Professional Documents
Culture Documents
إن الشياء التي يدركها العقل هي مسميات ولها أسماء وتكون أول بالحس؛ لن الحس هو أول
مصاحب للنسان لدراك الشياء ،وبعد ذلك تأتي المعاني عندما نكبر ونعرف الحقائق .إن البداية
دائما تكون هي المور المحسة ،ولذلك يقول ال عن المنهج اليماني :إنه طريق مستقيم ،أي أن
نعرف الغاية والطريق الموصل إليها ،وكلمة " الطريق المستقيم " من المور المحسة والتي
يتعرف الناس عليها بالتطبيق لقواعد المنهج.
إن كلمة " مكر " ،مأخوذة من الشجر ،فساعة أن ترى الشجرة التي ل تلتف أغصانها على
بعضها فإن النسان يستطيع أن يحكم أن ورقة ما ،هي من فرع ما ،ولكنْ هناك نوع من الشجار
تكون فروعه ملفوفة على بعضها بحيث ل يستطيع النسان أن يعرف أي ورقة من أي فرع هي،
ومن هذا المعنى أخذنا كلمة " المكر " فالرجل الذي يلف ويدور ،هو الذي يمكر ،فالذي يلف على
إنسان من أجل أن يستخلص منه حقيقة ما ،والذي يحتال من أجل إبراز حقيقة ،فإن كان ذلك بغير
قصد الضرر نسميه حيلة ،وإن كان بقصد الضرر فهذا هو المكر السيء .ولذلك فالحق يقول{:
َو َمكْرَ السّيّى ِء َولَ َيحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّيّىءُ ِإلّ بِأَهْلِهِ َف َهلْ يَنظُرُونَ ِإلّ سُ ّنتَ الَوّلِينَ فَلَن َتجِدَ ِلسُ ّنتِ اللّهِ
حوِيلً }[فاطر.]43 :
ل وَلَن َتجِدَ ِلسُ ّنتِ اللّهِ َت ْ
تَبْدِي ً
ومعنى ذلك أن هناك مكرا غير سيء ،أي أن المكر الذي ل يقصد منه إيقاع الضرر بأحد ،فإننا
نسميه مكرَ خير ،أما المكر الذي يقصد منه إيقاع الضرر فهو " المكر السيء " .ولنا أن نسأل :ما
الذي يدفع إنسانا ما إلى المكر؟ إن الذي يمكر يداري نواياه ،فقد يظهر لك الحب بينما هو مبغض،
ويريد أن يزين لك عمل ليمكر بك ،فيحاول مثل أن يصحبك إلى مكان بعيد غير مأهول بالناس
ويريد أن يوقع بك أبلغ الضرر ،وقد يكون القتل.
إذن ،فمن أسس المكر التبييت ،والتبييت يحتاج إلى حنكة و خبرة ،لن الذي يحاول التبييت قد يجد
قبالته من يلتقط خبايا التبييت بالحدس والتخمين ،وما دام المكر يحتاج إلى التبييت ،فإن ذلك
علمة على الضعف في البشر لن القوي ل يمكر ول يكيد ولكن يواجه.
إن القوي لحظة أن يمسك بخصم ضعيف ،فمن الممكن أن يطلقه ،لن القوي مطمئن إلى أن قوته
تستطيع أن تؤذي هذا الضعيف .لكن الضعيف حين يملك قويا ،فإنه يعتبر المر فرصة لم تتكرر،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك فالشاعر يقول:وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت كذلك قدرة الضعفاءإن الضعيف هو الذي
يمكر ويبيت .والذي يمكر قد يضع في اعتباره أن خصمه أقوى منه حيلة وأرجح عقل ،وقد ينكل
به كثيرا ،لذلك يخفى الماكر أمر مكره أو تبييته.
فإذا ما أراد خصوم المنهج اليماني أن يمكروا ،فعلى من يمكرون؟ إن الرسول ل يكون في
سهُم َومَا
خدَعُونَ ِإلّ أَ ْنفُ َ
المعركة بمفرده ولكن معه الُ {.يخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا َومَا يَ ْ
شعُرُونَ }[البقرة.]9 :
يَ ْ
فال يعلم ما يبيت أي إنسان ،ولذلك فعندما يريد ال أن يبرز شيئا ويوجده فلن يستطيع أحد أن
يواجه إرادة ال وأمره ،إذن فمكر ال ل قبل لحد لمواجهته.
} َو َمكَرُواْ َومَكَرَ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ { [آل عمران]54 :
وساعة تجد صفة تستبعد أن يوصف بها ال فاعلم أنما جاءت للمشاكلة فقط وليست من أسماء ال
الحسنى ،إن المؤمنين بإمكانهم أن يقولوا للكافرين :إنكم إن أردتم أن تبيتوا لنا ،فإن ال قادر على
أن يقلب المكر عليكم ،أما أسماء ال وصفاته فهي توقيفية ،نزل بها جبريل على رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،لكن إذا وجد فعل ل ل يصح أن نشتق نحن منه وصفا ونجعله اسما لَ } ،ومَكَرُواْ
َو َمكَرَ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ { ،فليس من أسماء ال مخادع ،أو ماكر ،إياك أن تقول ذلك ،لن
أسماء ال وصفاته توقيفية ،وجاء القول هنا بمكر ال كمقابل لفعل من البشر ،ليدلهم على أنهم ل
يستطيعون أن يخدعوا ال ،ول يستطيعون أن يمكروا بال ،لن ال إذا أراد أن يمكر بهم ،فهم ل
يستطيعون مواجهة ذلك .إن الحق يقولَ } :و َمكَرُواْ َو َمكَرَ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ {.
إذن فهناك " مكر خير " ..وذلك دليل على أن هناك من يصنع المكر ليؤدي إلى الخير .ولماذا
تأتي هذه الية هنا؟ لن هناك معركة سيدخلها عيسى ابن مريم عليه السلم ،وعيسى عليه السلم
لم يجيء ليقاتل بالسيف ليحمي العقيدة ،إنما جاء واعظا ليدل الناس على العقيدة ،إن النصرة ل
تكون بالسيف فقط ،ولكن بالحجة .ونحن نعرف أن السماء كانت ل تطلب من أي رسول أن
يحارب في سبيل العقيدة لن السماء هي التي كانت تتولى التأديبَ {.فكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن
سفْنَا بِهِ الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا
ح ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ خَ َ
أَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَ ْتهُ الصّيْ َ
سهُمْ َيظِْلمُونَ }[العنكبوت.]40 :
كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َمهُ ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
ولم يجيء قتال إل حينما طلب بنو إسرائيل {:أَلَمْ تَرَ إِلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي ِإسْرَائِيلَ مِن َبعْدِ مُوسَى إِذْ
علَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ َألّ ُتقَاتِلُواْ
قَالُواْ لِنَ ِبيّ ّلهُمُ ا ْب َعثْ لَنَا مَلِكا ّنقَا ِتلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ َهلْ عَسَيْتُمْ إِن كُ ِتبَ َ
قَالُواْ َومَا لَنَآ َألّ ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَدْ أُخْ ِرجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقِتَالُ َتوَّلوْاْ ِإلّ
علِيمٌ بِالظّاِلمِينَ }[البقرة.]246 :
قَلِيلً مّ ْنهُ ْم وَاللّهُ َ
ولكن أمة محمد صلى ال عليه وسلم هي التي أذن ال لها أن تحمل السيف لتؤدب به الذين
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحولون دون بلوغ العقيدة الصحيحة للناس.
إن السيف لم يأت ليفرض العقيدة ،إنما ليحمي الختيار في النفس اليمانية ،فبدل من أن يترك
الناس مقهورين على اعتناق عقيدة خاطئة فالمسلمون يرفعون السيف في وجه الظالم القاهر لعباد
ال .وعباد ال لهم أن يختاروا عقيدتهم.
ولذلك فعندما يقول اعداء السلم " :أن السلم انتشر بالسيف " .نرد عليهم :إن ال قد بدأ السلم
بضعف حتى يسقط هذا التهام ،لقد كان المسلمون الوائل ضعفاء ل يستطيعون الدفاع عن
أنفسهم ،فيتجه بعضهم إلى الحبشة ،ويهاجرون بحثا عن الحماية ،فلو كان السلم قد انتشر
بالسيف فلنا أن نسأل :من الذي حمل أول سيف ليكره أول مؤمن؟ إن المؤمنين رضوا السلم
دينا وهم في غاية الضعف ومنتهاه .إن السلم قد بدأ واستمر وما زال يحيا بقوة اليمان.
إن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء في أمة أمية ،ومن قبيلة لها شوكتها ،وشاء الحق أل
ينصر ال دينه بإسلم أقوياء قريش أول ،بل آمن بالرسول صلى ال عليه وسلم الضعفاء وخاض
رسول ال صلى ال عليه وسلم رحلة الدعوة اليمانية مدة ثلثة عشر عاما ،دعوة لليمان بال ،ثم
هاجر رسول ال إلى المدينة ،إلى أن صار كل المسلمين وحدة إيمانية قوية ،وارتفع السيف ل
ليفرض العقيدة ،ولكن ليحمي حرية اختيار الناس للعقيدة الصحيحة .ولو أن السلم انتشر
بالسيف .فكيف نفسر وجود أبناء لديانات أخرى في البلد المسلمة؟ لقد أتاح السلم فرصة اختيار
العقيدة لكل إنسان.
إذن فكل مسلم يمثل وحدة إيمانية مستقلة ،وواجب كل مسلم أن يعرف أن السلم قد انتشر
بالسوة الحسنة ،وأنه كمؤمن بال وبدين ال ،قد اصطفاه ال ليطبق السلوك اليماني ،فقد مكن ال
للسلم في الرض بالسلوك والقدوة.
إن كل مسلم عليه واجب أل يترك في سلوكه ثغرة ينفذ منها خصوم السلم إلى السلم ،ذلك أن
اختلل توازن سلوك المسلم بالنسبة لمنهج ال هو ثغرة ينفذ منها خصوم السلم ،ولذلك
فالمفكرون في الديان الخرى حينما يذهبون إلى السلم ،ويقتنعون به ،إنما يقتنعون بالسلم
لنه منهج حق .إنهم يمحصونه بالعقل ،ويهتدون إليه بالفطرة اليمانية .أما الذين يريدون الطعن
في السلم ،فهم ينظرون إلى سلوك بعض من المسلمين ،فيجدون فيه من الثغرات ما يتهمون به
السلم.
إن المفكرين المنصفين يفرقون دائما بين العقيدة ،ومتبع العقيدة ،ولذلك فأغلب المفكرين الذين
يتبعون هذا التجاه ،يلجأون إلى السلم ويؤمنون به .ولكن الذين يذهبون إلى السلم من جهة
أتباعه ،فإن صادفوا تابعا للسلم ملتزما دعاهم ذلك إلى أن يؤمنوا بالسلم ،ولذلك كانت
الجمهرة الكثيرة الوفيرة في البلد السلمية المعاصرة في بلد لم يدخلها فتح إسلمي ،وإنما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دخلتها السوة السلمية في أفراد تابعين ملتزمين ،فراق الناس ما عليه هؤلء المسلمون من حياة
ورعة ،ومن تصرفات مستقيمة جميلة ،ومن أسلوب تعامل سمح أمين ،نزيه ،نظيف ،كل ذلك لفت
جمهرة الناس إلى السلم ،وجعلهم يتساءلون :ما الذي جعلكم على هذا السلوك الطيب؟ قالوا:
لننا مسلمون.
وتساءل الناس في تلك المجتمعات :وما معنى السلم؟ وبدأ المسلمون يشرحون لهم السلم.
إذن ،فالذي لفت إلى السلم هو السلوك المنهجي الملتزم ،ولذلك فالحق سبحانه وتعالى حين
ل صَالِحا َوقَالَ إِنّنِي
عمِ َ
يعرض منهج الدعوة الناجحة يقولَ {:ومَنْ َأحْسَنُ َق ْولً ّممّن دَعَآ إِلَى اللّ ِه وَ َ
مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ }[فصلت.]33 :
والدعوة إلى ال تكون باللسان والعمل الصالح ،ليدل المؤمن على أن ما يدعو إليه غيره قد وجده
مفيدا فالتزمه هو ،فالعمل الصالح هو شهادة للدعوة باللسان ،ول يكتفي المؤمن بذلك ،إنما يعلن
ويقول } :إِنّنِي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ { يقول ذلك لمن؟ يقوله لمن يرونه على السلوك السمح الرضى
الطيب .إنها لفتة من ذاته إلى دينه.
إن هذا يفسر لنا كيف انتشر السلم بوساطة جماعة من التجار الذين كانوا يذهبون إلى كثير من
البلد ،وتعاملوا مع الناس بأدب السلم ،وبوقار السلم ،وبورع السلم ،فصار سلوكهم الملتزم
لفتا ،وعندما يسألهم القوم عن السر في سلوكهم الملتزم ،ويقول النسان منهم :أنا لم أجيء بذلك
من عندي ولكن من اتباعي لدين ال السلم.
ومثال ذلك في السلوك السوة :المسلمون الوائل من صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم .لقد
كان صحابته رضوان ال عليهم يخافون عليه من خصومه ،فكانوا يتناوبون حراسته ،ومعنى
تناوب الحراس أنهم أرادوا أن يكونوا المصد للخطار يتداولون ذلك فيما بينهم .وأراد الحق
سبحانه أن يهاجر رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكة إلى المدينة خفية ،ونام علي بن أبي
طالب رضي ال عنه وأرضاه مكان الرسول صلى ال عليه وسلم .لقد أراد علي -كرم ال وجهه
-أن يكون هو المصد ،فإذا جاء خطر فإنه هو الذي يصده.
ل شك أنه كان يفعل ذلك لنه واثق أن بقاء الرسول صلى ال عليه وسلم خير للسلم حتى ولو
افتداه بروحه .هذا هو التسامى العالي من صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم .كان الواحد
منهم يحب الرسول صلى ال عليه وسلم لن السوة بالرسول واتباع دين ال إنّما يعود ذلك عليه
بالخير العميم .وعندما يموت واحد منهم في سبيل المحافظة على من أرسله ال رسول ليبلغ
دعوته فقد نال الشهادة في سبيل ال.
هذا هو أبو بكر الصديق رضوان ال عليه مع رسول ال في الغار .ألم يجد الصديق شقوقا فيمزع
من ثيابه ليسد الشقوق؟ ألم يضع قدمه في شق لنه يخشى أن تجيء حشرة من الحشرات قد تؤذي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حضرة النبي صلى ال عليه وسلم؟ لقد أراد أن يحافظ على الرسول صلى ال عليه وسلم حتى
ولو افتداه ،وهذه شهادة بأن صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم آمنوا بأن بقاء الرسول خير
لهم ولليمان ولنفوسهم من بقائهم هم أنفسهم.
وهكذا أراد ال نصرة رسوله على الكفار ،عندما مكروا وبيتوا أن يقتلوه قبل الهجرة ،وهكذا أراد
ال نصر رسوله صلى ال عليه وسلم بعد الهجرة عندما واجه أعداء السلم في القتال ،لقد
مكروا ،ولكن ال خير الماكرين.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يقول بهذا النصر من ال :لن تستطيعوا أن تقاوموا محمدا ل بالمواجة
ول بالتبييت .وها هو ذا تابع من أتباعه صلى ال عليه وسلم هو سيدنا عمر رضي ال عنه
يهاجر علنا ،ويقول :من أراد أن تثكله أمه ،أو ترمل زوجته ،أو ييتم ولدُه ،فليلقني وراء هذا
الوادي .بينما هاجر رسول ال صلى ال عليه وسلم خفية.
لماذا؟ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم أسوة للضعيف .إن القوى يستطيع حماية نفسه ويخرج
إلى الهجرة مجاهرا .أما الضعيف فل بد أن يهاجر خفية؛ لذلك فالسوة للضعيف كانت في رسول
ال صلى ال عليه وسلم .لقد مكر أعداء الرسول صلى ال عليه وسلم ،ولكن ال مكر بهمَ {.وقَدْ
َمكَرُواْ َمكْرَ ُه ْم وَعِندَ اللّهِ َمكْرُهُ ْم وَإِن كَانَ َمكْرُ ُهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ }[إبراهيم.]46 :
إن مكرهم رغم عنفه وشدته والذي قد يؤدي إلى زوال الجبال ،هذا المكر يبور عند مواجهته
لمكر ال الذي يحمى رسله وعباده الصالحين .لقد جاء مكر بني إسرائيل وأنزل فيه ال قوله
الحكيمَ } :و َمكَرُواْ َومَكَرَ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ { .لنهم أرادوا أن يتخلصوا من سيدنا عيسى
ك وَرَا ِف ُعكَ إَِليّ
ابن مريم عليه السلم .فقال الحق سبحانهِ } :إذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَىا إِنّي مُ َت َوفّي َ
طهّ ُركَ مِنَ الّذِينَ َكفَرُواْ{ ...
َومُ َ
()446 /
لقد جاء الحق سبحانه بعد عرضه لمسألة المكر بهذا القول الحكيم ،وذلك دليل على أن عيسى
عليه السلم أحس من بني إسرائيل الكفر ،والتبييت ،ومؤامرة للقتل فطمأن ال عيسى إلى نهاية
علُ الّذِينَ اتّ َبعُوكَ َفوْقَ الّذِينَ
طهّ ُركَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُو ْا وَجَا ِ
ي َومُ َ
المعركة { .إِنّي مُ َت َوفّيكَ وَرَا ِفعُكَ إَِل ّ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َكفَرُواْ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ } .إنها أربعة مواقف ،أرادها ال لعيسى ابن مريم عليه السلم.
ونريد أن نقف الن عند كلمة قول الحق { :مُ َت َوفّيكَ } .نحن غالبا ما نأخذ معنى بعض اللفاظ من
الغالب الشائع ،ثم تموت المعاني الخرى في اللفظ ويروج المعنى الشائع فنفهم المقصد من اللفظ.
إن كلمة " التوفي " نفهمها على أنها الموت ،ولكن علينا هنا أن نرجع إلى أصل استعمال اللفظة،
فإنه قد يغلب معنى على لفظ ،وهذا اللفظ موضوع لمعان متعددة ،فيأخذه واحد ليجعله خاصا
بواحد من هذه .إن كلمة " التوفي " قد يأخذها واحدا لمعنى " الوفاة " وهو الموت .ولكن ،ألم يكن
ل وَ َيعْلَمُ مَا
ربك الذي قال { :إِنّي مُ َت َوفّيكَ }؟ وهو القائل في القرآن الكريم {:وَ ُهوَ الّذِي يَ َت َوفّاكُم بِاللّ ْي ِ
ج ُعكُمْ ثُمّ يُنَبّ ُئكُم ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ }
سمّى ُثمّ إِلَيْهِ مَ ْر ِ
جلٌ مّ َ
جَ َرحْتُم بِال ّنهَارِ ُثمّ يَ ْبعَ ُثكُمْ فِيهِ لِ ُيقْضَىا َأ َ
[النعام.]60 :
إذن { يَ َت َوفّاكُم } هنا بأي معنى؟ إنها بمعنى ينيمكم .فالنوم معنى من معاني التوفي .ألم يقل الحق
في كتابه أيضا الذي قال فيه { :إِنّي مُ َت َوفّيكَ } {.اللّهُ يَ َت َوفّى الَنفُسَ حِينَ َموْتِـهَا وَالّتِي َلمْ َت ُمتْ فِي
ك ليَاتٍ
سمّى إِنّ فِي ذَِل َ
جلٍ مّ َ
ل الُخْرَىا إِلَىا أَ َ
سُسكُ الّتِي َقضَىا عَلَ ْيهَا ا ْل َم ْوتَ وَيُرْ ِ
مَنَامِـهَا فَ ُيمْ ِ
ّلقَوْمٍ يَ َتفَكّرُونَ }[الزمر.]42 :
لقد سمى الحق النوم موتا أيضا .هذا من ناحية منطق القرآن ،إن منطق القرآن الكريم بين لنا أن
كلمة " التوفي " ليس معناها هو الموت فقط ولكن لها معان أخرى ،إل أنه غلب اللفظ عند
المستعملين للغة على معنى فاستقل اللفظ عندهم بهذا المعنى ،فإذا ما أطلق اللفظ عند هؤلء ل
ينصرف إل لهذا المعنى ،ولهؤلء نقول :ل ،ل بد أن ندقق جيدا في اللفظ ولماذا جاء؟
وقد يقول قائل :ولماذا يختار ال اللفظ هكذا؟ والجابة هي :لن الشياء التي قد يقف فيها العقل ل
تؤثر في الحكام المطلوبة ويأتي فيها ال بأسلوب يحتمل هذا ،ويحتمل ذلك ،حتى ل يقف أحد في
أمر ل يستأهل وقفة .فالذي يعتقد أن عيسى عليه السلم قد رفعه ال إلى السماء ما الذي زاد عليه
نت أحكام دينه؟ والذي ل يعتقد أن عيسى عليه السلم قد رُفع ،ما الذي نقص عليه من أحكام
دينه ،إن هذه القضية ل تؤثر في الحكام المطلوبة للدين ،لكن العقل قد يقف فيها؟ فيقول قائل:
كيف يصعد إلى السماء؟ ويقول آخر :لقد توفاه ال.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمّى إِنّ فِي ذَِلكَ ليَاتٍ ّل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }
جلٍ مّ َ
ل الُخْرَىا إِلَىا َأ َ
سُت وَيُرْ ِ
الّتِي َقضَىا عَلَ ْيهَا ا ْل َموْ َ
[الزمر.]42 :
إن الحق سبحانه قد سمى النوم موتا لن النوم غيب عن حس الحياة .واللغة العربية توضح ذلك،
فأنت تقول -على سبيل المثال -لمن أقرضته مبلغا من المال ،ويطلب منك أن تتنازل عن
بعضه ل ،ل بد أن أستوفي مالي ،وعندما يعطيك كل مالك ،تقول له :استوفيت مالي تماما،
فتوفيته ،أي أنك أخذته بتمامه.
إذن ،فمعنى } مُ َت َوفّيكَ { قد يكون هو أخذك الشيء تاما .أقول ذلك حتى نعرف الفرق بين الموت
والقتل ،كلهما يلتقي في أنه سلب للحياة ،وكلمة " سلب الحياة " قد تكون مرة بنقض البنية،
كضرب واحد لخر على جمجمته فيقتله ،هذا لون من سلب الحياة ،ولكن بنقض البنية .أما الموت
فل يكون بنقض البنية ،إنما يأخذ ال الروح ،وتبقى البنية كما هي ،ولذلك فرق ال في قرآنه
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن
الحكيم بين " موت " و " قتل " وإن اتحدا معا في إزهاق الحياةَ {.ومَا ُم َ
عقِبَيْهِ فَلَن َيضُرّ اللّهَ شَيْئا
علَىا َ
عقَا ِبكُ ْم َومَن يَنقَِلبْ َ
سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ
قَبْلِهِ الرّ ُ
وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ }[آل عمران.]144 :
إن الموت والقتل يؤدي كل منهما إلى انتهاء الحياة ،لكن القتل ينهي الحياة بنقض البنية ،ولذلك
يقدر بعض البشر على البشر فيقتلون بعضهم بعضا .لكن ل أحد يستطيع أن يقول " :أنا أريد أن
يموت فلن " ،فالموت هو ما يجريه ال على عباده من سلب للحياة بنزع الروح .إن البشر
يقدرون على البينة بالقتل ،والبينة ليست هي التي تنزع الروح ،ولكن الروح تحل في المادة فتحيا،
وعندما ينزعها ال من المادة تموت وترم أي تصير رمة.
إذن ،فالقتل إنما هو إخلل بالمواصفات الخاصة التي أرادها ال لوجود الروح في المادة ،كسلمة
المخ أو القلب .فإذا اختل شيء من هذه المواصفات الخاصة الساسية فالروح تقول " :أنا ل أسكن
هنا ".
إن الروح إذا ما انتزعت ،فلنها ل تريد أن تنتزع ..لي سبب ولكن البنية ل تصلح لسكنها.
ونضرب المثل ول المثل العلى.
إن الكهرباء التي في المنزل يتم تركيبها ،وتعرف وجود الكهرباء بالمصباح الذي يصدر منه
الضوء .إن المصباح لم يأت بالنور ،لن النور ل يظهر إل في بنية بهذه المواصفات بدليل أن
المصباح عندما ينكسر تظل الكهرباء موجودة ،ولكن الضوء يذهب .وكذلك الروح بالنسبة للجسد.
إن الروح ل توجد إل في جسد له مواصفات خاصة .وأهم هذه المواصفات الخاصة أن تكون
خليا البنية مناسبة ،فإن توقف القلب ،فمن الممكن تدليكه قبل مرور سبع ثوان على التوقف ،لكن
إن فسدت خليا المخ ،فكل شيء ينتهي لن المواصفات اختلت.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن ،فالروح ل تحل إل في بنية لها مواصفات خاصة ،والقتل وسيلة أساسية لهدم البنية؛ وإذهاب
الحياة ،لكن الموت هو إزهاق الحياة بغير هدم البنية ،ول يقدر على ذلك إل ال سبحانه وتعالى.
ولكن خلق ال يقدرون على البينة ،لنها مادة ولذلك يستطيعون تخريبها.
إذن " ،فمتوفيك " تعني مرة تمام الشيء " ،كاستيفاء المال " وتعني مرة " النوم " .وحين يقول
الحق } :إِنّي مُ َت َوفّيكَ { ماذا يعني ذلك؟ إنه سبحانه يريد أن يقول :أريدك تماما ،أي أن خلقي ل
يقدرون على هدم بنيتك ،إني طالبك إلى تاما ،لنك في الرض عرضة لغيار البشر من البشر،
لكني سآتي بك في مكان تكون خالصا لي وحدى ،لقد أخذتك من البشر تامّا ،ومعنى " تاما " ،أي
أن الروح في جسدك بكل مواصفاته ،فالذين يقدرون عليه من هدم المادة لم يتمكنوا منه.
إذن ،فقول الحق } :وَرَا ِف ُعكَ إَِليّ { هذا القول الحكيم يأتي مستقيما مع قول الحق } :مُ َت َوفّيكَ { .وقد
يقول قائل :لماذا نأخذ الوفاة بهذا المعنى؟ نقول :إن الحق بجلل قدرته كان قادرا على أن يقول:
إني رافعك إليّ ثم أتوفاك بعد ذلك .ونقول أيضا :من الذي قال :إن " الواو " تقتضي الترتيب في
عذَابِي وَنُذُرِ }[القمر.]16 :
الحدث؟ ألم يقل الحق سبحانهَ {:فكَيْفَ كَانَ َ
هل جاء العذاب قبل النذر أو بعدها؟ إن العذاب إنما يكون من بعد النذر .إن " الواو " تفيد الجمع
ك َومِن نّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ
خذْنَا مِنَ النّبِيّيْنَ مِيثَا َقهُ ْم َومِ ْن َ
للحدثين فقط .ألم يقل ال في كتابه أيضا {:وَِإذْ أَ َ
َومُوسَىا وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِ ْن ُهمْ مّيثَاقا غَلِيظا }[الحزاب.]7 :
إن " الواو " ل تقتضي ترتيب الحداث ،فعلى فرض أنك قد أخذت } مُ َت َوفّيكَ { أي " مميتك " ،
فمن الذي قال :إن " الواو " تقتضي الترتيب في الحدث؟ بمعنى أن الحق يتوفى عيسى ثم يرفعه.
فإذا قال قائل :ولماذا جاءت } مُ َت َوفّيكَ { أول؟ نرد على ذلك :لن البعض قد يظن أن الرفع تبرئة
من الموت.
ولكن عيسى سيموت قطعا ،فالموت ضربة لزب .ومسألة يمر بها كل البشر .هذا الكلم من
ناحية النص القرآني .فإذا ما ذهبنا إلى الحديث وجدنا أن ال فوّض رسوله صلى ال عليه وسلم
ليشرح ويبين ،ألم يقل الحق {:وَأَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْي ِه ْم وََلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ }
[النحل.]44:
فالحديث كما رواه البخاري ومسلم( :كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم)؟.
إي أن النبي صلى ال عليه وسلم بين لنا أن ابن مريم سينزل مرة أخرى .ولنقف الن وقفة عقلية
لنواجه العقلنيين الذين يحاولون إشاعة التعب في الدنيا فنقول :يا عقلنيون أقبلتم في بداية عيسى
أن يوجد من غير أب على غير طريقة الخلق في اليجاد والميلد؟ سيقولون نعم .هنا نقول :إذا
كنتم قد قبلتم بداية مولده بشيء عجيب خارق للنواميس فكيف تقفون في نهاية حياته إن كانت
خارقة للنواميس؟ .إن الذي جعلكم تقبلون العجيبة الولى يمهد لكم أن تقبلوا العجيبة الثانية .إن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق سبحانه يقول:
علُ الّذِينَ اتّ َبعُوكَ َفوْقَ الّذِينَ َكفَرُواْ ِإلَىا
طهّ ُركَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُو ْا وَجَا ِ
ي َومُ َ
} إِنّي مُ َت َوفّيكَ وَرَا ِفعُكَ إَِل ّ
َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ { [آل عمران.]55 :
إنه سبحانه يبلغ عيسى إنني سأخذك تاما غير مقدور عليك من البشر ومطهرك من خبث هؤلء
الكافرين ونجاستهم ،وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة .وكلمة " اتبع " تدل
على أن هناك " مُتّبعا " يتلو مُتّبعا .أي أن المتبّع هو الذي يأتي بعد ،فمن الذي جاء من بعد عيسى
بمنهج من السماء؟ إنه محمد صلى ال عليه وسلم .ولكن على أي منهج يكون الذين اتبعوك؟ أعلى
المنهج الذي جاؤا به أم المنهج الذي بلغته أنت يا عيسى؟ إن الذي يتبعك على غير المنهج الذي
قلته لن يكون تبعا لك ،ولكن الذي يأتي ليصحح الوضع على المنهج الصحيح فهو الذي اتبعك.
وقد جاء محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم ليصحح الوضع ويبلغ المنهج كما أراده ال} .
علُ الّذِينَ اتّ َبعُوكَ َفوْقَ الّذِينَ َكفَرُواْ إِلَىا َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ { فإن أخذنا المعنى بهذا؛ فإن أمة محمد
وَجَا ِ
صلى ال عليه وسلم هي التي اتبعت منهج ال الذي جاء به الرسل جميعا ،ونزل به عيسى أيضا،
وأن أمة محمد قد صححت كثيرا من القضايا التي انحرف بها القوم .نقول ليس المراد هنا من "
فوق " الغلبة والنصر ،ولكننا نريد من " فوق " الحجة والبرهان .وذلك إنما يحدث في حالة وجود
قوم منصفين عقلء يزنون المور بحججها وأدلتها وهم لن يجدوا إل قضية السلم وعقيدة
السلم.
سلَ
إذن ،فالفوقية هي فوقية ظهور دليل وقوة برهان .ولذلك قال الحق سبحانهُ {:هوَ الّذِي أَرْ َ
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمشْ ِركُونَ }
رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَىا وَدِينِ ا ْلحَقّ لِ ُي ْ
[التوبة.]33 :
وفي موقع آخر من القرآن الكريم ،يؤكد الحق ظهور السلم على كافة الديان وهو الشاهد على
شهِيدا }
علَى الدّينِ كُلّ ِه َو َكفَىا بِاللّهِ َ
ظهِ َرهُ َ
حقّ لِ ُي ْ
سلَ َرسُولَهُ بِا ْلهُدَىا وَدِينِ الْ َ
ذلكُ {:هوَ الّذِي أَ ْر َ
[الفتح.]28 :
ومعنى ذلك أن ال قد أراد للسلم أن يظهر على كل الديان .وقد يقول قائل :إن في العالم أديانا
كثيرة ،ولم يظهر عليها السلم ،والموجودون من المسلمين في العالم الن مليار وأضعاف ذلك
من البشر على ديانات أخرى .نقول لمثل هذا القائل :إن ال أراد للسلم أن يظهره إظهار حجة،
ل من قِبَلِكم أنتم فقط ولكن من قِبلهم هم كذلك ،والناس دائما حين يجتمعون ليشرعوا القوانين
وليحددوا مصالح بعضهم بعضا ،يلجأون أخيرا إلى السلم .فلننظر إلى من يشرع من جنس
تشريع الرض ولنسأل أرأيت تشريعا ارضيا ظل على حاله؟ ل ،إن التشريع الرضي يتم تعديله
دائما.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لماذا لن الذي وضع التشريع الول لم يكن له من العلم ما يدله على مقتضيات المور التي تَجدّ،
جدّت أمور في الحياة لم تكن في ذهن من شرع أول ،احتاج الناس إلى تعديل التشريع.
فلما َ
ولنمسك بأي قانون بشرى معدل في أي قضية من قضايا الكون ،ولننظر إلى أي اتجاه يسير؟ إنه
دائما يتجه إلى السلم ،وإن لم يلتق مع السلم فإنه يقرب من السلم .وعندما قامت في أوروبا
ضجة على الطلق في السلم ،ما الذي حدث؟ جاء التشريع بالطلق في إيطاليا تحت سمع
وبصر الفاتيكان .هل شرعوا الطلق لن السلم أباح الطلق؟ ل .إنما شرعوه لن أمور الحياة
أخضعتهم إلى ضرورة تشريع الطلق ،فكأنهم أقاموا الدليل بخضوعهم لمور الحياة على أن ما
جاء به السلم قبل التجربة كان حقا .بدليل أن أوربا لجأت إلى تشريع الطلق ل كمسلمين ولكن
لن مصالح حياتهم ل تتأتى إل به.
وهل هناك ظهور وغلبة أكثر من الدليل الذي يأتي من الخصم؟ تلك هي الغلبة .لقد وصلوا إلى
تشريع الطلق ،رغم كراهيتهم للسلم كدليل على صدق ما جاء به السلم .وفي الربا ،الذي
يريد البعض هنا أن يحلله ،تجد أوربا تحاول التخلص منه ،لنهم توصلوا بالتجربة إلى أن المال
ل يؤدي وظيفته في الحياة إل إذا انخفضت الفائدة إلى الصفر أي؟أنهم عرفوا أن إلغاء الربا
ضروري حتى يؤدي المال وظيفته الحقيقية في الحياة ،والذي ألجأهم إلى الوصول إلى هذه
الحقيقة هو أن فساد الحياة سببه الربا ،فأرادوا أن يمنعوا الربا .لقد وصلوا إلى ما بدأ به السلم
من أربعة عشر قرنا .أتريد غلبة ،وتريد فوقا ،وتريد ظهورا ،أكثر من هذا بالنسبة لدين ال؟
إذن ،ففهم الخصوم ما يصلح أمر الحياة اضطرهم إلى الخذ بمبادئ السلم ونتابع بالتأمل قول
علُ الّذِينَ اتّ َبعُوكَ َفوْقَ الّذِينَ َكفَرُواْ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ { ،أي أن الحق جاعل الذين
الحق } :وَجَا ِ
ساروا على المنهج الصيل القادم من ال فوق الذين كفروا.
فالذين يقولون فيك يا عيسى ابن مريم ما ل يقال من ألوهية ،هل اتبعوك؟ ل ..لم يتبعوك.
إن الذي يتبع عيسى هو الذي يأتي على المنهج القادم من ال .إن عيسى ابن مريم رسول إلى بني
إسرائيل .وديانات السماء ل تأتي لعصبيات الجنس أو القومية أو الوطان أو غير ذلك ،ولكن
المنهج هو الذي يربط الناس بعضهم ببعض ،ولذلك جاء لنا الحق بقصة سيدنا نوح لنتعرف على
هذه المعاني .لقد وعد ال سيدنا نوحا أن ينجي له أهله .وعندما دعا نوح عليه السلم ابنه ليركب
معه :ولكن ابن نوح رفض ،فقال نوح عليه السلم ل {:وَنَادَى نُوحٌ رّبّهُ َفقَالَ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ
ح َكمُ الْحَا ِكمِينَ }[هود.]45 :
ق وَأَنتَ أَ ْ
ن وَعْ َدكَ ا ْلحَ ّ
أَهْلِي وَإِ ّ
فهل الهلية بالنسبة للنبياء هي التي قالها نوح هل أهلية الدم؟ ل ،لن الحق قال {:قَالَ يانُوحُ إِنّهُ
ظكَ أَن َتكُونَ مِنَ
عُع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ فَلَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّي أَ ِ
لَيْسَ مِنْ أَ ْهِلكَ إِنّهُ َ
الْجَاهِلِينَ }[هود.]46 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لماذا؟ لن أهل النبوة هم المؤمنون بها فالذين اتبعوا المنهج الذي جاء به المسيح من عند ال ليس
من يطلق على نفسه النسب للمسيح ،ومن يطلق على نفسه أنه يهودي إن هذه أسماء فقط .إن
المتبع الحق هو من يتبع المنهج المنزل من عند ال .إن النبياء ميراثهم المنهج والعلم .ألم يقل
رسول ال صلى ال عليه وسلم على سلمان وهو فارسي ل يجتمع مع رسول ال في أرومة
عربية:
" سلمان منا آل البيت ".
وهكذا انتسب سلمان إلى آل البيت بحكم إيمانه ،وبنص حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم.
إذن " :وجاعل الذي اتبعوك فوق الذي كفروا إلى يوم القيامة " ،أي أن الحق سبحانه قد جعل
الفوقية للذين يتبعون المنهج الحق القادم من عند ال .والذي يصوب منهج عيسى هو محمد رسول
ال هل تكون الفوقية هي فوقية مساحة جغرافية؟ لن رقعة من الرض التي تتبع الديانات
الخرى غير السلم أكبر مساحة من رقعة أرض المؤمنين بالسلم؟ ل ..فالفوقية تكون فوقية
دليل.
وقد يقول قائل :إن الدليل ل يلزم .نرد قائلين :كيف ل يلزم الدليل؟ ونحن نرى الذين ل يؤمنون
به يدللون عليه .كيف يدللون عليه؟ إنهم يسيرون فيما يقننون من قوانين البشر إلى ما سبق إليه
تقنين السماء .وما دام هنا في هذه الية كلمة " فوق " وكلمة " كفروا " وهناك أتباع ,إذن ،فهناك
قضية وخصومة ،وهناك حق ،وهناك باطل ،وهناك هدى ،وهناك ضلل .فل بد من الفصل في
هذه القضية.
ويأتي الفصل ساعة أل يوجد للنسان تصرف إرادى ل على ذات نفسه ول على سواه.
إن الظالمين يستطيعون التصرف في الرض ،لكن عندما يكون المرجع إلى ال فال يقول :أنا
ملكتكم وأنتم عصاة لي في كثير من السباب ،لكن هناك وقت تزول فيه ملكيتكم للسباب .إذن..
فالظالم قد يتحكم على الرض وكذلك الباطل لن ال أوجد لنا جميعا إرادات ومرادات اختيارية.
شيْءٌ ّلمَنِ
خفَىا عَلَى اللّهِ مِ ْنهُمْ َ
ن لَ يَ ْ
لكن في يوم القيامة فل إرادات إل إرادة الَ {:يوْمَ هُم بَارِزُو َ
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
إذن فالحكم قادم بدون منازع ..والذي يدل على ذلك قوله الحق {:إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ
ط َعتْ ِبهِ ُم الَسْبَابُ * َوقَالَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ َلوْ أَنّ لَنَا كَ ّرةً فَنَتَبَرّأَ مِ ْنهُمْ َكمَا
اتّ َبعُواْ وَرَأَوُاْ ا ْل َعذَابَ وَتَقَ ّ
حسَرَاتٍ عَلَ ْيهِ ْم َومَا هُم بِخَا ِرجِينَ مِنَ النّارِ }[البقرة-166 :
عمَاَلهُمْ َ
تَبَرّءُواْ مِنّا كَذَِلكَ يُرِي ِهمُ اللّهُ أَ ْ
.]167
إن الذي اتبع واحدا على ضلل يأتي يوم القيامة ليجد أن صاحب الضلل يتبرأ منه ،فيقول
المتبعون سائلين ال :يارب ارجعنا إلى الدنيا لننتقم ممن خدعونا ،هذا من ناحية علقة البشر
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالبشر .أما من ناحية الجسد الواحد نفسه ،فسوف نجد شهادة الجلود واللسنة واليدي ،بعد أن
تسقط عنها إرادة النسان ويسقط تسخير الحق لهذه الجوارح والحواس لخدمة النسان ،تقول
الجوارح والحواس :لقد كانت لصاحبي إرادة ترغمني على أن أفعل ما ل أحب ،لكن ها هو ذا
يوم القيامة ،فل قهر ول إرغام ول تسخير لن الملك كله ل ..لذلك تشهد اللسنة والجلود ولهذا
حكُمُ بَيْ َن ُكمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ {.
ج ُعكُمْ فَأَ ْ
يقول الحق } :ثُمّ إَِليّ مَرْ ِ
إن الحق يحكم فيما كانوا فيه يختلفون لتكون ثمرة الحكم هي ماذا؟ هل هناك تكليف بعد ذلك؟ ل..
لكن ثمرة الحكم هي الجزاء .ففي الخرة ل عمل هنالك ،والحكم فيها للجزاء ،وكما قلنا :مادام
هناك متبعون وكافرون ،وجماعة فوق جماعة ،وإلى ال مرجعهم ،فل بد لنا أن نرى ما هو الحكم
شدِيدا فِي الدّنْيَا
عذَابا َ
عذّ ُبهُمْ َ
الذي سوف يكون؟ ها هو ذا القول الحكيم } :فََأمّا الّذِينَ َكفَرُواْ فَأُ َ
وَالخِ َرةِ{ ...
()447 /
لماذا لم يأت ال بالحكم على المؤمنين أول؟ لن المؤمنين يؤمنون بذلك تماما ،إنهم بإيمانهم
يعرفون ذلك ويعونه .ولننتبه هنا إلى أن الحكم ل يشمل العذاب في الخرة فقط ولكنه يشتمل على
العذاب في الدنيا أيضا ،فعذاب الدنيا سيكون قبل الحكم ،وكأن الحق يقول لنا :ل تعتقدون أن
تعذيبي إياهم في الدنيا يعفيهم من تعذيبي إياهم في الخرة ,لن التعذيب في الدنيا فقط قد يصيب
من آمن بي.
أما من كفر بي ،فإني أعذبه في الدنيا وأعذبه في الخرة إنني ل أؤجل العذاب للكافرين إلى
الخرة فقط ولكن سأضم عذاب الدنيا إلى عذاب الخرة.
إن الحصيلة بعد كل شيء هي أن يعذب الكافر في الدنيا وفي الخرة .ويقول الحق عن هذا
العذاب :إنه عذاب شديد؛ لن الحدث حين يقع ل بد أن تلحظ فيه القوة التي تناسب من أحدث.
ولنضرب هذا المثل ول المثل العلى:
إن الطفل قد يكسر شيئا في حدود قوته كطفل ،والشاب قد يكسر شيئا مناسبا لقوته .إذن فالحديث
يجب أن نأخذه قياسا بالنسبة لفاعله؛ فإذا كان الفاعل هو ال ،فهل لحد طاقة على عذاب ال؟ ل
أحد يتصور ذلك ،وليس لحد من هؤلء من ناصر ،لن الذي يهزمه ال ويعذبه ل ناصر له،
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ فَ ُي َوفّيهِمْ أُجُورَهُمْ} ...
وبعد ذلك يأتي الحق بالمقابل { :وََأمّا الّذِينَ آمَنُوا وَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()448 /
أي فما دام الذين كفروا سينالون العذاب الشديد من ال ،فالذين آمنوا سينالون النعيم المقيم بإذن
ال.
()449 /
حكِيمِ ()58
ت وَال ّذكْرِ الْ َ
ذَِلكَ نَتْلُوهُ عَلَ ْيكَ مِنَ الْآَيَا ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }[البقرة.]55 :
الصّا ِ
إنهم لم يلتفتوا إلى أن بعضا من كمال وجلل ال غيبٌ؛ لنه لو كان مشهودا محسا ،لحدد -بضم
الحاء وكسر الدال -وحُيّزَ ،وما دام قد حُدِدَ وحُيّزَ في تصورهم فذلك يعني أنه سبحانه قد يوجد
في مكان ول يوجد في مكان آخر ،والحق سبحانه منزه عن مثل ذلك لنه موجود في كل الوجود،
ول نراه بالعين ،لكن نرى آثار أعماله وجميل صنعه في كل الكون.
إذن فكون ال غيبا هو من تمام الجلل والكمال فيه.
لكن اليهود قد صوروا الشياء كلها على أنها حسية ،حتى أمور اقتيات حياتهم وهي الطعام ،لقد
أرادها ال لهم غيبا حتى يريحهم في التيه ،فأرسل عليهم المنّ والسلوى ،كرزق من الغيب الذي
يأتي إليهم ،لم يستنبتوه .ولم يستوردوه ،ولم يعرفوا كنهه ،ولم يجتهدوا في استخراجه ،إنه رزق
من الغيب ،ومع ذلك تمردوا على هذا الرزق القادم لهم من الغيب وقالوا كما أخبر ال عنهم:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ختُ
سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ
حمَإٍ مّسْنُونٍ * فَإِذَا َ
السلم {:وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ إِنّي خَالِقٌ َبشَرا مّن صَ ْلصَالٍ مّنْ َ
فِيهِ مِن رّوحِي َف َقعُواْ َلهُ سَاجِدِينَ }[الحجر.]29-28:
إذن فالنفخ هنا في آدم موجود ،فلماذا سكتم عن هذه الحكاية منذ آدم وحتى مجيء عيسى عليه
السلم ،وهكذا يتم دحض تلك الحجة ونهايتها ،وبعد ذلك نأتي إلى قضية أخرى ،وهي توفيه أو
وفاته ،إلى القضيتين معا -توفيه ووفاته -حتى نُبَيّن الرأيين معا :وهنا نتساءل :لماذا فتنتم في
ذلك؟ يقولون :لقد أحيا عيسى الموتى ،ونقول لهم :ألم تأخذوا تاريخ إبراهيم عليه السلم حينما قال
طمَئِنّ
ال له {:وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِـي ا ْل َموْتَىا قَالَ َأوَلَمْ ُت ْؤمِن قَالَ بَلَىا وَلَـكِن لّ َي ْ
عهُنّ يَأْتِي َنكَ
ج َعلْ عَلَىا ُكلّ جَ َبلٍ مّ ْنهُنّ جُزْءًا ثُمّ ادْ ُ
قَلْبِي قَالَ َفخُذْ أَرْ َبعَةً مّنَ الطّيْرِ َفصُرْهُنّ إِلَ ْيكَ ثُمّ ا ْ
حكِيمٌ }
سعْيا وَاعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
َ
[البقرة.]260 :
إذن فمجال الفتنة في إبراهيم عليه السلم كبير ،وكذلك ،ألم يجيء موسى عليه السلم بآية هي
العصا؟ إنه لم يجيء ميتا كانت فيه حياة ،إنما أجرى ال على يديه خلق الحياة فيما لم تثبت له
حياة ،فأصبحت العصا -وهي جماد -حية تسعى لماذا إذن لم تفتنوا في عصا موسى عليه
السلم؟
وهكذا نعرف انه ل يصح أن يفتن أحد في المعجزة التي جاءت بعيسى عليه السلم ،أو في إحيائه
الموتى بإذن ال ،وأتباع عيسى عليه السلم يتفقون معنا أن ال سبحانه وتعالى غيب ،ولكنهم
يختلفون معنا فيقولون :إن ال أراد أن يؤنس البشر بصورة يتجلى لهم فيها بشرا فجاء بعيسى
عليه السلم ليتحقق لهم ذلك النس.
ونقول لهم :سنبحث هذه المسألة بدون حساسية ،وبدون عصبية ،بل بالعقل ،ونسأل " هل خلق ال
عيسى ليعطي صورة للله؟ إن عيسى كان طفل ،ثم كبر من بعد ذلك ،فأي صورة من صورة
المرحلية كانت تمثل ال؟
إن كانت صورة طفل فهل هي صورة ال؟ وإن كانت صورة كهل فهل هي صورة ال؟ إن ل
صورة واحدة ل نراها ول نعرف كنهها فهو سبحانه " ليس كمثله شيء " ،فأية صورة من
الصور التي تقولون :إنها صورة ال؟
وإن كان ال على كل هذه الصور فمعنى ذلك أن ل أغيارا ,وهو سبحانه منزه عن ذلك ،ولو كان
على صورة واحدة لقلنا :إنه الثبات والمر كذلك فهو -سبحانه -الحق الذي ل يتغير إنهم
يقولون :إن ال أراد أن يجعل صورته في بشر ليؤنس الناس بالله ،فتمثل في عيسى.
ولنا أن نسأل :كم استغرق وجود عيسى على الرض؟ والجابة :ثلثين عاما أو يزيد قليل.
وهكذا تكون فترة معرفة الناس بالصورة اللهية محدودة بهذه السنوات الثلثين طبقا لتصوركم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ول بد ان نسأل " ما عمر الخلق البشرى كله؟ " إن عمر البشرية هو مليين السنين .فهل ترك ال
خلقه السابقين الولين بدون أن يبدي لهم صورته ،ثم ترك خلقه الخرين الذين قدموا إلى الحياة
بعد وفاة عيسى -أي تمام مهمته -ورفعه ،بدون أن يعطيهم صورة له؟ إن هذا تصور لله
ظالم ،وسبحانه وتعالى منزه عن الشرك والظلم .فل يعقل أن يضن بصورته فل يبقيها إل ثلثين
عاما؟ إن هذا القول ل يقبله عقل يثق في عدالة ال المطلقة.
ثم إنهم يقولون :إن عيسى عليه السلم قد صلب ،وهم معذورون والحق سبحانه وتعالى قد عذرهم
في ذلك فأورد التأريخ الحق العادل ،حين يقول:
{ َو َقوِْلهِمْ إِنّا قَتَلْنَا ا ْلمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْ َيمَ رَسُولَ اللّ ِه َومَا قَتَلُو ُه َومَا صَلَبُو ُه وَلَـاكِن شُبّهَ َل ُه ْم وَإِنّ
ن َومَا قَتَلُوهُ َيقِينا }[النساء.]157 :
شكّ مّنْهُ مَا َلهُمْ ِبهِ مِنْ عِلْمٍ ِإلّ اتّبَاعَ الظّ ّ
الّذِينَ اخْتََلفُواْ فِيهِ َلفِي َ
لقد جعل ال لهم عذرا في أن يقولوا :إنه قتل أو صلب؛ لنه شبه لهم وكان من المعقول أن
يلتمسوا من السلم حل لهذه المشكلة ،لن السلم جاء ليقول " :ل ،لقد شبه لكم ،فما قتلوه وما
صلبوه؛ لن هذا الفعل -القتل أو الصلب -ينقض فكرتهم عن أنه إله أو ابن إله .لن المصلوب
لو كان إلها أو ابن إله ،لكانت لديه القدرة التي تغلب الصالب ،فكيف يعقل النسان أن ينقلب الله
-أو ابن الله -مقدورا عليه من مخلوق؟ والسلم عندما يقول :إن عيسى ابن مريم لم يصلب
فقد كرمه ال .وهكذا ترى أن السلم قد جاء ليصفى العقائد كلها من عيوب التحريف التي قام بها
المتبعون لتلك الديان.
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى ليعرض علينا قضية جدلية حدثت في أيام رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،حتى يخرج الناس -مسلمين ونصارى ويهودا -من هذه البلبلة ،وأن يتم ذلك في
مودة ،لنهم كلهم مؤمنون بالعبودية لمعبود واحد .فقد جاء وفد من نصارى نجران إلى رسول ال
صلى ال عليه وسلم في المدينة ،والتقوا برسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكان لهؤلء القوم جدل
مع اليهود ،ولهم جدل مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،كما كان لليهود والنصارى معا جدل
مع رسول ال صلى ال عليه وسلم.
والجدل بين اليهود والنصارى مصدره أن لليهود والنصارى قول متضاربا في بعضهم بعضا
ستِ الْ َيهُودُ عَلَىا
شيْ ٍء َوقَاَلتِ ال ّنصَارَىا لَيْ َ
ستِ ال ّنصَارَىا عَلَىا َ
يرويه لنا الحقَ {:وقَاَلتِ الْ َيهُودُ لَيْ َ
ح ُكمُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا
ن لَ َيعَْلمُونَ مِ ْثلَ َقوِْلهِمْ فَاللّهُ يَ ْ
شيْ ٍء وَهُمْ يَتْلُونَ ا ْلكِتَابَ َكذَِلكَ قَالَ الّذِي َ
َ
كَانُواْ فِيهِ يَخْتَِلفُونَ }[البقرة.]113 :
فاليهود يقولون " :كان إبراهيم يهوديا " والنصارى يقولون ل ،كان " إبراهيم نصرانيا " وأما
الجدل بين النصارى وبين رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فسببه أنهم قد أرادوا ان يتكلموا في
مسألة عيسى ,وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يصفى القضية تصفية نهائية حتى ل تظل معلقة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تلوكها اللسنة وتجعلها مثارا للفتن .فلما اجتمع نصارى نجران تحت لواء رؤسائهم ،ومن هؤلء
الرؤساء من اسمه السيد ،ومنهم من يسمى العاقب صاحب المشورة ،ومعهم قسيس ،فقال لهم
صلى ال عليه وسلم :ماذا تقولون في عيسى؟ قالوا :إنه ابن ال .وقال لهم الرسول :إن عيسى
عليه السلم قال " :إني عبد ال " وهو عبده ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول ،فغضبوا
وقالوا للرسول صلى ال عليه وسلم :هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ إن كنت قد رأيت مثل ذلك
فأخبرنا به.
وهنا نزلت الية الكريمة } :إِنّ مَ َثلَ عِيسَىا عِندَ اللّهِ َكمَ َثلِ ءَادَمَ{ ...
()450 /
لقد جاء القول الفصل بالحجة القوى ،فإذا كان عيسى عليه السلم قد جاء بدون أب ،فإن آدم عليه
السلم قد جاء بدون أب ،وبدون أم ،وقال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم :تعلمون أني رسول
ال وأنني نبي هذه المة ،فقالوا :أنظرنا غدا نتكلم في هذه المسائل ،ودعاهم رسول ال صلى ال
عليه وسلم إلى اليمان فقالوا :ل.
وعندما يعرض الحق سبحانه صراع قضية حق مع قضية باطل فهو يقول {:وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَىا
للٍ مّبِينٍ }[سبأ.]24 :
هُدًى َأوْ فِي ضَ َ
أي إن طرفا واحدا على الهدى ،والطرف الخر على ضلل مبين ،لماذا؟ لن القضيتين
متناقضتان ،ول يمكن أن يجتمعا ،ودعاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى أن يجتمع بهم في
مكان ظاهر ،ويدعو الطرفان البناء والنساء ،ويبتهل الجميع إلى ال الحق أن تُسْتَنْزلَ لعنة ال
حقّ مِن رّ ّبكَ فَلَ َتكُنْ مّن ا ْل ُممْتَرِينَ} ...
على الكاذبين ،وفي هذا جاء القول الكريم { :الْ َ
()451 /
جكَ فِيهِ مِنْ َبعْدِ مَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ فَ ُقلْ َتعَاَلوْا
حقّ مِنْ رَ ّبكَ فَلَا َتكُنْ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ (َ )60فمَنْ حَا ّ
الْ َ
علَى ا ْلكَاذِبِينَ (
ج َعلْ َلعْ َنةَ اللّهِ َ
سكُمْ ثُمّ نَبْ َت ِهلْ فَ َن ْ
نَ ْدعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَا َءكُ ْم وَنِسَاءَنَا وَنِسَا َءكُ ْم وَأَ ْنفُسَنَا وَأَ ْنفُ َ
)61
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد جاء الحق البيّن والقول الفصل من ال لرسوله صلى ال عليه وسلم فل مجال للشك أو المراء،
ومن يرد أن يحتكم إلى أح ٍد فليقبل الحتكام إلى الله العادل الذي لن يحكم بالباطل أبدا ،فهو
سكُمْ
سبحانه الحق ،ويجيء هذا القولَ { :تعَاَلوْاْ نَ ْدعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآ َءكُ ْم وَنِسَآءَنَا وَنِسَآ َءكُ ْم وَأَ ْنفُسَنَا وأَ ْنفُ َ
جعَل ّلعْ َنتَ اللّهِ عَلَى ا ْلكَاذِبِينَ } .إن الطرفين مدعوان ليوجها الدعوة لبنائهم ونسائهم،
ثُمّ نَبْ َت ِهلْ فَنَ ْ
فالرسول صلى ال عليه وسلم مدعو لدعوة أبنائه ونسائه ،ومن له الولية عليهم ،وبحضوره هو
صلى ال عليه وسلم ،وهم مدعون لدعوة أبنائهم ونسائهم وأنفسهم للبتهال.
وقد يسأل سائل :ولماذا تكون الدعوة للبناء والنساء؟ والجابة هي :أن البناء والنساء هم القرابة
القريبة التي تهم كل إنسان ،وإن لم يكن رسول ،إنهم بضعة من نفسه وأهله .فكان الرسول صلى
ال عليه وسلم مأمور بأن يقول لهم " :هاتوا أحبابكم من البناء والنساء لنهم أعزة الهل
وألصقهم بالقلوب وادخلوا معنا في مباهلة " " والمباهلة " :هي التضرع في الدعاء لستنزال اللعنة
على الكاذب ،فالبهلة -بضم الباء -هي اللعنة ،وعندما يقول الطرفان " :يارب لتنزل لعنتك على
الكذاب منا " فهذا دعاء يحمل مطلق العدالة ،فالله الذي يستطيع أن ينزل اللعنة هو الله الحق.
وهو سينزل اللعنة على من يشركون به ،ولو كانت اللعنة تنزل من اللهة المتعددة فسوف تنزل
اللعنة على أتباع الله الواحد.
ولهذا كانت الدعوة إلى المباهلة والبهلة -كما قلنا -وهي ضراعة إلى القوة القاهرة التي
تتصرف في المر لتنهى الخلف ،ثم صار المراد بالمباهلة هنا مطلق الدعاء ،فنحن نقول" :
نبتهل إلى ال " ،أي ندعو ال.
إذن فالرسول صلى ال عليه وسلم جاءهم بالمر المنزل من عند ال الحق بدعوة البناء والنساء
والنفس ،لكنهم قالوا للرسول صلى ال عليه وسلم " :أَنْظِرْنا إلى غد ونأتي إليك ".
ثم أرسلوا في الصباح واحدا منهم ليرى ماذا فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ وهل هو
مستعد لهذا المر حقيقة ،أو هو مجرد قول منه أراد به التهديد فقط؟ ووجد رسولهم أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم قد جاء ومعه الحسين والحسن وفاطمة وعلي بن أبي طالب ،لذلك قالوا " :ل
لن نستطيع المباهلة " ،وال ما باهل قوم نبيا إل أخذوا ،وحاولوا ترضية رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،وقالوا " :لنظل على ديننا ويظل محمد وأتباعه على دينه " لقد ظنوا ان الدعوة إلى
المباهلة هي مجرد تهديد لن ينفذه الرسول ،لكن صاحب اليقين الصادق جاء ومعه أهله استعدادا
للمباهلة ،ولن يُقبل على مثل هذا الموقف ال من عنده عميق اليمان واليقين ،أما الذي ل يملك
يقينا فلن يقبل على المباهلة بل ل بد ان يرجع عنها.
وقد رجعوا عن المباهلة ،وقالوا للرسول صلى ال عليه وسلم :لنتفق معا أل تغزونا أو تخيفنا على
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن نرسل لك الجزية في رجب وفي صفر وهي من الخيل وغير ذلك! لقد فروا من المباهلة
لمعرفتهم أنهم في شك من أمرهم ،أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فكان على يقين بما أنزل
ال عليه وكان العرب إذا خرجوا إلى الحرب يأخذون نساءهم معهم ،لذلك حتى يخجل الرجل من
الفرار ،وحتى ل يترك أولده ونساءه لكيل يذلوا من بعد موته ،فإن قُ ِتلَ قُتلوا معه هم أيضا.
إذن إن أردنا نحن الن أن ننهي الجدل في مسألة عيسى عليه السلم فلنسمع قول الحق سبحانه
وتعالى } :إِنّ مَ َثلَ عِيسَىا عِندَ اللّهِ َكمَ َثلِ ءَا َدمَ خََلقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمّ قَالَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ * ا ْلحَقّ مِن
رّ ّبكَ فَلَ َتكُنْ مّن ا ْل ُممْتَرِينَ { إنه الحق القادم من الربوبية فل تكن أيها السامع من الشاكين في هذه
المسألة .ومن أراد أن يأتي بحجة مضادة للحجة القادمة من ال فلنا أن نحسمها بأن نقولَ } :تعَاَلوْاْ
جعَل ّلعْ َنتَ اللّهِ عَلَى ا ْلكَاذِبِينَ {.
سكُمْ ثُمّ نَبْ َت ِهلْ فَ َن ْ
نَ ْدعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآ َءكُ ْم وَنِسَآءَنَا وَنِسَآ َءكُ ْم وَأَ ْنفُسَنَا وأَ ْنفُ َ
ولن يجرؤ واحد منهم على ذلك .لماذا؟ لن السابقين عليهم قد فروا من المباهلة ولن ال -
سبحانه -يريد ان يزيد المؤمنين إيمانا واطمئنانا إلى أن ما ينزله على رسوله هو الحق قال -
حقّ{ ...
صصُ الْ َ
جل شأنه } :-إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ ا ْل َق َ
()452 /
حكِيمُ ()62
ق َومَا مِنْ إِلَهٍ إِلّا اللّ ُه وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
إِنّ َهذَا َل ُهوَ ا ْل َقصَصُ ا ْلحَ ّ
()453 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فَإِنْ َتوَّلوْا فَإِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِا ْل ُمفْسِدِينَ ()63
إن قوله { فَإِن َتوَّلوْاْ } يدل على أن ال قد علم أزل أنهم لن يقبلوا المباهلة ،وهكذا حكموا على
سدِينَ } ومع
أنفسهم بأنهم المفسدون ،فصدق الحق سبحانه في قوله { :فَإِن َتوَّلوْاْ فَإِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِا ْلمُفْ ِ
ذلك فقد أمر ال رسوله صلى ال عليه وسلم أن يدعوهم إلى الدين الكامل لنهم مؤمنون بالله،
سوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ} ...
وبالسماء ،وبالكتاب ،لذلك يقول الحقُ { :قلْ ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َتعَاَلوْاْ ِإلَىا كَِلمَةٍ َ
()454 /
سوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ أَلّا َنعْبُدَ إِلّا اللّ َه وَلَا ُنشْ ِركَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتّخِذَ
ُقلْ يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َتعَاَلوْا إِلَى كَِلمَةٍ َ
شهَدُوا بِأَنّا مُسِْلمُونَ ()64
َب ْعضُنَا َب ْعضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ َتوَلّوْا َفقُولُوا ا ْ
إنها دعوة إلى كلمة مستوية ل التواء فيها { َألّ َنعْبُدَ ِإلّ اللّهَ } وهذا أمر ل جدال فيه ،ثم { َولَ
نُشْ ِركَ بِهِ شَيْئا } أي ل ندخل معه من ل يقدر على الرتفاع إلى جلل كماله ،فالعقول السليمة
ترفض كلمة " الشرك "؛ لن الشرك يكون على ماذا؟ هل الشرك على خلق الكون؟ إن كل مخلوق
أشركوه في اللوهية إنما جاء من بعد أن خلق ال الكون .أو يكون الشرك على إدارة هذا الكون؟
إذا كان هذا هو السبب في الشرك فهو أتفه من أن يكون سببا لن الحق سبحانه قادر على إدارة
هذا الكون ،وأنزل منهجا إذا ما اتبعه النسان صار الكون منسجما ،إذن فأي شرك ل لزوم له.
وإن كان -والعياذ بال -له شريك وتمتع إله ما بقدرات خاصة فهذه القدرات تنقص من قدرات
الله الثاني .وهذا عجز في قدرة هؤلء اللهة ،ولهذا يحسم الحق هذا المر بقوله الكريم {:مَا
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ
خذَ اللّهُ مِن وَلَ ٍد َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذا لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَقَ وََلعَلَ َب ْع ُ
اتّ َ
صفُونَ }[المؤمنون.]91 :
عمّا َي ِ
سُ ْبحَانَ اللّهِ َ
إذن فمسألة الشركاء هذه ليست مقبولة ،وبعد ذلك يقول الحقَ { :ولَ يَتّخِذَ َب ْعضُنَا َبعْضا أَرْبَابا مّن
دُونِ اللّهِ } .أي أل نأخذ من بعضنا كهنوتا وكهنة ،يضع الواحد منهم الحلل لنا أو الحرام علينا،
فالتحليل والتحريم إنما يأتي من ال ،وليس لمخلوق أن يحلل أو يحرم .ثم يقول الحق { :فَإِن َتوَّلوْاْ
شهَدُواْ بِأَنّا ُمسِْلمُونَ } أي إن من ل يقبل عبادة الله الواحد الذي ل شريك له ول أرباب
َفقُولُواْ :ا ْ
تحلل أو تحرم ،إنما يريد أربابا وشركاء ،وهذا معناه أن قلبه غير مستعد لتقبل قضية اليمان؛ لن
قضية اليمان تتميز بأن مصدرا واحدا هو الذي له مطلق القدرة ،وهو مصدر المر في الحركة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهو الواحد الحد ،فل تتضارب الحركات في الكون.
إن حركاتنا كلها وهي الخاضعة لمنهج ال بـ " افعل " و " ل تفعل " فلو أن هناك إلها قال" :
افعل " وإلها آخر قال " :ل تفعل " ،لكان معنى ذلك والعياذ بال أن هؤلء الله أغيار لها أهواء.
ض َومَن فِيهِنّ
سمَاوَاتُ وَالَ ْر ُ
حقّ أَ ْهوَآءَهُمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
والحق سبحانه يحسم هذا بقوله {:وََلوِ اتّبَعَ الْ َ
َبلْ أَتَيْنَاهُمْ ِب ِذكْرِهِمْ َفهُمْ عَن ِذكْ ِرهِمْ ّمعْ ِرضُونَ }[المؤمنون.]71 :
وهكذا كانت دعوة ال على لسان رسوله محمد صلى ال عليه وسلم { ُقلْ ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ َتعَاَلوْاْ إِلَىا
سوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْ َنكُمْ َألّ َنعْبُدَ ِإلّ اللّ َه َولَ ُنشْ ِركَ بِهِ شَيْئا وَلَ يَتّخِذَ َب ْعضُنَا َبعْضا أَرْبَابا مّن دُونِ
كَِلمَةٍ َ
شهَدُواْ بِأَنّا مُسِْلمُونَ } ،إنها آية تحمل دعوة مستوية بل نتوءات ،فل عبادة
اللّهِ فَإِن َتوَلّوْاْ َفقُولُواْ ا ْ
إل ل ،ونحن ل نأخذ " افعل " و " ل تفعل " إل من ال ،ول نشرك به شيئا ،ول يتخذ بعضنا
ش َهدُواْ بِأَنّا
بعضا كهنوتا أو مصدرا للتحليل أو التحريم ،فإن رفضوا وتولوا ،فليقل المؤمنون { :ا ْ
مُسِْلمُونَ } أي أنه ل يوجد إل إله واحد ،ول شركاء له ،وبعضنا ل يتخذ بعضا أربابا ،وتلك
شهادة بأن السلم إنما جاء بالمرالمستوى الذي ل عوج ول نتوء فيه ونحن متبعون ما جاء به.
وبعد ذلك يقول الحق { :ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِلمَ تُحَآجّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ} ...
()455 /
يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لِمَ تُحَاجّونَ فِي إِبْرَاهِي َم َومَا أُنْزَِلتِ ال ّتوْرَا ُة وَالْإِنْجِيلُ إِلّا مِنْ َبعْ ِدهِ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ ()65
إن الحق يسألهم :لماذا يكون جدالكم في إبراهيم خليل ال؟ إن اليهود منكم ينسبون أنفسهم إلى
موسى ،والنصارى منكم ينسبون أنفسهم إلى عيسى ،وإبراهيم عليه السلم ل يمكن أن يكون
يهوديا كما يدعي اليهود ،فاليهودية قد جاءت من بعد إبراهيم والنصارى ل يمكنهم الدعاء بأن
إبراهيم كان نصرانيا ،لن النصرانية قد جاءت من بعد إبراهيم عليه السلم ،فلم المحاجة إذن؟ لقد
أنزلت التوراة والنجيل من بعد إبراهيم فكيف يكون تابعا للتوراة والنجيل؟
ججْتُمْ فِيمَا َلكُم بِهِ عِلمٌ} ...
وبعد ذلك يقول الحق { :هاأَنْ ُتمْ َهؤُلءِ حَا َ
()456 /
ججْتُمْ فِيمَا َل ُكمْ بِهِ عِ ْلمٌ فَلِمَ تُحَاجّونَ فِيمَا لَ ْيسَ َلكُمْ ِبهِ عِلْ ٌم وَاللّهُ َيعْلَ ُم وَأَنْتُمْ لَا َتعَْلمُونَ
هَا أَنْ ُتمْ َهؤُلَاءِ حَا َ
()66
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي لقد جادلتم فيما بقي عندكم من التوراة وتريدون أن تأخذوا الجدل على أنه باب مفتوح ،تجادلوا
في كل شيء ،وأنتم ل تعلمون ما يعلمه الخالق الرحمن علم الغيوب.
ويوضح الحق هذا المر فيقول { :مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا َولَ َنصْرَانِيّا وََلكِن كَانَ حَنِيفا مّسْلِما} ...
()457 /
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا وَلَا َنصْرَانِيّا وََلكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسِْلمًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ()67
وبذلك يتأكد أن إبراهيم عليه السلم لم يكن يهوديا ،لن اليهودية جاءت من بعده .ولم يكن إبراهيم
نصرانيا ،لن النصرانية جاءت من بعده ،لكنه وهو خليل الرحمن { كَانَ حَنِيفا مّسْلِما َومَا كَانَ مِنَ
ا ْلمُشْ ِركِينَ } ونحن نفهم أن كلمة { حَنِيفا } تعني الدين الصافي القادم من ال ،والكلمة مأخوذة من
المحسات ،فالحنف هو ميل في الساقين من أسفل ،أي اعوجاج في الرجلين ،ثم نقل الحنف إلى كل
أمر غير مستوٍ.
وهنا يتساءل النسان ،هل كان إبراهيم عليه السلم في العوج أو في الستقامة؟ وكيف يكون
حنيفا ،والحنف عوج؟ وهنا نقول :إن إبراهيم عليه السلم كان على الستقامة ،ولكنه جاء على
وثنية واعوجاج طاغ فالعالم كان معوجا .وجاء إبراهيم ليخرج عن هذا العوج ،وما دام منحرفا
عن العوج فهو مستقيم ،لماذا؟ لن الرسل ل يأتون إل على فساد عقدي وتشريعي طاغ .والحق
سبحانه وتعالى ساعة ينزل منهجه يجعل في كل نفس خلية إيمانية .والخلية اليمانية تستيقظ مرة،
فتلتزم ،وتغفل مرة ،فتنحرف ،ثم يأتي الستيقاظ بعد النحراف ،فيكون النتباه ،وهكذا توجد
النفس اللوامة ،تلك النفس التي تهمس للنسان عند الفعل الخاطئ :أن ال لم يأمر بذلك.
ويعود النسان إلى منهج ال تائبا ومستغفرا ،فإن لم توجد النفس اللوامة صارت النفس أمارة
بالسوء ،وهي التي تتجه دائما إلى النحراف ،وحول النفس الواحدة توجد نفوس متعددة تحاول أن
تقاوم وتقوّم المعوج ،وهي نفوس من البيئة والمجتمع ،فمرة يكون العتدال والتجاه إلى الصواب
بعد الخطأ قادما من ذات النسان أي من النفس اللوامة ،ومرة ل توجد النفس اللوامة ،بل توجد
النفس المارة بالسوء ،لكن المجتمع الذي حول هذا النسان ل يخلو من أن يكون فيه خلية من
الخير تهديه إلى الصواب ،أما إذا كانت كل الخليا في المجتمع قد أصبحت أمارة بالسوء فمن
الذي يعدلها ويصوبها؟
هنا لبد أن يأتي ال برسول جديد ،لن النسان يفتقد الردع من ذاتية النفس بخلياها اليمانية،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويفتقد الردع من المجتمع الموجود لخلوه كذلك من تلك الخليا الطيبة ،وهكذا يطم الظلم ويعم،
فيرسل ال رسول ليعيد شعلة اليمان في النفوس .وال سبحانه وتعالى قد ضمن لمة محمد صلى
ال عليه وسلم أل يأتي لها نبي بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولهذا فمن الضروري أن
يوجد فيها الخير ويبقى ،فالخير يبقى في الذات المسلمة ،فإذا كانت الغفلة فالنفس اللوامة تصوب،
وإن كانت هناك نفس أمارة بالسوء فهناك قوم كثيرون مطمئنون يهدون النفس المارة إلى
الصواب.
وهكذا لن تخلو أمة محمد في أي عصر من العصور من الخير ،أما المم الخرى السابقة فأمرها
مختلف؛ فإن ال يرسل لهم الرسل عندما تنطفئ كل شموع الخير في النفوس ،ويعم ظلم الفساد
فتتدخل السماء ،وحين تتدخل السماء يقال :إن السماء قد تدخلت على عوج لتعدله وتقومه.
إذن فإبراهيم عليه السلم جاء حنيفا ،أي مائل عن المائل ،وما دام مائل عن المائل فهو مستقيم،
فالحنيفية السمحة هي الستقامة .وهكذا نفهم قول الحق } :مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا َولَ َنصْرَانِيّا
وََلكِن كَانَ حَنِيفا مّسْلِما َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ {.
إن إبراهيم هو أبو النبياء ،ولم تكن اليهودية قد حٌرفت وبدلت ،وكذلك النصرانية لكان من
المقبول أن يكون اليهود والنصارى على ملة إبراهيم؛ لن الديان ل تختلف في أصولها ،ولكن قد
تختلف في بعض التشريعات المناسبة للعصور ،ولذلك فسيدنا إبراهيم عليه السلم ل يمكن أن
يكون يهوديا باعتبار التحريف الذي حدث منهم ،أي ل يكون موافقا لهم في عقيدتهم ،وكذلك ل
يمكن أن يكون نصرانيا للسباب نفسها ،لكنه } كَانَ حَنِيفا مّسْلِما َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { أي أنه
مائل عن طريق العوجاج.
قد يقول قائل :ولماذا لم يقل ال " :إن إبراهيم كان مستقيما " ولماذا جاء بكلمة " حنيفا " التي تدل
على العوج؟ ونقول :لو قال " :مستقيما " لظن بعض الناس أنه كان على طريقة أهل زمانه وقد
كانوا في عوج وضلل ولهذا يصف الحق إبراهيم بأنه } كَانَ حَنِيفا مّسْلِما { وكلمة } مّسْلِما
{ تقتضي " مسلما إليه " وهو ال ،أي أنه أسلم زمامه إلى ال ،ومُسْلَما فيه وهو اليمان بالمنهج.
وعندما أسلم إبراهيم زمامه إلى ال فقد اسلم في كل ما ورد بـ " افعل ول تفعل " وإذا ما طبقنا
هذا الشتقاق على موكب النبياء والرسل فسنجد أن آدم عليه السلم كان مسلما ،ونوحا عليه
السلم كان مسلما ،وكل النبياء الذين سبقوا رسول ال صلى ال عليه وسلم كانوا مسلمين.
سلَم إليه؛ وهو ال ،ويطبق
كان كل نبي ورسول من موكب الرسل يلقى زمامه في كل شيء إلى مٌ ْ
المنهج الذي نزل إليه ،وبذلك كان السلم وصفا لكل النبياء والمؤمنين بكتب سابقة ،إلى أن نزل
المنهج الكامل الذي اختتمت به رسالة السماء على محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم بـ "
افعل ول تفعل " ولم يعد هناك أمر جديد يأتي ،ولن يشرع أحد إسلما ل غير ما نزل على رسول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال صلى ال عليه وسلم.
لقد اكتملت الغاية من السلم ،ونزل المنهج بتمامه من ال .واستقر السلم كعقيدة مصفاة ،وصار
السلم علما على المة المسلمة ،أمة محمد صلى ال عليه وسلم وهي التي ل يُستدرك عليها
لنها أمة أسلمت ل في كل ما ورد ونزل على محمد صلى ال عليه وسلم .لذلك قال الحق } :إِنّ
َأوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّ َبعُوهُ{ ...
()458 /
ولنا أن نلحظ أن كل رسول من الرسل السابقين على سيدنا رسول ال إنما نزل لمة محددة،
فموسى عليه السلم أرسله ال إلى بني إسرائيل ،وكذلك عيسى عليه السلم ،قال تعالى:
{ وَرَسُولً إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي رسول مسلما في حدود تطبيق المنهج الذي جاء به ونزل إلى
هؤلء الرسل ،فلما تغير بعض من التشريع وتمت تصفية المنهج اليماني بالرسالة الخاتمة ،وهي
رسالة محمد صلى ال عليه وسلم وهي عامة لكل البشر فقد آمن بعض من أهل تلك المم برسالته
عليه الصلة والسلم ،كما آمن بها من أرسل فيهم سيدنا رسول ال ،واستمر موكب اليمان بالدين
الخاتم إلى أن وصل إلينا .وهكذا صارت أمة محمد صلى ال عليه وسلم هي خاتمة المم
السلمية؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو خاتم النبياء والمرسلين.
عن أبي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :مثلي ومثل النبياء من
قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إل موضع لبنة من زاوية من زواياه ،فجعل الناس
يطوفون به ويعجبون له ،ويقولون :هل وضعت هذه اللبنة ،فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين ".
وحين يقولون :إن إبراهيم عليه السلم كان يهوديا أو نصرانيا .إنما أوردوا ذلك لن إبراهيم عليه
السلم فيه أبوة النبياء .وهم قد أرادوا أن يستحضروا أصل الخلية اليمانية في محاولة لن
ينسبوها إلى أنفسهم وكأنهم تناسلوا ان المسألة اليمانية ليست بالجنس أو الوطن أو الدم ،أو أي
انتماء آخر غير النتماء لمنهج ال الواحد ،ولذلك فأولى الناس بإبراهيم ليسوا من جاءوا من
ذريته ،بل إن أولى الناس بإبراهيم هم الذين اتبعوه ،ونبينا محمد صلى ال عليه وسلم قد اتبع
إبراهيم عليه السلم ،لذلك فل علقة لبراهيم بمن جاء من نسله ،ممن حرفوا المنهج ولم يواصلوا
اليمان ،لقد حسم ال هذه القضية مع إبراهيم عندما قال سبحانه {:وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ
عهْدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة.]124 :
ل َومِن ذُرّيّتِي قَالَ لَ يَنَالُ َ
فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما قَا َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد امتحن الحق إبراهيم بكلمات هي الوامر والنواهي ،فأتمها إبراهيم عليه السلم تماما على
أقصى ما يكون من اللتزام ،ولم يكن مجرد إتمام يتظاهر بالشكلية ،إنما كان إتماما بالشكل
والمضمون معا.
والمثال على تمام الوامر والنواهي بالشكل فقط هو رؤيتنا لمن يتلقى المر من ال بأن يصلى
خمسة فروض ،فيصلي هذه الفروض الخمسة كإجراء شكلي ،لكن هناك إنسانا آخر يصلي هذه
الفروض الخمسة بحقها في الكمال مضمونا وشكل ،إنه يتم الوامر اللهية إتمام يرضى عنه ال.
ولقد أدى إبراهيم عليه السلم البتلءات التي جاءت بالكلمات التكليفية من ال على أكمل وجه.
ألم يأمر ال إبراهيم عليه السلم على أن يرفع القواعد من البيت؟ أما كان يكفي إبراهيم عليه
السلم لينفذ المر برفع بناء الكعبة إلى أقصى ما تطوله يداه؟ إنه لو فعل ذلك لكان قد أدى المر،
لكن إبراهيم عليه السلم أراد أن يوفي المر بإقامة القواعد من البيت تمام الوفاء ،فبنى الكعبة بما
تطوله يداه ،وبما تطوله الحيلة أيضا ،فجاء إبراهيم عليه السلم بحجر ليقف من فوقه ،ويزيد من
طول جدار الكعبة مقدار الحجر ،لقد أراد ان يوفي البناء بطاقته في اليدين وبحيلته البتكارية
أيضا ،فلم يكن معروفا في ذلك الزمان " السقالت " وغير ذلك من الدوات التي تساعد النسان
على الرتفاع عن الرض إلى أقصى ما يستطيع.
ولو أن إبراهيم عليه السلم قد رفع القواعد من البناء على مقدار ما تطوله يداه؛ لكان قد أدى
تكليف ال ،لكنه أراد الداء بإمكاناته الذاتية الواقعية ،وأضاف إلى ذلك حيلة من ابتكاره ،لذلك
جاء بالحجر الذي يقف عليه ليزيد من جدار الكعبة ،وهذا ما نعرفه عندما نزور البيت الحرام بـ
" مقام إبراهيم " فلما أتم إبراهيم الكلمات هذا التمام قال الحق سبحانه لبراهيم {:إِنّي جَاعُِلكَ
لِلنّاسِ ِإمَاما }[البقرة.]124 :
إي إنك يا إبراهيم مأمون على أن تكون إماما للناس في دينهم لنك أديت " افعل ول تفعل " بتمام
وإتقان .ولنر غيرة إبراهيم عليه السلم على منهج ربه ،إنه لم يرد أن يستمر المنهج في حياته
فقط ،ولكنه طلب من ال أن يظل المنهج والمامة في ذريته ،فقال الحق سبحانه على لسان
إبراهيم طالبا استمرار المانة في ذريتهَ {:ومِن ذُرّيّتِي }[البقرة.]124 :
إن سيدنا إبراهيم قد امتل بالغيرة على المنهج وخاف عليه حتى من بعد موته ،لكن الحق سبحانه
عهْدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة:
وتعالى يُعلم الخلق جميعهم من خلل إبراهيم فيقول سبحانه {:لَ يَنَالُ َ
.]124
أي أن المسألة ليست وراثة ،لنه سيأتي من ذريتك من يكون ظالما لنفسه ويعدل في المنهج بما
يناسب هواه ،وهو بذلك ل تتوافر فيه صفات المامة .إن الحق يعلمنا قواعد إرث النبوة ،إن تلك
القواعد تقضي أن يرث النبياء من هو قادر على تطبيق المنهج بتمامه دون تحريف ،والمثال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على ذلك ما علمه لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال لسلمان الفارسي " :سلمان منا آل
البيت ".
إن سيد الخلق محمد صلى ال عليه وسلم لم يقل لسلمان الفارسي " أنت من العرب " ل .بل نسبه
لل البيت ،أي نسبه إلى إرث النبوة بما يتطلبه هذا الرث من تطبيق المنهج بتمامه ،لقد علم
الرسول صلى ال عليه وسلم ما علّمه الحق سبحانه لسيدنا إبراهيم عليه السلم عن إرث النبوة،
فليس هذا الرث بالدم ،إنما بتطبيق المنهج نصا وروحا ،كما تعلم سيدنا رسول ال صلى ال عليه
وسلم مما علّمه له الحق عن نوح عليه السلم ،لقد وعد الحق نوحا بأن ينجيه وأهله من الطوفان.
ويرى نوح عليه السلم ابنه مشرفا على الغرق ،فيتساءل " ألم يعدني ال ان ينجي أهلي؟ " فينادي
نوح عليه السلم ربّه ،بما أورده القرآن الكريم حين قال {:وَنَادَى نُوحٌ رّبّهُ َفقَالَ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ
ح َكمُ الْحَا ِكمِينَ }[هود ]45 :فيقول الحق ردا على طلب نوح نجاة
ق وَأَنتَ أَ ْ
ن وَعْ َدكَ ا ْلحَ ّ
أَهْلِي وَإِ ّ
ظكَ
عُع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ فَلَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّي أَ ِ
ابنه {:قَالَ يانُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ َأهِْلكَ إِنّهُ َ
أَن َتكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }[هود.]46 :
ولننظر إلى التعليل القرآني لنتفاء الهلية عن ابن نوح عليه السلم } إِنّهُ لَيْسَ مِنْ َأهِْلكَ {؟ لماذا؟
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ { .إن الحق لم يقل " إنه عامل غير صالح " -الذاتية ممنوعة -لن الفعل
} إِنّهُ َ
هو الذي يحاسب به ال؛ فاليمان ليس نسبا ،ول انتماء لبلد ما ،أو انتماء لقوم ما ،إنه العمل ،فمن
يعمل بشرع أي رسول يكون من أهل هذا الرسول ،إنّ النسبة للنبياء ل تأتي للذات التي تنحدر
من نسب النبي ،بل يكون النتساب للنبياء بالعمل الذي تصنعه الذات.
وفي موقع آخر يعلمنا الحق عن سيدنا إبراهيم موقفا يصور رحمة الخالق بكل خلقه من آمن منهم
ومن كفر .لقد طلب إبراهيم عليه السلم سعة الرزق لهل بيته الذين جعل إقامتهم بمكة ،كما جاء
ج َعلْ هَـاذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ
في الكتاب الكريم {:وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ
مِ ْنهُمْ }[البقرة.]126 :
ق المؤمن
فهل استجاب الحق لدعوة إبراهيم برزق الذين آمنوا فقط من أهل مكة؟ ل ،بل رَ َز َ
ل َومَن َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيلً ُثمّ َأضْطَ ّرهُ إِلَىا عَذَابِ النّارِ
والكافر .وعلّم إبراهيم ذلك حينما قال له {:قَا َ
وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }[البقرة.]126 :
إن الرزق المادي مكفول من الحق لكل الخلق ،مؤمنهم وكافرهم ،والقتيات المادي مكفول من قبل
ال لنه هو الذي استدعى المؤمن والكافر إلى هذه الدنيا .أما رزق المنهج فإمر مختلف ،إن اتباع
المنهج يقتضي التسليم بما جاء به دون تجريف .وهذا المنهج لم يتبعه أحد ممن جاءوا بعد إبراهيم
عليه السلم إل القليل ،فمن آمن برسالة موسى عليه السلم دون تحريف هم قلة.
ثم جاء عيسى عليه السلم برسالة تبعد بني إسرائيل عن المادية الصرفة إلى اليمان بالغيب ،لكن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رسالة عيسى عليه السلم تم تحريفها أيضا ،وعلى ذلك فأولى الناس بإبراهيم عليه السلم هم
الذين اتبعوا المنهج الخاتم الصحيح والمصفى لكل ما سبق من رسالت ،وهؤلء هم الذين آمنوا
برسالة محمد صلى ال عليه السلم ،وال ولي المؤمنين جميعا من آمن منهم برسالة إبراهيم خليل
الرحمن ،إيمانا صحيحا كامل ،ومن آمن برسالة محمد صلى ال عليه وسلم ..بعد ذلك يقول الحق
سبحانه } :وَدّت طّآ ِئفَةٌ مّنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ ُيضِلّو َنكُمْ{ ...
()459 /
شعُرُونَ ()69
سهُ ْم َومَا يَ ْ
وَ ّدتْ طَا ِئفَةٌ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ ُيضِلّو َنكُ ْم َومَا ُيضِلّونَ إِلّا أَ ْنفُ َ
إن المعنى " ودت " هو " تمنت " و " أحبت " .ولماذا أحبوا أن يُضلوا المؤمنين؟ لن المنحرف
حين يرى المستقيم ،يعرف أنه كمنحرف لم ينجح في أن يضبط حركته على مقتضى التكليف
اليماني لـ " افعل " و " ل تفعل " ،أما الملتزم المؤمن فقد استطاع أن يضبط نفسه ،وساعة يرى
غير الملتزم إنسانا آخر ملتزما ،فإنه يحتقر نفسه ,ويقول بينه وبين نفسه حسدا للمؤمن :لماذا
وكيف استطاع هذا الملتزم أن يقدر على نفسه؟
ويحاول المنحرف أن يأخذ الملتزم إلى جانب النحراف ،وعندما ل يستطيع جذب الملتزم إلى
النحراف فهو يسخر منه ،ويهزأ به ،ويحاول أن يحتال عليه ليأخذه إلى جانب النحراف .ألم يقل
حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ
ال سبحانه وتعالى {:إِنّ الّذِينَ أَجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َيضْ َ
* وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهِْل ِه ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَِإذَا رََأوْهُمْ قَالُواْ إِنّ هَـاؤُلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُرْسِلُواْ
عَلَ ْيهِمْ حَافِظِينَ }[المطففين.]33-29 :
وهذا ما يحدث الن عندما يرى أهل النحراف إنسانا مؤمنا ذا استقامة ،فيسخرون منه بكلمات
كالتي تسمعها " خذنا على جناحك " أو يحاول النيل من إيمانه وعندما يعود أهل النحراف إلى
أهلهم فهم يروون بتندر كيف سخروا من المؤمنين ،وكأنهم يحققون السعادة لهؤلء الهل بحكايات
السخرية من النسان المؤمن ،ويطمئن الحق المؤمنين بأن لهم يوما يضحكون فيه من هؤلء
حكُونَ * عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ }[المطففين.]35-34 :
الكفار {:فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َيضْ َ
ويسأل الحق أهل اليمانَ {:هلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المطففين.]36 :
أي قد عرفتم كيف اجازي بالعقاب أهل الكفر.
لذلك فأولى الناس بإبراهيم هم المؤمنين برسالة محمد عليه الصلة والسلم .ول يفتأ بعض من
أهل الكفر من محاولة جذب المؤمنين إلى الضلل .إنهم يحبون ذلك ويتمنونه ،ولكن ليس كل ما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يوده النسان يحدث ،فالتمنى هو أن يطلب النسان أمرا مستحيل أو عسير المنال ،هم يحبون ذلك
ولكن لن يصلوا إلى ما يريدون ،يشير إلى ذلك قوله تعالى { :وَدّت طّآ ِئفَةٌ مّنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ
شعُرُونَ }.
سهُ ْم َومَا يَ ْ
ُيضِلّو َنكُمْ َومَا ُيضِلّونَ ِإلّ أَ ْنفُ َ
إنهم يتمنون إضلل المؤمنين ،لكن هل يستطيعون الوصول إلى ذلك؟ ل :والمثال على ذلك هو ما
يفعله بعض أهل الكتاب من اليهود عندما ذهبوا إلى معاذ بن جبل وإلى حذيفة الصحابيين
الجليلين ،وذهبوا أيضا إلى عمار الصحابي الجليل وحاولوا فتنة معاذ وحذيفة وعمار لكنهم لم
يستطعوا.
وعلينا أن نعرف أن " الضلل " يأتي على معان متعددة ،فقد يأتي الضلل مرة بمعنى الذهاب
جدِيدٍ َبلْ هُم بَِلقَآءِ
والفناء في الشيء ،مثل قوله الحقَ {:وقَالُواْ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي خَ ْلقٍ َ
رَ ّبهِمْ كَافِرُونَ }
[السجدة.]10 :
لقد تساءل المشركون " أبعد أن نذوب في الرض وتتفكك عناصرنا الولية نعود ثانية ،ونُبعث من
جديد؟ " .وقد يأتي الضلل مرة أخرى بمعنى عدم اهتداء النسان إلى وجه الحق ،كما قال الحق
وصفا لرسوله صلى ال عليه وسلم عندما رفض عبادة الصنام وظل يبحث عن المنهج الحق{.
ك ضَآلّ َف َهدَىا }[الضحى.]7 :
َووَجَ َد َ
أي أنك يا محمد لم يعجبك منهج قريش في عبادة الصنام ،وظللت تبحث عن المنهج الحق ،إلى
أن هداك ال فأنزل إليك هذا المنهج القويم .لقد كنت ضال تبحث عن الهداية ،فجاءتك النعمة
الكاملة من ال.
وهناك لون آخر من الضلل ،وهو أن يتعرف النسان على المنهج الحق ،لكنه ينحرف عنه
ويتجه بعيدا عن هذا المنهج مثل قول الحق } :وَدّت طّآ ِئفَةٌ مّنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلوْ ُيضِلّو َنكُ ْم َومَا
سهُمْ {.
ُيضِلّونَ ِإلّ أَ ْنفُ َ
ونتساءل :كيف يحدث إضلل النفس؟ وتكون الجابة هي :أن الضال الذي يعرف المنهج وينكره
إنما يرتكب إثما ،ويزداد هذا الثم جُرما بمحاولة الضال إضلل غيره ،فهو لم يكتف بضلل ذاته
بل يزداد ضلل بمحاولته إضلل غيره .وهذا القول الكريم قد حل لنا إشكال في فهم قوله تعالى{:
شيْ ٌء وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَىا }
ح َملْ مِنْهُ َ
حمِْلهَا لَ يُ ْ
وَلَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَىا وَإِن َت ْدعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىا ِ
[فاطر.]18 :
حمِلُواْ َأوْزَارَهُمْ كَامَِلةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ
وفي فهم قوله -جل شأنه {:-لِ َي ْ
ِبغَيْرِ عِلْمٍ َألَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }[النحل.]25 :
وهكذا نعرف أن الوزر في آية فاطر هو وزر الضلل في الذات والوزار في سورة النحل هي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لضلل غيرهم فهولء الضالون ل يكتفون بضلل أنفسهم ،بل يزيدون من ضلل انفسهم اوزارا
بإضلل غيرهم فهم بذلك يزدادون ضلل مضافا إلى أنهم يحملون أوزارهم كاملةَ } .ومَا ُيضِلّونَ
شعُرُونَ {.
سهُ ْم َومَا يَ ْ
ِإلّ أَ ْنفُ َ
إنهم ل يشعرون بالكارثة التي سوف تأتي من هذا الضلل المركب الذي سينالون عليه العقاب.
ولو أنهم تعمقوا قليل في الفهم لتوقفوا عن إضلل غيرهم ،ولو بحثوا عن اليقين الحق لتوقفوا عن
ضلل أنفسهم.
ومن بعد ذلك يقول الحق } :ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِلمَ َت ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ{ ...
()460 /
شهَدُونَ ()70
يَا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لِمَ َتكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللّ ِه وَأَنْتُمْ تَ ْ
إن الحق يسألهم على لسان رسوله صلى ال عليه وسلم لم تكفرون بآيات ال العجيبة وأنتم
تشهدون؟ وهنا قد يسأل سائل هل شهد أهل الكتاب اليات العجيبة في زمن رسول ال؟
والجابة هي :ألم يستفتح اليهود على من يقاتلونهم بمجيء نبي قادم؟ إنهم كانوا يدعون ال قائلين:
إنا نسألك بحق النبي الميّ الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إل تنصرنا عليهم فكانوا
يُنصرون على أعدائهم فلما بعث -صلى ال عليه وسلم -كفروا به بغيا وحسدا قال ال تعالى{:
وََلمّا جَآ َءهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ّلمَا َم َعهُ ْم َوكَانُواْ مِن قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ فََلمّا
جَآءَهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة.]89 :
لقد كفروا من أجل السلطة الزمنية .فقد كانوا يريدون الملك والحكم .وهذا عبد ال بن سلم الذي
كان يهوديّا فأسلم قد قال عن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لقد عرفته حين رأيته
كمعرفتي لبني ومعرفتي لمحمد أشد ".
إذن فمعرفتهم بنعت رسول ال ووصفه موجودة في آيات التوراة ولقد شهدوا اليات البينات،
لكنهم أنكروا اليات طمعا في السلطة الزمنية حتى ولو تطلب ذلك أن يُحرّف بعضهم منهج ال
سبحانه وتعالي ويحوّلوا هذا التحريف إلى سلطة زمنية فاسدة كهؤلء الذين باعوا صكوك الغفران
ولذلك قال الحق عن هؤلء الذين يحرفون منهج الَ {:فوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَ ْيدِيهِمْ ثُمّ َيقُولُونَ
هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً َفوَيْلٌ ّلهُمْ ّممّا كَتَ َبتْ أَ ْيدِيهِ ْم َووَ ْيلٌ ّل ُهمْ ّممّا َيكْسِبُونَ }
[البقرة.]79 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن العذاب هو مصير هؤلء الدين يحرفون كلم ال ومنهجه.
طلِ} ...
حقّ بِالْبَا ِ
ويقول الحق سبحانه { :ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ لِمَ تَلْ ِبسُونَ الْ َ
()461 /
ومعنى " تلبس " هو إدخال شيء في شيء ،فنحن عندما نرتدي ملبسنا ،إنما ندخل أجسامنا في
الملبس ،وبهذا يختلف منظر اللبس والملبوس.
وفي مجال الدعوة إلى ال نجد دائما الحق وهو يواجه الباطل ،إنهم يخلطون الحق بالباطل فهذه
الية تتحدث عن محاولة من بعض أهل الكتاب للباس الحق بالباطل ،وقد حدث ذلك عندما
حرفوا التوراة والنجيل وأدخلوا فيها ما لم يأت به موسى عليه السلم أو عيسى عليه السلم،
وكانت هذه هي محاولة ضمن محاولت أخرى للباس الحق بالباطل ،ثم جاءت أكبر المحاولت
للباس الحق بالباطل وهو إنكارهم للبشارة برسول ال صلى ال عليه وسلم ،رغم أنها وردت في
كتبهم السماوية.
لقد أعلنوا اليمان بموسى أو عيسى ،ولم يؤمنوا بمحمد صلى ال عليه وسلم ،لقد أنكروا بشارة
موسى وعيسى برسالة محمد الخاتمة ،وكان ذلك قمة إلباس الحق بالباطل ،لنهم أعلنوا اليمان
برسولين ثم أنكروا اليمان بالنبي الخاتم وذلك لنهم كانوا يعلمون أن السلم الذي جاء به محمد
جحَدُواْ
رسول ال هو الدين الحق ،وكانوا إذا ما خلوا إلى أنفسهم عرفوا ذلك ولكنهم يجحدونه {.وَ َ
سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا }[النمل.]14 :
ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
ومع ذلك فهم يحاولون العثور على حيلة ليبتعد بها الناس عن تلك الرسالة الخاتمة ،تماديا منهم في
الكفر ،ونزل قول الحقَ { :وقَاَلتْ طّآ ِئفَةٌ مّنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ آمِنُواْ بِالّذِي أُنْ ِزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُواْ} ...
()462 /
لقد أراد بعض من أهل الكتاب أن يشككوا المسلمين في أمر المنهج ،لذلك اصطنعوا تلك الحيلة،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالمؤمنون من العرب وقريش في ذلك الزمن كانوا أميين وكانوا يعرفون أن أهل الكتاب على علم
بمناهج السماء ،ولم يكن القرآن كله قد نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم .فإذا ما آمن
بعض منهم برسالة رسول ال وجه النهار وكفروا به آخر النهار فهذا خلط للحق بالباطل .وفي
هذا خداع للمؤمنين.
جهَ ال ّنهَارِ } مقصود به ساعات الصباح والظهر ،فالوجه هو أول ما يواجه
ولنا أن نعرف أن { وَ ْ
في أي أمر ،ونحن نأخذ ذلك في أمثلة حياتنا اليومية ،فنقول عن بائع الفاكهة " :لقد صنع وجها
للفاكهة " ،أي أنه قد وضع أنضج الثمار في واجهة العربة ،وأخفى خلف الثمار الصالحة
الناضجة ثمارا أخرى فاسدة .وعندما يفعل التاجر مثل هذا الفعل فمقصده الغش والخداع ،لن
النسان إذا ما اشترى أي مقدار من هذه الفاكهة فسيجد ربع ما اشترى هو من واجه الفاكهة،
والباقي من الثمار الفاسدة.
وكذلك حاول بعض من أهل الكتاب أن يخدعوا المؤمنين بإعلن اليمان أول النهار ثم إعلن
الكفر آخر النهار ،والهدف بطبيعة الحال هو إشاعة الشك وزراعة البلبلة في نفوس المؤمنين
بخصوص هذا الدين ،فقد يقول بعض من الميين " :لقد اختبر أهل الكتاب هذا الدين الجديد وهم
أهل علم بمناهج السماء ولم يجدوه مطابقا لمناهج السماء ".
أو أن الية قد نزلت في مسألة تحويل القبلة إلى الكعبة ،فإذا كان الحق سبحانه قد أمر سيدنا
رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يحول القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ،فالكافرون من أهل
الكتاب أرادوا نقض ذلك ،وقالوا " :فلنسمع أول النهار كلم محمد ونتوجه في الصلة إلى الكعبة
ثم نصلي آخر النهار ونجعل قبلتنا بيت المقدس ".
وكأن الحق قد أراد بذلك أن يكشف لنا أن كل أساليب الكفر هي من تمام قلة الفطنة وعدم القدرة
على حسن التدبر ،لقد أرادوا إشعال الحرب النفسية ضد المسلمين ،لعل بعضا من المسلمين
يتشككون في أمر الدين الجديد ،لكنهم دون أن يلحظوا أنهم قد فضحوا أنفسهم ،واعترفوا دون
قصد منهم بأن الذين آمنوا بالقرآن هم المؤمنون حقا بينما هم قد أخذوا لنفسهم موقف الكفر الذي
جهَ ال ّنهَارِ
هو نقيض لليمان ،قال سبحانه حكاية عنهم { :آمِنُواْ بِالّذِي أُنْ ِزلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُو ْا وَ ْ
وَاكْفُرُواْ آخِ َرهُ } فهم قد ارتضوا لنفسهم الكفر.
لقد أعلن هؤلء المشككون التصديق بالسلم؛ وذلك ليعرف الناس عنهم ذلك ،ولكونهم أهل كتاب
فهم قادرون على الحكم عليه ،فإذا ما رجعوا عن السلم من بعد معرفته ،فسيقولون :إن رجوعنا
ليس بسبب الجهل أو التعصب ،إنما بسبب اختبارنا لهذا الدين ،فلم نجده مناسبا ول متوافقا مع ما
نزل على رسولنا .وهذا من أساليب الحرب النفسية.
والحق سبحانه وتعالى يكشف ذلك المكر والخداع للذين حاولوا أن يكتموا خداعهم ولعبتهم
الماكرة ،والتي أرادوا بها التشكيك والخداع .فَيُنزل على رسوله هذا القول الحق { :وَلَ ُت ْؤمِنُواْ ِإلّ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ِلمَن تَبِعَ دِي َنكُمْ ُقلْ إِنّ ا ْلهُدَىا هُدَى اللّهِ} ...
()463 /
وَلَا ُت ْؤمِنُوا إِلّا ِلمَنْ تَ ِبعَ دِي َن ُكمْ ُقلْ إِنّ ا ْلهُدَى ُهدَى اللّهِ أَنْ ُيؤْتَى َأحَدٌ مِ ْثلَ مَا أُوتِيتُمْ َأوْ ُيحَاجّوكُمْ عِ ْندَ
ضلَ بِ َيدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَنْ يَشَا ُء وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ ()73
رَ ّبكُمْ ُقلْ إِنّ ا ْل َف ْ
إن الحق سبحانه يكشف للرسول صلى ال عليه وسلم وللمؤمنين به من الميين لعبة إيمان بعض
من أهل الكتاب بالسلم وجه النهار والكفر به آخر النهار ،لقد طالب المتآمرون بعضهم بعضا أن
يظل المر سرا حتى ل يفقد المكر هدفه وهو بلبلة المسلمين من الميين ،ولذلك قال هؤلء
المتآمرون بعضهم لبعض { :وَلَ ُت ْؤمِنُواْ ِإلّ ِلمَن تَ ِبعَ دِي َن ُكمْ } أي ل تكشفوا سر هذه الخدعة إل
لمن هو على شاكلتكم ،لكن الحق يكشف هذا المر كله بنزول هذه الية على رسول ال صلى ال
عليه وسلم وبلغه إياها للمؤمنين ،وبذلك فسد أمر تلك البلبلة ،وارتدت الحرب النفسية إلى صدور
من أشعلوها ،ويستمر القول الكريم في كشف خديعة هؤلء البعض من أهل الكتاب فيقول سبحانه:
حدٌ مّ ْثلَ مَآ أُوتِيتُمْ َأوْ يُحَآجّوكُمْ عِندَ رَ ّبكُمْ }.
{ ُقلْ إِنّ ا ْل ُهدَىا هُدَى اللّهِ أَن ُيؤْتَى أَ َ
إن الحق سبحانه يكشف فعل الماكرين من أهل الكتاب الذين أرادوا إعلن اليمان أول النهار
كلون من " هدى النفس " لكنه من صميم الضلل والضلل وذريعة له ،ولم يكن هدى من ال؛
لن هدى ال إنما يوصل النسان إلى الغاية التي يريدها ال ،وهؤلء البعض من أهل الكتاب
أرادوا بالخديعة أن يجعلوا سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم دون أتباع يؤمنون بالسلم؛ لقد
تواصي هؤلء القوم من أهل الكتاب بأن يكتموا اتفاقهم على تمثيل الدعاء باليمان وجه النهار
والكفر به في آخره ،وأل يعلنوا ذلك إل لهل ديانتهم حتى ل يفقد المكر هدفه ،وهو بلبلة
المسلمين.
لقد أخذهم الخوف؛ لن الناس إن أخذوا بدين محمد صلى ال عليه وسلم لوتوا مثلما أوتي أهل
الكتاب من معرفة بالمنهج ،بل إن المنهج الذي جاء به محمد صلى ال عليه وسلم هو المنهج
الخاتم ،وأهل المكر من أهل الكتاب إنما أرادوا أن يحرموا الناس من اليمان ،أو أنهم خافوا أن
يدخل المسلمون معهم في المحاجة في أمر اليمان ،وكان كل ذلك من قلة الفطنة التي تصل إلى
حد الغباء.
لماذا؟ لنهم توهموا أن ال ل يعرف باطن ما كتموا وظاهر ما فعلوا ،إنهم تناسوا أن الحق يعلم
خائنة العين وما تخفي الصدور ،وتطابق ذلك مع سابق فعلهم عندما خرجوا من مصر ،وذهبوا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى التيه أثناء عبور الصحراء ،وادعوا أن ال قال لموسى عليه السلم " :علموا بيوتكم أيها
السرائيليون ،لني سأنزل وأبطش بالبلد كلها " .وكأنهم لو لم يضعوا العلمات على البيوت فلن
يعرفها ال ،إنه كلم خائب للغاية بل هو منتهى الخيبة والضلل ،ويبلغ الحق رسوله الكريمُ { :قلْ
علِيمٌ }.
ضلَ بِ َيدِ اللّهِ ُيؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللّ ُه وَاسِعٌ َ
إِنّ ا ْل َف ْ
وما دام الفضل بيد ال فلن تستطيعوا يا أهل المكر بالمسلمين أن تأخذوا أناسا كما تودون ،وبعد
ذلك تريدون أن تخدعوهم؛ لن الفضل حين يؤتيه ال لمن آمن به فلن ينزعه إل ال.
فالحيلة لن تنزع فضل اليمان بال مادام قد أعطاه ال ،وال واسع بمعنى أنه قادر على إعطاء
الفضل لكل الخلق ،ولن ينقص ذلك من فضله شيئا ،والحق سبحانه عليم بمن يستحق هذا الفضل
لن قلبه مشغول بربه.
حمَ ِتهِ مَن يَشَآءُ} ...
وبعد ذلك يقول الحق سبحانهَ { :يخْ َتصّ بِرَ ْ
()464 /
إن أحدا ليس له حق على ال؛ فكل لحظة من لحظات الحياة هي فضل من ال ،وهو سبحانه
يعطي رحمته باليمان بمنهجه لمن يشاء وهو صاحب الفضل المطلق.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانهَ { :ومِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ إِن تَ ْأمَ ْنهُ ِبقِنْطَارٍ ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْيكَ} ...
()465 /
ك َومِ ْنهُمْ مَنْ إِنْ تَ ْأمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْيكَ إِلّا مَا ُد ْمتَ
َومِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ إِنْ تَ ْأمَنْهُ ِبقِنْطَارٍ ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْي َ
ب وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ ()75
علَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ
ل وَيَقُولُونَ َ
علَيْنَا فِي الُْأمّيّينَ سَبِي ٌ
عَلَيْهِ قَا ِئمًا ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُوا لَيْسَ َ
إنه مطلق النصاف اللهي ،فإذا كان الحق قد كشف للرسول بعضا من مكر أهل الكتاب فذلك ل
يعني أن هناك حملة على أهل الكتاب وكأنهم كلهم أهل سوء ،ل ،بل منهم مَنْ يتميز بالمانة،
وهذا القول إنما يؤكد إنصاف الله المنصف العدل.
إن الحق سبحانه يخاطب النفوس التي يعلمها ،فهو يعلم أن دعوة محمد صلى ال عليه وسلم ،قد
نزلت رحمة للناس أجمعين ،ويخاطب بها العالم كله بما فيه من أهل الكتاب ،وهم الذين يعرفون
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اليات والعلمات التي تدل على مجيء رسالة سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم .ومنهم أناس
قد جعلوا دعوة محمد صلى ال عليه وسلم في بؤرة شعورهم ليدرسوها ويؤمنوا بها .ولو أن ال
قد جعل الحملة على كل أهل الكتاب ،لقال الذين كفروا في اليمان برسول ال " :كنا نفكر في أن
نؤمن ،ونحن نريد أن ننفذ تعاليم ال لنا لكن محمدا يشن حملة على كل أهل الكتاب ونحن منهم ".
فساعة يقول ال إن بعضا من أهل الكتاب يتميزون بالمانة فإن من تراوده فكرة السلم يقولون:
إن محمد صلى ال عليه وسلم ل يتكلم إل عن نور من ربه ،لكن لو عمم القرآن الحكم على الكل،
لتساءل الذين ينشغلون برغبة اليمان بما جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم " لماذا يعم الحكم
الجميع ونحن نسير في الطريق إلى اليمان؟ ".
سوَآءً مّنْ أَ ْهلِ
ولهذا يضع الحق القول الفصل في أن منهم أناسا يتجهون إلى اليمان {:لَيْسُواْ َ
جدُونَ }[آل عمران.]113 :
ل وَهُمْ يَسْ ُ
ا ْلكِتَابِ ُأمّةٌ قَآ ِئمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَآءَ اللّ ْي ِ
وفي هذا ما يطمئن الذي شغلوا أنفسهم بدراسة هذا الدين والتفكير في أن يؤمنوا برسول ال صلى
ال عليه وسلم.
لو كان القرآن قد نزل بلعنتهم جميعا لقال الذين يفكرون منهم في اليمان " نحن لسنا كذلك ول
نستحق اللعنة ،فلماذا يأتي محمد بلعنتنا؟ ".
لذلك نرى القول بأن { َومِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ إِن تَ ْأمَنْهُ ِبقِنْطَارٍ ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْيكَ } العدل المطلق في
النصاف:
وقد قال بعض المفسرين :إن القرآن يقصد هنا من { أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ } النصارى؛ لن منهم أصحاب
ضمير حي ،ونحن نعرف أن المقصود بأهل الكتاب هم اليهود والنصارى ،وفي هذا التفسير
إنصاف للنصارى فصفة الخير لهم ل ينكرها ال ،بل يشيعها في قرآنه الذي يُتلى إلى يوم الدين،
وذلك ليصدق أيضا أهل الكتاب أيّ أمر سيء تنزل فيه آيات من القرآن ،لن القرآن منصف
مطلق النصاف .فما دام قد قال خصلة الخير فيهم فل بد أن يكون صادقا عندما يقول المور
السيئة التي اتصفوا بها.
وعندما يقول الحق سبحانه " :ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك " فالقنطار هنا
للمبالغة في القدر الكبير من المال ،وكلمة المانة حينما نستعرضها في كتاب ال عز وجل نجد
أنها مرة تتعدى بالباء ،كمثل هذه الية } مَنْ إِن تَ ْأمَنْهُ ِبقِنْطَارٍ { ومرة تتعدى بـ " على " {:قَالُواْ
سفَ وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }[يوسف ]11 :وقوله الحق{ قَالَ َهلْ آمَ ُنكُمْ
ك لَ تَ ْأمَنّا عَلَىا يُو ُ
يَاأَبَانَا مَا َل َ
حمِينَ }[يوسف.]64 :
عَلَيْهِ ِإلّ َكمَآ َأمِن ُتكُمْ عَلَىا َأخِيهِ مِن قَ ْبلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظا وَ ُهوَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ
إن مادة المانة تأتي متعدية مرة بالباء ،ومرة متعدية بـ " على ".
وكل حرف من هذين الحرفين له حكمة ،فالمتكلم هو ال.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن المانة هي شيء يأتمن فيه مؤتمِن على مؤتمَن ول حجة لصاحب الشيء المؤ َتمَن عليه إل ذمة
المؤتمَن فإن كانت العلقة بينهما محكومة بإيصال أو عقد ،أو شهود فهذه ليست أمانة إنما المانة
هي ما يعطيها انسان لخر فيما بينهما ،وبعد ذلك فالمؤتمن بعد ذلك إما أن ُيقِرّبها وإمّا ل يقِرّبها.
وقلنا سابقا :إن على المؤمن الحق أن يحتاط للمانة ،لن هناك وقتا تتحمل فيه المانة ،وهناك
وقت آخر تؤدي فيه المانة إن طلبها صاحبها.
ومثال تحمل المانة كأن يعرض عليك إنسان مبلغا من المال ،ويقول " :احفظ هذا المبلغ أمانة
عندك " فتقول له :نعم سأفعل .وتأخذ المبلغ ،إن هذا الفعل يسمى " التحمل " ،وعندما يأتي
صاحب المال ليطلبه فهذا اسمه " الداء " والكل يضمنون أنفسهم وقت التحمل ،وقد تكون النية
هكذا بالفعل ،ولكن المؤمن الحق ل يأمن ظروف الغيار ،فمن المتحمل أنه عندما يأتي صاحب
المال ليطلبه من المؤتمَن يجد المؤمن نفسه وقد انشغل بالغيار ،فقد تكون ظروف الحياة قد
داهمته مما دفعه ليتصرف في المانة أو أن تكون نفسه قد تحركت ،وقالت له :وماذا يحدث لو
تصرفت في المانة؟ إن المؤمن الحق ل يضمن نفسه وقت الداء ،وإن ضمن نفسه وقت التحمل.
إذن يجب أن نلحظ في المانة ملحوظتين هما " الداء " و " التحمل " .والذي يأخذون المانة وفي
نيتهم أن يؤدوها ضمنوا أنفسهم وقت التحمل ،لكنهم ل يضمنون أنفسهم وقت الداء لذلك فالمؤمن
المحتاط يقول لنفسه :ولماذا أعرض نفسي لذلك ،فقد يأتي وقت الداء فل أستطيع ردّها لصاحبها.
لذلك يقول لصاحب المانة :أرجوك ابتعد عني فأنا لن أحمل هذه المانة.
إنه خائف من وقت الداء وذلك ما حدث في أمانة التكليف والختيار والتي قال عنها الحق
شفَقْنَ مِ ْنهَا
حمِلْ َنهَا وََأ ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
سبحانه {:إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
جهُولً }[الحزاب.]72 :
حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
وَ َ
إن السماء والرض والجبال طلبوا أل يكون لهم اختيار وأن يظلوا مقهورين؛ لنهم ل يضمنون
لحظة الداء ،أما النسان فلنه ظلوم جهول فقد قال " :ل ،إنني عاقل وسأرتب المور " فالنسان
ظلوم لنفسه ،وجهول لنه لم يعرف ماذا يفعل وقت الداء.
لذلك نرى هنا القول الحقَ } :ومِنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ إِن تَ ْأمَنْهُ ِبقِنْطَارٍ { ونجد المانة متعدية بالباء،
فمعنى الباء -في اللغة -اللصاق ،أي التصق القنطار بأمانته ،فأصبح هناك ارتباط وامتزاج،
وإياك ساعة الداء أن تفصل المانة عن القنطار ،فساعة يغريك قنطار الذهب ببريقه فعليك أن
تلصق المانة بالقنطار ،وإياك أن يغريك قنطار فتترك أمانتك لنك إن نظرت إلى القنطار دون
أن تنظر إلى المانة فهذه هي الخيبة.
أما استعمال " على " مع المانة ،فـ " على " في اللغة تأتي للستعلء والتمكن ،أي اجعل المانة
مستعلية على القنطار ،وبذلك تصير أمانتك فوق القنطار ،فساعة تحدثك نفسك بأن تأخذ القنطار
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لنه يدير لك حركة حياتك ،ولنه يخرجك إلى دنيا عريضة مغرية فتذكر عز المانة ،ولهذا نجد
الفقهاء قد قالوا بقطع يد السارق في ربع دينار ،وجعلوا دية قطع يد إنسان لم يسرق خمسمائة
دينار وتساؤل البعض قائل:يد بخمس مئين عسجد وديت مابالها قطعت في ربع دينارفقال فقيه ردا
على ذلك المعترض:عز المانة أغلها ،وأرخصها ذل الخيانة ،فافهم حكمة الباريإذن قول الحق
سبحانه وتعالىَ } :ومِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ مَنْ إِن تَ ْأمَنْهُ ِبقِنْطَارٍ { هذا القول جاء بالباء ليلصق المانة بما
اؤتمن عليه ول يفصل بينهما أبدا لنه لو فصل المانة وعِزّها عن القنطار ربما سولت له نفسه
أن يأخذ القنطار ويترك المانة.
وكذلك عندما تأتي المانة متعدية بعلى ،تكون المانة فوق الشيء المؤتمن عليه ،فالمانة يجب أن
تكون مستعلية على الشيء مهما غلت قيمته ،ويقول الحق من بعد ذلكَ } :ومِنْهُمْ مّنْ إِن تَ ْأمَنْهُ
بِدِينَا ٍر لّ ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْيكَ ِإلّ مَا ُد ْمتَ عَلَ ْيهِ قَآئِما { أي أن تكون دائم السؤال عن دينارك الذي ائتمنت
عليه ذلك النسان ،وأن تلح في طلب دينارك.
لمّيّينَ سَبِيلٌ { وقد قام بعض من بني
علَيْنَا فِي ا ُ
ومن بعد ذلك يقول الحق } :ذاِلكَ بِأَ ّنهُمْ قَالُواْ لَيْسَ َ
إسرائيل على عهد رسول ال ،يخديعة الميين من العرب المؤمنين فأنكروا حقوقهم .والمقصود
بالميين هنا المؤمنون الذين لم يكونوا من أهل الكتاب ،أو هم المنسوبون إلى الم كما قال الحق{:
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ
سمْ َع وَالَ ْبصَارَ وَا َ
ج َعلَ َلكُمُ ا ْل ّ
جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
وَاللّهُ َأخْرَ َ
شكُرُونَ }[النحل.]78:
تَ ْ
أو أن يكون المقصود " بالميين " أهل مكة ،فقد كانوا يسمونهم كذلك لنهم منسوبون إلى أم القرى
" مكة المكرمة ".
من أين جاء أهل الكتاب إذن بهذا السلوب المزدوج في معاملة الناس؟ ومن الذي وضع هذا
المنهج الذي يقضي بخديعة المؤمنين الميين؟ وهل الفضائل ومنازل الخلق تختلف في المعاملة
من إنسان إلى آخر؟ وهل يقضي الخلق القويم أن يأخذ إنسان المانة وينكرها إذا كانت لرجل
أمي؟ ويرد المانة ويعترف بها إن كانت ليهودي؟ هل يصح أن يقرض إنسان أمواله بالربا لغير
اليهود ،ويقرض اليهود دون ربا؟ إذن تكون هذه المعاملت مجحفة ،هنا فضيلة ،وهناك ل
فضيلة ،ل ،إن القضية يجب أن تكون مستوية ومكتملة في كل وقت وكل زمان ولكل إنسان ،ول
ينبغي أن تتنوع.
من أين إذن جاءوا بهذا القول وهم أهل كتاب؟ إن هذا ضد منهج الكتاب الذي أنزله ال عليهم بل
هو من التحريف والتحوير لقد خدعوا أنفسهم وألصقوا بالتشريع ما ليس فيه ،فالكتاب السماوي
الذي نزل عليهم ليس به تصنيف البشر صنفين :صنف هم أهل الكتاب ولهم معاملة خاصة،
وصنف هم الميون ولهم معاملة أخرى ،وكان عليهم ان يتعلموا من عدالة رسول ال صلى ال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه وسلم في معاملتهم.
لقد أرخ لهم رسول ال بالنص المنزل عليه من ال التأريخ الصادق والعادل ،في هذا القول الكريم
الذي نتناوله بالخواطر إنما يسجل تاريخ اليهودية مع السلم .وهذا التأريخ لم يصدر فيه ال
حكما واحدا يشملهم جميعا ،بل أنصف أصحاب الحق منهم ،وإن كانوا على دين اليهودية ،وبذلك
استقر في أذهان المنصفين منهم أن السلم قد جاء بكل الحق ،فلو كان السلم قد أصدر حكما
واحدا ضد كل اليهود سواء من وقف منهم ضد دعوة رسول ال أو المنصف منهم الذي تراوده
فكرة اليمان بالسلم ،لو كان مثل ذلك الحكم العام الشامل قد صدر لقال المنصفون من اليهود:
نحن نفكر في أن نؤمن بالسلم فكيف يهاجمنا السلم هذه المهاجمة؟ لكن السلم جاء لينصف
فيعطي كل ذي حق حقه.
وهؤلء هم الذين يؤرخ ال لهم بالقول } :مَنْ إِن تَ ْأمَنْهُ ِبقِنْطَارٍ ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْيكَ { وتلك شهادة على صدق
اليقين من هؤلء ،أما الذين طغت عليهم المادة فهؤلء هم الذين جاء فيهم القول الحكيمَ } :ومِنْهُمْ
مّنْ إِن تَ ْأمَنْهُ ِبدِينَا ٍر لّ ُيؤَ ّدهِ إِلَ ْيكَ ِإلّ مَا ُد ْمتَ عَلَيْهِ قَآئِما { وهذا هو التأريخ الصادق لمن طغت
عليهم المادة فل يرد النسان منهم ما عليه إل بعد الملحقة والمطاردة ،وهكذا يبلغنا القرآن
التاريخ بصدق.
والعلة في أن الذي يؤتمن على قنطار ويؤديه هو إنسان ملتزم أمامه إله موصوف باسم الحق ،ول
يريد ال من عباده إل أن يواجهوا حركة حياتهم بالحق.
وأكرر هنا مرة أخرى ،إن كلمة " المانة " ترد في القرآن الكريم مرة وهي متعدية بـ " على " ،
ومرة أخرى وهي متعدية بالباء ،لن الباء تأتي في اللغة للصاق شيء بشيء آخر ،فكأنك إذا
اؤتمنت أيها المسلم فل بد أن تلتصق بالمانة حتى تؤديها ،وكذلك جاءت المانة متعدية بـ " على
" ،أي أنك أيها المؤمن إذا اؤتمنت فعليك أن تستعلي على الشيء الذي اؤتمنت عليه.
فإذا ما اؤتمنت على مائة جنيه مثل فل تنظر إلى ما يعود عليك من نفع إذا ما تصرفت في هذا
المبلغ ،بل يجب أن تستعلي على تلك المنفعة .فإياك أن تغش نفسك أيها المؤمن بفائدة ونفاسة
الشيء الذي تختلسه من المانة ،بل قارن هذا الشيء بالمانة فستجد أن كفة المانة هي الراجحة.
والذين استباحوا خيانة المانة من أهل الكتاب ،إنما عميت بصيرتهم عن أن رسول ال صلى ال
عليه وسلم قد نال الشهرة بالمانة سواء قبل الرسالة أو بعدها .وعميت أبصارهم ،إن الدين الحق
ل يفرق في أداء المانة بين صنف من البشر ،وصنف آخر؛ فالدين الحق يضم تشريعا من إله
خلق الجميع وهكذا نجد أن تشريعهم بالتفرقة في أداء المانة هو تشريع من عند أنفسهم ،وليس
من الرب المتولي شئون خلقه جميعا ،ويدحض الحق القضية التي حكموا بوساطتها أن يعاملوا
ب وَهُمْ
الميين معاملة تختلف عن معاملتهم لهل الكتاب ،فقال سبحانه } :و َيقُولُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َيعَْلمُونَ {.
يعلمون ماذا؟ يعلمون ان قولهم كذب ،فهم يعرفون الحكم الصحيح وينحرفون عنه ،وياليتهم قالوا:
إن ذلك الحكم من عند أنفسهم ،لكنهم ينسبون ذلك إلى تعاليم دينهم ،وتعاليم الدين -كما قلنا -
مأخوذة من ال ،وهم بذلك -والعياذ بال -يفترون على ال كذبا بأنه خلق خلقا ثم صنفهم
صنفين :صنفا تؤدى المانة له ،وصنفا ل تؤدى المانة له ،وهكذا كذبوا على ال وعلموا أنهم
كاذبون ،وهذا هو الفتراء .وهم أيضا يعلمون العقوبة التي تلحق من يكذب على ال ورغم ذلك
كذبوا.
لقد حذف الحق في هذه الية المفعول به فلم يقل " :يعملون كذا " .الحق حين يحذف " المفعول "
فهو يريد أن يعمم الفهم ويريد أن يعمم الحركة ،إنه سبحانه يريد أن يبلغنا بأن هؤلء يعلمون أن
قولهم هذا كذب ،ويعلمون عقوبة ذلك الكذب ..وساعة تأتي قضية منفية ثم يأتي بعدها كلمة " بلى
" فإنها تنقض القضية التي سبقتها ومعنى ذلك أنها تُثْبِت ضدها .لقد قالوا:
" ليس علينا في الميين سبيل " وهذه قضية منفية بـ " ليس " ،والحق يقول في الية التالية} :
حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ {
بَلَىا مَنْ َأ ْوفَىا ِب َع ْه ِدهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ ُي ِ
()466 /
إن قول الحق في بداية هذه الية { بَلَىا } إنما جاء لينقض القضية السابقة التي ادعاها أهل
الكتاب ،وكأن الحق يقول :أيْ عليكم في الميين سبيل؛ لن المشرع هو ال ،والناس بالنسبة له
سبحانه سواء.
وبعد ذلك يأتي قول الحق بقضية عامة:
حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ } [آل عمران]76 :
{ مَنْ َأ ْوفَىا ِب َعهْ ِد ِه وَا ّتقَى فَإِنّ اللّهَ يُ ِ
ما العهد هنا؟ وأي عهد؟
إنه العهد اليماني الذي ارتضيناه لنفسنا بأننا آمنا بال وساعة تؤمن بالله فمعنى إيمانك به هو
حيثية قبولك لكل حكم يصدر منه سبحانه ،وأن تلتزم بما يطلبه منك .وإن لم تلتزم بما يطلبه منك
كان إيمانك بل قيمة؛ لن فائدة اليمان هو اللتزام .ولذلك قلنا :إن الحق سبحانه وتعالى حينما
يريد تشريع حكم لمن آمن به ينادي أول يأيها الذين آمنوا كتب عليكم كذا ،إن الحق سبحانه ل
ينادي في التكليف كل الناس ،إنما ينادي من آمن وكأن سبحانه يقول " :يا من آمن بي إلها ،اسمع
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مني الحكم الذي أريده منك .أنا ل أطلب ممن لم يؤمن بي حكما ،إنما أطلب ممن آمن ".
حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ } وقد يفهم البعض هذا القول بأن
وهنا يقول الحق { :مَنْ َأ ْوفَىا ِب َعهْ ِد ِه وَا ّتقَى فَإِنّ اللّهَ ُي ِ
من أوفى بعهده اليماني واتقى ال في أن يجعل كل حركاته مطابقة لـ " افعل ول تفعل " فإن ال
يحبه .هذا هو المعنى الذي قد يُفهم للوهلة الولى ،لكن ال لم يقل ذلك ،إن " الحب " ل يرجع إلى
حبّ ا ْلمُتّقِينَ }.
الذات بل يرجع إلى العمل ،لقد قال الحق { :فَإِنّ اللّهَ ُي ِ
إن النسان قد يخطئ ويقول " :لقد أحبني ال ،وسأفعل من بعد ذلك ما يحلو لي " ونحن نذكر
صاحب هذا القول بأن ال يحب العمل الصالح الذي يؤديه العبد بنية خالصة ل وليس للذات أي
حبّ ا ْلمُ ّتقِينَ }.
قيمة ،لذلك قال { :مَنْ َأ ْوفَىا ِب َعهْ ِدهِ وَاتّقَى فَإِنّ اللّهَ ُي ِ
إن الذي أوفى بعهده واتقى سيحب ال فيه التقوى ،وإياك أن تفهم أن الحب من ال للعبد سيصبح
حبا ذاتيا ،لكنه حب لوجود الوصف فيه ،فاحرص على أن يكون الوصف لك دائما ،لتظل في
محبوبية ال.
ولذلك نقول :إن الحق سبحانه وتعالى أوضح لنا أن الذات تتناسل من ذات ،والذوات عند ال
متناسلة من أصل واحد .فالجنس ليس له قيمة ،إنما القيمة للعمل الصالح.
وقد ضربنا المثل قديما ،وقلنا :إن الحق سبحانه وتعالى حينما وعد نوحا عليه السلم بأن ينجيه
من الغرق هو وأهله ،ثم فوجئ نوح بأن ابنه من المغرقين ،قال سبحانه حكاية عما حدث {:قَالَ
ح َم وَحَالَ بَيْ َن ُهمَا
صمَ الْ َيوْمَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ ِإلّ مَن رّ ِ
صمُنِي مِنَ ا ْلمَآءِ قَالَ لَ عَا ِ
سَآوِي إِلَىا جَ َبلٍ َي ْع ِ
ا ْل َموْجُ َفكَانَ مِنَ ا ْل ُمغْ َرقِينَ }
[هود.]43 :
ماذا فعل نوح عليه السلم؟ لقد نادى ربه طالبا نجاة ابنه {:وَنَادَى نُوحٌ رّبّهُ َفقَالَ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ
ح َكمُ الْحَا ِكمِينَ }[هود ]45 :ويعلمنا ال من خلل رده على نوح ،أن
ق وَأَنتَ أَ ْ
ن وَعْ َدكَ ا ْلحَ ّ
أَهْلِي وَإِ ّ
أهل النبياء ليسوا من جاءوا من نسلهم ،إنما أهل النبياء هم من جاءوا على منهجهم ،لذلك قال
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ }[هود.]46 :
الحق لنوح عن ابنه {:إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ
لماذا يكون ابن نوح ليس من أهل نوح؟ ذلك لن أهل النبوة هم الذين يتبعون منهج النبوة ،ولذلك
لم يقل الحق لنوح عن ابنه " :إنه عامل غير صالح " لكن الحق سبحانه قال عن ابن نوح } :إِنّهُ
ع َملٌ غَيْرُ صَالِحٍ { ..لقد نسب الحق المر إلى العمل.
َ
إذن فالحكمة هي أن ال سبحانه وتعالى في أسلوبه القرآني يوضح لنا أن ال ل يحب شخصا
لذاته ،إنما لعمله وصفاته فلم يقل " :من أوفى بعهده واتقى فإن ال يحبه " ،لن " الهاء " هنا
ترجع إلى الذات ،إن في ذلك إيضاحا كامل البيان بأن ال يحب عمل العبد ل ذات العبد ،فإن
حرص العبد على محبوبية ال فذلك يتطلب من العبد أن يظل متبعا لمنهج ال ،وبعد ذلك يقول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق } :إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ ِب َعهْدِ اللّ ِه وَأَ ْيمَا ِنهِمْ َثمَنا قَلِيلً ُأوْلَـا ِئكَ لَ خَلَقَ َل ُهمْ فِي الخِ َرةِ{ ...
()467 /
إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ ِب َعهْدِ اللّ ِه وَأَ ْيمَا ِنهِمْ َثمَنًا قَلِيلًا أُولَ ِئكَ لَا خَلَاقَ َلهُمْ فِي الْآَخِ َر ِة وَلَا ُيكَّل ُمهُمُ اللّ ُه وَلَا
يَنْظُرُ ِإلَ ْيهِمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَلَا يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ()77
وساعة نسمع كلمة " شراء وبيع " فل بد أن نتوقف عندها؛ لنفهم معناها بدقة .ونحن في الريف
نرى المقايضات أو المبادلت في الرزق الذي له نفع مباشر ،كأن يبادل طرف طرفا آخر ،قمحا
بقماش ،فهذه سلعة يتم مبادلتها بسلعة أخرى ،وعلى ذلك فليس هناك شارٍ وبائع ،لن كل من
الطرفين قد اشترى وباع .وهنا نسأل :متى يصبح المر إذن شراء وبيعا؟
إن الشراء والبيع يحدث عندما نستبدل رزقا مباشرا برزق غير مباشر ،ومثال ذلك عندما يشتري
النسان رغيف خبز بخمسة قروش ،إن هذا هو الشراء والبيع ،لن الخمسة قروش هي رزق غير
مباشر النفعية؛ لن النقود ل تشبعك ول ترويك من عطشك ول تسترك .والرغيف هو رزق
مباشر النفعية لنه يشبعك ويدفع عنك الجوع وعندما يحب النسان أن يشتري شيئا فإن الذي
يدفعه في الشراء يسمى ثمنا.
إذن فكيف يشتري الثمن؟
إن الحق يوضح لنا أن الثمان ل تكون مشتراة أبدا ،إنها مُشترى بها ،ولذلك تكون أول خيبة في
صفقة الذين يشترون بعهد ال ثمنا قليل ،إنهم اشتروا الثمن ،بينما الثمن ل يُشترى ،فالذي يشتري
هو السلعة .ويا ليت الثمن الذي اشتروه ثمن له قيمة ،لكنه ثمن قليل ،ومن هنا جاء تحريم الربا
لن المرابي يعطي الشخص مائة ،ويريد أن يسترده مائة وعشرة ،ويكون المرابي في هذه المسألة
قد جعل النقود سلعة ،وهكذا تكون الصفقة خائبة من بدايتها.
إذن فأول خيبة في نفوس الناس الذين يستبدلون الهدى ويأخذون بدل منه الضللة ،إنهم
حتْ تّجَارَ ُتهُ ْم َومَا كَانُواْ ُمهْتَدِينَ }[البقرة:
خاسرونُ {.أوْلَـا ِئكَ الّذِينَ اشْتَ َروُاْ الضّلَلَةَ بِا ْلهُدَىا َفمَا رَ ِب َ
.]16
والحق سبحانه يقول هنا { :إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ ِب َعهْدِ اللّ ِه وَأَ ْيمَا ِنهِمْ َثمَنا قَلِيلً } .ونعرف أن " الباء "
دائما تدخل على المتروك ،أي أنهم تركوا عهد ال واليمان التي حلفوا بها على التصديق
بالرسول ،وعلى نصرته إذا جاءهم ،أنهم اشتروا ذلك بثمن قليل ،كيف يحدث ذلك؟ لهذه المسألة
واقعة حال ،وإن كان المراد عموم الموضوع ل خصوص السبب ،فل يقولن أحد :إن هذه الية
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نزلت في المر الفلني فل شأن لي بها ،ل فكل من يشتري بآيات ال ثمنا قليل تنطبق عليه هذه
الية.
وواقعة الحال التي نزلت فيها الية هي أن جماعة في عهد جدب ومجاعة دخلت على كعب بن
الشرف اليهودي يطلبون منه الميرة -أي الطعام والكسوة -فقال لهم :هل تعلمون أن هذا
الرجل رسول ال؟ قالوا نعم ،قال :إنني هممت أن أطعمكم وأن أكسوكم ولكن ال حرمكم خيرا
كثيرا وتساءلوا :لماذا حرمنا ال خير الكثير؟ وجاءتهم الجابة لقد أعلنتم اليمان بمحمد فلما
وجدوا أنفسهم في هذا الموقف ،قالوا لكعب بن الشرف :دعنا فترة لنه ربما غلبتنا شبهة،
فلنراجع فيها أنفسنا.
وعندما مرت الفترة ،فضلوا الطعام والكسوة على اليمان ،وقالوا لكعب بن الشرف :لقد قرأنا في
كتبنا الموجودة لدينا خطأ ،ومحمد ليس رسول .فأعطاهم كعب القوت والكسوة .وهؤلء هم الذين
اشتروا بآيات ال ثمنا قليل ،وهو الطعام والكسوة .وكل من يشتري بآيات ال ثمنا قليل ،فهو
يطمس حكما من أحكام ال من أجل أن يتظاهر أمام الناس أنه عصري ،أو أنه مساير لروح
الزمان ،أو يزين لولياء المر فعل من الفعال ل يرضى عنه ال.
إذن فالذي يفعل مثل ذلك إنما يشتري بآيات ال ثمنا قليل ،وكل من يجعل آية من آيات ال
عرضة للبيع من أجل أن يأخذ عنها ثمنا قليل ،وكل من يجعل آية من آيات ال عرضة للبيع من
أجل أن يأخذ عنها ثمنا يُعتبر داخل في هذا النص } إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ ِب َعهْدِ اللّ ِه وَأَ ْيمَا ِنهِمْ َثمَنا قَلِيلً
{.
والمقصود هنا بعهد ال ،إما أن يكون عهد الفطرة أو العهد الذي أخذه ال على أهل الكتاب بأنهم
إن أدركوا بعثة رسول ال صلى ال عليه وسلم فل بد أن يعلنوا اليمان به هو العهد الذي جاء به
ح ْكمَةٍ ثُمّ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا
خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَابٍ وَ ِ
القول الحق {:وَإِذْ أَ َ
شهَدُو ْا وَأَنَاْ
َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ بِ ِه وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْتُ ْم وََأخَذْ ُتمْ عَلَىا ذاِل ُكمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ
َم َعكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ }[آل عمران.] 81 :
إذن فعندما جاءت صفة تكذيبهم لما أعلنوه من إيمان سابق مقابل الميرة والكسوة ،وكان ذلك خيبة
كبرى فهم قد اشتروا الثمن ،والثمن مع ذلك قليل ،ولذلك يقول عنهم الحق:
لقَ َلهُمْ فِي الخِ َر ِة َولَ ُيكَّل ُمهُمُ اللّهُ وَلَ يَنظُرُ إِلَ ْيهِمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة َولَ يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ
ك لَ خَ َ
} ُأوْلَـا ِئ َ
عَذَابٌ أَلِيمٌ { [آل عمران]77 :
وكلمة } ُأوْلَـا ِئكَ { تدل على أن الصلة وهي } يَشْتَرُونَ ِب َعهْدِ اللّ ِه وَأَ ْيمَا ِنهِمْ َثمَنا قَلِيلً { تُلِحق بهم
كل من يتصف بهذه الصفات وتجعل له المصير نفسه .فهذه الية وإن نزلت في هؤلء الشخاص
الذين جرت منهم حادثة شراء الطعام والكسوة مقابل النكوص عن اليمان برسالة رسول ال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلى ال عليه وسلم فإنها تشمل كل متصف بهذه الصفة وكل من كان على هذا اللون في أي
لقَ َلهُمْ {.
ك لَ خَ َ
عصر ،وفي أي دين من الديان ،ويصفهم الحق سبحانه بـ } ُأوْلَـا ِئ َ
وكلمة } خَلَقَ { وكلمة " خُلق " وكلمة " خليقة " وكلمة " خلق " كلها تدور حول معنى يكاد يكون
متقاربا ،فالخلق -بضم الخاء واللم -أن توجد صفة في النسان تغلب عليه حتى تصير ملكة.
فيقال " :فلن عنده خلق الصدق " أو " فلن خلقه الكرم " ومعناه :أن فلنا الول صار الصدق
عنده ملكة ول يتعب نفسه في أن يكون صادقا بل صار الصدق أمرا طبيعيا فيه ،وكذلك وصف
فلن الثاني بالكرم أي أن الكرم صار ملكة وسجية عنده.
وهذه الملكة في المور المعنوية تساوي اللية في المور الحسية؛ لننا نعرف أن كل فعل من
الفعال يحتاج إلى دربة ليكون النسان متميزا في أدائه ،وعلى سبيل المثال ،العامل الذي ينسج
على آلة يحتاج إلى أن يتدرب على تحريك مكوك الخيط ،وأن يتعلم كيف يحرك المكوك بين
خيوط النسيج ،وبعد ذلك يختلف الخيطان معا لتمسك بهما حركة المكوك الثانية في ارتدادها،
وبذلك يتم النسيج ،وحين يتدرب إنسان على هذا العمل فهو يحتاج إلى وقت طويل ،ليصل إلى
كفاءة الحركة.
في بداية التدريب يكون المر صعبا ،ويستطيع النساج بعد أن يتقن التدريب أن يجلس أمام آلة
النسيج ويداه تحرك المكوك بآلية .لقد صارت المسألة بالنسبة إلى النساج المتدرب آلية.
وسبق أن ضربت المثل بالنسان الذي يتعلم قيادة السيارة ،فالمدرب يعلمه كيف يدير المفتاح،
وكيف ينتظر لتسخين المحرك ،وكيف يفك مكبح السيارة ،ثم كيف يحرك عصا التحكم في اندفاع
السيارة ،وكيف يوازن بين الضغط على بدال الوقود والضغط على بدال التحكم الفاصل ،وكيف
يوازن بين سير السيارة بتخفيض السرعة بلمسات خفيفة لبدال المكبح.
وقد يخطئ النسان في بداية التعلم ويرتبك ،ولكنه بعد تمام التدريب فإنه يعمل بآلية وبدون تفكير،
إنه عمل آلي ل يحتاج إلى تفكير ،وضربت في السابق مثال بالصبي الذي يتعلم حياكة الملبس،
إنه يأخذ وقتا ليضع الخيط في سم البرة ،وتقع منه الخطاء في قياس المسافات المختلفة بين
الغرز ،لكنه من بعد ذلك يتدرب على فعل هذه العمال التي كانت صعبة ،ويؤديها بآلية ،والعمل
اللي في المور المحسة ،يقابل الملكة في المور المعنوية ،فيقال " :إن الصدق عند فلن ملكة "
إي أنه إنسان ل يرهُقه أن يكون صادقا.
ونحن أثناء تعليم أبنائنا للنحو -مثل -نقول لهم " :إن حكم الفاعل الرفع والمفعول به منصوب "
وعندما ينطق البن عبارة ما ،فإنه يحاول تطبيق القاعدة أثناء القراءة ،وقد ينساها ،أو يتلجلج،
وعندما يتذكرها فإنه ينطق الكلمات برسمها الصوتي الصحيح ،وبعد أن يتم التدريب على القاعدة
ويقرأ البن ،فإن أخطاءه تتلشى ،وبذلك يصير النحو ملكة عنده.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك الخلق ،إن الخلق صفة ترسخ في النفس ،فتصدر عنها الفعال بيسر وسهولة ،فيقال" :
الصدق له خلق " ،و " الكرم له خلق " ،و " الشجاعة له خلق " إنها الصفات التي ترسخ في
لقَ َلهُمْ فِي
ك لَ خَ َ
النفس فتصدر عنها الفعال في يسر وسهولة .والحق سبحانه يقولُ } :أوْلَـا ِئ َ
الخِ َرةِ { وقد فسر البعض حرمان أولئك من الخلق بأن هذا الصنف من الناس ل نصيب لهم من
الخلق ،لن الخلق صفة راسخة في النسان ،والحق يحدد الزمن بأنه } فِي الخِ َرةِ {.
والخرة هي الوقت الذي ل يمكن التدارك فيه ،فالخرة هي يوم التقييم الصحيح والنهائي.
إن النسان قد ل يكون له نصيب السلوك القويم فيعدل سلوكه حتى يكتسب هذا السلوك القويم في
الدنيا لكن النسان ل يستطيع في الخرة أن يجد مجال للستدراك ،وهذه هي الخيبة القوية.
فالنسان في الدنيا ،قد يقوم بعمل ما ول يكون له نصيب من أجره أو قد ل نرى نحن الجزاء
والنصيب الذي يعطيه له ال ولكن ال يعوضه في الخرة عن هذا العمل الذي لم يكن له نصيب
منه في الدنيا أما من ل خلق له في الخرة فكيف يتم التعويض؟ إنّ ذلك أمر مستحيل؟
ويضيف الحق } ولَ ُيكَّل ُمهُمُ اللّ ُه َولَ يَنظُرُ إِلَ ْي ِهمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة َولَ يُ َزكّي ِه ْم وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { وقد
يقول قائل :ألم يقل القرآن الكريم في موقع آخر ،إن ال يقول للكافرين {:قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا َولَ
ُتكَّلمُونِ }[المؤمنون.]108 :
فلماذا يقول الحق لهم مرة } :اخْسَئُواْ فِيهَا َولَ ُتكَّلمُونِ { ،ومرة أخرى يقول الحق } :لَ ُيكَّل ُمهُمُ
اللّهُ {؟ .ونجيب على مثل هذا القول :إن الحق ل يكلمهم كلما ينفعهم ،أو أنه سبحانه يكلمهم
بواسطة ملئكته ،ولكن كيف ل ينظر إليهم ال؟
وساعة نجد أمرا يوجد في الناس وله نظير منسوب ل سبحانه وتعالى ويقوله سبحانه عن نفسه،
شيْءٌ {.
فل بد أن نأخذ هذا المر في إطار } :لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
إننا في مجالنا البشرى نقول " :فلن ل ينظر إلى فلن " أي أنه ل يوجه عيونه إليه ،ويحول
حدقتيه عنه ،لكن ل يمكن قياس ذلك على ال ،لن ال منزه عن التشبيه ففي الوضع البشرى نجد
إنسانا يحب صديقا له فيقبل عليه بالوجه والنظر فيقال " :فتى هو قيد العين " أي أنه شاب عندما
تنظر إليه العين فهو يقيد العين فل تذهب عنه إلى مكان آخر؛ ففي هذا الشاب محاسن تجعل العين
ل تذهب بعيدا عنه .وهكذا نأخذ إقبال العين بالنظر على المنظور أو على المرئي كسمة للهتمام
به ،وهذا صحيح في الوضع البشرى.
شيْءٌ { .وهكذا نفهم عدم
لكن إذا ما جاء ذلك بالنسبة ل ،هنا نأخذ المسألة في إطار } :لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
نظر ال إلى } الّذِينَ يَشْتَرُونَ ِب َعهْدِ اللّ ِه وَأَ ْيمَا ِنهِمْ َثمَنا قَلِيلً { بأن ال يهملهم ،ول يهتم بهم " ل
ينالهم ال برحمته " ،فالحق سبحانه منزه عن كل تشبيه ،وهكذا المر في عدم نظر الحق إليهم،
شيْءٌ { إن ولي المر من البشر عندما يرغب في عقاب
نأخذ المر أيضا في إطار } :لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أحد رعاياه ،ل ينظر إليه ويهمله ،فما بالنا بإهمال الحق سبحانه وتعالى؟! إنه إبعاد لهم عن رحمة
ال ورضوانه.
ويضيف الحق سبحانه } َولَ يُ َزكّيهِ ْم وََلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { والتزكية تأتي بمعنى التطهير ،أو بمعنى
الثناء أو النماء والزيادة فنقول " :فلن زكى فلنا " أي أثنى عليه ويقال أيضا " :فلن زكى فلنا "
أي طهره ،ومن هذا تكون " الزكاة " التي هي تطهير ونماء.
وعندما يخبرنا الحق سبحانه أنه ل يكلم ذلك الصنف من البشر ول ينظر إليهم ول يطهرهم من
عذَابٌ أَلِيمٌ { فل بد أن نأخذ قوة الحدث بفاعل
أوزارهم ،فهذا مقدمة لما أعده لهم بقوله } :وََلهُمْ َ
الحدث.
وفي حياتنا العادية عندما يقال " :صفع الطفل فلنا الرجل " نفهم بطبيعة الحال أن صفعة الطفل
تختلف في قوتها عن صفعة الشاب ،وكذلك صفعة الشاب تختلف عن صفعة بطل في الملكمة.
إذن فالحدث يختلف باختلف فاعله قوة وضعفا على المفعول به الذي هو مناط الحدث ،فإذا كان
فاعل العذاب هو ال فل بد أن يكون عذابا أليما؛ ول حدود للمه ،أنجانا ال وإياكم منه .ومن بعد
ذلك يقول الحق سبحانه } :وَإِنّ مِ ْنهُمْ َلفَرِيقا يَ ْلوُونَ َألْسِنَ َتهُمْ بِا ْلكِتَابِ لِ َتحْسَبُوهُ مِنَ ا ْلكِتَابِ َومَا ُهوَ مِنَ
ا ْلكِتَابِ{ ...
()468 /
أي أنهم يلوون ألسنتهم بالكلم الصادر من ال ليحرفوه عن معانيه ،أو يَ ْلوُون ألسنتهم عندما
يريدون التعبير عن المعاني .و " اللي " هو الفتل ،فنحن عندما نفتل حبل ،ونحاول أن نجدل بين
فرعين اثنين من الخيوط ،ثم نفتلهم معا لنصنع حبل ،والهدف من الفتل هو أن نضع قوة من
شعيرات الخيوط ،فهذه الشعيرات لها قوة محدودة ،وعندما نفتل هذه الخيوط فإننا نزيد من قوة
الخيوط بجدلها معا.
إذن فالفتل المراد به الوصول إلى قوة ،وهكذا نرى أنهم يلوون ألسنتهم بكلم يدعون أنه من
المنهج المنزل من عند ال ،وهذا الكلم ليس من المنهج ولم ينزل من عند ال إنّهم يفعلون ذلك
لتقوية مركزهم والتنقيص من مكانة السلم والطعن في الرسول كما قالوا من قبل " :راعنا " ،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س َمعُواْ
لذلك قال الحق مخاطبا المؤمنين {:يَاأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ َتقُولُواْ رَاعِنَا َوقُولُواْ انْظُرْنَا وَا ْ
عذَابٌ أَلِيمٌ }[البقرة.]104 :
وَلِلكَافِرِينَ َ
إن الحق يوضح لنا أل نعطي لهم فرصة لتحريف كلم ال ،فهو سبحانه القائل {:مّنَ الّذِينَ هَادُواْ
طعْنا
سمَ ٍع وَرَاعِنَا لَيّا بِأَلْسِنَ ِت ِه ْم وَ َ
سمَعْ غَيْرَ ُم ْ
عصَيْنَا وَا ْ
س ِمعْنَا وَ َ
يُحَ ّرفُونَ ا ْلكَلِمَ عَن ّموَاضِعِ ِه وَ َيقُولُونَ َ
سمَ ْع وَانْظُرْنَا َلكَانَ خَيْرا ّلهُمْ وََأقْوَمَ وََلكِن ّلعَ َنهُمُ اللّهُ
طعْنَا وَا ْ
س ِمعْنَا وََأ َ
ن وََلوْ أَ ّنهُمْ قَالُواْ َ
فِي الدّي ِ
ِب ُكفْرِهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُونَ ِإلّ قَلِيلً }[النساء.]46 :
لقد فضحهم -الحق سبحانه -لنا ،وهم يحرفون الكلم عن موضعه ،فقد قال الحق هذا القول
بمعنى :أن الذي تسمعه ل يضرك لقد سجل ال عليهم أنهم قالوا سمعنا وعصينا كما قاموا
بتحريف الكلمة وقالوا " :اسمع غير مسمع " أي " ل سمعت أبدا " ،تماما كما أخذوا من قبل قول
الَ {:وقُولُواْ حِطّةٌ }[العراف.]161:
وحرفوا هذا القولَ " :وقُولُواْ حِنطّةٌ " ،وهم قد فعلوا ذلك حتى نحسب هذا التحريف من الكتاب،
وما هو من الكتاب ،أي أنهم يفتلون بعضا من المعاني المستنبطة من الكلمات حتى يوهموا
المؤمنين بأن هذه المعاني غير المرادة وغير الصحيحة هي معان مرادة ل ،وصحيحة المعنى،
إنهم يدعون على المنهج المنزل من السماء ما ليس فيه ،ولذلك قال سبحانه { :لِتَحْسَبُوهُ مِنَ ا ْلكِتَابِ
َومَا ُهوَ مِنَ ا ْلكِتَابِ } إنهم عندما يلوون ألسنتهم بالكتاب يحرفونه رغبة في التلبيس والتدليس عليكم
لتظنوا أنه من الكتاب المنزل من عند ال على رسولهم ،إنهم لو فعلوا ذلك فحسب لجاز أن يتوبوا
ويرجعوا إلى ربهم ويندموا على ما فعلوا.
أما قولهم بعد ذلكُ { :هوَ مِنْ عِ ْندِ اللّهِ } فهو دليل على أنهم أحدثوا في الكتاب شيئا وأصروا عليه
فجاءوا بقولهمُ { :هوَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ } لينفوا عن أنفسهم شبهة أن يُدعى عليهم أنهم حرفوا الكتاب،
ولو لم يكونوا قد حرفوا الكتاب أكانت تخطر ببالهم ،هذه؟ إن أمرهم جاء من باب (يكاد المريب
أن يقول خذوني) إنهم بهذا القول يحتالون على إخفاء أمر حدث منهم.
إن الحق -سبحانه -يؤكد أن الخيانة تلحقهم فيقول( :وما هو من عند ال) ،فهذه الية الكريمة
ب وَهُمْ َيعَْلمُونَ
تفضحهم وتكشف تحريفهم لكتاب ال ،يقول سبحانه } :وَ َيقُولُونَ عَلَى اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ
{ إنهم يعرفون أن ما يقولونه هو الكذب ،والكذب كما عرفنا هو أن تكون النسبة الكلمية غير
مطابقة للواقع ،فالنسب في الحداث تأتي على ثلث حالت:
نسبة واقعة.
نسبة يفكر فيها وهي نسبة ذهنية.
نسبة ينطق بها.
فعندما نعرف إنسانا اسمه محمد ،وهو مجتهد بالفعل فهذه نسبة واقعة وإذا خطر ببالك أن تخبر
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صديقا لك باجتهاد محمد فهذا الخاطر نسبة ذهنية.
وساعة تنطق بهذا الخبر لصديق لك صارت النسبة كلمية .والصدق هو أن تكون النسبة الكلمية
لها واقع متسق معها كأن يقول " :محمد مجتهد " ويكون هناك بالفعل من اسمه محمد وهو مجتهد
بالفعل ،وبهذا تكون أنت الناطق بخبر اجتهاد محمدٍ إنسانا صادقا ،أما إن لم يكن هناك من اسمه
محمد ومجتهد فالنسبة الكلمية ل تتفق مع النسبة الواقعية ،لذلك يصير الخبر كاذبا .والعلماء
يفرقون بين الصدق والكذب بهذا المعيار .فالصدق :هو مطابقة الكلم للواقع ،والكذب :هو عدم
مطابقة الكلم للواقع.
وحاول بعض من الذين يحبون التشكيك أن يقفوا عند سورة المنافقين التي يقول فيها الحق {:إِذَا
شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ
شهَدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ ُه وَاللّهُ َي ْ
جَآ َءكَ ا ْلمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَ ْ
َلكَاذِبُونَ }[المنافقون.]1 :
لقد قال المنافقون :نشهد إنك لرسول ال ،وسيدنا محمد صلى ال عليه وسلم هو رسول من عند
ال بالفعل ،والحق سبحانه يقول } :وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنكَ لَرَسُولُهُ { فهل علمهم كعلم ال؟ ل ،لن ال
شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ { ،فكيف يصفهم الحق بأنهم كاذبون مع أنهم
سبحانه قال } :وَاللّهُ يَ ْ
شهدوا بما شهد هو به؟
إن الحق ل يكذبهم في أن محمدا رسول ال فهذه قضية صادقة ،ولكنه سبحانه قد كذبهم في قضية
شهَدُ { تعني أن يوافق الكلم المنطوق ما يعتقدونه في
ش َهدُ { ،لن قولهم } :نَ ْ
قالوها وهي } :نَ ْ
ش َهدُ { هو قول ل يتفق مع ما في قلوبهم ،ولذلك صاروا كذابين ،فلسان كل
قلوبهم ،وقولهم } :نَ ْ
منهم ل يوافق ما في قلبه.
إذن فقوله الحق } :وَ َيقُولُونَ عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ { ،أي إنهم يقولون كلما ليس له نسبة
خارجية تطابقه ،وهم يعلمون أنه كذب ،حتى ل نقول :إنهم نطقوا بذلك غفلة ،لقد تعمدوا الكذب،
وهم يعرفون أنهم يقولون الكذب .والدقة تقتضي أننا يجب أن نفرق بين صدق الخبر ،وصدق
المخبر .صدق الخبر هو أن يطابق الواقع لكن أحيانا يكون المخبر صادقا ،والخبر في ذاته كذب،
كأن يقول واحد " :إن فلنا يستذكر طول الليل " لنه شاهد حجرة فلن مضاءة وأنه يفتح كتابا،
بينما يكون هذا الفلن غارقا في قراءة رواية ما ،إن المخبر الصادق في هذه الحالة ،لكن الخبر
كاذب.
ولكن في مجال الية نحن نجد أنهم كاذبون عن عمد ،فللسان هو وسيلة بيان ما في النفس:إن
الكلم لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه } :مَا كَانَ
حكْ َم وَالنّ ُب ّوةَ{ ...
لِبَشَرٍ أَن ُيؤْتِيهُ اللّهُ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ُ
()469 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكْ َم وَالنّ ُب ّوةَ ثُمّ َيقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللّهِ
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ ُيؤْتِيَهُ اللّهُ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ُ
ب وَ ِبمَا كُنْتُمْ تَدْ ُرسُونَ ()79
وََلكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ ِبمَا كُنْتُمْ ُتعَّلمُونَ ا ْلكِتَا َ
ونحن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى حين ينزل منهجه ،فهو ينزله في كتاب ،ويقتضي ذلك أن
يصطفي سبحانه إنسانا للرسالة ،أي أن الرسول يجيء بمنهج ويطبقه على نفسه ويبلغه للناس،
الرسول مصطفى من ال ويختلف في مهمته عن النبي ،فالنبي أيضا مصطفى ليطبق المنهج،
وهكذا حتى ل يسمع الناس المنهج ككلم فقط ولكن يرونه تطبيقا أيضا ،إذن فالرسول واسطة
تبليغية ونموذج سلوكي والنبي ليس واسطة تبليغية ،بل هو نموذج سلوكي فقط.
إن الحق سبحانه وتعالى يرسل النبي ويرسل الرسول ،ولذلك تأتي اليةَ {:ومَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ مِن
حكِمُ اللّهُ
رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ ِإلّ إِذَا َتمَنّىا أَ ْلقَى الشّ ْيطَانُ فِي ُأمْنِيّ ِتهِ فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ ُثمّ ُي ْ
حكِيمٌ }[الحج.]52 :
آيَاتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
هكذا نعرف أن الرسول والنبي كليهما مرسل من عند ال ،الرسول مرسل للبلغ والسوة ،والنبي
مرسل للسوة فقط ،لن هناك بعضا من الزمنة يكون المنهج موجودا ،ولكن حمل النفس على
المنهج ،هو المفتقد ،ومثال ذلك عصرنا الحاضر ان المنهج موجود وكلنا نعلم ما الحلل وما
الحرام ،لكن خيبة هذا الزمان تأتي من ناحية عدم حمل أنفسنا على المنهج ،لذلك فنحن نحتاج إلى
أسوة سلوكية ،هكذا عرفنا الكتاب ،والنبوة ،فما هو الحكم إذن؟
لقد جاء الحق بكلمة " :الحكم " هنا ليدلنا على أنه ليس من الضروري أن توجد الحكمة اليمانية
في الرسول أو النبي فقط ،بل قد تكون الحكمة من نصيب إنسان من الرعية اليمانية ،وتكون
القضية اليمانية ناضجة في ذهنه ،فيقولها لن الحكمة تقتضي هذا .ألم يذكر ال لنا وصية لقمان
لبنه؟ إن وصية لقمان لبنه هي المنهج الديني ،وعلى ذلك فمن الممكن أن يأتي إنسان دون
رسالة أو نبوة ،ولكن المنهج اليماني ينقدح في ذهنه ،فيعظ به ويطبقه ،وهذا إيذان من ال على
أن المنهج يمكن لي عقل حين يستقبله أن يقتنع به ،فيعمل به ويبلغه.
ولبد لنا أن نؤكد أن من يهبه ال الحكمة في الدعوة لمنهج ال وتطبيق هذا المنهج ،لن يضيف
للمنهج شيئا ،وبحكم صدقة مع ال فهو لن يدعي أنه مبعوث من ال للناس ،إنه يكتفي بالدعوة ل
وبأن ،يكون أسوة حسنة.
لكن لماذا جاءت هذه الية؟ لقد جاءت هذه الية بعد جدال نصارى نجران مع رسول ال صلى
ال عليه وسلم في المدينة ،وأثناء الجدال انضمت إليهم جماعة من اليهود ،وسألوا رسول ال
صلى ال عليه وسلم:
-بماذا تؤمن وتأمر؟ فأبلغهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بأوامر المنهج ونواهيه ،وأصول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العبادة ،ولن تلك الجماعة كانوا من أهل الكتاب ،بعضهم من نصارى نجران والبعض الخر من
يهود المدينة ،وكانوا يزيفون أوامر تعبدية ليست من عند ال ،ويريدون من الناس طاعة هذه
الوامر ،لذلك لم يفطنوا إلى الفارق بين منهج رسول ال صلى ال عليه السلم وأوامره ،وبين ما
زيفوه هم من أوامر ،فمحمد صلى ال عليه وسلم يطلب من الناس عبادة ال على ضوء المنهج
الذي أنزله عليه الحق سبحانه ،أما هم فيطلبون طاعة الناس في أوامر من تزييفهم.
والطاعة -كما نعلم -هي ل وحده في أصول كل الديان ،فإذا ما جاء إنسان بأمر ليس من ال،
وطلب من الناس أن يطيعوه فيه ،فهذا معناه أن ذلك النسان يطلب أن يعبده الناس -والعياذ بال
-لن طاعة البشر في غير أوامر ال هي شرك بال .ولهذا تشابهت المواقف على هذا البعض
من أهل الكتاب ،وظنوا أن الرسول صلى ال عليه وسلم يطلب منهم طاعتهم لوامره هو ،كما
كانوا يطلبون من الناس بعد تحريفهم للمنهج وقالوا :أتريد أن نعبدك ونتخذك إلها؟
إنهم لم يفطنوا إلى الفارق بين الرسول المين على منهج ال ،وبين رؤسائهم الذين خالفوا الحكام
واستبدلوها بغيرها ،فالرسول صلى ال عليه وسلم لم يطلب منهم طاعته لذاته هو ،ولكنه قد طلب
منهم الطاعة للمنهج الذي جاء به رسول وقدوة ،واستنكر رسول ال صلى ال عليه وسلم ما
قالوه.
وأنزل ال سبحانه قوله الحق:
حكْمَ وَالنّ ُب ّوةَ ُثمّ َيقُولَ لِلنّاسِ كُونُواْ عِبَادا لّي مِن دُونِ اللّهِ
ب وَالْ ُ
} مَا كَانَ لِ َبشَرٍ أَن ُيؤْتِيهُ اللّهُ ا ْلكِتَا َ
{ [آل عمران]79 :
لقد بلغت بهم الغفلة والشرك أنهم ظنوا أن ال لم يختر رسول أمينا على المنهج ،وظنوا بال ظن
السوء ،أو أنهم ظنوا أن الرسول سيحرف المنهج كما حرفوه هم ،فتحولوا عن عبادة ال إلى عبادة
حكْ َم وَالنّ ُب ّوةَ
من بعثه ال رسول ،ولذلك جاء القول الفصل } مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيؤْتِيهُ اللّهُ ا ْلكِتَابَ وَالْ ُ
ثُمّ َيقُولَ لِلنّاسِ كُونُواْ عِبَادا لّي مِن دُونِ اللّهِ {.
وقد ينصرف المعنى أيضا إلى أن بعض صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم كانوا ُيجِلّونَه
-صلى ال عليه وسلم -وكل مؤمن مطلوب منه أن يُجل رسول ال صلى ال عليه وسلم وأن
يعظمه ،ومن فرط حب بعض الصحابة لرسول ال صلى ال عليه وسلم قالوا له :أنسلم عليك كما
يسلم بعضنا على بعض ،أل نسجد لك؟
إن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يطلب السجود له من أحد ،والحق سبحانه هو الذي كلف عباده
ضكُمْ َبعْضا قَدْ َيعَْلمُ اللّهُ
جعَلُواْ دُعَآءَ الرّسُولِ بَيْ َنكُمْ َكدُعَآءِ َب ْع ِ
المؤمنين بتكريم رسوله فقال {:لّ تَ ْ
عذَابٌ أَلِيمٌ }
الّذِينَ يَ َتسَلّلُونَ مِنكُمْ ِلوَاذا فَلْيَحْذَرِ الّذِينَ ُيخَاِلفُونَ عَنْ َأمْ ِرهِ أَن ُتصِي َبهُمْ فِتْنَةٌ َأوْ ُيصِي َبهُمْ َ
[النور.]63 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن المطلوب هو التعظيم لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،ل أن نعطي له أشياء ل تكون إل ل.
إن تعظيم المسلمين لرسول ال وتكريمهم له هو أن نجعل دعاءه مختلفا عن دعاء بعضنا بعضا.
والحق في هذه الية التي نحن في مجال الخواطر عنها وحولها يقول } :وَلَـاكِن كُونُواْ رَبّانِيّينَ
ِبمَا كُنتُمْ ُتعَّلمُونَ ا ْلكِتَابَ وَ ِبمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ {.
إن " لكن " هنا للستدراك ،مثلما قلنا من قبل :إن " بلى " تنقض القضية التي قبلها وتثبت بعدها
قضية مخالفة لها .إن الحق يستدرك هنا لنفهم أنه ليس لحد من البشر أن يقول " :كونوا عبادا لي
" بعد أن أعطاه ال الكتاب والحكم والنبوة ،والقضية التي يتم الستدراك من أجلها وإثباتها هي} :
كُونُواْ رَبّانِيّينَ { وكلمة " رباني " ،وكلمة " رب " ،وكلمة " ربيون " ،وكلمة " ربان " ،وكل
المادة المكونة من " الراء " و " الباء " تدل على التربية ،والولية ،وتعهد المربي ،وتدور حول
هذا المعنى .أليس ربان السفينة هو الذي يقود السفينة؟
وكلمة " الرب " توضح المتولي للتربية ،إذن فما معنى كلمة " رباني "؟ إنك إذا أردت أن تنسب
إلى " رب " تقول " :ربّي " .وإذا أردنا المبالغة في النسبة نضيف لها ألفا ونونا فنقول " :رباني "
ولذلك نجد في التعبيرات المعاصرة من يريدون أن ينسبوا أمرا إلى العلم فيقولون " :علماني "
وفي ذلك مبالغة في النسبة إلى العلم .والفرق بين " علمي " و " علماني " هو أن العلماني يزعم
لنفسه أن كل أموره تمشي على العلم المادي ،ونجد أن في " علماني " ألفا ونونا زائدين لتأكيد
النسبة إلى العلم.
وقد يقول قائل :ولماذا نؤكد النتساب إلى ال بكلمة " رباني "؟
ونقول :لن الكلمة مأخوذة من كلمة رب ،وتؤدي إلى معان :منها أن كل ما عنده من حصيلة
البلغ ل بد أن يكون صادرا ومنسوبا إلى الرب؛ لنه لم يأت بشيء من عنده ،أي أنه يأخذ من
ال ول يأخذ من أحد آخر أبدا؛ فهو رباني الخذ.
وتؤدي الكلمة إلى معنى آخر :إنه حين يقول ويتكلم فإنه يكون متصفا بخلق أنزله رب يربي
الناس ليبلغوا الغاية المقصودة منهم ،فهو عندما ينقل ما عنده للناس يكون مربيا ،ويدبر المر
للفلح والصلح.
ب وَ ِبمَا كُنْتُمْ َتدْرُسُونَ { إن العلم هو تلقي النص
يقول الحق -سبحانه ِ } :-بمَا كُنتُمْ ُتعَّلمُونَ ا ْلكِتَا َ
المنهجي .والدراسة هي البحث الفكري في النص المنهجي.
لذلك فنحن في الريف نقول " :ندرس القمح " أي أننا ندرس القمح بألة حادة كالنورج حتى تنفصل
حبوب القمح عن " التبن " وتكون نتيجة الدراس هي استخلص النافع.
.إذن ففيه فرق بين " تعلمون " أي تعلمون غيركم المنهج الصادر من ال وذلك خاضع لتلقي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النص ،وبين } مَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ { أي تعملون أفكاركم في الفهم عن النص.
إن الفهم عن النص يحتاج إلى مدارسة ،ومعنى المدارسة هو أخذ وعطاء ،ويقال " :دارسه " أي
أن واحد قد قام بتبادل التدريس مع آخر ،ويقال أيضا " :تدارسنا " أي أنني قلت ما عندي وأنت قد
قلت ما عندك حتى يمكن أن نستخلص ونستنبط الحكم الذي يوجد في النص.
وقد يأتي النص محكما ،وقد يأتي النص محتمل لكثر من معنى.
وما دمت قد تعلمت ،فل بد أنك تعرفت على النصوص المحكمة للمنهج .وما دمت قد تدارست،
فل بد أنك قد فهمت من النصوص المحتملة حين مدارستك لهل الذكر حُسْن استقبال المنهج؛
لذلك يجب أن تكون ربانيا في المرين معا.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانهَ } :ولَ يَ ْأمُ َركُمْ أَن تَتّخِذُواْ ا ْلمَلَ ِئكَ َة وَالنّبِيّيْنَ أَرْبَابا{ ...
()470 /
سِلمُونَ ()80
وَلَا يَ ْأمُ َركُمْ أَنْ تَتّخِذُوا ا ْلمَلَا ِئكَ َة وَالنّبِيّينَ أَرْبَابًا أَيَ ْأمُ ُركُمْ بِا ْل ُكفْرِ َبعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُ ْ
أي أنه ليس لبشر آتاه ال الكتاب والحكم والنبوة أن يأمر الناس باتخاذ الملئكة والنبيين أربابا .إن
من اختصه ال بعلم و كتاب ونبوة ل يمكن أن يقول :اعبدوني ،أو اعبدوا الملئكة ،أو اعبدوا
النبياء.
لماذا؟ ويجيب الحق سبحانه { :أَيَ ْأمُ ُركُم بِا ْل ُكفْرِ َب ْعدَ إِذْ أَنْ ُتمْ مّسِْلمُونَ }.
وقوله الحقَ { :ب ْعدَ إِذْ أَنْتُمْ مّسِْلمُونَ } تدل على أن واقعة القضية وما معها كانت مع مسلمين كأنهم
عندما جاءوا وأرادوا أن يعظموا رسول ال صلى ال عليه وسلم وقالوا :نحن نريد أن نعطيك
وضعا في التعظيم أكثر من أي كائن ونريد أن نسجد لكَ .ف َوضّح النبي صلى ال عليه وسلم لهم:
أنّ السجود ل يكون إل ل.
إذن فالذين تكلموا مسلمون ،وكانوا يقصدون بذلك تعظيم الرسول صلى ال عليه وسلم ،ولو أن
رسول ال وافقهم لكان معنى ذلك انه يخرجهم عن السلم ،ول يتصور أن يصدر هذا عن سيدنا
وحبيبنا المصطفى صلى ال عليه وسلم أو عن غيره من النبياء عليهم السلم.
ح ْكمَةٍ} ...
خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَابٍ وَ ِ
والحق سبحانه يقول { :وَإِذْ أَ َ
()471 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ح ْكمَةٍ ثُمّ جَا َءكُمْ رَسُولٌ ُمصَدّقٌ ِلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ
وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ َلمَا آَتَيْ ُت ُكمْ مِنْ كِتَابٍ َو ِ
شهَدُوا وَأَنَا َم َعكُمْ مِنَ
بِ ِه وَلَتَ ْنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْتُمْ وَأَخَذْ ُتمْ عَلَى ذَِلكُمْ ِإصْرِي قَالُوا َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ
الشّا ِهدِينَ ()81
هذه الية تجعلنا نتعرف على أسباب بعث الحق لموكب الرسل ،ونعرف جميعا أن المنهج الول
قد أنزله ال على آدم عليه السلم متضمنا كل ما يجعل الحياة تسير إلى انسجام ،وبلّغ آدم أولده
هذا المنهج كما علمهم أمور حياتهم ،تماما مثلما يعلم الب أبناءه ما يخدم أمور حياتهم ،كما يقوم
بإبلغ البناء مطلوب الدين ،والبناء يبلغون أبناءهم ،وتتواصل البلغ من جيل إلى جيل كي
يكتمل وصول المنهج للذرية ،ولكن مع توالي الزمن وتتابعه نجد أن بعضا من مطلوبات الدين يتم
نسيانها.
إن هذا دليل على أن الناس قد غفلت عن المنهج وهكذا نرى أن الغفلة عن المنهج إنما تتم على
مراحل ،فبعد بلغ المنهج نجد إنسانا يغفل عن جزئية ،ما في هذا المنهج ،وتنبهه نفسه وتلومه
على تركه لتلك الجزئية ،ونسمي صاحب هذا الموقف بصاحب النفس اللوامة ،إنه يفعل السيئة
لكن نفسه تعود إلى اليقظة لمنهج ال؛ لنه يتمتع بوجود خلية المناعة اليمانية فيه ،وهناك إنسان
آخر يستمرئ المخالفة للمنهج وتلح عليه نفسه بالمخالفة؛ إنه صاحب النفس المارة بالسوء،
وتتوالى به دواعي ارتكاب السيئات ،ومثل هذا النسان يحتاج إلى غيره من خارج نفسه ليلفته إلى
الخير.
وماذا يحدث للمجتمع إذا صار افراده جميعا من أصحاب النفس المارة بالسوء؟
إن معنى ذلك أن الفساد قد طم ،ول بد من مجيء رسول؛ لن مراد الحق سبحانه هو هداية
الناس ،لقد خلقنا سبحانه وله كل صفات الكمال ،ولم يضف خلقُنا إليه شيئا .وها هو ذا الحديث
القدسي الذي رواه أبو ذر رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم فيما روى عن
ال تبارك وتعالى أنه قال " :يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي ،وجعلته بينكم محرما فل
تظالموا ،ياعبادي ،كلكم ضال إل من هديته فاستهدوني أهدكم ،يا عبادي ،كلكم جائع إل من
أطعمته ،فاستطعموني أطعمكم ،يا عبادي ،كلكم عار ،إل من كسوته ،فاستكسوني أكسكم ،يا
عبادي ،إنكم تخطئون بالليل والنهار ،وأنا أغفر الذنوب جميعا ،فاستغفروني أغفر لكم ،يا عبادي
إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ،ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني ،يا عبادي لو أن أولكم وآخركم
وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ،ما زاد ذلك في ملكي شيئا ،يا عبادي ،لم أن
أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا،
يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ،قاموا إلى صعيد واحد ،فسألوني فأعطيت كل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنسان مسألته ،ما نقص ذلك مما عندي إل كما ينقص ال ِمخْيط إذا أدخل البحر ،يا عبادي ،إنما هي
أعمالكم أحصيها لكم ،ثم أوفيكم إياه ،فمن وجد خيرا فليحمد ال ،ومن وجد غير ذلك فل يلومن إل
نفسه ".
إن ال سبحانه وتعالى قد خلقنا وهو من الزل إلى البد ،في تمام صفات الكمال ولم يضف له هذا
ط ِعمُونِ * إِنّ اللّهَ ُهوَ الرّزّاقُ ذُو
ق َومَآ أُرِيدُ أَن ُي ْ
الخلق شيئا ،وهو القائل {:مَآ أُرِيدُ مِ ْنهُم مّن رّ ْز ٍ
ا ْل ُقوّةِ ا ْلمَتِينُ }[الذاريات.]58-57 :
إذن فعندما يشرع لنا الحق أمرا فهو يشرعه لمصلحتنا؛ إنه سبحانه يحب لصنعته أن تظفر بسعادة
المنهج؛ لذلك أنزل المنهج " بافعل ول تفعل " وحين يقول المنهج " :افعل ول تفعل " فهو ل يريد
أن يحدد حرية الحركة على الخلق ال بما يحميهم ،إنه يحدد حرية هنا ليحمي حرية هناك .فعندما
حرم ال السرقة -على سبيل المثال -فالمر شامل لكل البشر ،فل يسرق أحدا أحدا.
إن الحق سبحانه حين منع ي َد واحدٍ من السرقة ،كان في ذلك منع لمليين اليدي أن تسرق من
هذا النسان ،وفي هذا حماية لكل البشر من أن يسرق إنسان إنسانا آخر ،وفي ذلك كسب لكل
إنسان ،فساعة تأخذ التشريع ل تأخذه على أنه مطلوب منك ،ولكن خذه على أنه مطلوب منك
ومطلوب لك أيضا.
ومثال آخر ،لقد حرم المنهج على العبد المؤمن أن يمد عينيه إلى محارم غيره ،ولم يكن هذا
التحريم لعبد واحد ،إنما لكل إنسان مؤمن ،وبذلك ل تمتد أي عين إلى محارم هذا العبد ،لقد جاء
المر لك بغض البصر عن محارم غيرك وأنت واحد ،وكففنا من أجلك مليين البصار كيل تمتد
إلى محارمك.
إذن فكل عبد مؤمن يكسب حياة مطمئنة من وجود التشريع ،وكل التشريعات إنما جاءت لصالحنا
جميعا ،ولذلك كان الحق رحيما بنا لن َر ْكبَ الرسل قد تواصل واستمر في الكون منذ آدم ،وإلى
محمد صلى ال عليه وسلم ،والمنهج الذي جاء به كل هؤلء الرسل ل تناقض فيه أبدا ،لن في
هذا المنهج مصلحة للخلق ،لذلك فل يمكن أن يكون موكب رسول قد أتى ،ليناقض موكب رسول
آخر.
لكن ما الذي يأتي بالتناقض بين الديان والمشرع واحد؟ وكل الناس عيال له؟
إننا نبرئ الرسل من التناقض ،وإن حاول البعض أن يصوروا المر كذلك فلنعلم أن أتباع الرسل
هم الذين يريدون لنفسهم سلطة زمنية يتحكمون بها في الدنيا ،فالذين كانت لهم سلطة زمنية في
دين كاليهودية أو النصرانية فعلوا ذلك.
وعندما جاءت النصرانية على اليهودية قال أحبار اليهود :نحن ل نريد النصرانية لماذا؟ لن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السلطة الزمنية كانت في أيديهم ،ولو أن هؤلء الحبار ظلوا باقين على ما أنزله ال عليهم من
منهج لقَبّلُوا يدي أي رسول قادم شاكرين له مق َدمَة ومجيئه وقالوا له :ساعدنا على أن نعمق فهمنا
لمنهج ال.
.إذن فالخلف ل يحدث إل حين توجد أهواء لها سلطات زمنية ،وموكب الرسالت من يوم أن
خلق ال النسان هو منهج متساند ل متعاند.
وحينما يأتي رسول ليجد أناسا غير مؤمنين بإله فالمشكلة تكون سهلة ،لنه سيلفتهم إلى إله واحد،
وبالمنهج الذي يريده ال ،لكن المشكلة تكون كبيرة مع الجماعة التي لها رسول وهم منسوبون إلى
السماء فإذا ما جاء رسول من ال فهو يجيء وهؤلء التباع قد أخذوا من ادعائهم بالنتساب
لرسالة رسول سابق سلطة زمنية كما حدث مع اليهود والنصارى ،فتعصبوا للدين الذي كانوا عليه
متناسين أن كبارهم قد حرفوا المنهج لحساب السلطة الزمنية.
وقد استمر موكب الرسل إلى الخلق ليحمي ال الخلق من سيادة النحراف واصطفى ال أمة محمد
صلى ال عليه وسلم؛ لن ال قد ضمن بقاء الخير في هذه المة ،فإذا رأيت أناسا بالغوا في
اللحاد فثق أن هناك أناسا زادهم ال في المدد حتى يحدث التوازن؛ لن الحق هو القائل {:وَلْ َتكُن
ف وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }[آل
مّ ْنكُمْ ُأمّةٌ َيدْعُونَ إِلَى الْخَيْ ِر وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
عمران.]104 :
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ
وفي موضع آخر من القرآن الكريم يقول الحق سبحانه {:كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ
ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وََلوْ آمَنَ أَ ْهلُ ا ْلكِتَابِ َلكَانَ خَيْرا ّلهُمْ مّ ْنهُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ
بِا ْل َمعْرُو ِ
سقُونَ }[آل عمران.]110 :
وََأكْثَرُهُمُ ا ْلفَا ِ
إذن فإن امتنع الوازع النفسي في النفس اللوامة عند فرد من أمة محمد صلى ال عليه وسلم
فسوف يأتي أناس مسلمون ينبهونه إلى المنهج ،والحق سبحانه وتعالى ل يعصم الناس من أن
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ
ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
يخطئوا فهو القائل {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
ق وَ َتوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر.]3-1 :
حّصوْاْ بِالْ َ
وَ َتوَا َ
ت بكلمة " وصوا " وذلك لنفهم أن التوصية أمر متبادل
إن الحق جاء بكلمة " وتواصوا " ،ولم يأ ِ
بين الجميع ،فساعة يوجد إنسان في لحظة ضعف أمام المنهج توجد لحظة قوة عند غيره فيوصيه.
وترد هذه المسألة أيضا إلى الموصى ،فقد تأتي له لحظة ضعف أمام المنهج؛ فيجد من يوصيه
وهكذا نرى أنه ل يوجد أناس مخصوصون ليوصوا ،وآخرون مهمتهم تلقى التوصية ،إنما المر
متبادل بينهم ،وهذا هو التكافل اليماني ،والنسان قد يضعف في مسألة من المسائل فيأتي أخ
مؤمن يقول له :ابتعد عن هذا الضعف ،إن هذه المسألة تحدث بالتناوب لمقاومة لحظات الغيار
في النفس البشرية؛ لن لحظات الغيار ل تجعل النسان يثبت على حال ،فإذا ما رأينا إنسانا قد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضعف أمام التزام ما فعلينا أن نتواصى بالحق ونتواصى بالصبر ،وأنت أيضا حين تضعف ستجد
ن يوصيك.
من أخوتك اليمانية مَ ْ
هذا هو الحال في أمة محمد صلى ال عليه وسلم ،أما المم السابقة عليها فقد كانوا ل يتناهون عن
منكر فعلوه ،ولذلك كان ل بد أن تتدخل السماء وتأتي برسول جديد ومعه معجزة جديدة تلفت
العقول لفتا قسريا إلى أن هناك أشياء تأتي بها المعجزة ،وهي خرق ناموس الكون ،وفي ذلك لفت
من ال للناس إلى مناطق القدرة.
وأخذ ال الميثاق على النبياء بأن يبلغ كل نبي قومه هذا البلغ ،انتظروا أن ترسل إليكم السماء
رسل ،وساعة يجيء الرسول المبلغ عن ال منهجه فكونوا معه ،وأيدوه.
كان الرسل عليهم جميعا السلم مأمورين أن يضعوا في المنهج .وصلبه أن السماء حينما تتدخل
وتأتي برسول جديد فل بد أن يتبعه أقوامهم ،وأل يتعصبوا ضد الرسول القادم ،بل يسلمون معه
ويرحبون به؛ لن الرسول إنما يجيء ليعاون الناس على المنهج الصحيح ،لكن التباع الذين
يعشقون السلطة الزمنية تعمدوا التحريف ،ومن أجل أن يحمي الحقّ خلقه من هذا المرض أنزل
الميثاق الذي أخذه على النبيين ،فقال:
ح ْكمَةٍ ُثمّ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ
ب وَ ِ
خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَا ٍ
} وَإِذْ أَ َ
بِ ِه وَلَتَنصُرُنّهُ { [آل عمران]81 :
قد يقول قائل :إن هذا القول يصلح عندما يأتي رسول معاصر لرسول مثلما عاصر شعيب سيدنا
موسى عليه السلم ،وكما عاصر لوط سيدنا إبراهيم عليه السلم ،ونقول :هذا يحدث -أيضا -
وإن لم تتعاصر الرسل ،فالحق سبحانه قد أراد لكل رسول أن يعطي لقومه البلغ الواضح ،وإن
لم يتعاصر الرسولن فل بد أن يعطي الرسول مناعة ضد التعصب ،فما داموا قد آمنوا بالرسول
واتبعوه فعليهم حسنَ استقبال الرسول القادم من بعد رسولهم ،وكان على كل رسول أن يبلغ قومه:
كونوا في انتظار أن تتدخل السماء في أي وقت ،فإذا تدخلت السماء في أي وقت من الوقات،
وجاءت برسول مصدق لما معكم فإياكم أن تقفوا منه موقف المضارّة ،وإياكم أن تقفوا منه موقف
خذَ اللّهُ مِيثَاقَ
العداوة ،بل عليكم أن " تنصروه " وهذا قول واضح وجلى ول لبس فيه } .وَِإذْ أَ َ
ح ْكمَةٍ ثُمّ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ {
النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَابٍ وَ ِ
ونقول في شرح معنىَ } :رسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ {.
إن الدين يأتي بقضايا متفق عليها؛ لن العقائد واحدة ،والخبار واحدة ،والقصص واحد ،لكن الذي
يختلف هو الحكم التشريعي الذي قد يناسب زمنا ول يناسب زمنا آخر ،فإذا جاء الرسول بكتاب
مصدق لما معكم في المور الدائرة في منهج العقائد ،أو منهج القصص فل بد لكم أن تصدقوه.
لكن اليهود لم يفعلوا ذلك؛ لن الرسول جاء ليعيد هداية الجماعة التي آمنت بالرسل والتي تؤمن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بإله ،وكان مجيء محمد صلى ال عليه وسلم بالمنهج الواضح العقيدة والخبار الصحيحة غير
المحرفة والقصص التي تدعم المنهج كما جاء بالتشريع المناسب وكان مجيء النبي الخاتم مزلزل
لمن استمرءوا السلطة الزمنية ،فمنهم من أصر على اتباع رسولهم فقط وبالمنهج الذي تم تحريفه
ورفضوا اتباع الرسول الجديد ،ومنهم جماعة أخرى آمنت ،بالرسول صلى ال عليه وسلم ،وكانت
هناك جماعة ثالثة تؤمن برسول آخر ،والخيبة تأتي نتيجة للتعصب ،ولذلك كانت دعوة السلم
هي لتصفية العقائد ،ودعوة لكل متبع لي رسالة سابقة أن يدرس ويناقش ،هل الدين الخاتم قد
جاء بما يختلف عن الديان السابقة في العقائد؟ أو جاء مصدقا لها؟
لقد جاء الدين الخاتم مصدقا لما سبقه في العقائد والخبار والقصص وإن اختلف في التشريعات
التي تناسب زمنا ول تناسب زمنا آخر ،فكأن الحق سبحانه وتعالى أراد أن يعصم البشرية من
العصبية الهوجاء ،والعصبية العمياء التي تنشأ من اتباع رسول لتقف سدا حائل أمام رسول آخر؛
فال حين أرسل كل رسول قد أعطاه الخبار والحقائق وأنه سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي
أرسله بأن يكون على استعداد هو والمؤمنون معه لتصديق كل رسول يأتي معاصرا ومصدقا لما
معهم ،وأن يؤمنوا به ،وأن يبلغ كل رسول أمته بضرورة هذا اليمان.
لماذا؟ لن الحق سبحانه وتعالى يريد من الركب اليماني المتمثل في مواكب الرسل أل يكون
بعضهم لبعض عدوّا ،بل عليهم أن يواجهوا أعداء قضية الدين كلها .فالذي يجعل اللحاد متفشيا
في هذا العصر هو أن المنسوبين إلى الديان السماوية مختلفون ،وربما كانت العداوة بينهم وبين
بعضهم أقوى من العداوة بينهم وبين الملحدين والمنكرين ل ،وهذا الختلف يعطي المجال
للملحدين فيقولون :لو كانت هذه الديان حقا ل تفقوا وما اختلفوا ،فما معنى أن يقول أتباع كل
رسول إنهم يتبعون رسول قادما من السماء؟
إن الملحدين يجدون من اختلف أتباع الديانات السماوية فرصة ليبذروا في الناس بذور اللحاد،
ول يجدون تكتل ول قوة إيمانية لمن يؤمن بالسماء أو بمنهج السماء لكن الحق سبحانه يقول} :
وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ { وهذا يعني أنه سبحانه قد أخذ الميثاق على كل نبي ساعة أرسله أنه
قد آتاه الكتاب والحكمة ،وإنه إذا جاءكم رسول مصدق لهذا الكتاب وتلك الحكمة فعليكم اليمان
به ،ول يكفي إعلن اليمان فقط ،بل ل بد أن يكون النبي ومن معه في نصرة الرسول الجديد
نقول :ولو عمل أتباع كل نبيّ بهذا العهد والميثاق لما كان لهؤلء الملحدين حجة ويضيف
شهَدُواْ { والقرار سيد الدلة
خذْتُمْ عَلَىا ذاِلكُمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ
سبحانه } :قَالَ أََأقْرَرْ ُت ْم وَأَ َ
كما يقولون؛ والصر هو العهد الشديد ،ولذلك يقال " :آصره المودة " أي الرابطة الشديدة
المعقودة .قال الموكب اليماني للنبياء موجهين إقرارهم ل تعالى } َأقْرَرْنَا { ،فقال الحق
شهَدُواْ { .والشهادة دائما تقتضي شاهدا ومشهودا عليه ومشهودا به.
سبحانه } :فَا ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شهَدُواْ { ،
وما دام الحق سبحانه هو الذي يقول للنبيين الذين أخذوا منه العهد والميثاق الحق } :فَا ْ
إذن فهم في موقف الشاهد ،وما المشهود عليه؟ وما المشهود به؟ هل يشهدون على أنفسهم؟
أو يشهد كل نبي على النبياء الخرين؟
أو يشهد أنه قد بلغ أمته هذا القرار اللهي؟
إن الرسول يشهد على أمته ،وأن النبياء يشهد بعضهم لبعض.
إذن قد يكون الشاهد نبيا ،والمشهود له نبي آخر ،والمشهود به أن يؤمنوا بالرسول القادم
وينصروه.
وقد يكون الشاهد النبي ،والمشهود عليه هي أمته بأنه قد بلغها ضرورة اليمان بالرسول القادم
بمنهج السماء؛ لن المة ما دامت قد آمنت برسول فعليهم مؤازرة هذا الرسول ،ومؤازرة مَنْ
يأتي من بعده ،وذلك حتى ل يتبدد ركب اليمان ؤمام باطل اللحاد:
شهَدُو ْا وَأَنَاْ َم َعكُمْ
خذْتُمْ عَلَىا ذاِلكُمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ
} لَ ُت ْؤمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْ ُت ْم وَأَ َ
مّنَ الشّا ِهدِينَ { [آل عمران]81 :
ولنرتب الشهادات التي وردت في هذه الية الكريمة :النبياء يشهد بعضهم على بعض ،أو النبياء
يشهدون على أممهم ،ثم شهادة ال على النبياء.
وما دام المر قد جاء بهذا التوثيق فعلينا أن ننبه أنه إذا ما وجدنا دينا سابقا يتعصب أمام دين
لحق ،بعد أن يأتي هذا الدين بالمعجزة الدالة على صدق بلغ ذلك الرسول عن ال فلنعلم أنهم
خانوا هذه القضية .وسبب ذلك يرجع إلى أن ال يريد أن يحتفظ للدعوة إلى اليمان ،بانسجام تام،
فل يتعصب رسول لنفسه ول لقوميته ول لبيئته ،ول يتعصب أهل رسول لملتهم أو نحلتهم؛ لنهم
جميعا مبلغون عن إله واحد لمنهج واحد ،فيجب أن يظل المنهج مترابطا فل يتعصب كل قوم
لنبيهم أو دينهم ،وهذا ليكون موكب الرسالت موكبا متلحما متساندا متعاضدا ،فل حجة من بعد
ذلك لنبي ،ول لتابع نبي أن يصادم دعوة أي رسول يأتي ،ما دام مصدقا لما بين يديه.
لقد أعلمنا الحق أنه قد عرض شهادة النبياء على بعضهم ،وشهادة النبياء على أممهم ،وشهادة
ال سبحانه على الجميع ،وذلك أوثق العهود وآكدها .ولذلك يزداد موكب اليمان تآزرا وتلحما،
فل يأتي مؤمن برسالة من السماء ليصادم مؤمنا آخر برسالة من السماء ..ولندع المصادمة لمن
ل يؤمنون برسالة السماء ،وحين يتكاتف المؤمنون برسالة السماء يستطيعون الوقوف أمام هؤلء
سقُونَ {
الملحدة ،وبعد هذا البيان الواضح يقول الحقَ } :فمَنْ َتوَلّىا َبعْدَ ذاِلكَ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ
()472 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سقُونَ ()82
َفمَنْ َتوَلّى َبعْدَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ
معنى " تولى " هي مقابل " أقبل " .و " أقبل " تعني أنه جاء بوجه عليك .و " تولى " أعرض كما
نقول نحن في تعبيراتنا الشائعة " :أعطاني ظهره " .ومعنى هذا أنه لم يأبه لي ،ولم يقبل علي.
إذن فالمراد مِنْ أَخْذ العهدِ أن ُيقْبَل الناسُ على ذلك الدين ،فالذي يُعرض ويعطي اليمان الجديد
سقُونَ } بعد ماذا؟ إنه
ظهره يتوعده ال ويصفه بقولهَ { :فمَنْ َتوَلّىا َبعْدَ ذاِلكَ فَُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْلفَا ِ
التولي بعد أخذ العهد والميثاق على النبيين ،وشهادة المم بعضها على بعضها ،وشهادة ال على
الجميع ،إذن فل عذر لحد .فمن أعطى ظهره للنبي الجديد ،فماذا يكون وعيد ال له؟
سقُونَ } أي أن الوعيد هو أن ال يحاسبه حساب
إن الحق يصفهم بقوله { :فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ
الفاسقين ،والفسق -كما نعلم -هو الخروج عن منهج الطاعة .والمعاني -كما تعرف -أخذت
وضعها من المحسوسات .لن الصل في الوعي البشرى هو الشيء المحس أول ،ثم تأتي
المعنويات لتأخذ من ألفاظ المحسوسات .والفسق في أصل اللغة هو خروج الرطبة عن قشرتها؛
فالبلح حين يرطب ،يكون حجم كل ثمرة قد تناقص عن قشرتها .وحينما يتناقص الحجم الطبيعي
عن القشرة تصبح القشرة فضفاضة عليه ،وتصبح أي حركة عليه هي فرصة لنفلت الرطبة من
قشرتها.
ويقال " :فسقت الرطبة " أي خرجت عن قشرتها .وأَخَذَ الدينُ هذا التعبير وجعله وصفا لمن يخرج
عن منهج ال ،فكأن منهج ال يحيط بالنسان في كل تصرفاته ،فإذا ما خرج النسان عن منهج
ال ،كان مثل الرطبة التي خرجت عن قشرتها.
