َنوْمٌ‬
‫آية الكرسي التي تصور العقيدة اليمانية‪ {:‬اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ ا ْل َ‬
‫شفَعُ عِ ْن َدهُ ِإلّ بِإِذْنِهِ َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا خَ ْل َفهُمْ‬
‫ت َومَا فِي الَ ْرضِ مَن ذَا الّذِي يَ ْ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لّهُ مَا فِي ال ّ‬
‫ظ ُهمَا‬
‫حفْ ُ‬
‫ض وَلَ َيؤُو ُدهُ ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر َ‬
‫سعَ كُرْسِيّهُ ال ّ‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْل ِمهِ ِإلّ ِبمَا شَآ َء وَ ِ‬
‫وَلَ ُيحِيطُونَ بِ َ‬
‫وَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْل َعظِيمُ }‬

‫[البقرة‪]255 :‬‬
‫وتصور قضية الحياة وقضية الموت ونعلم أن إبراهيم حين حاجّه الرجل وقال له‪ } :‬أَنَا ُأحْيِـي‬
‫وَُأمِيتُ { نقل إبراهيم الحجة إلى الليل والنهار‪ ،‬وطلب منه أن يعكس آية الليل والنهار‪ ،‬فقال‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْ ِرقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ {‪.‬‬
‫للرجل‪ } :‬فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫وحتى ل يظن أحد أن إبراهيم عليه السلم إنما ترك الكلم عن الحياء والماتة فرارا من الجدل‪.‬‬
‫ونقل المر إلى الشمس‪ ،‬لكن أراد ال أن يأتي بقصة هذا النسان الذي مر على قرية وهي‬
‫خاوية‪،‬فيحدث له كل ما تقدم ليثبت الحق لنا أن قضية الحياة وقضية الموت بيده وحده‪ .‬وليخرج‬
‫الحق سبحانه أمر الحياة والموت عن مجال السفسطة الجدلية‪ .‬وعرفنا أن قبل معنى السفسطة‬
‫الجدلية حينما تعرضنا لقول الذي حاج إبراهيم في ربه باثنين من المسجونين وقال‪ :‬أنا أستطيع أن‬
‫ل قتل‪.‬‬
‫أقتل واحدا‪ ،‬وأن أترك الثاني ب َ‬
‫هذه هي السفسطة‪ :‬إنه لم يحيي‪ ،‬بل أبقى حياة‪ .‬وعرفنا أن الحياء ضد الماتة؛ لن الماتة هي‬
‫أن تخرج الروح من الجسد بدون جرح‪ ،‬أو نقض بنية‪ ،‬أو عمل يفعله النسان في البدن‪ .‬أما إذا‬
‫فعل إنسان أي شيء من هذه الفعال ضد إنسان آخر فل يقال إنه أماته بل يقال لقد قتله‪ .‬والموت‬
‫كما عرفنا غير القتل‪.‬‬
‫وتأتي بعد ذلك قصة لبراهيم أيضا بعد أن نقل الجدل مع الرجل إلى الشمس‪ ،‬فبهت الرجل الذي‬
‫كفر‪ ،‬أما إبراهيم عليه السلم فهو يؤمن بقدرة ال‪ ،‬لكنه يريد أن يعرف الكيفية‪ .‬إن إبراهيم عليه‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السلم لم يكن شاكا لن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ‬
‫طمَئِنّ قَلْبِي { "‪.‬‬
‫قال‪َ } :‬ربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِـي ا ْل َموْتَىا قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِن قَالَ بَلَىا وَلَـكِن لّ َي ْ‬
‫ونحن المسلمين لم نشك في هذا المر‪ .‬إذن‪ ،‬فإبراهيم عليه السلم لم يشك من باب أولى بدليل‬
‫منطوق الية حين قال الحق سبحانه‪ } :‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِـي ا ْل َموْتَىا قَالَ َأوَلَمْ‬
‫طمَئِنّ قَلْبِي‪{ ...‬‬
‫ُت ْؤمِن قَالَ بَلَىا وَلَـكِن لّيَ ْ‬

‫(‪)261 /‬‬

‫خذْ‬
‫طمَئِنّ قَلْبِي قَالَ فَ ُ‬
‫وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِي ا ْل َموْتَى قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِنْ قَالَ بَلَى وََلكِنْ لِيَ ْ‬
‫سعْيًا وَاعْلَمْ أَنّ‬
‫عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ‬
‫ج َعلْ عَلَى ُكلّ جَ َبلٍ مِ ْنهُنّ جُ ْزءًا ثُمّ ادْ ُ‬
‫أَرْ َبعَةً مِنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ ُثمّ ا ْ‬
‫حكِيمٌ (‪)260‬‬
‫اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫إن إبراهيم عليه السلم يسأل‪ :‬كيف تُحيي الموتى؟ أي أنه يطلب الحال التي تقع عليها عملية‬
‫الحياء‪ .‬فإبراهيم عليه السلم ل يتكلم في الحياء‪ ،‬وإنما كان شكه ـ عليه السلم ـ في أن ال‬
‫سبحانه قد يستجيب لطلبه في أن يريه ويطلعه على كيفية إحياء الموتى؟ ولنضرب هذا المثل ـ‬
‫ول المثل العلى من قبل ومن بعد ـ والمثل لتقريب المسألة من العقول؛ لن ال مُنزه عن أي‬
‫تشبيه‪.‬‬
‫إن الواحد منا يقول للمهندس‪ :‬كيف بنيت هذا البيت؟ إن صاحب السؤال يشير إلى حدث وإلي‬
‫مُحْدَث وهو البيت الذي تم بناؤه‪ .‬فهل معرفة الكيفية تدخل في عقيدة اليمان؟ ل‪.‬‬
‫طمَئِنّ‬
‫ولنعلم أول ما معنى‪ :‬عقيدة؟‪ .‬إن العقيدة هي‪ :‬أمر معقود‪ ،‬وإذا كان هذا فكيف يقول‪ { :‬لّيَ ْ‬
‫قَلْبِي }؟ فهل هذا دليل على أن إبراهيم قبل السؤال‪ ،‬وقبل أن يجاب إليه‪ ،‬لم يكن قلبه مطمئنا؟ ل‪،‬‬
‫لقد كان إبراهيم مؤمنا‪ ،‬ولكنه يريد أن يزداد اطمئنانا‪ ،‬لنه أدار بفكره الكيفية التي تكون عليها‬
‫عملية الحياء‪ ،‬لكنه ل يعرف على أية صورة تكون‪.‬‬
‫إذن فالطمئنان جاء لمراد في كيفية مخصوصة تخرجه من متاهات كيفيات متصورة ومتخيلة‪،‬‬
‫ومادمت تريد الكيفية‪ ،‬وهذه الكيفية ل يمكن أن نشرحها لك بكلم‪ .‬بل لبد أن تكون تجربة عملية‬
‫واقعية‪َ { ،‬فخُذْ أَرْ َبعَةً مّنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ }‪ .‬و " صرهن " أي أملهن واضممهن إليك لتتأكد‬
‫من ذوات الطير‪ ،‬ومن شكل كل طير‪ ،‬حتى ل تتوهم أنه قد جاء لك طير آخر‪.‬‬
‫وقال المفسرون‪ :‬إن الربعة من الطير هي‪ :‬الغراب‪ ،‬الطاووس‪ ،‬الديك‪ ،‬الحمامة‪ ،‬وهكذا كان كل‬
‫طائر له شكلية مختلفة‪.‬‬
‫سعْيا } ‪ ،‬فهل أجرى سيدنا إبراهيم هذه‬
‫عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ‬
‫ج َعلْ عَلَىا ُكلّ جَ َبلٍ مّ ْنهُنّ جُزْءًا ُثمّ ادْ ُ‬
‫{ ُثمّ ا ْ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العملية أو اكتفى بأن شرح ال له الكيفية؟ إن القرآن لم يتعرض لهذه الحكاية‪ ،‬فإما أن يكون ال قد‬
‫قال له الكيفية‪ ،‬فإن أراد أن يتأكد منها فليفعل‪ ،‬وإما أنه قد تيقن دون أن يجري تلك العملية‪ .‬إن‬
‫القرآن لم يقل لنا هل أجرى سيدنا إبراهيم هذه العملية أم ل؟ والحق يقول مخاطبا إبراهيم‬
‫سعْيا } وكان المفروض أن يقول‪ :‬يأتينك طيرانا‪ .‬فكيف‬
‫عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ‬
‫بخطوات التجربة‪ { :‬ثُمّ ادْ ُ‬
‫تسعى الطيور؟ إن الطير يطير في السماء وفي الجو‪ .‬لكن الحق أراد بذلك أل يدع أي مجال‬
‫لختلط المر فقال‪ " :‬سعيا " أي أن الطير سيأتي أمامه سائرا‪ ،‬لقد نقل الحق المر من الطيران‬
‫إلى السعي كي يتأكد منها سيدنا إبراهيم‪ ،‬إذن فلكي تتأكد يا إبراهيم ويزداد اطمئنانك جئنا بها من‬
‫طيور مختلفة وأنت الذي قطعتها‪ ،‬وأنت الذي جعلت على كل جبل جزءا‪ ،‬ثم أنت الذي دعوت‬
‫الطير فجاءتك سعيا‪.‬‬

‫وهنا ملحظية في طلقة القدرة‪ ،‬وفي الفرق بين القدرة الواجبة لواجب الوجود‪ ،‬وهو الحق سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬والقدرة الممنوحة من واجب الوجود وهو ال ـ سبحانه ـ لمنكر واجب الوجود وهو‬
‫النسان‪ ،‬هذا له قدرة‪ ،‬وذاك له قدرة؛ إن قدرة ال هي قدرة واجبة‪ ،‬وقدرة النسان هي قدرة‬
‫ممكنة‪ ،‬وقدرة ال ل ينزعها منه أحد‪ ،‬وقدرة النسان ينزعها ال منه؛ فالنسان من البشر‪ ،‬والبشر‬
‫تتفاوت قدراتهم؛ فحين تكون لحدهم قدرة فهناك آخر ل قدرة له‪ ،‬أي عاجز‪ .‬ويستطيع القادر من‬
‫البشر أن يعدي أثر قدرته إلى العاجز؛ فقد يحمل القادر كرسيا ليجلس عليه من ل يقدر على‬
‫حمله‪ .‬لكن قدرة الحق تختلف‪.‬‬
‫كأن الحق سبحانه وتعالى يقول‪ :‬أنا أعدي من قدرتي إلى من ل يقدر فيقدر‪ ،‬أنا أقول للضعيف‪:‬‬
‫سعْيا {‪ .‬إن‬
‫عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ‬
‫كن قادرا‪ ،‬فيكون‪ .‬وهذا ما نفهمه من قوله سبحانه لبراهيم‪ُ } :‬ثمّ ادْ ُ‬
‫إبراهيم كواحد من البشر عاجز عن كيفية الحياء‪ ،‬ولكن الحق يعطيه القدرة على أن ينادي‬
‫الطير‪ ،‬فيأتي الطير سعيا‪.‬‬
‫إن الحق يعطي القدرة لبراهيم أن يدعو الطير فيأتي الطير سعيا‪ .‬وهذا هو الفرق بين القدرة‬
‫ل منها‪ ،‬ولكن قدرة وجب الوجود‬
‫الواجبة‪ ،‬وبين القدرة الممكنة‪ .‬إن قدرة الممكن ل يعديها أحدٌ لخا ٍ‬
‫تُعديها إلى من ل يقدر فيقدر‪ ،‬ولذلك يأتي القول الحكيم بخصائص عيسى ابن مريم عليه السلم‪{:‬‬
‫وَرَسُولً إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي َقدْ جِئْ ُتكُمْ بِآيَةٍ مّن رّ ّبكُمْ أَنِي َأخُْلقُ َلكُمْ مّنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنفُخُ‬
‫حيِ ا ْل َموْتَىا بِإِذْنِ اللّ ِه وَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا تَ ْأكُلُونَ‬
‫ص وَأُ ْ‬
‫ل ْكمَ َه والَبْرَ َ‬
‫فِيهِ فَ َيكُونُ طَيْرا بِِإذْنِ اللّ ِه وَأُبْرِى ُء ا َ‬
‫ك ليَةً ّلكُمْ إِن كُنتُم ّمؤْمِنِينَ }[آل عمران‪]49:‬‬
‫َومَا َتدّخِرُونَ فِي بُيُو ِتكُمْ إِنّ فِي ذاِل َ‬
‫إن خصائص عيسى ابن مريم ل تكون إل بإذن من ال‪ ،‬فقدرة عيسى عليه السلم أن يصنع من‬
‫الطين ما هو على هيئة الطير‪ ،‬وإذا نفخ فيه بإذن ال لصبح طيرا‪ ،‬وكذلك إبراء الكمه والبرص‬
‫وإحياء الموتى‪ ،‬إن ذلك كله بإذن ممن؟ بإذن من ال‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكِيمٌ {‪ .‬إن‬
‫وكذلك كان المر في تجربة سيدنا إبراهيم‪ ،‬لذلك قال له الحق‪ } :‬وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫ال عزيز أي ل يغلبه أحد‪ .‬وهو حكيم أي يضع كل شيء في موقعه‪.‬‬
‫وكذلك يبسط الحق قصة الحياة وقصة الموت في تجربة مادية؛ ليطمئن قلب سيدنا إبراهيم‪ ،‬وقد‬
‫جاءت قصة الحياة والموت؛ لن الشك عند الذين عاصروا الدعوة المحمدية كان في مسألة البعث‬
‫من الموت‪ ،‬وكل كلمهم يؤدي إلى ذلك‪ ،‬فهم تعجبوا من حدوث هذا المر‪ {:‬قَالُواْ أَإِذَا مِتْنَا َوكُنّا‬
‫تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }[المؤمنون‪]82 :‬‬
‫سيَ خَ ْلقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ا ْلعِظَا َم وَ ِهيَ َرمِيمٌ * ُقلْ يُحْيِيهَا الّذِي‬
‫ل وَنَ ِ‬
‫وفي قول آخر‪َ {:‬وضَرَبَ لَنَا مَثَ ً‬
‫أَنشَأَهَآ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَ ُهوَ ِب ُكلّ خَ ْلقٍ عَلِيمٌ }‬

‫[يس‪]79-78 :‬‬
‫لقد أمر الحق سبحانه محمدا صلى ال عليه وسلم ليجيب على ذلك‪ :‬قل يا محمد‪ :‬يحييها الذي‬
‫أنشأها أول مرة؛ فقد خلقها من عدم ولذلك يقول الحق سبحانه‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ‬
‫حكِيمُ }[الروم‪]27 :‬‬
‫ض وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْ ِه وَلَهُ ا ْلمَ َثلُ الَعْلَىا فِي ال ّ‬
‫إن ال سبحانه وتعالى قادر على أن يبدأ الخلق على غير مثال‪ ،‬ثم يعيده بعد الموت‪ ،‬وإعادته‬
‫أهون عليه من ابتدائه بالنظر إلى مقاييس اعتقاد من يظن أن إعادة الشيء أسهل من ابتدائه؛ فال‬
‫له مطلق القدرة في خلقه‪ ،‬وهو الغالب في ملكه‪ ،‬وهو الحكيم في فعله وتقديره‪.‬‬
‫إن الذي يعيد إنما يعيد من موجود‪ ،‬أما الذي بدأ فمن معدوم‪ .‬فالهون هو العادة‪ ،‬أما البتداء فهو‬
‫ابتداء من معدوم‪ ،‬وكلهما من قدرة الحق سبحانه وتعالى‪ .‬إن هذه القضية إنما تثبت اليوم الخر‪،‬‬
‫لن اليمان باليوم الخر هو الميزان العقدي فإن استقر في القلب فالنسان بكل جوارحه يتجه إلى‬
‫الفعال التي تسير على ضوء منهج ال لينال النسان الجزاء الوفى‪.‬‬
‫إن النسان حينما يفهم أن هناك حسابا وهناك جزاءً‪ ،‬وهناك بعثا‪ ،‬فهو يعرف أنه لم ينطلق في هذا‬
‫العالم‪ ،‬ولم يفلت من الله الواحد القهار‪ ،‬إن للنسان عودة‪ ،‬فالذي يغتر بما آتاه ال نقول له‪ :‬ل‪،‬‬
‫إنك لن تفلت من يد ال‪ ،‬بل لك عودة بالموت وعودة بالبعث‪ .‬وإذا ما استقرت في أذهان المسلمين‬
‫تلك العودة‪ ،‬فكل إنسان يقيم حسابه على هذه العودة‪.‬‬
‫وبعد أن استقر المر في شأن الحياة والموت أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجيء بشيء هو ثمرة‬
‫الحياة في الكائن الحي وأول مظهر من مظاهر الحياة هو الحس والحركة‪ .‬والحركة في الوجود‬
‫أرادها ال للنسان؛ لنه وهو الحق قد أراد النسان للخلفة في الرض‪ .‬والخلفة في الرض‬
‫تقتضي أن يعمر النسان الرض‪ ،‬كما قال ال سبحانه وتعالى‪ {:‬اعْ ُبدُواْ اللّهَ مَا َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ‬
‫ُهوَ أَنشََأكُمْ مّنَ الَ ْرضِ وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود‪]61 :‬‬
‫إن خلفة النسان في الرض تقتضي أن يتحرك ويعمر الرض‪ .‬وحين يريد ال منا أن نتحرك‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونعمر الرض فل بد من أعمال تنظم هذه الحركة‪ ،‬ول بد من فنون متعددة تقوم على العمارة‪.‬‬
‫ويوزع ال الطاقات الفاعلة لهذه الفنون المتعددة ويجعلها مواهب مفكرة ومخططة في البشر‪ .‬إن‬
‫الحق سبحانه لم يجعل من إنسان واحد مجمع مواهب‪ ،‬بل نثر ال المواهب على الخلق‪ ،‬وكل‬
‫واحد أخذ موهبة ما‪.‬‬
‫لماذا؟ لن ال قد أراد أن يتكامل العالم ول يتكرر؛ فالتكامل يوحي بالندماج فإذا كنت أنت تعرف‬
‫شيئا خاضعا لموهبتك‪ ،‬وأنا ل أعرفه فأنا مضطر أن ألتحم بك‪ ،‬وأنا أيضا قد أعرف شيئا وأنت ل‬
‫تعرفه‪ ،‬لذلك تضطر أنت أن تلتحم بي‪.‬‬

‫وهذا اللون من اللتحام ليس التحام تفضل‪ ،‬إنما هو التحام تعايش ضروري‪.‬‬
‫لكن لو أن كل واحد صار مجمع مواهب‪ ،‬لستغنى عن غيره من البشر وأقام وحده بمفرده‪،‬‬
‫وينتهي احتياجه للمجتمع النساني‪ .‬فكأن ال حين وزع أسباب الفضل على الخلق يريد منهم أن‬
‫يتكاملوا ويلتحم بعضهم ببعض ل التحام فضل‪ ،‬ولكن التحام تعايش ضروري؛ لن واحدا يريد ما‬
‫ينتجه الخر بموهبته‪ ،‬والخر يريد من إنسان غيره ما هو موهوب فيه‪ .‬ولذلك فالناس بخير ما‬
‫تباينوا؛ لن كل منهم يحتاج إلى الخر‪.‬‬
‫ولذلك ل نجد أي تقدم في مجتمع إل إذا كانت المواهب في هذا المجتمع مختلفة ومتآزرة‪ .‬أما حين‬
‫يوجد قوم لهم مواهب متحدة فلبد أن يقاتل بعضهم بعضا لكن عندما يكون كل واحد في حاجة‬
‫لموهبة الخر‪ ،‬فهم يتعايشون؛ لن الحياة ل تسير إل بالكل‪ ،‬ولذلك إذا استوت جماعة في‬
‫المواهب فل بد أن يتفانوا لنهم يتنافسون فيها ويريد كل واحد منهم أن يستأثر بها لنفسه‪ ،‬لكن ل‬
‫أحد في المواهب المتكاملة يقول‪ :‬لماذا يكون فلن أفضل مني‪ ،‬لنه يعرف أنه من الضروري أن‬
‫يوجد المهندس والطبيب والصانع‪ ،‬ولذلك تجد الوجود منظما بذاته التنظيم الطبيعي الذي يُوجد‬
‫قاعدة ويُوجد قمة‪ ،‬فالقمة الصغيرة تحملها القاعدة الكبيرة‪ .‬ولو عكست الهرم لصارت مشكلة؛ لن‬
‫المر في هذه الحالة سَ َيجّدُ به جوانب كثيرة ليس لها أساس ول ترتكز على شيء‪ ،‬ولذلك فمن‬
‫الحكمة إذا رأيت في المجتمع واحدا قد ذهب إلى القمة فأعنه على أن يستمر متفوقا‪ ،‬ول تصطرع‬
‫معه فتسقطوا جميعا‪ ،‬فلبد من التفاضل كي ينشأ التكامل‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يعرض لنا هذه القضية عرضا اجتماعيا وعرضا اقتصاديا؛ ليبين لنا أن‬
‫أصل الوجود يجب أن ينشأ على أمر اجتماعي وأمر اقتصادي‪ ،‬لماذا؟ لن النسان مشغول أول‬
‫باستبقاء حياته‪ ،‬ثم باستبقاء نوعه‪ .‬واستبقاء حياة النسان بالقوت‪ ،‬واستبقاء نوعه بالزواج‪.‬‬
‫واستبقاء الحياة بالقوت يحتاج إلى حركة في الحياة‪ ،‬والحق يحترم ثمرتها‪ ،‬وعندما يريد الحق أن‬
‫يرقق قلب المتحرك على أخيه العاجز فهو يقول‪ {:‬مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا }[البقرة‪:‬‬
‫‪]245‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كما ضربنا المثل من قبل ـ ول المثل العلى ـ وقلنا‪ :‬إن النسان يعطي أولده مصروفا‪ ،‬وكل‬
‫واحد منهم يضعه في حصالته‪ ،‬فهب أن واحدا من الولد اضطر إلى شيء عاجل كإجراء‬
‫جراحة‪ ،‬هنا يذهب الرجل إلى أولده ويقول لهم‪ :‬أقرضوني ما في حصالتكم لن أخاكم يحتاج‬
‫إلى عملية‪ ،‬وسأرده لكم بعد ذلك مضاعفا‪ .‬إن الب لم يرجع في هبته ليقول إن ما في الحصالت‬
‫هو مالي وسآخذه‪ .‬ل‪ ،‬هو مالكم‪ ،‬لكنه سيكون دينا عندي‪.‬‬
‫كذلك يصنع ال مع الخلق فيوضح‪ :‬بعضكم عاجز وبعضكم قادر‪ ،‬وسأتكفل أنا بالعاجز‪ ،‬واقترض‬
‫من القادر‪.‬‬

‫وكان ضروريا أن يكون بعضنا عاجزا‪ ،‬حتى ل يظن أحد أن القوة ذاتية في النفس البشرية‪ .‬ل‪،‬‬
‫إن القوة موهوبة؛ ويستطيع من وهبها أن يسلبها‪ .‬وحتى يعرف صاحب القوة أن القوة ليست ذاتية‬
‫فيه‪ ،‬ويجد بجانبه إنسانا آخر عاجزا‪ .‬لكن هذا العاجز الذي سيلفت القوي إلى أن القوة ليست‬
‫ذاتية‪ ،‬ما ذنبه؟‬
‫إنّ ال قد جعله وسيلة إيضاح في الكون وكأن الحق يقول‪ :‬سنضمن لك أيها العاجز المستوى‬
‫اللئق من الحياة من أثر قدرة القادر‪ ،‬وما دام من أثر قدرة القادر‪ ،‬فهل سيتحرك القادر في الكون‬
‫على قدر " حاجته " أو على قدر " طاقته "؟ لبد أن يتحرك على قدر طاقته؛ لنه لو تحرك على‬
‫قدر حاجته فلن يجد ما يعطيه للعاجز‪.‬‬
‫ويتكلم الحق سبحانه وتعالى عن تلك القضية المهمة في البناء الجتماعي والبناء القتصادي بعد‬
‫إثبات قضية البعث والحياء والماتة لكي تكون ماثلة أمامنا وينتقل بنا الحق سبحانه وتعالى كي‬
‫يعطينا الكيان السلمي القتصادي الجتماعي فيقول جل شأنه‪ } :‬مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي‬
‫سَبِيلِ اللّهِ َكمَثَلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ‪{ ...‬‬

‫(‪)262 /‬‬

‫مَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنْبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ‬
‫عفُ ِلمَنْ َيشَا ُء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (‪)261‬‬
‫ُيضَا ِ‬

‫إن ال ينسب المال للبشر المتحركين؛ لنهم أخذوا هذه الموال بحركتهم‪ .‬وفي موضع آخر من‬
‫القرآن يقول الحق‪ {:‬وآتوهم من مال ال الذي آتاكم }[النور‪]33 :‬‬
‫إن المال كله مال ال‪ ،‬وقد أخذه النسان بالحركة‪ ،‬فاحترم ال هذه الحركة‪ ،‬واحترم ال في‬
‫النسان قانون النفعية‪ ،‬فجعل المال المتبقي من حركتك ملكا لك أيها النسان‪ ،‬لكن إن أراد ال هذا‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المال فسيأخذه‪ ،‬ومن فضل ال على النسان أنه سبحانه حين يطلب من النسان بعضا من المال‬
‫المتبقي من حركته فهو يطلبه كقرض‪ ،‬ويرده مضاعفا بعد ذلك‪.‬‬
‫إذن فالنفاق في سبيل ال يرده ال مضاعفا‪ ،‬وما دام ال يضاعفه فهو يزيد‪ ،‬لذلك ل تحزن ول‬
‫تخف على مالك؛ لنك أعطيته لمقتدر قادر واسع عليم‪ .‬إنه الحق الذي يقدر على إعطاء كل واحد‬
‫حسب ما يريد هو سبحانه؛ إنه يعطي على قدر نية العبد وقدر إنفاقه‪ .‬وهذه الية تعالج قضية‬
‫الشُح في النفس النسانية؛ فقد يكون عند النسان شيء زائد‪ ،‬وتشح به نفسه ويبخل‪ ،‬فيخاف أن‬
‫ينفق منه فينقص هذا الشيء‪.‬‬
‫وهنا تقول لك قضية اليمان‪ :‬أنفق لنه سبحانه سيزيدك‪ ،‬والحق سيعطيك مثلما يعطيك من‬
‫الرض التي تزرعها‪ .‬أنت تضع الحبة الواحدة‪ .‬فهل تعطيك حبة واحدة؟ ل‪ .‬إن حبة القمح تعطي‬
‫كمية من العيدان وكل عود فيه سنبلة وهي مشتملة على حبوب كثيرة‪ ،‬فإذا كانت الرض وهي‬
‫مخلوقة ل تضاعف لك ما تعطيه أفل يضاعف العطاء لك الذي خلقها؟ وإذا كان بعض من خلق‬
‫ال يضاعف لك‪ ،‬فما بالك بال جل وعل؟‬
‫إن الرض الصماء بعناصرها تعطيك‪ ،‬أئذا ما أخذت كيلة القمح من مخزنك لتبذرها في الرض‬
‫أيقال‪ :‬إنك أنقصت مخزنك بمقدار كيلة القمح؟ ل؛ لنك ستزرع بها‪ ،‬وأنت تنتظركم ستأتي من‬
‫حبوب‪ ،‬وهذه أرض صماء مخلوقة ل‪ ،‬فإذا كان المخلوق ل قد استطاع أن يعطيك بالحبة‬
‫سبعمائة‪ ،‬أل يعطيك الذي خلق هذه الرض أضعاف ذلك؟‬
‫إنه كثير العطاء‪ .‬والحق قد نسب للمنفقين الموال التي رزقهم ال بها فقال‪ { :‬مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ‬
‫َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } وكلمة { فِي سَبِيلِ اللّهِ } كلمة عامة‪ ،‬يصح أن يكون معناها الجهاد‪ ،‬أو‬
‫مصارف الصدقات؛ لن كل هذا في سبيل ال؛ لن الضعيف حين يجد نفسه في مجتمع متكافل‪،‬‬
‫ويجد صاحب القوة قد عدّى من أثر قوته وحركته إليه‪ ،‬أيحقد على ذي القوة؟ ل؛ لن خيره يأتيه‪،‬‬
‫نضرب المثل في الريف نقول‪:‬‬
‫البهيمة التي تدر لبنا ساعة تسير في الحارة‪ .‬فالكل كان يدعو ال لها ويقول‪ " :‬يحميكي " لماذا؟‬
‫لن صاحبها يعطي كل من حوله من لبنها ومن جبنتها ومن سمنها‪ ،‬لذلك يدعو لها الجميع‪ ،‬ول‬
‫يربطها صاحبها‪ ،‬ول يعلفها‪ ،‬ول ينشغل عليها‪ ،‬والخير القادم منها يذهب إلى كل الهل‪ ،‬وحين‬
‫نجد مجتمعا بهذا الشكل ويجد العاجز من القوي معينا له‪ ،‬هنا يقول العاجز‪ :‬إنني في عالم متكامل‪.‬‬

‫وإذا ما وُجد في إنسان قوة وفي آخر ضعف؛ فالضعيف ل يحقد وإنما يقول‪ :‬إن خير غيري‬
‫يصلني‪ .‬وكذلك يطمئن الواهب أنه إن عجز في يوم ما سيجد من يكفله ـ والقدرة أغيار ـ ما دام‬
‫النسان من الغيار‪ .‬فقد يكون قويا اليوم ضعيفا غدا‪.‬‬
‫إذن فقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ { هو قانون يريد به ال أن يحارب‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الشح في نفس المخلوقين‪ ،‬إنه يقول لكل منا‪ :‬انظر النظرة الواعية؛ فالرض ل تنقص من مخزنك‬
‫حين تعطيها كيلة من القمح! صحيح أنك أنقصت كيلة من مخزنك لتزرعها‪ ،‬ولكنك تتوقع أن تأخذ‬
‫من الرض أضعافها‪ .‬وإياك أن تظن أن ما تعطيه الرض يكون لك فيه ثقة‪ ،‬وما يعطيه ال ل‬
‫ثقة لك فيه‪ } .‬مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبُلَةٍ‬
‫سعٌ عَلِيمٌ { إن الية تعالج الشح‪ ،‬وتؤكد أن الصدقة ل‬
‫عفُ ِلمَن يَشَآ ُء وَاللّ ُه وَا ِ‬
‫مّئَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَا ِ‬
‫تنقص ما عند النسان بل ستزيده‪ .‬وبعد ذلك يقول تعالى‪ } :‬الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ‬
‫لَ يُتْ ِبعُونَ مَآ أَ ْن َفقُواُ مَنّا َولَ أَذًى‪{ ...‬‬

‫(‪)263 /‬‬

‫الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ لَا يُتْ ِبعُونَ مَا أَ ْنفَقُوا مَنّا وَلَا أَذًى َلهُمْ أَجْرُ ُهمْ عِنْدَ رَ ّب ِه ْم وَلَا‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ (‪)262‬‬
‫َ‬

‫إنها لقطة أخرى يوضح فيها الحق‪ :‬إياك حين تنفق مالك في سبيل ال وأنت طامع في عطاء ال‬
‫أن تمن على من تعطيه أو تؤذيه‪ .‬والمنّ هو أن يعتد على من أحسن إليه بإحسانه ويريه أنه‬
‫أوجب عليه حقا له وأنه أصبح صاحب فضل عليه‪ ،‬وكما يقولون في الريف (تعاير بها)‪ ،‬والشاعر‬
‫يقول‪:‬وإنّ امرَأً أسدى إليّ صنيعة وذكّـرنيها مَـ ّرةً للـئـيمولذلك فمن الدب اليماني في‬
‫النسان أن ينسى أنه أهدى وينسى أنه أنفق‪ ،‬ول يطلع أحدا من ذويه على إحسانه على الفقير أو‬
‫تصدقه عليه وخاصة الصغار الذين ل يفهمون منطق ال في الشياء‪ ،‬فعندما يعرف ابني أنني‬
‫ل ابني َومَنّ على ابن جاري‪ ،‬ربما أخذه غروره فعيّره هو‪ ،‬ول يمكن‬
‫أعطي لجاري كذا‪ ،‬ربما د ّ‬
‫أن يقدر هذا المر إل ُمكَّلفٌ يعرف الحكم بحيثيته من ال‪.‬‬
‫إن الحق يوضح لنا‪ :‬إياك أن تتبع النفقة منّا أو أذى؛ لنك إن أتبعتها بالمنّ ماذا يكون الموقف؟‬
‫يكرهها ال ُمعْطَى الذي تصدقت بها عليه ويتولد عنده حقد‪ ،‬ويتولد عنده بغض‪ ،‬ولذلك حينما قالوا‪" :‬‬
‫اتق شر من أحسنت إليه " شرحوا ذلك بأن اتقاء شر ذلك النسان بأل تذكره بالحسان‪ ،‬وإياك أن‬
‫تذكره بالحسان؛ لن ذلك يولد عنده حقدا‪.‬‬
‫ولذلك تجد كثيرا من الناس يقولون‪ :‬كم صنعت بفلن وفلن الجميل‪ ،‬هذا كذا وهذا كذا‪ ،‬ثم‬
‫خرجوا عليّ فانكروه‪ .‬وأقول لكل من يقول ذلك‪ :‬ما دمت تتذكر ما أسديته إليهم فمن العدالة من‬
‫ال أن ينكروه‪ ،‬ولو أنك عاملت ال لما أنكروه‪ ،‬فما دمت لم تعامل ال‪ ،‬فإنك تقابل بنكران ما‬
‫أنفقت‪.‬‬
‫فكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسخي بالية الولى قلب المنفق ليبسط يده بالنفقة‪ ،‬لذلك قال‪{ :‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ يَحْزَنُونَ }‪.‬‬
‫ثُ ّم لَ يُتْ ِبعُونَ مَآ أَ ْنفَقُواُ مَنّا وَلَ َأذًى ّلهُمْ َأجْرُهُمْ عِنْدَ رَ ّبهِمْ وَلَ َ‬
‫فالحق سبحانه وتعالى طمأننا في الية الولى على أن الصدقة والنفقة ل تنقص المال بل تزيده‪،‬‬
‫وضرب لنا الحق سبحانه المثل بالرض التي تؤتينا بدل الحبة الواحدة سبعمائة حبة‪ ،‬ثم يوضح‬
‫الحق لنا أن آفة النفاق أن يكون مصحوبا بـ " المنّ " أو " الذى "؛ لن ذلك يفسد قضية‬
‫الستطراق الصفائي في الضعفاء والعاجزين‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫{ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُ ّم لَ يُتْ ِبعُونَ مَآ أَ ْنفَقُواُ مَنّا وَلَ َأذًى ّلهُمْ َأجْرُهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِمْ }‬
‫[البقرة‪]262 :‬‬
‫انظر إلى الدقة الدائية في قوله الكريم‪ { :‬ثُمّ لَ يُتْ ِبعُونَ مَآ أَ ْن َفقُواُ مَنّا َولَ َأذًى }‪ .‬قد يستقيم الكلم‬
‫لو جاء كالتي‪ " :‬الذين ينفقون أموالهم في سبيل ال ول يتبعون ما أنفقوا منا ول أذى " ‪ ،‬لكن‬
‫الحق سبحانه قد جاء بـ " ثم " هنا؛ لن لها موقعا‪.‬‬

‫إن المنفق بالمال قد ل يمن ساعة العطاء‪ ،‬ولكن قد يتأخر المنفق بالمن‪ ،‬فكأن الحق سبحانه وتعالى‬
‫ينبه كل مؤمن‪:‬‬
‫يجب أن يظل النفاق غير مصحوب بالمن وأن يبتعد المنفق عن المن دائما‪ ،‬فل يمتنع عن المن‬
‫فقط وقت العطاء‪ ،‬ولكن لبد أن يستمر عدم المن حتى بعد العطاء وإن طال الزمن‪.‬‬
‫إن " ثم " تأتي في هذا المعنى لوجود مسافة زمنية تراخى فيها النسان عن فعل المن‪ .‬فالحق يمنع‬
‫المن منعا متصلً متراخيا‪ ،‬ل ساعة العطاء فحسب‪ ،‬ولكن بعد العطاء أيضا‪ .‬وشوقي أمير‬
‫الشعراء ـ رحمه ال ـ عندما كتب الشعر في حمل الثقال وضع أبياتا من الشعر في مجال حمل‬
‫الثقال النفسية‪ ،‬فقال‪:‬أحمـلت دَيـنـا في حياتك مرة؟ أحمـلت يـوما في الضـلوع‬
‫غليل؟أحمـلت مَنـا في النهار ُمكَرّرا؟ والليـلِ مِـن مُسْـدٍ إليك جمـيل؟وبعد أن عدد شوقي‬
‫أوجه الحمال الثقيلة في الحياة قال‪:‬تـلك الحـيـاة وهـذه أثقالها وُزِنَ الحـديدُ بـهـا فعـاد‬
‫ن ول‬
‫ضئيلكأن المن إذن عبء نفسي كبير‪ .‬ويطمئن الحق سبحانه من ينفقون أموالهم دون مَ ّ‬
‫أذى في سبيل ال بأن لهم أجرا عند ربهم‪ .‬وكلمة " الجر " ـ واليضاح من عند الرب ـ هي‬
‫طمأنة إلى أن المر قد أحيل إلى موثوق بأدائه‪ ،‬وإلى قادر على هذا الداء‪ .‬أما الذي يمن أو‬
‫يؤذي فقد أخذ أجره بالمن أو الذى‪ ،‬وليس له أجر عند ال؛ لن الذي يمن أو يؤذي لم يتصور‬
‫ب الضعيف‪ ،‬وإنما تصور الضعيف‪.‬‬
‫َر ّ‬
‫والمنفق في سبيل ال حين يتصور رب الضعيف‪ ،‬وأن رب الضعيف هو الذي استدعاه إلى‬
‫الوجود‪ ،‬وهو الذي أجرى عليه الضعف‪ ،‬فهو يؤمن أن ال هو الكفيل برزق الضعيف‪ ،‬وحين ينفق‬
‫القوي على الضعيف فإنما يؤدي عن ال‪ ،‬ولذلك نجد في أقوال المقربين‪:‬‬
‫" إننا نضع الصدقة في يد ال قبل أن نضعها في يد الضعيف " ولننظر إلى ما فعلته سيدتنا فاطمة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬لقد راحت تجلو الدرهم وتطيبه‪ ،‬فلما قيل لها‪ :‬ماذا تصنعين؟‬
‫قالت‪ :‬أجلو درهما وأطيبه لني نويت أن أتصدق به‪ .‬فقيل لها‪ :‬أتتصدقين به مجلوا ومعطرا؟‬
‫قالت الزهراء بنت رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬لني أعلم أنه يقع في يد ال قبل أن يقع في يد‬
‫الفقير‪ .‬إن الجر يكون عند من يغليه ويعليه ويرتفع بقيمته وهو الخالق الوهاب‪.‬‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ { لماذا لم يقل ال‪ :‬ول خوف منهم؟‪ .‬لن‬
‫ولنتأمل قول الحق‪َ } :‬ولَ َ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْي ِهمْ { أن هناك عنصرا ثالثا سيتدخل‪ .‬إنه تدخل من‬
‫الحق يريد أن يوضح لنا بقوله‪َ } :‬ولَ َ‬
‫شخص قد يظهر للنسان المنفق أنه محب له‪ ،‬فيقول‪ :‬ادخر لليام القادمة‪ ،‬ادخر لولدك‪.‬‬

‫علَ ْيهِمْ { أي إياك يا صاحب مثل هذا الرأي أن تتدخل‬


‫خ ْوفٌ َ‬
‫لمثل هذا العنصر يقول الحق‪َ } :‬ولَ َ‬
‫باسم الحب‪ ،‬ولتوفر كلمك؛ لن المنفق في سبيل ال إنما يجد العطاء والحماية من ال‪ .‬فل خوف‬
‫ن ول‬
‫على المنفق في سبيل ال‪ ،‬وليس ذلك فقط‪ ،‬إنما يقول الحق عن المنفقين في سبيل ال دون م ّ‬
‫أذى‪ } :‬وَلَ ُهمْ يَحْزَنُونَ { ومعناها أنه سوف يأتي في تصرفات الحق معهم ما يفرحهم بأنهم‬
‫تصدقوا إما بسرعة الخلف عليهم‪ ،‬أو برضى النفس‪ ،‬أو برزق السلب‪ ،‬فآفة الناس أنهم ينظرون‬
‫إلى رزق اليجاب دائما‪ ،‬أي أن يقيس البشر الرزق بما يدخل له من مال‪ ،‬ول يقيسون المر‬
‫برزق السلب‪ ،‬ورزق السلب هو محط البركة‪.‬‬
‫هب أن إنسانا راتبه خمسون جنيها‪ ،‬وبعد ذلك يسلب ال منه مصارف تطلب منه مائة جنيه‪ ،‬كأن‬
‫يدخل فيجد ولده متعبا وحرارته مرتفعة‪ ،‬فيرزق ال قلب الرجل الطمئنان‪ ،‬ويطلب من الم أن‬
‫تعد كوبا من الشاي للبن ويعطيه قرصا من السبرين‪ ،‬وتذهب الوعكة وتنتهي المسألة‪.‬‬
‫ورجل آخر يدخل ويجد ولده متعبا وحرارته مرتفعة‪ ،‬وتستمر الحرارة لكثر من يوم‪ ،‬فيقذف ال‬
‫في قلبه الرعب‪ ،‬وتأتي الخيالت والوهام عن المرض في ذهن الرجل‪ ،‬فيذهب بابنه إلى الطبيب‬
‫فينفق خمسين أو مائة من الجنيهات‪.‬‬
‫الرجل الول‪ ،‬أبرأ ال ابنه بقرش‪ .‬والثاني‪ ،‬أبرأ ال ابنه بجنيهات كثيرة‪ .‬إن رزق الرجل الول‬
‫هو رزق السلب‪ ،‬فكما يرزق ال باليجاب‪ ،‬فال يرزق بالسلب أي يسلب المصرف ويدفع البلء‪.‬‬
‫وهناك رجل دخله مائة جنيه‪ ،‬ويأتي له ال بمصارف تأخذ مائتين‪ ،‬وهناك رجل دخله خمسون‬
‫جنيها فيسلب ال عنه مصارف تزيد على مائة جنيه‪ ،‬فأيهما الفضل‪.‬‬
‫إنه الرجل الذي سلب ال عنه مصارف تزيد على طاقته‪ .‬إذن فعلى الناس أن تنظر إلى رزق‬
‫السلب كما تنظر إلى رزق اليجاب‪ ،‬وقوله الحق عن المنفقين في سبيله دون مَنّ أو أذى‪َ } :‬ولَ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ { هذا القول دليل على أن ال سيأتي بنتيجة النفقة بدون مَنّ أو أذى‬
‫َ‬
‫بما يفرح له قلب المؤمن‪ ،‬إما بالبركة في الرزق وإمّا بسلب المصارف عنه‪ ،‬فيقول القلب المؤمن‪:‬‬
‫إنها بركة الصدقة التي أعطيتها‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنه قد تصدق بشيء فرفع وصرف عنه ال شيئا ضارا‪ ،‬فيفرح بذلك القلب المؤمن‪ .‬وبعد ذلك‬
‫ينبهنا الحق سبحانه وتعالى إلى قضية مهمة هي‪ :‬إن لم تَجُد أيها المؤمن بمالك فأحسن بمقالك‪،‬‬
‫فإن لم تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بحسن الرد‪ ،‬والرسول صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬اتقوا‬
‫النار ولو بشق تمرة‪ ،‬فمن لم يجد فبكلمة طيبة "‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يحدد القضية في هذه الية‪َ } :‬ق ْولٌ ّمعْرُوفٌ َو َم ْغفِ َرةٌ خَيْرٌ مّن صَ َدقَةٍ يَتْ َب ُعهَآ‬
‫أَذًى وَاللّهُ غَ ِنيّ حَلِيمٌ‪{ ...‬‬

‫(‪)264 /‬‬

‫ن صَ َدقَةٍ يَتْ َب ُعهَا َأذًى وَاللّهُ غَ ِنيّ حَلِيمٌ (‪)263‬‬


‫َقوْلٌ َمعْرُوفٌ َو َم ْغفِرَةٌ خَيْرٌ مِ ْ‬

‫ما معنى { َقوْلٌ ّمعْرُوفٌ }؟ إننا في العادة نجد أن المعروف مقابل للمنكر‪ ،‬كأن المر الخَيّر أمر‬
‫متعارف عليه بالسجية‪ ،‬وكأن المتعارف عليه دائما من جنس الجمال ومن جنس الخير‪ ،‬أما المر‬
‫الذي تنكره النفس فمن جنس الشر وجنس القبح‪ .‬ولذلك يقول الحق‪َ { :‬ق ْولٌ ّمعْرُوفٌ } فكأن من‬
‫شأن الجمال ومن شأن الحسن أن يكون معروفا‪ ،‬ومن شأن النقيض أن يكون منكرا‪ ،‬إذن فالقول‬
‫المعروف هو أن ترد السائل الرد الجميل بحيث ل تمتلئ نفسه بالحفيظة عليك‪ ،‬وبحيث ل توبخه‬
‫لنّه سألك‪ ،‬وإذا كان السائل قد تجهم عليك تجهم المحتاج فاغفر له ذلك‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن هناك إنسانا تلهب ظهره سياط الحاجة‪ ،‬ويراك أهل لغنى أو ليسار أو جدة وسعة من المال‪،‬‬
‫وقد يزيد بالقول واللسان قليلً عليك‪ ،‬وربما تجاوز أدب الحديث معك‪ ،‬فعليك أن تتحمله‪.‬‬
‫وإذا كنت أنت أيها العبد تصنع المعاصي التي تغضب ال‪ ،‬ويحلم الحق عليك ويغفرها لك ول‬
‫يعذبك بها‪ ،‬فإذا ما صنع إنسان معك شيئا فكن أيضا صاحب قول معروف ومغفرة وحلم؛ إن الحق‬
‫سبحانه يقول لنا‪َ { :‬ألَ تُحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ َلكُمْ }؟‬
‫إننا جميعا نحب أن يغفر ال لنا‪ ،‬ولذلك يجب أن نغفر لغيرنا وخصوصا للمحتاج‪ .‬والحق حين‬
‫يقول‪ { :‬وَاللّهُ غَ ِنيّ حَلِيمٌ } ففي ذلك تنبيه للقادر الذي حرم الفقير‪ ،‬وكأنه يقول له‪ :‬إنما حرمت‬
‫نفسك أيها القادر من أجر ال‪ .‬إنك أيها القادر حين تحرم فقيرا‪ ،‬فأنت المحروم؛ لن ال غني‬
‫ل َومَن‬
‫خُ‬‫عوْنَ لِتُن ِفقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َفمِنكُم مّن يَبْ َ‬
‫عنك‪ ،‬وهو سبحانه يقول‪ {:‬هَا أَنتُمْ هَـا ُؤلَءِ تُدْ َ‬
‫ي وَأَنتُمُ ا ْل ُفقَرَآ ُء وَإِن تَ َتوَّلوْاْ يَسْتَ ْب ِدلْ َقوْما غَيْ َركُمْ ثُ ّم لَ َيكُونُواْ‬
‫س ِه وَاللّهُ ا ْلغَ ِن ّ‬
‫خلُ عَن ّنفْ ِ‬
‫خلْ فَإِ ّنمَا يَبْ َ‬
‫يَبْ َ‬
‫َأمْثَاَلكُم }[محمد‪]38 :‬‬
‫إن ال غني بقدرته المطلقة‪ ،‬غني وقادر أن يستبدل بالقوم البخلء قوما يسخون بما أفاء ال عليهم‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من رزق في سبيل ال‪ .‬فالذي يمسك عن العطاء إنما منع عن نفسه باب رحمة‪ .‬ولذلك يقول‬
‫ن وَالَذَىا‪} ...‬‬
‫الحق‪ { :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لَ تُ ْبطِلُو ْا صَ َدقَا ِتكُم بِا ْلمَ ّ‬

‫(‪)265 /‬‬

‫س وَلَا ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ‬


‫ن وَالْأَذَى كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النّا ِ‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا لَا تُ ْبطِلُوا صَ َدقَا ِتكُمْ بِا ْلمَ ّ‬
‫شيْءٍ ِممّا‬
‫ص ْفوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َركَ ُه صَلْدًا لَا َيقْدِرُونَ عَلَى َ‬
‫وَالْ َيوْمِ الْآَخِرِ َفمَثَلُهُ َكمَ َثلِ َ‬
‫كَسَبُوا وَاللّهُ لَا َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ (‪)264‬‬

‫فالذي يتصدق ويتبع صدقته بالمن والذى‪ ،‬إنما يُبطل صدقته‪ ،‬وخسارته تكون خسارتين‪ :‬الخسارة‬
‫الولى أنه أنقص ماله بالفعل؛ لن ال لن يعوض عليه؛ لنه أتبع الصدقة بما يبطلها من المن‬
‫والذى‪ ،‬والخسارة الخرى هي الحرمان من الثواب؛ فالذي ينفق ليقول الناس عنه إنه ينفق‪ ،‬عليه‬
‫أن يعرف أن الحق يوضح لنا‪ :‬أنه يعطي الجر على قاعدة أن الذي يدفع الجر هو من عملت له‬
‫العمل‪.‬‬
‫إن النسان على محدودية قدرته يعطي الجر لمن عمل له عمل‪ ،‬والذي يعمل من أجل أن يقول‬
‫الناس إنه عمل‪ ،‬فليأخذ أجره من القدرة المحدودة للبشر‪ ،‬ولذلك قال لنا رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم عن الذي يفعل الحسنة أو الصدقة ليقال عنه إنه فعل‪ ،‬فإنه يأتي يوم القيامة ول يجد أجرا له‪.‬‬
‫وقد جاء في الحديث الشريف‪ " :‬ورجل آتاه ال من أنواع المال فأتى به فعرفه نعمه فعرفها فقال‬
‫ل أنفقت فيه لك‪ ،‬قال‪ :‬كذبت إنما‬
‫ما عملت فيها؟ قال‪ :‬ما تركت من شيء تجب أن أنفق فيه إ ّ‬
‫أردت أن يقال‪ :‬فلن جواد فقد قيل‪ ،‬فأمر به فسحب على وجهه حتى ألقى في النار "‪.‬‬
‫إياك إذن أن تقول‪ :‬أنا أنفقت ولم يوسع ال رزقي؛ لن ال قد يبتليك ويمتحنك‪ ،‬فل تفعل الصدقة‬
‫من أجل توسيع الرزق‪ ،‬فعطاء ال للمؤمن ليس في الدنيا فقط‪ ،‬ولكن ال قد يريد أل يعطيك في‬
‫الفانية وأبقى لك العطاء في الباقية وهي الخرة‪ .‬وهو خير وأبقى‪.‬‬
‫ب } والصفوان هو‬
‫ص ْفوَانٍ عَلَ ْيهِ تُرَا ٌ‬
‫والحق يقول‪َ { :‬ولَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفمَثَُلهُ َكمَ َثلِ َ‬
‫الحجر الملس‪ ،‬ويُسمى المروة والذي نسميه بالعامية " الزلطة "‪ .‬ويقال للصلع " صفوان " ‪ ،‬أي‬
‫رأسه أملس كالمروة‪ .‬والشيء الملس هو الذي ل مسام له يمكن أن تدركها العين المدركة‪ ،‬إنما‬
‫يدرك النسان هذه المسام بوضع الحجر تحت المجهر‪ .‬وعندما يكون الشيء ناعما قد يأتي عليه‬
‫تراب‪ ،‬ثم يأتي المطر فينزل على التراب وينزلق التراب من على الشيء الملس‪ ،‬ولو كان‬
‫بالحجر بعض من الخشونة‪ ،‬لبقى شيء من التراب بين النتوءات‪ ،‬فالذي ينفق ماله رئاء الناس‪،‬‬
‫كالصفوان يتراكم عليه التراب‪ ،‬وينزل المطر على التراب فيزيله كلّه فيصير المر‪ { :‬لّ َيقْدِرُونَ‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيْءٍ ّممّا كَسَبُواْ } أي فقدوا القدرة على امتلك أي شيء؛ لن ال جعل ما لهم من عمل‬
‫عَلَىا َ‬
‫هباء منثورا‪.‬‬
‫وهؤلء كالحجر الصفوان الذي عليه تراب فنزل عليه وابل‪ ..‬أي مطر شديد فتركه صلدا‪ ..‬تلك‬
‫هي صفات من قصدوا بالنفاق رئاء الناس‪ ،‬فيبطل ال جزاءهم؛ لن ال ل يوفقهم إلى الخير‬
‫والثواب‪ .‬ويأتي ال بالمقابل‪ ،‬وهم الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة ال فيقول‪َ { :‬ومَثَلُ الّذِينَ‬
‫سهِمْ‪} ...‬‬
‫يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَتَثْبِيتا مّنْ أَ ْنفُ ِ‬

‫(‪)266 /‬‬

‫سهِمْ َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ‬
‫َومَثَلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَاءَ مَ ْرضَاةِ اللّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫ل وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ (‪)265‬‬
‫طّ‬‫ض ْعفَيْنِ فَإِنْ لَمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ فَ َ‬
‫فَآَ َتتْ ُأكَُلهَا ِ‬

‫إن ابتغاء مرضاة ال في النفاق تعني خروج الرياء من دائرة النفاق‪ ،‬فيكون خالصا لوجهه ـ‬
‫سبحانه ـ وأما التثبيت من أنفسهم‪ ،‬فهو لنفسهم أيضا‪ .‬فكأن النفس اليمانية تتصادم مع النفس‬
‫الشهوانية‪ ،‬فعندما تطلب النفس اليمانية أي شيء فإن النفس الشهوانية تحاول أن تمنعها‪ .‬وتتغلب‬
‫النفس اليمانية على النفس الشهوانية وتنتصر ل‪.‬‬
‫سهِمْ } هو أن يتثبت المؤمن على أن يحب نفسه حبا أعمق ل حبا‬
‫والمراد بـ { وَتَثْبِيتا مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫أحمق‪ .‬إذن فعملية النفاق يجب أن تكون أول إنفاقا في سبيل ال‪ ،‬وتكون بتثبيت النفس بأن وهب‬
‫المؤمن أول دمه‪ ،‬وثبت نفسه ثانيا بأن وهب ماله‪ ،‬وهكذا يتأكد التثبيت فيكون كما تصوره الية‬
‫طلّ وَاللّهُ ِبمَا‬
‫ضعْفَيْنِ فَإِن لّمْ ُيصِ ْبهَا وَابِلٌ َف َ‬
‫الكريمة‪َ {:‬كمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ‬
‫َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }[البقرة‪]265 :‬‬
‫والجنة كما عرفنا تُطلق في اللغة على المكان الذي يوجد به زرع كثيف أخضر لدرجة أنه يستر‬
‫من يدخله‪ .‬ومنها " جن " أي " ستر " ‪ ،‬ومن يدخل هذه الجنة يكون مستورا‪.‬‬
‫إن الحق يريد أن يضرب لنا المثل الذي يوضح الصنف الثاني من المنفقين في سبيل ال ابتغاء‬
‫مرضاته وتثبيتا من أنفسهم اليمانية ضد النفس الشهوانية‪ ،‬فيكون الواحد منهم كمن دخل جنة‬
‫كثيفة الزرع‪ ،‬وهذه الجنة توجد بربوة عالية‪ ،‬وعندما تكون الجنة بربوة عالية فمعنى ذلك أنها‬
‫محاطة بأمكنة وطيئة ومنخفضة عنها‪ ،‬فماذا يفعل المطر بهذه الجنة التي توجد على ربوة؟ وقد‬
‫أخبرنا الحق بما يحدث لمثل هذه الجنة قبل أن يتقدم العلم الحديث ويكتشف آثار المياه الجوفية‬
‫على الزراعة‪.‬‬
‫فهذه الجنة التي بربوة ل تعاني مما تعاني منه الرض المستوية‪ ،‬ففي الرض المستوية قد توجد‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المياه الجوفية التي تذهب إلى جذور النبات الشعرية وتفسدها بالعطن‪ ،‬فل تستطيع هذه الجذور أن‬
‫تمتص الغذاء اللزم للنبات‪ ،‬فيشحب النبات بالصفرار أول ثم يموت بعد ذلك‪ ،‬إنّ الجنة التي‬
‫بربوة تستقبل المياه التي تنزل عليها من المطر‪ ،‬وتكون لها مصارف من جميع الجهات الوطيئة‬
‫التي حولها‪ ،‬وترتوي هذه الجنة بأحدث ما توصل إليه العلم من وسائل الري‪ ،‬إنها تأخذ المياه من‬
‫أعلى‪ ،‬أي من المطر‪ ،‬فتنزل المياه على الوراق لتؤدي وظيفة أولى وهي غسل الوراق‪.‬‬
‫إن أوراق النبات ـ كما نعلم ـ مثل الرئة بالنسبة للنسان مهمتها التنفس‪ ،‬فإذا ما نزل عليها ماء‬
‫المطر فهو يغسل هذه الوراق مما يجعلها تؤدي دورها فيما نُسميه نحن في العصر الحديث‬
‫بالتمثيل الكلوروفيلي‪ .‬وبعد ذلك تنزل المياه إلى الجذور لتذيب العناصر اللزمة في التربة لغذاء‬
‫النبات‪ ،‬فتأخذ الجذور حاجتها من الغذاء المذاب في الماء‪ ،‬وينزل الماء الزائد عن ذلك في‬
‫المصارف المنخفضة‪.‬‬

‫وهذه أحدث وسائل الزراعة الحديثة‪ ،‬واكتشفوا أن المحصول يتضاعف بها‪.‬‬


‫إن الحق يخبرنا أن من ينفق ماله ابتغاء مرضاة ال وتثبيتا من أنفسهم كمثل هذه الجنة التي تروى‬
‫بأسلوب رباني‪ ،‬فإن نزل عليها وابل من المطر‪ ،‬أخذت منه حاجتها وانصرف باقي المطر‬
‫طلّ {؛ والطلّ وهو المطر والرذاذ الخفيف يكفيها لتؤتي ضعفين من‬
‫عنها‪ } ،‬فَإِن لّمْ ُيصِ ْبهَا وَا ِبلٌ َف َ‬
‫نتاجها‪ .‬وإذا كان الضعف هو ما يساوي الشيء مرتين‪ ،‬فالضعفان يساويان الشيء أربع مرات‪.‬‬
‫وال يضرب لنا مثل ليزيد به اليضاح لحالة من ينفق ماله رئاء الناس فيسأل عباده المؤمنين‬
‫ل وَأَعْنَابٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا‬
‫ح ُدكُمْ أَن َتكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ‬
‫وهو أعلم بهم فيقول جل شأنه‪ } :‬أَ َيوَدّ أَ َ‬
‫الَ ْنهَارُ‪{ ...‬‬

‫(‪)267 /‬‬

‫ل وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ ُكلّ ال ّثمَرَاتِ‬
‫أَ َيوَدّ َأحَ ُدكُمْ أَنْ َتكُونَ َلهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِي ٍ‬
‫عصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَ َر َقتْ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ الْآَيَاتِ َلعَّلكُمْ‬
‫ض َعفَاءُ فََأصَا َبهَا إِ ْ‬
‫وََأصَابَهُ ا ْلكِبَ ُر وَلَهُ ذُرّيّ ٌة ُ‬
‫تَ َت َفكّرُونَ (‪)266‬‬

‫إن الحق سبحانه يشركنا في الصورة كأنه يريد أن يأخذ منا الشهادة الواضحة‪ .‬فهل يود أحدكم أن‬
‫تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها النهار له فيها من كل الثمرات‪ .‬ونعلم أن النخيل‬
‫والعناب هما من أهم ثمار نَتاج المجتمع الذي نزل به القرآن الكريم‪ .‬ونعرف أن هناك حدائق‬
‫فيها نخيل وأعناب‪ ،‬ويضيف إليها صاحبها أشجارا من الخوخ وأشجارا من الفواكة الخرى‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَلْنَا لَحَدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ‬
‫ولذلك يقول الحق في أصحاب الجنة‪ {:‬وَاضْرِبْ لهُمْ مّثَلً رّجُلَيْنِ َ‬
‫جعَلْنَا بَيْ َن ُهمَا زَرْعا * كِلْتَا ا ْلجَنّتَيْنِ آ َتتْ ُأكَُلهَا وَلَمْ َتظْلِم مّنْهُ شَيْئا َوفَجّرْنَا خِلَل ُهمَا‬
‫خلٍ َو َ‬
‫حفَفْنَا ُهمَا بِ َن ْ‬
‫وَ َ‬
‫خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ‬
‫ل وَأَعَزّ َنفَرا * وَدَ َ‬
‫َنهَرا * َوكَانَ لَهُ َثمَرٌ َفقَالَ ِلصَاحِبِ ِه وَ ُهوَ ُيحَاوِ ُرهُ أَنَا َأكْثَرُ مِنكَ مَا ً‬
‫جدَنّ‬
‫ظَاِلمٌ لّ َنفْسِهِ قَالَ مَآ َأظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا * َومَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَ ًة وَلَئِن رّدِدتّ ِإلَىا رَبّي لَ ِ‬
‫خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف‪]36-32 :‬‬
‫كأن الجنتين هنا فيهما أشياء كثيرة‪ ،‬فيهما أعناب‪ ،‬وزادهما ال عطاء النخيل‪ ،‬ثم الزرع‪ ،‬وهذا‬
‫يسمى في اللغة عطف العام على الخاص‪ ،‬أو عطف الخاص على العام‪ ،‬ليذكر الشيء مرتين‪،‬‬
‫مرة بخصوصه‪ ،‬ومرة في عموم غيره‪ .‬وعندما يتحدث الحق سبحانه عن جنة الخرة فإنه يقول‬
‫مرة‪ {:‬أَعَدّ اللّهُ َل ُهمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ذاِلكَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ }[التوبة‪]89 :‬‬
‫لقد هيأ ال للمؤمنين به‪ ،‬المقاتلين في سبيل نصرة دينه وإعلء كلمته جنات تتخللها النهار‪ ،‬وذلك‬
‫لوّلُونَ‬
‫ناَ‬
‫هو الفوز والنجاح الكبير‪ .‬ومرة أخرى يتحدث الحق عن جنة الخرة بقوله‪ {:‬وَالسّا ِبقُو َ‬
‫ضيَ اللّهُ عَ ْنهُ ْم وَ َرضُواْ عَ ْن ُه وَأَعَدّ َلهُمْ جَنّاتٍ‬
‫ن وَالَ ْنصَارِ وَالّذِينَ اتّ َبعُوهُم بِِإحْسَانٍ ّر ِ‬
‫مِنَ ا ْل ُمهَاجِرِي َ‬
‫تَجْرِي َتحْ َتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدا ذاِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ }[التوبة‪]100 :‬‬
‫إن الحديث عن النهار التي تجري تحت الجنة يأتي مرة مسبوقا بـ " مِن "‪ .‬ومرة أخرى غير‬
‫مسبوق بـ " مِن "‪ .‬فعندما يأتي الحديث عن تلك النهار التي تحت الجنة مسبوقا بـ " مِن " فإن‬
‫ذلك يوحي أن نبعها ذاتي فيها والمائية مملوكة لها‪.‬‬
‫وعندما يأتي الحديث عن تلك النهار التي تجري تحت الجنة مسبوق بـ " مِن " ‪ ،‬فمعنى ذلك أن‬
‫نبع هذه النهار غير ذاتي فيها‪ ،‬ولكنه يجري تحتها بإرادة ال فل يجرؤ أحد أن يمنع الماء عن‬
‫هذه الجنة التي أعدها ال للمؤمنين‪ .‬وعندما يشركنا الحق في التساؤل‪:‬‬
‫ل وَأَعْنَابٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ َلهُ فِيهَا مِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ‬
‫ح ُدكُمْ أَن َتكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ‬
‫{ أَ َيوَدّ أَ َ‬
‫عصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَ َر َقتْ كَذَِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َل ُكمُ اليَاتِ‬
‫ض َعفَآءُ فََأصَا َبهَآ إِ ْ‬
‫وََأصَابَهُ ا ْلكِبَ ُر وَلَهُ ذُرّيّ ٌة ُ‬
‫َلعَّلكُمْ تَ َت َفكّرُونَ } [البقرة‪]266 :‬‬
‫إن الجنة التي بهذه الصفة وفيها الخير الكثير‪ ،‬لكن صاحبها يصيبه الكبر‪ ،‬ولم تعد في صحته فتوة‬
‫الشباب‪ ،‬إنه محاط بالخير وهو أحوج ما يكون إلى ذلك الخير؛ لنه أصبح في الكبر وليس له‬
‫طاقة يعمل بها‪ ،‬وهكذا تكون نفسه معلقة بعطاء هذه الجنة‪ ،‬ل لنفسه فقط ولكن لذريته من‬
‫الضعفاء‪.‬‬

‫وهذه قمة التصوير للحتياج للخير‪ ،‬ل للنفس فقط ولكن للبناء الضعفاء أيضا‪.‬‬
‫إننا أمام رجل محاط بثلثة ظروف‪ .‬الظرف الول‪ :‬هو الجنة التي فيها من كل خير‪.‬‬
‫والظرف الثاني‪ :‬هو الكبر والضعف والعجز عن العمل‪.‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والظرف الثالث‪ :‬هو الذرية من الضعفاء‪.‬‬
‫فيطيح بهذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت‪ ،‬فأي حسرة يكون فيها الرجل؟ إنها حسرة شديدة‪.‬‬
‫كذلك تكون حسرة من يفعل الخير رئاء الناس‪ .‬والعصار كما نعرف هو الريح الشديد المصحوبة‬
‫برعد وبرق ومطر وقد يكون فيه نار‪ ،‬هذا إذا كانت الشحنات الكهربائية ناتجة من تصادم السحب‬
‫أو حاملة لقذائف نارية من بركان ثائر‪ .‬هكذا يكون حال من ينفق ماله رئاء الناس‪ .‬ابتداء مطمع‬
‫وانتهاء موئس أي ميئوس منه‪.‬‬
‫إذن فكل إنسان مؤمن عليه أن يتذكر ساعة أن ينفق هذا البتلء المثير للطمع‪ ،‬وذلك النتهاء‬
‫المليء باليأس‪ .‬إنها الفجيعة الشديدة‪ .‬ويصورها الشاعر بقوله‪:‬فأصبحت من ليلى الغداة كقابض‬
‫على الماء خانته فروج الصابعويقول آخر‪:‬كما أبرقت قوما عطاشا غمامة فلما رأوهـا أقشـعت‬
‫وتجـلتإن الذي يرائي يخسر كل حاجاته‪ ،‬ول يقدر على شيء مما كسب‪ .‬ويقول الحق من بعد‬
‫ذلك‪ } :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَ ْنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ‪{ ...‬‬

‫(‪)268 /‬‬

‫ض وَلَا تَ َي ّممُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ‬


‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا أَ ْنفِقُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُت ْم َو ِممّا أَخْ َرجْنَا َلكُمْ مِنَ الْأَ ْر ِ‬
‫حمِيدٌ (‪)267‬‬
‫تُ ْنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بَِآخِذِيهِ إِلّا أَنْ ُت ْغ ِمضُوا فِي ِه وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ‬

‫إن هذه الية تعطي صورا تحدث في المجتمع البشري‪ .‬وكانت هذه الصور تحدث في مجتمع‬
‫المدينة بعد أن أسس فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم دولة السلم‪ .‬فبعض من الناس كانوا‬
‫يحضرون العِذق من النخل ويعلقه في المسجد من أجل أن يأكل منه من يريد‪ ،‬والعِذق هو فرع‬
‫قوي من النخل يضم الكثير من الفروع الصغيرة المعلقة عليها ثمار البلح‪ .‬وكان بعضهم يأتي‬
‫حشَف الصغيرة المعلقة عليها ثمار البلح‪ .‬وكان بعضهم يأتي بعذق غير‬
‫بعذق غير ناضج أو بال َ‬
‫ناضج أو بالحشف وهو أردأ التمر‪ ،‬فأراد ال أن يجنبهم هذا الموقف‪ ،‬حتى ل يجعلوا ل ما‬
‫يكرهون‪ ،‬فأنزل هذا القول الحكيم‪ { :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَ ْن ِفقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ }‪.‬‬
‫إن النفاق يجب أن يكون من الكسب الطيب الحلل‪ ،‬فل تأتي بمال من مصدر غير حلل لتنفق‬
‫منه على أوجه الخير‪ .‬فال طيب ل يقبل إل طيبا‪ .‬ول يكون النفاق من رُذَال وردِيء المال‪.‬‬
‫ن الَ ْرضِ }‬
‫ويحدد الحق سبحانه وتعالى وسيلة النفاق من عطائه فيقول‪َ { :‬و ِممّآ َأخْرَجْنَا َلكُم مّ َ‬
‫وهو سبحانه يذكرنا دائما حين يقول‪ { :‬أَ ْنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ } أل نظن الكسب هو الصل‬
‫في الرزق‪ .‬ل‪ ،‬إن الكسب هو حركة موهوبة لك من ال‪ .‬إنك أيها العبد إنما تتحرك بطاقة‬
‫موهوبة لك من ال‪ ،‬وبفكر ممنوح لك من ال‪ ،‬وفي أرض سخرها لك ال‪ ،‬إنها الدوات المتعددة‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التي خصك بها ال وليس فيها ما تملكه أنت من ذاتيتك‪ .‬ولكن الحق يحترم حركة النسان وسعيه‬
‫إلى الرزق فيقول‪ { :‬أَ ْنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ }‪.‬‬
‫ويحذرنا الحق من أن نختار الخبيث وغير الصالح من نتاج عملنا لننفق منه بقوله سبحانه‪ { :‬وَلَ‬
‫تَ َي ّممُواْ ا ْلخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْن ِفقُونَ } أي ل يصح ول يليق أن نأخذ لنفسنا طيبات الكسب ونعطي ال‬
‫رديء الكسب وخبيثه؛ لن الواحد منا ل يرضى لنفسه أن يأخذ لطعامه أو لعياله هذا الخبيث غير‬
‫حمِيدٌ } أي‬
‫الصالح لننفق منه أو لنأكله‪ { .‬وَلَسْ ُتمْ بِآخِذِيهِ ِإلّ أَن ُت ْغمِضُواْ فِي ِه وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ غَ ِنيّ َ‬
‫أنك أيها العبد المؤمن لن ترضى لنفسك أن تأكل من الخبيث إل إذا أغمضت عينيك‪ ،‬أو تم تنزيل‬
‫سعره لك؛ كأن يعرض عليك البائع شيئا متوسط الجودة أو شيئا رديئا بسعر يقل عن سعر الجيد‪.‬‬
‫لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يوضح لنا بهذه الصور أوجه النفاق‪:‬‬
‫* إن النفقة ل تنقص المال وإنما تزيده سبعمائة مرة‪.‬‬
‫* إن النفقة ل يصح أن يبطلها النسان بالمن والذى‪.‬‬
‫* إن القول المعروف خير من الصدقة المتبوعة بالمن أو الذى‪.‬‬
‫* إن النفاق ل يكون رئاء الناس إنما يكون ابتغاءً لمرضاة ال‪.‬‬
‫هذه اليات الكريمة تعالج آفات النفاق سواءً آفة الشح أو آفة المن أو الذى‪ ،‬أو النفاق من أجل‬
‫التظاهر أمام الناس‪ ،‬أو النفاق من رديء المال‪ .‬وبعد ذلك يقول سبحانه‪ { :‬الشّيْطَانُ َيعِ ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ‬
‫وَيَ ْأمُ ُركُم بِا ْلفَحْشَآءِ‪} ...‬‬

‫(‪)269 /‬‬

‫‪http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like