Professional Documents
Culture Documents
والهمزة هنا في " أغير " يسمونها همزة النكار كقول قائل :أتسب أباك؟ إنها ليست استفهاما بقدر
ما هي توبيخ ولوم .وكذلك { :أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِ ُذ وَلِيّا } .أي أن الحق يأمر رسوله أن يستنكر اتخاذ
ولي غير ال.
إن اتخاذ ال كولي هو أمر ضروري؛ لن النسان تطرأ عليه أحداث تؤكد له أنه ضعيف وله
أغيار ،وساعة ضعف النسان ل بد أن يأوي إلى من هو أشد منه قوة ول يتغير .إن الولي -
وهو ال -قوته ل يمكن أن تصير ضعفا ،وغناه ل يمكن أن ينقلب فقرا ،وعلمه ل يمكن أن يئول
إلى جهل .إنه مُغيّر ول يتغير .ولذلك فمن نعمة ال على خلقه أنه جعل من نفسه وليّا لهم ،فهو
صاحب الغيار.
والحق سبحانه وتعالى يعلّم خلقه أن يكونوا أهل حكمة؛ يضعون المور في نصابها ويتوكلون
عليه ،فهو الحي الذي ل يموت .ونلحظ أن الحق هنا يأمر رسوله بالبلغ عنه .وتتجلى هنا دقة
الداء القرآني فيأتي البلغ كما نزل من الحق حرفيا .مثال ذلك قول الحق سبحانهُ {:قلْ ُهوَ اللّهُ
حدٌ }[الخلص.]1 :
أَ َ
ويبلغنا الرسول صلى ال عليه وسلم بالنص القرآني كما نزل عليه ،مبتدئا بكلمة " قل " ويبلغه
الرسول لنا بأمانة البلغ عن ربه .وهو هنا يقولُ { :قلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِ ُذ وَلِيّا } .وهو الله الذي
جاءت كمالته في اليات السابقة؛ الذي خلق السماوات والرض ،وجعل الظلمات والنور وله ما
سكن في الليل والنهار ،هذا الله الحق هو الجدير بالعبادة.
ويريد الحق لرسوله أن يستخرج من الناس الجابة ،ل أن يقول هو :ل أتخذ وليا غير ال،
خ ُذ وَلِيّا } .وليكن السؤال مطروحا منك يا
وسبحانه يأمر رسوله أن يسألهمُ { :قلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّ ِ
رسول ال تبليغا عن ال ،وتعطى لهم الحرية في الجابة ،وسيكون الجواب كما تريد.
وعندما يسمع النسان مثل هذا السؤال ل بد أن يسأل نفسه ويدير عقله كي يجد جوابا .ولن يجد
النسان جوابا سوى أن يقول :ليس لي وَليّ غير ال؛ فالولي هو القريب الذي ينصر النسان في
ضعفه ،وإن استصرخه جاء لينقذه.
ول يستصرخ النسان أحدا إل إذا انتابه حادث جلل ،فإذا ما جاء القوي ليغيث صاحبه الصرخة
فهو يطمئن إلى أن من جاءه سيعينه ويخلصه .واتخاذ الولي أمر فطري في الكون ،والمر المنكر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن يجعل النسان لنفسه وليا غير ال .ونحن -المؤمنين -يتخذ بعضنا بعضا أولياء في إطار
ضهُمْ َأوْلِيَآءُ َب ْعضٍ يَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ
الولية ل مصداقا لقوله الحق {:وَا ْل ُم ْؤمِنُونَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتُ َب ْع ُ
ح ُمهُمُ اللّهُ
ل َة وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَيُطِيعُونَ اللّ َه وَرَسُولَهُ ُأوْلَـا ِئكَ سَيَ ْر َ
وَيَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَ ُيقِيمُونَ الصّ َ
حكِيمٌ }
إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
[التوبة.]71 :
ويتبادل المؤمنون والمؤمنات المحبة والنصرة طبقا للتعاقد اليماني بينهم وبين الحق سبحانه
وتعالى ،ويأمر بعضهم بعضا بأوامر المنهج ،وينهى بعضهم بعضا عن المحظورات التي حرمها
ال ويتواصلون مع الحق بإقامة الصلة .ويؤدون حق ال في مالهم بالزكاة ،ويطيعون ال
ويمتثلون أوامر رسوله ،وهم بذلك ينالون وعد ال الحق بالرحمة ،وهو سبحانه القادر على
رعايتهم ،وهو حكيم في صيانتهم ،عزيز ل يغلبه أحد.
إذن فأنت تطلب الولي لحظة الضعف ،ولحظة الشدة ،ول يوجد إنسان استوت له كل زوايا الحياة
فيصير قويا ل يضعف أبدا ،أو يصير غنيا ل يفتقر أبدا .ونعلم أن النسان من الغيار ،فلم نر
قويا ثبتت له قوته ،ول غنيا ثبت له ثراؤه؛ فالنسان ابن الغيار ،وتأتي له حالت فوق قدرته؛
لذلك فهو يسأل عمن يعينه ويساعده .والمؤمن يحب أيضا أن يكون قويا ليساعد غيره؛ لن الحق
سبحانه وتعالى قد وزع المواهب على خلقه في الكون ليضمن بقاء الولية واستمراريتها ،فأنت
في احتياج إلى عمل إنسان آخر؛ لنك ضعيف في ناحية وغيرك قوي فيها ،الطبيب يحتاج إلى
المهندس ،والمهندس يحتاج إلى الطبيب ،والطبيب والمهندس يحتاجان إلى الفلح ،والفلح يحتاج
إلى عمل المهندس والطبيب ،والطبيب والمهندس والفلح يحتاجون إلى عمل المحامي.
هكذا وزع ال المواهب في الكون ،ولم يجعل من إنسان مجمعا لكل المواهب .وذلك حتى يتساند
المجتمع ل بالتفضيل والتكرم بل بتساند الحاجة .فكل إنسان هو سيد في زاوية ما من زوايا
سمْنَا بَيْ َنهُمْ
الحياة ،وبقية الزوايا يسودها غيره من البشر ،ولذلك يقول الحق سبحانه {:نَحْنُ قَ َ
ح َمتُ
ضهُم َبعْضا سُخْرِيّا وَرَ ْ
خذَ َب ْع ُ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ لّيَتّ ِ
ّمعِيشَ َتهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
ج َمعُونَ }[الزخرف.]32 :
رَ ّبكَ خَيْرٌ ّممّا َي ْ
هذا هو العلن من ال سبحانه وتعالى بأنه وزع المواهب بين البشر ليتسادنوا ويُسخر بعضهم
بعضا في قضاء حوائج بعضهم بعضا لتنتظم أمور الحياة .وفي هذا التقسيم رحمة من الحق
بالخلق .فلو تساوى الناس في الذكاء ،وصاروا كلهم من العباقرة ،فمن هو الذي سيتولى أمور
تنظيم الشوارع؟ ومن الذي سيقوم بأعمال وصيانة المباني ورعاية وإطعام الحيوان والقيام على
أمره ونحو ذلك من المور التي ل تنتظم الحياة إل بها؟
وكلنا يرى الرجل الذي ينزح آبار المجاري ويخرج في الصباح قائلً :يا فتاح يا عليم ،يا رزاق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كريم .ويطلب بئرا جديدا من المجاري لينزحه حتى يكسب قوت نفسه وعياله .وكل منا مضطر
سخْرِيّا }[الزخرف.]32 :
ضهُم َبعْضا ُ
ومحتاج إلى غيره ،وهذا هو معنى {:لّيَتّخِذَ َب ْع ُ
إذن فاتخاذ الولي هو أمر فطري .واليمان بال يعطينا ذكاء اختيار الولي .فالنسان المؤمن عليه
أن يختار الولي الذي يجده عندما يحتاج إليه؛ لذلك فعليه أن يختار ولية ال ،ول يختار ولية
الغيار .فيسخر ال للمؤمن حتى عدوه ليخدمه .لذلك يبلغنا الحق على لسان رسولهُ } :قلْ أَغَيْرَ
اللّهِ أَتّخِذُ وَلِيّا { والذين ينكرون علينا أن نتخذ ال وليا ويريدون أن نتخذ غيره يرون في أنفسهم
المثل.
.فقد يخيب رجاؤهم ،فالنسان منهم قد يتخذ إنسانا مثله وليا ،وساعة يحتاج إليه يجده مريضا أو
غائبا أو تغير قلبه عليه ،لكن المؤمن يختار ال وليه لنه الذي ل يغيب ول يتغير ،ول يضعف.
ول ينكر القرآن أن يتخذ النسان له وليا من البشر ،ولكن الحق يدلنا على أنه الولي الحق ،وأن
المؤمن عليه أن يتخذ إخوته المؤمنين أولياء له؛ لنها ولية من ال وفى ال.
وأنت أيها المسلم حين تختار الحق سبحانه وتعالى وليا لك فهو الذي يُحْضر لك كل زوايا
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَ ُهوَ
المواهب ويعدّها ويهيئها لتكون في خدمتك؛ لنه سبحانه وتعالى } :فَاطِرِ ال ّ
طعَمُ { وقد خلق السموات والرض على غير مثال .وسبحانه قد أبدع هذا الكون دون
طعِمُ وَلَ ُي ْ
يُ ْ
نموذج مسبق .وحين أراد سيدنا عيسى عليه السلم أن يثبت لقومه معجزته جاء بالطين وجعله
كهيئة الطير ،إذن فهناك مثال سبقه ووجده واتبعه .وعيسى إنسان من الخلق ،أما خالق كل الخلق
فقد خلق السموات والرض على غير مثال .وأنت أيها النسان قد ل تلتفت إلى مسألة خلق
السموات والرض لنك تراهما كل لحظة بصورة رتيبة ،وقد تظن أنها مسألة سهلة ،ولكن الحق
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ وَلَـاكِنّ َأكْـثَرَ النّاسِ لَ
سبحانه يقولَ {:لخَ ْلقُ ال ّ
َيعَْلمُونَ }[غافر.]57 :
وهو سبحانه يقسم أن خلق السموات والرض مسألة أكبر وأدق من خلق الناس لكن أكثر الناس ل
تعلم ذلك.
سعُونَ }[الذاريات.]47 :
سمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْ ٍد وَإِنّا َلمُو ِ
فسبحانه وتعالى يقول {:وَال ّ
سعُونَ { إشارة إلى خلق هذا الكون المرئي وغير المرئي؛ لن هناك الكثير
وفي قوله } وَإِنّا َلمُو ِ
من الجرام والمجموعات الشمسية ،وما وراء ذلك من اتساع ذلك الكون ما ل يدركه العقل ول
سعُونَ {.
يمكنه تحديده ،وهذه السعة المذهلة هي من قدرة ال سبحانه وتعالى } .وَإِنّا َلمُو ِ
ونجد الحق يستخدم كلمة " فاطر " مرة في شيء ُمصْلح ،وأخرى في شيء مفسد .والمثال للشيء
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ { أي أنه خالق السماوات والرض
المصلح هو ما يقوله الحق هنا } :فَاطِرِ ال ّ
على غير مثال سابق وباقتدار محكم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآ ُء انفَطَ َرتْ }[النفطار.]1 :
ويقول الحق سبحانه في موضع آخر {:إِذَا ال ّ
أي أن الحق ينبه هنا إلى يوم الهول والعظم الذي تنشق فيه السماء وتتساقط فيه الكواكب فل
يؤدي أي شيء منها مهمته؛ لن ال -سبحانه -سلبها ما كانت به صالحة.
جعِ
حمَـانِ مِن َتفَاوُتٍ فَارْ ِ
سمَاوَاتٍ طِبَاقا مّا تَرَىا فِي خَلْقِ الرّ ْ
ويقول أيضا {:الّذِي خَلَقَ سَبْعَ َ
الْ َبصَرَ َهلْ تَرَىا مِن فُطُورٍ }[الملك.]3 :
فالحق ل يعجز عن شيء ،وهو الخالق لسبه سموات بإتقان بعضها فوق بعض ،فل يرى الناظر
أي خلل في هذا الخلق ،وليُعد النسان النظر إلى السماء فلن يجد أي خلل من شقوق أو فروق.
و " فطور " هنا معناها شقوق .إذن فالحق -بتمام قدرته -يعطي الشيء من الصفات ما يجعله
صالحا لداء ما خُلِق له فل يظنن ظان أنه خرج عن قدرة خالقه -سبحانه -وخلق السماوات
والرض بتمام إبداع وإحكام ،وهو القادر على أن يفطرهما ويجعلهما غير صالحتين في أي وقت
طمَس ،والجبال تنسف.
شاء ،ومثلهما الشمس ُت َكوّر ،والنجوم تُ ْ
وقال عالم من العلماء :ما فهمت كلمة " فاطر " إل حين جاء أعرابي ،وقال فلن ينازعني في بئر
أنا فطرته .أي أن العرابي هو الذي بدأ حفر البئر .إذن فاطر السماوات والرض ..أي الذي
ت وَالَ ْرضَ كَانَتَا
سمَاوَا ِ
خلقهما على غير مثال .وسبحانه وتعالى القائلَ {:أوََلمْ يَرَ الّذِينَ َكفَرُواْ أَنّ ال ّ
حيّ َأفَلَ ُي ْؤمِنُونَ }[النبياء.]30 :
شيْءٍ َ
جعَلْنَا مِنَ ا ْلمَآءِ ُكلّ َ
رَتْقا َففَ َتقْنَا ُهمَا وَ َ
وهذا القول الحكيم لم يصل إلى فهمه العميق من سبقونا ،لكن إنسان هذا العصر الذي نعيشه فهمها
بعد أن توصل العلماء إلى أن السماوات والرض كانتا كتلة واحدة وفصَلهُما الحق بإرادته .وجعل
من الماء حياة لكل كائن حي.
إذن هو سبحانه قادر على كل شيء ،ول يخرج شيء عن نطاق قدرته .وهو سبحانه قبل أن يمتن
ك وَ ُهوَ
علينا الحياة فهو يحذرنا أن يأخذنا الغرور بهذه الحياة ،ولذلك قال {:تَبَا َركَ الّذِي بِ َي ِدهِ ا ْلمُ ْل ُ
ل وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َغفُورُ }
عمَ ً
ت وَالْحَيَاةَ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ َأحْسَنُ َ
شيْءٍ قَدِيرٌ * الّذِي خَلَقَ ا ْل َموْ َ
عَلَىا ُكلّ َ
[الملك.]2-1 :
وكأنه ينبه النسان إلى أن يستقبل الحياة ،ليعرف أنه سبحانه أوجد ناقض الحياة وهو الموت،
فإياك أن تأخذ الحياة على أنها تعطيك قوة الحركة والدراك والرادة برتابة وأبدية؛ لن هناك
ناقض الحياة وهو الموت.
وها هو ذا سبحانه يقول في موضع آخر من القرآن الكريمَ {:أفَرَأَيْتُمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَن ُتمْ تَخُْلقُونَهُ أَم
ت َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ * عَلَىا أَن نّ َب ّدلَ َأمْثَاَلكُ ْم وَنُنشِ َئكُمْ فِي
نَحْنُ الْخَاِلقُونَ * نَحْنُ َقدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْو َ
مَا لَ َتعَْلمُونَ }[الواقعة.]61-58 :
والنسان ل يرى الحيوانات المنوية المقذوفة منه في رحم زوجه ،ول أحد يقدر على ذلك ويرعاه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حتى يصير جنينا ثم بشرا ،ولكن الحق هو المقدر والخالق ،إنّه القادر الذي أعطانا الحياو وقدّر
علينا الموت ول غالب له ،إنه يبدل صورنا حين يريد ،ويخلق غيرنا وينشئنا في صور ل
نعرفها ،وهو الواهب للحياة ،وهو الذي ينزعها بالموت.
ويقول لناَ {:أفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ * أَأَن ُتمْ تَزْرَعُونَهُ َأمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة.]64-63 :
هنا ينبهنا جل وعل إلى أن الزرع الذي نأكله ،والثمار التي نجنيها من الرض ليس لنا فيها إل
إلقاء البذور ،وهو سبحانه الذي أودع في البذرة عجائب مختزنة ،ففي البذرة ما يقتيها إلى أن
يوجد لها جذير يمتص غذاءها من الرض ،فَتَنمو لها ساق ،ثم تقوى الجذور ،وتشتد الساق.
ول عمل للنسان إل إلقاء البذرة وحرث الرض .ومع ذلك احترم الحق عمل النسان فقال{:
َأفَرَأَيْتُم مّا َتحْرُثُونَ }[الواقعة.]63 :
وعن الماء يقول الحقَ {:أفَرَأَيْتُمُ ا ْلمَآءَ الّذِي َتشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ
شكُرُونَ }[الواقعة.]70-68 :
جعَلْنَاهُ ُأجَاجا فََل ْولَ تَ ْ
* َلوْ نَشَآءُ َ
هذا الماء العذب الذي نشربه إنما أنزله ال من السحاب الممطر ،وعملية المطار هذه غاية في
التعقيد .والماء الساري في النهار إنما جاء من المطر الذي تم إنزاله من السماء .فقد أرسل الحق
أشعة الشمس لتبخر الماء من البحار ،وتتجمع في سحب ثم يجري ال عليها أمره من مرور
تيارات هواء باردة فتسقط مطرا.
ونحن عندما نقطّر كوب ماء في معمل ،نأتي بموقد وإناء ووقود ،ونضع الماء المراد تقطيره
فيتبخر ،ثم نكثف قطرات البخار بواسطة تيار من الهواء البارد .ومثل هذه العملية تكلفنا الكثير
من العمل الذهني والمادي لبناء مثل هذا الجهاز حتى نقطر كوبا من الماء ،فما بالنا بالمطر الذي
ينزل مدرارا وسيولً.
إننا نجد ثلثة أرباع الكرة الرضية من ماء ،إنه سبحانه -بسطه على رقعة واسعة ،حتى يسهل
البخر .وإذا ما نثرنا كوب ماء على سطح متسع في أبرد مكان فلسوف يتبخر .وهذا النتشار
المسطح للمياه هو الذي يسهل عملية البخر.
ويصعد البخار من مياه المحيطات والبحر إلى أعالي الجو ثم يتكثف في صورة قطرات صغيرة
من الماء تتساقط كمطر يتفاوت من منطقة إلى أخرى .وسبحانه قد أعدّ لكل أمر عدته .وهو أيضا
القادر على أن يذهب صلح هذا الماء.
ويقول لنا الحقَ {:أفَرَأَيْ ُتمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَ َتهَآ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنشِئُونَ * َنحْنُ
جعَلْنَاهَا تَ ْذكِ َر ًة َومَتَاعا لّ ْل ُمقْوِينَ }[الواقعة.]73-71 :
َ
ويذكرنا هنا سبحانه بأنه الذي خلق النار التي نشعلها ،وقد جاء بالمصدر الول للوقود ،وهي
الخشاب التي كانت أشجارا خضراء وبعد ذلك جفت وصارت أخشابا نوقدها ونشعل فيها النار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمِ رَ ّبكَ ا ْلعَظِيمِ
وفي كل ذلك تتجلّى لنا قدرة الحق سبحانه وتعالى ،فنسبح باسمه العظيم {:فَسَبّحْ بِا ْ
}[الواقعة.]74 :
وننزهه سبحانه وتعالى عن أن يكون له شريك في أمور الخلق والكون.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ
إذن فعندما يقول الحق سبحانه مبلغا رسولهُ } :قلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتّخِ ُذ وَلِيّا فَاطِرِ ال ّ
ط َعمُ ُقلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأ ّولَ مَنْ أَسَْل َم وَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركَينَ { [النعام:
طعِ ُم َولَ يُ ْ
وَ ُهوَ ُي ْ
.]14
هذا السؤال يجبرنا على أن ندير أمر اختيار الولي في رءوسنا وأن ُن ْعمِلَ أفكارنا ،وأن نعرف أن
اتخاذ الولي أمر وارد على النفس البشرية ،ولكن من الذي يستحق أن نتخذه وليا؟ ونجد في تربية
حيّ
الحق لنا ما يعيننا على استنباط الفكرة السليمة والرأي الرشيد حين يقول لنا {:وَ َت َوكّلْ عَلَى الْ َ
الّذِي لَ َيمُوتُ }
[الفرقان.]58 :
ونعلم أن النسان لو اتخذ وليا من البشر فهذا عرضة للموت ،فتحس أيها النسان أنك وحيد في
سمَاوَاتِ
ي ل يموت أبدا ،وهو سبحانه } :فَاطِرِ ال ّ
هذا الكون ،ولكنك عندما تتوكل على ال فهو ح ّ
طعَمُ { وهو الذي خلق السموات والرض على غير مثال ،وهو الذي
طعِمُ وَلَ ُي ْ
ض وَ ُهوَ يُ ْ
وَالَرْ ِ
يطعمنا من مطمور كنوز الرض التي أرادها قوتا لنا .ولماذا جاء الحق هنا بمسألة الطعام؟ إن
الطعام لون من الرزق ،والرزق -كما نعلم -رزق ينتفع به مباشرة؛ ورزق يأتي لنا بما ننتفع به
مباشرة .فلو إن إنسانا في صحراء ومعه جبل من الذهب الخالص ولم يجد كوب من ماء ول
رغيف خبز ،فجبل الذهب ل يساوي شيئا.
إن جبل الذهب رزق ولكن ل ينتفع به مباشرة .والرزق الذي ننتفع به مباشرة هو الطعام
والشراب والكسوة .ونحن نحتاج إلى الطعام والشراب كل يوم ،ونحتاج إلى ملبس جديدة مرة كل
ستة أشهر في المتوسط .إذن فالرزق المباشر هو المقوّم الساسي للحياة.
والولي الذي ينصر ل بد أن تتوافر فيه القدرة على الطعام الذي يمدنا بالقدرة التي هي أساس
طعَم أيضا بما يأتيها
الحياة إنها طاقة استمرار النسان على الرض .فالم تطعم طفلها وهي َت ْ
زوجها من طعام .والحق سبحانه وتعالى وحده هو الذي يُطعم كل الخلق ول يُطعمه أحد ..وحينما
نسلسل كل عطاء في الدنيا نجده يئول إلى ال تعالى.
إذن فل تجعل وليّك في الوسائط ،بل اجعله في الغايات؛ لن الوسائط كلها راجعة في الحقيقة إلى
ال ،ويأتي المر من الحق لرسولهُ } :قلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأ ّولَ مَنْ َأسْلَ َم َولَ َتكُونَنّ مِنَ
ا ْلمُشْ ِركَينَ {.
وهذا المر يجيء من المر العلى وهو ال .فالرسول لم يقل :إن هذا المر منه؛ لنه بشر مثلنا،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسبحانه أبلغ رسولنا أن يكون هو أول من أسلم ،وأن ينال شرف اللتزام بمبادئ السلم ،والمثال
على ذلك أن كل قائد مسلم هو القدوة لغيره ،فها هو ذا طارق بن زياد الذي فتح الندلس وهي
مُلْك عريض ،ونزل من السفن وقال لجنوده :أنا لم آمركم أمرا عنه بنجوةٍ -أي أنا بعيد عنه -
بل أنا معكم ،واعلموا أني عندما يلتقي الجمعان حامل بنفسي على طاغية القوم " لزريق " فقاتِلُهُ
إن شاء ال .إنه لم يأمر بأمر لم يطبقه على نفسه ،بل طبقه على نفسه أولً ،وآفة الوامر أن كل
إنسان يأمر أمرا ول يطبقه على نفسه.
ومن قبل ذلك كان سيدنا عمر بن الخطاب -رضي ال عنه -قد حكم نفسه أولً فحكم الدنيا ،لقد
جمع أقاربه أولً وقال لهم :إني سأشرع للمسلمين ،والذي نفسي بيده من خالفني منكم إلى شيء
فيه لجعلنه نكالً للمسلمين.
لقد أراد عمر -رضوان ال عليه -أن يَحْكم أقاربه أولً ضاربا المثل لولي أي أمر ليحكم أقاربه
أولً ،وأن يحذرهم أن يستغلوا اسمه ،ليستقيم المر بين المسلمين؛ لن الفة أننا نجد الكثير من
الناس تتكلم في السلم ،ويريد كل إنسان من غيره أن يكونوا مسلمين بينما هو ل يطبق على
نفسه مبادئ السلم .والحق سبحانه وتعالى أنزل لرسوله المرُ } :قلْ إِنّي ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأوّلَ
مَنْ أَسَْل َم َولَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركَينَ {.
ومعنى " أسلم " أي ألقى زمام حياته إلى من يثق في حكمته وعدله وهو الحق سبحانه وتعالى.
وعندما كنا صغارا كنا نلقي زمام أمورنا لمن يتولى تربيتنا ،ونرى الباء والمهات وهم يتعبون
ويشقون ،نطيع أوامرهم إلى أن نصل إلى المراهقة فتنمو فينا الذاتية ،ونجد المراهق وهو يرفض
مثلً ارتداء البنطلون القصير ويرتدي البنطلون الطويل .ويختار ألوان ملبسه في ضوء الزياء
الحديثة السائدة .وبعد ذلك يبدأ الشاب في إدارة أموره بنفسه.
وآفة حياتنا أننا نهمل تربية البناء وهم صغار ،ثم نأتي لنقول :هيا لنربي الشباب متناسبين أن
الشباب مرحلة تمتلئ بطاقة يمكن أن يستغلها المجتمع ،والتربية السليمة زمانها الطفولةُ } .قلْ إِنّي
سلَ َم َولَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركَينَ { .وها هو ذا رسول ال صلى ال عليه
ُأمِ ْرتُ أَنْ َأكُونَ َأوّلَ مَنْ أَ ْ
وسلم ينقل عن رب العزة ،ويخبرنا أنه صلى ال عليه وسلم أول المسلمين ،وأنه تلقى المر بعدم
الشرك بال.
فإياكم أيها المسلمون أن تتعاظموا عل مثل هذا المر؛ لن المصطفى المختار هو أول من أمره
الحق بذلك ،وإياك أيها المسلم أن تجد غضاضة في أن تتلقى أمرا من خالقك؛ لن الغضاضة قد
تأتيك عندما يصدر إليك أمرٌ من مساوٍ لك ،لكن التوجيه الصادر من الحق ل بد أن يلزمك
وترتضيه َنفْسُك ويطمئن به قلبك ،وكان النبي صلى ال عليه وسلم يجهد نفسه عندما يقابل حادثة
ليس فيها حكم ال ،ويأتي الرسول صلى ال عليه وسلم بحكم من عنده ،فإن كان الحكم صحيحا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإن الحق ينزل من القرآن ما يؤكده ،وإن احتاج الحكم إلى تعديل ،فإن الحق سبحانه ينزل التعديل
اللزم للحكم ،ويبلغنا رسول ال صلى ال عليه وسلم بتعديل الحق سبحانه وتعالى له ول يجد
غضاضة في ذلك ،بل يبلغنا ببشاشة وصدق وأمانة أنّه البلغ عن ال.
والحق سبحانه وتعالى قد مَنّ على رسوله صلى ال عليه وسلم عندما لم يعدل في الحكم احتراما
عفَا اللّهُ عَنكَ ِلمَ أَذِنتَ َلهُمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلكَ الّذِينَ
لجتهاده صلى ال عليه وسلم فيقول سبحانهَ {:
صَ َدقُو ْا وَ َتعْلَمَ ا ْلكَاذِبِينَ }[التوبة.]43 :
لقد أذن رسول ال صلى ال عليه وسلم لبعض المنافقين بالتخلف عن القتال قبل أن يتبين أمرهم
ليعلم الصادق منهم -في عذره -من الكاذب .وجاء العفو من ال لن الرسول صلى ال عليه
وسلم اجتهد ببشريته وأبلغنا الرسول بما أنزله ال.
ونحن في حياتنا اليومية -ول المثل العلى -نفتح كراسة البن فنجد أن فيها شطبا بالقلم
الحمر ،فنسأل البن :من الذي فعل ذلك؟ فيقول البن :صوب لي المدرس الول هذا الموضوع.
هو لم يتحدث عن تصويب المدرس ،ولكن عن تصويب من هو أعلى من المدرس .وهذا شرف
للتلميذ .فما بالنا بالمصوّب العلى سبحانه وتعالى .وها هو ذا الرسول صلى ال عليه وسلم يتلقى
عصَ ْيتُ{ ...
عن الُ } :قلْ إِنّي َأخَافُ إِنْ َ
()796 /
إنه الرسول المصطفى والمجتبى والمعصوم يعلن أنه يخاف ال؛ لن قدر ال ل يملكه أحد ،ول
يغير قدر ال إل ال سبحانه وتعالى .وقد علق الخوف على شرط هو عصيان ال .لكن ما دام لم
يعص ربه فهو ل يخاف .ووجود " إن " يدل على تعليق على شرط ول يتأتى ذلك من الرسول
المعصوم لنه ل يعصي ال.
وقد أراد الحق أن يبين لنا أن المعصوم ل يتأتى منه عصيان ال .لكن هذا القول يأتي على لسان
رسول ال صلى ال عليه وسلم لنعلم أن هناك عذابا عظيما توعد به ال من يعصيه .وهو عذاب
يلح على العاصي حتى يأتي إليه .ولهذا العذاب خاصية أن تكون بينه وبين العاصي جاذبية
كجاذبية المغناطيس لغيره من المواد .ونجاة النسان من العذاب تحتاج إلى من يصرف عنه هذا
حمَهُ} ...
اللون القاسي من العذاب ،يقول الحق سبحانه عنه { :مّن ُيصْ َرفْ عَنْهُ َي ْومَئِذٍ فَقَدْ رَ ِ
()797 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَهُ وَذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلمُبِينُ ()16
مَنْ ُيصْ َرفْ عَ ْنهُ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ رَ ِ
فكأن من ل يُصرف عنه هذا العذاب هو من ينجذب إلة قوة العذاب؛ لن لنار جهنم شهيقا يجذب
جهَنّ َم وَبِئْسَ
عذَابُ َ
ويسحب إليه الذين ُقدّرَ عليهم العذاب ويقول سبحانه {:وَلِلّذِينَ كَفَرُواْ بِرَ ّبهِمْ َ
شهِيقا وَ ِهيَ َتفُورُ }[الملك.]7-6 :
س ِمعُواْ َلهَا َ
ا ْل َمصِيرُ * إِذَآ أُ ْلقُواْ فِيهَا َ
والذين يكفرون بال لهم العذاب الذي يبدأ بسماع شهيق جهنم في أثناء فورانها .والشهيق كما تعلم
هو قوة تجذب وتسحب الهواء إلى النف والصدر ،فما بالنا بقوة شهيق جهنم وهي تسحب وتجذب
الذين وقع عليهم المر بالعذاب؟
لتِ وَتَقُولُ
جهَنّمَ َهلِ امْتَ َ
وهذه النار نفسها ترد على سؤال الحق لها عندما تسمع قولهَ {:يوْمَ َنقُولُ لِ َ
َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق.]30 :
إذن فقوة العذاب التي جعلها ال مهمة لجنهم هي التي تلح وتندفع لطلب المزيد من عقاب
الكافرين .وسبحانه خلق كل شيء ليؤدي مهمة ،والنار مهمتها أن تتمثل لمر الحق تبارك وتعالى
عندما يأمرها بمباشرة مهمتها؛ لذلك فهي تلح في طلب الذين سيتلقون العذاب ،ول تخرج النار
أبدا عن أمر ال وقدره ،فإن صَرَف الحق العذاب عن عبد من العباد فالنار تمتثل لذلك المر.
حمَهُ } وسبحانه فعال لما يريد ،وهو إن حاسبنا بالعدل فكل منا
{ مّن ُيصْ َرفْ عَنْهُ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ َر ِ
يسميه شيء من عذاب جهنم؛ ولكن رحمة ال هي التي تجعل النار ل تمس المؤمنين؛ لنه سبحانه
وتعالى يعفو عن كثير؛ ولن للنار شهيقا ،فهي تستنشق المكتوب عليهم العذاب ،ونعلم أن الشهيق
يتم بسرعة أكبر من الزفير .والشهيق في الحياة يكون للهواء.
والسبب ازدياد سرعة الشهيق عن الزفير أن في الشهيق مهمة استدامة الحياة الولى وهي إمداد
الجسم بالهواء ،والنسان -كما نعلم -ل يصبر على الهواء إل لقل مدة ممكنة .ومن رحمة ال
أنه لم يملّك الهواء لحد .وهذا الشهيق الذي يعطي الحياة في الرض يوجد -أيضا -في الخرة
وهو منسوب إلى النار ،إنها تشهق لتبتلع العصاة ،وهي بذلك تؤدي مهمتها الموكولة لها .ونعرف
أيضا أن النار تؤدي مهمتها بغيظ طبقا لما قاله الحق سبحانهَ {:تكَادُ َتمَيّزُ مِنَ الغَيْظِ }[الملك.]8 :
فهل تؤدي النار مهمتها وهي غير راضية عنها؟ وهل تختلف النار عن كل كائنات الحق التي
تؤدي مهمتها بسعادة وانسجام؟ إن النار َتمَيّزُ من الغيظ لن الكافر من هؤلء لم يعرف قيمة
اليمان ،وللنار مشاعر مثل بقية المخلوقات .وللكون كله مشاعر؛ فالكون -على سبيل المثال -
قد فرح بميلد محمد صلى ال عليه وسلم؛ فالرض والسماء والنجوم والشجر وكل الكون فرحت
بمقدم الرسول الكريم؛ لن كل هذه الكائنات مسخرة للنسان وهي مسبحة ل وطائعة بطبيعتها،
مثلما يأتي البشير ليهدي النسان إلى الصراط المستقيم ليجعله طائعا ،فهي تفرح بمقدم هذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
البشير.
ونعرف أن المكان يوجد به النسان ،هذا المكان يفرح إن كان النسان فيه طائعا ،وهذا المكان
نفسه يحزن إن كان النسان عاصيا ،ويضج المكان -أي مكان -بوجود أي عاص فيه .ونرى
ذلك واضحا في قول الحق سبحانه وتعالى عن قوم فرعون {:كَمْ تَ َركُواْ مِن جَنّاتٍ وَعُيُونٍ *
ك وََأوْرَثْنَاهَا َقوْما آخَرِينَ َفمَا َب َكتْ عَلَ ْيهِمُ
ع َومَقَامٍ كَرِيمٍ * وَ َن ْعمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَا ِكهِينَ * َكذَِل َ
وَزُرُو ٍ
ض َومَا كَانُواْ مُنظَرِينَ }[الدخان.]29-25 :
سمَآءُ وَالَ ْر ُ
ال ّ
والرض التي كان بها قوم فرعون كان لها مشاعر ،والجنات والنهار والعيون وكل النعم التي
ينعم بها النسان لها مشاعر وأحاسيس ،وهي تغضب وتسخط وتضج بوجود الكافرين بنعمة ال
فيها ،ولذلك ل تبكي السماء والرض على الخسف والتنكيل بهؤلء العصاة الكافرين المشركين.
بينما تبكي السماء والرض إن فارقها مؤمن ،ولنا في قول المام علي -كرم ال وجهه -
إيضاح لهذا؛ فقد قال :إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان :موضع في السماء ،وموضع في
الرض .أما موضعه في السماء فهو مصعد عمله الطيب ،وأما موضعه في الرض فهو موضع
مُصلّه.
وفي الحديث " :إذا مات أحدكم عُرض عليه مقعد بالغداة والعشي ،إن كان من أهل الجنة فمن أهل
الجنة ،وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ،يقال له :هذا مقعدك حتى يبعثك ال إليه يوم القيامة
".
إذن فموضع صعود عمل النسان في السماء يحزن؛ لن هناك فقدانا لعمل صالح يمر فيه،
وموضع صلة النسان يفقد سجود إنسان خشوعا ل ،ولكل الكائنات المخلوقة ل مشاعر ،وكل
شيء في الكون يؤدي مهمته بقانون التسيير والتسخير ل قانون التخيير ،النسان -فقط -هو
الذي يحيا بقانون التخيير في بعض أحواله؛ لنه قادر على الطاعة ،وقادر على المعصية .ولذلك
سجُدُ َلهُ مَن فِي
فعندما نرى السجود ل في القرآن فإننا نسمع قول الحق {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ
ب َوكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ
ل وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآ ّ
س وَا ْل َقمَرُ وَالنّجُو ُم وَالْجِبَا ُ
شمْ ُ
سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ وَال ّ
ال ّ
َوكَثِيرٌ حَقّ عَلَيْهِ ا ْل َعذَابُ َومَن ُيهِنِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِن ّمكْرِمٍ إِنّ اللّهَ َيفْ َعلُ مَا يَشَآءُ }[الحج.]18 :
إذن فكل الكائنات تسجد له ما عدا كل أفراد النسان؛ فكثير منه يسجد ل وكثير منه يحق عليه
العذاب لنه ل يطيع الحق .ومن يعص منهج ال غير مؤمن به يطرده ال من رحمته ،ومن يهنه
ال بذلك فليس له تكريم أبدا .وقد أجمع الكون على السجود ل ،إل النسان فمنه الصالح المنسجم
بعمله مع خضوع الكون ل ،ويفرح به الكون ،ومنه يغضب منه الكون لنه يعصي ال.
إن اللغة العربية توضح لنا ذلك؛ فالعرب يقولون :فلن نَ َبتْ به الرض من النّ ْبوَة وهي الجفوة
والبعد والعراض.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.أي أن الرض تكره شخصا بعينه؛ لنه ل انسجام للرض مع كائن عاصٍ.
ويقول الحق عن الذين يصرف عنهم العذاب من فرط رحمته بعباده لنهم أطاعوه وكانت
حمَهُ
معاصيهم تغلبهم في بعض الحيان فيتوبون عنها } >BR:.مّن ُيصْرَفْ عَنْهُ َي ْومَئِذٍ َفقَدْ رَ ِ
وَذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلمُبِينُ { [النعام.]16 :
ونعلم أن هذا الفوز هو أرقى درجات الفوز؛ ذلك أن الفوز درجات؛ فالفوز في الدنيا كالنجاح أو
المال أو غير ذلك هو فوز مُعرّض لن يضيع .وهو عُرضة لن يترك النسان أو يتركه النسان،
لكن فوز الخرة هو الفوز الدائم الذي ل ينتهي.
وهذا هو الفارق بين نعم الدنيا ونعم الخرة ،والنسان يتنعم في الدنيا على قدر تصوره للنعيم،
فنجد الريفي -مثلً -يتصور النعيم أن تكون له مِصطبة أمام داره يجلس عليها ،وعدد من القلل
التي تمتلئ بالماء النقي ،فإذا ما انتقل هذا الريفي إلى المدينة فهو يتصور النعيم في منزل متسع
فيه أثاث فاخر وأدوات كهربائية من ثلجة وغير ذلك ،إذن فإمكانات النعيم مختلفة على حسب
تصور النسان ،أما نعيم الخرة فهو نعيم ل يفوته النسان ول يفوت النسان؛ لنه نعيم من صنع
الخالق الواسع والعطاء ..إن الجنة فيها ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر،
ولذلك فالفوز بنعيم الخرة هو الفوز المبين.
سكَ اللّهُ ِبضُرّ{ ...
والحق سبحانه وتعالى هو المحيط بكل شيء عِ ْلمًا واقتدارا } :وَإِن َيمْسَ ْ
()798 /
والضر هو ما يصيب الكائن الحي مما يخرجه عن استقامة حياته وحاله .فعندما يعيش النسان
بغير شكوى أو مرض ويشعر بتمام العافية فهو يعرف أنه سليم الصحة؛ لنه ل يشعر بألم في
عيونه أو ضيق في تنفسه أو غير ذلك ،لكن ساعة يؤلمه عضو من أعضاء جسمه فهو يضع يده
عليه ويشكو ويفكر في الذهاب إلى الطبيب .إذن فاستقامة الصحة بالنسبة للنسان هي رتابة عمل
كل عضو فيه بصورة ل تلفته إلى شيء.
ويلفت الحق أصحاب النعم عندما يرون إنسانا من حولهم وقد فقد نعمة ما ،فساعة تسير في
الشارع وترى إنسانا فقد ساقه فأنت تقول " :الحمد ل " لنك سليم الساقين .كأنك ل تدرك نعمة
ال في بعض منك إل إن رأيتها مفقودة في سواك .وهكذا نعلم أن من اللم والفات منبهات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للنعم .وأيضا قد تصيب منغصات الحياة النسان ليعلم أنه لم يأخذ نعم ال كلها فيقول العبد
لحظتها :يا مفرج الكروب يارب ،ولذلك تجد النسان يقول " :يارب " حينما تأتيه آفة في نفسه
س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما
ويفزع إلى ال .وقد قالها ال عن النسان {:وَِإذَا مَ ّ
شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ كَذاِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }
فََلمّا كَ َ
[يونس.]12 :
فالنسان عندما يحس ضعفه إذا ما أصابه مكروه ل يمل دعاء ال ،سواء أكان النسان مضطجعا
أم قاعدا أم قائما ،وعندما يكشف الحق عنه الضر قد ينصرف عن جانب ال ،ويستأنف عصيان
ال وكأنه لم يدع ال إلى كشف الضر ،وهذا هو سلوك المسرفين على أنفسهم بعصيان ال.
والنفس أو الشيطان تزين للعاصي بعد انكشاف الضر أن يغوص أكثر وأكثر في آبار المعاصي
وحمأة الرذيلة.
وقد ينسب النسان كشف الضر لغير ال ،فينسب انكشاف الضر إلى مهارة الطبيب الذي لجأ إليه،
ناسيا أن مهارة الطبيب هي من نعم ال .أو ينسب أسباب خروجه من كربه إلى ما آتاه ال من
علم أو مال ،ناسيا أن ال هو واهب كل شيءٍ ،كما فعل قارون الذي ظن أن ماله قد جاءه من
تعبه وكده وعلمه ومهارته ،ناسيا أن الحق هو مسبب كل السباب ،ضُرّا أو نفعا ،فسبحانه هو
الذي يسبب الضر كما يسبب النفع.
ويلفت الضر النسان إلى نعم الحق سبحانه وتعالى في هذه الدنيا .وإذا ما رضي النسان وصبر
فإن ال يرفع عنه الضر؛ لن الضر ل يستمر على النسان إل إذا قابله بالسخط وعدم الرضا
بقدر ال .ول يرفع الحق قضاء في الخلق إل أن يرضى خلق ال بما أنزل ال ،والذي ل يقبل
بالمصائب هو من تستمر معه المصائب ،أما الذي يريد أن يرفع ال عنه القضاء فليقبل القضاء.
إن الحق سبحانه يعطينا نماذج على مثل هذا المر؛ فها هوذا سيدنا إبراهيم عليه السلم يتلقى
المر بذبح ابنه الوحيد ،ويأتيه هذا المر بشكل قد يراه غير المؤمن بقضاء ال شديد القسوة ،فقد
كان على إبراهيم أن يذبح ابنه بنفسه ،وهذا ارتقاء في البتلء .ولم يلتمس إبراهيم خليل الرحمن
عذرا ليهرب من ابتلء ال له ،ولم يقل :إنها مجرد رؤيا وليست وحيا ولكنها حق ،وقد جاءه
المر بأهون تكليف وهو الرؤيا ،وبأشق تكليف وهو ذبح البن ،ونرى عظمة النبوة في استقبال
أوامر الحق .ويلهمه ال أن يشرك ابنه اسماعيل في استقبال الثواب بالرضا بالقضاء {:فََلمّا بََلغَ
حكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىا قَالَ ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ
س ْعيَ قَالَ يابُ َنيّ إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي أَذْبَ ُ
َمعَهُ ال ّ
سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }[الصافات.]102 :
لقد بلغ إسماعيل عمر السعي في مطالب الحياة مع أبيه حين جاء المر في المنام لبراهيم بأن
يذبح ابنه ،وامتل قلب إسماعيل بالرضا بقضاء ال ولم ينشغل بالحقد على أبيه .ولم يقاوم ،ولم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يدخل في معركة ،بل قال {:ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ }[الصافات.]102 :
ل ورضا؛ لذلك يقول الحق عنهما معا {:فََلمّا أَسَْلمَا وَتَلّهُ لِ ْلجَبِينِ *
لقد أخذ الثنان أمر ال بقبو ٍ
حسِنِينَ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ
وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * َق ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
* َوفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ }[الصافات.]107-103 :
لقد اشترك الثنان في قبول قضاء ال ،وأسلم كل منهما للمر؛ أسلم إبراهيم كفاعل ،وأسلم
إسماعيل كمنفعل ،وعلم ال صدقهما في استقبال أمر ال ،وهنا نادى الحق إبراهيم عليه السلم:
لقد استجبت أنت وإسماعيل إلى القضاء ،وحسبكما هذا المتثال ،ولذلك يجيء إليك وإلى ابنك
اللطف ،وذلك برفع البلء .وجاء الفداء ِبذِبْحٍ عظيم القدر ،لنه ذِبْحٌ جاء بأمر ال .ولم يكتف الحق
بذلك ولكنّ بشرَ إبراهيم بميلد ابن آخر {:وَبَشّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّا مّنَ الصّاِلحِينَ }[الصافات.]112 :
لقد رفع ال عن إبراهيم القدَر وأعطاه الخير وهو ولد آخر .إذن فنحن البشر نطيل على أنفسنا أمد
القضاء بعدم قبولنا له .لكن لو سقط على النسان أمر بدون أن يكون له سبب فيه واستقبله
النسان من مُجريه وهو ربه بمقام الرضا ،فإن الحق سبحانه وتعالى يرفع عنه القضاء .فإذا رأيت
إنسانا طال عليه أمد القضاء فاعلم أنه فاقد الرضا.
سكَ ِبخَيْرٍ َف ُهوَ
شفَ َلهُ ِإلّ ُهوَ وَإِن َيمْسَ ْ
سكَ اللّهُ ِبضُرّ فَلَ كَا ِ
سْونلحظ أن الحق هنا يقول } :وَإِن َيمْ َ
شيْءٍ قَدُيرٌ { ال سبحانه وتعالى يعلم أن أي عبد ل يتحمل أن يضره الحق؛ فقوة الحق
عَلَىا ُكلّ َ
ل متناهية ولذلك يكون المس بالضر ،وكذلك بالخير؛ فالنسان في الدنيا ل ينال كل الخير ،إنما
ينال مس الخير؛ فكل الخير مدخر له في الخرة.
ونعلم أن خير الدنيا إما أن يزول عن النسان أو يزول النسان عنه ،أما كل الخير فهو في
الخرة.
ومهما ارتقى النسان في البتكار والختراع فلن يصل إلى كل الخير الذي يوجد في الخرة ،ذلك
أن خير الدنيا يحتاج إلى تحضير وجهد من البشر ،أما الخير في الخرة فهو على قدر المعطي
العظم وهو ال سبحانه وتعالى .إذن فكل خير الدنيا هو مجرد مس خير؛ لن الخير الذي يناسب
جمال كمال ال ل يزول ول يحول ول يتغير ،وهو مدخر للخرة .ول كاشف لضر إل ال؛
فالمريض ل يشفى بمجرد الذهاب إلى الطبيب ،لكن الطبيب يعالج الموهوبة له من ال ،والذي
شفِينِ }[الشعراء.]80 :
ضتُ َف ُهوَ َي ْ
يَشفي هو ال {.وَإِذَا مَ ِر ْ
لن الحق سبحانه وتعالى قد خلق الداء ،وخلق الدواء ،وجعل الطباء مجرد جسور من الداء إلى
الدواء ثم إلى الشفاء ،وال يوجد السباب لِيُس ّر و ُيفْرِح بها عباده ،فيجعل المواهب كأسباب ،وإل
فالمر في الحقيقة بيده -سبحانه وتعالى .-قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :تَدَا َووْا عبادَ
ال فإن ال تعالى لم يضع داء إل وضع له دواء غير داء واحد :الهِرَم ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونحن نرى أن الطبيب المتميز يعلن دائما أن الشفاء جاء معه ،ل به .ويعترف أن ال أكرمه بأن
جعل الشفاء يأتي على ميعاد من علجه .إذن فالحق هو كاشف الضر ،وهو القدير على أن
يمنحك و َيمَسّك بالخير .وقدرته ل حدود لها.
ويقول الحق من بعد ذلك } :وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ{ ...
()799 /
وقد رتب سبحانه وتعالى الكون والخلْق بأسباب ومسببات .وكل شيء موجود هو واسطة بين
شيء وشيء ،فالرض واسطة لستقبال النبات ،والنسان واسطة بين أبيه وابنه ،ولنفهم جميعا أَنّ
الحقَ ،فوق عباده ،إنه غالب بقدرته ،يدير الكون بحكمة وإحاطة علم ،وهو خبير بكل ما خفي
وعليهم بكل ما ظهر.
سكُمْ
حتِ أَرْجُِل ُكمْ َأوْ يَلْبِ َ
وهو القائلُ {:قلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ عَلَىا أَن يَ ْب َعثَ عَلَ ْي ُكمْ عَذَابا مّن َف ْوقِكُمْ َأوْ مِن َت ْ
ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ انْظُرْ كَ ْيفَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ َلعَّلهُمْ َيفْ َقهُونَ }[النعام.]65 :
شِيَعا وَيُذِيقَ َب ْع َ
سبحانه وتعالى له مطلق القدرة على أن يرسل العذاب من السماء أو من بطن الرض ،أو أن
يجعل بين العباد العداء ليكونوا متناحرين ليدفع بعضهم بعضا حتى ل تفسد الرض { وََلوْلَ َد ْفعُ
ت الَ ْرضُ }.
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ َلفَسَ َد ِ
اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
فإياك أن تظن أيها النسان أن الحق حين يملّك بعض الخلق أسبابا أنهم مالكو السباب فعلً ،ل؛
إن الحق سبحانه أراد بذلك ترتيب العمال في الكون .ولذلك ساعة نرى واحدا يظلم في الكون
فإننا نجد ظالما آخر هو الذي يؤدب الظالم الول .ول يؤدب الحق الشرير على يد رجل طيب،
إنما يؤدبه عن طريق شرير مثلهَ {:وكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }
[النعام.]129 :
لنه سبحانه وتعالى يُجل المظلوم من أهل التقوى أن يكون له دور في تأديب الظالم ،إنما ينتقم ال
من الظالم بظالم أو أقوى منه .وهذا ما نراه على مدار التاريخ القريب والبعيد ،فحين يتمكن العبد
الصالح من الذين أساءوا إليه يقول ما قاله الرسول صلى ال عليه وسلم عندما دخل مكة حيث
قال " :يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا :خيرا ،أخ كريم وابن أخ كريم ،قال :اذهبوا
فأنتم الطلقاء ".
أما إذا أراد ال النتقام من شرير فهو يرسل عليه شريرا مثله يدق عنقه ،أو يجدع أنفه ،أو يذله
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حتى ل ينتشر ويستشري الفساد؛ فسبحانه القاهر فوق عباده ،وهو قهر بحكمة وبعلم وليس قهر
استعلء وقهر جبروت وسيطرة .وحتى نوضح ذلك قد يجري ال على أحد عباده قَدَرًا بأن ينكسر
ذراع ولده فيسوق الرجل ولده إلى طبيب غير مجرب ليقيم جبيرة لذراع البن ،وتلتئم العظام على
ضوء هذه الجبيرة في غير مكانها ،فيذهب الرجل بابنه إلى طبيب ماهر فيكسر يد الطفل مرة
أخرى ليعيد وضع العظام في مكانها الصحيح.
إن هذا الكسر كان لحكمة وهي استواء العظام ووضعها الوضع السليم .ول يغيظ عبد من العباد
الخالق أبدا ،ولكن الحق ينتصف للمغيظ .ونعلم أن النسان مخير بين اليمان والكفر ،فإن كفر
وعصى فليس له في الخرة إل العذاب ،إل أن ال يجري عليه قَدَر المرض فل يستطيع أن يتمرد
عليه؛ لنه سبحانه قاهر فوق عباده بدليل أنه متحكم في أشياء ل خيار للعباد فيها .وما دام
النسان منا محكوما بقوسين ول رأي له في ميلده أو موته فلماذا -إذن -التمرد بالعصيان على
أوامر ال؟ ولنعلم أن الحق هو القاهر فوق عباده بقهر الحكمة وسبحانه يضع لكل أمر المجال
الذي يناسبه وهو خبير بمواطن الداءات ،ويعالج عباده منها على وفق ما يراه.
شهَادةً} ...
شيْءٍ َأكْبَرُ َ
ويقول الحق من بعد ذلكُ { :قلْ َأيّ َ
()800 /
لقد اختلف الرسول صلى ال عليه وسلم مع القوم المناوئين له .والختلف يتطلب حكما وبينة.
والشهود هم إحدى البينات ،فما بالنا والشاهد هو ال؟! إنه الشاهد والحكم والمنفذ .وشهادة ال ل
تحايل فيها ،وحكمه ل ظلم فيه ،وإرادته ل تظلم عبدا مثقال ذرة ،ول شهادة -إذن -أكبر من
شهادة الحق لرسوله بأنه رسول من ال .ولو شاء الحق لجعلكم كلكم مؤمنين ،لكنه أراد للنسان
الختيار .وحنان الرسول صلى ال عليه وسلم على البشر هو الذي جعله يتمنى إيمانهم ،لكن الحق
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْي ِهمْ
خعٌ ّنفْ َ
يقول للرسول صلى ال عليه وسلمَ {:لعَّلكَ بَا ِ
ضعِينَ }[الشعراء.]4-3 :
سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ
مّنَ ال ّ
أي أن الحق يأمر رسوله صلى ال عليه وسلم أن يشفق على نفسه وألّ يقتلها بالحزن عليهم
لعنادهم وعدم إيمانهم .ولو أراد الحق لجعلهم جميعا مؤمنين بآية منه؛ فمهمة الرسول هي البلغ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقط .ولو شاء الحق لقهر الخلق جميعا على اليمان به كما سخّر الكون ليخدم النسان وليسبح
الكون بحمد ال .لكنه سبحانه ترك للخلق الختيار حتى يأتي إيمانهم مثبتا صفة المحبوبية ل؛ لن
إيمان المختار هو الذي يثبت تلك المحبوبية .والرسول صلى ال عليه وسلم إنما هو نذير وبشير
بهذا القرآن المُنزّل عليه بالوحي.
والنذارة تأتي هنا لن المجال مجال شهادة؛ لن الشهادة إنما تكون على خلف ،فهو صلى ال
عليه وسلم يدعو إلى اليمان ،والمناوئون له يدعون إلى الكفر وإلى الشرك ،وشهادة ال أكبر من
كل شهادة أخرى .لذلك يقرر الحق هنا بأن الرسول نذير بالقرآن .وهذا خطاب موجه لتبليغ
المعاصرين لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولَمن وصله بعد ذلك أي شيء من القرآن ،فكأنه قد
رأى النبي صلى ال عليه وسلم ووصله البلغ عنه .فقد قال -سبحانه َ { :-ومَن بَلَغَ } أي
لنذركم به وأنذر كل من بلغه القرآن من البشر جميعا.
شهَدُونَ أَنّ مَعَ اللّهِ آِلهَةً
ويوجه الحق على لسان رسوله سؤالً استنكاريا للمناوئين فيقول { :أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْ
أُخْرَىا } .إنه سؤال من سائل يثق أن من يسمع سؤاله ل بد أن ينفي وجود آلهة أخرى غير ال.
إنه سؤال يستنبط القرار من سامعه .والمثال على هذا ما عرضه الحق على رسوله من أمر قد
صحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل.]1 :
حدث في عام ميلده فيقول {:أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأ ْ
ونعلم أن النبي صلى ال عليه وسلم لم ير ما حدث في عام الفيل؛ لنه عام ميلده ،ولكن حين
يخبره ال بذلك فمعنى هذا أنه بلغ عن ال ،والبلغ عن ال يجعل الخبر القادم منه فوق الرؤية
وأوثق وأكد منها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالسوء.
إن الحق سبحانه لم يترك أمر الرسول غائبا عن البشر ،فقد كان الرسول في كل أمةٍ ينبئ ويخبر
عن الرسول الذي يليه حتى يستعد الناس لستقبال النذير والبشير ،ولذلك كانت كل الرسالت تتنبأ
بالرسل القادمين حتى ل يظنوا أن مدّعيا اقتحم عليهم قداسة دينهم ،ولن السلم جاء دينا عاما،
فلم يأت الخبر فقط بمحمد صلى ال عليه وسلم في الكتب السابقة ،ولكن جاءت أوصافه وسماته
أيضا واضحة وبيّنه فيها.
إن الذين قرأوا هذه الوصاف لو أخرجوا أنفسهم عن سلطتهم الزمنية لمنوا على الفور برسالة
رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ كما فعل " عبدال بن سلم " رضي ال عنه حين قال :لقد عرفته
حين رأيته وعرفته كابني ،ومعرفتي لمحمد أشد ونسي هؤلء أنهم هم الذين نُصروا برسول ال
صلى ال عليه وسلم دون أن يدروا؛ فقد كانوا يستفتحون به على الوس والخزرج ،وقالوا للوس
والخزرج :قَرُب مجيء نبي منكم سنؤمن به ونتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم .وأسرع الوس
والخزرج لليمان برسول ال صلى ال عليه وسلم قائلين:
لعل هذا هو النبي الذي توعدتنا به يهود ،هيا نسبق إليه.
إذن فرسول ال صلى ال عليه وسلم لم يقتحم العالم بهذا الدين ،بل عَ َرفَ نبأ مقدمه وبعثه
وصورته ونعته كلّ من له صلة بكتاب من كتب السماء .إنهم يعلمون أنه الرسول الخاتم الذي
ختمت به أخبار السماء إلى الرض.
ولذلك يقول الحق سبحانه } :الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ{ ...
()801 /
إذن فرسول ال معلوم مقدما من أهل الكتاب كمعرفتهم لبنائهم ،ولكنّ بعضا منهم فضل السلطة
الزمنية على اليمان برسول ال فخسروا أنفسهم؛ لن الخسارة -كما نعرف -هي ضياع لرأس
المال أو نقصانه .وهم خسروا أنفسهم لن تلك النفوس كان يجب أن تحرص على مصلحة
الرواح التي جاء محمد صلى ال عليه وسلم لصلحها .إنهم بذلك قد منعوا الخير عن أنفسهم
بتفضيل سلطان الدنيا الزائل على اليمان بال ،وفي ذلك خيبة كبرى.
ال يعلمنا أن اليمان إنما هو كسب للنفس ،فإياك أيها المؤمن أن تظن أن قولك " :ل إله إل ال "
ق بصفات الكمال
خلَق الكون والخَ ْل َ
هو سند لعرش ال .ل ،إنها سند لك أنت؛ لنه ل إله إل هو َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والقدرة والعلم والحكمة ،واعتراف الخلق بألوهية ال وحده ل تزيد من كمال ال ولكنها تفيد العباد
الذين آمنوا فيحسنون استقبال المر بعمارة الكون ،لتسير حركة الحياة في ضوء منهج ال
فينسجموا مع الكون كله المسبح ل.
سهُمْ َفهُمْ
وحين يقول الحق { :الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآ َءهُمُ الّذِينَ خَسِرُواْ أَ ْنفُ َ
لَ ُي ْؤمِنُونَ } [النعام.]20 :
فهو يخبر أهل مكة أن الصيحة اليمانية التي صاح بها رسول ال صلى ال عليه وسلم في آذانهم
لم تكن صيحة مفاجئة للكون ،ولكنها صيحة بُشّر بها على لسان كل رسول ،وإذا كان أهل مكة قد
بعدت صلتهم بالرسل والنبياء وكانوا على فترة من الرسل ،فهم بجوارهم لهل كتاب في المدينة
يعلمون هذه الحقيقة التي جاء بها رسلهم مؤكدين للعهد الذي أخذه ال عليهم؛ لننا نعلم أن الحق
سبحانه وتعالى حين خلق الخلق واستعمرهم في الرض أرادهم موهوبين من قدرته سبحانه قُدْ َرةً،
ومن غناه سبحانه غِنىً ،ومن علمه الكامل علما ،ومن حكمته المطلقة حكمةً ،ومن رحمته الكاملة
رحمةً ،ومن قاهرية ال قهرا؛ لن الكون ل يمكن أن يستقيم إل إن وُجدت فيه هذه المتكاملت
وإن كانت متناقضة؛ لن لكل صفة مجالها الذي تعمل فيه.
وأضرب هذا المثل -ول المثل العلى -نجد النسان منا حين يرحم ولده دائما يفسد الولد وإن
لم يقس عليه مرة فأبوته ناقصة ،إذن ،فل يمكن أن يكون المهيمن على الخلق رحيما فقط ،وإنما
يجب أن يكون قاهرا أيضا؛ لن الموقف قد يتطلب القهر .ول يريد الحق سبحانه وتعالى أن يطبع
خلقه على خلق واحد ،ولكنه سبحانه يريد أن يجعلهم ينفعلون للمواقف المختلفة؛ فالموقف الذي
يتطلب رحمة ،يكونون فيه رحماء ،والموقف الذي يتطلب قسوةوشدة يكونون فيه قساة ،ولذلك
حمَآءُ بَيْ َنهُمْ تَرَا ُهمْ
حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ رُ َ
يقول الحق في المؤمنين {:مّ َ
ضوَانا }
ُركّعا سُجّدا يَبْ َتغُونَ َفضْلً مّنَ اللّ ِه وَ ِر ْ
[الفتح.]29 :
إن الحق يحدثنا عن خلق المؤمنين .إنه سبحانه لم يطبعهم على الشدة؛ لن المواقف قد تتطلب
رحمة ،ولكن الشدة مطلوبة لمواجهة أهل الباطل .ولم يطبعهم الحق على اللين ،لكن اللين مطلوب
فيما بينهم؛ لن كلً منهم يرجو رحمة ال وفضله؛ ففي الموقف الذي يتطلب رحمة؛ هم رحماء.
وفي المواقف الذي يتطلب شدة هم أشداء ،ولذلك يقول الحق سبحانه أيضا عن المؤمنين {:أَذِلّةٍ
عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[المائدة.]54 :
ولم يجعل الحق المؤمن ذليلً على إطلقه ،ول عزيزا على إطلقه ،ولكنه جعله ذليلً على أخيه
المؤمن ،لين الجانب رحب الخلق .وجعله عزيزا على الكافرين المتأبين على ال.
إذن ،فسبحانه يريد من خَلْقه أن يكونوا على خُلُقِ الحق سبحانه وتعالى ،ولذلك يقول الرسول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلى ال عليه وسلم فيما رواه عمار بن ياسر رضي ال عنه " :حُسْن الخلق خُلُق ال العظم "
و ُروِي " :تخلقوا بأخلق ال "
إن ل سبحانه وتعالى قدرة حكيمة ،فخذوا أيها المؤمنون قدرته واستعملوها بحكمة ،ول علم
فحاولوا أن تكونوا عالمين ،ول رحمة فحاولوا أن تكونوا رحماء ،وال جبار فإذا تطلب الموقف
منكم أن تكونوا جبارين فافعلوا ،لن سياسة الرض وسياسة المجتمع قد ل تصلح إل بهذا.
وما دام الحق قد أراد من الخلق أن يعمروا هذا الكون فل بد أن يضمن لهم منهجا سليما يرتكز
على " افعل " و ل " تفعل " ،فإن نحن أخذنا منهج ال فنحن نأخذ ما يمكن أن نسميه بالعرف
الحاضر " :قانون الصيانة " فلنفعل ما قال ال افعلوا ،ولنترك ما قال ال في شأنه ل تفعلوا حتى
تؤدي اللة النسانية مهمتها كما يريد ال لها أن تكون.
إن الفساد إنما ينشأ من أنك أيها النسان تنقل العمال من نطاق " افعل " إلى نطاق " ل تفعل " ،
والعمال التي يجعلها ال في نطاق " ل تفعل " تجعلها أنت في نطاق " افعل " .فإن طلب ال أن
نقيم الصلة بـ " افعل " فكيف نجعلها في نطاق " ل تفعل " بعدم الصلة؟ ،وإن طلب ال منا أل
نشرب الخمر فكيف نشربها إذن؟.
إن الخلل اليماني الذي يحدث في الكون إنما ينشأ من نقل متعلقات " افعل " إلى " ل تفعل " ،
ومن نقل متعلقات " ل تفعل " إلى " فعل " ،أما ما لم يَرِد فيه " افعل " و " ل تفعل " فقد ترك ال
لختيارك إباحة أن تفعله أو ل تفعله ،لن الكون ل يفسد بشيء منها.
وإذا نظرت إلى منهج ال في " افعل " و " ل تفعل " فأنت تجد أن الحق سبحانه لم يقض على
حريتك ولم يقض على اختيارك ،وإنما ضبطك ضبطا محكما فيما ينشأ فيه فساد الكون ،أما الذي
ل ينشأ منه فساد فإن شئت فافعله وإن شئت فاتركه.
وزود الحق كل البشر بهذا المنهج من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة .وأخذ سبحانه على نفسه
الوعد بعدم تعذيب أمة لم يبعث لها رسولً ،ولذلك توالى الموكب الرسالي .لماذا؟ لن الغفلة
تتمكن من النسان؛ فقد يتناسى النسان مرة الشيء الذي يحد حركته ويتكرر التناسي إلى أن
يصير نسيانا ،فيشاء الحق أن يرسل رسولً لكل فترة لينبه إلى قانون صيانة النسان ،إلى أن جاء
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأمن ال أمةَ محمد أن تكون هي المبلغة بمنهج ال إلى أن تقوم
الساعة .ولذلك أخذ سبحانه من النبيين ميثاقا للبلغ عن رسالة النبي الخاتم {:وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ
ح ْكمَةٍ ثُمّ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ ِب ِه وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ
النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَابٍ وَ ِ
شهَدُو ْا وَأَنَاْ َم َعكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ }[آل عمران:
أََأقْرَرْتُ ْم وََأخَذْتُمْ عَلَىا ذاِل ُكمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ
.]81
إذن فقد أخذ ال العهد على كل نبي أن يبلغ قومه أن يؤمنوا برسالة الرسول الذي توافق دعوته
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دعوتهم ،وأخذ الحق القرار من كل نبي على ذلك ،وشهد النبياء على أنفسهم وشهد ال عليهم،
وبلغوا ذلك إلى أقوامهم .إذن فنصرة النبي الخاتم موجودة في كل رسالة سابقة على السلم،
وكان على كل رسول أن يعطي إيضاحا بذلك العهد لقومه ،وأن يأخذ عليهم العهد بنصرة الرسول
القادم إليهم ،ويبلغهم أن من تمام اليمان أن يؤيّدوا ذلك الرسول إن هم عاصروه.
ويخصص الحق هنا أهل الكتاب الذين نزلت إليهم التوارة والنجيل وهما أصحاب الديانتين
العظيمتين اللتين سبقتا السلم } :الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآءَ ُهمُ { أي أنهم
يعرفون محمدا صلى ال عليه وسلم بالبشارة به ،وبالخبار عنه ،وبالنعت لشكله وصورته ،فإذا
كان كفار قريش على فترة من الرسل فليسألوا أهل الكتاب .وقد سمع الوس والخزرج من أهل
الكتاب أن هناك نبيا قادما سيؤمنون به ويتبعونه ويقتلون به العرب قتل عاد وإرم .إذن فالصيحة
اليمانية على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم لم تكن مفاجئة للكون ،وإن كتمها الذين كفروا
من أهل الكتاب ،هؤلء الذين جاء فيهم قول الحق سبحانه {:وََلمّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مّنْ عِندِ اللّهِ ُمصَدّقٌ
ّلمَا َم َعهُ ْم َوكَانُواْ مِن قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ فََلمّا جَآءَ ُهمْ مّا عَ َرفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فََلعْنَةُ اللّهِ
عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة.]89 :
لقد انتابت الفة التي تنكر هذا البلغ عن ال بعضا من أهل الكتاب ،فقد أخذوا ،وهم المبلغون عن
ال ،السلطة الزمنية ورأوا فيها الحظ والجاه والنعيم ،فمنهم القضاة وإليهم يلجأ الناس لمعرفة
الحكم في الدماء ،وكذلك يأخذون الصدقات.
وألفوا حياة السيادة والنعيم .وها هي ذي دعوة جديدة جاءت لتسلب منهم هذه السيادة ،وبالرغم من
أنهم كانوا المبشرين بها من قبل ،إل أن الدعوة عندما جاءت تزلزت بها سلطتهم الزمنية ،ولذلك
بدأوا العداء.
إذن فالفة هي أخذ سلطة زمنية من باطن سلطة ال ثم يدعي أنها سلطة ال .وعندما ننظر إلى
التاريخ الدياني في العالم نجد أن السلطة الزمنية في الديان التي سبقت السلم هي التي أرهقت
الكون؛ لن الحق سبحانه حينما خلق الكون طمر فيه أسرارا تعمل في خدمة النسان وإن لم يدر
بها النسان .وطموحات النسان العلمية هي التي تجعله يهتدي إلى هذه السرار ويكتشف القوانين
التي تعمل بها؛ مثال ذلك قانون الجاذبية وقانون السالب والموجب ،كل هذه قوانين موجودة في
الكون ،تماما كما خلق ال الرض كروية وكما جعل الشمس هي مصدر الحرارة والدفء والنور
والشراق.
ويأخذ العلماء من تلك المقدمات ليصلوا إلى اكتشاف قوانين هذه الجرام وقوانين هذا الكون.
وحين يصل الذكي إلى اكتشاف قانون ما فإنه يقول :لقد اكتشفت كذا ،وهذا تعبير فطري دقيق،
ول يقول أبدا :لقد ابتكرت كذا؛ لنه يعلم أن ما اكتشفه كان موجودا في الكون ولكن ل يعرفه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعدم معرفة النسان بقانون موجود في الكون ل يمنع الفائدة من الوصول إلى النسان ،وإن
كانت المعرفة بالقانون تزيد من إمكان الفادة منه.
فالنسان يتمتع بوجود الشمس قبل معرفة ما بها من طاقة ،ولكن عندما تخصص العلماء في
دراسة الشمس عرفوا أن النسان يمكن أن يستفيد بهذه الطاقة أكثر من فائدته التقليدية بها ،ولذلك
صارت هناك بعض المدن تنير شوارعها بالطاقة الشمسية ،وصارت هناك بعض المباني تدفيء
حجراتها بالطاقة الشمسية وتسخّن المياه أيضا بهذه الطاقة .ولم يمنع هذا الكتشاف أن يستفيد
المي أو البدوي في الصحراء من نور الشمس .وكذلك الكهرباء ،والدوات الكهربائية والمنزلية
التي يمكن للجاهل الستفادة منها ،مثل استفادة الخبير بها ،صحيح أن المي ل يعرف كيف تدور
المصانع التي تنتج أجهزة التليفزيون ولكنه يستفيد برؤية التليفزيون .والتليفزيون ليس إل ترجمة
مادية لمجموعة من القوانين العلمية اكتشفها النسان ووضعها موضع التطبيق لصناعة هذه اللة
التي يستفيد بها النسان.
ولكل سر ميلد تماما كميلد النسان .وإذا جاء ميعاد ميلد السر ولم يكن هناك من يبحث عنه،
فسبحانه يكشفه لي بشر بالمصادفة ،وكثيرا ما نسمع أن عالما كان يبحث في مجال ولكنه اكتشف
شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ
سرا غير الذي كان يبحث عنه .ولذلك يقول الحق في آية الكرسيَ {:ولَ يُحِيطُونَ بِ َ
ِإلّ ِبمَا شَآءَ }[البقرة.]255 :
فأنت أيها النسان ل تحيط علما بأسرار الكون إل إذا أذن ال ،وهناك عشرات اللف من المثلة
على ذلك بداية من قاعدة أرشميدس التي تسير عليها البواخر والغواصات ،إلى قانون الجاذبية
الرضية الذي اكتشفه نيوتن عندما وقعت تفاحة أمامه بالمصادفة ،إلى اكتشاف البنسلين ،إلى غير
ذلك من أسرار هذا الكون.
وإذا كانت هناك علوم لها مقدمات ،فهناك أيضا علوم ليس لها مقدمات؛ إن الحق سبحانه وتعالى
ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ أَحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ فَإِنّهُ يَسُْلكُ مِن بَيْنِ
يقول {:عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ
يَدَيْهِ َومِنْ خَ ْلفِهِ َرصَدا }[الجن.]27-26 :
فسبحانه وتعالى عالم الغيب فل يظهر غيبه لحد إل لرسول يختاره الحق ليعلم بعضا من الغيب،
ويحميه ال ويعصمه ويحفظه بالملئكة لتحول بينه وبين وساوس الشياطين وتخليطهم حتى يُبَلّغ
ما أوحىَ به إليه ,وحين يريد الحق أمرا محكما ل اختيار لحد فيه فإنه ينزل به رسولً إلى الخلق
ليهديهم بـ " افعل " و " ل تفعل " .وهذه مسألة غير متروكة للبحث فيها ،ولكنها تأتي بإذن من
ال حتى تتعارض أهؤاونا؛ فسبحانه علم أن الهواء بين البشر قد تتعارض ول تتساند فيرسل
الرسل من عنده سبحانه بالمنهج ليستقيم أمر البشر.
إن النشاطات الذهنية التي يصل بها البشر إلى أسرار فيها رفاهية الحياة ،هي أسرار بنت التجربة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمعمل ،والمعمل ل يجامل ،فل توجد كيمياء روسية وأخرى أمريكية ،إنما كل قوانين المادة
تستنبط في المعمل ..ولذلك نرى الدول تتسابق كلّ يحاول أن يسرق ما عند الخر بواسطة
الجواسيس .أما في مجال الحركة الجتماعية فالدول تقيم سدودا بينها وبين المبادئ؛ فالغرب ل
يسمح بدخول نظريات اجتماعية من الشرق ،والشرق ل يسمح بذلك أيضا .ويختلف هذا المر في
البحث العلمي؛ فقوانين البحث العلمي عن أسرار الكون يحاول كل طرف امتلكها .وإن لم يستطع
حاول أن ينقلها عن غيره.
ويعلمنا الحق أن نبحث في كل آيات الكون ول نعرض عنها ،فيقول لناَ {:وكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف.]105 :
ال ّ
فسبحانه يلفتنا إلى أن كل آية وكل ظاهرة من الظواهر تتطلب منا أن ننظر فيها بحكمة وإمعان؛
لننا قد نستنبط منها أشياء تريحنا .ومثال ذلك قوة البخار ،اكتشفها رجل وطورها آخر حتى
صارت تلك القوة البخارية في خدمة البشرية كلها وكذلك الذي اخترع العجلة أفاد البشرية في نقل
عشرات الوزان عليها واختصار زمن الرحلت ،كل ذلك إنما جاء من تأمل آيات ال في الكون
بإمعان وتدبر .لقد جعل الحق البحث في آيات الكون مشاعا للمؤمنين والكفار ،وهو حق لمن
يبحث في أسراره .وهذه هي قضية العلم .أما قضية الدّين فأمرها مختلف؛ لن الخبر في قضية
الدين يأتي من ال بواسطة رسول .أما البحث في الكون وأسراره العلمية فالحق يقول فيه {:أَلَمْ تَرَ
حمْرٌ
ض وَ ُ
سمَآءِ مَآءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ َثمَرَاتٍ مّخْ َتلِفا أَ ْلوَا ُنهَا َومِنَ الْجِبَالِ جُ َددٌ بِي ٌ
أَنّ اللّهَ أن َزلَ مِنَ ال ّ
س وَال ّدوَآبّ وَالَ ْنعَامِ ُمخْتَِلفٌ َأ ْلوَانُهُ كَذَِلكَ إِ ّنمَا َيخْشَى اللّهَ
مّخْتَِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّا ِ
غفُورٌ }
مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
[فاطر.]28-27 :
إن الحق يلفتك أيها النسان إلى أنه أنزل من السماء ماء فأنبت وأخرج به من الرض النباتات
التي تحمل ثمارا مختلفة اللوان ومختلفة الطعم .وجعل الجبال مختلفة الشكال واللوان ،وبعضها
ضعيف وبعضها قوي .ويختلف لون الجبل عن الخر بما فيه من مواد مطمورة .وهذه الجبال
كلها من أصل واحد ولكن فروعها متباينة لخدمة النسان.
لقد خلق الحق سبحانه النعام مختلفة اللوان والشكال والحجام ،وكذلك الناس مختلفون في اللون
والشكل .والعلماء هم الذين يتدبرون ذلك فيخشون ال الصانع العليم .إذن فأمر الدين محسوم من
الحق .والرسل مبلغون عن ال ،وكذلك أهل العلم بالدين ،وأهل العلم بالدين مبلغون عن ال ل
متكلمون بلسان ال؛ لن بعض البشر قد يخلطون أهواءهم مع كلمات ال ويقولون :إن هذا هو
كلم ال ،وهذا خطأ فاحش وذنب كبير.
إن ما حدث في القرون الوسطى -على سبيل المثال -كان خلطا بين البحث العلمي وما ينزل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق من منهج؛ فعندما جاء عالم مثل " جاليليو " ليبحث في طبيعة الكواكب أرادوا أن يحرقوه،
وعندما أراد عالم آخر أن يتكلم في طبيعة الرض حبسوا حريته .وعندما حكمت الكنيسة العالم
الغربي بهذا السلوب تأخر العالم كله وعاش في عصور من الظلم ،وعندما اتصل هؤلء القوم
بالمسلمين تحرروا من خزعبلت تلك القرون الوسطى وتعلموا حرية البحث العلمي من العرب
وارتقت أوروبا بذلك السلوب العلمي الذي طرحه السلم وأثبته علماء المسلمين.
إن السبب في تأخر أوروبا وجهلها هم أهل الكهنوت والدين ،بل إن نفور الوروبيين من الدين
كان بسبب معرفتهم أن رجال الدين عندهم يمقتون الحياة والتقدم الحضاري -حماية لنفوذهم
وسلطتهم الزمنية والروحية -وأراد بعض من أهل أوروبا أن يأخذوا كل الديان بجريرة رجال
الكهنوت عندهم .ونسي الذين حملوا على الدين -كل الدين -أن رجال الكهنوت افتأتوا وادعو
ذلك على النصرانية ،ونسبوه إليها؛ فالمسيح لم يقل لهم ذلك ،ولكنهم كرجال كهنوت أفسدوا الحياة
بالسلطة الزمنية التي كانت لهم وكانت النتيجة أن أخذ البعض من فساد سلطة الكنيسة حجة على
فساد الدين.
ولهؤلء نقول :إن الدين ل يتدخل في أي أمر من أمور الحياة العلمية ول يفسدها أبدا ،بل نجد أن
الحق قد أمرنا بالبحث في آياته وأن نزيد من البحث .وها هو ذا رسول ال صلى ال عليه وسلم
يأمرنا بأن نبحث عن شئون الدنيا على ضوء التجربة .وأراد ال أن يفصل بين أمور العلم
التجريبي وأمور الدين ،وأراد أن يحمي دينه من تدخل أي فئة تدعي أنها تملك كلم ال فتخلط
بين أهوائها والبلغ عن ال سبحانه.
مثال ذلك ما قاله رسول ال صلى ال عليه وسلم في أمر تلقيح النخيل .ونعرف أن تلقيح النخيل
يتم حين نأخذ طلع الذكورة ونلقح به النوثة من النخيل فيخرج التمر ناضجا ،وإن لم يحدث ذلك
فالنخيل تنتج ثمارا غير ناضجة .والسر في إنتاج النخيل لثمار غير ناضجة أن التلقيح قد تم
بواسطة الريح التي تنقل القليل من حبوب اللقاح ،ولكن التلقيح اليدوي للنخيل هو الذي يزيد من
جودة الثمار ،وقال الرسول صلى ال عليه وسلم مرة للصحابة ما يمكن أن يفهم منه أل يقوموا
بتلقيح النخيل وحدث نتيجة ذلك أن النخيل لم يثمر الثمار المرجوة بل أثمر شيصا أي ثمارا غير
مكتملة النضج ،واستند الرسول في ذلك إلى قول الحق {:وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ }[الحجر.]22 :
وهذا قول صحيح صادق حكيم نجد آثاره في السحاب الذي يتحول إلى مطر نتيجة اتصال
الموجب بالسالب ،ونجده في معظم النباتات من قمح وفاكهة وذرة وغير ذلك .فطلع الذكر ينتقل
بواسطة الريح إلى عناصر النوثة في النباتات القريبة فتلقحها وتنقل الرياح كذلك اللقاح الخفيف.
واللقاح عندما يكون ثقيل الوزن يحتاج في بعض الحيان إلى جهد من النسان لينقل خليا
الذكورة إلى خليا النوثة ،ومثال ذلك النخيل .ولذلك عندما علم رسول ال صلى ال عليه وسلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بقلة إنتاج النخيل في العام الذي لم يلقح فيه بعض الصحابة نخيلهم ..قال صلى ال عليه وسلم لهم:
" أنتم أعلم بأمر دنياكم ".
وبهذا حسم الرسول صلى ال عليه وسلم المر ولم يعد لرجال الدين أن يتدخلوا في أي أمر ل
تستقيم به الحياة إل بناء على التجربة المعملية .ولذلك يقال عن السلم :إنه دين العلم؛ لنه أتاح
لرجال العلم أن ينطلقوا في تأمل آيات ال في هذا الكون ،بل دعاهم وأمرهم أن يستنبطوا أسرار
هذا الكون .أما في أمور السلوك البشري وحركة المجتمع فقد أنزل الحق من المنهج ما يكفي لعدم
استعلء أحد على أحد ،وأن نضبط السلوك النساني بتعاليم المنهج اليماني.
لقد جاء المنهج اليماني في كل الرسالت ،وكانت الرسالة الخاتمة هي رسالة محمد ابن عبدال،
وكانت البشارة به موجودة في التوراة والنجيل .ويقول الحق } :الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا
َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآءَهُمُ { فهل عمل أهل الكتاب بمقتضى هذه المعرفة؟ ل؛ ذلك أن بعضا منهم خافوا أن
تؤخذ منهم سلطتهم الزمنية ،وأكبر مثال على ذلك هو عبدال بن أُبي الذي كان رأس النفاق في
السلم والذي كان يستعد لتولي مُلْك المدينة قبل مجيء الرسول صلى ال عليه وسلم إليها .وكان
هناك من أهل الكتاب من عمل بهذه النبوءة ،مثال ذلك :عبدال بن سلم رضي ال عنه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النفس أمرها كبير .ونعلم أن الصفقة اليمانية ل تعزل عمل الدنيا عن حساب الخرة .والمؤمن
ن بعضا من أهل الكتاب أحبوا الدنيا على الخرة وفصلوا
الحق هو من يربط الدنيا بالخرة .لك ّ
بين الثنتين فأخذوا حظا قليلً من الحياة الدنيا وخسروا الخرة.
ويقول الحق من بعد ذلكَ } :ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَىا{ ...
()802 /
علَى اللّهِ كَذِبًا َأوْ َك ّذبَ بِآَيَا ِتهِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ ()21
َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى َ
إنهم افتروا على ال الكذب عندما فعلوا ذلك :نسوا حظا مما ذكروا به ،وكتموا بعضا من الكتب
المنزلة إليهم ،وحرفوا اليات المنزلة إليهم ،وجاءوا بأقوال من عندهم ونسبوها إلى ال .ولذلك
نجد الحق سبحانه يقول عنهمَ {:فوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ
لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً َفوَيْلٌ ّلهُمْ ّممّا كَتَ َبتْ أَ ْيدِيهِ ْم َووَيْلٌ ّلهُمْ ّممّا َي ْكسِبُونَ }[البقرة.]79 :
إن الحق يتوعدهم بالعذاب لنهم باعوا الدين لقاء ثمن قليل في الدنيا ،وادعوا على ال الكذب
فنسبوا إليه ما لم ينزله ،ولذلك فالويل كل الويل لهم؛ لنهم انحطوا إلى أخس دركات الظلم وكذبوا
الكذب المتعمد في كلية ملزمة وهي اليمان بال وبالكتب المنزلة والرسل.
والفتراء هو الكذب المتعمد بغرض نسبة شيء إلى ال لم يقله ،وهم قد فعلوا ذلك ،ولهذا ل يفلح
الظالمون سواء ظلموا الناس بأخذ أموالهم أو الساءة إليهم ،أو ظلموا أنفسهم بالشرك بال وهو
أعظم الظلم { إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }.
جمِيعا ثُمّ َنقُولُ لِلّذِينَ َأشْ َركُواْ أَيْنَ} ...
ويقول الحق من بعد ذلك { :وَ َيوْمَ َنحْشُرُ ُهمْ َ
()803 /
عمُونَ ()22
جمِيعًا ثُمّ َنقُولُ لِلّذِينَ أَشْ َركُوا أَيْنَ شُ َركَا ُؤكُمُ الّذِينَ كُنْ ُتمْ تَزْ ُ
وَ َيوْمَ نَحْشُ ُرهُمْ َ
الحق سبحانه يذكرنا بيوم الحشر ،يوم يسأل ال الذين أشركوا وكذبوا وافتروا الكذب على ال :أين
الذين عبدتموهم وأشركتموهم معي؟ إن ال لن يترك الناس سدى ،بل كل عمل يفعله النسان في
الدنيا محصى عليه وسيسأل عنه يوم القيامة .سيسأل ال المشركين عن الذين عبدوهم من دون ال
كذبا :أين هؤلء اللهة التي أشركها الكافرون في العبادة مع ال؟ ولماذا ل يتقدمون لنقاذ عبيدهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من العذاب الذي يصليه ال لهم؟! ويقرع سبحانه المشركين ،ويحشرهم مع ما عبدوهم من دون
ال من الصنام والوثان وفي ذلك قمة الهانة لهم ولتلك اللهة.
ويقول الحق بعد ذلكُ { :ثمّ لَمْ َتكُنْ فِتْنَ ُت ُهمْ ِإلّ أَن قَالُو ْا وَاللّهِ} ...
()804 /
ثُمّ َلمْ َتكُنْ فِتْنَ ُتهُمْ إِلّا أَنْ قَالُوا وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا ُمشْ ِركِينَ ()23
ونعرف أن الفتنة هي الختبار .وللفتنة وسائل متعددة؛ فأنت تختبر الشيء لتعرف الرديء من
الجيد ،والحقيقي من المزيف .ونحن نختبر الذهب ونفتنه على النار وكذلك الفضة .وهكذا نرى أن
الفتنة في ذاتها غير مذمومة ،لكن المذموم والممدوح هو النتيجة التي نحصل عليها من الفتنة؛
فالمتحانات التي نضعها لبنائنا هي فتنة ،ومن ينجح في هذا المتحان يفرح ومن يرسب يحزن.
إذن فالنتيجة هي التي يفرح بها النسان أو التي يحزن من أجلها النسان ،وبذلك تكون الفتنة أمرا
مطلوبا فيمن له اختيار .وأحيانا تطلق الفتنة على الشيء الذي يستولي على النسان بباطل.
إن الحق يحشر المشركين مع آلهتهم التي أشركوا بها ويسألهم عن هذه اللهة فيقولون { :وَاللّهِ
رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ } .وهم في ظاهر المر يدافعون عن أنفسهم ،وفي باطن المر يعرفون
الحقيقة الكاملة وهي أن المُلْك كله ال ،ففي اليوم الخر ل شركاء ل؛ ذلك أنه ل اختيار للنسان
في اليوم الخر .ولكن عندما كان للنسان اختيار في الدنيا فقد كان أمامه أن يؤمن أو يكفر.
وإيمان الدنيا الناتج عن الختيار هو الذي يقام عليه حساب اليوم الخر ،أما إيمان الضطرار في
اليوم الخر فل جزاء عليه إل جهنم لمن كفر أو أشرك بال في الدنيا .ولو أراد ال لنا جميعا
إيمان الضطرار في الدنيا لرغمنا على طاعته مثلما فعل مع الملئكة ومع سائر خلقه.
لقد قهر الحق سبحانه كل أجناس الوجود ما عدا النسان ،وكان القهر للجناس لثبات القدرة،
ولكن التكريم للنسان جاء بالختيار ليذهب إلى ال بالمحبة.
والمشركون بال يفاجئهم الحق يوم القيامة بأنه ل إله إل هو ،ويحاولون الكذب لمحاولة الفلت
من العقوبة فيقولون { :مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ } .وهم قد كذبوا بال في الحياة فعلً ويريدون الكذب على
ال في اليوم الخر قولً ،ولكن ال عليهم بخفايا الصدور وما كان من السلوك في الحياة الدنيا،
ويوضح لهم في الخرة أعمالهم ويعاقبهم العقاب الليم.
وحين يسألهم الحق { :أَيْنَ شُ َركَآ ُؤكُمُ }؟ ففي هذا القول استفهام من ال ،والستفهام من العليم ل
يقصد منه العلم ،وإنما يقصد به القرار مِن المسئول .وفي حياتنا اليومية يمكننا أن نرى السؤال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من التلميذ لستاذه؛ ليعلم التلميذ ما يجهل .ونرى السؤال يرد مرة بعد أخرى من الستاذ لتلميذه ل
ليعلم ما لم يعلم ،ولكن ليقرر التلميذ بما يعلمه وبما تعلمه من أستاذه .فإذا سأل الحق خلقه سؤالً،
أيسألهم سبحانه ليعلم؟ حاشا ل أن يكون المر كذلك .وإنما يسأل الحق عباده ليكون سؤال إقرار.
والقرار هنا فيه تبكيت أيضا؛ لنه سؤال ل جواب له ،فمعاذ ال أن يوجد له شركاء .وعندما
يقول الحق لهم { :أَيْنَ شُ َركَآؤُكُمُ }؟ فمعنى ذلك هو الستبعاد أن يوجد له سبحانه شركاء.
وبذلك يوبخهم ويبكتهم الحق على أنهم أشركوا بال ما ل وجود له.
لقد أشركوا بال في الدنيا لمجرد التخلص من موجبات اليمان .وها هم أولء في المشهد العظيم
يعرفون قدر كذبهم في الدنيا ،فل ملك لحد إل ال ،ول معبود سواه ،فينطقون بما يشهدون} :
وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ {.
ولقائل أن يقول :ولكن هناك في موضع آخر من القرآن نجد أن ال يقول في حق مثل هؤلء{:
طقُونَ * وَلَ ُيؤْذَنُ َل ُهمْ فَ َيعْتَذِرُونَ }[المرسلت.]36-34 :
وَ ْيلٌ َي ْومَئِذٍ لّ ْل ُم َكذّبِينَ * هَـاذَا َيوْ ُم لَ يَن ِ
إنهم في يوم الهول الكبر يعرفون أنهم كذبوا في الدنيا ،وهم ل ينطقون بأي قول ينفعهم ،ول يأذن
لهم الحق بأن يقدموا أعذارا أو اعتذارا .ونقول لمن يظن أن المكذبين ل ينطقون :إنهم بالفعل ل
ينطقون قولً يغيثهم من العذاب الذي ينتظرهم ،وهم يقعون في الدهشة البالغة والحيرة ،بل إن
بعضا من هؤلء المكذبين بال واليوم الخر يكون قد صنع شيئا استفادت به البشرية أو تطورت
به حياة الناس ،فيظن أن ذلك العمل سوف ينجيه ،إن هؤلء قد يأخذون بالفعل حظهم وثوابهم من
الناس الذين عملوا من أجلهم ومن تكريم البشرية لهم ،ولكنهم يتلقون العذاب في اليوم الخر لنهم
أشركوا بال .ولم يكن الحق في بالهم لحظة أن قدموا ما قدموا من اختراعات ،ولذلك يقول
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ يَجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ
عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ
الحق {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }[النور.]39 :
وهكذا نعلم أن أعمال الكافرين أو المشركين يجازيهم الحق سبحانه عليها بعدله في الدنيا بالمال أو
الشهرة ،ولكنها أعمال ل تفيد في الخرة .وأعمالهم كمثل البريق اللمع الذي يحدث نتيجة سقوط
أشعة الشمس على أرض فسيحة من الصحراء ،فيظنه العطشان ماء ،وما أن يقترب منه حتى
يجده غير نافع له ،كذلك أعمال الكافرين أو المشركين يجدونها ل تساوي شيئا يوم القيامة.
والمشرك من هؤلء يعرف حقيقة شركه يوم القيامة .ول يجد إل الواحد الحد القهار أمامه ،لذلك
يقول كل واحد منهم } :وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ { .إن المشرك من هؤلء ينكر شركه .وهذا
النكار لون من الكذب.
جمِيعا فَيَحِْلفُونَ لَهُ َكمَا َيحِْلفُونَ
إن المشركين يكذبون ،ويقول الحق سبحانه عنهمَ {:يوْمَ يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ َ
شيْءٍ َألَ إِ ّن ُهمْ ُهمُ ا ْلكَاذِبُونَ }[المجادلة.]18 :
حسَبُونَ أَ ّنهُمْ عَلَىا َ
َلكُ ْم وَيَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين يبعثهم الحق يوم القيامة يقسمون له أنهم كانوا مؤمنين كما كانوا يقسمون في الدنيا ،لكن ال
يصفهم بالكذب ،لقد كان بإمكانهم أن يدلسوا على البشر بالحلف الكاذب في الدنيا ،ولكن ماذا عن
ال الذي ل يمكن أن يدلس عليه أحد.
وهكذا نرى أن فتنة هؤلء هي فتنة كبرىُ {:ثمّ لَمْ َتكُنْ فِتْنَ ُتهُمْ ِإلّ أَن قَالُو ْا وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا
مُشْ ِركِينَ }[النعام.]23 :
ضلّ{ ...
سهِ ْم َو َ
ويقول ال لرسوله صلى ال عليه وسلم بعد ذلك } :انظُرْ كَ ْيفَ كَذَبُواْ عَلَىا أَنفُ ِ
()805 /
ويلفت الحق نظر رسوله صلى ال عليه وسلم بدقة إلى عملية سوف تحدث يوم القيامة ،وساعة
يخبر ال بأمر فلنصدق أنه صار واقعا وكأننا نراه أمامنا حقيقة ل جدال فيها .وسبحانه يقرر أنهم
كذبوا على أنفسهم .ونعرف أن كل الفعال تتجرد من زمانيتها حين تنسب إلى ال سبحانه
وتعالى ،فليس عند ال فعل ماضٍ أو حاضر أو مستقبل.
عمّا يُشْ ِركُونَ }[النحل:
والمثال على ذلك قوله الحق {:أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ َتسْ َتعْجِلُوهُ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَىا َ
.]1
وليس لقائل أن يقول :كيف يقول الحق إن أمره قد أتى وذلك فعل ماضٍ ،ثم ينهى العباد عن
استعجاله ،والنسان ل يتعجلُ إل شيئا لم يحدث ،ليس لقائل أن يقول ذلك؛ لن المتكلم هو القوة
العلى ول شيء يعوق الحق أن يفعل ما يريد .أما نحن العباد فل نجرؤ أن نقول على فعل سوف
نفعله غدا إننا فعلناه ،ذلك أن غدا قد ل يأتي أبدا ،أو قد يأتي الغد ول نستطيع أن نفعل شيئا مما
وعدنا به ،أو قد تتغير بنا السباب .وعلى فرض أن كل الظروف قد صارت ميسرة فأي قوة للعبد
منا أن يفعل شيئا دون أن يشاء ال؟ .ونحن -المؤمنون -نعرف ذلك وعلينا أن نقول كما عملنا
علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ }[الكهف.]24-23 :
شيْءٍ إِنّي فَا ِ
الَ {:ولَ َتقْولَنّ لِ َ
وهكذا يضمن النسان منا أنه قد خرج من دائرة الكذب .وحينما يقول ال لرسول " :انظر "
ويكون ذلك على أمر لم يأت زمان النظر فيه؛ فرسول ال يصدق ربه وكأنه قد رأى هذا المر.
سهِمْ } أي أن كذبهم الذي سوف يحدث يوم
إن الحق يصف هؤلء الناس بأنهم { :كَذَبُواْ عَلَىا أَنفُ ِ
القيامة هو أمر واقع بالفعل .وقد يكذب النسان لصالحه في الدنيا .لكن الكذب أمام ال يكون على
حساب النسان ل له.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويتابع الحقَ { :وضَلّ عَ ْنهُمْ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } ومعنى هذا أنهم يبحثون في اليوم الخر عن
الشركاء ولكنّهم ل يقدرون على تحديد هؤلء الشركاء لنهم قالوا أمام ال { :وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا
ضلّ عَ ْنهُمْ مّا كَانُواْ
مُشْ ِركِينَ } وغياب الشركاء عنهم أمام ال هو ما يوضحه ويبينّه قول الَ { :و َ
َيفْتَرُونَ } فـ " ضل " هنا معناها " غاب ".
ألم يقولوا من قبلَ {:وقَالُواْ أَِإذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ َبلْ هُم بَِلقَآءِ رَ ّبهِمْ كَافِرُونَ }
[السجدة.]10 :
أنهم كمنكرين للبعث يتساءل باندهاش :أإذا غابوا في الرض واختلطوا بعناصرها يمكن أن يبعثهم
ربهم من جديد؟ .فهم ل يصدقون أن الذي أنشأهم أول مرة بقادر على أن يعيدهم مرة أخرى.
ونعرف أن كلمة " ضل " لها معانٍ متعددة.
لكن معناها هنا " غاب " ،وحين يسألهم ال :أين شركاؤكم؟ ،ينكرون كذبا أنهم أشركوا ،لقد ضل
عنهم -أي غاب عنهم -هؤلء الشركاء .والنسان يعبد الله الذي ينفعه يوم الحشر ،وعندما
يغيب اللهة عن يوم الحشر فهذا ما يبرز ضلل تلك اللهة وغيابها وقت الحاجة إليها ،ول يبقى
إل وجه ال الذي يحاسب من أشركوا به.
و " ضل " يقابلها " اهتدى " ،و " ضل " أي لم يذهب إلى السبيل الموصلة للغاية ،و " اهتدى "
أي ذهب إلى السبيل الموصلة إلى الغاية .ومن ل يعرف السبيل الموصلة إلى الغاية ،يكون قد
ضل أيضا ،ولكن هناك من يضل وهو يعلم السبيل الموصلة إلى الغاية وهذا هو الكفر .وعندما
يتكلم الحق عن الذين كفروا يصفهم بأنهم ضلوا ضللً بعيدا؛ لن الطريق إلى الهداية كان أمامهم
ولم يسلكوه ،وهذا هو ضلل القمة .وقد يكون النسان مؤمنا لكن مقومات اليمان ضعيفة في
نفسه فيعصي ربه.
للً مّبِينا }[الحزاب:
ل ضَ َ
ضّويقول الحق عن مثل هذا النسانَ {:ومَن َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ َفقَ ْد َ
.]36
إنه ضلل دون ضلل وكفر دون كفر القمة .لكن ماذا عن الذي يضل لنه ل يعرف طريق
الهدى؟ إن ذلك هو ما يظهر لنا من قصة سيدنا موسى عليه السلم ،فحين قال الحق لموسى
سلْ َمعَنَا بَنِي
عوْنَ فَقُول إِنّا رَسُولُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * أَنْ أَرْ ِ
وهارون عليهما السلم {:فَأْتِيَا فِرْ َ
إِسْرَائِيلَ }[الشعراء.]17-16 :
أصدر الحق المر إلى موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون ليرسل معهما بني إسرائيل ،فماذا عن
عمُ ِركَ سِنِينَ *
موقف فرعون؟ .ماذا قال فرعون؟ {:قَالَ أَلَمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا وَلَبِ ْثتَ فِينَا مِنْ ُ
َو َفعَلْتَ َفعْلَ َتكَ الّتِي َفعَ ْلتَ وَأَنتَ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ }[الشعراء.]19-18 :
هنا يريد فرعون أن يمتن على موسى عليه السلم ،ويذكره بأنه رباه في قصره إلى أن كبر ومع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذلك لم يرع موسى وقتل رجلً من قوم فرعون ،وكان ذلك في نظر فرعون لونا من الجحود
بنعمته ،وها هوذا يعتدي مرة أخرى على ألوهية فرعون بدعوته لليمان بالله الحق الذي ل
يتخيله الفرعون ،ويلتقط موسى الخطأ الجوهري في سلوكه في ذلك الوقت .إن الخطأ لم يكن
الكفر بفرعون ،ولكن الخطأ كان هو القتل فيقول {:قَالَ َفعَلْ ُتهَآ إِذا وَأَنَاْ مِنَ الضّالّينَ }[الشعراء:
.]20
وهكذا نعرف أن موسى لحظة قَتْلِه رجل من عدوه لم يكن عنده طريق الهدى ،بل كان ضلله
حاصل من عدم معرفته أن هناك طريقا آخر إلى الهدى .وهاهوذا الحق سبحانه وتعالى يخاطب
ك ضَآلّ َفهَدَىا }[الضحى.]7 :
ج َد َ
رسوله صلى ال عليه وسلم {:وَوَ َ
أي لم يكن عندك يا رسول ال طريق واضح إلى الهدى قبل الرسالة ،فليس معنى الضلل هنا
النحراف ،ولكن معناه أنه قبل نزول الوحي لم يكن يعرف أي طريق يسلك.
وقد يكون الضلل نسيانا ،وما دام النسان قد نسي الحقيقة فهو ضال ،والمثال قول الحق {:أَن
ضلّ ِإحْدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الُخْرَىا }[البقرة.]282 :
َت ِ
هنا يقرر الحق أن شهادة المرأة تحتاج إلى ضمان وذلك بتأكيدها بشهادة امرأة أخرى؛ لن المرأة
بحكم تكوينها ل تستطيع أن تضع أنفها في كل تفاصيل ما تراه ،بل هي تسمع سمعا سطحيا،
ولذلك ل تكتمل الصورة عندها ،وعندما تجتمع مع شهادة المرأة شهادة امرأة أخرى ،فكل منهما
تذكر الخرى بتفاصيل قد تكون في منطقة النسيان؛ لن نفسية المرأة وطبيعة تكوينها مبنية على
الصيانة والتحرز من أن توجد في مجتمع فيه شقاق.
ضلّ عَ ْنهُمْ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ
وعندما يصف الحق هؤلء المشركين في يوم القيامة فهو يقولَ } :و َ
{ أي غاب عنهم ما كانوا يكذبون ويدعون أنهم شركاء ل ،والمشركون هم المؤاخذون
والمحاسبون على اتخاذ الشركاء ،فقد يكون بعضهم قد اتخذ شريكا ل ل ذنب له في تلك المسألة،
كاتخاذ بعضهم عيسى عليه السلم شريكا ل .وعيسى عليه السلم منزه عن أن يشرك بال أو
يشرك نفسه في اللوهية .والحق قد قال {:وَإِذْ قَالَ اللّهُ ياعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ
حقّ إِن كُنتُ
خذُونِي وَُأ ّميَ إِلَـاهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَا َنكَ مَا َيكُونُ لِي أَنْ َأقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِ َ
اتّ ِ
سكَ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة.]116 :
قُلْتُهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي َولَ أَعْلَمُ مَا فِي َنفْ ِ
بل إن الصنام نفسها التي اتخذها المشركون أربابا تقول :عبدونا ونحن أعبد ال من القائمين
بالسحار.
إذن فالخطأ يكون ممن أشركوا بال ل من الحجار العابدة ل المسبحة له لنها مسخرة وميسرة
لما خلقت له .لقد تخيل أحد الشعراء حوارا دار بين غار ثور وغار حراء ،يقول غار َثوْر:كم
حسدنا حراء حين ثوى الرو ح أمينا يغزوك بالنواروعندما أذن الحق بالهجرة اختبأ النبي بغار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َثوْر ،فقالت بقية الحجار:فحرا ٌء وثو ُر صَارا سواءً بهما أشفع لدولة الحجارعبدونا ونحن أَعْبَدُ
ل كما قد تجنّ
لِلّهِ من القائمين بالسحارتخذوا صمتنا علينا دليل فغدونا لهم وقود النارقد تَجَ ّنوْا جه ً
ْوهُ على ابْنِ مريم والحواريللمُغالِي جزاؤُه والمغالي فيه تُنْجيه رحمةً الغفارِإذن ،فها هي ذي
الحجارة تقول :إنها بريئة من الشرك بال وهي أعبد ل من القائمين بالسحار ،وصمت الحجارة
الظاهر اتخذه البعض دليلً على أن الحجارة رضيت بأن يعبدوها ،لكن الحجارة تصير هي أحجار
جهنم المعدة لمن كفر بال ،وكان التجني من العباد على الحجار مثل التجني على عيسى ابن
مريم .والذين غالوا في عبادة الحجار أو البشر لهم عقاب ،أما الحجار والبشر الذين ل ذنب لهم
في ذلك فهم طامعون في مغفرة ال ورحمته.
إذن فالضلل هنا يكون ضلل الذين اتخذوا شريكا ل .ولكن الشريك المُتّخَذ ل يقال له :ضل إل
على معنى أنه غاب عنهم في يوم كان أملهم أن يكون معهم ليحميهم من عذاب ال.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ{ ...
()806 /
جعَلْنَا عَلَى قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَنْ َي ْف َقهُو ُه َوفِي آَذَا ِنهِ ْم َوقْرًا وَإِنْ يَ َروْا ُكلّ آَ َيةٍ لَا
ك َو َ
َومِ ْنهُمْ مَنْ يَسْ َتمِعُ إِلَ ْي َ
ُي ْؤمِنُوا ِبهَا حَتّى ِإذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُو َنكَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ هَذَا إِلّا أَسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ ()25
إن من هؤلء من يستمع إلى القرآن ل بهدف التفهم والهداية ،ولكن بهدف تلمس أي سبيل للطعن
في القرآن ،فكأن قلوبهم مغلقة عن القدرة على الفهم وحسن الستنباط وصولً إلى الهداية ،وهم
يجادلون بهدف تأكيد كفرهم ل بنية صافية لستبانة آفاق آيات الحق والوصول إلى الطريق
القويم.
ونعلم أن السورة كلها جاءت لتواجه قضية الصنام والوثنية والشرك بال ،ونعلم أن المعجزة التي
جاءت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم هي القرآن ،وهو معجزة كلمية ،تختلف عن
المعجزات المرئية التي شاهدها المعاصرون لموسى عليه السلم :كشق البحر أو رؤية العصا
وهي تصير حية تلقف كل ما ألقاه السحرة ،أو معجزة عيسى عليه السلم من إبراء الكمه
والبرص ،فهذه كلها معجزات مرئية ومحددة بوقت ،أما معجزة رسول ال فهي معجزة مسموعة
ودائمة.
إن السمع هو أول أدوات الدراك للنفس البشرية .إنه أول آلة إدراك تنبه النسان ،إنه آلة الدراك
الوحيدة التي تُستصحب وقت النوم وتؤدي مهمتها؛ لن تصميمها يضم إمكانات مواصلة مهمتها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقت النوم .ونعلم أن الحق حينما أراد أن يقيم أهل الكهف مدة ثلثمائة وتسع سنين ضرب على
آذانهم حتى يكون نومهم سباتا عميقا ،فهم في كهف في جبل ،والجبل في صحارى تهب عليها
الرياح والزوابع والعاصير ،فلو أن آذانهم على طبيعتها لما استراحوا في النوم الذي أراده ال
عدَدا }
لهم ،ولذلك ضرب ال على آذانهم وقال سبحانهَ {:فضَرَبْنَا عَلَىا آذَا ِنهِمْ فِي ا ْل َك ْهفِ سِنِينَ َ
[الكهف.]11 :
ومعجزة رسول ال -إذن -جاءت سمعية وأيضا يمكن قراءتها .وحين يتلقى النسان بلغا فهو
يتلقاه بسمعه ،ويستطيع من بعد ذلك أن يقرأ هذا البلغ ويتفقه فيه ،ول أحد يعرف القراءة إل إذا
سمع أصوات الحروف أولً ثم رآها من بعد ذلك ،لقد تميزت معجزته صلى ال عليه وسلم بسيد
الدلة في وسائل الدراك النساني ،وهو السمع ،والحق يقولَ { :ومِنْهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ }.
إن هناك فارقا بين " يسمع " و " يستمع " ،فالذي يسمع هو الذي يسمع عرضا ،أما الذي " يستمع
" فهو الذي يسمع عمدا .والسامع دون عمد ليس له خيارا ألّ يسمع ،إل إذا سد أذنيه .أما الذي
يستمع فهو الذي يقصد السمع .وهم كانوا يستمعون للقرآن ل بغرض اكتشاف آفاق الهداية ولكن
بغرض الصرار على الكفر وذلك بقصد تصيد المطاعن على القرآن.
جعَلْنَا عَلَىا قُلُو ِبهِمْ َأكِنّةً أَن َيفْ َقهُوهُ } و " الكنة " جمع " كنان " وهي
ويقول الحق سبحانه { :وَ َ
الغطاء أو الغلف .ويتابع الحقَ { :وفِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرا } أي جعلنا في آذانهم صمما ،كأنهم
باختيارهم الكفر قد منعهم ال أن يفهموا القرآن ،ونعلم أن جميع المعاصرين لسيدنا رسول ال
صلى ال عليه وسلم قد سمعوا لرسول ال ومنهم من آمن ومنهم من ظل على الكفر.
ونعرف أن لكل فعل مستقبلً .ويمكن للمستقبل أن يؤمن وبذلك يكون الفعل قد أتى ثمرته ،وقد
يكون المُستقبل مصرا على موقفه السابق فل يؤمن ،وهنا يكون الفعل لم يؤت ثمرته ،والفاعل
واحد ،لكن القابل مختلف .وكان بعض الكافرين يسمعون القرآن ثم يخرجون دون إيمانَ {:ومِ ْنهُمْ
مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا إِذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ
طَبَعَ اللّهُ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ وَاتّ َبعُواْ أَ ْهوَآءَهُمْ }[محمد.]16 :
إنهم ككفار يستمعون للقرآن ،ثم ينصرفون ليقولوا في استهزاء للمؤمنين الذين علموا وآمنوا :أي
كلم هذا الذي يقوله محمد؟ هؤلء المستهزئون هم الذين ختم ال على قلوبهم بالكفر ،وانصرفوا
عن الهداية إلى الضلل .والمتكلم بكلم ال هو رسول ال مبلغا عن ال ،والسامع مختلف؛ فهناك
سامع مؤمن يتأثر بما يسمع ،وهناك سامع كافر ل تستطيع أذنه أن تنقل الوعي والدراك بما
سمع .لكن القرآن للذين آمنوا هدى وشفاء ،أما الذين ل يؤمنون به فآذانهم تصم عن الفهم
وأعماقهم بل بصيرة فلذلك ل يفهمون عن ال ،وتجد نفس المؤمن تستشرف لن تعلم ماذا في
القرآن .أما الذي يريد أن يكون جبارا في الرض فهو ل يريد أن يلزم نفسه بالمنهج.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحتى نعرف الفارق بين هذين اللونين من البشر ،نجد المؤمن ينظر إلى الكون ويتأمله فيدرك أن
له صانعا حكيما ،أما الكافر فبصيرته في عماء عن رؤية ذلك .وحين يستمع المؤمن إلى بلغ من
خالق الكون فهو يرهف السمع ،أما الكافر فهو ينصرف عن ذلك.
وكان صناديد قريش أمثال أبي جهل وأبي سفيان ،والنضر بن الحارث ،والوليد ابن المغيرة،
وعتبة بن ربيعة ،وشيبة بن ربيعة ،وحرب بن أمية ،كل هؤلء من صناديد قريس يجتمعون
ويسأل الواحد منهم النضر قائلً :يا نضر ما حكاية الكلم الذي يقوله محمد؟
وكان النضر راوية للقصص التي يجمعها من أنحاء البلد ،فهو قد سافر إلى بلد فارس والروم
وجاب الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها ،فقال :وال ما أدري ما يقول محمد إل أنه أساطير
الولين.
ويتجادل النضر وأبو سفيان وأبو جهل مع رسول ال ،وهذا الجدال دليل عدم فهم لما جاء من
آيات القرآن .ولم يجعل ال الوقر على آذانهم قهرا عنهم ،بل بسبب كفرهم أولً ،فطبع ال على
قلوبهم بكفرهم ،واستقر مرض الكفر في قلوبهم وفضلوه على اليمان فزادهم ال مرضا ،وقال
فيهم الحق سبحانه } :وَإِن يَ َروْاْ ُكلّ آيَةٍ لّ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا حَتّىا ِإذَا جَآءُوكَ يُجَا ِدلُو َنكَ َيقُولُ الّذِينَ
لوّلِينَ { [النعام.]25 :
َكفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ َأسَاطِي ُر ا َ
والساطير هي جمع أسطورة ،والسطورة شيء يسطر ليتحدث به من العجائب والحداث
الوهمية.
وكأن الحق سبحانه وتعالى يكشفهم أمام أنفسهم وهو يحاولون أن يجدوا ثغرة في القرآن فل
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ
يجدون .وقال ال عنهم قولً فصلًَ {:وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
}[الزخرف.]31 :
فهم يعلمون عظمة القرآن فكيف يقولون إنه أساطير الولين؟ لقد كانوا من المعجبين بعظمة
أسلوب القرآن الكريم فهم أمة بلغة ،ولكنهم يعلمون أن مطلوبات القرآن صعبة على أنفسهم .كما
أنهم أرادوا أن يظلوا في السيادة والجبروت والقهر للغير ،والقرآن إنما جاء ليساوي بين البشر
جميعا أمام الحق الواحد الحد.
لقد جاءت حوادث قسرية بإرادة ال لتكون سببا لليمان ،مثلما حدث مع عمر بن الخطاب رضي
ال عنه عندما علم أن أخته قد أسلمت فذهب إليها وضربها حتى أسال منها الدم .وإسالة الدم
حركت فيه عاطفة الخوة فأزالت صلف العناد ،فأراد أن يقرأ الصحيفة التي بها بعض من آيات
القرآن ،وتلقى المر من أخته بأن يتطهر فتطهر وجلس يستمع ،وبزوال صلفه وعناده وبتطهره
صار ذهنه مستعدا لفهم ما جاء بالقرآن ،وذهب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وأعلن إيمانه
بال ربا وبمحمد صلى ال عليه وسلم وبرسالته الخاتمة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحق من بعد ذلك } :وَهُمْ يَ ْن َهوْنَ عَ ْن ُه وَيَنَْأوْنَ عَ ْن ُه وَإِن ُيهِْلكُونَ{ ...
()807 /
شعُرُونَ ()26
سهُمْ َومَا َي ْ
وَهُمْ يَ ْن َهوْنَ عَنْ ُه وَيَنَْأوْنَ عَنْ ُه وَإِنْ ُيهِْلكُونَ إِلّا أَ ْنفُ َ
والكافر من هؤلء إنما ينأى عن مطلوب رسول ال صلى ال عليه وسلم ول يريد أن يهتدي،
ويمعن في طغيانه فينهى غيره عن اليمان ،فكأنه ارتكب جريمتين :جريمة كفره ،وجريمة نهي
غيره عن اليمان.
لقد كانت قريش على ثقة من أن الذي يسمع القرآن يهتدي به ،لذلك أوصى بعضهم بعضا أل
يسمعوا القرآن ،وإن سمعوه فعليهم أن يحرفوا فيه أو أن يصنعوا ضجيجا يحول بين السامع
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ }[فصلت:
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
للقرآن وتدبرهَ {.وقَالَ الّذِينَ كَفَرُو ْا لَ تَ ْ
.]26
إنهم واثقون من أن القرآن يقهرهم بالحجة ويفحمهم بالبينات ،وأنهم لو استمعوا إليه لوجدوا فيه
حلوة وطلوة تستل من قلوبهم الجحود والنكران .وكأنهم بذلك يشهدون أن للقرآن أثرا في
الفطرة الطبيعية للنسان ،وهم أصحاب الملكة في البلغة العربية .ومع ذلك ظل الكافرون على
عنادهم بالرغم من عشقهم للسلوب والبيان والداء .ولم يكتفوا بضلل أنفسهم ،بل أرادوا إضلل
غيرهم ،فكأنهم يحملون بذلك أوزارهم وأوزار من يضلونهم ،ولم يؤثر ذلك على مجرى الدعوة
ول على البلغ اليماني من محمد عليه الصلة والسلم؛ ذلك أن الحق ينصره على الرغم من كل
هذا؛ فهو سبحانه وتعالى القائل {:وَلَقَدْ سَ َبقَتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّن ُهمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ *
وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173-171 :
شعُرُونَ }
سهُمْ َومَا َي ْ
وحين يقول الحق سبحانه { :وَ ُهمْ يَ ْن َهوْنَ عَ ْن ُه وَيَنَْأوْنَ عَ ْن ُه وَإِن ُيهِْلكُونَ ِإلّ أَنفُ َ
[النعام.]26 :
نعرف أن المقصود بذلك القول هم المعارضون لدعوة محمد صلى ال عليه وسلم ،وقد عارضوها
لنها ستسلبهم سلطتهم الزمنية من علو ،وجبروت ،واستخدام للضعفاء .وذلك ما جعلهم يقفون من
الدعوة موقف النكران لها والكفران بها.
وما داموا قد وقفوا من الدعوة هذا الموقف ،فلم يكن من حظهم اليمان ،ولنهم نأوا وبعدوا عن
رسول ال صلى ال عليه وسلم فقد خسروا ،أما غيرهم فلم ينأى عن رسول ال صلى ال عليه
وسلم بل إنه أوى إلى ال فآواه ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنّ هؤلء الجاحدين المنكرين لدعوة رسول ال وقفوا أمام دعوته وصدوا الناس عنها ونهوهم عن
اتباعها؛ لن هذه الدعوة ستسلبهم سلطتهم الزمنية من علو وجبروت واستخدام الضعفاء
وتسخيرهم في خدمتهم وبسط سلطاتهم عليهم .هذا -أولً -هو الذي دفعهم إلى منع غيرهم
ونهيهم عن اتباع السلم ،ثم هم -ثانيا -ينأون ويبتعدون عن اتباع الرسول - ،إذن -فمن
مصلحتهم -أولً -أن ينهوا غيرهم قبل أن ينأوا هم؛ لنه لو آمن الناس برسول ال وبقوا هم
وحدهم على الكفر أيستفيدون من هذه العملية؟ ل يستفيدون -إذن -فحرصهم -أولً -كان
على أل يؤمن أحد برسول ال لتبقى لهم سلطتهم.
وجاء الداء القرآني معبرا عن أدق تفاصيل هذه الحالة فقال } :وَهُمْ يَ ْن َهوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ
{ فالبداية كانت نهي الخرين عن اليمان برسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ثم بعد ذلك
ابتعادهم عن رسول ال صلى ال عليه وسلم فصار حظهم أن يظلوا على كفرهم فكان الخسران
من نصبيهم ،بينما آمن غيرهم من الناس.
وهكذا نرى أن الداء القرآني جاء معبرا دائما عن الحالة النفسية أصدق تعبير ،فقول الحق} :
وَهُمْ يَ ْن َهوْنَ عَنْهُ { قول منطقي يعبر عن موقف المعارضين لرسول ال أما قوله الحق } :وَيَنَْأوْنَ
عَنْهُ { فهذا تصوير لما فعلوه في أنفسهم بعد أن منعوا غيرهم من اتباع الدعوة المحمدية والرسالة
الخاتمى .فهم بذلك ارتكبوا ذنبين :الول :إضلل الغير ،والثاني :ضلل نفوسهم .وبذلك ينطبق
حمِلُواْ َأوْزَارَ ُهمْ كَامِلَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّونَهُمْ }[النحل:
عليهم قول الحق سبحانه {:لِيَ ْ
.]25
ول يقولن أحد :إن هذه الية تناقض قول الحق سبحانهَ {:ولَ تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَىا }[السراء:
.]15
ذلك لن الوزريْن :وزرهم ،ووزر إضللهم لغيرهم من فعلهم.
شعُرُونَ { ونرى أن الذي يقف أمام دعوة الحق
سهُ ْم َومَا يَ ْ
ويتابع الحق } :وَإِن ُيهِْلكُونَ ِإلّ أَنفُ َ
والخير لينكرها ويبطلها ويعارضها ويحاربها إنما يقصد من ذلك خير نفسه وكسب الدنيا وأخذها
لجانبه ،ولكنهم أيضا لن يصلوا إلى ذلك ،لماذا؟
لن ال غالب على أمره {:وَلَقَدْ سَ َبقَتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّن ُهمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ
جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173-171 :
والحق سبحانه وتعالى ل يهزم جندَه أبدا ،ول بد أن يهلك أعداء دعوته بسبب كفرهم وصدهم عن
سبيل ال فهم في الحقيقة هم الذين يهلكون أنفسهم بأنفسهم .وسيظل أمر الدعوة اليمانية السلمية
في صعود .وسيرون أرض الكفر تنتقص من حولهم يوما بعد يوم .ولذلك يقول الحق في آية
صهَا مِنْ أَطْرَا ِفهَا }[الرعد.]41 :
أخرىَ {:أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا نَأْتِي الَ ْرضَ نَنقُ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي أن أرض الكفر تنقص وتنقص وال يحكم ل معقب لحكمه ،ولذلك يشرح القرآن في آخر
ترتيبه النزولي هذه القضية شرحا وافيا .ويعلمنا أن نقطع كل علقة لنا مع الكافرين ،فيقول
سبحانهُ {:قلْ ياأَ ّيهَا ا ْلكَافِرُونَ * لَ أَعْبُدُ مَا َتعْبُدُونَ * َولَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َولَ أَنَآ عَابِدٌ مّا
عَبَدتّمْ * َولَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ }[الكافرون.]5-2 :
وهكذا نرى أن قطع العلقات أمر مطلوب بين فريقين :فريق يرى أنه على حق ،وفريق ثانٍ أنه
على باطل ،وقد يكون قطع العلقات أمرا موقوتا .وقد تضغط الظروف والحداث إلى أن نعيد
العلقات الدنيوية ثانية ،ولكن قطع العلقات ل بد أن يكون مؤيدا في شأن العقيدة ول مداهنة في
هذا ،ولذلك قالها الحق مرتين {:لَ أَعْ ُبدُ مَا َتعْبُدُونَ * َولَ أَنتُمْ عَا ِبدُونَ مَآ أَعْبُدُ * َولَ أَنَآ عَابِدٌ مّا
عَبَدتّمْ * َولَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ }
[الكافرون.]5-1 :
فالمؤمن يرى الحاضر والمستقبل ،ويعلم استحالة أن يعبد ما يعبده الكافرون ،واستحالة أن يعبد
الكافرون ما يعبد.
وقد يقول قائل :إن القرآن في ترتيبه النزولي ل بد أل يتعارض مع واقعه ،ولكننا نرى في قوله
تعالى } :لَ أَعْبُدُ مَا َتعْ ُبدُونَ * وَلَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ { وكررها مرتين ،إنه بذلك يكون قد أغلق
الباب أمام الكافرين فل يؤمنون مع أن بعضهم قد دخل في دين ال .نقول :نعم إنه ل يتعارض؛
لن الحق لم يغلق الباب أمام الكافرين الذين أراد ال أن يؤمنوا ،بدليل أنه قال جل وعل {:إِذَا جَآءَ
ك وَاسْ َت ْغفِ ْرهُ إِنّهُ
ح ْمدِ رَ ّب َ
َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ * وَرَأَ ْيتَ النّاسَ َيدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجا * فَسَبّحْ بِ َ
كَانَ َتوّابا }[النصر.]3-1 :
إذن فالمسألة لن تجمد عند ذلك؛ فمعسكر اليمان سيتوسع ،وسيواجه معسكر الكافرين وسيدخل
الناس في دين ال أفواجا .ولكن هناك من قضى ال عليهم أل يؤمنوا ليظلوا على كفرهم ويدخلوا
سبَ *
النار ،فقال سبحانه من بعد ذلك {:تَ ّبتْ يَدَآ أَبِي َل َهبٍ وَ َتبّ * مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَاُل ُه َومَا كَ َ
سدٍ }[المسد.]5-1 :
طبِ * فِي جِيدِهَا حَ ْبلٌ مّن مّ َ
حَحمّالَةَ الْ َ
سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ َل َهبٍ * وَامْرَأَتُهُ َ
إذن فأبو لهب ومن على شاكلته سيدخل النار ولن يدخل في دين ال أبدا.
ويجيء قول الحق {:وَرَأَ ْيتَ النّاسَ َيدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجا }[النصر.]2 :
هذا القول يفتح باب المل ،ونرى دخول عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص ،وعكرمة بن أبي
جهل إلى السلم .ومجيء سورة المسد من بعد سورة النصر في الترتيب المصحفي كما أراد ال،
يعلمنا أن هناك أناسا لن يدخلوا الجنة لنهم مثل أبي لهب وزوجه.
صمَدُ * َلمْ يَِل ْد وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ َيكُنْ لّهُ
حدٌ * اللّهُ ال ّ
وتأتي من بعدها سورة الخلصُ {:قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
ُكفُوا َأحَدٌ }[الخلص.]4-1 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنه ل إله مع ال ينقض ما حكم به ال ،ولن يعقب أحد على حكم ال .إذن فمن كفر وأشرك بال
يكون من الذين خسروا أنفسهم وأهلكوها وما يشعرون.
ومن بعد ذلك يقول الحق تبارك وتعالى } :وََلوْ تَرَىا ِإ ْذ ُوقِفُواْ{ ...
()808 /
وََلوْ تَرَى ِإ ْذ ُو ِقفُوا عَلَى النّارِ َفقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدّ وَلَا ُن َك ّذبَ بِآَيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ()27
عندما ننظر إلى قول الحق { :وََلوْ تَرَىا إِ ْذ ُو ِقفُواْ عَلَى النّارِ } ،هنا ل نجد جوابا ،مثل ما تجده
في قولك :لو رأيت فلنا لرحبت به أو لو رأيت فلنا لعاقبته .إن في كلّ من هاتين الجملتين
جوابا ،لكن في هذا القول الكريم ل نجد جوابا ،وهذا من عظمة الداء القرآني ،فهناك أحداث ل
تقوى العبارات على أدائها ،ولذلك يحذفها الحق سبحانه وتعالى ليذهب كل سامع في المعنى
مذاهبه التي يراها.
وفي حياتنا نجد مجرما في بلد من البلد يستشري فساده وإجرامه في سكانها تقتيلً وتعذيبا وسرقة
واعتداءات ،ول أحد يقدر عليه أبدا ،ثم يمكن ال لرجال المن أن يقبضوا عليه ،فنرى هذا القاتل
المفسد يتحول من بعد الجبروت إلى جبان رعديد يكاد يقبل يد الشرطي حتى ل يضع القيود في
يديه .ويرى إنسان ذلك المشهد فيصفه للخرين قائلً :آه لو رأيتم لحظة قبضت الشرطة على هذا
المجرم ،وهذه العبارة تؤدي كل معاني الذلة التي يتخيلها السامع ،إذن فحذف الجواب دائما ترتيب
لفائدة الجواب ،ليذهب كل سامع في تصور الذلة إلى ما يذهب .لن المشاهد لو شاء لحكى ما
حدث بالتفصيل لحظة القبض على المجرم وبذلك يكون قد حدد الذلة والمهانة في إطار ما رأى
هو ،ويحجب بذلك تخيّل وتصوّر السامعين.
أما اكتفاء المشاهد بقوله :آه لو رأيتم لحظة قبض الشرطي على هذا المجرم ..فهذا القول يعمم ما
يُرى حتى يتصور كل سامع من صور الذلل ما يناسب قدرة خياله على التصور .وهكذا أراد
القرآن أن يصور هول الوقوف على النار فأطلق الحق " لو " بل جواب حين قال {:وََلوْ تَرَىا إِذْ
ُوقِفُواْ عَلَى النّارِ َفقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَ ّد َولَ ُنكَ ّذبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النعام.]27 :
وقد أراد البعض أن يتصيد لساليب القرآن ،ومنهم من قال :كيف تقولون إن القرآن عالي البيان،
فصيح السلوب ،معجزة الداء ،وهو يقول ما يقول عن شجرة الزقوم؟
جعَلْنَاهَا فِتْ َنةً
شجَ َرةُ ال ّزقّومِ * إِنّا َ
إن القرآن الكريم يقول عن هذه الشجرةَ {:أذَِلكَ خَيْرٌ نّ ُزلً َأمْ َ
جحِيمِ * طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ ُرءُوسُ الشّيَاطِينِ }[الصافات-62 :
صلِ الْ َ
شجَ َرةٌ تَخْرُجُ فِي َأ ْ
لّلظّاِلمِينَ * إِ ّنهَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]65
إن كل شجرة تحتاج إلى ماء وهواء ،وفيها حياة تظهر باخضرار الوراق ،فكيف تخرج هذه
الشجرة من النار ،أليس في ذلك شذوذ؟ ثم تتمادى الصورة ..صورة الشجرة ،فيصف الحق
ثمارها بقوله الحق {:طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ * فَإِ ّنهُ ْم لكِلُونَ مِ ْنهَا َفمَالِئُونَ مِ ْنهَا الْبُطُونَ }
[الصافات.]66-65 :
سخَرُ الذين يتصيدون للقرآن في أقوالهم :بما
نحن لم نر شجرة الزقوم ،ولم نر رأس الشيطان .ويَ ْ
أن أحدا من البشر لم يشهد رأس الشيطان ،وكذلك شجرة الزقوم ،فكيف يشبه ال المجهول
بمجهول ،وتساءلوا بطنطنة :ماذا يستفيد السامع من تشبيه مجهول بمجهول؟ ونقول ردا عليهم :إن
غباء قلوبكم وفقدان طبعكم لملكة اللغة العربية هو الذي يجعلكم ل تفهمون ما في هذا القول من
بلغة.
وحين نقرب المثل نقول :هب أن إنسانا أقام مسابقة بين رسامي " الكاريكاتير " في العالم ليرسم
كل منهم صورة للشيطان ،ويوم تحديد الفائز ستوجد أكثر من صورة للشيطان ،وستفوز أكثر
الصور بشاعة ،ذلك أن الفوز هنا ليس في الجمال ،ولكن الفوز هما في مهارة تصوير القبح.
وهكذا تتعدد أمامنا صور القبح ،فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وقد أراد إطلق الخيال لتصور
شجرة الزقوم ،وكذلك تصور رأس الشيطان؟ أراد الحق بهذا السلوب البليغ إشاعة الفائدة من
إظهار بشاعة صورة الشجرة التي يأكل منها أهل الكفر.
وكذلك هنا قوله الحق } :وََلوْ تَرَىا إِ ْذ ُو ِقفُواْ عَلَى النّارِ { والذي يحدث لهؤلء الوقوف على النار
ل يأتي خبره هنا ،بل يكتفي الحق بأن يعبر لنا عن أننا نراهم في مثل هذا الموقف؛ لن اليوم
الخر هو يوم الجزآء؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار .والجنة -كما نعلم من قول رسول ال صلى
ال عليه وسلم -إن فيها ما ل عين رأت ول أذن سمعت ول خطر على قلب بشر .ونعلم أن
رؤية العين محدودة ،ورقعة السمع أكثر اتساعا ،ذلك أن الذن تسمع ما تراه أنت وما رآه غيرك،
لكن عينيك ل تريان إل ما رأيته أنت بمفردك ،ول يكتفي الحق بذلك بل يخبر رسوله صلى ال
عليه وسلم أن في الجنة ما ل يخطر على قلب بشر ،أي أن في الجنة أشياء ل تستطيع اللغة أن
تعبر عنها؛ لن اللغة تعبر عن متصورات الناس في الشياء .والمعنى يوجد أولً ثم يوجد اللفظ
المعبر عنه.
وهكذا نعلم أن ما في الجنة من نعيم ل توجد ألفاظ تؤدي كل ما تحمله للمؤمن من معان ،وكذلك
نعلم أيضا أن في النار عذابا لم توضع له ألفاظ لتعبر عنه .ولو أن الحق سبحانه وتعالى قال} :
وََلوْ تَرَىا ِإ ْذ ُو ِقفُواْ عَلَى النّارِ { لرأينا أمرا مفزعا مخيفا مذلً إلى آخر تلك اللفاظ الدالة على
عمق العذاب لما أعطي ذلك الثر نفسه الذي جاء به حذف الجواب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعندما نقرأ " ُوقِفوا " نعرف أن فيه بناء وكيانا موجودا ،وأن هناك من أوقفهم على النار ،وهم
كانوا مكذبين في الدنيا بالنار ،ثم وجدوا أنفسهم يوم القيامة ضمن من وقفهم ال على النار ليروا
العذاب الذي ينتظرهم ،ويطلعوا على النار اطلع الواقف على الشيء ،كذلك يوقفهم الحق على
النار التي أنكروها في الدنيا؛ فقد جاءهم الخبر في الدنيا ،فمن صدق وعلم أن من أخبره صادق،
فذلك علم يقين ،وإن تجاوز النسان مرحلة العلم ورأى صورة محسة للخبر ،فهذا عين يقين،
والمؤمن بإخبار ربه وصل إلى الشياء بعلم اليقين من ال ،لنه يصدق ربه ،ولذلك فالمام علي
-كرم ال وجهه -يقول " :لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا "؛ لنه مصدق بلغى به.
لكن ماذا عن المكذبين؟ إن النسان يرى علم اليقين في اليوم الخر وهو عين يقين ،ويشترك في
ذلك المؤمن والكافر .ولكن الكافر يرى النار عين اليقين ويدخلها ليحترق بها فيحس بها وهذا هو
" حق اليقين ".
هكذا نعلم أن النار " عين اليقين " يراها المؤمن والكافر ،والنار كـ " حق اليقين " يعانيها ويعذب
بها الكافر فقط ،أما المؤمن في الجنة فيحس " حق اليقين " لنه يعيش ويسعد بنعيمها .ويصور
جحِيمَ * ثُمّ لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ }
سبحانه ذلك في قوله {:كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ عِ ْلمَ الْ َيقِينِ * لَتَ َروُنّ الْ َ
[التكاثر.]7-5 :
ن وَجَ ّنتُ َنعِيمٍ * وََأمّآ
ح وَرَيْحَا ٌ
وجاء حق اليقين في قوله تعالى {:فََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْلمُقَرّبِينَ * فَ َروْ ٌ
صحَابِ الْ َيمِينِ * وََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ
إِن كَانَ مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ * َفسَلَمٌ ّلكَ مِنْ َأ ْ
جحِيمٍ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ حَقّ الْ َيقِينِ }[الواقعة.]95-88 :
حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ َ
* فَنُ ُزلٌ مّنْ َ
وماذا يصنعون وهم المكذبون عندما يرون النار عين اليقين؟ ل بد أنهم يخافون أن يعانوا منها
عندما تصبح حق اليقين ،لذلك يقولون {:يالَيْتَنَا نُ َر ّد َولَ ُنكَ ّذبَ بِآيَاتِ رَبّنَا وَ َنكُونَ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }
[النعام.]27 :
إنهم يتمنون العودة إلى الدنيا ليستأنفوا اليمان .والتمني في بعض صوره هو طلب المستحيل غير
الممكن للشعار بأن طالبه يحب أن يكون ،كقول القائل:أل ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل
المشيبأو قول القائل:ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدحٍ فما أرضى لكم كلمىوهم قالوا} :
يالَيْتَنَا نُرَدّ { فإن كانوا قالوا هذا تمنيا فهو طلب مستحيل ويتضمن أيضا وعدا بعد التكذيب بآيات
ال ،فهل هم قادرون على ذلك؟
خفُونَ مِن قَ ْبلُ وََلوْ ُردّواْ
ل؛ لن القرآن الكريم قد قال في الية التاليةَ } :بلْ َبدَا َلهُمْ مّا كَانُواْ ُي ْ
َلعَادُواْ{ ...
()809 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل وََلوْ رُدّوا َلعَادُوا ِلمَا ُنهُوا عَنْهُ وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ ()28
خفُونَ مِنْ قَ ْب ُ
َبلْ بَدَا َل ُهمْ مَا كَانُوا ُي ْ
إنهم يطلبون العودة إلى الدنيا ل لينفذوا الوعد في طلبهم المستحيل؛ لنهم سيفعلون مثلما فعلوا من
قبل ،كفرا ونكرانا وجحودا .إنهم لجأوا إلى هذا القول من فرط الخوف مما أعده ال لهم .بعد أن
ظهر لهم كل ما كانوا يفعلونه في الدنيا من كفر وجحود .ويقال عن يوم القيامة " يوم الفاضحة "؛
حسِيبا }
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ َ
لن كل إنسان سيجد كتابه في عنقه ،ويقال له {:اقْرَأْ كِتَا َبكَ َكفَىا بِ َنفْ ِ
[السراء.]14 :
فإذا كنا في الدنيا نسجل الحداث بالصوت والصورة فما بالنا بتسجيل الحق لنا؟ ويرى النسان
َمكْرَه يوم القيامة بالصوت والصورة ،وكل فعل فعله سيراه بطريقة ل يمكن معها أن ينكره ،وكأن
الحق يوضح لكل عبد :أنا لن أحاسبك بل سأترك لك أن تحاسب نفسك .ويفاجأ النسان أن
جوارحه تنطق لتشهد عليه :اليدي تنطق بما فعل ،واللسان ينطق بما قال ،والقدم تحكي إلى أين
ذهب بها صاحبها ،فهذه الجوارح التي كانت تنفعل لمراد صاحبها في الدنيا ،يختلف موقفها في
الخرة ول تنفذ في اليوم الخر مراد النسان بل مراد من أعطى النسان المرادّ {.لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
مثال ذلك -ول المثل العلى -نجد السرية أو الكتيبة المقاتلة لها قائد يحكم الجنود ،فإن أعطاهم
أوامر خاطئة فهم ينفذونها ،وبعد انتهاء المعركة يسألهم القائد العلى ،فيقولون سلسلة الوامر
الخاطئة التي أصدرها قائدهم المباشر.
فإياك أن تظن أيها النسان أن أبعاضك مؤتمرة بقدرتك عليها دائما ،إن سيطرتك عليها أمر منحك
ال إياه ،ويسلبه منك متى شاء في الدنيا .ويأتي يوم القيامة لتنتهي سيطرتك على البعاض .وأنت
ترى في الدنيا بعضا من صور سلب السيطرة على البعاض لتتذكر قدرة الواهب العلى؛ فأنت
ترى من ل يرى ،وترى من فقد السيطرة على جارحة أو أكثر من جوارحه ،وذلك تنبيه من ال
على أن سيطرة النسان على الجوارح إنما هي أمر موهوب من ال .وقول الحق سبحانه عن
خفُونَ مِن قَ ْبلُ } يفضح تدليسهم في الحياة الدنيا ،ثم يجيب ال
الكافرينَ { :بلْ َبدَا َلهُمْ مّا كَانُواْ ُي ْ
على تمنيهم السابق المليء بالذلة والمسكنة ،التمني بالعودة إلى الدنيا ،فيقول سبحانه { :وََلوْ ُردّواْ
َلعَادُواْ ِلمَا ُنهُواْ عَنْ ُه وَإِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ }.
فهم كاذبون في الوعد بأن يؤمنوا لو عادوا إلى الدنيا ،يوضح ذلك قول الحق سبحانهَ { :وقَالُواْ إِنْ
ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا} ...
()810 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َوقَالُوا إِنْ ِهيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َومَا نَحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ ()29
إنهم لم يأخذوا في أثناء حياتهم اليمان كإيمان استدلل بكوْن منظم مرتب محكم التكوين ،إنهم لم
يلتفتوا إلى أن هذا النظام أو الحكام والترتيب موجود في علقات البشر بعضهم ببعض سواء
أكانوا مؤمنين أم ملحدة ،ونعلم أن هناك صفات يشترك في كراهتها كل الناس مؤمنهم وملحدهم؛
فالملحد إن سرق من زميله ،أل يعاقب؟ إنه يتلقى العقاب من مجتمعه ،وفي كل المجتمعات هناك
ثواب وعقاب ،بل هناك جزاء بإحسان .واليمان ل يمنع أن يصطلح الناس على شيء من
الحسان ،والمحرومون من اليمان تلجئهم الحداث أن يضعوا القانون لينظموا الثواب والعقاب.
إننا نجد أن تجريم المخالف للخير والجمال وإصلح الكون هو أمر فطري وضروري للنسان؛
فهم يجرمون أفعال السوء بعد أن تعضهم الحداث ول يلتفتون إلى أن المنهج السماوي جاء
بالثواب والعقاب على كل فعل يحمي كرامة النسان .ويوم القيامة يقفون في صَغار وفي
ل وََلوْ ُردّواْ َلعَادُواْ ِلمَا ُنهُواْ عَنْ ُه وَإِ ّنهُمْ
خفُونَ مِن قَ ْب ُ
اضطرار ليروا ما فعلواَ {:بلْ َبدَا َلهُمْ مّا كَانُواْ ُي ْ
َلكَاذِبُونَ }[النعام.]28 :
فهم لو رُدّوا إلى الدنيا بما كان لهم فيها من اختيار فسيفعلون مثلما فعلوا ،ولم يقولوا مثل هذا
القول في اليوم الخر إل أنهم مقهورون .وكانوا من قبل يقولونَ { :وقَالُواْ إِنْ ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا
َومَا َنحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ } [النعام.]29 :
ففي دنياهم كانوا ل يؤمنون إل بحياة واحدة هي الدنيا .ولم يلتفتوا إلى أن النسان يحيا في الدنيا
على قدر قوته ،وويل للضعيف من القوي .والقوي إنما يخاف من قانون يعاقبه ،أو يخاف من إله
سيعاقبه على الذنب مهما أخفاه ،ولذلك نجد القاضي المؤمن يقول دائما :لئن عمّيتم على قضاء
الرض ،فل تعمّوا على قضاء السماء.
ومن غباء أهل الكفر أنهم يسمون الحياة على الرض " الحياة الدنيا " وهي في حقيقتها دنيا ،وما
داموا قد حكموا وعرفوا أنها " دنيا " فل بد أن يقابلها حياة عليا .إنّ كل ذلك يحدث لهم عندما
يقفون على النار ،والنار جند من جنود الجبار ،فما بالك بهم حين يقفون أمام خالق النار ورب
العالمين؟
ويقول الحق سبحانه { :وَلَوْ تَرَىا ِإ ْذ ُوقِفُواْ} ...
()811 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وََلوْ تَرَى ِإ ْذ ُو ِقفُوا عَلَى رَ ّبهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِا ْلحَقّ قَالُوا بَلَى وَرَبّنَا قَالَ فَذُوقُوا ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُنْتُمْ
َت ْكفُرُونَ ()30
هم -إذن -قد خافوا وارتبكوا وطلبوا العودة للحياة الدنيا؛ لن ما شاهدوه هول كبير ،فما بالك
إذا وقفوا على ال؟ إنه موقف مرعب .وإذا كان الحق قد حذف من قبل الجواب عندما أوقفهم على
النار؛ فالولى هنا أن يحذف الجواب ،حتى يترك للخيال أن يذهب مذاهب شتى ..إنه ارتقاء في
الهول.
حقّ } إنهم يفاجأون بوجود إله يقول لهم
وهكذا نرى التبكيت لهم في قول الحقَ { :ألَيْسَ هَـاذَا بِالْ َ
بعد أن يشهدوا البعث ويقفوا على النار { :أَلَيْسَ هَـاذَا بِا ْلحَقّ }؟ وسبحانه وتعالى ل يستفهم منهم
ولكنه يقرر ،وقد شاء أن يكون القرار منهم ،فيقولون " :بلى " لن المر ل يحتاج -إذن -إلى
مكابرة .و " بلى " حرف يجعل النفي إثباتا.
ويطرح الحق هذه المسألة بالنفي حتى ل يظن ظان أن هناك تلقينا للجواب .ويصدر حكم الحق{ :
فَذُوقُواْ العَذَابَ ِبمَا كُنتُمْ َت ْكفُرُونَ } وهكذا يذوقون العذاب الذي كانوا به يكذبون .وذوْق العذاب
ليس من صفة القهر والجبروت؛ لن ال ل يظلم مثقال ذرة ،ولكن بسبب أنهم قدموا ما يوجب أن
يعذبوا عليه.
ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك { :قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ} ...
()812 /
قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِِلقَاءِ اللّهِ حَتّى ِإذَا جَاءَ ْتهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرّطْنَا فِيهَا
ظهُورِ ِهمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ()31
حمِلُونَ َأوْزَارَهُمْ عَلَى ُ
وَهُمْ َي ْ
إن كل رأس مال يحتاج إلى عمل يزيده ،لكن أن يكون العمل قد أضاع المال ،فهذا يعني الخسارة
مرتين :مرة لن رأس المال لم يبق عند حده بل إنه قد فنى وذهب وضاع ،وثانية لن هناك جهدا
من النسان قد ضاع وأضاع معه رأس المال.
إذن فقد خسر الذين كذبوا بلقاء ال؛ لنهم باعوا الجل الطويل العمر بالعاجل القصير العمر .وكل
إنسان منا يريد أن يثمّر عمله ويحاول أن يعطي قليلً ليأخذ كثيرا.
وعلى سبيل المثال نجد الفلح يقتطع مقدار كيلتين من أرادب القمح التي في مخزنه ليبذرها في
الرض بعد أن تُحرث .وهذا يعني النقص القليل في مخزن هذا الفلح ،ولكنه نقص لزيادة قادمة؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فعندما وضع البذور في الرض المحروثة نجد الحق سبحانه وتعالى ينبتها له أضعافا مضاعفة.
والفلح بذلك يبيع العاجل القليل من أجل أن يأخذ الجل الكبير.
وهذه أصول حركة العاقل الذي يزن خطواته ،فإن أراد أن يزيد الثمار من حركته ،فعليه أن يبذل
الجهد .أما إن كانت الحركة ل تأتي له إل بالقليل فلن يتحرك .ولن العاقل ل يحب الخسارة نجده
يوازن دائما ويقارن بين ما يبذله من جهد والعائد الذي سيأتي إليه .أما الذين كفروا بلقاء ال فهم
قد خسروا أنفسهم ،لنهم لم يوازنوا بين حياتين :حياة مظنونة ،وحياة متيقنة؛ لن مدة حياتنا الدنيا
مظنونة غير متيقنة.
إننا ل نعرف كم ستحيا فيها؛ فمتوسط عمر النسان على الرض هو سبعون عاما على سبيل
المثال ،ولكن أحدا ل يعرف كم عمره في الدنيا بالضبط ،وله أجل محدود .إنه فان وذاهب وميّت،
ولكن حياة الخرة متيقنة ل أجل لها ،إنها دائمة ،ونعلم أن نعيم الدنيا بالنسبة للنسان هو على قدر
السباب الموجودة لديه ،أما نعيم الخرة فهو على قدر طلقة قدره المسبب وهو ال ،وعلى هذا
تكون خسارة الذين كفروا كبيرة وفادحة ودامية؛ لنهم لم يتاجروا مع ال { .قَدْ خَسِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ
بِِلقَآءِ اللّهِ حَتّىا ِإذَا جَآءَ ْتهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً قَالُواْ ياحَسْرَتَنَا عَلَىا مَا فَرّطْنَا فِيهَا } [النعام.]31 :
ونعلم أن " حتى " هي جسر بين أمرين؛ فالمر الذي نريد أن نصل إليه هو غاية ،كقول إنسان
ما " :سرت حتى وصلت المنزل " ،والمنزل هنا هو غاية السير.
والذين كفروا ،كان كفرهم وتكذيبهم موصلً إلى الخسران ،فمجيء الساعة بغتة ليس هو نهاية
المطاف ،ولكنه وصول إلى أول الخسران؛ لن خسرانهم ل ينتهي من فور مجيء الساعة ،ولكنه
يبدأ لحظة مفاجأة الساعة لهم .فهم يفاجأون بوقوع ما كانوا يكذبون به .ويعلمون جيدا أن ما
صنعوه في الدنيا ل يستوجب إل العذاب.
وهنا تبدأ الحسرة التي ل يقدرون على كتمانها ،ولذلك يقولون } :ياحَسْرَتَنَا عَلَىا مَا فَرّطْنَا فِيهَا
{ ..أي على تفريطنا وإسرافنا في أمرنا وذلك في أثناء وجودنا في الدنيا .وبذلك نعرف أن عدم
التفريط في الدنيا والخذ بالسباب فيها أمر غير مذموم ،ولكن التفريط في أثناء الحياة الدنيا هو
المر المذموم؛ لنه إضاعة للوقت وإفساد في الرض.
إنني أقول ذلك حتى ل يفهم أحد أن الستمتاع في الدنيا أمر مذموم في حد ذاته ،وحتى ل يفهم
أحد أن الخرة هي موضوع الدين؛ لن الدنيا هي موضوع الدين أيضا ،والجزاء في الخرة إنما
يكون على ألوان السلوك المختلفة في الدنيا؛ فمن يحسن السلوك في الدنيا ينال ثواب الخرة ومن
يسيء ينال عقاب الخرة .ولذلك ل يصح على الطلق أن نقارن الدين بالدنيا.
إن علينا أن نعلم خطأ الذين يقولون " :دين ودنيا " فالدين ليس مقابلً للدنيا .بل الدنيا هي موضوع
الدين .أقول ذلك ردا على من يظنون أن سبب ارتقاء بعض البلد في زماننا هو أن أصحابها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أهملوا الدين وفتنوا بما في الدنيا من لذة ومتعة فعملوا على بناء الحضارات.
نقول :إن القبال على الدين بروح من الفهم هو الذي يبني الحضارات ويُثاب المصلح في الدنيا
يوم الجزاء ،ولنا أن نعرف أن المقابل للدنيا هو الخرة ،والدين يشملهما معا؛ يشمل الدنيا
موضوعا ،والخرة جزاءً .والذين يفتنون بالدنيا ول يؤمنون بالخرة هم الذين يقولون يوم القيامة:
ظهُورِهِمْ { .والوزار المعنوية في
حمِلُونَ َأوْزَارَهُمْ عَلَىا ُ
} ياحَسْرَتَنَا عَلَىا مَا فَرّطْنَا فِيهَا وَهُمْ َي ْ
الدنيا -وهي الذنوب -ستتجسم بحسيات وذلك حتى تكون الفضيحة علنية؛ فمن سرق غنمه
يُبعث يوم القيامة وهو يحملها على ظهره ،ومن سرق بقرة يُبعث يوم القيامة وهو يحملها على
كتفه وهي تخور ،وكذلك من سرق طنا من حديد عمارة سيُبعث يوم القيامة وهو يحمله على
ظهره ،وكذلك يفضحه ال يوم القيامة.
وهذا يكون موقف أهل النار؛ لذلك يقولَ } :ألَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ { ونعلم أنهم ل يحملون أوزارا فقط
بل يحملون من أوزار الذين اتخذهم قدوة له ،فهذا وزر الضلل ويعرفون -جميعا أن حمل
الوزر يتجسد في الحساس بعبئه؛ فقد قادتهم هذه الوزار إلى الجحيم ،ونعلم أن نتيجة كل عمل
هي الهدف منه ،فمن عمل صالحا سيجد صلح عمله ،ومن أساء فسيجد عمله السيء.
إننا نرى المثلة العملية لذلك في حياتنا اليومية؛ فهذان شقيقان يعملن بالزراعة ،وكل منهما يملك
فدانين من الرض مثلً :الول منهما يقوم مع طلوع الفجر ليعتني بأرضه ويحرثها ويحمل إليها
السباخ ويعتني بمواقيت الري ويسعى إلى يوم الحصاد بجد واهتمام .والخر يسهر الليل أمام
شاشة التليفزيون ،ول يقوم من النوم إل في منتصف النهار ،ول يخدم أرضه إل بأقل القليل من
الجهد.
ثم يأتي يوم الحصاد فينال الول ناتج تعبه من محصول وفير ،وينال الخر محصولً قليلً
بالضافة إلى الحسرة التي يتجرعها بسبب إهماله وكسله .إذن فالعاقل هو من يدرس ما تعطيه
حركته في الحياة .ويختار نوعية الحركة في الحياة بما يضمن له سعادة الدنيا والخرة ،واطمئنان
النفس في الدنيا والخرة.
إن من ينام ول يذهب إلى عمله هو إنسان يحب نفسه ،ومن قام في بكرة الفجر إلى عمله يحب
نفسه أيضا ،ولكنّ هناك فارقا بين حب أحمق عقباه الندم ،وحب أعمق لمعنى الحياة وعقباه الجزاء
الوافر.
ب وََل ْهوٌ{ ...
والحق سبحانه وتعالى يقول لناَ } :ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ِع ٌ
()813 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ب وََل ْهوٌ وَلَلدّارُ الَْآخِ َرةُ خَيْرٌ لِلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَا َتعْقِلُونَ ()32
َومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا َل ِع ٌ
هكذا تكون الحياة بالنسبة لمن يقف عند وصفها على أساس أنها " الحياة الدنيا " إنها ل تزيد على
كونها لهوا ولعبا .واللعب -كما نعلم -هو مزاولة حدث ونقضه في آن واحد ،والمثال على ذلك
الطفل على شاطئ البحر قد يقيم بيتا من الرمال ثم يهدمه ،إنه لم يقم ببناء بيت من الرمال إل
ليهدمه .واللعب عملية يُقصد بها قتل وقت في عمل قد يُنقض ،فالبناء والنقض في هذه الحالة لعب
ول يشغل اللعبُ النسان عن الواجب .أما اللهو فهو قتل الوقت في عمل قد ينقض ويشغل النسان
عن الواجب أيضا.
والطفل الصغير -على سبيل المثال -يتلقى من والديه بعض اللعب ليقضي وقته معها وقد
يخربها ويهدمها وقد يعيد بناءها .ولعب الطفل هو لهو في الوقت نفسه؛ لن الطفل غير مكلف
بواجب .وما أن يدخل إلى المدرسة وتصير له بعض من المسئوليات نجد السرة تعلمه أن يفرق
بين وقت أداء مسئولياته ووقت اللعب؛ لنه إن لعب في وقت أداء المسئوليات صار لعبه لهوا؛
شغَله عن أداء مسئولية مطلوبة منه.
لنه َ
وكذلك الحياة الدنيا مجردة من منهج ال الذي خلقها وخلق النسان فيها هي لهو ولعب ،إما إن
أخذ النسان الحياة بمواصفات من خلقها فهي حياة منتجة للخير في الدنيا وفي الخرة .والذي خق
الحياة الدنيا جعلها بالنسبة لنا مزرعة للخرة .والمؤمن -إذن -له حياتان :حياة صلح في
الدنيا ،وحياة نعيم في الخرة؛ لنه يعيش الحياة الدنيا على مراد من خلقه.
ومن العجيب أن من خلقنا لم يكلفنا إل بعد أن يصل النسان منا إلى البلوغ ،أي أن يكون النسان
صالحا لنجاب إنسان مثله إن تزوج .ويأتي التكليف متناسبا مع النضج وعند تمام العقل .وسمح
الحق لنا أن نلعب في سنوات ما قبل النضج ،ولكن ل بد أن يكون مثل هذا اللعب تحت إشراف
من الكبار حتى يمكن للعب أن يتحول إلى دُرْبة تفيدنا في مجالت الحياة ،ويجلعنا نعرف كيف
وصلنا في العصر الحديث إلى درجة من التقدم في صناعة اللعب التي يتعلم منها الطفل ،ويمكن
أن يقوم بتفكيكها وإعادة تركيبها ،وحتى الكبار نجدهم في زماننا يتعلمون قيادة السيارات في
حجرات مغلقة وأمامهم شاشة تليفزيون ،وكأنهم في طريق حقيقي وفي شارع مزدحم بالسيارات،
ومن يتقن هذا التدريب العملي يخرج إلى قيادة السيارة.
وهكذا نجد أن التدريب مفيد للنسان ،يعلم الصغار اللعب الذي ينفعهم عندما يكبرون ،وكذلك يفيد
التدريب الكبار أيضا.
وعندما أوصانا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن نعلم أبناءنا ركوب الخيل والسباحة والرماية،
كانت الخيل -في زمن الرسالة -هي إحدى السلحة المهمة ليركبها الداعون إلى ال المجاهدون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في سبيله.
وحين طلب منا أن نعلم البناء السباحة فهذا بناء للجسم والقوة يفيد الشاب ويعلمه مواجهة
الصعاب ،وحين طلب منا أن نعلم البناء الرماية فذلك لن تحديد الهدف ماديا أو معنويا ومعرفة
الوصول إليه أمر مطلوب من كل شاب .وكل هذه ألعاب ولكنها ليست لهوا ،إنها ألعاب ممتعة
ويمكن أن تستمر مع النسان بعد أن يكلف .قال عليه الصلة والسلم " :علموا أبناءكم السباحة
والرماية " .فماذا عن ألعاب عصرنا وزماننا؟
إننا نجد أن لعبة كرة القدم قد أخذت اهتمام الرجال والنساء والكبار والصغار ،وهي لعبة ل تعلم
أحدا شيئا ،لنها لعبة لذات اللعب ،وهي لعبة تعتدي على وقت معظم الناس ،وأخذت تلك اللعبة
كل قوانين المور الجادّة .فهي تبدأ في زمان محدد ،ويذهب المشاهدون إليها قبل الموعد
بساعتين ،وتجند لها الدولة من قوات المن أعدادا كافية للمحافظة على النظام مع أنها من اللهو
ول فائدة منها للمشاهد .وقد تمنع وتحول و ُتعَطّل البعض عن عمله والبعض الخر عن صلته.
يحدث كل ذلك بينما نجد أن بعضا من ميادين الجد بل قانون.
وأقول ذلك حتى يُفيق الناس ويعرفوا أن هذه اللعبة لن تفيدهم في شيء ما .وأقول هذا الرأي
وأطلب من كل رب أسرة أن يُحكم السيطرة على أهله ،وينصحهم بهدوء ووعي حتى ينتبه كل
فرد في السرة إلى مسئولياته ولنعرف أنها لون من اللهو ،ونأخذ الكثير من وقت العمل وواجبات
ومسئوليات الحياة ،حتى ل نشكو ونتعب من قلة النتاج.
إن على الدولة أن تلتفت إلى مثل هذه المسائل ،ولنأخذ كل أمر بقدره ،فل يصح أن ننقل الجد إلى
قوانين اللعب ،ولكن ليكن للجد قانونه ،وللعب وقته وأل ننقل اللعب إلى دائرة اللهو؛ لن معنى
اللهو هو أن ننصرف إلى عمل ل هدف له ول فائدة منه .وإن نظرنا إلى الحياة مجردة من منهج
ال فهي لعب ولهو.
ونلتفت هنا إلى دقة الحق حين جاء باللعب أولً ثم اللهو من بعد ذلك ،ثم يقول } :وَلَلدّارُ الخِ َرةُ {
وفي هذا لفت واضح إلى أن النسان حين ينعزل عن منهج الحق في الحياة تفاجئه الحداث
بالنتقال المفاجيء إلى جد واضح؛ لذلك فلنأخذ الحياة في ضوء منهج ال؛ لنه سبحانه حين أبلغنا
أنه خلق النسان من طين ،وصوره ونفخ فيه من روحه فقد أعطاه الحق بذلك حياة أولى ،يشترك
فيها المؤمن والكافر ،والطائع والعاصي وكل إنسان إلى الغاية منها وهي الحياة الثانية وهي الدار
الخرة فإنها الحياة الكاملة الباقية ،ونسمع قول الحق سبحانه وتعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ
للّ ِه وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا يُحْيِيكُمْ }[النفال.]24 :
إن الحق سبحانه وتعالى يقدم لنا حياة عالية دائمة تخلف الحياة التي تنتهي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والذي يتوقف عن أخذ منهج ال في حياته يكتفي بمثل ما يَأخذ الحيوان من الحياة وهي النفخ في
الروح ،لكن الذي يأخذ بمنهج ال يأخذ الحياة العالية ..حياة الخير والجمال والصْلح والحسان.
ونعلم أن الجمال في الحياة هو الجمال الذي ل يورث قبحا .والخير الحقيقي هو الذي يعمم خير
ال على العباد ،فل يأخذ النسان الخير لنفسه ويترك شروره للخرين؛ لذلك أقول :ل تأخذ أيها
المسلم الخير لنفسك على حساب الشر للخرين؛ لنك ل تحب أن يحقق الخرون الخير على
حسابك ،والذي يحب أن ينطلق بشروره في الناس فليستقبل الشر من غيره .ومن يحب أن يأخذ
الخير من الناس فليعطهم من خيره حتى يبقى الوجود جميلً .إذن فالحياة بدون منهج ال تكون
قبيحة؛ لن القوي يعيث فيها فسادا بقوته وينزوي الضعيف إلى الحساس بالذلة والضياع.
لكن الحق سبحانه أراد الحياة للمؤمنين في ضوء منهجه ،وعندما يطبقون تكاليفه بـ " افعل " و "
ل تفعل " فهم يصونون الحياة من الفساد حسب أوامر الخالق العلى للحياة ،فهو سبحانه الذي
أوجدنا ووضع لنا قوانين صيانة الحياة .وحين منع مؤمنا واحدا من الشر ،فهو قد منع وحرم على
كل إنسان مؤمن من أن يصنع شرا لخيه ،وبذلك حمى النسان من الشر .وإنما خص ال
المؤمنين بالنداء والدعاء؛ لنهم أهل الستجابة والطاعة؛ أما ما عداهم من أهل الكفر والشرك فقد
تأبوا على ال وعصوه ولم يؤمنوا به .وحين يأمر ال المؤمن بالخير ،فهو يأمر المؤمنين جميعا
بأن يصنعوا الخير لهم ولغيرهم .وبذلك يكسبون حياة مطمئنة؛ لذلك يقول سبحانه } :اسْ َتجِيبُواْ للّهِ
وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ {.
فالذين ل يستجيبون ل ول لرسوله حين يدعوهم لما يحييهم يظلون في الحياة الدنيا غارقين في
اللهو واللعب ،إنهم كالموتى .وحتى نعرف أن الحق سبحانه أراد لنا -نحن المؤمنين -الحياة
العالية؛ إنه -سبحانه -قد سمى المنهج الذي يرسم لنا الوامر والنواهي بالروحَ } :وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ
إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا { .وسمى الحق سبحانه وتعالى بهذا المَلكَ الذي نزل بالوحي {:نَ َزلَ بِهِ
لمِينُ }[الشعراء.]193 :
حاَ
الرّو ُ
إذن فالحياة التي تعطي النسان الحس والحركة هي الحياة الولى التي يلعب ويلهو من خللها،
وليست هي الحياة المرادة ل؛ لن الحياة المرادة ل هي الحياة اليمانية ولذلك سماها الحق سبحانه
ب وََلهْ ٌو وَلَلدّارُ الخِ َرةُ
الحيوان أي الحياة الكاملة وسمى المنهج روحاَ } .ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ِع ٌ
خَيْرٌ لّلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَ َتعْقِلُونَ { [النعام.]32 :
إن مجرد التعقل يعطي النسان الخير ،والتعقل هو محاولة فهم نواميس الكون من السباب
والمسببات ،ونحن نرى نور الشمس يعمّ النهار ويشيع الضوء والدفء ،وغياب الشمس وظهور
القمر يحقق صفاء السكون ويهدي الناس في ظلمات البر والبحر ،وجَريان الماء يروي النسان
والزرع ،وحركة الرياح تحرك السحب وتقود السفن وتساعد في حركة الملحة في الجو والبحر
وتلقح النبات ،وكل ذلك أسباب أرادها ال حتى يتحقق التوازن في الكون.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والنسان يأخذ حظه من الحياة بالسباب التي عمل فيها ول يأخذ النسان من أسباب غيره.
صحيح أن هناك أناسا يعيشون بل أسباب ويأخذون تعب غيرهم ،ولكن عليهم أن يحذروا ال،
فإياك أيها المسلم أن تبني لحمك ولحم أولدك من استغللك لغيرك؛ ذلك أن أغيار الحياة ستمر
عليك وقد تصير قوتك إلى ضعف ،وتأمين النسان لضعفه إنما يكون بإخراج الزكاة للضعيف،
ومساعدته ومعاونته في كل ما يحتاج إليه ،ونجد غير المؤمنين وقد أخذوا فكرة التأمين من
الزكاة ،فأنت تدفع للفقير زكاتك لتؤمن نفسك كمؤمن ،وهم أخذوا هذه الفكرة ليحولوها إلى تأمين
على الحياة ،ولذلك تدخلوا في قدر ال.
لكن الحق أراد بالزكاة أن يطمئن المجتمع كله ل أن يطمئن من يؤمن على نفسه فقط .ونعلم أن
الذي يخيف النسان ويجعله يكدس المال ويجمعه ويكنزه هو الخوف من الضعف ،لكن لو أعطى
الغني بعضا من المال للفقير لشاع الطمئنان في نفسه ونفوس الضعفاء.
والذي يجعل الناس تلهث في الحياة للدخار لبنائها هو عدم اقتناعهم بالتكافل الجتماعي الذي
شرعه السلم .وهم يرون اليتيم وهو يضيع في المجتمع ،لكن لو آمن الناس في المجتمع بالتكافل
الجتماعي لوجد كل يتيم أبوة المجتمع كله له.
والنسان الذي يلهث وراء الكسب من أجل أن يؤمن مستقبل أولده قد يحول أولده إلى يتامى
لنه مشغول عن تربيتهم ،ولذلك يقول أمير الشعراء شوقي رحمة ال عليه:ليس اليتيم من انتهى
أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلإن اليتيم هو الذي تلقى له أمّا تخلت أو أبا مشغولإن على المجتمع
أن يأخذ قضية الخير من قول الحق سبحانه } :اسْ َتجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ {.
فكما أحيا الحق الجسام بالروح التي نفخها في القالب الطيني فصار لها حس وحركة ،فهو قد
أنزل المنهج أيضا روحا من عنده لترتقي به روح الحس والحركة ،حتى ل يصير النسان
كالنعام أو أضل سبيلًَ {:ومَا الْحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ِعبٌ وََلهْ ٌو وَلَلدّارُ الخِ َرةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَ
َت ْعقِلُونَ }[النعام.]32 :
والدار الخرة خير؛ لن الدنيا مهما طالت فهي منتهية ،لكن الحياة الخرة خلود أبدا ،ونعيمنا في
الدنيا نأخذه بالسباب ،ولكن نعيم الخرة نأخذه على قدر سعة ورحابة قدرة ال .وآفة الدنيا حتى
بالنسبة لهل النعيم والقوة والثراء هي الخوف من الفقر أو الموت ،لكن في الخرة ل يفوت أهل
الجنة النعيم ول يفوتون النعيم.
ويقول سبحانه بعد ذلك } :قَدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َنكَ{ ...
()814 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدُونَ ()33
ك وََلكِنّ الظّاِلمِينَ بِآَيَاتِ اللّهِ َيجْ َ
قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُمْ لَا ُيكَذّبُو َن َ
لقد شرح الحق حال الكفار وموقفهم في الخرة حين يقفون على النار ،ويقفون أمام ال ،ومن بعد
ذلك يوجه الحديث إلى الرسول صلى ال عليه وسلم الذي تقع عليه مشقة البلغ من ال لهؤلء
الكفار ،وكان الرسول صلى ال عليه وسلم حزينا لن قومه ل يذوقون حلوة اليمان ،وهو
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ
الرسول الذي قال عنه الحق سبحانه وتعالىَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة.]128 :
وكان صلى ال عليه وسلم يحرص على أن يكون كل الناس مؤمنين ،ويتألم لمقاومة بعض الناس
دعوة اليمان ،إنه صلى ال عليه وسلم كان حريصا على الكافر ليؤمن على الرغم من أن مهمة
الرسول هي البلغ فقط ،ولو شاء الحق أن يجعل الناس كلهم مؤمنين لنزل عليهم آية تجعلهم
سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
خعٌ ّنفْ َ
جميعا مؤمنينَ {:لعَّلكَ بَا ِ
ضعِينَ }[الشعراء.]4-3 :
أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ
لكن الحق سبحانه وتعالى ل يريد خضوع أعناق ،وإنما يريد خضوع قلوب .إنه -سبحانه -يريد
أن يأتي الناس طواعية واختيارا ليثبتوا الحب للخالق؛ لذلك يقول الحق لرسوله صلى ال عليه
وسلم { :قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ } وساعة نسمع " :قد " فلنعرف أن ما يأتي بعدها هو
أمر محقق ،ويأتي ذلك إذا دخلت على الفعل الماضي فهي في هذه الحالة تأتي لتسبق أمرا تحقق،
ومرة تأتي للتقليل أو للتكثير إذا دخلت على الفعل المضارع الذي يدل على الحال أو الستقبال،
فإذا كان العامل والمعمول بينهما ارتباط سبب ..فهذا للتكثير ،وإذا كان ظاهر المر غير مرتبط
ارتباطا واضحا ..فهذا للتقليل .والمثال على الرتباط الذي يدل على التكثير هو قول القائل :قد
ينجح المُجدّ؛ لن المجِ ّد والنجاح مرتبطان ارتباط سببية ،ولكن قد يكون هناك حادث مفاجئ لحد
المجدين فل يستطيع النجاح ،كأن يمرض يوم المتحان ،ولكن احتمال الصحة أكثر من احتمال
المرض فكانت للتكثير.
والمثال على مجيء " قد " للتقليل هو قول القائل :قد ينجح الكسول ،أي أن الكسول قد ينجح
بالمصادفة وبدون أسباب منطقية ،كأن يقرأ عددا من الدروس ليلة المتحان فيأتي فيها المتحان
فينجح ،إذن قـ " قد " إذا دخلت على الماضي تكون للتحقيق ،وإن دخلت على المضارع فهي
للتكثير إن كانت منطقية السباب ،وهي للتقليل إن كانت غير منطقية السباب .ولكن كلنا يعلم أن
علم ال هو علم أزلي ،ول قوة ول أمر يخرجان عن معلوم ال .إذن فـ " قد " هنا للتحقيق وهي
داخلة على الفعل المضارع ،فالحق أراد أن يبلغنا أنه علم أزلً بما حدث وجاء بـ " قد "
لنستحضر صورة الفعل:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َقدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ }.
والحزن هو خروج النفس من سياق انبساطها؛ فالنسان يكون في غاية الستقامة والسرور عندما
يكون كل جهاز من أجهزته يؤدي مهمته ،فإن حدث شيء يخل بعمل أحد الجهزة فذلك يورث
الحزن .أو يكون الحزن انفعال لمجيء وحصول أمر غير مطلوب للنفس.
لقد كان مطلب الرسول صلى ال عليه وسلم أن يؤمن كل الذين استمعوا إلى البلغ عنه ،لكن
البعض قاوم اليمان ،والبعض اتهم الرسول بالسحر أو الجنون أو قول الشعر ،وها هوذا الحق
يسلي رسوله فيقول } :قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ { أي إنك يا محمد ل بد لك أن تعلم أن
أقوالهم هذه ليست متعلقة بك؛ لنك -بإجماع الراء عندهم -أنت الصادق المين .وهم إنما
يكذّبون بآياتي التي أرسلتها معك إليهم؛ لن ماضيك معهم هو الصدق والمانة ،بدليل أن الكافر
منهم كان ل يأمن أحدا على شيء من أمواله ونفائسه إل رسول ال صلى ال عليه وسلم.
والنسان ل يغش نفسه فيما يخصه .فكأن ال يريد أن يتحمل عن رسوله؛ لن من يوجه إهانة
للرسول إنما يوجهها للمرسِل له وهو ال جلت قدرته.
ولذلك يقول الحق } :قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َنكَ وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ
حدُونَ { وسبحانه يبين لنا أن رسوله صلى ال عليه وسلم كان حريصا أشد ما يكون
اللّهِ َيجْ َ
الحرص على أن تستجيب أمته لداعي الحق ،حتى يتأكد لدى المؤمنين قول الحق سبحانه وتعالى
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ
في رسولهَ {:لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
رّحِيمٌ }[التوبة.]128 :
ول معنى للحرص إل أن رسول ال صلى ال عليه وسلم يحب إل يفلت أحد من قومه عن منهجه
وعن دينه .ولكن الحق سبحانه وتعالى جعل أمر الدين اختياريا حتى يعلم من يجيء له طواعية
ويقدر أل يجيء ،ومن ل يجيء وهو قادر أن يجيء.
إن الحق سبحانه وتعالى له سنن كونية في الكون يجريها على كل الخلق .وقد يتساءل قائل :وما
الذي يجعل الحق سبحانه وتعالى يترك للكفر به مجالً في دنياه؟ ولماذا يجعل الحق سبحانه
وتعالى للشر مجالً في دنياه أل يحكمها بهندسة حكيمة؟ ونقول :لو لم يوجد للشر مضار ُتفْزّع
الناسَ لما عرفوا للحق حلوة .إذن فوجود الشر ،ووجود الكفر ،وآثار الكفر في الناس جبروتا
وقهرا واستذللً ينادي في الناس أنه ل بد من اليمان ،وأنه ل بد من وجود الخير .فلو لم يكن
للشر مكان في الكون فما الذي يلفت الناس إلى الخير؟ ولذلك تجد أن هبات اليمان عند المؤمنين
ل تأخذ فتوتها إل حين تجد قوما من خصوم اليمان يهيجون المؤمنين ويؤذونهم ويستفزونهم.
أما إذا صارت الدنيا إلى رتابة فربما فتر أمر السلم في نفوس المسلمين .ولذلك نجد المؤمنين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بال في غيرة دائمة؛ لن هناك من يكفر بال .فيقول لرسوله } :قَدْ َنعَْلمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ {
وكأنه سبحانه يبلغنا أنه أراد كونه ليكون فيه المؤمن والكافر.
لذلك إن تساءلت -أيها المسلم -كيف يكون في الرض كافرون؟ فلك أن تعلم أنهم من خلق ال
أرادهم الحق أن يختاروا الكفر فلم يختاروا الكفر قهرا عنه -سبحانه -وكان سيدنا رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،يحزن لن هناك أناسا لم يؤمنوا ،فيسليه الحق سبحانه وتعالى ،بأنه يعلم أنه
يحزنه الذي يقولون من الكفر ومن اتهامات لرسول ال .ألم يقولوا إنه ساحر؟ ألم يقولوا إنه
مجنون؟ ألم يقولوا إنه كاذب؟ ألم يقولوا إنه كاهن؟ ألم يقولوا إنه شاعر؟ وسبحانه وتعالى يعلم ما
قالوا ويعلم أن هذه القوال تحزن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ويريد الحق سبحانه أن يرفع
ويدفع هذا الحزن عن رسول ال صلى ال عليه وسلم فيبلغه أنهم ل يكذبونك يا رسول ال؛ فأنت
تعرف منزلتك عندهم وهي منزلة الصادق المين ،ول يجرؤ أحد على تكذيبك ولكنهم يجحدون
بآيات ال .وهل هناك تسلية أكثر من ذلك .ل يمكن أن توجد تسلية أكثر من ذلك.
ونعلم أن ما قاله أهل الشرك عن رسول ال هو قول مردود ،فهم أمة البلغة والفصاحة والبيان،
فكيف يقولون إن القرآن شعر وهم أصحاب الدراية بالساليب مرسلها ،ومسجوعها ،ونظمها،
ونثرها؟
أمن المعقول أن يلتبس عليهم أسلوب القرآن بالشعر؟ ومن المؤكد أن هذا غير ممكن .ولقد قالوا
عن النبي صلى ال عليه وسلم :إنه ساحر ،فكيف سحر الذين آمنوا به ولم يسحر الباقين؟ ولو كان
ساحرا لسحرهم أيضا ،وبقاؤهم على الكفر ينقض هذا .وقالوا كاذب ،فهم بقولهم هذا يكذّبُون
أنفسهم لنهم يعرفون عنه أنه الصادق المين ،وها هوذا الحوار بين الخنس بن شريق وأبي
جهل.
قال الخنس :يا أبا الحكم ،ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال أبو جهل :ماذا سمعت! وهنا
نسمع قول الغيرة والحسد والبغض ،نسمع عن تلك المور البعيدة عن موضوع الرسالة النورانية
المحمدية فيقول أبو جهل :تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ،أطعموا فأطعمنا ،وحملوا فحملنا،
وأعطوْ ا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبيّ يأتيه الوحي من
السماء فمتى ندرك مثل هذا! وال ل نؤمن به أبدا ول نصدقه .فقام الخنس وتركه .إذن هي
ح َمتَ
سمُونَ رَ ْ
مسألة غيرة غاضبة على مناصب وسلطة زمنية ،ولذلك يرد ال عليهم قائلً {:أَ ُهمْ َيقْ ِ
ضهُم
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ َب ْع ُ
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
رَ ّبكَ نَحْنُ َق َ
ج َمعُونَ }
ح َمتُ رَ ّبكَ خَيْرٌ ّممّا يَ ْ
َبعْضا سُخْرِيّا وَ َر ْ
[الزخرف.]32 :
وها هو ذا الحق يسلي رسوله صلى ال عليه وسلم ويقول لهَ } :قدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَيَحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جحَدُونَ { [النعام.]33 :
ك وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَ ْ
فَإِ ّنهُ ْم لَ ُيكَذّبُو َن َ
إنهم ظالمون ،لن الظلم نقل حق إلى غير مستحقه .وأبشع أنواع الظلم هو الشرك؛ لن الحق
سبحانه وتعالى هو المستحق وحده للعبادة ،والظلم الخف وطأة هو أن ينقل النسان حقا مكتسبا
أو موهوبا إلى غير صاحبه وهذا ظلم موجود بين الناس .وقد نقل المشركون حق الذات اللهية
إلى غير مستحقها من أوثان وأصنام ،أما المؤمنون فهم الذين اعترفوا بحق الذات اللهية في
العبادة.
وهناك نوع آخر من الظلم أريد أن أتحدث عنه ،وهو أن يظلم النسان اسمه ،كأن يكون والده قد
سماه " مهديا " ولكنه يمل الدنيا فسادا بإيذاء نفسه وبإيذاء الخرين .نقول لمثل هذا النسان :إن
الواجب يقتضي منك أن تحترم أمل والدك فيك ،فل تظلم اسمك " مهديا " ولتكن هناك عدالة بين
السم والمسمى وذلك بأن يكون سلوكك متوافقا مع السم الذي سماك به أبوك.
أما إن كان أبوه قد سماه " مهديا " ولم يلقنه أي شيء من تعاليم الهدى والدين ،ثم خرج الشاب إلى
الدنيا ليملها بالشقاء لنفسه ولغيره ثم اهتدى من بعد ذلك فهذا شاب استطاع أن يتعلم الهداية
فصار اسمه على مسماه.
وقد كنا في الثلثينيات من هذا القرن نسمع التحذيرات ونحن نزور القاهرة " :إياكم أن تطأوا
بأقدامكم شارع عماد الدين لن كل الموبقات في هذا الشارع " .وتعجبت أن يكون اسم الشارع "
عماد الدين " ويكون مكانا للموبقات فقلت في ذلك:وأقبح الظلم بعد الشرك منزلة أن َيظْلم اسما
مُس ّمىً ضده جُبِلفشارع كعماد الدين تسميةً لكنه لعناد الدين قد جُعلوفي الحياة كثير من حالت
السماء يظلمها أصحابها .ولكن أكبر وأقبح درجات الظلم هو الشرك بال } وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ
حدُونَ { والجحد هو إباء اللسان وترفعه وعدم رضاه بأن ينطق بكلمة الحق ،فلو أن
بِآيَاتِ اللّهِ َيجْ َ
المشركين خلوْا إلى أنفسهم واستعرضوا مسائل محمد ومسائل الرسالة لوجدوا أن قلوبهم مقتنعة
بأنه صادق وأنه رسول وأن المنهج إنما جاء للهداية .لكن ألسنتهم غير قادرة على العتراف
بذلك.
ولذلك يأمر المنهج اليماني أن على الواحد منا إن أراد أن يناقش قضية أهي حق أم باطل فل
يصح أن نناقشها في حشد من الناس ،ولكن فلنناقشها أولً في نفوسنا لنتبين الحق فيها من
ظكُمْ ِبوَاحِ َدةٍ أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ
عُالضلل ،ولذلك يقول الحق سبحانهُ {:قلْ إِ ّنمَآ أَ ِ
تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن جِنّةٍ }[سبأ.]46 :
كأن الحق يهدينا إلى كيفية التمييز ،فإما أن نناقش أنفسنا ،وإما أن يتناقش اثنان حتى يمكن أن
يقتنع أحدهما برأي الخر دون أن يشهد ثالث هزيمته فيكابر ويجادل.
وقد نصح الحق بذلك هؤلء الذين اتهموا رسول ال أن به -والعياذ بال -مسّا من الجنون؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالجنون هو أن تحدث الفعال بل مقدمات وبدون تدبر أو نظر في آثارها وتكون خالية من حكمة
فاعلها .أما العاقل فهو الذي يرتب الفعال بحكمة ويوازن ويدرس وينتهي به عقله وحكمته إلى
حسن ما يفعل ويعامل الناس بانسجام وسوية خلقية عالية ،فهل أحد من المشركين أخذ على رسول
ال صلى ال عليه وسلم أي سلوك يمكن أن يشير إلى عدم ترتيب الفعال؟ ل.
ك لَجْرا غَيْرَ
ولذلك يقول الحق {:ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا َيسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِب َمجْنُونٍ * وَإِنّ َل َ
عظِيمٍ }[القلم.]4-1 :
َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ َلعَلَىا خُلُقٍ َ
إن الخلُق العظيم يتنافى مع الجنون ،وكذلك فعل كل قوم مع رسولهم ،إنّهم ر َموْه بالسفه والجنون.
فكلما جاء رسول لقومه بمنهج حق ليطمس معالم الباطل قابله قومه بمثل تلك المقابلة .ونعرف أن
السماء ل تتدخل بالنبوات والمعجزات إل حين يطم الفساد وتنطمس النفس المؤمنة .فالمؤمن فيه
خميرة الخير فيندفع إلى فعل الخير .وإن حدثته نفسه بفعل معصية و َفعَلَها ،فإن نفسه اللوامة تؤنبه
على ذلك ،لكن إن انطمست نفسه ولم تعد تلوم ،صارت نفسه المارة بالسوء هي المسيطرة وإن
لم يجد من يقول له في المجتمع :ل تفعل ذلك ..فالمجتمع كله يكون قد فسد } .كَانُو ْا لَ يَتَنَا َهوْنَ
عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ {.
إذن السماء ل تتدخل برسالة أو معجزة أو منهج إل حين يطم الفساد .وما دام قد طم الفساد فهناك
من يستفيد من هذا الفساد .وحين يأتي الرسول من أجل أن يمنع الفساد فهذا الرسول يمنع عن
المفسدين استغلل الناس ويحول بينهم وبين الستفادة من الفساد .ولذلك كان لكل رسول مقاومة
من المفسدين وكانوا يقولونَ {:ومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ ُهمْ أَرَاذِلُنَا بَا ِديَ الرّ ْأيِ }[هود.]27 :
وأتباع كل رسول هم المظلومون الذين يحتاجون إلى منقذ .أما الجبابرة فهم يخاصمون الرسول
ويقاومونه ،ويستقبله هؤلء الجبابرة بإيذاء يتناسب مع مهمته .فإن كانت مهمته لقبيلة فاليذاء يأتيه
من هذه القبيلة .وإن كانت مهمته أوسع من ذلك فإنه يلقى من صنوف العذاب ألوانا.
وما دام محمد صلى ال عليه وسلم رسولً إلى الناس كافة فعليه أن يجد المتاعب الكثيرة
ويتحملها .وقد أعده ال وهيأه لذلك ،وقد أخذ الرسل السابقون من اليذاء على قدر دعوتهم .أما
رسول ال صلى ال عليه وسلم فهو للناس كافة ،ول رسالة من بعده ،لذلك يتجمع ضد هذا
الرسول وهذه الرسالة أقوام كثيرون.
سلٌ مّن قَبِْلكَ{ ...
ولذلك يقول له الحق سبحانه } :وَلَقَدْ كُذّ َبتْ رُ ُ
()815 /
سلٌ مِنْ قَبِْلكَ َفصَبَرُوا عَلَى مَا كُذّبُوا وَأُوذُوا حَتّى أَتَاهُمْ َنصْرُنَا وَلَا مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِ اللّهِ
وَلَقَدْ كُذّ َبتْ رُ ُ
وَلَقَدْ جَا َءكَ مِنْ نَبَإِ ا ْلمُرْسَلِينَ ()34
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا كان الرسل الذين سبقوك قد ُكذّبوا وصبروا على ذلك ،وهم رسل لقومهم أو لمة خاصة،
ولزمان خاص ،فماذا عنك يا خاتم الرسل وأنت للناس كافة وللزمان عامة؟ إن عليك أن تتحمل
هذا؛ لن الحق سبحانه وتعالى قد اختارك لهذه المهمة وهو العليم أنك أهل لها .والحق كفيل
بنصر رسله فل يتأتى أن يترك الشر أو الباطل ليغلب الرسل ،وما دام سبحانه وتعالى قد بعث
الرسول فل بد أن ينصره .فهو القائل {:وَلَقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّن ُهمْ َلهُمُ
ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173-171 :
وما دامت قد سبقت كلمة ال للرسل فل مبدل لكلمات ال ،ول أحد بقادر على أن يعدّل في
المبادئ التي وضعها ال بقوله سبحانه وتعالىَ { :ولَ مُبَ ّدلَ ِلكَِلمَاتِ اللّ ِه وَلَقدْ جَآ َءكَ مِن نّبَإِ
ا ْلمُرْسَلِينَ } [النعام.]34 :
وقد قص الحق سبحانه على رسوله قصص المرسلين ،ولم يكتف بالقول لرسوله أن الرسل
السابقين عليه قد كذبتهم أقوامهم ،ولكن أورد الحق لرسوله ما حدث لكل رسول ممن جاء ذكرهم
بالقرآن الكريم وماذا حدث للرسول -أي رسول -من ثبات أمام العداء ،ثم بيّن أن كلمة الحق
صصْنَا عَلَ ْيكَ َومِنْهُمْ
قد انتصرت دائما .وقد روى الحق بعضا من قصص الرسل فقال {:مِ ْنهُم مّن َق َ
صصْ عَلَ ْيكَ }[غافر.]78 :
مّن لّمْ َن ْق ُ
ضهُمْ} ...
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى { :وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَ ْيكَ إِعْرَا ُ
()816 /
إنك يا محمد رسول من عند ال ،ومعك منهج هو معجزتك الدالة على صدق ما جئت به ،فإن
كبر عليك إعراضهم وعظم عليك أن يتولوا ويعرضوا عنك فإن استطعت أن تصنع لنفسك نفقا في
الرض لتأتيهم بآية أو أن تبني سلما لتصعد به إلى السماء طلبا لهذه الية فافعل ،ولكنك لن
تستطيع ذلك لن ذلك فوق حدود قدرتك وسيلقى المشركون والمنافقون العذاب لنك جئت يا
رسول ال تبدد من صولجان سلطتهم الزمنية وتقيم العدل اليماني .ولذلك حاولوا السخرية منك
وإيذاءك.
وقد طلب الكافرون من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ينزل إلى الرض ليفجر لهم منها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ينبوعا ،وطلبوا إليه أن يصعد إلى السماء وأن يجعلها تسقط عليهم كسفا وقطعا لتهلكهم .وهذه
أشياء لم تكن في مكنة واستطاعة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولذلك يقول له الحق سبحانه
وتعالى ما يقفل عليه أبواب الحزن ويقضي على أسباب السى والسف عنده بسبب إعراضهم،
وأن يعرف أن السخرية والمقاومة هي مسألة طبيعية بالنسبة لكل رسول من الرسل ،وأنت يا
رسول ال أولى بهذا لن مهمتك أضخم من كل الرسل .ونلحظ أن الحق سبحانه يحذف هنا جواب
سمَآءِ فَتَأْتِ َيهُمْ بِآيَةٍ }
ط ْعتَ أَن تَبْ َت ِغيَ َنفَقا فِي الَ ْرضِ َأوْ سُلّما فِي ال ّ
" إن " فهو يقول { :فَإِن اسْتَ َ
[النعام.]35 :
ولم يقل الحق :فافعل ذلك ،كأن المسألة هي تهدئة للرسول؛ لن الجواب في مثل هذه الحالة
معلوم؛ فالرسول ل يجبر أحدا على اليمان .وإعراض هؤلء القوم أمر مقصود لواجب الوجود
حتى يختبرهم ولو أراد قهرهم لفعل ،فل أحد يتأبى على ال ،فالكون كله مطيع ل ،الشمس،
والقمر ،والنجوم ،والهواء ،والماء ،والجبال ،والرض ،وكل ما في الكون مطيع ل بما في ذلك
الحيوان المسخر لخدمة النسان .ولكنه -سبحانه -أعطى الختيار للنسان ليأتي إلى ال محبا.
ونعلم أن الحق قد ترك بعضا من المسخرات غير مذللة ليثبت للنسان إنه لم يذلل الشياء بحيلته،
ولكنه -جل شأنه -هو الذي خلقها وذللها له؛ لذلك نرى الجمل الضخم يجره طفل صغير،
ونرى أي رجل مهما تكن قوته يأخذ الحذر والحتياط من ثعبان صغيرَ {.أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا خََلقْنَا َلهُم
عمَِلتْ أَ ْيدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ َفمِ ْنهَا َركُو ُبهُ ْم َومِ ْنهَا يَ ْأكُلُونَ }[يس-71 :
ِممّا َ
.]72
ولو لم يذللها ال فلن يستطيع أحد أن يقترب منها .وأضرب هذا المثل دائما ،عندما قال قائل :لماذا
خلق ال الذباب ،فقال رجل من أهل الشراق :ليذل به الجبابرة؛ فسلطانهم ل يمتد إلى هذه
الحشرات .لقد أعطى الحق النسان عزّة السيادة ،وعلمه أيضا أن يتواضع للخالق.
ج َم َعهُمْ عَلَى ا ْلهُدَىا فَلَ َتكُونَنّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }
ويبلغ الحق سبحانه وتعالى رسوله { :وََلوْ شَآءَ اللّهُ َل َ
[النعام.]35 :
أي أنه سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم مؤمنين .وقد يقول قائل :كيف يخاطب ال رسوله فيقول
له { :فَلَ َتكُونَنّ مِنَ الْجَاهِلِينَ }؟ ونقول :إن الحق حين يقول لرسوله ذلك فهو يقولها ل من مظنة
أن يفعلها الرسول؛ فالرسول معصوم من الجهل ،ولكن هو قول فيه تنزيه للرسول عن أن يكون
في مثل هذا الصنف من الجاهلين.
س َمعُونَ} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :إِ ّنمَا َيسْتَجِيبُ الّذِينَ يَ ْ
()817 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعُونَ ()36
ن وَا ْل َموْتَى يَ ْبعَ ُثهُمُ اللّهُ ُثمّ إِلَيْهِ يُ ْر َ
س َمعُو َ
إِ ّنمَا يَسْ َتجِيبُ الّذِينَ َي ْ
و " يستجيب " معناها أنهم يطيعون أمر المر ونهي الناهي .وهناك فارق بين " الستجابة " و "
الجابة "؛ فـ " الستجابة " هي :أن يجيبك من طلبت منه إلى ما طلبت ويحققه لك ،و " الجابة "
هي :أن يجيبك من سألت ولو بالرفض لما تقول ،وقد يكون الجواب ضد مطلوب ما سألت.
س َمعُونَ } أي أن الذين يستجيبون لنداء الحق هم الذين
ويقول الحق { :إِ ّنمَا َيسْتَجِيبُ الّذِينَ يَ ْ
يسمعون بآذانهم وقلوبهم مصدقة؛ لن هناك فارقا بين سماع ظاهره سماع وباطنه انصراف ،وبين
سماع ظاهره طاعة وباطنه محبة لهذه الطاعة .ونعلم أن استقبال المسموع شيء ،وانفعال النسان
بالمسموع شيء آخر.
وعندما يتحد حسن الستماع مع انفعال الحب لتنفيذ ما سمعه النسان فهذا ما يطلبه اليمان.
والمؤمنون هم الذين يستمعون لكلمات ال بانفعال الحب ،وهم يختلفون عن هؤلء الذين يسمعون
الكلم من أذن ويخرجونه من الذن الخرى ،ويتركون الكلمات بل تطبيق ،ول يبقى في النفس
الواعية من آثار الكلم شيء.
وهكذا نرى أن ال قد صنع وخلق في النسان من الحواس ما تهديه وترشده إلى اليمان أو إلى
الكفر؛ فالذن عند المؤمن تسمع ،والقلب يصدق ،والعقل يمحص ويؤمن .أما الكافر فأذنه تسمع
وقلبه يعارض ،وعقله يبحث في أسباب الكفر رغبة فيه وسعيًا إليه ،ولذلك ل تؤدي حواسه مهامها
بانسجام ،وكأن الذين يسمعون ول يستجيبون هم من الموتى .فالمر -إذن ليس مقصورا على
السمع بل المطلوب أن يكون هناك سماع انفعال بالمسموع وانصياع له ،ول تظن أن ال يعجز
عن أن يجعل الذي ل يسمع سماع طاعة يهتدي ويستقيم ،فل شيء ول كائن يتأبى على ال؛ لنه
سبحانه يحيي الموتى.
وما دام هو سبحانه يحيي الموتى فهو ل يتطلب إيمانا جبريا .إنما يطلب إيمان الختيار والقتناع،
وهو سبحانه لو شاء لنزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ،وسبحانه يطلب
قلوبا ل قوالب .إذن فالذين يستجيبون لداعي اليمان هم الحياء حقا ،أما الذين ل يستجيبون فهم
في حكم الموات ،وهم من بعد موتهم وانتهاء حياتهم سيبعثهم ال ليسألهم عن أفعالهم في الحياة
الدنيا .وعندما يرجعون إلى ال سوف يجدون الحساب .ونعلم أن المرجع أخيرا ودائما إلى ال.
ومن يرجع إلى ال وعمله طيب يتعجل الجزاء الطيب ويتشوق ويتشوف إليه ،أما من يرجعه ال
َقهْرا فهو يخشى الجزاء الليم.
ويقول الحق بعد ذلكَ { :وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} ...
()818 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َوقَالُوا َلوْلَا نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ آَيَةٌ مِنْ رَبّهِ ُقلْ إِنّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَ ّزلَ آَيَ ًة وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ ()37
إن ال سبحانه يوضح مواصلتهم للجدل ،وطلبهم لية ما .والية هي المر العجيب الذي يبعثه ال
على يد نبي ليثبت صدقه في تبليغه عن ال .وكأنهم ل يريدون أن يعترفوا أن القرآن آيات بينات
جلٍ مّنَ
على الرغم من اعترافهم بعظمة القرآن ،فقد قالواَ {:وقَالُواْ َلوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
ولكنهم لم يعترفوا بالقرآن كآية معجزة؛ لنهم عرفوا أن الرسل السابقين قد نزل كل منهم بآية
معجزة منفصلة عن المنهج الذي جاء به ،فموسى عليه السلم معجزته العصا ،ويده التي أخرجها
من جيبه فكانت بيضاء من غير سوء ،وشق البحر ،ومنهجه التوارة ،وعيسى عليه السلم كانت
معجزته التكلم في المهد بإذن ال ،وإبراء الكمه والبرص وإحياء الموتى بإذن ال ،وجاء النجيل
مكملً بالروحانيات تلك الماديات التي ملت نفس اليهود .وبعد أن قالوا عن رسول ال إنه يفتري
الكذب تحداهم الحق أن يأتوا بمثل القرآن ثم نزل بهم إلى أن يأتوا بعشر سور من مثله ثم إلى أن
يأتوا بمثل سورة واحدة من أقصر سوره .إذن ،فالفتراء وارد عليكم أيضا ،فكما أن محمدا افترى
فيمكن أن تفتروا أنتم كذلك فيما نبغتم وتفوقتم فيه من أساليب البلغة .إن القرآن قد تحداهم وما
دام قد تحداهم فإنه معجزة؛ لن الصل في المعجزة التحدي ،ويتحداهم ال أن يأتوا بسورة من
مثل سور القرآن فل يستطيعون ،إنه يتحداهم في أمر اللغة ،وهم سادة اللغة وهم النابغون فيها.
جاء القرآن ليتحداهم في مجال نبوغهم ،ولكنّ بعضا من العرب طالب رسول ال صلى ال عليه
وسلم بمعجزة حسية كونية يرونها .وأعماهم الحمق عن معرفة أن المعرفة الحسية موقوتة التأثير،
من يراها يقول إنها معجزة ،ومن لم يرها قد يصدق وقد يكذب .ونحن -المسلمين -ل نصدق
المعجزات الحسية إل أن القرآن أوردها؛ ولن القرآن قد جاء للناس كافة؛ لذلك لم يكن من
المعقول أن يكون المنهج الخاتم منفصلً عن معجزة النبي الذي جاء به.
جاء القرآن -إذن -معجزة لرسول ال وهو آية معنوية دائمة أبدا بما فيه من أحكام ونظم،
وآيات كونية وقضايا علمية ،وإذا كان الخلق يختلفون في اللغات فما تضمنه القرآن من معجزات
لن تنقضي عجائبه إلى يوم القيامة .وكل يوم نستنبط من آيات ال معجزات جديدة تُخرس كل
مكذب ،لنها معجزات كونية ،ومن العجيب أن بعض الذين يستنبطونها ليسوا من المسلمين ،ول
هم من المؤمنين بالقرآن.
ولكنّ بعضا من المشركين لم يكتف بالقرآن على أنه آية ومعجزة دالة على صدق الرسول،
وطالبوا بمعجزة حسية .فهل كان ذلك الطلب للية حقيقيا يرجون من ورائه معرفة الحق واليمان
له أو كان مجرد سبب يختفون وراءه حتى ل يؤمنوا؟ إن كان طلب الية هو أمرًا نابعًا من قلوبهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإننا نأخذ بأيديهم ونرشدهم ونهديهم ونقول لهم :إن الرسل التي جاءت بمعجزات غير كتاب
المنهج كانوا رسلً إلى أمم مخصوصة وفي زمان محدود ،فجاءت معهم آيات كونية تُرَى مرة
واحدة وتنتهي ،ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء لعموم الزمان ،ولعموم المكان ،ولذلك
ل تصلح أن تكون آيته ومعجزته حسية؛ حتى ل تنحصر في الزمان والمكان المحددين ،وشاء
الحق أن تكون معجزة رسول ال صلى ال عليه وسلم هي المنهج الدائم.
وكنز القرآن أظهر وكشف من من اليات الكونية ما تحقق من علم ورآه البشر ،وما سيظل
سهِمْ حَتّىا
ق َوفِي أَنفُ ِ
يكتشفه البشر إلى أن تقوم الساعة .ولذلك قال الحق {:سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ ا ْلحَقّ }[فصلت.]53 :
أي أن البشر سيريهم ال وسيكتشف لهم من آياته حتى يظهر ويستبين لهم وجه الحق ،وإن كنتم
تقترحون آية لمجرد التمحك والتلكؤ في إعلن اليمان ،فلتعلموا أن أقواما غيركم اقترحت اليات
لوّلُونَ }
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن َك ّذبَ ِبهَا ا َ
وأنزل الحق هذه اليات ومع ذلك كفرواَ {:ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
[السراء.]59 :
مثلما طلب قوم صالح الناقة ،فجاءهم بالناقة ،فكذبوا بتلك الية وعقروا الناقةَ } :ف َدمْدَمَ عَلَ ْي ِهمْ رَ ّبهُمْ
سوّاهَا { .إذن فمسألة طلب اليات قد سبقت في أمم سابقة ،وسبحانه قادر على إنزال
بِذَن ِبهِمْ فَ َ
اليات ،ولكن أكثر المشركين ل يعلمون .وسيقولون مثلما قال الذين تكلم فيهم الحق سبحانهَ {:ومَا
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن َك ّذبَ ِبهَا الَوّلُونَ }[السراء.]59 :
مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
ولقد أنزل الحق سبحانه القرآن على رسوله صلى ال عليه وسلم وفيه آيات كثيرة عظمت وجلت
عن أن تحصى وتحصر ،ولو أنهم اقترحوا آية وحققها ال لهم ولم يؤمنوا لكان حقا على ال أن
يبيدهم جميعا .ولقد أعطى ال رسوله صلى ال عليه وسلم وعدا بأل يهلكهم وهو صلى ال عليه
وسلم فيهمَ } :ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِمْ {.
إذن فعدم استجابة ال لنزال آية لهم هو نوع من الحرص عليهم ،ذلك أن منهم من سيؤمن،
ومنهم من سيكون من نسله مؤمنون يحملون المنهج ويقومون به إلى أن تقوم الساعة لنهم أتباع
وحملة الرسالة الخاتمة.
وبعد ذلك يأتي الحق بالبيان الرتقائيَ } :ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْرضِ{ ...
()819 /
شيْءٍ ثُمّ
ض وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ ِبجَنَاحَ ْيهِ إِلّا ُأ َممٌ َأمْثَاُلكُمْ مَا فَرّطْنَا فِي ا ْلكِتَابِ مِنْ َ
َومَا مِنْ دَابّةٍ فِي الْأَ ْر ِ
إِلَى رَ ّبهِمْ ُيحْشَرُونَ ()38
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنه سبحانه يوضح لنا :أنا أعطي اليات التي أعلم أن الفطرة السليمة تستقبلها كآية وتؤمن بها.
وأنزلت لكم القرآن لتؤمنوا بالرسول الذي يحمله منهجا يُصلح حياتكم .وقد جعلتكم سادة للكون؛
تخدمكم كل الكائنات ،لنكم بنو آدم .وكان الجدر بكم أن تنتبهوا إلى أن الحيوان في خدمتكم،
والنبات في خدمة الحيوان وخدمة النسان ،وكل كائنات الوجود تصب جهدها المسخر لخدمتكم.
فإذا كنتُ قد جئتُ للجناس كلها وجعلتُها دونكم وأعطيتها ما يصلحها ويقيمها ووضعت لها نظاما،
وأعطيتها من الغرائز ما يكفي لصلح أمرها حتى تؤدي مهمتها معكم على صورة تريحكم فإذا
كان هذا هو شأننا وعملنا مع من يخدمكم فكيف يكون الحال معكم؟ إنني أنزلت المنهج الذي
يصلح حياة من استخلفته سيدا في الرضَ { .ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْرضِ َولَ طَائِرٍ َيطِيرُ ِبجَنَاحَيْهِ
شيْءٍ ثُمّ إِلَىا رَ ّبهِمْ ُيحْشَرُونَ } [النعام.]38 :
ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
وكل الدواب دون النسان أعطاها الله اليمان بالفطرة ،وهداها إلى الرزق بالغريزة .وميز
النسان فوق كل الكائنات بالعقل ،ولكن النسان يستخدم عقله مرة استخداما سليما صحيحا فيصل
إلى اليمان ،ويستخدمه مرة استخداما سيئا فيضل عن اليمان .وكان على النسان أن يعلم أنه
تعلم محاكاة ما دونه من الكائنات؛ فقابيل تعلم من الغراب كيف يواري سوأة أخيه .ومصمم
الطائرات تعلم صناعة الطيران من دراسة الطيور .إذن كان يجب أن يتعلم النسان أن له خالقا
جعل له من الجناس ما تخدمه ليطور من حياته ومن رعاية كرامته بعد الموت .والمثال ما قالته
نملة لبقية النمل {:حَتّىا إِذَآ أَ َتوْا عَلَىا وَادِ ال ّن ْملِ قَاَلتْ َنمْلَةٌ ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ادْخُلُواْ َمسَاكِ َنكُ ْم لَ
ن َوجُنُو ُدهُ }[النمل.]18 :
طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَا ُ
حِيَ ْ
إن النمل أمة لها حرس ،قالت حارسة منهم هذا القول تحذيرا لبقية النمل.
ح ُهمْ }[السراء.]44 :
ح ْم ِدهِ وَلَـاكِن لّ َتفْ َقهُونَ تَسْبِي َ
شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ
وال سبحانه يقول {:وَإِن مّن َ
إذن فكل أمة من تلك المم الكثيرة التي خلقها ال في الكون تسبح بحمده ،ولكن ل يفهم أحد لغات
تلك المم .وأعلمنا ال أنه علم سيدنا سليمان لغات كل القوام وكل المم المخلوقة ل ،ولذلك
عندما سمع سيدنا سليمان ما قالته النملة :تبسم { ضَاحِكا مّن َقوِْلهَا }.
وهكذا علمنا أن ال قد أعطى إذن سليمان عليه السلم ما جعلها تمتلك حاسية التقاط الذبذبة
الصادرة من صوت النملة وتفهم ما تعطيه وتؤديه تلك الذبذبة ،لذلك تبسم سليمان عليه السلم من
قولها؛ لن ال علمه منطق تلك الكائنات .ولو علمنا ال منطق هذه الكائنات لفقهنا تسبيحهم ل،
ونحن ل نفقه تسبيحهم لننا لم نتعلم لغتهم .ومثال ذلك -وال المثل العلى -قد يسافر إنسان
عربي إلى بلد تتحدث النجليزية وهو يجهل تلك اللغة ،فل يفهم مما يقال شيئا.
إذن لو علمك ال منطق الطير ،ومنطق الجماد ،ومنطق النبات؛ لعلمت لغاتهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْنَ }[النبياء.]79 :
ألم يقل الحق سبحانه وتعالى {:وَ َ
إن الجماد -الجبال -تسبح مع داود .وكذلك الطير؛ فها هوذا الهدهد قد عرف قضية التوحيد،
جدُونَ
وحز في نفسه أنه رأى ملكة سبأ وقومها يسجدون للشمس من دون ال {:وَجَدّتهَا َوقَ ْو َمهَا يَسْ ُ
عمَاَلهُمْ }[النمل.]24 :
شمْسِ مِن دُونِ اللّ ِه وَزَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ
لِل ّ
إذن فالهدهد قد عرف قضية التوحيد ،وعرف أن السجود إنما يكون ل سبحانه وتعالىَ {:ألّ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }[النمل.]25 :
خبْءَ فِي ال ّ
سجُدُواْ للّهِ الّذِي ُيخْرِجُ الْ َ
يَ ْ
إذن كل الكائنات هي أمم أمثالنا .وقد يقول قائل :ولكن هناك كائنات ليست في السماء ول في
الرض ،مثل السماك التي في البحار؟ ونقول :إن الماء ثلثة أرباع الرض والسمك يسبح في
جزء من الماء الذي هو جزء من الرض .فهو يسبح في جزء من الرض ،فسبحانه الذي خلق
الدواب في الرض ،وخلق الطيور ،وخلق الدنى من هذه المم وهداها إلى مصلحتها ومصدر
سوّىا * وَالّذِي قَدّرَ َف َهدَىا {.
حياتها } :الّذِي خَلَقَ فَ َ
ونرى العلماء يحاولون الن اكتشاف لغة السماك ،واكتشاف كل أسرار مملكة النحل ونظامها،
وكيف تصير أعشاش النمل مخازن في الصيف لقوت الشتاء .ودرسوا سلوك النمل مع حبة القمح،
وكيف تخلع النملة خليا النبات من بذرة القمح ،لن خليا النبات إن دخلت مع حبة القمح إلى
مخزن غذاء النمل قد تنبت وتدمر جحر النمل .وهكذا نرى صدق الحق العلى {.الّذِي خَلَقَ
سوّىا * وَالّذِي قَدّرَ َفهَدَىا }[العلى.]3-2 :
فَ َ
وقرون الستشعار في النملة تثير العلماء؛ لن النملة الواحدة ترى على سبيل المثال قطعة السكر،
فل تقربها ولكنها تذهب لستدعاء جيش من النمل قادر على تحريك قطعة السكر ،ووجد العلماء
أن وزن الشيء الذي يتغذى به النمل إن زاد على قدرة نملة ،فهي تستدعي أعدادا من النمل
ليؤدوا المهمة.
وتساءل العلماء :من أين للنمل إذن هذه القدرة على تحديد الكتلة والحجم والوزن؟ إن تحديد العدد
الذي يحمل حجما محددا يثير الغرابة والعجب ،فكيف يمكن أن نتصور أن النمل يفرق بين شيئين
يتحد حجمهما ويختلف وزنهما ككتلة من حديد وأخرى تماثلها في الحجم من السفنج؟ إن النمل
يستدعي لكتلة الحديد أضعاف ما يستدعيه لحمل كتلة السفنج مع اتحادهما في الحجم؛ إنها من
قدرة الحق الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى.
ثم إنك تلتفت إلى الحيوان فتجد الذكر والنثى ،وتجد أن الجمال كله في ذكور الحيوان ،بينما ل
يكون المر كذلك في إناث الحيوان ،والكثرة الغالبة هي من الناث والقلة من الذكور ،ول يقرب
الذكر أنثاه إل في موسم معين ،وإلى أن يأتي موسم التلقيح تنصرف النثى إلى إعداد العش
وتهيئته لما عساه أن يوجد من نتاج ،وهذه العملية لحكمة عالية ربما تكون لبقاء نوع الحيوان حتى
يعين النسان في إعمار الرض.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي عالم الطير نجد الطيور تبني العش بفن جميل لستقبال الفرخ الذي خرج من البيض وتفرش
له العش بأنعم الشياء ،إنها تفعل ذلك بإتقان جيد وبصورة ربما يعجز البشر أن يعمل مثلها .ثم
نجد في دنيا الحيوان والطير أن الكائن ما إن يبلغ القدرة على العتماد على نفسه فل تعرف الم
ابنها من ابن غيرها .إذن فكل المخلوقات أمم أمثالنا أرزاقا وآجالً ،وأعمالً ،فصدق ال إذ
شيْءٍ {.
يقول } :مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
وقد يكون المراد من الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ ،ولكننا نقول :إنه القرآن ،وكل شيء موجود
ومذكور أو مطمور في القرآن الكريم .وذكر القرآن أن هذه المم تعرف التوحيد ،وأنهم يسبحون
ل .والعمل المعاصر يكتشف في كل دقيقة حقائق هذا الكون المنظم .ونجد العقل يهدينا إلى أن
نوجد أشياء لصالح حياتنا ،ولكن عندما نتبع الهوى فإننا نفسد هذا الكون .إن ال -سبحانه -
جعل للخادم من دواب الرض نطاقًا للعمل والرزق والجل بحكم الغريزة ،وكذلك جعل للطير،
ولكل الكائنات:
شيْءٍ ثُمّ إِلَىا
ويقول الحق سبحانه وتعالى في محكم آياته الكريمة } :مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
رَ ّبهِمْ ُيحْشَرُونَ { [النعام.]38 :
إذن كل شيء يحشر يوم القيامة .ألم يقل رسول ال صلى ال عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة
رضي ال عنه " :لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ".
أي أن الحق سبحانه يقتص من الشاة ذات القرون التي نطحت الشاة التي بل قرون ويعوضها عن
حقّه يصير إلى تراب .أما الذين
اللم الذي أصابها .وبعد أن يأخذ كل كائن من غير النس والجن َ
يسمعون ول يستجيبون فهم المكذبون باليات ،ولذلك يقول عنهم الحق سبحانه وتعالى } :وَالّذِينَ
كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا{ ...
()820 /
والصمم آفة تصيب الذن فل تسمع .والبكم آفة تصيب اللسان فل ينطق .والبكم مرتبط بالصمم؛
لن النسان ل يتكلم إل إذا سمع؛ لن اللغة بنت المحاكاة؛ فالنسان ل يتكلم إل إذا سمع.
إن البشر ينشأون في بيئات مختلفة اللغة ول يتكلمون إل باللغة التي نشأوا في بيئتها؛ لن اللغة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليست دما ول جنسا .بل اللغة سماع .وما تسمعه الذن يحكيه اللسان .ول يقرأ النسان إل إذا
سمع وعرف ارتباط ما يسمع بما يرى؛ لذلك نعرف أن السمع هو المنفذ الول للدراك ،ولهذا
كان الصمم قبل البكم.
ولكن هل الدراك مرتبط بالصمم والبكم فقط؟ ل ،إن النسان يسمع أ َولً ،ثم يرى ،ثم يتذوق ،ثم
يشم ،ثم يلمس ،ثم تأتي له المعلومات العقلية .والمثال على ذلك أن كل إنسان يعرف أن النار
محرقة ،وهو لم يعرف هذا إل لنه وجدها قد لمست كائنا وأحرقته .ومثال آخر :يتفق الناس على
أن صوت العندليب جميل ،وهذا التفاق جاء من سماع الناس لصوت العندليب .إذن فالمعلومات
العقلية تأتي نتيجة للمعلومات الحسية.
{ صُمّ وَ ُبكْمٌ فِي الظُّلمَاتِ } إنهم بل قدرة أيضا على إبصار الهداية من أي ناحية؛ صم ل يسمعون
لكلمة الحق ،وبكم ل ينطقون ،وفي ظلمات ل يهتدون إلى إدراكات الشياء ول إلى اليمان .وكل
جعَ ْلهُ عَلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ } لكن هل
ذلك مردود إلى المشيئة { :مَن يَشَإِ اللّهُ ُيضْلِلْهُ َومَن َيشَأْ يَ ْ
اقتحمت المشيئة على الناس وقهرتهم؟ ل؛ لن الحق قال {:إِنّ اللّهَ لَ َي ْهدِي مَنْ ُهوَ مُسْ ِرفٌ
كَذّابٌ }[غافر.]28 :
وقال سبحانه أيضا { :وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ } إذن ،فبتقديمهم الظلم ،والفسق ،والكفر ،وقد
فعلوا ذلك اختيارا فصار المرض واستقر في قلوبهم وزادهم ال مرضا ،وهو سبحانه أغنى
الغنياء عن الشرك به ،فمن أشرك مع ال شيئا فهو له .ويأتي من بعد ذلك أمر إلى رسول ال
صلى ال عليه وسلمُ { :قلْ أَرَأَيْ ُتكُم إِنْ أَتَاكُمْ} ...
()821 /
ُقلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَا ُكمْ عَذَابُ اللّهِ َأوْ أَتَ ْتكُمُ السّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ َتدْعُونَ إِنْ كُنْتُ ْم صَا ِدقِينَ ()40
و " أرأيتكم " مكونة من استفهام وفعل ،ومن ضمير وهو لفظ التاء المفتوح للمخاطب كقولك" :
أرأيت فلنا " وكأنك تقول له " :إن كنت قد رأيته فأخبرني عنه " ،وعندما تقول للمخاطب ذلك
فأنت تستفهم منه عن شيء رآه وأبصره وبعد ذلك تأتي بكاف الخطاب ،فكأنك تقول له :أخبرني
عنك ،فيكون المعنى أخبروني عن أنفسكم ،وهكذا تكون " :أرأيتكم " معناها :أخبروني عن حالكم
إخبار من يرى .فالمر إذن لرسول ال ليسأل المشركين أن يخبروه ماذا يفعلون عندما يصيبهم
الضر أو أي شيء فوق السباب ،هل هم يدعون اللت والعزى؟
ل ،إنهم ل يستطيعون وقت الخطر الداهم أن يكذبوا على أنفسهم ،إنما ينادون ال الذي ل يعلنون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اليمان به .ولو كانوا صادقين مع كفرهم لما نادوا ال ،بل كان يجب أن ينادوا آلهتهم؛ لكنّهم في
لحظة الخطر يقولون " :يارب " كأنهم يعرفون أنه ل منقذ لهم إل هو سبحانه .وهكذا ينكشف
أمامهم كذب كفرهم وشركهم بال .ول أحد يغش نفسه ،حتى الدجال الذي يدعي ممارسته شفاء
الناس ،إن أصابه مرض نجده يلجأ إلى طبيب متخصص متعلم .فل أحد يغش نفسه ،وساعة يمس
الخطر ذات النسان نجد الحقيقة تنبع من النسان نفسه.
ويسألهم النبي صلى ال عليه وسلم :مَنْ يدعونه لحظة الخطر؟ إنهم يدعون ال .وكأنهم ل يثقون
س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما }[يونس.]12 :
في آلهتهم {.وَِإذَا مَ ّ
شفْنَا عَ ْن ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ َيدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ
لكن ماذا يحدث عندما يعود للقلب غلظته؟{ فََلمّا كَ َ
مّسّهُ }[يونس.]12 :
لماذا إذن يطلب من ال النجدة وقت الخطر ،ول يتبع التكليف؟ يأتي المر إلى الرسول ليسألهم من
شفُ مَا
تدعون لحظة الخطر؟ ويأتي الجواب أيضا من الحق سبحانه وتعالىَ { :بلْ إِيّاهُ تَدْعُونَ فَ َيكْ ِ
تَدْعُونَ إِلَيْهِ} ...
()822 /
إنكم -أيها المشركون -ل تدعون إل ال أن يكشف عنكم الضر ،فإن رأى أن من الحكمة أن
يجيب دعاءكم أجابه .وإن رأى أن من الحكمة أل يجيب فهو ل يجيب .وهم يدعون ال وينسون
آلهتهم ومن أشركوهم بالعبادة مع ال.
خذْنَا ُهمْ} ...
ويقول الحق سبحانه وتعالى { :وََلقَدْ أَرْسَلنَآ ِإلَىا ُأمَمٍ مّن قَبِْلكَ فَأَ َ
()823 /
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ُأمَمٍ مِنْ قَبِْلكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَ ْأسَا ِء وَالضّرّاءِ َلعَّل ُهمْ يَ َتضَرّعُونَ ()42
لقد أرسل الحق لمم سابقة رسلً باليات والمنهج ،فكذبتهم أقوامهم ،فأخذهم ال بالشدائد والحداث
التي تضر إما في النفس ،وإما في المال ،بالمرض ،بالفقر ،لعلهم يتضرعون إلى ال سبحانه
وتعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فالحق حين يمس النسان بالبأساء أي بالشدائد أو بالضراء ،أي بالشيء الذي يضر ويؤذي،
إنما يريد من النسان أن يختبر نفسه ،فإن كان مؤمنا بغير ال فليذهب إلى من آمن به ،ولن يرفع
عنه تلك البأساء أو ذلك الضر إل عندما يعود إلى ال :وعندما يتضرع إلى ال قد ل يقبل ال منه
مثل هذا التضرع ويقول سبحانه { :فََلوْل إِذْ جَآ َءهُمْ بَ ْأسُنَا} ...
()824 /
ستْ قُلُو ُبهُ ْم وَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()43
فََلوْلَا إِذْ جَاءَ ُهمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُوا وََلكِنْ قَ َ
إنه -سبحانه -يحثهم ويحضهم على أن يتضرعوا ويتذللوا إلى ال ليرفع عنهم ما نزل بهم،
ولكن قلوبهم القاسية تمنعهم حتى في لحظة المس بالضر أن يلجأوا إلى ال خوفا من اتباع
التكليف .إن قسوة القلب تكون بالصورة التي ل ينفذ إليها الهدى وكما قال الحق {:كَلّ َبلْ رَانَ
عَلَىا قُلُو ِبهِمْ مّا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[المطففين.]14 :
أي صارت قلوبهم مغلقة ومغطاة بعد أن طبع ال وختم عليها فل تقبل الخير ول تميل إليه ،فل
يؤمنون.
ويتابع الحق القول الكريم { :فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ} ...
()825 /
شيْءٍ حَتّى إِذَا فَ ِرحُوا ِبمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ
فََلمّا نَسُوا مَا ُذكّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
مُبْلِسُونَ ()44
إنهم عندما نسوا ما جاءهم من تذكير الحق لهم بالمنهج والتوحيد من خلل الرسل إنه -سبحانه
-يصيبهم بالعذاب الذي يفاجئهم به فيقعون في حيرة تأخذ عليهم ألبابهم وتشتت قلوبهم وتقطع
رجاءهم.
والرسل إنما تأتي لتذكر؛ لن اليمان موجود بالفطرة .ولكن الغفلة هي التي تخفي اليمان.
والنسان يحيا في كون مليء بالنعم ول دخل لحد بها ،ول بد لحد فيها ،ولم يدعها أحد لنفسه،
كان يجب على هذا النسان أن يعيش دائما في رحاب الحمد ل ،مولى هذه النعمة.
والتذكير من الحق لعباده يكون بالنعم أو الرسل الذين يأتون بالرسالت المتوالية .وهب أن إنسانا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قد غفل عن نعمة ال في الطعام ،ثم جاءت لحظة الجوع ،فجلس يشتهي الطعام فمنحه ال ذلك
الطعام فكيف ينسى لحظة الشبع من وهب له هذا الطعام.
{ فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ } إما أن يكون هو الخبار بواسطة الرسل الذين يذكرون الناس بأن
المنعم هو ال ،وأن ال أنزل المنهج ليصلح الكون به ،وإما أن يكون بواسطة النعم التي تمر على
النسان في كل لحظة من اللحظات؛ لنها تنبه النسان إلى أن هناك من أعطاها .مثال ذلك ساعة
يستر النسان عورته وجسده بلباس جميل ،أل يتساءل عن الذي وهب الصانع تلك الموهبة التي
صمم بها الزي .إذن كيف يأخذ النسان النعمة ول يتذكر المنعم؟ إن ال سبحانه ل يحرمهم من
النعم ساعة أن تركوا شكرها ،بل يفتح عليهم أبواب كل شيء ،أي يعطيهم من النعم أكثر وأكثر،
فيترفون ويعيشون في ألوان من حياة العز والصحة والسعة والجاه والسيطرة والمكانة .ثم ما الذي
يحدث؟ { َأخَذْنَا ُهمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبْلِسُونَ }.
وقلنا من قبل هذا المثل الريفي :ل يقع أحد من فوق الحصير .ولكن الحق يعلي الكافر المشرك
في بعض الحيان ثم يأخذه بغتة فيقع ليكون اللم عظيما .فإن رأيت إنسانا أسرف على نفسه
ووسع الحق عليه في نظام الحياة .إياك أن تفتن وتقول :آه إن الكافر الظالم يركب أفخر السيارات
ويعيش في أبهى القصور ،ل تقل ذلك لنك سترى نهاية هذا الظالم البشعة.
شيْءٍ } لقد فتح
وانظر إلى دقة التعبير في قول الحق تبارك وتعالى { :فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
عليهم ..أي سلط عليهم ،ل فتح لهم ،ويقول الحق سبحانه في موقع آخر من القرآن الكريم { :إِنّا
فَتَحْنَا َلكَ فَتْحا مّبِينا }.
وهكذا نعرف أن الفتح لك غير الفتح عليك؛ لن الفتح على أحد يعني الستدراج إلى إذلل قسري
خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا
سوف يحدث له .ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى { :حَتّىا إِذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَ َ
هُمْ مّبْلِسُونَ } [النعام.]44 :
إن القبض يأتي لحظة الفرح.
وكثيرا ما نرى مثل هذه الحداث في الحياة ،نلتفت إلى كارثة تحدث للعريس أو العروس في يوم
الزفاف .ويصدق قول الشاعر:مشت الحادثات في غرف الحمراء مشي النعي في دار عرسوهذا
خذْنَاهُمْ َبغْتَةً { [النعام.]44 :
يشرح القول الكريم } :حَتّىا إِذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَ َ
وعندما ندقق في كلمةِ } :بمَآ أُوتُواْ { فإننا نجد أن ما حصلوا عليه من نعمة إنما جاءهم كتمهيد
إلهي ييسر هذه المسائل ،ثم يأخذهم الحق بغتة ،أي أن الحادث الضار يأتي بدون مقدمات؛ لن
مجيء المقدمات قد يجعل النسان يتيقظ ويحتاط أو يتوقع ذلك .ونعرف أن الحق يقول في موقع
آخر من القرآن الكريمُ {:قلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ َبغْتَةً }[النعام.]47 :
أي أن العذاب قد يأتي مرة بغتة ،وقد يأتي مرة أخرى جهرا .والعذاب يأتي بغتة عقابا ،ويأتي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهرة حتى ل يقولن أحد :لول أنّ مجيء العذاب بغتة لكان قد احتاط لذلك المر .ويأتيهم العذاب
وهم مبلسون أي يائسون ل منجى ول منقذ ول خلص لهم.
ويتابع الحق ما يحدث لهؤلءَ } :فقُطِعَ دَابِرُ ا ْل َقوْمِ{ ...
()826 /
وما دام هؤلء القوم قد نسوا ما ذكّروا به ،وفتح ال عليهم أبواب كل شيء ثم فرحوا بما أوتوا
وأخذهم الحق بغتة ،كل ذلك يلفتنا إلى أنه يجب علينا أن نحمد ال لن يربي الخلق بالنقمة والنعمة
ويطهر الكون من المفسدين ،وقطع دابر المفسدين مصيبة لهؤلء المفسدين ،ونعمة من نعم ال
على المؤمنين .وقد يتساءل البعض :كيف يأتي القرآن بالنقم وكأنها نعم؟
طعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ َأ ْقطَارِ
ن وَالِنسِ إِنِ اسْ َت َ
ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول {:يا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ
سلُ عَلَ ْي ُكمَا
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ فَانفُذُواْ لَ تَنفُذُونَ ِإلّ بِسُ ْلطَانٍ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ * يُرْ َ
ال ّ
شوَاظٌ مّن نّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن.]36-33 :
ُ
إنها نقم يتحدث عنها الحق كإرسال الشواظ من نار ونحاس ،وهي نقم بالنسبة للكافرين وعليهم،
وهي نعم للمؤمنين .ونعلم أن التهويل في أمر العذاب يجعل الناس ترتدع ،وهذا الوعيد نعمة من
ال .وحين يتجلى الحق بنعمه على خلقه ويقطع دابر الظالمين ،يقول المؤمنون الحمد لَ { :فقُطِعَ
حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [النعام.]45 :
دَابِرُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ ظََلمُواْ وَا ْل َ
ويعود الحق إلى استنطاقهم بالخبار عن المرئياتُ { :قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ} ...
()827 /
علَى قُلُو ِبكُمْ مَنْ ِإلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبهِ انْظُرْ كَ ْيفَ
س ْم َعكُ ْم وَأَ ْبصَا َركُ ْم وَخَتَمَ َ
ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ َ
ُنصَ ّرفُ الْآَيَاتِ ُثمّ هُمْ َيصْ ِدفُونَ ()46
هنا يأمر الحق نبيه صلى ال عليه وسلم أن يستنطقهم :ماذا يفعلون إن سلب ال السمع وغطى
قلوبهم بما يجعلها ل تدرك شيئا ،وسلب منهم نعمة البصر ،هل هناك إله آخر يستطيع أن يرد لهم
ما سلبه الحق سبحانه منهم؟ لقد أخذوا نعمة ال واستعملوها لمحادّة ال وعداوته ،أخذوا السمع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكنهم صموا عن سماع الهدى ،وأخذوا البصار ولكنهم عموا عن رؤية آيات ال .ومنحوا
القلوب ولكنهم أغلقوها في وجه قضايا الخير .فماذا يفعلون إن أخذ ال منهم هذه النعم؟ هل هناك
إله آخر يلجأون إليه ليستردوا ما أخذه ال منهم؟
وترى في الحياة أن الحق قد حرم بعضا من خلقه من نعم أدامها على خلق آخرين .إن في ذلك
وسيلة إيضاح في الكون .وإياك أن تظن أيها النسان أن الحق حين سلب إنسانا نعمة ،أنّه يكره
هذا النسان ،إنه سبحانه أراد أن يذكر الناس بأن هناك منعما أعلى يجب أن يؤمنوا به .فإن أخذ
الحق هذه النعم من أي كافر فماذا سيفعل؟ إنه لن يستطيع شيئا مع فعل ال.
وها هوذا النبي يوضح لهم بالبراهين الواضحة ،ولكنهم مع ذلك ُيعْرِضون عن التدبر والتفكر
واليمان { ثُمّ ُهمْ َيصْ ِدفُونَ }
والمؤمن حين يرى إنسانا من أصحاب العاهات فهو يشكر ال على نعمه ،إن الحق -سبحانه -
بواسع رحمته يعطي صاحب العاهة تفوقا في مجال آخر .ولنذكر قول الشاعر:عميت جنينا
والذكاء من العمى فجئت عجيب الظن للعلم موئلوغاض ضياء العين للقلب رافدا لعلم إذا ما
ضيع الناس حصلإننا قد نرى أعمى يقود ببصيرته المبصرين إلى الهداية .ونرى أصم كبيتهوفن
-على سبيل المثال -قد فتن الناس بموسيقاه وهو أصم .وهكذا نجد من أصيب بعاهة فإن ال
يعوضه بجو ٍد وفضل منه في نواحٍ ومجالت أخرى من حياته .ول يوجد إله آخر يمكن أن
يعوض كافرا ابتله ال؛ لن ال هو الواحد الحد { .ا ْنظُرْ كَ ْيفَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ ثُمّ هُمْ
َيصْ ِدفُونَ } ،أي انظر يا محمد وتعجب كيف نبّين لهم اليات ونصرفها من أسلوب إلى أسلوب ما
بين حجج عقلية وتوجيه إلى آيات كونية وترغيب وتنبيه وتذكير ومع ذلك فإن هؤلء الكافرين ل
يتفكرون ول يتدبرون ،بل إنهم يعرضون ويتولون عن الحق بعد بيانه وظهوره.
عذَابُ اللّهِ} ...
ويقول الحق من بعد ذلكُ { :قلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ َ
()828 /
ونلحظ أن " تاء الضمير " في هذه الية قد فتحت ،بينما الية السابقة لها جاءت فيها " تاء الضمير
س ْم َعكُ ْم وَأَ ْبصَا َركُ ْم َوخَتَمَ
" مضمومة ،حيث يقول الحق تبارك وتعالىُ {:قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ َأخَذَ اللّهُ َ
عَلَىا قُلُو ِبكُمْ مّنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبهِ انْظُرْ كَيْفَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ ُثمّ هُمْ َيصْ ِدفُونَ }[النعام:
.]46
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونلحظ أيضا أن الية التي نحن بصددها الن تأتي فيها كاف الخطاب " :أرأيتكم " بينما الية
السابقة لها ل تحمل كاف الخطاب " أرأيتم " ونعرف أن كل لفظة من هذه اللفاظ قد جاءت لتؤدي
معنىً ل يؤدي بغيرها ،وإن تشابهت الساليب ،فقوله (أرأيتكم) يشمل ويضم ضمير المخاطب
وهو التاء المفتوحة ويشمل أيضا كاف الخطاب والجمع بين علمتي الخطاب (التاء) و (الكاف)
يدل على أن ذلك تنبيه على شيء ما عليه من مزيد .إنه تنبيه إلى أن هلكهم سيكون هلك
استئصال وإبادة ،ومرة يقول الحق " :أرأيتم " أي أخبروني أنتم وأعلموني إعلما يؤكد لي صدق
القضية ،ويأتي الستفهام هنا من مادة " أرى " و " رأى ".
إن السبب في ذلك أنك حين تستفهم عن شيء إما أن يكون المستفهم منه قد حضر حدوث الشيء،
وإما أن يكون المستفهم منه لم يحضر حدوث الشيء .فإن كان قد حضر حدوث الشيء فإنك تقول
له :أرأيت ما حدث لفلن وفلن؟ فيقول لك :نعم رأيت كذا وكذا وكذا .وإن كان المستفهَم منه لم
يعلم بالمر ولم يره فهو يجيب بالنفي ،وهذا ما يحدث بين البشر ،لكن حين يكون الستفهام من
ال ،ويكون الحادث المستفهَم عنه قد حدث من قبل وجود المستفهم منه ،فاليمان يقتضي أن يجيب
المستفهم منه عن هذا الحادث بـ " نعم ".
ومثال ذلك قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم {:أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ
بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل.]1 :
وهذا خطاب من ال لرسوله صلى ال عليه وسلم عنا حدث لصحاب الفيل في عام ولدته صلى
ال عليه وسلم ،ولم يكن الحدث موضع رؤية لرسول ال صلى ال عليه وسلم .ولقائل أن يقول:
كيف يخاطب ال ورسوله باستفهام عن حادث لم يره؟ ونقول :إن الحق بهذا الستفهام يوضح
لرسوله :اسمع مني ،وسماعك مني فوق رؤية عينيك للحدث ،فإذا ما قلت لك " :ألم تر " فمعناها:
اعلم علما يقينيا ،وهذا العلم اليقيني يجب أن تثق في صدقه كأنك رأيته رؤية العين وفوق ذلك
أيضا فإن عينك قد تخدعك أو تكذب عليك ،ولكن حين يخبرك ربك ل يخدعك ول يكذب عليك
أبدا.
إذن فالحق يريد أن يخرج هذه الساليب مخرج اليقين.
وأضرب هذا المثل -ول المثل العلى -فحين يحاول إنسان قد أحسنت إليه كثيرا أن يجحد
إحسانك ،فأنت ل تقول له :أنا أحسنت إليك ،ولكنك تقول له :أرأيت ما فعلته معك يوم كذا ،ويوم
كذا؟ وهنا يبدو كلمك كاستفهام منك ،لنك واثق أنه حين يدير رأسه في الجواب فلم يجد إل ما
يؤيد منطقك من وقوفك إلى جانبه ،وإحسانك إليه ،ولن يجد إل أن يقول لك :نعم رأيت أنك وقفت
بجانبي في كل المواقف التي تذكرها .وفي مثل هذا القول إلزام ل من موقع المتكلم ،ولكن من
واقع المخاطب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعد أن تكلم الحق عن تعنت الكافرين أمام رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وعدم اكتفائهم
باليات التي أنزلها ال مؤيدة لصدق رسوله صلى ال عليه وسلم ،ثم تماديهم في اقتراح آيات من
عندهم ،وقد اقترحوها في شيء من الصفاقة والسماجة ،فقالواَ {:وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ
لَنَا مِ َ
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن زُخْ ُرفٍ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
تُ ْ
سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا ّنقْ َر ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ ِإلّ
َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ
بَشَرا رّسُولً }[السراء.]93-90 :
وكلها أسئلة مليئة بالتعنت ،والحق سبحانه وتعالى هو الذي اختار القرآن معجزة ومنهجا لرسوله
صلى ال عليه وسلم .ويعلم سبحانه صدق رسوله في البلغ عنه ،لكل ذلك يبين الحق لرسوله أن
يبلغ هؤلء الكافرين أنه سبحانه وتعالى لن يعود عليه أي نفع أو ضر نتيجة إيمانهم به سبحانه،
لكن النفع باليمان يكون للعباد ويعود خيره إليهم؛ لنه سبحانه وتعالى له صفات الكمال كلها قبل
أن يخلق الخلق .إنها له أزل وأبدا.
فبصفات الكمال -علماَ وقدرة؛ وحكمة؛ وإرادة -خلق الخلق جميعا .فإياكم أيها الناس أن تفهموا
أن إيمانكم بال يزيده صفة من صفات الجلل أو الجمال ،وإنما اليمان عائد إليكم أنتم ،فإذا كان
منكم متكبرون ومتعنتون ،فالحق سبحانه ل يترك من تكبر وتعنت ليقف أمام منهجه الذي يحكم
حركة الحياة في الرض ،ولكنه سبحانه يأخذ أهل التكبر والتعنت أخذ عزيز مقتدر .واستقرئوا
أيها الناس ما حدث لمن كذبوا رسل ال ،وماذا صنع ال بهم؟ إنه بقدرته سبحانه وتعالى يستطيع
أن يصنع معكم ما صنعه معهم .وإذا ما استقرأتم قصص الرسل مع المكذبين ل وجدتم العذاب قد
حقّ
جاء للقوم بغتة ،فها هوذا الحق يقول عن قوم عاد {:فََأمّا عَادٌ فَاسْ َتكْبَرُواْ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ
جحَدُونَ *
َوقَالُواْ مَنْ َأشَدّ مِنّا ُق ّوةً َأوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خََل َقهُمْ ُهوَ أَشَدّ مِ ْن ُهمْ ُق ّوةً َوكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَ ْ
فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِهمْ رِيحا صَ ْرصَرا فِي أَيّامٍ نّحِسَاتٍ لّ ُنذِيقَهُمْ عَذَابَ ا ْلخِ ْزيِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وََلعَذَابُ
الخِ َرةِ َأخْزَىا وَهُ ْم لَ يُنصَرُونَ }
[فصلت.]16-15 :
لقد تكبر قوم عاد على سيدنا هود عليه السلم والذين آمنوا معه ،وظنوا أنهم أقوى القوياء،
وغفلوا عن قدرة الخالق العلى وهو القوي العظم وأنكروا آيات ال ،فماذا كان مصيرهم؟
فاجأهم الحق بإرسال ريح ذات صوت شديد في أيام كلها شؤم ليذيقهم عذاب الهوان والخزي
والذل في هذه الدنيا ،ويقسم الحق بأن عذاب الخرة أشد خزيا؛ لنهم في هذا اليوم ل يجدون
ناصرا لهم لنهم كفروا بالذي ينصف وينصر وهو الحق جلت قدرته.
وماذا عن قوم ثمود؟ لقد بين لهم الحق طريق الهداية .لكنهم اختاروا الضلل واستحبوا لنفسهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الكفر على اليمان ،وكذبوا نبي ال صالحا عليه السلم وعقروا الناقة ،فنزلت عليهم الصاعقة
لتحرقهم بمهانة بسبب ما فعلوا من تكذيب لرسولهم {.وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى
عقَةُ ا ْل َعذَابِ ا ْلهُونِ ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[فصلت.]17 :
ا ْلهُدَىا فََأخَذَ ْتهُ ْم صَا ِ
وماذا فعل الحق بأصحاب الفيل؟ لقد جاء قوم أبرهة لهدم الكعبة ،فاستقبلتهم الطير البابيل ..أي
التي جاءت في جماعات كثيرة متتابعة بعضها في إثر بعض بحجارة من طين متحجر محرق قد
سلَ عَلَ ْيهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ *
ج َعلْ كَ ْيدَهُمْ فِي َتضْلِيلٍ * وَأَرْ َ
كتب وسجل عليهم أن يعذبوا به {:أَلَمْ َي ْ
جعََلهُمْ َك َعصْفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل.]5-2 :
سجّيلٍ * فَ َ
حجَا َرةٍ مّن ِ
تَ ْرمِيهِم بِ ِ
وكل حدث من تلك الحداث أجراه ال بغتة .ومعنى البغتة أن يفاجئ الخطبُ القومَ بدون مقدمات
علم به .وهناك أيضا من الحداث الجسام أنزلها ال بالكافرين جهرة ،فهاهم أولء قوم فرعون
يغرقهم ال علنا .وكذلك قارون أهلكه ال جهرة {:إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن َقوْمِ مُوسَىا فَ َبغَىا عَلَ ْي ِهمْ
حبّ
وَآتَيْنَاهُ مِنَ ا ْلكُنُوزِ مَآ إِنّ َمفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِا ْل ُعصْبَةِ ُأوْلِي ا ْل ُق ّوةِ إِذْ قَالَ َلهُ َق ْومُهُ لَ َتفْرَحْ إِنّ اللّ َه لَ يُ ِ
ا ْلفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ الدّارَ الخِ َرةَ وَلَ تَنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا وَأَحْسِن َكمَآ َأحْسَنَ اللّهُ
حبّ ا ْل ُمفْسِدِينَ * قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ عِندِي َأوَلَمْ
ك َولَ تَ ْبغِ ا ْلفَسَادَ فِي الَ ْرضِ إِنّ اللّهَ لَ ُي ِ
إِلَ ْي َ
جمْعا َولَ يُسَْألُ عَن ذُنُو ِبهِمُ
َيعْلَمْ أَنّ اللّهَ َقدْ أَهَْلكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ا ْلقُرُونِ مَنْ ُهوَ َأشَدّ مِنْهُ ُق ّوةً وََأكْثَرُ َ
ا ْلمُجْ ِرمُونَ * فَخَرَجَ عَلَىا َق ْومِهِ فِي زِينَ ِتهِ قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا يالَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ
ع ِملَ صَالِحا
ن وَ َ
قَارُونُ إِنّهُ َلذُو حَظّ عَظِيمٍ * َوقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْ َم وَيَْلكُمْ َثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ ّلمَنْ آمَ َ
سفْنَا ِب ِه وَبِدَا ِر ِه الَ ْرضَ َفمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ
خَوَلَ يَُلقّاهَآ ِإلّ الصّابِرُونَ * فَ َ
َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُن َتصِرِينَ }[القصص.]81-76 :
لقد أخذ قارون نعمة ال ونسبها إلى نفسه ،وصار مفتونا بما امتلك ،وغرق في الغرور ،فماذا فعل
ال به؟ خسف ال به جهرة وأمام أعين الذين تمنوا مكانه.
إذن فمن الممكن ان يأتي عذاب ال بغتة للكافرين به أو يأتيهم بالعذاب جهرة .وما السبب في
التلوين بين " بغتة " و " جهرة "؟ البغتة تثبت لمن يعبد غير ال أنه مخدوع في عبادته لغير ال،
لنه لو كان يعبد إلها حقا لما قبل هذه الله أن يعذب أتباعه من حيث ل يشعر .إذن فالبغتة تثبت
عجز المعبودين من أصنام وغيرها ،فقد عجزت تلك الصنام أن تحتاط للعابدين لها .وقد يقول
قائل منهم :لقد جاءنا العذاب فجأة ،لكن لو جاء لنا مواجهة لكنا قادرين على مواجهته والوقوف
أمامه.
فيأتي ال أيضا بالعذاب جهرة فل يستطيعون مواجهته فتنتقطع حجتهم ،وعلى الرغم من ذلك
تموت في قلوب هؤلء المعاندين القدرة على إبصار ضرورة اليمان .ويعامل سبحانه خصوم
رسولنا -صلى ال عليه وسلم -مثل هذه المعاملة ،فعندما عانده القوم جاءهم ال سبحانه بأمور
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
معجزة لعلهم يتفكرون.
فهاهم أولء قد اتفقوا على قتلة قبل الهجرة ،ويقفون على باب بيته ،ويخرجه الحق من بينهم وهم
ل يبصرون ،ول يفلحون في التآمر على رسول ال ،ول ينجح لهم تبييت ضد رسول ال ،ويكون
مكر ال فوق كل مكر يريد به أعداء الرسول صلى ال عليه وسلم إيذاءه به .وهم قد ذهبوا إلى
الجن ليسحروا له ،لكن ل هذا السحر قد نفع ،ول ذاك التبييت أتى بنتيجة .وكانت تكرمة ال
لرسوله صلى ال عليه وسلم فوق كل شيء ,ويقول الحق سبحانه وتعالىُ } :قلْ أَرَأَيْ َتكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ
جهْ َرةً َهلْ ُيهَْلكُ ِإلّ ا ْل َقوْمُ الظّاِلمُونَ { [النعام.]47 :
عَذَابُ اللّهِ َبغْتَةً َأوْ َ
ويكون تذييل الية -أيضا -على هيئة استفهام ،والستفهام هنا -كما علمنا من قبل -إنما جاء
ليؤكد المعنى ،وليكون القرار من أفواه من يتلقون هذا الستفهام وعن يقين منهم ،وليكون
العتراف منهم إجابة بالقرار ،والقرار -كما نعلم -هو سيد الدلة.
وهب أن صاعقة نزلت أو خسفا حدث فيه عذاب ،فكيف ينجي ال المؤمنين به من هذا العذاب أو
ذلك الخسف؟
إن الهلك فقط يكون للقوم الظالمين؛ لن الهلك هو إعدام الحياة للحي المتمتع بالحياة ،والذي ل
يؤمن إل بهذه الدنيا إذا جاءته مصيبة لتهلكه فهو يشعر بمرارة الخسران؛ لنه ل يعتقد ول يؤمن
بالحياة الخرى ،لكن المؤمن الذي يتيقن أن له إلها وأنه سيعود إليه ليحاسبه ويجزيه عن إيمانه
خير الجزاء إن حدثت له محنة في طي محنة كبرى للكافرين فهو يذهب إلى الجنة ويكون ذلك
منحة له ل محنة عليه لتستمر حياته إلى خلود.
وهكذا نجد أن الهلك إنما يحدث للقوم الظالمين فقط لنه ُي ْفقِدهم كل ما كانوا يتمتعون به في
دنياهم وليس لهم في الخرة إل البوار والخسران والعذاب الدائم ،أما غير الظالمين فالحق سبحانه
وتعالى ينقلهم إلى حياة خالدة هي خير من هذه الحياة ،إذن فالمؤمنون إنما يتلقون فيوضات ال
عليهم في النعماء وفي البلء أيضا.
ويتكلم الحق سبحانه وتعالى في الية التالية عن التصور اليماني الذي يجب أن يرسخ في أذهان
المؤمنين برسول مبلغ عن ال ،وعندما يسمع العقل الطبيعي الفطري البلغ عن الرسول فهو
يصدقه فورا؛ لن الفطرة عندما ترى فساد الكون ،وترى أن هناك من جاء بمنهج لصلح الكون
ل بد أن تتجه إلى اليمان بالمبلغ عن ال وهو الرسول .وعندما ترى الفطرة أن الكون كله قد تم
إعداده لخدمة النسان ،ل بد لها أن تتساءل عن الخالق لهذا الكون وعن المنهج الذي يجب أن
تسير عليه لصيانة هذه النعمة ،نعمة الوجود في الكون.
ويقتضي الحساس السليم من النسان أن يتعرف إلى حقيقة واضحة ،وهي أن النسان قد طرأ
على الكون ،وأن هذا الكون مليء وغني بالخيرات ،ولم يدع أحد أبدا أنه خلق السماوات أو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرض أو الماء أو الهواء .ول بد أن يدور في خلد صاحب الفطرة السليمة تساؤل عن هذا
الخالق الكرم الذي وهب للنسان حق الستخلف في كل هذا الكون .فإذا ما جاء رسول ليقطع
هذا القلق وذلك الصمت ويقول :أنا جئتكم لخبركم بمن خلقكم ،وبمن خلق السموات ،وبمن خلق
الرض ،وبمن رزقكم هذا الرزق.
هنا تنصت الفطرة إلى سماع الخبر الذي كانت تستشرف له .وإذا ما جاء هدا الرسول مؤيدا بآية
من ال ومعجزة ل يقدر عليها البشر ،فالعقل البشري يعترف اعتراف القرار على الفور؛ لنه
وجد حاجته عند ذلك الرسول.
ولكن على الذين يؤمنون بما جاء به الرسول ،وعلى الرسول نفسه ،وحتى على الكافرين به،
عليهم جميعا أل يتعدوا الحدود ،وأل يضعوا أي رسول في مكان أعلى من منزلته ،لنه رسول
من ال ،إنه واحد من البشر تفضل ال عليه بالوحي واصطفاه للمهمة التي جاء بها .ول بد للجميع
أن يفهم أن الرسول مبلغ عن ال فقط ،وأنه ل يستطيع أن يأتي باليات التي يقترحها بعض من
القوم؛ لن الرسول ل يقترح اليات ول يصنعها ،الرسول مقصور على أداء المانة الموكلة إليه
سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ{ ...
وهي أمانة البلغ عن ال .ولذلك يقول لنا الحقَ } :ومَا نُرْ ِ
()829 /
أي أن الحق سبحانه لم يعط الرسل قدرته ليفعلوا ما شاءوا ،ولكنهم فقط مبلّغون عن ال ،فل
يطلبن منهم أحد آيات؛ لنهم ل يستطيعون أن يأتوا باليات ،وكل رسول يعلم أنه من البشر ،وهو
سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ ِإلّ
يستقبل عن ال فقط ،ولذلك فلنأخذ الرسل على أنهم مبشرون ومنذرون { َومَا نُرْ ِ
ن َومُنذِرِينَ }.
مُبَشّرِي َ
ونعرف أن البشارة هي الخبار بما يسر قبل أن يقع .والسبب في البشارة هو تهيئة السامع لها
ليبادر إلى ما يجعل البشارة واقعا بأن يمتثل إلى المنهج القادم من الله الخالق .ونعرف أن النذار
هو الخبار بما يسوء قبل أن يقع ليحترز السامع أن يقع في المحاذير التي حرمها ال.
والبشارة -كما نعلم -تلهب في الراغب في الفعل والمحب له أن يفعل العمل الطيب ،والنذار
يحذر ويخوف من يرغب في العمل الشيء ليزدجر ويرتدع .إذن فمهمة الرسل هي البشارة
والنذار ،فل تخرجوا بهم أيها الناس إلى مرتبة أخرى أو منزلة ليست لهم فتطلبوا منهم آيات أو
أشياء؛ لن اليات والشياء كلها من تصريف الحق تبارك وتعالى ،ومن سوء الدب أن نُخطّئ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال في اليات التي أرسلها مع الرسل ونطلب آيات أخرى .إنكم بهذا تستدركون على ال.
سلُ ا ْلمُرْسَلِينَ ِإلّ مُبَشّرِينَ َومُنذِرِينَ } [النعام:
ويبيّن الحق لنا حدود مهمة الرسل فيقولَ { :ومَا نُرْ ِ
.]48
ن وََأصْلَحَ
هذا هو عمل الرسل ،فماذا عن عمل الذين يستمعون للرسل؟ إن الحق يقولَ { :فمَنْ آمَ َ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ } [النعام.]48 :
فَلَ َ
فالمطلوب -إذن -من الذين يستمعون إلى الرسل أن يقبلوا على اختيار اليمان ،وأن يستمعوا
إلى جوهر المنهج وأن يطبقوه .فمن آمن منهم وأصلح فل خوف عليه لنه قد ضمن الفوز
العظيم ،ول يصيبه أو يناله حزن ،لن ناتج عمله كله يلقاه في كتابه يوم القيامة .واليمان هو
اطمئنان القلب إلى قضية عقدية ل تطفو إلى الذهن لتناقش من جديد .ولذلك نسمي اليمان عقيدة،
أي شيئا انعقد عقدا ل ينحل أبدا.
ن على المؤمن بربه أن يستحضر الدلة واليات التي تجعل إيمانه بربه إيمانا قويا معقودا؛ وهذا
إّ
عمل القلب .ويعرف المؤمن أن عمل القلب ل يكفي كتعبير عن اليمان؛ لن الكائن الحي ليس
قلبا فقط ،ولكنه قلب وجوارح وأجهزة متعددة ،وكل الكائن الحي المؤمن يجب أن ينقاد إلى منهج
ربه ،فل بد من التعبير عن اليمان بأن يصلح النسان كل عمل فيؤديه بجوارحه أداء صحيحا
سليما.
إنني أقول ذلك حتى يسمع الذي يقول :إن قلبي مؤمن وسليم .ل ،فليست المسألة في اليمان هكذا،
صحيح أنك آمنت بقلبك ولكن لماذا عطلت كل جوارحك عن أداء مطلوب اليمان؟ لماذا ل تعطي
عقلك فرصة ليتدبر ويفكر ويخطط ويتذكر ،لماذا ل تعطي العين فرصة لتعتبر وتستفيد من
معطيات ما ترى؟ وكذلك اليد ،واللسان ،والذن ،والقدم ،وكل الجوارح.
والصلح هو عمل الجوارح ،فيفكر النسان بعقله في الفكرة التي تنفع الناس ،ويسمع القول فيتبع
أحسنه ،ويصلح بيديه كل ما يقوم به من أعمال .ويعلم المؤمن أنه حين أقبل على الكون وجده
محكما غاية الحكام ،ويرى النسان الشياء التي ل دخل له فيها في هذا الكون وهي على أعلى
درجات الصلحية الراقية ،فالمطر ينزل في مواسمه ،والرياح تهب في مواسمها ومساراتها،
وحركة الشمس تنتظم مع حركة الرض ،وكل عمل في النواميس العليا هو على الصلح المطلق.
إن الفساد يأتي مما للنسان دخل فيه ،فالهواء يفسد من بناء المنازل المتقاربة ،وعدم وجود
مساحات من الخضرة الكافية ،ويفسد الهواء أيضا باللت التي تعمل ولها من السموم ما تخرجه
وتدفعه من أثر عملية احتراق الوقود .وعندما صنع النسان اللت نظر إلى هواه في الراحة،
وغابت عنه أشياء كان يجب أن يحتاط لها ،ومثال ذلك " :عادم " السيارات الذي يزيد من تلوث
البيئة ،ورغم اكتشاف بعض من الوسائل التي يمكن أن تمنع هذا التلوث .إل أن البعض يتراخى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الخذ بها.
ونحن حين نأخذ بقمة الحضارة ونركب السيارات فلماذا ننسى القاعدة التي تقوم عليها الحضارة
وهي الدراسة العلمية الدقيقة لنصنع اللت ونأخذ من اللت ما يفيد الناس ،فنعمل على الخذ
بأسباب تنقية البيئة من التلوث ونمنع الذى عن حياة الناس .فالعادم الذي من صناعتنا -مثل
عادم السيارات واللت -يفسد علينا الهواء فتفسد الرئة في النسان.
إن علينا أن نعرف أن من مسئولية اليمان أن ننظر إلى الشيء الذي نصنعه وكمية الضر الناتجة
عنه ،وكل إنسان يحيا في مدينة مزدحمة إنما يضار بآثار عادم السيارات على الرغم من أنه ليس
في مقدور كل إنسان أن يشتري سيارة ليركبها ،فكيف يرتضي راكب السيارة لنفسه أل يصلح من
تلك اللة التي تسهل له حياته ويصيب بعادمها الضر لنفسه ولغيره من الناس؟ لذلك فعلى المسلم
أل يأخذ الحضارة من مظهرها وشكلها بل على المجتمع المسلم أن يعمل على الخذ بأسباب
الحضارة من قواعدها الصلية ،وأن يدرس كيفية تجنب الضرار حتى ل نقع في دائرة
عمَالً * الّذِينَ
الخسرين أعمالً ،هؤلء الذين قال فيهم الحق سبحانهُ {:قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ
حسِنُونَ صُنْعا }[الكهف.]104-103 :
سعْ ُيهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَ ّن ُهمْ يُ ْ
ضلّ َ
َ
ولنا أن نأخذ المثل العلى دائما من الكون الذي خلقه ال لنصونه ،إن عادم وأثر وناتج أي شيء
مخلوق ل يفيد النسان ويفيد الكون حتى فضلت الحيوان يُنتفع بها في تسميد الرض وزيادة
علَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ {.
خ ْوفٌ َ
ن وََأصْلَحَ فَلَ َ
خصوبتها .وهكذا نعرف معنىَ } :فمَنْ آمَ َ
فاليمان عمل القلب ،والصلح عمل الجوارح ،ولذلك يجب أن نصلح في الكون بما يزيد من
صلحه .ولنعلم أن الكون لم يكن ناقصا وأننا بعملنا نستكمل ما فيه من نقص ،ليس المر كذلك،
ولكننا أردنا أن نترف في الحياة ،وما دمنا نريد الترف فلنزد من عمل العقل المخلوق ل في
المواد والعناصر التي أمامنا وهي المخلوقة ل .وأن نتفاعل معها بالطاقات والجوارح المخلوقة
ل ،ما دمنا نريد أن نتنعم نعيما فوق ضروريات الحياة.
ومثال ذلك أننا قديما وفي أوائل عهد البشرية بالحياة ،كان النسان عندما يعاني من العطش،
يشرب من النهر ،وبعد ذلك وجد النسان أنه ل يسعد بالرتواء عندما يمد يده ليأخذ غرفة من ماء
النهر ،فصنع إناءً من فخار ليشرب منه الماء ،ثم صنع إناءً من الصاج ،ثم صنع إناء من البلور،
فهل هذه الشياء أثرت في ضرورة الحياة أو هي ترف الحياة؟
إنها من ترف الحياة .فإن أردت أن تترف حياتك فلتُعمل عقلك المخلوق ل في العناصر المخلوقة
ل ،بالطاقة والجوارح المخلوقة ل ،وبذلك يهبك ال من الخواطر ما تستكشف به آيات العلم في
الكون .ومثال ذلك :أن أهل الريف قديما كانوا يعتمدون على نسائهم ليملن الجرار من البار أو
الترع ثم تقوم سيدة البيت بترويق المياه .وعندما ارتقينا قليلً ،كان هناك من الرجال من يعمل في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مهنة السقاية ،ويمر بالقرب المملوءة بالماء على البيوت .وعندما قام أهل العلم بالستنباط
والعتبار اكتشفوا قانون الستطراق ،فرفعوا المياه إلى خزانٍ عالٍ ،وامتدت من الخزان " مواسير
" وأنابيب مختلفة القطار والحجام ،وصار الماء موجودا في كل منزل ،هذا ما فعله الناس الذين
استخدموا العقول المخلوقة ل.
وكان الناس من قبل ذلك يكتفون بالضروري من كميات المياه ،فالسرة كانت تكتفي بملء قربة
أو قربتين من الماء ،ولكن بعد أن صارت في كل منزل ،أساء الكثير من الناس استخدام المياه،
فأهدروا كميات تزيد عن حاجتهم ،وتمثل ضغطا على " مواسير " الصرف الصحي ،فتنفجر
ويشكو الناس من طفح المجاري.
إن على المسلم أن يرعى حق ال في استخدامه لكل شيء ،فالماء الذي يهدره النسان قد يحتاج
إليه إنسان آخر ،وعندما نتوقف عن إهداره ،نمنع الضرر عن أنفسنا وعن غيرنا من طفح "
مواسير " الصرف الصحي .وليحسب كل منا -على سبيل المثال -كم يستهلك من مياه في أثناء
الوضوء .إن النسان منا يفتح الصنبور ويغسل يديه ثلثا ويتمضمض ثلثا ،ويستنشق ثلثا،
ويغسل وجهه ثلثا ،ويغسل ذراعيه ثلثا ،ويمسح برأسه ،ويغسل أقدامه .ويترك النسان الصنبور
مفتوحا طَوال تلك المدة فيهدر كميات من المياه ،ولو فكر في حسن استخدام المياه التي تنزل من
الصنبور لما اشتكى غيره من قلة المياه.
فلماذا ل يفكر المسلم في أن يأخذ قدرا من المياه يكفي الوضوء ويحسن استخدام الماء؟ وكان
النسان يتوضأ قديما من إناء به نصف لتر من الماء ،فلماذا ل نحسن استخدام ما استخلفنا ال
فيه؟
على النسان منا أن يعلم أن اليمان كما يقتضي أو يوجب ويفرض الصلة ليصلح النسان من
نفسه ،يقتضي -أيضا -إصلح السلوك فل نبذر ونهدر فيما نملك من إمكانات ،وأن ندرس
كيفية الرتقاء بالصلح ،فل نتخلص من متاعب شيء لنقع في متاعب ناتجة من سوء تصرفنا في
الشيء السابق ،بل علينا أن ندرس كل أمر دراسة محكمة حتى ل يدخل النسان منا في مناقضة
سؤُولً
سمْ َع وَالْ َبصَرَ وَالْ ُفؤَادَ ُكلّ أُولـا ِئكَ كَانَ عَنْهُ مَ ْ
قوله الحق {:وَلَ َت ْقفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ إِنّ ال ّ
}[السراء.]36 :
أي عليك أن تعرف أيها المسلم أنك مسئول عن السمع والبصر والقلب وستسأل عن ذلك يوم
القيامة ،لذلك ل يصح أن تتوانى عن الخذ بأحسن العلم ليحسن قولك وفعلك .وبذلك ل يكون
هناك خوف عليك في الدنيا أو الخرة؛ لنك آمنت وأصلحت ،وأيضا ل حزن يمسك في الدنيا ول
خوْفٌ عَلَ ْيهِمْ وَلَ ُهمْ يَحْزَنُونَ {.
ن وََأصْلَحَ فَلَ َ
في الخرةَ } :فمَنْ آمَ َ
إنك بذلك تصون نفسك في الخرة وفي الدنيا أيضا؛ لنك تسير في الحياة بإيمان وتصلح في الدنيا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
متبعا قوانين ال .وإن رأيت أيها المسلم متعبة في الكون فاعلم أن حكما من أحكام ال قد عطّل،
إن رأيت فقيرا جائعا أو عريانا فاعلم أن حقا من حقوقه قد أكله أو جحده غيره؛ لن الذي خلق
الكون ،خلق ما يعطيه الغني من فائض عنه للفقير ليسد عوزه ،لكن الغني قبض يده عن حق ال،
وأيضا جاء قوم يتسولون بغير حاجة للتسول ،والفساد هنا إنما يأتي من ناحيتين :ناحية إنسان
استمرأ أن يبني جسمه من عرق غيره ،أو من إنسان آخر غني ل يؤدي حق ال في ماله ،بذلك
يعاني المجتمع من المتاعب.
ويقول الحق من بعد ذلك } :وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا{ ...
()830 /
سقُونَ ()49
سهُمُ ا ْلعَذَابُ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ
وَالّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا َي َم ّ
والذين كذبوا بآيات ال هم إما من كذب الرسول في اليات الدالة على صدقه وهو المبلغ عن ال،
وهؤلء دخلوا في دائرة الكفر .وإمّا هم الذين كذبوا بآيات المنهج ،فلم يستخدموا المنهج على
أصوله وانحرفوا عن الصراط المستقيم والطريق السوي .وهؤلء وهؤلء قد فسقوا ،أي خرجوا
عن الطاعة ،ونعلم أن كلمة " الفسق " مأخوذة من خروج " الرطبة " عن قشرتها عندما يصير
حجمها أصغر مما كانت عليه لكتمال نضجها .والذي يفسق عن منهج ال هو الذي يقع في
الخسران؛ لن منهج ال هدفه صيانة النسان المخلوق ل بـ " افعل كذا " و " ل تفعل كذا ".
إن النسان يفسق عندما ل يفعل ما أمره ال أن يفعله ،أو يفعل ما نهاه ال عن أن يفعله .ونجد
النسان منا يخاف على جهاز التسجيل أو جهاز التليفزيون من أن يفسد فيتبع القواعد المرعية
لستخدامه .فل يمد -مثلً -جهازا من الجهزة الكهربية بنوعية من الطاقة غير التي يحددها
الصانع ،فإن قال لصانع :استخدم كهرباء مقدارها مائتان وعشرون فولتا حتى ل تفسد اللة
فالنسان ينصاع لما قاله الصانع ،فما بالنا بالنسان ،إن ال -جلت قدرته -خلق النسان ووضع
له قوانين صيانته .إذن فمن يفسد في قوانين صيانة نفسه يمسه العذاب ،وكلمة يمسهم الذعاب
تعطي وتوحي بأن العقوبة تعشق أن تقع على المجرم ،كأن العذاب سعى إليه ليناله ويمسه وها
هوذا قول الحق عن النارَ {.تكَادُ َتمَيّزُ مِنَ الغَ ْيظِ كُّلمَا أُ ْل ِقيَ فِيهَا َفوْجٌ سَأََل ُهمْ خَزَنَ ُتهَآ أََلمْ يَأْ ِتكُمْ َنذِيرٌ }
[الملك.]8 :
ت وَ َتقُولُ َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق.]30 :
ل ِ
جهَنّمَ َهلِ امْتَ َ
وهو سبحانه القائل عن النارَ {:يوْمَ َنقُولُ ِل َ
إذن فالعقوبة نفسها حريصة على أن تنفذ إلى من أساء .ولذلك يلح العذاب في أن يمس الذين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فسقوا .ويأتي الحق هنا بكلمة " المس " لحكمة ،ذلك أن عقوبة ال ل تقارن بعقوبة البشر.
فالنسان يعاقب إنسانا بمقياس قدرته وقوته ،وليس لحد من الخلق أن يتمثل قدرة ال في العذاب،
ولذلك يكفي المس فقط ،لن التعذيب يختلف باختلف قدرة المعذّب ،فلو نسبنا التعذيب إلى قدرة
ال لكان العذاب رهيبا ل طاقة لحد عليه.
ويقول الحق بعد ذلك { :قُل لّ َأقُولُ َلكُمْ عِندِي} ...
()831 /
ب وَلَا َأقُولُ َلكُمْ إِنّي مََلكٌ إِنْ أَتّبِعُ إِلّا مَا يُوحَى إَِليّ
ُقلْ لَا َأقُولُ َل ُكمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللّهِ وَلَا أَعْلَمُ ا ْلغَ ْي َ
عمَى وَالْ َبصِيرُ َأفَلَا تَ َت َفكّرُونَ ()50
ُقلْ َهلْ يَسْ َتوِي الْأَ ْ
و " قل " -كما نعلم -هي أمر من ال لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،والرسول يبلغ ما أمر به
ال ،وكان يكفي أن يقول الرسول صلى ال عليه وسلم :ل أقول لكم عندي خزائن ال .لكنها دقة
البلغ عن ال ،إنّ القرآن توقيفي بمعنى أن كل كلمة فيه نزلت من ال كما هي وبلغها الوحي
المين لسيدنا رسول ال ،وبلغها لنا صلى ال عليه وسلم كما هي ،ويدل ذلك على أن أحدا ل
يملك التصرف حتى في اللفظ ،بل ل بد من أمانة النقل المطلقة.
وأبلغنا الرسول صلى ال عليه وسلم أن الحق قد أرسله هاديا ومبشرا ونذيرا بآية دالة على صدق
البلغ عنه وهي القرآن .وكان يجب على مَن يستقبل هذا البلغ عن رسول ال صلى ال عليه
وسلم لنفسه .فليس من حق أحد أن يطلب من الرسول آيات غير التي أنزلها ال؛ لنه صلى ال
عليه وسلم لم يدّع إل أنه مبلغ عن ال ،فيجب أن تكون المقابلة له في إطار هذا الدعاء.
وقد تجاوز الكافرون ذلك عندما طلبوا من رسول ال صلى ال عليه وسلم آيات أخرى ،كتفجير
بعض الرض ينابيع مياه ،أو أن يكون له بيت من زخرف ،ولذلك يوضح له الحق سبحانه أن
يبلغهم أنه ل يملك مع ال خزائن السموات والرض ،فكيف تطلبون بيوتا وقصورا ،وكيف
تطلبون معرفة الغيب حتى تقبلوا على النافع وتتجنبوا الضار؟ .أل يكفيكم المنهج اللهي الذي
يهديكم إلى صناعة كل نافع لكم ويجنبكم كل أمر ضار بكم؟ ثم إن الرسول صلى ال عليه وسلم
لم يقل لهم إنه يعلم الغيب .وهو بشهادتهم هم يقولون عنه ما جاء بالقرآن الكريمَ {:وقَالُواْ مَالِ
سوَاقِ َلوْل أُن ِزلَ إِلَ ْيهِ مََلكٌ فَ َيكُونَ َمعَهُ نَذِيرا * َأوْ يُ ْلقَىا
طعَا َم وَ َيمْشِي فِي الَ ْ
هَـاذَا الرّسُولِ يَ ْأ ُكلُ ال ّ
سحُورا }[الفرقان-7 :
إِلَيْهِ كَنْزٌ َأوْ َتكُونُ لَهُ جَنّةٌ يَ ْأ ُكلُ مِ ْنهَا َوقَالَ الظّاِلمُونَ إِن تَتّ ِبعُونَ ِإلّ رَجُلً مّ ْ
.]8
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد سخروا من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وطالبوا أن تكون له آيات أخرى ،وتساءلوا كيف
يمكن أن يزعم أنه رسول وهو يأكل الطعام كما يأكلون ،ويغشى السواق لكسب العيش كما يفعل
البشر ،ولو كان رسولً لكفاه ال مشقة كسب العيش ،ولنزل إليه مَلكا يساعده في البلغ عن ال،
أو يلقي إليه ال من السماء بكنز ينفق منه ،أو تكون له حديقة غناء يأكل من ثمارها.
هذا ما قاله كبار المشركين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر ،وأرادوا أن يصدوا الناس عن اليمان
بدعوة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فمرة يتهمونه بأنه مسحور ،ومرة بأنه مجنون ،وثالثة بأنه
يهذي ،ورابعة بأنه كذاب ،وخامسة بأنه يتلقى القرآن من أعاجم ،ويدحض الحق كل هذه الكاذيب
وكل تلك الفتراءات التي ضلوا بها وأضلوا بها سواهم.
إنه صلى ال عليه وسلم رسول من الرسلَ {:ومَآ أَ ْرسَلْنَا قَبَْلكَ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ ِإلّ إِ ّنهُمْ لَيَ ْأكُلُونَ
ن َوكَانَ رَ ّبكَ َبصِيرا }[الفرقان:
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ فِتْنَةً أَ َتصْبِرُو َ
جعَلْنَا َب ْع َ
سوَاقِ وَ َ
طعَا َم وَ َيمْشُونَ فِي الَ ْ
ال ّ
.]20
إن الرسل من قبلك يا رسول ال كانت تأكل الطعام ،وتكسب العيش من العمل ويترددون على
السواق ،فإذا كان المشركون يعيبون عليك ذلك ويحاولون إضلل الناس بكل الساليب ،فأنت
ومن معك يا رسول ال من المؤمنين سيكتب ال لكم النصر و َيجْزِي كُلً بما عمل .ثم إن اليات
التي يطلبها المشركون من رسول ال كانت كلها تعنتا؛ فهو لم يقل لهم :إنه ملك .لقد قال لهم :إنه
رسول مبلغ عن ال ،وكل ما يؤديه هو صدق الداء عن ال ،فكيف يطلبون منه أشياء ل تتعلق
إل بملكية ال لخزائن الرض؟ وكيف يطلبون منه أن يعلمهم الغيب؟ وكيف ينتقدون أنه رسول
وبشر يأكل ويتزوج ويمشي في السواق؟
إن كل تلك القوال دليل التعنت؛ لنهم قد طلبوا أشياء تخرج عن مجال ما ادعاه رسول ال لنفسه
من أنه رسول مبلغ عن ال؛ إنهم طلبوا الخير النافع والينابيع التي تجري ،والجنات والقصور،
وأشياء كلها ليست في مقدور رسول مبلغ عن ال ،لن الذي يهبها هو ال سبحانه وتعالى.
وكلمة " خزائن " هذه مفردها " خِزانة " وهي الشيء الذي يكنز فيه كل نفيس ليخرج منه وقت
الحاجة .ول تقل :خِزانة إل لشيء جعلته ظرفا لشيء نفيس تخاف عليه من أن تخرجه في غير
ن وزمان إخراجه .وخزائن الرض كلها يملكها ال ،فهو سبحانه وتعالى القائل {:وَالَرْضَ
َأوَا ِ
ش َومَن لّسْ ُتمْ
جعَلْنَا َلكُمْ فِيهَا َمعَايِ َ
شيْءٍ ّموْزُونٍ * َو َ
ي وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن ُكلّ َ
سَمَدَدْنَاهَا وَأَ ْلقَيْنَا فِيهَا َروَا ِ
شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائِنُ ُه َومَا نُنَزُّلهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }[الحجر.]21-19 :
لَهُ بِرَا ِزقِينَ * وَإِن مّن َ
إذن فالحق جاء بالقضية الكلية ،وهي أن أسرار ال ونفائسه في الكون هي بيد ال في خزائنه،
وهو سبحانه يجليها ويظهرها ويكشفها لوقتها .كيف؟ إن الحق سبحانه وتعالى تكلم عن بدء الخلق،
وتكلم عن خلق السموات والرض ،وتكلم عن هذا الموضوع كلما مجملً تفسره اليات الخرى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلُونَ لَهُ أَندَادا
ن وَتَ ْ
ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْ ِ
خلَ َ
فالحق سبحانه وتعالى يقولُ {:قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي َ
سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ
سمَآ ِء وَ ِهيَ ُدخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ
سوَآءً لّلسّآئِلِينَ * ثُمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ
َ
أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت.]11-9 :
يأمر الحق رسوله أن يبلغ هؤلء المشركين كيف يكفرون بال الذي خلق الرض في يومين
وكيف يجعلون له شركاء وهو الخالق للرض التي هي مناط الحركة لبن آدم.
لقد خلق فيها سبحانه ما يقيت ابن آدم وتقوم به حياته وإن أراد الترف فل بد له من الطموح في
الحياة .وهو سبحانه جعل في الرض رواسي -أي جبالً -وبارك في الرض وفي الرواسي.
ثم جاء بتقدير القوات بعد ذكر الرواسي وهي الجبال ،فكأن الجبال في حقيقة أمرها هي مخازن
القوت .وقد يقول قائل :كيف ذلك؟
ونقول :إن الواقع قد أثبت هذه الحقيقة؛ فأنت إن نظرت إلى النهار التي تجري ،لوجدتها تتكون
من الماء الذي تساقط من المطار على الجبال ،فالمياه المكونة من ذرات صغيرة دقيقة تنزل على
هذه الجبال لتفتتها ،وكأن المياه هي " المبُرَد " الذي يزيل من سطح الجبال هذه الرمال المليئة
بالعناصر الغذائية للرض ،وهو ما نسميه نحن " الغرين " ،والغرين -كما نعلم -هو ما ينزل
مع المياه من سطوح الجبال إلى مجرى النهر ،وباندفاع المياه في مجرى النهر تنتقل المادة
الخصبة إلى الرض ،وتتكون تلك الطبقة الخصبة التي تتغذى منها النباتات .ولو شاء الحق
سبحانه وتعالى لجعل سطح الرض كله مستويا ،وفيه الخصوبة التي تنبت النبات.
لكن حكمته سبحانه شاءت أن تصنع للنبات غذاءه بهذه الطريقة .فأنت إذا ما نظرت إلى النبات
وجدته يختلف من نوع إلى نوع في أسلوب امتصاصه للعناصر الغذائية اللزمة له ،فهناك نوع
من النبات يمتص غذاءه من عمق نصف المتر ،ونوع ثانٍ يأخذ غذاءه من عمق المتر ،وهكذا.
وإن لم نأت للرض المزورعة بسماد أو مخصبات أو غرين ،فإن الرض تضعف؛ لن الحق
يريد لعملية الزراعة أن تستمر وتمتد وتتوالى ،فجعل الجبال مكونة بشكل صُلب ،وتمر على
الجبال عوامل التعرية من حرارة وبرودة وتشققات ثم ينزل عليها المطر فيذيب من سطوح الجبال
بعضا من تلك المواد الغذائية اللزمة للرض ،تنتقل هذه المواد الغذائية عبر المياه إلى الرض،
وبهذا يتوالى المداد بالخصب من الجبال إلى الرض .وهكذا نجد أن الجبال في حقيقتها هي
مخازن لخيرات ال.
وهل مقومات الحياة زرع فقط؟ ل ،لنك إن نظرت إلى نموذج مصغر للكرة الرضية ،ستجده
يشبه البطيخة الكبيرة ،وإن جئت لتقطع مثلثا من محيط القشرة إلى مركز البطيخة ،وجعلت هذا
المثلث يشبه الهرم ،ثم أخذت منها مثلثا آخر من أي ناحية سواء أكان من ناحية الرض الخصبة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أم من البحار أم من الجبال أم من الوديان ،أم من الصحاري ،ثم نظرت من بعد كل ذلك إلى
الخير المطمور في كل جزء من هذه الجزاء لوجدته مساويا للجزء الخر .لماذا؟ لن الحياة ل
تعتمد على ألوان محصورة من القوت ،ولكنها تحتاج في عمارتها إلى أدوات ومواد الحضارة من
حديد وبترول ومنجنيز وغير ذلك من كنوز الرض التي تقوم عليها الحضارة.
إننا نجد هذه الخيرات مكنوزة إما في الجبال وإما في الصحاري .ولكن كل خير من هذه الخيرات
له ميعاد ،وله ميلد ،وانت لو قست ووزنت الخيرات الموجودة في أي مثلث هرمي من الرض
من مركزها إلى محيطها ،وقارنتها بوزن قياس الخيرات الموجودة في مثلث هرمي آخر مساوٍ له
من الكرة الرضية نفسها ،لوجدت الخيرات متساوية في كل من المثلثين .ولكن لكل لون من هذه
شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائُِن ُه َومَا نُنَزُّلهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }[الحجر.]21 :
الخيرات ميلد وميعاد {.وَإِن مّن َ
فما يقال له شيء ،فإن له خزانة عند ال يُنْ ِزلُ منها سبحانه بقَدَر .ونرى ذلك من قمة الوجود،
وهو العقل ،إن العقل شيء ،وله خزائن عند ال ،فما كان موجودا من أفكار من عشرة قرون لدى
البشرية جميعا ل يقاس بكمية الفكار التي يمتلكها .العقل الجمعي للعالم الن ،ذلك أن كل جيل قد
استفاد مقدمات من أفكار الجيل السابق له ليصل إلى نتاج جديد .إذن فهناك خزائن للفكار
وللخواطر .وكذلك كل شيء في الوجود له عند ال خزائن ل ينزل منها إل ِبقَدَر معلوم } :وَإِن
شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ َومَا نُنَزُّلهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ {.
مّن َ
وساعة يرى الحق أن يظهر ميلد سر ما ،فهو سبحانه يهيء السباب لذلك .وعلى سبيل المثال -
ول المثل العلى -كنا قديما نقطع الخشاب من الشجار لنصنع منها وقودا ،وكنا بعد أن نقطع
الخشاب نخشى عليها من الفساد ،لذلك وضع الحق بعضا من إلهاماته للعقل البشري حتى
يستطيع تحويل الخشب إلى فحم ليضمن النسان صيانة الخشب ،وليضمن وجود مصدر للطاقة
هو الفحم النباتي .ومن بعد ذلك اكتشف النسان الفحم الحجري .ومن بعد ذلك اكتشفنا البترول،
كل ذلك من خيرات الطاقة كان مكنوزا في الرض ،ولم يكتشفه النسان إل بعد أن أعطاهم ال
الستعداد لستقبال هذا الخير ،وسيظل عطاء ال قائما إلى أن تقوم الساعة .فمع الفحم دخلنا
عصر البخار ،ثم دخلنا عصر الكهرباء ،ثم دخلنا عصر الذرة.
وكل هذه الشياء كان لكل منها ميلد ،ولكل منها مكان في خزائن ال ،وعندما ينزل ال أي
خاطر من الخواطر على عبد من عباده فإن العبد يأخذ بالسباب ويكتشف ميلد السر المكنوز.
وكل لحق يأخذ من خير السابق ويبني عليه .وهكذا ينمو الخير دائما.
والشياء في خزائن ال إما أن تكون مطمورة وإما تكون محكمة إحكاما رقميا ،وعلى سبيل
المثال ،هذا هو الراديوم الذي اكتشفته " السيدة كوري " أظهره ال على يديها في وقت الحاجة
إليه .وكان العلماء قبل اكتشاف الراديوم يعلمون أن هناك عنصرا لم يعرفوه له تركيب ذري
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
معين؛ لن عناصر الكون مصنوعة بحكمة جليلة كبيرة.
وقد ينزل الشيء شائعا في غيره ،ومثال ذلك أن تقطف وردة وتستمتع بأريجها وجمال منظرها
إلى أن تذبل ،وقد يغيب عنك أن الوردة مكونة من تركيب معين ،فالرطوبة هي التي تعطي الوردة
نضارة ،وكل شيء في الوردة هو من مادة الرض ،وعندما تذبل الوردة فهي تعود إلى عناصر
الرض بعد أن تتبخر منها المياه وتذهب كبخار مع غيرها من المتبخرات إلى السحاب الذي
تحركه الرياح فيسقط مطرا.
وهكذا نجد أن قطرات المياه التي كانت في الوردة تبخرت وانضمت إلى السحاب ،قد عادت مرة
أخرى إلى الرض من خلل المطر ،ومادة الماء نفسها لم تزد ولم تنقص منذ أن خلق ال الخلق
في هذا الكون ،ونحن ننتفع بهذا الماء ،وعندما ينتهي انتفاع إنسان بجزء من المياه فالماء يعود من
خلل عمليات أرادها ال إلى خزانة الماء في الكون .وليسأل النسان منا نفسه :كم طنا من الماء
قد شربته في حياتك؟ وستجد أنك قد شربت وانتفعت بمئات أو بآلف من الطنان ،وخرج منك
الماء في شكل عرق أو بول أو مخاط ،أو غير ذلك .وكم بقي من الماء في جسمك؟
إنها نسبة قد تزيد على تسعين بالمائة من وزن جسمك أيا كان الوزن ،ومن بعد أن يأتي أجلك كما
قدره ال .فتتبخر كمية المياه التي في هذا الجسم لتنضم إلى السحاب ثم تنزل مع المطر .إذن
فكمية المياه لم تنقص في الكون ولم تزد .وهذا ما نسميه الرزق المخزون بالتحول ،تماما كما
تبخرت كمية المياه التي في الوردة ،وتبخرت رائحتها في الجو وكذلك مادتها الملونة ذابت في
الرض .وساعة نزرع شجرة ورد تأخذ كل وردة لونها من المواد الملونة المخزونة في الرض.
إذن فكل شيء إما مخزون بذاته في خزائن ال ،وإما مخزون بعناصره المحولة إلى غيره .وكل
الوجود على هذا الشكل .وحركة الحياة هي بين الثنين.
إن النسان -على سبيل المثال -من لحم ومن دم ،والبقرة أيضا من لحم ودم ،ويموت النسان
ليعود إلى الرض ،ويستفيد النسان من الحيوان ،وتعود كل مادة الحيوان إلى الرض .وتدخل
العناصر في دورة جديدة .إذن هي خزائن للحق ،إما محولة ،وإما خزائن حافظة؛ فالشيء الذي
نستنبطه بحالته هو في خزائن حافظة ،والشيء الذي يدور في غيره ويرجع إلى الصل هو في
خزائن محولة.
ومن رحمة الحق بالخلق أنه لم يملك خزائن الرض أو السماوات لحد من البشر حتى ل يستعلي
إنسان على آخر .ولم يعط الحق حتى للرسل أي حق للتصرف في هذه الخزائن؛ لن الرسل بشر،
وقد احتفظ الحق لنفسه بخزائن الرض والسموات ليطمئننا على هذه الخزائن .ولذلك يقول الحق
ق َوكَانَ النْسَانُ قَتُورا }
خشْيَ َة الِ ْنفَا ِ
سكْتُمْ َ
حمَةِ رَبّي إِذا لمْ َ
سبحانه {:قُل ّلوْ أَنْ ُتمْ َتمِْلكُونَ خَزَآئِنَ َر ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[السراء.]100 :
الحق سبحانه يعلم أن النسان مطبوع على الحرص الشديد أو البخل ،وهو سبحانه الغني الكريم؛
لذلك ينزل ما يشاء من خزائنه لعباده حتى ينتفعوا .ولم يدع الرسول صلى ال عليه وسلم الخزائن
لنفسه ،فكيف يطالبه المشركون بما في خزائن ال ،وهو صلى ال عليه وسلم يوضح ذلك ويوضح
أيضا أنه ل يعلم الغيب } :قُل لّ َأقُولُ َلكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَل أَعَْلمُ ا ْلغَ ْيبَ { [النعام.]50 :
وهو بذلك صلى ال عليه وسلم ينفي عن نفسه أي صفة من صفات اللوهية؛ لن الخزائن الكونية
هي في يد ال ،وكذلك ينفي عن نفسه علم الغيب .ولقائل أن يقول :ولكن ماذا عن الشياء
والحداث التي كان يخبرنا بها سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم .وهي أحداث مستقبلية؟
ونقول :إن ذلك ليس علما الغيب ،ولكن الرسول صلى ال عليه وسلم ُمعَلّم غيب ،أي أن ربنا
ك َومَا
سبحانه وتعالى قد علمه ،ومثال ذلك قول القرآن الكريم {:ذاِلكَ مِنْ أَنَبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهِ إِلَي َ
صمُونَ }[آل عمران.]44 :
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْيَمَ َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ يَخْ َت ِ
كُنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
إن الحق سبحانه هو الذي علّم رسوله صلى ال عليه وسلم تلك الخبار التي كانت من أنباء
ظهِرُ عَلَىا غَيْ ِبهِ أَحَدا * ِإلّ مَنِ
الغيب ،ويحسم الحق هذه المسألة عندما يقول {:عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ يُ ْ
خ ْلفِهِ َرصَدا }[الجن.]27-26 :
ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ فَإِنّهُ يَسُْلكُ مِن بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ َ
فسبحانه وتعالى هو وحده عالم الغيب ،ول يُطْلِع أحدا من خلقه على الغيب .إل الرسول الذي
يرتضيه ال ليخبره ببعض من الغيب ،ويحفظ الحق رسوله في أثناء ذلك بملئكة حفظة تحميه من
تعرض الجن لما يريد إطلعه عليه لئل يسترقوه ويهمسوا به إلى الكهنة قبل أن يبلغه الرسول
وحتى يصل الوحي إلى الناس خالصا من تخليط الجن وعبثهم.
إذن فالرسول ُمعَلّم غيب وليس عالم غيب .والغيب -كما نعلم -هو ما غاب عن الحس ،ولم
توجد له مقدمات تدل عليه ،فهناك أشياء تغيب عنك ولكن لها مقدمات ،فإن التزمت بالمقدمات من
بدايتها يمكنك أن تصل إلى النتيجة .مثال ذلك :إن أعطيت تلميذا مسألة حسابية ليقوم بحلها،
وعندما يحل التلميذ هذه المسألة فهو لم يعلم الغيب ،ولكنه أخذ المقدمات والمعطيات ،وبحث عن
المطلوب ،وأخذ يرتب المعلومات ليستنبط منها النتيجة.
وكذلك حال الذين اكتشفوا أسرارا في الوجود ،أعلموا غيبا؟ ل ،إنهم فقط استخدموا بعضا من
المقدمات التي كانت موجودة أمامهم في الكون ،وتوصلوا إلى نتائج جديدة ،صحيح أن هذه النتائج
كانت غائبة عنا ،ولكن مقدماتها كانت موجودة ،وكذلك كل النظريات الهندسية ،كل نظرية نجدها
تعتمد على سابقتها ،وكل نظرية -حتى أعقدها وأصعبها -هي ملحظة لمر بدهي في الكون.
وكل علم من العلوم له مقدمات إن بحث فيها باحث فإنه يصل إلى النتائج الجديدة ،وهذا ما نسميه
" غيبا إضافيا " ،أي كان غيبا في وقت ما لكنه غير غيب في وقت آخر ،ولذلك يُنسب هذا العلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ مّنْ عِ ْل ِمهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ }[البقرة:
إلى البشر دائما ،ولنقرأ قول الحق سبحانه {:وَلَ ُيحِيطُونَ بِ َ
.]255
والحاطة بالعلم كلها ل ،وهو سبحانه الذي يأذن لبعض من خلقه بالحاطة ببعضٍ من هذا العلم،
وكل سر من أسرار هذا الكون ل يولد إل بإذن منه سبحانه وتعالى ،وهو سبحانه يوفق العلماء أن
يبحثوا في المقدمات ليصلوا إلى النتائج .ولكن ماذا عن العلم الذي ل توجد له مقدمات؟ هذا من
الغيب المطلق الذي ل يظهره الحق لحد إل لمن ارتضى من رسول.
أقول ذلك حتى ل يخطئ أحدنا فيظن أن إخبار إنسان لنسان بمصير شيء ضاع منه هو معرفة
للغيب ،فقد يكون هذا غيبا بالنسبة لصاحب الشيء الضائع ،ولكنه ليس غيبا بالنسبة للص الذي
سرقه ،ول هو غيب بالنسبة للشخص الذي أخفى المسروقات ،ول هو غيب بالنسبة للجان
المحيطين باللص ،إذن فهذا ليس غيبا مطلقا ،ولكنه غيب معلوم للغير .إذن فخزائن الحق سبحانه
وتعالى ملى بكل أنواع الخير التي تؤدي للنسان مهمة البقاء في الرض سواء من جهة
ب وَل َأقُولُ َلكُمْ إِنّي مََلكٌ { [النعام.]50 :
الضرورات أو الشياء الترفية } .وَل أَعَْلمُ ا ْلغَ ْي َ
إذن فالرسول صلى ال عليه وسلم ينفي عن نفسه بقول الحق ثلثة أشياء :منها شيئان ينفيان
اللوهية عن الرسول صلى ال عليه وسلم ،وهي ملكية خزائن الكون ،وعلم الغيب ،وشيء ثالث
وهو أنه ليس مَلَكا ،فهل يعني ذلك أن المََلكَ أرفع من النبي؟ ل ،ولكنهم قالوا له :إنما يمشي في
السواق ويتكسب العيش بالعمل ،والمَلَك ل يفعل ذلك .ولكن الرسول بالطبع أرقى منزلة من
ك الملوك ،وهو الحق سبحانه وتعالى:
المَلَك؛ لنه يقوم بهداية النس والجن ويتبع ما يوحيه إليه مِل ُ
} إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَىاإَِليّ {.
إنه من فرط ارتفاعه في الصدق المبلغ عن ال يعلن حقيقته صلى ال عليه وسلم بأنه من البشر،
والبشر ابن أغيار ،ويعلم شيئا ،ويجهل شيئا ،ومن مصلحة المرسل إليهم أن يكون الرسول متبعا
ل مبتدعا ،ذلك أنه ينقل لهم تكاليف الخالق بألفاظها ل أفكار البشر التي قد تتغير أو تتبدل .فلو
ابتدع لبتدع في إطار بشريته ،وفي ذلك نزول ل ارتقاء ،لكنه في التباع يأتي بالرتقاء للبشر؛
لنه يتبع ما أوحى به الله الذي اصطفاه رسولً .ولذلك كانت المية في رسول ال صلى ال
عليه وسلم شرفا له ولنا .أما ُأمّيّة النسان العادي فهي عيب ،إنما ُأمّيّة محمد صلى ال عليه وسلم
هي الكمال.
و " ُأ ّميّ " -كما نعلم -تعني أنه كما ولدته أمه ،لم يأخذ ثقافة ولم يتعلم من أحد من البشر ،لكن
علمه وثقافته فوقية كلها.
إن ذلك وحي من ال ،وهو صلى ال عليه وسلم عندما يعلن أنه نبي أمي ،فهذا معناه أنّ كل ما
دخل في ذهنه لم يأخذه عن أحد من خلق ال ،وإنما كل ما جاء إلى هذا الذهن قد أخذه رسول ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عن ال .وهكذا تكون أميته شرفا لنا ،ولكن المية فينا -نحن المسلمين -تختلف يجب أن نعمل
جميعا على القضاء عليها } :إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَىا إَِليّ { .والرسول صلى ال عليه وسلم ل ينطق
عن الهوى بل يبلغ ما جاء به الوحي.
عمَىا وَالْ َبصِيرُ َأفَلَ تَ َتفَكّرُونَ { [النعام.]50 :
ويذيل الحق الية بقولهُ } :قلْ َهلْ َيسْ َتوِي الَ ْ
وساعة يأتي الحق بقضية يستخدمها كمثل ،فل بد أن يأتي بقضية متفق عليها حتى من الخصوم
المواجهين له؛ فهم يعرفون أن العمى ل يستوي مع البصير ،تماما مثلما ل يستوي الظل
والحرور أو الظلمات والنور .إن الفطرة ل تقبل الخلف في هذه المور .والعمى -كما نعرف
-هو عدم الرؤية لمن مِن شأنه وحاله أن يرى ،فل يقول إنسان عن حجر :إن الحجر أعمى؛ لن
الحجار ل تبصر.
إذن ل نقول العمى إل كوصف لمن يفترض فيه أن يرى .وماذا تفعل عدم الرؤية في المر
المحس؟ إن عدم الرؤية يؤذي النسان لنه كائن متحرك .فقد يقع في حفرة أو يصطدم بشيء
يؤذيه ،وبإقرار الجميع نعرف أن العمى تضطرب حركته ويتعرض للمتاعب ،والذي يحمي
النسان من ذلك أن يكون مبصرا أو مستعينا بمن يبصر حتى يمكن أن يستقبل المرئيات.
وكان العلماء قديما يظنون أن البصار هو نتيجة خروج شعاع من العين ليذهب إلى الشيء
المرئي ونقض هذه القضية عالم إسلمي هو ابن الهيثم الذي علم العلماء أن الشعاع إنما يخرج من
المرئي إلى عين الرائي بدليل أن الشيء المرئي ل يراه النسان في الظّلم .والعمى يمنع العين
من استقبال الشعاع ،ول يختلف أحد في أن العمى مهلك وضار ومتعب ،والبصار مريح .وكأن
الحق يقول للخلق :إياكم أن تظنوا أن حياتكم كلها تعتمد على المحيط المحس ،ل ،إن هناك قيما
إن لم يعرفها النسان فهو يتعثر ويضطرب ويتخبط.
إذن فمنهج السماء قد جاء ليهدي النفس البشرية إلى القيم ،كما يهدي النور الحسي النسان إلى
المحسات .فإذا كان البصر هو وقاية للنسان لتفادي العقبات ،فكذلك المنهج هو الذي يبين للنسان
أل يصطدم بالعقبات في المور المعنوية .والنسان يحيا بقيمه ،بدليل أن العمى قد يجد من يقوده
من المبصرين ،ولكنه قد ل يجد هدايته في هداية مهتد .إذن فالنسان قد يستغني عن البصر،
ولكنه ل غنى له عن الهدى؛ لن الضلل سيصيبه ،والضلل في القيم أبلغ وأشد قسوة من
الضلل في المور المحسّة.
عمَىا وَالْ َبصِيرُ َأفَلَ تَ َت َفكّرُونَ { هناك تفكر ،وتذكر ،وتدبر .التفكر هو شغل
} ُقلْ َهلْ يَسْ َتوِي الَ ْ
العقل ابتداء بأمر ظاهر ،يريد أن يستنبط منه شيئا .وعندما يقول إنسان لخر :فكر في هذا
المر ..أي أدر عقلك في كل ما يتعرض لهذا المر .والذي يطلب من آخر التفكير في هذا المر
كأنه واثق من أن الذي يتفكر في أمر لن يصل إل إلى الرأي الذي قاله من عرض عليه التفكير.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأما التذكر فهو أن يصل النسان إلى حكم انتهى إليه بالتفكر ثم نسيه ،ويأتي من يلفت الذهن إلى
ذلك الحكم الذي انتهى منه فكريا.
إذن فالفكر يأتي بحكم َأوَلِيّ ناضج ،والتذكر يأتي بحكم كان معلوما للنسان ولكنه غفل عنه .أما
التدبر فهو أل يكتفي النسان بالنظر إلى واجهة المور ولكن إلى ما وراء ذلك أيضا؛ لن كل
شيء له واجهة ،وقد تخفى الواجهة ما خلفها ،لذلك يطلب الحق من النسان أن ينظر إلى أعقاب
الشياء وأقفائها ،أي يدير المر على كل جهاته ول يكتفي بالنظر إلى واجهاتها ،مثلما يشتري
النسان شيئا من تاجر أمين ،ويعرض التاجر على المشتري مواصفات الشيء بأمانة ويطلب منه
أن يختبر الشيء حسب مواصفاته ،لكن التاجر الغشاش يحاول أن يخفي المواصفات لنه يريد
خداع المشتري.
وعندما يطلب الحق منا أن التفكر والتذكر والتدبر إنما يوقظ فينا المقاييس الحقيقية التي نصل بها
إلى المطلوب الذي يريده ال .ولذلك يقول الحق } :وَأَنذِرْ ِبهِ الّذِينَ َيخَافُونَ{ ...
()832 /
أي أنذر بالوحي -الذي تتبعه -هؤلء الذين يخشون يوم اللقاء مع ال .والنذار -كما نعلم -
هو إعلم بشيء مخيف قبل وقوعه لنتفادى أن يقع .وما المراد بهؤلء الذين يطلب الحق من
رسوله إنذارهم بالوحي ،في أول السلم كان إقبال بعض المؤمنين على العمل اليماني ضعيفا،
وما دام في قلوبهم إيمان ،ويخشون لقاء ال فالوحي إنذار لهم بضرورة العمل اليماني الجاد .كما
يجوز أن يكون النذار بالوحي لهل الكتاب؛ لنهم يعرفون أن هناك يوما آخر سيلقون فيه ال.
وقد يكون النذار لنسان يؤمن بالبعث ولكنه يشك في النبياء وشفاعتهم ،فهذا الصنف قد يحمله
التخويف والنذار إلى أن يعيد النظر في قضية اليمان ويتقبل النبأ الصدق الذي جاء به رسول
ال صلى ال عليه وسلم.
ولنا أن نأخذ النذار بالوحي على أي وجه من الوجوه السابقة .ولكن هل يخاف المؤمن أن يحشر
إلى ال؟ ل .إن المؤمن إنما يخاف أن يحشر مجردا من الولي والناصر .إذ في الحقيقة ليس هناك
شفَعُ عِنْ َدهُ ِإلّ
أحد يحمي وينصر من ال ،ول شفيع يخلص من عذاب ال إل بإذنه { مَن ذَا الّذِي يَ ْ
بِإِذْنِهِ } وهذا ما يعتقده المؤمنون.
شفِيعٌ ّلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ } [النعام.]51 :
ي وَلَ َ
وقد حدد الحق ذلك في قوله { :لَيْسَ َلهُمْ مّن دُونِ ِه وَِل ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنهم هم المؤمنون الذين آمنوا بال ،وبرسوله ولكنهم قصروا في بعض المطلوبات والتكاليف التي
ن وََأصْلَحَ }
ينطوي عليها قوله الحقَ { :فمَنْ آمَ َ
هؤلء المؤمنون عندما يجيئهم النذار فهم قد يصلحون من أمورهم خوفا من الحشر بدون ولي
ول شفيع .المؤمن -إذن -له أمل أن يكون يوم الحشر في ولية ال ورحمته ،وهؤلء هم من
ل صَالِحا وَآخَرَ سَيّئا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ
عمَ ً
قال عنهم الحق {:وَآخَرُونَ اعْتَ َرفُواْ بِذُنُو ِبهِمْ خَلَطُواْ َ
غفُورٌ رّحِيمٌ }[التوبة.]102 :
عَلَ ْيهِمْ إِنّ اللّهَ َ
وإن كانت الية الكريمة تتناول وتشمل غيرهم من أهل الكتاب وتشمل وتضم أيضا الذين يؤمنون
بالبعث ولكنهم لم يتبعوا أنبياء.
ويقول الحق من بعد ذلكَ { :ولَ تَطْرُدِ الّذِينَ َيدْعُونَ} ...
()833 /
نعرف أن الحق سبحانه وتعالى خلق النسان واستعمره في الرض ،وجعله طارئا على هذا
الوجود الذي أودع ال له فيه كل ما يلزمه من مقومات حياته وإسعاده.
وأراد الحق من البشر أن يكون فيهم استطراق عبودي بحيث ل يوجد متعال على مستضعف ،ول
يوجد طاغ على مظلوم ،حتى تستقيم حركة الحياة استقامة يعطي فيها كل فرد على قدر ما هيئ له
من مواهب .فإذا ما اختل ميزان الستطراق البشري ردهم الحق سبحانه وتعالى إلى دليل ل يمكن
أن يطرأ عليه شك ،والدليل هو أنكم أيها البشر تساويتم في أصل الوجود من تراب ،وتساويتم في
العودة إلى التراب ،وتتساوون في موقفكم يوم القيامة للحساب ،فلماذا تختلفون في بقية أموركم؟
إن التساوي يجب أن يوجد .وها هوذا رسول ال صلى ال عليه وسلم يحرص أن تهتدي المة
وكان يكلف نفسه فوق ما يكلفه به ربه ،فيعاتبه ربه لنه كان يشق على نفسه حرصا على إيمان
قومه.
وقد يظن بعض الناس أن عتاب ال لنبيه لتقصير ،ونرد على هؤلء :ليفهم النسان منكم هذا
اللون من العتاب على وجهه الحقيقي ،فهناك فرق بين عتاب لمصلحة المعتاب ،وعتاب للومه
وتوبيخه؛ لن المعاتَب خالف وعصى ،ونضرب هذا المثل -ول المثل العلى -أنت في يومك
العادي إن نظرت إلى ابنك فوجدته يلعب ول يذهب إلى المدرسة ول يستذكر دروسه ،فأنت تعاتبه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتؤنبه لنه خالف المطلوب منه ،ولكنك إن وجدت ابنك يضع كل طاقته ويصرف ويقضي أوقات
راحته في المذاكرة .فأنت تطلب منه ألّ يكلف نفسه كل هذا العناء ،وتخطف منه الكتاب وتقول
له :اذهب لتستريح .أنت في هذه الحالة تلومه لمصلحته هو ،فكأن اللوم والعتاب له ل عليه .إذن
حلّ هذا الشكال الذي يقولون فيه :إن ال كثيرا ما عاتب رسوله ،ونوضح أن الحق قد عاتب
قد ُ
الرسول له ل عليه؛ لن الرسول وجد طريق اليمان برسالته يسيرا سيرا سهلً بين الضعفاء،
ولكنه شغل نفسه وأجهدها رجاء أن يتذوق المستكبرون المتجبرون حلوة اليمان ،وجاء في ذلك
عمَىا * َومَا ُيدْرِيكَ َلعَلّهُ يَ ّزكّىا * َأوْ يَ ّذكّرُ فَتَن َفعَهُ
س وَ َتوَلّىا * أَن جَآ َء ُه الَ ْ
قول الحق {:عَبَ َ
ال ّذكْرَىا * َأمّا مَنِ اسْ َتغْنَىا * فَأَنتَ لَهُ َتصَدّىا * َومَا عَلَ ْيكَ َألّ يَ ّزكّىا }[عبس.]7-1 :
إذن فالعتاب هنا لصالح من؟ إنه عتاب لصالح رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وحين يقول الحق
حلّ اللّهُ َلكَ تَبْ َتغِي مَ ْرضَاةَ
سبحانه وتعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم {:ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ ِلمَ تُحَرّمُ مَآ َأ َ
غفُورٌ رّحِيمٌ }[التحريم.]1 :
ك وَاللّهُ َ
جَأَ ْزوَا ِ
إن الية تشير إلى أمر أغضب النبي صلى ال عليه وسلم ،فامتنع عن بعض ما ترغب فيه النفس
البشرية من أمور حللها ال.
والعتاب هنا أيضا لصالح رسول ال صلى ال عليه وسلم .ولشدة حرصه صلى ال عليه وسلم
على هداية القوم أجمعين ،كان يحب أن يعامل الطغاة بشيء من اللين ليتألف قلوبهم .ولكن الطغاة
ل يريدون أن يتساووا مع المستضعفين ،فقد مرّ المل من قريش ووجدوا عند رسول ال صلى ال
ت وصهيبا وبللً وعمارا وسلمان الفارسي وهم من المستضعفين،
عليه وسلم خبّاب بن الر ّ
فقالوا :يا محمد رضيت بهؤلء من قومك؟ أهؤلء الذين منّ ال عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعا
لهؤلء؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم أن نتبعك.
وكأنهم يقولون له :إنك قد اكتفيت بهؤلء الضعفاء وتركتنا نحن القوياء ولن نجلس معك إل أن
تبعد هؤلء عنك لنجلس ،فما كان من رسول ال صلى ال عليه وسلم ببديهية اليمان إل أن قال:
ما أنا بطارد المؤمنين .إن رسول ال صلى ال عليه وسلم يعرف أن هناك من أمثالهم من قالوا
لغيره من النبياء مثل قولهم .فقد قال قوم نوح عليه السلم له ما حكاه القرآن الكريمَ {:فقَالَ ا ْلمَلُ
ي َومَا
الّذِينَ َكفَرُواْ مِن ِق ْومِهِ مَا نَرَاكَ ِإلّ بَشَرا مّثْلَنَا َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَا ِديَ الرّ ْأ ِ
ضلٍ َبلْ نَظُّن ُكمْ كَاذِبِينَ }[هود.]27 :
نَرَىا َلكُمْ عَلَيْنَا مِن َف ْ
وحاول بعض من أهل الكفر أن يعرضوا موقفا وسطا على رسول ال -صلى ال عليه وسلم -
فقالوا :إذا نحن جئنا فأقمهم من عندك لنجلس معك فإذا قمنا من عندك فاجعلهم يجلسون .ووجد
رسول ال صلى ال عليه وسلم في هذا الرأي حل وسطا يمكن أن يقرب بين وجهات النظر،
واستشار صلى ال عليه وسلم عمر بن الخطاب -رضي ال عنه -فقال عمر :لو فعلت حتى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ننظر ما الذي يريدون .وطالب أهل الكفر من أثرياء قريش أن يكتب لهم رسول ال كتابا بذلك،
شيّ
وجيء بالدواة والقلم ،وقبل الكتابة نزل قول ال } :وَلَ َتطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ
شيْءٍ فَتَطْرُ َدهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ
حسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مّن َ
شيْ ٍء َومَا مِنْ ِ
علَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِم مّن َ
جهَهُ مَا َ
ن وَ ْ
يُرِيدُو َ
الظّاِلمِينَ { [النعام.]52 :
ورمى رسول ال صلى ال عليه وسلم بالصحيفة التي جيء بها ليكتبوا عليها كلما يفصل بين
جلوس سادة قريش إلى مجلس رسول ال وجلوس الضعفاء أتباع رسول ال .والنبي -صلى ال
عليه وسلم -إنما مال إلى ذلك من الكتابة طمعا في إسلم هؤلء المشركين وإسلم قومهم
بإسلمهم رحمة بهم وشفقة عليهم ،ورأى -صلى ال عليه وسلم -أن ذلك ل يفوت أصحابه شيئا
ول ينقص لهم قدرا فمال إليه فأنزل ال الية ونهاه عما همّ به من الطرد ،ل لنه -صلى ال
عليه وسلم -قد أوقع ذلك وطردهم وأبعدهم ،ثم دعا بعد ذلك بالضعفاء فأتوه.
وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل ذلك يجلس مع المستضعفين ،وإن أحب -صلى ال
عليه وسلم -أن يقوم من المجلس قام ،ولكن ال أراده أن يكرم هؤلء القوم المستضعفين بعد أن
نهاه عن طردهم ،وأن يكرمهم سبحانه بما أُهيجوا فيه ،وجاء أمر إلهي آخر بأل يقوم رسول ال
سكَ َمعَ الّذِينَ
من مجلسه مع المستضعفين حتى يقوموا هم ،فقال الحق تبارك وتعالى {:وَاصْبِرْ َنفْ َ
جهَ ُه َولَ َتعْدُ عَيْنَاكَ عَ ْنهُمْ تُرِيدُ زِي َنةَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َولَ تُطِعْ
ن وَ ْ
شيّ يُرِيدُو َ
يَدْعُونَ رَ ّبهُم بِا ْل َغدَا ِة وَا ْلعَ ِ
غفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ِذكْرِنَا وَاتّبَعَ َهوَا ُه َوكَانَ َأمْ ُرهُ فُرُطا }[الكهف.]28 :
مَنْ أَ ْ
وعندما نزلت هذه الية قال صلى ال عليه وسلم " :الحمد ل الذي جعل في أمتي من أمرني أن
أصبر نفسي معهم ".
وبهذا القول الكريم أراد الحق سبحانه وتعالى إكرام الضعفاء والمستضعفين .ويقول سلمان
الفارسي وخباب بن الرت فينا نزلت ،فكان -رسول ال صلى ال عليه وسلم -يقعد معنا ويدنو
سكَ مَعَ الّذِينَ
منا حتى تمس ركبتنا ركبته ،وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت } :وَاصْبِرْ َنفْ َ
يَدْعُونَ رَ ّبهُم { فترك القيام عنا إلى أن نقوم فكنا نعرف ذلك ونعجله القيام .أي أنهم هم الذين كانوا
شيّ
يقومون أولً من مجلس رسول ال ،فقول الحقَ } :ولَ تَطْ ُردِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْل َغدَا ِة وَا ْلعَ ِ
جهَهُ { هذا هو قول ال -سبحانه -أمر به رسول ال ومأمور به كذلك كل إنسان من
ن وَ ْ
يُرِيدُو َ
بعد رسول ال ،وفي هذا قمة التكريم للدائمين على ذكر ال من المستضعفين؛ لنهم أهل محبة
اليمان وهم الذين سبقوا إليه.
وها هوذا أحد خلفاء المسلمين وقد جاءه صناديد العرب الذين أسلموا ،واستأذنوا في الدخول إليه،
فلم يأذن لهم حتى أذن لضعفاء المسلمين .فورم أنف كل واحد من هؤلء الصناديد وقالوا:
-أيأذن لهؤلء ويتركنا نحن؟ لقد صرنا مسلمين .فقال قائل منهم يفهم ويفقه أمر الدين :أكلكم ورم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنفه أن يؤذن لهؤلء قبلكم ،لقد دعوا فأجابوا ،ودعيتم فتباطأتم ،فكيف بكم إذا دعوا إلى دخول
الجنة وأُبطئ دخولكم.
إنّ هؤلء الضعفاء يريدون بالطاعة وجه ال ،وكلمة " وجه ال " تدل على أن اليمان قد أُشْرِب
في قلوبهم ،وأنهم جاءوا إلى اليمان فِرارا بدينهم من ظلم الظالمين وطغيان الطغاة الذين كانوا
يريدونهم على الكفر والضلل .إنهم قد حل لهم اليمان ،وحل لهم وجه ال ،وحل لهم أن يؤجل
لهم كل الثواب إلى الخرة.
جهَهُ { فهذا وصف ل بأنّه -جل شأنه -له وجه ،ونطبق في
ن وَ ْ
وحين نسمع قول الحق } :يُرِيدُو َ
هذه الحالة ما نطبقه إذا سمعنا وصفا ل ،إننا نأخذ الوصف في إطار قوله الحق } :لَيْسَ َكمِثْلِهِ
شيْءٌ {.
َ
ويطلق الوجه ويراد به الذات ،لن الوجه هو السمة المميزة للذوات .فأنت إن قابلت أناسا قد
غطوا وجوههم واستغشوا ثيابهم وستروا بها رءوسهم فلن تستطيع التمييز بينهم.
ويقال :فلن قابل وجوه القوم .أي التقى بالكبار في القوم .والحق سبحانه وتعالى يقولُ } :كلّ
شيْءٍ { وفي هذا القول
ج َههُ { ،ويقول الحق سبحانه } :مَا عَلَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِم مّن َ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ وَ ْ
َ
حرص على كرامة المستضعفين؛ فقد يقول قائل:
لقد استجار هؤلء الضعفاء بالدين حتى يفروا من ظلم الظالمين وليس حبا في الدين ،فيوضح
الحق :ليس هذا عملك ،وليس لك إل أن تأخذ ظاهر أعمالهم وأن تكل سرائرهم إلى ال.
شيْءٍ فَ َتطْرُ َدهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ
حسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مّن َ
شيْ ٍء َومَا مِنْ ِ
} مَا عَلَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِم مّن َ
{ [النعام.]52 :
وكأن الحق يوضح لرسوله :لو كان عليك من حسابهم شيء لجاز لك أن تطردهم ،ولكن أنت يا
رسول ال تعلم أن كل واحد مجْزىّ بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر ،وقد أنزل ال عليك القول
الحق } :وَلَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَىا {.
إذن فلكل إنسان كتابه .قد سطر وسجّل فيه عمله ويجازي بمقتضى هذا ،ويقول الحق من بعد
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ{ ...
ذلكَ } :وكَذاِلكَ فَتَنّا َب ْع َ
()834 /
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ لِ َيقُولُوا أَ َهؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَ ْيهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعَْلمَ بِالشّاكِرِينَ ()53
َوكَذَِلكَ فَتَنّا َب ْع َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نحن هنا أمام " بعضين " :بعض قد استعلى أن يجتمع ببعض آخر مستضعف عند رسول أرسله
ال .ويمتحن ال البعض بالفتنة ،والفتنة هي الختبار .إن بعضا من الناس يظن أن الفتنة أمر
مذموم ،ل ،إن الفتنة ل تذم لذاتها ،وإنما تذم لما تؤول إليه .فالختبار -إذن -ل يذم لذاته ،وإنما
يذم لما يؤول إليه .وتأتي الفتنة ليُرى صدق اليقين اليماني ،وها هوذا الحق سبحانه وتعالى
سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن َيقُولُواْ آمَنّا وَهُمْ لَ ُيفْتَنُونَ * وََلقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ فَلَ َيعَْلمَنّ
يقولَ {:أحَ ِ
ن صَ َدقُو ْا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلكَاذِبِينَ }[العنكبوت.]3-2 :
اللّهُ الّذِي َ
إن الحق سبحانه يختبر مدى صدق النسان حين يعلن اليمان ،إنه -سبحانه -يختبرهم بالمحن
والنعم ،وقد اختبر الحق المم السابقة بالتكاليف والنعم والمحن ويظهر ويبرز إلى الوجود ما سبق
أن علمه سبحانه أزلً ،ويميز أهل الصدق في اليمان عن الكاذبين في اليمان .فمن صبر على
الختبار والفتنة فقد ثبت صدقه ويقينه ،ومن لم يصبر فقد دّل بعمله هذا على أنه كان يعبد ال
على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ورضي ،وإن أصابه شر وفتنة انقلب على وجهه ونكص
على عقبيه فخسر الدنيا والخرة.
إذن فالفتنة مجرد اختبار .والوجود الذي نراه مبني كله على المفارقات ،وعلى هذه المفارقات
نشأت حركة الحياة .ويجب اليمان بقدر ال في خلقه؛ فهذا طويل ،وذاك قصير ،هذا أبيض،
وذاك أسود ،هذا مبصر وذلك أعمى ،هذا غني ،وذلك فقير ،هذا صحيح ،وذلك سقيم ،وذلك ليكون
كل نقيض فتنة للخر.
فالمريض -على سبيل المثال -فتنة للصحيح ،والصحيح فتنة للمريض ،ويستقبل المريض قدر
ال في نفسه ول ينظر بحقد أو غيظ للصحيح ،ولكن له أن ينظر هل يستعلي الصحيح عليه
ويستذله ،أو يقدم له المساعدة؟ والفقير فتنة للغني ،وهو ينظر إلى الغني ليعرف أيحتقره ،أيحرجه،
أيستغله ،والغني فتنة للفقير ،يتساءل الغني أينظر إليه الفقير نظرة الحاسد .أم الراضي عن عطاء
ال لغيره .وهكذا تكون الفتن.
إن من البشر من هو موهوب هبة ما ،وهناك من سلب ال منه هذه الهبة ،وهذا العطاء وذلك
السلب كلهما فتنة؛ لنؤمن بأن خالق الوجود نثر المواهب على الخلق ولم يجعل من إنسان واحد
مجمع مواهب؛ حتى يحتاج كل إنسان إلى مواهب غيره ،وليقوم التعاون بين الناس ،وينشأ
الرتباط الجتماعي.
وعندما يخلق ال النسان بعاهة من العاهات فهو سبحانه يعوضه بموهبة ما .هكذا نرى أن العالم
كله قد فتن ال بعضه ببعض ،وكذلك كانت الجماعة المؤمنة فتنة للجماعة الكافرة ،وكانت
الجماعة الكافرة فتنة لرسول ال ،ورسول ال فتنة لهم فساعة يرى رسول ال الكفار وهم
يجترئون عليه ويقولون:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
{ َوقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
يعرف أن هؤلء القوم يستكثرون عليه أن ينزل عليه هذا القرآن العظيم ،وفي هذا القول فتنة
واخْتبار لرسول ال ،وهو يصبر على ذلك ويمضي إلى إتمام البلغ عن ال ول يلتفت إلى ما
ل على قوة المعجزة الدالة على صدق رسالته.
يقولون ،بل يأخذ هذا دلي ً
والجماعة التي استكبرت وطلبت طرد المستضعفين هم فتنة للمستضعفين ،والمستضعفون فتنة
لهم ،فلو أن اليمان قد اختمر في نفوس المستكبرين لما استكبروا أن يسبقهم الضعاف إلى اليمان
برسول ال صلى ال عليه وسلم.
إذن فكلنا يفتن بعضنا بعضًا .وكل إنسان عندما يرى موهوبا بموهبة ل توجد لديه فليعلم أنها فتنة
له وعليه أن يقبلها ويرضى بها في غيره .وما عُبِدَ ال بشيء خيرا من أن يحترم خلق ال قدر ال
في بعضهم بعضًا ،ولذلك يختبرنا الحق جميعا ،فإن كنت مؤمنا بال فاحترم قدر ال في خلق ال
حتى يجعل ال غيرك من الناس يحترمون قدر ال فيك.
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ لّ َيقُولواْ أَهَـاؤُلءِ مَنّ اللّهُ عَلَ ْيهِم مّن
والحق سبحانه وتعالى يقولَ } :وكَذاِلكَ فَتَنّا َب ْع َ
بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعَْلمَ بِالشّاكِرِينَ { [النعام.]53 :
ووجه الفتنة هنا أن قومًا طلبوا طرد المستضعفين وقالوا كما حكى ال عنهم } :أَهَـاؤُلءِ مَنّ اللّهُ
عَلَ ْيهِم مّن بَيْنِنَآ {؟ كأنهم تساءلوا عن المركز الجتماعي للمستضعفين من المؤمنين ،ويأتيهم الرد
من ال } :أَلَ ْيسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ { .فسبحانه هو العليم أزلً بالبشر ،ول يقترح عليه أحد ما
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ
يقرره .وقد سبق للذين كفروا أن قالواَ } :وقَالُواْ َلوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
عَظِيمٍ {.
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َت ُهمْ
ح َمتَ رَ ّبكَ نَحْنُ قَ َ
سمُونَ رَ ْ
وجاءهم الرد من الحق سبحانه وتعالى فقالَ {:أهُمْ َيقْ ِ
سخْرِيّا }[الزخرف.]32 :
ضهُم َبعْضا ُ
ضهُمْ َف ْوقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ َب ْع ُ
فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه وتعالى لم يضع مفاتيح الرسالة في أيدي المشركين أو غيرهم،
ليوزعوا هم المور ويقوموا بتدبير المر .بل هو سبحانه وتعالى الذي يوزع المواهب في البشر
رزقا منه ليعتمد كل إنسان على الخرين في مواهبهم التي يعجز عنها ،ويعتمد عليها الخرون في
موهبته التي يعجزون عنها .ومسألة النبوة هي اصطفاء إلهي يكبر ويسمو على كل مقامات الدنيا.
ويدل السياق إذن على أن بعضاَ من كبار العرب طلبوا أن يطرد رسول ال صلى ال عليه وسلم
بعضا من المستضعفين ،فأراد ال أن يطمئن المستضعفين بشيء عجل لهم به في الدنيا وإن كان
قد جعله لبقية المؤمنين في الخرة .لذلك يقول الحق } :وَإِذَا جَآ َءكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ{ ...
()835 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ع ِملَ مِ ْن ُكمْ
حمَةَ أَنّهُ مَنْ َ
علَ ْيكُمْ كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَى َنفْسِهِ الرّ ْ
وَإِذَا جَا َءكَ الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِآَيَاتِنَا َف ُقلْ سَلَامٌ َ
غفُورٌ َرحِيمٌ ()54
جهَالَةٍ ُثمّ تَابَ مِنْ َبعْ ِد ِه وََأصْلَحَ فَأَنّهُ َ
سُوءًا ِب َ
لقد كان طلب الطرد لهؤلء المستضعفين فيه إهاجة لكرامتهم ولمنزلتهم ولنهم دون الثرياء
علَ ْيكُمْ } .ونفهم من
ووجهاء القوم ،فيطمئنهم الحق بالسلم منه في الدنيا فيأمر رسولهَ { :ف ُقلْ سَلَمٌ َ
السلم أنه الخلو من الفات النفسية والفات الجسدية ،فكأن الحق سبحانه أراد ان يعوضهم بالسلم
حمَةَ } ونرى كلمة " :الرحمة " تتردد
القادم من ال { َف ُقلْ سَلَمٌ عَلَ ْيكُمْ كَ َتبَ رَ ّب ُكمْ عَلَىا َنفْسِهِ الرّ ْ
شفَآءٌ
كثيرا في القرآن الكريم ،فها هوذا الحق يقول في موقع آخر {:وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
ن َولَ يَزِيدُ الظّاِلمِينَ َإلّ خَسَارا }[السراء.]82 :
حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِي َ
وَرَ ْ
ما الفارق إذن بين الشفاء والرحمة؟ الرحمة :ل يبتلي ال النسان بمرض ،إنها الوقاية ،أما الشفاء
فهو أن يزيل الحق أي مرض أصاب النسان .وهذا هو البرء بعد العلج.
إذن ففي القرآن شفاء ورحمة ،أي وقاية وعلج .والذي يلتزم بمنهج القرآن ل تصيبه الداءات
الجتماعية والنفسية أبدا ،والذي تغفل نفسه وتشرد منه يصاب بالداء الجتماعي والنفسي ،فإن
عاد إلى منهج القرآن فهو يُشفى من أي داء .وحين يأمر سبحانه رسوله أن يقول لهؤلء الذين
لمٌ عَلَ ْيكُمْ كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَىا
أهيجوا بطلب طردهم على الرغم من إيمانهم برسالة رسول ال { :سَ َ
حمَةَ } فهذا يعني أن ما حدث لهم في هذا المر هو آخر ابتلءاتهم ،وقد أخذوا بهذه
َنفْسِهِ الرّ ْ
الهاجة سلما دائما ،وما دام ال قد كتب على نفسه الرحمة فكأنه وقاهم مما يصيب به غيرهم.
حمَةَ } فالكتابة تدل على التسجيل ،ول أحد
وإذا سمعت قول ال { :كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَىا َنفْسِهِ الرّ ْ
يوجب على ال شيئا لنه خالق الكون ،وله في الكون طلقة المشيئة ،فل أحد يكتب عليه شيئا
ليلزمه به ،ولكنه سبحانه هو الذي أوجب على نفسه الرحمة .ونأخذ كلمة " نفسه " في إطار { لَيْسَ
شيْءٌ } ،ذلك أن النفس عند البشر هي الجسم والدم والحركة والحياة ،ولكن ماذا عندما
َكمِثْلِهِ َ
تأتي كلمة " النفس " منسوبة إلى ال؟ المراد -إذن -هو الذات اللهية .وإن لم تأخذ مراد الكلمة
بهذا المعنى فأنت تدخل إلى مخالفات كثيرة وقانا ال وإياك شرورها.
وأؤكد هذا المعنى ليستقر في ذهن كل مؤمن ،أن النفس بالنسبة للكائن الحي غيرها بالنسبة ل،
شيْءٌ }؛ لن النفس بالنسبة للكائن
ول بد أن نأخذ أي شيء منسوب إلى ال في إطار { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
الحي عبارة عن امتزاج الروح بالمادة ،والمادة مكونة من أبعاض .وإن لم تأخذ المراد من نفس
شيْءٌ } ،فأنت -والعياذ بال -تنفي عن الحق " الحدية ".
ال على ضوء { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
ونعرف أن للحق سبحانه وتعالى " وصفين " يتحدان في المادة وفي الحروف :الول هو " واحد ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والخر هو " أحد " .والسطحيون في الفهم يظنون أن " واحدا " معناها " أحد " .ونقول :ل ،إن "
واحدا " لها مدلول ،و " أحدًا " لها مدلول آخر .فعندما نقول " :إن ال واحد " أي ل يوجد فرد ثان
من نوعه فليس له مثيل ول شبيه ول نظير .وعندما نقول " :إن ال أحد " أي أنه ل يتكون من
أبعاض يحتاج بعضها إلى البعض الخر لتكوين الكل ،لن الشيء قد يكون واحدا وليس أحدًا.
ولذلك نؤكد الفارق بين " :واحد " و " أحد " ،وحتى يعرفه كل مؤمن جيدا فهو -سبحانه -واحد
ل يوجد فرد ثان يشاركه في وحدانيته ،فهو واحد ل شريك له ،وهو أحد جل وعل أي ليس له
أبعاض يحتاج بعضها إلى بعض .وسبق أن أوضحنا أن هناك شيئا اسمه " :كل " وشيئا آخر اسمه
" كلي " .والكل هو المكون من أجزاء ،كل جزء منها ل يؤدي الحقيقة ،وإنما ل يُؤدي الكل إل
بضميمة الجزاء بعضها إلى بعض.
ومثال ذلك الكرسي :إنه مكون من خشب ومسامير وغراء ،فل يقال للخشب كرسي ،ول يقال
للمسامير كرسي ،ول يقال للغراء كرسي .ولكن يقال للشيء المصنوع من كل هذه الشياء على
هيئة محددة :إنه كرسي .إذن فـ " الكل " له أجزاء تجتمع لتكوّنه .والكلّي يمكن أن تطلق على
النسان ،ولكن في الجنس البشري هناك أفراد كثيرون له.
وعلى ذلك فالحق سبحانه وتعالى ليس " كُلّ " أي ل أجزاء له لنه أحد ،وليس " كليا " لنه ل
شيء مثله؛ فسبحانه وتعالى واحد أحد .ولهذا نفهم جميعا أن كل شيء منسوب إلى ال ينبغي أن
شيْءٌ {.
يكون في إطار } :لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
ونحن ل نفهم مراد كلمة " النفس " بالنسبة ل كما نفهمها بالنسبة للبشر؛ لذلك فنفس ال ليست
كنفس البشر؛ لن ال غني ل يحتاج إلى غيره ،وهو -سبحانه -ليس مكونا من أجزاء ،فهو
سبحانه له كل الكمال والجلل في وحدانيته وأحديته وفي سائر صفاته وأفعاله .وحين يقول
سبحانه } :كَ َتبَ رَ ّبكُمْ عَلَىا َنفْسِهِ { .قد يتساءل إنسان :وما مدلول الرحمة؟
جهَالَةٍ ُثمّ تَابَ مِن َبعْ ِد ِه وََأصْلَحَ فَأَنّهُ
ع ِملَ مِنكُمْ سُوءًا بِ َ
وتأتي الجابة في قوله الحق } :أَنّهُ مَن َ
غفُورٌ رّحِيمٌ { .والحق حينما أنزل منهجا من السماء فالمنهج يضم نصوصا للتجريم كنصوص
َ
عقاب الزاني أو اللص ،وغير ذلك ،ول يمكن أن تأتي عقوبة إل إذا جاءت بعد تجريم ،مثال ذلك
الرشوة والنميمة وكل مخالفة للمنهج ،فل عقاب إل بجريمة ،ول جريمة إل بنص .والحق الذي
خلق الخلق يعلم أن بعضا من خلقه يكون من ضعاف النفوس ،وقد تغلب إنسانا نفسُه فيرتكب ذنبا
أو معصية ،والمثال على ذلك قول الحق:
حكِيمٌ }[المائدة:
طعُواْ أَيْدِ َي ُهمَا جَزَآءً ِبمَا كَسَبَا َنكَالً مّنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
ق وَالسّا ِر َقةُ فَاقْ َ
{ وَالسّا ِر ُ
.]38
هذا هو عقاب السارق والسارقة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدٍ مّ ْن ُهمَا مِ َئةَ جَ ْل َد ٍة َولَ
ل وَا ِ
وكذلك يقول الحق عن الزاني والزانية {:الزّانِ َي ُة وَالزّانِي فَاجْلِدُواْ ُك ّ
شهَدْ عَذَا َب ُهمَا طَآ ِئفَةٌ مّنَ
خ ْذكُمْ ِب ِهمَا رَ ْأفَةٌ فِي دِينِ اللّهِ إِن كُنتُمْ ُت ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَلْ َي ْ
تَأْ ُ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النور.]2 :
ما معنى إنزال مثل هذه النصوص؟ معنى إنزال هذه النصوص أن الحق سبحانه وتعالى يعلم أن
النسان قد يضعف في بعض مطلوبات الدين فيقع في معصية ،ول بد أن يوجد عقاب عليها.
واحترم الحق بذلك تكوين النسان عندما منحه الختيار ،فوضع الثواب والعقاب .وكما وضع
الحق النص على الجرائم وعقوبتها فهو سبحانه وتعالى قد فتح باب التوبة لخلقه ،حتى ل يكون
الذي عصى ال مرة واحدة فاقدا للمل ،حتى ل يشقى المجتمع بهؤلء العصاة .وشرع الحق
التوبة للخلق ليرحهم من شرور من ارتكبوا المعاصي ،وليرحم أيضا أصحاب المعاصي ما داموا
قد تابوا عنها .وقد يرحم ال بعض خلقه من المعاصي فيحفظهم منها.
وهو الحق القائل {:ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[التوبة.]118 :
سبحانه -إذن -يهدي إلى التوبة ويعفو ،وهو عظيم الرحمة بالعباد التوابين.
جهَاَلةٍ ثُمّ تَابَ مِن َبعْ ِدهِ وََأصْلَحَ فَأَنّهُ
ع ِملَ مِنكُمْ سُوءًا بِ َ
ومن ظواهر رحمة ال سبحانه } :أَنّهُ مَن َ
غفُورٌ رّحِيمٌ { [النعام.]54 :
َ
والسوء هو المر المنهي عنه من ال .هل هناك من يعمل السوء بجهالة؟ .بعضنا يفهم الجهالة
فهما سطحيا على أساس أنها " عدم العلم "؛ ل .إنّ الذي ل يعلم هو المي الخالي الذهن ،والجهالة
غير الجهل ،فالجهل هو أن يعلم النسان حكما ضد الواقع ،كأن يكون مؤمنا بعقيدة تخالف الواقع.
ومعالجة الجهل تقتضي أن ننزع منه هذه العقيدة التي هي ضد الواقع ثم نقنعه بالعقيدة المطابقة
للواقع.
والذي يسبب المتاعب للناس هم الجهلة؛ لن الجاهل يعتقد في قضية ويؤمن بها وهي تخالف
جهَالَةٍ { .قالوا :إن
ع ِملَ مِنكُمْ سُوءًا ِب َ
الواقع .وعندما جاء العلماء عند هذا القول الحكيم } :مَن َ
الجهالة هي السفه والطيش ،والطيش يكون بعدم تدبر نتائج الفعل .والسفه أل يقدّر النسان قيمة ما
يفوته من ثواب وما يلحقه من عقاب .وقد يكون النسان مؤمنا ،لكنه يرتكب السوء لنه لم
يستحضر الثواب والعقاب ويرتكب من السوء ما يحقق له شهوة عاجلة دون التمعن في نتائج ذلك
مستقبلً ،ولو استحضر الثواب والعقاب لما فعل ذلك السوء.
ويمكن أن نفهم أيضا الجهالة على أنها ارتكاب المر السيئ دون أن يبيت له النسان أو يخطط،
وذلك كأن يخطط إنسان السفر إلى باريس لطلب العلم ،وعندما وصل إلى هناك جاءت له امرأة
في غرفته في الفندق وهي في كامل فتنتها وزينتها ،وألحت عليه لرتكاب الفحشاء ،فلم يقدر على
نفسه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا فعل للسوء بجهالة؛ لنه لم يخطط لذلك السوء ،وهو يندم من بعد ذلك ،ول يحكي عن ذلك
الفعل بفخر أبدا.
هناك فارق -إذن -بين هذا النسان وإنسان آخر بحث في عناوين بيوت اللذة في باريس قبل أن
يسافر إليها ،إنه بذلك يخطط لفعل المنكر وارتكاب الفحشاء .ويصر على السوء ،ويتفاخر به ول
يندم على فعل؛ هذا الصنف من البشر ل يغفر له ال إن استمر على هذا الحال حتى شارف
جهَالَةٍ ُثمّ
الموت أو أدركه الموت ،ولذلك يقول الحق {:إِ ّنمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّوءَ ِب َ
حكِيما }[النساء.]17 :
يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَُأوْلَـا ِئكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَ ْيهِ ْم َوكَانَ اللّهُ عَلِيما َ
لن الحق سبحانه إنما يقبل توبة من ارتكب الذنب في حالة الحماقة والطيش ،ويقبلون على التوبة
ستِ
فورا ،هؤلء يقبل الحق توبتهم ،أما الذين ل يندمون على فعل السوء فيقول الحق عنهم {:وَلَيْ َ
ن َولَ الّذِينَ َيمُوتُونَ
حضَرَ َأحَ َدهُمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ إِنّي تُ ْبتُ ال َ
ال ّتوْبَةُ لِلّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ حَتّىا ِإذَا َ
وَهُمْ ُكفّارٌ ُأوْلَـا ِئكَ أَعْ َتدْنَا َلهُمْ عَذَابا أَلِيما }[النساء.]18 :
إن الذين ل يُقبلون على التوبة من فور ارتكاب الذنب وينتظر النسان منهم مجيء الموت ليتوب
قبله أي وهو في حالة الغرغرة -وهي تردد الروح في الحلق عند الموت -هؤلء ل تقبل لهم
توبة ،وكذلك الذين يموتون على الكفر -والعياذ بال -وقد أعد ال لكليهما عذابا أليما.
جهَالَةٍ ُثمّ تَابَ مِن َبعْ ِدهِ
ع ِملَ مِنكُمْ سُوءًا ِب َ
والحق سبحانه قد وضح لنا قبل ذلك فقال } :أَنّهُ مَن َ
غفُورٌ رّحِيمٌ { [النعام.]54 :
وََأصْلَحَ فَأَنّهُ َ
إذن فالتوبة يجب أن يتبعها إصلح وصلح؛ ذلك أن الحسنات يذهبن السيئات ،والحق سبحانه
غفور ل يعاقب على ذنب تاب عنه العبد ،ورحيم لنه يثيب على الفعل الحسن ،بل إنه يثيب
النسان الذي يكرر ندمه على فعل سيء ويكتب له عن ذلك حسنة .بل إنه -بسعة رحمته -يبدل
سيئاته حسنات.
صلُ اليَاتِ{ ...
ك ن َف ّ
ويقول الحق من بعد ذلكَ } :وكَذَِل َ
()836 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المقاييس التي تقرر الحقائق التي ينكرها أهل الباطل؛ فيفصّل لنا في العقائد ،ويفصّل لنا في حركة
الحياة والحركة العبادية التي نؤدي بها تكاليف اليمان .وكما فصل لنا سبحانه صحة الوحدانية
ك ن َفصّلُ
وصحة النبوة ،وصحة القضاء والقدر ،يفصل لنا اليات التي تقرر الحقائقَ { :وكَذَِل َ
اليَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } [النعام.]55 :
ونقرأ " سبيل " في بعض القراءات مرفوعة ،أي أن سبيل المجرمين يظهر ويستبين ويتضح،
وتقرأ في بعض القراءات منصوبة ،أي أنك يا محمد تستبين أنت السبيلَ الذي سيسلكه المجرمون.
عوَجا
وكلمة " سبيل " وردت في القرآن مؤنثة على الحق {:الّذِينَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّ ِه وَيَ ْبغُونَهَا ِ
}[العراف.]45 :
ش ِد لَ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً }[العراف:
ووردت أيضا في بعض اليات مذكرة {:وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّ ْ
.]146
ويريد الحق بذلك أن يعلمنا أن القرآن الذي نزل بلسان عربي مبين قد استقبلته قبائل من العرب،
بعضها لها السيادة كقبيلة قريش لنها تسكن مكة ،والكعبة في مكة وكل القبائل تحج إلى الكعبة.
ويريد أن ينهي سبحانه هذه السيادة ،ولذلك جاء بالقرآن ببعض اللفاظ التي تنطقها القبائل
الخرى ،ومثال ذلك كلمة " سبيل " التي تؤنث في لغة " الحجاز " ،وجاء به مرة كمذكر؛ كما
تنطقها " تميم " .ولم يأت الحق بكل ألفاظ القرآن مطابقة لسلوب قريش ،حتى ل تظن قريش أن
سيادتها التي كانت لها في الجاهلية قد انسحبت إلى السلم ،فقد جاء القرآن للجميعَ { .وكَذَِلكَ
صلُ اليَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ } .أي أن ال سيعامل كل إنسان على مقتضى ما عنده من
نفَ ّ
اليقين اليماني.
والمعاندون لهم المعاملة التي تناسبهم ،وكذلك المصرّ على الذنوب ،والمقدم على المعاصي ،وهي
تختلف عن معاملة المؤمن .ولكنها في إطار العدل اللهي .إذن فلكلٍ المعاملة التي تناسب موقعه
من اليمان.
والمقابلون للمجرمين هم المؤمنون .فإذا استبنت سبيلَ المجرمين ،أو إذا استبان لك سبيلُ
المجرمين أل تعرف المقابل وهو سبيل المؤمنين؟.
وحين يذكر الحق شيئا مقابلً بشيء فهو يأتي بحكم شيء ثم يدع الحكم الخر لفهم السامع ،فإذا
كان الحق بين سبيل المجرمين لعنا وطردا ،فسبيل المؤمنين يختلف عن ذلك ،إنه الرحمة
والتكريم .ومثال على ذلك -وال المثل العلى -أنت تقول للتلميذ الذي يواظب على دروسه
ويذاكر في وقت فراغه من المدرسة :إن سبيلك هو النجاح .ومن يسمع قولك هذا يعرف أن الذي
ل يواظب على دروسه ول يذاكر في وقت فراغه من المدرسة تكون عاقبة أمره الرسوب
والخيبة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا يترك الحق لفطنة السامع لكلمه أن يأتي بالمقابل ويعرف أحكام هذا المقابل :فإذا كان
الحق قد قال } :وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ { فهذه إشارة أيضا لسبيل المؤمنين من رحمة وتكريم.
ونعلم أن القرآن قد جاء على أبلغ الساليب .وهي أساليب تقتضي أن تعرف معطى كل لفظ وكل
حرف حتى نفهم مقتضيات المقامات والحالت التي تطابق كل مقام .ومثال على ذلك قول الحق
سبحانهَ {:قدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَىا كَافِ َرةٌ }[آل عمران:
.]13
لقد ترك الحق لفطنة السامع لهذه الية أن يعرف أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان ،وأن
الفئة التي تقاتل في سبيل ال هي الفئة المؤمنة ،وترك لنا الحق أن المشهد العظيم يعرفون قدر
كذبهم في الدنيا ،فل ملك لحد إل ال ،ول معبود سواه ،فينطقون بما يشهدون " :وال ربنا ما كنا
مشركين ".
ولقائل أن يقول :ولكن هناك في موضع آخر من القرآن نجد أن ال يقول الحق مثل هؤلء {:وَ ْيلٌ
طقُونَ * َولَ ُيؤْذَنُ َلهُمْ فَ َيعْتَذِرُونَ }[المرسلت.]36-34 :
َي ْومَئِذٍ لّ ْل ُمكَذّبِينَ * هَـاذَا َيوْ ُم لَ يَن ِ
إنهم في يوم الهول الكبر يعرفون أنهم كذبوا في الدنيا ،وهم ل ينطقون بأي قول ينفعهم ،ول يأذن
لهم الحق بأن يقدموا أعذارا أو اعتذارا .ونقول لمن يظن أن المكذبين ل ينطقون :إنهم بالفعل ل
ينطقون قولً يغيثهم من العذاب الذي ينتظرهم ،وهم يقعون في الدهشة البالغة والحيرة ،بل إن
بعضا من هؤلء المكذبين بال واليوم الخر يكون قد صنع شيئا استفادت به البشرية أو تطورت
به حياة الناس ،فيظن أن ذلك العمل سوف ينجيه ،إن هؤلء قد يأخذون بالفعل حظهم وثوابهم من
الناس الذين عملوا من أجلهم ومن تكريم البشرية لهم ،ولكنهم يتلقون العذاب في اليوم الخر لنهم
أشركوا بال .ولم يكن الحق في بالهم لحظة أن قدموا ما قدموا من اختراعات ،ولذلك يقول
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ يَجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ
عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَ ُبهُ ال ّ
الحق {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ }[النور.]39 :
وهكذا نعلم أن أعمال الكافرين أو المشركين يجازيهم الحق سبحانه عليها بعدله في الدنيا بالمال أو
الشهرة ،ولكنها أعمال ل تفيد في الخرة .وأعمالهم كمثل البريق اللمع الذي يحدث نتيجة سقوط
أشعة الشمس على أرض فسيحة من الصحراء ،فيظنه العطشان ماء ،وما إن يقترب منه حتى
يجده غير نافع له ،كذلك أعمال الكافرين أو المشركين يجدونها ل تساوي شيئا يوم القيامة.
والمشرك من هؤلء يعرف حقيقة شركه يوم القيامة .ول يجد إل الواحد الحد القهار أمامه ،لذلك
يقول كل واحد منهم } :وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ {.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النسان الذي كرمه الحق بالحس والحركة والتفكير .ويلي النسان مرتبة جنسُ الحيوان الذي له
الحس والحركة دون التفكير .ويلي جنس الحيوان مرتبة النبات ،وهو الذي له النمو دون الحركة
والتفكير.
وعندما تُسلب من النبات غريزة النمو يصير جمادا .إذن ترتيب الجناس من العلى إلى الدنى
هو كالتالي :النسان ثم الحيوان ،ثم النبات ثم الجماد .وكل جنس من هذه الجناس له خصائصه،
ويأخذ الجنس العلى خاصية زائدة.
وأدنى الجناس هو الجماد الذي يخدم النبات ،والنبات يخدم الحيوان والنسان .والحيوان يخدم
النسان ،وهكذا نجد أن أعلى الجناس هو النسان بينما أدناها هو الجماد .فكيف يأخذ أعلى
الجناس وهو النسان ربا له من أدنى الجناس وهو الجماد؟
إن تحكيم الفطرة في ذلك المر ينتهي إلى حكم واضح هو سخف هذا اللون من التفكير .وفطرة
رسول ال صلى ال عليه وسلم من قبل البعثة هدته إلى رفض ذلك ،وجاءت البعثة لتجعل من
إلف عادة رسول ال وفطرته أمر عبادة للرسول صلى ال عليه وسلم ولكل من اتبعهُ {.قلْ إِنّي
ل لّ أَتّبِعُ َأ ْهوَآ َءكُمْ }[النعام.]56 :
ُنهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ ُق ْ
إذن فمسألة عبادة المشركين للصنام ل تنبع من هدي ولكنها خضوع إلى هوى؛ لن الهدي هو
الطريق الموصل للغاية المعتبرة ،والهوى هو خواطر النفس التي تحقق شهوة .ولهذا نرى بعضا
من الذين يريدون إضلل البشر قد خرجوا بمذاهب ليست من الدين في شيء ،مثل القاديانية
والبهائية والبابية ،وغير ذلك من تلك المذاهب ،هؤلء الناس يدعون التدين ،وعلى الرغم من ذلك
يقدمون التنازلت في أمور تمس الخلق ،ورأينا مثل ذلك في بعض من القضايا التي نظرتها
المحاكم أخيرا ،كالذي يدعي التدين ويقبّل كل امرأة ،ول ينظم العلقة بين الناس بقواعد الدين،
ولكن يطلق الغرائز حسب الهوى .وذهب إليه أناس لهم حظ كبير ومرتبة من التعليم ،وقد أوهموا
أنفسهم بخديعة كبرى ،وظنوا أنهم أخذوا بالتدين ،بينما هم يأخذون حظ الهوى المناقض للدين {.لّ
أَتّبِعُ َأ ْهوَآ َءكُمْ َق ْد ضَلَ ْلتُ إِذا َومَآ أَنَاْ مِنَ ا ْل ُمهْ َتدِينَ }[النعام.]56 :
أي أنك يا رسول ال عليك بإبلغ هؤلء المشركين أنك ل تتبع أهواءهم التي تقود إلى الضللة؛
لن من يتبع مثل تلك الهواء ينحرف عن الحق ،ول يكون من المهتدين.
ومن بعد ذلك يقول الحقُ } :قلْ إِنّي عَلَىا بَيّنَةٍ مّن رّبّي{ ...
()837 /
ُقلْ إِنّي ُنهِيتُ أَنْ أَعْ ُبدَ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ ُقلْ لَا أَتّبِعُ َأ ْهوَا َءكُمْ َق ْد ضَلَ ْلتُ إِذًا َومَا أَنَا مِنَ
ا ْل ُمهْتَدِينَ ()56
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تفسير هذه الية غير موجود
()838 /
ق وَ ُهوَ
حّحكْمُ إِلّا لِلّهِ َي ُقصّ الْ َ
جلُونَ ِبهِ إِنِ ا ْل ُ
ُقلْ إِنّي عَلَى بَيّنَةٍ مِنْ رَبّي َوكَذّبْ ُتمْ بِهِ مَا عِ ْندِي مَا تَسْ َتعْ ِ
خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ ()57
هنا يبلغ الحق رسوله صلى ال عليه وسلم أن تركه لعبادة الصنام وإن كان أمرا قد اهتدى إليه
صلى ال عليه وسلم بفطرته السليمة ،فإنه قد صار الن من بعد البعثة عبادة؛ لن اصطفاء الحق
له جعله يتبين هدى ال بالشريعة الواضحة في " افعل " ول " تفعل "؛ فالرسول صلى ال عليه
وسلم هو السوة الحسنة للناس ،ويؤدي كل فعل حسب ما شرع ال ،ويتبعه المؤمنون برسالته.
ومثال على ذلك من حياتنا المعاصرة :لقد نزل القرآن بتحريم الخمر ،والمؤمنون ل يشربون
الخمر لن الحق نهى عن ارتكاب هذا الفعل .ونجد الطباء الن في كل بلدان العالم يحرمون
شرب الخمر لنها تعتدي على كل أجهزة النسان :الكبد ،والمخ ،والجهاز العصبي ،والجهاز
الهضمي .ونجد " أفلما " تظهر أثر كأس الخمر على صحة النسان .وقد يرى إنسان غير مؤمن
مثل هذا " الفيلم " فيمتنع عن الخمر امتناع ابتغاء المصلحة ل امتناع الدين .ولكن علينا -نحن
المسلمين -أن نقبل على مثل هذا المتناع لنه من اليمان.
ع ِملَ صَالِحا َوقَالَ إِنّنِي مِنَ
حسَنُ َقوْلً ّممّن دَعَآ إِلَى اللّ ِه وَ َ
ولذلك يقول الحق سبحانهَ {:ومَنْ أَ ْ
ا ْلمُسِْلمِينَ }[فصلت.]33 :
هكذا نعرف أنه ل أحد أحسن قولً ممن يمتثل إلى أوامر الحق لنه مُق ّر بوحدانية الحق سبحانه،
ويعمل كل عمل صالح ويقرّ بأن هذا العمل هو تطبيق لشريعة ال:
{ ُقلْ إِنّي عَلَىا بَيّنَةٍ مّن رّبّي } القول يدلنا أننا دون بينة من ال ل نعرف المنهج ،ولكن ببينة من
ال نعلم أنه إله واحد أنزل منهجا " افعل " و " ل تفعل " .وجاء الحق هنا بكلمة " ربي " حتى
نعرف أنه الخالق الذي يتولى تربيتنا جميعا .وما دام سبحانه وتعالى قد خلقنا ،وتولى تربيتنا فل
بد أن نمتثل لمنهجه .وقد أنزل الله تكليفا لنه معبود ،وهو في الوقت نفسه الرب الذي خلق
ورزق ،ولذلك نمتثل لمنهجه ،أما المكذبون فماذا عنهم؟ { َوكَذّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا َتسْ َتعْجِلُونَ بِهِ إِنِ
ق وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ } [النعام.]57 :
حّح ْكمُ ِإلّ للّهِ َي ُقصّ الْ َ
الْ ُ
فالذين كذبوا بال اتخذوا من دونه أندادا ،ولم يمتثلوا لمنهجه ،بل تمادى بعضهم في الكفر وقالوا ما
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ
رواه الحق عليهم {:وَإِذْ قَالُواْ الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال.]32 :
ال ّ
وعندما نناقش ما قالوه ،نجد أنهم قالوا " :اللهم " وهذا اعتراف منهم بإله يتوجهون إليه .وما داموا
قد اعترفوا بالله فلماذا ينصرفون عن المتثال لمنهجه وعبادته؟ .هم يفعلون لنهم نموذج للصلف
سمَآءِ
حجَا َرةً مّنَ ال ّ
علَيْنَا ِ
والمكابرة المتمثل في قولهم { :إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ َ
َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }
ألم يكن من الجدر بهم أن يُعملوا العقل بالتدبر ويقولوا :إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا
إليه.
ونجد أيضا أنهم لم يردوا على رسول ال فلم يقولوا :اللهم إن كان هذا هو الحق من عند محمد بل
قالوا } :الّل ُهمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ عِن ِدكَ { .إنهم يردّون أمر ال ويطلبون العذاب ،وتلك
قمة المكابرة ،والتمادي في الكفر وذلك بطلبهم تعجيل العذاب ،ولذلك يقول لهم رسول ال} :
َوكَذّبْتُم ِبهِ مَا عِندِي مَا تَسْ َت ْعجِلُونَ بِهِ {.
والستعجال هو طلب السراع في المر ،وهو مأخوذ من " العجلة " وهي السرعة إلى الغاية ،أي
طلب الحدث قبل زمنه .وما داموا قد استعجلوا العذاب فل بد أن يأتيهم هذا العذاب ،ولكن في
الميعاد الذي يقرره الحق؛ لن لكل حدث من أحداث الكون ميلدا حدده الحق سبحانه } :مَا عِندِي
ق وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ { [النعام]57 :
حكْمُ ِإلّ للّهِ َيقُصّ ا ْلحَ ّ
مَا تَسْ َتعْجِلُونَ ِبهِ إِنِ ا ْل ُ
إن الحكم ل وحده ،فإن شاء أن ينزل عذابا ويعجل به في الدنيا كما أنزل على بعض القوام من
قبل فل راد له ،وإن شاء أن يؤخر العذاب إلى أجل أو إلى الخرة فل معقب عليه.
ومن حكمة الحق أن يظل بقاء المخالفين للمنهج اليماني تأييدا للمنهج اليماني .ويجب أن نفهم أن
الشر الذي يحدث في الكون ل يقع بعيدا عن إرادة ال أو على الرغم من إرادة ال ،فقد خلق الحق
النسان وأعطاه الختيار ،وهو سبحانه الذي سمح للنسان أن يصدر منه ما يختاره سواءً أكان
خيرا أم شرا .إذن فل شيء يحدث في الكون قهرا عنه؛ لنه سبحانه الذي أوجد الختيار .ولو
أراد الحق أل َيقْدِر أحد على شر لما فعل أحد شرا .ولكنك أيها المؤمن إن نظرت إلى حقيقة
اليقين في فلسفته لوجدت أن بقاء الشر وبقاء الكفر من أسباب تأييد اليقين اليماني.
كيف؟ لننا لو عشنا في عالم ل يوجد به شر لما كان هناك ضحايا ،ولو لم يوجد ضحايا لما كان
هناك حثّ على الخير وحضّ ودفع إليه .ولذلك تجد روح اليمان تقوي حين يهاج السلم من أي
عدو من أعدائه ،وتجد السلم قد استيقظ في نفوس الناس ،فلو لم يوجد في الكون آثاره ضارة
للشر ،لما اتجه الناس إلى الخير .وكذلك الكفر من أسباب اليقين اليماني ،فعندما يطغى أصحاب
الكفر في الرض فسادا واستبدادا ،نجد الناس تتدرع باليقين وتتحصن باليمان لنه يعصم النسان
حكْمُ ِإلّ للّهِ َي ُقصّ
من شرور كثيرة .إذن فوجود الشر والكفر هو خدمة لليقين اليماني } .إِنِ ا ْل ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ق وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلفَاصِلِينَ { [النعام]57 :
حّالْ َ
نعم إن الحكم ل لنه سبحانه يفصل بين الموقف دون هوى لنه ل ينتفع بشيء مما يفعل ،فقد
أوجد الحق هذا الكون وهو في غنى عنه؛ لن ل سبحانه وتعالى كل صفات الكمال ولم يضف له
خلق الكون صفة زائدة ،وقد خلق سبحانه الكون لمصلحة خلقه فقط .ويبلغنا الرسول } :قُل ّلوْ أَنّ
عِندِي{ ...
()839 /
هذا بلغ من رسول ال لكل الخلق بأن أحداث الكون إنما يجريها الحق بإرادته وبمواقيت ل
يعلمها إل هو سبحانه ،وهو -جل وعل -الذي يأذن بها ..أي قل لهم أيها النبي :لو كان في
قدرتي وإمكاني ما تستعجلون به من العذاب لنتهى المر بيني وبينكم ولهلكتكم بعقاب وعذاب
عاجل غضبا لربي وسخطا عليكم من تكذيبكم به -سبحانه -ولتخلصت منكم سريعا ،لكن المر
ليس لي ،إنه إلى ال الحكيم الذي يعلم ما يستحقه الظالمون .ويقول -سبحانه -في موضع آخر
سهُ َألَ َيوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ
من القرآن الكريم {:وَلَئِنْ أَخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَىا ُأمّةٍ ّمعْدُو َدةٍ لّ َيقُولُنّ مَا يَحْبِ ُ
َمصْرُوفا عَ ْنهُ ْم َوحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْزِءُونَ }[هود.]8 :
وحكمة ال -إذن -هي التي اقتضت تأجيل العذاب إلى وقت يحدده ال ،وفي هذا ما يجعل بعضا
من الكافرين يجترئون على ال ويوغلون في الكفر ويقولون ما الذي يمنع عنا العذاب؟
إنهم يقولون ذلك استهزاء وسخرية ،ول يعلمون أن العذاب آت حتما ول خلص لهم منه؛ لن ال
صادق في وعده ووعيده وسيأتيهم العذاب لنهم استهزأوا وسخروا فل مناص لهم عنه ول مهرب
لهم منه.
سمّى لّجَآءَ ُهمُ ا ْلعَذَابُ وَلَيَأْتِيَ ّنهُمْ
جلٌ مّ َ
ب وََلوْلَ َأ َ
وفي موقع آخر يقول الحق {:وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ
جهَنّمَ َلمُحِيطَةٌ بِا ْلكَافِرِينَ * َيوْمَ َيغْشَا ُهمُ ا ْلعَذَابُ
ب وَإِنّ َ
شعُرُونَ * َيسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ
َبغْتَ ًة وَهُمْ لَ َي ْ
حتِ أَرْجُِل ِه ْم وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ }[العنكبوت.]55-53 :
مِن َف ْو ِقهِمْ َومِن َت ْ
وهكذا نرى تحدي الكفار لرسول ال صلى ال عليه وسلم ليأتيهم بالعذاب ،لكنه تحدٍ مردود عليه
بأن الحق هو الذي يقرر ميلد كل أمر ولسوف يأتيهم العذاب فجأة ،وهو واقع ل محالة وإن جهنم
ستحيط بهم ،وسيغمرهم العذاب من أعلهم ومن أسفلهم ،ويسمعون صوت الملك الموكل بعذابهم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذوقوا عذابا أنكرتموه وهو جزاء أعمالكم.
ويقول الحق من بعد ذلك { :وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ} ...
()840 /
و " مفاتيح " هي إما جمع ل ِمفْتح أو جمع لَمفْتح .و " المِفْتح " هو آلة الفتح ،ومثلها " مِبرد " أي آلة
البرد .وآلة الفتح هي المفتاح .و " َمفْتح " هو الشيء الذي يقع عليه الفتح مثل الخِزانة ،ونعلم أن
بعض السماء تأتي على وزن " ِمفْعل " أو " مفعال " .فإذا أخذنا " مفاتح " على أساس أنها جمع
لِمفتح ،فمعنى ذلك أن الحق سبحانه وتعالى يملك المفاتيح التي تفتح على الغيب .وإن اخذنا "
مفاتح " على أساس أنها جمع " مَفْتح " أي خِزانة فمعنى ذلك أن الحق عنده خزائن الغيب .وكل
المرين ل زمان له .والخزائن ل يوضع فيها إل كل نفيس وهو مخزون لوانه ولكل خزانة
علَ ْيهِ ْم وَآتَيْنَاهُ مِنَ ا ْلكُنُوزِ مَآ
مفتاح .يقول الحق عن قارون {:إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن َقوْمِ مُوسَىا فَ َبغَىا َ
إِنّ َمفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِا ْل ُعصْبَةِ ُأوْلِي ا ْل ُق ّوةِ }[القصص.]76 :
هكذا نعلم أنه ل يوجد مخزون إل وهو كنز .وعند الحق مفاتح الغيب ،والغيب هو ما غاب عنك،
وهو نوعان :أمر غائب عنك ومعلوم لغيرك؛ وهو غيب غير مطلق ولكنه غيب إضافي.
ومثال ذلك ،عندما يقوم نشال بسرقة حافظة نقودك وأنت في الطريق ،أنت ل تعرف أين نقودك،
ولكن اللص يعرف تماما مكان ما سرق منك .هكذا ترى أنه يوجد فارق بين غيب عنك ،ولكنه
ليس غيبا عن غيرك.
ولكن هناك ما يغيب عنك وعن غيرك ،ولهذا الغيب مقدمات إن أخذ النسان بها فهو يصل إلى
معرفة هذا الغيب ،وهذا ما نراه في الكتشافات العلمية التي تولد أسرارها بأخذ العلماء بالسباب
التي وضعها ال في الكون ،وهو لون من الغيب الضافي .وهناك لون ثالث من الغيب هو الغيب
المطلق ،وهو الغيب الذي ل يعلمه إل ال ،مثل ميعاد اليوم الخر ،وغير ذلك من الغيب الذي
يحتفظ ال به لنفسه.
ولذلك نقول :إنه ل يوجد أبدا في هذه الدنيا عالِمُ غيبٍ إل ال .وعنده سبحانه مفاتح الغيب ،هذا
الغيب الذي ل نحس به حسا مشهودا بالمدركات ،أو كان غيبا بالمقدمات أي أنه ليس له أسباب
يمكن لحدٍ أن يأخذ بها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ
ب لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُه َو وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْ ِر َومَا َت ْ
ويقول الحق { :وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْي ِ
ب َولَ يَا ِبسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } [النعام.]59 :
ط ٍ
ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الَ ْرضِ َولَ رَ ْ
الحق سبحانه وتعالى -إيناسا لخلقه -حينما يأتي لهم بأمر غير محس لهم ،فإنه يوضح ذلك
بالمحس .وعالم المشهد المحس إما مسموع وإما مرئي وإما متذوق وإما ملموس .وهناك عالم
الغيب ،فقد يصطفي ال بعضا من خلقه ليلقي إليهم هبّاتٍ من فيضه وعطائه توضح بعض
المور ،ومثال ذلك العبد الصالح الذي سار معه موسى عليه السلم وقال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي ظُُلمَاتِ الَ ْرضِ { [النعام.]59 :
فيهاَ } .ومَا تَ ْ
إنه سبحانه أيضا يعلم بالحبة التي تختفي في باطن الرض وأحوالها.
طبٍ وَلَ يَابِسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ { [النعام.]59 :
ويقول الحق سبحانه وتعالىَ } :ولَ َر ْ
أي أنه جلت قدرته يعلم أمر كل كائن في هذا العالم؛ لن كل كائن في هذه الدنيا إما رطب وإمّا
يابس ،وسبحانه ل يعلم ذلك فقط ولكن كل ذلك معلوم له ومكتوب أيضا.
ويشرف على حركة تلك الكائنات الملئكةُ المدبرات أمرا ،وحين تجد الملئكة أن حركة الكون
تسير بنظام محكم دقيق على وفق ما في الكتاب ،فإنها ل تفتر عن تسبيح ال ليلً أو نهارا {:وَلَهُ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َومَنْ عِ ْن َد ُه لَ َيسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَ يَسْ َتحْسِرُونَ * يُسَبّحُونَ الْلّ ْيلَ
مَن فِي ال ّ
وَال ّنهَارَ لَ َيفْتُرُونَ }[النبياء.]20-19 :
وللحق مُلك السموات والرض ،ومن حقه وحده أن يُعبَد ،ول تتكبر الملئكة عن عبادته
والخضوع له ول يشعرون بالملل من العبادة والتنزيه له سبحانه .وأنت أيها العبد تكون في بعض
المور مقهورا ولك في بعض المور اختيار ،وهو سبحانه عالم بما ستختار.
ويقول الحق من بعد ذلك } :وَ ُهوَ الّذِي يَ َت َوفّاكُم{ ...
()841 /
ج ُعكُمْ
سمّى ُثمّ إِلَيْهِ مَرْ ِ
جلٌ مُ َ
ل وَ َيعْلَمُ مَا جَرَحْ ُتمْ بِال ّنهَارِ ثُمّ يَ ْبعَ ُث ُكمْ فِيهِ لِ ُي ْقضَى َأ َ
وَ ُهوَ الّذِي يَ َت َوفّاكُمْ بِاللّ ْي ِ
ثُمّ يُنَبّ ُئ ُكمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ()60
()842 /
والقاهر هو المتحكم بقدرة فائقة محيطة مستوعبة .ولقائل أن يقول :ما دام الحق هو القاهر فكيف
يكفر الكافر وكيف يعصي العاصي؟ .ونقول :إن الكافر يكفر بما خلق ال فيه من اختيار وكذلك
تكون معصية العاصي .ولكن الحق أوجد في النسان اضطراريات وقهريات تدلنا على أنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه فعال لما يريد .ول أحد من المتمردين على منهج ال يجرؤ أن يسحب هذا التمرد على ما
يجريه ال عليه من مرض أو موت.
والمتمرد أو الكافر إنما يختار من باطن الختيار الذي خلقه ال فيه ،وال هو الحاكم للميلد
والموت ول شيء للنسان فيهما ،وكذلك هو سبحانه له تصريف أمور الغنى والفقر ول يجرؤ
متمرد على أن يتمرد على المصائب التي تحدث له وإن تمرد على منهج ال؛ لن التمرد هو من
ظةً
حفَ َ
سلُ عَلَ ْيكُم َ
باطن خلق ال للختيار الذي أودعه في النسان { .وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ وَيُرْ ِ
حَتّىا ِإذَا جَآءَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ َت َوفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُ ْم لَ ُيفَرّطُونَ } [النعام.]61 :
وحين يتكلم الحق سبحانه عن ذاته ونفسه ،قد يتكلم بضمير المتكلم .فيقول {:إِنّنِي أَنَا اللّهُ }[طه:
.]14
وقد يقول سبحانه {:إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر.]9 :
ومرة يتكلم عن ذاته بما نسميه نحن ضمير الغيبة مثل قوله هنا { :وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ }
[النعام.]61 :
لن ضمير المتكلم معه دليله ،إنّ المتكلم يقول :أنا ،ويخاطبك فيقول :أنت .لكن الذي يتكلم بضمير
الغيبة ل بد أن يعود الضمير على مرجع لهذا الضمير .وحين يتكلم الحق عن ذاته بما يسمى لدينا
ضمير الغيبة فإنه -سبحانه -يريد أن يبين لنا أنه في أجلىَ مجال المشاهدة والحضور؛ فكأنه إذا
قال " هو " ل تنصرف إل إلى ذاته العليا؛ فكأنه ل يوجد مرجع ضمير إل هو ،ولذلك يقولُ {:قلْ
حدٌ }[الخلص.]1 :
ُهوَ اللّهُ أَ َ
وسبحانه يقول " :هو " قبل أن يذكر المرجع ،وهو " ال "؛ مع أن الصل في المرجع أن يتقدم،
حدٌ }[الخلص]1 :
ولكنه يقولُ {:قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
فكأنه إذا أُطلِق هذا الضمير فل ينصرف إل إلى ذاته .وحين يتكلم بضمير المتكلم نراه يتكلم عن
ذاته بضمير الفراد فيقول {:إِنّنِي أَنَا اللّهُ }[طه.]14 :
ويقول مرة أخرى {:إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر.]9 :
لماذا؟ .إنه سبحانه إن تكلم عن فعل من أفعاله نجد أن كل فعل من أفعاله يتطلب صفات الكمال
كلها فيه ،لنه يتطلب علما بما يتكلم به ،ويتطلب قدرة لبرازه ،ويتطلب حكمة ،ويتطلب صفات
كثيرة ،فإذا قال سبحانه {:إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر.]9 :
فالتنزيل فعل ،والفعل يقتضي صفات متعددة .فل بد أن يأتي بضمير التعظيم وهو الجمع؛ لن كل
صفات الكمال متجلية في التنزيل.
ولكن إن تكلم عن الذات في التوحيد ل يأتي بضمير الجمع أبدا؛ لنه يريد أن تنفي عن ذاته أنه
متعدد؛ لنه هو الواحد الذي ل شريك له ،فحين يتكلم عن الذات يقول {:إِنّنِي أَنَا اللّهُ[} ...طه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]14
وحين يتكلم عن الذكر يقول {:إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْرَ[} ...الحجر.]9 :
ففي مجال التعظيم والتنزيل الذي يتطلب تجلي كثير من صفاته -جل شأنه -يأتي بضمير
الجمع ،وفي التوحيد والتفرد ونفي الشريك يأتي بضمير الفراد.
هنا يقول سبحانه } :وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ[ { ...النعام.]61 :
وكلمة " قاهر " إذا سمعتها تتطلب مقهورا .وما دام هناك قاهر ومقهور ففي ذلك ميزانان بين
مجالين .وما دام هو قاهرا ففي أي مجال وبأية طريقة سيكون الطرف الثاني مقهورا له؟ إننا نعلم
أن كل شيء في الكون مقهور له ،فقد قهر العدم فأوجد ،وقهر الوجود فأعدم .وقهر الغنى فأفقر،
وقهر الفقر فأغنى .وقهر الصحة فأمرض ،وقهر المرض فأصح.
إذن فكل شيء في الوجود مقهور ل حتى الروح التي جعلها ال مصدر الحس والحركة للنسان
يقهرها سبحانه .فإذا جاء إنسان وقتل إنسانا آخر بأن ضربه على المكان الذي ل توجد عند عدمه
وفقده حياة بأن أذهب صلحيته للبقاء تنسحب الروح .وهذا يوضح لنا أن الروح في الجسم هي
المسيطرة ،لكن من ينقض البنية التي تسكنها الروح يُذْهبُ الروح ويخرجها من الجسم .ومرة
يقهر المادة بالروح ،فيأخذ الروح من غير آفة ومن غير أية إصابة ويتحول الجسم إلى رمّة .إذن
فسبحانه يقهر الروح ،ويقهر المادة ،ول توجد متقابلت في الوجود عالية ومتأبية ومتمردة عليه -
سبحانه } :-وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ { [النعام.]61 :
والقاهر هو المتحكم بقدرة شاملة على المقهور .وانظر أي تقابل في الحياة تجده مدينا وخاضعا
لصفة القهر } .وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ { وكلمة " فوق " تقتضي مكانية .ولكن المكانية تحديد ،وما
دام القهر يتطلب قدرة فهل يعني ذلك أن القادر ل بد أن يكون في مكان أعلى؟ لننا نجد -على
سبيل المثال ول المثل العلى -من يضع قنبلة تحت العمارة العالية ويقهر من فيها .إذن فالقهر
ل يقتضي الفوقية المكانية ،إذن فالفوقية المرادة هي فوقية الستعلء ،ونحن عندما تكلمنا عن
شيْءٌ { فهو ذات ل ككل الذوات.
الحق سبحانه وتعالى أوضحنا أن نلتزم بإطار } لَيْسَ َكمِثِْلهِ َ
وصفاته ليست ككل الصفات ،وكذلك نأتي ونقول في فعله ،وعلى سبيل المثال نجد خلق ال
يحتاجون إلى زمن ويحتاجون إلى علج ،وكل جزئية من الفعل تحتاج إلى جزئية من الزمن ،لكن
هو سبحانه إذا فعل أيحتاج فعله إلى زمن؟ ل؛ لنه ل يفعل بعلج ،ول يجلس ليباشر العملية ،إنما
يفعل سبحانه بـ " كن " ،إذن القهر في قوله } :وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ { هو قهر الستعلء.
ولذلك يقول لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة لخر
رمضان ".
ففي آية ليلة ينزل فيها ال؟ ليلتك أم ليلة المقابل لك؟ أم الليلة التي تشرق الشمس فيها في مكان،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتغيب عن مكان آخر؟ إذن ،فكل واحد من المليون من الثانية ينشأ ليل وينشأ نهار ،وهكذا نعلم
أن ال معك ومع غيرك ،باسطا لك ولغيرك يدهَ {.بلْ يَدَاهُ مَ ْبسُوطَتَانِ }[المائدة.]64 :
لذلك ل تفهم قول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار،
ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " .ل تفهم ذلك بتخصيص
ليل معين أو نهار معين؛ لن يده مبسوطة في كل زمان وفي كل مكان وليس كمثله شيء.
} وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِدهِ { .وعباده من مادة العين والباء والدال ،ومفردها " عَبْد " ،وجمعها
يكون مرة " عبيدا " وأخرى " عِبادا " .و " العباد " هم المقهورون ل فيما ل اختيار لهم فيه ،وهم
أيضا المنقادون لحكم ال فيما لهم فيه اختيار؛ لن النسان مقهور في بعض المور ول تصرف
له فيها :ل تصرف له في َنفَسه ،ول تصرف له في نبضات قلبه ،ول تصرف له في حركة
المعدة ،ول تصرف له في حركة المعاء ،ول تصرف له في حركة الحالبين ،ول تصرف له في
حركة الكُلْيَة ،وكلها مسائل تشمل المؤمن والكافر ،والكل مقهور فيها.
إن من رحمة ال أننا مقهورون فيها ول رأى لنا؛ لنه لو كان لنا رأي في مثل هذه المور لكان
لنا أن نسأل :كيف ننظم عملية تنفسنا في أثناء النوم؟ .إذن فمن رحمة ال أن منع عنا الختيار في
ل منا مقهور فيها ،فمن يستطيع أن يقول
بعض المور التي تمس حياتنا .ومن رحمة ال أن ك ّ
لمعدته :اهضمي الطعام؟ ومن يستطيع أن يأمر الكلى بالعمل؟!!.
إذن فكل أمر مقهور فيه النسان ،هو فيه منقاد ل ول اختيار له .أما المر الذي لك فيه اختيار
فهو مناط التكليف .ولذلك ل يقول لك المنهج " :افعل " إل وأنت صالح أل تفعل ،ول يقول لك "
ل تفعل " إل وأنت صالح أن تفعل.
إذن المور الختيارية هي التي وردت فيها " افعل " و " ل تفعل " .وهي المور التي فيها
التكليف .ومن يطع ربنا في منهج التكليف يصبح وكأنه مقهور للحكم ،ويكون ممن يسميهم ال "
عبادا " ،فكأنهم تنازلوا عن اختيارهم في الحكام التكليفية ،وقالوا :يارب لن نفعل إل ما يريده
منهجك.
وكل منهم ينفذ حكم ال فيما له اختيار أل ينفذه .أما العبيد فهم من يتمردون على التكليف،
سهِمْ لَ َتقْنَطُواْ
فالمؤمنون بال هم عباده .ولذلك يقول الحقُ {:قلْ ياعِبَا ِديَ الّذِينَ أَسْ َرفُواْ عَلَىا أَنفُ ِ
جمِيعا[} ...الزمر.]53 :
حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ
مِن رّ ْ
حمَـانِ الّذِينَ َيمْشُونَ عَلَىا الَ ْرضِ َهوْنا
ويوضح سبحانه سمات هؤلء العباد فيقول {:وَعِبَادُ الرّ ْ
وَإِذَا خَاطَ َبهُمُ الجَا ِهلُونَ قَالُواْ سَلَما }[الفرقان.]63 :
هؤلء هم العباد الذين تنازلوا عن اختيارهم في الفعل ،وقبلوا أن يكونوا مأمورين ومطيعين ل
فيما كلفّ به ،وهم في المور التي ل اختيار لهم فيها يكونون مثل بقية الكائنات ،فكل الخلق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والكون عبيد ال ،فيما ل اختيار لهم فيه أما المؤمنون به فهم عباد ال .ولكن آية واحدَة في القرآن
وهي التي تثير بعض الجدل في مثل هذا الموضوع .ساعة يقول الحق سبحانه وتعالى عما يحدث
في الخرة {:أَأَن ُتمْ َأضْلَلْتُمْ عِبَادِي َه ُؤلَءِ[} ...الفرقان.]17 :
وكأن " عبادي " هنا أطلقت على الضالين ،ويقول :نعم؛ لن الكل في الخرة عباد؛ إذ ل اختيار
لحد هناك .لكن في الدنيا فالمؤمنون فقط هم العباد ،والكافرون عبيد لنهم متمردون في
حفَظَةً { [النعام.]61 :
سلُ عَلَ ْيكُم َ
الختيارات } .وَ ُهوَ ا ْلقَاهِرُ َفوْقَ عِبَا ِد ِه وَيُرْ ِ
ومع مجيء معنى القهر يرسل الحق حفظة ،وإذا كان القهر يعني الغلبة والتملك والسيطرة
والقدرة ،فهو قهار على عباده وأيضا يرسل عليهم حفظة.
حفَظُونَهُ }[الرعد.]11 :
ويقول في موقع آخرَ {:لهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَ ْي ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ
وهكذا يكون قهر ال لنا ،لمصلحتنا نحن؛ لن الضعيف حين يقهره جبار ،يمكنه أن يقول :ال هو
القهار العلى ،وفي هذا تذكير للقوى نسبيا أن هناك قهارا فوق كل الكائنات ،فال قهار فوق
الجميع ،وبذلك يرتدع القوي عن قهره ،فيمتنع عن الذنب ،وتمتنع عنه العقوبة ،وفي ذلك رحمة
له.
حفَظَةً { [النعام.]61 :
سلُ عَلَ ْيكُم َ
} وَيُرْ ِ
وجاء معنى " الحفظة " في القرآن في قوله الحق {:مّا يَ ْلفِظُ مِن َقوْلٍ ِإلّ لَدَ ْيهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق:
.]18
فكل لفظ له رقيب عتيد ،حفظة أي ملئكة يحفظون ويحصون أعمالكم ويسجلونها وهم الكرام
الكاتبون ،وكلما تقدم العلم أعطانا فهما للمعاني الغيبية ،وإن كانت المعاني الغيبية التي نستقبلها
عن ال دليلنا فيها السماع ،ففيه رقيب وعتيد يكتبان فقط ،هكذا قال ربنا فآمنا بما قال وانتهت
المسألة ،وهذا هو المطلوب .ولذلك قال الحق {:الّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِا ْلغَ ْيبِ }[البقرة.]3 :
لن اليمان لو كان بالمشهد فما الفرق -إذن -بين الناس؟ إن اليمان في كماله وقمته هو
اليمان بالغيب ،فإذا قال الحق سبحانه وتعالى {:مّا يَ ْلفِظُ مِن َق ْولٍ ِإلّ َلدَيْهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق.]18 :
فهذا خبر عن الملئكة الذين يكتبون الحسنات ،ويكتبون السيئات .وحين ننظر إلى البشر ،نجدهم
يتفاوتون ويرتفع بعض منهم على بعض في صفات وقدرات ،وكلما تقدّم الزمن عرف النسان
سِرا من أسرار ال يترقى به.
وقديما عندما صنعوا جهاز التسجيل كان حجمه كبيرا ثم تقدم العلم حتى صغر حجم المسجل ،إذن
كلما تقدمت الصنعة صغرت اللة ،لدرجة أنهم صنعوا مسجلً يشبه الحبوب ،وينثرونها في أي
مكان عندما يريدون التقاط أسرار جماعة أو أسرار مجلس ،إذن كلما قويت قدرة الصانع دقت
الصنعة .فإذا نسبتها ل ،فأين دقة الذي صنعته أنت بجانب دقة صنعة ال؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا كان واحد من البشر قد استطاع أن يأتي بمسجلت غير مرئية مع أن قدرته محدودة ،وحكمته
في الصنعة محدودة ،فإذا قال ربك :إن هناك ملئكة لن تراهم وستحصى عليك أعمالك وهم غيب
فقل على العين والرأس ،وسبحانه القائل {:كِرَاما كَاتِبِينَ }[النفطار.]11 :
ظةً حَتّىا إِذَا جَآءَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ { [النعام.]61 :
حفَ َ
علَ ْيكُم َ
سلُ َ
وهنا يقول الحق } :وَيُرْ ِ
وعندما أراد العلماء أن يعرّفوا الموت قالوا :الموت سهم أرسل ،وعمُرك بقدر سفره إليك ،هو إذن
ح َدكُمُ
سهم قد انطلق ،لكن عمرك يُقدّر بمقدار سفره إليك ،وحين يقول الحق } :حَتّىا إِذَا جَآءَ أَ َ
ا ْل َم ْوتُ { فهو ينسب الموت لمن؟ .لقد أبهم ال زمانه ،وأبهم مكانه ،وأبهم سببه ،وأبهم قدره ،وهذا
البهام هو أشد أنواع البيان؛ لنه ما دام قد أبهمه في كل هذه المور يجب أن نستعد للقائه في كل
زمان ،وفي كل مكان ،وبأي سبب.
وإياك أن تتعجب لنه يحدث في أي سن ،فإبهام الحق له هو أكبر بيان؛ لنه سبحانه لو حدده
زمانا أو سنّا أو سببا؛ لكان على النسان أن ينتظر الموت ،لكن شاء هذا البهام وهو أقوى أنواع
البيان ،ليلفتك ويحثك على أن تنتظره في أي زمان وفي أي مكان وبأي سبب وفي أي سن ،وبهذا
يكون الموت واضحا أمامنا جميعا ،ولذلك تخشى ارتكاب أي ذنب حتى ل تقبض روحك وأنت
على الذنب؛ لنك ل تحب أن تلقى ال وأنت عاصٍ.
وعندما يؤذن لصلة الظهر ولم تصلّه ،قد تقول :إن وقته ممتد ،وتجد من يقول لك :اضمن لي
انك ستعيش إلى أن ينتهي وقت الظهر " .ولذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم :عندما سأله عبد
ي العمال أفضل؟ قال :الصلة على وقتها ،قلت :ثم أيّ؟
ال بن مسعود رضي ال عنه قائل :أ ّ
قال :بّر الوالدين ،قلت :ثم أي؟ قال " :الجهاد في سبيل ال " ".
إنك ل تضمن من عمرك أن تعيش إلى آخر الوقت .ولذلك عندما نقول :إن البهامات من أقوى
أنواع البيان فيجب أن نصدق ذلك؛ لن البعض يقول :لماذا لم يبين ال لنا ذلك؟ ودائما أقول :لقد
أوضح ال ما أبهم ،فإن البهام هو أقوى بيان ،ألم نر إنسانا ذهب لطبيب ليعالجه في مسألة فكان
الطبيب سبب موته؟ لقد رأينا ذلك .لقد أخذ هذا النسان بالسباب ولم يمنع ذلك أن قدر ال قد نفذ
فيه.
ولذلك قال شوقي -رحمة ال عليه :-أسد لعمرك من يموت بظفره عند اللقاء كمن يموت بنابهإن
نام عنك فكل طب نافع أو لم ينم فالطب من أذنابهفقد يخطئ الطبيب -مثلً -في إعطاء حقنة -
فتنتهي الحياة ويقولون :خطأ الطبيب إصابة القدار.
سلُنَا { [النعام.]61 :
مصداقا لقوله تعالى } :حَتّىا ِإذَا جَآءَ َأحَ َدكُمُ ا ْل َموْتُ َت َوفّتْهُ رُ ُ
وعندما تأتي كلمة " توفّى " تجدها في القرآن دائرة على ثلثة ألوان :اللون الول هو قول الحق{:
اللّهُ يَ َت َوفّى الَنفُسَ حِينَ َموْتِـهَا }[الزمر.]42 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله سبحانهُ {:قلْ يَ َت َوفّاكُم مَّلكُ ا ْل َم ْوتِ }[السجدة.]11 :
ومرة يقول الحق سبحانهَ } :ت َوفّتْهُ رُسُلُنَا { [النعام.]61 :
سبحانه -إذن -ينسب الموت له ولملك الموت ،ولرسله.
وهل الرسل يأخذون الرواح ويقبضونها إل بإذن من ملك الموت؟ إنهم جنوده ،فل أحد يميت
دون إذن من ال ،فأخذ الرواح وقبضها إلى ال أمرا ،وإلى ملك الموت وسيلة وواسطة ،وإلى
الرسل تنفيذا.
} َت َوفّتْهُ ُرسُلُنَا وَهُ ْم لَ ُيفَرّطُونَ { [النعام]61 :
من أين يأتي التفريط؟ لقد تقدم في هذه الية شيئان اثنان :حفظة يحفظون عليك تصرفاتك وفعالك،
وهم يأخذون الروح أيضا .وهؤلء الملئكة ل يفرطون في هذه المهمة أو تلك .وحين ننظر في
مادة الـ " فاء " ،والـ " الراء " والـ " الطاء " نجدها تأتي مرة " فرّط " ،ومرة " أفرط " .ومن
العجيب أنها تأتي للمتقابلين؛ ففرّط في الشيء أي أهمله ،وأفرط في الشيء أي جاوز الحد والقدر
في الحدث.
وهنا يقول الحق سبحانه } :وَهُ ْم لَ ُيفَرّطُونَ { أي ل يهملون ول يقصرون .وفي إحدى قراءات
القرآن نجد من يقرأ " :ل يفرطون " بالتخفيف ،والمقصود أنهم ل يتجاوزون الحد .ولذلك نجد
الحق يقول {:فَِإذَا جَآءَ َأجَُلهُ ْم لَ يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ }[العراف.]34 :
ويقول الحق من بعد ذلكُ } :ثمّ رُدّواْ إِلَىا اللّهِ{ ...
()843 /
وكلمة " ردوا " تفيدا أن كان لهم التقاء به أول ،وبعد ذلك سوف يرجعون ،كيف؟ لقد كانوا منه
إيجادا ثم ردوا إليه حسابا ثوابا وعقابا؛ لن الحق سبحانه وتعالى هو القائل {:مِ ْنهَا خََلقْنَاكُ ْم َوفِيهَا
ُنعِي ُدكُمْ[} ...طه.]55 :
{ ُثمّ رُدّواْ إِلَىا اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَقّ } وكلمة " مولى " تعني أنه هو الذي يليك ،ول يليك إل من هو
قريب منك .وهذا القريب قد يكون منْجدا لك إن حدث لك ما يفزعك وهو الذي يُعينك ،وهكذا
أخذت كلمة " مولى " معنى القريب ،والناصر والمعين الذي تفزع إليه في شدائدك ،وقد يوجد لك
مولى في الدنيا وهو من الغيار .ومن الجائز أن يتغير قلبه عليك ،ومن الجائز أن تنالك الحداث
التي هي فوق قدرته وطاقته ،ومن الجائز أن يكون لك مولى تنشده وتطلبه لنصرتك فيرفض؛ لن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خصْمك له بهذا المولى ولء أقوى وأشد فيقف بجانب خصمك وقد يوهمك أنه معك لكن قلبه ليس
معك.
لكن هناك في الخرة مولى حق واحد { رُدّواْ إِلَىا اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَقّ } وتطلق كلمة " موْلى " على
السيد حين يعتق عبده .وحين يعتقنا ربنا من النار أليس في ذلك أعظم ولية؟ .إنه المولى الحق،
فل توجد قوة أعلى منه وهو ل يتغير؛ لن الغيار من طبيعة الخلق.
وحين يطلب منك الحق أن تُعمل عقلك لنك حين تعتمد على واحد ينفعك في أمورك فأنت تتوكل
عليه ،وتطلب مساعدته ،وهنا يأمرك الحق بأن تتوكل على الحي الذي ل يموت ،ول تتكل على
واحد من الغيار فقد يصبح الصباح فتجده قد خل بك وتخلىّ عنك .أما إذا كان مولك هو الحق
فلن يخذلك.
ح ْكمُ } .ولماذا جاء بكلمة " الحكم " هنا؟؛ لننا في دنيا
{ ُثمّ رُدّواْ إِلَىا اللّهِ َم ْولَهُمُ ا ْلحَقّ َألَ َلهُ الْ ُ
الغيار قد يسند سبحانه بعض الحكام إلى بعض خلقه؛ فهذا يحكم ،وذلك يتصرف ،وآخر يصدر
حدِ ا ْل َقهّارِ }
قرارا بالتعيينات ،وكلها أحكام ،أما في الخرة فالحق يقولّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
[غافر.]16 :
وأنت في الدنيا تملك ،ويكون رزق ابنك -على سبيل المثال -من يدك ،وتملك أن تصدر قرارا
بترقية من هو أقل منك ،وتملك أن تخيط الثوب لغيرك إن كانت تلك مهنتك ،ففي الدنيا كل منا
يملك بعضا من أسباب الخر .لكن في الخرة ل يوجد شيء من هذاّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ
ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
وساعة تسمع " أل له الحكم " فـ " أل " في اللغة أداة تنبيه لما يأتي بعدها ،ولماذا تأتي أداة التنبيه
هنا؟ لن الحكم القادم بعدها حكم مهم .والكلم -كما نعرف -واسطة بين متكلم ومستمع؛ لن
المتكلم ينقل أفكاره وخواطره توجد في خياله نسبة ذهنية ،أي أنه يعايش مشروع الكلم ويتدبره
قبل أن يتكلم ،أما السامع فهو يفاجأ ،وعندما تريد أن تقول أمرا مُهمّا فأنت تحاول أن تضمن انتباه
السامع حتى ل تفلت منه أية جزئية من كلمك ،فتقول " :أل " لتشد انتباه السامع تماما.
حكْمُ {.
والحق هنا يقول " :أل " ليأخذ انتباه السامع ،ويأتي بعدها قوله } :لَهُ ا ْل ُ
حكْمُ {.
إذن :ساعة تسمع " أل " فاعرف أن فيها تنبيها لمر قادم } لَهُ ا ْل ُ
والحكم :هو الفصل بين أمرين ،ويختلف الفصل بين أمرين باختلف الحاكم؛ فإن كان الحاكم له
هوى فالحكم يميل ،لكن الفصل بين المرين يجب أن يكون بل هوى ،فالحكم بالميزان يقتضي أن
تكون له كفة هنا وكفة تقابلها ،وساعة ما نضبط الميزان نحاول أن نوازن الكفتين لنفصل بين
مسألتين ملتحمتين ،وما دمنا نريد التساوي فنحن نسمي ذلك :النصاف ،أي أن نقف في النصف
دون ميل أو حيْف.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكْمُ { فالواحد منا يعلم أنه
ح ْك ُم وَ ُهوَ أَسْ َرعُ الْحَاسِبِينَ { وساعة يسمع إنسان } َألَ لَهُ ا ْل ُ
} َألَ َلهُ الْ ُ
سبحانه يحكم بين الخلق بداية من آدم إلى أن تنتهي الدنيا ،وكل واحد منا تتشابك مسائله مع
غيره ،وما دام ال الحكم فليس لغيره معه حكم ،ويحكم بين الخلق جميعا وفعله ل يحتاج إلى
زمن ،ونتذكر هنا المام عليّا -كَرمّ ال وجهه -حين قالوا له :كيف يحاسب ربنا الناس جميعا
في وقت واحد ،وبمقدار حلب شاة كما قال بعضهم؟ فقال المام عليّ " :كما يرزقهم في وقت
واحد يحاسبهم في وقت واحد " ،وهذه مسألة سهلة ليس فيها أدنى صعوبة أبدا .وقديما عندما
كانوا ينيرون الطرقات كانوا يشعلون المسارج :هنا مسرجة ،وهناك مسرجة ،وعلى البعد مسرجة
ثالثة ،وكان الوقاد يمشي ليشعل المسارج ..إلخ ،وارتقى العقل البشري المخلوق ل واستطاع أن
ينير الطرقات بالطاقة الكهربائية أو الطاقة الشمسية وفي وقت واحد.
ويقول الحق بعد ذلكُ } :قلْ مَن يُنَجّي ُكمْ مّن ظُُلمَاتِ{ ...
()844 /
المتعب للخلق أن تأتي الظلمة وتكون في مهمة النور ،وأن يأتي النور في مهمة الظلمة ،فلكل من
الظلمات والنور ودور مهمة في الحياة .ولذلك قلنا في أول السورة حين تكلم الحق سبحانه وتعالى
ت وَالنّورَ[} ...النعام.]1 :
ج َعلَ الظُّلمَا ِ
ض وَ َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر َ
حمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ ال ّ
قائلً {:ا ْل َ
لقد ظن البعض أن المفترض أن يقول سبحانه :وجعل النور والظلمات ،ولكن لنتلمس القول الحق،
ولنعترف أن مهمة الظلمة تتساوى مع مهمة النور ،وعلى النسان أن يعي مهمة الظلمة ،وكلنا
يعرف مهمة النور الذي يعيننا على السعي على أمور حياتنا ،ويتطلب السعي طاقة ،ول يمكن أن
تأتي الطاقة إل بعد سكون وهدوء واطمئنان وراحة؛ لذلك فالراحة تحتاج إلى ظلمة لينام النسان
ويستريح ،إذن فالظلمة نعمة من نعم ال ،والذي يتعب النسان أن يغير ويبدل فيجعل النور مكان
الظلمة ،ويجعل الظلمة مكان النور ،وهذا خروج عن مهمة كل متقابلين .وحين ينشئ الحق
المتقابلت ل ينشئها على أنها تتضاد ،أو على أنها تتعاند ،ولكنه -سبحانه -يريد متكامل يعين
متكامل ،فل شيء يهدم شيئا مقابلً له ،بل كل متكامل يساعد الخر .ولذلك قال الحق سبحانه
وتعالى {:وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَجَلّىا }[الليل.]2-1 :
وقد جاء سبحانه بالليل أولً ،والنهار ثانيا ،ولكل منهما مهمة ،ول يمكن أن تؤدي مهمة النهار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على حقيقتها إل إن جاءت مهمة الليل فأُدّيَت على حقيقتها .وهات إنسانا لم يأخذ من الليل الراحة
والسكون والهدوء ،وعانى من قرص ولسْع الناموس أو البراغيث ،أو من ضجيج وخلفه ،ولم
ينم ،ثم في الصبح تجده نصف نائم ،نصف مرهق ،غير قادر على التركيز أو كما يقولون "
مذهول ".
إذن فمن أجل حركة الضوء ل بد أن توجد الظلمة {:وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَجَلّىا }
[الليل]2-1 :
الليل والنهار -إذن نعمتان ،وكل نعمة تساوي الخرى ،وإياك أن تقول هذه ضد تلك ،أو أنها
جاءت لتعاندها ،ل .لقد جاءت كل منهما لتساند الخرى .وفي سورة الليل يتابع الحقَ {:ومَا خَلَقَ
ال ّذكَ َر وَالُنثَىا }[الليل]3 :
لقد جاء سبحانه أيضا بمتقابلين ،وإياك أن تظن أنهما متعاندان فقد جعلهما ال متكاملين لتنجح
الحياة .وإن تعاندا تفسد الحياة .وما دام الليل له مهمة والنهار له مهمة ،إذن فالذكر له مهمة،
جلّىا *
والنثى لها مهمة .وإن خَلَطت المهمتين ينتج الفساد {.وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَ َ
سعْ َيكُمْ لَشَتّىا }[الليل]4-1 :
َومَا خَلَقَ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا * إِنّ َ
خفْيَةً لّئِنْ أَنجَانَا مِنْ
ويقول الحق هناُ { :قلْ مَن يُ َنجّيكُمْ مّن ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ َتدْعُونَهُ َتضَرّعا وَ ُ
هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ } [النعام]63 :
والظلمة -إذن -هي عدم النور .ولم يقل الحق إن طلب النجاة يكون من ظلمة واحدة ،وإنما
طلب النجاة من ظلمات متعددة ،وهي ظلمات متراكمة؛ لن الظلمة إذا ما غُشيت بظلمة ثانية ،ثم
بظلمة ثالثة ،حينئذ تصير ظلمات مركبة بعضها فوق بعض.
والحق سبحانه قال } :ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ { ،وحتى نعرف أهي ظلمات حسّية أم ظلمات معنوية
ل بد لنا أن نعرف الظلمة في معناها الحسي ،إنها ما يؤدي إلى عدم الهتداء إلى الحركة المنجية،
إذن فكل أمر يؤدي إلى عدم الهتداء -حسّيا أو معنويا -هو ظلمة؛ لن النسان في هذه الحالة
يسير في أموره بغير اهتداء ،والحداث والكوارث التي يصعب على الناس أن يعرفوا طريق
النجاة منها تُعتبر ظلمة ،سواء أكانت ظلمة حسّية أَمْ معنوية.
والحق سبحانه وتعالى يقرب لنا المعنويات بالمور الحسّية ،والمراد بالظلمات هنا هي الحداث
والكوراث والنوازل التي تضيق أسباب البشر عن النجاة منها .والنسان حريص دائما على نفع
نفسه .وتظهر التناقضات في أفعال إنسان عن أفعال إنسان آخر لختلف كل منهما في تقييم
وتقدير النفعية .والمثال على ذلك واضح ونضربه دائما هو :مثال التلميذ الذي يذهب صباحا
مبكرا إلى مدرسته ،وينتبه إلى أساتذته ،ويعود إلى منزله ليؤدي واجبه ،ويخرج من لذيذ الكسل
ليجد لذة في العمل ،إنّه بذلك يحب نفسه ويريد النفع لها .أما التلميذ الذي ينام يوقظه أهله فل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يستيقظ ،وإذا أيقظوه فهو يخرج من البيت ليتسكع في الطريق ،مثل هذا التلميذ يحب نفسه حبا
أحمق لنه يريد اللذة العاجلة التي تعقبها سلسلة من اللم الجلة .إنه ينتظر مستقبلً ل كرامة له
فيه عكس التلميذ المجد الذي يتبوأ المكانة اللئقة به.
والمثال الواضح أيضا في الريف هو الفلح الذي يقضي وقته على المقهى ويسهر الليل أمام
التلفيزيون ويترك الرض بل حرث ول رى ول تسميد ،ول يمكن أن تنتج الرض التي يفلحها
محصولً مساويا لرض الفلح الذي يأخذ بأسباب ال فيحرث الرض وينتظم في ريها في
المواعيد المحددة ،ويضع السماد المقرر لها؛ لن الذي أخذ بأسباب ال وتعب وبذل جهدا ل بد أن
يعطيه الحقّ الرزقَ الوفيرَ .أما الذي يكسل عن أداء عمله فقد أحب نفسه حبا أحمق قصير الجل،
وأما الذي أخذ بأسباب ال وأقبل على عمله بحب وتقدير فقدد أحب نفسه حبا أعمق ،فيه نفع له
ولغيره.
إن كل حركة يصنعها النسان في الحياة إنما يريد بها نفع نفسه ،ولكنْ هناك اختلف في تقدير
النفعية بين إنسان وآخر ،والعاقل من يرى النفعية الجلة المجدية ويعمل لها .وهاهوذا المتنبي
الشاعر العربي يقول:أرى كلنا يبغى الحياة لنفسه حريصا عليها مستهامًا بها صبّافحب الجبان
النفس أورده التقى وحب الشجاع النفس أورده الحرباحب الشجاع لنفسه -إذن -جعله طموحا
إلى الحياة الخالدة كشهيد في سبيل ال ،وحب الجبان لنفسه جعله أسير الخوف على الحياة الفانية.
فإذا ما صُدم النسان بأحداث ونوازل وكوارث نرى نفعيته وهي تحركه إلى البحث عن أسباب
للنجاة ،ويعتمد على أسبابه أو أسباب من هو قريب منه ،أما إذا عزّت أسباب البشر .وكان غافلً
عن ال ،فإن الحداث والمصائب والكوارث تعيده وتذكره بخالقه فيقول " :يارب " ،وبذلك ل يبيع
نفسه رخيصا .لكن إن خدع مثل هذا النسان نفسه من البداية وأعرض عن ال تمرد على ربّه
ووجد نفسه أمام الكوارث فهو يسلم أمره ل في وقت الشدة ،فإن انجاب وانكشف عنه الضر عاد
ضلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ
سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ
إلى كفره وتمرده .ولذلك يقول الحق سبحانه {:وَإِذَا مَ ّ
ن الِنْسَانُ َكفُورا }[السراء]67 :
فََلمّا نَجّاكُمْ إِلَى الْبَرّ أَعْ َرضْتُ ْم َوكَا َ
ونجد الذين يقابلون الهوال وتنتهي أسبابهم ل يكذبون على أنفسهم .بل يتجهون فطريا إلى الحق
القادر على الخذ بأيديهم .فلحظة أن تضطرب سفينة وتحيطها عواصف الموج والرياح ،وتختل
آلتها ل تجد إل كلمة :يارب ،يارب .يارب على ألسنة كل ركابها بداية من " القبطان " والقائد
إلى أصغر راكب بها ،وتجد من يتمتم بآيات القرآن توسلً إلى ال للنجاة .وكذلك لحظة أن
تضطرب طائرة في الجو ،ول يعرف قائدها طريقا للنجاة ل يقفز إلى أذهان الركاب وطاقم
الطائرة إل نداء التضرع إلى ال.
ضلّ مَن تَدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ { ودعوة النسان ربّه وموله هي الوسيلة
ولهذا يقول لنا الحق سبحانهَ } :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الولى من وسائل اليقين ،ونعلم أن أحداث الحياة تتراوح ما بين أمرين؛ أمر يبسط ويسعد
النسان ،وأمر يقبض ويضيق على النسان ويشقى به ،فأما الذي يبسط ويسعد فهو إدراك الجمال،
والنعمة والراحة ،والسعادة ،والحساس بالرضى .وأما الذي يضيّق على النسان ويشقيه فهو يريد
أن يفلت منه وينجو.
ولنا العبرة الكاملة من الفطرة التي فطر ال النسان عليها ،فالنسان بفطرته إن رأى ما يسعده ،ل
يجد تعبيرا أقوى من أن يقول " :ال " .وهي صيحة التقدير والتقديس ل الذي أعطاه موهبة إتقان
العمل .وتتجلى العبرة الكاملة أيضا عندما يدهم النسان الخطر فيقول بفطرته " :يارب " .إذن فل
ملجأ إل إلى ال.
ظُلمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ {؟ ويتضمن السؤال الحقيقة التي ل بد أن يقررها السامع
} ُقلْ مَن يُ َنجّيكُمْ مّن ُ
لهذا السؤال وهي :إن ال هو المنجي من ظلمات البر والبحر .وحين يأمر الحق رسوله أن يقول
هذا التساؤل للكافرين فهو سبحانه عليم بأن إجابة الفطرة هي التي ستغلب على ألسنة الكافرين
ويعترفون به سبحانه وحده بأنه هو المنجي من ظلمات البر والبحر .والكون -كما نعلم -إما بر
وإمّا بحر .ولقائل أن يقول :ولكن هناك كوارث جديدة في عصرنا هي كوارث الجو.
؟
ونقول :يجب أن تفهم أن كل جو يأخذ حكم مكانه .فجو البر من البر ،وجو البحر من البحر،
ومثال ذلك ما نراه عند الصلة في المسجد الحرام؛ فنحن نرى المصلين يؤدون الصلة حول
الكعبة أو في الدور والطابق الول أو الثاني أو الثالث من المباني المقامة كمسجد حول الكعبة.
ونلحظ أن ارتفاع الكعبة ل يزيد على ارتفاع دور واحد من أدوار المباني التي حولها .والمصلون
يتجهون في صلواتهم في تلك الدوار إلى جو الكعبة ،ذلك أن جو المكان المقدس هو مقدس
أيضا ،وجو الحرم من الحرم.
ومثال آخر هو السعي بين الصفا والمروة؛ فالمسلم يسعى بين الصفا والمروة في الدور الرضي،
وهناك الن دور ثان أقيم للسعي .وهكذا نرى أن جو المسعى مسعى أيضا .وقديما كان محرّما
على الطائرات أن تطير في جو مكة أو المدينة .حدث ذلك أيام أن كان الطيارون من غير
المسلمين ،وذلك حتى ل يطير غير المسلم في الجو المقدس .أما الن فقد صار مسموحا للطيارين
المسلمين أن يقودوا طائراتهم في أجواء مكة والمدينة المنورة.
فالجو له حكم المكان سواء أكان المكان برا أم بحرا.
خفْيَةً { إن الدعاء بالفطرة يتجه إلى
ظُلمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ َتضَرّعا وَ ُ
} ُقلْ مَن يُ َنجّيكُمْ مّن ُ
ال ،والدعاء هو طلب لشيء .والطلب يقتضي طالبا ،ومطلوبا ،ومطلوبا منه .والطالب هو من
يدعو .والمطلوب منه هو من ندعوه ونسأله .والمطلوب هو الشيء الذي نتضرع بالدعاء رجاء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن يحدث .والطلب لون من المر ،لكن إذا ما جاء الطلب من الدنى إلى العلى فل تقل إنه أمر،
بل هو دعاء.
وفي اللغة عندما نسأل الطالب أن يقوم بإعراب " رب اغفرلي " ،نجد الذي استذكر دروسه دون
تفقه يقول " :اغفر فعل أمر " ،أما الطالب المتفقه في فهم دينه مع إجادة لدراسته فيقول بأدب
اليمان :اغفر هي فعل دعاء؛ لن الطلب إن صدر من الدنى إلى العلى فهو دعاء ،وإن صدر
من المساوى للمساوى فهو التماس ،وإن صدر من العلى إلى الدنى فهو أمر.
وحين ننظر إلى الحالة النفسية لمن تحيطه الكوارث والحداث والنوازل وتضغط عليه الظروف
ول يجد من ينقذه ،هل مثل هذا النسان يأمر أو يدعو إنه يدعو بطبيعة الحال ،ويدعو بتذلل
وامتثال وخضوع ،وهذا معنى الدعاء ...إنه السؤال بتضرع وخضوع ،والتضرع يقتضي قولً،
ل ويكون التضرع بالوجدانيات والسلوكيات.
ويقتضي فع ً
ويخطئ من يظن أن هناك تضرعا بالقول دون أن يربط ذلك بفعل ،فعندما تكون في موقع قوة أو
نفوذ ويسألك سائل أن تتفضل عليه بشيء ،فهذا منه تضرع بالقول .لكن عندما تكون في موقع
قوة أو نفوذ ويسألك سائل أن يفعل لك أمرا ،فهذا تضرع بالقول والفعل .وفي لحظة الخطر يدعو
خفْيَةً
النسان ربه ول يمكن أن يكون في قلبه ذرة من نفاق؛ لن الحق يقول } :تَدْعُونَهُ َتضَرّعا َو ُ
{.
والتضرع خفية يكون بالقلب أيضا .وليس في ذلك رياء؛ لن القلب ل اطلع لحد عليه إلّ
الخالق البارئ ،والمثال على ذلك ما فعلته امرأة أوربية قرأت تاريخ رسول ال صلى ال عليه
ص ُمكَ مِنَ النّاسِ }[المائدة:
وسلم ،ووصلت في قراءتها إلى أسباب نزول قوله الحق {:وَاللّهُ َي ْع ِ
.]67
ووجدت أن هذا القول الكريم قد نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم وكان نائما بعد ليلة من
السهر ،فقالت له عائشة رضي ال عنها :أل من رجل صالح يحرسنا الليلة؟ وبينما هي تقول ذلك
حتى سمعت صوت السلح ،وكان ذلك إعلنا عن مقدم سعد وحذيفة وقال:
جئنا نحرسك يا رسول ال .ونام رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى سمعت سيدتنا عائشة
ص ُمكَ مِنَ النّاسِ }[المائدة.]67 :
غطيطه ،ثم نزل عليه الوحي بهذا القرآن الكريم {:وَاللّهُ َي ْع ِ
فقام رسول ال صلى ال عليه وسلم من النوم وقال " :انصرفوا أيها الناس فقد عصمني ال ".
وعندما قرأت المرأة الوربية هذه الحكاية في تاريخ محمد صلى ال عليه وسلم وأحسنت الفهم لها
أعلنت إسلمها على الفور قائلة :لو كان محمد يخدع الناس جميعا ما خدع نفسه في حياته .لقد
أدركت هذه المرأة بالفطنة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يكن ليصرف عنه الحرس لو لم
يثق تمام الثقة في أن ال يحميه ،وأنه سبحانه قادر على أن يحفظه .والنسان لحظة الخطر إنما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يدعو ال تضرعا وخفية .والدعاء -كما علمنا -يحتاج إلى قول وفعل ووجدان .وهذه الركان
خفْيَةً لّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ
الثلثة تتوافر في قوله الحق } :تَدْعُونَهُ َتضَرّعا وَ ُ
{ [النعام.]63 :
فكلمة (تدعونه) :قول و (تضرعا) :فعل لنه خشوع وخضوع -و(خفية) :انكسار القلب وخشيته
و " أنجانا " تدل على التعدد؛ لن الفعل للتجدد والحدوث وأيضا قولهُ } :قلْ مَن يُ َنجّيكُمْ { يدل على
التكثير ،أي أنه ل ينجّي مرة واحدة ولكنه ينجّي لمرات كثيرة .ويأتي لنا سبحانه بصور كثيرة
لقدرته على أن ينجّينا إما بتكرار النجاة أو بتعدي النجاة من موقف لموقف .وتكرار النجاة هو أن
يكون الحدث واحدا وينجي الحق فيه أفرادا كثيرين ،أو يكون الحدث واحدا والطالب للنجاة منه
فردا واحدا ،ويكرر ال نجاته من هذا الحدث .إن الحق سبحانه ينجّي الفرد أو الجماعة من
الحداث أو الكوارث المختلفة .وسبحانه القائل {:وَإِذَا مَسّ الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ
شفْنَا عَ ْن ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ َيدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ }[يونس.]12 :
قَآئِما فََلمّا كَ َ
إن النسان إذا ما أصابه الضر في نفسه أو ماله أو نحو ذلك ،أحس بضعفه ودعا ربه في أي
حالة من حالته -سواء أكان مضطجعا أم قاعدا أم قائما -حتى يكشف ال عنه هذا البلء،
وعندما يستجيب ال لدعاء هذا النسان ينسى هذا النسان فضل ال عليه كأنه لم يدع ال أن يزيل
عنه الضر.
ضلّ مَن تَدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ فََلمّا نَجّا ُكمْ إِلَى الْبَرّ
سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ
والحق سبحانه يقول {:وَِإذَا مَ ّ
ن الِنْسَانُ َكفُورا }[السراء.]67 :
أَعْ َرضْتُ ْم َوكَا َ
وسبحانه -هنا -يُذكّر المشركين ومن كان على شاكلتهم أنهم عندما يصيبهم الضر في البحر
يغيب عنهم كل من كانوا يدعونه سواء من الصنام أو غيرها ول يلجأون إل ال حتى ينجيهم من
الغرق ويخرجهم إلى البر ،ومن بعد ذلك يعودون إلى الشرك بال والجحود بنعمته سبحانه.
وكذلك هنا في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها.
خفْيَةً لّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ
ظُلمَاتِ الْبَرّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ َتضَرّعا وَ ُ
} ُقلْ مَن يُ َنجّيكُمْ مّن ُ
الشّاكِرِينَ { [النعام.]63 :
لقد دعوا ال بالتضرع والتذلل أن ينّجيهم من ظلمات البر والبحر ،ووعدوا أن يكونوا من
الشاكرين ،ولكن ماذا كان موقفهم بعد أن أنجاهم ال؟
يقول الحق سبحانهُ } :قلِ اللّهُ يُ َنجّيكُمْ مّ ْنهَا َومِن ُكلّ كَ ْربٍ ُثمّ{ ...
()845 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ُقلِ اللّهُ يُ َنجّيكُمْ مِ ْنهَا َومِنْ ُكلّ كَ ْربٍ ثُمّ أَنْتُمْ ُتشْ ِركُونَ ()64
إن الحق ينجيهم من الظلمات المادية في البر البحر ،وسبحانه بعلمه الزلي يعلم أنهم بعد النجاة
سيعودون إلى ما نهاهم عنه من شرك به؛ لن النسان بطبيعته عندما يجد حياته مكتفية بما يملكه
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق.]7-6 :
ن الِنسَانَ لَيَ ْ
قد يقع فيما قاله الحق تبارك وتعالى {:كَلّ إِ ّ
والنسان قد يتجاوز حدوده ويتكبر على من حوله ،بل وعلى ربه إن رأى نفسه صاحب ثراء ،ول
يعصم النسان من مثل هذا الموقف إل اليمان بال؛ لن النسان بدون منهج ال يسبح في بحر
الغرور والتكبر ،ولكن من يحيا في ضوء منهج ال فهو يعرف كيف يرعى ال في كل إمكانات أو
ثراء يمنحه له ال ،وينشر معونته ليستظل بها المحتاج غير الواحد .ولذلك نجد أن كلمة " النسان
خسْرٍ }[العصر.]2-1 :
ن الِنسَانَ َلفِى ُ
" إذا أُطلقت تقترن بالخسارة {.وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
عمِلُواْ
أي أن النسان على إطلقه في خُسْر .ولكن الحق يستثني مَن؟ِ {..إلّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر.]3 :
ق وَ َتوَا َ
ت وَ َتوَاصَوْاْ بِا ْلحَ ّ
الصّالِحَا ِ
إذن فالنسان المعزول عن منهج ال هو الذي يحيا في خسران ،لكن من يعيش في رحاب المنهج
هو الذي ل يخسر أبدا .والنسانحين يعيش دون منهج يصدر ويحدث منه ما رواه الحق سبحانه{:
خوّلْنَاهُ ِن ْعمَةً مّنّا قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ َبلْ ِهيَ فِتْنَ ٌة وَلَـاكِنّ
س الِنسَانَ ضُرّ دَعَانَا ُثمّ إِذَا َ
فَإِذَا مَ ّ
َأكْثَرَهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }[الزمر.]49 :
لن الذي يعيش دون منهج يدعو ال إن أصابه الضرّ ،فإذا ما أنجاه ال ادعّى أن النجاة إنما كانت
بأسباب امتلكها هو ،وإذا ما أعطاه ال نعمة من النعم زاد في الدعاء وزعم أن هذه النعمة
مصدرها علم من عنده هو ول ينسب ذلك إلى الموجد الحقيقي وهو ال ،إنّه نسي أن كل نعمة هي
مجرد اختبار من ال.
ويقول الحق من بعد ذلكُ { :قلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ} ...
()846 /
وكلمة " قادر " تعني تمام التمكن وأنه ل قدرة ول حيلة لحد حيال قدرة ال؛ لن الحق سبحانه
وتعالى يملي للقوم الظالمين ويمد لهم المر ثم يأخذهم بغتة بالعذاب ،وقد يأتي العذاب من فوقهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كما جاء لقوم أبرهة الذين أرادوا هدم الكعبة ،فسلط عليهم طيرا أبابيل ،ترميهم بحجارة من
سجيل ،جعلتهم كعصف مأكول ،وهناك من أخذهم الحق بالصيحة ،وهناك من أهلكتهم بريح
صرصر عاتية ،وكل ذلك عذاب جاء من فوق تلك القوام.
أما قارون فقد خسف ال به وبداره الرض ،وكذلك قوم فرعون أغرقتهم المياه ،وهذه هي
التحتية .فالعذاب قد يأتي من فوق أو من تحت الرجل حسّيا ،وقد يأتي أيضا من فوقيّة أو تحتيّة
معنوية ،ومثال ذلك العذاب الذي يسلطه ال على الطغاة الكبار المستبدين ،وقد يأتي العذاب من
الفئات الفقيرة التي تعيش أسفل السلم الجتماعي.
ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ } [النعام.]65 :
سكُمْ شِيَعا وَيُذِيقَ َب ْع َ
{ َأوْ يَلْ ِب َ
والمقصود بلبس المر أي خلطه بصورة ل يتبينها الرائي .و " شيعا " هي جمع " شيعة ".
والشيعة هم :المتعاونون على أمر ولو كان باطل ،ويجمعهم عليه كلمة واحدة وحركة واحدة
سكُمْ شِيَعا } أي أن كل جماعة منكم تتفرق ويكون
وغاية واحدة .والمقصود بقوله الحقَ { :أوْ يَلْ ِب َ
لكل منهم أمير ،وتختلط المور بين الختلفات المذهبية التي تختفي وراء الهواء ،وبذلك يذيق
ال الناس بأس بعضهم بعضا.
ولماذا كل ذلك؟ لن الناس ما دامت فد انفرطت عن منهج ال نجد الحق يترك بعضهم لبعض
ويتولى كل قوم إذاقة غيرهم العذاب .ولكن أُغيّر ذلك في ملك ال ونواميسه الثابتة من شيء؟
أبدا ،فالسماء هي السماء ،والرض بعناصرها هي الرض ،والشمس هي الشمس ،والقمر هو
القمر ،والنجوم هي النجوم ،والمطر هو المطر.
إن الذي يحدث فقط هو أن يذيق ال الناس بعضهم بأس بعض ،ويصير كل بعض من الناس ظالما
للبعض الخر .وعندما نرى الناس تشكو ،نعلم أن الناس كلها مذنبة ،ومادام الكل قد أذنب وخرج
عن منهج ال فل بد أن يسلط الحق بعضنا على بعض حتى يعرف الجميع أنهم قد انفلتوا عن
منهج ال لذلك يلقون المتاعب ،ولن يرتاحوا إل إذا عادوا إلى أحضان منهج ال؛ لن منهج ال
يمنع أن يتكبر إنسان مؤمن على أخيه المؤمن .والكل يسجد لله واحد .ولهذا وضع الحق لنا
العبادات الجماعية حتى يرى الضعيف في سلطان الدنيا القوي في السلطان وهو يشترك معه في
السجود للله الواحد.
مثال ذلك ما نراه من طواف الناس حول الكعبة في ملبس الحرام ،إن من بين الذين يطوفون
قوما من وجهاء الناس وأصحاب الرتب العالية والمنازل الرفيعة ،ومن بين هؤلء أيضا نجد الذين
ل يحتلون إل المكانة الضئيلة ،ويرى الضعيف نفسه مساويا لمن في المركز الجتماعي القوي.
الكل يقف أمام ربّه وهو ذليل ويمسك بأستار الكعبة باكيا .ويريد سبحانه بذلك استطراق الغرور
بين المؤمنين ويكون الناس جميعا أمام ال وفي بيته على سواءُ } .قلْ ُهوَ ا ْلقَادِرُ عَلَىا أَن يَ ْب َعثَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضكُمْ بَأْسَ َب ْعضٍ ا ْنظُرْ كَ ْيفَ
س ُكمْ شِيَعا وَيُذِيقَ َب ْع َ
حتِ أَ ْرجُِلكُمْ َأوْ يَلْبِ َ
عذَابا مّن َف ْو ِقكُمْ َأوْ مِن تَ ْ
عَلَ ْيكُمْ َ
ُنصَ ّرفُ اليَاتِ َلعَّلهُمْ َي ْفقَهُونَ { [النعام.]65 :
وها نحن أولء نرى كيف أن الحق يلبس الناس شيعا ،إننا نرى المنسوبين إلى السلم يذبح
بعضهم بعضا لسنوات طويلة .وإذا كان هؤلء وأولئك طائفتين مؤمنتين تتقاتلن فأين الطائفة
الثالثة التي تفصل بين الطائفتين مصداقا لقوله الحق {:وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فََأصِْلحُواْ
بَيْ َن ُهمَا فَإِن َب َغتْ ِإحْدَا ُهمَا عَلَىا الُخْرَىا َفقَاتِلُواْ الّتِي تَ ْبغِي حَتّىا َتفِيءَ إِلَىا َأمْرِ اللّهِ فَإِن فَآ َءتْ
حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ }[الحجرات.]9 :
ل وََأقْسِطُواْ إِنّ اللّهَ ُي ِ
فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا بِا ْلعَ ْد ِ
ها هوذا الدم المنسوب إلى السلم يسيل ،ويزداد عدد الضحايا ،ومن العجيب أن الخرين يقفون
موقف المتفرج ،أو يمدون كل طائفة بأدوات الدمار .وذلك يدل على أن المسألة طامة وعامة.
والقاعدة التي قلناها من قبل ل تتغير ،القاعدة أنه ل يوجد صراع بين حقين؛ لنه ل يوجد في
المر الواحد إل حق واحد .ول يطول أبدا الصراع بين الحق والباطل؛ لن الباطل زهوق وزائل.
ولكن الصراع إنما يطول بين باطلين؛ لن أحدهما ليس أولى من الخر بأن ينصره ال.
ومثال آخر كنا نراه في بلد كلبنان -إبان الحرب الهلية -وكان الصراع الدائر هناك يكاد
يوضح لنا أن كل فرد صار طائفة بمفرده ،وكل إنسان منهم له هواه ،وكل إنسان يذيق غيره
العذاب ويذوق من غيره العذاب.
} ا ْنظُرْ كَ ْيفَ ُنصَرّفُ اليَاتِ َلعَّلهُمْ َي ْفقَهُونَ { [النعام.]65 :
وينوع سبحانه الحجج والبراهين ويأتي لهم بالحداث والنوازل حتى يتبين للجميع أنه ل راحة أبدا
في النفلت عن منهج ال حتى يفقهوا .والفقه هو شدة الفهم .والمقصود أن نأخذ ونتفهم العظة من
كل اليات التي يجريها الحق أمامنا عسانا نرجع إلى مراد ال.
حقّ قُل{ ...
ك وَ ُهوَ الْ َ
ويقول الحق بعد ذلكَ } :وكَ ّذبَ بِهِ َق ْو ُم َ
()847 /
ما الذي كذب به القوم؟ المقصود هو القرآن أو المنهج عامة؛ لن المنهج اليماني يشمل القرآن
ويشمل ما آتى به الرسول عليه الصلة والسلم .فالقرآن معجزة مشتملة على الصول .وجاء
الرسول صلى ال عليه وسلم بالسنّة ليبين ويشرّع .ولذلك نرد على هؤلء الذين يطلبون كل حكم
من الحكام من القرآن ونقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن القرآن جاء معجزة تتكلم عن أصول العقيدة ،والرسول صلى ال عليه وسلم جاء بالتشريعات
التي تكمل المنهج ،ومثال ذلك عدد الصلوات في كل فرض من الفروض الخمسة وعدد ركعات
كل فرض من فروض الصلوات الخمس .إن القرآن لم يذكرها ،ولكن أوضحها لنا رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،فهو القائل في حديث شريف " :صلوا كما رأيتموني أصلي " .والرسول
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ
صلى ال عليه وسلم مفوض بالتشريع بنص القرآن الكريمَ {:ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَ ُ
عَنْهُ فَان َتهُواْ }[الحشر.]7 :
ونحن نصلي كما صلى رسول ال صلى ال عليه وسلم .ونزكي بنصاب الزكاة الذي حدده رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،ونحج إلى بيت ال الحرام كما حج رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقد
أنزل سبحانه القرآن ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم هو أول من طبق القرآن والسنة {.وَأَنْزَلْنَا
إِلَ ْيكَ ال ّذكْرَ لِتُبَيّنَ لِلنّاسِ مَا نُ ّزلَ إِلَ ْيهِمْ وََلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ }[النحل.]44 :
أي أن هناك من المور العقدية التي أنزلها الحق مجملة في القرآن وفصلها للمؤمنين رسول ال
صلى ال عليه وسلم بتكليف من الحق .وطاعة رسول ال صلى ال عليه وسلم واجبة بنص
القرآن وهي ضمن طاعة الحق سبحانه وتعالى ،فالحق يقول مرةُ {:قلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرّسُولَ }[آل
عمران.]32 :
وهنا طاعة الرسول غير مكررة إنها ضمن طاعة ال.
ويقول سبحانه مرة أخرىُ {:قلْ َأطِيعُواْ اللّ َه وََأطِيعُواْ الرّسُولَ }[النور.]54 :
أي أن هناك أمرا بإطاعة ال وأمرا بإطاعة الرسول.
ومرة ثالثة يقول سبحانهَ { :ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ َفخُذُو ُه َومَا َنهَا ُكمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ }.
وكل ذلك حتى نستوعب الحكام التي التقت السنة فيها بكتاب ال.
لمْرِ مِ ْنكُمْ }[النساء:
ل وَُأوْلِي ا َ
وحين قال الحق {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّ َه وَأَطِيعُواْ الرّسُو َ
.]59
فهو سبحانه لم يأت بطاعة مستقلة لولي المر ولكنه جعلها طاعة من باطن طاعتين هما :طاعة
ال ،وطاعة الرسول صلى ال عليه وسلم.
ستُ عَلَ ْيكُمْ ِب َوكِيلٍ }
حقّ قُل لّ ْ
ك وَ ُهوَ الْ َ
ونعود إلى معنى الية التي نحن بصددهاَ { :وكَ ّذبَ بِهِ َق ْو ُم َ
[النعام.]66 :
إذن فالذي كذب بوجود ال وكذب بالقرآن هو مكذب للمنهج أيضا .فالمكَذّب به هنا هو الحق،
والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير ،وفي حياتنا اليومية تحدث واقعة ما ويأتي أكثر من شاهد
عِيان لها فل نجدهم يختلفون في رواية الواقعة لنهم يستوحون واقعا ،لكن إن كان بعض من
الشهود لم يروْا الواقعة التي يشهدون عليها الوقائع من أفواه الشهود؛ لن الحق قد يختفي قليل
وراء بعضٍ من الضباب لكن ل يدوم اختفاؤه طويلً بل يظهر جليا ناصعا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِ َيةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ
والحق يضرب لنا المثل فيقول سبحانه {:أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
حلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا ْلحَقّ
زَبَدا رّابِيا َومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ ِ
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْمكُثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ
وَالْبَا ِ
لمْثَالَ }[الرعد.]17 :
اَ
الماء -إذن -ينزل بأمر ال من السماء فتستمر به حياة النبات والحيوان والنسان ،ويأخذ كل
وادٍ على قدر حاجته .وعندما ينزل السيل فهو يصحب معه بعضا من الشوائب التي تطفو على
المياه ،ومثل تلك الشوائب يَطفو -أيضا -عندما يُصهر الذهب أو أي معدن ويُسمى الخبث.
وهكذا يطفو الباطل كالزّ َبدِ ويذهب جُفاء مطروحا ومرميا به بعيدا أو ينزل على جوانبه ،أما الحق
الذي ينفع الناس فهو يبقى في الرض .وتكذيب القوم للحق من ال وللقرآن وللمنهج اليماني هو
البهتان ،والرسول صلى ال عليه وسلم ليس بوكيل على المكذبين ول يلزمهم أن يصدقوا ،فالوكيل
هو ال الحق الذي يعاقب كل مكذّب له ،ومهمة الرسول صلى ال عليه وسلم هي البلغ.
" وكذّب به قومك " ،وكلمة " قومك " هذه هي تقريع فظيع لهم؛ لن رسول ال صلى ال عليه
وسلم جاء منهم ،وعرفوه صادقا أمينا مدة أربعين عاما قبل الرسالة ،وما جرّبوا عليه كذبا ،
ومقتضى مكثه معهم هذا التاريخ الطويل كان يفرض عليهم أن يتساءلوا من فور بلغهم بالرسالة:
إنه لم يكذب علينا قط ونحن من الخلق ،أيكذب على الخالق؟ .ولكن الهوى أعمى بصيرتهم ،ولذلك
عمُرا مّن
يقول الحق عن هذا البلغ {:قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَدْرَا ُكمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
قَبْلِهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[يونس.]16 :
أي قل لهم يا محمد :لو أراد ال أل ينزل قرآنا عليّ من لدنه وألّ أبلغكم وأعلمكم به ما أنزله وما
تلوته عليكم ،ولكنه أنزله وأرسلني به إليكم .وعندما يمتن ال على الذين أرسل إليهم رسوله صلى
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ
ال عليه وسلم فهو يقول سبحانهَ {:لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة.]128 :
وبرغم تكبر وعناد وتكذيب المشركين من قوم رسول ال صلى ال عليه وسلم .فإنه عندما هاجر
رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكة إلى المدينة ترك عليا بمكة ليسلم للناس أماناتهم .فهل
هناك حمق أكثر من حمق هؤلء الذين كذبوا برسول ال صلى ال عليه وسلم .أيكون أمينا معهم
ول يكون أمينا مع ربه؟
س ْوفَ{ ...
ويقول الحق من بعد ذلكّ } :ل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَ ّر وَ َ
()848 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س ْوفَ َتعَْلمُونَ ()67
ِل ُكلّ نَبَإٍ مُسْ َتقَرّ وَ َ
والنبأ هو الخبر المهم ،فليس كل خبر نبأ ،ذلك أن هناك المثير من الخبار التافهة التي يتساوى
عمّ
فيها العلم الذي ل ينفع بالجهل الذي ل يضر .ومثال على الخبر المهم هو قوله الحقَ {:
يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ * الّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَِلفُونَ }[النبأ.]3-1 :
إذن فكل نبأ مستقر ،والمستقر هو ما طُلب القرار فيه .والنبأ مظروف والمستقر مظروف فيه.
والمظروفية تنقسم قسمين :مظروفية زمان ،ومظروفية مكان .أي أن الحق سبحانه وتعالى جعل
لكل حدث زمانا ومكانا يقع فيهما الخبر .وسوف يعلم النسان مستقر كل خبر عندما يأذن الحق
بميلد هذا المستقر الذي يُعلن فيه الخبر.
النبأ -إذن -هو الخبر العظيم المدهش .ول أعظم من تجلي السماء على الرض بمنهج جديد
ينقذها مما هي فيه من ضلل ،وهو منهج عام لكل زمان ولكل مكان .إذن هو نبأ عظيم؛ لنه
يخلص دنيا الناس من جبابرة الرض ،ويلفت كل الناس إلى منهج يخرجهم جميعا من أهوائهم.
فل أضر بالمجتمع من أن يتبع كل إنسان هواه؛ لن هوى كل نفس يخدم شهواتها ،والشهوات
متضارية ،فإذا حكّم كل إنسان هواه فلن تجد في الرض قضية متفقا عليها .ولذلك تكفل الحق
سبحانه وتعالى للنسان بمسألة تنظيم المنهج وهو المر الذي تختلف فيه الهواء .وأما المر الذي
تلتقي فيه الهواء وهو استنباط ما في الرض من كنوز واستكشاف ما في الكون من أسرار فقد
تركه الحق للنسان ليستنبطه بالعقل الذي خلقه ال ،من الكون الذي خلقه ال ،وليسعد النسان
بتلك السرار التي يستكشفها في الكون.
ويؤكد لنا واقع الحياة هذه القضية ،ونجد طموح العقل البشري عندما فكر في مادة الكون استنبط
منها السرار وأنجز الكثير من الكتشافات العلمية .ولم تختلف الدول والمعسكرات في تلك
المجالت ،بل التقت كل الهواء عند هذه الكتشافات ،فل توجد -كما قلنا -كهرباء روسية
وأخرى أمريكية ،ول نجد " كيمياء انجليزية " وأخرى " فرنسية " ،ولذلك تجد النظمة السياسية
والجتماعية على اختلفها تلتقي في مجالت العلم وتتفق ول تختلف حتى إن بعضها قد يسرق
من البعض الخر ما توصل إليه .ول نجد في عالم المادة والمعمل والتجربة اختلفات بين نظام
سياسي ونظام آخر ،بل تلتقي الهواء عند القوانين المكتشفة والمأخوذة من مادة الكون ،وهو
المر الذي تركه ال للناس ليكونوا أحرارا فيه ،ويفكرون ،وينظرون ،ويتأملون ،ويبتكرون،
ويصلون إلى أسرار في الكون تخفف عنهم تبعات الحياة ،وتؤدي لهم غايات السعادة في الوجود
بأقل مجهود.
ولكننا نجد الصراع العنيف على الجانب الخر -جانب المبادئ والمنهج -وهو صراع ل يهدأ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أبدا؛ لنه صراع الهواء فيما لم تحكمه تجربة مادية ،وهم يختلفون خلفات عميقة ،الرأسمالية
تختلف عن الشتراكية ،وتتنوع الخلفات بين كافة المذاهب التي أنتجتها الهواء :الشيوعية،
الوجودية ،الشتراكية ،الرأسمالية ،وكل هذه المسائل لم تحكمها تجربة أو معمل ذلك كان
الخلف.
ومن المؤسف أن البشر قد استغلوا ما اتفقوا فيه من ابتكارات علمية في فرض النظم التي اختلفوا
عليها.
وقد أوضح الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم هذا المر؛ إنه جل وعل قد ترك عقول
البشرية حرة في كل ما يخضع للتجربة ،ولكنه نظم حياة النسان على الرض في ضوء المنهج
اليماني؛ لن السلم جاء في إثر ديانة حاول القائمون على أمرها من الكهنة أن يفرضوا سيطرة
الكهنوت على العقل البشري في أسرار الكون.
والمثال على ذلك واضح تماما في التاريخ البشري ،ففي العصر الذي تأخرت فيه أوروبا وسُمي "
عصر الظلمات " كان المسلمون في الشرق باتباعهم لمنهج ال يعيشون في عصر النور؛ لن
السلم علمهم مجال استعمال العقل وقدراته على استنباط أسرار ال في الكون ،وجاء سبحانه
بهذا الدين وهو النبأ العظيم ليوضح لنا في مسيرة هذا الدين كل عبرة ،وكأنه يقول لنا:
إن هذا الدين قد بدأ ضعيفا والذين آمنوا به قلة مستضعفة ل يستطيعون حماية أنفسهم بل تلمسوا
الحماية وطلبوها عند ملك غريب في الحبشة ،وعلى الرغم من ذلك أنتصروا لنهم أخذوا بهذا
الدين.
سوْفَ َتعَْلمُونَ { [النعام.]67 :
وقال صلى ال عليه وسلم مقالة ربهّ } :ل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَ ّر وَ َ
ومعنى " مستقر " أي ميلد يستقر فيه .أي ل تتعجلوا الحداث ،ول تجهضوها؛ فإن شاء ال
سيكون لهذا الدين انتشار ،وهذا النتشار له ميلد في زمان وميلد في مكان ،أما زمانه فإلى أن
تقوم الساعة ،وأما مكانه فالرض كلها؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء رسولً للناس
كافة ،وخاتما للنبيين والمرسلين.
ويؤيد الحق سبحانه قضية } ّل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَرّ { بأن يشهد الواقع من الحقائق ما يؤكد ذلك .ومثل ما
حدث في الزمن القريب المعاصر لميلد الدعوة السلمية .فحينما جاء السلم آمن به قلة
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر.]45 :
مستضعفة ،ولما نزل قوله سبحانه {:سَ ُيهْزَمُ الْ َ
قال عمر بن الخطاب رضي ال عنه :أي جمع هذا الذي سيهُزم ويولون الدبر ونحن ل نستطيع
حماية أنفسنا؟ فلما جاء يوم بدر ورأى مصارع القوم كما قالها رسول ال صلى ال عليه وسلم
بلغا عن ال قال عمر بن الخطاب :صدق ال ،لقد هُزم الجمع ووّلوْا الدبر .ونجد كل قضية
قرآنية محفوظة ومسجلة في السطور ،يحفظها ال حتى ل يكون للناس على ال حجة؛ لنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س ْوفَ َتعَْلمُونَ { [النعام.]67 :
سبحانه القائلّ } :ل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَ ّر وَ َ
فلو لم يكن الواقع يؤيد أن لكل نبأ مستقرا ،ولكن حدث ميلدا زمانا ومكانا ،فماذا يظن الناس
الذين يستقبلون القرآن؟ لذلك أتى الحق بكل قضية قرآنية ومعها دليلها ،وأعطى الحق بعضا من
س ْوفَ َتعَْلمُونَ
الحقائق الموثقة بالحداث زمانا ومكانا ليتأكد قوله الحقّ } :ل ُكلّ نَبَإٍ مّسْ َتقَرّ وَ َ
{ [النعام.]67 :
وقد علمت الدنيا وانتصر السلم .لقد شاء الحق أن يربي حامل الدعوة الول -عليه الصلة
والسلم -ويعلم معه صحابته رضوان ال عليهم ،يعلمهم منطقا ليسايروا به أحداث الكون.
ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى كان يُنزل الرسل بالديان على فترات ،وعندما يعُم الفساد في
الرض ينزل الحق منهجه على رسول ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم؛ لن الحق سبحانه
وتعالى جعل في كل نفس بشرية تعادلً ذاتيا ،فإذا اشتهى النسان شهوة يحرمها الدين ،وقضى
النسان هذه الشهوة ،وهدأت شرّة وحدّة المعصية في نفسه ،فالنسان يؤنب نفسه ويوبخها .ولكن
النفس قد تستمرئ الشهوات ،وينعدم الوازع الذي يردع النسان.
وإذا انعدم الوازع في فرد واحد فلن ينعدم في المجتمع ،ونجد من الناس من يحمل المجتمع على
المعروف ،ويوجه صاحب النفس التي استمرأت المعصية إلى التوبة والخير .أما إذا عم الفساد في
الفرد وفي المجتمع فماذا يكون الموقف؟
ل بد أن تتدخل السماء برسول جديد ،ومنهج جديد .ويأتي الرسول الجديد ومعه المنهج اللزم
لصلح الكون .ول يتبع الرسول الجديد إل المستضعفون القلة ،وأهل البصيرة من أهل القوة
حتى ل يظن ظان أن الضعفاء لذوا بالدين ومالوا إليه بسبب ضعفهم .ويحذر الحق المؤمنين
وكأنه يقول :إنكم تواجهون باطلً عض الناس وأرهقهم وأعنتهم ،وحين يعضّ الباطل المجتمعات
فالذي ينتفع من ذلك هم أهل الباطل ،والذي يشقى بذلك هم أهل الحق .فلكل فساد طبقة منتفعة به.
وحين توجد الطبقة المنتفعة بالفساد .وحين توجد كلمة الحق فإن المنتفعين بالفساد ينظرون إلى
نفوذهم الذي سينحسر حتما عندما تسود كلمة الحق.
وحين ينتصر الحق ل بد أن يزول الفساد ومعه كل نفوذ أهل المفاسد .لذلك يقف المنتفعون من
الفساد ضد الدين الجديد ليحافظوا على مكانتهم في المجتمع .ويقول الحق تهذيبا للمؤمنين ،وتأديبا
لغير المؤمنين } :وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ{ ...
()849 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدِيثٍ غَيْ ِرهِ وَِإمّا يُ ْنسِيَ ّنكَ
وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ حَتّى َيخُوضُوا فِي َ
الشّ ْيطَانُ فَلَا َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَى مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ ()68
وبهذا القول يوضح ال لرسوله صلى ال عليه وسلم :اعلم أن ما جئت به سيخاض فيه ،ويقال
مرة إنه سحر ،ومرة إنه شعر ،وثالثة إنه كهانة ،ورابعة يتهمونك بالكذب ،ول يقول ذلك إل
المنتفعون بفساد الكون ،فإذا ما جاء مصلح فسيجعلونه عدوا لهم .لذلك ل بد أن تحافظ على
أمرين ..المر الول :أن الذين اتبعوك -وهم ضعاف -قد ل يستطيعون مواجهة القوة الظالمة؛
لذلك ل تحملهم ما ل طاقة لهم به ولكن تَرَ ّيثْ؛ فإن لكل نبأ مستقرا ،والمر الثاني :أَنك إذا رأيت
الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم وبيّن لهم الجفوة فل تقبل عليهم ،ول توادهم ،ول تستمع
إليهم ،ول يسمع إليهم أصحابك ،لماذا؟ لنهم يخوضون في آيات ال .ولكن أيستمر هذا العراض
عنهم طوال الوقت؟ ،ل ،فالعراض عنهم إنما يكون في أثناء خوضهم وتكذيبهم ليات ال ،أما
في غير ذلك من الوقات فاعلم أن آذانهم في حاجة إلى سماع صيحة من الحق ،لذلك انتهز به؛
لنك إن تركتهم على ضللهم فإن قضية اليمان تصير بعيدة عنهم ،وأنت مهمتك البلغ ،وال
يريد الخير لكل خلقه.
حدِيثٍ غَيْ ِرهِ } [النعام:
{ وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ حَتّىا َيخُوضُواْ فِي َ
.]68
وكلمة " الخوض " هذه تشعرنا بمعنى في منتهى الدقة؛ لن الخوض في أصله هو الدخول في
الماء الكثير .والماء الكثير ساتر لما تحت قدمي الذي يخوض فيه ،وما دام قد ستر ما تحت قدميه
فهو ل يدري إلى أي موقع تقع قدماه ،وربما وقعتا في هوّة ،لكن الذي يسير في غير ماء فالطريق
واضح أمامه ،يضع قدميه حيث يرى فيها ثباتا واستقرارا وعدم إيذاء .وأخذوا من ذلك المعنى
ضهِمْ
خ ْو ِ
وصف الكلم بالباطل ،لنه خوض بدون اهتداء .ولذلك يقول الحقُ {:ثمّ ذَ ْرهُمْ فِي َ
يَ ْلعَبُونَ }[النعام.]91 :
ولماذا وصف فعلهم هذا بأنه لعب؟
ذلك لن اللعب هو شغل النفس بشيء غير مطلوب وكان في قالب الجد .ولكن إذا كان هذا الشيء
يؤدي إلى نبوغ في مجال من مجالت الحياة فنحن ندرب أبناءنا عليه في فترة ما قبل البلوغ.
ومثال ذلك تدريب البناء على السباحة والرماية .وركوب الخيل .وما إن يبلغ النسان فترة البلوغ
حتى تصير له مهمة في الحياة ،ويصبح عليه أن يتحمل المسئولية ،فل يضيع وقته في اللعب أو
فيما يلهيه عن أداء الواجب.
حدِيثٍ غَيْ ِرهِ } [النعام:
{ وَإِذَا رَأَ ْيتَ الّذِينَ َيخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْ ِرضْ عَ ْنهُمْ حَتّىا َيخُوضُواْ فِي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]68
والنفس البشرية لها أغيار .وهذه الغيار قد تنسيها بعض التوجهات .لكن رسول ال صلى ال
عليه وسلم موعود من ربه بعدم النسيان {.سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }
[العلى.]6 :
فإذا كان هذا بالنسبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم فكيف نفهم قول الحق هنا } :وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ
الشّ ْيطَانُ فَلَ َت ْقعُدْ َبعْدَ ال ّذكْرَىا مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ { [النعام.]68 :
إننا نفهم هذا القول على أساس أنه تعليم لمة محمد صلى ال عليه وسلم ،وحينما ينزل أمر من
السماء فرسول ال أولى الناس بتطبيقه ،فإذا كان الرسول يُخاطَب } :وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ الشّ ْيطَانُ { فإذا
ما نسي إنسان لغفلة من الغفلت ،فليأخذ علج ال للنسيان ،وهو أل يقعد مع هؤلء القوم الذين
يخوضون في آيات ال في أثناء خوضهم ،ولكن عليه أن يتركهم ويعرض عنهم .إذن فالحق
سبحانه وتعالى احترم خلقه؛ لنه وهو العليم بهم ،خلق لكل إنسان ملكة حافظة ،وملكة ذاكرة،
وملكة مخيلة ،وكل ملكة من هذه الملكات تؤدي مهمة :فالملكة الحافظة تحفظ المعلومات ،والذاكرة
تأتي بالمعلومات المحفوظة القديمة لتجعلها في بؤرة الشعور .ولو لم يكن هناك نسيان لما
استطاعت فكرة أن تدخل في ذهن النسان؛ لن العقل ل ينشغل إل بقضية واحدة في بؤرة
الشعور .وحتى تدخل قضية أخرى في بؤرة الشعور ،ل بد أن تتزحزح القضية الولى من بؤرة
الشعور إلى حاشية الشعور.
لذلك ل بد من نسيان خاطر ما ليحل محله خاطر آخر .ولو ظل النسان ذاكرا لقضية من القضايا
في نفسه لصار من المحال أن تدخل قضية جديدة أخرى .ولهذا خلق ال النسيان ،أي انتقال قضية
ما من بؤرة الشعور إلى حاشية الشعور.
والنسان منا يتذكر شيئا حدث من عشرين عاما ،ثم يمر هذا الحادث بالخاطر فجأة ،ويتساءل
النسان ،كيف؟ ويعرف النسان أن هذا الحادث كان محفوظا ومصونا في دوائر شعورية بعيدة.
ولذلك نجد النسان عندما يريد استعادة معنى من المعاني فهو يترك لنفسه فرصة لستعادة هذا
الخاطر أو ذلك المعنى ،ولذلك يسمون هذه المسألة " تذكر ".
} وَِإمّا يُنسِيَ ّنكَ الشّيْطَانُ فَلَ َتقْعُدْ َب ْعدَ ال ّذكْرَىا مَعَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ { [النعام.]68 :
ولماذا ينسب الحق النسيان للشيطان؟ ،لن حقائق الحق في دينه هي الصدق ،ول يصح أن تغيب
أبدا عن بال المؤمن ،وهي ل تغيب عن بال المؤمن إل بعمل الشيطان فالشيطان يزين المر الذي
يحبه النسان ويشغله عن أمر آخر ،فإذا ما نزغ الشيطان لينسى النسان ،وتذكر النسان أن هذا
من نزغ الشيطان فليستعذ بال من الشيطان ول يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين.
وأنت حين تفعل ذلك وتنفر من هؤلء القوم الظالمين فأنت تلفتهم إلى أن ما عندك من يقين إيماني
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هو أعز عندك مما في مجالسهم من حديث وما يكون لديهم من نفع .وبذلك تنتفع أنت بهذه التذكرة
وهم أيضا يلتفتون إلى أهمية اليمان وأفضليته عند المؤمن على ما عداه.
وما كان الحق سبحانه وتعالى ليفرض على المؤمنين مقاطعة المشركين في أثناء فترة ضعف
المؤمنين في بداية الدعوة .وكان المؤمنون يلتقون في المسجد الحرام ،وكان المشركون يذهبون
أيضا إلى الكعبة قبل فتح مكة ،فهي مكان حجيجهم ،فهل يقاطع المسلمون المسجد الحرام في بداية
الدعوة السلمية ول يلتقون؟ قطعا ل .ولكن كان المسلمون يذهبون للقاء في المسجد الحرام ،وإذا
جاء الذين يخوضون في آيات ال فهم يعرضون عنهم .ووزر الخائضين على أنفسهم .ولذلك يقول
الحقَ } :ومَا عَلَى الّذِينَ يَ ّتقُونَ {
()850 /
أي أنك إذا كنت معهم وخاضوا في الحديث فقمت من مجلسهم أو نسيت وقعدت ثم تذكرت فقمت،
فأنت تلفتهم إلى أنّ ما أقامك من مجلسهم هو شيء أكثر أهمية من هذا المجلس ،إنه احترام تكليف
ال فيما أمرك به ونهاك عنه ،وليس عليك ول على الذين يتقون ال من أوزار هؤلء الظالمين
من شيء ،وليس عليكم من حسابهم من شيء ،ومجرد قيامكم من مجلسهم هو تذكرة لهم لعلهم
يتفكرون في منطق الحق ويخشون ال ويبعدون أنفسهم عن الوقوع في الباطل حتى يكونوا في
وقاية من عذاب ال وسخطه.
ويقول الحق من بعد ذلك { :وَذَرِ الّذِينَ اتّخَذُواْ دِي َن ُهمْ} ...
()851 /
قلنا -من قبل :-إن اللعب هو الشتغال بما ل يفيد لقتل الوقت .وعرفنا أن اللعب مجاله قبل
التكليف أي قبل سن البلوغ .وإذا شغلك اللعب عن شيء مطلوب منك فهو لهو؛ لنك لهيت عن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
امر واجب عليك ،فاللهو -إذن -هو الترويح عن النفس بما ل تقتضيه الحكمة.
وقوله الحق { :وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا } هو تصوير ل يوجد أبرع منه؛ لنهم أصحاب العقول التي
تغتر بالحياة الدنيا فهي عقول تائهة؛ فالعقل الناضج يفهم الدنيا على أنها أقل شأنا من أن تكون
غاية ،ولكنها وسيلة أو مجال وطريق ومزرعة إلى الخرة.
وعلى العقل الناضج أن يعاملها دون نسيان مهمتها ،وآفة الناس أنهم جعلوا الوسائل غايات ،وغاية
وجود الناس على الرض أن يعمروها بالعمل الصالح وعبادة الحق ،فمن انجرف عن ذلك فله
عقابه يوم الغاية الكبرى ،وهو يوم الحساب.
إننا نعلم أن غاية النسان من الحياة الدنيا ليست أن يعيش عمرا طويلً ،ول أن ينال المناصب،
ول أن يحصل على الثراء ،ول أن ينال القوة ،فكل ذلك من الغيار ،والغيار تختلف من إنسان
إلى آخر.
وما نختلف فيه نحن البشر ليس غاية لوجودنا ،والغاية للوجود النساني ل بد أن تكون واحدة.
وأن نتفق فيها جميعا ،هذه الغاية هي ما نصير إليه بعد الموت .ونجاح كل عمل بمقدار ما يقرب
الغاية منه .ولذلك فالمؤمن الحق يرى استقبال البشر لقضية الموت استقبالً أحمق ،فعندما يموت
شاب في العشرين نجد من يقول " :إنه لم يستمتع بشبابه " والمؤمن الحق يرد على مثل هذا القول
متسائلً :أين تريد أن يستمتع بشبابه؟ .ويجيب أصحاب الفهم السطحي :لقد مات قبل أن يستمتع
بشبابه في هذه الدنيا.
ويقول المؤمن الحق :وهل هذه الدنيا هي الغاية؟ .إنها ليست الغاية ،بل الغاية هي الحياة الخرى.
ومن مات قبل التكليف فقد أنقذه ال من الحساب وأوطنه الجنة يتلقى نعيمها الدائم .فلماذا -إذن -
هذه المبالغة في الحزن على أي ميت؟ والذي يقترب من الغاية يحب هذه الغاية .وهب أن إنسانا
غايته أن يذهب إلى السكندرية ،والوسيلة إليها قد تكون حصانا أو عربة أو طائرة ،فكل شيء
يقربه من الغاية يكون هو الفضل.
فإذا كان ال يريد أن يأخذ بعضا من خلقه وهم في بطون أمهاتهم ،فهذه إرادته .والذي ذهب من
بطن الم إلى القبر قرب من الغاية ،وخلص من المراحل التي كانت في طياتها الفتنة .ودخل
الجنة.
وهب أن الوليد عاش إلى عمر المائة وصار شيخا ومر بكل اختبارات الفتنة واستقام على المنهج،
فإلى أين مصيره؟ إنه إلى الجنة.
إذن فعلينا أن نستقبل كل قدر ال بحب :قدر الميلد أو قدر الخروج من الدنيا ،ولذلك يقول الحق
سبحانه:
شيْءٍ َقدِيرٌ * الّذِي خََلقَ ا ْل َم ْوتَ وَا ْلحَيَاةَ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ أَحْسَنُ
{ تَبَا َركَ الّذِي بِيَ ِدهِ ا ْلمُ ْلكُ وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمَلً }[الملك.]2-1 :
َ
ت وَالْحَيَاةَ { وذلك حتى يستقبل
إنه سبحانه لم يقل إنه خلق الحياة والموت ،ل ،بل قال } :خَلَقَ ا ْل َم ْو َ
كل منا الحياة ،ويسبقها في الذهن ما ينقض هذه الحياة وهو الموت .إذن فهذه هي الغاية التي يتفق
فيها كل الجنس البشري ،أما ما عداها فهي أغيار نختلف فيها.
لذلك ل تقل إن الغاية من ابنك أن ينجح في القبول للعدادية ثم يحصل على الشهادة العدادية ،ثم
يحصل على الثانوية العامة ،ثم يحصل على ليسانس الكلية أو بالكالوريوس التخرج أو درجة
الماجستير أو درجة الدكتوراة ،ثم يصير صاحب شأن في الحياة ،ل تقل ذلك؛ لن كل ذلك ليس
غاية في الحياة ،ولن الغاية هي ما ل يوجد بعدها بعد ،ولكن علينا أن نقوم بإعمار الرض كما
أمرنا ال ولكن ل نجعلها هي الغاية.
ب وََل ْهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْ َن ُك ْم وَ َتكَاثُرٌ فِي
ولذلك قال الحق سبحانه {:اعَْلمُواْ أَ ّنمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِع ٌ
جبَ ا ْل ُكفّارَ نَبَاُتهُ ثُمّ َيهِيجُ فَتَرَاهُ ُمصْفَرّا ثُمّ َيكُونُ حُطَاما َوفِي
عَل وَالَ ْولَدِ َكمَ َثلِ غَ ْيثٍ أَ ْ
لمْوَا ِ
اَ
ضوَانٌ َومَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ مَتَاعُ ا ْلغُرُورِ }[الحديد.]20 :
الخِ َرةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ َومَ ْغفِ َرةٌ مّنَ اللّ ِه وَ ِر ْ
هذه هي الحياة الدنيا ،ولذلك يجب أن نحيا دائما على ضوء ما ينجينا من العذاب وهو ذكر ال ،إن
شفِيعٌ
ي وَلَ َ
سلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ لَيْسَ َلهَا مِن دُونِ اللّ ِه وَِل ّ
الحق سبحانه يقول } :وَ َذكّرْ بِهِ أَن تُبْ َ
{ [النعام]70 :
والذكر هنا مقصود به التذكير بالقرآن وهو المنهج النازل من السماء وطبقه رسول ال ،وسنة
رسول ال صلى ال عليه وسلم من الذكر أيضا ،أو الذكر هنا مقصود به العذاب الذي ينتظر من
يخالف المنهج ،وقوله الحق } :وَ َذكّرْ بِهِ { ،يدل على أن منطق الفطرة يقتضي أننا نعرف أن
الحق ل يمكن أن يعامل المتقين في الدنيا كما يعامل المنحرفين .ومثال ذلك النسان الذي يخوض
في أعراض الناس ويظلمهم ل يتصور أبدا -أن يلقى من الحق -سبحانه -المعاملة التي يعامل
بها النسانَ الملتزم بمنهج اليمان؛ فالفطرة تقول لنا :إن الحق يجازي كل إنسان بعمله ،سواء
أكان الجزاء في الدنيا أم في الخرة .ومن المأثور عن بعض العرب أنه قال :لن يموت ظلوم
حتى ينتقم منه ال .ومن بعد ذلك مات رجل ظلوم ولم ير فيه الناس انتقام السماء ،فقال الرجل
العربي:
وال إن وراء هذه الدار دارا يُجازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
ل معناه :المنع ،والمنع له صورتان :الولى منع
سُسلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ { والبَ ْ
} وَ َذكّرْ ِبهِ أَن تُبْ َ
حركة حياة حي.
.أي أن تحبسه في مكان محدد يتحرك فيه ،والثانية :منع من أصل الحياة ..أي أن تهلكه وتزهق
سلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ { أي تُمنع نفس بما كسبت ،والمنع إما بالهلك أو بالحبس حبسا
روحه } ،تُبْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يديم عليها العذاب .والحبس -في أعراف البشر -وهو وضع إنسان في مكان لكفّه عن ظلم
غيره ،أي أننا نمنع شرور إنسان عن المجتمع بوضعه في الحبس.
وعندما جاء السلم لم يحبس فردا إنما حبس المجتمع عن فرد ،وهذا عقاب أكبر وأشد؛ فقد ترك
السلم المجرم حرّا في المجتمع ولكنه حبس المجتمع عنه؛ فالمجرم يمشي فل يجد من يكلمه أو
يضحك له أو يفرح معه أو يشاركه حزنه.
وحدث ذلك عندما حبس المؤمنون أنفسهم عن ثلثة تخلفوا عن الغزو مع رسول ال صلى ال
عليه وسلم حتى أن إنسانا منهم جاء ليقرب امرأته فرفضت .وحاول ثان أن يسلم على ابن عمه
فما رد عليه السلم فجلس يبكي .وقاطع كل الناس هؤلء الثلثة ،وهذه هي عظمة السلم ،لقد
سجن المجتمع عن المجرم فتعذب المجرم بقطيعة المجتمع له.
سلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ { أي ذكر بالقرآن أو بالمنهج أو بعاقبة مخالفة النسان
} وَ َذكّرْ ِبهِ أَن تُبْ َ
للمنهج .والعقاب إما حبس وإما هلك ،وذلك بسبب ما تكسب النفس .والكسب في اللغة معناه
زيادة على رأس المال .وللكلمة اشتقاق ثان وهو " اكتسب " .ومرة تأتي الكلمتان في معنى واحد،
فالكسب يحدث دون افتعال ودون تعب أو مشقة ،أما الكتساب فهو يحدث بافتعال وبمعالجة
وعنت؛ لن الذي يصنع المحرّم يأخذ أكثر من قدرة ذاته ،فيكون قد اكتسب .أما الذي يأخذ المر
المشروع له فهو قد كسب .ولكن بعض الناس تأخذ ما اكتسبوه باحتيال ومكر ويظنون أنه كسب
وهذا هو الشر؛ لنه يأخذ غير المشروع له ويحلله لنفسه ،ويعتبره كسبا ل اكتسابا.
ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ }[البقرة.]286 :
ولذلك يقول الحق سبحانهَ {:لهَا مَا كَسَ َب ْ
إن " لها " أي لصالح النفس؛ لنها أخذت ما هو حق لها .و " عليها " أي ضد النفس؛ لنها افتعلت
في أخذ ما ليس حقا لها .ومثال ذلك :نظرة الرجل إلى زوجته ،إنها نظرة طيبة إلى حلل طيب.
لكن نظرة الرجل إلى امرأة غريبة قد تحتوي من الفتعال الكثير؛ فهو يتلصص ليراها ،ول
يرغب في أن يراه أحد وهو يختلس النظر إليها ،وهذه كلها انفعالت مفتعلة.
ومثال آخر :سيدة البيت عندما تدخل إلى مطبخها فتتناول شيئا لتأكله ،إنها تأكل من حلل مال
زوجها ،أما الخادمة فعندما تريد أن تأخذ قطعة من اللحم من المطبخ دون علم أهل البيت فهي
تتلصص ،وتحاول معرفة عدد قطع اللحم ،وقد تتساءل بينها وبين نفسها :ألم تقم ربة البيت بحصر
عدد قطع اللحم؟ ولذلك فهي تأخذ من كل قطعة لحم قطعة صغيرة.
وهذا افتعال يتعب الجوارح؛ لن مثل هذه المور تتعب ملكات النسان ،إنّه يحاول أن يرضي
ملكة واحدة فيتعب كل ملكاته الخرى.
ل لّ
ع ْد ٍ
شفِي ٌع وَإِن َتعْ ِدلْ ُكلّ َ
ي َولَ َ
سلَ َنفْسٌ ِبمَا كَسَ َبتْ لَيْسَ َلهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِ ّ
} وَ َذكّرْ ِبهِ أَن تُبْ َ
ُيؤْخَذْ مِ ْنهَآ { [النعام.]70 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فهي النفس التي تحبس وتسلم نفسها إلى الهلكة والعذاب بسوء كسبها ليس لها من دون ال
ولي ول شفيع ،ول يُقبل منها عدل .وهذه مراحل متعددة تبدأ بقوله الحق } :لَيْسَ َلهَا مِن دُونِ اللّهِ
وَِليّ { والولي هو الذي ينصرك إن كنت في مأزق .ومأزق الخرة كبير ،فماذا عن النسان الذي
ليس له ولية؟ إنه العذاب الحق.
شفِيعٌ { أي ليس له من يشفع عند من يملك النصرة وهو ال؛ فالذي يحبك
والمرحلة الثانية } وَلَ َ
إن لم ينصرك بذاته فإنه قد يشفع لك عند من يستطيع أن ينصرك .وهذا أيضا ل يوجد لمن لم
يتذكر ويتعظ ولم يتبع المنهج اليماني.
ل لّ ُي ْؤخَذْ مِ ْنهَآ { أي أنه ل تقبل منه فدية .فهذه المنافذ الثلثة
ع ْد ٍ
والمرحلة الثالثة } وَإِن َتعْ ِدلْ ُكلّ َ
قد سُدّت ول سبيل للنّجاة لهؤلء الذين قال فيهم الحقُ } :أوْلَـائِكَ الّذِينَ أُبْسِلُواْ ِبمَا كَسَبُواْ { أي
أهلكوا أو حُبسوا في الجحيم حبسا ل فكاك منه ،وليس هذا فقط ولكن الحق يقول أيضاَ } :ل ُهمْ
حمِي ٍم وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُواْ َي ْكفُرُونَ {.
شَرَابٌ مّنْ َ
إن كلمة " شراب " إذا سمعناها فإننا نفهم منها الرّي .ولكن الحق هنا يتبع كلمة " شراب " بتحديد
مصدر هذا الشراب ،إنه " من حميم " ليحدث ما يُسمى " انبساط " و " انقباض "؛ فالشيء الذي
يسرّ النسان تنبسط له النفس .والشيء الذي يحزن النسان تنقبض له النفس .ولو أن المر
المحزن جاء بداية في هذا القول الكريم لنقبضت النفس في المسار الطبيعي ،لكن الحق شاء أن
يأتي أولً بكلمة من يسمعها تُسر نفسه وهي " شراب " ثم تبعها بما يقبض النفس " من حميم "
ليكون اللم ألمين :ألم زوال السرور ،وألم مجيء الحزن.
شوِي
ويصور القرآن في موضع آخر هذه الصورة فيقول {:وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ
الْوجُوهَ[} ...الكهف.]29 :
وتنبسط النفس حين تسمع الجزء الول وهو } :وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ { ولكنها تنقبض فور
شوِي الْوجُوهَ {.
سماعها } ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ َي ْ
وصورة أخرى عندما يقول الحق ... {:فَ َبشّرْهُمْ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[التوبة.]34 :
وتنبسط النفس -كما علمنا -حينما تسمع خير البشارة؛ لن البشارة تأتي للمر المفرح ،وتنقبض
عندما تعلم أن البشارة هي بالعذاب الليم .إذن فقد جاء الحق بالنبساط ،وجاء بالنقباض .وهذه
سنة من سنن ال في التأديب .ومثال على ذلك :عندما يرتكب إنسان مظالم كثيرة ،وتفاقم واستفحل
شره ويريد ال أن ينتقم منه ،إنه سبحانه ل ينتقم منه وهو على حاله الطبيعي ،إنما يرفع الحق -
سبحانه -هذا الظالم إلى درجات عالية ثم يخسف به الرض.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وساعة تسمع } فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ { فأنت تخاف؛ لن الفتح هنا " عليهم " وليس " لهم " .لكنك ساعة
تسمع قوله الحق {:إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَتْحا مّبِينا }[الفتح.]1 :
فإنك تحس بالنشراح والسرور؛ لن الفتح هنا لصالح المتلقي وليس عليه هكذا يريد الحق أن
حمِي ٍم وَعَذَابٌ َألِيمٌ ِبمَا كَانُواْ َي ْكفُرُونَ
يصْلى المتجبرون العذاب المضاعفَ ...} :لهُمْ شَرَابٌ مّنْ َ
{ [النعام.]70 :
والعذاب هنا نتيجة لما فعلوه وليس فعل جبار متسلط .أما غيرهم من المتساوين معهم في الملكات،
واختاروا الخير فآمنوا بالمنهج وطبقوه على أنفسهم فقد نالوا الخير بما فعلوا ،والتكوين النساني
في ذاته صالح لفعل الخير ولفعل الشر ،وسنة الحق واضحة جليةَ {:فمَن َي ْعمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا
يَ َرهُ * َومَن َيعْـمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة.]8-7 :
ويقول الحق من بعد ذلكُ } :قلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ{ ...
()852 /
هذه الية تبدأ بسؤال عن عبادة الصنام أو غيرها ،ما الذي صنعته تلك الصنام أو غيرها لمن
عبدها؟ وماذا صنعت لمن لم يعبدها؟ .وهذا أول منطق في بطلن ألوهية غير ال ،فمن عبد
الشمس مثل ماذا أعطته الشمس؟ ومن كفر بها كيف عاقبته الشمس؟ .إنها تشرق لمن عبدها ولمن
لم يعبدها .والصنم الذي عبدوه ،ماذا صنع لهم؟ ل شيء .وهذا الصنم لم يُنْزِل عقابا على مَنْ لم
يعبده ،بل إن الذي انتفع هو من لم يعبد الصنام؛ لنه أعمل فكره ليبحث عن خالق لهذا الكون.
عقَابِنَا َب ْعدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ }
وهكذا نجد النفع والضر إنما يأتيان من الله الحق { :وَنُرَدّ عَلَىا أَ ْ
والنسان دائما حين يسير فهو يقطع خطوة إلى المام فيقصر المسافة أمامه ،أما من يُ َردّ على
عقبه فهو من يرجع هذه الخطوة التي خطاها.
وهذا حديث المؤمنين الذي يرفضون أن يعودوا إلى عبادة غير ال لنهم آمنوا وساروا في طريق
الهدى ،وليس من المنطق أن يرتدوا على أعقابهم وأن ينقلبوا خاسرين.
{ كَالّذِي اسْ َت ْهوَتْهُ الشّيَاطِينُ فِي الَ ْرضِ } كلمة " شيطان " مقصود بها عاصي الجن .والجن جنس
مقابل للنس ،وما دام في النس طائعون وعاصون فكذلك في الجن طائعون وعاصون.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س ِمعْنَا قُرْآنا عَجَبا * َي ْهدِي إِلَى
حيَ إَِليّ أَنّهُ اسْ َت َمعَ َنفَرٌ مّنَ الْجِنّ َفقَالُواْ إِنّا َ
والحق قالُ {:قلْ أُو ِ
شدِ فَآمَنّا بِ ِه وَلَن نّش ِركَ بِرَبّنَآ أَحَدا }[الجن.]2-1 :
الرّ ْ
إذن فمن الجن من هو مؤمن .ومن الجن من هو عاصٍ .والعاصي من الجن يُسمى شيطانا .وإياك
أن تنكر أيها المسلم وجود الشيطان لنك ل تراه ،لن الشيطان من المخلوقات التي ذكرها ال من
عالم الغيب ،وحجة وجودها هو تصديقك لمن قال عنها ،وهناك فرق منطقي وفلسفي بين وجود
الشيء وبين إدراك وجود الشيء .والذي يتعب الناس أنهم يريدون أن يوحدوا ويربطوا بين وجود
شيء وإدراكه .وهناك فارق بين أن يوجد أو يدرك؛ ذلك أن هناك ما يكون موجودا ولكنه ل
يُدرك.
عقَابِنَا َبعْدَ إِذْ َهدَانَا اللّهُ } [النعام:
{ ُقلْ أَ َندْعُواْ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ يَن َفعُنَا وَلَ َيضُرّنَا وَنُرَدّ عَلَىا أَ ْ
.]71
جاء هذا التصور في صورة استفهام .إنّ الحق طلب من رسوله أن يقوله ،فكأن الصورة :أن قوما
هداهم ال إلى الحق فدُعُوا إلى أن يعبدوا غير ال ويدعوا ما ل ينفع ول يضر ،فيردوا على
أعقابهم ،أي بعد الهداية ،وهذه هي صورة الحيرة والتردد؛ لنهم كانوا على هدى ،ثم دُعُوا إلى أن
يعبدوا من دون ال ما ل ينفع ول يضر .وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا صورة لهذه
الحيرة ،ولهذا التردد ،فقال { :كَالّذِي اسْ َت ْهوَتْهُ الشّيَاطِينُ }.
و " استهوته " من مادة " استفعل " وتأتي دائما للطلب؛ كقولنا " استفهم ".
أي طلب الفهم ،و " استخرج " .أي طلب الخراج للشيء " ،فاستهوته " طلبت ُهوِيّة .أي جعلته
يتقبّل ما تريد واستولت عليه دون أن يكون لديه أي دليل أو حجة على صحة ما تدعوه إليه بأن
صار عجينة تشكله الشياطين كما تشاء ،وترده مادة " الهاء والواو والياء " لمعانٍ ،إن مُدّت؛ فهي
الهواء الذي نتنفسه ،وما به أصل الحياة ،وإن ُقصِرَت ،فإنها هي ال َهوَى وهو ميل النفس إلى
شيء ،أو تكون هُويّا أي سقوطا.
إذن فالمادة تأتي إما للهواء إن كانت ممدودة ،وإن كانت بالقصر فهي من ال َهوَى أو من ال ُه ِوىّ؛
كأن تقولَ " :هوَىَ ،ي ْهوِي؛ ُهوِيّا " أي سقط من علوّ إلى أسفل ،و َه ِوىََ ،ي ْهوَىَ ،هوّى .أي أحبّ،
وهكذا نعرف أن " استهوته " أي طلبت هويّه أو هواه أي ميل نفسه إلى اتباع ال َهوَى ،وحين
تستهوي الشياطين النسان فهي تريد أن تجتذبه إلى ناحية هواه ،وتوقظ الهوى في النفس ،وبذلك
طفُهُ الطّيْرُ َأوْ َت ْهوِي بِهِ
خَسمَآءِ فَتَ ْ
تدعوه ل َي ْهوِي .والحق يقولَ {:ومَن ُيشْ ِركْ بِاللّهِ َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ ال ّ
الرّيحُ فِي َمكَانٍ سَحِيقٍ }[الحج.]31 :
وحين يخرّ عبد من السماء ،إما أن تتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ،وحين تأتي
إلى ال َهوَى وال ُه ِوىّ فاعلم أن الهوى يجذبك إلى ما يضرك ،ولذلك ل تسلم منه إل أن يكون هواك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تبعا لما جاء به الحق ،ولكن إن اتبعت هواك فل بد أن يؤدي بك إلى ال ُه ِويّ } :كَالّذِي اسْ َت ْهوَتْهُ
الشّيَاطِينُ فِي الَرْضِ حَيْرَانَ { [النعام.]71 :
وما هي الحَيْرة؟ هي التردد بين أمر ومقابله .وعرفنا من قبل أن الحَيْرة في هذه الية جاءت لمن
اهتدى وسار خطوة للمنهج ثم رُدّ على أعقابه ورجع ،ولكن له أصحاب يدعونه إلى الهدى ،فهو
بين شيطان يستهويه ،وأصحاب يدعونه للمنهج؛ لذلك يكون حيران :بين هاوية ونجاة ،والشيء
الذي يهوي ل استقرار له ،وحين نرى -على سبيل المثال -حجرا يهوي للرض نجده يدور،
ول اتجاه له .وهذه صورة معبرة ،ويأتي له القول الفصلُ } :قلْ إِنّ هُدَى اللّهِ ُهوَ ا ْل ُهدَىا
{ [النعام.]71 :
فمن يتبع إذن؟ إنه يتبع الذين يدعونه إلى منهج الحق سبحانه وتعالى؛ لن الهدى هو المنهج
والطريق الموصل للغاية ،والصنعة ل تضع غاية لنفسها ،بل الذي يضع الغاية هو من صنعها،
وسبق أن قلت :إنّ التليفزيون ل يقول لنا غايته ،ول يعرف كيف يصون نفسه ،بل يضع ذلك مَنْ
صنعه ،وكذلك النسان عليه أن يأخذ غايته ِممّن خلقه ،والذي يفسد الدنيا أن ال خلق ،لكن الناس
أرادوا أن يضعوا لنفسهم قانون الصيانة ،لذلك نقول :إن علينا أن نأخذ قانون الصيانة ممن خلقنا،
وهدى ال هو هدى الحق.
وجاءت " الهدى " هنا لتعطينا يقينا إيمانيا في إله واحد ،وحين توجد عقيدتنا في إله واحد ،ل
تختلف أهواؤنا أبدا؛ لنه هو الذي يضع لنا القانون ،وساعة يضع لنا القانون ويكون كلّ مِنّا
خاضعا لقانونه ،ل يذل أحد منا لحد آخر؛ فأنا وأنت عبيد لله واحد ،ول غضاضة عليك ول
غضاضة عليّ .وحين يُريد البشر أن يسير الناس على أفكارهم فإن صاحب الفكر يريد أن ُيذِل
الخرين له ويأخذهم على منهجه وعلى مبدئه ،وهو في الحقيقة ليس أفضل منهم ،ولذلك تجد
الهداية الحقة حين نخضع جميعا لله واحد ،ويتساند المجتمع ويتعاضد ول يتعاند ،ويتوجه الهوى
ت وَالَرْضُ }[المؤمنون.]71 :
سمَاوَا ُ
حقّ أَ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
إلى محبة منهج ال {.وََلوِ اتّ َبعَ الْ َ
ولهذا جاء الدين؛ لن الشرع ل يقرر شيئا ضد النسان.
ونذكر جميعا قصة ملكة سبأ وسيدنا سليمان عليه السلم حينما قالت } :وََأسَْل ْمتُ مَعَ سُلَ ْيمَانَ { .ولم
تقل :أسلمت لسليمان بل أسلمت مع سليمان ل ،فل غضاضة أن تكون قد أسلمت فهي ليست تابعة
لسليمان ،بل تابعة لرب سليمان ،إذن حين يأتي التشريع من أعلى ،ل غضاضة لحد في أن
يؤمن ،ول يظن واحد أنه تبع لخر بل كلنا عبيد ل .وحين نكون جميعا عبيدا لواحد نكون جميعا
سادة.
ويتمثل الهدى في اليمان بإله واحد ،ونأخذ هذا اليمان بأدلتنا العقلية .إننا ندخل عليه من باب
العقل ،ونسلم أمرنا له؛ لنه هو أعلم بما يصلحنا } .وَُأمِرْنَا لِنُسِْلمَ لِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ { [النعام.]71 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله تعالى } :وَأَنْ َأقِيمُواْ الصّلةَ{ ...
()853 /
وَأَنْ َأقِيمُوا الصّلَاةَ وَا ّتقُوهُ وَ ُهوَ الّذِي إِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ ()72
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سأنمو اليوم بزيادة في الطول قدرها نصف الملليمتر " بل أنت ل تعرف كيف تنمو ،وأنت ل
تعرف كيف ينبض قلبك ،ول سرّ الحركات الدودية للمعاء ،ول حركة المعدة ،أو عمل الكبد ،أو
حركة التنفس التي بها تقوم الحياة ،وكل ذلك أمور قهرية ،ومن رحمة ال بنا أنها قهرية ،فلو
كانت اختيارية لتحكم فيها غيرك.
إذن من رحمته بنا سبحانه أن جعلنا مقهورين في هذه المسائل ،ومسخرين فيها ،وبعد ذلك خلق
لنا الختيار في التكليف ،افعل ،ول تفعل ،والتكليف من ال سبحانه وتعالى في الفعال التي تقع
من النسان ل في الفعال التي تقع على النسان؛ لن الفعال التي تقع من النسان هي التي فيها
اختيار ويبحثها العقل أولً ،لينفذها النسان بعد ذلك .ولذلك ل يكلف ربنا إل العاقل الناضج؛ لنه
ل توجد قوة تقهره على غير ما يختار .أما المجنون فليس عليه تكليف؛ لنه لم يُدرْ المسألة في
رأسه قبل ان يفعل ،وكذلك من لم ينضج؛ لنه لم يصل إلى قوة الفهم الكامل ،وكذلك المقهور على
فعل بقوة إنسان أو سلطان أقوى منه.
وهكذا نعلم أن التكليف ل يلزم النسان في تلك الحالت حيث ل يوجد عقل أو يكون العقل غير
ناضج ،أو أن يوجد قهر.
ويتابع الحق } :وَ ُهوَ الّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ { ولو أن المسألة -مسألة اليمان -مجرد مظهر ل
جوهر لما ترتب عليها نتيجة ،ولكن لننتبه إلى أن هناك غاية .وأضرب هذا المثل -ول المثل
العلى -نجد التلميذ مثلً إن حضر الدرس أو لم يحضر ،استمع إلى المدرس أولً ،ذاكر أو لم
يذاكر ،أل يظهر كل ذلك في شهادة نهاية العام؟.
إذن فالحساب قائم على كل فعل؛ لنك تتمتع أيها النسان بخاصية الختيار ،أي أنك صالح لتفعل
أو ألّ تفعل ،ولذلك يرشدك اليمان إلى العمل الصالح؛ لن هناك غاية؛ إنّك ستصير إلى من
يحاسبك على أنك نقلت " افعل " في مجال " ل تفعل " ،أو " ل تفعل " في مجال " افعل " .فإن
كنت ل تأخذ أمور اليمان لصلحية حياتك فخذها خوفا من الجزاء والحساب.
ثم يقول الحق من بعد ذلك } :وَ ُهوَ الّذِي خَلَقَ{ ...
()854 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير ،وما دام الحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير فلننظر إلى
ت وَالَرْضَ أَن تَزُولَ }[فاطر]41 :
سمَاوَا ِ
سكُ ال ّ
خلق السماء والرض ،يقول سبحانه {:إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ
وحين ننظر إلى الفق نجد السماء من غير عمد ،وهذه مسألة عجيبة ،ولذلك يقول سبحانهِ {:بغَيْرِ
عمَدٍ تَ َروْ َنهَا }[الرعد]2 :
َ
ت وَالَرْضَ } وذلك حتى نعرف أن خلق السموات والرض
سمَاوَا ِ
وهنا يقول الحق { :خََلقَ ال ّ
ليست عملية سهلة وهو سبحانه القادر؛ إنّه خلقك أنت بخلق عجيب ،وأعجب منه خلق السموات
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ }[غافر]57 :
والرض ،فهو القائلَ {:لخَلْقُ ال ّ
سكُمْ َأفَلَ
وحين ينظر النسان في تكوينه يجد أشياء عجيبة ،ويتحقق من قول الَ {:وفِي أَنفُ ِ
تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات]21 :
وحين تتأمل السماء والرض تجد دقة الخلق ،فكأنه سبحانه قد جعل نفسك مقياسا ،إنك ستعلم
أحوالها تباعا وأنك سَ ُت ْهدَي مع اليام ،إلى سر جديد في هذه النفس ،هذا السر لم يعرفه الولون،
لكنك حين تتقدم في البحث العلمي وآلت السبر وآلت الختبار تتعرف وتكتشف هذا الجديد.
مثال ذلك ما يسمى بالستطراق ،وكلنا رأينا الواني المستطرقة التي نضع فيها سائل ينفذ في
أنابيب متعرجة وأخرى مستقيمة ،فيرتفع السائل فيها بمستوى واحد وهو ما نسميه بظاهرة
الستطراق ،وهناك استطراق مائي ،ويوجد أيضا حراري ،ويتمثل الستطراق الحراري حين
نأتي بالمدفأة في الشتاء ونجلس في الغرفة ،ونشعر بالحرارة التي تشع من المدفأة ،وأنت تجد
نفسك محتفظا بدرجة حرارتك العادية وهي سبع وثلثون درجة .ومن العجيب أنها تتساوى في
البشر جميعاحتى في القطب الشمالي والقطب الجنوبي!! فلماذا لم تستطرق درجة حرارتك مع
الجو؟ ولماذا لم يأخذ الجو البارد من حرارتك لتتساوى درجات الحرارة؟.
إن ذلك يثبت أن ذلك ذاتية تجعلك وحدة مستقلة عن الكون الذي تحيا فيه ،وتظل درجة حرارتك
عند خط الستواء 37درجة ،وفي القطبين 37درجة ،هذا عجيب ،والعجب من ذلك أن أجزاء
جسمك المختلفة تختلف فيها درجة الحرارة ،فلو أن درجة حرارة العين 37درجة لنصهرت؛
لذلك تجد أن درجة حرارة العين تسع درجات فقط ،وهناك الكبد الذي تبلغ درجة حرارته أربعين
درجة ،وكل أعضاء جسمك وهي مجموعة في شكل واحد ومع ذلك ل تستطرق فيها درجة
سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }.
الحرارة .ولذلك قال الحقَ { :وفِي أَنفُ ِ
ومثال آخر من عملية التنفس ،فحين تدخل ذرة من غبار في مجرى النفس نجد السعال قد هاجم
النسان ليطرد هذه الذرة وتجد أنك قد سعلت قسرا إلى أن تطرد هذه الذرة ،فهل أنت سعلت
بقرار منك؟ ل ،بل هو عمل ل إرادي خاضع لنظام دقيق ل يمكن أن يصممه إل خالق له مطلق
الحكمة ،وعلى سبيل المثال نجد الكبد محوطا بتغليفات متتابعة ليحتفظ بحرارته التي تبلغ أربعين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
درجة؛ لنه ل يؤدي مهمته إل عند هذه الدرجة.
وكذلك نجد أنّ الذن هي أطول عضو يشعر بالبرودة؛ لن درجة حرارتها قليلة ،وهكذا أراد
ت وَالَرْضَ بِا ْلحَقّ { [النعام:
سمَاوَا ِ
الصانع العلى .كما جاء في قوله تعالى } :وَ ُهوَ الّذِي خََلقَ ال ّ
]73
شمْسُ
لقد خلق الحق السماوات والرض بقوانين ثابتة ل تتغير إل بمشيئته ،فهو القائل {:لَ ال ّ
ك ال َقمَ َر وَلَ الْلّ ْيلُ سَابِقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس]40 :
يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ
فيامَنْ تريد النظام دليلً على حكمة الخالق الموجد خذها في النظام العلى .ويا من تريد الشذوذ
دليلً على سيطرة الحق فوق الميكانيكية ،خذها في الفراد؛ لنه لو حصل شذوذ في الكون العلى
لفسدت السموات والرض ،لكن عندما يوجد أعمى واحد من ألف إنسان ،فل يحدث خلل في
الكون ،ولذلك نجد الشذوذ إنما يأتي فيما فيه عوض ،والنظام يأتي فيما في تركه فساد ،كما يقول
سبحانه } :وَيَوْمَ َيقُولُ كُن فَ َيكُونُ َقوْلُهُ ا ْلحَقّ { [النعام]73 :
وبذلك نرى اليجاد الول بالحق ،وأيضا حين يهدم سبحانه السماء والرض وينهي الدنيا ويزيلها،
فتمور السماء ،والكواكب تنتثر وتتساقط؛ فإن ذلك يحدث أيضا بالحق ،فليس الخلق واليجاد وحده
دليلً على عظمة الخالق بل إنهاء الخلق وإفناؤه وإزالته أيضا دليل عظمة؛ لنه سبحانه قال في
البدء " :كن " فكان الكون ،وفي النهاية يقول " :كن " فيكون إنهاء الخلق ليعطي للمحسن جزاء
إحسانه ،ويحاسب المسيء؛ لن المحسن قد يشقى بإحسانه طول عمره ،ول بد له من ثواب،
والمسيء لن يأخذ راحته بل يأخذ عقابا .فمن الخير والعظمة أن تنتهي الحياة ليأتي يوم الحساب
لينال كلُّ جزاءه.
إذن فخلق السموات والرض حق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق ،فالحق في اليجاد والحق في
العدام ،إنّه حاصل في بدء الخلق ،وفي نهايته.
حكِيمُ الْخَبِيرُ { [النعام]73 :
شهَا َد ِة وَ ُهوَ الْ َ
} وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
وهل كان الملك يوما لغير ال؟
في هذا المقام علينا أن ننتبه إلى أن فيه ملْكا ،ويقال لصاحبه مالك ،وفيه مُلك ويقال لصاحبه ملك.
والملك ما تملكه؛ فقد تملك جلبابك الذي ترتديه .أما المُلْك فهو أن تملك من َيمْلك ،فهذا اسمه مُلْك،
وربنا سبحانه وتعالى في دنيا السباب جعل لكل واحد منا ملكا ،وجعل لبعض علينا مُلكا فبقوا
ملوكا ،لكن في الخرة ل يوجد شيء من هذا ،لذلك يقول الحقّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ
ا ْل َقهّارِ }[غافر]16 :
وفي الدنيا قد تملك مثلً أن توظفني عندك وتعطيني أجرا ،وقد تملك أنك تطبخ لي طعامي أو
تعطيني طعاما ،أو تملك أنك تخيط جلبابي ،لكن في الخرة ل يملك أحد لحد سببا؛ لننا نحيا في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الدنيا بالسباب التي منحنا ال إياها ،وفي الخرة بالمسبب وحده دون أسباب.
} وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ { ولو سلسلتها قبل أن ينفخ في الصور تجد الملك أيضا ل ولكن
بوسائط؛ لن الحق سبحانه وتعالى جعل الرض أرض معاش ،وهناك الخرة إنّها أرض معاد،
ل الَ ْرضُ غَيْرَ الَ ْرضِ }[إبراهيم]48 :
لذلك قالَ {:يوْمَ تُبَ ّد ُ
والرض التي نحيا عليها مخلوقة لنستعمرها ،ونحرث جزءا منها لنزرعه ،ونبني بيوتا على جزء
آخر ،وهكذا تكون المسألة كلها أسبابا يتوافق بعضها مع بعض؛ فأنا ل أستطيع أن أحرث إل
بمحراث ،وكذلك من يرغب في استخراج عنصر الحديد من الرض يقيم منجما ،ومن يرغب في
استخراج البترول يأتي باللت التي تستكشف أماكنه ،ول أحد يستطيع أن يملك كل أسباب حياته
بل توجد في يده زاوية واحدة ،وباقي الزوايا في أيدي بقية الخلق.
وحين تسلسل السباب التي نحيا بها سنرجع للحق سبحانه وتعالى ،فحين تنتهي يد المخلوق
وأسبابه تضيق به فإن يد الخالق جلت قدرته مبسوطة إليه دائما ،وإياك أن تغرك السباب ولكن
سلسل السباب إلى أن تنتهي إلى ال.
ولو سلسلت كل ظاهرة من ظواهر الكون لوصلت إلى منطق الحق؛ فالطفل الصغير يرقب ظاهرة
في البيت ،هي زر في الحائط ،عندما يضغطون عليه بأصبع واحد يضيء المصباح ،فيقلدهم،
وحين يراه أخوه الذي يدرس العدادية يقول له :ل تصدق أن الضوء يأتي من هذا الزر بل هناك
سلك قادم من خارج المنزل يربط بين صندوق الكهرباء والمنازل ،وحين يسمعهما من هو أعلى
منهما علما يشرح لهما أن الكهرباء الموجودة داخل هذا الصندوق قادمة من المولد الكبير الذي في
موقع ما من المدينة ،وقد صنعته المعامل والعقول حتى ينتهي الشرح فيصل إلى فكرة التيار
المكهرب المستخلص من شللت النهار مثل.
إذن فكل ظاهرة تراها أمامك وراءها حلقات غيبية لو سلسلتها لوصلت إلى الحق سبحانه وتعالى،
وسبحانه قد احترم دنيانا وجعلنا نفهم أن بعضنا له مُلك ،ولكن نقول لكل مَلِك :إن هذا المُلك ليس
بذاتك؛ لنه لو كان بذاتك لما سلبك أحد هذا المُلْك أبدا .وسبحانه القائلُ {:قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ }[آل
عمران]26 :
إذن فليس هناك من له المُلْك بذاته إل ال.
حكِيمُ ا ْلخَبِيرُ
شهَا َد ِة وَ ُهوَ ا ْل َ
ب وَال ّ
والحق يقول هنا } :وَلَهُ ا ْلمُ ْلكُ َيوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ
{ [النعام.]73 :
ينفخ في الصور تفيد اليذان بمقدم أمر ما ،فبعد النفخة الولى يموت من كان حيّا ،وبعد النفخة
الثانية يصحو الموتى ويقومون.
شهَا َدةِ { تشرح لنا أنه سبحانه ما دام عالم الغيب فمن باب أولى أنه يعلم
ب وَال ّ
وكلمة } عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المشهود .وهذا تعبير دقيق ،وإنّه يعلم الغيب ويعلم الشهادة وعلمه يترتب عليه جزاء ل عن تحكم،
ولكن عن حكمة.
حكِيمُ الْخَبِيرُ { والحكيم هو الذي يضع كل أمر في
ويذيل الحق الية بقوله سبحانه } :وَ ُهوَ الْ َ
مكانه ،والخبير هو من يعلم كل شيء بإحاطة تامة ،وسبحانه ليس بحاجة إلى أن يظلم أحدا ،لن
من يظلم إنما يريد أن ينتفع بالشيء الموجود لدى المظلوم ،وربنا ل ينتفع بحاجة من هذه ،بل
ينفعنا جميعا ،ولذلك إذا نظرت إلى اليمان تجده كله عزّة ،وأنت تجد الناس تكره كلمة " عبودية "
،وتقوم حروب من أجل تحرير البشر من عبودية البشر ،أما عبودية بشر للحق فأمرها مختلف؛
لن العبودية للبشر ،نجد فيها أن السيد يأخذ خير عبده ،ولكن العبودية ل نجد فيها أن العبد يأخذ
خير سيده ،وهكذا تكون العبودية ل عزّة ،أما العبودية للبشر فهي ذلة.
ولذلك نجد ال سبحانه وتعالى قد امتن على نبيه بصفة العبودية فقال {:سُبْحَانَ الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ
حوْلَهُ }[السراء.]1 :
ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ
سجِ ِد ا َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ
لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ
فقد أخلص صلى ال عليه وسلم العبودية ل ،فأخذ من فيوضات الحق بما يناسب عبوديته.
والحق سبحانه يوضح لكل عبد :نم ملء جفنيك؛ فأنا ل تأخذني سنة ول نوم ،وأنا قيوم ،وإن
احتجت مني إلى شيء ما فادعني وسأمد لك يد العون بما يناسبك ،فهل في هذه العبودية ل شيء
غير العزّة؟!
خذُ َأصْنَاما آِل َهةً{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ أَتَتّ ِ
()855 /
والحق سبحانه وتعالى يعطي له صلى ال عليه وسلم ما يسليه ويصبّره على مشقات الدعوة؛ لن
الدعوة للسلم في أوله أرهقت رسول ال وأصحاب رسول ال ،فيريد سبحانه أن يعطيهم مُثُلً
حدثت للرسل ،وهنا يأتي الحق بخبر عن أبي النبياء سيدنا إبراهيم { :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ
خذُ َأصْنَاما آِلهَةً } [النعام.]74 :
أَتَتّ ِ
وساعة أن تسمع " إذ " فافهم أن " إذ " ظرف ،أي واذكر جيدا الوقت الذي قال فيه إبراهيم لبيه
آزر " أتتخذ أصناما آلهة "؟ وما دمت تذكر هذه ،ففي التذكرة تسلية لك عما يصيبك في أمر
الدعوة .وهنا وقف العلماء وقفة طويلة ،وتساءل بعضهم :هل آزر هو أبو إبراهيم ،أو أن والده
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هو تارخ؟
وقلت من قبل :إن البوة تمثل ما هو أصل للفرد؛ فالب ،والجد ،وجد الجد أب ،وأطلقت البوة
ش َهدَآءَ
على المساوي للب ،مثل العم .وجاء مثل هذا في القرآن حين قال الحق سبحانهَ {:أمْ كُنتُمْ ُ
ك وَإِلَـاهَ آبَا ِئكَ }[البقرة:
حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َموْتُ ِإذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْبُدُونَ مِن َبعْدِي قَالُواْ َنعْ ُبدُ إِلَـا َه َ
إِذْ َ
.]133
وآباء هنا جمع ،وإذا ما عددنا هؤلء الباء نجدهم :إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ،والكلم من
يعقوب ،وأبوه إسحاق ،وإسحاق بن إبراهيم ،وبرغم ذلك جاء سيدنا إسماعيل وسط هؤلء الباء،
فكأنك إن وزعتها قلت " :إبراهيم أب ،ويبقى اثنان :هما إسماعيل وإسحاق .وإسماعيل هو أخ
لسحاق ،كأن القرآن نطق بأن العلم يطلق عليه أب ".
وأقول ذلك لضفي مسألة وقع فيها اللغط الكثير؛ فالبعض من العلماء قال :هل كان آزر أبا
لبراهيم؛ والحديث الشريف يقول:
" خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح ،من لدن آدم إلى أن ولدني أبي وأمي ولم يصبني من
سفاح الجاهلية شيء ".
فكأن النبي صلى ال عليه وسلم أخبر أنه من سلسلة نسب ُموَحّد ل يمكن أن يكون للشرك فيه
جسٌ } .فلو أن
مجال ،وآزر كان مشركا ،وما دام الحق يقول في آية أخرى { :إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ نَ َ
آزر الوالد الحقيقي لبراهيم لكان سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم من ذريته .وأرى أنه عمّه؛
لن الرسول صلى ال عليه وسلم قال " :ما زلت أتنقل من أصلب الطاهرين إلى أرحام
الطاهرات " ،وهو قول يدل على أن نسبة الشريف مطهر من الشرك من جهة الباء ومن جهة
المهات ،إذن فل يصح أن نعتقد أن أبا إبراهيم هو آزر؛ لنه كان على هذا الوضع مشركا ،لكن
كيف نفسر قول الحق سبحانه وتعالى { :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ }؟.
نقول :إننا نأخذ اللغة ،ونأخذ استعمالت القرآن في معنى البوة .والقرآن صريح في أن البوة
كما تطلق على الوالد الحقيقي الذي ينحدر الولد من صلبه تطلق كذلك على أخي الوالد أو عمه.
شهَدَآءَ
والدليل على ذلك أن القرآن الذي قال } :لَبِيهِ آزَرَ { وهو بعينه القرآن الذي قال {:أَمْ كُن ُتمْ ُ
ك وَإِلَـاهَ آبَا ِئكَ }[البقرة:
حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َموْتُ ِإذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا َتعْبُدُونَ مِن َبعْدِي قَالُواْ َنعْ ُبدُ إِلَـا َه َ
إِذْ َ
.]133
إذن آباء هي جمع أب ،وأقل الجمع ثلثة :إبراهيم إذن وكذلك العم إسماعيل يطلق على كل منهما
أب ،وأيضا إسحاق وهو والد يعقوب ،هؤلء هم الباء المذكورون في هذه الية.
وهنا نفهم أن أبوة إسماعيل ليعقوب إنما هي أبوة عمومة؛ لن يعقوب بن إسحاق ،وإسحاق أخو
إسماعيل .إذن فقد أطلق الب وأريد به العم ،ويدلنا الرسول صلى ال عليه وسلم على ذلك حينما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خذَ عمه العباس أسيرا فقال :ردوا عليّ أبي؛ وأراد عمّه العباس.
أُ ِ
وبعد ذلك نأتي لنقول :إننا حين نطلق كلمة الب في أعرافنا نعلم أن اللغة التي نتكلمها لغة منقولة
بالسماع ،مركوزة في آذاننا ،ينطق بها لساننا ،والعامية وإن كانت تحرف الفصيح إل أن أصولها
منقولة عن أسلفنا وآبائنا ،وهم حين يريدون الب الحقيقي يقولون له أب ول يأتون باسمه
الشخصي؛ فإذا جاء لك إنسان وقال لك :أبوك موجود؟ .ولم ينطق باسم الوالد فهو يقصد والدك
عمّا ،فيقول لك السائل :أبوك محمد موجود؟
فعلً .لكن افرض أن لك َ
لقد جاء هنا بتحديد السم العلم حتى ينصرف الذهن إلى السؤال عن العم؛ لنه لو أراد الب
الحقيقي لما ذكر اسمه واكتفى بالسؤال عنه بالبوة فقط ،إذن فلو قال الحق سبحانه وتعالى } :وَإِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ { .ولم يحدد العلم لقلنا إن آزر هو والد إبراهيم وليس عمّه وبذلك يكون هو جد
رسولنا ،ولكن القرآن حدد السم وقال } :لَبِيهِ آزَرَ { أي ميّز اسم الشخص ليخرج الب الحقيقي
من كلمة أب ،وبذلك تنتهي الخلفية في هذه المسألة.
ولماذا يطلب الحق سبحانه من سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يذكر } وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
لَبِيهِ {؟ لن رسول ال جاء على فترة من الرسل وجاء في الزمة التي واجهت الدعوة أول
مواجهة وهي أمة العرب وعلى رأسها قريش ،وهو صلى ال عليه وسلم إن كان قد جاء على
فترة الرسل ،إل أن إبراهيم يعيش في عقائد هؤلء القوم؛ لن كل أمور إبراهيم النسكية كانت في
هذا المكان ،فمثلً همّه بذبح ابنه وفداء السماء لبنه كانا في هذا المكان ،ورفعه للكعبة كان في
هذا المكان ،والكعبة هي مركز السيادة لقريش ،ولول الكعبة لكانت قريش كسائر القبائل.
لقد أراد الحق أن يوضح لقريش أن السيادة التي أخذتموها على العرب كافة جاءت لكم بسبب
الكعبة وهذا البيت ،فلو لم يوجد هذا البيت وهذه الكعبة ،لكنتم قبيلة من القبائل ،ل مهابة لكم ول
سلطان ،ول جاه ،ولكنكم تعلمون أن تجارتكم تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب ،ول يتعرض لها
أحد بسوء أبدا؛ لن الذين يتعرضون لكم سواء منهم من كان في الشمال أو في الجنوب سيأتون
في يوم ما إلى الكعبة هذه ليؤدوا مناسك الحج وستتمكنون منهم في أثناء وجودهم في البيت.
ولذلك قلنا حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى {:أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ *
جعََلهُمْ
سجّيلٍ * فَ َ
حجَا َرةٍ مّن ِ
سلَ عَلَ ْيهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ * تَ ْرمِيهِم بِ ِ
ج َعلْ كَيْدَ ُهمْ فِي َتضْلِيلٍ * وَأَرْ َ
أَلَمْ َي ْ
َك َعصْفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل]5-1 :
ل ِفهِمْ رِحَْلةَ الشّتَآ ِء وَالصّيْفِ }[قريش]2-1 :
إن الحق أتبعها بالقول {:لِيلَفِ قُرَيْشٍ * إِي َ
إذن لو أن البيت تعرض للهدم من أبرهة الحبشي لسقطت مهابة قريش ،وقد نصرهم ال لتظل
ط َع َمهُم مّن جُوعٍ
لقريش رحلة الشتاء والصيف ،ولذلك قال {:فَلْ َيعْ ُبدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي أَ ْ
خوْفٍ }[قريش]4-3 :
وَآمَ َنهُم مّنْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إن رب هذا البيت هو الذي أعزهم وحماهم بوجود هذا البيت الذي رفعه إبراهيم.
إذن فالقوم وإن كانوا يعبدون الصنام إل أن لهم صلة عقدية بإبراهيم ،فأراد الحق سبحانه وتعالى
أن يدخل إلى قلوبهم بالحنان الذي يعرفونه لبراهيم الذي هو سبب هذا العزّ وسبب هذا الجاه
والسيادة وأيضا لن المواجهة العقدية إنما جاءت أولً لعبادة الصنام ،والمسألة في سيدنا إبراهيم
كانت كذلك في عبادة الصنام ،فهناك -إذن -ارتباطات متعددة فأتى الحق هنا بقصة سيدنا
إبراهيم ليرقق بها قلب هؤلء.
} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ َأصْنَاما آِلهَةً { والصنام هي شيء من الحجارة يصنع على
مثال حي ،أما الوثن فهو قطعة من حجر خام لم يشكل أو يعالج أو يصنّع كانوا يقدسونه ،وهكذا
نعرف الفارق بين الصنم والوثن ،وكيف دخلت فكرة الصنام على عقول الناس؟ ومن أين
جاءت؟.
نعلم أن الناس لهم أسباب مباشرة في الحياة؛ فالنسان حين يتطلب الضوء يرى الشمس قد
أشرقت ،وفي الليل يرى القمر قد طلع ،ويرى الجبال تعطي له الصلبة والقوة ،ويقيم فيها بيوتا.
إذن فيه أشياء يرى النسان فيها السببية الظاهرة ،فيعتقد أنها الفاعلة .وحين يرى هذه الشياء
ويظن أنها الفاعلة يظن أن لها قداسة سواء أكانت الشمس أم القمر .إذن فقبل أن توجد أصنام
وجدت كواكب وكانوا يعبدونها .بدليل أن الحق يقول } :أَتَتّخِذُ َأصْنَاما آِلهَةً[ { ...النعام]74 :
وبعد ذلك يأتي في النقاش ول يأتي بسيرة الصنام {:فََلمّا جَنّ عَلَ ْيهِ الْلّ ْيلُ رَأَى َك ْوكَبا[} ...النعام:
]76
إذن فقد كانت هناك علقة بين الصنام وبين الكواكب ،والصل فيها أن النسان حينما يرى شيئا
ينفعه ،ينسب إليه كل نفع يحصل عليه ويرى له قوة يحترمها فيه ،ولم ينتبه النسان إلى أن خالق
هذه الشياء غيبَ ،فعَبَدَ الشيء الظاهر له ،وعندما وجد النسان أن الكواكب تأفل وتغيب قال
بعض الناس :لنقيم أصناما تذكرنا بها ،وصار هناك صنم يمثل الشمس ،وصنم يمثل القمر ،وآخر
يمثل النجم الفلني ،أي أن الصنام إنما جعلت لتذكر بالصل من الكواكب ،ولذلك أقول دائما:
يجب على الناس أل تغفل عن المسبب لنه سبحانه -هو وراء السباب ،وكلما ارتقى العقل
يسلسل السباب ،إلى أن تنتهي إلى مسبب ليس وراءه سبب ،وإذا انتهت يد المخلوق وعجزت في
السباب تبدأ يد الخالق؛ فالذين يفتنون بالسباب هم الذين ينظرون إليها على أنها الفاعلة بذاتها.
ولذلك حينما أغفلت وسترت قضية الدين في أذهان الناس بدأوا ينظرون إلى ما حولهم وما ينفهم،
فتوجهوا بالعبادة له ،وكانوا قبل الرسالة يحجون إلى الكعبة ويحبون الكعبة ،وحين يغتربون في
كثير من الرحلت يأخذون قطعة من حجر من نوعية أحجار الكعبة في الرحلة الطويلة ،وحين
يراها أحد من هؤلء يطمئن ،ولكن بطول الزمن انفردت هذه الشياء بتقديس خاص يعزلها عن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السباب.
وهكذا عرفنا أن سيدنا إبراهيم خليل الرحمن كانت له عند العرب هذه المكانة ،وكذلك عند أهل
الكتاب حتى أنهم ادعوا انتسابه لهم فبعضهم قال :إن إبراهيم كان يهوديا ،وقال الخرون :إنه كان
نصرانيا ،وجاء القرآن وهو يواجه كفار قريش ،وكذلك أهل الكتاب فيأتي ال بقصة سيدنا إبراهيم
ليعطينا قضية العقائد ويوضحها توضيحا يؤنسهم بمن له في نفوسهم ذكر.
ك َو َقوْ َمكَ فِي ضَلَلٍ مّبِينٍ { [النعام]74 :
} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ أَتَتّخِذُ َأصْنَاما آِلهَةً إِنّي أَرَا َ
والضلل أن تريد غاية فتضل الطريق إليها ،وكان الناس عندهم غاية في ذلك الزمان أن يقدسوا،
ويقدروا من ينعم عليهم بالنعم .إل أنهم أخطأوا الطريق ووقفوا عند السبب ،ولم يذكروا ولم
يدركوا ما وراء السبب ،ومن هنا جاء الضلل المبين .فكان من طبيعة النسان أنه يتقدم بالولء
وبالخضوع وبالشكر لمن يرى نعمة منه عليه ،لكنهم ضلوا الطريق؛ لنهم ساروا في النعمة في
حلقات السباب ،ولم يصلوا بالسباب إلى المسبب .وهذا ضلل مبين لنه فتنة خَ ْلقٍ في خَلْق؛
فالنسان الول الذي جاء وأقبل على عالم مخلوق له ،وأقبل على أرض وأقبل على شمس ،وأقبل
على قمر ،وأقبل على نجوم ،وأقبل على سحاب يمطر له الماء ،وأقبل على جبال تمده بالقوات
كان من الواجب عليه أن يلتفت لهذه المسألة؛ لنه لم يصنعها ول ادّعى أحد أنه صنعها ،أما كان
من الواجب أن يفكر تفكيرا يسيرا فيمن خلق له هذه الشياء؟!
إن أتفه الشياء تحتاج إلى صانع ،مثال ذلك الكوب الذي نشرب فيه الماء ل يكون كوبا أمام أي
واحد فينا إل بعد أن انتقل وتقلب في مراحل متعددة ممن اكتشف المادة وممن صهرها كيماويا
خ ْلفَه
وممن أنفق عليها إلى أن وصل إلى الكوب ،وكذلك المصباح ،إن نظرنا إلى الجهزة التي َ
وأسهمت في إيجاده لوجدناها أجهزة كثيرة من إمكانات مالية إلى قدرات علمية ،من ماديات
موجودة في الرض إلى أن وصل إلى هذا المصباح الذي يتغير كل فترة ،فما بالنا بالشمس التي
تنير نصف الكون في وقت ،ونصف الكون الخر في وقت آخر وليس لها قطع غيار ،ولم تقصر
يوما في أداء مهمتها.
وكثيرا ما درسنا في المدارس قصة من اخترع المصباح " أديسون " وكانت قصة هذا الختراع
تفيض بإعجاب من يكتبون عنها ولم نجد من يدرس لنا -بإعجاب وإيمان -دقة الشمس التي
تنير الكون ،فالفة أننا نقف فقط عند حلقات السباب ،والوقوف عند حلقات السباب هو وقفة
عقلية سطحية ،ومن أجل أن نزيد من عمق الفهم ل بد أن نسلسل السبب وراء السبب وراء السبب
إلى أن نصل إلى مسبب ليس وراءه سبب .وأن نرهف آذاننا لمن يأتي ليحل لنا هذا اللغز ويقول
لنا :لقد خلق ال كل الكون من أجلكم وصفاته سبحانه أنه ل مثيل له في قدرته ومطلق حكمته،
ومطلوبه هو منهجه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فالرسل قد جاءوا رحمة لينقذونا ويبينوا لنا هذا اللغز .فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى
وأوضح :أنا الذي خلقت السماوات ،وأنا الذي خلقت الرض ،وأنا الذي سخرت لك كل ما في
الكون ،فهذه دعوة ،والدعوة إما أن تكون حقيقية فتعلن اليمان به وسبحانه ،وإما غير حقيقية،
فنسأل :من خلق الكون -إذن -غير ال؟ .ولماذا لم يقل لنا صفاته ،ولم يرسل لنا بلغا عنه؟.
ولن أحدا لم يفعل ذلك إذن فاللوهية تثبت لمن أبلغنا عن ذاته وصفاته وصنعته عبر الرسل ،فلم
يوجد معارض له ،وحين قال سبحانه :أنا إله واحد ،وأنا خلقت الكون ،وسخرته لكم فنحن نصدق
هذا البلغ.
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أل نقف عند السباب فقط حتى ل نقع في ضلل مبين،
ومن الواجب أن نبحث عما وراء السباب إلى أن تنتهي إلى شيء ل شيء بعده ننتهي إلى مسبب
السباب ومالك الملك -جلت قدرته.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ{ ...
()856 /
أي كما اهتدى إبراهيم إلى أن عبادة الصنام ضلل مبين فسيريه ال ملكوت السموات والرض
ما دام قد اهتدى إلى أن هناك إلها حقّا ،فالله الحق يبين له أسرار الكون:
والملكوت صيغة المبالغة في الملك ،مثلها مثل " رحموت " .وهي صيغة مبالغة من الرحمة،
والملكوت تعطينا فهم الحقائق غير المشهودة ،فالذي يمشي وراء السباب المشهودة له يأخذ
الملك؛ لن ما يشهده ويحسّه هو أمامه ،والملكوت هو ما يغيب عنه ،إذن ففيه " ملك " ،وفيه "
ملكوت " ،الملك هو ما تشاهده أمامك ،والملكوت هو ما وراء هذا الملك.
ع ُدوّ لِي ِإلّ َربّ
والمثال هو ما قاله سيدنا إبراهيم حينما تكلم على الشركاء ل قال سبحانه {:فَإِ ّنهُمْ َ
شفِينِ *
ضتُ َف ُهوَ يَ ْ
سقِينِ * وَإِذَا مَ ِر ْ
ط ِعمُنِي وَيَ ْ
ا ْلعَاَلمِينَ * الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ َيهْدِينِ * وَالّذِي ُهوَ يُ ْ
وَالّذِي ُيمِيتُنِي ثُمّ ُيحْيِينِ }[الشعراء]81-77 :
ولنلحظ هنا أن الساليب مختلفة ،فهو يقول { :الّذِي خََلقَنِي } ولم يقل " الذي هو خلقني " ،ثم قال
{ َف ُهوَ َيهْدِينِ } لن أحدا لم يدّع أبدا خلق النسان ،وهي قضية مسلمة ل ول تحتاج إلى تأكيد ،أما
هداية الناس فهناك من يدعي أنه يهدي الناس .وما َيدّعي من البشر يؤكد بـ " هو " وما ل يُدّعي
من البشر كالخلق والماتة والحياء ل يؤتى فيه بكلمة هو.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سقِينِ } وهنا قفز سيدنا إبراهيم من كل السباب
ط ِعمُنِي وَيَ ْ
ويتابع سيدنا إبراهيم { :وَالّذِي ُهوَ يُ ْ
شفِينِ } وهو بذلك يميز بين
ضتُ َفهُوَ يَ ْ
والحلقات الظاهرية إلى الحقيقة ،وعرف الغيب { وَإِذَا مَ ِر ْ
الوسيلة للشفاء وهم الطباء المعالجون والشافي العظم وهو ال -تبارك وتعالى -لن الناس قد
تفتن بالسباب وتقول :إن الطبيب هو من يشفي ،ولذلك ينتقل سيدنا إبراهيم من ظواهر السباب
إلى بواطن المور ،وينتقل من ظواهر الملك إلى باطن الملكوت حتى نعرف أن الطبيب يعالج
ولكنه ل يشفي ،بدليل أننا كثيرا ما رأينا من يذهب للطبيب ويعطيه الطبيب حقنة فيموت المريض،
وبذلك يصير الطبيب في مثل هذا الموقف من وسائل الموت:سبحان من يرث الطبيب وطبه
شفِينِ } أي أن الشفاء من ال والعلج من الطبيب.
ويرى المريض مصارع السينإذنَ { ،ف ُهوَ َي ْ
وبذلك جاء سيدنا إبراهيم عليه السلم في قصة العقيدة نجده قد أخذ سلطانا كبيرا يعترف به جميع
النبياء؛ لن ربنا قال فيه { :وَإِبْرَاهِيمَ الّذِي َوفّىا }.
وكذلك قال سبحانه {:وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما }[البقرة:
]124
أي أنك يا إبراهيم مأمون أن تكون إماما للناس ،وببشرية إبراهيم وبظاهر الملك .سأل ال أن
تكون المامة في ذريته ،وقالَ { :ومِن ذُرّيّتِي }.
أي اجعل من ذريتي أئمة ،فيقول الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوجود فهو ل يمنعهم الرزق.
ض وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ { [النعام.]75 :
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
} َوكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
وكل من يسير على قدم إبراهيم عليه السلم يرتبط ويتعلق بذات الحق سبحانه وتعالى ،وفيه فرق
بين الرتباط والتعلق بالذات ،والرتباط والتعلق بالصفات؛ والذي يعبد ال لنه رزّاق ،ولنه ُمغْنٍ
هو من يرتبط بالصفات .أما من يرتبط بال لنه إله فقط وإن أفقره فهو من يرتبط بالذّاب ،وحين
صفى سيدنا إبراهيم نفسه من كل العقائد السابقة أوضح له الحق :أنت مأمون على أسرار كوني،
وأعطاه الحق الكثير كما يعطي لكل من يخلص في الرتباط بخالقه يعطيه ربنا عطاءات من
أسرار كونه .ويضرب الحق سبحانه لنا كثيرا من المُثُل في القرآن فيقول {:وَاتّقُواْ اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ
اللّهُ }[البقرة]282 :
أي أنك ما دمت مأمونا على ما عرفت من أحكام الحق لحركة حياتك وتنفذه فإن الحق يعتبرك
أمينا على أسراره ،ويعطيك المزيد من الزيادة.
ومعنى " تتقي " أي أن تلتحم بمنهج الحق ،وإذا التحمت بالمنهج الحق كنت في الفيوضات الدائمة
التي ل تنقضي من الحق؛ لن الذي في معيته ل بد أن يخلع الحق عليه من واردات وعطاءات
صفاته ما يجلي صلته بربه ويطمئنه عليه ،ومثال ذلك ما حدث في " قصة الهجرة " تجد الرسول
صلى ال عليه وسلم وسيدنا أبا بكر في الغار ،ويقول أبو بكر لرسول ال :لو نظر أحدهم تحت
قدمه لرآنا ،وهذه قضية كونية مؤكدة ،ويرد عليه الرسول صلى ال عليه وسلم بما نقله من
القضية الكونية الظاهرة الواضحة إلى عالم الملكوت الخالص ،ويقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الملك بينما ينظر من آتاه ال من لدنه رحمة ومن عنده علما ينظر من عالم الملكوت ،وموسى
معذور؛ لنه ينظر في دائرة السباب ،والعبد الصالح معذور هو الخر لنه ينظر في دائرة ثانية،
ولذلك سيقول العبد الصالحَ } :ومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي {.
أي أن المسألة ليست من ذاته ،بل هو مأمور بها .وحين ننظر إلى تقدير موقف كل منهما للخر
ي صَبْرا { .أي أن العبد الصالح يعذر موسى،
نجد العبد الصالح يقول } :إِ ّنكَ لَن َتسْتَطِيعَ َمعِ َ
ويضيفَ {:وكَ ْيفَ َتصْبِرُ عَلَىا مَا لَمْ ُتحِطْ ِبهِ خُبْرا }[الكهف]68 :
عصِي َلكَ أمْرا }[الكهف:
فيقول القرآن على لسان موسى {:قَالَ سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّ ُه صَابِرا َولَ أَ ْ
]69
فها هوذا الرسول الذي جاء ليبلغ المنهج يطيع عبدا صالحا طبق المنهج من رسول سابق ونفذه
كما يحب ال ،والتحم بالمنهج ،وجاء لنا ربنا بهذه القصة مع رسول من أولي العزم .ويتلقى
موسى عليه السلم المر من العبد الصالح {:قَالَ فَإِنِ اتّ َبعْتَنِي فَلَ تَسَْألْني عَن شَيءٍ حَتّىا ُأحْ ِدثَ
َلكَ مِنْهُ ِذكْرا }[الكهف]70 :
لماذا؟ لن العبد الصالح يعلم أن موسى سيتكلم عن عالم الفلك ،وهو يتكلم من عالم الملكوت.
وحين ركبا السفينة ،وخرقها العبد الصالح ،والخرق إفساد ظاهري في عالم المُلْك .يوضح سيدنا
موسى للعبد الصالح أن هذا الفعل إخلل بالقانون ،وكيف يعتدي على السفنية بالفساد؟ فيرد العبد
الصالح :ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ،وليست لك طاقة على مثل هذه المسائل ،فيتذكر
موسى ،ثم تأتي حكاية الغلم ،وحكاية الجدار.
وحين ندقق النظر في هذه المور نجد عالم الملكوت يصحح المور الشاذّة في عالم الملك؛ فخرق
السفينة إفساد ظاهري لكن إذا علم موسى أن هناك مَلِكا يأخذ السفن السليمة الصالحة ويستولي
عليها غصبا وهذه السفينة لمساكين يعملون في البحر ،ويريد العبد الصالح أن يحافظ لهم على
السفينة فيخرقها حتى ل يأخذها المغتصب؛ وحين يقارن الملك المغتصب بين سفينة سليمة وسفينة
مخروقة .فلن يأخذ السفينة غير السليمة ،ويمكن لصحابها إصلحها.
إذن لو علم موسى بهذه المسألة ،أل يجوز أن يكون موسى هو الذي كان يقوم بخرق السفينة؟ إنه
كان سيخرقها ،إذن لو علم صاحب نظرية الملك ما في نظرية الملكوت من أسرار ،لفعل هو
الفعل نفسه .وحين نأتي لقتل الغلم ،ل بد من التساؤل :وما ذنب الغلم؟ فيفسر العبد الصالح
طغْيَانا َوكُفْرا }[الكهف]80 :
المر {:وََأمّا ا ْلغُلَمُ َفكَانَ أَ َبوَاهُ ُم ْؤمِنَيْنِ َفخَشِينَآ أَن يُ ْر ِه َقهُمَا ُ
والبوان قد يدللن هذا البن ،ويطعمانه من مال حرام ،ويكون فتنة لهما ،فقتل الغلم ليظل على
اليمان ،وعجلّ ربنا بالولد إلى الجنة مباشرة.
وفي مسألة الجدار تجد الخلف بين رؤية عالم المُلْك ،ورؤية عالم الملكوتففي ظاهر المر أنهما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حين أتيا أهل القرية طلبا للطعام ،وطلب الطعام شهادة صدق على الضرورة ،لنه ليس طلبا
للنقود ،فقد يطلب أحد النقود ليدخرها ،لكن من يقول " :أعطني رغيفا لكل " فهذه آية صدق
الضرورة في طلب الطعام .ولكن أهل القرية أبوا أن يضيفوهما ،إذن هم لئام ل كرام .ويرى
العبد الصالح جدارا يريد أن ينقض ،وآيلً للسقوط فأقامه ،وغضب سيدنا موسى ،سبب غضبه أنه
والعبد الصالح استطعما هؤلء فلم يطعموهما ،فكيف تبني جدارا لهم؟! وكان يصح أن تأخذ عليه
أجرا ،وغضب سيدنا موسى سببه ظاهر ،لكن العبد الصالح يشرح المسألة:
لقد أقام الجدار لن أهل القرية لئام ولم يعطونا طعاما ،ولو وقع الجدار وظهر الكنز تحته أمام لئام
بهذا الشكل لسرقوه من أصحابه ،وهم أطفال ،وقد بناه العبد الصالح بهندسة إيمانية ألهمه ال بها
بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار .أي أنه بناء موقوت ،مثلما نضبط المنبه على وقت محدد،
كذلك الجدار بحيث إذا بلغ الولدان الرشد يقع الجدار ويأخذان الكنز.
وهذا يوضح لنا الخلف بين عالم المُلْك وبين عالم الملكوت؛ فعالم الملكوت هو الذي يغيب عنا
وراء السباب .وكثير من الناس يقف عند السباب ،ول ينتقل من السباب إلى السبب المباشر،
إلى أن ينتهي إلى مسبب ليس بعده سبب.
ض وَلِ َيكُونَ مِنَ ا ْلمُوقِنِينَ { [النعام.]75 :
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
} َوكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
فهل تيقن أو لم يتيقن؟.
و " موقنين " جمع " موقن " والجمع أقله ثلثة ،واليقين ينقسم إلى ثلث مراحل :يقين بعلم من تثق
فيه لنه ل يكذب؛ ويقين بعين ما تخبر به ،ويقين بحقيقة المُخْبَر به.
وحين عرض الحق سبحانه وتعالى هذه المسألة في سورة التكاثر قال {:أَ ْلهَاكُمُ ال ّتكّاثُرُ * حَتّىا
س ْوفَ َتعَْلمُونَ * كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ عِلْمَ الْ َيقِينِ }[التكاثر:
س ْوفَ َتعَْلمُونَ * ثُمّ كَلّ َ
زُرْتُمُ ا ْل َمقَابِرَ * كَلّ َ
] 5 -1
إذا أخبرتكم فهذا الخبر هو الصورة العلمية ،وكان يجب أن يكون ما أخبركم به علم اليقين {.كَلّ
جحِيمَ * ثُمّ لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ }[التكاثر.]7-5 :
َلوْ َتعَْلمُونَ عِ ْلمَ الْ َيقِينِ * لَتَ َروُنّ الْ َ
لننا سوف نرى النار في الخرة ،لكن لم تأت حقيقة اليقين ،وجاءت حقيقة اليقين في سورة
صحَابِ الْ َيمِينِ * فَسَلَمٌ ّلكَ مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ * وََأمّآ إِن كَانَ مِنَ
الواقعة {:وََأمّآ إِن كَانَ مِنْ َأ ْ
حقّ الْ َيقِينِ }[الواقعة-90 :
حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ َ
ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُ ُزلٌ مّنْ َ
]95
وسيدنا إبراهيم عليه السلم كان حقا من الموقنين في كل أدوار حياته؛ لن ال أعلمه ما وراء
مظاهر الملك ،ما وراء مظاهر الشياء؛ وعواقبها .فمثل عندما أُخذ ليطرح في النار جاء له
جبريل ليقول :ألك حاجة؟ قال سيدنا إبراهيم :أمّا إليك فل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول ذلك وهو يعرف أن النار تحرق ،ولكن هذا ظاهر المُلك ،وظواهر الشياء ،وسيدنا ابراهيم
يعلم أن الذي خلقها جعلها محرقة ،ويستطيع أل يجعلها محرقة ،وهو متيقن به ،ولذلك لم يطفئ ال
النار بظاهر السباب ولكن جعلها ال ليّا لعناق خصومه ،فأوضح الحق :يا نار أنا خلقت فيك
قوة الحراق ،وأنا أقول لك الن :ل تحرقي {.قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }
[النبياء]69 :
إذن فإبراهيم يعرف هذه الحقائق المختفية وراء المُلك الظاهر ،وهذا من البتلءات الولى في
حياته ،ويملك أن يرد على سيدنا جبريل لحظة أن سأله قبل أن يلقوا به في النار :ألك حاجة؟
فيقول إبراهيم :أمّا إليك فل.
ثم يأتي له البتلء في آخر حياته بذبح ولده .ونعلم أن النسان تمر عليه أطوار تكوين ذاتيته،
وأحيانا تكون الذات هي المسيطرة ،وفي طور آخر تبقى ذاتية أولده فوق ذاتيته ،أي أنه يحب
أولده أكثر من نفسه .يتمنى أن يحقق لولده كل ما فاته شخصيا .فلما كبر إبراهيم ووهبه ال
الولد يأتيه البتلء بأن يذبح ابنه إنه ابتلء شديد قاس ،وهو ابتلء ل يأتي بواسطة وحي بل
بواسطة رؤيا .وكلنا نعلم أن رؤيا النبياء حق .لكن إبراهيم يعلم أن الحق سبحانه وتعالى ل
يطلب من خلقه إل أن يستسلموا لقضائه ،ولذلك إذا رأيت إنسانا طال عليه قضاء ربه في أي
شيء؛ في مرض ،في مصيبة ،في مال ،أو غير ذلك فاعلم أنه لم يرض بما وقع له ،ولو أنه
رضي لنتهى القضاء .فالقضاء ل يُرفع حتى يُرضى به ،ول يستطيع أحد أن يلوي يد خالقه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إل أن يرضى ويقول :ما دامت هذه المصيبة ل دخل لحركتي فيها ،وأجراها عليّ خالقي فهي
اختبار منه -سبحانه -ول يوجد خالق يفسد ما خلق .ول صانع يفسد ما صنع ،ول بد أن لذلك
حكمة عنده ل أفهمها أنا ،لكني واثق في حكمته.
إن طريق الخلص من أي نائبة من النوائب أن يرضى المؤمن بها ،فتنتهي .ومن تحدث له
مصيبة بأن يموت ولد له ،ويظل فاتحا لباب الحزن في البيت ،وتبكي الم كلما رأت من في مثل
سنّه فسيظل باب الحزن مفتوحا ،وإن أرادوا أن يزيل ال عنهما هذا البتلء فليقفل باب الحزن
بالرضا .وليعلم كل مؤمن أن ما أخذ منه هو معوض عنه بأجر خير منه ،والمأخوذ الذي قبضه
ال إليه وتوفاه معوض بجزاء خير مما يترك في الدنيا ،ولذلك يقال :المصاب ليس من وقعت
عليه مصيبة وفارقه الحباب ،بل المصاب من حُرم الثواب ،فكأنه باع نكبته بثمن بخس.
ويقول الحق بعد ذلك } :فََلمّا جَنّ عَلَيْهِ الْلّ ْيلُ{ ...
()857 /
و " جن " تفيد الستر والتغطية ،ومنها " الجنون " أي ستر العقل ،و " جن الليل " أي أظلم وستر
عنك ،فل ترى غيرك ول غيرك يراك .و " الجّنة " كذلك لن فيها الشجار والشياء التي تستر
من يمشي فيها ،إذن المادة كلها تفيد الستر.
وكلمة " كوكب " تفيد أنه يأخذ ضوءه من غيره ،ونفهم من الية أن إبراهيم كان في ظلمة ثم طلع
الكوكب فرآه ،ثم غاب الكوكب أي انتقل من بزوغ وطلوع إلى أفول ،وقديما كانوا يعبدون
ب الفِلِينَ }.
ح ّ
الكواكب والنجوم ،فجاء لهم إبراهيم من جنس ما يعبدون ،وقال { :ل أُ ِ
ويتابع الحق بعد ذلك { :فََلمّآ رَأَى ا ْل َقمَرَ بَازِغا} ...
()858 /
فََلمّا رَأَى ا ْل َقمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبّي فََلمّا َأ َفلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ َيهْدِنِي رَبّي لََأكُونَنّ مِنَ ا ْل َقوْمِ الضّالّينَ (
)77
وهنا قال إبراهيم عليه السلم :هذا ربي ،ووقف العلماء هنا وتساءلوا :كيف يقول إبراهيم هذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ربي ،وهي جملة خبرية من إبراهيم ،وكيف يجري إبراهيم على نفسه لفظ الشرك ،وأراد العلماء
أن يخلصوا إبراهيم من هذه المسألة .ونقول لهؤلء العلماء :جزاكم ال كل خير ،وكان يجب أن
تؤخذ هذه المسألة من باب قصير جدا؛ لن الذي قال :إن إبراهيم قال :هذا ربي ،هو الذي قال في
إبراهيم {:وَإِذِ ابْ َتلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }[البقرة]124 :
إذن فقوله { هَـاذَا رَبّي } ل تخدش في وفائه اليماني ،ول بد أن لها وجها .ونعلم أن القوم كانوا
يعبدون الكواكب ،ويريد إبراهيم أن يلفتهم إلى فساد هذه العقيدة ،فلو أن إبراهيم من أول المر قال
لهم :يا كذابون ،يا أهل الضلل ،وظل يوجه لهم السباب لما اهتموا به ول سمعوا له .لكن إبراهيم
استخدم ما يسمي في الجدل بـ " مجاراة الخصم "؛ ليستميل آذانهم ويأخذ قلوبهم معه ،وليعلموا
أنه غير متحامل عليهم من أول المر ،فيأخذ بأيديهم معه.
مثال ذلك في حياتنا ،تجد رجلً له ابنة وجاء لها خطيب ،وهذا الخطيب قصير جدا ،بينما البنت -
ما شاء ال -طويلة ،وحين جاء الخطيب ليراها وتراه تقول لمها :هذا خطيبي؟! وهذا القول
يعني أنها تنكر أن يكون هذا القصير عنها هو خطيبها ،وحين قال إبراهيم { :هَـاذَا رَبّي } معناه
إنكار أن يكون مثل هذا الكوكب أو ذلك القمر أو تلك الشمس هي الرب.
لكُونَنّ مِنَ ا ْلقَوْمِ
ونلحظ أنه يحدد لهم مصير من يعبد تلك الكواكب ،فقال { :لَئِن لّمْ َي ْهدِنِي رَبّي َ
الضّالّينَ } ،وفي هذا معرفة بمن على هدى أو على ضلل ،ويكون قوله { :هَـاذَا رَبّي } لونا
من التهكم؛ لنهم قالوا بما جاء به القرآن على لسانهم { :أَهَـاذَا الّذِي َي ْذكُرُ آِلهَ َتكُمْ }.
ب الفِلِينَ } يعني أنه غير
ح ّ
فكأنه قال :سلمنا جدلً أنه ربكم ،لكنه يأفل ويغيب عنكم ،وقوله { :ل أُ ِ
متعصب ضدهم.
شمْسَ بَازِغَةً} ...
وكذلك حين يقول الحق { :فَلَماّ رَأَى ال ّ
()859 /
غةً قَالَ هَذَا رَبّي هَذَا َأكْبَرُ فََلمّا َأفََلتْ قَالَ يَا َقوْمِ إِنّي بَرِيءٌ ِممّا ُتشْ ِركُونَ (
شمْسَ بَازِ َ
فََلمّا رَأَى ال ّ
)78
وهكذا يثبت له أن كل كوكب -حتى الشمس -مصيره إلى أفول ،فكأنه قد وصل بهم بالمنطق
إلى أن عبادة الكواكب ل تصلح ،واستخدم المنطق الذي يحقق نيته في أن ينكر هذه الربوبية،
ويستأنس به آذان من يسمعه .وهناك أشياء يجعلها الحق سببا مبررا لرتكاب أشياء كثيرة ،إل أننا
نعقد مقارنة بين بعضهم البعض مثلما قال الحق {:وَلَـاكِن مّن شَرَحَ بِا ْل ُكفْرِ صَدْرا }[النحل]106 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طمَئِنّ بِالِيمَانِ }[النحل]106 :
وقد جاءت بعد قوله سبحانهِ {:إلّ مَنْ ُأكْ ِرهَ َوقَلْبُهُ مُ ْ
فإذا كان ال قد أباح إجراء كلمة الكفر على لسان المؤمن المطمئن لينجي حياته وهو فرد ،أفل
يصح لبراهيم أن يقول لهم { :هَـاذَا رَبّي } بما تحتمل من أساليب حتى ينجي أمة بأسرها من أن
تعبد الصنام؟.
إذن فيقول إبراهيم { هَـاذَا رَبّي } يؤخذ على محملين :ألم يقل ال سبحانه وتعالى بنفسه عن
نفسه {:وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُ َركَآئِي }[فصلت]47 :
وسبحانه يعلم أنّه ل شركاء له ،ولكن الشركاء هم مِن زعْم المشركين.
" ورسول ال صلى ال عليه وسلم حينما كان ينادي في بعض القوم :يا إله اللهةلنه يعلم أن قوما
قد ألهوا ظواهر طبيعية في الكون لما يرون من الخير فيها ،فأراد أن ينبههم إلى أن هناك إلها حقّا
".
ضهُمْ عَلَىا
ويوضح القرآن عدم جدوى الشرك حين يقول {:إِذا لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَقَ وََلعَلَ َب ْع ُ
َب ْعضٍ }[المؤمنون]91 :
ويقول سبحانهُ {:قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِل َهةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء:
]42
والحق سبحانه وتعالى يقول للكافر الذي كان يعتز بجاهه في دنياهُ {:ذقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }
[الدخان]49 :
فهل هذا القول اعتراف بأن الكفر عزيز كريم أو هو قول تهكمي؟ .إنه تهكم؛ لن الكافر لو كان
عزيزا كريما عند نفسه لما كفر ولما استقر في الجحيم.
وكان المنطق في اللغة أن يقول :فلما رأى الشمس بازغة قال هذه ربي؛ لن الشمس مؤنثة ،ولكنه
قال { :هَـاذَا رَبّي } كما قال في القمر وفي غيره من الكواكب ،فجعل المر على سياق أو حالة
واحدة ،أو هو بهذا القول يريد أن ينزه كلمة الرب تنزيها مطلقا عن أن تلحق بها علمة التأنيث؛
لن علمة التأنيث فرع التذكير ،وأيضا لن الشمس ليست مؤنثا حقيقيا ،بل هي مؤنث مجازي،
ولذلك يفطن العلماء إلى هذه المسألة فيقولون :إنك إذا أعطيت واحدا صفة العلم ،وقلت :فلن
عالم ،أما إذا صار علمه ملكة عنده فنقول " :فلن عليم "؛ ولذلك يقول الحقَ {:وفَوْقَ ُكلّ ذِي عِلْمٍ
عَلِيمٌ }[يوسف]76 :
وإذا كان العالم متمكنا من علمه بشكل غير مسبوق نقول عنه " :علّم " .والحق سبحانه يصف
نفسه فيقول {:عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة]116 :
ولم يقل العلماء في وصف ال علمة ،وإن كان هذا الوصف أبلغ احترازا من أن تلحق علمة
التأنيث صفة من صفات ال -عز وجل .-
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين تأفل الشمس يقول سيدنا إبراهيم } :فََلمّآ َأفََلتْ قَالَ يا َقوْمِ إِنّي بَرِيءٌ ّممّا تُشْ ِركُونَ { [النعام:
]78
وجاء المر صريحا لنه سبق المسألة بالترقيات الجدلية التي قالها ،وحين يسمعها أي عاقل فل بد
أن يعلن اتفاقه في هذا المر ،ولذلك قال } :إِنّي بَرِيءٌ ّممّا تُشْ ِركُونَ { .ولنه كإنسان مؤمن لن
يغش نفسه ،وبالتالي لن يغش قومه ،وهذا ما ينبه العقل حين يعطيه ال هبة الهداية.
والبراءة من الشرك تخلية عن المفسد ،والتخلية تعني أن تنفك أو تنقطع عن العمل المفسد ،وبعد
ذلك تدخل في العمل المصلح ..العمل اليجابي.
ج ِهيَ{ ...
ت وَ ْ
ج ْه ُ
ويقول الحق بعد ذلك } :إِنّي وَ ّ
()860 /
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ حَنِيفًا َومَا أَنَا مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ()79
جهِيَ لِلّذِي فَطَرَ ال ّ
ج ْهتُ َو ْ
إِنّي وَ ّ
والسماوات والرض هما المظهر الول للكون الذي طرأ عليه النسان؛ لن الكون طرأ عليه
النسان -الخليفة في الرض -ووجد كل الخيرات والمسخرات ،ولذلك يوضح الحق سبحانه
ت وَالَرْضِ َأكْـبَرُ
سمَاوَا ِ
وتعالى :إياكم أن تقولوا إني خلقتكم فقط ،بل خلقت لكم الكون {.لَخَ ْلقُ ال ّ
مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ }[غافر]57 :
ويقدم سيدنا إبراهيم برهانه لقومه ،إنه يعبد ال وحده الذي خلق السماوات والرض ،رافضا كل
فساد في الكون ،ويتمثل هذا في قوله { :حَنِيفا } ،و " الحنف " في اللغة هو ميل القدمين ،ونجد
القدم مقوسة إلى الخارج .وهذا يعني أنه ل يسير على طريق الفساد الموجود في الكون؛ لن
السماء تتدخل بالرسالت حين يطم الفساد في الرض ،وحين يأتي الرسول مائلً عن الفساد فهو
يسير معتدلً؛ لن الميل عن الفساد اعتدال واستقامة.
ويقول الحق بعد ذلك { :وَحَآجّهُ َق ْومُهُ قَالَ} ...
()861 /
وَحَاجّهُ َق ْومُهُ قَالَ أَتُحَاجّونّي فِي اللّ ِه َوقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْ ِركُونَ بِهِ إِلّا أَنْ يَشَاءَ رَبّي شَيْئًا
شيْءٍ عِ ْلمًا َأفَلَا تَ َت َذكّرُونَ ()80
وَسِعَ رَبّي ُكلّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحاجّه أي حاججه بإدغام الجيمين في بعضهما .أي أن كل طرف يقول حجة والطرف الخر يرد
عليه بالحجة ،فإذا كنت في نقاش وكل واحد يدلي بحجته ،فهذا اسمه الحجاج ،أو الجدل المبطل،
أي أنك تبطل كلمه وهو يبطل كلمك.
{ وَحَآجّهُ َق ْومُهُ قَالَ أَ ُتحَاجّونّي فِي اللّ ِه َوقَدْ َهدَانِ } [النعام]80 :
وإذا كان إبراهيم قد جادلهم بمجاراة أفكارهم وأثبت بطلنها ،فكيف يجادلونه إذن؟ .كأن الغرض
ج ِهيَ
ت وَ ْ
ج ْه ُ
من الحِجاج صرف إبراهيم عن دينه الحنيف الذي ارتآه في قوله سبحانه {:إِنّي وَ ّ
ت وَالَرْضَ حَنِيفا َومَآ أَنَاْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[النعام.]79 :
سمَاوَا ِ
لِلّذِي َفطَرَ ال ّ
ويرد عليهم { :أَ ُتحَاجّونّي فِي اللّ ِه َوقَدْ َهدَانِ } [النعام.]80 :
أي أن مسألة اليمان قد حُسمت .فقد آمن إبراهيم بال ويعلن للقوم { َولَ أَخَافُ مَا تُشْ ِركُونَ بِهِ ِإلّ
أَن يَشَآءَ رَبّي شَيْئا } وهذا القول يدل على أنهم قد هددوه؛ لن كلمة " الخوف " جاءت ونفاها عن
نفسه .ويعلنها إبراهيم قويةَ { :ولَ أَخَافُ مَا تُشْ ِركُونَ بِهِ } أي ل أخاف من الكواكب التي تأفل
سواء أكانت نجما أم قمرا أم شمسا أم تلك الصنام التي تعبدونها فليس لها نفع ول ضر ،والضر
والنفع هما من صنع ال فقط.
ولذلك تتجلى الدقة في الداء العقدي فيقول الحق على لسان إبراهيم عليه السلمَ { :ولَ أَخَافُ مَا
شيْءٍ عِلْما َأفَلَ تَتَ َذكّرُونَ } [النعام.]80 :
سعَ رَبّي ُكلّ َ
تُشْ ِركُونَ بِهِ ِإلّ أَن َيشَآءَ رَبّي شَيْئا وَ ِ
فإن شاء الحق أن يُنزل على عب ٍد كوكبا يصعقه أو يحرقه فهذا موضع آخر ل دخل لمن يعبد
الكواكب به ،ول دخل للكواكب فيه أيضا؛ لن النافع والضار هو ال ،فحين يشاء ال الضر ،يأتي
الضر وحين يشاء النفع يأتي النفع.
{ ِإلّ أَن َيشَآءَ رَبّي شَيْئا } [النعام]80 :
أي اذكروا جيدا ،وافرقوا بين فعل يقع من فاعل ،وفعل يقع من آلة فاعلها غير تلك اللة ،فحين
يشاء ال أن يوقع على إنسان كوكبا ،أو صخرة فليست الصخرة هي التي صنعت وقوعها ،ول
شيْءٍ عِلْما َأفَلَ تَ َت َذكّرُونَ }
الكوكب هو الذي أسقط نفسه ،إنما الفاعل هو ال { :وَسِعَ رَبّي ُكلّ َ
[النعام]80 :
وقوله { َأفَلَ تَ َت َذكّرُونَ } يدل على أن قضايا العقائد مأخوذة بالفطرة ،وإقبال النفس على الشهوات
هو ما يطمس آثار هذه الفطرة ،فليس المطلوب منك أيها النسان إنشاء فكرة عقدية بل المطلوب
منك أن تتذكر فقط ،والتذكر أمر فطري طبيعي؛ لن النسان الخليفة في الرض هو الذي تناسل
من آدم إلى أن وصل إلينا؛ فقد جاء آدم إلى الرض ومعه منهج سماوي ينظم به حركة الحياة،
ولقن آدم المنهج لولده ،وكذلك فعل أبناء آدم مع أولدهم ،ولكن المناهج تنطمس؛ لن المناهج
تتدخل في أهواء الناس وتثنيهم عن شهواتهم وتصدهم عن المفاسد فيعرضون عنها أو يتجاهلونها،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فهي عرضة أن تُنسى ،والرسالت إنما تذكر بالمنهج الصلي الذي أخذناه عن الحق سبحانه
وتعالى ،لذلك يعلنها إبراهيمَ { :وكَ ْيفَ َأخَافُ مَآ أَشْ َركْتُمْ} ...
()862 /
َوكَيْفَ َأخَافُ مَا َأشْ َركْتُ ْم وَلَا َتخَافُونَ أَ ّن ُكمْ أَشْ َركْتُمْ بِاللّهِ مَا َلمْ يُنَ ّزلْ بِهِ عَلَ ْي ُكمْ سُ ْلطَانًا فََأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ
حقّ بِالَْأمْنِ إِنْ كُنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ ()81
أَ َ
يقول لهم سيدنا إبراهيم :أنا ل أخاف إل ال ،ول أخاف ما أشركتم أنتم به مما ل يضر ول ينفع.
و " كيف " هنا تأتي للتعجيب؛ لن المنطق أن نخاف من ال وحده الذي يضر وينفع .وحين تدور
مجادلة تستيقظ في كل طرف ذاتية المجادل ،وهناك من يستنكفون من الحق ،ليس لنه حق لكن
لخوفهم أن ينهزموا أمام واحد مثيل لهم ،ومن يريد أن يصل إلى الحقيقة بدون استعلء ل يعطي
الحكم بما يحرك الذاتية في الخصم المجادل؛ لذلك لم يقل سيدنا إبراهيم :أنا أم أنتم أحق بالمن؟
لمْنِ } مثلما علم ربنا سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أن
بل قال { :فََأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ َأحَقّ بِا َ
يقول {:وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَىا هُدًى َأوْ فِي ضَلَلٍ مّبِينٍ }[سبأ.]24 :
وهذا منتهى الحيدة في الجدل ،فلم يصرح بأن منهجهم هو الضلل وأن منهجه هو الصواب
المستقيم ثقة منه أنهم حين يستعرضون منهجه ويستعرضون منهجهم سيحكمون بأنه صلى ال
عليه وسلم على هدى وأنهم على ضلل .وهذا هو الجدل الرتقائي ،مثلما يعلم الحق رسوله ليقول
عمّا َت ْعمَلُونَ }[سبأ.]25 :
عمّآ َأجْ َرمْنَا وَلَ نُسَْألُ َ
لخصومه {:قُل لّ تُسْأَلُونَ َ
هل يفعل الرسول جرائم؟ حاشا ل أن يفعل ذلك فهو المعصوم.
وكأن الرسول صلى ال عليه وسلم يقول لهم :اسألوا عني إن كنت أجرّمت؛ ولم يقل لهم وصفا
عمّا َت ْعمَلُونَ } .فلم يأت بمسألة الجرام
لعمالهم " :ول نسأل عما تجرمون " بل قال " { َولَ نُسَْألُ َ
بالنسبة لهم؛ وجاء بها بالنسبة له ،لنه واثق أنهم إن أعادوا دراسة القضية فكريا وعقديا وعاطفيا
فسينتهون إلى اليمان بمنهجه .وهذامنتهى اللطف في الجدل.
لمْنِ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ } [النعام:
حقّ بِا َ
ويتجلى اللطف في الجدل في قوله الحق { :فََأيّ ا ْلفَرِيقَيْنِ أَ َ
.]81
والعِلْمُ هو أن تأخذ قضية تعتقدها ولها واقع وتستطيع أن تدلل عليها ،وإن اختل شرط فيها فهذا
خروج عن العلم ،ومثال ذلك ألفاظ اللغة؛ كل لفظ وضع لمعنى ،وساعة تسمع اللفظ وأنت تعرف
اللغة تفهم المعنى؛ فحين أقول :الشمس .تتصور أنت الشمس في ذهنك ،وكذلك الرض والماء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والجبل .فأنت عرفت مدلول هذه اللفاظ بدون أن تكون هناك نسبة .ونعلم أن هناك فرقا بين
معنى اللفظ مفردا ،وما يعطيه ويفيده اللفظ إذا جاء في نسبة.
فإذا جاء اللفظ في نسبة فل بد أن توجد قضية ،فإذا قلنا الشمس محجوبة بالغيم فهذه قضية ،أو
قلنا :الشمس تغيب فهذه قضية أخرى وهنا نسبنا شيئا لشيء ،ولكننا قبل أن نأتي بالقضايا النسبية
ل بد أن يكون للفظ معنى في ذاته ،وهذه اسمها معاني اللغة ،وتضم من خللها لفظا إلى لفظ
فتنشأ نسبة أو قضية شريطة أن نعرف معنى مفرداتها ،وبعد ذلك نعرف النسب ،وهي ما نقول
عنه :مبتدأ وخبر ،موضوع ومحمول ،مسند ومسند إليه ،فعل وفاعل أي أمر منسوب إلى أمر.
والعلم -كما قلنا -هو قضية واقعية ،تعتقدها وتستطيع أن تدلل عليها .وإن اختل أمر من هذا ل
يكون علما ،فإن كنت تعتقد في قضية إل أنها غير واقعية ،فهذا كذب .وعندما أقول :إن هناك من
يعتقدون أن الرض كروية فهل الواقع كذلك أول؟ .وإن كنت تعتقد شيئا وهو واقع ،ولم تستطع
أن تدلل عليه فهذا تقليد ،وإن لم يكن الشيء متيقنا وقد تساوى فيه الطرفان فهذا هو الشك .وإن
كان هناك طرف راجح عن طرف آخر فهو الظن .والطرف المرجوح هو ما يسمّى بالوهم .وكل
قضايا نسبية ل تخرج عن هذه.
وقول إبراهيم } :إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ { أي تتيقنون من قضية نسبية واقعة معتقدة تستطيعون أن تدللوا
عليها.
ويقول الحق بعد ذلك } :الّذِينَ آمَنُواْ{ ...
()863 /
حينما سمع صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية اشفقوا على أنفسهم؛ لنهم
استعرضوا حركة أعمالهم فوجدوها ل تخلو من ظلم ،وخافوا أن يكونوا من غير الداخلين في
لمْنُ } .وشق عليهم ذلك ،فرفعوا أمرهم إلى سيدنا رسول ال صلى ال عليه
{ ُأوْلَـا ِئكَ َلهُ ُم ا َ
طمْئِنا :إن ذلك الظلم هو الذي قال ال فيه {:إِنّ الشّ ْركَ
وسلم ،فأوضح لهم صلى ال عليه وسلم ُم َ
لَظُ ْلمٌ عَظِيمٌ }[لقمان.]13 :
والية تدل بمعطياتها على أن ذلك الظلم هو المتعلق باليمان ل بالعمل؛ لننا نعلم أن التقاء
النسان بربه مشروط أولً بعقيدة القمة ،وهي أن تشهد أن ل إله إل ال وأن تشهد أن محمدا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رسول ال؛ ومعناها؛ ل معبود بحق إل ال ،أول أمر لحد في خلق ال إل ل ،ول فعل لحد من
خلق ال إل من ال ،ول استمداد لحد قدرة وعلما وحكمة وقبضا وبسطا إل من ال ،تلك هي
دائرة اليمان العقدية.
ويقول الحق { :وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَا َنهُمْ ِبظُلْمٍ } فكأن هذه المسألة هي منطقة الظلم ،أما العمل فسبحانه
فصّل لنا بين إيمان ينفجر عنه العمل وعمل تنفجر عنه الطاقات فقال سبحانه {:وَا ْل َعصْرِ * إِنّ
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ[} ...العصر]3-1 :
الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ } يقتضي المغايرة ،فاليمان شيء وعمل
والعطف في قولهِ { :إلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
الصالحات شيء آخر ،إذن فاليمان عمل ينبوعي في القلب ،ولكن العمل ناشئ عن اللتزام الذي
شرعه اليمان فيه ،وعلى المؤمن أن يتنبه إلى أن ال واحد في ذاته ،وواحد في صفاته ،وواحد
في أفعاله ،ل ندّ له ول شريك معه ،فإن وجدت صفة في ال ووجدت صفة مثلها فيك فاعلم أن
شيْءٌ } .فى قدرة كقدرته ،ول ذات كذاته ،ول فعل كفعله.
الصفة في ال في دائرة { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
فإن اختل شئ من ذلك في اليقين فهذا ظلم واقع في اليمان.
فمثلً :أنت تقبل على الشياء بالطاقات المخلوقة لك من الحق سبحانه وتعالى ،وقبل أن تفعل أي
فعل ل بد أن يمر على بالك نسبة ذهنية ،قبل أن تكون نسبة قولية أو فعلية .هذا هو العمل المنوط
بك والمطلوب منك ،أما العمل الذي ل يمر ببالك فلست مسئول عنه ،مثال ذلك :هب أنك سائر
في الطريق ،ثم وجدت حفرة تكاد تسقط فيها ،فهناك أمر غريزي لحفظ النسان فيبعد رجله ،وهو
ل يستطيع في هذه المسألة أن يمررها بباله .وتلك أعمال نسميها العمال الضطرارية أو
الغريزية أو القسرية .ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" كل أمر ذي بال ل يبدأ ببسم ال الرحمن الرحيم أقطع " " حديث شريف "
وقال صلى ال عليه وسلم " :كل أمر ذي بال ل يبدأ فيه بالحمد ل أقطع " " حديث شريف "
و " ذي بال " أي كل أمر تفعله بعد أن يمر ببالك أن تفعله يجب أن تذكر فيه اسم ال .ويغفل
أناس كثيرون عن هذه المسألة فنقول لهم :منطقيا ل بد أن تضعوا هذا المر في بالكم لن الفعل
الذي ل يمر ببالك هو فعل أعطى ال غريزتك -بدون أمر -أن تفعله .ومثال ذلك إذا أكل
النسان ثم نزل شيء في قصبته الهوائية غير الهواء؛ نجده يسعل بل شعور حتى يخرج هذا
الشيء ،لنها عملية قسرية .أما المر ذو البال فهو الذي تمر ببالك نسبته الذهنية ثم يمر بالفعل،
إن كان قولً تقوله ،وإن كان فعلً تفعله؛ فمطلوب منك فيه ابتداء أن تسمّى ال؛ لن الحق سبحانه
وتعالى يطلب منا أل تشغلنا السباب عن المسبب لها.
فأنت مثلً حين تزرع الرض تحرثها ،ثم تضع البذرة وتغطيها ،ثم ترويها وبعد ذلك ينبت
الزرع .ألك في ذلك شيء؟ .إنه ليس لك إلّ تجميع فعل؛ فالبذرة مخلوقة ل ،والتربة التي وضعت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيها البذرة مخلوقة ل ،والعناصر الموجودة في الرض لتغذي النبات مخلوقة ل ،والخاصية
الموجودة في البذرة لتمتص شيئا ينّمي جذيرها ثم تنفلق الحبة ،كل هذه أسباب ليس لك فيها شيء
أبدا .ولكن ال احترم فعلك فقط فقال سبحانهَ {:أفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ }[الواقعة]63 :
ثم قال سبحانه {:أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة]64 :
ومن مخصصات اليمان أنك حين تقبل على أي شيء ذي بال أل تنسى من سخر لك هذا ،فليس
في قدرتك أن تفعل لنفسك وبنفسك أي شيء إل بإرادة ال ،وإذا ما فعلت ذلك وتذكرت من سخر
لك هذا تكون قد نسبت المر كله له سبحانه.
ونحن في قوانيننا الوضعية ساعة يجلس القاضي ليحكم بين الناس حُكما وهناك سلطة تنفذ هذا
الحكم فهو يقول " :باسم الشعب " أو " باسم القانون " ،إذن الشعب أو القانون هو الذي أعطاه
الصلحية لن يحكم هذا الحكم ،فما هي القدرة التي جعلتك تحكم على الشياء أن تنفعل لك؟ ل بد
أن تقول إذن :باسم ال الذي سخر لي هذا ،فإذا أقبلت على عمل بغير ذلك ،تكون مفتاتا ومختلقا
ومدعيّا أمرا ل تستطيعه؛ لنه ليس في سلطتك ول في قدرتك أن تسخر الكائنات لك.
إن الحق سبحانه وتعالى هو الذي سخر لك الكائنات ،فعليك أن تذكر اسم الحق لتنفعل لك تلك
الكائنات ،ومن يغفل عن ذلك فقد لبّس وخلط إيمانه بظلم .وإذا ما رأيت ثمرة من ثمارك إياك أن
تقول كما قال قارون } :أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي { بل اذكر وقل " :ما شاء ال "؛ لنك إن قلت} :
أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ { فالحق قد قال في شأن قارون:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بأرجى عمل عملته في السلم فإني سمعت دفّ نعليك بين يديّ في الجنة .قال :ما عملت عمل
أرجى عندي من أنّي لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلّ صليت بذلك الطهور ما كتب
لي أن أصلي "
ويقول -صلى ال عليه وسلم " :-إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجههُ خرج من وجهه
كل خطيئة نظر إليه بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ،فإذا غسل يديه خرج من يديه كل
خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة
مشتها رجله مع الماء أو مع آخر قطرة الماء حتى يخرج نقيّا من الذنوب "
ل وثيقا؛ ليعطينا ،ل ليأخذ منا؛ لن
إذن الحق سبحانه وتعالى يريد منا أن نتصل بمنهجه اتصا ً
الفرق بين عبودية البشر للبشر والعبودية الخالصة ل أن البشر يأخذ خير عبده ،ولكن عبوديتنا ل
تعطينا خيره من خزائن ل تنفد ،نأخذ منه كلما ازددنا له عبودية ،إذن الحق دائما يريد أن يصلنا
به.
لمْنُ { المن في الدنيا؛ والمن بمجموع ما كان في الدنيا مع المن في الخرة.
} ُأوْلَـا ِئكَ َلهُ ُم ا َ
ولقائل أن يقول :هناك اناس ل يسمون باسم ال ،ول يخطر ال على بالهم ،ويتحركون في طاقات
الرض ومادتها ،وينعمون بها ويسعدون ،وقد يسعدون بابتكارات سواهم.
ونقول :نعم هذا صحيح؛ لن فيه فرقا بين عطاء الفعل ،والبركة في عطاء الفعل .إذا زرع الكافر
فالرض تعطى له ،وإذا قام بأي عمل يأخذ نتيجته ،لكن ل يأخذ البركة في العطاء.
وما هي البركة في العطاء؟ البركة في العطاء أن يكون ما أخذته من هذا العطاء ل يعينك على
معصية ،بل دائما يعينك على طاعة .ونحن نرى كثيرا من الناس يصدق عليهم قوله سبحانه} :
أَذْهَبْ ُتمْ طَيّبَا ِتكُمْ فِي حَيَا ِتكُمُ الدّنْيَا وَاسْ َتمْ َتعْتُمْ ِبهَا { فإياك أن تغالط وتقول :إنهم ل يقولون } :بسم ال
الرّحْمانِ الرّحِيـمِ { ومع ذلك فهم قد أخذوا طيبات الحياة الدنيا ،إنك حين تنظر إليهم تجد كل
مرتقيات حضارتهم ،وطموحات بحوثهم واكتشافاتهم تتجه دائما إلى الشر ،لم يأت لهم ابتكار إل
استعملوه في الشر إلى أن يأذن ال فيشغلهم عن أشيائهم بما يصب عليهم من العذاب والنكبات
ولهم في الخرة العقاب على شركهم وكفرهم.
لمْنُ { أي إنّ هؤلء الذين لم يخلطوا إيمانهم بشرك لهم المن في جزيئات
إذن } ُأوْلَـا ِئكَ َلهُ ُم ا َ
أعمالهم والمن المتجمع من جزيئات أعمالهم يعطي لهم المن في الجنة } .وَهُمْ ّمهْتَدُونَ
{ والهداية هي الطريق الذي يوصل إلى الغاية .ول يقال إنك موفق في الحركة إل إذا أدت بك
هذه الحركة إلى غاية مرسومة في ذهنك من نجاح بعد المذاكرة والجتهاد .ول مخلوق ول
مصنوع يحدد غايته ،فاترك ل تحديد مهتمك ،فسبحانه هو الذي خلقك ،وفي عرف البشر ،ل
توجد صنعة تحدد مهمتها أبدا ،بل إن الصانع هو الذي يحدد لها الغاية منها؛ فالغاية توجد أولً قبل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصنعة ،وما دامت الغاية موجودة قبل الصنعة فمن الذي يشقى بالتجارب إذن؟.
في البتكارات العلمية المعملية المادية التي تنشأ من التفاعل مع المادة نجد أن الذي يشقى
بالتجربة أولً هو العالم ،وأنت ل تعلم التجربة إل بعد ما تظهر نتائجها الطيبة ،والمسائل النظرية
التي تتعب العالم يأتي التعب منها لنها ليست مربوطة أولً بالماديات المقننة وبمعرفة الغاية ،ول
بمعرفة الوسيلة لهذه الغاية .فمن المهتدي إذن؟
إن المهتدي هو من يعرف الغاية التي يسعى إليها ،والوسيلة التي تؤهله إلى هذه الغاية .وإذا حدث
له عطب في ملكات نفسه ،يستعين في إصلح العطب ويلجأ إلى من صنع هذه الملكات ،وهو ال
سبحانه ،كما يرد النسان اللة التي تتعطل لصانعها .ونجد كثيرا من الشعراء يسرحون في خيالهم
فيقول الواحد منهم:أل من يريني غايتي قبل مذهبي ومن أين للغايات بعد المذاهب؟ونقول له :من
خلقك أوضح لك الغاية.
حجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىا َق ْومِهِ نَ ْرفَعُ{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وَتِ ْلكَ ُ
()864 /
والحجة هي البرهان القائم لثبات القضية المطلوب إثباتها .وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد منا
حين نحاجج أن تكون لنا غاية في الحجاج ،ونحن نعلم أن الغاية في الحجاج إن تعدت موضوع
الحجاج نفيا أو إثباتا فهي تهريج ،وينحصر المر في أنك تريد النتصار على خصمك وأن يحاول
خصمك النتصار عليك ،لكن عليك إذا ما دخلت الحجاج أن تجعل الغاية الصلية هي الساس،
وكما يقولون تحديد وبيان محل النزاع؛ لن الحق ل بد أن يكون أعزّ منك ومن خصمك عندك،
ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى يوضح :إياكم أن تتناظروا في قضية تناظرا جماهيريا ،لماذا؟
لن الصوت الجماهيري يلتبس فيه الحق مع الباطل ،وال سبحانه وتعالى يريد من كل صوت أن
يكون محسوبا على صاحبه ،ومثال ذلك عندما يقوم تظاهر كبير ويهتف فيه بسقوط أحد ل يتعرف
أحد على من بدأ الهتاف.
والذي جعل العرب يخسرون أنهم حين استقبلوا الدعوة كانوا يعقدون اجتماعات جماهيرية ،ينقدون
فيها أقوال رسول ال فتاهت منهم القدرة على الحكم الموضوعي.
ظكُمْ ِبوَاحِ َدةٍ أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ
عُولذلك يقول ربناُ {:قلْ إِ ّنمَآ أَ ِ
مّن جِنّةٍ }[سبأ.]46 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي أن تجتمعوا وفي وجهتكم ال ،ومن عنده قوة فليناقش بالحجة أقوال رسول ال موضوعا،
وتاريخا ،ومنطقا .ول يمكن أن يجتمع اثنان ليبحثا مسألة وفي بالهما ال فقط -إل وينتهيان فيها
إلى رأي موحد .ولذلك جاء التفاوض السري في العصر الحديث مستمدا من تلك القاعدة اليمانية.
حكِيمٌ عَلِيمٌ } [النعام:
{ وَتِ ْلكَ حُجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىا َق ْومِهِ نَ ْرفَعُ دَرَجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَ ّبكَ َ
.]83
وأول قوم إبراهيم أبوه آزر ،إنه حاجّهم في الكواكب والقمر والشمس والتماثيل ،وبعد ذلك انتصر
بالحجة على كبيرهم وهو الملك أو السلطان ،وهو النمروذ حين أراد أن يناظره في قوة الحياء
والماتة.
ويريد الحق أن نتعلم من حكمة سيدنا إبراهيم ،إنك إذا رأيت خصمك يدخل فيما ل يمكن أن ينتهي
فيه الجدل فانقله إلى المستوى الذي ل يستطيع منه خلصا ول فكاكا ،فل يغلبك؛ فالملك النمروذ
قال له {:أَنَا أُحْيِـي وَُأمِيتُ }[البقرة.]258 :
وكان باستطاعة سيدنا إبراهيم أن يقول :أنت ل تميت بل تقتل ،والقتل غير الموت؛ لنك تنقض
البنية ،لكنه لم يرد أن يطيل الجدل ،وأراد أن يكون الجدل مقتضبا ،ويسقطه على الحجة ويلزمه
شمْسِ مِنَ ا ْل َمشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ
بها من أقصر طريق ،فقال ال {:قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
ا ْل َمغْ ِربِ }[البقرة.]258 :
فماذا كانت نتيجة الجدل؟ يقول ال سبحانه {:فَ ُب ِهتَ الّذِي كَفَرَ }[البقرة.]258 :
حجّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَىا َق ْومِهِ نَ ْرفَعُ دَرَجَاتٍ
وكل هذه حجج يوضحها قول ال سبحانه { :وَتِ ْلكَ ُ
حكِيمٌ عَلِيمٌ } [النعام]83 :
مّن نّشَآءُ إِنّ رَ ّبكَ َ
لقد أعطى ال سبحانه إبراهيم الحجة على قومه ،أي كانت له عليهم درجات وسمو وارتفاع؛ لن
إقامة الحجة على الغير انتصار ،والنتصار رفع لدرجة موضوعك ،ورفع أيضا لموضوع عملك.
وسبحانه ل يشاء إل عن حكمة ،ول يشاء إل عن علم؛ لنه إن أطلقنا المشيئة لواحد من البشر فقد
يفعل الفعل بدون حكمة وبدون علم ،أما الحق فينبئنا بأن مشيئته هي عن حكمة وعلم لصالح
الخلق؛ لن مشيئته مبنية ل على هوى ،ول على نفع من أحد ،فال سبحانه له كل صفات الكمال
والجلل والجمال قبل أن يخلق الخلق.
خلْق الخلق وإيمانهم ل يزيد في ملك ال ،وإن عصوا ل ينقص من ملك ال شيء ،ولكن
إن َ
الحكمة قد تفوت عن بعض الخلق فل يهتدون إليها ،وسبحانه حين يجري أمرا على خلقه ثم
يقبلونه وإن لم يعلموا علته يريهم جل وعل الحكمة في الفعل الذي كان غير مقبول لهم؛ لنه
سبحانه خلق الخلق ويعلم أزلً أن للخلق أهواء ومرادات ،ولو أعطى كل مخلوق مراده لعطاء
على حساب غيره ،والحق سبحانه عادل فل ينفع واحدا ويتعب الخر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق بحكمته يعلم ما يصلح أمر خلقه ،فل يستجيب لدعوة حمقاء من عبد ،فبسحانه يعلم أنه ليس
ع الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِا ْلخَيْرِ
في صالح العبد أن يلبي له هذا الطلب .ولذلك يقول الحق {:وَيَ ْد ُ
َوكَانَ الِنْسَانُ عَجُولً }[السراء.]11 :
إن العبد يقول :يا رب اصنع لي كذا ،يسّر لي هذا المر ،وهو خير في عرفه ،وقد يكون هو
الشر؛ لن النسان عجول .لذلك يقول سبحانه {:سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَ تَسْ َت ْعجِلُونِ }[النبياء.]37 :
إن الحق جل وعل يضبط مرادات الخلق؛ فالصالح يجريه عليهم.
حكِيمٌ عَلِيمٌ { وكلمة " رب " حينما ترد ل بد أن نفهم منها معنى
} نَ ْرفَعُ دَ َرجَاتٍ مّن نّشَآءُ إِنّ رَ ّبكَ َ
الخلق والتربية ،وساعة تأتي كلمة " اللوهية " فلنعلم أنها للتكليف؛ لن ال هو المعبود المطاع إن
أمر أو نهى ،ولكن الرب هو من خلق وربّى ،وتعهد ،وأعطاك مقومات حياتك .إذن عطاء
الربوبية شيء ،وعطاء اللوهية شيء آخر ،وعطاء الربوبية يأخذه المؤمن والكافر ،والطائع
والعاصي؛ لن ال هو الذي استدعاهم للوجود ،وجعل الكون مسخرا لهم ،لكن عطاء اللوهية
يتمثل في " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " ،وهذا يدخل في منطقة الختيار .فالذي يكفر بال
ويحسن الخذ بالسباب يأخذ نتائجها ،ومن يؤمن بال ول يحسن الخذ بالسباب ل يأخذ النتائج؛
لن الستنباط في الكون من عطاء الربوبية.
ق وَ َي ْعقُوبَ{ ...
ويقول الحقَ } :ووَهَبْنَا لَهُ إِسْحَا َ
()865 /
ن وَأَيّوبَ
سحَاقَ وَ َيعْقُوبَ كُلّا َهدَيْنَا وَنُوحًا َهدَيْنَا مِنْ قَ ْبلُ َومِنْ ذُرّيّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَ ْيمَا َ
َووَهَبْنَا لَهُ إِ ْ
ن َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ ()84
ف َومُوسَى وَهَارُو َ
وَيُوسُ َ
إننا نعرف أن إسحاق هو البن الثاني لسيدنا إبراهيم بعد إسماعيل ،ويعقوب ابن إسحاق ،وساعة
ترى الهِبَة افهم أنها ليست هي الحق ،فالهبة شيء ،و " الحق " شيء آخر .الهبة .إعطاء معطٍ لمن
ل يستحق؛ لنك حين تعطي إنسانا ما يستحقه فليس ذلك هبة بل حقا.
والحق سبحانه وتعالى يوضح :إياكم أن تعتقدوا أن أحدا من خلقي له حتى عندي إل ما أجعله أنا
حقا له ،ولكن كل شيء هِبة مني .والقمة الولى في الهبات والعطايا هي قمة السيادة الولى في
الكون للنسان ،ثم التكاثر من نوعية الذكر والنثى ،حيث الذرّية من البنين والبنات .يقول
ت وَالَرْضِ َيخْلُقُ مَا َيشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ
سمَاوَا ِ
سبحانهِ {:للّهِ مُ ْلكُ ال ّ
ال ّذكُورَ }[الشورى.]49 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهبة الولد ل تأتي من مجرد أنه خلق الرجل والمرأة ،وأنّ اللقاء بينهما يوجد الولد بل يقول
عقِيما }[الشورى.]50 :
ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ
ج ُهمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ
سبحانهَ {:أوْ يُ َزوّ ُ
فلو أن المسألة مجرد إجراء ميكانيكي لجاء الولد ،لكن المر ليس كذلك؛ فمن يفهم في الملكوت
تطمئن نفسه أن ذلك حاصل عن حكمة حكيم يعرف أنها هبة من ال ،حتى العقم هو هبة أيضا؛
فالذي يستقبله من ال على أنه هبة ويرضاه ،ولم ينظر إلى أبناء الغير بحقد أو بحسد سيجعل ال
كل من تراه أبناء لك بدون تعب في حمل أو ولدة ،وبدون عناية ورعاية منك طول عمرك .ومن
يرض بهبة ال من الناث سيجد أنهن رزق من ال ويبعث له من الذكور من يتزوج الناث
ويكونون أطوع له من أبنائه؛ لنه رضي .إذن ل بد أن تأخذ الهبة في العطاء ،والهبة في المنع.
والحق يوضح :أنا وهبت لبراهيم إسحاق ،ومن وراء إسحاق يعقوب ،والنسان منا يعرف أن
النسان بواقع أقضية الكون ميّت ل محالة ،وحين يكبر النسان يرغب في ولد يصل اسمه في
الحياة وكأنه ضمن ذلك ،فإن جاء حفيد يكون الجد قد ضمن نفسه جيلً آخر .ولكن لنعرف قول
الحق {:ا ْلمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ َأمَلً }
[الكهف.]46 :
وبقاء ال ّذكْرِ في الدنيا ل لزوم له إن كان ال يحط من قدر النسان في الخرة!!
ك وَلِيّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ َي ْعقُوبَ
ونلحظ أن الحق قال في موقع آخرَ {:ف َهبْ لِي مِن لّدُ ْن َ
جعَلْهُ َربّ َرضِيّا }[مريم.]6-5 :
وَا ْ
وامتن ال على إبراهيم ل بإسحاق فقط بل بيعقوب أيضا ،وفوق ذلك قال { :كُلّ َهدَيْنَا } أي أنهما
كانا من أهل الهداية { .وَنُوحا هَدَيْنَا مِن قَ ْبلُ } أي أن الهداية ل تبدأ بإسحاق ويعقوب ،بل بنوح
ن َوكَذَِلكَ نَجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ
ف َومُوسَىا وَهَارُو َ
س َ
ن وَأَيّوبَ وَيُو ُ
من قبلَ { :ومِن ذُرّيّتِهِ دَاوُو َد وَسُلَ ْيمَا َ
}.
ويتابع الحق { :وَ َزكَرِيّا وَيَحْيَىا وَعِيسَىا وَإِلْيَاسَ} ...
()866 /
س وَلُوطًا َوكُلّا
ل وَالْيَسَعَ وَيُونُ َ
سمَاعِي َ
وَ َزكَرِيّا وَ َيحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ ُكلّ مِنَ الصّالِحِينَ ( )85وَإِ ْ
خوَا ِنهِ ْم وَاجْتَبَيْنَا ُه ْم وَهَدَيْنَا ُهمْ إِلَى صِرَاطٍ ُمسْ َتقِيمٍ
َفضّلْنَا عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (َ )86ومِنْ آَبَا ِئ ِه ْم وَذُرّيّا ِتهِ ْم وَِإ ْ
()87
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولم يأت الحق بالثمانية عشر نبيا متتابعين بل قسمهم بحكمة ،فيقول:
س وَلُوطا َوكُلّ َفضّلْنَا عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ }
ل وَالْيَسَعَ وَيُونُ َ
سمَاعِي َ
{ وَإِ ْ
ول يقتصر المر على هؤلء بل يقول سبحانه:
خوَا ِنهِ ْم وَاجْتَبَيْنَا ُه ْم وَهَدَيْنَا ُهمْ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }
{ َومِنْ آبَا ِئ ِه ْم وَذُرّيّا ِتهِ ْم وَِإ ْ
وأنت إن نظرت إلى هؤلء الثمانية عشر نبيا المذكورين هنا ،ستجد أنهم من الخمسة والعشرين
رسولً الذين أمرنا باليمان بهم تفصيل .وقد جمعوا في قول الناظم:في تلك حجتنا منهم ثمانية من
بعد عشر ويبقى سبعة وهموإدريس هود شعيب صالح وكذا ذو الكفل آدم بالمختار وقد
ختمواوالحق سبحانه وتعالى لم يجعل من النبياء ملوكا إل اثنين :داود وسليمان حتى يعطينا فكرة
أن ال إذا أراد أن يقهر خلقا على شيء ل يقدر عليه أحد يبعث مَلِكا رسولً؛ لن المَلِك ل يقدر
عليه عبد لنّ القدرة معه ،والمجتمع آنذاك كان في حاجة إلى ملك يدير أمره ويضبط شأنه،
وسبحانه ل يريد اليمان بالقوة والخوف والرهبوت إنما يريده بالختيار ،ولذلك جعل أغلب
النبياء ليسوا ملوكا.
وفي الحديث " أفملكا نبيا يجعلك أو عبدا رسولً " فاختار أن يكون عبدا رسول؛ لن الملك يأتي
بسلطانه وبماله ،وقد يطغى.
وأراد الحق أن يكون سليمان وداود من النبياء وهما ملكان ،وتتمثل فيهما القدرة وسعة الملك
والسلطان .أمّا أيوب فقد أخذ زاوية أخرى من الزوايا وهي البتلء والصبر مع النبوة ،وكل نبي
فيه قدر مشترك من النبوة ،وفيه تميّز شخصي .وكذلك يوسف أخذ البتلء أولً ،ثم أخذ الملك
والسلطان في النهاية .وموسى وهارون أخذ شهرة التْبَاع ،ونكاد ل نعرف من الديان إل
اليهودية والنصرانية ،أما زكريا ويحيى وعيسى وإلياس فقد أخذوا ملكة الزهد.
وأما إسماعيل واليسع ويونس ولوطا فقد أخذوا ما زخرت به حياتهم من عظيم الفعال وكريم
الخصال والسلوك القويم والقدوة الطيبة وبقي لهم الذكر الحسن.
إذن فهناك زوايا متعددة للنبياء.
وعندما وقف العلماء عند " عيسى " هل يدخل في ذريتهم ،وجدوا من يستنبط ويقول :من ذريتهم
من ناحية الم.وإنما أمهات القوم أوعية مستحدثات وللحساب آباء.والعنصر البشري في عيسى
هو الم .وبمثل هذا احتج أبو جعفر محمد الباقر أمام الحجاج حين قال له :أنتم تدعون أنكم من
آل رسول ال ومن نسله ،مع أن رسول ال ليس له ذرية!
قال له المام الباقر رضي ال عنه :كأنك لم تقرأ القرآن.
قال له :وأي شيء في القرآن؟
قال اقرأ " :ومن ذريته " .....إلى أن تقرأ " :وعيسى " فعيسى من ذرية نوح ،من أب أَم من أُمّ؟.
قال له :من أُمّ .فقال له :نحن كذلك من ذرية محمد صلى ال عليه وسلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحق من بعد ذلك { :ذاِلكَ هُدَى اللّهِ} ...
()867 /
ذَِلكَ ُهدَى اللّهِ َيهْدِي بِهِ مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وََلوْ َأشْ َركُوا لَحَ ِبطَ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()88
" ذلك " إشارة إلى شيء تقدم ،والمقصود به الهدى الذي هدينا به القوم ،وهو هدى ال .ونجد كلمة
" هدى " تدل على الغاية المرسوم لها طريق قصير يوصل إليها ،وربنا هو الذي خلق ،وهو الذي
يضع الغاية ،ويضع ويوضح ويبيّن الطريق إلى الغاية ،وحين يضاف الهدى إلى ال فهو دللة
على المنبع والمصدر أي هدى من ال .وكلمة " هدى " مرة تضاف إلى الواهب وهو الحق،
وتضاف إلى النبياء .يقول الحق { :فَ ِبهُدَا ُهمُ اقْتَ ِدهْ }.
وذلك إشارة إلى المنهج الذي أنزله ال على الرسل.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يهدي الناس جميعا بدللتهم على الخير ،والذي يقبل على هذه الدللة
احتراما ليمانه يعينه ال ،ويزيده هدى ،وسبحانه يريد أن يثبت للنسان أنه جعله مختارا ،فإن
اخترت أي شيء فأنت لم تختره غصبا عن ربنا ،إنما اخترته بمن خلقك مختارا .ول يوجد فعل
في الكون يحدث على غير مراد ال ،ولو أراد ال الناس جميعا مهديين لما استطاع واحد أن
يعصي ،إنما أرادهم مختارين ،وكل فعل يفعله أي واحد منهم ،فهو مراد من ال لكنّه قد يكون
مرادًا غير محبوب ،ولذلك قال العلماء :إن هناك مرادا كونا ،ومرادا شرعا .وما دام الشيء في
ملك ال فهو مراد ال ،والمراد الشرعي هو المأمور به ،وما يختلف عن ذلك فهو مراد كوني،
جاء من باب أنه خلقك مختارا.
ومثال ذلك -ول المثل العلى -أنت تعطي ابنك جنيها ،والجنية قوة شرائية .فأخذ الجنيه ونزل
ل أو بعضا
السوق وهو حر ليتصرف به ،وتقول له :اسمع .إن اشتريت به مصحفا أو كتابا جمي ً
من الحلوى وأكلتها أنت وإخوتك فسأكون مسرورا منك وسأكافئك مكافأة طيبة ،وإن اشتريت "
كوتشينة " ،أو صرفت الجنيه فيما ل أرضى عنه فسوف أغضب منك ولن أعطيك نقودا.
أنت بهذا القول أعطيت ابنك الحرية .وساعة ينزل السوق ويشتري " كوتشينة " فهو لم يفعل ذلك
قهرا عنك لنك أنت الذي أعطيته الختيار ،لكنك قلت له :إنك تطلب منه أن يحسن الختيار،
وسبحانه وتعالى قد جعل النسان مختارا ،فإن اختار الهداية أجزل له العطاء ،وإن اختار الضلل
عاقبه عليه.
وبالنسبة للنبياء جاءت لهم الهداية من ال دللة لهم وأقبلوا على مرادات الحق فأعطاهم هداية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أخرى؛ وذلك بأن يعشّقهم في العمل ويحبب إليهم فعل الخير ،وبعد ذلك يوضح سبحانه :إياكم أن
تظنوا أن هناك من يفلت مني؛ لنهم لو أشركوا لحبطت أعمالهم.
إذن فالحق لم يخلق الخلق مرغمين على عمل الطاعة بل خلقهم مختارين في التكاليف ،حتى ينالوا
لذة اختيار منهج ال ولو أشركوا لحبط عملهم و " لو " حرف امتناع لمتناع ،وهذا دليل على أنهم
لم يشركوا ولذلك لم يحبط عملهم ،و " الحبط " هو البطال للعمل.
ويقول الحق بعد ذلكُ { :أوْلَـا ِئكَ الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ} ...
()868 /
حكْ َم وَالنّ ُب ّوةَ فَإِنْ َي ْكفُرْ ِبهَا َهؤُلَاءِ َفقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َقوْمًا لَ ْيسُوا ِبهَا
أُولَ ِئكَ الّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْل ُ
ِبكَافِرِينَ ()89
والكتاب هو المنهج ،والحكم وهو ما أعطاه ال لبعضهم من السيطرة والغلبة ،والنبوة؛ أي أنّه
جعلهم نماذج سلوكية للبشر.
{ فَإِن َي ْكفُرْ ِبهَا هَـاؤُلءِ َفقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َقوْما لّيْسُواْ ِبهَا ِبكَافِرِينَ } وسبحانه وتعالى أعطانا نماذج
من المهديين في الرسل ،والنبياء؛ وفيمن اجتباهم من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم؛ فهؤلء القوم
الذي جئت لتأخذ بيدهم من الظلمات إلى النور ،فإن امتنع بعض الناس عن الهداية فسيوكل ال
قوما آخرين ليحملوا المناهج ليكونوا عنصر الخير الباقي إلى أن تقوم الساعة.
ومَنْ القوم؟ .قال بعضهم المشار إليه هم قريش ،والمقصود من قولهَ { :فقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َقوْما لّ ْيسُواْ
ِبهَا ِبكَافِرِينَ } هم أهل المدينة أي النصار .أو المقصود من النص الكريم كل ممتنع وكافر وكذلك
كل مقبل على ال وطائع له أي إن يكفر بها طائفة يوكل ال من يقوم بها ويدافع عنها ويحميها؛
لن ال ل ينزل قضية الخير في الخلق وبعد ذلك يطمسها بل ل بد أن يبقيها كحجة على الخلق.
{ فَإِن َي ْكفُرْ ِبهَا هَـاؤُلءِ َفقَ ْد َوكّلْنَا ِبهَا َقوْما } وهذا يدل على أن أهل الخير دائما وكلء عن ال؛
لن الذي يمد يده بالمعونة لضعيف من خلق ال؛ هذا الضعيف قد استدعاه ال إلى الوجود ،ومن
يمد يده بالمعونة فقد جعل من نفسه وكيلً لربنا؛ لنه يقوم بالمطلوب له -سبحانه -وجعل من
نفسه سببا له؛ لن ال رب الجميع ،ومربي الجميع ،وراعي الجميع ،ورزّاق الجميع ،وليثق من
يقوم بالخير ويجعل من نفسه وكيلً عن ال في أن يشيع الخير في خلق ال ،ليثق أن ال سيكرمه
أضعاف أضعاف ما أعطى.
ويقول الحق من بعد ذلكُ { :أوْلَـا ِئكَ الّذِينَ هَدَى} ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()869 /
أُولَ ِئكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَ ِبهُدَا ُهمُ اقْتَ ِدهِ ُقلْ لَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ أَجْرًا إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرَى لِ ْلعَاَلمِينَ ()90
و " هدى ال " هنا أيضا هو هداية دللة ،وهداية معونة؛ بدليل أنه قال { :فَ ِب ُهدَاهُمُ اقْ َت ِدهْ }
والخطاب لسيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،لن " أولء " أي المشار إليهم هم المتقدمون ،و
" الكاف " خطاب للنبي صلى ال عليه وسلم.
{ ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ هَدَى اللّهُ فَ ِبهُدَاهُمُ اقْ َت ِدهْ } وحين نقرأ هذا القول الكريم نقول " اقتد " ول نقول "
اقتده " ول تنطق الهاء إل في الوقف ويسمونها " هاء السّكت " ،لكن إذا جاءت في الوصل ل
ينطق بها ،وكل واحد من هؤلء الرسل السابق ِذكْرهم له خصلة تميز بها ،وفيه قدر مشترك بين
الجميع وهو إخلص العبودية ل واليمان بال وأنّه واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله ،وكلهم
مشتركون في هذه الصول ،وتميّز كل منهم بخصلة في الخير؛ فسيدنا سليمان وداود أخذا القدرة
والسلطان والملك ،وأيوب أخذ القدرة في الصبر على البلء ،ويوسف أخذ القدرة في الصبر
والتفوق في الحُكم ،وسيدنا يونس أخذ القدرة كضارع إلى ال وهو في بطن الحوت ،وإسماعيل
كان صادق الوعد.
والمطلوب إذن من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يكون مُقتديا بهم جميعا ،أي أن يكون
كسليمان وكداود وكإسحاق وكيعقوب وكأيوب وكيوسف وكيونس .وأن يأخذ خصلة التميز من كل
واحد فيهم وأن يشترك معهم في القضية العامة وهي التوحيد ل .وبذلك يجتمع كل التميز الذي في
جميع النبياء في سيدنا محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وإذا ُأمِرَ رسول ال صلى ال عليه وسلم أمرا من ربه فل بد أن نعتقد أنه صلى ال عليه وسلم قد
نفذ المر ،وما دام أنه صلى ال عليه وسلم قد اجتمعت فيه مزايا النبياء فحق له أن يكون خاتم
النبيين والمرسلين.
{ قُل لّ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ َأجْرا إِنْ ُهوَ ِإلّ ِذكْرَىا لِ ْلعَاَلمِينَ } [النعام.]90 :
طلَب الجر؟ أنت ل تطلب أجرا ممن فعلت أمامه أو له عملً إل إذا كان العمل الذي فعلته
ولماذا يُ ْ
يعطيه منفعة تستحق أن تُعطي وتُمنح عليه أجرا ،فكأن ما يؤديه صلى ال عليه وسلم إلى المة
كان يستحق عليه أجرا ،لكنه صلى ال عليه وسلم يبلغ عن ربّه :قل لهم :إنك نزلت عن هذا
الجر.
وقارنوا بين مَن يقدم لي واحد منكم منفعة قد ل تأخذ من وقته نصف ساعة في جزئية من
جزئيات الحياة ،ومن يقوم بعمل ينفعكم في مدًى يتعدى الدنيا إلى أن يصل إلى الخرة ثم يقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنا ل أريد منكم أجرا.
وعدم طلب الجر حصل من كل الرسل إل رسولين اثنين؛ فلم يرد في القرآن أن قالها ،وإذا ما
جئت لسورة الشعراء مثلً تجد أن الحق تكلم عن موسى ،وتكلم عن إبراهيم ،ثم تكلم بعد ذلك عن
بقية الرسل ولم تأت كلمة الجر في قصة إبراهيم وكذلك في قصة موسى عليهما السلم.
لكن جاء ذكر الجر في غيرهما ،يقول سبحانهِ {:إذْ قَالَ َلهُمْ َأخُوهُمْ نُوحٌ َألَ تَ ّتقُونَ * إِنّي َلكُمْ
رَسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ اللّ َه وَأَطِيعُونِ * َومَآ أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ
ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء.]109-106 :
شعَ ْيبٌ َألَ تَ ّتقُونَ * إِنّي َلكُمْ َرسُولٌ َأمِينٌ * فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأطِيعُونِ * َومَآ
وقال جل شأنه {:إِذْ قَالَ َلهُمْ ُ
أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ عَلَىا َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء.]180-177 :
وعندما تستقرئ سورة الشعراء تجد النبياء كلهم ،وتجد مع قول كل منهم } َومَآ أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ مِنْ
أَجْرٍ { ،إل سيدنا موسى ،وسيدنا إبراهيم .لماذا؟ ونقول :إن من ينزل عن الجر ،هو من يقدم
لهم منفعة.
وفي موسى عليه السلم نجد أنّه قد وجهت وقدمت وسيقت له المنفعة من فرعون الذي قام
بتربيته ،كأنه قد أخذ الجر مقدما ،لذلك لم يقل موسى لفرعون " ل أسألك أجرا؛ لن القرآن جاء
بقول فرعون {:قَالَ أَلَمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا }[الشعراء.]18 :
وكذلك لم تأت مسألة الجر في قصة سيدنا إبراهيم لنه خاطب أباه آزر ،ولم يكن من المقبول أن
يقول له " :ل أسألك أجرا " .وهكذا انطمست مسألة الجر في قصة سيدنا إبراهيم وقصة سيدنا
موسى ،وبقيت فيما عداهما ،مما يدل على أن القرآن موضوع بأدق تفاصيله بحكمة؛ لن من يتكلم
هو ربنا .ويمتاز سيدنا رسول ال أيضا ويقول " :ل أسألكم أجرا " إل آية واحدة استثنى فيها هذا
النفي {:قُل لّ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ أَجْرا ِإلّ ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَىا }[الشورى.]23 :
والمودة هي فعل الخير الناشئ عن محبة قلب ،أما فعل الخير الذي ل ينبع من محبة في القلب
فهو فعل معروف؛ لن المعروف يضعه النسان مع من يُحب ومن ل يُحب .ولذلك قال ربنا{:
ط ْع ُهمَا َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا }
وَإِن جَا َهدَاكَ عَلَىا أَن ُتشْ ِركَ بِي مَا لَ ْيسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ فَلَ تُ ِ
[لقمان.]15 :
المعروف -إذن -هو عمل امتداده خير سطحي .والرسول حين يطلب المودة في القربى فهل
هي قُرباه صلى ال عليه وسلم أو المودة في قُرباكم؟ هي القُربى على إطلقها ،وهي القُربى أيضا
للمتكلم وهو الرسول الذي يبلغ عن ال.
وإن صُنّفت على أنها " إل المودة في القُربى " أي القربى للمتكلم وهو سيدنا رسول ال لما
استطعنا أن نُوفيه أجرا .أما حين يتحمل كل واحد منا مجالً من الخير والمعروف في قومه ،هنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تتلحم دوائر الخير في الناس جميعا.
ويذيل الحق الية بقوله } :إِنْ ُهوَ ِإلّ ِذكْرَىا لِ ْلعَاَلمِينَ { وهي ما تعطينا اجتماع الدوائر ويصير
كل واحد ُمهْتَما بأقاربه ويتنازع الناس ويتنافسون في مودة القُربى ،وكل منهم يحرص على أن
يوسع دائرة القربى .هنا يعم الخير ويدوم الود ويقول الحق بعد ذلكَ } :ومَا قَدَرُواْ اللّهَ{ ...
()870 /
الكلم عن الذين رفضوا وتأبوا عن اليمان بال .فيأتي المر للرسول صلى ال عليه وسلم بأن
يوضح لهم بأنهم لم يعطوا ال حق قدره ،ومعنى القدْر معرفة المقدار ،وحق قدره سبحانه ل نقدر
عليه نحن البشر ،لذلك نقدره على قدر طاقتنا أو على قدر ما طلب منا ،وكما قال رسول ال" :
سبحانك ل نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك "
والنسان منا حين يثني على واحد فهذا دليل أنه قد قيّم قدره بقيمة الثناء ،وحين نقيّم قدر ال فعلينا
أن نعرف أن صفات الكمال كلها فيه وهي ل تتناهى ول يمكن أن تحصى .ومن رحمة الحق
سبحانه وتعالى أنه تحمّل عنا صيغة الثناء عليه :كي ل يوقعنا في حرج ،فليس لبشر من قُدرة أن
يحيط بجمال ال أو بجلله حتى يثني عليه بما يستحقه ،وإن أحاط عبد بذلك -ولن يحيط -فمن
أين له العبارة التي تؤدي هذا الثناء؟ ول يوجد بليغ أو أديب يستطيع أن ينمق العبارات التي تكفي
لتقدير هذا الثناء على ال ،فأوضح لنا الحق من خلل رسوله :أنا حملت عنكم هذه المسألة حتى
تكونوا كلكم سواسية ،قال رسول ال:
" سبحانك ل نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك "
وفي كلمة " الحمد ل " وحدها يتساوى الناس جميعا .ومن رحمته سبحانه أن سوّى بين الناس في
معرفة صيغة الثناء عليه .ويأتي الحق هنا بالزاوية التي نفى فيها أنهم ما قدروا ال حق قدره.
شيْءٍ }
لماذا ياربّ لم يقدروك حق قدرك؟ وتأتي الجابةِ { :إذْ قَالُواْ مَآ أَن َزلَ اللّهُ عَلَىا بَشَرٍ مّن َ
[النعام.]91 :
أي أنهم أنكروا أن يكون ال قد اختار من بعض خلقه مَن يجعلهم أهلً لتلقّي منهجه لبلغه إلى
خلقه .ويأتي الرد من الحق لرسوله ردا عليهمُ { :قلْ مَنْ أَن َزلَ ا ْلكِتَابَ الّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىا نُورا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَهُدًى لّلنّاسِ } [النعام.]91 :
إذن ل بد أن يكون القائلون هذا يؤمنون بأن موسى نُزّل عليه كتاب لتكون الحُجّة في موضعها.
وكُفار مكة كانوا غير مؤمنين بأي رسول ،لكنهم يعلمون أن هناك من هم أهل كتاب ،بدليل أنهم
قالواَ {:لوْ أَنّآ أُن ِزلَ عَلَيْنَا ا ْلكِتَابُ َلكُنّآ َأهْدَىا مِ ْنهُمْ }[النعام.]157 :
ونقول :لو دققت النظر في السورة فقد ينطبق المر على واحد مخصوص من الذين غلبتهم
حجّة " .وفي تاريخ السيرة نجد واحدا من الحبار كان دائب الخوض في السلم ،وكان اسمه "
ال ُ
مالك بن الصيف " فلقيه رسول ال صلى ال عليه وسلم .والحَبْر هو عالم اليهود والمفترض فيه
أن يكون من الزهاد فيهم منقطعا للعلم إل أنه كان سمينا على الرغم من أن من عادة المنقطعين
للعبادة وإلى العلم أنهم ل يأخذون من الزاد إل ما يقيت ،ويقُيم الود لنه قد جاء في التوراة " :إن
ال يبغض الحبْر السّمين ".
فلما علم رسول ال صلى ال عليه وسلم أن مالك بن الصيف -وهو من أحبار اليهود -يخوض
كثيرا في السلم قال له :أفي توراتكم " :إن ال يبغض الحَبْر السّمين " فبهت الرجل ،وقال " :ما
أنزل ال على بشر من شيء "
يعني ما أنزل ال على بشر من شيء من الذي أنت تقوله ،وهكذا نعلم أن مثل هذا القول قد يأتي
من أهل كتاب ،وحين قال مالك هذه القولة قام عليه رجال من اليهود وقالوا له :كيف تقول " :ما
أنزل ال على بشرٍ من شيء " فقال لهم :أغضبني محمد ،فرددت على الغضب بباطل.
وهنا قال من سمعه من اليهود :إذن أنت ل تصلح أن تكون حبْرا لنك فضحتنا .وعزلوه ،وجاءوا
بكعب بن الشرف وولّوه مكانه.
خفُونَ
جعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُو َنهَا وَتُ ْ
} ُقلْ مَنْ أَن َزلَ ا ْلكِتَابَ الّذِي جَآءَ ِبهِ مُوسَىا نُورا وَهُدًى لّلنّاسِ َت ْ
ضهِمْ يَ ْلعَبُونَ { [النعام.]91 :
خ ْو ِ
كَثِيرا وَعُّلمْتُمْ مّا لَمْ َتعَْلمُواْ أَن ُت ْم َولَ آبَا ُؤكُمْ ُقلِ اللّهُ ُثمّ ذَ ْرهُمْ فِي َ
الكتاب إذن هنا هو الكتاب الذي أنزله ال على موسى وهو التوراة وقد جعلوه قراطيس ،أو جعلوه
أوراقا منفصلة يظهرون منها ما يُريدون ،ويخفون منها ما ل يُريدون مثلما فعلوا في مسألة الرّجم
كعقاب للزّنا .إذن فقد سبق لهم كتمان ما أنزل ال عليهم ،وبيّن الحق ذلك في آيات متعددة {:فَنَسُواْ
حظّا ّممّا ُذكِرُواْ بِهِ }[المائدة]14 :
َ
والذي لم ينسوه كَتَموا بعضه وأظهروا بعضه ،والذي لم يكتموه حرّفوا ولووا به ألسنتهم ،إذن
فهناك نسيان ،وكتمان ،وتحريف .وليتهم اقتصروا على هذا ووقفوا عنده بل جاءوا بأشياء من
عندهم وقالوا هي من عند الَ {:فوَيْلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَ ْيدِيهِمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ
لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً }[البقرة]79 :
ضهِمْ يَ ْلعَبُونَ {
خوْ ِ
ويتابع الحق سبحانه } :وَعُّلمْتُمْ مّا َلمْ َتعَْلمُواْ أَنتُ ْم َولَ آبَا ُؤكُمْ ُقلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[النعام.]91 :
فإن كلم الكلم في كُفار مكة فقد جاءهم القرآن بما لم يعلموا ل هم ول آبائهم؛ لن السلم جاء
على فترة من الرسل .وإن كان في أهل الكتاب فهو قول صدق؛ لنهم لما كتموا أشياء فضح
القرآن ما كتموه وما حرفوه .وجاء القرآن فعدل لهم ،فكأنهم عُلّموا الحق ،لينسخوا به الباطل الذي
غيّروه وحرفوه ،وقوله الحقُ } :قلِ اللّهُ { أي أن الذي أنزل الكتاب هو ال.
وساعة يأتي الحق سبحانه وتعالى بصيغة الستفهام نعلم أن الستفهام الحقيقي بالنسبة ل مُحَال،
لنه يعلم كل شيء ،وإنما يجيء باستفهام يقال له " :الستفهام النكاري " أو " الستفهام التقريري
" وهو يأتي بهذه الصيغة لنه يريد جوابا فيه القرار من المعاندين ،فإن لم يقولوا واحتاروا أو
خ ْوضِهِمْ يَ ْلعَبُونَ { [النعام.]91 :
خجلوا أن يقولوا فقل أنت لهم يا محمدُ } :قلِ اللّهُ ثُمّ ذَرْهُمْ فِي َ
و " الخوض " هو الدخول في الماء الكثير ،الذي ل تستبين العين فيه موضع القدم ،وربما نزل في
هوّة ،ثم استعمل واستعير للخوض في الباطل.
ضهِمْ يَ ْلعَبُونَ { أي أن هذا لعب منهم ولن يستطيع
خ ْو ِ
والحق سبحانه وتعالى يقول } :ثُمّ ذَرْ ُهمْ فِي َ
الصمود أمام الدعوة ،فالدعوة سائرة في طريقها ،ولن يتمكنوا منها أبدا ،فكل الذي يصنعونه هو
خوض في باطل ولعب ل جدوى منه ول صلة له بالجد .ولكن هل معنى هذا أن يتركهم محمد؟
ل؛ لنه حين يجد آذانا منهم ينبههم ويذكّرهم ،ثم بعد أن ينفتح المر للسلم ،فالذي يقيم في
جزيرة العرب ل يقبل منه إل السلم أو السيف؛ لن المعجزة جاءت مباشرة بقرآن يعلم الكل
إعجازه ،وسبحانه قد أنزل التوراة من قبل وأنزل القرآن مباركا ،فالحق يقول بعد ذلك } :وَهَـاذَا
كِتَابٌ أَن َزلْنَاهُ{ ...
()871 /
وكلمة " أنزلنا " الصل فيها نون وزاي ولم ،وتستعمل بالنسبة للقرآن استعمالت متعددة؛ فمرة
يقول سبحانه {:إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ }[القدر.]1 :
ومرة يقول عز وجل {:وَنَزّلْنَاهُ تَنْزِيلً }[السراء.]106 :
ومرة يسند النزول للقرآن {:وَبِا ْلحَقّ أَنْ َزلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَ َزلَ }[السراء.]105 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمِينُ }[الشعراء.]193 :
حاَ
ومرة يسند إلى من جاء به {:نَ َزلَ بِهِ الرّو ُ
هذه إذن تعابير متعددة ،وما دواعي هذا الشتقاق ونحن نعلم أن القرآن لم ينزل جملة واحدة على
رسول ال صلى ال عليه وسلم وإنما نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا من اللوح المحفوظ
ليباشر القرآن مهمته في الوجود الجديد ،وكان ينزل كل نجم من النجوم حسب الحداث .و " أنزل
" هنا للتعدية أي نقل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ليباشر مهمته ،ولذلك يقول سبحانه { :إِنّا
أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ }
ونعلم أن القرآن نزل في ليلة القدر وفي غير ليلة القدر ،ولكنه نزل في ليلة القدر جميعه إلى
سماء الدنيا ،ثم نزل منجما ومفصّل في بقية أيام الثلث والعشرين سنة التي عاشها صلى ال عليه
وسلم بعد نزول الوحي ،فإذا ما أراد أنه أنزله من اللوح المحفوظ يأتي بـ " همزة التعدية " وإذا
أراد النزول والموالة يقول " :نزّل " لن فيها التتابع ،وإذا نسبة لمن نزل به يأتي بـ " نَزَل " لن
القرآن لم ينزل وحده بل نَزَل به الروح المين ،إذن فكلها مُلتقية في أن القرآن نَزَل أو أنزِل ،أو
نُزّل .وكلمة " نَزَل " تعطينا لمحة ،وهو أنه جاء من أعلى ،ويستقبله الدنى .وساعة يطلب الحق
منا أن ننصت لنزال حكم يقول لنا عز وجلُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ عَلَ ْيكُمْ }[النعام:
.]151
ومعنى " تَعاَلوّا " أي ارتفعوا؛ لننا نعيش على الرض ،وإياكم أن تشرّع الرض لكم؛ لن تشريع
الرض إذا لم يكن في ضوء منهج ال فهو حضيض .وال يريد تشريعا عاليا ،.ول بد لكم من أن
تتلقوا من السماء أحكامكم؛ حتى ل تتيهوا ول تضلوا في باطل تشريعات ل تدور في إطار منهج
ال.
والحق يقول هنا { :وَهَـاذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَا َركٌ } وهو قول صادق يصدق على القرآن فقط برغم
أن كل الكتب السماوية السابقة كانت كتب منهج ،وكانت المعجزة منفصلة عن المنهج؛ فمعجزة
موسى عليه السلم -كما نعرف -هي العصا ،ومنهجه التوراة ،وعيسى عليه السلم معجزته
إبراء الكمه والبرص وإحياء الموتى بإذن ال ومنهجه النجيل .لكن رسول ال صلى ال عليه
وسلم تميّز بأن معجزته عين منهجه ،لن كل دين من الديان السابقة كان لزمن محدود ،في مكان
محدود .وجاء صلى ال عليه وسلم بالدين الجامع المانع ،لذلك جاءت المعجزة هي المنهج ،فلو أن
معجزته صلى ال عليه وسلم كانت من جنس معجزات النبياء السابقين إل لن القرآن قالها
وصارت خبرا ،وكل منها تليق بالزمن المحدود والمكان المحدود.
لكن السلم جاء ليعم كل الزمنة وكل المكنة ،ولذلك لزم أن تكون المعجزة مستصحبة للمنهج؛
حتى يستطيع من يأتي بعد عصر النبوة إلى قيام الساعة أن يقول :مُحمد رسول ال وتلك معجزته.
والقرآن مُبارك ،ونحن في أعرافنا حين نتكلم بالعامية نأتي بالكلمة التي هي من نفْح ونضح
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الستعمالت الفصيحة التي سمعناها ،فنجد من يقول :وال هذا الكل فيه بركة؛ فهو مصنوع
لثنين وأكل منه أربعة وفاض وزاد " .إذن " ،البركة " أن يعطي الشيء أكبر من حجمه المنظور.
وبركة القرآن غالبة ومهيمنة ،ولو قاس كل إنسان حجم القرآن بحجم الكتب الخرى لوجد حجم
القرآن أقل ،ومع ذلك فيه من الخير والبر والبركات والتشريعات والمعجزات والسرار ما تضيق
به الكتب ،ونجد من يؤلف ويفسر في أجزاء متعددة ،ومع ذلك ما استطاع واحد أن يصل إلى
حقيقة المراد من ال؛ لن القرآن لو جاء وأفرغ عطاءه في القرن الذي عاش فيه الرسول فقل لي
بال :كيف تستقبله القرون الخرى؟! إنه يكون استقبال خاليا من العناية به لنه سيكون كلما
مكررا.
إذن فقد بيّن فيه كل شيء ومنه أخذ كل إنسان وزمان قدر ذهنه ،ولو أن القرآن يراد تفسيره لما
فسّره أحد غير من انفعل له نزولً عليه وهو سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أيستطيع واحد
بعد ذلك أن يقول شيئا في التفسير؟! إذن لو فسره الرسول صلى ال عليه وسلم لجمّده لنه ل
يجرؤ أحد أن يأتي بتفسير بعد الرسول.
وقد علم الرسول صلى ال عليه وسلم أن عطاءات القرآن ل تتناهى ،لذلك لم يفسّره .بل أوضح
بما تطيقه العقول المعاصرة حتى ل ينصرفوا عنه .ولو كان القرآن قال :إن الرض كرة وتدور
حول الشمس ،أكان يصدقه أحد؟ إن هناك حتى الن من ينكر ذلك .ونجد القرآن يشير ويلمح إليها
إلماحا خفيفا إلى أن تتسع العقول لها .فيقول الحقُ {:ي َكوّرُ اللّيْـلَ عَلَى ال ّنهَـا ِر وَ ُي َكوّرُ النّـهَارَ
عَلَى اللّ ْيلِ }[الزمر.]5 :
وما دام الليل يأتي وراء النهار ،والنهار يأتي وراء الليل في شبه كرة؛ فالذي يأتي عليه الليل
والنهار شكل الكرة .فكأن كلً من الليل والنهار دائر وراء الخر حول كرة ،إذن فالحق يعطي
اللمحة بميزان حتى تتسع العقول للفهم .ويقول القرآن {:قُل للّهِ ا ْلمَشْرِقُ وَا ْل َمغْرِبُ }[البقرة.]142 :
وهذا قول واضح؛ لن كل واحد منا يعرف المشرق والمغرب .لكن حين يقول الحقَ {:ربّ
ن وَ َربّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ }[الرحمن.]17 :
ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ
أكان يفهمها المعاصر لرسول ال صلى ال عليه وسلم؟ نعم ،لنه ساعة ما يقول :إن الشمس
أشرقت من المكان الفلني ،وغابت عن مكان آخر ،فساعة شروقها عندك تغرب عندي ،وساعة
تغرب عندك تشرق عندي ،وهكذا يصير كل مشرق معه مغرب ،إذن فقد صدق قول ال } َربّ
ن وَ َربّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ {.
ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ
ونعلم أن الشمس لها مشرق كل يوم ،ومن زار في الصعيد المعبد الذي توجد به 365طاقة -
فتحة --وتطلع الشمس في كل يوم من طاقة معينة ول تطلع من الطاقات الخرى يتأكد من أن
الشمس لها في كل يوم مشرق .إذن هناك مشارق ومغارب ،وصدق ال القائل :رب المشارق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمغارب.
إن القرآن يخاطبنا بأسلوب يحتمله العقل المعاصر ،وإذا ما جدّ جديد نجد المر مكنوزا في
القرآن ،ونجد تأويل جديدا ل ينسخ التأويل الخر ولكنه يرتقي به.
إذن فرسول ال صلى ال عليه وسلم لم يشأ أن يفسر القرآن التفسير الكامل؛ لنه كان ل بد أن
يفسّره بما تطيقه العقول المعاصرة له ،وإن فسّره بما تطيقه العقول المعاصرة له فمعنى ذلك أنه
لن يعطي العقول التي تأتي بعد غذاء من القرآن؛ لذلك ترك صلى ال عليه وسلم القرآن دون
تفسير إل في النزر اليسير .وتجد ذلك في آيات الكون ،أما في الحكام فالمر محدد.
لكن في الشياء التي يتجدد فيها العلم فقد تركها .ولذلك قال النبي عليه الصلة والسلم عن
القرآن " :ل تنقضي عجائبه " وكأنه يلفتنا إلى أن عجائبه ل تنقضي ول تنتهي ،وكل يوم يعطي
عجائب جديدة .إذن فالقرآن مُبارك بحكم ما هو مكنوز فيه إلى قيام الساعة .وأنت تلتفت إلى
الناس فتجدهم يتعبون في اكتشاف أسرار الكون ،وتجد القرآن قد مسّ ما يبحثون عنه مسّا خفيفا.
} وَهَـاذَا كِتَابٌ أَن َزلْنَاهُ مُبَا َركٌ ّمصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَ ْيهِ { [النعام.]92 :
وساعة تقول " :بين يدي الشيء " أي الشيء الذي يسبق ،والكتب السابقة هي التي نزلت بين يدي
القرآن أي قبله ،والمقصود بها الكتب المعروفة المشهورة وهي التوراة والنجيل إذ هما الكتابان
الباقيان إلى الن.
والقرآن يصدق الذي بين يديه ول يعني ذلك تصديق المحرّف بل تصديق " الصيل " .ولذلك نجد
عبد ال بن سلم وغيره حينما جاءوا للسلم اعترفوا بذلك ،ويقول عبد ال بن سلم لرسول ال
صلى ال عليه وسلم :انشرح صدري للسلم ،ولكني أعلم أن اليهود قوم بهت -أي أنهم
مكابرون -فأنا أريد أن تسألهم عني قبل أن أسلم ،فقال رسول ال لهم :ما تقولون في عبد ال بن
سَلَم؟ قالوا :حِبْرنا وابن حِبْرنا وشيخنا ورئيسنا ...إلخ.
فقال الرجل :أشهد أن ل إله إل ال وأن مُحمدا رسول ال .هنا بدأوا في كيل السباب لسيدنا عبدال
بن سَلَم فقال :ألم أقل لك يا رسول ال إنهم قوم بهت؟
وقوله الحقّ } :مصَدّقُ الّذِي بَيْنَ يَدَ ْيهِ { أي أنك إذا ما أردت أن تعرف صدق هذه القضية فهات
ما ل حاجة لهم فيه إلى تكذيبه ،وستجد القرآن قد جاء موافقا له.
مثال ذلك حين جاء القرآن بالرّجْم .هم حاولوا أن يخففوا حكم الرّجْم؛ لن امرأة زنت وأرادوا أن
حكَم بعدم الرّجم فهذا خير لنا ولها ،ومن
يجاملوها .فرفعوا أمرها للنبي وقال بعضهم لبعض :إن َ
العجيب أنهم غير مؤمنين بمحمد بينما يريدون الحُكم منه ،فيقول لهم الرسول عليه الصلة
والسلم:هاتوا الكتاب ،ويأتون بالصحف الموجودة عندهم ،فوجدوا آية الرّجْم؛ إذن فالقرآن مُصدق
الذي بين يديه من غير المكتوم ،ول المْحرّف ،ول ال ُموّوّل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا ما نظرت إلى القضايا التي يلتفتون إليها ،ولكنها تكر أمامهم خاطفة ،تجد أنت هذه القضايا
وسيلة يريد ال بها أن يكشف الفساد والكذب والتجبر ،حتى ل يطمس أهل الباطل معالم الحق.
ومثل هذه القضايا تحتاج إلى المُحقق اللّبق .ونجده سبحانه جاء في التوراة بمثل للمة المحمدية،
حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ َأشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ
ويكرر هذا المثل في القرآن حين يقول سبحانه {:مّ َ
حمَآءُ بَيْ َنهُمْ }[الفتح.]29 :
رُ َ
وحين ننظر إلى كلمة " أشدّاء " ،وكلمة " رُحماء " ،نجد في ظاهر المر تناقضا في الطباع ،أما
المدقق المحقق فيعلم من هذا القول أن السلم ل يطبع المسلم على لون واحد؛ لنه يريد منه كل
اللوان ،فلو خلقه شديدا لفقدته مواطن الرحمة ،ولو فطره وخلقه رحيما لفقدته مواطن الشدة.
والسلم يطلب من المسلم اللتزام بالقيم الروحية والمادية لتحرس كل منهما الخرى؛ لن
المسلمين لو راحوا للمادة فقط لصارات حضارتهم شرسة ،ولو راحوا للقيم لما استطاعوا أن
يقيموا حضارة تبقى وتدوم ،والحق يريد حضارة تجمع بين الثنين؛ الروح والمادة ،لذلك يجمع
السلم بين الثنين؛ الروح والمادة؛ لن اليهود في فهمهم لما افتقدت الروح ،والنصرانية في
فهمهم لها غرقت في الروحانيات وافتقدت المادة ،وجاء القرآن مُصدقًا لما بين يديه ،وهكذا جاءت
الية بالبلغ عن أهل الكتاب.
ويتابع البلغ لهل قريش قاطني مكة فيقول } :وَلِتُنذِرَ أُمّ ا ْلقُرَىا { ،ونعرف أن أم القرى تعني
مكة ،وقد حاول البعض أن يتخذ من هذه الية حُجّة ليقول :إن القرآن قد نزل لجماعة العرب
فقط ،ولهؤلء نقول :أنتم لم تحسنوا الفهم لمعطيات اللفظ ،ولنسأل :ما الحَول أولً؟ .الحول هو
المحيط الذي حول النقطة ،أيّ نقطة وكل نقطة ،وحول كل نقطة ُقطْر وقد يكون القطر 20
كيلومترا ،وقد يكون مائة كيلومتر ،وكلما بعدت المساحة فهي حول هذه النقطة ،إذن فكلمة الحول
تشمل كل ما حوله ،وحول كل مكان يشمل كل مكان.
ولماذا سميت أم القرى؟؛ إما لن " هاجر " لما نزلت بابنها الرضيع بوادٍ غير ذي زرع ،وبعد
ذلك تكاثر الناس فصارت هي أم القرى ،أو لن فيها الكعبة ،وكل الناس يؤمّونها ،أو لن الحاجّ
حوَْلهَا
يأتيها من كل صوب كما يهب ويسرع البناء ويلوذون بأمهم } :وَلِتُنذِرَ أُمّ ا ْلقُرَىا َومَنْ َ
وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ { [النعام.]92 :
من -إذن -الذي يؤمن بهذا الكتاب الذي أنزل مصدقا لما بين يديه لينذر به أم القرى ومن
حولها ،ومن هم الذين يؤمنون بالخرة؟ ولماذا جاء الربط بين أم القرى وما حولها وبين الذين
يؤمنون بالخرة؟ .لن أحدا لن يذهب لتعاليم القرآن ليأخذها وينفذها إل من يؤمن بأن هناك يوما
نذهب فيه جميعا إلى الخرة.
لذلك يخاف فيهرب من المعاصي ،ويرغب في الطاعة؛ لن هناك ثوابا وعقابا ،أما الذي ل يؤمن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالخرة فل يسمعك ول ينصاع ول ينقاد لك حين تأمره بالعفة؛ لنه ل يرى ثوابا أو عقابا ول
ينتهي عن السرقة أو الكبر أو الموبقات جميعا؛ لنه ل يخاف من الخرة؟.
إذا فالذي يملكنا جميعا هو الخرة والخوف منها ،ومن ل يؤمن بالخرة يقول أنا غير مُلزم
بشيء ،ول شيء يقيّد حريتي .ثم لماذا أقيّد حريتي؟!
وهنا نقول :أنت تأخذ المر بسطحية ،فعلى فرض أن في قوانين السماء ما يقيد حريتك ،لكنه ل
يقيد حريتك وحدك ،إنه يقيد حرية الكل ،فإن قيد حريتك بالنسبة للناس ،فهذه القوانين السماوية
تقيد حرية الناس بالنسبة لك ،فحين ينهاك الدين عن السرقة ،وعن النظر إلى محارم الغير فهو
يقول للناس كلها :ل تسرقوا من فلن ول تنظروا إلى محارم فلن ،وبذلك تأخذ حقك كاملً،
وبهذا تعيش في نظام متساوٍ ل تتعب فيه؛ لن الجاري والمطبق عليك جارٍ على غيرك مع
جريانه عليك.
لكن من يؤمنون بالخرة هم كل واحد يريد أن ينجي نفسه من العقاب ،ومن الوعيد .ويدخل نفسه
في الوعد وفي الثواب .فمثلً -ول المثل العلى -حين نقول للولد :اذهب لتلقى العلم ،قد يرد:
أنا ل أريد شهادة ،فيجبره والده في البداية أن يستذكر ،ثم نجد الشاب بعد مشوار المذاكرة يخاف
من الرسوب وأن عليه أن يجتهد وأن ينجح .أما إن لم يوجد امتحان في آخر العام فالمذاكرة
وعدمها سواء لديه .فمن أقرب -إذن -إلى الستجابة لنداء العدل والخير؟ إنه من يؤمن
بالخرة.
} وَالّذِينَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ ُي ْؤمِنُونَ بِ ِه وَهُمْ عَلَىا صَلَ ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ { [النعام.]92 :
ولماذا جاء بالحفاظ على الصلة هنا؟ .نحن نعلم أن الصلة ،هي عماد الدين ،من أقامها فقد أقام
الدين ،وحين نحلل المر تحليلً طبيعيا نجد أن الناس تنفر من الطاعات لنها تأخذ زمنا يحبون
أن يقضوه في اللعب ،وحين نقول لواحد مثلً :اترك عملك وصل .قد يرد :ل؛ لني حين أترك
عملي يضيع عليّ كذا .ولو كان طبيبا لذكر عددا من مرضى سيكشف عليهم ،ولو كان عاملً
لقال :إن توقف اللة في أثناء الصلة يجعلني أخسر كثيرا.
وهنا نقول :يا أخي تعال إلى الطاعة ،والبركة تعوض لك ما تظن أنك تخسره ،وإذا نظرت إلى
أركان السلم تجدها بالنسبة لنشغال الزمن بها ل تأخذ الكثير من الوقت؛ فشهادة أن ل إله إل
ال مُحمد رسول ال ل تحتاج منك إل إلى أن تقولها مرة واحدة ،وهذا ركن لم يستغرق زمنا
طويلً بالنسبة لدائه ،والزكاة ل تأخذ منك إل ما تعطيه يوم الحصاد ،وهذا يستغرق وقتا قليل،
وكذلك زكاة المال آخر العام ،والصوم شهر في السنة ،وإذا كان زمن الصوم أوسع قليلً إل أنه
وقت ل يمر إل كل عام .والحج مرة في العمر إن كنت مستطيعا.
إذن أنت تجد التكاليف الركنية في السلم بالنسبة للزمان وقتها يسير وقليل لمن يحرص عليها،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن الصلة تؤدي في كل يوم خمس مرات ،ورقعتها بالنسبة للزمن أوسع .وأداؤها يحتاج إلى
طهارة من حدث أو جنابة وكذلك طهارة المكان؛ لذلك جاءت الصلة ركنا أصيلً في السلم.
وأنت ل تعرف النسان إن كان مسلما إل إذا سمع الذان وقام يصلي .لذلك هي الفارقة بين
المسلم وغير المسلم؛ لن الركان الخرى أزمانها محصورة ،ومع أنها كذلك إل أنها أخذت من
التشريع حظها من الركنية الصيلة.
إنّ كل تشريعات السلم أركانا وفروعا جاءت بالوحي إل الصلة؛ فقد جاءت بالمباشرة؛ لن
الصلة دعاء الخالق خلقه لحضرته؛ لذلك كان ل بد أن يكون تشريعها بهذه الصورة الفريدة،
تشريعا جاء بالحضرة اللهية.
وشيء آخر :ما دامت الصلة هي العمدة في الدين فكأن الصلة تقول للركان الخرى :أنا
أجمعكم وأضمكم وأشملكم جميعا؛ فالمسلم في أثناء الصلة يقول :أشهد أن ل إله إل ال وأن
محمدا رسول ال .والمسلم يصوم في أثناء الصلة عن شهوتي البطن والفرج بل وتكون الصلة
صوما ل عن الكل والشرب ،وشهوة الفرج فقط بل هي إمساك عن كل حركة ،وفي الصلة
زكاة؛ لن الزكاة تعني أن تخرج بعضا من مالك ،والمال فرع العمل ،والعمل فرع الوقت .وأنت
حين تصلي إنما تزكي بالصل وهو وقت العمل ،وأنت في الصلة تتوجه إلى الكعبة كما يتجه
الحاج والمعتمر ،إذن ففي الصلة كل أركان السلم مجتمعة.
إذن فأهمية الصلة أنها قد اندمج فيها كل ركان السلم ،وبها يتحقق الستطراق الجتماعي
للخلفة في الرض؛ لن الخلفة في الرض تقتضي مواهب متعددة ،وطاقات متعددة ،ول يمكن
لخليفة واحد في الرض أن يكون مجمع هذه المواهب بل ل بد أن تتفرق المواهب في المتفرق
والشتيت من الناس ،فل يمكن أن يكون النسان الواحد مهندسا وطبيبا ومحاميا وصانعا وحارثا
وزارعا وتاجرا .ولذلك وزع ال سبحانه وتعالى مقتضيات الخلفة في الرض على الخلفاء في
الرض توزيعا يجعل اللتقاء ضروريا وليس تَفضّليا ،بحيث تكون أنت في حاجة إلى مواهب
ليست عندك فتذهب لصاحبها.
وصاحبها أيضا يحتاج إلى مواهب عندك ليست عنده فيأتي إليك.
وانظروا إذا شاء واحد أن يستغني في بعض الشياء التي يقوم بها الغير كم يتعب؟ ،فإذا ما أتعبه
السباكون وآلموه في الجور .وحاول تعلم السباكة ،ول بد له أن يتعلمها من سباك .وكذلك حياكة
الملبس .ومعنى ذلك أن ال أبقى المواهب متفرقة مشتتة في الخلق ليحتاج كل خلق إلى كل
الخلق .والناس ل تنظر إلى جهة التميّز إل إلى شيء واحد هو :الغِنى.
ونقول الغِنى المالي أو العقاري هو نوع فقط من المواهب؛ لنك مثلً إذا نظرت إلى العَالِم الذي
يظل عشرين عاما يستوعب العلم ،ثم يقابله من يستفتيه في فتوى فيقولها له مجانا ،ولو علم هذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السائل ماذا تكلف الستاذ الذي أفتاه طوال عشرين سنة بحثا في الكتب وسماعا من الساتذة
واستنباطا من الحكام لدفع مكافأة لهذه الفتوى؛ لن العالِم كان مُسخرا لمدة عشرين عاما لتأخذ
أنت الفتوى في نضجها النهائي في يسر وسهولة وتنتفع بها.
وحين نرى من يمسح الحذاء ،ونجد صاحب الحذاء وهو يمد وهو يمد رجله والخر يمسح الحذاء
تقول لنفسك :لماذا كل هذا الزهو لصاحب الحذاء ،ولماذا هذا النكسار لماسح الحذية؟ .وأقول:
أنت رأيت صاحب الحذاء وقت راحته ،ورأيت ماسح الحذية وهو في وقت عمله .ولو عرفت
كيف جاء صاحب الحذاء بالنقود التي سيدفعها لماسح الحذية لعلمت أنه كان مسخرا له ساعة كان
ضهُم َبعْضا
يعمل ليحصل على النقود ليعطي مها ماسح الحذية ،ولذلك قال الحق {:لّيَتّخِذَ َب ْع ُ
سخْرِيّا }[الزخرف]32 :
ُ
والناس ل تنظر في التسخير إل للغني والفقير ،ونقول :خذوا التسخير على أن كل واحد في الكون
مُسخّر في الموهبة التي عنده ،ومُسخّر له في المواهب التي ليست عنده .وأراد الحق سبحانه
وتعالى أن يربط الناس بهذا ربطا قسريا وليس تفضّليا؛ لن من عنده أولد يريدون أن يأكلوا
طعَم ول يملك نقودا ،وليس أمامه من عمل سوى نزح المجاري ،فيأتي
وامرأة تحتاج إلى أن َت ْ
بأدوات نزح المجاري ،ويؤدي العمل ليعول من يعولهم ،ولول ارتباطه بضرورة الحياة له ولمن
يعول لما عمل في مثل هذا العمل ،إذن فهو مربوط ربطا ضروريا ليؤدي خدمة في الكون .ولو
كان كل البشر يعيشون في رغد العيش أكان هناك من يتطوع لينزح المجاري؟ ل يحدث ذلك أبدا،
لنه عمل ل يأتي بالتفضل بل بالحتياج.
وهكذا نرى أن الخلفة في الرض تقتضي استطراقا ،وهذا الستطراق ل يدوم كثيرا؛ فمرة تكون
القوة لنسان ثم تذهب منه ،ومرة يكون الثراء لنسان ثم ينحسر عنه هذا الغِنى ،ولذلك أخبرنا
الحق أنه جعل اليام ُد َولً بين الناس ليستقيم العالم بارتباط الضرورة في بعض العمال ،وإن بدا
لنا أن هناك مواهب تميز بين الناس في شكلهم ،وفي هندامهم ،وفي مطيتهم ،تجد الطبيب يعمل
في أكثر من مكان ،وإن سار على رجليه لتعب ،لذلك يشتري سيارة ،ويظن من يراها أن السيارة
امتياز ل مثيل له ،متناسيا أن هذه السيارة تقضي مصالح الرجل ليخدم الخرين.
مثال آخر :أنت إن نظرت إلى كوب الشاي الذي تشربه بمزاج وليس لضرورة حيوية ،وإن جاءك
من يقدم لك الشاي ليقول :إن الشاي قد نفد من المقهى ،فتعطيه جنيها وتقول :هات كيسا من
الشاي من عند البقال ،ويذهب الغلم ليحضر علبة الشاي فيجد البقال وكأنه قد جهزها له ،وأنت ل
تعرف أن علبة الشاي هذه قد أخذت وقتا وعمل من اثنين أو ثلثة لتصل إليك؛ لن الحق قد كلف
أناسا ليزرعوا الشاي في بعض البلد ،وأناسا آخرين يستوردونه ،ثم تأتيك علبة الشاي لتصنع
منها كوبا لتشربه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فمسألة كلها تسخيرات؛ لذلك توجد الفوارق الجتماعية التي تقتضيها أعمالنا ،ويذيب الحق
هذه الفوارق بأن جعل في الصلة استطراقا للجميع ،وتلتفت ساعة يقول المؤذن( :ال أكبر) أن
الكل قد جاء ،الغني قبل الفقير ،والخفير مع المير ،ويخلع الجميع أقدارهم خارج المسجد مع
نعالهم ليتسا َووْا في الصلة ،ومن له رئيس يتكبر عليه يراه وهو ساجد مثله ل ،فتريحه لحظة
استطراق العبودية.
ولنفرض أن كلً منا سيصلي بمفرده في الصلة اليومية ،لكن عندما يؤذن المؤذن لصلة الجمعة،
يأمرنا الحق أن َنذَر ونترك كل شيء لنؤدي صلة الجمعة معا .ويرى الضعيف عظيما يتضرع
مثله إلى ال ،ويرى القوي نفسه بجانب الضعيف ،وحين يعود كل منا إلى عمله تسقط أقنعة القوة
والزهو؛ لننا جميعا نقف أمام خالق واحد وكلنا سواء.
إن هذا هو الستطراق الجتماعي؛ لننا حين نرقب بعضنا في أثناء الصلة نجد أنفسنا في حضرة
الرّب الذي أعد لنا الكون ،وسخّره لنا ،وأعطانا الطاقات ،وأعطانا المواهب ،وإذا تأملنا واحدا له
وظيفة كبيرة جدا ،فأنت حين ترغب في لقائه تكتب التماسا ،ويُنْظَر في اللتماس ،فإمّا أن يوافقوا
وإمّا ل يوافقوا على لقائك به .وإن وافقوا يسألوك :في أي أمر ستتكلم؟ وسيُحدد لك الوقت الذي
ستجلس فيه معه وليكن ثلث دقائق مثل ،وحين تجلس إليه وتنسى نفسك يقوم هو ليدلك على أن
المقابلة انتهت ،لكن ربنا يقول لنا :تعالوْا لي في أي وقت ،وكلموني في أي شيء ،وأنا ل أملّ
حتى تملّوا ،وأنتم يا عبيدي مَنْ تنهون المقابلة ،وهذا عطاء كثير جدا .يغدقه المولى عزوجل على
عباده.
فهل هناك ربوبية أفضل من هذه؟.
إذن فالصلة إذا نظرت إليها وجدت أنها :جماع كل فضائل الدين وفيها كل الفضائل للمجتع "؛
لذلك جعلها ال عماد الدين.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :ومَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَىا{ ...
()872 /
ساعة يأتي الحق بأسلوب استفهامي فليس الهدف أن يستفهم .إنه -سبحانه -ل يريد ان يأتي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخبر من عنده ،وهو يقدر أن يقول :الذي يفتري ظالم ،لكنه هنا يأتي بالستفهام الذي يؤكد أنه ل
يوجد أظلم من الذي يفتري على ال كذبا ،ويعرض ال القضية على المؤمنين وكأنه يسأل ليعوض
كل مؤمن القضية على ذهنه ويستنبط الجواب .إن الذي يفتري على زميله والمثيل له كذبا نُوقِع
به العقاب ،فما بالك بمن يفتري على ال؟ وحين تسمع أنت هذا الكلمَ { :ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا
عَلَى اللّهِ َكذِبا } .وتستعرض المر فل تجد أظلم منه ،وهكذا يستخرج ال الحكم من فَم المقابل.
وكيف يفتري إنسان الكذب على ال؟ كأن يبلغ الناس ويدّعي ويقول :أنا نبي وهو ليس كذلك .هنا
تكون الفرية على ال ،وإياك ان تظن أنه يكذب على الناس ،ل ،إنه يكذب على ال؛ لنه أبلغ أن
ال قد بعثه وهو لم يبعثه.
و " الفتراء " :كذب مُتعمّد مقصود ،وينطبق ذلك على النبوات التي ادعيت؛ من مثل مسيلمة
الكذاب ،سجاح ،طليحة السدي ،السود العنسي؛ كل هؤلء ادعوا النبوة ،ومع ذلك لم يسألهم أحد
عن المعجزة الدالة على نُبوّتهم؛ لن كل واحد منهم عندما أعلن نبوته جاء بما يُخفّف عن الناس
أحكام الدين.
فواحد قال :أنا أخفف الصلة ،والزكاة ل داعي لها .لذلك تبعهم كل من أراد أن يتخفف من أوامر
الدين ونواهيه ،موهما نفسه بأنه مُتدين ،دون أن يلتزم بالتزامات التدين ،وهذا هو السبب في أن
أصحاب النبوات الكاذبة ،والدعاءات الباطلة يجدون لهم أنصارا من المنافقين؛ فالواحد من هؤلء
التباع قد يكون مثقفا ثم يصدق نبيا دجالً ،وتسأل التابع للدجال وتقول له :أسألت مدّعي النبوة
هذا ما معجزتك؟ -وهذا أول شرط في النُبوّة -ولم نجد أحدا سأل هذا السؤال قط ،لماذا؟
لن التدّين فطرة في النفس ،ولكن الذي يصعّب التدين هو اللتزامات التي يفرضها التدين،
وعندما يرى التابع الضعيف النفس أن هناك من يُريحع من اللتزامات الدينية ،ويفهمه أنه على
دين ،ويقلل اللتزامات عليه ،لذلك يتبعه ضعاف النفوس ،وتصبح المسألة فوضى.
ي وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ } [النعام]93 :
حيَ إَِل ّ
{ َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا َأوْ قَالَ ُأوْ ِ
هناك من ادعى وقال :أنا نبي ،وقال :سأنزل مثل هذا القرآن ،فماذا قال هذا المدّعي وهو " النضر
بن الحارث " يقول -في أمة أذنها أذن بلغية ،تتأثر بموسيقى اللفظ " :-والطاحنات طحنا
والعاجنات عجنا والخابزات خبزا "!! ولماذا لم يأت بالمسألة من أولها ويقول " :والزارعات زرعا
والحارثات حرثا " ثم يقول مَن ادعى أنه أوحي إليه " :والعاجنات عجنا والخابزات خبزا " ،وكان
عليه أن يتبعها أيضا " :والكلت أكل والهاضمات هضما ".
وطبعا كان هذا الكلم لونا من هراء فارغ؛ لن الحق إنما أنزل كلمه موزونا جاذبا لمعانٍ لها
شيْءٌ { " ،وقد جاء
ي وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ َ
حيَ إَِل ّ
قيمتها في الخبر ،ولذلك نزل القول الحقَ } :أوْ قَالَ ُأوْ ِ
واحد هو عبدال بن سعد بن أي سرح القرشي وكان أخا لسيدنا عثمان من الرضاعة وكان كاتبا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لرسول ال صلى ال عليه وسلم وقعد في حضرة النبي .فنزلت الية } :وََلقَدْ خََلقْنَا الِنْسَانَ مِن
ضغَةً
طفَةَ عََلقَةً َفخََلقْنَا ا ْلعََلقَةَ ُم ْ
طفَةً فِي قَرَارٍ ّمكِينٍ * ثُمّ خََلقْنَا النّ ْ
جعَلْنَاهُ ُن ْ
سُلَلَةٍ مّن طِينٍ * ُثمّ َ
سوْنَا ا ْلعِظَامَ لَحْما ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ { [المؤمنون.]14-12 :
ضغَةَ عِظَاما َف َك َ
فَخََلقْنَا ا ْل ُم ْ
وانبهر بالطوار التي خلق فيها الحق النسان فقال } :تبارك ال أحسن الخالقين { .فقال له رسول
ال :اكتبها فقد نزلت .واغْترّ الرجل وقال :إن كان محمدٌ صادقا لقد أوحى إليّ كما أوحي إليه؛
وإن كاذبا لقد قلت كما قال :فأهدر رسول ال دمه .وقال لصحابته :من رآه فليقتله .وفي عام الفتح
جاء به عثمان رضي ال عنه ،وقال :يا رسول ال ،اعف عن عبدال ،فسكت رسول ال .قال
عثمان رضي ال عنه :اعف عنه .فسكت رسول ال .وكررها ثالثا :اعف عنه يا رسول ال .فقال
رسول ال صلى ال عليه وسلم :نعم.
وكان لسيدنا عثمان منزلة خاصة عند رسول ال ،وأشار الرسول لسيدنا عثمان بن عفان ،فأخذ
الرجل وانصرف ،فلما انصرف قال الرسول لصحابته :ألم أقل لكم من رآه فليقتله؟ قال سيدنا
عباد بن بشر :يا رسول ال لقد جعلتُ إليك بصري -أي وجّهت عيني لك -لتشير عليّ بقتله،
فقال رسول ال لعباد بن بشر " :ما ينبغي لرسول أن تكون له خائنة العين " وأسلم ابن أبي سرح
وحسن إسلمه ".
ومن قال سأنزل مثل ما أنزل ال ،ما هي عقوبات هؤلء الذين يفترون على ال الكذب،
ويحاولون التغرير بالناس مدّعين أن ال أنزل عليهم وحيا؟
غمَرَاتِ ا ْل َم ْوتِ وَا ْلمَل ِئكَةُ بَاسِطُواْ أَ ْيدِيهِمْ َأخْرِجُواْ
يقول الحق سبحانه } :وََلوْ تَرَى إِذِ الظّاِلمُونَ فِي َ
علَى اللّهِ غَيْرَ ا ْلحَقّ َوكُنْتُمْ عَنْ آيَا ِتهِ تَسْ َتكْبِرُونَ
سكُمُ الْ َيوْمَ ُتجْ َزوْنَ عَذَابَ ا ْلهُونِ ِبمَا كُنتُمْ َتقُولُونَ َ
أَ ْنفُ َ
{ [النعام.]93 :
وساعة تسمع " لو " هذه تعرف أنها شرطية ،وأنت تقول -مثل -لو جاءني فلن لكرمته.
وحين تقرأ القرآن نجد كثيرا من " لو " ليس لها جواب ،لماذا؟ لن التيان بالجواب يعني حصر
الجواب الذي ل يمكن للفظ أن يحصره فأنت تتركه للسامع مثلما تجد شابا يلعب دور الفتوة في
الحارة ويتعب سكانها ،ثم وقع في أيدي الشرطة وأخذوه ليعاقبوه ،فيقول واحد ممن رأوه من قبل
وهو يرهق أهل الحارة :آه لو رأيتم الولد الفتوة وهو في يد الشرطة!
أين جواب الشرط هنا؟ إنه ل يأتي؛ لنه يتسع لمر عجيب يضيق السلوب عن أدائه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الروح؟ أو الكلم في ملئكة العذاب؟ إنها تشمل النوعين :ملئكة قبض الروح وملئكة العذاب.
سكُمُ { كأن ملئكة قبض الروح تقول لهم :إن كنتم متأبّين
} وَا ْلمَل ِئكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِي ِهمْ أَخْ ِرجُواْ أَ ْنفُ َ
على ال في كثير من الحكام لقد تأبّيتم على ال إيمانا ،وتأبّيتم على ال أحكاما ،وتأبّيتم على ال
في تصديق الرسول ،فهاهو ذا الحق قد أمرنا أن نقبض أرواحكم ،فهل أنتم قادرون على التمرد
على مرادات الحق؟ إن كنتم كذلك فليظهر كل منكم مهارته في التأبّي على قبض روحه ،أو أن
الملئكة يبالغون في النكاية بهم كأن نقول لواحد :اخنق نفسك وأخرج روحك بيديك أو :أخرجوا
أنفسكم من العذاب الذي يحيق بكم.
" وعذاب الهون " هو العذاب المؤلم وفيه ذلة .وأساليب العذاب في القرآن متعددة ،فيقول مرة" :
من العذاب المهين " أو وأعد لهم " عذابا مهينا " أو ولهم " عذاب أليم " فمرة يكون العذاب مؤلما
لكن ل ذلة فيه ،ومرة يكون العذاب مؤلما وفيه ذلة .وكما أن النعمة فيها تعظيم فالنقمة فيها ذلة.
وأضرب هذا المثل -ول المثل العلى ،فال سبحانه منزّه عن أي تشبيه :-قد نجد حاكما يعتقل
إنسانا ويأمر بأن يجلس المعتقل في قصر فخم وله حديقة ،لكن حين يأتيه الطعام ،يقول له
الحارس :خذ اتسمم ،وفي ذلك إهانة كبيرة.
ولماذا يذيقهم الحق العذاب المهين؟ تأتي الجابة من الِ } :بمَا كُنتُمْ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ ا ْلحَقّ
َوكُنْتُمْ عَنْ آيَا ِتهِ تَسْ َتكْبِرُونَ { .كأن يقول واحد :أوحي إلي ولم يوح إليه شيء .وهم أيضا
حدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَتْهَآ
يستكبرون على اليات التي يؤمن بها العقل الطبيعي ،ويقول الحقَ {:وجَ َ
سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا }[النمل.]14 :
أَنفُ ُ
ويقول الحق بعد ذلك } :وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَىا{ ...
()873 /
وقوله الحق { :وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَىا } أي أن كلّ منكم يأتي إلى ال فردا عما كان له في دنياه من
مال أو ولد أو أتباع ،جاء كل منهم ل وليس معه الصنام التي أدّعى أنها شركاء ل ،واتخذهم
شفعاء له .و " فرادى " جمع " ف ْردَان " أو " فريد " مثل " سكارى " جمع " سكران " و " أسارى "
جمع " أسير " ،إنهم يأتون إلى ال زُمرا وجماعات ،ولكن كل منهم جاء منفردا عما كان له في
ظهُو ِركُمْ }.
خوّلْنَاكُ ْم وَرَاءَ ُ
الدنيا من مال وأهل وولد وأتباع ،بدليل أنه قال { :وَتَ َركْتُمْ مّا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و " خوّله " أي جعل له خَ َدمًا من التباع ومن المريدين ،ومن المقّدر والمضيّق عليهم في الرزق
ومن العائشين في نعمته ،جاء كل منهم منفردا عما له في الدنيا كما خلقكم ال أول مرة ،أي كما
دخلتم في الدنيا! { وََلقَدْ جِئْ ُتمُونَا فُرَادَىا َكمَا خََلقْنَاكُمْ َأ ّولَ مَ ّرةٍ } [النعام.]94 :
وقوله الحق " :جئتمونا " أي كأن النسان الذي أذنب يكاد يقدم نفسه للعذاب معترفا أنه يستحق هذا
العذاب إقرارا منه بالذنب ،فكأن النسان يبلغ منه الحزن على ما فعله والتوبيخ لنفسه التي
انصرفت عن الحق فيقول لنفسه :أنت تستحقين العذاب.
عمْتُمْ أَ ّنهُمْ فِيكُمْ شُ َركَآءُ َلقَد
ش َفعَآ َءكُمُ الّذِينَ زَ َ
ظهُو ِركُ ْم َومَا نَرَىا َم َعكُمْ ُ
خوّلْنَاكُ ْم وَرَاءَ ُ
{ وَتَ َركْتُمْ مّا َ
ّتقَطّعَ بَيْ َنكُمْ } [النعام.]94 :
و " البيْن " هو ما يفصل أو ما يصل .فعندما نجد اثنين قاعدين وبينهما " بين " فهذا البين فاصل
وواصل .فإن اعتبرته واصلً ،أقول :تقطّع هذا ،أي وقع التقطع بينكما ،وانفصمت الروابط بينكم
وتشتت جمعكم ،وإن كان البين فاصل فقد وصلوا أنفسهم بالصنام.
وماذا كانت صلة هؤلء بالصنام التي يشركونها في العبادة؟ كانوا يقدمون لها القرابين ،وغير
ذلك .وهذه الصنام وكل من جعلوه شريكا مع ال سيفر منهم يوم القيامة .وهكذا يتحقق قوله
الحقَ { :لقَد ّتقَطّعَ بَيْ َنكُمْ }.
عمُونَ } ،و " ضلّ " أي تاه وغاب ،ما كنتم تبحثون
ضلّ عَنكُم مّا كُنتُمْ تَزْ ُ
ويواصل سبحانه { :وَ َ
عنهم فل تجدونهم مصداقا لقوله الحق {:إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ }[البقرة.]166 :
حبّ} ...
ويقول الحق من بعد ذلك { :إِنّ اللّهَ فَاِلقُ الْ َ
()874 /
بعد ما تكلم الحق عن التوحيد والنبوات ،ومن كانوا يعاكسون ويعارضون ويناوئون تلك النبوات
ويكذبونها وقالوا فيها الفك أراد ال أن يلفت خلقه إلى ما أعده لهم استبقاء لحياتهم ،وكيف سخّر
لهم كل الكون بما فيه ..جمادا ونباتا وحيوانا ،وكأنه سبحانه يوضح :إن كنت ل ترى أن الخالق
يستحق عبادتك فانظر إلى ما انعم عليك به من النعم ،ومادام العبد المخلوق له كل نعم الخالق
العلى فلماذا ل يسمع كلمته سبحانه؟ أيها المخلوق أنت تتربى على مائدة الرحمن وهو خالقك
فانظر وتأمل واعرف.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حبّ وَال ّنوَىا } وساعة تسمع لفظ الجللة :أي علم واجب الوجود وهو ال ،فعليك
{ إِنّ اللّهَ فَاِلقُ ا ْل َ
أن تأخذ لفظ الجللة بكل ما يدل عليه من صفات الجلل وصفات الجمال ما عرفته وما لم تعرفه؛
لنه سبحانه خلق الكون كله وهو قيّوم عليه ،وهذا الخلق وتلك القيّومية فعل يقتضي صفات
متعددة تقتضي قدرة ،وحكمة ،وعلما واسعا ورحمة ،وبسطا وقبضا وغير ذلك ،وبدلً من أن يأتي
لك بصفات القدرة ،وصفات الجمال ويذكرها ويعددها لك يقول سبحانه عن نفسه " :ال "؛ لنه
السم الجامع لكل صفاته .ونحن نقول في بدء كل عمل :بسم ال ،وفي ذلك إيجاز لما يحتاج إليه
أي عمل ،لن أي عمل يحتاج إلى قدرة ،فتقول :باسم القادر ،ويحتاج إلى علم فتقول " :باسم
العليم " ويحتاج إلى حكمة فتقول " :باسم الحكيم " ويحتاج عزة فتقول " :باسم العزيز " وقد تحتاج
إلى قهر عدوك لنك قد تدخل معه في حرب فتقول " :باسم القاهر " إذن كل عمل يحتاج إلى حشد
من صفات الكمال والجلل يخدم الفعل ،فبدلً من أن يقول باسم القادر وباسم الحليم وباسم العليم
وباسم القابض ،يوفر عليك سبحانه كل ذلك فتقول :بسم ال ،لن اسم الجللة وهو " ال " هو
الجامع لكل صفات الكمال.
حبّ وَال ّنوَىا } ،فالق أي شاقق ،جاعل الحب والنوى كل منهما فلقتين " .الحب "
{ إِنّ اللّهَ فَاِلقُ ا ْل َ
ما ل نواة له مثيل الشعير والقمح والرز .وهناك ما له نوى مثل البلح والخوخ ،وتجد في قلب
النواة شيئا آخر .وهناك نوع آخر له بذور مثل البطيخ ،وفي كل بذرة تجد فيها شيئا ،فيوضح لك
الحق سبحانه وتعالى :إن عظمتي تتجلّى في أنني أخلق الحب وأخلق النوى ،وهناك حبوب مفلوقة
جاهزة ،مثل حبة الفول مثلً وحبة العدس.
وأنت إذا ما نظرت إلى هذه العملية وجدت شيئا عجبا!!
فحين تأتي لنواة البلح أو حبة الشعير ،وتضعها في الرض في بيئة استخراجها ،وبقليل من
الرطوبة ،تجد الفلقتين قد خرج منها نبتة وتكاد النواة أن تنفلق ليخرج منها الزبان الضعيف بين
الفلقتين ،وإن نزعت هذا الجذير تنتهي الحياة.
ولذلك وجدنا من يتعجب حين اقتحم أعشاش النمل ووجد في العش قطعا صغيرة مفتتة بيضاء
بجانب العش ،واكتشفوا أن هذه هي زبانات الحب الذي يدخله النمل للعش ،فلو أن النمل أدخل
الحبوب كاملة فقد تأتي لفحة من رطوبة فتكبر هذه الحبة ،وتنمو وتصير شجرة تفتك بالعش ،فمن
الذي هدى النمل إلى أن تفعل هكذا؟ إنه ال .ونجد النمل يفلق حبة نبات " الكزبرة " إلى أربع قطع
سوّىا * وَالّذِي قَدّرَ
لنه لو قطعها إلى اثنتين قد تنبت ،من الذي علمه؟ إنه سبحانه {:الّذِي خَلَقَ َف َ
َفهَدَىا }[العلى.]3-2 :
والعجيب أنك حين ترى النبتة الضعيفة ساعة أن تخرج إلى الحياة وهي التي ستكون من بعد ذلك
جذرا إنها هشة وضعيفة إن أمسكتها بيدك تسحقها ،لكنها تخترق قلب الرض الصلبة التي لو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضربتها بسكين لنكسرت السكين ،لكن الجذير الضعيف يدخل في قلب الصخر والرض ،فأي
قوة أعطته ذلك؟ أي قوة تخرق له الرض؟ وهل الجذير هو الذي خرق الرض أو خُ ِرقَت له؟ لقد
حبّ
خرق الحق الرض للبذرة لتستخرج منها غذاء للزرع ،إنّها قدرة الحق سبحانه } فَالِقُ الْ َ
{ الذي ادخر في فلقتين اثنتين قوتا للنبات إذا مسته رطوبة تتغذى عليها الزريعة إلى أن تربى
الجذور ،ويستمد النبات غذاءه من الفلقتين إلى أن يثبت ويتمكن في الرض ثم تتحور الفلقتان إلى
ورقتين خضراوين.
حيّ { .وحين تامل العلماء هذا
ت َومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ ا ْل َ
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ
ويتابع الحق سبحانه } :يُخْرِجُ الْ َ
القول وأرادوا أن يوضحوا لنا ما الحي؟ وما الميت؟
فات الجميع أن يعرفوا ما هي الحياة؟ الحياة هي قيام الموجود بما يؤدي به مهمته ،فحياة النسان
فيها حركة وحس وجري ،ثم هناك حياة ثانية في الحيوان ،وحياة ثالثة في النبات ،وحياة ذات
طابع مختلف في الجماد .مثلما علمونا في المدارس حين كان المدرس يمسك بقضيب ممغنط
ليجذب برادة الحديد ،حتى الحديد الصلب فيه لون معين من الحياة .وكلنا رأينا في المدارس
النبوية الزجاجية التي وضعوا فيها برادة الحديد وكيف تتأثر بقضيب المغناطيس .وتعتدل وتصير
في مستوى واحد ،وهكذا نعرف أن الحياة هي الطاقة الموجودة في كل كائن ليؤدي مهمته حتى
الحجار تختلف فيها أشكال الحياة ،فهناك حجر يأخذ شكل الرخام ،وآخر المرمر ،وكل لون من
الحجار له شكل من أشكال الحياة.
حيّ عَن بَيّنَةٍ }[النفال.]42 :
ونقرأ في القرآن {:لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّنَ ٍة وَ َيحْيَىا مَنْ َ
وجاء الحق بمقابل الهلك وهو الحياة؛ فالهلك ضد الحياة والحياة ضد الهلك ،ويقول سبحانه في
جهَهُ }[القصص.]88 :
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
آية أخرىُ {:كلّ َ
إذن ما دام كل شيء هالكا ،فكل شيء فيه حياة ،والخطأ أن تظن أن كل حياة تتشابه في الحس
والحركة مع النسان ،ل ،إن الحياة في كل شيء بحسبه ،إلى أن تقوم القيامة ،فكل شيء حي له
حياة تناسبه ،وحين نسمع:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حيّ ذاِلكُمُ اللّهُ فَأَنّىا
ت َومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ ا ْل َ
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ
حبّ وَال ّنوَىا يُخْرِجُ الْ َ
} إِنّ اللّهَ فَاِلقُ ا ْل َ
ُت ْؤ َفكُونَ { [النعام.]95 :
إن كل كلمة لها دللتها ومعناها .فكلمة العلم تدلنا على إحاطة علمه بكل شيء في الوجود ،وكلمة
الحكمة تدلنا على أن كل شيء منه يصدر عن حكمة .وكلمة الرزاق تدلنا على أن كل مرزوق في
الوجود إنما أخذ من فيضه وخيره ،وهكذا إلى ما ل نهاية لكماله من صفات ذاته .وكلمة " ال "
تدل على كل صفات الجلل والجمال والكمال ،فإذا قال " :ال " فهذا السم :يشمل القادر ،العالم،
الحكيم ،القدير ،وكل صفات الحق ما علمت منها وما لم تعلم ،ما دامت ذاته سبحانه وتعالى
متصفة بكل صفات الكمال ،فالواجب أن يكون كل فعل يصدر عن ذاته المتصفة بالكمال له مطلق
القدرة والجمال والكمال.
إذن فحين يقول الحق ذلك فإنما يلفتنا إلى أن كل شيء كائن في الوجود إنما هو من خلق ال ،وأن
له حياة تناسب مهمته؛ فالنسان له حياة تناسب مهمته .والحيوان له حياة تناسب مهمته .والنبات
له حياة تناسب مهمته .والجماد له حياة تناسب مهمته .وإذا نظرت إلى الشياء كلها بهذا المعنى
وجدت أن كل موجود فيه حياة ،ولكن الحياة الكاملة بكل مقوماتها وجدت في العلى من
المخلوقات وهو النسان ،وال سبحانه وتعالى خلق في النسان الحياة حسا وحركة ،ثم أعطاه حياة
أخرى هي التي تُصعّد حياته وتجعل لحياته قيمة؛ لن حياتنا الني نعيشها إنما يتمتع بها المؤمن
والكافر ،وقصارى ما فيها أن تعطينا الحس والحركة قدر عمرنا في الحياة ،ولكن حياة اليمان بما
يبعثه ال لنا من منهج على يد الرسول .تعطينا حياة أوسع ،وأخلد ،وأرغد ،وهذه هي الحياة
الحقة ،ولذلك يقول الحق سبحانه {:وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت:
.]64
ب وَال ّنوَىا { هو المقدمة الولى للحياة ،ثم
ح ّ
وهذه هي الحياة الحقيقية وقول الحق } :إِنّ اللّهَ فَالِقُ الْ َ
تكلم عن الحياة وأنه يخرج حيا من ميت ،وهو هنا قد خاطبنا على مقدار أوليات علمنا بالشياء؛
فالشيء إذا لم يكن له حس وحركة نعتبره ميتا لكن لو نظرت إلى الحقيقة لوجدت كل شيء في
الوجود له حياة.
جهَهُ {.
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
مصداق ذلك قوله جلت قدرتهُ } :كلّ َ
وما دام كل شيء هَالِكا فكل شيء قبل أن يهلك كان فيه حياة.
وال سبحانه القائلُ {:قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآءُ وَ ُتعِزّ مَن
شيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللّ ْيلَ فِي الْ ّنهَا ِر وَتُولِجُ ال ّنهَارَ
تَشَآءُ وَتُ ِذلّ مَن َتشَآءُ بِ َي ِدكَ الْخَيْرُ إِ ّنكَ عَلَىا ُكلّ َ
حسَابٍ }[آل
ي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
حّت وَتُخْرِجُ اَلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ
فِي الْلّ ْيلِ وَ ُتخْرِجُ الْ َ
عمران.]27-26 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولماذا جاء في هذه الية بـ " تخرج " وجاء في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قوله" :
ومخرج الميت من الحي "؟ إنّ الذين بحثوا هذا البحث نظروا نظرة سطحية في المقابلة الجزئية
حيّ { نسوا أنه سبحانه
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ { وقالَ } :ومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ ا ْل َ
في الية ،وهي } :يُخْرِجُ ا ْل َ
قال :إنه يخرج الحي من الميت؛ لبيان أن ال فالق الحب والنوى ليخرج الحي من الميت أي أن
ال فلق وشق الحب والنوى لجل أن يخرج الحي من الميت..
حيّ { هو مقابل لفالق فل تأخذها مقابلة للجزئية في الية؛ ولن
ثم قالَ } :ومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ الْ َ
السم يدل على الثبوت ،والفعل يدل على الحدوث؛ فالحق سبحانه وتعالى له صفة في ذاته ،وصفة
في متعلقات هذه الذات؛ فهو سبحانه وتعالى رَزّاق ،قبل أن يكون له مخلوق يرزقه .وهو رزاق،
وبعد ما خلق من يرزقه هو رازق؛ لنه هو الخالق ،والخالق صفة للذات وإن لم يوجد المتعلق،
وهو سبحانه المحيي قبل أن يوجد من يحييه؛ لن صفته في ذاته أنه يحيي ،ومميت قبل أن يميت
من يريد أن يميته؛ لن الصفة موجودة في ذاته.
وسبحانه فالق الحب والنوى أي قبل أن يوجد الحب والنوى الذي يفلقه ،ومخرج الحي من الميت
هو صفة ثابتة في ذاته قبل أن يوجد متعلّقها .وله صفة -أيضا -بعد أن يوجد المتعلق ،فإن أراد
الصفة قبل أن يوجد المتعلّق جاء بالسم " :فالق ومخرج " .وإن كان يريد الصفة بعد أن توجد،
يقول " :يخرج " " ،يخرج ".
ويذيل الحق الية } :ذاِلكُمُ اللّهُ فَأَنّىا ُت ْؤ َفكُونَ { [النعام.]95 :
و " ذا " اسم إشارة لما تقدم ،وهو سبحانه فالق الحب والنوى ومن يخرج الحي من الميت ومخرج
الميت من الحي وهو ال .والكاف في قوله } :ذاِلكُمُ { لمن يخاطبهم وهم نحن ،أما اللم من }
ذاِل ُكمُ { فهي للبعد والميم للجمع .فحين يريد الحق أن يخاطب رسوله ،يقول {:ذَِلكَ ا ْلكِتَابُ لَ رَ ْيبَ
فِيهِ }
[البقرة.]2 :
ولكنه هنا يخاطبنا فيقول } :ذاِل ُكمُ { إشارة إلى قول الحق سبحانه وتعالى :ال ،وفالق ،ومخرج،
والخطاب لجمهرة المخاطبين بالقرآن .فإذا كان ال بهذه الصفات فكيف ينصرفون عن اليمان به
وتوحيده؟ وذكر لنا أول مقوم من مقومات الحياة وهو النبات وهو ما نأكله ،فإذا كان الحق سبحانه
وتعالى هو الذي خلق الحب وخلق النوى ليخرج الحي من الميت وهو مخرج الميت من الحي فهو
أولى بأن يكون إلها معبودا فكيف تصرفون عنه؟! وإلى من تصرفون؟! إلى من توجد فيه صفات
أرقى من هذه الصفات؟!! ل يوجد من فيه صفات مثل هذه ،ول أرقى من هذه الصفات.
وإذا سمعت كلمة " :أنّى " فافهم منها أنها تأتي للتعجيب ،تأتي وتطلب أن يدلنا واحد على كيفية
انصرافهم عن ال وتوحيده مع وضوح الدللت والبراهين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومرة يقول الحق سبحانه {:كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّهِ }[البقرة.]28 :
هو سبحانه يخاطب الناس ويقول لهم :كيف تكفرون بال فال في ذاته يستحق أل يكفر به ،لنه
هو الذي خلق من عدم ،وأمدّ من عُدْم ،ولم يشاركه أحد أو ينازعه في هذا المر ،وإليه نرجع
جميعا ،فكيف تكفرون به؟ وهذا تعجيب كبير؛ لذلك يقول سبحانه هنا } :فَأَ ّنىٰتُ ْؤ َفكُونَ { أي فكيف
تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون -مع ال -إلها آخر بعد أن تعلموا أن هذه
الصفات له -سبحانه -وليست لغيره؟ وكل تعجيب يأتي في " أنّى " مثل قوله الحق {:أَنّىا
يُحْيِـي هَـا ِذهِ اللّهُ َبعْدَ َموْتِهَا }[البقرة.]259 :
أي كيف يحيي هذه ال بعد موتها؟
ويقول سيدنا زكريا لسيدتنا مريم } :أَنّىا َلكِ هَـاذَا {
إذن فالتعجب ملزم لكلمة " أنّى " فكأن الصفات التي تقدمت صفات موجبة لليمان بال واحدا
قهارا مريدا عالما حكيما نرجع إليه جميعا ،فقولوا لنا :كيف تكفرون بهذا الله؟ وإلى من تذهبون
إذا كان هذا الله يُكفر به؟ أهناك شيء ادّعى أنه خلق وأنه رزق؟ لو أن شيئا ادّعى أنه خلق أو
رزق كنا نعذركم ،لكن لم يدّع شيء في الوجود بأنه خلق أو رزق ،والدعوة تثبت لصاحبها ما لم
يقم لها معارض.
} فَأَنّىا ُت ْؤ َفكُونَ { وكلمة " أنّى تؤفكون " تعني كيف تُصرفون انصرافا كذبا؛ لن " الفك " .معناه
الكذب المتعمّد.
لصْبَاحِ{ ...
قاِ
ويقول الحق من بعد ذلك } :فَاِل ُ
()875 /
وسبحانه يأتي بآية أخرى من اليات المعجزة كما جاء بالية الولى في أنه هو الذي خلق لنا ما
يقيم حياتنا.
سكَنا } .ومعنى " فالق " أي جعل الشيء شقين ،وهما نعمتان
ج َعلَ الْلّ ْيلَ َ
لصْبَاحِ وَ َ
قاِ
{ فَاِل ُ
متقابلتان ل تكفي واحدة عن الخرى ،إذ ل بد أن يوجد إصباح ويوجد الليل سكنا؛ لن الصباح
هو زمان وضوح الشياء أمام رؤية العين؛ لننا نعلم أن الظلمة تجعل النسان يضطرب مع
الشياء ،فإن كنت أقوى من هذه الشياء حطمتها ،وإن كانت أقوى منك حطمتك .إن السير في
الظلمات التي ل يوجد فيها نور يهدي النسان إلى مرائيه قد يؤدي إلى خسارة الشياء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إننّا في الصباح نعمل ونسعى في الرض ،ونمل الدنيا حركة .فإذا ما أصابنا الكد والتعب
والنّصب من الحركة فالمنطق الطبيعي للكائن الحي أن يستريح ويهدأ ويسكن ل بحركته فقط
ولكن بسكون كل شيء حوله؛ لنك إن كنت ساكنا ويأتي لك ضوء فهو يؤثر في تكوينك ،ولذلك
يقولون الن :إن " الشعة " التي يكتشفون بها أسرار ما في داخل جسد النسان تترك آثارا.
إذن فالشعاع الصادر عن الشمس يمنعه عنك ال ليلً حتى يستريح الجسم من كل شيء ،من كل
حركة ناشئة فيه ،ومن حركة وافدة عليه ،وهكذا تكون نعمة سكون الليل وظلمته مثل نعمة
الصباح ،وكلهما تتمم الخرى ،ولذلك قلنا :إن الحق سبحانه وتعالى في أول السورة قدّم الظلمات
ت وَالنّورَ }[النعام.]1 :
ج َعلَ الظُّلمَا ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ وَ َ
حمْدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ ال ّ
على النور {:ا ْل َ
لنك ل تستطيع أن تنتفع بحركتك في النور إل إذا كنت نشيطا ومرتاحا أثناء الليل .فإن لم ترتح
كنت مرهقا ولن تستطيع العمل بدقة في حركة النهار .إذن فالظلمة مقصودة في الوجود .ولذلك
فالحضارة الراقية هي التي تنظم حياة النسان ليعمل نهارا ويستريح ليلً ،حتى ل يستأنف عمله
في الصباح مكدودا .ومن يزور ريف مصر هذه اليام يفاجأ بأن أهل الريف قد سهروا طوال
الليل مع أجهزة الترفيه ،ويقومون إلى العمل في الصباح وهم مكدودون مرهقون.
ونقول :لنأخذ الحضارة من قمتها ،ول نأخذ الحضارة من أسفلها؛ فحين تذهب إلى أوروبا تجد
الناس تخلد وتسكن ليلً ،ومن يسير في الشارع ل يسمع صوتا ول يجد من يخرج من بيته ،ول
تسمع صوت ميكروفون في الشارع؛ حتى ينال كل إنسان قسطه من الهدوء ،ويختلف المر في
بلدنا :فالشوارع تمتلئ بالضجيج ،والمريض ل يستطيع أن يرتاح ،ومن يذاكر ل يجد الهدوء
اللزم ،ومن يتعبد تخرجه الضوضاء من جوّ العبادة ،ونجد من يصف ذلك بأنه نقلة حضارية!!
ونقول :لتأخذ كل نعمة من نعم ال على قدر معطياتها في الوجود النافع لك ،وحين يأتي الليل
عليك أن تطفئ المصباح حتى تهجع ول تتشاغب فيك جزئياتك وتكوينك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أول وهو النور الهادئ ،ونجد أطباء العيون بعد إجراء جراحة ما لنسان في عينيه يقومون بفك
الربطة التي تساعد الجرح على اللتئام ،يفكونها بالتدريج حتى ل يخطف الضوء البصر فورا،
ومن رحمة ال أن خلق فترة الصبح بضوئها الهادئ قبل أن تطلع الشمس بضوئها كله دفعة
واحدة .فكأن الصبح جاء ليفلق ظلمة الليل فلقا هادئا ،ثم جاءت الشمس ففلقت الصبح.
إذن الصباح فالق مرة لنه شقّ الظلمة وفلقها ومفلوق مرة أخرى؛ لن الظلمة جاءت بعده .إذن
فاسم الفاعل قد أدى مهمتين ..المهمة الولى :فالق الصباح .أي دخل بضوء الشمس .وإن قلنا:
إصباحه فالق ،أي ظلمة الليل الوى انفلقت .إذن فالصباح فالق مرة ،ومفلوق مرة أخرى.
سكَنا { يريد أن يعطي شقين اثنين؛ لنه هو في
ج َعلَ الْلّ ْيلَ َ
ح وَ َ
وسبحانه حين يقول } :فَالِقُ الِصْبَا ِ
سكَنا { صفة
ج َعلَ الْلّ ْيلَ َ
ذاته فالق الصباح .فيأتي بالسم ليعطي لها صفة الثبوت ،ثم جاء بـ } وَ َ
الحدوث بعد وجود المتعلّق .فإذا أراد الصفة اللزمة له قبل أن يوجد المتعلق يأتي بالسم .وإن
أراد الصفة بعد أن وجد المتعلّق يأتي بالفعل.
سطٌ ذِرَاعَ ْيهِ بِال َوصِيدِ }[الكهف:
ولذلك نجد القرآن الكريم يصور الثبات في قوله الحقَ {:وكَلْ ُبهُمْ بَا ِ
.]18
الكلب هنا على هذه الصورة الثابتة ،وحين يريد القرآن أن يأتي بالصفة التي تتغير ،يأتي بالفعل{:
خضَ ّرةً }[الحج.]63 :
سمَآءِ مَآءً فَ ُتصْبِحُ الَرْضُ مُ ْ
أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ
وكان القياس أن يقول :فأصبحت الرض مخضرة؛ لنه قال " :أنزل " لكنه يأتي بالتجدد الذي
خضَ ّرةً {.
ح الَ ْرضُ ُم ْ
يحدث } فَ ُتصْبِ ُ
س وَا ْل َقمَرَ حُسْبَانا { ونحن نعرف الشمس والقمر وجاء بعد ذلك بكلمة }
شمْ َ
ويتابع الحق } :وَال ّ
حسْبَانا { ،على وزن ُفعْلن ،وهذا ما يدل عادة على المبالغة مثلما تقول :فلن والعياذ بال كفر
ُ
كفرانا .ومثلما تدعو :غفر ال لك غفرانا .فحين تحب أن تبالغ تأتي بصيغة ُفعْلن .وجاء القرآن
بكلمة " حسبان " في موضعين اثنين فيما يتصل بالشمس والقمر جاء بها هنا في الية التي نحن
س وَا ْل َقمَرَ حُسْبَانا { ،وفي سورة الرحمن يقول الحق سبحانه:
شمْ َ
بصدد خواطرنا عنها } وَال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا عرفنا أن الشمس والقمر ويعملن في حسابنا لليام والشهور ،والثنان حسبان :الشمس لها
حساب ،والقمر له حساب وإذا ما نظرت إلى كلمة " حسبان " تفهم أن الشمس والقمر ،كليهما
مخلوق ليحسب به شيء آخر؛ لنهما خلقتا بحسبان ،أي أنهما قد أريد بهما الحساب الدقيق ،لن
الشمس مخلوقة بحساب ،وكذلك القمر.
وتعال إلى الساعة التي نستعملها ،أل يوجد بها عقرب للساعات ،وآخر للدقائق ،وثالث للثواني؟.
وهذا أقل ما قدرنا عليه ،وإن كان من الممكن أننا نقسم الثانية إلى أجزاء مثلما عملنا في
المساحات؛ فهناك المتر ،والسنتيمتر ،والملليمتر ،ثم بعد ذلك قلنا الميكروملليمتر .إذن ،كلما نرتقي
في التقدم العلمي نحسب الحساب الدق .ولم تكن الشمس والقمر حسابا لنا نحسب بهما الشياء إل
إذا كانت مخلوقة بحساب.
إنك حين تنظر إلى ساعتك تدرك قفزة عقرب الثواني ولكنك ل تدرك حركة عقرب الدقائق،
وكذلك ل تدرك حكة عقرب الساعات ،وكل من العقارب الثلثة يدور " بزمبلك " وترس معين.
إن اختلت الحركة في زمبلك أو ترس ،ينعكس هذا الخلل على بقية العقارب ،والثانية محسوبة
على الدقيقة ،والدقيقة محسوبة على الساعة.
وهكذا فإن لم تكن الساعة مصنوعة بهذا الحساب الدقيق فهي لن تعمل جيدا .وهكذا ل نعتبر
شمْسُ
الساعة معيارا لحساب أزماننا إل أنها في ذاتها خلقت بحساب .والحق سبحانه يقول } :ال ّ
وَا ْلقَمَرُ ِبحُسْبَانٍ { أي لنحسب بهما لنهما مخلوقتان بحسبان .أي بحساب دقيق ،ولماذا لم يقل الحق
حسابا وجاء بحسبان هنا ،وحسبان في آية سورة الرحمن؟ .ذلك لن المر يقتضي مبالغة في
الدقة .فهذا ليس مجرد حساب ،لكنه حسبان.
ويذيل الحق الية بقوله } :ذاِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ { ،وكلمة " العزيز " تفيد الغلبة والقهر فل
يستطيع أحد أن يعلو عليه؛ فهذه الجرام التي تراها أقوى منك ول تتداولها يدك ،إنّها تؤدي لك
مهمة بدون أن تقرب منها؛ فأنت ل تقترب من الشمس لتضبطها ،مثلما تفعل في الساعة التي
اخترعها إنسان مثلك ،والشمس لها قوة قد أمدها ال خالقها بها ول شيء في صنعته ول في خلقه
يتأبّى عليه .فهذا هو تقدير العزيز العليم ،وهو سبحانه يعطينا حيثيات الثقة في كونها حسبانا
لنحسب عليها .فهو جل وعل خالقها بتقدير عزيز ل يغلب ،وهو عزيز يعلم علما مطلقا ل نهاية
ج َعلَ َلكُمُ{ ...
له ول حدود .ويقول الحق من بعد ذلك } :وَ ُهوَ الّذِي َ
()876 /
ج َعلَ َل ُكمُ النّجُومَ لِ َتهْتَدُوا ِبهَا فِي ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْبَحْرِ قَدْ َفصّلْنَا الْآَيَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ ()97
وَ ُهوَ الّذِي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعد أن أوضح سبحانه أنه قد خلق الشمس والقمر بحسبان لتكون حسابا بتقدير منه ،وهو العزيز
العليم ،إنه -سبحانه -يصف لنا مهمة النجوم فقال { :لِ َتهْتَدُواْ ِبهَا فِي ظُُلمَاتِ الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ } ،
والنجوم هي الجرام اللمعة التي نراها في السماء لنهتدي بها في ظلمات البر والبحر؛ ومن
رحمته بنا وعلمه أن بعض خلقه ستضطرهم حركة الحياة إلى الضرب في الرض؛ والسير ليل
في الرض أو البحر مثل من يحرسون ويشيعون المن في الدنيا ول يمكن أن يناموا بالليل .بل
ل بد أن يسهروا لحراستنا ،كل ذلك أراده ال بتقدير عزيز حكيم عليم ،ولذلك ترك لنا النجوم
ليهتدي بها هؤلء الذين يسهرون أو يضربون في الرض أو يمشون في البحر بسفنهم ،وهم
يحتاجون إلى ضوء قليل ليهديهم ،ولذلك كان العرب يهتدون بالنجوم؛ يقول الواحد منهم للخر:
اجعل النجم الفلني أمام عينيك ،وسر فوق الحي الفلني .واجعل النجم الفلني عن يسارك وامش
تجد كذا ،أو اجعل النجم الفلني خلفك وامش تجد كذا.
إذن لو طمّت الظلمة لمنّعت الحركة بالليل ،وهي حركة قد يضّطر إليها الكائن الحي ،فجعل الحق
النجوم هداية لمن تجبرهم الحياة على الحركة في الليل.
وعلى ذلك فالنجوم ليست فقط للهتداء في ظلمات البر والبحر؛ لنه لو كان القصد منها أن نهتدي
بها في ظلمات البر والبحر ،لكانت كلها متساوية في الحجام ،لكنا نرى نجما كبيرا ،وآخر
صغيرا ،وقد يكون النجم الصغير أكبر في الواقع من النجم الكبير لكنه يبعد عنا بمسافة أكبر،
وعلى ذلك ل تقتصر الحكمة من النجوم على الهداية بها في حركة النسان برا وبحرا ،فليست
هذه هي كل الحكمة ،هذه هي الحكمة التي يدركها العقل الفطري أول؛ لذلك يأتي الحق في أمر
النجوم بقول كريم آخر ليوضح لنا أل تحصر الحكمة في الهداية بها ليلً برا وبحرا فيقول:
{ وَعَلمَاتٍ وَبِالنّجْمِ هُمْ َيهْتَدُونَ } فلم يقل -سبحانه -يهتدون في ظلمات البر والبحر .إذن -
النجوم -لها مهمة أخرى ،إنه جلت قدرته يقول {:فَلَ ُأقْسِمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَسَمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ
عَظِيمٌ }[الواقعة.]76-75 :
وكل يوم يتقدم العلم يبين لنا الحق أشياء كثيرة ،فها هو ذا المذنب الذي يقولون عنه الكثير ،وها
سعُونَ }[الذاريات:
سمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَي ْي ٍد وَإِنّا َلمُو ِ
هي ذي نجوم جديدة تكتشف تأكيدا لقول الحق {:وَال ّ
.]47
أي أنه سبحانه قد خلق عالما كبيرا .وأنت أيها النسان قد أخذت منه على قدر إدراكاتك
وامتداداتك في النظر الطبيعي الذي ل تستخدم فيه آلة إبصار ،وأخذت منه بالنظر المعان الذي
تستخدم فيه التليسكوب والميكروسكوب ،وغير ذلك من اقمار صناعية ,ولذلك يقول الحق سبحانه:
عظِيمٌ } وبعض العلماء يقول :إن كل إنسان
{ فَلَ ُأ ْقسِمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَسَمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ َ
يوجد في الوجود له نجم ،وترتبط حياته بهذا النجم ،وحين يأفل النجم يأفل قرينه على الرض،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهناك نجوم لمعة ندرك خفقانها ،ونجوم أخرى غير لمعة وبعيدة عنا ،ويقال إنها تخص أناسا
ل يدري بهم أحد لقلة تأثيرهم بأعمالهم في الحياة.
ويتقدم العلم كل يوم ويربط لنا أشياء بأشياء وكأن الحق يوضح :إنني خلقت لكم الشياء ِممّا قَدَرْتم
حكَم
بعقولكم أن تصلوا إلى شيء من الحكمة فيها ،ولكن ل تقولوا هذه منتهى الحكمة ،بل وراءها ِ
أعلى ،فسبحانه هو الحكيم القادر ،إنك قد تدرك جانبا يسيرا من حكم ال ،ولكن عليك أن تعلم أن
كمال ال غير متناه ،ول يزال في ملك ال ما ل نستطيع إدراك حكمته إلى أن ينهي ال الرض
ومن عليها.
ويقول الحق سبحانه في تذييل الية } :قَدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ { والية هي الشيء العجيب،
س وَا ْل َقمَرُ }[فصلت.]37 :
شمْ ُ
ل وَال ّنهَارُ وَال ّ
وتطلق على آيات كونيةَ {:ومِنْ آيَاتِهِ اللّ ْي ُ
وتطلق كلمة " آية " على الطائفة من القرآن التي لها فاصلة .إذن هناك آيات قرآنية ،وآيات
كونية ،واليات الكونية تعتبر مفسرة لليات القرآنية؛ فتفصيل اليات في الكون ما نراه من
تعددها أشكالً وألوانا وحكما وغايات .وتفصيل اليات في القرآن هو ما ينبهنا إليه الحق في قرآنه
وليلفت النظر إلى أن ذلك التفصيل في آيات الكون وذلك الخلق العجيب الحكيم الذي ل يمكن أن
يكون إل لله قادر حكيم يستحق أن يكون إلها موحّدا ،ويستحق أن يكون إلها معبودا.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَ ُهوَ الّذِي أَنشََأكُم{ ...
()877 /
س وَاحِ َدةٍ َف ُمسْ َتقَرّ َومُسْ َتوْ َدعٌ قَدْ َفصّلْنَا الْآَيَاتِ ِل َقوْمٍ َي ْفقَهُونَ ()98
وَ ُهوَ الّذِي أَنْشََأ ُكمْ مِنْ َنفْ ٍ
وقد تكلم سبحانه لنا -أولً -عن اليات المحيطة بنا والتي بها قوام حياتنا من فلق الحب
والنوى ،وبعد ذلك تكلم عن الشمس والقمر ،ثم تكلم عن النجوم ،كل هذه آيات حولنا ،ثم يتكلم عن
شيء في ذواتنا ليكون الدليل أقوى ،إنه -سبحانه -يأتي لك بالدليل في ذاتك وفي نفسك؛ لن
هذا الدليل ل يحتاج منك إلى أن تمد عينيك إلى ما حولك ،بل الدليل في ذاتك ونفسك ،يقول
سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات.]21 :
سبحانهَ {:وفِي أَنفُ ِ
أي يكفي أن تجعل من نفسك عَالَما ،هذا العلم موجود فيه كل ما يثبت قدرة الحق ،وأحقيته بأن
يكون إلها واحدا ،وإلها معبودا.
س وَاحِ َدةٍ } ينطبق على هذا القول أنه إخبار من ال ،وأنه -أيضا -
{ وَ ُهوَ الّذِي أَنشََأكُم مّن ّنفْ ٍ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
استقراء في الوجود ،الذي نسميه التنازل للماضي؛ لنك لو نظرت إلى عدد العالم في هذا القرن،
ثم نظرت إلى عدد العالم في القرن الذي مضى تجده نصف هذا العدد ،وإذا نظرت إليه في القرن
الذي قبله ،تجده ربع تعداد السكان الحاليين .وكلما توغلت في الزمن الماضي وتذهب فيه وتبعد،
س وَاحِ َدةٍ } ،وهذا ما ذكره ال لنا ،ولقائل أن يقول:
يقل العدد ويتناهى إلى أن نصل إلى { ّنفْ ٍ
شيْءٍ خََلقْنَا َزوْجَيْنِ }[الذاريات.]49 :
كيف تكون نفسا واحدة وهو القائلَ {:ومِن ُكلّ َ
ونقول :إن الحق سبحانه وتعالى خلق النفس الواحدة ،وأوضح أيضا أنه خلق من النفس الواحدة
زوجها ،ثم بدأ التكاثر .إذن فالستقراء الحصائي في الزمن الماضي يدل على صدق القضية.
وكذلك كل شيء متكاثر في الوجود من نبات ومن حيوان .تجدها تواصل التكاثر وإن رجعت
بالحصاء إلى الماضي تجد أن العداد تقل وتقل إلى أن تنتهي إلى أصل منه التكاثر إنّه يحتاج
إلى اثنين {:سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا }[يس.]36 :
س وَاحِ َدةٍ } ولم يقل زوجين؟ أوضح العلماء أن ذلك دليل على
ولماذا جاء الحق هنا بقوله { :مّن ّنفْ ٍ
اللتحام الشديد؛ لننا حين نكون من نفس واحدة فكلنا -كل الخلق -فيها أبعاض من النفس
الواحدة ،وقلنا من قبل :إننا لو أتينا بسنتيمتر مكعب من مادة ملونة حمراء مثلً ثم وضعناها في
قارورة ،ثم رججنا القارورة نجد أن السنتيمتر المكعب من المادة الحمراء قد ساح في القارورة
وصار في كل قطرة من القارورة جزء من المادة الملونة ،وهب أننا أخذنا القارورة ووضعناها
في برميل ،ثم رججنا البرميل جيدا سنجد أيضا أن في كل قطرة من البرميل جزءا من المادة
الملونة ،فإذا أخذنا البرميل ورميناه في البحر فستنساب المادة الملونة ليصير في كل قطرة من
البحر ذرة متناهية من المادة الملونة.
إذن ما دام آدم هو الصل ،وما دمنا ناشئين من آدم ،وما دام الحق قد أخذ حواء من آدم الحي
فصارت حية ،إذن فحياتها موصولة بآدم وفيها من آدم ،وخرج من آدم وحواء أولد فيهم جزء
حي ،وبذلك يردنا الحق سبحانه إلى أصل واحد؛ ليثير ويحرك فينا أصول التراحم والتواد
والتعاطف.
ويقول سبحانهَ } :فمُسْ َتقَ ّر َومُسْ َتوْ َدعٌ { والمستقر له معان متعددة يشرحها الحق سبحانه وتعالى في
شهَا }[النمل.]38 :
قرآنه .وفي قصة عرش بلقيس نجد سيدنا سليمان يقول {:أَ ّيكُمْ يَأْتِينِي ِبعَرْ ِ
وأجاب على سيدنا سليمان عفريت من الجن ،وكذلك أجاب من عنده علم من الكتاب .ويقول الحق
سبحانه {:فََلمّا رَآهُ مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ }[النمل.]40 :
مستقر هنا إذن تعني حاضرا؛ لن العرش لم يكن موجودا بالمجلس بل أحضر إليه .وفي مسألة
الرؤية التي شاءها الحق لسيدنا موسى عليه السلم {:قَالَ َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ قَالَ لَن تَرَانِي
س ْوفَ تَرَانِي }[العراف.]143 :
وَلَـاكِنِ ا ْنظُرْ إِلَى ا ْلجَ َبلِ فَإِنِ اسْ َتقَرّ َمكَانَهُ فَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونعلم أن جبريل كان له استقرار قبل الكلم ،إذن فـ " استقر " تأتي بمعنى حضر ،وتأتي مرة
أخرى بمعنى ثبت.
والحق يقول {:وََلكُمْ فِي الَ ْرضِ ُمسْ َتقَرّ َومَتَاعٌ إِلَىا حِينٍ }[العراف.]24 :
وذلك بلغ عن مدة وجودنا في الدنيا ،وكذلك يقول الحقَ {:أصْحَابُ الْجَنّةِ َي ْومَئِذٍ خَيْرٌ مّسْ َتقَرّا }
[الفرقان.]24 :
إذن فالجنة أيضا مستقر ،وكذلك النار مستقر للكافرين ،يقول عنها الحق {:إِ ّنهَا سَآ َءتْ مُسْ َتقَرّا
َومُقَاما }[الفرقان.]66 :
إذن فمستقر تأتي بمعنى حاضر ،أو ثابت ،أو كتعبير عن مدّة وزمن الحياة في الدنيا ،والجنة أيضا
مستقر ،وكذلك النار .ولذلك اختلف العلماء ونظر كل واحد منهم إلى معنى ،منهم من يقول" :
مستقر " في الصلب ثم استودعنا الحق في الرحام .ومنهم من رأى أن " مستقر " مقصود به
البقاء في الدنيا ثم نستودع في القبور.
ونقول :إن الستقرار أساسه " قرار " حضور أو ثبات ،وكل شيء بحسبه ،وفيه استقرار يتلوه
استقرار يتلوه استقرار إلى أن يوجد الستقرار الخير ،وهو ما يطمع فيه المؤمنون.
وهذا هو الستقرار الذي ليس من بعده حركة ،أما الستقرار الول في الحياة فقد يكون فيه تغير
من حال إلى حال ،لقد كنا مستقرين في الصلب ،ثم بعد ذلك استودعنا الحق في الرحام ،وكنا
مستقرين في الدنيا ثم استودعنا .في القبور .حتى نستقر في الخرة .إن كل عالم من العلماء أخذ
معنى من هذه المعاني .والشاعر يقول:وما المال والهلون إل ودائع ول بد يوما أن ترد
الودائعونلحظ أن هناك كلمة " مُسْ َتقَرّ " وكلمة " مستودع " ،و " مستودع " هو شيء أوقع غيره
عليه أن يودع .ولكن " مُسْ َتقَرّ " دليل على أن المسألة ليست خاضعة لرادة النسان .فكل واحد
منا " مُسْ َتقَرّ " به.
ويقول الحقَ } :قدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِل َقوْمٍ َيفْ َقهُونَ { والتفصيل يعني أنه جاء باليات مرة مفصلة ومرة
مجملة؛ لن الفهام مختلفة ،وظروف الستقبال للمعاني مختلفة ،فتفصيل اليات أريد به أن
يصادف كل تفصيل حالة من حالت النفس البشرية؛ لذلك لم يترك الحق لحد مجالً في أل يفقه،
ولم يترك لحد مجالً في أل يتعلم ،ونلحظ أن تذييل اليتين المتتابعتين مختلف؛ فهناك يقول
سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأراد الحق بالتفصيل الول في قولهِ } :ل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ { الدعوة للنظر في آيات خارجة عن ذات
النسان ،وهنا أي في قوله سبحانهِ } :لقَوْمٍ َي ْف َقهُونَ { لفت للنظر والتدبر في آيات داخلة في ذات
النسان.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَ ُهوَ الّذِي أَن َزلَ{ ...
()878 /
كان السياق يقتضي أن يقول سبحانه :أنزل من السماء ماء " فأخرج ".
لكنه هنا قال " :فأخرجنا "؛ لن كل شيء ل يوجد ل فيه شبهة شريك؛ فهو من عمله فقط ،ول
يقولن أحد إنه أنزل المطر وأخرج النبات لن الرض أرض ال المخلوقة له والبذور خلقها ال،
والنسان يفكر بعقل خلقه ال وبالطاقة المخلوقة له .وأنت حين تنسب الحاجات كلها إلى صانعها
الول ،فهو إذن الذي فعل ،لكنه احترم تعبك ،وهو يوضح لك :حين قال " :فأخرجنا " أي أنا
وأسبابي التي منحتها لك ،أنا خلقت السباب ،والسباب عملت معك .فإذا نظرت إلى مسبب
السباب فهو الفاعل لكل شيء .وإن نظرت إلى ظاهرية التجمع والحركة فالسباب التي باشرها
النسان موجودة؛ لذلك يقول " :فأخرجنا ".
وسبحانه جل وعل قد يتكلم في بعض المواقف فيثبت للنسان عملً لنه قام به بأسباب ال
الممنوحة له ،ولكنه ينفي عنه عملً آخر ليس له فيه دخل بأي صورة من الصور؛ مثل قوله
الحقَ {:أفَرَأَيْتُم مّا َتحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة.]64-63 :
سبحانه هنا ينسب لنا الحرث لننا قمنا به ولكن بأسباب منه -سبحانه -فهو الذي أنزل لنا
الحديد الذي صنعنا منه المحراث وهدانا إلى تشكيله بعد أن ألنه لنا بالنار التي خلقها لنا،
وبالطاقة التي أعطانا إياها ،أما الزراعة فليس لحد منا فيها عمل ولذلك يقول سبحانهَ {:لوْ نَشَآءُ
جعَلْنَاهُ حُطَاما َفظَلْتُمْ َت َف ّكهُونَ }[الواقعة.]65 :
لَ َ
هنا -سبحانه -أتى باللم في قوله تعالى( :لجعلناه) للتأكيد؛ لن النسان له في هذا المر عمل،
إنه حرث وتعهد ما زرعه بالريّ والكد حتى نما وأثمر ،لكن قد تصيبه آفة تقضي عليه ،فالسباب
وإن كانت قد عملت إل أنها ل تضمن النتفاع بثمرة الزرع ،ذلك لن السباب ل تتمرد ،ول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تتأبى على ال ول تخرج عليه ،إنها تؤدي ما يريده منها ال ،وقد يعطلها سبحانه .أما في قوله
تعالىَ { :أفَرَأَيْتُمُ ا ْلمَآءَ الّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَن ُتمْ أَنزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ * َلوْ نَشَآءُ
جعَلْنَاهُ ُأجَاجا } ،إنه سبحانه لم يقل لجعلناه ،لنه ليس لحد فيه عمل لذلك لم يؤكده باللم.
َ
ويقول سبحانهَ {:أفَرَأَيْ ُتمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَ َتهَآ َأمْ نَحْنُ ا ْلمُنشِئُونَ * نَحْنُ
جعَلْنَاهَا تَ ْذكِ َر ًة َومَتَاعا لّ ْل ُمقْوِينَ }[الواقعة.]73-71 :
َ
إن كل شيء يذكره الحق يذكر معه أيضا ما ينقضه ،ذلك حتى ل ُيفْتَن النسان بوجود الشياء،
وعليه أن يستقبل الشياء مع إمكان إعدامها .وإذا ما كان النسان هو الذي يحرث فالحق بطلقة
قدرته قد يجعل النبات حطاما ،ومن قبل قال عن مقومات الحياةَ {:أفَرَأَيْ ُتمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَنتُمْ
تَخُْلقُونَهُ أَم نَحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ }
[الواقعة.]59-58 :
ثم جاء سبحانه بما ينقضه فقالَ } :نحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َن ُكمُ ا ْل َم ْوتَ { .أما عن النار فلم يقل -سبحانه -
إنه يقضي عليها ويخمدها ويطفئها ،إنه -جل شأنه -أبقاها ليعلمنا ويذكرنا بنار الخرة } نَحْنُ
جعَلْنَاهَا تَ ْذكِ َرةً { أي ل بد أن نتركها أمامكم حتى ل يغيب عنكم العذاب الخروي } َومَتَاعا
َ
لّ ْل ُمقْوِينَ { أي ونتركها -جون نقض لها وذلك لمر آخر هو المنفعة في الدنيا للذين ينزلون أماكن
خالية قفراء أو للذين خلت بطونهم وأوعيتهم ومزاودهم من الطعام لن النار تنفعهم وتساعدهم
شيْءٍ { [النعام.]99 :
على إعداد طعامهم استبقاء لحياتهم } :فََأخْرَجْنَا ِبهِ نَبَاتَ ُكلّ َ
والشيء هو ما ُيخْبَر عنه؛ الهباءة شيء ،والذرة شيء وكل حاجة اسمها شيء ،ومعنى نبات كل
شيء :أن كل حاجة مثل النبات تماما .رأينا الحجارة التي يقول عنها العلماء هذه جرانيت ،وتلك
الرخام وتلك مرمر ،ولو نظرت إلى أصلها وجدتها أعمارا للحجارة ،طال عمر حجر ما فصارا
فحما ،وطال عمر آخر فصار جرانيتا ،وهكذا .وكل حاجة لها حياة لتثبت لنا القضية الولى،
جهَهُ }[القصص]88 :
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
وهيُ {:كلّ َ
أو نبات كل شيء ترون فيه نموا وحياة ،والعقل الفطري يأخذها هكذا ،لكن العقل المستوعب يأخذ
منها قضايا كثيرة ،ويتغلغل في الكون ويجد الية سابحة معه وهو سابح معها.
خضِر " فقد تعني
خضِرا نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مّتَرَاكِبا { وإذا قلت كلمة " َ
ويتابع سبحانه } :فَأَخْ َرجْنَا مِنْهُ َ
اللون المعروف لنا وهو الخضر ،لكن " خضر " فيها وصف زائد قليلً عن أخضر؛ لن "
أخضر " يخبر عن لون فقط ،واللون متعلقة العين ،لكن " خضر " يعطي اللون ،ويعطي
الغضاضة ونعرفها " بالحس " .وحين تلمسه تجد النعومة.
إذن " خضر " فيها أشياء كثيرة؛ " لون " متعلق العين ،و " غضاضة " نعرفها بالحس وفيها نعومة
نعرفها باللمس .وهذا اللون الخضر يكون داكنا جدا أي أن خضرته شديدة حتى أنها تضرب إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السواد؛ لذلك نسمع من يقول " :سواد العرق " أي الرض الخصبة التي في العراق ،ويسمونها
سواد العرق لنها خضراء خضرة شديدة ولذلك تكون مائلة إلى السواد ،ويقول الحق سبحانه
وتعالىَ {:ومِن دُو ِن ِهمَا جَنّتَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * مُدْهَآمّتَانِ }[الرحمن.]64-62 :
و " مدهامة " أي مثل دهمة الليل؛ كأنها من شدة خضرتها صارت كدهمة الليل .ويتابع الحق }
خضِرا نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مّتَرَاكِبا { والحب هو ما ليس له نواة مثل حبة الشعير وحبة القمح وحبة
َ
العدس وحبة اللوبيا .و " متراكبا " تعني أنه حب مرصوص متساند.
خلِ مِن طَ ْل ِعهَا قِ ْنوَانٌ دَانِ َيةٌ { والنخل عند العرب له مكانة عالية لنه يعطي لهم الغذاء
} َومِنَ النّ ْ
خلِ مِن طَ ْل ِعهَا قِ ْنوَانٌ دَانِيَةٌ {.
الدائم فيذكرهم به } َومِنَ النّ ْ
و " الطلع " هو أول شيء يبدو من ثمر النخل ،وهو ما نسميه في الريف " الكوز الخضر " وهو
في الذكر من النخل الذي يسمى " الفحل " ويوجد أيضا في النثى ،وأول ما يبدو من ثمر النخل
يسمى الطلع ،ثم ينشق الطلع ويخرج منه القنو أو العزق أو العرجون ،وهو الجزء الذي توجد فيه
الشماريخ التي يتعلق بها البلح.
والطلع إذن هو الثمرة الولى للنخلة قبل أن تنشق ويطلع منها القنوان وهو " السباطة " كما
نسميها في الريف.
" قنوان دانية " ويصفها الحق بأنها دانية لنك حين تنظر طلع النخيل أول ما يطلع تجده ينشق
ويحمي نفسه بشوك الجريد حتى ل تأكله الحشرات ثم يثقل وينحني ويكاد ينزل على الرض
فيكون دانيا قريبا ،فإن كانت هناك " سباطة " شاذة تجد من يجنيها يُدخل يده بين الشوك ليصل
إليها .وسبحانه يترك لنا فلتات لنعرف نعمة ال في أنه جعلها تتدلى لنها لو كانت كلها دانية .قد
ل يلتفت إليها ،لذلك يترك واحدة بين الشوك ليتعب النسان حتى يحصل عليها لتعرف أنه سبحانه
قد دنّى لك الباقي وهذه نعمة من ال.
ويُطلق الطلع مرة على الكمام و " الكِم " هو ما توجد في قلبه الثمار ،ومرة يطلق على الثمر
سقَاتٍ ّلهَا طَلْعٌ ّنضِيدٌ }[ق.]10 :
خلَ بَا ِ
نفسه {:وَالنّ ْ
وأنت ترى البلح نازلً من " الشماريخ " ،وكل شمروخ به عدد من البلح ،ثم ترى " الشمروخ "
متصلً بالم ،وفي ذلك ترى عظمة الهندسة العجيبة في ترتيب الثمار .وكل شيء محسوب في
هذا المر بهندسة عجيبة وعندما ننظر إلى ما تعلمناه في حياتنا حين نصمم شبكة توصيل المياه
وشبكة الصرف الصحي ،إن شبكة المياه التي تعطينا الذي نستخدمه ،وشبكة الصرف الصحي
التي تأخذ الزائد من المياه والفضلت .عندما تنظر إلى هذه الشبكة أو تلك تجد هندسة كل منها
دقيقة؛ لن أي غفلة في التصميم تسبب المتاعب .فحين تريد توصيل المياع إلى حارة؛ فأنت
تستخدم ماسورة قطرها كذا بوصة ،وفي الحارة هناك عطفات فتحضر لكل عطفة ماسورة أقل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قطرا من الولى ،ثم ماسورة أقل للبيوت ،وماسورة أقل بكثير لكل شقة ،لقد قام المهندسون
بحساب دقيق لهذه المسائل.
فإذا كانت هذه هي هندسة البشر ،فما بالنا بهندسة الخالق؟ أنت تجد العزق :وهو حامل الرطب
يأخذ من النخلة ،وكل نخلة فيها كذا " سباطة " وفي كل " سباطة " هناك " الشماريخ " ،ثم هناك
البلح وكل بلحة تأخذ شعرة لغذائها .وهكذا نجد كل شيء محسوبا بدقة بالغة .إنها هندسة كونية
سوّىا * وَالّذِي َقدّرَ َفهَدَىا }
عجيبة مصنوعة بقول الحق :كن ،وصدق ال القائل {:الّذِي خََلقَ فَ َ
[العلى.]3-2 :
سمَآءِ مَآءً { لم نكن نعرف ما
سمَآءِ مَآءً { وكلمة } وَ ُهوَ الّذِي أَن َزلَ مِنَ ال ّ
} وَ ُهوَ الّذِي أَن َزلَ مِنَ ال ّ
وراءها ،كنا نعرف فقط أن السماء هي كل ما علك فأظللك ،والماء يأتي من السحاب ،وكلنا نرى
السماء تمطر .وكلنا نعرف التعبير الفطري الذي يقول :غامت السماء ،ثم أمطرت ،وهناك من
قال :تضحك الرض من بكاء السماء لنها تستقبل الماء الذي يروي ما بها من بذور .لكن ما
وراء عملية النزال هذه؟
إن هناك عملية أخرى تحدث في الكون دون شعور منا ،عرفناها فقط حين تقدم العلم وحين قمنا
بتقطير المياه ،فأحضرنا موقدا ووضعنا فوقه قارورة ماء ،وحين وصل إلى نقطة الغليان خرج
البخار ،وسار البخار في النابيب ومرت النابيب في أوساط باردة فتكثفت المياه ونزلت ماء
مقطرا ،ومثل ذلك يحدث في المطر ،وانظر كم يكلفنا كوب واحد من الماء المقطر الذي نشتريه
من الصيدلية؟ وقارن ذلك بالسماء التي تنزل بماء منهمر ،ول ندري كيق صُنع .ولذلك يقول
الحقَ {:أأَنتُمْ أَنزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ َأمْ نَحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ }[الواقعة.]69 :
خلِ
هكذا ينزل الماء من السماء ،ولم نكن نعرف كيف يحدث ذلك وسبحانه يقول هناَ } :ومِنَ النّ ْ
ب وَالزّيْتُونَ وَال ّرمّانَ ُمشْتَبِها وَغَيْرَ مُ َتشَابِه { [النعام.]99 :
مِن طَ ْل ِعهَا قِ ْنوَانٌ دَانِ َي ٌة وَجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَا ٍ
وحين يقول سبحانه } مُشْتَبِها وَغَيْرَ مُتَشَابِه { نصدق ،مثال حبة الخوخ ،هناك حبة من نوع نسميه
" الخوخ السلطاني " ،حين تمسك بالثمرة الواحدة تنفلق لتخرج البذرة نظيفة ،وحبة أخرى نفلقها
نحن فتجد البذرة فيها بعض لحم الفاكهة ونجد فيها أيضا بعضا من اللياف .وهذه لها لون
ضهَا عَلَىا
ضلُ َب ْع َ
سقَىا ِبمَآءٍ وَاحِ ٍد وَ ُن َف ّ
والخرى لها لون ،هذه لها طعم وتلك لها طعم مختلفُ {.ي ْ
ل ُكلِ }[الرعد.]4 :
َب ْعضٍ فِي ا ُ
هذا ليعرف النسان أن طلقة القدرة تحقق ما يريده الخالق ،وبعد ذلك تلتفت فتجد الفصائل ،فهذا
برتقال منه بسرّة ،ومنه برتقال بلدي .وبرتقال بدمّه ثم اليوسفي .ولذلك سنجد في الجنة ما يحدثنا
عنه سبحانه فيقول {:كُّلمَا رُ ِزقُواْ مِ ْنهَا مِن َثمَ َرةٍ رّزْقا قَالُواْ هَـاذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِن قَ ْبلُ وَأُتُواْ بِهِ
مُتَشَابِها }[البقرة.]25 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين يأكل منه ساكن الجنة يكتشف أن لفاكهة الجنة طعما مختلفا .ومن طلقة القدرة أنه بعد
التحليلت التي قام بها العلماء المعمليون -جزاهم ال عنا خيرا -لـ " حبة العنب " وجدوا أن
القشرة التي تغلفها لها طبيعة " البارد " و " اليابس " ،واللحم لحبة العنب طبيعته مختلفة " حار
رطب " ثم البذرة " بارد يابس " ،وهذه ثلث طبائع في الحبة الواحدة ،وهذا شيء عجيب
التكوين .وكذلك " الترجة " وهي فاكة كالنارنج تجد القشرة " حارة يابسة " ،واللحم فيها " بارد
رطب " ،والسائل الذي في اللحم " بارد يابس " والبذرة " حار يابس " ،طبائع أربعة في الشيء
الواحد ،كيف؟ وبأية قدرة؟
إن العلماء قد تعبوا حتى عرفوا تكوينها ليظهروا لنا المسألة ،وتلتفت لتجد ثمرة تأكل ظاهرها،
وباطنها بذرة ،وثمرة ثانية تأكل ما في داخلها كالجوز أو اللوز ،وتقشر القشرة وتلقيها ،والخوخة
تأكل لحمها وتترك بذرتها ،وذلك لتعرف أن المسألة ليست آلية خلق بل إبداع خالق.
وتجد الشيء له اللون ،واللون بل طعم ،ثم الرائحة المميزة وكل ذلك دليل على طلقة القدرة.
وهذا هو السبب في أن الحق سبحانه وتعالى حينما يتكلم عن ثمار الجنة يأتي بثمار مثلها في
الدنيا؛ لنه لو أحضر ثمارا ليس لها مثيل في الدنيا لقال النسان :هذه طبيعة الثمار ،ولو وجدت
في الدنيا لكان لها طعم مماثل .لكن هاهي ذي تتشابه ،وطعومها مختلفة ..إنها طلقة القدرة.
ويقول الحق } :ا ْنظُرُواْ إِلِىا َثمَ ِرهِ إِذَآ أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ { الحق سبحانه وتعالى ل يعطي النسان حتى
يمل بطنه فحسب ل ،ولكنه يغذي كل الملكات في النفس النسانية حتى ملكات الترف ،وملكات
الجمال ،وملكات الحسن ،فيوضح لك قبل أن تأكل :انظر للثمر وشكله! لتغذي عينيك بالمنظر
الجميل حين ترى الثمرة طالعة وتتبعها حتى تنضج ،إنّها مراحل عجيبة تدل على أن الصانع
قيّوم ،وكل يوم لها شكل مختلف وحجم مختلف ،وإن أكلتها اليوم فستجد طعمها يختلف عما إذا
أكلتها بعد ذلك بيوم ،وهذا دليل على أن خالقها قيّوم عليها .ما دامت كل لحظة من اللحظات فيها
شكل ،وفيها لون وفيها طعم وفيها رائحة جديدة.
} ا ْنظُرُواْ إِلِىا َثمَ ِرهِ إِذَآ أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ { ،و " ينعه " أي وصلت إلى النضج وذلك إشاعة للتمتع بنعم
الكون لن النظر إلى الثمر ل يعني أنني أملكه ،فقد أراه في حقل جاري وأنظر له وأتمتع بشكله.
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يشيع النتفاع بنعم ال حتى عند غير واجدها ،لن أحدا لن
يمنعني من أن أنظر ،فأنبسط ،فمن ناحية الكمال النساني هناك غذاء لملكات النفس؛ لن النفس
ليست ملكات جوع وعطش فقط بل هي ملكات متعددة ،وكل ملكة لها غذاؤها .ولذلك فقبل أن
جمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ َوحِينَ
يقول لي :إن الخيل والبغال تحمل الثقال ..قال سبحانه {:وََلكُمْ فِيهَا َ
ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَىا بَلَدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ بِشِقّ الَنفُسِ إِنّ رَ ّب ُكمْ لَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ }
تَسْ َرحُونَ * وَتَ ْ
[النحل.]7-6 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فهو يعطيني فائدة حمل الثقال؛ لن حمل الثقال لمن يملكها ،إنما الذي ل يملكها فهو يرى
الحصان يسير بجمال ،فيسعد برؤيته فيتمتع بما ل يملك ،هذه إشاعة لنعم ال على خلق ال.
ويذيل الحق الية الكريمة بقوله } :إِنّ فِي ذاِلكُمْ ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ {
أي يؤمنون بأن الله الذي آمنوا به يستحق بصفات الجلل والجمال فيه أن ُي ْؤمَن به ،وكلما رأى
النسان خلقا جميلً قال :ال ،إذن أنا إيماني صحيح واليات تؤكد صدق إيماني بالله الذي خلق
كل هذا ،وكل يوم تبدو لي حاجة عجيبة تزيدني إيمانا ،وعقلي الذي وهبه ال لي هداني إلى
اليمان بهذا الله.
ومن العجيب ان هناك من جعلوا ل شركاء!! إله له كل هذه الصفات من أول فالق الحب والنوى،
وفالق الصباح ،وجعل الليل ساكنا ،والشمس ،والقمر ،حسابنا وبحسبان ،والنجوم نهتدي بها في
ظلمات البر والبحر ،وأنزل لنا من السماء ماء ،وأخرج لنا النبات منه خضر ،كل هذه المسائل
كان يجب أن تكون صارفة للناس إلى أن ال وحده هو الخالق المستحق للعبادة ،ول تتجه أبدا
بالعبادة أو باليمان بغيره ،لكن هناك من جعلوا ل شركاء ،وجاء بها سبحانه بعد كل ذلك حتى
يحفظنا ويغضبنا عليهم لنحذرهم ونتقيهم.
وإذا أحفظنا عليهم استحمدنا أي استوجب علينا حمد إذْ أنه هدانا إلى اليمان ،فنقول :الحمد ل
الذي هدانا إلى اليمان.
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ{ ...
وبعد ذلك يقول الحق سبحانهَ } :و َ
()879 /
عمّا َيصِفُونَ (
ن وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَى َ
ن وَخََل َقهُ ْم وَخَ َرقُوا لَهُ بَنِي َ
جعَلُوا لِلّهِ شُ َركَاءَ ا ْلجِ ّ
وَ َ
)100
ومادة الجن هي " الجيم " و " النون " وكلها تدل على الستر والتغطية والتغليف ،ومنها الجنون،
لن العقل في هذه الحالة يكون مستورا ،ونحن ل نرى الجن ،فهم مستورون ،والملئكة كذلك،
والمادة كلها مادة " الجيم " و " النون " تدل على اللف والتغطية.
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ الْجِنّ } و " الجن " هو الخفي من كل شيء ،والجن -كما تعلمون -هم خلق
{ وَ َ
من خلق ال فسبحانه خلق النس وخلق الجن ،خلق الجن مستورا حتى ل نعتقد أن خلق ال لحي
كائن ،يجب أن يتمثل في هذا القالب المادي ،بل سبحانه يخلق ما شاء وكما شاء ،فيخلق أشياء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مستورة ل تُرى ،ولها حياة ،ولها تناسل ،ويخلق أشياء مستورة ،ول تناسل لها :كل ذلك بطلقة
قدرة الحق سبحانه ،ليقرب لنا هذه القضية؛ لن عقولنا قد تقف في بعض الشياء التي ل تدرك
ول ترى؛ لننا ل نعلم وجودا لشيء إل إذا أحسسناه.
إن الحق سبحانه يوضح ذلك .فإياك أن تظن أنك تستطيع أن تدرك كل ما خلقه ال ،فليس حسك
هو الوسيلة الوحيدة للدراك لن حسك له قوانين تضبطه ،فأنت ترى ،ولكنك ترى بقانون ،بحيث
إذا بعد المرئي عنك امتدادا فوق امتداد بصرك فل تراه وكذلك أذنك تسمع ،فإن بعد الصوت أو
مصدر الصوت عنك بحيث ل تصل الذبذبة إليك ،فل تسمع ،كذلك عقلك ،قد تفهم أشياء ول تفهم
ل تقرب لنا ذلك الخلق الخفي من الجن ومن
أشياء أخرى ،ثم ضرب لنا في وجودنا المادي أمثا ً
الملئكة.
لقد وجدنا العقل البشري قد هداه ال الذي قدر فهدى ،إلى أن يكتشف شيئا اسمه " الميكروب " و "
الميكروب " كائن حي دقيق جدا بحيث إن البصر العادي ل يدركه ،ولكنه كان موجودا ،وفعل
الفاعيل في الناس ودخل في أجسامهم دون أن يشعروا كيف دخل وعمل فيهم وفي صحتهم ما
عمل من الهلك والموت مثل أمراض الطاعون والكوليرا وغيرها ،ومع ذلك فالميكروب كان
موجودا ومن جنس وجودنا ،أي هو مادة وله حياة وله فعل ،وله نفوذ في الهيكل الذي يدرك وهو
النسان.
وهكذا رأينا أن شيئا خفيا ل يدرك ويهدد إنسانا ضخما يدرك ،فهل معنى اكتشاف الميكروب أننا
أوجدناه؟ ل ،إن وجود الميكروب شيء ،وإدراك وجوده شيء آخر ،وإذا حللنا " الميكروب " نجد
أنه مادة النسان ولكنه دقيق جدا حتى إن العين المجردة ل تراه ،فلما اكتشف المجهر وكبرناه
عرفناه ،وهذا الكائن الحي إن كنت ل تراه ،فعدم رؤيتك له سابقا ل تعني أنه غير موجود ،بل هو
موجود ولكنك لم تدركه ،ثم اكتشفت -أيها النسان -آلة جعلتك تدركه ،ولنعرف أن وجود شيء
ل يعني أنك من الضروري أن تدركه ،فإذا قال ال لك :لي ملئكة من خلقي ،ولي جن من خلقي،
ولكنكم ل ترونهم وهم يرونكم ،نقول :صدقت يا ربي ،لن شيئا من جنس مادتنا كان موجودا ول
نراه ثم بعد ذلك رأيناه.
إذن فالشياء التي نكتشفها الن هي دليل على صدق البلغ القرآني بما أخبر به من المور
الغيبية ،الجن مستور ،والمادة كلها -كما بينا -تدل على الستر ،فالجنون غياب العقل ،وجن
الليل ،أي ستر وغطى ،والجنة لن فيها أشجارا وغير ذلك بحيث ل يظهر الذي يسير فيها فتكون
ساترة لمن يدخلها.
إذن المادة كلها تدل على الستر ،وهل الذي نتعجب منه أنهم جعلوا الجن شركاء ،أو أن التعجيب
ليس من جعل الجن شركاء بل من اتخاذ مبدأ الشركاء ،سواء أكان جنا أم غير جن ،إن التعجيب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هنا من المبدأ نفسه ،فنحن ل نعترض فقط على أن الجن شركاء ،بل نحن نعترض على المبدأ
نفسه ،أن يكون ل شريك من جن أو من ملئكة أو من غير ذلك ،ولهذا قدم المجعول -وهو
الشريك -على المجعول منه -وهو الجن -مع أن العادة أن يقدم المجعول منه على المجعول،
فتقول جعلت الطين إبريقا أي :أن الطين كان موجودا ،وأخذت منه الذي لم يكن موجودا وهو
البريق.
ثم هل كان الشركاء موجودين وطرأ الجن عليهم؟ أو كان الجن موجودا وطرأ الشركاء عليهم؟ في
هذه الحالة كان يجب القول :وجعلوا الجن ل شركاء ،إذن فالعجيبة ليس في أن يكون الجن
شركاء ،العجيبة في المبدأ نفسه ،وكيف ترد فكرة الشركاء على أذهانهم سواء أكان الشركاء من
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ { وساعة تسمعها تقول :أعوذ
الجن أم من غير ذلك ،ولهذا قال سبحانه } :وَ َ
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ {!! ول يهمك من هم الشركاء؛ لن مطلق مجيء شريك ل هو المر
بال } وَ َ
العجيب ،سواء كان من الجن أم من الملئكة وكيف جعلوا الجن شركاء؟ ألم يقل الحق في كتابه
عصِيّا }[مريم.]44 :
حمَـانِ َ
ت لَ َتعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلرّ ْ
إن إبراهيم قال {:ياأَ َب ِ
وما هي العبادة؟ العبادة هي أن يطيع العابد المعبود فيما يأمره به ،وما داموا يطيعون الشياطين
جمِيعا ثُمّ َيقُولُ لِ ْلمَلَ ِئكَةِ
حشُرُهُمْ َ
في وسوستهم فكأنهم عبدوهم ،ولذلك يقول الحق سبحانه {:وَ َيوْمَ يَ ْ
أَهَـا ُؤلَءِ إِيّاكُمْ كَانُواْ َيعْبُدُونَ }[سبأ.]40 :
ت وَلِيّنَا مِن دُو ِنهِمْ َبلْ كَانُواْ َيعْ ُبدُونَ الْجِنّ َأكْـثَرُهُم ِبهِم ّم ْؤمِنُونَ }
فقالت الملئكة {:قَالُواْ سُبْحَا َنكَ أَن َ
[سبأ.]41 :
وكيف كانوا يعبدون الجن؟ إنهم كانوا يطيعونهم فيما يأمرونهم به وينهونهم عنه؛ لن العبادة هي
الطاعة ،وأنت أيها العباد ل تقترح العبادة بل تنظر فيما طلب منك أن تتقرب به إلى المعبود ،إذن
" افعل ول تفعل " هي الصل.
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ الْجِنّ { ولماذا جاءوا ل بشركاء؟ لماذا لم يعبدوهم وحدهم ويستبعدوا ال من
} وَ َ
العبادة؟ لن وجود شريك دليل على العتراف بال أيضا فلماذا جعلوا له شركاء؟ ولماذا لم يلحدوا
وينكروا ويكفروا بال وتنتهي المسألة؟ ل .لم يفعلوا ذلك؛ لنهم رأوا أن الشركاء ليس لهم
مطلوبات تعبدية وحين عبدوها -مثلً -لم تقل لهم " افعلوا " و " ل تفعلوا " وليس هنام منهج
لتباعه ،لكن أحداثا فوق أسبابهم ول يستطيعون لها دفعا قد تحدث فلمن يجأرون؟ أللهة التي
يعتقدون كذبها وبهتانها وأنها ل تنفع ول تضر؟ لذلك احتفظوا باعترافهم بال ليلجأوا إليه فيما ل
يقدرون على دفعه ل هم ول من اتخذوهم شركاء ،ولذلك يقول الحق {:وَإِذَا مَسّ الِنسَانَ الضّرّ
شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ }[يونس:
دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ
.]12
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كأنه يريد عبادة ال للمصلحة فقط.
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ الْجِنّ { .ومن العجيب -إذن -أنهم جعلوا ل شركاء ،مع أن ال هو الذي
} وَ َ
خلق العابد والمعبود ،والتعجيب من أمرين اثنين :أن يجعلوا شركاء ل من الجن أو من الملئكة،
والعجيبة الخرى أنه } وَخََل َقهُ ْم وَخَ َرقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ { وما معنى خرقوا له؟ معناها
أنهم اختلقوا؛ لن الخرق إيجاد فجوة في الشيء المستوى على قانون السلمة ،ولذلك قال في
السفينة {:أَخَ َرقْ َتهَا لِ ُتغْرِقَ أَهَْلهَا }[الكهف.]71 :
وخرقوا له .أي عملوا خرقا في الشيء السليم الذي تأبى الفطرة أن يكون.
ن وَبَنَاتٍ { [النعام.]100 :
خَلقَهُ ْم َوخَ َرقُواْ لَهُ بَنِي َ
} وَ َ
أما القسم الذي ادّعى أن ل البنين فهم أهل الكتاب؛ إنهم قالوا ذلكَ {:وقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ
َوقَاَلتْ ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ }[التوبة.]30 :
صفَاكُمْ
أما من جعلوا ل البنات ،فهم بعض العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملئكة بنات الَ {.أفََأ ْ
ن وَاتّخَذَ مِنَ ا ْلمَل ِئكَةِ إِنَاثا }[السراء.]40 :
رَ ّبكُم بِالْبَنِي َ
ح ُكمُونَ }[الصافات.]154-153 :
طفَى الْبَنَاتِ عَلَىا الْبَنِينَ * مَا َلكُمْ كَ ْيفَ َت ْ
وقال سبحانهَ {:أصْ َ
سمَ ٌة ضِيزَىا }[النجم.]22-21 :
وسبحانه القائل {:أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَ ُه الُنْثَىا * تِ ْلكَ إِذا قِ ْ
جعَلُواْ بَيْنَ ُه وَبَيْنَ
وهناك من العرب من جعل بين ال وبين الجن صلة نسب مصداقا لقول الحق {:وَ َ
الْجِنّةِ نَسَبا }[الصافات.]158 :
جعَلُواْ
لقد افتروا على الحق وادّعو أن اتصالً تم بين ال وبين الجنّة فخلقت وولدت الملئكة } .وَ َ
صفُونَ { [النعام:
عمّا َي ِ
ن وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ سُ ْبحَانَ ُه وَ َتعَالَىا َ
ن وَخََل َقهُ ْم وَخَ َرقُواْ لَهُ بَنِي َ
للّهِ شُ َركَآءَ ا ْلجِ ّ
.]100
ولماذا يقول الحقِ } :بغَيْرِ عِلْمٍ { لن العلم يؤدي إلى النقيض ،فالعلم قضية استقرائية معتقدة واقعة
يقام عليها الدليل ،وهذا شيء ل واقع له ،ول يمكن أن يوجد عليه دليل لذلك فهو قول بغير علم
بل هو بجهل .هي إذن جهالة بأن يصدقوا في حاجة وأنها واقعة وهي ليست واقعة ،ول يقام عليها
دليل لنها غير موجودة ،ولو استقام الدليل عندهم بفطرتهم المستقبلة لدلة البيان وأدلة الكون
لتبرأوا مما اعتقدوا ،ولرفضوا أن يتخذوا ل شركاء.
وقد عرض الحق قضية طرأت على الفكار المشوشة وقالوا " :شركاء " فقال " :سبحانه " ،أي
تنزيها له عن الشرك في الذات وفي الصفات ،وفي الفعال؛ لن ذاته ليست ككل الذوات ،وأفعاله
ليست ككل الفعال ،وصفاته ليست ككل الصفات ،ولذلك تأتي " سبحانه " في كل أمر يناقض
نواميس الكون الموجودة .وخذ كل أمر يتعلق بالله الحق في إطار " سبحانه " .ولذلك حينما جاء
بالسراء برسول ال صلى ال عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ثم عرج به في ليلة واحدة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكان ذلك أمرا عجيبا ،أمرنا الحق أن نتقبلها في إطار قوله الحق {:سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً
سمِيعُ ال َبصِيرُ
حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ
ج ِد ا َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَسْ ِ
مّنَ ا ْلمَ ْ
}[السراء.]1 :
إن محمدا عليه الصلة والسلم لم يقل :أنا سَرَيت من مكة إلى بيت المقدس ،إنما قالُ :أسْرِي بي
" ،وما دام قد أسري به فالقانون في السراء هو قانون الحق سبحانه .فخذها في إطار سبحانه،
سهِمْ }[يس.]36 :
ض َومِنْ أَنفُ ِ
ت الَ ْر ُ
وهو القائل {:سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِب ُ
ثم يأتي بما هو أوسع من إدراكك فيقولَ {:و ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس.]36 :
كأننا سوف نعلم فيما بعد أشياء فيها زوجية ،وقد أزاح الكشف العلمي في القرن العشرين بعضا
من ذلك ،فعرفنا الموجب والسالب في الكهرباء واللكترونات ،وقولهَ } :و ِممّا لَ َيعَْلمُونَ { يفسح
المجال لقضايا الكون التي تحدث بنشاطات العقول المكتشفة.
صفُونَ
عمّا َي ِ
ن وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَا َن ُه وَ َتعَالَىا َ
ن َوخََل َقهُمْ وَخَ َرقُواْ لَهُ بَنِي َ
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ الْجِ ّ
} وَ َ
{ [النعام.]100 :
فـ (سبحانه) تنزيها له وتقديسا عن أن يقاس بالكائن الموجود .تعالى اسمه ،وتعالت ذاته ،وتعالت
صفُونَ { بأوصاف ل تليق بذاته.
عمّا َي ِ
صفاته وأفعاله } َ
ت وَالَرْضِ{ ...
سمَاوَا ِ
وبعد ذلك يقول الحقَ } :بدِيعُ ال ّ
()880 /
شيْءٍ
شيْ ٍء وَ ُهوَ ِب ُكلّ َ
خلَقَ ُكلّ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ أَنّى َيكُونُ لَ ُه وَلَدٌ وَلَمْ َتكُنْ لَهُ صَاحِبَ ٌة وَ َ
بَدِيعُ ال ّ
عَلِيمٌ ()101
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السماوات ،فأراد الحق أن يبطل هذه المسألة بعد أن قالوا سبعة .فقد اكتشف العلماء تابعا ثامنا
للشمس ،ثم اكتشفوا التاسع ،ثم صارت التوابع عشرة ،ثم زاد المر إلى توابع ل نعرفها .وأين
هذه المجموعة الشمسية من السماوات؟ وكلها مجرد زينة للسماء الدنيا ،وعندما اكتشفت المجاهر
واللت التي تقرب البعيد رأينا " الطريق اللبني " أو " سكة التبانة " ووجدناها مجرة وفيها
مجموعات شمسية ل حصر لها ،وجدنا مليون مجموعة مثل مجموعتنا الشمسية .هذه مجرة
واحدة ،وعندنا مليين المجرات ،ونجد عالما في الفلك يقول :لو امتلكنا آلت جديدة فسنكتشف
مجرات جديدة.
سعُونَ }[الذاريات.]47 :
سمَآءَ بَنَيْنَاهَا بِأَييْ ٍد وَإِنّا َلمُو ِ
ولنسمع قول ال {:وَال ّ
إذن يجب أن نأخذ خلْق السماوات والرض في مرتبة أهم من مسألة خلق الناس.
شيْءٍ
شيْءٍ و ُهوَ ِب ُكلّ َ
ت وَالَ ْرضِ أَنّىا َيكُونُ لَهُ وَلَ ٌد وَلَمْ َتكُنْ لّ ُه صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ ُكلّ َ
سمَاوَا ِ
{ َبدِيعُ ال ّ
عَلِيمٌ } [النعام.]101 :
وما دام سبحانه بديع السماوات والرض ،وهو بقدرته الذاتية الفائقة خلق السماوات والرض
الكبر من خلق الناس ،إذن فإن أراد ولدا لطرأ عليه هذا البن بالميلد ،ول يمكن أن يسمى ولدا
إل إذا وُلد ،وسبحانه منزه عن ذلك ،ثم لماذا يريد ولدا ،وصفات الكمال لن تزيد بالولد ،ولم يكن
الكون ناقصا قبل ادّعاء البعض ان للحق سبحانه ولدا ،إن الكون مخلوق بذات الحق سبحانه
شيْءٍ
وتعالى ،والناس تحتاج إلى الولد لمتداد الذكرى ،وسبحانه ل يموت؛ مصداقا لقولهُ {:كلّ َ
جهَهُ }[القصص.]88 :
ل وَ ْ
هَاِلكٌ ِإ ّ
والبشر يحتاجون إلى النجاب ليعاونهم أولدهم ،وسبحانه هو القوي الذي خلق وهو حي ل
يموت؛ لذلك فل معنى لن يُدّعى عليه ذلك وما كان يصحّ أن تناقش هذه المسألة عقل ،ولكن ال
-لطفا بخلقه -وضّح وبين مثل هذه القضايا.
يقول جل وعل { :وَلَمْ َتكُنْ لّ ُه صَاحِ َبةٌ } .وماذا يريد الحق من الصاحبة؟ إنه ل يريد شيئا ،فلماذا
هذه اللجاجة في أمر اللوهية؟.
فل الولد ول الصاحبة يزيدان له قدرة تخلق ،ول حكمة ترتب ،ول علما يدبر ،ول أي شيء،
ومجرد هذا اللون من التصور عبث ،فإذا كان الشركاء ممتنعين ،والقصد من الشركاء أن يعاونوه
في الملك؛ إله يأخذ ملك السماء ،وإله آخر يأخذ ملك الرض .وإله للظلمة ،وإله للنور .مثلما قال
الغريق القدامى حين نصّبوا إلها للشر .وإلها للخير ،وغير ذلك .والحق واحد أحد ليس له شركاء
يعاونونه فما المقصود بالولد والصاحبة؟ أعوذ بال! أل يمتنع ويرتدع هؤلء من مثل هذا القول:
شيْءٍ عَلِيمٌ { فسبحانه هو الخالق للكون والعليم بكل ما فيه ول يحتاج إلى معاونة من
} و ُهوَ ِب ُكلّ َ
أحد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول سبحانه من بعد ذلك } :ذاِلكُمُ اللّهُ{ ...
()881 /
انظر التقديم بكلمة رب ،قبل " ل إله إل هو " كلمة " رب " هذه هي حيثية " ل إله إل هو "؛ لن
إلها تعني معبودا ،ومعبودا يعني مُطاعا ،ومطاعا يعني له أوامر ونواهٍ ،ولماذا ولي سبب؟.
السبب أنه الرب المتولي اليجاد والتربية .ومن الواجب والمعقول أن نسمع كلمه؛ لنه هو الرّب
والخالق وهو الذي يرزق ،بدليل أننا حين نسأل أهل ال ُكفْر في غفلة شهواتهم :من خلق السماوات
والرض؟ تنطق فطرتهم ويقولون :ال هو الذي خلق السماوات والرض .أما إن كان السؤال
موجها في محاجاة مسبقة فأنت تجد المكر والكذب.
وحين تريد أن تنزع منهم قضية صدق وتضع وتبطل قضية كذب فلنأخذهم على غفلة ودون
تحضير فيقولون إن الذي خلق هو ال.
ورأينا اللت التي صمموها ليكتشفوا الكذب ،وليروا العملية العقلية التي تجهد الكذاب ،أما
صاحب الحق فل ُيجْهد؛ لن صاحب الحق يستقرئ واقعا ينطق به ول يصيبه الجهد ،لكن الذي
يكذب يجهد نفسه ويتردد بين أمور ويضطرب ول يدري بأيها يأخذ ويجيب بإجابات متناقضة في
الشيء الواحد.
شيْءٍ َوكِيلٌ } [النعام:
شيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ
{ ذاِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ خَالِقُ ُكلّ َ
.]102
وما دام هو خالق لكل شيء وهو الباقي فهو الحق بالعبادة؛ لن العبادة -كما قلنا -معناها
طاعة المر وطاعة النهي -ومادام سبحانه الذي خلق فهو الذي يضع قانون الصيانة للنسان
والكون ،وإن خالفت المنهج يفسد الكون والنسان ،وإذا فسد الكون أو النسان فأنت تلجأ إلى
منهج الخالق لتعيد لكل منهما صلحيته؛ لذلك هو الولى بالعبادة { .ذاِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ ل إِلَـاهَ ِإلّ
ُهوَ }.
وهذه شهادة شهد بها لذاته قبل أن يخلق كل شيء ،وقبل أن يخلق الملئكة ،وشهدت بها ملئكته،
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ وَا ْلمَلَ ِئكَةُ وَأُوْلُواْ ا ْلعِلْمِ قَآ ِئمَا بِا ْلقِسْطِ }[آل
وشهد بها أولو العلمَ {.
عمران.]18 :
إذن فال شهد بألوهيته من البداية ،ومن أسمائه " المؤمن " ونحن مؤمنين بال ،وربنا المؤمن بأنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إله واحد ،وهذا اليمان منه أنه إله واحد ،يخاطب كل شيء يريده وهو يعلم أن أي شيء ل يقدر
أن يخالفه ،إنه يخاطبه بقوله " :كن فيكون " ولنه إله واحد يعلم أن أحدا أو شيئا لم يخالفه ،لذلك
يباشر ملكه وهو العليم بأن الغير خاضع لمره ول يمكن أن يتخلف عن مراداته ،أو نقول" :
ط َع َمهُم مّن
المؤمن " لما خلق ولمن خلق ،أي منحهم المن والمان فهو سبحانه القائل {:الّذِي أَ ْ
خ ْوفٍ }[قريش.]4 :
جُوعٍ وَآمَ َنهُم مّنْ َ
لقد أوضح الحق سبحانه لنا :أنتم خلقي فإن أخذتم منهجي أطعمكم من الجوع وآمنكم من الخوف.
شيْءٍ {.
} ذاِلكُمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ خَالِقُ ُكلّ َ
إذن فالمنطق يفرض علينا عبادته سبحانه ،والمر المنسجم مع المقدمة ،أن ل رب ،ول إله إل
هو ،إنه خالق كل شيء؛ لذلك تكون عبادته ضرورة ،ويتمثل ذلك أن تطيعه فيما أمر ،وفيما نهى.
شيْ ٍء َوكِيلٌ { [النعام.]102 :
} وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ
وهذه دقة الداء البياني في القرآن ،فنحن في أعرافنا فلن وكيل لفلن أي يقوم لصالحه بالمور
التي يريدها ،وسبحانه ليس وكيلً لك ،بل هو وكيل عنك؛ لن الوكيل لك ينفذ أوامرك ،لكن هو
وكيل عليك ،مثل الوصي على القاصر هو وكيل عليه ،ويقول للقاصر :افعل كذا فيفعل ،وسبحانه
وكيل علينا ،ولذلك نحن نطلب منه وهو الذي يستجيب لدعائنا بالخير ،فل ينفذ رغباتنا الطائشة،
ونجد الحمق من يقول :لقد دعوت ال ولم يستجيب لي ،ونقول :إنك تفهم الستجابة أنها تؤدي لك
مطلوبك ،وسبحانه أعلم بما يناسبك لنه وكيل عليك ويعدل من تصرفاتك ،وساعة تطلب حاجة،
إن كان فيها خير يعطيها لك ،وإن كنت تظن أنها خير ،لكنها ستأتي بالشر ل يعطيها لك.
وعلى من يدعو أل يتعجل الجابة .قال صلى ال عليه وسلم " :يستجاب لحدكم مالم َيعْجَل،
يقول :قد دعوت فلم يستجب لي ".
شيْ ٍء َوكِيلٌ { أي سواء أكان هذا الشيء مختارا أم غير مختار؛ لن المختار قد
} وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ
يختار شرا ،ولن ال وكيل عليه يقول له :ل ،وغير المكلف ول اختيار له ،مقهور لرادة ال مثل
النار ،فهي مأمورة أن تحرق ،لكنه أمرها أل تحرق سيدنا إبراهيم وتبقيه سليما.
وتأتي الية التالية لتؤكد دواعي عظمته سبحانه فيقول } :لّ ُتدْ ِركُ ُه الَ ْبصَا ُر وَ ُهوَ يُدْ ِركُ{ ...
()882 /
لَا تُدْ ِر ُكهُ الْأَ ْبصَا ُر وَ ُهوَ يُدْ ِركُ الْأَ ْبصَا َر وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ ()103
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولماذا ل تدركه البصار؟ لن البصر آلة إدراك لها قانونها بأن ينعكس الشعاع من المرئي إلى
الرائي ويحدده ،فلو أن البصار تدركه لحددته ،وأصبح من يراه قادرا عليه ،ولصار مقدورا لكم؛
لنه دخل في إدارككم .فلو أنك أدركت ال لكان ال مقدورا لبصرك ،والقادر ل ينقلب مقدورا
ابدا ،إذن فمن عظمته انه ل ُيدْرَك :أنت قد ترى الشمس ،ولكن أتدعي أنك أدركتها؟! ل ،لن
الدراك معناه الحاطة ،وحين يقال " أدركه " أي لم يفلت منه ،ولذلك عندما سار قوم فرعون
وراء موسى وقومه قال أصحاب موسى { :ا إِنّا َلمُدْ َركُونَ }.
أي ل فائدة؛ لن البحر أمامنا ،إن تقدمنا نغرق ،وإن تأخرنا أهلكونا وقتلونا .إذن " مُدرك " يعني
محاطا به .فإذا أحاطت البصار بال انقلب البصر قادرا ،وصار ال مقدورا عليه .والقادر بذاته
-كما قلنا -ل ينقلب مقدورا لخلقه أبدا.
{ لّ تُدْ ِر ُك ُه الَ ْبصَارُ وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الَبْصَا َر وَ ُهوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ } [النعام.]103 :
وكل ما عدا ال محتاج إلى ال لبقاء كينونته ،وكينونته سبحانه ليست عند أحد؛ لذلك { لّ ُتدْ ِركُهُ
ك الَ ْبصَارَ } لنه إن قدر على البصار كلها فهو قادر بذاته ،والباقي مقدور له؛
الَ ْبصَارُ وَ ُهوَ يُدْ ِر ُ
لنه مخلوق له ،ومادام مخلوقا له يكون مقدورا عليه ولم يطرأ على المخلوقين شيء جديد يجعلهم
قادرين بذواتهم { لّ ُتدْ ِركُ ُه الَ ْبصَارُ وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الَ ْبصَارَ }.
وقد وقف العلماء وقفة كبيرة واختلفوا :هل النسان يرى ربه أو ل يراه سواء في الدنيا أم في
الخرة؟ بعضهم قال :ل أحد يرى ال بنص الية { :لّ تُدْ ِركُهُ الَ ْبصَارُ } ونقول :لكن هناك آيات
في القرآن تقول {:وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ }[القيامة.]23-22 :
و " ناظرة " تضمن الرؤية وتفيدها ،وأيضا فال يعاقب من كفر به بأن يحتجب عنه؛ لنه القائل{:
حجُوبُونَ }[المطففين.]15 :
كَلّ إِ ّنهُمْ عَن رّ ّب ِهمْ َي ْومَئِذٍ ّلمَ ْ
فالكافرون محجوبون عن رؤية ال عقابا لهم .ولو اشتركنا معهم وحجبنا كما حجبوا فما ميزتنا
كمؤمنين؟ ،إذن فالعلماء لم ينتبهوا إلى أن هناك فرقا بين الداء القرآني وما يقولون؟ وحين يحتج
عالم منهم بأن رؤية ال غير ممكنة لن ربنا سبحانه قال لموسى {:لَن تَرَانِي وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى
س ْوفَ تَرَانِي }[العراف.]143 :
الْجَ َبلِ فَإِنِ اسْ َتقَرّ َمكَانَهُ فَ َ
صعِقا }
جعَلَهُ َدكّا وَخَرّ موسَىا َ
فلماذا لم يلتفت هذا العالم إلى قول الحق {:فََلمّا تَجَلّىا رَبّهُ لِ ْلجَ َبلِ َ
[العراف.]143 :
إذن فال تجلى لبعض خلقه ،أما أن يراه الخلق في الدنيا فل؛ لن تكويننا غير مؤهل لن يرى
الحق ،بدليل أن الصلب والقوى منا وهو الجبل حينما تجلى ربه عليه اندك .فلما اندك الجبل خر
موسى صعقا ،فإذا كان موسى قد خر صعقا لرؤية المتَجلّى عليه وهو الجبل فكيف لو رآه؟! إن
فهو غير معد له.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد اختلف العلماء عند هذه الية ،وتجلّى خلفهم إلى أبعد حد؛ فمنهم مجيز للرؤية ،ومنهم منكر
لها ،وأرى أن خلفهم في غير محل نزاع؛ لنهم تكلموا عن الرؤية ،والكلم هنا عن نفي
الدراك ،والدراك إحاطة؛ والرؤية تكون إجمالً ،إنما الحاطة ليست ممكنة ،وعلى تقدير أن
الرؤية والدراك متحدان في المفهوم نقول :لماذا يكون الخلف في أمر الخرة؟ لو أن الخلف
في أمر الرؤية في الدنيا لكان هذا كلما جميلً ،ولكن الخلف جعلتموه في الخرة.
إن آيات القرآن صريحة في أن رؤية الحق سبحانه وتعالى من نعم ال على المؤمنين ،وهي زيادة
في الحسنى عليهم ،وحجبه سبحانه عن الكفار لون من العقوبة لهم ونقول -أيضا :-لماذا ل
تقولون إن الدراك سيوجد في الخرة بكيفية ليست موجودة في دنيانا؟ لننا في هذه الدنيا معدّون
إعداد أسباب -وفي الخرة سنكون معدين إعدادا لغير أسباب.
أنت هنا إذا أحببت أن تشرب تطلب الماء أو تذهب للماء وتشرب ،وحين تريد أن تأكل الشيء
الفلني ،تقول لهل البيت :اصنعوا لي كذا أو تشتري ما تريده ،إنما هناك في الخرة بمجرد أن
يخطر ببالك ما تشتهيه تجده أمامك ،وهذا قانون جديد ل ارتباط له بقانون الدنيا ،فلماذا ل يكون
في تكويننا في الخرة أيضا قانون يمكن به أن نرى ال وفي إطار ليس كمثله شيء؟
إن في الخرة قضايا يتفق الجميع على انها تخالف قوانين الدنيا ونواميس العالم المعاصر لنا الن
في الكل والشرب ،والتخلص من الفضلت ،لكن في الخرة سنأكل ونشرب ولكن لن توجد
فضلت؛ لنك أنت الن تطهى وتهضم ،وفي الهضم أنت تأخذ بعض الطعام ويبقى منه فضلت
لبد أن تخرج ،لكن الطهي والهضم في الخرة بـ " كن " وليس له فضلت ،إنه طعام بقدرة
القادر ،في الجنة كل ما تريده ستناله دون أن ينفد ،وفي الدنيا أي شيء يؤخذ منه ينقص ،أما في
الخرة فل شيء ينقص لن له مددا من القيومية.
ويعقب الحق سبحانه وتعالى بعد القضيتين } :وَ ُهوَ اللّطِيفُ ا ْلخَبِيرُ { ولطيف تناسب } لّ ُتدْ ِركُهُ
الَ ْبصَارُ { و } ا ْلخَبِيرُ { يناسب } وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الَ ْبصَارَ { ولطيف لها معنى خاص ،فالشيء اللطيف
يستعمل في دقيق التكوين -ول المثل العلى -إن الميكروب لم نعرفه إل مؤخرا لنه بلغ من
اللطف والدقة بحيث ل تدركه العين ،لكن عندما اخترعنا الميكروسكوب رأيناه ،وإن دق
الميكروب عن ذلك فلن نراه ،وقد اكتشفنا " الفيروس " ونحاول معرفة المزيد عن خصائصه ،إذن
كلما دق الشيء يلطف ول يمكن أن نراه ،فالشيء إذا لطف شرف وعل ونقول -ول المثل
العلى :-فلن لطيف المعشر ،والحق سبحانه لطيف في ذاته ويلطف بعباده.
إنك ساعة ما تسمع " لطف " فهذا اسم فاعل ،مثلها مثل " آكل " ،وحين نقول " :لطيف فهي
مبالغة في اللطف؛ لنه لطف بكل إنسان وكل كائن وهذا يحتاج إلى مبالغة ،ولذلك نقول :رحيم،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهي صيغة مبالغة؛ لنه يسبغ رحمته على عباده ،وأول مظهر من مظاهر اللطف ،هو تدبير
أمورهم الدقيقة تدبيرا يحقق مصالحهم في وجودهم .إننا حين ندير كوب ماء لكل إنسان ندبر
الكثير فما بالنا بتدبير اللطيف بعباده؟
لقد خلق لنا الرض ثلثة أرباعها ماء ،والربع يابس ،لنه جل وعل يريد أن يوسع رقعة الماء
لن المياه كلما اتسعت رقعتها ،كان البخر فيها أسهل وأكثر ،لكن لو كانت المياه عميقة ومساحتها
قليلة فالبخر يكون على مستوى السطح فقط ،وهنا ل يأتي السحاب بما يكفي الخلق من الماء .لقد
سمع ال سبحانه رقعة الماء كي يتبخر الماء ثم ينعقد كسحب في السماء ،ويصادف منطقة باردة
لينزل لنا المياه العذبة لنشرب منها ،وتشرب أنعامنا ،ونسقي الزرع ،وكل ذلك من لطف التدبير.
ومن مظاهر اللطف في الحق نجد أمورا ل توصف ،ولذلك كل واحد من العلماء انفعل لزاوية من
زوايا لطف ال على خلقه ..فواحد قال :هو " سبوغ النعم " وقال الثاني " :دقة التدبير " وقال
الثالث :إن من مظاهر لطف الحق أنه يستقل كثير من النعم على خلقه ،فالنعم التي منحها خلقه
قليلة لن خزائنه -سبحانه -ملى وعطاياه ل تنفد ول يعتريها نقص ،ولذلك قال سبحانه {:لَئِن
شكَرْتُ ْم لَزِيدَ ّن ُكمْ }[إبراهيم.]7 :
َ
أي أن نعمه الكثيرة على عباده قليلة ،وفي المقابل :يستكثر قليل الطاعة من خلقه أي يعتبرها -
تفضلً منه -كثيرة؛ لنه هو الذي يجزي الحسنة بعشر أمثالها.
إذن فمظاهر اللطف ل حصر لها ،وعلى قدر دقة اللطف تكون دقة مأتاه وإحصائه ،فهو اللطيف
الذي إذا ناديته لبّاك ،وإذا قصدته آواك ،وإذا أحببته أدناك ،وإذا أطعته كافاك وإذا أعطيته
وأقرضته من فضله وماله الذي منحك عافاك ،وإذا أعرضت عنه دعاك فهو القائل " :يابن آدم إن
ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ،وإن ذكرتني في مل ذكرتك في مل خير منهم ،وإن دنوت
منّي شبرا دنوت منك ذراعا ،وإن دنوت منّي ذراعا دنوت منك باعا ،وإن أتيتني تمشي أتيتك
أهرول " وكلها مظاهر لطف .وهو المنادى " :توبوا إلى ال " والرسول صلى ال عليه وسلم هو
القائل " :ل أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا سقط على بعيره قد أضله بأرض فلة " وإذا
قربت من ال هداك.
ويأتي عالم آخر ممن انفعلوا بصفات اللطف ،فيقول :الذي يجازيك إن وفيت ،ويعفو عنك إن
قصرت ،وعالم آخر يضيف إلى معاني اللطف فيقول :من افتخر به وأعزه ،ومن افتقر إليه أغناه،
وعالم ينفعل انفعالً آخر بمظاهر اللطف فيقول :من عطاؤه خير ،ومنعه ذخيرة.
.أي أنه لو منع عبده شيئا فإنه يدخره له في الخرة ،كل هذه مظاهر للطف ،وهذا مناسب لقوله
الحق } :لّ ُتدْ ِركُ ُه الَ ْبصَارُ { إن لطفه سبحانه يتغلغل فيما ل نستطيع أن ندركه ،وحين تحلل أنت
أي أمر قد ل تصل إلى فهم النعمة ،وإن وصلت فأنت ل تقدر أن تؤدي الحمد على تلك النعمة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله الحق } :وَ ُهوَ ُيدْ ِركُ الَبْصَارَ { مناسب لكلمة " خبير " ،ونحن في حياتنا نسمع كلمة " خبير
" فعندما نقابل أي مشكلة من المشكلت نجد من يقول :نريد أن نسمع رأي الخبير فيها ،وفي
القضاء نجد القاضي يستدعي خبيرا ليكتب تقريرا في أمر يحتاج إلى من هو متخصص فيه وعليم
به ،إذن فالخبير في مجال ما هو الذي يعرف تفاصيل المر ،فما بالنا بالخبير العلى الذي ل
يستعصي عليه شيء في ملكه ،وهو الذي يدرك البصار ،فقوله } :لّ ُتدْ ِركُ ُه الَ ْبصَارُ { يناسبها "
خبير " ،وهذا ما يسمونه في اللغة " لف ونشر " وهو ان يأتي بأمرين أو ثلثة ثم يأتي بما
ج َعلَ َلكُمُ الْلّ ْيلَ وَال ّنهَارَ }[القصص.]73 :
حمَ ِتهِ َ
يقابلها ،مثال ذلك قوله الحقَ {:ومِن رّ ْ
سكُنُواْ فِيهِ وَلِتَب َتغُواْ مِن
فمن مظاهر رحمته لنا سبحانه أن جعل لنا الليل والنهار ،ثم قال {:لِتَ ْ
َفضْلِهِ }[القصص.]73 :
لنسكن في الليل ،ونبتغي فضله في النهار ،وهذا اسمه -كما قلنا " -لف ونشر ".
ويقول الحق -سبحانه -بعد ذلك } :قَدْ جَآ َءكُمْ َبصَآئِرُ مِن رّ ّب ُكمْ َفمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْسِهِ{ ...
()883 /
حفِيظٍ ()104
ع ِميَ َفعَلَ ْيهَا َومَا أَنَا عَلَ ْيكُمْ بِ َ
قَدْ جَا َءكُمْ َبصَائِرُ مِنْ رَ ّب ُكمْ َفمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ َ
وبصائر جمع بصيرة ،والبصيرة للمعنويات والشراقات التي تأبى في القلوب كالبصر بالنسبة
للعين ،و " الكون " يعطيكم أدلة البصار ،والقرآن يعطيكم أدلة البصائر ،فكما أن ال هدى
النسان فحذره ونهاه عن المعاصي ومنحه النور الذي يجْلي له الشياء فيسير على هدى فل
يرتطم ول يصطدم ،كذلك جعل المعنويات نورا ،والنور الول في البصر يأخذه الكافر والمؤمن،
وكلنا شركاء فيه مثله مثل الرزق ،لكن النور الثاني في البصائر يأخذه المؤمن فقط ،ولذلك يقول
ج ُكمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ }[الحديد.]9 :
ربنا {:لّ ُيخْرِ َ
وهو نور الهداية في بصائر المعنويات ،فيوضح :أنا خلقتكم خلقا ووضعت لكم قوانين لصيانتكم.
فقانون الصيانة في ماديات الدنيا للمؤمن والكافر ،وقانون الصيانة في معنويات الحياة خاصة
للمؤمن.
ج َعلِ اللّهُ لَهُ نُورا َفمَا لَهُ مِن نُورٍ }[النور.]40 :
وهو القائلَ {:ومَن لّمْ يَ ْ
ونعلم أن البصائر من المعنويات والمجيء للمر الحسّي؛ كقولنا " :جاء زيد " أو " جاء عمرو "
ولك أن تتصور البصائر وهي تأتي ،قال الحق {:قَدْ جَآ َء ُكمْ مّنَ اللّهِ نُورٌ }[المائدة.]15 :
إنه سبحانه قد أعطانا نورا صحيحا واضحا وهو يأتي إلينا بمشيئته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َقدْ جَآ َءكُمْ َبصَآئِرُ مِن رّ ّبكُمْ } أي أنها بلغت من تكوينها أنها أصبحت كانها أشياء محسّة تجيء،
ول يصح أن تقولوا إنها لم تصلكم لنها تجيء من الرب الذي خلقنا بقدرته وأمدنا في كل شيء
بقيّوميته ،ومن لوازم الربوبية أن يعطي ما يهدي ،وقد حكم ال أن البصائر جاءتنا ،وحكم بأن
رسوله قد بلّغ؛ فسبحانه أعطى لرسوله ،والرسول ناولنا ،فالحق قد شرع ورسوله قد بلغ وبقي أن
تؤدوا ول عذر لكم من المشرع العلى الذي خلق وهو الرب .ول من المبلغ المعصوم وهو
الرسول.
ع ِميَ َفعَلَ ْيهَا } [النعام.]104 :
س ِه َومَنْ َ
ويقول الحق تبارك وتعالىَ { :فمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْ ِ
ول المثل العلى ،نجد الولد يدخل البيت فيجد أمه ويقول لها :ماذا أعددت لنا من طعام؟ فتقول:
ل شيء .فيقول البن :لقد بعث أبي اللحم والرز والخضار ،فكأنه يقول لها :أين عملك يا أمي؟
ل ول تعرفون عنه
وربنا سبحانه يوضح :أنا خلقتكم ،وعملت لكم قانون صيانة ،وأرسلت لكم رسو ً
أنه صادق في بلغه ،وأدى هذه الرسالة ،لذلك فالباقي من المسألة عندكم أنتم ،وكل واحد عليه أن
يؤدي ما عليه من عمل ،إن أبصر فلنفسه ،وإن عمى فعليها .فإياكم أن تفهموا أني كلفتكم بما يعود
عليّ في ذاتي ،ول ما يزيد من سلطاني شيئا؛ لن خيرها لكم أنتم ،ول آمن على التشريع ممن ل
يفيد من التشريع؛ لن من يستفيد منه قدر يشرّع لمصلحته ،أما الحق فهو مأمون على التشريع
لنه غير منتفع به.
عمِيَ َفعَلَ ْيهَا } [النعام.]104 :
يقول سبحانه { :قَدْ جَآ َءكُمْ َبصَآئِرُ مِن رّ ّبكُمْ َفمَنْ أَ ْبصَرَ فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ َ
ولن الرسول عليه البلغ فقط والحق قد حفظه وعصمه من الكفر وهو يبلغكم المنهج ،وقد خلق
ال كل إنسان مختارا وهو بهذا الختيار يُدخل نفسه في الحكم أو يخرج نفسه من الحكم ،وسبحانه
لم يبعث الرسول جبارا بل بعثه رحيما؛ لذلك يقول ال في حق رسوله صلى ال عليه وسلم " :وما
أنا عليكم بحفيظ " والحفيظ من أسماء ال ،وهو الحفيظ لنه شرّع ليحفظ الخلق ويريد أن يجعلهم
على مثال حسن واعٍ .والرسول هو المبلغ والحق يقولَ {:ومَآ أَنتَ عَلَ ْيهِمْ ِبجَبّارٍ }[ق.]45 :
إذن فكل واحد حر يدخل نفسه في الحكم أو يخرج نفسه من الحكم .وقد حارب الرسول ليحمي
الختيار بدليل أن البلد التي فتحها السلم تجد بعضا من سكانها قد ظلوا على كفرهم ولم
يرغمهم أحد على اليمان.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :وكَذاِلكَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ{ ...
()884 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" كذلك نصرف " .أي أن يأتي لنا بالحال بعد الحال ويكرر ويعيد ،وتأتي الحادثة من الحوادث
وينزل فيها تشريع ،ويرقق قلوبهم ،ويأتي بنماذج من الرسل ،ومواقف أممهم منهم حتى نصادف
في كل حال قلبا مستقبلً لنه إن قال مرة واحدة وسكت وكان هناك أناس قلوبهم منصرفة فعندما
يكرر الحداث وينزل فيها التشريع والمواعظ فقد ترق قلوبهم لليمان وتستوعب القلوب الهداية.
ستَ }؟ إننا نعلم أن السماء
ستَ } ما معنى { :وَلِ َيقُولُواْ دَرَ ْ
{ َوكَذاِلكَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ وَلِ َيقُولُواْ دَرَ ْ
تتدخل حين يطم الفساد ،لكن إن وجد في الذات النسانية نفس لوّامة فهي مَنَاعة للنفس ووقاية لها.
فإن فعل النسان ذنبا تلومه نفسه فيرجع ،وإن اختفت النفس اللوّامة وصارت النفس أمّارة بالسوء،
امتنع في المجتمع المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،فمعنى ذلك أن الفساد قد طمّ .وهنا تتدخل
السماء وتأتي ببيان جديد ومعجزة جديدة.
إن الفساد ل يتأبى إل من وجود طبقات تطحن في طبقات ،والذين يُطحنون بالفساد هم من
يستقبلون المنهج بشوق ،لكن الطاحن المستفيد من الفساد هو الذي يعارض المنهج .ولذلك فإن كل
جماعة حاربت الرسل هم من الطاحنين للناس ،لكنّ المطحونين إنما يريدون من ينقذهم.
إذن فكل صاحب دعوة سماوية جعل ال له عدوا من المجرمين؛ لن السماء لم تتدخل إلى حين
صار الجرام ل مقاوم له .وهكذا يجعل ال لكل نبي ورسول عدوا من المجرمين ،وهذا العدو
يفتن به الناس ،ويميل له ضعاف العقائد .والحق يصرف اليات حالً بعد حال حتى ل يثبت مع
الداعي الحق إل المؤمنون الصادقون.
ولذلك تجد أن السلم قد جاء وغربل المور؛ فمثلً تأتي حادثة السراء فمن كان إيمانه مهتزّا
ينكر السراء ،وذلك من أجل أن يذهب الزبد ويبقى من يحمل الدعوة بمنهج الحق .أما من كان
إيمانه ضعيفا أو كان يعبد ال على حرف فالسلم ل يرغبهَ {.لوْ خَ َرجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ ِإلّ
خَبَالً }[التوبة.]47 :
إذن فالحق سبحانه وتعالى قد صرّف اليات لينصر المطحونين ،وحينما قال الرسول صلى ال
عليه وسلم ذلك قالوا درست وادعو أنه كان قاعدا في الجبل ،وتعلم من أعجمي .ولذلك نجد الحق
يقول {:وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّن ُهمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ َبشَرٌ }[النحل.]103 :
ج ِميّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل.]103 :
عَحدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ
ويأتي الرد من الحق {:لّسَانُ الّذِي يُلْ ِ
إن سيدنا عمر رضي ال عنه حينما كان في الطواف جاء عند الحجر السود وقال " :وال إني
لقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك ل تضر ول تنفع ولول أني رأيت رسول ال صلى ال عليه
وسلم قبّلك ما قبلتُك ".
فعل سيدنا عمر ذلك حتى يعلمنا إذا ماجاء بعض الناس وقال :ما سبب علة تقبيل الحجر السود؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيكون الجواب حاضرا :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم فعل ذلك وهذا تشريع.
حيَ إِلَ ْيكَ} ...
ويقول الحق من بعد ذلك { :اتّبِعْ مَآ أُو ِ
()885 /
حيَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ لَا إِلَهَ إِلّا ُه َو وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلمُشْ ِركِينَ ()106
اتّبِعْ مَا أُو ِ
وساعة يتكلم متكلم لمخاطب بأمر هو فيه وقائم عليه مؤدٍ له فلبد أن نفهم حقيقة المراد ،مثلما
يقول الحق سبحانه {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ }[النساء.]136 :
وبأي شيء نادى ال خلقه المؤمنين هنا؟ لقد قال { :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ } ،فكيف يقول" :
آمنوا "؟ لقد ناداهم لنهم آمنوا إيمانا استوجب خطابهم بالتكليف ،والنسان ابن أغيار .فيوضح أن
اليمان الذي استقبلتم به التكليف من خطابي داوموا أيضا عليه ،وجاء المر هنا بدوامه ،أي كما
آمنتم إيمانا جعلكم أهل للتكليف في مخاطبتكم وقلت لكم يأيها الذين آمنوا :الزموا هذا وداوموا
حيَ إِلَ ْيكَ } هو قول لرسول متبه ،إذن فهو يحمل المر
على إيمانكم .وقوله الحق { :اتّبِعْ مَآ أُو ِ
بالمداومة على التباع ،ول يحزنك ما يقولون يا محمد؛ لنك مؤيد من ربك ويتولى الدفاع عنك
ق وََأحْسَنَ َتفْسِيرا }[الفرقان.]33 :
ويلقنك الحجةَ {.ولَ يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ ِإلّ جِئْنَاكَ بِا ْلحَ ّ
حيَ إِلَ ْيكَ مِن
ويقول الحق بعد ذلك موجها حديثه لرسول ال صلى ال عليه وسلم { :اتّبِعْ مَآ أُو ِ
ك ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْل ُمشْ ِركِينَ }.
رّ ّب َ
أي أنه ل يوجد إله إل هو سبحانه ،ول يمكن أن تغير أنت بالمنهج النازل إليك منه ،وعليك أن
تعرض عن المشركين ،فل تجالسهم ،ول تخالطهم ،ول تودهم .إنه إعراض الفطنة والرشاد
والبلغ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وََلوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْ َركُواْ} ...
()886 /
الحق سبحانه وتعالى يعطينا قضية لبد أن نستصحبها في تاريخنا اليماني ،والقضية هي :أن أيّ
كافر لم يكفر قهرا عن ال ،وإنما كفر لن ال أرخى له الزمام بالختيار أي خلقه مختارا ،ولذلك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالكافر إنما يفعل كل فعل بما آتاه ال من الختيار لغصبا عن ربنا أو قهرا ،بدليل أن الكون
الذي نحيا فيه مقهور بالمر ،ل يمكن أن يختار إل مراد ال منه ،وكل ما في الكون يسير إلى
مراد ال.
إذن فمن كفر لم يكفر قهرا عن ال؛ لن طبيعة الختيار ممنوحة من ال .وحين اختص ال
النسان بالختيار وضع المنهج الذي يرتب عليه الثواب والعقاب .ولذلك نزل التكليف بـ " افعل "
و " ل تفعل " .وسبحانه إن أراد قهرا فقد قهر كل الجناس في الكون؛ قهرها بطول العمر ،وأنها
تؤدي مهمتها كما أراد ال منها ،إنّه قهر الشمس ،وقهر القمر ،وقهر النجوم ،وقهر الماء ،وكل
حاجة في الكون مقهورة له حتى الملئكة خلقهم {:لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَهُمْ }[التحريم.]6 :
إذن صفة القهر أخذت متعلقها كامل .ولكن أيريد ال من خلقه أن يكونوا مقهورين على ما يريد؟
ل ،بل يريد سبحانه أن يكونوا فاعلين لما يحبه ،وإن كانوا مختارين أن يفعلوا ما ل يحبه ،كأن
خلق القهر في الجناس كان لثبات طلقة القدرة ،وأنه ل يمكن لمخلوق أن يشذ عن مراد ال
منه .وبقي الختيار في النسان ليدل على أن أناسا من خلقه سبحانه يذهبون إليه جل وعل وهم
قادرون أل يذهبوا إليه ،وهذه تثبت صفة المحبة.
وحين يختار المختار الطاعة ،وهو قادر أل يطيع ،ويختار اليمان وهو قادر أن يكفر فقد جاء إلى
سكَ َألّ َيكُونُواْ
ال محبة ل قهرا ،ولذلك يقول ربنا لرسوله صلى ال عليه وسلمَ {:لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ضعِينَ }[الشعراء.]4-3 :
سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ
ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
أي أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة وحزنا على عدم إيمان قومك بما جئت به من عند ربك،
أتريد يامحمد أن أقهرهم؟ أتريد أعناقا أو قلوبا؟ إنك يا محمد تعلم أن منهجك النازل إليك من ربك
يريد قلوبا ،والقلوب تأتي بالختيار .فلو شئنا إيمانهم لنزلنا معجزة تأخذ بقلوبهم فيؤمنون قهرا
عليهم.
خدِشَ الختيار بفقد أي عنصر من عناصره يزول التكليف .بدليل أنه ل تكليف على
ولذلك إذا ُ
فاقد العقل؛ لن آلة الختيار عندنا هي العقل .وكذلك ل تكليف لمن لم ينضج بل يتركه الحق إلى
أن ينضج .ويصير قادرا على إنجاب مثله وأن يصل إلى التكوين الكيماوي السليم .ويمنع عنه
الكراه بأي قوة أعلى منه تقهره على أن يفعل شيئا على غير مراده ،وهنا يأتي التكليف.
إذن فالتكليف يحتاج إلى أمور ثلثة :وجود عقل ،لذلك فل تكليف لمجنون ،وعقل رشيد ناضج،
فقبل البلوغ ل تكليف ول إكراه حتى يسلم الختيار ،لماذا؟ تأتي الجابة من الحق سبحانه {:لّ َيهِْلكَ
حيّ عَن بَيّ َنةٍ }[النفال.]42 :
مَنْ هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ
ويقول الحق سبحانه { :وَلَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ} ...
()887 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمََل ُهمْ ثُمّ ِإلَى
وَلَا تَسُبّوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبّوا اللّهَ عَ ْدوًا ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ
ج ُع ُهمْ فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()108
رَ ّبهِمْ مَرْ ِ
وتتضمن هذه الية الكريمة منهجا ضروريا من مناهج الدعوة إلى ال ،هذه الدعوة التي حملها
الرسل السابقون ،وختمهم الحق برسول ال صلى ال عليه وسلم ،وجعلها سبحانه ختما لتصال
السماء بالرض؛ لذلك كان لبد من أن يستوعب السلم كل أقضية تتعلق بالدعوة إلى ال يحملها
أمينا عليها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والمة المحمدية .التي شرفها ال سبحانه وتعالى بأن
جعل فيها من يحملون أمانة دعوة ال إلى الخلق امتدادا لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ فكل
مسلم يعلم حكما من أحكام ال مطلوب منه أن يبلغه لغيره؛ فرب مُبلّغ أوعى من سامع .حتى وإن
كان ال لم يوفقه للعمل بما جاء فيما بلغ .فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ،فإذا فاته أن يعمل
فالواجب أل يفوت من يعلم قضية من قضايا دينه ثواب البلغ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم
إلى الخلق ،ولكن عليه أن يعمل ليكون قدوة سلوكية يتأسى به غيره حتى ل يقع تحت طائلة قوله
تعالى { :كَبُرَ َمقْتا عِندَ اللّهِ أَن َتقُولُواْ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }.
وإن كان بعض الشعراء يلحون على هذه المسألة .فيقولون:وخذ بعلمي ول تركن إلى عملي واجن
الثمار وخلّ العود للنارإذن فالبلغ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أمر ضروري ،وهو امتداد
لشهادة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،أنه بلغ صلى ال عليه وسلم عن الحق مراده من الخلق.
وبقي أن يشهد الناس الذين اتبعوا هذا الرسول أنهم بلغوا إلى الناس ما جاءهم عن رسول ال
س وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ
شهَدَآءَ عَلَى النّا ِ
جعَلْنَا ُكمْ ُأمّ ًة وَسَطا لّ َتكُونُواْ ُ
صلى ال عليه وسلمَ {:وكَذَِلكَ َ
شهِيدا }[البقرة.]143 :
َ
إذن فكما أن الرسول سيشهد بأنه بلغنا ،فمن صميم المنهج أن يشهد أتباعه أنهم بلغوا الناس ،فإن
حدث تقصير في البلغ إلى الناس ،فستكون المسئولية على من اتبع رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،ولم يؤد أمانة الرسول عليه الصلة والسلم إلى الناس أجمعين .ومنهج الدعوة منهج
صعب؛ لن الدعوة إلى ال تتطلب أن يأخذ الداعي يد الذين ينحرفون عن منهج السماء اتباعا
لشهوات الرض ،وشهوات الرض جاذبة دائما للخلق؛ لنها تحقق العاجل من متع النفس .واتباع
منهج الدين -كما يقولون -يحقق نفعا آجله ،فهو يحقق -أيضا -المتعة العاجلة؛ لن الناس إن
تمسكوا بمنهج ال في " افعل ول تفعل " يعيشون حياة طيبة ل حقد فيها ،ول استغلل ،ول ضغن
ول حسد ول سيطرة ،ول جبروت ،فيصبح الناس جميعا في أمان.
إذن فل تقولوا إن الدين ثمرته في الخرة بل قولوا ليست مهمة الدين هي الخرة فحسب بل مهمة
الدين هي الدنيا أيضا ،والخرة إنما هي ثواب على النجاح في هذه المهمة؛ لن ال إنما يجازي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الخرة من أحسن العمل في الدنيا.
ومن اتبع منهج ال كما قال ال } فَلَ ُنحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً { ومن أعرض عن منهج ال فإن له معيشة
ضنكا .ويحدث ذلك قبل الخرة ،ثم يأتي يوم القيامة ليتلقى العقاب من ال {:وَنَحْشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ
عمَىا }[طه.]124 :
أَ ْ
فإذا كان الدين يأخذ بالناس من شهواتهم الهابطة إلى منهج ال العالي ،فتكون مهمة الداعي شاقة
على النفس ،ولذلك قالوا :إن الناصح بالخير يجب أن يكون لبقا؛ لنه يريد أن يخلع الناس مما
أحبوا وألفوا من الشر؛ لذلك يجب على الداعي أل يجمع عليهم إخراجهم مما ألفوا بأسلوب
يكرهونه بل ل بد أن يثير جنانهم ورغبتهم في اتباع المنهج ،ولذلك جاءت هذه اليةَ } :ولَ تَسُبّواْ
عمََلهُمْ ثُمّ إِلَىا رَ ّب ِهمْ
الّذِينَ َيدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْوا ِبغَيْرِ عِلْمٍ كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ
ج ُعهُمْ فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { [النعام.]108 :
مّرْ ِ
لقد قال الحكماء :النصح ثقيل فل نرسله جبلً ول تجعله جدلً ،والحقائق مُرّة ،فاستعيروا لها خفة
البيان .والخفة في النصح تؤلف قلب المنصوح ،وحسبك منه أن تخلعه عما ألف وأحبّ .إلى ما لم
يتعود ،فل يكون خلعه مما ألف بأسلوب عنيف .ولذلك يعلمنا الحق هذه القضية حين ندعو
الخصوم إلى اليمان به ،وهؤلء الخصوم يتخذون من دون ال أندادا؛ أي جعلوا ل ومعه شركاء.
إنهم إذن إرادوا المتعة العاجلة بالبتعاد عن المنهج ،ثم احتفظوا بال مع الشركاء؛ لنه قد تأتي
لهم ظروف عصيبة ،ل تقدر أسباب الرض على دفعها ،ومن مصلحتهم أن يكون لهم إله قادر
على أن ينجيهم مما هم فيه .فهم ل يكذبون أنفسهم .والحق سبحانه هو القائل في مثل هؤلء إن
جهَنّمَ أَن ُتمْ َلهَا وَارِدُونَ }[النبياء:
صبُ َ
ح َ
أصروا على الشرك {:إِ ّنكُمْ َومَا َتعْ ُبدُونَ مِن دُونِ اللّهِ َ
.]98
حصب جهنم إذن هم المشركون ومعهم الصنام التي كانوا يعبدونها وستكون وقودا للنار التي
يعذبون بها .وبعض من الناس السطحيين يظن أن هذا عذاب للحجار ،ل ،بل هي غيرة ونقمة
وغضب من الحجار على خروج المشركين عن منهج ال في توحيد ال .فتقول الحجار :لقد
كنتم مفتونين بي ولذلك سأكون أنا أداة إحراقكم .إننا نجد المفتونين في اللهة من البشر أو اللهة
من الشجار أو اللهة من الكواكب أو اللهة يصيبهم ال بالعذاب ،والحجار التي عبدوها تقول
كما قال بعضهم فيها شعرا:عبدونا ونحن أعبد ل له من القائمين في السحارواتخذوا صمتنا علينا
دليل وغدونا لهم وقود النارللمغالي جزاؤه والمغالي فيه تنجيه رحمة الغفارولذلك يأتي المر بأل
نسبّ ما يعبده الذين أشركوا بال؛ لن الصنام ل ذنب لها ،والواقع كان يقتضي أن تتلطفوا
بالحجار فهي ل ذنب لها في المفتونين بها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه وتعالى يعلمنا ويوضح لنا أل نظلم المتّخَذ إلها؛ لنه مغدور ،والسب هو ذكر
القبيح ،والشتم ،والذم ،والهجاء ،إنك إن سببت وقبحت ما عبدوه من دون ال فإن العابد لها
بغباوته سيسب إلهك فتكون أنت قد سببت إلها باطل ،وهم سبّوا الله الحق ،وبذلك لم نكسب شيئا؛
فانتبهوا.
ويحذرنا القرآن من الوقوع في ذلك في قول ال تبارك وتعالىَ } :ولَ َتسُبّواْ الّذِينَ َيدْعُونَ مِن دُونِ
عدْوا ِبغَيْرِ عِلْمٍ { [النعام.]108 :
اللّهِ فَ َيسُبّواْ اللّهَ َ
عدْوا وعدوانا وطغيانا بغير علم بقيمة الحق وقدسيته سبحانه وتعالى؛ لذلك
وهم سيفعلون ذلك َ
يجب أن نصون اللسنة عن سب آلهتهم حتى ل نجرئ اللسنة التي ل تؤمن بال على سب ال.
إن الحق سبحانه يريد أن يعلمنا اللطف في منهج الدعوة؛ لنك تريد أن تحنن قلوبهم لتستميلهم إلى
اليمان ولن يكون ذلك إل بالسلوب الطيب.
صحيح أن المؤمنين معذورون في حماسهم حين يدخلون في مناقشة مع المشركين ولكن ليتذكر
المؤمن القيمة النهائية وهي الخير للدعوة .وليسأل ال أن يرزقه الصبر على المشركين ،ويعلمنا
الحق كيف نسير في منهج الدعوة ،وعلى سبيل المثال نجد سيدنا نوحا عليه السلم الذي لبث في
قومه ألف سنة إل خمسين عاما .وظل يدعو ويتحنن في الدعوة ،إلى أن قالوا له في آخر
المطاف :أنت تفتري هذا الكلم من عندك ،فعلمه ال سبحانه وتعالى أن يقولُ {:قلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ
َفعََليّ ِإجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا تُجْ ِرمُونَ }[هود.]35 :
سمَاوَاتِ
ويقول الحق سبحانه معلما رسول ال صلى ال عليه وسلمُ {:قلْ مَن يَرْ ُز ُقكُمْ مّنَ ال ّ
وَالَرْضِ }[سبأ.]24 :
أي من الذي يعطيكم قوام الحياة؟ وأنت حين تسألهم سؤالً يناقض ما هم عليه .فيتلجلجون،
فيسعف ال رسوله فيوضح سبحانه ويأمره أن يقول لهمُ {:قلِ اللّ ُه وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَىا هُدًى َأوْ فِي
للٍ مّبِينٍ }[سبأ.]24 :
ضَ َ
و " إنا " أي رسول ال ومن معه " .أو إياكم " المقصود بها الكافرون بال ،ولم يقل لهم أنا وحدي
على هدى وأنتم على ضلل ،بل قال :منهجنا ومنهجكم ل يتفقان ،ول بد أن يكون هناك منهج
على هدى ومنهج على ضلل ،ولن أقول مَن هو الذي على هدى ،ومَنْ هو الذي على ضلل؛
لن محمدا صلى ال عليه وسلم واثق من أنهم لو أداروا المسألة على عقولهم وعلى بصائرهم:
فلن يجدوا جوابا إل أن رسول ال على الهدى وأنهم على الضلل .فتركهم هم ليقولوها.
عمّا َت ْعمَلُونَ }[سبأ.]25 :
عمّآ َأجْ َرمْنَا َولَ ُنسَْألُ َ
ولنتأمل أيضا قول الحق سبحانه {:قُل لّ تُسْأَلُونَ َ
لم يقل الحق إنهم هم الذين يجرمون ،بل جعل الجرم -إن صح -على المؤمنين ،وجعل العمل -
وإن فسد -مع الكافرين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعلى القل كانت المساواة تقتضي ول نسأل عما تجرمون ولكنه لم يقل ذلك .وهذا هو الدب
العالي واللطف؛ لن الحق سبحانه وتعالى يريد أل يترك الرسول لغرائزهم مكانا للباء عليه ،وأل
يجدوا وسيلة لينفروا من الدعوة .ولهذا يعلمنا هذا السلوب فيقولَ } :ولَ َتسُبّواْ الّذِينَ َيدْعُونَ مِن
دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْوا ِبغَيْرِ عِلْمٍ { [النعام.]108 :
وبذلك نحقق لطف الجدل .ويقول سبحانه {:إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ َأمْثَاُلكُمْ }[العراف:
.]194
وإن كنتم تريدون كشف حقيقة تلك الصنام فهي أيضا مخلوقة ل وهي تعبده ،واسألوهم ولن
يجيبوا ،وهم ل أرجل لهم يمشون عليها ،ول لهم أيد يبطشون بها ،ول لهم أعين يبصرون بها،
ول لهم آذان يسمعون بها .وفوق ذلك {:إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ
لَهُ }[الحج.]73 :
وهل هناك ما هو أقل من الذباب في عرفكم؟ نعم ،يقول الحق {:وَإِن يَسْلُ ْب ُهمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ
يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ }[الحج.]73 :
فإن جاءت ذبابة وحطت على ما تأكل ،أتستطيع أن تسترجع منها شيئا؟ لن تستطيع ،وإن كنت
جبارا وفتوة فامسك الذبابة وخذ منها الطعام الذي أخذته ،لن تستطيع ،ولذلك يقول الحق سبحانه{:
ضعُفَ الطّاِلبُ وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج.]73 :
َ
وهذا هو الجدل الذي يجعل المجادل يخجل من نفسه ،لكن إذا ثرت في وجهه وتعصبت فأنت
تجعل له عذرا في الحفيظة عليك والغضب منك والهجوم عليك ،وفي النصراف عن منهج ال،
ونسأل ال أن يعطينا طول البال وسعة الحلم والناة على الجدل اللطيف.
عمََلهُمْ
} َولَ تَسُبّواْ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبّواْ اللّهَ عَدْوا ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ
{ [النعام.]108 :
وحين يعلمنا الحق الجدل اللطيف للدعوة فهذا تزيين للدعوة ،والدعوة في ذاتها جميلة؛ لذلك لبد
أن يكون عرضها جميلً.
والمثال من حياتنا :أنت تذهب إلى التاجر وعنده بضاعة قد تكون متميزة جدا لكنه ل يرتبها
وليحسن عرضها؛ لذلك قد تنفر منه وتذهب إلى تاجر آخر قد تكون بضاعته أقل جودة لكنه
سمّي الحلي وما تتجمل به المرأة
يحسن عرضها ،وهذا هو التزيين أي تصعيد الحسن ،ولذلك ُ
زينة والمرأة قد تمتلك أنوثة جميلة ،وهي مع جمالها تقوم بتزيين نفسها بالحلي ،وبالجواهر
والملبس الراقي ،وكان العربي حين يمتدح امرأة بقمة جمالية يقول :هذه غانية ،أي استغنت
بجمالها عن أن تتزين؛ لن ما سوف تداريه بالعقد أجمل من العقد.
والتزيين إذن جمال العرض للستمالة والنجذاب ،ونحن حين نزين أمرا فإننا نعطيه وقارا وحسنا
ج ُعهُمْ فَيُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ
عمََلهُمْ ُثمّ إِلَىا رَ ّبهِمْ مّرْ ِ
ونزيده جمالًَ } :كذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ والمة :هي الجماعة التي لها انتماء يجمع أفرادها ،مثل أمة العرب ..أي أن المنتمين إليها هم
العرب والمة النجليزية أي أن المنتمين إليها إنجليز ،أما أمة السلم فيدخل فيها العرب،
والعجم ،والسود والبيض ،والصفر ،وهي أوسع رقعة ،فإن كانت المم السابقة زينت لتناسب
عصرا محدودا وزمنا محدودا ،ومكانا محدودا فنحن نزينكم تزيينا يناسب كل أذواق الدنيا؛ لنكم
ستواجهون كل هذه المم ،فلبد أن يكون في دعوتكم استمالة لهذا ولهذا ولهذا.
وفي بدء الدعوة -وكانت حينئذ ضعيفة نجد -رسول ال صلى ال عليه وسلم يلتفت إلى المة،
فيكون بلل الحبشي هو من يؤذن ،ونجده يقول عن -سليمان وهو فارسي :-سلمان منا آل
البيت ويأتي سيدنا عمر يقول عن صهيب -وهو رومي :-نعم العبد صهيب لو لم يخف ال لم
يعصه ،أي أن عدم عصيانه ل طبيعة فيه حتى وإن لم يكن يخاف عقاب ال.
فإذا كنا قد زينا لكل أمة من المم الماضية عملهم فتزيين أمتكم يجب أن يكون مناسبا لمهمتها
زمانا ومكانا وأجناسا ،وألوانا ،ولغات ،ولبد أن نزينكم أيضا بحسن أسلوب العرض لمنهج
الدعوة .ويجب أن يتناسب مع جمالها ،وأنتم أولى بالتزيين؛ لنكم مستوعبون لكل حضارات
الدنيا ،وانتماءات الدنيا ،فيجب أن يكون تزيينكم مناسبا لمهمتكم.
ج ُعهُمْ { [النعام.]108 :
عمََلهُمْ ُثمّ إِلَىا رَ ّبهِمْ مّ ْر ِ
} َكذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ
أي أننا وضحنا لهم منهج نقل الدعوة إلى الغير ،وما ينال المحسن والمطيع من ثواب في الخرة،
والمؤمنون حينما ينعمون بنعيم الخرة فهذا نعيم بغير حدود؛ لنه على قدر طلقة قدرة الحق
سبحانه وتعالى ،وهم حين يتنعمون بكل هذه النعم يستشرقون إلى لقاء المنعم به ،ويتجلى ال
عليهم.
وكما زينا للمم السابقة أعمالهم قد زيناكم لنكم أمة الجابة ،وهذا التزيين الخاص يربي الدعاة
إلى منهج ال ،ولو فطن غيركم إلى ما في منهجكم من زينة لبحثوا في هذا المنهج ولقام كل منهم
باستقراء الوجود الذي بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ولوجد أن لكل كائن مهمة،
ن وَالِنسَ ِإلّ لِ َيعْبُدُونِ }[الذاريات.]56 :
ولنضم إلى المنهج التعبديَ {.ومَا خََل ْقتُ الْجِ ّ
و " ليعبدون " تعني أن يطيعوا في " افعل كذا " " ول تفعل كذا " وإذا قال الحق } :كَذَِلكَ زَيّنّا ِل ُكلّ
عمََلهُمْ { فمعنى ذلك أنه سبحانه قد بين العمل بفوائده.
ُأمّةٍ َ
وأنت حين تتأمل ظواهر الوجود حولك تجد أن من تميز عليك بموهبة إنما أراده الحق على هذا
التميز لينفعك أنت ،ويتجلى هذا المر في كل المهن :فالنجار الحاذق والمتقن تعود صنعته عليك،
ومصمم الملبس الذي يتقن عمله سيعود خير صنعته عليك ،ومن مصلحة كل إنسان أن يكون
غيره متفوقا؛ وأن يكون هو أيضا متفوقا في عمله ،وأن يحمد ربنا لن خيره سيعود على غيره
أيضا ،وبذلك نحيا في مجتمع راق يتكون من أمم وطوائف مثالية ،إذن فالمتفوق في شيء يجب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أل يحقد على غيره من أبناء المجتمع؛ لن خير تفوقه سيعود على كل فرد فيه ومن المصلحة أن
يصبر الكل إلى التفوق.
()888 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ألم يأت الرسول صلى ال عليه وسلم بآية واضحة؟ لقد جاءهم بأعظم آية وهي القرآن ،وعدم
عرفانهم بذلك هو أول مصيبة منهم ،ألم يقل لكم :إني رسول بعد أن أعلن الية وهي نزول القرآن
وأنتم تعرفون أنه صادق في التبليغ عن ال ..وكان ذلك هو قمة المماحكة منهم ،وساروا على ذلك
ن الَ ْرضِ
حين اقترحوا هم اليات على ال ،ألم يقولواَ {:وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
سمَآءَ َكمَا
سقِطَ ال ّ
ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ تُ ْ
يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً }[السراء.]92-90 :
زَ َ
وأراد الحق بذلك أن يبين لنا أنّ القسم الذي أقسموه هو قسم مدخول فقد قالوا " :كما زعمت علينا
" والزعم -كما نعلم -مطية الكذب وهذا أول خلل في القسم.
سمَآءِ }[سبأ.]9 :
سقِطْ عَلَ ْيهِمْ كِسَفا مّنَ ال ّ
سفْ ِب ِه ُم الَ ْرضَ َأوْ ُن ْ
خِويقول الحق {:إِن نّشَأْ نَ ْ
هم إذن غير مؤمنين بالية الصلية وهي القرآن ،فيتحدوْنه في أنه ينزل بالوحي ،فيحذرنا الحق
أن نصدق زعمهم ،فهو القائل {:وََلوْ نَزّلْنَا عَلَ ْيكَ كِتَابا فِي قِرْطَاسٍ فََلمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ َلقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ
سحْرٌ مّبِينٌ }[النعام.]7 :
إِنْ هَـاذَآ ِإلّ ِ
سمَاءِ فَظَلّواْ فِيهِ
وحتى إن نزلت الية فلن يصدقوا؛ فالحق هو القائل {:وََلوْ فَتَحْنَا عَلَ ْيهِم بَابا مّنَ ال ّ
سكّ َرتْ أَ ْبصَارُنَا َبلْ نَحْنُ َقوْمٌ مّسْحُورُونَ }[الحجر]15-14 :
َيعْرُجُونَ * َلقَالُواْ إِ ّنمَا ُ
ولو أن الرسول صلى ال عليه وسلم قد سحركم ..فلماذا لم يسحرهم ليؤمنوا بال؟
وهكذا نرى أن الحق قد ذكرنا لنا في كتابه أن كل ما يقولونه في هذه المسألة هو مروق وهروب
من الستجابة للدعوة؛ لنه ل توجد آية أعظم من الية التي نزلت عليهم وهي القرآن ،وكل
اليات التي اقترحوها ل تسمو على هذه الية؛ لنهم أمة نحو وصرف وبلغة وبيان وأدب ،فجاء
لهم بالمعجزة التي تفرقوا فيها .وهم لم يتفوقوا في الشياء التي ذكروها واقترحوها.
إننا نأتي لهم بمعجزة من جنس ما تفوقوا فيه؛ لن المعجزات دائما تأتي على هذا الساس؛ فكل
قوم تفوقوا في مجال يأتي ال لهم بشيء يتفوق عليهم في مجال تفوقهم ليثبت صدق الرسول في
البلغ عنه.
ولقد قلنا :إن المعجزات تأتي خرقا لنواميس الكون الثابتة لن نواميس الكون لها قوانين عرفها
البشر ،وأصبحت متواترة أمامهم؛ فإذا ما جاء أمر يخرق الناموس السائد المعترف به بينهم
يلتفتون متسائلين كيف خرق الناموس وذلك ليعرف كل واحد منهم أن الذي خلق الناموس هو
الذي خرق الناموس؛ لكي يثبت صدق هذا البلغ عنه .وقد جاءتكم المعجزة من جنس ما نبغتم
به ،والذي يدل على ذلك أنهم ل يتكلمون في المعجزة بل في المنهج وفي شخص من جاء
بالمنهج ،تجدهم يقولونَ {:لوْل أُن ِزلَ عَلَ ْيهِ مََلكٌ }[النعام.]8 :
فيوضح القرآن أن المَلك بطبيعة تكوينه ل يُرى منكم؛ هو يراكم وأنتم ل ترونه ،وإذا أرسلنا ملكا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكيف تعرفونه؟ إذن سيتطلب إرسال ملك أن نخلع عليه وضع البشر ،وإن ينزله الحق في صورة
جعَلْنَاهُ
بشر ،وإن نزل في صورة بشر فستقولون :إنه ليس بشرا ولسنا ملزمين بما جاء به {:وََلوْ َ
ل وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا يَلْبِسُونَ }[النعام.]9 :
جعَلْنَاهُ َرجُ ً
مَلَكا لّ َ
وكان سيدنا جبريل -على سبيل المثال -ينزل إلى رسول ال أحيانا في صورة رجل قادم من
السفر ويقعد ويتكلم مع سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،لم يأت جبريل عليه السلم -إذن
-بطبيعة تكوينه بل جاء بطبيعة البشر .وهناك خلق آخر مثل الجن ،ونحن ل نقدر أن نرى
الجن ،ول نستطيع بقوانيننا وقوانين الجن أن نراه ،لكن إذا أراد الجن أن يرينا نفسه فهو يتشكل
بشكل مادي يرى؛ يتشكل بشكل حيوان ،يتشكل بشكل قطة ،يتشكل بشكل جمل ،يتشكل بشكل
رجل ،وهكذا ،ولو كانت هذه المسألة غير مقيدة بتقنين يحفظ توازن المر بين الجنسين -النس
والجن -لتعب الناس؛ لنه ساعة يظهر جن للنسان ويقف أمامه ثم يختفي يسود الرعب بين
البشر على الرغم من أن الجن تخاف من النسان اكثر مما نخاف نحن منهم؛ لن الجن يعرف أن
قانونه يسمح له أن يتشكل بشكل إنس أو أي شكل مادي ،وحينئذ يحكمه قانون النس وإن التقى
بشخص معه مسدس -مثل -فقد يضربه بالرصاص ويقتله ،ولذلك يخاف الجن أن يظهر
للنسان مدة طويلة ،وإنما يظهر كموضة البرق ويختفي؛ لنه يخاف كما قلنا -من النسان .إذن
فالتوازن موجود بين الجن والنس .ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" إن عفريتا من الجن جعل يفتك على البارحة ليقطع عليّ الصلة وإن ال أمكنني منه َفذّعَتّهُ ،فلقد
هممتُ أن أربطه إلى جنب سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أوكلكم
ثم ذكرت قول أخي سليمان " :رب اغفر لي وهب لي ملكا ل ينبغي لحد من بعدي " فردّه ال
خاسئا ،وفي رواية " :وال لول دعوة أخي سليمان لصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة ".
وهكذا نعلم أن القوم إذا اقترحوا آية ،ثم جاء ال بالية ،فإن كذبوا بها أخذهم أخذ عزيز مقتدر ول
يؤجل ذلك للخرة.
والحق سبحانه وتعالى يقولَ {:ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َب ُه ْم وَأَنتَ فِي ِهمْ }[النفال.]33 :
إذن فحتى الكفار به نالهم شيء من رحمته.
شعِ ُركُمْ أَ ّنهَآ
جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ لَئِن جَآءَ ْتهُمْ آيَةٌ لّ ُي ْؤمِنُنّ ِبهَا ُقلْ إِ ّنمَا اليَاتُ عِندَ اللّ ِه َومَا ُي ْ
سمُواْ بِاللّهِ َ
} وََأقْ َ
ت لَ ُي ْؤمِنُونَ { [النعام.]109 :
إِذَا جَآ َء ْ
هنا يبلغ الحق رسوله أن يقول لهم :أنا ل آتي باليات من عندي ول آتي بقانون قدرتي؛ لن
قانون قدرتي مساو لكم .ولست متفوقا عنكم غير أنه يوحي إليّ وأبلغكم ما أرسلت به إليكم .إنّ
ال هو الذي يناولني آيات القرآن ،ول يوجد خلق يقترح على ال الية؛ لن ما سبق في الرسالت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السابقة يؤكد أن الحق إذا ما استجاب لية طلبها الخلق ولم يؤمنوا فسبحانه يهلكهم ويستأصلهم أو
يغرقهم أو يرسل عليهم ريحا صرصرا أو يخسف بهم الرض ،والحق هو القائلَ {:ومَا مَ َنعَنَآ أَن
لوّلُونَ }[السراء.]59 :
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن َك ّذبَ ِبهَا ا َ
نّرْ ِ
إذن فبعض أهل الرسالت السابقة اقترحوا اليات وحققها ال لهم ثم كذبوا بها .إذن فالتكذيب هو
الصل عندهم.
والمفروض أن تأتي الية كما يريدها ال ل أن يقترحها أحد عليه .ولذلك يأمر الحق رسوله أن
يبلغهمُ } :قلْ إِ ّنمَا اليَاتُ عِندَ اللّهِ { ثم يأتي خطاب جديد لناس يختلفون عن المشركين هم
ت لَ ُي ْؤمِنُونَ { فكأنهم حينما قال أهل
شعِ ُركُمْ أَ ّنهَآ إِذَا جَآ َء ْ
المؤمنون ،فيقول الحق لهمَ } :ومَا يُ ْ
الشرك ذلك أراد المؤمنون أن يخففوا عنتهم مع رسول ال فقالوا له :يارسول ال ،اسأل ال أن
ينزل لهم آية حتى نرتاح من لجاجتهم ،فيتجه ال بالرد على من قرظ هذا السؤال موضحا :أنتم
مؤمنون وظنكم حسن ،وفكرتكم طيبة في أنكم تريدون أن تكسروا حدة العنت ،لكن ما يشعركم:
أي ما يعلمكم أن الية التي اقترحوها إن جئت بها ل يؤمنون .فكأن المؤمنين أيدوا قول هؤلء
المشركين في طلب الية منعا للجاج.
والنص القرآني جاء بقوله الحق " :ل يؤمنون " وجاء العلماء عند هذه المسألة واختلفوا ،وجزى
ال الجميع خيرا؛ لنها أفهام تتصارع لتخدم اليمان .ونسأل :ما الذي يجعل السلوب يجيء بها
الشكل؟ ونقول :إنها مقصودات الِله حتى نعيش في القرآن .ل أن نمر عليه المرور السريع.
والسلوب في قوله " :وما يشعركم أنها إذا جاءت ل يؤمنون " هو دليل على أنه ليس لكم علم.
وقلنا :إن الشعور يحتاج إلى إدراك ومواجيد ونزوع ،فعلى أي أساس بنيتم شعوركم هذا؟ أنتم
أخذتم ظاهر كلمهم ،ولكن الحق يعلم ويحيط بما يخفون ويبطنون .وكأنه سبحانه يوضح أن طلب
الية إنما هو تمحيك .وأنتم تعلمون أن ال إن جاء لهم بالية فلن يؤمنوا.
وبعض من المفسرين قال :إن (ل) زائدة ومنهم من كان أكثر تأدبا فقال( :ل) صلة لنهم خافوا أن
يقولوا( :ل) زائدة وقد يأخذ البعض بمثل هذا القول فيحذفها ،لذلك أحسنوا الدب؛ لن الذي يتكلم
هو الِله وليس في كلمه حرف زائد بحيث لو حذفته يصح الكلم ،ل .إنك إذا حذفت شيئا فالكلم
يفسد ول يؤدي المراد منه؛ لن ل مرادات في كلمه ،وهذه المرادات لبد أن يحققها أسلوبه.
والمثال في حياتنا أن يقول لك واحد " :ما عندي مال " أو ما عندي من مال؟ إن " من مال " هنا
ابتدائية أي من عندي من بداية ما يقال :إنه مال ،أما من يقول " :ما عندي مال " أي ليس عنده ما
يعتد به من المال الذي له خطر وقيمة ،بل عنده قروش مما ل يثال له :مال .إن في جيبه القليل
من القروش.
و " ل " في هذه الية جاءت لن الحق يريد أن يقول للمؤمنين :ما يعلمكم يا مؤمنون أنني إذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جئت لهم بالية يؤمنون ،فكأنه سبحانه ينكر على المؤمنين تأييد مطلب الكافرين .وقد تلطف الحق
مع المؤمنين وكرم حسن ظنهم في التأييد لنهم ل يؤيدون الطلب حبا في الكافار ،بل حبا في النبي
جهْدَ
سمُواْ بِاللّهِ َ
والمنهج ،وكأن الحق يقول لهم :أنا أعذركم لنكم تأخذون بظاهر جهد اليمين } وََأقْ َ
أَ ْيمَا ِنهِمْ { ومبالغتهم فيه .ول أنكر عليكم تصديقكم لظاهر قولهم؛ لن هذا هو مدى علمكم ،ومكا
أدراكم أنني إذا جئت بالية أنهم أيضا لن يعلنوا الِيمان .ولو كنتم تعبمون ما أعلم لعرفتم أنهم لن
يؤمنوا .إذن حين جاء السلوب بـ } لَ ُي ْؤمِنُونَ { فـ " ل " حقيقية وليست زائدة .ومن أجل أن
يطمئن الحق المؤمنين أظهر لهم أن علمه الواسع يعلم حقيقة أمرهم يقول } :وَ ُنقَّلبُ َأفْئِدَ َتهُمْ
وَأَ ْبصَارَهُمْ{ ...
()889 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا