You are on page 1of 228

‫تفسير الشعراوي‬

‫طعَمُ ُقلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأ ّولَ‬


‫طعِ ُم وَلَا ُي ْ‬
‫ض وَ ُهوَ يُ ْ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ُقلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِذُ وَلِيّا فَاطِرِ ال ّ‬
‫مَنْ أَسَْل َم وَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ (‪)14‬‬

‫والهمزة هنا في " أغير " يسمونها همزة النكار كقول قائل‪ :‬أتسب أباك؟ إنها ليست استفهاما بقدر‬
‫ما هي توبيخ ولوم‪ .‬وكذلك‪ { :‬أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِ ُذ وَلِيّا }‪ .‬أي أن الحق يأمر رسوله أن يستنكر اتخاذ‬
‫ولي غير ال‪.‬‬
‫إن اتخاذ ال كولي هو أمر ضروري؛ لن النسان تطرأ عليه أحداث تؤكد له أنه ضعيف وله‬
‫أغيار‪ ،‬وساعة ضعف النسان ل بد أن يأوي إلى من هو أشد منه قوة ول يتغير‪ .‬إن الولي ‪-‬‬
‫وهو ال ‪ -‬قوته ل يمكن أن تصير ضعفا‪ ،‬وغناه ل يمكن أن ينقلب فقرا‪ ،‬وعلمه ل يمكن أن يئول‬
‫إلى جهل‪ .‬إنه مُغيّر ول يتغير‪ .‬ولذلك فمن نعمة ال على خلقه أنه جعل من نفسه وليّا لهم‪ ،‬فهو‬
‫صاحب الغيار‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يعلّم خلقه أن يكونوا أهل حكمة؛ يضعون المور في نصابها ويتوكلون‬
‫عليه‪ ،‬فهو الحي الذي ل يموت‪ .‬ونلحظ أن الحق هنا يأمر رسوله بالبلغ عنه‪ .‬وتتجلى هنا دقة‬
‫الداء القرآني فيأتي البلغ كما نزل من الحق حرفيا‪ .‬مثال ذلك قول الحق سبحانه‪ُ {:‬قلْ ُهوَ اللّهُ‬
‫حدٌ }[الخلص‪.]1 :‬‬
‫أَ َ‬
‫ويبلغنا الرسول صلى ال عليه وسلم بالنص القرآني كما نزل عليه‪ ،‬مبتدئا بكلمة " قل " ويبلغه‬
‫الرسول لنا بأمانة البلغ عن ربه‪ .‬وهو هنا يقول‪ُ { :‬قلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِ ُذ وَلِيّا }‪ .‬وهو الله الذي‬
‫جاءت كمالته في اليات السابقة؛ الذي خلق السماوات والرض‪ ،‬وجعل الظلمات والنور وله ما‬
‫سكن في الليل والنهار‪ ،‬هذا الله الحق هو الجدير بالعبادة‪.‬‬
‫ويريد الحق لرسوله أن يستخرج من الناس الجابة‪ ،‬ل أن يقول هو‪ :‬ل أتخذ وليا غير ال‪،‬‬
‫خ ُذ وَلِيّا }‪ .‬وليكن السؤال مطروحا منك يا‬
‫وسبحانه يأمر رسوله أن يسألهم‪ُ { :‬قلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّ ِ‬
‫رسول ال تبليغا عن ال‪ ،‬وتعطى لهم الحرية في الجابة‪ ،‬وسيكون الجواب كما تريد‪.‬‬
‫وعندما يسمع النسان مثل هذا السؤال ل بد أن يسأل نفسه ويدير عقله كي يجد جوابا‪ .‬ولن يجد‬
‫النسان جوابا سوى أن يقول‪ :‬ليس لي وَليّ غير ال؛ فالولي هو القريب الذي ينصر النسان في‬
‫ضعفه‪ ،‬وإن استصرخه جاء لينقذه‪.‬‬
‫ول يستصرخ النسان أحدا إل إذا انتابه حادث جلل‪ ،‬فإذا ما جاء القوي ليغيث صاحبه الصرخة‬
‫فهو يطمئن إلى أن من جاءه سيعينه ويخلصه‪ .‬واتخاذ الولي أمر فطري في الكون‪ ،‬والمر المنكر‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أن يجعل النسان لنفسه وليا غير ال‪ .‬ونحن ‪ -‬المؤمنين ‪ -‬يتخذ بعضنا بعضا أولياء في إطار‬
‫ضهُمْ َأوْلِيَآءُ َب ْعضٍ يَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ‬
‫الولية ل مصداقا لقوله الحق‪ {:‬وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتُ َب ْع ُ‬
‫ح ُمهُمُ اللّهُ‬
‫ل َة وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَيُطِيعُونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ ُأوْلَـا ِئكَ سَيَ ْر َ‬
‫وَيَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَ ُيقِيمُونَ الصّ َ‬
‫حكِيمٌ }‬
‫إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫[التوبة‪.]71 :‬‬
‫ويتبادل المؤمنون والمؤمنات المحبة والنصرة طبقا للتعاقد اليماني بينهم وبين الحق سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬ويأمر بعضهم بعضا بأوامر المنهج‪ ،‬وينهى بعضهم بعضا عن المحظورات التي حرمها‬
‫ال ويتواصلون مع الحق بإقامة الصلة‪ .‬ويؤدون حق ال في مالهم بالزكاة‪ ،‬ويطيعون ال‬
‫ويمتثلون أوامر رسوله‪ ،‬وهم بذلك ينالون وعد ال الحق بالرحمة‪ ،‬وهو سبحانه القادر على‬
‫رعايتهم‪ ،‬وهو حكيم في صيانتهم‪ ،‬عزيز ل يغلبه أحد‪.‬‬
‫إذن فأنت تطلب الولي لحظة الضعف‪ ،‬ولحظة الشدة‪ ،‬ول يوجد إنسان استوت له كل زوايا الحياة‬
‫فيصير قويا ل يضعف أبدا‪ ،‬أو يصير غنيا ل يفتقر أبدا‪ .‬ونعلم أن النسان من الغيار‪ ،‬فلم نر‬
‫قويا ثبتت له قوته‪ ،‬ول غنيا ثبت له ثراؤه؛ فالنسان ابن الغيار‪ ،‬وتأتي له حالت فوق قدرته؛‬
‫لذلك فهو يسأل عمن يعينه ويساعده‪ .‬والمؤمن يحب أيضا أن يكون قويا ليساعد غيره؛ لن الحق‬
‫سبحانه وتعالى قد وزع المواهب على خلقه في الكون ليضمن بقاء الولية واستمراريتها‪ ،‬فأنت‬
‫في احتياج إلى عمل إنسان آخر؛ لنك ضعيف في ناحية وغيرك قوي فيها‪ ،‬الطبيب يحتاج إلى‬
‫المهندس‪ ،‬والمهندس يحتاج إلى الطبيب‪ ،‬والطبيب والمهندس يحتاجان إلى الفلح‪ ،‬والفلح يحتاج‬
‫إلى عمل المهندس والطبيب‪ ،‬والطبيب والمهندس والفلح يحتاجون إلى عمل المحامي‪.‬‬
‫هكذا وزع ال المواهب في الكون‪ ،‬ولم يجعل من إنسان مجمعا لكل المواهب‪ .‬وذلك حتى يتساند‬
‫المجتمع ل بالتفضيل والتكرم بل بتساند الحاجة‪ .‬فكل إنسان هو سيد في زاوية ما من زوايا‬
‫سمْنَا بَيْ َنهُمْ‬
‫الحياة‪ ،‬وبقية الزوايا يسودها غيره من البشر‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه‪ {:‬نَحْنُ قَ َ‬
‫ح َمتُ‬
‫ضهُم َبعْضا سُخْرِيّا وَرَ ْ‬
‫خذَ َب ْع ُ‬
‫ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ لّيَتّ ِ‬
‫ّمعِيشَ َتهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ‬
‫ج َمعُونَ }[الزخرف‪.]32 :‬‬
‫رَ ّبكَ خَيْرٌ ّممّا َي ْ‬
‫هذا هو العلن من ال سبحانه وتعالى بأنه وزع المواهب بين البشر ليتسادنوا ويُسخر بعضهم‬
‫بعضا في قضاء حوائج بعضهم بعضا لتنتظم أمور الحياة‪ .‬وفي هذا التقسيم رحمة من الحق‬
‫بالخلق‪ .‬فلو تساوى الناس في الذكاء‪ ،‬وصاروا كلهم من العباقرة‪ ،‬فمن هو الذي سيتولى أمور‬
‫تنظيم الشوارع؟ ومن الذي سيقوم بأعمال وصيانة المباني ورعاية وإطعام الحيوان والقيام على‬
‫أمره ونحو ذلك من المور التي ل تنتظم الحياة إل بها؟‬
‫وكلنا يرى الرجل الذي ينزح آبار المجاري ويخرج في الصباح قائلً‪ :‬يا فتاح يا عليم‪ ،‬يا رزاق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كريم‪ .‬ويطلب بئرا جديدا من المجاري لينزحه حتى يكسب قوت نفسه وعياله‪ .‬وكل منا مضطر‬
‫سخْرِيّا }[الزخرف‪.]32 :‬‬
‫ضهُم َبعْضا ُ‬
‫ومحتاج إلى غيره‪ ،‬وهذا هو معنى‪ {:‬لّيَتّخِذَ َب ْع ُ‬
‫إذن فاتخاذ الولي هو أمر فطري‪ .‬واليمان بال يعطينا ذكاء اختيار الولي‪ .‬فالنسان المؤمن عليه‬
‫أن يختار الولي الذي يجده عندما يحتاج إليه؛ لذلك فعليه أن يختار ولية ال‪ ،‬ول يختار ولية‬
‫الغيار‪ .‬فيسخر ال للمؤمن حتى عدوه ليخدمه‪ .‬لذلك يبلغنا الحق على لسان رسوله‪ُ } :‬قلْ أَغَيْرَ‬
‫اللّهِ أَتّخِذُ وَلِيّا { والذين ينكرون علينا أن نتخذ ال وليا ويريدون أن نتخذ غيره يرون في أنفسهم‬
‫المثل‪.‬‬

‫‪ .‬فقد يخيب رجاؤهم‪ ،‬فالنسان منهم قد يتخذ إنسانا مثله وليا‪ ،‬وساعة يحتاج إليه يجده مريضا أو‬
‫غائبا أو تغير قلبه عليه‪ ،‬لكن المؤمن يختار ال وليه لنه الذي ل يغيب ول يتغير‪ ،‬ول يضعف‪.‬‬
‫ول ينكر القرآن أن يتخذ النسان له وليا من البشر‪ ،‬ولكن الحق يدلنا على أنه الولي الحق‪ ،‬وأن‬
‫المؤمن عليه أن يتخذ إخوته المؤمنين أولياء له؛ لنها ولية من ال وفى ال‪.‬‬
‫وأنت أيها المسلم حين تختار الحق سبحانه وتعالى وليا لك فهو الذي يُحْضر لك كل زوايا‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَ ُهوَ‬
‫المواهب ويعدّها ويهيئها لتكون في خدمتك؛ لنه سبحانه وتعالى‪ } :‬فَاطِرِ ال ّ‬
‫طعَمُ { وقد خلق السموات والرض على غير مثال‪ .‬وسبحانه قد أبدع هذا الكون دون‬
‫طعِمُ وَلَ ُي ْ‬
‫يُ ْ‬
‫نموذج مسبق‪ .‬وحين أراد سيدنا عيسى عليه السلم أن يثبت لقومه معجزته جاء بالطين وجعله‬
‫كهيئة الطير‪ ،‬إذن فهناك مثال سبقه ووجده واتبعه‪ .‬وعيسى إنسان من الخلق‪ ،‬أما خالق كل الخلق‬
‫فقد خلق السموات والرض على غير مثال‪ .‬وأنت أيها النسان قد ل تلتفت إلى مسألة خلق‬
‫السموات والرض لنك تراهما كل لحظة بصورة رتيبة‪ ،‬وقد تظن أنها مسألة سهلة‪ ،‬ولكن الحق‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ وَلَـاكِنّ َأكْـثَرَ النّاسِ لَ‬
‫سبحانه يقول‪َ {:‬لخَ ْلقُ ال ّ‬
‫َيعَْلمُونَ }[غافر‪.]57 :‬‬
‫وهو سبحانه يقسم أن خلق السموات والرض مسألة أكبر وأدق من خلق الناس لكن أكثر الناس ل‬
‫تعلم ذلك‪.‬‬
‫سعُونَ }[الذاريات‪.]47 :‬‬
‫سمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْ ٍد وَإِنّا َلمُو ِ‬
‫فسبحانه وتعالى يقول‪ {:‬وَال ّ‬
‫سعُونَ { إشارة إلى خلق هذا الكون المرئي وغير المرئي؛ لن هناك الكثير‬
‫وفي قوله } وَإِنّا َلمُو ِ‬
‫من الجرام والمجموعات الشمسية‪ ،‬وما وراء ذلك من اتساع ذلك الكون ما ل يدركه العقل ول‬
‫سعُونَ {‪.‬‬
‫يمكنه تحديده‪ ،‬وهذه السعة المذهلة هي من قدرة ال سبحانه وتعالى‪ } .‬وَإِنّا َلمُو ِ‬
‫ونجد الحق يستخدم كلمة " فاطر " مرة في شيء ُمصْلح‪ ،‬وأخرى في شيء مفسد‪ .‬والمثال للشيء‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ { أي أنه خالق السماوات والرض‬
‫المصلح هو ما يقوله الحق هنا‪ } :‬فَاطِرِ ال ّ‬
‫على غير مثال سابق وباقتدار محكم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآ ُء انفَطَ َرتْ }[النفطار‪.]1 :‬‬
‫ويقول الحق سبحانه في موضع آخر‪ {:‬إِذَا ال ّ‬
‫أي أن الحق ينبه هنا إلى يوم الهول والعظم الذي تنشق فيه السماء وتتساقط فيه الكواكب فل‬
‫يؤدي أي شيء منها مهمته؛ لن ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬سلبها ما كانت به صالحة‪.‬‬
‫جعِ‬
‫حمَـانِ مِن َتفَاوُتٍ فَارْ ِ‬
‫سمَاوَاتٍ طِبَاقا مّا تَرَىا فِي خَلْقِ الرّ ْ‬
‫ويقول أيضا‪ {:‬الّذِي خَلَقَ سَبْعَ َ‬
‫الْ َبصَرَ َهلْ تَرَىا مِن فُطُورٍ }[الملك‪.]3 :‬‬
‫فالحق ل يعجز عن شيء‪ ،‬وهو الخالق لسبه سموات بإتقان بعضها فوق بعض‪ ،‬فل يرى الناظر‬
‫أي خلل في هذا الخلق‪ ،‬وليُعد النسان النظر إلى السماء فلن يجد أي خلل من شقوق أو فروق‪.‬‬

‫و " فطور " هنا معناها شقوق‪ .‬إذن فالحق ‪ -‬بتمام قدرته ‪ -‬يعطي الشيء من الصفات ما يجعله‬
‫صالحا لداء ما خُلِق له فل يظنن ظان أنه خرج عن قدرة خالقه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وخلق السماوات‬
‫والرض بتمام إبداع وإحكام‪ ،‬وهو القادر على أن يفطرهما ويجعلهما غير صالحتين في أي وقت‬
‫طمَس‪ ،‬والجبال تنسف‪.‬‬
‫شاء‪ ،‬ومثلهما الشمس ُت َكوّر‪ ،‬والنجوم تُ ْ‬
‫وقال عالم من العلماء‪ :‬ما فهمت كلمة " فاطر " إل حين جاء أعرابي‪ ،‬وقال فلن ينازعني في بئر‬
‫أنا فطرته‪ .‬أي أن العرابي هو الذي بدأ حفر البئر‪ .‬إذن فاطر السماوات والرض‪ ..‬أي الذي‬
‫ت وَالَ ْرضَ كَانَتَا‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خلقهما على غير مثال‪ .‬وسبحانه وتعالى القائل‪َ {:‬أوََلمْ يَرَ الّذِينَ َكفَرُواْ أَنّ ال ّ‬
‫حيّ َأفَلَ ُي ْؤمِنُونَ }[النبياء‪.]30 :‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫جعَلْنَا مِنَ ا ْلمَآءِ ُكلّ َ‬
‫رَتْقا َففَ َتقْنَا ُهمَا وَ َ‬
‫وهذا القول الحكيم لم يصل إلى فهمه العميق من سبقونا‪ ،‬لكن إنسان هذا العصر الذي نعيشه فهمها‬
‫بعد أن توصل العلماء إلى أن السماوات والرض كانتا كتلة واحدة وفصَلهُما الحق بإرادته‪ .‬وجعل‬
‫من الماء حياة لكل كائن حي‪.‬‬
‫إذن هو سبحانه قادر على كل شيء‪ ،‬ول يخرج شيء عن نطاق قدرته‪ .‬وهو سبحانه قبل أن يمتن‬
‫ك وَ ُهوَ‬
‫علينا الحياة فهو يحذرنا أن يأخذنا الغرور بهذه الحياة‪ ،‬ولذلك قال‪ {:‬تَبَا َركَ الّذِي بِ َي ِدهِ ا ْلمُ ْل ُ‬
‫ل وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َغفُورُ }‬
‫عمَ ً‬
‫ت وَالْحَيَاةَ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ َأحْسَنُ َ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * الّذِي خَلَقَ ا ْل َموْ َ‬
‫عَلَىا ُكلّ َ‬
‫[الملك‪.]2-1 :‬‬
‫وكأنه ينبه النسان إلى أن يستقبل الحياة‪ ،‬ليعرف أنه سبحانه أوجد ناقض الحياة وهو الموت‪،‬‬
‫فإياك أن تأخذ الحياة على أنها تعطيك قوة الحركة والدراك والرادة برتابة وأبدية؛ لن هناك‬
‫ناقض الحياة وهو الموت‪.‬‬
‫وها هو ذا سبحانه يقول في موضع آخر من القرآن الكريم‪َ {:‬أفَرَأَيْتُمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَن ُتمْ تَخُْلقُونَهُ أَم‬
‫ت َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ * عَلَىا أَن نّ َب ّدلَ َأمْثَاَلكُ ْم وَنُنشِ َئكُمْ فِي‬
‫نَحْنُ الْخَاِلقُونَ * نَحْنُ َقدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْو َ‬
‫مَا لَ َتعَْلمُونَ }[الواقعة‪.]61-58 :‬‬
‫والنسان ل يرى الحيوانات المنوية المقذوفة منه في رحم زوجه‪ ،‬ول أحد يقدر على ذلك ويرعاه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حتى يصير جنينا ثم بشرا‪ ،‬ولكن الحق هو المقدر والخالق‪ ،‬إنّه القادر الذي أعطانا الحياو وقدّر‬
‫علينا الموت ول غالب له‪ ،‬إنه يبدل صورنا حين يريد‪ ،‬ويخلق غيرنا وينشئنا في صور ل‬
‫نعرفها‪ ،‬وهو الواهب للحياة‪ ،‬وهو الذي ينزعها بالموت‪.‬‬
‫ويقول لنا‪َ {:‬أفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ * أَأَن ُتمْ تَزْرَعُونَهُ َأمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة‪.]64-63 :‬‬
‫هنا ينبهنا جل وعل إلى أن الزرع الذي نأكله‪ ،‬والثمار التي نجنيها من الرض ليس لنا فيها إل‬
‫إلقاء البذور‪ ،‬وهو سبحانه الذي أودع في البذرة عجائب مختزنة‪ ،‬ففي البذرة ما يقتيها إلى أن‬
‫يوجد لها جذير يمتص غذاءها من الرض‪ ،‬فَتَنمو لها ساق‪ ،‬ثم تقوى الجذور‪ ،‬وتشتد الساق‪.‬‬

‫ول عمل للنسان إل إلقاء البذرة وحرث الرض‪ .‬ومع ذلك احترم الحق عمل النسان فقال‪{:‬‬
‫َأفَرَأَيْتُم مّا َتحْرُثُونَ }[الواقعة‪.]63 :‬‬
‫وعن الماء يقول الحق‪َ {:‬أفَرَأَيْتُمُ ا ْلمَآءَ الّذِي َتشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ‬
‫شكُرُونَ }[الواقعة‪.]70-68 :‬‬
‫جعَلْنَاهُ ُأجَاجا فََل ْولَ تَ ْ‬
‫* َلوْ نَشَآءُ َ‬
‫هذا الماء العذب الذي نشربه إنما أنزله ال من السحاب الممطر‪ ،‬وعملية المطار هذه غاية في‬
‫التعقيد‪ .‬والماء الساري في النهار إنما جاء من المطر الذي تم إنزاله من السماء‪ .‬فقد أرسل الحق‬
‫أشعة الشمس لتبخر الماء من البحار‪ ،‬وتتجمع في سحب ثم يجري ال عليها أمره من مرور‬
‫تيارات هواء باردة فتسقط مطرا‪.‬‬
‫ونحن عندما نقطّر كوب ماء في معمل‪ ،‬نأتي بموقد وإناء ووقود‪ ،‬ونضع الماء المراد تقطيره‬
‫فيتبخر‪ ،‬ثم نكثف قطرات البخار بواسطة تيار من الهواء البارد‪ .‬ومثل هذه العملية تكلفنا الكثير‬
‫من العمل الذهني والمادي لبناء مثل هذا الجهاز حتى نقطر كوبا من الماء‪ ،‬فما بالنا بالمطر الذي‬
‫ينزل مدرارا وسيولً‪.‬‬
‫إننا نجد ثلثة أرباع الكرة الرضية من ماء‪ ،‬إنه سبحانه ‪ -‬بسطه على رقعة واسعة‪ ،‬حتى يسهل‬
‫البخر‪ .‬وإذا ما نثرنا كوب ماء على سطح متسع في أبرد مكان فلسوف يتبخر‪ .‬وهذا النتشار‬
‫المسطح للمياه هو الذي يسهل عملية البخر‪.‬‬
‫ويصعد البخار من مياه المحيطات والبحر إلى أعالي الجو ثم يتكثف في صورة قطرات صغيرة‬
‫من الماء تتساقط كمطر يتفاوت من منطقة إلى أخرى‪ .‬وسبحانه قد أعدّ لكل أمر عدته‪ .‬وهو أيضا‬
‫القادر على أن يذهب صلح هذا الماء‪.‬‬
‫ويقول لنا الحق‪َ {:‬أفَرَأَيْ ُتمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَ َتهَآ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنشِئُونَ * َنحْنُ‬
‫جعَلْنَاهَا تَ ْذكِ َر ًة َومَتَاعا لّ ْل ُمقْوِينَ }[الواقعة‪.]73-71 :‬‬
‫َ‬
‫ويذكرنا هنا سبحانه بأنه الذي خلق النار التي نشعلها‪ ،‬وقد جاء بالمصدر الول للوقود‪ ،‬وهي‬
‫الخشاب التي كانت أشجارا خضراء وبعد ذلك جفت وصارت أخشابا نوقدها ونشعل فيها النار‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ‬
‫وفي كل ذلك تتجلّى لنا قدرة الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬فنسبح باسمه العظيم‪ {:‬فَسَبّحْ بِا ْ‬
‫}[الواقعة‪.]74 :‬‬
‫وننزهه سبحانه وتعالى عن أن يكون له شريك في أمور الخلق والكون‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‬
‫إذن فعندما يقول الحق سبحانه مبلغا رسوله‪ُ } :‬قلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِ ُذ وَلِيّا فَاطِرِ ال ّ‬
‫ط َعمُ ُقلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأ ّولَ مَنْ أَسَْل َم وَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركَينَ { [النعام‪:‬‬
‫طعِ ُم َولَ يُ ْ‬
‫وَ ُهوَ ُي ْ‬
‫‪.]14‬‬
‫هذا السؤال يجبرنا على أن ندير أمر اختيار الولي في رءوسنا وأن ُن ْعمِلَ أفكارنا‪ ،‬وأن نعرف أن‬
‫اتخاذ الولي أمر وارد على النفس البشرية‪ ،‬ولكن من الذي يستحق أن نتخذه وليا؟ ونجد في تربية‬
‫حيّ‬
‫الحق لنا ما يعيننا على استنباط الفكرة السليمة والرأي الرشيد حين يقول لنا‪ {:‬وَ َت َوكّلْ عَلَى الْ َ‬
‫الّذِي لَ َيمُوتُ }‬

‫[الفرقان‪.]58 :‬‬
‫ونعلم أن النسان لو اتخذ وليا من البشر فهذا عرضة للموت‪ ،‬فتحس أيها النسان أنك وحيد في‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫ي ل يموت أبدا‪ ،‬وهو سبحانه‪ } :‬فَاطِرِ ال ّ‬
‫هذا الكون‪ ،‬ولكنك عندما تتوكل على ال فهو ح ّ‬
‫طعَمُ { وهو الذي خلق السموات والرض على غير مثال‪ ،‬وهو الذي‬
‫طعِمُ وَلَ ُي ْ‬
‫ض وَ ُهوَ يُ ْ‬
‫وَالَرْ ِ‬
‫يطعمنا من مطمور كنوز الرض التي أرادها قوتا لنا‪ .‬ولماذا جاء الحق هنا بمسألة الطعام؟ إن‬
‫الطعام لون من الرزق‪ ،‬والرزق ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬رزق ينتفع به مباشرة؛ ورزق يأتي لنا بما ننتفع به‬
‫مباشرة‪ .‬فلو إن إنسانا في صحراء ومعه جبل من الذهب الخالص ولم يجد كوب من ماء ول‬
‫رغيف خبز‪ ،‬فجبل الذهب ل يساوي شيئا‪.‬‬
‫إن جبل الذهب رزق ولكن ل ينتفع به مباشرة‪ .‬والرزق الذي ننتفع به مباشرة هو الطعام‬
‫والشراب والكسوة‪ .‬ونحن نحتاج إلى الطعام والشراب كل يوم‪ ،‬ونحتاج إلى ملبس جديدة مرة كل‬
‫ستة أشهر في المتوسط‪ .‬إذن فالرزق المباشر هو المقوّم الساسي للحياة‪.‬‬
‫والولي الذي ينصر ل بد أن تتوافر فيه القدرة على الطعام الذي يمدنا بالقدرة التي هي أساس‬
‫طعَم أيضا بما يأتيها‬
‫الحياة إنها طاقة استمرار النسان على الرض‪ .‬فالم تطعم طفلها وهي َت ْ‬
‫زوجها من طعام‪ .‬والحق سبحانه وتعالى وحده هو الذي يُطعم كل الخلق ول يُطعمه أحد‪ ..‬وحينما‬
‫نسلسل كل عطاء في الدنيا نجده يئول إلى ال تعالى‪.‬‬
‫إذن فل تجعل وليّك في الوسائط‪ ،‬بل اجعله في الغايات؛ لن الوسائط كلها راجعة في الحقيقة إلى‬
‫ال‪ ،‬ويأتي المر من الحق لرسوله‪ُ } :‬قلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأ ّولَ مَنْ َأسْلَ َم َولَ َتكُونَنّ مِنَ‬
‫ا ْلمُشْ ِركَينَ {‪.‬‬
‫وهذا المر يجيء من المر العلى وهو ال‪ .‬فالرسول لم يقل‪ :‬إن هذا المر منه؛ لنه بشر مثلنا‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسبحانه أبلغ رسولنا أن يكون هو أول من أسلم‪ ،‬وأن ينال شرف اللتزام بمبادئ السلم‪ ،‬والمثال‬
‫على ذلك أن كل قائد مسلم هو القدوة لغيره‪ ،‬فها هو ذا طارق بن زياد الذي فتح الندلس وهي‬
‫مُلْك عريض‪ ،‬ونزل من السفن وقال لجنوده‪ :‬أنا لم آمركم أمرا عنه بنجوةٍ ‪ -‬أي أنا بعيد عنه ‪-‬‬
‫بل أنا معكم‪ ،‬واعلموا أني عندما يلتقي الجمعان حامل بنفسي على طاغية القوم " لزريق " فقاتِلُهُ‬
‫إن شاء ال‪ .‬إنه لم يأمر بأمر لم يطبقه على نفسه‪ ،‬بل طبقه على نفسه أولً‪ ،‬وآفة الوامر أن كل‬
‫إنسان يأمر أمرا ول يطبقه على نفسه‪.‬‬
‫ومن قبل ذلك كان سيدنا عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قد حكم نفسه أولً فحكم الدنيا‪ ،‬لقد‬
‫جمع أقاربه أولً وقال لهم‪ :‬إني سأشرع للمسلمين‪ ،‬والذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء‬
‫فيه لجعلنه نكالً للمسلمين‪.‬‬

‫لقد أراد عمر ‪ -‬رضوان ال عليه ‪ -‬أن يَحْكم أقاربه أولً ضاربا المثل لولي أي أمر ليحكم أقاربه‬
‫أولً‪ ،‬وأن يحذرهم أن يستغلوا اسمه‪ ،‬ليستقيم المر بين المسلمين؛ لن الفة أننا نجد الكثير من‬
‫الناس تتكلم في السلم‪ ،‬ويريد كل إنسان من غيره أن يكونوا مسلمين بينما هو ل يطبق على‬
‫نفسه مبادئ السلم‪ .‬والحق سبحانه وتعالى أنزل لرسوله المر‪ُ } :‬قلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأوّلَ‬
‫مَنْ أَسَْل َم َولَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركَينَ {‪.‬‬
‫ومعنى " أسلم " أي ألقى زمام حياته إلى من يثق في حكمته وعدله وهو الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وعندما كنا صغارا كنا نلقي زمام أمورنا لمن يتولى تربيتنا‪ ،‬ونرى الباء والمهات وهم يتعبون‬
‫ويشقون‪ ،‬نطيع أوامرهم إلى أن نصل إلى المراهقة فتنمو فينا الذاتية‪ ،‬ونجد المراهق وهو يرفض‬
‫مثلً ارتداء البنطلون القصير ويرتدي البنطلون الطويل‪ .‬ويختار ألوان ملبسه في ضوء الزياء‬
‫الحديثة السائدة‪ .‬وبعد ذلك يبدأ الشاب في إدارة أموره بنفسه‪.‬‬
‫وآفة حياتنا أننا نهمل تربية البناء وهم صغار‪ ،‬ثم نأتي لنقول‪ :‬هيا لنربي الشباب متناسبين أن‬
‫الشباب مرحلة تمتلئ بطاقة يمكن أن يستغلها المجتمع‪ ،‬والتربية السليمة زمانها الطفولة‪ُ } .‬قلْ إِنّي‬
‫سلَ َم َولَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركَينَ {‪ .‬وها هو ذا رسول ال صلى ال عليه‬
‫ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأوّلَ مَنْ أَ ْ‬
‫وسلم ينقل عن رب العزة‪ ،‬ويخبرنا أنه صلى ال عليه وسلم أول المسلمين‪ ،‬وأنه تلقى المر بعدم‬
‫الشرك بال‪.‬‬
‫فإياكم أيها المسلمون أن تتعاظموا عل مثل هذا المر؛ لن المصطفى المختار هو أول من أمره‬
‫الحق بذلك‪ ،‬وإياك أيها المسلم أن تجد غضاضة في أن تتلقى أمرا من خالقك؛ لن الغضاضة قد‬
‫تأتيك عندما يصدر إليك أمرٌ من مساوٍ لك‪ ،‬لكن التوجيه الصادر من الحق ل بد أن يلزمك‬
‫وترتضيه َنفْسُك ويطمئن به قلبك‪ ،‬وكان النبي صلى ال عليه وسلم يجهد نفسه عندما يقابل حادثة‬
‫ليس فيها حكم ال‪ ،‬ويأتي الرسول صلى ال عليه وسلم بحكم من عنده‪ ،‬فإن كان الحكم صحيحا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإن الحق ينزل من القرآن ما يؤكده‪ ،‬وإن احتاج الحكم إلى تعديل‪ ،‬فإن الحق سبحانه ينزل التعديل‬
‫اللزم للحكم‪ ،‬ويبلغنا رسول ال صلى ال عليه وسلم بتعديل الحق سبحانه وتعالى له ول يجد‬
‫غضاضة في ذلك‪ ،‬بل يبلغنا ببشاشة وصدق وأمانة أنّه البلغ عن ال‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى قد مَنّ على رسوله صلى ال عليه وسلم عندما لم يعدل في الحكم احتراما‬
‫عفَا اللّهُ عَنكَ ِلمَ أَذِنتَ َلهُمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلكَ الّذِينَ‬
‫لجتهاده صلى ال عليه وسلم فيقول سبحانه‪َ {:‬‬
‫صَ َدقُو ْا وَ َتعْلَمَ ا ْلكَاذِبِينَ }[التوبة‪.]43 :‬‬
‫لقد أذن رسول ال صلى ال عليه وسلم لبعض المنافقين بالتخلف عن القتال قبل أن يتبين أمرهم‬
‫ليعلم الصادق منهم ‪ -‬في عذره ‪ -‬من الكاذب‪ .‬وجاء العفو من ال لن الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم اجتهد ببشريته وأبلغنا الرسول بما أنزله ال‪.‬‬
‫ونحن في حياتنا اليومية ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬نفتح كراسة البن فنجد أن فيها شطبا بالقلم‬
‫الحمر‪ ،‬فنسأل البن‪ :‬من الذي فعل ذلك؟ فيقول البن‪ :‬صوب لي المدرس الول هذا الموضوع‪.‬‬
‫هو لم يتحدث عن تصويب المدرس‪ ،‬ولكن عن تصويب من هو أعلى من المدرس‪ .‬وهذا شرف‬
‫للتلميذ‪ .‬فما بالنا بالمصوّب العلى سبحانه وتعالى‪ .‬وها هو ذا الرسول صلى ال عليه وسلم يتلقى‬
‫عصَ ْيتُ‪{ ...‬‬
‫عن ال‪ُ } :‬قلْ إِنّي َأخَافُ إِنْ َ‬

‫(‪)796 /‬‬

‫عذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ (‪)15‬‬


‫عصَ ْيتُ رَبّي َ‬
‫ُقلْ إِنّي َأخَافُ إِنْ َ‬

‫إنه الرسول المصطفى والمجتبى والمعصوم يعلن أنه يخاف ال؛ لن قدر ال ل يملكه أحد‪ ،‬ول‬
‫يغير قدر ال إل ال سبحانه وتعالى‪ .‬وقد علق الخوف على شرط هو عصيان ال‪ .‬لكن ما دام لم‬
‫يعص ربه فهو ل يخاف‪ .‬ووجود " إن " يدل على تعليق على شرط ول يتأتى ذلك من الرسول‬
‫المعصوم لنه ل يعصي ال‪.‬‬
‫وقد أراد الحق أن يبين لنا أن المعصوم ل يتأتى منه عصيان ال‪ .‬لكن هذا القول يأتي على لسان‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لنعلم أن هناك عذابا عظيما توعد به ال من يعصيه‪ .‬وهو عذاب‬
‫يلح على العاصي حتى يأتي إليه‪ .‬ولهذا العذاب خاصية أن تكون بينه وبين العاصي جاذبية‬
‫كجاذبية المغناطيس لغيره من المواد‪ .‬ونجاة النسان من العذاب تحتاج إلى من يصرف عنه هذا‬
‫حمَهُ‪} ...‬‬
‫اللون القاسي من العذاب‪ ،‬يقول الحق سبحانه عنه‪ { :‬مّن ُيصْ َرفْ عَنْهُ َي ْومَئِذٍ فَقَدْ رَ ِ‬

‫(‪)797 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمَهُ وَذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلمُبِينُ (‪)16‬‬
‫مَنْ ُيصْ َرفْ عَ ْنهُ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ رَ ِ‬

‫فكأن من ل يُصرف عنه هذا العذاب هو من ينجذب إلة قوة العذاب؛ لن لنار جهنم شهيقا يجذب‬
‫جهَنّ َم وَبِئْسَ‬
‫عذَابُ َ‬
‫ويسحب إليه الذين ُقدّرَ عليهم العذاب ويقول سبحانه‪ {:‬وَلِلّذِينَ كَفَرُواْ بِرَ ّبهِمْ َ‬
‫شهِيقا وَ ِهيَ َتفُورُ }[الملك‪.]7-6 :‬‬
‫س ِمعُواْ َلهَا َ‬
‫ا ْل َمصِيرُ * إِذَآ أُ ْلقُواْ فِيهَا َ‬
‫والذين يكفرون بال لهم العذاب الذي يبدأ بسماع شهيق جهنم في أثناء فورانها‪ .‬والشهيق كما تعلم‬
‫هو قوة تجذب وتسحب الهواء إلى النف والصدر‪ ،‬فما بالنا بقوة شهيق جهنم وهي تسحب وتجذب‬
‫الذين وقع عليهم المر بالعذاب؟‬
‫لتِ وَتَقُولُ‬
‫جهَنّمَ َهلِ امْتَ َ‬
‫وهذه النار نفسها ترد على سؤال الحق لها عندما تسمع قوله‪َ {:‬يوْمَ َنقُولُ لِ َ‬
‫َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق‪.]30 :‬‬
‫إذن فقوة العذاب التي جعلها ال مهمة لجنهم هي التي تلح وتندفع لطلب المزيد من عقاب‬
‫الكافرين‪ .‬وسبحانه خلق كل شيء ليؤدي مهمة‪ ،‬والنار مهمتها أن تتمثل لمر الحق تبارك وتعالى‬
‫عندما يأمرها بمباشرة مهمتها؛ لذلك فهي تلح في طلب الذين سيتلقون العذاب‪ ،‬ول تخرج النار‬
‫أبدا عن أمر ال وقدره‪ ،‬فإن صَرَف الحق العذاب عن عبد من العباد فالنار تمتثل لذلك المر‪.‬‬
‫حمَهُ } وسبحانه فعال لما يريد‪ ،‬وهو إن حاسبنا بالعدل فكل منا‬
‫{ مّن ُيصْ َرفْ عَنْهُ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ َر ِ‬
‫يسميه شيء من عذاب جهنم؛ ولكن رحمة ال هي التي تجعل النار ل تمس المؤمنين؛ لنه سبحانه‬
‫وتعالى يعفو عن كثير؛ ولن للنار شهيقا‪ ،‬فهي تستنشق المكتوب عليهم العذاب‪ ،‬ونعلم أن الشهيق‬
‫يتم بسرعة أكبر من الزفير‪ .‬والشهيق في الحياة يكون للهواء‪.‬‬
‫والسبب ازدياد سرعة الشهيق عن الزفير أن في الشهيق مهمة استدامة الحياة الولى وهي إمداد‬
‫الجسم بالهواء‪ ،‬والنسان ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬ل يصبر على الهواء إل لقل مدة ممكنة‪ .‬ومن رحمة ال‬
‫أنه لم يملّك الهواء لحد‪ .‬وهذا الشهيق الذي يعطي الحياة في الرض يوجد ‪ -‬أيضا ‪ -‬في الخرة‬
‫وهو منسوب إلى النار‪ ،‬إنها تشهق لتبتلع العصاة‪ ،‬وهي بذلك تؤدي مهمتها الموكولة لها‪ .‬ونعرف‬
‫أيضا أن النار تؤدي مهمتها بغيظ طبقا لما قاله الحق سبحانه‪َ {:‬تكَادُ َتمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ }[الملك‪.]8 :‬‬
‫فهل تؤدي النار مهمتها وهي غير راضية عنها؟ وهل تختلف النار عن كل كائنات الحق التي‬
‫تؤدي مهمتها بسعادة وانسجام؟ إن النار َتمَيّزُ من الغيظ لن الكافر من هؤلء لم يعرف قيمة‬
‫اليمان‪ ،‬وللنار مشاعر مثل بقية المخلوقات‪ .‬وللكون كله مشاعر؛ فالكون ‪ -‬على سبيل المثال ‪-‬‬
‫قد فرح بميلد محمد صلى ال عليه وسلم؛ فالرض والسماء والنجوم والشجر وكل الكون فرحت‬
‫بمقدم الرسول الكريم؛ لن كل هذه الكائنات مسخرة للنسان وهي مسبحة ل وطائعة بطبيعتها‪،‬‬
‫مثلما يأتي البشير ليهدي النسان إلى الصراط المستقيم ليجعله طائعا‪ ،‬فهي تفرح بمقدم هذا‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫البشير‪.‬‬

‫ونعرف أن المكان يوجد به النسان‪ ،‬هذا المكان يفرح إن كان النسان فيه طائعا‪ ،‬وهذا المكان‬
‫نفسه يحزن إن كان النسان عاصيا‪ ،‬ويضج المكان ‪ -‬أي مكان ‪ -‬بوجود أي عاص فيه‪ .‬ونرى‬
‫ذلك واضحا في قول الحق سبحانه وتعالى عن قوم فرعون‪ {:‬كَمْ تَ َركُواْ مِن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ *‬
‫ك وََأوْرَثْنَاهَا َقوْما آخَرِينَ َفمَا َب َكتْ عَلَ ْيهِمُ‬
‫ع َومَقَامٍ كَرِيمٍ * وَ َن ْعمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَا ِكهِينَ * َكذَِل َ‬
‫وَزُرُو ٍ‬
‫ض َومَا كَانُواْ مُنظَرِينَ }[الدخان‪.]29-25 :‬‬
‫سمَآءُ وَالَ ْر ُ‬
‫ال ّ‬
‫والرض التي كان بها قوم فرعون كان لها مشاعر‪ ،‬والجنات والنهار والعيون وكل النعم التي‬
‫ينعم بها النسان لها مشاعر وأحاسيس‪ ،‬وهي تغضب وتسخط وتضج بوجود الكافرين بنعمة ال‬
‫فيها‪ ،‬ولذلك ل تبكي السماء والرض على الخسف والتنكيل بهؤلء العصاة الكافرين المشركين‪.‬‬
‫بينما تبكي السماء والرض إن فارقها مؤمن‪ ،‬ولنا في قول المام علي ‪ -‬كرم ال وجهه ‪-‬‬
‫إيضاح لهذا؛ فقد قال‪ :‬إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان‪ :‬موضع في السماء‪ ،‬وموضع في‬
‫الرض‪ .‬أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله الطيب‪ ،‬وأما موضعه في الرض فهو موضع‬
‫مُصلّه‪.‬‬
‫وفي الحديث‪ " :‬إذا مات أحدكم عُرض عليه مقعد بالغداة والعشي‪ ،‬إن كان من أهل الجنة فمن أهل‬
‫الجنة‪ ،‬وإن كان من أهل النار فمن أهل النار‪ ،‬يقال له‪ :‬هذا مقعدك حتى يبعثك ال إليه يوم القيامة‬
‫"‪.‬‬
‫إذن فموضع صعود عمل النسان في السماء يحزن؛ لن هناك فقدانا لعمل صالح يمر فيه‪،‬‬
‫وموضع صلة النسان يفقد سجود إنسان خشوعا ل‪ ،‬ولكل الكائنات المخلوقة ل مشاعر‪ ،‬وكل‬
‫شيء في الكون يؤدي مهمته بقانون التسيير والتسخير ل قانون التخيير‪ ،‬النسان ‪ -‬فقط ‪ -‬هو‬
‫الذي يحيا بقانون التخيير في بعض أحواله؛ لنه قادر على الطاعة‪ ،‬وقادر على المعصية‪ .‬ولذلك‬
‫سجُدُ َلهُ مَن فِي‬
‫فعندما نرى السجود ل في القرآن فإننا نسمع قول الحق‪ {:‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ‬
‫ب َوكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ‬
‫ل وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآ ّ‬
‫س وَا ْل َقمَرُ وَالنّجُو ُم وَالْجِبَا ُ‬
‫شمْ ُ‬
‫سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ وَال ّ‬
‫ال ّ‬
‫َوكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ ا ْل َعذَابُ َومَن ُيهِنِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِن ّمكْرِمٍ إِنّ اللّهَ َيفْ َعلُ مَا يَشَآءُ }[الحج‪.]18 :‬‬
‫إذن فكل الكائنات تسجد له ما عدا كل أفراد النسان؛ فكثير منه يسجد ل وكثير منه يحق عليه‬
‫العذاب لنه ل يطيع الحق‪ .‬ومن يعص منهج ال غير مؤمن به يطرده ال من رحمته‪ ،‬ومن يهنه‬
‫ال بذلك فليس له تكريم أبدا‪ .‬وقد أجمع الكون على السجود ل‪ ،‬إل النسان فمنه الصالح المنسجم‬
‫بعمله مع خضوع الكون ل‪ ،‬ويفرح به الكون‪ ،‬ومنه يغضب منه الكون لنه يعصي ال‪.‬‬
‫إن اللغة العربية توضح لنا ذلك؛ فالعرب يقولون‪ :‬فلن نَ َبتْ به الرض من النّ ْبوَة وهي الجفوة‬
‫والبعد والعراض‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪ .‬أي أن الرض تكره شخصا بعينه؛ لنه ل انسجام للرض مع كائن عاصٍ‪.‬‬
‫ويقول الحق عن الذين يصرف عنهم العذاب من فرط رحمته بعباده لنهم أطاعوه وكانت‬
‫حمَهُ‬
‫معاصيهم تغلبهم في بعض الحيان فيتوبون عنها‪ } >BR:.‬مّن ُيصْرَفْ عَنْهُ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ رَ ِ‬
‫وَذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلمُبِينُ { [النعام‪.]16 :‬‬
‫ونعلم أن هذا الفوز هو أرقى درجات الفوز؛ ذلك أن الفوز درجات؛ فالفوز في الدنيا كالنجاح أو‬
‫المال أو غير ذلك هو فوز مُعرّض لن يضيع‪ .‬وهو عُرضة لن يترك النسان أو يتركه النسان‪،‬‬
‫لكن فوز الخرة هو الفوز الدائم الذي ل ينتهي‪.‬‬
‫وهذا هو الفارق بين نعم الدنيا ونعم الخرة‪ ،‬والنسان يتنعم في الدنيا على قدر تصوره للنعيم‪،‬‬
‫فنجد الريفي ‪ -‬مثلً ‪ -‬يتصور النعيم أن تكون له مِصطبة أمام داره يجلس عليها‪ ،‬وعدد من القلل‬
‫التي تمتلئ بالماء النقي‪ ،‬فإذا ما انتقل هذا الريفي إلى المدينة فهو يتصور النعيم في منزل متسع‬
‫فيه أثاث فاخر وأدوات كهربائية من ثلجة وغير ذلك‪ ،‬إذن فإمكانات النعيم مختلفة على حسب‬
‫تصور النسان‪ ،‬أما نعيم الخرة فهو نعيم ل يفوته النسان ول يفوت النسان؛ لنه نعيم من صنع‬
‫الخالق الواسع والعطاء‪ ..‬إن الجنة فيها ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪،‬‬
‫ولذلك فالفوز بنعيم الخرة هو الفوز المبين‪.‬‬
‫سكَ اللّهُ ِبضُرّ‪{ ...‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى هو المحيط بكل شيء عِ ْلمًا واقتدارا‪ } :‬وَإِن َيمْسَ ْ‬

‫(‪)798 /‬‬

‫شيْءٍ َقدِيرٌ (‪)17‬‬


‫سكَ ِبخَيْرٍ َف ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫شفَ لَهُ إِلّا ُه َو وَإِنْ َيمْسَ ْ‬
‫سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَا كَا ِ‬
‫وَإِنْ َيمْسَ ْ‬

‫والضر هو ما يصيب الكائن الحي مما يخرجه عن استقامة حياته وحاله‪ .‬فعندما يعيش النسان‬
‫بغير شكوى أو مرض ويشعر بتمام العافية فهو يعرف أنه سليم الصحة؛ لنه ل يشعر بألم في‬
‫عيونه أو ضيق في تنفسه أو غير ذلك‪ ،‬لكن ساعة يؤلمه عضو من أعضاء جسمه فهو يضع يده‬
‫عليه ويشكو ويفكر في الذهاب إلى الطبيب‪ .‬إذن فاستقامة الصحة بالنسبة للنسان هي رتابة عمل‬
‫كل عضو فيه بصورة ل تلفته إلى شيء‪.‬‬
‫ويلفت الحق أصحاب النعم عندما يرون إنسانا من حولهم وقد فقد نعمة ما‪ ،‬فساعة تسير في‬
‫الشارع وترى إنسانا فقد ساقه فأنت تقول‪ " :‬الحمد ل " لنك سليم الساقين‪ .‬كأنك ل تدرك نعمة‬
‫ال في بعض منك إل إن رأيتها مفقودة في سواك‪ .‬وهكذا نعلم أن من اللم والفات منبهات‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للنعم‪ .‬وأيضا قد تصيب منغصات الحياة النسان ليعلم أنه لم يأخذ نعم ال كلها فيقول العبد‬
‫لحظتها‪ :‬يا مفرج الكروب يارب‪ ،‬ولذلك تجد النسان يقول‪ " :‬يارب " حينما تأتيه آفة في نفسه‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما‬
‫ويفزع إلى ال‪ .‬وقد قالها ال عن النسان‪ {:‬وَِإذَا مَ ّ‬
‫شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ كَذاِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }‬
‫فََلمّا كَ َ‬
‫[يونس‪.]12 :‬‬
‫فالنسان عندما يحس ضعفه إذا ما أصابه مكروه ل يمل دعاء ال‪ ،‬سواء أكان النسان مضطجعا‬
‫أم قاعدا أم قائما‪ ،‬وعندما يكشف الحق عنه الضر قد ينصرف عن جانب ال‪ ،‬ويستأنف عصيان‬
‫ال وكأنه لم يدع ال إلى كشف الضر‪ ،‬وهذا هو سلوك المسرفين على أنفسهم بعصيان ال‪.‬‬
‫والنفس أو الشيطان تزين للعاصي بعد انكشاف الضر أن يغوص أكثر وأكثر في آبار المعاصي‬
‫وحمأة الرذيلة‪.‬‬
‫وقد ينسب النسان كشف الضر لغير ال‪ ،‬فينسب انكشاف الضر إلى مهارة الطبيب الذي لجأ إليه‪،‬‬
‫ناسيا أن مهارة الطبيب هي من نعم ال‪ .‬أو ينسب أسباب خروجه من كربه إلى ما آتاه ال من‬
‫علم أو مال‪ ،‬ناسيا أن ال هو واهب كل شيءٍ‪ ،‬كما فعل قارون الذي ظن أن ماله قد جاءه من‬
‫تعبه وكده وعلمه ومهارته‪ ،‬ناسيا أن الحق هو مسبب كل السباب‪ ،‬ضُرّا أو نفعا‪ ،‬فسبحانه هو‬
‫الذي يسبب الضر كما يسبب النفع‪.‬‬
‫ويلفت الضر النسان إلى نعم الحق سبحانه وتعالى في هذه الدنيا‪ .‬وإذا ما رضي النسان وصبر‬
‫فإن ال يرفع عنه الضر؛ لن الضر ل يستمر على النسان إل إذا قابله بالسخط وعدم الرضا‬
‫بقدر ال‪ .‬ول يرفع الحق قضاء في الخلق إل أن يرضى خلق ال بما أنزل ال‪ ،‬والذي ل يقبل‬
‫بالمصائب هو من تستمر معه المصائب‪ ،‬أما الذي يريد أن يرفع ال عنه القضاء فليقبل القضاء‪.‬‬

‫إن الحق سبحانه يعطينا نماذج على مثل هذا المر؛ فها هوذا سيدنا إبراهيم عليه السلم يتلقى‬
‫المر بذبح ابنه الوحيد‪ ،‬ويأتيه هذا المر بشكل قد يراه غير المؤمن بقضاء ال شديد القسوة‪ ،‬فقد‬
‫كان على إبراهيم أن يذبح ابنه بنفسه‪ ،‬وهذا ارتقاء في البتلء‪ .‬ولم يلتمس إبراهيم خليل الرحمن‬
‫عذرا ليهرب من ابتلء ال له‪ ،‬ولم يقل‪ :‬إنها مجرد رؤيا وليست وحيا ولكنها حق‪ ،‬وقد جاءه‬
‫المر بأهون تكليف وهو الرؤيا‪ ،‬وبأشق تكليف وهو ذبح البن‪ ،‬ونرى عظمة النبوة في استقبال‬
‫أوامر الحق‪ .‬ويلهمه ال أن يشرك ابنه اسماعيل في استقبال الثواب بالرضا بالقضاء‪ {:‬فََلمّا بََلغَ‬
‫حكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىا قَالَ ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ‬
‫س ْعيَ قَالَ يابُ َنيّ إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي أَذْبَ ُ‬
‫َمعَهُ ال ّ‬
‫سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }[الصافات‪.]102 :‬‬
‫لقد بلغ إسماعيل عمر السعي في مطالب الحياة مع أبيه حين جاء المر في المنام لبراهيم بأن‬
‫يذبح ابنه‪ ،‬وامتل قلب إسماعيل بالرضا بقضاء ال ولم ينشغل بالحقد على أبيه‪ .‬ولم يقاوم‪ ،‬ولم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يدخل في معركة‪ ،‬بل قال‪ {:‬ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ }[الصافات‪.]102 :‬‬
‫ل ورضا؛ لذلك يقول الحق عنهما معا‪ {:‬فََلمّا أَسَْلمَا وَتَلّهُ لِ ْلجَبِينِ *‬
‫لقد أخذ الثنان أمر ال بقبو ٍ‬
‫حسِنِينَ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ‬
‫وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * َق ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬
‫* َوفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }[الصافات‪.]107-103 :‬‬
‫لقد اشترك الثنان في قبول قضاء ال‪ ،‬وأسلم كل منهما للمر؛ أسلم إبراهيم كفاعل‪ ،‬وأسلم‬
‫إسماعيل كمنفعل‪ ،‬وعلم ال صدقهما في استقبال أمر ال‪ ،‬وهنا نادى الحق إبراهيم عليه السلم‪:‬‬
‫لقد استجبت أنت وإسماعيل إلى القضاء‪ ،‬وحسبكما هذا المتثال‪ ،‬ولذلك يجيء إليك وإلى ابنك‬
‫اللطف‪ ،‬وذلك برفع البلء‪ .‬وجاء الفداء ِبذِبْحٍ عظيم القدر‪ ،‬لنه ذِبْحٌ جاء بأمر ال‪ .‬ولم يكتف الحق‬
‫بذلك ولكنّ بشرَ إبراهيم بميلد ابن آخر‪ {:‬وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّا مّنَ الصّاِلحِينَ }[الصافات‪.]112 :‬‬
‫لقد رفع ال عن إبراهيم القدَر وأعطاه الخير وهو ولد آخر‪ .‬إذن فنحن البشر نطيل على أنفسنا أمد‬
‫القضاء بعدم قبولنا له‪ .‬لكن لو سقط على النسان أمر بدون أن يكون له سبب فيه واستقبله‬
‫النسان من مُجريه وهو ربه بمقام الرضا‪ ،‬فإن الحق سبحانه وتعالى يرفع عنه القضاء‪ .‬فإذا رأيت‬
‫إنسانا طال عليه أمد القضاء فاعلم أنه فاقد الرضا‪.‬‬
‫سكَ ِبخَيْرٍ َف ُهوَ‬
‫شفَ َلهُ ِإلّ ُهوَ وَإِن َيمْسَ ْ‬
‫سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَ كَا ِ‬
‫سْ‬‫ونلحظ أن الحق هنا يقول‪ } :‬وَإِن َيمْ َ‬
‫شيْءٍ قَدُيرٌ { ال سبحانه وتعالى يعلم أن أي عبد ل يتحمل أن يضره الحق؛ فقوة الحق‬
‫عَلَىا ُكلّ َ‬
‫ل متناهية ولذلك يكون المس بالضر‪ ،‬وكذلك بالخير؛ فالنسان في الدنيا ل ينال كل الخير‪ ،‬إنما‬
‫ينال مس الخير؛ فكل الخير مدخر له في الخرة‪.‬‬

‫ونعلم أن خير الدنيا إما أن يزول عن النسان أو يزول النسان عنه‪ ،‬أما كل الخير فهو في‬
‫الخرة‪.‬‬
‫ومهما ارتقى النسان في البتكار والختراع فلن يصل إلى كل الخير الذي يوجد في الخرة‪ ،‬ذلك‬
‫أن خير الدنيا يحتاج إلى تحضير وجهد من البشر‪ ،‬أما الخير في الخرة فهو على قدر المعطي‬
‫العظم وهو ال سبحانه وتعالى‪ .‬إذن فكل خير الدنيا هو مجرد مس خير؛ لن الخير الذي يناسب‬
‫جمال كمال ال ل يزول ول يحول ول يتغير‪ ،‬وهو مدخر للخرة‪ .‬ول كاشف لضر إل ال؛‬
‫فالمريض ل يشفى بمجرد الذهاب إلى الطبيب‪ ،‬لكن الطبيب يعالج الموهوبة له من ال‪ ،‬والذي‬
‫شفِينِ }[الشعراء‪.]80 :‬‬
‫ضتُ َف ُهوَ َي ْ‬
‫يَشفي هو ال‪ {.‬وَإِذَا مَ ِر ْ‬
‫لن الحق سبحانه وتعالى قد خلق الداء‪ ،‬وخلق الدواء‪ ،‬وجعل الطباء مجرد جسور من الداء إلى‬
‫الدواء ثم إلى الشفاء‪ ،‬وال يوجد السباب لِيُس ّر و ُيفْرِح بها عباده‪ ،‬فيجعل المواهب كأسباب‪ ،‬وإل‬
‫فالمر في الحقيقة بيده ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ .-‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬تَدَا َووْا عبادَ‬
‫ال فإن ال تعالى لم يضع داء إل وضع له دواء غير داء واحد‪ :‬الهِرَم "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونحن نرى أن الطبيب المتميز يعلن دائما أن الشفاء جاء معه‪ ،‬ل به‪ .‬ويعترف أن ال أكرمه بأن‬
‫جعل الشفاء يأتي على ميعاد من علجه‪ .‬إذن فالحق هو كاشف الضر‪ ،‬وهو القدير على أن‬
‫يمنحك و َيمَسّك بالخير‪ .‬وقدرته ل حدود لها‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ‪{ ...‬‬

‫(‪)799 /‬‬

‫حكِيمُ ا ْلخَبِيرُ (‪)18‬‬


‫وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِد ِه وَ ُهوَ ا ْل َ‬

‫وقد رتب سبحانه وتعالى الكون والخلْق بأسباب ومسببات‪ .‬وكل شيء موجود هو واسطة بين‬
‫شيء وشيء‪ ،‬فالرض واسطة لستقبال النبات‪ ،‬والنسان واسطة بين أبيه وابنه‪ ،‬ولنفهم جميعا أَنّ‬
‫الحقَ‪ ،‬فوق عباده‪ ،‬إنه غالب بقدرته‪ ،‬يدير الكون بحكمة وإحاطة علم‪ ،‬وهو خبير بكل ما خفي‬
‫وعليهم بكل ما ظهر‪.‬‬
‫سكُمْ‬
‫حتِ أَرْجُِل ُكمْ َأوْ يَلْبِ َ‬
‫وهو القائل‪ُ {:‬قلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ عَلَىا أَن يَ ْب َعثَ عَلَ ْي ُكمْ عَذَابا مّن َف ْوقِكُمْ َأوْ مِن َت ْ‬
‫ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ انْظُرْ كَ ْيفَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ َلعَّلهُمْ َيفْ َقهُونَ }[النعام‪.]65 :‬‬
‫شِيَعا وَيُذِيقَ َب ْع َ‬
‫سبحانه وتعالى له مطلق القدرة على أن يرسل العذاب من السماء أو من بطن الرض‪ ،‬أو أن‬
‫يجعل بين العباد العداء ليكونوا متناحرين ليدفع بعضهم بعضا حتى ل تفسد الرض { وََلوْلَ َد ْفعُ‬
‫ت الَ ْرضُ }‪.‬‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َد ِ‬
‫اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫فإياك أن تظن أيها النسان أن الحق حين يملّك بعض الخلق أسبابا أنهم مالكو السباب فعلً‪ ،‬ل؛‬
‫إن الحق سبحانه أراد بذلك ترتيب العمال في الكون‪ .‬ولذلك ساعة نرى واحدا يظلم في الكون‬
‫فإننا نجد ظالما آخر هو الذي يؤدب الظالم الول‪ .‬ول يؤدب الحق الشرير على يد رجل طيب‪،‬‬
‫إنما يؤدبه عن طريق شرير مثله‪َ {:‬وكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }‬
‫[النعام‪.]129 :‬‬
‫لنه سبحانه وتعالى يُجل المظلوم من أهل التقوى أن يكون له دور في تأديب الظالم‪ ،‬إنما ينتقم ال‬
‫من الظالم بظالم أو أقوى منه‪ .‬وهذا ما نراه على مدار التاريخ القريب والبعيد‪ ،‬فحين يتمكن العبد‬
‫الصالح من الذين أساءوا إليه يقول ما قاله الرسول صلى ال عليه وسلم عندما دخل مكة حيث‬
‫قال‪ " :‬يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا‪ :‬خيرا‪ ،‬أخ كريم وابن أخ كريم‪ ،‬قال‪ :‬اذهبوا‬
‫فأنتم الطلقاء "‪.‬‬
‫أما إذا أراد ال النتقام من شرير فهو يرسل عليه شريرا مثله يدق عنقه‪ ،‬أو يجدع أنفه‪ ،‬أو يذله‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حتى ل ينتشر ويستشري الفساد؛ فسبحانه القاهر فوق عباده‪ ،‬وهو قهر بحكمة وبعلم وليس قهر‬
‫استعلء وقهر جبروت وسيطرة‪ .‬وحتى نوضح ذلك قد يجري ال على أحد عباده قَدَرًا بأن ينكسر‬
‫ذراع ولده فيسوق الرجل ولده إلى طبيب غير مجرب ليقيم جبيرة لذراع البن‪ ،‬وتلتئم العظام على‬
‫ضوء هذه الجبيرة في غير مكانها‪ ،‬فيذهب الرجل بابنه إلى طبيب ماهر فيكسر يد الطفل مرة‬
‫أخرى ليعيد وضع العظام في مكانها الصحيح‪.‬‬
‫إن هذا الكسر كان لحكمة وهي استواء العظام ووضعها الوضع السليم‪ .‬ول يغيظ عبد من العباد‬
‫الخالق أبدا‪ ،‬ولكن الحق ينتصف للمغيظ‪ .‬ونعلم أن النسان مخير بين اليمان والكفر‪ ،‬فإن كفر‬
‫وعصى فليس له في الخرة إل العذاب‪ ،‬إل أن ال يجري عليه قَدَر المرض فل يستطيع أن يتمرد‬
‫عليه؛ لنه سبحانه قاهر فوق عباده بدليل أنه متحكم في أشياء ل خيار للعباد فيها‪ .‬وما دام‬
‫النسان منا محكوما بقوسين ول رأي له في ميلده أو موته فلماذا ‪ -‬إذن ‪ -‬التمرد بالعصيان على‬
‫أوامر ال؟ ولنعلم أن الحق هو القاهر فوق عباده بقهر الحكمة وسبحانه يضع لكل أمر المجال‬
‫الذي يناسبه وهو خبير بمواطن الداءات‪ ،‬ويعالج عباده منها على وفق ما يراه‪.‬‬
‫شهَادةً‪} ...‬‬
‫شيْءٍ َأكْبَرُ َ‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ُ { :‬قلْ َأيّ َ‬

‫(‪)800 /‬‬

‫حيَ إَِليّ هَذَا ا ْلقُرْآَنُ لِأُنْذِ َركُمْ ِب ِه َومَنْ بَلَغَ‬


‫شهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم وَأُو ِ‬
‫شهَا َدةً ُقلِ اللّهُ َ‬
‫شيْءٍ َأكْبَرُ َ‬
‫ُقلْ َأيّ َ‬
‫شهَدُ ُقلْ إِ ّنمَا ُهوَ إَِل ٌه وَاحِدٌ وَإِنّنِي بَرِيءٌ ِممّا ُتشْ ِركُونَ‬
‫شهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آَِل َهةً أُخْرَى ُقلْ لَا َأ ْ‬
‫أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْ‬
‫(‪)19‬‬

‫لقد اختلف الرسول صلى ال عليه وسلم مع القوم المناوئين له‪ .‬والختلف يتطلب حكما وبينة‪.‬‬
‫والشهود هم إحدى البينات‪ ،‬فما بالنا والشاهد هو ال؟! إنه الشاهد والحكم والمنفذ‪ .‬وشهادة ال ل‬
‫تحايل فيها‪ ،‬وحكمه ل ظلم فيه‪ ،‬وإرادته ل تظلم عبدا مثقال ذرة‪ ،‬ول شهادة ‪ -‬إذن ‪ -‬أكبر من‬
‫شهادة الحق لرسوله بأنه رسول من ال‪ .‬ولو شاء الحق لجعلكم كلكم مؤمنين‪ ،‬لكنه أراد للنسان‬
‫الختيار‪ .‬وحنان الرسول صلى ال عليه وسلم على البشر هو الذي جعله يتمنى إيمانهم‪ ،‬لكن الحق‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْي ِهمْ‬
‫خعٌ ّنفْ َ‬
‫يقول للرسول صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬لعَّلكَ بَا ِ‬
‫ضعِينَ }[الشعراء‪.]4-3 :‬‬
‫سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ‬
‫مّنَ ال ّ‬
‫أي أن الحق يأمر رسوله صلى ال عليه وسلم أن يشفق على نفسه وألّ يقتلها بالحزن عليهم‬
‫لعنادهم وعدم إيمانهم‪ .‬ولو أراد الحق لجعلهم جميعا مؤمنين بآية منه؛ فمهمة الرسول هي البلغ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فقط‪ .‬ولو شاء الحق لقهر الخلق جميعا على اليمان به كما سخّر الكون ليخدم النسان وليسبح‬
‫الكون بحمد ال‪ .‬لكنه سبحانه ترك للخلق الختيار حتى يأتي إيمانهم مثبتا صفة المحبوبية ل؛ لن‬
‫إيمان المختار هو الذي يثبت تلك المحبوبية‪ .‬والرسول صلى ال عليه وسلم إنما هو نذير وبشير‬
‫بهذا القرآن المُنزّل عليه بالوحي‪.‬‬
‫والنذارة تأتي هنا لن المجال مجال شهادة؛ لن الشهادة إنما تكون على خلف‪ ،‬فهو صلى ال‬
‫عليه وسلم يدعو إلى اليمان‪ ،‬والمناوئون له يدعون إلى الكفر وإلى الشرك‪ ،‬وشهادة ال أكبر من‬
‫كل شهادة أخرى‪ .‬لذلك يقرر الحق هنا بأن الرسول نذير بالقرآن‪ .‬وهذا خطاب موجه لتبليغ‬
‫المعاصرين لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولَمن وصله بعد ذلك أي شيء من القرآن‪ ،‬فكأنه قد‬
‫رأى النبي صلى ال عليه وسلم ووصله البلغ عنه‪ .‬فقد قال ‪ -‬سبحانه ‪َ { :-‬ومَن بَلَغَ } أي‬
‫لنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من البشر جميعا‪.‬‬
‫شهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آِلهَةً‬
‫ويوجه الحق على لسان رسوله سؤالً استنكاريا للمناوئين فيقول‪ { :‬أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْ‬
‫أُخْرَىا }‪ .‬إنه سؤال من سائل يثق أن من يسمع سؤاله ل بد أن ينفي وجود آلهة أخرى غير ال‪.‬‬
‫إنه سؤال يستنبط القرار من سامعه‪ .‬والمثال على هذا ما عرضه الحق على رسوله من أمر قد‬
‫صحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل‪.]1 :‬‬
‫حدث في عام ميلده فيقول‪ {:‬أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأ ْ‬
‫ونعلم أن النبي صلى ال عليه وسلم لم ير ما حدث في عام الفيل؛ لنه عام ميلده‪ ،‬ولكن حين‬
‫يخبره ال بذلك فمعنى هذا أنه بلغ عن ال‪ ،‬والبلغ عن ال يجعل الخبر القادم منه فوق الرؤية‬
‫وأوثق وأكد منها‪.‬‬

‫شهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آِلهَةً ُأخْرَىا {‪ .‬وعندما أعجزهم هذا‬


‫وهنا يأتي السؤال الستنكاري‪ } :‬أَئِ ّنكُمْ لَتَ ْ‬
‫السؤال في بعض مراحل الدعوة قال بعضهم‪ {:‬مَا َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى }[الزمر‪.]3 :‬‬
‫وكأنهم أخيرا يعترفون أن المتقرّب إليه هو ال‪ ،‬ولكن الحق يحسم أمر الشرك فيقول على لسان‬
‫ح ٌد وَإِنّنِي بَرِيءٌ ّممّا تُشْ ِركُونَ { فالرسول صلى ال‬
‫شهَدُ ُقلْ إِ ّنمَا ُهوَ إِلَـا ٌه وَا ِ‬
‫رسوله‪ } :‬قُل لّ َأ ْ‬
‫عليه وسلم ل يشهد بأي آلهة غير ال‪ ،‬وألقى إليهم السؤال الستنكاري لعلهم يديرون رءوسهم‬
‫ح ٌد وَإِنّنِي‬
‫ليهتدوا إلى صحيح الجابة التي يوجزها الحق في قوله للرسول‪ُ } :‬قلْ إِ ّنمَا ُهوَ إِلَـا ٌه وَا ِ‬
‫بَرِيءٌ ّممّا تُشْ ِركُونَ {‪.‬‬
‫إن الكلم هنا موجه إلى فئة من المناوئين لرسول ال من عبدة الوثان‪ ،‬وهم بعض من الكافرين‬
‫برسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والبعض الخر هم بعض من أهل الكتاب‪ ،‬هؤلء الذين‬
‫تغافلوا عن الكتب المنزلة إليهم‪ ،‬وغابت عنهم الخمائر اليمانية التي كانت ترد العاصي عن‬
‫معصيته‪ ،‬فانتشر الفساد في الكون‪ .‬لذلك أرسل الحق رسوله صلى ال عليه وسلم لن العاصي لم‬
‫يجد من يرده‪ ،‬واختفت من المجتمع في ذلك الوقت النفس اللوامة‪ ،‬وسادت فيه النفس المارة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالسوء‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه لم يترك أمر الرسول غائبا عن البشر‪ ،‬فقد كان الرسول في كل أمةٍ ينبئ ويخبر‬
‫عن الرسول الذي يليه حتى يستعد الناس لستقبال النذير والبشير‪ ،‬ولذلك كانت كل الرسالت تتنبأ‬
‫بالرسل القادمين حتى ل يظنوا أن مدّعيا اقتحم عليهم قداسة دينهم‪ ،‬ولن السلم جاء دينا عاما‪،‬‬
‫فلم يأت الخبر فقط بمحمد صلى ال عليه وسلم في الكتب السابقة‪ ،‬ولكن جاءت أوصافه وسماته‬
‫أيضا واضحة وبيّنه فيها‪.‬‬
‫إن الذين قرأوا هذه الوصاف لو أخرجوا أنفسهم عن سلطتهم الزمنية لمنوا على الفور برسالة‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ كما فعل " عبدال بن سلم " رضي ال عنه حين قال‪ :‬لقد عرفته‬
‫حين رأيته وعرفته كابني‪ ،‬ومعرفتي لمحمد أشد ونسي هؤلء أنهم هم الذين نُصروا برسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم دون أن يدروا؛ فقد كانوا يستفتحون به على الوس والخزرج‪ ،‬وقالوا للوس‬
‫والخزرج‪ :‬قَرُب مجيء نبي منكم سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم‪ .‬وأسرع الوس‬
‫والخزرج لليمان برسول ال صلى ال عليه وسلم قائلين‪:‬‬
‫لعل هذا هو النبي الذي توعدتنا به يهود‪ ،‬هيا نسبق إليه‪.‬‬
‫إذن فرسول ال صلى ال عليه وسلم لم يقتحم العالم بهذا الدين‪ ،‬بل عَ َرفَ نبأ مقدمه وبعثه‬
‫وصورته ونعته كلّ من له صلة بكتاب من كتب السماء‪ .‬إنهم يعلمون أنه الرسول الخاتم الذي‬
‫ختمت به أخبار السماء إلى الرض‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪ } :‬الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ‪{ ...‬‬

‫(‪)801 /‬‬

‫سهُمْ َفهُمْ لَا ُي ْؤمِنُونَ (‪)20‬‬


‫خسِرُوا أَ ْنفُ َ‬
‫الّذِينَ آَتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَا َءهُمُ الّذِينَ َ‬

‫إذن فرسول ال معلوم مقدما من أهل الكتاب كمعرفتهم لبنائهم‪ ،‬ولكنّ بعضا منهم فضل السلطة‬
‫الزمنية على اليمان برسول ال فخسروا أنفسهم؛ لن الخسارة ‪ -‬كما نعرف ‪ -‬هي ضياع لرأس‬
‫المال أو نقصانه‪ .‬وهم خسروا أنفسهم لن تلك النفوس كان يجب أن تحرص على مصلحة‬
‫الرواح التي جاء محمد صلى ال عليه وسلم لصلحها‪ .‬إنهم بذلك قد منعوا الخير عن أنفسهم‬
‫بتفضيل سلطان الدنيا الزائل على اليمان بال‪ ،‬وفي ذلك خيبة كبرى‪.‬‬
‫ال يعلمنا أن اليمان إنما هو كسب للنفس‪ ،‬فإياك أيها المؤمن أن تظن أن قولك‪ " :‬ل إله إل ال "‬
‫ق بصفات الكمال‬
‫خلَق الكون والخَ ْل َ‬
‫هو سند لعرش ال‪ .‬ل‪ ،‬إنها سند لك أنت؛ لنه ل إله إل هو َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والقدرة والعلم والحكمة‪ ،‬واعتراف الخلق بألوهية ال وحده ل تزيد من كمال ال ولكنها تفيد العباد‬
‫الذين آمنوا فيحسنون استقبال المر بعمارة الكون‪ ،‬لتسير حركة الحياة في ضوء منهج ال‬
‫فينسجموا مع الكون كله المسبح ل‪.‬‬
‫سهُمْ َفهُمْ‬
‫وحين يقول الحق‪ { :‬الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآ َءهُمُ الّذِينَ خَسِرُواْ أَ ْنفُ َ‬
‫لَ ُي ْؤمِنُونَ } [النعام‪.]20 :‬‬
‫فهو يخبر أهل مكة أن الصيحة اليمانية التي صاح بها رسول ال صلى ال عليه وسلم في آذانهم‬
‫لم تكن صيحة مفاجئة للكون‪ ،‬ولكنها صيحة بُشّر بها على لسان كل رسول‪ ،‬وإذا كان أهل مكة قد‬
‫بعدت صلتهم بالرسل والنبياء وكانوا على فترة من الرسل‪ ،‬فهم بجوارهم لهل كتاب في المدينة‬
‫يعلمون هذه الحقيقة التي جاء بها رسلهم مؤكدين للعهد الذي أخذه ال عليهم؛ لننا نعلم أن الحق‬
‫سبحانه وتعالى حين خلق الخلق واستعمرهم في الرض أرادهم موهوبين من قدرته سبحانه قُدْ َرةً‪،‬‬
‫ومن غناه سبحانه غِنىً‪ ،‬ومن علمه الكامل علما‪ ،‬ومن حكمته المطلقة حكمةً‪ ،‬ومن رحمته الكاملة‬
‫رحمةً‪ ،‬ومن قاهرية ال قهرا؛ لن الكون ل يمكن أن يستقيم إل إن وُجدت فيه هذه المتكاملت‬
‫وإن كانت متناقضة؛ لن لكل صفة مجالها الذي تعمل فيه‪.‬‬
‫وأضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬نجد النسان منا حين يرحم ولده دائما يفسد الولد وإن‬
‫لم يقس عليه مرة فأبوته ناقصة‪ ،‬إذن‪ ،‬فل يمكن أن يكون المهيمن على الخلق رحيما فقط‪ ،‬وإنما‬
‫يجب أن يكون قاهرا أيضا؛ لن الموقف قد يتطلب القهر‪ .‬ول يريد الحق سبحانه وتعالى أن يطبع‬
‫خلقه على خلق واحد‪ ،‬ولكنه سبحانه يريد أن يجعلهم ينفعلون للمواقف المختلفة؛ فالموقف الذي‬
‫يتطلب رحمة‪ ،‬يكونون فيه رحماء‪ ،‬والموقف الذي يتطلب قسوةوشدة يكونون فيه قساة‪ ،‬ولذلك‬
‫حمَآءُ بَيْ َنهُمْ تَرَا ُهمْ‬
‫حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ رُ َ‬
‫يقول الحق في المؤمنين‪ {:‬مّ َ‬
‫ضوَانا }‬
‫ُركّعا سُجّدا يَبْ َتغُونَ َفضْلً مّنَ اللّ ِه وَ ِر ْ‬

‫[الفتح‪.]29 :‬‬
‫إن الحق يحدثنا عن خلق المؤمنين‪ .‬إنه سبحانه لم يطبعهم على الشدة؛ لن المواقف قد تتطلب‬
‫رحمة‪ ،‬ولكن الشدة مطلوبة لمواجهة أهل الباطل‪ .‬ولم يطبعهم الحق على اللين‪ ،‬لكن اللين مطلوب‬
‫فيما بينهم؛ لن كلً منهم يرجو رحمة ال وفضله؛ ففي الموقف الذي يتطلب رحمة؛ هم رحماء‪.‬‬
‫وفي المواقف الذي يتطلب شدة هم أشداء‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه أيضا عن المؤمنين‪ {:‬أَذِلّةٍ‬
‫عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[المائدة‪.]54 :‬‬
‫ولم يجعل الحق المؤمن ذليلً على إطلقه‪ ،‬ول عزيزا على إطلقه‪ ،‬ولكنه جعله ذليلً على أخيه‬
‫المؤمن‪ ،‬لين الجانب رحب الخلق‪ .‬وجعله عزيزا على الكافرين المتأبين على ال‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬فسبحانه يريد من خَلْقه أن يكونوا على خُلُقِ الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬ولذلك يقول الرسول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صلى ال عليه وسلم فيما رواه عمار بن ياسر رضي ال عنه‪ " :‬حُسْن الخلق خُلُق ال العظم "‬
‫و ُروِي‪ " :‬تخلقوا بأخلق ال "‬
‫إن ل سبحانه وتعالى قدرة حكيمة‪ ،‬فخذوا أيها المؤمنون قدرته واستعملوها بحكمة‪ ،‬ول علم‬
‫فحاولوا أن تكونوا عالمين‪ ،‬ول رحمة فحاولوا أن تكونوا رحماء‪ ،‬وال جبار فإذا تطلب الموقف‬
‫منكم أن تكونوا جبارين فافعلوا‪ ،‬لن سياسة الرض وسياسة المجتمع قد ل تصلح إل بهذا‪.‬‬
‫وما دام الحق قد أراد من الخلق أن يعمروا هذا الكون فل بد أن يضمن لهم منهجا سليما يرتكز‬
‫على " افعل " و ل " تفعل " ‪ ،‬فإن نحن أخذنا منهج ال فنحن نأخذ ما يمكن أن نسميه بالعرف‬
‫الحاضر‪ " :‬قانون الصيانة " فلنفعل ما قال ال افعلوا‪ ،‬ولنترك ما قال ال في شأنه ل تفعلوا حتى‬
‫تؤدي اللة النسانية مهمتها كما يريد ال لها أن تكون‪.‬‬
‫إن الفساد إنما ينشأ من أنك أيها النسان تنقل العمال من نطاق " افعل " إلى نطاق " ل تفعل " ‪،‬‬
‫والعمال التي يجعلها ال في نطاق " ل تفعل " تجعلها أنت في نطاق " افعل "‪ .‬فإن طلب ال أن‬
‫نقيم الصلة بـ " افعل " فكيف نجعلها في نطاق " ل تفعل " بعدم الصلة؟‪ ،‬وإن طلب ال منا أل‬
‫نشرب الخمر فكيف نشربها إذن؟‪.‬‬
‫إن الخلل اليماني الذي يحدث في الكون إنما ينشأ من نقل متعلقات " افعل " إلى " ل تفعل " ‪،‬‬
‫ومن نقل متعلقات " ل تفعل " إلى " فعل " ‪ ،‬أما ما لم يَرِد فيه " افعل " و " ل تفعل " فقد ترك ال‬
‫لختيارك إباحة أن تفعله أو ل تفعله‪ ،‬لن الكون ل يفسد بشيء منها‪.‬‬
‫وإذا نظرت إلى منهج ال في " افعل " و " ل تفعل " فأنت تجد أن الحق سبحانه لم يقض على‬
‫حريتك ولم يقض على اختيارك‪ ،‬وإنما ضبطك ضبطا محكما فيما ينشأ فيه فساد الكون‪ ،‬أما الذي‬
‫ل ينشأ منه فساد فإن شئت فافعله وإن شئت فاتركه‪.‬‬

‫وزود الحق كل البشر بهذا المنهج من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة‪ .‬وأخذ سبحانه على نفسه‬
‫الوعد بعدم تعذيب أمة لم يبعث لها رسولً‪ ،‬ولذلك توالى الموكب الرسالي‪ .‬لماذا؟ لن الغفلة‬
‫تتمكن من النسان؛ فقد يتناسى النسان مرة الشيء الذي يحد حركته ويتكرر التناسي إلى أن‬
‫يصير نسيانا‪ ،‬فيشاء الحق أن يرسل رسولً لكل فترة لينبه إلى قانون صيانة النسان‪ ،‬إلى أن جاء‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأمن ال أمةَ محمد أن تكون هي المبلغة بمنهج ال إلى أن تقوم‬
‫الساعة‪ .‬ولذلك أخذ سبحانه من النبيين ميثاقا للبلغ عن رسالة النبي الخاتم‪ {:‬وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ‬
‫ح ْكمَةٍ ثُمّ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ ِب ِه وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ‬
‫النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَابٍ وَ ِ‬
‫شهَدُو ْا وَأَنَاْ َم َعكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ }[آل عمران‪:‬‬
‫أََأقْرَرْتُ ْم وََأخَذْتُمْ عَلَىا ذاِل ُكمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ‬
‫‪.]81‬‬
‫إذن فقد أخذ ال العهد على كل نبي أن يبلغ قومه أن يؤمنوا برسالة الرسول الذي توافق دعوته‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫دعوتهم‪ ،‬وأخذ الحق القرار من كل نبي على ذلك‪ ،‬وشهد النبياء على أنفسهم وشهد ال عليهم‪،‬‬
‫وبلغوا ذلك إلى أقوامهم‪ .‬إذن فنصرة النبي الخاتم موجودة في كل رسالة سابقة على السلم‪،‬‬
‫وكان على كل رسول أن يعطي إيضاحا بذلك العهد لقومه‪ ،‬وأن يأخذ عليهم العهد بنصرة الرسول‬
‫القادم إليهم‪ ،‬ويبلغهم أن من تمام اليمان أن يؤيّدوا ذلك الرسول إن هم عاصروه‪.‬‬
‫ويخصص الحق هنا أهل الكتاب الذين نزلت إليهم التوارة والنجيل وهما أصحاب الديانتين‬
‫العظيمتين اللتين سبقتا السلم‪ } :‬الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآءَ ُهمُ { أي أنهم‬
‫يعرفون محمدا صلى ال عليه وسلم بالبشارة به‪ ،‬وبالخبار عنه‪ ،‬وبالنعت لشكله وصورته‪ ،‬فإذا‬
‫كان كفار قريش على فترة من الرسل فليسألوا أهل الكتاب‪ .‬وقد سمع الوس والخزرج من أهل‬
‫الكتاب أن هناك نبيا قادما سيؤمنون به ويتبعونه ويقتلون به العرب قتل عاد وإرم‪ .‬إذن فالصيحة‬
‫اليمانية على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم لم تكن مفاجئة للكون‪ ،‬وإن كتمها الذين كفروا‬
‫من أهل الكتاب‪ ،‬هؤلء الذين جاء فيهم قول الحق سبحانه‪ {:‬وََلمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ ُمصَدّقٌ‬
‫ّلمَا َم َعهُ ْم َوكَانُواْ مِن قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ فََلمّا جَآءَ ُهمْ مّا عَ َرفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ‬
‫عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة‪.]89 :‬‬
‫لقد انتابت الفة التي تنكر هذا البلغ عن ال بعضا من أهل الكتاب‪ ،‬فقد أخذوا‪ ،‬وهم المبلغون عن‬
‫ال‪ ،‬السلطة الزمنية ورأوا فيها الحظ والجاه والنعيم‪ ،‬فمنهم القضاة وإليهم يلجأ الناس لمعرفة‬
‫الحكم في الدماء‪ ،‬وكذلك يأخذون الصدقات‪.‬‬

‫وألفوا حياة السيادة والنعيم‪ .‬وها هي ذي دعوة جديدة جاءت لتسلب منهم هذه السيادة‪ ،‬وبالرغم من‬
‫أنهم كانوا المبشرين بها من قبل‪ ،‬إل أن الدعوة عندما جاءت تزلزت بها سلطتهم الزمنية‪ ،‬ولذلك‬
‫بدأوا العداء‪.‬‬
‫إذن فالفة هي أخذ سلطة زمنية من باطن سلطة ال ثم يدعي أنها سلطة ال‪ .‬وعندما ننظر إلى‬
‫التاريخ الدياني في العالم نجد أن السلطة الزمنية في الديان التي سبقت السلم هي التي أرهقت‬
‫الكون؛ لن الحق سبحانه حينما خلق الكون طمر فيه أسرارا تعمل في خدمة النسان وإن لم يدر‬
‫بها النسان‪ .‬وطموحات النسان العلمية هي التي تجعله يهتدي إلى هذه السرار ويكتشف القوانين‬
‫التي تعمل بها؛ مثال ذلك قانون الجاذبية وقانون السالب والموجب‪ ،‬كل هذه قوانين موجودة في‬
‫الكون‪ ،‬تماما كما خلق ال الرض كروية وكما جعل الشمس هي مصدر الحرارة والدفء والنور‬
‫والشراق‪.‬‬
‫ويأخذ العلماء من تلك المقدمات ليصلوا إلى اكتشاف قوانين هذه الجرام وقوانين هذا الكون‪.‬‬
‫وحين يصل الذكي إلى اكتشاف قانون ما فإنه يقول‪ :‬لقد اكتشفت كذا‪ ،‬وهذا تعبير فطري دقيق‪،‬‬
‫ول يقول أبدا‪ :‬لقد ابتكرت كذا؛ لنه يعلم أن ما اكتشفه كان موجودا في الكون ولكن ل يعرفه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وعدم معرفة النسان بقانون موجود في الكون ل يمنع الفائدة من الوصول إلى النسان‪ ،‬وإن‬
‫كانت المعرفة بالقانون تزيد من إمكان الفادة منه‪.‬‬
‫فالنسان يتمتع بوجود الشمس قبل معرفة ما بها من طاقة‪ ،‬ولكن عندما تخصص العلماء في‬
‫دراسة الشمس عرفوا أن النسان يمكن أن يستفيد بهذه الطاقة أكثر من فائدته التقليدية بها‪ ،‬ولذلك‬
‫صارت هناك بعض المدن تنير شوارعها بالطاقة الشمسية‪ ،‬وصارت هناك بعض المباني تدفيء‬
‫حجراتها بالطاقة الشمسية وتسخّن المياه أيضا بهذه الطاقة‪ .‬ولم يمنع هذا الكتشاف أن يستفيد‬
‫المي أو البدوي في الصحراء من نور الشمس‪ .‬وكذلك الكهرباء‪ ،‬والدوات الكهربائية والمنزلية‬
‫التي يمكن للجاهل الستفادة منها‪ ،‬مثل استفادة الخبير بها‪ ،‬صحيح أن المي ل يعرف كيف تدور‬
‫المصانع التي تنتج أجهزة التليفزيون ولكنه يستفيد برؤية التليفزيون‪ .‬والتليفزيون ليس إل ترجمة‬
‫مادية لمجموعة من القوانين العلمية اكتشفها النسان ووضعها موضع التطبيق لصناعة هذه اللة‬
‫التي يستفيد بها النسان‪.‬‬
‫ولكل سر ميلد تماما كميلد النسان‪ .‬وإذا جاء ميعاد ميلد السر ولم يكن هناك من يبحث عنه‪،‬‬
‫فسبحانه يكشفه لي بشر بالمصادفة‪ ،‬وكثيرا ما نسمع أن عالما كان يبحث في مجال ولكنه اكتشف‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ‬
‫سرا غير الذي كان يبحث عنه‪ .‬ولذلك يقول الحق في آية الكرسي‪َ {:‬ولَ يُحِيطُونَ بِ َ‬
‫ِإلّ ِبمَا شَآءَ }[البقرة‪.]255 :‬‬
‫فأنت أيها النسان ل تحيط علما بأسرار الكون إل إذا أذن ال‪ ،‬وهناك عشرات اللف من المثلة‬
‫على ذلك بداية من قاعدة أرشميدس التي تسير عليها البواخر والغواصات‪ ،‬إلى قانون الجاذبية‬
‫الرضية الذي اكتشفه نيوتن عندما وقعت تفاحة أمامه بالمصادفة‪ ،‬إلى اكتشاف البنسلين‪ ،‬إلى غير‬
‫ذلك من أسرار هذا الكون‪.‬‬

‫وإذا كانت هناك علوم لها مقدمات‪ ،‬فهناك أيضا علوم ليس لها مقدمات؛ إن الحق سبحانه وتعالى‬
‫ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ فَإِنّهُ يَسُْلكُ مِن بَيْنِ‬
‫يقول‪ {:‬عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ‬
‫يَدَيْهِ َومِنْ خَ ْلفِهِ َرصَدا }[الجن‪.]27-26 :‬‬
‫فسبحانه وتعالى عالم الغيب فل يظهر غيبه لحد إل لرسول يختاره الحق ليعلم بعضا من الغيب‪،‬‬
‫ويحميه ال ويعصمه ويحفظه بالملئكة لتحول بينه وبين وساوس الشياطين وتخليطهم حتى يُبَلّغ‬
‫ما أوحىَ به إليه‪ ,‬وحين يريد الحق أمرا محكما ل اختيار لحد فيه فإنه ينزل به رسولً إلى الخلق‬
‫ليهديهم بـ " افعل " و " ل تفعل "‪ .‬وهذه مسألة غير متروكة للبحث فيها‪ ،‬ولكنها تأتي بإذن من‬
‫ال حتى تتعارض أهؤاونا؛ فسبحانه علم أن الهواء بين البشر قد تتعارض ول تتساند فيرسل‬
‫الرسل من عنده سبحانه بالمنهج ليستقيم أمر البشر‪.‬‬
‫إن النشاطات الذهنية التي يصل بها البشر إلى أسرار فيها رفاهية الحياة‪ ،‬هي أسرار بنت التجربة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمعمل‪ ،‬والمعمل ل يجامل‪ ،‬فل توجد كيمياء روسية وأخرى أمريكية‪ ،‬إنما كل قوانين المادة‬
‫تستنبط في المعمل‪ ..‬ولذلك نرى الدول تتسابق كلّ يحاول أن يسرق ما عند الخر بواسطة‬
‫الجواسيس‪ .‬أما في مجال الحركة الجتماعية فالدول تقيم سدودا بينها وبين المبادئ؛ فالغرب ل‬
‫يسمح بدخول نظريات اجتماعية من الشرق‪ ،‬والشرق ل يسمح بذلك أيضا‪ .‬ويختلف هذا المر في‬
‫البحث العلمي؛ فقوانين البحث العلمي عن أسرار الكون يحاول كل طرف امتلكها‪ .‬وإن لم يستطع‬
‫حاول أن ينقلها عن غيره‪.‬‬
‫ويعلمنا الحق أن نبحث في كل آيات الكون ول نعرض عنها‪ ،‬فيقول لنا‪َ {:‬وكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪.]105 :‬‬
‫ال ّ‬
‫فسبحانه يلفتنا إلى أن كل آية وكل ظاهرة من الظواهر تتطلب منا أن ننظر فيها بحكمة وإمعان؛‬
‫لننا قد نستنبط منها أشياء تريحنا‪ .‬ومثال ذلك قوة البخار‪ ،‬اكتشفها رجل وطورها آخر حتى‬
‫صارت تلك القوة البخارية في خدمة البشرية كلها وكذلك الذي اخترع العجلة أفاد البشرية في نقل‬
‫عشرات الوزان عليها واختصار زمن الرحلت‪ ،‬كل ذلك إنما جاء من تأمل آيات ال في الكون‬
‫بإمعان وتدبر‪ .‬لقد جعل الحق البحث في آيات الكون مشاعا للمؤمنين والكفار‪ ،‬وهو حق لمن‬
‫يبحث في أسراره‪ .‬وهذه هي قضية العلم‪ .‬أما قضية الدّين فأمرها مختلف؛ لن الخبر في قضية‬
‫الدين يأتي من ال بواسطة رسول‪ .‬أما البحث في الكون وأسراره العلمية فالحق يقول فيه‪ {:‬أَلَمْ تَرَ‬
‫حمْرٌ‬
‫ض وَ ُ‬
‫سمَآءِ مَآءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ َثمَرَاتٍ مّخْ َتلِفا أَ ْلوَا ُنهَا َومِنَ الْجِبَالِ جُ َددٌ بِي ٌ‬
‫أَنّ اللّهَ أن َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫س وَال ّدوَآبّ وَالَ ْنعَامِ ُمخْتَِلفٌ َأ ْلوَانُهُ كَذَِلكَ إِ ّنمَا َيخْشَى اللّهَ‬
‫مّخْتَِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّا ِ‬
‫غفُورٌ }‬
‫مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫[فاطر‪.]28-27 :‬‬
‫إن الحق يلفتك أيها النسان إلى أنه أنزل من السماء ماء فأنبت وأخرج به من الرض النباتات‬
‫التي تحمل ثمارا مختلفة اللوان ومختلفة الطعم‪ .‬وجعل الجبال مختلفة الشكال واللوان‪ ،‬وبعضها‬
‫ضعيف وبعضها قوي‪ .‬ويختلف لون الجبل عن الخر بما فيه من مواد مطمورة‪ .‬وهذه الجبال‬
‫كلها من أصل واحد ولكن فروعها متباينة لخدمة النسان‪.‬‬
‫لقد خلق الحق سبحانه النعام مختلفة اللوان والشكال والحجام‪ ،‬وكذلك الناس مختلفون في اللون‬
‫والشكل‪ .‬والعلماء هم الذين يتدبرون ذلك فيخشون ال الصانع العليم‪ .‬إذن فأمر الدين محسوم من‬
‫الحق‪ .‬والرسل مبلغون عن ال‪ ،‬وكذلك أهل العلم بالدين‪ ،‬وأهل العلم بالدين مبلغون عن ال ل‬
‫متكلمون بلسان ال؛ لن بعض البشر قد يخلطون أهواءهم مع كلمات ال ويقولون‪ :‬إن هذا هو‬
‫كلم ال‪ ،‬وهذا خطأ فاحش وذنب كبير‪.‬‬
‫إن ما حدث في القرون الوسطى ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬كان خلطا بين البحث العلمي وما ينزل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحق من منهج؛ فعندما جاء عالم مثل " جاليليو " ليبحث في طبيعة الكواكب أرادوا أن يحرقوه‪،‬‬
‫وعندما أراد عالم آخر أن يتكلم في طبيعة الرض حبسوا حريته‪ .‬وعندما حكمت الكنيسة العالم‬
‫الغربي بهذا السلوب تأخر العالم كله وعاش في عصور من الظلم‪ ،‬وعندما اتصل هؤلء القوم‬
‫بالمسلمين تحرروا من خزعبلت تلك القرون الوسطى وتعلموا حرية البحث العلمي من العرب‬
‫وارتقت أوروبا بذلك السلوب العلمي الذي طرحه السلم وأثبته علماء المسلمين‪.‬‬
‫إن السبب في تأخر أوروبا وجهلها هم أهل الكهنوت والدين‪ ،‬بل إن نفور الوروبيين من الدين‬
‫كان بسبب معرفتهم أن رجال الدين عندهم يمقتون الحياة والتقدم الحضاري ‪ -‬حماية لنفوذهم‬
‫وسلطتهم الزمنية والروحية ‪ -‬وأراد بعض من أهل أوروبا أن يأخذوا كل الديان بجريرة رجال‬
‫الكهنوت عندهم‪ .‬ونسي الذين حملوا على الدين ‪ -‬كل الدين ‪ -‬أن رجال الكهنوت افتأتوا وادعو‬
‫ذلك على النصرانية‪ ،‬ونسبوه إليها؛ فالمسيح لم يقل لهم ذلك‪ ،‬ولكنهم كرجال كهنوت أفسدوا الحياة‬
‫بالسلطة الزمنية التي كانت لهم وكانت النتيجة أن أخذ البعض من فساد سلطة الكنيسة حجة على‬
‫فساد الدين‪.‬‬
‫ولهؤلء نقول‪ :‬إن الدين ل يتدخل في أي أمر من أمور الحياة العلمية ول يفسدها أبدا‪ ،‬بل نجد أن‬
‫الحق قد أمرنا بالبحث في آياته وأن نزيد من البحث‪ .‬وها هو ذا رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يأمرنا بأن نبحث عن شئون الدنيا على ضوء التجربة‪ .‬وأراد ال أن يفصل بين أمور العلم‬
‫التجريبي وأمور الدين‪ ،‬وأراد أن يحمي دينه من تدخل أي فئة تدعي أنها تملك كلم ال فتخلط‬
‫بين أهوائها والبلغ عن ال سبحانه‪.‬‬

‫مثال ذلك ما قاله رسول ال صلى ال عليه وسلم في أمر تلقيح النخيل‪ .‬ونعرف أن تلقيح النخيل‬
‫يتم حين نأخذ طلع الذكورة ونلقح به النوثة من النخيل فيخرج التمر ناضجا‪ ،‬وإن لم يحدث ذلك‬
‫فالنخيل تنتج ثمارا غير ناضجة‪ .‬والسر في إنتاج النخيل لثمار غير ناضجة أن التلقيح قد تم‬
‫بواسطة الريح التي تنقل القليل من حبوب اللقاح‪ ،‬ولكن التلقيح اليدوي للنخيل هو الذي يزيد من‬
‫جودة الثمار‪ ،‬وقال الرسول صلى ال عليه وسلم مرة للصحابة ما يمكن أن يفهم منه أل يقوموا‬
‫بتلقيح النخيل وحدث نتيجة ذلك أن النخيل لم يثمر الثمار المرجوة بل أثمر شيصا أي ثمارا غير‬
‫مكتملة النضج‪ ،‬واستند الرسول في ذلك إلى قول الحق‪ {:‬وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ }[الحجر‪.]22 :‬‬
‫وهذا قول صحيح صادق حكيم نجد آثاره في السحاب الذي يتحول إلى مطر نتيجة اتصال‬
‫الموجب بالسالب‪ ،‬ونجده في معظم النباتات من قمح وفاكهة وذرة وغير ذلك‪ .‬فطلع الذكر ينتقل‬
‫بواسطة الريح إلى عناصر النوثة في النباتات القريبة فتلقحها وتنقل الرياح كذلك اللقاح الخفيف‪.‬‬
‫واللقاح عندما يكون ثقيل الوزن يحتاج في بعض الحيان إلى جهد من النسان لينقل خليا‬
‫الذكورة إلى خليا النوثة‪ ،‬ومثال ذلك النخيل‪ .‬ولذلك عندما علم رسول ال صلى ال عليه وسلم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بقلة إنتاج النخيل في العام الذي لم يلقح فيه بعض الصحابة نخيلهم‪ ..‬قال صلى ال عليه وسلم لهم‪:‬‬
‫" أنتم أعلم بأمر دنياكم "‪.‬‬
‫وبهذا حسم الرسول صلى ال عليه وسلم المر ولم يعد لرجال الدين أن يتدخلوا في أي أمر ل‬
‫تستقيم به الحياة إل بناء على التجربة المعملية‪ .‬ولذلك يقال عن السلم‪ :‬إنه دين العلم؛ لنه أتاح‬
‫لرجال العلم أن ينطلقوا في تأمل آيات ال في هذا الكون‪ ،‬بل دعاهم وأمرهم أن يستنبطوا أسرار‬
‫هذا الكون‪ .‬أما في أمور السلوك البشري وحركة المجتمع فقد أنزل الحق من المنهج ما يكفي لعدم‬
‫استعلء أحد على أحد‪ ،‬وأن نضبط السلوك النساني بتعاليم المنهج اليماني‪.‬‬
‫لقد جاء المنهج اليماني في كل الرسالت‪ ،‬وكانت الرسالة الخاتمة هي رسالة محمد ابن عبدال‪،‬‬
‫وكانت البشارة به موجودة في التوراة والنجيل‪ .‬ويقول الحق‪ } :‬الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا‬
‫َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآءَهُمُ { فهل عمل أهل الكتاب بمقتضى هذه المعرفة؟ ل؛ ذلك أن بعضا منهم خافوا أن‬
‫تؤخذ منهم سلطتهم الزمنية‪ ،‬وأكبر مثال على ذلك هو عبدال بن أُبي الذي كان رأس النفاق في‬
‫السلم والذي كان يستعد لتولي مُلْك المدينة قبل مجيء الرسول صلى ال عليه وسلم إليها‪ .‬وكان‬
‫هناك من أهل الكتاب من عمل بهذه النبوءة‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬عبدال بن سلم رضي ال عنه‪.‬‬

‫س ِمعُواْ مَآ أُن ِزلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَى‬


‫ولم يظلم القرآن أحدا‪ ،‬بل قال عن بعض أهل الكتاب‪ {:‬وَِإذَا َ‬
‫أَعْيُ َنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُواْ مِنَ ا ْلحَقّ َيقُولُونَ رَبّنَآ آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ }[المائدة‪.]83 :‬‬
‫إذن لم يظلم الحق الذين آمنوا من أهل الكتاب عندما وجدوا أن منهج السلم مطابق لما جاء‬
‫إليهم‪ .‬لكن بعض أهل الكتاب كفر وعادَى رسول ال صلى ال عليه وسلم خوفا على السلطة‬
‫الزمنية التي كانت لهم‪.‬‬
‫وعندما ننظر إلى التاريخ نجد أن السلطة الزمنية كانت في وقت من الوقات لرجال الدين مثلما‬
‫حدث في أوروبا‪ ،‬ولكن حدث استغلل من جانب رجال الدين للناس‪ ،‬وأفسد رجال الكهنوت في‬
‫الرض‪ ،‬فتمرد عليهم البشر وخرجوا عن طاعتهم ليقننوا لنفسهم القوانين‪ .‬ولنهم كانوا يحكمون‬
‫بالهواء ل بالشرع فقد كان الحكم يتذبذب عند رجال الكهنوت في المر الواحد حسب شخصية‬
‫من يرتكب هذا المر‪ ،‬فمن يدفع لهم ينال العفو‪ ،‬ومن لم يدفع ينال العقاب! لقد أخذوا متاع الدنيا‬
‫القليل ولم ينفذوا ما أمرهم به ال فخرج الناس على سلطانهم‪.‬‬
‫ومن هنا لم يعترف بعض من البشر برسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي جاءت البشارة‬
‫به وعرفوه باليضاح والنعت ولكنهم أنكروه لنه يسلبهم ما حصلوا عليه من النتفاع بالمال‬
‫سهُمْ َف ُه ْم لَ‬
‫والسلطة فخسروا أنفسهم وظلوا على الكفر؛ لقد قال فيهم الحق‪ } :‬الّذِينَ خَسِرُواْ أَ ْنفُ َ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ {‪ .‬لقد خسروا أنفسهم؛ لنهم اشتروا بآيات ال ثمنا قليلً‪ .‬وخسارة النفس تفوق خسارة‬
‫المال؛ لن خسارة المال مردودة ويمكن أن تتدارك فيكسب النسان بعد خسارة‪ ،‬ولكن خسارة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النفس أمرها كبير‪ .‬ونعلم أن الصفقة اليمانية ل تعزل عمل الدنيا عن حساب الخرة‪ .‬والمؤمن‬
‫ن بعضا من أهل الكتاب أحبوا الدنيا على الخرة وفصلوا‬
‫الحق هو من يربط الدنيا بالخرة‪ .‬لك ّ‬
‫بين الثنتين فأخذوا حظا قليلً من الحياة الدنيا وخسروا الخرة‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪َ } :‬ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَىا‪{ ...‬‬

‫(‪)802 /‬‬

‫علَى اللّهِ كَذِبًا َأوْ َك ّذبَ بِآَيَا ِتهِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ (‪)21‬‬
‫َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى َ‬

‫إنهم افتروا على ال الكذب عندما فعلوا ذلك‪ :‬نسوا حظا مما ذكروا به‪ ،‬وكتموا بعضا من الكتب‬
‫المنزلة إليهم‪ ،‬وحرفوا اليات المنزلة إليهم‪ ،‬وجاءوا بأقوال من عندهم ونسبوها إلى ال‪ .‬ولذلك‬
‫نجد الحق سبحانه يقول عنهم‪َ {:‬فوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ‬
‫لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً َفوَيْلٌ ّلهُمْ ّممّا كَتَ َبتْ أَ ْيدِيهِ ْم َووَيْلٌ ّلهُمْ ّممّا َي ْكسِبُونَ }[البقرة‪.]79 :‬‬
‫إن الحق يتوعدهم بالعذاب لنهم باعوا الدين لقاء ثمن قليل في الدنيا‪ ،‬وادعوا على ال الكذب‬
‫فنسبوا إليه ما لم ينزله‪ ،‬ولذلك فالويل كل الويل لهم؛ لنهم انحطوا إلى أخس دركات الظلم وكذبوا‬
‫الكذب المتعمد في كلية ملزمة وهي اليمان بال وبالكتب المنزلة والرسل‪.‬‬
‫والفتراء هو الكذب المتعمد بغرض نسبة شيء إلى ال لم يقله‪ ،‬وهم قد فعلوا ذلك‪ ،‬ولهذا ل يفلح‬
‫الظالمون سواء ظلموا الناس بأخذ أموالهم أو الساءة إليهم‪ ،‬أو ظلموا أنفسهم بالشرك بال وهو‬
‫أعظم الظلم { إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }‪.‬‬
‫جمِيعا ثُمّ َنقُولُ لِلّذِينَ َأشْ َركُواْ أَيْنَ‪} ...‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ { :‬وَ َيوْمَ َنحْشُرُ ُهمْ َ‬

‫(‪)803 /‬‬

‫عمُونَ (‪)22‬‬
‫جمِيعًا ثُمّ َنقُولُ لِلّذِينَ أَشْ َركُوا أَيْنَ شُ َركَا ُؤكُمُ الّذِينَ كُنْ ُتمْ تَزْ ُ‬
‫وَ َيوْمَ نَحْشُ ُرهُمْ َ‬

‫الحق سبحانه يذكرنا بيوم الحشر‪ ،‬يوم يسأل ال الذين أشركوا وكذبوا وافتروا الكذب على ال‪ :‬أين‬
‫الذين عبدتموهم وأشركتموهم معي؟ إن ال لن يترك الناس سدى‪ ،‬بل كل عمل يفعله النسان في‬
‫الدنيا محصى عليه وسيسأل عنه يوم القيامة‪ .‬سيسأل ال المشركين عن الذين عبدوهم من دون ال‬
‫كذبا‪ :‬أين هؤلء اللهة التي أشركها الكافرون في العبادة مع ال؟ ولماذا ل يتقدمون لنقاذ عبيدهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من العذاب الذي يصليه ال لهم؟! ويقرع سبحانه المشركين‪ ،‬ويحشرهم مع ما عبدوهم من دون‬
‫ال من الصنام والوثان وفي ذلك قمة الهانة لهم ولتلك اللهة‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ُ { :‬ثمّ لَمْ َتكُنْ فِتْنَ ُت ُهمْ ِإلّ أَن قَالُو ْا وَاللّهِ‪} ...‬‬

‫(‪)804 /‬‬

‫ثُمّ َلمْ َتكُنْ فِتْنَ ُتهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا ُمشْ ِركِينَ (‪)23‬‬

‫ونعرف أن الفتنة هي الختبار‪ .‬وللفتنة وسائل متعددة؛ فأنت تختبر الشيء لتعرف الرديء من‬
‫الجيد‪ ،‬والحقيقي من المزيف‪ .‬ونحن نختبر الذهب ونفتنه على النار وكذلك الفضة‪ .‬وهكذا نرى أن‬
‫الفتنة في ذاتها غير مذمومة‪ ،‬لكن المذموم والممدوح هو النتيجة التي نحصل عليها من الفتنة؛‬
‫فالمتحانات التي نضعها لبنائنا هي فتنة‪ ،‬ومن ينجح في هذا المتحان يفرح ومن يرسب يحزن‪.‬‬
‫إذن فالنتيجة هي التي يفرح بها النسان أو التي يحزن من أجلها النسان‪ ،‬وبذلك تكون الفتنة أمرا‬
‫مطلوبا فيمن له اختيار‪ .‬وأحيانا تطلق الفتنة على الشيء الذي يستولي على النسان بباطل‪.‬‬
‫إن الحق يحشر المشركين مع آلهتهم التي أشركوا بها ويسألهم عن هذه اللهة فيقولون‪ { :‬وَاللّهِ‬
‫رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ }‪ .‬وهم في ظاهر المر يدافعون عن أنفسهم‪ ،‬وفي باطن المر يعرفون‬
‫الحقيقة الكاملة وهي أن المُلْك كله ال‪ ،‬ففي اليوم الخر ل شركاء ل؛ ذلك أنه ل اختيار للنسان‬
‫في اليوم الخر‪ .‬ولكن عندما كان للنسان اختيار في الدنيا فقد كان أمامه أن يؤمن أو يكفر‪.‬‬
‫وإيمان الدنيا الناتج عن الختيار هو الذي يقام عليه حساب اليوم الخر‪ ،‬أما إيمان الضطرار في‬
‫اليوم الخر فل جزاء عليه إل جهنم لمن كفر أو أشرك بال في الدنيا‪ .‬ولو أراد ال لنا جميعا‬
‫إيمان الضطرار في الدنيا لرغمنا على طاعته مثلما فعل مع الملئكة ومع سائر خلقه‪.‬‬
‫لقد قهر الحق سبحانه كل أجناس الوجود ما عدا النسان‪ ،‬وكان القهر للجناس لثبات القدرة‪،‬‬
‫ولكن التكريم للنسان جاء بالختيار ليذهب إلى ال بالمحبة‪.‬‬
‫والمشركون بال يفاجئهم الحق يوم القيامة بأنه ل إله إل هو‪ ،‬ويحاولون الكذب لمحاولة الفلت‬
‫من العقوبة فيقولون‪ { :‬مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ }‪ .‬وهم قد كذبوا بال في الحياة فعلً ويريدون الكذب على‬
‫ال في اليوم الخر قولً‪ ،‬ولكن ال عليهم بخفايا الصدور وما كان من السلوك في الحياة الدنيا‪،‬‬
‫ويوضح لهم في الخرة أعمالهم ويعاقبهم العقاب الليم‪.‬‬
‫وحين يسألهم الحق‪ { :‬أَيْنَ شُ َركَآ ُؤكُمُ }؟ ففي هذا القول استفهام من ال‪ ،‬والستفهام من العليم ل‬
‫يقصد منه العلم‪ ،‬وإنما يقصد به القرار مِن المسئول‪ .‬وفي حياتنا اليومية يمكننا أن نرى السؤال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من التلميذ لستاذه؛ ليعلم التلميذ ما يجهل‪ .‬ونرى السؤال يرد مرة بعد أخرى من الستاذ لتلميذه ل‬
‫ليعلم ما لم يعلم‪ ،‬ولكن ليقرر التلميذ بما يعلمه وبما تعلمه من أستاذه‪ .‬فإذا سأل الحق خلقه سؤالً‪،‬‬
‫أيسألهم سبحانه ليعلم؟ حاشا ل أن يكون المر كذلك‪ .‬وإنما يسأل الحق عباده ليكون سؤال إقرار‪.‬‬
‫والقرار هنا فيه تبكيت أيضا؛ لنه سؤال ل جواب له‪ ،‬فمعاذ ال أن يوجد له شركاء‪ .‬وعندما‬
‫يقول الحق لهم‪ { :‬أَيْنَ شُ َركَآؤُكُمُ }؟ فمعنى ذلك هو الستبعاد أن يوجد له سبحانه شركاء‪.‬‬

‫وبذلك يوبخهم ويبكتهم الحق على أنهم أشركوا بال ما ل وجود له‪.‬‬
‫لقد أشركوا بال في الدنيا لمجرد التخلص من موجبات اليمان‪ .‬وها هم أولء في المشهد العظيم‬
‫يعرفون قدر كذبهم في الدنيا‪ ،‬فل ملك لحد إل ال‪ ،‬ول معبود سواه‪ ،‬فينطقون بما يشهدون‪} :‬‬
‫وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ {‪.‬‬
‫ولقائل أن يقول‪ :‬ولكن هناك في موضع آخر من القرآن نجد أن ال يقول في حق مثل هؤلء‪{:‬‬
‫طقُونَ * وَلَ ُيؤْذَنُ َل ُهمْ فَ َيعْتَذِرُونَ }[المرسلت‪.]36-34 :‬‬
‫وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لّ ْل ُم َكذّبِينَ * هَـاذَا َيوْ ُم لَ يَن ِ‬
‫إنهم في يوم الهول الكبر يعرفون أنهم كذبوا في الدنيا‪ ،‬وهم ل ينطقون بأي قول ينفعهم‪ ،‬ول يأذن‬
‫لهم الحق بأن يقدموا أعذارا أو اعتذارا‪ .‬ونقول لمن يظن أن المكذبين ل ينطقون‪ :‬إنهم بالفعل ل‬
‫ينطقون قولً يغيثهم من العذاب الذي ينتظرهم‪ ،‬وهم يقعون في الدهشة البالغة والحيرة‪ ،‬بل إن‬
‫بعضا من هؤلء المكذبين بال واليوم الخر يكون قد صنع شيئا استفادت به البشرية أو تطورت‬
‫به حياة الناس‪ ،‬فيظن أن ذلك العمل سوف ينجيه‪ ،‬إن هؤلء قد يأخذون بالفعل حظهم وثوابهم من‬
‫الناس الذين عملوا من أجلهم ومن تكريم البشرية لهم‪ ،‬ولكنهم يتلقون العذاب في اليوم الخر لنهم‬
‫أشركوا بال‪ .‬ولم يكن الحق في بالهم لحظة أن قدموا ما قدموا من اختراعات‪ ،‬ولذلك يقول‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ يَجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ‬
‫عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ‬
‫الحق‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }[النور‪.]39 :‬‬
‫وهكذا نعلم أن أعمال الكافرين أو المشركين يجازيهم الحق سبحانه عليها بعدله في الدنيا بالمال أو‬
‫الشهرة‪ ،‬ولكنها أعمال ل تفيد في الخرة‪ .‬وأعمالهم كمثل البريق اللمع الذي يحدث نتيجة سقوط‬
‫أشعة الشمس على أرض فسيحة من الصحراء‪ ،‬فيظنه العطشان ماء‪ ،‬وما أن يقترب منه حتى‬
‫يجده غير نافع له‪ ،‬كذلك أعمال الكافرين أو المشركين يجدونها ل تساوي شيئا يوم القيامة‪.‬‬
‫والمشرك من هؤلء يعرف حقيقة شركه يوم القيامة‪ .‬ول يجد إل الواحد الحد القهار أمامه‪ ،‬لذلك‬
‫يقول كل واحد منهم‪ } :‬وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ {‪ .‬إن المشرك من هؤلء ينكر شركه‪ .‬وهذا‬
‫النكار لون من الكذب‪.‬‬
‫جمِيعا فَيَحِْلفُونَ لَهُ َكمَا َيحِْلفُونَ‬
‫إن المشركين يكذبون‪ ،‬ويقول الحق سبحانه عنهم‪َ {:‬يوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ‬
‫شيْءٍ َألَ إِ ّن ُهمْ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ }[المجادلة‪.]18 :‬‬
‫حسَبُونَ أَ ّنهُمْ عَلَىا َ‬
‫َلكُ ْم وَيَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحين يبعثهم الحق يوم القيامة يقسمون له أنهم كانوا مؤمنين كما كانوا يقسمون في الدنيا‪ ،‬لكن ال‬
‫يصفهم بالكذب‪ ،‬لقد كان بإمكانهم أن يدلسوا على البشر بالحلف الكاذب في الدنيا‪ ،‬ولكن ماذا عن‬
‫ال الذي ل يمكن أن يدلس عليه أحد‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن فتنة هؤلء هي فتنة كبرى‪ُ {:‬ثمّ لَمْ َتكُنْ فِتْنَ ُتهُمْ ِإلّ أَن قَالُو ْا وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا‬
‫مُشْ ِركِينَ }[النعام‪.]23 :‬‬
‫ضلّ‪{ ...‬‬
‫سهِ ْم َو َ‬
‫ويقول ال لرسوله صلى ال عليه وسلم بعد ذلك‪ } :‬انظُرْ كَ ْيفَ كَذَبُواْ عَلَىا أَنفُ ِ‬

‫(‪)805 /‬‬

‫ضلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ (‪)24‬‬


‫سهِ ْم َو َ‬
‫انْظُرْ كَ ْيفَ كَذَبُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ‬

‫ويلفت الحق نظر رسوله صلى ال عليه وسلم بدقة إلى عملية سوف تحدث يوم القيامة‪ ،‬وساعة‬
‫يخبر ال بأمر فلنصدق أنه صار واقعا وكأننا نراه أمامنا حقيقة ل جدال فيها‪ .‬وسبحانه يقرر أنهم‬
‫كذبوا على أنفسهم‪ .‬ونعرف أن كل الفعال تتجرد من زمانيتها حين تنسب إلى ال سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬فليس عند ال فعل ماضٍ أو حاضر أو مستقبل‪.‬‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ }[النحل‪:‬‬
‫والمثال على ذلك قوله الحق‪ {:‬أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ َتسْ َتعْجِلُوهُ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَىا َ‬
‫‪.]1‬‬
‫وليس لقائل أن يقول‪ :‬كيف يقول الحق إن أمره قد أتى وذلك فعل ماضٍ‪ ،‬ثم ينهى العباد عن‬
‫استعجاله‪ ،‬والنسان ل يتعجلُ إل شيئا لم يحدث‪ ،‬ليس لقائل أن يقول ذلك؛ لن المتكلم هو القوة‬
‫العلى ول شيء يعوق الحق أن يفعل ما يريد‪ .‬أما نحن العباد فل نجرؤ أن نقول على فعل سوف‬
‫نفعله غدا إننا فعلناه‪ ،‬ذلك أن غدا قد ل يأتي أبدا‪ ،‬أو قد يأتي الغد ول نستطيع أن نفعل شيئا مما‬
‫وعدنا به‪ ،‬أو قد تتغير بنا السباب‪ .‬وعلى فرض أن كل الظروف قد صارت ميسرة فأي قوة للعبد‬
‫منا أن يفعل شيئا دون أن يشاء ال؟‪ .‬ونحن ‪ -‬المؤمنون ‪ -‬نعرف ذلك وعلينا أن نقول كما عملنا‬
‫علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ }[الكهف‪.]24-23 :‬‬
‫شيْءٍ إِنّي فَا ِ‬
‫ال‪َ {:‬ولَ َتقْولَنّ لِ َ‬
‫وهكذا يضمن النسان منا أنه قد خرج من دائرة الكذب‪ .‬وحينما يقول ال لرسول‪ " :‬انظر "‬
‫ويكون ذلك على أمر لم يأت زمان النظر فيه؛ فرسول ال يصدق ربه وكأنه قد رأى هذا المر‪.‬‬
‫سهِمْ } أي أن كذبهم الذي سوف يحدث يوم‬
‫إن الحق يصف هؤلء الناس بأنهم‪ { :‬كَذَبُواْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫القيامة هو أمر واقع بالفعل‪ .‬وقد يكذب النسان لصالحه في الدنيا‪ .‬لكن الكذب أمام ال يكون على‬
‫حساب النسان ل له‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويتابع الحق‪َ { :‬وضَلّ عَ ْنهُمْ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } ومعنى هذا أنهم يبحثون في اليوم الخر عن‬
‫الشركاء ولكنّهم ل يقدرون على تحديد هؤلء الشركاء لنهم قالوا أمام ال‪ { :‬وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا‬
‫ضلّ عَ ْنهُمْ مّا كَانُواْ‬
‫مُشْ ِركِينَ } وغياب الشركاء عنهم أمام ال هو ما يوضحه ويبينّه قول ال‪َ { :‬و َ‬
‫َيفْتَرُونَ } فـ " ضل " هنا معناها " غاب "‪.‬‬
‫ألم يقولوا من قبل‪َ {:‬وقَالُواْ أَِإذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ َبلْ هُم بَِلقَآءِ رَ ّبهِمْ كَافِرُونَ }‬
‫[السجدة‪.]10 :‬‬
‫أنهم كمنكرين للبعث يتساءل باندهاش‪ :‬أإذا غابوا في الرض واختلطوا بعناصرها يمكن أن يبعثهم‬
‫ربهم من جديد؟‪ .‬فهم ل يصدقون أن الذي أنشأهم أول مرة بقادر على أن يعيدهم مرة أخرى‪.‬‬
‫ونعرف أن كلمة " ضل " لها معانٍ متعددة‪.‬‬

‫لكن معناها هنا " غاب " ‪ ،‬وحين يسألهم ال‪ :‬أين شركاؤكم؟‪ ،‬ينكرون كذبا أنهم أشركوا‪ ،‬لقد ضل‬
‫عنهم ‪ -‬أي غاب عنهم ‪ -‬هؤلء الشركاء‪ .‬والنسان يعبد الله الذي ينفعه يوم الحشر‪ ،‬وعندما‬
‫يغيب اللهة عن يوم الحشر فهذا ما يبرز ضلل تلك اللهة وغيابها وقت الحاجة إليها‪ ،‬ول يبقى‬
‫إل وجه ال الذي يحاسب من أشركوا به‪.‬‬
‫و " ضل " يقابلها " اهتدى " ‪ ،‬و " ضل " أي لم يذهب إلى السبيل الموصلة للغاية‪ ،‬و " اهتدى "‬
‫أي ذهب إلى السبيل الموصلة إلى الغاية‪ .‬ومن ل يعرف السبيل الموصلة إلى الغاية‪ ،‬يكون قد‬
‫ضل أيضا‪ ،‬ولكن هناك من يضل وهو يعلم السبيل الموصلة إلى الغاية وهذا هو الكفر‪ .‬وعندما‬
‫يتكلم الحق عن الذين كفروا يصفهم بأنهم ضلوا ضللً بعيدا؛ لن الطريق إلى الهداية كان أمامهم‬
‫ولم يسلكوه‪ ،‬وهذا هو ضلل القمة‪ .‬وقد يكون النسان مؤمنا لكن مقومات اليمان ضعيفة في‬
‫نفسه فيعصي ربه‪.‬‬
‫للً مّبِينا }[الحزاب‪:‬‬
‫ل ضَ َ‬
‫ضّ‬‫ويقول الحق عن مثل هذا النسان‪َ {:‬ومَن َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ َفقَ ْد َ‬
‫‪.]36‬‬
‫إنه ضلل دون ضلل وكفر دون كفر القمة‪ .‬لكن ماذا عن الذي يضل لنه ل يعرف طريق‬
‫الهدى؟ إن ذلك هو ما يظهر لنا من قصة سيدنا موسى عليه السلم‪ ،‬فحين قال الحق لموسى‬
‫سلْ َمعَنَا بَنِي‬
‫عوْنَ فَقُول إِنّا رَسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * أَنْ أَرْ ِ‬
‫وهارون عليهما السلم‪ {:‬فَأْتِيَا فِرْ َ‬
‫إِسْرَائِيلَ }[الشعراء‪.]17-16 :‬‬
‫أصدر الحق المر إلى موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون ليرسل معهما بني إسرائيل‪ ،‬فماذا عن‬
‫عمُ ِركَ سِنِينَ *‬
‫موقف فرعون؟‪ .‬ماذا قال فرعون؟‪ {:‬قَالَ أَلَمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا وَلَبِ ْثتَ فِينَا مِنْ ُ‬
‫َو َفعَلْتَ َفعْلَ َتكَ الّتِي َفعَ ْلتَ وَأَنتَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ }[الشعراء‪.]19-18 :‬‬
‫هنا يريد فرعون أن يمتن على موسى عليه السلم‪ ،‬ويذكره بأنه رباه في قصره إلى أن كبر ومع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذلك لم يرع موسى وقتل رجلً من قوم فرعون‪ ،‬وكان ذلك في نظر فرعون لونا من الجحود‬
‫بنعمته‪ ،‬وها هوذا يعتدي مرة أخرى على ألوهية فرعون بدعوته لليمان بالله الحق الذي ل‬
‫يتخيله الفرعون‪ ،‬ويلتقط موسى الخطأ الجوهري في سلوكه في ذلك الوقت‪ .‬إن الخطأ لم يكن‬
‫الكفر بفرعون‪ ،‬ولكن الخطأ كان هو القتل فيقول‪ {:‬قَالَ َفعَلْ ُتهَآ إِذا وَأَنَاْ مِنَ الضّالّينَ }[الشعراء‪:‬‬
‫‪.]20‬‬
‫وهكذا نعرف أن موسى لحظة قَتْلِه رجل من عدوه لم يكن عنده طريق الهدى‪ ،‬بل كان ضلله‬
‫حاصل من عدم معرفته أن هناك طريقا آخر إلى الهدى‪ .‬وهاهوذا الحق سبحانه وتعالى يخاطب‬
‫ك ضَآلّ َفهَدَىا }[الضحى‪.]7 :‬‬
‫ج َد َ‬
‫رسوله صلى ال عليه وسلم‪ {:‬وَوَ َ‬
‫أي لم يكن عندك يا رسول ال طريق واضح إلى الهدى قبل الرسالة‪ ،‬فليس معنى الضلل هنا‬
‫النحراف‪ ،‬ولكن معناه أنه قبل نزول الوحي لم يكن يعرف أي طريق يسلك‪.‬‬

‫وقد يكون الضلل نسيانا‪ ،‬وما دام النسان قد نسي الحقيقة فهو ضال‪ ،‬والمثال قول الحق‪ {:‬أَن‬
‫ضلّ ِإحْدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الُخْرَىا }[البقرة‪.]282 :‬‬
‫َت ِ‬
‫هنا يقرر الحق أن شهادة المرأة تحتاج إلى ضمان وذلك بتأكيدها بشهادة امرأة أخرى؛ لن المرأة‬
‫بحكم تكوينها ل تستطيع أن تضع أنفها في كل تفاصيل ما تراه‪ ،‬بل هي تسمع سمعا سطحيا‪،‬‬
‫ولذلك ل تكتمل الصورة عندها‪ ،‬وعندما تجتمع مع شهادة المرأة شهادة امرأة أخرى‪ ،‬فكل منهما‬
‫تذكر الخرى بتفاصيل قد تكون في منطقة النسيان؛ لن نفسية المرأة وطبيعة تكوينها مبنية على‬
‫الصيانة والتحرز من أن توجد في مجتمع فيه شقاق‪.‬‬
‫ضلّ عَ ْنهُمْ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ‬
‫وعندما يصف الحق هؤلء المشركين في يوم القيامة فهو يقول‪َ } :‬و َ‬
‫{ أي غاب عنهم ما كانوا يكذبون ويدعون أنهم شركاء ل‪ ،‬والمشركون هم المؤاخذون‬
‫والمحاسبون على اتخاذ الشركاء‪ ،‬فقد يكون بعضهم قد اتخذ شريكا ل ل ذنب له في تلك المسألة‪،‬‬
‫كاتخاذ بعضهم عيسى عليه السلم شريكا ل‪ .‬وعيسى عليه السلم منزه عن أن يشرك بال أو‬
‫يشرك نفسه في اللوهية‪ .‬والحق قد قال‪ {:‬وَإِذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ‬
‫حقّ إِن كُنتُ‬
‫خذُونِي وَُأ ّميَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِ َ‬
‫اتّ ِ‬
‫سكَ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة‪.]116 :‬‬
‫قُلْتُهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي َولَ أَعْلَمُ مَا فِي َنفْ ِ‬
‫بل إن الصنام نفسها التي اتخذها المشركون أربابا تقول‪ :‬عبدونا ونحن أعبد ال من القائمين‬
‫بالسحار‪.‬‬
‫إذن فالخطأ يكون ممن أشركوا بال ل من الحجار العابدة ل المسبحة له لنها مسخرة وميسرة‬
‫لما خلقت له‪ .‬لقد تخيل أحد الشعراء حوارا دار بين غار ثور وغار حراء‪ ،‬يقول غار َثوْر‪:‬كم‬
‫حسدنا حراء حين ثوى الرو ح أمينا يغزوك بالنواروعندما أذن الحق بالهجرة اختبأ النبي بغار‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َثوْر‪ ،‬فقالت بقية الحجار‪:‬فحرا ٌء وثو ُر صَارا سواءً بهما أشفع لدولة الحجارعبدونا ونحن أَعْبَدُ‬
‫ل كما قد تجنّ‬
‫لِلّهِ من القائمين بالسحارتخذوا صمتنا علينا دليل فغدونا لهم وقود النارقد تَجَ ّنوْا جه ً‬
‫ْوهُ على ابْنِ مريم والحواريللمُغالِي جزاؤُه والمغالي فيه تُنْجيه رحمةً الغفارِإذن‪ ،‬فها هي ذي‬
‫الحجارة تقول‪ :‬إنها بريئة من الشرك بال وهي أعبد ل من القائمين بالسحار‪ ،‬وصمت الحجارة‬
‫الظاهر اتخذه البعض دليلً على أن الحجارة رضيت بأن يعبدوها‪ ،‬لكن الحجارة تصير هي أحجار‬
‫جهنم المعدة لمن كفر بال‪ ،‬وكان التجني من العباد على الحجار مثل التجني على عيسى ابن‬
‫مريم‪ .‬والذين غالوا في عبادة الحجار أو البشر لهم عقاب‪ ،‬أما الحجار والبشر الذين ل ذنب لهم‬
‫في ذلك فهم طامعون في مغفرة ال ورحمته‪.‬‬
‫إذن فالضلل هنا يكون ضلل الذين اتخذوا شريكا ل‪ .‬ولكن الشريك المُتّخَذ ل يقال له‪ :‬ضل إل‬
‫على معنى أنه غاب عنهم في يوم كان أملهم أن يكون معهم ليحميهم من عذاب ال‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ‪{ ...‬‬

‫(‪)806 /‬‬

‫جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَنْ َي ْف َقهُو ُه َوفِي آَذَا ِنهِ ْم َوقْرًا وَإِنْ يَ َروْا ُكلّ آَ َيةٍ لَا‬
‫ك َو َ‬
‫َومِ ْنهُمْ مَنْ يَسْ َتمِعُ إِلَ ْي َ‬
‫ُي ْؤمِنُوا ِبهَا حَتّى ِإذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُو َنكَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ (‪)25‬‬

‫إن من هؤلء من يستمع إلى القرآن ل بهدف التفهم والهداية‪ ،‬ولكن بهدف تلمس أي سبيل للطعن‬
‫في القرآن‪ ،‬فكأن قلوبهم مغلقة عن القدرة على الفهم وحسن الستنباط وصولً إلى الهداية‪ ،‬وهم‬
‫يجادلون بهدف تأكيد كفرهم ل بنية صافية لستبانة آفاق آيات الحق والوصول إلى الطريق‬
‫القويم‪.‬‬
‫ونعلم أن السورة كلها جاءت لتواجه قضية الصنام والوثنية والشرك بال‪ ،‬ونعلم أن المعجزة التي‬
‫جاءت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم هي القرآن‪ ،‬وهو معجزة كلمية‪ ،‬تختلف عن‬
‫المعجزات المرئية التي شاهدها المعاصرون لموسى عليه السلم‪ :‬كشق البحر أو رؤية العصا‬
‫وهي تصير حية تلقف كل ما ألقاه السحرة‪ ،‬أو معجزة عيسى عليه السلم من إبراء الكمه‬
‫والبرص‪ ،‬فهذه كلها معجزات مرئية ومحددة بوقت‪ ،‬أما معجزة رسول ال فهي معجزة مسموعة‬
‫ودائمة‪.‬‬
‫إن السمع هو أول أدوات الدراك للنفس البشرية‪ .‬إنه أول آلة إدراك تنبه النسان‪ ،‬إنه آلة الدراك‬
‫الوحيدة التي تُستصحب وقت النوم وتؤدي مهمتها؛ لن تصميمها يضم إمكانات مواصلة مهمتها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقت النوم‪ .‬ونعلم أن الحق حينما أراد أن يقيم أهل الكهف مدة ثلثمائة وتسع سنين ضرب على‬
‫آذانهم حتى يكون نومهم سباتا عميقا‪ ،‬فهم في كهف في جبل‪ ،‬والجبل في صحارى تهب عليها‬
‫الرياح والزوابع والعاصير‪ ،‬فلو أن آذانهم على طبيعتها لما استراحوا في النوم الذي أراده ال‬
‫عدَدا }‬
‫لهم‪ ،‬ولذلك ضرب ال على آذانهم وقال سبحانه‪َ {:‬فضَرَبْنَا عَلَىا آذَا ِنهِمْ فِي ا ْل َك ْهفِ سِنِينَ َ‬
‫[الكهف‪.]11 :‬‬
‫ومعجزة رسول ال ‪ -‬إذن ‪ -‬جاءت سمعية وأيضا يمكن قراءتها‪ .‬وحين يتلقى النسان بلغا فهو‬
‫يتلقاه بسمعه‪ ،‬ويستطيع من بعد ذلك أن يقرأ هذا البلغ ويتفقه فيه‪ ،‬ول أحد يعرف القراءة إل إذا‬
‫سمع أصوات الحروف أولً ثم رآها من بعد ذلك‪ ،‬لقد تميزت معجزته صلى ال عليه وسلم بسيد‬
‫الدلة في وسائل الدراك النساني‪ ،‬وهو السمع‪ ،‬والحق يقول‪َ { :‬ومِنْهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ }‪.‬‬
‫إن هناك فارقا بين " يسمع " و " يستمع " ‪ ،‬فالذي يسمع هو الذي يسمع عرضا‪ ،‬أما الذي " يستمع‬
‫" فهو الذي يسمع عمدا‪ .‬والسامع دون عمد ليس له خيارا ألّ يسمع‪ ،‬إل إذا سد أذنيه‪ .‬أما الذي‬
‫يستمع فهو الذي يقصد السمع‪ .‬وهم كانوا يستمعون للقرآن ل بغرض اكتشاف آفاق الهداية ولكن‬
‫بغرض الصرار على الكفر وذلك بقصد تصيد المطاعن على القرآن‪.‬‬
‫جعَلْنَا عَلَىا قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَن َيفْ َقهُوهُ } و " الكنة " جمع " كنان " وهي‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ َ‬
‫الغطاء أو الغلف‪ .‬ويتابع الحق‪َ { :‬وفِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرا } أي جعلنا في آذانهم صمما‪ ،‬كأنهم‬
‫باختيارهم الكفر قد منعهم ال أن يفهموا القرآن‪ ،‬ونعلم أن جميع المعاصرين لسيدنا رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم قد سمعوا لرسول ال ومنهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر‪.‬‬

‫ونعرف أن لكل فعل مستقبلً‪ .‬ويمكن للمستقبل أن يؤمن وبذلك يكون الفعل قد أتى ثمرته‪ ،‬وقد‬
‫يكون المُستقبل مصرا على موقفه السابق فل يؤمن‪ ،‬وهنا يكون الفعل لم يؤت ثمرته‪ ،‬والفاعل‬
‫واحد‪ ،‬لكن القابل مختلف‪ .‬وكان بعض الكافرين يسمعون القرآن ثم يخرجون دون إيمان‪َ {:‬ومِ ْنهُمْ‬
‫مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا إِذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ‬
‫طَبَعَ اللّهُ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ وَاتّ َبعُواْ أَ ْهوَآءَهُمْ }[محمد‪.]16 :‬‬
‫إنهم ككفار يستمعون للقرآن‪ ،‬ثم ينصرفون ليقولوا في استهزاء للمؤمنين الذين علموا وآمنوا‪ :‬أي‬
‫كلم هذا الذي يقوله محمد؟ هؤلء المستهزئون هم الذين ختم ال على قلوبهم بالكفر‪ ،‬وانصرفوا‬
‫عن الهداية إلى الضلل‪ .‬والمتكلم بكلم ال هو رسول ال مبلغا عن ال‪ ،‬والسامع مختلف؛ فهناك‬
‫سامع مؤمن يتأثر بما يسمع‪ ،‬وهناك سامع كافر ل تستطيع أذنه أن تنقل الوعي والدراك بما‬
‫سمع‪ .‬لكن القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء‪ ،‬أما الذين ل يؤمنون به فآذانهم تصم عن الفهم‬
‫وأعماقهم بل بصيرة فلذلك ل يفهمون عن ال‪ ،‬وتجد نفس المؤمن تستشرف لن تعلم ماذا في‬
‫القرآن‪ .‬أما الذي يريد أن يكون جبارا في الرض فهو ل يريد أن يلزم نفسه بالمنهج‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحتى نعرف الفارق بين هذين اللونين من البشر‪ ،‬نجد المؤمن ينظر إلى الكون ويتأمله فيدرك أن‬
‫له صانعا حكيما‪ ،‬أما الكافر فبصيرته في عماء عن رؤية ذلك‪ .‬وحين يستمع المؤمن إلى بلغ من‬
‫خالق الكون فهو يرهف السمع‪ ،‬أما الكافر فهو ينصرف عن ذلك‪.‬‬
‫وكان صناديد قريش أمثال أبي جهل وأبي سفيان‪ ،‬والنضر بن الحارث‪ ،‬والوليد ابن المغيرة‪،‬‬
‫وعتبة بن ربيعة‪ ،‬وشيبة بن ربيعة‪ ،‬وحرب بن أمية‪ ،‬كل هؤلء من صناديد قريس يجتمعون‬
‫ويسأل الواحد منهم النضر قائلً‪ :‬يا نضر ما حكاية الكلم الذي يقوله محمد؟‬
‫وكان النضر راوية للقصص التي يجمعها من أنحاء البلد‪ ،‬فهو قد سافر إلى بلد فارس والروم‬
‫وجاب الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها‪ ،‬فقال‪ :‬وال ما أدري ما يقول محمد إل أنه أساطير‬
‫الولين‪.‬‬
‫ويتجادل النضر وأبو سفيان وأبو جهل مع رسول ال‪ ،‬وهذا الجدال دليل عدم فهم لما جاء من‬
‫آيات القرآن‪ .‬ولم يجعل ال الوقر على آذانهم قهرا عنهم‪ ،‬بل بسبب كفرهم أولً‪ ،‬فطبع ال على‬
‫قلوبهم بكفرهم‪ ،‬واستقر مرض الكفر في قلوبهم وفضلوه على اليمان فزادهم ال مرضا‪ ،‬وقال‬
‫فيهم الحق سبحانه‪ } :‬وَإِن يَ َروْاْ ُكلّ آيَةٍ لّ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا حَتّىا ِإذَا جَآءُوكَ يُجَا ِدلُو َنكَ َيقُولُ الّذِينَ‬
‫لوّلِينَ { [النعام‪.]25 :‬‬
‫َكفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ َأسَاطِي ُر ا َ‬
‫والساطير هي جمع أسطورة‪ ،‬والسطورة شيء يسطر ليتحدث به من العجائب والحداث‬
‫الوهمية‪.‬‬

‫وكأن الحق سبحانه وتعالى يكشفهم أمام أنفسهم وهو يحاولون أن يجدوا ثغرة في القرآن فل‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ‬
‫يجدون‪ .‬وقال ال عنهم قولً فصلً‪َ {:‬وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ‬
‫}[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫فهم يعلمون عظمة القرآن فكيف يقولون إنه أساطير الولين؟ لقد كانوا من المعجبين بعظمة‬
‫أسلوب القرآن الكريم فهم أمة بلغة‪ ،‬ولكنهم يعلمون أن مطلوبات القرآن صعبة على أنفسهم‪ .‬كما‬
‫أنهم أرادوا أن يظلوا في السيادة والجبروت والقهر للغير‪ ،‬والقرآن إنما جاء ليساوي بين البشر‬
‫جميعا أمام الحق الواحد الحد‪.‬‬
‫لقد جاءت حوادث قسرية بإرادة ال لتكون سببا لليمان‪ ،‬مثلما حدث مع عمر بن الخطاب رضي‬
‫ال عنه عندما علم أن أخته قد أسلمت فذهب إليها وضربها حتى أسال منها الدم‪ .‬وإسالة الدم‬
‫حركت فيه عاطفة الخوة فأزالت صلف العناد‪ ،‬فأراد أن يقرأ الصحيفة التي بها بعض من آيات‬
‫القرآن‪ ،‬وتلقى المر من أخته بأن يتطهر فتطهر وجلس يستمع‪ ،‬وبزوال صلفه وعناده وبتطهره‬
‫صار ذهنه مستعدا لفهم ما جاء بالقرآن‪ ،‬وذهب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وأعلن إيمانه‬
‫بال ربا وبمحمد صلى ال عليه وسلم وبرسالته الخاتمة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬وَهُمْ يَ ْن َهوْنَ عَ ْن ُه وَيَنَْأوْنَ عَ ْن ُه وَإِن ُيهِْلكُونَ‪{ ...‬‬

‫(‪)807 /‬‬

‫شعُرُونَ (‪)26‬‬
‫سهُمْ َومَا َي ْ‬
‫وَهُمْ يَ ْن َهوْنَ عَنْ ُه وَيَنَْأوْنَ عَنْ ُه وَإِنْ ُيهِْلكُونَ إِلّا أَ ْنفُ َ‬

‫والكافر من هؤلء إنما ينأى عن مطلوب رسول ال صلى ال عليه وسلم ول يريد أن يهتدي‪،‬‬
‫ويمعن في طغيانه فينهى غيره عن اليمان‪ ،‬فكأنه ارتكب جريمتين‪ :‬جريمة كفره‪ ،‬وجريمة نهي‬
‫غيره عن اليمان‪.‬‬
‫لقد كانت قريش على ثقة من أن الذي يسمع القرآن يهتدي به‪ ،‬لذلك أوصى بعضهم بعضا أل‬
‫يسمعوا القرآن‪ ،‬وإن سمعوه فعليهم أن يحرفوا فيه أو أن يصنعوا ضجيجا يحول بين السامع‬
‫ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ }[فصلت‪:‬‬
‫س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫للقرآن وتدبره‪َ {.‬وقَالَ الّذِينَ كَفَرُو ْا لَ تَ ْ‬
‫‪.]26‬‬
‫إنهم واثقون من أن القرآن يقهرهم بالحجة ويفحمهم بالبينات‪ ،‬وأنهم لو استمعوا إليه لوجدوا فيه‬
‫حلوة وطلوة تستل من قلوبهم الجحود والنكران‪ .‬وكأنهم بذلك يشهدون أن للقرآن أثرا في‬
‫الفطرة الطبيعية للنسان‪ ،‬وهم أصحاب الملكة في البلغة العربية‪ .‬ومع ذلك ظل الكافرون على‬
‫عنادهم بالرغم من عشقهم للسلوب والبيان والداء‪ .‬ولم يكتفوا بضلل أنفسهم‪ ،‬بل أرادوا إضلل‬
‫غيرهم‪ ،‬فكأنهم يحملون بذلك أوزارهم وأوزار من يضلونهم‪ ،‬ولم يؤثر ذلك على مجرى الدعوة‬
‫ول على البلغ اليماني من محمد عليه الصلة والسلم؛ ذلك أن الحق ينصره على الرغم من كل‬
‫هذا؛ فهو سبحانه وتعالى القائل‪ {:‬وَلَقَدْ سَ َبقَتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّن ُهمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ *‬
‫وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪.]173-171 :‬‬
‫شعُرُونَ }‬
‫سهُمْ َومَا َي ْ‬
‫وحين يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ ُهمْ يَ ْن َهوْنَ عَ ْن ُه وَيَنَْأوْنَ عَ ْن ُه وَإِن ُيهِْلكُونَ ِإلّ أَنفُ َ‬
‫[النعام‪.]26 :‬‬
‫نعرف أن المقصود بذلك القول هم المعارضون لدعوة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد عارضوها‬
‫لنها ستسلبهم سلطتهم الزمنية من علو‪ ،‬وجبروت‪ ،‬واستخدام للضعفاء‪ .‬وذلك ما جعلهم يقفون من‬
‫الدعوة موقف النكران لها والكفران بها‪.‬‬
‫وما داموا قد وقفوا من الدعوة هذا الموقف‪ ،‬فلم يكن من حظهم اليمان‪ ،‬ولنهم نأوا وبعدوا عن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فقد خسروا‪ ،‬أما غيرهم فلم ينأى عن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم بل إنه أوى إلى ال فآواه ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنّ هؤلء الجاحدين المنكرين لدعوة رسول ال وقفوا أمام دعوته وصدوا الناس عنها ونهوهم عن‬
‫اتباعها؛ لن هذه الدعوة ستسلبهم سلطتهم الزمنية من علو وجبروت واستخدام الضعفاء‬
‫وتسخيرهم في خدمتهم وبسط سلطاتهم عليهم‪ .‬هذا ‪ -‬أولً ‪ -‬هو الذي دفعهم إلى منع غيرهم‬
‫ونهيهم عن اتباع السلم‪ ،‬ثم هم ‪ -‬ثانيا ‪ -‬ينأون ويبتعدون عن اتباع الرسول‪ - ،‬إذن ‪ -‬فمن‬
‫مصلحتهم ‪ -‬أولً ‪ -‬أن ينهوا غيرهم قبل أن ينأوا هم؛ لنه لو آمن الناس برسول ال وبقوا هم‬
‫وحدهم على الكفر أيستفيدون من هذه العملية؟ ل يستفيدون ‪ -‬إذن ‪ -‬فحرصهم ‪ -‬أولً ‪ -‬كان‬
‫على أل يؤمن أحد برسول ال لتبقى لهم سلطتهم‪.‬‬

‫وجاء الداء القرآني معبرا عن أدق تفاصيل هذه الحالة فقال‪ } :‬وَهُمْ يَ ْن َهوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ‬
‫{ فالبداية كانت نهي الخرين عن اليمان برسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم بعد ذلك‬
‫ابتعادهم عن رسول ال صلى ال عليه وسلم فصار حظهم أن يظلوا على كفرهم فكان الخسران‬
‫من نصبيهم‪ ،‬بينما آمن غيرهم من الناس‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن الداء القرآني جاء معبرا دائما عن الحالة النفسية أصدق تعبير‪ ،‬فقول الحق‪} :‬‬
‫وَهُمْ يَ ْن َهوْنَ عَنْهُ { قول منطقي يعبر عن موقف المعارضين لرسول ال أما قوله الحق‪ } :‬وَيَنَْأوْنَ‬
‫عَنْهُ { فهذا تصوير لما فعلوه في أنفسهم بعد أن منعوا غيرهم من اتباع الدعوة المحمدية والرسالة‬
‫الخاتمى‪ .‬فهم بذلك ارتكبوا ذنبين‪ :‬الول‪ :‬إضلل الغير‪ ،‬والثاني‪ :‬ضلل نفوسهم‪ .‬وبذلك ينطبق‬
‫حمِلُواْ َأوْزَارَ ُهمْ كَامِلَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّونَهُمْ }[النحل‪:‬‬
‫عليهم قول الحق سبحانه‪ {:‬لِيَ ْ‬
‫‪.]25‬‬
‫ول يقولن أحد‪ :‬إن هذه الية تناقض قول الحق سبحانه‪َ {:‬ولَ تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَىا }[السراء‪:‬‬
‫‪.]15‬‬
‫ذلك لن الوزريْن‪ :‬وزرهم‪ ،‬ووزر إضللهم لغيرهم من فعلهم‪.‬‬
‫شعُرُونَ { ونرى أن الذي يقف أمام دعوة الحق‬
‫سهُ ْم َومَا يَ ْ‬
‫ويتابع الحق‪ } :‬وَإِن ُيهِْلكُونَ ِإلّ أَنفُ َ‬
‫والخير لينكرها ويبطلها ويعارضها ويحاربها إنما يقصد من ذلك خير نفسه وكسب الدنيا وأخذها‬
‫لجانبه‪ ،‬ولكنهم أيضا لن يصلوا إلى ذلك‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن ال غالب على أمره‪ {:‬وَلَقَدْ سَ َبقَتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّن ُهمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ‬
‫جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪.]173-171 :‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى ل يهزم جندَه أبدا‪ ،‬ول بد أن يهلك أعداء دعوته بسبب كفرهم وصدهم عن‬
‫سبيل ال فهم في الحقيقة هم الذين يهلكون أنفسهم بأنفسهم‪ .‬وسيظل أمر الدعوة اليمانية السلمية‬
‫في صعود‪ .‬وسيرون أرض الكفر تنتقص من حولهم يوما بعد يوم‪ .‬ولذلك يقول الحق في آية‬
‫صهَا مِنْ أَطْرَا ِفهَا }[الرعد‪.]41 :‬‬
‫أخرى‪َ {:‬أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا نَأْتِي الَ ْرضَ نَنقُ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي أن أرض الكفر تنقص وتنقص وال يحكم ل معقب لحكمه‪ ،‬ولذلك يشرح القرآن في آخر‬
‫ترتيبه النزولي هذه القضية شرحا وافيا‪ .‬ويعلمنا أن نقطع كل علقة لنا مع الكافرين‪ ،‬فيقول‬
‫سبحانه‪ُ {:‬قلْ ياأَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ * لَ أَعْبُدُ مَا َتعْبُدُونَ * َولَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َولَ أَنَآ عَابِدٌ مّا‬
‫عَبَدتّمْ * َولَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ }[الكافرون‪.]5-2 :‬‬
‫وهكذا نرى أن قطع العلقات أمر مطلوب بين فريقين‪ :‬فريق يرى أنه على حق‪ ،‬وفريق ثانٍ أنه‬
‫على باطل‪ ،‬وقد يكون قطع العلقات أمرا موقوتا‪ .‬وقد تضغط الظروف والحداث إلى أن نعيد‬
‫العلقات الدنيوية ثانية‪ ،‬ولكن قطع العلقات ل بد أن يكون مؤيدا في شأن العقيدة ول مداهنة في‬
‫هذا‪ ،‬ولذلك قالها الحق مرتين‪ {:‬لَ أَعْ ُبدُ مَا َتعْبُدُونَ * َولَ أَنتُمْ عَا ِبدُونَ مَآ أَعْبُدُ * َولَ أَنَآ عَابِدٌ مّا‬
‫عَبَدتّمْ * َولَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ }‬

‫[الكافرون‪.]5-1 :‬‬
‫فالمؤمن يرى الحاضر والمستقبل‪ ،‬ويعلم استحالة أن يعبد ما يعبده الكافرون‪ ،‬واستحالة أن يعبد‬
‫الكافرون ما يعبد‪.‬‬
‫وقد يقول قائل‪ :‬إن القرآن في ترتيبه النزولي ل بد أل يتعارض مع واقعه‪ ،‬ولكننا نرى في قوله‬
‫تعالى‪ } :‬لَ أَعْبُدُ مَا َتعْ ُبدُونَ * وَلَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ { وكررها مرتين‪ ،‬إنه بذلك يكون قد أغلق‬
‫الباب أمام الكافرين فل يؤمنون مع أن بعضهم قد دخل في دين ال‪ .‬نقول‪ :‬نعم إنه ل يتعارض؛‬
‫لن الحق لم يغلق الباب أمام الكافرين الذين أراد ال أن يؤمنوا‪ ،‬بدليل أنه قال جل وعل‪ {:‬إِذَا جَآءَ‬
‫ك وَاسْ َت ْغفِ ْرهُ إِنّهُ‬
‫ح ْمدِ رَ ّب َ‬
‫َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ * وَرَأَ ْيتَ النّاسَ َيدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجا * فَسَبّحْ بِ َ‬
‫كَانَ َتوّابا }[النصر‪.]3-1 :‬‬
‫إذن فالمسألة لن تجمد عند ذلك؛ فمعسكر اليمان سيتوسع‪ ،‬وسيواجه معسكر الكافرين وسيدخل‬
‫الناس في دين ال أفواجا‪ .‬ولكن هناك من قضى ال عليهم أل يؤمنوا ليظلوا على كفرهم ويدخلوا‬
‫سبَ *‬
‫النار‪ ،‬فقال سبحانه من بعد ذلك‪ {:‬تَ ّبتْ يَدَآ أَبِي َل َهبٍ وَ َتبّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَاُل ُه َومَا كَ َ‬
‫سدٍ }[المسد‪.]5-1 :‬‬
‫طبِ * فِي جِيدِهَا حَ ْبلٌ مّن مّ َ‬
‫حَ‬‫حمّالَةَ الْ َ‬
‫سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ َل َهبٍ * وَامْرَأَتُهُ َ‬
‫إذن فأبو لهب ومن على شاكلته سيدخل النار ولن يدخل في دين ال أبدا‪.‬‬
‫ويجيء قول الحق‪ {:‬وَرَأَ ْيتَ النّاسَ َيدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجا }[النصر‪.]2 :‬‬
‫هذا القول يفتح باب المل‪ ،‬ونرى دخول عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص‪ ،‬وعكرمة بن أبي‬
‫جهل إلى السلم‪ .‬ومجيء سورة المسد من بعد سورة النصر في الترتيب المصحفي كما أراد ال‪،‬‬
‫يعلمنا أن هناك أناسا لن يدخلوا الجنة لنهم مثل أبي لهب وزوجه‪.‬‬
‫صمَدُ * َلمْ يَِل ْد وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ َيكُنْ لّهُ‬
‫حدٌ * اللّهُ ال ّ‬
‫وتأتي من بعدها سورة الخلص‪ُ {:‬قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫ُكفُوا َأحَدٌ }[الخلص‪.]4-1 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنه ل إله مع ال ينقض ما حكم به ال‪ ،‬ولن يعقب أحد على حكم ال‪ .‬إذن فمن كفر وأشرك بال‬
‫يكون من الذين خسروا أنفسهم وأهلكوها وما يشعرون‪.‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق تبارك وتعالى‪ } :‬وََلوْ تَرَىا ِإ ْذ ُوقِفُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)808 /‬‬

‫وََلوْ تَرَى ِإ ْذ ُو ِقفُوا عَلَى النّارِ َفقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدّ وَلَا ُن َك ّذبَ بِآَيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)27‬‬

‫عندما ننظر إلى قول الحق‪ { :‬وََلوْ تَرَىا إِ ْذ ُو ِقفُواْ عَلَى النّارِ } ‪ ،‬هنا ل نجد جوابا‪ ،‬مثل ما تجده‬
‫في قولك‪ :‬لو رأيت فلنا لرحبت به أو لو رأيت فلنا لعاقبته‪ .‬إن في كلّ من هاتين الجملتين‬
‫جوابا‪ ،‬لكن في هذا القول الكريم ل نجد جوابا‪ ،‬وهذا من عظمة الداء القرآني‪ ،‬فهناك أحداث ل‬
‫تقوى العبارات على أدائها‪ ،‬ولذلك يحذفها الحق سبحانه وتعالى ليذهب كل سامع في المعنى‬
‫مذاهبه التي يراها‪.‬‬
‫وفي حياتنا نجد مجرما في بلد من البلد يستشري فساده وإجرامه في سكانها تقتيلً وتعذيبا وسرقة‬
‫واعتداءات‪ ،‬ول أحد يقدر عليه أبدا‪ ،‬ثم يمكن ال لرجال المن أن يقبضوا عليه‪ ،‬فنرى هذا القاتل‬
‫المفسد يتحول من بعد الجبروت إلى جبان رعديد يكاد يقبل يد الشرطي حتى ل يضع القيود في‬
‫يديه‪ .‬ويرى إنسان ذلك المشهد فيصفه للخرين قائلً‪ :‬آه لو رأيتم لحظة قبضت الشرطة على هذا‬
‫المجرم‪ ،‬وهذه العبارة تؤدي كل معاني الذلة التي يتخيلها السامع‪ ،‬إذن فحذف الجواب دائما ترتيب‬
‫لفائدة الجواب‪ ،‬ليذهب كل سامع في تصور الذلة إلى ما يذهب‪ .‬لن المشاهد لو شاء لحكى ما‬
‫حدث بالتفصيل لحظة القبض على المجرم وبذلك يكون قد حدد الذلة والمهانة في إطار ما رأى‬
‫هو‪ ،‬ويحجب بذلك تخيّل وتصوّر السامعين‪.‬‬
‫أما اكتفاء المشاهد بقوله‪ :‬آه لو رأيتم لحظة قبض الشرطي على هذا المجرم‪ ..‬فهذا القول يعمم ما‬
‫يُرى حتى يتصور كل سامع من صور الذلل ما يناسب قدرة خياله على التصور‪ .‬وهكذا أراد‬
‫القرآن أن يصور هول الوقوف على النار فأطلق الحق " لو " بل جواب حين قال‪ {:‬وََلوْ تَرَىا إِذْ‬
‫ُوقِفُواْ عَلَى النّارِ َفقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَ ّد َولَ ُنكَ ّذبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النعام‪.]27 :‬‬
‫وقد أراد البعض أن يتصيد لساليب القرآن‪ ،‬ومنهم من قال‪ :‬كيف تقولون إن القرآن عالي البيان‪،‬‬
‫فصيح السلوب‪ ،‬معجزة الداء‪ ،‬وهو يقول ما يقول عن شجرة الزقوم؟‬
‫جعَلْنَاهَا فِتْ َنةً‬
‫شجَ َرةُ ال ّزقّومِ * إِنّا َ‬
‫إن القرآن الكريم يقول عن هذه الشجرة‪َ {:‬أذَِلكَ خَيْرٌ نّ ُزلً َأمْ َ‬
‫جحِيمِ * طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ ُرءُوسُ الشّيَاطِينِ }[الصافات‪-62 :‬‬
‫صلِ الْ َ‬
‫شجَ َرةٌ تَخْرُجُ فِي َأ ْ‬
‫لّلظّاِلمِينَ * إِ ّنهَا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]65‬‬
‫إن كل شجرة تحتاج إلى ماء وهواء‪ ،‬وفيها حياة تظهر باخضرار الوراق‪ ،‬فكيف تخرج هذه‬
‫الشجرة من النار‪ ،‬أليس في ذلك شذوذ؟ ثم تتمادى الصورة‪ ..‬صورة الشجرة‪ ،‬فيصف الحق‬
‫ثمارها بقوله الحق‪ {:‬طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ * فَإِ ّنهُ ْم لكِلُونَ مِ ْنهَا َفمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْبُطُونَ }‬
‫[الصافات‪.]66-65 :‬‬
‫سخَرُ الذين يتصيدون للقرآن في أقوالهم‪ :‬بما‬
‫نحن لم نر شجرة الزقوم‪ ،‬ولم نر رأس الشيطان‪ .‬ويَ ْ‬
‫أن أحدا من البشر لم يشهد رأس الشيطان‪ ،‬وكذلك شجرة الزقوم‪ ،‬فكيف يشبه ال المجهول‬
‫بمجهول‪ ،‬وتساءلوا بطنطنة‪ :‬ماذا يستفيد السامع من تشبيه مجهول بمجهول؟ ونقول ردا عليهم‪ :‬إن‬
‫غباء قلوبكم وفقدان طبعكم لملكة اللغة العربية هو الذي يجعلكم ل تفهمون ما في هذا القول من‬
‫بلغة‪.‬‬

‫وحين نقرب المثل نقول‪ :‬هب أن إنسانا أقام مسابقة بين رسامي " الكاريكاتير " في العالم ليرسم‬
‫كل منهم صورة للشيطان‪ ،‬ويوم تحديد الفائز ستوجد أكثر من صورة للشيطان‪ ،‬وستفوز أكثر‬
‫الصور بشاعة‪ ،‬ذلك أن الفوز هنا ليس في الجمال‪ ،‬ولكن الفوز هما في مهارة تصوير القبح‪.‬‬
‫وهكذا تتعدد أمامنا صور القبح‪ ،‬فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وقد أراد إطلق الخيال لتصور‬
‫شجرة الزقوم‪ ،‬وكذلك تصور رأس الشيطان؟ أراد الحق بهذا السلوب البليغ إشاعة الفائدة من‬
‫إظهار بشاعة صورة الشجرة التي يأكل منها أهل الكفر‪.‬‬
‫وكذلك هنا قوله الحق‪ } :‬وََلوْ تَرَىا إِ ْذ ُو ِقفُواْ عَلَى النّارِ { والذي يحدث لهؤلء الوقوف على النار‬
‫ل يأتي خبره هنا‪ ،‬بل يكتفي الحق بأن يعبر لنا عن أننا نراهم في مثل هذا الموقف؛ لن اليوم‬
‫الخر هو يوم الجزآء؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار‪ .‬والجنة ‪ -‬كما نعلم من قول رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ -‬إن فيها ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر‪ .‬ونعلم أن‬
‫رؤية العين محدودة‪ ،‬ورقعة السمع أكثر اتساعا‪ ،‬ذلك أن الذن تسمع ما تراه أنت وما رآه غيرك‪،‬‬
‫لكن عينيك ل تريان إل ما رأيته أنت بمفردك‪ ،‬ول يكتفي الحق بذلك بل يخبر رسوله صلى ال‬
‫عليه وسلم أن في الجنة ما ل يخطر على قلب بشر‪ ،‬أي أن في الجنة أشياء ل تستطيع اللغة أن‬
‫تعبر عنها؛ لن اللغة تعبر عن متصورات الناس في الشياء‪ .‬والمعنى يوجد أولً ثم يوجد اللفظ‬
‫المعبر عنه‪.‬‬
‫وهكذا نعلم أن ما في الجنة من نعيم ل توجد ألفاظ تؤدي كل ما تحمله للمؤمن من معان‪ ،‬وكذلك‬
‫نعلم أيضا أن في النار عذابا لم توضع له ألفاظ لتعبر عنه‪ .‬ولو أن الحق سبحانه وتعالى قال‪} :‬‬
‫وََلوْ تَرَىا ِإ ْذ ُو ِقفُواْ عَلَى النّارِ { لرأينا أمرا مفزعا مخيفا مذلً إلى آخر تلك اللفاظ الدالة على‬
‫عمق العذاب لما أعطي ذلك الثر نفسه الذي جاء به حذف الجواب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وعندما نقرأ " ُوقِفوا " نعرف أن فيه بناء وكيانا موجودا‪ ،‬وأن هناك من أوقفهم على النار‪ ،‬وهم‬
‫كانوا مكذبين في الدنيا بالنار‪ ،‬ثم وجدوا أنفسهم يوم القيامة ضمن من وقفهم ال على النار ليروا‬
‫العذاب الذي ينتظرهم‪ ،‬ويطلعوا على النار اطلع الواقف على الشيء‪ ،‬كذلك يوقفهم الحق على‬
‫النار التي أنكروها في الدنيا؛ فقد جاءهم الخبر في الدنيا‪ ،‬فمن صدق وعلم أن من أخبره صادق‪،‬‬
‫فذلك علم يقين‪ ،‬وإن تجاوز النسان مرحلة العلم ورأى صورة محسة للخبر‪ ،‬فهذا عين يقين‪،‬‬
‫والمؤمن بإخبار ربه وصل إلى الشياء بعلم اليقين من ال‪ ،‬لنه يصدق ربه‪ ،‬ولذلك فالمام علي‬
‫‪ -‬كرم ال وجهه ‪ -‬يقول‪ " :‬لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا "؛ لنه مصدق بلغى به‪.‬‬

‫لكن ماذا عن المكذبين؟ إن النسان يرى علم اليقين في اليوم الخر وهو عين يقين‪ ،‬ويشترك في‬
‫ذلك المؤمن والكافر‪ .‬ولكن الكافر يرى النار عين اليقين ويدخلها ليحترق بها فيحس بها وهذا هو‬
‫" حق اليقين "‪.‬‬
‫هكذا نعلم أن النار " عين اليقين " يراها المؤمن والكافر‪ ،‬والنار كـ " حق اليقين " يعانيها ويعذب‬
‫بها الكافر فقط‪ ،‬أما المؤمن في الجنة فيحس " حق اليقين " لنه يعيش ويسعد بنعيمها‪ .‬ويصور‬
‫جحِيمَ * ثُمّ لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ }‬
‫سبحانه ذلك في قوله‪ {:‬كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ عِ ْلمَ الْ َيقِينِ * لَتَ َروُنّ الْ َ‬
‫[التكاثر‪.]7-5 :‬‬
‫ن وَجَ ّنتُ َنعِيمٍ * وََأمّآ‬
‫ح وَرَيْحَا ٌ‬
‫وجاء حق اليقين في قوله تعالى‪ {:‬فََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْلمُقَرّبِينَ * فَ َروْ ٌ‬
‫صحَابِ الْ َيمِينِ * وََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ‬
‫إِن كَانَ مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ * َفسَلَمٌ ّلكَ مِنْ َأ ْ‬
‫جحِيمٍ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ حَقّ الْ َيقِينِ }[الواقعة‪.]95-88 :‬‬
‫حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ َ‬
‫* فَنُ ُزلٌ مّنْ َ‬
‫وماذا يصنعون وهم المكذبون عندما يرون النار عين اليقين؟ ل بد أنهم يخافون أن يعانوا منها‬
‫عندما تصبح حق اليقين‪ ،‬لذلك يقولون‪ {:‬يالَيْتَنَا نُ َر ّد َولَ ُنكَ ّذبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‬
‫[النعام‪.]27 :‬‬
‫إنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليستأنفوا اليمان‪ .‬والتمني في بعض صوره هو طلب المستحيل غير‬
‫الممكن للشعار بأن طالبه يحب أن يكون‪ ،‬كقول القائل‪:‬أل ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل‬
‫المشيبأو قول القائل‪:‬ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدحٍ فما أرضى لكم كلمىوهم قالوا‪} :‬‬
‫يالَيْتَنَا نُرَدّ { فإن كانوا قالوا هذا تمنيا فهو طلب مستحيل ويتضمن أيضا وعدا بعد التكذيب بآيات‬
‫ال‪ ،‬فهل هم قادرون على ذلك؟‬
‫خفُونَ مِن قَ ْبلُ وََلوْ ُردّواْ‬
‫ل؛ لن القرآن الكريم قد قال في الية التالية‪َ } :‬بلْ َبدَا َلهُمْ مّا كَانُواْ ُي ْ‬
‫َلعَادُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)809 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل وََلوْ رُدّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَنْهُ وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ (‪)28‬‬
‫خفُونَ مِنْ قَ ْب ُ‬
‫َبلْ بَدَا َل ُهمْ مَا كَانُوا ُي ْ‬

‫إنهم يطلبون العودة إلى الدنيا ل لينفذوا الوعد في طلبهم المستحيل؛ لنهم سيفعلون مثلما فعلوا من‬
‫قبل‪ ،‬كفرا ونكرانا وجحودا‪ .‬إنهم لجأوا إلى هذا القول من فرط الخوف مما أعده ال لهم‪ .‬بعد أن‬
‫ظهر لهم كل ما كانوا يفعلونه في الدنيا من كفر وجحود‪ .‬ويقال عن يوم القيامة " يوم الفاضحة "؛‬
‫حسِيبا }‬
‫سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ َ‬
‫لن كل إنسان سيجد كتابه في عنقه‪ ،‬ويقال له‪ {:‬اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَىا بِ َنفْ ِ‬
‫[السراء‪.]14 :‬‬
‫فإذا كنا في الدنيا نسجل الحداث بالصوت والصورة فما بالنا بتسجيل الحق لنا؟ ويرى النسان‬
‫َمكْرَه يوم القيامة بالصوت والصورة‪ ،‬وكل فعل فعله سيراه بطريقة ل يمكن معها أن ينكره‪ ،‬وكأن‬
‫الحق يوضح لكل عبد‪ :‬أنا لن أحاسبك بل سأترك لك أن تحاسب نفسك‪ .‬ويفاجأ النسان أن‬
‫جوارحه تنطق لتشهد عليه‪ :‬اليدي تنطق بما فعل‪ ،‬واللسان ينطق بما قال‪ ،‬والقدم تحكي إلى أين‬
‫ذهب بها صاحبها‪ ،‬فهذه الجوارح التي كانت تنفعل لمراد صاحبها في الدنيا‪ ،‬يختلف موقفها في‬
‫الخرة ول تنفذ في اليوم الخر مراد النسان بل مراد من أعطى النسان المراد‪ّ {.‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر‪.]16 :‬‬
‫الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫مثال ذلك ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬نجد السرية أو الكتيبة المقاتلة لها قائد يحكم الجنود‪ ،‬فإن أعطاهم‬
‫أوامر خاطئة فهم ينفذونها‪ ،‬وبعد انتهاء المعركة يسألهم القائد العلى‪ ،‬فيقولون سلسلة الوامر‬
‫الخاطئة التي أصدرها قائدهم المباشر‪.‬‬
‫فإياك أن تظن أيها النسان أن أبعاضك مؤتمرة بقدرتك عليها دائما‪ ،‬إن سيطرتك عليها أمر منحك‬
‫ال إياه‪ ،‬ويسلبه منك متى شاء في الدنيا‪ .‬ويأتي يوم القيامة لتنتهي سيطرتك على البعاض‪ .‬وأنت‬
‫ترى في الدنيا بعضا من صور سلب السيطرة على البعاض لتتذكر قدرة الواهب العلى؛ فأنت‬
‫ترى من ل يرى‪ ،‬وترى من فقد السيطرة على جارحة أو أكثر من جوارحه‪ ،‬وذلك تنبيه من ال‬
‫على أن سيطرة النسان على الجوارح إنما هي أمر موهوب من ال‪ .‬وقول الحق سبحانه عن‬
‫خفُونَ مِن قَ ْبلُ } يفضح تدليسهم في الحياة الدنيا‪ ،‬ثم يجيب ال‬
‫الكافرين‪َ { :‬بلْ َبدَا َلهُمْ مّا كَانُواْ ُي ْ‬
‫على تمنيهم السابق المليء بالذلة والمسكنة‪ ،‬التمني بالعودة إلى الدنيا‪ ،‬فيقول سبحانه‪ { :‬وََلوْ ُردّواْ‬
‫َلعَادُواْ ِلمَا ُنهُواْ عَنْ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }‪.‬‬
‫فهم كاذبون في الوعد بأن يؤمنوا لو عادوا إلى الدنيا‪ ،‬يوضح ذلك قول الحق سبحانه‪َ { :‬وقَالُواْ إِنْ‬
‫ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا‪} ...‬‬

‫(‪)810 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َوقَالُوا إِنْ ِهيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َومَا نَحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ (‪)29‬‬

‫إنهم لم يأخذوا في أثناء حياتهم اليمان كإيمان استدلل بكوْن منظم مرتب محكم التكوين‪ ،‬إنهم لم‬
‫يلتفتوا إلى أن هذا النظام أو الحكام والترتيب موجود في علقات البشر بعضهم ببعض سواء‬
‫أكانوا مؤمنين أم ملحدة‪ ،‬ونعلم أن هناك صفات يشترك في كراهتها كل الناس مؤمنهم وملحدهم؛‬
‫فالملحد إن سرق من زميله‪ ،‬أل يعاقب؟ إنه يتلقى العقاب من مجتمعه‪ ،‬وفي كل المجتمعات هناك‬
‫ثواب وعقاب‪ ،‬بل هناك جزاء بإحسان‪ .‬واليمان ل يمنع أن يصطلح الناس على شيء من‬
‫الحسان‪ ،‬والمحرومون من اليمان تلجئهم الحداث أن يضعوا القانون لينظموا الثواب والعقاب‪.‬‬
‫إننا نجد أن تجريم المخالف للخير والجمال وإصلح الكون هو أمر فطري وضروري للنسان؛‬
‫فهم يجرمون أفعال السوء بعد أن تعضهم الحداث ول يلتفتون إلى أن المنهج السماوي جاء‬
‫بالثواب والعقاب على كل فعل يحمي كرامة النسان‪ .‬ويوم القيامة يقفون في صَغار وفي‬
‫ل وََلوْ ُردّواْ َلعَادُواْ ِلمَا ُنهُواْ عَنْ ُه وَإِ ّنهُمْ‬
‫خفُونَ مِن قَ ْب ُ‬
‫اضطرار ليروا ما فعلوا‪َ {:‬بلْ َبدَا َلهُمْ مّا كَانُواْ ُي ْ‬
‫َلكَاذِبُونَ }[النعام‪.]28 :‬‬
‫فهم لو رُدّوا إلى الدنيا بما كان لهم فيها من اختيار فسيفعلون مثلما فعلوا‪ ،‬ولم يقولوا مثل هذا‬
‫القول في اليوم الخر إل أنهم مقهورون‪ .‬وكانوا من قبل يقولون‪َ { :‬وقَالُواْ إِنْ ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا‬
‫َومَا َنحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ } [النعام‪.]29 :‬‬
‫ففي دنياهم كانوا ل يؤمنون إل بحياة واحدة هي الدنيا‪ .‬ولم يلتفتوا إلى أن النسان يحيا في الدنيا‬
‫على قدر قوته‪ ،‬وويل للضعيف من القوي‪ .‬والقوي إنما يخاف من قانون يعاقبه‪ ،‬أو يخاف من إله‬
‫سيعاقبه على الذنب مهما أخفاه‪ ،‬ولذلك نجد القاضي المؤمن يقول دائما‪ :‬لئن عمّيتم على قضاء‬
‫الرض‪ ،‬فل تعمّوا على قضاء السماء‪.‬‬
‫ومن غباء أهل الكفر أنهم يسمون الحياة على الرض " الحياة الدنيا " وهي في حقيقتها دنيا‪ ،‬وما‬
‫داموا قد حكموا وعرفوا أنها " دنيا " فل بد أن يقابلها حياة عليا‪ .‬إنّ كل ذلك يحدث لهم عندما‬
‫يقفون على النار‪ ،‬والنار جند من جنود الجبار‪ ،‬فما بالك بهم حين يقفون أمام خالق النار ورب‬
‫العالمين؟‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ { :‬وَلَوْ تَرَىا ِإ ْذ ُوقِفُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)811 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وََلوْ تَرَى ِإ ْذ ُو ِقفُوا عَلَى رَ ّبهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِا ْلحَقّ قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنْتُمْ‬
‫َت ْكفُرُونَ (‪)30‬‬

‫هم ‪ -‬إذن ‪ -‬قد خافوا وارتبكوا وطلبوا العودة للحياة الدنيا؛ لن ما شاهدوه هول كبير‪ ،‬فما بالك‬
‫إذا وقفوا على ال؟ إنه موقف مرعب‪ .‬وإذا كان الحق قد حذف من قبل الجواب عندما أوقفهم على‬
‫النار؛ فالولى هنا أن يحذف الجواب‪ ،‬حتى يترك للخيال أن يذهب مذاهب شتى‪ ..‬إنه ارتقاء في‬
‫الهول‪.‬‬
‫حقّ } إنهم يفاجأون بوجود إله يقول لهم‬
‫وهكذا نرى التبكيت لهم في قول الحق‪َ { :‬ألَيْسَ هَـاذَا بِالْ َ‬
‫بعد أن يشهدوا البعث ويقفوا على النار‪ { :‬أَلَيْسَ هَـاذَا بِا ْلحَقّ }؟ وسبحانه وتعالى ل يستفهم منهم‬
‫ولكنه يقرر‪ ،‬وقد شاء أن يكون القرار منهم‪ ،‬فيقولون‪ " :‬بلى " لن المر ل يحتاج ‪ -‬إذن ‪ -‬إلى‬
‫مكابرة‪ .‬و " بلى " حرف يجعل النفي إثباتا‪.‬‬
‫ويطرح الحق هذه المسألة بالنفي حتى ل يظن ظان أن هناك تلقينا للجواب‪ .‬ويصدر حكم الحق‪{ :‬‬
‫فَذُوقُواْ العَذَابَ ِبمَا كُنتُمْ َت ْكفُرُونَ } وهكذا يذوقون العذاب الذي كانوا به يكذبون‪ .‬وذوْق العذاب‬
‫ليس من صفة القهر والجبروت؛ لن ال ل يظلم مثقال ذرة‪ ،‬ولكن بسبب أنهم قدموا ما يوجب أن‬
‫يعذبوا عليه‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك‪ { :‬قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)812 /‬‬

‫قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِِلقَاءِ اللّهِ حَتّى ِإذَا جَاءَ ْتهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرّطْنَا فِيهَا‬
‫ظهُورِ ِهمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (‪)31‬‬
‫حمِلُونَ َأوْزَارَهُمْ عَلَى ُ‬
‫وَهُمْ َي ْ‬

‫إن كل رأس مال يحتاج إلى عمل يزيده‪ ،‬لكن أن يكون العمل قد أضاع المال‪ ،‬فهذا يعني الخسارة‬
‫مرتين‪ :‬مرة لن رأس المال لم يبق عند حده بل إنه قد فنى وذهب وضاع‪ ،‬وثانية لن هناك جهدا‬
‫من النسان قد ضاع وأضاع معه رأس المال‪.‬‬
‫إذن فقد خسر الذين كذبوا بلقاء ال؛ لنهم باعوا الجل الطويل العمر بالعاجل القصير العمر‪ .‬وكل‬
‫إنسان منا يريد أن يثمّر عمله ويحاول أن يعطي قليلً ليأخذ كثيرا‪.‬‬
‫وعلى سبيل المثال نجد الفلح يقتطع مقدار كيلتين من أرادب القمح التي في مخزنه ليبذرها في‬
‫الرض بعد أن تُحرث‪ .‬وهذا يعني النقص القليل في مخزن هذا الفلح‪ ،‬ولكنه نقص لزيادة قادمة؛‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فعندما وضع البذور في الرض المحروثة نجد الحق سبحانه وتعالى ينبتها له أضعافا مضاعفة‪.‬‬
‫والفلح بذلك يبيع العاجل القليل من أجل أن يأخذ الجل الكبير‪.‬‬
‫وهذه أصول حركة العاقل الذي يزن خطواته‪ ،‬فإن أراد أن يزيد الثمار من حركته‪ ،‬فعليه أن يبذل‬
‫الجهد‪ .‬أما إن كانت الحركة ل تأتي له إل بالقليل فلن يتحرك‪ .‬ولن العاقل ل يحب الخسارة نجده‬
‫يوازن دائما ويقارن بين ما يبذله من جهد والعائد الذي سيأتي إليه‪ .‬أما الذين كفروا بلقاء ال فهم‬
‫قد خسروا أنفسهم‪ ،‬لنهم لم يوازنوا بين حياتين‪ :‬حياة مظنونة‪ ،‬وحياة متيقنة؛ لن مدة حياتنا الدنيا‬
‫مظنونة غير متيقنة‪.‬‬
‫إننا ل نعرف كم ستحيا فيها؛ فمتوسط عمر النسان على الرض هو سبعون عاما على سبيل‬
‫المثال‪ ،‬ولكن أحدا ل يعرف كم عمره في الدنيا بالضبط‪ ،‬وله أجل محدود‪ .‬إنه فان وذاهب وميّت‪،‬‬
‫ولكن حياة الخرة متيقنة ل أجل لها‪ ،‬إنها دائمة‪ ،‬ونعلم أن نعيم الدنيا بالنسبة للنسان هو على قدر‬
‫السباب الموجودة لديه‪ ،‬أما نعيم الخرة فهو على قدر طلقة قدره المسبب وهو ال‪ ،‬وعلى هذا‬
‫تكون خسارة الذين كفروا كبيرة وفادحة ودامية؛ لنهم لم يتاجروا مع ال‪ { .‬قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ‬
‫بِِلقَآءِ اللّهِ حَتّىا ِإذَا جَآءَ ْتهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَىا مَا فَرّطْنَا فِيهَا } [النعام‪.]31 :‬‬
‫ونعلم أن " حتى " هي جسر بين أمرين؛ فالمر الذي نريد أن نصل إليه هو غاية‪ ،‬كقول إنسان‬
‫ما‪ " :‬سرت حتى وصلت المنزل " ‪ ،‬والمنزل هنا هو غاية السير‪.‬‬
‫والذين كفروا‪ ،‬كان كفرهم وتكذيبهم موصلً إلى الخسران‪ ،‬فمجيء الساعة بغتة ليس هو نهاية‬
‫المطاف‪ ،‬ولكنه وصول إلى أول الخسران؛ لن خسرانهم ل ينتهي من فور مجيء الساعة‪ ،‬ولكنه‬
‫يبدأ لحظة مفاجأة الساعة لهم‪ .‬فهم يفاجأون بوقوع ما كانوا يكذبون به‪ .‬ويعلمون جيدا أن ما‬
‫صنعوه في الدنيا ل يستوجب إل العذاب‪.‬‬

‫وهنا تبدأ الحسرة التي ل يقدرون على كتمانها‪ ،‬ولذلك يقولون‪ } :‬ياحَسْرَتَنَا عَلَىا مَا فَرّطْنَا فِيهَا‬
‫{‪ ..‬أي على تفريطنا وإسرافنا في أمرنا وذلك في أثناء وجودنا في الدنيا‪ .‬وبذلك نعرف أن عدم‬
‫التفريط في الدنيا والخذ بالسباب فيها أمر غير مذموم‪ ،‬ولكن التفريط في أثناء الحياة الدنيا هو‬
‫المر المذموم؛ لنه إضاعة للوقت وإفساد في الرض‪.‬‬
‫إنني أقول ذلك حتى ل يفهم أحد أن الستمتاع في الدنيا أمر مذموم في حد ذاته‪ ،‬وحتى ل يفهم‬
‫أحد أن الخرة هي موضوع الدين؛ لن الدنيا هي موضوع الدين أيضا‪ ،‬والجزاء في الخرة إنما‬
‫يكون على ألوان السلوك المختلفة في الدنيا؛ فمن يحسن السلوك في الدنيا ينال ثواب الخرة ومن‬
‫يسيء ينال عقاب الخرة‪ .‬ولذلك ل يصح على الطلق أن نقارن الدين بالدنيا‪.‬‬
‫إن علينا أن نعلم خطأ الذين يقولون‪ " :‬دين ودنيا " فالدين ليس مقابلً للدنيا‪ .‬بل الدنيا هي موضوع‬
‫الدين‪ .‬أقول ذلك ردا على من يظنون أن سبب ارتقاء بعض البلد في زماننا هو أن أصحابها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أهملوا الدين وفتنوا بما في الدنيا من لذة ومتعة فعملوا على بناء الحضارات‪.‬‬
‫نقول‪ :‬إن القبال على الدين بروح من الفهم هو الذي يبني الحضارات ويُثاب المصلح في الدنيا‬
‫يوم الجزاء‪ ،‬ولنا أن نعرف أن المقابل للدنيا هو الخرة‪ ،‬والدين يشملهما معا؛ يشمل الدنيا‬
‫موضوعا‪ ،‬والخرة جزاءً‪ .‬والذين يفتنون بالدنيا ول يؤمنون بالخرة هم الذين يقولون يوم القيامة‪:‬‬
‫ظهُورِهِمْ {‪ .‬والوزار المعنوية في‬
‫حمِلُونَ َأوْزَارَهُمْ عَلَىا ُ‬
‫} ياحَسْرَتَنَا عَلَىا مَا فَرّطْنَا فِيهَا وَهُمْ َي ْ‬
‫الدنيا ‪ -‬وهي الذنوب ‪ -‬ستتجسم بحسيات وذلك حتى تكون الفضيحة علنية؛ فمن سرق غنمه‬
‫يُبعث يوم القيامة وهو يحملها على ظهره‪ ،‬ومن سرق بقرة يُبعث يوم القيامة وهو يحملها على‬
‫كتفه وهي تخور‪ ،‬وكذلك من سرق طنا من حديد عمارة سيُبعث يوم القيامة وهو يحمله على‬
‫ظهره‪ ،‬وكذلك يفضحه ال يوم القيامة‪.‬‬
‫وهذا يكون موقف أهل النار؛ لذلك يقول‪َ } :‬ألَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ { ونعلم أنهم ل يحملون أوزارا فقط‬
‫بل يحملون من أوزار الذين اتخذهم قدوة له‪ ،‬فهذا وزر الضلل ويعرفون ‪ -‬جميعا أن حمل‬
‫الوزر يتجسد في الحساس بعبئه؛ فقد قادتهم هذه الوزار إلى الجحيم‪ ،‬ونعلم أن نتيجة كل عمل‬
‫هي الهدف منه‪ ،‬فمن عمل صالحا سيجد صلح عمله‪ ،‬ومن أساء فسيجد عمله السيء‪.‬‬
‫إننا نرى المثلة العملية لذلك في حياتنا اليومية؛ فهذان شقيقان يعملن بالزراعة‪ ،‬وكل منهما يملك‬
‫فدانين من الرض مثلً‪ :‬الول منهما يقوم مع طلوع الفجر ليعتني بأرضه ويحرثها ويحمل إليها‬
‫السباخ ويعتني بمواقيت الري ويسعى إلى يوم الحصاد بجد واهتمام‪ .‬والخر يسهر الليل أمام‬
‫شاشة التليفزيون‪ ،‬ول يقوم من النوم إل في منتصف النهار‪ ،‬ول يخدم أرضه إل بأقل القليل من‬
‫الجهد‪.‬‬

‫ثم يأتي يوم الحصاد فينال الول ناتج تعبه من محصول وفير‪ ،‬وينال الخر محصولً قليلً‬
‫بالضافة إلى الحسرة التي يتجرعها بسبب إهماله وكسله‪ .‬إذن فالعاقل هو من يدرس ما تعطيه‬
‫حركته في الحياة‪ .‬ويختار نوعية الحركة في الحياة بما يضمن له سعادة الدنيا والخرة‪ ،‬واطمئنان‬
‫النفس في الدنيا والخرة‪.‬‬
‫إن من ينام ول يذهب إلى عمله هو إنسان يحب نفسه‪ ،‬ومن قام في بكرة الفجر إلى عمله يحب‬
‫نفسه أيضا‪ ،‬ولكنّ هناك فارقا بين حب أحمق عقباه الندم‪ ،‬وحب أعمق لمعنى الحياة وعقباه الجزاء‬
‫الوافر‪.‬‬
‫ب وََل ْهوٌ‪{ ...‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول لنا‪َ } :‬ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ِع ٌ‬

‫(‪)813 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ب وََل ْهوٌ وَلَلدّارُ الَْآخِ َرةُ خَيْرٌ لِلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَا َتعْقِلُونَ (‪)32‬‬
‫َومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا َل ِع ٌ‬

‫هكذا تكون الحياة بالنسبة لمن يقف عند وصفها على أساس أنها " الحياة الدنيا " إنها ل تزيد على‬
‫كونها لهوا ولعبا‪ .‬واللعب ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬هو مزاولة حدث ونقضه في آن واحد‪ ،‬والمثال على ذلك‬
‫الطفل على شاطئ البحر قد يقيم بيتا من الرمال ثم يهدمه‪ ،‬إنه لم يقم ببناء بيت من الرمال إل‬
‫ليهدمه‪ .‬واللعب عملية يُقصد بها قتل وقت في عمل قد يُنقض‪ ،‬فالبناء والنقض في هذه الحالة لعب‬
‫ول يشغل اللعبُ النسان عن الواجب‪ .‬أما اللهو فهو قتل الوقت في عمل قد ينقض ويشغل النسان‬
‫عن الواجب أيضا‪.‬‬
‫والطفل الصغير ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬يتلقى من والديه بعض اللعب ليقضي وقته معها وقد‬
‫يخربها ويهدمها وقد يعيد بناءها‪ .‬ولعب الطفل هو لهو في الوقت نفسه؛ لن الطفل غير مكلف‬
‫بواجب‪ .‬وما أن يدخل إلى المدرسة وتصير له بعض من المسئوليات نجد السرة تعلمه أن يفرق‬
‫بين وقت أداء مسئولياته ووقت اللعب؛ لنه إن لعب في وقت أداء المسئوليات صار لعبه لهوا؛‬
‫شغَله عن أداء مسئولية مطلوبة منه‪.‬‬
‫لنه َ‬
‫وكذلك الحياة الدنيا مجردة من منهج ال الذي خلقها وخلق النسان فيها هي لهو ولعب‪ ،‬إما إن‬
‫أخذ النسان الحياة بمواصفات من خلقها فهي حياة منتجة للخير في الدنيا وفي الخرة‪ .‬والذي خق‬
‫الحياة الدنيا جعلها بالنسبة لنا مزرعة للخرة‪ .‬والمؤمن ‪ -‬إذن ‪ -‬له حياتان‪ :‬حياة صلح في‬
‫الدنيا‪ ،‬وحياة نعيم في الخرة؛ لنه يعيش الحياة الدنيا على مراد من خلقه‪.‬‬
‫ومن العجيب أن من خلقنا لم يكلفنا إل بعد أن يصل النسان منا إلى البلوغ‪ ،‬أي أن يكون النسان‬
‫صالحا لنجاب إنسان مثله إن تزوج‪ .‬ويأتي التكليف متناسبا مع النضج وعند تمام العقل‪ .‬وسمح‬
‫الحق لنا أن نلعب في سنوات ما قبل النضج‪ ،‬ولكن ل بد أن يكون مثل هذا اللعب تحت إشراف‬
‫من الكبار حتى يمكن للعب أن يتحول إلى دُرْبة تفيدنا في مجالت الحياة‪ ،‬ويجلعنا نعرف كيف‬
‫وصلنا في العصر الحديث إلى درجة من التقدم في صناعة اللعب التي يتعلم منها الطفل‪ ،‬ويمكن‬
‫أن يقوم بتفكيكها وإعادة تركيبها‪ ،‬وحتى الكبار نجدهم في زماننا يتعلمون قيادة السيارات في‬
‫حجرات مغلقة وأمامهم شاشة تليفزيون‪ ،‬وكأنهم في طريق حقيقي وفي شارع مزدحم بالسيارات‪،‬‬
‫ومن يتقن هذا التدريب العملي يخرج إلى قيادة السيارة‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن التدريب مفيد للنسان‪ ،‬يعلم الصغار اللعب الذي ينفعهم عندما يكبرون‪ ،‬وكذلك يفيد‬
‫التدريب الكبار أيضا‪.‬‬
‫وعندما أوصانا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن نعلم أبناءنا ركوب الخيل والسباحة والرماية‪،‬‬
‫كانت الخيل ‪ -‬في زمن الرسالة ‪ -‬هي إحدى السلحة المهمة ليركبها الداعون إلى ال المجاهدون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في سبيله‪.‬‬

‫وحين طلب منا أن نعلم البناء السباحة فهذا بناء للجسم والقوة يفيد الشاب ويعلمه مواجهة‬
‫الصعاب‪ ،‬وحين طلب منا أن نعلم البناء الرماية فذلك لن تحديد الهدف ماديا أو معنويا ومعرفة‬
‫الوصول إليه أمر مطلوب من كل شاب‪ .‬وكل هذه ألعاب ولكنها ليست لهوا‪ ،‬إنها ألعاب ممتعة‬
‫ويمكن أن تستمر مع النسان بعد أن يكلف‪ .‬قال عليه الصلة والسلم‪ " :‬علموا أبناءكم السباحة‬
‫والرماية "‪ .‬فماذا عن ألعاب عصرنا وزماننا؟‬
‫إننا نجد أن لعبة كرة القدم قد أخذت اهتمام الرجال والنساء والكبار والصغار‪ ،‬وهي لعبة ل تعلم‬
‫أحدا شيئا‪ ،‬لنها لعبة لذات اللعب‪ ،‬وهي لعبة تعتدي على وقت معظم الناس‪ ،‬وأخذت تلك اللعبة‬
‫كل قوانين المور الجادّة‪ .‬فهي تبدأ في زمان محدد‪ ،‬ويذهب المشاهدون إليها قبل الموعد‬
‫بساعتين‪ ،‬وتجند لها الدولة من قوات المن أعدادا كافية للمحافظة على النظام مع أنها من اللهو‬
‫ول فائدة منها للمشاهد‪ .‬وقد تمنع وتحول و ُتعَطّل البعض عن عمله والبعض الخر عن صلته‪.‬‬
‫يحدث كل ذلك بينما نجد أن بعضا من ميادين الجد بل قانون‪.‬‬
‫وأقول ذلك حتى يُفيق الناس ويعرفوا أن هذه اللعبة لن تفيدهم في شيء ما‪ .‬وأقول هذا الرأي‬
‫وأطلب من كل رب أسرة أن يُحكم السيطرة على أهله‪ ،‬وينصحهم بهدوء ووعي حتى ينتبه كل‬
‫فرد في السرة إلى مسئولياته ولنعرف أنها لون من اللهو‪ ،‬ونأخذ الكثير من وقت العمل وواجبات‬
‫ومسئوليات الحياة‪ ،‬حتى ل نشكو ونتعب من قلة النتاج‪.‬‬
‫إن على الدولة أن تلتفت إلى مثل هذه المسائل‪ ،‬ولنأخذ كل أمر بقدره‪ ،‬فل يصح أن ننقل الجد إلى‬
‫قوانين اللعب‪ ،‬ولكن ليكن للجد قانونه‪ ،‬وللعب وقته وأل ننقل اللعب إلى دائرة اللهو؛ لن معنى‬
‫اللهو هو أن ننصرف إلى عمل ل هدف له ول فائدة منه‪ .‬وإن نظرنا إلى الحياة مجردة من منهج‬
‫ال فهي لعب ولهو‪.‬‬
‫ونلتفت هنا إلى دقة الحق حين جاء باللعب أولً ثم اللهو من بعد ذلك‪ ،‬ثم يقول‪ } :‬وَلَلدّارُ الخِ َرةُ {‬
‫وفي هذا لفت واضح إلى أن النسان حين ينعزل عن منهج الحق في الحياة تفاجئه الحداث‬
‫بالنتقال المفاجيء إلى جد واضح؛ لذلك فلنأخذ الحياة في ضوء منهج ال؛ لنه سبحانه حين أبلغنا‬
‫أنه خلق النسان من طين‪ ،‬وصوره ونفخ فيه من روحه فقد أعطاه الحق بذلك حياة أولى‪ ،‬يشترك‬
‫فيها المؤمن والكافر‪ ،‬والطائع والعاصي وكل إنسان إلى الغاية منها وهي الحياة الثانية وهي الدار‬
‫الخرة فإنها الحياة الكاملة الباقية‪ ،‬ونسمع قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ‬
‫للّ ِه وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا يُحْيِيكُمْ }[النفال‪.]24 :‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى يقدم لنا حياة عالية دائمة تخلف الحياة التي تنتهي‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والذي يتوقف عن أخذ منهج ال في حياته يكتفي بمثل ما يَأخذ الحيوان من الحياة وهي النفخ في‬
‫الروح‪ ،‬لكن الذي يأخذ بمنهج ال يأخذ الحياة العالية‪ ..‬حياة الخير والجمال والصْلح والحسان‪.‬‬
‫ونعلم أن الجمال في الحياة هو الجمال الذي ل يورث قبحا‪ .‬والخير الحقيقي هو الذي يعمم خير‬
‫ال على العباد‪ ،‬فل يأخذ النسان الخير لنفسه ويترك شروره للخرين؛ لذلك أقول‪ :‬ل تأخذ أيها‬
‫المسلم الخير لنفسك على حساب الشر للخرين؛ لنك ل تحب أن يحقق الخرون الخير على‬
‫حسابك‪ ،‬والذي يحب أن ينطلق بشروره في الناس فليستقبل الشر من غيره‪ .‬ومن يحب أن يأخذ‬
‫الخير من الناس فليعطهم من خيره حتى يبقى الوجود جميلً‪ .‬إذن فالحياة بدون منهج ال تكون‬
‫قبيحة؛ لن القوي يعيث فيها فسادا بقوته وينزوي الضعيف إلى الحساس بالذلة والضياع‪.‬‬
‫لكن الحق سبحانه أراد الحياة للمؤمنين في ضوء منهجه‪ ،‬وعندما يطبقون تكاليفه بـ " افعل " و "‬
‫ل تفعل " فهم يصونون الحياة من الفساد حسب أوامر الخالق العلى للحياة‪ ،‬فهو سبحانه الذي‬
‫أوجدنا ووضع لنا قوانين صيانة الحياة‪ .‬وحين منع مؤمنا واحدا من الشر‪ ،‬فهو قد منع وحرم على‬
‫كل إنسان مؤمن من أن يصنع شرا لخيه‪ ،‬وبذلك حمى النسان من الشر‪ .‬وإنما خص ال‬
‫المؤمنين بالنداء والدعاء؛ لنهم أهل الستجابة والطاعة؛ أما ما عداهم من أهل الكفر والشرك فقد‬
‫تأبوا على ال وعصوه ولم يؤمنوا به‪ .‬وحين يأمر ال المؤمن بالخير‪ ،‬فهو يأمر المؤمنين جميعا‬
‫بأن يصنعوا الخير لهم ولغيرهم‪ .‬وبذلك يكسبون حياة مطمئنة؛ لذلك يقول سبحانه‪ } :‬اسْ َتجِيبُواْ للّهِ‬
‫وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ {‪.‬‬
‫فالذين ل يستجيبون ل ول لرسوله حين يدعوهم لما يحييهم يظلون في الحياة الدنيا غارقين في‬
‫اللهو واللعب‪ ،‬إنهم كالموتى‪ .‬وحتى نعرف أن الحق سبحانه أراد لنا ‪ -‬نحن المؤمنين ‪ -‬الحياة‬
‫العالية؛ إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬قد سمى المنهج الذي يرسم لنا الوامر والنواهي بالروح‪َ } :‬وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ‬
‫إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا {‪ .‬وسمى الحق سبحانه وتعالى بهذا المَلكَ الذي نزل بالوحي‪ {:‬نَ َزلَ بِهِ‬
‫لمِينُ }[الشعراء‪.]193 :‬‬
‫حاَ‬
‫الرّو ُ‬
‫إذن فالحياة التي تعطي النسان الحس والحركة هي الحياة الولى التي يلعب ويلهو من خللها‪،‬‬
‫وليست هي الحياة المرادة ل؛ لن الحياة المرادة ل هي الحياة اليمانية ولذلك سماها الحق سبحانه‬
‫ب وََلهْ ٌو وَلَلدّارُ الخِ َرةُ‬
‫الحيوان أي الحياة الكاملة وسمى المنهج روحا‪َ } .‬ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ِع ٌ‬
‫خَيْرٌ لّلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَ َتعْقِلُونَ { [النعام‪.]32 :‬‬
‫إن مجرد التعقل يعطي النسان الخير‪ ،‬والتعقل هو محاولة فهم نواميس الكون من السباب‬
‫والمسببات‪ ،‬ونحن نرى نور الشمس يعمّ النهار ويشيع الضوء والدفء‪ ،‬وغياب الشمس وظهور‬
‫القمر يحقق صفاء السكون ويهدي الناس في ظلمات البر والبحر‪ ،‬وجَريان الماء يروي النسان‬
‫والزرع‪ ،‬وحركة الرياح تحرك السحب وتقود السفن وتساعد في حركة الملحة في الجو والبحر‬
‫وتلقح النبات‪ ،‬وكل ذلك أسباب أرادها ال حتى يتحقق التوازن في الكون‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والنسان يأخذ حظه من الحياة بالسباب التي عمل فيها ول يأخذ النسان من أسباب غيره‪.‬‬
‫صحيح أن هناك أناسا يعيشون بل أسباب ويأخذون تعب غيرهم‪ ،‬ولكن عليهم أن يحذروا ال‪،‬‬
‫فإياك أيها المسلم أن تبني لحمك ولحم أولدك من استغللك لغيرك؛ ذلك أن أغيار الحياة ستمر‬
‫عليك وقد تصير قوتك إلى ضعف‪ ،‬وتأمين النسان لضعفه إنما يكون بإخراج الزكاة للضعيف‪،‬‬
‫ومساعدته ومعاونته في كل ما يحتاج إليه‪ ،‬ونجد غير المؤمنين وقد أخذوا فكرة التأمين من‬
‫الزكاة‪ ،‬فأنت تدفع للفقير زكاتك لتؤمن نفسك كمؤمن‪ ،‬وهم أخذوا هذه الفكرة ليحولوها إلى تأمين‬
‫على الحياة‪ ،‬ولذلك تدخلوا في قدر ال‪.‬‬
‫لكن الحق أراد بالزكاة أن يطمئن المجتمع كله ل أن يطمئن من يؤمن على نفسه فقط‪ .‬ونعلم أن‬
‫الذي يخيف النسان ويجعله يكدس المال ويجمعه ويكنزه هو الخوف من الضعف‪ ،‬لكن لو أعطى‬
‫الغني بعضا من المال للفقير لشاع الطمئنان في نفسه ونفوس الضعفاء‪.‬‬
‫والذي يجعل الناس تلهث في الحياة للدخار لبنائها هو عدم اقتناعهم بالتكافل الجتماعي الذي‬
‫شرعه السلم‪ .‬وهم يرون اليتيم وهو يضيع في المجتمع‪ ،‬لكن لو آمن الناس في المجتمع بالتكافل‬
‫الجتماعي لوجد كل يتيم أبوة المجتمع كله له‪.‬‬
‫والنسان الذي يلهث وراء الكسب من أجل أن يؤمن مستقبل أولده قد يحول أولده إلى يتامى‬
‫لنه مشغول عن تربيتهم‪ ،‬ولذلك يقول أمير الشعراء شوقي رحمة ال عليه‪:‬ليس اليتيم من انتهى‬
‫أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلإن اليتيم هو الذي تلقى له أمّا تخلت أو أبا مشغولإن على المجتمع‬
‫أن يأخذ قضية الخير من قول الحق سبحانه‪ } :‬اسْ َتجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ {‪.‬‬
‫فكما أحيا الحق الجسام بالروح التي نفخها في القالب الطيني فصار لها حس وحركة‪ ،‬فهو قد‬
‫أنزل المنهج أيضا روحا من عنده لترتقي به روح الحس والحركة‪ ،‬حتى ل يصير النسان‬
‫كالنعام أو أضل سبيلً‪َ {:‬ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ِعبٌ وََلهْ ٌو وَلَلدّارُ الخِ َرةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَ‬
‫َت ْعقِلُونَ }[النعام‪.]32 :‬‬
‫والدار الخرة خير؛ لن الدنيا مهما طالت فهي منتهية‪ ،‬لكن الحياة الخرة خلود أبدا‪ ،‬ونعيمنا في‬
‫الدنيا نأخذه بالسباب‪ ،‬ولكن نعيم الخرة نأخذه على قدر سعة ورحابة قدرة ال‪ .‬وآفة الدنيا حتى‬
‫بالنسبة لهل النعيم والقوة والثراء هي الخوف من الفقر أو الموت‪ ،‬لكن في الخرة ل يفوت أهل‬
‫الجنة النعيم ول يفوتون النعيم‪.‬‬
‫ويقول سبحانه بعد ذلك‪ } :‬قَدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َنكَ‪{ ...‬‬

‫(‪)814 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدُونَ (‪)33‬‬
‫ك وََلكِنّ الظّاِلمِينَ بِآَيَاتِ اللّهِ َيجْ َ‬
‫قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُمْ لَا ُيكَذّبُو َن َ‬

‫لقد شرح الحق حال الكفار وموقفهم في الخرة حين يقفون على النار‪ ،‬ويقفون أمام ال‪ ،‬ومن بعد‬
‫ذلك يوجه الحديث إلى الرسول صلى ال عليه وسلم الذي تقع عليه مشقة البلغ من ال لهؤلء‬
‫الكفار‪ ،‬وكان الرسول صلى ال عليه وسلم حزينا لن قومه ل يذوقون حلوة اليمان‪ ،‬وهو‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ‬
‫الرسول الذي قال عنه الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬لقَدْ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة‪.]128 :‬‬
‫وكان صلى ال عليه وسلم يحرص على أن يكون كل الناس مؤمنين‪ ،‬ويتألم لمقاومة بعض الناس‬
‫دعوة اليمان‪ ،‬إنه صلى ال عليه وسلم كان حريصا على الكافر ليؤمن على الرغم من أن مهمة‬
‫الرسول هي البلغ فقط‪ ،‬ولو شاء الحق أن يجعل الناس كلهم مؤمنين لنزل عليهم آية تجعلهم‬
‫سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ‬
‫خعٌ ّنفْ َ‬
‫جميعا مؤمنين‪َ {:‬لعَّلكَ بَا ِ‬
‫ضعِينَ }[الشعراء‪.]4-3 :‬‬
‫أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ‬
‫لكن الحق سبحانه وتعالى ل يريد خضوع أعناق‪ ،‬وإنما يريد خضوع قلوب‪ .‬إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يريد‬
‫أن يأتي الناس طواعية واختيارا ليثبتوا الحب للخالق؛ لذلك يقول الحق لرسوله صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ { :‬قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ } وساعة نسمع‪ " :‬قد " فلنعرف أن ما يأتي بعدها هو‬
‫أمر محقق‪ ،‬ويأتي ذلك إذا دخلت على الفعل الماضي فهي في هذه الحالة تأتي لتسبق أمرا تحقق‪،‬‬
‫ومرة تأتي للتقليل أو للتكثير إذا دخلت على الفعل المضارع الذي يدل على الحال أو الستقبال‪،‬‬
‫فإذا كان العامل والمعمول بينهما ارتباط سبب‪ ..‬فهذا للتكثير‪ ،‬وإذا كان ظاهر المر غير مرتبط‬
‫ارتباطا واضحا‪ ..‬فهذا للتقليل‪ .‬والمثال على الرتباط الذي يدل على التكثير هو قول القائل‪ :‬قد‬
‫ينجح المُجدّ؛ لن المجِ ّد والنجاح مرتبطان ارتباط سببية‪ ،‬ولكن قد يكون هناك حادث مفاجئ لحد‬
‫المجدين فل يستطيع النجاح‪ ،‬كأن يمرض يوم المتحان‪ ،‬ولكن احتمال الصحة أكثر من احتمال‬
‫المرض فكانت للتكثير‪.‬‬
‫والمثال على مجيء " قد " للتقليل هو قول القائل‪ :‬قد ينجح الكسول‪ ،‬أي أن الكسول قد ينجح‬
‫بالمصادفة وبدون أسباب منطقية‪ ،‬كأن يقرأ عددا من الدروس ليلة المتحان فيأتي فيها المتحان‬
‫فينجح‪ ،‬إذن قـ " قد " إذا دخلت على الماضي تكون للتحقيق‪ ،‬وإن دخلت على المضارع فهي‬
‫للتكثير إن كانت منطقية السباب‪ ،‬وهي للتقليل إن كانت غير منطقية السباب‪ .‬ولكن كلنا يعلم أن‬
‫علم ال هو علم أزلي‪ ،‬ول قوة ول أمر يخرجان عن معلوم ال‪ .‬إذن فـ " قد " هنا للتحقيق وهي‬
‫داخلة على الفعل المضارع‪ ،‬فالحق أراد أن يبلغنا أنه علم أزلً بما حدث وجاء بـ " قد "‬
‫لنستحضر صورة الفعل‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ َقدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ }‪.‬‬

‫والحزن هو خروج النفس من سياق انبساطها؛ فالنسان يكون في غاية الستقامة والسرور عندما‬
‫يكون كل جهاز من أجهزته يؤدي مهمته‪ ،‬فإن حدث شيء يخل بعمل أحد الجهزة فذلك يورث‬
‫الحزن‪ .‬أو يكون الحزن انفعال لمجيء وحصول أمر غير مطلوب للنفس‪.‬‬
‫لقد كان مطلب الرسول صلى ال عليه وسلم أن يؤمن كل الذين استمعوا إلى البلغ عنه‪ ،‬لكن‬
‫البعض قاوم اليمان‪ ،‬والبعض اتهم الرسول بالسحر أو الجنون أو قول الشعر‪ ،‬وها هوذا الحق‬
‫يسلي رسوله فيقول‪ } :‬قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ { أي إنك يا محمد ل بد لك أن تعلم أن‬
‫أقوالهم هذه ليست متعلقة بك؛ لنك ‪ -‬بإجماع الراء عندهم ‪ -‬أنت الصادق المين‪ .‬وهم إنما‬
‫يكذّبون بآياتي التي أرسلتها معك إليهم؛ لن ماضيك معهم هو الصدق والمانة‪ ،‬بدليل أن الكافر‬
‫منهم كان ل يأمن أحدا على شيء من أمواله ونفائسه إل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫والنسان ل يغش نفسه فيما يخصه‪ .‬فكأن ال يريد أن يتحمل عن رسوله؛ لن من يوجه إهانة‬
‫للرسول إنما يوجهها للمرسِل له وهو ال جلت قدرته‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق‪ } :‬قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َنكَ وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ‬
‫حدُونَ { وسبحانه يبين لنا أن رسوله صلى ال عليه وسلم كان حريصا أشد ما يكون‬
‫اللّهِ َيجْ َ‬
‫الحرص على أن تستجيب أمته لداعي الحق‪ ،‬حتى يتأكد لدى المؤمنين قول الحق سبحانه وتعالى‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ‬
‫في رسوله‪َ {:‬لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫رّحِيمٌ }[التوبة‪.]128 :‬‬
‫ول معنى للحرص إل أن رسول ال صلى ال عليه وسلم يحب إل يفلت أحد من قومه عن منهجه‬
‫وعن دينه‪ .‬ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل أمر الدين اختياريا حتى يعلم من يجيء له طواعية‬
‫ويقدر أل يجيء‪ ،‬ومن ل يجيء وهو قادر أن يجيء‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى له سنن كونية في الكون يجريها على كل الخلق‪ .‬وقد يتساءل قائل‪ :‬وما‬
‫الذي يجعل الحق سبحانه وتعالى يترك للكفر به مجالً في دنياه؟ ولماذا يجعل الحق سبحانه‬
‫وتعالى للشر مجالً في دنياه أل يحكمها بهندسة حكيمة؟ ونقول‪ :‬لو لم يوجد للشر مضار ُتفْزّع‬
‫الناسَ لما عرفوا للحق حلوة‪ .‬إذن فوجود الشر‪ ،‬ووجود الكفر‪ ،‬وآثار الكفر في الناس جبروتا‬
‫وقهرا واستذللً ينادي في الناس أنه ل بد من اليمان‪ ،‬وأنه ل بد من وجود الخير‪ .‬فلو لم يكن‬
‫للشر مكان في الكون فما الذي يلفت الناس إلى الخير؟ ولذلك تجد أن هبات اليمان عند المؤمنين‬
‫ل تأخذ فتوتها إل حين تجد قوما من خصوم اليمان يهيجون المؤمنين ويؤذونهم ويستفزونهم‪.‬‬

‫أما إذا صارت الدنيا إلى رتابة فربما فتر أمر السلم في نفوس المسلمين‪ .‬ولذلك نجد المؤمنين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بال في غيرة دائمة؛ لن هناك من يكفر بال‪ .‬فيقول لرسوله‪ } :‬قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ {‬
‫وكأنه سبحانه يبلغنا أنه أراد كونه ليكون فيه المؤمن والكافر‪.‬‬
‫لذلك إن تساءلت ‪ -‬أيها المسلم ‪ -‬كيف يكون في الرض كافرون؟ فلك أن تعلم أنهم من خلق ال‬
‫أرادهم الحق أن يختاروا الكفر فلم يختاروا الكفر قهرا عنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وكان سيدنا رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يحزن لن هناك أناسا لم يؤمنوا‪ ،‬فيسليه الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬بأنه يعلم أنه‬
‫يحزنه الذي يقولون من الكفر ومن اتهامات لرسول ال‪ .‬ألم يقولوا إنه ساحر؟ ألم يقولوا إنه‬
‫مجنون؟ ألم يقولوا إنه كاذب؟ ألم يقولوا إنه كاهن؟ ألم يقولوا إنه شاعر؟ وسبحانه وتعالى يعلم ما‬
‫قالوا ويعلم أن هذه القوال تحزن رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويريد الحق سبحانه أن يرفع‬
‫ويدفع هذا الحزن عن رسول ال صلى ال عليه وسلم فيبلغه أنهم ل يكذبونك يا رسول ال؛ فأنت‬
‫تعرف منزلتك عندهم وهي منزلة الصادق المين‪ ،‬ول يجرؤ أحد على تكذيبك ولكنهم يجحدون‬
‫بآيات ال‪ .‬وهل هناك تسلية أكثر من ذلك‪ .‬ل يمكن أن توجد تسلية أكثر من ذلك‪.‬‬
‫ونعلم أن ما قاله أهل الشرك عن رسول ال هو قول مردود‪ ،‬فهم أمة البلغة والفصاحة والبيان‪،‬‬
‫فكيف يقولون إن القرآن شعر وهم أصحاب الدراية بالساليب مرسلها‪ ،‬ومسجوعها‪ ،‬ونظمها‪،‬‬
‫ونثرها؟‬
‫أمن المعقول أن يلتبس عليهم أسلوب القرآن بالشعر؟ ومن المؤكد أن هذا غير ممكن‪ .‬ولقد قالوا‬
‫عن النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنه ساحر‪ ،‬فكيف سحر الذين آمنوا به ولم يسحر الباقين؟ ولو كان‬
‫ساحرا لسحرهم أيضا‪ ،‬وبقاؤهم على الكفر ينقض هذا‪ .‬وقالوا كاذب‪ ،‬فهم بقولهم هذا يكذّبُون‬
‫أنفسهم لنهم يعرفون عنه أنه الصادق المين‪ ،‬وها هوذا الحوار بين الخنس بن شريق وأبي‬
‫جهل‪.‬‬
‫قال الخنس‪ :‬يا أبا الحكم‪ ،‬ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال أبو جهل‪ :‬ماذا سمعت! وهنا‬
‫نسمع قول الغيرة والحسد والبغض‪ ،‬نسمع عن تلك المور البعيدة عن موضوع الرسالة النورانية‬
‫المحمدية فيقول أبو جهل‪ :‬تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف‪ ،‬أطعموا فأطعمنا‪ ،‬وحملوا فحملنا‪،‬‬
‫وأعطوْ ا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبيّ يأتيه الوحي من‬
‫السماء فمتى ندرك مثل هذا! وال ل نؤمن به أبدا ول نصدقه‪ .‬فقام الخنس وتركه‪ .‬إذن هي‬
‫ح َمتَ‬
‫سمُونَ رَ ْ‬
‫مسألة غيرة غاضبة على مناصب وسلطة زمنية‪ ،‬ولذلك يرد ال عليهم قائلً‪ {:‬أَ ُهمْ َيقْ ِ‬
‫ضهُم‬
‫ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ َب ْع ُ‬
‫سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ‬
‫رَ ّبكَ نَحْنُ َق َ‬
‫ج َمعُونَ }‬
‫ح َمتُ رَ ّبكَ خَيْرٌ ّممّا يَ ْ‬
‫َبعْضا سُخْرِيّا وَ َر ْ‬

‫[الزخرف‪.]32 :‬‬
‫وها هو ذا الحق يسلي رسوله صلى ال عليه وسلم ويقول له‪َ } :‬قدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جحَدُونَ { [النعام‪.]33 :‬‬
‫ك وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَ ْ‬
‫فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َن َ‬
‫إنهم ظالمون‪ ،‬لن الظلم نقل حق إلى غير مستحقه‪ .‬وأبشع أنواع الظلم هو الشرك؛ لن الحق‬
‫سبحانه وتعالى هو المستحق وحده للعبادة‪ ،‬والظلم الخف وطأة هو أن ينقل النسان حقا مكتسبا‬
‫أو موهوبا إلى غير صاحبه وهذا ظلم موجود بين الناس‪ .‬وقد نقل المشركون حق الذات اللهية‬
‫إلى غير مستحقها من أوثان وأصنام‪ ،‬أما المؤمنون فهم الذين اعترفوا بحق الذات اللهية في‬
‫العبادة‪.‬‬
‫وهناك نوع آخر من الظلم أريد أن أتحدث عنه‪ ،‬وهو أن يظلم النسان اسمه‪ ،‬كأن يكون والده قد‬
‫سماه " مهديا " ولكنه يمل الدنيا فسادا بإيذاء نفسه وبإيذاء الخرين‪ .‬نقول لمثل هذا النسان‪ :‬إن‬
‫الواجب يقتضي منك أن تحترم أمل والدك فيك‪ ،‬فل تظلم اسمك " مهديا " ولتكن هناك عدالة بين‬
‫السم والمسمى وذلك بأن يكون سلوكك متوافقا مع السم الذي سماك به أبوك‪.‬‬
‫أما إن كان أبوه قد سماه " مهديا " ولم يلقنه أي شيء من تعاليم الهدى والدين‪ ،‬ثم خرج الشاب إلى‬
‫الدنيا ليملها بالشقاء لنفسه ولغيره ثم اهتدى من بعد ذلك فهذا شاب استطاع أن يتعلم الهداية‬
‫فصار اسمه على مسماه‪.‬‬
‫وقد كنا في الثلثينيات من هذا القرن نسمع التحذيرات ونحن نزور القاهرة‪ " :‬إياكم أن تطأوا‬
‫بأقدامكم شارع عماد الدين لن كل الموبقات في هذا الشارع "‪ .‬وتعجبت أن يكون اسم الشارع "‬
‫عماد الدين " ويكون مكانا للموبقات فقلت في ذلك‪:‬وأقبح الظلم بعد الشرك منزلة أن َيظْلم اسما‬
‫مُس ّمىً ضده جُبِلفشارع كعماد الدين تسميةً لكنه لعناد الدين قد جُعلوفي الحياة كثير من حالت‬
‫السماء يظلمها أصحابها‪ .‬ولكن أكبر وأقبح درجات الظلم هو الشرك بال } وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ‬
‫حدُونَ { والجحد هو إباء اللسان وترفعه وعدم رضاه بأن ينطق بكلمة الحق‪ ،‬فلو أن‬
‫بِآيَاتِ اللّهِ َيجْ َ‬
‫المشركين خلوْا إلى أنفسهم واستعرضوا مسائل محمد ومسائل الرسالة لوجدوا أن قلوبهم مقتنعة‬
‫بأنه صادق وأنه رسول وأن المنهج إنما جاء للهداية‪ .‬لكن ألسنتهم غير قادرة على العتراف‬
‫بذلك‪.‬‬
‫ولذلك يأمر المنهج اليماني أن على الواحد منا إن أراد أن يناقش قضية أهي حق أم باطل فل‬
‫يصح أن نناقشها في حشد من الناس‪ ،‬ولكن فلنناقشها أولً في نفوسنا لنتبين الحق فيها من‬
‫ظكُمْ ِبوَاحِ َدةٍ أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ‬
‫عُ‬‫الضلل‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه‪ُ {:‬قلْ إِ ّنمَآ أَ ِ‬
‫تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن جِنّةٍ }[سبأ‪.]46 :‬‬
‫كأن الحق يهدينا إلى كيفية التمييز‪ ،‬فإما أن نناقش أنفسنا‪ ،‬وإما أن يتناقش اثنان حتى يمكن أن‬
‫يقتنع أحدهما برأي الخر دون أن يشهد ثالث هزيمته فيكابر ويجادل‪.‬‬

‫وقد نصح الحق بذلك هؤلء الذين اتهموا رسول ال أن به ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬مسّا من الجنون؛‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالجنون هو أن تحدث الفعال بل مقدمات وبدون تدبر أو نظر في آثارها وتكون خالية من حكمة‬
‫فاعلها‪ .‬أما العاقل فهو الذي يرتب الفعال بحكمة ويوازن ويدرس وينتهي به عقله وحكمته إلى‬
‫حسن ما يفعل ويعامل الناس بانسجام وسوية خلقية عالية‪ ،‬فهل أحد من المشركين أخذ على رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم أي سلوك يمكن أن يشير إلى عدم ترتيب الفعال؟ ل‪.‬‬
‫ك لَجْرا غَيْرَ‬
‫ولذلك يقول الحق‪ {:‬ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا َيسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِب َمجْنُونٍ * وَإِنّ َل َ‬
‫عظِيمٍ }[القلم‪.]4-1 :‬‬
‫َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ َلعَلَىا خُلُقٍ َ‬
‫إن الخلُق العظيم يتنافى مع الجنون‪ ،‬وكذلك فعل كل قوم مع رسولهم‪ ،‬إنّهم ر َموْه بالسفه والجنون‪.‬‬
‫فكلما جاء رسول لقومه بمنهج حق ليطمس معالم الباطل قابله قومه بمثل تلك المقابلة‪ .‬ونعرف أن‬
‫السماء ل تتدخل بالنبوات والمعجزات إل حين يطم الفساد وتنطمس النفس المؤمنة‪ .‬فالمؤمن فيه‬
‫خميرة الخير فيندفع إلى فعل الخير‪ .‬وإن حدثته نفسه بفعل معصية و َفعَلَها‪ ،‬فإن نفسه اللوامة تؤنبه‬
‫على ذلك‪ ،‬لكن إن انطمست نفسه ولم تعد تلوم‪ ،‬صارت نفسه المارة بالسوء هي المسيطرة وإن‬
‫لم يجد من يقول له في المجتمع‪ :‬ل تفعل ذلك‪ ..‬فالمجتمع كله يكون قد فسد‪ } .‬كَانُو ْا لَ يَتَنَا َهوْنَ‬
‫عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ {‪.‬‬
‫إذن السماء ل تتدخل برسالة أو معجزة أو منهج إل حين يطم الفساد‪ .‬وما دام قد طم الفساد فهناك‬
‫من يستفيد من هذا الفساد‪ .‬وحين يأتي الرسول من أجل أن يمنع الفساد فهذا الرسول يمنع عن‬
‫المفسدين استغلل الناس ويحول بينهم وبين الستفادة من الفساد‪ .‬ولذلك كان لكل رسول مقاومة‬
‫من المفسدين وكانوا يقولون‪َ {:‬ومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ ُهمْ أَرَاذِلُنَا بَا ِديَ الرّ ْأيِ }[هود‪.]27 :‬‬
‫وأتباع كل رسول هم المظلومون الذين يحتاجون إلى منقذ‪ .‬أما الجبابرة فهم يخاصمون الرسول‬
‫ويقاومونه‪ ،‬ويستقبله هؤلء الجبابرة بإيذاء يتناسب مع مهمته‪ .‬فإن كانت مهمته لقبيلة فاليذاء يأتيه‬
‫من هذه القبيلة‪ .‬وإن كانت مهمته أوسع من ذلك فإنه يلقى من صنوف العذاب ألوانا‪.‬‬
‫وما دام محمد صلى ال عليه وسلم رسولً إلى الناس كافة فعليه أن يجد المتاعب الكثيرة‬
‫ويتحملها‪ .‬وقد أعده ال وهيأه لذلك‪ ،‬وقد أخذ الرسل السابقون من اليذاء على قدر دعوتهم‪ .‬أما‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فهو للناس كافة‪ ،‬ول رسالة من بعده‪ ،‬لذلك يتجمع ضد هذا‬
‫الرسول وهذه الرسالة أقوام كثيرون‪.‬‬
‫سلٌ مّن قَبِْلكَ‪{ ...‬‬
‫ولذلك يقول له الحق سبحانه‪ } :‬وَلَقَدْ كُذّ َبتْ رُ ُ‬

‫(‪)815 /‬‬

‫سلٌ مِنْ قَبِْلكَ َفصَبَرُوا عَلَى مَا كُذّبُوا وَأُوذُوا حَتّى أَتَاهُمْ َنصْرُنَا وَلَا مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ‬
‫وَلَقَدْ كُذّ َبتْ رُ ُ‬
‫وَلَقَدْ جَا َءكَ مِنْ نَبَإِ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪)34‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا كان الرسل الذين سبقوك قد ُكذّبوا وصبروا على ذلك‪ ،‬وهم رسل لقومهم أو لمة خاصة‪،‬‬
‫ولزمان خاص‪ ،‬فماذا عنك يا خاتم الرسل وأنت للناس كافة وللزمان عامة؟ إن عليك أن تتحمل‬
‫هذا؛ لن الحق سبحانه وتعالى قد اختارك لهذه المهمة وهو العليم أنك أهل لها‪ .‬والحق كفيل‬
‫بنصر رسله فل يتأتى أن يترك الشر أو الباطل ليغلب الرسل‪ ،‬وما دام سبحانه وتعالى قد بعث‬
‫الرسول فل بد أن ينصره‪ .‬فهو القائل‪ {:‬وَلَقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّن ُهمْ َلهُمُ‬
‫ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪.]173-171 :‬‬
‫وما دامت قد سبقت كلمة ال للرسل فل مبدل لكلمات ال‪ ،‬ول أحد بقادر على أن يعدّل في‬
‫المبادئ التي وضعها ال بقوله سبحانه وتعالى‪َ { :‬ولَ مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِ اللّ ِه وَلَقدْ جَآ َءكَ مِن نّبَإِ‬
‫ا ْلمُرْسَلِينَ } [النعام‪.]34 :‬‬
‫وقد قص الحق سبحانه على رسوله قصص المرسلين‪ ،‬ولم يكتف بالقول لرسوله أن الرسل‬
‫السابقين عليه قد كذبتهم أقوامهم‪ ،‬ولكن أورد الحق لرسوله ما حدث لكل رسول ممن جاء ذكرهم‬
‫بالقرآن الكريم وماذا حدث للرسول ‪ -‬أي رسول ‪ -‬من ثبات أمام العداء‪ ،‬ثم بيّن أن كلمة الحق‬
‫صصْنَا عَلَ ْيكَ َومِنْهُمْ‬
‫قد انتصرت دائما‪ .‬وقد روى الحق بعضا من قصص الرسل فقال‪ {:‬مِ ْنهُم مّن َق َ‬
‫صصْ عَلَ ْيكَ }[غافر‪.]78 :‬‬
‫مّن لّمْ َن ْق ُ‬
‫ضهُمْ‪} ...‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكَ إِعْرَا ُ‬

‫(‪)816 /‬‬

‫سمَاءِ فَتَأْتِ َيهُمْ‬


‫ط ْعتَ أَنْ تَبْ َت ِغيَ َنفَقًا فِي الْأَ ْرضِ َأوْ سُّلمًا فِي ال ّ‬
‫ضهُمْ فَإِنِ اسْتَ َ‬
‫وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكَ إِعْرَا ُ‬
‫ج َم َعهُمْ عَلَى ا ْلهُدَى فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْلجَاهِلِينَ (‪)35‬‬
‫بِآَيَ ٍة وََلوْ شَاءَ اللّهُ َل َ‬

‫إنك يا محمد رسول من عند ال‪ ،‬ومعك منهج هو معجزتك الدالة على صدق ما جئت به‪ ،‬فإن‬
‫كبر عليك إعراضهم وعظم عليك أن يتولوا ويعرضوا عنك فإن استطعت أن تصنع لنفسك نفقا في‬
‫الرض لتأتيهم بآية أو أن تبني سلما لتصعد به إلى السماء طلبا لهذه الية فافعل‪ ،‬ولكنك لن‬
‫تستطيع ذلك لن ذلك فوق حدود قدرتك وسيلقى المشركون والمنافقون العذاب لنك جئت يا‬
‫رسول ال تبدد من صولجان سلطتهم الزمنية وتقيم العدل اليماني‪ .‬ولذلك حاولوا السخرية منك‬
‫وإيذاءك‪.‬‬
‫وقد طلب الكافرون من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ينزل إلى الرض ليفجر لهم منها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ينبوعا‪ ،‬وطلبوا إليه أن يصعد إلى السماء وأن يجعلها تسقط عليهم كسفا وقطعا لتهلكهم‪ .‬وهذه‬
‫أشياء لم تكن في مكنة واستطاعة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ولذلك يقول له الحق سبحانه‬
‫وتعالى ما يقفل عليه أبواب الحزن ويقضي على أسباب السى والسف عنده بسبب إعراضهم‪،‬‬
‫وأن يعرف أن السخرية والمقاومة هي مسألة طبيعية بالنسبة لكل رسول من الرسل‪ ،‬وأنت يا‬
‫رسول ال أولى بهذا لن مهمتك أضخم من كل الرسل‪ .‬ونلحظ أن الحق سبحانه يحذف هنا جواب‬
‫سمَآءِ فَتَأْتِ َيهُمْ بِآيَةٍ }‬
‫ط ْعتَ أَن تَبْ َت ِغيَ َنفَقا فِي الَ ْرضِ َأوْ سُلّما فِي ال ّ‬
‫" إن " فهو يقول‪ { :‬فَإِن اسْتَ َ‬
‫[النعام‪.]35 :‬‬
‫ولم يقل الحق‪ :‬فافعل ذلك‪ ،‬كأن المسألة هي تهدئة للرسول؛ لن الجواب في مثل هذه الحالة‬
‫معلوم؛ فالرسول ل يجبر أحدا على اليمان‪ .‬وإعراض هؤلء القوم أمر مقصود لواجب الوجود‬
‫حتى يختبرهم ولو أراد قهرهم لفعل‪ ،‬فل أحد يتأبى على ال‪ ،‬فالكون كله مطيع ل‪ ،‬الشمس‪،‬‬
‫والقمر‪ ،‬والنجوم‪ ،‬والهواء‪ ،‬والماء‪ ،‬والجبال‪ ،‬والرض‪ ،‬وكل ما في الكون مطيع ل بما في ذلك‬
‫الحيوان المسخر لخدمة النسان‪ .‬ولكنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أعطى الختيار للنسان ليأتي إلى ال محبا‪.‬‬
‫ونعلم أن الحق قد ترك بعضا من المسخرات غير مذللة ليثبت للنسان إنه لم يذلل الشياء بحيلته‪،‬‬
‫ولكنه ‪ -‬جل شأنه ‪ -‬هو الذي خلقها وذللها له؛ لذلك نرى الجمل الضخم يجره طفل صغير‪،‬‬
‫ونرى أي رجل مهما تكن قوته يأخذ الحذر والحتياط من ثعبان صغير‪َ {.‬أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا خََلقْنَا َلهُم‬
‫عمَِلتْ أَ ْيدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُ ْم َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس‪-71 :‬‬
‫ِممّا َ‬
‫‪.]72‬‬
‫ولو لم يذللها ال فلن يستطيع أحد أن يقترب منها‪ .‬وأضرب هذا المثل دائما‪ ،‬عندما قال قائل‪ :‬لماذا‬
‫خلق ال الذباب‪ ،‬فقال رجل من أهل الشراق‪ :‬ليذل به الجبابرة؛ فسلطانهم ل يمتد إلى هذه‬
‫الحشرات‪ .‬لقد أعطى الحق النسان عزّة السيادة‪ ،‬وعلمه أيضا أن يتواضع للخالق‪.‬‬
‫ج َم َعهُمْ عَلَى ا ْلهُدَىا فَلَ َتكُونَنّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }‬
‫ويبلغ الحق سبحانه وتعالى رسوله‪ { :‬وََلوْ شَآءَ اللّهُ َل َ‬
‫[النعام‪.]35 :‬‬
‫أي أنه سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم مؤمنين‪ .‬وقد يقول قائل‪ :‬كيف يخاطب ال رسوله فيقول‬
‫له‪ { :‬فَلَ َتكُونَنّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }؟ ونقول‪ :‬إن الحق حين يقول لرسوله ذلك فهو يقولها ل من مظنة‬
‫أن يفعلها الرسول؛ فالرسول معصوم من الجهل‪ ،‬ولكن هو قول فيه تنزيه للرسول عن أن يكون‬
‫في مثل هذا الصنف من الجاهلين‪.‬‬
‫س َمعُونَ‪} ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬إِ ّنمَا َيسْتَجِيبُ الّذِينَ يَ ْ‬

‫(‪)817 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعُونَ (‪)36‬‬
‫ن وَا ْل َموْتَى يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ ُثمّ إِلَيْهِ يُ ْر َ‬
‫س َمعُو َ‬
‫إِ ّنمَا يَسْ َتجِيبُ الّذِينَ َي ْ‬

‫و " يستجيب " معناها أنهم يطيعون أمر المر ونهي الناهي‪ .‬وهناك فارق بين " الستجابة " و "‬
‫الجابة "؛ فـ " الستجابة " هي‪ :‬أن يجيبك من طلبت منه إلى ما طلبت ويحققه لك‪ ،‬و " الجابة "‬
‫هي‪ :‬أن يجيبك من سألت ولو بالرفض لما تقول‪ ،‬وقد يكون الجواب ضد مطلوب ما سألت‪.‬‬
‫س َمعُونَ } أي أن الذين يستجيبون لنداء الحق هم الذين‬
‫ويقول الحق‪ { :‬إِ ّنمَا َيسْتَجِيبُ الّذِينَ يَ ْ‬
‫يسمعون بآذانهم وقلوبهم مصدقة؛ لن هناك فارقا بين سماع ظاهره سماع وباطنه انصراف‪ ،‬وبين‬
‫سماع ظاهره طاعة وباطنه محبة لهذه الطاعة‪ .‬ونعلم أن استقبال المسموع شيء‪ ،‬وانفعال النسان‬
‫بالمسموع شيء آخر‪.‬‬
‫وعندما يتحد حسن الستماع مع انفعال الحب لتنفيذ ما سمعه النسان فهذا ما يطلبه اليمان‪.‬‬
‫والمؤمنون هم الذين يستمعون لكلمات ال بانفعال الحب‪ ،‬وهم يختلفون عن هؤلء الذين يسمعون‬
‫الكلم من أذن ويخرجونه من الذن الخرى‪ ،‬ويتركون الكلمات بل تطبيق‪ ،‬ول يبقى في النفس‬
‫الواعية من آثار الكلم شيء‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن ال قد صنع وخلق في النسان من الحواس ما تهديه وترشده إلى اليمان أو إلى‬
‫الكفر؛ فالذن عند المؤمن تسمع‪ ،‬والقلب يصدق‪ ،‬والعقل يمحص ويؤمن‪ .‬أما الكافر فأذنه تسمع‬
‫وقلبه يعارض‪ ،‬وعقله يبحث في أسباب الكفر رغبة فيه وسعيًا إليه‪ ،‬ولذلك ل تؤدي حواسه مهامها‬
‫بانسجام‪ ،‬وكأن الذين يسمعون ول يستجيبون هم من الموتى‪ .‬فالمر ‪ -‬إذن ليس مقصورا على‬
‫السمع بل المطلوب أن يكون هناك سماع انفعال بالمسموع وانصياع له‪ ،‬ول تظن أن ال يعجز‬
‫عن أن يجعل الذي ل يسمع سماع طاعة يهتدي ويستقيم‪ ،‬فل شيء ول كائن يتأبى على ال؛ لنه‬
‫سبحانه يحيي الموتى‪.‬‬
‫وما دام هو سبحانه يحيي الموتى فهو ل يتطلب إيمانا جبريا‪ .‬إنما يطلب إيمان الختيار والقتناع‪،‬‬
‫وهو سبحانه لو شاء لنزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين‪ ،‬وسبحانه يطلب‬
‫قلوبا ل قوالب‪ .‬إذن فالذين يستجيبون لداعي اليمان هم الحياء حقا‪ ،‬أما الذين ل يستجيبون فهم‬
‫في حكم الموات‪ ،‬وهم من بعد موتهم وانتهاء حياتهم سيبعثهم ال ليسألهم عن أفعالهم في الحياة‬
‫الدنيا‪ .‬وعندما يرجعون إلى ال سوف يجدون الحساب‪ .‬ونعلم أن المرجع أخيرا ودائما إلى ال‪.‬‬
‫ومن يرجع إلى ال وعمله طيب يتعجل الجزاء الطيب ويتشوق ويتشوف إليه‪ ،‬أما من يرجعه ال‬
‫َقهْرا فهو يخشى الجزاء الليم‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ { :‬وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ‪} ...‬‬

‫(‪)818 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َوقَالُوا َلوْلَا نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ آَيَةٌ مِنْ رَبّهِ ُقلْ إِنّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَ ّزلَ آَيَ ًة وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ (‪)37‬‬

‫إن ال سبحانه يوضح مواصلتهم للجدل‪ ،‬وطلبهم لية ما‪ .‬والية هي المر العجيب الذي يبعثه ال‬
‫على يد نبي ليثبت صدقه في تبليغه عن ال‪ .‬وكأنهم ل يريدون أن يعترفوا أن القرآن آيات بينات‬
‫جلٍ مّنَ‬
‫على الرغم من اعترافهم بعظمة القرآن‪ ،‬فقد قالوا‪َ {:‬وقَالُواْ َلوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ‬
‫ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫ولكنهم لم يعترفوا بالقرآن كآية معجزة؛ لنهم عرفوا أن الرسل السابقين قد نزل كل منهم بآية‬
‫معجزة منفصلة عن المنهج الذي جاء به‪ ،‬فموسى عليه السلم معجزته العصا‪ ،‬ويده التي أخرجها‬
‫من جيبه فكانت بيضاء من غير سوء‪ ،‬وشق البحر‪ ،‬ومنهجه التوارة‪ ،‬وعيسى عليه السلم كانت‬
‫معجزته التكلم في المهد بإذن ال‪ ،‬وإبراء الكمه والبرص وإحياء الموتى بإذن ال‪ ،‬وجاء النجيل‬
‫مكملً بالروحانيات تلك الماديات التي ملت نفس اليهود‪ .‬وبعد أن قالوا عن رسول ال إنه يفتري‬
‫الكذب تحداهم الحق أن يأتوا بمثل القرآن ثم نزل بهم إلى أن يأتوا بعشر سور من مثله ثم إلى أن‬
‫يأتوا بمثل سورة واحدة من أقصر سوره‪ .‬إذن‪ ،‬فالفتراء وارد عليكم أيضا‪ ،‬فكما أن محمدا افترى‬
‫فيمكن أن تفتروا أنتم كذلك فيما نبغتم وتفوقتم فيه من أساليب البلغة‪ .‬إن القرآن قد تحداهم وما‬
‫دام قد تحداهم فإنه معجزة؛ لن الصل في المعجزة التحدي‪ ،‬ويتحداهم ال أن يأتوا بسورة من‬
‫مثل سور القرآن فل يستطيعون‪ ،‬إنه يتحداهم في أمر اللغة‪ ،‬وهم سادة اللغة وهم النابغون فيها‪.‬‬
‫جاء القرآن ليتحداهم في مجال نبوغهم‪ ،‬ولكنّ بعضا من العرب طالب رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم بمعجزة حسية كونية يرونها‪ .‬وأعماهم الحمق عن معرفة أن المعرفة الحسية موقوتة التأثير‪،‬‬
‫من يراها يقول إنها معجزة‪ ،‬ومن لم يرها قد يصدق وقد يكذب‪ .‬ونحن ‪ -‬المسلمين ‪ -‬ل نصدق‬
‫المعجزات الحسية إل أن القرآن أوردها؛ ولن القرآن قد جاء للناس كافة؛ لذلك لم يكن من‬
‫المعقول أن يكون المنهج الخاتم منفصلً عن معجزة النبي الذي جاء به‪.‬‬
‫جاء القرآن ‪ -‬إذن ‪ -‬معجزة لرسول ال وهو آية معنوية دائمة أبدا بما فيه من أحكام ونظم‪،‬‬
‫وآيات كونية وقضايا علمية‪ ،‬وإذا كان الخلق يختلفون في اللغات فما تضمنه القرآن من معجزات‬
‫لن تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة‪ .‬وكل يوم نستنبط من آيات ال معجزات جديدة تُخرس كل‬
‫مكذب‪ ،‬لنها معجزات كونية‪ ،‬ومن العجيب أن بعض الذين يستنبطونها ليسوا من المسلمين‪ ،‬ول‬
‫هم من المؤمنين بالقرآن‪.‬‬
‫ولكنّ بعضا من المشركين لم يكتف بالقرآن على أنه آية ومعجزة دالة على صدق الرسول‪،‬‬
‫وطالبوا بمعجزة حسية‪ .‬فهل كان ذلك الطلب للية حقيقيا يرجون من ورائه معرفة الحق واليمان‬
‫له أو كان مجرد سبب يختفون وراءه حتى ل يؤمنوا؟ إن كان طلب الية هو أمرًا نابعًا من قلوبهم‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإننا نأخذ بأيديهم ونرشدهم ونهديهم ونقول لهم‪ :‬إن الرسل التي جاءت بمعجزات غير كتاب‬
‫المنهج كانوا رسلً إلى أمم مخصوصة وفي زمان محدود‪ ،‬فجاءت معهم آيات كونية تُرَى مرة‬
‫واحدة وتنتهي‪ ،‬ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء لعموم الزمان‪ ،‬ولعموم المكان‪ ،‬ولذلك‬
‫ل تصلح أن تكون آيته ومعجزته حسية؛ حتى ل تنحصر في الزمان والمكان المحددين‪ ،‬وشاء‬
‫الحق أن تكون معجزة رسول ال صلى ال عليه وسلم هي المنهج الدائم‪.‬‬

‫وكنز القرآن أظهر وكشف من من اليات الكونية ما تحقق من علم ورآه البشر‪ ،‬وما سيظل‬
‫سهِمْ حَتّىا‬
‫ق َوفِي أَنفُ ِ‬
‫يكتشفه البشر إلى أن تقوم الساعة‪ .‬ولذلك قال الحق‪ {:‬سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬
‫يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ ا ْلحَقّ }[فصلت‪.]53 :‬‬
‫أي أن البشر سيريهم ال وسيكتشف لهم من آياته حتى يظهر ويستبين لهم وجه الحق‪ ،‬وإن كنتم‬
‫تقترحون آية لمجرد التمحك والتلكؤ في إعلن اليمان‪ ،‬فلتعلموا أن أقواما غيركم اقترحت اليات‬
‫لوّلُونَ }‬
‫سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن َك ّذبَ ِبهَا ا َ‬
‫وأنزل الحق هذه اليات ومع ذلك كفروا‪َ {:‬ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ‬
‫[السراء‪.]59 :‬‬
‫مثلما طلب قوم صالح الناقة‪ ،‬فجاءهم بالناقة‪ ،‬فكذبوا بتلك الية وعقروا الناقة‪َ } :‬ف َدمْدَمَ عَلَ ْي ِهمْ رَ ّبهُمْ‬
‫سوّاهَا {‪ .‬إذن فمسألة طلب اليات قد سبقت في أمم سابقة‪ ،‬وسبحانه قادر على إنزال‬
‫بِذَن ِبهِمْ فَ َ‬
‫اليات‪ ،‬ولكن أكثر المشركين ل يعلمون‪ .‬وسيقولون مثلما قال الذين تكلم فيهم الحق سبحانه‪َ {:‬ومَا‬
‫سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن َك ّذبَ ِبهَا الَوّلُونَ }[السراء‪.]59 :‬‬
‫مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ‬
‫ولقد أنزل الحق سبحانه القرآن على رسوله صلى ال عليه وسلم وفيه آيات كثيرة عظمت وجلت‬
‫عن أن تحصى وتحصر‪ ،‬ولو أنهم اقترحوا آية وحققها ال لهم ولم يؤمنوا لكان حقا على ال أن‬
‫يبيدهم جميعا‪ .‬ولقد أعطى ال رسوله صلى ال عليه وسلم وعدا بأل يهلكهم وهو صلى ال عليه‬
‫وسلم فيهم‪َ } :‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِمْ {‪.‬‬
‫إذن فعدم استجابة ال لنزال آية لهم هو نوع من الحرص عليهم‪ ،‬ذلك أن منهم من سيؤمن‪،‬‬
‫ومنهم من سيكون من نسله مؤمنون يحملون المنهج ويقومون به إلى أن تقوم الساعة لنهم أتباع‬
‫وحملة الرسالة الخاتمة‪.‬‬
‫وبعد ذلك يأتي الحق بالبيان الرتقائي‪َ } :‬ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْرضِ‪{ ...‬‬

‫(‪)819 /‬‬

‫شيْءٍ ثُمّ‬
‫ض وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ ِبجَنَاحَ ْيهِ إِلّا ُأ َممٌ َأمْثَاُلكُمْ مَا فَرّطْنَا فِي ا ْلكِتَابِ مِنْ َ‬
‫َومَا مِنْ دَابّةٍ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫إِلَى رَ ّبهِمْ ُيحْشَرُونَ (‪)38‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنه سبحانه يوضح لنا‪ :‬أنا أعطي اليات التي أعلم أن الفطرة السليمة تستقبلها كآية وتؤمن بها‪.‬‬
‫وأنزلت لكم القرآن لتؤمنوا بالرسول الذي يحمله منهجا يُصلح حياتكم‪ .‬وقد جعلتكم سادة للكون؛‬
‫تخدمكم كل الكائنات‪ ،‬لنكم بنو آدم‪ .‬وكان الجدر بكم أن تنتبهوا إلى أن الحيوان في خدمتكم‪،‬‬
‫والنبات في خدمة الحيوان وخدمة النسان‪ ،‬وكل كائنات الوجود تصب جهدها المسخر لخدمتكم‪.‬‬
‫فإذا كنتُ قد جئتُ للجناس كلها وجعلتُها دونكم وأعطيتها ما يصلحها ويقيمها ووضعت لها نظاما‪،‬‬
‫وأعطيتها من الغرائز ما يكفي لصلح أمرها حتى تؤدي مهمتها معكم على صورة تريحكم فإذا‬
‫كان هذا هو شأننا وعملنا مع من يخدمكم فكيف يكون الحال معكم؟ إنني أنزلت المنهج الذي‬
‫يصلح حياة من استخلفته سيدا في الرض‪َ { .‬ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْرضِ َولَ طَائِرٍ َيطِيرُ ِبجَنَاحَيْهِ‬
‫شيْءٍ ثُمّ إِلَىا رَ ّبهِمْ ُيحْشَرُونَ } [النعام‪.]38 :‬‬
‫ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ‬
‫وكل الدواب دون النسان أعطاها الله اليمان بالفطرة‪ ،‬وهداها إلى الرزق بالغريزة‪ .‬وميز‬
‫النسان فوق كل الكائنات بالعقل‪ ،‬ولكن النسان يستخدم عقله مرة استخداما سليما صحيحا فيصل‬
‫إلى اليمان‪ ،‬ويستخدمه مرة استخداما سيئا فيضل عن اليمان‪ .‬وكان على النسان أن يعلم أنه‬
‫تعلم محاكاة ما دونه من الكائنات؛ فقابيل تعلم من الغراب كيف يواري سوأة أخيه‪ .‬ومصمم‬
‫الطائرات تعلم صناعة الطيران من دراسة الطيور‪ .‬إذن كان يجب أن يتعلم النسان أن له خالقا‬
‫جعل له من الجناس ما تخدمه ليطور من حياته ومن رعاية كرامته بعد الموت‪ .‬والمثال ما قالته‬
‫نملة لبقية النمل‪ {:‬حَتّىا إِذَآ أَ َتوْا عَلَىا وَادِ ال ّن ْملِ قَاَلتْ َنمْلَةٌ ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُواْ َمسَاكِ َنكُ ْم لَ‬
‫ن َوجُنُو ُدهُ }[النمل‪.]18 :‬‬
‫طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَا ُ‬
‫حِ‬‫يَ ْ‬
‫إن النمل أمة لها حرس‪ ،‬قالت حارسة منهم هذا القول تحذيرا لبقية النمل‪.‬‬
‫ح ُهمْ }[السراء‪.]44 :‬‬
‫ح ْم ِدهِ وَلَـاكِن لّ َتفْ َقهُونَ تَسْبِي َ‬
‫شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ‬
‫وال سبحانه يقول‪ {:‬وَإِن مّن َ‬
‫إذن فكل أمة من تلك المم الكثيرة التي خلقها ال في الكون تسبح بحمده‪ ،‬ولكن ل يفهم أحد لغات‬
‫تلك المم‪ .‬وأعلمنا ال أنه علم سيدنا سليمان لغات كل القوام وكل المم المخلوقة ل‪ ،‬ولذلك‬
‫عندما سمع سيدنا سليمان ما قالته النملة‪ :‬تبسم { ضَاحِكا مّن َقوِْلهَا }‪.‬‬
‫وهكذا علمنا أن ال قد أعطى إذن سليمان عليه السلم ما جعلها تمتلك حاسية التقاط الذبذبة‬
‫الصادرة من صوت النملة وتفهم ما تعطيه وتؤديه تلك الذبذبة‪ ،‬لذلك تبسم سليمان عليه السلم من‬
‫قولها؛ لن ال علمه منطق تلك الكائنات‪ .‬ولو علمنا ال منطق هذه الكائنات لفقهنا تسبيحهم ل‪،‬‬
‫ونحن ل نفقه تسبيحهم لننا لم نتعلم لغتهم‪ .‬ومثال ذلك ‪ -‬وال المثل العلى ‪ -‬قد يسافر إنسان‬
‫عربي إلى بلد تتحدث النجليزية وهو يجهل تلك اللغة‪ ،‬فل يفهم مما يقال شيئا‪.‬‬

‫إذن لو علمك ال منطق الطير‪ ،‬ومنطق الجماد‪ ،‬ومنطق النبات؛ لعلمت لغاتهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ }[النبياء‪.]79 :‬‬
‫ألم يقل الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَ َ‬
‫إن الجماد ‪ -‬الجبال ‪ -‬تسبح مع داود‪ .‬وكذلك الطير؛ فها هوذا الهدهد قد عرف قضية التوحيد‪،‬‬
‫جدُونَ‬
‫وحز في نفسه أنه رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون ال‪ {:‬وَجَدّتهَا َوقَ ْو َمهَا يَسْ ُ‬
‫عمَاَلهُمْ }[النمل‪.]24 :‬‬
‫شمْسِ مِن دُونِ اللّ ِه وَزَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬
‫لِل ّ‬
‫إذن فالهدهد قد عرف قضية التوحيد‪ ،‬وعرف أن السجود إنما يكون ل سبحانه وتعالى‪َ {:‬ألّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }[النمل‪.]25 :‬‬
‫خبْءَ فِي ال ّ‬
‫سجُدُواْ للّهِ الّذِي ُيخْرِجُ الْ َ‬
‫يَ ْ‬
‫إذن كل الكائنات هي أمم أمثالنا‪ .‬وقد يقول قائل‪ :‬ولكن هناك كائنات ليست في السماء ول في‬
‫الرض‪ ،‬مثل السماك التي في البحار؟ ونقول‪ :‬إن الماء ثلثة أرباع الرض والسمك يسبح في‬
‫جزء من الماء الذي هو جزء من الرض‪ .‬فهو يسبح في جزء من الرض‪ ،‬فسبحانه الذي خلق‬
‫الدواب في الرض‪ ،‬وخلق الطيور‪ ،‬وخلق الدنى من هذه المم وهداها إلى مصلحتها ومصدر‬
‫سوّىا * وَالّذِي قَدّرَ َف َهدَىا {‪.‬‬
‫حياتها‪ } :‬الّذِي خَلَقَ فَ َ‬
‫ونرى العلماء يحاولون الن اكتشاف لغة السماك‪ ،‬واكتشاف كل أسرار مملكة النحل ونظامها‪،‬‬
‫وكيف تصير أعشاش النمل مخازن في الصيف لقوت الشتاء‪ .‬ودرسوا سلوك النمل مع حبة القمح‪،‬‬
‫وكيف تخلع النملة خليا النبات من بذرة القمح‪ ،‬لن خليا النبات إن دخلت مع حبة القمح إلى‬
‫مخزن غذاء النمل قد تنبت وتدمر جحر النمل‪ .‬وهكذا نرى صدق الحق العلى‪ {.‬الّذِي خَلَقَ‬
‫سوّىا * وَالّذِي قَدّرَ َفهَدَىا }[العلى‪.]3-2 :‬‬
‫فَ َ‬
‫وقرون الستشعار في النملة تثير العلماء؛ لن النملة الواحدة ترى على سبيل المثال قطعة السكر‪،‬‬
‫فل تقربها ولكنها تذهب لستدعاء جيش من النمل قادر على تحريك قطعة السكر‪ ،‬ووجد العلماء‬
‫أن وزن الشيء الذي يتغذى به النمل إن زاد على قدرة نملة‪ ،‬فهي تستدعي أعدادا من النمل‬
‫ليؤدوا المهمة‪.‬‬
‫وتساءل العلماء‪ :‬من أين للنمل إذن هذه القدرة على تحديد الكتلة والحجم والوزن؟ إن تحديد العدد‬
‫الذي يحمل حجما محددا يثير الغرابة والعجب‪ ،‬فكيف يمكن أن نتصور أن النمل يفرق بين شيئين‬
‫يتحد حجمهما ويختلف وزنهما ككتلة من حديد وأخرى تماثلها في الحجم من السفنج؟ إن النمل‬
‫يستدعي لكتلة الحديد أضعاف ما يستدعيه لحمل كتلة السفنج مع اتحادهما في الحجم؛ إنها من‬
‫قدرة الحق الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى‪.‬‬
‫ثم إنك تلتفت إلى الحيوان فتجد الذكر والنثى‪ ،‬وتجد أن الجمال كله في ذكور الحيوان‪ ،‬بينما ل‬
‫يكون المر كذلك في إناث الحيوان‪ ،‬والكثرة الغالبة هي من الناث والقلة من الذكور‪ ،‬ول يقرب‬
‫الذكر أنثاه إل في موسم معين‪ ،‬وإلى أن يأتي موسم التلقيح تنصرف النثى إلى إعداد العش‬
‫وتهيئته لما عساه أن يوجد من نتاج‪ ،‬وهذه العملية لحكمة عالية ربما تكون لبقاء نوع الحيوان حتى‬
‫يعين النسان في إعمار الرض‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفي عالم الطير نجد الطيور تبني العش بفن جميل لستقبال الفرخ الذي خرج من البيض وتفرش‬
‫له العش بأنعم الشياء‪ ،‬إنها تفعل ذلك بإتقان جيد وبصورة ربما يعجز البشر أن يعمل مثلها‪ .‬ثم‬
‫نجد في دنيا الحيوان والطير أن الكائن ما إن يبلغ القدرة على العتماد على نفسه فل تعرف الم‬
‫ابنها من ابن غيرها‪ .‬إذن فكل المخلوقات أمم أمثالنا أرزاقا وآجالً‪ ،‬وأعمالً‪ ،‬فصدق ال إذ‬
‫شيْءٍ {‪.‬‬
‫يقول‪ } :‬مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ‬
‫وقد يكون المراد من الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ‪ ،‬ولكننا نقول‪ :‬إنه القرآن‪ ،‬وكل شيء موجود‬
‫ومذكور أو مطمور في القرآن الكريم‪ .‬وذكر القرآن أن هذه المم تعرف التوحيد‪ ،‬وأنهم يسبحون‬
‫ل‪ .‬والعمل المعاصر يكتشف في كل دقيقة حقائق هذا الكون المنظم‪ .‬ونجد العقل يهدينا إلى أن‬
‫نوجد أشياء لصالح حياتنا‪ ،‬ولكن عندما نتبع الهوى فإننا نفسد هذا الكون‪ .‬إن ال ‪ -‬سبحانه ‪-‬‬
‫جعل للخادم من دواب الرض نطاقًا للعمل والرزق والجل بحكم الغريزة‪ ،‬وكذلك جعل للطير‪،‬‬
‫ولكل الكائنات‪:‬‬
‫شيْءٍ ثُمّ إِلَىا‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى في محكم آياته الكريمة‪ } :‬مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ‬
‫رَ ّبهِمْ ُيحْشَرُونَ { [النعام‪.]38 :‬‬
‫إذن كل شيء يحشر يوم القيامة‪ .‬ألم يقل رسول ال صلى ال عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة‬
‫رضي ال عنه‪ " :‬لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء "‪.‬‬
‫أي أن الحق سبحانه يقتص من الشاة ذات القرون التي نطحت الشاة التي بل قرون ويعوضها عن‬
‫حقّه يصير إلى تراب‪ .‬أما الذين‬
‫اللم الذي أصابها‪ .‬وبعد أن يأخذ كل كائن من غير النس والجن َ‬
‫يسمعون ول يستجيبون فهم المكذبون باليات‪ ،‬ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬وَالّذِينَ‬
‫كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا‪{ ...‬‬

‫(‪)820 /‬‬

‫جعَ ْلهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ‬


‫ص ّم وَ ُبكْمٌ فِي الظُّلمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللّهُ ُيضْلِلْهُ َومَنْ َيشَأْ يَ ْ‬
‫وَالّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا ُ‬
‫(‪)39‬‬

‫والصمم آفة تصيب الذن فل تسمع‪ .‬والبكم آفة تصيب اللسان فل ينطق‪ .‬والبكم مرتبط بالصمم؛‬
‫لن النسان ل يتكلم إل إذا سمع؛ لن اللغة بنت المحاكاة؛ فالنسان ل يتكلم إل إذا سمع‪.‬‬
‫إن البشر ينشأون في بيئات مختلفة اللغة ول يتكلمون إل باللغة التي نشأوا في بيئتها؛ لن اللغة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ليست دما ول جنسا‪ .‬بل اللغة سماع‪ .‬وما تسمعه الذن يحكيه اللسان‪ .‬ول يقرأ النسان إل إذا‬
‫سمع وعرف ارتباط ما يسمع بما يرى؛ لذلك نعرف أن السمع هو المنفذ الول للدراك‪ ،‬ولهذا‬
‫كان الصمم قبل البكم‪.‬‬
‫ولكن هل الدراك مرتبط بالصمم والبكم فقط؟ ل‪ ،‬إن النسان يسمع أ َولً‪ ،‬ثم يرى‪ ،‬ثم يتذوق‪ ،‬ثم‬
‫يشم‪ ،‬ثم يلمس‪ ،‬ثم تأتي له المعلومات العقلية‪ .‬والمثال على ذلك أن كل إنسان يعرف أن النار‬
‫محرقة‪ ،‬وهو لم يعرف هذا إل لنه وجدها قد لمست كائنا وأحرقته‪ .‬ومثال آخر‪ :‬يتفق الناس على‬
‫أن صوت العندليب جميل‪ ،‬وهذا التفاق جاء من سماع الناس لصوت العندليب‪ .‬إذن فالمعلومات‬
‫العقلية تأتي نتيجة للمعلومات الحسية‪.‬‬
‫{ صُمّ وَ ُبكْمٌ فِي الظُّلمَاتِ } إنهم بل قدرة أيضا على إبصار الهداية من أي ناحية؛ صم ل يسمعون‬
‫لكلمة الحق‪ ،‬وبكم ل ينطقون‪ ،‬وفي ظلمات ل يهتدون إلى إدراكات الشياء ول إلى اليمان‪ .‬وكل‬
‫جعَ ْلهُ عَلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ } لكن هل‬
‫ذلك مردود إلى المشيئة‪ { :‬مَن يَشَإِ اللّهُ ُيضْلِلْهُ َومَن َيشَأْ يَ ْ‬
‫اقتحمت المشيئة على الناس وقهرتهم؟ ل؛ لن الحق قال‪ {:‬إِنّ اللّهَ لَ َي ْهدِي مَنْ ُهوَ مُسْ ِرفٌ‬
‫كَذّابٌ }[غافر‪.]28 :‬‬
‫وقال سبحانه أيضا‪ { :‬وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ } إذن‪ ،‬فبتقديمهم الظلم‪ ،‬والفسق‪ ،‬والكفر‪ ،‬وقد‬
‫فعلوا ذلك اختيارا فصار المرض واستقر في قلوبهم وزادهم ال مرضا‪ ،‬وهو سبحانه أغنى‬
‫الغنياء عن الشرك به‪ ،‬فمن أشرك مع ال شيئا فهو له‪ .‬ويأتي من بعد ذلك أمر إلى رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ُ { :‬قلْ أَرَأَيْ ُتكُم إِنْ أَتَاكُمْ‪} ...‬‬

‫(‪)821 /‬‬

‫ُقلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَا ُكمْ عَذَابُ اللّهِ َأوْ أَتَ ْتكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ َتدْعُونَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ (‪)40‬‬

‫و " أرأيتكم " مكونة من استفهام وفعل‪ ،‬ومن ضمير وهو لفظ التاء المفتوح للمخاطب كقولك‪" :‬‬
‫أرأيت فلنا " وكأنك تقول له‪ " :‬إن كنت قد رأيته فأخبرني عنه " ‪ ،‬وعندما تقول للمخاطب ذلك‬
‫فأنت تستفهم منه عن شيء رآه وأبصره وبعد ذلك تأتي بكاف الخطاب‪ ،‬فكأنك تقول له‪ :‬أخبرني‬
‫عنك‪ ،‬فيكون المعنى أخبروني عن أنفسكم‪ ،‬وهكذا تكون‪ " :‬أرأيتكم " معناها‪ :‬أخبروني عن حالكم‬
‫إخبار من يرى‪ .‬فالمر إذن لرسول ال ليسأل المشركين أن يخبروه ماذا يفعلون عندما يصيبهم‬
‫الضر أو أي شيء فوق السباب‪ ،‬هل هم يدعون اللت والعزى؟‬
‫ل‪ ،‬إنهم ل يستطيعون وقت الخطر الداهم أن يكذبوا على أنفسهم‪ ،‬إنما ينادون ال الذي ل يعلنون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اليمان به‪ .‬ولو كانوا صادقين مع كفرهم لما نادوا ال‪ ،‬بل كان يجب أن ينادوا آلهتهم؛ لكنّهم في‬
‫لحظة الخطر يقولون‪ " :‬يارب " كأنهم يعرفون أنه ل منقذ لهم إل هو سبحانه‪ .‬وهكذا ينكشف‬
‫أمامهم كذب كفرهم وشركهم بال‪ .‬ول أحد يغش نفسه‪ ،‬حتى الدجال الذي يدعي ممارسته شفاء‬
‫الناس‪ ،‬إن أصابه مرض نجده يلجأ إلى طبيب متخصص متعلم‪ .‬فل أحد يغش نفسه‪ ،‬وساعة يمس‬
‫الخطر ذات النسان نجد الحقيقة تنبع من النسان نفسه‪.‬‬
‫ويسألهم النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬مَنْ يدعونه لحظة الخطر؟ إنهم يدعون ال‪ .‬وكأنهم ل يثقون‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما }[يونس‪.]12 :‬‬
‫في آلهتهم‪ {.‬وَِإذَا مَ ّ‬
‫شفْنَا عَ ْن ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ َيدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ‬
‫لكن ماذا يحدث عندما يعود للقلب غلظته؟{ فََلمّا كَ َ‬
‫مّسّهُ }[يونس‪.]12 :‬‬
‫لماذا إذن يطلب من ال النجدة وقت الخطر‪ ،‬ول يتبع التكليف؟ يأتي المر إلى الرسول ليسألهم من‬
‫شفُ مَا‬
‫تدعون لحظة الخطر؟ ويأتي الجواب أيضا من الحق سبحانه وتعالى‪َ { :‬بلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَ َيكْ ِ‬
‫تَدْعُونَ إِلَيْهِ‪} ...‬‬

‫(‪)822 /‬‬

‫سوْنَ مَا تُشْ ِركُونَ (‪)41‬‬


‫شفُ مَا تَدْعُونَ إِلَ ْيهِ إِنْ شَا َء وَتَنْ َ‬
‫َبلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَ َيكْ ِ‬

‫إنكم ‪ -‬أيها المشركون ‪ -‬ل تدعون إل ال أن يكشف عنكم الضر‪ ،‬فإن رأى أن من الحكمة أن‬
‫يجيب دعاءكم أجابه‪ .‬وإن رأى أن من الحكمة أل يجيب فهو ل يجيب‪ .‬وهم يدعون ال وينسون‬
‫آلهتهم ومن أشركوهم بالعبادة مع ال‪.‬‬
‫خذْنَا ُهمْ‪} ...‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬وََلقَدْ أَرْسَلنَآ ِإلَىا ُأمَمٍ مّن قَبِْلكَ فَأَ َ‬

‫(‪)823 /‬‬

‫وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ُأمَمٍ مِنْ قَبِْلكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَ ْأسَا ِء وَالضّرّاءِ َلعَّل ُهمْ يَ َتضَرّعُونَ (‪)42‬‬

‫لقد أرسل الحق لمم سابقة رسلً باليات والمنهج‪ ،‬فكذبتهم أقوامهم‪ ،‬فأخذهم ال بالشدائد والحداث‬
‫التي تضر إما في النفس‪ ،‬وإما في المال‪ ،‬بالمرض‪ ،‬بالفقر‪ ،‬لعلهم يتضرعون إلى ال سبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن فالحق حين يمس النسان بالبأساء أي بالشدائد أو بالضراء‪ ،‬أي بالشيء الذي يضر ويؤذي‪،‬‬
‫إنما يريد من النسان أن يختبر نفسه‪ ،‬فإن كان مؤمنا بغير ال فليذهب إلى من آمن به‪ ،‬ولن يرفع‬
‫عنه تلك البأساء أو ذلك الضر إل عندما يعود إلى ال‪ :‬وعندما يتضرع إلى ال قد ل يقبل ال منه‬
‫مثل هذا التضرع ويقول سبحانه‪ { :‬فََلوْل إِذْ جَآ َءهُمْ بَ ْأسُنَا‪} ...‬‬

‫(‪)824 /‬‬

‫ستْ قُلُو ُبهُ ْم وَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)43‬‬
‫فََلوْلَا إِذْ جَاءَ ُهمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُوا وََلكِنْ قَ َ‬

‫إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يحثهم ويحضهم على أن يتضرعوا ويتذللوا إلى ال ليرفع عنهم ما نزل بهم‪،‬‬
‫ولكن قلوبهم القاسية تمنعهم حتى في لحظة المس بالضر أن يلجأوا إلى ال خوفا من اتباع‬
‫التكليف‪ .‬إن قسوة القلب تكون بالصورة التي ل ينفذ إليها الهدى وكما قال الحق‪ {:‬كَلّ َبلْ رَانَ‬
‫عَلَىا قُلُو ِبهِمْ مّا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[المطففين‪.]14 :‬‬
‫أي صارت قلوبهم مغلقة ومغطاة بعد أن طبع ال وختم عليها فل تقبل الخير ول تميل إليه‪ ،‬فل‬
‫يؤمنون‪.‬‬
‫ويتابع الحق القول الكريم‪ { :‬فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ‪} ...‬‬

‫(‪)825 /‬‬

‫شيْءٍ حَتّى إِذَا فَ ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ‬
‫فََلمّا نَسُوا مَا ُذكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫مُبْلِسُونَ (‪)44‬‬

‫إنهم عندما نسوا ما جاءهم من تذكير الحق لهم بالمنهج والتوحيد من خلل الرسل إنه ‪ -‬سبحانه‬
‫‪ -‬يصيبهم بالعذاب الذي يفاجئهم به فيقعون في حيرة تأخذ عليهم ألبابهم وتشتت قلوبهم وتقطع‬
‫رجاءهم‪.‬‬
‫والرسل إنما تأتي لتذكر؛ لن اليمان موجود بالفطرة‪ .‬ولكن الغفلة هي التي تخفي اليمان‪.‬‬
‫والنسان يحيا في كون مليء بالنعم ول دخل لحد بها‪ ،‬ول بد لحد فيها‪ ،‬ولم يدعها أحد لنفسه‪،‬‬
‫كان يجب على هذا النسان أن يعيش دائما في رحاب الحمد ل‪ ،‬مولى هذه النعمة‪.‬‬
‫والتذكير من الحق لعباده يكون بالنعم أو الرسل الذين يأتون بالرسالت المتوالية‪ .‬وهب أن إنسانا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قد غفل عن نعمة ال في الطعام‪ ،‬ثم جاءت لحظة الجوع‪ ،‬فجلس يشتهي الطعام فمنحه ال ذلك‬
‫الطعام فكيف ينسى لحظة الشبع من وهب له هذا الطعام‪.‬‬
‫{ فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ } إما أن يكون هو الخبار بواسطة الرسل الذين يذكرون الناس بأن‬
‫المنعم هو ال‪ ،‬وأن ال أنزل المنهج ليصلح الكون به‪ ،‬وإما أن يكون بواسطة النعم التي تمر على‬
‫النسان في كل لحظة من اللحظات؛ لنها تنبه النسان إلى أن هناك من أعطاها‪ .‬مثال ذلك ساعة‬
‫يستر النسان عورته وجسده بلباس جميل‪ ،‬أل يتساءل عن الذي وهب الصانع تلك الموهبة التي‬
‫صمم بها الزي‪ .‬إذن كيف يأخذ النسان النعمة ول يتذكر المنعم؟ إن ال سبحانه ل يحرمهم من‬
‫النعم ساعة أن تركوا شكرها‪ ،‬بل يفتح عليهم أبواب كل شيء‪ ،‬أي يعطيهم من النعم أكثر وأكثر‪،‬‬
‫فيترفون ويعيشون في ألوان من حياة العز والصحة والسعة والجاه والسيطرة والمكانة‪ .‬ثم ما الذي‬
‫يحدث؟ { َأخَذْنَا ُهمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبْلِسُونَ }‪.‬‬
‫وقلنا من قبل هذا المثل الريفي‪ :‬ل يقع أحد من فوق الحصير‪ .‬ولكن الحق يعلي الكافر المشرك‬
‫في بعض الحيان ثم يأخذه بغتة فيقع ليكون اللم عظيما‪ .‬فإن رأيت إنسانا أسرف على نفسه‬
‫ووسع الحق عليه في نظام الحياة‪ .‬إياك أن تفتن وتقول‪ :‬آه إن الكافر الظالم يركب أفخر السيارات‬
‫ويعيش في أبهى القصور‪ ،‬ل تقل ذلك لنك سترى نهاية هذا الظالم البشعة‪.‬‬
‫شيْءٍ } لقد فتح‬
‫وانظر إلى دقة التعبير في قول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫عليهم‪ ..‬أي سلط عليهم‪ ،‬ل فتح لهم‪ ،‬ويقول الحق سبحانه في موقع آخر من القرآن الكريم‪ { :‬إِنّا‬
‫فَتَحْنَا َلكَ فَتْحا مّبِينا }‪.‬‬
‫وهكذا نعرف أن الفتح لك غير الفتح عليك؛ لن الفتح على أحد يعني الستدراج إلى إذلل قسري‬
‫خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا‬
‫سوف يحدث له‪ .‬ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬حَتّىا إِذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَ َ‬
‫هُمْ مّبْلِسُونَ } [النعام‪.]44 :‬‬
‫إن القبض يأتي لحظة الفرح‪.‬‬

‫وكثيرا ما نرى مثل هذه الحداث في الحياة‪ ،‬نلتفت إلى كارثة تحدث للعريس أو العروس في يوم‬
‫الزفاف‪ .‬ويصدق قول الشاعر‪:‬مشت الحادثات في غرف الحمراء مشي النعي في دار عرسوهذا‬
‫خذْنَاهُمْ َبغْتَةً { [النعام‪.]44 :‬‬
‫يشرح القول الكريم‪ } :‬حَتّىا إِذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَ َ‬
‫وعندما ندقق في كلمة‪ِ } :‬بمَآ أُوتُواْ { فإننا نجد أن ما حصلوا عليه من نعمة إنما جاءهم كتمهيد‬
‫إلهي ييسر هذه المسائل‪ ،‬ثم يأخذهم الحق بغتة‪ ،‬أي أن الحادث الضار يأتي بدون مقدمات؛ لن‬
‫مجيء المقدمات قد يجعل النسان يتيقظ ويحتاط أو يتوقع ذلك‪ .‬ونعرف أن الحق يقول في موقع‬
‫آخر من القرآن الكريم‪ُ {:‬قلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ َبغْتَةً }[النعام‪.]47 :‬‬
‫أي أن العذاب قد يأتي مرة بغتة‪ ،‬وقد يأتي مرة أخرى جهرا‪ .‬والعذاب يأتي بغتة عقابا‪ ،‬ويأتي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جهرة حتى ل يقولن أحد‪ :‬لول أنّ مجيء العذاب بغتة لكان قد احتاط لذلك المر‪ .‬ويأتيهم العذاب‬
‫وهم مبلسون أي يائسون ل منجى ول منقذ ول خلص لهم‪.‬‬
‫ويتابع الحق ما يحدث لهؤلء‪َ } :‬فقُطِعَ دَابِرُ ا ْل َقوْمِ‪{ ...‬‬

‫(‪)826 /‬‬

‫حمْدُ لِلّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)45‬‬


‫َفقُطِعَ دَابِرُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ ظََلمُوا وَالْ َ‬

‫وما دام هؤلء القوم قد نسوا ما ذكّروا به‪ ،‬وفتح ال عليهم أبواب كل شيء ثم فرحوا بما أوتوا‬
‫وأخذهم الحق بغتة‪ ،‬كل ذلك يلفتنا إلى أنه يجب علينا أن نحمد ال لن يربي الخلق بالنقمة والنعمة‬
‫ويطهر الكون من المفسدين‪ ،‬وقطع دابر المفسدين مصيبة لهؤلء المفسدين‪ ،‬ونعمة من نعم ال‬
‫على المؤمنين‪ .‬وقد يتساءل البعض‪ :‬كيف يأتي القرآن بالنقم وكأنها نعم؟‬
‫طعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ َأ ْقطَارِ‬
‫ن وَالِنسِ إِنِ اسْ َت َ‬
‫ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول‪ {:‬يا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ‬
‫سلُ عَلَ ْي ُكمَا‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ فَانفُذُواْ لَ تَنفُذُونَ ِإلّ بِسُ ْلطَانٍ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ * يُرْ َ‬
‫ال ّ‬
‫شوَاظٌ مّن نّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن‪.]36-33 :‬‬
‫ُ‬
‫إنها نقم يتحدث عنها الحق كإرسال الشواظ من نار ونحاس‪ ،‬وهي نقم بالنسبة للكافرين وعليهم‪،‬‬
‫وهي نعم للمؤمنين‪ .‬ونعلم أن التهويل في أمر العذاب يجعل الناس ترتدع‪ ،‬وهذا الوعيد نعمة من‬
‫ال‪ .‬وحين يتجلى الحق بنعمه على خلقه ويقطع دابر الظالمين‪ ،‬يقول المؤمنون الحمد ل‪َ { :‬فقُطِعَ‬
‫حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [النعام‪.]45 :‬‬
‫دَابِرُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ ظََلمُواْ وَا ْل َ‬
‫ويعود الحق إلى استنطاقهم بالخبار عن المرئيات‪ُ { :‬قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ‪} ...‬‬

‫(‪)827 /‬‬

‫علَى قُلُو ِبكُمْ مَنْ ِإلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبهِ انْظُرْ كَ ْيفَ‬
‫س ْم َعكُ ْم وَأَ ْبصَا َركُ ْم وَخَتَمَ َ‬
‫ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ َ‬
‫ُنصَ ّرفُ الْآَيَاتِ ُثمّ هُمْ َيصْ ِدفُونَ (‪)46‬‬

‫هنا يأمر الحق نبيه صلى ال عليه وسلم أن يستنطقهم‪ :‬ماذا يفعلون إن سلب ال السمع وغطى‬
‫قلوبهم بما يجعلها ل تدرك شيئا‪ ،‬وسلب منهم نعمة البصر‪ ،‬هل هناك إله آخر يستطيع أن يرد لهم‬
‫ما سلبه الحق سبحانه منهم؟ لقد أخذوا نعمة ال واستعملوها لمحادّة ال وعداوته‪ ،‬أخذوا السمع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولكنهم صموا عن سماع الهدى‪ ،‬وأخذوا البصار ولكنهم عموا عن رؤية آيات ال‪ .‬ومنحوا‬
‫القلوب ولكنهم أغلقوها في وجه قضايا الخير‪ .‬فماذا يفعلون إن أخذ ال منهم هذه النعم؟ هل هناك‬
‫إله آخر يلجأون إليه ليستردوا ما أخذه ال منهم؟‬
‫وترى في الحياة أن الحق قد حرم بعضا من خلقه من نعم أدامها على خلق آخرين‪ .‬إن في ذلك‬
‫وسيلة إيضاح في الكون‪ .‬وإياك أن تظن أيها النسان أن الحق حين سلب إنسانا نعمة‪ ،‬أنّه يكره‬
‫هذا النسان‪ ،‬إنه سبحانه أراد أن يذكر الناس بأن هناك منعما أعلى يجب أن يؤمنوا به‪ .‬فإن أخذ‬
‫الحق هذه النعم من أي كافر فماذا سيفعل؟ إنه لن يستطيع شيئا مع فعل ال‪.‬‬
‫وها هوذا النبي يوضح لهم بالبراهين الواضحة‪ ،‬ولكنهم مع ذلك ُيعْرِضون عن التدبر والتفكر‬
‫واليمان { ثُمّ ُهمْ َيصْ ِدفُونَ }‬
‫والمؤمن حين يرى إنسانا من أصحاب العاهات فهو يشكر ال على نعمه‪ ،‬إن الحق ‪ -‬سبحانه ‪-‬‬
‫بواسع رحمته يعطي صاحب العاهة تفوقا في مجال آخر‪ .‬ولنذكر قول الشاعر‪:‬عميت جنينا‬
‫والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن للعلم موئلوغاض ضياء العين للقلب رافدا لعلم إذا ما‬
‫ضيع الناس حصلإننا قد نرى أعمى يقود ببصيرته المبصرين إلى الهداية‪ .‬ونرى أصم كبيتهوفن‬
‫‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬قد فتن الناس بموسيقاه وهو أصم‪ .‬وهكذا نجد من أصيب بعاهة فإن ال‬
‫يعوضه بجو ٍد وفضل منه في نواحٍ ومجالت أخرى من حياته‪ .‬ول يوجد إله آخر يمكن أن‬
‫يعوض كافرا ابتله ال؛ لن ال هو الواحد الحد‪ { .‬ا ْنظُرْ كَ ْيفَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ ثُمّ هُمْ‬
‫َيصْ ِدفُونَ } ‪ ،‬أي انظر يا محمد وتعجب كيف نبّين لهم اليات ونصرفها من أسلوب إلى أسلوب ما‬
‫بين حجج عقلية وتوجيه إلى آيات كونية وترغيب وتنبيه وتذكير ومع ذلك فإن هؤلء الكافرين ل‬
‫يتفكرون ول يتدبرون‪ ،‬بل إنهم يعرضون ويتولون عن الحق بعد بيانه وظهوره‪.‬‬
‫عذَابُ اللّهِ‪} ...‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ُ { :‬قلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ َ‬

‫(‪)828 /‬‬

‫جهْ َرةً َهلْ ُيهَْلكُ إِلّا ا ْل َقوْمُ الظّاِلمُونَ (‪)47‬‬


‫ُقلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَا ُكمْ عَذَابُ اللّهِ َبغْتَةً َأوْ َ‬

‫ونلحظ أن " تاء الضمير " في هذه الية قد فتحت‪ ،‬بينما الية السابقة لها جاءت فيها " تاء الضمير‬
‫س ْم َعكُ ْم وَأَ ْبصَا َركُ ْم َوخَتَمَ‬
‫" مضمومة‪ ،‬حيث يقول الحق تبارك وتعالى‪ُ {:‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ َأخَذَ اللّهُ َ‬
‫عَلَىا قُلُو ِبكُمْ مّنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبهِ انْظُرْ كَيْفَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ ُثمّ هُمْ َيصْ ِدفُونَ }[النعام‪:‬‬
‫‪.]46‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونلحظ أيضا أن الية التي نحن بصددها الن تأتي فيها كاف الخطاب‪ " :‬أرأيتكم " بينما الية‬
‫السابقة لها ل تحمل كاف الخطاب " أرأيتم " ونعرف أن كل لفظة من هذه اللفاظ قد جاءت لتؤدي‬
‫معنىً ل يؤدي بغيرها‪ ،‬وإن تشابهت الساليب‪ ،‬فقوله (أرأيتكم) يشمل ويضم ضمير المخاطب‬
‫وهو التاء المفتوحة ويشمل أيضا كاف الخطاب والجمع بين علمتي الخطاب (التاء) و (الكاف)‬
‫يدل على أن ذلك تنبيه على شيء ما عليه من مزيد‪ .‬إنه تنبيه إلى أن هلكهم سيكون هلك‬
‫استئصال وإبادة‪ ،‬ومرة يقول الحق‪ " :‬أرأيتم " أي أخبروني أنتم وأعلموني إعلما يؤكد لي صدق‬
‫القضية‪ ،‬ويأتي الستفهام هنا من مادة " أرى " و " رأى "‪.‬‬
‫إن السبب في ذلك أنك حين تستفهم عن شيء إما أن يكون المستفهم منه قد حضر حدوث الشيء‪،‬‬
‫وإما أن يكون المستفهم منه لم يحضر حدوث الشيء‪ .‬فإن كان قد حضر حدوث الشيء فإنك تقول‬
‫له‪ :‬أرأيت ما حدث لفلن وفلن؟ فيقول لك‪ :‬نعم رأيت كذا وكذا وكذا‪ .‬وإن كان المستفهَم منه لم‬
‫يعلم بالمر ولم يره فهو يجيب بالنفي‪ ،‬وهذا ما يحدث بين البشر‪ ،‬لكن حين يكون الستفهام من‬
‫ال‪ ،‬ويكون الحادث المستفهَم عنه قد حدث من قبل وجود المستفهم منه‪ ،‬فاليمان يقتضي أن يجيب‬
‫المستفهم منه عن هذا الحادث بـ " نعم "‪.‬‬
‫ومثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ {:‬أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ‬
‫بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل‪.]1 :‬‬
‫وهذا خطاب من ال لرسوله صلى ال عليه وسلم عنا حدث لصحاب الفيل في عام ولدته صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬ولم يكن الحدث موضع رؤية لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬ولقائل أن يقول‪:‬‬
‫كيف يخاطب ال ورسوله باستفهام عن حادث لم يره؟ ونقول‪ :‬إن الحق بهذا الستفهام يوضح‬
‫لرسوله‪ :‬اسمع مني‪ ،‬وسماعك مني فوق رؤية عينيك للحدث‪ ،‬فإذا ما قلت لك‪ " :‬ألم تر " فمعناها‪:‬‬
‫اعلم علما يقينيا‪ ،‬وهذا العلم اليقيني يجب أن تثق في صدقه كأنك رأيته رؤية العين وفوق ذلك‬
‫أيضا فإن عينك قد تخدعك أو تكذب عليك‪ ،‬ولكن حين يخبرك ربك ل يخدعك ول يكذب عليك‬
‫أبدا‪.‬‬
‫إذن فالحق يريد أن يخرج هذه الساليب مخرج اليقين‪.‬‬

‫وأضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬فحين يحاول إنسان قد أحسنت إليه كثيرا أن يجحد‬
‫إحسانك‪ ،‬فأنت ل تقول له‪ :‬أنا أحسنت إليك‪ ،‬ولكنك تقول له‪ :‬أرأيت ما فعلته معك يوم كذا‪ ،‬ويوم‬
‫كذا؟ وهنا يبدو كلمك كاستفهام منك‪ ،‬لنك واثق أنه حين يدير رأسه في الجواب فلم يجد إل ما‬
‫يؤيد منطقك من وقوفك إلى جانبه‪ ،‬وإحسانك إليه‪ ،‬ولن يجد إل أن يقول لك‪ :‬نعم رأيت أنك وقفت‬
‫بجانبي في كل المواقف التي تذكرها‪ .‬وفي مثل هذا القول إلزام ل من موقع المتكلم‪ ،‬ولكن من‬
‫واقع المخاطب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبعد أن تكلم الحق عن تعنت الكافرين أمام رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وعدم اكتفائهم‬
‫باليات التي أنزلها ال مؤيدة لصدق رسوله صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ثم تماديهم في اقتراح آيات من‬
‫عندهم‪ ،‬وقد اقترحوها في شيء من الصفاقة والسماجة‪ ،‬فقالوا‪َ {:‬وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ‬
‫ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ‬
‫لَنَا مِ َ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن زُخْ ُرفٍ‬
‫سمَآءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫تُ ْ‬
‫سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا ّنقْ َر ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ ِإلّ‬
‫َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ‬
‫بَشَرا رّسُولً }[السراء‪.]93-90 :‬‬
‫وكلها أسئلة مليئة بالتعنت‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى هو الذي اختار القرآن معجزة ومنهجا لرسوله‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ .‬ويعلم سبحانه صدق رسوله في البلغ عنه‪ ،‬لكل ذلك يبين الحق لرسوله أن‬
‫يبلغ هؤلء الكافرين أنه سبحانه وتعالى لن يعود عليه أي نفع أو ضر نتيجة إيمانهم به سبحانه‪،‬‬
‫لكن النفع باليمان يكون للعباد ويعود خيره إليهم؛ لنه سبحانه وتعالى له صفات الكمال كلها قبل‬
‫أن يخلق الخلق‪ .‬إنها له أزل وأبدا‪.‬‬
‫فبصفات الكمال ‪ -‬علماَ وقدرة؛ وحكمة؛ وإرادة ‪ -‬خلق الخلق جميعا‪ .‬فإياكم أيها الناس أن تفهموا‬
‫أن إيمانكم بال يزيده صفة من صفات الجلل أو الجمال‪ ،‬وإنما اليمان عائد إليكم أنتم‪ ،‬فإذا كان‬
‫منكم متكبرون ومتعنتون‪ ،‬فالحق سبحانه ل يترك من تكبر وتعنت ليقف أمام منهجه الذي يحكم‬
‫حركة الحياة في الرض‪ ،‬ولكنه سبحانه يأخذ أهل التكبر والتعنت أخذ عزيز مقتدر‪ .‬واستقرئوا‬
‫أيها الناس ما حدث لمن كذبوا رسل ال‪ ،‬وماذا صنع ال بهم؟ إنه بقدرته سبحانه وتعالى يستطيع‬
‫أن يصنع معكم ما صنعه معهم‪ .‬وإذا ما استقرأتم قصص الرسل مع المكذبين ل وجدتم العذاب قد‬
‫حقّ‬
‫جاء للقوم بغتة‪ ،‬فها هوذا الحق يقول عن قوم عاد‪ {:‬فََأمّا عَادٌ فَاسْ َتكْبَرُواْ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ‬
‫جحَدُونَ *‬
‫َوقَالُواْ مَنْ َأشَدّ مِنّا ُق ّوةً َأوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خََل َقهُمْ ُهوَ أَشَدّ مِ ْن ُهمْ ُق ّوةً َوكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَ ْ‬
‫فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِهمْ رِيحا صَ ْرصَرا فِي أَيّامٍ نّحِسَاتٍ لّ ُنذِيقَهُمْ عَذَابَ ا ْلخِ ْزيِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وََلعَذَابُ‬
‫الخِ َرةِ َأخْزَىا وَهُ ْم لَ يُنصَرُونَ }‬

‫[فصلت‪.]16-15 :‬‬
‫لقد تكبر قوم عاد على سيدنا هود عليه السلم والذين آمنوا معه‪ ،‬وظنوا أنهم أقوى القوياء‪،‬‬
‫وغفلوا عن قدرة الخالق العلى وهو القوي العظم وأنكروا آيات ال‪ ،‬فماذا كان مصيرهم؟‬
‫فاجأهم الحق بإرسال ريح ذات صوت شديد في أيام كلها شؤم ليذيقهم عذاب الهوان والخزي‬
‫والذل في هذه الدنيا‪ ،‬ويقسم الحق بأن عذاب الخرة أشد خزيا؛ لنهم في هذا اليوم ل يجدون‬
‫ناصرا لهم لنهم كفروا بالذي ينصف وينصر وهو الحق جلت قدرته‪.‬‬
‫وماذا عن قوم ثمود؟ لقد بين لهم الحق طريق الهداية‪ .‬لكنهم اختاروا الضلل واستحبوا لنفسهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الكفر على اليمان‪ ،‬وكذبوا نبي ال صالحا عليه السلم وعقروا الناقة‪ ،‬فنزلت عليهم الصاعقة‬
‫لتحرقهم بمهانة بسبب ما فعلوا من تكذيب لرسولهم‪ {.‬وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى‬
‫عقَةُ ا ْل َعذَابِ ا ْلهُونِ ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[فصلت‪.]17 :‬‬
‫ا ْلهُدَىا فََأخَذَ ْتهُ ْم صَا ِ‬
‫وماذا فعل الحق بأصحاب الفيل؟ لقد جاء قوم أبرهة لهدم الكعبة‪ ،‬فاستقبلتهم الطير البابيل‪ ..‬أي‬
‫التي جاءت في جماعات كثيرة متتابعة بعضها في إثر بعض بحجارة من طين متحجر محرق قد‬
‫سلَ عَلَ ْيهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ *‬
‫ج َعلْ كَ ْيدَهُمْ فِي َتضْلِيلٍ * وَأَرْ َ‬
‫كتب وسجل عليهم أن يعذبوا به‪ {:‬أَلَمْ َي ْ‬
‫جعََلهُمْ َك َعصْفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل‪.]5-2 :‬‬
‫سجّيلٍ * فَ َ‬
‫حجَا َرةٍ مّن ِ‬
‫تَ ْرمِيهِم بِ ِ‬
‫وكل حدث من تلك الحداث أجراه ال بغتة‪ .‬ومعنى البغتة أن يفاجئ الخطبُ القومَ بدون مقدمات‬
‫علم به‪ .‬وهناك أيضا من الحداث الجسام أنزلها ال بالكافرين جهرة‪ ،‬فهاهم أولء قوم فرعون‬
‫يغرقهم ال علنا‪ .‬وكذلك قارون أهلكه ال جهرة‪ {:‬إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن َقوْمِ مُوسَىا فَ َبغَىا عَلَ ْي ِهمْ‬
‫حبّ‬
‫وَآتَيْنَاهُ مِنَ ا ْلكُنُوزِ مَآ إِنّ َمفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِا ْل ُعصْبَةِ ُأوْلِي ا ْل ُق ّوةِ إِذْ قَالَ َلهُ َق ْومُهُ لَ َتفْرَحْ إِنّ اللّ َه لَ يُ ِ‬
‫ا ْلفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الخِ َرةَ وَلَ تَنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا وَأَحْسِن َكمَآ َأحْسَنَ اللّهُ‬
‫حبّ ا ْل ُمفْسِدِينَ * قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ عِندِي َأوَلَمْ‬
‫ك َولَ تَ ْبغِ ا ْلفَسَادَ فِي الَ ْرضِ إِنّ اللّهَ لَ ُي ِ‬
‫إِلَ ْي َ‬
‫جمْعا َولَ يُسَْألُ عَن ذُنُو ِبهِمُ‬
‫َيعْلَمْ أَنّ اللّهَ َقدْ أَهَْلكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ا ْلقُرُونِ مَنْ ُهوَ َأشَدّ مِنْهُ ُق ّوةً وََأكْثَرُ َ‬
‫ا ْلمُجْ ِرمُونَ * فَخَرَجَ عَلَىا َق ْومِهِ فِي زِينَ ِتهِ قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا يالَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ‬
‫ع ِملَ صَالِحا‬
‫ن وَ َ‬
‫قَارُونُ إِنّهُ َلذُو حَظّ عَظِيمٍ * َوقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْ َم وَيَْلكُمْ َثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ ّلمَنْ آمَ َ‬
‫سفْنَا ِب ِه وَبِدَا ِر ِه الَ ْرضَ َفمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ‬
‫خَ‬‫وَلَ يَُلقّاهَآ ِإلّ الصّابِرُونَ * فَ َ‬
‫َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُن َتصِرِينَ }[القصص‪.]81-76 :‬‬
‫لقد أخذ قارون نعمة ال ونسبها إلى نفسه‪ ،‬وصار مفتونا بما امتلك‪ ،‬وغرق في الغرور‪ ،‬فماذا فعل‬
‫ال به؟ خسف ال به جهرة وأمام أعين الذين تمنوا مكانه‪.‬‬

‫إذن فمن الممكن ان يأتي عذاب ال بغتة للكافرين به أو يأتيهم بالعذاب جهرة‪ .‬وما السبب في‬
‫التلوين بين " بغتة " و " جهرة "؟ البغتة تثبت لمن يعبد غير ال أنه مخدوع في عبادته لغير ال‪،‬‬
‫لنه لو كان يعبد إلها حقا لما قبل هذه الله أن يعذب أتباعه من حيث ل يشعر‪ .‬إذن فالبغتة تثبت‬
‫عجز المعبودين من أصنام وغيرها‪ ،‬فقد عجزت تلك الصنام أن تحتاط للعابدين لها‪ .‬وقد يقول‬
‫قائل منهم‪ :‬لقد جاءنا العذاب فجأة‪ ،‬لكن لو جاء لنا مواجهة لكنا قادرين على مواجهته والوقوف‬
‫أمامه‪.‬‬
‫فيأتي ال أيضا بالعذاب جهرة فل يستطيعون مواجهته فتنتقطع حجتهم‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك‬
‫تموت في قلوب هؤلء المعاندين القدرة على إبصار ضرورة اليمان‪ .‬ويعامل سبحانه خصوم‬
‫رسولنا ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬مثل هذه المعاملة‪ ،‬فعندما عانده القوم جاءهم ال سبحانه بأمور‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫معجزة لعلهم يتفكرون‪.‬‬
‫فهاهم أولء قد اتفقوا على قتلة قبل الهجرة‪ ،‬ويقفون على باب بيته‪ ،‬ويخرجه الحق من بينهم وهم‬
‫ل يبصرون‪ ،‬ول يفلحون في التآمر على رسول ال‪ ،‬ول ينجح لهم تبييت ضد رسول ال‪ ،‬ويكون‬
‫مكر ال فوق كل مكر يريد به أعداء الرسول صلى ال عليه وسلم إيذاءه به‪ .‬وهم قد ذهبوا إلى‬
‫الجن ليسحروا له‪ ،‬لكن ل هذا السحر قد نفع‪ ،‬ول ذاك التبييت أتى بنتيجة‪ .‬وكانت تكرمة ال‬
‫لرسوله صلى ال عليه وسلم فوق كل شيء‪ ,‬ويقول الحق سبحانه وتعالى‪ُ } :‬قلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ‬
‫جهْ َرةً َهلْ ُيهَْلكُ ِإلّ ا ْل َقوْمُ الظّاِلمُونَ { [النعام‪.]47 :‬‬
‫عَذَابُ اللّهِ َبغْتَةً َأوْ َ‬
‫ويكون تذييل الية ‪ -‬أيضا ‪ -‬على هيئة استفهام‪ ،‬والستفهام هنا ‪ -‬كما علمنا من قبل ‪ -‬إنما جاء‬
‫ليؤكد المعنى‪ ،‬وليكون القرار من أفواه من يتلقون هذا الستفهام وعن يقين منهم‪ ،‬وليكون‬
‫العتراف منهم إجابة بالقرار‪ ،‬والقرار ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬هو سيد الدلة‪.‬‬
‫وهب أن صاعقة نزلت أو خسفا حدث فيه عذاب‪ ،‬فكيف ينجي ال المؤمنين به من هذا العذاب أو‬
‫ذلك الخسف؟‬
‫إن الهلك فقط يكون للقوم الظالمين؛ لن الهلك هو إعدام الحياة للحي المتمتع بالحياة‪ ،‬والذي ل‬
‫يؤمن إل بهذه الدنيا إذا جاءته مصيبة لتهلكه فهو يشعر بمرارة الخسران؛ لنه ل يعتقد ول يؤمن‬
‫بالحياة الخرى‪ ،‬لكن المؤمن الذي يتيقن أن له إلها وأنه سيعود إليه ليحاسبه ويجزيه عن إيمانه‬
‫خير الجزاء إن حدثت له محنة في طي محنة كبرى للكافرين فهو يذهب إلى الجنة ويكون ذلك‬
‫منحة له ل محنة عليه لتستمر حياته إلى خلود‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن الهلك إنما يحدث للقوم الظالمين فقط لنه ُي ْفقِدهم كل ما كانوا يتمتعون به في‬
‫دنياهم وليس لهم في الخرة إل البوار والخسران والعذاب الدائم‪ ،‬أما غير الظالمين فالحق سبحانه‬
‫وتعالى ينقلهم إلى حياة خالدة هي خير من هذه الحياة‪ ،‬إذن فالمؤمنون إنما يتلقون فيوضات ال‬
‫عليهم في النعماء وفي البلء أيضا‪.‬‬

‫ويتكلم الحق سبحانه وتعالى في الية التالية عن التصور اليماني الذي يجب أن يرسخ في أذهان‬
‫المؤمنين برسول مبلغ عن ال‪ ،‬وعندما يسمع العقل الطبيعي الفطري البلغ عن الرسول فهو‬
‫يصدقه فورا؛ لن الفطرة عندما ترى فساد الكون‪ ،‬وترى أن هناك من جاء بمنهج لصلح الكون‬
‫ل بد أن تتجه إلى اليمان بالمبلغ عن ال وهو الرسول‪ .‬وعندما ترى الفطرة أن الكون كله قد تم‬
‫إعداده لخدمة النسان‪ ،‬ل بد لها أن تتساءل عن الخالق لهذا الكون وعن المنهج الذي يجب أن‬
‫تسير عليه لصيانة هذه النعمة‪ ،‬نعمة الوجود في الكون‪.‬‬
‫ويقتضي الحساس السليم من النسان أن يتعرف إلى حقيقة واضحة‪ ،‬وهي أن النسان قد طرأ‬
‫على الكون‪ ،‬وأن هذا الكون مليء وغني بالخيرات‪ ،‬ولم يدع أحد أبدا أنه خلق السماوات أو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرض أو الماء أو الهواء‪ .‬ول بد أن يدور في خلد صاحب الفطرة السليمة تساؤل عن هذا‬
‫الخالق الكرم الذي وهب للنسان حق الستخلف في كل هذا الكون‪ .‬فإذا ما جاء رسول ليقطع‬
‫هذا القلق وذلك الصمت ويقول‪ :‬أنا جئتكم لخبركم بمن خلقكم‪ ،‬وبمن خلق السموات‪ ،‬وبمن خلق‬
‫الرض‪ ،‬وبمن رزقكم هذا الرزق‪.‬‬
‫هنا تنصت الفطرة إلى سماع الخبر الذي كانت تستشرف له‪ .‬وإذا ما جاء هدا الرسول مؤيدا بآية‬
‫من ال ومعجزة ل يقدر عليها البشر‪ ،‬فالعقل البشري يعترف اعتراف القرار على الفور؛ لنه‬
‫وجد حاجته عند ذلك الرسول‪.‬‬
‫ولكن على الذين يؤمنون بما جاء به الرسول‪ ،‬وعلى الرسول نفسه‪ ،‬وحتى على الكافرين به‪،‬‬
‫عليهم جميعا أل يتعدوا الحدود‪ ،‬وأل يضعوا أي رسول في مكان أعلى من منزلته‪ ،‬لنه رسول‬
‫من ال‪ ،‬إنه واحد من البشر تفضل ال عليه بالوحي واصطفاه للمهمة التي جاء بها‪ .‬ول بد للجميع‬
‫أن يفهم أن الرسول مبلغ عن ال فقط‪ ،‬وأنه ل يستطيع أن يأتي باليات التي يقترحها بعض من‬
‫القوم؛ لن الرسول ل يقترح اليات ول يصنعها‪ ،‬الرسول مقصور على أداء المانة الموكلة إليه‬
‫سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ‪{ ...‬‬
‫وهي أمانة البلغ عن ال‪ .‬ولذلك يقول لنا الحق‪َ } :‬ومَا نُرْ ِ‬

‫(‪)829 /‬‬

‫خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَلَا هُمْ َيحْزَنُونَ (‪)48‬‬


‫ن وََأصْلَحَ فَلَا َ‬
‫ن َومُنْذِرِينَ َفمَنْ َآمَ َ‬
‫سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ إِلّا مُ َبشّرِي َ‬
‫َومَا نُ ْر ِ‬

‫أي أن الحق سبحانه لم يعط الرسل قدرته ليفعلوا ما شاءوا‪ ،‬ولكنهم فقط مبلّغون عن ال‪ ،‬فل‬
‫يطلبن منهم أحد آيات؛ لنهم ل يستطيعون أن يأتوا باليات‪ ،‬وكل رسول يعلم أنه من البشر‪ ،‬وهو‬
‫سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ ِإلّ‬
‫يستقبل عن ال فقط‪ ،‬ولذلك فلنأخذ الرسل على أنهم مبشرون ومنذرون { َومَا نُرْ ِ‬
‫ن َومُنذِرِينَ }‪.‬‬
‫مُبَشّرِي َ‬
‫ونعرف أن البشارة هي الخبار بما يسر قبل أن يقع‪ .‬والسبب في البشارة هو تهيئة السامع لها‬
‫ليبادر إلى ما يجعل البشارة واقعا بأن يمتثل إلى المنهج القادم من الله الخالق‪ .‬ونعرف أن النذار‬
‫هو الخبار بما يسوء قبل أن يقع ليحترز السامع أن يقع في المحاذير التي حرمها ال‪.‬‬
‫والبشارة ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬تلهب في الراغب في الفعل والمحب له أن يفعل العمل الطيب‪ ،‬والنذار‬
‫يحذر ويخوف من يرغب في العمل الشيء ليزدجر ويرتدع‪ .‬إذن فمهمة الرسل هي البشارة‬
‫والنذار‪ ،‬فل تخرجوا بهم أيها الناس إلى مرتبة أخرى أو منزلة ليست لهم فتطلبوا منهم آيات أو‬
‫أشياء؛ لن اليات والشياء كلها من تصريف الحق تبارك وتعالى‪ ،‬ومن سوء الدب أن نُخطّئ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال في اليات التي أرسلها مع الرسل ونطلب آيات أخرى‪ .‬إنكم بهذا تستدركون على ال‪.‬‬
‫سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ ِإلّ مُبَشّرِينَ َومُنذِرِينَ } [النعام‪:‬‬
‫ويبيّن الحق لنا حدود مهمة الرسل فيقول‪َ { :‬ومَا نُرْ ِ‬
‫‪.]48‬‬
‫ن وََأصْلَحَ‬
‫هذا هو عمل الرسل‪ ،‬فماذا عن عمل الذين يستمعون للرسل؟ إن الحق يقول‪َ { :‬فمَنْ آمَ َ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ } [النعام‪.]48 :‬‬
‫فَلَ َ‬
‫فالمطلوب ‪ -‬إذن ‪ -‬من الذين يستمعون إلى الرسل أن يقبلوا على اختيار اليمان‪ ،‬وأن يستمعوا‬
‫إلى جوهر المنهج وأن يطبقوه‪ .‬فمن آمن منهم وأصلح فل خوف عليه لنه قد ضمن الفوز‬
‫العظيم‪ ،‬ول يصيبه أو يناله حزن‪ ،‬لن ناتج عمله كله يلقاه في كتابه يوم القيامة‪ .‬واليمان هو‬
‫اطمئنان القلب إلى قضية عقدية ل تطفو إلى الذهن لتناقش من جديد‪ .‬ولذلك نسمي اليمان عقيدة‪،‬‬
‫أي شيئا انعقد عقدا ل ينحل أبدا‪.‬‬
‫ن على المؤمن بربه أن يستحضر الدلة واليات التي تجعل إيمانه بربه إيمانا قويا معقودا؛ وهذا‬
‫إّ‬
‫عمل القلب‪ .‬ويعرف المؤمن أن عمل القلب ل يكفي كتعبير عن اليمان؛ لن الكائن الحي ليس‬
‫قلبا فقط‪ ،‬ولكنه قلب وجوارح وأجهزة متعددة‪ ،‬وكل الكائن الحي المؤمن يجب أن ينقاد إلى منهج‬
‫ربه‪ ،‬فل بد من التعبير عن اليمان بأن يصلح النسان كل عمل فيؤديه بجوارحه أداء صحيحا‬
‫سليما‪.‬‬
‫إنني أقول ذلك حتى يسمع الذي يقول‪ :‬إن قلبي مؤمن وسليم‪ .‬ل‪ ،‬فليست المسألة في اليمان هكذا‪،‬‬
‫صحيح أنك آمنت بقلبك ولكن لماذا عطلت كل جوارحك عن أداء مطلوب اليمان؟ لماذا ل تعطي‬
‫عقلك فرصة ليتدبر ويفكر ويخطط ويتذكر‪ ،‬لماذا ل تعطي العين فرصة لتعتبر وتستفيد من‬
‫معطيات ما ترى؟ وكذلك اليد‪ ،‬واللسان‪ ،‬والذن‪ ،‬والقدم‪ ،‬وكل الجوارح‪.‬‬

‫والصلح هو عمل الجوارح‪ ،‬فيفكر النسان بعقله في الفكرة التي تنفع الناس‪ ،‬ويسمع القول فيتبع‬
‫أحسنه‪ ،‬ويصلح بيديه كل ما يقوم به من أعمال‪ .‬ويعلم المؤمن أنه حين أقبل على الكون وجده‬
‫محكما غاية الحكام‪ ،‬ويرى النسان الشياء التي ل دخل له فيها في هذا الكون وهي على أعلى‬
‫درجات الصلحية الراقية‪ ،‬فالمطر ينزل في مواسمه‪ ،‬والرياح تهب في مواسمها ومساراتها‪،‬‬
‫وحركة الشمس تنتظم مع حركة الرض‪ ،‬وكل عمل في النواميس العليا هو على الصلح المطلق‪.‬‬
‫إن الفساد يأتي مما للنسان دخل فيه‪ ،‬فالهواء يفسد من بناء المنازل المتقاربة‪ ،‬وعدم وجود‬
‫مساحات من الخضرة الكافية‪ ،‬ويفسد الهواء أيضا باللت التي تعمل ولها من السموم ما تخرجه‬
‫وتدفعه من أثر عملية احتراق الوقود‪ .‬وعندما صنع النسان اللت نظر إلى هواه في الراحة‪،‬‬
‫وغابت عنه أشياء كان يجب أن يحتاط لها‪ ،‬ومثال ذلك‪ " :‬عادم " السيارات الذي يزيد من تلوث‬
‫البيئة‪ ،‬ورغم اكتشاف بعض من الوسائل التي يمكن أن تمنع هذا التلوث‪ .‬إل أن البعض يتراخى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في الخذ بها‪.‬‬
‫ونحن حين نأخذ بقمة الحضارة ونركب السيارات فلماذا ننسى القاعدة التي تقوم عليها الحضارة‬
‫وهي الدراسة العلمية الدقيقة لنصنع اللت ونأخذ من اللت ما يفيد الناس‪ ،‬فنعمل على الخذ‬
‫بأسباب تنقية البيئة من التلوث ونمنع الذى عن حياة الناس‪ .‬فالعادم الذي من صناعتنا ‪ -‬مثل‬
‫عادم السيارات واللت ‪ -‬يفسد علينا الهواء فتفسد الرئة في النسان‪.‬‬
‫إن علينا أن نعرف أن من مسئولية اليمان أن ننظر إلى الشيء الذي نصنعه وكمية الضر الناتجة‬
‫عنه‪ ،‬وكل إنسان يحيا في مدينة مزدحمة إنما يضار بآثار عادم السيارات على الرغم من أنه ليس‬
‫في مقدور كل إنسان أن يشتري سيارة ليركبها‪ ،‬فكيف يرتضي راكب السيارة لنفسه أل يصلح من‬
‫تلك اللة التي تسهل له حياته ويصيب بعادمها الضر لنفسه ولغيره من الناس؟ لذلك فعلى المسلم‬
‫أل يأخذ الحضارة من مظهرها وشكلها بل على المجتمع المسلم أن يعمل على الخذ بأسباب‬
‫الحضارة من قواعدها الصلية‪ ،‬وأن يدرس كيفية تجنب الضرار حتى ل نقع في دائرة‬
‫عمَالً * الّذِينَ‬
‫الخسرين أعمالً‪ ،‬هؤلء الذين قال فيهم الحق سبحانه‪ُ {:‬قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ‬
‫حسِنُونَ صُنْعا }[الكهف‪.]104-103 :‬‬
‫سعْ ُيهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَ ّن ُهمْ يُ ْ‬
‫ضلّ َ‬
‫َ‬
‫ولنا أن نأخذ المثل العلى دائما من الكون الذي خلقه ال لنصونه‪ ،‬إن عادم وأثر وناتج أي شيء‬
‫مخلوق ل يفيد النسان ويفيد الكون حتى فضلت الحيوان يُنتفع بها في تسميد الرض وزيادة‬
‫علَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ {‪.‬‬
‫خ ْوفٌ َ‬
‫ن وََأصْلَحَ فَلَ َ‬
‫خصوبتها‪ .‬وهكذا نعرف معنى‪َ } :‬فمَنْ آمَ َ‬

‫فاليمان عمل القلب‪ ،‬والصلح عمل الجوارح‪ ،‬ولذلك يجب أن نصلح في الكون بما يزيد من‬
‫صلحه‪ .‬ولنعلم أن الكون لم يكن ناقصا وأننا بعملنا نستكمل ما فيه من نقص‪ ،‬ليس المر كذلك‪،‬‬
‫ولكننا أردنا أن نترف في الحياة‪ ،‬وما دمنا نريد الترف فلنزد من عمل العقل المخلوق ل في‬
‫المواد والعناصر التي أمامنا وهي المخلوقة ل‪ .‬وأن نتفاعل معها بالطاقات والجوارح المخلوقة‬
‫ل‪ ،‬ما دمنا نريد أن نتنعم نعيما فوق ضروريات الحياة‪.‬‬
‫ومثال ذلك أننا قديما وفي أوائل عهد البشرية بالحياة‪ ،‬كان النسان عندما يعاني من العطش‪،‬‬
‫يشرب من النهر‪ ،‬وبعد ذلك وجد النسان أنه ل يسعد بالرتواء عندما يمد يده ليأخذ غرفة من ماء‬
‫النهر‪ ،‬فصنع إناءً من فخار ليشرب منه الماء‪ ،‬ثم صنع إناءً من الصاج‪ ،‬ثم صنع إناء من البلور‪،‬‬
‫فهل هذه الشياء أثرت في ضرورة الحياة أو هي ترف الحياة؟‬
‫إنها من ترف الحياة‪ .‬فإن أردت أن تترف حياتك فلتُعمل عقلك المخلوق ل في العناصر المخلوقة‬
‫ل‪ ،‬بالطاقة والجوارح المخلوقة ل‪ ،‬وبذلك يهبك ال من الخواطر ما تستكشف به آيات العلم في‬
‫الكون‪ .‬ومثال ذلك‪ :‬أن أهل الريف قديما كانوا يعتمدون على نسائهم ليملن الجرار من البار أو‬
‫الترع ثم تقوم سيدة البيت بترويق المياه‪ .‬وعندما ارتقينا قليلً‪ ،‬كان هناك من الرجال من يعمل في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مهنة السقاية‪ ،‬ويمر بالقرب المملوءة بالماء على البيوت‪ .‬وعندما قام أهل العلم بالستنباط‬
‫والعتبار اكتشفوا قانون الستطراق‪ ،‬فرفعوا المياه إلى خزانٍ عالٍ‪ ،‬وامتدت من الخزان " مواسير‬
‫" وأنابيب مختلفة القطار والحجام‪ ،‬وصار الماء موجودا في كل منزل‪ ،‬هذا ما فعله الناس الذين‬
‫استخدموا العقول المخلوقة ل‪.‬‬
‫وكان الناس من قبل ذلك يكتفون بالضروري من كميات المياه‪ ،‬فالسرة كانت تكتفي بملء قربة‬
‫أو قربتين من الماء‪ ،‬ولكن بعد أن صارت في كل منزل‪ ،‬أساء الكثير من الناس استخدام المياه‪،‬‬
‫فأهدروا كميات تزيد عن حاجتهم‪ ،‬وتمثل ضغطا على " مواسير " الصرف الصحي‪ ،‬فتنفجر‬
‫ويشكو الناس من طفح المجاري‪.‬‬
‫إن على المسلم أن يرعى حق ال في استخدامه لكل شيء‪ ،‬فالماء الذي يهدره النسان قد يحتاج‬
‫إليه إنسان آخر‪ ،‬وعندما نتوقف عن إهداره‪ ،‬نمنع الضرر عن أنفسنا وعن غيرنا من طفح "‬
‫مواسير " الصرف الصحي‪ .‬وليحسب كل منا ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬كم يستهلك من مياه في أثناء‬
‫الوضوء‪ .‬إن النسان منا يفتح الصنبور ويغسل يديه ثلثا ويتمضمض ثلثا‪ ،‬ويستنشق ثلثا‪،‬‬
‫ويغسل وجهه ثلثا‪ ،‬ويغسل ذراعيه ثلثا‪ ،‬ويمسح برأسه‪ ،‬ويغسل أقدامه‪ .‬ويترك النسان الصنبور‬
‫مفتوحا طَوال تلك المدة فيهدر كميات من المياه‪ ،‬ولو فكر في حسن استخدام المياه التي تنزل من‬
‫الصنبور لما اشتكى غيره من قلة المياه‪.‬‬

‫فلماذا ل يفكر المسلم في أن يأخذ قدرا من المياه يكفي الوضوء ويحسن استخدام الماء؟ وكان‬
‫النسان يتوضأ قديما من إناء به نصف لتر من الماء‪ ،‬فلماذا ل نحسن استخدام ما استخلفنا ال‬
‫فيه؟‬
‫على النسان منا أن يعلم أن اليمان كما يقتضي أو يوجب ويفرض الصلة ليصلح النسان من‬
‫نفسه‪ ،‬يقتضي ‪ -‬أيضا ‪ -‬إصلح السلوك فل نبذر ونهدر فيما نملك من إمكانات‪ ،‬وأن ندرس‬
‫كيفية الرتقاء بالصلح‪ ،‬فل نتخلص من متاعب شيء لنقع في متاعب ناتجة من سوء تصرفنا في‬
‫الشيء السابق‪ ،‬بل علينا أن ندرس كل أمر دراسة محكمة حتى ل يدخل النسان منا في مناقضة‬
‫سؤُولً‬
‫سمْ َع وَالْ َبصَرَ وَالْ ُفؤَادَ ُكلّ أُولـا ِئكَ كَانَ عَنْهُ مَ ْ‬
‫قوله الحق‪ {:‬وَلَ َت ْقفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ إِنّ ال ّ‬
‫}[السراء‪.]36 :‬‬
‫أي عليك أن تعرف أيها المسلم أنك مسئول عن السمع والبصر والقلب وستسأل عن ذلك يوم‬
‫القيامة‪ ،‬لذلك ل يصح أن تتوانى عن الخذ بأحسن العلم ليحسن قولك وفعلك‪ .‬وبذلك ل يكون‬
‫هناك خوف عليك في الدنيا أو الخرة؛ لنك آمنت وأصلحت‪ ،‬وأيضا ل حزن يمسك في الدنيا ول‬
‫خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَلَ ُهمْ يَحْزَنُونَ {‪.‬‬
‫ن وََأصْلَحَ فَلَ َ‬
‫في الخرة‪َ } :‬فمَنْ آمَ َ‬
‫إنك بذلك تصون نفسك في الخرة وفي الدنيا أيضا؛ لنك تسير في الحياة بإيمان وتصلح في الدنيا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫متبعا قوانين ال‪ .‬وإن رأيت أيها المسلم متعبة في الكون فاعلم أن حكما من أحكام ال قد عطّل‪،‬‬
‫إن رأيت فقيرا جائعا أو عريانا فاعلم أن حقا من حقوقه قد أكله أو جحده غيره؛ لن الذي خلق‬
‫الكون‪ ،‬خلق ما يعطيه الغني من فائض عنه للفقير ليسد عوزه‪ ،‬لكن الغني قبض يده عن حق ال‪،‬‬
‫وأيضا جاء قوم يتسولون بغير حاجة للتسول‪ ،‬والفساد هنا إنما يأتي من ناحيتين‪ :‬ناحية إنسان‬
‫استمرأ أن يبني جسمه من عرق غيره‪ ،‬أو من إنسان آخر غني ل يؤدي حق ال في ماله‪ ،‬بذلك‬
‫يعاني المجتمع من المتاعب‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا‪{ ...‬‬

‫(‪)830 /‬‬

‫سقُونَ (‪)49‬‬
‫سهُمُ ا ْلعَذَابُ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫وَالّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا َي َم ّ‬

‫والذين كذبوا بآيات ال هم إما من كذب الرسول في اليات الدالة على صدقه وهو المبلغ عن ال‪،‬‬
‫وهؤلء دخلوا في دائرة الكفر‪ .‬وإمّا هم الذين كذبوا بآيات المنهج‪ ،‬فلم يستخدموا المنهج على‬
‫أصوله وانحرفوا عن الصراط المستقيم والطريق السوي‪ .‬وهؤلء وهؤلء قد فسقوا‪ ،‬أي خرجوا‬
‫عن الطاعة‪ ،‬ونعلم أن كلمة " الفسق " مأخوذة من خروج " الرطبة " عن قشرتها عندما يصير‬
‫حجمها أصغر مما كانت عليه لكتمال نضجها‪ .‬والذي يفسق عن منهج ال هو الذي يقع في‬
‫الخسران؛ لن منهج ال هدفه صيانة النسان المخلوق ل بـ " افعل كذا " و " ل تفعل كذا "‪.‬‬
‫إن النسان يفسق عندما ل يفعل ما أمره ال أن يفعله‪ ،‬أو يفعل ما نهاه ال عن أن يفعله‪ .‬ونجد‬
‫النسان منا يخاف على جهاز التسجيل أو جهاز التليفزيون من أن يفسد فيتبع القواعد المرعية‬
‫لستخدامه‪ .‬فل يمد ‪ -‬مثلً ‪ -‬جهازا من الجهزة الكهربية بنوعية من الطاقة غير التي يحددها‬
‫الصانع‪ ،‬فإن قال لصانع‪ :‬استخدم كهرباء مقدارها مائتان وعشرون فولتا حتى ل تفسد اللة‬
‫فالنسان ينصاع لما قاله الصانع‪ ،‬فما بالنا بالنسان‪ ،‬إن ال ‪ -‬جلت قدرته ‪ -‬خلق النسان ووضع‬
‫له قوانين صيانته‪ .‬إذن فمن يفسد في قوانين صيانة نفسه يمسه العذاب‪ ،‬وكلمة يمسهم الذعاب‬
‫تعطي وتوحي بأن العقوبة تعشق أن تقع على المجرم‪ ،‬كأن العذاب سعى إليه ليناله ويمسه وها‬
‫هوذا قول الحق عن النار‪َ {.‬تكَادُ َتمَيّزُ مِنَ الغَ ْيظِ كُّلمَا أُ ْل ِقيَ فِيهَا َفوْجٌ سَأََل ُهمْ خَزَنَ ُتهَآ أََلمْ يَأْ ِتكُمْ َنذِيرٌ }‬
‫[الملك‪.]8 :‬‬
‫ت وَ َتقُولُ َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق‪.]30 :‬‬
‫ل ِ‬
‫جهَنّمَ َهلِ امْتَ َ‬
‫وهو سبحانه القائل عن النار‪َ {:‬يوْمَ َنقُولُ ِل َ‬
‫إذن فالعقوبة نفسها حريصة على أن تنفذ إلى من أساء‪ .‬ولذلك يلح العذاب في أن يمس الذين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فسقوا‪ .‬ويأتي الحق هنا بكلمة " المس " لحكمة‪ ،‬ذلك أن عقوبة ال ل تقارن بعقوبة البشر‪.‬‬
‫فالنسان يعاقب إنسانا بمقياس قدرته وقوته‪ ،‬وليس لحد من الخلق أن يتمثل قدرة ال في العذاب‪،‬‬
‫ولذلك يكفي المس فقط‪ ،‬لن التعذيب يختلف باختلف قدرة المعذّب‪ ،‬فلو نسبنا التعذيب إلى قدرة‬
‫ال لكان العذاب رهيبا ل طاقة لحد عليه‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬قُل لّ َأقُولُ َلكُمْ عِندِي‪} ...‬‬

‫(‪)831 /‬‬

‫ب وَلَا َأقُولُ َلكُمْ إِنّي مََلكٌ إِنْ أَتّبِعُ إِلّا مَا يُوحَى إَِليّ‬
‫ُقلْ لَا َأقُولُ َل ُكمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلَا أَعْلَمُ ا ْلغَ ْي َ‬
‫عمَى وَالْ َبصِيرُ َأفَلَا تَ َت َفكّرُونَ (‪)50‬‬
‫ُقلْ َهلْ يَسْ َتوِي الْأَ ْ‬

‫و " قل " ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬هي أمر من ال لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والرسول يبلغ ما أمر به‬
‫ال‪ ،‬وكان يكفي أن يقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل أقول لكم عندي خزائن ال‪ .‬لكنها دقة‬
‫البلغ عن ال‪ ،‬إنّ القرآن توقيفي بمعنى أن كل كلمة فيه نزلت من ال كما هي وبلغها الوحي‬
‫المين لسيدنا رسول ال‪ ،‬وبلغها لنا صلى ال عليه وسلم كما هي‪ ،‬ويدل ذلك على أن أحدا ل‬
‫يملك التصرف حتى في اللفظ‪ ،‬بل ل بد من أمانة النقل المطلقة‪.‬‬
‫وأبلغنا الرسول صلى ال عليه وسلم أن الحق قد أرسله هاديا ومبشرا ونذيرا بآية دالة على صدق‬
‫البلغ عنه وهي القرآن‪ .‬وكان يجب على مَن يستقبل هذا البلغ عن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم لنفسه‪ .‬فليس من حق أحد أن يطلب من الرسول آيات غير التي أنزلها ال؛ لنه صلى ال‬
‫عليه وسلم لم يدّع إل أنه مبلغ عن ال‪ ،‬فيجب أن تكون المقابلة له في إطار هذا الدعاء‪.‬‬
‫وقد تجاوز الكافرون ذلك عندما طلبوا من رسول ال صلى ال عليه وسلم آيات أخرى‪ ،‬كتفجير‬
‫بعض الرض ينابيع مياه‪ ،‬أو أن يكون له بيت من زخرف‪ ،‬ولذلك يوضح له الحق سبحانه أن‬
‫يبلغهم أنه ل يملك مع ال خزائن السموات والرض‪ ،‬فكيف تطلبون بيوتا وقصورا‪ ،‬وكيف‬
‫تطلبون معرفة الغيب حتى تقبلوا على النافع وتتجنبوا الضار؟‪ .‬أل يكفيكم المنهج اللهي الذي‬
‫يهديكم إلى صناعة كل نافع لكم ويجنبكم كل أمر ضار بكم؟ ثم إن الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫لم يقل لهم إنه يعلم الغيب‪ .‬وهو بشهادتهم هم يقولون عنه ما جاء بالقرآن الكريم‪َ {:‬وقَالُواْ مَالِ‬
‫سوَاقِ َلوْل أُن ِزلَ إِلَ ْيهِ مََلكٌ فَ َيكُونَ َمعَهُ نَذِيرا * َأوْ يُ ْلقَىا‬
‫طعَا َم وَ َيمْشِي فِي الَ ْ‬
‫هَـاذَا الرّسُولِ يَ ْأ ُكلُ ال ّ‬
‫سحُورا }[الفرقان‪-7 :‬‬
‫إِلَيْهِ كَنْزٌ َأوْ َتكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَ ْأ ُكلُ مِ ْنهَا َوقَالَ الظّاِلمُونَ إِن تَتّ ِبعُونَ ِإلّ رَجُلً مّ ْ‬
‫‪.]8‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد سخروا من رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وطالبوا أن تكون له آيات أخرى‪ ،‬وتساءلوا كيف‬
‫يمكن أن يزعم أنه رسول وهو يأكل الطعام كما يأكلون‪ ،‬ويغشى السواق لكسب العيش كما يفعل‬
‫البشر‪ ،‬ولو كان رسولً لكفاه ال مشقة كسب العيش‪ ،‬ولنزل إليه مَلكا يساعده في البلغ عن ال‪،‬‬
‫أو يلقي إليه ال من السماء بكنز ينفق منه‪ ،‬أو تكون له حديقة غناء يأكل من ثمارها‪.‬‬
‫هذا ما قاله كبار المشركين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر‪ ،‬وأرادوا أن يصدوا الناس عن اليمان‬
‫بدعوة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فمرة يتهمونه بأنه مسحور‪ ،‬ومرة بأنه مجنون‪ ،‬وثالثة بأنه‬
‫يهذي‪ ،‬ورابعة بأنه كذاب‪ ،‬وخامسة بأنه يتلقى القرآن من أعاجم‪ ،‬ويدحض الحق كل هذه الكاذيب‬
‫وكل تلك الفتراءات التي ضلوا بها وأضلوا بها سواهم‪.‬‬

‫إنه صلى ال عليه وسلم رسول من الرسل‪َ {:‬ومَآ أَ ْرسَلْنَا قَبَْلكَ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ ِإلّ إِ ّنهُمْ لَيَ ْأكُلُونَ‬
‫ن َوكَانَ رَ ّبكَ َبصِيرا }[الفرقان‪:‬‬
‫ضكُمْ لِ َب ْعضٍ فِتْنَةً أَ َتصْبِرُو َ‬
‫جعَلْنَا َب ْع َ‬
‫سوَاقِ وَ َ‬
‫طعَا َم وَ َيمْشُونَ فِي الَ ْ‬
‫ال ّ‬
‫‪.]20‬‬
‫إن الرسل من قبلك يا رسول ال كانت تأكل الطعام‪ ،‬وتكسب العيش من العمل ويترددون على‬
‫السواق‪ ،‬فإذا كان المشركون يعيبون عليك ذلك ويحاولون إضلل الناس بكل الساليب‪ ،‬فأنت‬
‫ومن معك يا رسول ال من المؤمنين سيكتب ال لكم النصر و َيجْزِي كُلً بما عمل‪ .‬ثم إن اليات‬
‫التي يطلبها المشركون من رسول ال كانت كلها تعنتا؛ فهو لم يقل لهم‪ :‬إنه ملك‪ .‬لقد قال لهم‪ :‬إنه‬
‫رسول مبلغ عن ال‪ ،‬وكل ما يؤديه هو صدق الداء عن ال‪ ،‬فكيف يطلبون منه أشياء ل تتعلق‬
‫إل بملكية ال لخزائن الرض؟ وكيف يطلبون منه أن يعلمهم الغيب؟ وكيف ينتقدون أنه رسول‬
‫وبشر يأكل ويتزوج ويمشي في السواق؟‬
‫إن كل تلك القوال دليل التعنت؛ لنهم قد طلبوا أشياء تخرج عن مجال ما ادعاه رسول ال لنفسه‬
‫من أنه رسول مبلغ عن ال؛ إنهم طلبوا الخير النافع والينابيع التي تجري‪ ،‬والجنات والقصور‪،‬‬
‫وأشياء كلها ليست في مقدور رسول مبلغ عن ال‪ ،‬لن الذي يهبها هو ال سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫وكلمة " خزائن " هذه مفردها " خِزانة " وهي الشيء الذي يكنز فيه كل نفيس ليخرج منه وقت‬
‫الحاجة‪ .‬ول تقل‪ :‬خِزانة إل لشيء جعلته ظرفا لشيء نفيس تخاف عليه من أن تخرجه في غير‬
‫ن وزمان إخراجه‪ .‬وخزائن الرض كلها يملكها ال‪ ،‬فهو سبحانه وتعالى القائل‪ {:‬وَالَرْضَ‬
‫َأوَا ِ‬
‫ش َومَن لّسْ ُتمْ‬
‫جعَلْنَا َلكُمْ فِيهَا َمعَايِ َ‬
‫شيْءٍ ّموْزُونٍ * َو َ‬
‫ي وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن ُكلّ َ‬
‫سَ‬‫مَدَدْنَاهَا وَأَ ْلقَيْنَا فِيهَا َروَا ِ‬
‫شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائِنُ ُه َومَا نُنَزُّلهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }[الحجر‪.]21-19 :‬‬
‫لَهُ بِرَا ِزقِينَ * وَإِن مّن َ‬
‫إذن فالحق جاء بالقضية الكلية‪ ،‬وهي أن أسرار ال ونفائسه في الكون هي بيد ال في خزائنه‪،‬‬
‫وهو سبحانه يجليها ويظهرها ويكشفها لوقتها‪ .‬كيف؟ إن الحق سبحانه وتعالى تكلم عن بدء الخلق‪،‬‬
‫وتكلم عن خلق السموات والرض‪ ،‬وتكلم عن هذا الموضوع كلما مجملً تفسره اليات الخرى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَلُونَ لَهُ أَندَادا‬
‫ن وَتَ ْ‬
‫ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْ ِ‬
‫خلَ َ‬
‫فالحق سبحانه وتعالى يقول‪ُ {:‬قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي َ‬
‫سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ‬
‫سمَآ ِء وَ ِهيَ ُدخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ‬
‫سوَآءً لّلسّآئِلِينَ * ثُمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ‬
‫َ‬
‫أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت‪.]11-9 :‬‬
‫يأمر الحق رسوله أن يبلغ هؤلء المشركين كيف يكفرون بال الذي خلق الرض في يومين‬
‫وكيف يجعلون له شركاء وهو الخالق للرض التي هي مناط الحركة لبن آدم‪.‬‬

‫لقد خلق فيها سبحانه ما يقيت ابن آدم وتقوم به حياته وإن أراد الترف فل بد له من الطموح في‬
‫الحياة‪ .‬وهو سبحانه جعل في الرض رواسي ‪ -‬أي جبالً ‪ -‬وبارك في الرض وفي الرواسي‪.‬‬
‫ثم جاء بتقدير القوات بعد ذكر الرواسي وهي الجبال‪ ،‬فكأن الجبال في حقيقة أمرها هي مخازن‬
‫القوت‪ .‬وقد يقول قائل‪ :‬كيف ذلك؟‬
‫ونقول‪ :‬إن الواقع قد أثبت هذه الحقيقة؛ فأنت إن نظرت إلى النهار التي تجري‪ ،‬لوجدتها تتكون‬
‫من الماء الذي تساقط من المطار على الجبال‪ ،‬فالمياه المكونة من ذرات صغيرة دقيقة تنزل على‬
‫هذه الجبال لتفتتها‪ ،‬وكأن المياه هي " المبُرَد " الذي يزيل من سطح الجبال هذه الرمال المليئة‬
‫بالعناصر الغذائية للرض‪ ،‬وهو ما نسميه نحن " الغرين " ‪ ،‬والغرين ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬هو ما ينزل‬
‫مع المياه من سطوح الجبال إلى مجرى النهر‪ ،‬وباندفاع المياه في مجرى النهر تنتقل المادة‬
‫الخصبة إلى الرض‪ ،‬وتتكون تلك الطبقة الخصبة التي تتغذى منها النباتات‪ .‬ولو شاء الحق‬
‫سبحانه وتعالى لجعل سطح الرض كله مستويا‪ ،‬وفيه الخصوبة التي تنبت النبات‪.‬‬
‫لكن حكمته سبحانه شاءت أن تصنع للنبات غذاءه بهذه الطريقة‪ .‬فأنت إذا ما نظرت إلى النبات‬
‫وجدته يختلف من نوع إلى نوع في أسلوب امتصاصه للعناصر الغذائية اللزمة له‪ ،‬فهناك نوع‬
‫من النبات يمتص غذاءه من عمق نصف المتر‪ ،‬ونوع ثانٍ يأخذ غذاءه من عمق المتر‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وإن لم نأت للرض المزورعة بسماد أو مخصبات أو غرين‪ ،‬فإن الرض تضعف؛ لن الحق‬
‫يريد لعملية الزراعة أن تستمر وتمتد وتتوالى‪ ،‬فجعل الجبال مكونة بشكل صُلب‪ ،‬وتمر على‬
‫الجبال عوامل التعرية من حرارة وبرودة وتشققات ثم ينزل عليها المطر فيذيب من سطوح الجبال‬
‫بعضا من تلك المواد الغذائية اللزمة للرض‪ ،‬تنتقل هذه المواد الغذائية عبر المياه إلى الرض‪،‬‬
‫وبهذا يتوالى المداد بالخصب من الجبال إلى الرض‪ .‬وهكذا نجد أن الجبال في حقيقتها هي‬
‫مخازن لخيرات ال‪.‬‬
‫وهل مقومات الحياة زرع فقط؟ ل‪ ،‬لنك إن نظرت إلى نموذج مصغر للكرة الرضية‪ ،‬ستجده‬
‫يشبه البطيخة الكبيرة‪ ،‬وإن جئت لتقطع مثلثا من محيط القشرة إلى مركز البطيخة‪ ،‬وجعلت هذا‬
‫المثلث يشبه الهرم‪ ،‬ثم أخذت منها مثلثا آخر من أي ناحية سواء أكان من ناحية الرض الخصبة‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أم من البحار أم من الجبال أم من الوديان‪ ،‬أم من الصحاري‪ ،‬ثم نظرت من بعد كل ذلك إلى‬
‫الخير المطمور في كل جزء من هذه الجزاء لوجدته مساويا للجزء الخر‪ .‬لماذا؟ لن الحياة ل‬
‫تعتمد على ألوان محصورة من القوت‪ ،‬ولكنها تحتاج في عمارتها إلى أدوات ومواد الحضارة من‬
‫حديد وبترول ومنجنيز وغير ذلك من كنوز الرض التي تقوم عليها الحضارة‪.‬‬

‫إننا نجد هذه الخيرات مكنوزة إما في الجبال وإما في الصحاري‪ .‬ولكن كل خير من هذه الخيرات‬
‫له ميعاد‪ ،‬وله ميلد‪ ،‬وانت لو قست ووزنت الخيرات الموجودة في أي مثلث هرمي من الرض‬
‫من مركزها إلى محيطها‪ ،‬وقارنتها بوزن قياس الخيرات الموجودة في مثلث هرمي آخر مساوٍ له‬
‫من الكرة الرضية نفسها‪ ،‬لوجدت الخيرات متساوية في كل من المثلثين‪ .‬ولكن لكل لون من هذه‬
‫شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائُِن ُه َومَا نُنَزُّلهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }[الحجر‪.]21 :‬‬
‫الخيرات ميلد وميعاد‪ {.‬وَإِن مّن َ‬
‫فما يقال له شيء‪ ،‬فإن له خزانة عند ال يُنْ ِزلُ منها سبحانه بقَدَر‪ .‬ونرى ذلك من قمة الوجود‪،‬‬
‫وهو العقل‪ ،‬إن العقل شيء‪ ،‬وله خزائن عند ال‪ ،‬فما كان موجودا من أفكار من عشرة قرون لدى‬
‫البشرية جميعا ل يقاس بكمية الفكار التي يمتلكها‪ .‬العقل الجمعي للعالم الن‪ ،‬ذلك أن كل جيل قد‬
‫استفاد مقدمات من أفكار الجيل السابق له ليصل إلى نتاج جديد‪ .‬إذن فهناك خزائن للفكار‬
‫وللخواطر‪ .‬وكذلك كل شيء في الوجود له عند ال خزائن ل ينزل منها إل ِبقَدَر معلوم‪ } :‬وَإِن‬
‫شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ َومَا نُنَزُّلهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ {‪.‬‬
‫مّن َ‬
‫وساعة يرى الحق أن يظهر ميلد سر ما‪ ،‬فهو سبحانه يهيء السباب لذلك‪ .‬وعلى سبيل المثال ‪-‬‬
‫ول المثل العلى ‪ -‬كنا قديما نقطع الخشاب من الشجار لنصنع منها وقودا‪ ،‬وكنا بعد أن نقطع‬
‫الخشاب نخشى عليها من الفساد‪ ،‬لذلك وضع الحق بعضا من إلهاماته للعقل البشري حتى‬
‫يستطيع تحويل الخشب إلى فحم ليضمن النسان صيانة الخشب‪ ،‬وليضمن وجود مصدر للطاقة‬
‫هو الفحم النباتي‪ .‬ومن بعد ذلك اكتشف النسان الفحم الحجري‪ .‬ومن بعد ذلك اكتشفنا البترول‪،‬‬
‫كل ذلك من خيرات الطاقة كان مكنوزا في الرض‪ ،‬ولم يكتشفه النسان إل بعد أن أعطاهم ال‬
‫الستعداد لستقبال هذا الخير‪ ،‬وسيظل عطاء ال قائما إلى أن تقوم الساعة‪ .‬فمع الفحم دخلنا‬
‫عصر البخار‪ ،‬ثم دخلنا عصر الكهرباء‪ ،‬ثم دخلنا عصر الذرة‪.‬‬
‫وكل هذه الشياء كان لكل منها ميلد‪ ،‬ولكل منها مكان في خزائن ال‪ ،‬وعندما ينزل ال أي‬
‫خاطر من الخواطر على عبد من عباده فإن العبد يأخذ بالسباب ويكتشف ميلد السر المكنوز‪.‬‬
‫وكل لحق يأخذ من خير السابق ويبني عليه‪ .‬وهكذا ينمو الخير دائما‪.‬‬
‫والشياء في خزائن ال إما أن تكون مطمورة وإما تكون محكمة إحكاما رقميا‪ ،‬وعلى سبيل‬
‫المثال‪ ،‬هذا هو الراديوم الذي اكتشفته " السيدة كوري " أظهره ال على يديها في وقت الحاجة‬
‫إليه‪ .‬وكان العلماء قبل اكتشاف الراديوم يعلمون أن هناك عنصرا لم يعرفوه له تركيب ذري‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫معين؛ لن عناصر الكون مصنوعة بحكمة جليلة كبيرة‪.‬‬

‫وقد ينزل الشيء شائعا في غيره‪ ،‬ومثال ذلك أن تقطف وردة وتستمتع بأريجها وجمال منظرها‬
‫إلى أن تذبل‪ ،‬وقد يغيب عنك أن الوردة مكونة من تركيب معين‪ ،‬فالرطوبة هي التي تعطي الوردة‬
‫نضارة‪ ،‬وكل شيء في الوردة هو من مادة الرض‪ ،‬وعندما تذبل الوردة فهي تعود إلى عناصر‬
‫الرض بعد أن تتبخر منها المياه وتذهب كبخار مع غيرها من المتبخرات إلى السحاب الذي‬
‫تحركه الرياح فيسقط مطرا‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن قطرات المياه التي كانت في الوردة تبخرت وانضمت إلى السحاب‪ ،‬قد عادت مرة‬
‫أخرى إلى الرض من خلل المطر‪ ،‬ومادة الماء نفسها لم تزد ولم تنقص منذ أن خلق ال الخلق‬
‫في هذا الكون‪ ،‬ونحن ننتفع بهذا الماء‪ ،‬وعندما ينتهي انتفاع إنسان بجزء من المياه فالماء يعود من‬
‫خلل عمليات أرادها ال إلى خزانة الماء في الكون‪ .‬وليسأل النسان منا نفسه‪ :‬كم طنا من الماء‬
‫قد شربته في حياتك؟ وستجد أنك قد شربت وانتفعت بمئات أو بآلف من الطنان‪ ،‬وخرج منك‬
‫الماء في شكل عرق أو بول أو مخاط‪ ،‬أو غير ذلك‪ .‬وكم بقي من الماء في جسمك؟‬
‫إنها نسبة قد تزيد على تسعين بالمائة من وزن جسمك أيا كان الوزن‪ ،‬ومن بعد أن يأتي أجلك كما‬
‫قدره ال‪ .‬فتتبخر كمية المياه التي في هذا الجسم لتنضم إلى السحاب ثم تنزل مع المطر‪ .‬إذن‬
‫فكمية المياه لم تنقص في الكون ولم تزد‪ .‬وهذا ما نسميه الرزق المخزون بالتحول‪ ،‬تماما كما‬
‫تبخرت كمية المياه التي في الوردة‪ ،‬وتبخرت رائحتها في الجو وكذلك مادتها الملونة ذابت في‬
‫الرض‪ .‬وساعة نزرع شجرة ورد تأخذ كل وردة لونها من المواد الملونة المخزونة في الرض‪.‬‬
‫إذن فكل شيء إما مخزون بذاته في خزائن ال‪ ،‬وإما مخزون بعناصره المحولة إلى غيره‪ .‬وكل‬
‫الوجود على هذا الشكل‪ .‬وحركة الحياة هي بين الثنين‪.‬‬
‫إن النسان ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬من لحم ومن دم‪ ،‬والبقرة أيضا من لحم ودم‪ ،‬ويموت النسان‬
‫ليعود إلى الرض‪ ،‬ويستفيد النسان من الحيوان‪ ،‬وتعود كل مادة الحيوان إلى الرض‪ .‬وتدخل‬
‫العناصر في دورة جديدة‪ .‬إذن هي خزائن للحق‪ ،‬إما محولة‪ ،‬وإما خزائن حافظة؛ فالشيء الذي‬
‫نستنبطه بحالته هو في خزائن حافظة‪ ،‬والشيء الذي يدور في غيره ويرجع إلى الصل هو في‬
‫خزائن محولة‪.‬‬
‫ومن رحمة الحق بالخلق أنه لم يملك خزائن الرض أو السماوات لحد من البشر حتى ل يستعلي‬
‫إنسان على آخر‪ .‬ولم يعط الحق حتى للرسل أي حق للتصرف في هذه الخزائن؛ لن الرسل بشر‪،‬‬
‫وقد احتفظ الحق لنفسه بخزائن الرض والسموات ليطمئننا على هذه الخزائن‪ .‬ولذلك يقول الحق‬
‫ق َوكَانَ النْسَانُ قَتُورا }‬
‫خشْيَ َة الِ ْنفَا ِ‬
‫سكْتُمْ َ‬
‫حمَةِ رَبّي إِذا لمْ َ‬
‫سبحانه‪ {:‬قُل ّلوْ أَنْ ُتمْ َتمِْلكُونَ خَزَآئِنَ َر ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[السراء‪.]100 :‬‬
‫الحق سبحانه يعلم أن النسان مطبوع على الحرص الشديد أو البخل‪ ،‬وهو سبحانه الغني الكريم؛‬
‫لذلك ينزل ما يشاء من خزائنه لعباده حتى ينتفعوا‪ .‬ولم يدع الرسول صلى ال عليه وسلم الخزائن‬
‫لنفسه‪ ،‬فكيف يطالبه المشركون بما في خزائن ال‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم يوضح ذلك ويوضح‬
‫أيضا أنه ل يعلم الغيب‪ } :‬قُل لّ َأقُولُ َلكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَل أَعَْلمُ ا ْلغَ ْيبَ { [النعام‪.]50 :‬‬
‫وهو بذلك صلى ال عليه وسلم ينفي عن نفسه أي صفة من صفات اللوهية؛ لن الخزائن الكونية‬
‫هي في يد ال‪ ،‬وكذلك ينفي عن نفسه علم الغيب‪ .‬ولقائل أن يقول‪ :‬ولكن ماذا عن الشياء‬
‫والحداث التي كان يخبرنا بها سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬وهي أحداث مستقبلية؟‬
‫ونقول‪ :‬إن ذلك ليس علما الغيب‪ ،‬ولكن الرسول صلى ال عليه وسلم ُمعَلّم غيب‪ ،‬أي أن ربنا‬
‫ك َومَا‬
‫سبحانه وتعالى قد علمه‪ ،‬ومثال ذلك قول القرآن الكريم‪ {:‬ذاِلكَ مِنْ أَنَبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَي َ‬
‫صمُونَ }[آل عمران‪.]44 :‬‬
‫ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْيَمَ َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ يَخْ َت ِ‬
‫كُنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يُ ْلقُون َأقْ َ‬
‫إن الحق سبحانه هو الذي علّم رسوله صلى ال عليه وسلم تلك الخبار التي كانت من أنباء‬
‫ظهِرُ عَلَىا غَيْ ِبهِ أَحَدا * ِإلّ مَنِ‬
‫الغيب‪ ،‬ويحسم الحق هذه المسألة عندما يقول‪ {:‬عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ‬
‫خ ْلفِهِ َرصَدا }[الجن‪.]27-26 :‬‬
‫ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ فَإِنّهُ يَسُْلكُ مِن بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ َ‬
‫فسبحانه وتعالى هو وحده عالم الغيب‪ ،‬ول يُطْلِع أحدا من خلقه على الغيب‪ .‬إل الرسول الذي‬
‫يرتضيه ال ليخبره ببعض من الغيب‪ ،‬ويحفظ الحق رسوله في أثناء ذلك بملئكة حفظة تحميه من‬
‫تعرض الجن لما يريد إطلعه عليه لئل يسترقوه ويهمسوا به إلى الكهنة قبل أن يبلغه الرسول‬
‫وحتى يصل الوحي إلى الناس خالصا من تخليط الجن وعبثهم‪.‬‬
‫إذن فالرسول ُمعَلّم غيب وليس عالم غيب‪ .‬والغيب ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬هو ما غاب عن الحس‪ ،‬ولم‬
‫توجد له مقدمات تدل عليه‪ ،‬فهناك أشياء تغيب عنك ولكن لها مقدمات‪ ،‬فإن التزمت بالمقدمات من‬
‫بدايتها يمكنك أن تصل إلى النتيجة‪ .‬مثال ذلك‪ :‬إن أعطيت تلميذا مسألة حسابية ليقوم بحلها‪،‬‬
‫وعندما يحل التلميذ هذه المسألة فهو لم يعلم الغيب‪ ،‬ولكنه أخذ المقدمات والمعطيات‪ ،‬وبحث عن‬
‫المطلوب‪ ،‬وأخذ يرتب المعلومات ليستنبط منها النتيجة‪.‬‬
‫وكذلك حال الذين اكتشفوا أسرارا في الوجود‪ ،‬أعلموا غيبا؟ ل ‪ ،‬إنهم فقط استخدموا بعضا من‬
‫المقدمات التي كانت موجودة أمامهم في الكون‪ ،‬وتوصلوا إلى نتائج جديدة‪ ،‬صحيح أن هذه النتائج‬
‫كانت غائبة عنا‪ ،‬ولكن مقدماتها كانت موجودة‪ ،‬وكذلك كل النظريات الهندسية‪ ،‬كل نظرية نجدها‬
‫تعتمد على سابقتها‪ ،‬وكل نظرية ‪ -‬حتى أعقدها وأصعبها ‪ -‬هي ملحظة لمر بدهي في الكون‪.‬‬

‫وكل علم من العلوم له مقدمات إن بحث فيها باحث فإنه يصل إلى النتائج الجديدة‪ ،‬وهذا ما نسميه‬
‫" غيبا إضافيا " ‪ ،‬أي كان غيبا في وقت ما لكنه غير غيب في وقت آخر‪ ،‬ولذلك يُنسب هذا العلم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْل ِمهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ }[البقرة‪:‬‬
‫إلى البشر دائما‪ ،‬ولنقرأ قول الحق سبحانه‪ {:‬وَلَ ُيحِيطُونَ بِ َ‬
‫‪.]255‬‬
‫والحاطة بالعلم كلها ل‪ ،‬وهو سبحانه الذي يأذن لبعض من خلقه بالحاطة ببعضٍ من هذا العلم‪،‬‬
‫وكل سر من أسرار هذا الكون ل يولد إل بإذن منه سبحانه وتعالى‪ ،‬وهو سبحانه يوفق العلماء أن‬
‫يبحثوا في المقدمات ليصلوا إلى النتائج‪ .‬ولكن ماذا عن العلم الذي ل توجد له مقدمات؟ هذا من‬
‫الغيب المطلق الذي ل يظهره الحق لحد إل لمن ارتضى من رسول‪.‬‬
‫أقول ذلك حتى ل يخطئ أحدنا فيظن أن إخبار إنسان لنسان بمصير شيء ضاع منه هو معرفة‬
‫للغيب‪ ،‬فقد يكون هذا غيبا بالنسبة لصاحب الشيء الضائع‪ ،‬ولكنه ليس غيبا بالنسبة للص الذي‬
‫سرقه‪ ،‬ول هو غيب بالنسبة للشخص الذي أخفى المسروقات‪ ،‬ول هو غيب بالنسبة للجان‬
‫المحيطين باللص‪ ،‬إذن فهذا ليس غيبا مطلقا‪ ،‬ولكنه غيب معلوم للغير‪ .‬إذن فخزائن الحق سبحانه‬
‫وتعالى ملى بكل أنواع الخير التي تؤدي للنسان مهمة البقاء في الرض سواء من جهة‬
‫ب وَل َأقُولُ َلكُمْ إِنّي مََلكٌ { [النعام‪.]50 :‬‬
‫الضرورات أو الشياء الترفية‪ } .‬وَل أَعَْلمُ ا ْلغَ ْي َ‬
‫إذن فالرسول صلى ال عليه وسلم ينفي عن نفسه بقول الحق ثلثة أشياء‪ :‬منها شيئان ينفيان‬
‫اللوهية عن الرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهي ملكية خزائن الكون‪ ،‬وعلم الغيب‪ ،‬وشيء ثالث‬
‫وهو أنه ليس مَلَكا‪ ،‬فهل يعني ذلك أن المََلكَ أرفع من النبي؟ ل‪ ،‬ولكنهم قالوا له‪ :‬إنما يمشي في‬
‫السواق ويتكسب العيش بالعمل‪ ،‬والمَلَك ل يفعل ذلك‪ .‬ولكن الرسول بالطبع أرقى منزلة من‬
‫ك الملوك‪ ،‬وهو الحق سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫المَلَك؛ لنه يقوم بهداية النس والجن ويتبع ما يوحيه إليه مِل ُ‬
‫} إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَىاإَِليّ {‪.‬‬
‫إنه من فرط ارتفاعه في الصدق المبلغ عن ال يعلن حقيقته صلى ال عليه وسلم بأنه من البشر‪،‬‬
‫والبشر ابن أغيار‪ ،‬ويعلم شيئا‪ ،‬ويجهل شيئا‪ ،‬ومن مصلحة المرسل إليهم أن يكون الرسول متبعا‬
‫ل مبتدعا‪ ،‬ذلك أنه ينقل لهم تكاليف الخالق بألفاظها ل أفكار البشر التي قد تتغير أو تتبدل‪ .‬فلو‬
‫ابتدع لبتدع في إطار بشريته‪ ،‬وفي ذلك نزول ل ارتقاء‪ ،‬لكنه في التباع يأتي بالرتقاء للبشر؛‬
‫لنه يتبع ما أوحى به الله الذي اصطفاه رسولً‪ .‬ولذلك كانت المية في رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم شرفا له ولنا‪ .‬أما ُأمّيّة النسان العادي فهي عيب‪ ،‬إنما ُأمّيّة محمد صلى ال عليه وسلم‬
‫هي الكمال‪.‬‬
‫و " ُأ ّميّ " ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬تعني أنه كما ولدته أمه‪ ،‬لم يأخذ ثقافة ولم يتعلم من أحد من البشر‪ ،‬لكن‬
‫علمه وثقافته فوقية كلها‪.‬‬

‫إن ذلك وحي من ال‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم عندما يعلن أنه نبي أمي‪ ،‬فهذا معناه أنّ كل ما‬
‫دخل في ذهنه لم يأخذه عن أحد من خلق ال‪ ،‬وإنما كل ما جاء إلى هذا الذهن قد أخذه رسول ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عن ال‪ .‬وهكذا تكون أميته شرفا لنا‪ ،‬ولكن المية فينا ‪ -‬نحن المسلمين ‪ -‬تختلف يجب أن نعمل‬
‫جميعا على القضاء عليها‪ } :‬إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَىا إَِليّ {‪ .‬والرسول صلى ال عليه وسلم ل ينطق‬
‫عن الهوى بل يبلغ ما جاء به الوحي‪.‬‬
‫عمَىا وَالْ َبصِيرُ َأفَلَ تَ َتفَكّرُونَ { [النعام‪.]50 :‬‬
‫ويذيل الحق الية بقوله‪ُ } :‬قلْ َهلْ َيسْ َتوِي الَ ْ‬
‫وساعة يأتي الحق بقضية يستخدمها كمثل‪ ،‬فل بد أن يأتي بقضية متفق عليها حتى من الخصوم‬
‫المواجهين له؛ فهم يعرفون أن العمى ل يستوي مع البصير‪ ،‬تماما مثلما ل يستوي الظل‬
‫والحرور أو الظلمات والنور‪ .‬إن الفطرة ل تقبل الخلف في هذه المور‪ .‬والعمى ‪ -‬كما نعرف‬
‫‪ -‬هو عدم الرؤية لمن مِن شأنه وحاله أن يرى‪ ،‬فل يقول إنسان عن حجر‪ :‬إن الحجر أعمى؛ لن‬
‫الحجار ل تبصر‪.‬‬
‫إذن ل نقول العمى إل كوصف لمن يفترض فيه أن يرى‪ .‬وماذا تفعل عدم الرؤية في المر‬
‫المحس؟ إن عدم الرؤية يؤذي النسان لنه كائن متحرك‪ .‬فقد يقع في حفرة أو يصطدم بشيء‬
‫يؤذيه‪ ،‬وبإقرار الجميع نعرف أن العمى تضطرب حركته ويتعرض للمتاعب‪ ،‬والذي يحمي‬
‫النسان من ذلك أن يكون مبصرا أو مستعينا بمن يبصر حتى يمكن أن يستقبل المرئيات‪.‬‬
‫وكان العلماء قديما يظنون أن البصار هو نتيجة خروج شعاع من العين ليذهب إلى الشيء‬
‫المرئي ونقض هذه القضية عالم إسلمي هو ابن الهيثم الذي علم العلماء أن الشعاع إنما يخرج من‬
‫المرئي إلى عين الرائي بدليل أن الشيء المرئي ل يراه النسان في الظّلم‪ .‬والعمى يمنع العين‬
‫من استقبال الشعاع‪ ،‬ول يختلف أحد في أن العمى مهلك وضار ومتعب‪ ،‬والبصار مريح‪ .‬وكأن‬
‫الحق يقول للخلق‪ :‬إياكم أن تظنوا أن حياتكم كلها تعتمد على المحيط المحس‪ ،‬ل‪ ،‬إن هناك قيما‬
‫إن لم يعرفها النسان فهو يتعثر ويضطرب ويتخبط‪.‬‬
‫إذن فمنهج السماء قد جاء ليهدي النفس البشرية إلى القيم‪ ،‬كما يهدي النور الحسي النسان إلى‬
‫المحسات‪ .‬فإذا كان البصر هو وقاية للنسان لتفادي العقبات‪ ،‬فكذلك المنهج هو الذي يبين للنسان‬
‫أل يصطدم بالعقبات في المور المعنوية‪ .‬والنسان يحيا بقيمه‪ ،‬بدليل أن العمى قد يجد من يقوده‬
‫من المبصرين‪ ،‬ولكنه قد ل يجد هدايته في هداية مهتد‪ .‬إذن فالنسان قد يستغني عن البصر‪،‬‬
‫ولكنه ل غنى له عن الهدى؛ لن الضلل سيصيبه‪ ،‬والضلل في القيم أبلغ وأشد قسوة من‬
‫الضلل في المور المحسّة‪.‬‬

‫عمَىا وَالْ َبصِيرُ َأفَلَ تَ َت َفكّرُونَ { هناك تفكر‪ ،‬وتذكر‪ ،‬وتدبر‪ .‬التفكر هو شغل‬
‫} ُقلْ َهلْ يَسْ َتوِي الَ ْ‬
‫العقل ابتداء بأمر ظاهر‪ ،‬يريد أن يستنبط منه شيئا‪ .‬وعندما يقول إنسان لخر‪ :‬فكر في هذا‬
‫المر‪ ..‬أي أدر عقلك في كل ما يتعرض لهذا المر‪ .‬والذي يطلب من آخر التفكير في هذا المر‬
‫كأنه واثق من أن الذي يتفكر في أمر لن يصل إل إلى الرأي الذي قاله من عرض عليه التفكير‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأما التذكر فهو أن يصل النسان إلى حكم انتهى إليه بالتفكر ثم نسيه‪ ،‬ويأتي من يلفت الذهن إلى‬
‫ذلك الحكم الذي انتهى منه فكريا‪.‬‬
‫إذن فالفكر يأتي بحكم َأوَلِيّ ناضج‪ ،‬والتذكر يأتي بحكم كان معلوما للنسان ولكنه غفل عنه‪ .‬أما‬
‫التدبر فهو أل يكتفي النسان بالنظر إلى واجهة المور ولكن إلى ما وراء ذلك أيضا؛ لن كل‬
‫شيء له واجهة‪ ،‬وقد تخفى الواجهة ما خلفها‪ ،‬لذلك يطلب الحق من النسان أن ينظر إلى أعقاب‬
‫الشياء وأقفائها‪ ،‬أي يدير المر على كل جهاته ول يكتفي بالنظر إلى واجهاتها‪ ،‬مثلما يشتري‬
‫النسان شيئا من تاجر أمين‪ ،‬ويعرض التاجر على المشتري مواصفات الشيء بأمانة ويطلب منه‬
‫أن يختبر الشيء حسب مواصفاته‪ ،‬لكن التاجر الغشاش يحاول أن يخفي المواصفات لنه يريد‬
‫خداع المشتري‪.‬‬
‫وعندما يطلب الحق منا أن التفكر والتذكر والتدبر إنما يوقظ فينا المقاييس الحقيقية التي نصل بها‬
‫إلى المطلوب الذي يريده ال‪ .‬ولذلك يقول الحق‪ } :‬وَأَنذِرْ ِبهِ الّذِينَ َيخَافُونَ‪{ ...‬‬

‫(‪)832 /‬‬

‫شفِيعٌ َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ (‪)51‬‬


‫ي وَلَا َ‬
‫حشَرُوا إِلَى رَ ّب ِهمْ لَيْسَ َل ُهمْ مِنْ دُونِ ِه وَِل ّ‬
‫وَأَنْذِرْ بِهِ الّذِينَ َيخَافُونَ أَنْ يُ ْ‬

‫أي أنذر بالوحي ‪ -‬الذي تتبعه ‪ -‬هؤلء الذين يخشون يوم اللقاء مع ال‪ .‬والنذار ‪ -‬كما نعلم ‪-‬‬
‫هو إعلم بشيء مخيف قبل وقوعه لنتفادى أن يقع‪ .‬وما المراد بهؤلء الذين يطلب الحق من‬
‫رسوله إنذارهم بالوحي‪ ،‬في أول السلم كان إقبال بعض المؤمنين على العمل اليماني ضعيفا‪،‬‬
‫وما دام في قلوبهم إيمان‪ ،‬ويخشون لقاء ال فالوحي إنذار لهم بضرورة العمل اليماني الجاد‪ .‬كما‬
‫يجوز أن يكون النذار بالوحي لهل الكتاب؛ لنهم يعرفون أن هناك يوما آخر سيلقون فيه ال‪.‬‬
‫وقد يكون النذار لنسان يؤمن بالبعث ولكنه يشك في النبياء وشفاعتهم‪ ،‬فهذا الصنف قد يحمله‬
‫التخويف والنذار إلى أن يعيد النظر في قضية اليمان ويتقبل النبأ الصدق الذي جاء به رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ولنا أن نأخذ النذار بالوحي على أي وجه من الوجوه السابقة‪ .‬ولكن هل يخاف المؤمن أن يحشر‬
‫إلى ال؟ ل‪ .‬إن المؤمن إنما يخاف أن يحشر مجردا من الولي والناصر‪ .‬إذ في الحقيقة ليس هناك‬
‫شفَعُ عِنْ َدهُ ِإلّ‬
‫أحد يحمي وينصر من ال‪ ،‬ول شفيع يخلص من عذاب ال إل بإذنه { مَن ذَا الّذِي يَ ْ‬
‫بِإِذْنِهِ } وهذا ما يعتقده المؤمنون‪.‬‬
‫شفِيعٌ ّلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ } [النعام‪.]51 :‬‬
‫ي وَلَ َ‬
‫وقد حدد الحق ذلك في قوله‪ { :‬لَيْسَ َلهُمْ مّن دُونِ ِه وَِل ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنهم هم المؤمنون الذين آمنوا بال‪ ،‬وبرسوله ولكنهم قصروا في بعض المطلوبات والتكاليف التي‬
‫ن وََأصْلَحَ }‬
‫ينطوي عليها قوله الحق‪َ { :‬فمَنْ آمَ َ‬
‫هؤلء المؤمنون عندما يجيئهم النذار فهم قد يصلحون من أمورهم خوفا من الحشر بدون ولي‬
‫ول شفيع‪ .‬المؤمن ‪ -‬إذن ‪ -‬له أمل أن يكون يوم الحشر في ولية ال ورحمته‪ ،‬وهؤلء هم من‬
‫ل صَالِحا وَآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ‬
‫عمَ ً‬
‫قال عنهم الحق‪ {:‬وَآخَرُونَ اعْتَ َرفُواْ بِذُنُو ِبهِمْ خَلَطُواْ َ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }[التوبة‪.]102 :‬‬
‫عَلَ ْيهِمْ إِنّ اللّهَ َ‬
‫وإن كانت الية الكريمة تتناول وتشمل غيرهم من أهل الكتاب وتشمل وتضم أيضا الذين يؤمنون‬
‫بالبعث ولكنهم لم يتبعوا أنبياء‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪َ { :‬ولَ تَطْرُدِ الّذِينَ َيدْعُونَ‪} ...‬‬

‫(‪)833 /‬‬

‫شيْ ٍء َومَا مِنْ‬


‫جهَهُ مَا عَلَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِمْ مِنْ َ‬
‫شيّ يُرِيدُونَ وَ ْ‬
‫وَلَا تَطْ ُردِ الّذِينَ َيدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَدَاةِ وَا ْلعَ ِ‬
‫شيْءٍ فَ َتطْرُ َدهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ (‪)52‬‬
‫حسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مِنْ َ‬
‫ِ‬

‫نعرف أن الحق سبحانه وتعالى خلق النسان واستعمره في الرض‪ ،‬وجعله طارئا على هذا‬
‫الوجود الذي أودع ال له فيه كل ما يلزمه من مقومات حياته وإسعاده‪.‬‬
‫وأراد الحق من البشر أن يكون فيهم استطراق عبودي بحيث ل يوجد متعال على مستضعف‪ ،‬ول‬
‫يوجد طاغ على مظلوم‪ ،‬حتى تستقيم حركة الحياة استقامة يعطي فيها كل فرد على قدر ما هيئ له‬
‫من مواهب‪ .‬فإذا ما اختل ميزان الستطراق البشري ردهم الحق سبحانه وتعالى إلى دليل ل يمكن‬
‫أن يطرأ عليه شك‪ ،‬والدليل هو أنكم أيها البشر تساويتم في أصل الوجود من تراب‪ ،‬وتساويتم في‬
‫العودة إلى التراب‪ ،‬وتتساوون في موقفكم يوم القيامة للحساب‪ ،‬فلماذا تختلفون في بقية أموركم؟‬
‫إن التساوي يجب أن يوجد‪ .‬وها هوذا رسول ال صلى ال عليه وسلم يحرص أن تهتدي المة‬
‫وكان يكلف نفسه فوق ما يكلفه به ربه‪ ،‬فيعاتبه ربه لنه كان يشق على نفسه حرصا على إيمان‬
‫قومه‪.‬‬
‫وقد يظن بعض الناس أن عتاب ال لنبيه لتقصير‪ ،‬ونرد على هؤلء‪ :‬ليفهم النسان منكم هذا‬
‫اللون من العتاب على وجهه الحقيقي‪ ،‬فهناك فرق بين عتاب لمصلحة المعتاب‪ ،‬وعتاب للومه‬
‫وتوبيخه؛ لن المعاتَب خالف وعصى‪ ،‬ونضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬أنت في يومك‬
‫العادي إن نظرت إلى ابنك فوجدته يلعب ول يذهب إلى المدرسة ول يستذكر دروسه‪ ،‬فأنت تعاتبه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتؤنبه لنه خالف المطلوب منه‪ ،‬ولكنك إن وجدت ابنك يضع كل طاقته ويصرف ويقضي أوقات‬
‫راحته في المذاكرة‪ .‬فأنت تطلب منه ألّ يكلف نفسه كل هذا العناء‪ ،‬وتخطف منه الكتاب وتقول‬
‫له‪ :‬اذهب لتستريح‪ .‬أنت في هذه الحالة تلومه لمصلحته هو‪ ،‬فكأن اللوم والعتاب له ل عليه‪ .‬إذن‬
‫حلّ هذا الشكال الذي يقولون فيه‪ :‬إن ال كثيرا ما عاتب رسوله‪ ،‬ونوضح أن الحق قد عاتب‬
‫قد ُ‬
‫الرسول له ل عليه؛ لن الرسول وجد طريق اليمان برسالته يسيرا سيرا سهلً بين الضعفاء‪،‬‬
‫ولكنه شغل نفسه وأجهدها رجاء أن يتذوق المستكبرون المتجبرون حلوة اليمان‪ ،‬وجاء في ذلك‬
‫عمَىا * َومَا ُيدْرِيكَ َلعَلّهُ يَ ّزكّىا * َأوْ يَ ّذكّرُ فَتَن َفعَهُ‬
‫س وَ َتوَلّىا * أَن جَآ َء ُه الَ ْ‬
‫قول الحق‪ {:‬عَبَ َ‬
‫ال ّذكْرَىا * َأمّا مَنِ اسْ َتغْنَىا * فَأَنتَ لَهُ َتصَدّىا * َومَا عَلَ ْيكَ َألّ يَ ّزكّىا }[عبس‪.]7-1 :‬‬
‫إذن فالعتاب هنا لصالح من؟ إنه عتاب لصالح رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وحين يقول الحق‬
‫حلّ اللّهُ َلكَ تَبْ َتغِي مَ ْرضَاةَ‬
‫سبحانه وتعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ {:‬ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ ِلمَ تُحَرّمُ مَآ َأ َ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ }[التحريم‪.]1 :‬‬
‫ك وَاللّهُ َ‬
‫جَ‬‫أَ ْزوَا ِ‬
‫إن الية تشير إلى أمر أغضب النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفس‬
‫البشرية من أمور حللها ال‪.‬‬

‫والعتاب هنا أيضا لصالح رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬ولشدة حرصه صلى ال عليه وسلم‬
‫على هداية القوم أجمعين‪ ،‬كان يحب أن يعامل الطغاة بشيء من اللين ليتألف قلوبهم‪ .‬ولكن الطغاة‬
‫ل يريدون أن يتساووا مع المستضعفين‪ ،‬فقد مرّ المل من قريش ووجدوا عند رسول ال صلى ال‬
‫ت وصهيبا وبللً وعمارا وسلمان الفارسي وهم من المستضعفين‪،‬‬
‫عليه وسلم خبّاب بن الر ّ‬
‫فقالوا‪ :‬يا محمد رضيت بهؤلء من قومك؟ أهؤلء الذين منّ ال عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعا‬
‫لهؤلء؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك‪.‬‬
‫وكأنهم يقولون له‪ :‬إنك قد اكتفيت بهؤلء الضعفاء وتركتنا نحن القوياء ولن نجلس معك إل أن‬
‫تبعد هؤلء عنك لنجلس‪ ،‬فما كان من رسول ال صلى ال عليه وسلم ببديهية اليمان إل أن قال‪:‬‬
‫ما أنا بطارد المؤمنين‪ .‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم يعرف أن هناك من أمثالهم من قالوا‬
‫لغيره من النبياء مثل قولهم‪ .‬فقد قال قوم نوح عليه السلم له ما حكاه القرآن الكريم‪َ {:‬فقَالَ ا ْلمَلُ‬
‫ي َومَا‬
‫الّذِينَ َكفَرُواْ مِن ِق ْومِهِ مَا نَرَاكَ ِإلّ بَشَرا مّثْلَنَا َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَا ِديَ الرّ ْأ ِ‬
‫ضلٍ َبلْ نَظُّن ُكمْ كَاذِبِينَ }[هود‪.]27 :‬‬
‫نَرَىا َلكُمْ عَلَيْنَا مِن َف ْ‬
‫وحاول بعض من أهل الكفر أن يعرضوا موقفا وسطا على رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬
‫فقالوا‪ :‬إذا نحن جئنا فأقمهم من عندك لنجلس معك فإذا قمنا من عندك فاجعلهم يجلسون‪ .‬ووجد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم في هذا الرأي حل وسطا يمكن أن يقرب بين وجهات النظر‪،‬‬
‫واستشار صلى ال عليه وسلم عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬فقال عمر‪ :‬لو فعلت حتى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ننظر ما الذي يريدون‪ .‬وطالب أهل الكفر من أثرياء قريش أن يكتب لهم رسول ال كتابا بذلك‪،‬‬
‫شيّ‬
‫وجيء بالدواة والقلم‪ ،‬وقبل الكتابة نزل قول ال‪ } :‬وَلَ َتطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫شيْءٍ فَتَطْرُ َدهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ‬
‫حسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مّن َ‬
‫شيْ ٍء َومَا مِنْ ِ‬
‫علَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِم مّن َ‬
‫جهَهُ مَا َ‬
‫ن وَ ْ‬
‫يُرِيدُو َ‬
‫الظّاِلمِينَ { [النعام‪.]52 :‬‬
‫ورمى رسول ال صلى ال عليه وسلم بالصحيفة التي جيء بها ليكتبوا عليها كلما يفصل بين‬
‫جلوس سادة قريش إلى مجلس رسول ال وجلوس الضعفاء أتباع رسول ال‪ .‬والنبي ‪ -‬صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ -‬إنما مال إلى ذلك من الكتابة طمعا في إسلم هؤلء المشركين وإسلم قومهم‬
‫بإسلمهم رحمة بهم وشفقة عليهم‪ ،‬ورأى ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬أن ذلك ل يفوت أصحابه شيئا‬
‫ول ينقص لهم قدرا فمال إليه فأنزل ال الية ونهاه عما همّ به من الطرد‪ ،‬ل لنه ‪ -‬صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ -‬قد أوقع ذلك وطردهم وأبعدهم‪ ،‬ثم دعا بعد ذلك بالضعفاء فأتوه‪.‬‬

‫وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل ذلك يجلس مع المستضعفين‪ ،‬وإن أحب ‪ -‬صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ -‬أن يقوم من المجلس قام‪ ،‬ولكن ال أراده أن يكرم هؤلء القوم المستضعفين بعد أن‬
‫نهاه عن طردهم‪ ،‬وأن يكرمهم سبحانه بما أُهيجوا فيه‪ ،‬وجاء أمر إلهي آخر بأل يقوم رسول ال‬
‫سكَ َمعَ الّذِينَ‬
‫من مجلسه مع المستضعفين حتى يقوموا هم‪ ،‬فقال الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَاصْبِرْ َنفْ َ‬
‫جهَ ُه َولَ َتعْدُ عَيْنَاكَ عَ ْنهُمْ تُرِيدُ زِي َنةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َولَ تُطِعْ‬
‫ن وَ ْ‬
‫شيّ يُرِيدُو َ‬
‫يَدْعُونَ رَ ّبهُم بِا ْل َغدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫غفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ِذكْرِنَا وَاتّبَعَ َهوَا ُه َوكَانَ َأمْ ُرهُ فُرُطا }[الكهف‪.]28 :‬‬
‫مَنْ أَ ْ‬
‫وعندما نزلت هذه الية قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬الحمد ل الذي جعل في أمتي من أمرني أن‬
‫أصبر نفسي معهم "‪.‬‬
‫وبهذا القول الكريم أراد الحق سبحانه وتعالى إكرام الضعفاء والمستضعفين‪ .‬ويقول سلمان‬
‫الفارسي وخباب بن الرت فينا نزلت‪ ،‬فكان ‪ -‬رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬يقعد معنا ويدنو‬
‫سكَ مَعَ الّذِينَ‬
‫منا حتى تمس ركبتنا ركبته‪ ،‬وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت‪ } :‬وَاصْبِرْ َنفْ َ‬
‫يَدْعُونَ رَ ّبهُم { فترك القيام عنا إلى أن نقوم فكنا نعرف ذلك ونعجله القيام‪ .‬أي أنهم هم الذين كانوا‬
‫شيّ‬
‫يقومون أولً من مجلس رسول ال‪ ،‬فقول الحق‪َ } :‬ولَ تَطْ ُردِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْل َغدَا ِة وَا ْلعَ ِ‬
‫جهَهُ { هذا هو قول ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أمر به رسول ال ومأمور به كذلك كل إنسان من‬
‫ن وَ ْ‬
‫يُرِيدُو َ‬
‫بعد رسول ال‪ ،‬وفي هذا قمة التكريم للدائمين على ذكر ال من المستضعفين؛ لنهم أهل محبة‬
‫اليمان وهم الذين سبقوا إليه‪.‬‬
‫وها هوذا أحد خلفاء المسلمين وقد جاءه صناديد العرب الذين أسلموا‪ ،‬واستأذنوا في الدخول إليه‪،‬‬
‫فلم يأذن لهم حتى أذن لضعفاء المسلمين‪ .‬فورم أنف كل واحد من هؤلء الصناديد وقالوا‪:‬‬
‫‪ -‬أيأذن لهؤلء ويتركنا نحن؟ لقد صرنا مسلمين‪ .‬فقال قائل منهم يفهم ويفقه أمر الدين‪ :‬أكلكم ورم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنفه أن يؤذن لهؤلء قبلكم‪ ،‬لقد دعوا فأجابوا‪ ،‬ودعيتم فتباطأتم‪ ،‬فكيف بكم إذا دعوا إلى دخول‬
‫الجنة وأُبطئ دخولكم‪.‬‬
‫إنّ هؤلء الضعفاء يريدون بالطاعة وجه ال‪ ،‬وكلمة " وجه ال " تدل على أن اليمان قد أُشْرِب‬
‫في قلوبهم‪ ،‬وأنهم جاءوا إلى اليمان فِرارا بدينهم من ظلم الظالمين وطغيان الطغاة الذين كانوا‬
‫يريدونهم على الكفر والضلل‪ .‬إنهم قد حل لهم اليمان‪ ،‬وحل لهم وجه ال‪ ،‬وحل لهم أن يؤجل‬
‫لهم كل الثواب إلى الخرة‪.‬‬
‫جهَهُ { فهذا وصف ل بأنّه ‪ -‬جل شأنه ‪ -‬له وجه‪ ،‬ونطبق في‬
‫ن وَ ْ‬
‫وحين نسمع قول الحق‪ } :‬يُرِيدُو َ‬
‫هذه الحالة ما نطبقه إذا سمعنا وصفا ل‪ ،‬إننا نأخذ الوصف في إطار قوله الحق‪ } :‬لَيْسَ َكمِثْلِهِ‬
‫شيْءٌ {‪.‬‬
‫َ‬

‫ويطلق الوجه ويراد به الذات‪ ،‬لن الوجه هو السمة المميزة للذوات‪ .‬فأنت إن قابلت أناسا قد‬
‫غطوا وجوههم واستغشوا ثيابهم وستروا بها رءوسهم فلن تستطيع التمييز بينهم‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬فلن قابل وجوه القوم‪ .‬أي التقى بالكبار في القوم‪ .‬والحق سبحانه وتعالى يقول‪ُ } :‬كلّ‬
‫شيْءٍ { وفي هذا القول‬
‫ج َههُ { ‪ ،‬ويقول الحق سبحانه‪ } :‬مَا عَلَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِم مّن َ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ وَ ْ‬
‫َ‬
‫حرص على كرامة المستضعفين؛ فقد يقول قائل‪:‬‬
‫لقد استجار هؤلء الضعفاء بالدين حتى يفروا من ظلم الظالمين وليس حبا في الدين‪ ،‬فيوضح‬
‫الحق‪ :‬ليس هذا عملك‪ ،‬وليس لك إل أن تأخذ ظاهر أعمالهم وأن تكل سرائرهم إلى ال‪.‬‬
‫شيْءٍ فَ َتطْرُ َدهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ‬
‫حسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مّن َ‬
‫شيْ ٍء َومَا مِنْ ِ‬
‫} مَا عَلَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِم مّن َ‬
‫{ [النعام‪.]52 :‬‬
‫وكأن الحق يوضح لرسوله‪ :‬لو كان عليك من حسابهم شيء لجاز لك أن تطردهم‪ ،‬ولكن أنت يا‬
‫رسول ال تعلم أن كل واحد مجْزىّ بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر‪ ،‬وقد أنزل ال عليك القول‬
‫الحق‪ } :‬وَلَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَىا {‪.‬‬
‫إذن فلكل إنسان كتابه‪ .‬قد سطر وسجّل فيه عمله ويجازي بمقتضى هذا‪ ،‬ويقول الحق من بعد‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ‪{ ...‬‬
‫ذلك‪َ } :‬وكَذاِلكَ فَتَنّا َب ْع َ‬

‫(‪)834 /‬‬

‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ لِ َيقُولُوا أَ َهؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعَْلمَ بِالشّاكِرِينَ (‪)53‬‬
‫َوكَذَِلكَ فَتَنّا َب ْع َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نحن هنا أمام " بعضين "‪ :‬بعض قد استعلى أن يجتمع ببعض آخر مستضعف عند رسول أرسله‬
‫ال‪ .‬ويمتحن ال البعض بالفتنة‪ ،‬والفتنة هي الختبار‪ .‬إن بعضا من الناس يظن أن الفتنة أمر‬
‫مذموم‪ ،‬ل‪ ،‬إن الفتنة ل تذم لذاتها‪ ،‬وإنما تذم لما تؤول إليه‪ .‬فالختبار ‪ -‬إذن ‪ -‬ل يذم لذاته‪ ،‬وإنما‬
‫يذم لما يؤول إليه‪ .‬وتأتي الفتنة ليُرى صدق اليقين اليماني‪ ،‬وها هوذا الحق سبحانه وتعالى‬
‫سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن َيقُولُواْ آمَنّا وَهُمْ لَ ُيفْتَنُونَ * وََلقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ فَلَ َيعَْلمَنّ‬
‫يقول‪َ {:‬أحَ ِ‬
‫ن صَ َدقُو ْا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلكَاذِبِينَ }[العنكبوت‪.]3-2 :‬‬
‫اللّهُ الّذِي َ‬
‫إن الحق سبحانه يختبر مدى صدق النسان حين يعلن اليمان‪ ،‬إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يختبرهم بالمحن‬
‫والنعم‪ ،‬وقد اختبر الحق المم السابقة بالتكاليف والنعم والمحن ويظهر ويبرز إلى الوجود ما سبق‬
‫أن علمه سبحانه أزلً‪ ،‬ويميز أهل الصدق في اليمان عن الكاذبين في اليمان‪ .‬فمن صبر على‬
‫الختبار والفتنة فقد ثبت صدقه ويقينه‪ ،‬ومن لم يصبر فقد دّل بعمله هذا على أنه كان يعبد ال‬
‫على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ورضي‪ ،‬وإن أصابه شر وفتنة انقلب على وجهه ونكص‬
‫على عقبيه فخسر الدنيا والخرة‪.‬‬
‫إذن فالفتنة مجرد اختبار‪ .‬والوجود الذي نراه مبني كله على المفارقات‪ ،‬وعلى هذه المفارقات‬
‫نشأت حركة الحياة‪ .‬ويجب اليمان بقدر ال في خلقه؛ فهذا طويل‪ ،‬وذاك قصير‪ ،‬هذا أبيض‪،‬‬
‫وذاك أسود‪ ،‬هذا مبصر وذلك أعمى‪ ،‬هذا غني‪ ،‬وذلك فقير‪ ،‬هذا صحيح‪ ،‬وذلك سقيم‪ ،‬وذلك ليكون‬
‫كل نقيض فتنة للخر‪.‬‬
‫فالمريض ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬فتنة للصحيح‪ ،‬والصحيح فتنة للمريض‪ ،‬ويستقبل المريض قدر‬
‫ال في نفسه ول ينظر بحقد أو غيظ للصحيح‪ ،‬ولكن له أن ينظر هل يستعلي الصحيح عليه‬
‫ويستذله‪ ،‬أو يقدم له المساعدة؟ والفقير فتنة للغني‪ ،‬وهو ينظر إلى الغني ليعرف أيحتقره‪ ،‬أيحرجه‪،‬‬
‫أيستغله‪ ،‬والغني فتنة للفقير‪ ،‬يتساءل الغني أينظر إليه الفقير نظرة الحاسد‪ .‬أم الراضي عن عطاء‬
‫ال لغيره‪ .‬وهكذا تكون الفتن‪.‬‬
‫إن من البشر من هو موهوب هبة ما‪ ،‬وهناك من سلب ال منه هذه الهبة‪ ،‬وهذا العطاء وذلك‬
‫السلب كلهما فتنة؛ لنؤمن بأن خالق الوجود نثر المواهب على الخلق ولم يجعل من إنسان واحد‬
‫مجمع مواهب؛ حتى يحتاج كل إنسان إلى مواهب غيره‪ ،‬وليقوم التعاون بين الناس‪ ،‬وينشأ‬
‫الرتباط الجتماعي‪.‬‬
‫وعندما يخلق ال النسان بعاهة من العاهات فهو سبحانه يعوضه بموهبة ما‪ .‬هكذا نرى أن العالم‬
‫كله قد فتن ال بعضه ببعض‪ ،‬وكذلك كانت الجماعة المؤمنة فتنة للجماعة الكافرة‪ ،‬وكانت‬
‫الجماعة الكافرة فتنة لرسول ال‪ ،‬ورسول ال فتنة لهم فساعة يرى رسول ال الكفار وهم‬
‫يجترئون عليه ويقولون‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عظِيمٍ }[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ‬
‫{ َوقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ‬
‫يعرف أن هؤلء القوم يستكثرون عليه أن ينزل عليه هذا القرآن العظيم‪ ،‬وفي هذا القول فتنة‬
‫واخْتبار لرسول ال‪ ،‬وهو يصبر على ذلك ويمضي إلى إتمام البلغ عن ال ول يلتفت إلى ما‬
‫ل على قوة المعجزة الدالة على صدق رسالته‪.‬‬
‫يقولون‪ ،‬بل يأخذ هذا دلي ً‬
‫والجماعة التي استكبرت وطلبت طرد المستضعفين هم فتنة للمستضعفين‪ ،‬والمستضعفون فتنة‬
‫لهم‪ ،‬فلو أن اليمان قد اختمر في نفوس المستكبرين لما استكبروا أن يسبقهم الضعاف إلى اليمان‬
‫برسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫إذن فكلنا يفتن بعضنا بعضًا‪ .‬وكل إنسان عندما يرى موهوبا بموهبة ل توجد لديه فليعلم أنها فتنة‬
‫له وعليه أن يقبلها ويرضى بها في غيره‪ .‬وما عُبِدَ ال بشيء خيرا من أن يحترم خلق ال قدر ال‬
‫في بعضهم بعضًا‪ ،‬ولذلك يختبرنا الحق جميعا‪ ،‬فإن كنت مؤمنا بال فاحترم قدر ال في خلق ال‬
‫حتى يجعل ال غيرك من الناس يحترمون قدر ال فيك‪.‬‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ لّ َيقُولواْ أَهَـاؤُلءِ مَنّ اللّهُ عَلَ ْيهِم مّن‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪َ } :‬وكَذاِلكَ فَتَنّا َب ْع َ‬
‫بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعَْلمَ بِالشّاكِرِينَ { [النعام‪.]53 :‬‬
‫ووجه الفتنة هنا أن قومًا طلبوا طرد المستضعفين وقالوا كما حكى ال عنهم‪ } :‬أَهَـاؤُلءِ مَنّ اللّهُ‬
‫عَلَ ْيهِم مّن بَيْنِنَآ {؟ كأنهم تساءلوا عن المركز الجتماعي للمستضعفين من المؤمنين‪ ،‬ويأتيهم الرد‬
‫من ال‪ } :‬أَلَ ْيسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ {‪ .‬فسبحانه هو العليم أزلً بالبشر‪ ،‬ول يقترح عليه أحد ما‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ‬
‫يقرره‪ .‬وقد سبق للذين كفروا أن قالوا‪َ } :‬وقَالُواْ َلوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ‬
‫عَظِيمٍ {‪.‬‬
‫سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َت ُهمْ‬
‫ح َمتَ رَ ّبكَ نَحْنُ قَ َ‬
‫سمُونَ رَ ْ‬
‫وجاءهم الرد من الحق سبحانه وتعالى فقال‪َ {:‬أهُمْ َيقْ ِ‬
‫سخْرِيّا }[الزخرف‪.]32 :‬‬
‫ضهُم َبعْضا ُ‬
‫ضهُمْ َف ْوقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ َب ْع ُ‬
‫فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ‬
‫وهكذا نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لم يضع مفاتيح الرسالة في أيدي المشركين أو غيرهم‪،‬‬
‫ليوزعوا هم المور ويقوموا بتدبير المر‪ .‬بل هو سبحانه وتعالى الذي يوزع المواهب في البشر‬
‫رزقا منه ليعتمد كل إنسان على الخرين في مواهبهم التي يعجز عنها‪ ،‬ويعتمد عليها الخرون في‬
‫موهبته التي يعجزون عنها‪ .‬ومسألة النبوة هي اصطفاء إلهي يكبر ويسمو على كل مقامات الدنيا‪.‬‬
‫ويدل السياق إذن على أن بعضاَ من كبار العرب طلبوا أن يطرد رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بعضا من المستضعفين‪ ،‬فأراد ال أن يطمئن المستضعفين بشيء عجل لهم به في الدنيا وإن كان‬
‫قد جعله لبقية المؤمنين في الخرة‪ .‬لذلك يقول الحق‪ } :‬وَإِذَا جَآ َءكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ‪{ ...‬‬

‫(‪)835 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ع ِملَ مِ ْن ُكمْ‬
‫حمَةَ أَنّهُ مَنْ َ‬
‫علَ ْيكُمْ كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَى َنفْسِهِ الرّ ْ‬
‫وَإِذَا جَا َءكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِآَيَاتِنَا َف ُقلْ سَلَامٌ َ‬
‫غفُورٌ َرحِيمٌ (‪)54‬‬
‫جهَالَةٍ ُثمّ تَابَ مِنْ َبعْ ِد ِه وََأصْلَحَ فَأَنّهُ َ‬
‫سُوءًا ِب َ‬

‫لقد كان طلب الطرد لهؤلء المستضعفين فيه إهاجة لكرامتهم ولمنزلتهم ولنهم دون الثرياء‬
‫علَ ْيكُمْ }‪ .‬ونفهم من‬
‫ووجهاء القوم‪ ،‬فيطمئنهم الحق بالسلم منه في الدنيا فيأمر رسوله‪َ { :‬ف ُقلْ سَلَمٌ َ‬
‫السلم أنه الخلو من الفات النفسية والفات الجسدية‪ ،‬فكأن الحق سبحانه أراد ان يعوضهم بالسلم‬
‫حمَةَ } ونرى كلمة‪ " :‬الرحمة " تتردد‬
‫القادم من ال { َف ُقلْ سَلَمٌ عَلَ ْيكُمْ كَ َتبَ رَ ّب ُكمْ عَلَىا َنفْسِهِ الرّ ْ‬
‫شفَآءٌ‬
‫كثيرا في القرآن الكريم‪ ،‬فها هوذا الحق يقول في موقع آخر‪ {:‬وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫ن َولَ يَزِيدُ الظّاِلمِينَ َإلّ خَسَارا }[السراء‪.]82 :‬‬
‫حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِي َ‬
‫وَرَ ْ‬
‫ما الفارق إذن بين الشفاء والرحمة؟ الرحمة‪ :‬ل يبتلي ال النسان بمرض‪ ،‬إنها الوقاية‪ ،‬أما الشفاء‬
‫فهو أن يزيل الحق أي مرض أصاب النسان‪ .‬وهذا هو البرء بعد العلج‪.‬‬
‫إذن ففي القرآن شفاء ورحمة‪ ،‬أي وقاية وعلج‪ .‬والذي يلتزم بمنهج القرآن ل تصيبه الداءات‬
‫الجتماعية والنفسية أبدا‪ ،‬والذي تغفل نفسه وتشرد منه يصاب بالداء الجتماعي والنفسي‪ ،‬فإن‬
‫عاد إلى منهج القرآن فهو يُشفى من أي داء‪ .‬وحين يأمر سبحانه رسوله أن يقول لهؤلء الذين‬
‫لمٌ عَلَ ْيكُمْ كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَىا‬
‫أهيجوا بطلب طردهم على الرغم من إيمانهم برسالة رسول ال‪ { :‬سَ َ‬
‫حمَةَ } فهذا يعني أن ما حدث لهم في هذا المر هو آخر ابتلءاتهم‪ ،‬وقد أخذوا بهذه‬
‫َنفْسِهِ الرّ ْ‬
‫الهاجة سلما دائما‪ ،‬وما دام ال قد كتب على نفسه الرحمة فكأنه وقاهم مما يصيب به غيرهم‪.‬‬
‫حمَةَ } فالكتابة تدل على التسجيل‪ ،‬ول أحد‬
‫وإذا سمعت قول ال‪ { :‬كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَىا َنفْسِهِ الرّ ْ‬
‫يوجب على ال شيئا لنه خالق الكون‪ ،‬وله في الكون طلقة المشيئة‪ ،‬فل أحد يكتب عليه شيئا‬
‫ليلزمه به‪ ،‬ولكنه سبحانه هو الذي أوجب على نفسه الرحمة‪ .‬ونأخذ كلمة " نفسه " في إطار { لَيْسَ‬
‫شيْءٌ } ‪ ،‬ذلك أن النفس عند البشر هي الجسم والدم والحركة والحياة‪ ،‬ولكن ماذا عندما‬
‫َكمِثْلِهِ َ‬
‫تأتي كلمة " النفس " منسوبة إلى ال؟ المراد ‪ -‬إذن ‪ -‬هو الذات اللهية‪ .‬وإن لم تأخذ مراد الكلمة‬
‫بهذا المعنى فأنت تدخل إلى مخالفات كثيرة وقانا ال وإياك شرورها‪.‬‬
‫وأؤكد هذا المعنى ليستقر في ذهن كل مؤمن‪ ،‬أن النفس بالنسبة للكائن الحي غيرها بالنسبة ل‪،‬‬
‫شيْءٌ }؛ لن النفس بالنسبة للكائن‬
‫ول بد أن نأخذ أي شيء منسوب إلى ال في إطار { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫الحي عبارة عن امتزاج الروح بالمادة‪ ،‬والمادة مكونة من أبعاض‪ .‬وإن لم تأخذ المراد من نفس‬
‫شيْءٌ } ‪ ،‬فأنت ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬تنفي عن الحق " الحدية "‪.‬‬
‫ال على ضوء { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫ونعرف أن للحق سبحانه وتعالى " وصفين " يتحدان في المادة وفي الحروف‪ :‬الول هو " واحد "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والخر هو " أحد "‪ .‬والسطحيون في الفهم يظنون أن " واحدا " معناها " أحد "‪ .‬ونقول‪ :‬ل‪ ،‬إن "‬
‫واحدا " لها مدلول‪ ،‬و " أحدًا " لها مدلول آخر‪ .‬فعندما نقول‪ " :‬إن ال واحد " أي ل يوجد فرد ثان‬
‫من نوعه فليس له مثيل ول شبيه ول نظير‪ .‬وعندما نقول‪ " :‬إن ال أحد " أي أنه ل يتكون من‬
‫أبعاض يحتاج بعضها إلى البعض الخر لتكوين الكل‪ ،‬لن الشيء قد يكون واحدا وليس أحدًا‪.‬‬
‫ولذلك نؤكد الفارق بين‪ " :‬واحد " و " أحد " ‪ ،‬وحتى يعرفه كل مؤمن جيدا فهو ‪ -‬سبحانه ‪ -‬واحد‬
‫ل يوجد فرد ثان يشاركه في وحدانيته‪ ،‬فهو واحد ل شريك له‪ ،‬وهو أحد جل وعل أي ليس له‬
‫أبعاض يحتاج بعضها إلى بعض‪ .‬وسبق أن أوضحنا أن هناك شيئا اسمه‪ " :‬كل " وشيئا آخر اسمه‬
‫" كلي "‪ .‬والكل هو المكون من أجزاء‪ ،‬كل جزء منها ل يؤدي الحقيقة‪ ،‬وإنما ل يُؤدي الكل إل‬
‫بضميمة الجزاء بعضها إلى بعض‪.‬‬
‫ومثال ذلك الكرسي‪ :‬إنه مكون من خشب ومسامير وغراء‪ ،‬فل يقال للخشب كرسي‪ ،‬ول يقال‬
‫للمسامير كرسي‪ ،‬ول يقال للغراء كرسي‪ .‬ولكن يقال للشيء المصنوع من كل هذه الشياء على‬
‫هيئة محددة‪ :‬إنه كرسي‪ .‬إذن فـ " الكل " له أجزاء تجتمع لتكوّنه‪ .‬والكلّي يمكن أن تطلق على‬
‫النسان‪ ،‬ولكن في الجنس البشري هناك أفراد كثيرون له‪.‬‬
‫وعلى ذلك فالحق سبحانه وتعالى ليس " كُلّ " أي ل أجزاء له لنه أحد‪ ،‬وليس " كليا " لنه ل‬
‫شيء مثله؛ فسبحانه وتعالى واحد أحد‪ .‬ولهذا نفهم جميعا أن كل شيء منسوب إلى ال ينبغي أن‬
‫شيْءٌ {‪.‬‬
‫يكون في إطار‪ } :‬لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫ونحن ل نفهم مراد كلمة " النفس " بالنسبة ل كما نفهمها بالنسبة للبشر؛ لذلك فنفس ال ليست‬
‫كنفس البشر؛ لن ال غني ل يحتاج إلى غيره‪ ،‬وهو ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ليس مكونا من أجزاء‪ ،‬فهو‬
‫سبحانه له كل الكمال والجلل في وحدانيته وأحديته وفي سائر صفاته وأفعاله‪ .‬وحين يقول‬
‫سبحانه‪ } :‬كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَىا َنفْسِهِ {‪ .‬قد يتساءل إنسان‪ :‬وما مدلول الرحمة؟‬
‫جهَالَةٍ ُثمّ تَابَ مِن َبعْ ِد ِه وََأصْلَحَ فَأَنّهُ‬
‫ع ِملَ مِنكُمْ سُوءًا بِ َ‬
‫وتأتي الجابة في قوله الحق‪ } :‬أَنّهُ مَن َ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ {‪ .‬والحق حينما أنزل منهجا من السماء فالمنهج يضم نصوصا للتجريم كنصوص‬
‫َ‬
‫عقاب الزاني أو اللص‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬ول يمكن أن تأتي عقوبة إل إذا جاءت بعد تجريم‪ ،‬مثال ذلك‬
‫الرشوة والنميمة وكل مخالفة للمنهج‪ ،‬فل عقاب إل بجريمة‪ ،‬ول جريمة إل بنص‪ .‬والحق الذي‬
‫خلق الخلق يعلم أن بعضا من خلقه يكون من ضعاف النفوس‪ ،‬وقد تغلب إنسانا نفسُه فيرتكب ذنبا‬
‫أو معصية‪ ،‬والمثال على ذلك قول الحق‪:‬‬

‫حكِيمٌ }[المائدة‪:‬‬
‫طعُواْ أَيْدِ َي ُهمَا جَزَآءً ِبمَا كَسَبَا َنكَالً مّنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَزِيزٌ َ‬
‫ق وَالسّا ِر َقةُ فَاقْ َ‬
‫{ وَالسّا ِر ُ‬
‫‪.]38‬‬
‫هذا هو عقاب السارق والسارقة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدٍ مّ ْن ُهمَا مِ َئةَ جَ ْل َد ٍة َولَ‬
‫ل وَا ِ‬
‫وكذلك يقول الحق عن الزاني والزانية‪ {:‬الزّانِ َي ُة وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ ُك ّ‬
‫شهَدْ عَذَا َب ُهمَا طَآ ِئفَةٌ مّنَ‬
‫خ ْذكُمْ ِب ِهمَا رَ ْأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَلْ َي ْ‬
‫تَأْ ُ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النور‪.]2 :‬‬
‫ما معنى إنزال مثل هذه النصوص؟ معنى إنزال هذه النصوص أن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن‬
‫النسان قد يضعف في بعض مطلوبات الدين فيقع في معصية‪ ،‬ول بد أن يوجد عقاب عليها‪.‬‬
‫واحترم الحق بذلك تكوين النسان عندما منحه الختيار‪ ،‬فوضع الثواب والعقاب‪ .‬وكما وضع‬
‫الحق النص على الجرائم وعقوبتها فهو سبحانه وتعالى قد فتح باب التوبة لخلقه‪ ،‬حتى ل يكون‬
‫الذي عصى ال مرة واحدة فاقدا للمل‪ ،‬حتى ل يشقى المجتمع بهؤلء العصاة‪ .‬وشرع الحق‬
‫التوبة للخلق ليرحهم من شرور من ارتكبوا المعاصي‪ ،‬وليرحم أيضا أصحاب المعاصي ما داموا‬
‫قد تابوا عنها‪ .‬وقد يرحم ال بعض خلقه من المعاصي فيحفظهم منها‪.‬‬
‫وهو الحق القائل‪ {:‬ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[التوبة‪.]118 :‬‬
‫سبحانه ‪ -‬إذن ‪ -‬يهدي إلى التوبة ويعفو‪ ،‬وهو عظيم الرحمة بالعباد التوابين‪.‬‬
‫جهَاَلةٍ ثُمّ تَابَ مِن َبعْ ِدهِ وََأصْلَحَ فَأَنّهُ‬
‫ع ِملَ مِنكُمْ سُوءًا بِ َ‬
‫ومن ظواهر رحمة ال سبحانه‪ } :‬أَنّهُ مَن َ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ { [النعام‪.]54 :‬‬
‫َ‬
‫والسوء هو المر المنهي عنه من ال‪ .‬هل هناك من يعمل السوء بجهالة؟‪ .‬بعضنا يفهم الجهالة‬
‫فهما سطحيا على أساس أنها " عدم العلم "؛ ل‪ .‬إنّ الذي ل يعلم هو المي الخالي الذهن‪ ،‬والجهالة‬
‫غير الجهل‪ ،‬فالجهل هو أن يعلم النسان حكما ضد الواقع‪ ،‬كأن يكون مؤمنا بعقيدة تخالف الواقع‪.‬‬
‫ومعالجة الجهل تقتضي أن ننزع منه هذه العقيدة التي هي ضد الواقع ثم نقنعه بالعقيدة المطابقة‬
‫للواقع‪.‬‬
‫والذي يسبب المتاعب للناس هم الجهلة؛ لن الجاهل يعتقد في قضية ويؤمن بها وهي تخالف‬
‫جهَالَةٍ {‪ .‬قالوا‪ :‬إن‬
‫ع ِملَ مِنكُمْ سُوءًا ِب َ‬
‫الواقع‪ .‬وعندما جاء العلماء عند هذا القول الحكيم‪ } :‬مَن َ‬
‫الجهالة هي السفه والطيش‪ ،‬والطيش يكون بعدم تدبر نتائج الفعل‪ .‬والسفه أل يقدّر النسان قيمة ما‬
‫يفوته من ثواب وما يلحقه من عقاب‪ .‬وقد يكون النسان مؤمنا‪ ،‬لكنه يرتكب السوء لنه لم‬
‫يستحضر الثواب والعقاب ويرتكب من السوء ما يحقق له شهوة عاجلة دون التمعن في نتائج ذلك‬
‫مستقبلً‪ ،‬ولو استحضر الثواب والعقاب لما فعل ذلك السوء‪.‬‬
‫ويمكن أن نفهم أيضا الجهالة على أنها ارتكاب المر السيئ دون أن يبيت له النسان أو يخطط‪،‬‬
‫وذلك كأن يخطط إنسان السفر إلى باريس لطلب العلم‪ ،‬وعندما وصل إلى هناك جاءت له امرأة‬
‫في غرفته في الفندق وهي في كامل فتنتها وزينتها‪ ،‬وألحت عليه لرتكاب الفحشاء‪ ،‬فلم يقدر على‬
‫نفسه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا فعل للسوء بجهالة؛ لنه لم يخطط لذلك السوء‪ ،‬وهو يندم من بعد ذلك‪ ،‬ول يحكي عن ذلك‬
‫الفعل بفخر أبدا‪.‬‬
‫هناك فارق ‪ -‬إذن ‪ -‬بين هذا النسان وإنسان آخر بحث في عناوين بيوت اللذة في باريس قبل أن‬
‫يسافر إليها‪ ،‬إنه بذلك يخطط لفعل المنكر وارتكاب الفحشاء‪ .‬ويصر على السوء‪ ،‬ويتفاخر به ول‬
‫يندم على فعل؛ هذا الصنف من البشر ل يغفر له ال إن استمر على هذا الحال حتى شارف‬
‫جهَالَةٍ ُثمّ‬
‫الموت أو أدركه الموت‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪ {:‬إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ ِب َ‬
‫حكِيما }[النساء‪.]17 :‬‬
‫يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَُأوْلَـا ِئكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَ ْيهِ ْم َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ‬
‫لن الحق سبحانه إنما يقبل توبة من ارتكب الذنب في حالة الحماقة والطيش‪ ،‬ويقبلون على التوبة‬
‫ستِ‬
‫فورا‪ ،‬هؤلء يقبل الحق توبتهم‪ ،‬أما الذين ل يندمون على فعل السوء فيقول الحق عنهم‪ {:‬وَلَيْ َ‬
‫ن َولَ الّذِينَ َيمُوتُونَ‬
‫حضَرَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ ال َ‬
‫ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىا ِإذَا َ‬
‫وَهُمْ ُكفّارٌ ُأوْلَـا ِئكَ أَعْ َتدْنَا َلهُمْ عَذَابا أَلِيما }[النساء‪.]18 :‬‬
‫إن الذين ل يُقبلون على التوبة من فور ارتكاب الذنب وينتظر النسان منهم مجيء الموت ليتوب‬
‫قبله أي وهو في حالة الغرغرة ‪ -‬وهي تردد الروح في الحلق عند الموت ‪ -‬هؤلء ل تقبل لهم‬
‫توبة‪ ،‬وكذلك الذين يموتون على الكفر ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬وقد أعد ال لكليهما عذابا أليما‪.‬‬
‫جهَالَةٍ ُثمّ تَابَ مِن َبعْ ِدهِ‬
‫ع ِملَ مِنكُمْ سُوءًا ِب َ‬
‫والحق سبحانه قد وضح لنا قبل ذلك فقال‪ } :‬أَنّهُ مَن َ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ { [النعام‪.]54 :‬‬
‫وََأصْلَحَ فَأَنّهُ َ‬
‫إذن فالتوبة يجب أن يتبعها إصلح وصلح؛ ذلك أن الحسنات يذهبن السيئات‪ ،‬والحق سبحانه‬
‫غفور ل يعاقب على ذنب تاب عنه العبد‪ ،‬ورحيم لنه يثيب على الفعل الحسن‪ ،‬بل إنه يثيب‬
‫النسان الذي يكرر ندمه على فعل سيء ويكتب له عن ذلك حسنة‪ .‬بل إنه ‪ -‬بسعة رحمته ‪ -‬يبدل‬
‫سيئاته حسنات‪.‬‬
‫صلُ اليَاتِ‪{ ...‬‬
‫ك ن َف ّ‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪َ } :‬وكَذَِل َ‬

‫(‪)836 /‬‬

‫ت وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ (‪)55‬‬


‫صلُ الْآَيَا ِ‬
‫َوكَذَِلكَ ُنفَ ّ‬

‫ك ن َفصّلُ اليَاتِ } فاعلم أن هناك تفصيلً سيلي ذلك يشابه‬


‫وساعة تسمع قوله الحق‪َ { :‬وكَذَِل َ‬
‫تفصيلً سبق‪ .‬واليات السابقة قد فصّل ال فيها أمورا كثيرة؛ فصّل لنا حجة وصحة وحدانية ال‬
‫سبحانه‪ ،‬وفصّل لنا صحة النبوة‪ ،‬وفصّل لنا صحة القضاء والقدر‪ .‬ومن بعد ذلك كله يعطينا الحق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المقاييس التي تقرر الحقائق التي ينكرها أهل الباطل؛ فيفصّل لنا في العقائد‪ ،‬ويفصّل لنا في حركة‬
‫الحياة والحركة العبادية التي نؤدي بها تكاليف اليمان‪ .‬وكما فصل لنا سبحانه صحة الوحدانية‬
‫ك ن َفصّلُ‬
‫وصحة النبوة‪ ،‬وصحة القضاء والقدر‪ ،‬يفصل لنا اليات التي تقرر الحقائق‪َ { :‬وكَذَِل َ‬
‫اليَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } [النعام‪.]55 :‬‬
‫ونقرأ " سبيل " في بعض القراءات مرفوعة‪ ،‬أي أن سبيل المجرمين يظهر ويستبين ويتضح‪،‬‬
‫وتقرأ في بعض القراءات منصوبة‪ ،‬أي أنك يا محمد تستبين أنت السبيلَ الذي سيسلكه المجرمون‪.‬‬
‫عوَجا‬
‫وكلمة " سبيل " وردت في القرآن مؤنثة على الحق‪ {:‬الّذِينَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّ ِه وَيَ ْبغُونَهَا ِ‬
‫}[العراف‪.]45 :‬‬
‫ش ِد لَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً }[العراف‪:‬‬
‫ووردت أيضا في بعض اليات مذكرة‪ {:‬وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّ ْ‬
‫‪.]146‬‬
‫ويريد الحق بذلك أن يعلمنا أن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين قد استقبلته قبائل من العرب‪،‬‬
‫بعضها لها السيادة كقبيلة قريش لنها تسكن مكة‪ ،‬والكعبة في مكة وكل القبائل تحج إلى الكعبة‪.‬‬
‫ويريد أن ينهي سبحانه هذه السيادة‪ ،‬ولذلك جاء بالقرآن ببعض اللفاظ التي تنطقها القبائل‬
‫الخرى‪ ،‬ومثال ذلك كلمة " سبيل " التي تؤنث في لغة " الحجاز " ‪ ،‬وجاء به مرة كمذكر؛ كما‬
‫تنطقها " تميم "‪ .‬ولم يأت الحق بكل ألفاظ القرآن مطابقة لسلوب قريش‪ ،‬حتى ل تظن قريش أن‬
‫سيادتها التي كانت لها في الجاهلية قد انسحبت إلى السلم‪ ،‬فقد جاء القرآن للجميع‪َ { .‬وكَذَِلكَ‬
‫صلُ اليَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ }‪ .‬أي أن ال سيعامل كل إنسان على مقتضى ما عنده من‬
‫نفَ ّ‬
‫اليقين اليماني‪.‬‬
‫والمعاندون لهم المعاملة التي تناسبهم‪ ،‬وكذلك المصرّ على الذنوب‪ ،‬والمقدم على المعاصي‪ ،‬وهي‬
‫تختلف عن معاملة المؤمن‪ .‬ولكنها في إطار العدل اللهي‪ .‬إذن فلكلٍ المعاملة التي تناسب موقعه‬
‫من اليمان‪.‬‬
‫والمقابلون للمجرمين هم المؤمنون‪ .‬فإذا استبنت سبيلَ المجرمين‪ ،‬أو إذا استبان لك سبيلُ‬
‫المجرمين أل تعرف المقابل وهو سبيل المؤمنين؟‪.‬‬
‫وحين يذكر الحق شيئا مقابلً بشيء فهو يأتي بحكم شيء ثم يدع الحكم الخر لفهم السامع‪ ،‬فإذا‬
‫كان الحق بين سبيل المجرمين لعنا وطردا‪ ،‬فسبيل المؤمنين يختلف عن ذلك‪ ،‬إنه الرحمة‬
‫والتكريم‪ .‬ومثال على ذلك ‪ -‬وال المثل العلى ‪ -‬أنت تقول للتلميذ الذي يواظب على دروسه‬
‫ويذاكر في وقت فراغه من المدرسة‪ :‬إن سبيلك هو النجاح‪ .‬ومن يسمع قولك هذا يعرف أن الذي‬
‫ل يواظب على دروسه ول يذاكر في وقت فراغه من المدرسة تكون عاقبة أمره الرسوب‬
‫والخيبة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا يترك الحق لفطنة السامع لكلمه أن يأتي بالمقابل ويعرف أحكام هذا المقابل‪ :‬فإذا كان‬
‫الحق قد قال‪ } :‬وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ { فهذه إشارة أيضا لسبيل المؤمنين من رحمة وتكريم‪.‬‬
‫ونعلم أن القرآن قد جاء على أبلغ الساليب‪ .‬وهي أساليب تقتضي أن تعرف معطى كل لفظ وكل‬
‫حرف حتى نفهم مقتضيات المقامات والحالت التي تطابق كل مقام‪ .‬ومثال على ذلك قول الحق‬
‫سبحانه‪َ {:‬قدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَىا كَافِ َرةٌ }[آل عمران‪:‬‬
‫‪.]13‬‬
‫لقد ترك الحق لفطنة السامع لهذه الية أن يعرف أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان‪ ،‬وأن‬
‫الفئة التي تقاتل في سبيل ال هي الفئة المؤمنة‪ ،‬وترك لنا الحق أن المشهد العظيم يعرفون قدر‬
‫كذبهم في الدنيا‪ ،‬فل ملك لحد إل ال‪ ،‬ول معبود سواه‪ ،‬فينطقون بما يشهدون‪ " :‬وال ربنا ما كنا‬
‫مشركين "‪.‬‬
‫ولقائل أن يقول‪ :‬ولكن هناك في موضع آخر من القرآن نجد أن ال يقول الحق مثل هؤلء‪ {:‬وَ ْيلٌ‬
‫طقُونَ * َولَ ُيؤْذَنُ َلهُمْ فَ َيعْتَذِرُونَ }[المرسلت‪.]36-34 :‬‬
‫َي ْومَئِذٍ لّ ْل ُمكَذّبِينَ * هَـاذَا َيوْ ُم لَ يَن ِ‬
‫إنهم في يوم الهول الكبر يعرفون أنهم كذبوا في الدنيا‪ ،‬وهم ل ينطقون بأي قول ينفعهم‪ ،‬ول يأذن‬
‫لهم الحق بأن يقدموا أعذارا أو اعتذارا‪ .‬ونقول لمن يظن أن المكذبين ل ينطقون‪ :‬إنهم بالفعل ل‬
‫ينطقون قولً يغيثهم من العذاب الذي ينتظرهم‪ ،‬وهم يقعون في الدهشة البالغة والحيرة‪ ،‬بل إن‬
‫بعضا من هؤلء المكذبين بال واليوم الخر يكون قد صنع شيئا استفادت به البشرية أو تطورت‬
‫به حياة الناس‪ ،‬فيظن أن ذلك العمل سوف ينجيه‪ ،‬إن هؤلء قد يأخذون بالفعل حظهم وثوابهم من‬
‫الناس الذين عملوا من أجلهم ومن تكريم البشرية لهم‪ ،‬ولكنهم يتلقون العذاب في اليوم الخر لنهم‬
‫أشركوا بال‪ .‬ولم يكن الحق في بالهم لحظة أن قدموا ما قدموا من اختراعات‪ ،‬ولذلك يقول‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ يَجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ‬
‫عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ‬
‫الحق‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }[النور‪.]39 :‬‬
‫وهكذا نعلم أن أعمال الكافرين أو المشركين يجازيهم الحق سبحانه عليها بعدله في الدنيا بالمال أو‬
‫الشهرة‪ ،‬ولكنها أعمال ل تفيد في الخرة‪ .‬وأعمالهم كمثل البريق اللمع الذي يحدث نتيجة سقوط‬
‫أشعة الشمس على أرض فسيحة من الصحراء‪ ،‬فيظنه العطشان ماء‪ ،‬وما إن يقترب منه حتى‬
‫يجده غير نافع له‪ ،‬كذلك أعمال الكافرين أو المشركين يجدونها ل تساوي شيئا يوم القيامة‪.‬‬
‫والمشرك من هؤلء يعرف حقيقة شركه يوم القيامة‪ .‬ول يجد إل الواحد الحد القهار أمامه‪ ،‬لذلك‬
‫يقول كل واحد منهم‪ } :‬وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ {‪.‬‬

‫إن المشرك من هؤلء ينكر شركه‪ .‬وهذا النكار لون من الكذب‪.‬‬


‫مشخص يميزه عن الجنس الخر إما بارتفاع ترق وإما بنزول تدن‪ .‬وقمة أجناس الوجود هو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النسان الذي كرمه الحق بالحس والحركة والتفكير‪ .‬ويلي النسان مرتبة جنسُ الحيوان الذي له‬
‫الحس والحركة دون التفكير‪ .‬ويلي جنس الحيوان مرتبة النبات‪ ،‬وهو الذي له النمو دون الحركة‬
‫والتفكير‪.‬‬
‫وعندما تُسلب من النبات غريزة النمو يصير جمادا‪ .‬إذن ترتيب الجناس من العلى إلى الدنى‬
‫هو كالتالي‪ :‬النسان ثم الحيوان‪ ،‬ثم النبات ثم الجماد‪ .‬وكل جنس من هذه الجناس له خصائصه‪،‬‬
‫ويأخذ الجنس العلى خاصية زائدة‪.‬‬
‫وأدنى الجناس هو الجماد الذي يخدم النبات‪ ،‬والنبات يخدم الحيوان والنسان‪ .‬والحيوان يخدم‬
‫النسان‪ ،‬وهكذا نجد أن أعلى الجناس هو النسان بينما أدناها هو الجماد‪ .‬فكيف يأخذ أعلى‬
‫الجناس وهو النسان ربا له من أدنى الجناس وهو الجماد؟‬
‫إن تحكيم الفطرة في ذلك المر ينتهي إلى حكم واضح هو سخف هذا اللون من التفكير‪ .‬وفطرة‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم من قبل البعثة هدته إلى رفض ذلك‪ ،‬وجاءت البعثة لتجعل من‬
‫إلف عادة رسول ال وفطرته أمر عبادة للرسول صلى ال عليه وسلم ولكل من اتبعه‪ُ {.‬قلْ إِنّي‬
‫ل لّ أَتّبِعُ َأ ْهوَآ َءكُمْ }[النعام‪.]56 :‬‬
‫ُنهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ ُق ْ‬
‫إذن فمسألة عبادة المشركين للصنام ل تنبع من هدي ولكنها خضوع إلى هوى؛ لن الهدي هو‬
‫الطريق الموصل للغاية المعتبرة‪ ،‬والهوى هو خواطر النفس التي تحقق شهوة‪ .‬ولهذا نرى بعضا‬
‫من الذين يريدون إضلل البشر قد خرجوا بمذاهب ليست من الدين في شيء‪ ،‬مثل القاديانية‬
‫والبهائية والبابية‪ ،‬وغير ذلك من تلك المذاهب‪ ،‬هؤلء الناس يدعون التدين‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك‬
‫يقدمون التنازلت في أمور تمس الخلق‪ ،‬ورأينا مثل ذلك في بعض من القضايا التي نظرتها‬
‫المحاكم أخيرا‪ ،‬كالذي يدعي التدين ويقبّل كل امرأة‪ ،‬ول ينظم العلقة بين الناس بقواعد الدين‪،‬‬
‫ولكن يطلق الغرائز حسب الهوى‪ .‬وذهب إليه أناس لهم حظ كبير ومرتبة من التعليم‪ ،‬وقد أوهموا‬
‫أنفسهم بخديعة كبرى‪ ،‬وظنوا أنهم أخذوا بالتدين‪ ،‬بينما هم يأخذون حظ الهوى المناقض للدين‪ {.‬لّ‬
‫أَتّبِعُ َأ ْهوَآ َءكُمْ َق ْد ضَلَ ْلتُ إِذا َومَآ أَنَاْ مِنَ ا ْل ُمهْ َتدِينَ }[النعام‪.]56 :‬‬
‫أي أنك يا رسول ال عليك بإبلغ هؤلء المشركين أنك ل تتبع أهواءهم التي تقود إلى الضللة؛‬
‫لن من يتبع مثل تلك الهواء ينحرف عن الحق‪ ،‬ول يكون من المهتدين‪.‬‬
‫ومن بعد ذلك يقول الحق‪ُ } :‬قلْ إِنّي عَلَىا بَيّنَةٍ مّن رّبّي‪{ ...‬‬

‫(‪)837 /‬‬

‫ُقلْ إِنّي ُنهِيتُ أَنْ أَعْ ُبدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ُقلْ لَا أَتّبِعُ َأ ْهوَا َءكُمْ َق ْد ضَلَ ْلتُ إِذًا َومَا أَنَا مِنَ‬
‫ا ْل ُمهْتَدِينَ (‪)56‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تفسير هذه الية غير موجود‬

‫(‪)838 /‬‬

‫ق وَ ُهوَ‬
‫حّ‬‫حكْمُ إِلّا لِلّهِ َي ُقصّ الْ َ‬
‫جلُونَ ِبهِ إِنِ ا ْل ُ‬
‫ُقلْ إِنّي عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي َوكَذّبْ ُتمْ بِهِ مَا عِ ْندِي مَا تَسْ َتعْ ِ‬
‫خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ (‪)57‬‬

‫هنا يبلغ الحق رسوله صلى ال عليه وسلم أن تركه لعبادة الصنام وإن كان أمرا قد اهتدى إليه‬
‫صلى ال عليه وسلم بفطرته السليمة‪ ،‬فإنه قد صار الن من بعد البعثة عبادة؛ لن اصطفاء الحق‬
‫له جعله يتبين هدى ال بالشريعة الواضحة في " افعل " ول " تفعل "؛ فالرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم هو السوة الحسنة للناس‪ ،‬ويؤدي كل فعل حسب ما شرع ال‪ ،‬ويتبعه المؤمنون برسالته‪.‬‬
‫ومثال على ذلك من حياتنا المعاصرة‪ :‬لقد نزل القرآن بتحريم الخمر‪ ،‬والمؤمنون ل يشربون‬
‫الخمر لن الحق نهى عن ارتكاب هذا الفعل‪ .‬ونجد الطباء الن في كل بلدان العالم يحرمون‬
‫شرب الخمر لنها تعتدي على كل أجهزة النسان‪ :‬الكبد‪ ،‬والمخ‪ ،‬والجهاز العصبي‪ ،‬والجهاز‬
‫الهضمي‪ .‬ونجد " أفلما " تظهر أثر كأس الخمر على صحة النسان‪ .‬وقد يرى إنسان غير مؤمن‬
‫مثل هذا " الفيلم " فيمتنع عن الخمر امتناع ابتغاء المصلحة ل امتناع الدين‪ .‬ولكن علينا ‪ -‬نحن‬
‫المسلمين ‪ -‬أن نقبل على مثل هذا المتناع لنه من اليمان‪.‬‬
‫ع ِملَ صَالِحا َوقَالَ إِنّنِي مِنَ‬
‫حسَنُ َقوْلً ّممّن دَعَآ إِلَى اللّ ِه وَ َ‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪َ {:‬ومَنْ أَ ْ‬
‫ا ْلمُسِْلمِينَ }[فصلت‪.]33 :‬‬
‫هكذا نعرف أنه ل أحد أحسن قولً ممن يمتثل إلى أوامر الحق لنه مُق ّر بوحدانية الحق سبحانه‪،‬‬
‫ويعمل كل عمل صالح ويقرّ بأن هذا العمل هو تطبيق لشريعة ال‪:‬‬
‫{ ُقلْ إِنّي عَلَىا بَيّنَةٍ مّن رّبّي } القول يدلنا أننا دون بينة من ال ل نعرف المنهج‪ ،‬ولكن ببينة من‬
‫ال نعلم أنه إله واحد أنزل منهجا " افعل " و " ل تفعل "‪ .‬وجاء الحق هنا بكلمة " ربي " حتى‬
‫نعرف أنه الخالق الذي يتولى تربيتنا جميعا‪ .‬وما دام سبحانه وتعالى قد خلقنا‪ ،‬وتولى تربيتنا فل‬
‫بد أن نمتثل لمنهجه‪ .‬وقد أنزل الله تكليفا لنه معبود‪ ،‬وهو في الوقت نفسه الرب الذي خلق‬
‫ورزق‪ ،‬ولذلك نمتثل لمنهجه‪ ،‬أما المكذبون فماذا عنهم؟ { َوكَذّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا َتسْ َتعْجِلُونَ بِهِ إِنِ‬
‫ق وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ } [النعام‪.]57 :‬‬
‫حّ‬‫ح ْكمُ ِإلّ للّهِ َي ُقصّ الْ َ‬
‫الْ ُ‬
‫فالذين كذبوا بال اتخذوا من دونه أندادا‪ ،‬ولم يمتثلوا لمنهجه‪ ،‬بل تمادى بعضهم في الكفر وقالوا ما‬
‫حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ‬
‫رواه الحق عليهم‪ {:‬وَإِذْ قَالُواْ الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال‪.]32 :‬‬
‫ال ّ‬
‫وعندما نناقش ما قالوه‪ ،‬نجد أنهم قالوا‪ " :‬اللهم " وهذا اعتراف منهم بإله يتوجهون إليه‪ .‬وما داموا‬
‫قد اعترفوا بالله فلماذا ينصرفون عن المتثال لمنهجه وعبادته؟‪ .‬هم يفعلون لنهم نموذج للصلف‬
‫سمَآءِ‬
‫حجَا َرةً مّنَ ال ّ‬
‫علَيْنَا ِ‬
‫والمكابرة المتمثل في قولهم‪ { :‬إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ َ‬
‫َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }‬
‫ألم يكن من الجدر بهم أن يُعملوا العقل بالتدبر ويقولوا‪ :‬إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا‬
‫إليه‪.‬‬

‫ونجد أيضا أنهم لم يردوا على رسول ال فلم يقولوا‪ :‬اللهم إن كان هذا هو الحق من عند محمد بل‬
‫قالوا‪ } :‬الّل ُهمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ عِن ِدكَ {‪ .‬إنهم يردّون أمر ال ويطلبون العذاب‪ ،‬وتلك‬
‫قمة المكابرة‪ ،‬والتمادي في الكفر وذلك بطلبهم تعجيل العذاب‪ ،‬ولذلك يقول لهم رسول ال‪} :‬‬
‫َوكَذّبْتُم ِبهِ مَا عِندِي مَا تَسْ َت ْعجِلُونَ بِهِ {‪.‬‬
‫والستعجال هو طلب السراع في المر‪ ،‬وهو مأخوذ من " العجلة " وهي السرعة إلى الغاية‪ ،‬أي‬
‫طلب الحدث قبل زمنه‪ .‬وما داموا قد استعجلوا العذاب فل بد أن يأتيهم هذا العذاب‪ ،‬ولكن في‬
‫الميعاد الذي يقرره الحق؛ لن لكل حدث من أحداث الكون ميلدا حدده الحق سبحانه‪ } :‬مَا عِندِي‬
‫ق وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ { [النعام‪]57 :‬‬
‫حكْمُ ِإلّ للّهِ َيقُصّ ا ْلحَ ّ‬
‫مَا تَسْ َتعْجِلُونَ ِبهِ إِنِ ا ْل ُ‬
‫إن الحكم ل وحده‪ ،‬فإن شاء أن ينزل عذابا ويعجل به في الدنيا كما أنزل على بعض القوام من‬
‫قبل فل راد له‪ ،‬وإن شاء أن يؤخر العذاب إلى أجل أو إلى الخرة فل معقب عليه‪.‬‬
‫ومن حكمة الحق أن يظل بقاء المخالفين للمنهج اليماني تأييدا للمنهج اليماني‪ .‬ويجب أن نفهم أن‬
‫الشر الذي يحدث في الكون ل يقع بعيدا عن إرادة ال أو على الرغم من إرادة ال‪ ،‬فقد خلق الحق‬
‫النسان وأعطاه الختيار‪ ،‬وهو سبحانه الذي سمح للنسان أن يصدر منه ما يختاره سواءً أكان‬
‫خيرا أم شرا‪ .‬إذن فل شيء يحدث في الكون قهرا عنه؛ لنه سبحانه الذي أوجد الختيار‪ .‬ولو‬
‫أراد الحق أل َيقْدِر أحد على شر لما فعل أحد شرا‪ .‬ولكنك أيها المؤمن إن نظرت إلى حقيقة‬
‫اليقين في فلسفته لوجدت أن بقاء الشر وبقاء الكفر من أسباب تأييد اليقين اليماني‪.‬‬
‫كيف؟ لننا لو عشنا في عالم ل يوجد به شر لما كان هناك ضحايا‪ ،‬ولو لم يوجد ضحايا لما كان‬
‫هناك حثّ على الخير وحضّ ودفع إليه‪ .‬ولذلك تجد روح اليمان تقوي حين يهاج السلم من أي‬
‫عدو من أعدائه‪ ،‬وتجد السلم قد استيقظ في نفوس الناس‪ ،‬فلو لم يوجد في الكون آثاره ضارة‬
‫للشر‪ ،‬لما اتجه الناس إلى الخير‪ .‬وكذلك الكفر من أسباب اليقين اليماني‪ ،‬فعندما يطغى أصحاب‬
‫الكفر في الرض فسادا واستبدادا‪ ،‬نجد الناس تتدرع باليقين وتتحصن باليمان لنه يعصم النسان‬
‫حكْمُ ِإلّ للّهِ َي ُقصّ‬
‫من شرور كثيرة‪ .‬إذن فوجود الشر والكفر هو خدمة لليقين اليماني‪ } .‬إِنِ ا ْل ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ق وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ { [النعام‪]57 :‬‬
‫حّ‬‫الْ َ‬
‫نعم إن الحكم ل لنه سبحانه يفصل بين الموقف دون هوى لنه ل ينتفع بشيء مما يفعل‪ ،‬فقد‬
‫أوجد الحق هذا الكون وهو في غنى عنه؛ لن ل سبحانه وتعالى كل صفات الكمال ولم يضف له‬
‫خلق الكون صفة زائدة‪ ،‬وقد خلق سبحانه الكون لمصلحة خلقه فقط‪ .‬ويبلغنا الرسول‪ } :‬قُل ّلوْ أَنّ‬
‫عِندِي‪{ ...‬‬

‫(‪)839 /‬‬

‫ضيَ الَْأمْرُ بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظّاِلمِينَ (‪)58‬‬


‫ُقلْ َلوْ أَنّ عِنْدِي مَا تَسْ َت ْعجِلُونَ بِهِ َل ُق ِ‬

‫هذا بلغ من رسول ال لكل الخلق بأن أحداث الكون إنما يجريها الحق بإرادته وبمواقيت ل‬
‫يعلمها إل هو سبحانه‪ ،‬وهو ‪ -‬جل وعل ‪ -‬الذي يأذن بها‪ ..‬أي قل لهم أيها النبي‪ :‬لو كان في‬
‫قدرتي وإمكاني ما تستعجلون به من العذاب لنتهى المر بيني وبينكم ولهلكتكم بعقاب وعذاب‬
‫عاجل غضبا لربي وسخطا عليكم من تكذيبكم به ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ولتخلصت منكم سريعا‪ ،‬لكن المر‬
‫ليس لي‪ ،‬إنه إلى ال الحكيم الذي يعلم ما يستحقه الظالمون‪ .‬ويقول ‪ -‬سبحانه ‪ -‬في موضع آخر‬
‫سهُ َألَ َيوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ‬
‫من القرآن الكريم‪ {:‬وَلَئِنْ أَخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَىا ُأمّةٍ ّمعْدُو َدةٍ لّ َيقُولُنّ مَا يَحْبِ ُ‬
‫َمصْرُوفا عَ ْنهُ ْم َوحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْزِءُونَ }[هود‪.]8 :‬‬
‫وحكمة ال ‪ -‬إذن ‪ -‬هي التي اقتضت تأجيل العذاب إلى وقت يحدده ال‪ ،‬وفي هذا ما يجعل بعضا‬
‫من الكافرين يجترئون على ال ويوغلون في الكفر ويقولون ما الذي يمنع عنا العذاب؟‬
‫إنهم يقولون ذلك استهزاء وسخرية‪ ،‬ول يعلمون أن العذاب آت حتما ول خلص لهم منه؛ لن ال‬
‫صادق في وعده ووعيده وسيأتيهم العذاب لنهم استهزأوا وسخروا فل مناص لهم عنه ول مهرب‬
‫لهم منه‪.‬‬
‫سمّى لّجَآءَ ُهمُ ا ْلعَذَابُ وَلَيَأْتِيَ ّنهُمْ‬
‫جلٌ مّ َ‬
‫ب وََلوْلَ َأ َ‬
‫وفي موقع آخر يقول الحق‪ {:‬وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ‬
‫جهَنّمَ َلمُحِيطَةٌ بِا ْلكَافِرِينَ * َيوْمَ َيغْشَا ُهمُ ا ْلعَذَابُ‬
‫ب وَإِنّ َ‬
‫شعُرُونَ * َيسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ‬
‫َبغْتَ ًة وَهُمْ لَ َي ْ‬
‫حتِ أَرْجُِل ِه ْم وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ }[العنكبوت‪.]55-53 :‬‬
‫مِن َف ْو ِقهِمْ َومِن َت ْ‬
‫وهكذا نرى تحدي الكفار لرسول ال صلى ال عليه وسلم ليأتيهم بالعذاب‪ ،‬لكنه تحدٍ مردود عليه‬
‫بأن الحق هو الذي يقرر ميلد كل أمر ولسوف يأتيهم العذاب فجأة‪ ،‬وهو واقع ل محالة وإن جهنم‬
‫ستحيط بهم‪ ،‬وسيغمرهم العذاب من أعلهم ومن أسفلهم‪ ،‬ويسمعون صوت الملك الموكل بعذابهم‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذوقوا عذابا أنكرتموه وهو جزاء أعمالكم‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ { :‬وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ‪} ...‬‬

‫(‪)840 /‬‬

‫ن وَ َرقَةٍ إِلّا َيعَْل ُمهَا وَلَا‬


‫سقُطُ مِ ْ‬
‫وَعِنْ َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ لَا َيعَْل ُمهَا إِلّا ُهوَ وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَ ّر وَالْبَحْ ِر َومَا تَ ْ‬
‫ب وَلَا يَابِسٍ إِلّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (‪)59‬‬
‫ط ٍ‬
‫ض وَلَا رَ ْ‬
‫حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الْأَ ْر ِ‬

‫و " مفاتيح " هي إما جمع ل ِمفْتح أو جمع لَمفْتح‪ .‬و " المِفْتح " هو آلة الفتح‪ ،‬ومثلها " مِبرد " أي آلة‬
‫البرد‪ .‬وآلة الفتح هي المفتاح‪ .‬و " َمفْتح " هو الشيء الذي يقع عليه الفتح مثل الخِزانة‪ ،‬ونعلم أن‬
‫بعض السماء تأتي على وزن " ِمفْعل " أو " مفعال "‪ .‬فإذا أخذنا " مفاتح " على أساس أنها جمع‬
‫لِمفتح‪ ،‬فمعنى ذلك أن الحق سبحانه وتعالى يملك المفاتيح التي تفتح على الغيب‪ .‬وإن اخذنا "‬
‫مفاتح " على أساس أنها جمع " مَفْتح " أي خِزانة فمعنى ذلك أن الحق عنده خزائن الغيب‪ .‬وكل‬
‫المرين ل زمان له‪ .‬والخزائن ل يوضع فيها إل كل نفيس وهو مخزون لوانه ولكل خزانة‬
‫علَ ْيهِ ْم وَآتَيْنَاهُ مِنَ ا ْلكُنُوزِ مَآ‬
‫مفتاح‪ .‬يقول الحق عن قارون‪ {:‬إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن َقوْمِ مُوسَىا فَ َبغَىا َ‬
‫إِنّ َمفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِا ْل ُعصْبَةِ ُأوْلِي ا ْل ُق ّوةِ }[القصص‪.]76 :‬‬
‫هكذا نعلم أنه ل يوجد مخزون إل وهو كنز‪ .‬وعند الحق مفاتح الغيب‪ ،‬والغيب هو ما غاب عنك‪،‬‬
‫وهو نوعان‪ :‬أمر غائب عنك ومعلوم لغيرك؛ وهو غيب غير مطلق ولكنه غيب إضافي‪.‬‬
‫ومثال ذلك‪ ،‬عندما يقوم نشال بسرقة حافظة نقودك وأنت في الطريق‪ ،‬أنت ل تعرف أين نقودك‪،‬‬
‫ولكن اللص يعرف تماما مكان ما سرق منك‪ .‬هكذا ترى أنه يوجد فارق بين غيب عنك‪ ،‬ولكنه‬
‫ليس غيبا عن غيرك‪.‬‬
‫ولكن هناك ما يغيب عنك وعن غيرك‪ ،‬ولهذا الغيب مقدمات إن أخذ النسان بها فهو يصل إلى‬
‫معرفة هذا الغيب‪ ،‬وهذا ما نراه في الكتشافات العلمية التي تولد أسرارها بأخذ العلماء بالسباب‬
‫التي وضعها ال في الكون‪ ،‬وهو لون من الغيب الضافي‪ .‬وهناك لون ثالث من الغيب هو الغيب‬
‫المطلق‪ ،‬وهو الغيب الذي ل يعلمه إل ال‪ ،‬مثل ميعاد اليوم الخر‪ ،‬وغير ذلك من الغيب الذي‬
‫يحتفظ ال به لنفسه‪.‬‬
‫ولذلك نقول‪ :‬إنه ل يوجد أبدا في هذه الدنيا عالِمُ غيبٍ إل ال‪ .‬وعنده سبحانه مفاتح الغيب‪ ،‬هذا‬
‫الغيب الذي ل نحس به حسا مشهودا بالمدركات‪ ،‬أو كان غيبا بالمقدمات أي أنه ليس له أسباب‬
‫يمكن لحدٍ أن يأخذ بها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ‬
‫ب لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُه َو وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْ ِر َومَا َت ْ‬
‫ويقول الحق‪ { :‬وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫ب َولَ يَا ِبسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } [النعام‪.]59 :‬‬
‫ط ٍ‬
‫ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الَ ْرضِ َولَ رَ ْ‬
‫الحق سبحانه وتعالى ‪ -‬إيناسا لخلقه ‪ -‬حينما يأتي لهم بأمر غير محس لهم‪ ،‬فإنه يوضح ذلك‬
‫بالمحس‪ .‬وعالم المشهد المحس إما مسموع وإما مرئي وإما متذوق وإما ملموس‪ .‬وهناك عالم‬
‫الغيب‪ ،‬فقد يصطفي ال بعضا من خلقه ليلقي إليهم هبّاتٍ من فيضه وعطائه توضح بعض‬
‫المور‪ ،‬ومثال ذلك العبد الصالح الذي سار معه موسى عليه السلم وقال‪:‬‬

‫سطِـع عّلَ ْي ِه صَبْرا }[الكهف‪.]82 :‬‬


‫{ َومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي ذَِلكَ تَ ْأوِيلُ مَا َلمْ تَ ْ‬
‫ومثل هذه الهبّة تأتي لتثبت لصاحبها أنه على علقة بربه‪ ،‬ول يعطي الحق سبحانه هذه الهبات‬
‫لتصبح عملً ملزما للنسان‪ ،‬وجزءا من طبيعته بحيث نذهب إليه في كل أمر فيخبرنا بما ينبغي‬
‫علينا أن نقوم به‪ .‬إن المر ليس كذلك بل هي مجرد هبات صفائية‪ ،‬يمنحها ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وينزعها‬
‫ويمنعها؛ فسبحانه عنده مفاتح كل الغيب‪ ،‬ويأتي لنا بالعالم المحسوس‪ } :‬وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ‬
‫{‪ .‬وأتى الحق بالبر أولً قبل البحر‪ ،‬والبر مُحس لكل الناس بما فيه من جمادات ونباتات وأشجار‬
‫وحيوانات وأناس وبلد وطرق‪ .‬وهناك من البلد ما ل تطل على بحار أبدا‪ ،‬ولذلك جاء الحق‬
‫بالبر أولً‪ ،‬ثم جاء بالبحر الذي يمكن أن يُشاهد‪ ،‬ولكن عالم البحر أخفى من عالم البر‪ .‬وعوالم‬
‫البحر تأخذ من مسطح الكرة الرضية مساحات كبيرة للغاية وكل يوم نكتشف في عالم البحار‬
‫جديدا‪.‬‬
‫سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا { [النعام‪:‬‬
‫ومن بعد ذلك يردنا الحق إلى البر مرة أخرى فيقول‪َ } :‬ومَا تَ ْ‬
‫‪.]59‬‬
‫إلى هذه الدرجة يوضح لنا الحق علمه الزلي؛ فسبحانه يعلم كل ما يتعلق بورقة شجرة بعد أن‬
‫تؤدي مهمتها من التمثيل الكلورفيلي وتغذية الشجرة وإنضاج الثمار ثم سقوطها على الرض‪.‬‬
‫والسقوط كما نعرفه هو هبوط شيء مادي إلى أسفل‪ ،‬وفسره العلماء من بعد ذلك بالجاذبية‬
‫الرضية‪.‬‬
‫وعندما تسقط الورقة من الشجرة تكون خفيفة الوزن‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى هو المتصرف في‬
‫الجواء التي تحيط بمجال هبوطها‪ ،‬وحركة الريح التي تحركها‪ .‬ولماذا جاء الحق بمسألة الورقة‬
‫هذه؟ جاء لنا الحق بمثل هذا المثل لنعلم أنه عندما ذيل الحق سبحانه الية السابقة بقوله‪ {:‬وَاللّهُ‬
‫أَعْلَمُ بِالظّاِلمِينَ }[النعام‪.]58 :‬‬
‫إن هذا التذييل قد احتاج إلى أن يشرحه لنا الحق بأن يعلم أوقات تحركات كل ورقة من أية‬
‫شجرة‪ ،‬وهذا يدل على كمال الحاطة والعلم‪ ،‬فضل على أن هذه المور ل يترتب عليها ثواب ول‬
‫عقاب‪ ،‬فكيف بالمور التي يترتب عليها الثواب والعقاب؟ ل بد أنه سبحانه وتعالى يعلمها ويفصل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الَ ْرضِ { [النعام‪.]59 :‬‬
‫فيها‪َ } .‬ومَا تَ ْ‬
‫إنه سبحانه أيضا يعلم بالحبة التي تختفي في باطن الرض وأحوالها‪.‬‬
‫طبٍ وَلَ يَابِسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ { [النعام‪.]59 :‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى‪َ } :‬ولَ َر ْ‬
‫أي أنه جلت قدرته يعلم أمر كل كائن في هذا العالم؛ لن كل كائن في هذه الدنيا إما رطب وإمّا‬
‫يابس‪ ،‬وسبحانه ل يعلم ذلك فقط ولكن كل ذلك معلوم له ومكتوب أيضا‪.‬‬

‫ويشرف على حركة تلك الكائنات الملئكةُ المدبرات أمرا‪ ،‬وحين تجد الملئكة أن حركة الكون‬
‫تسير بنظام محكم دقيق على وفق ما في الكتاب‪ ،‬فإنها ل تفتر عن تسبيح ال ليلً أو نهارا‪ {:‬وَلَهُ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َومَنْ عِ ْن َد ُه لَ َيسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَ يَسْ َتحْسِرُونَ * يُسَبّحُونَ الْلّ ْيلَ‬
‫مَن فِي ال ّ‬
‫وَال ّنهَارَ لَ َيفْتُرُونَ }[النبياء‪.]20-19 :‬‬
‫وللحق مُلك السموات والرض‪ ،‬ومن حقه وحده أن يُعبَد‪ ،‬ول تتكبر الملئكة عن عبادته‬
‫والخضوع له ول يشعرون بالملل من العبادة والتنزيه له سبحانه‪ .‬وأنت أيها العبد تكون في بعض‬
‫المور مقهورا ولك في بعض المور اختيار‪ ،‬وهو سبحانه عالم بما ستختار‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬وَ ُهوَ الّذِي يَ َت َوفّاكُم‪{ ...‬‬

‫(‪)841 /‬‬

‫ج ُعكُمْ‬
‫سمّى ُثمّ إِلَيْهِ مَرْ ِ‬
‫جلٌ مُ َ‬
‫ل وَ َيعْلَمُ مَا جَرَحْ ُتمْ بِال ّنهَارِ ثُمّ يَ ْبعَ ُث ُكمْ فِيهِ لِ ُي ْقضَى َأ َ‬
‫وَ ُهوَ الّذِي يَ َت َوفّاكُمْ بِاللّ ْي ِ‬
‫ثُمّ يُنَبّ ُئ ُكمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ (‪)60‬‬

‫(‪)842 /‬‬

‫ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ َت َوفّتْهُ رُسُلُنَا وَ ُهمْ لَا‬


‫حفَظَةً حَتّى إِذَا جَاءَ أَ َ‬
‫سلُ عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِد ِه وَيُرْ ِ‬
‫ُيفَرّطُونَ (‪)61‬‬

‫والقاهر هو المتحكم بقدرة فائقة محيطة مستوعبة‪ .‬ولقائل أن يقول‪ :‬ما دام الحق هو القاهر فكيف‬
‫يكفر الكافر وكيف يعصي العاصي؟‪ .‬ونقول‪ :‬إن الكافر يكفر بما خلق ال فيه من اختيار وكذلك‬
‫تكون معصية العاصي‪ .‬ولكن الحق أوجد في النسان اضطراريات وقهريات تدلنا على أنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سبحانه فعال لما يريد‪ .‬ول أحد من المتمردين على منهج ال يجرؤ أن يسحب هذا التمرد على ما‬
‫يجريه ال عليه من مرض أو موت‪.‬‬
‫والمتمرد أو الكافر إنما يختار من باطن الختيار الذي خلقه ال فيه‪ ،‬وال هو الحاكم للميلد‬
‫والموت ول شيء للنسان فيهما‪ ،‬وكذلك هو سبحانه له تصريف أمور الغنى والفقر ول يجرؤ‬
‫متمرد على أن يتمرد على المصائب التي تحدث له وإن تمرد على منهج ال؛ لن التمرد هو من‬
‫ظةً‬
‫حفَ َ‬
‫سلُ عَلَ ْيكُم َ‬
‫باطن خلق ال للختيار الذي أودعه في النسان‪ { .‬وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ وَيُرْ ِ‬
‫حَتّىا ِإذَا جَآءَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ َت َوفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُ ْم لَ ُيفَرّطُونَ } [النعام‪.]61 :‬‬
‫وحين يتكلم الحق سبحانه عن ذاته ونفسه‪ ،‬قد يتكلم بضمير المتكلم‪ .‬فيقول‪ {:‬إِنّنِي أَنَا اللّهُ }[طه‪:‬‬
‫‪.]14‬‬
‫وقد يقول سبحانه‪ {:‬إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر‪.]9 :‬‬
‫ومرة يتكلم عن ذاته بما نسميه نحن ضمير الغيبة مثل قوله هنا‪ { :‬وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ }‬
‫[النعام‪.]61 :‬‬
‫لن ضمير المتكلم معه دليله‪ ،‬إنّ المتكلم يقول‪ :‬أنا‪ ،‬ويخاطبك فيقول‪ :‬أنت‪ .‬لكن الذي يتكلم بضمير‬
‫الغيبة ل بد أن يعود الضمير على مرجع لهذا الضمير‪ .‬وحين يتكلم الحق عن ذاته بما يسمى لدينا‬
‫ضمير الغيبة فإنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يريد أن يبين لنا أنه في أجلىَ مجال المشاهدة والحضور؛ فكأنه إذا‬
‫قال " هو " ل تنصرف إل إلى ذاته العليا؛ فكأنه ل يوجد مرجع ضمير إل هو‪ ،‬ولذلك يقول‪ُ {:‬قلْ‬
‫حدٌ }[الخلص‪.]1 :‬‬
‫ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫وسبحانه يقول‪ " :‬هو " قبل أن يذكر المرجع‪ ،‬وهو " ال "؛ مع أن الصل في المرجع أن يتقدم‪،‬‬
‫حدٌ }[الخلص‪]1 :‬‬
‫ولكنه يقول‪ُ {:‬قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫فكأنه إذا أُطلِق هذا الضمير فل ينصرف إل إلى ذاته‪ .‬وحين يتكلم بضمير المتكلم نراه يتكلم عن‬
‫ذاته بضمير الفراد فيقول‪ {:‬إِنّنِي أَنَا اللّهُ }[طه‪.]14 :‬‬
‫ويقول مرة أخرى‪ {:‬إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر‪.]9 :‬‬
‫لماذا؟‪ .‬إنه سبحانه إن تكلم عن فعل من أفعاله نجد أن كل فعل من أفعاله يتطلب صفات الكمال‬
‫كلها فيه‪ ،‬لنه يتطلب علما بما يتكلم به‪ ،‬ويتطلب قدرة لبرازه‪ ،‬ويتطلب حكمة‪ ،‬ويتطلب صفات‬
‫كثيرة‪ ،‬فإذا قال سبحانه‪ {:‬إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر‪.]9 :‬‬
‫فالتنزيل فعل‪ ،‬والفعل يقتضي صفات متعددة‪ .‬فل بد أن يأتي بضمير التعظيم وهو الجمع؛ لن كل‬
‫صفات الكمال متجلية في التنزيل‪.‬‬

‫ولكن إن تكلم عن الذات في التوحيد ل يأتي بضمير الجمع أبدا؛ لنه يريد أن تنفي عن ذاته أنه‬
‫متعدد؛ لنه هو الواحد الذي ل شريك له‪ ،‬فحين يتكلم عن الذات يقول‪ {:‬إِنّنِي أَنَا اللّهُ‪[} ...‬طه‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]14‬‬
‫وحين يتكلم عن الذكر يقول‪ {:‬إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْرَ‪[} ...‬الحجر‪.]9 :‬‬
‫ففي مجال التعظيم والتنزيل الذي يتطلب تجلي كثير من صفاته ‪ -‬جل شأنه ‪ -‬يأتي بضمير‬
‫الجمع‪ ،‬وفي التوحيد والتفرد ونفي الشريك يأتي بضمير الفراد‪.‬‬
‫هنا يقول سبحانه‪ } :‬وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ‪[ { ...‬النعام‪.]61 :‬‬
‫وكلمة " قاهر " إذا سمعتها تتطلب مقهورا‪ .‬وما دام هناك قاهر ومقهور ففي ذلك ميزانان بين‬
‫مجالين‪ .‬وما دام هو قاهرا ففي أي مجال وبأية طريقة سيكون الطرف الثاني مقهورا له؟ إننا نعلم‬
‫أن كل شيء في الكون مقهور له‪ ،‬فقد قهر العدم فأوجد‪ ،‬وقهر الوجود فأعدم‪ .‬وقهر الغنى فأفقر‪،‬‬
‫وقهر الفقر فأغنى‪ .‬وقهر الصحة فأمرض‪ ،‬وقهر المرض فأصح‪.‬‬
‫إذن فكل شيء في الوجود مقهور ل حتى الروح التي جعلها ال مصدر الحس والحركة للنسان‬
‫يقهرها سبحانه‪ .‬فإذا جاء إنسان وقتل إنسانا آخر بأن ضربه على المكان الذي ل توجد عند عدمه‬
‫وفقده حياة بأن أذهب صلحيته للبقاء تنسحب الروح‪ .‬وهذا يوضح لنا أن الروح في الجسم هي‬
‫المسيطرة‪ ،‬لكن من ينقض البنية التي تسكنها الروح يُذْهبُ الروح ويخرجها من الجسم‪ .‬ومرة‬
‫يقهر المادة بالروح‪ ،‬فيأخذ الروح من غير آفة ومن غير أية إصابة ويتحول الجسم إلى رمّة‪ .‬إذن‬
‫فسبحانه يقهر الروح‪ ،‬ويقهر المادة‪ ،‬ول توجد متقابلت في الوجود عالية ومتأبية ومتمردة عليه ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ } :-‬وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ { [النعام‪.]61 :‬‬
‫والقاهر هو المتحكم بقدرة شاملة على المقهور‪ .‬وانظر أي تقابل في الحياة تجده مدينا وخاضعا‬
‫لصفة القهر‪ } .‬وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ { وكلمة " فوق " تقتضي مكانية‪ .‬ولكن المكانية تحديد‪ ،‬وما‬
‫دام القهر يتطلب قدرة فهل يعني ذلك أن القادر ل بد أن يكون في مكان أعلى؟ لننا نجد ‪ -‬على‬
‫سبيل المثال ول المثل العلى ‪ -‬من يضع قنبلة تحت العمارة العالية ويقهر من فيها‪ .‬إذن فالقهر‬
‫ل يقتضي الفوقية المكانية‪ ،‬إذن فالفوقية المرادة هي فوقية الستعلء‪ ،‬ونحن عندما تكلمنا عن‬
‫شيْءٌ { فهو ذات ل ككل الذوات‪.‬‬
‫الحق سبحانه وتعالى أوضحنا أن نلتزم بإطار } لَيْسَ َكمِثِْلهِ َ‬
‫وصفاته ليست ككل الصفات‪ ،‬وكذلك نأتي ونقول في فعله‪ ،‬وعلى سبيل المثال نجد خلق ال‬
‫يحتاجون إلى زمن ويحتاجون إلى علج‪ ،‬وكل جزئية من الفعل تحتاج إلى جزئية من الزمن‪ ،‬لكن‬
‫هو سبحانه إذا فعل أيحتاج فعله إلى زمن؟ ل؛ لنه ل يفعل بعلج‪ ،‬ول يجلس ليباشر العملية‪ ،‬إنما‬
‫يفعل سبحانه بـ " كن " ‪ ،‬إذن القهر في قوله‪ } :‬وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ { هو قهر الستعلء‪.‬‬

‫ولذلك يقول لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة لخر‬
‫رمضان "‪.‬‬
‫ففي آية ليلة ينزل فيها ال؟ ليلتك أم ليلة المقابل لك؟ أم الليلة التي تشرق الشمس فيها في مكان‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتغيب عن مكان آخر؟ إذن‪ ،‬فكل واحد من المليون من الثانية ينشأ ليل وينشأ نهار‪ ،‬وهكذا نعلم‬
‫أن ال معك ومع غيرك‪ ،‬باسطا لك ولغيرك يده‪َ {.‬بلْ يَدَاهُ مَ ْبسُوطَتَانِ }[المائدة‪.]64 :‬‬
‫لذلك ل تفهم قول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن ال يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار‪،‬‬
‫ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها "‪ .‬ل تفهم ذلك بتخصيص‬
‫ليل معين أو نهار معين؛ لن يده مبسوطة في كل زمان وفي كل مكان وليس كمثله شيء‪.‬‬
‫} وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ {‪ .‬وعباده من مادة العين والباء والدال‪ ،‬ومفردها " عَبْد " ‪ ،‬وجمعها‬
‫يكون مرة " عبيدا " وأخرى " عِبادا "‪ .‬و " العباد " هم المقهورون ل فيما ل اختيار لهم فيه‪ ،‬وهم‬
‫أيضا المنقادون لحكم ال فيما لهم فيه اختيار؛ لن النسان مقهور في بعض المور ول تصرف‬
‫له فيها‪ :‬ل تصرف له في َنفَسه‪ ،‬ول تصرف له في نبضات قلبه‪ ،‬ول تصرف له في حركة‬
‫المعدة‪ ،‬ول تصرف له في حركة المعاء‪ ،‬ول تصرف له في حركة الحالبين‪ ،‬ول تصرف له في‬
‫حركة الكُلْيَة‪ ،‬وكلها مسائل تشمل المؤمن والكافر‪ ،‬والكل مقهور فيها‪.‬‬
‫إن من رحمة ال أننا مقهورون فيها ول رأى لنا؛ لنه لو كان لنا رأي في مثل هذه المور لكان‬
‫لنا أن نسأل‪ :‬كيف ننظم عملية تنفسنا في أثناء النوم؟‪ .‬إذن فمن رحمة ال أن منع عنا الختيار في‬
‫ل منا مقهور فيها‪ ،‬فمن يستطيع أن يقول‬
‫بعض المور التي تمس حياتنا‪ .‬ومن رحمة ال أن ك ّ‬
‫لمعدته‪ :‬اهضمي الطعام؟ ومن يستطيع أن يأمر الكلى بالعمل؟!!‪.‬‬
‫إذن فكل أمر مقهور فيه النسان‪ ،‬هو فيه منقاد ل ول اختيار له‪ .‬أما المر الذي لك فيه اختيار‬
‫فهو مناط التكليف‪ .‬ولذلك ل يقول لك المنهج‪ " :‬افعل " إل وأنت صالح أل تفعل‪ ،‬ول يقول لك "‬
‫ل تفعل " إل وأنت صالح أن تفعل‪.‬‬
‫إذن المور الختيارية هي التي وردت فيها " افعل " و " ل تفعل "‪ .‬وهي المور التي فيها‬
‫التكليف‪ .‬ومن يطع ربنا في منهج التكليف يصبح وكأنه مقهور للحكم‪ ،‬ويكون ممن يسميهم ال "‬
‫عبادا " ‪ ،‬فكأنهم تنازلوا عن اختيارهم في الحكام التكليفية‪ ،‬وقالوا‪ :‬يارب لن نفعل إل ما يريده‬
‫منهجك‪.‬‬

‫وكل منهم ينفذ حكم ال فيما له اختيار أل ينفذه‪ .‬أما العبيد فهم من يتمردون على التكليف‪،‬‬
‫سهِمْ لَ َتقْنَطُواْ‬
‫فالمؤمنون بال هم عباده‪ .‬ولذلك يقول الحق‪ُ {:‬قلْ ياعِبَا ِديَ الّذِينَ أَسْ َرفُواْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫جمِيعا‪[} ...‬الزمر‪.]53 :‬‬
‫حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ‬
‫مِن رّ ْ‬
‫حمَـانِ الّذِينَ َيمْشُونَ عَلَىا الَ ْرضِ َهوْنا‬
‫ويوضح سبحانه سمات هؤلء العباد فيقول‪ {:‬وَعِبَادُ الرّ ْ‬
‫وَإِذَا خَاطَ َبهُمُ الجَا ِهلُونَ قَالُواْ سَلَما }[الفرقان‪.]63 :‬‬
‫هؤلء هم العباد الذين تنازلوا عن اختيارهم في الفعل‪ ،‬وقبلوا أن يكونوا مأمورين ومطيعين ل‬
‫فيما كلفّ به‪ ،‬وهم في المور التي ل اختيار لهم فيها يكونون مثل بقية الكائنات‪ ،‬فكل الخلق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والكون عبيد ال‪ ،‬فيما ل اختيار لهم فيه أما المؤمنون به فهم عباد ال‪ .‬ولكن آية واحدَة في القرآن‬
‫وهي التي تثير بعض الجدل في مثل هذا الموضوع‪ .‬ساعة يقول الحق سبحانه وتعالى عما يحدث‬
‫في الخرة‪ {:‬أَأَن ُتمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َه ُؤلَءِ‪[} ...‬الفرقان‪.]17 :‬‬
‫وكأن " عبادي " هنا أطلقت على الضالين‪ ،‬ويقول‪ :‬نعم؛ لن الكل في الخرة عباد؛ إذ ل اختيار‬
‫لحد هناك‪ .‬لكن في الدنيا فالمؤمنون فقط هم العباد‪ ،‬والكافرون عبيد لنهم متمردون في‬
‫حفَظَةً { [النعام‪.]61 :‬‬
‫سلُ عَلَ ْيكُم َ‬
‫الختيارات‪ } .‬وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِد ِه وَيُرْ ِ‬
‫ومع مجيء معنى القهر يرسل الحق حفظة‪ ،‬وإذا كان القهر يعني الغلبة والتملك والسيطرة‬
‫والقدرة‪ ،‬فهو قهار على عباده وأيضا يرسل عليهم حفظة‪.‬‬
‫حفَظُونَهُ }[الرعد‪.]11 :‬‬
‫ويقول في موقع آخر‪َ {:‬لهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ‬
‫وهكذا يكون قهر ال لنا‪ ،‬لمصلحتنا نحن؛ لن الضعيف حين يقهره جبار‪ ،‬يمكنه أن يقول‪ :‬ال هو‬
‫القهار العلى‪ ،‬وفي هذا تذكير للقوى نسبيا أن هناك قهارا فوق كل الكائنات‪ ،‬فال قهار فوق‬
‫الجميع‪ ،‬وبذلك يرتدع القوي عن قهره‪ ،‬فيمتنع عن الذنب‪ ،‬وتمتنع عنه العقوبة‪ ،‬وفي ذلك رحمة‬
‫له‪.‬‬
‫حفَظَةً { [النعام‪.]61 :‬‬
‫سلُ عَلَ ْيكُم َ‬
‫} وَيُرْ ِ‬
‫وجاء معنى " الحفظة " في القرآن في قوله الحق‪ {:‬مّا يَ ْلفِظُ مِن َقوْلٍ ِإلّ لَدَ ْيهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق‪:‬‬
‫‪.]18‬‬
‫فكل لفظ له رقيب عتيد‪ ،‬حفظة أي ملئكة يحفظون ويحصون أعمالكم ويسجلونها وهم الكرام‬
‫الكاتبون‪ ،‬وكلما تقدم العلم أعطانا فهما للمعاني الغيبية‪ ،‬وإن كانت المعاني الغيبية التي نستقبلها‬
‫عن ال دليلنا فيها السماع‪ ،‬ففيه رقيب وعتيد يكتبان فقط‪ ،‬هكذا قال ربنا فآمنا بما قال وانتهت‬
‫المسألة‪ ،‬وهذا هو المطلوب‪ .‬ولذلك قال الحق‪ {:‬الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ }[البقرة‪.]3 :‬‬
‫لن اليمان لو كان بالمشهد فما الفرق ‪ -‬إذن ‪ -‬بين الناس؟ إن اليمان في كماله وقمته هو‬
‫اليمان بالغيب‪ ،‬فإذا قال الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬مّا يَ ْلفِظُ مِن َق ْولٍ ِإلّ َلدَيْهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق‪.]18 :‬‬
‫فهذا خبر عن الملئكة الذين يكتبون الحسنات‪ ،‬ويكتبون السيئات‪ .‬وحين ننظر إلى البشر‪ ،‬نجدهم‬
‫يتفاوتون ويرتفع بعض منهم على بعض في صفات وقدرات‪ ،‬وكلما تقدّم الزمن عرف النسان‬
‫سِرا من أسرار ال يترقى به‪.‬‬

‫وقديما عندما صنعوا جهاز التسجيل كان حجمه كبيرا ثم تقدم العلم حتى صغر حجم المسجل‪ ،‬إذن‬
‫كلما تقدمت الصنعة صغرت اللة‪ ،‬لدرجة أنهم صنعوا مسجلً يشبه الحبوب‪ ،‬وينثرونها في أي‬
‫مكان عندما يريدون التقاط أسرار جماعة أو أسرار مجلس‪ ،‬إذن كلما قويت قدرة الصانع دقت‬
‫الصنعة‪ .‬فإذا نسبتها ل‪ ،‬فأين دقة الذي صنعته أنت بجانب دقة صنعة ال؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا كان واحد من البشر قد استطاع أن يأتي بمسجلت غير مرئية مع أن قدرته محدودة‪ ،‬وحكمته‬
‫في الصنعة محدودة‪ ،‬فإذا قال ربك‪ :‬إن هناك ملئكة لن تراهم وستحصى عليك أعمالك وهم غيب‬
‫فقل على العين والرأس‪ ،‬وسبحانه القائل‪ {:‬كِرَاما كَاتِبِينَ }[النفطار‪.]11 :‬‬
‫ظةً حَتّىا إِذَا جَآءَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ { [النعام‪.]61 :‬‬
‫حفَ َ‬
‫علَ ْيكُم َ‬
‫سلُ َ‬
‫وهنا يقول الحق‪ } :‬وَيُرْ ِ‬
‫وعندما أراد العلماء أن يعرّفوا الموت قالوا‪ :‬الموت سهم أرسل‪ ،‬وعمُرك بقدر سفره إليك‪ ،‬هو إذن‬
‫ح َدكُمُ‬
‫سهم قد انطلق‪ ،‬لكن عمرك يُقدّر بمقدار سفره إليك‪ ،‬وحين يقول الحق‪ } :‬حَتّىا إِذَا جَآءَ أَ َ‬
‫ا ْل َم ْوتُ { فهو ينسب الموت لمن؟‪ .‬لقد أبهم ال زمانه‪ ،‬وأبهم مكانه‪ ،‬وأبهم سببه‪ ،‬وأبهم قدره‪ ،‬وهذا‬
‫البهام هو أشد أنواع البيان؛ لنه ما دام قد أبهمه في كل هذه المور يجب أن نستعد للقائه في كل‬
‫زمان‪ ،‬وفي كل مكان‪ ،‬وبأي سبب‪.‬‬
‫وإياك أن تتعجب لنه يحدث في أي سن‪ ،‬فإبهام الحق له هو أكبر بيان؛ لنه سبحانه لو حدده‬
‫زمانا أو سنّا أو سببا؛ لكان على النسان أن ينتظر الموت‪ ،‬لكن شاء هذا البهام وهو أقوى أنواع‬
‫البيان‪ ،‬ليلفتك ويحثك على أن تنتظره في أي زمان وفي أي مكان وبأي سبب وفي أي سن‪ ،‬وبهذا‬
‫يكون الموت واضحا أمامنا جميعا‪ ،‬ولذلك تخشى ارتكاب أي ذنب حتى ل تقبض روحك وأنت‬
‫على الذنب؛ لنك ل تحب أن تلقى ال وأنت عاصٍ‪.‬‬
‫وعندما يؤذن لصلة الظهر ولم تصلّه‪ ،‬قد تقول‪ :‬إن وقته ممتد‪ ،‬وتجد من يقول لك‪ :‬اضمن لي‬
‫انك ستعيش إلى أن ينتهي وقت الظهر‪ " .‬ولذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬عندما سأله عبد‬
‫ي العمال أفضل؟ قال‪ :‬الصلة على وقتها‪ ،‬قلت‪ :‬ثم أيّ؟‬
‫ال بن مسعود رضي ال عنه قائل‪ :‬أ ّ‬
‫قال‪ :‬بّر الوالدين‪ ،‬قلت‪ :‬ثم أي؟ قال‪ " :‬الجهاد في سبيل ال " "‪.‬‬
‫إنك ل تضمن من عمرك أن تعيش إلى آخر الوقت‪ .‬ولذلك عندما نقول‪ :‬إن البهامات من أقوى‬
‫أنواع البيان فيجب أن نصدق ذلك؛ لن البعض يقول‪ :‬لماذا لم يبين ال لنا ذلك؟ ودائما أقول‪ :‬لقد‬
‫أوضح ال ما أبهم‪ ،‬فإن البهام هو أقوى بيان‪ ،‬ألم نر إنسانا ذهب لطبيب ليعالجه في مسألة فكان‬
‫الطبيب سبب موته؟ لقد رأينا ذلك‪ .‬لقد أخذ هذا النسان بالسباب ولم يمنع ذلك أن قدر ال قد نفذ‬
‫فيه‪.‬‬

‫ولذلك قال شوقي ‪ -‬رحمة ال عليه ‪:-‬أسد لعمرك من يموت بظفره عند اللقاء كمن يموت بنابهإن‬
‫نام عنك فكل طب نافع أو لم ينم فالطب من أذنابهفقد يخطئ الطبيب ‪ -‬مثلً ‪ -‬في إعطاء حقنة ‪-‬‬
‫فتنتهي الحياة ويقولون‪ :‬خطأ الطبيب إصابة القدار‪.‬‬
‫سلُنَا { [النعام‪.]61 :‬‬
‫مصداقا لقوله تعالى‪ } :‬حَتّىا ِإذَا جَآءَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ َت َوفّتْهُ رُ ُ‬
‫وعندما تأتي كلمة " توفّى " تجدها في القرآن دائرة على ثلثة ألوان‪ :‬اللون الول هو قول الحق‪{:‬‬
‫اللّهُ يَ َت َوفّى الَنفُسَ حِينَ َموْتِـهَا }[الزمر‪.]42 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله سبحانه‪ُ {:‬قلْ يَ َت َوفّاكُم مَّلكُ ا ْل َم ْوتِ }[السجدة‪.]11 :‬‬
‫ومرة يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ت َوفّتْهُ رُسُلُنَا { [النعام‪.]61 :‬‬
‫سبحانه ‪ -‬إذن ‪ -‬ينسب الموت له ولملك الموت‪ ،‬ولرسله‪.‬‬
‫وهل الرسل يأخذون الرواح ويقبضونها إل بإذن من ملك الموت؟ إنهم جنوده‪ ،‬فل أحد يميت‬
‫دون إذن من ال‪ ،‬فأخذ الرواح وقبضها إلى ال أمرا‪ ،‬وإلى ملك الموت وسيلة وواسطة‪ ،‬وإلى‬
‫الرسل تنفيذا‪.‬‬
‫} َت َوفّتْهُ ُرسُلُنَا وَهُ ْم لَ ُيفَرّطُونَ { [النعام‪]61 :‬‬
‫من أين يأتي التفريط؟ لقد تقدم في هذه الية شيئان اثنان‪ :‬حفظة يحفظون عليك تصرفاتك وفعالك‪،‬‬
‫وهم يأخذون الروح أيضا‪ .‬وهؤلء الملئكة ل يفرطون في هذه المهمة أو تلك‪ .‬وحين ننظر في‬
‫مادة الـ " فاء " ‪ ،‬والـ " الراء " والـ " الطاء " نجدها تأتي مرة " فرّط " ‪ ،‬ومرة " أفرط "‪ .‬ومن‬
‫العجيب أنها تأتي للمتقابلين؛ ففرّط في الشيء أي أهمله‪ ،‬وأفرط في الشيء أي جاوز الحد والقدر‬
‫في الحدث‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَهُ ْم لَ ُيفَرّطُونَ { أي ل يهملون ول يقصرون‪ .‬وفي إحدى قراءات‬
‫القرآن نجد من يقرأ‪ " :‬ل يفرطون " بالتخفيف‪ ،‬والمقصود أنهم ل يتجاوزون الحد‪ .‬ولذلك نجد‬
‫الحق يقول‪ {:‬فَِإذَا جَآءَ َأجَُلهُ ْم لَ يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ }[العراف‪.]34 :‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ُ } :‬ثمّ رُدّواْ إِلَىا اللّهِ‪{ ...‬‬

‫(‪)843 /‬‬

‫حكْ ُم وَ ُهوَ أَسْ َرعُ ا ْلحَاسِبِينَ (‪)62‬‬


‫حقّ أَلَا َلهُ ا ْل ُ‬
‫ثُمّ ُردّوا إِلَى اللّهِ َموْلَا ُهمُ الْ َ‬

‫وكلمة " ردوا " تفيدا أن كان لهم التقاء به أول‪ ،‬وبعد ذلك سوف يرجعون‪ ،‬كيف؟ لقد كانوا منه‬
‫إيجادا ثم ردوا إليه حسابا ثوابا وعقابا؛ لن الحق سبحانه وتعالى هو القائل‪ {:‬مِ ْنهَا خََلقْنَاكُ ْم َوفِيهَا‬
‫ُنعِي ُدكُمْ‪[} ...‬طه‪.]55 :‬‬
‫{ ُثمّ رُدّواْ إِلَىا اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَقّ } وكلمة " مولى " تعني أنه هو الذي يليك‪ ،‬ول يليك إل من هو‬
‫قريب منك‪ .‬وهذا القريب قد يكون منْجدا لك إن حدث لك ما يفزعك وهو الذي يُعينك‪ ،‬وهكذا‬
‫أخذت كلمة " مولى " معنى القريب‪ ،‬والناصر والمعين الذي تفزع إليه في شدائدك‪ ،‬وقد يوجد لك‬
‫مولى في الدنيا وهو من الغيار‪ .‬ومن الجائز أن يتغير قلبه عليك‪ ،‬ومن الجائز أن تنالك الحداث‬
‫التي هي فوق قدرته وطاقته‪ ،‬ومن الجائز أن يكون لك مولى تنشده وتطلبه لنصرتك فيرفض؛ لن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خصْمك له بهذا المولى ولء أقوى وأشد فيقف بجانب خصمك وقد يوهمك أنه معك لكن قلبه ليس‬
‫معك‪.‬‬
‫لكن هناك في الخرة مولى حق واحد { رُدّواْ إِلَىا اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَقّ } وتطلق كلمة " موْلى " على‬
‫السيد حين يعتق عبده‪ .‬وحين يعتقنا ربنا من النار أليس في ذلك أعظم ولية؟‪ .‬إنه المولى الحق‪،‬‬
‫فل توجد قوة أعلى منه وهو ل يتغير؛ لن الغيار من طبيعة الخلق‪.‬‬
‫وحين يطلب منك الحق أن تُعمل عقلك لنك حين تعتمد على واحد ينفعك في أمورك فأنت تتوكل‬
‫عليه‪ ،‬وتطلب مساعدته‪ ،‬وهنا يأمرك الحق بأن تتوكل على الحي الذي ل يموت‪ ،‬ول تتكل على‬
‫واحد من الغيار فقد يصبح الصباح فتجده قد خل بك وتخلىّ عنك‪ .‬أما إذا كان مولك هو الحق‬
‫فلن يخذلك‪.‬‬
‫ح ْكمُ }‪ .‬ولماذا جاء بكلمة " الحكم " هنا؟؛ لننا في دنيا‬
‫{ ُثمّ رُدّواْ إِلَىا اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَقّ َألَ َلهُ الْ ُ‬
‫الغيار قد يسند سبحانه بعض الحكام إلى بعض خلقه؛ فهذا يحكم‪ ،‬وذلك يتصرف‪ ،‬وآخر يصدر‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ }‬
‫قرارا بالتعيينات‪ ،‬وكلها أحكام‪ ،‬أما في الخرة فالحق يقول‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫[غافر‪.]16 :‬‬
‫وأنت في الدنيا تملك‪ ،‬ويكون رزق ابنك ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬من يدك‪ ،‬وتملك أن تصدر قرارا‬
‫بترقية من هو أقل منك‪ ،‬وتملك أن تخيط الثوب لغيرك إن كانت تلك مهنتك‪ ،‬ففي الدنيا كل منا‬
‫يملك بعضا من أسباب الخر‪ .‬لكن في الخرة ل يوجد شيء من هذا‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ‬
‫ا ْل َقهّارِ }[غافر‪.]16 :‬‬
‫وساعة تسمع " أل له الحكم " فـ " أل " في اللغة أداة تنبيه لما يأتي بعدها‪ ،‬ولماذا تأتي أداة التنبيه‬
‫هنا؟ لن الحكم القادم بعدها حكم مهم‪ .‬والكلم ‪ -‬كما نعرف ‪ -‬واسطة بين متكلم ومستمع؛ لن‬
‫المتكلم ينقل أفكاره وخواطره توجد في خياله نسبة ذهنية‪ ،‬أي أنه يعايش مشروع الكلم ويتدبره‬
‫قبل أن يتكلم‪ ،‬أما السامع فهو يفاجأ‪ ،‬وعندما تريد أن تقول أمرا مُهمّا فأنت تحاول أن تضمن انتباه‬
‫السامع حتى ل تفلت منه أية جزئية من كلمك‪ ،‬فتقول‪ " :‬أل " لتشد انتباه السامع تماما‪.‬‬

‫حكْمُ {‪.‬‬
‫والحق هنا يقول‪ " :‬أل " ليأخذ انتباه السامع‪ ،‬ويأتي بعدها قوله‪ } :‬لَهُ ا ْل ُ‬
‫حكْمُ {‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ساعة تسمع " أل " فاعرف أن فيها تنبيها لمر قادم } لَهُ ا ْل ُ‬
‫والحكم‪ :‬هو الفصل بين أمرين‪ ،‬ويختلف الفصل بين أمرين باختلف الحاكم؛ فإن كان الحاكم له‬
‫هوى فالحكم يميل‪ ،‬لكن الفصل بين المرين يجب أن يكون بل هوى‪ ،‬فالحكم بالميزان يقتضي أن‬
‫تكون له كفة هنا وكفة تقابلها‪ ،‬وساعة ما نضبط الميزان نحاول أن نوازن الكفتين لنفصل بين‬
‫مسألتين ملتحمتين‪ ،‬وما دمنا نريد التساوي فنحن نسمي ذلك‪ :‬النصاف‪ ،‬أي أن نقف في النصف‬
‫دون ميل أو حيْف‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكْمُ { فالواحد منا يعلم أنه‬
‫ح ْك ُم وَ ُهوَ أَسْ َرعُ الْحَاسِبِينَ { وساعة يسمع إنسان } َألَ لَهُ ا ْل ُ‬
‫} َألَ َلهُ الْ ُ‬
‫سبحانه يحكم بين الخلق بداية من آدم إلى أن تنتهي الدنيا‪ ،‬وكل واحد منا تتشابك مسائله مع‬
‫غيره‪ ،‬وما دام ال الحكم فليس لغيره معه حكم‪ ،‬ويحكم بين الخلق جميعا وفعله ل يحتاج إلى‬
‫زمن‪ ،‬ونتذكر هنا المام عليّا ‪ -‬كَرمّ ال وجهه ‪ -‬حين قالوا له‪ :‬كيف يحاسب ربنا الناس جميعا‬
‫في وقت واحد‪ ،‬وبمقدار حلب شاة كما قال بعضهم؟ فقال المام عليّ‪ " :‬كما يرزقهم في وقت‬
‫واحد يحاسبهم في وقت واحد " ‪ ،‬وهذه مسألة سهلة ليس فيها أدنى صعوبة أبدا‪ .‬وقديما عندما‬
‫كانوا ينيرون الطرقات كانوا يشعلون المسارج‪ :‬هنا مسرجة‪ ،‬وهناك مسرجة‪ ،‬وعلى البعد مسرجة‬
‫ثالثة‪ ،‬وكان الوقاد يمشي ليشعل المسارج‪ ..‬إلخ‪ ،‬وارتقى العقل البشري المخلوق ل واستطاع أن‬
‫ينير الطرقات بالطاقة الكهربائية أو الطاقة الشمسية وفي وقت واحد‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ُ } :‬قلْ مَن يُنَجّي ُكمْ مّن ظُُلمَاتِ‪{ ...‬‬

‫(‪)844 /‬‬

‫خفْيَةً لَئِنْ أَ ْنجَانَا مِنْ َه ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ‬


‫ُقلْ مَنْ يُ َنجّيكُمْ مِنْ ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ َتدْعُونَهُ َتضَرّعًا وَ ُ‬
‫الشّاكِرِينَ (‪)63‬‬

‫المتعب للخلق أن تأتي الظلمة وتكون في مهمة النور‪ ،‬وأن يأتي النور في مهمة الظلمة‪ ،‬فلكل من‬
‫الظلمات والنور ودور مهمة في الحياة‪ .‬ولذلك قلنا في أول السورة حين تكلم الحق سبحانه وتعالى‬
‫ت وَالنّورَ‪[} ...‬النعام‪.]1 :‬‬
‫ج َعلَ الظُّلمَا ِ‬
‫ض وَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر َ‬
‫حمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫قائلً‪ {:‬ا ْل َ‬
‫لقد ظن البعض أن المفترض أن يقول سبحانه‪ :‬وجعل النور والظلمات‪ ،‬ولكن لنتلمس القول الحق‪،‬‬
‫ولنعترف أن مهمة الظلمة تتساوى مع مهمة النور‪ ،‬وعلى النسان أن يعي مهمة الظلمة‪ ،‬وكلنا‬
‫يعرف مهمة النور الذي يعيننا على السعي على أمور حياتنا‪ ،‬ويتطلب السعي طاقة‪ ،‬ول يمكن أن‬
‫تأتي الطاقة إل بعد سكون وهدوء واطمئنان وراحة؛ لذلك فالراحة تحتاج إلى ظلمة لينام النسان‬
‫ويستريح‪ ،‬إذن فالظلمة نعمة من نعم ال‪ ،‬والذي يتعب النسان أن يغير ويبدل فيجعل النور مكان‬
‫الظلمة‪ ،‬ويجعل الظلمة مكان النور‪ ،‬وهذا خروج عن مهمة كل متقابلين‪ .‬وحين ينشئ الحق‬
‫المتقابلت ل ينشئها على أنها تتضاد‪ ،‬أو على أنها تتعاند‪ ،‬ولكنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يريد متكامل يعين‬
‫متكامل‪ ،‬فل شيء يهدم شيئا مقابلً له‪ ،‬بل كل متكامل يساعد الخر‪ .‬ولذلك قال الحق سبحانه‬
‫وتعالى‪ {:‬وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَجَلّىا }[الليل‪.]2-1 :‬‬
‫وقد جاء سبحانه بالليل أولً‪ ،‬والنهار ثانيا‪ ،‬ولكل منهما مهمة‪ ،‬ول يمكن أن تؤدي مهمة النهار‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على حقيقتها إل إن جاءت مهمة الليل فأُدّيَت على حقيقتها‪ .‬وهات إنسانا لم يأخذ من الليل الراحة‬
‫والسكون والهدوء‪ ،‬وعانى من قرص ولسْع الناموس أو البراغيث‪ ،‬أو من ضجيج وخلفه‪ ،‬ولم‬
‫ينم‪ ،‬ثم في الصبح تجده نصف نائم‪ ،‬نصف مرهق‪ ،‬غير قادر على التركيز أو كما يقولون "‬
‫مذهول "‪.‬‬
‫إذن فمن أجل حركة الضوء ل بد أن توجد الظلمة‪ {:‬وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَجَلّىا }‬
‫[الليل‪]2-1 :‬‬
‫الليل والنهار ‪ -‬إذن نعمتان‪ ،‬وكل نعمة تساوي الخرى‪ ،‬وإياك أن تقول هذه ضد تلك‪ ،‬أو أنها‬
‫جاءت لتعاندها‪ ،‬ل‪ .‬لقد جاءت كل منهما لتساند الخرى‪ .‬وفي سورة الليل يتابع الحق‪َ {:‬ومَا خَلَقَ‬
‫ال ّذكَ َر وَالُنثَىا }[الليل‪]3 :‬‬
‫لقد جاء سبحانه أيضا بمتقابلين‪ ،‬وإياك أن تظن أنهما متعاندان فقد جعلهما ال متكاملين لتنجح‬
‫الحياة‪ .‬وإن تعاندا تفسد الحياة‪ .‬وما دام الليل له مهمة والنهار له مهمة‪ ،‬إذن فالذكر له مهمة‪،‬‬
‫جلّىا *‬
‫والنثى لها مهمة‪ .‬وإن خَلَطت المهمتين ينتج الفساد‪ {.‬وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَ َ‬
‫سعْ َيكُمْ لَشَتّىا }[الليل‪]4-1 :‬‬
‫َومَا خَلَقَ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا * إِنّ َ‬
‫خفْيَةً لّئِنْ أَنجَانَا مِنْ‬
‫ويقول الحق هنا‪ُ { :‬قلْ مَن يُ َنجّيكُمْ مّن ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ َتدْعُونَهُ َتضَرّعا وَ ُ‬
‫هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ } [النعام‪]63 :‬‬
‫والظلمة ‪ -‬إذن ‪ -‬هي عدم النور‪ .‬ولم يقل الحق إن طلب النجاة يكون من ظلمة واحدة‪ ،‬وإنما‬
‫طلب النجاة من ظلمات متعددة‪ ،‬وهي ظلمات متراكمة؛ لن الظلمة إذا ما غُشيت بظلمة ثانية‪ ،‬ثم‬
‫بظلمة ثالثة‪ ،‬حينئذ تصير ظلمات مركبة بعضها فوق بعض‪.‬‬

‫والحق سبحانه قال‪ } :‬ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ { ‪ ،‬وحتى نعرف أهي ظلمات حسّية أم ظلمات معنوية‬
‫ل بد لنا أن نعرف الظلمة في معناها الحسي‪ ،‬إنها ما يؤدي إلى عدم الهتداء إلى الحركة المنجية‪،‬‬
‫إذن فكل أمر يؤدي إلى عدم الهتداء ‪ -‬حسّيا أو معنويا ‪ -‬هو ظلمة؛ لن النسان في هذه الحالة‬
‫يسير في أموره بغير اهتداء‪ ،‬والحداث والكوارث التي يصعب على الناس أن يعرفوا طريق‬
‫النجاة منها تُعتبر ظلمة‪ ،‬سواء أكانت ظلمة حسّية أَمْ معنوية‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقرب لنا المعنويات بالمور الحسّية‪ ،‬والمراد بالظلمات هنا هي الحداث‬
‫والكوراث والنوازل التي تضيق أسباب البشر عن النجاة منها‪ .‬والنسان حريص دائما على نفع‬
‫نفسه‪ .‬وتظهر التناقضات في أفعال إنسان عن أفعال إنسان آخر لختلف كل منهما في تقييم‬
‫وتقدير النفعية‪ .‬والمثال على ذلك واضح ونضربه دائما هو‪ :‬مثال التلميذ الذي يذهب صباحا‬
‫مبكرا إلى مدرسته‪ ،‬وينتبه إلى أساتذته‪ ،‬ويعود إلى منزله ليؤدي واجبه‪ ،‬ويخرج من لذيذ الكسل‬
‫ليجد لذة في العمل‪ ،‬إنّه بذلك يحب نفسه ويريد النفع لها‪ .‬أما التلميذ الذي ينام يوقظه أهله فل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يستيقظ‪ ،‬وإذا أيقظوه فهو يخرج من البيت ليتسكع في الطريق‪ ،‬مثل هذا التلميذ يحب نفسه حبا‬
‫أحمق لنه يريد اللذة العاجلة التي تعقبها سلسلة من اللم الجلة‪ .‬إنه ينتظر مستقبلً ل كرامة له‬
‫فيه عكس التلميذ المجد الذي يتبوأ المكانة اللئقة به‪.‬‬
‫والمثال الواضح أيضا في الريف هو الفلح الذي يقضي وقته على المقهى ويسهر الليل أمام‬
‫التلفيزيون ويترك الرض بل حرث ول رى ول تسميد‪ ،‬ول يمكن أن تنتج الرض التي يفلحها‬
‫محصولً مساويا لرض الفلح الذي يأخذ بأسباب ال فيحرث الرض وينتظم في ريها في‬
‫المواعيد المحددة‪ ،‬ويضع السماد المقرر لها؛ لن الذي أخذ بأسباب ال وتعب وبذل جهدا ل بد أن‬
‫يعطيه الحقّ الرزقَ الوفيرَ‪ .‬أما الذي يكسل عن أداء عمله فقد أحب نفسه حبا أحمق قصير الجل‪،‬‬
‫وأما الذي أخذ بأسباب ال وأقبل على عمله بحب وتقدير فقدد أحب نفسه حبا أعمق‪ ،‬فيه نفع له‬
‫ولغيره‪.‬‬
‫إن كل حركة يصنعها النسان في الحياة إنما يريد بها نفع نفسه‪ ،‬ولكنْ هناك اختلف في تقدير‬
‫النفعية بين إنسان وآخر‪ ،‬والعاقل من يرى النفعية الجلة المجدية ويعمل لها‪ .‬وهاهوذا المتنبي‬
‫الشاعر العربي يقول‪:‬أرى كلنا يبغى الحياة لنفسه حريصا عليها مستهامًا بها صبّافحب الجبان‬
‫النفس أورده التقى وحب الشجاع النفس أورده الحرباحب الشجاع لنفسه ‪ -‬إذن ‪ -‬جعله طموحا‬
‫إلى الحياة الخالدة كشهيد في سبيل ال‪ ،‬وحب الجبان لنفسه جعله أسير الخوف على الحياة الفانية‪.‬‬

‫فإذا ما صُدم النسان بأحداث ونوازل وكوارث نرى نفعيته وهي تحركه إلى البحث عن أسباب‬
‫للنجاة‪ ،‬ويعتمد على أسبابه أو أسباب من هو قريب منه‪ ،‬أما إذا عزّت أسباب البشر‪ .‬وكان غافلً‬
‫عن ال‪ ،‬فإن الحداث والمصائب والكوارث تعيده وتذكره بخالقه فيقول‪ " :‬يارب " ‪ ،‬وبذلك ل يبيع‬
‫نفسه رخيصا‪ .‬لكن إن خدع مثل هذا النسان نفسه من البداية وأعرض عن ال تمرد على ربّه‬
‫ووجد نفسه أمام الكوارث فهو يسلم أمره ل في وقت الشدة‪ ،‬فإن انجاب وانكشف عنه الضر عاد‬
‫ضلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ‬
‫سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ‬
‫إلى كفره وتمرده‪ .‬ولذلك يقول الحق سبحانه‪ {:‬وَإِذَا مَ ّ‬
‫ن الِنْسَانُ َكفُورا }[السراء‪]67 :‬‬
‫فََلمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْ َرضْتُ ْم َوكَا َ‬
‫ونجد الذين يقابلون الهوال وتنتهي أسبابهم ل يكذبون على أنفسهم‪ .‬بل يتجهون فطريا إلى الحق‬
‫القادر على الخذ بأيديهم‪ .‬فلحظة أن تضطرب سفينة وتحيطها عواصف الموج والرياح‪ ،‬وتختل‬
‫آلتها ل تجد إل كلمة‪ :‬يارب‪ ،‬يارب‪ .‬يارب على ألسنة كل ركابها بداية من " القبطان " والقائد‬
‫إلى أصغر راكب بها‪ ،‬وتجد من يتمتم بآيات القرآن توسلً إلى ال للنجاة‪ .‬وكذلك لحظة أن‬
‫تضطرب طائرة في الجو‪ ،‬ول يعرف قائدها طريقا للنجاة ل يقفز إلى أذهان الركاب وطاقم‬
‫الطائرة إل نداء التضرع إلى ال‪.‬‬
‫ضلّ مَن تَدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ { ودعوة النسان ربّه وموله هي الوسيلة‬
‫ولهذا يقول لنا الحق سبحانه‪َ } :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الولى من وسائل اليقين‪ ،‬ونعلم أن أحداث الحياة تتراوح ما بين أمرين؛ أمر يبسط ويسعد‬
‫النسان‪ ،‬وأمر يقبض ويضيق على النسان ويشقى به‪ ،‬فأما الذي يبسط ويسعد فهو إدراك الجمال‪،‬‬
‫والنعمة والراحة‪ ،‬والسعادة‪ ،‬والحساس بالرضى‪ .‬وأما الذي يضيّق على النسان ويشقيه فهو يريد‬
‫أن يفلت منه وينجو‪.‬‬
‫ولنا العبرة الكاملة من الفطرة التي فطر ال النسان عليها‪ ،‬فالنسان بفطرته إن رأى ما يسعده‪ ،‬ل‬
‫يجد تعبيرا أقوى من أن يقول‪ " :‬ال "‪ .‬وهي صيحة التقدير والتقديس ل الذي أعطاه موهبة إتقان‬
‫العمل‪ .‬وتتجلى العبرة الكاملة أيضا عندما يدهم النسان الخطر فيقول بفطرته‪ " :‬يارب "‪ .‬إذن فل‬
‫ملجأ إل إلى ال‪.‬‬
‫ظُلمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ {؟ ويتضمن السؤال الحقيقة التي ل بد أن يقررها السامع‬
‫} ُقلْ مَن يُ َنجّيكُمْ مّن ُ‬
‫لهذا السؤال وهي‪ :‬إن ال هو المنجي من ظلمات البر والبحر‪ .‬وحين يأمر الحق رسوله أن يقول‬
‫هذا التساؤل للكافرين فهو سبحانه عليم بأن إجابة الفطرة هي التي ستغلب على ألسنة الكافرين‬
‫ويعترفون به سبحانه وحده بأنه هو المنجي من ظلمات البر والبحر‪ .‬والكون ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬إما بر‬
‫وإمّا بحر‪ .‬ولقائل أن يقول‪ :‬ولكن هناك كوارث جديدة في عصرنا هي كوارث الجو‪.‬‬

‫؟‬
‫ونقول‪ :‬يجب أن تفهم أن كل جو يأخذ حكم مكانه‪ .‬فجو البر من البر‪ ،‬وجو البحر من البحر‪،‬‬
‫ومثال ذلك ما نراه عند الصلة في المسجد الحرام؛ فنحن نرى المصلين يؤدون الصلة حول‬
‫الكعبة أو في الدور والطابق الول أو الثاني أو الثالث من المباني المقامة كمسجد حول الكعبة‪.‬‬
‫ونلحظ أن ارتفاع الكعبة ل يزيد على ارتفاع دور واحد من أدوار المباني التي حولها‪ .‬والمصلون‬
‫يتجهون في صلواتهم في تلك الدوار إلى جو الكعبة‪ ،‬ذلك أن جو المكان المقدس هو مقدس‬
‫أيضا‪ ،‬وجو الحرم من الحرم‪.‬‬
‫ومثال آخر هو السعي بين الصفا والمروة؛ فالمسلم يسعى بين الصفا والمروة في الدور الرضي‪،‬‬
‫وهناك الن دور ثان أقيم للسعي‪ .‬وهكذا نرى أن جو المسعى مسعى أيضا‪ .‬وقديما كان محرّما‬
‫على الطائرات أن تطير في جو مكة أو المدينة‪ .‬حدث ذلك أيام أن كان الطيارون من غير‬
‫المسلمين‪ ،‬وذلك حتى ل يطير غير المسلم في الجو المقدس‪ .‬أما الن فقد صار مسموحا للطيارين‬
‫المسلمين أن يقودوا طائراتهم في أجواء مكة والمدينة المنورة‪.‬‬
‫فالجو له حكم المكان سواء أكان المكان برا أم بحرا‪.‬‬
‫خفْيَةً { إن الدعاء بالفطرة يتجه إلى‬
‫ظُلمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ َتضَرّعا وَ ُ‬
‫} ُقلْ مَن يُ َنجّيكُمْ مّن ُ‬
‫ال‪ ،‬والدعاء هو طلب لشيء‪ .‬والطلب يقتضي طالبا‪ ،‬ومطلوبا‪ ،‬ومطلوبا منه‪ .‬والطالب هو من‬
‫يدعو‪ .‬والمطلوب منه هو من ندعوه ونسأله‪ .‬والمطلوب هو الشيء الذي نتضرع بالدعاء رجاء‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أن يحدث‪ .‬والطلب لون من المر‪ ،‬لكن إذا ما جاء الطلب من الدنى إلى العلى فل تقل إنه أمر‪،‬‬
‫بل هو دعاء‪.‬‬
‫وفي اللغة عندما نسأل الطالب أن يقوم بإعراب " رب اغفرلي " ‪ ،‬نجد الذي استذكر دروسه دون‬
‫تفقه يقول‪ " :‬اغفر فعل أمر " ‪ ،‬أما الطالب المتفقه في فهم دينه مع إجادة لدراسته فيقول بأدب‬
‫اليمان‪ :‬اغفر هي فعل دعاء؛ لن الطلب إن صدر من الدنى إلى العلى فهو دعاء‪ ،‬وإن صدر‬
‫من المساوى للمساوى فهو التماس‪ ،‬وإن صدر من العلى إلى الدنى فهو أمر‪.‬‬
‫وحين ننظر إلى الحالة النفسية لمن تحيطه الكوارث والحداث والنوازل وتضغط عليه الظروف‬
‫ول يجد من ينقذه‪ ،‬هل مثل هذا النسان يأمر أو يدعو إنه يدعو بطبيعة الحال‪ ،‬ويدعو بتذلل‬
‫وامتثال وخضوع‪ ،‬وهذا معنى الدعاء‪ ...‬إنه السؤال بتضرع وخضوع‪ ،‬والتضرع يقتضي قولً‪،‬‬
‫ل ويكون التضرع بالوجدانيات والسلوكيات‪.‬‬
‫ويقتضي فع ً‬
‫ويخطئ من يظن أن هناك تضرعا بالقول دون أن يربط ذلك بفعل‪ ،‬فعندما تكون في موقع قوة أو‬
‫نفوذ ويسألك سائل أن تتفضل عليه بشيء‪ ،‬فهذا منه تضرع بالقول‪ .‬لكن عندما تكون في موقع‬
‫قوة أو نفوذ ويسألك سائل أن يفعل لك أمرا‪ ،‬فهذا تضرع بالقول والفعل‪ .‬وفي لحظة الخطر يدعو‬
‫خفْيَةً‬
‫النسان ربه ول يمكن أن يكون في قلبه ذرة من نفاق؛ لن الحق يقول‪ } :‬تَدْعُونَهُ َتضَرّعا َو ُ‬
‫{‪.‬‬

‫والتضرع خفية يكون بالقلب أيضا‪ .‬وليس في ذلك رياء؛ لن القلب ل اطلع لحد عليه إلّ‬
‫الخالق البارئ‪ ،‬والمثال على ذلك ما فعلته امرأة أوربية قرأت تاريخ رسول ال صلى ال عليه‬
‫ص ُمكَ مِنَ النّاسِ }[المائدة‪:‬‬
‫وسلم‪ ،‬ووصلت في قراءتها إلى أسباب نزول قوله الحق‪ {:‬وَاللّهُ َي ْع ِ‬
‫‪.]67‬‬
‫ووجدت أن هذا القول الكريم قد نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان نائما بعد ليلة من‬
‫السهر‪ ،‬فقالت له عائشة رضي ال عنها‪ :‬أل من رجل صالح يحرسنا الليلة؟ وبينما هي تقول ذلك‬
‫حتى سمعت صوت السلح‪ ،‬وكان ذلك إعلنا عن مقدم سعد وحذيفة وقال‪:‬‬
‫جئنا نحرسك يا رسول ال‪ .‬ونام رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى سمعت سيدتنا عائشة‬
‫ص ُمكَ مِنَ النّاسِ }[المائدة‪.]67 :‬‬
‫غطيطه‪ ،‬ثم نزل عليه الوحي بهذا القرآن الكريم‪ {:‬وَاللّهُ َي ْع ِ‬
‫فقام رسول ال صلى ال عليه وسلم من النوم وقال‪ " :‬انصرفوا أيها الناس فقد عصمني ال "‪.‬‬
‫وعندما قرأت المرأة الوربية هذه الحكاية في تاريخ محمد صلى ال عليه وسلم وأحسنت الفهم لها‬
‫أعلنت إسلمها على الفور قائلة‪ :‬لو كان محمد يخدع الناس جميعا ما خدع نفسه في حياته‪ .‬لقد‬
‫أدركت هذه المرأة بالفطنة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يكن ليصرف عنه الحرس لو لم‬
‫يثق تمام الثقة في أن ال يحميه‪ ،‬وأنه سبحانه قادر على أن يحفظه‪ .‬والنسان لحظة الخطر إنما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يدعو ال تضرعا وخفية‪ .‬والدعاء ‪ -‬كما علمنا ‪ -‬يحتاج إلى قول وفعل ووجدان‪ .‬وهذه الركان‬
‫خفْيَةً لّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ‬
‫الثلثة تتوافر في قوله الحق‪ } :‬تَدْعُونَهُ َتضَرّعا وَ ُ‬
‫{ [النعام‪.]63 :‬‬
‫فكلمة (تدعونه)‪ :‬قول و (تضرعا)‪ :‬فعل لنه خشوع وخضوع ‪ -‬و(خفية)‪ :‬انكسار القلب وخشيته‬
‫و " أنجانا " تدل على التعدد؛ لن الفعل للتجدد والحدوث وأيضا قوله‪ُ } :‬قلْ مَن يُ َنجّيكُمْ { يدل على‬
‫التكثير‪ ،‬أي أنه ل ينجّي مرة واحدة ولكنه ينجّي لمرات كثيرة‪ .‬ويأتي لنا سبحانه بصور كثيرة‬
‫لقدرته على أن ينجّينا إما بتكرار النجاة أو بتعدي النجاة من موقف لموقف‪ .‬وتكرار النجاة هو أن‬
‫يكون الحدث واحدا وينجي الحق فيه أفرادا كثيرين‪ ،‬أو يكون الحدث واحدا والطالب للنجاة منه‬
‫فردا واحدا‪ ،‬ويكرر ال نجاته من هذا الحدث‪ .‬إن الحق سبحانه ينجّي الفرد أو الجماعة من‬
‫الحداث أو الكوارث المختلفة‪ .‬وسبحانه القائل‪ {:‬وَإِذَا مَسّ الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ‬
‫شفْنَا عَ ْن ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ َيدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ }[يونس‪.]12 :‬‬
‫قَآئِما فََلمّا كَ َ‬
‫إن النسان إذا ما أصابه الضر في نفسه أو ماله أو نحو ذلك‪ ،‬أحس بضعفه ودعا ربه في أي‬
‫حالة من حالته ‪ -‬سواء أكان مضطجعا أم قاعدا أم قائما ‪ -‬حتى يكشف ال عنه هذا البلء‪،‬‬
‫وعندما يستجيب ال لدعاء هذا النسان ينسى هذا النسان فضل ال عليه كأنه لم يدع ال أن يزيل‬
‫عنه الضر‪.‬‬

‫ضلّ مَن تَدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ فََلمّا نَجّا ُكمْ إِلَى الْبَرّ‬
‫سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ‬
‫والحق سبحانه يقول‪ {:‬وَِإذَا مَ ّ‬
‫ن الِنْسَانُ َكفُورا }[السراء‪.]67 :‬‬
‫أَعْ َرضْتُ ْم َوكَا َ‬
‫وسبحانه ‪ -‬هنا ‪ -‬يُذكّر المشركين ومن كان على شاكلتهم أنهم عندما يصيبهم الضر في البحر‬
‫يغيب عنهم كل من كانوا يدعونه سواء من الصنام أو غيرها ول يلجأون إل ال حتى ينجيهم من‬
‫الغرق ويخرجهم إلى البر‪ ،‬ومن بعد ذلك يعودون إلى الشرك بال والجحود بنعمته سبحانه‪.‬‬
‫وكذلك هنا في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪.‬‬
‫خفْيَةً لّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ‬
‫ظُلمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ َتضَرّعا وَ ُ‬
‫} ُقلْ مَن يُ َنجّيكُمْ مّن ُ‬
‫الشّاكِرِينَ { [النعام‪.]63 :‬‬
‫لقد دعوا ال بالتضرع والتذلل أن ينّجيهم من ظلمات البر والبحر‪ ،‬ووعدوا أن يكونوا من‬
‫الشاكرين‪ ،‬ولكن ماذا كان موقفهم بعد أن أنجاهم ال؟‬
‫يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬قلِ اللّهُ يُ َنجّيكُمْ مّ ْنهَا َومِن ُكلّ كَ ْربٍ ُثمّ‪{ ...‬‬

‫(‪)845 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ُقلِ اللّهُ يُ َنجّيكُمْ مِ ْنهَا َومِنْ ُكلّ كَ ْربٍ ثُمّ أَنْتُمْ ُتشْ ِركُونَ (‪)64‬‬

‫إن الحق ينجيهم من الظلمات المادية في البر البحر‪ ،‬وسبحانه بعلمه الزلي يعلم أنهم بعد النجاة‬
‫سيعودون إلى ما نهاهم عنه من شرك به؛ لن النسان بطبيعته عندما يجد حياته مكتفية بما يملكه‬
‫طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق‪.]7-6 :‬‬
‫ن الِنسَانَ لَيَ ْ‬
‫قد يقع فيما قاله الحق تبارك وتعالى‪ {:‬كَلّ إِ ّ‬
‫والنسان قد يتجاوز حدوده ويتكبر على من حوله‪ ،‬بل وعلى ربه إن رأى نفسه صاحب ثراء‪ ،‬ول‬
‫يعصم النسان من مثل هذا الموقف إل اليمان بال؛ لن النسان بدون منهج ال يسبح في بحر‬
‫الغرور والتكبر‪ ،‬ولكن من يحيا في ضوء منهج ال فهو يعرف كيف يرعى ال في كل إمكانات أو‬
‫ثراء يمنحه له ال‪ ،‬وينشر معونته ليستظل بها المحتاج غير الواحد‪ .‬ولذلك نجد أن كلمة " النسان‬
‫خسْرٍ }[العصر‪.]2-1 :‬‬
‫ن الِنسَانَ َلفِى ُ‬
‫" إذا أُطلقت تقترن بالخسارة‪ {.‬وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ‬
‫عمِلُواْ‬
‫أي أن النسان على إطلقه في خُسْر‪ .‬ولكن الحق يستثني مَن؟‪ِ {..‬إلّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ‬
‫صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر‪.]3 :‬‬
‫ق وَ َتوَا َ‬
‫ت وَ َتوَاصَوْاْ بِا ْلحَ ّ‬
‫الصّالِحَا ِ‬
‫إذن فالنسان المعزول عن منهج ال هو الذي يحيا في خسران‪ ،‬لكن من يعيش في رحاب المنهج‬
‫هو الذي ل يخسر أبدا‪ .‬والنسانحين يعيش دون منهج يصدر ويحدث منه ما رواه الحق سبحانه‪{:‬‬
‫خوّلْنَاهُ ِن ْعمَةً مّنّا قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ َبلْ ِهيَ فِتْنَ ٌة وَلَـاكِنّ‬
‫س الِنسَانَ ضُرّ دَعَانَا ُثمّ إِذَا َ‬
‫فَإِذَا مَ ّ‬
‫َأكْثَرَهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }[الزمر‪.]49 :‬‬
‫لن الذي يعيش دون منهج يدعو ال إن أصابه الضرّ‪ ،‬فإذا ما أنجاه ال ادعّى أن النجاة إنما كانت‬
‫بأسباب امتلكها هو‪ ،‬وإذا ما أعطاه ال نعمة من النعم زاد في الدعاء وزعم أن هذه النعمة‬
‫مصدرها علم من عنده هو ول ينسب ذلك إلى الموجد الحقيقي وهو ال‪ ،‬إنّه نسي أن كل نعمة هي‬
‫مجرد اختبار من ال‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ُ { :‬قلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ‪} ...‬‬

‫(‪)846 /‬‬

‫س ُكمْ شِ َيعًا وَيُذِيقَ‬


‫جِلكُمْ َأوْ يَلْبِ َ‬
‫حتِ أَرْ ُ‬
‫ُقلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ عَلَى أَنْ يَ ْب َعثَ عَلَ ْيكُمْ عَذَابًا مِنْ َف ْو ِقكُمْ َأوْ مِنْ تَ ْ‬
‫ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ انْظُرْ كَيْفَ ُنصَ ّرفُ الْآَيَاتِ َلعَّلهُمْ َي ْفقَهُونَ (‪)65‬‬
‫َب ْع َ‬

‫وكلمة " قادر " تعني تمام التمكن وأنه ل قدرة ول حيلة لحد حيال قدرة ال؛ لن الحق سبحانه‬
‫وتعالى يملي للقوم الظالمين ويمد لهم المر ثم يأخذهم بغتة بالعذاب‪ ،‬وقد يأتي العذاب من فوقهم‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كما جاء لقوم أبرهة الذين أرادوا هدم الكعبة‪ ،‬فسلط عليهم طيرا أبابيل‪ ،‬ترميهم بحجارة من‬
‫سجيل‪ ،‬جعلتهم كعصف مأكول‪ ،‬وهناك من أخذهم الحق بالصيحة‪ ،‬وهناك من أهلكتهم بريح‬
‫صرصر عاتية‪ ،‬وكل ذلك عذاب جاء من فوق تلك القوام‪.‬‬
‫أما قارون فقد خسف ال به وبداره الرض‪ ،‬وكذلك قوم فرعون أغرقتهم المياه‪ ،‬وهذه هي‬
‫التحتية‪ .‬فالعذاب قد يأتي من فوق أو من تحت الرجل حسّيا‪ ،‬وقد يأتي أيضا من فوقيّة أو تحتيّة‬
‫معنوية‪ ،‬ومثال ذلك العذاب الذي يسلطه ال على الطغاة الكبار المستبدين‪ ،‬وقد يأتي العذاب من‬
‫الفئات الفقيرة التي تعيش أسفل السلم الجتماعي‪.‬‬
‫ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ } [النعام‪.]65 :‬‬
‫سكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ َب ْع َ‬
‫{ َأوْ يَلْ ِب َ‬
‫والمقصود بلبس المر أي خلطه بصورة ل يتبينها الرائي‪ .‬و " شيعا " هي جمع " شيعة "‪.‬‬
‫والشيعة هم‪ :‬المتعاونون على أمر ولو كان باطل‪ ،‬ويجمعهم عليه كلمة واحدة وحركة واحدة‬
‫سكُمْ شِيَعا } أي أن كل جماعة منكم تتفرق ويكون‬
‫وغاية واحدة‪ .‬والمقصود بقوله الحق‪َ { :‬أوْ يَلْ ِب َ‬
‫لكل منهم أمير‪ ،‬وتختلط المور بين الختلفات المذهبية التي تختفي وراء الهواء‪ ،‬وبذلك يذيق‬
‫ال الناس بأس بعضهم بعضا‪.‬‬
‫ولماذا كل ذلك؟ لن الناس ما دامت فد انفرطت عن منهج ال نجد الحق يترك بعضهم لبعض‬
‫ويتولى كل قوم إذاقة غيرهم العذاب‪ .‬ولكن أُغيّر ذلك في ملك ال ونواميسه الثابتة من شيء؟‬
‫أبدا‪ ،‬فالسماء هي السماء‪ ،‬والرض بعناصرها هي الرض‪ ،‬والشمس هي الشمس‪ ،‬والقمر هو‬
‫القمر‪ ،‬والنجوم هي النجوم‪ ،‬والمطر هو المطر‪.‬‬
‫إن الذي يحدث فقط هو أن يذيق ال الناس بعضهم بأس بعض‪ ،‬ويصير كل بعض من الناس ظالما‬
‫للبعض الخر‪ .‬وعندما نرى الناس تشكو‪ ،‬نعلم أن الناس كلها مذنبة‪ ،‬ومادام الكل قد أذنب وخرج‬
‫عن منهج ال فل بد أن يسلط الحق بعضنا على بعض حتى يعرف الجميع أنهم قد انفلتوا عن‬
‫منهج ال لذلك يلقون المتاعب‪ ،‬ولن يرتاحوا إل إذا عادوا إلى أحضان منهج ال؛ لن منهج ال‬
‫يمنع أن يتكبر إنسان مؤمن على أخيه المؤمن‪ .‬والكل يسجد لله واحد‪ .‬ولهذا وضع الحق لنا‬
‫العبادات الجماعية حتى يرى الضعيف في سلطان الدنيا القوي في السلطان وهو يشترك معه في‬
‫السجود للله الواحد‪.‬‬
‫مثال ذلك ما نراه من طواف الناس حول الكعبة في ملبس الحرام‪ ،‬إن من بين الذين يطوفون‬
‫قوما من وجهاء الناس وأصحاب الرتب العالية والمنازل الرفيعة‪ ،‬ومن بين هؤلء أيضا نجد الذين‬
‫ل يحتلون إل المكانة الضئيلة‪ ،‬ويرى الضعيف نفسه مساويا لمن في المركز الجتماعي القوي‪.‬‬

‫الكل يقف أمام ربّه وهو ذليل ويمسك بأستار الكعبة باكيا‪ .‬ويريد سبحانه بذلك استطراق الغرور‬
‫بين المؤمنين ويكون الناس جميعا أمام ال وفي بيته على سواء‪ُ } .‬قلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ عَلَىا أَن يَ ْب َعثَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ ا ْنظُرْ كَ ْيفَ‬
‫س ُكمْ شِيَعا وَيُذِيقَ َب ْع َ‬
‫حتِ أَ ْرجُِلكُمْ َأوْ يَلْبِ َ‬
‫عذَابا مّن َف ْو ِقكُمْ َأوْ مِن تَ ْ‬
‫عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫ُنصَ ّرفُ اليَاتِ َلعَّلهُمْ َي ْفقَهُونَ { [النعام‪.]65 :‬‬
‫وها نحن أولء نرى كيف أن الحق يلبس الناس شيعا‪ ،‬إننا نرى المنسوبين إلى السلم يذبح‬
‫بعضهم بعضا لسنوات طويلة‪ .‬وإذا كان هؤلء وأولئك طائفتين مؤمنتين تتقاتلن فأين الطائفة‬
‫الثالثة التي تفصل بين الطائفتين مصداقا لقوله الحق‪ {:‬وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فََأصِْلحُواْ‬
‫بَيْ َن ُهمَا فَإِن َب َغتْ ِإحْدَا ُهمَا عَلَىا الُخْرَىا َفقَاتِلُواْ الّتِي تَ ْبغِي حَتّىا َتفِيءَ إِلَىا َأمْرِ اللّهِ فَإِن فَآ َءتْ‬
‫حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ }[الحجرات‪.]9 :‬‬
‫ل وََأقْسِطُواْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا بِا ْلعَ ْد ِ‬
‫ها هوذا الدم المنسوب إلى السلم يسيل‪ ،‬ويزداد عدد الضحايا‪ ،‬ومن العجيب أن الخرين يقفون‬
‫موقف المتفرج‪ ،‬أو يمدون كل طائفة بأدوات الدمار‪ .‬وذلك يدل على أن المسألة طامة وعامة‪.‬‬
‫والقاعدة التي قلناها من قبل ل تتغير‪ ،‬القاعدة أنه ل يوجد صراع بين حقين؛ لنه ل يوجد في‬
‫المر الواحد إل حق واحد‪ .‬ول يطول أبدا الصراع بين الحق والباطل؛ لن الباطل زهوق وزائل‪.‬‬
‫ولكن الصراع إنما يطول بين باطلين؛ لن أحدهما ليس أولى من الخر بأن ينصره ال‪.‬‬
‫ومثال آخر كنا نراه في بلد كلبنان ‪ -‬إبان الحرب الهلية ‪ -‬وكان الصراع الدائر هناك يكاد‬
‫يوضح لنا أن كل فرد صار طائفة بمفرده‪ ،‬وكل إنسان منهم له هواه‪ ،‬وكل إنسان يذيق غيره‬
‫العذاب ويذوق من غيره العذاب‪.‬‬
‫} ا ْنظُرْ كَ ْيفَ ُنصَرّفُ اليَاتِ َلعَّلهُمْ َي ْفقَهُونَ { [النعام‪.]65 :‬‬
‫وينوع سبحانه الحجج والبراهين ويأتي لهم بالحداث والنوازل حتى يتبين للجميع أنه ل راحة أبدا‬
‫في النفلت عن منهج ال حتى يفقهوا‪ .‬والفقه هو شدة الفهم‪ .‬والمقصود أن نأخذ ونتفهم العظة من‬
‫كل اليات التي يجريها الحق أمامنا عسانا نرجع إلى مراد ال‪.‬‬
‫حقّ قُل‪{ ...‬‬
‫ك وَ ُهوَ الْ َ‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬وكَ ّذبَ بِهِ َق ْو ُم َ‬

‫(‪)847 /‬‬

‫علَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ (‪)66‬‬


‫ستُ َ‬
‫َوكَ ّذبَ ِبهِ َق ْو ُمكَ وَ ُهوَ ا ْلحَقّ ُقلْ َل ْ‬

‫ما الذي كذب به القوم؟ المقصود هو القرآن أو المنهج عامة؛ لن المنهج اليماني يشمل القرآن‬
‫ويشمل ما آتى به الرسول عليه الصلة والسلم‪ .‬فالقرآن معجزة مشتملة على الصول‪ .‬وجاء‬
‫الرسول صلى ال عليه وسلم بالسنّة ليبين ويشرّع‪ .‬ولذلك نرد على هؤلء الذين يطلبون كل حكم‬
‫من الحكام من القرآن ونقول‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن القرآن جاء معجزة تتكلم عن أصول العقيدة‪ ،‬والرسول صلى ال عليه وسلم جاء بالتشريعات‬
‫التي تكمل المنهج‪ ،‬ومثال ذلك عدد الصلوات في كل فرض من الفروض الخمسة وعدد ركعات‬
‫كل فرض من فروض الصلوات الخمس‪ .‬إن القرآن لم يذكرها‪ ،‬ولكن أوضحها لنا رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهو القائل في حديث شريف‪ " :‬صلوا كما رأيتموني أصلي "‪ .‬والرسول‬
‫خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ‬
‫صلى ال عليه وسلم مفوض بالتشريع بنص القرآن الكريم‪َ {:‬ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَ ُ‬
‫عَنْهُ فَان َتهُواْ }[الحشر‪.]7 :‬‬
‫ونحن نصلي كما صلى رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬ونزكي بنصاب الزكاة الذي حدده رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ونحج إلى بيت ال الحرام كما حج رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد‬
‫أنزل سبحانه القرآن‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم هو أول من طبق القرآن والسنة‪ {.‬وَأَنْزَلْنَا‬
‫إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِمْ وََلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ }[النحل‪.]44 :‬‬
‫أي أن هناك من المور العقدية التي أنزلها الحق مجملة في القرآن وفصلها للمؤمنين رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم بتكليف من الحق‪ .‬وطاعة رسول ال صلى ال عليه وسلم واجبة بنص‬
‫القرآن وهي ضمن طاعة الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬فالحق يقول مرة‪ُ {:‬قلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ }[آل‬
‫عمران‪.]32 :‬‬
‫وهنا طاعة الرسول غير مكررة إنها ضمن طاعة ال‪.‬‬
‫ويقول سبحانه مرة أخرى‪ُ {:‬قلْ َأطِيعُواْ اللّ َه وََأطِيعُواْ الرّسُولَ }[النور‪.]54 :‬‬
‫أي أن هناك أمرا بإطاعة ال وأمرا بإطاعة الرسول‪.‬‬
‫ومرة ثالثة يقول سبحانه‪َ { :‬ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ َفخُذُو ُه َومَا َنهَا ُكمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ }‪.‬‬
‫وكل ذلك حتى نستوعب الحكام التي التقت السنة فيها بكتاب ال‪.‬‬
‫لمْرِ مِ ْنكُمْ }[النساء‪:‬‬
‫ل وَُأوْلِي ا َ‬
‫وحين قال الحق‪ {:‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّ َه وَأَطِيعُواْ الرّسُو َ‬
‫‪.]59‬‬
‫فهو سبحانه لم يأت بطاعة مستقلة لولي المر ولكنه جعلها طاعة من باطن طاعتين هما‪ :‬طاعة‬
‫ال‪ ،‬وطاعة الرسول صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ستُ عَلَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ }‬
‫حقّ قُل لّ ْ‬
‫ك وَ ُهوَ الْ َ‬
‫ونعود إلى معنى الية التي نحن بصددها‪َ { :‬وكَ ّذبَ بِهِ َق ْو ُم َ‬
‫[النعام‪.]66 :‬‬
‫إذن فالذي كذب بوجود ال وكذب بالقرآن هو مكذب للمنهج أيضا‪ .‬فالمكَذّب به هنا هو الحق‪،‬‬
‫والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير‪ ،‬وفي حياتنا اليومية تحدث واقعة ما ويأتي أكثر من شاهد‬
‫عِيان لها فل نجدهم يختلفون في رواية الواقعة لنهم يستوحون واقعا‪ ،‬لكن إن كان بعض من‬
‫الشهود لم يروْا الواقعة التي يشهدون عليها الوقائع من أفواه الشهود؛ لن الحق قد يختفي قليل‬
‫وراء بعضٍ من الضباب لكن ل يدوم اختفاؤه طويلً بل يظهر جليا ناصعا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِ َيةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ‬
‫والحق يضرب لنا المثل فيقول سبحانه‪ {:‬أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫حلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا ْلحَقّ‬
‫زَبَدا رّابِيا َومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ ِ‬
‫جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْمكُثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ‬
‫طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ‬
‫وَالْبَا ِ‬
‫لمْثَالَ }[الرعد‪.]17 :‬‬
‫اَ‬
‫الماء ‪ -‬إذن ‪ -‬ينزل بأمر ال من السماء فتستمر به حياة النبات والحيوان والنسان‪ ،‬ويأخذ كل‬
‫وادٍ على قدر حاجته‪ .‬وعندما ينزل السيل فهو يصحب معه بعضا من الشوائب التي تطفو على‬
‫المياه‪ ،‬ومثل تلك الشوائب يَطفو ‪ -‬أيضا ‪ -‬عندما يُصهر الذهب أو أي معدن ويُسمى الخبث‪.‬‬
‫وهكذا يطفو الباطل كالزّ َبدِ ويذهب جُفاء مطروحا ومرميا به بعيدا أو ينزل على جوانبه‪ ،‬أما الحق‬
‫الذي ينفع الناس فهو يبقى في الرض‪ .‬وتكذيب القوم للحق من ال وللقرآن وللمنهج اليماني هو‬
‫البهتان‪ ،‬والرسول صلى ال عليه وسلم ليس بوكيل على المكذبين ول يلزمهم أن يصدقوا‪ ،‬فالوكيل‬
‫هو ال الحق الذي يعاقب كل مكذّب له‪ ،‬ومهمة الرسول صلى ال عليه وسلم هي البلغ‪.‬‬
‫" وكذّب به قومك " ‪ ،‬وكلمة " قومك " هذه هي تقريع فظيع لهم؛ لن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم جاء منهم‪ ،‬وعرفوه صادقا أمينا مدة أربعين عاما قبل الرسالة‪ ،‬وما جرّبوا عليه كذبا ‪،‬‬
‫ومقتضى مكثه معهم هذا التاريخ الطويل كان يفرض عليهم أن يتساءلوا من فور بلغهم بالرسالة‪:‬‬
‫إنه لم يكذب علينا قط ونحن من الخلق‪ ،‬أيكذب على الخالق؟‪ .‬ولكن الهوى أعمى بصيرتهم‪ ،‬ولذلك‬
‫عمُرا مّن‬
‫يقول الحق عن هذا البلغ‪ {:‬قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَدْرَا ُكمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ‬
‫قَبْلِهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[يونس‪.]16 :‬‬
‫أي قل لهم يا محمد‪ :‬لو أراد ال أل ينزل قرآنا عليّ من لدنه وألّ أبلغكم وأعلمكم به ما أنزله وما‬
‫تلوته عليكم‪ ،‬ولكنه أنزله وأرسلني به إليكم‪ .‬وعندما يمتن ال على الذين أرسل إليهم رسوله صلى‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ‬
‫ال عليه وسلم فهو يقول سبحانه‪َ {:‬لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة‪.]128 :‬‬
‫وبرغم تكبر وعناد وتكذيب المشركين من قوم رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فإنه عندما هاجر‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكة إلى المدينة ترك عليا بمكة ليسلم للناس أماناتهم‪ .‬فهل‬
‫هناك حمق أكثر من حمق هؤلء الذين كذبوا برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬أيكون أمينا معهم‬
‫ول يكون أمينا مع ربه؟‬
‫س ْوفَ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ّ } :‬ل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَ ّر وَ َ‬

‫(‪)848 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ (‪)67‬‬
‫ِل ُكلّ نَبَإٍ مُسْ َتقَرّ وَ َ‬

‫والنبأ هو الخبر المهم‪ ،‬فليس كل خبر نبأ‪ ،‬ذلك أن هناك المثير من الخبار التافهة التي يتساوى‬
‫عمّ‬
‫فيها العلم الذي ل ينفع بالجهل الذي ل يضر‪ .‬ومثال على الخبر المهم هو قوله الحق‪َ {:‬‬
‫يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ * الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَِلفُونَ }[النبأ‪.]3-1 :‬‬
‫إذن فكل نبأ مستقر‪ ،‬والمستقر هو ما طُلب القرار فيه‪ .‬والنبأ مظروف والمستقر مظروف فيه‪.‬‬
‫والمظروفية تنقسم قسمين‪ :‬مظروفية زمان‪ ،‬ومظروفية مكان‪ .‬أي أن الحق سبحانه وتعالى جعل‬
‫لكل حدث زمانا ومكانا يقع فيهما الخبر‪ .‬وسوف يعلم النسان مستقر كل خبر عندما يأذن الحق‬
‫بميلد هذا المستقر الذي يُعلن فيه الخبر‪.‬‬
‫النبأ ‪ -‬إذن ‪ -‬هو الخبر العظيم المدهش‪ .‬ول أعظم من تجلي السماء على الرض بمنهج جديد‬
‫ينقذها مما هي فيه من ضلل‪ ،‬وهو منهج عام لكل زمان ولكل مكان‪ .‬إذن هو نبأ عظيم؛ لنه‬
‫يخلص دنيا الناس من جبابرة الرض‪ ،‬ويلفت كل الناس إلى منهج يخرجهم جميعا من أهوائهم‪.‬‬
‫فل أضر بالمجتمع من أن يتبع كل إنسان هواه؛ لن هوى كل نفس يخدم شهواتها‪ ،‬والشهوات‬
‫متضارية‪ ،‬فإذا حكّم كل إنسان هواه فلن تجد في الرض قضية متفقا عليها‪ .‬ولذلك تكفل الحق‬
‫سبحانه وتعالى للنسان بمسألة تنظيم المنهج وهو المر الذي تختلف فيه الهواء‪ .‬وأما المر الذي‬
‫تلتقي فيه الهواء وهو استنباط ما في الرض من كنوز واستكشاف ما في الكون من أسرار فقد‬
‫تركه الحق للنسان ليستنبطه بالعقل الذي خلقه ال‪ ،‬من الكون الذي خلقه ال‪ ،‬وليسعد النسان‬
‫بتلك السرار التي يستكشفها في الكون‪.‬‬
‫ويؤكد لنا واقع الحياة هذه القضية‪ ،‬ونجد طموح العقل البشري عندما فكر في مادة الكون استنبط‬
‫منها السرار وأنجز الكثير من الكتشافات العلمية‪ .‬ولم تختلف الدول والمعسكرات في تلك‬
‫المجالت‪ ،‬بل التقت كل الهواء عند هذه الكتشافات‪ ،‬فل توجد ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬كهرباء روسية‬
‫وأخرى أمريكية‪ ،‬ول نجد " كيمياء انجليزية " وأخرى " فرنسية " ‪ ،‬ولذلك تجد النظمة السياسية‬
‫والجتماعية على اختلفها تلتقي في مجالت العلم وتتفق ول تختلف حتى إن بعضها قد يسرق‬
‫من البعض الخر ما توصل إليه‪ .‬ول نجد في عالم المادة والمعمل والتجربة اختلفات بين نظام‬
‫سياسي ونظام آخر‪ ،‬بل تلتقي الهواء عند القوانين المكتشفة والمأخوذة من مادة الكون‪ ،‬وهو‬
‫المر الذي تركه ال للناس ليكونوا أحرارا فيه‪ ،‬ويفكرون‪ ،‬وينظرون‪ ،‬ويتأملون‪ ،‬ويبتكرون‪،‬‬
‫ويصلون إلى أسرار في الكون تخفف عنهم تبعات الحياة‪ ،‬وتؤدي لهم غايات السعادة في الوجود‬
‫بأقل مجهود‪.‬‬
‫ولكننا نجد الصراع العنيف على الجانب الخر ‪ -‬جانب المبادئ والمنهج ‪ -‬وهو صراع ل يهدأ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أبدا؛ لنه صراع الهواء فيما لم تحكمه تجربة مادية‪ ،‬وهم يختلفون خلفات عميقة‪ ،‬الرأسمالية‬
‫تختلف عن الشتراكية‪ ،‬وتتنوع الخلفات بين كافة المذاهب التي أنتجتها الهواء‪ :‬الشيوعية‪،‬‬
‫الوجودية‪ ،‬الشتراكية‪ ،‬الرأسمالية‪ ،‬وكل هذه المسائل لم تحكمها تجربة أو معمل ذلك كان‬
‫الخلف‪.‬‬

‫ومن المؤسف أن البشر قد استغلوا ما اتفقوا فيه من ابتكارات علمية في فرض النظم التي اختلفوا‬
‫عليها‪.‬‬
‫وقد أوضح الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم هذا المر؛ إنه جل وعل قد ترك عقول‬
‫البشرية حرة في كل ما يخضع للتجربة‪ ،‬ولكنه نظم حياة النسان على الرض في ضوء المنهج‬
‫اليماني؛ لن السلم جاء في إثر ديانة حاول القائمون على أمرها من الكهنة أن يفرضوا سيطرة‬
‫الكهنوت على العقل البشري في أسرار الكون‪.‬‬
‫والمثال على ذلك واضح تماما في التاريخ البشري‪ ،‬ففي العصر الذي تأخرت فيه أوروبا وسُمي "‬
‫عصر الظلمات " كان المسلمون في الشرق باتباعهم لمنهج ال يعيشون في عصر النور؛ لن‬
‫السلم علمهم مجال استعمال العقل وقدراته على استنباط أسرار ال في الكون‪ ،‬وجاء سبحانه‬
‫بهذا الدين وهو النبأ العظيم ليوضح لنا في مسيرة هذا الدين كل عبرة‪ ،‬وكأنه يقول لنا‪:‬‬
‫إن هذا الدين قد بدأ ضعيفا والذين آمنوا به قلة مستضعفة ل يستطيعون حماية أنفسهم بل تلمسوا‬
‫الحماية وطلبوها عند ملك غريب في الحبشة‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك أنتصروا لنهم أخذوا بهذا‬
‫الدين‪.‬‬
‫سوْفَ َتعَْلمُونَ { [النعام‪.]67 :‬‬
‫وقال صلى ال عليه وسلم مقالة ربه‪ّ } :‬ل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَ ّر وَ َ‬
‫ومعنى " مستقر " أي ميلد يستقر فيه‪ .‬أي ل تتعجلوا الحداث‪ ،‬ول تجهضوها؛ فإن شاء ال‬
‫سيكون لهذا الدين انتشار‪ ،‬وهذا النتشار له ميلد في زمان وميلد في مكان‪ ،‬أما زمانه فإلى أن‬
‫تقوم الساعة‪ ،‬وأما مكانه فالرض كلها؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء رسولً للناس‬
‫كافة‪ ،‬وخاتما للنبيين والمرسلين‪.‬‬
‫ويؤيد الحق سبحانه قضية } ّل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَرّ { بأن يشهد الواقع من الحقائق ما يؤكد ذلك‪ .‬ومثل ما‬
‫حدث في الزمن القريب المعاصر لميلد الدعوة السلمية‪ .‬فحينما جاء السلم آمن به قلة‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪.]45 :‬‬
‫مستضعفة‪ ،‬ولما نزل قوله سبحانه‪ {:‬سَ ُيهْزَمُ الْ َ‬
‫قال عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ :‬أي جمع هذا الذي سيهُزم ويولون الدبر ونحن ل نستطيع‬
‫حماية أنفسنا؟ فلما جاء يوم بدر ورأى مصارع القوم كما قالها رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫بلغا عن ال قال عمر بن الخطاب‪ :‬صدق ال‪ ،‬لقد هُزم الجمع ووّلوْا الدبر‪ .‬ونجد كل قضية‬
‫قرآنية محفوظة ومسجلة في السطور‪ ،‬يحفظها ال حتى ل يكون للناس على ال حجة؛ لنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ { [النعام‪.]67 :‬‬
‫سبحانه القائل‪ّ } :‬ل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَ ّر وَ َ‬
‫فلو لم يكن الواقع يؤيد أن لكل نبأ مستقرا‪ ،‬ولكن حدث ميلدا زمانا ومكانا‪ ،‬فماذا يظن الناس‬
‫الذين يستقبلون القرآن؟ لذلك أتى الحق بكل قضية قرآنية ومعها دليلها‪ ،‬وأعطى الحق بعضا من‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ‬
‫الحقائق الموثقة بالحداث زمانا ومكانا ليتأكد قوله الحق‪ّ } :‬ل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَرّ وَ َ‬
‫{ [النعام‪.]67 :‬‬

‫وقد علمت الدنيا وانتصر السلم‪ .‬لقد شاء الحق أن يربي حامل الدعوة الول ‪ -‬عليه الصلة‬
‫والسلم ‪ -‬ويعلم معه صحابته رضوان ال عليهم‪ ،‬يعلمهم منطقا ليسايروا به أحداث الكون‪.‬‬
‫ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى كان يُنزل الرسل بالديان على فترات‪ ،‬وعندما يعُم الفساد في‬
‫الرض ينزل الحق منهجه على رسول ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم؛ لن الحق سبحانه‬
‫وتعالى جعل في كل نفس بشرية تعادلً ذاتيا‪ ،‬فإذا اشتهى النسان شهوة يحرمها الدين‪ ،‬وقضى‬
‫النسان هذه الشهوة‪ ،‬وهدأت شرّة وحدّة المعصية في نفسه‪ ،‬فالنسان يؤنب نفسه ويوبخها‪ .‬ولكن‬
‫النفس قد تستمرئ الشهوات‪ ،‬وينعدم الوازع الذي يردع النسان‪.‬‬
‫وإذا انعدم الوازع في فرد واحد فلن ينعدم في المجتمع‪ ،‬ونجد من الناس من يحمل المجتمع على‬
‫المعروف‪ ،‬ويوجه صاحب النفس التي استمرأت المعصية إلى التوبة والخير‪ .‬أما إذا عم الفساد في‬
‫الفرد وفي المجتمع فماذا يكون الموقف؟‬
‫ل بد أن تتدخل السماء برسول جديد‪ ،‬ومنهج جديد‪ .‬ويأتي الرسول الجديد ومعه المنهج اللزم‬
‫لصلح الكون‪ .‬ول يتبع الرسول الجديد إل المستضعفون القلة‪ ،‬وأهل البصيرة من أهل القوة‬
‫حتى ل يظن ظان أن الضعفاء لذوا بالدين ومالوا إليه بسبب ضعفهم‪ .‬ويحذر الحق المؤمنين‬
‫وكأنه يقول‪ :‬إنكم تواجهون باطلً عض الناس وأرهقهم وأعنتهم‪ ،‬وحين يعضّ الباطل المجتمعات‬
‫فالذي ينتفع من ذلك هم أهل الباطل‪ ،‬والذي يشقى بذلك هم أهل الحق‪ .‬فلكل فساد طبقة منتفعة به‪.‬‬
‫وحين توجد الطبقة المنتفعة بالفساد‪ .‬وحين توجد كلمة الحق فإن المنتفعين بالفساد ينظرون إلى‬
‫نفوذهم الذي سينحسر حتما عندما تسود كلمة الحق‪.‬‬
‫وحين ينتصر الحق ل بد أن يزول الفساد ومعه كل نفوذ أهل المفاسد‪ .‬لذلك يقف المنتفعون من‬
‫الفساد ضد الدين الجديد ليحافظوا على مكانتهم في المجتمع‪ .‬ويقول الحق تهذيبا للمؤمنين‪ ،‬وتأديبا‬
‫لغير المؤمنين‪ } :‬وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ‪{ ...‬‬

‫(‪)849 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدِيثٍ غَيْ ِرهِ وَِإمّا يُ ْنسِيَ ّنكَ‬
‫وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ حَتّى َيخُوضُوا فِي َ‬
‫الشّ ْيطَانُ فَلَا َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَى مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ (‪)68‬‬

‫وبهذا القول يوضح ال لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬اعلم أن ما جئت به سيخاض فيه‪ ،‬ويقال‬
‫مرة إنه سحر‪ ،‬ومرة إنه شعر‪ ،‬وثالثة إنه كهانة‪ ،‬ورابعة يتهمونك بالكذب‪ ،‬ول يقول ذلك إل‬
‫المنتفعون بفساد الكون‪ ،‬فإذا ما جاء مصلح فسيجعلونه عدوا لهم‪ .‬لذلك ل بد أن تحافظ على‬
‫أمرين‪ ..‬المر الول‪ :‬أن الذين اتبعوك ‪ -‬وهم ضعاف ‪ -‬قد ل يستطيعون مواجهة القوة الظالمة؛‬
‫لذلك ل تحملهم ما ل طاقة لهم به ولكن تَرَ ّيثْ؛ فإن لكل نبأ مستقرا‪ ،‬والمر الثاني‪ :‬أَنك إذا رأيت‬
‫الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم وبيّن لهم الجفوة فل تقبل عليهم‪ ،‬ول توادهم‪ ،‬ول تستمع‬
‫إليهم‪ ،‬ول يسمع إليهم أصحابك‪ ،‬لماذا؟ لنهم يخوضون في آيات ال‪ .‬ولكن أيستمر هذا العراض‬
‫عنهم طوال الوقت؟‪ ،‬ل‪ ،‬فالعراض عنهم إنما يكون في أثناء خوضهم وتكذيبهم ليات ال‪ ،‬أما‬
‫في غير ذلك من الوقات فاعلم أن آذانهم في حاجة إلى سماع صيحة من الحق‪ ،‬لذلك انتهز به؛‬
‫لنك إن تركتهم على ضللهم فإن قضية اليمان تصير بعيدة عنهم‪ ،‬وأنت مهمتك البلغ‪ ،‬وال‬
‫يريد الخير لكل خلقه‪.‬‬
‫حدِيثٍ غَيْ ِرهِ } [النعام‪:‬‬
‫{ وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ حَتّىا َيخُوضُواْ فِي َ‬
‫‪.]68‬‬
‫وكلمة " الخوض " هذه تشعرنا بمعنى في منتهى الدقة؛ لن الخوض في أصله هو الدخول في‬
‫الماء الكثير‪ .‬والماء الكثير ساتر لما تحت قدمي الذي يخوض فيه‪ ،‬وما دام قد ستر ما تحت قدميه‬
‫فهو ل يدري إلى أي موقع تقع قدماه‪ ،‬وربما وقعتا في هوّة‪ ،‬لكن الذي يسير في غير ماء فالطريق‬
‫واضح أمامه‪ ،‬يضع قدميه حيث يرى فيها ثباتا واستقرارا وعدم إيذاء‪ .‬وأخذوا من ذلك المعنى‬
‫ضهِمْ‬
‫خ ْو ِ‬
‫وصف الكلم بالباطل‪ ،‬لنه خوض بدون اهتداء‪ .‬ولذلك يقول الحق‪ُ {:‬ثمّ ذَ ْرهُمْ فِي َ‬
‫يَ ْلعَبُونَ }[النعام‪.]91 :‬‬
‫ولماذا وصف فعلهم هذا بأنه لعب؟‬
‫ذلك لن اللعب هو شغل النفس بشيء غير مطلوب وكان في قالب الجد‪ .‬ولكن إذا كان هذا الشيء‬
‫يؤدي إلى نبوغ في مجال من مجالت الحياة فنحن ندرب أبناءنا عليه في فترة ما قبل البلوغ‪.‬‬
‫ومثال ذلك تدريب البناء على السباحة والرماية‪ .‬وركوب الخيل‪ .‬وما إن يبلغ النسان فترة البلوغ‬
‫حتى تصير له مهمة في الحياة‪ ،‬ويصبح عليه أن يتحمل المسئولية‪ ،‬فل يضيع وقته في اللعب أو‬
‫فيما يلهيه عن أداء الواجب‪.‬‬
‫حدِيثٍ غَيْ ِرهِ } [النعام‪:‬‬
‫{ وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ حَتّىا َيخُوضُواْ فِي َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]68‬‬
‫والنفس البشرية لها أغيار‪ .‬وهذه الغيار قد تنسيها بعض التوجهات‪ .‬لكن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم موعود من ربه بعدم النسيان‪ {.‬سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }‬

‫[العلى‪.]6 :‬‬
‫فإذا كان هذا بالنسبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم فكيف نفهم قول الحق هنا‪ } :‬وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ‬
‫الشّ ْيطَانُ فَلَ َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَىا مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ { [النعام‪.]68 :‬‬
‫إننا نفهم هذا القول على أساس أنه تعليم لمة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وحينما ينزل أمر من‬
‫السماء فرسول ال أولى الناس بتطبيقه‪ ،‬فإذا كان الرسول يُخاطَب‪ } :‬وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ الشّ ْيطَانُ { فإذا‬
‫ما نسي إنسان لغفلة من الغفلت‪ ،‬فليأخذ علج ال للنسيان‪ ،‬وهو أل يقعد مع هؤلء القوم الذين‬
‫يخوضون في آيات ال في أثناء خوضهم‪ ،‬ولكن عليه أن يتركهم ويعرض عنهم‪ .‬إذن فالحق‬
‫سبحانه وتعالى احترم خلقه؛ لنه وهو العليم بهم‪ ،‬خلق لكل إنسان ملكة حافظة‪ ،‬وملكة ذاكرة‪،‬‬
‫وملكة مخيلة‪ ،‬وكل ملكة من هذه الملكات تؤدي مهمة‪ :‬فالملكة الحافظة تحفظ المعلومات‪ ،‬والذاكرة‬
‫تأتي بالمعلومات المحفوظة القديمة لتجعلها في بؤرة الشعور‪ .‬ولو لم يكن هناك نسيان لما‬
‫استطاعت فكرة أن تدخل في ذهن النسان؛ لن العقل ل ينشغل إل بقضية واحدة في بؤرة‬
‫الشعور‪ .‬وحتى تدخل قضية أخرى في بؤرة الشعور‪ ،‬ل بد أن تتزحزح القضية الولى من بؤرة‬
‫الشعور إلى حاشية الشعور‪.‬‬
‫لذلك ل بد من نسيان خاطر ما ليحل محله خاطر آخر‪ .‬ولو ظل النسان ذاكرا لقضية من القضايا‬
‫في نفسه لصار من المحال أن تدخل قضية جديدة أخرى‪ .‬ولهذا خلق ال النسيان‪ ،‬أي انتقال قضية‬
‫ما من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور‪.‬‬
‫والنسان منا يتذكر شيئا حدث من عشرين عاما‪ ،‬ثم يمر هذا الحادث بالخاطر فجأة‪ ،‬ويتساءل‬
‫النسان‪ ،‬كيف؟ ويعرف النسان أن هذا الحادث كان محفوظا ومصونا في دوائر شعورية بعيدة‪.‬‬
‫ولذلك نجد النسان عندما يريد استعادة معنى من المعاني فهو يترك لنفسه فرصة لستعادة هذا‬
‫الخاطر أو ذلك المعنى‪ ،‬ولذلك يسمون هذه المسألة " تذكر "‪.‬‬
‫} وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ الشّيْطَانُ فَلَ َتقْعُدْ َب ْعدَ ال ّذكْرَىا مَعَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ { [النعام‪.]68 :‬‬
‫ولماذا ينسب الحق النسيان للشيطان؟‪ ،‬لن حقائق الحق في دينه هي الصدق‪ ،‬ول يصح أن تغيب‬
‫أبدا عن بال المؤمن‪ ،‬وهي ل تغيب عن بال المؤمن إل بعمل الشيطان فالشيطان يزين المر الذي‬
‫يحبه النسان ويشغله عن أمر آخر‪ ،‬فإذا ما نزغ الشيطان لينسى النسان‪ ،‬وتذكر النسان أن هذا‬
‫من نزغ الشيطان فليستعذ بال من الشيطان ول يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين‪.‬‬
‫وأنت حين تفعل ذلك وتنفر من هؤلء القوم الظالمين فأنت تلفتهم إلى أن ما عندك من يقين إيماني‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هو أعز عندك مما في مجالسهم من حديث وما يكون لديهم من نفع‪ .‬وبذلك تنتفع أنت بهذه التذكرة‬
‫وهم أيضا يلتفتون إلى أهمية اليمان وأفضليته عند المؤمن على ما عداه‪.‬‬
‫وما كان الحق سبحانه وتعالى ليفرض على المؤمنين مقاطعة المشركين في أثناء فترة ضعف‬
‫المؤمنين في بداية الدعوة‪ .‬وكان المؤمنون يلتقون في المسجد الحرام‪ ،‬وكان المشركون يذهبون‬
‫أيضا إلى الكعبة قبل فتح مكة‪ ،‬فهي مكان حجيجهم‪ ،‬فهل يقاطع المسلمون المسجد الحرام في بداية‬
‫الدعوة السلمية ول يلتقون؟ قطعا ل‪ .‬ولكن كان المسلمون يذهبون للقاء في المسجد الحرام‪ ،‬وإذا‬
‫جاء الذين يخوضون في آيات ال فهم يعرضون عنهم‪ .‬ووزر الخائضين على أنفسهم‪ .‬ولذلك يقول‬
‫الحق‪َ } :‬ومَا عَلَى الّذِينَ يَ ّتقُونَ {‬

‫(‪)850 /‬‬

‫شيْ ٍء وََلكِنْ ِذكْرَى َلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ (‪)69‬‬


‫َومَا عَلَى الّذِينَ يَ ّتقُونَ مِنْ حِسَا ِبهِمْ مِنْ َ‬

‫أي أنك إذا كنت معهم وخاضوا في الحديث فقمت من مجلسهم أو نسيت وقعدت ثم تذكرت فقمت‪،‬‬
‫فأنت تلفتهم إلى أنّ ما أقامك من مجلسهم هو شيء أكثر أهمية من هذا المجلس‪ ،‬إنه احترام تكليف‬
‫ال فيما أمرك به ونهاك عنه‪ ،‬وليس عليك ول على الذين يتقون ال من أوزار هؤلء الظالمين‬
‫من شيء‪ ،‬وليس عليكم من حسابهم من شيء‪ ،‬ومجرد قيامكم من مجلسهم هو تذكرة لهم لعلهم‬
‫يتفكرون في منطق الحق ويخشون ال ويبعدون أنفسهم عن الوقوع في الباطل حتى يكونوا في‬
‫وقاية من عذاب ال وسخطه‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ { :‬وَذَرِ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِي َن ُهمْ‪} ...‬‬

‫(‪)851 /‬‬

‫سلَ َنفْسٌ ِبمَا َكسَ َبتْ لَيْسَ َلهَا‬


‫خذُوا دِي َنهُمْ َلعِبًا وََلهْوًا وَغَرّ ْتهُمُ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا وَ َذكّرْ بِهِ أَنْ تُ ْب َ‬
‫وَذَرِ الّذِينَ اتّ َ‬
‫شفِي ٌع وَإِنْ َت ْع ِدلْ ُكلّ عَ ْدلٍ لَا ُيؤْخَذْ مِ ْنهَا أُولَ ِئكَ الّذِينَ أُبْسِلُوا ِبمَا كَسَبُوا َل ُهمْ‬
‫مِنْ دُونِ اللّ ِه وَِليّ وَلَا َ‬
‫حمِي ٍم وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ (‪)70‬‬
‫شَرَابٌ مِنْ َ‬

‫قلنا ‪ -‬من قبل ‪ :-‬إن اللعب هو الشتغال بما ل يفيد لقتل الوقت‪ .‬وعرفنا أن اللعب مجاله قبل‬
‫التكليف أي قبل سن البلوغ‪ .‬وإذا شغلك اللعب عن شيء مطلوب منك فهو لهو؛ لنك لهيت عن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫امر واجب عليك‪ ،‬فاللهو ‪ -‬إذن ‪ -‬هو الترويح عن النفس بما ل تقتضيه الحكمة‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ { :‬وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } هو تصوير ل يوجد أبرع منه؛ لنهم أصحاب العقول التي‬
‫تغتر بالحياة الدنيا فهي عقول تائهة؛ فالعقل الناضج يفهم الدنيا على أنها أقل شأنا من أن تكون‬
‫غاية‪ ،‬ولكنها وسيلة أو مجال وطريق ومزرعة إلى الخرة‪.‬‬
‫وعلى العقل الناضج أن يعاملها دون نسيان مهمتها‪ ،‬وآفة الناس أنهم جعلوا الوسائل غايات‪ ،‬وغاية‬
‫وجود الناس على الرض أن يعمروها بالعمل الصالح وعبادة الحق‪ ،‬فمن انجرف عن ذلك فله‬
‫عقابه يوم الغاية الكبرى‪ ،‬وهو يوم الحساب‪.‬‬
‫إننا نعلم أن غاية النسان من الحياة الدنيا ليست أن يعيش عمرا طويلً‪ ،‬ول أن ينال المناصب‪،‬‬
‫ول أن يحصل على الثراء‪ ،‬ول أن ينال القوة‪ ،‬فكل ذلك من الغيار‪ ،‬والغيار تختلف من إنسان‬
‫إلى آخر‪.‬‬
‫وما نختلف فيه نحن البشر ليس غاية لوجودنا‪ ،‬والغاية للوجود النساني ل بد أن تكون واحدة‪.‬‬
‫وأن نتفق فيها جميعا‪ ،‬هذه الغاية هي ما نصير إليه بعد الموت‪ .‬ونجاح كل عمل بمقدار ما يقرب‬
‫الغاية منه‪ .‬ولذلك فالمؤمن الحق يرى استقبال البشر لقضية الموت استقبالً أحمق‪ ،‬فعندما يموت‬
‫شاب في العشرين نجد من يقول‪ " :‬إنه لم يستمتع بشبابه " والمؤمن الحق يرد على مثل هذا القول‬
‫متسائلً‪ :‬أين تريد أن يستمتع بشبابه؟‪ .‬ويجيب أصحاب الفهم السطحي‪ :‬لقد مات قبل أن يستمتع‬
‫بشبابه في هذه الدنيا‪.‬‬
‫ويقول المؤمن الحق‪ :‬وهل هذه الدنيا هي الغاية؟‪ .‬إنها ليست الغاية‪ ،‬بل الغاية هي الحياة الخرى‪.‬‬
‫ومن مات قبل التكليف فقد أنقذه ال من الحساب وأوطنه الجنة يتلقى نعيمها الدائم‪ .‬فلماذا ‪ -‬إذن ‪-‬‬
‫هذه المبالغة في الحزن على أي ميت؟ والذي يقترب من الغاية يحب هذه الغاية‪ .‬وهب أن إنسانا‬
‫غايته أن يذهب إلى السكندرية‪ ،‬والوسيلة إليها قد تكون حصانا أو عربة أو طائرة‪ ،‬فكل شيء‬
‫يقربه من الغاية يكون هو الفضل‪.‬‬
‫فإذا كان ال يريد أن يأخذ بعضا من خلقه وهم في بطون أمهاتهم‪ ،‬فهذه إرادته‪ .‬والذي ذهب من‬
‫بطن الم إلى القبر قرب من الغاية‪ ،‬وخلص من المراحل التي كانت في طياتها الفتنة‪ .‬ودخل‬
‫الجنة‪.‬‬
‫وهب أن الوليد عاش إلى عمر المائة وصار شيخا ومر بكل اختبارات الفتنة واستقام على المنهج‪،‬‬
‫فإلى أين مصيره؟ إنه إلى الجنة‪.‬‬
‫إذن فعلينا أن نستقبل كل قدر ال بحب‪ :‬قدر الميلد أو قدر الخروج من الدنيا‪ ،‬ولذلك يقول الحق‬
‫سبحانه‪:‬‬

‫شيْءٍ َقدِيرٌ * الّذِي خََلقَ ا ْل َم ْوتَ وَا ْلحَيَاةَ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ أَحْسَنُ‬
‫{ تَبَا َركَ الّذِي بِيَ ِدهِ ا ْلمُ ْلكُ وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمَلً }[الملك‪.]2-1 :‬‬
‫َ‬
‫ت وَالْحَيَاةَ { وذلك حتى يستقبل‬
‫إنه سبحانه لم يقل إنه خلق الحياة والموت‪ ،‬ل‪ ،‬بل قال‪ } :‬خَلَقَ ا ْل َم ْو َ‬
‫كل منا الحياة‪ ،‬ويسبقها في الذهن ما ينقض هذه الحياة وهو الموت‪ .‬إذن فهذه هي الغاية التي يتفق‬
‫فيها كل الجنس البشري‪ ،‬أما ما عداها فهي أغيار نختلف فيها‪.‬‬
‫لذلك ل تقل إن الغاية من ابنك أن ينجح في القبول للعدادية ثم يحصل على الشهادة العدادية‪ ،‬ثم‬
‫يحصل على الثانوية العامة‪ ،‬ثم يحصل على ليسانس الكلية أو بالكالوريوس التخرج أو درجة‬
‫الماجستير أو درجة الدكتوراة‪ ،‬ثم يصير صاحب شأن في الحياة‪ ،‬ل تقل ذلك؛ لن كل ذلك ليس‬
‫غاية في الحياة‪ ،‬ولن الغاية هي ما ل يوجد بعدها بعد‪ ،‬ولكن علينا أن نقوم بإعمار الرض كما‬
‫أمرنا ال ولكن ل نجعلها هي الغاية‪.‬‬
‫ب وََل ْهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْ َن ُك ْم وَ َتكَاثُرٌ فِي‬
‫ولذلك قال الحق سبحانه‪ {:‬اعَْلمُواْ أَ ّنمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِع ٌ‬
‫جبَ ا ْل ُكفّارَ نَبَاُتهُ ثُمّ َيهِيجُ فَتَرَاهُ ُمصْفَرّا ثُمّ َيكُونُ حُطَاما َوفِي‬
‫عَ‬‫ل وَالَ ْولَدِ َكمَ َثلِ غَ ْيثٍ أَ ْ‬
‫لمْوَا ِ‬
‫اَ‬
‫ضوَانٌ َومَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ }[الحديد‪.]20 :‬‬
‫الخِ َرةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ َومَ ْغفِ َرةٌ مّنَ اللّ ِه وَ ِر ْ‬
‫هذه هي الحياة الدنيا‪ ،‬ولذلك يجب أن نحيا دائما على ضوء ما ينجينا من العذاب وهو ذكر ال‪ ،‬إن‬
‫شفِيعٌ‬
‫ي وَلَ َ‬
‫سلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ لَيْسَ َلهَا مِن دُونِ اللّ ِه وَِل ّ‬
‫الحق سبحانه يقول‪ } :‬وَ َذكّرْ بِهِ أَن تُبْ َ‬
‫{ [النعام‪]70 :‬‬
‫والذكر هنا مقصود به التذكير بالقرآن وهو المنهج النازل من السماء وطبقه رسول ال‪ ،‬وسنة‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم من الذكر أيضا‪ ،‬أو الذكر هنا مقصود به العذاب الذي ينتظر من‬
‫يخالف المنهج‪ ،‬وقوله الحق‪ } :‬وَ َذكّرْ بِهِ { ‪ ،‬يدل على أن منطق الفطرة يقتضي أننا نعرف أن‬
‫الحق ل يمكن أن يعامل المتقين في الدنيا كما يعامل المنحرفين‪ .‬ومثال ذلك النسان الذي يخوض‬
‫في أعراض الناس ويظلمهم ل يتصور أبدا ‪-‬أن يلقى من الحق ‪ -‬سبحانه ‪ -‬المعاملة التي يعامل‬
‫بها النسانَ الملتزم بمنهج اليمان؛ فالفطرة تقول لنا‪ :‬إن الحق يجازي كل إنسان بعمله‪ ،‬سواء‬
‫أكان الجزاء في الدنيا أم في الخرة‪ .‬ومن المأثور عن بعض العرب أنه قال‪ :‬لن يموت ظلوم‬
‫حتى ينتقم منه ال‪ .‬ومن بعد ذلك مات رجل ظلوم ولم ير فيه الناس انتقام السماء‪ ،‬فقال الرجل‬
‫العربي‪:‬‬
‫وال إن وراء هذه الدار دارا يُجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته‪.‬‬
‫ل معناه‪ :‬المنع‪ ،‬والمنع له صورتان‪ :‬الولى منع‬
‫سُ‬‫سلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ { والبَ ْ‬
‫} وَ َذكّرْ ِبهِ أَن تُبْ َ‬
‫حركة حياة حي‪.‬‬

‫‪ .‬أي أن تحبسه في مكان محدد يتحرك فيه‪ ،‬والثانية‪ :‬منع من أصل الحياة‪ ..‬أي أن تهلكه وتزهق‬
‫سلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ { أي تُمنع نفس بما كسبت‪ ،‬والمنع إما بالهلك أو بالحبس حبسا‬
‫روحه‪ } ،‬تُبْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يديم عليها العذاب‪ .‬والحبس ‪ -‬في أعراف البشر ‪ -‬وهو وضع إنسان في مكان لكفّه عن ظلم‬
‫غيره‪ ،‬أي أننا نمنع شرور إنسان عن المجتمع بوضعه في الحبس‪.‬‬
‫وعندما جاء السلم لم يحبس فردا إنما حبس المجتمع عن فرد‪ ،‬وهذا عقاب أكبر وأشد؛ فقد ترك‬
‫السلم المجرم حرّا في المجتمع ولكنه حبس المجتمع عنه؛ فالمجرم يمشي فل يجد من يكلمه أو‬
‫يضحك له أو يفرح معه أو يشاركه حزنه‪.‬‬
‫وحدث ذلك عندما حبس المؤمنون أنفسهم عن ثلثة تخلفوا عن الغزو مع رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم حتى أن إنسانا منهم جاء ليقرب امرأته فرفضت‪ .‬وحاول ثان أن يسلم على ابن عمه‬
‫فما رد عليه السلم فجلس يبكي‪ .‬وقاطع كل الناس هؤلء الثلثة‪ ،‬وهذه هي عظمة السلم‪ ،‬لقد‬
‫سجن المجتمع عن المجرم فتعذب المجرم بقطيعة المجتمع له‪.‬‬
‫سلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ { أي ذكر بالقرآن أو بالمنهج أو بعاقبة مخالفة النسان‬
‫} وَ َذكّرْ ِبهِ أَن تُبْ َ‬
‫للمنهج‪ .‬والعقاب إما حبس وإما هلك‪ ،‬وذلك بسبب ما تكسب النفس‪ .‬والكسب في اللغة معناه‬
‫زيادة على رأس المال‪ .‬وللكلمة اشتقاق ثان وهو " اكتسب "‪ .‬ومرة تأتي الكلمتان في معنى واحد‪،‬‬
‫فالكسب يحدث دون افتعال ودون تعب أو مشقة‪ ،‬أما الكتساب فهو يحدث بافتعال وبمعالجة‬
‫وعنت؛ لن الذي يصنع المحرّم يأخذ أكثر من قدرة ذاته‪ ،‬فيكون قد اكتسب‪ .‬أما الذي يأخذ المر‬
‫المشروع له فهو قد كسب‪ .‬ولكن بعض الناس تأخذ ما اكتسبوه باحتيال ومكر ويظنون أنه كسب‬
‫وهذا هو الشر؛ لنه يأخذ غير المشروع له ويحلله لنفسه‪ ،‬ويعتبره كسبا ل اكتسابا‪.‬‬
‫ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ }[البقرة‪.]286 :‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪َ {:‬لهَا مَا كَسَ َب ْ‬
‫إن " لها " أي لصالح النفس؛ لنها أخذت ما هو حق لها‪ .‬و " عليها " أي ضد النفس؛ لنها افتعلت‬
‫في أخذ ما ليس حقا لها‪ .‬ومثال ذلك‪ :‬نظرة الرجل إلى زوجته‪ ،‬إنها نظرة طيبة إلى حلل طيب‪.‬‬
‫لكن نظرة الرجل إلى امرأة غريبة قد تحتوي من الفتعال الكثير؛ فهو يتلصص ليراها‪ ،‬ول‬
‫يرغب في أن يراه أحد وهو يختلس النظر إليها‪ ،‬وهذه كلها انفعالت مفتعلة‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ :‬سيدة البيت عندما تدخل إلى مطبخها فتتناول شيئا لتأكله‪ ،‬إنها تأكل من حلل مال‬
‫زوجها‪ ،‬أما الخادمة فعندما تريد أن تأخذ قطعة من اللحم من المطبخ دون علم أهل البيت فهي‬
‫تتلصص‪ ،‬وتحاول معرفة عدد قطع اللحم‪ ،‬وقد تتساءل بينها وبين نفسها‪ :‬ألم تقم ربة البيت بحصر‬
‫عدد قطع اللحم؟ ولذلك فهي تأخذ من كل قطعة لحم قطعة صغيرة‪.‬‬

‫وهذا افتعال يتعب الجوارح؛ لن مثل هذه المور تتعب ملكات النسان‪ ،‬إنّه يحاول أن يرضي‬
‫ملكة واحدة فيتعب كل ملكاته الخرى‪.‬‬
‫ل لّ‬
‫ع ْد ٍ‬
‫شفِي ٌع وَإِن َتعْ ِدلْ ُكلّ َ‬
‫ي َولَ َ‬
‫سلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ لَيْسَ َلهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِ ّ‬
‫} وَ َذكّرْ ِبهِ أَن تُبْ َ‬
‫ُيؤْخَذْ مِ ْنهَآ { [النعام‪.]70 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن فهي النفس التي تحبس وتسلم نفسها إلى الهلكة والعذاب بسوء كسبها ليس لها من دون ال‬
‫ولي ول شفيع‪ ،‬ول يُقبل منها عدل‪ .‬وهذه مراحل متعددة تبدأ بقوله الحق‪ } :‬لَيْسَ َلهَا مِن دُونِ اللّهِ‬
‫وَِليّ { والولي هو الذي ينصرك إن كنت في مأزق‪ .‬ومأزق الخرة كبير‪ ،‬فماذا عن النسان الذي‬
‫ليس له ولية؟ إنه العذاب الحق‪.‬‬
‫شفِيعٌ { أي ليس له من يشفع عند من يملك النصرة وهو ال؛ فالذي يحبك‬
‫والمرحلة الثانية } وَلَ َ‬
‫إن لم ينصرك بذاته فإنه قد يشفع لك عند من يستطيع أن ينصرك‪ .‬وهذا أيضا ل يوجد لمن لم‬
‫يتذكر ويتعظ ولم يتبع المنهج اليماني‪.‬‬
‫ل لّ ُي ْؤخَذْ مِ ْنهَآ { أي أنه ل تقبل منه فدية‪ .‬فهذه المنافذ الثلثة‬
‫ع ْد ٍ‬
‫والمرحلة الثالثة } وَإِن َتعْ ِدلْ ُكلّ َ‬
‫قد سُدّت ول سبيل للنّجاة لهؤلء الذين قال فيهم الحق‪ُ } :‬أوْلَـائِكَ الّذِينَ أُبْسِلُواْ ِبمَا كَسَبُواْ { أي‬
‫أهلكوا أو حُبسوا في الجحيم حبسا ل فكاك منه‪ ،‬وليس هذا فقط ولكن الحق يقول أيضا‪َ } :‬ل ُهمْ‬
‫حمِي ٍم وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُواْ َي ْكفُرُونَ {‪.‬‬
‫شَرَابٌ مّنْ َ‬
‫إن كلمة " شراب " إذا سمعناها فإننا نفهم منها الرّي‪ .‬ولكن الحق هنا يتبع كلمة " شراب " بتحديد‬
‫مصدر هذا الشراب‪ ،‬إنه " من حميم " ليحدث ما يُسمى " انبساط " و " انقباض "؛ فالشيء الذي‬
‫يسرّ النسان تنبسط له النفس‪ .‬والشيء الذي يحزن النسان تنقبض له النفس‪ .‬ولو أن المر‬
‫المحزن جاء بداية في هذا القول الكريم لنقبضت النفس في المسار الطبيعي‪ ،‬لكن الحق شاء أن‬
‫يأتي أولً بكلمة من يسمعها تُسر نفسه وهي " شراب " ثم تبعها بما يقبض النفس " من حميم "‬
‫ليكون اللم ألمين‪ :‬ألم زوال السرور‪ ،‬وألم مجيء الحزن‪.‬‬
‫شوِي‬
‫ويصور القرآن في موضع آخر هذه الصورة فيقول‪ {:‬وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ‬
‫الْوجُوهَ‪[} ...‬الكهف‪.]29 :‬‬
‫وتنبسط النفس حين تسمع الجزء الول وهو‪ } :‬وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ { ولكنها تنقبض فور‬
‫شوِي الْوجُوهَ {‪.‬‬
‫سماعها } ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ َي ْ‬
‫وصورة أخرى عندما يقول الحق‪ ... {:‬فَ َبشّرْهُمْ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[التوبة‪.]34 :‬‬
‫وتنبسط النفس ‪ -‬كما علمنا ‪ -‬حينما تسمع خير البشارة؛ لن البشارة تأتي للمر المفرح‪ ،‬وتنقبض‬
‫عندما تعلم أن البشارة هي بالعذاب الليم‪ .‬إذن فقد جاء الحق بالنبساط‪ ،‬وجاء بالنقباض‪ .‬وهذه‬
‫سنة من سنن ال في التأديب‪ .‬ومثال على ذلك‪ :‬عندما يرتكب إنسان مظالم كثيرة‪ ،‬وتفاقم واستفحل‬
‫شره ويريد ال أن ينتقم منه‪ ،‬إنه سبحانه ل ينتقم منه وهو على حاله الطبيعي‪ ،‬إنما يرفع الحق ‪-‬‬
‫سبحانه ‪ -‬هذا الظالم إلى درجات عالية ثم يخسف به الرض‪.‬‬

‫شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ‬


‫ولذلك يقول الحق‪ {:‬فََلمّا نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫خذْنَاهُمْ َبغْتَةً‪[} ...‬النعام‪.]44 :‬‬
‫أَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وساعة تسمع } فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ { فأنت تخاف؛ لن الفتح هنا " عليهم " وليس " لهم "‪ .‬لكنك ساعة‬
‫تسمع قوله الحق‪ {:‬إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَتْحا مّبِينا }[الفتح‪.]1 :‬‬
‫فإنك تحس بالنشراح والسرور؛ لن الفتح هنا لصالح المتلقي وليس عليه هكذا يريد الحق أن‬
‫حمِي ٍم وَعَذَابٌ َألِيمٌ ِبمَا كَانُواْ َي ْكفُرُونَ‬
‫يصْلى المتجبرون العذاب المضاعف‪َ ...} :‬لهُمْ شَرَابٌ مّنْ َ‬
‫{ [النعام‪.]70 :‬‬
‫والعذاب هنا نتيجة لما فعلوه وليس فعل جبار متسلط‪ .‬أما غيرهم من المتساوين معهم في الملكات‪،‬‬
‫واختاروا الخير فآمنوا بالمنهج وطبقوه على أنفسهم فقد نالوا الخير بما فعلوا‪ ،‬والتكوين النساني‬
‫في ذاته صالح لفعل الخير ولفعل الشر‪ ،‬وسنة الحق واضحة جلية‪َ {:‬فمَن َي ْعمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا‬
‫يَ َرهُ * َومَن َيعْـمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة‪.]8-7 :‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ُ } :‬قلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ‪{ ...‬‬

‫(‪)852 /‬‬

‫عقَابِنَا َبعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالّذِي اسْ َت ْهوَتْهُ‬


‫ُقلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا يَ ْن َفعُنَا وَلَا َيضُرّنَا وَنُرَدّ عَلَى أَ ْ‬
‫الشّيَاطِينُ فِي الْأَ ْرضِ حَيْرَانَ َلهُ َأصْحَابٌ َيدْعُونَهُ إِلَى ا ْلهُدَى ائْتِنَا ُقلْ إِنّ هُدَى اللّهِ ُهوَ ا ْلهُدَى وَُأمِرْنَا‬
‫لِنُسِْلمَ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)71‬‬

‫هذه الية تبدأ بسؤال عن عبادة الصنام أو غيرها‪ ،‬ما الذي صنعته تلك الصنام أو غيرها لمن‬
‫عبدها؟ وماذا صنعت لمن لم يعبدها؟‪ .‬وهذا أول منطق في بطلن ألوهية غير ال‪ ،‬فمن عبد‬
‫الشمس مثل ماذا أعطته الشمس؟ ومن كفر بها كيف عاقبته الشمس؟‪ .‬إنها تشرق لمن عبدها ولمن‬
‫لم يعبدها‪ .‬والصنم الذي عبدوه‪ ،‬ماذا صنع لهم؟ ل شيء‪ .‬وهذا الصنم لم يُنْزِل عقابا على مَنْ لم‬
‫يعبده‪ ،‬بل إن الذي انتفع هو من لم يعبد الصنام؛ لنه أعمل فكره ليبحث عن خالق لهذا الكون‪.‬‬
‫عقَابِنَا َب ْعدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ }‬
‫وهكذا نجد النفع والضر إنما يأتيان من الله الحق‪ { :‬وَنُرَدّ عَلَىا أَ ْ‬
‫والنسان دائما حين يسير فهو يقطع خطوة إلى المام فيقصر المسافة أمامه‪ ،‬أما من يُ َردّ على‬
‫عقبه فهو من يرجع هذه الخطوة التي خطاها‪.‬‬
‫وهذا حديث المؤمنين الذي يرفضون أن يعودوا إلى عبادة غير ال لنهم آمنوا وساروا في طريق‬
‫الهدى‪ ،‬وليس من المنطق أن يرتدوا على أعقابهم وأن ينقلبوا خاسرين‪.‬‬
‫{ كَالّذِي اسْ َت ْهوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِي الَ ْرضِ } كلمة " شيطان " مقصود بها عاصي الجن‪ .‬والجن جنس‬
‫مقابل للنس‪ ،‬وما دام في النس طائعون وعاصون فكذلك في الجن طائعون وعاصون‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س ِمعْنَا قُرْآنا عَجَبا * َي ْهدِي إِلَى‬
‫حيَ إَِليّ أَنّهُ اسْ َت َمعَ َنفَرٌ مّنَ الْجِنّ َفقَالُواْ إِنّا َ‬
‫والحق قال‪ُ {:‬قلْ أُو ِ‬
‫شدِ فَآمَنّا بِ ِه وَلَن نّش ِركَ بِرَبّنَآ أَحَدا }[الجن‪.]2-1 :‬‬
‫الرّ ْ‬
‫إذن فمن الجن من هو مؤمن‪ .‬ومن الجن من هو عاصٍ‪ .‬والعاصي من الجن يُسمى شيطانا‪ .‬وإياك‬
‫أن تنكر أيها المسلم وجود الشيطان لنك ل تراه‪ ،‬لن الشيطان من المخلوقات التي ذكرها ال من‬
‫عالم الغيب‪ ،‬وحجة وجودها هو تصديقك لمن قال عنها‪ ،‬وهناك فرق منطقي وفلسفي بين وجود‬
‫الشيء وبين إدراك وجود الشيء‪ .‬والذي يتعب الناس أنهم يريدون أن يوحدوا ويربطوا بين وجود‬
‫شيء وإدراكه‪ .‬وهناك فارق بين أن يوجد أو يدرك؛ ذلك أن هناك ما يكون موجودا ولكنه ل‬
‫يُدرك‪.‬‬
‫عقَابِنَا َبعْدَ إِذْ َهدَانَا اللّهُ } [النعام‪:‬‬
‫{ ُقلْ أَ َندْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ يَن َفعُنَا وَلَ َيضُرّنَا وَنُرَدّ عَلَىا أَ ْ‬
‫‪.]71‬‬
‫جاء هذا التصور في صورة استفهام‪ .‬إنّ الحق طلب من رسوله أن يقوله‪ ،‬فكأن الصورة‪ :‬أن قوما‬
‫هداهم ال إلى الحق فدُعُوا إلى أن يعبدوا غير ال ويدعوا ما ل ينفع ول يضر‪ ،‬فيردوا على‬
‫أعقابهم‪ ،‬أي بعد الهداية‪ ،‬وهذه هي صورة الحيرة والتردد؛ لنهم كانوا على هدى‪ ،‬ثم دُعُوا إلى أن‬
‫يعبدوا من دون ال ما ل ينفع ول يضر‪ .‬وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة لهذه‬
‫الحيرة‪ ،‬ولهذا التردد‪ ،‬فقال‪ { :‬كَالّذِي اسْ َت ْهوَتْهُ الشّيَاطِينُ }‪.‬‬
‫و " استهوته " من مادة " استفعل " وتأتي دائما للطلب؛ كقولنا " استفهم "‪.‬‬

‫أي طلب الفهم‪ ،‬و " استخرج "‪ .‬أي طلب الخراج للشيء‪ " ،‬فاستهوته " طلبت ُهوِيّة‪ .‬أي جعلته‬
‫يتقبّل ما تريد واستولت عليه دون أن يكون لديه أي دليل أو حجة على صحة ما تدعوه إليه بأن‬
‫صار عجينة تشكله الشياطين كما تشاء‪ ،‬وترده مادة " الهاء والواو والياء " لمعانٍ‪ ،‬إن مُدّت؛ فهي‬
‫الهواء الذي نتنفسه‪ ،‬وما به أصل الحياة‪ ،‬وإن ُقصِرَت‪ ،‬فإنها هي ال َهوَى وهو ميل النفس إلى‬
‫شيء‪ ،‬أو تكون هُويّا أي سقوطا‪.‬‬
‫إذن فالمادة تأتي إما للهواء إن كانت ممدودة‪ ،‬وإن كانت بالقصر فهي من ال َهوَى أو من ال ُه ِوىّ؛‬
‫كأن تقول‪َ " :‬هوَى‪َ ،‬ي ْهوِي؛ ُهوِيّا " أي سقط من علوّ إلى أسفل‪ ،‬و َه ِوىَ‪َ ،‬ي ْهوَى‪َ ،‬هوّى‪ .‬أي أحبّ‪،‬‬
‫وهكذا نعرف أن " استهوته " أي طلبت هويّه أو هواه أي ميل نفسه إلى اتباع ال َهوَى‪ ،‬وحين‬
‫تستهوي الشياطين النسان فهي تريد أن تجتذبه إلى ناحية هواه‪ ،‬وتوقظ الهوى في النفس‪ ،‬وبذلك‬
‫طفُهُ الطّيْرُ َأوْ َت ْهوِي بِهِ‬
‫خَ‬‫سمَآءِ فَتَ ْ‬
‫تدعوه ل َي ْهوِي‪ .‬والحق يقول‪َ {:‬ومَن ُيشْ ِركْ بِاللّهِ َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ ال ّ‬
‫الرّيحُ فِي َمكَانٍ سَحِيقٍ }[الحج‪.]31 :‬‬
‫وحين يخرّ عبد من السماء‪ ،‬إما أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق‪ ،‬وحين تأتي‬
‫إلى ال َهوَى وال ُه ِوىّ فاعلم أن الهوى يجذبك إلى ما يضرك‪ ،‬ولذلك ل تسلم منه إل أن يكون هواك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تبعا لما جاء به الحق‪ ،‬ولكن إن اتبعت هواك فل بد أن يؤدي بك إلى ال ُه ِويّ‪ } :‬كَالّذِي اسْ َت ْهوَتْهُ‬
‫الشّيَاطِينُ فِي الَرْضِ حَيْرَانَ { [النعام‪.]71 :‬‬
‫وما هي الحَيْرة؟ هي التردد بين أمر ومقابله‪ .‬وعرفنا من قبل أن الحَيْرة في هذه الية جاءت لمن‬
‫اهتدى وسار خطوة للمنهج ثم رُدّ على أعقابه ورجع‪ ،‬ولكن له أصحاب يدعونه إلى الهدى‪ ،‬فهو‬
‫بين شيطان يستهويه‪ ،‬وأصحاب يدعونه للمنهج؛ لذلك يكون حيران‪ :‬بين هاوية ونجاة‪ ،‬والشيء‬
‫الذي يهوي ل استقرار له‪ ،‬وحين نرى ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬حجرا يهوي للرض نجده يدور‪،‬‬
‫ول اتجاه له‪ .‬وهذه صورة معبرة‪ ،‬ويأتي له القول الفصل‪ُ } :‬قلْ إِنّ هُدَى اللّهِ ُهوَ ا ْل ُهدَىا‬
‫{ [النعام‪.]71 :‬‬
‫فمن يتبع إذن؟ إنه يتبع الذين يدعونه إلى منهج الحق سبحانه وتعالى؛ لن الهدى هو المنهج‬
‫والطريق الموصل للغاية‪ ،‬والصنعة ل تضع غاية لنفسها‪ ،‬بل الذي يضع الغاية هو من صنعها‪،‬‬
‫وسبق أن قلت‪ :‬إنّ التليفزيون ل يقول لنا غايته‪ ،‬ول يعرف كيف يصون نفسه‪ ،‬بل يضع ذلك مَنْ‬
‫صنعه‪ ،‬وكذلك النسان عليه أن يأخذ غايته ِممّن خلقه‪ ،‬والذي يفسد الدنيا أن ال خلق‪ ،‬لكن الناس‬
‫أرادوا أن يضعوا لنفسهم قانون الصيانة‪ ،‬لذلك نقول‪ :‬إن علينا أن نأخذ قانون الصيانة ممن خلقنا‪،‬‬
‫وهدى ال هو هدى الحق‪.‬‬

‫وجاءت " الهدى " هنا لتعطينا يقينا إيمانيا في إله واحد‪ ،‬وحين توجد عقيدتنا في إله واحد‪ ،‬ل‬
‫تختلف أهواؤنا أبدا؛ لنه هو الذي يضع لنا القانون‪ ،‬وساعة يضع لنا القانون ويكون كلّ مِنّا‬
‫خاضعا لقانونه‪ ،‬ل يذل أحد منا لحد آخر؛ فأنا وأنت عبيد لله واحد‪ ،‬ول غضاضة عليك ول‬
‫غضاضة عليّ‪ .‬وحين يُريد البشر أن يسير الناس على أفكارهم فإن صاحب الفكر يريد أن ُيذِل‬
‫الخرين له ويأخذهم على منهجه وعلى مبدئه‪ ،‬وهو في الحقيقة ليس أفضل منهم‪ ،‬ولذلك تجد‬
‫الهداية الحقة حين نخضع جميعا لله واحد‪ ،‬ويتساند المجتمع ويتعاضد ول يتعاند‪ ،‬ويتوجه الهوى‬
‫ت وَالَرْضُ }[المؤمنون‪.]71 :‬‬
‫سمَاوَا ُ‬
‫حقّ أَ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ‬
‫إلى محبة منهج ال‪ {.‬وََلوِ اتّ َبعَ الْ َ‬
‫ولهذا جاء الدين؛ لن الشرع ل يقرر شيئا ضد النسان‪.‬‬
‫ونذكر جميعا قصة ملكة سبأ وسيدنا سليمان عليه السلم حينما قالت‪ } :‬وََأسَْل ْمتُ مَعَ سُلَ ْيمَانَ {‪ .‬ولم‬
‫تقل‪ :‬أسلمت لسليمان بل أسلمت مع سليمان ل‪ ،‬فل غضاضة أن تكون قد أسلمت فهي ليست تابعة‬
‫لسليمان‪ ،‬بل تابعة لرب سليمان‪ ،‬إذن حين يأتي التشريع من أعلى‪ ،‬ل غضاضة لحد في أن‬
‫يؤمن‪ ،‬ول يظن واحد أنه تبع لخر بل كلنا عبيد ل‪ .‬وحين نكون جميعا عبيدا لواحد نكون جميعا‬
‫سادة‪.‬‬
‫ويتمثل الهدى في اليمان بإله واحد‪ ،‬ونأخذ هذا اليمان بأدلتنا العقلية‪ .‬إننا ندخل عليه من باب‬
‫العقل‪ ،‬ونسلم أمرنا له؛ لنه هو أعلم بما يصلحنا‪ } .‬وَُأمِرْنَا لِنُسِْلمَ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ { [النعام‪.]71 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَأَنْ َأقِيمُواْ الصّلةَ‪{ ...‬‬

‫(‪)853 /‬‬

‫وَأَنْ َأقِيمُوا الصّلَاةَ وَا ّتقُوهُ وَ ُهوَ الّذِي إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ (‪)72‬‬

‫سلِمُ لرب العالمين‪ ،‬ونقيم الصلة‪ ،‬ونتقيه سبحانه‪ ،‬لماذا؟؛ لن كل‬


‫هنا تجد المر بثلثة أشياء‪ :‬نُ ْ‬
‫العمال الشرعية التي تصدر من الجوارح ل بد أن تكون من ينابيع عقدية في القلب‪.‬‬
‫وكيف نسلم لرب العالمين؟‪ .‬أي نفعل ما يريد وننتهي عما ينهى عنه‪ ،‬ثم نقيم الصلة وهو أمر‬
‫إيجابي‪ ،‬ونتقي ال أي نتقي الشياء المحرمة وهو أمر سلبي‪ ،‬وهكذا نجد أن الهدى يتضمن إيمانا‬
‫عقديا برب نسلم زماننا له؛ لتأتي حركتنا في الوجود طبقا لما رسم لنا في ضوء " افعل " و " ل‬
‫تفعل " ‪ ،‬وحركتنا في الوجود إما فعل وإما ترك‪ .‬والفعل أن نقوم بسيد الفعال وهو الصلة‪،‬‬
‫والترك أن نتقي المحارم‪ ،‬وهذا كله إنما يصدر من الينبوع العقدي الذي يمثله قوله‪ { :‬لِنُسِْلمَ لِ َربّ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ }‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى حينما يأمر بفعل أو ينهى عن شيء هو يعلم أنك صالح للفعل وللترك‪ ،‬فإذا‬
‫قال لك‪ :‬افعل كذا‪ ،‬فأنت صالح أل تفعل‪ ،‬وإذا قال‪ " :‬ل تفعل كذا " ‪ ،‬فأنت صالح أن تفعل‪ ،‬ولو‬
‫كنت ل تصلح لن تفعل ل يقول لك‪ :‬افعل؛ لنك مخلوق على هيئة تستطيع أن تفعل وتستطيع أل‬
‫تفعل‪ ،‬وهذا هو الختيار المخلوق في النسان‪ ،‬أما بقية الكون كله فليس عنده هذا الختيار‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬الشمس‪ ،‬إنها ليست حرّة أن تشرق أو ل تشرق‪ ،‬الهواء ليس ليس حرا أن يهب أو ل‬
‫يهب‪ ،‬والرض في عناصرها ليست حرّة في أن تكتمها أو ل تكتمها‪ ،‬لكن النسان مميز بقدرته‬
‫على أن يختار بين البدائل؛ لذلك ل بد أن يكون صالحا للمرين‪ ،‬والخطأ إنما يأتي من أن تنقل‬
‫مجال " افعل " في " ل تفعل "‪ .‬أو مجال " ل تفعل " في " افعل "‪ .‬والمؤمن يأخذ منطقية " افعل "‬
‫في مجال " الفعل " ‪ ،‬ومنطقية " ل تفعل " في مجال الترك‪.‬‬
‫وحين تنظر إلى النسان تجد أن التكليف اللهي يناسب التكوين البشري‪ .‬وأنت تشترك مع الجماد‬
‫في أشياء‪ ،‬ومع النبات في أشياء‪ ،‬ومع الحيوان في أشياء‪ ،‬وتتفوق على الكل بقدرة الختيار التي‬
‫منحك ال إياها‪.‬‬
‫ولتوضيح هذا المر أقول‪ :‬لنفترض أن واحدا أخذك إلى مكان مرتفع ثم تركك في الجو عندئذ‬
‫تسقط على الرض‪ ،‬وهكذا تجد أن قانون الجماد ينطبق عليك‪ ،‬فليس لك إرادة أن تقول‪ " :‬ل أريد‬
‫أن أقع " وهكذا نرى الجمادية فيك‪ ،‬وانظر إلى " النمو " الذي ل تتحكم فيه ول تقدر أن تقول‪" :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سأنمو اليوم بزيادة في الطول قدرها نصف الملليمتر " بل أنت ل تعرف كيف تنمو‪ ،‬وأنت ل‬
‫تعرف كيف ينبض قلبك‪ ،‬ول سرّ الحركات الدودية للمعاء‪ ،‬ول حركة المعدة‪ ،‬أو عمل الكبد‪ ،‬أو‬
‫حركة التنفس التي بها تقوم الحياة‪ ،‬وكل ذلك أمور قهرية‪ ،‬ومن رحمة ال بنا أنها قهرية‪ ،‬فلو‬
‫كانت اختيارية لتحكم فيها غيرك‪.‬‬

‫إذن من رحمته بنا سبحانه أن جعلنا مقهورين في هذه المسائل‪ ،‬ومسخرين فيها‪ ،‬وبعد ذلك خلق‬
‫لنا الختيار في التكليف‪ ،‬افعل‪ ،‬ول تفعل‪ ،‬والتكليف من ال سبحانه وتعالى في الفعال التي تقع‬
‫من النسان ل في الفعال التي تقع على النسان؛ لن الفعال التي تقع من النسان هي التي فيها‬
‫اختيار ويبحثها العقل أولً‪ ،‬لينفذها النسان بعد ذلك‪ .‬ولذلك ل يكلف ربنا إل العاقل الناضج؛ لنه‬
‫ل توجد قوة تقهره على غير ما يختار‪ .‬أما المجنون فليس عليه تكليف؛ لنه لم يُدرْ المسألة في‬
‫رأسه قبل ان يفعل‪ ،‬وكذلك من لم ينضج؛ لنه لم يصل إلى قوة الفهم الكامل‪ ،‬وكذلك المقهور على‬
‫فعل بقوة إنسان أو سلطان أقوى منه‪.‬‬
‫وهكذا نعلم أن التكليف ل يلزم النسان في تلك الحالت حيث ل يوجد عقل أو يكون العقل غير‬
‫ناضج‪ ،‬أو أن يوجد قهر‪.‬‬
‫ويتابع الحق‪ } :‬وَ ُهوَ الّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ { ولو أن المسألة ‪ -‬مسألة اليمان ‪ -‬مجرد مظهر ل‬
‫جوهر لما ترتب عليها نتيجة‪ ،‬ولكن لننتبه إلى أن هناك غاية‪ .‬وأضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل‬
‫العلى ‪ -‬نجد التلميذ مثلً إن حضر الدرس أو لم يحضر‪ ،‬استمع إلى المدرس أولً‪ ،‬ذاكر أو لم‬
‫يذاكر‪ ،‬أل يظهر كل ذلك في شهادة نهاية العام؟‪.‬‬
‫إذن فالحساب قائم على كل فعل؛ لنك تتمتع أيها النسان بخاصية الختيار‪ ،‬أي أنك صالح لتفعل‬
‫أو ألّ تفعل‪ ،‬ولذلك يرشدك اليمان إلى العمل الصالح؛ لن هناك غاية؛ إنّك ستصير إلى من‬
‫يحاسبك على أنك نقلت " افعل " في مجال " ل تفعل " ‪ ،‬أو " ل تفعل " في مجال " افعل "‪ .‬فإن‬
‫كنت ل تأخذ أمور اليمان لصلحية حياتك فخذها خوفا من الجزاء والحساب‪.‬‬
‫ثم يقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬وَ ُهوَ الّذِي خَلَقَ‪{ ...‬‬

‫(‪)854 /‬‬

‫ق وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ يُ ْنفَخُ فِي‬


‫ق وَ َيوْمَ َيقُولُ كُنْ فَ َيكُونُ َقوْلُهُ ا ْلحَ ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَ ّ‬
‫وَ ُهوَ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫حكِيمُ ا ْلخَبِيرُ (‪)73‬‬
‫شهَا َد ِة وَ ُهوَ ا ْل َ‬
‫ب وَال ّ‬
‫الصّورِ عَالِمُ ا ْلغَ ْي ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير‪ ،‬وما دام الحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير فلننظر إلى‬
‫ت وَالَرْضَ أَن تَزُولَ }[فاطر‪]41 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫خلق السماء والرض‪ ،‬يقول سبحانه‪ {:‬إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ‬
‫وحين ننظر إلى الفق نجد السماء من غير عمد‪ ،‬وهذه مسألة عجيبة‪ ،‬ولذلك يقول سبحانه‪ِ {:‬بغَيْرِ‬
‫عمَدٍ تَ َروْ َنهَا }[الرعد‪]2 :‬‬
‫َ‬
‫ت وَالَرْضَ } وذلك حتى نعرف أن خلق السموات والرض‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وهنا يقول الحق‪ { :‬خََلقَ ال ّ‬
‫ليست عملية سهلة وهو سبحانه القادر؛ إنّه خلقك أنت بخلق عجيب‪ ،‬وأعجب منه خلق السموات‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ }[غافر‪]57 :‬‬
‫والرض‪ ،‬فهو القائل‪َ {:‬لخَلْقُ ال ّ‬
‫سكُمْ َأفَلَ‬
‫وحين ينظر النسان في تكوينه يجد أشياء عجيبة‪ ،‬ويتحقق من قول ال‪َ {:‬وفِي أَنفُ ِ‬
‫تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات‪]21 :‬‬
‫وحين تتأمل السماء والرض تجد دقة الخلق‪ ،‬فكأنه سبحانه قد جعل نفسك مقياسا‪ ،‬إنك ستعلم‬
‫أحوالها تباعا وأنك سَ ُت ْهدَي مع اليام‪ ،‬إلى سر جديد في هذه النفس‪ ،‬هذا السر لم يعرفه الولون‪،‬‬
‫لكنك حين تتقدم في البحث العلمي وآلت السبر وآلت الختبار تتعرف وتكتشف هذا الجديد‪.‬‬
‫مثال ذلك ما يسمى بالستطراق‪ ،‬وكلنا رأينا الواني المستطرقة التي نضع فيها سائل ينفذ في‬
‫أنابيب متعرجة وأخرى مستقيمة‪ ،‬فيرتفع السائل فيها بمستوى واحد وهو ما نسميه بظاهرة‬
‫الستطراق‪ ،‬وهناك استطراق مائي‪ ،‬ويوجد أيضا حراري‪ ،‬ويتمثل الستطراق الحراري حين‬
‫نأتي بالمدفأة في الشتاء ونجلس في الغرفة‪ ،‬ونشعر بالحرارة التي تشع من المدفأة‪ ،‬وأنت تجد‬
‫نفسك محتفظا بدرجة حرارتك العادية وهي سبع وثلثون درجة‪ .‬ومن العجيب أنها تتساوى في‬
‫البشر جميعاحتى في القطب الشمالي والقطب الجنوبي!! فلماذا لم تستطرق درجة حرارتك مع‬
‫الجو؟ ولماذا لم يأخذ الجو البارد من حرارتك لتتساوى درجات الحرارة؟‪.‬‬
‫إن ذلك يثبت أن ذلك ذاتية تجعلك وحدة مستقلة عن الكون الذي تحيا فيه‪ ،‬وتظل درجة حرارتك‬
‫عند خط الستواء ‪ 37‬درجة‪ ،‬وفي القطبين ‪ 37‬درجة‪ ،‬هذا عجيب‪ ،‬والعجب من ذلك أن أجزاء‬
‫جسمك المختلفة تختلف فيها درجة الحرارة‪ ،‬فلو أن درجة حرارة العين ‪ 37‬درجة لنصهرت؛‬
‫لذلك تجد أن درجة حرارة العين تسع درجات فقط‪ ،‬وهناك الكبد الذي تبلغ درجة حرارته أربعين‬
‫درجة‪ ،‬وكل أعضاء جسمك وهي مجموعة في شكل واحد ومع ذلك ل تستطرق فيها درجة‬
‫سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }‪.‬‬
‫الحرارة‪ .‬ولذلك قال الحق‪َ { :‬وفِي أَنفُ ِ‬
‫ومثال آخر من عملية التنفس‪ ،‬فحين تدخل ذرة من غبار في مجرى النفس نجد السعال قد هاجم‬
‫النسان ليطرد هذه الذرة وتجد أنك قد سعلت قسرا إلى أن تطرد هذه الذرة‪ ،‬فهل أنت سعلت‬
‫بقرار منك؟ ل‪ ،‬بل هو عمل ل إرادي خاضع لنظام دقيق ل يمكن أن يصممه إل خالق له مطلق‬
‫الحكمة‪ ،‬وعلى سبيل المثال نجد الكبد محوطا بتغليفات متتابعة ليحتفظ بحرارته التي تبلغ أربعين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫درجة؛ لنه ل يؤدي مهمته إل عند هذه الدرجة‪.‬‬

‫وكذلك نجد أنّ الذن هي أطول عضو يشعر بالبرودة؛ لن درجة حرارتها قليلة‪ ،‬وهكذا أراد‬
‫ت وَالَرْضَ بِا ْلحَقّ { [النعام‪:‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫الصانع العلى‪ .‬كما جاء في قوله تعالى‪ } :‬وَ ُهوَ الّذِي خََلقَ ال ّ‬
‫‪]73‬‬
‫شمْسُ‬
‫لقد خلق الحق السماوات والرض بقوانين ثابتة ل تتغير إل بمشيئته‪ ،‬فهو القائل‪ {:‬لَ ال ّ‬
‫ك ال َقمَ َر وَلَ الْلّ ْيلُ سَابِقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس‪]40 :‬‬
‫يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ‬
‫فيامَنْ تريد النظام دليلً على حكمة الخالق الموجد خذها في النظام العلى‪ .‬ويا من تريد الشذوذ‬
‫دليلً على سيطرة الحق فوق الميكانيكية‪ ،‬خذها في الفراد؛ لنه لو حصل شذوذ في الكون العلى‬
‫لفسدت السموات والرض‪ ،‬لكن عندما يوجد أعمى واحد من ألف إنسان‪ ،‬فل يحدث خلل في‬
‫الكون‪ ،‬ولذلك نجد الشذوذ إنما يأتي فيما فيه عوض‪ ،‬والنظام يأتي فيما في تركه فساد‪ ،‬كما يقول‬
‫سبحانه‪ } :‬وَيَوْمَ َيقُولُ كُن فَ َيكُونُ َقوْلُهُ ا ْلحَقّ { [النعام‪]73 :‬‬
‫وبذلك نرى اليجاد الول بالحق‪ ،‬وأيضا حين يهدم سبحانه السماء والرض وينهي الدنيا ويزيلها‪،‬‬
‫فتمور السماء‪ ،‬والكواكب تنتثر وتتساقط؛ فإن ذلك يحدث أيضا بالحق‪ ،‬فليس الخلق واليجاد وحده‬
‫دليلً على عظمة الخالق بل إنهاء الخلق وإفناؤه وإزالته أيضا دليل عظمة؛ لنه سبحانه قال في‬
‫البدء‪ " :‬كن " فكان الكون‪ ،‬وفي النهاية يقول‪ " :‬كن " فيكون إنهاء الخلق ليعطي للمحسن جزاء‬
‫إحسانه‪ ،‬ويحاسب المسيء؛ لن المحسن قد يشقى بإحسانه طول عمره‪ ،‬ول بد له من ثواب‪،‬‬
‫والمسيء لن يأخذ راحته بل يأخذ عقابا‪ .‬فمن الخير والعظمة أن تنتهي الحياة ليأتي يوم الحساب‬
‫لينال كلُّ جزاءه‪.‬‬
‫إذن فخلق السموات والرض حق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق‪ ،‬فالحق في اليجاد والحق في‬
‫العدام‪ ،‬إنّه حاصل في بدء الخلق‪ ،‬وفي نهايته‪.‬‬
‫حكِيمُ الْخَبِيرُ { [النعام‪]73 :‬‬
‫شهَا َد ِة وَ ُهوَ الْ َ‬
‫} وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ‬
‫وهل كان الملك يوما لغير ال؟‬
‫في هذا المقام علينا أن ننتبه إلى أن فيه ملْكا‪ ،‬ويقال لصاحبه مالك‪ ،‬وفيه مُلك ويقال لصاحبه ملك‪.‬‬
‫والملك ما تملكه؛ فقد تملك جلبابك الذي ترتديه‪ .‬أما المُلْك فهو أن تملك من َيمْلك‪ ،‬فهذا اسمه مُلْك‪،‬‬
‫وربنا سبحانه وتعالى في دنيا السباب جعل لكل واحد منا ملكا‪ ،‬وجعل لبعض علينا مُلكا فبقوا‬
‫ملوكا‪ ،‬لكن في الخرة ل يوجد شيء من هذا‪ ،‬لذلك يقول الحق‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ‬
‫ا ْل َقهّارِ }[غافر‪]16 :‬‬
‫وفي الدنيا قد تملك مثلً أن توظفني عندك وتعطيني أجرا‪ ،‬وقد تملك أنك تطبخ لي طعامي أو‬
‫تعطيني طعاما‪ ،‬أو تملك أنك تخيط جلبابي‪ ،‬لكن في الخرة ل يملك أحد لحد سببا؛ لننا نحيا في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الدنيا بالسباب التي منحنا ال إياها‪ ،‬وفي الخرة بالمسبب وحده دون أسباب‪.‬‬

‫} وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ { ولو سلسلتها قبل أن ينفخ في الصور تجد الملك أيضا ل ولكن‬
‫بوسائط؛ لن الحق سبحانه وتعالى جعل الرض أرض معاش‪ ،‬وهناك الخرة إنّها أرض معاد‪،‬‬
‫ل الَ ْرضُ غَيْرَ الَ ْرضِ }[إبراهيم‪]48 :‬‬
‫لذلك قال‪َ {:‬يوْمَ تُبَ ّد ُ‬
‫والرض التي نحيا عليها مخلوقة لنستعمرها‪ ،‬ونحرث جزءا منها لنزرعه‪ ،‬ونبني بيوتا على جزء‬
‫آخر‪ ،‬وهكذا تكون المسألة كلها أسبابا يتوافق بعضها مع بعض؛ فأنا ل أستطيع أن أحرث إل‬
‫بمحراث‪ ،‬وكذلك من يرغب في استخراج عنصر الحديد من الرض يقيم منجما‪ ،‬ومن يرغب في‬
‫استخراج البترول يأتي باللت التي تستكشف أماكنه‪ ،‬ول أحد يستطيع أن يملك كل أسباب حياته‬
‫بل توجد في يده زاوية واحدة‪ ،‬وباقي الزوايا في أيدي بقية الخلق‪.‬‬
‫وحين تسلسل السباب التي نحيا بها سنرجع للحق سبحانه وتعالى‪ ،‬فحين تنتهي يد المخلوق‬
‫وأسبابه تضيق به فإن يد الخالق جلت قدرته مبسوطة إليه دائما‪ ،‬وإياك أن تغرك السباب ولكن‬
‫سلسل السباب إلى أن تنتهي إلى ال‪.‬‬
‫ولو سلسلت كل ظاهرة من ظواهر الكون لوصلت إلى منطق الحق؛ فالطفل الصغير يرقب ظاهرة‬
‫في البيت‪ ،‬هي زر في الحائط‪ ،‬عندما يضغطون عليه بأصبع واحد يضيء المصباح‪ ،‬فيقلدهم‪،‬‬
‫وحين يراه أخوه الذي يدرس العدادية يقول له‪ :‬ل تصدق أن الضوء يأتي من هذا الزر بل هناك‬
‫سلك قادم من خارج المنزل يربط بين صندوق الكهرباء والمنازل‪ ،‬وحين يسمعهما من هو أعلى‬
‫منهما علما يشرح لهما أن الكهرباء الموجودة داخل هذا الصندوق قادمة من المولد الكبير الذي في‬
‫موقع ما من المدينة‪ ،‬وقد صنعته المعامل والعقول حتى ينتهي الشرح فيصل إلى فكرة التيار‬
‫المكهرب المستخلص من شللت النهار مثل‪.‬‬
‫إذن فكل ظاهرة تراها أمامك وراءها حلقات غيبية لو سلسلتها لوصلت إلى الحق سبحانه وتعالى‪،‬‬
‫وسبحانه قد احترم دنيانا وجعلنا نفهم أن بعضنا له مُلك‪ ،‬ولكن نقول لكل مَلِك‪ :‬إن هذا المُلك ليس‬
‫بذاتك؛ لنه لو كان بذاتك لما سلبك أحد هذا المُلْك أبدا‪ .‬وسبحانه القائل‪ُ {:‬قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ }[آل‬
‫عمران‪]26 :‬‬
‫إذن فليس هناك من له المُلْك بذاته إل ال‪.‬‬
‫حكِيمُ ا ْلخَبِيرُ‬
‫شهَا َد ِة وَ ُهوَ ا ْل َ‬
‫ب وَال ّ‬
‫والحق يقول هنا‪ } :‬وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫{ [النعام‪.]73 :‬‬
‫ينفخ في الصور تفيد اليذان بمقدم أمر ما‪ ،‬فبعد النفخة الولى يموت من كان حيّا‪ ،‬وبعد النفخة‬
‫الثانية يصحو الموتى ويقومون‪.‬‬
‫شهَا َدةِ { تشرح لنا أنه سبحانه ما دام عالم الغيب فمن باب أولى أنه يعلم‬
‫ب وَال ّ‬
‫وكلمة } عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المشهود‪ .‬وهذا تعبير دقيق‪ ،‬وإنّه يعلم الغيب ويعلم الشهادة وعلمه يترتب عليه جزاء ل عن تحكم‪،‬‬
‫ولكن عن حكمة‪.‬‬
‫حكِيمُ الْخَبِيرُ { والحكيم هو الذي يضع كل أمر في‬
‫ويذيل الحق الية بقوله سبحانه‪ } :‬وَ ُهوَ الْ َ‬
‫مكانه‪ ،‬والخبير هو من يعلم كل شيء بإحاطة تامة‪ ،‬وسبحانه ليس بحاجة إلى أن يظلم أحدا‪ ،‬لن‬
‫من يظلم إنما يريد أن ينتفع بالشيء الموجود لدى المظلوم‪ ،‬وربنا ل ينتفع بحاجة من هذه‪ ،‬بل‬
‫ينفعنا جميعا‪ ،‬ولذلك إذا نظرت إلى اليمان تجده كله عزّة‪ ،‬وأنت تجد الناس تكره كلمة " عبودية "‬
‫‪ ،‬وتقوم حروب من أجل تحرير البشر من عبودية البشر‪ ،‬أما عبودية بشر للحق فأمرها مختلف؛‬
‫لن العبودية للبشر‪ ،‬نجد فيها أن السيد يأخذ خير عبده‪ ،‬ولكن العبودية ل نجد فيها أن العبد يأخذ‬
‫خير سيده‪ ،‬وهكذا تكون العبودية ل عزّة‪ ،‬أما العبودية للبشر فهي ذلة‪.‬‬

‫ولذلك نجد ال سبحانه وتعالى قد امتن على نبيه بصفة العبودية فقال‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ‬
‫حوْلَهُ }[السراء‪.]1 :‬‬
‫ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫سجِ ِد ا َ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ‬
‫لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ‬
‫فقد أخلص صلى ال عليه وسلم العبودية ل‪ ،‬فأخذ من فيوضات الحق بما يناسب عبوديته‪.‬‬
‫والحق سبحانه يوضح لكل عبد‪ :‬نم ملء جفنيك؛ فأنا ل تأخذني سنة ول نوم‪ ،‬وأنا قيوم‪ ،‬وإن‬
‫احتجت مني إلى شيء ما فادعني وسأمد لك يد العون بما يناسبك‪ ،‬فهل في هذه العبودية ل شيء‬
‫غير العزّة؟!‬
‫خذُ َأصْنَاما آِل َهةً‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ أَتَتّ ِ‬

‫(‪)855 /‬‬

‫ك َو َقوْ َمكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (‪)74‬‬


‫وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتّخِذُ َأصْنَامًا آَِل َهةً إِنّي أَرَا َ‬

‫والحق سبحانه وتعالى يعطي له صلى ال عليه وسلم ما يسليه ويصبّره على مشقات الدعوة؛ لن‬
‫الدعوة للسلم في أوله أرهقت رسول ال وأصحاب رسول ال‪ ،‬فيريد سبحانه أن يعطيهم مُثُلً‬
‫حدثت للرسل‪ ،‬وهنا يأتي الحق بخبر عن أبي النبياء سيدنا إبراهيم‪ { :‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ‬
‫خذُ َأصْنَاما آِلهَةً } [النعام‪.]74 :‬‬
‫أَتَتّ ِ‬
‫وساعة أن تسمع " إذ " فافهم أن " إذ " ظرف‪ ،‬أي واذكر جيدا الوقت الذي قال فيه إبراهيم لبيه‬
‫آزر " أتتخذ أصناما آلهة "؟ وما دمت تذكر هذه‪ ،‬ففي التذكرة تسلية لك عما يصيبك في أمر‬
‫الدعوة‪ .‬وهنا وقف العلماء وقفة طويلة‪ ،‬وتساءل بعضهم‪ :‬هل آزر هو أبو إبراهيم‪ ،‬أو أن والده‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هو تارخ؟‬
‫وقلت من قبل‪ :‬إن البوة تمثل ما هو أصل للفرد؛ فالب‪ ،‬والجد‪ ،‬وجد الجد أب‪ ،‬وأطلقت البوة‬
‫ش َهدَآءَ‬
‫على المساوي للب‪ ،‬مثل العم‪ .‬وجاء مثل هذا في القرآن حين قال الحق سبحانه‪َ {:‬أمْ كُنتُمْ ُ‬
‫ك وَإِلَـاهَ آبَا ِئكَ }[البقرة‪:‬‬
‫حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َموْتُ ِإذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْبُدُونَ مِن َبعْدِي قَالُواْ َنعْ ُبدُ إِلَـا َه َ‬
‫إِذْ َ‬
‫‪.]133‬‬
‫وآباء هنا جمع‪ ،‬وإذا ما عددنا هؤلء الباء نجدهم‪ :‬إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‪ ،‬والكلم من‬
‫يعقوب‪ ،‬وأبوه إسحاق‪ ،‬وإسحاق بن إبراهيم‪ ،‬وبرغم ذلك جاء سيدنا إسماعيل وسط هؤلء الباء‪،‬‬
‫فكأنك إن وزعتها قلت‪ " :‬إبراهيم أب‪ ،‬ويبقى اثنان‪ :‬هما إسماعيل وإسحاق‪ .‬وإسماعيل هو أخ‬
‫لسحاق‪ ،‬كأن القرآن نطق بأن العلم يطلق عليه أب "‪.‬‬
‫وأقول ذلك لضفي مسألة وقع فيها اللغط الكثير؛ فالبعض من العلماء قال‪ :‬هل كان آزر أبا‬
‫لبراهيم؛ والحديث الشريف يقول‪:‬‬
‫" خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح‪ ،‬من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من‬
‫سفاح الجاهلية شيء "‪.‬‬
‫فكأن النبي صلى ال عليه وسلم أخبر أنه من سلسلة نسب ُموَحّد ل يمكن أن يكون للشرك فيه‬
‫جسٌ }‪ .‬فلو أن‬
‫مجال‪ ،‬وآزر كان مشركا‪ ،‬وما دام الحق يقول في آية أخرى‪ { :‬إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ نَ َ‬
‫آزر الوالد الحقيقي لبراهيم لكان سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم من ذريته‪ .‬وأرى أنه عمّه؛‬
‫لن الرسول صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬ما زلت أتنقل من أصلب الطاهرين إلى أرحام‬
‫الطاهرات " ‪ ،‬وهو قول يدل على أن نسبة الشريف مطهر من الشرك من جهة الباء ومن جهة‬
‫المهات‪ ،‬إذن فل يصح أن نعتقد أن أبا إبراهيم هو آزر؛ لنه كان على هذا الوضع مشركا‪ ،‬لكن‬
‫كيف نفسر قول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ }؟‪.‬‬
‫نقول‪ :‬إننا نأخذ اللغة‪ ،‬ونأخذ استعمالت القرآن في معنى البوة‪ .‬والقرآن صريح في أن البوة‬
‫كما تطلق على الوالد الحقيقي الذي ينحدر الولد من صلبه تطلق كذلك على أخي الوالد أو عمه‪.‬‬

‫شهَدَآءَ‬
‫والدليل على ذلك أن القرآن الذي قال‪ } :‬لَبِيهِ آزَرَ { وهو بعينه القرآن الذي قال‪ {:‬أَمْ كُن ُتمْ ُ‬
‫ك وَإِلَـاهَ آبَا ِئكَ }[البقرة‪:‬‬
‫حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َموْتُ ِإذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْبُدُونَ مِن َبعْدِي قَالُواْ َنعْ ُبدُ إِلَـا َه َ‬
‫إِذْ َ‬
‫‪.]133‬‬
‫إذن آباء هي جمع أب‪ ،‬وأقل الجمع ثلثة‪ :‬إبراهيم إذن وكذلك العم إسماعيل يطلق على كل منهما‬
‫أب‪ ،‬وأيضا إسحاق وهو والد يعقوب‪ ،‬هؤلء هم الباء المذكورون في هذه الية‪.‬‬
‫وهنا نفهم أن أبوة إسماعيل ليعقوب إنما هي أبوة عمومة؛ لن يعقوب بن إسحاق‪ ،‬وإسحاق أخو‬
‫إسماعيل‪ .‬إذن فقد أطلق الب وأريد به العم‪ ،‬ويدلنا الرسول صلى ال عليه وسلم على ذلك حينما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خذَ عمه العباس أسيرا فقال‪ :‬ردوا عليّ أبي؛ وأراد عمّه العباس‪.‬‬
‫أُ ِ‬
‫وبعد ذلك نأتي لنقول‪ :‬إننا حين نطلق كلمة الب في أعرافنا نعلم أن اللغة التي نتكلمها لغة منقولة‬
‫بالسماع‪ ،‬مركوزة في آذاننا‪ ،‬ينطق بها لساننا‪ ،‬والعامية وإن كانت تحرف الفصيح إل أن أصولها‬
‫منقولة عن أسلفنا وآبائنا‪ ،‬وهم حين يريدون الب الحقيقي يقولون له أب ول يأتون باسمه‬
‫الشخصي؛ فإذا جاء لك إنسان وقال لك‪ :‬أبوك موجود؟‪ .‬ولم ينطق باسم الوالد فهو يقصد والدك‬
‫عمّا‪ ،‬فيقول لك السائل‪ :‬أبوك محمد موجود؟‬
‫فعلً‪ .‬لكن افرض أن لك َ‬
‫لقد جاء هنا بتحديد السم العلم حتى ينصرف الذهن إلى السؤال عن العم؛ لنه لو أراد الب‬
‫الحقيقي لما ذكر اسمه واكتفى بالسؤال عنه بالبوة فقط‪ ،‬إذن فلو قال الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬وَإِذْ‬
‫قَالَ إِبْرَاهِيمُ {‪ .‬ولم يحدد العلم لقلنا إن آزر هو والد إبراهيم وليس عمّه وبذلك يكون هو جد‬
‫رسولنا‪ ،‬ولكن القرآن حدد السم وقال‪ } :‬لَبِيهِ آزَرَ { أي ميّز اسم الشخص ليخرج الب الحقيقي‬
‫من كلمة أب‪ ،‬وبذلك تنتهي الخلفية في هذه المسألة‪.‬‬
‫ولماذا يطلب الحق سبحانه من سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يذكر } وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ‬
‫لَبِيهِ {؟ لن رسول ال جاء على فترة من الرسل وجاء في الزمة التي واجهت الدعوة أول‬
‫مواجهة وهي أمة العرب وعلى رأسها قريش‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم إن كان قد جاء على‬
‫فترة الرسل‪ ،‬إل أن إبراهيم يعيش في عقائد هؤلء القوم؛ لن كل أمور إبراهيم النسكية كانت في‬
‫هذا المكان‪ ،‬فمثلً همّه بذبح ابنه وفداء السماء لبنه كانا في هذا المكان‪ ،‬ورفعه للكعبة كان في‬
‫هذا المكان‪ ،‬والكعبة هي مركز السيادة لقريش‪ ،‬ولول الكعبة لكانت قريش كسائر القبائل‪.‬‬
‫لقد أراد الحق أن يوضح لقريش أن السيادة التي أخذتموها على العرب كافة جاءت لكم بسبب‬
‫الكعبة وهذا البيت‪ ،‬فلو لم يوجد هذا البيت وهذه الكعبة‪ ،‬لكنتم قبيلة من القبائل‪ ،‬ل مهابة لكم ول‬
‫سلطان‪ ،‬ول جاه‪ ،‬ولكنكم تعلمون أن تجارتكم تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب‪ ،‬ول يتعرض لها‬
‫أحد بسوء أبدا؛ لن الذين يتعرضون لكم سواء منهم من كان في الشمال أو في الجنوب سيأتون‬
‫في يوم ما إلى الكعبة هذه ليؤدوا مناسك الحج وستتمكنون منهم في أثناء وجودهم في البيت‪.‬‬

‫ولذلك قلنا حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ *‬
‫جعََلهُمْ‬
‫سجّيلٍ * فَ َ‬
‫حجَا َرةٍ مّن ِ‬
‫سلَ عَلَ ْيهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ * تَ ْرمِيهِم بِ ِ‬
‫ج َعلْ كَيْدَ ُهمْ فِي َتضْلِيلٍ * وَأَرْ َ‬
‫أَلَمْ َي ْ‬
‫َك َعصْفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل‪]5-1 :‬‬
‫ل ِفهِمْ رِحَْلةَ الشّتَآ ِء وَالصّيْفِ }[قريش‪]2-1 :‬‬
‫إن الحق أتبعها بالقول‪ {:‬لِيلَفِ قُرَيْشٍ * إِي َ‬
‫إذن لو أن البيت تعرض للهدم من أبرهة الحبشي لسقطت مهابة قريش‪ ،‬وقد نصرهم ال لتظل‬
‫ط َع َمهُم مّن جُوعٍ‬
‫لقريش رحلة الشتاء والصيف‪ ،‬ولذلك قال‪ {:‬فَلْ َيعْ ُبدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي أَ ْ‬
‫خوْفٍ }[قريش‪]4-3 :‬‬
‫وَآمَ َنهُم مّنْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن رب هذا البيت هو الذي أعزهم وحماهم بوجود هذا البيت الذي رفعه إبراهيم‪.‬‬
‫إذن فالقوم وإن كانوا يعبدون الصنام إل أن لهم صلة عقدية بإبراهيم‪ ،‬فأراد الحق سبحانه وتعالى‬
‫أن يدخل إلى قلوبهم بالحنان الذي يعرفونه لبراهيم الذي هو سبب هذا العزّ وسبب هذا الجاه‬
‫والسيادة وأيضا لن المواجهة العقدية إنما جاءت أولً لعبادة الصنام‪ ،‬والمسألة في سيدنا إبراهيم‬
‫كانت كذلك في عبادة الصنام‪ ،‬فهناك ‪ -‬إذن ‪ -‬ارتباطات متعددة فأتى الحق هنا بقصة سيدنا‬
‫إبراهيم ليرقق بها قلب هؤلء‪.‬‬
‫} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ َأصْنَاما آِلهَةً { والصنام هي شيء من الحجارة يصنع على‬
‫مثال حي‪ ،‬أما الوثن فهو قطعة من حجر خام لم يشكل أو يعالج أو يصنّع كانوا يقدسونه‪ ،‬وهكذا‬
‫نعرف الفارق بين الصنم والوثن‪ ،‬وكيف دخلت فكرة الصنام على عقول الناس؟ ومن أين‬
‫جاءت؟‪.‬‬
‫نعلم أن الناس لهم أسباب مباشرة في الحياة؛ فالنسان حين يتطلب الضوء يرى الشمس قد‬
‫أشرقت‪ ،‬وفي الليل يرى القمر قد طلع‪ ،‬ويرى الجبال تعطي له الصلبة والقوة‪ ،‬ويقيم فيها بيوتا‪.‬‬
‫إذن فيه أشياء يرى النسان فيها السببية الظاهرة‪ ،‬فيعتقد أنها الفاعلة‪ .‬وحين يرى هذه الشياء‬
‫ويظن أنها الفاعلة يظن أن لها قداسة سواء أكانت الشمس أم القمر‪ .‬إذن فقبل أن توجد أصنام‬
‫وجدت كواكب وكانوا يعبدونها‪ .‬بدليل أن الحق يقول‪ } :‬أَتَتّخِذُ َأصْنَاما آِلهَةً‪[ { ...‬النعام‪]74 :‬‬
‫وبعد ذلك يأتي في النقاش ول يأتي بسيرة الصنام‪ {:‬فََلمّا جَنّ عَلَ ْيهِ الْلّ ْيلُ رَأَى َك ْوكَبا‪[} ...‬النعام‪:‬‬
‫‪]76‬‬
‫إذن فقد كانت هناك علقة بين الصنام وبين الكواكب‪ ،‬والصل فيها أن النسان حينما يرى شيئا‬
‫ينفعه‪ ،‬ينسب إليه كل نفع يحصل عليه ويرى له قوة يحترمها فيه‪ ،‬ولم ينتبه النسان إلى أن خالق‬
‫هذه الشياء غيب‪َ ،‬فعَبَدَ الشيء الظاهر له‪ ،‬وعندما وجد النسان أن الكواكب تأفل وتغيب قال‬
‫بعض الناس‪ :‬لنقيم أصناما تذكرنا بها‪ ،‬وصار هناك صنم يمثل الشمس‪ ،‬وصنم يمثل القمر‪ ،‬وآخر‬
‫يمثل النجم الفلني‪ ،‬أي أن الصنام إنما جعلت لتذكر بالصل من الكواكب‪ ،‬ولذلك أقول دائما‪:‬‬
‫يجب على الناس أل تغفل عن المسبب لنه سبحانه ‪ -‬هو وراء السباب‪ ،‬وكلما ارتقى العقل‬
‫يسلسل السباب‪ ،‬إلى أن تنتهي إلى مسبب ليس وراءه سبب‪ ،‬وإذا انتهت يد المخلوق وعجزت في‬
‫السباب تبدأ يد الخالق؛ فالذين يفتنون بالسباب هم الذين ينظرون إليها على أنها الفاعلة بذاتها‪.‬‬

‫ولذلك حينما أغفلت وسترت قضية الدين في أذهان الناس بدأوا ينظرون إلى ما حولهم وما ينفهم‪،‬‬
‫فتوجهوا بالعبادة له‪ ،‬وكانوا قبل الرسالة يحجون إلى الكعبة ويحبون الكعبة‪ ،‬وحين يغتربون في‬
‫كثير من الرحلت يأخذون قطعة من حجر من نوعية أحجار الكعبة في الرحلة الطويلة‪ ،‬وحين‬
‫يراها أحد من هؤلء يطمئن‪ ،‬ولكن بطول الزمن انفردت هذه الشياء بتقديس خاص يعزلها عن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السباب‪.‬‬
‫وهكذا عرفنا أن سيدنا إبراهيم خليل الرحمن كانت له عند العرب هذه المكانة‪ ،‬وكذلك عند أهل‬
‫الكتاب حتى أنهم ادعوا انتسابه لهم فبعضهم قال‪ :‬إن إبراهيم كان يهوديا‪ ،‬وقال الخرون‪ :‬إنه كان‬
‫نصرانيا‪ ،‬وجاء القرآن وهو يواجه كفار قريش‪ ،‬وكذلك أهل الكتاب فيأتي ال بقصة سيدنا إبراهيم‬
‫ليعطينا قضية العقائد ويوضحها توضيحا يؤنسهم بمن له في نفوسهم ذكر‪.‬‬
‫ك َو َقوْ َمكَ فِي ضَلَلٍ مّبِينٍ { [النعام‪]74 :‬‬
‫} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ َأصْنَاما آِلهَةً إِنّي أَرَا َ‬
‫والضلل أن تريد غاية فتضل الطريق إليها‪ ،‬وكان الناس عندهم غاية في ذلك الزمان أن يقدسوا‪،‬‬
‫ويقدروا من ينعم عليهم بالنعم‪ .‬إل أنهم أخطأوا الطريق ووقفوا عند السبب‪ ،‬ولم يذكروا ولم‬
‫يدركوا ما وراء السبب‪ ،‬ومن هنا جاء الضلل المبين‪ .‬فكان من طبيعة النسان أنه يتقدم بالولء‬
‫وبالخضوع وبالشكر لمن يرى نعمة منه عليه‪ ،‬لكنهم ضلوا الطريق؛ لنهم ساروا في النعمة في‬
‫حلقات السباب‪ ،‬ولم يصلوا بالسباب إلى المسبب‪ .‬وهذا ضلل مبين لنه فتنة خَ ْلقٍ في خَلْق؛‬
‫فالنسان الول الذي جاء وأقبل على عالم مخلوق له‪ ،‬وأقبل على أرض وأقبل على شمس‪ ،‬وأقبل‬
‫على قمر‪ ،‬وأقبل على نجوم‪ ،‬وأقبل على سحاب يمطر له الماء‪ ،‬وأقبل على جبال تمده بالقوات‬
‫كان من الواجب عليه أن يلتفت لهذه المسألة؛ لنه لم يصنعها ول ادّعى أحد أنه صنعها‪ ،‬أما كان‬
‫من الواجب أن يفكر تفكيرا يسيرا فيمن خلق له هذه الشياء؟!‬
‫إن أتفه الشياء تحتاج إلى صانع‪ ،‬مثال ذلك الكوب الذي نشرب فيه الماء ل يكون كوبا أمام أي‬
‫واحد فينا إل بعد أن انتقل وتقلب في مراحل متعددة ممن اكتشف المادة وممن صهرها كيماويا‬
‫خ ْلفَه‬
‫وممن أنفق عليها إلى أن وصل إلى الكوب‪ ،‬وكذلك المصباح‪ ،‬إن نظرنا إلى الجهزة التي َ‬
‫وأسهمت في إيجاده لوجدناها أجهزة كثيرة من إمكانات مالية إلى قدرات علمية‪ ،‬من ماديات‬
‫موجودة في الرض إلى أن وصل إلى هذا المصباح الذي يتغير كل فترة‪ ،‬فما بالنا بالشمس التي‬
‫تنير نصف الكون في وقت‪ ،‬ونصف الكون الخر في وقت آخر وليس لها قطع غيار‪ ،‬ولم تقصر‬
‫يوما في أداء مهمتها‪.‬‬

‫وكثيرا ما درسنا في المدارس قصة من اخترع المصباح " أديسون " وكانت قصة هذا الختراع‬
‫تفيض بإعجاب من يكتبون عنها ولم نجد من يدرس لنا ‪ -‬بإعجاب وإيمان ‪ -‬دقة الشمس التي‬
‫تنير الكون‪ ،‬فالفة أننا نقف فقط عند حلقات السباب‪ ،‬والوقوف عند حلقات السباب هو وقفة‬
‫عقلية سطحية‪ ،‬ومن أجل أن نزيد من عمق الفهم ل بد أن نسلسل السبب وراء السبب وراء السبب‬
‫إلى أن نصل إلى مسبب ليس وراءه سبب‪ .‬وأن نرهف آذاننا لمن يأتي ليحل لنا هذا اللغز ويقول‬
‫لنا‪ :‬لقد خلق ال كل الكون من أجلكم وصفاته سبحانه أنه ل مثيل له في قدرته ومطلق حكمته‪،‬‬
‫ومطلوبه هو منهجه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن فالرسل قد جاءوا رحمة لينقذونا ويبينوا لنا هذا اللغز‪ .‬فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى‬
‫وأوضح‪ :‬أنا الذي خلقت السماوات‪ ،‬وأنا الذي خلقت الرض‪ ،‬وأنا الذي سخرت لك كل ما في‬
‫الكون‪ ،‬فهذه دعوة‪ ،‬والدعوة إما أن تكون حقيقية فتعلن اليمان به وسبحانه‪ ،‬وإما غير حقيقية‪،‬‬
‫فنسأل‪ :‬من خلق الكون ‪ -‬إذن ‪ -‬غير ال؟‪ .‬ولماذا لم يقل لنا صفاته‪ ،‬ولم يرسل لنا بلغا عنه؟‪.‬‬
‫ولن أحدا لم يفعل ذلك إذن فاللوهية تثبت لمن أبلغنا عن ذاته وصفاته وصنعته عبر الرسل‪ ،‬فلم‬
‫يوجد معارض له‪ ،‬وحين قال سبحانه‪ :‬أنا إله واحد‪ ،‬وأنا خلقت الكون‪ ،‬وسخرته لكم فنحن نصدق‬
‫هذا البلغ‪.‬‬
‫ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أل نقف عند السباب فقط حتى ل نقع في ضلل مبين‪،‬‬
‫ومن الواجب أن نبحث عما وراء السباب إلى أن تنتهي إلى شيء ل شيء بعده ننتهي إلى مسبب‬
‫السباب ومالك الملك ‪ -‬جلت قدرته‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ‪{ ...‬‬

‫(‪)856 /‬‬

‫ت وَالْأَ ْرضِ وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ (‪)75‬‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫َوكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬

‫أي كما اهتدى إبراهيم إلى أن عبادة الصنام ضلل مبين فسيريه ال ملكوت السموات والرض‬
‫ما دام قد اهتدى إلى أن هناك إلها حقّا‪ ،‬فالله الحق يبين له أسرار الكون‪:‬‬
‫والملكوت صيغة المبالغة في الملك‪ ،‬مثلها مثل " رحموت "‪ .‬وهي صيغة مبالغة من الرحمة‪،‬‬
‫والملكوت تعطينا فهم الحقائق غير المشهودة‪ ،‬فالذي يمشي وراء السباب المشهودة له يأخذ‬
‫الملك؛ لن ما يشهده ويحسّه هو أمامه‪ ،‬والملكوت هو ما يغيب عنه‪ ،‬إذن ففيه " ملك " ‪ ،‬وفيه "‬
‫ملكوت " ‪ ،‬الملك هو ما تشاهده أمامك‪ ،‬والملكوت هو ما وراء هذا الملك‪.‬‬
‫ع ُدوّ لِي ِإلّ َربّ‬
‫والمثال هو ما قاله سيدنا إبراهيم حينما تكلم على الشركاء ل قال سبحانه‪ {:‬فَإِ ّنهُمْ َ‬
‫شفِينِ *‬
‫ضتُ َف ُهوَ يَ ْ‬
‫سقِينِ * وَإِذَا مَ ِر ْ‬
‫ط ِعمُنِي وَيَ ْ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ * الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ َيهْدِينِ * وَالّذِي ُهوَ يُ ْ‬
‫وَالّذِي ُيمِيتُنِي ثُمّ ُيحْيِينِ }[الشعراء‪]81-77 :‬‬
‫ولنلحظ هنا أن الساليب مختلفة‪ ،‬فهو يقول‪ { :‬الّذِي خََلقَنِي } ولم يقل " الذي هو خلقني " ‪ ،‬ثم قال‬
‫{ َف ُهوَ َيهْدِينِ } لن أحدا لم يدّع أبدا خلق النسان‪ ،‬وهي قضية مسلمة ل ول تحتاج إلى تأكيد‪ ،‬أما‬
‫هداية الناس فهناك من يدعي أنه يهدي الناس‪ .‬وما َيدّعي من البشر يؤكد بـ " هو " وما ل يُدّعي‬
‫من البشر كالخلق والماتة والحياء ل يؤتى فيه بكلمة هو‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سقِينِ } وهنا قفز سيدنا إبراهيم من كل السباب‬
‫ط ِعمُنِي وَيَ ْ‬
‫ويتابع سيدنا إبراهيم‪ { :‬وَالّذِي ُهوَ يُ ْ‬
‫شفِينِ } وهو بذلك يميز بين‬
‫ضتُ َفهُوَ يَ ْ‬
‫والحلقات الظاهرية إلى الحقيقة‪ ،‬وعرف الغيب { وَإِذَا مَ ِر ْ‬
‫الوسيلة للشفاء وهم الطباء المعالجون والشافي العظم وهو ال ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬لن الناس قد‬
‫تفتن بالسباب وتقول‪ :‬إن الطبيب هو من يشفي‪ ،‬ولذلك ينتقل سيدنا إبراهيم من ظواهر السباب‬
‫إلى بواطن المور‪ ،‬وينتقل من ظواهر الملك إلى باطن الملكوت حتى نعرف أن الطبيب يعالج‬
‫ولكنه ل يشفي‪ ،‬بدليل أننا كثيرا ما رأينا من يذهب للطبيب ويعطيه الطبيب حقنة فيموت المريض‪،‬‬
‫وبذلك يصير الطبيب في مثل هذا الموقف من وسائل الموت‪:‬سبحان من يرث الطبيب وطبه‬
‫شفِينِ } أي أن الشفاء من ال والعلج من الطبيب‪.‬‬
‫ويرى المريض مصارع السينإذن‪َ { ،‬ف ُهوَ َي ْ‬
‫وبذلك جاء سيدنا إبراهيم عليه السلم في قصة العقيدة نجده قد أخذ سلطانا كبيرا يعترف به جميع‬
‫النبياء؛ لن ربنا قال فيه‪ { :‬وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّىا }‪.‬‬
‫وكذلك قال سبحانه‪ {:‬وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما }[البقرة‪:‬‬
‫‪]124‬‬
‫أي أنك يا إبراهيم مأمون أن تكون إماما للناس‪ ،‬وببشرية إبراهيم وبظاهر الملك‪ .‬سأل ال أن‬
‫تكون المامة في ذريته‪ ،‬وقال‪َ { :‬ومِن ذُرّيّتِي }‪.‬‬
‫أي اجعل من ذريتي أئمة‪ ،‬فيقول الحق‪:‬‬

‫عهْدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة‪.]124 :‬‬


‫{ لَ يَنَالُ َ‬
‫لن مسألة المامة ليست وراثة دم‪ ،‬ول يأخذها إل من يستحقها‪ .‬وقلنا‪ :‬إن سيدنا إبراهيم جاء‬
‫بهاجر وابنه إسماعيل منها وأسكنهما بواد غير ذي زرع عند البيت المحرم‪ ،‬ويقول القرآن على‬
‫لةَ‬
‫سكَنتُ مِن ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ رَبّنَا لِ ُيقِيمُواْ الصّ َ‬
‫لسانه‪ {:‬رّبّنَآ إِنّي أَ ْ‬
‫شكُرُونَ }[إبراهيم‪.]37 :‬‬
‫ج َعلْ َأفْئِ َدةً مّنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْي ِه ْم وَارْ ُز ْقهُمْ مّنَ ال ّثمَرَاتِ َلعَّلهُمْ َي ْ‬
‫فَا ْ‬
‫أي أن سيدنا إبراهيم عليه السلم وعى مسألة تعليم الحق له لسرار الملكوت‪ ،‬وظل في ذهن‬
‫سيدنا إبراهيم‪ ،‬أن الحق سبحانه ‪ -‬ل يعطي المامة من ظلم ثم أوضح له أنه يجب أن تفرق بين‬
‫خلفة النبوة‪ ،‬وعطاء الربوبية في الطعام ويتمثل ذلك في دعاء سيدنا إبراهيم‪ {:‬وَارْزُقْ َأهْلَهُ مِنَ‬
‫ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ }[البقرة‪]126 :‬‬
‫فكأن إبراهيم حين طلب الرزق من الثمرات لمن آمن بال واليوم الخر لم يفرق في دعائه بين‬
‫عهد النبوة والمامة‪ ،‬ومطلوبات الحياة‪ ،‬فيقول له الحق‪َ } :‬ومَن َكفَرَ‪.{ ...‬‬
‫أي أنه سبحانه سيرزق بالطعام من آمن ومن كفر؛ لن الطعام ومقومات الحياة من عطاءات‬
‫الربوبية‪ ،‬أما المناهج فهي من عطاءات اللوهية‪ ،‬وال سبحانه وتعالى رب لجميع الناس؛ لنه هو‬
‫الذي استدعاهم جميعا‪ :‬المؤمن والكافر‪ ،‬والطائع والعاصي‪ ،‬وما دام هو الذي استدعاهم إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الوجود فهو ل يمنعهم الرزق‪.‬‬
‫ض وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ { [النعام‪.]75 :‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫} َوكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬
‫وكل من يسير على قدم إبراهيم عليه السلم يرتبط ويتعلق بذات الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬وفيه فرق‬
‫بين الرتباط والتعلق بالذات‪ ،‬والرتباط والتعلق بالصفات؛ والذي يعبد ال لنه رزّاق‪ ،‬ولنه ُمغْنٍ‬
‫هو من يرتبط بالصفات‪ .‬أما من يرتبط بال لنه إله فقط وإن أفقره فهو من يرتبط بالذّاب‪ ،‬وحين‬
‫صفى سيدنا إبراهيم نفسه من كل العقائد السابقة أوضح له الحق‪ :‬أنت مأمون على أسرار كوني‪،‬‬
‫وأعطاه الحق الكثير كما يعطي لكل من يخلص في الرتباط بخالقه يعطيه ربنا عطاءات من‬
‫أسرار كونه‪ .‬ويضرب الحق سبحانه لنا كثيرا من المُثُل في القرآن فيقول‪ {:‬وَاتّقُواْ اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ‬
‫اللّهُ }[البقرة‪]282 :‬‬
‫أي أنك ما دمت مأمونا على ما عرفت من أحكام الحق لحركة حياتك وتنفذه فإن الحق يعتبرك‬
‫أمينا على أسراره‪ ،‬ويعطيك المزيد من الزيادة‪.‬‬
‫ومعنى " تتقي " أي أن تلتحم بمنهج الحق‪ ،‬وإذا التحمت بالمنهج الحق كنت في الفيوضات الدائمة‬
‫التي ل تنقضي من الحق؛ لن الذي في معيته ل بد أن يخلع الحق عليه من واردات وعطاءات‬
‫صفاته ما يجلي صلته بربه ويطمئنه عليه‪ ،‬ومثال ذلك ما حدث في " قصة الهجرة " تجد الرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم وسيدنا أبا بكر في الغار‪ ،‬ويقول أبو بكر لرسول ال‪ :‬لو نظر أحدهم تحت‬
‫قدمه لرآنا‪ ،‬وهذه قضية كونية مؤكدة‪ ،‬ويرد عليه الرسول صلى ال عليه وسلم بما نقله من‬
‫القضية الكونية الظاهرة الواضحة إلى عالم الملكوت الخالص‪ ،‬ويقول‪:‬‬

‫" يا أبا بكر‪ ،‬ما ظنك باثنين ال ثالثهما "‬


‫أي أنه يقول له‪ :‬اطمئن‪ ،‬لن يرانا أحد؛ لننا في معية ال‪ ،‬وسبحانه ل تدركه البصار‪ .‬وحين‬
‫يكون الضعيف في معية القوي فقانون القوى هو الذي يتغلب‪ ،‬فل يصبح الضعيف ضعيفا‪ ،‬فحين‬
‫يكون هناك ولد بين الطفال الذين في مثل سنّه ويضطهدونه ويؤلمونه ويؤذنه‪ ،‬ثم يرونه في يد‬
‫أبيه ل يجرؤ أحد منهم أن يأتي إلى ناحيته‪ ،‬والناس ل يقدر بعضهم على بعض إل إذا انفلتوا من‬
‫معية ال‪ ،‬ومَن في معية ال ل يجترئ عليه أحد أبدا‪ .‬ولذلك يرسل لنا ربنا قضايا الملك وقضايا‬
‫الملكوت‪ ،‬ويمثلها في رسول ال من أول العزم من الرسل مع عبد صالح آتاه ال شيئا من علمه‬
‫وفيضه لنه اتقاه‪.‬‬
‫حمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَّلمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْما }[الكهف‪:‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪َ {:‬فوَجَدَا عَبْدا مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ َر ْ‬
‫‪.]65‬‬
‫إن هذا العبد قد أخذ منهج الرسول الذي جاء به واتبعه‪ ،‬فأداه حق الداء فاتصل بالحق فأعطاه‬
‫الحق من لدنه علما‪ .‬وحين ننظر في هذه القضية نتعجب لننا نجد سيدنا موسى ‪ -‬ينظر في عالم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الملك بينما ينظر من آتاه ال من لدنه رحمة ومن عنده علما ينظر من عالم الملكوت‪ ،‬وموسى‬
‫معذور؛ لنه ينظر في دائرة السباب‪ ،‬والعبد الصالح معذور هو الخر لنه ينظر في دائرة ثانية‪،‬‬
‫ولذلك سيقول العبد الصالح‪َ } :‬ومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي {‪.‬‬
‫أي أن المسألة ليست من ذاته‪ ،‬بل هو مأمور بها‪ .‬وحين ننظر إلى تقدير موقف كل منهما للخر‬
‫ي صَبْرا {‪ .‬أي أن العبد الصالح يعذر موسى‪،‬‬
‫نجد العبد الصالح يقول‪ } :‬إِ ّنكَ لَن َتسْتَطِيعَ َمعِ َ‬
‫ويضيف‪َ {:‬وكَ ْيفَ َتصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ ُتحِطْ ِبهِ خُبْرا }[الكهف‪]68 :‬‬
‫عصِي َلكَ أمْرا }[الكهف‪:‬‬
‫فيقول القرآن على لسان موسى‪ {:‬قَالَ سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّ ُه صَابِرا َولَ أَ ْ‬
‫‪]69‬‬
‫فها هوذا الرسول الذي جاء ليبلغ المنهج يطيع عبدا صالحا طبق المنهج من رسول سابق ونفذه‬
‫كما يحب ال‪ ،‬والتحم بالمنهج‪ ،‬وجاء لنا ربنا بهذه القصة مع رسول من أولي العزم‪ .‬ويتلقى‬
‫موسى عليه السلم المر من العبد الصالح‪ {:‬قَالَ فَإِنِ اتّ َبعْتَنِي فَلَ تَسَْألْني عَن شَيءٍ حَتّىا ُأحْ ِدثَ‬
‫َلكَ مِنْهُ ِذكْرا }[الكهف‪]70 :‬‬
‫لماذا؟ لن العبد الصالح يعلم أن موسى سيتكلم عن عالم الفلك‪ ،‬وهو يتكلم من عالم الملكوت‪.‬‬
‫وحين ركبا السفينة‪ ،‬وخرقها العبد الصالح‪ ،‬والخرق إفساد ظاهري في عالم المُلْك‪ .‬يوضح سيدنا‬
‫موسى للعبد الصالح أن هذا الفعل إخلل بالقانون‪ ،‬وكيف يعتدي على السفنية بالفساد؟ فيرد العبد‬
‫الصالح‪ :‬ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا‪ ،‬وليست لك طاقة على مثل هذه المسائل‪ ،‬فيتذكر‬
‫موسى‪ ،‬ثم تأتي حكاية الغلم‪ ،‬وحكاية الجدار‪.‬‬

‫وحين ندقق النظر في هذه المور نجد عالم الملكوت يصحح المور الشاذّة في عالم الملك؛ فخرق‬
‫السفينة إفساد ظاهري لكن إذا علم موسى أن هناك مَلِكا يأخذ السفن السليمة الصالحة ويستولي‬
‫عليها غصبا وهذه السفينة لمساكين يعملون في البحر‪ ،‬ويريد العبد الصالح أن يحافظ لهم على‬
‫السفينة فيخرقها حتى ل يأخذها المغتصب؛ وحين يقارن الملك المغتصب بين سفينة سليمة وسفينة‬
‫مخروقة‪ .‬فلن يأخذ السفينة غير السليمة‪ ،‬ويمكن لصحابها إصلحها‪.‬‬
‫إذن لو علم موسى بهذه المسألة‪ ،‬أل يجوز أن يكون موسى هو الذي كان يقوم بخرق السفينة؟ إنه‬
‫كان سيخرقها‪ ،‬إذن لو علم صاحب نظرية الملك ما في نظرية الملكوت من أسرار‪ ،‬لفعل هو‬
‫الفعل نفسه‪ .‬وحين نأتي لقتل الغلم‪ ،‬ل بد من التساؤل‪ :‬وما ذنب الغلم؟ فيفسر العبد الصالح‬
‫طغْيَانا َوكُفْرا }[الكهف‪]80 :‬‬
‫المر‪ {:‬وََأمّا ا ْلغُلَمُ َفكَانَ أَ َبوَاهُ ُم ْؤمِنَيْنِ َفخَشِينَآ أَن يُ ْر ِه َقهُمَا ُ‬
‫والبوان قد يدللن هذا البن‪ ،‬ويطعمانه من مال حرام‪ ،‬ويكون فتنة لهما‪ ،‬فقتل الغلم ليظل على‬
‫اليمان‪ ،‬وعجلّ ربنا بالولد إلى الجنة مباشرة‪.‬‬
‫وفي مسألة الجدار تجد الخلف بين رؤية عالم المُلْك‪ ،‬ورؤية عالم الملكوتففي ظاهر المر أنهما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حين أتيا أهل القرية طلبا للطعام‪ ،‬وطلب الطعام شهادة صدق على الضرورة‪ ،‬لنه ليس طلبا‬
‫للنقود‪ ،‬فقد يطلب أحد النقود ليدخرها‪ ،‬لكن من يقول‪ " :‬أعطني رغيفا لكل " فهذه آية صدق‬
‫الضرورة في طلب الطعام‪ .‬ولكن أهل القرية أبوا أن يضيفوهما‪ ،‬إذن هم لئام ل كرام‪ .‬ويرى‬
‫العبد الصالح جدارا يريد أن ينقض‪ ،‬وآيلً للسقوط فأقامه‪ ،‬وغضب سيدنا موسى‪ ،‬سبب غضبه أنه‬
‫والعبد الصالح استطعما هؤلء فلم يطعموهما‪ ،‬فكيف تبني جدارا لهم؟! وكان يصح أن تأخذ عليه‬
‫أجرا‪ ،‬وغضب سيدنا موسى سببه ظاهر‪ ،‬لكن العبد الصالح يشرح المسألة‪:‬‬
‫لقد أقام الجدار لن أهل القرية لئام ولم يعطونا طعاما‪ ،‬ولو وقع الجدار وظهر الكنز تحته أمام لئام‬
‫بهذا الشكل لسرقوه من أصحابه‪ ،‬وهم أطفال‪ ،‬وقد بناه العبد الصالح بهندسة إيمانية ألهمه ال بها‬
‫بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار‪ .‬أي أنه بناء موقوت‪ ،‬مثلما نضبط المنبه على وقت محدد‪،‬‬
‫كذلك الجدار بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار ويأخذان الكنز‪.‬‬
‫وهذا يوضح لنا الخلف بين عالم المُلْك وبين عالم الملكوت؛ فعالم الملكوت هو الذي يغيب عنا‬
‫وراء السباب‪ .‬وكثير من الناس يقف عند السباب‪ ،‬ول ينتقل من السباب إلى السبب المباشر‪،‬‬
‫إلى أن ينتهي إلى مسبب ليس بعده سبب‪.‬‬
‫ض وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ { [النعام‪.]75 :‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫} َوكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬
‫فهل تيقن أو لم يتيقن؟‪.‬‬
‫و " موقنين " جمع " موقن " والجمع أقله ثلثة‪ ،‬واليقين ينقسم إلى ثلث مراحل‪ :‬يقين بعلم من تثق‬
‫فيه لنه ل يكذب؛ ويقين بعين ما تخبر به‪ ،‬ويقين بحقيقة المُخْبَر به‪.‬‬

‫وحين عرض الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في سورة التكاثر قال‪ {:‬أَ ْلهَاكُمُ ال ّتكّاثُرُ * حَتّىا‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ * كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ عِلْمَ الْ َيقِينِ }[التكاثر‪:‬‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ * ثُمّ كَلّ َ‬
‫زُرْتُمُ ا ْل َمقَابِرَ * كَلّ َ‬
‫‪] 5 -1‬‬
‫إذا أخبرتكم فهذا الخبر هو الصورة العلمية‪ ،‬وكان يجب أن يكون ما أخبركم به علم اليقين‪ {.‬كَلّ‬
‫جحِيمَ * ثُمّ لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ }[التكاثر‪.]7-5 :‬‬
‫َلوْ َتعَْلمُونَ عِ ْلمَ الْ َيقِينِ * لَتَ َروُنّ الْ َ‬
‫لننا سوف نرى النار في الخرة‪ ،‬لكن لم تأت حقيقة اليقين‪ ،‬وجاءت حقيقة اليقين في سورة‬
‫صحَابِ الْ َيمِينِ * فَسَلَمٌ ّلكَ مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ * وََأمّآ إِن كَانَ مِنَ‬
‫الواقعة‪ {:‬وََأمّآ إِن كَانَ مِنْ َأ ْ‬
‫حقّ الْ َيقِينِ }[الواقعة‪-90 :‬‬
‫حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ َ‬
‫ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُ ُزلٌ مّنْ َ‬
‫‪]95‬‬
‫وسيدنا إبراهيم عليه السلم كان حقا من الموقنين في كل أدوار حياته؛ لن ال أعلمه ما وراء‬
‫مظاهر الملك‪ ،‬ما وراء مظاهر الشياء؛ وعواقبها‪ .‬فمثل عندما أُخذ ليطرح في النار جاء له‬
‫جبريل ليقول‪ :‬ألك حاجة؟ قال سيدنا إبراهيم‪ :‬أمّا إليك فل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويقول ذلك وهو يعرف أن النار تحرق‪ ،‬ولكن هذا ظاهر المُلك‪ ،‬وظواهر الشياء‪ ،‬وسيدنا ابراهيم‬
‫يعلم أن الذي خلقها جعلها محرقة‪ ،‬ويستطيع أل يجعلها محرقة‪ ،‬وهو متيقن به‪ ،‬ولذلك لم يطفئ ال‬
‫النار بظاهر السباب ولكن جعلها ال ليّا لعناق خصومه‪ ،‬فأوضح الحق‪ :‬يا نار أنا خلقت فيك‬
‫قوة الحراق‪ ،‬وأنا أقول لك الن‪ :‬ل تحرقي‪ {.‬قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }‬
‫[النبياء‪]69 :‬‬
‫إذن فإبراهيم يعرف هذه الحقائق المختفية وراء المُلك الظاهر‪ ،‬وهذا من البتلءات الولى في‬
‫حياته‪ ،‬ويملك أن يرد على سيدنا جبريل لحظة أن سأله قبل أن يلقوا به في النار‪ :‬ألك حاجة؟‬
‫فيقول إبراهيم‪ :‬أمّا إليك فل‪.‬‬
‫ثم يأتي له البتلء في آخر حياته بذبح ولده‪ .‬ونعلم أن النسان تمر عليه أطوار تكوين ذاتيته‪،‬‬
‫وأحيانا تكون الذات هي المسيطرة‪ ،‬وفي طور آخر تبقى ذاتية أولده فوق ذاتيته‪ ،‬أي أنه يحب‬
‫أولده أكثر من نفسه‪ .‬يتمنى أن يحقق لولده كل ما فاته شخصيا‪ .‬فلما كبر إبراهيم ووهبه ال‬
‫الولد يأتيه البتلء بأن يذبح ابنه إنه ابتلء شديد قاس‪ ،‬وهو ابتلء ل يأتي بواسطة وحي بل‬
‫بواسطة رؤيا‪ .‬وكلنا نعلم أن رؤيا النبياء حق‪ .‬لكن إبراهيم يعلم أن الحق سبحانه وتعالى ل‬
‫يطلب من خلقه إل أن يستسلموا لقضائه‪ ،‬ولذلك إذا رأيت إنسانا طال عليه قضاء ربه في أي‬
‫شيء؛ في مرض‪ ،‬في مصيبة‪ ،‬في مال‪ ،‬أو غير ذلك فاعلم أنه لم يرض بما وقع له‪ ،‬ولو أنه‬
‫رضي لنتهى القضاء‪ .‬فالقضاء ل يُرفع حتى يُرضى به‪ ،‬ول يستطيع أحد أن يلوي يد خالقه‪.‬‬

‫إذن فالناس هم الذين يطيلون على أنفسهم أمد القضاء‪.‬‬


‫ولذلك عرف سيدنا إبراهيم هذه القضية‪ :‬قضية فهمه لعالم الملكوت‪ .‬فلما قيل له‪ " :‬اذبح ابنك " لم‬
‫يرد أن يمر ابنه بفترة سخط على تصرف أبيه؛ لنه إن أخذه من يده وفي يده الخرى السكين فل‬
‫بد أن تكون هذه اللحظة مشحونة بالسخط‪ ،‬فيحرم من الجزاء‪ ،‬فيبين له المسألة‪ .‬ويقول القرآن‬
‫حكَ }[الصافات‪]102 :‬‬
‫حكاية عن إبراهيم‪ {:‬يابُ َنيّ إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي أَذْ َب ُ‬
‫وهذا القول يريد به إبراهيم أن ينال ابنه ثواب الستسلم وهو دليل محبة إبراهيم لولده‪ ،‬فماذا قال‬
‫إسماعيل‪ {:‬قَالَ ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }[الصافات‪]102 :‬‬
‫قال إسماعيل ذلك ليأخذ عبودية الطاعة‪ .‬ويؤكد القرآن رضا إبراهيم وابنه بالقضاء فيقول‪ {:‬فََلمّا‬
‫أَسَْلمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ }[الصافات‪]103 :‬‬
‫ص ّد ْقتَ‬
‫وهذا القبول بالقضاء هو ما يرفعه‪ .‬لذلك يقول القرآن بعدها‪ {:‬وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَ ْد َ‬
‫حسِنِينَ }[الصافات‪]105-104 :‬‬
‫ال ّرؤْيَآ إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬
‫ويفدي ال إسماعيل بذبح عظيم‪ ،‬ول يقتصر المر على ذلك بل يرزق ال إبراهيم بولد آخر؛ لنه‬
‫فهم ملكوت السموات والرض‪ ،‬وعرف نهاية الشياء‪ .‬فإذا ما أصيب النسان بمصيبة فما عليه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إل أن يرضى ويقول‪ :‬ما دامت هذه المصيبة ل دخل لحركتي فيها‪ ،‬وأجراها عليّ خالقي فهي‬
‫اختبار منه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ول يوجد خالق يفسد ما خلق‪ .‬ول صانع يفسد ما صنع‪ ،‬ول بد أن لذلك‬
‫حكمة عنده ل أفهمها أنا‪ ،‬لكني واثق في حكمته‪.‬‬
‫إن طريق الخلص من أي نائبة من النوائب أن يرضى المؤمن بها‪ ،‬فتنتهي‪ .‬ومن تحدث له‬
‫مصيبة بأن يموت ولد له‪ ،‬ويظل فاتحا لباب الحزن في البيت‪ ،‬وتبكي الم كلما رأت من في مثل‬
‫سنّه فسيظل باب الحزن مفتوحا‪ ،‬وإن أرادوا أن يزيل ال عنهما هذا البتلء فليقفل باب الحزن‬
‫بالرضا‪ .‬وليعلم كل مؤمن أن ما أخذ منه هو معوض عنه بأجر خير منه‪ ،‬والمأخوذ الذي قبضه‬
‫ال إليه وتوفاه معوض بجزاء خير مما يترك في الدنيا‪ ،‬ولذلك يقال‪ :‬المصاب ليس من وقعت‬
‫عليه مصيبة وفارقه الحباب‪ ،‬بل المصاب من حُرم الثواب‪ ،‬فكأنه باع نكبته بثمن بخس‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬فََلمّا جَنّ عَلَيْهِ الْلّ ْيلُ‪{ ...‬‬

‫(‪)857 /‬‬

‫حبّ الَْآفِلِينَ (‪)76‬‬


‫فََلمّا جَنّ عَلَ ْيهِ اللّ ْيلُ رَأَى َك ْوكَبًا قَالَ هَذَا رَبّي فََلمّا َأ َفلَ قَالَ لَا أُ ِ‬

‫و " جن " تفيد الستر والتغطية‪ ،‬ومنها " الجنون " أي ستر العقل‪ ،‬و " جن الليل " أي أظلم وستر‬
‫عنك‪ ،‬فل ترى غيرك ول غيرك يراك‪ .‬و " الجّنة " كذلك لن فيها الشجار والشياء التي تستر‬
‫من يمشي فيها‪ ،‬إذن المادة كلها تفيد الستر‪.‬‬
‫وكلمة " كوكب " تفيد أنه يأخذ ضوءه من غيره‪ ،‬ونفهم من الية أن إبراهيم كان في ظلمة ثم طلع‬
‫الكوكب فرآه‪ ،‬ثم غاب الكوكب أي انتقل من بزوغ وطلوع إلى أفول‪ ،‬وقديما كانوا يعبدون‬
‫ب الفِلِينَ }‪.‬‬
‫ح ّ‬
‫الكواكب والنجوم‪ ،‬فجاء لهم إبراهيم من جنس ما يعبدون‪ ،‬وقال‪ { :‬ل أُ ِ‬
‫ويتابع الحق بعد ذلك‪ { :‬فََلمّآ رَأَى ا ْل َقمَرَ بَازِغا‪} ...‬‬

‫(‪)858 /‬‬

‫فََلمّا رَأَى ا ْل َقمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبّي فََلمّا َأ َفلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ َيهْدِنِي رَبّي لََأكُونَنّ مِنَ ا ْل َقوْمِ الضّالّينَ (‬
‫‪)77‬‬

‫وهنا قال إبراهيم عليه السلم‪ :‬هذا ربي‪ ،‬ووقف العلماء هنا وتساءلوا‪ :‬كيف يقول إبراهيم هذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ربي‪ ،‬وهي جملة خبرية من إبراهيم‪ ،‬وكيف يجري إبراهيم على نفسه لفظ الشرك‪ ،‬وأراد العلماء‬
‫أن يخلصوا إبراهيم من هذه المسألة‪ .‬ونقول لهؤلء العلماء‪ :‬جزاكم ال كل خير‪ ،‬وكان يجب أن‬
‫تؤخذ هذه المسألة من باب قصير جدا؛ لن الذي قال‪ :‬إن إبراهيم قال‪ :‬هذا ربي‪ ،‬هو الذي قال في‬
‫إبراهيم‪ {:‬وَإِذِ ابْ َتلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }[البقرة‪]124 :‬‬
‫إذن فقوله { هَـاذَا رَبّي } ل تخدش في وفائه اليماني‪ ،‬ول بد أن لها وجها‪ .‬ونعلم أن القوم كانوا‬
‫يعبدون الكواكب‪ ،‬ويريد إبراهيم أن يلفتهم إلى فساد هذه العقيدة‪ ،‬فلو أن إبراهيم من أول المر قال‬
‫لهم‪ :‬يا كذابون‪ ،‬يا أهل الضلل‪ ،‬وظل يوجه لهم السباب لما اهتموا به ول سمعوا له‪ .‬لكن إبراهيم‬
‫استخدم ما يسمي في الجدل بـ " مجاراة الخصم "؛ ليستميل آذانهم ويأخذ قلوبهم معه‪ ،‬وليعلموا‬
‫أنه غير متحامل عليهم من أول المر‪ ،‬فيأخذ بأيديهم معه‪.‬‬
‫مثال ذلك في حياتنا‪ ،‬تجد رجلً له ابنة وجاء لها خطيب‪ ،‬وهذا الخطيب قصير جدا‪ ،‬بينما البنت ‪-‬‬
‫ما شاء ال ‪ -‬طويلة‪ ،‬وحين جاء الخطيب ليراها وتراه تقول لمها‪ :‬هذا خطيبي؟! وهذا القول‬
‫يعني أنها تنكر أن يكون هذا القصير عنها هو خطيبها‪ ،‬وحين قال إبراهيم‪ { :‬هَـاذَا رَبّي } معناه‬
‫إنكار أن يكون مثل هذا الكوكب أو ذلك القمر أو تلك الشمس هي الرب‪.‬‬
‫لكُونَنّ مِنَ ا ْلقَوْمِ‬
‫ونلحظ أنه يحدد لهم مصير من يعبد تلك الكواكب‪ ،‬فقال‪ { :‬لَئِن لّمْ َي ْهدِنِي رَبّي َ‬
‫الضّالّينَ } ‪ ،‬وفي هذا معرفة بمن على هدى أو على ضلل‪ ،‬ويكون قوله‪ { :‬هَـاذَا رَبّي } لونا‬
‫من التهكم؛ لنهم قالوا بما جاء به القرآن على لسانهم‪ { :‬أَهَـاذَا الّذِي َي ْذكُرُ آِلهَ َتكُمْ }‪.‬‬
‫ب الفِلِينَ } يعني أنه غير‬
‫ح ّ‬
‫فكأنه قال‪ :‬سلمنا جدلً أنه ربكم‪ ،‬لكنه يأفل ويغيب عنكم‪ ،‬وقوله‪ { :‬ل أُ ِ‬
‫متعصب ضدهم‪.‬‬
‫شمْسَ بَازِغَةً‪} ...‬‬
‫وكذلك حين يقول الحق‪ { :‬فَلَماّ رَأَى ال ّ‬

‫(‪)859 /‬‬

‫غةً قَالَ هَذَا رَبّي هَذَا َأكْبَرُ فََلمّا َأفََلتْ قَالَ يَا َقوْمِ إِنّي بَرِيءٌ ِممّا ُتشْ ِركُونَ (‬
‫شمْسَ بَازِ َ‬
‫فََلمّا رَأَى ال ّ‬
‫‪)78‬‬

‫وهكذا يثبت له أن كل كوكب ‪ -‬حتى الشمس ‪ -‬مصيره إلى أفول‪ ،‬فكأنه قد وصل بهم بالمنطق‬
‫إلى أن عبادة الكواكب ل تصلح‪ ،‬واستخدم المنطق الذي يحقق نيته في أن ينكر هذه الربوبية‪،‬‬
‫ويستأنس به آذان من يسمعه‪ .‬وهناك أشياء يجعلها الحق سببا مبررا لرتكاب أشياء كثيرة‪ ،‬إل أننا‬
‫نعقد مقارنة بين بعضهم البعض مثلما قال الحق‪ {:‬وَلَـاكِن مّن شَرَحَ بِا ْل ُكفْرِ صَدْرا }[النحل‪]106 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طمَئِنّ بِالِيمَانِ }[النحل‪]106 :‬‬
‫وقد جاءت بعد قوله سبحانه‪ِ {:‬إلّ مَنْ ُأكْ ِرهَ َوقَلْبُهُ مُ ْ‬
‫فإذا كان ال قد أباح إجراء كلمة الكفر على لسان المؤمن المطمئن لينجي حياته وهو فرد‪ ،‬أفل‬
‫يصح لبراهيم أن يقول لهم‪ { :‬هَـاذَا رَبّي } بما تحتمل من أساليب حتى ينجي أمة بأسرها من أن‬
‫تعبد الصنام؟‪.‬‬
‫إذن فيقول إبراهيم { هَـاذَا رَبّي } يؤخذ على محملين‪ :‬ألم يقل ال سبحانه وتعالى بنفسه عن‬
‫نفسه‪ {:‬وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُ َركَآئِي }[فصلت‪]47 :‬‬
‫وسبحانه يعلم أنّه ل شركاء له‪ ،‬ولكن الشركاء هم مِن زعْم المشركين‪.‬‬
‫" ورسول ال صلى ال عليه وسلم حينما كان ينادي في بعض القوم‪ :‬يا إله اللهةلنه يعلم أن قوما‬
‫قد ألهوا ظواهر طبيعية في الكون لما يرون من الخير فيها‪ ،‬فأراد أن ينبههم إلى أن هناك إلها حقّا‬
‫"‪.‬‬
‫ضهُمْ عَلَىا‬
‫ويوضح القرآن عدم جدوى الشرك حين يقول‪ {:‬إِذا لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَقَ وََلعَلَ َب ْع ُ‬
‫َب ْعضٍ }[المؤمنون‪]91 :‬‬
‫ويقول سبحانه‪ُ {:‬قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِل َهةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء‪:‬‬
‫‪]42‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول للكافر الذي كان يعتز بجاهه في دنياه‪ُ {:‬ذقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }‬
‫[الدخان‪]49 :‬‬
‫فهل هذا القول اعتراف بأن الكفر عزيز كريم أو هو قول تهكمي؟‪ .‬إنه تهكم؛ لن الكافر لو كان‬
‫عزيزا كريما عند نفسه لما كفر ولما استقر في الجحيم‪.‬‬
‫وكان المنطق في اللغة أن يقول‪ :‬فلما رأى الشمس بازغة قال هذه ربي؛ لن الشمس مؤنثة‪ ،‬ولكنه‬
‫قال‪ { :‬هَـاذَا رَبّي } كما قال في القمر وفي غيره من الكواكب‪ ،‬فجعل المر على سياق أو حالة‬
‫واحدة‪ ،‬أو هو بهذا القول يريد أن ينزه كلمة الرب تنزيها مطلقا عن أن تلحق بها علمة التأنيث؛‬
‫لن علمة التأنيث فرع التذكير‪ ،‬وأيضا لن الشمس ليست مؤنثا حقيقيا‪ ،‬بل هي مؤنث مجازي‪،‬‬
‫ولذلك يفطن العلماء إلى هذه المسألة فيقولون‪ :‬إنك إذا أعطيت واحدا صفة العلم‪ ،‬وقلت‪ :‬فلن‬
‫عالم‪ ،‬أما إذا صار علمه ملكة عنده فنقول‪ " :‬فلن عليم "؛ ولذلك يقول الحق‪َ {:‬وفَوْقَ ُكلّ ذِي عِلْمٍ‬
‫عَلِيمٌ }[يوسف‪]76 :‬‬
‫وإذا كان العالم متمكنا من علمه بشكل غير مسبوق نقول عنه‪ " :‬علّم "‪ .‬والحق سبحانه يصف‬
‫نفسه فيقول‪ {:‬عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة‪]116 :‬‬
‫ولم يقل العلماء في وصف ال علمة‪ ،‬وإن كان هذا الوصف أبلغ احترازا من أن تلحق علمة‬
‫التأنيث صفة من صفات ال ‪ -‬عز وجل ‪.-‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحين تأفل الشمس يقول سيدنا إبراهيم‪ } :‬فََلمّآ َأفََلتْ قَالَ يا َقوْمِ إِنّي بَرِيءٌ ّممّا تُشْ ِركُونَ { [النعام‪:‬‬
‫‪]78‬‬
‫وجاء المر صريحا لنه سبق المسألة بالترقيات الجدلية التي قالها‪ ،‬وحين يسمعها أي عاقل فل بد‬
‫أن يعلن اتفاقه في هذا المر‪ ،‬ولذلك قال‪ } :‬إِنّي بَرِيءٌ ّممّا تُشْ ِركُونَ {‪ .‬ولنه كإنسان مؤمن لن‬
‫يغش نفسه‪ ،‬وبالتالي لن يغش قومه‪ ،‬وهذا ما ينبه العقل حين يعطيه ال هبة الهداية‪.‬‬
‫والبراءة من الشرك تخلية عن المفسد‪ ،‬والتخلية تعني أن تنفك أو تنقطع عن العمل المفسد‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك تدخل في العمل المصلح‪ ..‬العمل اليجابي‪.‬‬
‫ج ِهيَ‪{ ...‬‬
‫ت وَ ْ‬
‫ج ْه ُ‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬إِنّي وَ ّ‬

‫(‪)860 /‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ حَنِيفًا َومَا أَنَا مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ (‪)79‬‬
‫جهِيَ لِلّذِي فَطَرَ ال ّ‬
‫ج ْهتُ َو ْ‬
‫إِنّي وَ ّ‬

‫والسماوات والرض هما المظهر الول للكون الذي طرأ عليه النسان؛ لن الكون طرأ عليه‬
‫النسان ‪ -‬الخليفة في الرض ‪ -‬ووجد كل الخيرات والمسخرات‪ ،‬ولذلك يوضح الحق سبحانه‬
‫ت وَالَرْضِ َأكْـبَرُ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وتعالى‪ :‬إياكم أن تقولوا إني خلقتكم فقط‪ ،‬بل خلقت لكم الكون‪ {.‬لَخَ ْلقُ ال ّ‬
‫مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ }[غافر‪]57 :‬‬
‫ويقدم سيدنا إبراهيم برهانه لقومه‪ ،‬إنه يعبد ال وحده الذي خلق السماوات والرض‪ ،‬رافضا كل‬
‫فساد في الكون‪ ،‬ويتمثل هذا في قوله‪ { :‬حَنِيفا } ‪ ،‬و " الحنف " في اللغة هو ميل القدمين‪ ،‬ونجد‬
‫القدم مقوسة إلى الخارج‪ .‬وهذا يعني أنه ل يسير على طريق الفساد الموجود في الكون؛ لن‬
‫السماء تتدخل بالرسالت حين يطم الفساد في الرض‪ ،‬وحين يأتي الرسول مائلً عن الفساد فهو‬
‫يسير معتدلً؛ لن الميل عن الفساد اعتدال واستقامة‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وَحَآجّهُ َق ْومُهُ قَالَ‪} ...‬‬

‫(‪)861 /‬‬

‫وَحَاجّهُ َق ْومُهُ قَالَ أَتُحَاجّونّي فِي اللّ ِه َوقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْ ِركُونَ بِهِ إِلّا أَنْ يَشَاءَ رَبّي شَيْئًا‬
‫شيْءٍ عِ ْلمًا َأفَلَا تَ َت َذكّرُونَ (‪)80‬‬
‫وَسِعَ رَبّي ُكلّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحاجّه أي حاججه بإدغام الجيمين في بعضهما‪ .‬أي أن كل طرف يقول حجة والطرف الخر يرد‬
‫عليه بالحجة‪ ،‬فإذا كنت في نقاش وكل واحد يدلي بحجته‪ ،‬فهذا اسمه الحجاج‪ ،‬أو الجدل المبطل‪،‬‬
‫أي أنك تبطل كلمه وهو يبطل كلمك‪.‬‬
‫{ وَحَآجّهُ َق ْومُهُ قَالَ أَ ُتحَاجّونّي فِي اللّ ِه َوقَدْ َهدَانِ } [النعام‪]80 :‬‬
‫وإذا كان إبراهيم قد جادلهم بمجاراة أفكارهم وأثبت بطلنها‪ ،‬فكيف يجادلونه إذن؟‪ .‬كأن الغرض‬
‫ج ِهيَ‬
‫ت وَ ْ‬
‫ج ْه ُ‬
‫من الحِجاج صرف إبراهيم عن دينه الحنيف الذي ارتآه في قوله سبحانه‪ {:‬إِنّي وَ ّ‬
‫ت وَالَرْضَ حَنِيفا َومَآ أَنَاْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[النعام‪.]79 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لِلّذِي َفطَرَ ال ّ‬
‫ويرد عليهم‪ { :‬أَ ُتحَاجّونّي فِي اللّ ِه َوقَدْ َهدَانِ } [النعام‪.]80 :‬‬
‫أي أن مسألة اليمان قد حُسمت‪ .‬فقد آمن إبراهيم بال ويعلن للقوم { َولَ أَخَافُ مَا تُشْ ِركُونَ بِهِ ِإلّ‬
‫أَن يَشَآءَ رَبّي شَيْئا } وهذا القول يدل على أنهم قد هددوه؛ لن كلمة " الخوف " جاءت ونفاها عن‬
‫نفسه‪ .‬ويعلنها إبراهيم قوية‪َ { :‬ولَ أَخَافُ مَا تُشْ ِركُونَ بِهِ } أي ل أخاف من الكواكب التي تأفل‬
‫سواء أكانت نجما أم قمرا أم شمسا أم تلك الصنام التي تعبدونها فليس لها نفع ول ضر‪ ،‬والضر‬
‫والنفع هما من صنع ال فقط‪.‬‬
‫ولذلك تتجلى الدقة في الداء العقدي فيقول الحق على لسان إبراهيم عليه السلم‪َ { :‬ولَ أَخَافُ مَا‬
‫شيْءٍ عِلْما َأفَلَ تَتَ َذكّرُونَ } [النعام‪.]80 :‬‬
‫سعَ رَبّي ُكلّ َ‬
‫تُشْ ِركُونَ بِهِ ِإلّ أَن َيشَآءَ رَبّي شَيْئا وَ ِ‬
‫فإن شاء الحق أن يُنزل على عب ٍد كوكبا يصعقه أو يحرقه فهذا موضع آخر ل دخل لمن يعبد‬
‫الكواكب به‪ ،‬ول دخل للكواكب فيه أيضا؛ لن النافع والضار هو ال‪ ،‬فحين يشاء ال الضر‪ ،‬يأتي‬
‫الضر وحين يشاء النفع يأتي النفع‪.‬‬
‫{ ِإلّ أَن َيشَآءَ رَبّي شَيْئا } [النعام‪]80 :‬‬
‫أي اذكروا جيدا‪ ،‬وافرقوا بين فعل يقع من فاعل‪ ،‬وفعل يقع من آلة فاعلها غير تلك اللة‪ ،‬فحين‬
‫يشاء ال أن يوقع على إنسان كوكبا‪ ،‬أو صخرة فليست الصخرة هي التي صنعت وقوعها‪ ،‬ول‬
‫شيْءٍ عِلْما َأفَلَ تَ َت َذكّرُونَ }‬
‫الكوكب هو الذي أسقط نفسه‪ ،‬إنما الفاعل هو ال‪ { :‬وَسِعَ رَبّي ُكلّ َ‬
‫[النعام‪]80 :‬‬
‫وقوله { َأفَلَ تَ َت َذكّرُونَ } يدل على أن قضايا العقائد مأخوذة بالفطرة‪ ،‬وإقبال النفس على الشهوات‬
‫هو ما يطمس آثار هذه الفطرة‪ ،‬فليس المطلوب منك أيها النسان إنشاء فكرة عقدية بل المطلوب‬
‫منك أن تتذكر فقط‪ ،‬والتذكر أمر فطري طبيعي؛ لن النسان الخليفة في الرض هو الذي تناسل‬
‫من آدم إلى أن وصل إلينا؛ فقد جاء آدم إلى الرض ومعه منهج سماوي ينظم به حركة الحياة‪،‬‬
‫ولقن آدم المنهج لولده‪ ،‬وكذلك فعل أبناء آدم مع أولدهم‪ ،‬ولكن المناهج تنطمس؛ لن المناهج‬
‫تتدخل في أهواء الناس وتثنيهم عن شهواتهم وتصدهم عن المفاسد فيعرضون عنها أو يتجاهلونها‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن فهي عرضة أن تُنسى‪ ،‬والرسالت إنما تذكر بالمنهج الصلي الذي أخذناه عن الحق سبحانه‬
‫وتعالى‪ ،‬لذلك يعلنها إبراهيم‪َ { :‬وكَ ْيفَ َأخَافُ مَآ أَشْ َركْتُمْ‪} ...‬‬

‫(‪)862 /‬‬

‫َوكَيْفَ َأخَافُ مَا َأشْ َركْتُ ْم وَلَا َتخَافُونَ أَ ّن ُكمْ أَشْ َركْتُمْ بِاللّهِ مَا َلمْ يُنَ ّزلْ بِهِ عَلَ ْي ُكمْ سُ ْلطَانًا فََأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ‬
‫حقّ بِالَْأمْنِ إِنْ كُنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ (‪)81‬‬
‫أَ َ‬

‫يقول لهم سيدنا إبراهيم‪ :‬أنا ل أخاف إل ال‪ ،‬ول أخاف ما أشركتم أنتم به مما ل يضر ول ينفع‪.‬‬
‫و " كيف " هنا تأتي للتعجيب؛ لن المنطق أن نخاف من ال وحده الذي يضر وينفع‪ .‬وحين تدور‬
‫مجادلة تستيقظ في كل طرف ذاتية المجادل‪ ،‬وهناك من يستنكفون من الحق‪ ،‬ليس لنه حق لكن‬
‫لخوفهم أن ينهزموا أمام واحد مثيل لهم‪ ،‬ومن يريد أن يصل إلى الحقيقة بدون استعلء ل يعطي‬
‫الحكم بما يحرك الذاتية في الخصم المجادل؛ لذلك لم يقل سيدنا إبراهيم‪ :‬أنا أم أنتم أحق بالمن؟‬
‫لمْنِ } مثلما علم ربنا سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن‬
‫بل قال‪ { :‬فََأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ َأحَقّ بِا َ‬
‫يقول‪ {:‬وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَىا هُدًى َأوْ فِي ضَلَلٍ مّبِينٍ }[سبأ‪.]24 :‬‬
‫وهذا منتهى الحيدة في الجدل‪ ،‬فلم يصرح بأن منهجهم هو الضلل وأن منهجه هو الصواب‬
‫المستقيم ثقة منه أنهم حين يستعرضون منهجه ويستعرضون منهجهم سيحكمون بأنه صلى ال‬
‫عليه وسلم على هدى وأنهم على ضلل‪ .‬وهذا هو الجدل الرتقائي‪ ،‬مثلما يعلم الحق رسوله ليقول‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ }[سبأ‪.]25 :‬‬
‫عمّآ َأجْ َرمْنَا وَلَ نُسَْألُ َ‬
‫لخصومه‪ {:‬قُل لّ تُسْأَلُونَ َ‬
‫هل يفعل الرسول جرائم؟ حاشا ل أن يفعل ذلك فهو المعصوم‪.‬‬
‫وكأن الرسول صلى ال عليه وسلم يقول لهم‪ :‬اسألوا عني إن كنت أجرّمت؛ ولم يقل لهم وصفا‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ }‪ .‬فلم يأت بمسألة الجرام‬
‫لعمالهم‪ " :‬ول نسأل عما تجرمون " بل قال " { َولَ نُسَْألُ َ‬
‫بالنسبة لهم؛ وجاء بها بالنسبة له‪ ،‬لنه واثق أنهم إن أعادوا دراسة القضية فكريا وعقديا وعاطفيا‬
‫فسينتهون إلى اليمان بمنهجه‪ .‬وهذامنتهى اللطف في الجدل‪.‬‬
‫لمْنِ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ } [النعام‪:‬‬
‫حقّ بِا َ‬
‫ويتجلى اللطف في الجدل في قوله الحق‪ { :‬فََأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ أَ َ‬
‫‪.]81‬‬
‫والعِلْمُ هو أن تأخذ قضية تعتقدها ولها واقع وتستطيع أن تدلل عليها‪ ،‬وإن اختل شرط فيها فهذا‬
‫خروج عن العلم‪ ،‬ومثال ذلك ألفاظ اللغة؛ كل لفظ وضع لمعنى‪ ،‬وساعة تسمع اللفظ وأنت تعرف‬
‫اللغة تفهم المعنى؛ فحين أقول‪ :‬الشمس‪ .‬تتصور أنت الشمس في ذهنك‪ ،‬وكذلك الرض والماء‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والجبل‪ .‬فأنت عرفت مدلول هذه اللفاظ بدون أن تكون هناك نسبة‪ .‬ونعلم أن هناك فرقا بين‬
‫معنى اللفظ مفردا‪ ،‬وما يعطيه ويفيده اللفظ إذا جاء في نسبة‪.‬‬
‫فإذا جاء اللفظ في نسبة فل بد أن توجد قضية‪ ،‬فإذا قلنا الشمس محجوبة بالغيم فهذه قضية‪ ،‬أو‬
‫قلنا‪ :‬الشمس تغيب فهذه قضية أخرى وهنا نسبنا شيئا لشيء‪ ،‬ولكننا قبل أن نأتي بالقضايا النسبية‬
‫ل بد أن يكون للفظ معنى في ذاته‪ ،‬وهذه اسمها معاني اللغة‪ ،‬وتضم من خللها لفظا إلى لفظ‬
‫فتنشأ نسبة أو قضية شريطة أن نعرف معنى مفرداتها‪ ،‬وبعد ذلك نعرف النسب‪ ،‬وهي ما نقول‬
‫عنه‪ :‬مبتدأ وخبر‪ ،‬موضوع ومحمول‪ ،‬مسند ومسند إليه‪ ،‬فعل وفاعل أي أمر منسوب إلى أمر‪.‬‬

‫والعلم ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬هو قضية واقعية‪ ،‬تعتقدها وتستطيع أن تدلل عليها‪ .‬وإن اختل أمر من هذا ل‬
‫يكون علما‪ ،‬فإن كنت تعتقد في قضية إل أنها غير واقعية‪ ،‬فهذا كذب‪ .‬وعندما أقول‪ :‬إن هناك من‬
‫يعتقدون أن الرض كروية فهل الواقع كذلك أول؟‪ .‬وإن كنت تعتقد شيئا وهو واقع‪ ،‬ولم تستطع‬
‫أن تدلل عليه فهذا تقليد‪ ،‬وإن لم يكن الشيء متيقنا وقد تساوى فيه الطرفان فهذا هو الشك‪ .‬وإن‬
‫كان هناك طرف راجح عن طرف آخر فهو الظن‪ .‬والطرف المرجوح هو ما يسمّى بالوهم‪ .‬وكل‬
‫قضايا نسبية ل تخرج عن هذه‪.‬‬
‫وقول إبراهيم‪ } :‬إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ { أي تتيقنون من قضية نسبية واقعة معتقدة تستطيعون أن تدللوا‬
‫عليها‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬الّذِينَ آمَنُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)863 /‬‬

‫ن وَ ُهمْ ُمهْتَدُونَ (‪)82‬‬


‫الّذِينَ َآمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَا َنهُمْ بِظُ ْلمٍ أُولَ ِئكَ َلهُمُ الَْأمْ ُ‬

‫حينما سمع صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية اشفقوا على أنفسهم؛ لنهم‬
‫استعرضوا حركة أعمالهم فوجدوها ل تخلو من ظلم‪ ،‬وخافوا أن يكونوا من غير الداخلين في‬
‫لمْنُ }‪ .‬وشق عليهم ذلك‪ ،‬فرفعوا أمرهم إلى سيدنا رسول ال صلى ال عليه‬
‫{ ُأوْلَـا ِئكَ َلهُ ُم ا َ‬
‫طمْئِنا‪ :‬إن ذلك الظلم هو الذي قال ال فيه‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ‬
‫وسلم‪ ،‬فأوضح لهم صلى ال عليه وسلم ُم َ‬
‫لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان‪.]13 :‬‬
‫والية تدل بمعطياتها على أن ذلك الظلم هو المتعلق باليمان ل بالعمل؛ لننا نعلم أن التقاء‬
‫النسان بربه مشروط أولً بعقيدة القمة‪ ،‬وهي أن تشهد أن ل إله إل ال وأن تشهد أن محمدا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رسول ال؛ ومعناها؛ ل معبود بحق إل ال‪ ،‬أول أمر لحد في خلق ال إل ل‪ ،‬ول فعل لحد من‬
‫خلق ال إل من ال‪ ،‬ول استمداد لحد قدرة وعلما وحكمة وقبضا وبسطا إل من ال‪ ،‬تلك هي‬
‫دائرة اليمان العقدية‪.‬‬
‫ويقول الحق‪ { :‬وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَا َنهُمْ ِبظُلْمٍ } فكأن هذه المسألة هي منطقة الظلم‪ ،‬أما العمل فسبحانه‬
‫فصّل لنا بين إيمان ينفجر عنه العمل وعمل تنفجر عنه الطاقات فقال سبحانه‪ {:‬وَا ْل َعصْرِ * إِنّ‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ‪[} ...‬العصر‪]3-1 :‬‬
‫الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ } يقتضي المغايرة‪ ،‬فاليمان شيء وعمل‬
‫والعطف في قوله‪ِ { :‬إلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫الصالحات شيء آخر‪ ،‬إذن فاليمان عمل ينبوعي في القلب‪ ،‬ولكن العمل ناشئ عن اللتزام الذي‬
‫شرعه اليمان فيه‪ ،‬وعلى المؤمن أن يتنبه إلى أن ال واحد في ذاته‪ ،‬وواحد في صفاته‪ ،‬وواحد‬
‫في أفعاله‪ ،‬ل ندّ له ول شريك معه‪ ،‬فإن وجدت صفة في ال ووجدت صفة مثلها فيك فاعلم أن‬
‫شيْءٌ }‪ .‬فى قدرة كقدرته‪ ،‬ول ذات كذاته‪ ،‬ول فعل كفعله‪.‬‬
‫الصفة في ال في دائرة { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫فإن اختل شئ من ذلك في اليقين فهذا ظلم واقع في اليمان‪.‬‬
‫فمثلً‪ :‬أنت تقبل على الشياء بالطاقات المخلوقة لك من الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬وقبل أن تفعل أي‬
‫فعل ل بد أن يمر على بالك نسبة ذهنية‪ ،‬قبل أن تكون نسبة قولية أو فعلية‪ .‬هذا هو العمل المنوط‬
‫بك والمطلوب منك‪ ،‬أما العمل الذي ل يمر ببالك فلست مسئول عنه‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬هب أنك سائر‬
‫في الطريق‪ ،‬ثم وجدت حفرة تكاد تسقط فيها‪ ،‬فهناك أمر غريزي لحفظ النسان فيبعد رجله‪ ،‬وهو‬
‫ل يستطيع في هذه المسألة أن يمررها بباله‪ .‬وتلك أعمال نسميها العمال الضطرارية أو‬
‫الغريزية أو القسرية‪ .‬ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" كل أمر ذي بال ل يبدأ ببسم ال الرحمن الرحيم أقطع " " حديث شريف "‬

‫وقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬كل أمر ذي بال ل يبدأ فيه بالحمد ل أقطع " " حديث شريف "‬
‫و " ذي بال " أي كل أمر تفعله بعد أن يمر ببالك أن تفعله يجب أن تذكر فيه اسم ال‪ .‬ويغفل‬
‫أناس كثيرون عن هذه المسألة فنقول لهم‪ :‬منطقيا ل بد أن تضعوا هذا المر في بالكم لن الفعل‬
‫الذي ل يمر ببالك هو فعل أعطى ال غريزتك ‪ -‬بدون أمر ‪ -‬أن تفعله‪ .‬ومثال ذلك إذا أكل‬
‫النسان ثم نزل شيء في قصبته الهوائية غير الهواء؛ نجده يسعل بل شعور حتى يخرج هذا‬
‫الشيء‪ ،‬لنها عملية قسرية‪ .‬أما المر ذو البال فهو الذي تمر ببالك نسبته الذهنية ثم يمر بالفعل‪،‬‬
‫إن كان قولً تقوله‪ ،‬وإن كان فعلً تفعله؛ فمطلوب منك فيه ابتداء أن تسمّى ال؛ لن الحق سبحانه‬
‫وتعالى يطلب منا أل تشغلنا السباب عن المسبب لها‪.‬‬
‫فأنت مثلً حين تزرع الرض تحرثها‪ ،‬ثم تضع البذرة وتغطيها‪ ،‬ثم ترويها وبعد ذلك ينبت‬
‫الزرع‪ .‬ألك في ذلك شيء؟‪ .‬إنه ليس لك إلّ تجميع فعل؛ فالبذرة مخلوقة ل‪ ،‬والتربة التي وضعت‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فيها البذرة مخلوقة ل‪ ،‬والعناصر الموجودة في الرض لتغذي النبات مخلوقة ل‪ ،‬والخاصية‬
‫الموجودة في البذرة لتمتص شيئا ينّمي جذيرها ثم تنفلق الحبة‪ ،‬كل هذه أسباب ليس لك فيها شيء‬
‫أبدا‪ .‬ولكن ال احترم فعلك فقط فقال سبحانه‪َ {:‬أفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ }[الواقعة‪]63 :‬‬
‫ثم قال سبحانه‪ {:‬أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة‪]64 :‬‬
‫ومن مخصصات اليمان أنك حين تقبل على أي شيء ذي بال أل تنسى من سخر لك هذا‪ ،‬فليس‬
‫في قدرتك أن تفعل لنفسك وبنفسك أي شيء إل بإرادة ال‪ ،‬وإذا ما فعلت ذلك وتذكرت من سخر‬
‫لك هذا تكون قد نسبت المر كله له سبحانه‪.‬‬
‫ونحن في قوانيننا الوضعية ساعة يجلس القاضي ليحكم بين الناس حُكما وهناك سلطة تنفذ هذا‬
‫الحكم فهو يقول‪ " :‬باسم الشعب " أو " باسم القانون " ‪ ،‬إذن الشعب أو القانون هو الذي أعطاه‬
‫الصلحية لن يحكم هذا الحكم‪ ،‬فما هي القدرة التي جعلتك تحكم على الشياء أن تنفعل لك؟ ل بد‬
‫أن تقول إذن‪ :‬باسم ال الذي سخر لي هذا‪ ،‬فإذا أقبلت على عمل بغير ذلك‪ ،‬تكون مفتاتا ومختلقا‬
‫ومدعيّا أمرا ل تستطيعه؛ لنه ليس في سلطتك ول في قدرتك أن تسخر الكائنات لك‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه وتعالى هو الذي سخر لك الكائنات‪ ،‬فعليك أن تذكر اسم الحق لتنفعل لك تلك‬
‫الكائنات‪ ،‬ومن يغفل عن ذلك فقد لبّس وخلط إيمانه بظلم‪ .‬وإذا ما رأيت ثمرة من ثمارك إياك أن‬
‫تقول كما قال قارون‪ } :‬أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي { بل اذكر وقل‪ " :‬ما شاء ال "؛ لنك إن قلت‪} :‬‬
‫أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ { فالحق قد قال في شأن قارون‪:‬‬

‫سفْنَا بِ ِه وَبِدَا ِر ِه الَ ْرضَ }[القصص‪]81 :‬‬


‫{ َفخَ َ‬
‫أين ذهب علم قارون الذي جاء به؟‪.‬‬
‫إذن فكل أمر من المور يجب أن تنسبه ل‪ ،‬فإن اختل شيء فيك من هذه المسألة فاعلم أنك لبّست‬
‫وخلطت إيمانك بظلم‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى منا ذلك حتى تكون النعمة مباركة إقبالً عليها أو‬
‫انتفاعا بها‪ ،‬ول ينشأ من العمل الذي تعمله مبتدئا بـ " بسم ال " إل ما يعينك على طاعته‪،‬‬
‫ويعينك على بر‪ ،‬ويعينك على خير‪ ،‬ول تصرفه إل في عافية‪.‬‬
‫وبعد ذلك يؤهلك مجموع هذه الشياء في كل حركاتك وأعمالك إلى أن تأخذ أمنا آخر أجمع وأتم‬
‫وأكمل من أمن الدنيا؛ إنّك تأخذ أمن الخرة بأن تدخل الجنة‪.‬‬
‫لمْنُ { أي الذين لم يلبسوا إيمانهم بظلم‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى يريد منا أن‬
‫إذن } ُأوْلَـا ِئكَ َلهُ ُم ا َ‬
‫نتصل دائما بمنهجه؛ لن إمدادات ال سبحانه وتعالى مستمرة‪ ،‬ورحماته وتجلياته ل تنقطع عن‬
‫خلقه أبدا؛ لنه قيوم أي إنه بطلقة قدرته وشمول قيوميته يقوم سبحانه باقتدار وحكمة على كل‬
‫أسباب مخلوقاته‪ ،‬فكن دائما في صحبة القيوم؛ ليتجلى عليك بصفات حفظه‪ ،‬وصفات قدرته‪،‬‬
‫وصفات علمه‪ ،‬وصفات حكمته فرسول ال صلى ال عليه وسلم قال لبلل‪ " :‬يا بلل حدثني‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بأرجى عمل عملته في السلم فإني سمعت دفّ نعليك بين يديّ في الجنة‪ .‬قال‪ :‬ما عملت عمل‬
‫أرجى عندي من أنّي لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلّ صليت بذلك الطهور ما كتب‬
‫لي أن أصلي "‬
‫ويقول ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ " :-‬إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجههُ خرج من وجهه‬
‫كل خطيئة نظر إليه بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء‪ ،‬فإذا غسل يديه خرج من يديه كل‬
‫خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة‬
‫مشتها رجله مع الماء أو مع آخر قطرة الماء حتى يخرج نقيّا من الذنوب "‬
‫ل وثيقا؛ ليعطينا‪ ،‬ل ليأخذ منا؛ لن‬
‫إذن الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نتصل بمنهجه اتصا ً‬
‫الفرق بين عبودية البشر للبشر والعبودية الخالصة ل أن البشر يأخذ خير عبده‪ ،‬ولكن عبوديتنا ل‬
‫تعطينا خيره من خزائن ل تنفد‪ ،‬نأخذ منه كلما ازددنا له عبودية‪ ،‬إذن الحق دائما يريد أن يصلنا‬
‫به‪.‬‬
‫لمْنُ { المن في الدنيا؛ والمن بمجموع ما كان في الدنيا مع المن في الخرة‪.‬‬
‫} ُأوْلَـا ِئكَ َلهُ ُم ا َ‬
‫ولقائل أن يقول‪ :‬هناك اناس ل يسمون باسم ال‪ ،‬ول يخطر ال على بالهم‪ ،‬ويتحركون في طاقات‬
‫الرض ومادتها‪ ،‬وينعمون بها ويسعدون‪ ،‬وقد يسعدون بابتكارات سواهم‪.‬‬

‫ونقول‪ :‬نعم هذا صحيح؛ لن فيه فرقا بين عطاء الفعل‪ ،‬والبركة في عطاء الفعل‪ .‬إذا زرع الكافر‬
‫فالرض تعطى له‪ ،‬وإذا قام بأي عمل يأخذ نتيجته‪ ،‬لكن ل يأخذ البركة في العطاء‪.‬‬
‫وما هي البركة في العطاء؟ البركة في العطاء أن يكون ما أخذته من هذا العطاء ل يعينك على‬
‫معصية‪ ،‬بل دائما يعينك على طاعة‪ .‬ونحن نرى كثيرا من الناس يصدق عليهم قوله سبحانه‪} :‬‬
‫أَذْهَبْ ُتمْ طَيّبَا ِتكُمْ فِي حَيَا ِتكُمُ الدّنْيَا وَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهَا { فإياك أن تغالط وتقول‪ :‬إنهم ل يقولون‪ } :‬بسم ال‬
‫الرّحْمانِ الرّحِيـمِ { ومع ذلك فهم قد أخذوا طيبات الحياة الدنيا‪ ،‬إنك حين تنظر إليهم تجد كل‬
‫مرتقيات حضارتهم‪ ،‬وطموحات بحوثهم واكتشافاتهم تتجه دائما إلى الشر‪ ،‬لم يأت لهم ابتكار إل‬
‫استعملوه في الشر إلى أن يأذن ال فيشغلهم عن أشيائهم بما يصب عليهم من العذاب والنكبات‬
‫ولهم في الخرة العقاب على شركهم وكفرهم‪.‬‬
‫لمْنُ { أي إنّ هؤلء الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك لهم المن في جزيئات‬
‫إذن } ُأوْلَـا ِئكَ َلهُ ُم ا َ‬
‫أعمالهم والمن المتجمع من جزيئات أعمالهم يعطي لهم المن في الجنة‪ } .‬وَهُمْ ّمهْتَدُونَ‬
‫{ والهداية هي الطريق الذي يوصل إلى الغاية‪ .‬ول يقال إنك موفق في الحركة إل إذا أدت بك‬
‫هذه الحركة إلى غاية مرسومة في ذهنك من نجاح بعد المذاكرة والجتهاد‪ .‬ول مخلوق ول‬
‫مصنوع يحدد غايته‪ ،‬فاترك ل تحديد مهتمك‪ ،‬فسبحانه هو الذي خلقك‪ ،‬وفي عرف البشر‪ ،‬ل‬
‫توجد صنعة تحدد مهمتها أبدا‪ ،‬بل إن الصانع هو الذي يحدد لها الغاية منها؛ فالغاية توجد أولً قبل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الصنعة‪ ،‬وما دامت الغاية موجودة قبل الصنعة فمن الذي يشقى بالتجارب إذن؟‪.‬‬
‫في البتكارات العلمية المعملية المادية التي تنشأ من التفاعل مع المادة نجد أن الذي يشقى‬
‫بالتجربة أولً هو العالم‪ ،‬وأنت ل تعلم التجربة إل بعد ما تظهر نتائجها الطيبة‪ ،‬والمسائل النظرية‬
‫التي تتعب العالم يأتي التعب منها لنها ليست مربوطة أولً بالماديات المقننة وبمعرفة الغاية‪ ،‬ول‬
‫بمعرفة الوسيلة لهذه الغاية‪ .‬فمن المهتدي إذن؟‬
‫إن المهتدي هو من يعرف الغاية التي يسعى إليها‪ ،‬والوسيلة التي تؤهله إلى هذه الغاية‪ .‬وإذا حدث‬
‫له عطب في ملكات نفسه‪ ،‬يستعين في إصلح العطب ويلجأ إلى من صنع هذه الملكات‪ ،‬وهو ال‬
‫سبحانه‪ ،‬كما يرد النسان اللة التي تتعطل لصانعها‪ .‬ونجد كثيرا من الشعراء يسرحون في خيالهم‬
‫فيقول الواحد منهم‪:‬أل من يريني غايتي قبل مذهبي ومن أين للغايات بعد المذاهب؟ونقول له‪ :‬من‬
‫خلقك أوضح لك الغاية‪.‬‬
‫حجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىا َق ْومِهِ نَ ْرفَعُ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَتِ ْلكَ ُ‬

‫(‪)864 /‬‬

‫حكِيمٌ عَلِيمٌ (‪)83‬‬


‫علَى َق ْومِهِ نَ ْرفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ َنشَاءُ إِنّ رَ ّبكَ َ‬
‫وَتِ ْلكَ حُجّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ َ‬

‫والحجة هي البرهان القائم لثبات القضية المطلوب إثباتها‪ .‬وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد منا‬
‫حين نحاجج أن تكون لنا غاية في الحجاج‪ ،‬ونحن نعلم أن الغاية في الحجاج إن تعدت موضوع‬
‫الحجاج نفيا أو إثباتا فهي تهريج‪ ،‬وينحصر المر في أنك تريد النتصار على خصمك وأن يحاول‬
‫خصمك النتصار عليك‪ ،‬لكن عليك إذا ما دخلت الحجاج أن تجعل الغاية الصلية هي الساس‪،‬‬
‫وكما يقولون تحديد وبيان محل النزاع؛ لن الحق ل بد أن يكون أعزّ منك ومن خصمك عندك‪،‬‬
‫ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى يوضح‪ :‬إياكم أن تتناظروا في قضية تناظرا جماهيريا‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن الصوت الجماهيري يلتبس فيه الحق مع الباطل‪ ،‬وال سبحانه وتعالى يريد من كل صوت أن‬
‫يكون محسوبا على صاحبه‪ ،‬ومثال ذلك عندما يقوم تظاهر كبير ويهتف فيه بسقوط أحد ل يتعرف‬
‫أحد على من بدأ الهتاف‪.‬‬
‫والذي جعل العرب يخسرون أنهم حين استقبلوا الدعوة كانوا يعقدون اجتماعات جماهيرية‪ ،‬ينقدون‬
‫فيها أقوال رسول ال فتاهت منهم القدرة على الحكم الموضوعي‪.‬‬
‫ظكُمْ ِبوَاحِ َدةٍ أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ‬
‫عُ‬‫ولذلك يقول ربنا‪ُ {:‬قلْ إِ ّنمَآ أَ ِ‬
‫مّن جِنّةٍ }[سبأ‪.]46 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي أن تجتمعوا وفي وجهتكم ال‪ ،‬ومن عنده قوة فليناقش بالحجة أقوال رسول ال موضوعا‪،‬‬
‫وتاريخا‪ ،‬ومنطقا‪ .‬ول يمكن أن يجتمع اثنان ليبحثا مسألة وفي بالهما ال فقط ‪ -‬إل وينتهيان فيها‬
‫إلى رأي موحد‪ .‬ولذلك جاء التفاوض السري في العصر الحديث مستمدا من تلك القاعدة اليمانية‪.‬‬
‫حكِيمٌ عَلِيمٌ } [النعام‪:‬‬
‫{ وَتِ ْلكَ حُجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىا َق ْومِهِ نَ ْرفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَ ّبكَ َ‬
‫‪.]83‬‬
‫وأول قوم إبراهيم أبوه آزر‪ ،‬إنه حاجّهم في الكواكب والقمر والشمس والتماثيل‪ ،‬وبعد ذلك انتصر‬
‫بالحجة على كبيرهم وهو الملك أو السلطان‪ ،‬وهو النمروذ حين أراد أن يناظره في قوة الحياء‬
‫والماتة‪.‬‬
‫ويريد الحق أن نتعلم من حكمة سيدنا إبراهيم‪ ،‬إنك إذا رأيت خصمك يدخل فيما ل يمكن أن ينتهي‬
‫فيه الجدل فانقله إلى المستوى الذي ل يستطيع منه خلصا ول فكاكا‪ ،‬فل يغلبك؛ فالملك النمروذ‬
‫قال له‪ {:‬أَنَا أُحْيِـي وَُأمِيتُ }[البقرة‪.]258 :‬‬
‫وكان باستطاعة سيدنا إبراهيم أن يقول‪ :‬أنت ل تميت بل تقتل‪ ،‬والقتل غير الموت؛ لنك تنقض‬
‫البنية‪ ،‬لكنه لم يرد أن يطيل الجدل‪ ،‬وأراد أن يكون الجدل مقتضبا‪ ،‬ويسقطه على الحجة ويلزمه‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْل َمشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ‬
‫بها من أقصر طريق‪ ،‬فقال ال‪ {:‬قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫ا ْل َمغْ ِربِ }[البقرة‪.]258 :‬‬
‫فماذا كانت نتيجة الجدل؟ يقول ال سبحانه‪ {:‬فَ ُب ِهتَ الّذِي كَفَرَ }[البقرة‪.]258 :‬‬
‫حجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىا َق ْومِهِ نَ ْرفَعُ دَرَجَاتٍ‬
‫وكل هذه حجج يوضحها قول ال سبحانه‪ { :‬وَتِ ْلكَ ُ‬
‫حكِيمٌ عَلِيمٌ } [النعام‪]83 :‬‬
‫مّن نّشَآءُ إِنّ رَ ّبكَ َ‬
‫لقد أعطى ال سبحانه إبراهيم الحجة على قومه‪ ،‬أي كانت له عليهم درجات وسمو وارتفاع؛ لن‬
‫إقامة الحجة على الغير انتصار‪ ،‬والنتصار رفع لدرجة موضوعك‪ ،‬ورفع أيضا لموضوع عملك‪.‬‬

‫وسبحانه ل يشاء إل عن حكمة‪ ،‬ول يشاء إل عن علم؛ لنه إن أطلقنا المشيئة لواحد من البشر فقد‬
‫يفعل الفعل بدون حكمة وبدون علم‪ ،‬أما الحق فينبئنا بأن مشيئته هي عن حكمة وعلم لصالح‬
‫الخلق؛ لن مشيئته مبنية ل على هوى‪ ،‬ول على نفع من أحد‪ ،‬فال سبحانه له كل صفات الكمال‬
‫والجلل والجمال قبل أن يخلق الخلق‪.‬‬
‫خلْق الخلق وإيمانهم ل يزيد في ملك ال‪ ،‬وإن عصوا ل ينقص من ملك ال شيء‪ ،‬ولكن‬
‫إن َ‬
‫الحكمة قد تفوت عن بعض الخلق فل يهتدون إليها‪ ،‬وسبحانه حين يجري أمرا على خلقه ثم‬
‫يقبلونه وإن لم يعلموا علته يريهم جل وعل الحكمة في الفعل الذي كان غير مقبول لهم؛ لنه‬
‫سبحانه خلق الخلق ويعلم أزلً أن للخلق أهواء ومرادات‪ ،‬ولو أعطى كل مخلوق مراده لعطاء‬
‫على حساب غيره‪ ،‬والحق سبحانه عادل فل ينفع واحدا ويتعب الخر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق بحكمته يعلم ما يصلح أمر خلقه‪ ،‬فل يستجيب لدعوة حمقاء من عبد‪ ،‬فبسحانه يعلم أنه ليس‬
‫ع الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِا ْلخَيْرِ‬
‫في صالح العبد أن يلبي له هذا الطلب‪ .‬ولذلك يقول الحق‪ {:‬وَيَ ْد ُ‬
‫َوكَانَ الِنْسَانُ عَجُولً }[السراء‪.]11 :‬‬
‫إن العبد يقول‪ :‬يا رب اصنع لي كذا‪ ،‬يسّر لي هذا المر‪ ،‬وهو خير في عرفه‪ ،‬وقد يكون هو‬
‫الشر؛ لن النسان عجول‪ .‬لذلك يقول سبحانه‪ {:‬سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَ تَسْ َت ْعجِلُونِ }[النبياء‪.]37 :‬‬
‫إن الحق جل وعل يضبط مرادات الخلق؛ فالصالح يجريه عليهم‪.‬‬
‫حكِيمٌ عَلِيمٌ { وكلمة " رب " حينما ترد ل بد أن نفهم منها معنى‬
‫} نَ ْرفَعُ دَ َرجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَ ّبكَ َ‬
‫الخلق والتربية‪ ،‬وساعة تأتي كلمة " اللوهية " فلنعلم أنها للتكليف؛ لن ال هو المعبود المطاع إن‬
‫أمر أو نهى‪ ،‬ولكن الرب هو من خلق وربّى‪ ،‬وتعهد‪ ،‬وأعطاك مقومات حياتك‪ .‬إذن عطاء‬
‫الربوبية شيء‪ ،‬وعطاء اللوهية شيء آخر‪ ،‬وعطاء الربوبية يأخذه المؤمن والكافر‪ ،‬والطائع‬
‫والعاصي؛ لن ال هو الذي استدعاهم للوجود‪ ،‬وجعل الكون مسخرا لهم‪ ،‬لكن عطاء اللوهية‬
‫يتمثل في " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " ‪ ،‬وهذا يدخل في منطقة الختيار‪ .‬فالذي يكفر بال‬
‫ويحسن الخذ بالسباب يأخذ نتائجها‪ ،‬ومن يؤمن بال ول يحسن الخذ بالسباب ل يأخذ النتائج؛‬
‫لن الستنباط في الكون من عطاء الربوبية‪.‬‬
‫ق وَ َي ْعقُوبَ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق‪َ } :‬ووَهَبْنَا لَهُ إِسْحَا َ‬

‫(‪)865 /‬‬

‫ن وَأَيّوبَ‬
‫سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ كُلّا َهدَيْنَا وَنُوحًا َهدَيْنَا مِنْ قَ ْبلُ َومِنْ ذُرّيّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَ ْيمَا َ‬
‫َووَهَبْنَا لَهُ إِ ْ‬
‫ن َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ (‪)84‬‬
‫ف َومُوسَى وَهَارُو َ‬
‫وَيُوسُ َ‬

‫إننا نعرف أن إسحاق هو البن الثاني لسيدنا إبراهيم بعد إسماعيل‪ ،‬ويعقوب ابن إسحاق‪ ،‬وساعة‬
‫ترى الهِبَة افهم أنها ليست هي الحق‪ ،‬فالهبة شيء‪ ،‬و " الحق " شيء آخر‪ .‬الهبة‪ .‬إعطاء معطٍ لمن‬
‫ل يستحق؛ لنك حين تعطي إنسانا ما يستحقه فليس ذلك هبة بل حقا‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يوضح‪ :‬إياكم أن تعتقدوا أن أحدا من خلقي له حتى عندي إل ما أجعله أنا‬
‫حقا له‪ ،‬ولكن كل شيء هِبة مني‪ .‬والقمة الولى في الهبات والعطايا هي قمة السيادة الولى في‬
‫الكون للنسان‪ ،‬ثم التكاثر من نوعية الذكر والنثى‪ ،‬حيث الذرّية من البنين والبنات‪ .‬يقول‬
‫ت وَالَرْضِ َيخْلُقُ مَا َيشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سبحانه‪ِ {:‬للّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫ال ّذكُورَ }[الشورى‪.]49 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهبة الولد ل تأتي من مجرد أنه خلق الرجل والمرأة‪ ،‬وأنّ اللقاء بينهما يوجد الولد بل يقول‬
‫عقِيما }[الشورى‪.]50 :‬‬
‫ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ‬
‫ج ُهمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ‬
‫سبحانه‪َ {:‬أوْ يُ َزوّ ُ‬
‫فلو أن المسألة مجرد إجراء ميكانيكي لجاء الولد‪ ،‬لكن المر ليس كذلك؛ فمن يفهم في الملكوت‬
‫تطمئن نفسه أن ذلك حاصل عن حكمة حكيم يعرف أنها هبة من ال‪ ،‬حتى العقم هو هبة أيضا؛‬
‫فالذي يستقبله من ال على أنه هبة ويرضاه‪ ،‬ولم ينظر إلى أبناء الغير بحقد أو بحسد سيجعل ال‬
‫كل من تراه أبناء لك بدون تعب في حمل أو ولدة‪ ،‬وبدون عناية ورعاية منك طول عمرك‪ .‬ومن‬
‫يرض بهبة ال من الناث سيجد أنهن رزق من ال ويبعث له من الذكور من يتزوج الناث‬
‫ويكونون أطوع له من أبنائه؛ لنه رضي‪ .‬إذن ل بد أن تأخذ الهبة في العطاء‪ ،‬والهبة في المنع‪.‬‬
‫والحق يوضح‪ :‬أنا وهبت لبراهيم إسحاق‪ ،‬ومن وراء إسحاق يعقوب‪ ،‬والنسان منا يعرف أن‬
‫النسان بواقع أقضية الكون ميّت ل محالة‪ ،‬وحين يكبر النسان يرغب في ولد يصل اسمه في‬
‫الحياة وكأنه ضمن ذلك‪ ،‬فإن جاء حفيد يكون الجد قد ضمن نفسه جيلً آخر‪ .‬ولكن لنعرف قول‬
‫الحق‪ {:‬ا ْلمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ َأمَلً }‬
‫[الكهف‪.]46 :‬‬
‫وبقاء ال ّذكْرِ في الدنيا ل لزوم له إن كان ال يحط من قدر النسان في الخرة!!‬
‫ك وَلِيّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ‬
‫ونلحظ أن الحق قال في موقع آخر‪َ {:‬ف َهبْ لِي مِن لّدُ ْن َ‬
‫جعَلْهُ َربّ َرضِيّا }[مريم‪.]6-5 :‬‬
‫وَا ْ‬
‫وامتن ال على إبراهيم ل بإسحاق فقط بل بيعقوب أيضا‪ ،‬وفوق ذلك قال‪ { :‬كُلّ َهدَيْنَا } أي أنهما‬
‫كانا من أهل الهداية‪ { .‬وَنُوحا هَدَيْنَا مِن قَ ْبلُ } أي أن الهداية ل تبدأ بإسحاق ويعقوب‪ ،‬بل بنوح‬
‫ن َوكَذَِلكَ نَجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ‬
‫ف َومُوسَىا وَهَارُو َ‬
‫س َ‬
‫ن وَأَيّوبَ وَيُو ُ‬
‫من قبل‪َ { :‬ومِن ذُرّيّتِهِ دَاوُو َد وَسُلَ ْيمَا َ‬
‫}‪.‬‬
‫ويتابع الحق‪ { :‬وَ َزكَرِيّا وَيَحْيَىا وَعِيسَىا وَإِلْيَاسَ‪} ...‬‬

‫(‪)866 /‬‬

‫س وَلُوطًا َوكُلّا‬
‫ل وَالْيَسَعَ وَيُونُ َ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫وَ َزكَرِيّا وَ َيحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ُكلّ مِنَ الصّالِحِينَ (‪ )85‬وَإِ ْ‬
‫خوَا ِنهِ ْم وَاجْتَبَيْنَا ُه ْم وَهَدَيْنَا ُهمْ إِلَى صِرَاطٍ ُمسْ َتقِيمٍ‬
‫َفضّلْنَا عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (‪َ )86‬ومِنْ آَبَا ِئ ِه ْم وَذُرّيّا ِتهِ ْم وَِإ ْ‬
‫(‪)87‬‬

‫{ وَ َزكَرِيّا وَيَحْيَىا وَعِيسَىا وَإِلْيَاسَ ُكلّ مّنَ الصّالِحِينَ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولم يأت الحق بالثمانية عشر نبيا متتابعين بل قسمهم بحكمة‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫س وَلُوطا َوكُلّ َفضّلْنَا عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ }‬
‫ل وَالْيَسَعَ وَيُونُ َ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫{ وَإِ ْ‬
‫ول يقتصر المر على هؤلء بل يقول سبحانه‪:‬‬
‫خوَا ِنهِ ْم وَاجْتَبَيْنَا ُه ْم وَهَدَيْنَا ُهمْ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }‬
‫{ َومِنْ آبَا ِئ ِه ْم وَذُرّيّا ِتهِ ْم وَِإ ْ‬
‫وأنت إن نظرت إلى هؤلء الثمانية عشر نبيا المذكورين هنا‪ ،‬ستجد أنهم من الخمسة والعشرين‬
‫رسولً الذين أمرنا باليمان بهم تفصيل‪ .‬وقد جمعوا في قول الناظم‪:‬في تلك حجتنا منهم ثمانية من‬
‫بعد عشر ويبقى سبعة وهموإدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار وقد‬
‫ختمواوالحق سبحانه وتعالى لم يجعل من النبياء ملوكا إل اثنين‪ :‬داود وسليمان حتى يعطينا فكرة‬
‫أن ال إذا أراد أن يقهر خلقا على شيء ل يقدر عليه أحد يبعث مَلِكا رسولً؛ لن المَلِك ل يقدر‬
‫عليه عبد لنّ القدرة معه‪ ،‬والمجتمع آنذاك كان في حاجة إلى ملك يدير أمره ويضبط شأنه‪،‬‬
‫وسبحانه ل يريد اليمان بالقوة والخوف والرهبوت إنما يريده بالختيار‪ ،‬ولذلك جعل أغلب‬
‫النبياء ليسوا ملوكا‪.‬‬
‫وفي الحديث " أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولً " فاختار أن يكون عبدا رسول؛ لن الملك يأتي‬
‫بسلطانه وبماله‪ ،‬وقد يطغى‪.‬‬
‫وأراد الحق أن يكون سليمان وداود من النبياء وهما ملكان‪ ،‬وتتمثل فيهما القدرة وسعة الملك‬
‫والسلطان‪ .‬أمّا أيوب فقد أخذ زاوية أخرى من الزوايا وهي البتلء والصبر مع النبوة‪ ،‬وكل نبي‬
‫فيه قدر مشترك من النبوة‪ ،‬وفيه تميّز شخصي‪ .‬وكذلك يوسف أخذ البتلء أولً‪ ،‬ثم أخذ الملك‬
‫والسلطان في النهاية‪ .‬وموسى وهارون أخذ شهرة التْبَاع‪ ،‬ونكاد ل نعرف من الديان إل‬
‫اليهودية والنصرانية‪ ،‬أما زكريا ويحيى وعيسى وإلياس فقد أخذوا ملكة الزهد‪.‬‬
‫وأما إسماعيل واليسع ويونس ولوطا فقد أخذوا ما زخرت به حياتهم من عظيم الفعال وكريم‬
‫الخصال والسلوك القويم والقدوة الطيبة وبقي لهم الذكر الحسن‪.‬‬
‫إذن فهناك زوايا متعددة للنبياء‪.‬‬
‫وعندما وقف العلماء عند " عيسى " هل يدخل في ذريتهم‪ ،‬وجدوا من يستنبط ويقول‪ :‬من ذريتهم‬
‫من ناحية الم‪.‬وإنما أمهات القوم أوعية مستحدثات وللحساب آباء‪.‬والعنصر البشري في عيسى‬
‫هو الم‪ .‬وبمثل هذا احتج أبو جعفر محمد الباقر أمام الحجاج حين قال له‪ :‬أنتم تدعون أنكم من‬
‫آل رسول ال ومن نسله‪ ،‬مع أن رسول ال ليس له ذرية!‬
‫قال له المام الباقر رضي ال عنه‪ :‬كأنك لم تقرأ القرآن‪.‬‬
‫قال له‪ :‬وأي شيء في القرآن؟‬
‫قال اقرأ‪ " :‬ومن ذريته‪ " .....‬إلى أن تقرأ‪ " :‬وعيسى " فعيسى من ذرية نوح‪ ،‬من أب أَم من أُمّ؟‪.‬‬
‫قال له‪ :‬من أُمّ‪ .‬فقال له‪ :‬نحن كذلك من ذرية محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ { :‬ذاِلكَ هُدَى اللّهِ‪} ...‬‬

‫(‪)867 /‬‬

‫ذَِلكَ ُهدَى اللّهِ َيهْدِي بِهِ مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وََلوْ َأشْ َركُوا لَحَ ِبطَ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)88‬‬

‫" ذلك " إشارة إلى شيء تقدم‪ ،‬والمقصود به الهدى الذي هدينا به القوم‪ ،‬وهو هدى ال‪ .‬ونجد كلمة‬
‫" هدى " تدل على الغاية المرسوم لها طريق قصير يوصل إليها‪ ،‬وربنا هو الذي خلق‪ ،‬وهو الذي‬
‫يضع الغاية‪ ،‬ويضع ويوضح ويبيّن الطريق إلى الغاية‪ ،‬وحين يضاف الهدى إلى ال فهو دللة‬
‫على المنبع والمصدر أي هدى من ال‪ .‬وكلمة " هدى " مرة تضاف إلى الواهب وهو الحق‪،‬‬
‫وتضاف إلى النبياء‪ .‬يقول الحق‪ { :‬فَ ِبهُدَا ُهمُ اقْتَ ِدهْ }‪.‬‬
‫وذلك إشارة إلى المنهج الذي أنزله ال على الرسل‪.‬‬
‫إذن فالحق سبحانه وتعالى يهدي الناس جميعا بدللتهم على الخير‪ ،‬والذي يقبل على هذه الدللة‬
‫احتراما ليمانه يعينه ال‪ ،‬ويزيده هدى‪ ،‬وسبحانه يريد أن يثبت للنسان أنه جعله مختارا‪ ،‬فإن‬
‫اخترت أي شيء فأنت لم تختره غصبا عن ربنا‪ ،‬إنما اخترته بمن خلقك مختارا‪ .‬ول يوجد فعل‬
‫في الكون يحدث على غير مراد ال‪ ،‬ولو أراد ال الناس جميعا مهديين لما استطاع واحد أن‬
‫يعصي‪ ،‬إنما أرادهم مختارين‪ ،‬وكل فعل يفعله أي واحد منهم‪ ،‬فهو مراد من ال لكنّه قد يكون‬
‫مرادًا غير محبوب‪ ،‬ولذلك قال العلماء‪ :‬إن هناك مرادا كونا‪ ،‬ومرادا شرعا‪ .‬وما دام الشيء في‬
‫ملك ال فهو مراد ال‪ ،‬والمراد الشرعي هو المأمور به‪ ،‬وما يختلف عن ذلك فهو مراد كوني‪،‬‬
‫جاء من باب أنه خلقك مختارا‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬أنت تعطي ابنك جنيها‪ ،‬والجنية قوة شرائية‪ .‬فأخذ الجنيه ونزل‬
‫ل أو بعضا‬
‫السوق وهو حر ليتصرف به‪ ،‬وتقول له‪ :‬اسمع‪ .‬إن اشتريت به مصحفا أو كتابا جمي ً‬
‫من الحلوى وأكلتها أنت وإخوتك فسأكون مسرورا منك وسأكافئك مكافأة طيبة‪ ،‬وإن اشتريت "‬
‫كوتشينة " ‪ ،‬أو صرفت الجنيه فيما ل أرضى عنه فسوف أغضب منك ولن أعطيك نقودا‪.‬‬
‫أنت بهذا القول أعطيت ابنك الحرية‪ .‬وساعة ينزل السوق ويشتري " كوتشينة " فهو لم يفعل ذلك‬
‫قهرا عنك لنك أنت الذي أعطيته الختيار‪ ،‬لكنك قلت له‪ :‬إنك تطلب منه أن يحسن الختيار‪،‬‬
‫وسبحانه وتعالى قد جعل النسان مختارا‪ ،‬فإن اختار الهداية أجزل له العطاء‪ ،‬وإن اختار الضلل‬
‫عاقبه عليه‪.‬‬
‫وبالنسبة للنبياء جاءت لهم الهداية من ال دللة لهم وأقبلوا على مرادات الحق فأعطاهم هداية‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أخرى؛ وذلك بأن يعشّقهم في العمل ويحبب إليهم فعل الخير‪ ،‬وبعد ذلك يوضح سبحانه‪ :‬إياكم أن‬
‫تظنوا أن هناك من يفلت مني؛ لنهم لو أشركوا لحبطت أعمالهم‪.‬‬
‫إذن فالحق لم يخلق الخلق مرغمين على عمل الطاعة بل خلقهم مختارين في التكاليف‪ ،‬حتى ينالوا‬
‫لذة اختيار منهج ال ولو أشركوا لحبط عملهم و " لو " حرف امتناع لمتناع‪ ،‬وهذا دليل على أنهم‬
‫لم يشركوا ولذلك لم يحبط عملهم‪ ،‬و " الحبط " هو البطال للعمل‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ُ { :‬أوْلَـا ِئكَ الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ‪} ...‬‬

‫(‪)868 /‬‬

‫حكْ َم وَالنّ ُب ّوةَ فَإِنْ َي ْكفُرْ ِبهَا َهؤُلَاءِ َفقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َقوْمًا لَ ْيسُوا ِبهَا‬
‫أُولَ ِئكَ الّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ُ‬
‫ِبكَافِرِينَ (‪)89‬‬

‫والكتاب هو المنهج‪ ،‬والحكم وهو ما أعطاه ال لبعضهم من السيطرة والغلبة‪ ،‬والنبوة؛ أي أنّه‬
‫جعلهم نماذج سلوكية للبشر‪.‬‬
‫{ فَإِن َي ْكفُرْ ِبهَا هَـاؤُلءِ َفقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َقوْما لّيْسُواْ ِبهَا ِبكَافِرِينَ } وسبحانه وتعالى أعطانا نماذج‬
‫من المهديين في الرسل‪ ،‬والنبياء؛ وفيمن اجتباهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم؛ فهؤلء القوم‬
‫الذي جئت لتأخذ بيدهم من الظلمات إلى النور‪ ،‬فإن امتنع بعض الناس عن الهداية فسيوكل ال‬
‫قوما آخرين ليحملوا المناهج ليكونوا عنصر الخير الباقي إلى أن تقوم الساعة‪.‬‬
‫ومَنْ القوم؟‪ .‬قال بعضهم المشار إليه هم قريش‪ ،‬والمقصود من قوله‪َ { :‬فقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َقوْما لّ ْيسُواْ‬
‫ِبهَا ِبكَافِرِينَ } هم أهل المدينة أي النصار‪ .‬أو المقصود من النص الكريم كل ممتنع وكافر وكذلك‬
‫كل مقبل على ال وطائع له أي إن يكفر بها طائفة يوكل ال من يقوم بها ويدافع عنها ويحميها؛‬
‫لن ال ل ينزل قضية الخير في الخلق وبعد ذلك يطمسها بل ل بد أن يبقيها كحجة على الخلق‪.‬‬
‫{ فَإِن َي ْكفُرْ ِبهَا هَـاؤُلءِ َفقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َقوْما } وهذا يدل على أن أهل الخير دائما وكلء عن ال؛‬
‫لن الذي يمد يده بالمعونة لضعيف من خلق ال؛ هذا الضعيف قد استدعاه ال إلى الوجود‪ ،‬ومن‬
‫يمد يده بالمعونة فقد جعل من نفسه وكيلً لربنا؛ لنه يقوم بالمطلوب له ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وجعل من‬
‫نفسه سببا له؛ لن ال رب الجميع‪ ،‬ومربي الجميع‪ ،‬وراعي الجميع‪ ،‬ورزّاق الجميع‪ ،‬وليثق من‬
‫يقوم بالخير ويجعل من نفسه وكيلً عن ال في أن يشيع الخير في خلق ال‪ ،‬ليثق أن ال سيكرمه‬
‫أضعاف أضعاف ما أعطى‪.‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ُ { :‬أوْلَـا ِئكَ الّذِينَ هَدَى‪} ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)869 /‬‬

‫أُولَ ِئكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَ ِبهُدَا ُهمُ اقْتَ ِدهِ ُقلْ لَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ أَجْرًا إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرَى لِ ْلعَاَلمِينَ (‪)90‬‬

‫و " هدى ال " هنا أيضا هو هداية دللة‪ ،‬وهداية معونة؛ بدليل أنه قال‪ { :‬فَ ِب ُهدَاهُمُ اقْ َت ِدهْ }‬
‫والخطاب لسيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لن " أولء " أي المشار إليهم هم المتقدمون‪ ،‬و‬
‫" الكاف " خطاب للنبي صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫{ ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَ ِبهُدَاهُمُ اقْ َت ِدهْ } وحين نقرأ هذا القول الكريم نقول " اقتد " ول نقول "‬
‫اقتده " ول تنطق الهاء إل في الوقف ويسمونها " هاء السّكت " ‪ ،‬لكن إذا جاءت في الوصل ل‬
‫ينطق بها‪ ،‬وكل واحد من هؤلء الرسل السابق ِذكْرهم له خصلة تميز بها‪ ،‬وفيه قدر مشترك بين‬
‫الجميع وهو إخلص العبودية ل واليمان بال وأنّه واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله‪ ،‬وكلهم‬
‫مشتركون في هذه الصول‪ ،‬وتميّز كل منهم بخصلة في الخير؛ فسيدنا سليمان وداود أخذا القدرة‬
‫والسلطان والملك‪ ،‬وأيوب أخذ القدرة في الصبر على البلء‪ ،‬ويوسف أخذ القدرة في الصبر‬
‫والتفوق في الحُكم‪ ،‬وسيدنا يونس أخذ القدرة كضارع إلى ال وهو في بطن الحوت‪ ،‬وإسماعيل‬
‫كان صادق الوعد‪.‬‬
‫والمطلوب إذن من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يكون مُقتديا بهم جميعا‪ ،‬أي أن يكون‬
‫كسليمان وكداود وكإسحاق وكيعقوب وكأيوب وكيوسف وكيونس‪ .‬وأن يأخذ خصلة التميز من كل‬
‫واحد فيهم وأن يشترك معهم في القضية العامة وهي التوحيد ل‪ .‬وبذلك يجتمع كل التميز الذي في‬
‫جميع النبياء في سيدنا محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وإذا ُأمِرَ رسول ال صلى ال عليه وسلم أمرا من ربه فل بد أن نعتقد أنه صلى ال عليه وسلم قد‬
‫نفذ المر‪ ،‬وما دام أنه صلى ال عليه وسلم قد اجتمعت فيه مزايا النبياء فحق له أن يكون خاتم‬
‫النبيين والمرسلين‪.‬‬
‫{ قُل لّ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ َأجْرا إِنْ ُهوَ ِإلّ ِذكْرَىا لِ ْلعَاَلمِينَ } [النعام‪.]90 :‬‬
‫طلَب الجر؟ أنت ل تطلب أجرا ممن فعلت أمامه أو له عملً إل إذا كان العمل الذي فعلته‬
‫ولماذا يُ ْ‬
‫يعطيه منفعة تستحق أن تُعطي وتُمنح عليه أجرا‪ ،‬فكأن ما يؤديه صلى ال عليه وسلم إلى المة‬
‫كان يستحق عليه أجرا‪ ،‬لكنه صلى ال عليه وسلم يبلغ عن ربّه‪ :‬قل لهم‪ :‬إنك نزلت عن هذا‬
‫الجر‪.‬‬
‫وقارنوا بين مَن يقدم لي واحد منكم منفعة قد ل تأخذ من وقته نصف ساعة في جزئية من‬
‫جزئيات الحياة‪ ،‬ومن يقوم بعمل ينفعكم في مدًى يتعدى الدنيا إلى أن يصل إلى الخرة ثم يقول‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنا ل أريد منكم أجرا‪.‬‬
‫وعدم طلب الجر حصل من كل الرسل إل رسولين اثنين؛ فلم يرد في القرآن أن قالها‪ ،‬وإذا ما‬
‫جئت لسورة الشعراء مثلً تجد أن الحق تكلم عن موسى‪ ،‬وتكلم عن إبراهيم‪ ،‬ثم تكلم بعد ذلك عن‬
‫بقية الرسل ولم تأت كلمة الجر في قصة إبراهيم وكذلك في قصة موسى عليهما السلم‪.‬‬

‫لكن جاء ذكر الجر في غيرهما‪ ،‬يقول سبحانه‪ِ {:‬إذْ قَالَ َلهُمْ َأخُوهُمْ نُوحٌ َألَ تَ ّتقُونَ * إِنّي َلكُمْ‬
‫رَسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ اللّ َه وَأَطِيعُونِ * َومَآ أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء‪.]109-106 :‬‬
‫شعَ ْيبٌ َألَ تَ ّتقُونَ * إِنّي َلكُمْ َرسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأطِيعُونِ * َومَآ‬
‫وقال جل شأنه‪ {:‬إِذْ قَالَ َلهُمْ ُ‬
‫أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء‪.]180-177 :‬‬
‫وعندما تستقرئ سورة الشعراء تجد النبياء كلهم‪ ،‬وتجد مع قول كل منهم } َومَآ أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ‬
‫أَجْرٍ { ‪ ،‬إل سيدنا موسى‪ ،‬وسيدنا إبراهيم‪ .‬لماذا؟ ونقول‪ :‬إن من ينزل عن الجر‪ ،‬هو من يقدم‬
‫لهم منفعة‪.‬‬
‫وفي موسى عليه السلم نجد أنّه قد وجهت وقدمت وسيقت له المنفعة من فرعون الذي قام‬
‫بتربيته‪ ،‬كأنه قد أخذ الجر مقدما‪ ،‬لذلك لم يقل موسى لفرعون " ل أسألك أجرا؛ لن القرآن جاء‬
‫بقول فرعون‪ {:‬قَالَ أَلَمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا }[الشعراء‪.]18 :‬‬
‫وكذلك لم تأت مسألة الجر في قصة سيدنا إبراهيم لنه خاطب أباه آزر‪ ،‬ولم يكن من المقبول أن‬
‫يقول له‪ " :‬ل أسألك أجرا "‪ .‬وهكذا انطمست مسألة الجر في قصة سيدنا إبراهيم وقصة سيدنا‬
‫موسى‪ ،‬وبقيت فيما عداهما‪ ،‬مما يدل على أن القرآن موضوع بأدق تفاصيله بحكمة؛ لن من يتكلم‬
‫هو ربنا‪ .‬ويمتاز سيدنا رسول ال أيضا ويقول‪ " :‬ل أسألكم أجرا " إل آية واحدة استثنى فيها هذا‬
‫النفي‪ {:‬قُل لّ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ أَجْرا ِإلّ ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَىا }[الشورى‪.]23 :‬‬
‫والمودة هي فعل الخير الناشئ عن محبة قلب‪ ،‬أما فعل الخير الذي ل ينبع من محبة في القلب‬
‫فهو فعل معروف؛ لن المعروف يضعه النسان مع من يُحب ومن ل يُحب‪ .‬ولذلك قال ربنا‪{:‬‬
‫ط ْع ُهمَا َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا }‬
‫وَإِن جَا َهدَاكَ عَلَىا أَن ُتشْ ِركَ بِي مَا لَ ْيسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ فَلَ تُ ِ‬
‫[لقمان‪.]15 :‬‬
‫المعروف ‪ -‬إذن ‪ -‬هو عمل امتداده خير سطحي‪ .‬والرسول حين يطلب المودة في القربى فهل‬
‫هي قُرباه صلى ال عليه وسلم أو المودة في قُرباكم؟ هي القُربى على إطلقها‪ ،‬وهي القُربى أيضا‬
‫للمتكلم وهو الرسول الذي يبلغ عن ال‪.‬‬
‫وإن صُنّفت على أنها " إل المودة في القُربى " أي القربى للمتكلم وهو سيدنا رسول ال لما‬
‫استطعنا أن نُوفيه أجرا‪ .‬أما حين يتحمل كل واحد منا مجالً من الخير والمعروف في قومه‪ ،‬هنا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تتلحم دوائر الخير في الناس جميعا‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية بقوله‪ } :‬إِنْ ُهوَ ِإلّ ِذكْرَىا لِ ْلعَاَلمِينَ { وهي ما تعطينا اجتماع الدوائر ويصير‬
‫كل واحد ُمهْتَما بأقاربه ويتنازع الناس ويتنافسون في مودة القُربى‪ ،‬وكل منهم يحرص على أن‬
‫يوسع دائرة القربى‪ .‬هنا يعم الخير ويدوم الود ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬ومَا قَدَرُواْ اللّهَ‪{ ...‬‬

‫(‪)870 /‬‬

‫شيْءٍ ُقلْ مَنْ أَنْ َزلَ ا ْلكِتَابَ الّذِي جَاءَ‬


‫َومَا َقدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْ ِرهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْ َزلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ َ‬
‫خفُونَ كَثِيرًا وَعُّلمْتُمْ مَا لَمْ َتعَْلمُوا أَنْ ُت ْم وَلَا‬
‫جعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُو َنهَا وَتُ ْ‬
‫بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنّاسِ تَ ْ‬
‫خ ْوضِهِمْ يَ ْلعَبُونَ (‪)91‬‬
‫آَبَا ُؤكُمْ ُقلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي َ‬

‫الكلم عن الذين رفضوا وتأبوا عن اليمان بال‪ .‬فيأتي المر للرسول صلى ال عليه وسلم بأن‬
‫يوضح لهم بأنهم لم يعطوا ال حق قدره‪ ،‬ومعنى القدْر معرفة المقدار‪ ،‬وحق قدره سبحانه ل نقدر‬
‫عليه نحن البشر‪ ،‬لذلك نقدره على قدر طاقتنا أو على قدر ما طلب منا‪ ،‬وكما قال رسول ال‪" :‬‬
‫سبحانك ل نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك "‬
‫والنسان منا حين يثني على واحد فهذا دليل أنه قد قيّم قدره بقيمة الثناء‪ ،‬وحين نقيّم قدر ال فعلينا‬
‫أن نعرف أن صفات الكمال كلها فيه وهي ل تتناهى ول يمكن أن تحصى‪ .‬ومن رحمة الحق‬
‫سبحانه وتعالى أنه تحمّل عنا صيغة الثناء عليه‪ :‬كي ل يوقعنا في حرج‪ ،‬فليس لبشر من قُدرة أن‬
‫يحيط بجمال ال أو بجلله حتى يثني عليه بما يستحقه‪ ،‬وإن أحاط عبد بذلك ‪ -‬ولن يحيط ‪ -‬فمن‬
‫أين له العبارة التي تؤدي هذا الثناء؟ ول يوجد بليغ أو أديب يستطيع أن ينمق العبارات التي تكفي‬
‫لتقدير هذا الثناء على ال‪ ،‬فأوضح لنا الحق من خلل رسوله‪ :‬أنا حملت عنكم هذه المسألة حتى‬
‫تكونوا كلكم سواسية‪ ،‬قال رسول ال‪:‬‬
‫" سبحانك ل نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك "‬
‫وفي كلمة " الحمد ل " وحدها يتساوى الناس جميعا‪ .‬ومن رحمته سبحانه أن سوّى بين الناس في‬
‫معرفة صيغة الثناء عليه‪ .‬ويأتي الحق هنا بالزاوية التي نفى فيها أنهم ما قدروا ال حق قدره‪.‬‬
‫شيْءٍ }‬
‫لماذا ياربّ لم يقدروك حق قدرك؟ وتأتي الجابة‪ِ { :‬إذْ قَالُواْ مَآ أَن َزلَ اللّهُ عَلَىا بَشَرٍ مّن َ‬
‫[النعام‪.]91 :‬‬
‫أي أنهم أنكروا أن يكون ال قد اختار من بعض خلقه مَن يجعلهم أهلً لتلقّي منهجه لبلغه إلى‬
‫خلقه‪ .‬ويأتي الرد من الحق لرسوله ردا عليهم‪ُ { :‬قلْ مَنْ أَن َزلَ ا ْلكِتَابَ الّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىا نُورا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَهُدًى لّلنّاسِ } [النعام‪.]91 :‬‬
‫إذن ل بد أن يكون القائلون هذا يؤمنون بأن موسى نُزّل عليه كتاب لتكون الحُجّة في موضعها‪.‬‬
‫وكُفار مكة كانوا غير مؤمنين بأي رسول‪ ،‬لكنهم يعلمون أن هناك من هم أهل كتاب‪ ،‬بدليل أنهم‬
‫قالوا‪َ {:‬لوْ أَنّآ أُن ِزلَ عَلَيْنَا ا ْلكِتَابُ َلكُنّآ َأهْدَىا مِ ْنهُمْ }[النعام‪.]157 :‬‬
‫ونقول‪ :‬لو دققت النظر في السورة فقد ينطبق المر على واحد مخصوص من الذين غلبتهم‬
‫حجّة‪ " .‬وفي تاريخ السيرة نجد واحدا من الحبار كان دائب الخوض في السلم‪ ،‬وكان اسمه "‬
‫ال ُ‬
‫مالك بن الصيف " فلقيه رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬والحَبْر هو عالم اليهود والمفترض فيه‬
‫أن يكون من الزهاد فيهم منقطعا للعلم إل أنه كان سمينا على الرغم من أن من عادة المنقطعين‬
‫للعبادة وإلى العلم أنهم ل يأخذون من الزاد إل ما يقيت‪ ،‬ويقُيم الود لنه قد جاء في التوراة‪ " :‬إن‬
‫ال يبغض الحبْر السّمين "‪.‬‬
‫فلما علم رسول ال صلى ال عليه وسلم أن مالك بن الصيف ‪ -‬وهو من أحبار اليهود ‪ -‬يخوض‬
‫كثيرا في السلم قال له‪ :‬أفي توراتكم‪ " :‬إن ال يبغض الحَبْر السّمين " فبهت الرجل‪ ،‬وقال‪ " :‬ما‬
‫أنزل ال على بشر من شيء "‬

‫يعني ما أنزل ال على بشر من شيء من الذي أنت تقوله‪ ،‬وهكذا نعلم أن مثل هذا القول قد يأتي‬
‫من أهل كتاب‪ ،‬وحين قال مالك هذه القولة قام عليه رجال من اليهود وقالوا له‪ :‬كيف تقول‪ " :‬ما‬
‫أنزل ال على بشرٍ من شيء " فقال لهم‪ :‬أغضبني محمد‪ ،‬فرددت على الغضب بباطل‪.‬‬
‫وهنا قال من سمعه من اليهود‪ :‬إذن أنت ل تصلح أن تكون حبْرا لنك فضحتنا‪ .‬وعزلوه‪ ،‬وجاءوا‬
‫بكعب بن الشرف وولّوه مكانه‪.‬‬
‫خفُونَ‬
‫جعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُو َنهَا وَتُ ْ‬
‫} ُقلْ مَنْ أَن َزلَ ا ْلكِتَابَ الّذِي جَآءَ ِبهِ مُوسَىا نُورا وَهُدًى لّلنّاسِ َت ْ‬
‫ضهِمْ يَ ْلعَبُونَ { [النعام‪.]91 :‬‬
‫خ ْو ِ‬
‫كَثِيرا وَعُّلمْتُمْ مّا لَمْ َتعَْلمُواْ أَن ُت ْم َولَ آبَا ُؤكُمْ ُقلِ اللّهُ ُثمّ ذَ ْرهُمْ فِي َ‬
‫الكتاب إذن هنا هو الكتاب الذي أنزله ال على موسى وهو التوراة وقد جعلوه قراطيس‪ ،‬أو جعلوه‬
‫أوراقا منفصلة يظهرون منها ما يُريدون‪ ،‬ويخفون منها ما ل يُريدون مثلما فعلوا في مسألة الرّجم‬
‫كعقاب للزّنا‪ .‬إذن فقد سبق لهم كتمان ما أنزل ال عليهم‪ ،‬وبيّن الحق ذلك في آيات متعددة‪ {:‬فَنَسُواْ‬
‫حظّا ّممّا ُذكِرُواْ بِهِ }[المائدة‪]14 :‬‬
‫َ‬
‫والذي لم ينسوه كَتَموا بعضه وأظهروا بعضه‪ ،‬والذي لم يكتموه حرّفوا ولووا به ألسنتهم‪ ،‬إذن‬
‫فهناك نسيان‪ ،‬وكتمان‪ ،‬وتحريف‪ .‬وليتهم اقتصروا على هذا ووقفوا عنده بل جاءوا بأشياء من‬
‫عندهم وقالوا هي من عند ال‪َ {:‬فوَيْلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَ ْيدِيهِمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ‬
‫لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً }[البقرة‪]79 :‬‬
‫ضهِمْ يَ ْلعَبُونَ {‬
‫خوْ ِ‬
‫ويتابع الحق سبحانه‪ } :‬وَعُّلمْتُمْ مّا َلمْ َتعَْلمُواْ أَنتُ ْم َولَ آبَا ُؤكُمْ ُقلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[النعام‪.]91 :‬‬
‫فإن كلم الكلم في كُفار مكة فقد جاءهم القرآن بما لم يعلموا ل هم ول آبائهم؛ لن السلم جاء‬
‫على فترة من الرسل‪ .‬وإن كان في أهل الكتاب فهو قول صدق؛ لنهم لما كتموا أشياء فضح‬
‫القرآن ما كتموه وما حرفوه‪ .‬وجاء القرآن فعدل لهم‪ ،‬فكأنهم عُلّموا الحق‪ ،‬لينسخوا به الباطل الذي‬
‫غيّروه وحرفوه‪ ،‬وقوله الحق‪ُ } :‬قلِ اللّهُ { أي أن الذي أنزل الكتاب هو ال‪.‬‬
‫وساعة يأتي الحق سبحانه وتعالى بصيغة الستفهام نعلم أن الستفهام الحقيقي بالنسبة ل مُحَال‪،‬‬
‫لنه يعلم كل شيء‪ ،‬وإنما يجيء باستفهام يقال له‪ " :‬الستفهام النكاري " أو " الستفهام التقريري‬
‫" وهو يأتي بهذه الصيغة لنه يريد جوابا فيه القرار من المعاندين‪ ،‬فإن لم يقولوا واحتاروا أو‬
‫خ ْوضِهِمْ يَ ْلعَبُونَ { [النعام‪.]91 :‬‬
‫خجلوا أن يقولوا فقل أنت لهم يا محمد‪ُ } :‬قلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي َ‬

‫و " الخوض " هو الدخول في الماء الكثير‪ ،‬الذي ل تستبين العين فيه موضع القدم‪ ،‬وربما نزل في‬
‫هوّة‪ ،‬ثم استعمل واستعير للخوض في الباطل‪.‬‬
‫ضهِمْ يَ ْلعَبُونَ { أي أن هذا لعب منهم ولن يستطيع‬
‫خ ْو ِ‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪ } :‬ثُمّ ذَرْ ُهمْ فِي َ‬
‫الصمود أمام الدعوة‪ ،‬فالدعوة سائرة في طريقها‪ ،‬ولن يتمكنوا منها أبدا‪ ،‬فكل الذي يصنعونه هو‬
‫خوض في باطل ولعب ل جدوى منه ول صلة له بالجد‪ .‬ولكن هل معنى هذا أن يتركهم محمد؟‬
‫ل؛ لنه حين يجد آذانا منهم ينبههم ويذكّرهم‪ ،‬ثم بعد أن ينفتح المر للسلم‪ ،‬فالذي يقيم في‬
‫جزيرة العرب ل يقبل منه إل السلم أو السيف؛ لن المعجزة جاءت مباشرة بقرآن يعلم الكل‬
‫إعجازه‪ ،‬وسبحانه قد أنزل التوراة من قبل وأنزل القرآن مباركا‪ ،‬فالحق يقول بعد ذلك‪ } :‬وَهَـاذَا‬
‫كِتَابٌ أَن َزلْنَاهُ‪{ ...‬‬

‫(‪)871 /‬‬

‫حوَْلهَا وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ‬


‫وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَا َركٌ ُمصَدّقُ الّذِي بَيْنَ َيدَيْ ِه وَلِتُ ْنذِرَ أُمّ ا ْلقُرَى َومَنْ َ‬
‫بِالْآَخِ َرةِ ُي ْؤمِنُونَ بِ ِه وَ ُهمْ عَلَى صَلَا ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ (‪)92‬‬

‫وكلمة " أنزلنا " الصل فيها نون وزاي ولم‪ ،‬وتستعمل بالنسبة للقرآن استعمالت متعددة؛ فمرة‬
‫يقول سبحانه‪ {:‬إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ }[القدر‪.]1 :‬‬
‫ومرة يقول عز وجل‪ {:‬وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلً }[السراء‪.]106 :‬‬
‫ومرة يسند النزول للقرآن‪ {:‬وَبِا ْلحَقّ أَنْ َزلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَ َزلَ }[السراء‪.]105 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لمِينُ }[الشعراء‪.]193 :‬‬
‫حاَ‬
‫ومرة يسند إلى من جاء به‪ {:‬نَ َزلَ بِهِ الرّو ُ‬
‫هذه إذن تعابير متعددة‪ ،‬وما دواعي هذا الشتقاق ونحن نعلم أن القرآن لم ينزل جملة واحدة على‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وإنما نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ‬
‫ليباشر القرآن مهمته في الوجود الجديد‪ ،‬وكان ينزل كل نجم من النجوم حسب الحداث‪ .‬و " أنزل‬
‫" هنا للتعدية أي نقل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ليباشر مهمته‪ ،‬ولذلك يقول سبحانه‪ { :‬إِنّا‬
‫أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ }‬
‫ونعلم أن القرآن نزل في ليلة القدر وفي غير ليلة القدر‪ ،‬ولكنه نزل في ليلة القدر جميعه إلى‬
‫سماء الدنيا‪ ،‬ثم نزل منجما ومفصّل في بقية أيام الثلث والعشرين سنة التي عاشها صلى ال عليه‬
‫وسلم بعد نزول الوحي‪ ،‬فإذا ما أراد أنه أنزله من اللوح المحفوظ يأتي بـ " همزة التعدية " وإذا‬
‫أراد النزول والموالة يقول‪ " :‬نزّل " لن فيها التتابع‪ ،‬وإذا نسبة لمن نزل به يأتي بـ " نَزَل " لن‬
‫القرآن لم ينزل وحده بل نَزَل به الروح المين‪ ،‬إذن فكلها مُلتقية في أن القرآن نَزَل أو أنزِل‪ ،‬أو‬
‫نُزّل‪ .‬وكلمة " نَزَل " تعطينا لمحة‪ ،‬وهو أنه جاء من أعلى‪ ،‬ويستقبله الدنى‪ .‬وساعة يطلب الحق‬
‫منا أن ننصت لنزال حكم يقول لنا عز وجل‪ُ {:‬قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ عَلَ ْيكُمْ }[النعام‪:‬‬
‫‪.]151‬‬
‫ومعنى " تَعاَلوّا " أي ارتفعوا؛ لننا نعيش على الرض‪ ،‬وإياكم أن تشرّع الرض لكم؛ لن تشريع‬
‫الرض إذا لم يكن في ضوء منهج ال فهو حضيض‪ .‬وال يريد تشريعا عاليا‪ ،.‬ول بد لكم من أن‬
‫تتلقوا من السماء أحكامكم؛ حتى ل تتيهوا ول تضلوا في باطل تشريعات ل تدور في إطار منهج‬
‫ال‪.‬‬
‫والحق يقول هنا‪ { :‬وَهَـاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَا َركٌ } وهو قول صادق يصدق على القرآن فقط برغم‬
‫أن كل الكتب السماوية السابقة كانت كتب منهج‪ ،‬وكانت المعجزة منفصلة عن المنهج؛ فمعجزة‬
‫موسى عليه السلم ‪ -‬كما نعرف ‪ -‬هي العصا‪ ،‬ومنهجه التوراة‪ ،‬وعيسى عليه السلم معجزته‬
‫إبراء الكمه والبرص وإحياء الموتى بإذن ال ومنهجه النجيل‪ .‬لكن رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم تميّز بأن معجزته عين منهجه‪ ،‬لن كل دين من الديان السابقة كان لزمن محدود‪ ،‬في مكان‬
‫محدود‪ .‬وجاء صلى ال عليه وسلم بالدين الجامع المانع‪ ،‬لذلك جاءت المعجزة هي المنهج‪ ،‬فلو أن‬
‫معجزته صلى ال عليه وسلم كانت من جنس معجزات النبياء السابقين إل لن القرآن قالها‬
‫وصارت خبرا‪ ،‬وكل منها تليق بالزمن المحدود والمكان المحدود‪.‬‬

‫لكن السلم جاء ليعم كل الزمنة وكل المكنة‪ ،‬ولذلك لزم أن تكون المعجزة مستصحبة للمنهج؛‬
‫حتى يستطيع من يأتي بعد عصر النبوة إلى قيام الساعة أن يقول‪ :‬مُحمد رسول ال وتلك معجزته‪.‬‬
‫والقرآن مُبارك‪ ،‬ونحن في أعرافنا حين نتكلم بالعامية نأتي بالكلمة التي هي من نفْح ونضح‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الستعمالت الفصيحة التي سمعناها‪ ،‬فنجد من يقول‪ :‬وال هذا الكل فيه بركة؛ فهو مصنوع‬
‫لثنين وأكل منه أربعة وفاض وزاد "‪ .‬إذن‪ " ،‬البركة " أن يعطي الشيء أكبر من حجمه المنظور‪.‬‬
‫وبركة القرآن غالبة ومهيمنة‪ ،‬ولو قاس كل إنسان حجم القرآن بحجم الكتب الخرى لوجد حجم‬
‫القرآن أقل‪ ،‬ومع ذلك فيه من الخير والبر والبركات والتشريعات والمعجزات والسرار ما تضيق‬
‫به الكتب‪ ،‬ونجد من يؤلف ويفسر في أجزاء متعددة‪ ،‬ومع ذلك ما استطاع واحد أن يصل إلى‬
‫حقيقة المراد من ال؛ لن القرآن لو جاء وأفرغ عطاءه في القرن الذي عاش فيه الرسول فقل لي‬
‫بال‪ :‬كيف تستقبله القرون الخرى؟! إنه يكون استقبال خاليا من العناية به لنه سيكون كلما‬
‫مكررا‪.‬‬
‫إذن فقد بيّن فيه كل شيء ومنه أخذ كل إنسان وزمان قدر ذهنه‪ ،‬ولو أن القرآن يراد تفسيره لما‬
‫فسّره أحد غير من انفعل له نزولً عليه وهو سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أيستطيع واحد‬
‫بعد ذلك أن يقول شيئا في التفسير؟! إذن لو فسره الرسول صلى ال عليه وسلم لجمّده لنه ل‬
‫يجرؤ أحد أن يأتي بتفسير بعد الرسول‪.‬‬
‫وقد علم الرسول صلى ال عليه وسلم أن عطاءات القرآن ل تتناهى‪ ،‬لذلك لم يفسّره‪ .‬بل أوضح‬
‫بما تطيقه العقول المعاصرة حتى ل ينصرفوا عنه‪ .‬ولو كان القرآن قال‪ :‬إن الرض كرة وتدور‬
‫حول الشمس‪ ،‬أكان يصدقه أحد؟ إن هناك حتى الن من ينكر ذلك‪ .‬ونجد القرآن يشير ويلمح إليها‬
‫إلماحا خفيفا إلى أن تتسع العقول لها‪ .‬فيقول الحق‪ُ {:‬ي َكوّرُ اللّيْـلَ عَلَى ال ّنهَـا ِر وَ ُي َكوّرُ النّـهَارَ‬
‫عَلَى اللّ ْيلِ }[الزمر‪.]5 :‬‬
‫وما دام الليل يأتي وراء النهار‪ ،‬والنهار يأتي وراء الليل في شبه كرة؛ فالذي يأتي عليه الليل‬
‫والنهار شكل الكرة‪ .‬فكأن كلً من الليل والنهار دائر وراء الخر حول كرة‪ ،‬إذن فالحق يعطي‬
‫اللمحة بميزان حتى تتسع العقول للفهم‪ .‬ويقول القرآن‪ {:‬قُل للّهِ ا ْلمَشْرِقُ وَا ْل َمغْرِبُ }[البقرة‪.]142 :‬‬
‫وهذا قول واضح؛ لن كل واحد منا يعرف المشرق والمغرب‪ .‬لكن حين يقول الحق‪َ {:‬ربّ‬
‫ن وَ َربّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ }[الرحمن‪.]17 :‬‬
‫ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ‬
‫أكان يفهمها المعاصر لرسول ال صلى ال عليه وسلم؟ نعم‪ ،‬لنه ساعة ما يقول‪ :‬إن الشمس‬
‫أشرقت من المكان الفلني‪ ،‬وغابت عن مكان آخر‪ ،‬فساعة شروقها عندك تغرب عندي‪ ،‬وساعة‬
‫تغرب عندك تشرق عندي‪ ،‬وهكذا يصير كل مشرق معه مغرب‪ ،‬إذن فقد صدق قول ال } َربّ‬
‫ن وَ َربّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ {‪.‬‬
‫ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ‬

‫ونعلم أن الشمس لها مشرق كل يوم‪ ،‬ومن زار في الصعيد المعبد الذي توجد به ‪ 365‬طاقة ‪-‬‬
‫فتحة ‪ --‬وتطلع الشمس في كل يوم من طاقة معينة ول تطلع من الطاقات الخرى يتأكد من أن‬
‫الشمس لها في كل يوم مشرق‪ .‬إذن هناك مشارق ومغارب‪ ،‬وصدق ال القائل‪ :‬رب المشارق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمغارب‪.‬‬
‫إن القرآن يخاطبنا بأسلوب يحتمله العقل المعاصر‪ ،‬وإذا ما جدّ جديد نجد المر مكنوزا في‬
‫القرآن‪ ،‬ونجد تأويل جديدا ل ينسخ التأويل الخر ولكنه يرتقي به‪.‬‬
‫إذن فرسول ال صلى ال عليه وسلم لم يشأ أن يفسر القرآن التفسير الكامل؛ لنه كان ل بد أن‬
‫يفسّره بما تطيقه العقول المعاصرة له‪ ،‬وإن فسّره بما تطيقه العقول المعاصرة له فمعنى ذلك أنه‬
‫لن يعطي العقول التي تأتي بعد غذاء من القرآن؛ لذلك ترك صلى ال عليه وسلم القرآن دون‬
‫تفسير إل في النزر اليسير‪ .‬وتجد ذلك في آيات الكون‪ ،‬أما في الحكام فالمر محدد‪.‬‬
‫لكن في الشياء التي يتجدد فيها العلم فقد تركها‪ .‬ولذلك قال النبي عليه الصلة والسلم عن‬
‫القرآن‪ " :‬ل تنقضي عجائبه " وكأنه يلفتنا إلى أن عجائبه ل تنقضي ول تنتهي‪ ،‬وكل يوم يعطي‬
‫عجائب جديدة‪ .‬إذن فالقرآن مُبارك بحكم ما هو مكنوز فيه إلى قيام الساعة‪ .‬وأنت تلتفت إلى‬
‫الناس فتجدهم يتعبون في اكتشاف أسرار الكون‪ ،‬وتجد القرآن قد مسّ ما يبحثون عنه مسّا خفيفا‪.‬‬
‫} وَهَـاذَا كِتَابٌ أَن َزلْنَاهُ مُبَا َركٌ ّمصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَ ْيهِ { [النعام‪.]92 :‬‬
‫وساعة تقول‪ " :‬بين يدي الشيء " أي الشيء الذي يسبق‪ ،‬والكتب السابقة هي التي نزلت بين يدي‬
‫القرآن أي قبله‪ ،‬والمقصود بها الكتب المعروفة المشهورة وهي التوراة والنجيل إذ هما الكتابان‬
‫الباقيان إلى الن‪.‬‬
‫والقرآن يصدق الذي بين يديه ول يعني ذلك تصديق المحرّف بل تصديق " الصيل "‪ .‬ولذلك نجد‬
‫عبد ال بن سلم وغيره حينما جاءوا للسلم اعترفوا بذلك‪ ،‬ويقول عبد ال بن سلم لرسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬انشرح صدري للسلم‪ ،‬ولكني أعلم أن اليهود قوم بهت ‪ -‬أي أنهم‬
‫مكابرون ‪ -‬فأنا أريد أن تسألهم عني قبل أن أسلم‪ ،‬فقال رسول ال لهم‪ :‬ما تقولون في عبد ال بن‬
‫سَلَم؟ قالوا‪ :‬حِبْرنا وابن حِبْرنا وشيخنا ورئيسنا‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫فقال الرجل‪ :‬أشهد أن ل إله إل ال وأن مُحمدا رسول ال‪ .‬هنا بدأوا في كيل السباب لسيدنا عبدال‬
‫بن سَلَم فقال‪ :‬ألم أقل لك يا رسول ال إنهم قوم بهت؟‬
‫وقوله الحق‪ّ } :‬مصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَ ْيهِ { أي أنك إذا ما أردت أن تعرف صدق هذه القضية فهات‬
‫ما ل حاجة لهم فيه إلى تكذيبه‪ ،‬وستجد القرآن قد جاء موافقا له‪.‬‬

‫مثال ذلك حين جاء القرآن بالرّجْم‪ .‬هم حاولوا أن يخففوا حكم الرّجْم؛ لن امرأة زنت وأرادوا أن‬
‫حكَم بعدم الرّجم فهذا خير لنا ولها‪ ،‬ومن‬
‫يجاملوها‪ .‬فرفعوا أمرها للنبي وقال بعضهم لبعض‪ :‬إن َ‬
‫العجيب أنهم غير مؤمنين بمحمد بينما يريدون الحُكم منه‪ ،‬فيقول لهم الرسول عليه الصلة‬
‫والسلم‪:‬هاتوا الكتاب‪ ،‬ويأتون بالصحف الموجودة عندهم‪ ،‬فوجدوا آية الرّجْم؛ إذن فالقرآن مُصدق‬
‫الذي بين يديه من غير المكتوم‪ ،‬ول المْحرّف‪ ،‬ول ال ُموّوّل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإذا ما نظرت إلى القضايا التي يلتفتون إليها‪ ،‬ولكنها تكر أمامهم خاطفة‪ ،‬تجد أنت هذه القضايا‬
‫وسيلة يريد ال بها أن يكشف الفساد والكذب والتجبر‪ ،‬حتى ل يطمس أهل الباطل معالم الحق‪.‬‬
‫ومثل هذه القضايا تحتاج إلى المُحقق اللّبق‪ .‬ونجده سبحانه جاء في التوراة بمثل للمة المحمدية‪،‬‬
‫حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ َأشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ‬
‫ويكرر هذا المثل في القرآن حين يقول سبحانه‪ {:‬مّ َ‬
‫حمَآءُ بَيْ َنهُمْ }[الفتح‪.]29 :‬‬
‫رُ َ‬
‫وحين ننظر إلى كلمة " أشدّاء " ‪ ،‬وكلمة " رُحماء " ‪ ،‬نجد في ظاهر المر تناقضا في الطباع‪ ،‬أما‬
‫المدقق المحقق فيعلم من هذا القول أن السلم ل يطبع المسلم على لون واحد؛ لنه يريد منه كل‬
‫اللوان‪ ،‬فلو خلقه شديدا لفقدته مواطن الرحمة‪ ،‬ولو فطره وخلقه رحيما لفقدته مواطن الشدة‪.‬‬
‫والسلم يطلب من المسلم اللتزام بالقيم الروحية والمادية لتحرس كل منهما الخرى؛ لن‬
‫المسلمين لو راحوا للمادة فقط لصارات حضارتهم شرسة‪ ،‬ولو راحوا للقيم لما استطاعوا أن‬
‫يقيموا حضارة تبقى وتدوم‪ ،‬والحق يريد حضارة تجمع بين الثنين؛ الروح والمادة‪ ،‬لذلك يجمع‬
‫السلم بين الثنين؛ الروح والمادة؛ لن اليهود في فهمهم لما افتقدت الروح‪ ،‬والنصرانية في‬
‫فهمهم لها غرقت في الروحانيات وافتقدت المادة‪ ،‬وجاء القرآن مُصدقًا لما بين يديه‪ ،‬وهكذا جاءت‬
‫الية بالبلغ عن أهل الكتاب‪.‬‬
‫ويتابع البلغ لهل قريش قاطني مكة فيقول‪ } :‬وَلِتُنذِرَ أُمّ ا ْلقُرَىا { ‪ ،‬ونعرف أن أم القرى تعني‬
‫مكة‪ ،‬وقد حاول البعض أن يتخذ من هذه الية حُجّة ليقول‪ :‬إن القرآن قد نزل لجماعة العرب‬
‫فقط‪ ،‬ولهؤلء نقول‪ :‬أنتم لم تحسنوا الفهم لمعطيات اللفظ‪ ،‬ولنسأل‪ :‬ما الحَول أولً؟‪ .‬الحول هو‬
‫المحيط الذي حول النقطة‪ ،‬أيّ نقطة وكل نقطة‪ ،‬وحول كل نقطة ُقطْر وقد يكون القطر ‪20‬‬
‫كيلومترا‪ ،‬وقد يكون مائة كيلومتر‪ ،‬وكلما بعدت المساحة فهي حول هذه النقطة‪ ،‬إذن فكلمة الحول‬
‫تشمل كل ما حوله‪ ،‬وحول كل مكان يشمل كل مكان‪.‬‬
‫ولماذا سميت أم القرى؟؛ إما لن " هاجر " لما نزلت بابنها الرضيع بوادٍ غير ذي زرع‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك تكاثر الناس فصارت هي أم القرى‪ ،‬أو لن فيها الكعبة‪ ،‬وكل الناس يؤمّونها‪ ،‬أو لن الحاجّ‬
‫حوَْلهَا‬
‫يأتيها من كل صوب كما يهب ويسرع البناء ويلوذون بأمهم‪ } :‬وَلِتُنذِرَ أُمّ ا ْلقُرَىا َومَنْ َ‬
‫وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ { [النعام‪.]92 :‬‬

‫من ‪ -‬إذن ‪ -‬الذي يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزل مصدقا لما بين يديه لينذر به أم القرى ومن‬
‫حولها‪ ،‬ومن هم الذين يؤمنون بالخرة؟ ولماذا جاء الربط بين أم القرى وما حولها وبين الذين‬
‫يؤمنون بالخرة؟‪ .‬لن أحدا لن يذهب لتعاليم القرآن ليأخذها وينفذها إل من يؤمن بأن هناك يوما‬
‫نذهب فيه جميعا إلى الخرة‪.‬‬
‫لذلك يخاف فيهرب من المعاصي‪ ،‬ويرغب في الطاعة؛ لن هناك ثوابا وعقابا‪ ،‬أما الذي ل يؤمن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالخرة فل يسمعك ول ينصاع ول ينقاد لك حين تأمره بالعفة؛ لنه ل يرى ثوابا أو عقابا ول‬
‫ينتهي عن السرقة أو الكبر أو الموبقات جميعا؛ لنه ل يخاف من الخرة؟‪.‬‬
‫إذا فالذي يملكنا جميعا هو الخرة والخوف منها‪ ،‬ومن ل يؤمن بالخرة يقول أنا غير مُلزم‬
‫بشيء‪ ،‬ول شيء يقيّد حريتي‪ .‬ثم لماذا أقيّد حريتي؟!‬
‫وهنا نقول‪ :‬أنت تأخذ المر بسطحية‪ ،‬فعلى فرض أن في قوانين السماء ما يقيد حريتك‪ ،‬لكنه ل‬
‫يقيد حريتك وحدك‪ ،‬إنه يقيد حرية الكل‪ ،‬فإن قيد حريتك بالنسبة للناس‪ ،‬فهذه القوانين السماوية‬
‫تقيد حرية الناس بالنسبة لك‪ ،‬فحين ينهاك الدين عن السرقة‪ ،‬وعن النظر إلى محارم الغير فهو‬
‫يقول للناس كلها‪ :‬ل تسرقوا من فلن ول تنظروا إلى محارم فلن‪ ،‬وبذلك تأخذ حقك كاملً‪،‬‬
‫وبهذا تعيش في نظام متساوٍ ل تتعب فيه؛ لن الجاري والمطبق عليك جارٍ على غيرك مع‬
‫جريانه عليك‪.‬‬
‫لكن من يؤمنون بالخرة هم كل واحد يريد أن ينجي نفسه من العقاب‪ ،‬ومن الوعيد‪ .‬ويدخل نفسه‬
‫في الوعد وفي الثواب‪ .‬فمثلً ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬حين نقول للولد‪ :‬اذهب لتلقى العلم‪ ،‬قد يرد‪:‬‬
‫أنا ل أريد شهادة‪ ،‬فيجبره والده في البداية أن يستذكر‪ ،‬ثم نجد الشاب بعد مشوار المذاكرة يخاف‬
‫من الرسوب وأن عليه أن يجتهد وأن ينجح‪ .‬أما إن لم يوجد امتحان في آخر العام فالمذاكرة‬
‫وعدمها سواء لديه‪ .‬فمن أقرب ‪ -‬إذن ‪ -‬إلى الستجابة لنداء العدل والخير؟ إنه من يؤمن‬
‫بالخرة‪.‬‬
‫} وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ ُي ْؤمِنُونَ بِ ِه وَهُمْ عَلَىا صَلَ ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ { [النعام‪.]92 :‬‬
‫ولماذا جاء بالحفاظ على الصلة هنا؟‪ .‬نحن نعلم أن الصلة‪ ،‬هي عماد الدين‪ ،‬من أقامها فقد أقام‬
‫الدين‪ ،‬وحين نحلل المر تحليلً طبيعيا نجد أن الناس تنفر من الطاعات لنها تأخذ زمنا يحبون‬
‫أن يقضوه في اللعب‪ ،‬وحين نقول لواحد مثلً‪ :‬اترك عملك وصل‪ .‬قد يرد‪ :‬ل؛ لني حين أترك‬
‫عملي يضيع عليّ كذا‪ .‬ولو كان طبيبا لذكر عددا من مرضى سيكشف عليهم‪ ،‬ولو كان عاملً‬
‫لقال‪ :‬إن توقف اللة في أثناء الصلة يجعلني أخسر كثيرا‪.‬‬

‫وهنا نقول‪ :‬يا أخي تعال إلى الطاعة‪ ،‬والبركة تعوض لك ما تظن أنك تخسره‪ ،‬وإذا نظرت إلى‬
‫أركان السلم تجدها بالنسبة لنشغال الزمن بها ل تأخذ الكثير من الوقت؛ فشهادة أن ل إله إل‬
‫ال مُحمد رسول ال ل تحتاج منك إل إلى أن تقولها مرة واحدة‪ ،‬وهذا ركن لم يستغرق زمنا‬
‫طويلً بالنسبة لدائه‪ ،‬والزكاة ل تأخذ منك إل ما تعطيه يوم الحصاد‪ ،‬وهذا يستغرق وقتا قليل‪،‬‬
‫وكذلك زكاة المال آخر العام‪ ،‬والصوم شهر في السنة‪ ،‬وإذا كان زمن الصوم أوسع قليلً إل أنه‬
‫وقت ل يمر إل كل عام‪ .‬والحج مرة في العمر إن كنت مستطيعا‪.‬‬
‫إذن أنت تجد التكاليف الركنية في السلم بالنسبة للزمان وقتها يسير وقليل لمن يحرص عليها‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكن الصلة تؤدي في كل يوم خمس مرات‪ ،‬ورقعتها بالنسبة للزمن أوسع‪ .‬وأداؤها يحتاج إلى‬
‫طهارة من حدث أو جنابة وكذلك طهارة المكان؛ لذلك جاءت الصلة ركنا أصيلً في السلم‪.‬‬
‫وأنت ل تعرف النسان إن كان مسلما إل إذا سمع الذان وقام يصلي‪ .‬لذلك هي الفارقة بين‬
‫المسلم وغير المسلم؛ لن الركان الخرى أزمانها محصورة‪ ،‬ومع أنها كذلك إل أنها أخذت من‬
‫التشريع حظها من الركنية الصيلة‪.‬‬
‫إنّ كل تشريعات السلم أركانا وفروعا جاءت بالوحي إل الصلة؛ فقد جاءت بالمباشرة؛ لن‬
‫الصلة دعاء الخالق خلقه لحضرته؛ لذلك كان ل بد أن يكون تشريعها بهذه الصورة الفريدة‪،‬‬
‫تشريعا جاء بالحضرة اللهية‪.‬‬
‫وشيء آخر‪ :‬ما دامت الصلة هي العمدة في الدين فكأن الصلة تقول للركان الخرى‪ :‬أنا‬
‫أجمعكم وأضمكم وأشملكم جميعا؛ فالمسلم في أثناء الصلة يقول‪ :‬أشهد أن ل إله إل ال وأن‬
‫محمدا رسول ال‪ .‬والمسلم يصوم في أثناء الصلة عن شهوتي البطن والفرج بل وتكون الصلة‬
‫صوما ل عن الكل والشرب‪ ،‬وشهوة الفرج فقط بل هي إمساك عن كل حركة‪ ،‬وفي الصلة‬
‫زكاة؛ لن الزكاة تعني أن تخرج بعضا من مالك‪ ،‬والمال فرع العمل‪ ،‬والعمل فرع الوقت‪ .‬وأنت‬
‫حين تصلي إنما تزكي بالصل وهو وقت العمل‪ ،‬وأنت في الصلة تتوجه إلى الكعبة كما يتجه‬
‫الحاج والمعتمر‪ ،‬إذن ففي الصلة كل أركان السلم مجتمعة‪.‬‬
‫إذن فأهمية الصلة أنها قد اندمج فيها كل ركان السلم‪ ،‬وبها يتحقق الستطراق الجتماعي‬
‫للخلفة في الرض؛ لن الخلفة في الرض تقتضي مواهب متعددة‪ ،‬وطاقات متعددة‪ ،‬ول يمكن‬
‫لخليفة واحد في الرض أن يكون مجمع هذه المواهب بل ل بد أن تتفرق المواهب في المتفرق‬
‫والشتيت من الناس‪ ،‬فل يمكن أن يكون النسان الواحد مهندسا وطبيبا ومحاميا وصانعا وحارثا‬
‫وزارعا وتاجرا‪ .‬ولذلك وزع ال سبحانه وتعالى مقتضيات الخلفة في الرض على الخلفاء في‬
‫الرض توزيعا يجعل اللتقاء ضروريا وليس تَفضّليا‪ ،‬بحيث تكون أنت في حاجة إلى مواهب‬
‫ليست عندك فتذهب لصاحبها‪.‬‬

‫وصاحبها أيضا يحتاج إلى مواهب عندك ليست عنده فيأتي إليك‪.‬‬
‫وانظروا إذا شاء واحد أن يستغني في بعض الشياء التي يقوم بها الغير كم يتعب؟‪ ،‬فإذا ما أتعبه‬
‫السباكون وآلموه في الجور‪ .‬وحاول تعلم السباكة‪ ،‬ول بد له أن يتعلمها من سباك‪ .‬وكذلك حياكة‬
‫الملبس‪ .‬ومعنى ذلك أن ال أبقى المواهب متفرقة مشتتة في الخلق ليحتاج كل خلق إلى كل‬
‫الخلق‪ .‬والناس ل تنظر إلى جهة التميّز إل إلى شيء واحد هو‪ :‬الغِنى‪.‬‬
‫ونقول الغِنى المالي أو العقاري هو نوع فقط من المواهب؛ لنك مثلً إذا نظرت إلى العَالِم الذي‬
‫يظل عشرين عاما يستوعب العلم‪ ،‬ثم يقابله من يستفتيه في فتوى فيقولها له مجانا‪ ،‬ولو علم هذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السائل ماذا تكلف الستاذ الذي أفتاه طوال عشرين سنة بحثا في الكتب وسماعا من الساتذة‬
‫واستنباطا من الحكام لدفع مكافأة لهذه الفتوى؛ لن العالِم كان مُسخرا لمدة عشرين عاما لتأخذ‬
‫أنت الفتوى في نضجها النهائي في يسر وسهولة وتنتفع بها‪.‬‬
‫وحين نرى من يمسح الحذاء‪ ،‬ونجد صاحب الحذاء وهو يمد وهو يمد رجله والخر يمسح الحذاء‬
‫تقول لنفسك‪ :‬لماذا كل هذا الزهو لصاحب الحذاء‪ ،‬ولماذا هذا النكسار لماسح الحذية؟‪ .‬وأقول‪:‬‬
‫أنت رأيت صاحب الحذاء وقت راحته‪ ،‬ورأيت ماسح الحذية وهو في وقت عمله‪ .‬ولو عرفت‬
‫كيف جاء صاحب الحذاء بالنقود التي سيدفعها لماسح الحذية لعلمت أنه كان مسخرا له ساعة كان‬
‫ضهُم َبعْضا‬
‫يعمل ليحصل على النقود ليعطي مها ماسح الحذية‪ ،‬ولذلك قال الحق‪ {:‬لّيَتّخِذَ َب ْع ُ‬
‫سخْرِيّا }[الزخرف‪]32 :‬‬
‫ُ‬
‫والناس ل تنظر في التسخير إل للغني والفقير‪ ،‬ونقول‪ :‬خذوا التسخير على أن كل واحد في الكون‬
‫مُسخّر في الموهبة التي عنده‪ ،‬ومُسخّر له في المواهب التي ليست عنده‪ .‬وأراد الحق سبحانه‬
‫وتعالى أن يربط الناس بهذا ربطا قسريا وليس تفضّليا؛ لن من عنده أولد يريدون أن يأكلوا‬
‫طعَم ول يملك نقودا‪ ،‬وليس أمامه من عمل سوى نزح المجاري‪ ،‬فيأتي‬
‫وامرأة تحتاج إلى أن َت ْ‬
‫بأدوات نزح المجاري‪ ،‬ويؤدي العمل ليعول من يعولهم‪ ،‬ولول ارتباطه بضرورة الحياة له ولمن‬
‫يعول لما عمل في مثل هذا العمل‪ ،‬إذن فهو مربوط ربطا ضروريا ليؤدي خدمة في الكون‪ .‬ولو‬
‫كان كل البشر يعيشون في رغد العيش أكان هناك من يتطوع لينزح المجاري؟ ل يحدث ذلك أبدا‪،‬‬
‫لنه عمل ل يأتي بالتفضل بل بالحتياج‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن الخلفة في الرض تقتضي استطراقا‪ ،‬وهذا الستطراق ل يدوم كثيرا؛ فمرة تكون‬
‫القوة لنسان ثم تذهب منه‪ ،‬ومرة يكون الثراء لنسان ثم ينحسر عنه هذا الغِنى‪ ،‬ولذلك أخبرنا‬
‫الحق أنه جعل اليام ُد َولً بين الناس ليستقيم العالم بارتباط الضرورة في بعض العمال‪ ،‬وإن بدا‬
‫لنا أن هناك مواهب تميز بين الناس في شكلهم‪ ،‬وفي هندامهم‪ ،‬وفي مطيتهم‪ ،‬تجد الطبيب يعمل‬
‫في أكثر من مكان‪ ،‬وإن سار على رجليه لتعب‪ ،‬لذلك يشتري سيارة‪ ،‬ويظن من يراها أن السيارة‬
‫امتياز ل مثيل له‪ ،‬متناسيا أن هذه السيارة تقضي مصالح الرجل ليخدم الخرين‪.‬‬

‫مثال آخر‪ :‬أنت إن نظرت إلى كوب الشاي الذي تشربه بمزاج وليس لضرورة حيوية‪ ،‬وإن جاءك‬
‫من يقدم لك الشاي ليقول‪ :‬إن الشاي قد نفد من المقهى‪ ،‬فتعطيه جنيها وتقول‪ :‬هات كيسا من‬
‫الشاي من عند البقال‪ ،‬ويذهب الغلم ليحضر علبة الشاي فيجد البقال وكأنه قد جهزها له‪ ،‬وأنت ل‬
‫تعرف أن علبة الشاي هذه قد أخذت وقتا وعمل من اثنين أو ثلثة لتصل إليك؛ لن الحق قد كلف‬
‫أناسا ليزرعوا الشاي في بعض البلد‪ ،‬وأناسا آخرين يستوردونه‪ ،‬ثم تأتيك علبة الشاي لتصنع‬
‫منها كوبا لتشربه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن فمسألة كلها تسخيرات؛ لذلك توجد الفوارق الجتماعية التي تقتضيها أعمالنا‪ ،‬ويذيب الحق‬
‫هذه الفوارق بأن جعل في الصلة استطراقا للجميع‪ ،‬وتلتفت ساعة يقول المؤذن‪( :‬ال أكبر) أن‬
‫الكل قد جاء‪ ،‬الغني قبل الفقير‪ ،‬والخفير مع المير‪ ،‬ويخلع الجميع أقدارهم خارج المسجد مع‬
‫نعالهم ليتسا َووْا في الصلة‪ ،‬ومن له رئيس يتكبر عليه يراه وهو ساجد مثله ل‪ ،‬فتريحه لحظة‬
‫استطراق العبودية‪.‬‬
‫ولنفرض أن كلً منا سيصلي بمفرده في الصلة اليومية‪ ،‬لكن عندما يؤذن المؤذن لصلة الجمعة‪،‬‬
‫يأمرنا الحق أن َنذَر ونترك كل شيء لنؤدي صلة الجمعة معا‪ .‬ويرى الضعيف عظيما يتضرع‬
‫مثله إلى ال‪ ،‬ويرى القوي نفسه بجانب الضعيف‪ ،‬وحين يعود كل منا إلى عمله تسقط أقنعة القوة‬
‫والزهو؛ لننا جميعا نقف أمام خالق واحد وكلنا سواء‪.‬‬
‫إن هذا هو الستطراق الجتماعي؛ لننا حين نرقب بعضنا في أثناء الصلة نجد أنفسنا في حضرة‬
‫الرّب الذي أعد لنا الكون‪ ،‬وسخّره لنا‪ ،‬وأعطانا الطاقات‪ ،‬وأعطانا المواهب‪ ،‬وإذا تأملنا واحدا له‬
‫وظيفة كبيرة جدا‪ ،‬فأنت حين ترغب في لقائه تكتب التماسا‪ ،‬ويُنْظَر في اللتماس‪ ،‬فإمّا أن يوافقوا‬
‫وإمّا ل يوافقوا على لقائك به‪ .‬وإن وافقوا يسألوك‪ :‬في أي أمر ستتكلم؟ وسيُحدد لك الوقت الذي‬
‫ستجلس فيه معه وليكن ثلث دقائق مثل‪ ،‬وحين تجلس إليه وتنسى نفسك يقوم هو ليدلك على أن‬
‫المقابلة انتهت‪ ،‬لكن ربنا يقول لنا‪ :‬تعالوْا لي في أي وقت‪ ،‬وكلموني في أي شيء‪ ،‬وأنا ل أملّ‬
‫حتى تملّوا‪ ،‬وأنتم يا عبيدي مَنْ تنهون المقابلة‪ ،‬وهذا عطاء كثير جدا‪ .‬يغدقه المولى عزوجل على‬
‫عباده‪.‬‬
‫فهل هناك ربوبية أفضل من هذه؟‪.‬‬
‫إذن فالصلة إذا نظرت إليها وجدت أنها‪ :‬جماع كل فضائل الدين وفيها كل الفضائل للمجتع "؛‬
‫لذلك جعلها ال عماد الدين‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَىا‪{ ...‬‬

‫(‪)872 /‬‬

‫شيْ ٌء َومَنْ قَالَ سَأُنْ ِزلُ مِ ْثلَ مَا‬


‫ي وَلَمْ يُوحَ إِلَ ْيهِ َ‬
‫حيَ إَِل ّ‬
‫علَى اللّهِ كَذِبًا َأوْ قَالَ أُو ِ‬
‫َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى َ‬
‫سكُمُ الْ َيوْمَ‬
‫سطُو أَيْدِيهِمْ أَخْ ِرجُوا أَ ْنفُ َ‬
‫ت وَا ْلمَلَا ِئكَةُ بَا ِ‬
‫غمَرَاتِ ا ْل َموْ ِ‬
‫أَنْ َزلَ اللّ ُه وََلوْ تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ فِي َ‬
‫ق َوكُنْتُمْ عَنْ آَيَا ِتهِ تَسْ َتكْبِرُونَ (‪)93‬‬
‫حّ‬‫تُجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ ِبمَا كُنْتُمْ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْ َ‬

‫ساعة يأتي الحق بأسلوب استفهامي فليس الهدف أن يستفهم‪ .‬إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ل يريد ان يأتي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الخبر من عنده‪ ،‬وهو يقدر أن يقول‪ :‬الذي يفتري ظالم‪ ،‬لكنه هنا يأتي بالستفهام الذي يؤكد أنه ل‬
‫يوجد أظلم من الذي يفتري على ال كذبا‪ ،‬ويعرض ال القضية على المؤمنين وكأنه يسأل ليعوض‬
‫كل مؤمن القضية على ذهنه ويستنبط الجواب‪ .‬إن الذي يفتري على زميله والمثيل له كذبا نُوقِع‬
‫به العقاب‪ ،‬فما بالك بمن يفتري على ال؟ وحين تسمع أنت هذا الكلم‪َ { :‬ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا‬
‫عَلَى اللّهِ َكذِبا }‪ .‬وتستعرض المر فل تجد أظلم منه‪ ،‬وهكذا يستخرج ال الحكم من فَم المقابل‪.‬‬
‫وكيف يفتري إنسان الكذب على ال؟ كأن يبلغ الناس ويدّعي ويقول‪ :‬أنا نبي وهو ليس كذلك‪ .‬هنا‬
‫تكون الفرية على ال‪ ،‬وإياك ان تظن أنه يكذب على الناس‪ ،‬ل‪ ،‬إنه يكذب على ال؛ لنه أبلغ أن‬
‫ال قد بعثه وهو لم يبعثه‪.‬‬
‫و " الفتراء "‪ :‬كذب مُتعمّد مقصود‪ ،‬وينطبق ذلك على النبوات التي ادعيت؛ من مثل مسيلمة‬
‫الكذاب‪ ،‬سجاح‪ ،‬طليحة السدي‪ ،‬السود العنسي؛ كل هؤلء ادعوا النبوة‪ ،‬ومع ذلك لم يسألهم أحد‬
‫عن المعجزة الدالة على نُبوّتهم؛ لن كل واحد منهم عندما أعلن نبوته جاء بما يُخفّف عن الناس‬
‫أحكام الدين‪.‬‬
‫فواحد قال‪ :‬أنا أخفف الصلة‪ ،‬والزكاة ل داعي لها‪ .‬لذلك تبعهم كل من أراد أن يتخفف من أوامر‬
‫الدين ونواهيه‪ ،‬موهما نفسه بأنه مُتدين‪ ،‬دون أن يلتزم بالتزامات التدين‪ ،‬وهذا هو السبب في أن‬
‫أصحاب النبوات الكاذبة‪ ،‬والدعاءات الباطلة يجدون لهم أنصارا من المنافقين؛ فالواحد من هؤلء‬
‫التباع قد يكون مثقفا ثم يصدق نبيا دجالً‪ ،‬وتسأل التابع للدجال وتقول له‪ :‬أسألت مدّعي النبوة‬
‫هذا ما معجزتك؟ ‪ -‬وهذا أول شرط في النُبوّة ‪ -‬ولم نجد أحدا سأل هذا السؤال قط‪ ،‬لماذا؟‬
‫لن التدّين فطرة في النفس‪ ،‬ولكن الذي يصعّب التدين هو اللتزامات التي يفرضها التدين‪،‬‬
‫وعندما يرى التابع الضعيف النفس أن هناك من يُريحع من اللتزامات الدينية‪ ،‬ويفهمه أنه على‬
‫دين‪ ،‬ويقلل اللتزامات عليه‪ ،‬لذلك يتبعه ضعاف النفوس‪ ،‬وتصبح المسألة فوضى‪.‬‬
‫ي وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ } [النعام‪]93 :‬‬
‫حيَ إَِل ّ‬
‫{ َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا َأوْ قَالَ ُأوْ ِ‬
‫هناك من ادعى وقال‪ :‬أنا نبي‪ ،‬وقال‪ :‬سأنزل مثل هذا القرآن‪ ،‬فماذا قال هذا المدّعي وهو " النضر‬
‫بن الحارث " يقول ‪ -‬في أمة أذنها أذن بلغية‪ ،‬تتأثر بموسيقى اللفظ ‪ " :-‬والطاحنات طحنا‬
‫والعاجنات عجنا والخابزات خبزا "!! ولماذا لم يأت بالمسألة من أولها ويقول‪ " :‬والزارعات زرعا‬
‫والحارثات حرثا " ثم يقول مَن ادعى أنه أوحي إليه‪ " :‬والعاجنات عجنا والخابزات خبزا " ‪ ،‬وكان‬
‫عليه أن يتبعها أيضا‪ " :‬والكلت أكل والهاضمات هضما "‪.‬‬

‫وطبعا كان هذا الكلم لونا من هراء فارغ؛ لن الحق إنما أنزل كلمه موزونا جاذبا لمعانٍ لها‬
‫شيْءٌ { ‪ " ،‬وقد جاء‬
‫ي وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ َ‬
‫حيَ إَِل ّ‬
‫قيمتها في الخبر‪ ،‬ولذلك نزل القول الحق‪َ } :‬أوْ قَالَ ُأوْ ِ‬
‫واحد هو عبدال بن سعد بن أي سرح القرشي وكان أخا لسيدنا عثمان من الرضاعة وكان كاتبا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم وقعد في حضرة النبي‪ .‬فنزلت الية‪ } :‬وََلقَدْ خََلقْنَا الِنْسَانَ مِن‬
‫ضغَةً‬
‫طفَةَ عََلقَةً َفخََلقْنَا ا ْلعََلقَةَ ُم ْ‬
‫طفَةً فِي قَرَارٍ ّمكِينٍ * ثُمّ خََلقْنَا النّ ْ‬
‫جعَلْنَاهُ ُن ْ‬
‫سُلَلَةٍ مّن طِينٍ * ُثمّ َ‬
‫سوْنَا ا ْلعِظَامَ لَحْما ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ { [المؤمنون‪.]14-12 :‬‬
‫ضغَةَ عِظَاما َف َك َ‬
‫فَخََلقْنَا ا ْل ُم ْ‬
‫وانبهر بالطوار التي خلق فيها الحق النسان فقال‪ } :‬تبارك ال أحسن الخالقين {‪ .‬فقال له رسول‬
‫ال‪ :‬اكتبها فقد نزلت‪ .‬واغْترّ الرجل وقال‪ :‬إن كان محمدٌ صادقا لقد أوحى إليّ كما أوحي إليه؛‬
‫وإن كاذبا لقد قلت كما قال‪ :‬فأهدر رسول ال دمه‪ .‬وقال لصحابته‪ :‬من رآه فليقتله‪ .‬وفي عام الفتح‬
‫جاء به عثمان رضي ال عنه‪ ،‬وقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬اعف عن عبدال‪ ،‬فسكت رسول ال‪ .‬قال‬
‫عثمان رضي ال عنه‪ :‬اعف عنه‪ .‬فسكت رسول ال‪ .‬وكررها ثالثا‪ :‬اعف عنه يا رسول ال‪ .‬فقال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬نعم‪.‬‬
‫وكان لسيدنا عثمان منزلة خاصة عند رسول ال‪ ،‬وأشار الرسول لسيدنا عثمان بن عفان‪ ،‬فأخذ‬
‫الرجل وانصرف‪ ،‬فلما انصرف قال الرسول لصحابته‪ :‬ألم أقل لكم من رآه فليقتله؟ قال سيدنا‬
‫عباد بن بشر‪ :‬يا رسول ال لقد جعلتُ إليك بصري ‪ -‬أي وجّهت عيني لك ‪ -‬لتشير عليّ بقتله‪،‬‬
‫فقال رسول ال لعباد بن بشر‪ " :‬ما ينبغي لرسول أن تكون له خائنة العين " وأسلم ابن أبي سرح‬
‫وحسن إسلمه "‪.‬‬
‫ومن قال سأنزل مثل ما أنزل ال‪ ،‬ما هي عقوبات هؤلء الذين يفترون على ال الكذب‪،‬‬
‫ويحاولون التغرير بالناس مدّعين أن ال أنزل عليهم وحيا؟‬
‫غمَرَاتِ ا ْل َم ْوتِ وَا ْلمَل ِئكَةُ بَاسِطُواْ أَ ْيدِيهِمْ َأخْرِجُواْ‬
‫يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََلوْ تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ فِي َ‬
‫علَى اللّهِ غَيْرَ ا ْلحَقّ َوكُنْتُمْ عَنْ آيَا ِتهِ تَسْ َتكْبِرُونَ‬
‫سكُمُ الْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ ِبمَا كُنتُمْ َتقُولُونَ َ‬
‫أَ ْنفُ َ‬
‫{ [النعام‪.]93 :‬‬
‫وساعة تسمع " لو " هذه تعرف أنها شرطية‪ ،‬وأنت تقول ‪ -‬مثل ‪ -‬لو جاءني فلن لكرمته‪.‬‬
‫وحين تقرأ القرآن نجد كثيرا من " لو " ليس لها جواب‪ ،‬لماذا؟ لن التيان بالجواب يعني حصر‬
‫الجواب الذي ل يمكن للفظ أن يحصره فأنت تتركه للسامع مثلما تجد شابا يلعب دور الفتوة في‬
‫الحارة ويتعب سكانها‪ ،‬ثم وقع في أيدي الشرطة وأخذوه ليعاقبوه‪ ،‬فيقول واحد ممن رأوه من قبل‬
‫وهو يرهق أهل الحارة‪ :‬آه لو رأيتم الولد الفتوة وهو في يد الشرطة!‬
‫أين جواب الشرط هنا؟ إنه ل يأتي؛ لنه يتسع لمر عجيب يضيق السلوب عن أدائه‪.‬‬

‫غمَرَاتِ ا ْل َموْتِ { ولم يقل لي‪ :‬ماذا‬


‫والحق سبحانه وتعالى يقول هنا‪ } :‬وََلوْ تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ فِي َ‬
‫ترى؟ لنك سترى عجبا ل يؤديه اللفظ‪ .‬و " الغمرات " هي الشدة التي ل يستطيع النسان منها‬
‫فكاكا ول تخلصا‪.‬‬
‫سكُمُ { فهل هم ملئكة الموت الذين يقبضون‬
‫ويتابع الحق‪ } :‬وَا ْلمَل ِئكَةُ بَاسِطُواْ أَ ْيدِيهِمْ َأخْرِجُواْ أَ ْنفُ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الروح؟ أو الكلم في ملئكة العذاب؟ إنها تشمل النوعين‪ :‬ملئكة قبض الروح وملئكة العذاب‪.‬‬
‫سكُمُ { كأن ملئكة قبض الروح تقول لهم‪ :‬إن كنتم متأبّين‬
‫} وَا ْلمَل ِئكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِي ِهمْ أَخْ ِرجُواْ أَ ْنفُ َ‬
‫على ال في كثير من الحكام لقد تأبّيتم على ال إيمانا‪ ،‬وتأبّيتم على ال أحكاما‪ ،‬وتأبّيتم على ال‬
‫في تصديق الرسول‪ ،‬فهاهو ذا الحق قد أمرنا أن نقبض أرواحكم‪ ،‬فهل أنتم قادرون على التمرد‬
‫على مرادات الحق؟ إن كنتم كذلك فليظهر كل منكم مهارته في التأبّي على قبض روحه‪ ،‬أو أن‬
‫الملئكة يبالغون في النكاية بهم كأن نقول لواحد‪ :‬اخنق نفسك وأخرج روحك بيديك أو‪ :‬أخرجوا‬
‫أنفسكم من العذاب الذي يحيق بكم‪.‬‬
‫" وعذاب الهون " هو العذاب المؤلم وفيه ذلة‪ .‬وأساليب العذاب في القرآن متعددة‪ ،‬فيقول مرة‪" :‬‬
‫من العذاب المهين " أو وأعد لهم " عذابا مهينا " أو ولهم " عذاب أليم " فمرة يكون العذاب مؤلما‬
‫لكن ل ذلة فيه‪ ،‬ومرة يكون العذاب مؤلما وفيه ذلة‪ .‬وكما أن النعمة فيها تعظيم فالنقمة فيها ذلة‪.‬‬
‫وأضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى‪ ،‬فال سبحانه منزّه عن أي تشبيه ‪ :-‬قد نجد حاكما يعتقل‬
‫إنسانا ويأمر بأن يجلس المعتقل في قصر فخم وله حديقة‪ ،‬لكن حين يأتيه الطعام‪ ،‬يقول له‬
‫الحارس‪ :‬خذ اتسمم‪ ،‬وفي ذلك إهانة كبيرة‪.‬‬
‫ولماذا يذيقهم الحق العذاب المهين؟ تأتي الجابة من ال‪ِ } :‬بمَا كُنتُمْ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ ا ْلحَقّ‬
‫َوكُنْتُمْ عَنْ آيَا ِتهِ تَسْ َتكْبِرُونَ {‪ .‬كأن يقول واحد‪ :‬أوحي إلي ولم يوح إليه شيء‪ .‬وهم أيضا‬
‫حدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَتْهَآ‬
‫يستكبرون على اليات التي يؤمن بها العقل الطبيعي‪ ،‬ويقول الحق‪َ {:‬وجَ َ‬
‫سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا }[النمل‪.]14 :‬‬
‫أَنفُ ُ‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَىا‪{ ...‬‬

‫(‪)873 /‬‬

‫ظهُو ِركُ ْم َومَا نَرَى َم َعكُمْ‬


‫خوّلْنَاكُ ْم وَرَاءَ ُ‬
‫خَلقْنَاكُمْ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَتَ َركْتُمْ مَا َ‬
‫وَلَقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَى َكمَا َ‬
‫عمُونَ (‪)94‬‬
‫عمْتُمْ أَ ّن ُهمْ فِيكُمْ شُ َركَاءُ َلقَدْ َتقَطّعَ بَيْ َن ُك ْم َوضَلّ عَ ْنكُمْ مَا كُنْ ُتمْ تَزْ ُ‬
‫ش َفعَا َءكُمُ الّذِينَ زَ َ‬
‫ُ‬

‫وقوله الحق‪ { :‬وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَىا } أي أن كلّ منكم يأتي إلى ال فردا عما كان له في دنياه من‬
‫مال أو ولد أو أتباع‪ ،‬جاء كل منهم ل وليس معه الصنام التي أدّعى أنها شركاء ل‪ ،‬واتخذهم‬
‫شفعاء له‪ .‬و " فرادى " جمع " ف ْردَان " أو " فريد " مثل " سكارى " جمع " سكران " و " أسارى "‬
‫جمع " أسير " ‪ ،‬إنهم يأتون إلى ال زُمرا وجماعات‪ ،‬ولكن كل منهم جاء منفردا عما كان له في‬
‫ظهُو ِركُمْ }‪.‬‬
‫خوّلْنَاكُ ْم وَرَاءَ ُ‬
‫الدنيا من مال وأهل وولد وأتباع‪ ،‬بدليل أنه قال‪ { :‬وَتَ َركْتُمْ مّا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫و " خوّله " أي جعل له خَ َدمًا من التباع ومن المريدين‪ ،‬ومن المقّدر والمضيّق عليهم في الرزق‬
‫ومن العائشين في نعمته‪ ،‬جاء كل منهم منفردا عما له في الدنيا كما خلقكم ال أول مرة‪ ،‬أي كما‬
‫دخلتم في الدنيا! { وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَىا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ } [النعام‪.]94 :‬‬
‫وقوله الحق‪ " :‬جئتمونا " أي كأن النسان الذي أذنب يكاد يقدم نفسه للعذاب معترفا أنه يستحق هذا‬
‫العذاب إقرارا منه بالذنب‪ ،‬فكأن النسان يبلغ منه الحزن على ما فعله والتوبيخ لنفسه التي‬
‫انصرفت عن الحق فيقول لنفسه‪ :‬أنت تستحقين العذاب‪.‬‬
‫عمْتُمْ أَ ّنهُمْ فِيكُمْ شُ َركَآءُ َلقَد‬
‫ش َفعَآ َءكُمُ الّذِينَ زَ َ‬
‫ظهُو ِركُ ْم َومَا نَرَىا َم َعكُمْ ُ‬
‫خوّلْنَاكُ ْم وَرَاءَ ُ‬
‫{ وَتَ َركْتُمْ مّا َ‬
‫ّتقَطّعَ بَيْ َنكُمْ } [النعام‪.]94 :‬‬
‫و " البيْن " هو ما يفصل أو ما يصل‪ .‬فعندما نجد اثنين قاعدين وبينهما " بين " فهذا البين فاصل‬
‫وواصل‪ .‬فإن اعتبرته واصلً‪ ،‬أقول‪ :‬تقطّع هذا‪ ،‬أي وقع التقطع بينكما‪ ،‬وانفصمت الروابط بينكم‬
‫وتشتت جمعكم‪ ،‬وإن كان البين فاصل فقد وصلوا أنفسهم بالصنام‪.‬‬
‫وماذا كانت صلة هؤلء بالصنام التي يشركونها في العبادة؟ كانوا يقدمون لها القرابين‪ ،‬وغير‬
‫ذلك‪ .‬وهذه الصنام وكل من جعلوه شريكا مع ال سيفر منهم يوم القيامة‪ .‬وهكذا يتحقق قوله‬
‫الحق‪َ { :‬لقَد ّتقَطّعَ بَيْ َنكُمْ }‪.‬‬
‫عمُونَ } ‪ ،‬و " ضلّ " أي تاه وغاب‪ ،‬ما كنتم تبحثون‬
‫ضلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْ ُ‬
‫ويواصل سبحانه‪ { :‬وَ َ‬
‫عنهم فل تجدونهم مصداقا لقوله الحق‪ {:‬إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ }[البقرة‪.]166 :‬‬
‫حبّ‪} ...‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ { :‬إِنّ اللّهَ فَاِلقُ الْ َ‬

‫(‪)874 /‬‬

‫حيّ ذَِلكُمُ اللّهُ فَأَنّى ُت ْؤ َفكُونَ‬


‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ َومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ ا ْل َ‬
‫ب وَال ّنوَى ُيخْرِجُ ا ْل َ‬
‫ح ّ‬
‫إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْ َ‬
‫(‪)95‬‬

‫بعد ما تكلم الحق عن التوحيد والنبوات‪ ،‬ومن كانوا يعاكسون ويعارضون ويناوئون تلك النبوات‬
‫ويكذبونها وقالوا فيها الفك أراد ال أن يلفت خلقه إلى ما أعده لهم استبقاء لحياتهم‪ ،‬وكيف سخّر‬
‫لهم كل الكون بما فيه‪ ..‬جمادا ونباتا وحيوانا‪ ،‬وكأنه سبحانه يوضح‪ :‬إن كنت ل ترى أن الخالق‬
‫يستحق عبادتك فانظر إلى ما انعم عليك به من النعم‪ ،‬ومادام العبد المخلوق له كل نعم الخالق‬
‫العلى فلماذا ل يسمع كلمته سبحانه؟ أيها المخلوق أنت تتربى على مائدة الرحمن وهو خالقك‬
‫فانظر وتأمل واعرف‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حبّ وَال ّنوَىا } وساعة تسمع لفظ الجللة‪ :‬أي علم واجب الوجود وهو ال‪ ،‬فعليك‬
‫{ إِنّ اللّهَ فَاِلقُ ا ْل َ‬
‫أن تأخذ لفظ الجللة بكل ما يدل عليه من صفات الجلل وصفات الجمال ما عرفته وما لم تعرفه؛‬
‫لنه سبحانه خلق الكون كله وهو قيّوم عليه‪ ،‬وهذا الخلق وتلك القيّومية فعل يقتضي صفات‬
‫متعددة تقتضي قدرة‪ ،‬وحكمة‪ ،‬وعلما واسعا ورحمة‪ ،‬وبسطا وقبضا وغير ذلك‪ ،‬وبدلً من أن يأتي‬
‫لك بصفات القدرة‪ ،‬وصفات الجمال ويذكرها ويعددها لك يقول سبحانه عن نفسه‪ " :‬ال "؛ لنه‬
‫السم الجامع لكل صفاته‪ .‬ونحن نقول في بدء كل عمل‪ :‬بسم ال‪ ،‬وفي ذلك إيجاز لما يحتاج إليه‬
‫أي عمل‪ ،‬لن أي عمل يحتاج إلى قدرة‪ ،‬فتقول‪ :‬باسم القادر‪ ،‬ويحتاج إلى علم فتقول‪ " :‬باسم‬
‫العليم " ويحتاج إلى حكمة فتقول‪ " :‬باسم الحكيم " ويحتاج عزة فتقول‪ " :‬باسم العزيز " وقد تحتاج‬
‫إلى قهر عدوك لنك قد تدخل معه في حرب فتقول‪ " :‬باسم القاهر " إذن كل عمل يحتاج إلى حشد‬
‫من صفات الكمال والجلل يخدم الفعل‪ ،‬فبدلً من أن يقول باسم القادر وباسم الحليم وباسم العليم‬
‫وباسم القابض‪ ،‬يوفر عليك سبحانه كل ذلك فتقول‪ :‬بسم ال‪ ،‬لن اسم الجللة وهو " ال " هو‬
‫الجامع لكل صفات الكمال‪.‬‬
‫حبّ وَال ّنوَىا } ‪ ،‬فالق أي شاقق‪ ،‬جاعل الحب والنوى كل منهما فلقتين‪ " .‬الحب "‬
‫{ إِنّ اللّهَ فَاِلقُ ا ْل َ‬
‫ما ل نواة له مثيل الشعير والقمح والرز‪ .‬وهناك ما له نوى مثل البلح والخوخ‪ ،‬وتجد في قلب‬
‫النواة شيئا آخر‪ .‬وهناك نوع آخر له بذور مثل البطيخ‪ ،‬وفي كل بذرة تجد فيها شيئا‪ ،‬فيوضح لك‬
‫الحق سبحانه وتعالى‪ :‬إن عظمتي تتجلّى في أنني أخلق الحب وأخلق النوى‪ ،‬وهناك حبوب مفلوقة‬
‫جاهزة‪ ،‬مثل حبة الفول مثلً وحبة العدس‪.‬‬
‫وأنت إذا ما نظرت إلى هذه العملية وجدت شيئا عجبا!!‬
‫فحين تأتي لنواة البلح أو حبة الشعير‪ ،‬وتضعها في الرض في بيئة استخراجها‪ ،‬وبقليل من‬
‫الرطوبة‪ ،‬تجد الفلقتين قد خرج منها نبتة وتكاد النواة أن تنفلق ليخرج منها الزبان الضعيف بين‬
‫الفلقتين‪ ،‬وإن نزعت هذا الجذير تنتهي الحياة‪.‬‬

‫ولذلك وجدنا من يتعجب حين اقتحم أعشاش النمل ووجد في العش قطعا صغيرة مفتتة بيضاء‬
‫بجانب العش‪ ،‬واكتشفوا أن هذه هي زبانات الحب الذي يدخله النمل للعش‪ ،‬فلو أن النمل أدخل‬
‫الحبوب كاملة فقد تأتي لفحة من رطوبة فتكبر هذه الحبة‪ ،‬وتنمو وتصير شجرة تفتك بالعش‪ ،‬فمن‬
‫الذي هدى النمل إلى أن تفعل هكذا؟ إنه ال‪ .‬ونجد النمل يفلق حبة نبات " الكزبرة " إلى أربع قطع‬
‫سوّىا * وَالّذِي قَدّرَ‬
‫لنه لو قطعها إلى اثنتين قد تنبت‪ ،‬من الذي علمه؟ إنه سبحانه‪ {:‬الّذِي خَلَقَ َف َ‬
‫َفهَدَىا }[العلى‪.]3-2 :‬‬
‫والعجيب أنك حين ترى النبتة الضعيفة ساعة أن تخرج إلى الحياة وهي التي ستكون من بعد ذلك‬
‫جذرا إنها هشة وضعيفة إن أمسكتها بيدك تسحقها‪ ،‬لكنها تخترق قلب الرض الصلبة التي لو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضربتها بسكين لنكسرت السكين‪ ،‬لكن الجذير الضعيف يدخل في قلب الصخر والرض‪ ،‬فأي‬
‫قوة أعطته ذلك؟ أي قوة تخرق له الرض؟ وهل الجذير هو الذي خرق الرض أو خُ ِرقَت له؟ لقد‬
‫حبّ‬
‫خرق الحق الرض للبذرة لتستخرج منها غذاء للزرع‪ ،‬إنّها قدرة الحق سبحانه } فَالِقُ الْ َ‬
‫{ الذي ادخر في فلقتين اثنتين قوتا للنبات إذا مسته رطوبة تتغذى عليها الزريعة إلى أن تربى‬
‫الجذور‪ ،‬ويستمد النبات غذاءه من الفلقتين إلى أن يثبت ويتمكن في الرض ثم تتحور الفلقتان إلى‬
‫ورقتين خضراوين‪.‬‬
‫حيّ {‪ .‬وحين تامل العلماء هذا‬
‫ت َومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ ا ْل َ‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ‬
‫ويتابع الحق سبحانه‪ } :‬يُخْرِجُ الْ َ‬
‫القول وأرادوا أن يوضحوا لنا ما الحي؟ وما الميت؟‬
‫فات الجميع أن يعرفوا ما هي الحياة؟ الحياة هي قيام الموجود بما يؤدي به مهمته‪ ،‬فحياة النسان‬
‫فيها حركة وحس وجري‪ ،‬ثم هناك حياة ثانية في الحيوان‪ ،‬وحياة ثالثة في النبات‪ ،‬وحياة ذات‬
‫طابع مختلف في الجماد‪ .‬مثلما علمونا في المدارس حين كان المدرس يمسك بقضيب ممغنط‬
‫ليجذب برادة الحديد‪ ،‬حتى الحديد الصلب فيه لون معين من الحياة‪ .‬وكلنا رأينا في المدارس‬
‫النبوية الزجاجية التي وضعوا فيها برادة الحديد وكيف تتأثر بقضيب المغناطيس‪ .‬وتعتدل وتصير‬
‫في مستوى واحد‪ ،‬وهكذا نعرف أن الحياة هي الطاقة الموجودة في كل كائن ليؤدي مهمته حتى‬
‫الحجار تختلف فيها أشكال الحياة‪ ،‬فهناك حجر يأخذ شكل الرخام‪ ،‬وآخر المرمر‪ ،‬وكل لون من‬
‫الحجار له شكل من أشكال الحياة‪.‬‬
‫حيّ عَن بَيّنَةٍ }[النفال‪.]42 :‬‬
‫ونقرأ في القرآن‪ {:‬لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّنَ ٍة وَ َيحْيَىا مَنْ َ‬
‫وجاء الحق بمقابل الهلك وهو الحياة؛ فالهلك ضد الحياة والحياة ضد الهلك‪ ،‬ويقول سبحانه في‬
‫جهَهُ }[القصص‪.]88 :‬‬
‫ل وَ ْ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ‬
‫آية أخرى‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫إذن ما دام كل شيء هالكا‪ ،‬فكل شيء فيه حياة‪ ،‬والخطأ أن تظن أن كل حياة تتشابه في الحس‬
‫والحركة مع النسان‪ ،‬ل‪ ،‬إن الحياة في كل شيء بحسبه‪ ،‬إلى أن تقوم القيامة‪ ،‬فكل شيء حي له‬
‫حياة تناسبه‪ ،‬وحين نسمع‪:‬‬

‫حهُمْ }[السراء‪.]44 :‬‬


‫ح ْم ِد ِه وَلَـاكِن لّ َت ْفقَهُونَ تَسْبِي َ‬
‫شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ‬
‫{ وَإِن مّن َ‬
‫نقول‪ :‬نعم كل من يسبح بحمده يقول قول‪ ،‬وإياك أن تقول إنّه تسبيح دللة؛ لن بعضهم يقول‪ :‬إن‬
‫هذا تسبيح دللة على الخالق‪ ،‬ونقول‪ :‬لو أن الذي يقصده ال تسبيح دللة على خلق لما قال‪} :‬‬
‫حهُمْ {‪.‬‬
‫وَلَـاكِن لّ َت ْفقَهُونَ تَسْبِي َ‬
‫إذن‪ :‬فل أحد منا يفهم لغة التسبيح‪ ،‬وعرفنا من قبل حين سمع سليمان عليه السلم قول النملة‬
‫وتبسم لها ضاحكا‪ ،‬وكذلك ما سمعه من الهدهد‪ ،‬وكذلك تسخير الجبال لتسبح مع داود عليه‬
‫السلم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حيّ ذاِلكُمُ اللّهُ فَأَنّىا‬
‫ت َومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ ا ْل َ‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ‬
‫حبّ وَال ّنوَىا يُخْرِجُ الْ َ‬
‫} إِنّ اللّهَ فَاِلقُ ا ْل َ‬
‫ُت ْؤ َفكُونَ { [النعام‪.]95 :‬‬
‫إن كل كلمة لها دللتها ومعناها‪ .‬فكلمة العلم تدلنا على إحاطة علمه بكل شيء في الوجود‪ ،‬وكلمة‬
‫الحكمة تدلنا على أن كل شيء منه يصدر عن حكمة‪ .‬وكلمة الرزاق تدلنا على أن كل مرزوق في‬
‫الوجود إنما أخذ من فيضه وخيره‪ ،‬وهكذا إلى ما ل نهاية لكماله من صفات ذاته‪ .‬وكلمة " ال "‬
‫تدل على كل صفات الجلل والجمال والكمال‪ ،‬فإذا قال‪ " :‬ال " فهذا السم‪ :‬يشمل القادر‪ ،‬العالم‪،‬‬
‫الحكيم‪ ،‬القدير‪ ،‬وكل صفات الحق ما علمت منها وما لم تعلم‪ ،‬ما دامت ذاته سبحانه وتعالى‬
‫متصفة بكل صفات الكمال‪ ،‬فالواجب أن يكون كل فعل يصدر عن ذاته المتصفة بالكمال له مطلق‬
‫القدرة والجمال والكمال‪.‬‬
‫إذن فحين يقول الحق ذلك فإنما يلفتنا إلى أن كل شيء كائن في الوجود إنما هو من خلق ال‪ ،‬وأن‬
‫له حياة تناسب مهمته؛ فالنسان له حياة تناسب مهمته‪ .‬والحيوان له حياة تناسب مهمته‪ .‬والنبات‬
‫له حياة تناسب مهمته‪ .‬والجماد له حياة تناسب مهمته‪ .‬وإذا نظرت إلى الشياء كلها بهذا المعنى‬
‫وجدت أن كل موجود فيه حياة‪ ،‬ولكن الحياة الكاملة بكل مقوماتها وجدت في العلى من‬
‫المخلوقات وهو النسان‪ ،‬وال سبحانه وتعالى خلق في النسان الحياة حسا وحركة‪ ،‬ثم أعطاه حياة‬
‫أخرى هي التي تُصعّد حياته وتجعل لحياته قيمة؛ لن حياتنا الني نعيشها إنما يتمتع بها المؤمن‬
‫والكافر‪ ،‬وقصارى ما فيها أن تعطينا الحس والحركة قدر عمرنا في الحياة‪ ،‬ولكن حياة اليمان بما‬
‫يبعثه ال لنا من منهج على يد الرسول‪ .‬تعطينا حياة أوسع‪ ،‬وأخلد‪ ،‬وأرغد‪ ،‬وهذه هي الحياة‬
‫الحقة‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه‪ {:‬وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت‪:‬‬
‫‪.]64‬‬
‫ب وَال ّنوَىا { هو المقدمة الولى للحياة‪ ،‬ثم‬
‫ح ّ‬
‫وهذه هي الحياة الحقيقية وقول الحق‪ } :‬إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْ َ‬
‫تكلم عن الحياة وأنه يخرج حيا من ميت‪ ،‬وهو هنا قد خاطبنا على مقدار أوليات علمنا بالشياء؛‬
‫فالشيء إذا لم يكن له حس وحركة نعتبره ميتا لكن لو نظرت إلى الحقيقة لوجدت كل شيء في‬
‫الوجود له حياة‪.‬‬

‫جهَهُ {‪.‬‬
‫ل وَ ْ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ‬
‫مصداق ذلك قوله جلت قدرته‪ُ } :‬كلّ َ‬
‫وما دام كل شيء هَالِكا فكل شيء قبل أن يهلك كان فيه حياة‪.‬‬
‫وال سبحانه القائل‪ُ {:‬قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآءُ وَ ُتعِزّ مَن‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي الْ ّنهَا ِر وَتُولِجُ ال ّنهَارَ‬
‫تَشَآءُ وَتُ ِذلّ مَن َتشَآءُ بِ َي ِدكَ الْخَيْرُ إِ ّنكَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫حسَابٍ }[آل‬
‫ي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ‬
‫حّ‬‫ت وَتُخْرِجُ اَلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ‬
‫فِي الْلّ ْيلِ وَ ُتخْرِجُ الْ َ‬
‫عمران‪.]27-26 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولماذا جاء في هذه الية بـ " تخرج " وجاء في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قوله‪" :‬‬
‫ومخرج الميت من الحي "؟ إنّ الذين بحثوا هذا البحث نظروا نظرة سطحية في المقابلة الجزئية‬
‫حيّ { نسوا أنه سبحانه‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ { وقال‪َ } :‬ومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ ا ْل َ‬
‫في الية‪ ،‬وهي‪ } :‬يُخْرِجُ ا ْل َ‬
‫قال‪ :‬إنه يخرج الحي من الميت؛ لبيان أن ال فالق الحب والنوى ليخرج الحي من الميت أي أن‬
‫ال فلق وشق الحب والنوى لجل أن يخرج الحي من الميت‪..‬‬
‫حيّ { هو مقابل لفالق فل تأخذها مقابلة للجزئية في الية؛ ولن‬
‫ثم قال‪َ } :‬ومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ الْ َ‬
‫السم يدل على الثبوت‪ ،‬والفعل يدل على الحدوث؛ فالحق سبحانه وتعالى له صفة في ذاته‪ ،‬وصفة‬
‫في متعلقات هذه الذات؛ فهو سبحانه وتعالى رَزّاق‪ ،‬قبل أن يكون له مخلوق يرزقه‪ .‬وهو رزاق‪،‬‬
‫وبعد ما خلق من يرزقه هو رازق؛ لنه هو الخالق‪ ،‬والخالق صفة للذات وإن لم يوجد المتعلق‪،‬‬
‫وهو سبحانه المحيي قبل أن يوجد من يحييه؛ لن صفته في ذاته أنه يحيي‪ ،‬ومميت قبل أن يميت‬
‫من يريد أن يميته؛ لن الصفة موجودة في ذاته‪.‬‬
‫وسبحانه فالق الحب والنوى أي قبل أن يوجد الحب والنوى الذي يفلقه‪ ،‬ومخرج الحي من الميت‬
‫هو صفة ثابتة في ذاته قبل أن يوجد متعلّقها‪ .‬وله صفة ‪ -‬أيضا ‪ -‬بعد أن يوجد المتعلق‪ ،‬فإن أراد‬
‫الصفة قبل أن يوجد المتعلّق جاء بالسم‪ " :‬فالق ومخرج "‪ .‬وإن كان يريد الصفة بعد أن توجد‪،‬‬
‫يقول‪ " :‬يخرج " ‪ " ،‬يخرج "‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية‪ } :‬ذاِلكُمُ اللّهُ فَأَنّىا ُت ْؤ َفكُونَ { [النعام‪.]95 :‬‬
‫و " ذا " اسم إشارة لما تقدم‪ ،‬وهو سبحانه فالق الحب والنوى ومن يخرج الحي من الميت ومخرج‬
‫الميت من الحي وهو ال‪ .‬والكاف في قوله‪ } :‬ذاِلكُمُ { لمن يخاطبهم وهم نحن‪ ،‬أما اللم من }‬
‫ذاِل ُكمُ { فهي للبعد والميم للجمع‪ .‬فحين يريد الحق أن يخاطب رسوله‪ ،‬يقول‪ {:‬ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ لَ رَ ْيبَ‬
‫فِيهِ }‬

‫[البقرة‪.]2 :‬‬
‫ولكنه هنا يخاطبنا فيقول‪ } :‬ذاِل ُكمُ { إشارة إلى قول الحق سبحانه وتعالى‪ :‬ال‪ ،‬وفالق‪ ،‬ومخرج‪،‬‬
‫والخطاب لجمهرة المخاطبين بالقرآن‪ .‬فإذا كان ال بهذه الصفات فكيف ينصرفون عن اليمان به‬
‫وتوحيده؟ وذكر لنا أول مقوم من مقومات الحياة وهو النبات وهو ما نأكله‪ ،‬فإذا كان الحق سبحانه‬
‫وتعالى هو الذي خلق الحب وخلق النوى ليخرج الحي من الميت وهو مخرج الميت من الحي فهو‬
‫أولى بأن يكون إلها معبودا فكيف تصرفون عنه؟! وإلى من تصرفون؟! إلى من توجد فيه صفات‬
‫أرقى من هذه الصفات؟!! ل يوجد من فيه صفات مثل هذه‪ ،‬ول أرقى من هذه الصفات‪.‬‬
‫وإذا سمعت كلمة‪ " :‬أنّى " فافهم منها أنها تأتي للتعجيب‪ ،‬تأتي وتطلب أن يدلنا واحد على كيفية‬
‫انصرافهم عن ال وتوحيده مع وضوح الدللت والبراهين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومرة يقول الحق سبحانه‪ {:‬كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّهِ }[البقرة‪.]28 :‬‬
‫هو سبحانه يخاطب الناس ويقول لهم‪ :‬كيف تكفرون بال فال في ذاته يستحق أل يكفر به‪ ،‬لنه‬
‫هو الذي خلق من عدم‪ ،‬وأمدّ من عُدْم‪ ،‬ولم يشاركه أحد أو ينازعه في هذا المر‪ ،‬وإليه نرجع‬
‫جميعا‪ ،‬فكيف تكفرون به؟ وهذا تعجيب كبير؛ لذلك يقول سبحانه هنا‪ } :‬فَأَ ّنىٰتُ ْؤ َفكُونَ { أي فكيف‬
‫تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون ‪ -‬مع ال ‪ -‬إلها آخر بعد أن تعلموا أن هذه‬
‫الصفات له ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وليست لغيره؟ وكل تعجيب يأتي في " أنّى " مثل قوله الحق‪ {:‬أَنّىا‬
‫يُحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْتِهَا }[البقرة‪.]259 :‬‬
‫أي كيف يحيي هذه ال بعد موتها؟‬
‫ويقول سيدنا زكريا لسيدتنا مريم‪ } :‬أَنّىا َلكِ هَـاذَا {‬
‫إذن فالتعجب ملزم لكلمة " أنّى " فكأن الصفات التي تقدمت صفات موجبة لليمان بال واحدا‬
‫قهارا مريدا عالما حكيما نرجع إليه جميعا‪ ،‬فقولوا لنا‪ :‬كيف تكفرون بهذا الله؟ وإلى من تذهبون‬
‫إذا كان هذا الله يُكفر به؟ أهناك شيء ادّعى أنه خلق وأنه رزق؟ لو أن شيئا ادّعى أنه خلق أو‬
‫رزق كنا نعذركم‪ ،‬لكن لم يدّع شيء في الوجود بأنه خلق أو رزق‪ ،‬والدعوة تثبت لصاحبها ما لم‬
‫يقم لها معارض‪.‬‬
‫} فَأَنّىا ُت ْؤ َفكُونَ { وكلمة " أنّى تؤفكون " تعني كيف تُصرفون انصرافا كذبا؛ لن " الفك "‪ .‬معناه‬
‫الكذب المتعمّد‪.‬‬
‫لصْبَاحِ‪{ ...‬‬
‫قاِ‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬فَاِل ُ‬

‫(‪)875 /‬‬

‫س وَا ْل َقمَرَ حُسْبَانًا ذَِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ (‪)96‬‬


‫شمْ َ‬
‫سكَنًا وَال ّ‬
‫ج َعلَ اللّ ْيلَ َ‬
‫فَالِقُ الِْإصْبَاحِ َو َ‬

‫وسبحانه يأتي بآية أخرى من اليات المعجزة كما جاء بالية الولى في أنه هو الذي خلق لنا ما‬
‫يقيم حياتنا‪.‬‬
‫سكَنا }‪ .‬ومعنى " فالق " أي جعل الشيء شقين‪ ،‬وهما نعمتان‬
‫ج َعلَ الْلّ ْيلَ َ‬
‫لصْبَاحِ وَ َ‬
‫قاِ‬
‫{ فَاِل ُ‬
‫متقابلتان ل تكفي واحدة عن الخرى‪ ،‬إذ ل بد أن يوجد إصباح ويوجد الليل سكنا؛ لن الصباح‬
‫هو زمان وضوح الشياء أمام رؤية العين؛ لننا نعلم أن الظلمة تجعل النسان يضطرب مع‬
‫الشياء‪ ،‬فإن كنت أقوى من هذه الشياء حطمتها‪ ،‬وإن كانت أقوى منك حطمتك‪ .‬إن السير في‬
‫الظلمات التي ل يوجد فيها نور يهدي النسان إلى مرائيه قد يؤدي إلى خسارة الشياء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إننّا في الصباح نعمل ونسعى في الرض‪ ،‬ونمل الدنيا حركة‪ .‬فإذا ما أصابنا الكد والتعب‬
‫والنّصب من الحركة فالمنطق الطبيعي للكائن الحي أن يستريح ويهدأ ويسكن ل بحركته فقط‬
‫ولكن بسكون كل شيء حوله؛ لنك إن كنت ساكنا ويأتي لك ضوء فهو يؤثر في تكوينك‪ ،‬ولذلك‬
‫يقولون الن‪ :‬إن " الشعة " التي يكتشفون بها أسرار ما في داخل جسد النسان تترك آثارا‪.‬‬
‫إذن فالشعاع الصادر عن الشمس يمنعه عنك ال ليلً حتى يستريح الجسم من كل شيء‪ ،‬من كل‬
‫حركة ناشئة فيه‪ ،‬ومن حركة وافدة عليه‪ ،‬وهكذا تكون نعمة سكون الليل وظلمته مثل نعمة‬
‫الصباح‪ ،‬وكلهما تتمم الخرى‪ ،‬ولذلك قلنا‪ :‬إن الحق سبحانه وتعالى في أول السورة قدّم الظلمات‬
‫ت وَالنّورَ }[النعام‪.]1 :‬‬
‫ج َعلَ الظُّلمَا ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ وَ َ‬
‫حمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ ال ّ‬
‫على النور‪ {:‬ا ْل َ‬
‫لنك ل تستطيع أن تنتفع بحركتك في النور إل إذا كنت نشيطا ومرتاحا أثناء الليل‪ .‬فإن لم ترتح‬
‫كنت مرهقا ولن تستطيع العمل بدقة في حركة النهار‪ .‬إذن فالظلمة مقصودة في الوجود‪ .‬ولذلك‬
‫فالحضارة الراقية هي التي تنظم حياة النسان ليعمل نهارا ويستريح ليلً‪ ،‬حتى ل يستأنف عمله‬
‫في الصباح مكدودا‪ .‬ومن يزور ريف مصر هذه اليام يفاجأ بأن أهل الريف قد سهروا طوال‬
‫الليل مع أجهزة الترفيه‪ ،‬ويقومون إلى العمل في الصباح وهم مكدودون مرهقون‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬لنأخذ الحضارة من قمتها‪ ،‬ول نأخذ الحضارة من أسفلها؛ فحين تذهب إلى أوروبا تجد‬
‫الناس تخلد وتسكن ليلً‪ ،‬ومن يسير في الشارع ل يسمع صوتا ول يجد من يخرج من بيته‪ ،‬ول‬
‫تسمع صوت ميكروفون في الشارع؛ حتى ينال كل إنسان قسطه من الهدوء‪ ،‬ويختلف المر في‬
‫بلدنا‪ :‬فالشوارع تمتلئ بالضجيج‪ ،‬والمريض ل يستطيع أن يرتاح‪ ،‬ومن يذاكر ل يجد الهدوء‬
‫اللزم‪ ،‬ومن يتعبد تخرجه الضوضاء من جوّ العبادة‪ ،‬ونجد من يصف ذلك بأنه نقلة حضارية!!‬
‫ونقول‪ :‬لتأخذ كل نعمة من نعم ال على قدر معطياتها في الوجود النافع لك‪ ،‬وحين يأتي الليل‬
‫عليك أن تطفئ المصباح حتى تهجع ول تتشاغب فيك جزئياتك وتكوينك‪.‬‬

‫لصْبَاحِ { و } فَاِلقُ { ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬تعني شاقق‪ ،‬فهل الصباح ينفلق؟‪.‬‬


‫قاِ‬
‫وسبحانه يقول‪ } :‬فَاِل ُ‬
‫وبماذا؟‪ .‬ونقول‪ :‬إن } فَاِلقُ { هي اسم فاعل‪ ،‬مثلما نقول‪ " :‬قاتل الضربة " أي أن الضربة من يده‬
‫قاتلة‪.‬‬
‫لصْبَاحِ { معناها أن الصباح ينفلق عن الظلمة؛ لن الظلمة متراكمة وحين يأتي‬
‫قاِ‬
‫و } فَاِل ُ‬
‫لصْبَاحِ { أيضا أن الفلق واقع‬
‫قاِ‬
‫الصباح فكأنه فلق الظلمة وشقها ليخرج النور‪ ،‬وتعني } فَاِل ُ‬
‫على الصباح فيأتي من بعده الظلم‪ ،‬وهذه من دقة الداء البياني في القرآن؛ لن الذي يتكلم إله‪.‬‬
‫وامرؤ القيس قال‪:‬أل أيها الليل الطويل أل انجلي بصبح وما الصباح منك بأمثلوالصبح والصباح‬
‫معناهما واحد‪.‬‬
‫هل الصبح من طلوع الشمس؟ أو الصبح من ظهور الضوء قبل أن تشرق الشمس؟ يأتي الصباح‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أول وهو النور الهادئ‪ ،‬ونجد أطباء العيون بعد إجراء جراحة ما لنسان في عينيه يقومون بفك‬
‫الربطة التي تساعد الجرح على اللتئام‪ ،‬يفكونها بالتدريج حتى ل يخطف الضوء البصر فورا‪،‬‬
‫ومن رحمة ال أن خلق فترة الصبح بضوئها الهادئ قبل أن تطلع الشمس بضوئها كله دفعة‬
‫واحدة‪ .‬فكأن الصبح جاء ليفلق ظلمة الليل فلقا هادئا‪ ،‬ثم جاءت الشمس ففلقت الصبح‪.‬‬
‫إذن الصباح فالق مرة لنه شقّ الظلمة وفلقها ومفلوق مرة أخرى؛ لن الظلمة جاءت بعده‪ .‬إذن‬
‫فاسم الفاعل قد أدى مهمتين‪ ..‬المهمة الولى‪ :‬فالق الصباح‪ .‬أي دخل بضوء الشمس‪ .‬وإن قلنا‪:‬‬
‫إصباحه فالق‪ ،‬أي ظلمة الليل الوى انفلقت‪ .‬إذن فالصباح فالق مرة‪ ،‬ومفلوق مرة أخرى‪.‬‬
‫سكَنا { يريد أن يعطي شقين اثنين؛ لنه هو في‬
‫ج َعلَ الْلّ ْيلَ َ‬
‫ح وَ َ‬
‫وسبحانه حين يقول‪ } :‬فَالِقُ الِصْبَا ِ‬
‫سكَنا { صفة‬
‫ج َعلَ الْلّ ْيلَ َ‬
‫ذاته فالق الصباح‪ .‬فيأتي بالسم ليعطي لها صفة الثبوت‪ ،‬ثم جاء بـ } وَ َ‬
‫الحدوث بعد وجود المتعلّق‪ .‬فإذا أراد الصفة اللزمة له قبل أن يوجد المتعلق يأتي بالسم‪ .‬وإن‬
‫أراد الصفة بعد أن وجد المتعلّق يأتي بالفعل‪.‬‬
‫سطٌ ذِرَاعَ ْيهِ بِال َوصِيدِ }[الكهف‪:‬‬
‫ولذلك نجد القرآن الكريم يصور الثبات في قوله الحق‪َ {:‬وكَلْ ُبهُمْ بَا ِ‬
‫‪.]18‬‬
‫الكلب هنا على هذه الصورة الثابتة‪ ،‬وحين يريد القرآن أن يأتي بالصفة التي تتغير‪ ،‬يأتي بالفعل‪{:‬‬
‫خضَ ّرةً }[الحج‪.]63 :‬‬
‫سمَآءِ مَآءً فَ ُتصْبِحُ الَرْضُ مُ ْ‬
‫أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫وكان القياس أن يقول‪ :‬فأصبحت الرض مخضرة؛ لنه قال‪ " :‬أنزل " لكنه يأتي بالتجدد الذي‬
‫خضَ ّرةً {‪.‬‬
‫ح الَ ْرضُ ُم ْ‬
‫يحدث } فَ ُتصْبِ ُ‬
‫س وَا ْل َقمَرَ حُسْبَانا { ونحن نعرف الشمس والقمر وجاء بعد ذلك بكلمة }‬
‫شمْ َ‬
‫ويتابع الحق‪ } :‬وَال ّ‬
‫حسْبَانا { ‪ ،‬على وزن ُفعْلن‪ ،‬وهذا ما يدل عادة على المبالغة مثلما تقول‪ :‬فلن والعياذ بال كفر‬
‫ُ‬
‫كفرانا‪ .‬ومثلما تدعو‪ :‬غفر ال لك غفرانا‪ .‬فحين تحب أن تبالغ تأتي بصيغة ُفعْلن‪ .‬وجاء القرآن‬
‫بكلمة " حسبان " في موضعين اثنين فيما يتصل بالشمس والقمر جاء بها هنا في الية التي نحن‬
‫س وَا ْل َقمَرَ حُسْبَانا { ‪ ،‬وفي سورة الرحمن يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫شمْ َ‬
‫بصدد خواطرنا عنها } وَال ّ‬

‫س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ }[الرحمن‪.]5 :‬‬


‫شمْ ُ‬
‫{ ال ّ‬
‫وما الفرق بين التعبيرين؟ " حسبان " هنا تعني أن تحسب الشياء‪ ،‬فنحن نحسب السنة بدورة‬
‫الشمس بـ ‪ 365‬يوما وربع اليوم وهي تمر بالبروج فيها خلل هذه المدة‪ ،‬والقمر يبدأ بروجه كل‬
‫شهر في ثمانية وعشرين يوما وبعض اليوم‪ ،‬ونحن نحسب بالشمس اليوم‪ ،‬ونحسب بها العام‪،‬‬
‫ولكنا نحسب الشهر بالقمر‪ ،‬وأنت ل تقدر أن تحسب الشهر بالشمس‪ ،‬بل تحسب الشهر بالقمر لنه‬
‫يظهر صغيرا ثم بكبر ويكبر ويكبر‪ .‬ولذلك يثبت رمضان عندنا بالقمر ل بالشمس‪ .‬واليوم نثبته‬
‫بالشمس‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهكذا عرفنا أن الشمس والقمر ويعملن في حسابنا لليام والشهور‪ ،‬والثنان حسبان‪ :‬الشمس لها‬
‫حساب‪ ،‬والقمر له حساب وإذا ما نظرت إلى كلمة " حسبان " تفهم أن الشمس والقمر‪ ،‬كليهما‬
‫مخلوق ليحسب به شيء آخر؛ لنهما خلقتا بحسبان‪ ،‬أي أنهما قد أريد بهما الحساب الدقيق‪ ،‬لن‬
‫الشمس مخلوقة بحساب‪ ،‬وكذلك القمر‪.‬‬
‫وتعال إلى الساعة التي نستعملها‪ ،‬أل يوجد بها عقرب للساعات‪ ،‬وآخر للدقائق‪ ،‬وثالث للثواني؟‪.‬‬
‫وهذا أقل ما قدرنا عليه‪ ،‬وإن كان من الممكن أننا نقسم الثانية إلى أجزاء مثلما عملنا في‬
‫المساحات؛ فهناك المتر‪ ،‬والسنتيمتر‪ ،‬والملليمتر‪ ،‬ثم بعد ذلك قلنا الميكروملليمتر‪ .‬إذن‪ ،‬كلما نرتقي‬
‫في التقدم العلمي نحسب الحساب الدق‪ .‬ولم تكن الشمس والقمر حسابا لنا نحسب بهما الشياء إل‬
‫إذا كانت مخلوقة بحساب‪.‬‬
‫إنك حين تنظر إلى ساعتك تدرك قفزة عقرب الثواني ولكنك ل تدرك حركة عقرب الدقائق‪،‬‬
‫وكذلك ل تدرك حكة عقرب الساعات‪ ،‬وكل من العقارب الثلثة يدور " بزمبلك " وترس معين‪.‬‬
‫إن اختلت الحركة في زمبلك أو ترس‪ ،‬ينعكس هذا الخلل على بقية العقارب‪ ،‬والثانية محسوبة‬
‫على الدقيقة‪ ،‬والدقيقة محسوبة على الساعة‪.‬‬
‫وهكذا فإن لم تكن الساعة مصنوعة بهذا الحساب الدقيق فهي لن تعمل جيدا‪ .‬وهكذا ل نعتبر‬
‫شمْسُ‬
‫الساعة معيارا لحساب أزماننا إل أنها في ذاتها خلقت بحساب‪ .‬والحق سبحانه يقول‪ } :‬ال ّ‬
‫وَا ْلقَمَرُ ِبحُسْبَانٍ { أي لنحسب بهما لنهما مخلوقتان بحسبان‪ .‬أي بحساب دقيق‪ ،‬ولماذا لم يقل الحق‬
‫حسابا وجاء بحسبان هنا‪ ،‬وحسبان في آية سورة الرحمن؟‪ .‬ذلك لن المر يقتضي مبالغة في‬
‫الدقة‪ .‬فهذا ليس مجرد حساب‪ ،‬لكنه حسبان‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية بقوله‪ } :‬ذاِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ { ‪ ،‬وكلمة " العزيز " تفيد الغلبة والقهر فل‬
‫يستطيع أحد أن يعلو عليه؛ فهذه الجرام التي تراها أقوى منك ول تتداولها يدك‪ ،‬إنّها تؤدي لك‬
‫مهمة بدون أن تقرب منها؛ فأنت ل تقترب من الشمس لتضبطها‪ ،‬مثلما تفعل في الساعة التي‬
‫اخترعها إنسان مثلك‪ ،‬والشمس لها قوة قد أمدها ال خالقها بها ول شيء في صنعته ول في خلقه‬
‫يتأبّى عليه‪ .‬فهذا هو تقدير العزيز العليم‪ ،‬وهو سبحانه يعطينا حيثيات الثقة في كونها حسبانا‬
‫لنحسب عليها‪ .‬فهو جل وعل خالقها بتقدير عزيز ل يغلب‪ ،‬وهو عزيز يعلم علما مطلقا ل نهاية‬
‫ج َعلَ َلكُمُ‪{ ...‬‬
‫له ول حدود‪ .‬ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬

‫(‪)876 /‬‬

‫ج َعلَ َل ُكمُ النّجُومَ لِ َتهْتَدُوا ِبهَا فِي ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ قَدْ َفصّلْنَا الْآَيَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ (‪)97‬‬
‫وَ ُهوَ الّذِي َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبعد أن أوضح سبحانه أنه قد خلق الشمس والقمر بحسبان لتكون حسابا بتقدير منه‪ ،‬وهو العزيز‬
‫العليم‪ ،‬إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يصف لنا مهمة النجوم فقال‪ { :‬لِ َتهْتَدُواْ ِبهَا فِي ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ } ‪،‬‬
‫والنجوم هي الجرام اللمعة التي نراها في السماء لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر؛ ومن‬
‫رحمته بنا وعلمه أن بعض خلقه ستضطرهم حركة الحياة إلى الضرب في الرض؛ والسير ليل‬
‫في الرض أو البحر مثل من يحرسون ويشيعون المن في الدنيا ول يمكن أن يناموا بالليل‪ .‬بل‬
‫ل بد أن يسهروا لحراستنا‪ ،‬كل ذلك أراده ال بتقدير عزيز حكيم عليم‪ ،‬ولذلك ترك لنا النجوم‬
‫ليهتدي بها هؤلء الذين يسهرون أو يضربون في الرض أو يمشون في البحر بسفنهم‪ ،‬وهم‬
‫يحتاجون إلى ضوء قليل ليهديهم‪ ،‬ولذلك كان العرب يهتدون بالنجوم؛ يقول الواحد منهم للخر‪:‬‬
‫اجعل النجم الفلني أمام عينيك‪ ،‬وسر فوق الحي الفلني‪ .‬واجعل النجم الفلني عن يسارك وامش‬
‫تجد كذا‪ ،‬أو اجعل النجم الفلني خلفك وامش تجد كذا‪.‬‬
‫إذن لو طمّت الظلمة لمنّعت الحركة بالليل‪ ،‬وهي حركة قد يضّطر إليها الكائن الحي‪ ،‬فجعل الحق‬
‫النجوم هداية لمن تجبرهم الحياة على الحركة في الليل‪.‬‬
‫وعلى ذلك فالنجوم ليست فقط للهتداء في ظلمات البر والبحر؛ لنه لو كان القصد منها أن نهتدي‬
‫بها في ظلمات البر والبحر‪ ،‬لكانت كلها متساوية في الحجام‪ ،‬لكنا نرى نجما كبيرا‪ ،‬وآخر‬
‫صغيرا‪ ،‬وقد يكون النجم الصغير أكبر في الواقع من النجم الكبير لكنه يبعد عنا بمسافة أكبر‪،‬‬
‫وعلى ذلك ل تقتصر الحكمة من النجوم على الهداية بها في حركة النسان برا وبحرا‪ ،‬فليست‬
‫هذه هي كل الحكمة‪ ،‬هذه هي الحكمة التي يدركها العقل الفطري أول؛ لذلك يأتي الحق في أمر‬
‫النجوم بقول كريم آخر ليوضح لنا أل تحصر الحكمة في الهداية بها ليلً برا وبحرا فيقول‪:‬‬
‫{ وَعَلمَاتٍ وَبِالنّجْمِ هُمْ َيهْتَدُونَ } فلم يقل ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يهتدون في ظلمات البر والبحر‪ .‬إذن ‪-‬‬
‫النجوم ‪ -‬لها مهمة أخرى‪ ،‬إنه جلت قدرته يقول‪ {:‬فَلَ ُأقْسِمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَسَمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ‬
‫عَظِيمٌ }[الواقعة‪.]76-75 :‬‬
‫وكل يوم يتقدم العلم يبين لنا الحق أشياء كثيرة‪ ،‬فها هو ذا المذنب الذي يقولون عنه الكثير‪ ،‬وها‬
‫سعُونَ }[الذاريات‪:‬‬
‫سمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَي ْي ٍد وَإِنّا َلمُو ِ‬
‫هي ذي نجوم جديدة تكتشف تأكيدا لقول الحق‪ {:‬وَال ّ‬
‫‪.]47‬‬
‫أي أنه سبحانه قد خلق عالما كبيرا‪ .‬وأنت أيها النسان قد أخذت منه على قدر إدراكاتك‬
‫وامتداداتك في النظر الطبيعي الذي ل تستخدم فيه آلة إبصار‪ ،‬وأخذت منه بالنظر المعان الذي‬
‫تستخدم فيه التليسكوب والميكروسكوب‪ ،‬وغير ذلك من اقمار صناعية‪ ,‬ولذلك يقول الحق سبحانه‪:‬‬
‫عظِيمٌ } وبعض العلماء يقول‪ :‬إن كل إنسان‬
‫{ فَلَ ُأ ْقسِمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَسَمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ َ‬
‫يوجد في الوجود له نجم‪ ،‬وترتبط حياته بهذا النجم‪ ،‬وحين يأفل النجم يأفل قرينه على الرض‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهناك نجوم لمعة ندرك خفقانها‪ ،‬ونجوم أخرى غير لمعة وبعيدة عنا‪ ،‬ويقال إنها تخص أناسا‬
‫ل يدري بهم أحد لقلة تأثيرهم بأعمالهم في الحياة‪.‬‬

‫ويتقدم العلم كل يوم ويربط لنا أشياء بأشياء وكأن الحق يوضح‪ :‬إنني خلقت لكم الشياء ِممّا قَدَرْتم‬
‫حكَم‬
‫بعقولكم أن تصلوا إلى شيء من الحكمة فيها‪ ،‬ولكن ل تقولوا هذه منتهى الحكمة‪ ،‬بل وراءها ِ‬
‫أعلى‪ ،‬فسبحانه هو الحكيم القادر‪ ،‬إنك قد تدرك جانبا يسيرا من حكم ال‪ ،‬ولكن عليك أن تعلم أن‬
‫كمال ال غير متناه‪ ،‬ول يزال في ملك ال ما ل نستطيع إدراك حكمته إلى أن ينهي ال الرض‬
‫ومن عليها‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه في تذييل الية‪ } :‬قَدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ { والية هي الشيء العجيب‪،‬‬
‫س وَا ْل َقمَرُ }[فصلت‪.]37 :‬‬
‫شمْ ُ‬
‫ل وَال ّنهَارُ وَال ّ‬
‫وتطلق على آيات كونية‪َ {:‬ومِنْ آيَاتِهِ اللّ ْي ُ‬
‫وتطلق كلمة " آية " على الطائفة من القرآن التي لها فاصلة‪ .‬إذن هناك آيات قرآنية‪ ،‬وآيات‬
‫كونية‪ ،‬واليات الكونية تعتبر مفسرة لليات القرآنية؛ فتفصيل اليات في الكون ما نراه من‬
‫تعددها أشكالً وألوانا وحكما وغايات‪ .‬وتفصيل اليات في القرآن هو ما ينبهنا إليه الحق في قرآنه‬
‫وليلفت النظر إلى أن ذلك التفصيل في آيات الكون وذلك الخلق العجيب الحكيم الذي ل يمكن أن‬
‫يكون إل لله قادر حكيم يستحق أن يكون إلها موحّدا‪ ،‬ويستحق أن يكون إلها معبودا‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَ ُهوَ الّذِي أَنشََأكُم‪{ ...‬‬

‫(‪)877 /‬‬

‫س وَاحِ َدةٍ َف ُمسْ َتقَرّ َومُسْ َتوْ َدعٌ قَدْ َفصّلْنَا الْآَيَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْفقَهُونَ (‪)98‬‬
‫وَ ُهوَ الّذِي أَنْشََأ ُكمْ مِنْ َنفْ ٍ‬

‫وقد تكلم سبحانه لنا ‪ -‬أولً ‪ -‬عن اليات المحيطة بنا والتي بها قوام حياتنا من فلق الحب‬
‫والنوى‪ ،‬وبعد ذلك تكلم عن الشمس والقمر‪ ،‬ثم تكلم عن النجوم‪ ،‬كل هذه آيات حولنا‪ ،‬ثم يتكلم عن‬
‫شيء في ذواتنا ليكون الدليل أقوى‪ ،‬إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يأتي لك بالدليل في ذاتك وفي نفسك؛ لن‬
‫هذا الدليل ل يحتاج منك إلى أن تمد عينيك إلى ما حولك‪ ،‬بل الدليل في ذاتك ونفسك‪ ،‬يقول‬
‫سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات‪.]21 :‬‬
‫سبحانه‪َ {:‬وفِي أَنفُ ِ‬
‫أي يكفي أن تجعل من نفسك عَالَما‪ ،‬هذا العلم موجود فيه كل ما يثبت قدرة الحق‪ ،‬وأحقيته بأن‬
‫يكون إلها واحدا‪ ،‬وإلها معبودا‪.‬‬
‫س وَاحِ َدةٍ } ينطبق على هذا القول أنه إخبار من ال‪ ،‬وأنه ‪ -‬أيضا ‪-‬‬
‫{ وَ ُهوَ الّذِي أَنشََأكُم مّن ّنفْ ٍ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫استقراء في الوجود‪ ،‬الذي نسميه التنازل للماضي؛ لنك لو نظرت إلى عدد العالم في هذا القرن‪،‬‬
‫ثم نظرت إلى عدد العالم في القرن الذي مضى تجده نصف هذا العدد‪ ،‬وإذا نظرت إليه في القرن‬
‫الذي قبله‪ ،‬تجده ربع تعداد السكان الحاليين‪ .‬وكلما توغلت في الزمن الماضي وتذهب فيه وتبعد‪،‬‬
‫س وَاحِ َدةٍ } ‪ ،‬وهذا ما ذكره ال لنا‪ ،‬ولقائل أن يقول‪:‬‬
‫يقل العدد ويتناهى إلى أن نصل إلى { ّنفْ ٍ‬
‫شيْءٍ خََلقْنَا َزوْجَيْنِ }[الذاريات‪.]49 :‬‬
‫كيف تكون نفسا واحدة وهو القائل‪َ {:‬ومِن ُكلّ َ‬
‫ونقول‪ :‬إن الحق سبحانه وتعالى خلق النفس الواحدة‪ ،‬وأوضح أيضا أنه خلق من النفس الواحدة‬
‫زوجها‪ ،‬ثم بدأ التكاثر‪ .‬إذن فالستقراء الحصائي في الزمن الماضي يدل على صدق القضية‪.‬‬
‫وكذلك كل شيء متكاثر في الوجود من نبات ومن حيوان‪ .‬تجدها تواصل التكاثر وإن رجعت‬
‫بالحصاء إلى الماضي تجد أن العداد تقل وتقل إلى أن تنتهي إلى أصل منه التكاثر إنّه يحتاج‬
‫إلى اثنين‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا }[يس‪.]36 :‬‬
‫س وَاحِ َدةٍ } ولم يقل زوجين؟ أوضح العلماء أن ذلك دليل على‬
‫ولماذا جاء الحق هنا بقوله‪ { :‬مّن ّنفْ ٍ‬
‫اللتحام الشديد؛ لننا حين نكون من نفس واحدة فكلنا ‪ -‬كل الخلق ‪ -‬فيها أبعاض من النفس‬
‫الواحدة‪ ،‬وقلنا من قبل‪ :‬إننا لو أتينا بسنتيمتر مكعب من مادة ملونة حمراء مثلً ثم وضعناها في‬
‫قارورة‪ ،‬ثم رججنا القارورة نجد أن السنتيمتر المكعب من المادة الحمراء قد ساح في القارورة‬
‫وصار في كل قطرة من القارورة جزء من المادة الملونة‪ ،‬وهب أننا أخذنا القارورة ووضعناها‬
‫في برميل‪ ،‬ثم رججنا البرميل جيدا سنجد أيضا أن في كل قطرة من البرميل جزءا من المادة‬
‫الملونة‪ ،‬فإذا أخذنا البرميل ورميناه في البحر فستنساب المادة الملونة ليصير في كل قطرة من‬
‫البحر ذرة متناهية من المادة الملونة‪.‬‬
‫إذن ما دام آدم هو الصل‪ ،‬وما دمنا ناشئين من آدم‪ ،‬وما دام الحق قد أخذ حواء من آدم الحي‬
‫فصارت حية‪ ،‬إذن فحياتها موصولة بآدم وفيها من آدم‪ ،‬وخرج من آدم وحواء أولد فيهم جزء‬
‫حي‪ ،‬وبذلك يردنا الحق سبحانه إلى أصل واحد؛ ليثير ويحرك فينا أصول التراحم والتواد‬
‫والتعاطف‪.‬‬

‫ويقول سبحانه‪َ } :‬فمُسْ َتقَ ّر َومُسْ َتوْ َدعٌ { والمستقر له معان متعددة يشرحها الحق سبحانه وتعالى في‬
‫شهَا }[النمل‪.]38 :‬‬
‫قرآنه‪ .‬وفي قصة عرش بلقيس نجد سيدنا سليمان يقول‪ {:‬أَ ّيكُمْ يَأْتِينِي ِبعَرْ ِ‬
‫وأجاب على سيدنا سليمان عفريت من الجن‪ ،‬وكذلك أجاب من عنده علم من الكتاب‪ .‬ويقول الحق‬
‫سبحانه‪ {:‬فََلمّا رَآهُ مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ }[النمل‪.]40 :‬‬
‫مستقر هنا إذن تعني حاضرا؛ لن العرش لم يكن موجودا بالمجلس بل أحضر إليه‪ .‬وفي مسألة‬
‫الرؤية التي شاءها الحق لسيدنا موسى عليه السلم‪ {:‬قَالَ َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ قَالَ لَن تَرَانِي‬
‫س ْوفَ تَرَانِي }[العراف‪.]143 :‬‬
‫وَلَـاكِنِ ا ْنظُرْ إِلَى ا ْلجَ َبلِ فَإِنِ اسْ َتقَرّ َمكَانَهُ فَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونعلم أن جبريل كان له استقرار قبل الكلم‪ ،‬إذن فـ " استقر " تأتي بمعنى حضر‪ ،‬وتأتي مرة‬
‫أخرى بمعنى ثبت‪.‬‬
‫والحق يقول‪ {:‬وََلكُمْ فِي الَ ْرضِ ُمسْ َتقَرّ َومَتَاعٌ إِلَىا حِينٍ }[العراف‪.]24 :‬‬
‫وذلك بلغ عن مدة وجودنا في الدنيا‪ ،‬وكذلك يقول الحق‪َ {:‬أصْحَابُ الْجَنّةِ َي ْومَئِذٍ خَيْرٌ مّسْ َتقَرّا }‬
‫[الفرقان‪.]24 :‬‬
‫إذن فالجنة أيضا مستقر‪ ،‬وكذلك النار مستقر للكافرين‪ ،‬يقول عنها الحق‪ {:‬إِ ّنهَا سَآ َءتْ مُسْ َتقَرّا‬
‫َومُقَاما }[الفرقان‪.]66 :‬‬
‫إذن فمستقر تأتي بمعنى حاضر‪ ،‬أو ثابت‪ ،‬أو كتعبير عن مدّة وزمن الحياة في الدنيا‪ ،‬والجنة أيضا‬
‫مستقر‪ ،‬وكذلك النار‪ .‬ولذلك اختلف العلماء ونظر كل واحد منهم إلى معنى‪ ،‬منهم من يقول‪" :‬‬
‫مستقر " في الصلب ثم استودعنا الحق في الرحام‪ .‬ومنهم من رأى أن " مستقر " مقصود به‬
‫البقاء في الدنيا ثم نستودع في القبور‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬إن الستقرار أساسه " قرار " حضور أو ثبات‪ ،‬وكل شيء بحسبه‪ ،‬وفيه استقرار يتلوه‬
‫استقرار يتلوه استقرار إلى أن يوجد الستقرار الخير‪ ،‬وهو ما يطمع فيه المؤمنون‪.‬‬
‫وهذا هو الستقرار الذي ليس من بعده حركة‪ ،‬أما الستقرار الول في الحياة فقد يكون فيه تغير‬
‫من حال إلى حال‪ ،‬لقد كنا مستقرين في الصلب‪ ،‬ثم بعد ذلك استودعنا الحق في الرحام‪ ،‬وكنا‬
‫مستقرين في الدنيا ثم استودعنا‪ .‬في القبور‪ .‬حتى نستقر في الخرة‪ .‬إن كل عالم من العلماء أخذ‬
‫معنى من هذه المعاني‪ .‬والشاعر يقول‪:‬وما المال والهلون إل ودائع ول بد يوما أن ترد‬
‫الودائعونلحظ أن هناك كلمة " مُسْ َتقَرّ " وكلمة " مستودع " ‪ ،‬و " مستودع " هو شيء أوقع غيره‬
‫عليه أن يودع‪ .‬ولكن " مُسْ َتقَرّ " دليل على أن المسألة ليست خاضعة لرادة النسان‪ .‬فكل واحد‬
‫منا " مُسْ َتقَرّ " به‪.‬‬
‫ويقول الحق‪َ } :‬قدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِل َقوْمٍ َيفْ َقهُونَ { والتفصيل يعني أنه جاء باليات مرة مفصلة ومرة‬
‫مجملة؛ لن الفهام مختلفة‪ ،‬وظروف الستقبال للمعاني مختلفة‪ ،‬فتفصيل اليات أريد به أن‬
‫يصادف كل تفصيل حالة من حالت النفس البشرية؛ لذلك لم يترك الحق لحد مجالً في أل يفقه‪،‬‬
‫ولم يترك لحد مجالً في أل يتعلم‪ ،‬ونلحظ أن تذييل اليتين المتتابعتين مختلف؛ فهناك يقول‬
‫سبحانه‪:‬‬

‫{ َقدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ }[النعام‪.]97 :‬‬


‫وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى‪َ } :‬قدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْفقَهُونَ { [النعام‪.]98 :‬‬
‫و " الفقه " هو أن تفهم‪ ،‬أي أن يكون عندك ملكة فهم تفهم بها ما يقال لك علْما‪ ،‬فالفهم أول مرحلة‬
‫والعلم مرحلة تالية‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأراد الحق بالتفصيل الول في قوله‪ِ } :‬ل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ { الدعوة للنظر في آيات خارجة عن ذات‬
‫النسان‪ ،‬وهنا أي في قوله سبحانه‪ِ } :‬لقَوْمٍ َي ْف َقهُونَ { لفت للنظر والتدبر في آيات داخلة في ذات‬
‫النسان‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَ ُهوَ الّذِي أَن َزلَ‪{ ...‬‬

‫(‪)878 /‬‬

‫خضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّا‬


‫شيْءٍ فَأَخْ َرجْنَا مِنْهُ َ‬
‫سمَاءِ مَاءً فََأخْرَجْنَا ِبهِ نَبَاتَ ُكلّ َ‬
‫وَ ُهوَ الّذِي أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫ب وَالزّيْتُونَ وَال ّرمّانَ ُمشْتَ ِبهًا وَغَيْرَ‬
‫خلِ مِنْ طَ ْل ِعهَا قِ ْنوَانٌ دَانِيَ ٌة وَجَنّاتٍ مِنْ أَعْنَا ٍ‬
‫مُتَرَاكِبًا َومِنَ النّ ْ‬
‫مُتَشَابِهٍ ا ْنظُرُوا إِلَى َثمَ ِرهِ إِذَا أَ ْثمَرَ وَيَ ْنعِهِ إِنّ فِي ذَِلكُمْ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ (‪)99‬‬

‫كان السياق يقتضي أن يقول سبحانه‪ :‬أنزل من السماء ماء " فأخرج "‪.‬‬
‫لكنه هنا قال‪ " :‬فأخرجنا "؛ لن كل شيء ل يوجد ل فيه شبهة شريك؛ فهو من عمله فقط‪ ،‬ول‬
‫يقولن أحد إنه أنزل المطر وأخرج النبات لن الرض أرض ال المخلوقة له والبذور خلقها ال‪،‬‬
‫والنسان يفكر بعقل خلقه ال وبالطاقة المخلوقة له‪ .‬وأنت حين تنسب الحاجات كلها إلى صانعها‬
‫الول‪ ،‬فهو إذن الذي فعل‪ ،‬لكنه احترم تعبك‪ ،‬وهو يوضح لك‪ :‬حين قال‪ " :‬فأخرجنا " أي أنا‬
‫وأسبابي التي منحتها لك‪ ،‬أنا خلقت السباب‪ ،‬والسباب عملت معك‪ .‬فإذا نظرت إلى مسبب‬
‫السباب فهو الفاعل لكل شيء‪ .‬وإن نظرت إلى ظاهرية التجمع والحركة فالسباب التي باشرها‬
‫النسان موجودة؛ لذلك يقول‪ " :‬فأخرجنا "‪.‬‬
‫وسبحانه جل وعل قد يتكلم في بعض المواقف فيثبت للنسان عملً لنه قام به بأسباب ال‬
‫الممنوحة له‪ ،‬ولكنه ينفي عنه عملً آخر ليس له فيه دخل بأي صورة من الصور؛ مثل قوله‬
‫الحق‪َ {:‬أفَرَأَيْتُم مّا َتحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة‪.]64-63 :‬‬
‫سبحانه هنا ينسب لنا الحرث لننا قمنا به ولكن بأسباب منه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فهو الذي أنزل لنا‬
‫الحديد الذي صنعنا منه المحراث وهدانا إلى تشكيله بعد أن ألنه لنا بالنار التي خلقها لنا‪،‬‬
‫وبالطاقة التي أعطانا إياها‪ ،‬أما الزراعة فليس لحد منا فيها عمل ولذلك يقول سبحانه‪َ {:‬لوْ نَشَآءُ‬
‫جعَلْنَاهُ حُطَاما َفظَلْتُمْ َت َف ّكهُونَ }[الواقعة‪.]65 :‬‬
‫لَ َ‬
‫هنا ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أتى باللم في قوله تعالى‪( :‬لجعلناه) للتأكيد؛ لن النسان له في هذا المر عمل‪،‬‬
‫إنه حرث وتعهد ما زرعه بالريّ والكد حتى نما وأثمر‪ ،‬لكن قد تصيبه آفة تقضي عليه‪ ،‬فالسباب‬
‫وإن كانت قد عملت إل أنها ل تضمن النتفاع بثمرة الزرع‪ ،‬ذلك لن السباب ل تتمرد‪ ،‬ول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تتأبى على ال ول تخرج عليه‪ ،‬إنها تؤدي ما يريده منها ال‪ ،‬وقد يعطلها سبحانه‪ .‬أما في قوله‬
‫تعالى‪َ { :‬أفَرَأَيْتُمُ ا ْلمَآءَ الّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَن ُتمْ أَنزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ * َلوْ نَشَآءُ‬
‫جعَلْنَاهُ ُأجَاجا } ‪ ،‬إنه سبحانه لم يقل لجعلناه‪ ،‬لنه ليس لحد فيه عمل لذلك لم يؤكده باللم‪.‬‬
‫َ‬
‫ويقول سبحانه‪َ {:‬أفَرَأَيْ ُتمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَ َتهَآ َأمْ نَحْنُ ا ْلمُنشِئُونَ * نَحْنُ‬
‫جعَلْنَاهَا تَ ْذكِ َر ًة َومَتَاعا لّ ْل ُمقْوِينَ }[الواقعة‪.]73-71 :‬‬
‫َ‬
‫إن كل شيء يذكره الحق يذكر معه أيضا ما ينقضه‪ ،‬ذلك حتى ل ُيفْتَن النسان بوجود الشياء‪،‬‬
‫وعليه أن يستقبل الشياء مع إمكان إعدامها‪ .‬وإذا ما كان النسان هو الذي يحرث فالحق بطلقة‬
‫قدرته قد يجعل النبات حطاما‪ ،‬ومن قبل قال عن مقومات الحياة‪َ {:‬أفَرَأَيْ ُتمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَنتُمْ‬
‫تَخُْلقُونَهُ أَم نَحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ }‬

‫[الواقعة‪.]59-58 :‬‬
‫ثم جاء سبحانه بما ينقضه فقال‪َ } :‬نحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َن ُكمُ ا ْل َم ْوتَ {‪ .‬أما عن النار فلم يقل ‪ -‬سبحانه ‪-‬‬
‫إنه يقضي عليها ويخمدها ويطفئها‪ ،‬إنه ‪ -‬جل شأنه ‪ -‬أبقاها ليعلمنا ويذكرنا بنار الخرة } نَحْنُ‬
‫جعَلْنَاهَا تَ ْذكِ َرةً { أي ل بد أن نتركها أمامكم حتى ل يغيب عنكم العذاب الخروي } َومَتَاعا‬
‫َ‬
‫لّ ْل ُمقْوِينَ { أي ونتركها ‪ -‬جون نقض لها وذلك لمر آخر هو المنفعة في الدنيا للذين ينزلون أماكن‬
‫خالية قفراء أو للذين خلت بطونهم وأوعيتهم ومزاودهم من الطعام لن النار تنفعهم وتساعدهم‬
‫شيْءٍ { [النعام‪.]99 :‬‬
‫على إعداد طعامهم استبقاء لحياتهم‪ } :‬فََأخْرَجْنَا ِبهِ نَبَاتَ ُكلّ َ‬
‫والشيء هو ما ُيخْبَر عنه؛ الهباءة شيء‪ ،‬والذرة شيء وكل حاجة اسمها شيء‪ ،‬ومعنى نبات كل‬
‫شيء‪ :‬أن كل حاجة مثل النبات تماما‪ .‬رأينا الحجارة التي يقول عنها العلماء هذه جرانيت‪ ،‬وتلك‬
‫الرخام وتلك مرمر‪ ،‬ولو نظرت إلى أصلها وجدتها أعمارا للحجارة‪ ،‬طال عمر حجر ما فصارا‬
‫فحما‪ ،‬وطال عمر آخر فصار جرانيتا‪ ،‬وهكذا‪ .‬وكل حاجة لها حياة لتثبت لنا القضية الولى‪،‬‬
‫جهَهُ }[القصص‪]88 :‬‬
‫ل وَ ْ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ‬
‫وهي‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫أو نبات كل شيء ترون فيه نموا وحياة‪ ،‬والعقل الفطري يأخذها هكذا‪ ،‬لكن العقل المستوعب يأخذ‬
‫منها قضايا كثيرة‪ ،‬ويتغلغل في الكون ويجد الية سابحة معه وهو سابح معها‪.‬‬
‫خضِر " فقد تعني‬
‫خضِرا نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مّتَرَاكِبا { وإذا قلت كلمة " َ‬
‫ويتابع سبحانه‪ } :‬فَأَخْ َرجْنَا مِنْهُ َ‬
‫اللون المعروف لنا وهو الخضر‪ ،‬لكن " خضر " فيها وصف زائد قليلً عن أخضر؛ لن "‬
‫أخضر " يخبر عن لون فقط‪ ،‬واللون متعلقة العين‪ ،‬لكن " خضر " يعطي اللون‪ ،‬ويعطي‬
‫الغضاضة ونعرفها " بالحس "‪ .‬وحين تلمسه تجد النعومة‪.‬‬
‫إذن " خضر " فيها أشياء كثيرة؛ " لون " متعلق العين‪ ،‬و " غضاضة " نعرفها بالحس وفيها نعومة‬
‫نعرفها باللمس‪ .‬وهذا اللون الخضر يكون داكنا جدا أي أن خضرته شديدة حتى أنها تضرب إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السواد؛ لذلك نسمع من يقول‪ " :‬سواد العرق " أي الرض الخصبة التي في العراق‪ ،‬ويسمونها‬
‫سواد العرق لنها خضراء خضرة شديدة ولذلك تكون مائلة إلى السواد‪ ،‬ويقول الحق سبحانه‬
‫وتعالى‪َ {:‬ومِن دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * مُدْهَآمّتَانِ }[الرحمن‪.]64-62 :‬‬
‫و " مدهامة " أي مثل دهمة الليل؛ كأنها من شدة خضرتها صارت كدهمة الليل‪ .‬ويتابع الحق }‬
‫خضِرا نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مّتَرَاكِبا { والحب هو ما ليس له نواة مثل حبة الشعير وحبة القمح وحبة‬
‫َ‬
‫العدس وحبة اللوبيا‪ .‬و " متراكبا " تعني أنه حب مرصوص متساند‪.‬‬
‫خلِ مِن طَ ْل ِعهَا قِ ْنوَانٌ دَانِ َيةٌ { والنخل عند العرب له مكانة عالية لنه يعطي لهم الغذاء‬
‫} َومِنَ النّ ْ‬
‫خلِ مِن طَ ْل ِعهَا قِ ْنوَانٌ دَانِيَةٌ {‪.‬‬
‫الدائم فيذكرهم به } َومِنَ النّ ْ‬

‫و " الطلع " هو أول شيء يبدو من ثمر النخل‪ ،‬وهو ما نسميه في الريف " الكوز الخضر " وهو‬
‫في الذكر من النخل الذي يسمى " الفحل " ويوجد أيضا في النثى‪ ،‬وأول ما يبدو من ثمر النخل‬
‫يسمى الطلع‪ ،‬ثم ينشق الطلع ويخرج منه القنو أو العزق أو العرجون‪ ،‬وهو الجزء الذي توجد فيه‬
‫الشماريخ التي يتعلق بها البلح‪.‬‬
‫والطلع إذن هو الثمرة الولى للنخلة قبل أن تنشق ويطلع منها القنوان وهو " السباطة " كما‬
‫نسميها في الريف‪.‬‬
‫" قنوان دانية " ويصفها الحق بأنها دانية لنك حين تنظر طلع النخيل أول ما يطلع تجده ينشق‬
‫ويحمي نفسه بشوك الجريد حتى ل تأكله الحشرات ثم يثقل وينحني ويكاد ينزل على الرض‬
‫فيكون دانيا قريبا‪ ،‬فإن كانت هناك " سباطة " شاذة تجد من يجنيها يُدخل يده بين الشوك ليصل‬
‫إليها‪ .‬وسبحانه يترك لنا فلتات لنعرف نعمة ال في أنه جعلها تتدلى لنها لو كانت كلها دانية‪ .‬قد‬
‫ل يلتفت إليها‪ ،‬لذلك يترك واحدة بين الشوك ليتعب النسان حتى يحصل عليها لتعرف أنه سبحانه‬
‫قد دنّى لك الباقي وهذه نعمة من ال‪.‬‬
‫ويُطلق الطلع مرة على الكمام و " الكِم " هو ما توجد في قلبه الثمار‪ ،‬ومرة يطلق على الثمر‬
‫سقَاتٍ ّلهَا طَلْعٌ ّنضِيدٌ }[ق‪.]10 :‬‬
‫خلَ بَا ِ‬
‫نفسه‪ {:‬وَالنّ ْ‬
‫وأنت ترى البلح نازلً من " الشماريخ " ‪ ،‬وكل شمروخ به عدد من البلح‪ ،‬ثم ترى " الشمروخ "‬
‫متصلً بالم‪ ،‬وفي ذلك ترى عظمة الهندسة العجيبة في ترتيب الثمار‪ .‬وكل شيء محسوب في‬
‫هذا المر بهندسة عجيبة وعندما ننظر إلى ما تعلمناه في حياتنا حين نصمم شبكة توصيل المياه‬
‫وشبكة الصرف الصحي‪ ،‬إن شبكة المياه التي تعطينا الذي نستخدمه‪ ،‬وشبكة الصرف الصحي‬
‫التي تأخذ الزائد من المياه والفضلت‪ .‬عندما تنظر إلى هذه الشبكة أو تلك تجد هندسة كل منها‬
‫دقيقة؛ لن أي غفلة في التصميم تسبب المتاعب‪ .‬فحين تريد توصيل المياع إلى حارة؛ فأنت‬
‫تستخدم ماسورة قطرها كذا بوصة‪ ،‬وفي الحارة هناك عطفات فتحضر لكل عطفة ماسورة أقل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قطرا من الولى‪ ،‬ثم ماسورة أقل للبيوت‪ ،‬وماسورة أقل بكثير لكل شقة‪ ،‬لقد قام المهندسون‬
‫بحساب دقيق لهذه المسائل‪.‬‬
‫فإذا كانت هذه هي هندسة البشر‪ ،‬فما بالنا بهندسة الخالق؟ أنت تجد العزق‪ :‬وهو حامل الرطب‬
‫يأخذ من النخلة‪ ،‬وكل نخلة فيها كذا " سباطة " وفي كل " سباطة " هناك " الشماريخ " ‪ ،‬ثم هناك‬
‫البلح وكل بلحة تأخذ شعرة لغذائها‪ .‬وهكذا نجد كل شيء محسوبا بدقة بالغة‪ .‬إنها هندسة كونية‬
‫سوّىا * وَالّذِي َقدّرَ َفهَدَىا }‬
‫عجيبة مصنوعة بقول الحق‪ :‬كن‪ ،‬وصدق ال القائل‪ {:‬الّذِي خََلقَ فَ َ‬

‫[العلى‪.]3-2 :‬‬
‫سمَآءِ مَآءً { لم نكن نعرف ما‬
‫سمَآءِ مَآءً { وكلمة } وَ ُهوَ الّذِي أَن َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫} وَ ُهوَ الّذِي أَن َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫وراءها‪ ،‬كنا نعرف فقط أن السماء هي كل ما علك فأظللك‪ ،‬والماء يأتي من السحاب‪ ،‬وكلنا نرى‬
‫السماء تمطر‪ .‬وكلنا نعرف التعبير الفطري الذي يقول‪ :‬غامت السماء‪ ،‬ثم أمطرت‪ ،‬وهناك من‬
‫قال‪ :‬تضحك الرض من بكاء السماء لنها تستقبل الماء الذي يروي ما بها من بذور‪ .‬لكن ما‬
‫وراء عملية النزال هذه؟‬
‫إن هناك عملية أخرى تحدث في الكون دون شعور منا‪ ،‬عرفناها فقط حين تقدم العلم وحين قمنا‬
‫بتقطير المياه‪ ،‬فأحضرنا موقدا ووضعنا فوقه قارورة ماء‪ ،‬وحين وصل إلى نقطة الغليان خرج‬
‫البخار‪ ،‬وسار البخار في النابيب ومرت النابيب في أوساط باردة فتكثفت المياه ونزلت ماء‬
‫مقطرا‪ ،‬ومثل ذلك يحدث في المطر‪ ،‬وانظر كم يكلفنا كوب واحد من الماء المقطر الذي نشتريه‬
‫من الصيدلية؟ وقارن ذلك بالسماء التي تنزل بماء منهمر‪ ،‬ول ندري كيق صُنع‪ .‬ولذلك يقول‬
‫الحق‪َ {:‬أأَنتُمْ أَنزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ َأمْ نَحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ }[الواقعة‪.]69 :‬‬
‫خلِ‬
‫هكذا ينزل الماء من السماء‪ ،‬ولم نكن نعرف كيف يحدث ذلك وسبحانه يقول هنا‪َ } :‬ومِنَ النّ ْ‬
‫ب وَالزّيْتُونَ وَال ّرمّانَ ُمشْتَبِها وَغَيْرَ مُ َتشَابِه { [النعام‪.]99 :‬‬
‫مِن طَ ْل ِعهَا قِ ْنوَانٌ دَانِ َي ٌة وَجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَا ٍ‬
‫وحين يقول سبحانه } مُشْتَبِها وَغَيْرَ مُتَشَابِه { نصدق‪ ،‬مثال حبة الخوخ‪ ،‬هناك حبة من نوع نسميه‬
‫" الخوخ السلطاني " ‪ ،‬حين تمسك بالثمرة الواحدة تنفلق لتخرج البذرة نظيفة‪ ،‬وحبة أخرى نفلقها‬
‫نحن فتجد البذرة فيها بعض لحم الفاكهة ونجد فيها أيضا بعضا من اللياف‪ .‬وهذه لها لون‬
‫ضهَا عَلَىا‬
‫ضلُ َب ْع َ‬
‫سقَىا ِبمَآءٍ وَاحِ ٍد وَ ُن َف ّ‬
‫والخرى لها لون‪ ،‬هذه لها طعم وتلك لها طعم مختلف‪ُ {.‬ي ْ‬
‫ل ُكلِ }[الرعد‪.]4 :‬‬
‫َب ْعضٍ فِي ا ُ‬
‫هذا ليعرف النسان أن طلقة القدرة تحقق ما يريده الخالق‪ ،‬وبعد ذلك تلتفت فتجد الفصائل‪ ،‬فهذا‬
‫برتقال منه بسرّة‪ ،‬ومنه برتقال بلدي‪ .‬وبرتقال بدمّه ثم اليوسفي‪ .‬ولذلك سنجد في الجنة ما يحدثنا‬
‫عنه سبحانه فيقول‪ {:‬كُّلمَا رُ ِزقُواْ مِ ْنهَا مِن َثمَ َرةٍ رّزْقا قَالُواْ هَـاذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِن قَ ْبلُ وَأُتُواْ بِهِ‬
‫مُتَشَابِها }[البقرة‪.]25 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحين يأكل منه ساكن الجنة يكتشف أن لفاكهة الجنة طعما مختلفا‪ .‬ومن طلقة القدرة أنه بعد‬
‫التحليلت التي قام بها العلماء المعمليون ‪ -‬جزاهم ال عنا خيرا ‪ -‬لـ " حبة العنب " وجدوا أن‬
‫القشرة التي تغلفها لها طبيعة " البارد " و " اليابس " ‪ ،‬واللحم لحبة العنب طبيعته مختلفة " حار‬
‫رطب " ثم البذرة " بارد يابس " ‪ ،‬وهذه ثلث طبائع في الحبة الواحدة‪ ،‬وهذا شيء عجيب‬
‫التكوين‪ .‬وكذلك " الترجة " وهي فاكة كالنارنج تجد القشرة " حارة يابسة " ‪ ،‬واللحم فيها " بارد‬
‫رطب " ‪ ،‬والسائل الذي في اللحم " بارد يابس " والبذرة " حار يابس " ‪ ،‬طبائع أربعة في الشيء‬
‫الواحد‪ ،‬كيف؟ وبأية قدرة؟‬
‫إن العلماء قد تعبوا حتى عرفوا تكوينها ليظهروا لنا المسألة‪ ،‬وتلتفت لتجد ثمرة تأكل ظاهرها‪،‬‬
‫وباطنها بذرة‪ ،‬وثمرة ثانية تأكل ما في داخلها كالجوز أو اللوز‪ ،‬وتقشر القشرة وتلقيها‪ ،‬والخوخة‬
‫تأكل لحمها وتترك بذرتها‪ ،‬وذلك لتعرف أن المسألة ليست آلية خلق بل إبداع خالق‪.‬‬

‫وتجد الشيء له اللون‪ ،‬واللون بل طعم‪ ،‬ثم الرائحة المميزة وكل ذلك دليل على طلقة القدرة‪.‬‬
‫وهذا هو السبب في أن الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن ثمار الجنة يأتي بثمار مثلها في‬
‫الدنيا؛ لنه لو أحضر ثمارا ليس لها مثيل في الدنيا لقال النسان‪ :‬هذه طبيعة الثمار‪ ،‬ولو وجدت‬
‫في الدنيا لكان لها طعم مماثل‪ .‬لكن هاهي ذي تتشابه‪ ،‬وطعومها مختلفة‪ ..‬إنها طلقة القدرة‪.‬‬
‫ويقول الحق‪ } :‬ا ْنظُرُواْ إِلِىا َثمَ ِرهِ إِذَآ أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ { الحق سبحانه وتعالى ل يعطي النسان حتى‬
‫يمل بطنه فحسب ل‪ ،‬ولكنه يغذي كل الملكات في النفس النسانية حتى ملكات الترف‪ ،‬وملكات‬
‫الجمال‪ ،‬وملكات الحسن‪ ،‬فيوضح لك قبل أن تأكل‪ :‬انظر للثمر وشكله! لتغذي عينيك بالمنظر‬
‫الجميل حين ترى الثمرة طالعة وتتبعها حتى تنضج‪ ،‬إنّها مراحل عجيبة تدل على أن الصانع‬
‫قيّوم‪ ،‬وكل يوم لها شكل مختلف وحجم مختلف‪ ،‬وإن أكلتها اليوم فستجد طعمها يختلف عما إذا‬
‫أكلتها بعد ذلك بيوم‪ ،‬وهذا دليل على أن خالقها قيّوم عليها‪ .‬ما دامت كل لحظة من اللحظات فيها‬
‫شكل‪ ،‬وفيها لون وفيها طعم وفيها رائحة جديدة‪.‬‬
‫} ا ْنظُرُواْ إِلِىا َثمَ ِرهِ إِذَآ أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ { ‪ ،‬و " ينعه " أي وصلت إلى النضج وذلك إشاعة للتمتع بنعم‬
‫الكون لن النظر إلى الثمر ل يعني أنني أملكه‪ ،‬فقد أراه في حقل جاري وأنظر له وأتمتع بشكله‪.‬‬
‫إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يشيع النتفاع بنعم ال حتى عند غير واجدها‪ ،‬لن أحدا لن‬
‫يمنعني من أن أنظر‪ ،‬فأنبسط‪ ،‬فمن ناحية الكمال النساني هناك غذاء لملكات النفس؛ لن النفس‬
‫ليست ملكات جوع وعطش فقط بل هي ملكات متعددة‪ ،‬وكل ملكة لها غذاؤها‪ .‬ولذلك فقبل أن‬
‫جمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ َوحِينَ‬
‫يقول لي‪ :‬إن الخيل والبغال تحمل الثقال‪ ..‬قال سبحانه‪ {:‬وََلكُمْ فِيهَا َ‬
‫ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَىا بَلَدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ بِشِقّ الَنفُسِ إِنّ رَ ّب ُكمْ لَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ }‬
‫تَسْ َرحُونَ * وَتَ ْ‬
‫[النحل‪.]7-6 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن فهو يعطيني فائدة حمل الثقال؛ لن حمل الثقال لمن يملكها‪ ،‬إنما الذي ل يملكها فهو يرى‬
‫الحصان يسير بجمال‪ ،‬فيسعد برؤيته فيتمتع بما ل يملك‪ ،‬هذه إشاعة لنعم ال على خلق ال‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية الكريمة بقوله‪ } :‬إِنّ فِي ذاِلكُمْ ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ {‬
‫أي يؤمنون بأن الله الذي آمنوا به يستحق بصفات الجلل والجمال فيه أن ُي ْؤمَن به‪ ،‬وكلما رأى‬
‫النسان خلقا جميلً قال‪ :‬ال‪ ،‬إذن أنا إيماني صحيح واليات تؤكد صدق إيماني بالله الذي خلق‬
‫كل هذا‪ ،‬وكل يوم تبدو لي حاجة عجيبة تزيدني إيمانا‪ ،‬وعقلي الذي وهبه ال لي هداني إلى‬
‫اليمان بهذا الله‪.‬‬

‫ومن العجيب ان هناك من جعلوا ل شركاء!! إله له كل هذه الصفات من أول فالق الحب والنوى‪،‬‬
‫وفالق الصباح‪ ،‬وجعل الليل ساكنا‪ ،‬والشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬حسابنا وبحسبان‪ ،‬والنجوم نهتدي بها في‬
‫ظلمات البر والبحر‪ ،‬وأنزل لنا من السماء ماء‪ ،‬وأخرج لنا النبات منه خضر‪ ،‬كل هذه المسائل‬
‫كان يجب أن تكون صارفة للناس إلى أن ال وحده هو الخالق المستحق للعبادة‪ ،‬ول تتجه أبدا‬
‫بالعبادة أو باليمان بغيره‪ ،‬لكن هناك من جعلوا ل شركاء‪ ،‬وجاء بها سبحانه بعد كل ذلك حتى‬
‫يحفظنا ويغضبنا عليهم لنحذرهم ونتقيهم‪.‬‬
‫وإذا أحفظنا عليهم استحمدنا أي استوجب علينا حمد إذْ أنه هدانا إلى اليمان‪ ،‬فنقول‪ :‬الحمد ل‬
‫الذي هدانا إلى اليمان‪.‬‬
‫جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ‪{ ...‬‬
‫وبعد ذلك يقول الحق سبحانه‪َ } :‬و َ‬

‫(‪)879 /‬‬

‫عمّا َيصِفُونَ (‬
‫ن وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ‬
‫ن وَخََل َقهُ ْم وَخَ َرقُوا لَهُ بَنِي َ‬
‫جعَلُوا لِلّهِ شُ َركَاءَ ا ْلجِ ّ‬
‫وَ َ‬
‫‪)100‬‬

‫ومادة الجن هي " الجيم " و " النون " وكلها تدل على الستر والتغطية والتغليف‪ ،‬ومنها الجنون‪،‬‬
‫لن العقل في هذه الحالة يكون مستورا‪ ،‬ونحن ل نرى الجن‪ ،‬فهم مستورون‪ ،‬والملئكة كذلك‪،‬‬
‫والمادة كلها مادة " الجيم " و " النون " تدل على اللف والتغطية‪.‬‬
‫جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ الْجِنّ } و " الجن " هو الخفي من كل شيء‪ ،‬والجن ‪ -‬كما تعلمون ‪ -‬هم خلق‬
‫{ وَ َ‬
‫من خلق ال فسبحانه خلق النس وخلق الجن‪ ،‬خلق الجن مستورا حتى ل نعتقد أن خلق ال لحي‬
‫كائن‪ ،‬يجب أن يتمثل في هذا القالب المادي‪ ،‬بل سبحانه يخلق ما شاء وكما شاء‪ ،‬فيخلق أشياء‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مستورة ل تُرى‪ ،‬ولها حياة‪ ،‬ولها تناسل‪ ،‬ويخلق أشياء مستورة‪ ،‬ول تناسل لها‪ :‬كل ذلك بطلقة‬
‫قدرة الحق سبحانه‪ ،‬ليقرب لنا هذه القضية؛ لن عقولنا قد تقف في بعض الشياء التي ل تدرك‬
‫ول ترى؛ لننا ل نعلم وجودا لشيء إل إذا أحسسناه‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه يوضح ذلك‪ .‬فإياك أن تظن أنك تستطيع أن تدرك كل ما خلقه ال‪ ،‬فليس حسك‬
‫هو الوسيلة الوحيدة للدراك لن حسك له قوانين تضبطه‪ ،‬فأنت ترى‪ ،‬ولكنك ترى بقانون‪ ،‬بحيث‬
‫إذا بعد المرئي عنك امتدادا فوق امتداد بصرك فل تراه وكذلك أذنك تسمع‪ ،‬فإن بعد الصوت أو‬
‫مصدر الصوت عنك بحيث ل تصل الذبذبة إليك‪ ،‬فل تسمع‪ ،‬كذلك عقلك‪ ،‬قد تفهم أشياء ول تفهم‬
‫ل تقرب لنا ذلك الخلق الخفي من الجن ومن‬
‫أشياء أخرى‪ ،‬ثم ضرب لنا في وجودنا المادي أمثا ً‬
‫الملئكة‪.‬‬
‫لقد وجدنا العقل البشري قد هداه ال الذي قدر فهدى‪ ،‬إلى أن يكتشف شيئا اسمه " الميكروب " و "‬
‫الميكروب " كائن حي دقيق جدا بحيث إن البصر العادي ل يدركه‪ ،‬ولكنه كان موجودا‪ ،‬وفعل‬
‫الفاعيل في الناس ودخل في أجسامهم دون أن يشعروا كيف دخل وعمل فيهم وفي صحتهم ما‬
‫عمل من الهلك والموت مثل أمراض الطاعون والكوليرا وغيرها‪ ،‬ومع ذلك فالميكروب كان‬
‫موجودا ومن جنس وجودنا‪ ،‬أي هو مادة وله حياة وله فعل‪ ،‬وله نفوذ في الهيكل الذي يدرك وهو‬
‫النسان‪.‬‬
‫وهكذا رأينا أن شيئا خفيا ل يدرك ويهدد إنسانا ضخما يدرك‪ ،‬فهل معنى اكتشاف الميكروب أننا‬
‫أوجدناه؟ ل‪ ،‬إن وجود الميكروب شيء‪ ،‬وإدراك وجوده شيء آخر‪ ،‬وإذا حللنا " الميكروب " نجد‬
‫أنه مادة النسان ولكنه دقيق جدا حتى إن العين المجردة ل تراه‪ ،‬فلما اكتشف المجهر وكبرناه‬
‫عرفناه‪ ،‬وهذا الكائن الحي إن كنت ل تراه‪ ،‬فعدم رؤيتك له سابقا ل تعني أنه غير موجود‪ ،‬بل هو‬
‫موجود ولكنك لم تدركه‪ ،‬ثم اكتشفت ‪ -‬أيها النسان ‪ -‬آلة جعلتك تدركه‪ ،‬ولنعرف أن وجود شيء‬
‫ل يعني أنك من الضروري أن تدركه‪ ،‬فإذا قال ال لك‪ :‬لي ملئكة من خلقي‪ ،‬ولي جن من خلقي‪،‬‬
‫ولكنكم ل ترونهم وهم يرونكم‪ ،‬نقول‪ :‬صدقت يا ربي‪ ،‬لن شيئا من جنس مادتنا كان موجودا ول‬
‫نراه ثم بعد ذلك رأيناه‪.‬‬

‫إذن فالشياء التي نكتشفها الن هي دليل على صدق البلغ القرآني بما أخبر به من المور‬
‫الغيبية‪ ،‬الجن مستور‪ ،‬والمادة كلها ‪ -‬كما بينا ‪ -‬تدل على الستر‪ ،‬فالجنون غياب العقل‪ ،‬وجن‬
‫الليل‪ ،‬أي ستر وغطى‪ ،‬والجنة لن فيها أشجارا وغير ذلك بحيث ل يظهر الذي يسير فيها فتكون‬
‫ساترة لمن يدخلها‪.‬‬
‫إذن المادة كلها تدل على الستر‪ ،‬وهل الذي نتعجب منه أنهم جعلوا الجن شركاء‪ ،‬أو أن التعجيب‬
‫ليس من جعل الجن شركاء بل من اتخاذ مبدأ الشركاء‪ ،‬سواء أكان جنا أم غير جن‪ ،‬إن التعجيب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هنا من المبدأ نفسه‪ ،‬فنحن ل نعترض فقط على أن الجن شركاء‪ ،‬بل نحن نعترض على المبدأ‬
‫نفسه‪ ،‬أن يكون ل شريك من جن أو من ملئكة أو من غير ذلك‪ ،‬ولهذا قدم المجعول ‪ -‬وهو‬
‫الشريك ‪ -‬على المجعول منه ‪ -‬وهو الجن ‪ -‬مع أن العادة أن يقدم المجعول منه على المجعول‪،‬‬
‫فتقول جعلت الطين إبريقا أي‪ :‬أن الطين كان موجودا‪ ،‬وأخذت منه الذي لم يكن موجودا وهو‬
‫البريق‪.‬‬
‫ثم هل كان الشركاء موجودين وطرأ الجن عليهم؟ أو كان الجن موجودا وطرأ الشركاء عليهم؟ في‬
‫هذه الحالة كان يجب القول‪ :‬وجعلوا الجن ل شركاء‪ ،‬إذن فالعجيبة ليس في أن يكون الجن‬
‫شركاء‪ ،‬العجيبة في المبدأ نفسه‪ ،‬وكيف ترد فكرة الشركاء على أذهانهم سواء أكان الشركاء من‬
‫جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ { وساعة تسمعها تقول‪ :‬أعوذ‬
‫الجن أم من غير ذلك‪ ،‬ولهذا قال سبحانه‪ } :‬وَ َ‬
‫جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ {!! ول يهمك من هم الشركاء؛ لن مطلق مجيء شريك ل هو المر‬
‫بال } وَ َ‬
‫العجيب‪ ،‬سواء كان من الجن أم من الملئكة وكيف جعلوا الجن شركاء؟ ألم يقل الحق في كتابه‬
‫عصِيّا }[مريم‪.]44 :‬‬
‫حمَـانِ َ‬
‫ت لَ َتعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلرّ ْ‬
‫إن إبراهيم قال‪ {:‬ياأَ َب ِ‬
‫وما هي العبادة؟ العبادة هي أن يطيع العابد المعبود فيما يأمره به‪ ،‬وما داموا يطيعون الشياطين‬
‫جمِيعا ثُمّ َيقُولُ لِ ْلمَلَ ِئكَةِ‬
‫حشُرُهُمْ َ‬
‫في وسوستهم فكأنهم عبدوهم‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه‪ {:‬وَ َيوْمَ يَ ْ‬
‫أَهَـا ُؤلَءِ إِيّاكُمْ كَانُواْ َيعْبُدُونَ }[سبأ‪.]40 :‬‬
‫ت وَلِيّنَا مِن دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُواْ َيعْ ُبدُونَ الْجِنّ َأكْـثَرُهُم ِبهِم ّم ْؤمِنُونَ }‬
‫فقالت الملئكة‪ {:‬قَالُواْ سُبْحَا َنكَ أَن َ‬
‫[سبأ‪.]41 :‬‬
‫وكيف كانوا يعبدون الجن؟ إنهم كانوا يطيعونهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه؛ لن العبادة هي‬
‫الطاعة‪ ،‬وأنت أيها العباد ل تقترح العبادة بل تنظر فيما طلب منك أن تتقرب به إلى المعبود‪ ،‬إذن‬
‫" افعل ول تفعل " هي الصل‪.‬‬

‫جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ الْجِنّ { ولماذا جاءوا ل بشركاء؟ لماذا لم يعبدوهم وحدهم ويستبعدوا ال من‬
‫} وَ َ‬
‫العبادة؟ لن وجود شريك دليل على العتراف بال أيضا فلماذا جعلوا له شركاء؟ ولماذا لم يلحدوا‬
‫وينكروا ويكفروا بال وتنتهي المسألة؟ ل‪ .‬لم يفعلوا ذلك؛ لنهم رأوا أن الشركاء ليس لهم‬
‫مطلوبات تعبدية وحين عبدوها ‪ -‬مثلً ‪ -‬لم تقل لهم " افعلوا " و " ل تفعلوا " وليس هنام منهج‬
‫لتباعه‪ ،‬لكن أحداثا فوق أسبابهم ول يستطيعون لها دفعا قد تحدث فلمن يجأرون؟ أللهة التي‬
‫يعتقدون كذبها وبهتانها وأنها ل تنفع ول تضر؟ لذلك احتفظوا باعترافهم بال ليلجأوا إليه فيما ل‬
‫يقدرون على دفعه ل هم ول من اتخذوهم شركاء‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪ {:‬وَإِذَا مَسّ الِنسَانَ الضّرّ‬
‫شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ }[يونس‪:‬‬
‫دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ‬
‫‪.]12‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كأنه يريد عبادة ال للمصلحة فقط‪.‬‬
‫جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ الْجِنّ {‪ .‬ومن العجيب ‪ -‬إذن ‪ -‬أنهم جعلوا ل شركاء‪ ،‬مع أن ال هو الذي‬
‫} وَ َ‬
‫خلق العابد والمعبود‪ ،‬والتعجيب من أمرين اثنين‪ :‬أن يجعلوا شركاء ل من الجن أو من الملئكة‪،‬‬
‫والعجيبة الخرى أنه } وَخََل َقهُ ْم وَخَ َرقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ { وما معنى خرقوا له؟ معناها‬
‫أنهم اختلقوا؛ لن الخرق إيجاد فجوة في الشيء المستوى على قانون السلمة‪ ،‬ولذلك قال في‬
‫السفينة‪ {:‬أَخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْرِقَ أَهَْلهَا }[الكهف‪.]71 :‬‬
‫وخرقوا له‪ .‬أي عملوا خرقا في الشيء السليم الذي تأبى الفطرة أن يكون‪.‬‬
‫ن وَبَنَاتٍ { [النعام‪.]100 :‬‬
‫خَلقَهُ ْم َوخَ َرقُواْ لَهُ بَنِي َ‬
‫} وَ َ‬
‫أما القسم الذي ادّعى أن ل البنين فهم أهل الكتاب؛ إنهم قالوا ذلك‪َ {:‬وقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ‬
‫َوقَاَلتْ ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ }[التوبة‪.]30 :‬‬
‫صفَاكُمْ‬
‫أما من جعلوا ل البنات‪ ،‬فهم بعض العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملئكة بنات ال‪َ {.‬أفََأ ْ‬
‫ن وَاتّخَذَ مِنَ ا ْلمَل ِئكَةِ إِنَاثا }[السراء‪.]40 :‬‬
‫رَ ّبكُم بِالْبَنِي َ‬
‫ح ُكمُونَ }[الصافات‪.]154-153 :‬‬
‫طفَى الْبَنَاتِ عَلَىا الْبَنِينَ * مَا َلكُمْ كَ ْيفَ َت ْ‬
‫وقال سبحانه‪َ {:‬أصْ َ‬
‫سمَ ٌة ضِيزَىا }[النجم‪.]22-21 :‬‬
‫وسبحانه القائل‪ {:‬أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَ ُه الُنْثَىا * تِ ْلكَ إِذا قِ ْ‬
‫جعَلُواْ بَيْنَ ُه وَبَيْنَ‬
‫وهناك من العرب من جعل بين ال وبين الجن صلة نسب مصداقا لقول الحق‪ {:‬وَ َ‬
‫الْجِنّةِ نَسَبا }[الصافات‪.]158 :‬‬
‫جعَلُواْ‬
‫لقد افتروا على الحق وادّعو أن اتصالً تم بين ال وبين الجنّة فخلقت وولدت الملئكة‪ } .‬وَ َ‬
‫صفُونَ { [النعام‪:‬‬
‫عمّا َي ِ‬
‫ن وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَىا َ‬
‫ن وَخََل َقهُ ْم وَخَ َرقُواْ لَهُ بَنِي َ‬
‫للّهِ شُ َركَآءَ ا ْلجِ ّ‬
‫‪.]100‬‬
‫ولماذا يقول الحق‪ِ } :‬بغَيْرِ عِلْمٍ { لن العلم يؤدي إلى النقيض‪ ،‬فالعلم قضية استقرائية معتقدة واقعة‬
‫يقام عليها الدليل‪ ،‬وهذا شيء ل واقع له‪ ،‬ول يمكن أن يوجد عليه دليل لذلك فهو قول بغير علم‬
‫بل هو بجهل‪ .‬هي إذن جهالة بأن يصدقوا في حاجة وأنها واقعة وهي ليست واقعة‪ ،‬ول يقام عليها‬
‫دليل لنها غير موجودة‪ ،‬ولو استقام الدليل عندهم بفطرتهم المستقبلة لدلة البيان وأدلة الكون‬
‫لتبرأوا مما اعتقدوا‪ ،‬ولرفضوا أن يتخذوا ل شركاء‪.‬‬

‫وقد عرض الحق قضية طرأت على الفكار المشوشة وقالوا‪ " :‬شركاء " فقال‪ " :‬سبحانه " ‪ ،‬أي‬
‫تنزيها له عن الشرك في الذات وفي الصفات‪ ،‬وفي الفعال؛ لن ذاته ليست ككل الذوات‪ ،‬وأفعاله‬
‫ليست ككل الفعال‪ ،‬وصفاته ليست ككل الصفات‪ ،‬ولذلك تأتي " سبحانه " في كل أمر يناقض‬
‫نواميس الكون الموجودة‪ .‬وخذ كل أمر يتعلق بالله الحق في إطار " سبحانه "‪ .‬ولذلك حينما جاء‬
‫بالسراء برسول ال صلى ال عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به في ليلة واحدة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكان ذلك أمرا عجيبا‪ ،‬أمرنا الحق أن نتقبلها في إطار قوله الحق‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً‬
‫سمِيعُ ال َبصِيرُ‬
‫حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫ج ِد ا َ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَسْ ِ‬
‫مّنَ ا ْلمَ ْ‬
‫}[السراء‪.]1 :‬‬
‫إن محمدا عليه الصلة والسلم لم يقل‪ :‬أنا سَرَيت من مكة إلى بيت المقدس‪ ،‬إنما قال‪ُ :‬أسْرِي بي‬
‫" ‪ ،‬وما دام قد أسري به فالقانون في السراء هو قانون الحق سبحانه‪ .‬فخذها في إطار سبحانه‪،‬‬
‫سهِمْ }[يس‪.]36 :‬‬
‫ض َومِنْ أَنفُ ِ‬
‫ت الَ ْر ُ‬
‫وهو القائل‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِب ُ‬
‫ثم يأتي بما هو أوسع من إدراكك فيقول‪َ {:‬و ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس‪.]36 :‬‬
‫كأننا سوف نعلم فيما بعد أشياء فيها زوجية‪ ،‬وقد أزاح الكشف العلمي في القرن العشرين بعضا‬
‫من ذلك‪ ،‬فعرفنا الموجب والسالب في الكهرباء واللكترونات‪ ،‬وقوله‪َ } :‬و ِممّا لَ َيعَْلمُونَ { يفسح‬
‫المجال لقضايا الكون التي تحدث بنشاطات العقول المكتشفة‪.‬‬
‫صفُونَ‬
‫عمّا َي ِ‬
‫ن وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَىا َ‬
‫ن َوخََل َقهُمْ وَخَ َرقُواْ لَهُ بَنِي َ‬
‫جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ الْجِ ّ‬
‫} وَ َ‬
‫{ [النعام‪.]100 :‬‬
‫فـ (سبحانه) تنزيها له وتقديسا عن أن يقاس بالكائن الموجود‪ .‬تعالى اسمه‪ ،‬وتعالت ذاته‪ ،‬وتعالت‬
‫صفُونَ { بأوصاف ل تليق بذاته‪.‬‬
‫عمّا َي ِ‬
‫صفاته وأفعاله } َ‬
‫ت وَالَرْضِ‪{ ...‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫وبعد ذلك يقول الحق‪َ } :‬بدِيعُ ال ّ‬

‫(‪)880 /‬‬

‫شيْءٍ‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ‬
‫خلَقَ ُكلّ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ أَنّى َيكُونُ لَ ُه وَلَدٌ وَلَمْ َتكُنْ لَهُ صَاحِبَ ٌة وَ َ‬
‫بَدِيعُ ال ّ‬
‫عَلِيمٌ (‪)101‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ }‬


‫والحق سبحانه وتعالى قال في آيات أخرى‪َ {:‬لخَلْقُ ال ّ‬
‫[غافر‪.]57 :‬‬
‫فإن كنت ترى في نفسك عجائب كثيرة‪ ،‬وكل يوم يعطيك العلم التشريحي أو علم وظائف‬
‫العضاء سرا جديدا فل تتعجب من هذا المر؛ لن السماء والرض إيجاد من عدم‪ ،‬وسبحانه هنا‬
‫يقول‪ " :‬بديع " أي أنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬خلقهما على غير مثال سابق‪ ،‬فمن الناس من يصنع أشياء‬
‫على ضوء خبرات أو نماذج سابقة‪ ،‬لكن الحق سبحانه بديع السماوات والرض‪ ،‬وقد عرفنا بالعلم‬
‫أن الرض التي نعيش عليها وهي كوكب تابع من توابع الشمس‪ ،‬وقديما كانوا يقولون عن توابع‬
‫الشمس إنها سبعة‪ ،‬ولذلك خدع كثير من العلماء والمفكرين وقالوا‪ :‬إن السبعة التوابع هي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السماوات‪ ،‬فأراد الحق أن يبطل هذه المسألة بعد أن قالوا سبعة‪ .‬فقد اكتشف العلماء تابعا ثامنا‬
‫للشمس‪ ،‬ثم اكتشفوا التاسع‪ ،‬ثم صارت التوابع عشرة‪ ،‬ثم زاد المر إلى توابع ل نعرفها‪ .‬وأين‬
‫هذه المجموعة الشمسية من السماوات؟ وكلها مجرد زينة للسماء الدنيا‪ ،‬وعندما اكتشفت المجاهر‬
‫واللت التي تقرب البعيد رأينا " الطريق اللبني " أو " سكة التبانة " ووجدناها مجرة وفيها‬
‫مجموعات شمسية ل حصر لها‪ ،‬وجدنا مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية‪ .‬هذه مجرة‬
‫واحدة‪ ،‬وعندنا مليين المجرات‪ ،‬ونجد عالما في الفلك يقول‪ :‬لو امتلكنا آلت جديدة فسنكتشف‬
‫مجرات جديدة‪.‬‬
‫سعُونَ }[الذاريات‪.]47 :‬‬
‫سمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْ ٍد وَإِنّا َلمُو ِ‬
‫ولنسمع قول ال‪ {:‬وَال ّ‬
‫إذن يجب أن نأخذ خلْق السماوات والرض في مرتبة أهم من مسألة خلق الناس‪.‬‬
‫شيْءٍ‬
‫شيْءٍ و ُهوَ ِب ُكلّ َ‬
‫ت وَالَ ْرضِ أَنّىا َيكُونُ لَهُ وَلَ ٌد وَلَمْ َتكُنْ لّ ُه صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ ُكلّ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ َبدِيعُ ال ّ‬
‫عَلِيمٌ } [النعام‪.]101 :‬‬
‫وما دام سبحانه بديع السماوات والرض‪ ،‬وهو بقدرته الذاتية الفائقة خلق السماوات والرض‬
‫الكبر من خلق الناس‪ ،‬إذن فإن أراد ولدا لطرأ عليه هذا البن بالميلد‪ ،‬ول يمكن أن يسمى ولدا‬
‫إل إذا وُلد‪ ،‬وسبحانه منزه عن ذلك‪ ،‬ثم لماذا يريد ولدا‪ ،‬وصفات الكمال لن تزيد بالولد‪ ،‬ولم يكن‬
‫الكون ناقصا قبل ادّعاء البعض ان للحق سبحانه ولدا‪ ،‬إن الكون مخلوق بذات الحق سبحانه‬
‫شيْءٍ‬
‫وتعالى‪ ،‬والناس تحتاج إلى الولد لمتداد الذكرى‪ ،‬وسبحانه ل يموت؛ مصداقا لقوله‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫جهَهُ }[القصص‪.]88 :‬‬
‫ل وَ ْ‬
‫هَاِلكٌ ِإ ّ‬
‫والبشر يحتاجون إلى النجاب ليعاونهم أولدهم‪ ،‬وسبحانه هو القوي الذي خلق وهو حي ل‬
‫يموت؛ لذلك فل معنى لن يُدّعى عليه ذلك وما كان يصحّ أن تناقش هذه المسألة عقل‪ ،‬ولكن ال‬
‫‪ -‬لطفا بخلقه ‪ -‬وضّح وبين مثل هذه القضايا‪.‬‬
‫يقول جل وعل‪ { :‬وَلَمْ َتكُنْ لّ ُه صَاحِ َبةٌ }‪ .‬وماذا يريد الحق من الصاحبة؟ إنه ل يريد شيئا ‪ ،‬فلماذا‬
‫هذه اللجاجة في أمر اللوهية؟‪.‬‬

‫فل الولد ول الصاحبة يزيدان له قدرة تخلق‪ ،‬ول حكمة ترتب‪ ،‬ول علما يدبر‪ ،‬ول أي شيء‪،‬‬
‫ومجرد هذا اللون من التصور عبث‪ ،‬فإذا كان الشركاء ممتنعين‪ ،‬والقصد من الشركاء أن يعاونوه‬
‫في الملك؛ إله يأخذ ملك السماء‪ ،‬وإله آخر يأخذ ملك الرض‪ .‬وإله للظلمة‪ ،‬وإله للنور‪ .‬مثلما قال‬
‫الغريق القدامى حين نصّبوا إلها للشر‪ .‬وإلها للخير‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬والحق واحد أحد ليس له شركاء‬
‫يعاونونه فما المقصود بالولد والصاحبة؟ أعوذ بال! أل يمتنع ويرتدع هؤلء من مثل هذا القول‪:‬‬
‫شيْءٍ عَلِيمٌ { فسبحانه هو الخالق للكون والعليم بكل ما فيه ول يحتاج إلى معاونة من‬
‫} و ُهوَ ِب ُكلّ َ‬
‫أحد‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويقول سبحانه من بعد ذلك‪ } :‬ذاِلكُمُ اللّهُ‪{ ...‬‬

‫(‪)881 /‬‬

‫شيْ ٍء َوكِيلٌ (‪)102‬‬


‫شيْءٍ فَاعْ ُبدُوهُ وَ ُهوَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ذَِلكُمُ اللّهُ رَ ّب ُكمْ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ خَالِقُ ُكلّ َ‬

‫انظر التقديم بكلمة رب‪ ،‬قبل " ل إله إل هو " كلمة " رب " هذه هي حيثية " ل إله إل هو "؛ لن‬
‫إلها تعني معبودا‪ ،‬ومعبودا يعني مُطاعا‪ ،‬ومطاعا يعني له أوامر ونواهٍ‪ ،‬ولماذا ولي سبب؟‪.‬‬
‫السبب أنه الرب المتولي اليجاد والتربية‪ .‬ومن الواجب والمعقول أن نسمع كلمه؛ لنه هو الرّب‬
‫والخالق وهو الذي يرزق‪ ،‬بدليل أننا حين نسأل أهل ال ُكفْر في غفلة شهواتهم‪ :‬من خلق السماوات‬
‫والرض؟ تنطق فطرتهم ويقولون‪ :‬ال هو الذي خلق السماوات والرض‪ .‬أما إن كان السؤال‬
‫موجها في محاجاة مسبقة فأنت تجد المكر والكذب‪.‬‬
‫وحين تريد أن تنزع منهم قضية صدق وتضع وتبطل قضية كذب فلنأخذهم على غفلة ودون‬
‫تحضير فيقولون إن الذي خلق هو ال‪.‬‬
‫ورأينا اللت التي صمموها ليكتشفوا الكذب‪ ،‬وليروا العملية العقلية التي تجهد الكذاب‪ ،‬أما‬
‫صاحب الحق فل ُيجْهد؛ لن صاحب الحق يستقرئ واقعا ينطق به ول يصيبه الجهد‪ ،‬لكن الذي‬
‫يكذب يجهد نفسه ويتردد بين أمور ويضطرب ول يدري بأيها يأخذ ويجيب بإجابات متناقضة في‬
‫الشيء الواحد‪.‬‬
‫شيْءٍ َوكِيلٌ } [النعام‪:‬‬
‫شيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫{ ذاِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ خَالِقُ ُكلّ َ‬
‫‪.]102‬‬
‫وما دام هو خالق لكل شيء وهو الباقي فهو الحق بالعبادة؛ لن العبادة ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬معناها‬
‫طاعة المر وطاعة النهي ‪ -‬ومادام سبحانه الذي خلق فهو الذي يضع قانون الصيانة للنسان‬
‫والكون‪ ،‬وإن خالفت المنهج يفسد الكون والنسان‪ ،‬وإذا فسد الكون أو النسان فأنت تلجأ إلى‬
‫منهج الخالق لتعيد لكل منهما صلحيته؛ لذلك هو الولى بالعبادة‪ { .‬ذاِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ ل إِلَـاهَ ِإلّ‬
‫ُهوَ }‪.‬‬
‫وهذه شهادة شهد بها لذاته قبل أن يخلق كل شيء‪ ،‬وقبل أن يخلق الملئكة‪ ،‬وشهدت بها ملئكته‪،‬‬
‫شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ وَا ْلمَلَ ِئكَةُ وَأُوْلُواْ ا ْلعِلْمِ قَآ ِئمَا بِا ْلقِسْطِ }[آل‬
‫وشهد بها أولو العلم‪َ {.‬‬
‫عمران‪.]18 :‬‬
‫إذن فال شهد بألوهيته من البداية‪ ،‬ومن أسمائه " المؤمن " ونحن مؤمنين بال‪ ،‬وربنا المؤمن بأنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إله واحد‪ ،‬وهذا اليمان منه أنه إله واحد‪ ،‬يخاطب كل شيء يريده وهو يعلم أن أي شيء ل يقدر‬
‫أن يخالفه‪ ،‬إنه يخاطبه بقوله‪ " :‬كن فيكون " ولنه إله واحد يعلم أن أحدا أو شيئا لم يخالفه‪ ،‬لذلك‬
‫يباشر ملكه وهو العليم بأن الغير خاضع لمره ول يمكن أن يتخلف عن مراداته‪ ،‬أو نقول‪" :‬‬
‫ط َع َمهُم مّن‬
‫المؤمن " لما خلق ولمن خلق‪ ،‬أي منحهم المن والمان فهو سبحانه القائل‪ {:‬الّذِي أَ ْ‬
‫خ ْوفٍ }[قريش‪.]4 :‬‬
‫جُوعٍ وَآمَ َنهُم مّنْ َ‬
‫لقد أوضح الحق سبحانه لنا‪ :‬أنتم خلقي فإن أخذتم منهجي أطعمكم من الجوع وآمنكم من الخوف‪.‬‬

‫شيْءٍ {‪.‬‬
‫} ذاِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ خَالِقُ ُكلّ َ‬
‫إذن فالمنطق يفرض علينا عبادته سبحانه‪ ،‬والمر المنسجم مع المقدمة‪ ،‬أن ل رب‪ ،‬ول إله إل‬
‫هو‪ ،‬إنه خالق كل شيء؛ لذلك تكون عبادته ضرورة‪ ،‬ويتمثل ذلك أن تطيعه فيما أمر‪ ،‬وفيما نهى‪.‬‬
‫شيْ ٍء َوكِيلٌ { [النعام‪.]102 :‬‬
‫} وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫وهذه دقة الداء البياني في القرآن‪ ،‬فنحن في أعرافنا فلن وكيل لفلن أي يقوم لصالحه بالمور‬
‫التي يريدها‪ ،‬وسبحانه ليس وكيلً لك‪ ،‬بل هو وكيل عنك؛ لن الوكيل لك ينفذ أوامرك‪ ،‬لكن هو‬
‫وكيل عليك‪ ،‬مثل الوصي على القاصر هو وكيل عليه‪ ،‬ويقول للقاصر‪ :‬افعل كذا فيفعل‪ ،‬وسبحانه‬
‫وكيل علينا‪ ،‬ولذلك نحن نطلب منه وهو الذي يستجيب لدعائنا بالخير‪ ،‬فل ينفذ رغباتنا الطائشة‪،‬‬
‫ونجد الحمق من يقول‪ :‬لقد دعوت ال ولم يستجيب لي‪ ،‬ونقول‪ :‬إنك تفهم الستجابة أنها تؤدي لك‬
‫مطلوبك‪ ،‬وسبحانه أعلم بما يناسبك لنه وكيل عليك ويعدل من تصرفاتك‪ ،‬وساعة تطلب حاجة‪،‬‬
‫إن كان فيها خير يعطيها لك‪ ،‬وإن كنت تظن أنها خير‪ ،‬لكنها ستأتي بالشر ل يعطيها لك‪.‬‬
‫وعلى من يدعو أل يتعجل الجابة‪ .‬قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬يستجاب لحدكم مالم َيعْجَل‪،‬‬
‫يقول‪ :‬قد دعوت فلم يستجب لي "‪.‬‬
‫شيْ ٍء َوكِيلٌ { أي سواء أكان هذا الشيء مختارا أم غير مختار؛ لن المختار قد‬
‫} وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫يختار شرا‪ ،‬ولن ال وكيل عليه يقول له‪ :‬ل‪ ،‬وغير المكلف ول اختيار له‪ ،‬مقهور لرادة ال مثل‬
‫النار‪ ،‬فهي مأمورة أن تحرق‪ ،‬لكنه أمرها أل تحرق سيدنا إبراهيم وتبقيه سليما‪.‬‬
‫وتأتي الية التالية لتؤكد دواعي عظمته سبحانه فيقول‪ } :‬لّ ُتدْ ِركُ ُه الَ ْبصَا ُر وَ ُهوَ يُدْ ِركُ‪{ ...‬‬

‫(‪)882 /‬‬

‫لَا تُدْ ِر ُكهُ الْأَ ْبصَا ُر وَ ُهوَ يُدْ ِركُ الْأَ ْبصَا َر وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ (‪)103‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولماذا ل تدركه البصار؟ لن البصر آلة إدراك لها قانونها بأن ينعكس الشعاع من المرئي إلى‬
‫الرائي ويحدده‪ ،‬فلو أن البصار تدركه لحددته‪ ،‬وأصبح من يراه قادرا عليه‪ ،‬ولصار مقدورا لكم؛‬
‫لنه دخل في إدارككم‪ .‬فلو أنك أدركت ال لكان ال مقدورا لبصرك‪ ،‬والقادر ل ينقلب مقدورا‬
‫ابدا‪ ،‬إذن فمن عظمته انه ل ُيدْرَك‪ :‬أنت قد ترى الشمس‪ ،‬ولكن أتدعي أنك أدركتها؟! ل‪ ،‬لن‬
‫الدراك معناه الحاطة‪ ،‬وحين يقال " أدركه " أي لم يفلت منه‪ ،‬ولذلك عندما سار قوم فرعون‬
‫وراء موسى وقومه قال أصحاب موسى‪ { :‬ا إِنّا َلمُدْ َركُونَ }‪.‬‬
‫أي ل فائدة؛ لن البحر أمامنا‪ ،‬إن تقدمنا نغرق‪ ،‬وإن تأخرنا أهلكونا وقتلونا‪ .‬إذن " مُدرك " يعني‬
‫محاطا به‪ .‬فإذا أحاطت البصار بال انقلب البصر قادرا‪ ،‬وصار ال مقدورا عليه‪ .‬والقادر بذاته‬
‫‪ -‬كما قلنا ‪ -‬ل ينقلب مقدورا لخلقه أبدا‪.‬‬
‫{ لّ تُدْ ِر ُك ُه الَ ْبصَارُ وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الَبْصَا َر وَ ُهوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ } [النعام‪.]103 :‬‬
‫وكل ما عدا ال محتاج إلى ال لبقاء كينونته‪ ،‬وكينونته سبحانه ليست عند أحد؛ لذلك { لّ ُتدْ ِركُهُ‬
‫ك الَ ْبصَارَ } لنه إن قدر على البصار كلها فهو قادر بذاته‪ ،‬والباقي مقدور له؛‬
‫الَ ْبصَارُ وَ ُهوَ يُدْ ِر ُ‬
‫لنه مخلوق له‪ ،‬ومادام مخلوقا له يكون مقدورا عليه ولم يطرأ على المخلوقين شيء جديد يجعلهم‬
‫قادرين بذواتهم { لّ ُتدْ ِركُ ُه الَ ْبصَارُ وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الَ ْبصَارَ }‪.‬‬
‫وقد وقف العلماء وقفة كبيرة واختلفوا‪ :‬هل النسان يرى ربه أو ل يراه سواء في الدنيا أم في‬
‫الخرة؟ بعضهم قال‪ :‬ل أحد يرى ال بنص الية‪ { :‬لّ تُدْ ِركُهُ الَ ْبصَارُ } ونقول‪ :‬لكن هناك آيات‬
‫في القرآن تقول‪ {:‬وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ }[القيامة‪.]23-22 :‬‬
‫و " ناظرة " تضمن الرؤية وتفيدها‪ ،‬وأيضا فال يعاقب من كفر به بأن يحتجب عنه؛ لنه القائل‪{:‬‬
‫حجُوبُونَ }[المطففين‪.]15 :‬‬
‫كَلّ إِ ّنهُمْ عَن رّ ّب ِهمْ َي ْومَئِذٍ ّلمَ ْ‬
‫فالكافرون محجوبون عن رؤية ال عقابا لهم‪ .‬ولو اشتركنا معهم وحجبنا كما حجبوا فما ميزتنا‬
‫كمؤمنين؟‪ ،‬إذن فالعلماء لم ينتبهوا إلى أن هناك فرقا بين الداء القرآني وما يقولون؟ وحين يحتج‬
‫عالم منهم بأن رؤية ال غير ممكنة لن ربنا سبحانه قال لموسى‪ {:‬لَن تَرَانِي وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى‬
‫س ْوفَ تَرَانِي }[العراف‪.]143 :‬‬
‫الْجَ َبلِ فَإِنِ اسْ َتقَرّ َمكَانَهُ فَ َ‬
‫صعِقا }‬
‫جعَلَهُ َدكّا وَخَرّ موسَىا َ‬
‫فلماذا لم يلتفت هذا العالم إلى قول الحق‪ {:‬فََلمّا تَجَلّىا رَبّهُ لِ ْلجَ َبلِ َ‬
‫[العراف‪.]143 :‬‬
‫إذن فال تجلى لبعض خلقه‪ ،‬أما أن يراه الخلق في الدنيا فل؛ لن تكويننا غير مؤهل لن يرى‬
‫الحق‪ ،‬بدليل أن الصلب والقوى منا وهو الجبل حينما تجلى ربه عليه اندك‪ .‬فلما اندك الجبل خر‬
‫موسى صعقا‪ ،‬فإذا كان موسى قد خر صعقا لرؤية المتَجلّى عليه وهو الجبل فكيف لو رآه؟! إن‬
‫فهو غير معد له‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد اختلف العلماء عند هذه الية‪ ،‬وتجلّى خلفهم إلى أبعد حد؛ فمنهم مجيز للرؤية‪ ،‬ومنهم منكر‬
‫لها‪ ،‬وأرى أن خلفهم في غير محل نزاع؛ لنهم تكلموا عن الرؤية‪ ،‬والكلم هنا عن نفي‬
‫الدراك‪ ،‬والدراك إحاطة؛ والرؤية تكون إجمالً‪ ،‬إنما الحاطة ليست ممكنة‪ ،‬وعلى تقدير أن‬
‫الرؤية والدراك متحدان في المفهوم نقول‪ :‬لماذا يكون الخلف في أمر الخرة؟ لو أن الخلف‬
‫في أمر الرؤية في الدنيا لكان هذا كلما جميلً‪ ،‬ولكن الخلف جعلتموه في الخرة‪.‬‬
‫إن آيات القرآن صريحة في أن رؤية الحق سبحانه وتعالى من نعم ال على المؤمنين‪ ،‬وهي زيادة‬
‫في الحسنى عليهم‪ ،‬وحجبه سبحانه عن الكفار لون من العقوبة لهم ونقول ‪ -‬أيضا ‪ :-‬لماذا ل‬
‫تقولون إن الدراك سيوجد في الخرة بكيفية ليست موجودة في دنيانا؟ لننا في هذه الدنيا معدّون‬
‫إعداد أسباب ‪ -‬وفي الخرة سنكون معدين إعدادا لغير أسباب‪.‬‬
‫أنت هنا إذا أحببت أن تشرب تطلب الماء أو تذهب للماء وتشرب‪ ،‬وحين تريد أن تأكل الشيء‬
‫الفلني‪ ،‬تقول لهل البيت‪ :‬اصنعوا لي كذا أو تشتري ما تريده‪ ،‬إنما هناك في الخرة بمجرد أن‬
‫يخطر ببالك ما تشتهيه تجده أمامك‪ ،‬وهذا قانون جديد ل ارتباط له بقانون الدنيا‪ ،‬فلماذا ل يكون‬
‫في تكويننا في الخرة أيضا قانون يمكن به أن نرى ال وفي إطار ليس كمثله شيء؟‬
‫إن في الخرة قضايا يتفق الجميع على انها تخالف قوانين الدنيا ونواميس العالم المعاصر لنا الن‬
‫في الكل والشرب‪ ،‬والتخلص من الفضلت‪ ،‬لكن في الخرة سنأكل ونشرب ولكن لن توجد‬
‫فضلت؛ لنك أنت الن تطهى وتهضم‪ ،‬وفي الهضم أنت تأخذ بعض الطعام ويبقى منه فضلت‬
‫لبد أن تخرج‪ ،‬لكن الطهي والهضم في الخرة بـ " كن " وليس له فضلت‪ ،‬إنه طعام بقدرة‬
‫القادر‪ ،‬في الجنة كل ما تريده ستناله دون أن ينفد‪ ،‬وفي الدنيا أي شيء يؤخذ منه ينقص‪ ،‬أما في‬
‫الخرة فل شيء ينقص لن له مددا من القيومية‪.‬‬
‫ويعقب الحق سبحانه وتعالى بعد القضيتين‪ } :‬وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ { ولطيف تناسب } لّ ُتدْ ِركُهُ‬
‫الَ ْبصَارُ { و } ا ْلخَبِيرُ { يناسب } وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الَ ْبصَارَ { ولطيف لها معنى خاص‪ ،‬فالشيء اللطيف‬
‫يستعمل في دقيق التكوين ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬إن الميكروب لم نعرفه إل مؤخرا لنه بلغ من‬
‫اللطف والدقة بحيث ل تدركه العين‪ ،‬لكن عندما اخترعنا الميكروسكوب رأيناه‪ ،‬وإن دق‬
‫الميكروب عن ذلك فلن نراه‪ ،‬وقد اكتشفنا " الفيروس " ونحاول معرفة المزيد عن خصائصه‪ ،‬إذن‬
‫كلما دق الشيء يلطف ول يمكن أن نراه‪ ،‬فالشيء إذا لطف شرف وعل ونقول ‪ -‬ول المثل‬
‫العلى ‪ :-‬فلن لطيف المعشر‪ ،‬والحق سبحانه لطيف في ذاته ويلطف بعباده‪.‬‬

‫إنك ساعة ما تسمع " لطف " فهذا اسم فاعل‪ ،‬مثلها مثل " آكل " ‪ ،‬وحين نقول‪ " :‬لطيف فهي‬
‫مبالغة في اللطف؛ لنه لطف بكل إنسان وكل كائن وهذا يحتاج إلى مبالغة‪ ،‬ولذلك نقول‪ :‬رحيم‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهي صيغة مبالغة؛ لنه يسبغ رحمته على عباده‪ ،‬وأول مظهر من مظاهر اللطف‪ ،‬هو تدبير‬
‫أمورهم الدقيقة تدبيرا يحقق مصالحهم في وجودهم‪ .‬إننا حين ندير كوب ماء لكل إنسان ندبر‬
‫الكثير فما بالنا بتدبير اللطيف بعباده؟‬
‫لقد خلق لنا الرض ثلثة أرباعها ماء‪ ،‬والربع يابس‪ ،‬لنه جل وعل يريد أن يوسع رقعة الماء‬
‫لن المياه كلما اتسعت رقعتها‪ ،‬كان البخر فيها أسهل وأكثر‪ ،‬لكن لو كانت المياه عميقة ومساحتها‬
‫قليلة فالبخر يكون على مستوى السطح فقط‪ ،‬وهنا ل يأتي السحاب بما يكفي الخلق من الماء‪ .‬لقد‬
‫سمع ال سبحانه رقعة الماء كي يتبخر الماء ثم ينعقد كسحب في السماء‪ ،‬ويصادف منطقة باردة‬
‫لينزل لنا المياه العذبة لنشرب منها‪ ،‬وتشرب أنعامنا‪ ،‬ونسقي الزرع‪ ،‬وكل ذلك من لطف التدبير‪.‬‬
‫ومن مظاهر اللطف في الحق نجد أمورا ل توصف‪ ،‬ولذلك كل واحد من العلماء انفعل لزاوية من‬
‫زوايا لطف ال على خلقه‪ ..‬فواحد قال‪ :‬هو " سبوغ النعم " وقال الثاني‪ " :‬دقة التدبير " وقال‬
‫الثالث‪ :‬إن من مظاهر لطف الحق أنه يستقل كثير من النعم على خلقه‪ ،‬فالنعم التي منحها خلقه‬
‫قليلة لن خزائنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ملى وعطاياه ل تنفد ول يعتريها نقص‪ ،‬ولذلك قال سبحانه‪ {:‬لَئِن‬
‫شكَرْتُ ْم لَزِيدَ ّن ُكمْ }[إبراهيم‪.]7 :‬‬
‫َ‬
‫أي أن نعمه الكثيرة على عباده قليلة‪ ،‬وفي المقابل‪ :‬يستكثر قليل الطاعة من خلقه أي يعتبرها ‪-‬‬
‫تفضلً منه ‪ -‬كثيرة؛ لنه هو الذي يجزي الحسنة بعشر أمثالها‪.‬‬
‫إذن فمظاهر اللطف ل حصر لها‪ ،‬وعلى قدر دقة اللطف تكون دقة مأتاه وإحصائه‪ ،‬فهو اللطيف‬
‫الذي إذا ناديته لبّاك‪ ،‬وإذا قصدته آواك‪ ،‬وإذا أحببته أدناك‪ ،‬وإذا أطعته كافاك وإذا أعطيته‬
‫وأقرضته من فضله وماله الذي منحك عافاك‪ ،‬وإذا أعرضت عنه دعاك فهو القائل‪ " :‬يابن آدم إن‬
‫ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي‪ ،‬وإن ذكرتني في مل ذكرتك في مل خير منهم‪ ،‬وإن دنوت‬
‫منّي شبرا دنوت منك ذراعا‪ ،‬وإن دنوت منّي ذراعا دنوت منك باعا‪ ،‬وإن أتيتني تمشي أتيتك‬
‫أهرول " وكلها مظاهر لطف‪ .‬وهو المنادى‪ " :‬توبوا إلى ال " والرسول صلى ال عليه وسلم هو‬
‫القائل‪ " :‬ل أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط على بعيره قد أضله بأرض فلة " وإذا‬
‫قربت من ال هداك‪.‬‬
‫ويأتي عالم آخر ممن انفعلوا بصفات اللطف‪ ،‬فيقول‪ :‬الذي يجازيك إن وفيت‪ ،‬ويعفو عنك إن‬
‫قصرت‪ ،‬وعالم آخر يضيف إلى معاني اللطف فيقول‪ :‬من افتخر به وأعزه‪ ،‬ومن افتقر إليه أغناه‪،‬‬
‫وعالم ينفعل انفعالً آخر بمظاهر اللطف فيقول‪ :‬من عطاؤه خير‪ ،‬ومنعه ذخيرة‪.‬‬

‫‪ .‬أي أنه لو منع عبده شيئا فإنه يدخره له في الخرة‪ ،‬كل هذه مظاهر للطف‪ ،‬وهذا مناسب لقوله‬
‫الحق‪ } :‬لّ ُتدْ ِركُ ُه الَ ْبصَارُ { إن لطفه سبحانه يتغلغل فيما ل نستطيع أن ندركه‪ ،‬وحين تحلل أنت‬
‫أي أمر قد ل تصل إلى فهم النعمة‪ ،‬وإن وصلت فأنت ل تقدر أن تؤدي الحمد على تلك النعمة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله الحق‪ } :‬وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الَبْصَارَ { مناسب لكلمة " خبير " ‪ ،‬ونحن في حياتنا نسمع كلمة " خبير‬
‫" فعندما نقابل أي مشكلة من المشكلت نجد من يقول‪ :‬نريد أن نسمع رأي الخبير فيها‪ ،‬وفي‬
‫القضاء نجد القاضي يستدعي خبيرا ليكتب تقريرا في أمر يحتاج إلى من هو متخصص فيه وعليم‬
‫به‪ ،‬إذن فالخبير في مجال ما هو الذي يعرف تفاصيل المر‪ ،‬فما بالنا بالخبير العلى الذي ل‬
‫يستعصي عليه شيء في ملكه‪ ،‬وهو الذي يدرك البصار‪ ،‬فقوله‪ } :‬لّ ُتدْ ِركُ ُه الَ ْبصَارُ { يناسبها "‬
‫خبير " ‪ ،‬وهذا ما يسمونه في اللغة " لف ونشر " وهو ان يأتي بأمرين أو ثلثة ثم يأتي بما‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْلّ ْيلَ وَال ّنهَارَ }[القصص‪.]73 :‬‬
‫حمَ ِتهِ َ‬
‫يقابلها‪ ،‬مثال ذلك قوله الحق‪َ {:‬ومِن رّ ْ‬
‫سكُنُواْ فِيهِ وَلِتَب َتغُواْ مِن‬
‫فمن مظاهر رحمته لنا سبحانه أن جعل لنا الليل والنهار‪ ،‬ثم قال‪ {:‬لِتَ ْ‬
‫َفضْلِهِ }[القصص‪.]73 :‬‬
‫لنسكن في الليل‪ ،‬ونبتغي فضله في النهار‪ ،‬وهذا اسمه ‪ -‬كما قلنا ‪ " -‬لف ونشر "‪.‬‬
‫ويقول الحق ‪ -‬سبحانه ‪ -‬بعد ذلك‪ } :‬قَدْ جَآ َءكُمْ َبصَآئِرُ مِن رّ ّب ُكمْ َفمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْسِهِ‪{ ...‬‬

‫(‪)883 /‬‬

‫حفِيظٍ (‪)104‬‬
‫ع ِميَ َفعَلَ ْيهَا َومَا أَنَا عَلَ ْيكُمْ بِ َ‬
‫قَدْ جَا َءكُمْ َبصَائِرُ مِنْ رَ ّب ُكمْ َفمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ َ‬

‫وبصائر جمع بصيرة‪ ،‬والبصيرة للمعنويات والشراقات التي تأبى في القلوب كالبصر بالنسبة‬
‫للعين‪ ،‬و " الكون " يعطيكم أدلة البصار‪ ،‬والقرآن يعطيكم أدلة البصائر‪ ،‬فكما أن ال هدى‬
‫النسان فحذره ونهاه عن المعاصي ومنحه النور الذي يجْلي له الشياء فيسير على هدى فل‬
‫يرتطم ول يصطدم‪ ،‬كذلك جعل المعنويات نورا‪ ،‬والنور الول في البصر يأخذه الكافر والمؤمن‪،‬‬
‫وكلنا شركاء فيه مثله مثل الرزق‪ ،‬لكن النور الثاني في البصائر يأخذه المؤمن فقط‪ ،‬ولذلك يقول‬
‫ج ُكمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ }[الحديد‪.]9 :‬‬
‫ربنا‪ {:‬لّ ُيخْرِ َ‬
‫وهو نور الهداية في بصائر المعنويات‪ ،‬فيوضح‪ :‬أنا خلقتكم خلقا ووضعت لكم قوانين لصيانتكم‪.‬‬
‫فقانون الصيانة في ماديات الدنيا للمؤمن والكافر‪ ،‬وقانون الصيانة في معنويات الحياة خاصة‬
‫للمؤمن‪.‬‬
‫ج َعلِ اللّهُ لَهُ نُورا َفمَا لَهُ مِن نُورٍ }[النور‪.]40 :‬‬
‫وهو القائل‪َ {:‬ومَن لّمْ يَ ْ‬
‫ونعلم أن البصائر من المعنويات والمجيء للمر الحسّي؛ كقولنا‪ " :‬جاء زيد " أو " جاء عمرو "‬
‫ولك أن تتصور البصائر وهي تأتي‪ ،‬قال الحق‪ {:‬قَدْ جَآ َء ُكمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ }[المائدة‪.]15 :‬‬
‫إنه سبحانه قد أعطانا نورا صحيحا واضحا وهو يأتي إلينا بمشيئته‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ َقدْ جَآ َءكُمْ َبصَآئِرُ مِن رّ ّبكُمْ } أي أنها بلغت من تكوينها أنها أصبحت كانها أشياء محسّة تجيء‪،‬‬
‫ول يصح أن تقولوا إنها لم تصلكم لنها تجيء من الرب الذي خلقنا بقدرته وأمدنا في كل شيء‬
‫بقيّوميته‪ ،‬ومن لوازم الربوبية أن يعطي ما يهدي‪ ،‬وقد حكم ال أن البصائر جاءتنا‪ ،‬وحكم بأن‬
‫رسوله قد بلّغ؛ فسبحانه أعطى لرسوله‪ ،‬والرسول ناولنا‪ ،‬فالحق قد شرع ورسوله قد بلغ وبقي أن‬
‫تؤدوا ول عذر لكم من المشرع العلى الذي خلق وهو الرب‪ .‬ول من المبلغ المعصوم وهو‬
‫الرسول‪.‬‬
‫ع ِميَ َفعَلَ ْيهَا } [النعام‪.]104 :‬‬
‫س ِه َومَنْ َ‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى‪َ { :‬فمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْ ِ‬
‫ول المثل العلى ‪ ،‬نجد الولد يدخل البيت فيجد أمه ويقول لها‪ :‬ماذا أعددت لنا من طعام؟ فتقول‪:‬‬
‫ل شيء‪ .‬فيقول البن‪ :‬لقد بعث أبي اللحم والرز والخضار‪ ،‬فكأنه يقول لها‪ :‬أين عملك يا أمي؟‬
‫ل ول تعرفون عنه‬
‫وربنا سبحانه يوضح‪ :‬أنا خلقتكم‪ ،‬وعملت لكم قانون صيانة‪ ،‬وأرسلت لكم رسو ً‬
‫أنه صادق في بلغه‪ ،‬وأدى هذه الرسالة‪ ،‬لذلك فالباقي من المسألة عندكم أنتم‪ ،‬وكل واحد عليه أن‬
‫يؤدي ما عليه من عمل‪ ،‬إن أبصر فلنفسه‪ ،‬وإن عمى فعليها‪ .‬فإياكم أن تفهموا أني كلفتكم بما يعود‬
‫عليّ في ذاتي‪ ،‬ول ما يزيد من سلطاني شيئا؛ لن خيرها لكم أنتم‪ ،‬ول آمن على التشريع ممن ل‬
‫يفيد من التشريع؛ لن من يستفيد منه قدر يشرّع لمصلحته‪ ،‬أما الحق فهو مأمون على التشريع‬
‫لنه غير منتفع به‪.‬‬
‫عمِيَ َفعَلَ ْيهَا } [النعام‪.]104 :‬‬
‫يقول سبحانه‪ { :‬قَدْ جَآ َءكُمْ َبصَآئِرُ مِن رّ ّبكُمْ َفمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ َ‬

‫ولن الرسول عليه البلغ فقط والحق قد حفظه وعصمه من الكفر وهو يبلغكم المنهج‪ ،‬وقد خلق‬
‫ال كل إنسان مختارا وهو بهذا الختيار يُدخل نفسه في الحكم أو يخرج نفسه من الحكم‪ ،‬وسبحانه‬
‫لم يبعث الرسول جبارا بل بعثه رحيما؛ لذلك يقول ال في حق رسوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬وما‬
‫أنا عليكم بحفيظ " والحفيظ من أسماء ال‪ ،‬وهو الحفيظ لنه شرّع ليحفظ الخلق ويريد أن يجعلهم‬
‫على مثال حسن واعٍ‪ .‬والرسول هو المبلغ والحق يقول‪َ {:‬ومَآ أَنتَ عَلَ ْيهِمْ ِبجَبّارٍ }[ق‪.]45 :‬‬
‫إذن فكل واحد حر يدخل نفسه في الحكم أو يخرج نفسه من الحكم‪ .‬وقد حارب الرسول ليحمي‬
‫الختيار بدليل أن البلد التي فتحها السلم تجد بعضا من سكانها قد ظلوا على كفرهم ولم‬
‫يرغمهم أحد على اليمان‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬وكَذاِلكَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ‪{ ...‬‬

‫(‪)884 /‬‬

‫ت وَلِنُبَيّنَهُ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ (‪)105‬‬


‫س َ‬
‫ت وَلِ َيقُولُوا دَرَ ْ‬
‫َوكَذَِلكَ ُنصَ ّرفُ الْآَيَا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫" كذلك نصرف "‪ .‬أي أن يأتي لنا بالحال بعد الحال ويكرر ويعيد‪ ،‬وتأتي الحادثة من الحوادث‬
‫وينزل فيها تشريع‪ ،‬ويرقق قلوبهم‪ ،‬ويأتي بنماذج من الرسل‪ ،‬ومواقف أممهم منهم حتى نصادف‬
‫في كل حال قلبا مستقبلً لنه إن قال مرة واحدة وسكت وكان هناك أناس قلوبهم منصرفة فعندما‬
‫يكرر الحداث وينزل فيها التشريع والمواعظ فقد ترق قلوبهم لليمان وتستوعب القلوب الهداية‪.‬‬
‫ستَ }؟ إننا نعلم أن السماء‬
‫ستَ } ما معنى‪ { :‬وَلِ َيقُولُواْ دَرَ ْ‬
‫{ َوكَذاِلكَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ وَلِ َيقُولُواْ دَرَ ْ‬
‫تتدخل حين يطم الفساد‪ ،‬لكن إن وجد في الذات النسانية نفس لوّامة فهي مَنَاعة للنفس ووقاية لها‪.‬‬
‫فإن فعل النسان ذنبا تلومه نفسه فيرجع‪ ،‬وإن اختفت النفس اللوّامة وصارت النفس أمّارة بالسوء‪،‬‬
‫امتنع في المجتمع المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬فمعنى ذلك أن الفساد قد طمّ‪ .‬وهنا تتدخل‬
‫السماء وتأتي ببيان جديد ومعجزة جديدة‪.‬‬
‫إن الفساد ل يتأبى إل من وجود طبقات تطحن في طبقات‪ ،‬والذين يُطحنون بالفساد هم من‬
‫يستقبلون المنهج بشوق‪ ،‬لكن الطاحن المستفيد من الفساد هو الذي يعارض المنهج‪ .‬ولذلك فإن كل‬
‫جماعة حاربت الرسل هم من الطاحنين للناس‪ ،‬لكنّ المطحونين إنما يريدون من ينقذهم‪.‬‬
‫إذن فكل صاحب دعوة سماوية جعل ال له عدوا من المجرمين؛ لن السماء لم تتدخل إلى حين‬
‫صار الجرام ل مقاوم له‪ .‬وهكذا يجعل ال لكل نبي ورسول عدوا من المجرمين‪ ،‬وهذا العدو‬
‫يفتن به الناس‪ ،‬ويميل له ضعاف العقائد‪ .‬والحق يصرف اليات حالً بعد حال حتى ل يثبت مع‬
‫الداعي الحق إل المؤمنون الصادقون‪.‬‬
‫ولذلك تجد أن السلم قد جاء وغربل المور؛ فمثلً تأتي حادثة السراء فمن كان إيمانه مهتزّا‬
‫ينكر السراء‪ ،‬وذلك من أجل أن يذهب الزبد ويبقى من يحمل الدعوة بمنهج الحق‪ .‬أما من كان‬
‫إيمانه ضعيفا أو كان يعبد ال على حرف فالسلم ل يرغبه‪َ {.‬لوْ خَ َرجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ ِإلّ‬
‫خَبَالً }[التوبة‪.]47 :‬‬
‫إذن فالحق سبحانه وتعالى قد صرّف اليات لينصر المطحونين‪ ،‬وحينما قال الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم ذلك قالوا درست وادعو أنه كان قاعدا في الجبل‪ ،‬وتعلم من أعجمي‪ .‬ولذلك نجد الحق‬
‫يقول‪ {:‬وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّن ُهمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ َبشَرٌ }[النحل‪.]103 :‬‬
‫ج ِميّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل‪.]103 :‬‬
‫عَ‬‫حدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ‬
‫ويأتي الرد من الحق‪ {:‬لّسَانُ الّذِي يُلْ ِ‬
‫إن سيدنا عمر رضي ال عنه حينما كان في الطواف جاء عند الحجر السود وقال‪ " :‬وال إني‬
‫لقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك ل تضر ول تنفع ولول أني رأيت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم قبّلك ما قبلتُك "‪.‬‬
‫فعل سيدنا عمر ذلك حتى يعلمنا إذا ماجاء بعض الناس وقال‪ :‬ما سبب علة تقبيل الحجر السود؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فيكون الجواب حاضرا‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم فعل ذلك وهذا تشريع‪.‬‬
‫حيَ إِلَ ْيكَ‪} ...‬‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ { :‬اتّبِعْ مَآ أُو ِ‬

‫(‪)885 /‬‬

‫حيَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ لَا إِلَهَ إِلّا ُه َو وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلمُشْ ِركِينَ (‪)106‬‬
‫اتّبِعْ مَا أُو ِ‬

‫وساعة يتكلم متكلم لمخاطب بأمر هو فيه وقائم عليه مؤدٍ له فلبد أن نفهم حقيقة المراد‪ ،‬مثلما‬
‫يقول الحق سبحانه‪ {:‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ }[النساء‪.]136 :‬‬
‫وبأي شيء نادى ال خلقه المؤمنين هنا؟ لقد قال‪ { :‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } ‪ ،‬فكيف يقول‪" :‬‬
‫آمنوا "؟ لقد ناداهم لنهم آمنوا إيمانا استوجب خطابهم بالتكليف‪ ،‬والنسان ابن أغيار‪ .‬فيوضح أن‬
‫اليمان الذي استقبلتم به التكليف من خطابي داوموا أيضا عليه‪ ،‬وجاء المر هنا بدوامه‪ ،‬أي كما‬
‫آمنتم إيمانا جعلكم أهل للتكليف في مخاطبتكم وقلت لكم يأيها الذين آمنوا‪ :‬الزموا هذا وداوموا‬
‫حيَ إِلَ ْيكَ } هو قول لرسول متبه‪ ،‬إذن فهو يحمل المر‬
‫على إيمانكم‪ .‬وقوله الحق‪ { :‬اتّبِعْ مَآ أُو ِ‬
‫بالمداومة على التباع‪ ،‬ول يحزنك ما يقولون يا محمد؛ لنك مؤيد من ربك ويتولى الدفاع عنك‬
‫ق وََأحْسَنَ َتفْسِيرا }[الفرقان‪.]33 :‬‬
‫ويلقنك الحجة‪َ {.‬ولَ يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ ِإلّ جِئْنَاكَ بِا ْلحَ ّ‬
‫حيَ إِلَ ْيكَ مِن‬
‫ويقول الحق بعد ذلك موجها حديثه لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ { :‬اتّبِعْ مَآ أُو ِ‬
‫ك ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْل ُمشْ ِركِينَ }‪.‬‬
‫رّ ّب َ‬
‫أي أنه ل يوجد إله إل هو سبحانه‪ ،‬ول يمكن أن تغير أنت بالمنهج النازل إليك منه‪ ،‬وعليك أن‬
‫تعرض عن المشركين‪ ،‬فل تجالسهم‪ ،‬ول تخالطهم‪ ،‬ول تودهم‪ .‬إنه إعراض الفطنة والرشاد‬
‫والبلغ‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬وََلوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْ َركُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)886 /‬‬

‫حفِيظًا َومَا أَ ْنتَ عَلَ ْيهِمْ ِب َوكِيلٍ (‪)107‬‬


‫جعَلْنَاكَ عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫وََلوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْ َركُوا َومَا َ‬

‫الحق سبحانه وتعالى يعطينا قضية لبد أن نستصحبها في تاريخنا اليماني‪ ،‬والقضية هي‪ :‬أن أيّ‬
‫كافر لم يكفر قهرا عن ال‪ ،‬وإنما كفر لن ال أرخى له الزمام بالختيار أي خلقه مختارا‪ ،‬ولذلك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالكافر إنما يفعل كل فعل بما آتاه ال من الختيار لغصبا عن ربنا أو قهرا‪ ،‬بدليل أن الكون‬
‫الذي نحيا فيه مقهور بالمر‪ ،‬ل يمكن أن يختار إل مراد ال منه‪ ،‬وكل ما في الكون يسير إلى‬
‫مراد ال‪.‬‬
‫إذن فمن كفر لم يكفر قهرا عن ال؛ لن طبيعة الختيار ممنوحة من ال‪ .‬وحين اختص ال‬
‫النسان بالختيار وضع المنهج الذي يرتب عليه الثواب والعقاب‪ .‬ولذلك نزل التكليف بـ " افعل "‬
‫و " ل تفعل "‪ .‬وسبحانه إن أراد قهرا فقد قهر كل الجناس في الكون؛ قهرها بطول العمر‪ ،‬وأنها‬
‫تؤدي مهمتها كما أراد ال منها‪ ،‬إنّه قهر الشمس‪ ،‬وقهر القمر‪ ،‬وقهر النجوم‪ ،‬وقهر الماء‪ ،‬وكل‬
‫حاجة في الكون مقهورة له حتى الملئكة خلقهم‪ {:‬لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَهُمْ }[التحريم‪.]6 :‬‬
‫إذن صفة القهر أخذت متعلقها كامل‪ .‬ولكن أيريد ال من خلقه أن يكونوا مقهورين على ما يريد؟‬
‫ل‪ ،‬بل يريد سبحانه أن يكونوا فاعلين لما يحبه‪ ،‬وإن كانوا مختارين أن يفعلوا ما ل يحبه‪ ،‬كأن‬
‫خلق القهر في الجناس كان لثبات طلقة القدرة‪ ،‬وأنه ل يمكن لمخلوق أن يشذ عن مراد ال‬
‫منه‪ .‬وبقي الختيار في النسان ليدل على أن أناسا من خلقه سبحانه يذهبون إليه جل وعل وهم‬
‫قادرون أل يذهبوا إليه‪ ،‬وهذه تثبت صفة المحبة‪.‬‬
‫وحين يختار المختار الطاعة‪ ،‬وهو قادر أل يطيع‪ ،‬ويختار اليمان وهو قادر أن يكفر فقد جاء إلى‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ‬
‫ال محبة ل قهرا‪ ،‬ولذلك يقول ربنا لرسوله صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫ضعِينَ }[الشعراء‪.]4-3 :‬‬
‫سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ‬
‫ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ‬
‫أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزنا على عدم إيمان قومك بما جئت به من عند ربك‪،‬‬
‫أتريد يامحمد أن أقهرهم؟ أتريد أعناقا أو قلوبا؟ إنك يا محمد تعلم أن منهجك النازل إليك من ربك‬
‫يريد قلوبا‪ ،‬والقلوب تأتي بالختيار‪ .‬فلو شئنا إيمانهم لنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهرا‬
‫عليهم‪.‬‬
‫خدِشَ الختيار بفقد أي عنصر من عناصره يزول التكليف‪ .‬بدليل أنه ل تكليف على‬
‫ولذلك إذا ُ‬
‫فاقد العقل؛ لن آلة الختيار عندنا هي العقل‪ .‬وكذلك ل تكليف لمن لم ينضج بل يتركه الحق إلى‬
‫أن ينضج‪ .‬ويصير قادرا على إنجاب مثله وأن يصل إلى التكوين الكيماوي السليم‪ .‬ويمنع عنه‬
‫الكراه بأي قوة أعلى منه تقهره على أن يفعل شيئا على غير مراده‪ ،‬وهنا يأتي التكليف‪.‬‬
‫إذن فالتكليف يحتاج إلى أمور ثلثة‪ :‬وجود عقل‪ ،‬لذلك فل تكليف لمجنون‪ ،‬وعقل رشيد ناضج‪،‬‬
‫فقبل البلوغ ل تكليف ول إكراه حتى يسلم الختيار‪ ،‬لماذا؟ تأتي الجابة من الحق سبحانه‪ {:‬لّ َيهِْلكَ‬
‫حيّ عَن بَيّ َنةٍ }[النفال‪.]42 :‬‬
‫مَنْ هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ { :‬وَلَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ‪} ...‬‬

‫(‪)887 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمََل ُهمْ ثُمّ ِإلَى‬
‫وَلَا تَسُبّوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبّوا اللّهَ عَ ْدوًا ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫ج ُع ُهمْ فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)108‬‬
‫رَ ّبهِمْ مَرْ ِ‬

‫وتتضمن هذه الية الكريمة منهجا ضروريا من مناهج الدعوة إلى ال‪ ،‬هذه الدعوة التي حملها‬
‫الرسل السابقون‪ ،‬وختمهم الحق برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وجعلها سبحانه ختما لتصال‬
‫السماء بالرض؛ لذلك كان لبد من أن يستوعب السلم كل أقضية تتعلق بالدعوة إلى ال يحملها‬
‫أمينا عليها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والمة المحمدية‪ .‬التي شرفها ال سبحانه وتعالى بأن‬
‫جعل فيها من يحملون أمانة دعوة ال إلى الخلق امتدادا لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ فكل‬
‫مسلم يعلم حكما من أحكام ال مطلوب منه أن يبلغه لغيره؛ فرب مُبلّغ أوعى من سامع‪ .‬حتى وإن‬
‫كان ال لم يوفقه للعمل بما جاء فيما بلغ‪ .‬فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه‪ ،‬فإذا فاته أن يعمل‬
‫فالواجب أل يفوت من يعلم قضية من قضايا دينه ثواب البلغ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫إلى الخلق‪ ،‬ولكن عليه أن يعمل ليكون قدوة سلوكية يتأسى به غيره حتى ل يقع تحت طائلة قوله‬
‫تعالى‪ { :‬كَبُرَ َمقْتا عِندَ اللّهِ أَن َتقُولُواْ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }‪.‬‬
‫وإن كان بعض الشعراء يلحون على هذه المسألة‪ .‬فيقولون‪:‬وخذ بعلمي ول تركن إلى عملي واجن‬
‫الثمار وخلّ العود للنارإذن فالبلغ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أمر ضروري‪ ،‬وهو امتداد‬
‫لشهادة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬أنه بلغ صلى ال عليه وسلم عن الحق مراده من الخلق‪.‬‬
‫وبقي أن يشهد الناس الذين اتبعوا هذا الرسول أنهم بلغوا إلى الناس ما جاءهم عن رسول ال‬
‫س وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ‬
‫شهَدَآءَ عَلَى النّا ِ‬
‫جعَلْنَا ُكمْ ُأمّ ًة وَسَطا لّ َتكُونُواْ ُ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬وكَذَِلكَ َ‬
‫شهِيدا }[البقرة‪.]143 :‬‬
‫َ‬
‫إذن فكما أن الرسول سيشهد بأنه بلغنا‪ ،‬فمن صميم المنهج أن يشهد أتباعه أنهم بلغوا الناس‪ ،‬فإن‬
‫حدث تقصير في البلغ إلى الناس‪ ،‬فستكون المسئولية على من اتبع رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ولم يؤد أمانة الرسول عليه الصلة والسلم إلى الناس أجمعين‪ .‬ومنهج الدعوة منهج‬
‫صعب؛ لن الدعوة إلى ال تتطلب أن يأخذ الداعي يد الذين ينحرفون عن منهج السماء اتباعا‬
‫لشهوات الرض‪ ،‬وشهوات الرض جاذبة دائما للخلق؛ لنها تحقق العاجل من متع النفس‪ .‬واتباع‬
‫منهج الدين ‪ -‬كما يقولون ‪ -‬يحقق نفعا آجله‪ ،‬فهو يحقق ‪ -‬أيضا ‪ -‬المتعة العاجلة؛ لن الناس إن‬
‫تمسكوا بمنهج ال في " افعل ول تفعل " يعيشون حياة طيبة ل حقد فيها‪ ،‬ول استغلل‪ ،‬ول ضغن‬
‫ول حسد ول سيطرة‪ ،‬ول جبروت‪ ،‬فيصبح الناس جميعا في أمان‪.‬‬
‫إذن فل تقولوا إن الدين ثمرته في الخرة بل قولوا ليست مهمة الدين هي الخرة فحسب بل مهمة‬
‫الدين هي الدنيا أيضا‪ ،‬والخرة إنما هي ثواب على النجاح في هذه المهمة؛ لن ال إنما يجازي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في الخرة من أحسن العمل في الدنيا‪.‬‬

‫ومن اتبع منهج ال كما قال ال } فَلَ ُنحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً { ومن أعرض عن منهج ال فإن له معيشة‬
‫ضنكا‪ .‬ويحدث ذلك قبل الخرة‪ ،‬ثم يأتي يوم القيامة ليتلقى العقاب من ال‪ {:‬وَنَحْشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ‬
‫عمَىا }[طه‪.]124 :‬‬
‫أَ ْ‬
‫فإذا كان الدين يأخذ بالناس من شهواتهم الهابطة إلى منهج ال العالي‪ ،‬فتكون مهمة الداعي شاقة‬
‫على النفس‪ ،‬ولذلك قالوا‪ :‬إن الناصح بالخير يجب أن يكون لبقا؛ لنه يريد أن يخلع الناس مما‬
‫أحبوا وألفوا من الشر؛ لذلك يجب على الداعي أل يجمع عليهم إخراجهم مما ألفوا بأسلوب‬
‫يكرهونه بل ل بد أن يثير جنانهم ورغبتهم في اتباع المنهج‪ ،‬ولذلك جاءت هذه الية‪َ } :‬ولَ تَسُبّواْ‬
‫عمََلهُمْ ثُمّ إِلَىا رَ ّب ِهمْ‬
‫الّذِينَ َيدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْوا ِبغَيْرِ عِلْمٍ كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫ج ُعهُمْ فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { [النعام‪.]108 :‬‬
‫مّرْ ِ‬
‫لقد قال الحكماء‪ :‬النصح ثقيل فل نرسله جبلً ول تجعله جدلً‪ ،‬والحقائق مُرّة‪ ،‬فاستعيروا لها خفة‬
‫البيان‪ .‬والخفة في النصح تؤلف قلب المنصوح‪ ،‬وحسبك منه أن تخلعه عما ألف وأحبّ‪ .‬إلى ما لم‬
‫يتعود‪ ،‬فل يكون خلعه مما ألف بأسلوب عنيف‪ .‬ولذلك يعلمنا الحق هذه القضية حين ندعو‬
‫الخصوم إلى اليمان به‪ ،‬وهؤلء الخصوم يتخذون من دون ال أندادا؛ أي جعلوا ل ومعه شركاء‪.‬‬
‫إنهم إذن إرادوا المتعة العاجلة بالبتعاد عن المنهج‪ ،‬ثم احتفظوا بال مع الشركاء؛ لنه قد تأتي‬
‫لهم ظروف عصيبة‪ ،‬ل تقدر أسباب الرض على دفعها‪ ،‬ومن مصلحتهم أن يكون لهم إله قادر‬
‫على أن ينجيهم مما هم فيه‪ .‬فهم ل يكذبون أنفسهم‪ .‬والحق سبحانه هو القائل في مثل هؤلء إن‬
‫جهَنّمَ أَن ُتمْ َلهَا وَارِدُونَ }[النبياء‪:‬‬
‫صبُ َ‬
‫ح َ‬
‫أصروا على الشرك‪ {:‬إِ ّنكُمْ َومَا َتعْ ُبدُونَ مِن دُونِ اللّهِ َ‬
‫‪.]98‬‬
‫حصب جهنم إذن هم المشركون ومعهم الصنام التي كانوا يعبدونها وستكون وقودا للنار التي‬
‫يعذبون بها‪ .‬وبعض من الناس السطحيين يظن أن هذا عذاب للحجار‪ ،‬ل‪ ،‬بل هي غيرة ونقمة‬
‫وغضب من الحجار على خروج المشركين عن منهج ال في توحيد ال‪ .‬فتقول الحجار‪ :‬لقد‬
‫كنتم مفتونين بي ولذلك سأكون أنا أداة إحراقكم‪ .‬إننا نجد المفتونين في اللهة من البشر أو اللهة‬
‫من الشجار أو اللهة من الكواكب أو اللهة يصيبهم ال بالعذاب‪ ،‬والحجار التي عبدوها تقول‬
‫كما قال بعضهم فيها شعرا‪:‬عبدونا ونحن أعبد ل له من القائمين في السحارواتخذوا صمتنا علينا‬
‫دليل وغدونا لهم وقود النارللمغالي جزاؤه والمغالي فيه تنجيه رحمة الغفارولذلك يأتي المر بأل‬
‫نسبّ ما يعبده الذين أشركوا بال؛ لن الصنام ل ذنب لها‪ ،‬والواقع كان يقتضي أن تتلطفوا‬
‫بالحجار فهي ل ذنب لها في المفتونين بها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق سبحانه وتعالى يعلمنا ويوضح لنا أل نظلم المتّخَذ إلها؛ لنه مغدور‪ ،‬والسب هو ذكر‬
‫القبيح‪ ،‬والشتم‪ ،‬والذم‪ ،‬والهجاء‪ ،‬إنك إن سببت وقبحت ما عبدوه من دون ال فإن العابد لها‬
‫بغباوته سيسب إلهك فتكون أنت قد سببت إلها باطل‪ ،‬وهم سبّوا الله الحق‪ ،‬وبذلك لم نكسب شيئا؛‬
‫فانتبهوا‪.‬‬
‫ويحذرنا القرآن من الوقوع في ذلك في قول ال تبارك وتعالى‪َ } :‬ولَ َتسُبّواْ الّذِينَ َيدْعُونَ مِن دُونِ‬
‫عدْوا ِبغَيْرِ عِلْمٍ { [النعام‪.]108 :‬‬
‫اللّهِ فَ َيسُبّواْ اللّهَ َ‬
‫عدْوا وعدوانا وطغيانا بغير علم بقيمة الحق وقدسيته سبحانه وتعالى؛ لذلك‬
‫وهم سيفعلون ذلك َ‬
‫يجب أن نصون اللسنة عن سب آلهتهم حتى ل نجرئ اللسنة التي ل تؤمن بال على سب ال‪.‬‬
‫إن الحق سبحانه يريد أن يعلمنا اللطف في منهج الدعوة؛ لنك تريد أن تحنن قلوبهم لتستميلهم إلى‬
‫اليمان ولن يكون ذلك إل بالسلوب الطيب‪.‬‬
‫صحيح أن المؤمنين معذورون في حماسهم حين يدخلون في مناقشة مع المشركين ولكن ليتذكر‬
‫المؤمن القيمة النهائية وهي الخير للدعوة‪ .‬وليسأل ال أن يرزقه الصبر على المشركين‪ ،‬ويعلمنا‬
‫الحق كيف نسير في منهج الدعوة‪ ،‬وعلى سبيل المثال نجد سيدنا نوحا عليه السلم الذي لبث في‬
‫قومه ألف سنة إل خمسين عاما‪ .‬وظل يدعو ويتحنن في الدعوة‪ ،‬إلى أن قالوا له في آخر‬
‫المطاف‪ :‬أنت تفتري هذا الكلم من عندك‪ ،‬فعلمه ال سبحانه وتعالى أن يقول‪ُ {:‬قلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ‬
‫َفعََليّ ِإجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا تُجْ ِرمُونَ }[هود‪.]35 :‬‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫ويقول الحق سبحانه معلما رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ُ {:‬قلْ مَن يَرْ ُز ُقكُمْ مّنَ ال ّ‬
‫وَالَرْضِ }[سبأ‪.]24 :‬‬
‫أي من الذي يعطيكم قوام الحياة؟ وأنت حين تسألهم سؤالً يناقض ما هم عليه‪ .‬فيتلجلجون‪،‬‬
‫فيسعف ال رسوله فيوضح سبحانه ويأمره أن يقول لهم‪ُ {:‬قلِ اللّ ُه وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَىا هُدًى َأوْ فِي‬
‫للٍ مّبِينٍ }[سبأ‪.]24 :‬‬
‫ضَ َ‬
‫و " إنا " أي رسول ال ومن معه‪ " .‬أو إياكم " المقصود بها الكافرون بال‪ ،‬ولم يقل لهم أنا وحدي‬
‫على هدى وأنتم على ضلل‪ ،‬بل قال‪ :‬منهجنا ومنهجكم ل يتفقان‪ ،‬ول بد أن يكون هناك منهج‬
‫على هدى ومنهج على ضلل‪ ،‬ولن أقول مَن هو الذي على هدى‪ ،‬ومَنْ هو الذي على ضلل؛‬
‫لن محمدا صلى ال عليه وسلم واثق من أنهم لو أداروا المسألة على عقولهم وعلى بصائرهم‪:‬‬
‫فلن يجدوا جوابا إل أن رسول ال على الهدى وأنهم على الضلل‪ .‬فتركهم هم ليقولوها‪.‬‬
‫عمّا َت ْعمَلُونَ }[سبأ‪.]25 :‬‬
‫عمّآ َأجْ َرمْنَا َولَ ُنسَْألُ َ‬
‫ولنتأمل أيضا قول الحق سبحانه‪ {:‬قُل لّ تُسْأَلُونَ َ‬
‫لم يقل الحق إنهم هم الذين يجرمون‪ ،‬بل جعل الجرم ‪ -‬إن صح ‪ -‬على المؤمنين‪ ،‬وجعل العمل ‪-‬‬
‫وإن فسد ‪ -‬مع الكافرين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وعلى القل كانت المساواة تقتضي ول نسأل عما تجرمون ولكنه لم يقل ذلك‪ .‬وهذا هو الدب‬
‫العالي واللطف؛ لن الحق سبحانه وتعالى يريد أل يترك الرسول لغرائزهم مكانا للباء عليه‪ ،‬وأل‬
‫يجدوا وسيلة لينفروا من الدعوة‪ .‬ولهذا يعلمنا هذا السلوب فيقول‪َ } :‬ولَ َتسُبّواْ الّذِينَ َيدْعُونَ مِن‬
‫دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْوا ِبغَيْرِ عِلْمٍ { [النعام‪.]108 :‬‬
‫وبذلك نحقق لطف الجدل‪ .‬ويقول سبحانه‪ {:‬إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ َأمْثَاُلكُمْ }[العراف‪:‬‬
‫‪.]194‬‬
‫وإن كنتم تريدون كشف حقيقة تلك الصنام فهي أيضا مخلوقة ل وهي تعبده‪ ،‬واسألوهم ولن‬
‫يجيبوا‪ ،‬وهم ل أرجل لهم يمشون عليها‪ ،‬ول لهم أيد يبطشون بها‪ ،‬ول لهم أعين يبصرون بها‪،‬‬
‫ول لهم آذان يسمعون بها‪ .‬وفوق ذلك‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ‬
‫لَهُ }[الحج‪.]73 :‬‬
‫وهل هناك ما هو أقل من الذباب في عرفكم؟ نعم‪ ،‬يقول الحق‪ {:‬وَإِن يَسْلُ ْب ُهمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ‬
‫يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ }[الحج‪.]73 :‬‬
‫فإن جاءت ذبابة وحطت على ما تأكل‪ ،‬أتستطيع أن تسترجع منها شيئا؟ لن تستطيع‪ ،‬وإن كنت‬
‫جبارا وفتوة فامسك الذبابة وخذ منها الطعام الذي أخذته‪ ،‬لن تستطيع‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه‪{:‬‬
‫ضعُفَ الطّاِلبُ وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج‪.]73 :‬‬
‫َ‬
‫وهذا هو الجدل الذي يجعل المجادل يخجل من نفسه‪ ،‬لكن إذا ثرت في وجهه وتعصبت فأنت‬
‫تجعل له عذرا في الحفيظة عليك والغضب منك والهجوم عليك‪ ،‬وفي النصراف عن منهج ال‪،‬‬
‫ونسأل ال أن يعطينا طول البال وسعة الحلم والناة على الجدل اللطيف‪.‬‬
‫عمََلهُمْ‬
‫} َولَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْوا ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫{ [النعام‪.]108 :‬‬
‫وحين يعلمنا الحق الجدل اللطيف للدعوة فهذا تزيين للدعوة‪ ،‬والدعوة في ذاتها جميلة؛ لذلك لبد‬
‫أن يكون عرضها جميلً‪.‬‬
‫والمثال من حياتنا‪ :‬أنت تذهب إلى التاجر وعنده بضاعة قد تكون متميزة جدا لكنه ل يرتبها‬
‫وليحسن عرضها؛ لذلك قد تنفر منه وتذهب إلى تاجر آخر قد تكون بضاعته أقل جودة لكنه‬
‫سمّي الحلي وما تتجمل به المرأة‬
‫يحسن عرضها‪ ،‬وهذا هو التزيين أي تصعيد الحسن‪ ،‬ولذلك ُ‬
‫زينة والمرأة قد تمتلك أنوثة جميلة‪ ،‬وهي مع جمالها تقوم بتزيين نفسها بالحلي‪ ،‬وبالجواهر‬
‫والملبس الراقي‪ ،‬وكان العربي حين يمتدح امرأة بقمة جمالية يقول‪ :‬هذه غانية‪ ،‬أي استغنت‬
‫بجمالها عن أن تتزين؛ لن ما سوف تداريه بالعقد أجمل من العقد‪.‬‬
‫والتزيين إذن جمال العرض للستمالة والنجذاب‪ ،‬ونحن حين نزين أمرا فإننا نعطيه وقارا وحسنا‬
‫ج ُعهُمْ فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ‬
‫عمََلهُمْ ُثمّ إِلَىا رَ ّبهِمْ مّرْ ِ‬
‫ونزيده جمالً‪َ } :‬كذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ والمة‪ :‬هي الجماعة التي لها انتماء يجمع أفرادها‪ ،‬مثل أمة العرب‪ ..‬أي أن المنتمين إليها هم‬
‫العرب والمة النجليزية أي أن المنتمين إليها إنجليز‪ ،‬أما أمة السلم فيدخل فيها العرب‪،‬‬
‫والعجم‪ ،‬والسود والبيض‪ ،‬والصفر‪ ،‬وهي أوسع رقعة‪ ،‬فإن كانت المم السابقة زينت لتناسب‬
‫عصرا محدودا وزمنا محدودا‪ ،‬ومكانا محدودا فنحن نزينكم تزيينا يناسب كل أذواق الدنيا؛ لنكم‬
‫ستواجهون كل هذه المم‪ ،‬فلبد أن يكون في دعوتكم استمالة لهذا ولهذا ولهذا‪.‬‬

‫وفي بدء الدعوة ‪ -‬وكانت حينئذ ضعيفة نجد ‪ -‬رسول ال صلى ال عليه وسلم يلتفت إلى المة‪،‬‬
‫فيكون بلل الحبشي هو من يؤذن‪ ،‬ونجده يقول عن ‪ -‬سليمان وهو فارسي ‪ :-‬سلمان منا آل‬
‫البيت ويأتي سيدنا عمر يقول عن صهيب ‪ -‬وهو رومي ‪ :-‬نعم العبد صهيب لو لم يخف ال لم‬
‫يعصه‪ ،‬أي أن عدم عصيانه ل طبيعة فيه حتى وإن لم يكن يخاف عقاب ال‪.‬‬
‫فإذا كنا قد زينا لكل أمة من المم الماضية عملهم فتزيين أمتكم يجب أن يكون مناسبا لمهمتها‬
‫زمانا ومكانا وأجناسا‪ ،‬وألوانا‪ ،‬ولغات‪ ،‬ولبد أن نزينكم أيضا بحسن أسلوب العرض لمنهج‬
‫الدعوة‪ .‬ويجب أن يتناسب مع جمالها‪ ،‬وأنتم أولى بالتزيين؛ لنكم مستوعبون لكل حضارات‬
‫الدنيا‪ ،‬وانتماءات الدنيا‪ ،‬فيجب أن يكون تزيينكم مناسبا لمهمتكم‪.‬‬
‫ج ُعهُمْ { [النعام‪.]108 :‬‬
‫عمََلهُمْ ُثمّ إِلَىا رَ ّبهِمْ مّ ْر ِ‬
‫} َكذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫أي أننا وضحنا لهم منهج نقل الدعوة إلى الغير‪ ،‬وما ينال المحسن والمطيع من ثواب في الخرة‪،‬‬
‫والمؤمنون حينما ينعمون بنعيم الخرة فهذا نعيم بغير حدود؛ لنه على قدر طلقة قدرة الحق‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬وهم حين يتنعمون بكل هذه النعم يستشرقون إلى لقاء المنعم به‪ ،‬ويتجلى ال‬
‫عليهم‪.‬‬
‫وكما زينا للمم السابقة أعمالهم قد زيناكم لنكم أمة الجابة‪ ،‬وهذا التزيين الخاص يربي الدعاة‬
‫إلى منهج ال‪ ،‬ولو فطن غيركم إلى ما في منهجكم من زينة لبحثوا في هذا المنهج ولقام كل منهم‬
‫باستقراء الوجود الذي بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ولوجد أن لكل كائن مهمة‪،‬‬
‫ن وَالِنسَ ِإلّ لِ َيعْبُدُونِ }[الذاريات‪.]56 :‬‬
‫ولنضم إلى المنهج التعبدي‪َ {.‬ومَا خََل ْقتُ الْجِ ّ‬
‫و " ليعبدون " تعني أن يطيعوا في " افعل كذا " " ول تفعل كذا " وإذا قال الحق‪ } :‬كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ‬
‫عمََلهُمْ { فمعنى ذلك أنه سبحانه قد بين العمل بفوائده‪.‬‬
‫ُأمّةٍ َ‬
‫وأنت حين تتأمل ظواهر الوجود حولك تجد أن من تميز عليك بموهبة إنما أراده الحق على هذا‬
‫التميز لينفعك أنت‪ ،‬ويتجلى هذا المر في كل المهن‪ :‬فالنجار الحاذق والمتقن تعود صنعته عليك‪،‬‬
‫ومصمم الملبس الذي يتقن عمله سيعود خير صنعته عليك‪ ،‬ومن مصلحة كل إنسان أن يكون‬
‫غيره متفوقا؛ وأن يكون هو أيضا متفوقا في عمله‪ ،‬وأن يحمد ربنا لن خيره سيعود على غيره‬
‫أيضا‪ ،‬وبذلك نحيا في مجتمع راق يتكون من أمم وطوائف مثالية‪ ،‬إذن فالمتفوق في شيء يجب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أل يحقد على غيره من أبناء المجتمع؛ لن خير تفوقه سيعود على كل فرد فيه ومن المصلحة أن‬
‫يصبر الكل إلى التفوق‪.‬‬

‫عمََلهُمْ { أي جعل ال لكل منا عملً في الحياة‪ ،‬ول بد أن ينتفع‬


‫فإذا قال ال‪ } :‬كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫به في الدنيا‪ ،‬وينتفع به في الخرة أيضا ويأخذ كل منا ثواب ال عليه‪ ،‬فالذي يأخذ التزيين يقبل‬
‫على العمل‪ ،‬والذي ل يأخذ التزيين فعليه الذنب‪ ،‬وكل واحد إنما يزين عمله على مقدار الطموح‬
‫الذي يطلبه لنفسه‪ ،‬ونحن نرى أمثلة لذلك في الحياة‪ ،‬ونلتفت لنجد إنسانا له دخل محدود‪ ،‬لكنه يفتح‬
‫على نفسه أبوابا من الترف أكثر من اللزم‪ ،‬ول يدخر شيئا ويحقق لنفسه المتعة العاجلة‪ ،‬ونجد‬
‫إنسانا آخر يعيش على قدر الضروريات ويدخر لنجده من بعد ذلك قد طور من أسلوب حياته‬
‫بالسكن اللئق ومتع الحياة‪ .‬إن الول زين له عمله الترف العاجل‪ ،‬والثاني زين له عمله الترف‬
‫المقنن‪ ،‬فإياك أن تنظر إلى شهوة العاجلة‪ ،‬ولكن انظر إلى الجدوى التي تأتي منها‪ُ } :‬ثمّ إِلَىا رَ ّبهِمْ‬
‫ج ُعهُمْ فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { [النعام‪.]108 :‬‬
‫مّرْ ِ‬
‫وما دام المرجع لمن أوجد العمل منهجا في " افعل " و " ل تفعل " والمرجع لمن وضع التزيين‬
‫في العمل لتأخذ المنهج الكريم منه‪ ،‬وعلى مقدار ما أخذت من منهجه تأخذ من كرامته‪.‬‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ‪{ ...‬‬
‫سمُواْ بِاللّهِ َ‬
‫ويقول الحق من بعد ذلك‪ } :‬وََأقْ َ‬

‫(‪)888 /‬‬

‫شعِ ُركُمْ أَ ّنهَا ِإذَا‬


‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ لَئِنْ جَاءَ ْت ُهمْ آَ َيةٌ لَ ُي ْؤمِنُنّ ِبهَا ُقلْ إِ ّنمَا الْآَيَاتُ عِ ْندَ اللّ ِه َومَا ُي ْ‬
‫سمُوا بِاللّهِ َ‬
‫وََأقْ َ‬
‫جَا َءتْ لَا ُي ْؤمِنُونَ (‪)109‬‬

‫سمٌ‪ ،‬ومقْسَمٌ عليه‪ ..‬فالمقْسَمُ به هو ال‪ :‬والمقسِم هم‬


‫سمُواْ بِاللّهِ } ‪ ،‬هنا قَسَمٌ‪ :‬ومُقْسَمٌ به‪ ،‬ومُقْ ِ‬
‫{ وََأقْ َ‬
‫الجماعة المخالفون لرسول ال‪ ،‬ولماذا يقسمون؟ لقد أقسموا حينَ أخذهم الجدل بمنطق الحق‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ }‬
‫فغلبهم‪ ..‬هم أقسموا بال وقد دعاهم الرسول صلى ال عليه وسلم إلىعبادته‪ ،‬و { َ‬
‫تعرف منها الجهد وهو المشقة أي أنهم بالغوا في القسم مبالغة تجهدهم ليبينوا لمن يقسمون لهم‬
‫أنهم حريصون على أن يبروا بالقسم‪ ،‬فأفرغوا جهدهم ومشقتهم في القسَم‪ ،‬وهذا معناه أنهم أعلنوا‬
‫أنهم يقسمون قسما محبوبا لهم‪ ،‬والمحبوب لهم أكثر أن ينفذوا هذا القسم‪ ،‬وهذا يدل في ظاهره‬
‫على إخلصهم في القسم‪.‬‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ لَئِن جَآءَ ْتهُمْ آيَةٌ لّ ُي ْؤمِنُنّ } [النعام‪.]109 :‬‬
‫سمُواْ بِاللّهِ َ‬
‫{ وََأقْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ألم يأت الرسول صلى ال عليه وسلم بآية واضحة؟ لقد جاءهم بأعظم آية وهي القرآن‪ ،‬وعدم‬
‫عرفانهم بذلك هو أول مصيبة منهم‪ ،‬ألم يقل لكم‪ :‬إني رسول بعد أن أعلن الية وهي نزول القرآن‬
‫وأنتم تعرفون أنه صادق في التبليغ عن ال‪ ..‬وكان ذلك هو قمة المماحكة منهم‪ ،‬وساروا على ذلك‬
‫ن الَ ْرضِ‬
‫حين اقترحوا هم اليات على ال‪ ،‬ألم يقولوا‪َ {:‬وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ‬
‫سمَآءَ َكمَا‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ تُ ْ‬
‫يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً }[السراء‪.]92-90 :‬‬
‫زَ َ‬
‫وأراد الحق بذلك أن يبين لنا أنّ القسم الذي أقسموه هو قسم مدخول فقد قالوا‪ " :‬كما زعمت علينا‬
‫" والزعم ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬مطية الكذب وهذا أول خلل في القسم‪.‬‬
‫سمَآءِ }[سبأ‪.]9 :‬‬
‫سقِطْ عَلَ ْيهِمْ كِسَفا مّنَ ال ّ‬
‫سفْ ِب ِه ُم الَ ْرضَ َأوْ ُن ْ‬
‫خِ‬‫ويقول الحق‪ {:‬إِن نّشَأْ نَ ْ‬
‫هم إذن غير مؤمنين بالية الصلية وهي القرآن‪ ،‬فيتحدوْنه في أنه ينزل بالوحي‪ ،‬فيحذرنا الحق‬
‫أن نصدق زعمهم‪ ،‬فهو القائل‪ {:‬وََلوْ نَزّلْنَا عَلَ ْيكَ كِتَابا فِي قِرْطَاسٍ فََلمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ َلقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ‬
‫سحْرٌ مّبِينٌ }[النعام‪.]7 :‬‬
‫إِنْ هَـاذَآ ِإلّ ِ‬
‫سمَاءِ فَظَلّواْ فِيهِ‬
‫وحتى إن نزلت الية فلن يصدقوا؛ فالحق هو القائل‪ {:‬وََلوْ فَتَحْنَا عَلَ ْيهِم بَابا مّنَ ال ّ‬
‫سكّ َرتْ أَ ْبصَارُنَا َبلْ نَحْنُ َقوْمٌ مّسْحُورُونَ }[الحجر‪]15-14 :‬‬
‫َيعْرُجُونَ * َلقَالُواْ إِ ّنمَا ُ‬
‫ولو أن الرسول صلى ال عليه وسلم قد سحركم‪ ..‬فلماذا لم يسحرهم ليؤمنوا بال؟‬
‫وهكذا نرى أن الحق قد ذكرنا لنا في كتابه أن كل ما يقولونه في هذه المسألة هو مروق وهروب‬
‫من الستجابة للدعوة؛ لنه ل توجد آية أعظم من الية التي نزلت عليهم وهي القرآن‪ ،‬وكل‬
‫اليات التي اقترحوها ل تسمو على هذه الية؛ لنهم أمة نحو وصرف وبلغة وبيان وأدب‪ ،‬فجاء‬
‫لهم بالمعجزة التي تفرقوا فيها‪ .‬وهم لم يتفوقوا في الشياء التي ذكروها واقترحوها‪.‬‬

‫إننا نأتي لهم بمعجزة من جنس ما تفوقوا فيه؛ لن المعجزات دائما تأتي على هذا الساس؛ فكل‬
‫قوم تفوقوا في مجال يأتي ال لهم بشيء يتفوق عليهم في مجال تفوقهم ليثبت صدق الرسول في‬
‫البلغ عنه‪.‬‬
‫ولقد قلنا‪ :‬إن المعجزات تأتي خرقا لنواميس الكون الثابتة لن نواميس الكون لها قوانين عرفها‬
‫البشر‪ ،‬وأصبحت متواترة أمامهم؛ فإذا ما جاء أمر يخرق الناموس السائد المعترف به بينهم‬
‫يلتفتون متسائلين كيف خرق الناموس وذلك ليعرف كل واحد منهم أن الذي خلق الناموس هو‬
‫الذي خرق الناموس؛ لكي يثبت صدق هذا البلغ عنه‪ .‬وقد جاءتكم المعجزة من جنس ما نبغتم‬
‫به‪ ،‬والذي يدل على ذلك أنهم ل يتكلمون في المعجزة بل في المنهج وفي شخص من جاء‬
‫بالمنهج‪ ،‬تجدهم يقولون‪َ {:‬لوْل أُن ِزلَ عَلَ ْيهِ مََلكٌ }[النعام‪.]8 :‬‬
‫فيوضح القرآن أن المَلك بطبيعة تكوينه ل يُرى منكم؛ هو يراكم وأنتم ل ترونه‪ ،‬وإذا أرسلنا ملكا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فكيف تعرفونه؟ إذن سيتطلب إرسال ملك أن نخلع عليه وضع البشر‪ ،‬وإن ينزله الحق في صورة‬
‫جعَلْنَاهُ‬
‫بشر‪ ،‬وإن نزل في صورة بشر فستقولون‪ :‬إنه ليس بشرا ولسنا ملزمين بما جاء به‪ {:‬وََلوْ َ‬
‫ل وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا يَلْبِسُونَ }[النعام‪.]9 :‬‬
‫جعَلْنَاهُ َرجُ ً‬
‫مَلَكا لّ َ‬
‫وكان سيدنا جبريل ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬ينزل إلى رسول ال أحيانا في صورة رجل قادم من‬
‫السفر ويقعد ويتكلم مع سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬لم يأت جبريل عليه السلم ‪ -‬إذن‬
‫‪ -‬بطبيعة تكوينه بل جاء بطبيعة البشر‪ .‬وهناك خلق آخر مثل الجن‪ ،‬ونحن ل نقدر أن نرى‬
‫الجن‪ ،‬ول نستطيع بقوانيننا وقوانين الجن أن نراه‪ ،‬لكن إذا أراد الجن أن يرينا نفسه فهو يتشكل‬
‫بشكل مادي يرى؛ يتشكل بشكل حيوان‪ ،‬يتشكل بشكل قطة‪ ،‬يتشكل بشكل جمل‪ ،‬يتشكل بشكل‬
‫رجل‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ولو كانت هذه المسألة غير مقيدة بتقنين يحفظ توازن المر بين الجنسين ‪ -‬النس‬
‫والجن ‪ -‬لتعب الناس؛ لنه ساعة يظهر جن للنسان ويقف أمامه ثم يختفي يسود الرعب بين‬
‫البشر على الرغم من أن الجن تخاف من النسان اكثر مما نخاف نحن منهم؛ لن الجن يعرف أن‬
‫قانونه يسمح له أن يتشكل بشكل إنس أو أي شكل مادي‪ ،‬وحينئذ يحكمه قانون النس وإن التقى‬
‫بشخص معه مسدس ‪ -‬مثل ‪ -‬فقد يضربه بالرصاص ويقتله‪ ،‬ولذلك يخاف الجن أن يظهر‬
‫للنسان مدة طويلة‪ ،‬وإنما يظهر كموضة البرق ويختفي؛ لنه يخاف كما قلنا ‪ -‬من النسان‪ .‬إذن‬
‫فالتوازن موجود بين الجن والنس‪ .‬ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" إن عفريتا من الجن جعل يفتك على البارحة ليقطع عليّ الصلة وإن ال أمكنني منه َفذّعَتّهُ‪ ،‬فلقد‬
‫هممتُ أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أوكلكم‬
‫ثم ذكرت قول أخي سليمان‪ " :‬رب اغفر لي وهب لي ملكا ل ينبغي لحد من بعدي " فردّه ال‬
‫خاسئا‪ ،‬وفي رواية‪ " :‬وال لول دعوة أخي سليمان لصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة "‪.‬‬

‫وهكذا نعلم أن القوم إذا اقترحوا آية‪ ،‬ثم جاء ال بالية‪ ،‬فإن كذبوا بها أخذهم أخذ عزيز مقتدر ول‬
‫يؤجل ذلك للخرة‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪َ {:‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َب ُه ْم وَأَنتَ فِي ِهمْ }[النفال‪.]33 :‬‬
‫إذن فحتى الكفار به نالهم شيء من رحمته‪.‬‬
‫شعِ ُركُمْ أَ ّنهَآ‬
‫جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ لَئِن جَآءَ ْتهُمْ آيَةٌ لّ ُي ْؤمِنُنّ ِبهَا ُقلْ إِ ّنمَا اليَاتُ عِندَ اللّ ِه َومَا ُي ْ‬
‫سمُواْ بِاللّهِ َ‬
‫} وََأقْ َ‬
‫ت لَ ُي ْؤمِنُونَ { [النعام‪.]109 :‬‬
‫إِذَا جَآ َء ْ‬
‫هنا يبلغ الحق رسوله أن يقول لهم‪ :‬أنا ل آتي باليات من عندي ول آتي بقانون قدرتي؛ لن‬
‫قانون قدرتي مساو لكم‪ .‬ولست متفوقا عنكم غير أنه يوحي إليّ وأبلغكم ما أرسلت به إليكم‪ .‬إنّ‬
‫ال هو الذي يناولني آيات القرآن‪ ،‬ول يوجد خلق يقترح على ال الية؛ لن ما سبق في الرسالت‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السابقة يؤكد أن الحق إذا ما استجاب لية طلبها الخلق ولم يؤمنوا فسبحانه يهلكهم ويستأصلهم أو‬
‫يغرقهم أو يرسل عليهم ريحا صرصرا أو يخسف بهم الرض‪ ،‬والحق هو القائل‪َ {:‬ومَا مَ َنعَنَآ أَن‬
‫لوّلُونَ }[السراء‪.]59 :‬‬
‫سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن َك ّذبَ ِبهَا ا َ‬
‫نّرْ ِ‬
‫إذن فبعض أهل الرسالت السابقة اقترحوا اليات وحققها ال لهم ثم كذبوا بها‪ .‬إذن فالتكذيب هو‬
‫الصل عندهم‪.‬‬
‫والمفروض أن تأتي الية كما يريدها ال ل أن يقترحها أحد عليه‪ .‬ولذلك يأمر الحق رسوله أن‬
‫يبلغهم‪ُ } :‬قلْ إِ ّنمَا اليَاتُ عِندَ اللّهِ { ثم يأتي خطاب جديد لناس يختلفون عن المشركين هم‬
‫ت لَ ُي ْؤمِنُونَ { فكأنهم حينما قال أهل‬
‫شعِ ُركُمْ أَ ّنهَآ إِذَا جَآ َء ْ‬
‫المؤمنون‪ ،‬فيقول الحق لهم‪َ } :‬ومَا يُ ْ‬
‫الشرك ذلك أراد المؤمنون أن يخففوا عنتهم مع رسول ال فقالوا له‪ :‬يارسول ال‪ ،‬اسأل ال أن‬
‫ينزل لهم آية حتى نرتاح من لجاجتهم‪ ،‬فيتجه ال بالرد على من قرظ هذا السؤال موضحا‪ :‬أنتم‬
‫مؤمنون وظنكم حسن‪ ،‬وفكرتكم طيبة في أنكم تريدون أن تكسروا حدة العنت‪ ،‬لكن ما يشعركم‪:‬‬
‫أي ما يعلمكم أن الية التي اقترحوها إن جئت بها ل يؤمنون‪ .‬فكأن المؤمنين أيدوا قول هؤلء‬
‫المشركين في طلب الية منعا للجاج‪.‬‬
‫والنص القرآني جاء بقوله الحق‪ " :‬ل يؤمنون " وجاء العلماء عند هذه المسألة واختلفوا‪ ،‬وجزى‬
‫ال الجميع خيرا؛ لنها أفهام تتصارع لتخدم اليمان‪ .‬ونسأل‪ :‬ما الذي يجعل السلوب يجيء بها‬
‫الشكل؟ ونقول‪ :‬إنها مقصودات الِله حتى نعيش في القرآن‪ .‬ل أن نمر عليه المرور السريع‪.‬‬
‫والسلوب في قوله‪ " :‬وما يشعركم أنها إذا جاءت ل يؤمنون " هو دليل على أنه ليس لكم علم‪.‬‬

‫وقلنا‪ :‬إن الشعور يحتاج إلى إدراك ومواجيد ونزوع‪ ،‬فعلى أي أساس بنيتم شعوركم هذا؟ أنتم‬
‫أخذتم ظاهر كلمهم‪ ،‬ولكن الحق يعلم ويحيط بما يخفون ويبطنون‪ .‬وكأنه سبحانه يوضح أن طلب‬
‫الية إنما هو تمحيك‪ .‬وأنتم تعلمون أن ال إن جاء لهم بالية فلن يؤمنوا‪.‬‬
‫وبعض من المفسرين قال‪ :‬إن (ل) زائدة ومنهم من كان أكثر تأدبا فقال‪( :‬ل) صلة لنهم خافوا أن‬
‫يقولوا‪( :‬ل) زائدة وقد يأخذ البعض بمثل هذا القول فيحذفها‪ ،‬لذلك أحسنوا الدب؛ لن الذي يتكلم‬
‫هو الِله وليس في كلمه حرف زائد بحيث لو حذفته يصح الكلم‪ ،‬ل‪ .‬إنك إذا حذفت شيئا فالكلم‬
‫يفسد ول يؤدي المراد منه؛ لن ل مرادات في كلمه‪ ،‬وهذه المرادات لبد أن يحققها أسلوبه‪.‬‬
‫والمثال في حياتنا أن يقول لك واحد‪ " :‬ما عندي مال " أو ما عندي من مال؟ إن " من مال " هنا‬
‫ابتدائية أي من عندي من بداية ما يقال‪ :‬إنه مال‪ ،‬أما من يقول‪ " :‬ما عندي مال " أي ليس عنده ما‬
‫يعتد به من المال الذي له خطر وقيمة‪ ،‬بل عنده قروش مما ل يثال له‪ :‬مال‪ .‬إن في جيبه القليل‬
‫من القروش‪.‬‬
‫و " ل " في هذه الية جاءت لن الحق يريد أن يقول للمؤمنين‪ :‬ما يعلمكم يا مؤمنون أنني إذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جئت لهم بالية يؤمنون‪ ،‬فكأنه سبحانه ينكر على المؤمنين تأييد مطلب الكافرين‪ .‬وقد تلطف الحق‬
‫مع المؤمنين وكرم حسن ظنهم في التأييد لنهم ل يؤيدون الطلب حبا في الكافار‪ ،‬بل حبا في النبي‬
‫جهْدَ‬
‫سمُواْ بِاللّهِ َ‬
‫والمنهج‪ ،‬وكأن الحق يقول لهم‪ :‬أنا أعذركم لنكم تأخذون بظاهر جهد اليمين } وََأقْ َ‬
‫أَ ْيمَا ِنهِمْ { ومبالغتهم فيه‪ .‬ول أنكر عليكم تصديقكم لظاهر قولهم؛ لن هذا هو مدى علمكم‪ ،‬ومكا‬
‫أدراكم أنني إذا جئت بالية أنهم أيضا لن يعلنوا الِيمان‪ .‬ولو كنتم تعبمون ما أعلم لعرفتم أنهم لن‬
‫يؤمنوا‪ .‬إذن حين جاء السلوب بـ } لَ ُي ْؤمِنُونَ { فـ " ل " حقيقية وليست زائدة‪ .‬ومن أجل أن‬
‫يطمئن الحق المؤمنين أظهر لهم أن علمه الواسع يعلم حقيقة أمرهم يقول‪ } :‬وَ ُنقَّلبُ َأفْئِدَ َتهُمْ‬
‫وَأَ ْبصَارَهُمْ‪{ ...‬‬

‫(‪)889 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like