ونحن أمام فسق من نوع أكبر ،فهناك فسق صغير ،وهناك فسق كبير .وهنا نسأل أيكون الفسق
هنا مجرد خروج عن منهج طاعة الرسول؟ لكن هذا الخروج يوصف به كل عاصٍ ،أي أن
صاحبه مؤمن بمنهج وفسق جزئيا ،إننا نقول عن كل عاصٍ " :إنه فسق " أي أنه مؤمن بمنهج
وخرج عن جزئية من هذا المنهج ،أما الفسق الذي يتحدث عنه الحق هنا فهو فسق القمة؛ لنه
فسق عن ركب اليمان كله ،فإذا كان ال قد أخذ العهد ،وشهد النبياء على أممهم ،وشهدت المم
بعضها على بعض ،وشهد ال على الجميع ،أبعد ذلك تكون هناك فرصة لن يتولى النسان
ويعرض؟
ثم لماذا يتولى ويعرض؟ إنه يفعل ذلك لنه يريد منهجا غير هذا المنهج الذي أنزله ال ،فلو كان
قد اقتنع بمنهج ال لقبل على هذا المنهج ،أما الذي لم يقتنع فإنه يعرض عن المنهج ويطلب منهجا
غيره فأي منهج تريد يا من ل ترضى هذه الشهادة ول هذا التوثيق؟ خصوصا وأنت تعلم أنه ل
يوجد منهج صحيح إل هذا المنهج ،فليس هناك إله آخر يرسل مناهج أخرى.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا نعرف أنه ل يأتي منهج غير منهج ال ،إل منهج من البشر لبعضهم بعضا ،ولنا أن نقول
لمن يتبع منهجا غير منهج ال :من الذي جعل إنسانا أولى بأن يتبعه إنسان؟ إن التابع ل بد أن
يبحث عمن يتبعه ،ول بد أن يكون الذي يتبعه أعلى منه ،لكن أن يتبع إنسان إنسانا آخر في منهج
من عنده ،فهذا ل يليق ،وهو فسق عن منهج ال؛ لن المساوي ل يتبع مساويا له أبدا ،ومن فضل
ال سبحانه أنه جعل المنهج من عنده للناس جميعا حتى ل يتبع إنسان إنسانا آخر .لماذا؟ حتى ل
يكون هوى إنسان مسيطرا على مقدرات إنسان آخر ،والحق سبحانه ل هوى له .إن كل إنسان
يجب أن يكون هواه تابعا ل الذي خلق كل البشر.
وما دام ليس هناك إله آخر فما المنهج الذي يرتضيه النسان لنفسه؟
إن المنهج الذي يرتضيه النسان لنفسه لو لم يتبع منهج ال هو منهج من وضع البشر ،والمنهج
الذي يضعه البشر ينبع دائما من الهوى ،وما دامت الهواء قد وجدت ،فكل مشرّع من البشر له
سمَاوَاتُ
حقّ أَ ْهوَآءَهُمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
هوى ،وهذا يؤدي إلى فساد الكون .قال تعالى {:وََلوِ اتّبَعَ الْ َ
ض َومَن فِيهِنّ َبلْ أَتَيْنَاهُمْ ِب ِذكْرِهِمْ َف ُهمْ عَن ِذكْرِ ِهمْ ّمعْ ِرضُونَ }[المؤمنون.]71 :
وَالَرْ ُ
فإذا كانوا ل يرضون منهج ال ،فأي فسق هم فيه؟ إنه فسق عظيم؛ لن ال قد أخذ عليهم العهد
وعلى أنبيائهم ووثق هذا العهد ،أفغير ال يبغون؟ نعم ،إنهم يبغون غير ال ومن هو ذلك الغير؟
أهو إله آخر؟ ل ،فليس مع ال إله آخر ،بل هم قد جعلوا الخلق مقابل الخالق ،ولذلك يقول الحق
طوْعا َوكَرْها وَإِلَيْهِ
ت وَالَرْضِ َ
سمَاوَا ِ
ن وَلَهُ َأسْلَمَ مَن فِي ال ّ
سبحانه وتعالىَ } :أ َفغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَ ْبغُو َ
جعُونَ {
يُرْ َ
()473 /
جعُونَ ()83
طوْعًا َوكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ َ
ن وَلَهُ أَسَْلمَ مَنْ فِي ال ّ
َأ َفغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَ ْبغُو َ
إنهم ما داموا غير مؤمنين برسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي أرسله ال نبيا ورسول
فإن ذلك يكشف رغبتهم في أنهم يريدون منهجا غير منهج ال ،وليس أمامهم إذن إل مناهج البشر
النابعة من الهواء ،والتي تقود حتما إلى الضلل ،إن الحق سبحانه وتعالى يريد لخلقه أن يكونوا
منطقيين مع أنفسهم ،إنه الحق سبحانه وتعالى قد أوضح لنا في منهجه ،وقال لنا هذا المنهج :أنتم
مستخلفون في الكون ،وأنتم أيها الخلفاء في الرض سادة هذا الكون ،سادة يخدمكم الكون كله،
وانظروا إلى أجناس الوجود تجدوها في خدمتكم ،الحيوان أقل منكم بالفكر .والنبات أقل من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحيوان بالحس .والجماد أقل من النبات.
إذن فأجناس الكون من حيوان ونبات وجماد ترضخ لرادتك أيها النسان ،فالنبات يخدم الحيوان
والحيوان يخدمك أيها النسان ،والجماد يخدم الجميع ،والعناصر التي نأخذها نحن البشر من
الجماد يستفيد منها أيضا النبات والحيوان .إذن فكل جنس في الوجود تراه بعينيك إنما يخدم
الجناس التي تعلوه.
والجماد يخدم النبات.
والجماد والنبات يخدمان الحيوان.
والجماد والنبات والحيوان في خدمة النسان وأنت أيها النسان تخدم من؟ كان من واجب عقلك
أيها النسان أن تفكر فيمن ترتبط به ارتباطا يناسب سيادتك على الجناس الخرى كان ل بد أن
تبحث عمن اعطاك السيادة على الجناس الخرى.
هل أنت أيها النسان قد سخرت هذه الجناس بقدرتك وقوتك؟
ل؛ فلست تملك قدرة ذاتية تتيح لك ذلك؟ أما كان يجب عليك أن تفكر ما هي القوة التي سخرت
لك ما ل تقدر عليه ،فخدمتك حين ل توجد لك قدرة ،وخدمتك وأنت نائم تغط في نوم عميق؟ أما
كان يجب أن تفكر هذا الفكر؟ إنك أيها النسان يجب أن تكون منطقيا مع نفسك ،وأن تبحث لك
عن سيد يناسب سيادتك على غيرك .والكون ل يوجد فيه سيد عليك؛ لن الكون محس ،فإن
جاءك من يحدثك بأن غيبا هو الله يطلب أن تكون في خدمته فيجب أن تقول " :إن هذا كلمي
منطقي بالنسبة لوضعي في الكون " وبعد ذلك انظر إلى الكون ،فأنت في الكون لست وحدك بل
هناك أجناس أخرى ،وكل جنس من الجناس له قانونه وله مهمته ،للحيوان مهمة ،وللنبات مهمة،
وللجماد مهمة .فهل وجدت جنسا من الجناس تمرد على مهمته؟ ل.
إن الحصان مثل ،تستخدمه كمطية عليها وسادة من حرير وجلد ولها لجام من فضة لتركبه ،وتجد
هذه المطية في يوم آخر تحمل سماد الرض من روث الحيوان وما تأبت ،لقد أدت الخدمة لك
راكبا ،وأدت الخدمة لك ناقل ،وما تمردت عليك أبدا .كل الجناس -إذن -تؤدي مهمتها كما
ينبغي ،فاستقام المر فيها ،وما دام المر قد استقام فيها ،فبأي شيء استقام؟ إن ال هو الذي خلقها
ذللها ،قال لها " :كوني في خدمة النسان مؤمنا كان أو كافرا " وفي هذا المر عدالة الربوبية ،فل
تتأخر أو تشذ عن حركتها في خدمة النسان.
أرأى أحدكم الشمس مرة قالت :لم يعد الخلق يعجبونني ،ولن أشرق عليهم وسأحتجب اليوم؟!
أتمرد الهواء وقال :ل ،إن الخلق لم تعد تستحق تنفس الهواء ،لذلك لن أمكنهم من النتفاع بي.
أرأينا المطر امتنع؟ هل استنبت النسان أرضا صالحة للزراعة واستعصت عليه؟ ل ..فكل شيء
في الوجود يؤدي مهمته تسخيرا وتذليل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك يقول الحق {:وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُ ْم َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ * وََلهُمْ فِيهَا مَنَافِ ُع َومَشَا ِربُ َأفَلَ
شكُرُونَ }[يس.]73-72 :
يَ ْ
والحق سبحانه وتعالى يطلق بعضا من الحيوان فل يذلل ،ول يستأنس ،وذلك حتى تعلم أيها
النسان أنك لم تستأنس الجمل بقدرتك فإن كانت لك قدرة مطلقة على الكون فاستأنس بعض
ثعابين هذا العالم أو استأنس السد .وأنت أيها النسان ترى في هذا الكون بعضا من الحيوانات
والمخلوقات شاردة مثل الثعابين والحيوانات المتوحشة .بغير استئناس ليدلنا الحق على أن هذا
الذي يخدمك لو لم يذللـه ال لك لما استطعت أنت بقدرتك أن تذللـه ،إنه تذليل وتسخير
وخضوع لهذه المخلوقات منحه ال تعالى لك أيها النسان تفضل منه -سبحانه -مع عجزك
وضعفك.
ولم نجد شيئا نافعا قد عصى النسان في الكون ،لن كل الخلق مسخر من ال لخدمة النسان
كافرا كان أو مؤمنا ،وهذا هو عطاء الربوبية ،لن عطاء الربوبية يشمل الخلق جميعا ،فالخالق
الكرم هو رب الناس كلهم ويتولى تربيتهم جميعا ،ولذلك تستجيب الجناس من غير النسان
للنسان سواء أكان مؤمنا أم كافرا .فإن أحسن الكافر استخدام السباب فإن السباب تعطيه ول
تعطي المؤمن الذي ل يستخدم السباب ،أو ل يُحسن استخدامها فهذا هو عطاء الربوبية،
والربوبية للجميع .أما عطاء اللوهية فهو " افعل ول تفعل " وهو عطاء للمؤمنين فقط.
فإذا كانت هذه هي صورة الكون وهو يؤدي مهمته بل شذوذ فيه ،ومنسجم في ذاته انسحاما عجيبا
فلنا أن نسأل " من أين جاء الخلل في الكون؟ " إن الخلل قد جاء منك أيها النسان .ولهذا فنحن ل
نجد فسادا في الكون إل وللنسان مدخل فيه ،أما مال مدخل للنسان فيه فل فساد فيه أبدا.
أرأيت أحدا قد اشتكى من أن الهواء قصر؟ ل.
لماذا لن أحدا ل دخل له بمسألة الهواء هذه أبدا ،صحيح أننا نتدخل في الهواء بتلويثه بالعادم
والفضلت ،وصحيح أيضا أن الحق يٌكرم الخلق باكتشافات قد تصلح من هذا الفساد إذن ،فحين
يتدخل النسان فإن الشيء قد يفسد.
لكن هل معنى ذلك أل نتدخل؟ هل نقف من الكون مكتوفي اليدي؟ ل ،بل يجب أن نتدخل في
الكون ،ولكن بمنهج ال.
إنك إن تدخلت في الكون بمنهج ال ،فكل شيء يسير الكون الذي ل منهج له إل الخضوع
والتسخير ،فكما أدت الشمس مهمتها والجماد مهمته ،والحيوان مهمته ،وأنت أيها النسان مطلوب
منك أن تؤدي مهمتك ،وهي أن تطيع ال ،تلك الطاعة التي تتلخص مطلوباته منك في " :افعل كذا
ول تفعل كذا " فإن انتظمت مع المنهج بـ " افعل " و " ل تفعل " تكن قد انسجمت مع الكون.
إن ال سبحانه يزيّل هذه القضية ويختمها باستفهام تنقطع وتنفطر له قلوب المؤمنين:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعُونَ { [آل
طوْعا َوكَرْها وَإِلَيْهِ يُ ْر َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َ
} َأ َفغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَ ْبغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ال ّ
عمران]83 :
إن كل شيء في السماوات وفي الرض قد أسلم ل طوعا أو كرها .وإذا ما تساءلنا ،وما معنى "
طوعا؟ " فالجابة هي طاعة التسخير ،كما قالت السماوات والرض في النص القرآني الحكيم{:
طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }
سمَآ ِء وَ ِهيَ ُدخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ
ثُمّ اسْ َتوَىا ِإلَى ال ّ
[فصلت.]11 :
فكل ما ل تكليف له جاء طائعا مسخرا ،وما معنى " :كرها "؟ إن بعضا من العلماء قد قال :إن "
طوعا " تشمل أجناس الملئكة ،والجماد ،والنبات ،والحيوان ،فكل منهم يؤدي مهمته بخضوع ول
يعترض أحد منهم ول يملك أحدهم قدرة على العصيان ،وأما عن " كرها " فقد فهم بعض العلماء
أنهم الناس الذين يخدمون الناس بالقوة كالعبيد مثل ،ولهؤلء نقول :ل يصح ول يستقيم أن نعطي
خصوم السلم فرصة ليقولوا إن السلم قد أكره أحدا من البشر أن يخدم أحدا كرها؛ لن الحق
سبحانه قال {:لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ َفمَنْ َي ْكفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ ْي ْؤمِن بِاللّهِ َفقَدِ
سمِيعٌ عَلِيمٌ }[البقرة.]256 :
ل ان ِفصَامَ َلهَا وَاللّهُ َ
سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُ ْثقَىا َ
اسْ َتمْ َ
فما دام ال لم يكره أحدا على اليمان به فكيف يكره إنسانا ليخدم إنسانا آخر؟! ولهذا فإننا يجب أن
نفهم كرها على وضعها الحقيقي ،والحق سبحانه أبلغنا أن هذا الكون كله مسخر له ،لنه سبحانه
هو الذي خلقه ول إله غيره وهذه مسألة مسلم بها ،فالكون كله ل ،وهو المدبر والقاهر له ،قال
ضهُمْ
ق وََلعَلَ َب ْع ُ
الحق {:مَا اتّخَذَ اللّهُ مِن وَلَدٍ َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذا لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَ َ
صفُونَ }[المؤمنون.]91 :
عمّا َي ِ
عَلَىا َب ْعضٍ سُبْحَانَ اللّهِ َ
و مادام هو الواحد وهو الخالق فلن يتمرد أحد على مراده ،وكان يجب أن يفهم النسان مهمته
على أنه هو الوحيد الذي كلفه ال؛ لن بقية الجناس ل اختيار لها وهي غير مكلفة كما كلف ال
النسان بـ " افعل " و " ل تفعل " إذن فالتكليف فرع الختيار؛ فالمنهج يقول لك " :افعل كذا ول
تفعل كذا " لن الذي وضعه يعلم أنه قد خلقك صالحا لن تفعل ما يأمرك به ،وصالحا لن تفعل
ما ل يأمرك به.
إن اليد -مثل -مخلوقة لتتحرك حسب إرادة صاحبها ،بدليل أن الرادة إن شُلت وانقطع الخيط
الموصل للرادة المرة إلى الجارحة الفاعلة عندئذ يحاول النسان المصاب بذلك -والعياذ بال -
أن يرفع يده فل يستطيع ،فاليد مسخرة لرادة النسان ،وإرادتك أيها النسان عندما تسير في
ضوء منهج ال فإنك توجهها في ضوء " افعل " و " ل تفعل ".
وعندما يقال لك مثل " :ل تضرب بها أحدا " فمعنى ذلك أن اليد صالحة لن تضرب ،وعندما
يقال لك " :خذ بيد العاثر " فيدك قادرة على أن تأخذ بيد العاثر ،فأنت مخلوق على هيئة الطواعية
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من جوارحك لرادتك .ويأتي المنهج ليقول لك " :نفذ الرادة في كذا ول تنفذ الرادة في كذا "..
إذن فالنسان عندما يتبع المنهج فهو يتفق مع الشياء المسخرة تمام التفاق ،ويؤدي كل شيء
على خير أداء ،لكن متى يختلف النسان عن النسجام عندما ل يطبق المنهج ،فيشذ عن الركب
ت َومَن فِي
سمَاوَا ِ
سجُدُ لَهُ مَن فِي ال ّ
في الكون كله ،ولتقرأ قوله سبحانه وتعالى {:أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ
حقّ عَلَيْهِ
س َوكَثِيرٌ َ
ب َوكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ
ل وَالشّجَرُ وَال ّدوَآ ّ
شمْسُ وَالْ َقمَ ُر وَالنّجُومُ وَالْجِبَا ُ
الَ ْرضِ وَال ّ
ب َومَن ُيهِنِ اللّهُ َفمَا َلهُ مِن ّمكْرِمٍ إِنّ اللّهَ َي ْف َعلُ مَا َيشَآءُ }[الحج.]18 :
ا ْلعَذَا ُ
إنها الجناس كلها ساجدة ،الشمس ساجدة ،القمر ساجد ،والنجوم ،والجبال ،كل هذه الجمادات
ساجدة ،وكذلك الشجر والنبات ساجد ل ،والحيوان والدواب ساجدة ل ،وكثير من الناس سجود،
لكن في مقابل هذا الكثير الساجد من البشر ،هناك كثير غير ساجد لذلك حق عليه العذاب ،ولو أن
النسان قد أخذ منهج ال فنفذه لصار كبقية الجناس ،لكن النسان اختلف ،وقال " :أنا سوف آخذ
اختيار تحمل المانة ،لني عالم وعاقل " كما جاء في القول الحق:
حمََلهَا
ش َفقْنَ مِ ْنهَا َو َ
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَا ْلجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَ ْ
علَى ال ّ
لمَانَةَ َ
{ إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
جهُولً }[الحزاب.]72 :
الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
فلو أخذ النسان منهج ال في " افعل " و " ل تفعل " ،لنسجم النسان مع الوجود كله وحين
ينسجم النسان مع الوجود كله فلن تأتي منه مخالفة أبدا كما ل تأتي مخالفة في الوجود من غير
النسان ،وعند ذلك يصبح الكون مثاليا في النسجام .ونحن نعرف أن الطموحات العلمية حين
تعمل وتُشغل العقل في أمر ما فإنها تريد الخير ،ولكنها تعلم شيئا ،ويغيب عنها شيء آخر ،ولو
أخذوا عن ال العليم بكل شيء لصارت الدنيا إلى انسجامها.
إن المخترعين الذين صمموا المحركات التي تتحرك بسائل البنزين قاموا بتسهيل الحركة على
النسانية ،ولكن العادم والمخلفات الناتجة من البنزين صنعت ضررا بالكون ،ودليل ذلك ان
العلماء الن يبحثون عن أساليب لمقاومة تلوث البيئة .وعندما كان الوقود هو الحطب لم يكن
هناك تلوث للبيئة ،لماذا؟ لن كل عنصر كان يؤدي مهمته ،فجزء من احتراق الحطب كان يتحول
إلى كربون ،وجزء آخر يتحول إلى غازاتـ ،وتنصرف كل الشياء إلى مساراتها.
إن هذا يدلنا على أن النسان قد دخل إلى المخترعات المعاصرة بنصف علم .لقد قدّر النسان انه
يريد تخفيف الحركة ،وينقل الثقال ويختصر المسافات ،لكنه لم ينظر إلى البيئة وتلوثها ،فنشأ
عادم يفسد البيئة ،لكن لو كان عند النسان القدرة الشاملة على العلم لكان ساعة اختراع هذه
المحركات قد بحث عن وضع معادلة لتعدل من فساد العادم.
ولننظر إلى عظمة الحق ،إنه يترك للعقل البشري أن يتقدم ،ولكن العقل البشري قاصر وينسى من
الشياء ما ينتج عنه الضرر أخيرا .إن الذين اخترعوا المبيدات الحشرية كانوا يظنون أنهم قاموا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بفتح جديد في الكون ،وتشاء إرادة الحق ان يقوم بتحريم هذه المبيدات القوم أنفسهم الذين
عمَالً
لخْسَرِينَ أَ ْ
اخترعوها؛ لنهم وجدوا منها الضرر ،لذلك يقول الحق سبحانهُ {:قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِا َ
ن صُنْعا * ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ كَفَرُواْ
سعْ ُيهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ َيحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ يُحْسِنُو َ
ضلّ َ
* الّذِينَ َ
عمَاُلهُمْ فَلَ ُنقِيمُ َلهُمْ َي ْومَ ا ْلقِيَامَ ِة وَزْنا }[الكهف.]105-103 :
طتْ أَ ْ
بِآيَاتِ رَ ّبهِ ْم وَِلقَائِهِ فَحَ ِب َ
إنك أن أردت أن تكمل صنعتك فابحث عن الحسن في ضوء منهج ال ،والحق سبحانه يضرب لنا
المثل الواضح .إننا نعرف أن عادم صناعتنا ضار كعادم المصانع والسيارات وغيرها ،لكن عادم
خلق ال في الحيوان نافع ،فالنسان يأخذ روث الحيوان ويصنع منه السماد ليزيد من خصوبة
الرض ،والعجيب أن فضلت الحيوان التي تعطي خصوبة للرض ل نجد فيها شيئا يقزز ،ول
نجد لها الرائحة التي توجد في فضلت النسان ،لماذا؟
لن الحيوان يأكل على قدر حاجته ،إن الحيوان قد يجد أمامه أصنافا كثيرة ،مثل الحشيش اليابس،
وإذا شبع الحيوان امتنع عن الطعام ،ولذلك ل يُخرج فضلت كريهة الرائحة ،لكن النسان ينوع
ويلون ويأكل فوق طاقته ويحث شهيته على النطلق والنفلت ،إن الحيوان ل اختيار له،
ومحكوم بالغريزة ويجد أمامه هذا الذي يؤكل وذلك الذي ل يؤكل فيختار بغريزته المناسب له،
وإذا امتلت البطن ل يأكل؛ لنه محكوم بالغريزة والتسخير المطلق ،لكن النسان يتمتع بالختيار،
فأفسد عليه هذا الختيار وأبعده عن منهج ال وجعله بما لديه من قدرة يتجاوز الكتفاء بحدود
الشبع.
وهكذا نرى بوضوح أن الكون كله أسلم ل طوعا في المسخرات.
وإياك أن تفهم أن هناك إسلما بالقهر والكراه .وبعض العلماء قد فاتهم ذلك ,وهم يعطون
لخصوم السلم حجة السلم حجة فيقولون " :إن دينكم انتشر بإكراه السيف " ولذلك نقول لهم:
ل ،إن أحدا لم يسلم كرها أبدا؛ لن السيف إنما رفع لشيء واحد هو حماية حرية الختيار .إن
السيف قد رُفع ليمنع الكراه ،وليمنع تسلط بعض الناس بقوتهم ليجبروا الناس على عقائدهم فقال
لهم السيف " :قفوا عند حدكم ،ودعوا الناس أحرارا في اختيار ما يعتقدون " ،ودليل ذلك أن البلد
التي فتحها السلم تجد فيها غير المسلمين ،ولو كان المر فتحا بالسيف لما وجدنا ديانات أخرى.
غير السلم ،نجدهم أيضا يتشدقون بذلك ويزيدون " إنكم تفرضون جزية ".
ونقول لهم :أنتم تردون على أنفسكم ،نحن لم نفرض جزية على المؤمن ولكن الكافر تركناه على
كفره ،والجزية يدفعها الكافر ليدافع عنه المؤمنون لو أصاب البلد مكروه.
إذن فكيف نفهم قوله الحق بأن هناك من أسلم كرها؟
نحن نفهمها كالتي :إن النسان هو الذي انقسمت عنده المسائل ،وفيه أمور تدخل في فعله
ومراداته ،وفيه أمور تجدث قهرا عنه ،وتحدث له بل إرادة ول اختيار ،فالنسان يكون مختارا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الفعل الذي يقع منه ،أما الفعل الذي يقع عليه أو فيه فل دخل له فيه بالختيار؛ إن أحدا منا ل
يختار يوم ميلده ،أو يوم وفاته أو يوم إصابته بالمرض ،والنسان الذكي هو الذي يعرف ذلك
ونقول للنسان الذي ل يعرف أو يتجاهل ذلك :أيها النسان دعك من الغباء؛ إن هناك زوايا من
حياتك أنت مجبر فيها على أن تكون مسلما ل كرها إنك تسلم ل دون إرادتك في كثير من المور
التي تقع عليك ،ول تستطيع لها دفعا ،فلماذا تقف في السلم عند زاوية الختيار؟
إن المسخرات كلها مسلمة ل ،والنسان فيما يقع فيه أو عليه من أمور ل يستطيع دفعها .هو
تسليم ل كرها من النسان ،وهكذا نرى أن قيادة التسخير فيما ليس لك دخل فيه أيها النسان هي
مسلمة ل ،مثلك في ذلك مثل كل الكائنات ،أفل يجب عليك أن تسلم بكل زوايا حياتك؟ فلو كان
هناك إنسان كافر بكل ما فيه من أبعاض فعلى هذا الكافر أل يسلم بأي شيء من جوارحه؛ هل
يستطيع أن يمنعها من أن تؤدي عملها؟
ولنر ما سيحدث له ل بد أن يتوقف عن التنفس؛ لن التنفس يحدث رغما عنه ،ل بد أن يوقف
دقات قلبه؛ لنها تدق رغما عنه .وما دام هناك من يستمرئ الكفر فليحاول أن يجعل كل ما فيه
كافرا ،ولن يستطيع؛ بل سيجد أنه يحب أمورا ول تأتي له ،ويكره أمورا وتنزل به ،ولم يفلت أحد
من السلم ل ،لن ال قد اختار لكل إنسان يوم الميلد ويوم الموت ،واختار ال للنسان أن
تجري الحداث فوقه ول يستطيع دفعها ،ويصبح خاضعا رغم أنفه ،لذلك قال الحق } :وَلَهُ َأسْلَمَ
جعُونَ {.
طوْعا َوكَرْها وَإِلَيْهِ يُ ْر َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َ
مَن فِي ال ّ
إذن ولنأخذ " طوعا " لغير النسان ،وللمؤمن الذين نفذ تعاليم المنهج ،ولنأخذ " كرها " في المسائل
التي ل دخل لختيار النسان فيها وتقع عليه وهو يكرهها ،ول يستطيع دفعها ،لن الذي يجريها
عليه هو الخالق الفعال لما يريد ،وما دامت هناك زاوية من حياتك أيها النسان أنت مكره فيها
فلماذا تمردت في المسألة الختيارية؟
كان يجب أن يأخذ الكافر هذه النقطة ويقول للكفر " :ل " ،ويتجه إلى اليمان؛ لن المؤمن يأخذ
هذه النقطة ويقول :أنا أريد أن أنسجم مع الكون كله حتى ل تطغى ملكة على ملكة ،ول تطغى
إرادة على إرادة أخرى ،وهذه رحمة من ال بالخلق.
وحين يسلم النسان منهجه ل فإنه يفعل ما يطلبه المنهج ول يفعل ما يحرمه المنهج ومن يريد أن
يقف في " افعل " و " ل تفعل " ،ونقول له :إذا فعلت ما الذي يستفيده ال منك؟ وإذا لم تفعل ما
الذي يضر ال منك؟
ل شيء ،إن عليك أن تفكر جيدا فالمر إنما يُرَدّ أو يتمرد عليه إن كان للمر فيه مصلحة ،وحيث
إنه ل مصلحة للحق سبحانه وتعالى في مراداته من الخلق إل إصلح الخلق ذاته ،إذن فمنهج
الحق هو لمصلحة النسان ،وأول ما يصاب به من يقف في منهج ال أنه يصبح ضد نفسه ،ول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ينسجم مع الكون ،فإن كان هناك من يريد أل يسلم ،فليجرب نفسه بأل يسلم في المقهورات التي
هو مقهور عليها ،وهذا أمر مستحيل.
ولنقرأ الموقف القرآني بدقة ،لنرى أنه الحق بعد القسم وبعد العهد وبعد الشهاد عليه ،قال لنا} :
جعُونَ { .إن من
طوْعا َوكَرْها وَإِلَيْهِ يُ ْر َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َ
ن وَلَهُ أَسَْلمَ مَن فِي ال ّ
َأ َفغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَ ْبغُو َ
يبغي غير دين ال ليس منطقيا مع نفسه أو مع الكون؛ لن الكون كله ل بما فيه ومن فيه من
السماوات والرض ،وكذلك النسان الذي ارتضى منهج ال ،وأيضا أسلم الكافر ل فيما ليس له
فيه اختيار.
" وأسلم " في هذا السياق القرآني الكريم تعني أنه خضع وسُخر ،وقُهر على أن ينفذ ،ولكن الحق
سبحانه أورد عن السماء والرض قال {:قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت .]11 :إن المألوف أن ترضخ
السماء والرض لمر ال ،وعندما " قالتا أتينا طائعين " فقد كسبت السماء والرض السلم ل،
فإلى ال كل مرجع فالنسان -مؤمنا كان أو كافرا -سيعود إلى ال حتما.
وكلمة " يرجعون " التي تأتي في تذييل الية يمكننا أن نراها في مواقع أخرى من القرآن مرة
تأتي مبنية للمفعول وننطقها " يُرجعون " بمعنى أنهم مقهورون على الرجوع إلى ال ،ونجدها في
جعُونَ { ،أي أنهم يريدون السراع في
مواقع أخرى في القرآن كفعل مبنى للفاعل فننطقها } يُرْ َ
العودة إلى ال ،وفي هذه الية نفهم أن الذين يبغون غير دين ال ل يرغبون أن يعودوا إلى ال
لذلك يتم إرجاعهم بالقهر ،فسبحانه وتعالى يقول:
()474 /
ط َومَا
ق وَ َيعْقُوبَ وَالْأَسْبَا ِ
سمَاعِيلَ وَإِسْحَا َ
ُقلْ َآمَنّا بِاللّهِ َومَا أُنْ ِزلَ عَلَيْنَا َومَا أُنْ ِزلَ عَلَى إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
أُو ِتيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنّبِيّونَ مِنْ رَ ّبهِمْ لَا ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مِ ْنهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ ()84
عندما ننظر إلى هذه الية بخواطرنا فإننا نجد أن الحق يمزج الرسول والمؤمنين به والمرسل
إليهم في اليمان به ،ويتحدث إلى الرسول والمؤمنين كوحدة إيمانية ،إن قول الحق " :قل " هو
خطاب لمفرد هو النبي صلى ال عليه وسلم ،والمقول { :آمَنّا } دليل على انسجام الرسول مع
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المة المؤمنة به ،فكأن المة السلمية قد انصهرت في " قل " ،وكأن الرسول موجود في { آمَنّا
} ،وبذلك يتحقق المتزاج والنسجام بين الرسول وبين المؤمنين به ،ويصير خطاب الحق إليهم
هو خطاب لوحدة إيمانية واحدة ل انفصام فيها.
وقد جاء الحق بهذا السلوب ليوضح لنا أن الرسول لم يأت ليتعالى على أمته ،بل جاء ليحمل
أعْباءَ هذه المة ،ولذلك قلنا من قبل :إن للرسول صلى ال عليه وسلم إيمانين ،لقد آمن بال ،وأمن
للمؤمنين ،وهو صلى ال عليه وسلم سيشفع لنا ،لنه قد أدى مُؤدى يسع أمته كلها ،لقد أتم البلغ
وخضع للتكليف بما يسع أمته كلها ،ولذلك يقول الحقُ { :قلْ آمَنّا } ،كان القياس أن يقول " :قل
آمنت " ،أو أن يقول { :قُولُواْ آمَنّا } .لكن الحق في قرآنه الكريم يضع كل كلمة في موضعها،
فتصبح الكلمة جاذبة لمعناها ،ويصبح كل معنى عاشقا لكلمته ،وقد قال الحق هناُ { :قلْ آمَنّا }
ليتضح لنا أن محمدا رسول ممتزج في أمته ،وأمة السلم في طواعية لرسولها ،والمر يأتي
لرسول ال من الحق سبحانه ،والتنفيذ لهذا المر يكون من الجميع ،وفي هذا إشعار للخصوم أن
الرسول صلى ال عليه وسلم سيكون ذا عصبية إيمانية قوية ،فلو قال " :قل آمنت " لكان معنى
ذلك أن الرسول لن يملك إل إيمانه فقط ،لكن الرسول صلى ال عليه وسلم آمن به قومه ،وكثير
غيرهم وجاء على يديه فتح مكة كما قال الحق {:إِذَا جَآءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النّاسَ
يَ ْدخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجا }[النصر.]2-1 :
وعندما نقرأ قوله الحقُ { :قلْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَآ أُن ِزلَ عَلَيْنَا } فلنا أن نلتفت إلى أن العلماء لهم وقفة
ك َومَآ أُنْ ِزلَ مِن قَبِْلكَ وَبِالخِ َرةِ
في مسألة النزال ،فمرة يقول الحق {:والّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ ِبمَآ أُنْ ِزلَ إِلَ ْي َ
هُمْ يُوقِنُونَ }[البقرة.]4 :
حمَةً
ومرة أخرى يقول الحقَ {:ومَآ أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ ِإلّ لِتُبَيّنَ َلهُمُ الّذِي اخْتََلفُواْ فِي ِه وَهُدًى وَ َر ْ
ّلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }[النحل.]64 :
وهكذا نجد أن " النزال " يأتي مرة متعديا بـ " إلى " ،ويأتي مرة مرة أخرى متعديا " بعلى ".
وقال بعض من العلماء :إن الكلم حينما يكون موجها لرسول ال صلى ال عليه وسلم فالحق
يقول " :أنزل عليك " ،وكأن هؤلء العلماء -دون قصد منهم -يفصلون بين بلغ ال للرسول
عن البلغ إلى أمة الرسول صلى ال عليه وسلم ،ولم يلتفتوا إلى أن الغاية من إنزال المنهج على
الرسول هو هداية المة.
ونحن نقول :إن علينا أل نأخذ المر بسطحية من أسلوب ظهر لنا؛ ذلك أن هناك أسلوبا خفيّا،
وهو أن " إلى " و " على " إنما تفيدان أن المنهج نزل للمة والرسول صلى ال عليه وسلم؛ فمرة
يأتي الحق بالنزول متعديا بـ " إلى " والخطاب موجه للرسول صلى ال عليه وسلم كقوله الحق{:
س ِمعُواْ مَآ أُن ِزلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَى أَعْيُ َنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُواْ مِنَ ا ْلحَقّ َيقُولُونَ رَبّنَآ
وَإِذَا َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ }[المائدة.]83 :
ومرة يأتي الحق بالنزول متعديا بـ " على " والخطاب موجه للرسول صلى ال عليه وسلم كقوله
ح َمةً ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }
الحقَ {:ومَآ أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ ِإلّ لِتُبَيّنَ َل ُهمُ الّذِي اخْتََلفُواْ فِي ِه وَهُدًى وَرَ ْ
[النحل.]64 :
س ِمعْتُمْ
ومرة ثالثة يأتي الحق بالنزال في حديث إلى المؤمنينَ {:وقَدْ نَ ّزلَ عَلَ ْيكُمْ فِي ا ْلكِتَابِ أَنْ ِإذَا َ
آيَاتِ اللّهِ ُي ْكفَرُ ِبهَا وَيُسْ َتهْزَأُ ِبهَا فَلَ َت ْقعُدُواْ َم َعهُمْ حَتّىا يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْ ِرهِ إِ ّنكُمْ إِذا مّثُْلهُمْ إِنّ
جمِيعا }[النساء.]140 :
جهَنّمَ َ
ن وَا ْلكَافِرِينَ فِي َ
اللّهَ جَامِعُ ا ْلمُنَا ِفقِي َ
إنه كتاب منزل من السماء وملحوظ فيه العلو ،والغاية من النزول هو مصلحة المة ،فالتيان بـ
(على) يْفيد العلو ،ولمصلحة المة " ،العلية " هنا لتزيد مقام المنهج بالنسبة للمؤمنين فهو قد نزل
لمصلحتهم .إذن فالنزول يقتضي " علّية " ،وهو من حيث العلو يأتي بـ " على " ،ومن حيث
الغاية يأتي بـ " إلى " ،فهو منهج نزل من الحق العلى ونزل إلى الرسول وعلى الرسول ليبلغه
إلى المؤمنين لمصلحتهم .ولذلك قلنا :إننا إذا رأينا حكما يقيد من حرية الفرد فل يصح أن نفهم أن
ال قد قصد هذا الفرد ليقيد حريته ،إنما جاء مثل هذا القيد لقيد المليين من أجل حرية الفرد ،مثال
ذلك ساعة يحرم المنهج السرقة على النسان ،فهو أمر لكل إنسان من المليين وهو لمصلحة كل
إنسان ،فالقرآن قد نزل لمصلحتك ،ومصلحة المؤمنين جميعا.
سمَاعِيلَ
وعندما نقرأ قوله الحقُ } :قلْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَآ أُن ِزلَ عَلَيْنَا َومَآ أُن ِزلَ عَلَىا إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
ط َومَا أُوتِيَ مُوسَىا وَعِيسَىا وَالنّبِيّونَ مِن رّ ّب ِه ْم لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ َأحَدٍ مّ ْنهُمْ
ق وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَا ِ
وَإِسْحَا َ
وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ { .فهذا القول يوضح أن الرسول صلى ال عليه وسلم إنما جاء بمنهج يضم
صحيح العقائد والقصص والخبار ،وهو يوافق ما جاء في موكب الرسالت من يوم أن خلق ال
الرض وأرسل الرسل .وقد أخذ ال العهد على المم والنبياء من قبل ،بأنه إذا جاء رسول
مصدق لما معهم ليؤمنن به ،وكذلك أخذ ال على رسولنا صلى ال عليه وسلم بأن يؤمن بالرسل
السابقين ،فهو صلى ال عليه وسلم لم يأت ليهدم أديانا ،ولكن ليكمل أديانا ،وهكذا نرى النص
القرآني الجليل:
{ الْ َي ْومَ َأ ْكمَ ْلتُ َل ُكمْ دِي َن ُك ْم وَأَ ْت َممْتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َلكُمُ الِسْلمَ دِينا }[المائدة.]3 :
كأن الديان السابقة بكل ما جاء فيها من صحيح العقائد ،والقصص ،والخبار موجودة في
السلم ،وفوق كل ذلك جاء السلم بشرائع تناسب كل زمان ومكان ،ولذلك قال الرسول صلى
ال عليه وسلم في حديثه الشريف " :إنما مثلى ومثل النبياء قبلي كمثل رجل بني بنيانا فأحسنه
وأجمله وأكمله إل موضع لبنة فجعل الناس يطوفون به ويقولون ما رأينا أحسن من هذا لول
موضع هذه اللبنة فكنت أنا اللبنة ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فزمام كل المر انتهى إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقد أخذ ال العهد على غيره أن
يصدقوه عندما يجيء ،وهو صلى ال عليه وسلم آمن وصدق بمن سبق من الرسل ،ولم يجيء من
بعده شيء يطلب من رسول ال ول من أمته أن يصدقوه ،وقال الحق تذييل لهذه الية الكريمة} :
وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ {.
أي أنه ل يوجد لتباع أي رسول من الرسل السابقين ما يعطيهم سلطة زمنية ،بل المسألة كلها
تبدأ من ال ،وتنتهي إلى ال .وتلك هي القضية النهائية في موكب الرسالت .وما دام السلم هو
ذلك النقياد الذي يختاره النسان لنفسه ليكون منسجما مع نفسه في السلم ل ،ويكّون انسجاما
مع الكون الخر وما يحتويه من حيوان ونبات وجماد وغيرها في أنه أسلم خضوعا ل ،وبذلك
يصبح الكون بما فيه النسان المؤمن المسلم ل كله مسخّرا ل سبحانه وتعالى .وما دام الكون
بالنسان قد صار مسخرا ل فل تضاد في حركة لِتعاند حركة أخرى؛ لن الذي يهيمن هذه الهيمْنة
هو الذي وضع لكل إنسان في مجال حركته في الحياة قانونا يعصمه من أن يصطدم بغيره ،وإذا
كان البشر قد استطاعوا أن يضعوا لنفسهم معايير تمنع التصادم في الحركة ،ذلك التصادم الذي
يؤدي إلى كوارث ومصائب.
مثال ذلك ،للنظر إلى السكك الحديدية ،أل يوجد موظف اسمه " المحولجي "؟ ومعنى هذه الوظيفة
هو أن القائم بها يقوم بتحويل القاطرة القادمة من طريق معين إلى مسار محدد حتى ل تدهم
قاطرة أخرى جاءت من الطريق نفسه .إن ذلك من فعل النسان فيما صنع من قطارات
ومواصلت ،لقد صنع أيضا وسائل تمنع تصادمها ،فما بالنا بالحق -وله المثل العلى -وهو
الذي خلق النسان؟ إنه سبحانه قد وضع المنهج حتى ل تصطدم حركة في الوجود بحركة أخرى.
ولننظر إلى الشياء التي جاءت بقانون التسخير ،والشياء التي دخلت في ظل الختيار .أسمعنا
أن جملين سارا في طريقين متعارضين واصطدم الجمل بجمل؟ لم يحدث ذلك أبدا ،فالجمل يفادي
نفسه وما يحمل من الجمل الخر وما يحمله ،لكننا نسمع عن تصادم سيارة مع سيارة ،ذلك أن
السيارة ل تسير بذاتها بل تسير بقيادة إنسان مختار ،وهو الذي يصدم وهو الذي قد تأتي منه في
غفلته الكوارث.
إذن فتصادم حركة بحركة إنما ينشأ في المور الختيارية ،أو غفلة إنسان عن مهمته ،كغفلة "
المحولجي " عن عمله في تنظيم مرور القطارات ،لكن تصادم حركة في الوجود بحركة أخرى
في الوجود هو أمر مستحيل ،ول يحدث أبدا ،لن المر الذي ما زال في يد المهيمن العلى،
مهيمن الرض والسماء ،وهو ال الذي يسير الكون منسجما ويعرفنا بصفاته فيقول } :اللّ ُه لَ
خ ُذهُ سِنَةٌ وَلَ َنوْمٌ {
حيّ ا ْلقَيّو ُم لَ تَأْ ُ
إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ الْ َ
ومعناه :أني أنا القائم بأسبابكم ومدبر أمركم ول أنام أو تأخذنا سنة أو غفلةاي فناموا أنتم فقد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سخرت الوجود كله من أجلكم.
وما دام المر في السلم هكذا ،والوجود ينسجم مع نفسه ،فلماذا تشذ أنت أيها النسان عن
الوجود؟ ولماذا تشّذُ عن ملكات نفسك؟
لماذا ل تكون منسجما مع الكون؟ إنك إن انسجمت مع نفسك ومع الكون صرت النسان السعيد.
وفي عصرنا الحديث نرى ارتقاء العالم ماديا بصورة عالية ،بحيث يقع الحدث في أمريكا مثل
فنراه على شاشة التلفزيون فورا ،ويركب النسان مركبا صاروخيا إلى الفضاء ولكن هل استراح
العالم؟ ل ،لقد ازداد العالم عناء ،وكأنه يكد ذهنه ويرهق العلماء في معاملهم لبتكار أشياء تعطي
للعالم مزيدا من القلق والضطراب وتتصادم وتتعارض .وبذلك صار الكون ل يفرغ أبدا من
حرب باردة أو ساخنة.
كل ذلك إنما ينشأ من إدارة أمور العالم بأهواء البشر ،فلسنا جميعا مردودون إلى منهج واحد
يأمرنا فنأتمر ،وينهانا فننتهي ،بل كل إنسان يتبع في عمله هواه ،لذلك نرى القلق والضطراب،
ونرى الصرخات تمل الدنيا من أهوال ومصائب ،منها مثل المخدرات هو إنسان غير راضٍ عن
واقع حياته ،فل يريد مواجهة حياته ،إنما يحاول الهرب منها بالدمان ،ونقول لمثل هذا النسان:
ليس هذا حل للمشكلة؛ لن النسان عندما تأتيه مشكلة فهو يحتاج عقل على عقله ليواجه هذه
المشكلة ،وأنت بهذا الدمان إنما ُتضَيّع عقلك ،رغم أنك مطالب بأن تأتي بعقل آخر بجانب عقلك
لتحل مشكلتك ،فالهرب من المشكلة ل يحلها ،إنما الهروب غباء وقلة فطنة فالمشكلة زادت تعقيدا
ونقول للمجتمعات التي تشكو من مثل هذه البليا لو أخذتم شرائعكم من منهج ال لكان ذلك حماية
لكم من مثل تلك الكوارث.
وهكذا نرى أن كل البتكارات تُوجه دائما إلى الشر أول ،فإذا لم يوجد لها ميدان شر فإننا نوجهها
إلى الخير ،ويا ليته خير خالص لوجه ال ،ل ،إنه خير مجنح ومنحرف عن الخير لن الذي ل
يملك هذا اللون من الختراعات كالشعوب النامية والعالم الثالث قد جعله المخترعون بوساطة هذه
الكتشافات والختراعات مستعبدا ومقهورا لهم؛ إنهم جعلوا تقدمهم استعبادا وإذلل لغيرهم وإن
تظاهروا بغير ذلك.
لماذا يحدث كل ذلك؟ لننا لم نكن منطقيين -كما يجب -مع أنفسنا ول مع واقع المور
النهوضية التي نحن فيها فالطموحات العلمية التي ل حد لها ل يصح أن تسبب لنا كل هذا التعب،
بل كان المفروض بعد الوصول إلى تحقيق هذه الطموحات ان نستريح ،ولكن ِلمَ لم يحدث هذا؟
لن زمامنا نحن البشر بيد أهوائنا ،والهواء ليست هي اليد المينة ،إن اليد المينة هي شرع ال
الذي لم يشرع إل لمصلحة من خلق ،وما دام السلم يرسم طريق المان مع الخالق والنفس
والكون الذي نحياه ،بما فيه من الجناس الخرى ،إذن فالدين عند ال هو السلم ،وهذه هي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النتيجة الحتمية لذلك يقول الحق سبحانه } :وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ { ويتبعها الحق سبحانه بقوله} :
َومَن يَبْ َتغِ غَيْ َر الِسْلَمِ دِينا فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِنْهُ{ ...
()475 /
سلَامِ دِينًا فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِنْهُ وَ ُهوَ فِي الَْآخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ()85
َومَنْ يَبْ َتغِ غَيْرَ الْإِ ْ
إن الغاية التي تسعد العالم كله هي دين السلم ،ومن يرد دينا غير ذلك فلن يقبله ال منه .فإن
كان هناك من ل يعجبه تقنين السماء ويقول مندهشا :إن في هذا التقنين قسوة؛ إنك تُقطع يد إنسان
وتشوهه نرد على مثل هذا القائل :إن سيارة تصدم سيارة تشوه عشرات من البشر داخل
السيارتين ،أو قطار يصاب بكارثة فيشوه مئات من البشر.
ونحن عندما نبحث عن عدد اليدي التي تم قطعها في تاريخ السلم كله ،فلن نجدها إل أقل كثيرا
من عدد المشوهين بالحوادث ،وأي ادعاء بالمحافظة على جمال النسان مسألة تثير السخرية؛ لن
تقنين قطع يد السارق استقامت به الحياة ،بينما الحروب الناتجة عن الهوى شوهت وأفنت المئات
واللف ،إن مثل هذا القول سفسطة ،هل معنى تشريع العقوبة أن يحدث الذنب؟ ل ،إن تشريع
العقوبة يعني تحذير النسان من أن يرتكب الذنب.
وعندما نقول لنسان " :إن قتلت نفسا فسيتولى ولي المر قتلك " أليس في ذلك حفاظ على حياته
وحياة الخرين؟ وحين يحافظ التشريع على حياة فرد واحد فهو يحافظ في الوقت نفسه على حياة
كل إنسان ،يقول ال تعالى {:وََلكُمْ فِي ا ْل ِقصَاصِ حَيَاةٌ ياأُولِي الَلْبَابِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ }[البقرة.]179 :
لمِ
وهكذا يصبح هذا التقنين سليما غاية السلمة ،إذن فقول الحق سبحانهَ { :ومَن يَبْتَغِ غَيْ َر الِسْ َ
دِينا فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِنْهُ } يدلنا على أن الذي يشرع تشريعا يناقض ما شرعه ال فكأنه خطأ ال فيما
شرع ،وكأنه قد قال ل :أنا أكثر حنانا على الخلق منك أيها الله؛ لنه قد فاتتك هذه المسألة.
وفي هذا القول فسق عن شرع ال ،وعلى النسان أن يلتزم الدب مع خالقه .وليرد كل شيء إلى
ال المربي ،وحين ترد أيها النسان كل شيء إلى ربك فأنت تستريح وتريح ،اللهم إل أن يكون
لك مصلحة في النحراف .فإن كان لك مصلحة في النحراف فأنت تريد غير ما أراد ال ،أما إذا
أردت مصلحة الناس فقد شرع الحق ما فيه مصلحة كل الناس؛ لذلك قال الحقَ { :ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ
الِسْلَمِ دِينا فَلَنْ ُيقْ َبلَ مِنْهُ وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ }.
وقد يقول قائل في قوله تعالى { :فَلَنْ ُيقْبَلَ مِنْهُ } إن هذه العبارة ل تكفي في منحى اطمئنانا إلى
جزاء العمل الذي أتقرب به إلى ال ،فال قد يقبل وقد ل يقبل فهو -سبحانه -ل أحد يكرهه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على شيء ،ونقول له :إنك ستأتي إلى ربك رضيت أو أبيت فما حاجتك إلى هذا القول؟ لو كنت
تستطيع ،فكن عاقل ول تتمرد على أمر ربك ،ويقول الحق { :وَ ُهوَ فِي الخِ َرةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }.
والخاسر :مأخوذة من " الخسر " ،و " الخسر " هو ذهاب رأس المال وضياعه ،والخرة حياة
ليس بعدها حياة ،ومن الغباء أن يقول قائل " :سوف أتعذب قليل ثم تنتهي المسألة " ل ،إن المسألة
ل تنتهي؛ لن الخرة حياة دائمة ول حياة بعدها .وبعد ذلك يقول الحق سبحانه { :كَ ْيفَ َي ْهدِي اللّهُ
ش ِهدُواْ أَنّ الرّسُولَ حَق} ...
َقوْما َكفَرُواْ َبعْدَ إِيمَا ِنهِ ْم وَ َ
()476 /
إننا نرى هنا السلوب البديع؛ إن الحق سبحانه يدعونا أن نتعجب من قوم كفروا بعد اليمان ،إنهم
لو لم يعلنوا اليمان من قبل لقلنا :إنهم لم يذوقوا حلوة اليمان ،لكن الذي آمن وذاق حلوة
اليمان كيف يقبل على نفسه أن يذهب إلى الكفر؟ إنه التمرد المركب.
وقد يتساءل إنسان قائل :مادام ال لم يهدهم ،فما ذنبهم؟ نقول له :يجب أن تتذكر ما نكرره دائما،
لتتضح القضية في الذهن لنها قضية شائعة وخاصة عند غير الملتزمين ،الذين يقول الواحد منهم:
إن ال لم يرد هدايتي ،فماذا أفعل أنا؟ إن ذلك استدلل لتبرير النحراف ومثل هذا القول ل يصدر
إل من المسرف على نفسه ،ول يأتي هذا القول أبدا من طائع ل ،إن الذي يقول " :إن المعصية
إنما أرادها ال مني ،فما ذنبي؟ " يجب أن يعرف أن الطاعة من ال ،فلماذا لم يقل " :إن الطاعة
من ال فلماذا يثيبنا عليها؟ لماذا تغفل أيها العاصي عن ذكر ثواب الطاعة ،وتقف عند المعصية
وتقول " :إن ال قد كتب على المعصية فلماذا يعذبني؟ " كان يجب أن نقول أيضا " :ما دام قد
كتب علي الطاعة فلماذا يعطيني عليها ثوابا؟ ".
إننا نقول لمن يبرر لنفسه النحراف :إنك تريد أن تأخذ من الطاعة ثوابها ،وتريد أن تهرب من
عقاب المعصية .وأنت تحتاج إلى أن تفهم المر على حقيقته ،لقد قلت من قبل :إن " الهداية " تأتي
بمعنيين " هَدَى " أي دل على الطريق الموصلة للغاية المرجوة ولم يصنع شيئا أكثر من ذلك
والمثال هو إشارات المرور الصماء؛ إن كل إشارة توضح طريقا معينا وتهدي إليه ،وإشارة
أخرى توضح طريقا آخر وتهدي إليه .ول يوجد أحد عند هذه الشارة يأخذ بيد إنسان ويقول له:
أنا سآخذ بيدك وأصلح العربة عندما تقف منك ،أو أركب معك لوصلك إلى غايتك.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن هذه الشارة هي هداية فقط ،إي أنها دللة على الطريق الموصلة إلى الغاية المرجوة وال
سبحانه وتعالى قد هدى الناس جميعا المؤمن منهم والكافر أيضا ،أي دلّهم سبحانه على الطريق
الموصل للغاية .وانقسم الناس بعد ذلك إلى قسمين :قسم قبِل هذا المنهج وارتضاه وسار كما يريد
ال ،وساعة أن راح هذا المؤمن إلى جناب ال وآمن به ،فكأن الحق يقول له :إنك آمنت بي
وبمنهجي ،لذلك ستكون لك جائزة أخرى ،وهي أن أعينك وأخفف عليك المور ،وهذه هي الهداية
الثانية التي يعطيها ال جائزة لمن آمن به وارتضى منهجه وتعني " المعونة " ،إن ال يعطي عبده
المؤمن حلوة الطاعة ،ويجعله مقبل عليها بنشاط.
إذن فالهداية تكون مرة " دللة " وتكون مرة ثانية " معونة " إنني أكرر هذا القول حتى يتضح
المر في أذهاننا جميعا ،ولنذكره دائما ،ونقول :مَن يعين النسان؟ إن الذي يعينه هو من آمن به،
أما من كفر بال ،فل يعينه ال.
وسبق أن قلت مثل -وما زلت أضربه :-إن إنسانا ما يسير في طريق ثم التبس عليه الطريق
الموصل للغاية كالمسافر إلى السكندرية مثل ،وبعد ذلك وجد شرطيا واقفا فسأله :أين الطريق
إلى السكندرية؟
فيشير الشرطي إلى الطريق الموصل إلى السكندرية قائل للسائل :هذا هو الطريق الصحيح إلى
السكندرية.
إن الشرطي هنا قد دل هذا النسان ،لكن عندما يقول السائل للشرطي " :الحمد ل أنني وجدتك هنا
لنك يسرت لي السبيل " فهذا القول يأسر قلب الشرطي ،فيزيد من إرشاداته للسائل ويوضح له
بالتفصيل الدقيق كيف يصل إلى الطريق ،وينبهه إلى أي عقبة قد تعترضه ،وإن زاد السائل في
شكره للشرطي ،فإن ذلك يأسر وجدان الشرطي أكثر ،ويتطوع ليركب مع السائل ليوصله إلى
الطريق ،شارحا له ما يجب أن يتجنبه من عقبات ،وبذلك يكون الشرطي قد قدم كل المعونة لمن
شكره.
لكن لنفترض أن رجل آخر سأل الشرطي عن الطريق ،فكذب الرجل الشرطي ،وفي مثل هذا
الموقف يتجاهل الشرطي مثل هذا الرجل ،وقد ضربت هذا المثل للتقريب ل للتشبيه .إن الحق
يدل أول بهداية الدللة ،وقد هدى ال الناس جميعا ،أي دلهم على المنهج ،فمن ذهب إلى رحابه
وآمن به ،أعطاه ال هداية ثانية ،وهي هداية المعونة والتيسير {.وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
َتقُوَا ُهمْ }[محمد.]17 :
إن الحق يعطيهم حلوة الهداية وهي التقوى ،كأن الحق يقول للعبد المؤمن :ما دمت قد أقبلت عليَّ
باليمان فلك حلوة اليمان ،أما الذي يكفر ،والذي يظلم نفسه بالشرك ،فالحق يمنع عنه هداية
المعونة؛ لنه قد رأى هداية الدللة ولم يؤمن بها .إذن فالستفهام في قوله تعالى } :كَ ْيفَ َيهْدِي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللّهُ َقوْما َكفَرُواْ َب ْعدَ إِيمَا ِنهِمْ { هو تساؤل يراد به النكار والستبعاد ل عن الهداية الولى وهي
هداية الدللة ،ولكنه عن هداية المعونة ،أي :كيف أعين من كفر بي؟
والمقصود بهذا القول هو بعض من أهل الكتاب الذي جاءهم نعت الرسول صلى ال عليه وسلم
في كتبهم حتى إن عبد ال بن سلم وهو منهم ،يقول :لقد عرفت محمدا حين رأيته كمعرفتي
لبني ،ومعرفتي لمحمد أشد ،ومصداق ذلك ما يقوله الحق سبحانه وتعالى {:الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ
لمّيّ الّذِي َيجِدُونَهُ َمكْتُوبا عِن َدهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة وَالِنْجِيلِ يَ ْأمُرُهُم بِا ْل َمعْرُوفِ وَيَ ْنهَا ُهمْ عَنِ
ياُ
النّ ِب ّ
للَ الّتِي كَا َنتْ عَلَ ْيهِمْ
علَ ْيهِمُ ا ْلخَبَآ ِئثَ وَ َيضَعُ عَ ْن ُهمْ ِإصْرَهُ ْم وَالَغْ َ
ت وَيُحَرّمُ َ
حلّ َلهُمُ الطّيّبَا ِ
ا ْلمُ ْنكَ ِر وَيُ ِ
فَالّذِينَ آمَنُواْ ِب ِه وَعَزّرُوهُ وَ َنصَرُوهُ وَاتّ َبعُواْ النّورَ الّذِي أُن ِزلَ َمعَهُ ُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }
[العراف.]157 :
والتعبير القرآني الدقيق لم يقل :يجدون وصفة مكتوبا عندهم في التوراة والنجيل إنما يقول
جدُونَهُ َمكْتُوبا عِندَ ُهمْ فِي ال ّتوْرَاةِ وَالِنْجِيلِ }[العراف.]157 :
الحق {:الّذِي يَ ِ
كأن الذي يقرأ التوراة والنجيل يمكنه أن يرى صورة النبي عليه الصلة والسلم من دقة
الوصف ،لقد عرفته التوراة وعرفه النجيل معرفة مفصلة وشاملة ،مع نطق وقول يؤكد ذلك
وهناك فرق بين أن " تعرف " وبين أن " تقول "؛ فقد يعرف النسان ويكتم ما عرف ،ولكنهم
عرفوا الرسول صلى ال عليه وسلم واعترفوا بذلك ،فقد كانوا من قبل يستفتحون به على الذين
كفروا ،قال الحق سبحانه {:وََلمّا جَآءَ ُهمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ّلمَا َم َعهُ ْم َوكَانُواْ مِن قَ ْبلُ
يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ فََلمّا جَآءَهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة:
.]89
لقد أخذوا الرسول صلى ال عليه وسلم قبل مجيئه نصرة على الكافرين ،فقالوا :سيأتي نبي ونتبعه
ونقتلكم معه قتل عاد وإرم .فماذا فعلوا؟ إن الحق يجيب {:فََلمّا جَآ َءهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ فََلعْنَةُ
علَى ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة.]89 :
اللّهِ َ
إذن هم آمنوا بالرسول صلى ال عليه وسلم من قبل مجيئه ،فلما جاء كفروا به .انظر إلى العدالة
من الحق سبحانه وتعالى ،حين يريد أن يدلهم على موقف الصدق والحق والكرامة اليمانيةُ {.قلْ
شهِيدا بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم َومَنْ عِن َدهُ عِلْمُ ا ْلكِتَابِ }[الرعد.]43 :
َكفَىا بِاللّهِ َ
إن الذين عندهم علم الكتاب هم اليهود والنصارى ،هؤلء يشهدون أن محمدا رسول ال ،وإن
القرآن بعدالته ينصف التوراة والنجيل وهي الكتب التي بين أيديهم } ،كَ ْيفَ َيهْدِي اللّهُ َقوْما َكفَرُواْ
حقّ { لقد آمنوا به رسول من منطوق كتبهم ،ثم أعلنوها حينما
ش ِهدُواْ أَنّ الرّسُولَ َ
َبعْدَ إِيمَا ِنهِ ْم وَ َ
قالوا " :يأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ".
فإذا كانوا قد صنعوا ذلك ،فكيف يهديهم ال؟ إنهم ليس لديهم الستعداد للهداية ،ولم يقبلوا على ال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بشيء من الحب ،لذلك فهو سبحانه ل يعينهم على الهداية ولو أقبلوا على ال لعانهم قال تعالى{:
وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَا َدهُمْ ُهدًى وَآتَا ُهمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد.]17 :
وهؤلء لم يهتدوا ،فلذلك تركهم ال بدون هداية المعونة ،وهذا يوضح لنا معنى القول الحقَ {:ومَن
ُيضِْللِ اللّهُ فَلَن َتجِدَ َلهُ سَبِيلً }[النساء.]88 :
إن الذين لم يهتدوا بهداية الدللة فلم يؤمنوا يضلهم ال أي يتركهم في غيهم وكفرهم ،أي أنه ما
دام هناك من لم يؤمن بال فهل يمسك ال بيده ليهديه هداية المعونة؟ ل؛ لنه إذا لم يؤمن بالصل
وهو هداية الدللة ،فكيف يمنحه ال هداية المعونة؟ وما دام لم يؤمن بال أكان يصدق التيسيرات
التي يمنحها ال له؟ ل .إنه ل يصدقها ،ويجب أن تعلم أن هداية الدللة هداية عامة لكل مخاطب
خطابا تكليفيا ،وهو النسان على إطلقه ،أما هداية المعونة فهي لمن أقبل مؤمنا بال وكأن الحق
يقول له " :أنت آمنت بدللتي فخذ معونتي " أو " أنت أهل لمعونتي " أو " ستجد التيسير في كل
المور " ،أما الذي كفر فل يهديه ال.
.
إن الحق سبحانه ل يعين الكافر؛ لن المعونة تقتضي ابتداء فعلً من المُعان ،والكافر لم يفعل ما
يمكن أن ينال به هذه المعونة ،فهو لم يؤمن ،لذلك يكون القول الفصل } :وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ
سقِينَ { ويكون القول الحق } وَاللّ ُه لَ
ا ْلكَافِرِينَ { ويكون القول الحق } وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ { .إن هؤلء هم الظالمون الذين ارتكبوا الظلم الصيل وهو الشرك بال كما
ي لَ تُشْ ِركْ بِاللّهِ إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان:
ن لبْنِ ِه وَ ُهوَ َيعِظُهُ يابُ َن ّ
قال الحق {:وَإِذْ قَالَ ُل ْقمَا ُ
.]13
والحق عندما يتركهم فإنه يزيدهم ضلل ،ويختم على قلوبهم ،فل يعرفون طريقا إلى اليمان:
ق وَجَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّ ُه لَ َيهْدِي
حّش ِهدُواْ أَنّ الرّسُولَ َ
} كَ ْيفَ َيهْدِي اللّهُ َقوْما َكفَرُواْ َبعْدَ إِيمَا ِنهِ ْم وَ َ
ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ { [آل عمران.]86 :
لقد جاءهم الرسول باليات الدالة على صدق رسالته ،ولكنهم ظلموا أنفسهم الظلم الكبير العظيم،
وهو الشرك بال ،ولكن هل هذه الية قد نزلت في أهل الكتاب الذين كان عندهم نعت لرسول ال
صلى ال عليه وسلم وإشارات وبشارات به؟ أو نزلت من أجل شيء آخر هو أن أناسا آمنوا
برسول ال صلى ال عليه وسلم ثم كفروا به؟
إن القول الحق يتناول الفئتين ،وينطبق عليهم ،سواء أكانوا من أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل من
قبل ولم يؤمنوا برسالة محمد عليه الصلة والسلم ،أم من الذين آمنوا برسالة رسول ال ثم كفروا
به ،كما حدث من بعضهم في عهد الرسول ،مثال ذلك طعمة بن أبيرق ،وابن السلت والحارث
بن سويد ،هؤلء أعلنوا اليمان واتجهوا إلى مكة ومكثوا فيها ،تاب منهم واحد وأخذ له أخوه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضمانا عند رسول ال ،والباقون لم يتوبوا.
إن القول الحق يتناول الفئتين ،وينطبق عليهم جميعا قوله تعالى:
ق وَجَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّ ُه لَ َيهْدِي
حّش ِهدُواْ أَنّ الرّسُولَ َ
} كَ ْيفَ َيهْدِي اللّهُ َقوْما َكفَرُواْ َبعْدَ إِيمَا ِنهِ ْم وَ َ
ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ { [آل عمران]86 :
ويفصل لنا الحق سبحانه جزاء هؤلء بقوله الحكيمُ } :أوْلَـا ِئكَ جَزَآؤُ ُهمْ أَنّ عَلَ ْيهِمْ َلعْنَةَ اللّهِ
ج َمعِينَ {
وَا ْلمَل ِئكَةِ وَالنّاسِ أَ ْ
()477 /
ج َمعِينَ ()87
أُولَ ِئكَ جَزَاؤُهُمْ أَنّ عَلَ ْيهِمْ َلعْ َنةَ اللّهِ وَا ْلمَلَا ِئكَةِ وَالنّاسِ أَ ْ
واللعنة هي الطرد من الرحمة ،وال يعلم كل ملعون منهم ،وما داموا قد طُرِدوا من رحمة ال
فالملئكة وهم المؤمنون بال إيمان المشهد يرددون اللعنة ،والمؤمنون من خلق ال يرددون اللعنة،
وكذلك يلعنهم جميع الناس ،وكيف يلعنهم كل الناس سواء أكانوا مؤمنين أم كفارا؟ كيف يلعنهم
الكافرون؟ إن الكافر عندما يرى إنسانا يرتكب معصية ما فإنه ينزله من نظره ويحتقره وإن لم
يكن مؤمنا.
وهَب أن كافرا وجد إنسانا يخرج على المنهج ويفعل معصية ويرتكب جُرما أل يلعن الكافر مثل
ذلك النسان؟ إنه يلعنه لن الفطرة المركوزة التي فطر ال الناس عليها ترفض ذلك ول ترتضيه.
وهكذا شاء الحق أن يجعلهم ككفار يتلعنون فيما بينهم ،ونجد أن جميع الناس يلعنونهم كذلك؛
لنهم قد خرجوا عن منهج ال بالكفر بعد اليمان ،وجرهم ذلك إلى اقتراف الثام ،وهكذا تصبح
خفّفُ عَ ْنهُمُ
الملعنة من الجميع ،وهم مع ذلك خالدون في اللعنة قال تعالى { :خَالِدِينَ فِيهَا لَ ُي َ
ب َولَ هُمْ يُنظَرُونَ }
ا ْلعَذَا ُ
()478 /
خفّفُ عَ ْنهُمُ ا ْل َعذَابُ } أي أن العذاب يظل دائما أبدا وقد يظن بعض الناس أن الكافر
ومعنى { لَ ُي َ
ما دام سيدخل النار ويحترق فسوف ينتهي أمره .ل إنه يغفل قضية ويذكر قضية ،إنه يتناسى قول
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جتْ جُلُودُهُمْ بَدّلْنَا ُهمْ جُلُودا غَيْرَهَا
س ْوفَ ُنصْلِيهِمْ نَارا كُّلمَا َنضِ َ
الحق {:إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ بِآيَاتِنَا َ
حكِيما }[النساء.]56 :
لِيَذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزا َ
إنهم سيذوقون العذاب بأمر من الحق دائما وأبدا ،وقد يقول بعضهم :إن العلم قد توصل إلى أن
النسان تقل حساسيته لللم الناتج من الضرب بالسوط بعد العشرين سوطا الولى ،وهو بذلك
ينسى أن العذاب في الخرة على نمط آخر ،إن ال يخلق للمعذب إحساسا جديدا ليظل مستشعرا
ب َولَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي أن عذابهم مؤكد ول
خ ّففُ عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَا ُ
دائما العذاب ،قال الحق { :لَ يُ َ
يتركهم الحق ليستريحوا من عذابهم .وبعد ذلك يقول تعالىِ { :إلّ الّذِينَ تَابُواْ مِن َبعْدِ ذاِلكَ
غفُورٌ رّحِيمٌ }
وََأصْلَحُواْ فَإِنّ ال َ
()479 /
والحق سبحانه وتعالى هو الخالق للخلق كلهم ،يحب أن يكونوا على ما يود ويحب؛ لنهم صنعة
ال فهو سبحانه وتعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين
وقد أمر عباده أن يتوبوا إليه توبة نصوحا أي توبة صادقة خالصة ل رجوع فيها هذه التوبة تتسم
بالقلع عن الذنب والندم على ما فات والعزم على عدم العودة للذنب مرة أخرى ورد المظالم
لصحابها إن كانت هناك مظالم.
وقد قال صلى ال عليه وسلم " إن ال يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار
ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ".
وهكذا أوجد الحق تشريع التوبة بهدف إصلح الكون؛ لن ال لو لم يشرع التوبة لمن أذنب فإن
من غفل عن منهج ال ولو مرة واحدة قد يصير في نظر نفسه ضائعا فاسدا مرتكبا لكل
الحماقات ،فكأن ال بتشريع التوبة قد ضمن لصاحب السراف على نفسه في ذنب أن يعود إلى
ال ،كما يرحم المجتمع من شرور إنسان فاسد ،إذن فتشريع التوبة إنما جاء لصالح الكون،
ولصالح النسان لينعم بمحبة ال ،لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
غفُورٌ رّحِيمٌ } [آل عمران.]89 :
ك وََأصْلَحُواْ فَإِنّ ال َ
{ ِإلّ الّذِينَ تَابُواْ مِن َبعْدِ ذاِل َ
فبرغم كفرهم السابق إل أن ال برحمته ل يدخلهم في الوعيد؛ لنهم مطالبون بالتوبة والصلح،
ومعنى كلمة " أصلح " أنه زاد شيئا صالحا على صلحه .والكون ليس فيه شيء فاسد .اللهم إل
ما ينشأ عن فعل اختياري من النسان وعلى التائب أن يزيد الصلح في الكون ،وهكذا نضمن أل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يجيء التائب إلى الشيء فيفسده؛ لن من يريد أن يزيد الصالح صلحا ،لن يفسد الشيء الصالح.
وربما كان هؤلء الذين أسرفوا على أنفسهم في لحظة من لحظات غفلة وعيهم اليماني ساعة
يذكرون الذنب أو الجريرة التي اقترفوها بالنسبة لدينهم ،يحاولون أن يجدّوا ويسارعوا في أمر
صالح حتى يَجْبُر ال كسر معصيتهم السابقة بطاعتهم اللحقة.
ولذلك تجد كثيرا من الناس الذين يتحمسون للصلح وللخير ،هم أناس قد تكون فيهم زاوية من
زوايا السراف على نفوسهم في شيء ،وبعد ذلك يتجهون لعمل الخيرات في مجالت كثيرة جدا،
كأن ال يقول لكل منهم :أنت اختلست من محارمي شيئا وأنا سآخذك إلى حلئلي ،إنه الحق يجعل
من معصية الفرد السابقة سياطا دائمة تلهب ضميره فيتجه إلى الخير ،فيتصدق على الفقراء،
وربما كان أهل الطاعة الرتيبة ليس في حياتهم مثل هذه السياط.
ولكن الذين أسرفوا على أنفسهم هم الذين تلهبهم تلك السياط ،فساعة يرى الواحد منكم إنسانا قد
سخّر منه ما يفعل به الخير؛
أسرف على نفسه فليدع ال له بالهداية ،واعلم تمام العلم أن ال سيُ َ
لن أحدا لن يسرق الكون من خالقه أبدا .وهذا ينطبق على من قال عنهم الِ { :إلّ الّذِينَ تَابُواْ مِن
ك وََأصْلَحُواْ } (وأصلحوا) أي عملوا صلحات كثيرة لن حرارة إسرافهم على نفوسهم
َبعْدِ ذاِل َ
تلهب ظهورهم دائما ،فهم يريدون أن يصنعوا دائما أشياء لحقة تستر انحرافاتهم السابقة وتذهبها.
وبعد ذلك يقول الحق { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َب ْعدَ إِيمَا ِنهِمْ ُثمّ ازْدَادُواْ كُفْرا لّن ُتقْ َبلَ َتوْبَ ُتهُمْ} ...
()480 /
إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َبعْدَ إِيمَا ِن ِهمْ ثُمّ ا ْزدَادُوا ُكفْرًا لَنْ ُتقْ َبلَ َتوْبَ ُتهُ ْم وَأُولَ ِئكَ ُهمُ الضّالّونَ ()90
هذه الية تحدث عن أولئك الذين كفروا بعد إيمانهم ،وازدادوا كفرا ،هؤلء ل تقبل توبتهم وهم
الضالون ،وقد جاءت مقابلة للية السابقة ،أناس تابوا وأناس لم يتوبوا .لكن كيف يزداد الكفر؟ إنه
قد كفر في ذاته ،وبعد ذلك كان عائقا لغيره عن أن يؤمن ،وهو ل يكتفي بخيبته ،بل يحاول أن
ينشر خيبته على الخرين ،وفي ذلك ازدياد في الكفر والعياذ بال ،وهذا القول قد نزل في بعض
من اليهود الذين آمنوا بالبشارات التي تنبأت بمقدم عيسى عليه السلم ،فلما جاء عيسى كفروا به،
ولما جاء محمد ازدادوا كفرا.
لقد كفروا بعيسى أول ،ثم ازدادوا كفرا بمحمد وادعوا انهم أبناء ال وأحباؤه ،وهؤلء ليسوا من
الذين تابوا .أو أنهم أعلنوا التوبة باللسان ،ولم يتوبوا التوبة النصوح " ،والراجع في توبته
كالمستهزئ بربه " .وقانا ال وإياكم هذا المنقلب.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعد ذلك يقول الحق { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َومَاتُو ْا وَهُمْ ُكفّارٌ فَلَن ُيقْ َبلَ مِنْ َأحَ ِدهِم ّملْ ُء الَ ْرضِ ذَهَبا
وََلوِ افْ َتدَىا بِهِ} ...
()481 /
حدِ ِهمْ ِملْءُ الْأَ ْرضِ ذَهَبًا وََلوِ افْ َتدَى بِهِ أُولَ ِئكَ َلهُمْ
إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا َومَاتُوا وَ ُهمْ ُكفّارٌ فَلَنْ ُيقْبَلَ مِنْ أَ َ
عَذَابٌ أَلِي ٌم َومَا َلهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ()91
لقد كفروا ،ولقد يقدر ال لهم أن يتوبوا ،فماتوا على الكفر ،ويريد ال أن يعطينا حكما خاصا
بعملهم في الدنيا،وحكما خاصا بما يتلقونه من عذاب في الخرة ،والحكم الخاص بعملهم في الدنيا
سببه أن لهم اختيارا ،والحكم الخاص بما يتلقونه في الخرة من عقاب لنه ل خيار لهم ،وهنا
للعلماء وقفة ،فهل ملء الرض ذهبا أنهم أنفقوا في حياتهم ملء الرض ذهبا؟ نقول له :ل ينفعك
هذا النفاق في أعمال الخير لن أعمالك حابطة.
هب أن كافرا مات على الكفر وقد أنفق في الخير ملء الرض ذهبا ،نقول له :هذا النفاق ل
ينفع ،مع الخيانة العظمى وهي الكفر ،فما دام غير مؤمن بإله ،فهو قد أنفق هذا المال من أجل
الناس ،وصار منفقا على من ل يقدر على أن يجازيه بالخير في الخرة ،لذلك فليس له عند ال
شيء ،فالذي يعمل عمل ،عليه ان يطلب أجرا ممن عمل له ،فهل كان ال في بال ذلك الكافر؟ ل؛
لنه مات على الكفر ،لذلك لو أنفق ملء الرض ذهبا فلن يقبل منه .لقد صنع ذلك الخير وفي باله
الناس ،والناس يعطونه حقه من الثناء ،سواء كان مخترعا أو محسنا أو غير ذلك ،إنه ينال أجره
من النسانية ،وينطبق عليه قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :وفعلت ليقال وقد قيل ".
كأن ال يقول له :لم أكن في بالك فلماذا تطلب مني أجرا في الخرة ،لم يكن في بالك أن الملك
حدِ
شيْءٌ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ ِللّهِ ا ْلوَا ِ
خفَىا عَلَى اللّهِ مِ ْنهُمْ َ
ن لَ يَ ْ
لي ،قال سبحانهَ {:يوْمَ هُم بَارِزُو َ
ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
وبعض الناس يقول :كيف ل ينال ثواب الخرة من ملئوا الدنيا بالكتشافات والبتكارات وخففوا
بها آلم النسانية؟ ونقول :لقد أعطتهم النسانية وخلدت ذكراهم ،وأقامت لهم التماثيل والمؤلفات
والعياد والجوائز ،لقد عملوا للناس فأعطاهم الناس ،فل بخس في حقوقهم ،ذلك أنهم لم يعملوا
عمَاُلهُمْ
وفي بالهم ال ،وقد صور الحق موقفهم التصوير الرائع فيقول جل شأنه {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
جدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ
ج ْدهُ شَيْئا َووَ َ
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ َلمْ يَ ِ
كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَحْسَ ُبهُ ال ّ
سَرِيعُ الْحِسَابِ }[النور.]39 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنه سراب ناتج عن تخيل الماء في الصحراء يتوهمه السائر العطشان في الصحراء نتيجة
انعكاسات الضوء ،فيظل السائر متجها إلى وهم الماء ،إنه يصنع المل لنفسه ،فإذا جاءه لم يجده
شيئا ،ويفاجأ بوجود ال ،فيندم ويتلقى العذاب ،وكذلك لن يقبل منه ملء الرض ذهبا لو أنفقه في
أي خير في الدنيا ،وبعد ذلك لن يقبل ال منه ملء الرض ذهبا ،لو افتدى به نفسه في الخرة ،إن
كان سيجد ملء الرض ذهبا وعلى فرض أنه قد وجد ملء الرض ذهبا ،فهل يجد من يقبل ذلك
منه؟ ل ،إنّه في الحقيقة لن يجد الذهب؛ لنه في الخرة لم يعد يملك شيئا :يقول الحق:
{ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
لفْتَ َدوْاْ بِهِ مِن سُوءِ ا ْلعَذَابِ
جمِيعا َومِثْلَهُ َمعَ ُه َ
ويقول سبحانه {:وََلوْ أَنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ مَا فِي الَ ْرضِ َ
َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَبَدَا َل ُهمْ مّنَ اللّهِ مَا لَمْ َيكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ }[الزمر.]47 :
عذَابٌ أَلِيمٌ َومَا َل ُهمْ مّن نّاصِرِينَ { أي إن لهؤلء عذابا أليما؛ لن كل حدث من
} ُأوْلَـا ِئكَ َلهُمْ َ
الحداث إنما يأخذ قوته من قوة فاعله ،فإذا كان الحدث التعذيبي منسوبا إلى ال وله مطلق القوة
والقدرة ،لذلك فالعذاب لن يطاق .ولن يجد الظالم من يدرأ عنه هذا العذاب .لنه لن يجد ناصرا
له ،ولن يجد شفيعا فلن يأتي أحد ويقول :إن فلنا يتعذب فهيا بنا ننصره ،ل يأتي أحد لينصره.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه } :لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْنفِقُواْ ِممّا ُتحِبّونَ{ ...
()482 /
وتؤدي كل مادة الباء والراء المضعفة إلى معنى " السعة " ،فـ " البَرّ " أي الواسع والبَرّ أي
الرض المتسعة ومقابله " البحر " وإن قال قائل " :إن البحر أوسع من البر ،لن حجم القارات
ليس في حجم البحار والمحيطات التي تفصل بينها " :نقول لمثل هذا القائل " ل ،إن حركتك في
البر -الرض -موسعة ،وحركتك في البحر مضيقة؛ لنك ل تتحرك في البحر إل على شكل
خاص،إما أن تتحرك بسفينة أو حتى على لوح من الخشب ،أما حركتك في البر -الرض -فأنت
تمشي أو تركب ،تذهب أو تجيء ،فمجالك في البر متسع عن مجالك في البحر.
و " البِ ّر " هو التقوى ،والطاعة ،أو هو " الجنة " وكلها معان ملتقية ،لنها تؤدي إلى السعة،
فالطاعة تؤدي إلى السعة ،وكذلك التقوى ،وكذلك الجنة ،كلها ملتقية؛ لن كلها سعة ،فأحدهم أخذ
معنى الكلمة من مرحلتها الولى أي بالسبب وهو الطاعة ،وبعضهم أخذها من المرحلة الخيرة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي بالمسبب وهو الجنة ،وقد يسأل سائل ،لماذا أراد ال أن يجيء بحديث عن النفقة بعد الحديث
عن تعذيب الكفار؟ ونقول :إن الحق حين يتكلم عمن يصيبه العذاب الليم لنه كفر ومات كافرا،
وماله من ناصرين فإن المقابل يأتي إلى الذهن ،وهو من آمن وعمل صالحا ،ومات على إيمانه،
فله عكس العذاب الليم وهو النعيم ،وسيجد من يأخذ بيده ،بينما الكافر لن يجد ناصرين له .إن
المؤمن سيجد جزاء ال على الطاعة وهي البر؛ لن البر هو كل خير ،وإن جاء اطلقه فإنه
ينصرف إلى الجزاء من ال وقمته هو الجنة.
وهكذا نرى المقابل لمعاملة الحق للكفار وهو معاملة الحق للمؤمنين ،لقد جاء هذا القول في القرآن
وهو كلم ال المعجز ،وحين يخاطب سبحانه المكلفين بالمنهج .فهو يخاطب بكلمه ملكات إنسانية
خلقها هو ،إذن فل بد أن يغذي هذا الكلم كل الملكات المخلوقة ل ،فلو كان الخالق للملكات غير
المتكلم لكان من الممكن أل ينسجم الكلم مع الملكات ،ولكن الكلم هنا ل الذي خلق ،لذلك ل بد
أن تنسجم الملكات مع كلم ال.
وفي النفس النسانية ملكات متعددة ،وهذه الملكات المتعددة متشابكة تشابكا دقيقا فتستطيع حين
تخاطب ملكة سمعية أن تحرك مواجيد وجدانية ،فإن لم يكن العالم بالملكات عليما بها لما أمكن أن
يجيء المنطق موافقا لملكة سمعية ،وموافقا لملكات وجدانية قد تتأتى بها طبيعة تداعى المعاني.
و " تداعى المعاني " هو الخاصية الموجودة في النسان ،ومعنى " تداعى المعاني " أن النسان
يستقبل معنى من المعاني فيشير ذلك المعنى إلى معان خبيئة يستدعيها لتحضر في الذهن ،فمثل
حين ترى إنسانا تعرفه.
فإن تداعى المعاني يعطيك تاريخك معه وتاريخه معك ،ويصور بخاطرك أيضا صورا عن أهله
وأصدقائه ،ومعارفه ،ويأتي لك تداعى المعاني بالحداث التي كانت بينك وبينه أو شاهدتها أنت
وهذا هو ما نسميه " تداعى المعاني " أي أن المعنى يدعو المعنى.
وحين يخاطب ال سبحانه وتعالى النسان ،فإنه يخاطب كل ملكة فيه في آن واحد ،حتى ل تأخذ
ملكة غذاءها ،دون ملكة أخرى ل تجد لها غذاء إن كلم ال جاء مستوفيا وكافيا لكل الملكات،
ومثال ذلك حينما أراد الحق سبحانه وتعالى أن يمنع المشركين من أن يطوفوا بالبيت ،وكان
المشركون قبل تحريم ال لطوافهم ،يطوفون بالبيت ،ويأتون من أماكن سحيقة بعيدة ليطوفوا في
موسم الحج ،وكانوا يأتون بأموالهم لينفقوها على أهل مكة ،ويشتروا كل شيء يلزمهم منها،
فموسم الحج كان موسما اقتصاديا .وحين يريد ال أن يمنع المشركين من الحج فهو يخاطب
المسلمين المقيمين بمكة حتى يحولوا بين المشركين وبين الطواف ،وهو سبحانه قد علم -وهو
العليم -بما خلق من ملكات ،يعلم سبحانه أن ملكة أخرى ستتدخل في هذا الوقت ،فيقول {:ياأَ ّيهَا
سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَـاذَا }[التوبة.]28 :
الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ نَجَسٌ فَلَ َيقْرَبُواْ ا ْلمَ ْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعندما ينزل هذا الحكم فل بد أن تتحرك ملكات في النفس النسانية ،والحق قد علم أزل أن ملكة
النفعية القتصادية عند أهل مكة ستتحرك عند سماع هذا الحكم ،بمعنى أن بعضا من المسلمين
المقيمين بمكة وقت نزول هذا الحكم قد يقولون " :وإذا كنا نمنع المشركين الذين يفدون علينا
بالموال ليشتروا بضائعنا وموسمهم القتصادي هو الذي يعولنا طيلة العام فماذا نصنع إذن؟ إن
ال يعلم أنه عند نزول حكم بتحريم البيت على المشركين أن يقربوه فل بد أن تتحرك في النفس
س ْوفَ
خفْتُمْ عَيَْلةً فَ َ
النسانية تلك الملكية النفعية ،فيقول -سبحانه -عقب ذلك مباشرة {:وَإِنْ ِ
حكِيمٌ }[التوبة.]28 :
ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ إِن شَآءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ َ
الخوف من العيلة ،أي الخوف من الفقر ،وتلك هي عظيمة الكلم اللهي لن رَبّا يتكلم إن النسان
حينما يتكلم قد تفوته معان كثيرة ،وبعد ذلك قد تحدث ضجة وبلبلة وثورة بين الناس ،لكن الحق
جدَ ا ْلحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَـاذَا { ويتبع
العلى عندما يقول } :إِ ّنمَا ا ْل ُمشْ ِركُونَ َنجَسٌ فَلَ َيقْرَبُواْ ا ْلمَسْ ِ
س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ { وقد فعل وجبي الحق
خفْتُمْ عَيَْلةً فَ َ
ذلك فورا بقوله المطمئن } :وَإِنْ ِ
وجلب إلى البيت الحرام ثمرات كل شيء ،وكأنه يقول لنا :ل تعتقدوا أن هذه الثمرات قادمة عن
طريق التطوع ولكنها رزق من لدنا ،كما جاء في قوله الحقَ {:وقَالُواْ إِن نّتّبِعِ ا ْلهُدَىا َم َعكَ
شيْءٍ رّزْقا مّن لّدُنّا وَلَـاكِنّ
طفْ مِنْ أَ ْرضِنَآ َأوَلَمْ ُن َمكّن ّلهُمْ حَرَما آمِنا ُيجْبَىا إِلَيْهِ َثمَرَاتُ ُكلّ َ
خّنُتَ َ
َأكْثَرَهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }
[القصص.]57 :
أي أنه ليست هناك حرية لحد أن يعطي أهل البيت الحرام أو ل يعطي ،إنها جباية ،لطمأنة
الملكية التفعية في النفس ،وهو سبحانه يعطي المان القتصادي الذي يترتب عليه قوام الحياة،
وعندما نمعن النظر في آيات القرآن نجد أن هناك آية قد تتقدم وآية قد تتأخر ،وآية قد تأتي في
الوسط ،ونجد أن الية الوسطى ،مرتبطة بتداعي المعاني بالية التي قبلها ،ومرتبطة بتداعي
المعاني بالية التي بعدها ،ولذلك لترتوي وتتغذى كل ملكات النسان فل يأتي أمر يوحي بأن
سهِمْ َل ْولَ ُي َعذّبُنَا
هناك ما ينقص النفس البشرية ،لنتأمل مثال لذلك وهو قول الحق {:وَ َيقُولُونَ فِي أَنفُ ِ
جهَنّمُ َيصَْلوْنَهَا فَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }[المجادلة.]8 :
اللّهُ ِبمَا َنقُولُ حَسْ ُب ُهمْ َ
إن المشركين لم يقولوا لحد " :إنما قالوا لنفسهم " ،ويكشفهم الحق سبحانه العليم في أخفى
خباياهم ،ويُظهر ما في أنفسهم ،وهو العليم بكل خفايا عباده والكاشف لكل الملكات النفسية في
شيْءٍ فَإِنّ
ن َومَا تُ ْنفِقُواْ مِن َ
خلقه .وحين يقول الحق سبحانه } :لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْنفِقُواْ ِممّا تُحِبّو َ
اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ { .فإن الية تحريض على النفاق ،وجاءت بعد آية تفيد أن هناك إنفاقا ل يقبله ال
في قوله سبحانه {:إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َومَاتُو ْا وَهُمْ ُكفّارٌ فَلَن ُيقْ َبلَ مِنْ َأحَ ِدهِم ّملْ ُء الَ ْرضِ ذَهَبا وََلوِ
افْتَدَىا بِهِ ُأوْلَـا ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِي ٌم َومَا َلهُمْ مّن نّاصِرِينَ }[آل عمران.]91 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فهناك لون من النفقة يرفضه ال ،وتداعى المعاني في النفس النسانية قد يجعل النسان يسأل
" ما هي إذن النفقة المقبولة؟ " لذلك كان ل بد وأن يأتي قوله تعالى } :لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْنفِقُواْ
ِممّا تُحِبّونَ { فإذا كانت هناك نفقة مردودة فهناك أيضا نفقة مقبولة ،وهكذا نرى الية التي تحرص
على النفاق منسجمة مع ما قبلها } .لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْن ِفقُواْ ِممّا تُحِبّونَ { ،قد يسأل سائل،
ولماذا ل ينال النسان البر إل بعد ان ينفق مما يحب؟ وله أن يعرف أن طبيعة النفس النسانية
س َمعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْ ِفقُواْ خَيْرا
طعْ ُت ْم وَا ْ
هي " الشح " ولهذا جاء في القرآن الكريم {:فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْتَ َ
سكُمْ َومَن يُوقَ شُحّ َنفْسِهِ فَُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }[التغابن.]16 :
لَنفُ ِ
وشح النفس يأتي لن النسان ل يأمن أبدا أن يأتيه العجز من بعد القدرة ،لذلك فإنه يحاول إن كان
يملك شيئا أن يؤمن العجز المتوهم ،فيحافظ على ما عنده من حاجات ،ومن هنا جاءت الحيازة
والملكية ولم تنشأ هذه الشياء من أول الخلق ،وإنما نشأت من يوم أن ضاقت المكنة ال ُمعْطية
دون الحاجات ،فحين تكون المكنة المعطية تسع الحاجات فل داعي لهذا العجز المتوهم.
لنفترض أن رجل اشترى صندوقا من البرتقال ،ودخل منزله وعندما يحتاج ابن هذا الرجل
لبرتقالة أو اثنتين فإنه يأخذ ما يريد ،لكن لو أحضر الرجل قليل من البرتقال فإن زوج الرجل
تكون حريصة على أن تقسم البرتقال بين الولد حتى ل تترك كل ابن على سجيته بما قد يحرم
الخرين.
وهكذا كان المر في بدء استخلف ال للنسان في الرض ،فمن أراد الرض اخذ ،ومن أراد
أكل الثمار فهي أمامه ،وعندما قلت مُعطيات الحاجات وذلك بضيق المكنة المعطية بدأت في
الظهور الرغبة في الملكية ،وامتياز الشياء ،والحق سبحانه يلفتنا في هذه المسألة وكأنه يقول لنا:
إن النفقة لو نظرت إليها نظرة واقعية حقيقية لوجدت أنك أيها العبد مضارب ل في خير ال.
ومعنى " مضارب " أي أنك تعمل عند ال بالعقل الذي خلقه لك ،وتخطط به ،وتعمل عند ال
بالطاقة التي خلقها ال ،والمادة التي خلقها ال لك تنفعل معها فماذا لك أنت؟
إن كل شيء ل ،وأنت مجرد مضارب ل تملك شيئا وما دمت مضاربا أيها العبد ،فإعط ل حقه،
وحق ال ل يأخذه هو؛ فهو أغنى الغنياء ،إن حق ال يأخذه أخوك غير القادر الذي ل يستطيع
أن يتفاعل مع المادة ،ول تظن أيها العبد أن ال حين طلب منك النفقة مما تحب أنه -جل شأنه -
قد استكثر عليك ما طلب منك أن تنفقه ،إنه ساعة يأخذ منك لخيك وأنت قادر ،إنما يطمئنك أنك
إن عجزت فسيأخذ لك من القادرين ذلك هو التأمين في يد ال.
إن الحق يريد أن يحببنا في أن ننفق ،لكن النسان يحاول أن ينفق مما ل يحب ،فيهدي النسان
الثوب الذي لم يعد صالحا للستعمال يعطيه لفقير ،أو يعطي الحذاء المستهلك لواحد محتاج .لكن
ال يأمرنا بأن ننفق مما نحب لذلك انفعل صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما سمعوا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا النص } :لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْن ِفقُواْ ِممّا ُتحِبّونَ { هذا أبو طلحة حينما يسمعها يقول :يا رسول
ال ،إن أحب مالي إليّ هو " بيرحاء " فأنا أخرجه في سبيل ال ،فقال رسول ال صلى ال عليه
وسلم :اجعله في أقاربك ،فجعله في أقاربه ،وهذا زيد بن حارثة يسمع الية الكريمة فينفعل بها
كذلك ،وكان عنده فرس اسمه " سَبَل " وكان يحبه ،فيقول :يا رسول ال أنت تعلم حبي لفرسي،
وأنا أجعله في سبيل ال فأخذه منه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وجاء بأسامة بن زيد وأركبه
الفرس قال زيد " :فوجدت في نفس " أي أنه حزن ،وقال زيد :يا رسول ال أنا أردت أن أجعل
الفرس في سبيل ال وأنت تعطي الفرس ل بني ليركبه .فقال رسول ال لزيد " :أمَا إنّ ال قبله
منك ".
وبعد ذلك ينفعل سيدنا أبو ذر رضي ال عنه وكان عنده إبل ،والبل لها فحل يلقح إناث البل،
وكان هذا الفحل أحب مال أبي ذر إليه وجاء ضيف إلى أبي ذر ,فقال له :إني مشغول ،فاخرج
إلى إبلي فاختر خيرها لنذبحه لضيافتك .فخرج الضيف ،ثم عاد وفي يده ناقة مهزولة ،فلما رآها
أبو ذر قال :خنتني ،قلت لك هات خير البل ،قال الضيف :يا أبا ذر لقد رأيت خيرها فحل لك
وقدرت يوم حاجتكم إليه .فقال أبو ذر :إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي.
إن الصحابي الجليل أبا ذر يعرف أن يوم أن يوضع في الحفرة هو اليوم الجليل الذي يستحق من
المرء أن يستعد له.
وسيدنا ابن عمر كان عنده جارية جميلة من فارس ،وكان يحبها ،فلما سمع الية ،قال :ليس عندي
أحب إليّ من هذه الجارية ،وأعتقها ،وكان من الممكن أن يتزوجها بعد أن أعتقها لكنه قال :لول
أن ذلك يقدح في عتقها لتزوجتها .وسيدنا أبو ذر رضي ال عنه يعطينا في مسألة النفاق درسا
من أروع الدروس المستوعبة للملكة النفسية ،فيقول :في المال شركاء ثلثة :القَدَر ل يستأمرك أن
يذهب بخيره وشره من هلك أو موت .أي أن القدر ل يستأذن عبدا في أن يذهب بالمال حيث
يريد ،فتأتي أي مصيبة فتأخذ المال إلى هلك أو موت .هذا هو الشريك الول في المال ،إنه القَدَر.
والشريك الثاني في المال يوضحه لنا أبو ذر فيقول :إنّه الوارث ،ينتظرك إلى أن تضع رأسك ،ثم
يستاقها وأنت قد سلبت بالموت كل ما تملك في الدنيا وأصبحت من غير أهلها .إن الوارث يقول
لنفسه " :فلستمتع بما ترك لي " ،وهذا هو الشريك الثاني في المال.
ويوضح لنا أبو ذر رضي ال عنه الشريك الثالث في المال فيقول :والثالث أنت ،فإن استطعت أل
تكون أعجز الثلثة فل تكن أعجزها ،أي إياك أن يغلبك على المال القدر أو الوارث ،ينبغي عليك
أن تغلب بإنفاق المال في سبيل ال وإل أخذه منك باقي الشركاء.
إذن لقد انفعل صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم بالية حينما نزلت حتى عدا الخير المحبوب
منهم إلى غيرهم ،وكان جزاء ذلك الجنة .لقد عرفوا قول الحق } :لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْن ِفقُواْ ِممّا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تُحِبّونَ { أي الجنة المترتبة على الطاعة أو التقوى ،أو سعة البركة أو سعة القوة ،وكلها معان
ملتقية ،ولذلك يقول ال في الحديث القدسي " :قد كان العباد يكافِئون في الدنيا بالمعروف وأنا اليوم
أكافئ بالجنة ".
إن الحق سبحانه الذي يعطي البر ثمنا لنفقة مما تحب يعلم هل أنفقت مما تحب فعل أو تيممت
الخبيث لتنفق منه ،فإياك أيها المؤمن أن تخدع نفسك في هذا المر ،لن الذي البر ثمنا لنفقه مما
شيْءٍ فَإِنّ اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ {.
تحب يعلم خبايا النفس ،لذلك يقول سبحانهَ } :ومَا تُ ْن ِفقُواْ مِن َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عند ال بتشريع له أن ينسخ ما قبله مع أنّ البل وألبانها لم تكن محرمة ،لذلك أمر رسول ال
صلى ال عليه وسلم بأن يحتكم إلى التوراة .وهذه هي العظمة النورانية المحمدية ،فل يمكن أن
يقول صلى ال عليه وسلم " :نحتكم إلى التوراة " إل وهو واثق أن التوراة إنما تأتي بالحكم الذي
يؤيد ما يقول ،مع أنه ل يقرأ ول يكتب .ويحضرون التوراة ،فيجدون الكلم مطابقا لما قال رسول
طعَامِ كَانَ حِـلّ لّبَنِي إِسْرَائِيلَ ِإلّ مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ
ال صلى ال عليه وسلم لذلك قال الُ } :كلّ ال ّ
عَلَىا َنفْسِهِ{ ...
()483 /
طعَامِ كَانَ حِلّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ِإلّا مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى َنفْسِهِ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ تُنَ ّزلَ ال ّتوْرَاةُ ُقلْ فَأْتُوا
ُكلّ ال ّ
بِال ّتوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ ()93
وحين يحرم نبي ال يعقوب -إسرائيل -طعاما ما ،فهو حر؛ فقد يحرم على نفسه طعاما كنذر،
أو كوسيلة علج أو زهادة ،لكن ال لم يحرم عليه شيئا ،وما تحتجون به أيها اليهود إنما هو
طعَامِ كَانَ حِـلّ لّبَنِي ِإسْرَائِيلَ ِإلّ مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىا َنفْسِهِ }
خصوصية لسيدنا يعقوب { ُكلّ ال ّ
فلماذا تقولون :إن البل وألبانها كانت محرمة؟
لقد فعلوا ذلك لنهم أرادوا أن يستروا على أنفسهم نقيصة ل يحبون أن يُفضحوا بها ،وتلك هي
ظفُ ٍر َومِنَ الْ َبقَرِ
النقيصة التي كشفها القرآن بالقول الكريم {:وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ
حوَايَآ َأوْ مَا اخْ َتلَطَ ِب َعظْمٍ ذاِلكَ جَزَيْنَاهُم
ظهُورُ ُهمَا َأوِ الْ َ
حمََلتْ ُ
شحُو َمهُمَآ ِإلّ مَا َ
علَ ْيهِمْ ُ
وَا ْلغَنَمِ حَ ّرمْنَا َ
بِ َبغْ ِيهِ ْم وِإِنّا َلصَا ِدقُونَ }[النعام]146 :
إذن فهناك أشياء قد حُرمت على اليهود لنهم ظلموا ،وهذه الية الكريمة هي التي أوضحت أن
ظفُر } أي القدم التي تكون اصابعها
الحق قد حرم عليهم هذه الطعمة لظلمهم .ومعنىُ { :كلّ ذِي ُ
مندمجة ومتصلة ،فليست الصابع منفصلة ،ونجدها في البل والنعام والوز ،والبط ،وهذه كلها
ظهُورُ ُهمَا } يعني الشحم الذي على الظهر .أما " الحوايا " فهي
حمََلتْ ُ
تسمى ذوات الظفر { ِإلّ مَا َ
الدهون التي في المعاء الغليظة { َأوْ مَا اخْتََلطَ ِبعَظْمٍ } .أي الشحم الذي يختلط بالعظم إن التحريم
هنا لم يكن لن هذه الشياء ضارة ،ولكن التحريم إنما كان عقابا لهم على ظلمهم لنفسهم وبغيهم
على غيرهم.
وأقول ذلك حتى ل يقول كل راغب في النفلت من حكم ال ما الضرر في تحريم المر الفلني؟
إن محاولة البحث عن الضرر فيما حرمه ال هي رغبة في النفلت عن حكم ال .فالتحريم قد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يأتي أدبا وتأديبا ،ونحن على المستوى البشرى -ول المثل العلى -يمنع النسان منا "
المصروف " عن ابنه تأديبا ،أو يمنع عنه الحلوى ،لن البن خرج عن طاعة أمه ،إذن كان
التحريم جزاءً لهم وعقابا قال تعالى {:فَبِظُ ْلمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُمْ
طلِ وَأَعْ َتدْنَا
وَ ِبصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا * وَأَخْ ِذهِمُ الرّبَا َوقَدْ ُنهُواْ عَ ْن ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ
لِ ْلكَافِرِينَ مِ ْنهُمْ عَذَابا أَلِيما }[النساء]161-160 :
وذلك هو الجزاء الذي أراده ال عليهم.
إن التشريع السماوي حينما يأتي لظالم يخرج عن منهج ال فكأنه يقول له ما هو القصد من
خروجه عن منهج ال؟ لماذا يظلم؟ لماذا يأخذ الربا؟ لماذا يصد عن سبيل ال؟ لماذا يأكل أموال
الناس بالباطل؟ إن الظالم يفعل ذلك حتى يمتع نفسه بشيء أكثر من حقه ،لذلك يأتي التشريع
السماوي ليفوت عليه حظ المتعة ،وكان هذا الحظ من المتعة حقا وحلّ له ،لكن التشريع يحرمه.
ومثال ذلك القاتل يحرم من ميراث من يقتله؟ لن القاتل استعجل ما أخره ال ,وأراد أن يجعل
لنفسه المتعة بالميراث ،فارتكب جريمة قتل ،لذلك يأتي التشريع ليحرمة من الميراث.
كأن التشريع يقول له " :ما دامت نيتك هكذا فأنت محروم من الميراث " والتشريع حين وضع ذلك
إنما حمى كل مورث ,وإل لكان كل مورث عرضة لتعدى ورثته عليه بالقتل لينتقل إليهم ما يملك،
فقال :ل .نحرمة من الميراث وكذلك هنا نجد الظلم بأنواعه المختلفة ،الظلم بإنكار الحق ,والصد
عن سبيل ال ،وأخذ الربا ،وأكل أموال الناس بالباطل ،وما دام اليهود قد أدخلوا على أنفسهم أشياء
ليست لهم فالتشريع يسلب منهم أشياء كانت حقا لهم.
وكان اليهود في زمن رسول ال صلى ال عليه وسلم يرغبون أل يُشاع عنهم هذا المر فقالوا :إن
هذا الطعام محرم على بني إسرائيل .وبعد ذلك وجد رسول ال صلى ال عليه وسلم أن هذا اللون
من الطعام حلل في التوراة ،فكشف رسول ال صلى ال عليه وسلم هذا المر الذي فضحهم.
ولماذا تجيء هذه الية بعد قوله الحق في الية السابقة } :لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْن ِفقُواْ ِممّا ُتحِبّونَ
{؟ ونحن نعرف أن آية } لَن تَنَالُواْ الْبِرّ { قد جاءت بعد آية توضح النفقة غير المقبولة من ال.
ولنذكر ما قلناه أول ،عن تداعي المعاني في الملكات النسانية :إن في النفس النسانية ملكة
طعَامِ كَانَ حِـلّ لّبَنِي إِسْرَائِيلَ { فالذين
تستقبل ،فتتحرك ملكة أخرى ،وحين يقول الحقُ } :كلّ ال ّ
يسمعون هذا سينفعلون انفعالت مختلفة ،فالشبعان من الناس لن يلتفت إلى هذه المسألة بانتباه
بالغ ،ومن عنده بعض الطعام فإن نفسه قد تتحرك إلى ألوان أخرى من الطعام ،أما من ليس عنده
طعام فلسوف يلتفت بانتباه شديد ليتعرف على الحلل من الطعام والحرام منه.
إذن فقبل أن يأتي ال بالحكم الذي يحلل ويحرم ،هذا الحكم الذي يثير عند الجائع شجن الفتقار
وشجن ذكر الطعام الذي يسيل له لعابه ،إن الحق قبل أن يحرك معدما على غير موجود معه،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإنه يحرك معطيا على موجود معه ،لذلك فقبل أن يأتي الحق سبحانه ويذكر الطعام ،وقبل أن
يُقلب المر على النفس النسانية التي ل تجد طعاما ،نجد الرسول قد نطق قبلها بما أنزله عليه
الحق } لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْنفِقُواْ ِممّا ُتحِبّونَ { .فبتداعي المعاني في النفس النسانية يكون -
سبحانه -قد حرك ملكة واجدة ومالكة قبل أن يحرك ملكة معدمة .وهكذا يكون التوازن الذي
أراده ال في الكون المخلوق له.
ضلّ رَبّي وَلَ يَنسَى { ،إن كل شيء في
إنه رب يحكم كونه ،فل ينسى شيئا ويذكر شيئا } .لّ َي ِ
علمه كما قَدّره وهو الخلق القدير العليم ،وهو ل يذكر بعضا من الخلق ،وينسى بعضا آخر ،فهو
قد كتب العدم لحكمة ،وأعطى النعمة لحكمة.
لقد جعل الفقير عبرة ،ولكنه لم يتركه ،وذلك حتى يرى كل إنسان أن القدرة على الكسب ليست إل
عرضا زائل ،فمن الممكن أن يصبح القادر الن عاجزا بعد دقائق أو ساعات ،ومن الممكن أن
يصبح القوي ضعيفا ،فإذا ما علم القوى أو القادر ذلك فإنه يتحرك إلى إعطاء الخرين؛ حتى
يضمن لنفسه التأمين اللهي لو صار ضعيفا ،فيعطيه القوياء ،فعندما يأمر ال القوياء بأن يعطوا
وينفقوا فإن عليهم إن يستجيبوا؛ لن الواحد منهم لو صار ضعيفا فسوف يأخذ.
إذن فقول الحق سبحانه وتعالى } :لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْنفِقُواْ ِممّا تُحِبّونَ { هذا القول قد خدم
قضية سبقتها ،وهي أنه لن يقبل من أحدهم ملء الرض ذهبا ولو افتدى به ،ما دام كافرا ،إنها
نفقة مرفوضة ل اعتبار لها ،إنها هدر .ويأتي من بعد ذلك بتحديد النفقة التي ليست هدرا ،ثم
يفضح اليهود بقضية توجد عندهم في التوراة ولكنهم كذبوها ،وهي قضية تتعرض للطعام ،وما
دامت القضية تتعرض للطعام فهناك الكثير من الملكات التي يمكن أن تتحرك ،فملكات الواجد
حين تتحرك فحركتها تكون بأسلوب غير السلوب الذي تتحرك به ملكات المعدم .فقيل أن يُحَرِك
وجدان المعدم إلى أنه معدم ،حتى ل يتلقى ذلك بحسرة ،فإنه سبحانه يكون قد عمل رصيدا لهذا
شيْءٍ فَإِنّ
ن َومَا تُ ْنفِقُواْ مِن َ
المعدم ،فيرقق قلب الواجد أول } لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىا تُ ْنفِقُواْ ِممّا تُحِبّو َ
اللّهَ ِبهِ عَلِيمٌ { وبعد ذلك يأتي قوله الحق سبحانه:
طعَامِ كَانَ حِـلّ لّبَنِي ِإسْرَائِيلَ ِإلّ مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىا َنفْسِهِ مِن قَ ْبلِ أَن تُنَ ّزلَ ال ّتوْرَاةُ ُقلْ
} ُكلّ ال ّ
فَأْتُواْ بِال ّتوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ { [آل عمران]93 :
ومعنى كلمة " حل " هو " حلل " ،ويقابلها " حرام " وحل هي مصدر ،وما دامت مصدرا فل
نقول " هذان حللن " بل نقول " :هذان حل " ،ونقول " :هؤلء حل " وإن شئت فاقرأ قوله
تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآ َء ُكمُ ا ْل ُم ْؤمِنَاتُ ُمهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعَْلمُ بِإِيمَا ِنهِنّ فَإِنْ
حلّونَ َلهُنّ }[الممتحنة]10 :
حلّ ّل ُه ْم وَلَ ُهمْ يَ ِ
جعُوهُنّ إِلَى ا ْل ُكفّا ِر لَ هُنّ ِ
عَِلمْ ُتمُوهُنّ ُمؤْمِنَاتٍ فَلَ تَرْ ِ
طعَامِ كَانَ حِـلّ
" ل هن " هذه لجماعة النساء ،والحل مفرد ،وعندما يقول الحق سبحانهُ } :كلّ ال ّ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لّبَنِي إِسْرَائِيلَ ِإلّ مَا حَرّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىا َنفْسِهِ { فهذا يعني أنه قد حرم بعضا من الطعام على نفسه
فهو حر في أن يأخذ أو يترك ،أوأنه قد حرمه على نفسه فوافقة ال؛ لن الناذر حين ينذر شيئا لم
يفرضه ال عليه فهو قد ألزم نفسه بالنذر أمام ال.
إن الزمن الذي حرم فيه إسرائيل على نفسه بعضا من الطعمة هو } مِن قَ ْبلِ أَن تُنَ ّزلَ ال ّتوْرَاةُ
{ أي أن هذا التحريم لم يحرمه ال ،ويأتي المر لرسوله الكريم أن يخاطب بني إسرائيلُ } :قلْ
فَأْتُواْ بِال ّتوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ { إنه قد كشف سترهم ،وعلموا أن الرسول صلى ال عليه
وسلم يعلم أن النص الذي يؤيد صدقه موجود في التوراة ،ولهذا لم يأت اليهود بالتوراة ،وذلك
لعلمهم أن فيها نصا صريحا يصدق ما جاء به رسول ال ،ول يحتمل اللجاجة ،أو المجادلة ،وما
داموا لم يحضروا التوراة فهذا يعني أنهم غير صادقين .ويقول الحقَ } :فمَنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ
ا ْلكَ ِذبَ{ ...
()484 /
َفمَنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ ا ْل َك ِذبَ مِنْ َب ْعدِ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ ()94
إن في هذا القول التحذير الواضح أل يختلق أحد على ال شيئا لم ينزل به رسول أو كتاب فمن
يفتري الكذب على ال ل يظلم إل نفسه .ويقول الحق بعد ذلكُ { :قلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّ ِبعُواْ مِلّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا} ...
()485 /
صدَقَ اللّهُ فَاتّ ِبعُوا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ()95
ُقلْ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومستويا ونحن نسمى ملتنا " الحنيفية السمحاء " ومع ذلك فالحنف هل ميل في الساقين ،اليمين
مقوسة إلى اليمين ،واليسار مقوسة إلى اليسار ،فكيف إذن نقول عن الدين الحق الهادي لمنهج ال
وشريعته :إنه حنيف؟
لقد قلنا :إن السماء ل تتدخل بإرسال الرسل إل حين يعم الفساد ،وما دام الفساد قد عم فإن الذي
يميل منحرفا عن الفساد هو الذي اهتدى إلى الصراط المستقيم ،فالحنيف معناه مائل عن الفساد،
صدَقَ اللّهُ فَاتّ ِبعُواْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِين }.
فالمائل عن المعوج معتدلُ { ،قلْ َ
{ صَ َدقَ اللّهُ } نعم؛ لن الصدق هو أن يطابق القول ما وقع فعل ،وحين يتكلم الحق وهو العليم
أزل فما الذي يحدث؟ ل بد أن يوافق الواقع ما يقوله سبحانه وتعالى فليس من المعقول أن يتكلم
ال كلما يأتي على لسان رسول ،أو على لسان أتباع الرسول ،وبعد ذلك يأتي واقع الحياة فينقض
قول الحق ويخالفه ،إن الحق العليم أزل يُنزل من الكلم ما هو في صالح الدعوة إلى منهجه.
إذن فحين يطلق ال قضية من قضايا اليمان فإنه -سبحانه -عليم أزل أنها سوف تحدث على
وفق ما قال ،إن كان الظرف الذي قيلت فيه ل يشجع على استيعابها وفهمها .إن المؤمنين كانوا
في أول المر مضطهدين ،ومرهقين وإن لم يكن للواحد منهم عشيرة تحميه فإنه يهاجر عن
البلد ،وإن لم يستطع الهجرة فإنه ُيعَذب ويضطهد .وفي هذه الفترة الشديدة القاسية وفي قمة
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر]45 :
اضطهاد المؤمنين ينزل القول الحق {:سَ ُيهْزَمُ الْ َ
وعندما يسمع سيدنا عمر عليه رضوان ال هذا القول يتساءل :أي جمع هذا؟ إن الواقع ل يساعد
على هذا ،ثم جاءت بدر ،وهزم المؤمنون الجم َع وولوا الدبر ,وهذا دليل على أن ال قد أطلق
قضية وضمن أنها ستحدث كما قال وكما أخبر ،وهذا مطلق الصدق .إن النسان يمكنه أن يستبعد
الصدق لو أن الذي قال غير الذي خلق ،لكن الذي قال ذلك هو الذي خلق ويخلق ويعلم ،فمن أين
يأتي التناقض؟ وهذا معنى القول الكريم:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكيف يمكن أن يختلقوا على إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا؟ إنه كلم ل يصدر إل عن قلة
فطنة وغفلة بالغة .وعندما يقول الحق عن إبراهيمَ } :ومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِين { فهل أهل الكتاب
مشركون؟ نعم؛ لنهم حين يؤمنون بالبنوة لعزير ،ويؤمنون بالنبوة لعيسى فهذا إشراك بال،
وأيضا كان العرب عبدة الصنام يقولون :إنهم على ملة إبراهيم؛ لن شعائر الحج جاء بها إبراهيم
عليه السلم ،ولهذا ينزه الحق سبحانه سيدنا إبراهيم عن ذلك ،ويقولُ } :قلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّ ِبعُواْ مِلّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ { وذلك يدل على أن ملة إبراهيم وما جاء به موافقة لملة
محمد صلى ال عليه وسلم وما جاء به ،وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلم .ثم يقول الحق
ت ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا وَ ُهدًى لّ ْلعَاَلمِينَ {
سبحانه } :إِنّ َأ ّولَ بَ ْي ٍ
()486 /
إِنّ َأ ّولَ بَ ْيتٍ ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَا َركًا وَ ُهدًى لِ ْلعَاَلمِينَ ()96
لقد عرفنا من قبل كيف كان تداعى المعاني سببا في إرواء الحق لكل ملكات النسانية ،وقبل هذه
الية التي تتحدث عن بناء البيت الحرام بمكة المكرمة كان هناك حديث عن سيدنا إبراهيم عليه
السلم حين قال الحقُ {:قلْ صَدَقَ اللّهُ فَاتّ ِبعُواْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[آل
عمران]95 :
وإبراهيم عليه السلم هو أول النبياء صلة بالبيت الحرام ،وكان رفع قواعد البيت الحرام على يده
بعد أن طمر وستر بالطوفان في عهد نوح عليه السلم ،فحين يأتي الكلم في رسالة سيدنا إبراهيم
عليه السلم فل بد أن تأتي أكبر حادثة في تاريخ سيدنا إبراهيم ،وهي حادثة بناء البيت الحرام،
كما أن الحق سبحانه حينما تكلم عن المحاجاة بين المسلمين وعلى رأسهم رسول ال صلى ال
عليه وسلم وفي يده القرآن ،وبين أهل الكتاب وفي أيديهم التوراة المحرفة والنجيل المحرف أراد
سبحانه أن يردنا إلى شيء واحد هو ملة إبراهيم الذي سمانا مسلمين .ومعنى ذلك أن ال يريد منا
أن تسيطر قيم السماء على حركة أهل الرض؛ لن حركة أهل الرض إن اتبعت الهواء
تصادمت الحركات ،وما دامت الحركات قد تصادمت فإن ما ينتج عنها هو ضياع مجهود الحركة
النسانية ،ويصير هذا المجهود مبددا.
ولكن النسان الذي يحمل القيم التي تتركز عقيدة في قلبه -بعد أن يبحثها بفكره -هذا النسان
له قالب تنفذ به تشريعات ال ،ولول وجود القالب هذا لما استطاع النسان أن يطبق تشريعات
ال ،وَلمَا استطاع أن يؤدي هذه التشريعات ،ولما استطاع أن يطيع ال بجوارحه؛ فالنسان بغير
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قالب ل يستطيع أن يؤدي الحركة المطلوبة.
إذن فل بد للقالب النساني -البدن -في التشريع من عملية أخرى وهي أن ينصب القالب
ويكون له عمل حين يتوجه إلى بيت واحد ل ،وبذلك يصبح للقالب نصيب في العبادة أيضا.
ولهذا كان ل بد أن يوجد للقالب -أيضا -مُّتجَهٌ وهذا المُتجه يحكم القالب نفسه ،فكان المؤمن
المسلم محكوما قلبا وقالبا ،فحين نأتي للصلة لنكون في حضرة ال نتحرى أن يكون قالبنا متجها
إلى المكان الذي أمرنا ال أن نتوجه إليه ،لماذا؟
لن الحق سبحان وتعالى ساعة يعطي رحمته وبركته وتنزلته وإشراقاته يريد أن يكون الجسم في
وضع مؤهل لستقبال هذه التجليات؛ ولذلك كان ل بد أن يكون ل بيت يتجه إليه الجميع حتى
يعطي للتدين وحدة ،فكما أعطى الحق لموكب الرسالت وحدة ،فإنه يعطي أيضا وحدة في القالب
النساني والمتجَه ،وكل مكان يعبد ال فيه بالنسبة للسلم يُعتبر مسجدا ،وقد يسر ال المر على
أمة سيدنا محمد ،فقال -صلى ال عليه وسلم :-
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من حسن الدب واللياقة أن ينشغل النسان بأي شيء غير لقاء ال في الوقت المخصص للقاء ال،
وفي المكان المخصص لهذا اللقاء.
فساعة تدخل المسجد ينبغي أن تمنع نفسك من أن يتكلم معك أحد في فضول الكلم ولغوه ،وأن
تنوي العتكاف لتستفيد من وجودك في المسجد .وساعة أن نخصص حيزا ما ليكون مسجدا،
فكيف يكون التجاه داخل المسجد؟ أيترك المر لكل واحد أن يختار له متجها؟
ل ،إن المؤمن ملتزم بالتجاه إلى مكان واحد ،هذا المكان الواحد هو بيت ل باختيار ال بينما
المساجد الخرى هي بيوت ل باختيار خلق ال ،فبيوت ال باختيار خلق ال متجهها جميعا هو
بيت ال الحرام.
وحين تنظر هذه النظرة ستجد العالم متواجها؛ لن كل عابد سيكون اتجاهه إلى بيت ال مع بقية
العابدين ل ،فيلتف المؤمنون كلهم حول بيت ال ،ويتواجهون ،إن وجوهنا كلها تُقابل بعضها
بعضا ،ولكن ما ضرورة التجاه للكعبة؟ والحق سبحانه يقول:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال عليه وسلم أن قبله بيوتا ،ولكن هو أول بيت ُوضِع للناس .هذا إيضاح ان ال قد جعل الكعبة
ت ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي
هي أول بيت له يتعبد فيه جنس البشر ،وذلك لقول ال تعالى } :إِنّ َأ ّولَ بَ ْي ٍ
بِ َبكّةَ مُبَارَكا وَهُدًى لّ ْلعَاَلمِينَ { .ولكن إن كانت هناك اجناس سابقة على الجنس البشري فمن
المؤكد انه كانت هناك ل بيوت ل نعرفها.وما آدم في منطق العقل واحد ولكنه عند القياس
أوادمولذلك فوجود البيت الحرام كبيت ل ل يصطدم مع منطق الناس الذين ل يملكون إل الثقافة
الدينية الضحلة ،فساعة أن يسمع الواحد منهم ،أن هناك اكتشافا لحفريات من كذا مليون سنة فهو
يتساءل قائل :كيف وآدم لم يمر عليه مليين السنين؟ لنفترض أن هناك خمسة أجيال لدريس
عليه السلم وثلثة اجيال لنوح عليه السلم ،وأحد عشر جيلً لبراهيم عليه السلم وثلثين جيل
لمحمد عليه السلم ،وهكذا يكون الوجود البشري محددا بآلف السنوات ل مليينها.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قديما يقف عند اللف ،ثم يقول عن المليون " ألف ألف " ،وكذلك الجنة لها أول وليس لها آخر.
إذن فأول بيت وضعه ال للناس هو الكعبة .وعندما نرى كلمة " وُضع " نجدها فعل ،ونرى انه قد
ُوضِع للناس .وما دام هذا البيت قد وضع للناس لذلك فمن اللزم حين تأتي كلمة " ناس " أن
يكون هناك " بيت " و " آدم " من الناس ،ووالد كل الناس ،وكان له بيت وضع له.
وحين يقال :إن البيت قد تم بناؤه قبل آدم فإننا نقول :نعم ،لن آدم من الناس ،وال يقول } :إِنّ
ت ُوضِعَ لِلنّاس { فلماذا نحرم آدم من أن يكون له بيت عند ال؟ إذن فالبيت موجو من قبل
َأ ّولَ بَ ْي ٍ
آدم .وبعض الناس تظن أن إبراهيم عليه السلم هو الذي بنى البيت ،ولصحاب هذا الظن نقول:
ت ُوضِعَ
لنفهم القرآن معا ،إن مثل هذا القول يناقض القرآن؛ لن القرآن قد قال } :إِنّ َأ ّولَ بَ ْي ٍ
لِلنّاس { وذلك إيضاح أن إبراهيم كان من قبله أناس سابقون له ،فكيف ل يكون للناس من قبل
إبراهيم بيت؟ ول يكون للناس من بعد إبراهيم بيت؟
إن الذين كانوا يعيشون قبل مجيء إبراهيم عليه السلم لهم الحقوق نفسها عند ال التي وضعها ال
لمن بعد إبراهيم ،فل بد أن ال قد جعل بيته لهم ،والنص القرآني } إِنّ َأ ّولَ بَ ْيتٍ ُوضِعَ لِلنّاس
{ مؤكد ذلك ،وما دام قد جاء الفعل مَبْنِيََا للمفعول فواضعه غير الناس ،فـ " ُوضِع " هو فعل
مبني على مالم يسم فاعله ،فمن الذي وضعه؟ هل هم الملئكة؟
قد يصح ذلك وهو أن يكون الملئكة قد تلقوا المر من ال بمزاولة هذا البناء ولكن الحق يقول
عن هذا البيت إنه " :هدى للعالمين " وهذا يعني أن البيت هدى للملئكة؛ لنهم عالم ،وهذا يعني
أن البيت قد وضعه ال من قبل ذلك ،إن أحداَ ل يقدر أن يجعل الكون على قدر العقل البشرى ،إن
على العقل البشري أن يكون في ركاب الكون ،وإياك أن تجعل الكون في ركاب عقلك .أما مسألة
أن إبراهيم قد بني الكعبة أولً فهذا عدم فهم للنص القرآني القائل {:وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }[البقرة]127 :
سمَاعِيلُ رَبّنَا َتقَبّلْ مِنّآ إِ ّنكَ أَنتَ ال ّ
ت وَإِ ْ
الْبَ ْي ِ
فما هو الرفع؟ إنه إيجاد البُعد الثالث وهو الرتفاع ،فالطول والعرض موجودان إذن فهذا دليل
على وجود البيت قبل أن يقيم إبراهيم عليه السلم ارتفاع البيت .وهكذا نستنتج أن الذي كان
مطموسا هو القاعدة والرتفاع ،مع وجود الطول والعرض اللذين يحددان المكان ،أما البناء فهو
الذي يحدد " المكين " وعندما انهدم البيت الحرام كان الناس يتجهون إلى المكان نفسه .ونحن
عندما نصلي في الدور الثالث في الحرم ،فإننا نتجه إلى الهواء الموجود من فوق الكعبة ،ولو
حفرنا نفقا تحت الرض بألف متر ،وأردنا أن نصلي فإننا سنتجه إلى جذر الكعبة ،وهكذا نعرف
أن جو الكعبة كعبة.
إذن فعمل إبراهيم عليه السلم كان في إيجاد المكين ل المكان ،ولنقرأ بالفهم اليماني ما حدث
لبراهيم عليه السلم .لقد أخذ إبراهيم هاجر وابنها إسماعيل ،وخرج بهما ليضعهما في هذا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المكان " .وهاجر " تعرف أن مكونات الحياة هي المياه والهواء والقوت ،وهذا المكان ل توجد به
حتى المياه ،لذلك قالت هاجر سائلة إبراهيم عليه السلم :كيف تتركنا هنا؟ هل أنزلتنا هنا برأيك أم
بتوجيه من ال؟فقال لها إبراهيم عليه السلم :إنه توجيه من ال ،لذلك قالت " :لقد اطمأننت ،وال
ل يضيعنا أبدا ".
لم تقلق هاجر لن إبراهيم اتجه إلى ما أمره ال ،وهذا هو اليمان في قمته ،ولو لم يكن اليمان
على هذه الدرجة الرفيعة فأي قلب لم تترك أب الطفل يذهب بعيدا عنها وتعيش مع ابنها في هذا
المكان الذي ل يوجد به طعام أو فيه ماء ،فهي ل تؤمن بإبراهيم ،ولكنها تؤمن برب إبراهيم
سكَنتُ مِن ذُرّيّتِي ِبوَادٍ
وعندما تقرأ القرآن الكريم تجد القول الحق على لسان إبراهيم {:رّبّنَآ إِنّي أَ ْ
ج َعلْ َأفْ ِئ َدةً مّنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِ ْم وَارْ ُز ْقهُمْ
لةَ فَا ْ
غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ رَبّنَا لِ ُيقِيمُواْ الصّ َ
شكُرُونَ }[إبراهيم]37 :
مّنَ ال ّثمَرَاتِ َلعَّلهُمْ يَ ْ
هكذا نعرف أنه ساعة إسكان إبراهيم لذريته كان هناك بيت وأن هذا البيت محرم ،وعندما نقرأ
عن رفع البيت الحرام نجد أن إبراهيم عليه السلم لم يرفع قواعد البيت بمفرده بل شاركه ابنه
سمَاعِيلُ رَبّنَا َتقَ ّبلْ مِنّآ إِ ّنكَ أَنتَ
إسماعيل عليه السلم {.وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْلقَوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ وَإِ ْ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }[البقرة]127 :
ال ّ
هكذا نعلم أن إسماعيل عليه السلم كان قد نضج بصورة تسمح له أن يساعد والده خليل الرحمن
في إقامة قواعد البيت الحرام ،وهذا يدلنا على أن إسماعيل نشأ طفل في هذا المكان عندما أسكنه
والده إبراهيم عند البيت المحرم ،هكذا نتيقن أن البيت المحرم كان موجودا من قبل إبراهيم عليه
السلم ،وعندما ندقق النظر في معنى كلمة " بكة " التي وردت في هذا القول الكريم } :إِنّ َأ ّولَ
بَ ْيتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا { فإننا نعرف أن هناك اسما لمكان البيت الحرام هو " بكة "
وهناك اسم آخر هو مكة ،وبعض العلماء يقول :إن " الميم " و " الباء " يتعاونان ،ونلحظ ذلك في
النسان " الخنف " أو المصاب بزكام ،إنه ينطق " الميم " كأنها " باء " .والميم و " الباء " حرفان
قريبان في النطق ،واللفاظ منهما تأتي قريبة المعنى من بعضها.
ولننظر إلى اشتقاق " مكة " واشتقاق " بكة " .إننا نقرأ " بكّ المكان " أي ازدحم المكان ،وهكذا
ت ُوضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا { أي أنه مكان الزدحام الذي
نعرف من قوله الحق } :إِنّ َأوّلَ بَ ْي ٍ
يأتي إليه كل الناس وكل الوفود لتزور بيت ال الحرام ،ول أدل على ازدحام البيت الحرام من أن
الرجال والنساء يختلط بعضهم ببعض ،والنسان يطوف بالبيت الحرام ،ول يدري أنه يسير وقد
يلمس امرأة أثناء الطواف.
و " بكة " هي المكان الذي فيه الطواف والكعبة ،أي هي اسم مكان البيت الحرام " ،ومكة " اسم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
البلد كلها الذي يوجد به البيت الحرام .و " مكة " مأخوذة من ماذا؟ إن " مكة " مأخوذة من " مك
الفصيل الضرع " أو " امتك الفصيل الضرع " ،أي امتص كل ما فيه من لبن ،والفصيل كما
نعرف هو صغير البل أو صغير البقر .وما دام الفصيل قد امتص كل ما في الضرع من لبن
فمعنى هذا أنه جائع ،ومكة كما نعرف ليس فيها مياه ،والناس تجهد وتبالغ في أن تمتص المياه
القليلة عندما تجدها في مكة.
وفي كلمة " مباركا " نجد أنها مأخوذة من " الباء والراء والكاف " والمادة كلها تدور حول شيء
اسمه الثبات ،فهل هو الثبات الجامد ،أم الثبات المعطي النامي الذي مهما أخذت منه فإنه ينمو
أيضا؟ إننا في حياتنا اليومية نقول " :إن هذا المال فيه بركة مهما صرفت منه فإنه ل ينتهي " ،
أي أنه ثابت ل يضيع ،ويعطي ول ينفد .وكلمة " بِرْكة " في حياتنا تعني أنها َتجَمعُ الماء تأخذ
منها مهما تأخذ فيأتي إليها ماء آخر.
وكلمة " تبارك ال " تعني " ثبت الحق " ولم يزل أزل ول يزال هو واحدا أحدا ،إنه الثبوت
المطلق .وهكذا نجد أن الثبات يأتي في معنى البيت الحرام .إن البيت الحرام مبارك أبدا " كيف "؟
أليست تضاعف فيه الحسنة؟ وهل هناك بركة أحسن من هذه؟ وهل هناك بركة أفضل من أنه بيت
تُجبى إليه ثمرات كل شيء ول تنقطع؟ فقديما كان الذاهب إلى البيت الحرام يأخذ معه حتى الكفن،
ويأخذ البرة والخيط ،والملح ،والن فإن الزائر لبيت ال الحرام يذهب ليأتي بكماليات الحياة من
هناك .ويقول سبحانه عن هذا البيت الحرام المبارك :إنه } هُدًى لّ ْلعَاَلمِينَ { .ما هو الهدى؟ قلنا:
إن الهدى هو الدللة الموصلة للغاية ،ومن يَزُرْ البيت الحرام يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه،
فهل اهتدى للجنة أم ل؟ إنه يعرف بزيارة البيت الحرام الطريق إلى الجنة .وحينما ننظر إلى هذه
المسألة نجد أن الحق سبحانه وتعالى عندما تكلم عن البيت لم يتكلم إل عن آية واحدة فيه هي مقام
إبراهيم مع أن فيه آيات كثيرة.
قال الحق } :فِيهِ آيَاتٌ بَيّـنَاتٌ مّقَامُ إِبْرَاهِيمَ َومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا{ ...
()487 /
فِيهِ آَيَاتٌ بَيّنَاتٌ َمقَامُ إِبْرَاهِي َم َومَنْ َدخَلَهُ كَانَ َآمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْ َتطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
َومَنْ َكفَرَ فَإِنّ اللّهَ غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ ()97
إننا نجد أن صيغة الجمع موجودة في قوله الحق { :فِيهِ آيَاتٌ } و { بَيّـنَاتٌ } وهي وصف
الجميع .وبعد ذلك قال الحقّ { :مقَامُ إِبْرَاهِيمَ } إنه سبحانه لم يذكر إل مقام إبراهيم بعد اليات،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمقام آية واحدة ،وهذا يدل على أن مقام إبراهيم فيه اليات البينات ،ونحن نقرأ { ّمقَامُ إِبْرَاهِيمَ }
بفتح الميم الولى في كلمة " مقام " ول ننطقها " مقام " بضم الميم الولى لن المقام بضم الميم
تعني مكان إقامة إبراهيم ،أما مقام بفتح الميم فمكان القيام ،لماذا كان قيام إبراهيم عليه السلم؟
لقد كان إبراهيم يقوم ليرفع قواعد البيت الحرام ،وكان إبراهيم يقوم على " حجر " .وعندما ننظر
إلى مقام إبراهيم فإنك تجد فيه كل اليات البينات؛ لن ال طلب من إبراهيم عليه السلم أن يرفع
قواعد البيت ،وكان يكفيه حين يرفع قواعد البيت أن يعطيه الرتفاع الذي يؤديه طول يديه ،وبذلك
يكون إبراهيم عليه السلم قد أدى مطلوب ال -كما قلنا من قبل -لكن إبراهيم عليه السلم تعود
مع ال أن يؤدي كل تكليفات ال بعشق وحب وإكمال وإتمام ،فقال إبراهيم في نفسه " :ولماذا ل
أرفع البيت أكثر مما تطول يداي؟ " ولم تكن هناك في ذلك الزمن القديم فكرة " السقالت " ،ولم
يكن مع إبراهيم عليه السلم إل ابنه إسماعيل .وأحضر إبراهيم عليه السلم حجرا ،ووقف عليه؛
ليرفع القواعد قدر الحجر.
إذن فإبراهيم خليل الرحمن أراد أن ينفذ أمر ال بالرفع للقواعد ل بقدر الستطالة البدنية فقط،
ولكن بقدر الحتيال على أن يرفع القواعد فوق ما يطلبه ال ،وهذا معنى قول ال عن إبراهيم
عليه السلم {:وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما قَالَ َومِن ذُرّيّتِي
عهْدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة]124 :
قَالَ لَ يَنَالُ َ
أي أنه أدى مطلوب ال أداء كامل ،ول أدل على هذا الداء الكامل من أنه أتى بحجر ليقف عليه
ليزيد من ارتفاع البيت قدر هذا الحجر .ونعرف أن الذي ساعده وشاركه في رفع القواعد هو ابنه
إسماعيل .ومن أكرمه ال برؤية مقام إبراهيم يجد أن الحجر يسع وقوف إنسان واحد ،وهكذا نفهم
أن إسماعيل كان يساعد ويناول والده الحجار ،أما مكان القدام الموجودة في هذا الحجر ،فهذا
يعني أن إبراهيم عندما كان يقف ويحمل حجرا من المفروض أن يحمله اثنان فإن هذا يتطلب
ثبات القدمين في مكان آمن حتى ل يقع.
فهل يا ترى أن ال سبحانه وتعالى جلت قدرته ساعة رأى إبراهيم يحتال هذه الحيلة قال لخليله:
سأكفيك مؤنة ذلك .وجعل الحق القدمين تغوصان في الحجر غوصا يسندهما حتى ل تقعا.
والذي ل يتسع ذهنه إلى أن ال ألَنَ لبراهيم الحجر ،نقول له :إن إبراهيم قد احتال ،وخاف أن
تزل قدمه ،فنحت مكانا في الحجر على قدر قدمه حتى تثبت قدمه حين يحمل ويرفع الحجر ،وهذه
آيات بينات .فخذ ما يتسع ذهنك وفهمك له ،إن ال أعان إبراهيم لنه فكر أن يبني القواعد
ويرفعها أكثر مما تطول يداه ،وقد مكّن ال له في ذلك وأعانه عليه ،ونحن نعلم أن الهداية تكون
هداية الدللة وهداية المعونة {.وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَا ُهمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد]17 :
} فِيهِ آيَاتٌ بَيّـنَاتٌ مّقَامُ إِبْرَاهِيمَ َومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا { ،واليات هي المور العجيبة ،وعندما
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تراها فإنك ل تستطيع أن تنكرها .ودخول البيت يعني المن للنسان الذي يدخله ،ونحن نعلم أن
البيت قد تم بناؤه في هذا المكان .وهذا المكان تجتمع فيه القبائل ،وبين بعض هذه القبائل ثارات
ودماء وحروب ،لذلك يبيّن ال الوضع الذي بمقتضاه تحقن الدماء } َومَن َدخَلَهُ كَانَ آمِنا { لماذا؟
لنه بيت الرب ول يصح أن يدخل واحد بيت الرب ويُعاقب حتى ولو كان قد أجرم جرما يوجب
ال عليه الحد فيه .ولذلك قال سيدنا عمر رضي ال عنه :لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب -والده لم
أتعرض له.
ولكن ُيضَيّق الخناق على المجرم حتى يخرج .وهذا المن محدد بأي أمر اقترفه في دنياه ،أما من
دخله كان آمنا يوم القيامة فالحكم فيه شيء آخر ،إنها درجة عالية من فضل ال ،واليات البينات
الواضحة في البيت الحرام يراها من زار البيت الحرام ،وليحقق ال أمل كل راغب في زيارة
البيت الحرام ،وأن يكرر الزيارة لمن ذهب وأراد أن يعود للزيارة مرة أخرى .فساعة تدخل البيت
الحرام فأنت هنا تتجه إلى مكان في البيت والمقابل لك في الكرة الرضية يتجه إلى المكان
المقابل ،إلى أن تصير التجاهات مشتملة على الكعبة كلها .ونحن عندما نكون في الكعبة فإننا
نوجه وجوهنا إلى المبنى لننا نراها ،ونحن نوجه الوجوه إلى المبنى المقطوع بأنه منها،
والحطيم ،وهو القوس المبنى حول حجر إسماعيل ،هو من الكعبة أيضا ،ولكن النفقة قصرت،
فجعلوه ليحدد مكان الكعبة ،فظل هكذا ،فإذا غاب النسان عن الكعبة واتجه إليها فإنه يكفي أن
يتجه إلى جهتها.
ولذلك نجد الصفوف في الصلة حول الكعبة تتخذ شكل الدائرة؛ لن الذين يصلون في داخل
الحرم يشاهدونها ،أما الذين يصلون خارجها فيكفي أن يتجهوا إلى جهتها ولو طال الصف إلى
ألف متر ،لذلك فالصف للمصلين خارج الحرم يكون معتدل ،أما في داخل الحرم فالصفوف تأخذ
شكل الدائرة لن أقضى بُعد في الكعبة هو اثنا عشر مترا وربع المتر ،ونجد من اليات العجيبة
أنك إذا ما نظرت إلى الحجر السود تجد الناس تتهافت على تقبيله ،والحجر يمثل أدنى أجناس
الكون ،ونعلم جميعا أن النسان مستخلف كسيد في الكون ،ومن بعده الحيوان أقل منه في الفكر
ومسخر ،ومن بعد الحيوان يكون جنس النبات ،ومن بعد ذلك يأتي جنس الجماد ومنه الحجر.
إننا نرى هذا النسان السيد في الكون ل يقبل ال منه النسك القبول التام الحسن إل إذا قبل الحجر،
أو حياه ،وهكذا ينقل الحق أعلى الجناس إلى أدناها .والناس تزدحم حول الحجر ،ومن لم يقبل
الحجر يحس أنه افتقد شيئا كثيرا ،وهكذا ترى استطراقا وسلوكا من الخلق إلى باب ال ،فالنسان
المتكبر الذي يتوهم أنه سيد على غيره ،يأتي إليه أمر في النسك بتقبيل الحجر أو تحيته بالسلم،
وهذا النسان برغم أن الحق -سبحانه -يقبل منه أن يحيي الحجر السود بالسلم ولم يفرض
عليه أن يقبّله ولكنه مع ذلك يحاول أن يقبل الحجر ،وهو أدنى الجناس ،لن ال قد عظمه ،وهذا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أول كسر لنف غرور النسان ،وحتى ل يظن ظان أنها حجرية أو وثنية ،يأتي المر من الحق
برجم حجر آخر.
إذن فالحجرية ل ملحظ لها هنا ،فنحن نجد حجرا يُقدس ،وحجرا آخر يُرجم .نجد حجرا يقبله
النسان ويعظمه وحجرا آخر يزدريه ويحقره .وذلك يدل على رضوخنا لرادة المر سبحانه
وتعالى فقط ،فعندما يأمرنا بأن نعظم حجرا فالمؤمن يؤدي حق التعظيم بالسمع والطاعة ،وعندما
يأمرنا سبحانه برجم حجر آخر ،فالمؤمن يرجم هذا الحجر بالسمع والطاعة ل أيضا ،فالذاتية
الحجرية ل دخل لها على الطلق .وبعض من أصحاب الظن السيء قالوا :إن السلم قد استبقى
بعض الوثنية.
ولهؤلء نقول :ولماذا تذكرون تعظيم الحجر السود ،ولم تذكروا رجم إبليس وهو ثلثة أحجار؟
لقد عظم المؤمن المؤدي للنسك حجرا واحدا ورجم ثلثة أحجار ،إن المؤمن إنما يطيع أمر ال،
فليست للحجر أي ذاتية في النسك أو العبادة .لقد رفعنا الحق من حضيض عبادة الصنام التي هي
عين الكفر ،لكنه قال لنا " :قبلوا الحجر السود " فقد قبلنا الحجر احتراما لمر المر ،وذلك هو
منتهى اليقين .لقد نقلنا الحق من مساو إلى مساو ،من عبادة الحجر إلى تعظيم وتقديس حجر مثله،
لكن الصنام كانت منتهى الشرك ،وتقبيل الحجر السود منتهى اليقين .أليست هذه آيات بينات؟
وزمزم التي توجد في حضن الكعبة ،أليست آيات بينات؟ إن " هاجر " تترك الكعبة وتروح إلى "
الصفا " وتصعد إلى " المروة " بعد أن تضع " إسماعيل " بجانب الكعبة ،وتدور بحثا عن المياه.
وسعت هاجر سبعة أشواط لعلها ترى طيرا أو تجد إنسانا يعرف طريق المياه لن ابنها يحتاج إلى
الشرب ،ولو أنها وجدت على الصفا أو المروة مياها في أول سعيها أكانت تجد تصديقا لقولها
لبراهيم عندما جاء بها للقامة في هذا المكان " إن ال ل يضيعنا " إنها سعت.
وكأن ال يقول لها ولكل إنسان :عليك بالسعي ،ولكن لن أعطيك من السعي ،إنما أعطيك الماء
تحت رجل إسماعيل .إذن فصدقت في قولها :لن يضيعنا ال ،لقد جعلها الحق سبحانه تسعى سبعة
أشواط ،ول يمكن لمرأة في مثل عمرها أن تقدر على أكثر من ذلك ،وهذا يعلمنا أن النسان
عليه أن يباشر السباب ،ولكن القلب عليه أن يتعلق بمسبب السباب ،وهو ال سبحانه ،وفي هذا
ما يعدل سلوك الناس جميعا .فساعة يرى النسان أن البئر مكان قدم إسماعيل وعلى البعد تكون
الصفا والمروة ،وتسعى بينهما ،وبعد ذلك تجد زمزم مكان ضربة قدم إسماعيل ،أليس في هذا
آيات بينات تهدى النسان أن يباشر السباب ويأخذ بها ،ويتعلق القلب بمسبب السباب؟
إن هذا يعطي المؤمن إيمانية التوكل ،وهي تختلف عن الكسل و " بلدة التواكل " فإيمانية التوكل
هي أن الجوارح تعمل ،والقلوب تتوكل ،أما الكسل عن الخذ بالسباب مع الدعاء بالتوكل فهذه
بلدة ،ومثل هذا الكسول المتواكل عندما يأتي الكل أمامه يأكل بنهم وشره ،ولو كان صادقا لترك
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللقمة تقفز إلى فمه ،ولماذا يمضغها إذن؟ لماذا يختار التواكل والكسل ،وعدم العمل ،ثم يمد يده
ليأكل؟ إن هذه هي " صفات التواكل ".
إننا نأخذ من سعي " هاجر " وتفجر الماء عبرة ،هي الخذ بأسباب ال ،وبعد ذلك فإننا نجد كل
إنسان في البيت الحرام مشغول بنفسه مع ربه ،ومن فرط انشغاله يكون غافل عمّن يكون معه،
ولو كان أحب إنسان له فإنه ل يدري به .وساعة تدخل وتنظر إلى الكعبة ينفض من عقلك كل
فكر في أي شيء من الشياء ،ل تذكر أولدك أو مالك ،لكنك بعد أن تفرغ من المناسك تعود
للتفكير في أولدك وعملك ،وإل لو ظل حبك وشوقك وتعلقك ومواجيدك بهذه البقعة لضاق المكان
بالناس جميعا .بعد ذلك يقول الحق سبحانه عن البيت الحرامَ } :ومَن َدخَلَهُ كَانَ آمِنا { .وهنا يجب
أن نفهم أن هناك فارقا بين أن يكون " الخبر " تاريخا للواقع ،وبين أن يكون " الخبر " خبرا
تكليفيا فلو كان } َومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا { تاريخا للواقع لتم نقض ذلك بأشياء كثيرة ،فقد وجد فيه
قوم ولم يّأمَنوا.
ونحن نعرف حادث العتداء الخير الذي حاوله جهيمان منذ سنوات قال الناس :إن جهيمان
عندما اعتدى على الناس ،لم يستطع حجيج بيت الرحمن أن يكونوا آمنين في البيت وتساءل
بعضهم ،فكيف قال الحقَ } :ومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا {؟ بل قال بعض أهل النحراف :إذن مسألة
دخول جهيمان إلى البيت الحرام تجعل } َومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنا { ليست صادقة! ولهؤلء نقول:
إن هناك فرقا بين إخبار الحق بواقع قد حدث ،وبين إخبار بتكليف.
إن الخبار بالواقع كان معناه أل يدخل أحد البيت الحرام ويهيجه أو يهاجمه أحد أبدا ،ولكن
الخبار التكليفي معناه :أن يخبر ال بخبر ويقصد به تكليف خلقه به ،والتكليف كما نعرف عرضة
لن يطاع ،وعرضة لن يعصى ،فإذا قال ال سبحانهَ } :ومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا { فهذا معناه :يأيها
المؤمنون ،من دخل البيت الحرام فأمنوه .ونضرب المثل -ول المثل العلى -تقول أنت لولدك:
يا بني هذا بيت يفتح للضيوف من دخله يكرم .أهذا يدل على إنجاز الكرام لكل من دخل هذا
البيت وحصوله له بالفعل وأن هذا ل يتخلف أبدا أم أنك قلت الخبر وتريد لولدك أن ينفذه؟
إن هذا خبر يحمل أمرا لبنك هو ضرورة إكرام من يدخل هذا البيت ،وتلك الوصية عرضة
لتطاع وعرضة لن تخالف ،لذلك فنحن نفهم من قول الحقَ } :ومَن َدخَلَهُ كَانَ آمِنا { على أساس
أنها أمر تكليفي ،عرضة للطاعة وللعصيان ،ومثال آخر على ذلك هو قول ال تعالى {:ا ْلخَبِيثَاتُ
ن وَالطّيّبُونَ ِللْطّيّبَاتِ ُأوْلَـا ِئكَ مُبَرّءُونَ ِممّا َيقُولُونَ
ت وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِي َ
لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَا ِ
َلهُم ّم ْغفِ َرةٌ وَرِ ْزقٌ كَرِيمٌ }[النور]26 :
بعض الناس يقول :نجد واقع الحياة غير ذلك ،حيث نجد امرأة طيبة تقع في عصمة رجل غير
طيب وتتزوجه .ونجد رجل طيبا يقع مع امرأة غير طيبة ويتزوجها ،فكيف يقول ال ذلك؟ ونحن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نرد على أصحاب هذا القول :إن ال لم يقل ذلك تأريخا للواقع .ولكنه أمر تكليفيَ .أيْ افعلوا ذلك،
وحكمي وتكليفي أن يكون الطيبات للطيبين والطيبون يكونون للطيبات .فإذا امتثل الخلق أمر الحق
فعليهم أن يفعلوا ذلك ،وإن لم يمتثل بعض الخلق لمر الحق فإن الواقع بنبيء بحدوث وجود
طيبين لغير طيبات أو العكس.
إذن فقول الحقَ } :ومَن َدخَلَهُ كَانَ آمِنا { هو خبر يراد به أمر تكليفي ،فمن أراد أن يكون صادقا
فيما كلفه ال به فل ُيؤَمن مَن دخل البيت الحرام .وبعد ذلك يقول الحق سبحانه:
ل َومَن َكفَرَ فَإِنّ ال غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ { [آل
} وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْ َتطَاعَ إِلَ ْيهِ سَبِي ً
عمران]97 :
وحين تسمع " لـ " و " على " ،فافهم أن الفائدة تقع على ما دخلت عليه " اللم " ،والتبعة تقع
على ما دخلت عليه " على " .فحين نقول " ::لفلن عَلَى فلن كذا " فالنفعية لِفلن الول والتبعة
على فلن الثاني .وحين يقول الحق سبحانه وتعالى } :وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ { .فعلى هذا
فالنفعية هنا تكون ل ،والتبعة هنا تكون على الناس ،لكن لو فطنا إلى سر العبارة لوجدنا أن ال ل
ينتفع بشيء من تكليفه لنا ،فالحج ل ،ولكنه يعود إليك ،فما ل عاد إليك ،وما عليك عاد لك.
وكل تكليف عليك فأثره لك ،فإياك أن تفهم من ذلك القول الكريم } :وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ
{ أن اللم الولى للنفعية ،وإياك أن تفهم أن " على " هي للتبعة ،نعم إن الحج ل ،ولكن الفائدة ل
تعود إل عليك ،وهو تكليف عليك ،وفائدته تعود عليك ،فالحق سبحانه وتعالى منزه عن أن يُفيد
من حكم من أحكامه ،وهو سبحانه حين ينزل حكما تكليفيا فعلى العبد المؤمن أن يعرف أن فائدة
الحكم عائدة عليه وعلى حياته ،ول يكون القصد والحج ،ل لشيء سواه.
ولماذا يقول الحق :إن على العبد المؤمن أن يحج البيت الحرام؟ لنه الخالق وهو خبير وعليم بأن
التكليف شاق على النفس ،ولكن على المؤمن المكلف حين يجد تكليفا شاقا عليه أن ينظر إلى
الفائدة العائدة من هذا الحكم ،فإن نظر إلى الفائدة من الحكم وجد أنها تعود عليه ،ولذلك يسهل
على العبد المؤمن أمر الطاعة .والذي ل يقبل على الطاعة ويهمل الجزاء عليها ويغفل عنه .تكون
الطاعة شاقة عليه .والذي يقبل على المعصية ويهمل الجزاء عليها تكون المعصية هينة عليه.
ولكن الطائع لو استحضر غاية الطاعة لعلم أنها له ل عليه.
ولو أن العاصي استحضر العذاب على المعصية لعلم أنها عليه ل له؛ فالعاصي قد يحقق لنفسه
شهوة ،لكنها شهوة عاجلة ،أمدها قصير ،ولو استحضر العاصي العقوبة على المعصية وقت
عملها ما أقدم على معصيته أبدا .ولكن الذين يرتكبون المعصية ينظرون إلى الشهوة الطارئة،
ويعزلون جزاء المعصية عنها ،ولو أنصفوا أنفسهم ،ل يستحضروا العقاب على المعصية في
وقت الرغبة في ارتكابها .وحين يستحضرون جزاء المعصية مع المعصية فإن شهوة المعصية
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تنتهي منهم ،وأضرب هذا المثل دائما عن أعنف غرائز النسان وهي غريزة الجنس.
هب أن هناك واحدا رأى فتاة جميلة ثم أراد أن ينالها نقول لهذا المتشرد جنسيا :استحضر العذاب
على هذا العمل ،وإن أخذت هذه الفتاة فتعال لنريك بعينيك ما أعده ال لك حين تتمتع بهذه الفتاة
خارجا عن شرع ال ،وأوقد له فرنا مسجورا ومحمّيا ،وقُل له :في مثل هذا ستدخل بل وأشد منه
إن نلت من الفتاة.
أيقبل هذا المتشرد على ارتكاب تلك المعصية؟ ل؛ فشهوة المعصية تضيع عندما يستحضر العذاب
علَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَ ْيهِ سَبِيلً { والسبيل هو
عليها .إن الحق سبحانه يقول } :وَللّهِ َ
الطريق الموصل للغاية ،والطريق الموصل للغاية عادة ما يكون مطروقا ،وعندما يتجه النسان
لداء فريضة الحج فهو طارق للطريق ،أي سيسير عليه ،هكذا تعرف أن هناك ثلثة أشياء:
طارق ،وهو من كتب ال عليه الحج وهو المكلف.
وسبيل مطروق.
وغاية ،وهي حج البيت.
وما دام الطارق سيسلك طريقا فل بد أن يكون عنده قدرة على أن يسلك هذا الطريق فكيف تتأتى
هذه القدرة؟ إن أول شيء في القدرة هو الزاد ،وثاني شيء في القدرة هو المطية التي يركبها،
وهكذا نتبين أننا نحتاج إلى زاد وراحلة لطارق الحج.
والسبيل الذي يطرقه ،أيكون محفوفا بالمخاطر؟ ل ،بل يُفترض أن يكون السبيل آمنا .إذن
فالستطاعة تلزمها ثلث حاجات ،هي :الزاد ،والراحلة ،وأمن الطريق .والزاد عادة يخص
النسان نفسه ،ولكن ماذا يكون الحال إن كان النسان يعول أسرة وصغارا؟
إذا كان النسان على هذا الحال فمن الستطاعة أن يكون قد ترك زادا لمن يعولهم إلى أن يعود.
وعلينا أن ننتبه إلى أن ال قال في كل تكليف } :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ { .ولكنه سبحانه
جاء في فريضة الحج بالقول الواضح ،بأن الحج ل على الناس وليس لمن أسلموا فقط ،ورسول
ال صلى ال عليه وسلم قد دعا أهل الكتاب الذين كانوا يتمحكون في إبراهيم عليه السلم أن
يحجوا البيت الحرام ،فامتنعوا عن الحج ،ولو كان الحج للمسلمين المؤمنين برسالة محمد صلى
ال عليه وسلم لما عرض رسول ال صلى ال عليه وسلم على اليهود والنصارى أن يحجوا ليكون
ذلك جمعا لهم على أن يتجه الخلق جميعا إلى بيت ال ويعبدوا إلها واحدا هو ربّ هذا البيت،
ولكنهم امتنعوا عن الحج .ولذلك يقول الرسول صلى ال عليه وسلم فيمن لم يحج بدون مرض
حابس ،أو سلطان جائر ،أو فقر وعوز ،يقول في الحديث الشريف:
عن علي رضي ال عنه ان رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بيت ال ولم يحج فل عليه أن يموت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ،وذلك أن ال تعالى
يقول } :وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَ ْيهِ سَبِيلً { ".
ولذلك نجد التكليف بالحج قد اتبع مباشرة بقول الحقَ } :ومَن َكفَرَ { فهل يقع من ل يحج بدون
مانع قاهر في الكفر؟ هنا يقف العلماء وقفة .العلماء يقولون :نعم إنه يدخل في الكفر ،لماذا؟ لن
الكفر عند العلماء نوعان كفر بال ،أو كفر بنعمة ال ،ومثال ذلك قوله -جل شأنه َ {:-وضَ َربَ
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَرَتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فََأذَا َقهَا اللّهُ
اللّهُ مَثَلً قَرْ َيةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ
خوْفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }[النحل]112 :
لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
أو هو الكفر ،كأن يموت النسان يهوديا أو نصرانيا ،وهنا نقول :انتبه ،ل تأخذ الحكم من زاوية
وتترك الزاوية الخرى .إن المسألة التكليفية يوضحها الحق بقوله } :وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ
{ .فهل تعارضون في هذا التكليف؟ أو تؤمنون به ولكن ل تنفذونه؟
ت { فهل أنت مؤمن بها أو ل؟ سنجد
إن القضية التكليفية اليمانية هي } وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْي ِ
الجابة من كل المؤمنين بـ " نعم ".
ن مؤمن إلى آخر؛ فنحن نجد مؤمنا يحرص على أداء الحكم من ال ،وهو
ولكن الموقف يختلف مِ ْ
الطائع ،ونجد مؤمنا آخر قد ل يحرص على أداء الحكم فيصبح عاصيا.
ونجد في هذا الموقف أن الكفر نوعان ،هناك من يكفر بحكم الحج ،أي من كفر في العتقاد بأن
ل على الناس حج البيت ،وهذا كافر حقا ،لكنْ هناك نوع آخر وهو الذي يرتكب معصية الكفران
بالنعمة؛ لن ال أعطاه الستطاعة من زاد ،ومن راحلة ،ومن أمن طريق ،ومن قدرة على زاد
يكفي من يعولهم إلى أن يعود ،وهنا كان يجب على مثل هذا النسان أن يسعى إلى الحج .لذلك
قال بعض العارفين لو أن أحدهم ُأخْبِر بأن له ميراثا بمكة لذهب إليه حبوا.
إذن فقوله تعالى } :وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ { هي قضية إيمانية ،فمن اعتقدها يبرأ من الكفر،
ومن خالفها وأنكرها فهو في الكفر .ومن قام بالحج فهو طائع ،ومن لم يفعل وهو مؤمن بالحج
فهو عاصٍ.
ولننظر إلى دقة الداء القرآني حين يقول الحقَ } :ومَن كَفَرَ فَإِنّ ال غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ { .قد يقول
قائل :ولماذا لم يقل ال :ومن كفر فإن ال غني عنه؟ وقال } :فَإِنّ ال غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ {؟
ونقول :إنّ ال غنيّ عن كل مخلوقاته ،وإيّاك أن تفهم أن الذي لم يكفر وآمن ،وأدى ما عليه من
تكليف ،أنه عمل منفعة ل؛ إن ال غني عن الذي أَدّى وعن الذي لم يؤد ،إياك أن تظن أن من
أدّى قد صنع ل معروفا ،أو قدم ل يدا؛ } فَإِنّ ال غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ { عمن ل يفعل ،وعمن يفعل.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانهُ } :قلْ ياَأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِلمَ َت ْكفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ{ ...
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()488 /
وحين تسمع " قل " فهي أمر من ال لرسوله كما قلنا من قبل؛ إنك إذا كلفت إنسانا أن يقول جملة
لمن ترسله إليه فهل هذا النسان يأتي بالمر " قل " أو يؤدي الجملة؟ إنه يؤدي الجملة ،ومثال
ذلك حين تقول لبنك مثل " :قل لعمك :إن أبي سيأتيك غدا " فابنك يذهب إلى عمه قائل " :أبي
يأتيك غدا ".
وقد يقول قائل :ألم يكن يكفي أن يقول ال للرسول " :قل يا محمد " فيبلغنا رسول ال يا أهل
الكتاب لم تكفرون؟ كان ذلك يكفي ،ولكن الرسول مبلغ المر نفسه من ال ،فكأنه قال ما تلقاه من
ال ،والذي تلقاه الرسول من ال هوُ { :قلْ ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ } وهذا يدل على أن الرسول يبلغ حرفيا
ما سمعه عن ال وهناك آيات كثيرة في القرآن تبدأ بقول الحق { :ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ } ول يأتي فيها
قول الحق " :قل " .وهناك آيات تأتي مسبوقة بـ " قل " " ما الفرق بين الثنين "؟
نحن نجد أن الحق مرة يتلطف مع خلقه ،فيجعلهم أهل لخطابه ،فيقول { :ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَاب } إنه
خطاب من ال لهم مباشرة .ومرة يقول لرسوله :قل لهم يا محمد لنهم لم يتساموا إلى مرتبة أن
يُخاطبوا من ال مباشرة :فإذا ما وجدنا خطابا من الحق للخلق ،مرة مسبوقا بـ " قل " ومرة
أخرى غير مسبوق فلْتعلم أن الحق سبحانه حين يخاطب خلقه الذين خلقهم يتلطف معهم مرة،
ويجعلهم أهل لن يخاطبهم ،ومرة حين يجد منهم اللجاج فإنه يبلغ رسول صلى ال عليه وسلم:
قل لهم.
والمثال على ذلك -ول المثل العلى -في حياتنا ،نجد الواحد منا يقول لمن بجانبه :قل لصاحب
الصوت العالي أن يصمت .إن هذا القائل قد َتعَالَى عن أن يخاطب هذا النسان صاحب الصوت
المرتفع فيطلب ممن يجلس بجانبه أن يأمر صاحب الصوت العالي بالسكوت .وحين يجيء
الخطاب لهل الكتاب فنحن نعرف أنهم اليهود أصحاب التوراة ،والنصارى أصحاب النجيل،
وهؤلء هم من يقول عنهم الحق { :ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَاب }.
ولم يقل أحد لنا " :يا أهل القرآن " لماذا؟ لن الحق حين يقول لهم { :ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَاب } فنحن نعرف
أن الكتاب يُطلق على كل مكتوب ،وكفرهم يعارض ما علم ال أنه موجود في الكتاب الذي أنزل
عليهم؛ لنه هو الذي أنزل الكتاب ،ويعلم أن ما في الكتاب يدعو إلى اليمان ،ول يدعو إلى
الكفر .وما دام هو الحق الذي نَزّل الكتاب ،وهو الشاهد ،فيصبح من الحمق من أهل الكتاب أن
يوقعوا أنفسهم في فخ الكفر؛ لنهم بذلك يكذبون على ال :وال -سبحانه -يسجل عليهم أنهم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خالفوا ما هو مكتوب ومنزل عليهم في كتابهم.
إنهم -أهل الكتاب -إن استطاعوا تعمية أهل الرض فلن يستطيعوا ذلك بالنسبة لخالق الرض
والسماء.
والحق حين يقول } :لِمَ َتكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ { فهل نفهم من ذلك أن كفرهم بآيات ال هو سترهم
آيات ال سترا أوليا أو أنهم آمنوا بها ،ثم كفروا بها؟ لنرى ماذا حدث منهم ،لقد كانت البشارات به
صلى ال عليه وسلم مكتوبة في التوراة ،ومكتوبة في النجيل وهم قد آمنوا بها قبل أن يجيء
سيدنا رسول ال ،فلما جاء رسول ال بالفعل كفروا بها .وفي هذا جاء القول الحكيم {:وََلمّا جَآءَ ُهمْ
كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ ُمصَدّقٌ ّلمَا َم َعهُمْ َوكَانُواْ مِن قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ فََلمّا جَآءَهُمْ مّا
عَ َرفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة]89 :
لماذا كفروا به صلى ال عليه وسلم؟ لنه زحزح عنهم السلطة الزمنية ،فلم تعد لهم السلطة
الزمنية التي كانوا يبيعون فيها الجنة ويبيعون فيها رضوان ال ويعملون ما يحقق لهم مصالحهم
دون التفات لحكام ال .وسبق أن قلت :إن قريشا قد امتنعت عن قول " :ل إله إل ال " وهذا
المتناع دليل على أنها فهمت المراد من " ل إله إل ال " ،فلو كانت مجرد كلمة تقال لقالوها،
لكنهم عرفوا وفهموا أنه ل معبود ول مطاع ول مشرع ،ول مكلف إل ال.
إن الحق يقول لهل الكتابُ } :قلْ ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِلمَ َتصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَ ْبغُو َنهَا
عوَجا{ ...
ِ
()489 /
هب أنكم خبتم في ذواتكم ،وحملتم وزر ضللكم؛ فلماذا تحملون وزر إضللكم للناس؟ .كان يكفي
أن تحملوا وزر ضللكم أنتم ،ل أن تحملوا أيضا وزر إضللكم للناس؟
حمِلُواْ َأوْزَارَهُمْ كَامِلَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ
إن الحق -سبحانه -قال {:لِ َي ْ
عِلْمٍ َألَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ }[النحل]25 :
إنه سبحانه قال ذلك مع أنه قد قالَ {:ولَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَىا }[فاطر]18 :
إن الذي ل يحمل وزرا مع وزره هو الضال الذي لم ُيضِل غيره ،فهذا يتحمل إثمه فقط .أما الذي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحمل وزر نفسه ،ووزر غيره فهو الضال المضل لغيره ،وهنا يسألهم الحق سبحانه وتعالى على
لسان رسولهِ { :لمَ َتصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ }.
كأنه يقول لهم ماذا تريدون من الدين الذي يربط العبد بربه؟ .إنكم ل تريدونه دينا قيما ,إنكم
تريدون دينا معوجا ،والمعوج عن الستقامة إنما يكون معوجا لِغرض؛ لن المعوج يطيل المسافة.
إنّ الذي يسير في طريق مستقيم ما الذي يدعوه إلى أن ينحرف عن الطريق المستقيم ليطيل على
نفسه السبيل؟ .إن كان يريد الغاية مباشرة فإنه يفضل الطريق المستقيم .أما الذي ينحرف عن
الطريق المستقيم فهو ل ينبغي الغاية المنشودة ،بل يطيل على نفسه المسافة ،وقد ل يصل إلى
الغاية.
عوَجا } وساعة تسمع " عوجا " فإننا قد
والحق يقولِ { :لمَ َتصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَ ْبغُو َنهَا ِ
نسمعها مرة " عوج " بفتح العين .ومرة نسمعها " عوج " بكسر العين .حين نسمعها " عوج " بفتح
العين ،فال َعوَج هو للشيء الذي له قيام ،كالحائط أو الرمح ،أما " العِوج " بكسر العين فهو في
شهَدَآءُ
عوَجا وَأَنْتُمْ ُ
المعاني والقيم ،لذلك يقول لهم الحق عن انحرافهم في المعاني والقيم { :تَ ْبغُو َنهَا ِ
}.
إن الحق يبلغهم :أنتم تبغون الدين عوجا برغم أنكم شهداء على أن ما جاء به محمد صلى ال
عليه وسلم هو الحق ،إنه جاء مبلغا بالصدق ،وكنتم تبشرون برسالة محمد ،وكنتم تستفتحون على
الذين أشركوا من أهل مكة وتقولون :سيأتي نبي نتبعه ثم نقتلكم معه قتل عاد وإرم .وأنتم -يا
أهل الكتاب -شهود على صدق هذا الرسول.
لقد ارتكبوا سلسلة من المعاصي؛ هم ضلوا وجهدوا أن يُضلوا غيرهم .ويا ليت ذلك يتم عن جهل،
ولكنه أمر كان يتم بقصد وعن علم.وبلغت المسألة منهم مبلغ أنهم شهود على الحق .وبرغم ذلك
أصروا على الضلل والضلل .ومعنى " الشهود " ،أنهم عرفوا ما قالوا ورأوه رأي العين،
فالشهود هو رؤية لشيء تشهده ،وليس شيئا سمعته ،لذلك يذكرهم الحق سبحانه بقولهَ { :ومَا اللّهُ
عمّا َت ْعمَلُونَ }.
ِبغَا ِفلٍ َ
إنّ الرسالة التي جاء بها محمد مبلغا واضحة ،وهذا مذكور في كتبكم السماوية .فما الذي يجعلكم
-يا أهل الكتاب -ل تلتزمون طريق الحق وأنتم شهود؟ ل بد أنكم قد مستكم شبهة إن ال يغفل
عمّا َت ْعمَلُونَ }.
عن ذلك ،فقال لهم لَ { :ومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
وبعد ذلك يأتي قول الحق سبحانه { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقا مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ
يَرُدّوكُم َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ كَافِرِينَ }
()490 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِنْ ُتطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ يَ ُردّوكُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ كَافِرِينَ ()100
معنى ذلك أن ال نبّه الفئة المؤمنة إلى أن الذين يكفرون بآيات ال لن يهدأ بالهم ما دمتم أنتم -
أيها المؤمنون -على الجادة ،وما دمتم مستقيمين ،ولن يهدأ للكافرين بآيات ال بال إل أن يشككوا
المؤمنين في دينهم ،وأن يبغوها عوجا ،وأن يكفروهم من بعد إسلمهم.
وهذه قضية يجب أن ينتبه لها الذين آمنوا؛ لن الذين يبغون المر عوجا قد ضلوا وأضلوا ،وهم
يشهدون على هذا ،ويعلمون أنّ ال غير غافل عما يعملون ،فماذا يكون موقف الطائفة المؤمنة؟
إن الحق سبحانه يوضحه بقوله { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ }.
إن أهل الكتاب يحاولون أن يصدوا المؤمنين عن سبيل ال ،وليس المقصود بالصد ،أن هناك من
يمنع المؤمنين من اليمان ،ل ،بل هي محاولة من أهل الكتاب لقناع المؤمنين بالرجوع والرتداد
عن اليمان الذي اعتنقوه؛ فالمؤمنون هم الطائفة التي تلتزم بالتكليف من ال ،لذلك يحذرهم الحق
سبحانه بقوله:
{ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقا مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ ،يَرُدّوكُم َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ كَافِرِينَ } الحق يحدد قسما من
الذين أوتوا الكتاب ،وذلك تأريخ بنزاهة وصدق وحق ودون تحامل .كأن الحق سبحانه يبلغنا أن
هناك فريقا من أهل الكتاب سيسلكون الطريق السوي ،ويجيئون إلى المسلمين أرسال وجماعات
وأفرادا مع السلم؛ فالحق ل يتكلم عن كل الذين أوتوا الكتاب .لذلك يقول الحق { إِن تُطِيعُواْ
فَرِيقا مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ } إن الحق يؤرخ وهو يحمى الحقيقة ،ويقول سبحانه بعد ذلك:
ن وَأَنْتُمْ تُتْلَىا عَلَ ْيكُمْ آيَاتُ اللّهِ َوفِيكُمْ رَسُولُهُ} ...
{ َوكَ ْيفَ َتكْفُرُو َ
()491 /
ن وَأَنْتُمْ تُ ْتلَى عَلَ ْي ُكمْ آَيَاتُ اللّ ِه َوفِيكُمْ رَسُولُ ُه َومَنْ َيعْ َتصِمْ بِاللّهِ َفقَدْ ُه ِديَ إِلَى صِرَاطٍ
َوكَيْفَ َت ْكفُرُو َ
مُسْ َتقِيمٍ ()101
إنه استعظام وتعجيب من أن يأتي الكفر مرة أخرى من المؤمنين وهم في نعيم المعرفة بال،
فآيات ال تُتلى عليهم ،ورسول ال حق ومعهم وفيهم.
ويقول الحق سبحانه للمؤمنين { :إِن ُتطِيعُواْ فَرِيقا مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ } إنّ لذلك قصة؛ فقد كان
اليهود في المدينة يملكون السلطة القتصادية؛ لنهم يجيدون التعامل في المال ،وكل من يريد مال
يذهب إليهم ليقترض منهم بالربا .وكان لليهود أيضا التفوق والتميز العلمي؛ لنهم يعلمون الكتاب،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بينما كان غالبية أهل مكة والمدينة من الميين الذين ل يعرفون كتابا سماويا .وكذلك كان هناك
تميز آخر لليهود هو خبرتهم بالحرب؛ فلهم قلع وحصون .هكذا كان لليهود ثلثة أسباب للتميز:
المال يحقق الزعامة القتصادية ،والعلم ..بالكتاب وهو تفوق علمي ،ثم خبرتهم بفنون الحرب،
وكانوا فوق ذلك يحاولون إيجاد الخلف بين الناس وتعميقه .مثل محاولتهم إثارة العداوات بين
الوس والخزرج .والمتاجرة بذلك حتى تظل الحروب قائمة ،وبذلك يضمنون رواج تجارة
السلحة التي يصنعونها ويمدون بها كل فريق من المتحاربين.
ولما جاء السلم وحّد الرسول صلى ال عليه وسلم بين الوس والخزرج وبذلك ضاع منهم
التفوق القتصادي .وجاء السلم بدين وكتاب مهيمن على الكتب ،فضاعت من اليهود المنزلة
العلمية .وكذلك ضاعت من اليهود المنزلة الحربية؛ فقد رأوا قلة من المؤمنين هزموا الكفار
وأنزلوا بهم هزيمة نكراء في بدر ،وهكذا ضاع كل سلطان لليهود في المدينة ،لذلك أرادوا أن
يعيدوا المر إلى ما كان عليه قبل أن يجيء السلم ،فقالوا فلنؤجج ونشعل ما بين الوس
والخزرج من العداوات ونهيجها ،وقال شخص اسمه " شأس بن قيس " وقد رأى نور اليمان يعلو
وجوه الوس والخزرج ويشملهم النسجام اليماني .وتوجد بينهم المودة وابتسامات الصفاء ،هيّج
ذلك شأس بن قيس وقال " :وال ل بد أن نعيدها جذعة ونرجعهم إلى ما كانوا عليه من أحقاد
وعداوات ،فل استقرار لنا ما دامو قد اجتمعوا ".
فأرسل فتى من اليهود وجلس بين الوس والخزرج ،ثم تطرق الحديث منه إلى يوم يسمى يوم "
بعاث " ،وهو اسم يوم من أيام العرب قبل السلم ،وكان بين الوس والخزرج ،وكان النصر فيه
للوس على الخزرج ،وجلس الفتى اليهودي يذكر ويأتي بالشعر الذي قيل في هذا اليوم فهيّج
حمية الوس والخزرج وحدث النزاع ،وحصل التفاخر واستيقظ التباغض ،وقالوا " :السلح..
السلح " وهكذا نجحت المكيدة ،ونمى الخبر إلى سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقام صلى
ال عليه وسلم ومعه صحابته ،حتى انت َهوْا إلى اجتماع الوس والخزرج ،فوجدوا الحال على أشد
درجات الهياج ،نزاع ،وتباغض ،وسلح محمول ،فقال الرسول صلى ال عليه وسلم :أبِدَعْوى
الجاهلية وأنا بين أظهركم!!
أي كان من الواجب أن تخجلوا من أنفسكم؛ لن رسول ال بينكم ،وأضاف رسول ال صلى ال
عليه وسلم :لقد أكرمكم ال بالسلم ،وقطع به عنكم أمر الجاهلية ،وألف بين قلوبكم ،فماذا كانت
مواقع كلمات الرسول في نفوس القوم؟ لقد دفعتهم كلماته صلى ال عليه وسلم إلى إلقاء السلح،
وبكوا وعانق بعضهم بعضا وانصرفوا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فما كان يوم أقبح أول
وأحسن آخرا من ذلك اليوم.
وعندما نتأمل ما فعله هؤلء القوم من اليهود لشعال الفتنة بين الوس والخزرج نجد أنهم قد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أدركوا طبيعة النزاع القديم بين الوس والخزرج فأرادوا أن يهيجوا تلك العداوات والحقاد
القديمة ،وكذلك نجد أن تهييج المشاعر بين الوس والخزرج جعل للنفلت بابا فكاد القتال
يشتعل ،وعندما تكلم فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم هدأت المواجيد ،وألقوا السلح ،وندموا
على ما فعلوا.
وإذا أردنا أن نرى المر بعمق التصور ِلمَا حدث فإننا نجد أن إدراك العداوة بين الوس
والخزرج من اليهود هو الذي دفع اليهود لتحريك هذا الدراك الخاطئ وإحياء الثارات القديمة ،ثم
كان انفعال الوس والخزرج بتلك الثارات القديمة قد فتح الباب لحمل السلح للقتتال.
وهكذا نجد أن الدراك للشيء ،يمر بثلث مراتب :أول :الحساس بالشيء ،ثانيا :انفعال النفس
له ،ثالثا؛ النزوع السلوكي ،وعندما تحدث الرسول صلى ال عليه وسلم ،أدرك الوس والخزرج
المر بطريقة عكسية فألقوا السلح ،وهدأت مواجيد البغضاء ،وتركوا الدراكات الخاطئة.
لقد ذكرهم النبي صلى ال عليه وسلم بثلثة أشياء هي " :أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وقد
أكرمكم ال بالسلم وقطع به عنكم أمر الجاهلية .وألف بين قلوبكم " .وقد استقبلوا ذلك بإلقاء
السلح أول ،ثم البكاء ثانيا ،وهو أمر حركته المواجيد فيهم ثم تعانقوا أي صححوا الدراكات
ثالثا ،وهكذا حدث النزوع بالعكس .ولما حدث ذلك أصاب اليهود الغيظ والخيبة والنكد .وقال
المؤرخ لهذه القصة :فما كان يوم في السلم أسوأ أول وأحسن آخرا إلّ ذلك اليوم.
لقد بدأ اليوم بعبوس ،وانتهى بإشراق الطمأنينة ،وبعد ذلك وُجدت الخلية التي تكوّن المناعة في
نفوس المؤمنين ،بعد أن قال الرسول صلى ال عليه وسلم ذلك القول " :أبِدَعوى الجاهلية وأنا بين
أظهركم بعد إذا أكرمكم ال بالسلم ،وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ".
لقد صار هذا القول الكريم مستحضرا عند كل نزع لشيطان ،أو كيد لعدو .لقد جعل الحق المناعة
ضد فعل الكيد ،ونزغ الشيطان عند المؤمنين من الوس والخزرج ،وهكذا نرى أن ال يسخر
الكافر حتى في رفعة شأن اليمان ،فلو لم تحدث هذه المسألة ويأتي الرسول صلى ال عليه
بمنطقه المؤثر وهو بين القوم ليقول ذلك القول لما أصبح لدى المسلمين هذه المناعة من الرتفاع
عن البغضاء فيما بينهم ،ولو كان أحد من أتباع الرسول قد قال مثل هذه الكلمة فقد كان من
المحتمل أن يحدث هذا الثر ،لكن عندما قالها الرسول صلى ال عليه وسلم فقد أوجدت المناعة
لغيرها من الحداث التي يأتي وقد ل يكون الرسول موجودا.
ولذلك فأنت أيها المؤمن إن نظرت إلى الكافرين .فإنك تجد عقولهم خائبة .لقد نشروا السلم -
دون إرادتهم -بمواقفهم الحمقاء ،فمثل حين قالوا :سيأتي نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم،
فما الذي حدث؟
إن النصار ساعة أن سمعوا بالدين الجديد قال بعضهم لبعض :اسمعوا يا قوم ،إنه الدين الذي
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بشرتكم به يهود ،فقبل أن يسبقونا إليه هيا بنا نسبق نحن اليهود إليه.
لقد كان استعلء اليهود وتفاخرهم على الوس والخزرج دافعا للوس والخزرج على الدخول في
السلم ،وهكذا يجعل الحق سبحانه وتعالى كفر الكافر مؤثرا في تثبيت إيمان المؤمن.
وحين يقول الحق سبحانهَ } :وكَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىا عَلَ ْيكُمْ آيَاتُ اللّهِ َوفِيكُمْ رَسُولُ ُه َومَن َيعْ َتصِم
بِاللّهِ َفقَدْ هُ ِديَ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ { نفهم انه استعظام وتعجيب يأتي من الحق .فساعة تسمع} :
كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ { فذلك أمر عجيب ،لنه من المستبعد أن يكفر المؤمنون وكتاب ال يتلى عليهم،
ورسول ال فيهم.
ويجيء من بعد ذلك الدعوة إلى العتصام بال ،ومعنى العتصام :التمسك ،ول يتأتي إل في
علو ،فيقال " :اعتصمت بحبل اليمان " لن للنسان ثقل ذاتيا ،هذا الثقل الذاتي إن لم يرفعه
سواه ،فإنه يقع بالنسان .وهذا ل ينشأ إل إذا كان النسان معلقا في الجو ويمسك بحبل ول يوجد
من يدفعه إلى أسفل ،بل النسان بثقله الخاص يهبط إلى الرض .فمن يعتصم بال ويمسك بحبل
اليمان فإنه يمنع نفسه من ال ُهوِيّ والسقوط.
وهنا نشعر أن العتصام بال هو أن نتبع ما تُِليَ علينا من اليات ،وما سنه لنا رسول ال صلى
ال عليه وسلم .إذن فباب العتصام هو كتاب ال وسنة رسوله ،وكذلك كان وجود الرسول بين
أظهرهم هو المر الضروري ،لنهم كانوا منغمسين في حمأة الجاهلية ،فل بد أن توجد إشراقة
الرسول بينهم حتى تضيء لهم ،فيروا أن ال قد أخرجهم من الظلمات إلى النور .ولم يقبض الحق
رسوله إل بعد أن أكمل لنا الدين ،وأتم علينا النعمة ورضي لنا السلم دينا .قال الرسول صلى
ال عليه وسلم " :تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب ال وسنتي ".
هكذا نرى أن وجود آيات ال ،وسنة رسول ال هي العاصم الذي يهدي إلى صراط مستقيم.
والهدى كما نعرف هو ما يوصل إلى الغاية المرجوة ،فهب أن غايتك أن تذهب إلى مكان معين
فالذي يوصلك إلى ذلك المكان هو هدى ،وكل ما يدل إنسانا على الموصل للغاية اسمه هدى.
والحق سبحانه وتعالى خلق الخلق جميعا ،وجعل بعض الخلق مقهورا ،وبعض الخلق مخيرا.
والمقهور من خلق ال هو كافة المخلوقات في الكون ما عدا النسان إل في بعض أموره فإنه
مقهور فيها أيضا ولذلك قلنا :إن كل ما عدا النسان من خلق ال يؤدي مهمته كما طُلبت منه ،فما
امتنعت الشمس أن تشرق على الناس يوما ،ول امتنعت الريح أن تهب ،ول امتنعت السماء عن
أن تمطر ،ولم تقل الرض للنسان إنك تعصي ال فل أنبت لك ،ول جاء إنسان ليركب الدابة
المسخرة فقالت :ل؛ إنك عاصٍ ،ولذلك سأحرن فل أمكنك من ركوب ظهري.
هكذا نرى أن كل شيء ما عدا النسان مسخر مقهور للغاية المرجوة منه ،وهو خدمة ذلك
النسان .والنسان وحده هو الذي له اختيار ..ولذلك يجب أن نتنبه دائما إلى أن ال قد جعل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للخلق تسخيرا وتسييرا ،وجعل الجماع في كل الجناس ،ولكن النقسام جاء عند النسان فقال
س وَا ْل َقمَرُ
شمْ ُ
ض وَال ّ
سمَاوَاتِ َومَن فِي الَرْ ِ
جدُ لَهُ مَن فِي ال ّ
الحق سبحانه {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْ ُ
علَيْهِ ا ْلعَذَابُ َومَن ُيهِنِ اللّهُ َفمَا لَهُ
وَالنّجُو ُم وَا ْلجِبَالُ وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآبّ َوكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ َوكَثِيرٌ حَقّ َ
مِن ّمكْرِمٍ إِنّ اللّهَ َي ْفعَلُ مَا يَشَآءُ }[الحج]18 :
إن الجمادات الساجدة المسخرة هي " :الشمس والقمر والنجوم " ،والنبات الساجد المسخر هو "
الشجر " ,وكذلك " الدواب " فهي ضمن الكائنات التي عليها حكم الحق بالجماع ،بأنها كلها تسجد
س َوكَثِيرٌ حَقّ عَلَ ْيهِ ا ْلعَذَابُ {.
خاضعة مسخرة .أما النسان فقد قال الحق عنهَ } :وكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ
إذن فالنقسام جاء عند من؟ لقد جاء النقسام عند النسان.لماذا؟ لن ال خلق النسان مختارا .ألم
يكن من الممكن أن يخلق النسان مسخرا كبقية الكائنات؟ أليس التسخير دليلً على قدرة المسخر،
وأن شيئا من خلقه لن يخرج من قدرته ,هذا صحيح ،لكن الحق سبحانه كما أراد أن يثبت القدرة
والقهر بالتسخير ،أراد أن يثبت المحبوبية بالختيار .فمن كان مختارا أن يؤمن أو يعصي ،ثم
اختار أن يؤمن ،فهذا الختيار إنما يثبت به النسان المحبوبية ل.
هكذا صنف ال الخلق بين قسم قهري يثبت القدرة ،وقسم اختياري يثبت المحبوبية ،ولهذا أراد ال
للنسان أن يكون مختارا أن يفعل أو ل يفعل .فلماذا -إذن -ل يفعل النسان كل أفعاله وهي
منسجمة مع اليمان؟ لن للشهوة بريقا سطحيا ،وهذا البريق السطحي يجذب النسان كما تجذب
النا ُر الفَرَاش.
عندما يوقد النسان نارا ما في الخلء فضوؤها يجذب الفَرَاش ،ويحترق الفَراش بنيران الضوء؛
فقد جذبه النور وأغراه ،ولكنه لم يعرف أن مصرعه في تلك النار.
والحكمة العربية تقول " :رب نفس عشقت مصرعها " كذلك في الشهوات ،تتزين الشهوة للنسان،
فتجذبه إليها فيكون فيها مصرع النسان.
لكن ما الحماية للنسان من ذلك؟
إن الحماية هي في منهج ال " افعل " .و " ل تفعل " فمن يرد أن ينقذ نفسه من كيد الشيطان وكيد
النفس فعليه أن يخضع لمنهج ال في " افعل " و " ل تفعل " .وقد قلت قديما :إنه من الحمق أن
يصنع صانع صنعةً ما ،ثم ينسى أن يضع لها قانون الصيانة .والنسان في حدود صناعته ل
ينسى ذلك ،فما بالنا بالحق سبحانه بطلقة قدرته؟
إن الخالق سبحانه وتعالى قد صنع النسان ،ووضع الحق سبحانه وتعالى قانون صيانة صنعته في
النسان فقال جل وعل :افعل كذا ول تفعل كذا ،فمن أراد أن يعتصم بالحبل المتين فل يأتي له
نزغ شيطان أو كيد عدو ول هوى نفس .فليعتصم بمنهج ال؛ لن ال هو الذي خلقه وهو الذي
وضع منهجه كقانون لصيانة صنعته ،وهو قانون الموجز في " افعل ول تفعل ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحقَ } :ومَن َيعْ َتصِم بِاللّهِ َفقَدْ هُ ِديَ ِإلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ { وكلمة العتصام أروع ما تكون
عندما يكون النسان في الهواء معلقا في الفراغ ،وهو في أثناء وجوده في الفراغ فإن ثقله الذاتي
هو الذين يوقعه ويسقطه ،لكن عندما يتمسك النسان بمنهج ال فإنه ينقذ نفسه من السقوط والهوى
(بضم الهاء وكسر الواو) ومهمة الشيطان أن يزيّن المعصية بالبريق ،فتندفع شهوات النفس هائجة
إلى المعصية ,ولذلك يأتي الشيطان يوم القيامة ويأخذ الحجة علينا .يقول الحقَ {:وقَالَ الشّيْطَانُ َلمّا
خَلفْتُكُ ْم َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِإلّ أَن
ق َووَعَدّتكُمْ فَأَ ْ
حّلمْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُ ْم وَعْدَ الْ َ
ياَ
ُقضِ َ
خيّ إِنّي كَفَ ْرتُ
خكُمْ َومَآ أَن ُتمْ ِب ُمصْرِ ِ
سكُمْ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ
دَ َ
ِبمَآ أَشْ َركْ ُتمُونِ مِن قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }[إبراهيم]22 :
والسلطان كما نعرف نوعان :النوع الول هو أن يقهر الشيطانُ النسانَ ،والشيطان ل قدرة له
على ذلك .والنوع الثاني هو أن يقنع الشيطان النسان بأن يفعل ذلك الخطأ.
ما الفرق بين القناع والقهر في هذا المجال؟
إن القهر هو أن يجبر الشيطان النسان على أن يفعل شيئا ل يريده النسان .أما القناع فهو أن
يزين الشيطان المر للنسان فيفعله النسان بالختيار ويعلن الشيطان يوم القيامة :لم يكن لي
سلطان أقهرك به أيها النسان حتى تعصي ال ،لقد زينت لك المعصية أيها النسان فاستجبت لي.
خيّ { ما معنى " مصرخكم "؟
خكُمْ َومَآ أَن ُتمْ ِب ُمصْرِ ِ
إن الشيطان يوم القيامة يقول } :مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
إنها مشتقة من " أصرخ " ،أي سمع صراخك فأغاثك وأنجدك ،فمصرخ :مغيث ومنجد،
والشيطان يعلن أنه لن يستطيع نجدة النسان ،ول النسان بمستطيع أن ينجد الشيطان.
إذن ،فثقل النفس البشرية هو ما يوقع النسان في الهاوية دون أن يلقيه أحد فيها ،ول إنقاذ للنسان
من الهاوية إل بالعتصام بحبل ال .كأن منهج ال هو الحبل الممدود إلينا ،فمن يعتصم به ينجو
من الهاوية.
وما دمنا نعتصم بحبل ال وهو القرآن المنزل من خالقنا والسنة النبوية المطهرة ،وسبحانه يعلم
كيد النفس لصاحبها -فل بد أن يهدينا ال إلى الصراط المستقيم .وبعد ذلك يقول الحق سبحانه} :
حقّ ُتقَاتِهِ{ ...
ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّهَ َ
()492 /
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ّتقُوا اللّهَ حَقّ ُتقَاتِ ِه وَلَا َتمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسِْلمُونَ ()102
إن ال قد أعطى المؤمنين المناعة أول بأل يسمعوا كلم أعداء الدين .وحين نسمع كلمة " اتقوا "
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلنفهم أن هناك أشياء تسبب لك التعب والذى ،فعليك أن تجعل بينك وبينها وقاية ،ولذلك قال
الحق {:وَا ّتقُواْ النّارَ الّتِي أُعِ ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ }[آل عمران]131 :
إنه الحق يطلب من النسان أن يجعل بينه وبين النار وقاية وحجابا يقيه منها .والحق سبحانه
حسَابِ }[المائدة]4 :
وتعالى حين يقول على سبيل المثال {:وَا ّتقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ الْ ِ
إي اجعل بينك وبين ال حجابا يقيك من غضبه .وقد يقول قائل :كيف يكون ذلك وأنا كمؤمن أريد
أن إعيش في معية ال؟
نقول :إنك تجعل الوقاية لنفسك من صفات جلل ال ،وأنت تستظل بصفات الجمال ،فالمؤمن
الحق هو من يجعل لنفسه وقاية من صفات جلل ال ،وهي القهر والجبروت وغيرها ،وكذلك
النار إنّها من جنود صفات الجلل .فحين يقول الحق { :ا ّتقُواْ النّارَ } أو { ا ّتقُواْ اللّهَ } فالمعنى
حقّ ُتقَاتِهِ } ماذا تعني (حق تقاته)؟ إن
واحد .وعندما يسمع إنسان قول الحق سبحانه { :ا ّتقُواْ اللّهَ َ
كلمة " حق " -كما نعرف -تعني الشيء الثابت الذي ل يزول ول يتزحزح ،أي ل ينتهي ول
يتذبذب ،هذا هو الحق.
إذن ما حق التقي؟ هو أن يكون إيمانك أيها المؤمن إيمانا راسخا ل يغادرك ول تتذبذب معه،
واتقاء ال حق تقاته هو اتباع منهجه ،فيطاع ال باتباع المنهج فل يعصي ،ويُذكر فل ينسى،
ويُشكر ول يُكفر .وطريق الطاعة يوجد في اتباع المنهج بـ " افعل " و " ل تفعل " ويذكر ول
ينسى؛ لن العبد قد يطيع ال ،وينفذ منهج ال ،ولكن النعم التي خلقها ال قد تشغل العبد عن ال،
والمنهج يدعوك أن تتذكر في كل نعمة من أنعم بها ،وإياك أن تنسيك النعمة المنعم.
ويشكر العبد ال ول يكفر بالنعم التي وهبها له ال .وما دمت أيها العبد تستقبل كل نعمة وتردها
إلى ال وتقول " :ما شاء ال ،ل قوة إل بال " ول تكفر بالنعم أي أنك تؤدي حق النعمة ،وكل
نعمة يؤدي العبد حقها تعني أنها نعمة شكر العبد ربه عليها ،ولم يكفر بها.
حقّ ُتقَاتِهِ } أي أَنه ل تأخذك في ال لومة لئم ،أو أن تقول الحق ولو على
وقيل في معنىَ { :
نفسك .هذا ما يقال عنه " حق التقى " ،أي التقى الحق الذي يعتبر تقى بحق وصدق .وقال
العلماء :إن هذه الية عندما نزلت وسمعها الصحابة ،استضعف الصحابة نفوسهم أمام مطلوبها،
طعْتُمْ }
فقال بعضهم :من يقدر على حق التقى؟ ويقال :إن ال أنزل بعد ذلك {:فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْ َت َ
[التغابن]16 :
فهل معنى هذا أن ال كلف الناس أول ما ل يستطيعون ،ثم قال من بعد ذلك } :فَاتّقُواْ اللّهَ مَا
طعْتُمْ {؟ ل ،إنه الحق سبحانه ل يكلف إل بما في الوسع ،والناس قد تخطئ الفهم لقوله
اسْ َت َ
طعْتُمْ { فيقول العبد :أنا غير مستطيع أن أقوم بذلك التكليف ،ويظن هذا
تعالى } :فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْ َت َ
طعْ ُتمْ { أي
العبد أن التكليف يسقط عنه .ل ،إن هذا فهم خاطئ؛ إن قوله الحق } :فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْتَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنك تتقي ال بما كان في استطاعتك من الوسع ،فما باستطاعتك أن تقوم به عليك أن تقوم به .فل
يهرب أحد إلى المعنى المناقض ويقول :أنا غير مستطيع؛ لن ال يعلم حدود استطاعتك.
وساعة تكون غير مستطيع فهو -سبحانه -الذي يخفف ..إنك ل تخفف أنت على نفسك أيها
العبد ،فالخالق الحق هو الذي يعلم إذا كان المر خارجا عن استطاعتك أو ل ،وساعة يكون المر
خارجا عن استطاعتك فال هو الذي يخفف عنك .ولذلك فعلى النسان أل يستخدم القول الحق {:لَ
س َعهَا }[البقرة]286 :
ل وُ ْ
ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ
في غير موضعه؛ لن النسان ل يستطيع أن يقدر الوسع ،ثم يبني التكليف على الوسع .بل عليك
أن تفهم أيها النسان أن ال هو الذي خلق النفس ،وهو الذي أنزل التكليف لوسع النفس ،وما دام
الخالق للنفس هو ال فهو العليم بوسع النفس حينما قرر لها المنهج .إنه سبحانه الذي كلف ،وهو
العليم بأن النفس قد وسعت ،ولذلك فهو ل يكلف نفسا إل وسعها .فإن كان سبحانه قد كلف فأعلم
أيها العبد أنه سبحانه قد كلف بما في وسعك ،وعندما يحدث للنسان ما يشق عليه أو يمنعه من
أداء ما كلف به تامّا فهو -سبحانه -يضع لنا التخفيف وينزل لنا الرخص .مثال ذلك :المريض
أو الذي على سفر ،له رخصة الفطار في رمضان ،والمسافر له أن يقصر الصلة.
إذن فال سبحانه هو الذي علم حدود وسع النفس التي خلقها ،ولذلك ل تقدر وسعك أول ثم تقدر
التكليف عليه ،ولكن قدّر التكليف أول ،وقل :ما دام الحق قد كلف فذلك في الوسع .وفي تذييل
الية الكريمة بقولهَ } :ولَ َتمُوتُنّ ِإلّ وَأَنْ ُتمْ مّسِْلمُونَ { نجد أنفسنا أمام نهي عن فعل وهو :عدم
الموت إل والنسان مسلم.
كيف ذلك؟ أيقول لك أحد :ل تمت؟ إن ذلك المر ليس لك فيه اختيار؛ لنه أمر نازل عليك .فإذا
قيل لك :ل تمت ،فإنك تتعجب؛ لن أحدا ل يملك ذلك ،ولكن إذا قيل لك :ل تمت إل وأنت مسلم،
فأنت تفكر ،وتصل بالتفكير إلى أن الفعل المنهي عنه :ل تمت ليس في قدرة النسان؛ ولكن الحال
الذي يقع عليه الفعل وهو :إل وأنت مسلم ،في قدرة النسان؛ لذلك تقول لنفسك :إن الموت يأتي
بغير عمل مني ،ولكن كلمة :إل وأنت مسلم ،فهي باستطاعتي ،لن السلم يكون باختياري.
صحيح أنك ل تعرف متى يقع عليك الموت؟ ولذلك تحتاط والحتياط يكون بأن تظل مسلما حتى
يصادفك الموت في أي لحظة وأنت مسلم.
ل وَأَنْتُمْ مّسِْلمُونَ { هو نهي عن الفعل الول وهو ليس باختيارنا.
إذن ..فقول ال } :وَلَ َتمُوتُنّ ِإ ّ
والحال الذي لنا فيه اختيار هو } وَلَ َتمُوتُنّ ِإلّ وَأَنْ ُتمْ مّسِْلمُونَ { فكيف نوفق بين المرين؟ إن
الموت ل اختيار لحد منا متى يقع عليه ،ولذلك نأتي إلى المر الذي لنا فيه اختيار ،وهو أن
نحرص على أن نكون مسلمين ،ويظل كل منا متمسكا بأهداب السلم ،فإن صادف الموت في أي
لحظة يكون مسلما وكأن الحق سبحانه يقول لنا :تمسكوا بإسلمكم؛ لنكم ل تدرون متى يقع عليكم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الموت.
وإخفاء الموت عن النسان ليس إبهاما كما يظن البعض ،ل؛ إنه منتهي البيان الواسع؛ لن إخفاء
الموت ،وميعاده عن النسان زمنا وحال ،وسنا وسببا ،كل ذلك يوضح الموت أوضح بيان .لماذا؟
لن ال حين استأثر بعلم الموت فالنسان منا يترقب الموت في أي لحظة وما دام النسان مترقبا
للموت في أي لحظة فهذا بيان واسع بل هو أوسع بيان .ويقول الحق بعد ذلك } :وَاعْ َتصِمُواْ بِحَ ْبلِ
عدَآءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ{ ...
جمِيعا َولَ َتفَ ّرقُواْ وَا ْذكُرُواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ كُنْتُمْ أَ ْ
اللّهِ َ
()493 /
جاء هذا القول الكريم لينبه كل المؤمنين ،من خلل التنبيه للوس والخزرج ،وكأنه يقول :اعلموا
أن التفاخر قبل السلم كان وبأشياء ليست من السلم في شيء .لكن حين يجيء السلم
فالتفاخر يكون بالسلم وحده فإذا ما تغاضى إنسان بما قبل السلم بقوله :منا كذا ..ومنا كذا.
فهنا يأتي الردّ :ل؛ إن ذلك قبل السلم.
وقد حدث أن قال الوس من بعد السلم " :منا خزيمة " فقال واحد من الخزرج :ومنا أبيّ بن
كعب وزيد بن ثابت فقال واحد من الوس :منا حنظلة ابن الراهب وحنظلة هذا هو غسيل
الملئكة ،وخزيمة بن ثابت صحابي جليل جعل الرسول صلى ال عليه وسلم شهادته بشهادتين؛
لن خزيمة صاحب إيمان نوراني .ونورانية اليقين هدته إلى الحكم الصواب؛ " فقد اشترى النبي
صلى ال عليه وسلم فرسا من أعرابي وذهب ليحضر له الثمن ،ولكن العرابي أنكر البيع لن
بعض الناس زاده في ثمن الفرس دون علم أن الرسول قد اشتراه فنادى العرابي الرسول وقال
له إن كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه وإل بعته.
فقال النبي للرجل " :ألست قد ابتعته منك " .فقال الرجل هات شاهدا يشهد بذلك .لقد انتهز الرجل
فرصة أن النبي ابتاع منه دون وجود أحد في هذا الوقت ،وكان سيدنا خزيمة جالسا لحظة مطالبته
للنبي بشاهد .فقال سيدنا خزيمة :أنا أشهد يا رسول ال أنك قد بايعته.
ولن الرجل كاذب ،قال لنفسه :لعل خزيمة رآنا وأنا أبيع الفرس للنبّي فسكت الرجل وانصرف،
وبعد أن انصرف الرجل نادى الرسول خزيمة .وقال له " :يا خزيمة بم تشهد ولم تكن معنا؟ "
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقال :أنا أصدقك في خبر السماء ول أصدقك بما تقول؟ أعلم أنك ل تقول إل حقا قد آمناك على
أفضل من ذلك ،على ديننا .فعلم الرسول أن لخزيمة نورانية التصديق وحسن الستنباط ،فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من شهد له خزيمة فحسبه " ".
فالمر الذي يحتاج شاهدين تكفي فيه شهادة خزيمة ،وبذلك أعطى الرسول صلى ال عليه وسلم
الوسام لخزيمة وجعل شهادته شهادة رجلين ،ولنر كيف جمع ال بين الوس والخزرج في جمع
القرآن ،قال زيد بن ثابت :فآليت على نفسي ألّ أكتب آية إلّ إذا وجدتها مكتوبة وشهد عليها
اثنان ،إلّ آخر التوبة فوجدتها مكتوبة ولم يشهد عليها إلّ خزيمة ،وكان الرسول صلى ال عليه
وسلم قد قال في خزيمة " :من شهد له خزيمة فحسبه " ولنا أن نعرف أن زيد بن ثابت من
الخزرج وأن خزيمة من الوس .لقد جمعهما ال في جمع القرآن ،فنفع الوسي الخزرجي ،وذلك
ليدلنا الحق سبحانه دللة جديدة ،وهي أن التفاخر قبل السلم كان بغير السلم ،لكن ساعة يجيء
السلم فأي واحد من أي جنس ما دام قد أحسن السلم ،فله أن يفخر به ،فإياك يا أوسيّ أن
تقول " :منا خزيمة "؛ فالخزرجي له الفخر بخزيمة أيضا ،وليس للخزرجي أن يقول " :منا زيد بن
ل منهما قد جمعه ال بالخر في القرآن ،والسلم،
ثابت " فللوسي أيضا أن يفخر به ،لن كُ ّ
وهكذا يكون العتصام بحبل ال.
جمِيعا َولَ َتفَ ّرقُواْ وَا ْذكُرُواْ ِن ْعمَتَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ ِإذْ
صمُواْ ِبحَ ْبلِ اللّهِ َ
يقول الحق سبحانه وتعالى } :وَاعْ َت ِ
عدَآءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ { إنّ الحرب ظلت مستعرة بين الوس والخزرج مائة وعشرين عاما
كُنْتُمْ أَ ْ
مع أن أصل القبيلتين واحد ،هما أخوان لب وأم وعندما جاء السلم ألف ال بين قلوبهم
وأصبحوا بنعمته إخوانا.
وهذا يدلنا على أن كل نزغةِ جارحةٍ من الجوارح ل بد أن يكون وراءها هبة قلب وثورته
وهياجه ،فاليد ل تصفع أحدا من فراغ ،ولكن الصفعة توجد في القلب أول } فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ { ،
حفْ َرةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَ َذكُمْ مّ ْنهَا { والشفا هي الحافة .ومرة
شفَا ُ
إن الحق سبحانه يقولَ } :وكُنْتُمْ عَلَىا َ
يقال " :شفا " ومرة يقال " :شفة " .لقد كانوا على حافة النار ،ومن كان على الحافة فهو يوشك أن
يقع ،فكأن ال يقول :لقد تداركتم بالسلم ،ولول السلم لهويتم في النار.
ويقول سبحانه } :كَذاِلكَ يُبَيّنُ اللّهُ َلكُمْ آيَا ِتهِ َلعَّلكُمْ َتهْ َتدُونَ { وهكذا نرى نعمة السلم في الدنيا،
فقدرة اليمان على إنقاذ النسان من النار ل تحتاج إلى انتظار بل يستطيع المؤمن أن يراها في
الدنيا .ولقد كان العرب قبل السلم مؤرقين بالختلفات ،وموزعين بالعصبية ،وكل يوم في
شقاق .ولما جاء السلم صاروا إخوانا ،وهذه نعمة عاجلة في الدنيا ,والدنيا كما نعرف ليست دار
جزاء ،فما بالك بما يكون في الخرة وهي دار الجزاء والبقاء.
وقوله الحقَ } :لعَّل ُكمْ َتهْتَدُونَ { المقصود به أن تظلوا على هدايتكم .لقد خاطبهم الحق } :إِذْ كُنْتُمْ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خوَانا { وساعة يطلب التشريع منك ما أنت عليه ،فاعلم
أَعْدَآءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ فََأصْبَحْ ُتمْ بِ ِن ْعمَتِهِ ِإ ْ
أن التشريع يريد منك استدامته ،فعندما يقول الحق (يا أيها الذين آمنوا) أي مع اليمان الذي معكم
قبل كلمي ،جددوا إيمانا بعد كلمي ليستمر لكم اليمان دائما .وبعد ذلك يقول الحق سبحانه} :
وَلْ َتكُن مّ ْن ُكمْ ُأمّةٌ َيدْعُونَ ِإلَى ا ْلخَيْ ِر وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَيَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ{ ...
()494 /
وَلْ َتكُنْ مِ ْن ُكمْ ُأمّةٌ َيدْعُونَ ِإلَى ا ْلخَيْ ِر وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَيَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلمُفِْلحُونَ (
)104
وكلمة " أمة " تطلق مرة ،ويراد بها الجماعة التي تنتسب إلى جنس ،كأمة العرب ،أو أمة الفرس،
أو أمة الروم ،ومرة تطلق كلمة " أمة " ويراد بها الملة أي الدين ،ومرة ثالثة تطلق كلمة " أمة "
ويراد بها الفترة الزمنية كقول الحقَ {:وقَالَ الّذِي نَجَا مِ ْن ُهمَا وَا ّدكَرَ َب ْعدَ ُأمّةٍ أَنَاْ أُنَبّ ُئ ُكمْ بِتَ ْأوِيلِهِ
فَأَرْسِلُونِ }[يوسف]45 :
إن الرجل الذي فسر له سيدنا يوسف الرؤيا تذكر سيدَنا يوسف بعد أمة أي بعد فترة من الزمن،
ومرة تطلق كلمة " أمة " على الرجل الجامع لصفات الخير {.إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتا لِلّهِ حَنِيفا
وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[النحل]120 :
لن خصال الخير ليس من الضروري أن تجتمع في واحد ،ولكنها قد تجتمع في عدد من الفراد
فيكون هناك فلن المتميز بالصفة الطيبة ،وغيره متصف بصفة أخرى طيبة ،وثالث فيه صفة
طيبة ثالثة ،ومن مجموع المة تظهر صورة الكمال ،لكن إبراهيم عليه السلم اجتمعت فيه كل
خصال الخير المكتمل.
وساعة أن تأتي لنسان ونَقول له :ليكن منك شجاع فما ذلك؟ إن معناه ،أن يجرد النسان من
نفسه ويخرج منها شخصا شجاعا ،وذلك بتدريبها وتعويدها على ذلك حتى يكون النسان شجاعا،
أو تقول لخر :ليكن منك كريم ،أي أخرج من نفسك رجل كريما.
وقوله الحق سبحانه { :وَلْ َتكُن مّ ْن ُكمْ ُأمّةٌ َيدْعُونَ ِإلَى ا ْلخَيْرِ }.
هذا القول يعني ان يكون منكم أيها المخاطبون أمة تدعو إلى الخير ،ومعناه أيضا أن تكونوا
جميعا أمة تدعو إلى الخير ،وبعض العلماء يرى أن هذا القول يعني :أن تكون منكم جماعة
يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .ولكنّ هناك فهما أعمق من هذا ،وهو أن هذه الية تأمر
بأن تكون كل جماعة المسلمين أمة تدعو إلى الخير ،وتأمر بالمعروف ،وتنهى عن المنكر ،إي أن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه الية تطالب ُكلّ أمة المسلمين بذلك ،فل تختص جماعة منها فقط بالمر بالمعروف والنهي
عن المنكر ،بل الواجب أن تكون أمة المسلمين كلها آمرة بالمعروف ،وناهية عن المنكر ،فمن
يعرف حكما من الحكام عليه أن يأمر به.
وهناك من العلماء من قال :إن الذي يأتي المنكر له حكم آخر أيضا وهو أن ينهي غيره عن
المنكر ،أي أن النسان المؤمن مطالب بأمرين :الول :ألّ يصنع المنكر ،والثاني :أن ينهي عن
المنكر .ولذلك إن جاء نصح من إنسان ينهاك عن المنكر ،وهو قد فعله ،فل تقل له :أصلح نفسك
واتبع أنت ما تنصح به أول ،ل تقل له ذلك حتى ل يقول لك ما قاله الشاعر:خذ بعلمي ول تركن
إلى عملي واجن الثمار وخل العود للنارلكن الجدر بمن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر أن
يكون أول العاملين بقوله حتى ل يدخل في زمرة من قال ال فيهم:
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِلمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ * كَبُرَ َمقْتا عِندَ اللّهِ أَن َتقُولُواْ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف:
] 3 -2
إذن فقوله الحق } :وَلْ َتكُن مّ ْنكُمْ ُأمّةٌ َيدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ { أي جردوا من أنفسكم أمة مجتمعة على
ن الِنسَانَ َلفِى
أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ،واستمعوا إلى قوله تعالى {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر]3-1 :
ق وَ َتوَا َ
حّصوْاْ بِالْ َ
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ وَ َتوَا َ
خسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
ُ
إن السورة الكريمة توضح العقيدة ومطلوبها وهو اليمان والعمل الصالح .وبعد ذلك قال الحق" :
وتواصوا " ولم يقل " ووصوا " ما معنى " وتواصوا "؟ أي أن يعرف كل مؤمن انه من الغيار،
وكذلك أخوه المؤمن ،وقد يضعف أحَدهما أمام معصية فيصنعها ،لكن الخر غير ضعيف أمام
تلك المعصية ،لذلك يكون على غير الضعيف توصية الضعيف ،وعلى الضعيف أيضا ضرورة
النتباه حتى يتواصى مع غيره .فالسلم لم يجعل جماعة يوصون غيرهم ،وجماعة أخرى تتلقى
الوصاية ،بل كلنا موص -بكسر الصاد -حينما نجد مَنْ من يضعف أمام معصية .وكلنا
موصىً - ،بفتح الصاد -حين يكون ضعيفا أمام المعصية؛ فالتواصي يقتضي التفاعل بين
جانبين ..فمرة تكون موصيا ،ومرة تكون موصىً ،وكذلك التواصي بالصبر.
فساعة تحدث كارثة لواحد من المسلمين يأتي أخوه ليصبره ،وكذلك إن حدثت كارثة للخ المسلم
يصبره أخوه المسلم ،فعندما يحتاج مسلم في وقت ما إلى أن ُيصَبّر ،يجد من إخوته من يصبره,
صوْاْ بِالصّبْرِ {.
ق وَ َتوَا َ
فالمة كلها مطالبة } :وَ َتوَاصَوْاْ بِا ْلحَ ّ
ف وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ
هكذا نفهم معنى قول الحق } :وَلْ َتكُن مّ ْنكُمْ ُأمّةٌ َيدْعُونَ إِلَى الْخَيْ ِر وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
ا ْلمُ ْنكَ ِر وَُأوْلَـائِكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ { .والدعوة إلى الخير يفسرها الحق بأن يأمر النسان بالمعروف،
وأن ينهى عن المنكر.
ويقول الحق } :وَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلمُفْلِحُونَ { أن كلمة } ا ْل ُمفْلِحُونَ { هي كلمة معها دليلها ،فالمفلح هو
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي أخذ الصفقة الرابحة .والكلمة مأخوذة ،من فلح الرض .فالذي يفلح الرض ويحرثها ثم
يزرعها يجد الثمرة تجيئه في النهاية ،وقد جاء الحق بالمسألة المعنوية من أمر محس .وبعد ذلك
يريد الحق أن يعطينا شيئا آخر فيقول :إياك أن تظن أن المشقة التي تصيبك حين تفعل خيرا ل
تعود عليك بالراحة ،أو أن النقص الذي تفعل به الخير ل يعود عليك بالكمال ،فمثل النسان الذي
فلح الرض وأخرج " كيلة " من القمح وبذرها فيها .هذا النسان قد تكون له زوجة حمقاء تقول
له :إننا ل نملك إل أربع " كيلت " من القمح فكيف تأخذ " كيلة " لترميها في الرض ،إن هذه
المرأة ل تعرف أن " الكيلة " التي أخذها الزوج هي التي ستأتي بعدد من الرادب من القمح.
فإياك أن تفهم أن السلم يأخذ منك شيئا إل وهو يريد أن يعطيك أشياء.
إن الفلح الذي يشقى بالحرث وبالري ،وتراه وقد عل جبهته العرق وتراب الرض وتغوص
أقدامه في الطين والمياه ،إنك تراه يوم الحصاد وهو فرح مسرور بغلته .أما غيره الذي لم يشّقَ
بالحرث ولم تعل جبهته حبات العرق ،فيأتي في هذا اليوم وهو حزين ونادم .فإياك أن تنظر إلى
تكاليف الدين على أنها أمور تحرمك النفع ،إنّها أمور تربّب لك النفع أي تكثر لك النفع .وإياك أن
تظن أن حكما من أحكام ال قد جاء ليجور على حريتك بل جاء ليمنع عنك اعتداء الخرين.
وقلنا من قبل :إن الشرع حين كلف كل إنسان أل يسرق مال أحد ،فهو تقييد من أجل حفظ أموال
المليين ،وهو أمر ضمني لكل الناس ألّ يسرقوا شيئا من هذا النسان ،وهنا نجد المان ينتشر
باليمان بين الجميع.
ولو نظرت إلى ما منع الدين الناس أن يمارسوه معك لعرفت قيمة التكاليف اليمانية .إن التكليف
حين يأمر أل يمد أحد عيونه إلى محارم جاره ،هذا التكليف صادر للناس جميعا حتى يحمي ال
لك محارمك من عيون الناس ،لقد قَيّد التكليف حرية الخرين من أجلك وهم كثيرون ،وقيد حريتك
من أجل الخرين وأنت واحد.
إذن فيجب أن نذكر أن كل تكليف يعطي صلحا وفلحا ،فالرض تأخذ الحبة ,وتعطيك سبع
سنابل في كل سنبلة مائة حبة ،فل تنظر إلى ما أخذه التكليف من حريتك ،لنه أخذ لك من حريات
الخرين أيضا .ول تقل :إن التكليف قد نقص حركتي لنفسي ،لنه سيعطيك ثمرات أكثر مما
أفقدك.
ويقول الحق من بعد ذلكَ } :ولَ َتكُونُواْ كَالّذِينَ َتفَ ّرقُو ْا وَاخْتََلفُواْ مِن َبعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيّنَاتُ{ ...
()495 /
عظِيمٌ ()105
ت وَأُولَ ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ َ
وَلَا َتكُونُوا كَالّذِينَ َتفَرّقُوا وَاخْتََلفُوا مِنْ َبعْدِ مَا جَاءَ ُهمُ الْبَيّنَا ُ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا القول الحكيم ينهي عن اتباع الهوى الذي يؤدي إلى الفرقة .برغم وضوح آيات الحق سبحانه
لهم ،لن لهؤلء الذين يتبعون الهوى من بعد وضوح قضية الحق سيصليهم ال النار ،ولهم عظيم
س َو ّد وُجُوهٌ} ...
ض وُجُوهٌ وَتَ ْ
العذاب .وبعد ذلك يقول الحقَ { :يوْمَ تَبْ َي ّ
()496 /
وهنا يجب أن نعلم أن السوداد والبيضاض هما من آثار اختلف البيئات في الدنيا ،فالشخص
السود يزيد ال في تكوينه عن الشخص البيض بما يناسب البيئة ،لن المادة الملونة للبشرة في
جسده موجودة بقوة ،لتعطيه اللون المناسب لمعايشة ظروف البيئة ،أما أبيض البشرة فل يملك
جسده القدر الكافي من المادة الملونة ،لن بيئته ل تحتاج مثل هذه المادة الملونة.
إذن فالسواد في الدنيا لصالح المسود ،أما في هذه الية ،فهي تتحدث عما سوف نراه في الخرة
حيث يكون السواد والبياض مختلفين ،تماما كما تتبدل الرض غير الرض والسماوات ،غير
السماوات وكذلك يتبدل أمر السواد والبياض ،إنه لن يكون سوادا أو بياضا من أجل البيئات.
ولذلك ستتعجب يوم القيامة؛ لنك قد ترى إنسان كان أسود في الدنيا ،وتجده أبيض في الخرة،
وتجد إنسانا آخر كان لونه أبيض في الدنيا ثم صار أسود في الخرة.
فل يظن ظان أن النسان السود في الدنيا مكروه من ال ،ل ،إن ال يعطي كل واحد ما يناسبه،
بدليل أن ال قد أمده باللون الذي يقويه على البيئة التي يحيا فيها .وفي مجالنا البشرى ،نحن
نعطي المصل لي إنسان مسافر إلى مكان ما ،حتى نحميه من شر مرض في المكان الذي يذهب
إليه ،كذلك خَ ْلقُ ال في الرض فقد أعطى سبحانه لكل إنسان في تكوينه المناعة التي تحفظه؛ فال
ل يكره السواد لنه حماية للنسان من البيئة .وهذه المسألة ستتبدل يوم القيامة كما تتبدل الرض
غير الرض ،وتبيض الوجوه المؤمنة ،وتسود الوجوه الكافرة.
أو أن البياض والسواد كليهما ،أمر اعتباري ،بدليل أنك ترى واحدا أبيض ولكن وجهه عليه غبرة
ترهقه قترة ،وترى واحدا آخر أسود اللون ،ولكن نور اليقين يمل وجهه ،وبريق الصلح يشع
منه ،وأنت ل تقدر أن تمنع عينيك من أن تديم النظر إليه ،ولذلك قال الحق {:وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ
* إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ }[القيامة]23-22 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي أن ما في داخل النفس إنما ينضح على قالب النسان؛ وتظهره ملمحه ،فقد يكون السود
مضئ الوجه بالبشر والشراق والتجلي بالجاذبية السرة ،وقد يكون النسان أبيض الوجه لكنه
مظلم الروح.
وهكذا نفهم ان اسوداد بشرة إنسان في الدنيا ،إنما هو لمساعدة النسان على التواؤم مع البيئة،
ومثال ذلك سواد العين وبياضها ،هل يستطيع أحد أن يقول :إن بياض العين أحسن من سوادها،
أو العكس؟ .ل؛ لن كل شيء معد لمهمته.
ومثال آخر :عندما يأتي عامل البناء ليثني عمود الحديد المستقيم؛ ويلويه ،فهل يقال :إن هذا
النسان قد عوج الحديد؟ .ل؛ إنه يريد أن يشكل عود الحديد ليكون صالحا لمهمة معينة .وكذلك
السوداد أو البيضاض في الدنيا ،إنما أراده ال ليتناسب مع ظروف الحياة في البيئة ،أما في
الخرة فالدنيا قد زالت وفنيت ،والرض لن تكون هي الرض والسماء لن تكون هي السماء؛
فالحق يقول:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه وسلم وقد جاءت به البشارات في التوراة والنجيل ،أو يكون ذلك من أهل الهواء الذين
أخذوا الدين وجعلوه شيعا ،كالفرق التي خرجت عن السلم ،وهي تدعى النتساب إليه كالبهائية
والقاديانية وغيرها .إن الية تحتمل كل هذا ،وعندما نمعن النظر إلى النص القرآني نجده
يستوعب كل هذه المعاني.
وهنا نلحظ أن الحق سبحانه أورد فقطَ } :أ ْكفَرْتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ َفذُوقُواْ ا ْل َعذَابَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْكفُرُونَ
{ وهذا قول يختص بالكفار فقط يذوقون العذاب بسبب الكفر ،وذلك يعني أن المؤمن بإيمانه سينال
حمَةِ اللّهِ ُهمْ فِيهَا خَالِدُونَ {
ت وُجُو ُههُمْ َففِي رَ ْ
ض ْ
ثواب عمله .يقول تعالى } :وََأمّا الّذِينَ ابْ َي ّ
()497 /
ولنلحظ دائما أن ال حين يبين جزاءً لمؤمن على إيمانه وطاعته فسبحانه يقول مرةُ {:أوْلَـا ِئكَ
َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ }[العراف]42 :
ل وَ َيهْدِيهِمْ
حمَةٍ مّنْ ُه َو َفضْ ٍ
صمُواْ بِهِ َفسَيُ ْدخُِلهُمْ فِي رَ ْ
ومرة أخرى يقول {:فََأمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّ ِه وَاعْ َت َ
إِلَيْ ِه صِرَاطا مّسْ َتقِيما }[النساء]175 :
ما الفرق بين الثنين؟ إن الناس في العبادة صنفان :منهم من يعبد ال ويريد نعيم الجنة ،فيعطيه
ال الجنة جزاء لعبادته ولعمله الصالح .وآخر يعبد ال؛ لن ال يستحق العبادة ول تمر الجنة على
باله ،وهذا ينال ذات الرحمة ،إنه ينال لقاء وجه ال.
وما الفرق بين الجنة والرحمة؟ إن الجنة مخلوقة ل ،فهي باقية بإبقاء ال لها ،ولكن الرحمة باقية
ببقاء ال ،وهذا ضمان كاف ،فمن يرى ال فيه حسن العبادة لذاته -سبحانه -يضع ال في
الرحمة.
وقلنا من قبل :إن هناك جنة من الجنات اسمها " عليّون " ليس فيها متعة من المتع التي سمعنا
عنها في الجنة ،كلحم الطير وغير ذلك ،وليس فيها إل أن ترى ال .وما دام العبد ل يأكل عن
جوع في الخرة ،فما الفضل له ،جنة المتع ،أو متعة رؤية وجه ال؟
أتتمتع بالنعمة أم بالمنعم؟ ل جدال أن التمتع برؤية المنعم أرقى وأسمى من التمتع بالمتع الخرى.
والدقة الدائية في القرآن توضح لنا أن الرحمة تكتنف هؤلء العباد الصالحين ،وتحيط بهم ،إنهم
ظرف للرحمة وداخلون فيها فل تمسهم الرحمة فقط ،ولكن تحيط بهم ،وهم خالدون فيها ،ويؤكدها
الحق بظرفية جديدة بقوله { :هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } فكأن هناك رحمة يُدخل فيها العباد ،ثم يطمئننا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على أنها ل تُنزع منا أبدا .فـ " فيها " الثانية للخلود " ،وفي " الولى للدخول في الرحمة.
حقّ} ...
وبعد ذلك يقول الحق سبحانهِ { :ت ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِالْ َ
()498 /
إن آيات ال هي حججه وبراهينه وجزاءاته ،فمن اسود وجهه يوم القيامة نال العذاب ،ومن ابيض
حقّ } ،فما الذي يجعل إنسانا ل
وجهه نال الرحمة وهو فيها خالد { ِت ْلكَ آيَاتُ اللّهِ نَتْلُوهَا عَلَ ْيكَ بِالْ َ
يخبر بالحق؟ ل بد أن هناك داعيا عند ذلك النسان ،فلِنّ الحق يُتبعه ،فهو يخبر بغير الحق .لكن
هل هناك ما يتعب الخالق؟ ل؛ فسبحانه وتعالى منزه عن ذلك وعن كل نقص أو عيب إذن فل بد
ألّ يقول إل الحق ،فل شيء خارج عن ملكه بعد ذلك .يقول سبحانهَ { :ومَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْما
لّ ْلعَاَلمِينَ } .إنه سبحانه ينفي الظلم عن نفسه كما قالَ {:ومَا رَ ّبكَ بِظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت]46 :
والحق ل يريد الظلم على إطلقه ,من نفسه ومنكم أنتم أيها العباد .وكيف يأتي الظلم؟ إن مظاهر
الظلم هي -كما نعرف -أن تأخذ إنسانا بغير جرم ..هذا ظلم .أو أل تعطي إنسانا مستوى
إحسانه ..هذا ظلم .وماذا يفعل من يقوم بالظلم؟ إنه يريد أن يعود المر بالنفع له ،فإن كان يريد
خذَ إنسانٍ بغير جرم فهو يفعل ذلك ليروي حقدا وغل في نفسه ،وقد يلفق لنسان جرما؛ لنه
أَ ْ
يرى أن هذا النسان قد يهدده في أي مصلحة من المصالح ،وهو يعلم انحرافه فيها ،فيعتقله مثل،
أو يضعه في السجن حتى ل يفضحه.
إذن ل يمكن أن يذهب إنسان عن الحق إلى الظلم إل وهو يريد أن يحقق منفعة أو يدفع عن نفسه
ضررا ،وال لن يحقق لذاته منفعة بظلم ،أو يدفع ضررا يقع من خلقه عليه؛ إنه منزه عن ذلك؛
فهو القاهر فوق عباده .والحديث القدسي يقول " :يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي .وجعلته
بينكم محرما فل تظالموا ".
والظالم من البشر جاهل .لماذا؟ لنه َقوّى الذي ظلمه ،ولم يضعفه ،فالظالم يظلم ليضعف المظلوم
أمامه ،فنقول له :أنت غبي ،قليل الذكاء؛ لنك قويته على نفسك وفعلت عكس ما تريد .ولنوضحْ
ذلك -ول المثل العلى -نحن جميعا عيال ال ،سننتقل إلى دائرة حياتنا اليومية ونرى عيالنا،
إن الواحد منا عندما يكون له أولد ،وجاء ولد من الولد وظلم أخاه َفقَ ْلبُ الوالد يكون مع
المظلوم ،ويحاول الوالد أن يترضّى ابنه المظلوم .إذن فالولد الظالم ضر أخاه ضررا يناسب
طفولته ،ولكنه أعطاه نفعا يناسب قوة والده ،إنه يجهل حقيقة تقويته لخيه.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما دمنا جميعا عيال ال فماذا يفعل ال حين يرى سبحانه واحدا من خلقه يظلم آخر من خلقه؟ ل
بد أن الحق سيشمل المظلوم برعايته ،وهكذا يقوى الظالم المظلومَ ،والظالم بذلك يعلن عن غبائه،
فلو كان ذكيا ،لم ظلم ،ولضنّ على عدوه أن يظلمه ،ولقال :إنه ل يستأهل أن أظلمه؛ لنه عن
طريق ظلمى له سيعطيه ال مكافأة كبرى ،وهي أن يجعله في كنفه ورعايته مباشرة.
وقد نجد واحدا يظلم من أجل نفع عاجل ،وينسى هذا النسان أنه لن يشرد أبدا ممن خلقه .ونقول
لمثل هذا النسان :أنت لن تشرد ممن خلقك ،ولكنك شردت من المخلوق وداريت نفسك ،وحاولت
أن تحقق النفع العاجل لنفسك ،لكن الخالق قيوم ل تأخذه سنة ول نوم .وكأن الحق سبحانه يطمئننا
بأن ننام ملء جفوننا لنه سبحانه ل تأخذه سنة ول نوم.
} َومَا اللّهُ يُرِيدُ ظُلْما لّ ْلعَاَلمِينَ { لن الظلم ل ينشأ إل عن إرادة نفعية بغير حق ،أو إرادة الضرر
بغير جرم ،وال غني عن ذلك ،ولذلك نجد الحق يؤكد غناه عن الخلق وأنه مالك للكون كله
ت َومَا فِي الَ ْرضِ{ ...
سمَاوَا ِ
فيقول } :وَللّهِ مَا فِي ال ّ
()499 /
إنه مالك الملك ،كل شيء له وبه وملكه ،وإليه يُرجع كل أمر .ونحن نعلم أن القرآن الكريم قد
ج ُع المور) بفتح التاء بالبناء للفاعل،
نزل من عند ال بقراءات متعددة وقد ورد وفي بعضها (تَر ِ
ج ُع المور) بضم التاء بالبناء للمفعول ،وكذلك (ترجعون) تأتي أيضا بضم
وفي قراءة أخرى( :تر ِ
التاء وفتحها ،وكلها -كما قلنا -قراءات من عند ال.
جعُونَ } بفتح التاء فمعنى ذلك أننا نعود إليه مختارين؛ لن المؤمن
وعندما يقول الحق { :وَإِلَيْه ترْ َ
يُحبّ ويرغب أنْ يصل إلى الخرة ،لن عمله طيب في الدنيا ،فكأنه يجري ويسارع إلى الخرة،
جعُونَ } بضم التاء .وهذا ينطبق على الكافر أو العاصي .إنّ كُلّ
ومرة يقول تعالى { :وَإِلَيْه تُرْ َ
منهما يحاول أل يذهب إلى الخر ،لكن المسألة ليست بإرادته ،إنه مقهور على العودة إلى الخرة
جهَنّمَ دَعّا }[الطور]13 :
ولذلك نجد التعبير القرآنيَ {:يوْمَ يُدَعّونَ إِلَىا نَارِ َ
هناك من يدفعهم إلى النار دفعا .وفي حياتنا -ول المثل العلى -نجد الشرطي يمسك بالمجرم
جعُونَ } بضم
من ملبسة ويدفعه إلى السجن ..ذلك هو الدع .وهكذا يكون قول الحق { :وَإِلَيْه تُ ْر َ
التاء وفتح الجيم ،أي أنه مدفوع بقوة قاهرة إلى النهاية .أما المؤمن الواثق فهو يهرول إلى آخرته
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مشتاقا لوجه ربه.
لمُورُ } .قد يقول قائل :ومتى خرجت المور منه حتى ترجع
وعندما تقرأ { وَإِلَىا اللّهِ تُرْجَعُ ا ُ
إليه؟ ونقول :حين خلق ال الدنيا ،خلقها بقهر تسخيري لنفع النسان ،وجعل فيها أشياء بالسباب،
فإن فعل النسان السبب فإنه يأخذ المسبب -بفتح الباء -المشددة ،فالشمس تشرق علينا جميعا،
والضوء والدفء والحرارة ،هي -بأمر ال -للمؤمن والكافر معا ،ولم يصدر ال لها أمرا أن
تختص المؤمن وحده بمزاياها ،والهواء ل يمر على المؤمن وحده ،إنما يمر على المؤمن والكافر،
وكذلك الماء ،والرض يزرعها الكافر فيأخذ منها الثمار ،ويزرعها المؤمن كذلك.
إذن ففي الكون أشياء تسخيرية ،وهي التي ل تدخل فيها طاقة النسان ،وهناك أشياء سببية ،فإن
فعلت السبب يأت لك المسبب ،وال قد جعل السباب للمؤمن والكافر .وعندما ُيمَلّك ال بعض
الخلق أسباب الخلق فهو القيوم فوق الجميع ،لكن في الخرة ،فل أسباب ول مسببات؛ ولذلك يكون
المر له وحده ،اقرأوا جيداّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر]16 :
إنّ في الدنيا أناسا -بإرادة ال -تملك أسبابا ،وتملك عبيدا ،وتملك سلطانا؛ لن الدنيا هي دنيا
السباب .أما في الخرة فل مجال لذلك .لقد بدأت الدنيا بأسبابها مِنّة منه ،ورجعت مِنْهُ إليه { ّلمَنِ
حدِ ا ْل َقهّارِ } ومن يعتز بالسببية نقول له :كن أسير السببية لو كنت تستطيع.
ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
ومن يعتز بالقوة لنها -ظاهرا -سبب للحركة ،نقول له :احتفظ بقوتك إن كنت قادرا .ومن
يعتز بالملك نقول له :لتحتفظ بالملك لو كنت تستطيع .ول أحد بقادر على أَنْ يحتفظ بأي شيء،
فكل شيء مرده إلى ال ،وإن كان في ظاهر المر أن بعض الشياء لك الن ،وفي الخرة ل
يكون كل أمر ،ويرجع إليه كل شيء ،لقد بدأت به ،ورجعت إليه .ويقول الحق بعد ذلك { :كُنْتُمْ
ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ} ...
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
()500 /
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وََلوْ َآمَنَ أَ ْهلُ
كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ
سقُونَ ()110
ا ْلكِتَابِ َلكَانَ خَيْرًا َل ُهمْ مِ ْنهُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وََأكْثَرُ ُهمُ ا ْلفَا ِ
هذه الخيرية لها مواصفات وعناصر { :تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَ ُتؤْمِنُونَ بِاللّهِ }.
فإن تخلف عنصر من هذه العناصر ،انحلت عنكم الخيرية ،فالخيرية لكم بأشياء هي :أمر
بالمعروف .نهى عن المنكر .إيمان بال.
وساعة تسمع كلمة " معروف " و " منكر " فإنك تجد أن اللفظ موضوع في المعنى الصحيح ،فـ "
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المعروف " هو ما يتعارف الناس عليه ويتفاخرون به ،ويَسُرّ كل إنسان أن يعرف الخرون عنه.
" والمنكر " هو الذي ينكره الناس ويخجلون منه ،فمظاهر الخير يحب كل إنسان أن يعرفها
الخرون عنه ،ومظاهر الشر ينكرها كل إنسان.
إن مظاهر الخير محبوبة ومحمودة حتى عند المنحرف .فاللص نفسه عندما يوجد في مجلس ل
يعرفه فيه أحد ،ويسمع أن فلنا قد سرق فإنه يعلن استنكاره لفعل اللص ،إنه أمر منكر ،حتى وإن
كان هو يفعله .وهكذا تعرف أن " المعروف " و " المنكر " يخضعان لتقدير الفطرة .والفطرة
السليمة تأتي للمور الخيرة ،وتجعلها متعارفا عليها بين الناس ،وتنكر الفطرة السليمة المور
المنكرة ،حتى ممن يفعلها.
ويورد ال مسألة اليمان بال من بعد المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،لماذا؟ لنه من الجائزة
أن يوجد إنسان له صفات الريحية والنسانية ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر ،ويصنع
الخير ،ويقدم الصدقات ،ويقيم مؤسسات رعاية للمحتاجين والعاجزين سواء كانت صحية أو
اقتصادية ،لكنه يفعل ذلك من زاوية نفسه النسانية ،ل من زاوية منهج ال ،فيكون كل ما يفعله
حابطا ول يُعتَرفُ له بشيء لنه لم يفعل ذلك في إطار اليمان بال ،ولذلك فل تظن أن الذي
يصنع الخير دون إيمان بال؛ فال يجازي من كان على اليمان به ،وأن يكون ال في بال العبد
ساعة يصنع الخير .فمن صنع خيرا من أجل الشهامة والنسانية والجاه والمركز والسمعة فإنه
ينال جزاءه ممن عمل له ،ومادام قد صنع ذلك من أجل أن يقال عنه ذلك فقد قيل ،وهو ما يبيّنه
رسول ال صلى ال عليه وسلم بقوله " :إن أول الناس يُقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي
ت فيها؟ قال :قاتلت فيك حتى استشهدت .قال :كذبت ،ولكنك
به فعرفه نعمه فعرفها فقال :ما عمل َ
قاتلت لن يقال جريء فقد قيل ،ثم أمر به فسحب .ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به
فعرّفه نعمه فعرفها فقال :ما عملت فيها قال :تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن ،قال :كذبت
ولكنك تعلمت العلم ليقال :عالم ،وقرأت القرآن ليقال :قارئ فقد قيل ،ثم أمر به فسحب على وجهه
حتى ألقى في النار ،ورجل وسع ال عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعرّفه نعمه
فعرفها قال :فما عملت فيها؟ قال :ما تركت في سبيل تحب أن ينفق فيها إل أنفقتُ فيها .قال:
كذبت ولكنك فعلت ليُقال :هو جواد ،فقد قيل ،ثم أمر فسحب على وجهه ثم أُلقي في النار ".
إنه ينال جزاء عمله من قول الناس ،لكن ال يجازي في الخرة من كان ال في باله ساعة أن
ع ِملَ صَالِحا َوقَالَ
حسَنُ َقوْلً ّممّن دَعَآ إِلَى اللّ ِه وَ َ
عمل .لذلك فالحق سبحانه وتعالى يقولَ {:ومَنْ أَ ْ
إِنّنِي مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ }[فصلت]33 :
إن المؤمن يفعل العمل الصالح ،ويعلن أنه يفعل ذلك لنه من المسلمين ،إنه ل يفعل الخير ،لنه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيوعي ،أو وجودي ،أو إنساني إلخ ،فمهما صنع إنسان من الخير ،وترك العتراف بال فخيانة
الكفر تفسد كل عمل .لنه جحد وأنكر خالقه وكفر به ،والذي يعمل خيرا من أجل أحدٍ فلينل من
هذا الحد جزاء هذا العمل.
وهنا في هذه الية ,أمر بالمعروف ،ونهى عن المنكر ،وإيمان بال .ولكن ما الذي يجعلهم ل
يؤمنون بال وإن عملوا معروفا؟ إنه حرصهم على الجاه الزائف ،فلمّا جاء السلم ،ظن أهل
الجاه في الديانات الخرى أن السلم سيسلبهم الجاه والسلطة والمكانة والمنافع التي كانوا
يحصلون عليها ،وكان من حماقة بعضهم أن باعوا الجنة على الرض وخافوا على المركز والجاه
والمنافع ،وكان ذلك من قلة الفطنة ،فالحق يقول:
سقُونَ { [آل عمران]110 :
} وََلوْ آمَنَ َأ ْهلُ ا ْلكِتَابِ َلكَانَ خَيْرا ّلهُمْ مّ ْنهُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وََأكْثَرُهُمُ ا ْلفَا ِ
فلو آمنوا لظل لهم الجاه والسلطة في ضوء اليمان بال ،فل تجارة بالدين ،وكانوا سيحصلون
على أجرهم مرتين ،أجر في الدنيا ،وأجر في الخرة ،أو أجر على إيمانهم بنبيهم ،وأجر آخر
ليمانهم برسول ال ،ولكن هل معنى هذا القول أن أهل الكتاب لم يؤمنوا؟ ل ،إن بعضهم قد آمن،
سقُونَ
فالحق سبحانه وتعالى يؤرخ لهم تأريخا حقيقيا فيقول سبحانه } :مّ ْنهُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ وََأكْثَرُهُمُ ا ْلفَا ِ
{ وكان القياس أن يأتي وصف بعضهم باليمان ،وأن يكون غيرهم من أبناء ملتهم كافرين ،لن
اليمان يقابله الكفر ،لكن الحق يحدد المعنى المناسب لفعلهم فيقول } :وََأكْثَرُهُمُ ا ْلفَاسِقُونَ {.
إن الحق سبحانه وتعالى الذي يتكلم فيورد كل كلمة بمنتهى الدقة ،فهناك فرق بين أن تكفر وليس
عندك مقدمات اليمان وأدلته ،وأن تكفر وأنت تعرف مقدمات اليمان كقراءة التوراة والنجيل.
لقد قرأ أهل الكتاب التوراة والنجيل ورأوا اليات البينات وعرفوا البشارات؛ لذلك فهم عندما
كفروا برسول ال ،فسقوا أيضا مع الكفر .إن الذي كفروا برسول ال من أهل الكتاب هم فاسقون
حتى في كفرهم ،لن مقتضى معرفتهم للبشارات واليات أن يعلنوا اليمان برسالة رسول ال،
فالواحد منهم ليس كافرا عاديا ،بل هو فاسق حتى في الكفر؛ لنه عرف الحق ،ثم خرج وفسق
عنه.
سقُونَ { إذن ماذا يفعل المؤمن منهم مع
ن وََأكْثَرُهُمُ ا ْلفَا ِ
وما دام الحق قد قال } :مّ ْنهُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُو َ
الفاسق؟ سيتربص الفاسقون وهم الكثرية في اليهودية والنصرانية بالقلية المؤمنة ليوقعوا بهم
الذى والضرر ،ويقول الحق سبحانه } :لَن َيضُرّوكُمْ ِإلّ َأذًى وَإِن ُيقَاتِلُوكُمْ ُيوَلّوكُ ُم الَدْبَارَ ُث ّم لَ
يُنصَرُونَ {
()501 /
لَنْ َيضُرّوكُمْ إِلّا َأذًى وَإِنْ ُيقَاتِلُوكُمْ ُيوَلّوكُمُ الَْأدْبَارَ ثُمّ لَا يُ ْنصَرُونَ ()111
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن الحق سبحانه يطمئن هذه القلية من إضرار الكثرية بهم فيقول { :لَن َيضُرّوكُمْ ِإلّ أَذًى }.
أي يا أيتها القلية التي آمنت من أهل الكتاب -مثل عبد ال بن سلم الذي أسلُم وترك اليهودية -
إياكم أن تظنوا أن الكثرية الفاسقة قادرة على إنزال العذاب بكم؛ فالحق -سبحانه -يعلن أن
محاولة الكثرية لنزال الضرر بالقلية التي آمنت منهم لن يتجاوز الذى.
ما هو الضرر؟ وما هو الذى؟
إن الذى هو الحدث الذي يؤلم ساعة وقوعه ثم ينتهي ،أما الضرر فهو أذى يؤلم وقت وقوعه،
وتكون له آثار من بعد ذلك ،فعندما يصفع النسان إنسانا آخر صفعة بسيطة فالصفعة البسيطة
تؤلم ،وألمها يذهب مباشرة ،لكن إذا كانت الصفعة قوية وتتسبب في كدمات وتورم فهذا هو
الضرر .إذن فالذى يؤلم ساعة يُباشر الفعل فقط ،وقد يكون الذى بالكلمة كالستهزاء ،فالفاسق
قد يستهزئ بالذي آمن ،فينطق بكلمة الكفر أو الفُجْر ،هذه الكلمة ليس لها ضرر في ذات المؤمن
ولكنها تؤذي سمعه .إن الحق سبحانه يطمئن المؤمنين على أن أهل الكفر لن يضروا المؤمنين إل
الذى ،وهذا أقصى ما في استطاعتهم ،وليس لهذا الذى أثر.
إذن فقول الحق { :لَن َيضُرّوكُمْ ِإلّ َأذًى } يعني أنهم لن يستطيعوا أن ينالوا منكم أبدا اللّهم إل
الستهزاء أو الغمز واللمز ،أو إشارة بحركة تؤذي شعور المؤمن ،أو تمجد الكفر ،وتعظمه أو
ينطق كلمة عهر أو فجر ل يوافق عليها الدين ،هذا أقصى ما يستطيعه أهل الفسق ،وهم ل
يملكون الضرر لهل اليمان .وبعد ذلك نرى أن واقع المر قد سار على هذا المنوال مع الدعوة
المحمدية ومع جنود سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم .لقد أطلقها ال كلمة { :لَن َيضُرّوكُمْ ِإلّ
أَذًى } فصارت الكلمة قانونا .فقد وقعت الوقائع بين جند رسول ال وأهل الفسق ،وثبت أن أهل
الفسق لم يستطيعوا ضرر أهل اليمان إل أذى.
ولننظر إلى ما حدث لبني قينقاع ،ولما حدث لبني قريظة ،ولما حدث لبني النضير ،ولما حدث
ليهود خيبر ،هل ضروا المؤمنين إل أذى؟ لقد قالوا لرسول ال صلى ال عليه وسلم :ل يغرنك يا
محمد أنك لقيت قوما أغرارا ل علم لهم بالحرب فانتصرت عليهم ،فإذا أنت حاربتنا فستعرف مَن
الرجال .وكان ذلك مجرد كلم باللسان.
إن التاريخ يحمل لنا ما حدث لهم جميعا ،لقد هزمهم رسول ال صلى ال عليه وسلم .وبعد هذا
أرادوا أن يرتفعوا عن الذى إلى الضرر الحقيقي فلم يمكنهم ال؛ لن الحق يقول { :وَإِن ُيقَاتِلُوكُمْ
صعّدوا الذى للمؤمنين ليوقعوا ضررا
ُيوَلّوكُمُ الَدْبَارَ ثُ ّم لَ يُنصَرُونَ } ،فإن أراد أهل الفسق أن ُي َ
حقيقيا ،فإن الكافرين يولون الدبار أمام المؤمنين ،فهزيمتهم أمر ل مناص منه.
ونحن نعرف في اللغة أن هناك ما نسميه " الشرط " وما نسميه " الجواب " فـ " إنْ " حرف
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن كان الفعل من الفعال الخمسة فإنّنا نحذف النون ،لذلك نجد
شرط تجزم فعل الشرط وجوابه فإ ْ
القول الحق } :وَإِن ُيقَاتِلُوكُمْ ُيوَلّوكُ ُم الَدْبَارَ {.
إن } ُيقَاتِلُوكُمْ { فعل شرط محذوفه منه النون .و } ُيوَلّوكُ ُم الَدْبَارَ { أصلها يولونكم الدبار .وهي
جواب شرط حذفت منه النون ،وعندما يأتي العطف بعد ذلك ،فهل يكون بالرفع أو الجزم؟ إن
العادة أن يكون العطف بالجزم!! لكن الحق يعطف بالرفع فيأتي قوله } :ثُ ّم لَ يُنصَرُونَ { .إنها
كسرة إِعْرَابِيّة تجعل الذهن العربي يلتفت إلى أن هناك أمرا جلل ،لن المتكلم هو ال سبحانه.
كيف جاءت " النون "؟
هنا نقف وقفة فَلننطق الية ككلم البشر :إن يقاتلوكم يولوكم الدبار ثم ل ينصروا .وهذا القول
يكون تأريخا لمعركة واحدة ،لكن ما الذي سوف يحدث من بعد ذلك؟ ماذا يحدث عندما يقاتل
المؤمنون أهل الكفر والفسق؟ وتكون الجابة هي } :ثُ ّم لَ يُنصَرُونَ { إن هذا القول الحكيم يحمل
قضية بعيدة عن الشرط والجزاء ،إنها حكم من ال على أهل الفسق بأنهم ل يُنصرون أبدا سواء
أقاتلوا أن لم يقاتلوا إنها قضية ثابتة منفصلة ،وليست معطوفة على الشرط ،فعلة عدم النصر،
ليست القتال ،ولكنها الكفر.
وإذا دققنا الفهم في العبارة حروفا -بعد أن دققنا فيها الفهم جمل -لوجدنا معنى جديدا ،فقد يظن
إنسان أن القول كان يفترض أن يتأتى على نحو مغاير ،هو " يولوكم الدبار فل ينصرون " لن
الذي يأتي بعد الـ " فاء " يعطي أنهم ل ينتصرون عليكم في بداية عهدكم ،وهذا ما تفيده الفاء
لنها للترتيب والتعقيب .لكن الحق أورد حرف " ثم " وهو يفيد التراخي ،وهذا يعني أنهم ل
ينتصرون عليكم أيها المؤمنون حتى لو استعدوا بعد فترة لمعركة يَ ُردّن بها على توليهم الدبار.
إنه حكم تأبيدي ،لن " ثم " تأتي للتعقيب مع التراخي ،والفاء تأتي للتعقيب المباشر بدون تراخ.
لذلك فعندما نقرأ القرآن نجد وضع الفاء كالتي {:ثُمّ َأمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ }[عبس]21 :
لن دخول القبر يكون بعد الموت مباشرة ،وبعدها يقول الحقُ {:ثمّ ِإذَا شَآءَ أَنشَ َرهُ }[عبس]22 :
فإذا كان هناك تعقيب بعد مدّة زمنية فالحق يأتي بـ " ثم " ,وإذا كان هناك تعقيب فوري بل مدة
يأتي الحق بـ " ف " .والتعقيب في الية التي نتناولها يأتي بعد " ثم " ،وكأن هذا حكم مستمر
من الحق بأن أهل الفسق لن ينتصروا على أهل اليمان ،ولم بعد انتهاء المعركة القائمة الن
بينهم ،إنها هزيمة بحكم نهائي ،هذا هو القول الفصل } :ثُمّ لَ يُنصَرُونَ { وهو أشد وقعا مما لو
جاء " لَ ينتصرون " لماذا؟ لن من الممكن ألّ ينتصر أهل الكفر بذواتهم ،ولكن اليضاح يؤكد
أنهم -أهل الكفر -ل ينتصرون ل بذواتهم ،ول يُنصرون بغيرهم أيضا.
إن } ثُ ّم لَ يُنصَرُونَ { قضية دائمة فليست المسألة مقصورة على عهد رسول ال فقط ،ولكنها
ستظل إلى أبد البدين.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن السطحية في الفهم أن نقول :إن الية كانت تتطلب أن يكون القول " ثُ ّم لَ يُنصَرُوا " لن
العراب يقتضي ذلك .لكن المعنى اللئق بالمتكلم وهو الحق سبحانه وتعالى الذي يعطي الضمان
والطمئنان للمة المسلمة أمام خصومها ل بد أن يقول } :ثُمّ لَ يُنصَرُونَ { وهي أكثر دقة حتى
من " لَ ينتصرون " لن " ينتصرون " فيها مدخلية السباب منهم ،أما } ُث ّم لَ يُنصَرُونَ { فهي
تعني أن ل نصر لهم أبدا ،حتى وإن تعصب لهل الفسق قوم غيرهم وحاولوا أن ينصروهم فلن
يستطيعوا ذلك.
فإن رأيتم -أيها المسلمون -نصرا للكافرين عليكم منهم أو بتعصب قوم لهم فاعلموا أنكم دخلتم
معهم على غير منهج ال .وقد يأتي إنسان ويقول :كيف ينتصر علينا اليهود ونحن مسلمون؟
ونقول :هل نحن نتبع الن منهج وروح السلم؟ وماذا عندنا من السلم ومن اليمان؟ هل
تحسب نفسك على ربك أثناء هزيمتك؟ وهل دخلت معركتك كمعركة إسلمية؟
ل ،لقد انتبهنا إلى كل شيء إلّ السلم ,.قدمنا النتماء لعصبية وقومية وعرقية على اليمان
فكيف نطلب نصرا من ال؟ ل يحق لنا أن نطلب نصرة ل إل إذا دخلنا المعركة ونحن من جند
ال .والهزيمة تحدث عندما ل نكون جندا ل؛ لن ال ضمن النصر والغلبة لجنوده فقال {:وَإِنّ
جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات]173 :
فإذا لم نغلب فتأكدوا أننا لسنا من جنود ال ..ويقول الحق من بعد ذلك } :ضُرِ َبتْ عَلَ ْي ِهمُ الذّلّةُ أَيْنَ
س وَبَآءُوا{ ...
مَا ُثقِفُواْ ِإلّ ِبحَ ْبلٍ مّنَ اللّهِ وَحَ ْبلٍ مّنَ النّا ِ
()502 /
ونحن نستخدم كلمة " ضرب " في النقود ،عندما نقول :ضرب هذا الجنيه في مصر ،ومعنى ذلك
أن الصانع يقوم بصنع قالب من مادة اكثر صلبة ،من المادة التي يصنع منها النقد ويرسم فيها
الحفريات التي تبزر الكتاب والصور على وجهي الجنيه ،ثم يصب المادة في ذلك القالَب ،وتخضع
للقالب فتبرز الكتابة والصور ،ول تتأبي المادة على القالب .كأن " ضُرب " معناها " أُلزم " بالبناء
للمجهول فيهما ،وكأن المادة المصنوعة تَلْ َز ُم القالبَ الذي تصب فيه ول تتأبى عليه ول يمكن أن
تتشكل إلّ به.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فالضرب معناه اللزام والقسر على الفعل .وعندما يقول الحق { :ضُرِ َبتْ عَلَ ْيهِمُ الذّلّةُ } أي
لزمتهم الذلة ل يستطيعون النفكاك عنها أبدا ،كما ل يستطيع المعدن المضروب نقدا أن ينفك عن
القالب الذي صك عليه ،وكأن الذلة قبة ضربت عليهم ،وقالب لهم ،وقول الحق { :أَيْنَ مَا ُث ِقفُواْ }
تفيد أنهم أذلء أينما وُجدوا في أي مكان .ولكن هناك استثناء لذلك ،ما هو؟
إنه قول الحقِ { :إلّ ِبحَ ْبلٍ مّنَ اللّ ِه َوحَ ْبلٍ مّنَ النّاسِ } إنهم ل يعانون من الذلة في حالة وجود عهدٍ
من ال أو عهد من أناس أقوياء أن يقدموا لهم الحماية :فلما كانوا في عهد ال أولً وعهد رسوله
ساعة دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم المدينة وأعطاهم العهد ،فكانوا آمنين ،ولما خانوا
العهد ،ولم يُوفوا به؛ ماذا حدث؟ ضُربت عليهم الذلة مرة أخرى.
إذن لقد كانوا في عهد ال آمنين لكنهم خانوا العهد ،وانقطع حبل ال عنهم ،فهيجوا الهيجة التي
عرفناها ونزل بهم ما نزل ،وهو ما حدث لبني قينقاع ولبني النضير وبني قريظة ويهود خبير.
إذن فهم قبل ذلك كانوا في عهد مع ال .وأنتم تعرفون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أول ما
نزل المدينة بني المسجد وعقد العهد بينه وبين اليهود وعاشوا في اطمئنان إلى أن خانوا العهد،
فضربت عليهم الذلة .وطُردوا من المدينة ،كما يقول الحق { :ضُرِ َبتْ عَلَ ْي ِهمُ الذّلّةُ أَيْنَ مَا ُث ِقفُواْ ِإلّ
بِحَ ْبلٍ مّنَ اللّ ِه وَحَ ْبلٍ مّنَ النّاسِ }.
لقد أخذوا العهد من ال من خلل من له الولية على الناس ،فالرسول في عهده كان قائما على
أمر المسلمين ،وكذلك يكون المر معهم في ظل القائمين على أمر السلم ،ويحدث هذا عندما
تسير المور بمنهج السلم.
أما عن حبل الناس فذلك لنهم ل يملكون أي عزة ذاتية ،إنهم دائما في ذلة إل أن يبتغوا العزة من
جانب عهد وحبل من ال ،أو من جانب حماية من الناس .ونحن نراهم على هذا الحال في حياتنا
المعاصرة ،ل بد لهم من العيش في كنف أحد؛ لذلك فعندما حاربنا " إسرائيل " في حرب أكتوبر،
انتصرنا عليهم إلى أن تدخلت أمريكا بثقلها العسكري.
فقال رئيس الدولة المصري " :ل جَ ْلدَ لي أن أحارب أمريكا ".
إذن لو كانت الحرب بيننا وبينهم فقط ل نتهت قوتهم؛ فهم بل عزة ذاتية ،وتكون لهم عزة لو
كانوا في جانب حبل من ال ،أو حبل من الناس .يقول الحق سبحانه عنهم من بعد ذلك } :وَبَآءُوا
سكَنَةُ { ولنا أن نلحظ أن الذلة له استثناء ،فهم ينالون العزة لو
ِب َغضَبٍ مّنَ اللّ ِه َوضُرِبَتْ عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَ ْ
كانوا بجانب حبل من ال أو حبل من الناس ،أما المسكنة ،فل استثناء فيها ،وقد قال الحق عنهم
ضبٍ مّنَ اللّهِ }
سكَنَ ُة وَبَآءُو ِب َغ َ
في موضع آخر في القرآن الكريمَ {:وضُرِ َبتْ عَلَ ْي ِهمُ الذّلّ ُة وَا ْلمَ ْ
[البقرة]61 :
لن المسكنة أمر ذاتي في النفس ،إنهم مساكين بأمر من ال ،أما الذلة فقد يأتي لهم من نيصرهم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقف بجانبهم؛ فالذلة أمر من خارج ،أما المسكنة فهي في ذاتيتهم ،وعندما تكون المسكنة ذاتية،
فل إنقاذ لهم منها؛ لنه ل حبل من ال يأتيهم فينجيهم منها ،ول حبل من الناس يعصمهم من
ضبٍ مّنَ اللّهِ { وهل رأى أحد منا غضبا أكبر من أن الحق قد
آثارها .ويقول الحق } :وَبَآءُوا ِب َغ َ
طعْنَاهُمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما }[العراف]168 :
قطعهم في الرض؟ ولنقرأ قول الَ {:وقَ ّ
المكان الوحيد الذي آواهم في زمن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو الجزيرة العربية في
يثرب ،واستقروا قليل ،وصارت لهم سيادة علمية؛ لنهم أهل كتاب ،وصارت لهم سيادة
اقتصادية ،وكذلك سيادة حربية ،وهذا المكان الذي أواهم من الشتات في الرض هو المكان نفسه
الذي تمردوا عليه .لقد كان السبب الذي من أجله قد جاءوا إلى يثرب هو ما كانوا يجدونه مكتوبا
عندهم في التوراة؛ ففي التوراة جاء ما يفيد أن نبيا سيأتي في هذا المكان ول بد أن يتبعوه
ح ْكمَةٍ ثُمّ جَآ َءكُمْ
خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَابٍ وَ ِ
كالميثاق الذي قلنا عليه من قبل {:وَإِذْ أَ َ
خذْتُمْ عَلَىا ذاِلكُمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا
رَسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ بِهِ وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ َأَأقْرَرْتُ ْم وَأَ َ
شهَدُو ْا وَأَنَاْ َم َعكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ }[آل عمران]81 :
قَالَ فَا ْ
وهذا الميثاق يقضي بأن يتولى الرسل بلغ المم التي ُبعِثوا إليها ،وأن يُبلغ أهلُ اليمان القادمين
من بعدهم بأن هناك رسول قادما من عند ال بالمنهج الكامل - .واليهود -لم يأتوا إلى يثرب إل
على أمل أن يتلقفوا النبي المنتظر ليؤمنوا به ،ومن بعد ذلك يكونون حربا على الكافرين بال ،لكن
ما الذي حدث؟ إنه سبحانه يخبرنا بما حدث منهم في قوله {:فََلمّا جَآءَهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ }
[البقرة]89 :
فماذا بعد أن باءوا بغضب من ال .وبعد أن ختم ال قالبهم بالمسكنة؟ وما السبب؟ تكون الجابة
حقّ { لقد أرسل ال
من الحق سبحانه } :ذاِلكَ بِأَ ّن ُهمْ كَانُواْ َيكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّ ِه وَ َيقْتُلُونَ الَنْبِيَآءَ ِبغَيْرِ َ
لهم آيات عجيبة ولكنهم كفروا بها ،تلك اليات التي جاءنا ذكر منها في قوله الحق:
ن وَالسّ ْلوَىا كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَا ُكمْ }[البقرة]57 :
ظلّلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْل َغمَا َم وَأَنزَلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ
{ وَ َ
خذْنَا مِيثَا َقكُمْ
كثير من اليات أرسلها الحق لبني إسرائيل ،منها ما جاء في قوله الحق {:وَِإذْ أَ َ
خذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ وَا ْذكُرُواْ مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ }[البقرة]63 :
وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ الطّورَ ُ
ولكنهم تولوا عن اليمان وأمامهم ضرب موسى عليه السلم الحجر بالعصا فانفجرت منه عيون
حجَرَ فَانفَجَ َرتْ مِ ْنهُ اثْنَتَا عَشْ َرةَ
سقَىا مُوسَىا ِل َقوْمِهِ َفقُلْنَا اضْرِب ّب َعصَاكَ الْ َ
المياه ليشربوا {.وَِإذِ اسْ َت ْ
عَيْنا قَدْ عَِلمَ ُكلّ أُنَاسٍ مّشْرَ َب ُهمْ }[البقرة]60 :
وبرغم ذلك فقد قاموا بقتل النبياء بغير حق .وادعوا الكذب على أنبيائهم وقتلوهم ،وفي شأنهم
صوْ ْا ّوكَانُواْ َيعْتَدُونَ { كَاَنَ العصيانُ سببا لن تُضرب عليهم الذلة ،وأن
ع َ
يقول الحق } :ذاِلكَ ِبمَا َ
يبوءوا بغضب من ال ،وأن تُضرب عليهم المسكنة ،وكل ذلك ناشئ من فعلهم .وهناك فرق بين
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظلْمٍ مّنَ
أن يبدأهم ال بفعل ،وبين أن يعاقبهم ال على فعل ،وحتى نفهم ذلك فلنقرأ قوله الحق {:فَبِ ُ
الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُ ْم وَ ِبصَدّ ِهمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا }[النساء]160 :
لقد حرم ال عليهم الطيبات بظلم منهم لنفسهم ،لن معنى تحريم الطيبات أن ال حرمهم متعة في
طيب ،وذلك لنهم استحلوا متعة في غير طيب؛ لن مرادات الشارع تأتي على عكس مرادات
الخارجين عن أمر الشارع .وكما قلنا من قبل :إنّ الحق سبحانه وتعالى يؤرخ للحق وللواقع ول
يشملهم كلهم بحديث يجمعهم جميعا ،فقد كان منهم أناس تراودهم فكرة اليمان بالرسول ،وفكرة
اليمان بالقرآن ،ومنهم من آمن فعل؛ لذلك كان من عدل ال أن يفصل بين الذين يفكرون في
سوَآءً مّنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ُأمّةٌ قَآ ِئ َمةٌ يَتْلُونَ
اليمان والمصرين على الكفر .لذلك يقول سبحانه } :لَيْسُواْ َ
آيَاتِ اللّهِ{ ....
()503 /
سجُدُونَ ()113
ل وَ ُهمْ يَ ْ
سوَاءً مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ُأمّةٌ قَا ِئمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللّهِ آَنَاءَ اللّ ْي ِ
لَيْسُوا َ
وهذا ما حدث بالفعل ،لكن أي آيات ل كانوا يتلونها؟ إنها اليات المهيمنة ،آيات القرآن ولماذا
سجُدُونَ } وهل هناك قراءة للقرآن ساعة السجود؟ حتى نعرف تفسير ذلك ل
يقول الحق { :وَهُمْ يَ ْ
بد لنا أن نعرف أن اليهود ل يصلون العتمة ،أي الصلة في الليل ،وحتى يعطيهم ال السمة
جدُونَ } و ُيعَ ّرفَهم بأنهم يقيمون صلة العتمة - ،العشاء -وهي صلة
السلمية قال عنهم { :يَسْ ُ
المسلمين ،وما داموا يصلون صلوات المسلمين ويسجدون ،إذن فهم مسلمون أو نفهم من قوله:
سجُدُونَ } أن الصلة عنوان الخضوع ،والسجود أقوى سمات الخضوع في الصلة .ما
{ وَ ُهمْ يَ ْ
داموا يصلون فل بد أنهم يتلون آيات ال آناء الليل وهم يؤدون الصلة بخشوع كامل .ونعرف أن
من حسن العبادة في السلم ،ومن السنن المعروفة قراءة القرآن ليل ،وصلة التهجد ،وهذه في
مدارج العملية اليمانية التي يدخل بها النسان إلى مقام الحسان.
و { آنَآءَ } جمع " إني " مثلها مثلٍ " أمعاء " جمع " معي " .و " آنَآءَ " هي مجموع الوقات في
الليل ،وليست في " إني " واحد .فهناك مؤمن يقرأ القرآن في وقت من الليل ،ومؤمن آخر يقرأ
القرآن في وقت آخر ،وكأن المؤمنين يقطعون الليل في قراءة للقرآن ،والذي يدخل مع ربه في
مقام الحسان ،فهو ل يصلي فقط صلة العتمة وهي ستأخذ " إنّي " واحدا ،أي وقتا واحدا ،ولكنه
عندما يصلي في آناء الليل فذلك دليل على أنه يكرر الصلة ،وزاد عن المفترض عليه ،وما دام
قد زاد عن المفترض ،فهو ل يكتفي بتلوة القرآن لنه يريد أن يدخل في مقام الحسان ،أي أنه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجد ربه أهل لن يصلي له أكثر مما افترض عليه ،كأنه قد قال لنفسه :أنت كلفتني يارب بخمس
صلوات لكنك يارب تستحق أكثر من ذلك وكأن هذا البعض من أهل الكتاب لم يكتفوا بإعلن
اليمان بالسلم فقط ،ولكنهم دخلوا بثقلهم ،فصلوا آناء الليل .وأحبوا أن ينطبق عليهم قول ال
حسِنِينَ }
خذِينَ مَآ آتَا ُهمْ رَ ّبهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ ذَِلكَ مُ ْ
تعالى {:إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آ ِ
[الذاريات]16-15 :
ما معنى " محسن "؟ إنها وصف للنسان الذي آمن بربه فعبد ال بأكثر مما افترض تعبدنا ال
بخمس صلوات فنزيدها لتصل إلى عشرين مَثَلً ،ونحن تعبدنا ال بصيام شهر في العام ومنا من
يصوم في كل شهر عددا من اليام.
العام ومنا من يصوم في كل شهر عددا من اليام.
وتعبدنا بالزكاة بالنصاب ،ومنا من يزيد على النصاب ،وتعبدنا سبحانه بالحج مرة ،ومنا من يزيد
عدد مرات الحج .فحين يريد العبد أن يدخل في مقام الحسان فبابه هو أداء عبادات من جنس ما
تعبده ال به؛ فالعبد ل يخترع أو يقترح العبادة التي يعبد بها ال ،ولكنه يزيد فيما افترضه ال.
وهؤلء الذين آمنوا بال من أهل الكتاب ويتحدث عنهم القرآن ،لقد دخلوا بثقلهم في السلم فصلوا
آناء الليل وقرءوا القرآن ،ودخلوا مقام الحسان ،وأرادوا أن يطبقوا القول الحق {:كَانُواْ قَلِيلً مّن
جعُونَ }[الذاريات]17 :
اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ
أي أنهم ما داموا قد صلوا في الليل ،وقليل ما هجعوا فل بد أنهم قد أدوا الصلة في آناء كثيرة
من الليل .ونحن حين ندخل في مقام الحسان ونصلي في الليل ،ونكون بارزين إلى السماء فل
يفصلنا شيء عنها ،وننظر فنجد نجوما لمعة تحت السماء الدنيا ،وأهل السماء ينظرون للرض
فيجدون مثلما نجد من النجوم المتللئة اللمعة في الرض ،ويسألون عنها فيقال لهم :إنها البيوت
التي يصلي أهلها آناء الليل وهم يسجدون ،وكل بيت فيه هذا يضيء كالنجوم لهل السماء.,
سحَارِ هُمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ { وهل فرض ال على خلقه بأن
ويضيف الحق في صفات هؤلء } :وَبِالَ ْ
يصلوا آناء الليل فل يهجعون إل قليل من الليل؟ ل ،ولكن من يريد أن يدخل في مقام الحسان،
فهو يفعل ذلك .أما المسلم العادي فيكتفي بصلة العشاء ،وعندما يأتي الصبح فهو يؤدي الفريضة.
لكن من يدخل في مقام الحسان فقليل من الليل ما يهجع .وينطبق عليه القول الحق {:إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ
حسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا
خذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ ذَِلكَ مُ ْ
ت وَعُيُونٍ * آ ِ
فِي جَنّا ٍ
جعُونَ * وَبِالَسْحَارِ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات]19-15 :
َيهْ َ
وهذه دقة البيان القرآني التي توضح مقام الحسان ،فيكون في ما لهم حق للسائل والمحروم،
وليس هناك قدر معلوم للمال الذي يخرج ،لن المقام هنا مقام الحسان الذي يعلو مقام اليمان،
ومقام اليمان -كما نعرف -قد جاء ذكره في قوله الحق {:وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ ّمعْلُومٌ *
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل وَا ْلمَحْرُومِ * وَالّذِينَ ُيصَ ّدقُونَ بِ َيوْمِ الدّينِ }[المعارج]26-24 :
لّلسّآ ِئ ِ
فالنسان في مقام اليمان قد يقيد الخراج من ماله بحدود الزكاة أو فوقها قليل ،لكن في مقام
الحسان فل حدود لما يخرج من المال .وهكذا نعرف أن أهل الكتاب ليسوا سواء؛ فمنهم من دخل
سوَآءً مّنْ َأ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ُأمّةٌ قَآ ِئمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ
السلم من باب الحسان ،فقال فيهم الحق } :لَيْسُواْ َ
سجُدُونَ { ،وكأن الحق بهذا الستثناء الواضح .ويؤكد لنا أننا ل يصح أن
اللّهِ آنَآءَ اللّ ْيلِ وَ ُهمْ يَ ْ
نظن أن أهل الكتاب جميعهم هم الذين جاء فيهم قوله } :ذاِلكَ بِأَ ّن ُهمْ كَانُواْ َيكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ
صوْاْ ّوكَانُواْ َيعْتَدُونَ { ل؛ فأهل الكتاب ليسوا سواء ،ولذلك
ع َ
حقّ ذاِلكَ ِبمَا َ
ن الَنْبِيَآءَ ِبغَيْرِ َ
وَيَقْتُلُو َ
ل يكون حكم ال منسحبا عليهم جميعا ،فمن أهل الكتاب جماعة قائمة بتلوة القرآن آناء الليل وهم
يسجدون ،إنهم أمة قائمة ،وكلمة " قائم " هي ضد " قاعد " ،والقعود غير الجلوس ،فالجلوس
يكون عن الضطجاع فيقال :كان مضطجعا فجلس.
لكن عندما نقول " :كان قائما " فإننا نقول فقعد ،فالقعود يكون بعد القيام .والقعود في الصلة
مريح ،أما القيام فهو غير مريح ،ونحن نعرف أن الرسول صلى ال عليه وسلم كان يقف في
الصلة حتى تتورم قدماه؛ لن الثقل كله على القدمين ،ولكن عندما نقعد فنحن نوزع الثقل على
جملة أعضاء الجسم .وعندما يصفهم الحق } :مّنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ ُأمّةٌ قَآ ِئ َمةٌ { فمعنى ذلك أنهم أخذوا
أمانة أداء الفروض بكل إخلص ،وكانوا يؤدون الصلة باستدامة وخشوع .ويستمر الحق في
ف وَيَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ...
وصفهم في الية التاليةُ } :ي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ وَيَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
{
()504 /
وهم باليمان بال واليوم الخر ،وبالمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،إنما يتصفون بالصفات
التي أوردها ال صفة لخير أمة أٌخرجت للناس وهي أمة محمد صلى ال عليه وسلم .لقد دخل هذا
البعض من أهل الكتاب بثقلهم -ومن أول المر -في مقام الحسان ،وما داموا قد دخلوا في
مقام الحسان فهم بحق كانوا مستشرفين لظهور النبي الجديد .وبمجرد أن جاء النبي الجديد تلقفوا
الخيط وآمنوا برسالته ،وصاروا من خير أمة أخرجت للناس .ويكمل الحق سبحانه صفاتهم بقوله:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } وهذا كمثل قوله سبحانه وتعالى في حق المؤمنين {:وَسَارِعُواْ إِلَىا
ت وَالَرْضُ أُعِ ّدتْ لِ ْلمُ ّتقِينَ }[آل عمران]133 :
سمَاوَا ُ
ضهَا ال ّ
َمغْفِ َرةٍ مّن رّ ّبكُ ْم َوجَنّةٍ عَ ْر ُ
ونحن نعرف أن هناك فرقا بين " السرعة " و " العجلة " فـ " السرعة " و " العجلة " يلتقيان في
تقليل الزمن بالنسبة للحدث ،ومثال ذلك أن يقطع إنسان المسافة من مكان إلى مكان في زمن
معين ،والذي يسرع في قطع المسافة هو الذي يستغرق من الزمن أقل وقت ممكن ولكن هناك
اختلف بين السرعة والعجلة ،وأول خلف بينهما يتضح في المقابل ،فمقابل السرعة البطاء،
ويقال :فلن أسرع ،وعلن أبطأ ومقابل " العجلة " هو " الناة " فيقال :فلن تأنى في اتخاذ
القرار .فالسرعة ممدوحة ومقابلها وهو " البطاء " مذموم " ،والعجلة " مذمومة ،ومقابلها هو
التأني ممدوح؛ لن السرعة هي التقدم فيما ينبغي التقدم فيه ،والعجلة هي التقدم فيما ل ينبغي
التقدم فيه ،ولذلك قيل في المثال " :في العجلة الندامة وفي التأني السلمة " وقال الحق{:
وَسَارِعُواْ إِلَىا َمغْفِ َرةٍ مّن رّ ّبكُمْ }[آل عمران]133 :
وهو سبحانه :هنا يقول { وَيُسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ } أي كلما لمحت لهم بارقة في الخير فهم
يسرعون إليها ،أي أنهم يتقدمون فيما ينبغي التقدم فيه ،إنهم يعلمون أن السراع إلى الخير حدث،
وكل حدث يقتضي حركة ،والحركة تقتضي متحركاـ والمتحرك يقتضي حياة ،فما الذي يضمن
للنسان أن تظل له حياة ،لذلك يجب أن تسرع إلى الخيرات ،وسيدنا عمر بن عبد العزيز رضي
ال عنه وأرضاه كان ينام القيلولة ،وكان حاجبه يمنع الناس من إيقاظ الخليفة ،فجاء ابن عمر بن
عبد العزيز وقال للحاجب:
أريد أن أدخل على أمير المؤمنين الساعة ،فمنعه الحاجب قائل :إنها ساعة يستريح فيها وهو ل
يستريح من الليل أو النهار إلّ فيها ،فدعه ليستريح .وسمع سيدنا عمر بن عبد العزيز الضجة،
فسأل الحاجب .قال الحاجب :إنه ابنك ،ويريد أن يدخل عليك وأنا أطالبه أل يدخل حتى تستريح.
قال عمر بن عبد العزيز للحاجب :دعه يدخل .فلما دخل البن على أبيه ،قال البن :يا أبي بلغني
أنك ستخرج ضيعة كذا لتقفها في سبيل ال.
قال عمر بن عبد العزيز؛ أفعل إن شاء ال .غدا نبرمها .قال البن متسائل :هل يبقيك ال إلى
غد؟ فقال عمر بن عبد العزيز وهو يبكي :الحمد ل الذي جعل من أولدي من يعينني على الخير.
لقد أراد البن من أبيه أن يسارع إلى الخير ،فما دامت هبة الخير قد هبّت عليه فعلى النسان أن
يأخذ بها؛ لن النسان ل يدري أغيار الحداث في نفسه ،لذلك فعليه أن يسارع إلى اقتناص هبة
الخير ،وها هو ذا ابن عمر بن عبد العزيز يعين والده على الخير ،لكننا في زمننا قد نجد من
البناء من يطلب الحَجْر على أبيه إن فكر الب في فعل الخير ،متناسين قول الحق } :وَيُسَارِعُونَ
ت وَُأوْلَـا ِئكَ مِنَ الصّاِلحِين {.
فِي الْخَيْرَا ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يبرز سؤال هو :لي عمل هم صالحون؟
والجابة تقتضي قليل من التأمل ،إننا نقول في حياتنا " :إن فلنا رجل صالح " ومقابله " رجل
طالح " .والنسان صالح للخلفة ،فقد جعل ال آدم وذريته خلفاء في الرض ،والرجل الصالح
يرى الشيء الصالح في ذاته فيترك هذا الشيء على ما هو عليه أو يزيده صلحا .أما الرجل
الطالح أو المفسد فهو يأتي إلى الشيء الصالح فيفسده ،ول يفعل صلحا.
إن الرجل -على سبيل المثال -قد يجد بئرا يأخذ منه الناس الماء ،فإن لم يكن من أهل العزم
فإنه يتركه على حاله .وإن كان طالحا فقد يردم البئر بالتراب .أما إن كان الرجل من أهل
الصلح والعزم فهو يحاول أن يبدع في خدمة الناس التي تستقي من البئر ،فيفكر ليبني خزانا
عاليا ويسحب الماء من البئر بآلة رافعة ،ويخرج من الخزان أنابيب ويمدها إلى البيوت ،فيأخذ
الناس المياه وهم في المنازل ،إن هذا الرجل قد استخدم فكره في زيادة صلح البئر.
إذن فكلمة " رجل صالح " تعني أنه صالح لن يكون خليفة في الرض وصالح لستعمار الرض
أي أن يجعلها عامرة ،فيترك الصالح في ذاته ،أو يزيده صالحا ،ويحاول أن يصلح أي أمر غير
صالح .الرجل الصالح عندما يعمل فهو يحاول أن يجعل عمله عن عمق علم ،فل يقدم على العمل
الذي يعطي سطحية نفع ثم يسبب الضرر من بعد ذلك.
ومثال ذلك حين اخترعوا المبيدات الحشرية ظنوا أنهم تغلبوا على الفات في الزراعة ،لكنهم لم
يعرفوا أنهم قد أضروا بالزراعة وبالبيئة أكثر مما أفادوا ،لذلك عادوا يقولون :ل تستعملوا هذه
المبيدات؛ لنها ذات أضرار جمة ،ولهذا ل بد أن يكون كل عمل قائما على قواعد علمية سليمة،
س ْم َع وَالْ َبصَرَ وَا ْل ُفؤَادَ ُكلّ أُولـا ِئكَ كَانَ عَ ْنهُ
ولنقرأ قوله تعالىَ {:ولَ َتقْفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ إِنّ ال ّ
سعْ ُي ُهمْ فِي
عمَالً * الّذِينَ ضَلّ َ
خسَرِينَ أَ ْ
سؤُولً }[السراء ]36 :وقوله سبحانهُ {:قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَ ْ
مَ ْ
حسِنُونَ صُنْعا }[الكهف]104-103 :
حسَبُونَ أَ ّن ُهمْ يُ ْ
الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ ُهمْ يَ ْ
إذن فقد كرم ال من آمن من أهل الكتاب فوصفهم الوصف الحقيقي ،فهم يتلون آيات ال آناء الليل
وهم يسجدون ،ويؤمنون بال واليوم الخر ،ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ،ويسارعون
في الخيرات ،ثم يحكم الحق عليهم حكما عاما بأنهم من الصالحين لعمارة الكون والخلفة في
الرض.
ومن بعد ذلك يضيف الحقَ } :ومَا َي ْفعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ ُي ْكفَروهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِا ْلمُ ّتقِينَ {
()505 /
َومَا َي ْفعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ ُيكْفَرُوهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِا ْلمُ ّتقِينَ ()115
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنه سبحانه يعطيهم الجزاء العادل ،وإن شيئا ل يضيع عنده وهو الحق؛ فالخير الذي يفعلونه لن
يُجحد لهم أو يستر عن الناس؛ لنه سبحانه عليم بالمتقين ،فمن الجائز أن يصنع إنسان العمال
ول يراها أحد ،أما الحق فهو يرى كل عمل ،وهو الذي يملك حسن الجزاء .وبعد ذلك يعود الحق
لتبيان حال الذين كفروا فيقول { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأ ْولَدُهُمْ مّنَ اللّهِ
شَيْئا} ...
()506 /
إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُهُمْ مِنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا
خَاِلدُونَ ()116
يظن الكافرون أن الموال والولد قد تغني من ال ،إنهم ل يحسنون التقدير ،فالموال والولد
هما من مظان الفتنة مصداقا لقوله تعالى {:وَاعَْلمُواْ أَ ّنمَآ َأ ْموَاُلكُ ْم وََأ ْولَ ُدكُمْ فِتْ َن ٌة وَأَنّ اللّهَ عِن َدهُ أَجْرٌ
عَظِيمٌ }[النفال]28 :
وما دامت الموال والولد فتنة فل بد أن نفهم المر على حقيقته؛ فالفتنة ليست مذمومة في ذاتها؛
لن معناها اختبار وامتحان ،وقد يمر النسان بالفتنة ،وينجح .كأن يكون عنده الموال والولد،
وهم فتنة بالفعل فل يغره المال بل إنه استعمله في الخير ،والولد لم يصيبوه بالغرور بل علمهم
حمل منهج ال وجعلهم ينشأون على النماذج السلوكية في الدين ،لذلك فساعة يسمع النسان أي
أمر فيه فتنة فل يظن أنها أمر سيء بل عليه أن يتذكر أن الفتنة هي اختبار وابتلء وامتحان،
وعلى النسان أن ينجح مع هذه الفتنة؛ فالفتنة إنما تضر من يخفق ويضعف عند مواجهتها.
والكافرون ل ينجحون في فتنة الموال والولد ،بل سوف يأتي يوم ل يملكون فيه هذا المال ،ول
أولئك الولد ،وحتى إن ملكوا المال فلن يشتروا به في الخرة شيئا ،وسيكون كل واحد من
شوْاْ َيوْما لّ َيجْزِي وَالِدٌ
أولدهم مشغول بنفسه ،مصداقا لقول الحق {:ياأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُواْ رَ ّبكُ ْم وَاخْ َ
ن وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلَ َتغُرّ ّنكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا َولَ َيغُرّ ّنكُم
عَن وَلَ ِد ِه َولَ َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَن وَاِل ِدهِ شَيْئا إِ ّ
بِاللّهِ ا ْلغَرُورُ }[لقمان]33 :
إن كل امرئ له يوم القيامة شأن يلهيه عن الخرين ،والكافرون في الدنيا مشغولون بأموالهم
وأولدهم وعندما نتأمل قوله { :لَنْ ُتغْ ِنيَ عَ ْنهُمْ } نجد أننا نقول :أغناه عن كذا أي جعله في
استغناء فمن هو الغَنيّ إذن؟ الغني هو من تكون له ذاتية غير محتاجة إلى غيره ،فإن كان جائعا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهو ل يأَكل من يد الغير ،والنبي صلى ال عليه وسلم يقول " :ليس الغني عن كثرة العرض،
ولكن الغني غنى النفس ".
والمقصود بالعَرَض هو متاع الحياة الدنيا قلّ أو كثر ،ومتاع ،وعرض الدنيا كالماء المالح ،كلما
شربت منه ازددت ظمأ .إن الكافر من هؤلء يخدع نفسه ويغشها ،ويغتر بالمال والولد وينسى
أن الحياة تسير بأمر من يملك الملك كله ،إن الكافر يأخذ مسألة الحياة في غير موقعها ،فالغرور
بالمال والولد في الحياة أمر خادع ،فالنسان يستطيع أن يعيش الحياة بل مال أو أولد .ومن
يغتر بالمال أو الولد في الحياة يأتي يوم القيامة ويجد أمواله وأولده حسرة عليه ,لماذا؟ لنه
كلما تذكر أن المال والولد أبعداه عما يؤهله لهذا الموقف فهو يعاني من السى ويقع في
الحسرة.
ويقول الحق سبحانه عن هذا المغتر بالمال والولد وهو كافر بال { :وَُأوْلَـا ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ
فِيهَا خَاِلدُونَ } وهذا مصير يليق بمن يقع في خديعة نفسه بالمال أو الولد.
وكيف يكون النسان صاحبا للنار؟ لنعرف أول معنى كلمة " الصاحب " ،إن الصاحب هو
الملزم؛ فنحن نقول :فلن صاحب فلن أي ملزمه ،لكن من أين تبدأ الصحبة؟ .إن الذي يبدأ
الصحبة هو " فلن " الول ،لـ " فلن الثاني " الذي يقبل الصحبة أو يرفضها ،وهذا أمر قد
نعرفه وقد ل نعرفه ،وعن الصحبة مع النار نرى أن النسان يلوم نفسه ويؤنبها على أنه اختار
النار وصاحبها.
ألسنا نرى في الحياة إنسانا قد ارتكب ذنبا وأصابه ضرر ،فيضرب نفسه ويقول :أنا الذي استأهل
ما نزل بي وأستحقه ،وكذلك النسان الكافر يجد نفسه يوم القيامة ،وهو يدخل النار ،ويقول لنفسه:
جهَنّمَ َهلِ
أنا أستحق ما فعلته بنفسي ،وتقول النار لحظتها ردا على سؤال الحق لهاَ {:يوْمَ َنقُولُ لِ َ
لتِ وَ َتقُولُ َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق]30 :
امْتَ َ
وفي الخرة نرى أبعاض النسان الكافر وهي تبغض صاحبها ،فإذا كان للنسان ولية على
أبعاضه في الدنيا ،وهي خاضعة لرادته إل أن هذه البعاض تأتي يوم القيامة وصاحبها خاضع
لرادتها .إن الظالم يقول ليده في الدنيا " ،اضربي فلنا وشددى الصفعة " فلم تعصه يده في الدنيا؛
لن ال خلقها خاضعة لرادته ،والظالم لنفسه بالكفر يأمر لسانه أن ينطق كلمة الكفر ،فل يعصاه
اللسان في الدنيا ،لماذا؟ لن أبعاضه خاضعة لرادته في الحياة الدنيا ،لكن ذلك الكافر يأتي يوم
القيامة وتنعزل عن إرادته ،فتتحرر أبعاضه ،ول تكون مرغمة على أن تفعل الفعال التي ل
ترتضيها ،وتتمرد البعاض على صاحبها ،وتشهد عليه .قد يقول قائل :ولكن البعاض هي التي
تتعذب .نعم ،ولكنها تقبل العذاب تكفيرا عما فعلت.
إذن فالصحبة تبدأ من البعاض للنار } وَُأوْلَـا ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ { فإن رأينا كفارا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعملون خيرا في الدنيا فليحذر كل منا نفسه قائل :إياك يا نفس أن تنخدعي بذلك الخير .لماذا؟
لن الكافر يعيش كفر القمة ،وكل عمل مع كفر القمة هو عمل حابط عند ال ،وإن كان غير حابط
عند الناس .وبعد ذلك يقول الحق عن هؤلء الكافرين } :مَ َثلُ مَا يُ ْن ِفقُونَ فِي هَـا ِذهِ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا
سهُمْ فَأَهَْلكَتْهُ{ ...
َكمَ َثلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ َأصَا َبتْ حَ ْرثَ َقوْمٍ ظََلمُواْ أَ ْنفُ َ
()507 /
سهُمْ فََأهَْلكَتْهُ
مَ َثلُ مَا يُ ْن ِفقُونَ فِي َه ِذهِ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَ َثلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ َأصَا َبتْ حَ ْرثَ َقوْمٍ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ
سهُمْ َيظِْلمُونَ ()117
َومَا ظََل َمهُمُ اللّ ُه وََلكِنْ أَ ْنفُ َ
إن الحق يصف ما ينفقه هؤلء الكافرون في أثناء الحياة الدنيا وهم بعيدون عن منهج ال إنه -
سبحانه -يشبهه بريح فيها صر ،أي شدة ،فمادة " الصاد والراء " تدل على الشدة والضجة
ج َههَا
ت وَ ْ
صكّ ْ
والصخب ،ومثال ذلك ما قاله الحق عن إمرأة إبراهيم {:فََأقْبََلتِ امْرَأَتُهُ فِي صَ ّرةٍ َف َ
عقِيمٌ }[الذاريات]29 :
عجُوزٌ َ
َوقَاَلتْ َ
إنها أتت وجاءت بضجيج؛ لنها عجوز وعقيم ويستحيل عادة أن تلد .ومثل قوله الحق {:وََأمَا عَادٌ
ح صَ ْرصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة]6 :
فَأُهِْلكُواْ بِرِي ٍ
والريح الصرصر هي التي تحمل الصقيع ولها صوت مسموع.
وقوله الحقَ { :كمَ َثلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ } أي أن الريح جعلت البرد شائعا وشديدا ،فالبرد قد يكون في
منطقة ل ريح فيها ،ويظل باقيا في منطقته تلك ،وعندما تأتي الريح فإنها تنقل هذا البرد من مكان
إلى مكان آخر ،فتتسع دائرة الضرر به .وماذا تفعل الريح التي فيها شِدة برد؟ إنها تفعل
سهُمْ فَأَهَْلكَتْهُ } وساعة نسمع كلمة "
الكوارث ،ويقول عنها الحقَ { :أصَا َبتْ حَ ْرثَ َقوْمٍ ظََلمُواْ أَ ْنفُ َ
حرث " فنحن نعرف أنه الزرع ،وقد سماه ال حرثا ،ليعرف النسان إنه إن لم يحرث فلن
جعَلْنَاهُ
يحصد ،يقول الحقَ {:أفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ * أَأَن ُتمْ تَزْرَعُونَهُ َأمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ * َلوْ نَشَآءُ لَ َ
حطَاما فَظَلْ ُتمْ َت َفكّهُونَ }[الواقعة]65-63 :
ُ
كأن الريح العارمة تفسد الحرث ،وهو العملية اللزمة للنبات؛ فالحرث إثارة للرض ،أي جعل
الرض هشة لتنمو فيها الجذور البسيطة ،وتقوى على اختراقها ،وأخذ الغذاء منها ،وهذه الجذور
تستطيع -أيضا -من خلل هشاشة الرض المحروثة أن تأخذ الهواء اللزم للنبات.
إن الحق سبحانه يريد أن يضرب لنا المثل وهو عن جماعة غير مؤمنين أنفقوا أموالهم في الخير،
لكن ذلك ل ينفعهم ول جدوى منه .مصداقا لقوله تعالىَ { :كمَ َثلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ َأصَا َبتْ حَ ْرثَ َقوْمٍ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سهُمْ َيظِْلمُونَ } وهكذا يكون مصير النفاق على
سهُمْ فََأهَْلكَتْ ُه َومَا ظََل َمهُمُ اللّ ُه وَلَـاكِنْ أَ ْنفُ َ
ظََلمُواْ أَ ْنفُ َ
نية غير مؤمنة ،كهيئة الحرث الذي هبت عليه ريح فيها صوت شديد مصحوب ببرد ،فالـ " صر
" فيه الشدة والبرودة والعنف ،وحاتم الطائي كريم العرب يقول لعبده:أوقد؛ فإن الليل ليل قر
والريح يا غلم ريح صرعَلّ يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفا فأنت حرإن هذا الرجل الكريم
يطلق سراح العبد إذا ما هدى ضيفاّ إلى منزل حاتم الطائي " .والليل القر " :هو الليل الشديد
البرودة .و " الريح الصر " :هي الريح الشديدة المصحوبة بالبرد .ونعرف في قُرَاَنا أن الصقيع
ينزل على بعض المزروعات ،فيتلفها .ونلحظ هنا أن الحق سبحانه قد جاء بهذه الية الكريمة
بعد أن أوضح لنا في الية السابقة عليها أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ول أولدهم شيئا
ومصيرهم النار ،وهو سبحانه يدفع أي شبهة تطرأ على السامع ،وهي أن هذه الموال التي أنفقها
الكافرون لعمل الخير ،لن تغني عنهم شيئا في الخرة؛ لنهم ل يملكونها.
لماذا؟
لن العمل إنما يراد للثواب عليه ،والنية دائما هي التي تحدد الهدف من كل حركة ..فهل كان في
نية الكفار حين أنفقوا أموالهم في الخير الذي يعلمه الناس كالمساعدات ،وتفريج الكرب ،وإنشاء
المستشفيات هل كان في بال هؤلء الكفار َربّ هذه النعم ،أو كانوا يعملونها طمعا في جاه الدنيا،
وتقدير التاريخ وذكر النسانية؟
ل شك أنهم كانوا يعملونها للجاه ،أو للتاريخ ،أو للنسانية؛ لنهم ل يؤمنون بما وراء ذلك ،فهم ل
يؤمنون بوجود إله ,ول يؤمنون بوجود يوم آخر يًُحَاسبون فيه على ما قدموا .وقلنا من قبل :إن
الذي يعمل عمل فليطلب أجره ممن عمل له ،وما داموا قد عملوا للدنيا وذكرها ،وجاهها ،والفخر
فيها ،فقد أعطتهم الدنيا كل شيء.
الحق سبحانه وتعالى يضرب لنا مثل ،وهو الذي يضرب المثال للناس لعلهم يتذكرون .ومعنى
المثل :أن يأتي إلى أمر معنوي قد يغيب عن بعض العقول فهمه ،فيشخصه ويمثله بأمر حسي
يعرفه الجميع ،ونحن نعرف أن المحسات هي أصل المعنويات في الفهم .ونعرف أن الطفل أول
ما تتفتح إدراكاته يدرك الشيء المحس أول ،ثم بعد ذلك يكوّن من المحسات المعقولت.
فالطفل -على سبيل المثال -يرى نارا فيمسكها فتحرقه ،فيتكون عند الطفل اقتناع بأن النار
محرقة .ويشرب الطفل عسل ،فيجده حلوا ،فيتكون عنده اقتناع بأن العسل حلو الطعم ،ويأكل
الطفل شيئا مرا كالحنظل ،فتتكون عنده قضية معلومة وهي أن هذا الشيء مر الطعم ،فكل
المعلومات التي يعرفها النسان بوسائل إدراكه المتعددة إنما تأتي من المور المحسة أول.
والمور المحسة -كما علمنا -وسائلها الحواس الخمس الظاهرة ،وهي :العين لترى ،والذن
لتسمع ،والنف ليشم ،واللسان ليذوق ،والنامل لتلمس ،وهكذا نعرف أن كل حاسة ظاهرة لها
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غاية في الدراك .والنسان يتمتع بحواس أخرى ندرك أعمالها ،ولكنا ل ندرك أجهزتها أو
آلتها.
مثال ذلك :حاسة البعد وهي أن يعرف النسان هل الشيء الذي يراه قريب منه أو بعيد عنه؟
وكذلك حاسة الثقل فيحمل النسان الشيء فيعرف مدى ثقله ،إنه يدرك ذلك الثقل بحاسة غير
الحواس الخمس الظاهرة ،هذه الحاسة هي حاسة الثقل يكتشف بها النسان أن شيئا أثقل من شيء
آخر؛ ذلك أن العضلت التي تحمل الشيء تعرف قدر الجهد المبذول في الحمل .وهناك حاسة
أخرى غير ظاهرة هي حاسة " البَين " فيمسك النسان القماش بأنامله ليعرف هل سمك هذا
القماش أكبر من سمك قماش آخر؟ ولمعرفة سمك الشيء ل بد أن يكون واقعا بين لمسين.
إذن فهناك حواس كثيرة تربي المعاني عندنا؛ فكل الدراكات بنت الحس ،ولذلك يقول الحق
سمْ َع وَالَ ْبصَارَ
ج َعلَ َلكُمُ ا ْل ّ
جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
سبحانه وتعالى {:وَاللّهُ َأخْرَ َ
شكُرُونَ }[النحل]78 :
وَالَفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ تَ ْ
هذه هي الوسائل للدراك ،وقد أورد سبحانه السمع والبصار أول لنهما الوسيلتان الساسيتان،
وأورد من بعد ذلك " الفئدة " وهي المختصة بالمعاني والقلبيات وغيرها ،فإذا أراد ال أن يضرب
مثل في أمر معنوي قد تختلف فيه العقول فهو سبحانه يأتي بأمر حسيّ تتفق فيه الحواس .ونعلم
أن في اللغة أمرا اسمه " التشبيه " ،فعندما يجهل إنسان شيئا يقول لمعلمه :شبه لي المر الذي
أجهله بأمر أعرفه .والنسان منا قد يسأل صاحبه :أتعرف فلنا؟ فيقول الصاحب :ل أعرفه،
فيقول النسان منا لصاحبه :إن فلنا الذي ل تعرفه يساوي فلنا في الطول ،ويساوي فلنا في
اللون .وهكذا ينتقل النسان من أمر ل يعرفه إلى أمر يعرفه .والحق سبحانه يضرب لنا المثل
بالمور الحسية ،لنفهم المور المعنوية ،وال يوضح لنا أن الذين كفروا ساعة تكون لهم آلهة
متعددة فملكاتهم تصاب بالضطراب يقول -سبحانه {:-ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ
حمْدُ للّهِ َبلْ َأكْثَرُهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }[الزمر]29 :
جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً ا ْل َ
سلَما لّرَ ُ
ن وَرَجُلً َ
مُتَشَاكِسُو َ
إنه سبحانه يوضح لنا بالمثل الواضح مصير وحال رجل مملوك لعدد من الشركاء ،والشركاء
الذين يملكون هذا العبد ليسوا متفقين ،بل بينهم نزاع وشقاق ،وبطبيعة الحال ل بد أن يكون هذا
العبد مرهقا ،وهكذا تكون قضية الشرك بال ،إن العبد في مثل هذه الحالة يكون مُشتّتا وموزع
النفس بين الذين يملكونه وهم متشاكسون ،أما قضية التوحيد فالحق يشبهها بالقول } :وَرَجُلً سَلَما
جلٍ {.
لّرَ ُ
وهكذا ينقلنا الحق سبحانه -رحمة بنا -من المعنى العقدي العالي إلى معنى محس من الجميع،
لنرى أن الرجل المملوك لسيد واحد يتلقى أوامره من واحد فقط ،وكذلك يريد ال في هذه الية أن
يضرب مثل لمن ينفق شيئا على غير نية إرضاء ال في طاعته ،فمهما أنفق هذا النسان فإن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنفاقه حابط .ونحن عندما نقرأ أمثال القرآن الكريم علينا أل نأخذ جزئية فقط ،ل ،لكن يجب أن
نأخذ الجملة كلها لنفهم المثل كله كصورة مؤتلفة مثلما ضرب ال لنا مثل بالشركاء المتشاكسين
الذين يملكون رجل ،فعلينا إذن ألّ نأخذ المثل بحرفيته ،ولكن نأخذ المر بمجموع المثل .مثال
سمَاءِ فَاخْتََلطَ بِهِ نَبَاتُ
آخر ،يقول الحق سبحانه {:وَاضْرِبْ َلهُم مّ َثلَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
شيْءٍ ّمقْتَدِرا }[الكهف]45 :
ح َوكَانَ اللّهُ عَلَىا ُكلّ َ
الَ ْرضِ فََأصْبَحَ َهشِيما تَذْرُوهُ الرّيا ُ
فهل الحياة الدنيا كالماء؟ ل ،ولكن قصة الحياة كلها ،تشبه القصة التي يضربها الحق كمثل ،الماء
حين ينزل يختلط بالرض ،وبعد ذلك تهتز ،فتعطى نباتا ،والنبات ينتج الزهر الجميل ،وبعد ذلك
ينتهي إلى هشيم ،هكذا هي الدنيا في زخرفتها؛ فالبداية مزهرة ،فيها نضارة وخضرة وبهجة،
ونهاية مؤلمة ومدمرة.
إذن فالحق سبحانه ينقل لنا معنى الحياة الدنيا ويشبهها بالزهار والنبات ونهايته أن يصبح هشيما
حصِيدا كَأَن لّمْ َتغْنَ
جعَلْنَاهَا َ
تذروه الرياح ،وهو ما يقوله في موضع آخر من القرآن الكريمَ {.ف َ
لمْسِ كَذاِلكَ ُن َفصّلُ اليَاتِ ِلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }[يونس]24 :
بِا َ
وعندما نمعن النظر في قوله الحق:
سهُمْ
} مَ َثلُ مَا يُ ْنفِقُونَ فِي هَـا ِذهِ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرّ َأصَا َبتْ حَ ْرثَ َقوْمٍ ظََلمُواْ أَ ْنفُ َ
سهُمْ َيظِْلمُونَ { [آل عمران]117 :
ظَل َمهُمُ اللّهُ وَلَـاكِنْ أَ ْنفُ َ
فَأَهَْلكَتْ ُه َومَا َ
نجد في هذه الية " مشبها " و " مشبها به " ،المُشَبّه هم القوم الذي ينفقون أموالهم بغير نية ال،
أي كافرون بال ،والمُشَبّه به :هو الزرع الذي أصابته الريح وفيها الصر ،والنتيجة أنه ل جدوى
هنا ،ول هناك.
ولماذا تصيب الريح حرث قوم ظلموا أنفسهم ،وهل ل تصيب الريح حرث قوم لم يظلموا أنفسهم؟
إن الذين ظلموا أنفسهم تنزل بهم هذه الكارثة كعقوبة ،مثلهم في ذلك مثل أصحاب الجنة الذين
سمُواْ لَ َيصْ ِرمُ ّنهَا ُمصْبِحِينَ *
يقول فيهم الحق سبحانه {:إِنّا بََلوْنَا ُهمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ الْجَنّةِ إِذْ َأقْ َ
حتْ كَالصّرِيمِ }[القلم]20-17 :
ك وَهُمْ نَآ ِئمُونَ * فََأصْبَ َ
وَلَ يَسْتَثْنُونَ * َفطَافَ عَلَ ْيهَا طَآ ِئفٌ مّن رّ ّب َ
لقد جزاهم ال بظلمهم ،ولكن أل نرى رجل لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة؟ إننا نرى ذلك
في الحياة ،والرجل الذي لم يظلم نفسه وتصيب زراعته كارثة ،ويصبر على كارثته ،يأخذ الجزاء
والثواب من ال ،ولعل ال قد أهلك بها مال كانت الغفلة قد أدخلته في ماله من طريق غير
مشروع.
هكذا تكون الكارثة بالنسبة للمؤمن لها ثواب وجزاء ،أو تكون تطهيرا للمال .أما الذي ينفق على
غير نية ال وهو كافر ،فل ثواب له.
سهُمْ يَظِْلمُونَ { فهو سبحانه لم يظلم الكافرين
ويذيل الحق الية بقوله } َومَا ظََل َمهُمُ اللّ ُه وَلَـاكِنْ أَ ْنفُ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حين جعل نفقتهم بدون جدوى ول حصيلة لها عنده ،ولكنهم هم الذين ظلموا أنفسهم ،لنهم أنفقوا
النفقة على غير هيئة القبول ،وهم الذين صنعوا ذلك عندما ظلموا أنفسهم بالكفر َفحَبطت أعمالهم،
وتلك هي عدالة الحق سبحانه وتعالى:
خذُواْ بِطَا َنةً مّن دُو ِنكُ ْم لَ يَأْلُو َنكُمْ خَبَالً وَدّواْ مَا
ويقول الحق من بعد ذلك } :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تَتّ ِ
عَنِتّمْ{ ...
()508 /
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا لَا تَتّخِذُوا بِطَا َنةً مِنْ دُو ِنكُمْ لَا يَأْلُو َنكُمْ خَبَالًا وَدّوا مَا عَنِتّمْ َقدْ بَ َدتِ الْ َب ْغضَاءُ مِنْ
خفِي صُدُورُهُمْ َأكْبَرُ َقدْ بَيّنّا َلكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ َت ْعقِلُونَ ()118
َأ ْفوَا ِههِ ْم َومَا تُ ْ
حين يخاطب ال المؤمنين ويناديهم بقوله { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } فلتعلم أن ما يجيء بعد ذلك هو
تكليف من الحق سبحانه .فساعة ينادي الحق المؤمنين به ،فإنه ينادي ليكلف ،وهو سبحانه ل
يكلف إل من آمن به ،أما حين يدعو غير المؤمن به إلى رحاب اليمان ،فإنه يثير فيه القدرة على
التفكير ،فيقول له:
فكّر في السماء ،فكّر في الرض ،فكّر في مظاهر الكون ،حتى تؤمن أن للكون إلها واحدا .فإذا
آمن النسان بالله الواحد ،فإن الحق سبحانه وتعالى يقول له ما دمت قد آمنت بالله الواحد ،فَتَلَقّ
عن الله الحكم.
إن الحق حين يقول { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } فهو سبحانه يخاطب بالتكليف المؤمنين به ،وهو ل
يكلف بـ " افعل " و " ل تفعل " إل من آمن ،أما من لم يؤمن فيناديه ال ليدخل في حظيرة
اليمان { :يَاأَ ّيهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَ ّبكُمُ } فإذا ما دخل النسان في حظيرة اليمان فالحق سبحانه
وتعالى يكرم هذا المؤمن بالتكليف بـ " افعل " و " ل تفعل " وما دام العبد قد آمن بالله القادر
الحكيم الخالق ،القيوم ،فليسمع من الله ما يصلح حياته .ويجيء في بعض الحيان ما ظاهره أن
ال ينادي مؤمنا به ،ثم يأمره باليمان كقول الحق { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ }.
ويتساءل النسان كيف ينادي ال مؤمنا به ،ثم يأمره باليمان؟ وهنا نرى أن المطلوب من كل
مؤمن أن يؤدي أفعال اليمان دائما ويضيف لها ليستمر ركب اليمان قويا ،فالحق حين يطلب من
المؤمن أمرا موجودا فيه؛ فلنعلم أن ال يريد من المؤمن الستدامة على هذا اللون من السلوك
الذي يحبه ال ،وكأن الحق حين يقول { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } إنما يحمل هذا القول الكريم أمرا
بالستدامة على اليمان ،لن البشر من الغيار .ونحن نعرف أن ال أفسح بالختيار مجال لقوم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آمنوا فارتدوا ،فليس المر مجرد إعلن اليمان ثم تنتهي المسألة ،ل ،إن المطلوب هو استدامة
اليمان.
وحين نقرأ قول الحق { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } فلنفهم أن هناك تكليفا جديدا ،وما دام في المر تكليف
فعنصر الختيار موجود ،إذن فحيثية كل حكم تكليفي من ال له مقدمة هي { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ }
ول تبحث أيها المؤمن في علة الحكم ،وتسأل :لماذا كلفتني يارب بهذا المر؟ فليس من حقك أيها
المؤمن أن تسأل " :لماذا " ما دمت قد آمنت؛ فالحق سبحانه لم يكلف إل من آمن به ،فإذا كنت -
أيها المؤمن -قد آمنت بأنه إله صادق قادر حكيم فأمن ال على نفسك ،ونفذ مطلوب ال بـ "
افعل " و " ل تفعل " سواء فهمت العلة أم لم تفهمها.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن العباد المؤمنين لم يؤجلوا تنفيذ الحكم ،ولكنهم نفذوه ،واكتشف أحفاد الحفاد أن فيه ضررا،
وهذا يدفعنا إلى تنفيذ كل حكم ل نعرف له علة ،إن هذا الحكم له حكمة عند ال قد ل يستطيع
عقل النسان أن يفهمها ،ولكن ستأتي أشياء توضح بعض الحكام فيما لم يكن يعرفه النسان،
وتعطينا تلك اليضاحات الثقة في كل حكم ل تعرف له علة ،وتصبح علة كل حكم هي } :ياأَ ّيهَا
الّذِينَ آمَنُواْ {.
إن الحق بهذا القول ينادي كل عبد من عباده :يا من آمنت بي إلها خذ مني هذا التكليف .ومثال
ذلك -ول المثل العلى -عندما يقول الطبيب :يا من صدقت أني طبيب لمرضك خذ هذا الدواء
وستشفى بإذن ال.
وعندما يزور النسان مريضا ويسأله :لماذا تأخذ هذا الدواء؟ فالمريض يجيب :لقد كتب الطبيب
لي هذا الدواء ،فما بالنا بتنفيذ أحكام ال؟ إنه يجب أن ننفذها لن ال قالها ،ولذلك فالعاقلون بعمق
وجدية يختلفون عن مُدعى العقل بسطحية ،هؤلء العاقلون الجادون يقولون :إن هذا العقل مطية
يوصلك إلى باب السلطان ولكن ل يدخل معك عليه .فكأن العقل يوصلك إلى أن تؤمن بال ،ولكنه
ل يحشر نفسه فيما ليس له قدرة عليه.
خذُواْ بِطَا َنةً مّن دُو ِنكُمْ { أي أنكم
إن الحق سبحانه في هذا التكليف القادم } :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تَتّ ِ
ما دمتم قد آمنتم ،فعليكم الحفاظ على هذا اليمان بأن تبعدوا عنه نزغ الشيطان وكيد العداء .إن
نزغ الشيطان وكيد العداء إنما يأتي من البطانة التي تتداخل مع النسان.
ولنفهم كلمة " بطانة " جيدا ،إن بطانة الرجل هم خاصته ،أي الناس الذين يصاحبهم ويجلسون معه
ويعرفون أسراره ،وكلمة " بطانة " مأخوذة أيضا من بطانة الثوب؛ فنحن عندما نمسك أي قطعة
من ثياب نرى أن الثوب خشن ،ولذلك فالصانع يضع للثوب الخشن بطانة ناعمة ويختارها كذلك؛
لنها متصلة بالجسم ،والبطانة من الصدقاء تدخل على الناس بالنعومة وتستميلهم وتستعبدهم.
ولذلك نجد النبي صلى ال عليه وسلم يقول " :النصار شعار ،والناس دثار ".
" والشعار " هو الثوب الذي يلمس شعر الجسد ،والنبي صلى ال عليه وسلم يُعلي من قيمة الذين
استقبلوا الدعوة السلمية بمودة وحب .وهكذا نعرف أن كلمة " بطانة " مأخوذة -كما قلنا -من
بطانة الثوب ،لنها التي تلتحم بالجسم حتى تحميه؛ فنحن نرتدي الصوف ليعطينا الدفء ،ونضع
بينه وبين الجسم بطانة لنبعد عن الجسم خشونة الصوف ،ويسمون البطانة بالوليجة ،أي التي
تدخل في حياة الناس ،وكل شر في الوجود من هذه البطانة.
إن رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو معصوم وموحى إليه وله من الصحابة ما يطمح أي عبد
مؤمن أن يتخذه قدوة له ،هذا الرسول الكريم نجد بعضا من وصفه في حوار بين سيدنا الحسين
رضوان ال عليه وأبيه سيدنا علي كرم ال وجهه قال الحسين:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يا أبي قل لي عن مجلس رسول ال صلى ال عليه وسلم.
قال علي كرم ال وجهه:
كان رسول ال ل يجلس ول يقوم إل على ذكر .وفي الحديث " :كان رسول ال يكثر الذكر ".
لماذا؟ لن الجلوس والقيام هو إبطال حركة بحركة ،فمن كان قائما فقعد فقد أدى حركة هي
القعود ،ومن كان جالسا فقام ،فقد أدى حركة هي القيام .وكان الرسول صلى ال عليه وسلم يذكر
ال في كل حركة ،شاكرا نعمة الخالق عز وجل ،والنسان منا يستطيع أن يسأل نفسه :كم عضلة
يحركها النسان حتى يقعد أو يقوم؟
إنها أعداد كبيرة من العضلت تتحرك لتوازن ارتفاع الجسم أو جلوسه ،وهي أعداد ل يعرفها
النسان.
فما الذي جعل هذه الجهزة الصماء تفهم مراد النسان ،وبمجرد أن يحاول النسان القيام ،فإنه
يقوم ،وبمجرد أن يحاول النسان القعود ،فإنه يقعد؟ إنك إذا رفعت يدك ل تعرف ما هي
العضلت التي تتحرك لترفع اليد ،وتلك إدارة عالية يقول عنها الشاعر ":وفيك انطوى العالم
الكبر " كأن العالم الكبير قد انطوى وصار في داخلك أنت .إنك إن أردت أن تنام فإنك تنام،
وتحب أن تقوم فتقوم .ويبين لك الحق أن أوامرك لعضلتك وتحكمك في مملكة جسدك ،هي من
تسخير ال؛ تدرك ذلك حين تنظر حولك فتجد أنه سبحانه قد سلب أحدا غيرك القدرة على رفع
الذراع .وإياك أن تظن أن الحركة قد واتتك لمجرد أن لك يدا ،ل ،إن غيرك قد تكون له يد؛ لكنه
ل يستطيع أن يأمرها فتتحرك .وهكذا نعرف أن كل الرادات في النفس إنما تتحرك بتسخير الحق
لها لخدمة النسان.
قال صلى ال عليه وسلم " :إذا استيقظ أحدكم فليقل :الحمد ل الذي ردّ عليّ روحي وعافاني في
جسدي وأذِن لي بذكره ".
انه يُوجه النسان إلى ذكر خالقه عند كل قيام أو قعود ،ورسولنا صلى ال عليه وسلم يعلمنا أنه
عند كل انفعال بكل حركة من الحركات علينا أن نذكر الذي خلقنا وخلق فينا القدرة على الحركة.
وليسأل كل منا نفسه :كم حركة يتطلبها أمر من النسان بأن يحك ظهره مثل؟ إنه عدد غير
معروف من الحركات .وهكذا علينا أن نحسن الدب مع ال بأن نذكره في كل حركة فهو الذي
خلق كل إنسان منا صالحا لكل هذه القدرات.
ونعود إلى وصف علي كرم ال وجهه مجلسَ الرسول صلى ال عليه وسلم :كان ل يجلس ول
يقوم إل عن ذكر.
ولنتنبه إلى دقة الرسول في التعامل مع البطانة من البشر ،فها هو ذا رسول ال صلى ال عليه
وسلم كان ل يوطن الماكن وينهى عن إيطانها .ويوطن المكان ،أي أن يخصص مكانا لفلن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليجلس فيه ،لقد كان الرسول يجلس حيث انتهى به المجلس ،وكذلك كان صحابته ،فل أحد يجلس
دائما بجانبه حتى ل يأخذ أحد من مكانته عند الرسول فرصة يتخيل معها الخرون أنه صاحب
حظوة؛ فكلهم سواسية ونحن نرى في عصرنا أن هناك من يتخذ لنفسه مكانا في المسجد ،وهذا
منهي عنه .فعن ابن عمرو رضي ال عنهما قال( :نهى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن نقرة
الغراب وافتراش السبع وأن يوطّن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير).
ويضيف علي كرم ال وجهه في وصف مجلس رسول ال :وكان إذا ذهب إلى قوم جلس حيث
ينتهي به المجلس " ،وكان يجلس على الرض ويأكل على الرض ،يعتقل الشاة ويجيب دعوة
المملوك ".
أهناك أدب أكثر من هذا؟ إنه الرسول الكريم ،يجلس حيث ينتهي به المجلس ،لقد أراد أن يضرب
لنا المثل حتى تتنوع اللقاءات؛ فاليوم قد يجلس مؤمن بجانب مؤمن من مكان بعيد ،وغدا يجلس
كلهما بجانب اثنين جاء كل منهما من مكان آخر ،وهكذا تتحقق اندماجية اليمان بتنوع اللقاءات.
ويقول علي كرم ال وجهه :وكان رسول ال يعطي كل جلسائه نصيبهم من مجلسه حتى ل يحسب
جليسه أن أحدا أكرم عليه منه.
إن الرسول صلى ال عليه وسلم عندما يعطي نظرة لواحد ،فهو ينظر كذلك لكل واحد في مجلسه،
وإن تكلم كلمة إلى ناحية فهو يعطي كلمة أخرى إلى الناحية المقابلة؛ لذلك حتى يعرف كل جليس
للرسول أن المؤمنين سواسية ،وأنّه صلى ال عليه وسلم رسول إلى الناس كافة؛ وليس رسول إلى
قوم بعينهم ،وحتى يعرف كل واحد من جلسائه أنه يجلس إلى رسوله الذي بعثه ال إليه.
هكذا كان سلوك الرسول صلى ال عليه وسلم حتى يعطي القدوة للناس ،وحتى يعرف كل إنسان
أن التحام الناس بعضهم ببعض؛ قد يسبب لواحد استغلل اللتحام في غير صالح اليمان.
لذلك يقول الحق سبحانه :يا أيها المؤمنون تنبهوا إلى أنكم في معسكر من غير المؤمنين يقاتلكم
ويعاند إيمانكم ،وهؤلء ل يمكن أن يتركوكم على إيمانكم ،بل ل بد أن يكيدوا لكم ،وهذا الكيد
يتجلى في أنهم يدسون لكم أشياء ،وينفذون إليكم.
ونعرف جميعا أن السلم عندما جاء كان كثير ممن آمن له ارتباطات بمن لم يسلم؛ فهناك
القرابة ،والصداقة ،واللف القديم والجوار ،والخوة من الرضاعة ،لذلك يحذر الحق من هذه
المسائل ،فل يقولن مؤمن هذا قريبي ،أو هذا صديقي ،أو هذا حليفي ،أو هذا أخي من الرضاعة،
فالسلم يحقق لكم أخوة إيمانية تفوق كل ذلك ،ولهذا فإياكم أن تتخذوا أناسا يتداخلون معكم بالود؛
لن الشر يأتي من هذا المجال ،وإياكم أن تعتقدوا أن فجوة اليمان والكفر بينكم ستذهب أو
تضيق؛ لن الكفار لن يتورعوا أن يدخلوا عليكم من باب الكيد لكم ولدينكم بكل لون من اللوان،
وهم -الكفار -ل يقصرون في هذا أبدا ،لذلك يأتي المر من الحق:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} يا أيها الذين آمنوا { ،احموا هذا اليمان فل تتداخلوا مع غير المؤمنين تداخل يفسد عليكم أمور
دينكم؛ لنهم لن يهدأوا ،لماذا؟ لن حال هذه البطانة معكم سيكون كما يلي } :لَ يَأْلُو َنكُمْ خَبَالً
{ أي ل يقصرون أبدا في الكيد لكم ،والخبال :هو الفساد للهيئة المدبرة للجسم وهو العقل ،ونحن
نسمى اختلل العقل " خبل ".
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القرابة والصداقة ،مطالبا أن يرضيه المؤمن بما يخالف الدين ،ول يستطيع المؤمن التوفيق بين ما
يطلبه الدين وما يطلبه الكافر؛ لذلك تنقسم ملكات المؤمن ويحس بالمشقة .والكافرون ل يتركون
أي فرصة تأتي بالفساد للمؤمنين إل انتهزوها واغتنموها.
} ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تَتّخِذُواْ بِطَا َنةً مّن دُو ِنكُ ْم لَ يَأْلُو َنكُمْ خَبَالً وَدّواْ مَا عَنِتّمْ قَدْ بَ َدتِ الْ َب ْغضَآءُ مِنْ
َأ ْفوَا ِههِمْ {.
وما دامت البغضاء قد بدت من أفواههم فكيف نتخذهم بطانة؟ إنك حين تصنع لنفسك جماعة من
غير المؤمنين ،فإنها تضم بعضا من المنافقين غير المنسجمين مع أنفسهم .والمنافق له لسان يظهر
خلف ما يبطن .وعندما يذهب المنافق إلى غير المؤمنين فإن لسان المنافق ينقل بالسخرية كلم
المؤمن.
هكذا تظهر البغضاء من أفواه المنافقين المذبذبين بين ذلك ،ل إلى هؤلء ول إلى هؤلء ،إنهم ل
ينتمون إلى اليمان ول ينتمون إلى الكفر ،والذي يصل المؤمنين من بغضاء هؤلء قليل ،لن ما
تخفي صدورهم أكبر .وحين تبدوا البغضاء من أفواههم ،فإما أن يقولوها أمام منافقين ،وإما أن
يقولها بعضهم لبعض ،فيتبادلوا الستهزاء والسخرية بالمؤمن ،وال أعلم بمن قيل فيه هذا الكلم،
ولذلك فعندما يتحدث الكافرون بكلم فيما بينهم فال يكشفهم ويفضحهم لنا نحن المؤمنين.
إن ال تعالى يكشف بطلقة علمه كل الخبايا ،وكان على الكافرين والمنافقين أن يعلموا أن هناك
إلها يرقب عملية اليمان في المؤمن حتى ينبهه إلى أدق الشياء ،لكنهم كأهل كفر ونفاق في
خفِي صُدُورُهُمْ َأكْبَرُ {
غباء ،لقد كان مجرد نزول قول الحق } :قَدْ َب َدتِ الْ َب ْغضَآءُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِ ْم َومَا ُت ْ
كان ذلك فرصة أمامهم ليدفعوا عن أنفسهم لو كانت صدورهم خالية من الحقد .لكنهم عرفوا ان
ال قد علم ما في صدورهم .إن الغيظ الذي في قلوب هؤلء الجاحدين الحاقدين قد نضح على
ألسنتهم ،ولكن مَن الذي نقل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وصحابته ما في صدور الكافرين
مما هو أكثر من ذلك؟
خفِي صُدُورُهُمْ َأكْبَرُ { إذن
إنه ال -جلت قدرته -قد فضحهم بما أنزل من قوله تعالىَ } :ومَا تُ ْ
لم يعد لمن آمن بال حجة؛ لن ال أعطاه المناعات القوية لصيانة ذلك اليمان ،وأوضح الحق
للمؤمنين أن أعداءهم لن يدخروا وسعا أبدا في إفساد انتمائهم لهذا الدين ،فيجب أن ينتبه
المؤمنون.
وإذا ما دققنا التأمل في تذييل الية نجد أن الحق قال } :قَدْ بَيّنّا َلكُمُ اليَاتِ إِنْ كُنْتُمْ َت ْعقِلُونَ { إذن،
فاليات المنزلة من ال تعالى توضح ذلك ،وقد قلنا من قبل :إن اليات ،إما أن تكون آيات قرآنية،
وإما أن تكون آيات كونية ،فالقرآن له آيات ،والكون له آيات .ولنسمع قول الحق بالنسبة للقرآن{:
وَإِذَا َبدّلْنَآ آ َيةً ّمكَانَ آيَ ٍة وَاللّهُ أَعْلَمُ ِبمَا يُنَ ّزلُ قَالُواْ إِ ّنمَآ أَنتَ ُمفْتَرٍ َبلْ َأكْثَرُهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }[النحل:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]101
شمْسِ
سجُدُواْ لِل ّ
س وَا ْل َقمَرُ لَ تَ ْ
شمْ ُ
ل وَال ّنهَارُ وَال ّ
وفي مجال الكون يقول الحق سبحانهَ {:ومِنْ آيَاتِهِ اللّ ْي ُ
خَلقَهُنّ إِن كُن ُتمْ إِيّاهُ َتعْبُدُونَ }[فصلت]37 :
جدُواْ لِلّهِ الّذِي َ
وَلَ لِ ْل َقمَ ِر وَاسْ ُ
وهكذا نعلم أن الية هي الشيء العجيب اللفت الذي يجب أنه ننتبه إليه لنأخذ منه دستورا لحياتنا.
وعلى ذلك ،فاليات القرآنية تعطي المنهج ،واليات الكونية تؤيد صدق اليات المنهجية .ويجب
أن تتفطنوا أيها المؤمنون إلى هذه اليات .والذي يدل على أن المؤمنين قد عقلوا وتفطنوا ،أن
الية الولى بينت أنهم قد نهوا عن أن يتخذوا بطانة من دونهم -أي من غير المؤمنين -وها
هي ذي الية التالية تقول } :هَآأَنْتُمْ ُأوْلءِ ُتحِبّو َنهُ ْم َولَ ُيحِبّو َنكُ ْم وَ ُت ْؤمِنُونَ بِا ْلكِتَابِ كُلّ ِه وَإِذَا َلقُوكُمْ
عضّواْ عَلَ ْيكُ ُم الَنَا ِملَ مِنَ ا ْلغَيْظِ{ ...
قَالُواْ آمَنّا وَإِذَا خََلوْاْ َ
()509 /
عضّوا
هَا أَنْ ُتمْ أُولَاءِ ُتحِبّو َنهُ ْم وَلَا يُحِبّو َنكُ ْم وَ ُت ْؤمِنُونَ بِا ْلكِتَابِ كُلّ ِه وَِإذَا َلقُوكُمْ قَالُوا َآمَنّا وَإِذَا خََلوْا َ
ظكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ ()119
عَلَ ْيكُمُ الْأَنَا ِملَ مِنَ ا ْلغَ ْيظِ ُقلْ مُوتُوا ِبغَيْ ِ
وما زال الحديث والكلم عن البطانة ،وهو يدل على أن البطانة لم تستطع أن تلوي المؤمنين عن
اليمان ،بل إن المؤمنين الذين ذاقوا حلوة اليمان حاولوا أن يغيروا من الكافرين .ولم يفلح
الكافرون أن يغيروا من المؤمنين ،وكذلك لم يفلح الكافرون أيضا أن يسيطروا على أنفسهم ،ولم
يكن أمام هؤلء الكافرين إل النفاق ،لذلك قالوا " :آمنا " .إن الية تدلنا على أن المؤمنون قد عقلوا
آيات الحق .ولماذا -إذن -جاء الحق بقوله " :تحبونهم ول يحبونكم "؟
لقد أحب المؤمنون الكافرين حين شرحوا لهم قضية الحق في منهج السلم ،وأرادوا المؤمنون أن
يجنبوا الكافرين متاعب الكفر في الدنيا والخرة ،وهذا هو الحب الحقيقي ،فهل بَادََلهُم الكافرون
الحب؟ ل؛ لن هؤلء الكافرون أرادو أخذ المؤمنين إلى الكفر ،وهذا دليل عدم المودة .ولم يستطع
الكافرون تحقيق هذا المأرب ،ولذلك قالوا " :آمنا " ومعنى قولهم " :آمنا " يدلنا على أن موقف
المسلمين كان موقفا صُلبا قويا؛ لذلك لم يجد الكافرون بدا من نفاقهم { وَإِذَا َلقُوكُمْ قَالُواْ آمَنّا } قالوا
ذلك على الرغم من ظهور البغضاء في أفواههم ،ولم يكن سلوكهم مطابقا لما يقولون .وهنا بدأ
المسلمون في تحجيم وتقليل مودتهم للكافرين؛ ولذلك قال أهل الكفر :لو استمر المر هكذا فسوف
يتركنا هؤلء المسلمون ..وحتى يتجنبوا هذا الموقف ادعوا اليمان في الظاهر ،وينقلب موقفهم إذا
عضّواْ عَلَ ْيكُ ُم الَنَا ِملَ مِنَ ا ْلغَيْظِ }
خلوا لنفسهم ،ويصور الحق هذا الموقف في قوله { :وَإِذَا خََلوْاْ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فما هو العض؟
ض لغويا ،هو التقاء الفكين على شيء ليقضماه .وما النامل؟ إنها أطراف الصابع،
إن الع ّ
والنامل فيها شيء من الدقة ,وشيء من خفة الحركة المأخوذة من خلية النمل ،ويسمون النامل
أيضا البنان ،وعملية عض النامل عندما نراها نجدها عملية انفعالية قسرية .أي أن الفكر ل
يرتبها؛ فليس هناك من يرضي أن يظل مرتكبا لعملية عض أصابعه ،فعض الصبع يسبب اللم،
لكن المتلء بالغيظ يدفع النسان إلى عض الصابع كمسألة قسرية نتيجة اضطراب وخلل في
النفعال.
ومن أين يجيء الغيظ؟.
لقد جاء الغيظ إلى الكافرين لنهم لم يستطيعوا أن يزحزحوا المؤمنين قيد شعرة عن منهج ال ،بل
حدث ما هو العكس ،لقد حاول المؤمنون أن يجذبوا الكافرين إلى نور اليمان ،وكان الكافرون
يريدون أن يصنعوا من أنفسهم بطانة يدخلون منها إلى المؤمنين لينشروا مفاسدهم؛ ولذلك وقعوا
في الغيظ عندما لم يمكنهم المؤمنون من شيء من مرادهم.
إن النسان يقع أحيانا فريسة للغيظ حين ل يتمكن من إعلن غضبه على خصمه؛ ولهذا إذا أراد
إنسان من أهل اليمان أن يواجه حسد واحد من خصومه فعليه أن يزيد في فضله على هذا
النسان ،وهنا يزداد هذا الخصم غيظا ومرارة ،أيضا نجد أن من تعاليم السلم أن النسان
المؤمن ل يقابل السيئة التي يصنعها فيه آخر بسيئة ،وذلك حتى ل يرتكب الذنب نفسه ،ولكن يتَبع
القول المأثور:
" إننا ل نكافئ من عصى ال فينا بأكثر من أن نطيع ال فيه "
إنهم بإحسان المسلمين إليهم يزدادون خصومة ،وغيظا وحقدا على السلم وكان المسلمون
الوائل يتصرفون بذلك السلوب لقد كانوا جبال إيمانية راسخة.
فخصوم السلم يعصون ال بسوء معاملتهم للمسلمين ،لكنْ المسلمون يردون على سوء المعاملة
بحسن المعاملة ،وساعة يرى خصوم السلم أن كيدهم ل يحقق هدفه فإنهم يقعون في بئر وحمأة
الغيظ .وعندما يخلون الكافرون لنفسهم فأول أعمالهم هو عض الصابع من الغيظ ،وهو كما
أوضحت نتيجة النفعال القسري التابع للغضب والعجز عن تحقيق المأرب؛ ذلك أن كل تأثير
إدراكي في النفس البشرية إنما يطرق مجال وجدانيا فيها.
والمجال الوجداني ل بد أن يعبر عن نفسه بعملية نزوعية تظهر بالحركة؛ فالنسان عندما يسبب
لواحد يعرفه لونا من الغضب فهو ينفعل بسرعة ويثور بالكلمات ،هذا دليل على طيبة النسان
الغاضب .أمَّا الذي ل يظهر انفعاله فيجب الحذر منه؛ لنه يخزن انفعالته ،ويسيطر عليها ،فل
تعرف متى تظهر ول على أية صورة تبدو؛ ولذلك يقول الثر " :اتقوا غيظ الحليم " فعندما تتجمع
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
انفعالت جديدة فوق انفعالت قديمة متراكمة في قلب الحليم فل أحد يعرف متى يفيض به الكيل.
إذن فالدراك ينشأ عنه وجدان ،فينفعل النسان بالنزوع الحركي .والتشريع السلمي ل يريد من
النسان أن يكون حجرا أصم ل ينفعل ،لكنه يطلب من المسلم أن ينفعل انفعال مهذبا؛ ولذلك يضع
حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ }
س وَاللّهُ ُي ِ
ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ
ظمِينَ ا ْلغَيْ َ
الحق للمؤمن منهجا ،فيقول سبحانه {:وَا ْلكَا ِ
[آل عمران]134 :
إن القرآن يعترف بأن هناك من الحداث ما يستدعي غيظ النسان ،والذي ل يغضب على
الطلق إنما يسلك طريقا ل يتوافق مع طبيعة البشر السوية ،وال يريد من النسان أن يكون
إنسانا ،له عواطفه وشعوره وانفعالته ،ولكن ال المربي الحق يهذب انفعالت هذا النسان ،ولنا
في النبي صلى ال عليه وسلم القدوة الحسنة ،فحين مات ولده إبراهيم:
قال عليه الصلة والسلم " :إن العين تدمع والقلب يحزن ول نقول إل ما يرضي ربنا ،وإنا
بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ".
إن النبي صلى ال عليه وسلم يمزج بين العاطفة واليمان ،فالعين تدمع ،والقلب يحزن ،والنسان
ل يكون أصمّ أمام الحداث ،إنما على النسان أن يكون منفعل انفعال مهذبا.
وعندما يعبّر القرآن عن النسان السويّ فهو ل يضع المؤمن في قالب حديدي بحيث ل يستطيع
أن يتغير فيقول سبحانه {:أَذِلّةٍ عَلَى ا ْل ُمؤْمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }
[المائدة]54 :
إذن فيلس المؤمن مطبوعا على الذلة ،ول مطبوعا على العزة ،لكنه ينفعل للمواقف المختلفة ،فهذا
موقف يتطلب ذلة وتواضعا للمؤمنين فيكون المؤمن ذليل ،وهناك موقف آخر يتطلب عزة على
حمّدٌ رّسُولُ اللّهِ
الكافرين المتكبرين فيكون المؤمن عزيزا ،والحق سبحانه يقول عن المؤمنين {:مّ َ
ضوَانا }
حمَآءُ بَيْ َن ُهمْ تَرَا ُهمْ ُركّعا سُجّدا يَبْ َتغُونَ َفضْلً مّنَ اللّ ِه وَ ِر ْ
وَالّذِينَ َمعَهُ َأشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ رُ َ
[الفتح]29 :
ن المؤمنين ينفعلون للحداث ،فحين يكون
إن الرحمة ليست خلقا ثابتا ،ول الشدة خلقا ثابتا ولك ّ
المؤمن مع المؤمنين فهو رحيم ،وحين يكون في مواجهة الكفار فهو قوي وشديد .وال سبحانه ل
ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ
ظمِينَ ا ْلغَيْ َ
يريد المؤمن على قالب واحد متجمد ،لذلك يقول الحق {:وَا ْلكَا ِ
حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ }[آل عمران]134 :
وَاللّهُ ُي ِ
وهو سبحانه القائل {:وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ ِبهِ }[النحل]126 :
إذن فالحق لم يمنع المؤمن من أن يعاقب أحدا على خطأ ،وذلك لنه خلق الخلق وعليم بهم ،ول
يمكن أن يصادم طباعهم ،وذلك حتى ل يتهدد المؤمن في إيمانه فيما بعد ،فالمؤمن لو ترك حقوقه
فإن الكفار سيصولون ويجولون في حقوق المسلمين؛ ولهذا فالمؤمن يتدرب على توقيع العقاب
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حتى على المؤمن المخطئ ،وذلك ليعرف المؤمن كيف يعاقب أي مجترئ على حق من حقوق
ال .والمؤمن أيضا مطالب بأن يرتقي بعقابه ،فهو إما أن يعاقب بمثل ما عوقب به ،وإما أن
يرتقي أكثر ،ويستمع لقول الحق {:وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }[النحل]126 :
لقد وضع الحق منهج الرتقاء بعد أن أعطى المؤمن الحق في توقيع العقاب قصاصا ،وهكذا لم
يقسر ال طبع النسان ولو أراد سبحانه ذلك لما خلق هذا الطبع إنه سبحانه يوضح لنا أن هناك
انفعال بالغيظ ،وأن المؤمن عليه أن يحاول كظم الغيظ أي ل يعبر عن الغيظ نزوعيا ،فإن أخرج
ش ِفيَ منه وارتقى.
المؤمن هذا المر من قلبه فمعناه أنه قد برئ و ُ
إذن فكظم الغيظ هو أل يعبر المؤمن عن الغيظ نزوعيا ،فإن سبّك أحدٌ فأنت ل تسبّه ،وهذا الكظم
يعني كتمان النفعال في القلب ،فإذا ارتقى المؤمن أكثر وتجاهل حتى النفعال بذلك ،فإنه يُخرج
الغيظ من قلبه ،وهو بذلك يرتقي ارتقاء أعلى ،ويصفه الحق بأنه دخول إلى مرتبة الحسان ،فهو
حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ { وهكذا يحسن المؤمن إلى المسبب للغيظ بكلمة طيبة.
القائل } :وَاللّهُ ُي ِ
فماذا يكون موقف الذي تسبب في غيظك أيها المؤمن وأنت قد كظمت الغيظ في المرحلة الولى
وعفوت في المرحلة الثانية وإن أخرجت النفعال من قلبك ،وصلت إلى المرحلة الثالثة وهي التي
حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ { ل بد أن يراجع المسبب للغيظ نفسه
تمثل قمة اليمان إنها الحسان } ..وَاللّهُ يُ ِ
ويندم على ما فعل.
إن السلم لم يتجاهل المشاعر النسانية عندما طالب المؤمنين أن يحسنوا لمن أساء إليهم ،فالذي
يمعن النظر ويدقق الفهم يعرف أن السلم قد أعطى المؤمن الحق في الطبع البشرى حين قال} :
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ { ولكنه ارتقى بالمؤمن.
وعندما ننظر إلى هذا المر كقضية اقتصادية وتحسبها بـ " منه " و " له " فسنجد أنّ المؤمن قد
كسب ..ومثال ذلك -ول المثل العلى -ساعة يجد الب ابنا من أبنائه قام بظلم أخ له فإن قلب
الب يكون مع المظلوم ,فهب أن إنسانا أساء لعبد من عباد ال فإن ال كربّ مربّ يغار له ونحن
نعرف أن واحد قال لعارف بال:
أتحسن لمن أساء إليك؟ فقال العارف بال :أفل أحسن لمن جعل ال في جانبي؟
ولنعد الن إلى غيظ الكافرين من المؤمنين ،إن غيظ الكافر ناتج من أن خصمه المؤمن يحب له
اليمان وليس في قلبه ضغينة بينما الكافر يغلي من الحقد ،وبسبب هذا المر يكاد يفقد صوابه؛
عضّواْ عَلَ ْيكُ ُم الَنَا ِملَ مِنَ ا ْلغَيْظِ {.
لذلك يقول الحق } :وَإِذَا خََلوْاْ َ
و " خلوا " المقصود بها .أن الكافرين إذا ما أصبحوا في مجتمع كفرى وليس معهم مسلم أعلنوا
الغيظ من المؤمنين ،ولقد فعلوا هذا المر -عض النامل من الغيظ -في غيبة اليمان
والمؤمنين بال ،لو كان عند هؤلء الكافرين ذرة من تعقل لفكروا كيف فضحهم القرآن ،وهم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذين ارتكبوا هذا الفعل بعيدا عن المؤمنين؟
ي من المور لرسوله ،ويبلغها
ألم يكن لتفكيرهم أن يصل إلى أن هناك ربّا للمؤمنين يقول الخاف َ
الرسول للمؤمنين.
عضّواْ عَلَ ْيكُ ُم الَنَا ِملَ مِنَ ا ْلغَيْظِ { وهنا ينبغي
لكنهم مع ذلك لم يفهموا هذا الفضح لهم } وَإِذَا خََلوْاْ َ
أنْ نفهم أنّ هناك أمرا قد يغيظ ،ولكن النسان قد يجبن أن ينفث غيظه ،فإذا غاظك أحد فقد تذهب
إليه وتنفعل عليه ،أو قد تنفعل على نفسك وذلك هو ما يسمى بـ " تحويل النزوع " .فالغاضب
يمتلئ بطاقة غضبية ،ومن يغضب عليه قد يكون قويا وصاحب نفوذ ،فيخاف أن ينفعل عليه،
فينفث الغاضب طاقة غضبه على نفسه بأن يعض على أنامله ،وما دامت المسألة هكذا ،فقد قال
الحق:
ظكُمْ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ { [آل عمران]119 :
} ُقلْ مُوتُواْ ِبغَ ْي ِ
ومعنى ذلك أن إغاظة المؤمنين لكم أيها الكافرون ستستمر إلى أن تموتوا من الغيظ؛ لذلك فل
ظكُمْ {.
طائل من محاولتكم جذب المؤمنين إلى الكفرُ } :قلْ مُوتُواْ ِبغَ ْي ِ
ونحن قد عرفنا أنه ساعة يؤمر النسان بشيء ليس في اختياره -لن الموت ليس في اختيارهم
-وأن يختار بينه وبين شيء في اختياره كالغيظ ،فمعنى ذلك أن المر قد صدر إليه ليظل أسير
المر الذي يقدر عليه وهو الغيظ حتى يدركه الموت.
ظ ُكمْ { فهذا يعني أن الكافرين لن يستطيعوا الموت ،ولكن سيظلون
وعندما يقول الحق } :مُوتُواْ ِبغَيْ ِ
في حالة الغيظ إلى أن يموتوا؛ لنهم ليعرفون متى يموتون ،وهكذا يظلون على حالهم من الغيظ
من المؤمنين وما دام الكافرون في حالة غيظ من المؤمنين فهذا دليل على أن المؤمنين يطبقون
منهجهم بأسلوب صحيح.
()510 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سؤْهُ ْم وَإِنْ ُتصِ ْبكُمْ سَيّ َئةٌ َيفْرَحُوا ِبهَا وَإِنْ َتصْبِرُوا وَتَ ّتقُوا لَا َيضُ ّركُمْ كَيْدُ ُهمْ شَيْئًا
حسَنَةٌ َت ُ
س ُكمْ َ
إِنْ َتمْسَ ْ
إِنّ اللّهَ ِبمَا َي ْعمَلُونَ ُمحِيطٌ ()120
والقرآن كلم ال وله -سبحانه -الطلقة التامة والغني الكامل ،والعبارات في المعنى الواحد قد
تختلف لن كل مقام له قوله ،وسبحانه يحدد بدقة متناهية اللفظ المناسب ..إنه هو سبحانه الذي
ن الِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعا * إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعا * وَِإذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا * ِإلّ ا ْل ُمصَلّينَ *
قال {:إِ ّ
الّذِينَ هُمْ عَلَىا صَلَ ِتهِمْ دَآ ِئمُونَ }[المعارج]23-19 :
سلْنَاكَ
سكَ وَأَرْ َ
وهو سبحانه الذي قال {:مّآ َأصَا َبكَ مِنْ حَسَنَةٍ َفمِنَ اللّ ِه َومَآ َأصَا َبكَ مِن سَيّئَةٍ َفمِن ّنفْ ِ
شهِيدا }[النساء]79 :
ل َوكَفَىا بِاللّهِ َ
لِلنّاسِ َرسُو ً
إنه جل وعل يتكلم عن المس في الشر والخير ،ومرة يتكلم عما يحدث للنسان كإصابة في الخير
أو في الشر ،وفي الية التي نحن بصدد الخواطر عنها تجد خلفا في السلوب فسبحانه يقول:
سؤْهُمْ وَإِن ُتصِ ْبكُمْ سَيّئَةٌ َيفْرَحُواْ ِبهَا } إنه لم يورد المر كله مَسّا ،ولم يورده
سكُمْ حَسَ َنةٌ تَ ُ
{ إِن َتمْسَ ْ
كله " إصابة " إنه كلم رب حكيم وعندما نتمعن في المعنى فإن الواحد منا يقول :هذا كلم ل
يقوله إل رب حكيم.
ولنتعرف الن على " المس " و " الصابة " بعض العلماء قال :إن المس والصابة بمعنى واحد،
ن الِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعا * إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعا * وَِإذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا }
بدليل قوله الحق {:إِ ّ
[المعارج]21-19 :
ولكننا نقول إن المس هو إيجاد صلة بين الماس والممسوس فإذا مس الرجل امرأته ،فنحن نأمره
بالوضوء فقط ,لنه مجرد التقاء الماس بالممسوس والمر ليس أكثر من التقاء ل تحدث به الجنابة
فل حاجة للغسل ،أما الصابة فهي التقاء وزيادة؛ فالذي يضرب واحدا صفعة فإنه قد يورم
صدغة ،فالكف يلتقي بالخد ،ويصيب الصدغ ،وهكذا نعرف أن هناك فرقا بين المس والصابة،
سؤْهُمْ }.
سكُمْ حَسَنَةٌ َت ُ
سْوحين يقول الحق { :إِن َتمْ َ
فمعنى ذلك أن الحسنة الواقعة بسيطة ،وليست كبيرة إنها مجرد غنيمة أو قليل من الخير ..وفي
حياتنا اليومية نجد من يمتلئ غيظا لن خصمه قد كسب عشرة قروش ،وقد يجد من يقول له:
لماذا ل تدخر غيظك إلى أن يكسب مائة جنيه مثل؟ ومثل هذا الغيظ من الحسنة الصغيرة هو
دليل على أن أي خير يأتي للمؤمنين إنما يسبب التعب والكدر للكافرين .فبمجرد مس الخير
للمؤمنين يتعب الكافرين فماذا عن أمر السيئة؟
إن الحق يقول { :وَإِن ُتصِ ْبكُمْ سَيّ َئةٌ َيفْرَحُواْ ِبهَا } إن الكافرين يفرحون لي سوء يصيب المؤمنين
مع أنه كان مقتضي النسانية أن ينقلب الحاسد راحما:وحسبك من حادث بامرئ ترى حاسديه له
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
راحمينايعني حسبك من حادث ومصيبة تقع على إنسان أن الذي كان يحسده ينقلب راحما له
ويقول :وال أنا حزنت من أجله.
إذن فلمّا تشتد إصابة المؤمنين أكانت تغير من موقف الكافرين؟ ل ،كان أهل الكفر يفرحون في
سؤْهُمْ }
سكُمْ حَسَنَةٌ َت ُ
سْأهل اليمان ،وإذا جاء خير أي خير للمؤمنين يحزنون فالحق يقول { :إِن َتمْ َ
والحسنة هي أي خير يمسهم مسا خفيفا { ،وَإِن ُتصِ ْبكُمْ سَيّئَةٌ َيفْرَحُواْ ِبهَا وَإِن َتصْبِرُو ْا وَتَ ّتقُو ْا لَ
َيضُ ّركُمْ كَيْدُ ُهمْ شَيْئا } ،فأنت مهما كادوا لك فلن يصيبوك بأذى.
إن المطلوب منك أن تصبر على عداوتهم ،وتصبر على شرّهم ،وتصبر على فرحهم في
المصائب ،وتصبر على حزنهم من النعمة تصيبك أو تمسك ،اصبر فيكون عندك مناعة؛ وكيدهم
لن ينال منك اصبر واتق ال :لتضمن أن يكون ال في جانبك } ،وَإِن َتصْبِرُو ْا وَتَ ّتقُو ْا لَ َيضُ ّركُمْ
كَيْدُ ُهمْ شَيْئا {.
وما الكيد؟ الكيد هو أن تبيت وتحتال على إيقاع الضرر بالغير بحيث يبدو أنه كيدٌ من غيرك ،أي
تدبر لغيرك لتضره .وأصل الكيد مأخوذ من الكيد والكبد ،وهما بمعنى واحد ،فما يصيب الكبد
يؤلم؛ لن الكبد هو البضع القوي في النسان ،إذا أصابه شيء أعيى النسان وأعجزه ،ويقولون:
فلن أصاب كبد الحقيقة أي توصل إلى نقطة القوة في الموضع الذي يحكي عنه.
وما معنى يبيتون؟ قالوا :إن التبييت ليس دليل الشجاعة ،وساعة ترى واحدا يبيت ويمكر فاعرف
أنه جبان؛ لن الشجاع ل يكيد ول يمكر ،إنما يمكر ويكيد الضعيف الذي ل يقدر على المواجهة،
فإن تصبروا على مقتضيات عداواتهم وتتقوا ال ل يضركم كيدهم شيئا؛ لن ال يكون معكم.
ويذيل الحق الية بالقول الكريم } :إِنّ اللّهَ ِبمَا َي ْعمَلُونَ مُحِيطٌ { .وساعة ترى كلمة " محيط " فهذا
يدلك على أنه عالم بكل شيء .والحاطة :تعني أل تشرد حاجة منه .وها هي ذي تجربة واقعية
في تاريخ السلم؛ يقول الحق فيها مؤكدا } :وَإِن َتصْبِرُواْ وَتَ ّتقُواْ لَ َيضُ ّركُمْ كَ ْيدُهُمْ شَيْئا إِنّ اللّهَ
ِبمَا َي ْعمَلُونَ ُمحِيطٌ { وعلى كل منا أن يذكر صدق هذه القضية.
()511 /
إنه في هذه المرة -في غزوة أحد -جاء الكفار بثلثة آلف وكان المسلمون قلة ،سبعمائة مقاتل
فقط ،وحتى يبين الحق صدق قضاياه في قوله { :وَإِن َتصْبِرُواْ وَتَتّقُو ْا لَ َيضُ ّركُمْ كَيْدُ ُهمْ شَيْئا }
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وليس المقصود هنا الكيد التبييتي بل عملهم العلني ،أي واذكر صدق هذه القضية:
{ وَإِذْ غَ َد ْوتَ مِنْ أَهِْلكَ } ،والغدوة هي :أول النهار ،والرواح :آخر النهار ،والهل :تطلق ويراد
بها الزوجة ،والمقصود هنا حجرة عائشة؛ لن الرسول كان فيها في هذا الوقت الذي أراد فيه
كفار قريش أن يثأروا لنفسهم من قتلى بدر وأسراهم ،لقد جمعوا حشودهم ،فكل موتور من
معركة بدر كان له فرسان وله رجال ،حتى انهم بعد معركة بدر قال زعيمهم أبو سفيان
لصحابه :قل للنساء ل تبكين قتلكم فإن البكاء يذهب الحزن ،فالدموع يسمونها غسل الحزن ،أو
ذوب المواجيد ،فساعة يبكي إنسان حزين يقول من حوله :دعوه يرتاح.
فلو حزنت النساء وبكين على قتلى بدر لهبطت جذوة النتقام؛ لذلك قال أبو سفيان :قل لهن ل
يبكين .إنه يريد أن يظل الغيظ في مسألة بدر موجودا إلى أن يأخذوا الثأر .وفعلً اجتمع معسكر
الكفر في ثلثة آلف مقاتل عند أحد ،وبعد ذلك استشار النبي صلى ال عليه وسلم في هذه المسألة
أصحابه وأرسل إلى واحد من أكبر المنافقين هو عبد ال بن أبي بن سلول ،وما استدعاه إل في
هذه المعركة ،فقال عبد ال بن أبي بن سلول وأكثر النصار:
يا رسول ال نحن لم نخرج إلى عدو خارج المدينة إل نال منا ،ولم يدخل علينا عدو إل نلنا منه،
فإنا نرى أل تخرج إليهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ،وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم
ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ،وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من
الصحابة بالخروج إليهم ،وقالوا:
" يا رسول ال اخرج بنا إلى أعدائنا ل يرون أنا جَبُنا عنهم وضعفنا ،ولم يترك أصحاب هذا
الرأي رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى وافقهم على ما أرادوا "
فدخل رسول ال صلى ال عليه وسلم بيته فلبس درعه وأخذ سلحه ،وظن الذي ألحوا على
رسول ال صلى ال عليه وسلم بالخروج أنهم قد استكرهوه على ما ل يريد فندموا على ما كان
منهم ،ولما خرج عليهم قالوا :استكرهناك يا رسول ال ولم يكن لنا ذلك ،فإن شئت فاقعد ،فقال
لمَتَهُ أن يضعها حتى يقاتل ".
رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ما ينبغي لنبي لبس ْ
وخرجوا إلى الحرب ،وهذا هو الذي يُ َذكّرُ به القرآن صدقا للقضية التي جاءت في الية السابقة{ :
وَإِن َتصْبِرُواْ وَتَ ّتقُواْ لَ َيضُ ّركُمْ كَ ْيدُهُمْ شَيْئا إِنّ اللّهَ ِبمَا َي ْعمَلُونَ ُمحِيطٌ }.
اذكر يا محمد:
} وَإِذْ غَ َد ْوتَ مِنْ أَهِْلكَ تُ َبوّىءُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ مَقَاعِدَ لِ ْلقِتَالِ { [آل عمران]121 :
و } تُ َبوّىءُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َمقَاعِدَ لِ ْلقِتَالِ { أي توطن المؤمنين في أماكن للقتال ،وبوأت فلنا يعني:
وطنته في مكان يبوء إليه أي يرجع ،واسمه وطن؛ لن الوطن يرجع إليه النسان.
غ َد ْوتَ مِنْ َأهِْلكَ تُ َبوّىءُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َمقَاعِدَ لِ ْلقِتَالِ { أي
انظر إلى الدقة الدائية لقول الحق } :وَإِذْ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تجعل لهم مباءة ووطنا .وكلمة " مقاعد " أي أماكن للثبات ،والحرب ك ّر وفرّ وقيام ،والذي يحارب
ن في الميدان ،فكأن أمر الرسول إلى المقاتلين يتضمن أل يلتفت
يثبته ال في المعركة ،فكأنه ُموَطّ ٌ
أي منهم إلى موطن آخر غير موطنه الذي ثبته وبوّأته فيه أي إن هذا هو وطنك الن؛ لن
مصيرك اليماني سيكون رهنا به.
إذن فقوله } :وَإِذْ غَ َد ْوتَ مِنْ أَهِْلكَ تُ َبوّىءُ { أي توطن " المؤمنين " وتقول لهم :إن وطنكم هو
مقاعدكم التي ثبتكم بها .ورسول ال صلى ال عليه وسلم جاء بالرماة؛ وأمّر عليهم " عبد ال بن
جبير " وهم يومئذ خمسون رجل وقال رسول ال لهم " :قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا
فإن رأيتمونا قد انتصرنا فل تشركونا ،وإن رأيتمونا نقتل فل تنصرونا ".
لكنهم لم يقدروا على هذه لن نفوسهم مالت إلى الغنيمة؛ وشاء ال أن يجعل التجربة في محضر
من رسوله صلى ال عليه وسلم :حتى يبين للمؤمنين في كل المعارك التي تلك أن اتباع أمر القائد
يجب أن يكون هو الساس في عملية الجندية .وإنكم إن خالفتم الرسول فل بد أن تنهزموا.
وقد يقول قائل :السلم انهزم في أُحد .ونقول :ل ،إن السلم انتصر .ولو أن المسلمين انتصروا
في " أحد " مع مخالفة الرماة لمر النبي صلى ال عليه وسلم ،أكان يستقيم لرسول ال أمر؟
إذن فقد انهزم المسلمون الذين لم ينفذوا المر ،وكان ل بد من أن يعيشوا التجربة وهم مع رسول
ال صلى ال عليه وسلم .فحينما هبت ريح النصر على المؤمنين في أول المعركة ،ابتدأ المقاتلون
في النشغال بالسلب والغنائم ،فقال الرماة :سيأخذ السلب غيرنا ويتركوننا ونزلوا ليأخذوا
الغنائم ،فانتهز خالد بن الوليد وكان على دين قومه انتهز الفرصة وطوقهم وحدث ما حدث وأذيع
وفشا في الناس خبر قتل رسول ال صلى ال عليه وسلم فانكفأوا وانهزموا فجعل رسول ال يدعو
ويقول " :إليّ عباد ال " حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلمهم على هربهم فقالوا :يا رسول
ال :فديناك بآبائنا وأمهاتنا ،أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين
إن التحقيق التاريخي لمعركة أُحد قد أكد أن المسألة ل تُعتبر هزيمة ول انتصارا؛ لن المعركة
كانت ل تزال مائعة.
وبعدها دعا الرسول من كان معه في غزوة أحد إلى الخروج في طلب العدو ،وأدركهم في حمراء
السد وفَرّ الكافرون .إنّ ال أراد أن يعطي المؤمنين درسا في التزام أمر الرسول صلى ال عليه
وسلم ،وقال الحق } :وَإِذْ غَ َد ْوتَ مِنْ أَهِْلكَ تُ َبوّىءُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َمقَاعِدَ لِ ْلقِتَالِ {.
إن الحق يذكر بمسئوليات القائد ،الذي يوزع المهام ،فهذا جناح أيمن وذاك جناح أيسر ،وهذا
سمِيعٌ عَلِيمٌ { حتى يعرف المؤمنين أنه سبحانه
مقدمة وهذا مؤخرة .ويذيل الحق هذا بقوله } :وَاللّهُ َ
قد شهد أن رسوله قد بوأ المؤمنين مقاعد القتال ،وسبحانه " عليم " بما يكون في النيات؛ لن
المسألة في الحرب دفاع عن اليمان وليست انقياد قوالب ،ولكنها انقياد قلوب قبل انقياد القوالب.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل وَاللّ ُه وَلِ ّي ُهمَا{ ...
ويقول الحق من بعد ذلكِ } :إذْ َه ّمتْ طّآ ِئفَتَانِ مِنكُمْ أَن َتفْشَ َ
()512 /
إِذْ َه ّمتْ طَا ِئفَتَانِ مِ ْن ُكمْ أَنْ َتفْشَلَا وَاللّ ُه وَلِ ّي ُهمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ()122
والفشل هو الجبن ،والطائفتان هما " بنو حارثة " من الوس " ،وبنو سلمة " من الخزرج ،وهؤلء
كانوا الجناح اليمين والجناح اليسار ،فجاءوا في الطريق إلى المعركة ,وسمعوا كلم المنافق ابن
سلول ،إذ قال لهم :لن يحدث قتال؛ لنه بمجرد أن يرانا مقاتلو قريش سيهربون.
وقال ابن سلول المنافق للرسول :لو نعلم قتالً لتبعناكم .إل أن عبد ال ابن حارثة قال :أنشدكم
ال وأنشدكم رسول ال وأنشدكم دينكم .فساروا إلى القتال وثبتوا بعد أن همّوا في التراجع.
وما معنى " الهمّ " هنا؟ إن الهم هو تحرك الخاطر نحو عملية ما ،وهذا الخاطر يصير في مرحلة
ثانية قصدا وعزما ،إذن فالذي حدث منهم هو مجرد َهمّ بخاطر النسحاب ،لكنهم ثبتوا.
ولماذا ذلك؟ لقد أراد ال بهذا أن يُثبت أن السلم منطقي في نظرته إلى النسان ،فالنسان تأتيه
خواطر كثيرة .لذلك يورد الحق هذه المسألة ليعطينا العلج .فقال { :إِذْ َه ّمتْ طّآ ِئفَتَانِ مِنكُمْ أَن
َتفْشَلَ }.
وقد قال واحد من الطائفتين :وال ما يسرني أني لم أهم -أي لقد انشرح قلبي لني هممت -
لني ضمنت أين من الذين قال ال فيهم { :وَاللّهُ وَلِ ّيهُمَا } ،وحسبي ولية ال .لقد فرح لنه أخذ
الوسام ،وهو ولية ال.
وهكذا نلتقط العبر الموحية من اليات الكريمات حول غزوة أحُد ،ونحن نعلم أن هذه الغزوة
التالية لغزوة بدر الكبرى .وغزوة بدر الكبرى انتهت بنصر المسلمين وهم قلة في العدد والعُدة،
ففي بدر لم يذهب المسلمون إلى المعركة ليشهدوا حربا ،وإنما ليصادروا أموال قريش في العِير
تعويضا لموالهم التي تركوها في مكة .ومع ذلك شاء ال ألّ يواجهوا العير المحملة ,ولكن
ليواجهوا الفئة ذات الشوكة ،وجاء النصر لهم.
ولكن هذا النصر ،وإن يكن قد ربّى المهابة للمسلمين في قلوب خصومهم ،فإنه قد جمّع همم أعداء
السلم ليتجمعوا لتسديد ضربة يردون بها اعتبار الكفر؛ ولذلك رأينا رءوس قريش وقد منعت
نساءها أن يبكين على قتلهم؛ لن البكاء يُريح النفس المتعبة ،وهم يريدون أن يظل الحزن مكبوتا
ليصنع مواجيد حقدية تحرك النفس البشرية للخذ بثأر هؤلء ،هذا من ناحية العاطفة التي يحبون
أن تظل مؤججة ،ومن ناحية المال فإنهم احتفظوا بمال العير الذي نجا ليكون وسيلة لتدبير معركة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يردون فيها اعتبارهم.
وقد حاولوا قبل أحُد أن يفعلوا شيئا ،ولكنهم كانوا يُرَدّون على أعقابهم .فمثلً قاد أبو سفيان حملة
مكونة من مائة ،وأراد أن يهاجم بها المدينة فلما نمى خبرها إلى سيدنا رسول ال نهض بصحابته
إليهم ،فبلغ أبو سفيان خروج رسول ال ،ففرّ هاربا وألقى ما عنده من مؤنة في الطريق ليخفف
الحمل على الدواب لتسرع في الحركة ،ولذلك يسمونها " غزوة السويق " لنهم تركوا طعامهم من
السويق.
كما حاول بعض الكفار أن يُغيروا على المدينة بعد ذلك أكثر من مرة ولكن رسول ال صلى ال
عليه وسلم كان يذهب إليهم على رأس مقاتلين ,فمرة عددهم مائة ومرة مائة وخمسون ومرة
مائتان ،وفعلً شتت الرسول صلى ال عليه وسلم شملهم .وكان من خطته صلى ال عليه وسلم
حين يذهب إلى قوم كان يبلغه أنهم يُريدون أن يتآمروا لغزو المدينة أن يظل في بلدهم وفي
معسكرهم وقتا ليس بالقليل.
كل ذلك سبق غزوة أُحد .وبعد ذلك تجمعوا ليجيئوا لغزوة أُحد ،وكان ما كان ،واليات التي تعالج
هذه الغزوة فيها إيحاءات بما جاء في المعركة ،فالرسول صلى ال عليه وسلم بوأ للمقاتلين مقاعد
للقتال ،وأمرهم بالثبات في تلك المواقع لكن بعضا من المقاتلين ترك مكانه ،والبعض الخر همّ
بالنسحاب ،لكنه ثبت أخيرا ،وفرّ كفار قريش .وقد تجلت في هذه المعركة آيات ال الكبيرة.
فحين نصر ال سبحانه وتعالى المسلمين " ببدر " وهم قلة ،لم يخرجوا لمعركة وإنما خرجوا
لمصادرة عير .وربما ظن أناس أنهم بمجرد نسبتهم إلى ال وإلى السلم سينصرون على هذه
الوتيرة ،ويتركون السباب فأراد ال أن يعلمهم أنه ل بد من استنفاد السباب ،إعدادا لعدة ولعدد،
وطاعة لتوجيه قائد.
فلما خالفوا كان ول بد أن يكون ما كان .والمخالفة لم تنشأ إل بعد استهللٍ بالنصر ،ولذلك
سيجيء فيما بعد ستون آية حول هذه الغزوة؛ لتبين لنا مناط العبرة في كل أطوارها لنستخرج
منها العظة والدرس .ونعلم أن المنتصرين عاد ًة يكون الجو معهم رخاءً .ولكن الكلم هنا عن
هزيمة من ل يأخذون بأسباب ال ،وهذا أمر يحتاج إلى وقفة ،فجاء القرآن هنا ليقص علينا طرفا
من الغزوة لنستخرج منها العبرة والعظة ،العبرة الولى:
أنهّم حينما خرجوا ،تخلف المنافقون بقيادة ابن أ َبيّ ،إذن فالمعركة إنما جاءت لتمحص المؤمنين.
والتمحيص يأتي للمؤمن ويعركه عركا ،ويبين منه مقدار ما هو عليه من الثبات ومن اليقين،
والحق إنما يمحص الفئة المؤمنة لنها ستكون مأمونة في التاريخ كله إلى أن تقوم الساعة على
حماية هذه العقيدة ،فل يمكن أن يتولى هذا المر إل أناس لهم قلوب ثابتة ،وجأش قوي عند
الشدائد ،وهمة دونها زخارف الدنيا كلها.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعد ذلك يعالج النفس البشرية في أوضاعها البشرية ،فعقائد اليمان ل تنصب في قلوب المسلمين
بمجرد إعلن اليمان ،ولكن كل مناسبة تعطي دفعة من العقيدة يتكون بعد ذلك المر العقدي كله.
ولذلك يبين لنا الحق أن طائفتين من المؤمنين قد همت بالتراجع ،فهم نفوس بشرية ،ولكن أنفّذت
الطائفتان ذلك الهم أم رجعت وفاءت إلى أمر ال؟ لقد رجعت الطائفتان.
وهكذا رأينا بين الذين أعلنوا إيمانهم فئة نكصت من أول المر وفئة خرجت ثم عادت.
لقد تحدثت النفوس ولكن أفراد تلك الفئة لم يقفوا عند حديث النفس بل ثبتوا إلى نهاية المر،
ومنهم من ثبت إلى الغاية السطحية من المر كالرماة الذين رأوا النصر أول ،وهؤلء من الذين
ثبتوا ،ما فرّوا أولً مع ابن أبيّ ،وما كانوا من الطائفة التي همت ،ولكنهم كانوا من الذين ثبتوا.
لكنهم عند بريق النصر الول اشتاقوا للغنائم ،وخالفوا أمر الرسول ،ولنقرأ قوله تعالى {:وَلَقَدْ
عصَيْتُمْ مّن َب ْعدِ مَآ أَرَاكُمْ
لمْرِ وَ َ
حسّو َنهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّىا ِإذَا فَشِلْ ُت ْم وَتَنَازَعْتُمْ فِي ا َ
صَ َد َقكُمُ اللّ ُه وَعْ َدهُ ِإذْ تَ ُ
عفَا عَ ْنكُمْ
مّا تُحِبّونَ مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا َومِنكُم مّن يُرِيدُ الخِ َرةَ ُث ّم صَ َر َفكُمْ عَ ْنهُمْ لِيَبْتَلِ َيكُ ْم وََلقَدْ َ
ضلٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[آل عمران]152 :
وَاللّهُ ذُو َف ْ
وبعد ذلك تأتي لقطة أخرى وهي أل نفتن في أحد من البشر ،فخالد بن الوليد بطل معسكر الكفر
في أُحد ،وهو الذي استغل فرصة نزول الرماة عن أماكنهم ،وبعد ذلك طوق جيش المؤمنين،
وكان ما كان ،من خالد قبل أن يسلم ،ألم يكن في غزوة الخندق؟ لقد كان في غزوة الخندق .وكان
في غزوات كثيرة غيرها مع جند الشرك ،فأين كانت عبقريته في هذه الغزوات؟..
إن عبقرية البشر تتصارع مع عبقرية البشر ,ولكن ل توجد عبقرية بشرية تستطيع أن تصادر
ترتيبا ربانيا ،ولذلك لم يظهر دور خالد في معركة الخندق ،لقد ظهر دوره في معركة أُحد؛ لن
المقابلين لخالد خالفوا أمر القيادة فبقيت عبقرية بشر لعبقرية بشر ،ولكنهم لو ظلوا في حضن
المنهج اللهي في التوجيه لما استطاعت عبقرية خالد أن تطفو على تدبيرات ربه أبدا.
والتحقيق التاريخي لكل العسكريين الذين درسوا معركة أُحد قالوا :ل هزيمة للمسلمين ول انتصار
للكفار؛ لن النصر يقتضي أن يُجلي فريق فريقا عن أرض المعركة ،ويظل الفريق الغالب في
أرض المعركة .فهل قريش ظلت في أرض المعركة أو فرّت؟ لقد فرّت قريش.
ويُفسر النصر أيضا بأن يؤسر عدد من الطائفة المقابلة ،فهل أسرت قريش واحدا من المسلمين؟
ل .ولقد علموا أن المدينة خالية من المؤمنين جميعا وليس فيها إل من تخلف من المنافقين
والضعاف من النساء والطفال ،ولم يؤهلهم فوزهم السطحي لن يدخلوا المدينة.
إذن فل أسروا ،ول أخذوا غنيمة ،ول دخلوا المدينة ،ول ظلوا في أرض المعركة ،فكيف تسمي
هذا نصرا؟ فلنقل :إن المعركة ماعت .وظل المسلمون في أرض المعركة.
ل في
وهنا تتجلّى البطولة الحقة؛ لننا كما قلنا في حالة النصر يكون المر رخاء ،حتى من لم يُ ْب ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المعركة بلءً حسنا ينتهز فرصة النصر ويصول ويجول ،ولكن المهزومين والذين أصيب قائدهم
صلى ال عليه وسلم ،وضعف أن يصعد الجبل ،حتى أن طلحة بن عبيد ال يطأطئ ظهره لرسول
ال ليمتطيه فيصعد على الصخرة.
ورسول ال يسيل منه الدم بعد أن كسرت رباعيته وتأتي حلقتان من حلق المغفر في وجنته ،بعد
هذا ماذا يكون المر؟ حتى لقد أرجف المرجفون وقالوا :إن رسول ال قد قُتل.
وكل هذا هو من التمحيص ،فمن يثبت مع هذا ،فهو الذي يؤتمن أن يحمل السلح لنصرة كلمة ال
إلى أن تقوم الساعة .ويتفقد رسول ال صلى ال عليه وسلم بطلً من أبطال المسلمين كان حوله
فل يجده ،إنه " سعد بن الربيع ".
يقول عليه الصلة والسلم " :مَن رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع؟ أفي الحياء هو أم في
ي بن كعب :فذهبت لتحسسه ،فرأيته وقد طُعن سبعين
الموات؟ " فقال رجل من النصار هو أُ َب ّ
طعنة ما بين ضربة سيف وطعنة رمح ورمية قوس .فلما رآه قال له :رسول ال يقرئك السلم،
ويقول لك :كيف تجدك -أي كيف حالك -؟
قال سعد بن الربيع :قل لرسول ال صلى ال عليه وسلم :جزاك ال عنّا خير ما جزى نبيا عن
أمته ،وقل للنصار ليس لكم عند ال عُذر إن خَلص إلى رسول ال وفيكم عين تطرف .ثم فاضت
روحه.
انظروا آخر ما كان منه ،حين أُثخن في المعركة فلم يقو على أن يحارب بنصاله ،انتهز بقية
الحياة ليحارب بمقاله ،ولتصير كلماته دويا في آذان المسلمين .وليعلم أن هؤلء الذين أثخنوه
جراحا ما صنعوا فيه إل أن قربوه إلى لقاء ربه ،وأنه ذاهب إلى الجنة .وتلك هي الغاية التي
يرجوها كل مؤمن.
ونجد أيضا أن الذين يعذرهم القرآن في أن يشهدوا معارك الحرب ،يتطوعون للمعارك! فمثل
عمرو بن الجموح ،كان أعرج ،والعرج عذر أقامه ال مع المرض والعمى؛ لنه سبحانه هو
ج وَلَ عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَجٌ }[النور]61 :
ج َولَ عَلَى الَعْرَجِ حَرَ ٌ
عمَىا حَرَ ٌ
القائل {:لّيْسَ عَلَى الَ ْ
وكان لعمرو بن الجموح بنون أربعة مثل السْد قد ذهبوا إلى المعركة ،ومع ذلك يطلب من رسول
ال أن يذهب إلى المعركة ويقول له :يا رسول ال إن بَنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه
والخروج معك فيه ،فوال إني لرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة.
فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم :أمّا أنت فقد عذرك ال فل جهاد عليك .وقال لبنيه :ما
ل تمنعوه ،لعل ال أن يرزقه الشهادة ،فخرج معه فقتل.
عليكم أ ّ
وهذا مؤمن آخر يقول لرسول ال صلى ال عليه وسلم يا رسول ال إن ابني الذي استشهد ببدر
رأيته في الرؤيا يقول لي " :يا أبت أقبل علينا " فأرجو أن تأذن لي بالقتال في " أحُد " فأن له فقاتل
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقتل فصار شهيدا .وتتجلى الروعة اليمانية والنسب السلمي في حذيفة بن اليمان ،لقد كان ابوه
شيخا كبيرا مسلما فأخذ سيفه ولحق برسول ال صلى ال عليه وسلم لعل ال يرزقه الشهادة في
سبيل ال ،فدخل في المعركة ول يعلم به أحد فقتله المسلمون ول يعرفونه ،فقال ابنه حذيفة ،أبي
وال.
فقالوا وال ما عرفناه ،وصدقوا ،قال حذيفة :يغفر ال لكم وهو أرحم الراحمين .وأراد رسول ال
صلى ال عليه وسلم أن يؤدي ديته ،فقال له حذيفة بن اليمان :وأنا تصدقت بها على المسلمين.
هذه الحداث التي دارت في المعركة تدلنا على أن غزوة أُحد كان ل بد أن تكون هكذا ،لتمحص
المؤمنين تمحيصا يؤهلهم لن يحملوا كلمة ال ويعلوها في الرض.
ويقول الحق سبحانه وتعالى } :وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِبَدْ ٍر وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ{ ...
()513 /
شكُرُونَ ()123
وَلَقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِ َبدْ ٍر وَأَنْتُمْ َأذِلّةٌ فَا ّتقُوا اللّهَ َلعَّلكُمْ تَ ْ
لقد نقلهم من معركة فيها شبه هزيمة أو عدم انتصار إلى نصر ،فكأنه يريد أن يقول :إن المر
بالنسبة لكم أمر إلهكم الذي يرقبكم ويعينكم ويمدكم ويرعاكم .وإياكم ان تعتمدوا على العدد والعُدة
ولكن اعتمدوا على الحق سبحانه وتعالى وعلى ما يريده الحق توجيها لكم ،لن مدد ال إنما يأتي
لُمس َتقْبل لمدد ال ،ول يأتي المدد لغير مستقبل لمدد ال.
ونعرف أن فيه فرقا بين الفاعل وبين القابل ،فالفاعل شيء والقابل للنفعال بالفعل شيء آخر.
وضربنا لذلك مثلً :بأن الفاعل قد يكون واحدا ،ولكن النفعال يختلف ،وحتى نقرب المسألة نقول:
كوب الشاي تأتي لتشرب منه فتجده ساخنا فتنفخ فيه ليبرد ،وفي الشتاء تصبح لتجد يدك باردة
فتنفخ فيها لتدفأ ،إنك تنفخ مرة لتبرد كوب الشاي ،ومرة تنفخ لتدفئ يدك ،إذن فالفاعل واحد وهو
النافخ ،ولكن القابل للنفعال شيء آخر ،ففيه فاعل وفيه قابل ،ومثال آخر :إن القرآن كلم ال ولو
أنه نزل على الجبال لخرّت خاشعة ،ومع ذلك يسمعه أناس ،ل يستر ال عليهم بل يكشفهم لنا
ويفضحهم بعظمة ألوهيتهَ {:ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَرَجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ
ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىا قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُواْ أَ ْهوَآءَ ُهمْ }[محمد]16 :
إنهم لم ينفعلوا بالقرآن ،وقولهم " :ماذا قال آنفا " معناه استهتار بما قيل .ونجد الحق يرد على ذلك
بقوله تعالىُ {:أوْلَـائِكَ الّذِينَ طَ َبعَ اللّهُ عَلَىا قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُواْ َأ ْهوَآءَ ُهمْ }[محمد]16 :
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الفاعل واحد والقابل مختلف .ويتابع الحق بلغه الحكيم في قوله { :وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ
شكُرُونَ } إذن فمدد ال لكم إنما يتأتى لمستقبلٍ إيماني ،فان لم يوجد
وَأَنْتُمْ َأذِلّةٌ فَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّلكُمْ تَ ْ
المستقبل -بكسر الباء -فل يوجد المدد .فاذا كنت ل تستطيع ان تستقبل ما ترسله السماء من
مدد نقول لك :أصلح جهاز استقبالك؛ لن جهاز الستقبال كالمذياع الفاسد ،إن الرسال من
الذاعات مستمر ،لكن الذياع الفاسد هو الذي ل يستقبل .إذن فإن كنت تريد أن تستقبل عن ال فل
بد أن يكون جهاز استقبالك سليما .ويوضح الحق ذلك بقوله جل جلله { :إِذْ َتقُولُ ِل ْل ُمؤْمِنِينَ أَلَنْ
لفٍ مّنَ ا ْلمَل ِئكَةِ مُنزَلِينَ }
َي ْكفِيكُمْ أَن ُيمِ ّدكُمْ رَ ّب ُكمْ بِثَلَثَةِ آ َ
()514 /
إِذْ َتقُولُ ِل ْل ُمؤْمِنِينَ أَلَنْ َي ْكفِ َيكُمْ أَنْ ُي ِم ّدكُمْ رَ ّبكُمْ بِ َثلَاثَةِ َآلَافٍ مِنَ ا ْلمَلَا ِئ َكةِ مُنْزَلِينَ ()124
ويبين سبحانه وتعالى كيفية إصلح جهاز الستقبال لتلقي مدد ال فيقول { :بَلَى إِن َتصْبِرُواْ وَتَ ّتقُواْ
وَيَأْتُوكُمْ مّن َفوْرِ ِهمْ هَـاذَا} ...
()515 /
س ّومِينَ (
خمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ ا ْلمَلَا ِئكَةِ مُ َ
بَلَى إِنْ َتصْبِرُوا وَتَ ّتقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ َفوْرِ ِهمْ هَذَا ُيمْدِ ْد ُكمْ رَ ّبكُمْ ِب َ
)125
إن الحق سبحانه وتعالى ضرب المثل بالصبر والتقوى في بدر مع القلة فكان النصر ،وهنا في
أُحد لم تصبروا؛ فساعة أن رأيتم الغنائم سال لعابكم فلم تصبروا عنها ،ولم تتقوا أمر ال المبلغ
على لسان رسوله في التزام أماكنكم ..فكيف تكونون أهلً للمدد؟
إذن من الذي يحدد المدد؟ إن ال هو الذي يعطي المدد ،ولكن من الذي يستقبل المدد لينتفع به؟ إنه
القادر على الصبر والتقوى.
عدّواْ َلهُمْ
إذن فالصبر والتقوى هما العُدّة في الحرب .ل تقل عددا ول عدة .لذلك قال ربنا لنا { :وَأَ ِ
طعْتُمْ مّن ُق ّوةٍ } ولم يقل :أعدوا لهم ما تظنون أنه يغلبهم ،ل .أنتم تعدون ما في استطاعتكم،
مّا اسْ َت َ
وساعة تعدون ما في استطاعتكم وأسبابكم قد انتهت ..فال هو الذي يكملكم بالنصر.
والبشر في ذواتهم يصنعون هذا ،فمثل -ول المثل العلى من قبل ومن بعد -لنفترض أنك
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تاجر كبير .وتأتيك العربات الضخمة محملة بالبضائع ،صناديق وطرود كبيرة ،وأنت جالس بينما
يفرغ العمال البضائع ،وجاء عامل لينزل الطرد فغلبه الطرد على عافيته ،وتجد نفسك بل شعور
منك ساعة تجده سيقع تهب وتقوم لنصرته ومعاونته ،لقد استنفد هذا العامل أسبابه ولم يقدر،
فالذي يعنيه المر يمد يده إليه ،فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى .كأنه يقول ابذل وقدّم أسبابك ،فإذا
ما رأيت أسبابك انتهت والموقف أكبر منك ،فاعلم أنه أكبر منك أنت ولكنه ليس أكبر من ربك إنه
طمَئِنّ قُلُو ُبكُمْ بِهِ} ...
جعَلَهُ اللّهُ ِإلّ بُشْرَىا َلكُمْ وَلِتَ ْ
سبحانه يقولَ { :ومَا َ
()516 /
حكِيمِ ()126
طمَئِنّ قُلُو ُبكُمْ بِ ِه َومَا ال ّنصْرُ إِلّا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ
جعَلَهُ اللّهُ إِلّا ُبشْرَى َلكُ ْم وَلِتَ ْ
َومَا َ
فإياك أن تظن أن المدد بالثلثة آلف أو الخمسة آلف ،الذين أنزلهم ال وأمدكم بهم أو بالملئكة
المدربين على القتال ..إياكم أن تظنوا أن هذا المدد ،هو شرط في نصر ال لك .بذاتك أو
بالملئكة؛ إنه قادر على أن ينصرك بدون ملئكة ،ولكنها بشرى لتؤنس المادة البشرية ،فساعة
يرى المؤمنين أعدادا كبيرة من المدد ،والكفار كانوا متفوقين عليهم في العدد ،فإن أسباب المؤمنين
تطمئن وتثق بالنصر .إذن فالملئكة مجرد بُشرى ،ولكن النصر من عند ال العزيز الذي ل
يٌغلب .وكل المور تسير بحكمته التي ل تعلوها حكمة أبدا .ويقول الحق من بعد ذلك { :لِ َيقْطَعَ
طَرَفا مّنَ الّذِينَ َكفَرُواْ َأوْ َيكْبِ َتهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ }
()517 /
لِ َيقْطَعَ طَ َرفًا مِنَ الّذِينَ كَفَرُوا َأوْ َيكْبِ َتهُمْ فَيَ ْنقَلِبُوا خَائِبِينَ ()127
وقطع الطرف يتحدد بمعرفة ما هو طرف لماذا؟ فإن كان الطرف هو العدد الكثير فقطع الطرف
أن يُقتل بعضه .وإن كان الطرف هو أرضا واسعة فقطع الطرف أن يأخذ من أرضهم .ولذلك
ح ْكمِهِ
ح ُك ُم لَ ُمعَ ّقبَ لِ ُ
صهَا مِنْ أَطْرَا ِفهَا وَاللّهُ يَ ْ
يقول الحق سبحانهَ {:أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا نَأْتِي الَ ْرضَ نَنقُ ُ
وَ ُهوَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }[الرعد]41 :
لقد كانت الرض ال ُكفْرٍيّة تخسر كل يوم جزءا منها لينضم هذا الجزء إلى الرض اليمانية ،هذا
بالنسبة لسعة الرض ،وافرض أن الطرف هو المال ،فقطع الطرف هنا يكون بأن نأخذ بعض
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المال كغنائم ،ثم هناك المنزلة التي كانت تهابها الجزيرة كلها ،كل الجزيرة تهاب قريشا ،وقوافلها
التجارية للشمال والجنوب ل تستطيع قبيلة أن تتعرض لها؛ لن كل القبائل تعرف أنها ستذهب
إلى البيت في موسم الحج ،فل توجد قبيلة تتعرض لها لنها غدا ستذهب إلى قريش ،إذن فالسيادة
والعظمة كانت لقريش ،وساعة تعلم القبائل أن رجال قريش قد كسروا وانهزموا ،وأن رحلتهم إلى
الشام أصبحت مهددة ،فإنهم يبحثون عن فريق آخر يذهبون إليه.
إن قطع الطرف كان على أشكال متعددة ،فإن كان طرفَ عد ٍد فيقتل بعضهم ،وإن كان طرف
أرض فبعضها يؤخذ وتذهب إلى أرض إيمانية ،وإن كانت عظمة وقهرا تأتهم الهزيمة ،وإن كان
نفوذا في الجزيرة فهو يتزلزل { لِ َيقْطَعَ طَرَفا مّنَ الّذِينَ َكفَرُواْ }.
ولنلحظ أن الحق قد قال { :لِ َيقْطَعَ طَرَفا } -لم يقل ليستأصل -لن ال سبحانه وتعالى أبقى على
بعض الكفار لن له في اليمان دورا ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم ممتلئا بالعطف
والرحمة والحنان على أمته ،وكان يحسن الظن بال أن يهديهم ،ولذلك تعددت آيات القرآن التي
سكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا
تتحدث في هذا المر .ها هو ذا الحق يقول {:فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
حدِيثِ أَسَفا }[الكهف]6 :
الْ َ
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ
وفي موقع آخر بالقرآن الكريم يقول الحقَ {:لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ضعِينَ }[الشعراء]4-3 :
سمَآءِ آ َيةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُق ُهمْ َلهَا خَا ِ
عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
وال يقول لرسول صلى ال عليه وسلم " :فإنّما عليك البلغ " والرسول يحب أن يهتدي إلى
شيْءٌ َأوْ يَتُوبَ عَلَ ْيهِمْ َأوْ ُيعَذّ َب ُهمْ فَإِ ّنهُمْ
لمْرِ َ
ناَ
اليمان كل فرد في أمته ،فقال الحق { :لَيْسَ َلكَ مِ َ
ظَاِلمُونَ }
()518 /
شيْءٌ َأوْ يَتُوبَ عَلَ ْي ِهمْ َأوْ ُيعَذّ َبهُمْ فَإِ ّنهُمْ ظَاِلمُونَ ()128
لَيْسَ َلكَ مِنَ الَْأمْرِ َ
أي ليس لك يا محمد من المر شيء إل أن يتوب ال عليهم فتفرح بتوبتهم ،إو يعذبهم ،فل يحزنك
ذلك لنهم ظالمون أي ما عليك يا محمد إلّ البلغ فقط .أما هم فقد ظلموا أنفسهم بالكفر .والظلم
كما نعرف هو أخذ الحق من ذي الحق وإعطاؤه لغيره .وقمة الظلم هو إضفاء صفة اللوهية على
عظِيمٌ }[لقمان]13 :
غير ال ,وهو الشرك .ولذلك يقول الحق {:إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ
إن الحق يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم:
شيْءٌ َأوْ يَتُوبَ عَلَ ْي ِهمْ َأوْ ُيعَذّ َبهُمْ فَإِ ّن ُهمْ ظَاِلمُونَ } [آل عمران]128 :
لمْرِ َ
ناَ
{ لَ ْيسَ َلكَ مِ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه مسألة لم تخرج عن ملك ال ،لماذا؟ لن السماوات والرض وما فيهن ملك ل :قيل أراد
رسول ال صلى ال عليه وسلم -بعد أن خضّب المشركون وجهه بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم -
أراد عليه الصلة والسلم أن يدعو عليهم فنهاه ال لعلمه -سبحانه -أن فيهم من يؤمن وأنزل
غفُورٌ
ت َومَا فِي الَ ْرضِ َي ْغفِرُ ِلمَن َيشَآ ُء وَ ُيعَ ّذبُ مَن يَشَآ ُء وَاللّهُ َ
سمَاوَا ِ
قوله تعالى { :وَللّهِ مَا فِي ال ّ
رّحِيمٌ }
()519 /
وبما أننا نتحدث عن ملمح في غزوة أحد أريد أن أقول " :جبل أًُحدٍ رضي ال عنه "؛ لننا سمعنا
بعض العارفين بال حين تذكر كلمة " أحد " قال :أحد رضي ال عنه -فتعجب القوم لقول الشيخ
عبد ال الزيدان الذي قال ذلك ،فما رأى عجبهم قال لهم :ألم يخاطبه رسول ال بقوله " :اثبت أحد
فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان " ،ألم يقل فيه رسول ال " :أحد جبل يحبنا ونحبه " أتريدون
أحسن من ذلك في الصحبة! ,قل :أحد رضي ال عنه.
وقلنا سابقا :إنك إذا وقف عقلك في حاجة فل تأخذها بمقاييسك أنت ،بل خذها بالمقاييس العلى.
ونحن نقول هذا الكلم لن العلم الن يجري ويسعى سعيا حثيثا مسرعا حول استخراج بعض
أسرار ال في الكون ،فبين لنا أن الحيوانات لها لغات تتفاهم بها ,ويحاولون الن أن يضعوا
قاموسا للغة السماك .والحق سبحانه وتعالى ذكر لنا حكاية النملة مع سليمان -عليه السلم -
شعُرُونَ }[النمل]18 :
ن وَجُنُو ُد ُه وَ ُه ْم لَ يَ ْ
طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَا ُ
فقال {:ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُواْ مَسَاكِ َنكُمْ لَ َيحْ ِ
هذا القول يدل على أنّ نملة خرجت وقامت بعمل (وردية) كي تحافظ على من معها ثم عادت
لتتكلم مع أبناء فصيلتها ،وسمعها سيدنا سليمان ،فتبسم من قولها .إذن العلم يتسابق ويجد وَيُسَارع
الن ليثبت أن لكل جنس في الوجود لغة يتفاهم بها ،وكل جنس في الوجود له انفعال ،وكل جنس
طقَ
في الوجود له تكاثر ،ولذلك قال الحق لنا على لسان سيدنا سليمان {:ياأَ ّيهَا النّاسُ عُّلمْنَا مَن ِ
ضلُ ا ْلمُبِينُ }[النمل]16 :
شيْءٍ إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ ا ْل َف ْ
الطّيْرِ وَأُوتِينَا مِن ُكلّ َ
وكانت هذه خصوصية لسيدنا سليمان عليه السلم ،إذن فللطير منطق .وعندما نتسامى ونذهب إلى
الجماد نسمع قول الحق سبحانه في آل فرعون وعدم بكاء الجماد عليهم {:كَمْ تَ َركُواْ مِن جَنّاتٍ
ك وََأوْرَثْنَاهَا َقوْما آخَرِينَ * َفمَا
وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ َو َمقَامٍ كَرِيمٍ * وَ َنعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَا ِكهِينَ * كَذَِل َ
ض َومَا كَانُواْ مُنظَرِينَ }[الدخان]29-25 :
سمَآ ُء وَالَرْ ُ
َب َكتْ عَلَ ْي ِهمُ ال ّ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هل تبكي السماء والرض؟ إنه أمر عجيب؛ فالجماد من سماء وأرض ل تتفاهم فقط ولكن لها
عواطف أيضا؛ لن البكاء إنما ينشأ عن إنفعال عاطفي وجداني .هذا يعني أن الجمادات ل تتكلم
فقط ،ولكنها تحس أيضا .فالرض تخرج أثقالها ،وتحدث أخبارها ،كيف؟{ بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }
[الزلزلة]5 :
سمَآ ِء وَ ِهيَ دُخَانٌ
والسماء والرض أتيا إلى ال في منتهى الطاعة والخشوعُ {:ثمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ
طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت]11 :
َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ
إذن فهناك ما هو أكثر من التفاهم ،إن لها عواطف مثلك تماما ،وكما تحزنك حاجة فالرض أيضا
تبكي ،وما دامت تبكي إذن فلها مقابل بأن يفرح ،ويقول ال تعالى عن أرض فرعونَ { :فمَا َب َكتْ
سمَآ ُء وَالَ ْرضُ } فلو أنها لم تبك مع بعض الناس؛ لما كان لهذا الكلم ميزة.
عَلَ ْيهِمُ ال ّ
لذلك قال المام علي -كرم ال وجهه :-إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان :موضع مصله؛
لنه سيحرم من نعمة اليمان ،ومصعد عمله ،موضع في الرض وموضع في السماء .إذن فل بد
أن نفهم أن لكل شيء شعورا .وقال صلى ال عليه وسلم " :إذا مات المؤمن استبشرت له بقاع
الرض فليس من بقعة إل وهي تتمنى أن يدفن فيها ".
لماذا نقول هذا الكلم الن؟ نقول ذلك حتى إذا ثبت بالعلم أن لكل شيء لغة ،ولكل شيء في
أجناس الكون تفاهما ،يقال إن فيه ناسا هبت عليهم نسمات اليمان فأدركوها وأحسوها من القرآن،
فل يدعي أحد أنه ابتكر من ذات نفسه لنها في القرآن وإن كنا ل نعرف كيف تأتي.
وهذه المعركة -معركة أُحد -التي أخذت ستين آية ،نجد أن الحق تكلم عنها هنا فقال } :وَإِذْ
غَ َد ْوتَ مِنْ أَهِْلكَ { و } ِإذْ َه ّمتْ طّآ ِئفَتَانِ { ,وقوله } :وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِبَدْ ٍر وَأَنْ ُتمْ أَذِلّةٌ { ،وبعد
ذلك يترك الغزوة في حرارتها ويأتينا بأشياء يضعها هنا ،ثم يأتي ليكمل الغزوة .لو أن هذه لقطة
من الغزوة وتنتهي ثم يأتي موضوع آخر ،لما شغلنا أنفسنا ،إنما الغزوة ستأتي فيها ستون آية،
فكيف ينهي الكلم في الغزوة ول يعطينا إل استهلل الغزوة ،وبعد ذلك ينصب القرآن على معانٍ
بعيدة عن الغزوة؟ فما الذي يجعله -سبحانه -يترك أمر الغزوة ليقول {:يَآ أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ
ع ّدتْ ِل ْلكَافِرِينَ *
ضعَافا ّمضَاعَفَ ًة وَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ * وَاتّقُواْ النّارَ الّتِي أُ ِ
تَ ْأكُلُواْ الرّبَا َأ ْ
سمَاوَاتُ
ضهَا ال ّ
حمُونَ * وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن رّ ّبكُمْ وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
وَأَطِيعُواْ اللّ َه وَالرّسُولَ َلعَّلكُمْ تُرْ َ
ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ
ظمِينَ ا ْلغَيْ َ
وَالَرْضُ أُعِ ّدتْ لِ ْلمُ ّتقِينَ * الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآ ِء وَالضّرّآ ِء وَا ْلكَا ِ
سهُمْ َذكَرُواْ اللّهَ فَاسْ َتغْفَرُواْ لِذُنُو ِبهِمْ
شةً َأوْ ظََلمُواْ أَ ْنفُ َ
حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ * وَالّذِينَ ِإذَا َفعَلُواْ فَاحِ َ
وَاللّهُ ُي ِ
َومَن َي ْغفِرُ الذّنُوبَ ِإلّ اللّهُ وَلَمْ ُيصِرّواْ عَلَىا مَا َفعَلُواْ وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ * ُأوْلَـا ِئكَ جَزَآؤُ ُهمْ ّمغْفِ َرةٌ مّن
رّ ّبهِ ْم وَجَنّاتٌ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا وَ ِنعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ * قَدْ خََلتْ مِن قَبِْلكُمْ سُنَنٌ
ظةٌ
س وَ ُهدًى َومَوْعِ َ
فَسِيرُواْ فِي الَرْضِ فَا ْنظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ * هَـاذَا بَيَانٌ لّلنّا ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لّ ْلمُ ّتقِينَِ }[آل عمران]138-130 :
لماذا لم يعطنا الحق إل استهلك الغزوة وبعد ذلك انصب على قضايا أولها قضية الربا ،ما
العلقة بين هذه القضايا وتلك الغزوة؟ .وأقول :رحم ال صاحب الظلل الوارفة الشيخ سيد قطب
فقد استطاع أن يستخلص من هذه النقلة مبادئ إيمانية عقدية لو أن المسلمين في جميع بقاع
الرض جعلوها نصب أعينهم لما كان لي دولة من دول الكفر غلب علينا.
ونريد أن نفهم هذه اللقطات ،ولماذا استهلت بمسألة الربا؟ لن الذي كان سببا في الهزيمة أو عدم
النصر في معركة أُحد أنهم طمعوا في الغنيمة .والغنيمة مال زائد ،والربا فيه طمع في مال زائد.
والقرآن حين يعالج هنا قضية حدثية ،والحداث أغيار تمر وتنتهي ،فهو سبحانه يريد أن يستبقي
عطاء الحدث ليشيع في غير زمان الحدث ،وإل فالحدث قد يمر بعظاته وعبره وينتهي ول تكون
له فائدة .والنفس حين تمر بالحداث تكون ملكاتها متفتحة؛ لن الحدث -كما قال المغفور له
الشيخ سيد قطب -يكون ساخنا ،فحين يستغل القرآن الحدث قبل أن يبرد فإن القضية التي
تتعرض لها الموعظة تتمكن من النفس البشرية .وهو سبحانه لم يرد أن تمر أحداث أُحد بما فيها
من العبر والعظات إل ويستغلها القرآن الكريم ليثبت بها قضايا إيمانية تشيع في غير أزمنة
الحدث من الحروب وغيرها لتنتظم أيضا وقت السلم .فآية الربا هنا كأنما سقطت وسط
النصوص التي تتعرض لغزوة أحد.
والسطحيون قد يقولون :ما الذي جعل القرآن ينتقل من الكلم عن أُحد إلى أن يتكلم في الربا مرة
ثانية بعد أن تكلم عنه أولً؟
ونقول :إن القرآن ل يؤرخ الحداث ،وإنما يُريد أن يستغل أحداثا ليبسط ويوضح ما فيها من
المعاني التي تجعل الحدث له عرض وله طول وله عمق؛ لن كل حدث في الكون يأخذ من
الزمن قدر الحدث ،والحدث له طول هو قدر من الزمن ،يكون ساعة أو ساعتين أو ليلة مثل ،هذا
هو طول الحدث.
والحداث التي يجريها ال لها طول يحدده عمر الحدث الزمني ،ولها عرض يعطيها التساع،
فبعد أن كانت خطا مستقيما صارت مساحة ،ويجعلها الحق شاملة لشياء كثيرة ،فهو ل يريد
للحدث أن يسير كخط مستقيم ،بل يريده طريقا واسعا له مساحة وله عرض .هذا العرض يعطيه
رقعة مساحية تأخذ كثيرا من الشياء ،وهذا أيضا قد ينتهي مع الحدث ،لذلك يريد ال أن يعطي
للحدث بعدا ثالثا وهو العمق في التاريخ فيعطي عطاءه ،كما نستفيد نحن الن من عطاء حدث هو
غزوة أُحد.
إذن فالحدث له حجم أيضا ،وهذا ما يجعل الناس تقف لتقول :إن صلة الرحم تطيل العمر ،والعمر
له حد زمني محدد وهو الخط المستقيم له ،فهناك واحد يزيد من عرض عمره ،فبدلً من أن ينفع
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الناس في مجال صغير فهو يعمل وينفع في مجال أوسع ،إذن فهو يعطي لعمره مساحة.
وهناك إنسان آخر يريد أن يكون أقوى في العمر ،فماذا يعمل؟ إنه يعطي لعمره عمقا ،فبدلً من
أن يعمل لمجرد حياته وينتهي عمره مهما كانت رقعته واسعة ،فهو يزيد من عمله الصالح ويترك
أثرا من علم أو خير يستمر من بعد حياته كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" إذا مات النسان انقطع عمله إل من ثلثة :صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له
".
عهَا فِي
ت َوفَرْ ُ
ف ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً كَِلمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ َأصُْلهَا ثَا ِب ٌ
ولذلك يقول الحق {:أَلَمْ تَرَ كَيْ َ
لمْثَالَ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ }[إبراهيم:
سمَآءِ * ُتؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ بِِإذْنِ رَ ّبهَا وَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
ال ّ
]25-24
هي كلمة طيبة قيلت ،لكنّها مثل الشجرة الطيبة؛ لنها ترسخ في أذن من يسمعها فتصير حركة
خاضعة للكلمة ،وكلما فعل السامع لهذه الكلمة فعلً ناتجا من تأثير هذه الكلمة فإن بعض الثواب
يعود إلى من قال هذه الكلمة حتى ولو كان قد مات.
فكأن قائل هذه الكلمة ما زال يعيش ،وكأن عمره قد طال بكلمته الطيبة ,إذن فأعمال الخير التي
تحدث من النسان ليس معناها أنها تطيل العمر؛ لن العمر محدود بأجل ،ولكنْ هناك إنسان
يعطي عمره عرضا ،وآخر يعطيه عمقا ويظل العطاء منه موصولً إلى أن تقوم الساعة ،فكأنه
أعطى لنفسه عمرا خالدا .ويقولون :والذكر للنسان عمر ثان.
والحق سبحانه وتعالى يوضح الدروس المستفادة من غزوة أُحد ،إن أول مخالفة كانت سببا ليس
في الهزيمة ،ولكن دعنا نقل " :في عدم إتمام النصر " ،لنهم بدأوا منتصرين ،ولم يتم النصر
لنه قد حدثت مخالفة ،ودوافع هذه المخالفة انهم ساعة رأوا الغنائم ،اندفعوا إليها ،إذن فدوافعها
هي طلب المال من غير وجه مشروع؛ لن النبي قال لهم " :انضحوا عنا الخيل ول نؤتين من
قبلكم ،الزموا أماكنكم إن كانت النوبة لنا أو علينا ،وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فل تبرحوا مكانكم
" وبهذا صارت مبارحة المكان أمرا غير مشروع ،فتطلع النفس إلى شيء في غير ما أمر به
رسول ال يعتبر أمرا غير مشروع والتطلع هنا كان للمال ،وهكذا الربا.
وأراد الحق أن تكون سخونة الحدث ،والثر الذي نشأ من الحدث في أن المسلمين لم يتم نصرهم،
وتعبوا ،وكان مصدر التعب أن قليلً منهم أحبوا المال الزائد من غير وجهه المشروع .فأراد -
سبحانه -أن يكون ذلك مدخل لبيان الثر السيء للتعامل بالربا.
إذن فهذه مناسبة في أننا نجد آية الربا هنا وهي توضح الثار السيئة للطمع في المال الزائد عن
طريق غير مشروع ،والقرآن فيه الكثير من المواقف التي توضح آثارا تبدو في ظاهرها غير
مترابطة ،ولكن النظرة العميقة تؤكد الترابط.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سطَىا َوقُومُواْ للّهِ قَانِتِينَ *
لةِ ا ْلوُ ْ
ت والصّ َ
وقلنا من قبل في قول ال تعالى {:حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَا ِ
خفْتُمْ فَ ِرجَالً َأوْ ُركْبَانا فَِإذَآ َأمِن ُتمْ فَا ْذكُرُواْ اللّهَ َكمَا عَّل َمكُم مّا لَمْ َتكُونُواْ َتعَْلمُونَ }[البقرة-238 :
فَإنْ ِ
]239
قد يقول أحد السطحيين :إن الحق سبحانه وتعالى كان يتكلم عن الطلق قبل هاتين اليتين فقال
سبحانه:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصحيح ،وهكذا آية الربا ،جاءت في مكانها هنا وخصوصا أنه تكلم عن الربا أولً ،فتأتي الحادثة
وسخونة الحدث وينزل هذا القرآن الكريم .كي يعرف كل من يريد مالً زائدا على غير ما شرع
ال أنّه سيأتي منه البلء على نفسه وعلى غيره ،فالبلء في أُحد شمل الجميع :الرماة وغير الرماة
أيضا.
إذن فكل الدنيا تتعب عندما تخالف منهج ال ،والمال الزائد من غير ما شرع ال إن لم يترك فقد
آذن ال من يأكله بحرب من ال ومن رسول ال.
()520 /
والربا زيادة في المال ،فهل يؤكل؟ نعم؛ لن كل المسائل المالية من أجل اللقمة التي تأكلها ،هذا
هو الصل .والرسول صلى ال عليه وسلم يقول " :من أصبح منكم آمنا في سِرْبِهِ ُمعَافىً في
جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا ".
ونعرف أنه عندما يكون الواحد منا في منطقة ليس فيها رغيف خبز ،فلن تنفعه ملكية جبل من
عفَةً } هو كلم
ضعَافا } و { ّمضَا َ
ضعَافا ّمضَاعَفَةً } وقوله سبحانهَ { :أ ْ
الذهب { .لَ تَ ْأكُلُواْ الرّبَا َأ ْ
اقتصادي على أحدث نظام ،فالضعاف هي :الشيء الزائد بحيث إذا قارنته بالصل صار الصل
ضعيفا ،فعندما يكون أصل المال مائة -على سبيل المثال -وسيؤخذ عليها عشرون بالمائة
كفائدة فيصبح المجموع مائة وعشرين .إذن فالمائة والعشرون تجعل المائة ضعيفة ،هذا هو معنى
أضعاف.
فماذا عن معنى " مضاعفة "؟ إننا سنجد أن المائة والعشرين ستصبح رأس مال جديدا ،وعندما
تمر سنة ستأخذ فائدة على المائة وعلى العشرين أيضا ،إذن فالضعاف ضوعفت أيضا ،وهذا ما
يسمى بالربح المركب ،وهل معنى هذا أننا نأكله بغير أضعاف مضاعفة؟! ل؛ لن الواقع في عهد
رسول ال صلى ال عليه وسلم كان هكذا.
وقد يقول لك واحد :أنا أفهم القرآن وأن المنهي هو الضعاف المضاعفة ،فإذا لم تكن أضعافا
مضاعفة فهل يصح أن تأخذ ربحا بسيطا يتمثل في نسبة فائدة على أصل المال فقط؟ ولكن مثل
ن َولَ تُظَْلمُونَ }[البقرة:
هذا القائل نرده إلى قول ال {:وَإِنْ تُبْ ُتمْ فََلكُمْ ُرؤُوسُ َأ ْموَاِلكُ ْم لَ تَظِْلمُو َ
]279
إن هذا القول الحكيم يوضح أن التوبة تقتضي أن يعود النسان إلى حدود رأس ماله ول يشوب
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عفَةً } فهي قد جاءت فقط لبيان الواقع
ضعَافا ّمضَا َ
ذلك ربح بسيط أو مركب .وعندما نجد كلمة { َأ ْ
الذي كان سائدا في أيامها.
وبعد ذلك يقول الحق تذييلً للية { :وَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفِْلحُونَ } ونقول دائما ساعة نرى كلمة "
اتقوا " يعني اجعلوا بينكم وبين ال وقاية ،وهل تكون الوقاية بينكم وبين ال بكل صفات جماله
وجلله؟ ل ،فالوقاية تكون مما يتعب ومما يؤلم ويؤذي ،إذن فاتقوا ال يعني :اجعلوا بينكم وبين
صفات جلله من جبروت وقهر وانتقام وقاية ،وعندما يقول الحق { :وَا ّتقُواْ اللّهَ } فهي مثل قوله:
{ وَا ّتقُواْ اللّهَ } ،لن النار جند من جنود صفات الجلل.
وعندما يقول الحقَ { :لعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ } نعرف أن كلمة " الفلح " هذه تأتي لترغيب المؤمن في
منهج ال ،وقد جاء الحق بها من الشيء المحس الذي نراه في كل وقت ،ونراه لنه متعلق ببقاء
حياتنا ،وهو الزرع والفلحة ،أنت تحرث وتبذر وتروي ،وبعد ذلك تحصد.
إذن فهو يريد أن يوضح لك أن المتاعب التي في الحرث ،والمتاعب التي في البذر ،والمتاعب
التي في السقى كلها متى ترى نتيجتها؟ أنت ترى النتيجة ساعة الحصاد ،فالفلح يأخذ (كيلتين)
من القمح من مخزنه كي يزرع ربع فدان ،ول نقول له :أنت أنقصت المخزن؛ لنه أنقص
المخزن للزيادة ،ولذلك فالذي لم ينقص من مخزنه ولم يزرع ،يأتي يوم الحصاد يضع يده على
خده نادما ول ينفع الندم حينئذ!
إن الحق يريد أن يقول لنا :إن المنهج وإن أتعبك ،وإن أخذ من حركتك شيئا كثيرا إل أنه سيعود
عليك بالخير حسب نيتك وإقبالك على العمل ،ولقد ضرب لنا ال المثل في قوله:
{ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبَُلةٍ مّئَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَاعِفُ ِلمَن َيشَآ ُء وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
[البقرة]261 :
هذا أمر واضح ،حبة نأخذها منك فتنقص ما عندك ،لكنها تعطيك سبعمائة ،إذن فساعة تؤخذ منك
الحبة ل تقل :إنك نقصت ،إنما قَدّرْ أنك ستزيد قدر كذا .ويعطينا ال ذلك المثل في خلق من خلقه
وهو الرض ،الرض الصماء ،أنت تعطيها حبة فتعطيك سبعمائة .فإذا كان خلق من خلق ال
وهو الرض يعطيك أضعاف أضعاف ما أعطيت .أفل يعطيك َربّ هذه الرض أضعافا
مضاعفة؟ إنه قادر على أجزل العطاء ،هذا هو الفَلحُ على حقيقته ،وبعد ذلك فإنه ساعة يتكلم عن
الفلح يقول لك :إنك لن تأخذ الفلح فقط ولكنك تتقي النار أيضا.
ع ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ {
فيقول الحق سبحانه } :وَا ّتقُواْ النّارَ الّتِي أُ ِ
()521 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ع ّدتْ لِ ْلكَافِرِينَ ()131
وَاتّقُوا النّارَ الّتِي أُ ِ
ب لمضرة ،وإيجابُ منفعة ،إنه يوجب لك منفعة الفلح ويسلب منك مضرّة
إذن ففيه مسألتان :سل ٌ
خلَ الْجَنّةَ َفقَدْ فَازَ }[آل عمران]185 :
النار .ولذلك يقول تعالىَ {:فمَن ُزحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ
لنه إذا زُحزح عن النار وأُدخل الجنة؟ إن هذا هو الفوز الكبير ،وهذا السبب في أن ربنا سبحانه
وتعالى ساعة السير على الصراط سيُرينا النار ونمرّ عليها ،لماذا؟ كي نعرف كيف نجانا اليمان
من هذه ،وما الوسيلة كي نفلح ونتقي النار؟ إن الوسيلة هي اتباع منهج ال الذي جاء به على
حمُونَ }
لسان رسوله { :وََأطِيعُواْ اللّ َه وَالرّسُولَ َلعَّلكُمْ تُ ْر َ
()522 /
حمُونَ ()132
وَأَطِيعُوا اللّ َه وَالرّسُولَ َلعَّلكُمْ تُرْ َ
و " الرحمة " تتجلى في أل يوقعك في المتعبة ،أما الشفاء فهو أن تقع في المتعبة ثم تزول عنك،
حمَةٌ }
شفَآ ٌء وَرَ ْ
لذلك فنحن إذا ما أخذنا المنهج من البدء فسنأخذ الرحمة {.وَنُنَزّلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
[السراء]82 :
إن الشفاء هو إزالة للذنب الذي تورطنا فيه ويكون القرآن علجا ،والرحمة تتجلى إذا ما أخذنا
المنهج في البداية فل تأتي لنا أية متاعب .ويقول الحق من بعد ذلك { :وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن
سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ أُعِ ّدتْ لِ ْلمُ ّتقِينَ }
ضهَا ال ّ
رّ ّبكُ ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
()523 /
والسرعة -كما عرفنا -مقابلها العجلة ،إن السرعة هي :التقدم فيما ينبغي ،ومعنى أن تتقدم فيما
ينبغي :أنك تجعل الحدث يأخذ زمنا أقل ،والمثال على ذلك عندما يسرع النسان بسيارته من
القاهرة إلى السكندرية فهو يحاول أن يقطع المائتين والعشرة كيلو مترات في زمن أقل ،فبدلً من
أن تأخذ منه ثلث ساعات في السيارة فهو يسرع كي تأخذ منه ساعتين .إذن فالسرعة هي :التقدم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيما ينبغي ،وهي محمودة ،وضدها :البطاء .فالسرعة محمودة ،والبطاء مذموم.
لكن " العجلة " تقدم فيما ل ينبغي ،وهي مذمومة ،مقابلها " التأني " ،والتأني ممدوح ،إذن
فالسرعة محمودة ،ومقابلها البطاء مذموم ،والعجلة مذمومة ،ومقابلها التأنّي ممدوح ،والمثل
الشعبي يقول :في التأني السلمة وفي العجلة الندامة.
إن الحق يقول { :وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِرَةٍ مّن رّ ّبكُمْ } أي :خذوا المغفرة وخذوا الجنة بسرعة ،لنك
ل تعرف كم ستبقى في الدنيا ،إياك أن تؤجل عملً من أعمال الدين أو عمل من أعمال الخير؛
لنك ل تعرف أتبقى له أم ل .فانتهز فرصة حياتك وخذ المغفرة وخذ الجنة ،هذا هو المعنى الذي
يأتي فيه الثر الشائع " اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لخرتك كأنك تموت غدا ".
الناس تفهمها فهما يؤدي مطلوباتهم النفسية بمعنى :اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا :يعني اجمع
الكثير من الدنيا كي يَكفيك حتى يوم القيامة ،وليس هذا فهما صحيحا لكن الصحيح هو أن ما فاتك
من أمر الدنيا اليوم فاعتبر أنك ستعيش طويلً وتأخذه غدا ،أمّا أمر الخرة فعليك أن تعجل به.
سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ } ونحن نعرف أن المساحات
ضهَا ال ّ
{ وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن رّ ّبكُ ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
ل وعرض ،لن الذي طوله كعرضه يكون مربعا ،إنما الذي عرضه أقل من طوله فنحن
لها طو ّ
ت وَالَ ْرضُ } نعرف أن العرض هو
سمَاوَا ُ
ضهَا ال ّ
نسميه " مستطيل " ،وحين يقول الحق { عَ ْر ُ
أقل البعدين ،أي أنها أوسع مما نراه ،فكأنه شبّه البعد القل في الجنة بأوسع البعد لما نعرفه وهو
السموات والرض ملتصقة مع بعضها بعضا فأعطانا أوسع َممّا نراه .فإذا كان عرضها أوسع ممّا
نعرف فما طولها؟ أنه حد ل نعرفه نحن.
ت وَالَرْضُ } .فأين طولها إذن؟ ونقول:
سمَاوَا ُ
ضهَا ال ّ
قد يقول قائل لماذا بيّن عرضها فقال { :عَ ْر ُ
ت وَالَرْضَ }
سمَاوَا ِ
وهل السموات والرض هي الكون فقط؟ إنّه سبحانه يقول {:وَسِعَ كُرْسِيّهُ ال ّ
[البقرة]255 :
ويقول صلى ال عليه وسلم " :ما السموات والرض وما بينهما إل كحلقة ألقاها ملك في فلة ".
أليست هذه من ملك ال؟
وهكذا نرى أن هذه الجنة قد أُعدت للمتقين ،ومعنى " أُعدت " أي هيئت وصُنعت وانتهت المسألة!
يؤكد ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم فيقول:
" عرضت عليّ الجنة ولو شئت أن آتيكم بقطاف منها لفعلت ".
لماذا؟ لن الخبار بالحدث قد يعني أن الحدث غير موجود وسيوجد من بعد ذلك ،ولكن الوجود
للحدث ينفي أن ل يوجد؛ لن وجوده صار واقعا ،فعندما يقول " :أُعدت " فمعناها أمر قد انتهى
الحق من إعداده ،ولن يأخذ من خامات الدنيا وينتظر إلى أن ترتقي الدنيا عندكم ويأخذ وسائل
وموادّ مما ارتقيتم ليعد بها الجنة ،ل.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد أخبر سبحانه عنها فقال " :فيها ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر " ،
وأعد سبحانه الجنة كلها بـ " كن " ،فعندما يقول " :أُعدت " تكون مسألة مفروغا منها .وما
دامت مسألة مفروغا منها إذن فالمصير إليها أو إلى مقابلها مفروغ منه ،والجنة أُعدت للمتقين،
فمن هم المتقون؟.
()524 /
حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ (
س وَاللّهُ يُ ِ
ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ
ظمِينَ ا ْلغَيْ َ
الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ فِي السّرّا ِء وَالضّرّا ِء وَا ْلكَا ِ
)134
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظمِينَ ا ْلغَيْظَ } ونعرف أن كل المور المعنوية مأخوذة من الحسّيات .وأصل الكظم أن تمل
{ وَا ْلكَا ِ
القِرْبة ،والقِرَب -كما نعرف -كان يحملها " السقا " في الماضي ،وكانت وعاء نقل الماء عند
شدّ على رأسها أي رٌُبط رأسها ربطا
العرب ،وهي من جلد مدبوغ ،فإذا مُلئت القربة بالماء ُ
محكما بحيث ل يخرج شيء َممّا فيها ،ويقال عن هذا الفعل " :كظم القربة " أي ملها وربطها،
والقربة لينة وعندما توضع على ظهر واحد أو على ظهر الدابة فمن ليونتها تخرج الماء فتكظم
وتربط بإحكام كي ل يخرج منها شيء.
كذلك الغيظ يفعل في النفس البشرية ،إنه يهيجها ،وال ل يمنع الهياج في النفس لنه انفعال
طبيعي ،والنفعالت الطبيعية لو لم يردها ال لمنع أسبابها في التكوين النساني.
إنما هو يريدها لشياء مثل :الغريزة الجنسية ،هو يريدها لبقاء النوع ،ويضع من التشريع ما
صبّ في قالب من حديد ل
يهذبها فقط ،وكذلك انفعال الغيظ ،إن السلم ل يريد من المؤمن أن ُي َ
عواطف له ،ل ،هو سبحانه يريد للمؤمن أن ينفعل للحداث أيضا ،لكن النفعال المناسب للحدث،
النفعال السامي النفعال المثمر ،ول يأتي بالنفعال المدمر.
سجّدا
حمَآءُ بَيْ َنهُمْ تَرَاهُمْ ُركّعا ُ
شدّآءُ عَلَى ا ْلكُفّارِ ُر َ
حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَ ِ
لذلك يقول الحق {:مّ َ
يَبْ َتغُونَ َفضْلً مّنَ اللّ ِه وَ ِرضْوَانا }[الفتح]29 :
فالمؤمن ليس مطبوعا على الشدة ،ول على الرحمة ،ولكن الموقف هو الذي يصنع عواطف
النسان ،فالحق سبحانه يقول {:أَذِلّةٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[المائدة]54 :
وهل هناك من هو ذليلٌ عزي ٌز معا؟ نقول :المنهج اليماني يجعل المؤمن هكذا ،ذلة على أخيه
المؤمن وعزة على الكافر .إذن فالسلم ل يصب المؤمنين في قالب كي ل ينفعلوا في الحداث.
ومثال آخر :ألم ينفعل الرسول صلى ال عليه وسلم حين مات ابنه إبراهيم؟ لقد انفعل وبكى
وحزن .إن ال ل يريد المؤمن من حجر .بل هو يريد المؤمن أن ينفعل للحداث ولكن يجعل
النفعال على قدر الحدث ،ولذلك قال سيدنا رسول ال عند فراق ابنه " :إن العين تدمع وإن القلب
يحزن ول نقول إل ما يرضي ربنا وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ".
ول نقول لحظة النفعال ما يسخط الرب .بل انفعال موجّه ،والغيظ يحتاج إليه المؤمن حينما يهيج
دفاعا عن منهج ال ،ولكن على المؤمن أن يكظمه ..أي ل يجعل النفعال غالبا على حسن
السلوك والتدبير .والكظم -كما قلنا -مأخوذ من أمر محس .مثال ذلك :نحن نعرف أن البل أو
العجماوات التي لها معدتان ،واحدة يُختزن فيها الطعام ،وأخرى يتغذى منها مباشرة كالجمل مثلً،
إنه يجتر.
ومعنى :يجتر الجمل أي يسترجع الطعام من المعدة الضافية ويمضغه ،هذا هو الجترار .فإذا
ظمِينَ ا ْلغَ ْيظَ
امتنع الجمل عن الجترار يقال :إن الجمل قد كظم .والحق سبحانه يقول } :وَا ْلكَا ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ {.
وقلنا :إن هناك فرقا بين النفعال في ذاته ،فقد يبقى في النفس وتكظمه ،ومعنى كظم النفعال :أن
النسان يستطيع أن يخرجه إلى حيز النزوع النفعالي ،ولكنّه يكبح جماح هذا النفعال .أما العفو
فهو أن تخرج الغيظ من قلبك ،وكأن المر لم يحدث ،وهذه هي مرتبة ثانية .أما المرتبة الثالثة
ل مقابلً؛ أي أنك ل تقف عند هذا الحد فحسب ،بل إنك تستبدل بالساءة
فهي :أن تنفعل انفعا ً
الحسان إلى من أساء إليك .إذن فهناك ثلث مراحل :الولى :كظم الغيظ .والثانية :العفو.
والثالثة :أن يتجاوز النسان الكظم والعفو بأن يحسن إلى المسئ إليه.
وهذا هو الرتقاء في مراتب اليقين؛ لنك إن لم تكظم غيظك وتنفعل ،فالمقابل لك أيضا لن
يستطيع أن يضبط انفعاله بحيث يساوي انفعالك ،ويمتلئ تجاهك بالحدة والغضب ،وقد يظل الغيظ
ناميا وربما ورّث أجيال من أبناء وأحفاد.
لكن إذا ما كظمت الغيظ ،فقد يخجل الذي أمامك من نفسه وتنتهي المسألة.
} وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ { مأخوذة من " عفّى على الثر " والثر ما يتركه سير الناس في الصحراء
حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ {.
مثل ،ثم تأتي الريح لتمحو هذا الثر .ويقول الحق في تذييل الية } :وَاللّهُ ُي ِ
وقلنا في فلسفة ذلك :إننا جميعا صنعة ال ،والخلق كلهم عيال ال .وما دمنا كلنا عيال ال فعندما
يُسيء واحد لخر فال يقف في صف الذي أسيء إليه ،ويعطيه من رحمته ومن عفوه ومن حنانه
أشياء كثيرة .وهكذا يكون المُساء إليه قد كسب .أليس من واجب المُسَاء إليه أن يُحسِن للمسيء؟.
لكن العقل البشري يفقد ذكاءه في مواقف الغضب؛ فالذي يسيء إلى إنسان يحسبه عدوّا .لكن على
الواحد منا أن يفهم أن الذي يسيء إليك إنما يجعل ال في جانبك؛ فالذي نالك من إيذائه هو أكثر
مما سلبك هذا اليذاء .هنا يجب أن تكون حسن اليمان وتعطي المسيء إليك حسنة.
سهُمْ
شةً َأوْ ظََلمُواْ أَ ْنفُ َ
ويضيف الحق من بعد ذلك في صفات أهل الجنة } :وَالّذِينَ ِإذَا َفعَلُواْ فَاحِ َ
َذكَرُواْ اللّهَ فَاسْ َت ْغفَرُواْ ِلذُنُو ِبهِ ْم َومَن َي ْغفِرُ الذّنُوبَ ِإلّ اللّهُ{ ...
()525 /
سهُمْ َذكَرُوا اللّهَ فَاسْ َتغْفَرُوا لِذُنُو ِبهِ ْم َومَنْ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ إِلّا اللّهُ
شةً َأوْ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ
وَالّذِينَ ِإذَا َفعَلُوا فَاحِ َ
وَلَمْ ُيصِرّوا عَلَى مَا َفعَلُوا وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ ()135
والفاحشة هي :الذنب الفظيع .فهل معنى ذلك أن الرماة في غزوة أحد حين تركوا مواقعهم ،قد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خرجوا من اليمان؟ ل ،إنها زلة فقط ،لكنها اعتبرت كبيرة من الكبائر لمن أشار على المؤمنين
أن ينزلوا ،واعتبرت صغيرة لمن حُرّض -بالبناء للمفعول -على أن ينزل من موقعه.
سهُمْ َذكَرُواْ اللّهَ } وجاء الحق هنا بـ
ظَلمُواْ أَ ْنفُ َ
حشَةً َأوْ َ
إذن فهو قول مناسب { :وَالّذِينَ ِإذَا َفعَلُواْ فَا ِ
" ذكروا ال " كتنبيه لنا إلى أن من يفعل الفاحشة أو يظلم نفسه هو من نسي ال ،فلحظة فعل
الفاحشة أو ظلم النفس ل يكون ال على بال النسان الفاعل للفاحشة أو على بال من ظلم نفسه،
والذي يُجرّئ النسان على المعصية ليحقق لنفسه شهوة ،أنّه لم ير ال ولم ير جزاءه وعقابه في
الخرة ماثل أمامه ،ولو تصور هذا ل متنع عن الفاحشة.
وكذلك الذي يهمل في الطاعة أيضا ،لم يذكر ال وعطاءه للمتقين .ولو ذكر ال وعطاءه للمتقين
لما تكاسل عن طاعة ال .ولذلك يقول الحقَ { :ذكَرُواْ اللّهَ فَاسْ َت ْغفَرُواْ لِذُنُو ِبهِمْ } فمن يستغفر لذنبه
فقد ذكر ال.
وموقف العلماء من الفاحشة فيه اختلف .بعض العلماء قال :إنها الكبيرة من الكبائر ،وظلم النفس
صغيرة من الصغائر .وقال بعض آخر من العلماء :إن الفاحشة هي الزنا؛ لن القرآن نص عليها،
وما دون ذلك هو الصغيرة.
ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ل كبيرة مع الستغفار .ول صغيرة مع الصرار ".
فل يجوز للنسان أن يتجاوز عن أخطائه ويقول :هذه صغيرة وتلك صغيرة لن الصغيرة مع
سهُمْ
ظَلمُواْ أَ ْنفُ َ
حشَةً َأوْ َ
الصغيرة تصير كبيرة .وحين ننظر إلى قول ال تعالى { :وَالّذِينَ ِإذَا َفعَلُواْ فَا ِ
} نجد أن الذي فعل الفاحشة ظالم لنفسه أيضا لنه حقق لنفسه شهوة عارضة ،وأبقى على نفسه
عذابا خالدا.
ولماذا لم يقل الحق إذن :والذين ظلموا أنفسهم فقط؟ أي يكون العطف بـ " الواو " ل بـ " أو "؛
لن الحق يريد أن يوضح لنا الختلف بين فعل الفاحشة وظلم النفس.
لن الذي يفعل الفاحشة إنما يحقق لنفسه شهوة أو متعة ولو عاجلة ،لكن الذي يظلم نفسه يذنب
الذنب ول يعود عليه شيء من النفع؛ فالذي يشهد الزور -على سبيل المثال -إنه ل يحقق لنفسه
النفع ،ولكن النفع يعود للمشهود له زورا .إن شاهد الزور يظلم نفسه لنه لبّى حاجة عاجلة لغيره،
ولم ينقذ نفسه من عذاب الخرة .أما النسان الذي يرتكب الفاحشة فهو قد أخذ متعة في الدنيا،
وبعد ذلك ينال العقاب في الخرة.
لكن الظالم لنفسه ل يفيد نفسه ،بل يضر نفسه؛ فالذي هو شر أن تبيع دينك بدنياك؛ إنك في هذه
الحالة قد تأخذ متعة من الدنيا وأمد الدنيا قليل.
والحق لم ينه عن متاع الدنيا ،ولكنه قال عنهُ } :قلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ { .وهناك من يبيع دينه بدنيا
غيره ،وهو ل يأخذ شيئا ويظلم نفسه.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحق } :فَاسْ َت ْغفَرُواْ لِذُنُو ِبهِ ْم َومَن َي ْغفِرُ الذّنُوبَ ِإلّ اللّهُ { .ومعنى " ذنب " هو مخالفة لتوجيه
منهج .فقد جاء أمر من المنهج ولم ينفذ المر .وجاء نهي من المنهج فلم يُلتزم به .ول يسمى ذَنْبا
إل حين يعرفنا ال الذنوب ،ذلك هو تقنين السماء .وفي مجال التقنين البشري نقول :ل تجريم إل
بنص ول عقوبة إل بتجريم.
وهذا يعني ضرورة إيضاح ما يعتبر جريمة؛ حتى يمكن أن يحدث العقاب عليها ،ول تكون هناك
جريمة إل بنص عليها .أي أنه يتم النص على الجريمة قبل أن يٌنص على العقوبة ،فما بالنا بمنهج
ال؟ إنه يعرفنا الذنوب أولً ،وبعد ذلك يحدد العقوبات التي يستحقها مرتكب الذنب.
ولننتبه إلى قول الحق } :وَلَمْ ُيصِرّواْ عَلَىا مَا َفعَلُو ْا وَهُمْ َيعَْلمُونَ { إذن فالستغفار ليس أن تردف
الذنب بقولك :أستغفر ال ل .إن على النسان أن يردف الذنب بقوله :أستغفر ال وأن يصر على
أل يفعل الذنب أبدا.
وليس معنى هذا أل يقع الذنب منك مرة أخرى؛ إن الذنب قد يقع منك ،ولكن ساعة أن تستغفر
تصر على عدم العودة ،إن الذنب قد يقع ،ولكن بشرط أل يكون بنيّة مٌسبقة ،وتقول لنفسك:
سأرتكب الذنب ،وأستغفر لنفسي بعد ذلك .إنك بهذا تكون كالمستهزئ بربّك ،فضل على أنك قد
تصنع الذنب ول يمهلك ال لتستغفر .قوله الحق } :وََلمْ ُيصِرّواْ عَلَىا مَا َفعَلُو ْا وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ
{ يوضح لنا أنه ل عقوبة إل تجريم إل بنص.
إن الحق يعلمنا يعرفنا أولً ما هو الذنب؟ وما هو العقاب؟ وكيفية الستغفار؟ ويقول الحق بعد
ذلكُ } :أوْلَـا ِئكَ جَزَآؤُ ُهمْ ّمغْفِ َرةٌ مّن رّ ّبهِ ْم َوجَنّاتٌ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ِنعْمَ َأجْرُ
ا ْلعَامِلِينَ {
()526 /
أُولَ ِئكَ جَزَاؤُهُمْ َمغْفِ َرةٌ مِنْ رَ ّبهِ ْم وَجَنّاتٌ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَ ِنعْمَ أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ (
)136
ضهَا
{ ُأوْلَـا ِئكَ } إشارة إلى ما تقدم في قوله سبحانه {:وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن رّ ّب ُك ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ أُعِ ّدتْ لِ ْلمُ ّتقِينَ }[آل عمران]133 :
ال ّ
ظ وَا ْلعَافِينَ
ظمِينَ ا ْلغَيْ َ
مع بيان أوصاف المتقين في قوله {:الّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السّرّآ ِء وَالضّرّآ ِء وَا ْلكَا ِ
حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ }[آل عمران]134 :
س وَاللّهُ يُ ِ
عَنِ النّا ِ
إنهم ينفقون في السراء نفقة الشكر .وينفقون في الضراء نفقة الذكر والتضرع ،لن النعمة حين
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
توجد بسرّاء تحتاج إلى شكر لهذه النعمة ،والنعمة حين تنفق في الضراء تقتضي ضراعة إلى ال
ليزحزح عن المنفق آثار النقمة والضراء .إذن فهم ينفقون سواء أكانوا في عسر ،أم كانوا في
يسر.
إن كثيرا من الناس ينسيهم اليسر أن ال أنعم عليهم ويظنون أن النعمة قد جاءت عن علم منهم.
وبعض الناس تلهيهم النعمة عن أن يحسوا بآلم الغير ويشغلوا بآلم أنفسهم .لكن المؤمنين ل
ينسون ربهم أبدا .وأمره بالنفاق في العسر واليسر .ولذلك قولوا :فلن ل يقبض يده في يوم
العرس ول في يوم الحبس.
سهُمْ َذكَرُواْ اللّهَ فَاسْ َت ْغفَرُواْ ِلذُنُو ِبهِمْ
حشَةً َأوْ ظََلمُواْ أَ ْنفُ َ
وتتتابع أوصاف المتقين {:وَالّذِينَ إِذَا َفعَلُواْ فَا ِ
َومَن َي ْغفِرُ الذّنُوبَ ِإلّ اللّهُ وَلَمْ ُيصِرّواْ عَلَىا مَا َفعَلُواْ وَ ُهمْ َيعَْلمُونَ }[آل عمران]135 :
وفي ذلك لون من تطمين المؤمن على أغيار نفسه ،وعلى أنه عندما يستجيب مرة لنزغات
الشيطان ،فهذه ل تخرجه من حظيرة التقوى ،لن ال جعل ذلك من أوصاف المتقين .فالفاحشة
التي تكون من نزغ الشيطان وذكر العباد ل بعدها ،واستغفارهم مع الصرار على عدم العودة ،ل
تخرجهم أبدا عن وصفهم بأنهم متقون .لن الحق هو الغفورَ { :ومَن َيغْفِرُ الذّنُوبَ ِإلّ اللّهُ }.
إنهم قد أُخبروا بذلك ،فلم يجرم الحق أحدا إل بنص ،ولم يعاقب إل بجريمة .وقول الحق سبحانه:
{ ُأوْلَـا ِئكَ جَزَآؤُهُمْ ّم ْغفِ َرةٌ مّن رّ ّبهِمْ } هو إشارة لكل ما سبق .ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى
جعل للعاملين بهذا العمل من التقوى قوسين :القوس الول الذي ابتدأ به هو قوله الحق:
سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ أُعِ ّدتْ لِ ْلمُ ّتقِينَ }.
ضهَا ال ّ
{ وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن رّ ّبكُ ْم وَجَنّةٍ عَ ْر ُ
والقوس الثاني هو الذي أنهى المرُ { :أوْلَـائِكَ جَزَآؤُهُمْ ّمغْفِ َرةٌ مّن رّ ّبهِ ْم وَجَنّاتٌ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا
الَ ْنهَارُ }.
فالجنة الولى التي ذكرها ال إلهابا للعواطف النفسية لتقبل على ما يؤدي لهذه الجنة ،وبعد ذلك
ذكر الوصاف والصناف وجعل الجنة أجرا { .وَ ِنعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ }.
والجر عادة هو ما يأخذه العامل نتيجة العمل .والجر حين يأخذه العامل نتيجة لعمل يتوقف على
تقييم العمل عند صاحب العمل نفسه .فزيادة الجر ونقصه تقدير من صاحب العمل ،وأيضا تقدير
للعامل .فإن طلب أصحاب عمل متعددون عاملً محددا فله أن يطلب زيادة وإن لم يطلبه أحد فهو
يقبل أول عرض من الجر نظير أداء العمل.
إذن فالمسألة مسألة حاجة من صاحب عمل ،أو حاجة من عامل ،وحين ننظر إلى الصفقة في
الخرة نجد أنها بين إله ل يحتاج إلى عملك .ومع أنه ل يحتاج إلى عملك جعل لعملك أجرا.
ما هذه المسألة؟ هو ليس محتاجا إلى عملك ،ويعطيك أجرا على عملك ويقول لك :إن هذا الجر
هو الحد الدنى ،لكن لي أنا أن أضاعف هذا الجر ،ولي أن أتفضل عليك بما فوق الجر .فكم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مرحلة إذن؟ إنها ثلث مراحل ،مع أنه سبحانه ل يستفيد من هذا العمل إل أنه وضع ثلث مراتب
للجر.
إذن فالحاجة من جهة واحدة هي جهتك أنت أيها العبد ،أنت تحتاج إلى خالقك وهو ل يحتاج إليك،
ومع ذلك يعطيك الله الحق الجر ل على قدر العمل فقط ،ولكن فوق ذلك بكثير .إن الذي تعمل
له يوما من العباد قد يعطيك -على سبيل المثال -ما يكفيك قوت يوم ،أو قوت يوم ونصف يوم.
ولكنك حين تأخذ الجر من يد ال فإنه يعطيك أجرا ل تنتهي مدة إنفاقه؛ فهو القائل } :وَ ِنعْمَ أَجْرُ
ا ْلعَامِلِينَ {.
هذا هو الجر الذي يقال فيه :نعم هذا الجر؛ لنه أجر ل يتناسب مع مجهودي ،بل يفوق كل ما
بذلت من جهد وقادم من جهة ل تحتاج إلى هذا المجهود.
إنه سبحانه متفضل على أولً .ومتفضل على أخيرا ،ليدل الحق سبحانه وتعالى على أنك -أيها
العبد -حين تعمل الطاعة يَعود أثر الطاعة على نفسك ومع ذلك فهو يعطيك أجرا على ما فعلت.
وأوضحنا أن هذه اليات جاءت بين آيات معركة ُأحُد إرشادا واستثمارا للحداث التي وقعت في
أُحُد ،حتى إذا عاش النسان في تصور الحداث فالحداث تكون ساخنة ،ويكون التقاط العبرة منها
قريبا إلى النفس؛ لن واقعا يُحتّمها ويؤكدها .والحق سبحانه وتعالى يقول من بعد ذلكَ } :قدْ خََلتْ
مِن قَبِْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَانْظُرُواْ{ ...
()527 /
قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ ()137
أي أنتم لستم بدعا في هذه المسألة .و " خلت " تعني " مضت " ،أي حصلت واقعا في أزمان
سبقت هذا الكلم .وعادة فالخبار التي يتكلم بها النسان مرة تكون خبرا يحتمل الصدق والكذب،
لكن هذه المسألة ل تحتاج إلى صدق أو كذب؛ لن الواقع ليس أمرا مستقبلً ،ولكنه أمر قد سبق،
فبمجرد أن يجيء الكلم ل ننتظر واقعا يؤكد صدق الكلم ،لنّ الواقع قد حدث من قبل ،فيقول
سبحانه { :قَدْ خََلتْ مِن قَبِْل ُكمْ سُنَنٌ }.
والسنن هي الطرق التي يصرف ال بها كونه بما يحقق مصلحة ذلك الكون؛ ليضمن للنسان -
السيد في هذا الكون -ما يحقق مصلحته ،ومصلحة النسان تتمثل في أن يسود الحق في حياة
النسان المختار كما ساد الحق في الكون المسيّر قبل النسان.
وقد قلنا إن في هذا الكون تسخيرا :أي ل إرادة له ،ل إرادة للجماد ول للنبات .ول للحيوان في
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن يفعل الخير لك أو ل تفعل .فلم يحدث أن جاء إنسان لرض صالحة للزراعة ،ووضع فيها
بذورا ،فلم تنبت الرض وقالت له :لن أعطيك ،ولم تقل الرض يوما عن إنسان :إنه كافر فلن
أعطى له الرزق.
إن الرض مسخرة لخدمة النسان ما دام يأخذ بأسبابها؛ فهي تؤدي له .والحيوانات أيضا مسخرة
لخدمتك ل باختيارك ،ول بقدرة تسخيرك لها ،ولكن بتسخير ال لها أن تفعل.
وقلنا :إن النسان قد تكون عنده مطية ،مثل بعض الفلحين ،فمرة يجعلها صاحبها تحمل أكوام
السباخ من روث الحيوان وفضلته ،وبعد ذلك يلوح له أن يخرجها من عملها هذا ويجعلها ركوبة
له ،ويدللها بالشياء التي تعرفونها من لجام جميل وسرج أجمل ،ويرفهها في حياتها وينظفها.
هل في الحالة الولى امتنعت المطية عن حمل السباخ أو امتنعت في الحالة الثانية عن حمل
النسان؟ ل؛ أنت تسيرها مثلما تريد أنت ،فليس لها اختيار .ول نبات له اختيار ،ول جماد له
اختيار ،ول الحيوان أيضا ،إنما الختيار للنسان.
وقد حكم ال اختيار النسان بمقادير يكون النسان مسخرا فيها حتى ل يظن أنه استقل بالسيادة
فأصبحت له قدرة ذاتية .والحق يحكم النسان بأشياء يجعلها قهرية على النسان كي يظل في
إطار التسخير .ويترك الحق للنسان أشياء ليبقى له فيها الختيار .فإذا ما نظرنا إلى الكون وجدنا
أن ما ل اختيار فيه لشيء يسير على أحداث نظام ول تصادم فيه ،والذي فيه اختيار للنسان هو
الذي يختل ،لماذا؟.
لن النسان قد يختار على غير منهج الذي خَلَق وهو ال -سبحانه وتعالى -فإذا أردت أن
يستقيم لك المر أيها المختار فاجعل اختيارك في إطار منهج ال.
وحين تجعل اختيارك في إطار منهج ال تكون قد أصبحت سويّا كبقيّة الجناس وتسير المور
معك بانتظام.
وعندما تقارن بين شيء للنسان فيه اختيار وعمل ،وشيء ل اختيار للنسان فيه ول عمل ،فأنت
تجد أن الشيء الذي ل اختيار للنسان فيه مستقيم المر ،ول خلف فيه أبدا ،أما الشيء الذي فيه
اختيار للنسان ،فأنت تجد فيه الخلف.
مثال ذلك :لو نظرنا إلى وسيلة مواصلت من الحيوانات كالجمال أو الخيل أو الحمير ،فإننا
نجدها تسير في طريق واحد ،وتتقابل جيئة وذهابا فل يحدث تصادم بين حمار وحمار ،ول قتل
لراكب أحد الحمارين.
إن الحيوانات يتفادى ويتحامى بعضها بعضا حتى لو كان الراكب نائما .ومهما كان الطريق
مزدحما فالحيوانات ل تتصادم؛ لن ذلك من نطاق تسخير الحق للحيوان.
ولننظر إلى النسان حين تدخّل ليصنع وسيلة مواصلت ،صنع النسان ألوان السيارات ،يقودها
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النسان ،ومع أن النسان هو الذي يقود السيارات ،وبرغم ذلك بدأت تأتي المخالفات والمصادمات
والحوادث؛ لن للنسان يدا في ذلك.
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يدلك على أن ما خلق مسخرا بأمر ال وتوجيهه ل يتأتى منه فساد
أبدا ،إنما يتأتى الفساد مما لك فيه اختيار ،فحاول أن تختار في إطار منهج ال .فعندما يقول الحق
لك " :افعل كذا ول تفعل كذا " فعليك أن تصدق وتطيع؛ لن الحق سبحانه عندما سخر الشياء
للنسان سارت بانتظام رائع ،وأنت أيها العبد عندما تطيع ال فإن المور في حياتك تمشي بيسر.
ولذلك قلنا :إن الناس لم تشتك قط أزمة شمس ,ولم يشتكوا أزمة هواء ،لكن لماذا اشتكوا أزمة
طعام؟ إن النسان له دخل في إنتاج الطعام .فما للنسان فيه دخل يجب أن يحكمه قانون التكليف
من ال " :افعل كذا ول تفعل كذا ".
الكون مخلوق بحق .ومعنى أنه مخلوق بحق أن كل شيء في الوجود يؤدي مهمته كما أرادها ال،
وكما سُخّر من أجله ,إذا ما قام النسان بتنفيذ التكليف فكل شيء يسير بحق .وإن ترك النسان
التكليف وأخذ باختياره فإنه يصير إلى باطل ونتج ما هو باطل ،والكون مبني على الحق } .مَا
ق وَلَـاكِنّ َأكْثَرَهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ { [الدخان ]39 :إن الحق جعل للكون قضايا ثابتة،
حّخََلقْنَا ُهمَآ ِإلّ بِالْ َ
فل شيء يعتدي على شيء آخر أبدا .واختيار النسان هو الذي يأتي بمقابل الحق وهو الباطل،
ولذلك يصون ال الكون بأن يبين أن الحق يصطدم بالباطل ،والباطل يصطدم بالحق لكن الحق
حقّ
يجيء ويبقى ،والباطل يزهق ويزول ،ويظهر ال لنا ذلك أمام أعيننا يقول تعالىَ {:و ُقلْ جَآءَ الْ َ
طلَ كَانَ زَهُوقا }[السراء]81 :
طلُ إِنّ الْبَا ِ
وَزَهَقَ الْبَا ِ
إذن فقوله سبحانه } :قَدْ خََلتْ مِن قَبِْلكُمْ سُنَنٌ { يعني :اعتبروا بما سبقكم وانظروا إلى اصطدام
الباطل بالحق ،أدام وبقى اصطدام الباطل بالحق؟ ل؛ لن الباطل كان زهوقا.
ولذلك نحن نرى أمثلة عملية لذلك ل أقول في مواكب الناس بعضهم مع بعض ،ولكن في موكب
الباطل مع حق السماء .وحق السماء يمثله الرسل والمناهج التي جاءت من عند ال وكل حق جاء
من السماء وجاء من مناهج ال قابلة قوم مبطلون.
لماذا؟ لن السماء دائما ل تتدخل إل حين يشيع الفساد ،وما دام الفساد يشيع فإن هناك طائفة
منتفعة بالفساد ،وهذه الطائفة المنتفعة بالفساد وبالباطل تدافع عنه وبعد ذلك يأتي موكب السماء
ليصادم هذا الباطل والفئة المنتصرة للباطل ،فتنشأ معركة ،فقال الحق حينئذ } :قَدْ خََلتْ مِن قَبِْل ُكمْ
سُنَنٌ { .قالها الحق لنعرف أن الباطل زهوق ،وأن كل معارك أهل الرض مع منهج السماء قد
انتصر فيها الحق .ولذلك تأتي سورة العنكبوت لتبين لنا ذلك ،بداية من قوله سبحانه {:وَإِلَىا مَدْيَنَ
شعَيْبا َفقَالَ يا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّ َه وَارْجُواْ الْ َيوْمَ الَخِ َر َولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ * َفكَذّبُوهُ
أَخَاهُمْ ُ
جفَةُ فََأصْبَحُواْ فِي دَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ }[العنكبوت]37-36 :
خذَ ْتهُمُ الرّ ْ
فَأَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه هي الصورة الولى ،وتأتي الصورة الثانية {:وَعَادا وَ َثمُودَ ْا َوقَد تّبَيّنَ َلكُم مّن مّسَاكِ ِن ِه ْم وَزَيّنَ
ل َوكَانُواْ مُسْتَ ْبصِرِينَ }[العنكبوت]38:
عمَاَل ُهمْ َفصَدّ ُهمْ عَنِ السّبِي ِ
َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ
عوْنَ
إذن فانظروا إلى مساكنهم الباقية لتدلكم على ما حدث لهم .والصورة الثالثةَ {:وقَارُونَ َوفِرْ َ
ض َومَا كَانُواْ سَا ِبقِينَ }[العنكبوت]39:
وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَآ َءهُمْ مّوسَىا بِالْبَيّنَاتِ فَاسْ َتكْبَرُواْ فِي الَرْ ِ
وساعة تسمع } َومَا كَانُواْ سَا ِبقِينَ { .أي كأن هناك حاجة تلحقهم ،والذي يلحقه شيء فإنه يحاول
أن يسبقه ،لكنهم ل يستطيعون .وتأتي السنن واضحة بعد ذلكَ {:فكُلّ َأخَذْنَا بِذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا
سفْنَا ِب ِه الَ ْرضَ َومِنْهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ
خَخذَتْهُ الصّ ْيحَ ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ َ
عَلَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ أَ َ
سهُمْ َيظِْلمُونَ }[العنكبوت]40 :
لِيَظِْل َمهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
إذن فصراع الحق والباطل قد تقدم ووقع في أمم قد سبقتكم وبقيت لها مساكن ،فمن شاء أن يذهب
إليها ليتأكد فليذهب ،ول تزال مدائن صالح ،ول تزال هناك آثار عاد ،وكل مكان فيه أثر من
الثار .ولذلك يوضح الحق :فإن كنتم تريدون التأكد من ذلك فأنا قد أخبرت ،ومن آمن بي
فليصدق خبري ،ولغير المؤمن ولمن يريد اطمئنان قلبه يقول سبحانهَ {:فسِيرُواْ فِي الَ ْرضِ
فَانظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ }[النحل]36 :
إن الحق سبحانه وتعالى يمثل صراع الحق -وهو الشيء الثابت -مع الباطل ،وهذه القضية
موجودة حتى فيما ل اختيار له .ويصنعها الحق فيهم ،صراعا بين حق وباطل فيما ل اختيار له
لمصلحة النسان أيضا .وقد جعل سبحانه الصراع بين الحق والباطل في أشياء ليست من النسان
سمَآءِ
ولكنها تخدم النسان ،وهذه نراها في المور المادية .أما في القيم فالحق يقول {:أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِ َيةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْ َيةٍ َأوْ مَتَاعٍ
جفَآءً وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْمكُثُ فِي
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ
ق وَالْبَا ِ
حّزَبَدٌ مّثُْلهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
لمْثَالَ }
الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
[الرعد]17 :
إنه سبحانه أنزل من السماء ماء فسال في الودية ،والودية كما نعرفها هي المكان المنحصر بين
جبلين ،فإذا نزلت المطار على العالي فإنها تنحدر إلى السفل وتسيل في الودية .والوديان هي
محل الخضب؛ لن الغرين والطمى الذي ينزل من الجبال مع مياه المطر ويترسب ويصير ترابا
خصبا يخرج منه الزرع .وكل وادٍ من الوديان يأخذ على قدر سعته ،وباقي المياه يبحث له عن
مسلك آخر ،ولو إلى باطن الرض ،وذلك كان مظهرا مألوفا في الجزيرة العربية ,فعندما يأتي
السيل فإن الودية تمتلئ ماءً ،كل وادٍ يأخذ على قدر سعته } .فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا { ونحن
نراه في الحقول ونسميه " الريم " الذي يطفو على سطح الماء ،ما الذي يحدث لهذا الريم؟ إنه
يتجمع ويطفو ثم يركن ويميل جانبا .ألم تر القدْر بها لحم تفور؟ .إننا نجد الريم قد طفا على
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السطح .وهذا الريم فيه أشياء خارجة عن عنصر الشيء الموجود في القدر ،فإذا ما جاءت حرارة
النار أخرجته على السطح ،فإما أن يخرجه النسان خارج القدر ،وإما أن يتركه فيتجمد على
الجوانب وينتهي.
ومن أين جاء هذا الزبد؟ إنه يأتي من الرض ,والرض فيها أشياء كثيرة ،كجذور النبات وبقايا
ما حمله الهواء وتتخلل هذه الشياء مسام الرض ،هذه الشياء عندما توجد في المسام ،وتأتي
الجذور الصغيرة لتنمو فتعوقها عن أخذ غذائها؛ لذلك فعندما ينزل الحق الماء من السماء فإن
الماء يجعل هذه الشياء تطفو على السطح؛ ليجعل هناك منفذا للجذور الصغيرة.
وينزل ال المطر ليغسل التربة كلها ،ويجعل هذه الشياء تطفو؛ لنها غثاء ،ويطفو الغثاء .وساعة
أن يطفو الغثاء فإياك أن تفهم أن ذلك علو ،إنه علو إلى انتهاء ،كذلك فورة الباطل.
إياك أنن تظن أن الزَبَد له فائدة ،أو أنّ ارتفاع الريم كان علوا على ما في القدر ،ل .إنه تطهيرٌ
لما في القدر أو الناء ،ولهذا قال الحق } :فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا {.
وإن لم تذهب آثار الريم بحركة الماء التموجية فإنها ستذهب بطريقة أو بأخرى .ولننظر إلى
الشياء القذرة التي تلقي في البحر نجد أنها بعد مدة قد خرجت إلى الشاطئَ {.ومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ
ِإلّ ُهوَ }[المدثر]31 :
إنها تخرج على الشاطيء ويجمعها المكلفون بتنظيف الشاطئ .وإل كيف تتم صيانة الماء؟ إنه
سبحانه يجعل الماء ينظف نفسه بحركته الذاتية .إذن فالماء عندما ينزل سيلً ،فإنه ينقي التربة من
العوائق التي تعوق غذاء الجذيرات الصغيرة ،وقد ل يكتفي بعضنا بهذا المثل ،فيضرب لنا ال
حقّ
مثلً آخرَ {:و ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْمكُثُ فِي الَ ْرضِ }
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ
وَالْبَا ِ
[الرعد]17 :
ونحن نرى هذه الحكاية عندما يضعون أي معدن في النار ،فإن المعدن ينصهر ويصير كالعجينة
وتخرج منه فقاقيع ونحن نسميها خبث المعدن وعندما نخرج الخبث من المعدن فانه يصير قويا
إذن فالنار قد صهرت المعدن ،وأخرجت منه الخبث الضار فيه ،أو الذي يجعله ل يؤدي مهمته
بكفاءة عالية ،فأنا قد أصنع من الحديد درعا قوية أو أريد أن أستخرج منه الصلب ،وهذه العمليات
معناها أننا نصْهر الحديد بالنار لنزيل خبثه ليزداد قوة .وكذلك الذهب والفضة ساعة نريد أن
نخلصهما من هذه الثار فإننا نصهرهما لنخرج منهما الشياء الخارجة عنهما أي التي تختلط بهما
وتشوبهما وهي ليست منهما.
لماذا إذن يا ربيّ هذا التمثيل الحسي في المياه؟ والحلية التي ل تؤدي ضرورة ،والمتاع وهو الذي
طلَ {.
ق وَالْبَا ِ
حّيؤدي ضرورة؟ إنه سبحانه يقول } :كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن الحق كالماء ،والحق كالنار ،والماء يحمل الزبد الرابي بعيدا عن مسام الرض ،والنار تخرج
الزبد والخَبث من المعادن ،وتجعل المعادن خالصة للمنفعة المطلوبة لنا ،كذلك يضرب ال الحق
جفَآءً {.
والباطل } :فََأمّا الزّ َبدُ فَيَ ْذ َهبُ ُ
وجفاءً أي مطروحا مرميا } ،وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ { .ذلك هو صراع الحق
والباطل في المبادئ والقيم ويصوره ال في المور المادية .ومن العجيب أنه يصوره بمتناقضين
ولكنهما متناقضان ويؤديان مهمة واحدة ،ماء ونار ،فإياك حين ترى شيئا يناقض شيئا أن تقول:
هذا يناقض ذاك ،ل .لن هذا الشيء مطلوب لمهمة ،وذاك الشيء مطلوب لمهمة أخرى.
خَلتْ مِن قَبِْل ُكمْ سُنَنٌ { هو لفت لنا إلى صراع الحق مع الباطل ،وأن
إذن فقول الحق سبحانهَ } :قدْ َ
النسان قد يرى الباطل مرة وله فورة وعلو ،ونقول :هذا إلى جُفاء .وهذه سنة من سنن الحياة.
وإن أردتم أن تتأكدوا منهما ،فالتفتوا إلى دقة قول الحق تعالى:
} َفسِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَانْظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ {.
وهنا ملحظ عام ،وملحظ خاص ،الملحظ العام :أننا نفهم أن المقصود بذلك السير على الرض،
وتلك هي حدود رؤيتنا ،لكن حين يتكلم ال فرؤية ال أشمل فهو الخالق لهذا الكون ،ونحن ما زلنا
نجهل جزيئات في هذا الكون ،ولم نعرف بعضها إل أخيرا ،وخالق الكون هو الذي يعلم كل
الخبايا.
نحن نقول :إننا نسير على الرض؛ لننا كنا نفهم أن هذه الرض ليس عليها إلّ نحن فقط ،ثم
تبين لنا -بعد أن أخذ العلم حظه -أنه لو ل وجود الهواء في الرض لما صلحت للحياة .ولذلك
فعندما تدور الرض .فالهواء الذي حولها يدور معها ويسمونه الغلف الجوي إذن فالغلف
الجوي جزء من الرض وله امتداد كبير ،فالنسان عندما يسير فإنه يسير في الرض ،أما الذي
يسير على الرض فهو الذي يسير فوق الغلف الجوي ،أما السائر على اليابسة ،والغلف الجوي
ما زال فوقه فهو يسير في الرض ل على الرض.
وما دامت المسألة هي سنن تقدمت ،ويريد ال منا أن نعتبر بالسنن المتقدمة ،لذلك يقول لنا} :
فَسِيرُواْ فِي الَرْض { نسير بماذا؟ .إما أن نسير بالنتقال ،أو نسير بالفكار؛ لن النسان قد ل
يملك القدرة على السير ويترك هذه المهمة للرحالة ،والرحالة -مثلً -هم الذين ذهبوا إلى
جنوب الجزيرة ،ورأوا وادي الحقاف ووجدوا أن عاصفة رمل واحدة تطمر قافلة بتمامها.
إذن ففيه عواصف وارت الكثير من الشياء ،فعاصفة واحدة تطمر قافلة .فكم من العواصف قد
هبت على مرّ هذه القرون؟ والحق سبحانه يخبرنا بإرم ذات العماد فيقولَ {:ألَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ
لدِ * وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ *
ِبعَادٍ * إِ َرمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ ُيخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِ َ
سوْطَ
صبّ عَلَ ْيهِمْ رَ ّبكَ َ
لدِ * فََأكْثَرُواْ فِيهَا ا ْلفَسَادَ * َف َ
ط َغوْاْ فِي الْبِ َ
َوفِرْعَوْنَ ذِى الَوْتَادِ * الّذِينَ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عَذَابٍ }[الفجر.]13-6 :
إنه سبحانه يخبرنا أن إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلد أي متفوقة على حضارة مصر
القديمة .وهي عجيبة وفيها أكثر من عجيبة فأين هي الن؟.
وما دامت الرمال بعاصفة واحدة -كما قلنا -تطمر قافلة ،فكم عاصفة مرت على هذه البلد؟.
ولذلك نجد أننا ل نزال جميعا إلى الن حين نريد أن ننقب عن الثار فل بد أن نحفر تحت
الرض .لماذا هذا الحفر وقد كانت هذه الثار فوق الرض؟ لقد غطتها العواصف الرملية.
والمثال على ذلك :أنّك تغيب عن بيتك شهرا واحدا وتعود لتجد من التراب الناعم ما يغطي أرض
البيت على الرغم من إغلق النوافذ .فماذا تجد من حجم التراب لو غبت عن بيتك عاما ،أو
عامين ،أو ثلثة أعوام ،رغم إحكام وإغلق النوافذ والفتحات بالمطاط وخلفه؟ ولكن التراب
الناعم يتسرب ويغطي الثاث والرض .وإذا كانت هذه المور تحدث في منازلنا فما بالك
بالمنطقة التي فيها أعاصير وعواصف رملية؟ هل تطمر المدن أو ل؟
إن المدن والحضارات تطمر تحت الرمال؛ لذلك فعندما ننقب عن الثار فنحن نحفر في الرض،
وهذا لون من السير في الرض للرؤية والعظة .وحين يقول الحق } :فَا ْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
ا ْل ُمكَذّبِينَ { فماذا يعني بعاقبة المكذبين؟ حين تكون أمة قد تحضرت حضارة كبيرة يقول عنها
لدِ * وَ َثمُودَ
الحقَ {:ألَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِ َرمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي الْبِ َ
ط َغوْاْ فِي الْبِلَدِ * فََأكْثَرُواْ فِيهَا
لوْتَادِ * الّذِينَ َ
عوْنَ ذِى ا َ
الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْ َ
ا ْلفَسَادَ }[الفجر.]12-6 :
إن الذي أقام هذه الحضارات أل يستطيع أن يجعل لهذه الحضارة ما يصونها؟ كيف يتم القضاء
على هذه الحضارات الواسعة واندثارها وذهابها؟.
ل بد أن ذلك يتم بقوة أعلى منها ،فهذه الحضارات رغم تقدمها الرهيب لم تستطع أن تحفظ نفسها
من الفناء .إنها القوة العلى منها ،وهكذا نصدق قوله الحق } :فَانْظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ
{ .إنه القّيوم الذي يرى كل الخلق ،فمن يطغى ويفسد فليلق النهاية نفسها .إذن فقوله سبحانه يحمل
كل الصدق:
} َقدْ خََلتْ مِن قَبِْلكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَانْظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ {
وبعد ذلك يقول الحق } :هَـاذَا بَيَانٌ لّلنّاسِ وَهُدًى َو َموْعِظَةٌ لّ ْلمُ ّتقِينَ {
()528 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
انظر إلى الكلمة { هَـاذَا بَيَانٌ لّلنّاسِ } إن البيانات عندما تتأتى تأخذ قوتها وسطوتها وعظمتها من
قوة من أصدر البيان؛ أنت ساعة تجد ثورة في مجتمع ما فإننا نسمع كلمة " بيان رقم واحد " تهتز
له الدنيا وهو بيان قادم من بشر فما بالنا بالبيان القادم من ال؟
ظةٌ لّ ْلمُ ّتقِينَ } و "
س وَ ُهدًى َومَوْعِ َ
إنه إيضاح من ال :أنا لن آخذكم على غرة { هَـاذَا بَيَانٌ لّلنّا ِ
الهدى " :كما نعرف هو الطريق الموصل للغاية المرجوة .و " الموعظة " معناها :حمل النفس
ترغيبا وترهيبا ،لعمل الخير بالترغيب ،والبعد عن الشر بالترهيب ،تلك هي الموعظة.
وكل هذه الشياء عندما جاءت في ثنايا آيات أُحُد بعد أن أخذنا منها العبرة والحدث ما زال
ساخنا .لذلك فقبل أن يكمل لنا قصة أُحُد استثار النفوس بهذه المسألة ،ووضع لنا الشياء المادية
والقيمية؛ لنأخذ بها في حياتنا ،وحتى ل تنتهي قصة ُأحُد وينصرف الناس عن العظات التي كانت
فيها.
وما دامت المسألة هكذا ،وكان المقاتلون في سبيل ال هم جنود الحق ،وعرفوا ذلك بتأييد ال لهم
ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم بينهم .وهو حامل المعجزة الدالة على صدقه؛ لذلك فالذي
حدث في معركة ٌأحُد ل يصح أن يضعفكم؛ لنكم تعرفون كيف يسند ال الحق ويقويه .وتعرفون
حملة ال على الباطل .وقد أوضحنا لكم السنن والبيان ،ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وَلَ
َتهِنُوا َولَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الَعَْلوْنَ إِنْ كُنْ ُتمْ ّم ْؤمِنِينَ }
()529 /
وَلَا َتهِنُوا وَلَا َتحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعَْلوْنَ إِنْ كُنْ ُتمْ ُم ْؤمِنِينَ ()139
والمقصود بقولهَ { :ولَ َتهِنُوا } أي ل تضعفوا ،وهي أمر خاص بالمسألة البدنية؛ لن الجراحات
أنهكت الكثيرين في موقعة أُحُد لدرجة أن بعضهم أقعد ،ولدرجة أن النبي صلى ال عليه وسلم لم
يقدر أن يصعد الجبل ،وحمله طلحة بن عبيد ال على ظهره ليقوم ،لذلك قال الحقَ { :ولَ
َتهِنُوا } ،لنك عندما تستحضر أنك مؤمن وأن ال لن يخلي بينك وبين جنود الباطل لنك نصير
للحق ،والحق من ال وهو الحق ل يسلم نبيه وقومه لعدائهم فيوم تأتي لك هذه المعاني إياك أن
تضعف .والضعف هو نقصان قوة البدن.
{ َولَ تَحْزَنُوا } والحزن مواجيد قلبية ،وهم قد حزنوا فقد مات منهم كثير .مات منهم خمسة
وسبعون شهيدا ،خمسة من المهاجرين ،وسبعون من النصار ،وهذه عملية صعبة وشاقة ،وقد
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حزن رسول ال صلى ال عليه وسلم على الشهداء ،وغضب لمقتل حمزة -رضي ال عنه -
وقال " :لن أُصاب بمثلك أبدا! وما وقفت موقفا قط أغيظ إلىّ من هذا " ثم قال " :لئن أظهرني ال
على قريش في موطن من المواطن لمثلن بثلثين رجل منهم مكانك ".
فقال الحقَ { :ولَ َتحْزَنُوا }؛ لماذا؟ لنك يجب أن تقارن الحدث بالغاية من الحدث.
صحيح أن القتل صعب وإزهاق للنفس ،ولكن انظر إلى أين ذهب .وانظر ماذا خلف من بعده .أما
هو فقد ذهب إلى حياة عند ربه وهي ليست كالحياة عندكم .إن الحياة عندنا لها مقاييس ،والحياة
عند ربنا لها مقاييس ،فهل مقاييسنا أعلى من مقاييسه؟ ل ،حاشا ل.
إذن فإذا نظرت إليه هو فاعلم أنه ذهب لخير مما ترك ،فل تحزن عليه بل تفرح له؛ لنه ما
دامت الغاية ستصل إلى هذه المسألة .إذن فقد قصر له مسافة الحياة ،وما دامت الغاية أن يصل
إلى رحمة ال وإلى حياة عند ال بكافة معانيها ،فهو سعيد بجوار ربه ،ونحن في الغايات الدنيوية
عندما نريد أن نذهب إلى مكان نُس ّر ممن يعجل لنا الزمن لنصل إلى هذا المكان.
فبدلً من أن أذهب إلى السكندرية ماشيا أذهب راكبا حصانا أو أذهب راكبا سيارة ،والمترفه
يذهب راكبا طائرة ،فإذا كانت الغاية مرجوّة ومحببّة إلى النفس ،وبعد ذلك يجيء لك حدث يقرب
لك المسافة من الغاية ،فلماذا تحزن إذن؟ لقد استشهد .إياك أن تقول :إنّ ال حرمني قوته في
نصرة الحق ،ل .هو أعطى قوة أخرى لكثير من خلقه نصر بهم الحق ،إنك عندما تعرف أن
إنسانا باع نفسه ل ،ل بد أن تعرف أن الغاية عظيمة؛ ولذلك كان الرسول صلى ال عليه وسلم
في معركة بدر ،يقدم أهله؛ لنه يعرف أنه إن قُتل واحد منهم إلى أين سيذهب ،إذن فهو يحب
أهله ،لكنه يحبهم الحب الكبير ،والناس تحب أهلها هنا أيضا لكن الحب الدنيوي.
} َولَ تَحْزَنُوا { على ما فاتكم من الغنائم أو ل تحزنوا على ما فاتكم من النصر لماذا؟ وتأتي
الجابة } ،وَأَنْتُ ُم الَعَْلوْنَ { ..ولذلك جاء مصداق ذلك حينما نادى أبو سفيان فقال " :اعل هبل "
أي أن إلههم صار عاليا ،فقال الرسول لصحابه :أل تردون عليهم؟ ،قالوا :بماذا نرد قال :قولوا
ل فقال أبو سفيان " :لنا العزى ول عزى لكم " ،فقال النبي صلى ال عليه
لهم :ال أعلى وأج ّ
وسلم " :أجيبوه " قالوا :ما نقول؟ قال " :قولوا ال مولنا ل مولى لكم " ثم قال أبو سفيان :إن
موعدكم " بدر " العام المقبل ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم لرجل من أصحابه " :قل نعم
هو بيننا وبينك موعد "
فـ } وَأَنْتُمُ الَعْلَوْنَ إِنْ كُنْ ُتمْ ّم ْؤمِنِينَ { فما دمتم على اليمان فأنتم العلون ،وإذا أردتم أن تعرفوا
معنى " العوان " حقا ،فقارنوا معركة " ُأحُد " بمعركة " بدر " ،هم قتلوا منكم في أُحُد ،وأنتم
قتلتم منهم في بدر .ولكنكم أسرتم منهم في بدر ،ولم يأسروا منكم أحدا في " أُحُد " .وأنتم غنمتم
في بدر ،ولم يغنموا شيئا في ُأحُد.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأنتم العلون لن ال حمى مدينتكم مع أنه ل محامية فيها ممن يكون فيه معنى الجندية .كل ذلك
وأنتم العلون ،هذا إذا نظرنا إلى معركة بمعركة .وإن نظرنا إلى المعركة نفسها " ُأحُد " وندع
بدرا وحدها ،في ظل قوله تعالى } :وَأَنْتُ ُم الَعَْلوْنَ إِنْ كُنْتُمْ ّم ْؤمِنِينَ { لقد ثبتت تلك القضية لنكم
حينما كنتم مؤمنين -ومن شرط اليمان اتباع أمر الذي ل ينطق عن الهوى -انتصرتم.
وانتصرتم انتصارا رائعا؛ لنكم قتلتم في أول جولة للحرب بضعا وعشرين من صناديدهم وفيهم
صاحب الراية .ولكنكم حينما خالفتم أمرالنبي صلى ال عليه وسلم ،تلخلخ اليمان في قلوبكم.
إذن فالعملية التي حدثت تؤكد صدق } وَأَنْتُ ُم الَعَْلوْنَ إِنْ كُنْتُمْ ّم ْؤمِنِينَ { .فأنتم علوتم في أول
المر ،وعندما خالفتم المر صار لكم ما صار؛ فقد صدقت القضية في قول ال } :وَأَنْ ُت ُم الَعَْلوْنَ
إِنْ كُنْتُمْ ّم ْؤمِنِينَ {.
وأيضا فإنكم لو نظرتم إلى المعركة نفسها لوجدتم أن عدوّكم لم يبق في أرض المعركة ،بل أنتم
الذين بقيتم في موضع المعركة .وأين ذهب هو؟ أذهب إلى موقع آخر ينال فيه غلبة ونصرا؟ لم
يكن هناك إل المدينة ،والمدينة ليس فيها أحد ،ولم يذهب عدوكم إلى هناك ،وإنما ذهب ناحية
مكة ،إذن فهو الذي هرب.
وبعد ذلك ماذا حدث؟ ألم يؤذن مؤذن رسول ال صلى ال عليه وسلم في الناس ويطلب العدوّ
مرهبا له ليظنوا به القوة ،وإن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم؟
ولقد خرج رسول ال ،مع من؟ أجاء بحامية لم تشهد المعركة؟ ل.
بل قال عليه الصلة والسلم مناديا المسلمين " :إليّ عباد ال " ،فالذين شهدوا المعركة سبعمائة،
جرح منهم الكثير وقتل منهم خمسة وسبعون ،فمنهم حمزة ،ومصعب بن عمير ،وعبد ال بن
جحش ،وشماس بن عثمان ،وسعد مولى عتبة ،هؤلء خمسة من المهاجرين ،والباقي من
النصار ,هؤلء مطروحون من العدد الذي شاهد أول الموقعة،حتى أن رسول ال لم يأخذ بدلً
منهم من المدينة من القوم الذين عرضوا أنفسهم ليكونوا مع الجيش الذي يطارد قريشا ،بل آثر
الرسول أن يذهب بمن ذهب معه إلى المعركة أنفسهم ،ولم يكن منهم بطبيعة الحال الشهداء أو
الجرحى.
لم يقبل الرسول صلى ال عليه وسلم ممن لم يشهد المعركة إل واحدا .وهو سيدنا جابر بن عبد
ال .الذي لم يخرج في معركة ُأحُد واعتذر إلى رسول ال بأن أباه عبد ال بن عمرو بن حرام قد
خلّفه على بنات له سبع وقال له:
يا بنيّ إنه ل ينبغي لي ول لك أن نترك هؤلء النسوة ل َرجَل فيهن ولست بالذي أوثرك بالجهاد
مع رسول ال صلى ال عليه وسلم على نفسي فتخّلفْ على أخواتك فتخلف عليهن فقبل رسول ال
عذره ,وأذن له فخرج معه وطاردهم رسول ال ومن معه إلى حمراء السد ،أما والده عبد ال بن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمرو فقد استشهد في أحُد ومع ذلك فقد طلب من رسول ال على الرغم من استشهاد أبيه أن
يخرج إلى حمراء السد .وذلك لنعلم أن ال يقولَ {:ومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ }[المدثر]31 :
هذا وإن واحدا من المشركين الذين كانوا موضع سر رسول ال صلى ال عليه وسلم ومن حلفائه
وهو معبد الخزاعي ،مَرّ على رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد أُحد وقال له :يا محمد :أما وال
لقد عز علينا ما أصابك ،ثم لقي أبا سفيان بن حرب ومن معه بالروحاء وقد أجمعوا الرجعة إلى
رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه فقال له أبو سفيان :ما وراءك يا معبد؟ قال :محمد قد
خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله ،ولم يزل بهم حتى ثنى أبا سفيان ومن معه فولوا
وجوههم إلى مكة خائفين مسرعين ،وقد ذهب رسول ال إلى حمراء السد فلم يجد أحدا فعسكر
رسول ال ثلثة أيام هناك ،ومعنى ذلك أنهم هم الذين فروا من المعركة .إذن فأنتم العلون ،ولكن
س ُكمْ قَرْحٌ
ل حظوا الشرط } إِنْ كُنْ ُتمْ ّم ْؤمِنِينَ { .ثم بعد ذلك ُيسَلّى ال المؤمنين فيقول } :إِن َيمْسَ ْ
ك الَيّامُ ُندَاوُِلهَا بَيْنَ النّاسِ{ ...
َفقَدْ مَسّ ا ْل َقوْمَ قَرْحٌ مّثْلُ ُه وَتِ ْل َ
()530 /
وقد تكلمنا -من قبل -عن " المس " وهو :إصابة بدون حس ..أي لمس لكنك ل تحس بحرارة
أو نعومة مثل ،إنما " اللمس " هو أن تحس في الشيء حرارة أو نعومة ويحتاج إلى اللتصاق
المؤقت ،إنما " المس " هو ما ل تكاد تدرك به شيئا " ،والقَرْح " هو :الجراح ،وفي لغة أخرى
تقول " القُرح " -بضم القاف -وأقول :القٌرح وهو اللم الناشئ من الجراح ،كي يكون لفظ
معنى.
وأنت قد ترى بعض اللفاظ فتظن أن معناها واحد في الجملة ،إل أن لكل معنى منها ملحظا ،أنت
تسمع مثلً :رأى ،ونظر ،ولمح ،ورمق ،ورنا .كل هذه تدل على البصر .لكن لكل لفظ له معنى:
رمق :رأى بمؤخر عينيه ،ولمح :أي شاهد من بعد ،ورنا :نظر بإطالة ،وهكذا .ويقال أيضا:
جلس ،وقعد ،فالمعنى العام يكاد يكون واحدا ،لكن المعنى الدقيق يوضح أن الجلوس يكون عن
اضطجاع .والقعود عن قيام ،كان قائما فقعد ،والثنان ينتهيان إلى وضع واحد ،فكذلك " قَرح " و
" قُرح " كل لفظ له معنى دقيق.
ويقولون -مثلً :-إن للسد أسماء كثيرة ،فقال " :السد " و " الغضنفر " و " الرئبال " و "
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوَرْد " و " القسْورة " .وصحيح هذه أسماء للسد ،ولكن لكل اسم معنى محدد ،فـ " السد " هو
اللفظ العام والعَلَم على هذا الحيوان ،و " الغضنفر " هو السد عندما ينفش لبدته ،و " الوَرْد " هو
حالة السد عندما يكون قد مط صلبه ،فكل موقف للسد له معنى خاص به.
سكُمْ قَرْحٌ َفقَدْ مَسّ ا ْل َقوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } ل حظ أن المتكلم هو ال فافطن جيدا
وقوله الحق { :إِن َيمْسَ ْ
إلى مرارات كلمه .ونعرف أنه في الشرط والجواب ،أن الشرط يأتي أول ثم يأتي الجواب من
بعد ذلك مترتبا عليه ونتيجه له ،كقولنا " إن تذاكر تنجح " إن النجاح هو جواب لشرط وهو
الستذكار.
سكُمْ قَرْحٌ َفقَدْ مَسّ ا ْل َقوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ } فهل المعنى المراد من هذه الجملة
وقوله الحق { :إِن َيمْسَ ْ
الشرطية أن مس القرح للكافرين الذي حدث في بدر كان كجزاء لمس القرح للمؤمنين في أحد؟
ل ،إنه ل يكون أبدا جوابا لشرط؛ لنه لو كان جواب شرط لقال الحق :إن يمسسكم قرح فسيمس
القوم قرح مثله .ولكنه لم يقل ذلك لن القرح الذي أصاب المشركين في بدر كان أسبق من القرح
الذي أصاب المؤمنين في أحد.
وكأن الحق يقول :إن يمسسكم قرح فل تبتئسوا؛ فقد مس القوم قرح مثله ،وليس ذلك جواب
الشرط ،ولكنه جاء ليُستدل به على جواب الشرط ،أي أنه تعليل لجواب الشرط ،أقول ذلك حتى ل
يتدخل دعيّ من الدعياء ويتهم القرآن -والعياذ بال -بما ليس فيه.
إنه -سبحانه -يثبت المؤمنين ويسلّيهم .ومثال ذلك ما نقوله نحن لواحد إذا أصابته كارثة:
إن كان قد حدث لك كذا ،فقد حدث لخصمك مثله .إذن فنحن نسليه .والمقصود هنا أن الحق يسلّي
المؤمنين :إن يمسسكم قرح فل تبتئسوا ،فليكن عندكم سُّل ٌو ولْتجتازوا هذا المر ولترض به
نفوسكم؛ لن القوم قد مسهم قرح مثله.
والسوة والتسلية ،هل تأتي بما وقع بالفعل أم بما سيقع؟ .إنها تأتي بما وقع بالفعل ،إذن فهي تعلل
سكُمْ قَرْحٌ َفقَدْ مَسّ ا ْلقَوْمَ قَرْحٌ مّثْلُهُ {.
تعليلً صحيحا } :إِن َي ْمسَ ْ
ك الَيّامُ ُندَاوُِلهَا بَيْنَ النّاسِ { .ما معنى
وأطلق الحق سبحانه من بعد ذلك قضية عامة } :وَتِ ْل َ
المداولة؟ داول أي نقل الشيء من واحد لخر .ونحن هنا أمام موقعتين؛ غزوة بدر وغزوة أُحٌد.
وكان النصر للمسلمين في غزوة بدر بالجماع ،أما غزوة ُأحٌد فلم يكن فيها هزيمة بالجماع ولم
يكن فيها نصر.
إذن فقوله الحق } :وَتِ ْلكَ الَيّامُ نُدَاوُِلهَا بَيْنَ النّاسِ { أي مع التسليم جدلً بأن الكفار قد انتصروا -
رغم أن هذا لم يحدث -فإننا نقلنا النصر منكم أيها المؤمنون إليهم.
وإياك أن تفوتك هذه الملحظة ،بأن النصر لم ينتقل إليهم إل بمخالفة منكم أيها المؤمنون .ومعنى
مخالفة منكم ،أي أنكم طرحتم المنهج ،أي أنكم أصبحتم مجرد " ناس " مثلهم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما دمتم قد صرتم مجرد ناس بدون منهج مثلهم ومتساوين معهم ،فإن النصر لكم يوم ،ولهم يوم.
ولنلحظ ان الحق لم يقل :إن المداولة بين الناس هي مداولة بين مؤمنين وكافرين.
فإن ظللتم مؤمنين فل يمكن أن ينتقل النصر إلى الكفار ،إنما النصر يكون لكم ،انظر ماذا قال} :
وَتِ ْلكَ الَيّامُ نُدَاوُِلهَا بَيْنَ النّاسِ { ولم يقل بين المؤمنين والكافرين ،أي بينكم وبين قريش.
وليس المقصود باليام ما هو معروف لدى الناس من أوقات تضم الليل والنهار ،ولكن المقصود
بـ " اليام " هنا هو أوقات النصر أو أوقات الغلبة .ويقال أيضا " :يوم فلن على فلن " إذن }
وَتِ ْلكَ الَيّامُ نُدَاوُِلهَا بَيْنَ النّاسِ { لم تتضمن المداولة بين المؤمنين والكافرين ،ولكنها مداولة بين
الذين مالت أبصارهم إلى الغنائم فتخلخل إيمانهم ،ففازت قريش ظاهريا .فلو ظللتم على إيمانكم
لما حدث ذلك أبدا .لكنكم تخليتم عن منهج ربكم ،وبذلك استويتم وتساويتم مع غير المؤمنين،
وبذلك تكون اليام لذلك مرة ولهذا مرة أخرى ،إنها مطلق عدالة.
علينا أن نتذكر الشرط السابق ،ل لعدم الهزيمة .بل للعلو والنصر:
} وَأَنْتُمُ الَعَْلوْنَ إِنْ كُنْ ُتمْ ّم ْؤمِنِينَ {.
إن الحق سبحانه في مسألة مداولة اليام ينبه المؤمنين الذين تخلخل إيمانهم :ما دمتم اشتركتم
معهم في كونكم مجرد " أناس " فيصبح النصر يوما لهم ويوما لكم ،والذكي العبقريّ الفطن الذي
يحسن التصرف هو من يغلب؛ لن المعركة هنا تدور بين قوة بشر مقابل قوة البشر.
ما دام المسلمون قد تخلوا عن منهج ال فقد صاروا مجرد بشر في مواجهة بشر .ولذلك قلنا :إنه
عندما تخلى الرماة عن إنفاذ أمر القائد العلى سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ظهرت
عبقرية خالد بن الوليد على عبقرية المقاتلين المسلمين.
ويجب أن نلحظ في قوله الحق } :وَتِ ْلكَ الَيّامُ نُدَاوُِلهَا بَيْنَ النّاسِ { أننا ل يمكن أن نقول :إن
مداولة اليام تكون بين المؤمنين والكافرين ،إنما هي بين الناس؛ لن الناس هم مجموعة النسان،
فإن تجردوا عن منهج السماء فهم سواسية ،وصاحب الحيلة يغلب ،أو صاحب القوة يغلب ،أو
صاحب العدد أو العُدّة يغلب.
ولكن ما الذي يعوض كل تلك المكانات ويحقق النصر؟ إنك إن تأخذ ال في جانبك فلن يجرؤ
مخلوق أن يكون في مواجهة الحق في معركة .لقد قلنا قديما وعلينا أن نعيها جيدا :إن الولد
الصغير حينما يضطهده زملؤه فيلجأ إلى حِضن أبيه ،عندئذ ينصرف كل منهم إلى حاله ،لكن
أقرانه يستطيعون أن يهزموه عندما يبتعد عن أبيه .فما بالنا ونحن عيال ال؟ وكذلك شأن الكفار
مع المؤمنين.
إن الكفار قادرون على النفراد بالمؤمنين حينما يتخلى المؤمنون عن منهج ال؛ لن ال لن ينصر
أناسا ليسوا على منهجه ،فلو نصر ال أناسا على غير منهجه فإن ذلك يبطل قضية اليمان.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعندما نستقرئ القرآن الكريم؛ نجد أن كل خبر عن النسان وهو معزول عن المنهج اللهي هو
خبر كله شر.
خسْرٍ }[العصر]2-1 :
ن الِنسَانَ َلفِى ُ
فسبحانه يقول {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
إن النسان على اطلقه لفي خسر ،ولكن من الذي ينجو من الخسران؟ وتأتي الجابة من الحق
ق وَ َتوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر]3 :
حّصوْاْ بِالْ َ
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ وَتَوَا َ
فيقولِ {:إلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
ن الِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعا *
وتتأكد القضية في موضع آخر من القرآن الكريم فيقول -سبحانه {-إِ ّ
إِذَا َمسّهُ الشّرّ جَزُوعا * وَإِذَا مَسّهُ الْخَيْرُ مَنُوعا * ِإلّ ا ْل ُمصَلّينَ }[المعارج]22-19 :
إذن كل كلم -في القرآن -عن النسان على إطلقه يأتي من ناحية الشر .وما الذي ينجيه من
ذلك؟ إنه المنهج اللهي.
ك الَيّامُ ُندَاوُِلهَا بَيْنَ النّاسِ { تحمل تأنيبا ولذعة خفيفة لمن أعلنوا اليمان
إذن فقول الحق } :وَتِ ْل َ
ولكنهم تخلفوا عن أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم في أُحُد.
حبّ الظّاِلمِينَ
شهَدَآ َء وَاللّ ُه لَ ُي ِ
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه } :وَلِ َيعَْلمَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو ْا وَيَتّخِذَ مِنكُمْ ُ
{.
ففي وقت النصر نجد حتى الذي لم يشترك في المعركة يريد أن يُدخل نفسه ضِمن المنتصرين.
لكن وقت الهزيمة فالحق يَظهر ،والذي يظل في جانب الهزيمة معترفا بأنه شارك في نزولها
بالمسلمين وان لم يكن شارك فقد عذر أو لم من كان سببا فيها ،وهو مع ذلك يسهم في حمل
أوزارها وآثارها الضارة ،ويتحمل ويشارك في المسئولية ،إنه بذلك يكون صادقا.
وقد يقول قائل :هل ال ل يعلم الذين آمنوا؟ ل ،إنه سبحانه وتعالى يعلم الذين آمنوا سواء حدثت
معركة أو لم تحدث .لكن علم ال الزلي الغيبيّ ل نرى نحن به الحُجّة ،ولذلك ل تكون الحجّة
ظاهرة بيننا ،ولكن حين يبرزُ علم ال إلى الوجود أمامنا فإنه علم تقوم به الحُجة واضحة على من
آمن ،وعلى من لم يحسن اليمان ،وذلك حتى ل يدّعي أحد لنفسه أنه كان سيفعل ،لكن الفرصة لم
تواته.
وهكذا تأتي المواقف الختبارية والبتلءات ليعلم كل منا نفسه وتبرز الحُجة علينا جميعا .إذن:
فهناك فرق بين علم ال الزليّ للشياء كما سوف تحدث ،ولكن ل تقوم به الحُجّة علينا .فقد يدعى
البعض أنه لو قامت معركة شديدة فإنهم سوف يصمدون ،ولكن عندما تقوم المعركة بالفعل فنحن
نرى مَنْ الصّامد ومَنْ هو غير ذلك من المتخاذلين الفارين؟ ولنضرب لذلك مثل ول المثل
العلى :نحن في حياتنا العادية نجد أن عميد إحدى الكليات يأتي إلى المدرس ويقول له :نحن نريد
أن نعقد امتحانا لنتعرف على المتفوقين من الطلب ،ونمنح كُل منهم جائزة.
فيرد المدرس :لماذا المتحان؟ إنني أستطيع أن أقول لك :من هم المتفوقون ،وأن أرتبهم لك من
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الول ومن الثاني وهكذا.
لكن عميد الكلية يصر على أن يعقد امتحانا حتى ل يكون لحد حجة ،ويختار العميد مدرسا آخر
ليضع هذا المتحان .وتظهر النتيجة ويكون توقع المدرس الول هو الصائب ،وهكذا يكون تفُوق
هؤلء الطلب تفوقا بحُجة .وإذا كان ذلك يحدث في المستوى البشري فما بالنا بعلم ال الزلي
المطلق؟
إن الحق بعلمه الزلي يعلم كل شيء ومُحيط بكل شيء ،وهو سبحانه ل يقول لنا :أنا كنت أعلم
أنكم لو دخلتم معركة ستفعلون كذا وكذا..
وكان يمكن أن يجادلوا ويدعوا لنفسهم أشياء ليست فيهم ،لكن الحق يضع المعركة وتكون النتيجة
مطابقة لما يعلمه ال أزل .إذن فالتغيير هنا ل يكون في علم ال ،لكن التغيير يكون في المعلوم
ل ،ليس في العالِم بل في المعلوم بحيث نراه حُجة علينا.
شهَدَآءَ { وساعة تسمع كلمة " يتخذ " هذه؛ اعرف أنها اصطفاء
خذَ مِنكُمْ ُ
ويقول الحق } :وَيَتّ ِ
خلِيلً }[النساء]125 :
واختيار .وسبحانه يقول {:وَاتّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ َ
أي أنه جل وعلى قد آثر إبراهيم واصطفاه ،إذن فالتخاذ دائما هو أن يَأخذه إلى جانبه لمزية له
ورفعة لمكانته.
شهَدَآءَ { فنحن نعرف أن " شهداء " هي جمع شهيد ،وكلمة شهيد
وحين يقول الحق } :وَيَتّخِذَ مِنكُمْ ُ
لها معانٍ متعددة ،فالشهيد في القتال هو الذي يُقتل في المعركة ،وهذا سيكون حيا ويرزق عند
ربه.
وإياك أن تقول :إننا عندما نفتح قبر الشهيد سنجده عظاما وترابا .وهذا يعني أنه سلب الحياة ..ل،
إن ال وضح أن الشهيد حيّ عنده ،وليس حيا عند البشر .وإذا فتح أحد من الناس القبر على
الشهيد فسيراه عظاما وترابا؛ فقد جعل ال سبحانه للشهيد حياة عنده ل عندنا {.وَلَ َتحْسَبَنّ الّذِينَ
قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َأ ْموَاتا َبلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَ ّبهِمْ يُرْ َزقُونَ }[آل عمران]169 :
إذن فللشهداء عند ربهم حياة ل نعرف كنهها ،ويوم نفتح عليهم قبورهم تصير أمرا مُحسا ،ولكن
ال نبهنا أن الشهداء أحياء عند ربهم .وعندما نتأمل كلمة " شهداء " نجد أنها تعني أيضا الشهادة
على الحق الذي قامت من أجله المعركة ،وكل إنسان يُحب الخير لنفسه ،فلو لم يعلم هؤلء أن
إقدامهم على ما يؤدي إلى قتلهم خير لهم من بقائهم على حياتهم لما فعلوا.
وبذلك يكون الواحد منهم شاهدا للدعوة وشهيدا عليها .وقد ينصرف المعنى في " شهداء " إلى أنهم
حبّ الظّاِلمِينَ {.
بَلّغوا الدعوة حتى انتهت دماؤهم ,ويذيل الحق الية بقوله } :وَاللّ ُه لَ يُ ِ
ومعنى هذا التذييل أن المعركة يجب أن تدور في إطار الحق ،ومثلما قلنا :ما دام الناس متخلفين
عن المنهج فإن ال ل يظلمهم بل ستدور المعركة صراع بشر لبشر ،والقادر من الطرفين هو
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي يغلب .فالحق سبحانه بالرغم من كراهيته للكفر إل انه ل يُحابي المسلم الذي ل يتمسك
بمطلوب اليمان؛ لذلك قد يغلب الكافر المسلم الذي ل يمسك بمطلوب اليمان ،ولكن إن تمسك
حصَ اللّهُ
المؤمنون بمطلوب اليمان فالنصر مضمون لهم بأمر ال .وبعد ذلك يقول الحق } :وَلِ ُيمَ ّ
الّذِينَ آمَنُواْ{ ...
()531 /
والتمحيص يختلف عن المحْق ،لن التمحيص هو تطهير الشياء وتخليصها من العناصر الضارة،
أما المحق فهو الذهاب بها كلها .ويقول الحق بعد ذلك { :أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَ ْدخُلُواْ الْجَنّ َة وََلمّا َيعْلَمِ
اللّهُ} ...
()532 /
أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَنْ تَ ْدخُلُوا ا ْلجَنّ َة وََلمّا َيعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِ ْنكُ ْم وَ َيعْلَمَ الصّابِرِينَ ()142
إن اليمان ليس مجرد كلمة تقال هكذا ،بل ل بد من تجربة تثبت أنكم فُتِنْتُم ونجحتم في الفتنة،
والفتنة هي المتحان ,إذن فل تحسبوا أن المسألة سوف تمر بسهولة ويكتفي منكم أن تقولوا نحن
نحمل دعوة الحق ،ل .إذا كنتم صادقين في قولكم يلزمكم أن تكونوا أسوة حين يكون الحق
ضعيفا؛ فالحق حين يكون قويا فهو ل يحتاج إلى أسوة .بل قضية اليمان الحق تحتاج إلى السوة
وقت الضعف .ودخول الحنة له اختبار يجب أن يجتازه المؤمن.
والحق يقول { :وََلمّا َيعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُ ْم وَ َيعْلَمَ الصّابِرِينَ } وعندما نسمع ذلك فعلينا أن
نعرف أن ال يعلم علما أزليا من المجاهد ومن الصابر ،ولكنه علم ل تقوم به الحُجة على الغير،
فإذا حدث له واقع صار حُجة على الغير .وبعد ذلك يقول الحق { :وََلقَدْ كُنْ ُتمْ َتمَ ّنوْنَ ا ْل َموْتَ مِن
قَ ْبلِ أَن تَ ْلقَ ْوهُ َفقَدْ رَأَيْ ُتمُو ُه وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ }
()533 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَلَقَدْ كُنْتُمْ َتمَ ّنوْنَ ا ْل َموْتَ مِنْ قَ ْبلِ أَنْ تَ ْل َق ْوهُ َفقَدْ َرأَيْ ُتمُو ُه وَأَنْتُمْ تَ ْنظُرُونَ ()143
وكان القوم الذي فاتهم شرف الشتراك في بدر قد أرادوا ان يذهبوا مع الرسول للمشاركة في
غزوة أُحُد ،ويوضح لهم الحق :أكنتم تظنون أن تمنى المعارك وحده يحقق النصر ،وهل كنتم
تظنون أن كل معركة يدخلها المؤمنون ل بد أن تكون منتصرة؟ وإن كنتم تظنون أن المسألة هي
نصر لمجرد التمني ،فمعنى ذلك أنكم دخلتم إلى معسكر اليمان من أجل الفأل واليُمن والنصر،
ونحن نريد ان نعرف من الذي يدخل معسكر اليمان وهو بائع روحه وهو مُحتسب حياته في
سبيل ال.
فلو أن المر يمر رخاء ،لدخل كل واحد إلى معسكر اليمان ،لذلك يقول الحق { :أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَن
تَ ْدخُلُواْ الْجَنّ َة وََلمّا َيعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَا َهدُواْ مِنكُ ْم وَ َيعْلَمَ الصّابِرِينَ } .فهل ظننتم أنكم تدخلون الجنة
بدون أن يُخرج الحق على المل ما علمه غيبا ،وتترجمه الحداث التي يجريها سبحانه فيصير
واقعا وحُجة عليكم ،ويبرز ال سبحانه من الذين جاهدوا؛ أي دخلوا في زُمرة الحق ،والذين
صبروا على الذى في الحق.
ويقول سبحانه { :وََلقَدْ كُنْتُمْ َتمَ ّنوْنَ ا ْل َم ْوتَ مِن قَ ْبلِ أَن تَ ْلقَ ْوهُ َفقَدْ رَأَيْ ُتمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } أي إن ما
كنتم تتمنونه قديما صار أمامكم ،فلو أن التمني كان صحيحا لقبلتم على الموت كما تقبلون على
سلُ} ...
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ
الحياة .ويقول سبحانه من بعد ذلكَ { :ومَا ُم َ
()534 /
ونحن نعرف ان رسول ال صلى ال عليه وسلم اسمه الول هو " محمد " ،وله اسم ثانٍ عرفناه
من القرآن وجاء في النجيل هو " أحمد " {:وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يابَنِي ِإسْرَائِيلَ إِنّي َرسُولُ
حمَدُ فََلمّا جَا َءهُم
سمُهُ أَ ْ
اللّهِ إِلَ ْيكُم ّمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ َي َديّ مِنَ ال ّتوْرَا ِة َومُبَشّرا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن َب ْعدِي ا ْ
بِالْبَيّنَاتِ قَالُواْ هَـاذَا سِحْرٌ مّبِينٌ }[الصف]6 :
وقد ورد اسمه صلى ال عليه وسلم " مُحمد " في القرآن أربع مرات ،و " أحمد " وردت مرة
واحدة.
حمّدٌ ِإلّ َرسُولٌ َقدْ خََلتْ مِن قَبِْلهِ
والية التي نحن بصددها ،وهي آية ذكر فيها اسم محمدَ { :ومَا مُ َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمّدٌ أَبَآ َأحَدٍ مّن رّجَاِلكُ ْم وَلَـاكِن رّسُولَ اللّ ِه َوخَاتَمَ النّبِيّينَ
سلُ } .ولنقرأ قول الحق {:مّا كَانَ مُ َ
الرّ ُ
شيْءٍ عَلِيما }[الحزاب]40 :
َوكَانَ اللّهُ ِب ُكلّ َ
حمّ ٍد وَ ُهوَ ا ْلحَقّ مِن رّ ّبهِمْ
ت وَآمَنُواْ ِبمَا نُ ّزلَ عَلَىا مُ َ
عمِلُواْ الصّالِحَا ِ
وقوله تعالى {:وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
َكفّرَ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِتهِ ْم وََأصْلَحَ بَاَلهُمْ }[محمد]2 :
حمَآءُ بَيْ َنهُمْ تَرَا ُهمْ
حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ رُ َ
وها هو ذا القول الكريم {:مّ َ
ضوَانا }[الفتح]29 :
ُركّعا سُجّدا يَبْ َتغُونَ َفضْلً مّنَ اللّ ِه وَ ِر ْ
سمّى؛ بحيث إذا ذُكر السم جاء إلى الذهن المسمى ،فإذا اشترك
والسم هو ما وُضع عَلَما على الم َ
اثنان في بيئة واحدة في اسم؛ فل بد من التمييز بينهما بوصف .فإذا كان في أسرة واحدة ولدان
اسم كل واحد منهما مُحمد ،فل بد أن نميز بين الثنين بصفة ،وفي الريف نجد من يسمى " مُحمدا
الكبير " و " مُحمدا الصغير ".
وكلمة " مُحمد " وكلمة " أحمد " مشتركتان في أصل المادة؛ لنهما من " الحاء والميم والدال "
فالمادة هي الحمد ،إل أن التوجيه الشتقاقي في محمد غير التوجيه في أحمد ،لن السم قبل أن
يكون علما إذا خرجت به عن معناه الصلي ،انحل عن معناه الصلي ،وصار علما على
الشخص.
ولذلك قد نجد رجل له جارية سوداء فيسميها " قمرا " وقد يكون للرجل عبد شقي فيسميه " :سعيدا
" .فإذا صار السم علما على شيء فإنه ينتقل من معناه الصلي ويصير عَلَما على المسمّى ،لكن
الناس حين تُسمى أبناءها تلمح التفاؤل في أن يصير المعنى الصلي واقعا.
والدميمة التي يسميها صاحبها " قمرا " افتقدت جمال المسمى ،ولذلك فهو يريد لها أن تأخذ جمال
حمْد من غيرها،
السم ..وكلمة " مُحمد " حين ننظر إليها في الشتقاق نجد انها ذاتٌ يقع عليها ال َ
مثلما تقول :فلن مكرّم أي وقع التكريم من الغير عليه.
وكلمة " أحمد " نجدها ذاتا وقع عليها الحمد لغيرها.
وعندما نقول :مُكرّم -بضم الميم وفتح الكاف مع تشديد الراء مكسورة -أي وقع التكريم منه
لغيره .ونحن عندنا اسمان لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،في القرآن وكلهما من مادة " الحمد "
فـ " محمد " ملحوظ فيه أن الحمد وقع عليه كثيرا من غيره .لكن لو كان المراد أن الحمد وقع
عليه دون الكثرة فيه لكان اسم " محمود " هو الذي يطلق عليه فقط.
أما " أحمد " فقد قلنا إنه ملحوظ فيها أن الحمد وقع منه لغيره .و " أحمد " تتطابق مع أفعل
التفضيل فنحن نقول " :فلن كريم وفلن أكرم من فلن " .إذن فـ " أحمد " أي وقع منه الحمد
لغيره كثيرا ،فلو كان الحمد قد وقع منه بقدر محدود لقلنا " حامد " .إذن فـ " أحمد " مبالغة في "
حامد " وقع منه الحمد لغيره كثيرا فصار أحمد .و " محمد " مبالغة في " محمود " ،وقع عليه
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحمد من غيره كثيرا فصار محمدا.
إذن فرسول ال صلى ال عليه وسلم جمع له ال بين المرين؛ فهو محمد من ال وحامد ل؛ لن
رسول ال صلى ال عليه وسلم جمع ال له بين مقامين :مقام الصطفاء ومقام المجاهدة،
فبالصطفاء كان " محمدا " و " محمود " ،وبالمجاهدة كان " حامدا " و " أحمد " .إذن نحن هنا
أمام مقامين اثنين لرسول ال صلى ال عليه وسلم .قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أنا
محمد وأحمد والمقفى والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة ".
وسيكون لذلك كلم ونحن نتناول هنا بالخواطر معركة أحُد ،فبعد أن انحل القوم من الرماة عن
أمره ،وحدثت الكرّة عليهم من المشركين القرسيين ،بعد ذلك يتجه الصحابة هنا وهناك ليفروا،
ويتكتل المشركون على رسول ال لدرجة أن ابن قمئة يمسك حجرا ويضرب به حضرة النبي
عليه الصلة والسلم فيكسر رَبَاعِيّته .وتنغرز في وجنتي الرسول حلقتا المغفر ،ويسيل منه الدم،
ويحاول الرسول صلى ال عليه وسلم أن يصعد على صخرة من الجبل ليعلوها فلم يستطع فجلس
تحته طلحة بن عبيد ال فنهض به حتى استوى عليها .وكلها مجاهدات بشرية.
أما كان ال بقادر أن يُجنّب رسوله كل ذلك؟ إنه سبحانه قادر .ولكن كل ذلك كان تكريما من ال،
ولم يرد سبحانه أن يحرم رسوله من لذة المجاهدة ،وحتى يعرّف ال المؤمنين بمحمد نقول :إن ال
ل مؤمن على أن رسول ال حينما حدث له ما
لم يأت بمحمد ليدللـه على خلقه ،ولكن لي ُدلّ ُك ّ
حدث قد ذاق المجاهدة؛ فقد فر بعض المقاتلين من المعركة في أحد ،وكادت ريح الهزيمة تهب
على معسكر اليمان ،ها هو ذا سيدنا أبو عبيدة رضي ال عنه يذهب إلى رسول ال فيجد حلقتي
المغفر في وجنتيه صلى ال عليه وسلم ،فيحاول سيدنا أبو بكر أن يخلع حلقتي المغفر ،فيتألم
الرسول صلى ال عليه وسلم ،فيقول سيدنا أبو عبيدة:
-إليك يا أبا بكر.
بال دعني.
ويمسك أبو عبيدة بإحدى الحلقتين وينزعها من وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم فسقطت
ثنيته ،ثم نزع الحلقة الخرى فسقطت ثنيته الخرى فكان أبو عبيدة -رضي ال عنه -ساقط
الثنيتين ،وقال فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم " :لكل أمة أمين ،وأمين هذه المة أبو عبيدة بن
الجراح " .وينزف دمه صلى ال عليه وسلم ،وسيدتنا فاطمة يلهمها ال أن تأتي بقطعة من حصير
وتحرقها ،وتأخذ التراب الباقي من الحريق وتضمد به الجرح .إن ال لم يشأ أن يحرم رسوله لذة
المجاهدة.
ويأتي أنس بن النضر ويجد الصحابة وفيهم عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد ال وقد ألقوا ما
بأيديهم ،فيسألهم أنس :ما يجلسكم؟ فيقولون :قُتل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فيقول :فماذا
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول ال -صلى ال عليه وسلم -ثم
استقبل القوم من المشركين فقاتل حتى قتِل.
حمّدٌ ِإلّ َرسُولٌ { أي اسمعوا .هذا
هذه كلها مواقف لم تكن تأتي وتظهر إل بهذه المعركةَ } .ومَا مُ َ
محمد وهذه منزلته ،هو رسول من ال جاء بعد عيسى بن مريم ،وكان من الواجب أن نعلم أن
سلُ
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ
الرسول صلى ال عليه وسلم مؤكد على بشريتهَ } .ومَا ُم َ
عقَابِكُمْ {.
علَىا أَ ْ
أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ َ
وهل انقلب أتباع الرسل السابقين على أعقابهم حينما ماتت رسلهم؟ فكيف تكونون أقل شأنا من
هذه المم؟ هبوا أن ذلك قد حدث ،فلماذا ل يبقى الخير الذي بلغه فيكم رسول ال إلى يوم القيامة؟
الرجل الذي يكون قد صنع خيرا يموت بموته ،أيكون قد صنع شيئا؟ ل؛ فالذي يريد أن يصنع
خيرا فعليه أن يصنع خيرا يخلفه.
لذلك فالزعامات الفاشلة هي التي يكون الفرد فيها زعيما ،ثم يموت ونبحث عن زعيم بعده فل
نجد ونتساءل :لماذا خنق الزعيم أصحابه وزملءه؟ أكان خائفا منهم؟ ونظل نتمنى أن يكون قد
ربّى الزعيم أناسا ،فإذا ما ذهب نجد من يخلفه ،فل يوجد إنسان يضمن حياته؛ لذلك يقول الحق} :
سلُ {.
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ
َومَا ُم َ
حمّدٌ ِإلّ َرسُولٌ { فهذا أسلوب اسمه أسلوب القصر .إنه
وساعة تسمع القول الكريمَ } :ومَا مُ َ
سبحانه وتعالى يقصر محمدا على الرسالة .فإذا قصر محمد صلى ال عليه وسلم على الرسالة
فهذا يعني أن بعض المعاصرين له كانوا يعتقدون أن محمدا أكبر من رسول ول يموت.
فأوضح ال سبحانه أن محمدا رسول ،وقد خلت من قبله الرسل ،ولن يخلد ال أحدا.
وهل غاب ذلك عن الذهن؟ نعم كان ذلك يغيب عن الذهن بدليل أنه حتى بعد أن نزلت هذه الية
وصارت قرآنا يُتلى ،نجد أن سيدنا عمر رضي ال عنه وكانت له فطرة صافية توافق وحي ال،
إنه محدّث مُ ْلهَم.
ها هو ذا عمر بن الخطاب حينما مات رسول ال صلى ال عليه وسلم وانتقل إلى رحاب ال
يقول :وال ما مات رسول ال صلى ال عليه وسلم ول يموت حتى يقطع أيدي أناس من المنافقين
كثير وأرجلهم .قال عمر بن الخطاب ذلك من هول الفاجعة ونسي الية فيأتي سيدنا أبو بكر
فيقول :من كان يعبد ال فإن ال حيّ لم يمت ،ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ،وتل قوله
عقَابِكُمْ َومَن
علَىا أَ ْ
سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ َ
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ
تعالىَ } :ومَا مُ َ
عقِبَيْهِ فَلَن َيضُرّ اللّهَ شَيْئا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِين { .فقال عمر بن الخطاب " :فلكأني
يَنقَلِبْ عَلَىا َ
لم أقرأها إل يومئذ ".
ثم إن عمر بعد أن بايع المسلمون أبا بكر بالخلفة قال :أما بعد فإني قلت لكم أمس مقالة ،وإنها لم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تكن كما قلت ،وإني وال ما وجدت المقالة التي قلت لكم في كتاب أنزله ال ،ول في عهد عهده
إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولكني كنت أرجو أن يعيش رسول ال صلى ال عليه وسلم
حتى يَدْبُرنا فاختار ال عز وجل لرسوله الذي عنده على الذي عندكم ،وهذا الكتاب الذي هدى ال
به رسوله فخذوا به تهتدوا كما َه ِديَ له رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وهذه تعطينا أمرين اثنين:
المر الول :هو عِشق الصحابة لرسول ال صلى ال عليه وسلم.
والمر الثاني :هو حاجة إيمان؛ فالعشق ل يستقيم ول يصح أن يخرجنا عن طور التصور
اليماني؛ فعمر بن الخطاب قال :عندما سمعت أبا بكر يتلو هذه الية عرفت حتى ما تقلني
رجلي ،وحتى هويت على الرض.
سلُ { يعني ل ترتفعوا به أنتم أيها
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ
إذن فقوله سبحانهَ } :ومَا مُ َ
المؤمنون برسالته فوق ما رفعته أنا.
عقِبَيْهِ { أي يَرجع .فهل هذا الرجوع رجوع عن المعركة؟ أو رجوع عن
ومعنى } يَنقَِلبْ عَلَىا َ
أصل التشريع وأصل الديانة وأصل الرسالة التي جاء بها محمد؟ إن هذا يصح ،وذلك يصح.
وقوله الحق } :أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ { قول واضح ،وسبق أن تعرضنا إلى الموت وإلى القتل ،وقلنا:
إن الموت والقتل مؤداهما واحد ،وهو الذهاب بالحياة ،إل أن الذهاب بالحياة مرة يكون بنقض
ل بمواصفاتها ،فإن نقضت البنية ولم تجد الروح المسكن الملئم
البنية التي ل تسكن الروح فيها إ ّ
لها تتركه ،لكن الموت على إطلقه :هو أن تذهب الحياة بدون نقض البنية ،فالنسان يذهب حتف
أنفه ،أي نجده قد مات وحده.
إذن فنقض البنية يؤدي إلى ذهاب الحياة بالقتل؛ لن الروح ل تسكن في مادة إل بمواصفات
خاصة ،فإذا انتهت هذه المواصفات ذهبت الروح .لكن عندما تذهب الروح بمفردها بدون نقض
للبنية فهذا هو الموت ل القتل.
وال سبحانه يقول } :أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ { ذلك أنهم أشاعوا أن النبي قد قتل .وكيف يجوز ذلك على
ص ُمكَ مِنَ النّاسِ }[المائدة]67 :
الصحابة وال قد قال {:وَاللّهُ َي ْع ِ
وهنا نقول :هل أنت علمت أن هذه الية قد نزلت قبل أُحد أو بعدها؟ وهل أنت حسن الظن بأن
كل صحابي يكون مستحضرا لكل آيات القرآن في بؤرة شعوره؟ أل ترى أنهم عندما سمعوا خبر
قتله هربوا ،وإذا كان سيدنا عمر قد نسي هذه الية } :أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ { كما أنه يحتمل أن يكون
المراد من عصمة ال رسوله من الناس أنه -سبحانه -يحفظه من فتنة الناس وإذللهم.
هكذا أراد ال أن تمثل لنا معركة أُحد كل الطوائف والصناف التي تُنسب إلى اليمان تمثيل
يتضح في موقف ابن أُبيّ حيث انخذل وانقطع عن رسول ال بثلث القوم ،ومرحلة أقل منها،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تتمثل في طائفتين َهمّتا ،ثم شاء ال أن يربط على قلوبهما فيظل مع رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،ولما نشبت المعركة كان للرماة موقف في المعركة الُحدية.
فحين رأوا النصر أول ورأوا الغنائم سال لعاب بعضهم على الغنائم ،فحصل انشقاق فيهم ،فعبد
ال بن جبير وهو رئيس الرماة ومعه من القلة يُصر على تنفيذ أمر رسول ال فيقاتل حتى
استشهد ،واستشهدوا وهؤلء هم الذين أرادوا الخرة .بينما كان هناك قوم آخرون أرادوا الغنائم،
وحيما أشيع أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قُتل فرت البقية الباقية من الرماة وغيرهم من
المعركة ،ورسول ال ينادي القوم " :إليّ عباد ال إليّ عباد ال ".
كل هذه مصاف إيمانية تمثل لنا كيف يُصفى ال مواقف المنسوبين إليه .وتظهر وتوضح موقف
كل واحد ،وأنه مفضوح إيمانيا إن وقف موقفا يخالف منهج ال .كان رسول ال صلى ال عليه
وسلم -في هذا الوقت -في موقف النهاك لقوته البشرية لدرجة أننا قلنا :إنه أراد أن يصعد فلم
تَقو مادته البشرية ،فطأطأ طلحة ظهره ليصعد النبي عليه ،وهو في هذه المرحلة من النهاك
المادي البشري يريد الحق سبحانه وتعالى أن يعطيه من القوة في هذا الضعف وفي هذا النهاك
ما يقف به أمام جبار من جبابرة قريش.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عباس رضي ال عنهما قال " :اشتد غضب ال على مَنْ قتله رسول ال صلى ال عليه وسلم بيده
في سبيل ال واشتد غضب ال على قول َد َموْا وجه رسول ال صلى ال عليه وسلم ".
ولننظر كيف أن الذين عادوا رسول ال صلى عليه وسلم استكبارا وعنادا ،ولم يعادوه عقيدة قلبية،
إنهم يعتقدون صدقة ،ويعتقدون حُسن بلغه عن ال ،ويتحقق ذلك من قوله سبحانه وتعالى{:
سدِينَ }[النمل]14 :
سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْلمُفْ ِ
حدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
وَجَ َ
فما هو الستيقان هنا؟ لقد قال أصحاب أبيّ له :ما أجزعك إنما هو خدش فقال أبيّ :والذي نفسي
بيده لو كان الذي بي بأهل الحجاز لماتوا جميعا .لكن أصحاب أبي قالوا له مرة أخرى :ل بأس
عليك يا أبي إنه خدش بسيط .لكنْ أبي يقول:
-ل وال لقد علمت أنه يقتلني؛ لنه قال لي بمكة " :أنا قاتلك إن شاء ال " فوال لو بصق علي
لقتلني .فمات وهم قافلون به إلى مكة.
هذا يحدث من رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو في موقف الضعف والنهاك ،ويشاء له ال أن
يقتل جبارا من جبابرة قريش وهو في هذه الحالة.
إن كان ذلك لدلة تثبت لهم أن البشرية المادية ل علقة لها مطلقا بمدد النصر من ال؛ فال يمُد
رسوله حتى في وقت الضعف .ومدده سبحانه لرسوله وقت ضعف الرسول هو إعلم بقيوميته
سبحانه على جنوده؛ لنهم لو ظلوا أقوياء لقيل في عرف البشر :أقوياء وغلبوا.
لكن ها هو ذا الرسول يصيب الجبار من قريش في مقتل والرسول ضعيف ،وبعد ذلك يعطي
الحق سبحانه لرسول ال أشياء إيمانية تزيده ثقه بأنه هو رسول ال ،وتزيد المؤمنين ثقة بانه
رسول ال .لقد خرج إلى المعركة وهو يعلم بما سيكون فيها؛ لنه قال " :إني قد رأيت وال خيرا
رأيت بقرا تُذبح ورأيت في ذباب سيفي ثَ ْلمّا ،ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها
المدينة ".
وقال صلى ال عليه وسلم " :لقد رأيتني يوم أحد وما في الرض قربى مخلوق غير جبريل عن
يميني وطلحة عن يساري ".
إذن فالمعركة بكل أحوالها عُرضت عليه ،ومع ذلك أقبل رسول ال على المعركة ليستدل من ذلك
على أن ال أعطاه المناعة قبل أن يخوض المعركة .هذا ما يتعلق به صلى ال عليه وسلم ،لقد
رأى فأول ،وأما الذي يتعلق بالناس ،فيأتي إلى واحد من قتلى المعركة -وقتلى المعركة ،ل
يُغسلون؛ لن الذي يغسل هو من يموت في غير معركة -يأتي الرسول إلى واحد من هؤلء
الشهداء فيقول " :إن صاحبكم لتغسله الملئكة " -يعني حنظلة -المؤمنون يرون أنه صلى ال
عليه وسلم قد خرج عن القاعدة في الشهداء .كيف؟ لقد أخبر الرسول صلى ال عليه وسلم بالخبر
بعد ذلك ..ول يُخرج حنظلة عن قانون الشهداء أنه يُغسّل ..ولكن الذي يغسله هم الملئكة ..إن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الملئكة تغسل حنظلة.
وبعد أن رجع رسول ال إلى المدينة يسأل أهله ما شأنه ..فيعلم أن حنظلة قد دخل بعروسه ..ثم
غسْل الملئكة له ،لقد
نودي للمعركة ..فأعجله نداء المعركة ..فذهب إلى المعركة جُنبا ..فذلك ُ
تأكد الخبر من زوجة حنظلة ..إذن فهذه شهادة أخرى أن ال سبحانه وتعالى لم يتخل عنهم في
أوقات الضعف ،وأن تلك العملية كانت عملية مقصودة.
إن الحق سبحانه وتعالى يعطي الرسول صلى ال عليه وسلم أشياء لتؤكد لنفسه أنه رسول ال .ألم
نقل سابقا :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء له صحابته فقالوا يا رسول ال :إن جابر بن
عبد ال عليه دين ليهودي وأجل الدين إلى جَزّ التمر وتمُره خَاسَ هذا العام أي فسد من آفةٍ مثلً
فنحب يا رسول ال أن تطلب من اليهودي أن يُنظر جابرا -أي ينتظر عليه ويؤخره إلى وقت
آخر -فذهب رسول ال إلى اليهودي وطلب منه أن يُنظر جابرا ،فلم يرض اليهودي وقال :ل يا
أبا القاسم.
فأعاد عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقال اليهودي :ل يا أبا القاسم .فأعاد عليه الرسول
مرة ثالثة فقال اليهودي :ل يا أبا القاسم ..فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم بثقة اليمان بال ما
معناه :يا جابر اذهب بي إلى بستانك.
وذهب رسول ال فجاس خلل النخل ،ثم ذهب إلى عريش جابر الذي يجلس فيه ،واضطجع
وقال :يا جابر جز واقض .قال جابر :فذهبت فجززت ،فإذا ما جززته يؤدي ما عليّ لليهودي
ويبقى لي مالم يبق لي وأنا غير مدين .فلما بلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم قال:
" أشهد أني رسول ال " .إن الحق سبحانه يعطي رسوله بينات توضح أنه رسول ال ،فاليهودي لم
يرض بشفاعة النبي ،فيعطي ال رسوله ما يؤكد أنه رسول ال .وهكذا نرى أن ال يعطي رسوله
في وقت الضعف الدلة التي تؤكد له أنه رسول ال .والذي يدل على ذلك هؤلء الذين أحبوا أن
يؤذوه في اسمه .إنّ اسمه مُحمد كما نعرف ،و " محمد " أي الممدوح من الكل ،وبكثرة ،فيأتي
خصومه ويريدون أن يهجوه وأن يلعنوه ،فيصرفهم ال سبحانه وتعالى حتى عن شتم السم ل
المسمى فقط.
إن ال أراد أن يصعد العصمة ،وأراد -سبحانه -أل ينالوا بالسباب من اسم رسول ال ،فألهم ال
خصوم رسول ال أن يسموا المشتوم عندهم " مذمما بدل من " محمد " .وعندما يريدون اللعن،
فهم ل يلعنون السم محمدا ولكنهم يسبون السم الذي اختاروه وهو " مذمم " ،فيضحك رسول ال
صلى ال عليه وسلم؛ عندما سمع ما قالته أم جميل امرأة أبي لهب.
" مذمما عصينا ..وأمره أبينا ..ودينه قلينا " .وهي تقصد رسول ال صلى ال عليه وسلم فقد
حدث أن حمالة الحطب أتت رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعه أبو بكر الصديق وفي يدها حجر فلما وقفت عليهما أخذ ال ببصرها عن رسول ال صلى
ال عليه وسلم فل ترى إل أبا بكر فقالت :يا أبا بكر أين صاحبك؟ فقد بلغني أنه يهجوني وال لو
وجدته لضربت بهذا الحجر فاه أما وال إني لشاعرة وقالت ما قالت.
ويقول رسول ال -صلى ال عليه وسلم " :-أل تعجبون لَما يصرف ال عني من أذى قريش
يشتمون مُ َذمّما ويلعنون مذمما وأنا محمد ".
هكذا نرى من أفواه الحاقدين على رسول ال أنه معصوم بإرادة ال ،حتى السم أبعده ال عن
اللعن ،أما المسمى فلن يلعن ولن يشتم.
إن ما حدث في غزوة أحد كان هو التربية الولى لصحابة رسول ال ،والتأكيد على صدق بلغه
عن ال .إن هذه المعركة قد صورت ذلك وجسدته ،ولذلك حين نلحظ المعارك التي جاءت بعد
هذه المعركة فإننا ل نجد للمؤمنين هزيمة أبدا ،لنهم صُفوا التصفية وربُوا التربية التي جعلت كل
واحد منهم عارفا أن ال يعلم ما يخفيه وإن لم يحسن البلء والجهاد فسيفضح ال ما في نفسه،
وسيعلن ال عنه؛ لذلك دخل كل مؤمن منهم المعارك وهو مقبل على الجهاد ،كل المعارك بعد أُحد
جاءت نصرا وجاءت سلما.
وهنا يعلمنا الحق أن البقاء على منهج رسول ال صلى ال عليه وسلم هو النجاة وهو النصر،
عقَا ِبكُمْ
ويحذرنا سبحانه أل ينقلب المؤمن على عقبيه ،قال لنا } :أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ
عقِبَيْهِ فَلَن َيضُرّ اللّهَ شَيْئا وَسَ َيجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ {.
َومَن يَنقَِلبْ عَلَىا َ
عقِبَيْهِ { هي صورة حركية مادية مرئية .وقد حدث ذلك من بعض الصحابة
} َومَن يَنقَِلبْ عَلَىا َ
في معركة أحُد ،لقد فر البعض وانقلب بعضهم إلى المدينة ،ومعنى " انقلب " أي أعطى ظهره
للمعركة بعد أن كان مواجها لعدوه ،وهي مثل قوله } :وَّلوُاْ الَدْبَارَ {.
عقَا ِبكُمْ { فيه انقلب حسي أيضا ،وفيها كذلك انقلب نفسي ،وهو
ولكن في قوله } :ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا أَ ْ
النصراف عن أصل الدين ،ولذلك سيعرفنا الحق أن المنافقين بعد حدوث تلك الواقعة وبعد ما فشا
وذاع في الناس قتل الرسول كان لهم كلم ،وضعاف اليمان كان لهم كلم آخر؛ فالمنافقون الذين
هم أكثر شرا من الكفار قالوا :لو كان نبيّا لما قتل ،ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم.
أما الذي آمنوا إيمانا ضعيفا فقالوا :سنذهب إلى ابن أُ َبيّ ليأخذ لنا أمانا من أبي سفيان .فيقف أنس
بن النضر قائل :اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلء -أي المنافقون -وأعتذر إليك مما يقول
هؤلء -أي ضعاف اليمان .-
لقد وزعها بالحق؛ فهو يبرأ إلى ال من قول المنافقين الذين قالوا :إنهم سيعودون إلى دينهم القديم،
عقِبَيْهِ فَلَن َيضُرّ اللّهَ
ويعتذر ويستغفر عن ضِعاف اليمان .ويقول سبحانهَ } :ومَن يَنقَلِبْ عَلَىا َ
ل وقبل أن يخلق شيئا من خلقه له كل صفات الكمال ،إذن فأي صفة من
شَيْئا { .لماذا؟ لن ال أز ً
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صفات الكمال لم تطرأ عليه -سبحانه -من خلقه ،إنه -سبحانه -أوجد الكون بما فيه الخلق
لنه قادر ،وأوجده لنه حكيم ،وأوجده لنه عالم ،إذن فخلق الخلق لم يزد ال صفة من صفاته،
فحين خلقكم وصنعكم أعطى لكم المنهج لتكونوا خلقا سويا .إذن فالمصلحة تعود علينا نحن الخلق،
فكان يجب أن تنظروا إلى المناهج التي تأتي من ال على أنه ل نفع فيها ل ،ولكن النفع فيها عائد
عليكم .ولذلك جاءت الية من بعد ذلك لتقول } :وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ { لن الشكر إنما يؤديه
العبد على نعمة ،نعمة تمحيص وتعليم وبيان مكانة الرسول صلى ال عليه وسلم من ربه .لقد تعلم
المؤمنون أن ال يستحق منهم الشكر على هذه النعم.
وبعد ذلك ينتقل بنا الحق إلى قضية عامة ،القضية العامة للناس جميعا هيَ } :ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ
َتمُوتَ ِإلّ بِإِذْنِ ال كِتَابا ّمؤَجّلً{ ...
()535 /
َومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ إِلّا بِِإذْنِ اللّهِ كِتَابًا ُمؤَجّلًا َومَنْ يُ ِردْ َثوَابَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَنْ يُرِدْ َثوَابَ
الْآَخِ َرةِ ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا وَسَ َنجْزِي الشّاكِرِينَ ()145
وساعة تسمع " ما كان " أي " ما ينبغي " .فنحن في حياتنا نقول :ما كان لك أن تضرب زيدا،
ونقصد أنه ما ينبغي أن تضرب زيدا .فقولهَ { :ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ ِإلّ بِإِذْنِ ال } هذا القول
قد يدفع إلى التساؤل :وهل الموت أمر اختياري؟ ل ،ولكن تعبير الحق سبحانه له إيحاء؛ لنك
عندما تقول :ما كان لفلن أن يفعل كذا ،فهذا معناه أن لفلن أن يختار أن يفعل ذلك أو ل يفعله،
وفي قدرة فلن أن يفعل أو ل يفعل .أما عن قدرة ال فل يمكن أن يقول أحد ذلك.
إننا نفهمه على فرض أن النفس تدفع نفسها إلى موارد التهلكة ،فما لها أن تموت إل أن بأذن ال.
فإذا كانت النفس هي التي تدفع نفسها إلى موارد التهلكة ،ومع ذلك ل تملك أن تموت ،فكيف إذا
لم تدفع نفسها إلى موارد التهلكة .إذن فالموت إن أرادته النفس فلن يأتي إل أن يكون ال قد أذن
بذلك .وإننا نجد في واقع الحياة صورا شتى من هذه الصور.
نجد من يضيق ذرعا بهذه الحياة؛ لن طاقته اليمانية ل تتسع للبلء والكد في الدنيا فينتحر ،إنه
يريد أن يفر مما ل يقدر على دفع أسبابه .أما الذي يملك الطاقة اليمانية الرحبة فأي شقاء أو بلء
ي ربي فهو المربي الحكيم الذي يعرف مصلحتي أكثر مما
يقابله يقول :إن لي ربا ،وما أجراه عل ّ
أعلم ،ولعل هذا البلء كفارة لي عن ذنب.
وهذا عكس من يفر مما ل يقدر على دفع أسبابه ،فيحاول أن يقتل نفسه ،وكل منا قد رأى أو سمع
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عن بعض الذين يريدون ذلك لكن يتم إنقاذهم ويدركهم من ينفذ مشيئة ال في إنقاذهم ،كغسيل
المعدة لمن ابتلع أقراصا سامة ،أو إطفاء حريق من أشعل في نفسه النار .فالمنتحر يريد لنفسه
الموت ولكن ال إذا لم يأذن ،فل يبلغه ال هذا ،فقد تجد مُنتحرا يريد أن يطلق على نفسه رصاصة
من مسدس فل تنطلق الرصاصة ،أو تجد منتحرا آخر يريد أن يشنق نفسه بحبل معلق في السقف
فينقطع الحبل ،لماذا؟ ل يقبض الحياة إل من وَهَب الحياة.
قد يقول قائل :ولكن هناك المقتول الذي يقتله إنسان آخر .وهنا يرد المثل الشعبي :لو صبر القاتل
على المقتول لمات بمفرده ،إن اللحظة التي تفارق الروح مادة الجسد موقوتة بأجل محدود ،فمرة
تأتي اللحظة بدون سبب ،فيموت النسان حتف أنفه ،ويقول أصدقاؤه :لقد كان معنا منذ قليل .إنهم
ينسون أنه مات لنه يموت بكتاب مؤجل.
ولذلك نجد إنسانا يسعى إلى عافية الحياة ،فيذهب إلى إجراء جراحة ما ،وأثناء إجراء الجراحة
يموت.
ورحم ال أمير الشعراء أحمد شوقي حين يقول في ذلك:في الموت ما أعيا وفي أسبابه كل امرئ
رهن بطيّ كتابهأسد لعمرك من يموت بظفره عند اللقاء كمن يموت بنابهإن نام عنك فكل طب
نافع أو لم ينم فالطب من أذنابهإن الكتاب إذا انطوى فقد انتهى المر ،حتى عندما يلتقي النسان
بأسد ،فيستوي الموت بالناب ،كالموت بظفر السد .فإن نام الموت عن النسان فقد يشفيه من
أمراضه قرص دواء أو جرعة ماء .أما إن استيقظ الموت فالطب والعلج قد يكون ذَنَبَا أو أداة
للموت ،والقاتل كل ما فعله أنه نقض بنْية المقتول ،وهذا هو ما يعاقب عليه.
إذن فقول الحقَ } :ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ ِإلّ بِِإذْنِ ال كِتَابا ّمؤَجّلً { يطلق قضية عامة.
والكتاب المؤجل يطلق مرة على زمن العمر كله ،ومرة يطلق على النهاية النهائية منه ،والنهاية
النهائية هي الموت الحقيقي .فالقاتل حين ينقض بنية القتيل إنما يوافق الجل المكتوب الذي أراده
ال .لكن لماذا نعاقب القاتل إذن؟ نحن نعاقبه لنه نقض بنية إنسان آخر.
والحق يقولَ } :ومَا كَانَ لِ َنفْسٍ أَنْ َتمُوتَ ِإلّ بِِإذْنِ ال كِتَابا ّمؤَجّلً { .ولنلحظ قوله } :بِِإذْنِ ال
{ فهي تدلنا على أن ال هو الذي يطلق الذن .والذن يكون للملئكة ليقوموا بهذه المسألة ،ولذلك
نجد القرآن الكريم حين يتعرض لهذه المسألة يسند مرة هذه العملية ل فيقول سبحانه {:اللّهُ يَ َت َوفّى
سلُ
سكُ الّتِي َقضَىا عَلَ ْيهَا ا ْل َم ْوتَ وَيُرْ ِ
الَنفُسَ حِينَ َموْتِـهَا وَالّتِي لَمْ َت ُمتْ فِي مَنَامِـهَا فَ ُيمْ ِ
سمّى إِنّ فِي ذَِلكَ ليَاتٍ ّل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ }[الزمر]42 :
جلٍ مّ َ
الُخْرَىا إِلَىا َأ َ
ك واحدُ {:قلْ يَ َت َوفّاكُم مَّلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُو ّكلَ ِب ُكمْ ثُمّ إِلَىا
ومرة أخرى يسند القرآن هذه العملية لِمَل ٍ
جعُونَ }[السجدة]11 :
رَ ّبكُمْ تُ ْر َ
سلُ
ومرة يسندها الحق سبحانه إلى رسل من المعاونين لملك الموت {:وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِد ِه وَيُرْ ِ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حفَظَةً حَتّىا إِذَا جَآءَ أَحَ َد ُكمُ ا ْل َم ْوتُ َت َوفّتْهُ ُرسُلُنَا وَهُمْ لَ ُيفَرّطُونَ }[النعام]61 :
عَلَ ْيكُم َ
والحق سبحانه وتعالى صادق في كل بلغ عنه؛ لن كل أمر يحدد الجل ليس بمراد الموكّل
بإنهاء الجل ،إنما هو بإذن من ال تعالى الذي يحدد ذلك .وما دام كل أمر قد صدر منه فهو
سبحانه الذي يتوفى النفس ،وبعد ذلك فالملك الذي يتوفى النفس -عزرائيل -له أعوان؛ فهو
عندما يتلقى المر من ال فهو ينقل الوامر إلى أعوانه ليباشر كل واحد مهمته .إذن فصيرورة
المر بالموت نهائيا إلى ال.
وصيرورة المر بالموت إلى الملئكة ببلغ من ال ،هذا هو الذن ،والذن يقتضي مأذونا،
والمأذون هم ملئكة الموت الذين أذن لهم ملك الموت بذلك ،وملك الموت تلقي الذن من ال
سبحانه وتعالى.
ويقول الحق من بعد ذلكَ } :ومَن يُرِدْ َثوَابَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا { فالذي يريد جزاء الدنيا وهو الذي
يطلب جزاء حركته فيها ،يأخذها ،ولو كان كافرا:
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجوده في موكب اليمان الذي سبقكم؛ لن فيه فرقا بين الكلم وبين أن يقع مدلول الكلم ،فواقع
الكلم سبقكم فيقولَ } :وكَأَيّن مّن نّ ِبيّ قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ َفمَا وَهَنُواْ ِلمَآ َأصَا َبهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
ض ُعفُواْ َومَا اسْ َتكَانُواْ{ ...
َومَا َ
()536 /
ض ُعفُوا َومَا
َوكَأَيّنْ مِنْ نَ ِبيّ قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ َفمَا وَهَنُوا ِلمَا َأصَا َبهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َومَا َ
حبّ الصّابِرِينَ ()146
اسْ َتكَانُوا وَاللّهُ ُي ِ
{ َوكَأَيّن } هذه يقولون :إنها للتكثير ،مثل " كم "؛ فعندما يقول لك إنسان مثل :لماذا تجافيني؟
فتقول له :كم زرتك؟ إن قولك " :كم زُرتك! " في ظاهرها أنها استفهام ،وأنت ل تريد أن تقول له
مستفهما كم مرة زرته فيها ،بل تقول له :أنت الذي عليك أن تقول -لنك بقولك ستعترف أني
زُرتك كثيرا ،فيكون الجواب موافقا لما فعلت .وأنت ل تقول " كم زرتك " إل وأنت واثق أنه إذا
أراد أن يجيب فسيقول " :زرتني كثيرا " ولو كنت ل تثق أنه سيقول :زرتني كثيراَ ،لمَا قلتها،
فعندما تقول له :كم زرتك ،كم تفضلت عليك ،كم واسيتك ،كم أكرمتك؟ فإن " كم " تأتي للتكثير،
وتأتي مثلها " كأين " إنها للتكثير أيضا ،عندما تقول مثل " :ياما حصل كذا " و " ياما " هذه معناها
" كأيّن ".
وقد يسألك صديق :كيف حدثت هذه الحكاية؟ فتقول له :كأي رجل يفعل كذا ويحصل له كذا ،اي
ان المسأله ليست غريبة ،إن قولك :كأي رجل معناها أنها شاعت كثيرا ،وعندما تقول :كم مرة
زرتك ،وكم من مرة زرتك فهذان الستعمالن صحيحان والمعنى :كثير من نبي قاتل معه
مؤمنون برسالته كما حدث وحصل مع رسول ال .وقوله الحق { رِبّيّونَ } أي ناس فقهاء فاهمون
سبل الحرب ،و " ربيون " أيضا تعني أتباعا يقاتلون ،و " ربيون " يمكن أن ينصرف معناها إلى
أن منهجهم إلهي مثل " الربانيين ".
وقول الحقَ { :فمَا وَهَنُواْ } أي ما ضعفوا ،إذن فهو يريد أن يأتي بالسوة ،وكأنه سبحانه يقول:
أنتم لماذا ضعفتم في موقفكم في غزوة ُأحُد وأنتم تقاتلون مع رسول ال .لقد كان الولى بكم أن
يكون حماسكم في القتال معه أشد من حماس أي أتباع نبي مع نبيهم؛ لنه النبي الخاتم الذي
سيضع المبدأ الذي ستقوم عليه الساعة ،ولن يأتي أحد بعده ،فكان يجب أن تتحمسوا؛ فأنتم خير
أمة أخرجت للناس ،وأنا ادخرتكم لذلك.
إن الحق يعطيهم المثل وفيه تعريض بهم وعتاب لهم ،وفي هذا القول تعليم أيضا ،فيقولَ { :وكَأَيّن
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مّن نّ ِبيّ } أي وكثير من النبياء { قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ َفمَا وَهَنُواْ ِلمَآ َأصَا َبهُمْ } ونستوحي من
كلمة { وَهَنُواْ } أي ما ضعفوا .فكأنه قد حدث في القتال ما يضعفَ { ،فمَا وَهَنُواْ ِلمَآ َأصَا َبهُمْ } أي
ما حدثت لهم نكسة مثلما حدثت لكم.
ض ُعفُواْ } و { اسْ َتكَانُواْ } هذه جاءت في
ض ُعفُو ْا َومَا اسْ َتكَانُواْ } .وكل من { وَهَنُواْ } و { َ
{ َومَا َ
موقعها الصحيح؛ لن " الوهن " بداية الضعف ،و " الوهن " محله القلب وهو ينضح على
الجوارح ضعفا.
و } اسْ َتكَانُواْ { ماذا تعني؟ إنها من " سكن " .والسكون تقابله الحركة.
والحرب تحتاج إلى حركة ،والذي يأتي للحرب فهو يحتاج إلى ك ّر وفر .أما الذي ل يتحرك فهذا
معناه أنه ليس لديه قدرة على أن يتحرك ،وساعة تسمع -اللف والسين والتاء -وتأتي بعدها
كلمة ،نعلم أن (اللف والسين والتاء) للطلب " ،فاسْ َت ْفهَم " أي طلب أن يفهم ،وهي تأتي لطلب
المادة التي بعدها .كأن نقول " :استعلم " أي طلب أن يعلم ،أو نقول " :استخبر " أي طلب الخبر،
و " استكان " يعني طلب له كوْنا أي وجودا ،فكأنهم بلغوا من الوهن ومن الضعف مبلغا يطلبون
فيه أن يكون لهم مجرد وجود؛ لن الوجود مظهره الحركة ،والحركة انتهت ،هذا هو معنى }
اسْ َتكَانُواْ {.
وما دامت مِن الكون يكون وزنها -مثلما يقول الصرفيون " -استفعل " يعني طلب الكون،
وطلب الوجود ،وقد يكون وزنها ليس كذلك؛ إذا كانت من سكن ،وهي بهذا العتبار ل يكون فيها
طلب؛ لن السين ستكون أصلية ،فوزنها ليس " استفعل " بل هو " افتعل " فـ " استكانوا " هل
تعني أنهم طلبوا السكون؟ ل؛ لنهم كانوا ساكنين ،إذن فالولى أن يكون معناها أنهم طلبوا مجرد
الوجود ،هذا ما أميل إليه وأرجحه ،وقيل في معناها :فما خضعوا وما ذَلوا من الستكانة :وهي
الذلة والخضوع.
حبّ الصّابِرِينَ { فما يصيب
ضعُفُواْ َومَا اسْ َتكَانُواْ وَاللّهُ يُ ِ
} َفمَا وَهَنُواْ ِلمَآ َأصَا َبهُمْ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َومَا َ
العبد ابتلء من ال ،وفي الحديث " :إذا أحب ال قوما ابتلهم " .وكل ذلك الوهن والضعف ،ل
يشغلهم عن المعركة ،لنهم لو صبروا على التحمل لمدهم ال بمدد من عنده؛ لنه حين تفرغ
أسباب الخلق وتنتهي يأتي إمداد الخالق.
حبّ الصّابِرِينَ { أي وكفى جزاء عن الصبر أن
ويلفتنا الحق سبحانه وتعالى بتذييل الية } :وَاللّهُ ُي ِ
تكون محبوبا ل؛ لننا قلنا سابقا :قد نحب ال لنعمه التي أنعمها علينا ،ولكن المسألة ليست في أن
تحب ال أنت ،وإنما في أن تصير بتطبيق منهجه فيك محبوبا ل .وقد أثر عن بعضهم قوله:
حبْ؟!!
حبّ ولم يُ َ
وإل أَلم تَرَ كثيرا أ َ
أنت أحببت للنعم ،ولكنك تريد أن تكون محبوبا من ال؛ لن حبك للنعم ل يكفي ،فمثل هذه النعم
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أخذها الكافر أيضا ،إذن فهناك حاجة أخرى .هناك مقدم وهناك ومؤخر فالمقدم هو نعم الحياة
وكل البشر شركاء فيها مؤمنهم وكافرهم ،ولكن المؤخر هو جزاء ال في الخرة وهو الصل.
حبّ الصّابِرِينَ { لقالوا :كفى بالجزاء عن الصبر
إذن ،فلو أن الناس فطنوا إلى قول ال } :وَاللّهُ يُ ِ
أن نكون محبوبين ل ،حين أصابهم ما أصابهم .صحيح أن الصابة لم تصنع فيهم وهنا أو ضعفا
أو استكانة ،وهذا معناه أن فيهم مُسكة اليقين بال.
ومُسكة اليقين بال تجعلهم أهل لمداد ال .فليس لك إل أن تصبر على ما أنت فيه لتعرف مدد ال
لك .ومدد ال لك ل يتجلى بحق إل وقت الضعف؛ لنك وقت قوتك قد تعمل مثل الذي قيل فيهم{:
خوّلْنَاهُ ِن ْعمَةً مّنّا قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ َبلْ ِهيَ فِتْنَ ٌة وَلَـاكِنّ
س الِنسَانَ ضُرّ دَعَانَا ُثمّ إِذَا َ
فَإِذَا مَ ّ
َأكْثَرَهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }[الزمر]49 :
لكن المؤمنين حين أصابهم ما أصابهم } َفمَا وَهَنُواْ {؛ لِنّهم كانوا متيقظين إلى قضية إيمانية :إن
ال ل يسلمك لنفسك إل حين تغيب عنه ،فقالوا :ولماذا حدث لنا هذا؟ لم يقولوا :ربنا انصرنا كي
نخرج من الضعف ،ل .بل فكروا في السباب التي أدت بهم إلى هذاَ } :ومَا كَانَ َقوَْلهُمْ ِإلّ أَن
غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا{ ...
قَالُواْ ربّنَا ا ْ
()537 /
غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي َأمْرِنَا وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا وَا ْنصُرْنَا عَلَى
َومَا كَانَ َقوَْلهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا رَبّنَا ا ْ
ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ ()147
فكأن ما حدث نتيجة لذنب تقدم ففطنوا إلى السبب ،كان المفروض أنهم في معركة ،وهذه المعركة
أجهدتهم وأنهكتهم ،صحيح أنهم لم يضعفوا ،وكان المفروض أن يقولوا " :يارب انصرنا أول " ل.
بل قالوا :ل بد أن نعرف السبب في النكسة الولى ،السبب في هذه النكسة أن ال لم يسلمني إلى
نفس إل لني نسيته.
{ َومَا كَانَ َقوَْلهُمْ ِإلّ أَن قَالُواْ ربّنَا } { ،ربّنَا } ،وانظر لكلمة النداء في { ربّنَا } ،كان يمكن أن
يقولوا :يا أل إنما جاءوا بكلمة " ربنا " لماذا؟ لن علقة العبد بالربوبية هي قبل علقته باللوهية،
فاللوهية مكلفة ،فمعنى " إله " أي :معبود ،وما دام معبودا فله تكليف يطاع فيه ،وهذا التكليف
يأتي بعد ذلك ،هو سبحانه له ربوبيته في الخلق .قبل أن يكلفهم ،وما دام الرب هو الذي يتولى
التربية ،فالولى أن يقولوا :يارب ،إذن قولهم " :ربنا " يعني أنت متولي أمورنا ،أنت الذي تربينا.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } فكأنه ل شيء يصيبنا إل بذنب من الغفلة ارتكبناه .ونعرف من كلمة "
{ ربّنَا ا ْ
ذنب " أن الذي يفطن إلى معناه ل يفعلها أبدا ،لن كلمة " ذنب " مأخوذة من مادة " الذَنَب ".
والذّ ْنبُ سيأتي بعده عقوبة .فاللفظ نفسه يوحي بأن شيئا سيأتي ،وعندما تتذكر عقاب الذنب فأنت
ل تفعله.
غفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي َأمْرِنَا } لن كل معصية تكون تجاوزا عما أَحلّه ال لك ،وزيادة
{اْ
غير مشروعة وإن كانت من نوع ما أحله ال ،ولكنها زيادة عن مقومات حياتك ،فال شرع لنا
الزواج لنأتي بالولد ،وعندما نأخذ أكثر من هذا من غير زواج نكون قد أسرفنا ،وال أعطانا
مال بقدر حركتنا ،فإن طمعنا في مال غيرنا فقد أسرفنا " .وأسرفت " يعني أن تأخذ حاجة ليست
سهِمْ
ضرورية لقوام حياتك ولذلك فالحق سبحانه وتعالى يقولُ {:قلْ ياعِبَا ِديَ الّذِينَ َأسْ َرفُواْ عَلَىا أَنفُ ِ
جمِيعا إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }[الزمر]53 :
حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ
لَ َتقْنَطُواْ مِن رّ ْ
إنه سبحانه يوضح :أنا حللت لك كذا من النساء فما الذي جعل عينيك تزوغ وتميل إلى غير ما
أحله ال لك؟ أنا أحللت لك كسب يدك وإن كنت فقيرا فستأخذ صدقة ،لماذا أسرفت؟ إذن فكل أمر
زائد على الحد المطلوب لبقاء الحياة اسمه " إسراف " { وَإِسْرَافَنَا فِي َأمْرِنَا وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا } .لقد
بدأوا يدخلون في الحق ،لكنهم في البداية رََأوْا الباطل ،والباطل هو من أسباب تخلي الحق عن
نصرتنا أول ،لكن عندما يغفر سبحانه الذنب ويغفر السراف في المر نكون أهلً للمدد وأهلً
لتثبيت ال.
{ وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا } كيف يقول الحق ذلك والمفهوم في المعركة أن القدام ل تثبت؟ المعركة تطلب
من المقاتل أن يكون صوالً جوالً متحركا ،إذن فما معنى { وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا }؟ إن قول الحق:
{ وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا } يعني ل تجعلنا نفر من أرض المعركة ،ول نترك أرض المعركة أبدا.
ولذلك قلنا :إن الكفار عندما حدث منهم ما حدث لم يظلوا في ارض المعركة ،بل تركوا أرض
المعركة وانصرفوا ،وهؤلء المؤمنون ولو أنهم انهزموا إل أنهم مكثوا في أرض المعركة مدة،
وكروا وراء أعدائهم وطاردوهم .وقد اهتدى البشر أخيرا إلى هذا المعنى ،ففي فرنسا نيشان
يسمونه " نيشان الذبابة " لماذا الذبابة؟ لن الذبابة إن طردتها عن مكان ل بد أن تعود إليه ،فكذلك
المفروض على القائد -ما دام انسحب من منطقة -أن يوطن نفسه على العودة إليها ،فيعطوه
نيشان الذبابة.
فقوله } :وَثَ ّبتْ َأ ْقدَامَنَا { في أي منطقة؟ وفي أي معركة؟ علينا أل نبرح أماكننا؛ لننا ساعة أن
نبرحها فهذه أول هزيمة ،وهذا أمر ُيجَرّئ العدو علينا.
} وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا وا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ { .كلمة } وا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْلقَوْمِ ا ْلكَافِرِينَ { هي حيثية،
علَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ { فهم إذن مؤمنون ومؤمنون بحق؛ ولذلك فإن
فما داموا قد قالوا } :وا ْنصُرْنَا َ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سيدنا عمر بن الخطاب رضي ال عنه يقول قولته المشهورة :إنكم تنتصرون على عدوكم بطاعة
ال ،فإن استويتم أنتم وهم في المعصية غلبوكم بعُدتهم وعَددهم.
ولذلك فاليمان يتطلب أن تنتبهوا إلى موطن الضعف فيكم أول ،والذي استوجب أن يصيبكم ما
أصابكم ،حقا إنكم لم تضعفوا ،ولم تستكينوا وأصابكم من المعركة شيء من التعب واللم .كأن
الحق يوضح لنا أنهم قد تنبهوا فأحسنوا البحث في نفوسهم أول ،لقد تكلموا عن الذنوب وطلبوا
المغفرة وتكلموا عن السراف على النفس ،وبعد ذلك تكلموا عن المعركة .فماذا كان العطاء من
ال؟
حسْنَ َثوَابِ الخِ َرةِ{ ...
ويأتينا الجواب في قوله الحق } :فَآتَاهُمُ اللّهُ َثوَابَ الدّنْيَا وَ ُ
()538 /
أي أن الذي يريد الدنيا فال يعطيه من الدنيا غنائم وأشياء ،ولنا أن نلحظ أن الحق عندما يتكلم هنا
عن الدنيا فهو لم يصفها بحُسن أو بشيء ،فقط قالَ { :ثوَابَ الدّنْيَا } ،لكن عندما تكلم عن الخرة
فهو يقول { :وَحُسْنَ َثوَابِ الخِ َرةِ } وهذا هو الجمال الذي يجب أن يُعشق؛ لن الدنيا مهما طالت
فهي متاع وغرور وزخرف زائل ،ومهما كنت منعما فيها فأنت تنتظر حاجة من اثنتين :إما أن
تزول عنك النعمة ،وإما أن تزول أنت عن النعمة.
حسِنِينَ } وقد أحسنوا حين ناجوا ربهم بعدما أصابهم.
حبّ ا ْلمُ ْ
ويختم الحق الية بقوله { :وَاللّهُ يُ ِ
إنهم سألوا المغفرة ،وسألوا أن يغفر لهم إسرافهم في أمرهم ،وأن يثبت أقدامهم وأن ينصرهم على
القوم الكافرين؛ لنهم رأوا أن قوتهم البشرية حين يتخلى عنهم مدد ال تصبح هبا ًء ل وزن لها.
حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ } ومثلما قلنا في الصبر:
حسْنَ َثوَابِ الخِ َرةِ وَاللّهُ ُي ِ
{ فَآتَا ُهمُ اللّهُ َثوَابَ الدّنْيَا وَ ُ
حبّ الصّابِرِينَ } كفى بالجزاء على الصبر أن تكون محبوبا ل ،كذلك كفى بالجزاء على
{ وَاللّهُ يُ ِ
الحسان أن تكون محبوبا ل .وبعد ذلك يقول الحق { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن ُتطِيعُواْ الّذِينَ
َكفَرُوا} ...
()539 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما دمتم مؤمنين وهم كفار فكيف يتأتي منكم أن تطيعوا الكافرين؟ إنكم وهم من أول مرحلة
مختلفون؛ أنتم مؤمنون وهم كفار ،والكافر والمنافق سيستغل فرصة الضعف في النفس اليمانية
المسلمة ،ويحاول أن يتسلل إليها ،مثلما قلنا :إن جماعة من المنافقين قالوا :قتل محمد ،ولم يعد
فينا رسول فلنلجأ إلى دين آبائنا .والمؤمنون الذين أصابتهم لحظة ضعف قالوا :نذهب إلى ابن أبي
-المنافق الول في المدينة -ونطلب منه أن يتوسط لنا عند أبي سفيان ليأخذ لنا المان.
عقَا ِبكُمْ فَتَنقَلِبُواْ
ولذلك يقول الحق { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن ُتطِيعُواْ الّذِينَ َكفَرُواْ يَ ُردّوكُمْ عَلَىا أَ ْ
خَاسِرِينَ } ،فإن كان الموقف يحتاج إلى ناصر فل تطلبوا النصير من الكافرين ،ولكن اطلبوه
لكُ ْم وَ ُهوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ }
ممن آمنتم به .وينزل القول الحقَ { :بلِ اللّهُ َموْ َ
()540 /
ألم يقل أبو سفيان " :لنا العُزّى ،ول عُزّى لكم " ،فقال لهم النبي قولوا لهم :ال مولنا ول مولى
لكم ،وعندما قال :يوم بيوم ،أي يوم أٌحد بيوم بدر ،الحرب سجال .فرد عليه عمر بن الخطاب
رضي ال عنه وقال :ل سواء ،أي نحن لسنا مثلكم؛ قتلنا في الجنة ،وقتلكم في النار ،فكيف
تكون سواء وكيف تكون سجالً!؟
لكُ ْم وَ ُهوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ } ونفهم قول الحق { :خَيْرُ النّاصِرِينَ } أي يجوز ان يوجد
{ َبلِ اللّهُ َموْ َ
ال بشرا كافرين أو غير كافرين وينصروكم نصرا سطحيا ،ل نقول ان هذا نصر انما النصر
الحقيقي هو النصر الذي ياتي من ال ،لماذا؟ لن النصر أول ما يأتي من ناحية ال فاطمئن على
أنك خالص ومخلص ل وال ما جاءك نصره ،فساعة يأتيك نصر ال فاطمئن على نفسك اليمانية
وانك مع ال .وقول الحق { :خَيْرُ النّاصِرِينَ } دليل على أنه من الممكن أن يكون هناك ناصر في
عرف البشر .وقد قال المؤمنون :يارب نحن ضعاف الن وإن لم نذهب لحد ليحمينا ماذا نضع؟
فيوضح لهم الحق :كونوا معسكرا إيمانيا أمام معسكر الكفر ،وإياكم أن تلجأوا إلى الكافرين بربكم؛
لنهم غير مأمونين عليكم .وإن كنتم تريدون أن تعرفوا ماذا سأفعل { :سَنُ ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ
عبَ } .فإذا ألقى الرعب في قلوب الكافرين فماذا يفيدهم من عَ َددِهم؟! عددهم وأموالهم
َكفَرُواْ الرّ ْ
تصير ملكا لكم وتكون في السَلَب والغنيمة.
()541 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عبَ ِبمَا أَشْ َركُوا بِاللّهِ مَا َلمْ يُنَ ّزلْ بِهِ سُلْطَانًا َومَ ْأوَاهُمُ النّا ُر وَبِئْسَ
سَنُ ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ َكفَرُوا الرّ ْ
مَ ْثوَى الظّاِلمِينَ ()151
وألقى الحق في قلوبهم الرعب بالفعل .فساعة قالوا لبي سفيان :إن محمدا قادم إليك بجيش كثيف
من المدينة ،وانضم له مقاتلون لم يحاربوا من قبل ،وقادم إليكم في حمراء السد .ماذا صنع أبو
سفيان وقومه؟ ألقى ال الرعب في قلوبهم وفروا.
وكلمة { سَنُ ْلقِي } مأخوذة من " اللقاء " وهو ل يكون إل لمادة وعين .ويبين لنا القرآن هذا المر
ح وَأَخَذَ بِرَأْسِ َأخِيهِ
حين يقول " :فألقى اللواح " ،هذه حاجة مادية .قال تعالى {:وَأَ ْلقَى الَ ْلوَا َ
ض َعفُونِي }[العراف]150 :
يَجُ ّرهُ إِلَ ْيهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ ا ْل َقوْمَ اسْ َت ْ
عصِ ّيهُ ْم َوقَالُواْ
إنه أمر مادي ..ونحن نقول :ألقى الحجر .والحق سبحانه يقول {:فَأَ ْل َقوْاْ حِبَاَلهُ ْم وَ ِ
ِبعِ ّزةِ فِرْعَونَ إِنّا لَنَحْنُ ا ْلغَالِبُونَ }[الشعراء]44 :
إنها حبال ،أي أمر مادي .وسبحانه وتعالى يقول عن الوحي لم موسى {:وََأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأمّ مُوسَىا
ك وَجَاعِلُوهُ مِنَ
خ ْفتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَمّ وَلَ تَخَافِي َولَ تَحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ
ضعِيهِ فَإِذَا ِ
أَنْ أَ ْر ِ
ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص]7 :
فاللقاء أمر مادي ،كأن ال يريد أن يجعل المعنى وهو الرعب شائعا ،فقال :أنا سأجمع الرعب
وأضعه في القلب ،ويكون عمله ماديّا .فإذا ما استقر الرعب في القلب جاء الخَور ،وإذا سكن
عبَ }
الخور القلب نضح على جميع الجوارح تخاذل ،فيقول { :سَنُ ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ َكفَرُواْ الرّ ْ
فكأنه مثل لنا الرعب ،والرعب أمر معنوي وهو التخوف من كل شيء ،فأوضح :بأنه سيأتيهم
بالرعب ويلقيه في القلب ،فيبقى به ليصنع الخور والخذلن.
عبَ } انظروا إلى التعابير الصادرة عن ال إنه هنا يأتي بـ "
{ سَنُ ْلقِي فِي قُلُوبِ الّذِينَ َكفَرُواْ الرّ ْ
نون العظمة " { ،سَنُ ْلقِي } ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى ساعة يتكلم عن أمر يحتاج إلى فعل
فهو سبحانه يأتي بـ " نون العظمة " كقوله {:إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ }[الحجر]9 :
ولن إنزال الذكر عملية عظيمة ،فنأتي بـ " نون العظمة " .لننا سننزله بقدرة وسننزله بحكمة،
وننزله بعلم وننزله ببصر ،وننزله بقيومية ،وننزله بقبض ,وننزله ببسط ،فقوله { :إِنّا نَحْنُ } فكأن
نون العظمة تأتي هنا ،لكن ساعة يتكلم سبحانه عن الذات العلية فهو يقول " :إنني أنا ال " .لم يقل
إننا ،ولكن في النزال يقول {:إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَ ْيلَةِ ا ْلقَدْرِ }[القدر]1 :
لن هذه عملية عظيمة جليلة؛ فـ " نون العظمة " تأتي فيما يكون من شأنه حدث يٌفعل؛ وهذا
الحدث الذي يٌفعل يحتاج لصفات كثيرة ،ولذلك قلنا ساعة تبتدئ أيّ عمل تقول " :بسم ال الرحمن
الرحيم " لماذا؟ لن العمل الذي ستعمله يحتاج إلى قدرة عليه ،ويحتاج إلى علم قبل أن تعمله،
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويحتاج إلى حكمة ،أي أنه يحتاج إلى صفات كثيرة ،فأنت تدخل على العمل باسم القادر الذي
ُيقْدِرُك؛ وباسم العليم الذي يعلمك ،وباسم الحكيم الذي يحكمك.
وكل هذه الصفات ستتكاتف في إيراز العمل كي يرحمك حتى في الستعانة ،فل يقول لك :هات
الصفات كلها التي يحتاج إليها فعلك؛ لن هناك صفات أنت ل تعرفها ،فيقول لك :هات السم
الجامع لكل صفات الكمال .قال " :باسم ال " ،وهي تضم كل صفات الكمال.
إذن فأنت تلحظ انك إذا رأيت " نون العظمة " التي نسميها " نون الجمع " نجد أننا نقول " :نحن "
للجماعة .أو للمتكلم الواحد حين يعظم نفسه ،ولذلك نلحظها حتى في قانون البشر ،ألم يقولوا في
الملكية " :نحن الملك " ،وهذه النون بالنسبة ل ليست نون الجماعة .إنما هو " نون العظمة " ،
العظمة الجامعة لكل صفات الكمال التي يتطلبها أي فعل من الفعال ،لذلك قال سبحانه } :سَنُ ْلقِي
عبَ { فكل قلب به كفر يحتاج إلى إلقاء الرعب فيه .إذن فتأتي نون
فِي قُلُوبِ الّذِينَ كَفَرُواْ الرّ ْ
العظمة لتستوعب كل هذه القلوب الكافرة؟.
وهو سبحانه ل يتجنى عليهم بالقاء الرعب ،ولكن هم الذين استحقوا أن يلقى في قلوبهم الرعب،
لماذا؟ " بما أشركوا " .إن الشراك بال هو الذي جاء لهم بالرعب؛ لن ال يفعل ،والشركاء ل
يفعلون .ولو أن شركاءهم حق لما تخلوا عنهم .فلماذا لم يأتوا بشركائهم لينصروهم؟ لقد جاءهم
الرعب لنهم ليس لهم مولى ،ولو كان لهم آلهة قادرة -كما يدعون -لقالوا لتلك اللهة :رب
محمد يعمل معنا هكذا فلماذا ل تقفون له يا أربابنا؟ لكنهم أشركوا بال ما ل يضر ول ينفع ،بل
ضره أقرب من نفعه.
سلْطَانا { والسلطان هو القوة والحجة والبرهان مأخوذة من مادة
} ِبمَآ َأشْ َركُواْ بِاللّهِ مَا َلمْ يُنَ ّزلْ بِهِ ُ
" السين واللم والطاء " ونقول :فلن تسلط على فلن ،أي أرغمه بقدرته عليه .ويقولون :فلن
سليط اللسان ،أي قادر أن يسب ،إذن فالسلطة هي :القهر ،والقوة التي ترغم على الفعل ،وفي
المعنويات هي الحجة والبرهان ،والمؤمنون دائما ذوو سلطان من ال؛ لنهم إن انتصروا ماديا
فذلك سلطان القهر ،وإن انهزموا ماديا فعندهم سلطان الحق والدليل؛ ولذلك قلنا سابقا :إن إبليس
عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي
يأتي يوم القيامة ويقولَ {:ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْي ُكمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
سكُمْ }[إبراهيم]22 :
وَلُومُواْ أَنفُ َ
وقلنا إن السلطان نوعان :إما قوة تقهرنا على أن نفعل المعصية ،وإما برهان ودليل يجعلنا نفعل
المعصية.
والفرق بين القوة القاهرة وبين سلطان الدليل هو أن القوة القاهرة تجعلك تفعل وأنت مرغم غير
راض عن الفعل .أما سلطان الدليل فيقنعك بأن تفعل؛ فتكون قد فعلت برضاك ،فمرة يأتي
السلطان بمعنى :قوة تقهرك على أن تفعل الفعل وأنت مرغم.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنما قوة الدليل تقنعك أن تفعل ،فيأتي الشيطان ليقر على نفسه في الخرة ويقولَ } :ومَا كَانَ ِليَ
عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ { أي ليس معي قوة تقهركم على المعصية وليس معي دليل يقنعكم حتى تفعلوا
عوْ ُتكُمْ
علَ ْيكُمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
المعصية ،ل هذا ول ذاك ،فما الحكاية إذن؟ قالَ } :ومَا كَانَ ِليَ َ
فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي { .أي إنكم أطعتموني واستجبتم لدعوتي بل سلطان قوة أقهركم به على شيء ،ول
سلطان دليل أقنعكم به.
ويذيل الحق الية بقولهَ } :ومَ ْأوَاهُمُ النّا ُر وَبِئْسَ مَ ْثوَىا الظّاِلمِينَ { أي أن المرجع الذي يأوون إليه
هو النار ،والمأوى؛ هو الموضع الذي ترجع أنت إليه .وكأن في هذا المرجع ذاتية من الكافر تلقيه
على النار فهو -أي الكافر -مأواه ومثواه الذي يرجع إليه .ولذلك يجب أن نفطن إلى قوله الحق
في بعض الساليب " :وإليه تَرجَعون " وقوله " :وإليه تُرجعون " } .وَبِئْسَ مَ ْثوَىا الظّاِلمِينَ { ..أي
مثوى ل مفر بعده أبدا ،فكل مثوى من الجائز أننا نرحل عنه ،لكن المثوى الذي سيبقى خلودا
حسّو َنهُمْ
للظالمين هو النار وهو بئس المثوى .وبعد ذلك يقول الحق } :وََلقَ ْد صَ َد َقكُمُ اللّ ُه وَعْ َدهُ ِإذْ تَ ُ
عصَيْتُمْ مّن َب ْعدِ مَآ أَرَاكُمْ مّا ُتحِبّونَ{ ...
لمْرِ وَ َ
بِإِذْنِهِ حَتّىا ِإذَا فَشِلْ ُت ْم وَتَنَازَعْتُمْ فِي ا َ
()542 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتأسرونهم ،أو الحس :هو الصوت الذي يخرج من النسان ،وما دام فقد الحس يعني انتهى { ،إِذْ
حسّو َنهُمْ بِإِذْنِهِ } فحينما صدقتم لقاءكم لعدوكم على منهج ال صدق ال وعده؛ هذا في بدر.
تَ ُ
عصَيْتُمْ }
لمْ ِر وَ َ
أما هنا في أُحد فقد جاء فيكم قوله { :حَتّىا إِذَا َفشِلْتُمْ } أي جبنتم { .وَتَنَازَعْ ُتمْ فِي ا َ
أمر الرسول { مّن َب ْعدِ مَآ أَرَاكُمْ مّا ُتحِبّونَ } وهي الغنائم { ،مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا َومِنكُم مّن يُرِيدُ
الخِ َرةَ } .كأنه سبحانه يعطينا العبرة من معركتين :معركة فيها صدق وعد ال ،وفعل انتصرتم،
وأيضا صدق وعد ال حينما تخليتم عن أمر الرسول فحدث لكم ما حدث .إذن فالمسألة مبسوطة
أمامكم بالتجربة الواقعية ،ليس بالكلم النظري وليس باليات فقط ،بل بالواقع.
أو أن المر كله دائر في أُحد ،نقول فرضا :هو يدور في أُحد ودع بدرا هذه ،حينما دخلتم أيها
المسلمون أول المر انتصرتم أم لم تنتصروا؟ لقد انتصرتم ،وطلحة بن أبي طلحة الذي كان
يحمل الراية للكفر قتل هو وبضعة وعشرون ،الراية الكافرة قد سقطت في أول المعركة ،وحامل
الراية يقتل وهذا ما وضحه قوله تعالى { :وََلقَ ْد صَ َد َقكُمُ اللّ ُه وَعْ َدهُ ِإذْ َتحُسّو َنهُمْ بِإِذْ ِنهِ حَتّىا ِإذَا
لمْرِ } فجماعة تقول :لنبق في أرض المعركة ،وجماعة تقول :ننسحب.
فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ا َ
ورأيتم الغنائم فحدث منكم كذا وكذا .فتأتي النكسة ،ولو لم يحدث ما حدث لكان من حقكم أن
تتشككوا في هذا الدين ،إذن فما حدث دليل على صدق هذا الدين ،وأنكم إن تخليتم عن منهج من
مناهج ال فل بد أن يكون مآلكم الفشل والخيبة والهزيمة.
لمْرِ } ،فجماعة قالوا :نظل كما أمرنا الرسول ،وجماعة قالوا:
{ حَتّىا إِذَا فَشِلْتُ ْم وَتَنَازَعْ ُتمْ فِي ا َ
نذهب إلى الغنائم { مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا َومِنكُم مّن يُرِي ُد الخِ َرةَ } ..وما دمتم قد تنازعتم وقالت
جماعة :لنتمسك بمواقعنا ،وقالت جماعة أخرى :لنذهب إلى الغنائم ،إذن فالذي أراد مواصلة
القتال إنما يريد الخرة ولم تلهه الغنائم ،والقسم الذي أراد الدنيا قال :لنذهب إلى الغنائم.
وفي هذه المسألة قال ابن مسعود رضي ال عنه :وال ما كنت أعلم أن أحدا من صحابة رسول
ال يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أُحد.
أي أنه لم يكن يتصور أن من بين الصحابة من يريد الدنيا ،بل كان يظن أنهم جميعا يريدون
الخرة ،فلما نزل قول ال } :مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا َومِنكُم مّن يُرِيدُ الخِ َرةَ { عرف ابن مسعود أن
من الصحابة من تتقلب به الغيار .وذلك ل يقدح فيهم؛ لنهم رأوا النصر ،فظنوا أن المسألة
انتهت؛ لقد سقطت راية الكفر ،وقتل المؤمنون عددا من صناديد قريش .ولقد عفا ال عن المؤمنين
وغفر لهم ما بدر منهم من مخالفة لمر رسوله -صلى ال عليه وسلم .-
} ُث ّم صَ َر َفكُمْ عَ ْنهُمْ لِيَبْ َتلِ َيكُمْ { نعم لنكم كنتم مشغولين بقتالهم قبل أن تنظروا إلى الغنائم ،فلما
نظرتم إلى الغنائم اتجه نظركم إلى مطلوب دنياكم ،فانصرفتم عنهم ،ولم تجهزوا عليهم ولم تتم
لكم هزيمتهم وقهرهمُ } ،ث ّم صَ َر َفكُمْ عَ ْنهُمْ لِيَبْتَلِ َيكُمْ { وابتلؤكم في هذه الغزوة إنما هو رياضة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتدريب على المنهج ،كأنهم غزوة مقصودة للبتلء ،فترون منها كل ما حدث .وبعد ذلك نجحت
التجربة ،فبعد هذه المعركة لم ينهزم المسلمون في معركة قط.
ولذلك يقولون :الدرس الذي يعلم النصر في الكثير ل يعتبر هزيمة في القليل .والمثال على ذلك:
لنفرض أن ولدا من الولد رسب سنة ،ثم حمل ذلة الرسوب ،نجده ينال بسبب ذلك مرتبة متميزة
بعد ذلك بين العشرة الوائل،إذن فالرسوب الول له كان خيرا.
عفَا عَ ْنكُمْ { لنه كان لكم وجهة نظر أيضا عندما تصورتم أن المعركة انتهت بسقوط راية
} وََلقَدْ َ
الكفر ومقتل طلحة بن أبي طلحة ومقتل بعض من الصناديد في معسكر الكفر ،فظننتم أن المسألة
انتهت ،لكن كان يجب أن تذكروا أن الرسول قال لكم :اثبتوا في مراكزكم وأماكنكم حتى لو
رأيتمونا نتبع القوم إلى مكة ،ولو رأيتموهم يدخلون المدينة.
ضلٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { وسبحانه جل وعل لم يخرجهم من
أيوجد تحذير أكثر من ذلك!؟ } وَاللّهُ ذُو َف ْ
صعِدُونَ وَلَ تَ ْلوُونَ عَلَىا
الحظيرة اليمانية بهذا القول الحكيم .ويقول الحق من بعد ذلكِ } :إذْ ُت ْ
ح ٍد وَالرّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَا ُكمْ{ ...
أَ
()543 /
حدٍ } هنا جاء لهم بلقطة من المعركة ،حتى إذا سمع كل واحد
ن َولَ تَ ْلوُونَ عَلَىا أ َ
صعِدُو َ
{ ِإذْ ُت ْ
صعِدُونَ } ،فيه "
منهم هذا الكلم يستحضر الصورة المخزية التي ما كان يصح أن تحدثِ { ،إذْ ُت ْ
صعَد " ،و " أًصعد " أي ذهب في الصعيد،
صعِدُون } من " َأ ْ
َتصْعد " ،وفيه " تُصعِد " وهنا { ُت ْ
صعِدَ " تحتاج إلى أن يكون
والصعيد الرض المستوية حتى تعينه على سرعة الفِرار .إنما " َ
هناك مكان عالٍ يصعدون إليه .وهم ساعة أرادوا أن يفروا جَ َروْا إلى الرض السهلة ومَشَوا ،فكل
ن َولَ تَ ْلوُونَ عَلَىا أحَدٍ }
صعِدُو َ
منهم ل يريد أن يتعثر هنا أو هناك ،إذن فالمناسب لها { ِإذْ ُت ْ
والفار ل ينظر هنا أو هناك؛ ليس أمامه إل الرض السهلة.
{ َولَ تَ ْلوُونَ عَلَىا أحَدٍ } أي ل تعرجون على شيء ،والهم من ذلك أن هناك تنبيها من القائد
العظم وهو الرسول صلى ال عليه وسلم الذي يدعوكم " والرسول يدعوكم في أخراكم " أي
غ َممْتُم الرسول
يناديكم من مؤخرتكم طالبا منكم العودة إلى ميدان القتال " فأثابكم غما بغم " .أنتم َ
صلى ال عليه وسلم بأنكم خالفتم أوامره ،فوقفكم ال هذا الموقف.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غمّاً ِبغَمّ } كأنه يقول :عاقبكم .ولكنه سبحانه يأتي بها مغلفة بحنان اللوهية
كلمة { فَأَثَا َبكُمْ َ
{ فَأَثَا َبكُمْ } .إذن فهي ثواب ..أي أن الحق سبحانه وتعالى بربوبيته وبألوهيته؛ يعلم أن هؤلء
غمّاً ِب َغمّ } فكأن ما حدث لكم تخليص حق.
مؤمنون فلم َيقْسُ عليهم ،قال { :فَأَثَا َبكُمْ َ
{ ّلكَيْلَ َتحْزَنُواْ عَلَىا مَا فَا َتكُمْ } ولو لم تحدث مسألة الحزن والخزي والذلة لشغلتكم مسألة أنكم
فاتتكم الغنائم والنصر ،ولظل بالكم في الغنائم؛ لنها هي السبب في هذا .كأن الغم الذي حدث إنما
جاء ليخرج من قلبكم لقطة سيل اللعاب على الغنيمة .وما أصابكم من القتل والهزيمة { ،فَأَثَا َبكُمْ
غمّاً ِبغَمّ ّلكَيْلَ َتحْزَنُواْ عَلَىا مَا فَا َتكُ ْم َولَ مَآ َأصَا َبكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } أي أنه سبحانه يقدر
َ
ما الذي استولى عليكم ،لن من الجائز { وَالرّسُولُ َيدْعُوكُمْ فِي أُخْرَا ُكمْ } أنهم لم يسمعوا النداء من
هول المعركة { ،وَاللّهُ خَبِيرٌ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } وهو سبحانه خبير بكل فعل وإحساس .ويقول الحق من
سهُمْ
بعد ذلكُ { :ثمّ أَن َزلَ عَلَ ْيكُمْ مّن َبعْدِ ا ْلغَمّ َأمَنَةً ّنعَاسا َيغْشَىا طَآ ِئفَةً مّ ْنكُ ْم وَطَآ ِئفَةٌ قَدْ أَ َهمّ ْتهُمْ أَ ْنفُ ُ
يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ ا ْلحَقّ ظَنّ ا ْلجَاهِلِيّةِ} ...
()544 /
وكلمة { أَن َزلَ } تدل على أن هذا عطاء عُلوي ليس له شأن بالسباب المادية ول بالقوانين
البشرية؛ لن النوم عرض من العراض التي تطرأ على الحياء ،هذا العرض تستوجبه عمليات
كيماوية في نفسك ،وهذه العمليات الكيماوية حتى الن ل يعرفون ما هي ،وأقصى ما فُهم منه أنه
ردع ذاتي لجسم النسان .فكأن الجهاز المتحرك المكون من مخ يعمل ،وعين ترى ،وأذن تسمع،
وحواس وحركة هذا الجهاز له طاقة ،ساعة تنتهي منه الطاقة ،ل يقول لك :أنت الذي تترك
العمل .ل ،بل يقول لك :أنا لم أعد صالحا للعمل .إنه ردع ذاتي ،مثلما يريدون أن يصلوا إليه
الن في مجال اللت بمجرد فصل تيار الكهرباء آليا عن تلك اللت فهي تتوقف.
فالردع الذاتي هو في النوم ويأتيك النعاس .وتبين بالبحث العلمي أن هناك أشياء في الجسم ل
تخرج كفضلت .بل تحتاج إلى التعادل والتوازن الكيميائي .ونحن نعلم أن هناك بقايا كنتيجة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للحركة ،وهناك احتراق للطاقة ،وكل حركة فيها احتراق ،وبقايا هذا الحتراق تخرج مرة على
هيئة بول ,ومرة يخرج غائطا ومرة يخرج مخاطا ،وهكذا ،إذن كثير من هذه الفضلت هي نتيجة
عمليات الحتراق ،لكن هناك أشياء ل نريد لها أن تخرج ولكن نريدها أن تتعادل ،فعندما تنام ل
يوجد لك حركة وتبتدئ الكيماويات داخل الجسم في التعادل ،وهذا هو ما يفعله لك النوم الذي
تستوجبه أسبابك المادية.
وصاحب الهم والغم ل ينام أبدا؛ فهو يسهو عن نفسه ويرهق جسمه أكثر وتكون المصيبة كبيرة
عليه ،وهنا ينزل الحق فضله عليكم بالنوم لن أسبابكم ل تساعد أيا منكم على أن ينام.
وأنتم تذكرون قديما أننا قلنا :إن المام عليّا كرم ال وجهه لما اشْ ُتهِرَ بالفتيا ،وكلما سألوه عن أمر
أفتى فيه ،فقالوا :نأتي له بمسألة معقدة ونرى كيف يأتي بالفتيا ،وكأنهم نسوا أنه يُفتى لنه تربى
في حضن النبوة ،فقد جاءت النبوة رسول ال صلى ال عليه وسلم وسيدنا على مازال صغيرا ،أما
الصحابة الخرون فقد جاءت النبوة لرسول ال صلى ال عليه وسلم وهم كبار في السن ،فهناك
معلومات دخلت عندهم من أيام الجاهلية ،ولكن سيدنا عليّا كرم ال وجهه لم تدخل عليه معلومة
من معلومات الجاهلية .كل المعلومات التي عنده نبوية ،فكل هذا التفاعل ينشأ عنه فُتيا؛ لذلك كان
سريعا في الفتاء.
على سبيل المثال ،تأتي له امرأة فتقول :يا ابن أبي طالب كيف يعطونني دينارا من ستمائة؟
خّلفَ ستمائة دينار فأعطوني دينارا واحدا .فقال لها :لعله مات عن زوجة ،وعن بنتين،
مورثي َ
وعن أم ،الزوجة تأخذ الثُمن (خمس وسبعين دينارا) والبنتان تأخذان الثلثين (أربعمائة دينار)
وللم السدس وهو مائة دينار ،ولعل له اثنى عشر أخا وأختا واحدة ،أشقاء أو لب ،وأنت هذه
الخت وقد بقي من التركة خمسة وعشرون دينارا توزع على الثني عشر أخا والخت ،فيكون
نصيبك دينارا.
كيف عرف ذلك؟ إنها دقة الحساب عند من تعلم في بيت النبوة.
وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد أن الحق قد أنزل عليهم نعاسا ليؤمنهم فلم ينشأ
النوم هنا من حركة الختيار ،ولكن ال أنزله ،ومعنى " أنزله "؛ أنه بعث رحمة جديدة من السماء
ليُخرج القوم الذين أصابهم الغم على ما فعلوا مما هم فيه .ولذلك قال أبو طلحة :غشينا النعاس
ونحن في مصافنا يوم أحد فكان السيف يسقط من أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه.
إذن فهي عملية قسرية .والنعاس حينما ينزل من الحق سبحانه وتعالى يكون عملية إنقاذ من حركة
فاتت فرصتها على النفس البشرية فعوضها ال ،ولكن القوم الذين نافقوا ماذا كان حالهم؟ ل شك
أن الذين جاءوا نفاقا لم يصبهم غم على ما حدث .بل بالعكس ،ل بد أن يكون قد أصابهم فرح أو
اطمئنان على ما حدث ،وهؤلء ل يكونون أهل لن ينزل ال عليهم أمنة النعاس .بل يتركهم ال
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذواتهم؛ لنهم لم يكونوا في حصن ال باتباع منهج السلم أو بالخلص -على القل -لفكرة
السلم ،هؤلء يسلمهم ال لذواتهم.
إذن فلن يُنزل عليهم أمنة النعاس .وما دام لن ينزل عليهم أمنة النعاس ،فقد أصبحوا في قلق،
لماذا؟ لن نفوسهم قد أهمتهم .والنسان حين يؤمن ويتقبل السلم من ربه يكون قد باع نفسه
لربه ،وما دام قد باع نفسه لربه فالصفقة اليمانية لبد أن تستمر .وإذا استيقظ المسلم مرة لنفسه
نقول له :لقد رجعت في عقد الصفقة .وما دمت قد رجعت في عقد الصفقة فال الذي كان قد
سهُمْ { أي خرجوا عن صفقة اليمان؛ لن الذي يعقد
اشتراك يتركك لنفسك ،فقوله } :أَ َهمّ ْتهُمْ أَ ْنفُ ُ
سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ
صفقة باليمان مع ربه ،هو من قال ال فيه {:إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ
ن َومَنْ
ل وَا ْلقُرْآ ِ
حقّا فِي ال ّتوْرَاةِ وَالِنْجِي ِ
ن وَعْدا عَلَ ْيهِ َ
ن وَيُقْتَلُو َ
َلهُمُ اّلجَنّةَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ َيقْتُلُو َ
َأ ْوفَىا ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َيعْتُمْ بِهِ وَذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ }[التوبة]111 :
وما دام ال قد اشترى من المؤمن نفسه فيجب على المؤمن أل تهمه نفسه ،فيدخل المعركة
بالصفقة اليمانية ،فإذا أهمته نفسه يبدأ القلق ،والبلبلة ،والضطراب ،وتوهم الشياء ،والشيء
الواحد يتوهمه على ألف لون .إذن فنفسه تكون غير مطمئنة ،وما دام النسان قد شغله هم نفسه
حتى لو كان النعاس استجابة لمر طبيعي من ذات النفس فل يأتي النعاس أبدا.
ولذلك نجد أن المام عليّا -رضوان ال عنه وكرم ال وجهه -حينما سُئل عن أشد جنود ال؟
بسط يديه وقال:أشد جنود ال عشرة :الجبال الرواسي ،والحديد يقطع الجبال ،إذن فالحديد أشد من
الجبال ،والنار تذيب الحديد ،والماء يطفئ النار ،والسحاب المسخر بين السماء والرض يحمل
الماء ،والريح يقطع السحاب ،وابن آدم يغلب الريح يستتر بالثوب أو الشيء ويمضي لحاجته،
والسُكر يغلب ابن آدم ،والنوم يغلب السُكر ،والهم يغلب النوم ،فأشد جنود ال " الهم ".
فساعة يدخل الهم على النفس البشرية ،هذا أشد جنود ال؛ لن الهم يدخل على النفس البشرية
بألوان متعددة للخطب الواحد ،فيتصور أمورا معقدة في أمر واحد ،وواقعة على لون واحد ،ولكن
الهم يجول به في كل لون؛ فهؤلء قد أهمتهم أنفسهم وما داموا قد أهمتهم أنفسهم فقد خرجوا عن
صفقة اليمان .وما داموا قد خرجوا عن صفقة اليمان الذي بوساطته اشترى ال من المؤمنين
أنفسهم ،فال يتخلى عنهم .وما دام ال قد تخلى عنهم فعليهم مواجهة المصير.
إن القلق والضطراب يستبدان بهم ويصابون بالفزع من كل شيء .لكن حال الصنف الول
والطائفة الولى يختلف؛ فال سبحانه وتعالى يعاملهم معاملة من بقي في الصفقة اليمانية وإن
كانت نفوسهم البشرية قد فسرت الحداث تفسيرا خاطئا ،فظنوا أن المسألة في المعركة انتهت،
فذهبوا لخذ الغنيمة ,إن هؤلء قد احترم ال بقاءهم على الخلص للسلم ،وأدبهم على تفسيرهم
للحداث تفسيرا غير حق ،فأثابهم غما لما خالفوا فيه ،وأنزل عليهم أمنه لخلصهم في قضية
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السلم.
سهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ ا ْلحَقّ ظَنّ ا ْلجَاهِلِيّةِ { وإذا سمعت كلمة " طائفة "
} وَطَآ ِئفَةٌ َقدْ أَ َهمّ ْتهُمْ أَ ْنفُ ُ
فاعلم أنها جماعة ،لكن هذه الجماعة لها مواصفات خاصة هي التي تجمعها على فكرة واحدة
كأنهم يطوفون حولها ،إنها ليست مطلق جماعة لكنها جماعة تدور حول فكرة واحدة ,ويأتي القول
الحكيم هنا ليبين لك ما قالوه في نفوسهم ،وما داموا قد قالوا في نفوسهم ،أسمعهم أحد؟ ل ،ولكن
ال أخبر به ،وأخبر بما في نفوسهم جميعا بقول واحد ،مما يدل على أنهم يطوفون حول فكرة
شيْءٍ { وما
لمْرِ مِن َ
واحدة ,فالنضح الوجداني يجعلهم يقولون جملة واحدة هي } :هَل لّنَا مِنَ ا َ
علِيمٌ ِبذَاتِ
داموا سيقولون في نفوسهم فمن الذي سمعهم وهم جماعة؟ إنه ال -سبحانه } -وَاللّهُ َ
الصّدُورِ {.
وأنت إذا قلت " طائفة " تجد أنها في عرف اللفظ " مفرد " ،وعندما تجمعها تقول " :طوائف " ،
لكن هي لفظ مفرد يدل على جمع ،فمرة يلحظ المفرد ،ومرة يلحظ ما يؤديه المفرد من الجمع.
وهذه ل يتنبه إليها إل البليغ ،فيفرق بينها كلفظ مفرد وبين ما تدل عليه كجمع ،ولذلك تجد هذا في
حدَا ُهمَا
إعجاز القرآن ،فالحق يقول {:وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا فَإِن َب َغتْ إِ ْ
عَلَىا الُخْرَىا َفقَاتِلُواْ الّتِي تَ ْبغِي حَتّىا َتفِيءَ إِلَىا َأمْرِ اللّهِ فَإِن فَآ َءتْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا بِا ْلعَ ْدلِ
سطِينَ }
حبّ ا ْلمُقْ ِ
وََأقْسِطُواْ إِنّ اللّهَ ُي ِ
[الحجرات ]9 :وحينما يقول } :وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ { فهو هنا يأتي بالخبر ،اقتتلتا أو
اقتتلوا؟ إنه سبحانه يقول } :اقْتَتَلُواْ { ،اللفظة طائفتان لكن الدقة البلغية لحظت أن كل طائفة
مكونة من جماعة } .وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَتَلُواْ { فماذا نفعل؟ } فََأصِْلحُواْ بَيْ َن ُهمَا { ،فمرة
رجع للجماعة ومرة رجع للثنتين ،ففي ساعة القتتال ل تقف الطائفة بسيف واحد وتضرب
ضربة واحدة ،ل ،ففي ساعة القتال كل فرد من الطائفة له عمل ،إذن فالفردية المكونة للطائفة
متعددة.
لكن عندما نصلح هل نأتي بكل فرد من هذه الطائفة وبكل فرد من الطائفة الخرى أو نأخذ هذه
الطائفة ممثلة في رؤوسها والطائفة الخرى ممثلة في رؤسها ونعقد الصلح بين الطائفتين؟ فدقة
القرآن تقول } :وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا { وبعد ذلك يعود الحق للتثنية
حدَا ُهمَا عَلَىا الُخْرَىا َفقَاتِلُواْ الّتِي تَ ْبغِي حَتّىا َتفِيءَ إِلَىا َأمْرِ اللّهِ فَإِن فَآ َءتْ
فيقول } :فَإِن َب َغتْ إِ ْ
فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا { والصُلح يكون بين جماعة ممثلة في قيادة وجماعة أخرى ممثلة في قيادة.
سهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ ا ْلحَقّ ظَنّ ا ْلجَاهِلِيّةِ َيقُولُونَ هَل لّنَا مِنَ
وقوله الحقَ } :وطَآ ِئفَةٌ قَدْ أَ َهمّ ْتهُمْ أَ ْنفُ ُ
سهِم مّا لَ يُ ْبدُونَ َلكَ َيقُولُونَ َلوْ كَانَ لَنَا مِنَ
خفُونَ فِي أَ ْنفُ ِ
لمْرَ كُلّهُ للّهِ يُ ْ
ناَ
شيْءٍ ُقلْ إِ ّ
لمْرِ مِن َ
اَ
شيْءٌ مّا قُتِلْنَا هَاهُنَا { هذا القول يدل على أنها طائفة تدور حول حركة واحدة ،ويدل على
لمْرِ َ
اَ
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن النفاق نفاق متفق عليه ،وليس كل واحد منهم ينافق في نفسه ،ل إنها طائفة المنافقين ،وقد
كوّنوا جماعة ،ولهم سياسة مخصوصة ،ولهم كلم مخصوص ولهم وحدة قول ،تعرفهم من قول
حقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ {.
سهُمْ َيظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْ َ
الحق } وَطَآ ِئفَةٌ قَدْ َأ َهمّ ْتهُمْ أَ ْنفُ ُ
ونعرف أن الحق هو الشيء الثابت ،وما دام ثابتا فهو ل يتغير ،وقضية الحق فيه تكون مطردة،
فال حق ،خلق السماوات والرض ،وكل الكون بالحق ،أنزل كتابه بالحق ،كله حق ،فهم يظنون
بال غير الحق مع أنه حق ،ونشأ الكون منه بقانون حق ،واستمرت سنن ال في الكون بالحق،
وهو دائما ينصر الحق ،وهم يظنون بال غير الحق ،يقولون :ربنا لم ينصرنا على الرغم من أنه
وعدنا بالنصر ،وتناسوا العناصر التي جعلها ال أسبابا للنصر ،إنها سُنّة ال وسُنّة ال تتحقق ولو
على أحبابه ،لقد خالفوا أمر الرسول ،فل بد أن ينهزموا ،فل مجاملة لحد ،فالذي يخالف ل بد أن
يأخذ جزاءه؛ لن هذا هو الحق.
كان يجب أن يقولوا إن الحق واضح لدرجة أن أحبابه ومعهم رسوله حينما خالفوا عن أمر ال
الذي قاله الرسول صلى ال عليه وسلم طبق ال عليهم سُنته إذن فهي سنة بالحق ،لكنهم ظنوا بال
ظن الجاهلية ،والمقصود به إما ظن أهل الجاهلية؛ وإمّا أن تكون الجاهلية عَلَما على السّفه كله،
وهذا الظن له نضح سلوكي.
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السلم عقوبة صارمة عليه وهي قطع يده.
شيْءٌ مّا قُتِلْنَا هَاهُنَا { وهذه هي
لمْرِ َ
ناَ
سهِم مّا لَ يُبْدُونَ َلكَ َيقُولُونَ َلوْ كَانَ لَنَا مِ َ
خفُونَ فِي أَ ْنفُ ِ
} ُي ْ
الفضيحة لهم ،فماذا كانوا يريدون أن يكون لهم؟ كانوا يريدون أل يخرجوا للمعركة فقالوا :لو كان
لنا من المر شيء واتبعنا منطقنا ،لما جئنا الموقعة هنا وحصل لنا ما حصل ،هذه واحدة ،أو لو
كان لنا شيء من الظفر الذي وعد ال به محمدا وأصحابه ما قتلنا ها هنا ،فعلى الرأيين يصح
المعنى ،فكأنهم أرادوا أن يعللوا القتل أو الموت بأسبابـ ،ومن الذي قال :إن القتل أو الموت
يتعلق بأسباب؟ إن الموت قضية تطرأ لعدام الحياة ،وهي مجهولة السبب ومجهولة الزمان
ومجهولة المكان ومجهولة العمر.
إذن فما دامت المسألة مجهولة فلماذا ربطتم بين القتل والموقعة؟ وهل لم تروا إنسانا مات وليس
في موقعة؟ ألم تروا إنسانا قد قُتل وليس في موقعة؟ لو أن القتل ل ينشأ إل في مواقع قتال الحرب
لكان لكم أن تقولوا هذا ،إنما القتل والموت قضية عامة لها واقع في حياتكم.
هذا الواقع لم يرتبط بأرض ،ولم يرتبط بزمان ،ولم يرتبط بسن ،ولم يرتبط بسبب ،وإنما الموت
يأتي لنك تموت ،انتهت المسألة.
إذن فهم عندما ربطوا القتل والموت بالموقعة فهم قد خرجوا عن القضية اليمانية .ولذلك يأتي
الرد من الحق بأمر واضح للرسول صلى ال عليه وسلم } :قُل ّلوْ كُنتُمْ فِي بُيُو ِتكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ
ج ِعهِمْ { .فكأنك أيها الميت قد تكون َأحْرَص على لقاء الموت من
كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقَ ْتلُ ِإلَىا َمضَا ِ
حِرْص الموت عليك .بدليل أننا قلنا :إن النسان يكون مريضا ،ويلح على أن تُجري له عملية
جراحية فيعتذر الطبيب قائل :عندي عدد كبير من الجراحات فانتظر شهرا ،فيأتي له المريض
بوساطة لكي يقبل الطبيب إجراء العملية الجراحية ويلح عليه .ويعلى أجر الطبيب وقد يموت
المريض .إذن فهو يلح على الموت أو ل؟ إنه يلح على الموت.
ج ِعهِمْ { وكلمة " بَرَزَ "
يقول الحقّ } :لوْ كُن ُتمْ فِي بُيُو ِتكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقَ ْتلُ إِلَىا َمضَا ِ
تدل على اندفاع حركي ،فمعنى :بَرَزَ من الصف؛ يعني أن الصّف له التئام واقعي ،والذي يبرُز
إنما يقوم بحركة مخالفة للصف ،هذه حركة.
ج ِعهِ ْم وَلِيَبْتَِليَ اللّهُ مَا فِي صُدُو ِركُمْ
} قُل ّلوْ كُنتُمْ فِي بُيُو ِتكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْتلُ إِلَىا َمضَا ِ
حصَ مَا فِي قُلُو ِبكُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ { والذي يبرز إلى المضجع هو من يخرج من
وَلِ ُيمَ ّ
مكان الستقرار ،وإلّ فكيف يكون البتلء لمن يقدر ال سبحانه أن يحملوا معركة السلم إلى أن
تقوم الساعة إذا لم تكن هذه المسائل؟ ل بد أن يكونوا قوما قد عركتهم التجربة ،مُمحصين
بالحدث حتى ل يكون مأمونا على حمل السلح في السلم إل هؤلء الصفوة المختارة.
فساعة يقول الرسول صلى ال عليه وسلم بالخروج ،وينتهي إلى أن يخرج إلى أحُد ،نجد جماعة
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يتخاذلون بوساطة ابن أبي ،هذه أول تصفية ،وبعد ذلك ينقسم الرُماة ،وهذه تصفية أخرى ،فريق
يظل وفريق ينزل للغنائم ،وبعد ذلك ُيشَاع أن الرسول صلى ال عليه وسلم قد قُتل ،هذه تصفية
ثالثة.
حصَ مَا فِي قُلُو ِبكُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ ِبذَاتِ الصّدُورِ { وكلمة " ذات
} وَلِيَبْتَِليَ اللّهُ مَا فِي صُدُو ِركُمْ وَلِ ُيمَ ّ
الصدور " معناها صاحبة الصدور .وفي الصدر يحرص النسان على إخفاء المر الذي يحب أن
يحتفظ به لنفسه بِحرْص كحرص الصاحب على صاحبه ،كأن الصدر حريص على أل يسلم ما
فيه ،ولكن ال سبحانه وتعالى يفضحهم أمام الناس ،ويفضحهم أمام نفوسهم؛ فقد يجوز أن يكونوا
مغشوشين في نفوسهم.
ج ْمعَانِ إِ ّنمَا اسْتَزَّلهُمُ الشّيْطَانُ بِ َب ْعضِ
ويقول الحق من بعد ذلك } :إِنّ الّذِينَ َتوَّلوْاْ مِنكُمْ َيوْمَ الْ َتقَى الْ َ
مَا كَسَبُواْ{ ...
()545 /
http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا