Professional Documents
Culture Documents
إن الشيطان قد يوسوس لكم بأن النفاق إفقار لكم ،ويحاول أن يصرفكم عن النفاق في وجوه
الخير ،ويغريكم بالمعاصي والفحشاء ،فا ْلغَ ِنيّ حين يقبض يده عن المحتاج فإنه يُ ْدخِل في قلب
المحتاج الحقد .وأي مجتمع يدخل في قلبه الحقد نجد كل المنكرات تنتشر فيه .ويعالج الحق هذه
المسائل بقوله {:إِ ّنمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََل ْه ٌو وَإِن ُت ْؤمِنُو ْا وَتَ ّتقُواْ ُيؤْ ِتكُمْ ُأجُو َركُ ْم َولَ َيسْأَ ْلكُمْ َأ ْموَاَلكُمْ
ضغَانَكُمْ }[محمد]37-36 :
ح ِفكُمْ تَبْخَلُو ْا وَيُخْرِجْ َأ ْ
* إِن يَسَْأ ْل ُكمُوهَا فَ ُي ْ
إن الحق سبحانه وتعالى ل يسألك أن ترد عطاءه لك من المال ،إنما يطلب الحق تطهير المال
بالنفاق منه في سبيل ال ليزيد ولينمو ،وليخرج الضغن من المجتمع؛ لن الضغن حين يدخل
مجتمعا فعلى هذا المجتمع السلم .ول يُفيق المجتمع من هذا الضغن إل بأن تأتيه ضربة قوية
تزلزله ،فينتبه إلى ضرورة إخراج الضغن منه لذلك يحذرنا ال أن نسمع للشيطان {:الشّيْطَانُ
َيعِ ُدكُمُ ا ْلفَقْ َر وَيَ ْأمُ ُركُم بِا ْلفَحْشَآءِ وَاللّهُ َيعِ ُدكُم ّمغْفِ َرةً مّنْ ُه َو َفضْلً وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة]268 :
فالذي يسمع لقول الشيطان ووعده ،ول يستمع إلى وعد ال يصبح كمن رجّح عدو ال على ال ـ
أعاذنا ال وإياكم من مثل هذا الموقف ـ إن الشيطان قد وسوس لكم بالفقر إذا أنفقتم ،وخبرة
النسان مع الشيطان تؤكد للنسان أن الشيطان كاذب مضلل ،وخبرة النسان مع اليمان بال
تؤكد للنسان أن ال واسع المغفرة ،كثير العطاء لعباده .والحكمة تقتضي أن نعرف إلى أي
ح ْكمَةَ َفقَدْ أُو ِتيَ
ح ْكمَةَ مَن يَشَآ ُء َومَن ُيؤْتَ ا ْل ِ
الطرق نهتدي ونسير .وبعد ذلك يقول الحقُ { :يؤْتِي ا ْل ِ
خَيْرا كَثِيرا} ...
()270 /
ح ْكمَةَ َفقَدْ أُو ِتيَ خَيْرًا كَثِيرًا َومَا يَ ّذكّرُ إِلّا أُولُو الْأَلْبَابِ ()269
ح ْكمَةَ مَنْ يَشَا ُء َومَنْ ُي ْؤتَ ا ْل ِ
ُيؤْتِي ا ْل ِ
والحكمة هي وضع الشيء في موضعه النافع .فكأن الحق يقول :كل ما أمرتكم به هو عين
الحكمة؛ لني أريد أن ُأ َؤمّنَ حياتكم الدنيا فيمن تتركون من الذرية الضعفاء ،وُأ َؤمّنَ لكم سعادة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخرة .فإن صنع العبد المؤمن ما يأمر به ال فهذا وضع الشياء في موضعها وهو أخذ بالحكمة.
وقد أراد الحق أن يعلم النسان من خلل عاطفته على أولده ،لن النسان قد تمر عليه فترة
يهون فيها عنده أمر نفسه ،ول ينشغل إل بأمر أولده ،فقد يجوع من أجل أن يشبع الولد ،وقد
يعرى من أجل أن يكسوهم .ولنا المثل الواضح في سيدنا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلم ،لقد
ابتله ربه في بداية حياته بالحراق في النار ،ولن إبراهيم قوى اليمان فقد جعل ال النار بردا
وسلما
.وابتله ال في آخر حياته برؤيا ذبح ابنه ،ولن إبراهيم عظيم اليمان فقد امتثل لمر الرحمن
الذي افتدى إسماعيل بكبش عظيم .والنسان في العمر المتأخر يكون تعلقه بأبنائه أكبر من تعلقه
بنفسه .وهكذا كان الترقي في ابتلء ال لسيدنا إبراهيم عليه السلم ،ولذلك أراد ال أن يضرب
ضعَافا خَافُواْ عَلَ ْي ِهمْ فَلْيَ ّتقُواّ
للبشر على هذا الوتر وقال {:وَلْيَخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّ ًة ِ
اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َق ْولً سَدِيدا }[النساء]9 :
إن الحق سبحانه يريد من عباده أن يؤمّنوا على أولدهم بالعمل الصالح والقول السديد.
ومثال آخر حين أراد الحق أن يحمي مال اليتامى ،وأعلمنا بدخول موسى عليه السلم مع العبد
ط َعمَآ
الصالح الذي أوتى العلم من ال ،يقول ـ سبحانه ـ {:فَانطََلقَا حَتّىا إِذَآ أَتَيَآ َأ ْهلَ قَرْ َيةٍ اسْ َت ْ
خ ْذتَ عَلَ ْيهِ َأجْرا }
جدَا فِيهَا جِدَارا يُرِيدُ أَن يَن َقضّ فََأقَامَهُ قَالَ َلوْ شِ ْئتَ لَتّ َ
أَهَْلهَا فَأَ َبوْاْ أَن ُيضَ ّيفُو ُهمَا َفوَ َ
[الكهف]77 :
كان موسى عليه السلم ل يعلم علم العبد الصالح من أن الجدار كان تحته كنز ليتيمين ،كان
أبوهما رجلً صالحا ،وأهل هذه القرية لئام ،فقد رفضوا أن يطعموا العبد الصالح وموسى عليه
السلم ،لذلك كان من الضروري إقامة الجدار حتى ل ينكشف الكنز في قرية من اللئام ويستولوا
عليه ول يأخذ الغلمان كنز أبيهما الذي كان رجلً صالحا.
إذن فالحق سبحانه يعلمنا أن ُن َؤمِنَ على أبنائنا بالعمل الصالح ،وهذه هي الحكمة عينها التي ل
يصل إليها أصحاب العقول القادرة على الوصول إلى عمق التفكير السديد.
وسيدنا الحسن البصري يعطينا المثل في العمل الصالح عندما يقول لمن يدخل عليه طالبا حاجة:
مرحبا بمن جاء يحمل زادي إلى الخرة بغير أجرة .إن سيدنا الحسن البصري قد أوتي من
الحكمة ما يجعله ل ينظر إلى الخير بمقدار زمنه ،ولكن بمقدار ما يعود عليه بعد الزمن.
وقد ضربت من قبل المثل بالتلميذ الذي َيجِ ّد ويتعب في دروسه ليحصل على النجاح ،بينما أخوه
يحب لنفسه الراحة والكسل .ثم نجد التلميذ الذي يتعب هو الذي يرتقي في المجتمع ،بينما الذي
ارتضى لنفسه الكسل يصير صعلوكا في المجتمع .وبعد ذلك يقول سبحانهَ { :ومَآ أَنفَقْتُمْ مّن ّن َفقَةٍ
َأوْ نَذَرْتُمْ مّن نّذْرٍ فَإِنّ اللّهَ َيعَْلمُ ُه َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ }
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()271 /
َومَا أَ ْن َفقْتُمْ مِنْ َن َفقَةٍ َأوْ َنذَرْتُمْ مِنْ َنذْرٍ فَإِنّ اللّهَ َيعَْلمُ ُه َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ ()270
وقد عرفنا النفقة من قبل ،فما هي مسألة النذر؟ .إن النذر هو أن تُلزم نفسك بشيء من جنس ما
شرع ال فوق ما أوجب ال .فإذا نذرت أن تصلي ل كل ليلة عددا من الركعات فهذا نذر من
جنس ما شرع ال؛ لن ال قد شرع الصلة وفرضها خمسة فروض ،فإن نذرت فوق ما فرضه
ال فهذا هو النذر .ويقال في الذي ينذر شيئا من جنس ما شرع ال فوق ما فرضه ال :إن هذا
دليل على أن العبادة قد حََلتَ له ،فأحبها وعشقها ،ودليل على أنه قارب أن يعرف قدر ربه؛ وأن
ربه يستحق منه فوق ما افترضه عليه ،فكأن ال في افتراضه كان رحيما بنا ،لنه لو فرض ما
يستحقه منا لما استطاع واحد أن يفي بحق ال.
إذن فعندما تنذر أيها العبد المؤمن نذرا ،فإنك تُلزم نفسك بشيء من جنس ما شرع ال لك فوق ما
فرض ال عليك .وأنت مخير أن تقبل على نذر ما ،أو ل تقبل .لكن إن نطقت بنذر فقد لزم.
لماذا؟ لنك ألزمت نفسك به .ولذلك فمن التعقل أل يورط النسان نفسه ويسرف في النذر ،لنه
في ساعة الداء قد ل يقدر عليه.
وأهل القرب من ال يقولون لمن يخل بالنذر بعد أن نذر :هل جربت ربك فلم تجده أهلً لستمرار
الود .وليس فينا من يجرؤ على ذلك؛ لن ال أهل لعميق الود .ولهذا فمن الفضل أن يتريث
النسان قبل أن ينذر شيئا.
ونقف الن عند تذييل اليةَ { :ومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ أَ ْنصَارٍ } .إن الظالمين هم من ظلموا أنفسهم؛ لن
الحق عرفنا أن ظلم النسان إنما يكون لنفسه ،وقال لنا {:إِنّ اللّ َه لَ يَظِْلمُ النّاسَ شَيْئا وَلَـاكِنّ
سهُمْ يَظِْلمُونَ }[يونس]44 :
النّاسَ أَنفُ َ
ومن أشد الظلم للنفس النفاق رياءً ،أو النفاق في المعاصي ،أو عدم الوفاء بالنذر ،فليس لمن
يفعل ذلك أعوان يدفعون عنه عذاب ال في الخرة .ويقول الحق من بعد ذلك { :إِن تُبْدُواْ
خفُوهَا وَتُؤْتُوهَا ا ْل ُفقَرَآءَ} ...
الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِهيَ وَإِن ُت ْ
()272 /
خفُوهَا وَ ُتؤْتُوهَا ا ْلفُقَرَاءَ َف ُهوَ خَيْرٌ َلكُ ْم وَ ُي َكفّرُ عَ ْنكُمْ مِنْ سَيّئَا ِتكُمْ
ي وَإِنْ ُت ْ
إِنْ تُبْدُوا الصّ َدقَاتِ فَ ِن ِعمّا ِه َ
وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ ()271
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإن أظهرتم الصدقة فنعم ما تفعلون؛ لتكونوا قدوة لغيركم ،ولتردوا الضغن عن المجتمع .وإن
أخفيتم الصدقة وأعطيتموها الفقراء فإن ال يكفر عنكم بذلك من سيئاتكم ،وال خبير بالنية وراء
إعلن الصدقة ووراء إخفاء الصدقة .والتذييل في هذه الية الكريمة يخدم قضية إبداء الصدقة
وقضية إخفاء الصدقة ،فالحق خبير بنية من أبدى الصدقة ،فإن كان غنيا فعليه أن يبدي الصدقة
حتى يحمي عرضه من وقوع الناس فيه؛ لن الناس حين يعلمون بالغني فل بد أن يعلموا بإنفاق
الغني ،وإل فقد يحسب الناس على الغني عطاء ال له ،ول يحسبون له النفقة في سبيل ال .لماذا؟
لن ال يريد أن يحمي أعراض الناس من الناس.
أما إن كان النسان غير ظاهر الغنى فمن المستحسن أن يخفي الصدقة .وإن ظهرت الصدقة كما
قلت ليتأسى الناس بك ،وليس في ذهنك الرياء فهذا أيضا مطلوب .والحق يقول { :وَاللّهُ ِبمَا
َت ْعمَلُونَ خَبِيرٌ } أي أن ال يجازي على قدر نية العبد في البداء أو في الخفاء.
إنه باستقراء اليات التي تعرضت للنفاق نجده سبحانه يسد أمام النفس البشرية كل منافذة الشُح،
ويقطع عنها كل سبيل تحدثه به إذا ما أرادت أن تبخل بما أعطاها ال ،والخالق الذي وهب
للمخلوق ما وهبه يطلب منه النفاق ،وإذا نظرنا إلى المر في عرف المنطق وجدناه أمرا طبيعيا؛
لن ال ل يسأل خلقه النفقة مما خََلقُوا ولكنه يسألهم النفقة مما خلقه لهم.
إن النسان في هذا الكون حين يُطلب إيمانيا منه أن ينفق فلزم ذلك أن يكون عنده ما ينفقه ،ول
يمكن أن يكون عنده ما ينفقه إل إذا كان مالكا لشيء زاد على حاجته وحاجة من يعوله ،وذلك ل
يتأتى إل بحصيلة العمل .إذن فأمر ال للمؤمن بالنفقة يقتضي أن يأمره أولً بأن يعمل على قدر
طاقته ل على قدر حاجته ،فلو عمل كل إنسان من القادرين على قدر حاجته ،فكيف توجد مقومات
الحياة لمن ل يقدر على العمل؟.
إذن فالحق يريد منا أن نعمل على قدر طاقتنا في العمل لنعول أنفسنا ولنعول من في وليتنا ،فإذا
ما زاد شيء على ذلك وهبناه لمن ل يقدر على العمل.
ولقائل أن يقول :إذا كان ال قد أراد أن يحنن قلوب المنفقين على العاجزين فلماذا لم يجعل
العاجزين قادرين على أن يعملوا هم أيضا؟
نقول لصاحب هذا القول :إن الحق حين يخلق ..يخلق كونا متكاملً منسجما دانت له السباب،
فربما أطغاه أن السباب تخضع له ،فقد يظن أنه أصبح خالقا لكل شيء ،فحين تستجيب له
الرض إن حرث وزرع ،وحين يستجيب الماء له إن أدلى دلوه ،وحين تستجيب له كل السباب،
ربما ظن نفسه أصيلً في الكون.
فيشاء ال أن يجعل القوة التي تفعل في السباب لتنتج ،يشاء ـ سبحانه ـ أن يجعلها عرضا من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أعراض هذا الكون ،ول يجعلها لزمة من لوازم النسان ،فمرة تجده قادرا ،ومرة تجده عاجزا.
فلو أنه كان بذاتيته قادرا لما وُجَدَ عَاجزٌ .إذن فوجود العاجزين عن الحركة في الحياة لفت للناس
على أنهم ليسوا أصلء في الكون ،وأن الذي وهبهم القدرة يستطيع أن يسلبهم إياها ليعيدها إلى
سواهم ،فيصبح العاجز بالمس قادرا اليوم ،ويصبح القادر بالمس عاجزا اليوم وبذلك يظل
النسان منتبها إلى القوة الواهبة التي استخلفته في الرض.
ولذلك كان الفارق بين المؤمن والكافر في حركة الحياة أنهما يجتمعان في شيء ،ثم ينفرد المؤمن
في شيء ،يجتمعان في أن كل واحد من المؤمنين ومن الكافرين يعمل في أسباب الحياة لينتج ما
يقوته ويقوت من يعول ،ذلك قدر مشترك بين المؤمن والكافر .والكافر يقتصر على هذا السبب
في العمل فيعمل لنفسه ولمن يعول.
ولكن المؤمن يشترك معه في ذلك ويزيد أنه يعمل لشيء آخر هو :أن يفيض عنه شيء يمكن أن
يتوجه به إلى غير القادر على العمل .محتسبا ذلك عند ال.
ولذلك قلنا سابقا :إن الحق سبحانه حينما تكلم عن الزكاة تكلم عنها مرة مطلوبة أداء ،وتكلم عنها
مرة أخرى مطلوبة غاية فقال } :وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ { .ولم يقل للزكاة مؤدون ،فالمؤمنون
ل يعلمون لقصد الزكاة إل إن عملوا عمل على قدر طاقاتهم ليقوتهم وليقوت من يعولهم ،ثم
يفيض منهم شيء يؤدون عنه الزكاة.
سكُم مّنْ خَيْرٍ
ل َة وَآتُواْ ال ّزكَا َة َومَا ُتقَ ّدمُواْ لَ ْنفُ ِ
والحق سبحانه وتعالى في أمر الزكاة {:وََأقِيمُواْ الصّ َ
جدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنّ اللّهَ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ }[البقرة]110 :
تَ ِ
إذن فحصيلة المر أن الزكاة مقصودة لهم حين يقبلون على أي عمل .لقد صارت الزكاة بذلك
المر اللهي مطلوبة غاية ،فهي أحد أركان السلم وبذلك يتميز المؤمن على الكافر.
والحق سبحانه وتعالى حين تعرض لمنابع الشُح في النفس البشرية أوضح :أن أول شيء تتعرض
له النفس البشرية أن النسان يخاف من النفقة لنها تنقص ما عنده ،وقد حذر رسول ال صلى ال
عليه وسلم من الشح في قوله " :اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ،واتقوا الشح؛ فإن الشح
أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " .هي كذلك ،ولكن الحق
سبحانه أوضح لكل مؤمن :أنها تنقص ما عندك ،ولكنها تزيدك مما عند ال؛ فهي إن أنقصت ثمرة
فعلك فقد أكملتك بفعل ال لك .وحين تكملك بفعل ال لك ،يجب أن تقارن بين قوة مخلوقة عاجزة
وقوة خالقة قادرة.
ويلفتنا سبحانه :أن ننظر جيدا إلى بعض خلقه وهي الرض ،الرض التي نضع فيها البذرة
الواحدة ـ أي الحبة الواحدة ـ فإنها تعْطِي سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ،فلو نظر النسان
أول المر إلى أن ما يضعه في الرض حين يحرث ويزرع يقلل من مخازنه لما زرع ولما
غرس ،ولكنه عندما نظر لما تعطيه الرض من سبعمائة ضعف أقبل على البذر ،وأقبل على
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحرث غير هياب؛ لنها ستعوضه أضعاف أضعاف ما أعطى.
وإذا كانت الرض وهي مخلوقة ل تعطي هذا العطاء ،فكيف يكون عطاء خالق الرض؟{ مّ َثلُ
الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ
عفُ ِلمَن َيشَآ ُء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة]261 :
ُيضَا ِ
إذن فقد سدّ الحق بهذا المثل على النفس البشرية منفذ الشُح .وشيء آخر تتعرض له اليات ،وهو
أن النسان قد يُحْرَج في مجتمعه من سائل يسأله فهو في حرصه على ماله ل يحب أن ينفق،
ولحرصه على مكانته في الناس ل يحب أن يمنع ،فهو يعطي ولكن بتأفف ،وربما تعدى تأففه إلى
نهر الذي سأله وزجره ،فقال الحق سبحانه وتعالى ليسد ذلك الموقفَ {:ق ْولٌ ّمعْرُوفٌ َو َم ْغفِ َرةٌ خَيْرٌ
مّن صَ َدقَةٍ يَتْ َب ُعهَآ َأذًى وَاللّهُ غَ ِنيّ حَلِيمٌ }[البقرة]263 :
ف َو َمغْفِ َرةٌ { يدل على أن المسئول قد أحفظه سؤال السائل وأغضبه
وقول الَ } :ق ْولٌ ّمعْرُو ٌ
الحراج ،ويطلب الحق من مثل هذا النسان أن يغفر لمن يسأله هذه الزلة إن كان قد اعتبر سؤاله
ف َو َمغْفِ َرةٌ خَيْرٌ مّن صَ َد َقةٍ يَتْ َب ُعهَآ أَذًى وَاللّهُ غَ ِنيّ حَلِيمٌ }[البقرة]263 :
له ذنباَ {:ق ْولٌ ّمعْرُو ٌ
وبعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى " المن " الذي يفسد العطاء؛ لنه يجعل الخذ في ذلة
وانكسار ،ويريد المعطي أن يكون في عزة العطاء وفي استعلء المنفق ،فهو يقول :إنك إن فعلت
ذلك ستتعدى الصدقة منك إلى الغير فيفيد ،ولكنك أنت الخاسر؛ لنك لن تفيد بذلك شيئا ،وإن كان
قد استفاد السائل .إذن فحرصا على نفسك ل تتبع الصدقة بالمن ول بالذى.
ثم يأتي الحق ليعالج منفذا من منافذ الشح في النفس البشرية هو :أن النسان قد يحب أن يعطي،
ولكنه حين تمتد يده إلى العطاء يعز عليه إنفاق الجيد من ماله الحسن ،فيستبقيه لنفسه ثم يعزل
الشياء التي تزهد فيها نفسه ليقدمها صدقة فينهانا ـ سبحانه ـ عن ذلك فيقولَ {:ولَ تَ َي ّممُواْ
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْنفِقُونَ وَلَسْ ُتمْ بِآخِذِيهِ ِإلّ أَن ُت ْغمِضُواْ فِيهِ }[البقرة]267 :
أي إن مثل هذا لو أُعطى لك لما قبلته إل أن تغمض وتتسامح في أخذه وكأنك ل تبصر عيبه
لتأخذه ،فما لم تقبله لنفسك فل يصح أن تقبله لسواك .ثم بعد أن تكلم القرآن عن منافذ الشُح في
النفس النسانية بين لنا أن الذي ينتج هذه المنافذ ويغذيها إنما هو الشيطان:
حشَآ ِء وَاللّهُ َيعِ ُدكُم ّم ْغفِ َرةً مّنْ ُه َو َفضْلً وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة:
{ الشّيْطَانُ َي ِع ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ وَيَ ْأمُ ُركُم بِا ْلفَ ْ
]268
فإن سوّيتم بين عِ َدةِ الشيطان ووعد ال لكم بالرضوان كان الخسران والضياع .فراجعوا إيمانكم،
وعليكم أن تجعلوا عدة الشيطان مدحورة أمام وعد ال لكم بالفضل والمغفرة.
ثم يتكلم بعد ذلك عن زمن الصدقة وعن حال إنفاقها ـ ظاهرة أو باطنة ـ وتكون النية عندك
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هي المرجحة لعمل على عمل ،فإذا كنت إنسانا غنيا فارحم عرضك من أن يتناوله الناس وتصدق
صدقة علنية فيما هو واجب عليك لتحمي عرضك من مقولهم ،وأن أردت أن تتصدق تطوعا فل
مانع أن تُسر بها حتى ل تعلم شمالك ما أنفقت يمينك ..فعن ابن عباس رضي ال عنهما :صدقات
السر في التطوع تفضل علنيتها سبعين ضعفا ،وصدقة الفريضة علنيتها أفضل من سرها
بخمسة وعشرين ضعفا.
وكأن ال فتح أمام النفس البشرية كل منافذ العطاء وسد منافذ الشح .انظروا بعد ذلك إلى الحق
سبحانه حينما يحمي ضعاف المؤمنين ليجعلهم في حماية أقوياء المؤمنين .اعلم أيها العبد المؤمن
أنك حين تتلقى حكم ال ل تتلقاه على أنه مطلوب منك دائما ،ولكن عليك أن تتلقى الحكم على أنه
قد يَصير بتصرفات الغيار مطلوبا لك ،فإن كنت غنيا فل تعتقد أن ال يطالبك دائما ،ولكن قَدّرْ
أنك إن أصبحت بعرض الغيار في الحياة فقيرا سيكون الحكم مطلوبا لك .فقدر ـ حال كونه
مطلوبا منك الن؛ لنك غني ـ أنّه سيطلُب لك إن حصلت لك أغيار ،فصرت بها فقيرا.
إذن فالتشريع لك وعليك ،فل تعتبره عليك دائما لنك إن اعتبرته عليك دائما عزلت نفسك عن
أغيار الحياة ،وأغيار الحياة قائمة ل يمكن أن يبرأ منها أحد أبدا لذلك أمر ـ سبحانه ـ المؤمنَ
أن يكفل أخاه المؤمن.
انظروا إلى طموحات اليمان في النفس النسانية ،حتى الذين ل يشتركون معك في اليمان .إن
طُلب منك أن تعطي الصدقة المفروضة الواجبة لخيك المؤمن فقد طلب منك أيضا أن تتطوع
بالعطاء لمن ليس مؤمنا .وتلك ميزة في السلم ل توجد أبدا في غيره من الديان ،إنه يحمي
حتى غير المؤمن .ولذلك يقول الحق } :لّيْسَ عَلَ ْيكَ هُدَا ُه ْم وَلَـاكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَن َيشَآءُ{ ...
()273 /
جهِ
سكُ ْم َومَا تُ ْنفِقُونَ ِإلّا ابْ ِتغَا َء وَ ْ
لَيْسَ عَلَ ْيكَ ُهدَا ُه ْم وََلكِنّ اللّهَ َي ْهدِي مَنْ يَشَا ُء َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَ ْنفُ ِ
اللّ ِه َومَا تُ ْن ِفقُوا مِنْ خَيْرٍ ُيوَفّ إِلَ ْي ُك ْم وَأَنْتُمْ لَا ُتظَْلمُونَ ()272
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال صلى ال عليه وسلم أن تعطي من مالها شيئا لمها حتى تعيش وتقتات .وينزل الحق سبحانه
قوله { :لّ ْيسَ عَلَ ْيكَ ُهدَاهُ ْم وَلَـاكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَن يَشَآءُ } " ،وعن أسماء بنت أبي بكر رضي ال
عنهما قالت :قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم فاستفتيت
ي أمي وهي راغبة .أفأصل أمّي؟ قال " :نعم صلي
رسول ال صلى ال عليه وسلم قلت :قدمتْ عل ّ
أ ّمكِ " .ولقد أراد بعض من المؤمنين أن يضيقوا على أقاربهم ممن لم يؤمنوا حتى يؤمنوا ،لكن
الرحمن الرحيم ينزل القول الكريم { :لّيْسَ عَلَ ْيكَ ُهدَا ُه ْم وَلَـاكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَن َيشَآءُ }.
إنه الدين المتسامي .دين يريد أن نعول المخلوق في الرض من عطاء الربوبية وإن كان ل يلتقي
معنا في عطاء اللوهية؛ لن عطاء اللوهية تكليف ،وعطاء الربوبية رزق وتربية.
والرزق والتربية مطلوبات لكل من كان على الرض؛ لننا نعلم أن أحدا في الوجود لم يستدع
نفسه في الوجود ،وإنما استدعاه خالقه ،وما دام الخالق الكرم هو الذي استدعى العبد مؤمنا أو
كافرا ،فهو المتكفل برزقه .والرزق شيء ،ومنطقة اليمان بال شيء آخر ،فيقول الحق { :لّ ْيسَ
عَلَ ْيكَ هُدَاهُ ْم وَلَـاكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَن يَشَآءُ }.
أو أن الية حينما نزلت في الحثّ على النفقة ربما أن بعض الناس تكاسل ،وربما كان بعض
المؤمنين يعمدون إلى الرديء من أموالهم فينفقونه.
وإذا كان السلم قد جاء ليواجه النفس البشرية بكل أغيارها وبكل خواطرها ،فليس بعجيب أن
يعالجهم من ذلك ويردهم إلى الصواب إن خطرت لهم خاطرة تسيء إلى السلوك اليماني.
وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يحب حين ينزل أي أمر أن يلتفت المسلمون إليه لفتة القبال
بحرارة عليه ،فإذا رأى تهاونا في شيء من ذلك حزن ،فيوضح له ال :عليك أن تبلغهم أمر ال
في النفقة ،وما عليك بعد ذلك أن يطيعوا { .لّيْسَ عَلَ ْيكَ ُهدَا ُه ْم وَلَـاكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَن َيشَآءُ }.
ولقائل أن يقول :ما دام ال هو الذي يهدي فيجب أن نترك الناس على ما هم عليه من إيمان أو
كفر ،وما علينا إل البلغ ،ونقول لصحاب هذا الرأي :تنبهوا إلى معطيات القرآن فيما يتعلق
بقضية واحدة ،هذه القضية التي نحن بصددها هي الهداية ،ولنستقرئ اليات جميعا ،فسنجد أن
الذين يرون أن الهداية من ال ،وأنه ما كان يصح له أن يعذب عاصيا ،لهم وجهة نظر ،والذين
يقولون :إن له سبحانه أن يعذبهم؛ لنه ترك لهم الخيار لهم وجهة نظر ،فما وجهة النظر المختلفة
حتى يصير المر على قدر سواء من الفهم؟
إن الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم في قرآنه الكلم الموحَى ،فهو يطلب منا أن نتدبره ،ومعنى
أن نتدبره أل ننظر إلى واجهة النص ولكن يجب أن ننظر إلى خلفية النص.
} َأفَلَ يَ َتدَبّرُونَ { يعني ل تنظر إلى الوجه ،ولكن انظر ما يواجه الوجه وهو الخلفَ {.أفَلَ
يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآن }[النساء]82 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علَى ا ْل ُهدَىا }[فصلت]17 :
فالحق سبحانه وتعالى قد قال {:وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ فَاسْ َتحَبّواْ ا ْل َعمَىا َ
كيف يكون ال قد هداهم ،ثم بعد ذلك يستحبون العمى على الهدى؟ إذن معنى " هدام " أي دلهم
على الخير .وحين دلّهم على الخير فقد ترك فيهم قوة الترجيح بين البدائل ،فلهم أن يختاروا هذا،
ولهم أن يختاروا هذا ،فلما هداهم ال ودلّهم استحبوا العمَى على الهدى .وال يقول لرسوله في
نصين آخرين في القرآن الكريم {:إِ ّنكَ لَ َت ْهدِي مَنْ أَحْبَ ْبتَ }[القصص]56 :
فنفى عنه أنه يهدي .وأثبت له الحق الهداية في آية أخرى يقول فيها {:وَإِ ّنكَ لَ َتهْدِي إِلَىا صِرَاطٍ
مّسْ َتقِيمٍ }[الشورى]52 :
ل واحدا لفاعل واحد ثم ينفي الفعل ذاته عن الفاعل ذاته؟ نقول لهم :رسول ال
فكيف يثبت ال فع ً
صلى ال عليه وسلم أن يدل الناس على منهج ال ولكن ليس عليه أن يحملهم على منهج ال؛ لن
ذلك ليس من عمله هو ،فإذا قال ال } :إِ ّنكَ لَ َتهْدِي { أي ل تحمل بالقصر والقهر من أحببت ،وإنما
أنت " تهدي " أي تدل فقط ،وعليك البلغ وعلينا الحساب.
إذن فقول الحق } :لّيْسَ عَلَ ْيكَ هُدَاهُ ْم وَلَـاكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَن يَشَآءُ { ليس فيه حجة على القسرية
اليمانية التي يريد بعض المتحللين أن يدخلوا منها إلى منفذ التحلل النفسي عن منهج ال ونقول
لهؤلء :فيه فرق بين هداية الدللة وهداية المعونة ،فال يهدي المؤمن ويهدي الكافر أي يدلهم،
ولكن من آمن به يهديه هداية المعونة ،ويهديه هداية التوفيق ،ويهديه هداية تخفيف أعمال الطاعة
عليه.
سكُم { تلك قضية تعالج
} لّ ْيسَ عَلَ ْيكَ هُدَاهُ ْم وَلَـاكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَن يَشَآ ُء َومَا تُ ْن ِفقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَ ْنفُ ِ
الشُح منطقيا ،وكل معطٍ من الخلق عطاؤه عائد إليه هو ،ول يوجد معطٍ عطاؤه ل يعود عليه إل
ال ،هو وحده الذي ل يعود عطاؤه لخلقه عليه ،لنه ـ سبحانه ـ أزل وقديما وقبل أن يخلق
الخلق له كل صفات الكمال ،فعطاء النسان يعود إلى النسان وعطاء ربنا يعود إلينا.
ولذلك قال بعض السلف الذين لهم لمحة إيمانية :ما فعلت لحد خيرا قط؟ فقيل له :أتقول ذلك وقد
فعلت لفلن كذا ولفلن كذا ولفلن كذا؟ فقال :إنما فعلته لنفسي.
فكأنه نظر حينما فعل للغير أنه فعل لنفسه .ولقد قلنا سابقا :إن العارف بال " الحسن البصري "
كان إذا دخل عليه من يسأله هشّ في وجهه وبشّ وقال له :مرحبا بمن جاء يحمل زادي إلى
الخرة بغير أجرة.
إذن فقد نظر إلى أنه يعطيه وإن كان يأخذ منه .فالحق سبحانه وتعالى يعالج في هذه القضية } َومَا
سكُمْ { أي إياكم أن تظنوا أنني أطلب منكم أن تعطوا غيركم ،لقد طلبت منكم
تُ ْنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَ ْنفُ ِ
أن تنفقوا لزيدكم أنا في النفقة والعطاء ،ثم يقولَ } :ومَا تُ ْن ِفقُواْ مِنْ خَيْرٍ ُي َوفّ إِلَ ْي ُكمْ { ومعنى
التوفية :الداء الكامل .ول تظنوا أنكم تنفقون على من ينكر معروفكم؛ لن ما أنفقتم من خير فال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
به عليم .إذن فاجعل نفقتك عند من يجحد ،ول تجعل نفقتك عند من يحمد ،لنك بذلك قد أخذت
جزاءك ممن يحمدك وليس لدى ال جزاء لك.
كنت أقول دائما للذين يشكون من الناس نكران الجميل ونسيان المعروف :أنتم المستحقون لذلك؛
لنكم جعلتموهم في بالكم ساعة أنفقتم عليهم ،ولو جعلتم ال في بالكم لما حدث ذلك منهم أبدا} .
سكُ ْم َومَا تُ ْنفِقُونَ ِإلّ ابْ ِتغَآ َء وَجْهِ اللّهِ { أهذه الية تزكية لعمل المؤمنين ،أم
َومَا تُ ْن ِفقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَ ْنفُ ِ
خبر أريد به المر؟ إنها الثنان معا ،فهي تعني أنفقوا ابتغاء وجه الَ } .ومَا تُ ْن ِفقُواْ مِنْ خَيْرٍ ُي َوفّ
إِلَ ْيكُ ْم وَأَنْتُمْ لَ ُتظَْلمُونَ { أنتم ل تظلمون من الخلق ،ول تظلمون من الخالق ،أما من الخلق فقد
استبرأتم دينكم وعرضكم حين أديتم بعض حقوق ال في أموالكم ،فلن يعتدي أحد عليكم ليقول ما
يقول ،وأما عند ال فهو سبحانه يوفي الخير أضعاف أضعاف ما أنفقتم فيه.
وبعد ذلك يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن مصرف من مصارف النفقة كان في صدر السلم} :
لِ ْلفُقَرَآءِ الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّ ِه لَ يَسْ َتطِيعُونَ ضَرْبا فِي الَ ْرضِ {
()274 /
ن ضَرْبًا فِي الْأَ ْرضِ َيحْسَ ُب ُهمُ الْجَا ِهلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ
حصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا َيسْتَطِيعُو َ
لِ ْلفُقَرَاءِ الّذِينَ ُأ ْ
علِيمٌ ()273
ال ّت َعفّفِ َتعْ ِر ُفهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا َيسْأَلُونَ النّاسَ إِ ْلحَافًا َومَا تُ ْنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ َ
ساعة أن نسمع " جارا ومجرورا " قد استهلت به آية كريمة فنعلم أن هناك متعلقا .ما هو الذي
للفقراء؟ هو هنا النفقة ،أي أن النفقة للفقراء الذين أحصروا في سبيل ال .وإذا سألنا :ما معنى "
أحصروا " فإننا نجد أن هناك " حَصر " وهناك " أحصر " وكلمهما فيه المنع ،إل أن المنع مرة
يأتي بما ل تقدر أنت على دفعه ،ومرة يأتي بما تقدر على دفعه.
حصِرَ على الضرب في الرض ،أكانت له قدرة أن يفعل ذلك؟ ل ،ولكن
فالذي مرض مثلً و ُ
الذي أراد أن يضرب في الرض فمنعه إنسان مثله فإنه يكون ممنوعا ،إذن فيئول المر من
المرين إلى المنع ،فقد يكون المنع من النفس ذاتها أو منع من وجود فعل الغير ،فهم أحصروا في
حصَرُوا أنفسهم على الجهاد ،ولم
حصِرُوا لن الكافرين يضيقون عليهم منافذ الحياة ،أو َ
سبيل الُ .
يحبوا أن يشتغلوا بغيره؛ لن السلم كان ل يزال في حاجة إلى قوم يجاهدون .وهؤلء هم أهل
ن ضَرْبا فِي الَ ْرضِ } وعدم استطاعتهم
الصّفة { لِ ْل ُفقَرَآءِ الّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّ ِه لَ يَسْتَطِيعُو َ
ناشئ من أمر خارج عن إرادتهم أو من أمر كان في نيتهم وهو أن يرابطوا في سبيل ال ،هذا من
الجائز وذاك من الجائز.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكان النصار يأتون بالتمر ويتركونه في سبائطه ،ويعلقونه في حبال مشدودة إلى صواري
المسجد ،وكلما جاع واحد من أهل الصفة أخذ عصاه وضرب سباطة لتمر ،فينزل بعض التمر
فيأكل ،وكان البعض يأتي إلى الرديء من التمر والشيص ويضعه ،وهذا هو ما قال ال فيه { :وَلَ
خذِيهِ ِإلّ أَن ُت ْغ ِمضُواْ فِيهِ }.
ن وَلَسْتُمْ بِآ ِ
تَ َي ّممُواْ ا ْلخَبِيثَ مِنْهُ تُ ْن ِفقُو َ
وإذا نظرنا إلى قول الحق { :لَ يَسْ َتطِيعُونَ ضَرْبا فِي الَ ْرضِ } و " الضرب " هو فعل مِن
جارحة بشدة على متأثر بهذا الضرب ،وما هو الضرب في الرض؟ إن الحق سبحانه وتعالى
يريد أن يبين لنا أن الكفاح في الحياة يجب أن يكون في منتهى القوة ،وإنك حين تذهب في
الرض فعليك أن تضربها حرثا ،وتضربها بذرا ،ل تأخذ المر بهوادة ولين ولذلك يقول الحق{:
ج َعلَ َلكُ ُم الَ ْرضَ ذَلُولً فَامْشُواْ فِي مَنَاكِ ِبهَا َوكُلُواْ مِن رّ ْز ِق ِه وَإِلَيْهِ النّشُورُ }[الملك]15 :
ُهوَ الّذِي َ
إن الرض مسخرة من الحق سبحانه للنسان ،يسعى فيها ،ويضرب فيها ويأكل من رزق ال
الناتج منها.
وحين يقول ال سبحانه في وصف الذين أحصروا في سبيل ال فل يستطيعون الضرب في
حسَ ُبهُمُ ا ْلجَا ِهلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ال ّتعَ ّففِ } أي يظنهم الجاهل بأحوالهم أنهم أغنياء ،وسبب هذا
الرض { يَ ْ
الظن هو تركهم للمسألة ،وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فال يقول بعدهاَ { :تعْ ِر ُفهُم بِسِيمَاهُمْ لَ
يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافا } والسمة هي العلمة المميزة التي تدل على حال صاحبها ،فكأنك ستجد فيهم
خشوعا وانكسارا ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أو يطلبوا ،ولكنك تعرفهم من حالتهم التي تستحق
النفاق عليهم ،وإذا كان التعفف هو ترك المسألة فال يقول بعدها { :لَ َيسْأَلُونَ النّاسَ إِ ْلحَافا }
فكأنه أباح مجرد السؤال ولكنه نهى عن اللحاحٍ واللحاف فيه ،ولو أنهم سألوا مجرد سؤال بل
إلحاف ول إلحاح َأمَا كان هذا دليلً على أنهم ليسوا أغنياء؟ نعم ،لكنه قالَ { :يحْسَ ُبهُمُ الْجَا ِهلُ
أَغْنِيَآءَ مِنَ ال ّت َع ّففِ } إذن فليس هناك سؤال ،ل سؤال على إطلقه ،ومن باب أولى ل إلحاف في
السؤال؛ بدليل أن الحق يقولَ { :تعْ ِر ُفهُم ِبسِيمَاهُمْ } ،ولو أنهم سألوا لكنا قد عرفناهم بسؤالهم ،إذن
فالية تدلنا على أن المنفي هو مطلق السؤال ،وأما كلمة " اللحاف " فجاءت لمعنى من المعاني
التي يقصد إليها أسلوب العجازي ،ما هو؟
إن " السيما " ـ كما قلنا ـ هي العلمة المميزة التي تدل على حال صاحبها ،فكأنك ستجد خشوعا
وانكسارا ورثاثة هيئة وإن لم يسألوا أي أنت تعرفهم من حالتهم البائسة ،فإذا ما سأل السائل بعد
ذلك اعتبر سؤاله إلحاحا؛ لن حاله تدل على الحاجة ،ومادامت حالته تدل على الحاجة فكان يجب
أن يجد من يكفيه السؤال ،فإذا ما سأل مجرد سؤاله فكأنه ألحف في المسألة وألح عليها.
وأيضا يريد الحق من المؤمن أن تكون له فراسة نافذة في أخيه بحيث يتبين أحواله بالنظرة إليه
ول يدعه يسأل ،لنك لو عرفت بـ " السيما " فأنت ذكي ،أنت فطن ،أنا لو لم تعرف بـ " السيما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" وتنتظر إلى أن يقول لك ويسألك ،إذن فعندك تقصير في فطنة النظر ،فهو سبحانه وتعالى يريد
من المؤمن أن يكون فطن النظر بحيث يستطيع أن يتفرس في وجه إخوانه المؤمنين ليرى من
عليه هم الحاجة ومن عنده خواطر العوز ،فإذا ما عرف ذلك يكون عنده فطانة إيمانية.
ولنا العبرة في تلك الواقعة ،فقد دق أحدهم الباب على أحد العارفين فخرج ثم دخل وخرج ومعه
شيء ،فأعطاه الطارق ثم عاد باكيا فقالت له امرأته :ما يبكيك؟ .قال :إن فلنا طرق بابي .قالت:
وقد أعطيته فما الذي أبكاك؟ .قال :لني تركته إلى أن يسألني.
إن العارف بال بكى؛ لنه أحس بمسئولية ما كان يجب عليه أن يعرفه بفراسته ،وأن يتعرف على
أخبار إخوانه .ولذلك شرع ال اجتماعات الجمعة حتى يتفقد النسان كل أخ من إخوانه ،ما الذي
أقعده :أحاجة أم مرض؟ أحدث أم مصيبة؟ وحتى ل يحوجه إلى أن يذل ويسأل ،وحين يفعل ذلك
يكون له فطنة اليمانَ } .ومَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ { يجب أن تعلم أنه قبل أن تعطي قد
علم ال أنك ستعطي ،فالمر محسوب عنده بميزان ،ويجيء تصرف خلقه على وفق قدره ،وما
قدره قديما يلزم حاليا ،وهو سبحانه قد قدر؛ لنه علم أن عبده سيفعل وقد فعل .وكل فعل من
الفعال له زمن يحدث فيه ،وله هيئة يحدث عليها .والزمن ليل أو نهار.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى مبينا حالت النفاق والزمان التي يحدث فيها وذلك في قوله تعالى:
ل وَال ّنهَارِ سِرّا وَعَلَنِيَةً{ ...
} الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِالّ ْي ِ
()275 /
إن المسألة في النفاق تقتضي أمرين :إما أن تنفق سرا ،وإما أن تنفق علنية .والزمن هو الليل
والنهار ،فحصر ال الزمان والحال في أمرين :الليل والنهار فإياك أن تحجز عطيّةً تريد أن
تعطيها وتقول " :بالنهار أفعل أو في الليل أفعل؛ لنه أفضل " وتتعلل بما يعطيك الفسحة في تأخير
العطاء ،إن الحق يريد أن تتعدى النفقة منك إلى الفقير ليلً أو نهارا ،ومسألة الليلية والنهارية في
الزمن ،ومسألة السرية والعلنية في الكيفية ل مدخل لها في إخلص النية في العطاء.
ل وَال ّنهَارِ سِرّا وَعَلَنِيَةً فََل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِندَ رَ ّبهِمْ } أقالت الية :الذين
{ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ بِالّ ْي ِ
ينفقون أموالهم بالليل أو النهار؟ ل ،لقد طلب من كل منا أن يكون إنفاقه ليلً ونهارا وقال " :سرا
وعلنية " فأنفق أنت ليلً ،وأنفق أنت نهارا ،وأنفق أنت سرا ،وأنفق أنت علنية ،فل تحدد النفاق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل بليل ول بنهار ،ل بزمن ول بكيفية ول بحال.
إن الحق سبحانه استوعب زمن النفاق ليلً ونهارا ،واستوعب أيضا الكيفية التي يكون عليها
النفاق سرا وعلنية ليشيع النفاق في كل زمن بكل هيئة ،وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى عن
هؤلء { :فََلهُمْ أَجْرُ ُهمْ عِندَ رَ ّبهِمْ } وهذا القول يدل على عموم من يتأتى منه النفاق ليلً أو نهارا،
سرا أو علنية.
وإن كان بعض القوم قد قال :إنها قيلت في مناسبة خاصة ،وهي أن المام عليّا كرم ال وجهه
ورضى عنه كانت عنده أربعة دراهم ،فتصدق بواحد نهارا ،وتصدق بواحد ليل ،وتصدق بواحد
سرا ،وتصدق بواحد علنية ،فنزلت الية في هذا الموقف ،إل أن قول ال { :فََلهُمْ } يدل على
عموم الموضوع ل على خصوص السبب ،فكأن الجزاء الذي رتبه سبحانه وتعالى على ذلك شائع
على كل من يتأتى منه هذا العمل.
وقول ال { :فََل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِندَ رَ ّبهِمْ } هنا نجد أن كلمة " أجر " تعطينا لمحة في موقف المؤمن من
أداءات النفاق كلها؛ لن الجر ل يكون إل عن عمل فيه ثمن لشيء ،وفي أجر لعمل .فالذي
تستأجره ل يقدم لك شيئا إل مجهودا ،هذا المجهود قد ينشأ عنه مُ ْثمَنٌَ ،أيْ شيء له ثمن ،فقول ال
{ فََل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِندَ رَ ّبهِمْ } يدل على أن المؤمن يجب أن ينظر إلى كل شيء جاء عن عمل فال
يطلب منه أن ينفق منه.
إن ال ل يعطيه ثمن ما أنفق ،وإنما يعطيه ال أجر العمل ،لماذا؟ لن المؤمن الذي يضرب في
الرض يخطط بفكره ،والفكر مخلوق ل ،وينفذ التخطيط الذي خططه بفكره بوساطة طاقاته
وأجهزته؛ وطاقاتُه وأجهزته مخلوقة ل ،ويتفاعل مع المادة التي يعمل فيها ،وكلها مخلوقة ل ،فأي
شيء يملكه النسان في هذا كله؟ ل الفكر الذي يخطط ،ول الطاقة التي تفعل ،ول المادة التي
تنفعل؛ فكلها ل.
إذن فأنت فقط لك أجر عملك؛ لنك تُعمل فكرا مخلوقا ل ،بطاقة مخلوقة ل ،في مادة مخلوقة ل،
فإن نتج منها شيء أراد ال أن يأخذه منك لخيك العاجز الفقير فإنه يعطيك أجر عملك ل ثمن
عملك .لكن المساوي لك في الخلق هو النسان إن أخذ منك حصيلة عملك فهو يعطيك ثمن ما
أخذ منك ،فهي من المخلوق المساوي " ثمن " ،وهي من الخالق العلى أجر؛ لنك ل تملك شيئا
في كل ذلك.
علَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ { والخوف هو الحذر من شيء يأتي،
خ ْوفٌ َ
وبعد ذلك يقول الحقَ } :ولَ َ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِمْ { ممن؟
فمن الخائف؟ من المخوف؟ ومن المخوف عليه؟ } َولَ َ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِمْ { من أنفسهم؛ فقد يخاف الطالب على نفسه من أن يرسب،
يجوز أن يكون } وَلَ َ
فالنفس واحدة خائفة ومخوف عليها ،إنها خائفة الن ومخوف عليها بعد الن .فالتلميذ عندما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يخاف أن يرسب ،ل يقال :إن الخائف هو عين المخوف؛ لن هذا في حاله ،وهذا في حاله.
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِمْ { من غيرهم ،فمن الجائز أن يكون حول كثير من الغنياء أناس حمقى
أو } َولَ َ
حين يرون أيدي هؤلء مبسوطة بالخير للناس فيغمرونهم ليمسكوا مخافة أن يفتقروا كأن يقولوا
لهم " :استعدوا للزمن فوراءكم عيالكم " .لكن أهل الخير ل يستمعون لهؤلء الحمقى.
خ ْوفٌ عَلَ ْي ِهمْ { ل من أنفسهم ،ول من الحمقى حولهم .ويتابع الحقَ } :ولَ هُمْ
إذن فـ } َولَ َ
يَحْزَنُونَ { أي ل خوف عليهم الن ،ول حزن عندهم حين يواجهون بحقائق الخير التي ادخرها
ال سبحانه وتعالى لهم بل إنهم سيفرحون.
بعد ذلك يتعرض الحق سبحانه وتعالى إلى قضية من أخطر قضايا العصر ،وهذه القضية كان
ولبد أن يتعرض لها القرآن؛ لنه يتكلم عن النفقة وعن النفاق ول شك أن ذلك يقتضي منفِقا
ومنفَقا عليه؛ لنه عاجز ،فهب أن الناس شحّوا ،ولم ينفقوا ،فماذا يكون موقف العاجز الذي ل
يجد؟ إن موقفه ل يتعدى أمرين :إما أن يذهب فيقترض ،وإن لم يقبل أحد أن يقرضه فهو يأخذ
بالربا والزيادة وإل فكيف يعيش؟
إذن فاليات التي نحن بصددها تعرّضت للهيكل القتصادي في أمة إسلمية جوادة ،أو أمة
إسلمية بخيلة شحيحة ،لماذا؟
لن الذي خلق الخلق قد صنع حسابا دقيقا لذلك الخلق ،بحيث لو أحصيت ما يجب على الواجدين
من زكاة ،وأحصيت ما يحتاج إليه من ل يقدر لن به عجزا طبيعيا عن العمل ،لوجدت العاجزين
يحتاجون لمثل ما يفيض عن القادرين بل زيادة أو نقصان ،وإل كان هناك خطأ والعياذ بال في
حساب الخالق ،ول يمكن أن يتأتى ذلك أبدا.
وحين ننظر إلى المجتمعات في تكوينها نجد أن إنسانا غنيا في مكان قد نبا به مكانه ،واختار أن
يقيم في مكان آخر ،فيعجب الناس لماذا ترك ذلك المكان وهو في يسر ورخاء وغنى؟ ربما لو
كان فقيرا لقلنا طلبا للسعة ،فلماذا خرج من هذا المكان وهو واجد ،وهو على هذا الحال من
اليسر؟ إنهم لم يفطنوا إلى أن ال الذي خلق الخلق يُدير كونه بتسخير وتوجيه الخواطر التي
تخطر في أذهان الناس ،فتجد مكانه قد نبا به ،وامتلت نفسه بالقلق ،واختار أن يذهب إلى مكان
آخر.
ولو أن عندنا أجهزة إحصائية دقيقة وحسبنا المحتاجين في البيئة التي انتقل منها لوجدنا قدرا من
المال زائد على حاجة الذين يعيشون في هذه البيئة؛ فوجهه ال إلى مكان آخر يحتاج إلى مثل هذا
الكم منه .وهكذا تجد التبادل منظما .فإن رأيت إنسانا محتاجا أو إنسانا يريد أن يرابي فاعلم أن
هناك تقصيرا في حق ال المعلوم ول أقول في الحق غير المعلوم .أي أن الغني بخل بما يجب
عليه إنفاقه للمحتاج.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والقرآن حين يواجه هذه المسألة فهو يواجهها مواجهة تُبشّع العمل الربوي تبشيعا يجعل النفس
النسانية المستقيمة التكوين تنفر منه فيقول سبحانه } :الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا لَ َيقُومُونَ ِإلّ َكمَا َيقُومُ
طهُ الشّ ْيطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ{ ...
الّذِي يَ َتخَبّ ُ
()276 /
الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا لَا َيقُومُونَ إِلّا َكمَا َيقُومُ الّذِي يَ َتخَبّطُهُ الشّ ْيطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا إِ ّنمَا
ف وََأمْ ُرهُ
حلّ اللّهُ الْبَ ْي َع وَحَرّمَ الرّبَا َفمَنْ جَا َءهُ َموْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْ َتهَى فَلَهُ مَا سََل َ
الْبَيْعُ مِ ْثلُ الرّبَا وََأ َ
صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ()275
إِلَى اللّ ِه َومَنْ عَادَ فَأُولَ ِئكَ َأ ْ
وانظروا إلى كلمة { يَ ْأكُلُونَ } ،هل كل حاجات الحياة أكل؟ ل ،فحاجات الحياة كثيرة ،الكل
بعضها ،ولكن الكل أهم شيء فيها؛ لنه وسيلة استبقاء النفس .و { الرّبَا } هو المر الزائد ،وما
دام هو المر الزائد يعني هو ل يحتاج أن يأكل ،فهذا تقريع له.
إن الحق يريد أن يبشع هذا المر فيقول :لهم سمة .هذه السمة قال العلماء أهي في الخرة
يتميزون بها في المحشر ،كما يقول الحقُ {:يعْ َرفُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ ِبسِيمَاهُمْ }[الرحمن]41 :
فهؤلء غير المصلين لهم علمة مميزة ،وهؤلء غير المزكين لهم علمة أخرى مميزة بحيث إذا
رأيتهم عرفتهم بسيماهم ،وأنهم من أي صنف من أصناف العصاة فكأنهم حين يقومون يوم القيامة
يقومون مصروعين كالذي يتخبطه ويضربه الشيطان من المس فيصرعه ،أو أن ذلك أمر حاصل
لهم في الدنيا ،ولنبحث هذا المر:
{ الّذِينَ يَ ْأكُلُونَ الرّبَا لَ َيقُومُونَ ِإلّ َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ } .نريد أن نعرف
كلمة " التخبط " وكلمة " الشيطان " وكلمة " المس " " .التخبط " هو الضرب على غير استواء
وهدى ،أنت تقول :فلن يتخبط ،أي أن حركته غير رتيبة ،غير منطقية ،حركة ليس لها ضابط،
ذلك هو التخبط .و " الشيطان " جنس من خلق ال؛ لن ال قال لنا :إنه خلق النس والجن ،والجن
منهم شياطين ،وجن مطلق ،والشيطان هو عاصي الجن .ونحن لم نر الشيطان ،ولكننا علمنا به
بوساطة إعلم الحق الذي آمنا به فقال :أنا لي خلقا مستتر ،ولذلك سميته الجن ،من الستتار ومنه
المجنون أي المستور عقله ،والعاصي من هذا الخلق اسمه " شيطان ".
إذن فإيماننا به ل عن حس ،ولكن عن إيمان بغيب أخبرنا به من آمنا به .وحين نجد شيئا اسمه
اليمان يجب أن نعرف أنه متعلق بشيء غير مُحس؛ لن المُحس ل يقال لك :آمن به؛ لنه
مشهود لك ،فأنا ل أقول :أنا أؤمن بأن المصباح منير الن ،أنا ل أؤمن بأننا مجتمعون في المسجد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الن ،ل أقول ذلك لن هذا واقع مشهود ومُحسّ .إذن فالمر اليماني يتعلق بالغيب ،مثل اليمان
بوجود الملئكة .فإذا ما كنا قد آمنا بالغيب نجد الحق سبحانه وتعالى يعطي لنا صورة للشيطان،
ولكنه حين يعطينا صورة للشيطان أو لرأس الشيطان المميزة له ،كما أن رءوسنا نحن هي التي
جحِيمِ *
صلِ الْ َ
تميزنا يتكلم سبحانه عن شجرة الزقوم فيقول جل شأنه {:إِ ّنهَا شَجَ َرةٌ َتخْرُجُ فِي َأ ْ
طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ ُرءُوسُ الشّيَاطِينِ }[الصافات]65-64 :
وشجرة الزقوم في الخرة في النار ،إذن فنحن ل نراها ،ورءوس الشياطين ل نراها ،فكيف يشبه
ال ما لم نره بما لم نره ،يشبه شيئا مجهولً بشيء مجهول؟ نقول :نعم ،وذلك أمر مقصود
للعجاز القرآني؛ لن للشيطان صورة متخيلة بشعة ،بدليل أنك لو طلبت من رسامي العالم في
فن الكاريكاتير ،وقلت لهم :ارسموا لنا صورة الشيطان ،ولم تعطهم ملمح صورة محددة ،فكل
منهم يرسم وفق تخيله كيانا غاية في القبح :فهذا يصوره بالقبح من ناحية ،وذلك يصوره بالقبح
من ناحية أخرى بحيث لو جمعت الرسوم لما اتحد رسم مع رسم.
إذن فكل واحد يستبشع صورة يرسمها .وساعة نعطي الجائزة لمن رسم صورة الشيطان أنعطي
الجائزة لجملهم صورة أم لقبحهم صورة؟ إننا نعطي الجائزة لصاحب أشد الصور قبحا .إذن
فصورة الشيطان المتمثلة صورة بشعة قبيحة ،ولو جاء على صورة واحدة من القبح لختلف
الناس حول هذه الصورة فلعل هذا يكون قبحا عندك ول يكون قبحا عن آخر ،ولكن حين يُطلق
ال أخيلة الناس في تصور القبح ،يكون القبح مائل وواضحا في عمل كل إنسان فتكون الصورة
أكمل وأوفى فالكمل والوفى أن يكون القبح شائعا فيها جميعا.
ويقول الحق } :الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ { الشيطان قلنا :إنه العاصي من الجن ،وقلنا :إن
ربنا سبحانه وتعالى حكى لنا كثيرا أن الشياطين لهم التصاق واتصال بكثير من النس {:وَأَنّهُ كَانَ
ن الِنسِ َيعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ا ْلجِنّ فَزَادُو ُهمْ رَهَقا }[الجن]6 :
رِجَالٌ مّ َ
و } لَ َيقُومُونَ ِإلّ َكمَا َيقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ ا ْلمَسّ { فكأن الشيطان قد مس التكوين
النساني مسا أفسد استقامة ملكاته ،فالتكوين النساني له استقامة ملكات مع بعضها البعض؛ فكل
حركة لها استقامة ،فإذا ما مسّه الشيطان فسد تآزر الملكات ،فملكاته النفسية تكون غير مستقيمة
وغير منسجمة مع بعضها البعض ،فتكون حركته غير رتيبة وغير منطقية.
وما المناسبة بين هذه الصورة وبين عملية الربا؟ .إن أردنا في الخرة ميزة ،فساعة ترى واحدا
مصروعا فاعرف أنه من أصحاب الربا ،هذا في الخرة ،وفي الدنيا تجد أيضا أن له حركة غير
منطقية ،هستيرية ،كيف؟
انظر إلى العالم الن ،لقد خلق ال العالم على هيئة من التكامل .فهذا إنسان يتمتع بإمكانات
ومواهب ،وذاك يتمتع بمواهب وإمكانات أخرى ،حتى يحتاج صاحب هذه المكانات إلى صاحب
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تلك المكانات فيكتمل الكون ،ولو أن كل إنسان كان وحدة متكررة لستغنى الكل عن الكل .ولو
أن الفراد متساوون في المواهب لما احتاج الناس لبعضهم البعض .لكن المواهب تختلف؛ لنك
إن أجدت فنّا من فنون الحياة فقد أجاد سواك فنونا أخرى أنت محتاج إليها ،فإن احتاجوا إليك فيما
جدْت ،فقد احتجت إليهم فيما أجادوا ،وهكذا يتكامل العالم .وكذلك خلق ال الكون :مناطق حارة،
أَ َ
ومناطق باردة ،ومناطق بها معادن ،ومناطق بها زراعة؛ حتى يضطر العالم إلى أن يتكامل،
ويضطر العالم إلى أن يتعايش مع بعضه ولذلك يقول الحق في سورة " الرحمن ":
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المتخلفة أو النامية فقط ،بل هي أيضا في الدول المتقدمة ،كان يجب أن يعقد المفكرون المؤتمرات
ليبحثوا هذه المسألة ،فإذا ما كانت المسألة عامة تضم كل البلد متقدمها ومتأخرها وجب أن نبحث
عن سبب مشترك ،ول نبحث عن سبب قد يوجد عند قوم ول يوجد عن قوم آخرين؛ لننا لو بحثنا
لقلنا :يوجد في هذه البيئة .وكذلك هو موجود في كل البيئات ،فل بد أن يوجد القدر المشترك.
فالرزاق التي توجد في الكون تنقسم إلى قسمين :رزق أنتفع به مباشرة ،ورزق هو سبب لما
أنتفع به مباشرة.
أنا آكل رغيف الخبز ،هذا اسمه رزق مباشر ،وأشرب كون الماء ،وهو رزق مباشر ،واكتسي
بالثوب وذلك أيضا رزق مباشر ،وأسكن في البيت وهذا رابعا رزق مباشر ،وأنير المصباح رزق
مباشر .ولكن المال يأتي بالرزق المباشر ،ول يغني عن الرزق المباشر .فإذا كان عندي جبل من
ذهب وأنا جوعان ،ماذا أفعل به؟ .إذن فرغيف العيش أحسن منه ،هذا رزق مباشر ،فالنقود أو
الذهب أشتري بها هذا وهذا ،لكن ل يغنيني عن هذا وهذا.
وقد جاء وقت أصبح الناس يرون فيه أن المال هو كل شيء حتى صار هدفا وتعلق الناس به..
وفي الحق أنّ المال ليس غاية ،ول ينفع أن يكون غاية بل هو وسيلة .فإن فقد وسيلته وأصبح
غاية فل بد أن يفسد الكون؛ فعلة فساد الكون كله في القدر المشترك الذي هو المال ،حيث أصبح
المال غاية ،ولم يعد وسيلة.
حلّ ما يطعمون ،وما
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يطهر حياة القتصاد للناس طهارة تضمن ِ
يشربون ،وما يكتسون ،حتى تصدر أعمالهم عن خليات إيمانية طاهرة مصفاة؛ ذلك أن الشيء
الذي يصدر عن خلية إيمانية طاهرة مصفاة ل يمكن أن ينشأ عنه إل الخير.
ومن العجيب أن نجد القوم الذين صدروا لنا النظام الربوي يحاولون الن جاهدين أن يتخلصوا
منه ،ل لنهم ينظرون إلى هذا التخلص على أنه طهارة دينية ،ولكن لنهم يرون أن كل شرور
الحياة ناشئة عن هذا الربا .وليست هذه الصيحة حديثة عهد بنا ،فقديما أي من عام ألف وتسعمائة
وخمسين قام رجل القتصاد العالمي " شاخت " في ألمانيا وقد رأى اختلل النظام فيها وفي العالم،
فوضع تقريره بأن الفساد كله ناشئ من النظام الربوي ،وأن هذا النظام يضمن للغني أن يزيد
غنى ،وما دام هذا النظام قد ضمن للغني أن يزيد غنى ،فمن أين يزداد غنى؟ لشك أنه يزداد
غنى من الفقير .إذن فستئول المسألة إلى أن المال سيصبح في يد أقلية في الكون تتحكم في
مصائره كلها ولسيما المصائر الخلقية .لماذا؟.
لن الذين يحبون أن يستثمروا المال ل ينظرون إل إلى النفعية المالية ،فهم يديرون المشروعات
التي تحقق لهم تلك النفعية .وهناك رجل اقتصاد آخر هو " كينز " الذي يتزعم فكرة " القتصاد
الحر " في العالم يقول قولته المشهورة :إن المال ل يؤدي وظيفته في الحياة إل إذا انخفضت
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الفائدة إلى درجة الصفر .ومعنى ذلك أنه ل ربا.
وإذا ما نظرنا إلى عملية عقد الربا في ذاتها وجدناها عقدا باطلً؛ لن كل عقد من العقود إنما
يوجد لحماية الطرفين المتعاقدين ،وعقد الربا ل يحمي إل الطرف الدائن فقط ،وهناك أمر خلقي
آخر وهو أن النسان ل يعطي ربا إل إذا كان عنده فائض زائد على حاجته.
ول يأخذ إنسان من المرابي إل إذا كان محتاجا .فانظروا إلى النكسة الخلقية في الكون .إن المعدم
الفقير الذي ل يجد ما يسد جوعه وحاجته يضطر إلى الستدانة ،وهذا الفقير المعدم هو الذي
يتكفل بأن يعطي الصل والزائد إلى الغني غير المحتاج.
إنها نكسة خلقية توجد في المجتمع ضِغنا ،وتوجد في المجتمع حقدا ،وتقضي على بقية المعروف
وقيمته بين الناس ،وتنعدم المودة في المجتمع .فإذا ما رأى إنسان فقيرٌ إنسانا غنيا عنده المال،
ويشترط الغني على الفقير المعدم أن يعطيه ما يأخذه وأن يزيد عليه ،فعلى أية حال ستكون
مشاعر وأحاسيس الفقير؟ كان يكفي الغني أن يعطي الفقير ،وأن يسترد الغني بعد ذلك ما أخذه
الفقير ،ولكن الغني المرابي يطلب من الفقير أن يسدد ما أخذه ويزيد عليه .وكانوا يتعللون
ويقولون :إن النص القرآني إنما يتكلم عن الربا في الضعاف المضاعفة ،فإذا ما منعنا القيد في
الضعاف المضاعفة ل يكون حراما!!
أي أنهم يريدون تبرير إعطاء الفقير مالً ،وأن يرده أضعافا فقط ل أضعافا مضاعفة؛ حتى ل
يصير ذلك السترداد بالزيادة حراما .ولهؤلء نقول :إن الذين يقولون ذلك يحاولون أن يتلصصوا
على النص القرآني ،وكأن ال قد ترك النص ليتلصصوا عليه ويسرقوا منه ما شاءوا دون أن
يضع في النص ما يحول دون هذا التلصص ،ولو فطنوا إلى أن ال يقول في آخر المر {:وَإِنْ
ظَلمُونَ }[البقرة]279 :
تُبْتُمْ فََل ُكمْ ُرؤُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ لَ َتظِْلمُونَ وَلَ تُ ْ
هذا القول الحاسم يوضح أن ال لم يستثن ضعفا ول أضعافا .إذن فقوله الحق {:يَآ أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ
عفَ ًة وَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[آل عمران]130 :
ضعَافا ّمضَا َ
لَ تَ ْأكُلُواْ الرّبَا َأ ْ
إن هذا القول الحكيم لم يجئ إل ليبين الواقع الذي كانوا يعيشونه ،ولم يستثن ال ضعفا أو أضعافا؛
لن الحق جعل التوبة تبدأ من أن يأخذ النسان رأس ماله فقط ،فل يسمح ال لحد أن يأخذ نصف
الضعف أو الضعف أو الضعفين ،ول يسمح بالضعاف ول بالمضاعفات.
وكانوا يتعللون أن اتفاق الطرفين على أي أمر يعتبر تراضيا ويعتبر عقدا .وقد يكون ذلك صحيحا
إن لم يكن هناك مشرع أعلى من كل الخلق يسيطر على هذا التراضي .فهل كلما تراضى
الطرفان على شيء يصير حللً؟
لو كان المر كذلك لكان الزنا حللً :لنهما طرفان قد تراضيا .وكل ذلك ل يتأتى ـ أي رضاء
الطرفين ـ إل في المور التي ليس فيها تشريع صدر عن المشرع العلى ،وهو ال الحيّ القيوم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن ال قد فرض أمرا يقضي على التراضي بيني وبينك؛ لنه هو المسيطر ،وهو الذي حكم في
المر ،فل تراضي بيننا فيما يخالف ما شرع ال أو حكم فيه.
وإذا نظرنا نظرة أخرى فإننا نجد أن التراضي الذي يدعونه مردود عليه .إنه " تراضٍ " باطل
بالفحص الدقيق والبحث المنطقي .لماذا؟ لننا نقول إن التراضي إنما ينشأ بين اثنين ل يتعدى أمر
ما تراضيا عليه إلى غيرهما ،أما إذا كان المر قد تعدى من تراضيا عليه إلى غيرهما فالتراضي
باطل.
فهب أن واحدا ل يملك شيئا ،وواحدا آخر يملك ألفا ،والذي يملك ألفا هي ملكه ،وأدار بها عمل
من العمال ،وحين يدير صاحب اللف عمل فالمطلوب له أجر عمله ليعيش من هذا الجر .أما
الذي ل يملك شيئا إذا ما أراد أن يعمل مثلما عمل صاحب اللف ،فذهب إلى إنسان وأخذ منه ألفا
ليعمل عمل كعمل صاحب اللف ،فيشترط من يعطيه هذه اللف من الموال أن يزيده مائة حين
السداد ،فيكون المطلوب من الذي اقترض هذه اللف أجر عمله كصاحب اللف الول ومطلوب
منه أيضا أن يزيد على أجره تلك المائة المطلوبة لمن أقرضه بالربا.
فمن أين يأتي من اقترض ألفا بهذه المائة الزائدة؟ إن سلعته لو كانت تساوي سلعة الخر فإنه
يخسر .وإن كانت سلعته أقل من سلعة الخر فإنها تكسد وتبور.
إذن فل بد له من الحتيال النكد ،وهذا الحتيال هو أن يخلع على سلعته وصفا شكليا يساوي به
سلعة الخر ،ويعمد إلى إنقاص الجواهر الفعالة في صنعة سلعته ،فيسحب منها ما يوازي المائة
المطلوب سدادها للمرابي .فن الذي سيدفع ذلك؟ إنه المستهلك.
إذن فالمستهلك قد أضير بهذا التراضي؛ فهو الذي سيغرم؛ لنه هو الذي يدفع أخيرا قيمة قرض
الرجل المتاجر بالسلعة وقيمة النسبة الربوية التي حددها المرابي .إذن فالعقد بين المقترض
والمرابي ـ حتى في عرفهم ـ عقد باطل رغم أن الثنين ـ المقترض والمرابي ـ قد اعتبرا
هذا العقد تراضيا.
إذن فالحق سبحانه وتعالى أراد أن يشيع في الناس الرحمة والمودة .وأن يشيع في الناس
التعاطف .إنه الحق ـ سبحانه ـ صاحب كل النعمة أراد أن يشيع في الناس أن يعرف كل
صاحب نعمة في الدنيا أنه يجب عليه أن تكون نعمته متعدية إلى غيره ،فإن رآها المحروم علم
أنه مستفيد منها ،فإذا كان مستفيدا منها فإنه لن ينظر إليها بحقد ،ول أن ينظر إليها بحسد ،ول
يتمنى أن تزول لن أمرها عائد إليه .ولكن إذا كان السائد هو أن يريد صاحب النعمة في الدنيا أن
يأخذ بالستحواذ على كل عائد نعمته ،ول يراعي حق ال في مهمة النعمة ،ول تتعدى هذه النعمة
إلى غيره ،فالمحروم عندما يرى ذلك يتمنى أن تزول النعمة عن صاحبها وينظر إليها بحسد.
ويشيع الحقد ومعه الضغينة ،ويجد الفساد فرصة كاملة للشيوع في المجتمع كله.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يسيطر على القتصاد عناصر ثلثة:
العنصر الول :الرفد والعطاء الخالص ،فيجد الفقير المعدم غنيا يعطيه ،ل بقانون الحق المعلوم
المفروض في الزكاة ،ولكن بقانون الحق غير المعلوم في الصدقة ،هذا هو الرفد.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بأثر رجعي فل يؤاخذ بما مضى منه؛ لنه أخذ قبل نزول التحريم؛ تلك هي الرحمة ،لماذا؟
لنه من الجائز أن يكون المرابي قد رتب حياته ترتيبا على ما كان يناله من ربا قبل التحريم ،فإذا
كان المر كذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعفو عما قد سلف.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد عرفنا أن آدم عليه السلم عصى ربه ،وأكل من الشجرة ،وإبليس عصى ربه ،فلما تلقى آدم
من ربه كلمات فتاب عليه ،أما إبليس فقد طرده ال ،ولماذا طرد ال إبليس وأحل عليه اللعنة؟
لن آدم أقر بالذنب وقال " :ربنا ظلمنا أنفسنا " .لقد اعترف آدم :حكمك يا رب حكم حق ،ولكني
سجُدُ ِلمَنْ خََل ْقتَ طِينا { ،فكأنه رد المر
ظلمت نفسي .ولكن إبليس عارض في المر وقال } :أَأَ ْ
على المر.
وبعد ذلك حين بين ال الحكم في الربا ،وبين أن من انتهى له ما سلف ،فماذا عن الذي يعود؟ }
َومَنْ عَادَ { وهي المقابل } فَُأوْلَـا ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ { ،يريد سبحانه أن يقول:
إياكم أن يخدعكم الربا بلفظه ،فاللفاظ تخدع البشر؛ لنكم سميتموه " ربا " بالسطحية الناظرة :لن
الربا هو الزيادة ،والزكاة تنقص ،فالمائة في الربا تكون مائة وعشرة مثل حسب سعر الفائدة،
وفي الزكاة تصبح المائة ( ،)97.5في الموال وعروض التجارة ،وتختلف عن ذلك في الزروع
وغيرها ،وفي ظاهر المر أن الربا زاد ،والزكاة أنقصت ،ولكن هذا النقصان وتلك الزيادة هي
في اصطلحاتكم في أعرافكم .والحق سبحانه وتعالى يمحق الزائد ،وينمي الناقص؛ فهو سبحانه
يقولَ } :ي ْمحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ{ ...
()277 /
وكلمة { َي ْمحَقُ } من " محق " أي ضاع حال بعد حال ،أي لم يضع فجأة ،ولكن تسلل في الضياع
حقُ اللّهُ الْرّبَا } أي يجعله زاهيا أمام
بدون شعور ،ومنه " المحاق " أي الذهاب للهللَ { .يمْ َ
صاحبه ثم يتسلل إليه الخراب من حيث ل يشعر.
ولعلنا إن دققنا النظر في البيئات المحيطة بنا وجدنا مصداق ذلك .فكم من أناس رابوا ،ورأيناهم،
وعرفناهم ،وبعد ذلك عرفنا كيف انتهت حياتهمَ { .ي ْمحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَات } ويقول في
آية أخرىَ {:ومَآ آتَيْتُمْ مّن رّبا لّيَرْ ُبوَاْ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَلَ يَرْبُواْ عِندَ اللّهِ }[الروم]39 :
جهَ اللّهِ
ن وَ ْ
فإياكم أن تعتقدوا أنكم تخدعون ال بذلك ..ما هو المقابل؟{ َومَآ آتَيْ ُتمْ مّن َزكَاةٍ تُرِيدُو َ
ض ِعفُونَ }[الروم]39 :
فَُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْل ُم ْ
ض ِعفُونَ } هم الذين يجعلون الشيء أضعافا مضاعفة .وعندما يقول الحقَ { :ي ْمحَقُ اللّهُ
و { ا ْل ُم ْ
الْرّبَا } فل تستهن بنسبة الفعل ل؛ إن نسبة الفعل لفاعله يجب أن تأخذ كيفيته من ذات الفاعل ،فإذا
قيل لك :فلن الضعيف يصفعك ،أو فلن الملكم يصفعك ،فلبد أن تقيس هذه الصفعة بفاعلها،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا كان ال هو الذي قالَ { :ي ْمحَقُ اللّهُ } .أيوجد محق فوق هذا؟ ل ،ل يمكن.
وأيضا حين يقول الَ { :يمْحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَات } في القرآن الذي يُتلى وهو معجز؛
ومحفوظ ومُتحدي بحفظه ،فهذه قضية مصونة { َيمْحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَات }؛ لن الذي
قالها هو ال في كتاب ال المحفوظ ،الذي يُتلى مُ َتعَبّدا به ،أي أن القضية على ألسنة الجماهير
كلها ،وفي قلوب المؤمنين كلها ،أيقول ال قضية يحفظها ذلك الحفظ ليأتي واقع الزمن ليكذبها؟ ل،
ل يمكن .فالنسان ل يحفظ إل المستند الذي يؤيده!! أنا ل أحفظ إل " الكمبيالة " التي تخصني!
فما دام هو حافظه وهو القائل {:إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْرَ وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ }[الحجر]9 :
فمعنى ذلك أنه سبحانه سيطلق فيه قضايا ،وهذه القضايا هو الذي تَعهد بحفظها ،ول يتعهد بحفظها
إل لتكون حجة على صدقه في قولها .فالشيء الذي ل يكون فيه حُجة ل نحافظ عليه .وهو
سبحانه القائل {:وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات]173 :
إن هذه قضية قرآنية تعهد ال بحفظها ،فلبد أن يأتي واقع الحياة ليؤيدها ،فإذا كان واقع الحياة ل
يؤيدها ،ماذا يكون الموقف؟ أنكذب القرآن ـ وحاشانا أن نكذب القرآن ـ الذي قاله الحق الذي ل
إله سواه ليُدير كونا من ورائه.
حبّ ُكلّ َكفّارٍ أَثِيمٍ } .ولماذا قال الحق " :كفار " ولم
ت وَاللّ ُه لَ ُي ِ
{ َي ْمحَقُ اللّهُ الْرّبَا وَيُرْبِي الصّ َدقَا ِ
يقل " :كافر " ،ولماذا قال " :أثيم " وليس مجرد " آثم "؟ لنه يريد أن يرد الحكم على ال وما دام
يريد أن يرد الحكم على ال ،فقد كفر كفرين اثنين :كفر لنه لم يعترف بهذه ،وكفر لنه ردّ الحكم
على ال ،وهو " أثيم " ،ليس مجرد " آثم " ،وفي ذلك صيغة المبالغة لنستدل على أن القضية
التي نحن بصددها قضية عمرانية اجتماعية كونية ،إن لم تكن كما أرادها ال فسيتزلزل أركان
المجتمع كله.
وبعد أن شرح لنا الحق مرارة المبالغة في " كفار " وفي " أثيم " يأتي لنا بالمقابل حتى ندرك
حلوة هذا المقابل ،ومثال ذلك ما يقول الشاعر:فالـوجه مـثل الصـبح مـبـيضّ والشـعر
مـثل اللـيل مسـودّضـدّان لمـا اسـتـجـمـعا حَسُنا والضـد يظـهر حسـنَه الضدّفكأن
عمِلُواْ
ال بعد أن تكلم عن ال َكفّار والثيم يرجعنا لحلوة اليمان فيقول } :إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
لةَ وَآ َتوُاْ ال ّزكَاةَ َلهُمْ َأجْرُهُمْ عِندَ رَ ّبهِمْ{ ...
ت وََأقَامُواْ الصّ َ
الصّالِحَا ِ
()278 /
خوْفٌ
ت وََأقَامُوا الصّلَا َة وَآَ َتوُا ال ّزكَاةَ َل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم وَلَا َ
عمِلُوا الصّالِحَا ِ
إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
عَلَ ْيهِ ْم وَلَا ُهمْ يَحْزَنُونَ ()277
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقلنا :إن كلمة " أجر " تقتضي أنه ل يوجد مخلوق يملك سلعة ،إنما كلنا مستأجرون ،لماذا؟ لننا
نشغل المخ المخلوق ل ،بالطاقة المخلوقة ل ،في المادة المخلوقة ل ،فماذا تملك أنت أيها النسان
إل عملك ،وما دمت ل تملك إل عملك فلك أجر { َلهُمْ َأجْرُ ُهمْ عِندَ رَ ّب ِهمْ } .وكلمة { عِندَ رَ ّب ِهمْ }
لها ملحظ؛ فعندما يكون لك الجر عند المساوي لك قد يأكلك ،أما أجرك عند رب تولّى هو
تربيتك ،فلن يضيع أبدا.
خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ } ل من أنفسهم على أنفسهم ،ول من أحبابهم عليهم { ،وَلَ ُهمْ
ويتابع الحق { :وَلَ َ
يَحْزَنُونَ }؛ لن أي شيء فاتهم من الخير سيجدونه مُحضرا أمامهم .وبعد ذلك يقول الحق:
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّهَ} ...
()279 /
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه وَذَرُوا مَا َب ِقيَ مِنَ الرّبَا إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ ()278
وحين يقول الحق { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } فنحن نعرف أن النداء باليمان حيثية كل تكليف بعده،
وساعة ينادي الحق ويقول { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } أي يا من آمنتم بي إلها قادرا حكيما ،عزيزا
عنكم غالبا على أمري ،ل تضرني معصيتكم ،ول تنفعني طاعتكم ،فإذا كنتم قد آمنتم بي وأنا إله
قادر حكيم فاسمعوا مني ما أحبه لكم من الحكام.
إذن فكل { ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } في القرآن هي حيثية كل حكم يأتي بعدها ،وأنت تفعل ما يأمرك به
ال ،وإن سألك أحد :وقال لك :لماذا فعلت هذا المر؟ فقل له فعلته لني مؤمن ،والذي أمرني به
هو الذي آمنت بحكمته وقدرته .وأنت ل تدخل في متاهة علل الحكام ،لنك آمنت بأن ال إله
حكيم قادر ،أنزل لك تلك التكاليف ،وإياك أن تدخل في متاهة علة الحكام ،لماذا؟ لن هناك أشياء
قد تغيب علّتها عنك ،أكنت تؤجلها إلى أن تعرف العلة؟.
أكنا نؤجل تحريم لحم الخنزير إلى أن يثبت حاليا بالتحليل أنه ضار؟ ل ،إذا كان قد ثبت حاليا
بالتحليل أنه ضار فنحن نزداد ثقة في كل حكم كلفنا ال به ،ولم نهتد إلى علته ،والحق يقول:
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّهَ } ومن عجائب كلمة { ا ّتقُواْ } أنها تأتي في أشياء يبدو أنها متناقضة،
إنما هي ملتقية { ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّهَ } ولم يقل هنا :اتقوا النار كما قال في آية أخرى:
{ ا ّتقُواْ النّارَ } .إذن فكيف يقول { :ا ّتقُواْ اللّهَ } ويقول { :ا ّتقُواْ النّارَ }؟ لن معنى { ا ّتقُواْ } :أي
اجعلوا وقاية بينكم وبين ربكم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كيف نجعل وقاية بيننا وبين ربنا مع أن المطلوب منا إيمانيا أن نلتحم بمنهج ال لنكون دائما في
معية ال؟ نقول :ال سبحانه وتعالى له صفات جلل كالقهار ،والمنتقم ،والجبار ،وذي الطول
وشديد العقاب؛ فهو يطلب من عبده المؤمن أن يجعل بينه وبين صفات جلله وقاية ،فالنار جند
من جنود صفات الجلل ،وحين يقول سبحانه { :ا ّتقُواْ اللّهَ } يعني :اجعلوا وقاية بينكم وبين
صفات الجلل التي من جنودها النار .إذن فـ { ا ّتقُواْ اللّهَ } مثل { ا ّتقُواْ النّارَ } أي اجعلوا وقاية
بينكم وبين النار.
ويتابع الحق { :وَذَرُواْ مَا َبقِيَ مِنَ الرّبَا إِن كُنْ ُتمْ ّم ْؤمِنِينَ } ،و { ذَرُواْ } أي اتركوا ،ودعوا،
وتناسوا ،واطلبوا الخير من ال فيما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين حقا بال .كأن ال أراد أن
يجعلها تصفية فاصلة ،يولد من بعدها المؤمن طاهرا نقيا.
سَلفَ } والذي لم
إنه أمر من الحق :دعوا الربا الذي لم تقبضوه؛ لن الذي قبضتموه أمره { فَلَهُ مَا َ
تقبضوه اتركوه { :ا ّتقُواْ اللّ َه وَذَرُواْ مَا َب ِقيَ مِنَ الرّبَا إِن كُنْتُمْ ّم ْؤمِنِينَ } فإن قلتم إن التعاقد قد صدر
قبل التحريم ،والتعاقد قد أوجب لك الحق في ذلك ،تذكر أنك لم تقبض هذا الحق ليصير في يدك،
ول تقل إن حياتي القتصادية مترتبة عليه ،فترتيب الحياة القتصادية لم ينشأ بالتفاق على هذا
الربا ،ولكنه ينشأ بقبضه وأنت لم تقبضه .ويتابع الحق { :فَإِن لّمْ َت ْفعَلُواْ فَ ْأذَنُواْ ِبحَ ْربٍ مّنَ اللّهِ
وَرَسُولِهِ} ...
()280 /
فَإِنْ لَمْ َت ْفعَلُوا فَأْذَنُوا ِبحَ ْربٍ مِنَ اللّ ِه وَرَسُولِ ِه وَإِنْ تُبْ ُتمْ فََلكُمْ ُرءُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ لَا َتظِْلمُونَ وَلَا ُتظَْلمُونَ
()279
في هذه الية قضية كونية يتغافل عنها كثير من الناس .لقد جاء نظام ليحمي طائفة من ظلم
طائفة ،ولم يأت هذا النظام إل بعد أن وجدت طائفة المرابين الذين ظلموا طائفة الفقراء
سبُ هؤلء المستضعفين الذين استغلوا من المرابين أن ينصفهم القرآن وأن يُنهي
حْالمستضعفين .و َ
قضية الربا إنهاءً يعطي الذين رابوا ما سلف لنهم بنوا حياتهم على ذلك.
و { فَأْذَنُواْ ِبحَ ْربٍ } كلمة (اللف والذال والنون) من " الذن " وكل المادة مشتقة من " الذن " و "
الذُن " هي الصل الول في العلم؛ لن النسان ليس مفروضا أنه قارئ أول ،إنّه ل يكون
قارئا إل إذا سمع ،إذن فل يمكن أن ينشأ إعلم إل بالسماع والحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن
سمْعَ
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
أدوات العلم للنسان قال {:وَاللّهُ أَخْ َر َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكُرُونَ }[النحل]78 :
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ تَ ْ
وَالَبْصَا َر وَا َ
ولذلك عندما جاء علم وظائف العضاء ليبحث ذلك وجدوها طبق الصل كما قال ال عنها.
فالوليد الصغير حين يولد إن جاء إصبع إنسان عند عينيه فل يهتز له رمش؛ لن عينه لم تؤد
مهمتها بعد ،ولكن إن تصرخ بجانب أذنه فإنه ينفعل.
وعرفنا أن أول أداة تؤدي مهمتها بالنسبة للنسان الوليد هي أذنه ،وهي أيضا الداة التي تؤدي
مهمتها بالنسبة للنسان مستيقظا كان أو نائما .إن العين تغمض في النوم فل ترى ،لكن الذن
لذَان " و " الُذُن " كلها جاءت
مستعدة طوال الوقت لن تسمع؛ لنها آلة الستدعاء .إذن فمادة " ا َ
ح ّقتْ }[النشقاق]5 :
من مهمة السمع ،وقال ال سبحانه وتعالى {:وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ
ما معنى أذنت؟ .أنت حين تسمع من مساو لك ،فقد تنفذ وقد ل تنفذ ،لكن حين تسمعه من إله قادر
فل مناص لك إل أن تنفذ ،فكأن ال يقول :إن الرض تنشق حين تسمع أمري بالنشقاق .فبمجرد
أن تسمع الرض أمر الحق فإنها تفعل ،وحق لها أن تفعل ذلك؛ إنها أذنت لمر ال ،أي خضعت؛
لن القائل لها هو ال.
إذن كل المادة هنا جاءت من " الذن " .ولذلك فال يقول لمن ل يفعل ما أمر به ال في الربا؛
{ فَإِن لّمْ َت ْفعَلُواْ فَ ْأذَنُواْ بِحَ ْربٍ مّنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ } .أما حرب ال فل نقول فيها إل قول الَ {:ومَا
َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ }[المدثر]31 :
ول يستطيع أحد أن يحتاط لها .وأما حرب رسول ال صلى ال عليه وسلم فهذه هي المر
الظاهر .كأن ال سبحانه وتعالى يجرد على المرابين تجريدة هائلة من جنوده التي ل يعلمها إل
هو ،وحرب رسول ال جنودها هم المؤمنون برسوله ،وعليهم أن يكونوا حربا على كل ظاهرة
من ظواهر الفساد في الكون؛ ليطهروا حياتهم من دنس الربا.
وهكذا وضع ال نهاية لسلوب التعامل ،حتى يتطهر المال من ذلك الربا ،فإذا قال الحق } :فََلكُمْ
ظَلمُونَ { فمعنى هذا أنه سبحانه يبين لنا بهذا القول أنه ل حق
ُرؤُوسُ َأ ْموَاِلكُمْ لَ َتظِْلمُونَ وَلَ تُ ْ
للمرابين في ضعف ول ضعفين ،ول في أضعاف مضاعفة .وحينئذ } لَ تَظِْلمُونَ { من رابيتم،
بأن تأخذوا منهم زائدا عن رأس المال.
ولكن ما موقع } َولَ ُتظَْلمُونَ { ،ومن الذي يظلمهم؟ قد يظلمهم الضعيف الذي ظُِلمَ لهم سابقا،
ويأخذ منهم بعض رأس المال بدعوى أنهم طالما استغلوه فأخذوا منه قدرا زائدا على رأس المال.
إن المشرع يريد أن يمنع الظالم السابق فينهي ظلمه ،وأن يسعف المظلوم اللحق فيعطيه حقه،
وهو سبحانه ل يريد أن يوجه ظلما ليستغل به من ظُلم فيظلم الذي ظلمه أول ،بل سبحانه يشاء
بهذا الحكم أن ينهي هذا النوع من الظلم على إطلقه ،وأن يجعل الجميع على قدر سواء في
النتفاع بمزايا الحكم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكثير من النظريات التي تأتي لتقلب نظاما في مجتمع ما تعمد إلى الطائفة التي ظََلمَت ،فل تكتفي
بأن تكفها عن الظلم ،ولكن تمكن للمظلوم أن يظلم من ظلمه ،وذلك هو الجحاف في المجتمع،
وهذا ما يجب أن يتنبه إليه الناس جيدا؛ لن ال الذي أنصفك أيها المظلوم من ظالمك ،فمنع ظلمه
لك ،هنا يجب أن تحترم حكمه حينما قال } :فََلهُ مَا سََلفَ { وبهذا القول انتهت القضية.
ويستأنف سبحانه المر بعدالة جديدة تجمعك وتجمعه على قدم المساواة بدون ظلم منك أيها
ن َولَ
المظلوم سابقا بحجة أنه طالما ظلمك .والمجتمعات حين تسير على هذا النظام } لَ تَظِْلمُو َ
تُظَْلمُونَ { إنما تسير على نمط معتدل ل على ظلم موجه .فنحن نعيب على قوم أنهم ظلموا ،ثم
نأتي بقوم لنجعلهم َيظْلِمون ،ل ..إن الجميع على قدم المساواة من الن.
وفساد أي نظام في المجتمع يأتي من توجيه الظلم من فئة جديدة إلى فئة قديمة ،فبذلك يظل النظام
قائما ،طائفة ظََلمَت ،وتأتي طائفة كانت مظلومة لتظلم الطائفة الظالمة سابقا ،نقول لهم :ذلك ظلم
موجه ،ونحن نريد أن تنتظم العدالة وتشمل كل أفراد المجتمع بأن يأخذ كل إنسان حقه ،فالذي ظََلمَ
سابقا منعناه عن ظلمه ،والمغلوب سابقا أنصفناه ،وبذلك يصير الكل على قدم المساواة؛ ليسير
المجتمع مسيرة عادلة تحكمه قضية إيمانية .إننا ل نكافئ من عصى ال فينا بأكثر من أن نطيع
ال فيه.
وبعد ذلك يجيء القرآن ليفتح باب جديدا من المل أمام المظلومين .وليضع حدا للذين كانوا
ظالمين أول ،وحكم لهم برأس المال ومنعهم من الزائد على رأس المال ،فحنن قلوبهم على
هؤلءَ .أيْ ليست ضربة لزب أن تأخذوا رأس المال الن ،ولكن عليكم أن تُ ْنظِروا وتمهلوا
المدين إن كان معسرا ،وإن تساميتم في النضج اليماني اليقيني وارتضيتم ال بديل لكم عن كل
عوض يفوتكم ،فعليكم أن تتجاوزوا وتتنازلوا حتى عن رءوس أموالكم التي حكم ال لكم بها
لتترفعوا بها وتهبوها لمن ل يقدر .فيأتي قول الحق } :وَإِن كَانَ ذُو عُسْ َرةٍ فَ َنظِ َرةٌ إِلَىا مَيْسَ َرةٍ{ ...
()281 /
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْ َرةٍ فَ َنظِ َرةٌ إِلَى مَيْسَ َر ٍة وَأَنْ َتصَ ّدقُوا خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ ()280
عسْ َرةٍ } حكم بأن للدائن رأس المال ،ولكن هب أنّ المدين ذو عسرة ،هنا قضية
و { وَإِن كَانَ ذُو ُ
يثيرها بعض المستشرقين الذين يدعون أنهم درسوا العربية ،لقد درسوها صناعة ،ولكنها عزت
عليهم ملكة؛ لن اللغة ليست صناعة فقط ،اللغة طبع ،واللغة ملكة ،اللغة وجدان ،يقولون :إن
عسْ َرةٍ
القرآن يفوته بعض التقعيدات التي تقعدها لغته .فمثل جاءوا بهذه الية { :وَإِن كَانَ ذُو ُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فَنَظِ َرةٌ إِلَىا مَ ْيسَ َرةٍ وَأَن َتصَ ّدقُواْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ }.
قال بعض المستشرقين :نريد أن نبحث مع علماء القرآن عن خبر { كَانَ } في قوله { :وَإِن كَانَ
ذُو عُسْ َرةٍ } ،صحيح ل نجد خبر { كَانَ } ،ولكن الملكة العربية ليست عنده؛ لنه إذا كان قد
درس العربية كان يجب أن يعرف أن { كَانَ } تحتاج إلى اسم وإلى خبر ،اسم مرفوع وخبر
منصوب وهذه هي التي يقال عنها كان الناقصة ،كان يجب أن يفهم أيضا معها أنها قد تأتي تامة
أي ليس لها خبر ،وتكتفي بالمرفوع ،وهذه تحتاج إلى شرح بسيط.
إن كل فعل من الفعال يدل على حدث وزمن ،وكلمة { كَانَ } إن سمعتها دلت على وجود وحدث
مطلق لم تبين فيه الحالة التي عليها اسمها ،كان مجتهدا؟ كان كسول؟ مثل فهي تدل على وجود
شيء مطلق أي ليس له حالة ،ومعنى ذلك أن { كَانَ } دلت على الزمن الوجودي المطلق أي على
المعنى المجرد الناقص ،والشيء المطلق ل يظهر المراد منه إل إذا قيد ،فإن أردت أن تدل على
وجود مقيد ليتضح المعنى ،ويظهر ،فل بد أن تأتيها بخبر ،كأن تقول :كان زيد مجتهدا ،هنا وجد
شيء خاص وهو اجتهاد زيد .إذن فـ { كَانَ } هنا ناقصة تريد الخبر يكملها وليعطيها الوجود
الخاص ،فإذا لم يكن المر كذلك وأردنا الوجود فقط تكون { كَانَ } تامة أي تكتفي بمرفوعها فقط
مثل أن تقول :عاد الغائب فكان الفرح أي وجد ،أو أشرقت الشمس فكان النور ،والشاعر
يقول:وكـانت وليـس الصـبح فيـها بأبيـض وأضـحت وليـس اللـيـل فيـها
عسْ َرةٍ } أي فإن وجد ذو عسرة ..أي إن وجد إنسان ليس عنده قدرة
بأسـودفقوله { وَإِن كَانَ ذُو ُ
على السداد { ،فَنَظِ َرةٌ } من الدائن { إِلَىا مَيْسَ َرةٍ } أي إلى أن يتيسر ،ويكون رأس المال في هذه
الحالة { قَرْضا حَسَنا } ،وكلما صبر عليه لحظة أعطاه ال عليها ثوابا.
ولنا أن نعرف أن ثواب القرض الحسن أكثر من ثواب الصدقة؛ لن الصدقة حين تعطيها فقد
قطعت أمل نفسك منها ،ول تشغل بها ،وتأخذ ثوابا على ذلك دفعة واحدة ،لكن القرض حين
تعطيه فقلبك يكون متعلقا به ،فكلما يكون التعلق به شديدا ،ويهب عليك حب المال وتصبر فأنت
تأخذ ثوابا .لذلك يجب أن تلحظ أن القرض حين يكون قرضا حسنا والمقترض معذور بحق؛ لن
فيه فرقا بين معذور بحق ،ومعذور بباطل ،المعذور بحق هو الذي يحاول جاهدا أن يسدد دينه،
ولكن الظروف تقف أمامه وتحول دون ذلك ،أما المعذور بباطل فيجد عنده ما يسد دينه ولكنه
يماطل في السداد ويبقى المال ينتفع به وهو بهذا ظالم.
ولذلك جرب نفسك ،ستجد أن كل دين يشتغل به قلبك فاعلم أن صاحبه حرص على السداد ولم
يسدد ،وكل دين كان بردا وسلما على قلبك فاعلم أن صاحبه معذور بحق ول يقدر أن يسدد،
وربما استحييت أنت أن تمر عليه مخافة أن تحرجه بمجرد رؤيتك .وهؤلء ل يطول بهم الدّيْنُ
طويل؛ لن الرسول حكم في هذه القضية حكما ،فقال صلى ال عليه وسلم " :من أخذ أموال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الناس يريد أداءها أدى ال عنه ،ومن أخذها يريد إتلفها أتلفه ال ".
فما دام ساعة أخذها في نيته أن يؤدي فإن ال ييسر له سبيل الداء ،ومن أخذها يريد إتلفها ،فال
ل ييسر له أن يسدد؛ لنه ل يقدر على ترك المال يسدد به دينه وهذه حادثة في حياة الرسول
صلى ال عليه وسلم تفسر لنا هذا الحديث ،فقد مات رجل عليه دين ،فلما علم رسول ال صلى ال
عليه وسلم أنه مدين؛ قال لصحابه :صلوا على أخيكم.
إذن فهو لم يصل ،ولكنه طلب من أصحابه أن يصلوا ،لماذا لم يصل؟ لنه قال قضية سابقة " :من
أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى ال عنه " ما دام قد مات ولم يؤد إذن فقد كان في نيته أن
يماطل ،لكن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يمنع أصحابه من الصلة عليه.
والرسول صلى ال عليه وسلم يأتي للمعسر ويعامله معاملة الريحية اليمانية فيقول " :من أنظر
معسرا أو وضع عنه أظله ال في ظله يوم ل ظل إل ظله ".
ومعنى " أنظر " أي أمهله وأخر أخذ الدين منه فل يلحقه ،فل يحبسه في دَيْنِه ،فل يطارده ،وإن
تسامى في اليقين اليماني ،يقول له " :اذهب ،ال يعوض عليّ وعليك " وتنتهي المسألة ،ولذلك
ص ّدقُواْ خَيْرٌ ّلكُمْ إِن كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ { والثمرة هي حسن الجزاء من ال .فإما أن
يقول الحق } :وَأَن َت َ
تنظر وتؤخر ،وإما أن تتصدق ببعض الدين أو بكل الدين ،وأنت حر في أن تفعل ما تشاء.
فانظروا دقة الحق عند تصفية هذه القضية القتصادية التي كانت الشغل الشاغل للبيئة الجاهلية.
ولقد عرفنا مما تقدم أن السلم قد بنى العملية القتصادية على الرفد والعطاء ،وتكلم الحق
سبحانه وتعالى عنها في آيات النفقة التي سبقت من أول قوله تعالى } :مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ {.
وتكلم طويلً عن النفقة .والنفقة تشمل ما يكون مفروضا عليك من زكاة ،وما تتطوع به أنت.
والمتطوع بشيء فوق ما فرض ال يعتبره سبحانه حقا للفقير ،ولكنه حق غير معلوم ،ولذلك حينما
ت وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ
تعرضنا إلى قوله سبحانه {:إِنّ ا ْلمُتّقِينَ فِي جَنّا ٍ
جعُونَ }[الذاريات]17-15 :
ذَِلكَ ُمحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلً مّن الّيلِ مَا َيهْ َ
أيتطلب السلم منا أل نهجع إل قليلً من الليل؟ ل ،إن للمسلم أن يصلي العشاء وينام ،ثم يقوم
لصلة الفجر ،هذا ما يطلبه السلم .لكن الحق سبحانه هنا يتكلم عن المحسنين الذين دخلوا في
خذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَ ّب ُهمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ ذَِلكَ
ت وَعُيُونٍ * آ ِ
مقام الحسان مع ال {.إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ
سحَارِ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ }[الذاريات]18-15 :
جعُونَ * وَبِالَ ْ
مُحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلً مّن الّيلِ مَا َيهْ َ
هل التشريع يلزم المؤمن أن يقوم بالسحر ليستغفر؟ ل ،إن المسلم عليه أن يؤدي الفروض ،ولكن
إن كان المسلم يرغب في دخول مقام الحسان فعليه أن يعرف الطريق {:وَبِالَسْحَارِ هُمْ
يَسْ َت ْغفِرُونَ }[الذاريات]18 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والكلم هنا في مقام الحسان .ويضيف الحق عن أصحاب هذا المقامَ {:وفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئلِ
وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات]19 :
إن ال سبحانه قد حدد في أموال من يدخل في مقام الحسان حقا للسائل والمحروم ،ولم يحدد ال
قيمة هذا الحق أو لونه .هل هو معلوم أو غير معلوم .لكن حين تكلم ال عن المؤمنين قال
ل وَا ْلمَحْرُومِ }[المعارج]25-24 :
حقّ ّمعْلُومٌ * لّلسّآ ِئ ِ
سبحانه {:وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ َ
وهكذا نجد في أموال صاحب مقام الحسان حقا للسائل والمحروم ،لكن في أموال صاحب اليمان
حق معلوم وهو الزكاة .ومقام الحسان يعلو مقام اليمان؛ لن الحق في مال المؤمن معلوم ،أما
في مقام الحسان فإن في مالهم حقا للحسان إلى الفقير وإن لم يكن معلوما ،أي لم يحدد.
وقد رأينا بعض الفقهاء قد اعتبر الزكاة ـ ما دامت حقا للفقير عند الغني ـ فإن منع الغني ما
قدره نصاب سرقة تُقطع يد الغني ،لنه أخذ حق الفقير .ونصاب السرقة ربع دينار ذهبا ،فيبني
السلم قضاياه الجتماعية إما عل النفقة غير المفروضة وإما على النفقة المفروضة .فإذا ما
شحّت نفوس الناس ،ولم تستطيع أن تتبرع بالقدر الزائد على المفروض ،وتمكن حب مالها في
نفسها تمكنا قويا بحيث ل تتنازل عنه يقول ال سبحانه لكل منهم:
أنت لم تتنازل عن مالك ،وأنا حرمت الربا ،فكيف نلتقي لنضع للمجتمع أساسا سليما؟ سنحتفظ لك
بمالك ونمنع عنك فائدة الربا ،وهكذا نلتقي في منتصف الطريق ،ل أخذنا مالك ،ول أخذت من
غيرك الزائد على هذا المال.
وشرح الحق سبحانه آية الديْن ،وأخذت هذه الية أطول حيز في حجم آيات القرآن ،لماذا؟ .لن
على الديْن هذا تُبنى قضايا المجتمع القتصادية عند من ل يجد موردا ماليا يُسيّر به حركة حياته.
وحين وضع الحق آية الديْن لم يضعها وضعا تقنينيا جافا جامدا ،وإنما وضعها وضعا وجدانيا.
أي مزج التقنين بالوجدان ،مزج الحق جمود القانون بروح السلم ،فلم يجعلها عملية جافة.
والمشرعون من البشر عندما يقننون فهم يضعون القانون جافا ،فمثال ذلك :من قتل يقتل ،وغير
ذلك .لكن الحق يقول غير ذلك حتى في أعنف قضايا الخلف ،وهي خلفات الدم ،فقال سبحانه{:
ح َمةٌ }
خفِيفٌ مّن رّ ّبكُ ْم وَرَ ْ
ف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذاِلكَ َت ْ
شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُو ِ
عفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ َ
َفمَنْ ُ
[البقرة]178 :
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ{ ...
والحق سبحانه وتعالى قبل أن يأتي بآية الديْن ،يقول } :وَا ّتقُواْ َيوْما تُرْ َ
()282 /
ظَلمُونَ ()281
ت وَ ُهمْ لَا يُ ْ
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمّ ُت َوفّى ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َب ْ
وَاتّقُوا َي ْومًا تُرْ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولقد أوضحنا من قبل أن تقوى ال تقتضي أن تقوم بالفعال التي تقينا صفات الجلل في ال،
وأوضحنا أن ال قال { :وَا ّتقُواْ َيوْما } أي أن نفعل ما يجعل بيننا وبين النار وقاية ،فالنار من
متعلقات صفات الجلل .وهاهو ذا الحق سبحانه هنا يقول { :وَا ّتقُواْ َيوْما } ،فهل نتقي اليوم ،أو
نتقي ما ينشأ في اليوم؟ إن اليوم ظرف زمان ،والزمان ل تُخاف بذاتها ،ولكن يخاف النسان مما
يقع في الزمن.
لكن إذا كان شيء في الزمن مخيفا ،إذن فالخوف ينصب على اليوم كله ،لنه يوم هول؛ كل شيء
فيه مفزّع ومخوف ،وقانا ال وإياكم ما فيه من هول ،وانظر إلى الدقة القرآنية المتناهية في قوله:
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ }.
{ تُ ْر َ
إن الرجوع في هذا اليوم ل يكون بطواعية العباد ولكن بإرادة ال .وسبحانه حين يتكلم عن
المؤمنين الذين يعملون الصالح من العمال؛ فإنه يقول عن رجوعهم إلى ال يوم القيامة{:
شعِينَ * الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُم مّلَاقُواْ رَ ّبهِ ْم وَأَ ّنهُمْ
وَاسْ َتعِينُواْ بِالصّبْرِ وَالصّلَ ِة وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى الْخَا ِ
جعُونَ }[البقرة]46-45 :
إِلَيْهِ رَا ِ
ومعنى ذلك أن العبد المؤمن يشتاق إلى العودة إلى ال؛ لنه يرغب أن ينال الفوز.
جهَنّمَ دَعّا }[الطور]13 :
أما غير المؤمنين فيقول عنهم الحقَ {:يوْمَ يُدَعّونَ إِلَىا نَارِ َ
إن رجوع غير المؤمنين يكون رجوعا قسريا ل مرغوبا فيه .والحق يقول عن هذا اليوم { :ثُمّ
ت وَهُ ْم لَ ُيظَْلمُونَ } .وبعد ذلك يقنن الحق سبحانه للدين فيقول سبحانه:
ُت َوفّىا ُكلّ َنفْسٍ مّا كَسَ َب ْ
سمّى فَاكْتُبُوهُ} ...
جلٍ مّ َ
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا تَدَايَنتُم ِبدَيْنٍ إِلَىا أَ َ
()283 /
سمّى فَاكْتُبُو ُه وَلْ َيكْ ُتبْ بَيْ َن ُكمْ كَا ِتبٌ بِا ْل َع ْدلِ وَلَا يَ ْأبَ
جلٍ مُ َ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِذَا تَدَايَنْ ُتمْ بِدَيْنٍ إِلَى َأ َ
ق وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِ ْنهُ شَيْئًا
حّب وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَيْهِ الْ َ
كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُت ْ
ش ِهدُوا
ل وَاسْتَ ْ
ضعِيفًا َأوْ لَا َيسْتَطِيعُ أَنْ ُي ِملّ ُهوَ فَلْ ُيمِْللْ وَلِيّهُ بِا ْلعَ ْد ِ
سفِيهًا َأ ْو َ
فَإِنْ كَانَ الّذِي عَلَ ْيهِ ا ْلحَقّ َ
ضلّ
شهَدَاءِ أَنْ َت ِ
ل وَامْرَأَتَانِ ِممّنْ تَ ْرضَوْنَ مِنَ ال ّ
جٌشهِيدَيْنِ مِنْ ِرجَاِلكُمْ فَإِنْ لَمْ َيكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَ ُ
َ
صغِيرًا َأوْ
شهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا َتسَْأمُوا أَنْ َتكْتُبُوهُ َ
حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الْأُخْرَى وَلَا يَ ْأبَ ال ّ
إِ ْ
شهَا َد ِة وَأَدْنَى أَلّا تَرْتَابُوا إِلّا أَنْ َتكُونَ ِتجَا َرةً حَاضِ َرةً
سطُ عِنْدَ اللّ ِه وََأ ْقوَمُ لِل ّ
كَبِيرًا إِلَى أَجَِلهِ ذَِل ُكمْ َأقْ َ
شهِيدٌ وَإِنْ
ب وَلَا َ
شهِدُوا ِإذَا تَبَا َيعْتُ ْم وَلَا ُيضَارّ كَا ِت ٌ
تُدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ أَلّا َتكْتُبُوهَا وَأَ ْ
علِيمٌ ()282
شيْءٍ َ
َت ْفعَلُوا فَإِنّهُ ُفسُوقٌ ِبكُ ْم وَا ّتقُوا اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنها أطول آية في آيات القرآن ويستهلها ال بقوله { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } وهذا الستهلل كما
نعرف يوحي بأن ما يأتي بعد هذا الستهلل من حكم ،يكون اليمان هو حيثية ذلك الحكم ،فما
دمت قد آمنت بال فأنت تطبق ما كلفك به؛ لن ال لم يكلف كافرا ،فالنسان ـ كما قلنا سابقا ـ
حر في أن يُقبل على اليمان بال أو ل يُقبل.
فإن أقبل النسان باليمان فليستقبل كل حكم ن ال بالتزام .ونضرب هذا المثل ـ ول المثل
العلى ـ إن النسان حين يكون مريضا ،هو حر في أن يذهب إلى الطبيب أو ل يذهب ،ولكن
حين يذهب النسان إلى الطبيب ويكتب له الدواء فالنسان ل يسأل الطبيب وهو مخلوق مثله:
لماذا كتبت هذه العقاقير؟.
ي أو ل تأتي ،لكن ما دمت قد جئت إلى
إن الطبيب يمكن أن يرد :إنك كنت حرا في أن تأتي إل ّ
فاسمع الكلم ونفذه .والطبيب ل يشرح التفاعلت والمعادلت ل ،إن الطبيب يشخص المرض،
ويكتب الدواء .فما بالنا إذا أقبلنا على الخالق العلى باليمان؟
إننا نفذ أوامره سبحانه ،وال ل يأمر المؤمن إل عن حكمة ،وقد تتجلى للمؤمن بعد ذلك آثار
الحكمة ويزداد المؤمن ثقة في إيمانه بال .يقول الحق { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا
سمّى فَاكْتُبُوهُ } وعندما نتأمل قول الحق { :تَدَايَنتُم } نجد فيها " دَيْن " ،وهناك " دِين " ،
جلٍ مّ َ
أَ َ
ومن معنى الدِيّن الجزاء ،ومن معنى الدّين منهج السماء ،وأما الدّيْن فهو القتراض إلى موعد
يسدد فيه .هكذا نجد ثلثة معان واضحة :الدّين :وهو يوم الجزاء ،والدّيْن وهو المنهج السماوي
والدّيْن :هو المال المقترض.
وال يريد من قوله { :تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ } أن يزيل اللبس في معنيين ،ويبقى معنى واحدا وهو
القتراض فقال { :بِدَيْنٍ } فالتفاعل هنا في مسألة الدَيْن ل في الجزاء ول في المنهج ،والحق يحدد
الدَيْن بأجل مُسمّى .وقد أراد ال بكلمة " مُسمّى " مزيدا من التحديد ،فهناك فرق بين أجل لزمن،
وبين أجل لحدث يحدث ،فإذا قلت :الجل عندي مقدم الحجيج .فهذا حدث في زمن ،ومقدم الحجيج
ل يضمنه أحد ،فقد تتأخر الطائرة ،أو يصاب بعض من الحجيج بمرض فيتم حجز الباقين في
الحجر الصحي.
أما إذا قلت :الجل عندي شهران أو ثلثة أشهر فهذا يعني أن الجل هو الزمن نفسه ،لذلك ل
يصح أن يؤجل أجل دينه إلى شيء يحدث في الزمن؛ لنه من الجائز أل يحدث ذلك الشيء في
هذا الزمن .إن التداين بديْن إلى أجل مُسمى يقتضي تحديد الزمن ،والحق يوضح لناِ { :إذَا َتدَايَنتُم
سمّى فَاكْتُبُوهُ } وكلمة { فَاكْتُبُوهُ } هي رفع لحرج الحباء من الحباء.
جلٍ مّ َ
بِدَيْنٍ إِلَىا أَ َ
إنه تشريع سماوي ،فل تأخذ أحد الريحية ،فيقول لصاحبه " :نحن أصحاب " ،إنه تشريع سماوي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول لك :اكتب الديْن ،ول تقل " :نحن أصدقاء " فقد يموت واحد منكما فإن لم تكتب الديْن حرجا
فماذا يفعل البناء ،أو الرامل ،أو الورثة؟.
إذن فإلزام الحق بكتابة الديْن هو تنفيذ لمر من ال يحقق رفع الحرج بين الحباء .ويظن كثير
من الناس أن ال يريد بالكتابة حماية الدائن .ل ،إن المقصود بذلك والمهم هو حماية المدين ،لن
المدين إن علم أن الديْن عليه موثق حرص أن يعمل ليؤدي ديْنه ،أما إذا كان الدين غير موثق
فيمن الجائز أن يكسل عن العمل وعن سداد الديْن .وبذلك يحصل هو وأسرته على حاجته مرة
واحدة ،ثم يضن المجتمع الغني على المجتمع الفقير فل يقرضه؛ ويأخذون عجز ذلك النسان عن
السداد ذريعة لذلك ،ويقع هذا النسان الذي لم يؤد دينه في دائرة تحمل الوزر المضاعف ،لنه
ضيّق باب القرض الحسن.
إن ال يريد أن يسير دولب الحياة القتصادية عند من ل يملك ،لن من يملك يستطيع أن يسيّر
حياته ،أما من ل يملك فهو المحتاج .ولذلك فهناك مثل في الريف المصري يقول :من يأخذ
ويعطي يصير المال ماله .إنه يقترض ويسدد ،لذلك يثق فيه كل الناس ،ويرونه أمينا ويرونه
مُجدا ،ويرونه مخلصا ،ويعرفون عنه أنه إذا أخذ وفّى ،فكل المال يصبح ماله.
إذن فال ـ سبحانه ـ بكتابة الديْن يريد حماية حركة الحياة عند غير الواجد؛ لن الواجد في غير
سمّى فَاكْتُبُوهُ
جلٍ مّ َ
حاجة إلى القرض .لذلك جاء المر من الحق سبحانهِ } :إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىا أَ َ
{ .ومن الذي يكتب الديْن؟.
انظر الدقة :ل أنت أيها الدائن الذي تكتب ،ول أنت أيها المدين ،ولكن لبد أن يأتي كاتب غير
ل َولَ يَ ْأبَ كَا ِتبٌ أَنْ
الثنين ،فل مصلحة لهذا الثالث من عملية الدين } وَلْ َيكْتُب بّيْ َنكُمْ كَا ِتبٌ بِا ْلعَ ْد ِ
َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ { .وفي ذلك إيضاح بأن النسان الذي يعرف الكتابة إن طُلب منه أن يكتب
ديْنا أل يمتنع عن ذلك ،لماذا؟ لن الية ـ آية الديْن ـ قد نزلت وكانت الكتابة عند العرب قليلة،
كان هناك عدد قليل فقط هم الذين يعرفون الكتابة ،فكان هناك طلب شديد على من يعرف الكتابة.
ولكن إن لم ُيطْلَب أحد من الذين يعرفون الكتابة أن يكتب الديْن فماذا يفعل؟ .إن الحق يأمره بأن
يتطوع ،وفي ذلك يأتي المر الواضح " فليكتب "؛ لن النسان إذا ما كان هناك أمر يقتضي منه
أن يعمل ،والظرف ل يحتمل تجربة ،فالشرع يلزمه أن يندب نفسه للعمل.
هب أنكم في زورق وبعد ذلك جاءت عاصفة ،وأغرقت الذي يمسك بدفة الزورق ،أو هو غير
قادر على إدارة الدفة ،هنا يجب أن يتقدم من يعرف ليدير الدفة ،إنه يندب نفسه للعمل ،فل مجال
للتجربة.
والحق سبحانه وتعالى حين عرض قضية الجدب في قصة سيدنا يوسف قال {:تَزْرَعُونَ سَبْعُ
حصَدتّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُِلهِ ِإلّ قَلِيلً ّممّا تَ ْأكُلُونَ * ُثمّ يَأْتِي مِن َبعْدِ ذاِلكَ سَبْعٌ شِدَادٌ
سِنِينَ دَأَبا َفمَا َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حصِنُونَ }[يوسف]48-47 :
يَ ْأكُلْنَ مَا قَ ّدمْتُمْ َلهُنّ ِإلّ قَلِيلً ّممّا ُت ْ
حفِيظٌ عَلِيمٌ }[يوسف]55 :
ن الَ ْرضِ إِنّي َ
جعَلْنِي عَلَىا خَزَآئِ ِ
وقال سيدنا يوسف {:قَالَ ا ْ
إن المسألة جدب فل تحتمل التجربة ،وهو كفء لهذه المهمة ،يملك موهبة الحفظ والعلم ،فيندبُ
نفسه للعمل .كذلك هنا } َولَ يَ ْأبَ كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ { إذا طلب منه وإن لم يطلب منه
وتعين } فَلْ َيكْ ُتبْ {.
وهذه علة المرين الثنين ،وما دامت الكتابة للتوثيق في الدّيْن؛ فمن الضعيف؟ إنه المدين،
والكتابة حجة عليه للدائن ،لذلك يحدد ال الذي يملل :الذي عليه الديْن ،أي يملي الصيغة التي
حقّ { ولماذا ل يملي الدائن؟ لن المدين عادة في مركز
تكون حجة عليه } وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَ ْيهِ الْ َ
الضعف ،فلعل الدائن عندما تأتي لحظة كتابة ميعاد السداد فقد يقلل هذا الميعاد ،وقد يخجل المدين
أن يتكلم ويصمت؛ لنه في مركز الضعف .ويختار ال الذي في مركز الضعف ليملي صيغة
الديْن ،يملي على راحته ،ويضمن أل يُؤخذ بسيف الحاجة في أن موضع من المواضع.
لكن ماذا نفعل عندما يكون الذي عليه الديْن سفيها أو ضعيفا أو ل يستطيع أن يمل هو؟ إن الحق
ل وَلِيّهُ
ضعِيفا َأ ْو لَ يَسْ َتطِيعُ أَن ُي ِملّ ُهوَ فَلْ ُيمِْل ْ
سفِيها َأ ْو َ
حقّ َ
يضع القواعد } فَإن كَانَ الّذِي عَلَ ْيهِ الْ َ
بِا ْلعَ ْدلِ { والسفيه هو البالغ مبلغ الرجال إل أنه ل يمتلك أهلية التصرف .والضيف هو الذي ل
يملك القدرة التي تُبلغه أن يكون ناضجا النضج العقلي للتعامل ،كأن يكون طفل صغيرا ،أو شيخا
بلغ من الكبر حتى صار ل يعلم من بعد علمه شيئا ،أو ل يستطيع أن يمل .أي أخرس فيقول
بالملء الولي أو القي ّم أو الوصيّ.
شهِيدَيْنِ مّن رّجَاِلكُمْ فَإِن لّمْ َيكُونَا َرجُلَيْنِ
شهِدُواْ َ
ويأتي التوثيق الزائد :بقوله ـ تعالى ـ } :وَاسْ َت ْ
حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الُخْرَىا {.
ضلّ إِ ْ
شهَدَآءِ أَن َت ِ
ضوْنَ مِنَ ال ّ
ل وَامْرَأَتَانِ ِممّن تَ ْر َ
جٌفَرَ ُ
شهِدُواْ { نستشهد ونكتب ،لنه سبحانه يريد
ولننظر إلى الدقة في التوثيق عندما يقول الحق } :وَاسْتَ ْ
بهذا التوثيق أن يؤمّن الحياة القتصادية عند غير الواجد؛ لن الحاجة عندما تكون مؤمّنَة عند غير
الواجد فالدولب يمشي وتسير حركة الحياة القتصادية؛ لن الواجد هو القليل ،وغير الواجد هو
الكثير ،فكل فكر جاد ومفيد يحتاج إلى مائة إنسان ينفذون التخطيط.
أن الجيب الواجد الذي يصرف يحتاج إلى مائة لينفذوا ،ولهذا تكون الجمهرة من الذين ل يجدون،
وذلك حتى يسير نظام الحياة؛ لن ال ل يريد أن يكون نظام الحياة تفضل من الخلق على الخلق،
إنما يريد ال نظام الحياة نظاما ضروريا؛ فالعامل الذي ل يعول أسرة قد ل يخرج إلى العمل،
لذلك فالحق يربط خروج العامل بحاجته.
إنه يحتاج إلى الطعام ورعاية نفسه وأسرته فيخرج اضطرارا إلى العمل ،وبتكرار المر يعشق
عمله ،وحين يعشق العمل فهو يحب العمل في ذاته.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبذلك ينتقل من الحاجة إلى العمل ،إلى حب العمل في ذاته ،وإذا ما أحب العمل في ذاته ،فعجلة
شهِيدَيْنِ مّن رّجَاِلكُمْ {.
شهِدُواْ َ
الحياة تسير .والحق سبحانه حين يحدد الشهود بهذا القول } :وَاسْ َت ْ
شهِيدَيْنِ { ولم يقل " شاهدان "؟ لن مطلق شاهد قد يكون زورا ،لذلك جاء
ولماذا قال الحقَ } :
الحق بصيغة المبالغة .كأنه شاهد عرفه الناس بعدالة الشهادة حتى صار شهيدا .إنه إنسان تكررت
منه الشهادة العادلة؛ واستأمنه الناس على ذلك ،وهذا دليل على أنه شهيد .وإن لم يكن هناك
شهَدَآءِ {.
ضوْنَ مِنَ ال ّ
ل وَامْرَأَتَانِ ِممّن تَ ْر َ
جٌشهيدان من الرجال فالحق يحدد لنا } فَرَ ُ
إن الحق سبحانه وتعالى قد طلب منا على قدر طاقتنا أي من نرضى نحن عنهم ،وعلل الحق
حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الُخْرَىا {؛ لن
ضلّ إِ ْ
مجيء المرأتين في مقابل رجل بما يلي } :أَن َت ِ
الشهادة هي احتكاك بمجتمع لتشهد فيه وتعرف ما يحدث .والمرأة بعيدة عن كل ذلك غالبا.
أن الصل في المرأة أل علقة لها بمثل هذه العمال ،وليس لها شأن بهذه العمليات ،فإذا ما
اضطرت المور إلى شهادة المرأة فلتكن الشهادة لرجل وامرأتين؛ لن الصل في فكر المرأة أنه
غير مشغول بالمجتمع القتصادي الذي يحيط بها ،فقد تضل أو تنسى إحداهما فتذكر إحداهما
الخرى ،وتتدارس كلتاهما هذا الموقف ،لنه ليس من واجب المرأة الحتكاك بجمهرة الناس
وبخاصة ما يتصل بالعمال.
شهَدَآءُ ِإذَا مَا دُعُواْ { فكما قال الحق عن الكاتب أل يمتنع عن
وبعد ذلك يقول الحقَ } :ولَ يَ ْأبَ ال ّ
توثيق الديْن ،كذلك الشهادة على هذا الديْن .وكيف تكون الشهادة ،هل هي في الداء أو التحمل؟
إن هنا مرحلتين :مرحلة تحمل ،ومرحلة أداء.
وعندما نطلب من واحد قائلين :تعال اشهد على هذا الديْن .فليس له أن يمتنع ،وهذا هو التحمل.
وبعدما وثقنا الديْن ،وسنطلب هذا الشاهد أمام القاضي ،والوقوف أمام القاضي هو الداء .وهكذا
ل يأبى الشهداء إذا ما دعوا تحمل أو أداءً.
لكن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن كل نفس بشرية لها مجال حركتها في الوجود ويجب أل تطغى
حركة حدث على حدث ،فالشاهد حين يُستدعى ـ بضم الياء ـ ليتحمل أول أو ليؤدي ثانيا ينبغي
ألّ تتعطل مصالحه؛ إن مصالحه ستتعطل؛ لنه عادل ،ولنه شهيد ،لذلك يضع ال لذلك المر
شهِيدٌ {.
حدا فيقولَ } :ولَ ُيضَآرّ كَا ِتبٌ َولَ َ
إذن فالشهادة هنا تتطلب أن نحترم ظرف الشاهد .فإن كان عند الشاهد عمل أو امتحان أو صفقة
أو غير ذلك ،فلنا أن نقول للشاهد :إما أن تتعين في التحمل حيث ل يوجد من يوثق به ويطمأن
إليه أما في الداء فأنت مضطر.
إن الشاهد يمكنه أن يذهب إلى أمره الضروري الذي يجب أن يفعله ،فل يطغى حدث على حدث،
لذلك علينا أن نبحث عن شاهد له قدرة السيطرة على عمله بدرجة ما .وإن لم نجد غيره ،فماذا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يكون الموقف؟
جعْل " يعوض عليه ما
شهِيدٌ { إذن فعلينا أن نبحث له عن " ُ
لقد قال الحقَ } :ولَ ُيضَآرّ كَا ِتبٌ َولَ َ
فاته ،فل نلزمه أن يعطل عمله وإل كانت عدالته وَبالً عليه ،لن كل إنسان يُطلب للشهادة تتعطل
أعماله ومصالحه .وال ل يحمي الدائن والمدين ليضر الكاتب أو الشهيد.
وقوله الحق لكلمةُ } :يضَآرّ { فمن الممكن أن تأتي الكلمة على وجهين في اللغة ،فمرة تأتي }
ُيضَآرّ { بمعنى أن الضرر يأتي من الكاتب أو الشهيد ،ومرة أخرى تأتي كلمة } ُيضَآرّ { بمعنى
الضرر يقع على الكاتب أو الشهيد .فاللفظ واحد ،ولكن حالة اللفظ بين الدغام الذي هو عليه
شهِيدٌ
حسب قواعد اللغة وبين فكه هي التي تُبَيّنُ لنا اتجاه المعنى .فإن قلنا } :وَلَ ُيضَآرّ كَا ِتبٌ وَلَ َ
{ ـ بكسر الراء ـ ،فالمعنى في هذه الحالة هو أن يقع الضرر من الكاتب فيكتب غير الحق ،أو
أن يقع الضرر من الشهيد فيشهد بغير العدل.
شهِيدٌ { ـ بفتح الراء ـ فالمنهي عنه هو أن يقع الضرر على
وإن قلناَ } :ولَ ُيضَآرّ كَا ِتبٌ َولَ َ
الكاتب أو الشهيد من الذين تؤدي الكتابة غرضا لهم ،وتؤدي الشهادة واجبا بالنسبة لهم؛ ليضمن
الدائن دَيْنه ،وليستوثق أن أداءه محتم.
والكاتب والشهيد شخصان لهما في الحياة حركة ،ولكل منهما عمل يقوم به ليؤدي مطلوبات
الحياة ،فإذا عُلِمَ ـ بضم العين وكسر اللم وفتح الميم ـ أنه كاتب أو شهد بأنه عادل ،عند ذلك
يتم استدعاؤه في كل وقت من أصحاب المصلحة في المداينة ،وربّما تعطلت مصالح الكاتب أو
الشهيد.
ويريد ال أن يضمن لذلك الكاتب أو الشهيد ما يبقى على مصلحته .ولذلك أخذت القوانين
الوضعية من القرآن الكريم هذا المبدأ ،فهي إن استدعت شاهدا من مكان ليشهد في قضية فإنّها
تقوم له بالنفقة ذهابا وبالنفقة إيابا ،وإن اقتضى المر أن يبيت فله حق المبيت وذلك حتى ل
يضار ،وهو يؤدي الشهادة ،وحتى ل يتعطل الشاهد عن عمله أو يصرف من جيبه.
ويريد الحق سبحانه وتعالى أيضا أن يضمن مصالح الجميع ل مصلحة جماعة على حساب
جماعة.
ويقول الحق في هذه " المضارة " } :وَإِن َت ْفعَلُواْ فَإِنّهُ فُسُوقٌ ِبكُمْ { أي وإن تفعلوا الضرر من هذا
أو من ذاك فإنه فسوق بكم ،إنه سبحانه يحذر أن يقع الضرر من الكاتب أو الشهيد ،أو أن يقع
الضرر على الكاتب أو الشهيد.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الفسوق وهو الخروج عن طاعة ال في كل ما أمر.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :وَا ّتقُواْ اللّهَ { وعلمنا من قبل معنى كلمة " التقوى " حين يقول
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ { ،وكل
ال } :وَا ّتقُواْ اللّهَ { أو يقول سبحانه } :وَاتّقُواْ النّارَ { } وَا ّتقُواْ َيوْما تُ ْر َ
هذه المعاني مبنية على الوقاية من صفات جلل ال ،وجبروته ،وقهره ،وإذا قلنا } :وَاتّقُواْ النّارَ
{ فالنار من جنود صفات القهر ل ،فـ } وَا ّتقُواْ اللّهَ { هي بعينها } وَا ّتقُواْ النّارَ { هي بعينها }
جعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ {.
وَاتّقُواْ َيوْما تُرْ َ
ويقول الحق سبحانه } :وَاتّقُواْ اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّهُ { .وهنا مبدأ إيماني يجب أن نأخذه في كل تكليف
من ال؛ فإن التكاليف إن جاءت من بشر لبشر ،فأنت ل تنفذ التكليف من البشر إل إن أقنعك
بحكمته وعلته؛ لن التكليف يأتي من مسا ٍو لك ،ول توجد عقلية أكبر من عقلية ،وقد تقول لمن
يكلفك :ولماذا أكون تبعا لك وأنت ل تكون تبعا لي؟ إنك إذا أردت أن تكلفني بأمر من المور
وأنت مساو لي في النسانية والبشرية وعدم العصمة فل بد أن تقنعني بحكمة التكليف.
أما إن كان التكليف من أعلى وهو الحق سبحانه وهو ال الذي آمنا بقدرته وعلمه وحكمته وتنزهه
عن الغرض العائد عليه فالمؤمن في هذه الحالة يأخذ المر قبل أن يبحث في الحكمة؛ لن الحكمة
في هذا المر أنه صادر من ال ،وحين ينفذ المؤمن التكليف الصادر من ال فسيعلم سر هذه
الحكمة فيما بعد؛ فأسرار الحكم عند ال تأتي للمؤمن بعد أن يقبل على تنفيذ التكاليف اليمانية.
إن الحق سبحانه ـ على سبيل المثال ـ ل يقنع العبد بأسرار الصوم ،ولكن إن صام العبد المؤمن
كما قال ال وعند ممارسة المؤمن لعبادة الصوم سيجد أثر حكمة الصوم في نفسه بما ل يمكن
إقناعه به أول .إن المؤمن حين يفعل التكليف اليماني فإن ال يعلمه حكمة التكليف .ولنا في قوله
جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا وَ ُيكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَا ِتكُمْ
سبحانه الدليل الواضح {:يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ َي ْ
ضلِ ا ْل َعظِيمِ }[النفال]29 :
وَ َيغْفِرْ َلكُ ْم وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ
إن ال سبحانه َي ِعدُ عباده المؤمنين أنهم عندما يتقونه فإنه يجعل لهم دلئل تبين لهم الحق من
الباطل ويستر عنهم السيئات ويغفر لهم .لماذا؟ لن ال الذي يعلمنا هو الحق سبحانه العليم بكل
شيء.
وعلم ال ذاتي ،أما علم النسان فقد يكون أثرا من ضغط الحداث عليه فيفكر النسان في تقنين
شيء يخرجه مما يكون فيه من شر ولكن علم العليم العلى سابق على ذلك لنه علم ذاتي.
وفيما سبق علمنا أن ال سبحانه وتعالى قد أعطى الديْن هذه العناية ليضمن للحياة حركتها
الطاهرة ،حركتها السليمة؛ لن المعدم ل وسيلة له في حركة الحياة إل أمور ثلثة ،المر الول:
ال ّرفْدُ أي عطاء تطوعي يستعين به على حركة الحياة .والمر الثاني :الفرض الذي فرضه ال في
الزكاة .والمر الثالث :القرض الذي شرعه.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فعندما ل يجد المؤمن المعدم الرفد أو الفرض فماذا يكون بعد ذلك؟ إنه القرض .إذن فالقرض هو
المفزَع الثالث للحركة القتصادية عند المعدمين .وعرفنا أن القرض عند ال يفوق ويعلو الصدقة
في الثواب؛ لن الصدقة حين تتصدق بها تكون قد خرجت من نفسك من أول المر فل مشغولية
لذهنك بعد ذلك ،ولكن القرض نفسك تكون متعلقة به؛ لنك ل تزال مالكا له ،وكلما صبرت عليه
أخذت ثوابا من ال على كل صبرة تصبرها على المدين.
وعرفنا كذلك أن الحق سبحانه وتعالى قد استوثق لعملية الديْن استيثاقا يجب أن نفهمه من وجهيه،
الوجه الول :أنه يحفظ بذلك ثمرة حركة المتحرك في الحياة وهي أن يتمول ،أي أن يكون عنده
مال؛ فإن لم َنحْم له ثمرة حركته في الحياة استهان بالحركة ،وإذا استهان بالحركة تَعطلت مصالح
كثيرة؛ لن حركة المتحرك في الحياة تنفع بشرا كثيرين قصد المتحرك ذلك أو لم يقصد ،وضربنا
المثل بمن يريد بناء عمارة ،وعنده مال ،فيسلط ال عليه خاطرا من خواطره مصداقا لقوله
الحقَ {:ومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ }[المدثر]31 :
فيقول :ولماذا أكنز المال؟ ولماذا ل أبني عمارة أستفيد من إيجارها؟ .وبذلك ل يتناقص المال بل
يزيد .وليس في بال ذلك الرجل أن ينفعَ أحدا .إن باله مشغول بأن ينفع نفسه ،لكن حركته وإن لم
يقصد نفعَ الغير ستنفع الغير ..فالذي يحفر الرض سيأخذ أجرا لذلك ،والذي يضرب الطوب
سيأخذ أجرا لذلك ،وكل من يشترك في عمل لقامة هذا البنيان من بناء أو إدخال كهرباء أو
توصيل مياه أو تحسين وتجميل كل واحد من هؤلء سيأخذ أجره ،وبذلك يستفيد الجميع وإن لم
يقصد المتحرك في الحياة.
إذن فالحق يريد أن يحمي حركة المتحرك في الحياة لنه لو لم يحم ال ثمرة حركته في الحياة؛
لكتفى المتحرك في حركته بما يقوته ويقوت من يقول ،ويبقى الضعيف في الحياة؛ فمن ذا
يعوله؟ .إذن لبد أن يضمن للمتحرك ماله حتى يتشجع على الحركة إن ال الذي وهب الناس
أرزاقهم ،عندما يطلب من القوي المتحرك أن يعطي أخاه الضعيف المحتاج قرضا ،ل يقول ال" :
اقرض المحتاج " ،ولكنه جل وعل يقول:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حركته ،فستفسد الحياة كلها ويستشري الضغن والحقد والذي يقول ال سبحانه وتعالىَ {:ولَ َيسْأَ ْلكُمْ
ضغَا َنكُمْ }[محمد]37-36 :
ح ِفكُمْ تَبْخَلُو ْا وَيُخْرِجْ َأ ْ
َأ ْموَاَلكُمْ * إِن َيسْأَ ْل ُكمُوهَا فَ ُي ْ
وساعة يتفشى الضغن في المجتمع فل فائدة في هذا المجتمع أبدا .إذن فالحق حين يوثق الديْن
يريد أن يحمي حركة المتحرك؛ لن الناس تختلف فيما بينها في الحركات الطموحية .ول توجد
الحركات الطموحية في كل الناس ،بل توجد في بعضهم ،فلنستغل حركة الطموح عند بعض
الناس؛ لنهم سيفيدون المجتمع :قصدوا ذلك أو لم يقصدوا.
وبعد ذلك يريد الحق سبحانه وتعالى أن يحمي أيضا النسان من نفسه؛ لنه إن علم أن الديْن الذي
عليه موثق ،ول وسيلة لنكاره حاول جاهدا أن يتحرك في الحياة ليؤديه .وحين يتحرك النسان
ليؤدي عن نفسه الدين فإن ذلك يزيد الحركة في الحياة،ويزداد النفع .وهكذا نرى أن ال أراد
بالتوثيق للدين حماية المديْن من نفسه؛ لن المدين قد تطرأ عليه ظروف فيماطل ،وإذا ما ماطل
فلن تكون الخسارة فيه وحده ،ولكنه سيصبح أسوة عند جميع الناس وسيقول كل من عنده مال :ل
أعطي أحدا شيئا لن فلنا الغني مثلي قد أعطى فلنا الفقير وماطله وأكله ،وعند ذلك تتوقف
حركة الحياة ولكن إذا كان الدين موثقا ومكتوبا فإن المدين يكون حريصا على أدائه .وال يريد أن
يضمن لحركة الحياة دواما واستمرارا شريفا نظيفا .ولذلك نجد في آية الدّين أن كلمة " الكتابة "
ومادتها " الكاف والتاء والباء " تتكرر أكثر من مرة بل مرات كثيرة.
ل َولَ يَ ْأبَ
سمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْ َيكْتُب بّيْ َنكُمْ كَا ِتبٌ بِا ْلعَ ْد ِ
جلٍ مّ َ
} ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا تَدَايَنتُم ِبدَيْنٍ إِلَىا أَ َ
ق وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ وَلَ يَ ْبخَسْ مِنْهُ شَيْئا
حّب وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَيْهِ الْ َ
كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّلمَهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُت ْ
شهِدُواْ
ل وَلِيّهُ بِا ْل َع ْدلِ وَاسْ َت ْ
ضعِيفا َأ ْو لَ يَسْ َتطِيعُ أَن ُي ِملّ ُهوَ فَلْ ُيمِْل ْ
سفِيها َأ ْو َ
فَإن كَانَ الّذِي عَلَ ْيهِ ا ْلحَقّ َ
ضلّ
شهَدَآءِ أَن َت ِ
ل وَامْرَأَتَانِ ِممّن تَ ْرضَوْنَ مِنَ ال ّ
جٌشهِيدَيْنِ مّن رّجَاِلكُمْ فَإِن لّمْ َيكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَ ُ
َ
صغِيرا أَو
شهَدَآءُ إِذَا مَا دُعُو ْا َولَ َتسَْأمُواْ أَن َتكْتُبُوهُ َ
حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الُخْرَىا َولَ يَ ْأبَ ال ّ
إِ ْ
شهَا َد ِة وَأَدْنَىا َألّ تَرْتَابُواْ ِإلّ أَن َتكُونَ تِجَا َرةً حَاضِ َرةً
سطُ عِندَ اللّ ِه وََأقْومُ لِل ّ
كَبِيرا إِلَىا َأجَلِهِ ذَِلكُمْ َأقْ َ
شهِي ٌد وَإِن
ب َولَ َ
شهِدُواْ إِذَا تَبَا َيعْ ُت ْم َولَ ُيضَآرّ كَا ِت ٌ
تُدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ َألّ َتكْتُبُوهَا وََأ ْ
علِيمٌ { [البقرة]282 :
شيْءٍ َ
َت ْفعَلُواْ فَإِنّهُ ُفسُوقٌ ِبكُ ْم وَا ّتقُواْ اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّ ُه وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
وهذا التكرار في هذه الية لعملية الكتابة يؤصل العلقة بين الناس؛ فالكتابة هي عمدة التوثيق،
وهي التي ل تغش ،لنك إن سجلت شيئا على ورقة فلن تأتي الورقة لتنكر ما كتبته أنت فيها،
ولكن المر في الشهادة قد يختلف ،فمن الجائز أن يخضع الشاهد لتأثير ما فينكر الحقيقة ،ولذلك
فإن الحق يعطينا قضية إيمانية جديدة حين يقول " :أن يكتب كما علمه ال " أي أن يكتب الكاتب
على وفق ما علمه ال ،فكأنه لبد أن يكون فقيها عالما بأمور الكتابة ،أو " كما علمه ال " أي أنّ
ال أحسن إليه وعلمه الكتابة دون غيره ،فكما أحسن ال إليه بتعلم الكتابة فليحسن ولْ ُيعَدّ أثر الكتابة
إلى الغير.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وليست المسألة مسألة كتابة فقط ،إنما ذلك يشمل ويضم كل شيء أو موهبة خص ال بها فردا من
الناس من مواهب ال على خلقه؛ فالمؤمن هو من يعمل على أن يعدي أثر النعمة والموهبة إلى
الغير .وعليك أن تعدي أثر مواهب الغير إليك فتنفع بها سواك ،وبذلك يشيع الخير ويعم النفع
لنك إن أخذت موهبة فستأخذ موهبة واحدة تكفيك في زاوية واحدة من زوايا حياتك ،وعندما
تعديها للجميع وتنقلها إليهم فيعدي الجميع مواهبهم المجتمعة لمصلحتك ،فأيهما أكسب؟
حين تعدي وتنقل موهبتك إلى الناس ،تكون أنت الكثر كسبا؛ لن الجميع يعدون وينقلون مواهبهم
إليك .وإذا أتقنت صنعك للناس فالصنعة التي في يدك واحدة ،وعندما تتقنها فإن ال يسلط جنود
الخواطر على كل من يصنع لك شيئا أن يتقنه ،كما أتقنْت أنت لسواك .وبعد ذلك يعلمنا الحق
جدُواْ كَاتِبا فَرِهَانٌ
سفَرٍ وَلَمْ تَ ِ
سبحانه شدة الحرص على التوثيق فيقول } :وَإِن كُنتُمْ عَلَىا َ
ّمقْبُوضَةٌ{ ...
()284 /
والسفر كما نعلم هو خروج عن رتابة الحياة في المواطن ،ورتابة الحياة في الموطن تجعل
النسان يعلم تمام العلم مقومات حياته ،لكن السفر يخرج النسان عن رتابة الحياة فل يتمكن من
كثير من الشياء التي يتمكن بها في القامة .فهب أنك مسافر ،واضطررت إلى أن تستدين ،ول
يوجد كاتب ول يوجد شهيد ،فماذا يكون الموقف؟ هاهو ذا الحق يوضح لك { :فَرِهَانٌ ّمقْبُوضَةٌ }.
إذن فلم يترك ال مسألة الديْن حتى في السفر فلم يشرّع فقط للقامة ولكن الحق قد شرّع أيضا
للسفر { فَ ِرهَانٌ ّمقْبُوضَةٌ } وهكذا الكتابة ،والشهادة في القامة والرهان المقبوضة في السفر هدفها
حماية النسان أمام ظروف ضغط المجتمع.
ولكن هل يمنع الحق سبحانه وتعالى طموحية اليثار؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى رجولية
التعامل؟ هل يمنع الحق سبحانه وتعالى المروءات من أن تتغلغل في الناس؟ ل .إنه الحق سبحانه
ضكُم َبعْضا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَهُ } إنه الطموح اليماني ،لم َيسُدّ ال مسألة
يقول { :فَإِنْ َأمِنَ َب ْع ُ
المروءة واليثار في التعامل .إن كتابة الديْن والشهاد والرهن ليس إلزاما لن ال قال { :فَإِنْ َأمِنَ
ضكُم َبعْضا فَلْ ُي َؤدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَهُ } .وأيضا قد نفهم أن الذي اؤتمن هو المدين ،وهنا نقول:
َب ْع ُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل ،إن المر مختلف ،فهنا رهان ،وذلك معناه وجود مسألتين ،المسألة الولى هي " الديْن " ،
والمسألة الثانية هي " الرهان المقبوضة " وهي مقابل الديْن .فواحد مأمون على الرهن في يده.
والخر مأمون على الديْن .ولهذا يكون القول الحكيم مقصودا به من بيده الرهن ،ومن بيده الدّيْن
ومعنى ذلك أن يؤدي مَن معه الرهن أمانته ،وأن يؤدي الخر ديْنه .وحين نرتقي إلى هذا
المستوى في التعامل فإن وازع النسان ليس في التوثيق الخارج عن ذات النفس ،ولكنه التوثيق
اليماني بالنفس ،ولكن أنضمن أن يوجد التوثيق اليماني عند كل الناس؟.
أنضمن الظروف؟ .نحن ل نضمن الظروف ،فقد توجد المانة اليمانية وقت التحمل والخذ ،ول
نضمن أن توجد المانة اليمانية وقت الداء فقد يأتي واحد ويقول لك :إن عندي مائة جنيه وخذها
أمانة عندك.
ومعنى " أمانة " أنه ل يوجد صك ،ول شهود ،وتكون الذمة هي الحكم ،فإن شئت أقررت بهذه
الجنيهات المائة ،وإن شئت أنكرتها .إن الرجل الذي يفعل معك ذلك إنما يطلب منك توثيق المائة
جنيه في الذمة اليمانية ،ومن الجائز أن تقول له لحظة أن يفعل معك ذلك :نعم سأحتفظ لك بالمائة
جنيه بمنتهى المانة .وتكون نيتك أن تؤديها له ساعة أن يطلبها ،ولكنك ل تضمن ظروف الحياة
بالنسبة لك ،وأنت كإنسان من الغيار .ومن الجائز أن تضغط عليك الحياة ضغطا يجعلك تماطل
معه في أداء المانة ،أو يجعلك تنكرها ،فتقول لمن ائتمنك:
ابعد عني؛ أنا ل أملك نفسي في وقت الداء ،وإن ملكت نفسي وقت التحمل.
والمانة هي القضية العامة في الكون ،وإن كانت خاصة الن بالنسبة للية الكريمة التي نحن
بصددها والحق ـ سبحانه ـ يعرضها بعمومها على الكون كله فيقول ـ جل شأنه ـ {:إِنّا
حمََلهَا الِنْسَانُ
شفَقْنَ مِ ْنهَا وَ َ
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
عَ َرضْنَا ا َ
جهُولً }[الحزاب]72 :
إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
إن الكون كله أشفق على نفسه من تحمل المانة وهذا يعني أن المانة سوف تكون عرضة
للتصرف والختيار ،ول كائن في الكون قد ضمن لنفسه القدرة على الوفاء وقت الداء .لقد
أعلنت الكائنات قولها فأبين تحمّل المانة وكأنها قالت :إنّا يا ربنا نريد أن نكون مسخرين
مقهورين ل اختيار لنا؛ ولذلك نجد الكون كله يؤدي مهمته كما أرادها ال ،ما عدا النسان ،أي
أنه الذي قبل بما له من عقل وتفكير أن يتحمل أمانة الختيار ،وبلسان حاله أو بلسان مقاله قال:
إنني قادر على تحمل المانة؛ لني أستطيع الختيار بين البدائل.
وهنا نُ َذكّر النسان :إنك قد تكون قويا لحظة التحمل ،ولكن ماذا عن حالك وقت الداء؟ لذلك قال
جهُولً { لقد ظلم النسان نفسه حيث حمل
حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
ال عن النسان } :وَ َ
المانة ولم يف بها فلذلك فهو ظلوم .وهو جهول لنه قدّ َر وقت التحمل ،ولم يقدّر وقت الداء ،أو
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضمنها ثم خاس وخالف ما عاهد نفسه على أدائها.
إذن فالنسان وإن كان واثقا أنه سيؤدي المانة إلّ أنه عرضة للغيار ،لذلك قال الحق سبحانه} :
سطُ عِندَ اللّهِ { فالكتابة فرصة ليحمي
صغِيرا أَو كَبِيرا إِلَىا َأجَلِهِ ذَِلكُمْ َأقْ َ
وَلَ تَسَْأمُواْ أَن َتكْتُبُو ُه َ
النسان نفسه من الضعف وقت الداء ،فال سبحانه وتعالى يريد أن يوثق المر توثيقا ل يجعلك
أيها العبد خاضعا لذمتك اليمانية فقط ،ولكنّك تكون خاضعا للتوثيق الخارج عن إيمانيتك أيضا،
وذلك يكون بكتاب الدين صغيرا أو كبيرا إلى أجله.
شهَا َدةَ { وهذه الكلمة } َولَ َتكْ ُتمُواْ { إنما هي أداء معبر ،لن
ويقول الحق سبحانه } :وَلَ َتكْ ُتمُواْ ال ّ
كلمة " شهادة " تعني الشيء الذي شهدته ،فما دمت قد شهدت شيئا فهو واقع ،والواقع ل يتغير
أبدا ،ولذلك فالنسان الذي يحكي لك حكاية صدق ل يختلف قوله في هذه الحكاية حتى وإن رواها
ألف مرة؛ لنه يستوحي واقعا.
لكن الكذّاب يستوحي غير واقع ،فيقول كلمة ،وينسى أنه كذب من قبل فيكذب كذبة أخرى؛ لنه ل
يستوحي واقعا .فكلمة الشهادة هي عن أمر مشهود واقع ،وما دام المر مشهودا وواقعا ،فإنه يلح
على نفس من يراه أن يخرج ،فإياك أن تكبته بالكتم؛ لن كلمة " الكتم " تعني أن شيئا يحاول أن
شهَا َدةَ { فكأن الطبيعة اليمانية
يخرج وأنت تحاول كتمانه ،لذلك يقول الحقَ } :ولَ َتكْ ُتمُواْ ال ّ
الفطرية تلح على صاحبها لتنطقه بما كان مشهودا له لنه واقع.
شهَا َد َة َومَن َيكْ ُت ْمهَا فَإِنّهُ آثِمٌ قَلْبُه { .وقد يسأل النسان:
لذلك يأتي المر من الحق؛ } وَلَ َتكْ ُتمُواْ ال ّ
هل الكتم هنا صفة للقلب أو للنسان الذي لم يقل الشهادة؟.
إن الشاعر يقول:إن الكـلم لفـي الفـؤاد وإنـما جعـل اللسـان على الفؤاد دليلًوساعة يؤكد
ال شيئا فهو يأتي بالجارحة التي لها علقة بهذا الصدد ،فتقول :أنا رأيته بعيني وسمعته بأذني،
وأعطيته بيدي ومشيت له برجلي .إنّك تذْكر الجارحة التي لها دخل في هذه المسألة.
ن كل الجوارح تخضع للقلب } :وَاللّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ { أي
وعندما يقول الحق } :فَإِنّهُ آ ِثمٌ قَلْبُه { إ ّ
أن كتمك للحقيقة لن يغير من واقع علم ال شيئا ،وحينما تنتهي مسألة المداينة والتوثيق فيها
وظروفها سواء كانت في الموطن العادي أو في أثناء السفر فإن ال يضمن للنسان المتحرك في
الحياة حركة شريفة وطاهرة.
فإن لم تكن هذه فالمصالح تتوقف ،ويصيبها العطل ،فالذي ل يقدر على الحركة فماذا يصنع في
الحياة؟ .إن قلبه يمتلئ بالحقد على الواجد ،وحين يمتلئ قلبه بالحقد على الواجد فإنه يكره النعمة
عنده ،وحين يكره المعدم النعمة عند أخيه الواجد ،فالنعمة نفسها تكره أن تذهب إلى من كره
النعمة عند أخيه .إنها مسائل قد رتبها الحق سبحانه بعضها متعلق بالبعض الخر.
إن النعمة تحب المُنعم عليه ـ بضم الميم وفتح العين ـ أكثر من حب المنعم عليه للنعمة وتذهب
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى من أنعم ال عليه بها بعشق ،فمن كره النعمة عند منعم عليه فالنعمة تستعصي عليه حتى
كأنها تقول له :لن تنال مني خيرا .وليجربها كل إنسان.
أحبب النعمة عند سواك فستجد نعمة الكل في خدمتك ،إنك إنْ أحببت النعمة عند غيرك فإنها تأتي
إليك لتخدمك .وأيضا فعلى المؤمن أن يعرف أن بعض النعم ليست وليدة كد وجهد ،قد تكون
النعمة مجرد فضل من ال ،يفضل به بعض خلقه ،فحين تكرهها أنت عند المنعم عليه تكون قد
اعترضت على قدر ال في النعمة .وحين تعترض على قدر ال في النعمة فإن الحق ـ سبحانه ـ
ل يجعلك تنتفع منها بشيء.
فإن رأيت قريبا حبس نعمته عن أقاربه فاعلم أنهم يكرهون النعمة عنده .ولو أحبوها لسعت النعمة
إليهم .إن المنهج اللهي يريد أن يجعل الناس كتلة متكافلة متكاملة بحيث إذا رأيت أنا النعمة
عندك ونلت منها ،أحببتها عندك ،وحين أحب النعمة عندك فإن العطاء يجيء من هذه النعمة إليّ،
ول تجد فارقا بين واجد ومعدم .إنك ل تجد فارقا بين واجد ومعدم إل في مجتمع ل يؤدي حكم
ال في شيء.
لقد قلنا ذلك في مجال اضطرار النسان إلى الربا لنه لم يجد من يقرضه قرضا حسنا ،ولم يجد
من يؤدي فرض ال له من الزكاة لتسع حاجته فاضطر أن يأخذ بالربا ،وبذلك يدخل المجتمع
الربوي في حرب مع ال ،وهل لحد جلد على أن يدخل في حرب مع ال؟ ل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبذلك تستقيم المور .لكن أن تظهر الحقائق في استغلل أقارب الحكام بعد انتهاء فترات حكم
الحكام ،فهنا نقول :ولماذا لم نعرف كل شيء من البداية؟ .وأين كانت الحقائق في وقتها؟.
إن الحاكم المسلم عليه أن يعلن للمحكومين أن القوانين إنما تُطبق عليه أولً وعلى من يعول .هكذا
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم في حجة الوداع " وربَا الجاهلية موضوع ،وأول ربا أضع
رِبَانا ،رِبَا عباس عبد المطلب فإنه موضوع كله ".
وفي معركة بدر ،أخرج الرسول صلى ال عليه وسلم أهل بيته ليحاربوا؛ لنه لو لم يخرج أحدا
من أَهل بيتهِ لقال واحد من الكفار :إنه يحمي أهل بيته ،ولو أن أجر الستشهاد هو الجنة فلماذا
يقدم الباعد ول يقدم أحبابه للقتال؟
لكن هاهو ذا رسول ال صلى ال عليه وسلم يقدم أقاربه وأحبابه ،فهو العارف من ربه بأمر
الشهادة وكيف أنها تقصر على النسان متاعب الحياة وتدخل الجنة .هكذا كانت المحاباة في صدر
السلم ،إنها محاباة في الباقي ،ولم تكن كمحاباة الحمقى في الفاني.
وحين يعلمنا الرسول صلى ال عليه وسلم ذلك ويضرب على أيدي المرابين فهذه هي الحرب التي
يجب أن تقوم ،حرب من ال المالك القادر على المحاربة ،أما الضعاف الذين ل يستطيعون القتال
فهم ل يحاربون؛ لنهم أمام خالقهم وقاهرهم فل يقدرون على حربه ولذلك يجب أن تتنبه الدولة
إلى مثل هذه المور وتقنن تقنينا إسلميا وبعد ذلك إذا لم تتسع الزكاة المفروضة إلى ما يقوم بأود
المحتاجين فلتفرض الدولة ما تشاء لتفي بحاجة المحتاجين.
حيّ ا ْلقَيّومُ { ،
والحق سبحانه وتعالى بعد أن أوضح المر عقيدة في قوله } :اللّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ ا ْل َ
وتقنينا للعقيدة في قوله } :لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ { ،وحماية للعقيدة بأمره سبحانه المؤمنين أن يقاتلوا
ل في
لتكون كلمة ال هي العليا ،وبعد ذلك تكلم الحق عن حماية حركة القتصاد في النفاق أو ً
سمَاواتِ َومَا فِي
سبيل ال ،والنفاق على المحتاجين .يقول سبحانه بعد ذلك } :للّهِ ما فِي ال ّ
خفُوهُ{ ...
سكُمْ َأوْ ُت ْ
الَ ْرضِ وَإِن تُ ْبدُواْ مَا فِي أَ ْنفُ ِ
()285 /
استهلت الية بتقديم { ل } على ما في السماوات والرض ،والحق سبحانه يقول { :للّهِ ما فِي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاواتِ َومَا فِي الَ ْرضِ } ذلك هو الظرف الكائنة فيه المخلوقات ،السماوات والرض لم يدع
ال ّ
أحد أنها له ،لكن قد يوجد في السماوات أو في الرض أشياء يدعي ملكيتها المخلوقون ،فإذا ما
نظرنا إلى خيرات الرض فإننا نجدها مملوكة في بعض الحيان لناس بما ملكهم ال ،والبشر
الذين صعدوا إلى السماء وأداروا في جوها ما أداروا من أقمار صناعية ومراكب فضائية فمن
الممكن أن يعلنوا ملكيتهم لهذه القمار وتلك المراكب.
ت َومَا فِي الَ ْرضِ } وهو يوضح لنا :إنه إن
سمَاوا ِ
ويلفتنا الحق سبحانه هنا بقوله { :للّهِ ما فِي ال ّ
كان في ظاهر المر أن ال قد أعطى ملكية السببية لخلقه فهو لم يعط هذه الملكية إل عَ َرضَا يؤخذ
منهم ،فإما أن يزولوا عنه فيموتوا ،وإما أن يزول عنهم فيؤخذ منهم عن بيع أو هبة أو غصب أو
نهب.
وكلمة " ل " تفيد الختصاص ،وتفيد القصر ،فكل ما في الوجود أمره إلى ال ،ول يدعي أحد
بسببية ما آتاه ال أنه يملك شيئا لماذا؟ لن المالك من البشر ل يملك نفسه أن يدوم.
نحن لم نر واحدا لم تنله الغيار ،وما دامت الغيار تنال كل إنسان فعلينا أن نعلم أن ال يريد من
خلقه أن يتعاطفوا ،وأن يتكاملوا ،ويريد ال من خلقه أن يتعاونوا ،والحق ل يفعل ذلك لن المر
خرج من يده ـ والعياذ بال ـ ل ،إن ال يبلغنا :أنا لي ما في السماوات وما في الرض،
وأستطيع أن أجعل دولً بين الناس.
ولذلك نقول للذين يَصلون إلى المرتبة العالية في الغنى ،أو الجاه ،أو أي مجال ،لهؤلء نقول:
احذر حين تتم لك النعمة ،لماذا؟ لن النعمة إن تمت لك علوا وغنىً وعافيةً وأولدا ،أنت من
الغيار ،وما دامت قد تمت وصارت إلى النهاية وأنت لشك من الغيار ،فإن النعمة تتغير إلى
القل .فإذا ما صعد إنسان إلى القمة وهو متغير فل بد له أن ينزل عن هذه القمة ،ولذا يقول
الشاعر:إذا تـم شـيء بـدا نقـصـه تـرقـب زوالً إذا قـيـل تـموالتاريخ يحمل لنا قصة
المرأة العربية التي دخلت على الخليفة وقالت له :أتم ال عليك نعمته .وسمعها الجالسون حول
الخليفة ففرحوا ،وأعلنوا سرورهم ،لكن الخليفة قال لهم :وال ما فهمتم ما تقول ،إنها تقول :أتم ال
عليك نعمته ،فإنها إن تمت تزول؛ لن الغيار تلحق الخلق .وهكذا فهم الخليفة مقصد المرأة.
والشاعر يقول:نفـسي التي تمـلك الشـياء ذاهبة فكـيف آسـى على شيء لها ذهـباإن النفس
المالكة هي نفسها ذاهبة؛ فكيف يحزن على شيء له ضاع منه؟
والحق سبحانه يطلب منا أن نكون دائما على ذكر من قضية واضحة هي :أن الكون كله ل،
والبشر جميعا بذواتهم ونفوسهم وما ظهر منها وما بطن ل يخفر على ال ،والحق سبحانه ل
يحاسبنا على مقتضى ما علم فحسب ،بل يحاسبنا على ما تم تسجيله علينا.
إن كل إنسان يقرأ كتابه بنفسه ..فسبحانه يقولَ {:و ُكلّ إِ ْنسَانٍ أَلْ َزمْنَاهُ طَآئِ َرهُ فِي عُ ُنقِ ِه وَنُخْرِجُ لَهُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا }[السراء]14-13 :
َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابا يَ ْلقَاهُ مَنْشُورا * اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَىا بِ َنفْ ِ
والحساب معناه أن للنسان رصيدا ،وعليه أيضا رصيد .والحق سبحانه وتعالى يفسر لنا (له
وعليه) بالميزان كما نعرف في موازين الشياء عندنا وهو سبحانه يقول {:وَا ْلوَزْنُ َي ْومَئِذٍ ا ْلحَقّ
سهُم
خفّتْ َموَازِينُهُ فَُأوْلَـ ِئكَ الّذِينَ خَسِرُواْ أَ ْنفُ َ
َفمَن َثقُلَتْ َموَازِينُهُ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلمُفِْلحُونَ * َومَنْ َ
ِبمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظِْلمُونَ }[العراف]9-8 :
إن حساب الحق دقيق عادل ،فالذين ثقلت كفة أعمالهم الحسنة هم الذين يفوزون بالفردوس ،والذين
باعوا أنفسهم للشيطان وهوى النفس تثقل كفة أعمالهم السيئة ،فصاروا من أصحاب النار.
إذن نحن أمام نوعين من البشر ،هؤلء الذين ثقلت كفة الخير في ميزان الحساب ،وهؤلء الذين
ثقلت كفة السيئات والشرور في ميزان الحساب .فماذا عن الذين تساوت الكفتان في أعمالهم.
استوت حسناتهم مع سيئاتهم؟ إنهم أصحاب العراف ،الذين ينالون المغفرة من ال؛ لن مغفرة ال
وهو الرحمن الرحيم قد سبقت غضبه جل وعل .ولو لم يجيء أمر أصحاب العراف في القرآن
لقال واحد :لقد قال ال لنا خبر الذين ثقلت موازينهم ،وأخبار الذين خفت موازين الخير عندهم،
ولم يقل لنا خبر الذين تساوت شرورهم مع حسناتهم.
لكن الحليم الخبير قد أوضح لنا خبر كل أمر وأوضح لنا أن المغفرة تسبق الغضب عنده ،لذلك
فالحساب ل يكتفي الحق فيه بالعلم فقط ،ولكن بالتسجيل الواضح الدقيق ،لذلك يطمئننا الحق
ت َوكَانَ
ل صَالِحا فَُأوْلَـا ِئكَ يُ َب ّدلُ اللّهُ سَيّئَا ِتهِمْ حَسَنَا ٍ
عمَ ً
ع ِملَ َ
ن وَ َ
ب وَآمَ َ
سبحانه فيقولِ {:إلّ مَن تَا َ
غفُورا رّحِيما }[الفرقان]70 :
اللّهُ َ
إن الحق يطمئننا على أن ما نصنعه من خير نجده في كفة الميزان ،ويطمئننا أيضا على أنه ـ
سبحانه ـ سيجازينا على ما أصابنا من شر الشرار وأننا سنأخذ من حسناتهم لتضاف إلى
ميزاننا ،إذن فالطمأنينة جاءت من طرفين :طمأننا الحق على ما فعلناه من خير ،فل يُنسى أنه
يدخل في حسابنا ،وطمأننا أيضا على ما أصابنا من شر الشرار وسيأخذ الحق من حسناتهم
ليضيفها لنا.
ونحن نجد في الكون كثيرا من الناس قد يحبهم ال لخصلة من خصال الخير فيهم ،وقد تكون هذه
الخصلة الخيّرة خفية فل يراها أحد ،لكن ال الذي ل تخفى عليه خافية يرى هذه الخصلة في
النسان ،ويحبه ال من أجلها ،ويرى الحق أن حسنات هذا الرجل قليلة ،فيجعل بعض الخلق
يصيبون هذا الرجل بشرورهم وسيئاتهم حتى يأخذ من حسنات هؤلء ليزيد في حسنات هذا
الرجل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عملي ،ومثال ذلك الحب؛ إن النسان قد يحب ،ول يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع أنه
محترق في حبه ،وكذلك الذي يحقد قد ل يجد القدرة على النزوع ليعلن بهذا النزوع عن حقده،
إذن فهناك أعمال تستقر في القلوب ،فهل يؤاخذ ال بما استقر في النفوس؟
إن هذه المسألة تحتاج إلى دقة بالغة؛ لننا وجدنا بعضا من صحابة رسول ال صلى ال عليه
وسلم قد وقفوا فيها موقفا أبكى بعضهم ،هذا عبد ال بن عمر رضي ال عنهما حينما سمع هذه
الية قال :لئن آخذنا ال على ما أخفينا في نفوسنا لنهلكن .وبكى حتى سُمع نشيجه بالبكاء .وبلغ
ذلك المر ابن عباس فقال :يرحم ال أبا عبد الرحمن لقد وجد إخوانه المسلمون مثلما وجد من
س َعهَا { إلى آخر السورة .ولنعلم أن نوازع
ل وُ ْ
هذه الية .فأنزل ال بعدها } لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ
النفس كثيرة؛ فهناك شيء اسمه " هاجس " وهناك شيء آخر اسمه " خاطر " وهناك ما يسمى "
حديث نفس " ،وهناك " هم " وهناك " عزم " ،إنها خمس حالت ،والربع الولى من هذه
الحالت ليس فيها شيء ،إنما الخيرة التي يكون فيها القصد واضحا يجب أن نتنبه لها ولنتناول
كل حالة بالتفصيل.
إن الهاجس هو الخطرة التي تخطر دفعة واحدة ،أما الخاطر فهو يخطر ..أي يسير في النفس
قليل ،وأما حديث النفس فإن النفس تظل تتردد فيه ،وأما الهم فهو استجماع الوسائل ،وسؤال
النفس عن كل الوسائل التي ينفذ بها النسان رغباته ،أما العزم (القصد) فهو الوصول إلى النهاية
والبدء في تنفيذ المر.
خفُوهُ ُيحَاسِ ْبكُمْ بِهِ اللّهُ { وقد
س ُكمْ َأوْ تُ ْ
والقصد هو الذي يُعني به قوله تعالى } :وَإِن تُ ْبدُواْ مَا فِي أَ ْنفُ ِ
وجدنا كثيرا من العلماء قد وقفوا عند هذا القول وتساءل بعض من العلماء :هل الية التي جاءت
س َعهَا { هل هي نسخ للية السابقة عليها؟
ل وُ ْ
بعد ذلك والتي يقول فيها } :لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ
ولكن نحن نعرف أن الية هي خبر ،والخبار ل تنسخ إنما الحكام هي التي يتم نسخها ،وعلى
سكُمْ َأوْ
ذلك يكون القصد والعزم على تنفيذ المر هو المعنى بقوله الحق } :وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَ ْنفُ ِ
خفُوهُ ُيحَاسِ ْب ُكمْ بِهِ اللّهُ { فهذا هو الذي يحاسبنا ال عليه.
تُ ْ
وعندما يقول الحق سبحانه } :فَ َي ْغفِرُ ِلمَن َيشَآءُ { فمن هم؟ لقد بين ال من يشاء المغفرة لهم ،إنهم
الذين تابوا ،وهم الذين أنابوا إلى ال ،هم الذين قال فيهم الحق:
غفُورا
ت َوكَانَ اللّهُ َ
ل صَالِحا فَُأوْلَـا ِئكَ يُ َب ّدلُ اللّهُ سَيّئَا ِتهِمْ حَسَنَا ٍ
عمَ ً
ع ِملَ َ
ن وَ َ
ب وَآمَ َ
{ ِإلّ مَن تَا َ
رّحِيما }[الفرقان]70 :
وتبديل المغفرة حسنة مسألة يجب أن يقف عندها النسان المكلف من ال وقفة ليرى فضل ال،
لن الذي صنع سيئة ثم آلمته ،فكما آلمته السيئة التي ارتكبها وحزن منها ،فإن ال يكتب له حسنة.
ولكن الذي لم يصنع سيئة ل تفزعه هذه ،وبعض العارفين يقولُ :ربّ معصية أورثت ذل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وانكسارا خير من طاعة .أورثت عزا واستكبارا.
إنك لتجد الخير الشائع في الوجود كله ربما كان من أصحاب السراف على أنفسهم في شيء ما
قد اقترفوه وتابوا عنه ولكنه ل يزال يؤرقهم.
يكون الواحد منهم قويا في كل شيء ،إل أنه ضعيف أمام مسألة واحدة ،وضعفه أمام هذه المسألة
الواحدة جعله يعصي ال بها وهو يحاول جاهدا في النواحي التي ليس ضعيفا فيها أن يزيد كثيرا
في حسناته ،حتى يمحو ويذهب ال هذه بهذه .فالخير الشائع في الوجود ربما كان من أصحاب
السيئات الذين أسرفوا على أنفسهم في ناحية من النواحي ،فيشاء ال سبحانه وتعالى أن يجعلهم
متجهين إلى نواحٍ من الخير قائلين :ربما هذه تحمل تلك.
لكن الذي يظل رتيبا هكذا ل تلذعه معصية ربما تظل المسائل فاترة في نفسه .ولذلك يجب أن
ننظر إلى الذين أسرفوا على أنفسهم ل في زاوية واحدة ،ولكن في زوايا متعددة ،ونتأدب أمامهم
وندعو ال أن يعفيهم مما نعرفه عنهم ،وأن يبارك لهم فيما قدموه؛ ليزيل ال عنهم أوزار ما
فعلوا.
وبعض العلماء يرى في قوله الحق } :فَ َي ْغفِرُ ِلمَن يَشَآءُ وَ ُيعَ ّذبُ مَن َيشَآءُ { أن ال قد جعل المغفرة
أمرا متعلقا بالعابد ل ،فإن شئت أن يغفر ال لك فاكثر من الحسنات حتى يبدل ال سيئاتك إلى
حسنات .وإن شئت أن تعذب ـ وهذا أمر ل يشاؤه أحد ـ فل تصنع الحسنات.
وهذه المسألة تجعلنا نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين يطلب منا اليمان به فإنه يُملكنا الزمام.
وبمجرد إيماننا به فنحن نتلقى منه زمام الختيار ،والدليل واضح في الحديث القدسي :عن أبي
هريرة رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ال ـ عز وجل ـ " :أنا
عند ظن عبدي بي ،وأنا معه حين يذكرني .إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،وإن ذكرني في
مل ذكرته في ملهم خيرٌ منهم وان تقرب مني شبرا تقربت إليه ذراعا ،وإن تقرب إلىّ ذراعا،
تقربت منه باعا ،وإن أتاني يمشي أتيتُه هَ ْروَلَةً ".
إذن فبمجرد إيمانك ملكك ال الزمام ،فإن أردت أن يتقرب ال إليك ذراعا ،فتقرب أنت إليه شبرا،
فالزمام في يدك.
وإن شئت أن يتقرب ال منك باعا ،فتقرب أنت ذراعا .وإن شئت أنت أن يأتي ربك إليك مهرولً
ـ جريا ـ فأت إليه مشيا .فبمجرد أن يراك ال وأنت تقبل وتتجه إليه ،كأنه يقول لك :ل..
استرح أنت ،أنا الذي آتي إليك.
ولذلك قلنا من قبل في مسألة الصلة حين تؤمن ـ أيها العبد ـ بال وبعد ذلك ينادي المؤذن
للصلة ،فتذهب أنت إلى الصلة ،صحيح أنت تذهب إلى الصلة المفروضة ،لكن هل منعك ال
أن تقف بين يديه في أية لحظة؟ .لقد طلب ال منك أن تحضر بين يديه خمس مرات في اليوم،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعد ذلك ترك الباب مفتوحا لك ـ أيها المؤمن ـ فال ل يمل حتى يمل العبد.
والنسان في حياته العادية ـ ول المثل العلى ـ إذا أراد أن يقابل عظيما من العظماء فإن
النسان يطلب الميعاد ،فإما أن يقبل العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد أو يرفض .وإذا قبل
العظيم من البشر لقاء من يطلب الميعاد ،فإن العظيم من البشر يحدد الزمن ،ويحدد المكان ،وربما
طلب العظيم من البشر أن يعرف سبب وموضوع المقابلة .لكن ال يترك الباب مفتوحا أمام العبد
المؤمن ،يلقى ال عبده في أي شيء ،وفي أي وقت ،وفي أي مكان ،وفي أي زمان.حسب نفسي
عزا بأ ّنيَ عبد يحتفي بي بل مواعيد ربّهو في قدسه العز ولكن أنا ألقى متى وأين أحبّالزمام إذن
في يد من؟ .إن الزمام في يد العبد المؤمن .لذلك فالذين قالوا في فهم } فَ َيغْفِرُ ِلمَن َيشَآءُ { إن
البشر في أيديهم أمر المغفرة لهم ،فإن شاء البشر أن يغفر ال لهم فإنهم يفعلون أسباب المغفرة،
ويتوبون إلى ال ،ويكثرون من الحسنات ،ومن يريد أن يتعذب فليظل سادرا في غيه في فعل
السيئات .ثم بعد ذلك يقول ال عز وجل } :آمَنَ الرّسُولُ ِبمَآ أُنْ ِزلَ إِلَيْهِ مِن رّبّ ِه وَا ْل ُمؤْمِنُونَ{ ...
()286 /
َآمَنَ الرّسُولُ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مِنْ رَبّ ِه وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ ُكلّ َآمَنَ بِاللّ ِه َومَلَا ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِهِ لَا ُنفَرّقُ بَيْنَ
غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ ()285
طعْنَا ُ
س ِمعْنَا وَأَ َ
حدٍ مِنْ رُسُِل ِه َوقَالُوا َ
أَ َ
عندما نتأمل هذه الية الكريمة نجد أن اليمان الول بال كان من الرسول صلى ال عليه وسلم{ :
آمَنَ الرّسُولُ ِبمَآ أُنْ ِزلَ إِلَ ْيهِ مِن رّبّهِ } .وبعد ذلك يأتي إيمان الذين بلغهم الرسول بالدعوة
{ وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ } .وبعد ذلك يمتزج إيمان الرسول بإيمان المؤمنين { ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِهِ
غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ }.
طعْنَا ُ
س ِمعْنَا وَأَ َ
وَرُسُلِ ِه لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مّن رّسُلِ ِه َوقَالُواْ َ
أي أن كل من الرسول والمؤمنين آمنوا بال .إن اليمان الول هو إيمان الرسول صلى ال عليه
وسلم ،واليمان أيضا من المؤمنين بالرسالة التي جاء بها الرسول بناءً على توزيع الفاعل في
{ آمَنَ } بين الرسول والمؤمنين .وبعد ذلك يجمعهما ال ـ الرسول والمؤمنين ـ في إيمان واحد،
وهذا أمر طبيعي ،لن الرسول صلى ال عليه وسلم آمن بال أولً ،وبعد ذلك بلغنا الرسول صلى
ال عليه وسلم وآمنا بال وبه ثم امتزج اليمان فصار إيماننا هو إيمان الرسول وإيمان الرسول
هو إيماننا ،وهذا ما يوضحه القول الحقُ { :كلّ آمَنَ بِاللّهِ }.
إذن فالرسول في مرحلته الولى سبق باليمان بال ،والرسول مطلوب منه حتى حين يؤمن بال
أن يؤمن بأنه رسول ال ،ألم يقل الرسول صلى ال عليه وسلم :أشهد أن محمدا رسول ال صلى
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال عليه وسلم؟ وكان الرسول إذا ما أعجبه أمر في سيرته ذاتها يقول :أشهد أني رسول ال ..إنّه
يقولها بفرحة.
ومثال ذلك ما روي " عن جابر بن عبد ال رضي ال عنهما قال " :كان بالمدينة يهودي وكان
يسلفني في تمري إلى الجذاذ ،وكان لجابر الرض التي بطريق رومة فجلست فخل عاما فجاءني
اليهودي عند الجذاذ ولم أجد منها شيئا فجعلت أستنظره إلى قابل " أي أطلب منه أن يمهلني إلى
عام ثان " فيأبى فَأخبر بذلك النبي صلى ال عليه وسلم فقال لصحابه :امشوا نستنظر لجابر من
اليهودي فجاءوني في نخلي ،فجعل النبي صلى ال عليه وسلم يكلم اليهودي فيقول (اليهودي) أبا
القاسم ،ل أنظره فلما رأى النبي صلى ال عليه وسلم قام فطاف في النخل ثم جاءه فكلمه فأبى
فجئت بقليل رطب فوضعته بين يدي النبي صلى ال عليه وسلم فأكل ثم قال :أين عريشك يا جابر
فأخبرته ،فقال :افرش لي فيه ففرشته ،فدخل فرقد ثم استيقظ فجئته بقبضة أخرى فأكل منها ،ثم
قام فكلم اليهودي فأبى عليه ،فقام في الرطاب في النخل الثانية ثم قال يا جابر ،ج ّذ واقض فوقف
في الجذاذ فَجذ ْذتُ منها ما قضيته ،وفضل منه فخرجت حتى جئت النبي صلى ال عليه وسلم
فبشرته فقال :أشهد أني رسول ال ".
والحق سبحانه وتعالى يشهد أن ل إله إل هو:
حكِيمُ }
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُه َو وَا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَُأوْلُواْ ا ْلعِلْمِ قَآ ِئمَا بِا ْلقِسْطِ لَ ِإلَـاهَ ِإلّ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
{ َ
[آل عمران]18 :
إذن فال يشهد أن ل إله إل هو ،ورسول ال يشهد أن ل إله إل ال ،ويشهد أيضا أنه رسول ال،
يبلغ ذلك للمؤمنين فيكتمل التكوين اليماني ،ولذلك يقول الحق عن ذلكُ } :كلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِهِ
َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِهِ { .والحق يأتي بـ " كلً " ـ بالتنوين ـ أي كل من الرسول والمؤمنين.
ويورد لنا سبحانه عناصر اليمانُ } :كلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِ ِه لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن
غفْرَا َنكَ رَبّنَا وَإِلَ ْيكَ ا ْل َمصِيرُ { .ونحن نعرف أن اليمان بال وكل ما
طعْنَا ُ
س ِمعْنَا وََأ َ
رّسُلِهِ َوقَالُواْ َ
يتعلق باليمان لبد أن يكون غيبا؛ فل يوجد إيمان بمحس أبدا .فالشياء المحسة ل يدخلها إيمان؛
لنها مشهودة .وعناصر اليمان في هذه الية هي:
إيمان بال وهو غيب .وإيمان بالملئكة وهي غيب من خلق ال ،ولو لم يبلغنا ال أن له خلقا هم
الملئكة لما عرفنا ،إن الحق أخبرنا أنه خلق الملئكة وهم ل يعصون ال ما أمرهم ويفعلون ما
يؤمرون وهم غيب ،ولول ذلك لما عرفنا أمر الملئكة إيمان بالكتب والرسل.
وقد يقول قائل :هل الرسل غيب؟ وهل الكتب السماوية غيب؟ إن الرسل بشر ،والكتب مشهودة.
ولمثل هذا القائل نقول :ل ،ل يوجد واحد منا قد رأى الكتاب ينزل على الرسول ،وهذا يعني أن
عملية الوحي للرسول بالكتاب هي غيب يعلمه ال ويؤمن به المؤمنون.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكيف نؤمن بكل الرسل ول نفرق بين أحد منهم؟ .ونقول :إن الرسل المبلغين عن ال إنما يبلغون
منهجا عن ال فيه العقائد التي تختلف باختلف العصور ،وفيه الحكام التي تختلف باختلف
العصور ومواقع القضايا فيها.
إذن فالصل العقدي في كل الرسالت أمر واحد ،ولكن المطلوب في حركة الحياة يختلف؛ لن
أقضية الحياة تختلف ،وحين تختلف أقضية الحياة فإن الحق سبحانه ينزل التشريع المناسب ،لكن
حدٍ مّن
الصل واحد والبلغ من خالق ل إله إل هو ،ولذلك يأتي القول الحكيم } :لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ
رّسُلِهِ { فنحن ل نفرق بين الرسل في أنهم يبلغون عن ال ما تتفق فيه مناهج التبليغ من ناحية
العتقاد ،وما تختلف من ناحية الحكام التي تناسب أقضية كل عصر.
طعْنَا { إذن السماع هو بلوغ الدعوة والطاعة هي انفعال
س ِمعْنَا وَأَ َ
وبعد ذلك يقول الحق؛ } َوقَالُواْ َ
بالمطلوب ،وأن يمتثل المؤمن أمرا ويمتثل المؤمن نهيا في كل أمر يتعلق بحركة الكون .فالذين
يريدون أن يعزلوا الدين عن حركة الحياة يقولون :إن الدين يهتم بالعبادات كالصلة والصوم
والزكاة والحج .وبعد ذلك يحاولون عزل حركة الحياة عن الدين.
لهؤلء نقول :أنتم تتكلمون عما بلغكم من دين لم يجئ لينظم حركة الحياة ،وإنما جاء ليعطي
الجرعة المفقودة عند اليهود وهي الجرعة الروحية ،لكن الدين السلمي جاء خاتما للديان منظما
لحركة الحياة ،فكل أمر في الحياة وكل حركة فيها داخلة في حدود الطاعة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()287 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أماكن ليس لك بها مستقر ،لذلك يخفف الحق عليك التكليف؛ فلك أن تفطر في نهار رمضان ،ولك
أن تُقصر الصلة.
والحق سبحانه يعلم أن الوسع قد يضيق لذلك فإنه ـ جل شأنه ـ يخفف حكم التكليف ويمنح
الرخص عند ضيق الوسع ،ومثال ذلك قوله الحق:
ضعْفا فَإِن َيكُنْ مّنكُمْ مّأْئَ ٌة صَابِ َرةٌ َيغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ }[النفال:
خفّفَ اللّهُ عَنكُ ْم وَعَلِمَ أَنّ فِيكُ ْم َ
{ النَ َ
]66
كانت النسبة في القتال قبل هذه الية هي واحدا لعشرة ،وخففها الحق وجعلها واحدا إلى اثنين لن
هناك ضعفا ،وهكذا نرى أنه سبحانه سيخفف التكليف إذا ما زاد عن الوسع .وكثير من الناس
يخطئون التفسير؛ فيقولون عن بعض التكاليف :إنها فوق وسعهم ولهؤلء نقول :ل .ل تحدد أنت
الوسع ،ثم تقيس التكليف عليه ،بل انظر هل كلفك أو لم يكلفك؟ فإذا كان قد كلفك الحق فاحكم بأنه
س َعهَا َلهَا مَا
ل وُ ْ
كلفك بما في الوسع ،وكل تكاليف الرحمن تدخل في الوسع } لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ
ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْ َتسَ َبتْ {.
كَسَ َب ْ
علَ ْيهَا { تفيد الوزر،
سبُ النفسَ ثوابا ،و } َ
و } َلهَا { تفيد الملكية والختصاص وهي ما تُفيد و ُتكْ ِ
ونلحظ أن كل } َلهَا { جاءت مع } كَسَ َبتْ { ،وكل } عَلَ ْيهَا { جاءت مع } اكْتَسَ َبتْ { إل في آية
طتْ بِهِ خَطِيـئَتُهُ فَُأوْلَـ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ
سبَ سَيّ َئ ًة وَأَحَا َ
واحدة يقول فيها الحق {:بَلَىا مَن كَ َ
فِيهَا خَاِلدُونَ }[البقرة]81 :
وهنا وقفة في السلوب؛ لن " كسب " تعني أن هناك فرقا في المعالجة الفعلية الحدثية بينها وبين
كلمة } اكْتَسَ َبتْ { ،لن " اكتسب " فيها " افتعل " أي تكلف ،وقام بفعل أخذ منه علجا ،أما "
كسب " فهو أمر طبيعي إذن فـ " كسب " غير " اكتسب " وكل أفعال الخير تأتي كسبا ل اكتسابا.
مثال ذلك عندما ينظر الرجل إلى زوجته ،ويرى جمالها ،فهل هو يفتعل شيئا ،أو أن ذلك أمر
طبيعي؟ إنه أمر طبيعي ،ولكن عندما ينظر الرجل إلى غير محارمه فإنه يرقب هل يرى أحد
النظرة؟ وهل رآه أحد من الناس؟ وهل سينال سخرية واستهزاء على ذلك الفعل أو ل؟ لماذا؟ لنه
ل مفتعلً.
ارتكب عم ً
مثال آخر ،إنسان يأكل من ماله ،أو من مال أبيه ،إنه يأكل كأمر طبيعي ،أما من يدخل بستانا
ويريد أن يسرق منه فهو يتكلف ذلك الفعل ،ويريد أن يستر نفسه ،فصاحب الشر يفتعل ،أما
صاحب الخير فإن أفعاله سهلة ل افتعال فيها ..فالشر هو الذي يحتاج إلى افتعال.
والمصيبة الكبرى أل يحتاج الشر إلى افتعال؛ لن صاحبه يصير إلى بلدة الحس اليماني،
سبَ سَيّئَةً
وتكون الشرور بالنسبة إليه سهلة؛ لنه تعود عليها كثيرا ،ويقول الحق } :بَلَىا مَن َك َ
خطِيـئَتُهُ { إن الخطيئة تحيط به من كل ناحية ،ولم يعد هناك منفذ ،وهو ل يفتعل
طتْ ِبهِ َ
وَأَحَا َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حتى صارت له ملكة في الشر؛ فاللص مثلً في بداية عمله يخاف ويترقب ،لكن عندما تصبح
اللصوصية مهنته فإنه يحمل أدوات السرقة ويصير حسه متبلدا.
ففي المرحلة الولى من الشر يكون أهل الشر في حياء من فعل الشر ،وذلك دليل على أن
ضمائرهم وقلوبهم مازال فيها بعض من خير ،لكن عندما يعتبرون الشر حرفة وملكة فهنا
المصيبة ،وتحيط بكل منهم خطيئة وتطوقه ول تجعل له منفذا إلى ال ليتوب.
فالذي يلعب الميسر ،أو طوقته خطيئة الفحش قد يقول فرحا " :كانت سهرة المس رائعة " ،أما
الذي يرتكب الخطأ لول مرة فإنه يقول " :كانت ليلة سوداء يا ليتها ما حدثت " ،ويظل يؤنب
نفسه ويلومها؛ لنه تعب وأرهق نفسه؛ لنه ارتكب الخطأ.
ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ { يوضح لنا أن فعل الشر هو الذي يحتاج إلى
إذن فقول الحقَ } :لهَا مَا كَسَ َب ْ
مجهود ،فإن انتقلت المسألة من اكتسبت إلى كسبت فهذه هي الطامة الكبرى ،ويكون قد أحاطت به
خطيئته .ويكون على كل نفس ما اكتسبت .والعاقل هو من يكثر ما لنفسه ،ول ما عليها؛ لن الذي
يقول ذلك هو الحق العالم المالك الذي إليه المصير ،فليس من هذا المر فِكاك .وبعد ذلك يقول
خطَأْنَا { ،ولقائل أن يقول :إن
خذْنَا إِن نّسِينَآ َأوْ أَ ْ
الحق على لسان عباده المؤمنين } :رَبّنَا لَ ُتؤَا ِ
الرسول صلى ال عليه وسلم طمأننا ،فقال " :رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ،وما استكرهوا عليه
".
فكيف يأتي القرآن بشيء مرفوع عن المة السلمية ليدعو به الناس ربهم ليرفعه عنهم؟.
على مثل هذا القائل نرد :هل قال لك أحد :إن رفع الخطأ والنسيان والستكراه كان من أول
المر؟ .لعل الرفع حدث بعد أن دعا الرسول والسابقون من المؤمنين ،فما دام قد ُرفِعَ ـ بضم
الراء وكسر الفاء وفتح العين ـ فمعنى ذلك أنه كان موجودا ،إذن فل يقولن أحد :كيف تدعو
بشيء غير موجود .أو أن ذلك يدل على منتهى الصفاء اليماني ،أي ال يجب ألّ ُيعْصى إل خطأ
أو نسيانا ،وأن ال ل يصح ول يستقيم أن يُعصى قصدا؛ لن الذي يعرف قدر ال حقا ،ل يليق
منه أن يعصي ال إل نسيانا أو خطأ؛ لن الخالق هو المنعم بكل النعم ،وبعد ذلك كلفنا ،وكان
يجب أل نقصد المعصية .ولذلك فالحق سبحانه وتعالى قد سمى ما حدث من آدم معصية مع أنه
جدْ لَهُ عَزْما }[طه]115 :
سيَ وَلَمْ نَ ِ
عهِدْنَآ إِلَىا ءَا َدمَ مِن قَ ْبلُ فَنَ ِ
يقول {:وََلقَدْ َ
عصَىا ءَادَمُ رَبّهُ َف َغوَىا { فكان النسيان أولً
وسمى ال النسيان في قصة آدم معصية } :وَ َ
معصية ،ولكن ال أكرم أمة محمد ،فرفع عنها النسيان .وفي مسألة آدم هناك ملحظ يجب على
المؤمن أن يتنبه إليه؛ فآدم خُِلقَ بيد ال ،ونحن مخلوقون بقانون التكاثر ،وآدم تلقى التكليف من ال
مباشرة وليس بواسطة رسول ،وكُّلفَ بأمر واحد وهو أل يأكل من الشجرة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا كان آدم مخلوقا من ال مباشرة ومكلفا من ال مباشرة ،ولم يكلف إل بأمر واحد وهو أل
يقرب هذه الشجرة ،ولم تكن هناك تكاليف كثيرة فماذا نسى؟ وماذا تذكر؟ إنها معصية إذن .لقد
سجُدَ ِلمَا خََلقْتُ
كان النسيان بالنسبة لدم معصية؛ لنه مخلوق بيد ال {.قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَن تَ ْ
بِيَ َديّ }[ص]75 :
لذلك فلم يكن من المناسب أن ينسى هذا التكليف الواحد ،وما كان يصح له أن ينسى ،وَلَعلّ سيدنا
سيَ لحكمة يعلمها ال رُبّما تكون ليعمر الرض التي جعله ال خليفة فيها؛ أما بالنسبة لمة
آدم نُ ّ
خطَأْنَا { فكأننا يا رب نقدرك ،حق قدرك ،ول
محمد فحينما نقول } :رَبّنَا لَ ُتؤَاخِذْنَا إِن نّسِينَآ َأوْ أَ ْ
نجترئ على عصيانك عمدا ،وإن عصينا فإنما يكون العصيان نسيانا أوْ خطأ ،وهذه معرفة لقدر
الحق سبحانه وتعالى.
ولكن ما النسيان؟ وما الخطأ؟
خطْء " ل يكون إل إثما؛ لنه تعمد ما ل ينبغي ،فأنت تعلم
طئَ " و " ال ِ
خِخطَأ " وفيه " َ
أولً فيه " أ ْ
قاعدة وتخطئ ،والذي أخطأ قد ل يعرف القاعدة ،فأنت تصوب له خطأه لنه حاد عن الصواب.
ومثال ذلك :عندما تتعلم في المدرسة أن الفاعل مرفوع ،والمفعول منصوب وفي وسط السنة
يصححون لك القاعدة حتى تستقر في ذهنك ،إنما في أيام المتحان أيصحح لك المدرس أم
يؤاخذك؟ إنه يؤاخذك؛ لنك درست طوال السنة هذه القاعدة ،إذن ففيه خَطِئ وفيه أخطأ ،فأخطأ
مرة تأتي عن غير قصد؛ لنه ل توجد قاعدة أنا خالفتها ،أو لم أعرف القاعدة وإنما نطقت خطأ؛
لنهم لم يقولوا لي ،أو قالوا لي مرة ولم أتذكر ،أي لم تستقر المسألة كملكة في نفسي؛ لن التلميذ
يخطئ في الفاعل والمفعول مدة طويلة ،وبعد ذلك ينضج وتصير اللغة ملكة في نفسه إن كان
مواظبا على صيانتها.
شكّل ًة ولكن يسكن الخر في نهاية
كان التلميذ في البداية يقول :قطع محمد الغصن ،ول يقولها مُ َ
نطقه لسم محمد ،وساعة يتذكر القاعدة ينطقها " محمد " بالرفع وينطق " الغصن " بالنصب لماذا؟
لنه ترد ثلث قواعد على ذهنه ،هذه فاعل والفاعل حكمه الرفع ،فهي مرفوعة ،فهو يمر بقضية
عقلية ،لكن بعدما يمر عليها يقرأها صحيحة وقد ل يتذكر القاعدة ،فقد صارت المسألة ملكة لغوية
عنده ،هذه الملكة اللغوية مثلما نقول " :صارت آلية ".
ومثال ذلك الصبي الذي يتعلم الخياطة ،انظر كم من الوقت يمر ليتعلم كيف يمسك بخيط ليدخله
في سم البرة ،وقد يضربه معلمه أكثر من مرة ليتعلمها؛ وفتلة الخيط تنثني منه لنها طويلة
فيقصرها ثم ل تدخل في العين فيبرمها لتدخل ،إنه يأخذ وقتا كثيرا ثم يعمل الغرزة فتخرج غير
منتظمة وبعد ذلك يظل مدة ،ثم يفعل كل هذه العمال بتلقائية وهو يتكلم مع غيره؛ لن هذه
العمال صارت ملكة ذاتية أي عملً آليّا.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والتدريب على العمل الذهني ـ حسب قواعد محددة مثل تعلم اللغة ـ نسميه ملكة .أما التدريب
على عمل الجوارح ـ مثل إدخال الخيط في سم البرة نسميه آلية.
وعلى سبيل المثال في العمل الذهني عندما تسأل سؤالً في الفقه لطالب في الزهر فإنه يحتار
قليل إلى أن يتعرف على الباب الذي فيه إجابة للسؤال ،أما إذا سألت السؤال نفسه لعالم مدرب
فبمجرد أن توجه له السؤال فإنه يقول لك الحكم والباب الذي فيه هذا الحكم ،لقد صار الفقة بالنسبة
للعالم ملكة.
حمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِن قَبْلِنَا { والصر
ح ِملْ عَلَيْنَآ ِإصْرا َكمَا َ
ويقول الحق من بعد ذلك } :رَبّنَا َولَ تَ ْ
هو الشيء الثقيل الذي يثقل على النسان ،ومثال ذلك الصر الذي نزل على اليهود " إن أردتم
التوبة فاقتلوا أنفسكم أو تصدقوا أو زكوا بربع أموالكم " لكن ال لم يعاملنا كما عامل المم السابقة
حمّلْنَا مَا لَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ { فنحن نصدق أن رسول ال صلى ال
علينا ،وعندما نقول } :رَبّنَا وَلَ ُت َ
عليه وسلم قال " :قال ال نعم " ومعنى قال ال نعم أنه سبحانه وتعالى أجاب الدعاء برفع المشقة
عن المة.
عفُ عَنّا { فنحن نتوجه إلى ال
أي أن ال لن يحملنا ما ل طاقة لنا به .وعندما نقول } :وَا ْ
ضارعين :أنت يا حق تعلم أننا مهما أوتينا من اليقظة اليمانية والحرص الورعي فلن نستطيع أن
نؤدي حقك كاملً ،ولذلك ل ندخل عليك إل من باب أن تعفو عنا.
ومعنى العفو محو الثر ،كالسائر في الصحراء تترك قدماه علمة ،وتأتي الريح لتزيل هذا الثر.
كأن هناك ذنبا والذنب له أثر ،وأنت تطلب من ال أن يمحوا الذنب.
غفِرْ لَنَا { فأنت تعرف أن من مظاهر التكوين البشري النية التي تريد أن تحول
وعندما تقول } :وَا ْ
العزم إلى حيز السلوك والنفعال النزوعي؛ فالمسألة تحتاج منك إلى تدريب ،ومثال ذلك ،عندما
يذنب واحد في حقك فلك أن ترد عليه الذنب بالذنب ،ولك أن تكظم الغيظ ،لكن يظل الغيظ
موجودا وأنت تحبسه ،ولك أن تعفو.
لكن ماذا عن مثل هذا المر بالنسبة للخالق الذي له كمال القدرة؟ إن ال قد ل يعذب العبد المذنب
ولكنه قد يظل غاضبا عليه ،ومن منا قادر على أن يتحمل غضب الرب؟ لذلك نطلب المغفرة،
حمْنَآ { فنحن ندعوه سبحانه أل يدخلنا في الذنب الذي يؤدي إلى غضبه ـ
غفِرْ لَنَا وَارْ َ
ونقول } :وَا ْ
والعياذ بال ـ علينا .فالعفو هو أن نرتكب ذنبا ونطلب من ال المغفرة ،ولكن الرحمة هي الدعاء
بأل يدخلنا في الذنب أصل.
وعندما يقول الحق } :أَنتَ َموْلَنَا فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْلقَوْمِ ا ْلكَافِرِينَ { فهذا اعتراف بعبوديتنا له ،وأنه
الحق خالقنا ومتولي أمورنا وناصرنا ،ومادام الحق هو ناصرنا ،فهو ناصرنا على القوم الكافرين؛
فكان ختام سورة البقرة منسجما مع أول سورة البقرة في قوله } :الم * ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ لَ رَ ْيبَ فِيهِ
ب وَ ُيقِيمُونَ الصّل َة وَممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْن ِفقُونَ {.
هُدًى لّ ْلمُتّقِينَ * الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْي ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في أول السورة ضرب ال المثل بالكافرين والمنافقين ..وفي ختامها يقول الحق دعاء على لسان
المؤمنين } :فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْلقَوْمِ ا ْلكَافِرِينَ { هذا القول يدل على استدامة المعركة بين اليمان
والكفر ،وأن المؤمن يأخذ أحكام ال دائما لينازل بها الكفر أيان وجد ذلك الكفر ،ويثق المؤمن تمام
الثقة أن ال متوليه؛ لن ال مولى الذين آمنوا ،أما الكافرون فل مولى لهم .فإذا كان ال هو مولى
المؤمن ،وإذا كان الكافر ل مولى له ،فمعنى ذلك أنه يجب أن تظل المعركة بين المؤمن والكافر
قائمة ،بحيث إذا رأى المؤمن اجتراءً على السلم في أي صورة من صوره فليثق بأن ال
ناصره ،وليثق بأن ال معه ،وليثق المؤمن أن ال ل يطلب منه إل أن ينفعل بحكمه وتأييده
بالنصر؛ لنه هو الذي يغلب فهو القائل جل وعل } :قَاتِلُوهُمْ ُي َعذّ ْبهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ {.
يجب أن تظل دائما مؤمنا متيقظا لعملية الكفر في أي لون من ألوانها؛ فهذا الكفر بعملياته يريد أن
يشوه حركة الحياة وأن يتعب الكون ،وأن يجعل القوانين الوضعية البشرية هي المسيطرة ،كما
يجب عليك أيها المؤمن أن تكون من المتقين الذين استهل بهم ال سورة البقرة ،وبعد ذلك تسأل
ال أن ينصرك دائما على القوم الكافرين .هذا هو مسك الختام من سورة البقرة } فَا ْنصُرْنَا عَلَى
ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ {.
وختام السورة بهذا النص يوحي بأن الذي آمن يجب أن يعدي إيمانه بربه إلى الخلق جميعا ،حتى
تتساند حركة الحياة ،ول توجد فيها حركة مؤمن على هدى لتصطدم حركة كافر على ضلل؛ لن
ل للقوى والمواهب التي أمد ال بها ذلك النسان الذي سخر
في ذلك إرهاقا للنفس البشرية ،وتعطي ً
من أجله كل الوجود ،فل يمكن أن يعيش النسان الذي سوّده ال وكرّمَه على سائر الخلق إل في
أمان واطمئنان وسلم وحركة تتعاون وتتساعد لتنهض بالمجتمع الذي تعيش فيه نهضة عمرانية
تؤكد للنسان حقا أنه هو خليفة ال في الرض.
ول يكتفي اليمان منا بأن يؤمن الفرد إيمانا يعزله عن بقية الوجود ،لنه يكون في ذلك قد خسر
حركة الحياة في الدنيا ،وال يريد له أن يأخذ الدنيا تخدمه كما شاء ال لها أن تكون خادمة ،فحين
يعدي المؤمن إيمانه إلى غيره ينتفع بخير الغير ،وإن اكتفى بإيمان نفسه فقط وترك الغير في
ضللة ،انتفع الغير بخير إيمانه وأصابته مضرة الكافر وأذاه.
إذن فمن الخير له أن يؤمن الناس جميعا ،ويجب أن يعدي ذلك اليمان إلى الغير.
ولكن الغير قد يكون منتفعا بالضلل؛ لنه يؤدي به طغيانه ،عندئذ تنشأ المعركة ،تلك المعركة
التي غاية كل من دخل فيها أن ينتصر ،فيعلمنا ال أن نطلب النصر على الكافرين منه؛ لن
النصر على الكافرين ل يعتبر نصراَ حقيقيا إل إن َأصّل صفات الخير في الوجود كله ،وحين
تتأصل صفات الخير في الوجود كله يكون المؤمن قد انتصر بحق.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين يطلب منا ال أن نسأله أن ينصرنا لبد أن نكون على مطلوب ال منا في المعركة ،بأن
نكون جنودا إيمانيين بحق .وقد عرفنا أن المؤمنين حين يدخلون في معركة مع غيرهم يستطيعون
أن يحددوا مركزهم اليماني من غاية المعركة .فإن انتهت المعركة بنصرهم وغلبتهم علموا أنهم
من جنود ال ،وإن هُزموا وغُلبوا فليراجعوا أنفسهم؛ لن ال أطلقها قضية إيمانية في كتابه الذي
حفظه فقال {:وَإِنّ جُندَنَا َل ُهمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات]173 :
فإن لم نغلب فلننظر في نفوسنا :ما الذي أخللنا به من واجب الجندية ل .وحين يعلمنا الحق أن
نقول } :فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ { ،أي بعد أن أخذنا أسباب وجودنا من مادة الرض
المخلوقة لنا بالفكر المخلوق ل ،نعمل فيها بالطاقة المخلوقة ل ،وحينئذ نكون أهلً للنصر من ال؛
طعْتُمْ مّن ُق ّو ٍة َومِن رّبَاطِ
عدّواْ َلهُمْ مّا اسْ َت َ
لن الحق سبحانه وتعالى قد مد يده بأسباب النصر {:وَأَ ِ
الْخَ ْيلِ تُرْهِبُونَ ِبهِ عَ ْدوّ اللّ ِه وَعَ ُد ّوكُ ْم وَآخَرِينَ مِن دُو ِنهِ ْم لَ َتعَْلمُو َنهُمُ اللّهُ َيعَْل ُمهُمْ }[النفال]60 :
حينئذ ل تخافون أبدا؛ لن ل جنودا لم تروها ،ول يتدخل ال بالجنود غير المرئية لنا إل إذا
استنفدنا نحن أسباب ال الممدودة لنا.
وحين يختم الحق سبحانه وتعالى سورة البقرة وهي الزهراء الولى لتأتي بعدها الزهراء الثانية
وهي سورة آل عمران نجد أن هذا هو الترتيب القرآني (الن) وهو ليس على ترتيب النزول الذي
حدث ،فللقرآن ترتيبان :ترتيب نزولي حين نزلت اليات لتعالج حدثا وقع للمة المسلمة في
صراعها مع الكافرين بربهم ،وفي تربيته لنفوسهم ،فكانت كل آية تأتي لتعالج حادثة .والحداث
في الوجود إنما تأتي على أيدي البشر ،فليس من المعقول أن تنزل آيات من القرآن .تعالج أحداثا
أخرى ل صلة بينها وبين ما يجري من أحداث في المجتمع السلمي أو ما ينشأ في الكون من
قضايا.
إذن فلبد أن توجد الحداث أول ،ويأتي بعدها النص القرآني ليعالج هذه الحداث ،ولكن بعد أن
اكتمل الدين كما قال ال {:الْ َيوْمَ َأ ْكمَلْتُ َلكُمْ دِي َنكُ ْم وَأَ ْت َم ْمتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َلكُ ُم الِسْلمَ
دِينا }[المائدة]3 :
جاء الترتيب الذي يرتب القضايا ترتيبا كليا ،لنه عالجها من قبل علجا جزئيا .فحين نقول :إن
هذه السورة نزلت بعد كذا ،أو فيها آية كذا ،نزلت بعد كذا ،ونجد أن ذلك يختلف عن النسق
النزولي نعلم أن ل سبحانه وتعالى في كتابه ترتيبين:
الترتيب الول :حسب النزول.
والترتيب الثاني :الذي وُجد عليه القرآن الن وتمت به كلمة ال في خدمة الهداية اليمانية وهذا
الخير من عند ال أيضا.
()288 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الم ()1
وجاءت أيضا في سور أخرى ،في سورة العنكبوت ،وفي سورة الروم ،ولقمان ،والسجدة ،وزاد
عليها راءً في بعض السور ،وزاد عليها صادا في بعض السور " المص " و " المر " كل ذلك جاء
تأكيدا للمعاني أو تأكيدا للسر الذي وضعه ال في هذه الحروف ،وإن لم نكن ندرك ذلك السر.
والنسان ينتفع بأسرار الشياء التي وضعها من أوجد الشياء وإن لم يعلم هذه الشياء فهو منتفع
بها ،وضربنا المثل وقلنا :إن الريفي الذي ليس عنده ثقافة في الكهرباء ،أيستفيد بالكهرباء أم ل؟
إنه يستفيد بها ويحرك زر المصباح لينيره أو ليطفئه ،أهو يعلم سر ذلك؟ ل ،لكنه إنما انتفع به،
فكذلك المؤمن حين يقول " :ألف ـ لم ـ ميم " ،يأخذ سرها من قائلها ،فهمها أم لم يفهمها ،إذن
فالمسألة ل تحتاج إلى أن نفلسفها ،صحيح أن العقل البشري يحول حول شيء ليستأنس به ،ولكن
عطاء ال وحكمة العطاء فوق ما يستأنس به وفوق ما نستوحش منه.
وقول الحق سبحانه في ختام سورة البقرة { :فَا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ } يناسب أيضا سورة
آل عمران ،لماذا؟ لن السلم سيأتي ليواجه معسكر كفر ومعسكر أهل الكتاب ،فحتى ل تتشقق
دعوة ال التي صدرت عن ال بمواكب الرسل جميعا الذين سبقوا محمدا صلى ال عليه وسلم وأن
هذا جاء ليناقض شيئا منه ،إنه قد جاء ليعزز دعوة ال ،ولتكون هذه المم التي تبعت هذه الديانات
في صف السلم .ولذلك حينما أنكر العرب رسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ال لهم{ :
َومَنْ عِن َدهُ عِلْمُ ا ْلكِتَابِ } أي أن من عنده علم الكتاب يشهد أنك رسول ال {.وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ
شهِيدا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ َومَنْ عِن َدهُ عِلْمُ ا ْلكِتَابِ }[الرعد.]43 :
ستَ مُرْسَلً ُقلْ َكفَىا بِاللّهِ َ
لَ ْ
فكان المفروض في أهل الكتاب أنهم حينما جاء رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يكونوا هم أول
المؤمنين برسول ال صلى ال عليه وسلم ،لنه جاء ليؤكد موكب اليمان ويأتي لهم بسورة
يسميها آل عمران حتى يعلم الجميع أنك يا محمد لم تأتي لتهدم ديانة عيسى ،ولكن لتبقى ديانة
ل إلى اليمان
عيسى ولتؤيد ديانة عيسى ،فإن كنتم يا من آمنتم بعيسى مؤمنين بعيسى فاهرعوا حا ً
بمحمد؛ فقد سماها ال آل عمران ،وجعل لهم سورة في القرآن.
إن رسالة محمد صلى ال عليه وسلم لم تأت للعصبية ،أو لتمحو ما قبلها كما تأتي عصبيات البشر
حين يأتي قوم على أنقاض قوم ،ويهدمون كل ما يتصل بهؤلء القوم حتى التاريخ يمحونه،
والشياء يمسخونها؛ لنهم يريدون أن ينشئوا تاريخا جديدا .ل إن هذا القرآن يريد أن يصوب
التاريخ ،فيأتي بسورة اسمها " آل عمران " وذلك تكريم عال لهذه الديانة ولتابعيها.
حيّ ا ْلقَيّومُ }
وبعد ذلك يأتي الحق فيستهلها :بقوله جل شأنه { :اللّهُ ل ِإلَـاهَ ِإلّ ُهوَ الْ َ
()393 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حيّ ا ْلقَيّومُ ()2
اللّهُ لَا إِلَهَ ِإلّا ُهوَ الْ َ
تلك هي قضية القمة ،ولذلك يتكرر في القرآن التأكيد على هذه القضية { ،اللّهُ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }.
و { اللّ ُه } كما يقولون مبتدأ ،و { ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ } خبر ،والمبتدأ لبد أن يكون متضحا في
الذهن ،فكأن كلمة { اللّهُ } متضحة في الذهن ،ولكنه يريد أن يعطي لفظ { اللّهُ } الوصف الذي
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ
يليق به وهو { ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ } .ولذلك يقول الحق {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ ال ّ
س وَا ْل َقمَرَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىا ُي ْؤفَكُونَ }[العنكبوت.]61 :
شمْ َ
وَسَخّرَ ال ّ
إذن فال متضح في أذهانهم ،ولكن السلطات الزمنية أرادت أن تطمس هذا اليضاح ،فجاء القرآن
ليزيل ويمحو هذا الطمس مؤكدا { اللّهُ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ } فهذه قضية أطلقها الحق شهادة منه
شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }[آل عمران.]18 :
لنفسهَ {:
وكفى بال شهيدا؛ لنها شهادة الذات للذات ،وشهدت الملئكة شهادة المشهد فلم يروا أحدا آخر إل
هو ،وكذلك ،شهد أولو العلم الذين يأخذون من الدلة في الكون ما يثبت صدق الملئكة ويؤكد
صدق ال ،فإذا ما نظرنا نظرة أخرى نقول :إن الحق أطلقها على نفسه وقال { :ل إِلَـاهَ ِإلّ
ُهوَ }؛ وجعلها كلمة التوحيد وجعل المر في غاية اليسر والسهولة والبساطة؛ فلم يشأ ال أن يجعل
دليل اليمان بالقوة العليا دليلً معقدا ،أو دليلً فلسفيا ،أو ل يستطيع أحد أن يصل إليه إل أهل
الثقافة العالية ،ل ،إن الدين مطلب للجميع؛ من راعي الشاة إلى الفيلسوف؛ إنه مطلوب للذي يكنس
في الشارع كما هو مطلوب من الستاذ الجامعي.
فيجب أن تكون قضية اليمان في مستوى هذه العقول جميعا؛ فل فلسفة في هذه المسألة ،لذلك شاء
الحق أن يجعل هذه المسألة في منتهى البساطة فأوضح ال :أنا شهدت أل إله إل أنا ،فإما أن
يكون المر صدقا وبذلك تنتهي المشكلة ،وليس من حق أحد العتراض ،وإن لم تكون صدقا
فقولوا لنا :أين الله الخر الذي سمع التحدي ،وأخذ ال منه ذلك الكون ،وقال :أنا وحدي في
الكون ،وأنا الذي خلقت ،ثم لم نسمع ردا عليه ول عن معارض له ،ألم يدر ذلك الله الخر؟
إذن فذلك الخر ل ينفع أن يكون إلها ،فإن علم ذلك الخر ولم يدافع عن نفسه وملكيته للكون فإنه
ل يصلح أن يكون إلها .وتصبح القضية ل إلى أن يظهر مدع ليناقضها ،فـ { ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }
كلمة حق ،وبالعقل والمنطق هو إله ولم نج ًد معارضا .وقلنا سابقا :إن الدعوى حين تُدعى ول
يوجد معارض حين نَسمعها تكون لصاحبها إلى أن يوجد المعارض .وضربنا مثل :نحن
مجتمعون في حجرة ،عشرة أشخاص ،وبعد ذلك انصرفوا فوجد صاحب البيت حافظة نقود ،فجاء
واحد متلهفا وقال :لقد ضاعت مني حافظة نقود.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقال له صاحب البيت :وجدنا حافظة ولكن كان هنا عشرة ،فلما جئ بالعشرة ،وسئلوا لم يدعها
أحد ،إذن فهي له.
إن ال قد قال } :ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ { ،فإن كان هناك إله آخر فليظهر لنا ،ولكن ل تظهر لنا إل قوة
ال } ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ { ومادام ل إله إل هو ،وهذا الكون يحتاج إلى قيومية لتدبيره ،فل بد أن
يكون حيا حياة تناسبه ،لنه سيهب حيوات كثيرة لكل الجناس ،للنسان وللحيوان وللنبات
وللجماد ،إذن فالذي يوجدها لبد أن يكون حيا ولبد أن تكون حياته مناسبة له.
و " قيّوم " هذه يسمونها صيغة مبالغة؛ لنّ الحدث إذا وقع فإنه يقع مرة على صورة عادية ،ومرة
يقع على صورة قوية .مثلما تقول :فلن أكول ،و " أكول " غير " آكل " ،فكلنا نأكل ،وكلنا يطلق
علينا " آكل " ،لكن ليس كلنا يُطلق علينا " أكول " لن هذه اسمها صيغة مبالغة في الحدث.
وإذا كان ال هو الذي يدبر ويقوم على أمر كل عوالم الكون هل يكون قائما أو قَيّوما؟ لبد أن
يكون قَيّوما .و " قيوم " معناها أيضا :قائم بذاته .فما شكل هذا القيام؟ إنه قيام أزلي كامل.
إذن فكلمة " قيّوم " صيغة مبالغة من القيام على المر ،قائم بنفسه ،قائم بذاته ،ويُقيم غيره ،والغير
متعدد متكرر ،فعندما يكون هذا الغير متعددا ومتكررا فهو يحتاج إلى صفة قوية في خالقه ،فيكون
الخالق قيّوما.
حيّ ا ْلقَيّومُ { هو سند المؤمن في كل حركات حياته " ،عن
إن قوله الحق } :اللّ ُه ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ الْ َ
أبيّ بن كعب رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :يا أبا المنذر أتدري أي آية
حيّ ا ْلقَيّومُ { فضرب في صدري وقال" :
من كتاب ال معك أعظم؟ قلت } :اللّهُ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ ا ْل َ
ليهنك العلمُ أبا المنذر "
وقولوا لنا بال :حين يوجد ولد وأب ،هل يحمل الولد همّا لي مسألة من مسائل الحياة؟ ل؛ لن
الب متكفل بها ،والمثل العامي يقول :الذي له أب ل يحمل همّا ،إذن فالذي له ربّ عليه أن
يستحي؛ لنه سبحانه يقول :أنا حيّ ،وأنا قيّوم ،و " قيّوم " يعني قائم بأمرك.
خ ُذهُ سِنَةٌ وَلَ َنوْمٌ { ،
ويؤكد سبحانه هذه القيّومية في سورة البقرة ،فقال في آية الكرسي } :لَ تَأْ ُ
كأنه يقول لنا :ناموا أنتم لنني ل أنام ،وإل فإن نمت أنت عن حراسة حركة حياتك فمن يحرسها
حيّ ا ْلقَيّومُ { ،وما دام هو "
لك؟ إنه سبحانه يتفضل علينا بقيوميته فـ } اللّ ُه ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ الْ َ
الحيّ " و " القيّوم " فأمر منطقي أنه قائم بأمر الخلق جميعا وقد وضع لكل الخلق ما تقوم به
حياتهم من مادة وصيانة مادة ومن قيم وصيانة قيم.
ومادام هو القيوم القائم بالمر والمتولي الشئون للخلق فلبد أن يؤدي لهم مطلوبات مادتهم وما
سيَ مِن َف ْو ِقهَا
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
يبقيها ،ومطلوبات قيمهم وما يبقيها .أما مطلوبات المادة فيقول فيها {:وَ َ
سوَآءً لّلسّآئِلِينَ }[فصلت.]10 :
وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ
حقّ
إنه سبحانه يطمئنا على القوت ،وأما مطلوبات القيم فقال سبحانه } :نَ ّزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ{ ...
()394 /
حقّ ُمصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَدَ ْي ِه وَأَنْ َزلَ ال ّتوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ ()3
نَ ّزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط ،ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لن المادة بدون قيم
تكون شرسة هوجاء رعناء ،فيريد ال أن يجعل المادة في مستوى إيماني .إذن لبد أن تنزل القيم.
حقّ } و { نَ ّزلَ } تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لن النزول
لذلك قال سبحانه { :نَ ّزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
معناه :شيء من أعلى ينزل ،وهو يقول لك :ل تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛
لنها ليست من مساو لك ،إنها من خالق الكون والبشر ،والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي ممن
هو أدنى منك.
لكن حين يجيء لك التقنين ممن هو أعلى منك فل تتأبّ عليه؛ لن خضوعك له ليس ذلة بل عزة،
لمِينُ }
حاَ
فقال { :نَ ّزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ } .وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول {:نَ َزلَ بِهِ الرّو ُ
[الشعراء.]193 :
حقّ نَ َزلَ َومَآ أَ ْرسَلْنَاكَ ِإلّ مُبَشّرا
ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم {:وَبِالْحَقّ أَنْزَلْنَا ُه وَبِالْ َ
وَنَذِيرا }[السراء.]105 :
ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلم ينزل بالقرآن على رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،ول يعني ذلك خروج القرآن عن كونه " نزل " ،فجبريل عليه السلم كان ينزل
بالقرآن على رسول ال صلى ال عليه وسلم .والحق سبحانه وتعالى يقول {:وَبِا ْلحَقّ أَنْ َزلْنَاهُ
وَبِالْحَقّ نَ َزلَ َومَآ أَ ْرسَلْنَاكَ ِإلّ مُ َبشّرا وَنَذِيرا }[السراء.]105 :
وبذلك تتساوى " أنزل " مع " نزل " .وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الوقات فإننا
نتساءل :أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول ال محمد
صلى ال عليه وسلم في ثلثة وعشرين عاما وينزل القرآن حسب الحوادث ،فكل نجم من نجوم
القرآن ينزل حسب متطلبات الحداث .ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول {:إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَ ْيلَةِ ا ْلقَدْرِ
}[القدر.]1 :
والحق هنا يحدد زمنا .ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلثة وعشرين عاما هو الذي أنزله
ال في ليلة القدر.
إذن فللقرآن نزولن اثنان :الول :إنزال من " أنزل ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخر :تنزيل من " نَزّل ".
إذن فالمقصود من قوله ـ سبحانه ـ { :إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ } أن القرآن نزل من اللوح
المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون ،وهذا ما أنزله ال في ليلة القدر.
والكتاب الكريم الذي أنزله ال في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينزلُ منجما على حسب الحداث
التي تتطلب تشريعا أو إيضاحا لمر.
لكن الكتب الخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل ،لقد نزلت مرة واحدة؛ ل حسب
الحداث والمناسبات ،لقد جاءت مرة واحدة ،كما نزل القرآن أول من اللوح المحفوظ إلى السماء
الدنيا.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س وَأَن َزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ{ ...
سبحانه قد جمع للقرآن بين " نزّل " و " أنزل " فقال } :مِن قَ ْبلُ هُدًى لّلنّا ِ
()395 /
ويأتي القول الفصل في :ـ { وَأَن َزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ }.
هنا الجمع بين " نزل " و " أنزل ".
وساعة يقول الحق عن القرآنُ { :مصَدّقا ّلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ } فمعنى ذلك أن القرآن يوضح المتجه؛ إنه
مصدق لما قبله ولما سبقه ،إنه مصدق للقضايا العقدية اليمانية التي ل يختلف فيها دين عن دين؛
لن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في بعض الحكام ،فهناك حكم يناسب زمنا وحكم آخر ل
يناسب ذلك الزمن .أما العقائد فهي ل تتغير ول تتبدل ،وكذلك الخبار وتاريخ الرسل ،فليس في
تلك المور تغيير.
ومعنى " مصدق " أي أن يطابق الخبر الواقع ،وهذا ما نسميه " الصدق " .وإن لم يطابق الخبر
الواقع فإننا نسميه " كذبا " .إذن ،فالواقع هو الذي يحكم .ولذلك قلنا من قبل :إن الصادق هو الذي
ل تختلف روايته للحداث؛ لنه يستوحي واقعا ،وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسها بكلماتها
وتفاصيلها ،أما الكاذب فل يوجد له واقع يحكي عنه ،لذلك يُنشئ في كل حديث واقعا جديدا،
ولذلك يقول الناس " :إن كنت كذوبا فكن ذكورا " .أي إن كنت تكذب ـ والعياذ بال ـ فتذكر ما
قلت؛ حتى ل تناقضه بعد ذلك .فالصادق هو من يستقرئ الواقع ،ومادام يروي عن صدق فهو
يروي عن أمر ثابت ل تلويه الهواء ،فل يحكي مرة بهوى ،ومرة بهوى آخر.
ومادام الخبر صادقا فإنه يصبح حقا؛ لن الحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير وسبحانه يقول
علَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ يَدَ ْي ِه وَأَن َزلَ ال ّتوْرَاةَ وَالِنْجِيلَ * مِن قَ ْبلُ ُهدًى
هنا { :نَ ّزلَ َ
لّلنّاسِ }.
وقد تكلمنا من قبل عن التوراة ،وقلنا :إن بعضا من العلماء حين يتعرض للفظ من اللفاظ فهو
يحاول أن يجعله من اللغة العربية ،ويحاول أن يعثر له على وزن من الوزان العربية ،وأن يأتي
له بصفة من الصفات العربية ،فقال بعضهم من التوراة :إنها " الوَرْى " ـ بسكون الراء ـ وكان
الناس قديما يشعلون النار بضرب عود في عود آخر ،ويقولون :الزند قد ورى " ،أي قد خرجت
ناره .وقال بعض العلماء أيضا :إن النجيل من " النجْل " ،وهو الزيادة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأقول لهؤلء العلماء :لقد نظرتم إلى هذه اللفاظ على أنها ألفاظ عربية ،لكن التوراة لفظ عبري،
والنجيل لفظ سرياني أو لفظ يوناني ،وصارت تلك الكلمات علما على تلك الكتب وجاءت إلى
لغتنا .ول تظنوا أن القرآن مادام قد نزل عربيا فكل ألفاظه عربية ،ل .صحيح أن القرآن عربي،
وصحيح أيضا أنه قد جاء وهذه اللفاظ دائرة على لسان العرب ،وإذا تم النطق بها يُفهم معناها.
والمثال على ذلك أننا في العصر الحديث أدخلنا في اللغة كلمة " بنك " وتكلمنا بها ،فأصبحت
عربية؛ لنها تدور على اللسان العربي ،فمعنى أن القرآن عربي أن ال حينما خاطب العرب
خاطبهم بألفاظ يفهمونها ،وهي دائرة في ألسنتهم ،وإن لم تكن في أصلها عربية .وحينما تكلم الحق
عن التوراة والنجيل وقال :إن القرآن جاء مصدقا لهما قال ـ جل شأنه ـ:
س وَأَن َزلَ ا ْلفُ ْرقَانَ إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ َل ُهمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو
} مِن قَ ْبلُ ُهدًى لّلنّا ِ
انْ ِتقَامٍ { [آل عمران]4 :
فأي ناس هؤلء الذين قال عنهم } :هُدًى لّلنّاسِ {؟ لشك أنهم الناس الذين عاصروا الدعوة لتلك
الكتب .وإذا كان القرآن قد جاء مصداقا لما في التوراة والنجيل أل تكون هذه الكتب هداية لنا
أيضا؟ نعم هي هداية لنا ،ولكن الهداية إنما تكون بتصديق القرآن لها ،حتى ل يكون كل ما جاء
فيهما ومنسوبا إليهما حجة علينا .فالذي يصدقه القرآن هو الحجة علينا ،فيكون } ُهدًى لّلنّاسِ
{ معناها :الذين عاصروا هذه الديانات وهذه الكتب ،ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى " :وأنزل الفرقان " يدل على أن الكتاب ـ أي القرآن ـ
سيعاصر مهمة صعبة؛ فكلمة " الفرقان " ل تأتي إل في وجود معركة ،ونريد أن نفرق بين
أمرين :هدى وضلل ،حق وباطل ،شقاء وسعادة ،استقامة وانحراف ،إذن فكلمة " الفرقان " تدل
على أن القرآن إنما جاء ليباشر مهمة صعبة وهو أنه يفرق بين الخير والشر ،ومادام يفرق بين
الخير والشر إذن ففيه خير وله معسكر ،وفيه شر وله معسكر ،إذن ففيه فريقان .ويأتي للفريق
الذي يدافع عن الحق نضالً وجهادا بما يفرق له ويميز به بين الحق والباطل ويختم الحق هذه
شدِي ٌد وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ {.
عذَابٌ َ
الية بقوله } :إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ َلهُمْ َ
ولماذا جاء هذا التذييل على هذه الصورة في هذه الية؟ أي مادام القرآن فرقانا فلبد أن يفرق بين
حق وباطل ،والحق له جنوده ،وهم المؤمنون ،والباطل له جنوده وهم الكافرون ،والشر قد جاء
من الكافرين فلبد أن يتكلم عن الذين كفروا } إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ َلهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ {.
والعذاب إيلم ،ويختلف ُقوّة وضعفا باعتبار المؤلم المباشر للعذاب .فصفعة طفل غير صفعة شاب
غير صفعة رجل قوي ،كل واحد يوجه الصفعة بما يناسب قوّته ،فإذا كان العذاب صادرا من قوة
شدِي ٌد وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ { أي ل
القوي وهو ال ،إذن فلبد أنه عذاب ل يطاقَ } .ل ُهمْ عَذَابٌ َ
يُغلب على أمره ،ول توجد قوة أخرى ضده ،وانتقامه لن يستطيع أحد أن يرده.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله الحق سبحانه وتعالى :إنه " قيّوم " أي يقوم بشئون خلقه إيجادا وإمدادا ،بناء مادة وإيجاد
قيم ،لبد أن يتفرع من ذلك أنه يعلم كل الخلق ويعلم الخبايا ،ولذلك يضع التقنين المناسب لكل ما
يجري لهم ،والتقنينات التي تأتي من البشر تختلف عن التقنينات الموجودة من ال ،لماذا؟
لن ال حين يقنن بكتاب ينزله على رسوله ليبلغ حكم ال فيه فهو سبحانه يقنن لما يعلم ،وما
يعلمه سبحانه قد يعلمه خلقه وقد ل يعلمونه ،وقد تأتي الحداث بما لم يكن في بال المشرع
البشري المقنن حين يقنن ،ولذلك يضطرون عادة إلى تغيير القانون؛ لنه قد جدّت أحداث لم يلتفت
إليها المشرع البشري.
ولماذا لم يلتفت إليها المشرع البشري؟ لن علمه مقصور على المرئيات التي توجد في عصره
وغير معاصر للشياء التي تحدث بعد عصره ،وأيضا يقنن لملكات خفية عنه.
إن الحق سبحانه وتعالى لكونه قيّوما ويُنزل ما يفرق بين الحق والباطل ،فهو ـ سبحانه ـ يعلم
علما واسعا ،بحيث ل يُستدرك عليه ،ولذلك فالذين يحاولون أن يقولوا :إن هذا الحكم غير ملئم
للعصر ،نقول لهم :أتستدركون على ال؟! كأنكم تقولون :إن ال قد فاته مثل هذه الحكاية ونريد أن
نصححها له!.
ل ،ل تستدركوا على ال ،وخذوا حكم ال هكذا؛ لن هذا هو الحكم الذي ل يأتيه الباطل من بين
يديه ول من خلفه؛ لنه حكم من عالم ل يتجدد علمه ،ول يطرأ شيء على علمه ،وفوق كل ذلك
شيْءٌ فِي الَ ْرضِ َولَ
خفَىا عَلَ ْيهِ َ
فهو سبحانه ل ينتفع بما يقنن ،وهو سبحانه يقول } :إِنّ اللّ َه لَ َي ْ
سمَآءِ {
فِي ال ّ
()396 /
سمَاءِ ()5
شيْءٌ فِي الْأَ ْرضِ وَلَا فِي ال ّ
خفَى عَلَيْهِ َ
إِنّ اللّهَ لَا يَ ْ
انظروا إلى خدمة الية لكل الغراض التي سبقتها ،مادام قيّوما وقائما بأمور الخلق ،فلبد أن يعلم
كل شيء عن الخلق ،فل يخفي عليه شيء في الرض ول في السماء ،ومادام سيفرق بين الحق
والباطل وينزل بالكفار عذابا شديدا فل يخفى عليه شيء .إن الية تخدم كل الغراض ،وهو
سبحانه يعلم كل الغراض ،فحين يقنن بقيوميته ،فهو يقنن بل استدراك عليه ،وحين يخرج أحد
خفَىا عَلَيْهِ
عن منهجه ل يخفى عليه .إذن فالية حصاد على التشريع وعلى الجزاء { إِنّ اللّ َه لَ يَ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ } .وبعد ذلك يتكلم الحق عن مظهر القيوميّة الول بالنسبة
شيْءٌ فِي الَ ْرضِ َولَ فِي ال ّ
َ
صوّ ُركُمْ فِي الَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ} ...
للنسان فيقولُ { :هوَ الّذِي ُي َ
()397 /
حكِيمُ ()6
صوّ ُركُمْ فِي الْأَ ْرحَامِ كَ ْيفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
ُهوَ الّذِي ُي َ
والتصوير في الرحم هو إيجاد المادة التي سيوجد منها النسان على هيئة خاصة؛ هذه الهيئة
تختلف نوعيتها :ذكورة وأنوثة .والذكورة والنوثة تختلفان أشكالً؛ بيضاء وسمراء وقمحية
لفُ أَ ْلسِنَ ِتكُمْ
وخمرية وقصيرة وطويلة ،هذه الشكال التي يوجد عليها الخلق والتي منها {:وَاخْتِ َ
وَأَ ْلوَا ِنكُمْ }[الروم.]22 :
هذا الختلف في اللوان واللسنة والشياء المتعددة يَدُل على أنها ليست من إنتاج مصنع يصنع
قالبا ثم يشكل عليه ،ل؛ فكل إنسان يولد يصنع بيد قديرة بقدرة ذاتية.
إن الصانع الن إذا أرادت أن يصنع لك كوبا يصنع قالبا ويكرره ،لكن في الخلق البشري كل
واحد بقالبه الخاص ،وكل واحد بشكله المخصوص ،وكل واحد بصوته الذي ثبت أن له بصمة
كبصمة اليد ،وكل واحد بلون ،إذن فهي من اليات ،وهذا دليل على طلقة القدرة ،وفوق كل هذا
هو الخلق الذي ل يحتاج إلى عملية علج ،معنى عملية علج أي يجعل قالبا واحدا ليصب فيه
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَإِذَا َقضَىا َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ
مادته .ل ،هو ـ جل شأنه ـ يقول {:بَدِيعُ ال ّ
فَ َيكُونُ }[البقرة.]117 :
إن الب والم قد يتحدان في اللون ولكن البن قد ينشأ بلون مختلف ،ويخلق ال معظم الناس خلقا
سويا ،ويخلق قلة من الناس خلقا غير سوي؛ فقد يولد طفل أعمى أو مصاب بعاهة ما أو بإصبع
زائدة أو إصبعين ..وهذا الشذوذ أراده ال في الخلق ليلفتنا الحق إلى حسن وجمال خلقه .لن من
يرى ـ وهو السويّ ـ إنسانا آخر معوّقا عن الحركة فإنه يحمد ال على كامل خلقه.
وحين يرى إنسان له في كل يد خمس أصابع إنسانا آخر له إصبع زائدة يعوق حركة يده ،يعْرف
حكمة وجود الصابع الخمس ،فالجمال ل يثبت إل بوجود القبح ،وبضدها تتمايز الشياء ،النسان
الذي له سبع أصابع في يد واحدة ،يضع الطب أمام مهمة يجند نفسه لها؛ حتى يستطيع الطبيب أن
يستأصل الزائد عن حاجة النسان الطبيعي .ولو خلق ال النسان بثلث أصابع لما استطاع ذلك
النسان أن يتحكم عند استعماله الشياء الدقيقة.
إن النسان العادي في حركته اليومية ل يدرك جمال استواء خلقه إل إذا رأى فردا من أفراد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشذوذ .والحق يلفت الناس الساهين عن نعم ال عليهم لرتابتها فيهم بفقدها في غيرهم .فساعة أن
يرى مبصرٌ مكفوفا يسير بعكاز ،يفطن إلى نعمة البصر التي وهبها له ال فيشعر بنعمة ال عليه.
إن الشذوذ في الخلق هو نماذج إيضاحية تلفت الناس إلى نعم ال التي أنعم ال عليهم بها.
هذه المُثُل في الكون تلفت الناس إلى نعم ال فيهم ،ولذلك تجدها أمامك ،وأيضا كي ل تستدرك
على خالقك ،ول تقل ما ذنب هذا النسان أن يكون مخلوقا هكذا؟ فهو سبحانه سيعوضه في ناحية
أخرى؛ فقد يعطيه عبقرية تفوق إمكانات المبصر.
ونضرب هذا المثل ـ ول المثل العلى ـ عن الذي ساح في الدنيا " تيمور لنك العرج " وهو
القائد الذي أذهل الدنيا شجاعة ،إن ال قد أعطاه موهبة التخطيط والقتال تعويضا له عن العرج.
ونحن نجد العبقريات تتفجر في الشواذ غالبا ،لماذا؟ لن ال يجعل للعاجز عجزا معينا همة تحاول
صوّ ُركُمْ فِي الَرْحَامِ كَ ْيفَ
أن تعوض ما افتقده في شيء آخر ،فيأتي النبوغ .إذن فـ } ُهوَ الّذِي ُي َ
يَشَآءُ { وكل تصوير له حكمة .ومادام كل تصوير له حكمة فكل خلق ال جميل.
عليك ألّ تأخذ الخلق مفصولً عن حكمة خالقه ،بل خُذ كل خلق مع حكمته .إن الذي يجعلك تقول:
هذا قبيح ،إنك تفصل المخلوق عن حكمته ،ومثال ذلك :التلميذ الذي يرسب قد يحزن والده ،ولكن
لماذا يأخذ الرسوب بعيدا عن حكمته؟ لقد رسب حتى يتعلم معنى الجدية في الستذكار ،فلو نجح
مع لعبه ماذا سيحدث؟ كل أقرانه الذين عرفوا أنه لعب ونجح سيلعبون ويقولون :هذا لعب
ونجح ..إذن فل بد أن تأخذ كل عمل ومعه حكمة وجوده.
كذلك ل تأخذ العقوبة منفصلة عن الجريمة ،فكل عقوبة علينا أن نأخذها ملتصقة بجريمتها ،فساعة
ترى واحدا مثلً سيحكمون عليه بالعدام تأخذك الرحمة به وتحزن ،هنا نقول لك :أنت فصلت
إعدامه عن القتل الذي ارتكبه سابقا ،إنما لو استحضرت جريمته لوجدته يُقتَلُ عدالة وقصاصا فقد
قُتُل غيره ظلما ،فل تبعد هذه عن هذه.
صوّ ُركُمْ فِي الَ ْرحَامِ كَ ْيفَ يَشَآءُ لَ ِإلَـاهَ ِإلّ ُهوَ { ومعنى } لَ ِإلَـاهَ ِإلّ ُهوَ { أي
} ُهوَ الّذِي ُي َ
سيُصوّر وهو عالم أن ما يصوّره سيكون على هذه الصورة؛ لنه ل يوجد إله آخر يقول له :هذه
ل تعجبني وسأصور صورة أخرى ،ل؛ لن الذي يفعل ذلك عزيز ،أي ل يغلب على أمر ،وكل
ما يريده يحدث وكل أمر عنده لحكمة ،لنه عندما يقولُ } :يصَوّ ُركُمْ فِي الَرْحَامِ { قد يقول أحد
من الناس :إن هناك صورا شاذة وصورا غير طبيعية .وهو سبحانه يقول لك :أنا حكيم ،وأفعلها
لحكمة فل تفصل الحدث عن حكمته ،خذ الحدث بحكمته ،وإذا أردت الحدث بحكمته تجده الجمال
عينه ،وهو سبحانه المصور في الرحم كيف يشاء ،هذا من ناحية مادته.
وهو سبحانه يوضح :فلن يترك المادة هكذا بل سيجعل لهذه المادة قيما كي تنسجم حركة الوجود
ح َكمَاتٌ هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ وَأُخَرُ
مع بعضها يقول سبحانهُ } :هوَ الّذِي أَن َزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مُتَشَا ِبهَاتٌ{ ...
()398 /
ح َكمَاتٌ هُنّ ُأمّ ا ْلكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا الّذِينَ فِي
ُهوَ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُ ْ
قُلُو ِبهِمْ زَيْغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَةِ وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِ ِه َومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيلَهُ إِلّا اللّ ُه وَالرّاسِخُونَ
فِي ا ْلعِلْمِ َيقُولُونَ َآمَنّا بِهِ ُكلّ مِنْ عِنْدِ رَبّنَا َومَا َي ّذكّرُ إِلّا أُولُو الْأَلْبَابِ ()7
إذن فبعدما صورنا في الرحام كيف يشاء على مُقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج للقيم،
بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم ،ولبد أن نأخذ الشيء بجوار الحكمة منه،
وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيما كله جميل وكله خير .فيقول سبحانه{ :
ح َكمَاتٌ }.
ُهوَ الّذِي أَن َزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مّ ْ
ح َكمَاتٌ }؟ إن الشيء المحكم هو الذي ل يتسرب إليه خلل ول
ماذا يعني الحق بقول { :آيَاتٌ مّ ْ
فساد في الفهم؛ لنه محكم ،وهذه اليات المحكمة هي النصوص التي ل يختلف فيها الناس ،فعندما
طعُواْ أَيْدِ َي ُهمَا }[المائدة.]38 :
ق وَالسّا ِرقَةُ فَا ْق َ
يقول {:وَالسّا ِر ُ
حدٍ مّ ْن ُهمَا }
ل وَا ِ
هذه آية تتضمن حُكما واضحا .وهو سبحانه يقول {:الزّانِ َي ُة وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ ُك ّ
[النور.]2 :
هذه أيضا أمور واضحة ،هذا هو المُحكم من اليات ،فالمُحكم هو ما ل تختلف فيه الفهام؛ لن
النص فيه واضح وصريح ل يحتمل سواه ،و " المُتشابه " هو الذي نتعب في فهم المراد منه،
ومادمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله؟
ويوضح لنا سبحانه ـ كما قلت لك ـ خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل؟ فال ُمحْكم جاء
للحكام المطلوبة من الخلق ،أي افعل كذا ،ول تفعل كذا ،ومادامت أفعال مطلوبة من الخلق فالذي
فعلها يُثاب عليها ،والذي لم يفعلها يُعاقب ،إذن فسيترتب عليها ثواب وعقاب ،فيأتي بها صورة
واضحة ،وإل لقال واحد " :أنا لم أفهم " ،إن الحكام تقول لك " :افعل كذا ول تفعل كذا " فهي
حين تقول " :افعل "؛ أنت صالح أل تفعل ،فلو كنت مخلوقا على أنك تفعل فقط؛ ل يقول لك:
افعل ،لكن لنك صالح أن تفعل وأل تفعل فهو يقول لك " :افعل ".
وساعة يقول لك " :ل تفعل " ،فأنت صالح أن تفعل ،فل يقال " :افعل ول تفعل " إلّ لنه خلق
فيك صلحية أن تفعل أو ل تفعل ،ونلحظ أنه حين يقول لي :افعل كذا ول تفعل كذا يريد أن أقف
أمام شهوة نفسي في الفعل والترك ،ولذلك يقول الحق في الصلة {:وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شعِينَ }[البقرة.]45 :
الْخَا ِ
فعندما يقول لي " :افعل ول تفعل " معناها :أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن أفعلها ،وأن شيئا ثقيل
علي أن أتركه ،فمثل البصر خلقه ال صالحا لن يرى كل ما في حيّزه .على حسب قانون
ت وَالَ ْرضِ }[يونس.]101 :
سمَاوَا ِ
الضوء ،والحق يقول لهُ {:قلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي ال ّ
ولكن عند المرأة التي ل يحل لك النظر إليها يقول الحق :اغضض.
جهُمْ ذاِلكَ أَ ْزكَىا َلهُمْ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ ِبمَا َيصْ َنعُونَ
حفَظُواْ فُرُو َ
{ ُقلْ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ َي ُغضّواْ مِنْ أَ ْبصَارِ ِه ْم وَيَ ْ
جهُنّ }
حفَظْنَ فُرُو َ
ن وَ َي ْ
* َوقُل لّ ْل ُم ْؤمِنَاتِ َي ْغضُضْنَ مِنْ أَ ْبصَارِهِ ّ
[النور.]31-30 :
ضضْنَ { أنه سبحانه حدد حركة العين ،ومثال آخر؛ اليد تتحرك فيأمرك
ومعنى } َي ُغضّواْ { و } َي ْغ ُ
ل تحركها إل في مأمور به ،فل تضرب بها أحدا ،ول تشعل بها نارا تحرق وتفسد
ـ سبحانه ـ أ ّ
بل أشعل بها النار لتطبخ مثلً.
إذن فهو سبحانه يأتي في " افعل ول تفعل " ويحدد شهوات النفس في الفعل أو الترك ،فإن كانت
شهوة النفس بأنها تنام ،يقول المر التعبدي :قم وصل ،وإن كانت شهوة النفس بأنها تغضب يقول
المر اليماني :ل تغضب.
إذن فالحكم إنما جاء بافعل ول تفعل لتحديد حركة النسان ،فقد يريد أن يفعل فعلً ضارا؛ فيقول
له :ل تفعل ،وقد يريد ألّ يفعل فعل خير يقول له :افعل .إذن فكل حركات النسان محكومة بـ "
افعل ول تفعل " ،وعقلك وسيلة من وسائل الدراك ،مثل العين والذن واللسان .إن مهمة العقل
أن يدرك ،فتكليفه يدعوه إلى أن يفهم أمرا ول يفهم أمرا آخر ،وجعل ال اليات المحكمات ليريح
العقل من مهمة البحث عن حكمة المر المحكم؛ لنها قد تعلو الدراك البشري .ويريد الحق أن
يلزم العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي ل تدرك حكمة تشريعه ،وأيضا لتحرك عقلك لترد
كل المتشابه إلى المحكم من اليات .وإذا قرأنا قول الحق {:لّ تُدْ ِركُهُ الَ ْبصَارُ وَ ُهوَ يُدْ ِركُ
الَ ْبصَارَ وَ ُهوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ }[النعام.]103 :
نرى أن ذلك كلم عام .وفي آية أخرى يقول سبحانه {:وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ }
[القيامة.]23-22 :
حجُوبُونَ }[المطففين.]15 :
ويتكلم عن الكفار فيقول {:كَلّ إِ ّنهُمْ عَن رّ ّبهِمْ َي ْومَئِذٍ ّلمَ ْ
إذن فالعقل ينشغل بقوله } :لّ تُدْ ِركُ ُه الَ ْبصَارُ { ،وهذا يحدث في الدنيا ،أما في الخرة فسيكون
النسان قد تم إعداده إعدادا آخر ليرى ال ،نحن الن في هذه الدنيا بالطريقة التي أعدنا بها ال
لنحيا في هذا العالم ل نستطيع أن نرى ال ،ومسألة إعداد شيء ليمارس مهمة ليس مؤهل ول
مهيأ لها الن ،أمر موجود في دنيانا ،فنحن نعرف أن إنسانا أعمى يتم إجراء جراحة له أو يتم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صناعة نظارة طبية له فيرى .ومن ل يسمع أو ثقيل السمع نصنع له سماعة فيسمع بها.
فإذا كان البشر قد استطاعوا أن ُيعِدّوا بمقدوراتهم في الكون المادي أشياء لتؤهلهم إلى استعادة
حاسة ما ،فما بالنا بالخالق الكرم الله المُربّي ،أل يستطيع أن يعيد خلقنا في الخرة بطريقة تتيح
لنا أن نرى ذاته ووجهه؟! إنه القادر على كل شيء.
إذن فالمر هنا متشابه ،إن ال يُدرَك ـ بضم الياء وفتح الراء ـ أو ل يُدْرَك ،فما الذي تغير من
الحكام بالنسبة لك؟ ل شيء .إذن فهذه اليات المتشابهات لم تأتِ من أجل الحكام ،إنما هي قد
جاءت من أجل اليمان فقط ،ولذلك فالرسول صلى ال عليه وسلم ينهي كل خلف للعلماء حول
هذه المسألة بقوله وهو الرسول الخاتم:
" إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه منه فآمنوا به ".
حكَم من اليات إنما جاء للعمل به ،والمؤمن عليه
إن المُتشَابه من اليات قد جاء لليمان به ،والمُ ْ
حكَم .مثال ذلك عندما نسمع قول ال عز وجل {:إِنّ الّذِينَ يُبَا ِيعُو َنكَ
دائما أن يرد المُتشَابِه إلى المُ ْ
علَيْهُ
إِ ّنمَا يُبَا ِيعُونَ اللّهَ َيدُ اللّهِ َفوْقَ أَيْدِي ِهمْ َفمَن ّن َكثَ فَإِ ّنمَا يَن ُكثُ عَلَىا َنفْسِ ِه َومَنْ َأ ْوفَىا ِبمَا عَاهَدَ َ
اللّهَ َفسَ ُيؤْتِيهِ أَجْرا عَظِيما }[الفتح.]10 :
شيْءٌ {.
إن النسان قد يتساءل " :هل ل يد "؟ على النسان أن يرد ذلك إلى نطاق } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
حمَـانُ عَلَى ا ْلعَرْشِ اسْ َتوَىا }[طه.]5 :
وعندما يسمع المؤمن قول الحق {:الرّ ْ
فهل ل جسم يستقر به على عرش؟ هنا نقول :هذا هو المُتشَابِه الذي يجب على المؤمن اليمان
به ،ذلك أن وجودك أيها النسان ليس كوجود ال ،ويدك ليست كيد ال وأن استواءك أيضا ليس
كاستواء ال .ومادام وجوده سبحانه ليس كوجودك وحياته ليست كحياتك فلماذا تريد أن تكون يده
كيدك؟
شيْءٌ { .ولماذا أدخلنا ال إلى تلك المجالت؟ لن ال يريد أن
هو كما قال عن نفسه } :لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
حكَم
يُلفت خلقه إلى أشياء قد ل تستقيم في العقول؛ فمن يتسع ظنه إلى أن يؤول ويردها إلى ال ُم ْ
بأن ال ليس كمثله شيء .فله ذلك ،ومن يتسع ظنه ويقول :أنا آمنت بأن ل يدا ولكن في إطار }
شيْءٌ { فله ذلك أيضا وهذا أسلم.
لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
ح َكمَاتٌ هُنّ ُأمّ ا ْلكِتَابِ { ومعنى } أُمّ { أي الصل الذي يجب أن ينتهي
والحق يقول } :مِنْهُ آيَاتٌ مّ ْ
إليه تأويل المُتشَابه إن أوّلت فيه ،أو تُرجعه إلى المُحكم فتقول :إن ل يدا ،ولكن ليست كأيدي
شيْءٌ }[الشورى.]11 :
البشر .إنما تدخل في نطاق {:لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
ولماذا قال الحق } :هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ {؟ ولم يقل :هن أمهات الكتاب؟ لك أن تعرف أيها المؤمن أنه
جعَلْنَا ابْنَ
ليس كل واحدة منهن أما ،ولكن مجموعها هو الم ،ولتوضيح ذلك فلنسمع قول الحق {:وَ َ
مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَ ًة وَآوَيْنَا ُهمَآ إِلَىا رَ ْب َوةٍ ذَاتِ قَرَارٍ َومَعِينٍ }[المؤمنون.]50 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لم يقل الحق :إنهما آيتان؛ لن عيسى عليه السلم لم يوجد كآية إل بميلده من أمه دون أب أي
بضميمة أمه ،وأم عيسى لم تكن آية إل بميلد عيسى أي بضميمة عيسى .إذن فهما معا يكونان
الية ،وكذلك } هُنّ أُمّ ا ْلكِتَابِ وَُأخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ { فالمقصود بها ليس كل محكم ُأمّا للكتاب ،إنما
المحكمات كلها هي الم ،والصل الذي يَ ُردّ إليه المؤمن أيّ متشابهٍ .ومهمة المحكم أن نعمل به،
ومهمة المتشابه أن نؤمن به؛ بدليل أنك إن تصورته على أي وجه ل يؤثر في عملك.
فقوله الحق } :لّ تُدْ ِر ُك ُه الَ ْبصَارُ { ل يترتب عليه أي حكم ،هنا يكفي اليمان فقط.
لكن ماذا من أمر الذين قال عنهم ال } :فََأمّا الّذِينَ في قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا َتشَابَهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ
ا ْلفِتْنَ ِة وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ {؟ .ولنا أن نعرف أن " الزيغ " هو الميْل ،فزاغ يعني مال ،وهي مأخوذة من
تزايغ السنان ،أي اختلف منابتها ،فسنّةٌ تظهر داخلة ،وأخرى خارجة ،وعندما ل تستقيم السنان
في طريقة نموها يصنعون لها الن عمليات تجميل وتقويم ليجعلوها صفا واحدا.
إن الذين في قلوبهم زيغ أي ميل ،يتبعون ما تشابه من اليات ابتغاء الفتنة .كأن الزيغ أمر طارئ
على القلوب ،وليس الصل أن يكون في القلوب زيغ ،فالفطرة السليمة ل زيغ فيها ،لكن الهواء
هي التي تجعل القلوب تزيع ،ويكون النسان عارفا لحكم ال الصحيح في أمر ما ،لكن هوى
النسان يغلب فيميل النسان عن حكم ال .والميل صنعة القلب ،فالنسان قد يخضع منطقه وفكره
ليخدم ميل قلبه ،ولذلك فرسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه
تبعا لما جئت به "
لماذا؟ لن آفة الرأي الهوى ،وحتى المنحرفون يعرفون القصد السليم ،لكن الواحد منهم ينحرف
لما يهوى ،ودليل معرفة المنحرف للقصد السليم أنه بعد أن يأخذ شرّته في النحراف يتوب ويعلن
توبته ،وهذا أمر معروف في كثير من الحيان؛ لن الميل َتكَّلفٌ تبريري ،أما القصد السليم فأمر
فطري ل يُرهِق ،ومثال ذلك :عندما ينظر النسان إلى حلله ،فإنه ل يجد انفعال ملكة يناقض
انفعال ملكة أخرى ،ولكن عندما ينظر إلى واحدة ليست زوجته ،فان ملكاته تتعارك ،ويتساءل:
هل ستقبل منه النظرة أم ل؟ إن ملكاته تتضارب ،أما النظر إلى الحلل فالملكات ل تتعب فيه.
لذلك فاليمان هو اطمئنان ملكات ،فكل ملكات النسان تتآزر في تكامل ،فل تسرق ملكة من وراء
أخرى.
مثال آخر :عندما يذهب واحد لحضار شيء من منزله ،فإنه ل يحس بتضارب ملكاته ،أما إذا
ذهب إنسان آخر لسرقة هذا الشيء فإن ملكاته تتضارب ،وكذلك جوارحه؛ لنها خالفت منطق
الحق والستقامة والواقع.
} فََأمّا الّذِينَ في قُلُو ِبهِمْ زَيْغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَ ِة وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ { إذن فاتباعهم
للمتشابه منه ليؤوّلوه تأويلً يخالف الواقع ليخدموا الزيغ الذي في قلوبهم .فالميل موجود عند
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قلوبهم أولً ثم بدأ الفكر يخضع للميل ،والعبارة تخضع للفكر ،وهكذا نرى أن الصل في الميل قد
جاء منهم ..ولننظر إلى أداء القرآن الكريم حين يقول {:فََلمّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ }[الصف.]5 :
كأنه يقول :مادمتم تريدون الميل فسأميلكم اكثر وأساعدكم فيه .والحق سبحانه ل يبدأ إنسانا بأمر
يناقض تكليفه ،لكن النسان قد يميله هواه إلى الزيغ ،فيتخلى ال عنه :ويدفعه إلى هاوية الزيغ.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قد رأينا من يريد أن يعيب على واحد بعض تصرفاته فقال له :يا أخي أتَدّعي أنك أحطت بكل علم
ال؟ فقال له :ل .قال له :أنا من الذي ل تعلم .وكأنه يرجوه أن ينصرف عنه.
والعلماء لهم وقفات عند قوله الحقَ } :ومَا َيعَْلمُ تَ ْأوِيلَهُ ِإلّ اللّهُ { :بعضهم يقف عندها ويعتبر ما
جاء من بعد ذلك وهو قوله الحق } :وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ { كلما مستأنفا ،إنهم يقولون :إن ال
وحده الذي يعلم تأويل المتشابه ،والمعنى } :وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ { أي الثابتون في العلم ،الذين ل
تغويهم الهواء ،إنهمَ } :يقُولُونَ آمَنّا ِبهِ ُكلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا { وهو ما قاله الرسول صلى ال عليه
وسلم ،إن الراسخين في العلم يقولون :إن المحكم من اليات سيعلمون به ،والمتشابه يؤمنون به،
وكل من المتشابه والمحكم من عند ال.
أمّا مَن عطف وقرأ القول الحكيم ووقف عند قوله } :وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ { نقول له :إن
الراسخين في العلم علموا تأويل المتشابه ،وكان نتيجة علمهم قولهم } :آمَنّا ِبهِ {.
إن المرين متساويان ،سواء وقفت عند حد علم ال للتأويل أو لم تقف .فالمعنى ينتهي إلى شيء
واحد .وحيثية الحكم اليماني للراسخين في العلم هي قوله الحق على لسانهمَ } :يقُولُونَ آمَنّا ِبهِ ُكلّ
مّنْ عِندِ رَبّنَا { فالمحكم من عند ربنا ،والمتشابه من عند ربنا ،وله حكمة في ذلك؛ لنه ساعة أن
يأمر العلى الدنى بأمر ويبين له علته فيفهم الدنى ويعمل ،وبعد ذلك يلقي العلى المر آخر
ول يبين علته ،فواحد ينفذ المر وإن لم يعرف العلة ،وواحد آخر يقول :ل ،عليك أن توضح لي
العلة .فهل الذي آمن آمن بالمر أو بالعلة؟
إن الحق يريد أن نؤمن به وهو المر ،ولو أن كل شيء صار مفهوما لما صارت هناك قيمة
لليمان .إنما عظمة اليمان في تنفيذ بعض الحكام وحكمتُها غائبة عنك؛ لنك إن قمت بكل شيء
وأنت تفهم حكمته فأنت مؤمن بالحكمة ،ولست مؤمنا بمن أصدر المر.
وعندما نأتي إلى لحم الخنزير الذي حرمه ال من أربعة عشر قرنا ،ويظهر في العصر الحديث
أن في أكل لحم الخنزير مضار ،ويمتنع الناس عن أكله لن فيه مضار ،فهل امتناع هؤلء أمر
يثابون عليه؟ طبعا ل ،لكن الثواب يكون لمن امتنع عن أكل لحم الخنزير لن ال قد حرمه؛ ولن
المر قد صدر من ال ،حتى دون أن َيعْرّفنا الحكمة ،إن المؤمن بال يقول :إن ال قد خلقني ول
يمكن ـ وهو الخالق ـ أن يخدعني وأنا العبد الخاضع لمشيئته.
ل لمر ال ،هو الذي ينال الثواب ،أما
إن العبد الممتنع عن أكل لحم الخنزير وشرب الخمر امتثا ً
الذي يمتنع خوفا من اهتراء الكبد أو الصابة بالمرض فل ثواب له .وهناك فرق بين الذهاب إلى
الحكم بالعلة .وبين الذهاب إلى الحكم بالطاعة للمر بالحكم.
إذن فالمتشابه من اليات نزل لليمان به ،والراسخون في العلم يقابلهم من تلويهم الهواء،
والهواء تلوي إلى مرادات النفس وإلى ابتغاءات غير الحق .ومادامت ابتغاءات غير الحق ،فغير
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق هو الباطل ،فكل واحد من أهل الباطل يحاول أن يأتي بشيء يتفق مع هواه.
ولذلك جاء التشريع من ال ليعصم الناس من الهواء؛ لن هوى إنسان ما قد يناقض هوى إنسان
آخر ،والباقون من الناس قد يكون لهم هوى يناقض بقية الهواء .والحق سبحانه يقول {:وََلوِ اتّبَعَ
ض َومَن فِيهِنّ َبلْ أَتَيْنَاهُمْ ِب ِذكْرِهِمْ َف ُهمْ عَن ِذكْرِ ِهمْ
ت وَالَرْ ُ
سمَاوَا ُ
حقّ أَ ْهوَآءَهُمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
الْ َ
ّمعْ ِرضُونَ }[المؤمنون.]71 :
إذن فل بد أن نتبع في حركتنا ما ل هوى له إل الحق ،والدين إنما جاء ليعصمنا من الهواء؛
فالهواء هي التي تميلنا ،والذي يدل على أن الهواء هي التي تميل إلى غير الحق أن صاحب
الهوى يهوى حكما في شيء ،ثم تأتي ظروف أخرى تجعله يهوى حكما مقابلً ،إنه يلوي المسألة
على حسب هواه ،وإل فما الذي ألجأ دنيا الناس إلى أن يخرجوا من قانون السماء الول الذي حكم
الرض عند آدم عليه السلم؟
لقد خرجوا من قانون السماء حينما قام قوم بأمر الدين فأخذوا لهم من هذا سلطة زمنية ،وأصبحوا
يُخضعون المسائل إلى أهوائهم .ونحن إذا نظرنا إلى تاريخ القانون في العالم لوجدنا أن أصل
الحكم في القضايا إنما هو لرجال الدين والكهنة والقائمين على أمر المعابد .كان الحكم كله لهم،
لن هؤلء كانوا هم المتكلمين بمنهج ال.
ولماذا لم يستمر هذا المر ،وجاءت القوانين الرومانية والنجليزية والفرنسية وغيرها؟ لنهم
جربوا على القائمين بأمر الدين أنهم خرجوا عن نطاق التوجيه السماوي إلى خدمة أهوائهم،
فلحظ الناس أن هؤلء الكهنة يحكمون في قضية بحكم ما يختلف عن حكم آخر في قضية
متشابهة .إنهم القضاة أنفسهم والقضايا متشابهة متماثلة ،لكن حكم الهوى يختلف من قضية إلى
أخرى ،بل وقد يتناقض مع الحكم الول ،فقال الناس عن هؤلء الكهنة:
لقد خرجوا عن منطق الدين واتبعوا أهواءهم ،ليثبتوا لهم سلطة زمنية ،فنحن لم نعد نأمنهم على
ذلك .وخرج التقنين والحكم من يد الكهنة ورجال الدين إلى غيرهم من رجال التقنين .لقد كان أمر
القضاء بين الكهنة ورجال الدين؛ لن الناس افترضت فيهم أنهم يأخذون الحكام من منهج ال،
فلما تبين للناس أن الكهنة ورجال الدين ل يأخذون الحكم من منهج ال ،ولكن من الهوى البشري،
عند ذلك أخذ الناس زمام التقنين لنفسهم بما يضمن لهم عدالة ما حتى ولو كانت قاصرة.
وبمناسبة كلمة الهوى نجد أن هناك ثلثة ألفاظ:
أول :الهواء هو ما بين السماء والرض ،ويراد به الريح ويحرك الشياء ويميلها وجمعه :الهوية
وهذا أمر حسي .ثانيا :الهوَى :وهو ميل النفس ،وجمعه :الهواء ،وهو مأخوذ من َه ِوىَ َي ْهوَى
بمعنى مال.
ثالثا :الهَوىّ :بفتح الهاء وضمها وتشديد الياء وهو السقوط مأخوذ من َهوَى َيهْوي :بمعنى سقط.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا يدل على أن الذي يتبع هواه لبد أن يسقط ،والشتقاقات اللغوية تعطي هذه المعاني.
إنها متلقية .إذن الراسخون في العلم يقفون ثابتين عند منهج ال .وأما الذين يتبعون أهواءهم فهم
يميلون على حسب ميل الريح .فإن الريح مالت ،مالوا حيث تميل.
سخُونَ فِي ا ْلعِ ْلمِ َيقُولُونَ آمَنّا ِبهِ ُكلّ مّنْ
ويقول الراسخون في العلم في نهاية علمهم :آمنا } وَالرّا ِ
عِندِ رَبّنَا { .وهنا تلتقي المسألة ،فنحن نعرف أن المحكم نزل للعمل به ،والمشابه نزل لليمان به
لحكمة يريدها ال سبحانه وتعالى ،وهي أن نأخذ المر من المر ل لحكمة المر .وعندما نأخذ
الوامر من الحق فل نسأل عن علتها؛ لننا نأخذها من خالق محب حكيم عادل .والنسان إن لم
ينفذ المر القادم من ال إل إذا علم علته وحكمته فإننا نقول لهذا النسان :أنت ل تؤمن بال ولكنك
تؤمن بالعلة والحكمة ،والمؤمن الحق هو من يؤمن بالمر وإن لم يفهم.
والراسخون في العلم يقولون :آمنا به ،كل من عند ال ،المحكم من عند ربنا والمتشابه من عند
ربنا:
ويضيف سبحانهَ } :ومَا َي ّذكّرُ ِإلّ ُأوْلُواْ الَلْبَابِ { و } ُأوْلُو ْا الَلْبَابِ { أي أصحاب العقول
المحفوظة من الهوى ،لن آفة الرأي الهوى ،والهوى يتمايل بهَ } .ومَا يَ ّذكّرُ ِإلّ ُأوْلُو ْا الَلْبَابِ { و
" اللب " هو :العقل ،يخبرنا ال أن العقل يحكم ُلبّ الشياء ل ظواهر الشياء وعوارضها ،فهناك
أحكام تأتي للمر الظاهر ،وأحكام لُلبّ .الحق يأمر بقطع يد السارق .وبعد ذلك يأتي من يمثل
دور حامي النسانية والرحمة ويقول " :هذه وحشية وقسوة "!
هذا ظاهر الفهم ،إنما ُلبّ الفهم أني أردت أن تُقطع يد السارق حتى أمنعه أن يسرق؛ لن كل
واحد يخاف على ذاته ،فيمنعه ذلك أن يسرق .وقد قلنا من قبل إن حادثة سيارة قد ينتج عنها
مشوهون قدر مِنْ قطعت أيديهم بسبب السرقة في تاريخ السلم كله ،فل تفتعل وتدعي أنك رحيم
ول تنظر إلى العقاب حين ينزل بالمذنب ،ولكن انظر إلى الجريمة حين تقع منه ،فإن ال يريد أن
يحمي حركة الحياة للناس بحيث إذا علمت وكددت واجتهدت وعرقت يضمن ال لك حصيلة هذا
العمل ،فل يأتي متسلط يتسلط عليك ليأخذ دمه من عرقك أنت.
إذن فهو يحمي حركة الحياة وتحرك كل واحد وهو آمن ،هذا " ُلبّ " الفهم ،ولذلك يقول تعالى} :
وََلكُمْ فِي ا ْلقِصَاصِ حَيَاةٌ { ،إياكم أن تقولوا :إن هذا القصاص اعتداء على حياة فرد .ل ،لن }
وََلكُمْ فِي ا ْلقِصَاصِ حَيَاةٌ { إنّ من علم إنه إن قَتل فسيقتل ،سيمتنع عن القتل ،إذن فقد حمينا نفسه
وحمينا الناس منه ،وهكذا يكون في القصاص حياة ،وذلك هو ُلبّ الفهم في الشياء؛ فال سبحانه
وتعالى يلفتنا وينبهنا أل نأخذ المور بظواهرها ،بل نأخذها بلبها ،وندع القشور التي يحتكم إليها
أناس يريدون أن ينفلتوا من حكم ال .و } وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ { حينما فَصلوا في أمر المتشابه
دعوا ال بالقول الذي أنزله ـ سبحانه ـ } :رَبّنَا لَ تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ َهدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِن لّدُ ْنكَ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ {
رَ ْ
()399 /
فكأن قول الراسخين في العلم :إن كل محكم وكل متشابه هو من عند ال ،والمحكم نعمل به،
والمتشابه نؤمن به ،فهذه هي الهداية؛ ثم يكون الدعاء بالثبات على هذه الهداية ،والمعنى :يا رب
ثبتنا على عبادتك ول تجعل قلوبنا تميل أو تزيع .وهذا يدلنا على أن القلوب تتحول وتتغير؛ لذلك
يأتي القول الفصل بالدعاء على الثبات اليماني:
حمَةً إِ ّنكَ أَ ْنتَ ا ْلوَهّابُ } [آل عمران.]8 :
{ رَبّنَا لَ تُ ِزغْ قُلُوبَنَا َبعْدَ ِإذْ َهدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِن لّدُ ْنكَ َر ْ
إنهم يطلبون رحمة هبة ل رحمة حق ،فليس هناك مخلوق له حق على ال إل ما وهبه ال له.
والراسخون في العلم يطلبون من ال الرحمة من الوقوع في الهوى بعد أن هداهم ال إلى هذا
الحكم السليم بأن المتشابه والمحكم كل من عند ال ويعلموننا كيف يكون الطريق إلى الهداية
وطلب رحمة الهبة .والراسخ في العلم مادام قد علم شيئا فهو يريد أن يشيعه في الناس ،لذلك يقول
لنا:
إياكم أن تظنوا أن المسألة مسألة فهم لنص وتنتهي ،إن المسألة يترتب عليها أمر آخر ،هذا المر
الخر ل يوجد في الدنيا فقط ،فهناك آخرة ،فالدنيا مقدور عليها لنها محدودة المد ومنتهية ،ولكن
هناك الخرة التي تأتي بعد الدنيا حيث الخلود ،فيقول الحق على لسان الراسخين في العلم { :رَبّنَآ
إِ ّنكَ جَامِعُ النّاسِ لِ َيوْ ٍم لّ رَ ْيبَ فِيهِ} ...
()400 /
رَبّنَا إِ ّنكَ جَا ِمعُ النّاسِ لِ َيوْمٍ لَا رَ ْيبَ فِيهِ إِنّ اللّهَ لَا ُيخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ ()9
وقولهم { :رَبّنَآ } نفهم منه أنه الحق المتولي التربية ،ومعنى التربية هو إيصال من تتم تربيته إلى
الكمال المطلوب له ،فهناك ربّ يربي ،وهناك عبد تتم تربيته ،والربّ يعطي النسان ما يؤهله إلى
الكمال المطلوب له.
والمؤمنون يرجون ال قائلين :يا رب من تمام تربيتك لنا أن تحمينا من عذاب الخرة ،فإذا ما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عشنا الدنيا وانتهت فنحن نعلم أنك جامع الناس ليوم ل ريب فيه ،ومادمت ربا ،ومادمت إلها فإنك
ل تخلف الميعاد؛ فالذي يخلف الميعاد ل يكون إلها؛ لن الله ساعة الوعد يعلم بتمام قدرته وكمال
علمه أنه قادر على النفاذ ،إنما الذي ليس لديه قدرة على النفاذ ل يستطيع أن يعد إل مشمول
بشيء يستند إليه ،كقولنا نحن العباد " :إن شاء ال " لماذا؟ لن الواحد منا ل يملك أن يفي بما
وعد.
علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن
حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى {:وَلَ َتقْولَنّ لِشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ
لقْرَبَ مِنْ هَـاذَا رَشَدا }[الكهف:
يَشَآءَ اللّ ُه وَا ْذكُر رّ ّبكَ إِذَا َنسِيتَ َو ُقلْ عَسَىا أَن َي ْهدِيَنِ رَبّي َ
.]24-23
قُلنا إياك أن تقول :إني سأفعل شيئا إل أن تشتمله وتربطه بمشيئة ال؛ لنك أنت إن وعدت ،فأنت
ل تضمن عمرك ول إنفاذ وعدك ،إنك لن تفعل شيئا إل بإرادة ال ،لذلك فل تعد إل بالمشيئة،
لنك تعد بما ل تضمن ،فأنت في حقيقة المر ل تملك شيئا ،فإن أردت فعل أي شيء أو الذهاب
إلى أي مكان فالفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول وزمان ومكان وسبب ،ثم يحتاج إلى قدرة لتنفيذ
الفعل .والنسان ل يملك من هذه الشياء إل ما يشاء ال له أن يملكه .إن النسان ل يملك أن يظل
فاعل .والنسان ل يملك إن وُجد الفاعل أن يوجد المفعول .والنسان ل يملك الزمن ،ول يملك
المكان ،بل ل يملك النسان أن يظل السبب قائما ليفعل ما كان يريد أن يفعله؛ فكل هذه العناصر،
الفاعل والمفعول ،والزمان ،والمكان ،والسبب ،ل يملكها إل ال .لذلك فليحم النسان نفسه من أن
علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن
يكون كاذبا ومجازفا وليكن في ظل قوله تعالىَ {:ولَ َتقْولَنّ لِشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ
لقْرَبَ مِنْ هَـاذَا رَشَدا }[الكهف:
يَشَآءَ اللّ ُه وَا ْذكُر رّ ّبكَ إِذَا َنسِيتَ َو ُقلْ عَسَىا أَن َي ْهدِيَنِ رَبّي َ
.]24-23
إن كلمة { ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ } تعصم النسان من أن يكون كاذبا .وعندما ل يحدث الذي يعد به
النسان فمعنى ذلك أن ال لم يشأ؛ لن النسان ل يملك عنصرا واحدا من عناصر هذا الفعل.
وعندما يقول الحق { :رَبّنَآ إِ ّنكَ جَامِعُ النّاسِ لِ َيوْ ٍم لّ رَ ْيبَ فِيهِ إِنّ اللّ َه لَ ُيخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ } لن الذي
يخلف الميعاد إنما تمنعه قوة قاهرة تأتيه؛ ولو من تغير نفسه تمنعه أن يفعل ،أما ال فل تأتي قوة
قاهرة لتغير ما يريد أن يفعل ،ول يمكن أن يتغير؛ لن التغير ليس من صفات القديم الزلي.
وحين يؤكد الحق أنه سيتم جمعنا بمشيئته في يوم ل ريب فيه ،وأن ال ل يخلف الميعاد ،فمن
المؤكد أننا سنلتقي .وسنلتقي لماذا؟ لقد قال الراسخون في العلم :عملنا بالمحكم ،وآمنا بالمتشابه،
ودعوا ال أن يثبت قلوبهم على الهداية رحمة من عنده ،وأن يبعد قلوبهم عن الزيغ؛ لنهم خائفون
من اليوم الذي سيجمع ال الناس فيه ،إننا سنلتقي للحساب على أفعالنا وإيماننا .وبعد ذلك يقول
الحق جل شأنه } :إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ لَن ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأ ْولَدُهُم مّنَ اللّهِ شَيْئا{ ...
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()401 /
إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ ُه ْم َوقُودُ النّارِ ()10
ساعة تسمع وأنت المؤمن ،ويسمع معك الكافر ،ويسمع معك المنافق { :رَبّنَآ إِ ّنكَ جَامِعُ النّاسِ لِ َيوْمٍ
لّ رَ ْيبَ فِيهِ إِنّ اللّ َه لَ ُيخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ } ربما فكر الكافر أو المنافق أن هناك شيئا قد ينقذه مما
سيحدث في ذلك اليوم ،كعزوة الولد ،أو كثرة مال يشتري نفسه به ،أو خلة ،أو شفاعة ،هنا
يقول الحق لهم :ل ،إن أولدكم وأموالكم ل تغني عنكم شيئا.
وفي اللغة يقال :هذا الشيء ل يغني فلنا ،أي أنه يظل محتاجا إلى غيره؛ لن الغِنَى هو أل تحتاج
إلى الغير ،فالموال والولد ل تُغني أحدا في يوم القيامة ،والمسألة ل عزوة فيها ،ول أنساب
بينهم يومئذ والجنة ليست للبيع ،فل أحد يستطيع شراء مكان في الجنة بمال يملكه.
وكان الكافرون على أيام رسول ال صلى ال عليه وسلم يقولون ذلك القول الشاذ يقولون :مادام
ال قد أعطانا أموالً وأولدا في الدنيا فل بد أن يعطينا في الخرة ما هو أفضل من ذلك .ولذلك
يقول ال لهم { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ لَن ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأ ْولَدُهُم مّنَ اللّهِ شَيْئا } إذن فالمر كله
مردود إلى ال .صحيح في هذه الدنيا أن ال قد يخلق السباب ،والكافر تحكمه السباب ،وكذلك
المؤمن ،فإذا ما أخذ الكافر بالسباب فإنه يأخذ النتيجة ،ولكن في الخرة فالمر يختلف؛ فلن يملك
شيْءٌ
خفَىا عَلَى اللّهِ مِ ْن ُهمْ َ
ن لَ يَ ْ
أحد أسبابا ،ولذلك يقول الحق عن اليوم الخرَ {:يوْمَ هُم بَارِزُو َ
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
إن البشر في الدنيا يملكون السباب ،ويعيشون مختلفين في النعيم على اختلف أسبابهم ،واختلف
كدحهم في الحياة ،واختلف وجود ما يحقق للنسان المُتع ،لكن المر في الخرة ليس فيه كدح
ول أسباب؛ لن النسان المؤمن يعيش بالمُسبب في الخرة وهو ال ـ جلت قدرته ـ فبمجرد أن
يخطر الشيء على بال المؤمن في الجنة فإن الشيء يأتي له .أما الكفار فل يغني عنهم مالهم ول
ن الَعْرَابِ
أولدهم ،لنهم انشغلوا في الدنيا بالمال والولد وكفروا بال {.سَ َيقُولُ َلكَ ا ْلمُخَّلفُونَ مِ َ
شغَلَتْنَآ َأ ْموَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْ َت ْغفِرْ لَنَا َيقُولُونَ بِأَلْسِنَ ِت ِهمْ مّا لَيْسَ فِي قُلُو ِبهِمْ }[الفتح.]11 :
َ
إذن فما انشغل به الكفار في الدنيا لن ينفعهم ،ويضيف الحق عن الكفار في تذييل الية التي نحن
بصددها { :وَأُولَـا ِئكَ هُ ْم َوقُودُ النّارِ } إنهم المعَذبون ،وسوف يتعذبون في النار .ولنر النكاية
الشديدة بهم ،إن الذين ُي َعذّبون هم الذي ُيعَذّبُون؛ لنهم بأنفسهم سيكونون وقود النار .إن المعَذّب ـ
بفتح العين وفتح الذال مع التشديد ـ يكون هو الم َعذّب ـ بفتح العين وكسر الذال مع التشديد-
فهذه ثورة البعاض .فذرّات الكافر مؤمنة ،وذرات العاصي طائعة ،والذي جعل هذه الذرات تتجه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى فعل ما يُغضب ال هو إرادة صاحبها عليها.
وضربنا قديما المثل ـ ول المثل العلى ـ وقلنا :هب أن كتيبة لها قائد فالمفروض في الكتيبة أن
تسمع أمر القائد ،وتقوم بتنفيذ ما أمر به؛ فإذا ما جاءوا للمر والقائد العلى بعد ذلك فإنهم
يرفعون أمرهم إليه ويقولون له :بحكم المر نفذنا العمل الذي صدر لنا من قائدنا المباشر وكنا
شهَدُ عَلَ ْيهِمْ
غير موافقين على رأيه .وفي الحياة اليمانية نجد القول الحكيم من الخالقَ {:يوْمَ تَ ْ
جُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[النور.]24 :
أَلْسِنَ ُتهُمْ وَأَيْدِيهِ ْم وَأَرْ ُ
فكان اللسان ينطق بكلمة الكفر وهو لعِنٌ لصاحبه .واليد تتقدم إلى المعصية وهي كارهةٌ
لصاحبها ولعِنةٌ له ،إن إرادة ال العليا هي التي جعلت للكافر إرادة على يده ولسانه في الدنيا،
وينزع ال إرادة الكافر عن جوارحه يوم القيامة فتشهد عليه أنه أجبرها على فعل المعاصي،
وتعذب البعاض بعضها ،وعندما يقول الحق } :وَأُولَـا ِئكَ هُ ْم َوقُودُ النّارِ { وهنا مسألة يجب أن
نلتفت إليها ونأخذها من واقع التاريخ ،هذه المسألة هي أن الذين كفروا برسالت ال في الرض
تلقوا بعض العذاب في الدنيا؛ لن ال ل يدّخر كل العقاب للخرة وإل لشقي الناس بالكافرين
جلُ بشيء من العقاب للكافرين والعاصين في هذه الدنيا.
وبالعاصين ،ولذلك فإن ال ُيعَ ّ
عوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا{ ...
ويقول الحق مثالً على ذلك } :كَدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ
()402 /
وساعة تسمع " كدأب كذا " فالدأب هو العمل بكدح وبل انقطاع فنقول :فلن دأبه أن يفعل كذا أي
هو معتاد دائما أن يفعل كذا .أو نقول :ليس لفلن دأب إل أن يغتاب الناس.
فهل معنى ذلك أن كل أفعاله محصورة في اغتياب الناس ،أو أنه يقوم بأفعال أخرى؟ إنه يقوم
بأفعال أخرى لكن الغالب عليه هو الغتياب ،وهذا هو الدأب .فالدأب هو السعي بكدح وتوالٍ حتى
عوْنَ } أي كعادة آل فرعون .وآل
يصبح الفعل بالتوالي عادة .إذن فقوله الحق { :كَ َد ْأبِ آلِ فِرْ َ
فرعون هم قوم جاءوا قبل الرسالة السلمية ،وقبلهم كان قوم ثمود وعاد وغيرهم.
ويلفتنا الحق سبحانه إلى أن ننظر إلى هؤلء ونرى ما الذي حدث لهم ،إنه سبحانه لم يؤخر
عقابهم إلى الخرة؛ لنه ربما ظن الناس أن ال قد ادخر عذاب الكافرين إلى الخرة؛ لنه قال{:
إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ لَن ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأ ْولَدُهُم مّنَ اللّهِ شَيْئا وَأُولَـا ِئكَ ُه ْم َوقُودُ النّارِ }[آل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمران.]10 :
عذَابٌ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وََلعَذَابُ الخِ َرةِ
ل ،بل العذاب أيضا في الدنيا مصداقا لقوله الحقّ {:لهُمْ َ
ق َومَا َلهُم مّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ }[الرعد.]34 :
شّأَ َ
إن العذاب لو تم تأجيله إلى الخرة لشقي الناس بالشقياء ،لذلك يأتي ال بأمثلة من الحياة ويقول:
عوْنَ } أي كعادة آل فرعون ،ول تصير مسألة عادة إل بالكدح في العمل ،وكان
{ َكدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ
دأب آل فرعون هو التكذيب والطغيان وادّعاء فرعون اللوهية.
ويقول سبحانه { :وَالّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فََأخَذَ ُهمُ اللّهُ بِذُنُو ِبهِ ْم وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } فصار
الدأب منهم ،ومما وقع بهم ،فإذا كانوا قد اعتادوا الكفر والتكذيب فقد أوقع ال عليهم العذاب .لقد
كان دأب آل فرعون هو التكذيب ،والخالق ـ سبحانه ـ يجازيهم على ذلك بتعذيبهم ،ولتقرأ إن
شفْ ِع وَا ْلوَتْرِ * وَالّيلِ إِذَا َيسْرِ * َهلْ
عشْرٍ * وَال ّ
شئت قول الحق سبحانه وتعالى {:وَالْفَجْرِ * وَلَيالٍ َ
سمٌ لّذِى حِجْرٍ * أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِ َرمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي
فِي ذَِلكَ قَ َ
لدِ *
ط َغوْاْ فِي الْبِ َ
لوْتَادِ * الّذِينَ َ
الْبِلَدِ * وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْعَوْنَ ذِى ا َ
س ْوطَ عَذَابٍ * إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ }[الفجر.]14-1 :
صبّ عَلَ ْيهِمْ رَ ّبكَ َ
فََأكْثَرُواْ فِيهَا ا ْلفَسَادَ * َف َ
خذَهُمُ اللّهُ
فدأبهم التكذيب وجزاء ال لهم على ذلك هو العذاب والعقاب .إذن فقوله الحق { :فَأَ َ
بِذُنُو ِبهِ ْم وَاللّهُ شَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } أي أوقع بهم العذاب في الدنيا ،وكانت النهاية ما كانت في آل فرعون
وثمود ومن قبلهم من القوم الكافرين.
شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ } فالذهن ينصرف إلى أن هناك ذنبا يستحق العقاب.
وعندما تسمع قول ال { :وَاللّهُ َ
وكل المور من المعنويات مأخوذة دائما من المُحسّات؛ لن الصل في إيجاد أي معلومات
معنوية هو المشاهد الحسّية ،وتُنقل الشياء الحسّية إلى المعنويات بعد ذلك.
لماذا؟ لن الشيء الحسّي مشهود من الجميع ،أما الشيء المعنوي فل يفهمه إل المتعقلون،
والنسان له أطوار كثيرة .ففي طور الطفولة ل يفهم ول يعقل النسان إل المر المحسوس أمامه.
وقلت قديما في معنى كلمة " الغصب " :إنه أخذ وسلب شيء من إنسان صاحب حق بقوة ،وهذا
أمر معنوي له صورة مشهدية؛ لن الذي يسلخ الجلد عن الشاة نسميه غاصبا .ولنر كيف يكون
أخذ الحق من صاحبه ،إنه كالسلخ تماما ،فالكلمة تأتي لليضاح.
وكلمة " ذنب " وكلمة " عقوبة " مترابطتان؛ فكلمة " ذنب " مأخوذة من مادة ذنب؛ لن المادة كلها
تدل على " التالي " والذَنَب يتلو المقدمة في الحيوان .والعقاب هو ما يأتي عقب الشيء.
إذن فهناك ذنب وهناك عقاب .لكن ماذا قبل الذنب ،وماذا يتلو العقاب؟ ل يوجد ذنب إل إذا وُجِدَ
نص يُجرّم ،فل ذنب إلّ بنص .فليس كل فعل هو ذنب ،بل لبد من وجود نص قبل وقوع الذنب.
يجرّم فعله؛ ولذلك أخذ التقنين الوضعي هذا المر ،فقال :ل يمكن أن يعاقب إنسان إل بتجريم،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ول تجريم إل بنص ،فل يمكن أن يأتي إنسان فجأة ويقول :هذا العمل جريمة يعاقب عليها .بل
لبد من التنبيه والنص من قبل ذلك على تجريم هذا العمل.
إنه ل عقوبة إل بتجريم ،ول تجريم إل بنص .فالنص يوضح تجريم فعل نوع ما من العمل ،وإن
قام إنسان بهذا العمل فإنه ُيجّرم ،ويكون ذلك هو الذنب ،فكأن الذنب جاء تاليا لنص التجريم.
والعقاب يأتي عقب الجريمة ،وهكذا نجد أن كل من الذنب والجريمة يأخذان واقع اللفظ ومدلوله
ومعناه؛ فالذّ َنبُ هو التالي للشيء .ولذلك يسمون الدلو الذي يملونه بالماء " ذَنُوبَا " لنه هو الذي
صحَا ِبهِمْ فَلَ يَسْ َت ْعجِلُونِ
يتلو الحبل .وأيضا الجزاء في الخرة {:فَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ ذَنُوبا مّ ْثلَ ذَنُوبِ َأ ْ
}[الذاريات.]59 :
أي ذَنوبا تتبع ،وتتلو جريمتهم .إذن فالنص القرآني في أي ذنب وفي أي عقاب يؤكد لنا القضية
القانونية الصطلحية الموجودة في كل الدنيا :إنه ل عقوبة دون تجريم .فكان العقابُ بعد الجريمة
أي بعد الذنب ،والذنب بعض النص ،فل نأتي لواحد بدون نص سابق ونقول له :أنت ارتكبت
ذنبا .وهذه تحل إشكالت كثيرة ،مثال ذلك {:إِنّ اللّ َه لَ َي ْغفِرُ أَن ُيشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَن
عظِيما }[النساء.]48 :
يَشَآءُ َومَن ُيشْ ِركْ بِاللّهِ َفقَدِ افْتَرَىا إِثْما َ
إن ال يغفر ما دون الشرك بال ،فالشرك بال قمة الخيانة العظمى؛ وهذا ل غفران فيه وبعد ذلك
سهِ ْم لَ َتقْنَطُواْ
يغفر لمن يشاء .ويقول الحق في آية أخرىُ {:قلْ ياعِبَا ِديَ الّذِينَ أَسْ َرفُواْ عَلَىا أَنفُ ِ
جمِيعا إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }
حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ
مِن رّ ْ
[الزمر.]53 :
فهناك بعض من الناس يقولون :إن ال قال :إنه ل يغفر أن يشرك به ،ويغفر ما دون ذلك لمن
يشاء ،حتى إنهم قالوا :إن ابن عباس ساعة جاءت هذه الية التي قال فيها الحق } :إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ
جمِيعا { قال " :إل الشرك " وذلك حتى ل تصطدم هذه الية من الية الخرى.
الذّنُوبَ َ
والواقع أنه حين يدقق أولو اللباب فلن نجد اصطداما ،لن الذين أسرفوا على أنفسهم .هم من
عباد ال الذين آمنوا ولم يشركوا بربهم أحدا ،ولكنهم زلّوا وغووا ووقعوا في المعاصي فهؤلء
يقال عنهم :إنهم مذنبون؛ لنهم مؤمنون بال ومعترفون بالذي أنزله ،أما المشرك فلم يعترف بال
ول بما شرع وقنن من أحكام ،فما هو عليه ل يسمى ذنبا وإنما هو كفر وشرك .فل تعارض ول
تصادم في آيات الرحمن.
وعندما يقول الحق:
شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ { [آل
عوْنَ وَالّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَ َذهُمُ اللّهُ بِذُنُو ِبهِمْ وَاللّهُ َ
} َكدَ ْأبِ آلِ فِرْ َ
عمران.]11 :
فهذا القول الحكيم متوازن ومُتّسِق ،فالذنب يأتي بعد نص ،والعقاب من بعد ذلك .ويقول الحق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ {
ن وَتُحْشَرُونَ إِلَىا َ
آمرا رسوله ببلغ الكافرينُ } :قلْ لّلّذِينَ كَفَرُواْ سَ ُتغْلَبُو َ
()403 /
إنه أمر من ال لرسوله صلى ال عليه وسلم وهو المبلغ عن ال ،أن يحمل للكافرين خبرا فيه
إنذار .من هم هؤلء الكفار؟ هل هم كفار قريش؟ المر جائز .هل هم اليهود؟ الم جائز .فالبلغ
يشمل كل كافر.
والنص القرآني حينما يأتي فهو يأتي على غير عادة الناس في الخطاب ،ولضرب هذا المثل ـ
ول المثل العلى وسبحانه منزه عن التشبيه أو المثل ـ أنت تقول لبنك :اذهب إلى عمك ،وقل
له :إن أبي سيحضر لزيارتك غدا .فماذا يكون كلم البن للعم؟ إن البن يذهب للعم ويقول له :إن
أبي سيزورك غدا .لكن المر وهو الب يقول :قل لعمك إن أبي سيزورك غدا .فإذا كان البن
دقيق المانة فهو يقول:
ـ قال أبي :ـ قل لعمك إن أبي سيزورك غدا .وعندما يقول الحق سبحانه { ُقلْ لّلّذِينَ َكفَرُواْ
جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ }.
ن وَتُحْشَرُونَ إِلَىا َ
سَ ُتغْلَبُو َ
فهذا معناه قمة المانة من الرسول المبلغ عن ال ،ف َنقَل للكافرين النص الذي أمره ال بتبليغه
للكافرين .وإل كان يكفي الرسول صلى ال عليه وسلم أن يذهب للكافرين ويقول لهم :ستُغلبون
وتُحشرون .لكن من يدريهم أن هذا الكلم ليس من عند محمد وهو بشر؟ لذلك يبلغهم الرسول
حشَرُونَ إِلَىا
ن وَتُ ْ
صلى ال عليه وسلم أن ال أبلغه أن يبلغهم بقولهُ { :قلْ لّلّذِينَ َكفَرُواْ سَ ُتغْلَبُو َ
جهَنّمَ وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ }.
َ
إن الرسول لم يبلغهم بمقول القول :ل ،إنما أبلغهم نص البلغ الذي أبلغه به ال .وساعة يأمر
الحق في قرآنه رسوله صلى ال عليه وسلم أن يبلغ أمرا للكافرين فإن الرسول صلى ال عليه
وسلم مُخاطب ،والكفار مُخاطبون ،فعندما يواجههم فإنه يقول لهم :ستُغلبون ..وفي آية أخرى
ف وَإِنْ َيعُودُواْ فَقَدْ َمضَتْ سُ ّنتُ
يقول الحق {:قُل لِلّذِينَ َكفَرُواْ إِن يَن َتهُواْ ُي َغفَرْ َلهُمْ مّا قَدْ سََل َ
لوّلِينَ }[النفال.]38 :
اَ
إن القياس أن يقول :إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف ،لكن الحق قال { :إِن يَن َتهُواْ } ،فكأن ال
حينما قال كان الكفار غير حاضرين للخطاب ورسول ال هو الحاضر للخطاب ،وال يتكلم عن
غائبين.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن ال ـ سبحانه ـ في هذه الية التي نحن بصددها يحمل الرسول تمام البلغ فمرة يكون
النقل من المر الول كما صدر منه سبحانه كقوله { :إِن يَن َتهُواْ } ومرة يأمره المر الول أن
يبلغ الكلمة التي يكون بها مخاطبا أي ل تقل :سيغلبون وقل { :سَ ُتغْلَبُونَ } لنك أنت الذي
ستخاطبهم .وهذه الدقة الدائية ل يمكن إل أن تكون من قادر حكيم.
إنه بلغ إلى كفار قريش أو إلى مطلق الذين كفروا .والغلب سيكون في الدنيا ،والحشر يكون في
الخرة.
فإذا ما كان رسول ال صلى ال عليه وسلم ينقل النص القرآني { سَ ُتغْلَبُونَ } فمتى قالها رسول
ال؟ لقد قالها والمسلمون قلة ل يستطيعون حماية أنفسهم ،ول يقدرون على شيء.
وكل مؤمن يحيا في كنف آخر ،أو يهاجر إلى مكان بعيد .فهل يمكن أن يأتي هذا البلغ إل ممن
يملك مطلق السباب؟
لقد قالها الرسول مبلغا عن ال ،والمسلمون في حالة من الضعف واضحة ومادام قد قالها ،فهي
حجة عليه ،لنّ مَن أبلغه إياها وهو ال قادر على أن يفعلهاُ } .قلْ لّلّذِينَ َكفَرُواْ سَ ُتغْلَبُونَ { ليس
جهَنّ َم وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ { هذه المسألة
العقاب في الدنيا فقط ،ولكن في الخرة أيضا } وَتُحْشَرُونَ إِلَىا َ
بشارة لرسول ال ولصحابه وإنذار للكافرين به ،ويتم تحقيقها في موقعة بدر .فسيدنا عمر بن
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر.]45 :
الخطاب لما نزل قول ال {:سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
تساءل عمر بن الخطاب :أي جمع هذا؟ إنه يعلم أن المسلمين ضعاف ل يقدرون على ذلك،
وأسباب انتصار المسلمين غير موجودة ،ولكن رسول ال لم يكن يكلم المؤمنين بالسباب ،إنما
برب السباب ،فإذا ما تحدى وأنذرهم ،مع أنه وصحبه ضعاف أمامهم ،فقد جاء الواقع ليثبت
صدق الحق في قوله } :سَ ُتغْلَبُونَ { ويتم انتصار المسلمين بالفعل ،ويغلبون الكافرين.
أل يُجعل صدق بلغ الرسول صلى ال عليه وسلم فيما يحدث في الدنيا دليل صدق على ما
جهَنّمَ { .وفي هذه الية شيئان:
حشَرُونَ إِلَىا َ
يحدث في الخرة؟ إن تحقيق } سَ ُتغْلَبُونَ { يؤكد } وَتُ ْ
الول؛ بلغ عن هزيمة الكفار في الدنيا وهو أمر يشهده الناس جميعا ،والمر الخر هو في
الخرة وقد يُكذبه بعض الناس .وإذا كان الحق قد أنبأ رسوله بأنك يا محمد ستغلب الكافرين وأنت
ل تملك أسباب الغَلَبَة عليهم .ومع ذلك يأتي واقع الحداث فيؤكد أن الكافرين قد تمت هزيمتهم.
ومادام قد صدق الرسول صلى ال عليه وسلم في البلغ عن الولى ولم يكن يملك السباب فلبد
أن يكون صادقا في البلغ في الثانية وهي البلغ عن الحشر في نار جهنم.
وبعض المفسرين قد قال :إن هذه المقولة لليهود؛ لن اليهود حينما انتصر المسلمون في بدر
زُلزِلوا زِلزَال شديدا ،فلم يكن اليهود على ثقة في أن السلم والمسلمين سينتصرون في بدر ،فلما
انتصر السلم في بدر؛ قال بعض اليهود :إن محمدا هو الرسول الذي وَعَدَنا به ال والوْلَى أن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نؤمن به فقال قوم منهم :انتظروا إلى معركة أخرى .أي ل تأخذوها من أول معركة ،فانتظروا،
وجاءت معركة أحد ،وكانت الحرب سجال.
ولنا أن نقول :وما المانع أن تكون الية لليهود وللمشركين ولمطلق الذين كفروا؟ فاللفظ عام وإن
كان قد ورد أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال لهم :يا
سلِموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم ،فقد عرفتم أني
معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش وأ ْ
نبيّ مرسل.
فماذا قالوا له؟ قالوا له :ل َيغُرنّك أنك لقيت قوما أغمارا ـ أي قوما من غمار الناس لم يجربوا
المور ـ ل علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ،لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس ،فأنزل ال
قولهُ } :قلْ لّلّذِينَ َكفَرُواْ سَ ُتغْلَبُونَ { ..إلخ الية.
والمهاد هو ما يُمهّد عادة للطفل حتى ينام عليه نوما مستقرا أي له قرار ،وكلمة } وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ
{ تدل على أنهم ل قدرة لهم على تغيير ما هم فيه ،كما ل قدرة للطفل على أن يقاوم من يضعه
للنوم في أي مكان .ويقول الحق بعد ذلك } :قَدْ كَانَ َلكُمْ آ َيةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَأُخْرَىا كَافِ َرةٌ{ ...
()404 /
قَدْ كَانَ َل ُكمْ آَيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا فِئَةٌ ُتقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مِثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ
وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَنْ َيشَاءُ إِنّ فِي ذَِلكَ َلعِبْ َرةً لِأُولِي الْأَ ْبصَارِ ()13
وحين يقول الحق { :قَدْ كَانَ َل ُكمْ آ َيةٌ } .فمن المخاطب بهذه الية؟ لشك أن المخاطب بهذه الية
كل من كانت حياته بعد هذه الواقعة ،سواء كان مؤمنا أو كافرا ،فالمؤمن تؤكد له أن نصر ال
يأتي ولو من غير أسباب ،والكافر تأتي له الية بالعبرة في أن ال يخذله ولو بالسباب ،إن ال
جعل من تلك الموقعة آية .والية هي الشيء العجيب َأيْ إن واقعه ونتائجه ل تأتي وَفق المقدمات
البشرية.
نعم هذا خطاب عام لكل من ينتسب إلى أيّ فئة من الفئتين المتقاتلين ،سواء كانت فئة اليمان أو
فئة الكفر .ففئة اليمان لكي تفهم أنه ليست السباب المادية هي كل شيء في المعركة بين الحق
والباطل ،لن ل جنودا ل يرونها .وكذلك يخطئ هذا الخطاب فئة الكافرين فل يقولون :إن لنا
أسبابنا من عدد وعُدّة قوية ،فقد وقعت المعركة بين الحق والباطل من قبل؛ وقد انتصر الحق.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة { فِئَةٌ } إذا سمعتها تصورت جماعة من الناس ،ولكن لها خصوصية؛ فقد توجد جماعة
ولكن لكل واحد حركة في الحياة .ولكن حين نسمع كلمة { فِئَةٌ } فهي تدل على جماعة ،وهي
بصدد عمل واحد .ففي غير الحرب كل واحد له حركة قد تختلف عن حركة الخر .ولكن كلمة {
فِئَةٌ } تدل على جماعة من الناس لها حركة واحدة في عمل واحد لغاية واحدة.
ولشك أن الحرب تصور هذه العملية أدق تصوير ،بل إن الحرب هي التي ُتوَحّد كل فئةٍ في
سبيل الحركةِ الواحدة والعمل الواحد للغاية الواحدة؛ لن كل واحد من أي فئة ل يستطيع أن يحمي
نفسه وحده ،فكل واحد يفئ ويرجع إلى الجماعة ،ول يستطيع أن ينفصل عن جماعته .ولكن الفرد
في حركة الحياة العادية يستطيع أن ينفصل عن جماعته.
إذن فكلمة { فِئَةٌ } تدل على جماعة من الناس في عملية واحدة ،وتأتي الكلمة دائما في الحرب
لتصور كل معسكر يواجه آخر .وحين يقول الحق { :قَدْ كَانَ َلكُمْ آ َيةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا } أي أن
هناك صراعا بين فئتين ،ويوضح الحق ماهية كل فئة فيقول { :فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَىا
كَافِ َرةٌ } .وحين ندقق النظر في النص القرآني ،نجد أن الحق لم يورد لنا وصف الفئة التي تقاتل
في سبيل ال ولم يذكر أنها فئة مؤمنة ،وأوضح أن الفئة الخرى كافرة ،وهذا يعني أنّ الفئة التي
تقاتل في سبيل ال لبد أن تكون فئة مؤمنة ،ولم يورد الحق أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل
الشيطان اكتفاء بأن كفرها لبد أن يقودها إلى أن تقاتل في سبيل الشيطان.
لقد حذف الحق من وصف الفئة الولى ما يدل عليه في وصف الفئة الثانية.
وعرفنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل ال من مقابلها في الية وهي الفئة الخرى.
فمقابل الكافرة مؤمنة ،وعرفنا -أيضا -أن الفئة الكافرة إنما تقاتل في سبيل الشيطان لمجرد
معرفتنا أن الفئة الولى المؤمنة تقاتل في سبيل ال .ويسمون ذلك في اللغة " احتباك " .وهو أن
تحذف من الول نظير ما أثبت في الثاني ،وتحذف من الثاني نظير ما أثبت في الول ،وذلك حتى
ل تكرر القول ،وحتى توضح اللتحام بين القتال في سبيل ال واليمان ،والقتال في سبيل
الشيطان والكفر.
إذن فالية على هذا المعنى توضح لنا التي :لقد كان لكم آية ،أي أمر عجيب جدا ل يسير ول
يتفق مع منطق السباب الواقعية في فئتين ،فعندما التقت الفئة المؤمنة في قتال مع الفئة الكافرة،
استطاعت الجماعة المؤمنة المحددة بالغاية التي تقاتل من أجلها -وهي القتال في سبيل ال -أن
تنتصر على الفئة الكافرة التي تقاتل في سبيل الشيطان.
وبعد ذلك يقول الحق } :يَ َروْ َنهُمْ مّثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ { فنحن أمام فئتين ،فمن الذي يَرى؟ ومن الذي
يُرى؟ ومن الرائي ومن المرئي؟ إن كان الرائي هم المؤمنين فالمرئي هم الكافرين .وإن كان
الرائي هم الكافرون فالمرئي هم المؤمنون ولنر المر على المعنيين:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإن كان الكافرون هم الذين يرون المؤمنين ،فإنهم يرونهم مثليهم؛ أي ضعف عددهم ،وكان عدد
الكافرين يقرب من ألف .إذن فالكافرون يرون المؤمنين ضعف أنفسهم ،أي ألفين .وقد يكون
المعنى مؤديا إلى أن المؤمنين يرون الكافرين ضعف عددهم الفعلي .وقل يؤدى المعنى الى أن
الكافرين يرون المؤمنين ضعف عددهم وكان عدد المؤمنين يقرب من ثلثمائة وأربعة عشر،
وضعف هذا العدد هو ستمائة وثمانية وعشرون مقاتل.
فأن أخذنا معنى " مّثْلَ ْي ِهمْ " على عدد المؤمنين ،فالكافرون يرونهم حوالي ستمائة وثمانية وعشرين
مقاتل ،وإن أخذنا معنى " مّثْلَ ْيهِمْ " على عدد الكافرين فالكافرون يرون المؤمنين حوالي ألفين .وما
الهدف من ذلك؟ إن الحق سبحانه يتكلم عن المواجهة بين الكفر واليمان حيث ينصر ال اليمان
على الكفر .وبعض من الذين يتصيدون للقرآن يقولون :كيف يقول القرآن } :يَ َروْ َنهُمْ مّثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ
ل وََلوْ أَرَا َكهُمْ كَثِيرا ّلفَشِلْ ُتمْ
ا ْلعَيْنِ { وهو يقول في موقع آخرِ {:إذْ يُرِي َكهُمُ اللّهُ فِي مَنَا ِمكَ قَلِي ً
لمْرِ وَلَـاكِنّ اللّهَ سَلّمَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ * وَإِذْ يُرِي ُكمُوهُمْ ِإذِ الْ َتقَيْتُمْ فِي
وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي ا َ
لمُورُ }[النفال:
ل وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَ ُع ا ُ
ضيَ اللّهُ َأمْرا كَانَ َم ْفعُو ً
ل وَ ُيقَلُّلكُمْ فِي أَعْيُ ِنهِمْ لِ َي ْق ِ
أَعْيُ ِنكُمْ قَلِي ً
.]44-43
وهذه الية تثبت كثرة ،سواء كثرة المؤمنين أو كثرة الكافرين ،والية التي نحن بصدد تناولها
بالخواطر اليمانية تثبت قلة ،والمشككون في القرآن يقولون :كيف يتناول القرآن موقعة واحدة
على أمرين مختلفين؟ ونقول لهؤلء المشككين :أنتم قليلو الفطنة؛ لن هناك فرقا بين الشجاعة في
القبال على المعركة وبين الروح العملية والمعنوية التي تسيطر على المقاتل أثناء المعركة،
والحق سبحانه قد تكلم عن الحالين :قلل الحق هؤلء في أعين هؤلء ،وقلل هؤلء في أعين
هؤلء ،لن المؤمنين حين يرون الكافرين قليل فإنهم يتزودون بالجرأة وطاقة اليمان ليحققوا
النصر.
والكافرون عندما يرون المؤمنين قلة فإنهم يستهينون بهم ويتراخون عند مواجهتهم .ولكن عندما
تلتحم المعركة فما الذي يحدث؟ لقد دخلوا جميعا المعركة على أمل القلة في العداد المواجهة ،فما
الذي يحدث في أعصابهم؟ إن المؤمن يدخل المعركة بالستعداد المكثف لمواجهة الكفار.
وأعصاب الكافر تخور لن العدد أصبح على غير ما توقع ،إذن فيقول الحق {:وَِإذْ يُرِي ُكمُوهُمْ إِذِ
لمُورُ }
ل وَإِلَى اللّهِ تُ ْرجَ ُع ا ُ
ضيَ اللّهُ َأمْرا كَانَ َم ْفعُو ً
ل وَ ُيقَلُّلكُمْ فِي أَعْيُ ِنهِمْ لِ َي ْق ِ
الْ َتقَيْتُمْ فِي أَعْيُ ِنكُمْ قَلِي ً
[النفال.]44 :
يصور الحالة قبل المعركة؛ لن ال ل يريد أن يتهيب طرف فل تنشأ المعركة .لكن ما إن تبدأ
المعركة حتى يقلب الحق المور على عكسها ،إنه ينقل الشيء من الضد إلى الضد ونقل الشيء
من الضد الى الضد إيذان بأن قادرا أعلى يقود المشاعر والحاسيس ،والقدرة العالية تستطيع أن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تصنع في المشاعر ما تريد.
لقد قلل الحق العداد أول حتى ل يتهيبوا المعركة ،وفي وقت المعركة جعلهم ال كثيرا في أعين
بعضهم البعض ،فترى كل فئةٍ الطرف الخر كثيرا ،فتتفجر طاقات الشجاعة المؤمنة من نفوس
المؤمنين فيقبلون على القتال بحماسة ،وتخور نفوس الكافرين عندما يواجهون أعدادا أكثر مما
يتوقعون .والحق سبحانه وتعالى يقول:
} َقدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَىا كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مّثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ
وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَن َيشَآءُ إِنّ فِي ذاِلكَ َلعِبْ َرةً لُوْلِي الَ ْبصَارِ { [آل عمران]13 :
إن هذه الية هي خبر تبشيري لكل مؤمن بالنصر ،وهي في الوقت نفسه خبر إنذاري لكل كافر
بأن الهزيمة سوف تلحق به إن واجه الجماعة المؤمنة .فإياكم أن تقيموا المور بمقاييس السباب،
فالسباب المطلوبة منكم هي المقدور عليها للبشر وعليكم أن تتركوا تتمة كل ذلك للقدر ،فل تخور
الفئة المؤمنة أمام عدد كثير ،ول تغتروا معشر الكفار بأعدادكم الكثيرة؛ فالسابقة أمامكم تؤكد أن
عددا قليل من المؤمنين قد غلب عددا كثيرا من الكافرين.
ومن معاني الية -أيضا -أن الكافرين يرون المؤمنين مثلى عدد الكافرين ،أي ضعف عددهم.
ومن معانيها -ثالثا -أن الكافرين يرون المؤمنين ضعف عدد المؤمنين الفعلي .ومن معاني الية
-رابعا -أن يرى المسلمون الكافرين مثليهم ،أي مثل المؤمنين مرتين ،أي ستمائة نفر وقليل،
وحينئذ يكون عدد الكافرين في عيون المؤمنين أقل من العدد الفعلي لهؤلء الكافرين .إذن فما
حكاية " مّثْلَ ْيهِمْ " هذه؟ لقد وعد ال المؤمنين بنصره حين قال:
ن وَإِن َيكُنْ
عشْرُونَ صَابِرُونَ َيغْلِبُواْ مِئَتَيْ ِ
{ ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ حَ ّرضِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ عَلَى ا ْلقِتَالِ إِن َيكُن مّنكُمْ ِ
مّنكُمْ مّئَةٌ َيغْلِبُواْ أَلْفا مّنَ الّذِينَ َكفَرُواْ بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لّ َي ْف َقهُونَ }[النفال.]65 :
والنسبة هنا أن المؤمن الواحد يخرج إلى عشرة من الكافرين فيهزمهم ،ذلك وعد ال ،وحين أراد
ضعْفا فَإِن َيكُنْ مّنكُمْ مّ َئ ٌة صَابِ َرةٌ
خ ّففَ اللّهُ عَن ُك ْم وَعَلِمَ أَنّ فِي ُك ْم َ
ال التخفيف قال الحق {:النَ َ
َيغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن َيكُن مّن ُكمْ أَ ْلفٌ َيغْلِبُواْ أَ ْلفَيْنِ بِِإذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ }[النفال.]66 :
لقد خفف ال النسبة ،فواحد من المؤمنين يغلب اثنين من الكافرين .فالمؤمنون موعودون من ال
بالغلبة حتى وهم ضعاف .والحق يقول في الية المبشرة للمؤمنين ،المنذرة للكافرين ،والتي نحن
لوْلِي الَ ْبصَارِ {.
بصددها الن } :وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَن يَشَآءُ إِنّ فِي ذاِلكَ َلعِبْ َر ًة ُ
ونحن نسمع كلمة " عبرة " كثيرا ،والمادة المأخوذة منها تدل على الدخول من مكان إلى مكان،
فقال عن ذلك " عُبور " ،ونحن في حياتنا العادية نخصص في الشوارع أماكن لعبور المشاة ،أي
المسافة التي يمكن للمشاة أن ينفذوا منها من ضفة الشارع إلى الضفة الخرى من الشارع نفسه.
وعبور البحر هو النفاذ من شاطئ إلى شاطئ آخر.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فمادة " العبور " تدل على النفاذ من مكان إلى مكان ،و " العَبرة " أي الدمعة لنها تسقط من
محلها من العين على الخد .و " العِبارة " أي الجملة التي نتكلم بها ،فهي تنتقل من الفم إلى الذن،
وهي عبور أيضا .و " العبير " أي الرائحة الجميلة التي تنتقل من الوردة البعيدة عن النسان قليل
لتنفذ إلى أنفه .إذن فمادة " العبور " تدل على " النفاذ ".
وحين يقول الحق } :إِنّ فِي ذاِلكَ َلعِبْ َرةً { .أي تنقلكم من أمر قد يخيفكم أيها المؤمنون لنكم قليل،
وهم كثير ،إنها تنقلكم إلى نصر ال أيها المؤمنون ،وتنقلكم أيها الكافرون إلى الهزيمة برغم كثرة
عُدتكم وعَددكم .فالعبرة هي حدث ينقلك من شيء إلى شيء مغاير ،كالظالم الذي نرى فيه يوما،
ونقول إن ذلك عبرة لنا ،أي إنها نقلتنا من رؤيته في الطغيان إلى رؤيته في المهانة.
وهكذا تكون العبرة هي العظة اللفتة والناقلة من حكم إلى حكم قد يستغربه الذهن ،فتذييل هذه
الية الكريمة بهذا المعنى هو إيضاح وبيان كامل ،فالحق يقول في بداية هذه الية } :قَدْ كَانَ َل ُكمْ
لوْلِي الَ ْبصَارِ {.
آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا { وتنتهي الية بقوله } :إِنّ فِي ذاِلكَ َلعِبْ َر ًة ُ
إذن فالعبرة شيء ينقلنا من أمر إلى أمر قد تستغربه السباب وذلك إن كنت متروكا لسياسة
نفسك ،لكن المؤمن ليس متروكا لسياسة نفسه؛ لن ال لو أراد أن يعذب الكفار بدون مواجهة
المؤمنين وحربهم لعذبهم بدون ذلك ،ولكن ال يريد أن يكون عذاب الكافرين بأيدي المؤمنين:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الطائفة القوية المسلحة ،لقد وعدهم ال بالنصر على إحدى الطائفتين {:وَإِذْ َيعِ ُدكُمُ اللّهُ ِإحْدَى
طعَ
حقّ الحَقّ ِبكَِلمَاتِهِ وَيَقْ َ
ش ْوكَةِ َتكُونُ َلكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُ ِ
الطّا ِئفَتِيْنِ أَ ّنهَا َلكُمْ وَتَوَدّونَ أَنّ غَيْرَ ذَاتِ ال ّ
دَابِرَ ا ْلكَافِرِينَ }[النفال.]7 :
لقد كان وعد ال أن ينصر المؤمنين على إحدى الطائفتين ،والمل البشرى كان يود النتصار
على الطائفة غير ذات الشوكة أي الطائفة غير المسلحة وهي العير ،ولكن مثل هذا النصر ل
يكون له َد ِويّ النصر على الطائفة المسلحة ،فقد كان من السهل أن يقال :إن محمدا ومن معه
تعرضوا لجماعة من التجار ل أسلحة معهم ول جيش ،ولكن ال يريد أن يجعل من هذه المعركة
فرقانا وأن يحق الحق.
إنكم أيها المؤمنون لم تخرجوا إلّ لِقصد العير أي لم يكن استعدادكم كافيا للقتال ،أما الكفار فقد
جاءوا بالنفير ،أي بكل قوتهم فقد ألقت مكة في هذه المعركة بأفلذ أكبادها .وعندما يأتي النصر
من ال للمؤمن في مثل هذه الموقعة فهو نصر حقيقي ،ويكون آية غاية في العجب من آيات ال.
وتصير عبرة للغير .لذلك نجد العجائب في هذه المعركة -معركة بدر .-
الغرائب أنك تجد الخوين يكون لكل منهما موقف ومجابهة .وتجد الب والبن لكل منهما موقف
ومجابهة برغم عمق الصلة بينهما ،فمثل ابن أبي بكر رضي ال عنه ،وكان هذا البن لم يسلم
بعد ،وكان في جانب الكفار ،وأبوه الصديق مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وبعد أن أسلم ابن
أبي بكر يحكي البن لبيه بشيء من المتنان والبر :لقد تراءيت لي يوم بدر فزويت وجهي عنك.
فيرد أبو بكر الرد اليماني الصدّيقي :وال لو تراءيت لي أنت لقتلتك.
وكل الموقفين منطقي ،لماذا؟ لن ابن أبي بكر حين يلتقي بأبي بكر ،ويرى وجه أبيه ،فإنه يقارن
بين أبي بكر وبين ماذا؟ إنه يقارن بين أبيه وبين باطل ،ويعرف تمام العلم أنه باطل ،فيرجح عند
ابن أبي بكر أبوه ،ولذلك يحافظ على أبيه فل يلمسه .لكنّ أبا بكر الصديق حينما يقارن فهو يقارن
بين اليمان بال وابنه ،ومن المؤكد أن اليمان يزيد عند الصديق أبي بكر ،فلو رآه يوم بدر لقتله.
ول حكمة فيمن قُتل على أيدي المؤمنين من مجرمي الحرب من قريش ،ول حكمة فيمن أبقى من
الكفار بغير قتل؛ لن هؤلء مدخرون لقضية إيمانية كبرى سوف يبلون فيها البلء الحسن .فلو
مات خالد بن الوليد في موقعة من المواقع التي كان فيها في جانب الكفر لحزنا نحن المسلمين؛
لن ال قد ادخره لمعارك إيمانية يكون فيها سيف ال المسلول ،ولو مات عكرمة لفقدت أمة
السلم مقاتل عبقريا.
لقد حزن المسلمون في موقعة بدر لنهم لم يقتلوا هؤلء الفرسان؛ لنهم لم يعلموا حكمة ال في
ادخار هؤلء المقاتلين؛ لينضموا فيما بعد إلى صفوف اليمان .وال لم يمكّن مقاتلي المسلمين يوم
بدر من المحاربين الذين كانوا على دين قومهم آنئ ٍذ إلّ لن ال قد ادخرهم لمواقع إيمانية قادمة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقفون فيها ،ويحاربون في صفوف المؤمنين وهذا نصر جديد.
ونرى أبا عزيز وهو شقيق الصحابي مصعب بن عمير الذي أرسله رسول ال صلى ال عليه
وسلم ليبشر بدين ال ،ويعلّم أهل المدينة ،وكان مصعب فتى فريش المدلل صاحب ترف ،وأمه
صاحبة ثراء ،وبعد ذلك رآه رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يلبس جلد شاة بعد أن كان يلبس
الحرير ،فيقول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :انظروا إلى اليمان ماذا فعل بصاحبكم ".
والتقى مصعب في المعركة مع أخيه أبي عزيز ،وأبو عزيز على الكفر ،ومصعب رضي ال عنه
مسلم يقف مع النبي صلى ال عليه وسلم ،وحين يرى مصعب رضي ال عنه أخاه أبا عزيز وهو
أسير لصحابي اسمه أبو اليسر ،فيقول مصعب :يا أبا اليسر اشدد على أسيرك؛ فإن أمه غنية
وذات متاع ،وستفديه بمال كثير.
فيقول له أخوه أبو عزيز :أهذه وصاتك بأخيك؟ فيقول مصعب مشيرا إلى أبي اليسر :هذا أخي
دونك.
كانت هذه هي الروح اليمانية التي تجعل الفئة القليلة تنتصر على أهل الكفر ،طاقة إيمانية ضخمة
تتغلب على عاطفة الخوة ،وعاطفة البوة ،وعاطفة البنوة .وقد جعل ال من موقعة بدر آية حتى
عدّتهم ،وحتى ل يغتر كافر ،وإن كثر عددُ قومه
ل يخور مؤمن وإن قل عدد المؤمنين ،أو قلت ُ
وعتادهم.
وقد جعلها ال آية للصدق اليماني ،ولذلك يقال :احرص على الموت توهب لك الحياة .وقد كانت
القضية اليمانية هي التي تمل نفس المؤمن ،إنّها قضية عميقة متغلغلة في النفوس .ولماذا يتربص
الكفار بالمؤمنين؟ إنهم إن تربصوا بهم ،فسيدخل المؤمنون الجنة إن قُتِلوا أو ينتصرون على
ن وَ َنحْنُ
الكفار ،وفي ذلك يقول الحق على لسان المؤمنينُ {:قلْ َهلْ تَرَ ّبصُونَ بِنَآ ِإلّ ِإحْدَى ا ْلحُسْنَيَيْ ِ
نَتَرَ ّبصُ ِبكُمْ أَن ُيصِي َبكُمُ اللّهُ ِبعَذَابٍ مّنْ عِن ِدهِ َأوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَ ّبصُواْ إِنّا َم َعكُمْ مّتَرَ ّبصُونَ }[التوبة:
.]52
فالظفر هنا بأحد أمرين :إما النصر على الكافرين ،وإما الستشهاد في سبيل ال ،ونيل منزلة
الشهداء في الجنة وكلهما جميل .والمؤمنون يتربصون بالكافرين ،إما أن يصيب ال الكفار
بعذاب من عنده ،وإما أن يصيبهم بأيدي المؤمنين .إنها معادلة إيمانية واضحة جلية .وبعد ذلك
ش َهوَاتِ{ ...
حبّ ال ّ
يقول الحق سبحانه } :زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
()405 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َهبِ وَا ْل ِفضّ ِة وَالْخَ ْيلِ
حبّ ال ّ
زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
حسْنُ ا ْلمََآبِ ()14
س ّومَ ِة وَالْأَ ْنعَا ِم وَا ْلحَ ْرثِ ذَِلكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِ ْن َدهُ ُ
ا ْلمُ َ
الموضع الذي تأتي فيه هذه الية الكريمة هو :موقع ذكر المعركة السلمية التي جعلها ال آية
مستمرة دائمة؛ لتوضح لنا أن المعارك اليمانية تتطلب النقطاع إلى ال ،وتتطلب خروج النسان
المؤمن عما ألف من عادة تمنحه كل المتع .والمعارك اليمانية تجعل المؤمن الصادق يضحي
بكثير من ماله في تسليح نفسه ،وتسليح غيره أيضا.
فمن يقعد عن الحرب إنسان تغلبه شهوات الدنيا ،فيأتي ال بهذه الية بعد ذكر الية التي ترسم
طريق النتصارات المتجدد لهل اليمان؛ وذلك حتى ل تأخذنا شهوات الحياة من متعة القتال في
ش َهوَاتِ " وكلمة " زُيّنَ " تعطينا فاصل بين
حبّ ال ّ
سبيل ال ولعلء كلمته فيقول " :زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
المتعة التي يحلها ال ،والمتعة التي ل يرضاها ال؛ لن الزينة عادة هي شيء فوق الجوهر.
فالمرأة تكون جميلة في ذاتها وبعد ذلك تتزين ،فتكون زينتها شيئا فوق جوهر جمالها.
فكأن ال يريد أن نأخذ الحياة ول نرفضها ،ولكن ل نأخذها بزينتها وبهرجتها ،بل نأخذها بحقيقتها
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَاءِ " .وما الشهوة؟ الشهوة هي ميل النفس
حبّ ال ّ
الستبقائية فيقول " :زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
بقوة إلى أي عمل ما.
وحين ننظر إلى الية فإننا نجدها توضح لنا أن الميل إذا كان مما يؤكد حقيقة استبقاء الحياة فهو
مطلوب ومقبول ،ولكن إن أخذ النسان المر على أكثر من ذلك فهذا هو الممقوت.
وسبق أن ضربنا المثل من قبل بأعنف غرائز النسان وهي غريزة الجنس ،وأن الحيوان يفضل
النسان فيها ،فالحيوان أخذ العملية الجنسية لستبقاء النوع بدليل أن النثى من الحيوان إذا تم
لقاحها من فحل ل تُمكّن فحلً اخر منها .والفحل أيضا اذا ما جاء إلى أنثى وهي حامل فهو ل
يُقبل عليها ،إذن فالحيوانات قد أخذت غريزة الجنس كاستبقاء للحياة ،ولم تأخذها كالنسان لذة
متجددة.
ومع ذلك فنحن البشر نظلم الحيوانات ،ونقول في وصف شهوة النسان :أن عند فلن شهوة
بهيمية .ويا ليتها كانت شهوة بهيمية بالفعل؛ لن البهيمة قد أخذتها على القدر الضروري ،لكن
نحن فلسفناها ،إذن فخروجك بالشيء عما يمكن أن يكون مباحا ومشروعا يسمى :دناءة شهوة
النفس.
والحق سبحانة وتعالى يريد أن يضمن للكون بقاءه ،والبقاء له نوعان :أن يُبقِي النسان حياته
بالمطعم والمشرب ،وتبقى حياة النوع النساني بالتزواج.
ولكن إن نظرت إلى المسألة وجدت الخالق حكيما عليما .إنه يعلم أن طفولة أي حيوان بسيطة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالنسبة لبيه وأمه ،مثال ذلك :الحمامة تطعم فرخها إلى أن يستطيع الطيران ،ثم ل تعرف أين
ذهب فرخها ،لكن حصيلة اللتقاء بين الرجل والمرأة ،والتي أراد ال لها أن تنتج الولد تحتاج
إلى شقاء إلى أن يبلغ الولد ،وذلك ليكون هناك تكافؤ وتناسب بين ما يحرص عليه النسان من
شهوة ،وما يتحمل من مشاق ومتاعب في سبيل الستمتاع بها واستبقائها.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النسان تكون نفسها مظّللةَ بورقة أخرى ،وتكون أوراق الشجر التي تظلل بعضها بعضا مختلفة
الوضاع ،وتعطي الوراق للنسيم فرصة المرور ،أما الخيام فهي تحجب النسيم.
والشاعر حين أراد أن يصف الروضة قال:تصد الشمس أَنّى واجهتها فتحجبها وتأذن للنسيمإذن
فحين وصف الحق القناطير بأنها مقنطرة فذلك يعني القناطير الدقيقة الميزان ،وهي قناطير
س ّومَةِ { .وكانت الخيل هي أداة العز وأمارة
ب وَا ْل ِفضّ ِة وَالْخَ ْيلِ ا ْلمُ َ
مقنطرة من ماذا؟ } مِنَ الذّ َه ِ
وعلمة على العظمة ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :الخيل معقود بنواصيها الخير إلى
يوم القيامة "
س ّومَةِ { نرى فيهِ أن اللفظ الواحد يشع في مجالت متعددة من المعاني،
قول الحق } :وَالْخَ ْيلِ ا ْلمُ َ
فمسوّمة من سامها يَسوُمها ،ومعنى ذلك أن لهذه الخيل مراعى تأكل منها كما تريد ،وليست خيلً
مربوطة بأكل ما يُقدم لها فقط ،ومسوّمة أيضا تعنى أن لهذا الخيل علمات ،فهذا حصان أغرّ،
وذلك أدهم وذاك أشقر.
ومسوّمة أيضا ،أن تكون مروضة ،ومدربة ،وتم تعليمها ،فالصل في الخيل أنها لم تكن مُستأنسة
بل مُتوحشة ،ولذلك ل بد من ترويضها حتى ينتفع بها النسان .فكم معنى إذن أعطته لما كلمة "
س ّومَةِ "؟
مُ َ
سائمة ،أي تأكل على قدر ما تشتهي ل على قدر ما نعطيها من طعام .ومُعلّمة أي فيها علمات
كالغّرة والتحجيل ،وهذا جواد أدهم ،وذلك جواد أشقر ،أو أنها معلمة أي مروضة .فماذا تتطلب
الحرب؟.
إن الحرب تتطلب النقطاع عن الهل ،فيجب أل تكون شهوة النفس حاجزا ،سواء كانت شهوة
للنساء ،أو كانت شهوة العزوة للبنين ورعايتهم ،أو كانت شهوة المال؛ فالمؤمن ينفقه في سبيل ال،
والخيل أيضا يستخدمها النسان في القتال لعلء كلمة ال.
ونلحظ أن هذه الية -التي تعدّد أنواع الزينة -جاءت بعد الية التي تتحدث عن الجهاد في
سبيل ال والتي يقول الحق تبارك وتعالى فيها:
} َقدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَىا كَافِ َرةٌ يَ َروْ َنهُمْ مّثْلَ ْيهِمْ رَ ْأيَ ا ْلعَيْنِ
وَاللّهُ ُيؤَيّدُ بِ َنصْ ِرهِ مَن َيشَآءُ إِنّ فِي ذاِلكَ َلعِبْ َرةً لُوْلِي الَ ْبصَارِ { [آل عمران]13 :
وذلك ليرشدنا إلى أن النسان المؤمن ل يصح أن يضحى بشهوته الحقيقية وهي إدراك الشهادة
في سبيل ال أو النصر على العدو بسبب الشهوات الزائلة التي تتمثل في النساء ،وفي البنين ،وفي
القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ،وفي الخيل المسوّمة والنعام وقد قال ال عن النعام في
ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الُنثَيَيْنِ َأمّا
سورة النعامَ {:ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ
ن َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ ُقلْ
ن الِ ْبلِ اثْنَيْ ِ
اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ * َومِ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شهَدَآءَ إِذْ َوصّاكُمُ اللّهُ ِبهَـاذَا
ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأ ِم الُنْثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَ ْرحَامُ الُنْثَيَيْنِ َأمْ كُنتُمْ ُ
ضلّ النّاسَ ِبغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ اللّهَ لَ َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ }
َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ َكذِبا لِ ُي ِ
[النعام.]144-143 :
حساب ذلك هو إثنان من الضأن ،وإثنان من الماعز ،وإثنان من البل ،وإثنان من البقر أي ثمانية
أزواج .ول يمكن حسابها على أنها ستة عشر كما قال البعض قديما ،ل؛ إن الزوج ل يعني اثنين
من الشيء ،ولكن الزوج واحد ،ولكن يُشترط أن يكون مع غيره من جنسه .ومثال آخر هو كلمة "
التوأم " ،إن التوأم هو واحدٌ معه غيره ،وهما توأمان ،وهم توائم إذا كان العدد أكثر من اثنين.
ن وَا ْلقَنَاطِيرِ
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ
حبّ ال ّ
والحق يقول في مجال زينة الشهوات " :زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
س ّومَةِ وَالَ ْنعَا ِم وَا ْلحَ ْرثِ " وحين تسمع كلمة " الْحَ ْرثِ "
ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َهبِ وَا ْل ِفضّ ِة وَالْخَ ْيلِ ا ْل ُم َ
فافهم أن المراد بها هنا الزرع ،ولكن ال سبحانه وتعالى يريد منك أن تعلم أن ال حين يُنبت لك
أشياء بدون معالجتك فإنه يريد منك أيضا أن َتسْتنبت أشياء بمعالجتك ،وهذا ل يتأتى إل بعملية
الحرث.
والحرث هو إهاجة الرض؛ فالتربة تكون جامدة ،فل بد أن يهيّجها النسان بالحرث ،أي أن تفك
لصُقَ ذرات التربة ل يصلح أن يكون بيئة للنبات؛ لن النبات
لصُق ذراتها لن ت َ
يبوستها -وتَ َ
يحتاج إلى الماء ويحتاج إلى الهواء ،ويحتاج من النسان أن يُمهد للشعيرات البسيطة أن تخرج،
وتجد تربة سهلة تتحرك فيها إلى أن تقوى.
إذن فالحرث يتثير الرض ،ويجعلها ليّنة مُتفتتة حتى تستطيع البذرة أن تنمو؛ لن ال قد أودع في
فلقتي كل بذرة مقومات الحياة الى أن يوجب لها جذر يأخذ مقومات الحياة من الرض ،وكلما
قوى الجذر في النبات فإن الفلقتين تضمحلن ،وتصيران مجرد ورقتين .فأين ذهب حجم الفلقتين؟
لقد قامت الفلقتان بتغذية النبتة إلى أن أستطاعت النبتة أن تتغذى بنفسها من الرض ،ول يمكن
حدوث ذلك إل إذا كانت الرض محروثة .ولذلك يقولون :إن الرض الطينية السوداء تكون
صعبة ،وغير خصبة ،ويقال :إن الرض الرملية أيضا غير خصبة ،لماذا؟.
لننا نريد صفتين اثنتين في الرض :الصفة الولى أن تكون الرض صالحة أن يتخللها الماء
ليشرب الزرع ،والصفة الخرى ألّ تُسرب الماء بعيدا ،فإذا كانت الرض طينية فإن جذور
الزرع تختنق وتتعفن ،وإذا كانت رملية فإن الماء يتسرب بعيدا ،لذلك نحتاج في الزراعة الى
أرض بين سوداء ورملية ،أي أرض صفراء .وال حين يتكلم عن الزرع فإنه يقول " :ا ْلحَ ْرثِ "
وذلك حتى يلفتنا إلى أن من يريد أن يأخذ زرعا ل بد أن يجدّ ويحرث الرض .وهو سبحانه
القائلَ {:أفَرَأَيْتُم مّا َتحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة.]64-63 :
وعبّر الحق عن الزرع بالحرث لنه السبب الذي يُوجِد الزرع .وكل ما تقدم من الشهوات من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والنعام والحرث ،كل ذلك
تكون قيمته عند النسان ما يوضحه الحق بقوله " :ذاِلكَ مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْ َدهُ حُسْنُ ا ْلمَآبِ
".
إن كل ذلك هو متاع الحياة الدنيا ،والفيصل هو أن النسان يخشى أن تفوته النعمة فل تكون عنده،
أو أن يفوتها فيموت .وكل ما يفوتك أو تفوته ،فل تعتز به .وعندما نتأمل الية في مجموعها نجد
أن فيها مفاتيح كل شخصية تريد أن تنحرف عن منهج ال ،إنه سبحانه يقول:
ب وَا ْل ِفضّةِ وَالْخَ ْيلِ
ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َه ِ
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ
حبّ ال ّ
} زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
س ّومَ ِة وَالَ ْنعَا ِم وَالْحَ ْرثِ ذاِلكَ مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْ َدهُ حُسْنُ ا ْلمَآبِ { [آل عمران]14 :
ا ْلمُ َ
هكذا نرى المفاتيح التي قد تجذب النسان لينحرف عن مراد ال في منهجه ،إنه -سبحانه -
يطلب من عبده المؤمن أن يبني حركة حياته على مراد ال ،فما الذي يجعل المؤمن يترك مراد
ال من حكم لينصرف إلى حكم يناقضه؟.
ل شك أنه الهوى ،والهوى هو الذي يُميل ويُزيغ القلوب ،ولكل هوى مفتاح ،ولكل شخصية من
المكلفين بمنهج ال مفتاح لهواه ،فواحد مفتاحه النساء ،وواحد مفتاحه البنون ،يحب أن يرعاهم
رعاية تفوق َدخْلَه من عمل أو صناعة مثل فقد يسرق أو يرتشي ليسعد هؤلء .وأناس مفاتيحهم
الشخصية المال ،أو في زينة الخيل ،والعدة والعتاد فلكل شخصية مفتاح هوى.
والذين يدخلون على الناس ليُزيّنوا لهم غير منهج ال يأتون لهم بالمفتاح الذي يفتح شخصياتهم،
فربما كان هناك إنسان ل تُغريه نظرة المرأة أو مليين الذهب إنما يتملكه حبه لولده وهو
الهوى الغلب.
إذن فكل واحد له مفتاح لشخصيته ،والذين يريدون إغراء الناس وغوايتهم يعرفون مفاتيح من
يريدون إغراءه وإغواءه .وحين يقول الحق أنَ هذه الشياء هي المُزَيّنة للناس .قد يقول قائل :إذا
كان ال يريد أن يصرفنا عن هذه الشياء فلماذا خلقها لنا؟
وعلى هذا القول نرد :إن الحق مادام قد قال } :زُيّنَ { وبناها -كما يقول النحاة -للمجهول إي
لما لم ُيسَمّ فاعله ،فمن الذي زيّن؟ لقد كان ال قادرا أن يقول لنا من الذي زَيّن تلك الشياء
تحديدا ،لكن الحق يريد أن يعلمنا أنه من الممكن أن يكون الشيطان هو الذي يُزيّن لنا هذه
الشياء ،ومن الممكن أن يكون منطق المنهج هو الذي يزين ،ألم يقل الحق سبحانه دعاء على
جعَلْنَا لِ ْلمُ ّتقِينَ ِإمَاما }
ن وَا ْ
لسان عباده الصالحين {:رَبّنَا َهبْ لَنَا مِنْ أَ ْزوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُ ّرةَ أَعْيُ ٍ
[الفرقان.]74 :
إذن فما الفيصل في تلك المسألة؟ الفيصل في هذه المسألة أن الحق سبحانه وتعالى جعل لكل نعمة
من نعم الحياة عمل يعمله النسان فيها ،فالمرأة إنما اتّخَذَت سكنا أي ارتياحا عندها ،ارتياحا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُمْ أَ ْزوَاجا
يعطيك كل الحنان والعطف ،وهو سبحانه القائلَ {:ومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ خَلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
ك ليَاتٍ ّلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }
ح َمةً إِنّ فِي ذَِل َ
ج َعلَ بَيْ َنكُم ّموَ ّد ًة وَرَ ْ
سكُنُواْ إِلَ ْيهَا وَ َ
لّتَ ْ
[الروم.]21 :
إن الحق يريد لنا أن يسكن الرجل إلى حلله ،وتصرف المرأة الحلل عَيْ َنيْ زوجها عن أعراض
ظمُ
الناس .لكن ماذا في الرجل الذي يُحب البناء؟ ألم يقل سيدنا زكريا {:قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَ ْ
خ ْفتُ ا ْل َموَاِليَ مِن وَرَآئِي َوكَانَتِ
شقِيّا * وَإِنّي ِ
مِنّي وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبا وَلَمْ َأكُنْ بِدُعَآ ِئكَ َربّ َ
جعَلْهُ َربّ َرضِيّا }[مريم:
ب وَا ْ
امْرَأَتِي عَاقِرا َف َهبْ لِي مِن لّدُ ْنكَ وَلِيّا * يَرِثُنِي وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َي ْعقُو َ
.]6-4
لقد طلب زكريا عليه السلم وليّا يرثه ،والنبياء ل تُورث منهم أموال ،إنما يُورّثون العلم
والحكمة ،إذن فقد طلب زكريا عليه السلم أن يرث ابنه الحكمة منه ويرث من آل يعقوب وأن
يجعله ال رضِيّا .فلو كان النبياء يورّثون المال ،لكان البعض قد فهم أن طلب زكريا للبن كي
يرثه في المال ،لكن الحق أراد لنبيائه ألّ يُورّثوا المال ،بل يورّثون العلم بمنهج ال .وقد طلب
زكريا البن لتثبيت منهج ال في الرض.
وكذلك الذي يريد الموال لينفقها في سبيل ال ،وكذلك الذي يريد الخيل ليروضها على الجهاد،
وكذلك الذي يريد الحرث ليمل بطون خلق ال بما يَط َعمُون منه ،كل هؤلء ينالهم المدح والثناء
والجزاء الكثير من ال .لذلك يجب أن نعلم أن الحكم يأتي من ال مُحتمل أن تتجه به إلى الخير
المراد ل ،ومحتمل أن تتجه به إلى الشر المراد لنفسك .وأنت -أيها العبد -حين تنظر إلى أي
شهوة من هذه الشهوات فلسوف تجد أنه من الممكن أن توجّهها وِجهة خير .يقول الحقَ {:هبْ لَنَا
جعَلْنَا لِ ْلمُ ّتقِينَ ِإمَاما }[الفرقان.]74 :
ن وَا ْ
مِنْ أَ ْزوَاجِنَا وَذُرّيّاتِنَا قُ ّرةَ أَعْيُ ٍ
لقد أراد ال للتقياء والنبياء أن يكون لهم من الذرية أبناء ليرثوا المنهج السلوكي ويكونوا مثل
طيبة للناس يقتدون بهم .إذن فالمؤمن يحب أن تكون ذريته قدوة سلوكية .والذي يحب الخيل يمكن
أن يوجه هذا الحب إلى الخير ،ألم يقل رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديث الشريف:
عن أبي هريرة رضي ال عنه عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :مِنْ خير معاش
الناس لهم رجل ممسك عِنَانَ فرسه في سبيل ال يطير على مَتنه كلما سمع هِ ْيعَة أو فَزْعةً طار
عليه يبتغي القتل والموت مَظَانّة ".
وقد أمرنا الرسول صلى ال عليه وسلم أن نُروّض الخيل ،إذن فمن الممكن أن تكون هذه الشياء
مسارا للخير .وإياكم أن تفهموا أن ال يزهدنا فيها أو ينفرنا منها ،ولكنه يزهدنا أن نستعمل ما
خلقه لنا في غير مراده.
ولننظر إلى تعليق ال على الشياء المُزينة " :ذاِلكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا " أي أن الذي ينظر الى هذه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشياء المزينة نظرة تقليدية سطحية سيجدها مجرد متاع ،وما عمر هذا المتاع؟ إنه موقوت
بالدنيا الفانية.
صعّدُ في عمله قيمة الخير ،وتصعيد قيمة الخير يأتي من تنمية نوعه،
ولننظر إلى النسان عندما ُي َ
أي الزيادة في نوع الخير ،ومن استدامته ،ومن أن النسان ل يترك هذا الخير.
إذن فتصعيد الخير يأتي على عدة صور تبدأ من تنمية الخير نفسه .واستدامة الخير فل ينقطع،
وضمان أن يحيا النسان للخير ويعيش له ،وألّ يذهب الخير عنه ،وأمر رابع هو ألّ تربط هذا
الخير بأغيار ،أي أن تربطه بواحد قوى يأتي لك به ،فقد يضعف ،أو يمرض ،أو يغيب ،أو يغدر
بك.
إذن فل بد من أربعة عناصر :الول :تصعيد الخير ،أي نوع الخير الذي تفعله يكون أرقى من
خير آخر ،فنعمل دائما على زيادته وتنميته .والثاني :استدامة الخير .والثالث :أن تدوم أنت
للخير ،وتحرص على أن تعيش له ،والمر الرابع :ألّ تربط هذا الخير بالغيار .بل عليك أن
تعتمد على ال ثم على نفسك.
وكل خير يأتي دون هذا فهو خير غير حقيقي .فإذا نظرت إلى شهوات النساء والمال والبنين
والخيل والنعام والحرث فإنها ستعطيك متاع الدنيا .ولنسلم جدل أن شيئا لن يسلبك هذه الشياء
وأنت حيّ ،وأنها ستظل معك طيلة دنياك .فما قيمة الدنيا وهي مقاسة بآلف السنين ،والنسان ل
يعيش فيها إل قدرا محددا من العوام يقرره الحق سبحانه وتعالى.
إذن فالدنيا تقاس بعمر النسان فيها ل بعمر ذات الدنيا لغيره ،لن عمر الدنيا لغيرك ل يخصك.
هب أن هذه الشهوات من نساء ومال وبنين وخيل وذهب وفضة وحرث وأنعام وعدة وعتاد قد
دامت لك ،فما الذي يحدث؟ إن الدنيا محدودة .ول أحد يستطيع أن يستديم الدنيا ،لذلك فلن يستطيع
أحد أن يستديم الخير لن عمره في الدنيا محدود.
وحياة النسان في الدنيا لم يضع ال لها حدا يبلغه النسان .إن ال لم يحدد عمرا يموت فيه
النسان ،ولكنْ لكل إنسان عمْر خاصّ محدود بحياته ،فعندما يولد أي طفل ل تنزل معه بطاقة
تحدد عدد السنوات التي سوف يحياها في الدنيا.
وهو سبحانه قد جعل عدد سنوات الحياة مبهما لكل إنسان ،ولذلك يقال إن البهام هو أعلى
درجات البيان ،الحق أخفى توقيت الموت وسببه عن النسان .متى يأتي؟ في أي زمان وفي أي
مكان؟ كل ذلك أخفاه فأصبح على المؤمن أن يكون مترقبا للموت في كل لحظة.
إن البهام للموت هو البيان الوافي ،وما دامت الدنيا مهما طالت فهي محدودة وغير مضمونة
للنسان أن يحياها ،ونعيمه فيها على قدر إمكاناته وقدرته ،وإن لم تذهب الدنيا من النسان
فالنسان نفسه يذهب منها .فإذا ما قارنت كل ذلك باسم الحياة التي نحياها الن ،إنّ اسمها " الدنيا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" أي " السفلى " ومقابل " الدنيا " هو " العليا " وهي الحياة في الخرة.
()406 /
ُقلْ َأؤُنَبّ ُئكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَِلكُمْ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا عِ ْندَ رَ ّبهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا
طهّ َرةٌ وَ ِرضْوَانٌ مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ ()15
وَأَ ْزوَاجٌ ُم َ
وحين تسمع كلمة " أؤخبركم " فما نسمعه بعد ذلك كلم عادي ،أما عندما نسمع " َأؤُنَبّ ُئكُمْ " فما
نسمعه بعدها هو خبر هائل ل يقال إل في الحداث العظام ،فل يقول أحد لخر :سأنبئك بأنك
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ستأكل كذا وكذا في الغداء ،ولكن يقال " أنا أنبئك بأنك نلت جائزة كبرى " ،هذا في المستوى
عمّ يَتَسَآ َءلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْل َعظِيمِ }
البشرى فما بالنا بال الخالق العلى ،ولذلك يقول ال الحقَ {:
[النبأ.]2-1 :
إنه المر الذي يقلب كيان هذه الدنيا كلها ،فحين يقول الحقُ { :قلْ َأؤُنَبّ ُئكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذاِلكُمْ } فمعنى
ذلك أن ال يخبرنا بخبر من هذه الشياء ،ومن ذلك نعرف أن ال قد جعل هذه الشياء مقياسا،
لماذا؟
لنه مقياس محس ،وأوضح لنا كيفية التصعيد فقال { :لِلّذِينَ ا ّت َقوْا عِندَ رَ ّب ِهمْ } والمؤمن هو من
ينظر بثقة إلى كلمة { عِندَ رَ ّبهِمْ } أي الرب المتولى التربية والذي يتعهد المربيَّ حتى يبلغه درجة
الكمال المطلوب منه.
والعندية هنا هي عند الرب العلى .فماذا أعد المربي العلى للمتقين؟ لقد أعد لهم { جَنّاتٌ تَجْرِي
مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ } ولنر الخيرية في هذه الجنات ،وهي تقابلٍ في الدنيا الحرث والزرع ،وقد قلنا:
إن الحق حين تكلم عن الزرع تكلم واصفا له ب " الحرث " لنعرف أن الزرع يتطلب منا حركة
وعملً.
أما في الخرة فالجنات جاهزة ل تتطلب من المؤمن حركة أو تعبا ،ول يقف المر عند ذلك ،بل
إن هذه الجنات تجر من تحتها النهار وفيها للنسان المؤمن ما وعده ال به { :خَالِدِينَ فِيهَا
طهّ َرةٌ } إنه الخلود الذي ل يفنى ،ول يتركه النسان ول يترك هو النسانِ.
وَأَ ْزوَاجٌ مّ َ
والزواج المطهرة هي وعد من ال للمؤمنين ،ومن يحب النساء في الدنيا يعرف أن المرأة في
خلًُقا ،فهناك وقت ل يحب الرجل أن يقرب
الدنيا يطرأ عليها أشياء قد تنفر ،إما خَلْقا تكوينيا ،وإمّا ُ
فيه المرأة ،وقد يكون فيها خصلة من الخصال السيئة فيكره النسان جمالها.
لذلك فالرجل قد ينخدع بالمنظر الخارجي للمرأة في الدنيا ،وقد يقع النسان في هوى واحدة فيجد
طهّ َرةٌ } أي مطهرة من
فيها خصلة تجعله يكرهها ،أما في الخرة فالمر مختلف ،إنها { أَ ْزوَاجٌ مّ َ
كل عيب يعيب نساء الدنيا ،فيأخذ المؤمن جمالها ،ول يوجد فيها شرور الدنيا ،فقد طهرها ال
منها.
طهّ َرةٌ } من الذي طهرها؟ إنه هو ال -سبحانه -طهرها خَلْقا َوخُلُقا .فالرجل في
{ وَأَ ْزوَاجٌ مّ َ
الدنيا قد يهوى إمرأة ،وتستمر نضارتها خمسة عشر عاما تستميله وتجذبه ،ثم تبدأ التجاعيد
والترهل والتنافر .أما في الخرة فالمرأة مطهرة من كل شيء ،وتظل على نضارتها وجمالها إلى
البد ،أليس هذا تصعيدا للخير؟ ونلحظ أن الحق سبحانه ذكر هنا أمرين:
المر الول :هو جنات تجري من تحتها النهار ،ونقارن بينها وبين الحرث في الدنيا.
والمر الخر :هو الزواج المطهرة ،ونقارن بينها وبين النساء في الدنيا أيضا ،ولم يورد الحق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي شيء عن بقية الشياء ،فأين القناطير المقنطرة من الذهب؟ وأين الخيل؟ وأين النعام وأين
البنون؟
إننا نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى جعل المرين المزينين ،واحدا يستهل به الية ،والمر الخر
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَاءِ وَالْبَنِينَ
حبّ ال ّ
يأتي في آخر الية ،ولنقرأ الية التي فيها التزيين } :زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
س ّومَةِ وَالَ ْنعَا ِم وَا ْلحَ ْرثِ {
وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َهبِ وَا ْل ِفضّ ِة وَالْخَ ْيلِ ا ْل ُم َ
إن البداية هي النساء ،ذلك هو القوس الول ،والنهاية هي الحرث وذلك هو القوس الثاني ،وبين
القوسين بقية الشياء المزينة ،وقد أعطانا ال عوض القوسين ،وأوضح لنا إنهما هما الخير
صعّد ،ولم يورد بقية الشياء المزينة ،وهذا يعني أن نفهم ذلك في ضوء أن الرزق ما به ان ُتفِعَ،
ا ْل ُم َ
أي أن كل ما ينتفع به النسان رزق ،الخُلُق الطيب رزق ,سماع العلم رزق ،أدب النسان رزق،
حلم النسان رزق ،صدق النسان رزق ،ولكن الرزق يأتي مرة مباشرا بحيث تنتفع به مباشرة،
ومرة أخرى يأتي الرزق لكنه ل ينفع مباشرة ،بل قد يكون سببا ووسيلة لما ينفع مباشرة.
مثال ذلك الخبز ،إنه رزق مباشر ،والنقود هي رزق ،لكنها رزق غير مباشر؛ لن النسان قد
يكون جائعا وعنده جبل من الذهب فلو قال واحد لهذا النسان :خذ رغيفا مقابل جبل من الذهب.
سيعطي النسان الجائع جبل الذهب مقابل الرغيف؛ لن النسان ل يأكل الذهب ،وكذلك كوب
الماء بالنسبة للعطشان.
إذن فهناك رزق ل يطلب لذاته ،ولكن يطلبه النسان لنه وسيلة لغيره فالوسيلة لغيره أنت لن
تحتاج إليها في الخرة؛ لنك ستعيش ببدل السباب بقول الحق " :كن " .فالنسان لن يحتاج في
الجنة إلى مال .أو قناطير مقنطرة من الذهب والفضة؛ لن كل ما تشتهيه النفس ستجده ،ولن
تحتاج في الخرة إلى خيل مسومة؛ لنك لن تجاهد عليها أو تتلذذ وتستأنس بركوبها.
وكل ما ل تحتاج إليه في الخرة من أشياء أعطاها لك ال في الدنيا لتسعى بها في السباب ،ولم
يورده ال في قولهُ } :قلْ َأؤُنَبّ ُئكُمْ ِبخَيْرٍ مّن ذاِل ُكمْ لِلّذِينَ ا ّتقَوْا عِندَ رَ ّبهِمْ جَنّاتٌ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا
ضوَانٌ مّنَ اللّ ِه وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ { لم يوردها في النص
طهّ َر ٌة وَ ِر ْ
الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَ ْزوَاجٌ مّ َ
الكريم ،لن عطاء ال في الخرة بالرزق المباشر ،أما الشياء التي يسعى بها النسان إلى الرزق
المباشر في الدنيا فلم يوردها لعدم الحاجة إليها في الخرة ،فنحن نحب المال ،ولماذا؟ لنه يحقق
لنا شراء الشياء ،والخيل المسومة نحبها؛ لنها تحقق لنا القدرة على القتال والجهاد في سبيل ال.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الجنات التي تجري من تحتها النهار ،وذكر لنا الزواج المطهرة.
وعندما نتأمل قول الحقُ } :قلْ َأؤُنَبّ ُئكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذاِلكُمْ { قد يقول قائل :ألم يَكن من المنطق أن
يخبرنا الحق مباشرة بما يريد أن يخبرنا به ،بدلً من أن يسألنا :أيخبرنا بهذا الخير ،أم ل؟
ونقول :أنت لم تلتفت إلى التشويق بالسلوب الجميل ،وحنان ال على خلقه .إنه سبحانه وتعالى
يقول لنا :أل تريدون أن أقول لكم على أشياء تفضل تلك الشياء التي تسيركم في الدنيا .فكأن
الحق سبحانه وتعالى قد نبه من لم ينتبه .ولم ينتظر الحق أن نقول له :قل لنا يارب.
ل ،إنه يقول لنا دون طلب منا ،ويقال عن هذا السلوب في اللغة إنه " استفهام للتقرير " ،
فالنسان حين يسمعَ } :أؤُنَبّ ُئكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذاِلكُمْ { فالذهن ينشغل ،فإن لم يسمع النبأ ،فلسوف يظل
الذهن مشغولً بالنبأ ،ويأتي الجواب على اشتياق فيتمكن من نفس المؤمن.
ويأتي النبأ } لِلّذِينَ ا ّت َقوْا { ،فعندما نمعن النظر في الشهوات التي تقدمت من نساء وبنين وقناطير
مقنطرة من ذهب وفضة وخيل مسومة وأنعام وحرث ،أل يكون من المناسب فيها أن يتقي
النسان ربه في مجالها؟
إن التقوى ل في هذه الشياء واجبة ،ولذلك قلنا من قبل قضية نرد بها على الذين يريدون أن
يجعلوا الحياة زهدا وانحسارا عن الحركة ،وأن يوقفوا الحياة على العبادة في أمور الصلة
والصوم ،وأن نترك كل شيء .لهؤلء نقول :ل؛ إن حركتك في الحياة تعينك على التقوى؛ لننا
عرفنا أن معنى التقوى هو أن يجعل النسان بينه وبين النار حجابا ،وأن تجعل بينك وبين غضب
ربك وقاية .فإذا ما أخذت نعم ال لتصرفها في ضوء منهج ال فهذا هو حسن استخدام النعم.
وقد أوضحت من قبل أن التقوى حين تأتي مرة في قول الحق } :ا ّتقُواْ اللّهَ { وتأتي مرة أخرى }
ا ّتقُواْ النّارَ { فهما ملتقيان؛ فاتقاء النار حتى ل يصاب النسان بأذى ،وعندما يتقي النسان ال فهو
يتقي غضب ال؛ لن غضب ال يورد العذاب ،والعذاب من جنود النار .إذن فالذين يتقون ال ل
يظنون أنهم زهدوا في هذه الحياة لذات الزهد فيها ،ولكن للطمع فيما هو أعلى منها ،إنه الطمع
في النعيم الخروي الدائم.
ويوضح الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك :أنكم لن تتمتعوا في الخرة لضرورة الحاجة للمتعة،
بحيث إذا ما جاءت النعمة عليكم تفرحون بها ،إن المر ل يقتصر على ذلك وإنما يتعداه إلى أنكم
-أيها المؤمنون -تحبون فقط أن تروا المنعم ،فمادام المؤمن الذي يدخل الجنة يجد كل ما
يشتهي بل إنه ل يشتهي شيئا حتى يأتيه ،ويستمتع على قدر عطاء ال وقدراته.
وإذا لم يشته النسان ثمارا في الجنة أو نساء ،ويصبح مشغولً برؤية ربه فإن مكانه جنة من
الجنان اسمها " عليّون " و " عليّون " هذه ليس فيها شيء مما تسمعه عن الجنة ،ليس فيها ال أن
تلقى ال .إن الرزق والنعم ليسا من أجل قوام الحياة في الجنة ،بل إن النسان سيكون له الخلود
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيها؛ فالذي يحتاج إليه النسان هو رضوان من ال.
إن رضوانا من ال أكبر من كل شيء .ولقد نبأنا ال بما في الجنات ،ونبأنا بالخير من كل ذلك.
لقد نبأنا ال بأن رضوانه الكبر هو أن يضمن المؤمن أنْ يظفر برؤية ربّه .وهذا ما يقول في
ال {.وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ }[القيامة.]23-22 :
إذن فهناك في الجنة مراتب ارتقائية .ويخبرنا الحق من بعد ذلك } :وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ { أي أن
ال سيعطى كل إنسان على قدر موقفه من منهج ربه ،فمن أطاع ال رغبة في النعيم بالجنة يأخذ
جنة ال ،ومن أطاع ال لن ذات ال أهل لن تطاع فإن ال يعطيه متعة ولذة النظر إليه -
سبحانه -تقول رابعة العدوية في هذا المعنى:كلهم يعبدون من خوف نار ويرون النجاة حظا
جزيلًإنِنّي لست مثلهم ولهذا لست أبغي بمن أحب بديلوقالت أيضا :اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك
خوفا من نارك فادخلني فيها ،وإن كنت تعلم أني أعبدك طمعا في جنتك فاحرمني منها ،إنما
أعبدك لنك تستحق أن تُعبد.
إذن فـ } اللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ { أي أنه سيعطي كل عبد على قدر حركته ونيته في الحركة؛ فالذي
أحب ما عند ال من النعمة فليأخذ النعمة ويفيضها ال عليه .أما الذي أحب ال وإن سلب منه
النعمة ،فإن ال يعطيه العطاء الوفى ،وذلك هو مجال مباهاة ال لملئكته ..ومن أقوى دلئل
اليمان وكماله ..إيثار محبة ال ورسوله على كل شيء في الوجود:
عن أنس رضي ال عنه عن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ثلث من كن فيه وجد بهن حلوة
اليمان :مّنْ كان ال ورسوله أحبّ إليه مما سواهما ،وأن يحبّ المرءَ ل يحبه إل ل ،وأن يكره
أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه ال منه كما يكره أن َيقَذف في النار " إن هناك العبد الذي يحب ال
لذاته؛ لن ذاته سبحانه تستحق أن تعبد ،فذات ال تستحق العبادة؛ لنه الوهاب ،الذي نظم لنا هذا
الكون الجميل.
إذن فقوله الحق } :واللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ { يعني أن ال يعلم مقدار ما يستحق كل عابد لربه ،وعلى
مقدار حركته ونيته في ربه يكون الجزاء ،فمن عبد ال للنعمة أعطاه ال النعمة المرجوة في الجنة
ليأخذها ،ومن أطاع ال لنه أهل لن يطاع وإن أخذت -بضم اللف وكسر الخاء -النعمة منه
فإن ال يعطيه مكانا في عليين.
ولذلك قيل :إن أشد الناس بلء هم النبياء ،ثم الولياء ،ثم المثل فالمثل .لماذا؟ لن ذلك دليل
صدق المحبة .والنسان عادة يحب من يحسن إليه ،ول يحب من تأتي منه الساءة إل إن كانت له
منزلة عالية كبيرة .إنه مطمئن إلى حكمته ،إنه ابتله -وهو يعلم صبره -ليعطيه ثوابا جزيل
وأجرا كبيرا ،والحق يقولُ {:قلْ إِ ّنمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مّثُْلكُمْ يُوحَىا إَِليّ أَ ّنمَآ إِلَـا ُهكُمْ إِلَـا ٌه وَاحِدٌ َفمَن كَانَ
ل صَالِحا وَلَ يُشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ رَبّهِ َأحَدَا }[الكهف.]110 :
عمَ ً
يَرْجُواْ ِلقَآءَ رَبّهِ فَلْ َي ْع َملْ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد قالَ } :فمَن كَانَ يَ ْرجُواْ ِلقَآءَ رَبّهِ { ولم يقل جنة ربه وهكذا يجب أل تشغلنا النعمة -الجنة -
عن المنعم وهو ال سبحانه وتعالى ،وإذا كان الحق قد طلب منا أل نشرك بعبادة ربنا أحدا فلنعلم
أن الجنة َأحَدٌ.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه } :الّذِينَ َيقُولُونَ رَبّنَآ إِنّنَآ آمَنّا{ ...
()407 /
إن قولهم { :رَبّنَآ إِنّنَآ آمَنّا } هو أول مرتبة للدخول على باب ال ،فكأن اليمان بال يتطلب رعاية
من الذي تلقى التكليف لحركة تفسه ،لن اليمان له حق يقتضي ذلك ،كأن المؤمن يقول :أنا
ببشريتي ل أستطيع أن أوفى بحق اليمان بك ،فيارب اغفر لي ما حدث لي فيه من غفلة ،أو من
زلة ،أو من كبر ،أو من نزوة نفس.
وهذا الدعاء دليل على أنه عرف مطلوب اليمان كما أوضحه لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم
في بيانه لمعنى الحسان حين قال " :الحسان أن تعبد ال كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } بمعنى استرها يارب عنا فل تأتي لنا أبدا؟ وإن جاءت
ولماذا ل يكون قوله { فَا ْ
فهي محل الستغفار والتوبة .فإذا أذنبت ذنبا ،واستغفرت ربي ،وعلمت أن ربي قد أذن بالمغفرة؛
غفّارا }[نوح.]10 :
لنه قالَ {:فقُ ْلتُ اسْ َتغْفِرُواْ رَ ّبكُمْ إِنّهُ كَانَ َ
فإن الوجل يمتنع ،والخوف يذهب عني ،وأقبل على ال بمحبة على تكاليفه وأحمل نفسي على
تطبيق منهج ال كله .ولذلك حينما شرع ال الحق سبحانه وتعالى للخلق التوبة كان ذلك رحمة
أخرى .وهذه الرحمة الخرى تتجلى في المقابل والنقيض.
هب أن ال لم يشرع التوبة وأذنب واحد ذنبا ،وبمجرد أن أذنب ذنبا خرج من رحمة ال فماذا
يصيب المجتمع منه؟ إن كل الشرور تصيب المجتمع من هذا النسان لنه فقد المل في نفسه ،أما
حينما يفتح ال له باب التوبة فإن ارتكب العبد ذنبا ساهيا عن دينه ،فإن يرجع إلى ربه.
وتلك واقعية الدين السلمي ،فليس الدين مجرد كلم يقال ،ولكنه دين يقدر الواقع البشري ،فإنه -
سبحانه -يعلم أن العباد سيرتكبون الذنوب ،فيرسم لهم أيضا طريق الستغفار .وإذا ما ارتكب
العباد ذنوبا ،فإن الحق يطلب منهم أن يتوبوا عنها .وأن يستغفروا ال .فإذا ما لذعتهم التوبة حينما
يتذكرون الذنب فإن هذه اللذعة كلما لذعتهم أعطاهم ال حسنة.
كأن غفران الذنب شيء ،والوقاية من النار شيء آخر .كيف؟ لنه ساعة أن يعلم العبد أن الحق
سبحانة وتعالى ضمن للعبد مغفرته ،وهو الخالق المربي ،فإن العبد يذهب إلى ال مستغفرا طامعا
في المغفرة والرحمة .إنها دعوة المؤمنين إن كانوا قد نسوا أن يستغفروا لنفسهم .لماذا؟ لن
الستغفار من الذنب تكليف من ال .وكما قلنا :إن النسان قد ينسى بعضا من التكاليف ،لذلك فمن
عذَابَ النّارِ {.
الممكن أن يسهو عن الستغفار ،ولذا يقول الحق على ألسنة عباده المؤمنينَ } :وقِنَا َ
ومعنى التقوى أن تجعل بينك وبين النار وقاية ،أو تجعل بينك وبين غضب ربك وقاية ،فإذا ما
أخذت النعم من ال لتصرفها في منهج ال تكون حسنة لك ،وقلنا :إن " اتقوا ال " و " اتقوا النار "
ملتقيتان ،لن معنى " اتقوا النار " كي ل تصيبكم بأذى " ،اتقوا ال " تعني أن نضع بيننا وبين
غضب ال وقاية ،لن غضب ال سيأتي.
ن وَا ْلمُنْ ِفقِينَ{ ....
ن وَا ْلقَانِتِي َ
ن وَالصّا ِدقِي َ
وبعد ذلك يقول الحق } :الصّابِرِي َ
()408 /
سحَارِ ()17
ن وَا ْلقَانِتِينَ وَا ْلمُ ْن ِفقِينَ وَا ْلمُسْ َت ْغفِرِينَ بِالْأَ ْ
ن وَالصّا ِدقِي َ
الصّابِرِي َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه كلها صفات للذين اتقوا ال ،وأعد ال لهم جنات تجري من تحتها النهار ،والزواج
المطهرة ،ورضوان من ال أكبر ،وهم صابرون وصادقون وقانتون ومنفقون في سبيل ال،
ومستغفرون بالسحار.
وصابرون على ماذا؟ إنهم صابرون على تنفيذ تكاليف ال ،لننا أول ما نسمع عن التكليف فلنعلم
أن فيه كلفة ومشقة ,والتكاليف الشرعية فيها مشقة لنها قيدت حرية العبد.
لقد خلقك الحق خلقا صالحا لن تفعل كذا أو ل تفعل .فساعة يقول لك :افعل..فإنه قد سد عليك
باب " ل تفعل " وساعة يقول لك الحق :ل تفعل فإنه يكون قد سد عليك باب " افعل " ،وهكذا
يكون تقييد حركتك وتقييد المخلوق على هيئة الختيار فيه مشقة ،فإذا ما جاء أمر ال بـ " افعل "
فقد يكون الفعل في ذاته شاقا ،فإن صبرت على مشقة الفعل الذي جاء بوساطة " افعل " فأنت
صابر ،لنك صبرت على الطاعة..وقد تصبر عن المعصية ،عندما يلح عليك شيء فيه غضب
ال فترفض أن ترتكب الذنب ،فتكون قد صبرت عن ارتكاب الذنب.
إذن ففي " افعل " صبر على مشقتها ،وفي " ل تفعل " صبر عنها ،فالصابرون لهم اتجاهان اثنان،
لن التكليف إما أن يكون بافعل ،وإما أن يكون بل تفعل .فساعة يأتي التكليف بافعل فقد تأتي
المشقة ..وعندما تنفذ التكليف بافعل فأنت قد صبرت على المشقة ..وعندما يأتي التكليف بـ " ل
تفعل " كأمر الحق بعدم شرب الخمر ،أو " ل تسرق " فأنت قد صبرت عنها ..إذن فـ " افعل "
ي التكليف ،وبقيت بعد ذلك أحداث ل تدخل في نطاق افعل ول
ول " تفعل " قد استوعبت َنوْعَ ْ
تفعل ،وهي ما ينزل عليك نزول قدريا بدون اختيار منك بل هي القهرية والقسرية.
فساعة أن يطلب منك أن تفعل ،أي إنه قد خلقك صالحا أل تفعل كما قلنا من قبل .إلّ إن كنت
مجبرا على الفعل فقط .وكذلك إذا قال لك الحق " :ل تفعل " .والشيء القدرى الذي ل صلحية
فيه للختيار ماذا يفعل فيه المؤمن؟ إنه يصبر على اللم والمتاعب لنه آمن بال ربا ،والرب هو
الذي يتولى تربية المربي لبلوغه حد الكمال المنشود له فإذا جاء لك الحق بأمر ل خيار لك فيه،
كالمرض أو الكوارث الطارئة ،كوقوع حجر من أعلى أو إصابة برصاصة طائشة ،فكل ذلك هي
أمور ل دخل لـ " افعل " ول " تفعل " فيها.
وهناك يكون الصبر على مثل هذه المور هو اليمان بحكمة من أجراها عليك .لن الذي أجراها
رب ،وهو الذي خلقني فأنا صنعته.
وما رأينا أحدا يفسد صنعته أبدا .فإذا ما جاء أمر على النسان بدون اختيار منه ،فالذي أجراه له
فيه حكمة ,فإن صبر النسان على هذه اللم فإنه يدخل في باب الصابرين.
إذن فالصابرون أنواع هم :صابر على الطاعة ومشاقها ،صابر على المعاصي ومغرياتها ،وصابر
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على الحداث القدرية التي تنزل عليه بدون اختيار منه .وإذا رأيت إنسانا قد صبر على أمر
الطاعة وصبر عن شهوة المعصية وصبر على القدار النازلة به ،فاعرف حبه لربه ورضاه عنه.
ونأتي بعد ذلك لوصف آخر يقول ال فيه } :الصّابِرِينَ { } وَالصّا ِدقِينَ {.
والصدق كما نعلم يقابله الكذب ،والصدق كما نعرف حقيقته :يأتي حين توافق النسبة الكلمية التي
يتكلم بها النسان ،النسبة الخرى الخارجية الواقعة في الكون.
فإن قلت " :حصل كذا وكذا " فتلك نسبة كلمية صدرت من متكلم ،فإن وافقها الواقع بأنه حصل
كذا وكذا فعل يكون المتكلم صادقا .وإن لم يكن الواقع موافقا لحدوث ما أخبر به يكون المتكلم
كاذبا .لماذا؟ لن كلم المتكلم العاقل ل بد له من نسب ثلث:
الولى وهي النسبة الذهنية :فقبل أن أتكلم أعرض المر على ذهني ،وذهني هو الذي يعطي
الشارة للساني ليتكلم ،هذه هي النسبة الولى واسمها " نسبة الذهن " .وقد يعن لي أن تأتي النسبة
الذهنية ثم أعدل عنها فل أتكلم ،فتكون النسبة الذهنية قد وُجِدت ،والنسبة الكلمية لم توجد.
وقد أصر على أن أبرز إشارة ذهني على لساني فأقول النسبة الكلمية .ونأتي بعد النسبة الكلمية
لنرى :هل الواقع أن ما حدث وتحدثت به وقع أم لم يقع؟ فإن كان قد وقع ،يكون الكلم مني
صدقا .وإن لن يكن قد وقع ،وكانت النسبة الخارجية على عكس ما أخبرت به .فإننا نقول " :هذا
كلم كذب " إذن :فالصدق :هو أن تطابق النسبة الكلمية الواقع .والكذب :هو أل تطابق النسبة
الكلمية الواقع وكثيرا ما يخطىء الناس في فهم الواقع فيجدون تناقضا في بعض الساليب.
مثال ذلك ،حينما تعرض بعض المستشرقين لقول الحق سبحانه وتعال {:إِذَا جَآ َءكَ ا ْلمُنَافِقُونَ قَالُواْ
شهَدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّهِ }[المنافقون ]1 :تلك نسبة كلمية صدرت منهم ،فهل هي مطابقة للواقع أم
نَ ْ
هي مخالفة له؟ إنها مطابقة للواقع .ويؤكد الحق ذلك بقوله {:وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنكَ لَرَسُولُهُ }[المنافقون:
.]1
ش َهدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ }[المنافقون.]1 :
بعد ذلك يقول الحق سبحانة {:وَاللّهُ يَ ْ
فقيم كذب المنافقون؟ هل كذبوا في قولهم } :إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّهِ {؟ ل .إن الحق لم يكذبهم في
قولهم } :إِ ّنكَ لَ َرسُولُ اللّهِ {؛ لن ال قد أيد هذه الحقيقة بقوله } وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنكَ لَرَسُولُهُ {.
شهَدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّهِ { .لقد كذبهم
ولكن كذبهم ال فيما سها عنه المستشرق الناقد عندما قالوا } :نَ ْ
ال في شهادتهم ،ل في المشهود به ،وهو أن محمدا صلى ال عليه وسلم رسول من ال ،إن ال
يعلم أن محمدا رسوله المبعوث منه رحمة للعالمين ،لكن الكذب كان في شهادتهم هم.
إن كلم المنافقين مردود من ال .لماذا؟ لن الشهادة تعني أن يواطئ اللسان القلب ويوافقه.
وقولهم :شهادة ل توافق قلوبهم وتعنى كذبهم.
إذن ،فالتكذيب هو لشهادتهم ،فلو قالوا } :إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّهِ { دون " نشهد " لكان قولهم :قضية "
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سليمة " .ولذلك كان تكذيب ال لشهادتهم ،ومن هنا ندرك السر في قول ال } :وَاللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنكَ
لَرَسُولُهُ { .إن الحق يؤكد المر المشهود به وهو بعث محمد رسول من عند الحق ،وبعد ذلك يأتي
لنا الحق بشهادته إن المنافقين كاذبون في قولهم " :نشهد " .فالصدق أن تطابق النسبة الكلمية
الواقع .والصدق -كما قلنا من قبل -حق ،والحق ل يتعدد ،وضربت من قبل المثل بأن النسان
الذي نطلب منه أن يروي واقعة شهدها بعينيه ،وأن يحكيها بصدق لن يتغير كلمه أبدا ،مهما
تكرر القول؛ أو عدد مرات الشهادة .لكن إن كانت الواقعة كذبا ،فالراوي تختلط عليه أكاذيبه،
فيروي الواقعة بألوان متعددة ل اتساق فيها ،وقد ينسي الراوي الكاذب ماذا قال في المرة الولى،
وهكذا ينكشف سر الكذب .لكن الراوي عن واقع مشهود وبصدق ،هو الذي يحكى ،وهو الذي ل
تختلف رواياته في كل مرة عن سابقتها بل تتطابق.
فعندما نقول " :إن زيدا مجتهد " ،فهذا يعني أن اجتهاد زيد قد حدث أول ،ثم يأتي في ذهن من
رأى اجتهاد زيد أن يخبر بأمر اجتهاده ،ثم يخبر بالكلم عن اجتهاد زيد .إن المر الخارج وهو
اجتهاد زيد قد حدث أول ،وبعد ذلك تأتي النسبة الذهنية ،وبعد ذلك تأتي النسبة الكلمية.
ولكن النشاء وهو ضد الخبر ،هو أن نطلب من واحد أن ينشئ أمرا ل واقع له ،كأن نقول
لواحد :اجتهد .إننا قبل أن نقول لنسان ما " :اجتهد " فمعنى ذلك أن الجتهاد كان أمرا في ذهن
القائل ،وعندما ينطقها تصبح " نسبة كلمية " .وبعد ذلك يحدث الواقع ،بعد النسبة الذهنية،
والنسبة كلمية ،وهذا هو النشاء.
إن النشاء الطلبي يعني أن تحدث النسبة الخارجية بعد النسبة الكلمية .والصادقون هم الذين أراد
ال أن يمدحهم ،لماذا؟ وأين هو مجال صدقهم؟ إنهم الذين تتطابق حركتهم مع منهج ال ،لنهم
حين قالوا " :ل إله إل ال " ،وآمنوا به ،فهم قد التزموا بكل مطلوبات اليمان قدر الطاقة.
ومعنى " ل إله إل ال " أي ل معبود إل ال .ومعنى إل ال أي أنه ل طاعة إل ل.
والطاعة -كما نعرف -هي امتثال أمر ،وامتثال نهي.
إذن فمجال " ل إله إل ال " يشمل أنه ل معبود بحق إل ال ،ول مُطاع في تكليفه إل ال ،ول
امتثال لمر أو لنهي إل للمر القادم من ال؛ فإن امتثال إنسان المر من ال بعد قوله " :ل إله إل
ال " كان هذا النسان صادقا في قوله " :ل إله إل ال ".
وهذا هو صدق القمة ،أن تكون كل تصرفات قائل " :ل إله إل ال " متطابقة مع هذا القول.
والمؤمن الحق هو من يبني كل تصرفاته موافقة لمنهج ال .هذا هو النسان الصادق .أما الذي
يقول بلسانه " :ل إله إل ال ،ل معبود بحق إل ال " ثم يخالف ربه بعصيانه له ،لنا أن نقول له:
أنت كاذب في قولك " ل إله إل ال " لماذا؟ لنه لم يطابق النسبة التي قالها .إن هذا النسان إذا
آمن بأي تكليف ثم فعل ما يناقضه قلنا له :أنت منافق ،لماذا؟ لننا عندما تكلمنا في أول سورة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
البقرة عن المنافقين قلنا :إن المؤمن حين يؤمن بال يكون صادقا مع نفسه؛ لنه قال " :ل إله إل
ال " وهو مؤمن بها ،والكافر حين ينكر اللوهية يكون صادقا مع نفسه أيضا.
أما المنافق فهو ل يصدق مع نفسه ،ول يصدق مع الناس ،إنه مذبذب بين هؤلء وهؤلء .إن
المنافق بل صدق مع النفس ،ولذلك يصفهم الحق {:مّذَ ْبذَبِينَ بَيْنَ ذاِلكَ لَ إِلَىا هَـاؤُل ِء َولَ إِلَى
هَـاؤُلءِ }[النساء.]143 :
إن الكافر له صدق مع النفس فهو ل يقول " :ل إله إل ال " لنه ل يعتقدها .أما المنافق فقد قال" :
ل إله إل ال " وهي غير مطابقة لسلوكه ،لذلك يكون غير صادق مع نفسه ،وغير صادق مع
ربه .إذن ،فقول الحق } :وَالصّا ِدقِينَ { مقصود به هؤلء الناس الذين يأتون في كل حركاتهم
صادرين عن منهج ال ،فل يؤمنون بقضية ،ويفعلون أخرى .ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى{:
ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتا عِندَ اللّهِ أَن َتقُولُواْ مَا لَ َتفْعَلُونَ }[الصف:
.]3-2
أي أنه حين يكون القول شيئا مختلفا عن الفعل ،ل تتطابق النسبة .فالصادقون هم الذين يصدقون
في سلوكهم مع كلمة التوحيد في كل ما تتطلبه هذه الكلمة من هذه السلسة " :ل إله إل ال ل
معبود بحق إل ال " أي ل مطاع في أمر أو نهي إل ال ،فإن جئت وطاوعت أحدا في غير ما
شرع ال يحق للمؤمنين أن يقولوا لك :أنت كاذب في قولك " :ل إله إل ال ".
" فعن أبي هريرة رضي ال عنه :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :ل يزني الزاني حين
يزني وهو مؤمن ،ول يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ول يشرب الخمر حين يشربها وهو
مؤمن ".
هذا هو سمو اليمان عند المؤمن ،إن المؤمن ل يمكن أن يكذب أو يخالف مقتضيات عقيدته؛ لن
المؤمن في كل تصرفاته خاضع ليمانه بأنه ل إله إل ال.
ثم يقول الحق } :وَا ْلقَانِتِينَ { والقانت :هو العابد بخشوع وباطمئنان وباستدامة .والقانت صادق مع
نفسه ،لماذا؟ لن الحق سبحانه وتعالى حين يكلف عباده تكليفا ،فقد يكلفهم بشيء يعز على أفهامهم
أن تدرك حكمته.
وأقبل القانتون من العباد على هذا التكليف؛ لن الذي أمرهم به إله قادر ،فهم يثقون في حكمته
فأدّوا المر الصادر إليهم لنهم خاضعون لحكمة ال.
إنهم منفذون للمر القادم من المر ل لعلة المر .وبعد أن يصنعوا ذلك؛ يريهم ال نورانية هذا
جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا وَ ُي َكفّرْ
الحكم بأن يعطيهم فرقانا في أنفسهم {:يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ يَ ْ
ضلِ ا ْلعَظِيمِ }[النفال.]29 :
عَنكُمْ سَيّئَا ِت ُك ْم وَ َيغْفِرْ َلكُمْ وَاللّهُ ذُو ا ْل َف ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيقول المؤمن منهم لنفسه بعد أن يرى هذا الفرقان :إن ال قد أراد لي بهذا المر أن أدرك حلوة
طاعة هذا المر ،لذلك قال أحد العارفين بال:
إن كنت تريد أن تعلم عن ال حكما كلفك ال به دون أن تعلم علته فاتق ال فيه ،وحين تتقي ال
في هذا المر ،فإنك تجد الحكمة مستنيرة في ذهنك ،ولذلك يقول ال {:وَا ّتقُواْ اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّهُ
شيْءٍ عَلِيمٌ }[البقرة.]282 :
وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
فكأنك قبل التقوى لم يعلمك ال ،أما بعد التقوى فإن ال يعلمك ،فتقبل على تنفيذ التكليف لتلمس
إشارة في نورانية نفسك ،وهذا هو الفارق بين المر من المساوى ،والمر من العلى .وعندما
ترتقي كلمة " العلى " ،فإنها ل تنطبق إل على العلى المطلق وهو ال ،لنه العلى في
الحكمة ،والعلى في المنزلة ،والعلى في المكانة ،والعلى في الربوبية.
إذن ،فالنسان ل يطلب علة حكم إل من مساو له ،فإن قال لك أحد من البشر :افعل الشيء
الفلني .فإنك تسأله :لماذا؟ فإن أقنعك ،فأنت تقوم بالفعل .وتكون قد قمت بتنفيذ هذا الفعل؛ لن
المساوى لك قد أقنعك بالحكمة ل بالطاعة له.
ولكن عندما يصدر المر من العلى وهو الحق سبحانه وتعالى ،فإنك أيها العبد المؤمن تنفذ المر
فورا عشقا في طاعته .والمثال الذي أضربه للتقريب ل للتشبيه ،فال العلى ،وهو منزه عن كل
شبيه ،إن الب يقول للبن في حياتنا اليومية :إن نجحت في المدرسة فسأحضر لك هدية هي
الدّراجة .فهل معنى ذلك أن علة الذهاب إلى المدرسة هي الحصول على الدراجة كهدية؟ ل،
ليست هذه هي العلة ،إن العلة عند الب هي أن يتعلم البن ويتفوق في حياته ،ويكبر ،وعند ذلك
يدرك العلة ،ويقول لنفسه :لقد كان أبي على حق.
إذا كان هذا يحدث في الحياة بيننا نحن البشر ،فكيف لنا بطاعة المر الصادر من ال؟ إن الحق
سبحانه وتعالى حين يكلف العبد تكليفا ،فإن العبد قد يجد مشقة في فهم العلة .والعبد المؤمن يعرف
أن الرضوخ لتكليف الحق إنما هو خضوع للمر العلى.
إن العبد المؤمن يعرف أنه آمن بمن هو أعلى منه وأعلى من كل كائن ،ول يساويه أحد ،إن العبد
المؤمن يعرف أنه آمن أول بأن ال هو الله الواحد -سبحانه -له مطلق الحكمة ،وله القوة وله
كل شيء في الكون ،وسبق أن ضربت المثل -ول المثل العلى.
إن النسان قد يمرض ،وصحة النسان أثمن شيء عنده ،فيفكر في الذهاب إلى طبيب ،ويقول له:
إنني أتعب من معدتي ،أو من قلبي أو من أمعائي .إنه يحدد ما يشكو منه .وعقل النسان هو الذي
هداه إلى الطبيب الذي يشخص العلة ،وبعد ذلك يأخذ المريض من الطبيب ورقة مكتوبا فيها
الدوية اللزمة .إن النسان يتناول كل دواء من هذه الدوية دون أن يسأل الطبيب عن حكمة كل
دواء؛ لنه لو سأل عن ذلك فهذا معناه الدخول في متاهة كيماوية ،فإن سأل أي إنسان ذلك
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المريض :لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فيجيب المريض :لن الذي كتب لي هذا الدواء هو الطبيب
المختص بعلج المعدة ،أو القلب ،أو المعاء أو أي عضو يشكو منه النسان.
والطبيب قد يخطىء ،إنما حكم ال ل يخطئ أبدا ،فهو جل شأنه منزه عن الخطأ تماما .إن الحكمة
تكون عند الحق سبحانه وتعالى ،وعندما ينفذ المؤمن مطلوب ال فإنه يدرك آثار الحكمة الربانية
في نفسه .وكلمة " قانتين " كما عرفنا هي وصف لمن يعيشون القنوت ،والقنوت هو عباده مع
خضوع ،وخشوع واستدامة .لماذا الخضوع ،والخشوع؟
لن ال جل وعل لم يشرع العبادة لينفذها النسان ،وينقذ نفسه من عذاب النار ،ل؛ إننا نرى
كثيرا من الناس -إذا ما ل حظنا واقع الحياة -إذا وجدوا رئيسا قوى الشكيمة وقوانينه صارمة
في أن الموظفين تحت يده يجب أن يحضروا صباحا في الميعاد المحدد ،وأن ينصرفوا في الميعاد
المحدد ،ول يسمح لهم بالشتغال بغير العمل ،فل يشربون الشاي ،ول يقرأون الصحف ول
يقابلون الصدقاء ،وغير ذلك من العمال .ويأتي واحد من الموظفين فيقول عن هذا الرئيس " إنه
شديد المراس ،ولذلك فليس له عندي إل أن أحضر في الثامنة إل خمس دقائق ،ولن أنصرف إل
في الثانية وخمس دقائق ،ولن أقرأ الصحف ولن أفعل أي شيء مما يمنعه " .إن هذا الموظف
يفعل ذلك بجبروت واستعلء على رئيسه حتى ل يسمح له بنقد أو تجريح ،فهذا الموظف ممتثل
ولكن باستعلء.
إنها طاعة بل حب ،ولكنها باستعلء .وقد يحاول عبد أن يقول :ماذا يطلب ال مني؟ أل يطلب
منى الصلة والزكاة وإقامة العبادات؟ سوف أفعل ذلك .لمثل هذا العبد نقول :ل ،إن ال يطلب
العبادة بحب منك وخشوع واطمئنان ،لن التكليف من الحق صدقة أخرى أجراها ال على العبد.
إن الحق سبحانه وتعالى قد كلف العبد بالتكاليف اليمانية ،حتى يكون النسان سويا وله قيمة في
الحياة.
إن معنى " قانت " هو العبد الذي يؤدي عبادة ربه بخشوع ،وباطمئنان ،وباستدامة .لماذا؟ لن
الذي يقبل على الطاعة ثم ينصرف عنها كأنه قد جرب وده ل فلم يجد ال أهل للود .أما العبد
الطائع فهو ل ينصرف عن العبادة ،لنه ذاق حلوة استدامة العبادة ل ،ومادام قد أدرك حلوة
العبادة فهو يقبل عليها بخشوع ،واطمئنان ،واستدامة ،ويدخل في دائرة القانتين.
وبعد " القانتين " يقول ال سبحانه } :وَا ْلمُنْ ِفقِينَ { وكلمة أنفق و " نفق " ،مأخوذة من كلمة " نفق
الحمار " أي مات ،و " ونفقت السوق " أي انتهت بضائعها واشتراها الناس ولم يبق منها شيء .و
" نفقة " مأخوذة من هذا المعنى لتشعرنا بأن النسان حين ينفق فهو يُميت ما أنفقه من نفسه ،فل
يتذكر أنه أنفق على فلن كذا ،وعلى علن كذا ،أي يعلم يقينا أن ما أنفقه هو رزق من أنفقه
عليهم وليس له إل أجر إيصاله إليهم فل مَنّ ،ول إذلل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن ال يريد من كل إنسان يُخرج شيئا من ماله أن ينهى من ذهنه هذا الشيء الذي خرج من المال
فل يذكره ول َيمُنّ به على أحد " .والنفقة " ،تقتضي وجود منفق ،ومنفقا عليه ،ومنفقا به ،المنفق
كما نعرف هو المؤمن الذي عنده فضل مالٍ ،والمنفق عليه هو الفقير ،والمنفَق به هو الخيرات.
ومن أين تأتي هذه الخيرات؟ إنها تأتي نتيجة الحركة في الحياة ،وحركة المتحرك في الحياة
تقتضي قدرة ،فإذا كان النسان عاجزا ،ول يجد القدرة على الحركة ،فمن أين يعيش ،إن ال ل بد
أن يضمن له في حركة القادر ما يعوله.
لقد جعل ال القدرة عرضا من أعراض الحياة ،فالقادر اليوم قد يصير عاجزا غدا .ومادامت
القدرة عرضا من أعراض الحياة ،فالقادر الن عندما يسمع المر من ال بأن ينفق على غير
القادر ،فلبد أن يُقدر في نفسه أن قدرته هي عرض من أعراض الحياة ،والقادر الن من
الغيار ،لذلك فهو عرضة لن يصير غدا من العاجزين ،ويقول القادر لنفسه " :عندما أصبح
عاجزا سوف أجد من يعطيني " .أليس ذلك هو التأمين الحق؟ إنه تأمين المؤمن .إن المؤمن يعطي
عند قدرته ،وذلك حتى يجنبه ال مشقة السؤال إن جاءت الغيار ،لن الغيار إن جاءت سوف
يجد من يعطيه.
إننا يجب أن نلحظ في الحكم ،ل ساعة أن تطالب أنت بأداء مطلوب الحكم ،ولكن ساعة أن يؤدي
الغير إليك مطلوب الحكم .فالذي يطلب منه أن ينفق ،عليه أن يقدر أنه قد يصبح عاجرا ،ولنا أن
نسأله :لو كنت عاجزا ألم تكن تحب أن يعطيك الناس دون مَنّ أو أذى؟
إن هذا هو التأمين الحق ،لن التأمين في يد ال ،ومادامت الغيار عرضة لن يصير القادر
عاجزا ويصير العاجز قادرا ،فساعة ينفق المنفق يجب عليه أن يميت أنه أنفق فل يتذكر وجه من
أنفق عليه ،ول يخبر أحدا بما أنفق.
عد الرسول صلى ال عليه وسلم الرجل الذي أنفق حتى ل تعلم شماله ما صنعت يمينه من السبعة
الذين يظلهم ال في ظله فقال " :سبعة يظلهم ال في ظله يوم ل ظل إل ظله ،إمام عادل ،وشاب
نشأ في عبادة ال ،ورجل قلبه معلق في المسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ،ورجلن تحابا في
ال فاجتمعا على ذلك وافترقا عليه ورجل ذكر ال خاليا ففاضت عيناه ،ورجل دعته امرأة ذات
منصب وجمال فقال إني أخاف ال رب العالمين ،ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى ل تعلم
شماله ما تنفق يمينه ".
وبعد ذلك على المؤمن المنفق أن يُقدر ساعة عطائه أنه ادّخر ليأخذ ،إما أن يأخذ إن طرأت له
الغيار في الدنيا ،وإما أن يأخذ من يد ال في الخرة أضعافا مضاعفة .إذن ،فالمنفق هو الذي
ُي َؤمّنُ لغير القادر حركته في الحياة ضمانا لنفسه حين ل يقدر؛ أو استثمارا مضاعفا عند ال،
سعُونَ العاجزين بفضل ما لديهم ،يظهرون حكمة ال في الوجود ،لن ال
وهؤلء المنفقون الذين يَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ما دام قد خلقنا ،وفينا القادر ،وفينا العاجز ،فقد أراد ال لنا أن نعرف أن القدرة ليست لزمة في
الخلق .فإن قدرت الن فقد تُسلب -بضم التاء -منك هذه القدرة ،وما دامت القدرة يتم سلبها،
فلبد أن يتمسك المؤمن بالقيوم الذي يقيم القدرة لك أيها المؤمن دائما ،وذلك حتى يعرف الواحد
منا أنه لم ينفلت من ربه ،خلقنا قادرين وانتهت المسألة .ل .إنّ القدرة أغيار تذهب وتجيء.
ومادامت الغيار تذهب وتجيء فل بد أن يضع المؤمن نصب عينيه عطاء القادر العلى.
وقلنا سابقا :إن ال جعل المنفقين وصفا من أوصاف الذين اتقوا ،والذين أعد ال لهم جنات تجري
من تحتها النهار ،وذلك حتى يحمى ال الضعيف الذي خلقه ال لحكمة في الوجود .إن النفاق
ليس أخذا من العبد ،إنما هو مناولة ،هذه المناولة تتضح في أنه ما كان لك ما يزيد عن حاجتك،
إل بحركتك في الحياة.
وهذه الحركة في الحياة تتطلب عقل يخطط للحركة وجوارح تنفذ المخطط الفكري ،ومادة يتم
الفعل فيها سواء كانت أرضا تتم زراعتها ,أو آلة يتم الصنع بها ،ول شيء للنسان من هذا في
الكون .إن المخ الذي يدبر هو عطاء من ال ،والطاقة التي تنفذ هي عطاء من ال .ونحن نرى في
الحياة إنسان قد نزع ال عنه المخ الذي يفكر ويدبر ،ونجد إنسانا آخر قد نزع ال منه الطاقة التي
تنفذ ،فقد يمنع ال عن عبدٍ المادة التي يتفاعل معها.
إذن فل شيء من هذه الشياء ذاتي للنسان ،إنها كلها عطاء من ال .فليعمل المؤمن مضاربا عند
ال ،وليعط المؤمن للعاجز حق ال .إن ال ل يأخذ هذا الحق لنفسه إنما يريده ال لخيك العاجز،
وسوف يطلب ال هذا الحق لك إذا عنّت لك حاجة بسبب الغيار.
هكذا تكون } وَا ْلمُنْ ِفقِينَ { صفة من صفات الذين اتقوا ربهم .والحق سبحانه وتعالى قد جعل في
الصبر ،صلبة اليقين اليماني في النفس البشرية .وفي الصدق انسجاما مع واقع ل إله إل ال،
وفي النفقة حماية العاجز الذي ل يقدر.
سحَارِ { إننا يجب أن
وبعد ذلك يعود إلى نفس المؤمن عودة أخرى فيقول } :وَا ْلمُسْ َت ْغفِرِينَ بِالَ ْ
نأخذ هذا الوصف بعد مجيء الوصاف الخرى في النفس البشرية .البداية هي إقرارهم باليمان،
ودعاؤهم الحق -سبحانه -أن يغفر لهم وقد طلبوا الوقاية من عذاب النار ،وصبروا ،وصدقوا،
وقنتوا في العبادة ،وأنفقوا في سبيل ال ،إن كل هذه الوصاف تبرئ ذمتهم من أنهم مقصرون
أيضا في حقوق إلههم لذلك فهم يأتون حال السكون بالليل ،ويستغفرون ال.
إما أن يستغفر العبد لنه قد فرطت منه هفوة في ذنب ،وإما أن يستغفر لنه لم يَزد فيما يفعله من
أمور الطاعة .وكلمة } بِالَسْحَارِ { توضح لنا لحظات من اليوم يكون النسان فيها محل الكسل
والراحة ،إن الذي سوف يصحو في السحر ل بد أن يكون قد اكتفى من الراحة ،ولم يكن قد أخذ
منه كد الحياة كل النهار ،ثم إن بعضهم يأخذه لهو الحياة ليل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا هو وجه الخيبة لما يحدث في زماننا .إن كد الحياة -إن أخذ -يأخذ نهارا ،وبعد ذلك يأخذنا
لهو الحياة ليل ،مما نشاهده من لهو الحديث ،ولهو السهرات ،وبعد ذلك يأتي النسان لينام
متأخرا ،فكيف نطلب من هذا النسان أن يصحو في السحر؟ إن الذي يصحو في السحر هو من
أخذ حظه في الراحة ،فبعد أن جاء من كد العمل نام نوما هادئا ،ويصحو من بعد ذلك في السحر
ليذكر ربه ،في الوقت الذي نام فيه غيره من الناس ،لماذا؟ لن الحق سبحانه وتعالى في لحظة
سكون الليل يوزع رحمته ،وعندما يصحو إنسان في السحر ويدعو ال ،ويستغفره فإنه يأخذ من
رحمة ال النازلة.
وعندما يأخذ هذا العبد من رحمة ال النازلة في ذلك الوقت ،فمعنى هذا أنه سيأخذ الكثير من
رحمة ال .وإياك أن تقول :لو صحونا جميعا في السحار لنفدت الرحمة والعطاء " ل " لن ال
قد قال {:مَا عِن َدكُمْ يَنفَ ُد َومَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ }[النحل.]96 :
إن قدرته جل وعل تتسع لعطائنا جميعا دون أن ينقص شيء من عنده .إن كل هذه الشياء من
التقوى ،والقرار باليمان ،وطلب المغفرة للذنوب ،وطلب الوقاية من عذاب النار ،والصبر،
والصدق ،والقنوت ،والنفاق في سبيل ال ،والستغفار بالسحار ،كل ذلك نتيجة للتقوى الولى.
إنها الثمرة من " ل إله إل ال " .وما دامت هذه هي الثمرة من " ل إله إل ال " فليعلم كل إنسان،
أن ال لم يدعك لتستنبطها أنت من مفقود ،بل اعلم أن ال قد شهد أنه ل إله إل ال ،وكفى بال
شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لَ ِإلَـاهَ ِإلّ ُهوَ وَا ْلمَلَ ِئكَةُ.{ ...
شهيدا .ولذلك يقول الحقَ } :
()409 /
حكِيمُ ()18
سطِ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُه َو وَا ْلمَلَا ِئكَ ُة وَأُولُو ا ْلعِلْمِ قَا ِئمًا بِا ْلقِ ْ
َ
ولنأخذ الجملة الولى من الية الكريمة بمعناها :لقد شهد ال أنه ل إله إل هو ،أي أنّ الحق قد
أخبر بما رآه ،وشاهده ،أو ما يقوم مقام ذلك .إن " شهد " بمعنى علم.
إنه الحق الذي نصب الدلة في الوجود على قيوميته ،وعلى أنه إله واحد ،أليس في ذلك إقامة
للحجة على أنه إله واحد؟ ومن الذي خلق الدلة وجاء بها؟ إنه ال.
ّإذن ،فقد شهد ال أنه ل إله إل هو .وقلنا :إن شهادة ال أنه ل إله إل هو هي شهادة الذات للذات،
ت وَالَ ْرضِ
سمَاوَا ِ
وشهادة الذات للذات تعني أنها كلمة ُم َمكّنٌ منها .فعندما يقول الحقَ {:بدِيعُ ال ّ
وَإِذَا َقضَىا َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ }[البقرة.]117 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بال لو لم يكن قد شهد لنفسه بأنه ل إله إل هو ،وليس هناك من يعارض مبتغاه ،أكان يجازف
فيقولها؟ إنه الحق العلى الذي شهد أن ل إله إل هو ،فساعة أن يقول " :كن " فإنه قد علم ،أنه ل
يوجد إله آخر يقول " :ل تكن " .إن الحق ل بد أن يطمئَننا أنه ل إله إل هو ،لذلك فلزم أن يشهد
لنفسه أنه مؤمن بأنه ل إله إل هو ويلقى المر ،ويلقى الحكم التسخيري ،ويعلم أنه ل إله
يعارضه.
وأليس من مطلوبات الرسول صلى ال عليه وسلم أن يشهد أنه رسول ال؟ لقد صلى رسول ال
صلى ال عليه وسلم وقال في صلته " :أشهد أن محمدا رسول ال " .ولو لم يشهد بهذه لنفسه
فكيف يجازف بالشياء التي يقولها؟ ولذلك فسيدنا أبو بكر عندما بلغه أمر بعث محمد رسول ،قال
ما معناه :أقالها محمد؟ إنه صادق ،وما دام قد قالها فهي حق.
إن أبا بكر الصديق واثق من الرصيد الذي سبق بعث محمد بالرسالة .ونحن نرى في التاريخ
امرأة كان السبب في إسلمها لمحة من سيرته صلى ال عليه وسلم .قرأت هذه المرأة أن رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،كان له حراس من المؤمنين يقومون بحراسته من الكافرين .وبعد ذلك
جاء يوم وصرف الرسول صلى ال عليه وسلم هؤلء الحراس ،وقال لهم ما معناه :إن ال
عصمني من الناس فاذهبوا أنتم.
وقد قرأنا هذه الواقعة كثيرا جدا ،ولكن الفتح جاء من الحق لمرأة ،فشغلتها هذه المسألة،
وتساءلت :ألم يكن هؤلء الحراس يحرسونه خوفا على حياته؟ فلماذا قال لهم " :ل تحرسوني "
لن ال هو الذي يحرسني؟ فلو أن رسول ال قد غش الدنيا كلها؛ أكان من الممكن أن يغش نفسه
في حياته؟
وأجابت المرأة على نفسها :ل يمكن ،ل بد أن رسول ال قد وثق تمام الثقة في أن ال قد أبلغه أمر
حمايته بدليل أنه قام بصرف الحراس ،وإل فكيف يأمن أن يأتي أحد ليقتله؟ قالت المرأة :وال لو
خَدع الناس جميعا ما خَدع نفسه في حياته ،أشهد أل إله إل ال وأن محمدا رسول ال.
حدث إسلم هذه المرأة من نفحة يسيرة من سيرة رسول ال صلى ال عليه وسلم.
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ { هي شهادة الذات للذات ،وكفى بال شهيدا .وشهدت الملئكة
إذنَ } ،
أيضا ،والملئكة هم الغيب الخفي عنا ،وتتلقى الوامر من الحق .إن الملئكة لم يروا أحدا آخر
يعطي لهم الوامر ،إنه الله الواحد القادر .وهذه هي شهادة المشهد .ويضاف إلى الملئكة }
وَُأوْلُواْ ا ْلعِ ْلمِ { الدلة وجلسوا يستنبطون من كون ال أدلة على أنه ل إله إل ال.
إن هذه أعظم شهادة لعظم مشهود به من أعظم شهود ،ال في القمة ،ومحمد صلى ال عليه
وسلم ،والملئكة وأولوا العلم .ولقد أخذ أولوا العلم منزلة كبيرة لن ال قد قرنهم بالملئكة.
إن الحق سبحانه وتعالى يبلغنا أنه قد نثر في كونه اليات العجيبة العديدة ,والذي يجلس ،ويتفكر
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويتدبر ،ويتفطن وينظر ،فإنه يستخرج الدلة على أنه ل إله إل هو ،وكما قلنا من قبل :إن أبسط
الطرق للتدليل على هذه الحقيقة .إن كانت " ل إله إل ال " صدقا فقد كُفينا ،وإن كانت غير صدق
فأين الله الذي أخذ منه ال هذا الكون ،ولم يخبرنا ذلك الله أنه صاحب الكون؟ فإما أن هذا الله
الخر لم يَدْر ،أو أنه قد علم ،ول يستطيع فعل شيء ،إذن فل يصح أن يكون إلها يزاحم الحق
الذي أبلغنا أنه ل إله إل هو.
وتظل " ل إله إل ال " لصاحبها -جل شأنه " -شهد ال أنه ل إله إل هو " وفي كل حركة من
حركات الحياة نجد أن النفراد بصدور الحركة قد يعطي علوا ،وقد يعطي استكبارا ..لذلك نقول:
ها هو ذا الخالق العلى الذي " ل إله إل هو " يخبرنا أنه قائم بالقسط .ورغم أنه ل أحد في
استطاعته أن يتدارك على ال ،إل أنه يطمئننا أنه قائم بالقسط.
شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لَ ِإلَـاهَ ِإلّ ُهوَ وَا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَُأوْلُواْ ا ْلعِلْمِ قَآ ِئمَا
ولنلحظ هنا ملحظا جميل في الداء } َ
بِا ْلقِسْطِ { لماذا لم يقل ال إن " الملئكة " و " أولوا العلم " ،الذين شهدوا أنه ل إله إل هو " قائمين
" بالقسط؟ لقد شهد ال أنه ل إله إل هو قائما بالقسط ،والملئكة شهدوا هذه القضية والعلماء
شهدوا أيضا بهذه القضية ..لماذا؟ لن ال لو قال " :قائمين بالقسط " لكان ال مشهودا عليه من
هؤلء ،والشهادة هي له وحده أنه قائم بالقسط والعدل.
لنه سبحانه خلق الملئكة بالقسط ،فلو كانوا معه في ذلك لما استقام المر ،وأولوا العلم أيضا
س يعملون بعقولهم ،وآخرون
مخلوقون بالقسط؛ لن ال قد وزع حركة الحياة على الناس ،فَنَا ٌ
يعملون بقلوبهم ،وقوم غيرهم يعملون بجوارحهم ،فهذا هو
لون من عدل ال ،وإل ،فهل يدعي أحد أن إنسانا تتجمع فيه كل المواهب التي تتطلبها الحياة .ل،
وهذه من عدالة الرحمن.
إن من عدالة الحق أنه وزع المواهب بين البشر ،فبدل من أن يعتمد النسان على نفسه في
صناعة الملبس والمأكل ،والمشرب ،جعل ال المهارات موزعة بين البشر ..فأتقنت مجموعة من
البشر حرفة الزراعة لنتاج الطعام الذي يكفيهم ،ويسد حاجة غيرهم ،وكذلك تبادلوا مع غيرهم
المنافع ،فالنسان -بمفرد -ل يستطيع أن يزرع القطن ويجمعه ويغزله وينسجه؛ ليلبس،
والنسان ل يستطيع أن يزرع القمح ويحصده ثم يطحنه ثم يخبزه.
إن ال لم يخلق الناس ليقوم كل فرد بإشباع حاجات نفسه المتنوعة ،إنما وزع ال المواهب،
لتتداخل هذه المواهب ،ويتكامل المجتمع البشري ،فواحد يزرع الرض ،وثانٍ يغزل القطن،
وثالث ينسج القماش ،ورابع يصنع الدوات .وهذا عدل عظيم؛ لن الطاقة البشرية ل تقوى على
أن تقوم بكل متطلبات الحياة ،لذلك جعل الحق هذا التنوع في المواهب ليربط الناس بالناس قهرا
عن الناس ،فلم يجعل لحد تفضيل على أحد ،فما دام واحد يعرف في مجال ،وآخر ل يعرف في
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا المجال ،فالذي ل يعرف محتاج للخر ،وهكذا يتبادل الناس المنافع رغما عنهم.
ولذلك نجد الكون متكامل .ولينظر كل منا إلى حياته وليعدد كمْ زاوية من زوايا العلم ،وكم زاوية
من زوايا القدرات ،وكم زاوية من زوايا المواهب تلزم حتى تخدم حركة الحياة؟
إن هذه الزوايا موزعة على الناس جميعا ليخدموا جميعا حركة الحياة .وهذا قمة العدل .وحتى
يوضح لنا الحق قيمة العدل وكيفية العدالة في إقامة المحبة والحترام بين البشر ،فلينظر الواحد
منا إلى النسان الخر البعيد عنه ،ويتساءل بينه وبين نفسه :أهذا الرجل البعيد عني يعمل من
أجلي؟ وتكون الجابة :نعم.
إذن ،فعلى النسان عندما يرى إنسانا متفوقا في صنعة ما ،فليقل :إن تفوقه في صنعته عائد إليّ
وتفوقه في موهبته عائد إليّ ،وهكذا منع ال بالعدل الحقد والحسد ،وجعل الناس متكاتفين قهرا
عنهم ،ل تفضيل منهم ،إذن ،فكل إنسان يسعى بحركة الحياة إنما يقيم نفسه في زاوية من زوايا
الحياة ،ومن العجيب أن الزاوية التي يُحسنها النسان تكون حاجته فيها أقل الحاجات ،لذلك نجد
المثل الريفي الذي يقول " :باب النجار مخلع " ،وذلك حتى يعلم النسان أن موهبة ما تكون عند
غيره سوف تنفعه هو ،بدليل أن الموهبة التي عندك لم تنتفع أنت بها إلّ قليل.
وبذلك يشيع في الناس اقتناع بأن موهبة كل فرد فيهم ،إنما تعود عليهم جميعا ،وبذلك تحل المحبة
والحترام بدل من الحسد والحقد .وعندما سأل أحد الظرفاء :ولماذا يكون باب النجار هو " المخلع
"؟ قال أحد الظرفاء ردا عليه :لنه الباب الوحيد الذي لن يأخذ النجار أجرا لصلحه ،ونلتفت إلى
العجائب في الحكمة الشائعة ،فنجد أطباء اخصائيين في ألوان من المرض ،وصاروا أعلما في
مجالت تخصصاتهم ،ويشاء الحق سبحانه وتعالى أل يصابوا إل بما برعوا فيه ،كأن الذي برعوا
شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لَ ِإلَـاهَ
فيه لم يفدهم هم بشيء ،إنما أفاد الخرين .ولننظر إلى الية في مجملهاَ } :
حكِيمُ { لقد استهلها ال
ط لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
ِإلّ ُهوَ وَا ْلمَلَ ِئكَةُ وَأُوْلُواْ ا ْلعِلْمِ قَآ ِئمَا بِا ْلقِسْ ِ
ش ِهدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُه َو وَا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَُأوْلُواْ ا ْلعِ ْلمِ قَآ ِئمَا بِا ْلقِسْطِ { ثم قال بعد ذلك } :لَ
بقولهَ } :
حكِيمُ { فكأن الية تقول لنا :إذا ثبتت شهادة الذات للذات ،وشهادة المشهد
إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
من الملئكة ،وشهادة الستدلل من العلماء ،فإن القاعدة تكون قد استقرت استقرارا نهائيا ل شك
فيه ،فخذوها مسلمة " :ل إله إل هو ".
وما دام " ل إله إل هو " فليكن اعتمادك عليه وحده ،واعلم أنك إن اعتمدت عليه وحده إلها فأنت
قد اعتمدت على عزيز ل ُيغْلب على أمره.
قال صلى ال عليه وسلم " :إذا سألت فاسأل ال ،وإذا استعنت فاستعن بال ,واعلم أن المة لو
اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إل بشيء قد كتبه ال لك ،ولو اجتمعوا على أن
يضروك لم يضروك إل بشيء قد كتبه ال عليك ،رُفعت القلم ،وجفت الصحف ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فل يستطيع أحد أن يدخل مع ال في جدال .إنما يدخل خلق ال مع خلق ال في خلف أو نضال،
لكن ل أحد يجرؤ على أن يدخل في نضال مع ال لنه عزيز ل يغلب .فإن آمنت به وحده ،فلك
الفوز .وكلمة " وحده " قد تبدو في ظاهرها تقليل للسند الذي تستند إليه في القياس البشرى ،فيقال:
" أنا لجئ إلى فلن وحده " وعندما تكون لجئا إلى عشرين أل تكون أكثر قوة؟ لكن هنا ل يكون
قياس بين اللجوء إلى ال وحده ،بقياس اللجوء إلى مخلوق .إنك هنا تلجأ إلى خالق أعلى بيده
مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير ،فكلمة " وحده " هنا تغنيك وتكفيك عن الكل .اعمل
لوجه واحد .يكفك كل الوجه ،واعلم أنه ل يوجد من يغلبه على أمره.
وعظمة الحق أنه واحد أحد فرد متفرد صمد ،وهو عزيز ل ُيغْلب على أمره ,وهو صاحب كل
الحكمة في وضع الشياء في مواضعها بحيث إذا ما عرفت حكمة مايجريه ال سبحانه وتعالى
على خلقه فأنت تتعجب من عظمة قدرة ال ،لن الحكمة هي وضع الشيء في موضعه ،وما دمت
قد وضعت الشيء في موضعه فإنه ل يكون هناك قلقٌ ،وما دام الشيء موضوعا في مكانه فهو
مستقر ،وما دام الشيء مستقرا فإنه ل يتلون وتزداد الثقة فيه ،وهذه مأخوذة من " الحَكمة " التي
تُوضع في فم الفرس ،والتي نسميها " اللجام " وهي كما نعرف تتكون من قطعة من الجلد تدخل
على اللسان وفيها قطعة من الحديد ،فإن مال إلى غير التجاه الذي تريد ،يكون من السهل جذبه
إلى التجاه الصحيح.
إن وجود الحكمة يعني وجود شيء يحكمه فل ينحرف يمينا ول يسارا ،وما دام ال قد شهد أنه ل
إله إل هو ،وشهدت الملئكة وشهد أولوا العلم ،وانتهت القضية بعد هذه الشهادات إلى أنه ل إله
إل هو ،وأنه العزيز الحكيم ،فكل منهج منه يجب أن يُسلم إليه ،وأن ينقاد له .وما دام ال قد شهد
لنفسه بأنه إله واحد ،أي ل يوجد له شريك ينازعه فيما يريد من خلقه ،وليس ل شريك في الخلق،
وليس ل شريك في الرزق ،وليس له شريك في التشريع.
إذن ..فالجهة التي نستمد منها مقومات منهجنا هي جهة واحدة ،وكان من الممكن أن تظلم وتجور
هذه الجهة الواحدة الخالقة على ما خلقت لنه ليس لحد من خلق ال حق على ال ،لكن ال
سبحانه عادل ،إنه سبحانه يطمئننا ،فهذه الوحدانية بقدرتها وجبروتها وعلمها وحكمتها عادلة ل
تظلم ،لنه قال :مع أني إله واحد ،ل يُرد لي حكم ول أمر فأنا قائم بالقسط.
والقيام بالقسط يجب أن نتوقف عنده لنفهمه جيدا ،إن الحق يقول عن نفسه " :قائما بالقسط " وكلمة
قائم تعني أن ال قد خلقهم الخلق الول ،وهذا الخلق إنما قام على العدل والقسط .وتكليف الحق
للخلق قام على العدل والقسط .والعدل والقسط يقتضي ميزانا ل ترجح فيه كفة على كفة ،وهذا
الميزان ممسوك بيد القدرة القاهرة التي ل توجد قوة أعلى منها تميل في الحكم ،والحق سبحانه
قائم بالقسط في الخلق ،فقبل أن يخلقنا أعدّ لنا ما تتطلبه حياتنا بالقسط أيضا ،فلم يجعل أمر الحياة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قائما على السباب التي يكلفنا بها لنعيش ،بل حكم بالقسط ،لقد جعل الحق بعضا من المور ل
دخل لنا نحن العباد فيها ،ولم يقض الحق بذلك على حركتنا ول على حريتنا في الحركة ،لذلك
خلق لنا أسبابا إن شئنا أن نفعل بها وصلنا إلى المسببات ،وإن شئنا أل نفعل فنترك السباب
والمسببات.
إذن ..فالحق سبحانه لم يحكمنا في قضية الخلق الولى بشيء واحد ،بأن يجبرنا على كل شيء،
بل جبرنا بأنه -سبحانه -لم يدخل أسبابنا ول حركتنا في كثير من الحركات التي تترتب عليها
الحياة ،فلم يجعل الشمس بأيدينا ،ول القمر ،ول الريح ،ول المطر .كل هذه السباب جعلها بيده
هو ،لماذا؟ لن هذه السباب ستفعل للمخلوق قبل أن تكون له قدرة .هذه السباب تفعل للنسان
قبل أن توجد له حياة؛ لتمهد للحياة التي يهبك ال إياها ،فلو ترك ال كل هذه الشياء لسباب
النسان لتأخرت هذه الشياء إلى أن يوجد للنسان إرادة ،وتوجد له قدرة وعلم.
لقد جعل ال أسباب الحياة بيده ،كالتنفس مثل ،إن التنفس ل يخضع لرادة القدرة على الحركة في
الحياة ،ولكنه قال لك :أيها النسان -وهو سبحانه الله القادر -تحرك التنفس إلى أن توجد له
إرادة .ول توجد الرادة إل إن وجُد عند النسان علم بأنه يريد إدخال الوكسجين إلى الرئتين
حتى يتغذى الدم والمخ وينقى الدم والجسم من الشياء التي تضره ،هذا يقتضي العلم ،فإن كان
هذا المر يقتضي العلم .فماذا يصنع الطفل الذي ليس له علم؟ كيف يتنفس؟
لذلك فمن رحمة ال وعدالته أن جعل أمر التنفس -على سبيل المثال -بيده هو سبحانه ،ولكن
الحق سبحانه لم يقض على مخلوقه بأن يجعله في الكون بل حرية أو اختيار ،ل ،لقد ترك الحق
سبحانه بعضا من الشياء لحرية النسان واختياره.
إذن ،فالحق لم يلزم العبد تسخيرا ،ولم يمنع تخييرا .وذلك هو العدل المطلق .لقد احترم الحق
كينونة النسان ،وحياة النسان ،ومشيئة النسان ،واختيار النسان ،فقال :أنا سأعطيك أسباب
الحياة الضرورية ول أجعل لك دخل فيها؛ لنك إن تدخلت فيها أفسدتها ،وتأخر وصول خدمتها
لك إلى أن تعرف وتعلم ،وأنا -الحق -أريدها لك ،وأنت أيها النسان عاجز قبل أن توجد لك،
وأنت قادر بوجودها الذي أمنحه لك؛ لذلك جعلتها بيدي أنا الخالق المأمون على خلقي .ولكن لن
أقضي على حريتك ،فإن أردت ارتقاءً في الحياة فتحرك في الحياة ،إن شئت أيها النسان أن تفعل
فافعل .وإن شئت أيها النسان أل تفعل فل تفعل .وهذا مطلق العدل.
ثم جاء الحق سبحانه وتعالى وجعل قوله } :قَآ ِئمَا بِا ْلقِسْطِ { مشتمل على التكليف أيضا ،أي إن
عدالته في التكليف مطلقة .فأناس يقولون " :ل إله " وأناس آخرون عددوا اللهة ،فقام الحق
بالقسط بين المرين .هو إله موجود يا من تقول " :ل إله " .وهو إله غير متعدد يا من تشرك معه
غيره .وهذا قيام بالقسط وجاء الحق سبحانه في الحكام .ونحن نجد أحكاما شرعية طلبها الحق
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه من العبد طلبا باتا ،ولم يتركها لختيار النسان ونجد أشياء تركها الحق سبحانه ليجتهد
فيها النسان ،فلم يجعل الحق سبحانه العبد حرا طليقا يعربد في الكون كما يشاء ،ولم يجعل الحق
سبحانه عبده مقهورا أو مقسورا بحيث ل توجد له إرادة أو اختيار.
لقد جعل ال للنسان مجال في القسر ومجال في الختيار ،أوجد في النسان القدرة على الحركة
في الحياة ،ولكنه قال لك :أيها النسان -وهو الله القادر -تحرك في الحياة وأنا أحمي نتيجة ما
تتحرك فيه ،ولكن لي في مالك الذي جعلتك فيه خليفة حق عليك أن تعطي بعضا منه لخيك
المحتاج.
لقد أعطى الحق للنفس البشرية أن تكد ،وأعطى لها أن تكدح ،وحفظ لها ما تملك ،ولكنه هو الحق
لم يُطلق للنفس البشرية عنانها ،بل قال :لي حق في ذلك .وهكذا نجده سبحانه قد عدل في هذا
المر.
إذن فقول الحق إنه قائم بالقسط ..نجده واضحا في كل شيء؛ ففي الخلق والرزق والتكليف نجد
أنه قائم بالقسط ،وما دام هو إلها واحدا وقائما بالقسط ،فما الذي يمنعك أيها النسان أن تخضع
لمُ.{ ...
لمراده منك؟ يقول الحق سبحانه } :إِنّ الدّينَ عِندَ اللّ ِه الِسْ َ
()410 /
إِنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الِْإسْلَا ُم َومَا اخْ َتَلفَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ إِلّا مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ُهمُ ا ْلعِلْمُ َبغْيًا بَيْ َنهُ ْم َومَنْ
َي ْكفُرْ بِآَيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ()19
بعد أن قال لنا :إنه إله واحد ،وقائم بالقسط هو نتيجة منطقية لكونه -سبحانه -إلها واحدا فكأن
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُه َو وَا ْلمَلَ ِئكَةُ
قوله { إِنّ الدّينَ عِندَ اللّ ِه الِسْلَمُ } هو نتيجة لقولهَ { :
وَُأوْلُواْ ا ْلعِ ْلمِ قَآ ِئمَا بِا ْلقِسْطِ } .لماذا؟ لنه ل تسليم لحد إل ال ،وما دام ال إلها واحدا ،فل إله غيره
يشاركه ،يقول الحق {:مَا اتّخَذَ اللّهُ مِن وَلَ ٍد َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـاهٍ إِذا لّ َذ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَقَ
صفُونَ }[المؤمنون.]91 :
عمّا َي ِ
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ سُبْحَانَ اللّهِ َ
وََلعَلَ َب ْع ُ
وما دام قد ثبت أنه هو الله الواحد ،فما الذي يمنعك أيها النسان أن تخضع لمراده منك؟ إذن
فقول الحق بعد ذلك { :إِنّ الدّينَ عِندَ اللّ ِه الِسْلَمُ } هو أمر منطقي جدا يجب أن ينتهي إليه
العاقل ،ومع ذلك رحمنا ال سبحانه وتعالى فأرسل لنا رسل لينبهونا إلى القضية السببية،
والمسببية ،والمقدمة والنتيجة { إِنّ الدّينَ عِندَ اللّ ِه الِسْلَمُ } وإذا سألنا :ما هو الدين؟ تكون
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الجابة :إن الدين كلمة لها إطلقات متعددة فهي من " دان " تقول :دنت لفلن :رجعت له وأسلمت
نفسي له ،وائتمرت بأمره .ويُطلق الدين أيضا على الجزاء ،فالحق يقول عن يوم الجزاء " :يوم
الدين " وهو يوم الجزاء على الطاعة وعلى المعصية ،وعلى أن النسان المؤمن قد دان لمر ال،
فكلها تلتقي في قول الحق { :إِنّ الدّينَ عِندَ اللّ ِه الِسْلَمُ } يُشعرنا بأنه قد توجد أديان يخضع لها
الناس ،ولكنها ليست أديانا عند ال؛ ألم يقل الحقَ {:لكُمْ دِي ُنكُ ْم وَِليَ دِينِ }[الكافرون.]6 :
إن معنى ذلك أن هناك دينا لغير ال فيه خضوع واستسلم ،وفيه تنفيذ لوامر ،ولكن ليس دينا ل،
ول دينا عند ال .إن الدين المعترف به عند ال هو السلم .والدين يطلق مرة على الملة ومرة
أخرى على الشريعة ،فإن أراد المؤمن الحكام المطلوبة فلك أن تسميها شريعة ،وإن أراد المؤمن
الطاعة ،والخضوع ،وما يترتب عليهما من الجزاء فليسمها المؤمن الدين ،وإن أراد النسان كل
ما ينتظم ذلك فليسمها الملة.
لمُ } تعني أنه ل دين عند ال إل السلم ،وكلمة "
إذن فقوله سبحانه { :إِنّ الدّينَ عِندَ اللّ ِه الِسْ َ
السلم " مأخوذة من مادة " سين " و " لم " و " ميم " .و " السين " و " اللم " و " الميم " لها
معنى يدور في كل اشتقاقاتها ،وينتهي عند السلمة من الفساد .وينتهي المعنى أيضا إلى الصلح
بين النسان ونفسه ،وبين النسان وربه ،وبين النسان والكون ،وبين النسان وإخوانه ،إنه صلح
وعدم فساد ،كل مادة السين واللم والميم تدل على ذلك ،وما دامت المادة المكونة منها كلمة "
إسلم " تدل على ذلك فلماذا ل نتبعها؟.
لقد قلنا سابقا :إن النسان ل يخضع لمثيله إل إذا اقتنع بما يقول ،إن النسان يقول لمساويه الذي
يأمره :لماذا تريدني أن أنفذ أوامرك؟ إنك ل بد أن تقنعني بالحكمة من ذلك المر ،لكن عندما
يؤمن النسان بإله واحد قائم بالقسط ،ويصدر من هذا الله أمر،فعلى النسان الطاعة.
إذن ..فالسلم معناه الخضوع ،والستسلم بعزة وفهم ،وعزة وتعقل؛ لن هناك عبودية َت َعقّل
عندما يقف النسان عند المعنى السطحي ،وهناك عزة تعقل عندما يقف النسان عند المعنى الذي
ل يأتيه الباطل من بين يده أو من خلفه ،إن هذا هو عزة العقل فل يستهويه أي شيء سوى
الخضوع للمر الثابت الذي ل يتناقض أبدا.
فما دام ال إلها واحدا قائما بالقسط فإني كعبدٍ من عبيده حين أؤمن به وآخذ عنه ،فهذه عزة في
الفهم وعزة في التعقل ،وعزة في العبودية أيضا ،لنني أعبد ال الذي هو فوق كل المخلوقات
والكائنات ،ول أعبد مساويا لي ،وإن الذي يعبد مساويا له ل يملك إل إنفة وحميّة الذليل ،وما دام
السلم هو الخضوع والستسلم ل فهو خضوع لغير مساو ،و " أسلم " أي دخل في السلم ،أي
دخل في الصلح ،وعدم التناقض ،وفي المان والراحة ،أي خلص نفسه من كل شيء إل وجه ال؛
جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ
ن وَرَجُلً سَلَما لّ َر ُ
ولذلك يقول الحق {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُتَشَاكِسُو َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ح ْمدُ للّهِ َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ }[الزمر.]29 :
مَثَلً الْ َ
كأن ال يريد أن يوضح لنا الفرق بين الخاضع لمر سيد واحد ،وبين الخاضع لِسَا َدةٍ كثيرين.
وضرب ال لنا المثل بالمر المشهور عندنا ،فقال ما معناه :هب أن عبدا له من السادة عشرة،
وكل سيّد له منه طلب ،فماذا يصنع ذلك العبد؟ وعبد آخر له سيد واحد ،هذا العبد يكون مستريحا
لنّ له سيدا واحدا ،بينما الخر المملوك لعشرة تتضارب حياته بتضارب أوامر سادته العشرة.
إذن فالعبد المملوك لشركاء تعيس؛ لن الشركاء غير متفقين ،إنهم شركاء متشاكسون ،فإذا رآه
سيده يفعل أمرا لسيد آخر ،أمره بالعكس ،وبذلك يتبدد جهد هذا العبد ويكثر تعبه ،ولكن الرجل
السلم لرجل ،هو مستريح ،وكذلك التوحيد ،لقد جاء الحق سبحانه بمثل من واقعنا ليقرب لنا حلوة
التوحيد .إن العبد المؤمن بإله واحد يحمد ال لنه خاضع لله واحد .إذن فما دام السلم هو
الخضوع والستسلم ومعناه الدخول في السلم بكسر السين -أو الدخول في السلم -بفتح السين
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }[النفال.]61 :
-يقول الحق {:وَإِن جَنَحُواْ لِلسّلْمِ فَاجْنَحْ َلهَا وَ َت َو ّكلْ عَلَى اللّهِ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
هذا الخضوع ليس لمساو ،بل لعلى .والعلى الذي نخضع له هو الذي خلق ،وهو العلى الذي
أمدنا بقيوميته بكل شيء.
إذن فإذا أسلم النسان ،فإن هذا السلم له ثمن هو المثوبة من ال .إن من مصلحة النسان أن
يسلم } .إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الِسْلَمُ { وما دام الدين المعترف به عند ال هو السلم فهو الدين الذي
يترتب عليه الثواب والسلم هو دين الرسل جميعا ،وكلهم قد آمن به؛ فإبراهيم خليل الرحمن قد
سكَنَا وَ ُتبْ عَلَيْنَآ إِ ّنكَ أَنتَ
ك وَأَرِنَا مَنَا ِ
سِلمَةً ّل َ
سِلمَيْنِ َلكَ َومِن ذُرّيّتِنَآ ُأمّةً مّ ْ
جعَلْنَا مُ ْ
قال {:رَبّنَا وَا ْ
ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[البقرة.]128 :
حضَرَ َي ْعقُوبَ
شهَدَآءَ إِذْ َ
ويعقوب عليه السلم يخبر الحق عنه في قوله لبنيه وإجابتهم لهَ {:أمْ كُنتُمْ ُ
سمَاعِيلَ
ك وَإِلَـاهَ آبَا ِئكَ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
ا ْل َم ْوتُ ِإذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْبُدُونَ مِن َب ْعدِي قَالُواْ َنعْ ُبدُ إِلَـا َه َ
وَإِسْحَاقَ إِلَـاها وَاحِدا وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ }[البقرة.]133 :
ويقول -جل شأنه ُ {:-قلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّي إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ دِينا قِيَما مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا َومَا
ي َو َممَاتِي للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * لَ شَرِيكَ َلهُ
سكِي َومَحْيَا َ
ن صَلَتِي وَنُ ُ
كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ * ُقلْ إِ ّ
ت وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْل ُمسِْلمِينَ }[النعام.]163-161 :
وَبِذاِلكَ ُأمِ ْر ُ
إذن فالسلم دين شائع ،والمسلمون كلمة شائعة في الديان ،وبذلك ل يقف السلم عند رسالة
سيدنا محمد عليه الصلة والسلم فقط ،إنما السلم خضوع من مخلوق لله في منهج جاء به
رسل مؤيدون بالمعجزات ،إلّ أن السلم بالنسبة لهذه الرسالت كان وصفا ،لكن أمة محمد صلى
ال عليه وسلم تميزت بديمومة الوصف لدينها كما كان لمم الرسل السابقة ،وصار السلم -
أيضا -علما لمة محمد صلى ال عليه وسلم ،لن رسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تضمنت منتهى ما يوجد من إسلم في الرض ،فلم يعد هناك مزيد عليها ،وانفردت أمة رسول
ال صلى ال عليه وسلم بأن صار السلم علما عليها.
إذن فالسلم في المم السابقة كان وصفا ،وأما بالنسبة لرسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم فقد
صار علما لنه لم يأت بعدها دين ،فإسلمها إسلم عالمي ،ولذلك فنحن بهذا الدين نقول " :نحن
مسلمون " أما أصحاب الديانات الخرى فهم أيضا مسلمون لكن بالوصف فقط .نحن الذين نتبع
الدين الخاتم سمانا ال في كتابه المسلمين فهذا من إعجازات التسمية التي وافق فيها خليل ال
ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ
جهَا ِدهِ ُهوَ اجْتَبَا ُك ْم َومَا َ
حقّ ِ
إبراهيم عليه السلم مراد ربه {:وَجَاهِدُوا فِي اللّهِ َ
شهِيدا عَلَ ْيكُمْ
ل َوفِي هَـاذَا لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ
سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ مِن قَ ْب ُ
مِنْ حَرَجٍ مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ُهوَ َ
صمُواْ بِاللّهِ ُهوَ َم ْولَكُمْ فَ ِنعْمَ ا ْل َموْلَىا
ل َة وَآتُواْ ال ّزكَـا َة وَاعْ َت ِ
شهَدَآءَ عَلَى النّاسِ فََأقِيمُواْ الصّ َ
وَ َتكُونُواْ ُ
وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ }[الحج.]78 :
لقد صار السلم اسما لمة رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ ول يُطلق هذا الوصف اسما إل على
من بالغ في التسليم.
كيف؟ نحن نعلم أن لفظ الجللة " ال " علم لواجب الوجود ،ونعلم أن " حي " صفة من صفات ال
سبحانه وتعالى .ولكن صارت كلمة " حي " اسما من أسماء ال؛ لن ال حي حياة كاملة أزلية.
إذن ل تكون الصفة اسما إل إذا أخذ الوصف فيها الديمومة والطلق .وعلى هذا القياس يكون
الرسل السابقون على محمد صلى ال عليه وسلم ،والمم السابقة على أمة السلم ،كانوا مسلمين،
وكانوا أمما مسلمة بالوصف ،ولكن أمة محمد صلى ال عليه وسلم تميزت بالسلم وصفا وعَلَما،
فصار المر بالنسبة إليها اسما ،ونظرا لنه لن يأتي شيء بعدها ،لذلك صار إسلم أمة رسول ال
سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ
" علما " .ولقد بشر سيدنا إبراهيم عليه السلم بهذا المر } :مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ُهوَ َ
سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ
{ [الحج ]78 :إن الحق قد أورد على لسان سيدنا إبراهيم بالوضوح الكامل } ُهوَ َ
سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ { ،لن المم
{ ولم يقل الحق " :هو وصفكم بالمسلمين " .ل ،إنما قالُ } :هوَ َ
السابقة موصوفة بالسلم وأما أمة رسول ال صلى ال عليه وسلم فهي مسماة بالسلم .وتجد من
إعجازات التسمية ،أننا نجد لتباع الديان الخرى أسماء أخرى غير السلم ،فاليهود يسمون
أنفسهم باليهود نسبة لـ " يوها " .ويقولون عن أنفسهم " :موسويون " نسبة إلى موسى عليه
السلم .والمسيحيون يسمون أنفسهم بذلك نسبة إلى المسيح عيسى ابن مريم .ولم نقل نحن أمة
رسول ال عن أنفسنا " :إننا محمديون " لقد قلنا عن أنفسنا " :نحن مسلمون " .ولم يأت على لسان
أحد قط إل هذه التسمية لمة محمد صلى ال عليه وسلم ،وصار اسم السلم لنا شرفا .إذن ،فقول
ال الحق } :إِنّ الدّينَ عِندَ اللّ ِه الِسْلَمُ { يعني أنه ،إن جاز أن يكون لرسول أو لتباع رسول
وصف السلم فقد يجيء رسول بشيء جديد لم يكن عند المم السابقة فنزيده نحن بالتسليم،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبزيادتنا -نحن المسلمين -بهذا التسليم خُتِمَ التسليم بنا نحن أمة رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،ولذا صار السلم ل يُطلق إل علينا.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الذين أوتوا الكتاب قد اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم.
ولماذا اختلفوا؟ جاءت الجابة من الحق .العلىَ } :بغْيا بَيْ َنهُمْ { وكلمة الختلف هذه توحي أن
هناك شيئا متفقا عليه ،وما دام السلم هو خضوعا لمنهج ال .لنه إله واحد وقائم بالقسط ،فمن
أين يوجد الختلف؟ وما الذي زاد حتى يوجد اختلف؟ أبرز إلهٌ آخر يناقض ال في ملكه؟ ل لم
يحدث .وما دام الله واحدا ،وما دام المنهج القادم من عنده منهجا واحدا ،فمن أين جاء هذا
الختلف؟
إن الحق يوضح لنا أن الختلف قد جاء للذين أوتوا الكتاب من بعد ما جاءهم العلم وتلك هي
النكاية ،وذلك هو الشر ،فلو كانوا قد اختلفوا من قبل أن يأتي إليهم العلم لقلنا " :إنهم معذورون في
الختلف ".
ولكن أن يحدث الختلف من بعد أن جاء العلم من الله الواحد القائم بالقسط فلنا أن نقول لهم :ما
الذي جَدّ لتختلفوا؟ إن الذي جَدّ هو من عالم الغيار ،وما دام الجديد قد جاء إليهم من عالم
الغيار ،فمعنى ذلك أن هوى النفس قد دخل ،ونريد أن نعرف أول معنى الختلف ،الختلف
في حقيقته هو ذهاب نفس إلى غير ما ذهبت إليه نفس أخرى.
ولماذا حدث الختلف هنا رغم أن الله واحد ،وهو قائم بالقسط؟ ل بد لنا أن نستنتج أن شيئا
جديدا قد نبت ،ما هو هذا الشيء؟ إنه الهوى المختلف ،وحينما يقال " :اختلفوا " فنحن نعلم أن
جماعة قد ذهبت إلى شيء وجماعة أخرى ذهبت إلى شيء آخر .وقد نستنتج أن طرفا قد ذهب
إلى حق ،وأن الطرف الخر قد ذهب إلى باطل ،أو أنهم جميعا قد ذهبوا إلى باطل .والذهاب إلى
الباطل قد يختلف؛ لن كل باطل له لون مختلف .هل أراد الحق سبحانه وتعالى أن يقول :أنا
أنزلت الديان ،ومن رحمتي بخلقي تركت بعضا من الناس يحتفظون بالحق في ذاته وإن طرأ
عليهم أناس يختلفون معهم .وتجد المثال لذلك في اليهود ،عندما جاء رسول ال صلى ال عليه
وسلم .لقد اختلفوا ،وأسلم منهم أناس وآمنوا برسالة النبي الخاتم ،بينما الخرون لم يسلموا ،ومن
أسلم هم الذين كانوا على الحق ،ومن رحمة ال تعالى أنه جعل الذين علموا برسالة رسول ال أن
يعلنوا البشارة في كتبهم ولم يكتموا ذلك العلم بل أعلنوا اليمان ،بينما أصر البعض الخر على
كتمان ما جاءهم من العلم وأصروا على النكار .إن الذين أسلموا هم الذين ينطبق عليهم قول
الشاعر:إن الذي جعل الحقيقة علقما لم يخل من أهل الحقيقة جيلوإذا كان ال قد عصم الجيال
المتتالية من أمة السلم بأن حفظ لنا القرآن .ففي الديان الخرى كان هناك أناس من أهل
سوَآءً مّنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ُأمّةٌ قَآ ِئمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّ ْيلِ وَ ُهمْ
الحقيقة ،وأنصفهم ال {:لَيْسُواْ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ف وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي
سجُدُونَ * ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
يَ ْ
ت وَُأوْلَـا ِئكَ مِنَ الصّالِحِينَ }[آل عمران.]114-113 :
الْخَيْرَا ِ
لقد أنصفهم ال حق النصاف ،والذين آمنوا برسول ال من أتباع تلك الديانات قد اهتدوا إلى
الحق ،واختلفوا مع غيرهم وقول الحق } :أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ { هذا القول يقتضي أن نقف عند " أُوتُواْ "
أي أن شيئا قد جاء إليهم من جهة أخرى .إذن فالكتاب ليس من أفكار البشر؛ لن المنهج لو كان
من أفكار البشر لكان من الممكن أن يختلفوا فيه أو حوله ،وبناء " أُوتُواْ " للمفعول يجعلنا نسأل:
من الذي آتاهم الكتاب؟ إنه ال سبحانه وتعالى ،والحق سبحانه وتعالى ل يأتي بمختلف فيه.
وما دام الكتاب من عند ال فل يمكن أن يوجد فيه خلف .يقول الحق {:وََلوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ
َلوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفا كَثِيرا }[النساء.]82 :
وكأن ال بنبهنا بذلك القول إلى أن كل شيء بنبت من البشر للبشر ،فل بد أن تحدث فيه خلفات.
إنما الشيء عندما يأتي من الواحد الحد ل يمكن أن يحدث فيه خلف أبدا .ل يمكن أن يحدث
خلف فيما اتحد فيه المصدر والمنبع إل إن وجدت -بضم الواو وكسر الجيم -أشياء زائدة عن
ذلك ،وهذه الشياء الزائدة هي أهواء الذين يقولون :إنهم منسوبون إلى ال.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يوضح لنا أن الكتاب لم يأت إليهم من بشر مثلهم ،إنما من إله واحد
قادر ،وفي هذا تنبيه لتباع الديانات السابقة .أي إنكم أيها التباع ل تتبعون إل منهج ال ،وحين
تتبعون منهج ال الذي جاء به الرسل فأنتم ل تتبعون أحدا من الخلق ،لن أي رسول أرسل إليكم
إنما جاء ليبلغكم بمنهج قادم من ربكم ،ولم يقل لكم أحد من الرسل إن المنهج قادم من عنده
والرسول يحمل نفسه على الطاعة والخضوع للمنهج المنزل عليه قبلكم ،وهذه عزة لكم ،ولينتبه
جميع الخلق أن المنهج الحق دائما قد أخذه الرسل من ال.
وحين يقول الحق " :الكتاب " فلنا أن نعرف أن كلمة " الكتاب " قد وردت في القرآن الكريم في
أكثر من موضع ،إن الحق سبحانه وتعالى يسمي القرآن مرة " قرآنا " لنه يقرأ ،ويسميه الحق
أيضا " الكتاب " وذلك دليل على أنه يُكتب ،وحين نقول :إن القرآن من " القراءة " فهذا يعني أن
نبرز ما في الصدور بالقراءة ولكن ما في الصدور قد تلويه الهواء؛ لذلك يحرس الحق قرآنه بما
في السطور ولذلك فالقرآن مقروء ومكتوب.
وعندما يقول الحق " من أهل الكتاب " ،فإن ذلك تنبيه لنا أن الكتاب هو منهج مكتوب ،أي لم يتم
وضعه في الصدور ونسيته النفوس ،ل ،إنه منهج مكتوب ،هكذا حدد الحق أمر المنهج السابق
على القرآن ،إنه مكتوب ،فإن لعبت أهواء النفوس كما لعبت ،فإن ذلك يعني تحريف الكلم عن
مواضعه .ولنا أن ننتقل الن إلى المعرفة " العلم " :ما هو العلم؟ إن العلم هو أن تدرك قضية
وهذه القضية واقعة في الوجود تستطيع أن تقيم الدليل عليها ،وغير ذلك من القضايا ل يصل إلى
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مرتبة العلم لنه ل يستطيع أحد أن يدلل عليه.
مثال ذلك :نحن نقول " :الرض كروية " إن كروية الرض هي نسبة حدثت ،ونقولها ونحن
جازمون بها .والسابقون لنا في عصور سابقة قال بعضهم " :إن الرض مسطحة " ،وحاول أن
يجد من السباب ما يقيم الدليل على ذلك ,ولكن الذين أقاموا الدليل على أن الرض كروية كانوا
صادقين بالفعل .وفي العصر الحديث صارت كروية الرض أمرا مرئيا من سفن الفضاء،
وغيرها من الوسائل ،ونحن نعرف أنه " ليس مع العين أين " إن الكروية بالنسبة للرض ،هي
نسبة ،نقولها ونجزم بها ،والواقع أنها كذلك ،ونستطيع أن نقيم على ذلك الدليل.
هذا هو العلم المستوفى ،إن فساد الناس أنهم يأتون إلى قضية لن تصل إلى هذه المرتبة ويسمونها
" علما " كقولهم :إن النسان أصله قرد ،ل ،إن أحدا ل يستطيع الجزم بذلك ،وتلك قضية ليست
من العلم ،إن كلمة " علم " تُطلق على القضية المجزوم بها؛ وهي واقعة في الوجود ،ونستطيع أن
ندلل عليها ،وإذا كانت القضية مجزوما بها؛ وواقعة في الوجود ،ولكنك ل تستطيع أن تدلل عليها،
فماذا تسمي هذه القضية؟ هذا ما يطلق عليه " تقليد " تماما كما يقلد الولد أباه قبل أن ينضج عقله
فيقول " :ل إله إل ال ،ال واحد " .ومثلما يأخذ التلميذ عن أستاذه القضية العلمية ،ول يعرف
كيفية إقامة الدليل عليها ،فهذا نطلق عليه " تقليدا " ،وإلى أن ينضج عقل التلميذ ويحسن استيعابه
نقول له :ابحث بحثا آخر لتقيم الدليل.
إذن فالتقليد هو قضية مجزوم بها ،وواقعة ،ول يوجد عليها دليل .وهكذا نعرف أن " العلم " يمتاز
عن التقليد بوجود القدرة على التدليل ،لكن إذا ما كانت هناك قضية ومجزوم بها ولكنها ليست
واقعة ،فماذا نسمي ذلك؟ إن هذا هو الجهل .إن الجهل ل يعني عدم علم النسان ،ولكن الجهل
يعني أن يعلم النسان قضية مخالفة للواقع ومناقضة له .أما الذي ل يعلم فهو أميّ يحتاج إلى
معرفة الحكم الصحيح ،فالجاهل أمره يختلف ،إنه يحتاج منا أن نخرج من ذهنه الحكم الباطل؛
ونضع في يقينه الحكم الصحيح ،وهكذا تكون عملية إقناع الجاهل بالحكم الصحيح هي عملية
مركبة من أمرين ،إخراج الباطل من ذهنه ،ووضع الحكم الصحيح في يقينه.
ولذلك فنحن نجد أن تعب الناس يتأتى من الجهلء ،ل من الميين؛ لن الجاهل هو الذي يجزم
بقضية مخالفة للواقع ومناقضة له ،أما الميّ فهو ل يعرف ،ويحتاج إلى أن يعرف .وماذا يكون
المر حين تكون القضية غير مجزوم بها ،وتكون نسبة عدم الجزم ،مساوية للجزم؟ هنا نقول :إن
هذا المر هو الشك ،وإن رجح أمر الجزم على عدم الجزم فهذا هو الظن ،وإن رجح عدم الجزم
يكون ذلك هو الوهم.
إذن فوسائل إدراك القضايا هي كالتي :أول :علم .ثانيا :تقليد .ثالثا :جهل .رابعا :شك .خامسا:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظن .سادسا :وهم .والعلم هو أعلى المستويات في إدراك القضايا .ولذلك نجد أن الحق يحدد لنا
على ماذا اختلف الذين أوتوا الكتاب ،لقد اختلفوا من بعد ما جاءهم من العلم .ولم يقل الحق :إنهم
اختلفوا بعد ما جاءهم التقليد أو الظن ،أو الجهل أو الشك ،إنما قال الحق :إنهم قد اختلفوا من بعد
ما جاءهم الستيفاء الكامل ،وهو العلم .وما دام هناك أمر قد جاء من القائم بالقسط والله الواحد،
فالمسألة القادمة منه وهي الحق قد وصلت إلى مرتبة العلم إذن ،ففيم الختلف؟ ل بد أن أمرا ما
قد جدّ .والذي يجد إنما هو قادم من الغيار ،وهي الهواء ،ولذلك يحدد لنا الحق هذا المر بقوله
" َبغْيا بَيْ َنهُمْ " .ما البغي؟ البغي هو طلب الستعلء بغير حق .إذن فطلب الستعلء ليس ممقوتا
في ذاته؛ لن طلب الستعلء هو قضية الطموح في الكون .وأن يطلب إنسان الرفعة فيجد
ويجتهد ،ويبذل العرق ليصل إلى مكانة علمية أو غيرها ،فهذا حق طبيعي ،ونحن نعرف أن العالم
قد ارتقى بالطموحات النسانية ،إن العالم لو اكتفى وثبت عند الذي وصل إليه في جيل ما ،فإن
العالم يحكم على نفسه بالجمود ،ولكن الناس طورت في العالم الذي تحياه بجهد بذله البعض منهم
في قضايا نافعة ،ثم حاولوا أن يرتقوا بها ونالوا حقهم من التقدير ،وارتفعوا بالعلم بجهد حقيقي
بذلوه ،وبدراسة لما بذله السابقون عليهم.
إذن فطلب الستعلء في حد ذاته غير ممقوت ،بل محمود ما دام قائما على الجهد .ولكن أن
يطلب النسان الستعلء بغير حق ،فهذا هو البغي .لقد أثبت ال لنا في هذه الية ،أن كل خلف
بين رجال الدين ،أو بين دين ودين ،إنما مرجعه إلى نشوء البغي ،ونشوء البغي هو طلب رجال
الدين الستعلء بغير الحق .ومظاهر طلب الستعلء بغير حق هو إعطاء الفتاوى التي توافق
أمزجة القوم ،وتخالف ما أنزله الحق.
إن الواحد من هؤلء يدعى لنفسه التحضر ،ويعطي من الفتاوى ما يناقض الذي أنزله ال ،ويدعى
أنه يأخذ الدين بروح العصر ،ويدعى لنفسه عدم الجمود ،ويذهب إلى حد اتهام المتمسكين بدينهم
بأنهم متخلفون ،والهدف الذي يختبئ في صدر مثل هذا النسان هو الستعلء في قومه بغير
الحق ،ويجب أن نفهم أن كل خلف بين أهل دين واحد ،أو بين دين ودين ،منبعه قول الحق} :
َبغْيا بَيْ َنهُمْ { .وهذا يعني اتباع البعض للهوى النابع من بينهم ولم ينزله ال.
لماذا؟ لن ال سبحانه وتعالى إمّا أن ينزل ال حكما محكما ل رأى فيه لحد ،ول يستطيع أحد أن
ينقضه ،وإما أن ينزل ال حكما قابل للفهم والجتهاد.
ولم يجعل ال الحكام كلها من لون واحد ،إنما جعل الحكام على لونين ،وذلك حتى يحترم
النسان ما وهبه الخالق له من عقل ،ويجعل له مهمة ،فيأتي بقضية ويبحثها ويرجع سببا على
سبب .وفي ذلك استخدام من النسان لعقله ،إنها رحمة من ال حتى ليجمد العقل النساني.
إذن فإذا رأيت أي خلف بين رجال الدين أو بين دين ودين فاعلم أن القول الفصل في هذا المر
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هو ما عبر عنه في القرآنَ } :بغْيا بَيْ َنهُمْ { فمن البغي يهب الهوى الذي تنشأ منه العاصير ،إن
من يحب الستعلء بغير الحق هو الذي يحاول البغي فيدعي لنفسه أنه أرقى في الفكر ،أو يستعلى
عند من يملكون له أمرا ،أو يستعلي عندما يوافق حاكما في رأي من الراء ،ويبرر للحاكم حكما
من الحكام.
إن كلمة } َبغْيا بَيْ َنهُمْ { يدخل في نطاقها كل موجات الخروج عن منهج ال ،والتي نراها في
الكون ،والرسول صلى ال عليه وسلم قد أعطانا المناعة ضد المراض النفسية الناشئة عن البغي،
مثلما يعطي المعاصرون المصل ضد أمراض البدن التي تفتك بالنسان ،وحتى ل تفاجئنا أمراض
البغي ،نجد الرسول يعطينا المناعة
فيقول لنا صلى ال عليه وسلم " :البر حسن الخلق ،والثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع
عليه الناس " ويحذرنا الرسول صلى ال عليه وسلم من ذلك كما في الحديث التالي :فيقول صلى
ال عليه وسلم " :البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ،والثم ما لم تسكن إليه النفس ولم
يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون ".
إن الرسول صلى ال عليه وسلم يحذرنا ليوضح لنا أن أهل البغي لهم لجاج في أن يقولوا
ويصدروا الفتاوى ،وما معنى الفتاء الذي يحذرنا منه رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ هل هو
مجرد رأي؟ أم هو رأي يأتي من إنسان معروف عنه أنه مشتغل بعلم ال وبالحكام؟ إن الرسول
صلى ال عليه وسلم ينبهنا إلى ذلك مناعة لنا .فقد يصبح أصحاب الحق قلة ،وليس لهم نصيب في
إيصال رأيهم للناس ،أو أن الذين يملكون الكلمة العلمية ليسوا مع أصحاب الحق بل في جانب
رجل يساير الباطل أو الركب.
وهنا نرى أن الرسول صلى ال عليه وسلم قد أعطانا المناعة حتى ل ييأس المتمسكون بالحق،
فأمر الدين لن يمر رخاء ،أو بسلم دائم ،بل سنجد قوما يفسرون أحكام الدين بغيا بينهم ،ويلوون
حكَمٌ في نفسه ،ويحذرنا من الذين يفتون بالبغي ،إن الفتاء
الشياء؛ لذلك أوضح لنا أن المؤمن َ
يحتاجه الناس من الذي يعلم ،ولذلك جاءت كلمة " يستفتونك " أكثر من مرة في القرآن الكريم،
لن الذين يطلبون الفتوى هم الذين يحتاجون إلى توضيح لمر ما؛ لنهم مشغولون بقضية
اليمان ،ولذلك فالنبي صلى ال عليه وسلم يحذرنا من الذين يحاولون إلقاء الفتاوى ،ويحذر كل
مؤمن من أن يستمع لكل فتوى.
ويقول الحقَ } :ومَن َي ْكفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ { .إذن فمن هو الذي يكفر بآيات ال؟ وفي أي مجال؟ إن
الكفر بآيات ال هنا محدد في الختلف ،وفي البغي بينهم ،أي طلب الستعلء بغير حق ،وسمى
الحق كل ذلك " كفرا " والمراد منه هنا التنبيه لنا أل نستر أحكام ال بالختلف أو البغي ،وجاء
التحذير في تذييل الية بقوله } :فَإِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ { .فإياك أن تستطيل أمر الجزاء وتقول:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سأستمتع بنتيجة البغي والختلف لخدمة من يهمهم أمر الختلف ،ويهمهم أمر البغي ،لنك تريد
أن تتعجل أشياء تظن أنها نافعة لك ،لكن ها هو ذا الحق سبحانه يحذرك أن تستبطئ حسابه،
لماذا؟ لنه من الجائز أن يأتي لك الحساب من ال في الدنيا ،وهب أن ال لم يبتل مثل هذا النسان
ببلء كبير في الدنيا فإن هذا النسان سيكون له الحساب العسير في الخرة.
وقد يقول قائل :إن الحساب في الدنيا قد يؤجله ال إلى الخرة ،والعلمات الصغرى للقيامة نحن
في مراحلها ،وما زالت العلمات الكبرى ليوم القيامة لم تظهر .لمثل هذا القائل نقول :هناك فرق
بين الحدث في ذاته ،وبين الحدث فيمن يُجرى عليه الحدث .هناك فرق بين أن تقوم القيامة على
الناس جميعا ،وبين أن تُختصر حياة النسان بحادثة ليست في حسبانه ،فقد يفتى النسان فتوى
اليوم؟ وتأتي له حادثة فورية تنقله فجأة إلى سريع الحساب ،فإن استبطأ إنسان الحساب ،فعليه أن
يعرف أن الخرة قد تجيء له أسرع من مسائل الدنيا ,لن النسان ل يملك القدرة على أن ينقل
إليه من يريد في أي وقت .وهكذا تكون الخرة بالنسبة للمستبطئ للحساب أسرع من حساب
الدنيا ،وكلمة " حساب " كلمة تطمئن المؤمن إلى أن ال قائم بالقسط ل يتخلى حتى عمن كفر به
أو عصاه ،إن كل إنسان يأخذ ماله ويدفع ما عليه ،ويقول الحق من بعد ذلك } :فَإنْ حَآجّوكَ َف ُقلْ
ج ِهيَ للّهِ.{ ...
ت وَ ْ
أَسَْل ْم ُ
()411 /
{ فَإنْ حَآجّوكَ } هذا هو القول يدل على أن الحق سبحانه وتعالى يلقى منهجه على الرسول الخاتم،
ويعطيه الواقع الذي يحيا فيه ،لقد جابه الرسول صلى ال عليه وسلم ثلثة معسكرات .المعسكر
الول :هم مشركو قريش ،وكان كفرهم في القمة .والمعسكر الثاني :هو معسكر اليهود والنصارى
ويجمعهم معا لنهم أهل كتاب .والمعسكر الثالث :هو معسكر المنافقين .والمحاجّة قد أتت من
المعسكر الثاني ،لن كفار قريش لم يدعوا أن عندهم دينا قد نزل من السماء ،أما أهل الكتاب فهم
يدعون أن عندهم دينا منزل من السماء ،وعندما يناطح الشرك دينا فهذا أمر معقول ،أما أن
يناطح أهل دين نزل من السماء رسول جاء بدين خاتم من السماء فهذا أمر يستحق أن نتوقف
عنده.
ومعنى { فَإنْ حَآجّوكَ } أي أنهم يحاججون الرسول صلى ال عليه وسلم وتم إدغام الحرفين
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المتشابهين وهما حرفا " الجيم " حتى ل تصبح ثقيلة على اللسان .ومعنى المحاجة :أن يدلي كل
واحد من الخصمين بحجته .وهذا يعني النقاش ،وما دام هناك نقاش بين حق وبين باطل ،فإن ال
ل يترك الرسول صلى ال عليه وسلم ،بل يقول له { :فَإنْ حَآجّوكَ } أي إن ناقشوك في أمر
السلم الذي جئت به كدين خاتم مناقض لوثنية أو شرك قريش ومناقض لما قام أهل الكتاب
ج ِهيَ للّهِ } وقد قلنا من قبل :إننا عندما نسمع قول
ت وَ ْ
بتغييره من مراد ال فقل يا محمد { :أَسَْل ْم ُ
الحق { َفقُلْ } كان من الجائز أن يكتفي رسول ال صلى ال عليه وسلم بمقول القول ,وضربنا
مثل على ذلك ،حين يقول الب لبنه :اذهب إلى عمك وقل له :كذا وكذا .وساعة أن يذهب البن
إلى العم فيقول له :المر كذا ،وكذا .إن البن ل يقول لعمه :قل لعمك كذا وكذا ..لكن الرسول
صلى ال عليه وسلم قد حافظ على النص الذي جاءه من ربه لن النص واضح { .فَإنْ حَآجّوكَ
ج ِهيَ للّهِ } فهل هذا رد بالحجة؟ نعم هذا هو الرد ،لن أهل الكتاب وكفار قريش
ت وَ ْ
َفقُلْ أَسَْل ْم ُ
خَلقَهُنّ ا ْلعَزِيزُ ا ْلعَلِيمُ }
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ َ
يأتي فيهم القول {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ ال ّ
[الزخرف.]9 :
ويأتي فيهم القول الحكيم {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ }[الزخرف.]87 :
والكون كما نعرف " مكان " و " مكين " فالمكان :هو السماء والرض .والمكين وهو النسان.
والمكان مخلوق ل ،والمكين مخلوق ل .وكان من المنطق أن نسلم وجهنا لمن خلق.
ج ِهيَ للّهِ } أي انتبهوا أيها الناس ،إنني لم أخرج عن دائرة
إذن فقول الحقَ { :ف ُقلْ َأسَْل ْمتُ وَ ْ
اليمان بالله الواحد ،والذي تؤمنون به .إنه هو الذي خلق وهو الذي أوجد الكون.
وبعد ذلك إذا كان في السلم خضوع ،فإن الحق يأتي بأشرف شيء في النسان ليجعله مظهر
الخضوع .لن الوجه هو السمة العالية المميزة ،وهو الذي يظهر عليه انفعالت الحداث في
الكون من سرور أو حزن ،ويظهر عليه أنك قد تكون قد سجدت وأنت كاره للسجود ،أو سجدت
وأنت مقرب ل سبحانه وتعالى فيمتلئ الوجه بالبشر والبشاشة.
ج ِهيَ للّهِ { .تعني أن الوجه المسلم ل وهو أشرف شيء في النسان قد
ت وَ ْ
وقول الحق } :أَسَْل ْم ُ
خضع للحق ،وكأن القول الكريم لم ينسب الخضوع للبدن ولكن لشرف شيء في النسان وهو
ج ِهيَ { فهو يعني "
ت وَ ْ
الوجه ،والوجه يطلق مرة ويراد به الذات كلها ،فعندما يقول إنسان } :أَسَْل ْم ُ
شيْءٍ
أسلمت ذاتي " بكل ما أوتيت الذات من جوارح ومن أعضاء.ولنقرأ قول الحق سبحانهُ {:كلّ َ
جعُونَ }[القصص.]88 :
حكْ ُم وَإِلَيْهِ تُ ْر َ
جهَهُ َلهُ ا ْل ُ
ل وَ ْ
هَاِلكٌ ِإ ّ
أي كل شيء هالك إل ذاته سبحانه وتعالى ،وهذا هو المقصود بـ } إل وجهه { وإل إن أخذنا
الوجه على أنه الوجه فقط فقد يقول قائل :أليس ل يد مثل؟ ونقول إن له يدا في نطاق ليس كمثله
شيء ،ولذلك فل يد ال تهلك ول أي شيء فيه يهلك ،ووجهه يعْني ذاته في نطاق ليس كمثله
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيء .وأطلق الوجه على الذات ،لن الوجه هو المشخص للذات ،فل يستطيع أحد أن يميز
أعضاء بدن عن أعضاء بدن ،إنما التمييز يأتي بسمة الوجه ،لنها السمة المميزة ،وقول الحق في
ج ِهيَ للّ ِه َومَنِ اتّ َبعَنِ { .تدل على أن الرسول قد أسلم وجهه ل؛
ت وَ ْ
تلقينه لرسول الَ } :ف ُقلْ أَسَْل ْم ُ
لن ال خاطبه بوساطة الوحي ،والوحي يباشره صلى ال عليه وسلم ،ولكن حين يقولَ } :ومَنِ
اتّ َبعَنِ { فقد قام الليل لمن اتبعني ،وإن لم يكن مخاطبا من ال مباشرة.
إذن فل مجال لن يقول قائل للرسول صلى ال عليه وسلم :أنت أسلمت وجهك ل لنه خاطبك
وحدك ،وكأن صاحب هذا القول يريد خطابا لكل مؤمن ،قال سبحانهَ } :ومَنِ اتّ َبعَنِ { فمن اتبع
الرسول فقد آمن بأن محمدا صلى ال عليه وسلم هو رسول صدق مبلغ عن ال منهج حق ،فل
مجال لطلب البلغ لكل فرد؛ لن البلغ قد وصل إليهم باليمان بما أنزله ال على رسوله الكريم
ب وَالُمّيّينَ أََأسَْلمْتُمْ {.
ويأمر الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم } َو ُقلْ لّلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَا َ
وساعة تقرأ أو تسمع أسلوبا فيه " همزة الستفهام " فلك أن تعرف أن الستفهام يطلب منه أن
تُعرف الحقيقة ،كقول إنسان لخر :أعندك محمد؟ أو أزارك فلن؟ إن هذا استفهام المراد به فهم
الحقيقة ،ومرة يريد الستفهام مجرد المر بشيء ،كأن يأتيك ضيف وتجلس معه ويدخل عليك
والدك فيقول لك :أصنعت قهوة لضيفك؟ إن ذلك توجيه لك إن كنت لم تقم بواجب الضيافة فعليك
أن تسرع في القيام بهذا الواجب.
وعلى ذلك نفهم قول الحق } :أَأَسَْلمْ ُتمْ { ولذلك نقرأ قول الحق سبحانه بعد الكلم عن الخمر {:إِ ّنمَا
خمْرِ وَا ْلمَيْسِ ِر وَ َيصُ ّدكُمْ عَن ِذكْرِ اللّ ِه وَعَنِ
يُرِيدُ الشّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْ َنكُمُ ا ْل َعدَا َوةَ وَالْ َب ْغضَآءَ فِي ا ْل َ
لةِ َف َهلْ أَنْ ُتمْ مّن َتهُونَ }[المائدة.]91 :
الصّ َ
إن قول الحقَ } :ف َهلْ أَنْتُمْ مّن َتهُونَ { يتضمن استفهاما ،والستفهام هنا يعني المر بالنتهاء .وفي
مجال الية التي نتعرض لها بالخواطر نجد قول الحق } :أََأسَْلمْتُمْ { تعني الدعوة للسلم ،أي "
أسلموا " وجاء بعد ذلك قول الحق الكريم } :فَإِنْ أَسَْلمُواْ َفقَدِ اهْتَدَواْ { ومعنى " اهتدوا " أنهم عرفوا
الطريق الموصل للغاية التي خلق ال من أجلها النسان .وهنا يجب أن نعلم أن كلمة " السلم "
هنا جاءت لتدل على الخضوع ,و الخضوع ل يلمح إل من خاضع ،وعملية الخضوع تعرف
بالحركة والسلوك ،ول تعرف فقط بالعتقاد ،ولذلك فالمام علي كرم ال وجهه الذي أوتي شيئا
من نفح النبوة في الداء اليماني بالسلوب البياني الجميل قال المام عليّ لخوانه :سأنسب
السلم نسبا لم ينسبه قبلى أحد :السلم هو اليقين ،واليقين هو التصديق ،والتصديق هو القرار,
والقرار هو الداء ،والداء هو العمل ،والمؤمن يُعرف إيمانه بالعمل .ونحن في حياتنا العادية
نسأل :ما نسب فلن؟
أي أننا نسأل " هو ابن مَن "؟ ومعنى كلمة " نسابة " عند العرب هو الرجل الذي يعرف سلسلة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النسب ،ومَن ابن مَن ،ففلن ابن فلن ابن فلن ،ابن فلن .والمام عليّ كرم ال وجهه ،حين
ينسب السلم ينسبه بالفعل إلى نسب لم ينسبه قبله أحد .وحين ينتهي المام عليّ كرم ال وجهه
إلى أن نسب السلم إلى العمل
قال:
المؤمن يعرف إيمانه بالعمل ،فالدليل الصحيح على إيمان المؤمن هو عمله .ويضيف المام عليّ
كرم ال وجهه :والكافر يُعرف كفره بالنكار ،وإن المؤمن قد أخذ دينه من ربه ،ولم يأخذه برأيه.
والسيئة في السلم خير من الحسنة في غيره؛ لن السيئة في السلم تغفر ،والحسنة في غيره ل
تُقبل؛ لن الكفر يصاحبها بال ,هل هناك نسب للسلم أروع من هذا؟ وهكذا نجد القول الكريم} :
لغُ { إن
فَإِنْ أَسَْلمُواْ َفقَدِ اهْ َتدَواْ { .والمقابل للسلم يأتي بعد ذلك } :وّإِن َتوَّلوْاْ فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَ َ
المقابل هو " تولوا " أي لم يسلموا ،إنه الحق ينبه رسوله أل يحزن ,وأل يأسف إن تولوا ,كما جاء
سكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ أَسَفا }[الكهف.]6 :
في قوله الكريم {:فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
لماذا؟ لن الرسول صلى ال عليه وسلم عليه البلغ فقط ،وما دام قد جاء في صدر الية} :
ج ِهيَ للّ ِه َومَنِ اتّ َبعَنِ { فإن البلغ أيضا يشمل النبي صلى ال عليه وسلم ومن اتبعه،
ت وَ ْ
أَسَْل ْم ُ
ولذلك تأتي آية أخرى لتشرح هذه القضية اليمانية ،ولتبقى الرسالة في أمته صلى ال عليه وسلم،
ولتخبرنا أيضا لماذا لم يعد هناك داع لوجود أنبياء بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم أمناء على
أن يعدلوا فساد السلوك في الكون ،فلم يعد العالم في حاجة إلى أنبياء جدد ،ولهذا السبب قال
الرسول :صلى ال عليه وسلم:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المسلمين في شرف النبوة فإننا نرثه في جلدة التحمل ،وهذا هو معنى القول الحق {:لِ َيكُونَ
ش َهدَآءَ عَلَى النّاسِ }[الحج.]78 :
شهِيدا عَلَ ْيكُ ْم وَ َتكُونُواْ ُ
الرّسُولُ َ
فما معنى السوة إذن؟ إن السوة في رسول ال صلى ال عليه وسلم تقتضي أنه ما دام قد تحمل
بجلدة بلغ الناس في رسالته ،فعلينا ايضا أن نقتدي به .لقد ناضل رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وعلى أتباع رسول ال أن يناضلوا في سبيل نشر الدعوة ،فإن رأيت أهل الدين في
استرخاء وترهل وعدم قدرة على النضال في سبيل البلغ عن ال فلتعلم أن هؤلء القوم لن
يأخذوا ميراث النبوة .ولذلك إذا رأيت عالما من علماء السلم ليس له أعداء فأعلم أنه قد نقص
ميراثه من ميراث النبياء.
لماذا؟ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان له أعداء وكان يواجههم ،فساعة أن ترى رجل
دين وله أعداء فاعرف أنه قد أخذ حظه من ميراث النبياء ولننظر الن إلى قول الحق سبحانه
تذييل للية يوضح لنا ما السلم } :وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ { لم يقل ال :إنه عليم بالعباد ،لن " عليم
" تكون للمور العقدية ،لقد قال الحق في وصف ذاته هنا " :إنه بصير بالعباد " ،والبصر ليأتي
إل ليدرك حركة وسلوكا.
فماذا يرى ال من العباد؟ إنه -سبحانه -يرى العباد المتحركين في الكون ،وهل حركة العبد
منهم تطابق السلم أول؟ ومتابعة الحركة تحتاج إلى البصر ،ول تحتاج إلى البصر ،ول تحتاج
إلى العلم ،وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول :إن كنتم تعتقدون أني ل أراكم ،فالخلل في إيمانكم،
وإن كنتم تعتقدون أني أراكم فلم جعلتموني أهون الناظرين إليكم؟
إذن فقول الحق } :وَاللّهُ َبصِيرٌ بِا ْلعِبَادِ { نفهم منها أن السلم سلوك ل اعتقاد فقط ،لن الذي يُرى
هو الفعل ل المعتقدات الداخلية .ومادام ال بصيرا بكل سكنات النسان وحركاته فإن النسان
يستحي أن يراه ربه على غير ما يحب ،وأضرب هذا المثل للتقريب ل للتشبيه فالحق سبحانه له
المثل العلى وليس كمثله شيء ،ونحن في حياتنا العادية نجد أن الشاب الذي يدخن يستحي أن
يظهر أمام كبار عائلته كمدخن ،فيمتنع عن التدخين أثناء تواجده مع الكبار ،فما بالنا بالعبد وهو
يعتقد أن ال يراه؟ وبعد ذلك يقول الحق } :إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ.{ ...
()412 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقلنا إن الحق حين يقول { :إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ } هم الذين يكفرون بآيات ال على
إطلقها ،وهناك فرق بين الكفر بآيات ال وبين الكفر بال .لماذا؟ لن اليمان بال يتطلب البينات
التي تدل على ال ،والبينات الدالة على وجود ال موجودة في الكون.
إذن فالبينات واضحة ،إن الذي يكفر بال يكون قبل ذلك كافرا بالدلة التي تدل على وجود
الخالق .إن الحق لم يقل هنا :إن الذين يكفرون بال ،وذلك حتى يوضح لنا أنّ الحق غيب ،ولكن
اليات البينات ظاهرة في الكون ،لذلك قال { :إِنّ الّذِينَ َي ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ النّبِيّين } .ولنا
أن نلحظ هنا ،أن كلمة القتل تأتي دائما للنبيين ،أي أنها ل تأتي للذين أخذوا صفة تزيد على
مهمة النبي ،وهو الرسول ،فليس من المعقول أن يرسل ال رسول ليبلغ منهجا ل ،فيُقدر ال خلقه
على أن يقتلوا الرسول .ولكن النبياء يرسلهم ال ليكونوا أسوة سلوكية للمؤمنين ،ول يأتي الواحد
منهم بتشريعات جديدة ،أما الرسول فإن ال يبعثه حامل لمنهج من ال .وليس من المعقول أن
يصطفي ال عبدا من عباده ويستخلصه ليبلغ منهجه ،و ُي َمكّن ال بعد ذلك بعضا من خلقه أن يقتلوا
هذا الرسول.
إن الخلق ل يقدرون على رسول أرسله ال ،لكنهم قد يقدرون على النبياء ،وكل واحد من النبياء
هو أسوة سلوكية ،ولذلك نجد ان كل نبيّ يتعبد على دين الرسول السابق عليه ،فلماذا يقتل الخلق
السوة السلوكية مادام النبيّ من هؤلء قد جاء ليكون مجرد أسوة ،ولم يأت بدين جديد؟ فلو كان
النبي من هؤلء قد جاء بدين جديد ،لقلنا :إن التعصب للدين السابق عليه هو الذي جعلهم يقتلونه،
لكن النبيّ أسوة في السلوك ،فلماذا القتل؟ إن النبي من هؤلء يؤدي من العبادة ما يجعل القوم
يتنبهون إلى أن السلوك الذي يفعله النبيّ ل يأتي وفق أهوائهم.
إن القوم الذين يقتلون النبيين هم القوم الذين ل يوافقون على أن يسلكوا السلوك السلمي الذي
يعني إخضاع الجوارح ،والحركة لمنطق الدين ولمنطق السلم ،لماذا؟ لن النبيّ وهو ملتزم
بشرع الرسول السابق عليه ،حينما يلتزم بدين ال بين جماعة من غير الملتزمين يكون سلوكه قد
طعن غير الملتزمين.
إن وجود النبيّ الذي يتمسك بشرع ال ،ويخضع جوارحه ،وسلوكه لمنهج ال بين جماعة تدّعي
أنها تدين ال ،ولكنها ل تتمسك بمنهج ال تحملهم إلى أن يقولوا :لماذا يفعل النبي هذا السلوك
القويم ،ولماذا يخضع جوارحه لمنطق اليمان ،ونحن غير ملتزمين مثله؟ وهذا السؤال يثير الغيظ
والحقد على النبيّ بين هذه الجماعة عير الملتزمة بدين ال ،وإن أعْلنت في ظاهر المر التزامها
بالدين.
إنهم يحقدون على النبيّ لنه يرتفع بسلوكه المسلم ،وهم ل يستطيعون أن يرتفعوا ليكونوا مثله.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن النبيّ بسلوكه الخاضع لمنهج ال يكون أسوة واضحة جلية يظهر بها الفرق بين مجرد إعلن
اليمان بمنهج ال ،وبين اللتزام السلوكي بمنهج ال ،وتكون أسوة النبيّ مُحقرة لفعلهم .ولذلك
حين نجد إنسانا ملتزما بدين ال ومنهجه ،فإننا نجد غير الملتزم ينال الملتزم بالسخرية
والستهزاء ،لماذا؟ لن غير الملتزم يمتلئ بالغيظ والحقد على الملتزم القادر على إخضاع نفسه
لمنهج ال ،ويسأل غير الملتزم نفسه:
لماذا يكون هذا النسان قادرا على نفسه مخضعا لها لمنهج ال وأنا غير قادر على ذلك؟ إن غير
الملتزم يحاول إزاحة الملتزم وإبعاده من أمامه .لماذا؟ لن غير الملتزم يتضاءل في نظر نفسه
ونظر الخرين إذا ما قارن نفسه بالملتزم بمنهج ال ،وعندما يقارن الخرون بين سلوك الملتزم
بمنهج ال وسلوك غير الملتزم بمنهج ال فهم ل يحترمون غير الملتزم فيشعر بالصغار النفسى
أمام الملتزم وأمام الناس فيحاول غير الملتزم أن يزيح الملتزم وينحيه عن طريقه ،إن غير
الملتزمين بمنهج ال يسخرون ويتغامزون على الملتزمين بمنهج ال ،كما يقول الحق سبحانه
حكُونَ * وَِإذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا
ضَوتعالى {:إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َي ْ
انقَلَبُواْ إِلَىا أَهِْلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْ ُهمْ قَالُواْ إِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُ ْرسِلُواْ عَلَ ْيهِمْ
حَا ِفظِينَ }[المطففين.]33-29 :
أل توضح لنا تلك اليات البينات ما يقوله غير الملتزمين في بعض مجتمعاتنا للملتزمين بمنهج
ال؟ أل نسمع قول غير الملتزمين للملتزم بمنهج ال " :خذنا على جناحك "؟ إن هؤلء غير
الملتزمين ينطبق عليهم قول الحق {:وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهِْل ِه ُم انقَلَبُواْ
َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْهُمْ قَالُواْ إِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ }[المطففين.]32-30 :
إن غير الملتزمين قد يفرح الواحد منهم ،لنه استطاع السخرية من مؤمن ملتزم بال .وقد يتهم
غيرُ الملتزمين إنسانا ملتزما بأن اللتزام ضلل .والحق سبحانه وتعالى يرد على هذا التهام
بالقول الكريمَ {:ومَآ أُ ْرسِلُواْ عَلَ ْيهِمْ حَافِظِينَ }[المطففين.]33 :
الحق يرد على الساخرين من الملتزمين بمنهج ال ،فيضحك الذين آمنوا يوم القيامة من الكفار،
حكُونَ * عَلَى
ويتساءل الحق بجلل قدرته وتمام جبروته {:فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َيضْ َ
الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المطففين.]36-34 :
هكذا ينال غير الملتزمين عقابهم ،فماذا عن الذين يقتلون النبيين بغير حق؟ إن لنا أن نسأل :لماذا
وصف ال قتل النبيين بأنه " بغير حق " ،وهل هناك قتل لنبيّ بحق؟ ل يمكن أن يكون هناك قتل
لنبي بحق ،وإذا كان ال قد قال } :وَ َيقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ حَقّ { هذا القول الكريم قد أتى ليوضح
واقعا ،إنه سبحانه يقول بعد ذلك في سلسلة أعمال هؤلء الذين يقتلون النبيين بغير حق } :وَ َيقْتُلُونَ
سطِ مِنَ النّاسِ { إنهم لم يكتفوا بقتل النبيين ،بل يقتلون أيضا من يدافع من
الّذِينَ يَ ْأمُرُونَ بِا ْلقِ ْ
المؤمنين عن هذا النبيّ كيف؟ لنه ساعة يُقتل نبيّ ،فالذين التزموا بمنهج النبيّ ،وكانوا معه لبد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لهم أن يغضبوا ويحزنوا.
ي ينفعلون بحدث قتل النبيّ فإن استطاعوا منع ذلك القتل لفعلوا وإن لم يستطع أتباع
إن أتباع النب ّ
النبي منع قتل النبيّ فل أقل من أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ،لكن القتلة يتجاوز
طغيانهم فل يقتلون النبيين فقط فإذا قال لهم منكر لتصرفهم :ولماذا تقتلون النبيين؟ فإنهم يقتلونه
أيضا ،وبالنسبة لرسولنا محمد صلى ال عليه وسلم ،ونحن نعرف أن أعداءه قد صنعوا معه أشياء
أرادوا بها اغتياله ،وذلك يدل على غباء الذين فكروا في ذلك الغتيال.
لماذا؟ لنهم لم ينظروا إلى وضعه صلى ال عليه وسلم ،فلم يكن نبيا فقط ،ولكنه رسول أيضا.
وما دام رسول فهو أسوة وحامل لمنهج في آن واحد ،فلو كان محمد صلى ال عليه وسلم نبيا فقط
لكان في استطاعتهم أن يقتلوه كما قتلوا النبيين من قبل ،لكنه رسول من عند ال ،ولقد رأوه يحمل
منهجا جديدا ،وهذا المنهج يسفه أحلمهم ،ويوضح أكاذيبهم ،من تبديلهم للكتب المنزلة عليهم.
إذن ،كان رسول ال صلى ال عليه وسلم رسول يحمل رسالة ومنهجا ،وحينما أرادوا أن يقتلوه
كنبيّ ،غفلوا عن كونه رسول .ولذلك قال الحق مطمئنا لنا ومحدثا رسوله صلى ال عليه وسلم{:
ص ُمكَ مِنَ النّاسِ
ك وَإِن لّمْ َت ْفعَلْ َفمَا بَّل ْغتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ َي ْع ِ
يَـاأَ ّيهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيكَ مِن رّ ّب َ
إِنّ اللّ َه لَ َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[المائدة.]67 :
الرسول الكريم إذن حامل رسالة ومعصوم بال من أعدائه ،والحق سبحانه وتعالى قد حكى عن
الذين يقتلون النبياء ،وأراد أن يطمئن المؤمنين ،ويطمئن الرسول على نفسه ،وأن يعرف خصوم
رسول ال أنه ل سبيل إلى قتله ،فيقول الحقُ {:قلْ فَلِمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَ ْبلُ إِن كُنْتُمْ ّمؤْمِنِينَ }
[البقرة.]91 :
ولماذا يأتي ال بـ " من قبل " هذه؟ إنه يوضح لنا وللرسول ولعداء محمد صلى ال عليه وسلم
أن مسألة قتل النبياء كان من الممكن حدوثها قبل رسول ال ،لكن هذه المسألة صارت منتهية،
ول يجرؤ أحد أن يمارسها مع محمد رسول ال ،وبذلك طمأن الحق المؤمنين ،وطمأن رسول ال
ص ُمكَ مِنَ النّاسِ }[المائدة.]67 :
بأن أحدا لن يناله بأذى ،ولذلك قال الحق {:وَاللّهُ َي ْع ِ
وأيأس الحق الذين يريدون قتل رسول ال فقد قال لهمُ {:قلْ فَِلمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَ ْبلُ }[البقرة:
.]91
ولو أن المسألة مسألة نبوة ،ورسالة رسول ال غير داخلة في مواجيدهم ،وكان إنكارهم لرسالته
عنادا ،لكانوا قد قالوا " :إن مسألة قتل النبياء ل تتوقف عند " من قبل " لننا سنجعلها " من بعد "
أيضا ،لكانوا قد كتلوا قواهم وقتلوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،لكن ال سبحانه أيأسهم
وقنطهم من ذلك ،وذلك من مناط قدرة ال.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا كان الحق سبحانه وتعالى يحكي عن أمر في قتل النبياء ،وقتل الذين يأمرون بالقسط ،أكان
ذلك معاصر لقول الرسول هذا؟ أو كان هذا الكلم لمن؟ إنه موجه لبعض من أهل الكتاب ،إنه
موجه لمن آمنوا باتباع الذين قتلوا النبيين من قبل ،وقتلوا الذين يأمرون بالقسط ،لقد آمنوا كإيمان
السابقين لهم من قتلة النبياء ،وقتلهم للذين يأمرون بالقسط.
وهذا تقريع لهؤلء الذين اتبعوا في اليمان قوما قتلوا النبياء من قبل ،وقتلوا الذين يأمرون
بالقسط ،إنه تقريع وتساؤل .كيف تؤمنون كإيمان الذين قتلوا النبياء؟ وكيف تتبعون من فعل مثل
ذلك؟ وقد قص رسول ال صلى ال عليه وسلم ،أن بني إسرائيل قد قتلوا ثلثة وأربعين نبيا دفعة
واحدة ،فقام مائة وسبعون من أتباع النبياء لينكروا عليهم ذلك ،فقتلوهم ،وهذا هو معنى هذه الية
الكريمة:
سطِ مِنَ النّاسِ فَ َبشّرْهُم ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ { [آل
ق وَ َيقْتُلُونَ الّذِينَ يَ ْأمُرُونَ بِا ْلقِ ْ
حّ} وَ َيقْتُلُونَ النّبِيّينَ ِبغَيْرِ َ
عمران]21 :
لماذا يبشرهم الحق بعذاب أليم؟ أليس معنى التبشير هو إخبار بما يسر في أمد يمكن أن يؤتى فيه
الفعل الذي يسر؟ إن التبشير دائما يكون للفعل الذي يسر ،كتبشير الحق للمؤمنين بالجنة ،ومعنى
ق الفرصة للمؤمن لينفذ
التبشير بالجنة أن ال يخبر المؤمن بأمر يُسر له المؤمن ،ويعطي الح ّ
منهج ال ليأخذ الجائزة والبشارة.
لماذا يكون الحديث بالبشارة موجها لبناء الذين فعلوا ذلك؟ لننا نعرف أن الذين قتلوا النبيين
وقتلوا الذين أمروا بالقسط من الناس لم يكونوا معاصرين لنزول هذا الية ،إن المعاصرين من
أهل الكتاب لنزول هذه الية هم أبناء الذين قتلوا النبياء وقتلوا الذين أمروا بالقسط ،ويبشرهم
الحق بالعذاب الليم؛ لنهم ربما رأوا أن ما فعله السابقون لهم كان صوابا .فإن كانوا قد رأوا أن
ما فعله السابقون لهم كان صوابا فلهم أيضا البشارة بالعذاب.
وتتسع دائرة العذاب لهم أيضا ,ولكن لماذا يكون العذاب بشارة لهم ،رغم أن البشارة غالبا ما
تكون إخبارا بالخير ،وعملية العذاب الليم ليست خيرا؟ إن علينا أن نعرف أنه ساعة نسمع كلمة "
أبشر " فإن النفس تتفتح لستقبال خبر يسر ,وعندما تستعد النفس بالسرور وانبساط السارير إلى
أن تسمع شيئا حسنا يأتي قول :أبشر بعذاب أليم ،ماذا يحدث؟ الذي يحدث هو انقباض مفاجئ أليم,
ابتداء مطمع " فبشرهم " وانتهاء مُيْئِس (بعذاب أليم) وهنا يكون الحساس بالمصيبة أشد ،لن
الحق لو أنذرهم وأوعدهم من أول المر بدون أن يقول " :فبشرهم " لكان وقوع الخبر المؤلم
هينا.
لكن الحق يريد للخبر أن يقع وقوعا صاعقا ،ومثال لذلك قول الحق {:وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ
ب وَسَآ َءتْ مُرْ َتفَقا }[الكهف.]29 :
شوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَا ُ
كَا ْل ُمهْلِ يَ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنهم يستغيثون في الخرة ،ويغاثون بالفعل ،ولكن بماذا يغيثهم ال؟ إنه يغيثهم بماء كالمهل يشوي
الوجوه .إننا ساعة أن نسمع " يغاثوا " قد نظن أن هناك فرجا قادما ،ولكن الذي يأتي هو ماء
كالمهل يشوي الوجوه .وهكذا تكون البشارة بالنسبة لمن قتلوا النبياء أو لتباع القتلة الذين آمنوا
بمثل ما آمن به هؤلء القتلة } .فَبَشّ ْرهُم ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ { وكلمة " عذاب " تعني إيلم حيّ يحس
باللم .والعذاب هو للحيّ الذي يظل متألما ،أما القتل فهو ينهي النفس الواعية وهذا ليس بعذاب،
بل العذاب أن يبقى الشخص حيّا حتى يتألم ويشعر بالعذاب ،وقول الحقِ } :بعَذَابٍ أَلِيمٍ { يلفتنا إلى
جتْ جُلُودُ ُهمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْ َرهَا
ضَسوْفَ ُنصْلِيهِمْ نَارا كُّلمَا َن ِ
قوله تعالى {:إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ بِآيَاتِنَا َ
حكِيما }[النساء.]56 :
لِيَذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزا َ
أي أن الحق يديم عليهم الحياة ليديم عليهم التعذيب .وبعد ذلك يقول الحق } :أُولَـا ِئكَ الّذِينَ
عمَاُلهُمْ.{ ...
طتْ أَ ْ
حَ ِب َ
()413 /
إنهم الذين كفروا بآيات ال ،وقتلوا النبيين بغير حق ،وقتلوا الذين أمروا بالقسط بين الناس ،هؤلء
لهم العذاب ،ولهم أيضا حبط العمل في الدنيا والخرة ،وكذلك من نهج نهجهم ،ومعنى " حبطت "
أي ل ثمرة مرجوة من العمل ،إن كل عمل يعمله العاقل ل بد أن يكون لهدف يقصده ،فأي عمل
ل يكون له مقصد يكون كضربة المجنون ليس لها هدف .إن العاقل قبل أن يفعل أي عمل ينبغي
أن يعرف الغاية منه ،وما الذي يحققه من النفع؟ وهل هذا النفع الذي سوف يحققه هو خير النفع
وأدومه ،أو هو أقل من ذلك؟
عمَاُلهُمْ
طتْ أَ ْ
وعلى ضوء هذه المقاييس يحدد العاقل عمله ،وحينما يقول الحق { :أُولَـا ِئكَ الّذِينَ حَ ِب َ
فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ } فهو سبحانه يريد أن يخبرنا أن إنسانا قد يفعل عمل هو في ظاهره خير،
ع ِملَ خيرا .لماذا؟ لن عمل الخير ل يحسب للنسان إل بنية
فإياك أن تغتر أيها المؤمن بأنه َ
إيمانه بمن يجازى فالنسان إن عمل عمل قد تصلح به دنياه فهو عمل حسن ،فلماذا يكون عمل
هؤلء حابطا في الدنيا ،وفي الخرة؟ إنه حابط بموازين اليمان ويكون العمل حابطا لنه لم
يصدر من مؤمن ،لن ذلك النسان قد عمل العمل ثقة بنتيجة العمل ،ل ثقة بالمر العلى.
إن النسان المؤمن حين يقوم بالعمل يقوم بالعمل ثقة في المر العلى .وبعض من الناس في
عصرنا يأخذون على السلم أنه ل يجازي الجزاء الحسن للكفرة الذين قاموا بأعمال مفيدة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للبشرية .يقوم الواحد منهم :هل يعقل أحد أن " باستير " الذي اكتشف الميكروبات ،والعالم الخر
الذي اكتشف الشعة ،وكل هؤلء العلماء يذهبون إلى النار؟ ولهؤلء نقول :نعم ،إن الحق بعدالته
أراد ذلك ،ولنتقاض نحن وأنتم إلى أعراف الناس .إن الذي يطلب أجرا على عمل يطلبه ممن؟ إنه
يطلب الجر ممن عمل له .فهل كان ال في بال هؤلء العلماء وهم يفعلون هذه العمال؟ إن بالهم
كان مشغول بالنسانية ،وقد أعطتهم النسانية التخليد ،وغير ذلك من مكاسب الدنيا ،وينطبق
عليهم قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :إن أول الناس ُي ْقضَى يوم القيامة عليه رجل استشهد،
فأتى به فعرفه نعمه فعرفها ،قال :فما عملت فيها؟ قال؛ فاتلت فيك حتى استشهدت قال :كذبت،
ولكنك قاتلت لن يقال :جرىء فقد قيل ،ثم أمر به فسحب على وجهه ،حتى ألقي في النار ،ورجل
تعلّم العلم وعلمه وقرأ القرآن ،فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها ،قال :فما عملت فيها؟ قال :تعلمت
العلم وعلمته ،وقرأت فيك القرآن قال :كذبت ،ولكنك تعلمت العلم ليقال :عالم ،وقرأت القرآن،
ليقال :هو قارئ فقد قيل ،ثم أمر به ،فسحب على وجهه ،حتى ألقي في النار ،ورجل وسّع ال
عليه ،وأعطاه من أصناف المال كله ،فأتى به ،فعرفه نعمه فعرفها ،قال :فما عملت فيها؟ قال :ما
تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إل أنفقت فيها لك ،قال :كذبت ،ولكنك فعلت ليقال :هو جواد،
فقد قيل ،ثم أمر به فسحب على وجهه ،ثم ألقي في النار ".
إذن فإذا كان الجزاء من ال ،فلنا أن نسأل :هل كان ال في بال هؤلء العلماء حينما أنتجوا
مخترعاتهم؟ لم يكن في بالهم ال .والذي يطلب أجرا ،فهو يطلبه ممن عمل له .ولم يُضع ال ثمرة
عملهم ،بل درت عليهم أعمالهم الذكر والجاه والرفعة .لم يضع ال أجر من أحسن عمل {.مَن
كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ
مِن ّنصِيبٍ }[الشورى.]20 :
وقد قلت لكم قديما :تذكروا المفاجأة التي تحدث لمن عمل عمل هو في ظاهره خير ،ولكن لم يكن
ظمْآنُ مَآءً
عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ
ربه في باله ،هذا ينطبق عليه قول الحق {:وَالّذِينَ كَفَرُواْ أَ ْ
حسَابِ }[النور.]39 :
حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ يَجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَابَهُ وَاللّهُ سَرِيعُ الْ ِ
إنه يفاجأ بوجود ال ،ولم يكن هذا الله في باله ساعة أن قام بهذا العمل الذي هو في ظاهره خير،
كأن ال يقول لصاحب مثل هذا العمل :أنا لم أكن في بالك ساعة أن قمت بهذا العمل ،فخذ جزاءك
عمَاُلهُمْ فِي الدّنْيَا وَالخِ َر ِة َومَا َلهُمْ مّن نّاصِرِينَ { إن
طتْ أَ ْ
ممن كان في بالك } .أُولَـا ِئكَ الّذِينَ حَبِ َ
أعمالهم حبطت في الدنيا ،لنهم قد يعملون عمل يراد به الكيد للسلم ،لذلك ل يمكنهم ال من
ذلك ،بل يخذلهم جميعا .وانتصر دين ال رغم قلة العُدّة .وليس لهؤلء ناصرون .أي ليس لهم من
يأتي ويراهم مهزومين أمام خصم لهم وينجدهم إنهم لن يجدوا ناصرا إذا هزمهم ال ،فليس مع ال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أحد غيره .وبعد ذلك يقول الحق } :أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ َنصِيبا مّنَ ا ْلكِتَابِ{ ...
()414 /
ونعرف أننا ساعة نسمع قول الحق { :أَلَمْ تَرَ } .فهنا همزة استفهام ،وهنا أداة نفي هي " لم " ،
وهنا " تر " ومعناها أن يستخدم النسان آلة البصار وهي العين .فإذا ما قال ال لرسوله { :أَلَمْ
ح ُكمَ بَيْ َنهُمْ ُثمّ يَ َتوَلّىا فَرِيقٌ مّ ْنهُ ْم وَ ُهمْ
عوْنَ إِلَىا كِتَابِ اللّهِ لِيَ ْ
تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ َنصِيبا مّنَ ا ْلكِتَابِ يُدْ َ
ّمعْ ِرضُونَ } .إن هذه دعوة لمر واضح .لكن في بعض الحيان تأتي { أََلمْ تَرَ } في حادث كان
زمانه قبل بعثته صلى ال عليه وسلم فلم يره رسول ال كقول الحق {:أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ
بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل.]1 :
إن النبي صلى ال عليه وسلم لم ير أصحاب الفيل ،إذن فساعة تسمع { أَلَمْ تَرَ } إن كان حدثها من
المعاصر ،فمن الممكن أن تكون رؤية ،والرؤية تؤدي إلى علم يقين ،لنها رؤية لمشهود ,وإن
جاءت { أََلمْ تَرَ } في أمر قد حدث من قبل ،أو أمر لما يحدث بعد فهي تعني " ألم تعلم "؛ لن
الرؤية سيدة الدلة ،فكأن ال سبحانه وتعالى ساعة يقول لرسوله في حدث لم يشهده الرسول :ألم
تر؟ فهذا معناه :ألم تعلم؟
وقد يقول قائل :ولماذا لم يأت بـ " تعلم " وجاء ب " تر "؟ لن سيادة الدلة هو الدليل المرئي،
فكأن ال يريد أن يخبرنا بـ { أَلَمْ تَرَ } أن نأخذ المعلومة من ال على أنها مرئية ،وليكن ربك
أوثق عندك من عينك ،إنك قد ل ترى بالفعل هذا المر الذي يخبرك به ال ،ولكن لن القائل هو
ال ،ول توجد قدرة تُخرج ما يقوله ال على غير ما يقوله ال .لذلك فقد قلنا ساعة يعبر ال عن
المر المستقبل الذي سيأتي بعد ،فإنه قد يعبر عنه بالماضي ،فالحق قد قال {:أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ
عمّا يُشْ ِركُونَ }[النحل.]1 :
تَسْ َتعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَ َتعَالَىا َ
فهل ينسجم قوله { :أَتَىا َأمْرُ اللّهِ } مع { فَلَ تَسْ َتعْجِلُوهُ }؟ إن المر الذي يخبرنا به ال قد أتى،
فكيف يمكن عدم استعجاله؟ إن " أتى " معناها أن المر قد حصل قبل أن يتكلم .يجب علينا إذن
أن نعرف أن الذي قال " :أتى " قادر على التيان به ،فكأنه أمر واقع ،إنها مسألة ل تحتاج إلى
جدال؛ لنه ل توجد قوة تستطيع أن نتازع ال لتبرز أمرا أراده في غير مراده .فكأن قوله الحق:
{ أََلمْ تَرَ } إن كانت تحكى عن حدث فات زمنه فالذي يأتي منها هو العلم ،لنه إخبار ال ،وإن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كانت تحكى عن حدث معاصر فالذي يأتي منه أيضا هو العلم؛ لنه صادر عن رؤية ومشاهدة.
وعندما يقول الحق { :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ َنصِيبا مّنَ ا ْلكِتَابِ }.
" وأوتوا " تلفتنا إلى قوم قد نزل إليهم منهج من أعلى .ولذلك يأتي في القرآن ذكر المنهج بـ "
نزل " و " أنزل " ،وذلك حتى نشعر بعلو المكانة التي نزل منها المنهج .وما هو النصيب؟ إننا
نسمي النصيب " الحظ " ،أو خارج القسمة ،كأن يكون عندنا عشرون دينارا ،ونقسمهما على
أربعة فيكون لكل واحد خمسة ،هذه الخمسة الدنانير هي التي تسمى " نصيبا " أو " حظا " ،
والنصيب " :حظ " أو " قسمة " يضاف لمن أخذه.
إذن ،فلماذا يقول الحق } :الّذِينَ أُوتُواْ َنصِيبا مّنَ ا ْلكِتَابِ { إنها لفتة جميلة ،فالكتاب كله لم يبق
لهم ،إنما الذي وصل وانتهى إليهم جزء بسيط من الكتاب ،فكأن هذه الكلمة تنبه الرسول
والسامعين له أن يعذروا هؤلء القوم حيث لم يصلهم من الكتاب إل جزء يسير منه ،إن نصيبا من
الكتاب فقط هو الذي وصلهم.
جعَلْنَا قُلُو َبهُمْ قَاسِيَةً ُيحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ
ضهِم مّيثَا َقهُمْ لَعنّا ُه ْم وَ َ
ويشرح الحق ذلك في آيات أخرى {:فَ ِبمَا َن ْق ِ
علَىا خَآئِنَةٍ مّ ْنهُمْ ِإلّ قَلِيلً مّ ْنهُمُ }[المائدة:
ضعِهِ وَنَسُواْ حَظّا ّممّا ُذكِرُواْ بِ ِه َولَ تَزَالُ َتطّلِعُ َ
عَن ّموَا ِ
.]13
إن الجزء المنسي من الكتاب لم يأخذه المعاصرون لرسول ال .وقلنا أيضا :إن الحق قد أوضح
أن بعضهم كتم بعضا من الكتاب {.الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَاءَ ُه ْم وَإِنّ فَرِيقا
ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ }[البقرة.]146 :
حّمّ ْنهُمْ لَ َيكْ ُتمُونَ الْ َ
وما دام هناك من كتم بعضا من الكتاب فمعنى ذلك كتمانه عن المعاصرين له ،وهناك أناس منهم
مخدوعون ،فشيء من الكتاب قد نسى ،وبالتالي مسح من الذاكرة ،وهناك شيء من الكتاب قد كتم،
فصار معلوما عند البعض ،وغير معلوم عند البعض الخر ،وحتى الذي لم يكتموه ،جاء فيه القول
ب وَ َيقُولُونَ
حسَبُوهُ مِنَ ا ْلكِتَابِ َومَا ُهوَ مِنَ ا ْلكِتَا ِ
الحكيم {:وَإِنّ مِ ْنهُمْ َلفَرِيقا يَ ْلوُونَ أَ ْلسِنَ َتهُمْ بِا ْلكِتَابِ لِتَ ْ
ب وَهُمْ َيعَْلمُونَ }[آل عمران.]78 :
ُهوَ مِنْ عِنْدِ اللّ ِه َومَا ُهوَ مِنْ عِندِ اللّ ِه وَ َيقُولُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ
إذن فالكتاب الذي أنزل إليهم من ال قد تعرض لكثر من عدوان منهم ،ولم يبق إل حظ من
الكتاب ،وهذا الحظ من الكتاب هو الذي يجادل القرآن به هؤلء الناس ،إن القرآن ل يجادلهم فيما
تبدل عندهم بفعل أحبارهم ورهبانهم السابقين ،ولكنه يجادلهم بالنصيب الذي أوتوه.
حكُمَ بَيْ َن ُهمْ ثُمّ
عوْنَ إِلَىا كِتَابِ اللّهِ لِ َي ْ
يقول الحق } :أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُواْ َنصِيبا مّنَ ا ْلكِتَابِ يُدْ َ
يَ َتوَلّىا فَرِيقٌ مّ ْنهُ ْم وَ ُهمْ ّمعْ ِرضُونَ { .وعن أي كتاب ل تتحدث هذه الية؟ هل تتحدث عن القرآن؟
حكّمَ في أمر بينهم وبين رسول ال ،لكن الذين أوتوا نصيبا
لو كان الحديث عن القرآن فل بد أنه ُ
من الكتاب قد اختلفوا فيما بينهم ،ولماذا يختلفون فيما بينهم؟ السبب هو أيضا لون من البغي فيما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بينهم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعندما دخلوا على رسول ال كان هناك واحد اسمه " النعمان بن أوفى " ،وواحد اسمه " بحرى
بن عمرو " فقالوا :يارسول اقض بين هؤلء ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ما معناه :أوَ
ليس عندكم حكم؟ وأضاف رسول ال ما معناه :أنا احتكم إلى التوراة وهي كتابكم ،فماذا
قالوا:؟قالوا :أنصفتنا.
وكان رسول ال قد بين لهم حكم السلم في الزنا بأنه الرجم ،وجيء بالجزء الباقي عندهم من
التوراة لرسول ال صلى ال عليه وسلم الذي يتضمن الحكم الملزم دليل على أن ال أطلعه على
أشياء لم تكن في بال أحد .فدعا بقسم من التوراة ،وقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ما معناه:
أيكم أعلم بالتوراة؟ فقالوا شخص اسمه عبد ال بن صورية فأحضروه ،وأعطاه التوراة ،وقال:
اقرأ مجلس عبد ال بن صورية يقرأ ،فلما مر على آية الرجم وضع كفه عليها ليخفيها ،وقرأ
غيرها وكان عبد ال بن سلم حاضرا ،فقال :يا رسول ال أما رأيته قد ستر بكفه آية وقرأ ما
بعدها؟ وزحزح ابن سلم كف الرجل ،وقرأ هو فإذا هي آيةُ الرجم.
هذه المسألة تعطينا أن الحكم في القرآن الكريم هو الحكم في التوراة في أمر الزنا ،وتعطينا أيضا
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أفاض ال عليه من إلهاماته فجاء بالجزء من التوراة الذي
يحمل هذا النص .وجاء بعد ذلك جندي من جنود ال هو عبد ال بن سلم وكان يهوديا قد أسلم
ليظهر به رغبة القوم في التزييف والتزوير.
وإسلم عبد ال بن سلم له قصة عجيبة ،فبعد أن اختمر اليمان في قلبه ،جاء إلى رسول ال
قائل :لقد شرح ال صدري إلى السلم ونطق بكلمة " ل إله إل ال محمد رسول ال " ولكني
أحب قبل أن أعلن إسلمي أن تحضر رؤساء اليهود لتسألهم رأيهم في شخصى ،لن اليهود " قوم
بهت " فيهم افتراء وفيهم الكذب وفيهم التضليل ،فلما سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم رؤساء
اليهود عن رأيهم في عبد ال بن سلم قالوا :سيدنا وابن سيدنا وحبرنا ..إلخ .وأفاضوا في صفات
المدح والطراء والتقدير .فقال عبد ال بن سلم أمامهم :الن أشهد أل إله إل ال ،وأن محمدا
رسول ال ،فانقلب رؤساء اليهود ،وقالوا في عبد ال بن سلم :عكس ما قالوه أول ،قالوا :إنه
خبيثنا وابن خبيثنا ..إلخ.
لقد غيروا المديح إلى ذم .فقال عبد ال بن سلم :يا رسول ال أما قلت لك :إنهم قوم بهت؟ وال
لقد أردت أن أعلمك برأيهم في قبل أن أسلم .ذلك هو عبد ال بن سلم الذي زحزح كف عبد ال
بن صورية عن النص الذي فيه آية الرجم في التوراة ،وفي ذلك جاء القول الحق } :أَلَمْ تَرَ إِلَى
ح ُكمَ بَيْ َنهُمْ ُثمّ يَ َتوَلّىا فَرِيقٌ مّ ْنهُ ْم وَ ُهمْ
عوْنَ إِلَىا كِتَابِ اللّهِ لِيَ ْ
الّذِينَ أُوتُواْ َنصِيبا مّنَ ا ْلكِتَابِ يُدْ َ
ّمعْ ِرضُونَ { إنهم الذين أعرض فريق منهم عن قبول الحق.
ما سبب هذا العراض؟ أهو قضية عامة؟ أو أنّ سبب هذا العراض هو السلطة الزمنية التي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أراد اليهود أن يتخذوها لنفسهم؟ ومعنى السلطة الزمنية أن يجيء أشخاص فيأخذوا من قداسة
الدين ما يفيض عليهم هم قداسة ،ويستمتعوا بهذه القداسة ثم يستخدموها في غير قضية الدين ،هذا
هو معنى السلطة الزمنية .وقلنا سابقا :إن كل تحوير في منهج ال سببه البغي ،والمفروض أن
أهل الكتاب من أصحاب التوراة كانوا يستفتحون على العرب ويقولون :سيأتي نبي من العرب
نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم ،فلما جاءهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بما عرفوه سابقا في
كتبهم كفروا به ،ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في مثل هذه القضية موضحا موقفهم من قضية
شهِيدا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ َومَنْ عِن َدهُ عِلْمُ
ستَ مُرْسَلً ُقلْ َكفَىا بِاللّهِ َ
اليمان العليا {:وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ لَ ْ
ا ْلكِتَابِ }[الرعد.]43 :
فكأن من عنده علم بالكتاب كان مفروضا فيه أن يشهد لصالح رسول ال صلى ال عليه وسلم،
وإل فل يقول الَ } :ومَنْ عِن َدهُ عِلْمُ ا ْلكِتَابِ { لن يقول الحق ذلك إل إذا كان عند علماء أهل
الكتاب ما يتفق مع ما جاء به ال في صدق رسوله صلى ال عليه وسلم في البلغ عنه ،وكان
السبب في محاولة بعض اليهود لنكار رسالة رسول ال هو السلطة الزمنية ،وأرادوا أن ييسروا
لتباعهم أمور الدين.
إن كل دعي -أي مزيف -في مبدأ من المبادئ يحاول أن يأخذ لنفسه سلطة زمنية ،فيأتي إلى
تكاليف ،الدين التي قد يكون فيها مشقة على النفس ،ويحاول أن يخفف من هذه التكاليف ،أو يأتي
بدين فيه تخفيف مخل بالعبادات ،فإذا نظرنا إلى مسيلمة الكذاب نجده قد خفف الصلة حتى يُرغب
في دينه من تشق عليه الصلة ،وينضم إلى دين مسيلمة ،وحذف مسيلمة جزءا من الزكاة ،وهذا
يعطي فرصة التحلل من تكاليف الدين ،ولذلك فالذي أفسد الديان السابقة على السلم أن بعضا
من رجال الدين فيها كلما رأوا قوما على دين فيه تيسيرات أخذوا من هذه التيسيرات ووضعوها
في الدين؛ لن تكاليف الدين شاقة ول يحمل إنسان نفسه عليها إل من آمن بها إيمان صدق وإيمان
حق ،ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في عمدة العبادات وهي الصلة {:وَاسْ َتعِينُواْ بِالصّبْرِ
شعِينَ }[البقرة.]45 :
لةِ وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى الْخَا ِ
وَالصّ َ
ل ِة وَاصْطَبِرْ عَلَ ْيهَا لَ
ويقول في موقع آخر في القرآن الكريم عن الصلة {:وَ ْأمُرْ أَهَْلكَ بِالصّ َ
ك وَا ْلعَاقِبَةُ لِل ّت ْقوَىا }[طه.]132 :
نَسْأَُلكَ رِزْقا نّحْنُ نَرْ ُز ُق َ
إن الحق عليم حكيم بمن خلق وهو النسان ،ويعلم أن الضعف قد يصيب روح النسان فل
يصطبر على الصلة ،أو يراها تكليفا صعبا ،لكن الذي يقيم الصلة ويحافظ عليها فهو الخاشع
لربه.
ولذلك فإننا نجد أن كل منحرف يأتي ويحاول أن يخفف من تكاليف الدين ،ويحاول أن يحلل أشياء
محرمة في الدين ،ولم نر منحرفا يزيد في الشياء المحرمة .إن المنحرفين يريدون إنقاص المور
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحرام .إذا سألنا هؤلء المنحرفين :لماذا تفعلون ذلك؟ فإننا نجد أنهم يفعلون ذلك لجذب الناس إلى
أمور محرمة يحللها هؤلء المنحرفون .ولذلك أراد أراد بعض اليهود أن يسهلوا على أتباعهم
الدين ،وقال بعض من أحبارهم :ل تخافوا من أمر يوم القيامة .وجاء القول الحق يحكي عنهم
وكأنهم حاولوا أن يفهموا المر بأن ال يحلل لهم أمورا ,ل ،إن ال لم يحلل إل الحلل ،ولم يحرم
حكِيمُ
لكُ ْم وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ
إل الحرام .وإذا كان الحق قد قال {:قَدْ فَ َرضَ اللّهُ َل ُكمْ تَحِلّةَ أَ ْيمَا ِنكُ ْم وَاللّهُ َموْ َ
}[التحريم.]2 :
فهذا القول الحكيم جاء في مناسبة محددة وينطبق فقط في مجال ما حلل ال فل تحرمه ،أما ما
حرم ال فل تقربه ،لقد أرادوا أن يبيحوا للتباع ارتكاب الثام ،لن النار لن تصيبهم إل أيام
معدودة ،وإذا دققنا التأمل في القول الحق الذي جاء على لسانهم ،فإننا نجد التي :إننا نعرف أن
لكل حدث زمان ،ولكل حدث قوة يحدث عليها ،فمن ناحية الزمان .قال هؤلء المزوّرون لحكام
ال عن يوم القيامة إنها أيام معدودة ،فل خلود في النار ،وحتى لو كان العذاب شديدا فإنه أيام
معدودة ،فالنسان يستطيع أن يتحمل ،ومن ناحية قوة الحدث أرادوا أن يخففوا منه ،فقالوا :إنه
عذاب ليس بشديد إنما هو مجرد مس .إنهم يحاولون إغراء الناس لفسادهم وقال هؤلء الحبار:
نحن أبناء ال وأحباءه أرأيتم أحدا يعذب أبناءه وأحباءه؟ لقد أعطى ال يعقوب النبوة ،ول يمكن أن
ضغْثا فَاضْرِب بّهِ وَلَ َتحْ َنثْ إِنّا وَجَدْنَاهُ
ك ِ
يعاقب ذريته أبدا ،إل بمقدار تحلة القسم {.وَخُذْ بِ َي ِد َ
صَابِرا ّنعْمَ ا ْلعَ ْبدُ إِنّهُ َأوّابٌ }[ص.]44 :
إن أيوب عليه السلم قد حلف أن يضرب امرأته إذا برئ من مرضه مائة سوط ،وأراد ال أن
يحله في هذا القسم فأمره أن يأخذ حزمة من حشيش أو عشب فيها مائة عود ويضربها بها ضربة
خفيفة ليبرّ في قسمه ،وكان ذلك رحمة من ال به وبزوجه التي قامت على رعايته وقت المرض،
وكان أيوب عبدا شاكرا ل ،كأن الضربة الواحدة هي مائة ضربة ،وهذا تحليل للقسم ،وقال بعض
من بني إسرائيل :إن ذرية بني يعقوب لن تُعذب من ال إل بمقدار تحلة القسم ،وكل ذلك ليزينوا
للناس بقاءهم على هذا الدين الذي سوف تكون الخرة فيه بعذابها مجرد مس من النار ،وأيام
معدودة ،بادعاء أن بني يعقوب هم أبناء ال وأحباؤه ،وأن ال قد أعطى وعدا ليعقوب بأنه لن
يعذب أبناءه إل بمقدار تحلة القسم ،وهذا بطبيعة الحال هو تزييف لدين ال ومنهجه لقد تولوا عن
منهج ال ،وأعرضوا عنه بعصيان ،يوضح لنا هذا المعنى القول الكريم } :ذاِلكَ بِأَ ّن ُهمْ قَالُواْ لَن
َتمَسّنَا النّارُ ِإلّ أَيّاما ّمعْدُودَاتٍ{ ...
()415 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد تولوا وهم معرضون عن حكم ال لقد ظنوا أن النار لن تمسهم إل أياما معدودات .ولنا أن
نعرف معنى " غرهم " ولنا أن نسأل ما الغرور؟ إن الغرور هو الطماع فيما ل يصح ول
يحصل ،فعندما تقول لواحد والعياذ بال " :أنت مغرور " فأنت تقصد أنه يسلك سبيل ل يوصله
إلى الهدف المنشود .إذن فالغرور هو الطماع فيما ل يصح ول يحصل ،ولذلك يسمى ال
حقّ فَلَ َتغُرّ ّنكُمُ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َولَ َيغُرّ ّنكُمْ بِاللّهِ
ن وَعْدَ اللّهِ َ
الشيطان " الغرور " {.ياأَ ّيهَا النّاسُ إِ ّ
سعِيرِ }
ع ُدوّا إِ ّنمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِ َيكُونُواْ مِنْ َأصْحَابِ ال ّ
خذُوهُ َ
ا ْلغَرُورُ * إِنّ الشّ ْيطَانَ َلكُمْ عَ ُدوّ فَاتّ ِ
[فاطر.]6-5 :
إنه الشيطان الذي يزين للناس بعض المور ويحث الخلق ليطمعوا في حدوثها ،وعندما تحدث فإن
هذه المور ل صواب فيها ،فهي مما زينه الشيطان ،لذلك فحصيلتها ل تتناسب مع الطمع فيها.
والحق سبحانه يقول عن الدنيا {:اعَْلمُواْ أَ ّنمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََلهْ ٌو وَزِينَ ٌة وَ َتفَاخُرٌ بَيْ َنكُ ْم وَ َتكَاثُرٌ
حطَاما َوفِي
صفَرّا ثُمّ َيكُونُ ُ
جبَ ا ْلكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ َيهِيجُ فَتَرَاهُ ُم ْ
عَل ْولَدِ َكمَثَلِ غَ ْيثٍ أَ ْ
ل ْموَالِ وَا َ
فِي ا َ
ضوَانٌ َومَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ }[الحديد.]20 :
الخِ َرةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ َومَ ْغفِ َرةٌ مّنَ اللّ ِه وَ ِر ْ
ويقال عن الرجل الذي ليس له تجربة :إنه " غِرّ " فيأتي بأشياء بدون تجربة؛ فل ينتفع منها ،ول
تصح .إذن ،فكل مادة " الغرور " مأخوذة من إطماع فيما ل يصح ول يحصل .لذلك سمى ال
الشيطان " الغرور " لنه يطمعنا نحن البشر بأشياء ل تصح ول تحدث ،ولهذا سوف يأتي
لمْرُ إِنّ
ياَ
ضَالشيطان يوم القيامة ليتبرأ من الذين اتبعوه ويتهمهم بالبلهةَ {:وقَالَ الشّيْطَانُ َلمّا ُق ِ
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ
سلْطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
ع َدكُ ْم وَعْدَ ا ْلحَقّ وَوَعَدّت ُكمْ فَأَخَْلفْ ُتكُ ْم َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن ُ
اللّ َه وَ َ
خيّ إِنّي َكفَرْتُ ِبمَآ أَشْ َركْ ُتمُونِ من
خ ُك ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ
سكُمْ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ
قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[إبراهيم.]22 :
ما معنى { َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْي ُكمْ مّن سُ ْلطَانٍ }؟ السلطان أي القوة التي تقنع النسان بعمل فعل ما،
وهو إما أن يكون سلطان الحجة فيقنعك بفعل ما ،فتفعله ،وإما أن يكون سلطان القوة ،فيرغمك أن
تفعل ،السلطان -إذن -نوعان :سلطان حجة ،وسلطان قوة ،والفرق بين سلطان الحجة و سلطان
القوة القاهرة على الفعل ،هو أن سلطان الحجة يقنعك أن تفعل وأنت مقتنع ،أما سلطان القوة
القاهرة فهو ل يُقنع النسان ،ولكنه يُرغم النسان على فعل ما ،ولذلك فالشيطان يعلن لتباعه يوم
القيامة :لم يكن لي سلطان عليكم ،ل حجة عندي لقنعكم بعمل المعاصي ،ول عندي قوة ترغمكم
على الفعل ،لكنكم أنتم كنتم على حرف إتيان المعاصي ودعوتكم فاستجبتم لي.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هناك مَنْ يفزع لحد تلبية لنداء أو استغاثة .الشيطان إذن لن ينجد أحدا من عذاب ال ،ولن ينجد
أحد الشيطان من عذاب ال ،وهكذا ذهب بعض من أهل الكتاب إلى الغرور في دين ال ،فافتروا
أقوال على ال ،لم تصدر عنه ،وصدقوا افتراءاتهم ،ويا ليت غرورهم لم يكن في الدين لن
الغرور في غير الدين تكون المصيبة فيه سهلة لكن الغرور في الدين هو المصيبة الكبرى ،لماذا؟
لن الغرور في أي أمر يخضع لقانون واضح ،وهو أن ميعاد كل حدث موقوت بماهيته ،لكن
الغرور في امر الدين مختلف لماذا؟ لن حدث الدين غير موقوت بماهية الزمان ،إنه مستمر ،لن
منهج قيم صدر من الحق إلى الخلق ،إن الغرور في أي جزئية من جزئيات الدنيا ،فإن فشلت
فالفشل يقف عند هذه الجزئية وحدها ،ول يتعدى الفشل إلى بقية الزمن ،لكن الغرور في الدين
يجعل العمر كُله يضيع ،لن النسان لم يتبع المنهج الحق بل يمتد الضياع والعذاب إلى العمر
الثاني وهو الحياة في الخرة يقول الحق {:وَغَرّهُمْ فِي دِي ِن ِهمْ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ }[آل عمران.]24 :
والفتراء هو تعمد الكذب ،إن الحق سبحانه يوضح لهم المعنى فيقول :إن حصل ذلك منكم
وأعرضتم عن حكم ال الذي دعيتم إليه في كتاب ال ،وعللتم ذلك بأن النار لن تمسكم إل أياما
معدودة ،وادعيتم كذبا أن اليام المعدودات هي أيام عبادتكم للعجل ،وادعيتم أنكم أبناء ال
وأحباءه ،إن ذلك كله غرور وافتراءات ،ويا ليتهم كانوا يعلمون صدق هذه الفتراءات ،لكنهم هم
الذين قالوها ويعرفون أنها كذب ،فإذا جاز ذلك لهم في هذه الدنيا فكيف يكون موقفهم وحالهم
ج َمعْنَا ُهمْ لِ َيوْ ٍم لّ رَ ْيبَ
عندما يجمعهم ال في يوم ل ريب فيه؟ وفي هذا يقول الحقَ } :فكَ ْيفَ ِإذَا َ
فِيهِ{ ....
()416 /
ج َمعْنَا ُهمْ لِ َيوْمٍ لَا رَ ْيبَ فِي ِه َو ُوفّيَتْ ُكلّ َنفْسٍ مَا َكسَ َبتْ وَ ُهمْ لَا ُيظَْلمُونَ ()25
َفكَ ْيفَ ِإذَا َ
إن كذبهم سينكشف في هذا اليوم ،فالفاضحة قد جاءت ،والفاضحة هي القيامة ،إنها تفضح كل
كذاب وكل غشاش وكل داعية بغير الحق .إن الحق يتساءل :كيف يصنعون ذلك كله في الحياة
التي جعلنا لهم فيها اختيارا ،فيفعلون ما يريدون ،ول يفعلون ما ل يريدون ،يحدث منهم كل ذلك
وهم يعلمون أن الحق قد جعل الثواب لمن اتبع تكاليف ال ،وجعل العقاب لمن يخرج عن مراد
ال ،كيف يتصرفون عندما يسلب الحق منهم الختيار ويجئ يوم القيامة .لقد كانوا في الدنيا
يملكون عطاء ال من قدرة الختيار بين البديلت ،وركز ال لهم في بنائهم أن كل جوارحهم
خاضعة لرادتهم كبشر من خلق ال ،فمنهم من يستطيع ان يستخدم جوارحه فيما يرضى ال،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفيهم من يستخدم جوارحه المسخرة له -بفضل ال -فيما ل يرضى ال ،إن الجوارح كما نعلم
جميعا خاضعة لرادة النسان ،وإرادة النسان هي التي تختار بين البديلت ،لكن ماذا يفعل هؤلء
يوم القيامة؟ إن الجوارح التي كانت تطيع الخارجين عن منهج ال في الفعل ل تطيعهم في هذا
اليوم العظيم؛ لن الطاعة اختيار أن تفعل وتطيع ،والجوارح يوم القيامة ل تكون مقهورة لرادة
النسان ،إن الجوارح يوم القيامة تنحل عنها صفة القهر والتسخير لمراد النسان ،وتصير
ش َهدُ عَلَ ْيهِمْ أَ ْلسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِي ِه ْم وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ * َي ْومَئِذٍ
الجوارح على طبيعتهاَ {:يوْمَ تَ ْ
ُي َوفّيهِمُ اللّهُ دِي َنهُمُ ا ْلحَقّ وَ َيعَْلمُونَ أَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ ا ْلمُبِينُ }[النور.]25-24 :
إن اللسان كان أداة إعلن الكفر ،وهو يوم القيامة يشهد على الكافر ،واليد كانت أداة معصية ال،
وهي يوم القيامة تشهد على صاحبها ،والجلود تشهد أيضا ،لقد كانت الجوارح خاضعة لرادة
أصحابها ،وتفعل ما يريدونها أن تفعل ،ولكنها كانت تفعل الفعل العاصي ل وهي كارهة لهذا
الفعل؛ لذلك يقول الحق:
ج َمعْنَاهُمْ لِ َيوْ ٍم لّ رَ ْيبَ فِي ِه َو ُوفّيَتْ ُكلّ َنفْسٍ مّا َكسَ َبتْ وَ ُه ْم لَ يُظَْلمُونَ } [آل عمران:
{ َفكَ ْيفَ إِذَا َ
.]25
كيف يكون حالهم يوم يجمعهم ال للجزاء في يوم ل ريب فيه ول شك في مجيئه ..وهذا اليوم
قادم ل محالة لقيام الدلة على وجوده ،رغم خصومتهم ل فإن ال العادل الحق ل يظلمهم بل
سيأخذهم بمقاييس العدل.
()417 /
ُقلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَنْ تَشَا ُء وَتَنْ ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَاءُ وَ ُتعِزّ مَنْ َتشَا ُء وَتُ ِذلّ مَنْ تَشَاءُ
شيْءٍ قَدِيرٌ ()26
بِيَ ِدكَ ا ْلخَيْرُ إِ ّنكَ عَلَى ُكلّ َ
وساعة تسمع كلمة " ملك " ،فلنا أن نعرف أن هناك كلمة هي " مُلك " بضم الميم ،وكلمة أخرى
هي " مِلك " بكسر الميم .إن كلمة " مِلك " تعني أن للنسان ملكية بعض من الشياء ،كملكية
إنسان لملبسه وكتبه وأشيائه ،لكن الذي يملك مالك هذا الملك فهذا تسميه " مُلك " ،فإذا كانت هذه
الملكية في المر الظاهر لنا ،فإننا نسميه " عالم الملك " ،وهو العالم المُشاهد ،وإذا كانت هذه
الملكية في المر الخفي فإننا نسميه " عالم الملكوت " .إذن ،فنحن هنا أمام " مِلك " ،و " مُلك " و
" ملكوت " .ولذلك فعندما تجلى الحق سبحانه وتعالى على سيدنا إبراهيم خليل الرحمن وكشف له
ت وَالَ ْرضِ
سمَاوَا ِ
ما خفي عن العيون وما ظهر ،قال سبحانهَ {:وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ }[النعام.]75 :
أي أن ال سبحانه وتعالى أراد لسيدنا إبراهيم أن يشاهد الملكوت في السماوات والرض ،أي كل
الشياء الظاهرة والخافية المخفية عن عيون العباد .وهكذا نرى مراحل الحيازة كالتي :ملك ،أي
أن يملك النسان شيئا ما ،وهذا نسميه مالكا للشياء فهو مالك لشيائه ،ومالك لمتاعه أما الذي
يملك النسان الذي يملك الشياء فإننا نسميه " مُلك " ،أي أنه يملك من يملك الشياء ،والظاهرة
في الولى نسميها " مِلْك " فكل إنسان له ملكية بعض من الشياء ،وبعد ذلك تنحاز الى القل ،اي
ان تنسب ملكية أصحاب الملك إلى ملك واحد .فالملكية بالنسبة للنسان تتلخص في أن يملك
النسان شيئا فيصير مالكا ،وإنسان آخر يوليه ال على جماعة من البشر فيصير مَلِكا ،هذا في
المجال البشرى.
أما في المجال اللهي ،فإننا نُصعد لنرى من يملك كل مالك وملك ،إنه ال سبحانه وتعالى .ول
يظن أحد أن هناك إنسانا قد ملك شيئا؛ أو جاها في هذه الدنيا بغير مراد ال فيه ,فكل إنسان يملك
بما يريده ال له من رسالة ,فإذا انحرف العباد ,فل بد أن يولى ال عليهم ملكا ظالما ،لماذا؟ لن
الخيار قد ل يحسنون تربية الناسَ {.وكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }
[النعام.]129 :
وكأن الحق سبحانه يقول :يأيها الخيّر -بتشديد الياء -ضع قدما على قدم ول تلوث يدك بأن
تنتقم من الظالم ،فسوف أضع ولية ظالم أكبر على هذا الظالم الصغير ،إنني أربأ بك أن تفعل
ذلك ،وسأنتقم لك ،وأنت أيها الخيّر منزه عندي عن ارتكاب المظالم ,ولذلك نجد قول الحق{:
َوكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[النعام.]129 :
ونحن جميعا نعرف القول الشائع " :ال يسلط الظالمين على الظالمين ".
ولو أن الذين ظلموا ُمكّن منهم من ظلموهم ما صنعوا فيهم ما يصنعه الظالمون في بعضهم
بعضا .إن الحق يسلط الظالمين على الظالمين ،وينجى أهل الخير من موقف النتقام ممن
ظلموهم.
إذن فنحن في هذه الحياة نجد " مالك " ,و " ملك " وهناك فوق كل ذلك " مالك الملك " ،ولم يقل
ال :إنه " ملك الملك "؛ لننا إذا دققنا جيدا في أمر الملكية فإننا لن نجد مالكا إل الُ } .قلِ الّلهُمّ
مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ { إنه المتصرف في ملكه ،وإياكم أن تظنوا أن أحدا قد حكم في خلق ال بدون مراد
ال ،ولكن الناس حين تخرج عن طاعة ال فإن ال يسلط عليهم الحاكم الظالم ،ولذلك فالحق
سبحانه يقول في حديثه القدسي:
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يطوى ال -عز وجل -السموات يوم القيامة ،ثم يأخذهن
بيده اليمنى ،ثم يقول :أنا الملك ،أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الرض بشماله ،ثم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول :أنا الملك ،أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ".
إياك أيها المؤمن أن تظن أن أحدا قد أخذ الملك غضبا من ال .إنما الملك يريده ال لمن يؤدب به
العباد .وإن ظلم الملك في التأديب فإن ال يبعث له من يظلمه ،ومن رأى ظلم هذا الملك أو ذاك
الحاكم فمن الجائز أن يريه ال هذا الملك أو ذلك الحاكم مظلوما .إنه القول الحكيم يؤكد لنا أنه
سبحانه وتعالى مالك الملك وحده.
إن الحق سبحانه يأمر رسوله الكريمُ } :قلِ الّل ُهمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ { إن كلمة " اللهم " وحدها فيها عجب
من العجائب اللغوية ،إن القرآن قد نزل باللسان العربي ,وأمة العرب فصيحة اللسان والبيان
والبلغة ،وشاء الحق أن يكون للفظ الجللة " ال " خصوصية فريدة في اللغة العربية.
إن اللغة العربية تضع قاعدة واضحة وهي أل يُنادي ما فيه ،أداة التعريف ،مثل " الرجل " بـ " يا
" فل يقال " :يا رجل " بل يقال " :يأيها الرجل " لكن اللغة التي يسرها ال لعباده تخص لفظ
الجللة بالتقديس ،فيكون من حق العباد أن يقولوا " :يا ال " .وهذا اللفظ بجلله له تميز حتى في
نطقه.
ولنا أن نلحظ أن العرب من كفار قريش وهم أهل فصاحة لم يفطنوا إلى ذلك ،فكأن ال يرغم
حتى الكافرين بأن يجعل للفظ الجللة تميزا حتى في أفواه الكافرين فيقولون مع المؤمنين " :يا ال
" .أما بقية السماء التي تسبقها أداة التعريف فل يمكن أن تقول " :يا الرجل " أو " يا العباس "
لكن ل بد أن تقول " يأيها الرجل " ،أو " يأيها العباس " ،ول تقول حتى في نداء النبي " :يا
النبي " ،وإنما تقول " :يأيها النبي ".
لكن عند التوجه بالنداء إلى ال فإننا نقول " :يا ال " ،إنها خصوصية يلفتنا لها الحق سبحانه بأنه
وحده المخصوص بها ،وأيضا ما رأينا في لغة العرب عَلَما دخلت عليه " التاء " كحرف القسم إل
ال ،فإننا نقول " تال " ،ولم نجد أبدا من يقول " تزيد " أو " تعمرو ".
إننا ل نجد التاء كحرف قسم إل في لفظ الجلله ،ول نجد أيضا علما من العلم في اللغة العربية
تحذف منه " يا " في النداء وتستبدل بالميم إل في لفظ الجللة فنقول " :اللهم " كل ذلك ليدل على
أن اللفظ في ذاته له خصوصية المسمى " .قل اللهم " وكأن حذف حرف النداء هنا يُعلمنا أن ال
هو وحده المستدعى بدون حرف نداء " .اللهم " وفي بعض اللسنة يجمعون الياء والميم ،مثل قول
الشاعر:إني إذا ما حادث ألمّا أقول ياللهم يا اللهمّاإنها خصوصية لصاحب الخصوصية العلى} .
ُقلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ { وقد يسأل إنسان لماذا لم يقل الحق " :ملك الملك "؟ هنا ل بد أن نعرف أنه
سيأتي يوم ل تكون فيه أي ملكية لي أحد إل ال ،وهو المالك الوحيد ،فهو سبحانه يقولَ {:رفِيعُ
الدّ َرجَاتِ ذُو ا ْلعَرْشِ يُ ْلقِي الرّوحَ مِنْ َأمْ ِرهِ عَلَىا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَا ِدهِ لِيُنذِرَ َيوْمَ التّلَقِ * َيوْمَ هُم
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16-15 :
شيْءٌ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
خفَىا عَلَى اللّهِ مِ ْنهُمْ َ
بَارِزُونَ لَ َي ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن قول الحق هنا " :مالك الملك " توضح لنا أن ملكية ال وهي الدائمة والقادرة واضحة ،وجلية،
ومؤكدة ،ولو قال ال في وصف ذاته " :ملك الملك " لكان معنى ذلك أن هناك بشرا يملكون
بجانب ال ،ل ،إنه الحق وحده مالك الملك .وما دام ال هو مالك الملك ،فإنه يهبه لمن يشاء،
وينزعه ممن يشاء .وهنا نلحظ أن قول الحق :إنه مالك الملك يعطي الملك لمن يشاء وينزع
الملك ممن يشاء تأتي بعد عملية المحاجّة ،وبعد أن تهرب بعض من أهل الكتاب من تطبيق حكم
ال بعد أن دعوا إليه ،فتولى فريق منهم وأعرض عن حكم ال ،وعللوا ذلك بادعاء أنهم أبناء ال
وأحباؤه وأن النار لن تمسهم إل أياما معدودات.
كل هذه خيارات من لطف ال وضعها أمام هؤلء العباد ،خيارات بين اتباع حكم ال أو اتباع حكم
الهوى ،لكنهم لم يختاروا إل الختيار السيء ،حكم الهوى .ولذلك يأتي ال بخبر اليوم الذي سوف
يجيء ،ولن يكون لحد أي قدرة ،أو اختيار.
إن حق الختيار موجود لنا في هذه الدنيا ،وعلينا أن نحسن الختيار في ضوء منهج ال.
ولنتأمل هذا المثل الذي حدثتنا عنه السيرة النبوية الطاهرة ،حينما جاءت غزوة الحزاب التي
اجتمع فيها كل خصوم الدعوة ،واشتغل اليهود بالدس والوقيعة ،وأراد رسول ال صلى ال عليه
وسلم أن يحفر بمشورة سلمان الفارسي خندقا حول المدينة المنورة .ومعنى " الخندق " ،أي
مساحة من الرض يتم حفرها بما يعوق التقدم .وكان المقاتلون يعرفون أن الفرس يستطيع أن
يقفز مسافة ما من المتار.
لقد حاول المؤمنون أثناء حفر الخندق أن يكون اتساع أكبر من قدرة الخيل ،ولننظر إلى دقة
الدارة عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ،إن سلمان الفارسي قد اقترح أن يتم حفر الخندق،
وفيما يبدو أنه قد أخذ الفكرة من بيئته وقبل الرسول صلى ال عليه وسلم الفكرة وأقرها ،وفعلها
المسلمون.
إذن فليس كل ما فعله الكفار كان مرفوضا من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولكن الرسول
صلى ال عليه وسلم قبل تطبيق كل العمال النافعة ،سواء أكان قد فعلها الكفار من قبل أم ل،
ورأى الرسول صلى ال عليه وسلم أن عملية الحفر مرهقة بسبب جمود الرض وصخريتها في
بعض المواقع ،لذلك وضع حصة قدرها أربعون ذراعا لكل عشرة من الصحابة ،وبذلك وزع
الرسول الكريم العمل والمسئولية ،ولم يترك المر لكل جماعة خشية أن يتواكلوا على غيرهم.
وتوزيع المسئولية يعني أن كل جماعة تعرف القدر الواضح من العمل الذي تشارك به مع بقية
الجماعات وقد يسأل سائل :ولماذا لم يوزع الرسول صلى ال عليه وسلم التكليف لكل واحد
بمفرده؟ ونقول :إنها حكمة الدارة والحزم هي التي جعلت الرسول صلى ال عليه وسلم يتعرف
على حقيقة واضحة ،وهي أن الذين يحفرون من الصحابة ليسوا متساوون في القدرة والمجهود،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك أراد لكل ضعيف أن يكون مسنودا بتسعة من الصحابة.
إن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يجعل المر مشاعا ،بل كان هناك تحديد للمسئولية ،لكنه لم
يجعل المسئولية مشخصة تشخيصا أوليا ومحددا بكل فرد ،وذلك حتى يساعد القوياء الضعيف
من بينهم .لقد ستر رسول ال صلى ال عليه وسلم الضعيف بقوة إخوانه ،وساعة أن يوجد
ضعيف بين عشرة من الخوان يحملون عنه ويحفرون ،فإن موقفه من أصحابه يكون المحبة
واللفة ،ويكون القوي قد أفاض على الضعيف.
وكان عمرو بن عوف ضمن عشرة منهم سلمان الفارسي رضي ال عنه ،فلما جاءوا ليحفروا
صادفتهم منطقة يقال عنها " :الكئود " ،ومعنى " الكئود " هي المنطقة التي تكون صلبة أثناء
الحفر ،فالحافر إذا ما حفر الرض قد يجد الرض سهلة ويواصل الحفر ،أما إذا صادفته قطعة
صلبة في الرض فإنه ل يقدر عليها بمعوله لنها صخرية صماء ،فيقال له " :أكدى الحافر ".
وعندما صادف عمرو بن عوف وسلمان الفارسي والمغيرة وغيرهم هذه الصخرة الكئود ،قالوا
لسلمان " :اذهب فارفع أمرنا لرسول ال صلى ال عليه وسلم " .ومن هذا نتعلم درسا وهو أن
المُكّلفَ مِنْ قِبَل مَنْ يكلفه بأمر إذا وجد شيئا يعوقه عن أداء المهمة فل بد أن يعود إلى من كلفه
بها.
وذهب سلمان إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وحضر رسول ال صلى ال عليه وسلم مع
سلمان إلى الموقع وأخذ المعول وجاء على الصخرة الكئود وضربها ،فحدث شرر أضاء من فرط
حتْ
قوة الصطدام بين الحديد والصخرة ،فهتف رسول ال صلى ال عليه وسلم :ال أكبر فُتِ َ
قصور بصرى بالشام ،ثم ضرب ضربة أخرى ،وقال الرسول صلى ال عليه وسلم :ال أكبر
حتْ قصور صنعاء في
ت قصور الحمراء بالروم .وضرب ضربة ثالثة وقال :ال أكبر فُ ِت َ
ح ْ
فُتِ َ
اليمن ،فكأنه حين ضرب الضربة أوضح ال له معالم الماكن التي سوف يدخلها السلم فاتحا
ومنتصرا ،فلما بلغ ذلك القول أعداء رسول ال صلى ال عليه قال العداء للصحابة :يمنيكم محمد
بفتح قصور صنعاء في اليمين ،والحمراء في الروم ،وفتح قصور بصرى ،وأنتم ل تستطيعون أن
تبرزوا لنا للقتال فأنزل ال قولهُ } :قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ
تَشَآءُ.{ ...
إن المسألة ليست عزما من هؤلء المؤمنين ،إنما هي نية على قدر الوسع ،فإن فعلت أي فعل
على النية بقدر الوسع فانتظر المدد من الممد العلى سبحانه وتعالى.
إن ال سبحانه هو الذي يعطي الملك ،وهو الله الحق الذي ينزع ملك الكفر في كسرى والروم
وصنعاء ،ويعطي سبحانه الملك لمحمد رسول ال وأصحابه ،وينزعه من قريش ،وينزع الملك من
يهود المدينة حيث كانوا يريدون الملك.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن قول الحق } :وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآءُ { تجعلنا نتساءل :ما النزع؟ إنه القلع بشدة ،لن الملك
عادة ما يكون متمسكا بكرسي الملك ،متشبثا به ،لماذا؟ لن بعضا ممن يجلسون على كراسي
السلطان ينظرون إليه كمغنم بل تبعات فل عرق ول سهر ول مشقة أو حرص على حقوق
الناس ،إنهم يتناسون سؤال النفس " وماذا فعلت للناس "؟ إن الواحد من هؤلء ل يلتفت إلى
ضرورة رعاية حق ال في الخلق فيسهر على مصالح الناس ويتعب ويكد ويشقى ويحرص على
حقوق الناس.
إننا ساعة نرى حاكما متكالبا على الحكم ،فلنعلم أن الحكم عنده مغنم ،ل مغرم .ولنر ماذا قال
سيدنا عمر بن الخطاب عندما قالوا له :إن فقدناك -ل نفقدك -نولى عبد ال بن عمر ،وهو
رجل قرقره الورع.
.فقال عمر بن الخطاب رضي ال عنه :بحسب آل الخطاب أن يُسأل منهم عن أمة محمد رجل
واحد ،لماذا؟ لن الحكم في السلم مشقة وتعب.
لقد جاء الحق بالقول الحكيم } :وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ َتشَآءُ { وذلك لينبهنا إلى هؤلء المتشبثين
بكراسي الحكم وينزعهم ال منها ،إن المؤمن عندما ينظر إلى الدول في عنفوانها وحضاراتها
وقوتها ونجد أن الملك فيها يسلب من الملك فيها على أهون سبب .لماذا؟ إنها إرادة الخالق
العلى ،فعندما يريد فل راد لقضائه.
إن الحق إما أن يأخذ الحكم من مثل هذا النوع من الحكام ،وإما أن يأخذه هو من الحكم ،ونحن
نرى كل ملك وهو يوطن نفسه توطينا في الحكم ،بحيث يصعب على من يريد أن يخلعه منه أن
يخلعه بسهولة ،لكن ال يقتلع هذا الملك حين يريد سبحانه.
وبعد ذلك يقول الحق } :وَ ُتعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُ ِذلّ مَن تَشَآءُ { لن ظواهر الكون ل تقتصر على من
يملك فقط ،ولكن كل ملك حوله أناس هم " ملوك ظل " .ومعنى " ملوك الظل " أي هؤلء الذين
يتمتعون بنفوذ الملوك وإن لم يكونوا ظاهرين أمام الناس ،ومن هؤلء يأتي معظم الشر .إنهم
يستظلون ويستترون بسلطان الملك ،ويفعلون ما يشاءون ،أو يفعل الخرون لهم ما يأمرون به،
وحين يُنزع الملك فل شك أن المغلوب بالظالمين يعزه ال ،وأما الظالمون لنفسهم فيذلهم ال؛
لذلك كان ل بد أن يجيء بعد } ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآءُ { هذا القول الحق} :
وَ ُتعِزّ مَن َتشَآ ُء وَتُ ِذلّ مَن تَشَآءُ { .لماذا؟ لن كل ملك يعيش حوله من يتمتع بجاهه ونفوذه ،فإذا ما
انتهى سلطان هذا الملك ،ظهر هؤلء المستمعون على السطح .وهذا نشاهده كل يوم وكل
عصر } .وَ ُتعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُ ِذلّ مَن تَشَآءُ بِ َي ِدكَ الْخَيْر {.
ونلحظ هنا :أن إيتاء الملك في أعراف الناس خير .ونزع الملك في أعراف الناس شر .ولهؤلء
نقول :إن نزع الملك شر على من خُلِعَ منه ،ولكنه خير لمن أوتي الملك .وقد يكون خيرا لمن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نزع منه الملك أيضا .لن ال حين ينزع منه الملك ،أو ينزعه من الملك يخفف عليه مؤونة ظلمه
فلو كان ذلك الملك المخلوع عاقل ،لتقبل ذلك وقال :إن ال يريد أن يخلصني لنفسه لعلى أتوب..
إذن فلو نظرت إلى الجزئيات في الشخاص ،ونظرت إلى الكليات في العموم لوجدت أن ما
يجري في كون ال من إيتاء الملك وما يتبعه من إعزاز ،ثم نزع الملك وما يتبعه من إذلل ،كل
ذلك ظاهرة خير في الوجود ،لذلك قال الحق هنا } :بِ َي ِدكَ ا ْلخَيْر { ولو دقق كل منا النظر إلى
مجريات المور ،لوجد أن :ال هو الذي يؤتي ،وال هو الذي ينزع ،وال هو الذي يعز ،وال هو
الذي يذل ،ول بد أن يكون في كل ذلك صور للخير في الوجود ،فيقول } :بِ َي ِدكَ الْخَيْرُ إِ ّنكَ عَلَىا
شيْءٍ قَدِيرٌ {.
ُكلّ َ
إن إيتاء الملك عملية تحتاج إلى تحضير بشرى وبأسباب بشرية ،وأحيانا يكون الوصول إلى
الحكم عن طريق النقلبات العسكرية ،أو السياسية ،وكذلك نزع الملك يحتاج إلى نفس الجهد.
إن الحق سبحانه وتعالى يوضح لنا المعنى فيقول :ليس ذلك بأمر صعب على قدرتي اللنهائية،
لنني ل أتناول الفعال بعلج ،أو بعمل ،إنما أنا أقول " :كن " فتنفعل الشياء لرادتي ،ويأتي
الحق بعد ذلك ليدلل بنواميس الكون وآيات ال في الوجود على صدق قضية } إِ ّنكَ عَلَىا ُكلّ
شيْءٍ قَدِيرٌ { فيقول وقوله الحق } :تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي الْ ّنهَارِ وَتُولِجُ ال ّنهَارَ فِي الْلّ ْيلِ{ ...
َ
()418 /
حيّ
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ وَتُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ
ل وَتُخْرِجُ الْ َ
تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ وَتُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْي ِ
حسَابٍ ()27
وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ ِبغَيْرِ ِ
إن الحق يقول لنا :عندكم ظاهرة تختلف عليكم ،وهي الليل والنهار ،وظاهرة أخرى ،هي الحياة
والموت .إن ظاهرة الليل والنهار كلنا نعرفها لنها آية من اليات العجيبة ،والحق يقول عنها:
{ تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي الْ ّنهَا ِر وَتُولِجُ ال ّنهَارَ فِي الْلّ ْيلِ } إن الحق لم يصنع النهار بكمية محدودة من الوقت
متشابهة في كل مرة ،ل ،إنه سبحانه شاء لليل أن ينقص أحيانا عن النهار خمس ساعات ،وأحيانا
يزيد النهار على الليل خمس ساعات.
ولنا أن نتساءل ..هل تنقص الخمس الساعات من الليل أو النهار مرة واحدة وفجأة هل يفاجئنا
النهار بعد أن يكون اثنتي عشرة ساعة ليصبح سبع عشرة ساعة؟ هل يكون الليل مفاجئا لنا في
الطول أو القصر؟ ل ،إن المسألة تأتي تباعا ،بالدورة ،بحيث ل تحس ذلك ،إن هناك نوعا من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحركة اسمها الحركة الترسية .إننا عندما ننظر إلى الساعة في كل الزمن؟ ل ،إن كل ترس له
زمن يتوقف فيه ،وعندما يتوقف فإننا ندفع به ليعيد دورته ،ويعمل ،وإذا دققنا النظر في عقرب
الدقائق فإننا نستطيع أن نلحظ ذلك.
إذن هناك فترة توقف وسكون بين انتقال عقرب الدقائق من دقيقة إلى أخرى ،وهذا اللون من
الحركة نسميه " حركة ترسية " ،وهناك حركة أخرى ثانية نسميها " حركة انسيابية " ،بحيث
يكون كل جزء من الزمن له حركة ،كما يحدث المر في ظاهرة النمو بالنسبة للنسان والنبات
والحيوان.
إن الطفل الوليد ل يكبر من الصباح إلى المساء بشكل جزئي ،أو محسوس ،إنه يكبر بالفعل دون
أن نلحظ ذلك ،وقد يزيد بمقدار ملليمتر في الطول ،وهذا الملليمتر شائع في كل ذرات الثواني من
النهار ،إن الطفل ل يظل على وزنه وطوله أربعا وعشرين ساعة من النهار ،ثم يكبر فجأة عند
انتهاء اليوم ،ل ،إن نمو الطفل كل يوم يتم بطريقة تشيع فيها قدرة النمو في كل ذرات الثواني من
النهار ،وهذه العملية تحتاج إلى الدقة المتناهية في توزيع جزيئات الحدث على جزيئات الزمان،
وهذه هي العظمة للقدرة الخالقة التي يظل النسان عاجزا عنها إلى البد.
وقد قلت لكم مرة :إن الواحد منكم إن نظر إلى ابنه الوليد ،وظل ناظرا له طوال العمر فلن يلحظ
النسان منكم كبر ابنه على الطلق ،لكن عندما يغيب النسان عن ابنه شهرا أو شهورا ،ثم
يعود ،هنا يرى في ابنه مجموع نمو الشهور التي غاب فيها عنه وقد أصبح واضحا .ولو زرع
النسان نباتا ما ،وجلس ينظر إلى هذا النبات ،فهو لن يرى أبدا نمو هذا النبات لماذا؟ لن
الجزئيات تكبر دون قدرة على أن يلمس النسان طريقة نموها.
ولنا أن نعرف أن كل ما يكبر إنما يصغر أيضا ،ول توجد عند النسان قدرة للملحظة المباشرة
لذلك ،وفي الحياة أمثلة أخرى ،نأخذ منها هذا المثل ،فعندما قام العلماء بتصوير الرض من
القمار الصناعية ،كانت الصور الولى لمدينة نيويورك هي صورة لنقطة بسيطة ،وعندما قام
العلماء بتكبير هذه الصورة ظهرت الجزئيات ،كالشوارع وغيرها ،أين كانت الشوارع في هذه
النقطة الصغيرة؟ لقد صغرت الشوارع أثناء التصوير بصورة تستحيل معها على آلت الدراك
عند النسان أن تراها ،ولذلك فل بد من التكبير لهذه الصورة حتى يمكن للنسان أن يراها ،ونحن
نرى الشيء البعيد صغيرا ،ولكما قربناه كبر في نظرنا.
إذن فقول ال } :تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي الْ ّنهَا ِر وَتُولِجُ ال ّنهَارَ فِي الْلّ ْيلِ { هو لفت للنتباه البشرى إلى أن
الليل والنهار ل يفصل بينهما حد قاطع بنسبة متساوية لكل منهما ،ل ،إنه الحق بقدرته يدخل الليل
في النهار ،ويدخل النهار في الليل .إن معنى " تُولج " هو " تُدخل " ،ومثال ذلك أن يؤذن المؤذن
لصلة المغرب في يوم ما عند الساعة الخامسة ،ويؤذن المؤذن لصلة المغرب في أيام أخرى في
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الساعة السابعة .إن ذلك ل يحدث فجأة ،ول يقفز المغرب من الخامسة إلى السابعة ،إنما يحدث
ذلك بانسيابية ،ورتابة .ومن ذلك نتلقى الدرس والمثل.
إنك أيها العبد إن رأيت ملكا قائما على حضارة مؤصلة ،فاعلم أن هناك عوامل دقيقة ل تراها
بالعين تنخر في هذا الملك إلى أن يأتي يوم ينتهي فيه هذا الملك .وهكذا تنهار الحضارات بعد أن
تبلغ أوج الرتقاءات ،ويصل الناس فيها إلى استعدادات ضخمة وإمكانات هائلة ،وذلك لن عوامل
النهيار تنخر داخل هذه الحضارات.
إن الحق بلفتنا إلى جلل قدرته وعظمة دقة صنعه ،بمثل الليل والنهار } :تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي الْ ّنهَارِ
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ
وَتُولِجُ ال ّنهَارَ فِي الْلّ ْيلِ { .ثم يأتي لنا الحق العلى بمثل آخر ،فيقول } :وَتُخْرِجُ الْ َ
حيّ { ،إنها القدرة المطلقة بدون أسباب.
وَتُخْرِجُ اَلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ
والوقفة هنا تجعلنا نرى كيف اهتدينا بما أفاض ال على بعض خلقه من اكتشاف لبعض أسراره
في كونه ،لقد وصل العلم لمعرفة أن لكل شيء حياة خاصة ،فنرى أن ورقة النبات تحدث فيها
تفاعلت ولها حياة خاصة ،ونرى أن الذرة فيها تفاعلت ولها حياة خاصة ،والتفاعل معناه
الحركة ،والحياة كما تعرف مظهرها الحركة ،وغاية ما هناك أنه يوجد فرق في رؤية الحياة عند
العامة ،ورؤية الحياة عند الخاصة .إن النسان العامى ل يعرف أن النطفة فيها حياة ،وأن الحبة
فيها حياة ،ول يعرف ذلك إل الخاصة من أهل العلم.
إن العامة من الناس ل يعرفون أن الحبة توجد لها حياة مرئية ،ويكمن فيها نمو غير ظاهر ،ول
يعرف العامة أن هناك فرقا بين شيء حي ،وشيء قابل لن يحيا.
ومثال ذلك نواة البلح التي نأخذها ونزرعها لتخرج منها النخلة ،إنها كنواة تظل مجرد نواة إلى أن
يأخذها النسان ،ويضعها في بيئتها؛ لتخرج منها النخلة.
إذن فالنواة قابلة للحياة ،وعندما ننظر إلى ذرات التراب فإننا ل نستطيع أن نضعها في بيئة لنصنع
منها شيئا ،ورغم ذلك فإن لذرة التراب حركة .ويقول العلماء :إن الحركة الموجودة في ذرات
رأس عيدان علبة كبريت واحدة تكفي لدارة قطار كهربائي بإمكانه أن يلف حول الكرة الرضية
عددا من السنوات.
إن هذه أمور يعرفها الخاصة ،ول يعرفها العامة .فإن نظرنا إلى العامة عندما يسمعون القول
حيّ { كانوا يقولون :إن المثل على ذلك نواة
ت وَتُخْرِجُ اَلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ
الحق } :وَتُخْرِجُ ا ْل َ
البلح ،وكانوا يعرفون أن النخلة تنمو من النواة .ولكن الخاصة بحثوا واكتشفوا أن في داخل النواة
حياة وعرفوا كيفية النمو ..وعرف العلماء أن لكل شيء في الوجود حياة مناسبة لمهمته ..فليست
الحياة هي الحركة الظاهرة والنمو الواضح أمام العين فقط ،ل ،بل إن هناك حياة في كل شيء.
إن العامة يمكنهم أن يجدوا المثال الواضح على أن الحق يخرج الحي من الميت ويخرج الميت
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من الحي ،أما الخاصة فيعرفون قدرة ال عن طريق معرفتهم أن كل شيء فيه حياة ،فالتراب
الذي نضع فيه البذر لو أخذنا بعضا منه في مكان معزول ،فلن يخرج منه شيء ،هذا التراب هو
ما يصفه العلماء بوصف " الميت في الدرجة الولى " وأما النواة التي يمكن أن تأخذها وتضعها
في هذا التراب ،فيصفها العلماء بأنها " الميت من الدرجة الثانية ".
وعندما ننقل الميت في الدرجة الولى ليكون وسطا بيئيا للميت في الدرجة الثانية تظهر لنا نتائج
تدلل على حياة كل من التراب والنواة معا ،وقد مس القرآن ذلك مسا دقيقا ،لن القرآن حين
يخاطب بأشياء قد تقف فيها العقول فإنه يتناولها التناول الذي تتقبلها به كل العقول ،فعقل الصفوة
يتقبلها وعقل العامة يتقبلها أيضا ،لن القرآن عندما يلمس أي أمر إنما يلمسه بلفظ جامع راق
يتقبله الجميع ،ثم يكتشف العقل البشري نفاصيل جديدة في هذا المر.
إن القرآن على سبيل المثال لم يقل لنا :إن الذرة فيها حركة وحياة وفيها شحنات من لون معين
من الطاقة ،ولكن القرآن تناول الذرة وغيرها من الشياء بالبيان اللهي القادر ،وخصوصا أن هذه
الشياء لم يترتب عليها خلف في الحكم أو المنهج .فلو عرف النسان وقت نزول القرآن أن
الذرة بها حياة فماذا الذي يزيد من الحكام؟ ولو أن أحدا أثبت أن الذرة ليس بها حياة فما الذي
ينقص من أحكام المنهج اليماني؟ لم يكن المر من ناحية الحكام ليزيد أو لينقص ،وعندما نأخذ
القرآن مأخذ الواعين به ،ونفهم معطيات اللفاظ فإننا نجد أن كلمة " الحياة " لها ضد هو " الموت
" ،وقد ترك الحق سبحانه كلمة " الموت " في بعض المواقع من الكتاب الكريم وأورد لنا كلمة
أخرى هي " الهلك " قال الحق سبحانه:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل ،أي أن الحق يدخل النهار في الليل ،ويدخل الليل
في النهار .وفي اللغة يسمون بطانة الرجل -أي خاصة أصدقائه " -الوليجة " لماذا؟ لنها
تتداخل فيه ،لنك إن أردت أن تعرف سر واحد من البشر فاجلس مع صديق له أو عددٍ من
أصدقائه الذين يتداخلون معه.
لذلك جاء أمر إيلج الليل في النهار وإيلج النهار في الليل بالوضوح الكامل ،وجاءت مسألة
الحياة والموت بألفاظ يمكن أن يفهمها كل من العامة والخاصة .وإذا كانت تلك الظواهر هي بعض
من قدرات ال فمن إذن يستكثر على ال قدرته في أنه يؤتي الملك من يشاء ،ويعز من يشاء،
وينزع الملك ممن يشاء ،ويذل من يشاء؟ لقد جاء الدليل من اليات الكونية ،ونراه كل يوم رأي
العينُ } .قلِ الّل ُهمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكُِ ..تؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ َتشَآ ُء وَ ُتعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُ ِذلّ
شيْءٍ قَدِيرٌ {.إنك أنت يا ال ،الذي أجريت في كونك كل هذه
مَن تَشَآءُ بِيَ ِدكَ ا ْلخَيْرُ إِ ّنكَ عَلَىا ُكلّ َ
المسائل وهي كلها أمور من الخير ،وإن بدا للبعض أن الخير فيها غير ظاهر.
إن النسان عندما يرى في ابنه شيئا يحتاج إلى علج فإنه يسرع به إلى الطبيب ويرجوه أن يقوم
بكل ما يلزم لشفاء البن ،حتى ولو كان المر يتطلب التدخل الجراحي .إن الب هنا يفعل الخير
للبن ،والبن قد يتألم من العلج ،فإذا كان هذا أمر المخلوق في علقته بالمخلوق ،فما بالنا
بالخالق الكرم الذي يجري في ملكه ما يشاء ،إيتاء ملك أو نزعه ،وإعزازا أو إذلل ،فكل ذلك ل
بد أن يكون من الخير ،وآيات ال تشهد بأن ال على كل شيء قدير لذلك يأتي بعد الية السابقة
قوله:
حيّ
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ وَتُخْرِجُ اَلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ
} تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي الْ ّنهَا ِر وَتُولِجُ ال ّنهَارَ فِي الْلّ ْيلِ وَتُخْرِجُ ا ْل َ
حسَابٍ { [آل عمران]27 :
وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
فإذا كان هناك إنسان لم يفطن أبدا لمسألة إيلج الليل في النهار أو إخراج الحي من الميت ،فإنه ل
بد أن يلتفت إلى رزقه ،فكل واحد منا يتصل برزقه قهرا عنه ،ولذلك جاء الحق سبحانه بهذا
حسَابٍ { وساعة تسمع كلمة " حساب " فإنك تعرف أن
المر الواضح } :وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
الحساب هو كما قلنا سابقا :يبين لك مالك وما عليك.
حسَابٍ { .فإننا نعلم أن " الحساب " يقتضي "
وعندما نتأمل قول الحق } :وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
محاسبا " -بكسر السين ويقتضي " محاسبا " -بفتح السين ويقتضي " محاسبا عليه " ،إن
الحساب يقتضي تلك العناصر السابقة .فعندما يقول الحق } :وَتَرْزُقُ مَن َتشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ { فلنا
أن نقول :ممن؟ ولمن؟ من أين يأتي الرزق؟ وإلى أين؟ إنه يأتي من ال ،ويذهب إلى ما يقدره ال
لن ال هو الرزّاق ،وهو الحق وحده ،وهو الذي ل يستطيع ول يجرؤ أحد على حسابه ،فهو
سبحانه الذي يحاسبنا جميعا ،ل شريك له ،وهو الفعال لما يريد.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الحساب يجريه ال على الناس ،وهو سبحانه ل يعطي الناس فقط على قدر حركتهم في
الوجود ،بل يرزقهم أحيانا بما هو فوق حركتهم .وقد يرزقك ال من شيء لم يكن محسوبا عندك؛
لن معنى الحساب هو ذلك المر التقديري الذي يخطط له النسان ،كالفلح الذي يحسب عندما
يزرع الفدان ويتوقع منه نتاجا يساوي كذا إردبا أو قنطارا ،أو الصانع الذي يقدر لنفسه دخل
محددا من صنعته .هذا هو الحساب ،لكن النسان قد يلتفت فيجد أن عطاء ال له من غير حساب.
وقد يحسب النسان مرة ول يأتي له الرزق.
مثال ذلك :قالوا :إن دولة أعلنت أنها زرعت قمحا يكفي الدنيا كلها ،ولكن عندما نضج المحصول
هبت عاصفة أهلكت الزرع ،وأكلت هذه الدولة قمحها من الخارج .فمن قالوا عن أنفسهم :إنهم
سيطعمون الناس أطعمهم الناس.
أليس ذلك مصداقا لقول الحق " :من غير حساب "؟ إنه الحق سبحانه ل يحسب حركتك إيها
النسان ليعطيك قدرها ،ولكنه قد يعطيك أحيانا فوق حركتك.
ونحن نرى إخوتنا الذين أفاض ال عليهم بثروة البترول ،لقد تفجر البترول من تحت أرجلهم دون
جهد منهم إنه ال يريد أن يلفت الناس إلى قدرته جل وعل ،وأن الرزاق في يده هو .وننظر إلى
الناس الذين يشيرون إلى منطقة البترول فيتهمون أهلها بالكسل ،ونجد ان الحق سبحانه وتعالى قد
سخر لهم غير الكسالى ليخدموهم ،وعندما أفاء على المنطقة العربية بالبترول احتاجت لهم الدول
التي تقول عن نفسها :أنها متقدمة ،إنه رزق بغير حساب.
إن هذه اللفتات إنما تؤكد للمؤمن طلقة القدرة ،إن الحق قد خلق السباب ،ولم يترك السباب
تتحكم وحدها ،وقد يترك الحق السباب للنسان ليعمل بها ،وقد ل يعطيه منها ،ويعطي الحق
النسان من جهة أخرى لم يحسب لها حسابا .والنسان الذي يتأمل تقدير أموره أو أمور من
يعرف يجد أن تلك القضية منتشرة في كل الخلق ،إنه سبحانه يرزق بغير حساب ،ول يقول " :لقد
فعلت على قدر يساوي كذا " ،والحق سبحانه يعطي بغير حساب من النسان ،لن الموازنة التي
قد يقوم بها النسان قد يأتي لها من السباب ما يخرقها.
إذن } وَتَرْزُقُ مَن َتشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ { تعني قدرة الحق المطلقة على الرزق بغير حساب ول
توجد سلطة أعلى منه تقول له :لماذا فعلت؟ أو ماذا أعطيت؟ أو من غير حساب منه سبحانه
لخلقه ،فيأتي الرزق على ما هو فوق أسباب الخلق ،أو من غير حساب للناس المرزوقين فيأتي
رزقهم من حيث لم يقدروا ،فإذا كانت كل هذه المور ل ،وهو مالك الملك ويعطي من يشاء،
ويعز من يشاء ،ويولج الليل في النهار ،ويرزق من يشاء بغير حساب ،أليس من الحمق أن يذهب
إنسان ليوالي من ل سلطان له ويترك هذا السلطان ،إن من يوالي غير ال هو الذي استبد به
الغباء .ولنفطن لتلك القضية اليمانية :إي فما دامت كل المور عندي فإياكم أن توالوا خصومى،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خذُواْ بِطَانَةً مّن دُو ِنكُمْ
لنني أنا الذي بيده كل شيء ،هاهوذا القول الحق {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تَتّ ِ
خفِي صُدُورُ ُهمْ َأكْبَرُ قَدْ بَيّنّا َلكُمُ
ل وَدّواْ مَا عَنِتّمْ َقدْ بَ َدتِ الْ َب ْغضَآءُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِ ْم َومَا تُ ْ
لَ يَ ْألُو َنكُمْ خَبَا ً
اليَاتِ إِنْ كُنْ ُتمْ َت ْعقِلُونَ }[آل عمران.]118 :
إنه الحق يأمرنا أل نوالي إل ال ،فإن كنت تجري حسابا لكل شيء وبتقدير مؤمن فل توال إل
صاحب هذه الشياء ،وإياك أن تعمد إلى عدو لهذه القوة القاهرة القادرة المستبده في كل امور
الكون ونواميسه ،إياك أن تعمد الى أعداء ال لتتخذ منهم أولياء؛ لنك لو فعلت تكون غير صائب
التفكير.
()419 /
أنت ل تتخذ الكافر وليا إل إن بانت لك مظاهر القوة فيه ،ومظاهر الضعف فيك ،إنك عندما تتأمل
معنى كلمة " ولي " .تجد أن معناها " معين " وحين تقول " :ال هو الولي " فإننا نستخدم الكلمة
هنا على إطلقها ،إن كلمة الولي تضاف إلى ال على إطلقها ،وتضاف بالنسبية والمحدودية
جهُمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ }[البقرة.]257 :
لخلق ال ،فالحق يقول {:اللّ ُه وَِليّ الّذِينَ آمَنُواْ يُخْ ِر ُ
خ ْوفٌ عَلَ ْي ِه ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ }
إن ال ولي على إطلقه ،والحق يقول {:أَل إِنّ َأوْلِيَآءَ اللّ ِه لَ َ
[يونس.]62 :
إن المفرد لولياء ال هو " ولي ال " ،فالمؤمن ولي ال ،والحق يقول {:هُنَاِلكَ ا ْلوَلَيَةُ لِلّهِ ا ْلحَقّ
عقْبا }[الكهف.]44 :
ُهوَ خَيْرٌ َثوَابا َوخَيْرٌ ُ
هكذا نلحظ أن الولية قد تضاف مرة إلى ال ،ومرة إلى خلق ال .إن ال ولي المؤمن ،وهذا أمر
مفهوم ،وقد نتساءل :كيف يكون المؤمن ولي ال؟ إنا نستطيع أن نفهم هذا المعنى كما يلي :إن ال
هو المعين للعباد المؤمنين فيكون ال ولي الذين آمنوا ،أي معينهم ومقويهم .وأولياء ال ،هم الذين
ينصرون ال ،فينصرهم ال ،وهو -سبحانه -الحق الذي قال {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ
اللّهَ يَنصُ ْركُمْ وَيُثَبّتْ َأ ْقدَا َمكُمْ }[محمد.]7 :
ألم يكن ال قادرا أن ينتقم من الكفار مرة واحدة وينتهي من أمرهم؟ ولكن الحق سبحانه قال{:
شفِ صُدُورَ َقوْمٍ ّم ْؤمِنِينَ }[التوبة.]14 :
قَاتِلُوهُمْ ُيعَذّ ْب ُهمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُ ْم وَ ُيخْزِهِ ْم وَيَ ْنصُ ْركُمْ عَلَ ْي ِه ْم وَيَ ْ
إن الحق لو قاتلهم فإن قتاله لهم سيكون أمرا خفيا ،وقد يقولون :إن هذه مسائل كونية في الوجود،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك يأتي بالقتال للمؤمنين الذين استضعفهم الكافرون .إذن مرة تُطلق " الولي " ويراد بها "
المعين " .ومرة أخرى تُطلق كلمة " الولي " ويراد بها " المعان " .لنك إن كنت أنت ولي ال،
وال وليك فإنه الحق سبحانه " معين " لك وأنت " معان ".
إن الحق سبحانه يريد لمنهجه ان يسود بإيمان خلقه به ،وإل لكان الحق سبحانه وتعالى قد استخدم
طلقة قدرته على إرغام الناس على أن يكونوا طائعين ،فل أحد بقادر على أن يخرج عن قدرة
ال ،والنسان عليه أن يفكر تفكيرا واضحا ،ويعرف أن حياته بين قوسين :بين قوس ميلده
وقوس وفاته ول يتحكم النسان في واحد من القوسين ،فلماذا يحاول التحكم في المسافة بين
سمَاوَاتِ
القوسين؟ إذن القواميس الكونية بيد ال وتسير كالساعة ،إنه سبحانه يقول {:لَخَ ْلقُ ال ّ
وَالَرْضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ وَلَـاكِنّ َأكْـثَرَ النّاسِ لَ َيعَْلمُونَ }[غافر.]57 :
إن شيئا لم يخرج عن مراد الخالق العظم .إنما الحق سبحانه وتعالى أخذ هذه المسائل في حركة
السماوات والرض بقوة قهره وقدرة جبروته ،فل شيء يخرج من يده ،أما بالنسبة للعباد فهو
سبحانه يريد ان يأخذ قوما بحب قلوبهم.
إن اليمان طريق متروك لختيار النسان ،صحيح أن الحق قادر على أن يأتي بالناس مؤمنين،
ولكنه يريد أن يرى من يجيء إليه وهو مختار أل يجيء.
إن تسخير الشياء يظهر لنا صفة القدرة الكاملة ل ،واختيارات النسان هي التي تظهر صفة
المحبوبية ل ،وال يريد لنا أن نرى قدرته ،ويريد منا أن نتجه إليه بالمحبوبية لذلك يقول الحق} :
لّ يَتّخِذِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَآءَ مِن دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { لماذا؟ لن الكافرين وإن تظاهروا أنهم
أولياء لك أيها المؤمن ،فهم يحاولون أن يجعلوك تستنيم لهم ،وتطمئن إليهم وربما تسللوا بلطف
ودقة ،فدخلوا عليك مدخل المودة ،وهم ليسوا صادقين في ذلك ،لنهم ما داموا كافرين ،فليس
هناك التقاء في الصل بين اليمان والكفر؛ لذلك يقول الحقَ } :ومَن َي ْف َعلْ ذاِلكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي
شيْءٍ {.
َ
إن من يتخذ هؤلء أولياء له ،فليس له نصيب من نصرة ال ،لماذا؟ لنه اعتقد إن هؤلء الكافرين
قادرون على فعل شيء له .لذلك يحذرنا ال ويزيد المعنى وضوحا أي :إياكم أن تغتروا بقوة
الكافرين وتتخذوا منهم أولياء .ول تقل أيها المؤمن " :ماذا أفعل؟ " لن ال ل يريد منك إل أن
طعْتُمْ مّن ُق ّوةٍ َومِن رّبَاطِ الْخَ ْيلِ
تبذل ما تستطيع من جهد ،ولذلك قال سبحانه {:وَأَعِدّواْ َلهُمْ مّا اسْتَ َ
شيْءٍ فِي
ع ْدوّ اللّ ِه وَعَ ُد ّوكُ ْم وَآخَرِينَ مِن دُو ِنهِ ْم لَ َتعَْلمُو َنهُمُ اللّهُ َيعَْل ُمهُ ْم َومَا تُنفِقُواْ مِن َ
تُرْهِبُونَ بِهِ َ
سَبِيلِ اللّهِ ُيوَفّ إِلَ ْيكُمْ وَأَنْتُ ْم لَ تُظَْلمُونَ }[النفال.]60 :
طعْتُمْ { .إن على
عدّواْ َلهُمْ مّا اسْ َت َ
إن الحق لم يقل " :أعدوا لهم ما تغلبونهم به " ،ولكنه قال } :أَ ِ
المؤمن أن يعمل ما في استطاعته ،وأن يدع الباقي ل ،ولذلك فهناك قضية قد يقف فيها العقل،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن ال يطمئننا؛ أي :ل تخافوا ول تظنوا أن أعدادهم الكبيرة قادرة على أن تهزمكم ،ول تسأل:
" ماذا أفعل يا ال "؟ لقد علمنا الحق أل نقول ذلك ،وعلمنا ما يحمينا من هذا الموقف لذلك قال{:
ق وَاضْرِبُواْ مِ ْنهُمْ ُكلّ بَنَانٍ }[النفال:
ق الَعْنَا ِ
عبَ فَاضْرِبُواْ َفوْ َ
سَأُ ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ َكفَرُواْ الرّ ْ
.]12
إذن فساعة يلقي ال في قلوب الذين كفروا الرعب فماذا يصنعون مهما كان عددهم أو عدتهم؟
أليس في ذلك نهاية للمسألة؟ إن الرعب هو جندي ضمن جنود ال ،ولذلك فعلى المؤمن أل يوالي
الكافرين من دون المؤمنين ،لماذا؟ حتى ل ينطبق عليه القول الحقَ " :ومَن َي ْفعَلْ ذاِلكَ فَلَيْسَ مِنَ
حذّ ُركُمُ اللّهُ َنفْسَ ُه وَإِلَىا
شيْءٍ " ويضع الحق بعد ذلك الستثناءِ } :إلّ أَن تَ ّتقُواْ مِ ْنهُمْ ُتقَا ًة وَيُ َ
اللّهِ فِي َ
اللّهِ ا ْل َمصِيرُ {.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي المنهج للنسان وهو من خلقه سبحان ،ويعرف كل غرائزه،
وانفعالته ،وفكره ،وفي أنه قد تأتي له ظروف أقوى من طاقته ،لذلك يعامل الحق النسان على
أنه مخلوق محدود القدرات؛ وفي موضع آخر جاء الحق باستثناء آخر فقالَ {:ومَن ُيوَّلهِمْ َي ْومَئِذٍ
جهَنّ ُم وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }
ضبٍ مّنَ اللّهِ َومَأْوَاهُ َ
دُبُ َرهُ ِإلّ مُتَحَرّفا ّلقِتَالٍ َأوْ مُتَحَيّزا ِإلَىا فِئَةٍ َفقَدْ بَآءَ ِب َغ َ
[النفال.]16 :
إن الحق يقول في هذا الموضع من سورة آل عمران } :لّ يَتّخِذِ ا ْل ُمؤْمِنُونَ ا ْلكَافِرِينَ َأوْلِيَآءَ مِن
شيْءٍِ ،إلّ أَن تَ ّتقُواْ مِ ْنهُمْ ُتقَاةً {.
دُونِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َومَن َي ْف َعلْ ذاِلكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي َ
" وتقاة " مأخوذة من " الوقاية " .إنهم قد يكونون أقوياء للغاية ،وقد ل يملك المؤمن بغلبه الظن في
أن ينتصر عليهم؛ وهم الكافرون ،فل مانع من أن يتقي المؤمن شرهم.
إن التقية رخصة من ال ،روى :أن مسيلمة الكذاب جاء برجلين من المسلمين وقال لواحد منهما:
" أتشهد أن محمدا رسول ال "؟ قال المؤمن " نعم " :قال مسيلمة " :وتشهد أني رسول ال؟ " قال
المؤمن " :نعم " .وأحضر مسيلمة المسلم الخر وقال له " :أتشهد أن محمدا رسول ال؟ " قال
المؤمن " :نعم " .قال مسيلمة " :أتشهد أني رسول ال؟ " قال المؤمن الثاني " :إني أصم " كيف رد
عليه المؤمن بدعوى الصمم؟ لقد علم مسيلمة أنه يدعي الصمم ،لذلك أخذه وقلته ،فرفع المر إلى
سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فماذا قال؟ قال صلى ال عليه وسلم " :أما المقتول..فقد
صدع بالحق فهنيئا له ،وأما الخر فقد أخذ برخصة ال " .فالتقية رخصة،والفصاح بالحق
فضيلة..
وعمار بن ياسر أخذ بالرخصة وبلل بن رباح تمسك بالقرعة.
ولننظر إلى حكمة التشريع في هذا المر .إن كل مبدأ من مبادئ الخير جاء ليواجه ظاهرة من
ظواهر الشر في الوجود ،وهذا المبدأ يحتاج إلى منهج يأتي من حكيم أعلى منه ،ويريد صلبة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقين ،وقوة عزيمة ،كما يريد تحمل منهج ،فالتحمل إنما يكون من أجل أن يبقى المنهج للناس،
والعزيمة من أجل أن يواجه المؤمن الخصوم ،فلو لم يشرع ال التقية بقولهِ {:إلّ مَنْ ُأكْ ِر َه َوقَلْبُهُ
طمَئِنّ بِالِيمَانِ }[النحل.]106 :
مُ ْ
لكنا حقيقة سنحقق الفدائية التي تفدي مناهج الحق بالتضحية بالحياة رخيصة في سبيل ال ،ولكن
هب ان كل مؤمن وقف هذا الموقف فمن يحمل علم ال إلى الخرين؟ لذلك يشرع الحق سبحانه
وتعالى التقية من أجل أن يبقى من يحمل المنهج ،إنه يقرر لنا الفداء للعقيدة ،ويشرع لنا التقية من
أجل بقاء العقيدة .لقد جاء الحق بالمرين :أمر الوقوف في وجه الباطل بالستشهاد في سبيل
الحق ،وأمر التقية حماية لبعض الخلق حتى ل يضيع المنهج الحق لو جاء جبار ،واستأصل
المؤمنين جميعا ،لذلك يشرع الحق ما يبقى للفداء قوما ،ويبقى للبقاء قوما ليحملوا منهج ال ،هل
عرفنا الن لماذا جاءت التقية؟ لن الحق سبحانه وتعالى يريد منهجا يعمر الرض ،ويورث
للجيال المتتالية ،فلو أن الحق لم يشرع التقية بقوله:
()420 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ض وَاللّهُ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْر ِ
خفُوا مَا فِي صُدُو ِركُمْ َأوْ تُ ْبدُوهُ َيعَْلمْهُ اللّهُ وَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ
ُقلْ إِنْ تُ ْ
شيْءٍ قَدِيرٌ ()29
عَلَى ُكلّ َ
لن النسان قد يقوم بالتقية كظاهرة شكلية ،أما المؤمن فل يفعل ذلك أبدا .لماذا؟ لن التحذير
واضح في هذه الية .هنا قد يقول قائل :إن إخفاء ما في الصدر هو الذي يعلمه ال أما إبداء ما
في الصدر فإنه قد علمه أحد غير ال ،فلماذا جاء هذا القول؟ لقد جاء هذا القول الحكيم ،لنه قد
يطرأ على بالك أن ال غيب فهو يعلم الغيب فقط ول يعلم المشهد .لكن ال ل يحجبه مكان عن
مكان أو زمان عن زمان .فإياك أن تعتقد ان ال غيب فل يعرف إل الغيب .إن الحق يعلم الغيب
عمَِلتْ مِنْ خَيْرٍ
ويعلم ما برز إلى الوجود .وبعد ذلك يقول الحقَ { :يوْمَ َتجِدُ ُكلّ َنفْسٍ مّا َ
حضَرا} ...
مّ ْ
()421 /
عمَِلتْ مِنْ سُوءٍ َتوَدّ َلوْ أَنّ بَيْ َنهَا وَبَيْنَهُ َأمَدًا َبعِيدًا
حضَرًا َومَا َ
عمَِلتْ مِنْ خَيْرٍ مُ ْ
جدُ ُكلّ َنفْسٍ مَا َ
َيوْمَ تَ ِ
س ُه وَاللّهُ َرءُوفٌ بِا ْلعِبَادِ ()30
وَيُحَذّ ُر ُكمُ اللّهُ َنفْ َ
إن العمل في ذاته ظاهرة تحدث وتنتهي ،فكيف يأتي النسان يوم القيامة ،ويجد عمله؟ إنه ل شك
سوف يجد جزاء عمله ،إننا حتى الن نقول ذلك ،لكن حين يفتح ال على بعض العقول فتكتشف
أسرارا من أسرار الكون فقد يكون تفسير هذه الية فوق ما نقول ،إنهم الن يستطيعون تصوير
شريط لعمل ما وبعد مدة يقول النسان للخر :انظر ماذا فعلت وماذا قلت إن العمل المسجل
بالشريط يكون حاضرا ومصورا ،فإذا كنا نحن البشر نستطيع أن نفعل ذلك بوسائلنا فماذا عن
وسائل الحق سبحانه وتعالى؟ ل بد أنها تفوقنا قدرة ،إنه الحق يعلم كل شيء ،في الصدر ،أو في
السماوات أو في الرض :إن الحكم اللهي يشمل الكون كله مصداقا لقول الحق {:وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ
سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي
ا ْلغَ ْيبِ لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُه َو وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ َومَا َت ْ
ب َولَ يَابِسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }[النعام.]59 :
ط ٍ
ت الَ ْرضِ وَلَ رَ ْ
ظُُلمَا ِ
شيْءٍ قَدِيرٌ } إنه القادر الذي يعلم عنا الغفلة ،فينبهنا
ويختم الحق هذه الية بقوله { :وَاللّهُ عَلَىا ُكلّ َ
شيْءٍ َقدِيرٌ } ونحن مخلوقون ل،
دائما إلى كمال قدرته ،كما قال في آية قبلها { :إِ ّنكَ عَلَىا ُكلّ َ
وهو القادر العلى ،القادر على كل شيء ويأتي لكل منا بكتاب حسابه يوم الحساب {:فََأمّا مَنْ
أُو ِتيَ كِتَابَهُ بِ َيمِينِهِ فَ َيقُولُ هَآؤُمُ اقْ َرؤُاْ كِتَابيَهْ }[الحاقة.]19 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حضَرا } يعني أنه يجد جزاء
عمَِلتْ مِنْ خَيْرٍ مّ ْ
إذن فمن تقف في عقله هذه المسألة ،فليقل { :مّا َ
عمله .أما ما عملته النفس من السوء فهي تود أن يكون بينه وبينها أمد بعيد ،أي غاية بعيدة،
ويقول النسان لنفسه " :يا ليتها ما جاءت " .والحق سبحانه يقول { :وَيُحَذّ ُركُمُ اللّهُ َنفْسَهُ وَاللّهُ
َرؤُوفٌ بِا ْلعِبَادِ } إن الحق سبحانه يكرر التحذير لنستحضر قوته المطلقة ،ولكنه أيضا رءوف بنا
رحيم ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانهُ { :قلْ إِن كُنتُمْ تُحِبّونَ اللّهَ فَاتّ ِبعُونِي ُيحْبِ ْبكُمُ اللّهُ} ...
()422 /
ولنا أن نعرف أن كل " قل " إنما جاءت في القرآن كدليل على أن ما سيأتي من بعدها هو بلغ
من الرسول صلى ال عليه وسلم عن ربه ،بلغ للمر وللمأمور به ،إن البعض ممن في قلوبهم
زيغ يقولون :كان من الممكن أن يقول الرسول { :إِن كُنتُمْ ُتحِبّونَ اللّهَ فَاتّ ِبعُونِي يُحْبِ ْبكُمُ اللّهُ }
لهؤلء نقول :لو فعل الرسول صلى ال عليه وسلم ذلك لكان قد أدى " المأمور به " ولم يؤد المر
بتمامه .لماذا؟ لن المر في " قل " ..والمأمور به { إِن كُنتُمْ ُتحِبّونَ اللّهَ } وكأن الرسول صلى ال
عليه وسلم في كل بلغ عن ال بدأ بـ " قل " إنما يبلغ " المر " ويبلغ " المأمور به " مما يدل
على أنه مبلغ عن ال في كل ما بلغه من ال.
إن الذين يقولون :يحب أن تحذف " قل " من القرآن ،وبدل من أن نقولُ { :قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ }
فلننطقها " :ال أحد " .لهؤلء نقول :إنكم تريدون أن يكون الرسول قد أدى " المأمور به " ولم يؤد
" المر ".
إن الحق يقولُ { :قلْ إِن كُنتُمْ ُتحِبّونَ اللّهَ فَاتّ ِبعُونِي ُيحْبِ ْبكُمُ اللّهُ } هذه الية تدل على ماذا؟ إنهم ل
بد قد ادعوا أنهم يحبون ال ،ولكنهم لم يتبعوا ال فيما جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم،
فكأنهم جعلوا الحب ل شيئا ،واتباع التكليف شيئا آخر ،وال سبحانه وتعالى له على خلقه إيجاد،
وإمداد ،وتلك نعمة ،ول على خلقه فضل التكليف؛ لن التكليف إن عاد على ال ُمكَلّف " بفتح الكاف
وتشديد اللم " ولم يعد منه شيء على ال ُمكَلّف بكسر الكاف فهذه نعمة من المكلّف.
إن الحق سبحانه ل يحتاج إلى أحد ول من أحد .إن الحق سبحانه عندما كلفنا إنما يريد لنا أن نتبع
قانون صيانة حياة النسان .وقد ضربنا المثل -ول المثل العلى ،باللة المصنوعة بأيدي البشر،
إن المهندس الذي صممها يضع لها قانون صيانة ما ،ويضع قائمة تعليمات عن كيفية استعمالها؛
وهي تتلخص في " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " ،ويختار لهذه اللة مكانا محددا ،وأسلوبا منظما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للستخدام.
إذن فوضع قائمة بالقوانين الخاصة بصيانه واستعمال آلة ما وطبعها في كراسة صغيرة ،هي
لفائدة المنتفع بالصنعة .هذا في مجال الصنعة البشرية فما بالنا بصنعة ال عز وجل؟ إن ل إيجادا
للنسان ،ول إمدادا للنسان ،ول تكليفا للنسان ،والحق قد جعل التكليف في خدمة اليجاد
والمداد .إن الحق لو لم يعطنا نظام حركة الحياة في " افعل " و " ل تفعل " لفسد علينا اليجاد
والمداد ،إن من تمام نعمة الحق على الخلق أن أوجد التكليف ،وإن كان العبد قد عرف قدر ال
فأحبه لليجاد والمداد فليعرف العبد فضل ربه عليه أيضا من ناحية قبول التكليف ،وأن يحب
العبد ربه لنه كلفة بالتكاليف اليمانية.
إنك قد تحب ال ،ولكن عليك أن تلحظ الفرق بين أن تحب أنت ال ،وأن يحبك ال .إن التكليف
قد يبدو شاقا عليك فتهمل التكليف؛ لذلك نقول لك :ل يكفي أن تحب ال لنعمة إيجاده وإمداده؛
لنك بذلك تكون أهملت نعمة تكلفيه التي تعود عليك بالخير ،إن نعمة التكليف تعود عليك بكل
الخير عندما تؤديها أيها النسان ،فل تهملها ،ومن الجائز أن تجد عبادا يحبون ال لنه أوجدهم
وأمدهم بكل أسباب الحياة ،ولكن حب ال لعبده يتوقف على أن يعرف العبد نعمته -سبحانه -
في التكليف ،إن ال يحب العبد الذي يعرف قيمة النعمة في التكليف.
ونحن في مجالنا البشري نرى إنسانا يحب إنسان آخر ،ل يبادله العاطفة ،والمتنبي قال:أنت
الحبيب ولكني أعوذ به من أن أكون حبيبا غير محبوبإن المتنبي يستعيذ أن يحب واحدا ل يبادله
الحب .فكأن الذين يدعون أنهم يحبون ال ،لنهم عبيد إحسانه إيجادا وإمدادا ،ثم بعد ذلك
يستنكفون ،أول يقدرون على حمل نفوسهم على أداء التكليف لهؤلء نقول :أنتم قد منعتم شطر
الحب ل ،لن ال لن يكلفكم لصالحه ولكنه كلفكم لصالحكم؛ لن التكليف ل يقل عن اليجاد
والمداد.
لماذا؟ لن التكليف فيه صلح اليجاد والمداد ،والحب -كما نعرف -هو ودادة القلب وعندما
تقيس ودادة القلب بالنسبة ل ،فإننا نرى آثارها ،وعملها ،من عفو ،ورحمة ،ورضا.
وعندما تقيس ودادة القلب من العبد إلى ال فإنها تكون في الطاعة .إن الحب الذي هو ودادة القلب
يقدر عليه كل إنسان ،ولكن الحق يطلب من ودادة القلب ودادة القالب ،وعلى النسان أن يبحث
عن تكاليف ال ليقوم بها ،طاعة منه وحبا ل ،ليتلقى محبة ال له بآثارها ،من عفو ،ورحمة،
ورضا.
والحب المطلوب شرعا يختلف عن الحب بمفهومه الضيق ،أقول ذلك لنعلم جميعا ،أنه الحق
سبحانه قائم بالقسط ،فل يكلف شططا ,ول يكلف فوق الوسع أو فوق الطاقة .إن الحب المراد ل
في التكليف هو الحب العقلي ،ول بد أن نفرق بين الحب العقلي والحب العاطفي ،العاطفي ل يفنن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
له .ل أقول لك " :عليك أن تحب فلنا حبا عاطفيا " لن ذلك الحب العاطفي ل قانون له .إن
النسان يحب ابنه حتى ولو كان قليل الذكاء أو صاحب عاهة ،يحبه بعاطفته ،ويكره قليل الذكاء
بعقله.
والنسان حينما يرى ابن جاره أو حتى ابن عدوه ،وهو متفوق ،فإنه يحب ابن الجار أو ابن العدو
بعقله ،لكنه ل يحب ابن الجار أو العدو بعاطفته ،ودليل ذلك أن النسان عندما توجد لديه أشياء
جميلة فإنه يعطيها لبنه ل لبن الجيران ،هناك -إذن -فرق بن حب العقل ،وحب العاطفة.
والتكليف دائما يقع في إطار المقدور عليه وهو حب العقل ،ومع حب العقل قد يسأل النسان
نفسه :ماذا تكون حياتي وكيف ..لو لم أعتنق هذا الدين؟ وماذا تكون الدنيا وكيف ،لول رحمة ال
بنا عندما أكرمنا بهذا الدين؟ وأرسل لنا هذا الرسول الكريم؟ إن هذا حديث العقل وحب العقل.
وقد يتسامى الحب فيصير بالعاطفة أيضا ،لكن المكلف به هو حب العقل ،وليس الحب العاطفي،
ولذلك يجب أن نفطن إلى ما روى عن عمر بن الخطاب رضي ال عنه -حينما قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ".
وقف سيدنا عمر عند هذه النقطة فقال :أمعقول أن يكون الحب لك أكثر من النفس؟ إنني أحبك
أكثر من مالي ،أو من ولدي ،إنما من نفسي؟ ففي النفس منها شيء .وهكذا نرى صدق الداء
اليماني من عمر بن الخطاب رضي ال عنه وكررها النبي صلى ال عليه وسلم ثانيا ،وثالثا،
فعرف سيدنا عمر أنه قد أصبحت تكليفا وعرف أنها ل بد أن تكون من الحب المقدور عليه ،وهو
حب العقل ،وليس حب العاطفة .وهنا قال عمر " :الن يارسول ال؟ " فقال الرسول صلى ال
عليه وسلم " :الن يا عمر ،أي كمل إيمانك الن ،أي أن سيدنا عمر قد فهم المراد بهذا الحب وهو
الحب العقلي.
ونريد هنا أن نضرب مثل حتى ل تقف هذه المسألة عقبة في القلوب أو العقول -نقول -ول
المثل العلى :إن النسان ينظر إلى الدواء المر طعما ويسأل نفسه هل أحبه أو ل؟ إن النسان
يحب هذا الدواء بعقله ،ل بعاطفته.
إذن فحب العقل هو ودادة من تعلم أنه صالح لك ونافع لديك وإن كانت نفسك تعافه ،وعندما
تتضح لك حدود نفع بالشيء فأنت تحبه بعاطفتك إذا فالمطلوب للتكليف اليماني " الحب العقلي
" ،وبعد ذلك يتسامى ليكون " حبا عاطفيا " وهكذا يكون قول الحق } :إِن كُن ُتمْ تُحِبّونَ اللّهَ
فَاتّ ِبعُونِي يُحْبِ ْب ُكمُ اللّهُ { وهذا الحب ليس دعوى .إن النسان منا عندما يدعى أنه يحب إنسانا آخر،
فكل ما يتصل به يكون محبوبا ،ألم يقل الشاعر " :وكل ما يفعل المحبوب محبوب "؟ فإن كنتم
تحبون رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فاتبعوه بتنفيذ التكاليف اليمانية ،ولنلتفت إلى الفرق بين "
اتبعني " و " استمع لي ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن التباع ل يكون إل في السلوك ،فإن كانت تحب رسول ال فعليك أن ترى ماذا كان يفعل
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأن تفعل مثله ،أما إذا كنت تدعى هذا الحب ،ول تفعل مثلما
فعل رسول ال صلى فهذا عدم صدق في الحب ،إن دليل صدقكم في الحب المدعى منكم أن
تتبعوا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإن اتبعنا رسول ال نكون قد أخذنا التكليف من ال على
أنه نعمة ،ونقلبها من ال مع ما فيها من مشقة علينا ،فيحبنا ال؛ لننا آثرنا تكليفه على المشقة في
التكليف.
إن فهم هذه الية يقتضي أن نعرف أن الحق ينبهنا فكأنه يقول لنا :أنتم أحببتم ال لليجاد
والمداد ،وبعد ذلك وقفتم في التكليف لنه ثقيل عليكم ،وهنا نقول " :انظروا إلى التكليف أهو
لصالح من كلف أم هو لصالح من تلقى التكليف؟ " .إنه لصالح المكلّف أي الذي تلقى التكاليف.
وهكذا يجب أن نضم التكليف للنعم ،فتصبح النعم هي " نعم اليجاد " ،و " المداد " ،و " التكليف
" ،فإن أحببت ال لليجاد والمداد ،فهذا يقتضي أن تحبه أيضا للتكليف ،ودليل صدق الحب هو
قيام العبد بالتكليف ،وما دمت أنت قد عبرت عن صدق عواطفك بحبك ل ،فل بد أن يحبك ال،
وكل منا يعرف أن حبه ل ل يقدم ول يؤخر ،لكن حب ال لك يقدم ويؤخر.
إن قول الحق سبحانه وتعالى فيما يعلّمه لرسول ال ليقول لهم } :فَاتّ ِبعُونِي يُحْبِ ْب ُكمُ اللّهُ { أي أن
الرسول صلى ال عليه وسلم المرسل من عند ال جاء بكل ما أنزله ال ولم يكتم شيئا مما ُأمِرَ
بتبليغه ،فل يستقيم أن يضع أحد تفريقا بين رسول ال وبين ال ،لن الرسول صلى ال عليه وسلم
مبلغ عن ال كل ما أنزل عليه.
وبعد ذلك يقول الحق } :وَ َي ْغفِرْ َل ُكمْ ذُنُو َبكُمْ { إن مسألة } وَ َي ْغفِرْ َلكُمْ { هذه تتضمن ما تسميه
القوانين البشرية بالثر الرجعي ،فمن لم يكن في باله هذا المر؛ وهو حب ال ،واتباع الرسول
صلى ال عليه وسلم ،فعليه أن يعرف أن عليه مسئولية أن يبدأ في هذه المسألة فورا ويتبع
الرسول صلى ال عليه وسلم وينفذ التكليف اليماني ،وسيغفر له ال ما قد سبق ،وأي ذنوب
يغفرها ال هنا؟ إنها الذنوب التي فر منها بعض العباد عن اتباع الرسول ،فجاء الرسول صلى ال
عليه وسلم بالحكم فيها.
وهكذا نعرف ونتيقن أن عدالة ال أنه سبحانه لن يعاقب أحدا على ذنب سابق ما دام قد قبل العبد
أن ينفذ التكليف اليماني ،إن الذين أبلغهم رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يجب عليهم أن
يفطنوا بعقولهم إلى ما أعلنه الرسول لهم ،إن هذا المر ل يكون حجة إل بعد أن صار بلغا ،وقد
غفُورٌ
جاء البلغ ،ولذلك يغفر ال الذنوب السابقة على البلغ ،وبعد ذلك يقول الحق } :وَاللّهُ َ
رّحِيمٌ { إننا نعلم أن المغفرة من ال والرحمة منه أيضا ،وبعد ذلك يقول الحقُ } :قلْ َأطِيعُواْ اللّهَ
وَالرّسُولَ{ ...
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()423 /
وقد قلت من قبل في مسألة المر بالطاعة ،إنها جاءت في القرآن الكريم على ثلثة ألوان :فمرة
يقول الحق { :أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ } .كما جاء بهذه الية التي نحن بصدد تناولها بخواطرنا
اليمانية .ونلحظ هنا أن الحق سبحانه لم يكرر أمر الطاعة ،بل جعل المر واحدا ،هو " أطيعوا
" ،فإذا سألنا من المطاع؟ تكون الجابة .ال والرسول معا.
إذن فقول الرسول صلى ال عليه وسلم بلغا عن ال { فَاتّ ِبعُونِي ُيحْبِ ْبكُمُ اللّهُ } يعني أن طاعة
المؤمنين للرسول من طاعة ال .إن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يأمرنا بطاعته ،ولكنه يأمرنا
بطاعة ال ،ولذلك لم يكرر الحق أمر الطاعة ،إنّ الحق هنا يوحد أمر الطاعة فيجعلها ل
وللرسول معا ،إنه يعطف على المطاع الول وهو ال بمطاع ثانٍ هو الرسول صلى ال عليه
وسلم .ويقول الحق في كتابه العزيزُ {:قلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ فَإِن َتوَّلوْاْ فَإِ ّنمَا عَلَ ْيهِ مَا
لغُ ا ْلمُبِينُ }[النور.]54 :
حمّلْتُ ْم وَإِن تُطِيعُوهُ َتهْتَدُو ْا َومَا عَلَى الرّسُولِ ِإلّ الْبَ َ
ل وَعَلَ ْيكُمْ مّا ُ
ح ّم َ
ُ
إن الحق يورد أمر الطاعة ثلث مرات ،فمرة يكون أمر الطاعة ل ،ومرة ثانية يكون أمر الطاعة
للرسول صلى ال عليه وسلم ،ومرة ثالثة يقول الحق {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ
شيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّ ِه وَالرّسُولِ إِن كُنْ ُتمْ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّهِ
لمْرِ مِ ْنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي َ
ل وَُأوْلِي ا َ
الرّسُو َ
وَالْ َيوْمِ الخِرِ ذاِلكَ خَيْ ٌر وََأحْسَنُ تَ ْأوِيلً }[النساء.]59 :
فما مسألة هذه الوامر بالطاعة؟ إنها طاعة بألوان التكليف وأنواعها ،إن الحكام المطلوب من
المؤمنين أن يطيعوا فيها ،مرة يكون المر من ال قد جاء بها وأن يكون الرسول قد أكدها بقوله
وسلوكه ،إن المؤمن حين يطيع في هذا المر الواحد ،فهو يطيع ال والرسول معا ،ومرة يأتي
لةَ وَآتُواْ ال ّزكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ
حكم من ال إجمال ،ويأتي الرسول ليفصله {.وََأقِيمُواْ الصّـ َ
حمُونَ }[النور.]56 :
َلعَّلكُمْ تُ ْر َ
إن الواحد منا لم يكن يعرف كم صلة في اليوم ،ول عدد الركعات في كل صلة ،ول نعرف
كيفيتها لكن الرسول صلى ال عليه وسلم قد فصل لنا المر في كل صلة ،إذن ،فالمؤمن يطيع ال
في الجمال ،ويطيع الرسول في التفصيل .إن علينا أن نلتفت إلى أن هنا طاعتين :الولى :طاعة
ال ،والثانية :طاعة الرسول ،أما في المر المتحد ،فتكون الطاعة ل والرسول؛ لنه أمر واحد.
وأما المر الذي جاء من ال فيه تكليف إجمالي فقد ترك ال للرسول صلى ال عليه وسلم بيانه،
فالمؤمن يطيع ال في المر الجمالي كأمر الصلة ،وإقامتها ،ويطيع الرسول في تفصيل أمر
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصلة؛ وكيفيتها ،وأحيانا يجيء الحكم بالتفويض العلى من ال للرسول ،فيقول ال لرسوله ما
معناه إنك أنت الذي تقرر في هذه المور ،كما قال الحق:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يستمعوا إليك يا محمد ،ولم يتبعوك ،فإن موقفهم -والعياذ بال -ينتقل إلى الكفر؛ لن الحق يقول
حبّ ا ْلكَافِرِينَ {.
عن الذين يتولون عن ال والرسول } :فإِن َتوَّلوْاْ فَإِنّ اللّ َه لَ يُ ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمْرَانَ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ {
وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ ِ
()424 /
إنها عدالة القرآن الكريم ،إنه الحق العادل الذي ينزل على الرسول بلغا يذكر البناء بطهارة
طفَىا ءَادَمَ } وكلمة {
أصول الباء ،ومن الخسارة أن يصير البناء إلى ما هم عليه { .إِنّ اللّهَ اصْ َ
طفَىا } تدل على اختيار مُرضٍ .ولنا أن نسأل :هل اصطفى الحق هؤلء الرسل ،آدم ونوحا،
اصْ َ
وآل إبراهيم ،وآل عمران فكانوا طائعين ،أم علم الحق أزل أنهم يكونون طائعين فاصطفاهم؟ إن
الحق علمه أزلى ،وعلمه ليس مرتبا على كل شيء .وساعة أن تأتي أنت بقانونك البشرى
وتتفرس في إنسان ما ،وتوليه أمرا ،وينجح فيه ،هنا تهنئ نفسك بأن فراستك كانت في محلها،
بعلم ال واقتداره؟
إن الذين اصطفاهم ال هم الذين علم ال أزل أنهم سيكونون طائعين ،وقد يقول قائل :إنهم طائعون
ل بالصطفاء ،لمثل هذا القائل نرد :إنهم طائعون بالنفس العامة ويكونون في مزيد من الطاعة
بعد أن يأخذوا التكليف بالنفس الخاصة ،إنهم طائعون من قبل أن يأخذوا أمور التكليف ،ولو
تركهم الحق للمور العقلية لهتدوا إلى طاعته ،وعندما جاءهم المر التكليفي ويصطفيهم ال
يكونون رسل وحملة منهج سماوي.
طفَىا ءَادَمَ } فقد يتساءل عن معناها ،ذلك أن من
عندما يسمع النسان قول الحق { :إِنّ اللّهَ اصْ َ
اصطفاء ال لدم تأتي إلى الذهن بمعنى " خصه " بنفسه أو أخذه صفوة من غيره ،فكيف كان
اصطفاء آدم ،ولم يكن هناك أحد من قبله ،أو معه لنه الخلق الول؟ إننا يمكن أن نعرف بالعقل
العادي أن اصطفاء ال لنوح عليه السلم؛ كان اصطفاء من بشر موجودين ،وكذلك اصطفاء
إبراهيم خليل الرحمن وبقية النبياء.
طفَىا ءَا َدمَ } -كما قلنا -تعني أن ال قد اختاره أو
إذن ،فكيف كان اصطفاء آدم؟ إن معنى { اصْ َ
أن " المصطفى عليه " يأتي منه ومن ذريته .نعم وقد جاء المصطفى عليه من ذريته ،وهذا المعنى
طفَىا ءَا َد َم وَنُوحا } ونحن
يصلح ،والمعنى السابق عليه يصلح أيضا .إن الحق يقول { :إِنّ اللّهَ اصْ َ
نعلم أن سيدنا نوحا عليه السلم واجه جماعة من الكافرين به ،فأغرقهم ال في الطوفان ،ونجا
ح ِملْ فِيهَا مِن ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ
نوح ومن معه بأمر ال {.حَتّىا ِإذَا جَآءَ َأمْرُنَا َوفَارَ التّنّورُ قُلْنَا ا ْ
ن َومَآ آمَنَ َمعَهُ ِإلّ قَلِيلٌ }[هود.]40 :
وَأَهَْلكَ ِإلّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ا ْل َق ْولُ َومَنْ آمَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الذين بقوا من بعد نوح عليه السلم كانوا مؤمنين ،ثم تعرضوا للغيار .وجاءت هذه الغيار
في أعقابهم ،فنشأ كفر وإيمان ،لماذا؟ لن آدم عليه السلم حين خلقه ال وضع له التجربة التكليفية
في الجنة ،كان من الواجب أن ينقل ما علمه له ال لبنائه.
لقد نقل آدم لهم مسائل صيانة مادتهم وعلمهم كيف يأكلون ،وكيف يشربون ،وغير ذلك.
وكان يجب أن تكون معهم القيم .إن آدم عليه السلم قد أدى ذلك ،وعلم أبناءه كيفية صيانة مادتهم
وعلمهم القيم أيضا ،ولكن بمرور الزمان ،ظل بعض من أبناء آدم يتخففون من التكاليف حتى
اندثرت وذهبت .ومن رحمة ال بخلقه يجدد سبحانه وتعالى الرسالة ببعث رسول جديد.
والرسالة الجديدة تعطي ما كان موجودا أول ،فيما يتعلق بالعقائد والخبار ،والشياء التي ل
تتغير ،وتأتي الرسالة الجديدة بالحكام المناسبة لزمن الرسالة .فإذا ما أمكن للبشر أن يعدلوا من
سياسة البشر ،يظل المر كما هو ،فإن ارتكب واحد منكرا وضرب قومه على يده ،استقام أمر
الرسالة وبقيت هذه المة على الخير .لماذا؟ لن مصافى اليقين في النفس النسانية موجودة،
ونحن نراها ونلمسها .إن هناك واحدا تجد مصافي اليقين في ذاته ،وقد ل يقدر على نفسه،
فيرتكب المعصية ،وتلومه نفسه ،فيرجع عن المعصية.
ومرة أخرى نجد إنسانا آخر ل يجد في نفسه مصافى اليقين ،ولكنها موجودة في غيره ،فنجد من
يأمره بالمعروف ،وينهاه عن المنكر ،فإذا امتنعت المصافي الذاتية لليمان ،وكذلك امتنعت
المصافي اليمانية في المجتمع ،فل أمل هنالك ،لذلك يجب أن يأتي رسول جديد ،وينبه الناس
بمعجزة ما.
لقد شاءت إرادة الحق سبحانه أل يأتي رسول آخر بعد سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم ،وفي
ذلك شهادة لمة محمد صلى ال عليه وسلم بأن ال أمنها على منهج ال ،فإذا مُنِعت من أي نفس
مصافيها الذاتية فستبقى مصافيها الجتماعية ،ول بد أن يكون في أمة محمد ذلك؛ لن امتناع ذلك
كان يستدعي وجود نبيّ جديد.
إن ال أمن أمة محمد على منهجه ،ولذلك لم يأت نبيّ بعد سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم.
لقد أمن الحق أمة محمد فلم يمنع فيها أبدا المصافي الذاتية أو الجتماعية ،ولذلك يأتي القول
ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَتُ ْؤمِنُونَ بِاللّهِ }[آل
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
الحق {:كُنْ ُتمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
عمران.]110 :
إن هذا توجيه لنا من الحق لنعرف أن المصافي الجتماعية ستظل موجودة في أمة سيدنا محمد
صلى ال عليه وسلم ،إذن فبعد حدوث الغفلة من بعد نوح عليه السلم جاء ال باصطفاءات أخرى
علَى
عمْرَانَ َ
طفَىا ءَادَمَ وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِي َم وَآلَ ِ
صَرحمة منه بالعالمين ،ويقول الحق } :إِنّ اللّهَ ا ْ
ا ْلعَاَلمِينَ { .ونحن نقول على إبراهيم عليه السلم " :أبو النبياء " وأورد الحق نبأ بعض من أبناء
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آل إبراهيم ،وهم آل عمران وأعطاهم ميزة.
وكلمة " عمران " هذه حين ترد في السلم فلنا أن نعرف أن هناك اثنين لهما السم نفسه ،هناك "
عمران " والد موسى وهارون عليهما السلم .وهناك " عمران " آخر .إن عمران والد موسى
وهارون كان اسم أبيه " يصهر " وجده اسمه " فاهاث " ,ومن بعده " لوى " ومن بعده " يعقوب "
،ومن بعده " إسحق " ،وبعده " إبراهيم " ،أما عمران الخر ،فهو والد مريم عليها السلم.
وقد حدث إشكال عند عدد من الدارسين هو " أي العمرانين يقصده ال هنا؟ " والذي زاد من حيرة
هؤلء العلماء هو وجود أخت لموسى وهارون عليهما السلم اسمها مريم ،وكانت ابنة عمران
والد موسى وهارون فكلتاهما اسمها مريم بنت عمران .وكانوا في ذلك الزمن يتفاءلون باسم "
مريم " لن معناه " العابدة " ،ولما اختلفوا لم يفطنوا إلى أن القرآن قد أبان وأوضح المعنى ،وكان
يجب أن يفهموا أن المقصود هنا ليس عمران والد موسى وهارون عليهما السلم ،بل عمران والد
مريم ،ومنها عيسى عليه السلم ،وعمران والد مريم هو ابن ماثان ،وهو من نسل سليمان،
وسليمان من داود ،وداود من أوشى ،وأوشى من يهوذا ،ويهوذا من يعقوب ،ويعقوب من إسحق.
وكنا قديما أيام طلب العلم نضع لها ضبطا بالحرف ،فنقول " عمعم سدئيّا " ومعناها ..عيسى ابن
مريم ،ومريم بنت عمران ،وعمران ابن ماثان ،وماثان من سليمان ،من داود من أوشى وأوشى
من يهوذا ويهوذا من يعقوب ويعقوب من إسحاق .لقد التبس المر على الكثير وقالوا :أي
العمرانين الذي يقول ال في حقه هذا القول الكريم؟ ولهؤلء نقول :إن مجيء اسم مريم عليها
السلم من بعد ذلك يعني أنه عمران والد مريم ،وأيضا يجب أن نفطن إلى أن الحق قد قال عن
خلَ عَلَ ْيهَا َزكَرِيّا ا ْلمِحْرَابَ
حسَنا َوكَفَّلهَا َزكَرِيّا كُّلمَا َد َ
ن وَأَنبَ َتهَا نَبَاتا َ
حسَ ٍ
مريم {:فَ َتقَبَّلهَا رَ ّبهَا ِبقَبُولٍ َ
وَجَدَ عِندَهَا رِزْقا قَالَ يامَرْيَمُ أَنّىا َلكِ هَـاذَا قَاَلتْ ُهوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ
حسَابٍ }[آل عمران.]37 :
ِ
وزكريا عليه السلم هو ابن آذن ،وآذن كان معاصرا لماثان .إن المراد هنا هو عمران والد
طفَىا ءَادَ َم وَنُوحا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ
مريم .هكذا حددنا أي العمرانين يقصد الحق بقوله } :إِنّ اللّهَ اصْ َ
عمْرَانَ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ { .وعندما تقول :اصطفيت كذا على كذا ،فمعنى ذلك أنه كان من
وَآلَ ِ
الممكن أن تصطفى واحدا من مجموعة على الخرين ،ولذلك نفهم المقصود بـ " على العالمين "
أي على عالمي زمانهم ،إنهم قوم موجودون وقد اصطفى منهم واحدا ،أما الذي سيولد من بعد
ذلك فل اصطفاء عليه ،فل اصطفاء على محمد صلى ال عليه وسلم .ويقول الحق بعد ذلك} :
سمِيعٌ عَلِيمٌ {
ض وَاللّهُ َ
ضهَا مِن َب ْع ٍ
ذُرّيّةً َب ْع ُ
()425 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمِيعٌ عَلِيمٌ ()34
ض وَاللّهُ َ
ضهَا مِنْ َب ْع ٍ
ذُرّيّةً َب ْع ُ
ضهَا مِن َب ْعضٍ } فلنا أن نسأل :هل المقصود بذلك النساب أم الدين
وحين يقول { :ذُرّيّةً َب ْع ُ
والقيم؟ ولنا أن نلتفت أن الحق قد علمنا في مسألة إبراهيم عليه السلم أن النساب بالدم واللحم
عند النبياء ل اعتبار لها ،وإنما النساب المعترف بها بالنسبة للنبياء هي أنساب القيم والدين.
وكنا قد عرضنا من قبل لما قاله الحق {:وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ
ل َومِن ذُرّيّتِي }[البقرة.]124 :
لِلنّاسِ ِإمَاما قَا َ
عهْدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة.]124 :
فردها ال عليه قائل {:لَ يَنَالُ َ
لماذا؟ لن المام هو المقتدى في الهدايات .إذن فالمسألة ليست وراثة بالدم .وهكذا علم سيدنا
ضهَا مِن
إبراهيم ذلك بأن النسب للنبياء ليس بوراثة الدم ،إذن فنحن نفهم قول الحق { :ذُرّيّةً َب ْع ُ
ضهُمْ
ن وَا ْلمُنَافِقَاتُ َب ْع ُ
َب ْعضٍ } على أنها ذرية في توارثها للقيم .ونحن نسمع في القرآن {:ا ْلمُنَا ِفقُو َ
ف وَيَقْ ِبضُونَ أَيْدِ َيهُمْ َنسُواْ اللّهَ فَ َنسِ َيهُمْ إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ
مّن َب ْعضٍ يَ ْأمُرُونَ بِا ْلمُنكَ ِر وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْل َمعْرُو ِ
سقُونَ }[التوبة.]67 :
هُمُ ا ْلفَا ِ
إن هذا النفاق ليس أمرا يتعلق بالنسب وإنما يتعلق بالقيم ،إنها كلها أمور قيمية ،وحين يقال:
سمِيعٌ عَلِيمٌ } أي أن ال يعرف القوال وكذلك الفعال والخبايا .وبعد ذلك يقول الحق { :إِذْ
{ وَاللّهُ َ
عمْرَانَ َربّ إِنّي َنذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي َبطْنِي ُمحَرّرا} ...
قَاَلتِ امْرََأتُ ِ
()426 /
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ (
عمْرَانَ َربّ إِنّي نَذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي َبطْنِي ُمحَرّرًا فَ َتقَبّلْ مِنّي إِ ّنكَ أَ ْنتَ ال ّ
إِذْ قَاَلتِ امْرََأةُ ِ
)35
وعندما تقرأ " إذ " فلتعلم أنها ظرف ويُقدر لها في اللغة " اذكر " ،ويقال " إذ جئتك " أي " اذكر
عمْرَانَ } فبعض الناس من أهل الفتح والفهم
أني جئتك " .وعندما يقول الحق { :إِذْ قَاَلتِ امْرََأتُ ِ
يرون أن الحق سبحانه سميع عليم وقت أن قالت امرأة عمرانَ " :ربّ إِنّي نَذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي بَطْنِي
" ،وهم يحاولون أن يربطوا هذه الية بما جاء قبلها ،بأن ال سميع وعليم .ونقف عند قول امرأة
عمرانَ { :ربّ إِنّي نَذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي بَطْنِي ُمحَرّرا }.
إننا عندما نسمع كلمة " ُمحَرّرا " فمعناها أنه غير مملوك لحد فإذا قلنا " :حررت العبد " يعني
ينصرف دون قيد عليه .أو " حررت الكتاب " أصلحت ما فيه .إن تحرير أي أمر ،هو إصلح ما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيه من فساد أو إطلقه من أي ارتباط أو قيد .أما قولهاَ { :ربّ إِنّي نَذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي بَطْنِي
مُحَرّرا } هو مناجاة ل ،فما الدافع إلى هذه المناجاة ل؟
إن امرأة عمران موجودة في بيئة ترى الناس تعتز بأولدها ،وأولد الناس -كما نعلم -يحكمون
حركة الناس ،والناس تحكم حركة أولدهم ،ويكد الناس من أجل أن يكون البناء عزوة ،وقرة
عين ،ويتقدم المجتمع بذلك التواصل المادي ،ولم تعجب امرأة عمران بذلك ،لقد أرادت ما في
بطنها محررا من كل ذلك ،إنها تريده محررا منها ،وهي محررة منه .وهذا يعني أنها ترغب في
أن يكون ما في بطنها غير مرتبط بشيء أو بحب أو برعاية.
لماذا؟ لن النسان مهما وصل إلى مرتبة اليقين ،فإن المسائل التي تتصل بالناس وبه ،تمر عليه،
وتشغله ،لذلك أرادت امرأة عمران أن يكون ما في بطنها محررا من كل ذلك ،وقد يقال :إن امرأة
عمران إنما تتحكم بهذا النذر في ذات إنسانية كذاتها ،ونرد على ذلك بما يلي:
لقد كانوا قديما عندما ينذرون ابنا للبيت المقدس فهذا النذر يستمر ما دامت لهم الولية عليه،
ويظل كما أرادوا إلى أن يبلغ سن الرشد ،وعند بلوغ سن الرشد فإن للبن أن يختار بين أن يظل
كما أراد والداه أو أن يحيا حياته كما يريد.
إن بلوغ سن الرشد هو اعتراف بذاتية النسان في اتخاذ القرار المناسب لحياته .كانت امرأة
عمران ل تريد مما في بطنها أن يكون قرة عين ،أو أن يكون معها ،إنها تريده محررا لخدمة
البيت المقدس ،وكان يستلزم ذلك في التصور البشري أن يكون المولود ذكرا؛ لن الذي كان يقوم
بخدمة البيت هم الذكران.
ونحن نعرف أن كلمة " الولد " يطلق أيضا على البنت ،ولكن الستعمال الشائع ،هو أن يطلق
الناس كلمة " ولد " على الذكر.
لكن معنى الولد لغويا هو المولود سواء أكان ذكرا أم أنثى .وعندما نسمع كلمة " نذر " فلنفهم أنها
أمر أريد به الطاعة فوق تكليف المكلف من جنس ما كلّفه به ال.
إن ال قد فرض علينا خمس صلوات ،فإذا نذر إنسان أن يصلي عددا من الركعات فوق ذلك ،فإن
النسان يكون قد ألزم نفسه بأمر أكثر مما ألزمه به ال ،وهو من جنس ما كلف ال وهو الصلة.
وال قد فرض صيام شهر رمضان ،فإذا ما نذر إنسان أن يصوم يومي الثنين والخميس أو صيام
شهرين فالنسان حر ،ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض ال من تكاليف ،وهو الصيام .وال
فرض زكاة قدرها باثنين ونصف بالمائة ،ولكن النسان قد ينذر فوق ذلك ،كمقدار عشرة بالمائة
أو حتى خمسين بالمائة.
إن النسان حر ،ولكنه يختار نذرا من جنس ما فرض ال من تكاليف ،إن النذر هو زيادة عما
كلف المكلف من جنس ما كلف سبحانه .وكلمة " نذرت " من ضمن معانيها هو أن امرأة عمران
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سيدة تقية وورعة ولم تكن مجبرة على النذر ،ولكنها فعلت ذلك ،وهو أمر زائد من أجل خدمة
بيت ال.
والنذر كما نعلم يعبر عن عشق العبد لتكاليف ال ،فيلزم نفسه بالكثير من بعضها .ودعت امرأة
عمران ال من بعد ذلك بقبول ذلك النذر فقالت " :فتقبل مني " " .والتقبل " هو أخذ الشيء برضا،
لنك قد تأخذ بكره ،أو تأخذ على مضض ،أما أن " تتقبل " فذلك يعني الخذ بقبول وبرضا.
واستجابة لهذا الدعاء جاء قول الحق {:فَتَقَبَّلهَا رَ ّبهَا ِبقَبُولٍ حَسَنٍ }[آل عمران.]37 :
ونلحظ أن امرأة عمران قالت في أول ما قالتَ } :ربّ إِنّي نَذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي بَطْنِي ُمحَرّرا فَ َتقَبّلْ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ { ،ولم تقل " :يا ال " وهذا لنعلم أن الرب هو المتولى التربية ،فساعة
مِنّي إِ ّنكَ أَنتَ ال ّ
ينادي " ربي " فالمفهوم فيها التربية .وساعة يُنادي بـ " ال " فالمفهوم فيها التكليف .إن " ال "
نداء للمعبود الذي يطاع فيما يكلف به ،أما " رب " فهو المتولي التربية.
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ
قالت امرأة عمرانَ } :ربّ إِنّي نَذَ ْرتُ َلكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرّرا فَ َتقَبّلْ مِنّي إِ ّنكَ أَنتَ ال ّ
{ .هذا هو الدعاء ،وهكذا كانت الستجابة } :فَ َتقَبَّلهَا رَ ّبهَا ِبقَبُولٍ حَسَنٍ { وبعد ذلك تكلم الحق عن
حسَناَ ..وكَفَّلهَا َزكَرِيّا { .كل ذلك متعلق
الشياء التي تكون من جهة التربية } .وَأَنبَ َتهَا نَبَاتا َ
بالتربية وبالربوبية ،فساعة نادت امرأة عمران عرفت كيف تنادي ونذرت ما في بطنها .وبعد ذلك
جاء الجواب من جنس ما دعت بقمة القبول وهو الخذ برضا.
حسَنٍ {.
} فَ َتقَبَّلهَا رَ ّبهَا ِبقَبُولٍ َ
فالحسن هنا هو زيادة في الرضا ،لن كلمة " قبول " تعطينا معنى الخذ بالرضا ،وكلمة " حسن "
توضح أن هناك زيادة في الرضا ،وذلك مما يدل على أن ال قد أخذ ما قدمته امرأة عمران
برضا ،وبشيء حسن ،وهذا دليل على أن الناس ستلمح في تربيتها شيئا فوق الرضا ،إنه ليس
حسَنا { .مما يدل على أن امرأة عمران كانت تقصد
قبول عاديا ،إنه قبول حسن } .وَأَنبَ َتهَا نَبَاتا َ
حين نذرت ما في بطنها ،أل تربي ما في بطنها إلى العمر الذي يستطيع فيه المولود أن يخدم في
بيت ال .ولكنها نذرت ما في بطنها من اللحظة الولى للميلد .إنها لن تتنعم بالمولود ،ولذلك قال
الحق } :وكفلها زكريا { ،وزكريا هو زوج خالة السيدة مريم .وبعد دعاء امرأة عمران ،يجيء
ضعْ ُتهَآ أُنْثَىا{ ...
ضعَ ْتهَا قَاَلتْ َربّ إِنّي َو َ
القول الحكيم } :فََلمّا َو َ
()427 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد جاء هذا القول منها ،لنها كانت قد قالت إنها نذرت ما في بطنها محررا لخدمة البيت،
وقولها " :محررا " تعني أنها أرادت ذكرا لخدمة البيت ،لكن المولود جاء أنثى .فكأنها قد قالت:
ان لم ُأ َمكّنْ من الوفاء بالنذر ،فلن قدرك سبق ،لقد جاءت المولودة أنثى .لكن الحق يقول بعد
ضعَتْ } .وهذا يعني أنها ل تريد إخبار ال ،ولكنها تريد أن تظهر
ذلك { :وَاللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا َو َ
التحسر ،لن الغاية من نذرها لم تتحقق وبعد ذلك يقول الحق { :وَلَيْسَ ال ّذكَرُ كَالُنْثَىا } .فهل هذا
من كلمها ،أم من كلم ال؟
ضعْ ُتهَآ أُنْثَىا } وقال ال { :وليس الذكر كالنثى }.
قد قالت { :إِنّي َو َ
إن الحق يقول لها :ل تظني أن الذكر الذي كنت تتمنينه سيصل إلى مرتبة هذه النثى ،إن هذه
ضعْ ُتهَآ أُنْثَىا } ويكون قول الحق:
النثى لها شأن عظيم .أو أن القول من تمام كلمها { :إِنّي َو َ
ض َعتْ } هو جملة اعتراضية ويكون تمام كلمها { وليس الذكر كالنثى } .أي
{ وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا َو َ
أنها قالت :يارب إن الذكر ليس كالنثى ،إنها ل تصلح لخدمة البيت.
وليأخذ المؤمن المعنى الذي يحبه ،وسنجد أن المعنى الول فيه إشراق أكثر ،إنه تصور أن الحق
قد قال :أنت تريدين ذكرا بمفهومك في الوفاء بالنذر ،وليكون في خدمة البيت ،ولقد وهبت لك
المولود أنثى ،ولكني سأعطي فيها آية أكبر من خدمة البيت ،وأنا أريد بالية التي سأعطيها لهذه
النثى مساندة عقائد ،ل مجرد خدمة رقعة تقام فيها شعائر.
إنني سأجعل من هذه الية مواصلة لمسيرة العقائد في الدنيا إلى أن تقوم الساعة .ولنني أنا
الخالق ،سأوجد في هذه النثى آية ل توجد في غيرها ،وهي آية تثبت طلقة قدرة الحق ،ولقد
قلت من قبل :إن طلقة القدرة تختلف عن القدرة العادية ،إن القدرة تخلق بأسباب ،ولكن من أين
السباب؟ إن الحق هو خالق السباب أيضا.
إذن فما دام الخالق للسباب أراد خلقا بالسباب فهذه إرادته .ولذلك أعطانا الحق القدرة على رؤية
طلقة قدرته؛ لنها عقائد إيمانية ،يجب أن تظل في بؤرة الشعور اليماني ،وعلى بال المؤمن
دائما .لقد خلق ال بعضا من الخلق بالسباب كما خلقنا نحن ،وجمهرة الخلق عن طريق التناسل
بين أب وأم ،أما خلق الحق لدم عليه السلم فقد خلقه بل أسباب .ونحن نعلم أن الشيء الدائر بين
اثنين له قسمة عقلية ومنطقية ،فما دام هناك أب وأم ،ذكر وأنثى ،فسيجيء منهما تكاثر ..إن الحق
شيْءٍ خََلقْنَا َزوْجَيْنِ َلعَّل ُكمْ تَ َذكّرُونَ }[الذاريات.]49 :
يقولَ {:ومِن ُكلّ َ
وعندما يجتمع الزوجان ،فهذه هي الصورة الكاملة ،وهذه الولى في القسمة المنطقية والتصور
العقلي ،وإما أن ينعدم الزوجان فهذه هي الثانية في القسمة المنطقية والتصور العقلي.
أو أن ينعدم الزوج الول ويبقى الطرف الثاني ،وهذه هي الثالثة في القسمة المنطقية والتصور
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العقلي ،أو أن ينعدم الزوج الثاني ويبقى الطرف الول ،وهذه هي الرابعة في القسمة المنطقية
والتصور العقلي.
تلك إذن أربعة تصورات للقسمة العقلية .وجميعنا جاء من اجتماع العنصرين ،الرجل والمرأة .أما
آدم فقد خلقه ال بطلقة قدرته ليكون السبب .وكذلك تم خلق حواء من آدم .وأخرج الحق من لقاء
آدم وحواء نسل .وهناك أنثى وهي مريم ويأتي منها المسيح عيسى ابن مريم بل ذكر .وهذه هي
الية في العالمين ،وتثبت قمة عقدية .فل يقولن أحد :ذكرا ،أو أنثى ،لن نية امرأة عمران في
الطاعة أن يكون المولود ذكرا ،وشاء قدر ربكم أن يكون أسمى من تقدير امرأة عمران في
الطاعة ،لذلك قال } :وَلَيْسَ ال ّذكَرُ كَالُنْثَىا { .أي أن الذكر لن يصل إلى مرتبة هذه النثى.
ك وَذُرّيّ َتهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ { .إن
سمّيْ ُتهَا مَرْيَ َم وِإِنّي أُعِيذُهَا ِب َ
وقالت امرأة عمران } :وَإِنّي َ
امرأة عمران قالت ما يدل على شعورها ،فحينما فات المولودة بأنوثتها أن تكون في خدمة بيت
ال فقد تمنت امرأة عمران أن تكون المولودة طائعة ،عابدة ،فسمتها " مريم " لن مريم في لغتهم
-كما قلنا -معناها " العابدة ".
وأول ما يعترض العبودية هو الشيطان .إنه هو الذي يجعل النسان يتمرد على العبودية .إن
النسان يريد أن يصير عابدا ،فيجيء الشيطان ليزين له المعصية .وأرادت إمرأة عمران أن
تحمي ابنتها من نزغ الشيطان لنها عرفت بتجربتها أن المعاصي كلها تأتي من نزغ الشيطان،
وقد سمتها " مريم " حتى تصبح " عابدة ل " ،ولن إمرأة عمران كانت تمتلك عقلية إيمانية
ك وَذُرّيّ َتهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ
حاضرة وتحمل المنهج التعبدي كله لذلك قالت } :وِإِنّي أُعِيذُهَا ِب َ
{.إن المستعاذ به هو ال ،والمستعاذ منه هو الشيطان ،وحينما يدخل الشيطان مع خلق ال في
تزيين المعاصي ،فهو يدخل مع المخلوق في عراك ،ولكن الشيطان ل يستطيع أن يدخل مع ربه
في عراك ،ولذلك يقال عن الشيطان إنه إذا سمع ذكر ال فإنه يخنس أي يتراجع ،ووصفه القرآن
الكريم بأنه " الخنّاس " ،إن الشيطان إنما ينفرد بالنسان حين يكون النسان بعيدا عن ال ،ولذلك
سمِيعٌ عَلِيمٌ }[العراف:
فالحق ُيعَلّمُ النسان {:وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ
.]200
إن الشيطان يرتعد فرقا ورعشة من الستعاذة بال .وعندما يتكرر ارتعاد الشيطان بهذه الكلمة؛
فإنه يعرف أن هذا النسان العابد لن يحيد عن طاعة ال إلى المعاصي .وقد علمنا رسول ال
صلى ال عليه وسلم كيف يجيء الرجل امرأته ،ومجيء الهل هو مظنة لمولود قد يجيء ،فيقول
العبد " :اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتني " (من دعاء الرسول).
إن من يقول هذا القول قبل أن يحدث التخلق " فلن يكون للشيطان ولية أو قدرة على المولود
ك وَذُرّيّ َتهَا مِنَ الشّ ْيطَانِ الرّجِيمِ {.
الذي يأتي بإذن ال .ولذلك قالت إمرأة عمران } :وِإِنّي أُعِي ُذهَا ِب َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والذرية قد يفهمها الناس على أنها النسل المتكاثر ،ولكن كلمة " ذرية " تطلق على الواحد وعلى
الثنين ،وعلى الثلثة أو أكثر .والذرية هنا بالنسبة لمريم عليها السلم هي عيسى عليه السلم،
ك وَذُرّيّ َتهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ { يجيء
وتنتهي المسألة .وبعد دعاء إمرأة عمران } وِإِنّي أُعِيذُهَا ِب َ
ن وَأَنبَ َتهَا نَبَاتا حَسَنا َو َكفَّلهَا َزكَرِيّا{ ...
القول الحق } :فَ َتقَبَّلهَا رَ ّبهَا ِبقَبُولٍ حَسَ ٍ
()428 /
وقد عرفنا القبول الحسن والنبات الحسن ،أما قوله الحقَ { :وكَفَّلهَا َزكَرِيّا } فهذا يعني أن المسألة
جاءت من أعلى ،إنه الرب الذي تقبل بقبول حسن ،وهو الذي أنبتها نباتا حسنا .إذن ،فرعاية
زكريا لها إنما جاءت بأمر من ال .والدليل على ما حدث عند كفالة مريم .لقد اجتمع كبار القوم
رغبة في كفالتها وأجروا بينهم قرعة من أجل ذلك .وساعة تجد قرعة ،أو إسهاما .فالناس تكون
قد خرجت من مراداتها المختلفة إلى مراد ال .فعندما نختلف على شيء فإننا نجري قرعة،
ويخصص سهم لكل مشترك فيها ،ونرى بعد ذلك من الذي يخرج سهمه ،ويلجأ الناس لهذا المر؛
ليمنعوا هوى البشر عن التدخل في الختيار ،ويصبح المر خارجا عن مراد البشر إلى مراد ال
سبحانه وتعالى ،وهذا ما حدث عند كفالة زكريا لمريم .ولذلك فالحق يقول لسيدنا رسول ال صلى
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْ َيمَ
ك َومَا كُنتَ لَدَ ْيهِمْ إِذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
ال عليه وسلم {:ذاِلكَ مِنْ أَنَبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَي َ
صمُونَ }[آل عمران.]44 :
َومَا كُ ْنتَ َلدَ ْيهِمْ إِذْ يَخْ َت ِ
إذن فالكفالة لمريم أخذت لها ضجة ،وهذا دليل على أنهم اتفقوا على إجراء قرعة بالنسبة لكفالتها،
ول يمكن أن يكونوا قد ذهبوا إلى هذه القرعة إل إذا كان قد حدث تنازع بينهم ،عن أيهم يكفل
مريم ،ومن فضل ال أن زكريا عليه السلم كان متزوجا من " إشاع " " أخت " " حنة " وهي أم
مريم ،فهو زوج خالتها.
وكلمة " أقلمهم " قال فيها المفسرون :إنها القداح التي كانوا يصنعونها قديما ،أو القلم التي
كتبوا بها التوراة ،فرموها في البحر ،فمن طفا قلمه لم يأخذ رعاية مريم ،ومن غرق قلمه في
البحر فهو الذي فاز بكفالة مريم .إذن فهم قد خرجوا عن مراداتهم إلى مراد ال.
والخروج عن المرادات ،والخروج عن الهواء بجسم ليس له اختيار -كقداح القرعة -ل يوجد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في النفس غضاضة .لكن لو كان هناك من سيأخذ رعاية مريم بالقوة والغضب فل بد أن يجد
نفوس الخرين وقد امتلت بالمرارة أو الغصب .ولذلك فقد كان سائدا في ذلك العصر عملية
إجراء السهام إذا ما خافوا أن يقع الظلم على أحد أو أن يساء الظن بأحد ،وهناك قصة سيدنا
يونس عندما قاربت السفينة على الغرق ،وكان ل بد لنقاذها أن ينزل واحد إلى البحر ،وجاء
شحُونِ * فَسَا َهمَ َفكَانَ مِنَ
القول الحكيم {:وَإِنّ يُونُسَ َلمِنَ ا ْلمُ ْرسَلِينَ * ِإذْ أَبَقَ إِلَى ا ْلفُلْكِ ا ْلمَ ْ
ت وَ ُهوَ مُلِيمٌ * فََل ْولَ أَنّهُ كَانَ مِنَ ا ْلمُسَبّحِينَ * لَلَ ِبثَ فِي بَطْ ِنهِ إِلَىا َيوْمِ
حضِينَ * فَالْ َت َقمَهُ الْحُو ُ
ا ْلمُ ْد َ
يُ ْبعَثُونَ }[الصافات.]144-139 :
كان ل بد أن ينزل واحد من تلك السفينة ،لذلك تم إجراء قرعة بالسهام حتى ل تقوم معركة بين
الموجودين على ظهر السفينة ،وحتى ل تكون الغلبة للقوياء ،ولكن القرعة حمت الناس من ظلم
بعضهم بعضا.
قالوا :لنجر قرعة السهام ،فمن يخرج سهمه فهو الذي يلقى به ،وكان على يونس عليه السلم أن
ينزل إلى اليم فيلتقمه الحوت .ولنه من المسبحين فإن ال ينقذه .لقد قبل يونس عليه السلم اختيار
ال ولم ينس تسبيح ال فكان في ذلك النقاذ له .وهكذا نقرأ قول ال لنفهم أن كفالة زكريا كانت
ن وَأَنبَ َتهَا نَبَاتا حَسَنا َو َكفَّلهَا َزكَرِيّا {.
باختيار ال } .فَ َتقَبَّلهَا رَ ّبهَا ِبقَبُولٍ حَسَ ٍ
وكلمة " كفلها " أي تولى كل مهمة تربيتها ،هذه هي الكفالة ،ونحن نعرف أن الكفيل في عرفنا هو
الضامن ،والضامن هو من يسد القرض عندما يعجز النسان عن السداد ،وقوله الحقَ } :و َكفَّلهَا
َزكَرِيّا { يعطينا المعنى الواضح بأن زكريا عليه السلم هو الذي قام برعاية شئون مريم.
خلَ عَلَ ْيهَا َزكَرِيّا ا ْل ِمحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقا { إنه لم يدخل مرة
ويتابع الحق الكريم قوله } :كُّلمَا دَ َ
واحدة ،بل دخل عليها المحراب مرات متعددة .وكان زكريا عليه السلم كلما دخل على مريم يجد
عندها الرزق ،ولذلك كان ل بد أن يتساءل عن مصدر هذا الرزق ،ول بد أن يكون تساؤله معبرا
عن الدهشة ،لذلك يجيء القول الحق على لسان زكريا } :أَنّىا َلكِ هَـاذَا {.
وساعة أن تسمع } أَنّىا َلكِ هَـاذَا؟ { فهذا يدل على أنه قام بعمل محابس على المكان الذي توجد
به مريم ،وإل لظن أن هناك أحدا قد دخل على مريم ،وكما يقولون :فإن زكريا كان يقفل على
مريم البواب .وإل لو كانت البواب غير مغلقة لظن أن هناك من دخل وأحضر لها تلك اللوان
المتعددة من الرزق.
والرزق هو ما ينتفع به -بالبناء للمجهول -وعندما يقول زكريا عليه السلم } :أَنّىا َلكِ هَـاذَا
{ .فلنا أن نتذكر ما قلناه سابقا من أن أي إنسان وكله ال على جماعة ويرى عندهم ما هو أزيد
من الطاقة أو حدود الداخل ،فل بد أن يسأل كُلّ منهم :من أين لك هذا؟ ذلك أن فساد البيوت
والمجتمعات إنما يأتي من عدم الهتمام بالسؤال وضرورة الحصول على إجابة على السؤال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المحدد :من أين لك هذا؟
إن الذي يدخل بيته ويجد ابنته ترتدي فستانا مرتفع الثمن ويفوق طاقة السرة ،أو يجد ابنه قد
اشترى شيئا ليس في طاقة السرة أن تشتريه ،هنا يجب أن يتوقف الب أو الولي ليسأل :من أين
لك هذا؟ إن في ذلك حماية لخلق السرة من النهيار أو التحلل .فلو فطن كل واحد أن يسأل
أهله ومن يدخلون في كفالته " -من أين لك هذا؟ " لعرف كل تفاصيل حركتهم ،لكن لو ترك
الحبل على الغارب لفسد المر.
وقول زكريا " :أنّى لك هذا؟ " هو سؤال محدد عن مصدر هذا الرزق ،ولننظر إلى إجابتها} :
قَاَلتْ ُهوَ مِنْ عِندِ اللّهِ { ثم ل تدع البديهة اليمانية عند سيدنا زكريا دون أن تذكره أنها ل تنسى
حسَابٍ { وأثارت هذه
حقيقة واضحة في بؤرة شعور كل مؤمن } :إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
المسألة في نفس زكريا نوازع شتى؛ إنها مسألة غير عادية ،لقد أخبرته مريم أن الرزق الذي
عندها هو من عند ال الذي يرزق من يشاء بغير حساب ،إنه الله هو القادر على أن يقول " :كن
" فيكون.
وهنا ذكر زكريا نفسه ،وكأن نفسه قد حدثته " :إذا كانت للقدرة طلقة في أن تفعل بل أسباب،
وتعطي من غير حساب ،فأنا أريد ولدا يخلفني ،رغم أنني على كبر ورغم بلوغي من السن عتيّا،
وامرأتي عاقر .إن مسألة الرزق الذي وجده زكريا كلما دخل على مريم هي التي نبهت زكريا
إلى ما يتمنى ويرغب.
ونحن نعلم أن المعلومات التي تمر على خاطر النفس البشرية كثيرة ،ولكن ل يستقر في بؤرة
الشعور .ومعلومات في حاشية الشعور يتم استدعاؤها عند اللزوم ،فلما وجد زكريا الرزق المنوع
عند مريم وقالت له عن مصدرهُ } :هوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ { .هنا
تساءل زكريا :كيف فاتني هذا المر؟ ولذلك يقول الحق عن زكريا } :هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ{ ...
()429 /
إنها ساعة أن قالت له :إن الرزق من عند ال ،وأنه الحق الذي يرزق من يشاء بغير حساب ،هنا
أيقظت فيه القضية اليمانية فجاءت أمنيته إلى بؤرة الشعور ،فقال زكريا لنفسه :فلنطلب من ربنا
أن يرزقنا ما نرجوه لنفسنا ،وما دام قد قال هذا القول فل بد أنه قد صدق مريم في قضيتها ،بأن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا الرزق الذي يأتيها هو من عند ال ،ودليل آخر في التصديق ,هو أنه ل بد وقد رأى أن
اللوان المتعددة من الرزق التي توجد عند مريم ليست في بيئته ،أو ليست في أوانها؛ وكل ذلك
في المحراب.
ونحن نعرف أن المحراب كلمة يراد بها بيت العبادة .يقول الحقَ {:ي ْعمَلُونَ لَهُ مَا َيشَآءُ مِن
شكْرا َوقَلِيلٌ مّنْ عِبَا ِديَ
عمَلُواْ آلَ دَاوُودَ ُ
ب َوقُدُورٍ رّاسِيَاتٍ ا ْ
جوَا ِ
جفَانٍ كَالْ َ
ب وَ َتمَاثِيلَ وَ ِ
مّحَارِي َ
شكُورُ }[سبأ.]13 :
ال ّ
أو " المحراب " وهو مكان المام في المسجد ،أو هو حجرة يصعد إليها بسلم ،كالمبلغات التي تقام
في بعض المساجد .وما دامت مريم قد أخبرت زكريا وهي في المحراب بأن الرزق من عند ال،
وأيقظت بذلك تلك القضية اليمانية في بؤرة شعوره ،فماذا يكون تصرفه؟ هنا دعا زكريا أثناء
سمِيعُ الدّعَآءِ } إنه هنا يطلب الولد.
وجوده في المحرابَ { .ربّ َهبْ لِي مِن لّدُ ْنكَ ذُرّيّةً طَيّ َبةً إِ ّنكَ َ
ولكن ل بد لنا أن نلحظ ما يلي:
-هل كان طلبه للولد لما يطلبه الناس العاديون من أن يكون زينة للحياة أو " عزوة " أو ذكرا؟
ل ،إنه يطلب الذرية الطيبة ،وذكر زكريا الذرية الطيبة تفيد معرفته أن هنالك ذرية غير طيبة.
وفي قول زكريا الذي أورده الحق {:يَرِثُنِي وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ }[مريم.]6 :
أي أن يكون دعاء لرث النبوة وإرث المناهج وإرث القيم ،هكذا طلب زكريا الولد .لقد طلبه
لمهام كبيرة ،وقول زكريا " :رب هب " تعني أنه استعطاء شيء بل مقابل ،إنه يعترف .أنا ليس
لي المؤهلت التي تجعل لي ولدا؛ لني كبير السن وامرأتي عاقر ،إذن فعطاؤك يارب لي هو هبة
وليس حقا ،وحتى الذي يملك الستعداد ل يكون هذا المر حقا له ،فل بد أن يعرف أن عطاء ال
له يظل هبة ،فإياك أن تظن أن اكتمال السباب والشباب هي التي تعطي الذرية ،إن الحق سبحانه
ت وَالَ ْرضِ َيخْلُقُ مَا يَشَآءُ َي َهبُ
سمَاوَا ِ
ينبهنا ألّ نقع في خديعة وغش أنفسنا بالسباب {.لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
عقِيما إِنّهُ
ج َعلُ مَن َيشَآءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَ َي ْ
ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ
عَلِيمٌ َقدِيرٌ }[الشورى.]50-49 :
إن في ذلك لفتا واضحا وتحذيرا محددا أل نفتتن بالسباب ،إذن فلكل عطاء من ال هو هبة،
والسباب ل تعطي أحدا ما يريد.
إن زكريا يقولَ } :ربّ َهبْ لِي مِن لّدُ ْنكَ { وساعة أن تقول من " :لدنك " فهو يعني " هب لي من
وراء أسبابك " .لماذا؟ لن الكل من ال.
ولكن هناك فرقا بين عطاء ال بسبب ،كأن يذهب إنسان ليتعلم العلم ويمكث عشرين عاما ليتعلم،
وهناك إنسان يفيض ال عليه بموهبة ما ،ولذلك يقول أهل الشراقات :إنه علم لدنى ،أي من غير
تعب ،وساعة أن نسمع " من لدن " أي انعزلت السباب ،كان دعاء زكريا هو } َربّ َهبْ لِي مِن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لّدُ ْنكَ { وكلمة " هب " توضح ما جاء في سورة مريم من قول زكريا {:قَالَ َربّ أَنّىا َيكُونُ لِي
غُلَ ٌم َوكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرا َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ ا ْلكِبَرِ عِتِيّا }[مريم.]8 :
إن " هب " هي التي توضح لنا هذه المعاني؛ هذا كان دعاء زكرياَ } :ربّ َهبْ لِي مِن لّدُ ْنكَ ذُرّيّةً
سمِيعُ الدّعَآءِ { فهل المراد أن يسمع ال الدعاء؟ أم أن يجيب ال الدعاء؟ إنه يضع كل
طَيّ َبةً إِ ّنكَ َ
أمله في ال ،وكأنه يقول :إنك يارب من فور أن تسمعني ستجيبني إلى طلبي بطلقة قدرتك.
لماذا؟ لنك يارب تعلم صدق نيتي في أنني أريد الغلم ل لشيء من أمور كقرة العين ،والذكر،
والعز ،وغيرها ،إنما أريد الولد ليكون وارثا لي في حمل منهجك في الرض ،وبعد ذلك يقول
الحق } :فَنَادَتْهُ ا ْلمَل ِئكَةُ وَ ُهوَ قَا ِئمٌ ُيصَلّي فِي ا ْل ِمحْرَابِ{ ...
()430 /
فَنَادَتْهُ ا ْلمَلَا ِئكَ ُة وَ ُهوَ قَائِمٌ ُيصَلّي فِي ا ْلمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُبَشّ ُركَ بِ َيحْيَى ُمصَ ّدقًا ِبكَِلمَةٍ مِنَ اللّهِ وَسَيّدًا
حصُورًا وَنَبِيّا مِنَ الصّالِحِينَ ()39
وَ َ
هل كل الملئكة اجتمعوا أو نادوا زكريا؟ ل ،لن جبريل عليه السلم الذي ناداه .ولماذا جاء
القول الحق هنا بأن الملئكة هي التي نادته؟ لقد جاء هذا القول الحق لنفطن إلى شيء هو ،أن
الصوت في الحدث -كالنسان -له جهة يأتي منها ،أما الصوت القادم من المل العلى فل
يعرف النسان من أين يأتيه ،إن النسان يسمعه وكأنه يأتي من كل الجهات ،وكأن هناك ملكا في
كل مكان.
والعصر الحديث الذي نعيشه قد ارتقى في الصوتيات ووصل لدرجة أن النسان أصبح قادرا على
جعل المؤثر الصوتي يحيط بالنسان من جهات متعددة ،إذن فقوله الحق { :فَنَادَ ْتهُ ا ْلمَل ِئكَةُ } فهذا
يعني أن الصوت قد جاء لزكريا من جميع الجهات.
{ فَنَادَتْهُ ا ْلمَل ِئكَ ُة وَ ُهوَ قَائِمٌ ُيصَلّي فِي ا ْلمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُ َبشّ ُركَ بِيَحْيَـىا ُمصَدّقا ِبكَِلمَةٍ مّنَ اللّهِ
حصُورا وَنَبِيّا مّنَ الصّاِلحِينَ } [آل عمران]39 :
وَسَيّدا َو َ
لقد نادته الملئكة في أورع لقاءاته مع ربه ,أو هو حينما دعا أخذ ما علمه ال للنبياء إذا حزبهم
أمر قاموا إلى الصلة .أليس طلبه من ال؟ إذن فليقف بين يدي ال .وليجربها كل واحد منا عندما
يصعب عليك أي شيء ،وتتأزم المور ،وتمتنع السباب ،فليقم ويتوضأ وضوءا جديدا ويبدأه
بالنية حتى ولو كان متوضئا .وليقف بين يدي ال ،وليقل -إنه أمر يارب عزّ عليّ في أسبابك،
وليصل بخشوع ،وأنا أجزم بأن النسان ما إن يسلم من هذه الصلة إلّ ويكون الفرج قد جاء .ألم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نتلق عن رسول ال هذا السلوك البديع؟ إنه كلما حزبه أمر قام إلى الصلة؟
ومعنى حزبه أمر ،أي أن أسبابه ضاقت ،لذلك يذهب إلى الصلة لخالق السباب ،إنها ذهاب إلى
المسبب .وبدل من أن تلف وتدور حول نفسك ،اذهب إلى ال من أقصر الطرق وهو الصلة،
لماذا تتعب نفسك أيها العبد ولك رب حكيم؟ وقديما قلنا :إن من له أب ل يحمل هما ،والذي له
رب أليس أولى بالطمئنان؟
إن زكريا قد دعا ال في المر الذي حزبه ،وبمجرد أن دعا في المر الذي حزبه ،قام إلى
الصلة ،فنادته الملئكة ،وهو قائم يصلي ،إن الملئكة لم تنتظر إلى أن ينتهي من صلته،
{ فَنَادَتْهُ ا ْلمَل ِئكَ ُة وَ ُهوَ قَائِمٌ ُيصَلّي فِي ا ْلمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ يُ َبشّ ُركَ }.
والبشارة هي إخبار بخير زمنه لم يأت ،فإذا كانت البشارة بخير زمنه لم يأت فلنر من الذي يخبر
بالبشارة؟ أمن يقدر على إيجاده أم من ل يقدر؟ فإذا كان ال هو الذي يبشر ،فهو الذي يقدر ،لذلك
فالمبشر به قادم ل محالة { ،أَنّ اللّهَ يُبَشّ ُركَ بِيَحْيَـىا } لقد قال له ال :سأعطيك .وزيادة على
العطاء سماه ال بـ { يَحْيَـىا } وفوق كل ذلكُ { :مصَدّقا ِبكَِلمَةٍ مّنَ اللّهِ }.
ولننظر إلى دقة الحق حين يقول } :بِ َيحْيَـىا ُمصَدّقا { .هذا دليل على أنه سيعيش بمنهج ال وما
يعرفه من الطاعات سيسير في هذا الطريق وهو مصدق ،وهو سيأتي بكلمة من ال ،أو هو يأتي
ليصدق بكلمة من ال ،لن سيدنا يحيى هو أول من آمن برسالة عيسى عليه السلم .وهو
حصُورا وَنَبِيّا مّنَ الصّالِحِينَ { .أي ممنوعا عن كل ما حُرم
موصوف بالقول الحق } :وَسَيّدا وَ َ
عليه ،أو ممنوعا عن قمة الغرائز وهي الشهوة ،وهو نبيّ ،أي قدوة في اتباع الرسول الذي يجيء
في عصره ،لقد دعا زكريا ،وقام ليصلي ،وتلقى البشارة بيحيى ،وهنا ارتجت المور على بشرية
زكريا ،ويصوره الحق بقوله } :قَالَ َربّ أَنّىا َيكُونُ لِي غُلَمٌ{ ...
()431 /
قَالَ َربّ أَنّى َيكُونُ لِي غُلَا ٌم َوقَدْ َبَلغَنِيَ ا ْلكِبَ ُر وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَِلكَ اللّهُ َيفْ َعلُ مَا يَشَاءُ ()40
إن زكريا -وهو الطالب -يصيبه التعجب من الستجابة فيتساءل .كيف يكون ذلك؟ والحق يورد
ذلك ليعلمنا أن النفس البشرية دائما تكون في دائرات التلوين ،وليست في دائرات التمكين ،وذلك
ليعطي ال لخلقه الذين ل يهتدون إلى الصراط المستقيم السوة في أنه إذا ما حدث له ابتلء فعليه
الرجوع إلى ال ،فيقول زكريا { :أَنّىا َيكُونُ لِي غُلَ ٌم َوقَدْ بََلغَنِي ا ْلكِبَ ُر وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ }.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن بلوغ الكبر ليس دليل على أنه عاجز عن النجاب لنه يكون كبير العمر ،وقادرا على
إخصاب امرأة ،ذلك أن الخصاب بالنسبة لبعض الرجال ليس أمرا عسيرا مهما بلغ من العمر إن
لم يكن عاقرا ،ولكن المرأة هي العنصر المهم ،فإن كانت عاقرا ،فذلك قمة العجز في السباب.
ولو أن زكريا قال فقط { :وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } لكان أمرا غير مستحب بالنسبة لزوجته ،ولكان معنى
ذلك أنه نسب لنفسه الصلحية وهي غير القادرة.
إنه أدب النبوة وهو أدب عال؛ لذلك أوردها من أولهاَ { :وقَدْ بََلغَنِي ا ْلكِبَ ُر وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } ولنر
دقة القول في { :بََلغَنِي ا ْلكِبَرُ } ‘ إنه لم يقل " :بلغت الكبر " بل يقول :إن الكبر هو الذي جاءني
ولم أجيء أنا إلى الكبر؛ لن بلوغ الشيء يعني أن هناك إحساسا ورغبة في أن تذهب إليه ،وذكر
زكريا { وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } هو تضخيم لطلقة القدرة عند من يستمع للقصة ،لقد أورد كل الخوالج
البشرية ،وبعد ذلك يأتي القول الفصل { :قَالَ كَذَِلكَ اللّهُ َي ْفعَلُ مَا يَشَآءُ } إنها طلقة القدرة التي
ج َعلْ لّي آيَةً} ...
فوق السباب لنها خالقة السباب .ويقول زكريا { :قَالَ َربّ ا ْ
()432 /
شيّ
ج َعلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَ ُتكَ أَلّا ُتكَلّمَ النّاسَ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ إِلّا َرمْزًا وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ كَثِيرًا وَسَبّحْ بِا ْلعَ ِ
قَالَ َربّ ا ْ
وَالْإِ ْبكَارِ ()41
إن زكريا يطلب علمة على أن القول قد انتقل إلى فعل {.قَالَ َربّ أَنّىا َيكُونُ لِي غُلَ ٌم َوكَا َنتِ
ن َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْبلُ
امْرَأَتِي عَاقِرا َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ ا ْلكِبَرِ عِتِيّا * قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ هَيّ ٌ
وَلَمْ َتكُ شَيْئا }[مريم.]9 - 8 :
لقد كان هذا القول تأكيدا ل شك فيه ،فبمجرد أن قال الرب فقد انتهى المر .فماذا يريد زكريا من
بعد ذلك؟ إنه يطلب آية ،أي علمة على أن يحيى قد تم إيجاده في رحم أمه ،وما دامت المرأة قد
كبرت فهي قد انقطع عنها الحيض ،ول بد أنه عرف الية لنه يعرف مسبقا أنها عاقر .لكن
زكريا لم يرغب أن يفوت على نفسه لحظة من لحظات هبات ال عليه ،وما دام الحمل قد حدث
فهنا كانت استغاثة زكريا ،ل تتركني يارب إلى أن أفهم بالعلمات الظاهرة المحسة ،لنني أريد
أن أعيش من أول نعمتك علىّ في إطار الشكر لك على النعمة ،فبمجرد أن يحدث الخصاب ل بد
أن أحيا في نطاق الشكر؛ لن النعمة قد تأتي وأنا غير شاكر.
إنه يطلب آية ليعيش في نطاق الشكر ،إنه لم يطلب آية لنه يشك -معاذ ال -في قدرة ال،
ولكن لنه ل يريد أن يفوت على نفسه لحظة النعمة من أول وجودها إل ومعها الشكر عليها،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والذي يعطينا هذا المعنى هو القول الحق { :قَالَ آيَ ُتكَ َألّ ُتكَلّمَ النّاسَ ثَلَثَةَ أَيّامٍ ِإلّ َرمْزا وَا ْذكُر
ي وَالِ ْبكَارِ } .ل بد أن معناها أنه يرغب في الكلم فل يستطيع.
شّرّ ّبكَ كَثِيرا وَسَبّحْ بِا ْلعَ ِ
إن هناك فارقا بين أن يقدر على الكلم ول يتكلم ،وبين أل يقدر على الكلم .وما دامت الية هبة
من ال .فالحق هو الذي قال له :سأمنعك من أن تتكلم ،فساعة أن تجد نفسك غير قادر على الكلم
فاعرف أنها العلمة ،وستعرف أن تتكلم مع الناس رمزا ،أي بالشارة ،وحتى تعرف أن الية
قادمة من ال ،وأن ال علم عن عبده أنه ل يريد أن تمر عليه لحظة مع نعمة ال بدون شكر ال
شيّ وَالِ ْبكَارِ }.
عليها ،فإننا نعلم أن ال سينطقه { ..وَا ْذكُر رّ ّبكَ كَثِيرا وَسَبّحْ بِا ْل َع ِ
لقد أراد زكريا أن يعيش من أول لحظة مع نعمة المنعم شكرا ،وجعل كل وقته ذكرا ،فلم ينشغل
بالناس أو بكلم الناس ،وذكر الرب كثيرا هو ما علمه -سبحانه -عن زكريا عندما طلب الية
ليصحبها دائما بشكر ال عليها ،إن قوله { :وَا ْذكُر رّ ّبكَ كَثِيرا } تفيد أن زكريا قادر على الذكر
وغير قادر على كلم الناس ،لذلك ل يريد ال أن يشغله بكلم الناس ،وكأن ال يريد أن يقول له:
ما دمت قد أردت أن تعيش مع النعمة شكرا فسأجعلك غير قادر على الكلم مع الناس لكنك قادر
على الذكر.
والذكر مطلقا هو ذكر ال بآلئه وعظمته وقدرته وصفات الكمال له ،والتسبيح هو التنزيه ل ،لن
ما فعله ال ل يمكن أن يحدث من سواه ،فسبحان ال ،معناها تنزيه ل ،لنه القادر على أن يفعل
ما ل تفعله السباب ول يقدر أحد أن يصنعه ..إنه يريد أن يشكر الحق الذي يرزق من يشاء بغير
حساب .تلك اللفتة ..التي جاءت من قبل من مريم لزكريا.
وزكريا كما نعلم هو الكفيل لها ،فكونها تنطق بهذه العبارة دللة على أن ال مهد لها بالرزق،
يجيئها من غير زكريا ،بأنها ستأتي بشيء من غير أسباب .وكأن التجربة قد أراد ال أن تكون
من ذاتها لذاتها؛ لنها ستتعرض لشيء يتعلق بعرض المرأة ،فل بد أن تعلم مسبقا أن ال يرزق
من يشاء بغير حساب ،وبدون أسباب .فإن جاءت بولد بدون سبب من أبوة فلتعلم أن ال يرزق
من يشاء بغير حساب.
فلما سمع زكريا منها ذلك قال :ما دام ال يرزق من غير حساب ويأتي بالشياء بل أسباب فأنا قد
بلغت من الكبر عتيا ،وامرأتي عاقر ،فلماذا ل أطلب من ربي أن يهبني غلما؟ إذن فمقولة مريم:
حسَابٍ { قد لفتت زكريا ،ونبهت إيمانا موجودا في أعماقه وحاشية
} إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
شعوره ،ول نقول أوجدت إيمانا جديدا لزكريا بأن ال يرزق من يشاء بغير حساب ،ولكنها
أخرجت القضية اليمانية من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور ،فقال زكريا :ما دام المر كذلك
فأنا أسأل ال أن يهبني غلما ..وقول زكرياَ } :هبْ لِي مِن لّدُ ْنكَ ذُرّيّةً طَيّبَةً { دل على أنه
وزوجته ل يملكان اكتساب البوة والمومة ولذلك طلب الهبة من ال .والهبة شيء بدون مقابل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلما سأل ال ذلك استجاب ال له ،وقال له سبحانه :سأهبك غلما بدون أسباب من خصوبتك في
التلقيح أو خصوبة الزوجة في الحمل ،وما دامت المسألة ستكون بل أسباب وأنا -الخالق -
سأتولى اليجاب بـ " كن " ولمعنى سام شريف سأمنحكم شيئا آخر تقومون به أنتم معشر الباء
والمهات -عادة -إنه تسمية المولود ،فأفاض الحق عليهم نعمة أخرى وهي تسمية المولود بعد
أن وهبه لهما ..هنا وقفة عند الهبة بالسم {.فَنَادَ ْتهُ ا ْلمَل ِئكَ ُة وَ ُهوَ قَائِمٌ ُيصَلّي فِي ا ْلمِحْرَابِ أَنّ اللّهَ
حصُورا وَنَبِيّا مّنَ الصّالِحِينَ }[آل عمران.]39 :
يُبَشّ ُركَ بِ َيحْيَـىا ُمصَدّقا ِبكَِل َمةٍ مّنَ اللّ ِه وَسَيّدا وَ َ
حين يولد للناس ولد فهم يسمونه ،فالتسمية أمر شائع في عادات الناس .ولكن من يهمهم أمر الوليد
حينما يقبلون على تسميته؛ فهم يحاولون أن يتفاءلوا؛ فيسموه اسما يرجون أن يتحقق في المسمى،
فيسمونه " سعيدا " أمل في أن يكون سعيدا ،أو يسمونه " فضل " أو يسمونه " كريما ".
إنهم يأتون بالسم الذي يحبون أن يجدوا وليدهم على صفته ,وذلك هو المل منهم ولكن أتأتي
المقادير على وفق المال؟
قد يسمونه سعيدا ،ول يكون سعيدا .ويسمونه فضل ،ول يكون فضل .ويسمونه عزا ،ول يكون
عزا .ولكن ماذا يحدث حين يسمى ال سبحانه وتعالى؟ ل بد أن يختلف الموقف تماما ،فإذا قال
اسمه } َيحْيَـىا { دل على أنه سيعيش .وقديما قال الشاعر حينما تفاءل بتسمية ابنه يحيى:فسميته
يحيا ليحيا فلم يكن لرد قضاء ال فيه سبيلكان الشاعر قد سمى ابنه يحيى أمل أن يحيا ،ولكن ال
لم يرد ذلك ،فمات البن .لماذا؟ لن المسمىّ من البشر ليس هو الذي يُحْيِي ،إن المسمى إنسان
قدرته عاجزة ،ولكن " المحيى " له طلقة القدرة ،فحين يسمى من له طلقة القدرة على إرادة أن
يحيا فل بد من أن يحيا حياة متميزة؟ وحتى ل تفهم أن الحياة التي أشار ال إليها بقوله " :اسمه
يحيى " بأنها الحياة المعروفة للبشر عادة -لن الرجل حينما يسمى ابنه " يحيى " يأمل أن يحيا
البن متوسط العمار ،كما يحيا الناس ستين عاما ،أو سبعين ،أو أي عدد من السنوات مكتوبة له
في الزل.
لكن ال حينما يسمى " يحيى " فانه ل يأخذ " يحيى " على قدر ما يأخذه الناس ،بل ل بد أن يعطيه
أطول من حدود أعمار الناس ،ويهيء له الحق من خصومه ومن أعدائه من يقتله ليكون شهيدا،
وهو بالشهادة يصير حيا ،فكأنه يحيا دائما ،فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
وهكذا أراد ال ليحيى عليه السلم أن يحيا كحياة الناس ،ويحيا أطول من حياة الناس إلى أن تقوم
الساعة ،وأيضا نأخذ ملحظا في أن زكريا حينما بُشّر بأن ال سيهبه غلما ويسميه يحيى ،نجده قد
استقبلها بالعجب .كيف يستقبل زكريا مسألة الرزق بالولد متعجبا مع أنه رآها في الرزق الذي
حسَابٍ {.
كان يجده عند مريم؟ } يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
ولنا أن نقول :أكنت تحب أن يمر مثل هذا المر الخارق للعادة والخارق للناموس على سيدنا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
زكريا كأنه أمر عادي ل يندهش له ول يتعجب؟ ل ،ل بد أن يندهش ويتعجب لذلك قالَ } :ربّ
لمٌ { .فكأن الدهشة لفتته إلى أنه ستأتي آية عجيبة ،ولو لم تكن تلك الدهشة
أَنّىا َيكُونُ لِي غُ َ
لكانت المسألة رتيبة وكأنها أمر عادي .إذن ،فهو يلفتنا إلى المر العجيب الذي خصه ال به.
وأيضا جاءت المسألة على خلف ناموس التكاثر والنجاب والنسلَ } :وقَدْ بََلغَنِي ا ْلكِبَ ُر وَامْرَأَتِي
عَاقِرٌ {.
إن المسألة كلها تفضل وهبة من ال.
فلما جاءته البشارة ،لم يقل ال له :إنني سأهبك الغلم واسمه يحيى من امرأتك هذه ،أو وأنت على
حالتك هذه .فيتشكك ويتردد ويقول :أترى يأتي الغلم الذي اسمه " يحيى " منى وأنا على هذه
الحالة ،امرأتي عاقر وأنا قد بلغت هذا الكبر ،أو ربما ردنا ال شبابا حتى نستطيع النجاب ،أو
تأتي امرأة أخرى فأتزوجها وأنجب.
إذن فالعجب في الهيئة التي سيصير عليها النجاب فقوله } :أَنّىا َيكُونُ لِي غُلَمٌ * وَقد بلغني
الكبر وامْرَأَتِي عَاقِرا { هذا التساؤل من زكريا يهدف به إلى معرفة الهيئة أو الحالة التي سيأتي
بها النجاب ،لن النجاب يأتي على حالت متعددة .فلما أكد ال ذلك قال " :كذلك " ماذا تعني
كذلك؟ إنها تعني أن النجاب سيأتي منك ومن زوجك وأنتما على حالكما ،أنت قد بلغت من الكبر
عتيا ،وامرأتك عاقر .لن العجيبة تتحقق بذلك ،أكان من المعقول أن يردهما ال شبابا حتى
يساعداه أن يهبهما الولد؟ ل .لذلك قال الحق } :كَذَِلكَ اللّهُ َي ْفعَلُ مَا يَشَآءُ { .أي كما أنتما ،وعلى
حالتكما.
لقد جعل الحق الية أل يكلم زكريا الناس ثلثة أيام إل بالشارة ،وقد يكون عدم الكلم في نظر
شيّ وَالِ ْبكَارِ {
الناس مرضا ل ،إنه ليس كذلك ،لن الحق يقول له } :وَا ْذكُر رّ ّبكَ كَثِيرا وَسَبّحْ بِا ْلعَ ِ
إن الحق يجعل زكريا قادرا على التسبيح ،وغير قادر على الكلم .وهذه قدرة أخرى من طلقة
قدرة ال ،إنه اللسان الواحد ،غير القادر على الكلم ،ولو حاول أن يتكلم لما استطاع ،ولكن هذا
اللسان نفسه -أيضا -يصبح قادرا فقط على التسبيح ،وذكر ال بالعشيّ والبكار ،ذكر ال
باللسان وسيسمعه الناس ،وذلك بيان لطلقة القدرة.
وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى مسألة أخرى تتعلق بمريم ،لن مريم هي الصل في الكلم ،فالرزق
الذي كان يأتيها من ال بغير حساب هو الذي نبه سيدنا زكريا إلى طلب الولد ،وجاء الحق لنا
طفَاكِ{ ...
بقصة زكريا والولد ،ثم عاد إلى قصة مريم } :وَإِذْ قَاَلتِ ا ْلمَلَ ِئكَةُ يامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ
()433 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طفَاكِ عَلَى نِسَاءِ ا ْلعَاَلمِينَ ()42
ك وَاصْ َ
طهّ َر ِ
ك وَ َ
طفَا ِ
وَإِذْ قَاَلتِ ا ْلمَلَا ِئكَةُ يَا مَرْ َيمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ
{ وَإِذْ قَاَلتِ ا ْلمَلَ ِئكَةُ } المراد بها جبريل عليه السلم ،والسبب في أن الحق يورد ذلك بـ { قَاَلتِ
ا ْلمَلَ ِئكَةُ } لن كلم المتكلم -أي النسان -له -كما قلنا -زاوية انطلق يأتي من جهتها
الصوت .وتستطيع أن تتأكد من ذلك عندما يجيء لك صوت ،فأنت تجد ميل أذنك لجهة مصدر
الصوت ،فإن جاء الصوت من ناحية أذنك اليمنى فأنت تلتفت وتميل إلى يمينك ،وإذا جاءك
الصوت من شمالك تلتفت إلى الشمال .لكن المتكلم هنا هو جبريل عليه السلم ،ويأتي صوته من
كل جهة حتى يصير المر عجيبا ،لهذا جاء الكلم منسوبا إلى الملئكة.
طفَاكِ
ك وَاصْ َ
طهّ َر ِ
ك وَ َ
طفَا ِ
فماذا قال جبريل؟ قال جبريل مبلغا عن رب العزة { :يامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ
عَلَىا نِسَآءِ ا ْلعَاَلمِينَ } وما الصطفاء؟ إن الصطفاء اختيار واجتباء ،وهو مأخوذ من الصفو أو
الصافي ،أي الشيء الخالص من الكدر .وعادة تؤخذ المعاني من المحسات ،وعندما تقول الماء
سلٍ ّمصَفّى }[محمد.]15 :
الصافي أي الماء غير المكدر ،أو كما يقول الحق {:وَأَ ْنهَارٌ مّنْ عَ َ
طفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ ا ْلعَاَلمِينَ } نحن هنا أمام
طهّ َركِ وَاصْ َ
طفَاكِ َو َ
وعندما يقول الحق { :إِنّ اللّهَ اصْ َ
اصطفاءين ،الصطفاء الول ورد دون أن تسبقه كلمة " على " والصطفاء الثاني تسبقه كلمة "
على " والمقصود بالصطفاء الول هو إبلغ مريم أن ال ميزها باليمان ،والصلح والخلق
الطيب ،ولكن هذا الصطفاء الول جاء مجردا عن " على " أي أن هذا الصطفاء الول ل يمنع
طفَىا ءَادَ َم وَنُوحا
أن يوجد معها في مجال هذا الصطفاء آخرون ،بدليل قول الحق {:إِنّ اللّهَ اصْ َ
عمْرَانَ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ }[آل عمران.]33 :
وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ ِ
ثم أورد الحق سبحانه أنه طهرها ،وجاء من بعد ذلك بالصطفاء الثاني المسبوق بـ " على " فقال
طفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ ا ْلعَاَلمِينَ } إذن فهذا خروج للرجال عن دائرة هذا الصطفاء ،ولن يكون
{ وَاصْ َ
مجال الصطفاء موضوعا يتعلق بالرجولة؛ فهي مصطفاة على نساء العالمين ،فكأنه ل توجد أنثى
في العالمين تشاركها هذا الصطفاء .لماذا؟ لنها الوحيدة التي ستلد دون ذكر ،وهذه مسألة لن
يشاركها فيها أحد.
طفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ ا ْلعَاَلمِينَ } هذا القول يجب أن ينبه في نفسها سؤال هو :ما
وقوله الحق { :وَاصْ َ
الذي تمتاز هي به عن نساء العالمين؟ إن الذهن ينشغل بهذا المر ،وينشغل على أمر من وظيفة
حسَابٍ } ونجد أن
النثى ،ولنضم هذه إلى قول الحق على لسانها { :إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
هذه كلها إيناسات للحدث الذي سيأتي من بعد ذلك ،وهو حدث يتعلق بعرضها وعفافها ،فل بد أن
يمهد ال له تمهيدا مناسبا حتى تتأكد من أن هذه المسألة ليس فيها شيء يخدش الكرامة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ ا ْلعَاَلمِينَ { ولنا أن نسأل :ما نتيجة الصطفاء؟
} وَاصْ َ
لقد عرفنا أن الصطفاء هو الجتباء والختيار ،ويقتضي " مصطفِى " بفتح الفاء .ويقتضي "
مصطفِى " بكسر الفاء .والمصطفى هو ال ،لكن ما علة الصطفاء؟ إن الذي يصطفيه ال إنما
يصطفيه لمهمة ،وتكون مهمة صعبة .إذن هو يصطفيه حتى يشيع اصطفاؤه في الناس .كأن ال
قد خصه بالصطفاء من أجل الناس ومصلحتهم ،سواء أكان هذا الصطفاء لمكان أم لنسان أم
لزمان ليشيع صفاؤه في كل ما اصطفى عليه .لقد اصطفى ال الكعبة من أجل ماذا؟ حتى يتجه
كل إنسان إلى الكعبة .إذن فقد اصطفاها من أجل البشر وليشيع اصطفاؤها في كل مكان آخر،
ولذلك قال الحق عن الكعبة {:إِنّ َأ ّولَ بَ ْيتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا وَهُدًى لّ ْلعَاَلمِينَ }[آل
عمران.]96 :
وإذا اصطفى الحق سبحانه زمانا ،كاصطفائه لرمضان ،فلماذا اصطفاه؟ ليشيع صفاؤه ،وصفاء ما
أنزل فيه في كل زمان .إذن فاصطفاء الحق للشخص أو للمكان أو للزمان هو لمصلحة بقية الناس
أو المكنة أو الزمنة ،لماذا؟ لن أحدا من الخلق ليس ابنا ل ،وليس هناك مكان أولى بمكان عند
ال .ولكن ال يصطفي زمانا على زمان ،ومكانا على مكان ،وإنسانا على إنسان ليشيع اصطفاء
طفِىَ عليه .إذن فهل يجب على الناس أن يفرحوا بالمصطفى ،أو ل
المُصطفى في كل ما اص ُ
يفرحوا به؟ إن عليهم أن يفرحوا به؛ لنه جاء لمصلحتهم ،والحق سبحانه يقول } :يامَرْيَمُ اقْنُتِي
لِرَ ّبكِ{ ...
()434 /
فكأن ما تقدم من حيثيات الصطفاء الول ،والصطفاء الثاني ،يستحق منها القنوت ،أي العبادة
الخالصة الخاضعة الخاشعة .وقد يقول قائل :ولماذا يصطفى ال واحدا ،ليشيع اصطفاؤه في
الناس؟ لن الصطفاء من الحق ل بد أن يبرئه من كل ما يمكن أن يقع فيه نظيره من الختيارات
غير المرضية ،والحق سبحانه يريده نموذجا ل يقع منه ال الخير ،والمثال الكامل على ذلك
اصطفاء الحق سبحانه لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم من أول المر وجعله ل يفعل إل
السلوك الطيب من أول المر ،وذلك حتى يعطينا الرسول القدوة اليمانية في ثلث وعشرين سنة
هي مدة الرسالة المحمدية.
والحق يقول لمريم على لسان الملئكة { :يامَرْ َيمُ اقْنُتِي لِرَ ّبكِ } إنه أمر بالعبادة الخاشعة المستديمة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لربها ،وكلمة { لِرَ ّبكِ } تعني التربية ،فكأن الصطفاءات هي من نعم ال عليك يا مريم ،وتستحق
جدِي } أي بَاِلغِي في الخشوع،
سجُدِي وَا ْر َكعِي َمعَ الرّا ِكعِينَ } و { وَاسْ ُ
منك القنوت { وَا ْ
والخضوع ،بوضع الجبهة التي هي أشرف شيء في النسان على الرض ،لن السجود هو أعلى
مرتبة من الخضوع.
لكن أيعفيها هذا اللون من الخضوع مما يكون من الركوع ل مع الناس؟ ل ،إنه المر الحق
يصدر لمريم { وَا ْر َكعِي مَعَ الرّا ِكعِينَ } ول يعفيك من الركوع أنك فعلت المر العلى منه في
الخضوع وهو السجود ،بل عليك أن تركعي مع الراكعين ،فل يحق لك يا مريم أن تقولي " :لقد
أمرني ال بأمر " أعلى ولم أنفذ المر الدنى "
إن الحق يأمرها أن تكون أيضا في ركب الراكعين مثلما نقرأ قوله الحق عن الكفار {:مَا سََل َككُمْ
سقَرَ * قَالُواْ لَمْ َنكُ مِنَ ا ْل ُمصَلّينَ }[المدثر.]43-42 :
فِي َ
إنهم كفار ،فكيف يصلون؟ إنه اعتراف منهم بأنهم كفار ،ولم يكونوا مسلوكين في سلك من يصل،
واعتراف بانهم لم يكونوا مسلمين أو مؤمنين بال .وهنا يسأل سائل كريم :لماذا قال سبحانه
ك وَاسْجُدِي وَا ْر َكعِي مَعَ الرّا ِكعِينَ } ولم يقل الحق" :
وتعالى في خطابه لمريم { :يامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَ ّب ِ
مع الراكعات "؟ هذا هو السؤال.
وإجابة على هذا السؤال نحب أن نمهد تمهيدا بسيطا إلى فلسفة السماء في وضعها على
مسمياتها .إن السماء ألفاظ من اللغة تعين مسماها .والمسميات مختلفة ،فمنها الجماد ،ومنها
النبات ,ومنها الحيوان ،ومنها السماء التي تدل على عالم الغيب كالجن ،والملئكة ،وكل ما غيب
ال .هذه السماء تدل على معانيها.
وهدى ال سبحانه البشر إليها بما علم آدم من السماء ،فكيف كان باستطاعة آدم التعبير عن
معطيات السماء بمسمياتها؟ إذن ل بد أن يوجد لكل شيء اسم حتى نستطيع حين نتفاهم على
الشيء أو الكائن بأن نذكر لفظا واحدا موجزا يشير إليه.
ولو لم يكن يذكر هذا فكيف كان باستطاعة إنسان أن يتكلم مع إنسان آخر عن الجبل مثل؟ .أكان
على المتكلم أن يأخذ السامع إلى الجبل ويشير إليه؟ أم يكفي أن يقول له لفظ " جبل " حتى
يستحضر السامع في ذهنه صورة لهذا المسمى؟
إذن ..ففلسفة تعليم الحق للسماء لنا أزاحت عنا عبئا كبيرا من صعوبة التفاهم .ولو ل ذلك لما
استطعنا أن نتفاهم على شيء إل إذا واجهنا الشيء وأشرنا إليه .فكلمة " جبل " وكلمة " صخر "
وغيرها من الكلمات هي أسماء لمسميات ..وعندما أتكلم على سبيل المثال عن أمريكا فإنني لن
آخذ السامع إليها وأشير إليه قائل " إن هذه هي أمريكا " ،لكن كلمة واحدة هي " أمريكا " تعطي
السامع معنى للمسمى ،فتلحق الحكام على مسمياتها .وما دامت المسألة هكذا فل بد من وجود
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أسماء لمسميات ،هذه السماء علمها ال للنسان حتى يتفاهم بها والنسان أصله من آدم.
وكلمة " آدم " حينما تتكلم بها تجدها في النحو مذكرة ،والمذكر يقابله المؤنث .وقد خلق الحق
العلى :الذكورة والنوثة؛ لن من تزاوجهما سيخرج النسل .إذن فكان ل بد من التمييز بين
النوعين للجنس الواحد .فالذكر والنثى ،هما بنو آدم ،ومنها ينشأ التكاثر ،لكن العجيب أن ال حين
سمى آدم ونطقناه اسما مذكرا وسمى " حواء " ونطقناه اسما مؤنثا ،وجعل سبحانه السم الصيل
جدَ منه الخلق هو " نفس " .لقد قال الحق {:ياأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُواْ رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُمْ مّن ّنفْسٍ
الذي و ِ
جهَا وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا رِجَالً كَثِيرا وَنِسَآ ًء وَا ّتقُواْ اللّهَ الّذِي تَسَآءَلُونَ ِب ِه وَالَرْحَامَ
وَاحِ َد ٍة َوخَلَقَ مِ ْنهَا َزوْ َ
إِنّ اللّهَ كَانَ عَلَ ْيكُمْ َرقِيبا }[النساء.]1 :
لقد سمى الحق آدم بكلمة نفس ،وهي مؤنثة ،إذن فليس معنى التأنيث أنه أقل من معنى التذكير،
ولكن " التذكير " هو فقط علمة لتضع الشياء في مسمياتها الحقيقية وكذلك التأنيث .إن الحق
سبحانه يطلق على كل إنسان منا " نفس " وهي كلمة مؤنثة ،وحينما تكلم الحق سبحانه كلما آخر
شعُوبا َوقَبَآ ِئلَ لِ َتعَا َرفُواْ إِنّ
جعَلْنَاكُمْ ُ
عن الخلق قال {:ياأَ ّيهَا النّاسُ إِنّا خََلقْنَاكُم مّن َذكَ ٍر وَأُنْثَىا وَ َ
َأكْ َر َمكُمْ عَندَ اللّهِ أَ ْتقَاكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }[الحجرات.]13 :
وكلمة " ناس " تعني مجموع النسان .وهكذا نعرف أن كلمة " :إنسان " تُطلق مرة على المذكر،
ومرة أخرى على المؤنث .إذن فالحق قد أورد مرة لفظا مذكرا ،ومرة أخرى أطلق لفظا مؤنثا،
وذلك حتى ل نقول :أن المذكر أفضل وأحسن من المؤنث ،ولكن ذلك وسيلة للتفاهم فقط ،ولذلك
شعُوبا َوقَبَآئِلَ
جعَلْنَاكُمْ ُ
يؤكد لنا الحق سبحانه أنه قد وضع السماء لمسمياتها لنتعارف بها {.وَ َ
لِ َتعَا َرفُواْ }[الحجرات.]13 :
ومعنى " لنتعارف " أي أن يكون لكل منا اسمٌ يعرف به عند الخرين.
وفي حياتنا العادية -ول المثل العلى -نجد رجل عنده أولد كثيرون ،لذلك يُطلق على كل ابن
شعُوبا َوقَبَآئِلَ لِ َتعَا َرفُواْ {.
جعَلْنَاكُمْ ُ
اسما ليعرفه المجتمع به ،والعجيب في هذه الية الكريمة } :وَ َ
أننا نجد كلمة " شعوبا " مذكرة وكلمة " قبائل " مؤنثة .إذن فل تمايز بالحسن ،ولكن الكلمات هنا
ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ
مسميات للتعارف .والحق العلى يقول {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
ق وَ َتوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر.]3-1 :
حّصوْاْ بِالْ َ
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ وَتَوَا َ
وَ َ
إذن فما وضع النساء اللئي آمنّ؟ إنهن يدخلن ضمن } الّذِينَ آمَنُواْ { .ولماذا أدخل ال المؤنث في
الذكر؟ لن المذكر هو الصل ،والمؤنث جاء منه فرعا .إذن فالمؤنث هو الذي يدخل مع المذكر
في المور المشتركة في الجنس {.يَاأَ ّيهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَ ّب ُكمُ الّذِي خََل َقكُ ْم وَالّذِينَ مِن قَبِْل ُكمْ َلعَّلكُمْ
تَ ّتقُونَ }[البقرة.]21 :
وهذا يعني أن " المؤنث " عليه أن يدخل في تكليف العبودية ل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمعنى العام يحدد أن المطلوب منه العبادة هو النسان كجنس .وبنوعية الذكر والنثى .وفي
المر الخاص بالمرأة ،ويحدد ال المرأة بذاتيتها .فالحق سبحانه وتعالى يقولَ {:ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ
وَلَ ُم ْؤمِنَةٍ إِذَا َقضَى اللّ ُه وَرَسُولُهُ َأمْرا أَن َيكُونَ َل ُهمُ الْخِيَ َرةُ مِنْ َأمْرِهِ ْم َومَن َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ
للً مّبِينا }[الحزاب.]36 :
ضلّ ضَ َ
َفقَ ْد َ
لماذا؟ إن المسألة هنا تشمل النوعين من الجنس الواحد :الرجل والمرأة ،زوج وزوجة ،فمثل نجد
زوجا يريد تطليق زوجته ،فيأتي الحق بتفصيل يوضح ذلك .وإذا كان هناك أمر خاص بالمرأة
حدٍ مّنَ النّسَآءِ إِنِ
فالحق سبحانه وتعالى يحدد المر فها هوذا قوله الحكيم {:يانِسَآءَ النّ ِبيّ لَسْتُنّ كَأَ َ
ن َولَ
ض َوقُلْنَ َقوْلً ّمعْرُوفا * َوقَرْنَ فِي بُيُو ِتكُ ّ
طمَعَ الّذِي فِي قَلْبِهِ مَ َر ٌ
ضعْنَ بِا ْلقَ ْولِ فَيَ ْ
خ َ
ا ّتقَيْتُنّ فَلَ َت ْ
طعْنَ اللّ َه وَرَسُولَهُ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ
ل َة وَآتِينَ ال ّزكَـا َة وَأَ ِ
تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَا ِهلِيّ ِة الُولَىا وََأ ِقمْنَ الصّ َ
طهِيـرا }[الحزاب.]33-32 :
طهّ َركُمْ َت ْ
ت وَيُ َ
لِيُذْ ِهبَ عَنكُـمُ الرّجْسَ أَ ْهلَ الْبَ ْي ِ
إن كل ما جاء في الية السابقة يحدد المهام بالنسبة لنساء النبي صلى ال عليه وسلم ،فالخطاب
الموجه يحدد المر بدقة " لستن " و " اتقيتن " ،و " ل تخضعن " ،و " قرن " ،و " ل تبرجن ".
الحديث في هذه الية الكريمة يتعلق بالمرأة لذلك يأتي لها بضميرها مؤنثا.
ولكن إذا جاء أمر يتعلق بالنسان بوجه عام فإن الحق يأتي بالمر شامل للرجل والمرأة ويكون
مذكرا ،ولذلك فعندما قالت النساء لماذا يكون الرجل أحسن من المرأة ،جاء قول الحق {:إِنّ
ت وَالصّابِرِينَ
ن وَالصّا ِدقَا ِ
ت وَالصّا ِدقِي َ
ن وَا ْلقَانِتَا ِ
ت وَا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ وَا ْلقَانِتِي َ
ن وَا ْلمُسِْلمَا ِ
ا ْلمُسِْلمِي َ
ت والصّا ِئمِينَ والصّا ِئمَاتِ وَالْحَافِظِينَ
ن وَا ْلمُ َتصَ ّدقَا ِ
شعَاتِ وَا ْلمُ َتصَ ّدقِي َ
ن وَالْخَا ِ
شعِي َ
وَالصّابِرَاتِ وَا ْلخَا ِ
عظِيما }
جهُ ْم وَا ْلحَافِـظَاتِ وَالذّاكِـرِينَ اللّهَ كَثِيرا وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ َلهُم ّمغْفِ َر ًة وَأَجْرا َ
فُرُو َ
[الحزاب.]35 :
هكذا حسم الحق المر.
قال سبحانه تأكيدا لذلك؛{ َومَن َي ْع َملْ مِنَ الصّالِحَاتِ مِن َذكَرٍ َأوْ أُنْثَىا وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ فَُأوْلَـا ِئكَ
يَ ْدخُلُونَ الْجَنّ َة وَلَ ُيظَْلمُونَ َنقِيرا }[النساء.]124 :
إن الذكر والنثى هنا يدخلن في وصف واحد هو } وَ ُهوَ ُم ْؤمِنٌ { إذن فعندما يأتي المر في
المعنى العام الذي يُطلب من الرجل والمرأة فهو يُضمر المرأة في الرجل لنها مبنية على الستر
والحجاب ،مطمورة فيه .داخله معه ..فإذا قال الحق سبحانه لمريم } :وَا ْر َكعِي مَعَ الرّا ِكعِينَ
{ فالركوع ليس خاصا بالمرأة حتى يقول " مع الراكعات " ولكنه أمر عام يشمل الرجل والمرأة،
لذلك جاء المر لمريم بأن تركع مع الراكعين ،وبعد ذلك يقول الحق } :ذاِلكَ مِنْ أَنَبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ
نُوحِيهِ ِإلَيكَ{ ...
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()435 /
ك َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ يُ ْلقُونَ َأقْلَا َمهُمْ أَ ّيهُمْ َيكْ ُفلُ مَرْيَ َم َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْيهِمْ إِذْ
ذَِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَ ْي َ
صمُونَ ()44
يَخْ َت ِ
وقد قلنا من قبل :إن كلمة " نبأ " ،ل تأتي إلّ في الخبر العظيم .والغيب هو ما غاب عن الحس.
وهناك " غياب عن الحس " من الممكن أن يدركه مثلك .وهناك غياب عن الحس ل يدركه مثلك.
وقلنا من قبل :إن حجب الغيب ثلثة :مرة يكون الحجاب في الزمن ماضيا ،ومرة مستقبل ،ومرة
ثالثة يكون الحجاب في المكان .لماذا؟ لن ظروف الحداث زمان ومكان .فإذا أنبأني منبئ بخبر
مضى زمنه فهذا اختراق للحجاب الزمن الماضي ،فالحدث يكون قد وقع من سنوات وصار
ماضيا ,وإذا أخبرني به الن فهذا يعني أنه اخترق حجاب الزمن الماضي ،وإذا قال لي عن أمر
سيحدث بعد سنتين من الن فهذا اختراق حجاب الزمن المستقبل ،وهب أنه أخبرك بنبأ معاصر
لزمنك الن نقول :هنا يوجد حجاب المكان ،فعندما أكون معكم الن ل أعرف ما الحادث في
مدينة أخرى غير التي نحن بها ،ورغم أن الزمن واحد.
لذلك فعلينا أن نعرف ،أنه مرة يكون الحجاب زمان ..أي قد يكون الزمن ماضيا ،أو يكون الزمن
مستقبل ،وقد يكون حجاب مكان .فإذا كان ال ينبئ رسوله بهذا النبأ ,فوسائل علم رسول ال
صلى ال عليه وسلم ثلث؛ لن وسيلة العلم بالنبأ أحد ثلثة أمور :مشاهدة؛ أو سماع؛ أو قراءة.
والوسيلة الولى وهي مشاهدة النبأ يشترط أن يوجد في زمن هذا النبأ ،والنبأ الذي أخبر ال به
رسوله حدث من قبل بعث الرسول بما ل يقل عن ستة قرون .إذن فالمشاهدة كوسيلة علم بهذا
النبأ ل تصلح ،لن النبأ قد حدث في الماضي .قد يقول قائل :لعل الرسول صلى ال عليه وسلم قد
قرأها ،أو سمعها وبإقرار خصوم محمد صلى ال عليه وسلم أنه ليس بقارئ ،فامتنعت هذه
الوسيلة أيضا ،وبإقرار خصومة صلى ال عليه وسلم أنه لم يجلس إلى معلم فلم يستمع من معلم.
إذن فلم يكن من سبيل لمعرفة رسول ال صلى ال عليه وسلم بهذا النبأ إل بالوحي ،لذلك قال
الحق سبحانه:
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْ َي َم َومَا كُ ْنتَ
ك َومَا كُنتَ لَدَ ْيهِمْ ِإذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
{ ذاِلكَ مِنْ أَنَبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَي َ
صمُونَ } [آل عمران]44 :
لَدَ ْيهِمْ إِذْ َيخْ َت ِ
وقلنا قديما إن الوحي ،هو إعلم بخفاء؛ لن العلم العادي هو أن يقول إنسان لنسان خبرا ما،
أو يقرأ النسان الخبر ،أما العلم بخفاء فاسمه " وحي " .والوحي يقتضي " موحي " وهو ال" ،
وموحى إليه " وهو الرسول ال صلى ال عليه وسلم ،و " موحى به " وهو القرآن الكريم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا نظرنا إلى العلم بخفاء لوجدنا له وسائل كثيرة.
إن ال يوحي .لكن الموحي إليه يختلف .ال سبحانه وتعالى يوحي للرض {:إِذَا ُزلْزَِلتِ الَ ْرضُ
ت الَ ْرضُ أَ ْثقَاَلهَا * َوقَالَ الِنسَانُ مَا َلهَا * َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ أَخْبَا َرهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ
ج ِ
زِلْزَاَلهَا * وَأَخْ َر َ
َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة.]5-1 :
إنه إعلم بخفاء ،لن أحدا منا لم يسمع ال وهو يوحي للرض ،والحق سبحانه يوحي للنحل،
ويوحي للملئكة ،ويوحي للنبياء ،وهناك وحي من غير ال ،كوحي الشياطين {.وَإِنّ الشّيَاطِينَ
طعْ ُتمُو ُهمْ إِ ّنكُمْ َل ُمشْ ِركُونَ }[النعام.]121 :
لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُ ْم وَإِنْ َأ َ
ضهُمْ
ع ُدوّا شَيَاطِينَ الِنْسِ وَالْجِنّ يُوحِي َب ْع ُ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ َ
وهناك وحي من البشر للبشرَ {:وكَذَِلكَ َ
إِلَىا َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ غُرُورا وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ مَا َفعَلُوهُ فَذَ ْرهُ ْم َومَا َيفْتَرُونَ }[النعام.]112 :
لكن الوحي إذا أُطلق ،ينصرف إلى الوحي من ال إلى من اختاره لرسالة ،وما عدا ذلك من أنواع
الوحي يسمونه " وحيا لغويا " إنما الوحي الصطلحي وحي من ال لرسول ،إذن فوحى ال
للرض ليس وحيا اصطلحيا ،ووحى ال للنحل ليس وحيا اصطلحيا ،ووحي ال لم موسى
ليس وحيا اصطلحيا ،ووحي ال للحواريين ليس وحيا اصطلحيا ،إن الحق سبحانه يقول {:وَِإذْ
ش َهدْ بِأَنّنَا مُسِْلمُونَ }[المائدة.]111 :
حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنّا وَا ْ
َأوْحَ ْيتُ إِلَى الْ َ
إن هذا لون من الوحي غير اصطلحي ،بل هو وحي لغوي ،أي أعلمهم بخفاء .لكن الوحي
الحقيقي أن يُعلم ال من اختاره لرسالة ،وهذا هو الوحي الذي جاء للرسول صلى ال عليه وسلم.
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْيَمَ
ك َومَا كُنتَ لَدَ ْيهِمْ إِذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
يقول الحق } :ذاِلكَ مِنْ أَنَبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَي َ
صمُونَ {.
َومَا كُ ْنتَ َلدَ ْيهِمْ إِذْ يَخْ َت ِ
هكذا يخبرنا الحق ان الرسول تلقى هذا النبأ بالوحي ،فلم يقرأه ،ولم يشاهده ،ونحن نعرف أن
خصوم رسول ال شهدوا انه لم يقرأ ولم يستمع من معلم .وهكذا يخبرنا الحق أن الرسول صلى
ال عليه وسلم لم يكن موجودا مع قوم مريم حين ألقوا أقلمهم.
والقلم يُطلق على القلم الذي نكتب به ،أو يطلق القلم على القداح التي كانوا يقترعون بها إذا
اختلفوا على شيء .وكانوا عندما يختلفون يحضرون قداحا ،ليعفروا من يظفر بالشيء المختلف
عليه ونسميها نحن القرعة ،والقرعة يقومون بإجرائها لخراج الهوى من قسمة شائعة بين أفراد،
وذلك حتى ل يميل الهوى إلى هذا أو إلى ذاك مفضل له على الخرين ،ولذلك فنحن أيضا نجري
القرعة فنضع لكل واحد ورقة.
إذن فل هوى لحد في إجراء قسمة عن طريق القرعة ،وبذلك نكون قد تركنا المسألة إلى قدر ال
لن الورقة ل هوى لها ،ولما اختلف قوم مريم على كفالتها ،واختصموا حول مَن الذي له الحق
في أن يكفلها .هنا أرادوا أن يعزلوا الهوى عن هذه المسألة ،وأرادوا أن تكون قدرية ،ويكون
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القول فيها عن طريق قدح ل هوى له.
وهذا القدح سيجري على وفق المقادير .أما " أقلمهم " فقد تكون هي القداح التي يقتسمون بها
القرعة ،أو القلم التي كتبوا بها التوراة تبركا.
ل َمهُمْ " وأين تم إلقاء هذه القلم؟ قيل:
وتساؤل البعض ،ما المقصود بقول الحق " :إِذْ ُي ْلقُون َأقْ َ
إنها ألقيت في البحر وإذا ألقيت القلم في البحر فمن الذي يتميز في ذلك؟ قيل :إنه إذا ما أطل
قلم بسنه إلى أعلى فصاحبه الفائز ،أو إذا غرقت كل القلم وطفا قلم واحد يكون صاحبه هو
الفائز .ول بد أنهم اتفقوا على علمة أو سمة ما تميز القلم الذي كان لصاحبه فضل كفالة مريم} .
صمُونَ {.
ل َمهُمْ أَ ّي ُهمْ َي ْكفُلُ مَرْيَ َم َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْيهِمْ إِذْ َيخْ َت ِ
َومَا كُنتَ َلدَ ْيهِمْ إِذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
صمُونَ { تدل على حرارة المنافسة بين القوم شوقا إلى كفالة مريم ،لدرجة أن أمر
وكلمة } ِإذْ يَخْ َت ِ
كفالتها دخل في خصومة ،وحتى تنتهي الخصومة لجئوا إلى القتراع بالقلم.
وننتقل الن إلى مرحلة أخرى.
()436 /
لقد كانت المرحلة الولى بالنسبة لعداد مريم هي قوله الحق على لسانها { :إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن
يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ } .وبذاك تعرفت على طلقة قدرة ال ،والمرحلة الثانية هي سماعها لحكاية
زكريا ويحيى وتأكيد الحق لها أنه اصطفاها على نساء العالمين ،وفي ذلك أمر يتعلق بالنساء،
وكان ذلك إيناسا من الحق لها ،وتدخل مريم إلى مرحلة جديدة.
{ ِإذْ قَاَلتِ ا ْلمَل ِئكَةُ يامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ يُ َبشّ ُركِ ِبكَِلمَةٍ مّنْهُ } [آل عمران.]45 :
والبشارة ل تكون إل بخبر عظيم مفرح ،وقد يتساءل البعض؟ ماذا يقصد الحق بقولهِ { :بكَِلمَةٍ مّنْهُ
}؟ والجابة هي :أن الحق سبحانه وتعالى يزاول سلطانه في ملكه بالكلمة ،ل بالعلج ،فالحق
سبحانه علمنا ذلك بقوله {:اللّهُ َيخُْلقُ مَا يَشَآءُ إِذَا َقضَىا َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ }[آل
عمران.]47 :
وهذا القول هو مجرد إيضاح لنا وتقريب لنه ل يوجد عندنا أقصر في المر من كلمة " كن " إن
قدرته قادرة بطلقتها أن تسبق نطقنا بالكاف وهي الحرف الول من " كن " ،ولكن الحق يوضح
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لنا بأقصر أمر على طريقة البشر ،إن الحق سبحانه وتعالى إذا أراد أمرا فإنه يقول له كن فيكون،
وذلك إيضاح أن مجرد الرادة اللهية لمر ما تجعله ينشأ على الفور ،و " كن " هي مجرد إظهار
سمُهُ ا ْلمَسِيحُ
المر للخلق ،هكذا نفهم معنى بشارة الحق لمريم بـ { ِبكَِلمَةٍ مّنْهُ } ويقول الحق { :ا ْ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } .إنها ثلثة أسماء " ،المسيح " " ،عيسى " " ،ابن مريم ".
ما معنى المسيح؟ قد يكون المسموح من الذنوب ،أو أن تكون من آياته أن يمسح على المريض
فيبرأ ،أو المسيح المبارك ..أما عيسى .فهذا هو السم ،والمسيح هو اللقب ،وابن مريم هي
الكنية ..ونحن نعرف أن العََلمَ في اللغة العربية يأتي على ثلثة أنواع :اسم أو لقب أو كنية .وابن
مالك يقول " :واسما أتى وكنية ولقبا " إن العَلَم على الشخص له ثلث حالت .إما اسم وهو ما
ضعَته
يطلق على المسمى أول .والسم الثاني الذي أطلقناه عليه .إن كان يشعر برفعة صاحبه أو ب ِ
سمُهُ ا ْلمَسِيحُ
نسميه لقبا .أما ما كان فيه أب أو أم فيقال له " :كنية " وجاءت الثلثة في عيسى { ا ْ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ }.
" المسيح " هو اللقب " ،عيسى " هو السم " و " ابن مريم " وهو الكنية .ومجيء عيسى باللقب
والسم والكنية ستكون لها حكمة تظهر لنا من بعد ذلك .ويقول عنه الحقَ { :وجِيها فِي الدّنْيَا
وَالخِ َرةِ }.
ونحن في حياتنا نستعمل كلمة فلن وجيه من وجهاء القوم ،والوجيه هو الذي ل يرده مسئول
للكرامة في وجهه ،ونحن نسمع في حياتنا اليومية.
فلن ل يصح أن نسبب له الخجل برفض أي طلب له .وكما يقول العامة( :هو الوجه ده حد
يكسفه) إذن فالوجيه هو الذي يأخذ سمة وتميزا بحيث يستحي الناس أن يردوه إذا كان طالبا،
وهناك إنسان آخر قد يسألك أو يسأل الناس ،فل يبالي به أحد ،إنه يريق ماء وجهه وتنتهي
المسألة.
إذن فقوله الحق في وصف عيسى بن مريمَ } :وجِيها فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ { أي أن أحدا ل يرده إن
سأله .لكرم وجهه ،فالنسان يخجل أن يرد صاحب مثل هذه الكرامة ،لذلك نجد أن السائل قد
يقول :أعطني لوجه ال .أي أنه يقول لك :ل تنظر إلى وجهي ،ولكن انظر إلى وجه ال؛ لن ال
هو الذي جاء بي إلى الدنيا وخلقني ،وما دام قد جاء بي الخالق إلى الدنيا فهو المتكفل برزقي،
فأنت حينما تعين على رزق من استدعاه ال إلى الوجود تكون قد أعطيت لوجه ال ،إنه الخالق
الذي يرزق كل مخلوق له حتى الكافر.
إذن فعطاء النسان للسائل ليس عطاء لوجه السائل ،ولكنه عطاء لوجه ال .والحق يقول عن
عيسى بن مريم } :وَجِيها فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ { وعرفنا كيف يكون النسان وجيها في الدنيا ،فلماذا
نص الحق على وجاهة عيسى في الخرة؟ وخصوصا أن كل وجوه المؤمنين ستكون ناضرة ،لقد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نص الحق على وجاهة عيسى في الخرة لنه سوف يُسأل سؤال يتعلق بالقمة اليمانية {:وَِإذْ قَالَ
خذُونِي وَُأ ّميَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَا َنكَ مَا َيكُونُ
اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّ ِ
سكَ إِ ّنكَ
حقّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي َولَ أَعْلَمُ مَا فِي َنفْ ِ
لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَ ْيسَ لِي بِ َ
أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة.]116 :
إياك أن تظن أن هذا السؤال هو تقريع من ال لعيسى بن مريم .ل إن الحق يريد أن يقرّع من
ت وَ َيوْمَ َأمُوتُ وَ َيوْمَ أُ ْب َعثُ حَيّا }
قالوا هذا الكلم .ولذلك يقول عنه الحق {:وَالسّلَمُ عََليّ َيوْ َم وُلِ ْد ّ
[مريم.]33 :
لن ميلده كان له ضجة ،وبعض بني إسرائيل اتهموا والعياذ بال أمه مريم البتول ،و " يوم
الممات " ،كلنا نعرف حكاية الصلب وكان لها ضجة .إنه لم يصلب ولكن صلب من خانه ووشي
خذُونِي
به فألقى ال شبه عيسى عليه فقتلوه .ويوم البعث حيا يوم يسأله ال {:أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّ ِ
حقّ }[المائدة.]116 :
وَُأمّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَ ْيسَ لِي بِ َ
إنه عيسى ابن مريم الذي أنعم ال عليه بالسلم في هذه المواقف الثلثة .ويتابع الحق فيصف
عيسى ابن مريم بقوله } :وَجِيها فِي الدّنْيَا وَالخِ َر ِة َومِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ { إن كلمة " من المقربين " تدل
على تعالى الحق في عظمته ،فحين يفتن بعض البشر في واحد منهم قد يغضب بعضهم من
الشخص الذي فتن الخرون فيه مع أنه ليس له ذنب في ذلك.
والحق سبحانه يعلمنا أن للمغالي جزاءه ولكن المغالَى فيه تنجيه رحمة الغفار.
إن الحق يعلمنا أن فتنة بعض الناس بعيسى ابن مريم عليه السلم ل تؤثر في مكانة عيسى عليه
السلم عند الحق ،إنه مقرب من ال ،ول تؤثر فتنة الخرين في مكانته عند ال ،ويقول الحق} :
وَ ُيكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َمهْدِ{ ...
()437 /
الكلم :معناه اللفظ الذي ينقل فكر الناطق إلى السامع ،وقول الحق { :وَ ُيكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َم ْهدِ } ،
معناه أن المواجه لعيسى عليه السلم في المهد هم الناس و " المهد " هو ما أعد كفراش للوليد.
ولقد أورد الحق { ا ْل َمهْ ِد َو َكهْلً } رمزية لشئ ،وهي أن عيسى ابن مريم من الغيار ،يطرأ عليه
مرة أن يكون في المهد ،ويطرأ عليه مرة أخرى أن يكون كهل ،وما دام في عالم الغيار فل
يصح أن يفتتن به أحد ليقول إنه " إله " أو " ابن إله ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونفهم أيضا من { وَ ُيكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َمهْدِ } سر وجود آية المعجزة التي وهبها له ال وهو طفل في
المهد .لن المسألة تعلقت بعِرض أمه وكرامتها وعفتها ،فكان من الواجب أن تأتي آية لتمحو
عجبا من الناس حين يرونها تلد بدون أب لهذا الوليد أو زواج لها .وهذه المسألة لم نجد لها
وجودا .مع أنها مسألة كان يجب أن تقال لنهم يمجدون نبيهم ،وكان من الواجب أل يغفلوا عن
هذه العجيبة ،إن كلم طفل في المهد لما كان أمرا عجيبا كان ل بد أنّه سيكون محل حفظ وتداول
بين الناس ،ولن يكتفي الناس برواية واقعة كلمه في المهد فقط ،بل سيحفظون ما قاله ،ويرددون
قوله.
والكلمة التي قالها عيسى عليه السلم في المهد ل تسعف من يصف عيسى عليه السلم بوصف
يناقض بشريته؛ لن الكلمة التي نطق بها أول ما نطق :إني عبد ال ،فأخفوا هم هذه المسألة كلها
لن هذه الكلمة تنقض القضية التي يريدون أن يضعوا فيها عيسى عليه السلم ،إن الحق يقول:
{ وَ ُيكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َمهْ ِد َو َكهْلً }.
ونعرف أن الكلم في المهد أي وهو طفل و " كهل " أي بعد الثلثين من العمر ,أي في العقد
الرابع .والبعض قد قال :إن الكهولة ..بعد الربعين من العمر .وهو قد حدثت له في روايتهم
حكاية الصلب قبل أن يكون كهل ،فإذا كان قد تكلم في المهد فيبقى أن يتكلم وهو كهل ،وقالوا إن
حادثة الصلب أو عدم الصلب ،أو الختفاء عن حس البشر قد حدثت قبل أن يكون كهل ،إذن فل
بد أن يأتي وقت يتكلم فيه عيسى بن مريم عندما يصير كهل ،وأيضا قوله الحق { :وَ ُيكَلّمُ النّاسَ
فِي ا ْل َمهْ ِد َو َكهْلً } أي انه تكلم في المهد طفلً ويتكلم كهل أي ناضج التكوين ،وبذلك نعرف أن
عيسى بن مريم فيه أغيار وفيه أحوال ،فإذا كنتم تقولون إنه إله فهل اللوهية في المهد هي
اللوهية في الكهولة؟
إن كانت اللوهية في المهد فقط فهي ناقصة لنه لم يستمر في المهد ،وحدثت له أغيار ،وما دام
قد حدثت له أغيار فهو محدث ،وما دام محدثا فل يكون إلها ،وبعد ذلك يقول الحق عن عيسى ابن
مريمَ { :ومِنَ الصّاِلحِينَ } ما حكايتها؟
إن العجيبة التي قال عنها ال :إنه يكلم الناس في المهد لم تكن باختياره ،وكلمه وهو كهل سيكون
ن } مقصود بها عمله ،أي الحركة
بالوحي ،أي ليس له اختيار فيه أيضاَ { ،ومِنَ الصّاِلحِي َ
السلوكية.
لماذا؟ لنه ل يكفي أن يكون مبلغا ،ول يكفي أن يكون حامل آية ،بل ل بد أن يؤدي السلوك
اليماني.
ويقول الحق على لسان مريم البتول } :قَاَلتْ َربّ أَنّىا َيكُونُ لِي وَلَ ٌد وَلَمْ َيمْسَسْنِي بَشَرٌ{ ...
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()438 /
ونريد أن نقف وقفة ذهنية تدبرية عند قولها { :قَاَلتْ َربّ أَنّىا َيكُونُ لِي وَلَ ٌد وََلمْ َيمْسَسْنِي بَشَرٌ }
فلو أنها سكتت عند قولها { :أَنّىا َيكُونُ لِي وَلَدٌ } لكان أمرا معقول في تساؤلها ،ولكن إضافتها
{ وَلَمْ َيمْسَسْنِي بَشَرٌ } تثير سؤال ،من أين أتت بهذا القول { وَلَمْ َيمْسَسْنِي بَشَرٌ }؟ هل قال لها أحد:
إنك ستلدين ولدا من غير أب؟ إن الملئكة لم تخبرها بذلك ،لذلك انصرف ذهنها إلى مسألة المس.
إنها فطرة وفطنة المهيأة والمعدة للتلقي عن ال ،عندما قال لها " :المسيح عيسى ابن مريم ".
قالت لنفسها :إن نسبته بأمر ال هي لي ،فل أب له ،لقد قال الحق :إنه " ابن مريم " ولذلك جاء
سسْنِي َبشَرٌ } ذلك أنه ل يمكن أن ينسب الطفل للم مع وجود الب .هكذا نرى
قولها { :وَلَمْ َيمْ َ
فطنة التلقي عن ال في مريم البتول .لقد مر بها خوف عندما عرفت أن عيسى منسوب إليها
وقالت لنفسها ،إن الحمل بعيسى لن يكون بوساطة أب ،وكيف يكون الحمل دون أن يمسسني
بشر .وقال الخالق الكرم { :كَذَِلكَ } أي لن يمسك بشر ،ولم يقل لها :لقد نسبناه لك لنك منذورة
لخدمة البيت ،ولكن الحق قالَ { :كذَِلكَ } تأكيدا لما فهمته عن إنجاب عيسى دون أن يمسسها بشر.
وتتجلى طلقة القدرة في قوله سبحانه { :اللّهُ َيخْلُقُ مَا َيشَآءُ }.
إنها طلقة القدرة ،وطلقة القدرة في النسال أو النجاب أو في عدم التكثير بالنسبة للنسان,
وطلقة القدرة ل تتوقف على إيجاد ذكورة وأنوثة ،ولو كانت طلقة القدرة في الخلق ل تتوقف
على إيجاد ذكورة وأنوثة ،إنه الحق العلى القادر على أن يخلق دون ذكورة أو أنوثة ،كخلقه لدم
عليه السلم ،ويخلق الحق سبحانه بواحد منهما ،كخلقه سبحانه لحواء وخلق عيسى عليه السلم،
ويخلق الخالق العلى الذكورة والنوثة يمكن أن يُحقق الخلق ،فقد توجد الذكورة والنوثة ول
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ يَخُْلقُ مَا يَشَآءُ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ
يوجد إنجاب ،ها هو ذا القول الحق {:لِلّهِ مُ ْلكُ ال ّ
عقِيما إِنّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ }
ج َعلُ مَن َيشَآءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ
إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ
[الشورى.]50-49 :
هذه هي إرادة الحق ،إذن فل تقل :إن اكتمال عنصري الذكورة والنوثة هو الذي يحدث الخلق،
لن الخلق يحدث بإرادة الحقَ { ,كذَِلكَ اللّهُ َيخُْلقُ مَا يَشَآءُ إِذَا َقضَىا َأمْرا فَإِ ّنمَا َيقُولُ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ
} .فأنتم أيها المحدثون تفعلون بالسباب .لكن الذي خلقكم وخلق السباب لكم هو الذي بيده أن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يوجد بل أسباب ،لنه أنشأ العالم أول ما أنشأ بدون أسباب.
ح ْكمَةَ} ...
ب وَالْ ِ
ويقول الحق سبحانه عن عيسى عليه السلم { :وَ ُيعَّلمُهُ ا ْلكِتَا َ
()439 /
وساعة نسمع { وَ ُيعَّلمُهُ ا ْلكِتَابَ } فنحن نفهم أن المقصود بها الكتاب المنزل ،ولكن ما دام الحق قد
أتبع ذلك بقوله { :ال ّتوْرَا َة وَالِنْجِيلَ } فل بد لنا أن نسأل .إذن ما المقصود بالكتاب؟ هل كان
المقصود بذلك الكتاب الكتب المتقدمة ،كالزبور ،والصحف الولى ،كصحف إبراهيم عليه السلم؟
إن ذلك قد يكون صحيحا ،ومعنى { وَ ُيعَّلمُهُ ا ْلكِتَاب } أن الحق قد علمه ما نزل قبله من زبور
داود ،ومن صحف إبراهيم ،وبعد ذلك توراة موسى الذي جاء عيسى مكمل لها.
وبعض العلماء قد قال :أُثِرَ عن عيسى عليه السلم أن تسعة أعشار جمال الخط كان في يده.
وبذلك يمكن أن نفهم { وَ ُيعَّلمُهُ ا ْلكِتَابَ } أي القدرة على الكتابة .وما المقصود بقوله :إن عيسى
ح ْكمَ َة وَال ّتوْرَاةَ
عليه السلم تلقى عن ال بالضافة إلى { وَ ُيعَّلمُهُ ا ْلكِتَابَ } أنه تعلم أيضا { ا ْل ِ
وَالِنْجِيلَ } وكلمة الحكمة عادة تأتي بعد كتاب منزل ،مثال ذلك قوله الحق {:وَا ْذكُـرْنَ مَا يُتْـلَىا
حكْـمَةِ إِنّ اللّهَ كَانَ َلطِيفا خَبِيرا }[الحزاب.]34 :
فِي بُيُو ِتكُـنّ مِنْ آيَاتِ اللّ ِه وَالْ ِ
كتاب ال المقصود هنا هو القرآن الكريم ،والحكمة هي كلم الرسول عليه الصلة والسلم.
فالرسول له كلم يتلقاه ويبلغه ،ويعطيه الحق أيضا أن يقول الحكمة ،أما التوراة التي علمها ال
لعيسى عليه السلم فقد علمها له ال ،لننا كما نعلم أن مهمة عيسى عليه السلم جاءت لتكمل
التوراة ،ويكمل ما أنقصه اليهود من التوراة ،فالتوراة أصل من أصول التشريع لعصره والمجتمع
المبعوث إليه فهو بالنص القرآني { :وَرَسُولً إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنّي قَدْ جِئْ ُتكُمْ بِآيَةٍ مّن رّ ّبكُمْ} ...
()440 /
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي ِإسْرَائِيلَ أَنّي َقدْ جِئْ ُت ُكمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَ ّب ُكمْ أَنّي أَخُْلقُ َلكُمْ مِنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَ ْنفُخُ
فِيهِ فَ َيكُونُ طَيْرًا بِِإذْنِ اللّ ِه وَأُبْ ِرئُ الَْأ ْكمَ َه وَالْأَبْ َرصَ وَأُحْيِي ا ْل َموْتَى بِإِذْنِ اللّ ِه وَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا تَ ْأكُلُونَ َومَا
تَدّخِرُونَ فِي بُيُو ِتكُمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً َل ُكمْ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ ()49
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن كلمة رسول تحتاج إلى علمة ،فليس لي أحد أن يقول " :أنا رسول من عند ال " بل ل بد أن
يقدم بين يدي دعواه معجزة تثبت أنه رسول من ال .والية كما نعرف هي المر العجيب الذي
خرج عن القوانين والنواميس لتثبت صدق الرسول في البلغ ،وما دامت المعجزة خارجة عن
نواميس البشر ،فالمخالف نقول له :أنت حين تكذب أن حامل المعجزة رسول ،فكيف تعلل أنه جاء
بمعجزة خرجت عن الناموس؟ إذن فالمعجزة تلزم المنكر الذي يتحدى وتفحمه ،لنه ل يستطيع أن
يأتي بمثلها ،ولذلك قلنا :إن من لزوم التحدي أل يتحدى ال حين يعطي رسول معجزة إل بشيء
نبغ فيه القوم المبعوث إليهم ذلك الرسول؛ لن الحق لو جاء لهم بشيء لم يدرسوه ولم يعرفوه،
فالرد منهم يكون للرسول بقولهم :إن هذا أمر لم نروّض أنفسنا ولم ندربها عليه ،ولو روّضنا
أنفسنا عليه ل ستطعنا أن نفعل مثله ،وأنت قد جئت لنا بشيء لم نعود أنفسنا عليه ،لذلك يرسل
الحق الرسول -أي رسول -بمعجزة من جنس ما ينبغ فيه القوم المرسل إليهم ..مثال ذلك،
موسى عليه السلم ،أرسله ال إلى قوم كانوا نابغين في السحر ،فكانت معجزته تقرب من السحر.
وإياك أن تقول إن معجزة موسى كانت سحرا؛ لن موسى عليه السلم لم ينزل بسحر ولكن
بمعجزة .كانوا هم يخيلون للناس أشياء ليست واقعا لذلك تجد القرآن يعطيك الفارق بين ما يكون
عليه ما يأتي به ال على يد رسول من الرسل من معجزة وسحر القوم ،فيقول القرآنَ {:ومَا تِ ْلكَ
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَىا *
بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا * قَالَ ِهيَ َ
سعَىا }[طه.]20-17 :
قَالَ أَ ْلقِهَا يامُوسَىا * فَأَ ْلقَاهَا فَإِذَا ِهيَ حَيّةٌ تَ ْ
كأن الحق يقول لموسى عليه السلم :إن حدود علمك بما في يدك أنها عصا تتوكأ عليها وتهش
بها على غنمك ،أما علمي أنا فهو علم آخر .لذلك يأمره أن يلقى العصا ،فلما ألقاها وجدها حية
تسعى ،فأوجس في نفسه خيفة ..إن " أوجس في نفسه خيفة " هي التي فرقت بين سحر القوم
ومعجزة موسى عليه السلم ".
لماذا؟ لن الساحر يلقى العصا فيراها الناس حية وهو يراها عصا لنّ الساحر لو رآها حية لخاف
مثل الناس ،لقد خاف موسى عليه السلم لنها تغيرت وصارت حية فعل ،ولذلك قال له ال {:قَالَ
خفْ سَ ُنعِي ُدهَا سِيَر َتهَا الُولَىا }[طه.]21 :
خذْهَا َولَ َت َ
ُ
فلو كانت من جنس السحر لما أوجس في نفسه خيفة لنه سوف يراها عصا وإن رآها غيره حية،
وهذا هو الفارق.
وقوم عيسى أيضا كانوا مشهورين بالحكمة والطب ،إذن فستجيء اليات من جنس الحكمة
والطب ،ثم تتسامى المعجزة ،لن الذي يطبب جسما ويداويه ل يستطيع أن يعيد الميت إلى الحياة،
لن النسان إذا ما مات فقد خرج الميت عن دائرة علج الطبيب .ولذلك رقّى ال آية عيسى ،إنه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يشفي المرضى،ويحيى الموتى أيضا ،وهذا ترق في العجاز .قال عيسى } :أَنّي قَدْ جِئْ ُتكُمْ بِآيَةٍ مّن
رّ ّبكُمْ أَنِي َأخْلُقُ َل ُكمْ مّنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَ َيكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللّهِ { .إن كلمة " أخلق "
تحتاج إلى وقفة وكذلك " الطين " و " الهيئة " و " الطير ".
" أخلق " مأخوذة من الخلق ،والخلق هو إيجاد شيء على تقدير ،فأنت تتخيله وتقدره في ذهنك
أول ثم تأتي به على هذه الحالة .فإن كان قد أتى على غير تقديرك فليس خلقا ،إنما هو شيء
جزافى جاء على غير علم وتقدير ،وإنّ من يأخذ قطعة من الطين ويصنع منها أي شيء فهذا ليس
خلقا .إن الخلق هو المطلوب على تقدير .مثال ذلك الكوب أو الكأس البلور الذي نشرب فيه حينما
صنعه الصانع .هل كانت هناك شجرة تخرج أكوابا ،أم أن الصانع أخذ الرمال وصهرها ووضع
عليها مواد كيماوية تخليها من الشوائب ،ثم قام بتشكيلها على هيئة الكوب؟
إذن فالكوب لم تكن موجودة ،ووجدت على تقدير أن تكون شكل الكوب ،فهي خلق أُوجد على
تقدير .فماذا عن خلق ال؟ إنه يخلق على تقدير ،وفرق بين صنعة البشر حين يخلق ،وبين صنعة
ال حين يخلق .إن صنعة البشر حين تخلق ،إنما تخلق من موجود ،وحين يخلق ال فهو يخلق من
معدوم ،وهذا هو أول فرق ،إنه سبحانه يخلق من عدم ،أما النسان فيضع الشياء بنظام يحدث
فيها تفاعلت أرادها ال فتوجد ،فل يوجد من يستطيع -على سبيل المثال -من يصنع كوبا من
غير المادة التي خلقها ال.
إن هذا أول فرق بين خلق ال ،وخلق النسان ،فخلق ال يكون من عدم ،وخلق النسان من
موجود ،وإن كان الثنان على تقدير .وأيضا يعطي ال لخلقه سرا ل يستطيع البشر إعطاءه
لصنعته ،فال يعطيه سر الحياة ,والحياة فيها نمو ،وفيها تكاثر ،لكن البشر يصنعون الكوب مثل،
فتظل كوبا ،ول يوجد تكاثر بين كوب ذكر وكوب أنثى.
إن النسان يوجد صنعته فتظل على حالتها ،ول يستطيع أن يصنعها صغيرة ثم تكبر ،لكن صنعة
ال هي صنعة القادر الذي يهب الحياة ،فتكبر مخلوقاته وتتطور وتمر بمراحل ،وتعطي مثلها.
إذن ،فالخلق إيجاد على تقدير ،هذا اليجاد يوجد معدوما ،والمعدوم موجودة مادته ،هذا في خلق
النسان ،أما في خلق ال ،فال يخلق من معدوم ل توجد له مادة.
وال يخلق من الشيء ذكرا وأنثى ويعطيهما القدرة على التناسل ،فها هو ذا قول الحق سبحانه{:
طفَةَ عََلقَةً
طفَةً فِي قَرَارٍ ّمكِينٍ * ثُمّ خََلقْنَا النّ ْ
جعَلْنَاهُ نُ ْ
وَلَقَدْ خََلقْنَا الِنْسَانَ مِن سُلََلةٍ مّن طِينٍ * ثُمّ َ
سوْنَا ا ْلعِظَامَ لَحْما ُثمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبَا َركَ اللّهُ
عظَاما َفكَ َ
ضغَةَ ِ
ضغَةً فَخََلقْنَا ا ْل ُم ْ
فَخََلقْنَا ا ْلعََلقَةَ ُم ْ
حسَنُ الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون.]14-12 :
أَ ْ
ولم يمنع الحق خَ ْلقَه أن يخلقوا أشياء ،ولكن خلق ال أحسن ،لماذا؟ لنه يخلق من عدم ،والبشر
يخلقون من موجود .وهو الحق يخلق ويوجد في مخلوقاته حياة وتكاثرا ،والبشر يخلقون بل نمو
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ول حياة ،إنه الحق أحسن الخالقين ،إذن قول عيسى عليه السلمَ } :أخْلُقُ َلكُمْ مّنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ "
الطّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَ َيكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللّهِ {.
يعني أن كل إنسان يستطيع أن يصنع تمثال كهيئة الطير .لكن ال أوجد معجزة عيسى وجعله
يخلق من الطين كهيئة الطير ،وينفخ فيه ،وقد تسأل ،في ماذا ينفخ؟ أينفخ في الطير ،أم في الطين،
أم في الهيئة؟ إن قلنا :أن النفخ في الطين بعد ما صار طيرا .يكون النفخ في الطين ،كالنفخ في
الطير ،وجاءت في آية أخرى أنها نفخ في الهيئةِ {.إذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ا ْذكُرْ ِن ْعمَتِي
ح ْكمَةَ
ب وَالْ ِ
ل وَإِذْ عَّلمْ ُتكَ ا ْلكِتَا َ
ك وَعَلَىا وَالِدَ ِتكَ إِذْ أَيّد ّتكَ بِرُوحِ ا ْلقُدُسِ ُتكَلّمُ النّاسَ فِي ا ْل َمهْ ِد َو َكهْ ً
عَلَ ْي َ
ل وَإِذْ َتخْلُقُ مِنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ بِِإذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَ َتكُونُ طَيْرا بِِإذْنِي }[المائدة:
وَال ّتوْرَاةَ وَالِنْجِي َ
.]110
إن " النفخ فيه " ،تكون للطين أو الطير .و " النفخ فيها " تكون للهيئة ،وهناك آية بالنسبة للسيدة
جهَا فَ َنفَخْنَا فِيهِ مِن رّوحِنَا وَصَ ّد َقتْ ِبكَِلمَاتِ
حصَ َنتْ فَ ْر َ
عمْرَانَ الّتِي َأ ْ
مريم البتولَ {:ومَرْيَمَ ابْ َنتَ ِ
رَ ّبهَا َوكُتُبِ ِه َوكَانَتْ مِنَ ا ْلقَانِتِينَ }[التحريم.]12 :
جهَا فَ َنفَخْنَا
حصَ َنتْ فَرْ َ
إن النفخ هنا في الفرج ،وآية أخرى بالنسبة للسيدة مريم البتول {:وَالّتِي أَ ْ
جعَلْنَاهَا وَابْ َنهَآ آيَةً لّ ْلعَاَلمِينَ }[النبياء.]91 :
فِيهَا مِن رّوحِنَا وَ َ
مرة يقول " :نفخنا فيه " أي في الفرج ،ومرة يقول " :نفخنا فيها " أي فيها هي ،والقولن
متساويان ،وهنا في هذه الية ،نجد أن العجاز ليس في أن عيسى صنع من الطين كهيئة الطير،
لن أي إنسان يستطيع أن يفعل ذلك ،فكأنه حينما قال } :أَنِي َأخْلُقُ َل ُكمْ مّنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ
فَأَنفُخُ فِيهِ فَ َيكُونُ طَيْرا بِإِذْنِ اللّهِ {.
كأنه صار طيرا من النفخة ،أما عن أمر صناعة طير من الطين فأي إنسان يمكن أن يفعلها ،لكن
عيسى عليه السلم يفعل ذلك بإذن ال ،ول بد أن يجيء المر مختلفا ،و " بإذن ال " هنا تضم
صناعة الطير ،والنفخ فيه.
إن عيسى لم يكن ليجترئ ويصنع ذلك كله إل بإذن ال ،وجاءت كلمة " بإذن ال " من عيسى
وعلى لسانه كاعتراف منه بأن ذلك ليس من صناعته ،وكأنه يقول لقومه :إن كنتم فتنتم بهذه.
فكان يجب أن تفتنوا بإبراهيم من باب أولى ،حينما قطّع الطير وجعل على كل جبل جزءا منهن
ثم دعاهن {.وَِإذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ تُحْيِـي ا ْل َموْتَىا قَالَ َأوََلمْ ُت ْؤمِن قَالَ بَلَىا وَلَـكِن
ج َعلْ عَلَىا ُكلّ جَ َبلٍ مّ ْنهُنّ جُزْءًا ُثمّ
خذْ أَرْ َبعَةً مّنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ ُثمّ ا ْ
طمَئِنّ قَلْبِي قَالَ فَ ُ
لّيَ ْ
حكِيمٌ }[البقرة.]260 :
سعْيا وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
عهُنّ يَأْتِي َنكَ َ
ادْ ُ
إذن كان من الولى الفتنة بما أعطاه ال إبراهيم عليه السلم من معجزة ،فإن كانت الفتنة من
ناحية الحياء لكان ما صنعه إبراهيم عليه السلم أولى بها ،وإن كانت الفتنة من ناحية أنه جاء
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى الدنيا بدون أب لكانت الفتنة أكثر في خلق آدم ،لن ال خلقه بل أب أو أم .إذن فالفتنة ل
أصل لها ,ول منطق يبررها ..ويتابع الحق سبحانه على لسان عيسى ابن مريم عليه السلم }
حيِ ا ْل َموْتَىا بِإِذْنِ اللّهِ {.
ص وَأُ ْ
ل ْكمَهَ والَبْ َر َ
وَأُبْرِى ُء ا َ
لماذا تعرض عيسى ابن مريم لهذين المرضين؟ لنها كانت المراض المستعصية في ذلك
العصر ،والكمه هو الذي ولد أعمى ,أي لم يحدث له العمى من بعد ميلده .والبرص ،هو
ابيضاض بقعة في الجلد وإن كان صاحبها آدم أو أسود .وبعد ذلك تنتشر بقع متناثرة في كافة
الجسم بلون أبيض ،مما يدل على أن لون الجلد له كيماويات في الجسم تغذى هذا اللون ،فإن
مُنعت الكيماويات في الجسم صار أبرص.
وتبين صدق هذا في أن العلم المعاصر قد عرف أن الملونات للجلد هي غدد خاصة توجد في
الجسم ،واسمها الغدد الملونة ،فإن امتنعت الغدد الملونة من إعطاء اللوان ،جاء البرص والعياذ
بال .وهو مرض صعب ،لم يكن باستطاعتهم أن يداووه ،فعندما جاء عيسى ابن مريم أعطاه ال
الية من جنس ما نبغوا فيه وهو الطب .وجاء لهم بآية هي إبراء ما كانوا عاجزين عنه.
وبعض القوم الذين يحاولون أن يقربوا بين المعجزة وعقول الناس .يقولون :إن هذه المعجزة إنما
هي سبق زمني ،بمعنى أنه من الممكن أن يتوصل النسان إلى أن يكتشف علجا لهذه المراض،
لكن لهؤلء نقول :ل ،إن المعجزة تظل معجزة إلى أن تقوم الساعة .كيف؟
لنأخذ مثال من طب العيون ،وعندما قالوا إن هناك علجا للعمى " .سنقوم بتركيب قرنية " أو أن
نأخذ مثال من طب الجلد لو قالوا " :سنداوي البرص " واكتشفوا ألوانا مختلفة من العلج تحاول
أن تجعل الجلد على لون واحد ،لكنه ل يستعيد لونه الصلي .ولذلك قال البعض " :إن معجزة
عيسى كانت مجرد سبق زمني " .لهؤلء نقول :ل ،لنأخذ كل أمر بأدواته.
إن عيسى ابن مريم عليه السلم كان يبرئ بالكلمة والدعوة ومهما تقدم العلم فلن يستطيع العلم أن
يبرئ المرض بالكلمة والدعوة ،إنما سيأخذون أشياء ويقومون بتحليل تلك الشياء ،وخلط
الكيماويات وإجراء الجراحات ،لذلك تظل المعجزة التي جاء بها عيسى ابن مريم عليه السلم
معجزة؛ لنه كان يبرئ بالكلمة والدعوة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن َومَا تَدّخِرُونَ فِي بُيُو ِتكُمْ { [آل عمران.]49 :
} وَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا تَ ْأكُلُو َ
لماذا؟ لن كل إنسان يعلم جزئية من أحداثه الحياتية الخاصة ،يكون هذا العلم خاصا به ،وكل
إنسان -مثل -يأكل طعامه بألوان مختلفة يعرفها هو ،ول يعرفها الخرون .إن المر الول
كخلق الطير ،وإبراء الكمه والبرص وإحياء الموتى ،هي أمور عامة للكل .أما النباء بألوان
الطعام التي يأكلها كل إنسان فهي خاصية أحداث ،لن كل واحد يأكل أكل معينا فيقول له عيسى
ابن مريم ماذا أكل .وليس من المعقول أن يكون عيسى ابن مريم قد دخل كل بيت أو جاءت له
أخبار عن كل بيت.
وكذلك أمر الدخار .وذلك حتى تنتفي شبهة أنه كان يشم رائحة النسان فيعرف لون الطعام الذي
يأكله ،لذلك كان الخبار بما يدخر كل واحد في بيته ،فهذه مسألة توضح بالجلء التام أنها آية من
إخبار من يعلم مغيبات المور.
ك ليَةً ّلكُمْ إِن كُنتُم ّم ْؤمِنِينَ { [آل عمران.]49 :
} إِنّ فِي ذاِل َ
إن هذه آية عجيبة تثبت أن هناك قوة أعلى قاهرة هي قوة ال الحق هي التي تعطيه هذه الشياء،
فإن كنتم مؤمنين بوجود قوة أعلى فعليكم تصديق الرسالة التي جاء بها عيسى ابن مريم ،لن
معنى (رسول) أنه مخلوق اصطفاه ال وأرسله سبحانه إلى الدنى منه ،فالذي يؤمن الية هو الذي
يؤمن بوجود إله أعلى قادر ومن يريد أن يتثب -مع إيمانه بال -من الية التي بعثها ال مع
عيسى ابن مريم ،فالية واضحة .بال فلن تفيده الية في اليمان .ويقول الحق متابعا على لسان
عيسى ابن مريمَ } :و ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ يَ َديّ مِنَ ال ّتوْرَاةِ{ ...
()441 /
حلّ َل ُكمْ َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ عَلَ ْيكُمْ وَجِئْ ُتكُمْ بِآَ َيةٍ مِنْ رَ ّبكُمْ فَا ّتقُوا
َومُصَ ّدقًا ِلمَا بَيْنَ يَ َديّ مِنَ ال ّتوْرَا ِة وَلِأُ ِ
اللّ َه وََأطِيعُونِ ()50
وقد قلنا :إن " مصدقا " تعني أن ما جاء به عيسى بن مريم مطابق لما جاء في التوراة .وقلنا :إن
" ما بين يدي " النسان هو الذي سبقه ،أي الذي جاء من قبله وصار أمامه .وما دام عيسى ابن
مريم جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة في زمانه ،وكانت التوراة موجودة ،فلماذا جاءت
رسالته إذن؟
لكن القول الحق يتضمن هذا المعنى :إن عيسى سيأتي بأحكام جديدة ،ويتضح ذلك في قوله الحق
حلّ َلكُم َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ عَلَ ْيكُمْ } إذن فليس المهم
سبحانه على لسان عبده عيسى ابن مريمَ { :ولُ ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هو التصديق فقط ،ذلك أن عيسى جاء ليحل بعضا من الذي حرمته التوراة.
وقد يقول قائل :إذا كانت الكتب السماوية تأتي مصدقة بعضها بعضا فما فائدة توالي نزول الكتب
السماوية؟ والجابة هي :أن فائدة الكتب السماوية اللحقة أنها تذكر من سها عن الكتب السابقة،
هذا في المرتبة الولى ،وثانيا :تأتي الكتب السماوية بأشياء ،وأحكام تناسب التوقيتات الزمنية التي
تنزل فيها هذه الكتب .هذه هي فوائد الكتب السماوية التي توالت نزول من الحق على رسله ،إنها
ل في بعض الحكام.
تذكر من عقل و ُتعَد ّ
ومن الطبيعي أننا جميعا نفهم أن العقائد ل تبديل فيها ،وكذلك الخبار والقصص ،لكن التبديل
حلّ َلكُم
يشمل بعضا من الحكام .ولهذا جاء القول الحق على لسان عبده عيسى ابن مريمَ { :ولُ ِ
َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ عَلَ ْيكُمْ } ونحن نعرف أن القوم الذي أرسل ال عيسى ابن مريم لهم هم بنو
إسرائيل ،والتحريم والتحليل يكون بحكمة من ال.
إن ل حكمة فيما يحلل وحكمة فيما يحرم ،إنما إياك أن تفهم أن كل شيء يحرمه ال يكون ضارا؛
قد يحرم ال أشياء لتأديب الخلق ،فيأمر بالتحريم ،ول يصح أن تسأل عن الضرر فيها ،وقد يعيش
المؤمن دنياه ولم يثبت له ضرر بعض ما حرم ال .فإن تساءل أحد :لماذا حرم ال ذلك؟ تقول له:
من الذي قال لك إن ال حين يحرم فهو يحرم الشيء الضار فقط؟ إنه الحق سبحانه يحرم الضار,
ويحرم بعضا مما هو غير ضار ،ولذلك قال الحق {:فَبِظُ ْلمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ
أُحِّلتْ َل ُه ْم وَ ِبصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا }[النساء.]160 :
ظفُ ٍر َومِنَ الْ َبقَرِ وَا ْلغَنَمِ حَ ّرمْنَا
وتفصيل ذلك في آية أخرى {:وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ
حوَايَآ َأوْ مَا اخْتَلَطَ ِب َعظْمٍ ذاِلكَ جَزَيْنَاهُم بِ َبغْ ِيهِمْ وِإِنّا
ظهُورُ ُهمَا َأوِ الْ َ
حمََلتْ ُ
عَلَ ْيهِمْ شُحُو َم ُهمَآ ِإلّ مَا َ
َلصَا ِدقُونَ }[النعام.]146 :
إذن التحرير ليس ضروريا أن يكون لما فيه الضرر ،ولهذا جاء قول الحق على لسان عبده
حلّ َلكُم َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ عَلَ ْيكُمْ } لقد جاء عيسى
ورسوله إلى بني إسرائيل عيسى ابن مريمَ { :ولُ ِ
ابن مريم ليُحل لهم بأمر من ال ما كان قد حرمه ال عليهم من قبل.
وبعد ذلك يقول الحق على لسان عبده ورسوله عيسى ابن مريم } :وَجِئْ ُتكُمْ بِآيَةٍ مّن رّ ّبكُمْ فَاتّقُواْ
اللّ َه وََأطِيعُونِ { ومجموعة هذه الوامر التي تقدمت هي آية أي شيء عجيب ،بلغت القوم الذين
أرسل ال عيسى إليهم ،إنه كرسول وكبشر ل يستطيع أن يجيء بالية المعجزة بمفرده بل ل بد
أن يكون مبعوثا من ال .فيجب أن يلتفتوا إلى أن ال الذي أرسله ،وله طلقة القدرة في خرق
النواميس هو سبحانه الذي أجرى على يدي عيسى هذه المور ،ويأمرهم عيسى ابن مريم بتقوى
ال نتيجة لذلك ،ويدعو القوم لطاعته في تطبيق منهج ال.
وبعد ذلك يقول الحق على لسان عيسى ابن مريم } :إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ{ ...
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()442 /
إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْ َتقِيمٌ ()51
إذن اجتمع الرسول والمرسل إليهم في أنهم جميعا مربوبون إلى إله واحد ،هو الذي يتولّى تربيتهم
والتربية تقتضي إيجادا من عدم ،وتقتضي إمدادا من عدم ،وتقتضي رعاية قيومية ،وعيسى ابن
مريم يقر بعبوديته ل وكأنه يقول :وأنا لم أصنع ذلك لكون سيدا عليكم ،ولكن أنا وأنتم مشتركون
في العبودية ل { .إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْ ُبدُوهُ هَـاذَا صِرَاطٌ مّسْ َتقِيم }.
ومعنى { هَـاذَا صِرَاطٌ مّسْ َتقِيم } أي أنه صراط غير ملتويا لن الطريق إذ إلتوى؛ انحرف عن
الهدف ،وحتى تعرف أن الكل يسير على طريق مستقيم واحد ،فلتعلم أنك إذا نظرت على سبيل
المثال إلى الدائرة ،فستجد أن لها محيطا ،ولها مركزا ،ومركز الدائرة هو الذي نضع فيه " سن
الفرجار " حتى نرسم الدائرة ،وبعد ذلك تصل من المركز إلى المحيط بأنصاف أقطار ،وكلما
بعدنا عن المركز زاد الفرق ،وكلما تقرب من المركز تتلشى الفروق.
فإذا ما كان الخلق جميعا يلتقون عند المركز الواحد فهذا يعني التفاق ،لكن الختلف يحدث بين
البشر كلما بعدوا عن المركز ولذلك ل تجد للناس أهواء ول نجد الناس شيعا إل إذا ابتعدوا عن
المركز الجامع لهم والمركز الجامع لهم هو العبودية للله الواحد ،وما دامت عبوديته لله واحد
ففي هذا جمع للناس بل هوى أو تفرق.
إنه حتى في المر الحسي وهو الدائرة المرسومة ،نجد أن القطار المأخوذة من المحيط وتمر
بمركز الدائرة ،سنجد أنه في مسافة ما قبل المركز تتداخل القطار إلى أن تصير عند نقطة
المركز شيئا واحدا ل انفصال بينها أبدا .وهكذا الناس إذا التقوا جميعا عند مركز عبوديتهم للله
الواحد ،فإذا ما اختلفوا ،بعدوا عن العبودية للله الواحد بمقدار ذلك الختلف.
ولذلك دعا المسيح عيسى ابن مريم الناس لعبادة ال { إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْ ُبدُوهُ هَـاذَا صِرَاطٌ
مّسْ َتقِيم } ذلك هو منطق عيسى .كان منطقه الول حينما كان في المهد{ قَالَ إِنّي عَ ْبدُ اللّهِ آتَا ِنيَ
جعَلَنِي نَبِيّا }[مريم.]30 :
ا ْلكِتَابَ وَ َ
إن قضية عبوديته ل قد حُسمت من البداية ،وهي قضية القمة ،إنه عبد ال والقضية الثانية هي
قضية الرسالة ونقل مراد ال وتكليفه إلى خلق ال حتى يبنوا حركة حياتهم على مقتضى ما أنزل
ال عليهم ،ومن الطبيعي أن أي رسول عندما يأتي بمنهج من عند ال ،فالهدف أن يحمل الناس
جميعا على سلوك هذا المنهج ،ويحدد حركة حياتهم بـ " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " وعندما
يسمع الواحد من الناس المر بـ " افعل " فقد يجد في التكليف مشقة ،لماذا؟ لنها تلزمه بعمل قد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يثقل عليه ،و " ل تفعل كذا " فيها مشقة؛ لنها تبعده عن عمل كان يحبه.
والمرء في الحداث بين اثنين :عمل يشق عليه فيحب أن يجتنبه ،وعمل يستهويه فيحب أن يقترب
منه ،والمنهج جاء من السماء ليقول للنسان " افعل " ول " تفعل " إذن فهناك مشقة في أن يحمل
النسان نفسه على أن يقوم بعمل ما من أعمال التكليف ،ومشقة أخرى في أن يبتعد عن عمل نهى
عنه التكليف.
ومعظم الناس ل تلتفت إلى الغاية الصيلة؛ ول يفهمونها حق الفهم ،فيأتي أنصار الشر؛ ول
يعجبهم حمل نفوسهم على مرادات خالقهم .إن أفكار الشر تلح على صاحبها فيتمرد على التكليف
اليماني ،وأفكار الشر تحاول القتراب بصاحبها من فعل المور التي حرمها التكليف .ولذلك
ينقسم الناس لنهم لم يحددوا هدفهم في الوجود.
إن كل حركة في الوجود يمكننا أن نعرف أنها حركة إيمانية في صالح انسجام النسان مع الكون،
أو هي حركة غير إيمانية تفسد انسجام النسان مع فطرته ومع الكون ،فإذا كانت الحركة تصل
بالنسان إلى هدفه اليماني .فستكون حركة طيبة وحسنة بالنسبة للمؤمن ،وإذا كانت تبعده عن
هدفه تكون حركة سيئة وباطلة ،وهكذا نرى أن الهدف هو الذي يحدد الحركة.
إن التلميذ الذي يذهب إلى المدرسة له هدف بأن يتخرج في مهنة ما ،وما دام ذلك هو هدفه فنحن
نقيس حركة سلوكه ،هل هي حركة تقربه إلى الهدف أن تبعد به عنه؟ فإن كان مجتهدا .فاجتهاده
حركة تقرب له الهدف ،وإن كان كسول ،خامل فإنه يبتعد بنفسه عن الهدف .إذن يجب أن نحدد
الهدف حتى نعرف هل يكون هذا العمل صالحا .أو غير صالح.
وآفة الناس أنهم عندما يحددون أهدافهم يقعون في اعتبار ما ليس بالهدف هدفا وغاية .وما دام
هناك من يعتبر غير الهدف هدفا فل بد من حدوث اضطراب وضلل ،فالذي يعتبر أن الحياة هي
الهدف ،فهو يريد أن يحقق لنفسه أكبر قدر من اللذة فيها .أما الذي يعرف أن الهدف ليس هو
الحياة ،إنما الحياة مرحلة ،نسأله ..ما الهدف إذن ،فيقول :إنه لقاء ال والخرة.
هذا المؤمن سيكون عمله من أجل هذا الهدف .لكن الضال الذي يرى الدنيا وحدها هدفه ول يؤمن
بالجنة أو النار ،هو غارق في ضلله ويقبل على ما تشتهيه نفسه ،ويبتعد عما يتعبه وإن كانت فيه
سعادته.
ولكن المؤمن يعرف أن الهدف ليس هو الدنيا ،وأن الهدف في مجال آخر ،لذلك يسعى في تطبيق
التكاليف اليمانية ليصل إلى الهدف ،وهو الجنة .إذن ما يفسد سلوك الناس هو جهلهم بالهدف،
وحين يوجد الهدف ،فالنسان يحاول أن يعرف العمل الذي يقربه من الهدف ,فيفعله ،فهذا هو
الخير .أما الذي يبعده عن الهدف ويفعل عكس الموصل إليه فهذا هو الشر.
وإذا كان المر كذلك والمسألة هي في تحديد الهدف يجب أن تعلم أن الناس يستقبلون الكثير من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحداث بما يناقض معرفة الهدف ،وما دام الهدف هو أن تذهب إلى الخرة لتلقى ال فلماذا يغرق
في الحزن إنسان لن له حبيبا قد انتقل إلى رحمة ال؟
هذا النسان يمكننا أن نسأله ،لماذا تحزن وقد قصر ال عليه خطواته إلى الهدف؟ ل بد أنك حزين
على نفسك لنك مستوحش له ،ولنك كنت تأنس به ،أما حزنك من أجله هو ،فل حزن ،لنه
اقترب من الهدف ووصل إليه.
وفي حياتنا اليومية عندما يكون هدف جماعة أن تصل إلى السكندرية من القاهرة ،نجد إنسانا ما
يذهب إلى السكندرية ما شيا ،لنه ل يجد نقودا أو وسيلة توصله ،وتجد آخر يذهب إليها راكبا
حمارا ،وثالثا يذهب إليها راكبا حصانا ،ورابعا يصل إليها راكبا " أتوبيسا " ،وخامسا يصل إليها
بركوب الطائرة ،وسادسا يصل إليها بصاروخ ،وكل ما حدث هو أن كل واحد في هذه الجماعة قد
اقترب من الهدف بالوسيلة التي توافرت له ،وهكذا نجد إنسانا يذهب إلى ال ماشيا في سبعين
عاما ،وآخر يستدعيه ال فورا ،فلماذا تحزن عليه؟
إن لنا أن نحزن على النسان الذي لم يكن موفقا في خدمة الهدف ،أما الموفق في خدمة الهدف
فلنا أن نفرح له ،ونقول :إن ال قد قصر عليه المسافة ،وأغلبنا إن كان عنده ولد حبيب إلى قلبه
وصغير ويفقده فهو يغرق في الحزن قائل " إنه لم ير الدنيا " لهذا النسان نقول :يا رجل إن ال
جعل ابنك يقفز الخطايا ويتجاوزها وأخذه إلى الغاية ،فما الذي يحزنك؟ إن علينا أن نحسن استقبال
ما يقضي به ال في خلقه ،ونعرف أنه حكيم وأنه رحيم وأن كل شيء منه يجب أل نفهمه خارجا
عن الحكمة.
وبعد تلك اليات الكريمة التي تحدث فيها الحق عن مريم وعيسى عليه السلم ..قال الحق
سبحانه } :فََلمّآ أَحَسّ عِيسَىا مِ ْنهُمُ ا ْل ُكفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ{ ...
()443 /
لقد ذكر عيسى ابن مريم القضية الجامعة المانعة أول حين قال {:إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْ ُبدُوهُ
هَـاذَا صِرَاطٌ مّسْ َتقِيمٌ }[آل عمران.]51 :
وأوضح عيسى ابن مريم بما ل يقبل الجدل " :أنا معكم سواء في مربوبيتنا إلى إله واحد ،وأنا لم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أجيء لعلمّكم لني تميزت عنكم بشيء .فيما يتعلق بالعبادة نحن سواء ،فال رب لي ورب لكم،
والصراط المستقيم هو عبادة ال الحق.
ونحن ساعة نسمع " الصراط المستقيم " فإننا نتخيل على الفور الطرق الموصلة إلى الغاية،
ونعرف جميعا أنه ل يوجد طريق في الحياة مصنوع لذات الطريق ،إنما الطريق يصنع ليوصل
إلى غاية .وساعة تسمع " صراط " فإننا نفهم على الفور الغاية التي نريد أن نصل إليها .والحق
سبحانه يقول {:وَأَنّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيما فَاتّ ِبعُوهُ َولَ تَتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِبكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذاِلكُمْ
َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ }[النعام.]153 :
وما دام هناك طريق لغاية ما فل بد أن نحدد الغاية أول ،وتحديد الغاية إنما يهدف إلى إيضاح
السبيل أمام النسان ليسلك الطريق الموصل إلى تلك الغاية .وهكذا يقول الحق على لسان عيسى
ابن مريم { :إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ }.
والعبادة هي إطاعة العابد لمر المعبود ،وهكذا يجب أن نفطن إلى أن العبادة ل تقتصر على إقامة
الركان التعبدية في الدين من شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال وإقامة الصلة وإيتاء
الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيل ،إن هذه هي أركان السلم ول يستقيم
أن ينفصل النسان المسلم عن ربه بين أوقات الركان التعبدية ،إن الركان التعبدية لزمة ،لنها
تشحن الطاقة اليمانية للنفس حتى تقبل على العمل الخاص بعمارة الدنيا ،ويجب أن نفطن إلى أن
العبادة في الدنيا هي كل حركة تؤدي إلى إسعاد الناس وعمارة الكون.
ويجب أن نعرف أن الركان التعبدية هي تقسيم اصطلحي وضعه العلماء في الفقه كباب
العبادات وباب المعاملت ،لكن علينا أن نعرف أن كل شيء يأمر به ال اسمه " عبادة " .إذن
فالعبادة منها ما يصل العبد بالمعبود ليأخذ الشحنة اليمانية من خالقه ،خالق الكون ،ومنها ما
يتصل بعمارة الكون .ولذلك قلنا :إنك حينما تتقبل من ال أمرا بعبادة ما ،فأنت تتلقاه وأنت
موصول بأسباب ال بحثا عن الرزق وغير ذلك من أمور الحياة ،والمثل الواضح لذلك هو قول
س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَِلكُمْ
ج ُمعَةِ فَا ْ
لةِ مِن َيوْمِ الْ ُ
الحق {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا نُو ِديَ لِلصّ َ
خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ }[الجمعة.]9 :
إن هذا المر بالصلة الجامعة يوم الجمعة يخرج بالنسان من أمر البيع ،وهذا المر بالصلة لم
يأخذ النسان من فراغ ،إنما أخذ النسان من عمل ،هو البيع.
.ولو نظرنا إلى دقة الداء في البيع لوجدناها قمة الخذ المباشر للرزق .إن كلم ال يصل في
دقته إلى ما ل يصل إليه كلم بشر ،فلم يقل ال مثل " اتركوا الصنعة " " اتركوا الحرث " ولكن
الحق جاء بالبيع هنا لنه قمة النفعية العاجلة.
إن الذي يحرث ويزرع ينتظر وقتا قد يطول حتى تنضج الثمار ،لكن الذي يبيع شيئا ،فإنه ينال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المنفعة فورا ،لقد جاء المر بترك هذه الثمرة العاجلة لداء صلة الجمعة ،ويتضمن هذا المر
ترك كل المور التي قد تأتي ثمراتها من بعد ذلك لداء الصلة.
إن البيع هو التعبير الدقيق لن المتكلم هو ال ،والحق لم يتكلم هنا مثل عن الشراء ،لن الشاري
قد يشتري وهو كاره ،لكن البائع يمله السرور وهو يبيع فقد يذهب رجل لشراء أشياء لبيته فيسمع
الذان فيسرع إلى الصلة ويقول لهله من بعد ذلك :لقد ذهبت إلى الشراء ،لكن المؤذن قد أذن
لصلة الجمعة ،ذلك أن النسان يجب أل يدفع نقودا ،لكن البائع يستفيد بقمة الفائدة .لذلك يخرجنا
الحق من قمة " كل العمال ونهاية كل العمال وهي مبادلة السلع بأثمانها " .لكن ماذا بعد انقضاء
ضلِ اللّ ِه وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيرا ّلعَّلكُمْ
لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ
الصلة؟{ فَإِذَا ُقضِيَتِ الصّ َ
ُتفْلِحُونَ }[الجمعة.]10 :
لقد أخرجنا من الصلة إلى الحياة نبتغي من فضل ال ،ولذلك يكون النتشار في الرض والبحث
عن الرزق عبادة.
ولننظر إلى الدقة في قوله الحق } :فَانتَشِرُواْ فِي الَرْضِ { إن النتشار يعني أن ينساح البشر
لينتظموا في كل حركات الحياة ،وبذلك تعمر كل حركة فيها .إن كل حركة في الحياة هي عبادة،
وهكذا نستوعب قوله الحق على لسان عيسى ابن مريم } :إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَـاذَا
صِرَاطٌ مّسْ َتقِيمٌ { ومن بعد ذلك يقول الحق } :فََلمّآ أَحَسّ عِيسَىا مِ ْنهُمُ ا ْل ُكفْرَ { لقد حسم عيسى ابن
مريم أمر العقيدة حينما قال } :إِنّ اللّهَ رَبّي وَرَ ّبكُمْ { إن في ذلك تحذيرا من أن يقول أتباع عيسى
أي شيء آخر عن عيسى غير أنه عبد ال خاضع ل ،مأمور بالطاعة والعبادة ل .ووضع أمامهم
المنهج ،فقال } :هَـاذَا صِرَاطٌ مّسْ َتقِيمٌ {.
وقول الحق } :فََلمّآ أَحَسّ عِيسَىا مِ ْنهُمُ ا ْل ُكفْرَ { يدل على أن كل صاحب فكرة ،وكل صاحب
مهمة ،وكل صاحب هدف ل بد أن يكون يقظ الحاسيس ،لن صاحب الفكرة وخاصة الدينية
يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
وقد يقول قائل :لماذا يعيش الناس في الظلم ول يتجهون إلى النور من أول المر؟ وتكون
الجابة :إن هناك أناسا يستفيدون من وجود جموع الناس في الظلمات ،لذلك يكون بينهم أناس
ظالمون وأناس مظلومون ،والظالم الذي يأخذ -اغتصابا -خي َر الخرين ويعربد في الكون
يخاف من رجل الدعوة الذي ينهاه عن الظلم ،ويدعوه إلى الهداية إلى منطق العقل ،ومثل هذا
الظالم عندما يسمع كلمة المنطق والدعوة إلى اليمان ل يحب أن تُنطق هذه الكلمة ،إنه يكره
الكلمة والقائل لها.
إن الداعية مأمور من ال بأن يكون يقظا لنه إن اهتدى بكلماته أناس وسعدوا بها ،فإنّه يغضب
أناسا آخرين ،ذلك أن المجتمع الفاسد يوجد به المستفيدون من الفساد ،فالداعية عليه أن يعرف
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقظة الحس ،ويقظة الحس معناها اللتفاف إلى الحاسيس الخفية الموجودة عند كل إنسان ،ونحن
نسمى الشياء الظاهرة منها الحواس الخمس ،اللمس ،والرؤية ،والسمع ،والتذوق ،والشم.
إن رجل الدعوة مأمور بأن تعمل كل حواسه حتى يعرف من الذي يجبن ويرتجف لحظة أن تأتي
دعوة الخير ،ومن الذي يطمئن ويحسن الراحة لدعوة الخير .إن رجل الدعوة مأمور بدقة اليقظة
والحساس ليميز بين الذي تتغير سحنته لحظة دعوة الخير ،ومن الذي يستبشر ويفرح.
وعندما أعلن عيسى ابن مريم منهج الحق ،وجد أنصار الظلم وأنصار البغي ،وأنصار الظلمات
غير معجبين بالمنهج الواضح لليمان بال ،لذلك أحس منهم الكفر لقد كان مليئا باليقظة والنتباه.
إنه يعلم أنه قد جاء برسالة من ال؛ ليخرج أناسا من مفسدة إلى مصلحة .وعندما أحس منهم
الكفر ،أراد أن ينتدب جماعة ليعينوه على أمر الدعوة } .قَالَ مَنْ أَنصَارِي ِإلَى اللّهِ {؟
إن الدعوة تحتاج إلى معركة ،والمعركة تحتاج إلى تضحية .والتضحية تكون بالنفس والنفيس،
لذلك ل بد أن يستثير ويحرك من يجد في نفسه العون على هذه المسألة .وهو لم يناد أفرادا
محددين ،إنما طرح الدعوة ليأتي النصار الذين يستشرفون في أنفسهم القدرة على حمل لواء
حسّ عِيسَىا مِ ْنهُمُ ا ْلكُفْرَ قَالَ مَنْ
الدعوة ،ولتكون التضحية بإقبال نفس ل استجابة لداع } .فََلمّآ أَ َ
أَنصَارِي إِلَى اللّهِ { وكلمة " أنصار " هي جمع " نصير " .والنصير هو المعين لك بقوة على
ُبغْيَتِك.
وعندما سأل عيسى } :مَنْ أَنصَارِي ِإلَى اللّهِ؟ { كانت إلى في السؤال تفيد الغاية ،وهي ال ،أي
من ينصرني نصرا تصير غايته إلى ال وحده ل إلى هؤلء البشر؟ إنه ل يسأل عن أناس يدخلون
في لواء الدعوة من أجل الغنيمة أو يدخلون من أجل الجاه ,أو غير ذلك ,إنه يسأل عن أهل العزم
ليكون كل منهم متجها بطاقته إلى نصرة ال وحده.
ومثال ذلك ما دار بين رسولنا محمد صلى ال عليه وسلم وبين رجال من المدينة في أثناء
مبايعتهم له في العقبة فقد قال لهم رسول ال " " :أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون فيه نساءكم
وأبناءكم " فأخذ الداء بن معرور بيده ثم قال " :نعم ,والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مِما نمنع منه
أزرنا " فبايعوا رسول ال على ذلك فقام أبو الهيثم بن التيهان فقال :يا رسول ال إن بيننا وبين
اليهود حبال وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك ال أن ترجع إلى قومك
وتَدَعنَا "؟ فتبسم رسول ال ثم قال " :بل الدم الدم ,والهدم الهدم أنا منكم وأنتم مني ,أحارب من
حاربتم وأسالم من سالمتم " أي ذمتي ذمتكم وحرمتي حرمتكم ".
أقال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم :إنكم ستمتلكون الرض ,وستسودون الدنيا ،أو
ستنتصرون على أعدائكم؟ ل .بل قال صلى ال عليه وسلم أنا منكم وأنتم مِنّي .لماذا؟ لنه لو قال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لهم ستنتصرون على أعدائكم ،فقد يدخلون المعركة ،ويموت واحد منهم؛ ول يرى النصر ،لكن
المر الذي سيراه كل المؤمنين أن رسول ال منهم وأنهم من رسول ال وما داموا كذلك
فسيدخلون معه الجنة وهي الغاية الصيلة.
وعندما سأل عيسى ابن مريم } مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ { فكأنه كان يسأل :من يعينني معونة غايتها
ال؟ ولماذا نأخذ هذا المعنى؟ تكون الجابة :أنا آخذ المعنى على قدر ذهني؛ لن مرادات ال في
كلماته ل تتناهى كمالً ،وقد يأتي غيري ويأخذ منها معنى آخر .ومعنى " النصير " :هو " من
ينصر بجهد وقوة " .وننظر النصر في اليمان كيف يأتي؟ إن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم
عن النصر في اليمان قال {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأقْدَا َمكُمْ }[محمد:
.]7
إذن فالنصر منا ل بأن نُطبق دينه ،وهذا مراد ال ،ولذلك يأتي النصر مرة من المؤمن لربه،
ومرة من الرب لمربوبه ،وقد يكون مراد عيسى -عليه السلم -من الذي ينصرني كي ينضم
إلى ال في النصر؟
ونحن هنا أمام معسكرين ,معسكر اليمان ،ومعسكر الكفر .لقد سأل عيسى } مَنْ أَنصَارِي إِلَى
اللّهِ { أي أنه يسأل عن الذين بإمكانهم أن ينضموا إلى غاية هي ال ,ونتفهم نحن هذا المعنى على
ضوء ما قاله الحق {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُ ْركُمْ وَيُثَبّتْ َأ ْقدَا َمكُمْ }[محمد.]7 :
ونعرف أيضا أن هناك نصرا من المؤمن ل ،وهناك نصر من ال للمؤمن .وهكذا يكون سؤال
عيسى ابن مريم } مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ {؟ فقد أفاد المعنيين معا .وكانت الجابة } :قَالَ
شهَدْ بِأَنّا ُمسِْلمُونَ {.
حوَارِيّونَ نَحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ ,آمَنّا بِاللّ ِه وَا ْ
الْ َ
والحواريون مأخوذة من الحور ،وهو شدة البياض ,وهم جماعة أشرقت في وجوههم سيماء
اليمان ,فكأنها مشرقة بالنور .ونور الوجه ل يقصد به البشرة البيضاء ،ولكن نور الوجه في
المؤمن يكون بإشراقة اليمان في النفس ،ولذلك يصف الحق المؤمنين برسالة رسول ال محمد
حمَآءُ بَيْ َنهُمْ تَرَاهُمْ ُركّعا
شدّآءُ عَلَى ا ْلكُفّارِ ُر َ
حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَ ِ
صلى ال عليه وسلم {:مّ َ
ضوَانا سِيمَا ُهمْ فِي ُوجُو ِههِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ }
سجّدا يَبْ َتغُونَ َفضْلً مّنَ اللّ ِه وَ ِر ْ
ُ
[الفتح.]29 :
فحتى لو كان المؤمن أسود اللون فإن له سمة على وجهه .كيف ولماذا؟ لن النسان مكون من
أجهزة ،ومكون من ذرات ،وكل جهاز في النسان له مطلوب محدد ,وساعة أن تتجه كل الجهزة
إلى ما أراده ال ،فإن الذي يحدث للنسان هو انسجام كل أجهزته ،وما دامت الجهزة منسجمة
فإن النفس تكون مرتاحة ،ولكن عندما تتضارب مطلوبات الجهزة ،تكون السحنة مكفهرة.
عندما قال عيسى } :مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللّهِ { سمع الستجابة من الحواريين ،والحواريون قوم لهم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إشراقات انسجام النفس مع اليمان ،أو هم قوم بيض المعاني ,أي أن معانيهم بيضاء ومشرقة.
والنبي صلى ال عليه وسلم سمى بعضا من صحابته حواري رسول ال ,وهم الذين جعلهم رسول
ال معه طوال الوقت.
وحين قال الحواريون } :نَحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ { كان ذلك يعني أن كل إنسان منهم يريد نصرة ال.
فينضم إلى ال ناصرا للمنهج ,وهذا يتطلب أن يعرف كل منهم المنهج .ونحن نعرف مقومات
النصرة ل .إنه اليمان :وما اليمان؟ إنه اطمئنان القلب إلى قضية ما ،هذا هو اليمان في
عمومه .فلو لم أكن مؤمنا بأن الطريق الذي أسير فيه موصلٌ إلى غاية مطلوبة لي لما سرت فيه.
مثال ذلك المسافر من القاهرة إلى دمياط لو لم يعتقد صحة الطريق لما سلك هذا الطريق ،وإن لم
اعتقد أنني إن لم أذاكر دروسي سوف أرسب لما ذاكرت .إذن فكل أمر في الدنيا يتم بناؤه على
اليمان ،لكن إذا أطلق اليمان بالمعنى الخاص ،فهو اطمئنان القلب إلى قمة القضايا ،وهي اليمان
بال ،لذلك فأسلحة النصر إلى ال هي :إسلم كل جوارح النسان إلى ال .ولذلك قال
ش َهدْ بِأَنّا مُسِْلمُونَ {.
الحواريونَ } :نحْنُ أَ ْنصَارُ اللّهِ ,آمَنّا بِاللّ ِه وَا ْ
لماذا يشهد الرسول لهم؟ لن المفروض في الرسول أن يبلغ القوم عن ال ،فيشهد عليهم كما قال
ش َهدَآءَ عَلَى النّاسِ فََأقِيمُواْ
علَ ْيكُ ْم وَ َتكُونُواْ ُ
شهِيدا َ
ال سبحانه وتعالىَ {:وفِي هَـاذَا لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ
لكُمْ فَ ِنعْمَ ا ْل َموْلَىا وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ }[الحج.]78 :
لةَ وَآتُواْ ال ّزكَـاةَ وَاعْ َتصِمُواْ بِاللّهِ ُهوَ َموْ َ
الصّ َ
ولنا أن نلحظ أن الحق أورد على لسانهم -الحواريين -اليمان أول ،لنه أمر غيبي عقدي في
القلب ،وجاء من بعد ذلك على لسان الحواريين طلب الشهادة بالسلم؛ لن السلم خضوع
شهَدْ بِأَنّا مُسِْلمُونَ { هو أيضا طلب منهم يسألونه
لمطلوبات اليمان وأحكامه .إن قولهم } :وَا ْ
لعيسى ابن مريم أن يبلغهم كل مطلوبات السلم قل لنا افعلوا كذا ول تفعلوا كذا إنهم قالوا " :آمنا
" وما داموا قد أعلنوا اليمان بال ،فهم آمنوا بمن بلغهم عن ال ،والمطلوب من عيسى ابن مريم
أن يشهد بأنهم مسلمون ،ول تتم الشهادة إل بعد أن يبلغهم كل الحكام وقد بلغهم ذلك وعملوا به
ت وَاتّ َبعْنَا الرّسُولَ{ ...
وقالوا من بعد ذلك } :رَبّنَآ آمَنّا ِبمَآ أَنزََل َ
()444 /
فهل يكون إعلنهم لليمان ،يعني إيمانهم بتشريعات رسالة سابقة ،ل ،إن اليمان هنا مقصود به
ما جاء به عيسى من عند ال؛ لن كل رسول جاء بشيء من ال ،فوراء مجيء رسول جديد أمر
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يريد ال إبلغه للناس ،ونحن نعلم أن العقائد ل تغيير فيها؛ وكذلك الخبار؛ وكذلك القصص،
ولكن الحكام هي التي تتغير .فكأن إعلن الحواريين هو إعلن باليمان بما جاء سابقا على
عيسى ابن مريم من عقائد وبما جاء به عيسى ابن مريم من أحكام وتشريعات.
وقولهم { :رَبّنَآ آمَنّا ِبمَآ أَنزََلتَ } كلمة { ِبمَآ أَنزََلتَ } تدل على منهج منزل من أعلى إلى أدنى،
ونحن حين نأخذ التشريع فنحن نأخذه من أعلى .ولذلك قلنا سابقا :إن ال حينما ينادي من آمن به
ليتبع مناهج اليمان يقول " :تعالوا " أي ارتفعوا إلى مستوى التلقي من الله وخذوا منه المنهج
ول تظلوا في حضيض الرض ،أي ل تتبعوا أهواء بعضكم وآراء بعضكم أو تشريع بعضكم،
وما دام المؤمن يريد العلو في اليمان ،فليذهب بسلوكه في الرض إلى منهج السماء.
وقولهم { :رَبّنَآ آمَنّا ِبمَآ أَنزََلتَ وَاتّ َبعْنَا الرّسُولَ } .إن المتبع عادة يقتنع بمن اتبعه أول ،حتى يكون
التباع صادرا من قيم النفس ل من الرغام قهرا أو قسرا ،فنحن قد نجد إنسانا يرغم إنسانا آخر
على السير معه ،وهنا ل يقال عن المُرغَم :إنه " اتبع " إنما الذي يتبع ،أي الذي يسير في نفس
طريق صاحبه يكون ذلك بمحض إرادته ومحض اختياره .فلو سار شخص في طريق شخص
آخر بالقهر أو القسر لكان ذلك التباع بالقالب ،ل بالقلب .ولذلك فمن الممكن لمتجبر أن يمسك
سوطا ويقهر مستضعفا على السير معه ،وفي ذلك إخضاع لقالب المستضعف ،لكنه لم يخضع
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُمؤْمِنِينَ * إِن نّشَأْ
قلبه ،فالكراه يخضع القالب لكنه ل يخضع القلبَ {.لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ضعِينَ }[الشعراء.]4-3 :
سمَآءِ آ َيةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ
نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
إن الحق يخبر رسوله أن أحدا من العباد .ل يستعصي على خالقه ،وأنه سبحانه القادر على
الحياء والماتة ،ولو أراد ال أن ينزل آية تخضع أعناق كل العباد َل َفعَل ،لكن الحق ل يريد
أعناق الناس ،ولكنه يطلب القلوب التي تأتي طواعية وبالختيار ،وأن يأتي العبد إلى اليمان وهو
قادر أل يجيء .هذه هي العظمة اليمانية .وقال الحواريون بعد إعلنهم اليمان بما جاء به
عيسى { :فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّا ِهدِينَ } إنه الطلب اليماني العالي الواعي ،الفاهم .إنهم يحملون أمانة
التبليغ عن الرسول ،ويشهدون كما يشهد الرسل لممهم ،ويطلبون أن يكتبهم ال مع الذين يشهدون
أن الرسل يبلغون رسالت ال وأنهم يحملونها من بعدهم؛ ولذلك قلنا عن أمة محمد عليه الصلة
والسلم :إنها المة التي حملها ال مهمة وصل بلغ الرسالة المحمدية إلى أن تقوم الساعة.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بعد محمد صلى ال عليه وسلم ،لذلك فل نبوة من بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم .وبعد ذلك
يخبرنا الحقَ } :و َمكَرُواْ َو َمكَرَ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ{ ...
()445 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا