Professional Documents
Culture Documents
وحين تقول :أنا أقلب السلعة فهذا يعني أنك تفحصها .والحق يبلغنا هنا :أنا قلبت قلوبهم على كل
لون ولن آخذ بظاهر الفؤاد ،بل بلطفي وعظيم خبرتي أعلم الباطن منهم فاطمئنوا إلى أن حكمي
هو الحكم الحق الناتج من تقليب لطيف خبير.
وقد يكون هنا معنى آخر ،أي أن يكون التقليب لونا من التغيير؛ فمن الجائز أنهم حينما أقسموا
بال جهد أيمانهم كانوا في هذا الوقت قد اقتربوا من اليمان ولكن قلوبهم ل تثبت على عقيدة .بل
تتقلب دائما .ومادامت قلوبهم ل تثبت فأنّى لنا بتصديقهم لحظة أن أقسموا بال جهد أيمانهم على
إعلن اليمان إن جاءت آية؟ وهل فيهم من يملك نفسه بعد مجيء الية أيظل أمره أم يتغير؟ .لن
ربنا مقلب القلوب وما كنت تستحسنه أول قد ل تستحسنه ثانيا .حين { و ُنقَّلبُ َأفْ ِئدَ َتهُ ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ }
أي أن الحكم قد جاء عن خبرة وإحاطة علم { وَ ُنقَلّبُ َأفْئِدَ َت ُه ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا لَمْ ُي ْؤمِنُواْ بِهِ َأوّلَ مَ ّرةٍ
}.
إن اليمان يحتاج إلى استقبال آيات كونية بالبصر ،وبعد أن تستقبل اليات الدالة على عظمة الِله
تؤمن به ويستقر اليمان في فؤادك .وسبحانه يوضح لنا أنه يقلب أفئدتهم وأبصارهم ،هل
يبصرون باعتبار واقتناع؟ أو هي رؤية سطحية ل فهم لهم فيها ول قدرة منهم على الستنباط؟
وهل أفئدتهم قد استقرت على اليمان أو أن أبصارهم قاصرة وقلوبهم قاصرة؟
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } [النعام:
{ وَ ُنقَّلبُ َأفْ ِئدَ َتهُ ْم وَأَ ْبصَارَهُمْ َكمَا َلمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ وَ َنذَرُهُمْ فِي ُ
]110
إذن فهم ل يؤمنون ويسيرون إلى ضللهم .فإن جاءت آية فلن يؤمنوا ،وفي هذا عذر للمؤمنين في
أنهم يرجون ويأملون أن تنزل آية تجعل من أقسموا جهد اليمان أن يؤمنوا.
لماذا؟ لن الحق قالَ { :كمَا َلمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهِ َأ ّولَ مَ ّرةٍ } ،أي أنهم لم يتغيروا ولذلك يصدر ضدهم
طغْيَا ِن ِهمْ َي ْع َمهُونَ } والطغيان هو تجاوز الحد ،وهم قد تجاوزوا الحد هنا في
الحكم { وَنَذَ ُرهُمْ فِي ُ
استقبال اليات ،فقد جاءتهم آيات القرآن وعجزوا عن أن يأتوا بمثلها ،وعجزوا عن أن يأتوا
بعشر سور ،وعجزوا عن أن يأتوا بسورة ،وكان يجب أل يطغوا ،وأل يتجاوزوا الحد في طلب
القتناع بصدق الرسول.
طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ } و " العمه " هو التردد والحيرة ،وهم في طغيانهم يترددون ،لن
{ وَنَذَ ُرهُمْ فِي ُ
فيهم فطرة تستيقظ ،وكفرا يلح؛ يقولون لنفسهم :أنؤمن أو ل نؤمن؟ والفطرة التي تستيقظ فيهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تلمع كومضات البرق ،وكان يجب أل يترددوا :أو { وَنُقَّلبُ َأفْئِدَ َتهُمْ وَأَ ْبصَارَهُمْ } في النار؛ لن
البصر لم يؤد مهمته في العتبار ،والقلب لم يؤد في الفقه عن ال ،فيجازيهم ال من جنس ما
عملوا بأن يقلب أبصارهم وقلوبهم في النار.
ويقول الحق بعد ذلك { :وََلوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ إِلَ ْي ِهمُ} ...
()890 /
هنا يوسع الحق المسألة .فلم يقل :إنهم سوف يؤمنون ،بل قال { :وََلوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ إِلَ ْي ِهمُ ا ْلمَل ِئكَةَ }
مثلما اقترحوا ،أو حتى لو كلمهم الموتى ،كما قالوا من قبل {:فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ }[سورة
الدخان]36 :
شيْءٍ } و " الحشر " يدل على سوق بضغط مثلما نضع بعضا
علَ ْيهِمْ ُكلّ َ
ويأتي القول { :وَحَشَرْنَا َ
من الكتب في صندوق من الورق ونضطر إلى أن نحشر كتابا ل مكان له ،إذن :الحشر هو سوق
فيه ضغط ،وهنا يوضح الحق :لو أنني أحضرت لهم اليات يزاحم بعضها بعضا وقدرتي صالحة
أن آتي باليات التي طلبوها جميعا لوجدت قلوبهم مع هذا الحشر والحشد تضن باليمان.
شيْءٍ قُبُلً } و " قبل " هي جمع " قبيل " ،مثل سرير وسرر.
حشَرْنَا عَلَ ْيهِمْ ُكلّ َ
{ وَ َ
شيْءٍ قُبُلً } .وهذا يعني أن الحق إن جاء لهم بكل ما طلبوا من آيات ،وكأن
حشَرْنَا عَلَ ْيهِمْ ُكلّ َ
{ وَ َ
كل آية تمثل قبيلة والية الخرى تمثل قبيلة ثانية ،وهكذا .فلن يؤمنوا ،أو " قبل " تعني معاينة أي
أنهم يرونها بأعينهم ،لن في كل شيء دبرا وقبل؛ والقبل هو الذي أمام عينيك ،والدبر هو من
خلفك .فإن حشرنا عليهم كل شيء مقابل .ومعاينا لهم فلن يؤمنوا .وإن اخذتها على المعنى الول
أي أنه سبحانه إن حشد اليات حشدا وصار المعطي أكثر من المطلوب فلن يؤمنوا .وإن أردت
أن تجعلها مواجهة ،أي أنهم لو رأوا بعيونهم مواجهة من أمامهم فلن يؤمنوا.
شيْءٍ قُبُلً مّا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ ِإلّ
{ وََلوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ ِإلَ ْيهِمُ ا ْلمَل ِئكَ َة َوكَّل َمهُمُ ا ْل َموْتَىا وَحَشَرْنَا عَلَ ْي ِهمْ ُكلّ َ
أَن يَشَآءَ اللّهُ } [النعام]111 :
وجاء الحق هنا بمشيئته لن له طلقة القدرة التي إن رغب أن يرغمهم على اليمان فلن
يستطيعوا رد ذلك ،ولكن الرغام على اليمان ل يعطي الختيار في التكليف ولذلك قال سبحانه{:
سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
َلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضعِينَ }[الشعراء]4-3 :
خَا ِ
وال ل يريد أعناقا تخضع ،وإنما يريد قلوبا تخشع .لذلك يذيل الحق الية بقوله { :وَلَـاكِنّ
جهَلُونَ } .والجهل يختلف عن عدم العلم ،بل الجهل هو علم المخالف ،أي أن هناك قضية
َأكْثَرَهُمْ َي ْ
والجاهل يعلم ما يخالفها ،أما إن كان ل يعلم القضية فهذه أمية ويكفي أن نقولها حتى يفهمها فورا.
لكن مع الجاهل هناك مسألتان :الولى أن نزيل من ادراكه هذا الجهل الكاذب ،والخرى أن نضع
في إدراكه القضية الصحيحة ،وما دام أكثرهم يجهلون .فهذا يعني أنهم قد اتبعوا الضلل.
ع ُدوّا شَيَاطِينَ} ...
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ َ
ويقول الحق بعد ذلكَ { :وكَذَِلكَ َ
()891 /
{ َوكَذَِلكَ } إشارة من الحق سبحانه وتعالى إلى الرسل والنبياء ليعطي السوة للرسول بإخوانه
السابقين له في موكب الرسالت ،فلست بدعا -يا محمد -في أنك رسول يُواجَه بأعداء ،فكل
رسول من الرسل ووجه وقوبل بهؤلء العداء.
وهل َفتّ أعداء الرسل في عضد مَن أرسل إليهم وأضعفوا قوتهم وأوهنوا عزائمهم وأثنوهم عن
دعوتهم؟ أو ظل الرسل أيضا صامدين؟ ..إنهم صمدوا وأيدهم ال ونصرهم وإذا كنت أنت خاتم
الرسل ،وسيد المرسلين ،والمعقب على رسالت سبقتك ول معقب على رسالتك فلبد أن يكون
العداء الذين يواجهونك مناسبين للمهمة التي تؤديها .وإياك أن تظن أن المقصد في هذه العداوة
أننا تركناهم أعداء لمجرد العداء ،ل ،بل نحن قد أردنا هذه العداوة لصالح الدعوة؛ لن النسان إذا
ما كان في منهج خير وأهاجه الشر يتحمس لمزيد من الخير .ولذلك ل تجد الصحوات اليمانية
إل حين يجد المؤمنون تحديا من خصومهم ،هنا تجد الصحوة اليمانية قد استيقظت لن هناك
خصوما يتحدونها ،ولو لم يكن هناك خصوم لبقيت الصحوة فاترة .وهذا ما نراه حين يوجد من
خصوم السلم من أي لون من ألوانهم مَن يتحدى أي قضية من قضايا الدين .في هذه الحالة نجد
حتى غير الملتزم بمنهج السلم يغار على الدين.
إذن فالعداوة لها فائدة ،وإياك أن تظن أن في أي مظهر في الوجود يُغلب ال على مراداته في
كونه ،والشر له رسالة لنه لول أن الشر موجود ويصاب الناس من أذاه لما تحمس الناس للخير،
فالذي يجعلنا نتحمس للخير هو وجود الشر ،وأوضحنا من قبل أن الباطل جندي من جنود الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لن الباطل حين يعض ويعربد في الناس يتساءل الناس متى يأتي الحق لينقذنا ،وأنك ساعة ترى
مريضا يتألم إياك أن تظن أن اللم قد جاءه دون سبب ،بل اللم جندي من جند الشفاء .وكأن اللم
يقول لمن يصيبه :يا إنسان تنبه أن عطبا في هذا المكان فسارع إلى علجه .ولذلك نجد أعنف
المراض وأشرسها وأخبثها ،هي المراض التي تأتي بل ألم يسبقها ،ول تظهر أعراضها إل أن
يستعصي شفاؤها ،وهكذا نرى أن اللم جندي من جنود العافية.
وحين يكون لك عدو في الحارة أو في البلدة وعيونه مركزة عليك فأنت تخاف أن تقع منك هَنة
وعيب حتى ل يشنّع عليك؛ لذلك تسير على الصراط المستقيم لنك ل تريد أن تنصره على
نفسك.
والشاعر القديم ،الذي أعجبه الشعر فشطره .يقول لك:عداي لهم فضل عليّ ومنة فعندي لهم شكر
على نفعهم ليافهم كدواء والشفاء بمرّه فل أبعد الرحمن عني العادياهمُ بحثوا عن زلّتي فاجتنبتها
فأصبحت ِممّا دنس العرض خالياوهم أججوا جهدي ولكن ببغضهم وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
لذلك لبد أن تنظر إلى كل شيء بحكمة إيجاد الحكيم له فقد شاء الحق أن يوجد العداء للدعوة
السلمية حتى تنتصر وتقوى.
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ ا ْل َق ْولِ
س وَالْجِنّ يُوحِي َب ْع ُ
ن الِنْ ِ
ع ُدوّا شَيَاطِي َ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ َ
} َوكَذَِلكَ َ
غُرُورا وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ مَا َفعَلُوهُ فَذَرْ ُه ْم َومَا َيفْتَرُونَ { [النعام]112 :
وجعل الحق سبحانه وتعالى العداء للنبياء ،مهيّجين ومثيرين للنبي ولتباعه؛ لن المر إذا
حصلت فيه معارضة من مخالف أججت في نفس المقابل قوة حتى ل يهزم أمامه ول يغلب أمام
جعَلْنَا { لي أنهم لم يتطوعوا بالعداوة إنما هو تسخير للعداوة }
منطقه .ولذلك قال الحقَ } :وكَذَِلكَ َ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ عَ ُدوّا {.
َوكَذَِلكَ َ
وكيف يجعل ال لكل نبي عدوا؟ إنه يفعل ذلك بما أودع في الناس من الختيار ،وما داموا
مختارين فالذي اختار الهدى يكون نصيرا للنبي ،والذي اختار الضلل يكون عدوا للنبي.
إذن فهم لم يكونوا أعداء بطبيعتهم ،وإنما بما أودع ال فيهم من الختيار.
وإذا كان ال هو الذي أودع الختيار فقد أراد أن يحقق مشيئته في قوله {:لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّنَةٍ
حيّ عَن بَيّ َنةٍ[} ..النفال]42 :
وَيَحْيَىا مَنْ َ
ولو شاء ال ال يكون للنبوة أعداء لفعل ذلك؛ لن له طلقة القدرة ،ولكن ذلك سيكون بالقهر،
وال ل يريد قهرا للعقلء ،وإنما يريد أن يذهبوا إليه بمحض اختيارهم؛ اي وهم قادرون على ال
يذهبوا .وكلمة " عدو " في ظاهرها أنها مفرد ،ولكنها تطلق على الواحد ،وتطلق على الثنين،
وتطلق على الجماعة ،فتقول " :هذا عدو لي "؛ و " هذه عدو لي "؛ ول تقل " عدوة " ،وتقول:
وهذان عدو لي ،وهاتان عدو لي ،لن كلمة " عدو " تطلق على الذكر والنثى وتقال للمفرد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وللمثنى ،وللجمع.
ع ُدوّ لِي ِإلّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء]77 :
اقرأ قول الحق {:فَإِ ّنهُمْ َ
ع ُدوّ فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُم مّنّي هُدًى َفمَنِ اتّبَعَ
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ َ
جمِيعا َب ْع ُ
واقرأوا قول الحق {:قَالَ اهْبِطَا مِ ْنهَا َ
شقَىا }[طه]123 :
ل َولَ َي ْ
ضّهُدَايَ فَلَ َي ِ
ولم يقل أعداء ،إذن فكلمة " عدو " تطلق على المفرد والمفردة ،والمثنى والمثناة ،وعلى جمع
المذكر والجمع المؤنث .لكن بعض الذين يحبون أن يكونوا مستدركين على كلم ال .يقول الواحد
منهم :كيف يقول " :فإنهم عدو لي " ،أو " اهبطو بعضكم لبعض عدو "؟! ويقول سبحانه
وتعالىَ {:ألَمْ أَ ْن َه ُكمَا عَن تِ ْل ُكمَا الشّجَ َر ِة وََأقُل ّل ُكمَآ إِنّ الشّ ْيطَآنَ َل ُكمَا عَ ُدوٌ مّبِينٌ[} ..العراف]22 :
علَ ْيكُمْ إِذْ
والشيطان عدو ،وهم عدو .وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى {:وَا ْذكُرُواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ َ
خوَانا[} ..آل عمران]103 :
عدَآءً فَأَّلفَ بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ فََأصْبَحْتُمْ بِ ِن ْعمَتِهِ إِ ْ
كُنْتُمْ أَ ْ
ونقول له :أنت قد فاتك أن الذي يتكلم هو الرب العلى .والعداوة نوعان ،فإذا تعدد العدو،
وجمعته مصلحة واحدة في معاداة المعادي يكونون وحدة في العداوة فهم عدو واحد لجتماعهم
على سبب واحد في العداوة.
لكن إذا تعددت أسباب العداوة فالمر يختلف ،فقد يكون لك عدو لن مظهرك أحسن منه ،وعدو
آخر لنك أذكى منه ،وعدو ثالث لنك أغنى منه .فلتعدد السباب صار كل واحد منهم عدوًا
س وَالْجِنّ
ن الِنْ ِ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ عَ ُدوّا شَيَاطِي َ
برأسه وجمع على أعداء لتعدد سبب العداوةَ {.وكَذَِلكَ َ
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ[} ..سورة النعام]112 :
يُوحِي َب ْع ُ
وشياطين النس والجن كما يقول النجاة بدل من عدو و " شياطين " جمع شيطان وهو اللعين
المطرود ،البغيض ،سواء أكان من النس أم من الجن.
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ ا ْلقَ ْولِ غُرُورا { والوحي -كما نعرف -هم إعلم بخفاء،
} يُوحِي َب ْع ُ
ولماذا يوحي بعضهم إلى بعض؟ لن غلبة الحق ل تجعلهم قادرين على أن يتجاهروا؛ لذلك
يتآمرون مع بعضهم البعض ،لكن الناس المحقين في قضية يتحركون في علنية .ول يستخفون
من الناس.
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ { ومن الذي يوحي؟ ومن الذي يوحى إليه؟ ليس لنا دخل بهذا
} يُوحِي َب ْع ُ
الموضوع ،إنما الوحي :هو إعلم بخفاء ،إن كان إلهاما في النفس ،أو إن كان بالشارة أو بالدس،
أو إن كان بالوسوسة ،أو إن كان بواسطة رسول نحن ل نراه ،كل ذلك أساليب الوحي الشامل
للخير والشر.
وإذا كان الوحي من شياطين الجن فهل يوحون إل ِبشَرً؟ نعم .وكذلك هناك شياطين من النس
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َق ْولِ { وزخرف
يوحون أيضا بشرّ .مصداقا لقوله الحق } :يُوحِي َب ْع ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القول ،المقصود به أنهم يدخلون على المسائل بالتزيين ،فيزينون للناس الشهوة ،ولذلك سماها ربنا
" وسوسة " ،ونعلم أن المعاني حين يؤخذ لها ألفاظ تؤخذ من الشياء الحسيّة ،والوسوسة هي
صوت الحلى ،وقد اختار ال لما يفعله الشياطين من النس والجن للفظ الموحى بالمعنى المراد
لن وسوسة الحلى تغري بالنفاسة وعظم القيمة ،والوسوسة طريقها هو الخفاء.
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ ا ْلقَ ْولِ { وهم شياطين من النس والجن ،إنس يوحي لنس
} يُوحِي َب ْع ُ
بأن يزين له المعصية والشهوة ،وكثيرا ما يقع ذلك.
وجنّي يوحي لجنّي؛ لن الجن مكلّف أيضا .وكذلك يوحي الجن للنس.
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ ا ْلقَ ْولِ { الزخرف .هو الشيء لمزين ظاهره لكن باطنه فاسد،
} يُوحِي َب ْع ُ
ولذلك قال عز وجل {:وَزُخْرُفا وَإِن ُكلّ َذِلكَ َلمّا مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا[} ..الزخرف]35 :
أي أمورا مزخرفة ظاهرا ،لكن ليس لها عمق أو عمر أو نفاسة.
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ ا ْلقَ ْولِ غُرُورا[ { ..النعام]112 :
} يوحِي َب ْع ُ
وذلك ليغروهم ويخدعوهم ليفعلوا ويقترفوا المعصية ،وإن لم يأتوا للمعصية بكلمات تزخرفها
وتزينها فلن يستطيعوا أن يدخلوا بها على الناس؛ لذلك يعرضون ويبدون محاسن المعصية في
ظاهر المر ،مثال ذلك أنك ل تجد من يقول لخر :اشرب الخمر لتصاب بتليف الكبد مثل!!
ولكن هناك من يقول :احتس الخمر ليذهب همك وتنشط نفسك ويكثر فرحك.
} ُزخْ ُرفَ ا ْلقَ ْولِ غُرُورا { أي ليغروهم؛ بإظهار فائدة موهومة فيه ،ويسترون عن الناس مضرّة
هذا الشيء ومهالكه.
ويتابع سبحانه } :وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ مَا َفعَلُوهُ { إنّ الحق سبحانه وتعالى هو الذي أعطى خلقه اختيارا
في أن يكونوا مؤمنين أو أن يكونوا كافرين ،مهديين أو ضالين ،في نور أو في ظلمة .ويأتي
الوقت الذي يثيب فيه سبحانه أو يعاقب؛ لذلك فهو -جل شأنه -ل يرغمهم على فعل ثم يعاقبهم
عليه؛ لنه هو العدل .ولذلك نجد من يقول :لماذا العقاب ول شيء في الكون يقع على غير مشيئة
ال؟ ونقول :نعم كل شيء من فعل ال؛ لن سبب الختيار من ال .وسبحانه هو الذي خلق
الختيار .فالكافر ل يقدر أن يؤمن إل أن شاء ال ,لكن المطلوب منه أن يؤمن لن طبيعته
صالحة للكفر وصالحة لليمان.
إذن خلق ال النسان مختارا في أن يفعل أو ل يفعل في بعض المور ،فالذي ينظر إلى أن كل
فعل من ال أي ليس بطاقة من عبد ،نقول له :صح رأيك .ومن يقول :إن هذا المر من العباد
نقول له أيضا :صح موقفك؛ لن ربنا خلق النسان صالحا لن يحصل منه كذا .فإن أردت
الحقيقة تجد كل فعل يأتي من ال ،فأنت -على سبيل المثال -لم تخلق القوة التي لليد لترتفع ،ول
خلقت القوة للصابع لتنقبض .وإذا أردت أن تقبض يدك .فما هي العضلت التي تتحرك لتفعل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النقباض؟ أنت ل تعرف .إنّك تقبض يدك بمجرد إرادة منك أن تقبضها ،والذي خلق لك هذه القوة
يأمرك أل تستعملها في قهر الخرين،ولكن عليك أن تستعملها فيما يفيد الناس .واليد صالحة
للضرب وللعمل الطيب وأنت لم تخلق الطاقة التي في اليد ،ول خلقت النفعال فيها لرادتك.
} وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ مَا َفعَلُوهُ { أي لو شاء عدم فعله لفعل؛ لن له طلقة القدرة فل يقدر أحد أن
يخرج عن مراده أبدا .ونحن نرى السماء والرض وكل ما دون النسان مسخرا ،ثم لماذا نأخذ
أمثلة من السماء والرض والنبات والجماد والحيوان؟ خذ المثال من نفسك .أنت فيك أشياء ليس
لك سيطرة عليها ،واختيار لك عليها ،ألك اختيار أن تمرض؟ .ل.
ألك اختيار أن يقع عليك حجر وأنت تمشي؟ .ل.
ألك اختيار في أن يصيبك سائق سكران؟ .ل.
ألك اختيار في أن تموت او ل تموت؟ .ل .لقد جعل ال فيك المرين الثنين:
قهرك في أمور .والقهرية تثبت له -سبحانه -القدرة وطلقتها ،وجعلك مختارا في أشياء،
والختيار يثبت صحة التكليف.
ويتابع الحق مذيلً الية } :فَذَ ْرهُ ْم َومَا َيفْتَرُونَ { لن افتراءهم وكذبهم وزعمهم الباطل لن يغير
من حقيقة المر شيئا ،وهم يرون أن افتراءهم يعوق الدعوة ،ل ،فقد صار افتراؤهم وكيدهم
وعداوتهم للنبي وقودا مهيّجا للدعوة؛ لن يخلص الدعوة من الشوائب ويصهر المؤمنين بها
ويخرج منهم خصال الشر ويملهم بخلل الخير.
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ[} ..الرعد]17 :
{ فََأمّا الزّ َبدُ فَيَ ْذ َهبُ ُ
ولو لم يكن هناك مهيّجات لهذه المسائل لدخل الدعوة العاطل والباطل ولندس فينا من ل يعرف
قيمة اليمان؛ لذلك يمحص ال بالعداء وبالقوم الذين يقفون أمامها حتى ل يكون في حملة الدعوة
احد من ضعاف العقائد وضعاف اليمان ،وهم الذين يخرجون هربا من مسئوليات اليمان ول
يبقى إل أصحاب الرسالة الذين يخلصون الصدق مع ال وينقيهم ال بواسطة العداء .ولذلك
قالَ {:لوْ خَ َرجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ ِإلّ خَبَالً }[التوبة]47 :
فمن الحكمة أنه -سبحانه -ثبط عزيمتهم وضعف رغبتهم في النبعاث والخروج معكم {.وََلوْ
طهُ ْم َوقِيلَ ا ْقعُدُواْ مَعَ ا ْلقَاعِدِينَ }[التوبة:
ع ّد ًة وَلَـاكِن كَ ِرهَ اللّهُ ان ِبعَا َثهُمْ فَثَبّ َ
ج لَعَدّواْ لَهُ ُ
أَرَادُواْ ا ْلخُرُو َ
]46
وهنا يقول الحق } :يُوحِي َب ْعضُهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ ُزخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ { وزخرف القول هو لون من الداء
سمّاع ،ومن يسمعونه قد ل يؤثر في قلوبهم ول في نفوسهم ،ومرة أخرى يسمعونه ويكون
له ُ
عندهم ميل وليس عندهم عقيدة ثابتة راسخة إلى هذا القول.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ{ ..
صغَى إِلَيْهِ َأفْ ِئ َدةُ الّذِي َ
وكيف يسلك هؤلء الناس } :وَلِ َت ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()892 /
كأن من يؤمن بالخرة ل يقرب منه الزخرف أبدا ول يميل إليه .وإن زُينت له معصية فإنه
يتساءل :كم ستدوم لذة هذه المعصية؟ دقيقتين ،ساعة ،شهرا؛ وماذا أفعل يوم القيامة الذي يكون
فيه النسان إمّا إلى دخول الجنة وإمّا إلى دخول النار .إذن فمن يؤمن بالخرة ل تتقبل أذنه ول
فؤاده هذا الزخرف من القول ،ول يتقبله إل من ل يؤمن بالخرة ،وهو ل يعرف إل الدنيا ،فيقول
لنفسه :فلتتمتع في الدنيا فقط ،ولذلك لو استحضرَ كل مؤمن العقوبة على المعصية ما فعلها ،وهو
ل يفعلها ،وهو ل يفعلها إل حين يغفل عن العقوبة .وإذا كنا في هذه الدنيا نخاف من عقوبة
بعضنا بعضا ،وقدراتنا في العقوبة محدودة ،فما بالنا بقدرة الرب القاهرة في العقوبة؟! ولذلك نجد
الذين يجعلون الخرة على ذكر من أنفسهم وبالهم إذا عرضت لهم أي معصية ،يقارنونها بالعقاب،
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ وَلِيَ ْرضَ ْو ُه وَلِ َيقْتَ ِرفُواْ مَا هُم
صغَى إِلَيْهِ َأفْ ِئ َدةُ الّذِي َ
فل يقتربون منها { .وَلِ َت ْ
ّمقْتَرِفُونَ }.
والصغاء هو ميل الذن إلى المتكلم؛ لنك قد ل تسمع من يتكلم بغير إصغاء ،وحين يسير
النسان منا في الطريق فهو يسمع الكثير ،لكن أذنه ل تتوقف عند كل ما يسمع ،بل قد تقف الذن
عندما يظن الِنسان أنه كلم مهم .ولذلك يسمونه التسمع ل السمع ،وهذا هو الصغاء .ولذلك
يقول النبي عليه الصلة والسلم :من تسمع غانية -أي امرأة تغني بخلعة -ولم يقل " :من
سمع " ،والنسان منا قد يسير ويذهب إلى أي مكان والمذياع يذيع الغاني ،ويسمعها النسان،
وآلة إدراك السمع منطقة وليست مفتوحة؛ فهو ل يتصنت ،وآلة إدراك النطباقية أو النفتاحية
مثل العين؛ فالعين ل ترى وهي مغمضة ،إنها ترى وهي مفتوحة ،والعين تغمض بالجفون أما
الذن فليس لها جفون يقول لها :ل تسمعي هذه ،وهذه اسمعيها.
إذن فالسمع ليس للنسان فيه اختيار ،لكن التسمع هو الذي له فيه اختيار.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ وَلِيَ ْرضَ ْو ُه وَلِ َيقْتَرِفُواْ مَا هُم ّمقْتَرِفُونَ } [النعام:
صغَى ِإلَيْهِ َأفْئِ َدةُ الّذِي َ
{ وَلِ َت ْ
]113
كأن فيه شيئا ينبع طلب السمع فيه من الفؤاد ،أي يوافق ما في العماق ،وشيئا آخر يمر عليه
النسان مر الكرام غير ملتفت إليه .والفئدة هي القلوب ،صحيح أن الذان هي التي تصغي ،لكن
القلوب قد تتسمع ما يقال ،وكأن النفس مستعدة لهذه العملية؛ لنها ل تؤمن بأن هناك آخرة وعندما
استعداد لن تأخذ لذة الدنيا دون التفات للخرة .ولذلك ينقل الحق سبحانه الصغاء من الذن إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الفؤاد وهذا إدراك.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ[ } ..النعام]113 :
صغَى ِإلَيْهِ َأفْئِ َدةُ الّذِي َ
{ وَلِ َت ْ
ثم تأتي المرحلة الثانية والمرحلة الثالثة:
ض ْوهُ وَلِيَقْتَ ِرفُواْ مَا هُم ّمقْتَ ِرفُونَ } [النعام]113 :
{ وَلِيَ ْر َ
وقد يصغي إنسان ،ثم تتنبه نفسه اللوامة ،ويمتنع عن الستجابة.
لكن هناك من يصغي ويرضى وجدانه ويستريح لما يسمع ،ثم ينزع للعمل ليقترف الثم .وهذه
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ { .ثم المرحلة الثانية} :
صغَى ِإلَيْهِ َأفْئِ َدةُ الّذِي َ
ثلث مراحل :الولى هي } :وَلِ َت ْ
وَلِيَ ْرضَ ْوهُ { ،ثم المرحلة الخيرة } :وَلِ َيقْتَ ِرفُواْ { أي يرتكبوا الثم ،وهذه المسألة حددت لنا
المظاهر الشعورية التي درسها علماء النفس فالدراك؛ " لتصغى " ،والوجدان؛ " ليرضوه " ،
والنزوع؛ " ليقترفوا ".
وقبل أن يولد علم النفس جاء القرآن بوصف الطبيعة البشرية بمراحلها المختلفة من إدراك
ووجدان ،ونزوع والشرع ل يتدخل عند أي مظهر من مظاهر شعور المرء إل عند النزوع إل
في حالة واحدة حيث ل يمكن فصل النزوع عن الوجدان وعن الدراك؛ لذلك يتدخل الشرع من
أول المر ،وهو ما يكون في عملية نظر الرجل إلى المرأة؛ لنك حين تنظر تجد نفسك :تحبها
وتعشقها تفتن بها ،ومحرم عليك النزوع ،فحين تتقدم ناحيتها يقول لك الشرع :ل .ولن هذا أمر
شاق على النفس البشرية ،ول يمكن فصل هذه العمليات؛ لنه إن أدرك َوجِد ،وإن وَجِد نزع،
فأمر الحق بالمتناع من أول المرُ {:قلْ لّ ْل ُمؤْمِنِينَ َي ُغضّواْ مِنْ أَ ْبصَارِهِمْ[} ..النورَ {]30 :وقُل
ضضْنَ مِنْ أَ ْبصَارِهِنّ[} ..النور]31 :
لّ ْل ُم ْؤمِنَاتِ َي ْغ ُ
إذن فقد منع الدراك من بدايته ولم ينتظر حتى النزوع ،لماذا؟ لن الدراك الجمالي في كل شيء
يختلف عن الدراك الجمالي في المرأة .الدراك الجمالي في المرأة يُحدث عملية كيماوية في
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ
صغَى إِلَ ْيهِ َأفْئِ َدةُ الّذِي َ
الجسم تسبب النزوع ،ول يمكن فصلها أبدا } .وَلِ َت ْ
وَلِيَ ْرضَ ْو ُه وَلِ َيقْتَ ِرفُواْ مَا هُم ّمقْتَ ِرفُونَ {.
وساعة ما نقول " :ما " ويأتي البهام فهذا دليل على أن هناك أمورا كثيرة جدًا.
ولذلك يقول الحقَ .. {:فغَشِ َيهُمْ مّنَ الْ َيمّ مَا غَشِ َيهُمْ }[طه]78 :
أي أنه أمر ل يمكن أن تحدده اللفاظ ،مثله مثل قوله } :وَلِ َيقْتَ ِرفُواْ مَا هُم ّمقْتَ ِرفُونَ {.
أي أن كل واحد يقترف ويكتسب ويعمل ويرتكب ما يميل إليه؛ فهناك من يغتاب أو يحسد أو
يسرق وغير ذلك من شهوات النفس التي ل تحدد؛ لذلك جاء لها باللفظ الذي يعطي على العموم.
وما دامت المسألة في نبوّة واتباع نبوّة ،وفي أعداء شياطين من النس والجن ويوحي بعضهم إلى
بعض زخرف القول غرورا إذن فهذه معركة ،وحتى يتم الفصل فيها لبد من حاكم يحكم .فأوضح
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق :يا محمد أنا أرسلتك ،ولك أعداء وسيكيدون لك بكذا وكذا ويبذلون قصارى جهدهم في
إيذائك ومن اتبعك ،فإياك أن تبتغي حكما غيري؛ لني أنا المشرع وأنا من أحكم ،وأنا الذي سوف
أجازي.
لماذا؟ لن الخلف على ما شرع ال ،ول يستقيم ول يصح أن يأتي من يقول مراد المقنن كذا ،أو
المفسر الفرنسي قال كذا ،والمفسر الِنجليزي قال كذا ،ل ،إن الذي يحكم هو من وضع القانون،
ومراداته هو أعلم بها ،والحق الواضح هو أعلم به ،وسبحانه هو من يحكم ،والرسول صلى ال
عليه وسلم يقول:
" إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على
نحو ما أسمع ،فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها" .
أي إياك أن يقول واحد :إن النبي قد حكم؛ لن النبي صلى ال عليه وسلم قد حكم بظاهر الحجة،
وقد يكون واحد من المختصمين قوي الحجة ،والخر ل يجيد التعبير عن نفسه .إذن فالحكم هو
ال لنه هو الذي قنن ،ومادام هو الذي قنن وهو الذي يحكم بينكم ،فليطمئن كل إنسان يتخاصم مع
غيره؛ لن القضية يفصل فيها أعدل العادلين وأحكم الحاكمين.
ولذلك يقول الحق سبحانهَ } :أ َفغَيْرَ اللّهِ أَبْ َتغِي{ ...
()893 /
ح َكمًا وَ ُهوَ الّذِي أَنْ َزلَ إِلَ ْيكُمُ ا ْلكِتَابَ ُم َفصّلًا وَالّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ مُنَ ّزلٌ
َأ َفغَيْرَ اللّهِ أَبْ َتغِي َ
حقّ فَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ ()114
مِنْ رَ ّبكَ بِالْ َ
فسبحانه هو من يحكم وهو من قنن ،وهو من يعلم القانون ويعلم من يتبع القانون ،ومن يخالف
حكَما } .فهذا دليل على أنك واثق أن مجيبك لن يقول
القانون .وساعة تقولَ { :أ َفغَيْرَ اللّهِ أَبْ َتغِي َ
لك إل :ل تبتغي حكما إل ال ،ولذلك يطرح المسألة في صيغة استفهام ،ويقول صلى ال عليه
وسلم :مبلغا عن ربه { :وَ ُهوَ الّذِي أَنَ َزلَ إِلَ ْيكُمُ ا ْلكِتَابَ ُم َفصّلً } ،ولم يقل رسول ال :وهو الذي
أنزل عليّ الكتاب ،بل قال مبلغاًَ عن رب العزة { :و ُهوَ الّذِي أَنَ َزلَ إِلَ ْيكُمُ ا ْلكِتَابَ } كأن العداوة
ليست لمحمد وحده ،لكنها العداوة لمة اليمان كلها ،والحكم لمة اليمان كلها .ومع أن القرآن
نزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم أولً ،ولكن مهمته البلغ إلى الناس والغاية منه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للمؤمنين كلهم ،وهكذا تكون العداوة للنبي عداوة للمؤمنين كلهم ،ولذلك أنزل عليه الحق هذا
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ
حكَما } كما أنزل عليه من قبل القول الحقَ {:وكَذَِلكَ َ
التساؤلَ { :أ َفغَيْرَ اللّهِ أَبْ َتغِي َ
س وَالْجِنّ }[النعام]112 :
ن الِنْ ِ
عَ ُدوّا شَيَاطِي َ
إذن فعدو النبي هو عدو المؤمنين به والمتبعين له ،لكن قمة العداوة تكون للنبي المرسل من الحق:
حقّ فَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ } [النعام:
{ وَالّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ مُنَ ّزلٌ مّن رّ ّبكَ بِالْ َ
]114
وكلمة { مّن رّ ّبكَ بِا ْلحَقّ } فيها إغراء للمؤمنين بأن كل المر يعود عليكم أنتم بالفائدة؛ لن غاية
إنزال الكتاب لكم أنتم ،والكتاب جاء بهذا المنهج لصالحكم ولن يزيد في صفات ال صفة ،ولن
يزيد في ملك ال ملكا .بل الغاية أنتم.
حكَما وَ ُهوَ الّذِي أَنَ َزلَ إِلَ ْي ُكمُ ا ْلكِتَابَ } [النعام]114 :
{ َأ َفغَيْرَ اللّهِ أَبْ َتغِي َ
وسبحانه لم ينزل الكتاب إل بتفصيل ل تلتبس فيه مسألة بأخرى:
حقّ فَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ } [النعام:
{ وَالّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ مُنَ ّزلٌ مّن رّ ّبكَ بِالْ َ
]114
والمقصود هنا بالذين آتيناهم الكتاب اليهود والنصارى؛ لنهم يعلمون صفاتك يا رسول ال
ويعلمون نعتك ويعلمون الكثير من كتابك فكل ما يتعلق بك موجود عندهم لكن الفة أنهم اعتنقوا
دينين :دينا يعلن يبدونه ويظهرونه ،ودينا يُسَرّ به ،فما يسر به ل يعلنونه ويُحرّمون السؤال فيه،
ول يقبلون فيه نقاشا ،وعندما تصل إلى الحقيقة وتعرضها عليهم ل يقبلونها ،وما الذي جعلهم
يلتوون هكذا؟ لن لهم حالين اثنتين :حال أيام أن كانوا يعاديهم من ل يؤمن بالسماء ومنهج السماء
كعبدة الوثان والمشركين .وقال فيه الحقَ {:وكَانُواْ مِن قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ }[البقرة:
]89
لقد كانوا من قبل أعداء للذين كفروا وأشركوا فكان همهم وشغلهم الشاغل أن ينتصروا على
هؤلء الكافرين ،وقالوا:
(أظل زمان نبي نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم)
وحينما جاءهم ما عرفوا كفروا به لنهم {:اشْتَ َروْاْ بِآيَاتِ اللّهِ َثمَنا قَلِيلً} ...
[التوبة]9 :
وكان الثمن هو بقاء السلطة في أيديهم ،وعندما تأتي النبوة تنزع منهم السلطة ،فليس في الِسلم
سيطرة لرجال الدين ول كهنوت .وكانوا يريدون أن تستمر سيادتهم ،فاشتروا بآيات ال ثمنا قليل.
حقّ فَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ { [النعام:
} وَالّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعَْلمُونَ أَنّهُ مُنَ ّزلٌ مّن رّ ّبكَ بِالْ َ
]114
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهم يعلمون أنه منزل من ربك بالحق ،وهم يعلمون أن الذي يشيعونه هو باطل .إذن فهناك علم
بينهم وبين نفوسهم؛ وعلم آخر يقولونه للخرين .وقوله الحق } :فَلَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْل ُممْتَرِينَ { أي
الشاكين في أن أهل الكتاب يعلمون أن القرآن منزل من عند ربك بالحق .هذا خطاب للنبي صلى
ال عليه وسلم ،ونعلم أنه إذا طلب المتكلم من المخاطب أمرا هو فيه فالمراد المداومة عليه
والزيادة؛ لن هناك أمورا قد تزلزل اليمان؛ لذلك يأتي المر بالثبات ،أو هو إهاجة له ،أو هو
تسلية للمؤمنين إذ قال لهم ل تمتروا ول تشكوا.
ك صِدْقا{ ..
ويقول الحق بعد ذلك } :وَ َت ّمتْ كَِل َمتُ رَ ّب َ
()894 /
وكلمة " تمت " تدل على أن المسألة لها بداية ولها خاتمة ،فما المراد بالكلمة التي تمت؟ .أهي
كلمة ال العليا بنصر السلم وانتهاء المر إليه؟ أو هو تمام أمر الرسالة حيث قال الحق {:الْ َيوْمَ
َأ ْكمَ ْلتُ َل ُكمْ دِي َن ُك ْم وَأَ ْت َممْتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َلكُمُ الِسْلمَ دِينا[} ..المائدة]3 :
أو " كلمة ربك " المقصود بها قرآنه؟ .ونرى أن معنى " تمت " استوعبت كل أقضية الحياة إلى
أن تقوم الساعة ،فليس لحد أن يستدرك على ما جاء في كتاب ال حكما من الحكام؛ لن الحكام
غطت كل القضية .ولفظ " كلمة " مفردة لكنها تعطي معنى الجمع .وأنت تسمع في الحياة اليومية
من يقول :وألقى فلن كلمة طيبة قوبلت بالستحسان والتصفيق .هو قال كلمات لكن التعبير عنها
جاء بـ " كلمة " إذن { وَ َت ّمتْ كَِلمَتُ رَ ّبكَ } المقصود بها المنهج الذي يشمل كل الحياة ،واقرأ
قوله الحق {:كَبُ َرتْ كَِلمَةً َتخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ[} ..الكهف]5 :
أهي كلمة أو كلمات؟ أنها كلمة ولكن فيها كلمات .إذن لفظ " كلمة " تطلق ويراد بها اللفظ المفرد،
وتطلق ويراد بها الكلم .والكلمة في الصل لفظ مفرد ،أي ل يكون معها لفظ آخر ،ولكنها تدل
على معنى ،فإذا كان المعنى غير مستقل بالفهم؛ ويحتاج إلى ضميمة شيء إليه لنفهمه فهذا حرف،
وأنت تقول " :في " وهو لفظ يدل على الظرفية ،إل أنه غير مستقل بالفهم؛ لن الظرف يقتضي
مظروفا ومظروفا فيه ،فتقول " :الماء في الكوب " لتؤدي المعنى المستقل بالفهم .وكذلك ساعة
تسمع كلمة " من " تفهم أن هناك ابتداء ،وساعة تسمع كلمة " إلى " تعلم أن هناك انتهاء .وإن كان
يدل على معنى في نفسه وهو غير مرتبط بزمن فهو السم .وإن كان الزمن جزءا منه فهو "
الفعل " .أما " الكلم " فهو اللفاظ المفيدة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين تسمع " سماء " تفهم المعنى ،وكذلك حين تسمع كلمة " أرض " وهو معنى مستقل بالفهم.
وحين تسمع كلمة " كتب " فهي تدل على معنى مستقل بالفهم ،والزمن جزء من الفعل ،فكتب تدل
على الزمن الماضي و " يكتب " تدل على الحاضر و " سيكتب " تدل على الكتابة في المستقبل.
إذن فـ " الكلمة " لفظ يدل على معنى فإن كان غير مستقل بالفهم فهو حرف .و " الكلمة " قد
يقصد بها الكلم.
وقوله الحق { :وَ َت ّمتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ } تعني الكثير .فإن أردت بها القرآن فالمقصود هو كلمة ال.
وكلم ال نسميه " كلمة " لن مدلوله كلمة واحدة .انتهت وليس فيها تضارب ،هذا إن أردنا بها
القرآن ،ولتفهم أن القرآن قد استوعب كل شيء ،وكل قضية في الوجود وأيضا لم ينس أو بدّل فيه
حرف؛ بل بقى وسيبقى كما أنزل؛ لن الفة في الكتب التي نزلت أنهم كتموا بعضها ونسوا
بعضها ،وحرفوا بعضها ،وكان حفظها موكولً إلى المكلفين ،ومن طبيعة المر التكليفي أنه يطاع
مرة ،ويعصى مرة أخرى.
وإن أطاعوا حافظوا على الكتب ،وإن عصوا حرفوها بدليل قوله تعالى الحق {:إِنّآ أَنزَلْنَا ال ّتوْرَاةَ
حفِظُواْ مِن
ن وَالَحْبَارُ ِبمَا اسْ ُت ْ
ح ُكمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ أَسَْلمُواْ لِلّذِينَ هَادُو ْا وَالرّبّانِيّو َ
فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَ ْ
كِتَابِ اللّهِ[} ..المائدة]44 :
و " استحفظوا " :أي طلب منهم أن يحافظوا عليه ،وهذا أمر تكليفي عرضة أن يطاع ،وعرضة
أن يعصى ،لكن المر اختلف بالنسبة للقرآن فقد قال الحق {:إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ
}[الحجر]9 :
فسبحانه هو من يحافظ على القرآن ،وليس ذلك للبشر لن القرآن معجزة ،والمعجزة ل يكون
للمكلّف عمل فيها أبدا.
طمَئِن على أن القرآن الذي بين يديك إلى
إذن فقوله الحق } :و َت ّمتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ { المقصود بها أن َت ْ
أن تقوم الساعة هو هو لن تتغير فيه كلمة ،بدليل أنك تتعجب في بعض نصوص القرآن ،فتجد
نصًا مساويا لنص ،ثم يختلف السياق ،فيقول الحق {:كَلّ إِنّهُ تَ ْذكِ َرةٌ * َفمَن شَآءَ َذكَ َرهُ }[المدثر:
]55-54
ومرة أخرى يقول سبحانه {:كَلّ إِ ّنهَا تَ ْذكِ َرةٌ * َفمَن شَآءَ َذكَ َرهُ }[عبس]12-11 :
ومرة أخرى يقول {:إِنّ هَـا ِذهِ تَ ْذكِ َرةٌ َفمَن شَآءَ اتّخَذَ إِلَىا رَبّهِ سَبِيلً }[النسان]29 :
فهذا لون ونوع من المتشابه من اليات ليقول لنا الحق {:فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ }[القيامة]18 :
شعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَنِ الّل ْغوِ
والحق يقول {:قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * الّذِينَ ُهمْ فِي صَلَ ِتهِمْ خَا ِ
جهِمْ َأوْ
علَىا أَ ْزوَا ِ
ج ِهمْ حَا ِفظُونَ * ِإلّ َ
ّمعْ ِرضُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ * وَالّذِينَ هُمْ ِلفُرُو ِ
مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * َفمَنِ ابْ َتغَىا وَرَآءَ ذاِلكَ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالّذِينَ هُمْ عَلَىا صََلوَا ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ }[المؤمنون]9-1 :
لمَانَاتِهِمْ وَ َ
َ
وفي آية أخرى يقول {:وَالّذِينَ هُمْ عَلَىا صَلَ ِتهِمْ ُيحَافِظُونَ }[المعارج]34 :
وكل ذلك يدلك على أن كل كلمة وصلتك كما أنزلت ،وبذلك تكون كلمة ربك قد تمت .أو قول
ال } :و َت ّمتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ { ليدل على أن كلمة ال هي العليا ،ولذلك تلحظ أن " كلمة ال هي العليا
سفْلَى} ..
ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ َكفَرُواْ ال ّ
" لم يجعلها الحق جعلً ،وإنما جاءت ثبوتا ،وسبحانه القائلَ {:و َ
[التوبة]40 :
هذا السياق العرابي حصل فيه كسر مقصود ،والسياق في غير القرآن أن يقول :وجعل كلمة ال
سفْلَىا َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا {
ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ ال ّ
هي العليا ،ولكنه سبحانه يقول } :وَ َ
وسبحانه أراد بذلك أن نفهم أن كلمة ال هي العليا دائمَا وليست جعلً .وهذا دليل على أن كلمته قد
تمت.
حكَما { ،واستقرىء
ونلحظ أن قول الحق } :و َت ّمتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ { تأتي بعد } َأ َفغَيْرَ اللّهِ أَبْ َتغِي َ
موكب الرسالت من لدن آدم ،وانظر إلى حكم ال بين المبطلين والمحقين ،وبين المهتدين
والضالين :إنه الحق القائل:
{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَ ْرسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا }[العنكبوت]40 :
والحاصب هو الريح التي تهب محملة بالحصى وكانت عقوبة لقوم عادَ {.ومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ
الصّيْحَةُ }[العنكبوت]40 :
وهم قوم ثمود ،يسميها مرة الصيحة ،وأخرى يسميها الطاغية {:فََأمّا َثمُودُ فَأُهِْلكُواْ بِالطّاغِيَةِ }
[الحاقة]5 :
سفْنَا ِب ِه وَبِدَا ِر ِه الَ ْرضَ { وكذلكَ } :ومِ ْنهُمْ
خَومرة يخسف بهم الرض مثلما فعل مع قارون } :فَ َ
مّنْ أَغْ َرقْنَا {.
وقد أغرق ال قوم فرعون وكذلك أغرق -من قبلهم -المكذبين لنوح .إذن كل قوم أخذوا حكم
ال عليهم ،لكنك يا محمد مختلف عنهم وكذلك أمة محمد التي أصبحت مأمونة على الوصية،
وعلى المنهج ،ولذلك قال الحقَ {:ومَا كُنّا ُم َعذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً }[السراء ]15 :وبعد أن
بعث الحق رسوله صلى ال عليه وسلم قالَ {:ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِمْ }[النفال]33 :
إذن } َت ّمتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ { ،وهي الفصل النهائي {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ
ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات]173-171 :
وأنتم المنصورون لنكم منسوبون إلى منهج غالب ،والنصر للمنهج الغالب يقتضي الخلص،
سلِي} ..
فإن تنصروا المنهج باتباعه ينصركم من أنزل المنهج ،فهو القائل {:لَغْلِبَنّ أَنَ ْا وَرُ ُ
[المجادلة]21 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما قاله كان هو الواقع وما جاء به الواقع كان مطابقا للكلم } .وَ َتمّتْ كَِل َمتُ رَ ّبكَ صِدْقا وَعَ ْدلً..
{ [النعام]115 :
أي وافق الواقع الكوني ما قال ال به ,وكيف كان الواقع صادقا وعادلً في آن واحد؟ لنفرض أنك
أحضرت مدرسا خصوصيّا لولدك ،وصادف أنه هو الذي يدرس في المدرسة وهو الذي يدرس
لبنك ثم قلت له :أريد أن ينجح الولد في المتحان .ووعد المدرس بذلك ثم جاء المتحان ونجح
الولد ،فتكون كلمة المدرس قد صدقت .لكن هل هذا عدل؟ قد يكون المدرس هو واضع السئلة
ولّمح للولد بالسئلة ،ويكون النجاح حينئذٍ غير عادل ،لكن كلمة ال تجيء مطابقة لما قال ،موقعها
ك صِدْقا
مطابق لما قال ،وهي كذلك عدل؛ لنه سبحانه أوضح الثواب والعقاب } :وَ َت ّمتْ كَِل َمتُ رَ ّب َ
وَعَ ْدلً { .لنه ل مبدل لكلمات ال ،ول يوجد إله آخر يعارضه فله سبحانه طلقة القدرة.
أما بالنسبة للبشر فقد علّم ال عباده احتياط الصدق في كلمهم؛ فأوصاهمَ {:ولَ َتقْولَنّ لِشَاْىءٍ إِنّي
علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ[} ..الكهف]24-23 :
فَا ِ
لن فعل ذلك غدا والتيان به وإحداثه هو أمر يتعلق بالمستقبل الذي ل نتحكم فيه ،فاحم نفسك
وقل " :إن شاء ال " ،فإن لم يحدث يمكنك أن تقول :لم يشأ ربنا حدوث ما وعدت به ،وبذلك
يحمي النسان نفسه من أن يكون كاذباًَ ويجعل نفسه صادقا فل يتكلم إلّ على وفق ما عنده من
قوانين الفعل وعدم الفعل؛ لنه عندما تقول " :أفعل ذلك غدا " .ماذا ستفعل غدا وأنت ل تضمن
نفسك وحياتك وظروفك؟! لكن ال إذا قال " :سأفعل " فله طلقة القدرة.
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ { [النعام]115 :
ع ْدلً لّ مُبَ ّدلِ ِلكَِلمَاتِ ِه وَ ُهوَ ال ّ
ك صِدْقا وَ َ
} وَ َت ّمتْ كَِل َمتُ رَ ّب َ
ومادامت الكلمات ستتحقق والحكم سيصدر فهذا دليل على أنه سبحانه سميع لما قالوه في
عدواتهم ،وعليهم بما دبروه من مكائدهم ،وهو القائل من قبل {:وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى
َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُمْ[} ..النعام]121 :
أي ليعلموهم بخفاء ،فإن كان كلمهم ظاهرا فهو مسموع ،وإن كان بخفاء فهو معلوم.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَإِن ُتطِعْ َأكْثَرَ مَن فِي الَ ْرضِ{ ...
()895 /
و { مَن فِي الَ ْرضِ } المقصود بهم المكلفون؛ لنهم هم من يتميزون بالختيار ولهم أوامر ونواه،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فما دون النسان ل أمر له ،و " أكثر " ل يقابلها بالضرورة كلمة " قليل " أو " أقل " ،وما دام
القول هو " :أكثر " .فقد يكون الباقون كثيرا أيضا ،وأمّا كثير فإنها ،تعطي له كميته في ذاته
وليست منسوبة إلى غيره ،ولذلك كنا نسمع من يقول :مكتوب على محطة مصر أو على " المطار
" أو على " الميناء " ،يا داخل مصر منك كثير ،أي إن كنت رجلً طيبا فستجد مثلك الكثير ،وإن
كنت شريرا فستجد مثلك الكثير أيضا.
س وَا ْلقَمَ ُر وَالنّجُومُ
شمْ ُ
سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ وَال ّ
سجُدُ َلهُ مَن فِي ال ّ
ويقول الحق {:أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ
حقّ عَلَيْهِ ا ْلعَذَابُ[} ..الحج]18 :
س َوكَثِيرٌ َ
ب َوكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ
ل وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآ ّ
وَالْجِبَا ُ
فكل الكائنات مقهورة مسخرة ،وعند الناس انقسم المر؛ لن لهم اختيارا ،فراح أناس للطاعة
وذهب أناس للمعصية ،فلم يقل الحق :والناس .بل قال " وكثير من الناس " ،ولم يقل الحق :وقليل
حق عليه العذاب ،لكنه قالَ { :وكَثِيرٌ حَقّ عَلَ ْيهِ ا ْلعَذَاب } فهؤلء كثير وهؤلء كثير ،وإن نظرت
إليهم في ذاتهم فهم كثير ،والخرون أيضا إذا نظرت إليهم تجدهم كثيرا .ولماذا يقول الحق { :وَإِن
تُطِعْ َأكْثَرَ مَن فِي الَ ْرضِ ُيضِلّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ }؟
" الطاعة " -كما نعرف -استجابة للمر في " افعل " ،والنهي في " ل تفعل " إذا قال الحق
للنسان افعل كذا؛ فالنسان صالح لن يفعل ،وأن ل يفعل ،وإن كان هناك شيء ل تقدر عليه فلن
يقول لك :افعله .والنسان عادة حين يؤمر أو يُنهي إنما يؤمر وينهي لمصلحته ،فإن لم يوجد أمام
مصلحةٍ معارض من منهج إلهي فهذا من مصلحته أيضا؛ لن ال أجاز له حرية الفعل والتّرك.
ويوضح الحق :من رحمتي أن جعلت لكم تشريعا؛ لننا لو تركنا الناس إلى أهوائهم فسيأمر كل
واحد من الذين لهم السيطرة على الناس بما يوافق هواه ،وسينهي كل واحد من الناس بما يخالف
هواه؛ لذلك نعصم هذا المر بالمنهج .حتى ل يتضارب الخلق ول يتعاكس هواك مع هوى أخيك.
ومن المصلحة أن يوجد مطاع واحد ل هوى له ،ويوجد منهج يقول للجميع " افعلوا كذا " و " ل
طعْ َأكْثَرَ مَن فِي
تفعلوا كذا " وبذلك يأتي الستطراق لنفعهم جميعا .ولذلك يقول الحق { :وَإِن تُ ِ
الَ ْرضِ ُيضِلّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ[ } ..النعام]116 :
فهناك أناس مؤمنون وهم أصحاب الفطرة السليمة بطبيعتهم؛ لن الخير هو الفطرة في النسان،
وقد جاء التشريع لينمي في صاحب الفطرة السليمة فطرته أو يؤكدها له ،ويعدل في صاحب
النزعة السيئة ليعود به إلى الفطرة الحسنة.
والذين يضلون عن سبيل ال ماذا يتبعون؟ يقول الحق } :إِن يَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّنّ {.
كل واحد منهم يظن أن هذا الضلل ينفعه الن ،ويغيب عنه ما يجر عليه من الوبال فيما بعد
ذلك.
و " الظن " -كما نعلم -هو إدراك الطرف الراجح ويقابله الوهم وهو إدراك الطرف المرجوح
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن وَإِنْ هُمْ ِإلّ َيخْ ُرصُونَْ { [النعام]116 :
والظن هنا ،هو ما يرجحه الهوي } :إِن يَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّ ّ
و " إن " -كما نعرف -تأتي مرة جازمة :إن تفعلْ كذا تجدْ كذا ،وتأتي مرة نافية ،مثل قوله
الحق {:مّا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ ِإلّ اللّئِي وَلَدْ َنهُمْ[} ..المجادلة]2 :
أي :ما أماتهم؛ فـ " إن " هنا نافية .وقوله الحق } :إِن يَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّنّ { أي ما يتبعون إل الظن.
هم إما أن يتبعوا الظن وإمّا أن يخرصوا( .فالخارص) هو من يتكلم بغير الحقيقة ،بل يخمن
تخمينا ،كأن ينظر إنسان إلى آخر في سوق الغلل ويسأله :كم يبلغ مقدار هذا الكوم من القمح؟.
فيرد :حوالي عشرة أرداب أو اثنى عشر أردبا ،وهو يخمن تخمينا بل دليل يقيني أو بل مقاييس
ثابتة ،أو يقول كلما ليس له معنى دقيق.
فإذا اتبعت الناس فسوف يضلونك .لنهم ل يملكون دليلً علميا ،ولحقًا يقينيًا ،بل يتبعون الظن إن
كان المر راجحا ،ويخرصون ويخمنون حتى ولو كان المر مرجوحا.
ضلّ عَن سَبِيِلهِ{ ..
ويقول سبحانه بعد ذلك } :إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعْلَمُ مَن َي ِ
()896 /
وساعة ترى " هو " هذه فاعرف أنها تَرُ ّد وتجيب على ما يمكن أن يقال ،فهناك من يقول :أنا
سوف أرى تصرفات فلن ،ولنك من البشر فمهما علمت عنه فأنت محدود الداراك؛ لنك
سترى تصرفات فقط ،ولن ترى انفعالت قلبه وتقلبات عقله ،ولكن الحق سبحانه وتعالى هو
العلم؛ لن الميزان كله عنده ،إنه يدرك الظاهر والباطن ،وهو سبحانه يقول هنا " :أعلم " وهناك
" عليم " ،و " العليم " هو من يرى ظاهر المر ويحيط به ،ل الخافي منه ،أما الذي يرى الظاهر
والخفي فهو أعلم.
ولذلك كان النبي صلى ال عليه وسلم في مسائل كثيرة يعامل الناس بعلنيتهم ،ويترك سرائرهم
إلى ال " .وعندما قتل مسلم رجلً أعلن السلم ،سأله صلى ال عليه وسلم لماذا؟ ،قال :لنه أعلن
السلم نفاقا .فقال صلى ال عليه وسلم :أشققت عن قلبه؟! "
وسبحانه وتعالى " أعلم "؛ لنه يعلم الظاهر والباطن ،ويعلم خائنة العين وما تخفي الصدور.
ويقول الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َفكُلُواْ ِممّا ُذكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَا ِتهِ ُم ْؤمِنِينَ * َومَا َلكُمْ َألّ تَ ْأكُلُواْ ِممّا ُذكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَ ْيهِ
ضطُرِرْتُمْ إِلَ ْي ِه وَإِنّ كَثِيرا لّ ُيضِلّونَ بِأَ ْهوَا ِئهِم ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ إِنّ رَ ّبكَ
صلَ َل ُكمْ مّا حَرّمَ عَلَ ْيكُمْ ِإلّ مَا ا ْ
َوقَدْ َف ّ
ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمعْتَدِينَ }
ما الذي أدخل هذه المسألة في هذا السياق؟ لقد تكلم الحق عن أن هناك أعداء لكل نبي يلتمسون
ثغرة في منهجه ليتكلموا فيها ،وهذه هي مهمتهم التي هيأها ال لهم ،فحين يقولون العتراضات
نجد المنهج يرد عليهم وبذلك تنتفع الدعوة إلى أن تقوم الساعة.
مثال ذلك نجد الجماعة الذين عارضوا رسول ال صلى ال عليه وسلم في السراء والمعراج،
فحين قال لهم :أنني أسرى بي إلى المسجد القصى وعرج بي إلى السماء في ليلة واحدة ،التمسوا
له ثغرة لينفذوا منها ويضللوا غيرهم وقالوا له :أتدّعي أنك أتيتنا في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد
البل شهرا؟!! لكنْ أبو بكر الصديق قال :إن كان قال فقد صدق ،وهذا هو اليمان الذي يحسن
استقبال المر المخالف للنواميس .ويجادلون أبا بكر ،فيقول :أنا صدقته في خبر السماء فكيف
أكذبه في ذلك ،مادام قال فقد صدق ،وهذا كلم منطقي.
ن المعارضين لرسول ال صلى ال عليه وسلم قالوا :أتدّعي أنك أتيتها في ليلة ،ونحن نضرب
لك ّ
إليها أكباد البل شهرا! فأعطى صلى ال عليه وسلم لهم المارات ووصف لهم العير التي في
الطريق ،وغير ذلك من العلمات التي تجعل من المر حجة إلى يوم القيامة ،ولو مرّت مسألة
السراء والمعراج من غير أن يعترض أحد من العداء ،لما وجدنا الحرارة في تصديقها.
إننا نجد حاليا من يقول :وهل من المعقول أنه صلى ال عليه وسلم راح إلى بيت المقدس وجاء
في ليلة؟ لبد أن ذلك كان حلما .لو لم يقولوا هم هذا ما كنا عرفنا الرد؛ إنما هم قالوها حتى
نعرف الرد ويظل الرد رادعا إلى أن تقوم الساعة ،وهذه هي المهمة التي جعلها ال للعداء؛ لنه
صلى ال عليه وسلم لو قال لهم :إنني حلمت أني رحت بيت المقدس .أكان هناك من يعترض
على أن يحلم النبي حتى ولو قال :إنه ذهب إلى آخر المعمورة إنه ل يجرؤ واحد أن يكذبه ،لكنهم
ما داموا قد كذبوه ،ورفضوا تصديق السراء فهذا دليل على أنهم فهموا من الذهاب أنه ليس
ذهاب رؤيا وإنما ذهاب قالب ،لقد فهموا عنه أنه انتقل بجسده من مكة إلى بيت المقدس ،ولذلك
كذبوه ،وهذا التكذيب منهم ينفعنا الن ،لنردّ به على المكذبين المعاصرين.
إذن فوجد العداء يهيج القرائح التي يمكن أن نرد على أية شُبَهٍ يثيرها أي إنسان سواء أكان
ماضيا أم معاصرا.
والحق هنا يقولَ } :فكُلُواْ ِممّا ُذكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَ ْيهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ ُم ْؤمِنِينَ { [النعام ]118
هذه الية لها قصة توضح كيف يحاول العداء اصطياد الثغرات لينفذوا منها ،وقالوا :يقول النبي
لكم :إن الميتة ل يحل أن تأكلوا منها ،وما تذبحونه بأيديكم كلوا منه ،والذبح لون من الموت ،هذه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هي الشبهة التي قالوها ،وهي أولً مغالطة في الساليب؛ لن الميتة غير المذبوحة وغير المقتولة.
فالمذبوحة إنما ذبحناها لنطهرها من الدم؛ لذلك فالمناقشة الفقهية أو العلمية تهزم قولهم؛ لن هناك
فرقا بين الموت والقتل .فالموت هو أخذ للحياة بدون سلب للبنية ،إنما القتل هو سلب للبنية أولً
فتزهق الروح ويبقى الدم في الجسم .ثم هل يأخذ المشرع وهو الرب العلى الحكمة منّا أو أن
الحكمة عنده هو وحده؟.
وقد تبين لنا في عصرنا أن غير المؤمنين بدأوا في الهتداء إلى أن الميتة فيها كل الفضلت
الضارة ،واهتدوا إلى إزالة كل الفضلت الضارة من الحيوانات التي يريدون أكلها؛ لن تكوين
جسم الحيوان يتشابه مع تكوين جسم النسان ،فهو يأكل ويهضم ويمتص العناصر الغذائية ليتكون
ل تصفّي الدم
الدم والطاقة ،وفي الجسد أجهزة تصفي وتنقي الجسم من السموم الضارة ،فَالكُلْية مث ً
من البولينا وغيرها ،ويسير الدم ليمر على الرئة ليأخذ الوكسيجين ،وكل ذلك لتخليص الجسد من
الفضلت الضارة ،وأوعية الدم في النسان والحيوان فيها الدم الصالح والدم الفاسد ،والدم الفاسد
هو الذي لم تتم تنقيته ،وعندما نذبح الذبيحة ينزل منها الدم الفاسد وغيره ،أي أننا ضحينا بالدم
الصالح في سبيل وقايتنا من الدم الفاسد .لكنها إن ماتت دون ذبح؛ فآثار الدمين الثنين موجودة.
وكذلك آثار الفضلت التي كان يجب أن يتخلص منها ،وهذا ما نفعله في هذا المر ،لكن هل لنا
مع الحق سبحانه وتعالى تعقل في شيء إل في توثيق الحكم والطمئنان إلى مجيئه منه جلت
قدرته؟
كان جدلهم انهم قالوا :أنتم تأكلون ما قتلتم ول تأكلون ما قتل ال ،فأنتم تظنون أنفسكم أحسن من
ال ،وهذا افتراء منهم.
ثم إن الحيوان حين يموت لم يذكر عليه اسم ال ،لكن الذبيحة التي نذبحها نذكر عليها اسم ال،
فكأن الحق سبحانه وتعالى يوضح :فكلوا مما ذكر اسم ال عليه .أي غير الميتة وغير ما يذبح
للصنامَ } .فكُلُواْ ِممّا ُذكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَ ْيهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ ُم ْؤمِنِينَ { [النعام ]118
ن تلقي أي حكم من الحق ،ل يصح أبدا أن نبحث عن علته أولً ثم نؤمن به ،بل علينا بعد أن
إّ
نثق بأنه من ال الذي آمنا به .علينا إذن أن نأخذ الحكم الذي أمر به ال.
ضطُرِرْتُمْ إِلَ ْيهِ
صلَ َل ُكمْ مّا حَرّمَ عَلَ ْيكُمْ ِإلّ مَا ا ْ
} َومَا َلكُمْ َألّ تَ ْأكُلُواْ ِممّا ُذكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَ ْي ِه َوقَدْ َف ّ
وَإِنّ كَثِيرا لّ ُيضِلّونَ بَِأ ْهوَا ِئهِم ِبغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ أَعْلَمُ بِا ْل ُمعْتَدِينَ { [النعام]119 :
ولليتين -كما علمنا -سبب نزلتا من أجله وهو أن بعض المعارضين لرسول ال الذين يقفون من
الدعوة موقف التكذيب والعمل على إبطالها والقضاء عليها ,كانوا يُشيعون عند المؤمنين إشاعات
قد تفت في عضدهم العقدي فعرضوا هذه المسألة وهي في ظاهرها تشكيك .وهم قد عرضوا
القضية بهذا الشكل غير المتسق؛ لن من الذي قتل؟ لقد قالوا :إن الميتة قتلها ال ،فهل ال هو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي قطع رقبتها؟ وهل ضربها ال على رأسها فأمات أصل إدارة الحياة وهو المخ؟ هل صوّب
شيئا إلى قلبها؟ سبحانه جل وعل منزه عن مثل هذه الفعال البشرية ،فكيف يسمون الموت قتلً؟
إن تسمية الموت قتلَ هو الخطأ ،فقولهم :كيف تبيحون لنفسكم ما قتلتموه أي بالذبح .ول تبيحون
ما قتله ال أي أماته ،فيه مغالطة في عرض القضية ،ويريد ال سبحانه وتعالى أن يضع عند
المؤمنين مناعة من هذه الهواجس التي يثيرونها؛ فقالَ } :فكُلُواْ ِممّا ُذكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ
بِآيَاتِهِ ُم ْؤمِنِينَ { [النعام ]118
وما معنى الذكر؟ إنّ عدم تحديد العلماء المعنى المقصود بالذكر ،هو الذي أوجد بينهم خلفا
كبيرا .فسيدنا المام مالك يرى أنك إذا ذبحت ولم تذكر اسم ال سواء أكنت ناسيا أم عامدا فل
يصح لك ان تأكل من الذبيحة .ويرى المام أبو حنيفة :إذا كنت لم تسم ناسيا فكل مما ذبحت ،لكن
إن كنت عامدا فل تأكل ،والمام الشافعي -رضي ال عنه -يرى :ما دمت مؤمنا ومقبلً على
الذبح وأنت مؤمن َفكُلْ مما لم تذكر اسم ال ناسيا أو عامدا لن إيمانك ذكر ل.
ونقول :ما هو الذكر؟ هل الذكر أن تقول باللسان؟ أو الذكر أن يمر الشيء بالخاطر؟ إن كنتم
تقولون إنّ الذكر باللسان فلنبحث في الحديث القدسي الذي قاله ال تعالى " :أنا عند ظن عبدي،
وأنا معه إذا ذكرني ،فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،وإن ذكرني في مل ذكرته في مل
خير منهم" .
إذن فقد سمّي ربنا الخاطر في النفس ذكرا وبذلك يصبح من حق المام الشافعي أن يقول ما قال.
لذلك أقول :يجب أن نحدد معنى الذكر أولً حتى ننهي الخلف حول هذه المسألة ،فليس من
المقبول أن نقيم معركة حول معنى " الذكر "؛ لن الذكر وهو خطور المر على البال قد يصحبه
أن يخطر المر على اللسان مع الخطور على البال ،وقد يظل خطورا على البال فقط ،بدليل ما
جاء في الحديث السابق.
والمؤمن حين يجد أمامه أشياء كثيرة ،قد يوجد شيء جميل وآخر ليس له من الجمال شيء؛
فالجاموسة أقل في الجمال من بعض الحيوانات التي حرم ال أكلها ،وأقبل المؤمنون على ذبح
الجاموسة ليأكلوا منها .ولم نسمع عن مسلم تقدم إلى حيوان حرم ال أكله ليذبحه ،لماذا؟ لن
المؤمن يقبل على ما أحل ال ،وهذا القبال دليل على أنه ذكر في نفسه المحلل والمحرم وهو ال،
إذن اختياره حيوانا للذبح دليل على أنه ذكر ال في النفس أو في القول ،وبهذا نتفق على أن ذكر
المؤمن يكون في قلبه قال أو لم يقل ،وينتهي الخلف في هذه المسألة .إذن المام الشافعي أخذ
بهذه المسألة؛ لن النبي صلى ال عليه وسلم حينما سئل عن أكل المسلم من ذبيحة ل يعرف من
ذبحها وهل سمّى أو لم يسمّ ،أوضح لمن سأله :س ّم َو ُكلْ.
فالنسان منا ل يحضر وقت الذبح دائما ،ويكفيه أن يستحضر المحلل والمحرم ساعة الكل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه وتعالى يوضح لنا :اذكروا اسم ال ،وسبحانه يعلم أنك تقبل على أشياء لتفعلها.
وهذه الشياء تنقسم إلى قسمين :قسم يمر على بالك قبل أن تفعله ،وقسم ل يمر على بالك ،بل
تفعله تلقائيا بدون ما يمر على البال ،ومثال ذلك الفعال العكسية كلها التي يفعلها النسان إنها ل
تمر على باله .فلو حدث أن حاول واحد أن يضع إصبعه في عين آخر ،فهذا الخر يغمض عينيه
تلقائيا .ويختلف ذلك عن الفعل الذي تفكر فيه قبل أن تفعله .فالذي يفعل الفعل بعد أن يمر بخاطره
هو فعل ذو بال .ولذلك أراد الرسول عليه الصلة والسلم أل يكلفنا عناء أو مشقة؛ فقال " :كل
أمر ذي بال ل يبدأ فيه ببسم ال الرحمن الرحيم أقطع" .
والمر ذو بال هو المر الذي يكون قد خطر على بالك أن تفعله أو ل تفعله.
إذن فال سبحانه وتعالى ل يكلفنا إل عند المر الذي يمر على الخاطر؛ لنك حين تقبل على أي
فعل فينفعل لك كما تريد ،إن هذا من عطاء ال لك ،وأنت حين تذبح عجلً ،أو خروفا ،وتتأمل
أنت كيف يُقدرك ال على هذا الكائن الحي .وإنك لم تفعل ذلك إل لتسخير ال ٌكلّ الكائنات لك.
فباسم ال تذبحه.
إذن هناك أمور كثيرة وأفعال ذات بال تمر عليك ومن حسن الدب واليمان أن تقبل عليها باسم
ال .ولذلك يخطئ بعض الناس حين يظنون أن النسان عندما يذبح حيوانا فهو يؤذيه .ل ،بل ذبح
هذا الحيوان هو تكملة لمهمته في الحياة؛ لنه مخلوق لهذا الهدف ومذلل له.
لقد قلنا سابقا :إن هناك عجيبة من عجائب المزاولت الفعلية ،هذه العجيبة أنك حين تأتي إلى
الحيوانات التي لم يحلها ال للِنسان ،كالحمار مثل إذا ما تعرضت هذه الحيوانات إلى ما يميتها،
كأن التف حول عنقه حبل ،واختنق فهو يموت دون أن يمد رقبته إلى المام ،لكن الحيوان الذي
أحله ال للكل؛ مثل الجاموسة أو الخروف أو العجل ،نجد الحيوان من هذه الحيوانات إن اختنق
يمد رأسه إلى المام ،فيقول أهل الريف في مصر :إنه يطلب الحلل ،أي الذبح .فل يسمى ذبح
الحيوان اعتداء عليه؛ لن الحيوان مخلوق لهذه المهمة.
إذن فمعنى كلمة " باسم ال " أي أنني لم أجترئ على هذا العمل إل في إطار اسم ال الذي أحل
لي هذا.
بعد ذلك يقول الحق للمؤمنين :ل تسمعوا كلم الكافرين ،ويأتي السؤال الستنكاريَ } :ومَا َلكُمْ َألّ
سمُ اللّهِ عَلَيْهِ { والمعنى :أي سبب يمنعكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم ال عليه؟
تَ ْأكُلُواْ ِممّا ُذكِرَ ا ْ
وقد فصل لكم ما حرم عليكم ،فما ذكر اسم ال عليه ليس من ضمن المحرمات التي نص ال
عليها ،فربنا سبحانه هو من حلل وحرم .وإن قيل :ما دام قد حرم علينا بعض الشياء فلماذا
خلقت هذه الشياء؟
ونقول :إن من يفكر بمثل هذا السلوب يتناسى أن كل مخلوق من الحيوانات ليس مخلوقا للكل،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بل لكلٍ حيوان مهمة .وإن ذبحت محرما ،فقد يناقص هذا الفعل مهمته فالخنزير -مثلً -حرّمه
ربنا؛ إن ذبحته فستذهب به بعيدا عن مهمته؛ لنه مخلوق كي يلم جراثيم الشياء التي ل تراها
العين ،فأنت حين تذبحه تخرجه عن مهمته .والحق سبحانه وتعالى هو الذي خلق الِنسان ،ويعلم
ما يناسبه من غذاء يولد الطاقة ول يهدر الصحة؛ لذلك حرم وحلل له ،وإياك أن تقول :إن ال
سبحانه وتعالى لم يحرم إل الشيء الضار؛ فقد حرم شيئا غير ضار لنه يريد بذلك الدب في" :
افعل هذا " و " ل تفعل هذا ".
ولذلك قال الحق سبحانه {:فَبِظُ ْلمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ أُحِّلتْ َلهُمْ }[النساء]160 :
وفي حياتنا اليومية هل تقول :إن الذين يربون أبناءنا في الجيش بالشدة ،يقسون على البناء؟ ل،
بل إنهم يعدّونهم لمواجهة المهام الشاقة .وأن يتعوّدوا التزام الدب والطاعة والنضباط ،فكذلك
حلل الحق ما أراد وحرم ما شاء ليجعل الكون منضبطا بقدرة الحكيم القادر ،فسبحانه يحرم أشياء
مثل المخدرات ،ونحن في بعض الحيان نتناولها لنداوي بها المراض ،فلو أخذها الِنسان من
غير مرض أو داعٍ فإنّها تسرق الصحة من بنية الِنسان ،وإن أخذها من بعد ذلك للعلج ل تأتي
بالمفعول المطلوب منها .ولذلك نجد من الطباء من يسأل الِنسان قبل إجراء الجراحات الدقيقة
إن كان المريض قد تناول المخدرات أو ل ،وذلك حتى يتعرف الطباء على حقيقة ما يصلح له
من ألوان التخدير.
وسبحانه وتعالى قد منع عنا تلك اللوان من مغيبات العقول ،لعلنا نحتاج إليها في لحظة الشدة
والمرض.
إذن فالحق سبحانه وتعالى قد ربط كل حكم من الحكام التحليلية والتحريمية بـ " إن كنتم مؤمنين
" ،ومعنى " إن كنتم مؤمنين " أي يا من آمنتم بالِله الحكيم الذي ل يأمر إل بما فيه مصلحتكم،
امتنعوا عن مثل تلك الفعال ،وإذا أقبلت على أي شيء مما أحله ال لك فأقبل عليه باسم ال،
وسبحانه وتعالى له أسماء علمها لنا ،وأنزلها في كتابه ،وأسماء علمها لحد من خلقه ،وأسماء
استأثر بها في علم الغيب عنده ،وهذه السماء هي صفات الكمال ل ،التي ل توجد في غيره.
وحين نستحضر السم الجامع لكل صفات الكمال نقول :باسم ال .وتنهي المسألة .وحين ناقش
العلماء مسألة التحريم والتحليل ،قال بعضهم :إن الحق سبحانه وتعالى قال في أول سورة المائدة{:
حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَةُ }[المائدة]3 :
صلَ َلكُمْ مّا حَرّمَ عَلَ ْي ُكمْ { [النعام]119 :
وهنا في سورة النعام يقولَ } :وقَدْ َف ّ
والمتنبهون من العلماء قالوا :إن سورة المائدة مدنية ،ومعنى كونها مدنية أنها نزلت بعد السورة
صلَ َلكُمْ مّا حَرّمَ عَلَ ْيكُمْ {
المكية ،وسورة النعام مكية ،وهل يقول الحق في السورة المكية } َوقَدْ َف ّ
في السورة المدنية؟ وبعض العلماء الذين أعطاهم ربنا نور بصيرة قال :لقد فصل لكم في سورة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمٍ
حيَ إَِليّ مُحَرّما عَلَىا طَا ِ
جدُ فِي مَآ ُأوْ ِ
المائدة وجاء أيضا في سورة النعام فقال {:قُل لّ أَ ِ
جسٌ َأوْ فِسْقا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ َفمَنِ
حمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ رِ ْ
سفُوحا َأوْ لَ ْ
ط َعمُهُ ِإلّ أَن َيكُونَ مَيْتَةً َأوْ دَما مّ ْ
يَ ْ
غفُورٌ رّحِيمٌ }[النعام]145 :
غ َولَ عَادٍ فَإِنّ رَ ّبكَ َ
اضْطُرّ غَيْرَ بَا ٍ
أي فصل لك في هذه السورة المكية .وقد يأتي واحد من المولعين بالعتراض أو من خصوم
السلم ويقول :لم تذكر الية كل الشياء المحرمة لماذا؟
ونقول :القرآن هو الخطوط الساسية في المنهج ،وتأتي السنة بالتفصيل في إطار:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الناس ل يعلمون المهتدى من غير المهتدى ولكن إن علموا فال أعلم.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَذَرُواْ ظَاهِ َر الِثْمِ{ ..
()897 /
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْ ِم وَبَاطِنَهُ إِنّ الّذِينَ َيكْسِبُونَ الْإِ ْثمَ سَ ُيجْ َزوْنَ ِبمَا كَانُوا َيقْتَ ِرفُونَ ()120
هذه تقنينات السماء التي تحمي المجتمع من بعضه وذلك في أل تقع عين أحد على مخالفة من
أحد ،وإذا وقعت عينك على مخالفة من غيرك تكون المخالفة مما يدرك لكنها ليست كل الفساد في
المجتمع؛ ففساد المجتمع يأتي من أشياء كثيرة ل تقع تحت دائرة الِدراكات .وهناك أشياء تكون
في منابع النفس البشرية التي تصدر عنها عوامل النزوع؛ فقبل أن يوجد إثم ظاهر يوجد إثم
باطن ،والِِثم الباطن سابق على الِثم الظاهر .والتقنينات البشرية كلها تحمينا من ظاهر الِثم،
ولكن منهج السماء يحمينا من فساد ظاهر الِثم وباطن الثِم.
ويوضح لنا الحق الفرق بين تقنين البشر للبشر وتقنين الِله ،فسبحانه رقيب على مواجيدكم
ووجداناتكم وسرائركم ،فإياكم أن تفعلوا باطن الِثم ،ول يكفي أن تحمي نفسك من أن يراك
القانون؛ لن قصارى ما يعمل القانون أن يمنع الناس من أن يتظاهروا بالجريمة ويقترفوها
علنية ،والفرق بين تشريع السماء وتشريع الرض أن تشريع الرض يحمي الناس من ظاهر
الِثم ،ولكن تشريع السماء يحمي الناس من ظاهر الِثم وباطن الِثم ،وباطن الِثم هو أعنف أنواع
الِثم في الرض.
وبعض أهل الكتساب في الشر برياضتهم على الشر يسهل عليهم فعل الشر وكأنهم يفعلون أمرا
قد تعودوا عليه بل افتعال.
و " كسب " -كما نعلم -تأتي بالستعمال العام للخير ،و " اكتسب " تأتي للشّر لن الخير يكون
فيه الفعل العملي رتيبا مع كل الملكات ،ول افتعال فيها ،فمن يريد -مثلً -أن يشتري من محل ما
فهو يذهب إلى المحل في وضح النهار ويشتري .لكن من يريد أن يسرق فهو يرتب للسرقة ترتيبا
آخر ،وهذا افتعال ،لكن الفتعال قد يصبح بكثرة المران والدربة عليه ل يتطلب انفعالً ،لنه قد
أضحى لونا من الكسب .و " يكسبون " تدل على الربح؛ لن " كسب " تدل على أنك أخذت
الصل والزيادة على الصل ،والنسان حين يصنع الخير إنما يعطي لنفسه مقومات الحياة ويأخذ
أجر الخرة زائدا ،وهذا هو قمة الكسب.
ويريد الحق سبحانه وتعالى من العبد في حركته أن يحقق لذاته نفعا هو بصدد الحاجة إليه ،ولكن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النسان قد يحقق ما ينفعه وهو بصدد الحاجة إليه ،ثم ينشأ من ذلك الفعل ضرر بعد ذلك؛ لذلك
يحمي ال النسان المؤمن بالمنهج حتى يمييز بين ما يحقق له الغرض الحالي ويحقق نفعا ممتدا
ول يأتي له بالشر وما يحقق له نفعا عاجلً ولكن عاقبته وخيمة ونهايته أليمة ،إننا نجد الذين
يصنعون السيئات ويميلون للشهوات -مثلً -يحققون لنفسهم نفعا مؤقتا ،مثل التلميذ الذي ل
يلتقفت إلى دروسه ،والذي ينام ول يستيقظ ،والذي إن أيقظوه وأخرجوه من البيت ذهب ليتسكع
في الشوارع ،هي في ظاهر المر يحقق لنفسه راحة ،لكن مآله إلى الفشل.
بينما نجد أن من اجتهد وج ّد وتعب قد حقق لنفسه النفع المستمر الذي ل تعقبه ندامة } .إِنّ الّذِينَ
ن الِثْمَ سَ ُيجْ َزوْنَ ِبمَا كَانُواْ َيقْتَ ِرفُونَ { [النعام]120 :
َيكْسِبُو َ
ففي الدنيا نجد أن الجزاء من بشر لبشر ،ولكن ماذا عن لحظة العرض أمام ال وهو العليم بظاهر
الثم وباطن الثم؟
فالذي يصون المجتمع -إذن -هو التقنين السماوي ،فالمنهج ل يحمي النسان ممن حوله فحسب
ولكنه يقنن لحركة النسان لتكون صحيحة.
ويعود الحق بعد ذلك إلى قضية الطعام فيقولَ } :ولَ تَ ْأكُلُواْ ِممّا َلمْ يُ ْذكَرِ اسْمُ اللّهِ{ ..
()898 /
وَلَا تَ ْأكُلُوا ِممّا َلمْ يُ ْذكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَ ْي ِه وَإِنّهُ َلفِسْقٌ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَا ِئهِمْ لِيُجَادِلُوكُ ْم وَإِنْ
طعْ ُتمُوهُمْ إِ ّنكُمْ َلمُشْ ِركُونَ ()121
أَ َ
وهنا يسمى الحق ما لم يذكر اسم ال عليه بـ " الفسق " وهو ما تشرحه الية الخرى وتبرزه
ط َعمُهُ ِإلّ أَن َيكُونَ مَيْتَةً َأوْ
حيَ إَِليّ مُحَرّما عَلَىا طَاعِمٍ َي ْ
باسم مخصوص {:قُل لّ َأجِدُ فِي مَآ ُأوْ ِ
غ َولَ عَادٍ فَإِنّ
ضطُرّ غَيْرَ بَا ٍ
سفُوحا َأوْ َلحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنّهُ ِرجْسٌ َأوْ فِسْقا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ َفمَنِ ا ْ
دَما مّ ْ
غفُورٌ رّحِيمٌ }[النعام]145 :
رَ ّبكَ َ
إذن فـ " فسقا " معطوفة على الميتة والدم المسفوح ولحم خنزير ،لكنه سبحانه فصل بين
المعطوف وهو " فسقا "؛ والمعطوف عليه بحكم يختص بالمعطوف عليه ،وهذا الحكم هو الرجس
وهكذا أخذت الثلثة المحرمات حكم الرجس .وعطف عليها ما ذبح عليه اسم غير ال كالصنام
وهو قد جمع بين الرجس والفسق.
ويقول الحق { :وإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ ِإلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ } وسبحانه يريد أن يبين لنا أن الفطرة السليمة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التي ل يميلها هوى تصل إلى حقائق الخير ،ولذلك نجد أن الذين يحثون ويحض بعضهم بعضا
على الشر ويعلم بعضهم بخفاء إنما يأخذون مقام الشيطان بالوسوسة والتحريض على العصيان
والكفر؛ لن المسألة الفطرية تأبى هذا ،وحين يرتكب إنسان موبقة من الموبقات ،إنما يلف لها
وبتحايل ليصل إلى ارتكاب الموبقة ،وقد يوحي بذلك إلى غيره ،فيدله على الفساد .ويكون بذلك
في مقام الشياطين الذين يوحون إلى أوليائهم بإعلم خفي؛ لن الفطرة السليمة تأبى الشياء
الشريرة وتقف أيضا فيها ،ول يجعلها تتقدم إلى الشر إلى الهوى ،فإذا ما أراد شيطان من النس
ل فهو ل يعلن ذلك مباشرة .إنما يلف ويدور بكلم ملفوف
أو شيطان من الجن أن يزيّن للناس فع ً
مزين.
طعْ ُتمُوهُمْ إِ ّنكُمْ َلمُشْ ِركُونَ } وفي ذلك إشارة
{ وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِيُجَادِلُوكُ ْم وَإِنْ أَ َ
إلى قول المشركين :تأكلون ما قتلتم أنتم ول تأكلون ما قتل ال وأنتم أولى أن تأكلوا مما قتل ال.
طعْ ُتمُوهُمْ إِ ّنكُمْ َلمُشْ ِركُونَ } [النعام]121 :
{..وَإِنْ أَ َ
وكأن مجرد الطاعة لهؤلء المشركين لون من الشرك؛ لن معنى العبادة امتثال وائتمار عابد
لمعبود أمرا ونهيا ،فإذا أخذت أمرا من غير ال فإنه يخرج بك عن صلب وقلب منهجه سبحانه
وبذلك تكون قد أشركت به.
جعَلْنَا لَهُ} ..
ويقول الحق بعد ذلكَ { :أوَ مَن كَانَ مَيْتا فَأَحْيَيْنَاهُ وَ َ
()899 /
جعَلْنَا َلهُ نُورًا َيمْشِي بِهِ فِي النّاسِ َكمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلمَاتِ لَيْسَ ِبخَارِجٍ
َأ َومَنْ كَانَ مَيْتًا فََأحْيَيْنَا ُه وَ َ
مِ ْنهَا كَذَِلكَ زُيّنَ لِ ْلكَافِرِينَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()122
والحق سبحانه وتعالى -كما عرفنا -يعرض بعض القضايا ل عرضا إخباريا منه ،ولكن يعرضها
باستفهام؛ لنه -جل وعل -عليم بأنه حين يأتي لك الستفهام ،ثم تدير ذهنك لتجيب فلن تجد إل
جوابا واحدا هو ما يريده الحق .إذن فالسلوب أحيانا يكون أسلوبا خبريا أو يكون استفهاما
بالثبات أو استفهاما بالنفي .وأقواها الستفهام بالنفي .وحين يعرض سبحانه القضية التي نحن
بصددها يوضح وهو العليم أنك إن أحببت أن تجيب فلن تجد إل الجواب الذي يريده الحق.
إننا نجد في الية الكريمة موتا وحياة ،وظلما ونورا.
وما هي الحياة؟ .الحياة هي وجود الكائن على حالة تمكنه من أداء مهمته المطلوبة منه ،وما دام
الشيء يكون على حالة يؤدي بها مهمته ففيه حياة ،وأرقى مستوى للحياة هو ما تجتمع فيه الحركة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحس والفكر ،وهذه المور توجد كلها في النسان .أمّا الحيوان ففيه حس وحركة وليس عنده
فكر .غير أن الحيوان له غريزة أقوى من فكر النسان ،فهو محكوم بالغريزة في أشياء
وبالختيار في أشياء ،وليس لك في الغريزة عمل .لكن في مجال الختيار لك عمل ،تستطيع أن
تعمله وتستطيع أل تعمله.
إذن فالحياة هي أن يكون الكائن على حال يؤدي به مهمته المطلوبة منه .وعلى هذا العتبار ففي
النسان حياة ،وفي الحياة حياة ،وفي النبات حياة ،وفي الجماد حياة ،وكلما تقدم العلم يثبت لنا
حيوات أشياء كثيرة جدا كنا نظن أل حياة فيها ،وإن ظهر لنا في التفاعلت أن بعض الشياء
تتحول إلى أشياء أخرى ،فعلى سبيل المثال الحيوان فيه حياة فإذا ذبحناه وأكلناه ،ورمينا عظامه،
كانت فيها حياة من نوع ثم صارت أجزاؤه إلى جمادية لها حياة من نوعها ،بدليل أنه حين يمر
بعض من الزمن يتفتت العظم.
وكنا قديما في الريف نحلب اللبن في أوعية من الفخار وتوضع في مراقد ،ويستمر اللبن أسبوعا
في المرقد ،ويكون أحلى في يومه عن أمسه .ويزداد اللبن حلوة كل يوم ،ثم تأخذ زوجة الفلح
قطعة القشطة الخيرة وتصنع منها الجبن الجميل الطعم .أو الزّبد لكن بعد أن غلينا اللبن نجده
يفسد بعد عدة ساعات؛ لنك حين وضعته في المرقد ،أخذته بالحياة فيه فظلت فيه حيوية حياته،
لكن حين غليته فقد قتلت ما فيه من الحياة ،فإن لم تضعه في ثلجة لبد من أن يتعفن ،ومعنى
التعفن أنه لم يعد يؤدي مهمته كلبن ،وإنما انتقل إلى حياة أخرى بفعل البكتريا وغيرها ،ول يُذهب
جهَهُ[} ..القصص]88 :
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ َو ْ
الحياة إل الهلك وهو ما قاله الحقُ {:كلّ َ
إذن ،ل تأخذ الميت على أنه شيء ليس فيه حياة ،ولكنه انتقل إلى حياة ثانية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل نفعيا غير
يجعل النسان يرى الشياء ،ومعنى رؤية النسان للشياء أن يتعامل معها تعام ً
ضار .ونحن نضيء المصباح بالكهرباء حين يغيب النور الطبيعي -نور الشمس -وعندما نضيء
مصابيحنا نرى الشياء ونتفاعل معها ول نحطمها ول تحطمنا ،وكل واحد منا يأخذ من النور
على قدر إمكاناته .إذن كل واحد يضيء المكان المظلم الذي اضطر إليه بغيبة المنير الطبيعي
على حسب استطاعته ،فإذا ظهرت الشمس أطفأنا جميعا مصابيحنا؛ هذا دليل من أدلة الكون
الحسيّة الملموسة لنأخذ منها دليلً على أن ال إن فعل لقيمنا نورا فل نأتي بقيم من عندنا ،مادامت
قيمُهُ موجودة.
ويوضح ال أن النسان بدون قيم هو ميت متحرك ،ويأتيه المنهج ليحيا حياة راقية .ويوضح
سبحانه لكل إنسان :احرص على الحياة الثانية الخالدة التي ل تنتهي وذلك ل يتأتى ال اتباع
المنهج ،وإياك أن تظن أن الحياة فقط هي ما تراه في هذا الوجود لنه إن كانت هذه هي غاية
الحياة لما أحس النسان بالسعادة؛ لنه لو كانت الدنيا هي غايتنا للزم أن يكون حظنا من الدنيا
جميعا واحدا وأعمارنا واحدة ،وحالتنا واحدة ،والختلف فيها طولً وقصرا وحالً دليل على أنها
ليست الغاية؛ لن غاية المتساوي ل بد أن تكون متساوية.
إذن فقول ال هو القول الفصل {:وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ[} ..العنكبوت]64 :
فهذه هي الحياة التي ل تضيع منك ول تضيع منها ،ول يفوتك خيرها ول تفوته .إذن فالذي يحيا
الحياة الحسية الولى وهي الحركة بالنفخ في الروح هو ميت متحركَ } .أوَ مَن كَانَ مَيْتا فَأَحْيَيْنَاهُ
جعَلْنَا لَهُ نُورا َي ْمشِي ِبهِ { [النعام]122 :
وَ َ
أي أنه سبحانه قد أعطى لمثل هذا العبد حياة خالدة ونورا يمشي به ،ول يحطّم ول يتحطم.
أما من يقول :إن الحياة بمعناها الدنيوي ،ل تختلف عن الحياة في ضوء الِيمان ،لمثل هذا نقول:
ل ،ليس بينهما تسا ٍو فهما مختلفان بدليل ان الحق يقول {:اسْ َتجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا
يُحْيِيكُمْ }[النفال ]24
فسبحانه يخاطبهم ،وما دام يخاطبهم فهم أحياء بالقانون العادي ،لكنه سبحانه أنزل لرسوله المنهج
الذي يحيا به المؤمن حياة راقية ،وافطنوا إلى أن الحق سبحانه وتعالى أعطى ومنح الروح الولى
التي ينفخها في المادة فتتحرك وتحس بالحياة الدنيا ،إنّه أعطاها المؤمن والكافر .ثم يأتي بروح
ثانية تعطي حياة أبدية .ولذلك سمّي منهج ال لخلقه روحاَ {:وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا }
[الشورى]52 :
فالمنهج يعطي حياة خالدة.
إذن فقوله الحقَ } :أوَ مَن كَانَ مَيْتا فَأَحْيَيْنَاهُ { أي َأوَ من كان ضالً فهديناه ،أو من كان كافرا
فجعلناه مؤمنا .ولنلحظ أن فيه " ميْتا " بالتخفيف ،وفيه ميّت بالتشديد .والميّت هو من يكون مآله
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الموت وإن كان حيّا ،فكل منا ميّت وإن كان حيّا .ولكن الميْت هو من مات بالفعل وسلبت
وأزهقت روحه .ولذلك يخاطب الحق نبيه صلى ال عليه وسلم فيقول له( :إنك ميّت).
أي تؤول إلى الموت وإن كنت حيّا الن .لن كٌلّ من مستمر في الحياة إلى أن يتلبس بصفة
الفناء ،ويقول الحق " :فأحييناه " أي بالمنهج الذي يعطيه حياة ثانية ،ولذلك سمّي القرآن روحا،
وسمّي من نزل بالقرآن روحا أيضا.
جعَلْنَا لَهُ نُورا َيمْشِي بِهِ فِي النّاسِ { ولماذا يمشي به في الناس فقط ،وليس بين كل الشياء؟؛
}وَ
لن الشياء الخرى من الممكن أن تحتاط أنت منها ،ولكن كلمة الناس تعبر عن التفاعل الصعب
لنهم أصحاب أغيار .ويتابع الحقَ } :كمَن مّثَلُهُ فِي الظُّلمَاتِ لَ ْيسَ بِخَارِجٍ مّ ْنهَا { وهذا تساؤل
جوابه :ل ،أي ليس كل منهما مساويا للخر ،مثلما نقول :هل يستوي العمى والبصير؟ .والفطرة
هنا تقول :ل ،مثلما تؤكد الفطرة عدم استواء الظلمات والنور ،أو الظل والحرور ،وهنا يَ ْأمَنُنَا ال
على الجواب؛ لنه سبحانه -يعلم المر إذا طرح السؤال كسؤال وكاستفهام فلن نجد إل جوابا
واحدا هو ما يريد الحق أن يقوله خبرا.
ويذيل الحق الية } :كَذَِلكَ زُيّنَ لِ ْلكَافِرِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { [النعام]122 :
والمعنى هنا أي تركناهم عرضة لن ينفعلوا للتزيين ،ولم يحمهم الحق بالعصمة في اختيارهم؛
لنه سبحانه قد ترك الختيار حرّا للنسانَ {:فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف]29 :
جعَلْنَا فِي{ ..
ويقول الحق من بعد ذلكَ } :وكَذاِلكَ َ
()900 /
شعُرُونَ (
سهِمْ َومَا َي ْ
جعَلْنَا فِي ُكلّ قَرْيَةٍ َأكَابِرَ مُجْ ِرمِيهَا لِ َي ْمكُرُوا فِيهَا َومَا َي ْمكُرُونَ إِلّا بِأَ ْنفُ ِ
َوكَذَِلكَ َ
)123
وقول الحق سبحانهَ { :وكَذاِلكَ } تدل على أن شيئا شبّه بشيء ،فكما وُجد في مكة من يناصبك
العداء ويناهضك ويقاومك في أمر الدعوة إلى ال ،ويصدّ عن سبيل الحق؛ إن تلك قضية لست
فيها بدعا من الرسل؛ لن هذه المسألة قضية سائدة مع كل رسول في موكب اليمان ،و " كذلك "
أي كما جعلنا في مكة مجرمين يمكرون جعلنا في كل قرية سبقت مع رسول سبق هذه المسألة،
فلم تكن بدعا من الرسل .وحيث إنك لم تكن بدعا من الرسل فلتصبر على ذلك كما صبر أولو
العزم من الرسل .وأنت أولى منهم بالصبر؛ لن مشقاتك على قدر مهمتك الرسالية في الكون كله،
فكل رسول إنما جاء لمة محدودة ليعالج داءً محدودا في زمان محدود .وأنت قد جئت للمر العام
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
زمانا ومكانا إلى أن تقوم الساعة ،فلبد أن تتناسب المشقات التي تواجهك مع عموم رسالتك التي
جعَلْنَا فِي ُكلّ قَرْيَةٍ َأكَابِرَ مُجَ ِرمِيهَا } [النعام]123 :
خصك ال بهاَ { .وكَذاِلكَ َ
والجرام هو مأخوذ من مادة " الجيم " و " الراء " و " الميم " ،الجرْم والجُرْم والجريمة .فيها
معنى القطع .و " مجرميها " جمع مجرم ،ومجرم من أجرم ،وأجرم أي ارتكب الجُرم والجريمة،
ومعنى ذلك أنه قطع نفسه بالجريمة عن مجتمعه الذي يعايشه ،فهو يعزل نفسه ل لمصلحة لحد
إل لمصلحته هو ،فكأنه قام بعملية انعزال اجتماعي ،وجعل كل شيء لنفسه ،ولم يجعل نفسه
لحد؛ لنه يريد أن يحقق مرادات نفسه غير مهتم بالنتائج التي تترتب على ذلك.
إذن فالجرام هو القدام على القبائح اقداما يجعل النسان عازلً نفسه عن خير مجتمعه؛ لنه يريد
كل شيء لنفسه .ومادام كل شيء لنفسه فعامل التسلط موجود فيه ،ويرتكب الرذائل .ولنه يرتكب
الرذائل فهو يريد من كل المجتمع أن تنتشر فيه مثل هذه الرذائل؛ لكي ل يشعر أن هناك واحدا
شعُرُونَ } [النعام]123 :
سهِ ْم َومَا يَ ْ
أحسن منه..{ .لِ َي ْمكُرُواْ فِيهَا َومَا َي ْمكُرُونَ ِإلّ بِأَ ْنفُ ِ
والمكر -كما نعرف -مأخوذ من التفاف الغصان بعضها على بعض التفافا بحيث ل تستطيع إذا
أمسكت ورقة من أعلى أن تقول هذه الورقة من هذا الفرع؛ لن الغصان والفروع ملفوفة
ومتشابكة ومجدولة بعضها مع بعض .والماكر يصنع ذلك لنه يريد أن يلف تبييته حتى ل يُكشف
عنه ،ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول المر أنه ضعيف التكوين؛ لنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما
مكر لن القوي ل يمكر أبدا ،بل يواجه ،ولذلك يقول الشاعر:وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت
كذلك قدرة الضعفاءوالضعيف عندما يملك فهو يحدث لنفسه بأن هذه الفرصة لن تتكرر ،فيجهز
على خصمه خوفا من ال تأتي له فرصة أخرى ،لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم يحدث
نفسه بأن يتركه ،وعندما يرتكب هذا الخصم حماقة جديدة فيعاقبه.
إذن فل يمكر ال الضعيف .والحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة يتكلم عن المجرمين من أكابر
الناس ،أي الذين يتحكمون في مصائر الناس ،ويفسدون فيها ول يقدر أحد أن يقف في مواجهتهم.
وهناك كثير من اليات تتعلق بهذه المسألة ،وبعضها وقع فيه الجدل والخلف ،ومن العجيب أن
الخلف لم يُصفّ ،وكل جماعة من العلماء يتمسكون برأيهم .وهذه الية التي نحن بصدد
حقّ
سقُواْ فِيهَا فَ َ
خواطرنا عنها تلتقي مع القول الحق {:وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن ّنهِْلكَ قَرْيَةً َأمَرْنَا مُتْ َرفِيهَا َففَ َ
عَلَ ْيهَا ا ْل َقوْلُ فَ َدمّرْنَاهَا تَ ْدمِيرا }[السراء]16 :
وهذه الية فيها اشكال ،وقامت بسببها معركة بين العلماء؛ فنجد منهم من يقول :وكيف يأمر ال
أناسا بالفسق؟ .وحاولوا أن يجدوا تأويل لذلك فقالوا :إن الحق قد قسر وأجبر أكابر هؤلء الناس
على الفسق .والجانب الثاني من العلماء قالوا :ل ،إن الحق ل يقسر البشر على الفسق ،بل على
النسان حين يقرأ كلمة أمر ال في المنهج فلبد أن يعرف أن هذا المر عرضة لن يطاع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعرضة لن يعصى؛ لن المأمور -وهو المكلف -صالح أن يفعل ،وصالح ال يفعل ،وأن المر
قد أمر بشيء ،والمأمور له حق الختيار؛ وبذلك تجد أكابر القوم إنما استقبلوا أمر ال بالعصيان؛
لن الحق هو القائلَ {:ومَآ ُأمِرُواْ ِإلّ لِ َيعْبُدُواْ اللّهَ[} ..البينة]5:
والفسق -إذن -مترتب على اختيار المأمور.
وحين نتأمل نحن بالخواطر معنى " :أمر ال " نجد أن أمر ال يتمثل في التكوينات الطبيعية
الكونية ول يوجد لحد قدرة على مخالفة ال في ذلك ،فهو القائل } :إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ ِإذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن
َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ {.
ويتمثل أيضا أمر ال في التشريعات ،وللبشر الذين نزلت لهم هذه التشريعات أن يختاروا بين
الطاعة أو العصيان ،وسبحانه القائل عن المر بالتشريعَ } :ومَآ ُأمِرُواْ ِإلّ لِ َيعْبُدُواْ اللّهَ {.
وحين يقول الحق } :وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن ّنهِْلكَ قَرْ َيةً َأمَرْنَا مُتْ َرفِيهَا َففَسَقُواْ فِيهَا {.
فسبحانه ل يهلك هذه القرية ظلما ،وإنما يرسل إليها المنهج ،فإن أطاعوا فأهلً وسهلً ،وإن
عصوا فلبد لهم من العقاب بالدمار.
وهكذا نرى أن العلماء الذين ظنوا أن الفسق مترتب على المر من ال لم يلتفتوا إلى أن ورود
المر في القرآن الكريم جاء على لونين :أول :أمر التكوين بالقهريات فل يستطيع المأمور أن
يتخلف عنه ،ويمثل المر القهري قوله الحق {:إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }
[يس]82 :
فالمر جاهز في عالم الزل ليبرز حين يشاء الحق .والمر الثاني :هو المر التشريعي وهو
صالح لن يختار المكلف بين أن يطيع أو يعصي ،وفي هذا الِطار نفهم قوله الحق {:وَإِذَآ أَ َردْنَآ
سقُواْ فِيهَا َفحَقّ عَلَ ْيهَا ا ْلقَ ْولُ فَ َدمّرْنَاهَا َت ْدمِيرا }
أَن ّنهِْلكَ قَرْيَةً َأمَرْنَا مُتْ َرفِيهَا َففَ َ
[السراء]16 :
فل تقل :إن ال يأمر بالفسق؛ فالحق قد أمر المؤمنين بالمنهج لنه سبحانه ل يأمر بالفحشاء .بل
جاء المر لكل البشر أن يعبدوا ال مخلصين له الدين ،لكن كبار أهل هذه القرية أخذوا البديل
للطاعة وهو الفسق والمعصية ،فلما أمرهم ففسقوا ماذا يصنع بهم؟ ،هو سبحانه يدمرهم تدميرا,
فإن كان في الكونيات فل أحد من خلق ال مكلف في الكونيات ،إنما أمره الثاني في اتباع المنهج
فلنا أن نفهم أنه الختيار.
وهكذا نعلم ونفهم معنى هذه الية لتلتقي مع الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :أي وإذا أردنا
أن نهلك قرية أنزلنا منهجا فأكابرها كانوا أسوة سيئة ففسقوا فيها بعدم إطاعة منهج ال فحق عليها
سهِ ْم َومَا
القول فدمرناها تدميرا .وكذلك -أيضا -نفهم قوله الحقَ } :ومَا َي ْمكُرُونَ ِإلّ بِأَ ْنفُ ِ
شعُرُونَ { لن المكر إنما يريد به الماكر أن يحقق شيئا من طريق ملتوٍ لنه ضعيف ل يمكن أن
يَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يواجه الحقائق ،وهذه الحقائق تستقبلها الفطرة السليمة ،وهو يريد تزييف المسألة على هذه الفطرة
ل وشهوة موقوتة،
لذلك يلتوي .ولمثل هذا الماكر نقول :أنت تريد أن تحقق لنفسك خيرا عاج ً
ولكنك إن استحضرت العقوبة التي تنشأ من هذا المر بالنسبة لك .وكذلك عقوبتك على أنك
شعُرُونَ { [النعام:
سهِمْ َومَا َي ْ
أضللت الخرين لرأيت كيف يأتي الشرَ } .ومَا َي ْمكُرُونَ ِإلّ بِأَ ْنفُ ِ
]123
أي ل يعلمون ،لنهم ل يوازنون المور بدقة تؤدي إلى النفع الحقيقي.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَإِذَا جَآءَ ْت ُهمْ آ َيةٌ قَالُواْ{ ...
()901 /
وكأن الية التي أرسلها ال مع رسوله وهي القرآن لتثبت لهم صدقه في البلغ عن ال لم تقنعهم،
ولم يكتفوا بها ،بل طالبوا بآيات أخرى ،فهم قد قالواَ {:وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِنَ
سقِطَ
ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ ُت ْ
الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً }[السراء]92-90 :
سمَآءَ َكمَا زَ َ
ال ّ
هم ل يريدون أن يؤمنوا بل إنهم يدخلون في اللجاج ،والتماس سبل الفرار من اليمان؛ لذلك تجد
أن كل الحجج التي وقفوا بها أمام دعوة الرسول هي أكاذيب؛ فقالوا إنه ساحر يفرق بين المرء
وزوجه ،وبين الولد وأبيه ،ويدخل بما جاء به -ويزعم أنه من عند ال -الفتنة في السرة الواحدة.
لكن لماذا لم يتساءلوا :مادام قد سحر غيرنا فلماذا لم يسحرنا؟ .وهل تأبوا هم على السحر؟ .وهل
للمسحور رغبة أو خيار مع الساحر؟ .إنهم في ذلك كاذبون.
ثم قالوا :إن الرسول صلى ال عليه وسلم شاعر .ولو أن أحدا غيرهم قال مثل هذا الكلم لكان
مقبولً لنه يجهل رسول ال ،ولنه ليس من قوم هم أهل فصاحة وأهل بلغة وأهل بيان ،إنهم
يعرفون الشعر ،والنثر ،والخطابة والكتابة .فلو كان هذا المر من غيرهم لكان القول مقبولً،
ولذلك نجد منهم من تصفو نفسه يقول :وال ما هو بقول كاهن ول بقول شاعر .ويطلب الحق
منهم أل يقولوا رأيا جماهيريا؛ ففي الرأي الجماهيري يختلط ويلتبس الحق بالباطل .بل كان يطلب
ظكُمْ ِبوَاحِ َدةٍ
منهم أن يكون الكلم محددا بحيث تنسب كل كلمة إلى قائلها فيقول الحقُ {:قلْ إِ ّنمَآ أَعِ ُ
أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا ُثمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن جِنّةٍ[} ..سبأ]46 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي ل تأتوا في أثناء هياج الناس وتتهموا الرسول صلى ال عليه وسلم بالجنون؛ لن قولكم في
الهياج الجماهيري غير محسوب على أحد لكن المطلوب أن تقوموا ل مثنى أي اثنين اثنين ،وكل
اثنين يقولن :هيا بنا نستعرض أمر هذا الرسول ونرى قضاياه :أهو كاهن؟ .أهو ساحر؟.
ل منهما يناقش الخر ،وحين يجلس اثنان
أهوشاعر؟ فبين الثنين ل يضيع الحق أبدا لن ك ّ
للنقاش ،إذا انهزم منهما واحد أمام الخر ل يُفضح أمام الغير ،لكن حين يتناقش ثلثة أو أربعة
فكل منهم يخاف أن ينهزم أمام غيره ،ونجد كل واحد يدافع عن نفسه .ولذلك حين يجلس اثنان
معا ليتناقشا ،ويبحثا أي أمر ل يخشى أحدهما الهزيمة؛ لذلك يأتي المر من ال أن يقوموا ل
مثنى أو فرادى ،ويتذكر كل واحد منهم أمر هذا الرسول :أهو مجنون؟.
إن أفعال المجنون وأعماله تكون متقطعة غير مستقيمة.
ومحمد على خلق عظيم ،وهل يقال للمجنون :إنه على خلق عظيم؟؛ لن الِنسان منا ل يعرف
كيف سيقابله المجنون ،أيضربه ،أيشتمه ،أيقطع له ملبسه؟ .أمّا الخلق العظيم فمعناه الخلق
المضبوط بالقيم ،وخلق رسول ال صلى ال عليه وسلم مضبوط بالقيم حتى صار ملكة وليس أمرًا
افتعاليّا .وحين يقول الناس عن إنسان إن خلقه الكرم أي تأصلت فيه صفة الكرم تأصلً بحيث
أصبحت تصدر عنه أفعال البذل بيسر وسهولة ،وفي أعمال المعاني نسميها خلقا ،وفي أعمال
المادة نسميها آلية.
وكلنا يعرف أن الِنسان إن أراد أن يتعلم قيادة سيارة فهو يتعلم قيادة الفعال التي تؤدي إلى سير
السيارة حتى يكتسب المهارة ويؤديها بيسر وبدون صعوبة ،وكذلك الشأن في الخلق حين تصدر
وعنه الفعال بدُربة ومهارة ،ونجد -على سبيل المثال -من يتعلم الفقه ،فيسأله إنسان عن الحكم
في المر المعين ،فيستعرض المر من أوجهه في وقت طويل ،لكن من يتدرب يصبح الفقه
بالنسبة إليه ملكة ،فل يتعب في استنباط الحكم .كذلك الخلق.
ويوضح لهم الحق :أنتم تقولون عن الرسول :إنه مجنون ،فاجلسوا مثنى مثنى أو فرادى وادرسوا
تصرفاته ستجدون أنها تصرفات منطقية مبنية على خلق كامل مكتمل ،وهو سلوك يختلف بالتأكيد
عن سلوك المجنون؛ لن المجنون ل ضابط له في حركاته ول في سكناته ول فيما يدع .وكذلك ل
يمكن أن يكون شاعرا؛ لنكم أنتم أهل شعر ،وكذلك ليس بكاهن؛ فالكهنة قد يستبدلون بآيات ال
ثمنا قليل ،وهو الذي أعلن لكم رفض الملك والثروة والجاه .لكنهم قالوا } :وَِإذَا جَآءَ ْتهُمْ آيَةٌ قَالُواْ
سلُ اللّهِ[ { ..النعام]124 :
لَن ّن ْؤمِنَ حَتّىا ُنؤْتَىا مِ ْثلَ مَآ أُوتِيَ رُ ُ
وقد حدث الوليد بن المغيرة نفسه بذلك ،وكان من ناحية السن أسنّ من رسول ال ،ومن ناحية
المال كان غنّيا ،ومن ناحية الولد عنده العزوة والولد ،وقال :لو كانت الرسالة بكل هذه المور
لكنت أنا أولى بهذا لنني أسنّ ولنني أكثر مالً ولنني أكثر ولدا .وهو قد قاسها بمقاييس البشر،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكأن الوليد لم يكن يعلم أن الرسالة ليست رئاسة ،فإذا كنت أنت دون غيرك عندك المال وعندك
الولد وعندك الزروع وغير ذلك لكنك لست على خلق محمد صلى ال عليه وسلم ،الذي فطره
ال عليه وأعده واصطفاه ليكون رسول ،ولكن مع هذا قال بعضهمَ {:وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا
عظِيمٍ }[الزخرف]31 :
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
ح َمتَ رَ ّبكَ[} ..الزخرف]32 :
سمُونَ رَ ْ
ولنسمع رد القرآنَ {:أهُمْ َيقْ ِ
ويوضح لهم الحق :نحن قسمنا بينهم المور الحياتية ،لكنكم تريدون تقسيم رحمة ال ،وفرق بين
الرحمة في الرسالت وبين امتداد الحياة بالقوات والمال؛ لن هذه عطاءات ربوبية .لكن الرحمة
هي عطاءات ألوهية ،انكم تميزتهم في دنياكم بالمال والبنين والبساتين ل لخصوصية فيكم ولكن
لن نظام الكون كله إنما يحتاج إلى مواهب متكاملة ل إلى مواهب متكررة ،ولو امتلك كل الناس
مثل ما عندك يا وليد من أرض ومال لما وجدت من يفلح لك الرض ،ولما كان عندك من يسرج
لك الفرس.
ولهذا جعل الحق مسألة الثروة دولً ،أي يقلب سبحانه هذه المور لتكون متداولة بين الناس؛ تكون
لهذا في زمن ولخر في وقت وزمن آخر ول تدوم لحد.
وحين جاء الناس إلى أبي جهل يحدثونه في الرسالة قال :زاحمنا بني عبد مناف في الشرف؛
أطعموا فأطعمنا ،كسوا فكسونا ،ذبحوا فذبحنا .حتى صرنا كفرسي رهان ،قالوا :منا نبي يوحى
إليه وال ل نرضى به ول نتبعه أبدا ال أن يأتينا بوحي كما يأتيه ،ومعنى كفرسي رهان ،أي
فحين تنطلق الخيل في السباق في وقت واحد كانوا يدقون عودا في الرض عند نهاية السباق
ومن يجذبه من الرض يقال له :حاز قصب السبق ،وعود القصبة هو غاية المشوار ،حتى ل
يقولن أحد لقد سبقني بخطوة أو غير ذلك.
وهنا يقول الحق } :وَإِذَا جَآءَ ْتهُمْ آيَةٌ {.
وانظر إلى كلمة } جَآءَ ْتهُمْ آيَةٌ { ،فمرة يقول {:قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مّن رّ ّبكَ }[طه ،]47 :ومرة يقول} :
جَآءَ ْتهُمْ آ َيةٌ { ،فكأن الية بلغت من وضوحها ومن استقللها ومن ذاتيتها وخصوصيتها أنها
سلُ اللّهِ[ { ..النعام]124 :
تجيء } .قَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ حَتّىا ُنؤْتَىا مِ ْثلَ مَآ أُوتِيَ رُ ُ
ج َعلُ ِرسَالَتَهُ {؛ لن
ويقول ال لهم ردا عليهم :ل تقترحوا ذلك على ال؛ لن } اللّهُ أَعَْلمُ حَ ْيثُ َي ْ
الرسالة إنما تجيء لتنشر خيرا في الجميع ،ولكنها تعف نفسها عن آثار النتفاع من ذلك الخير.
والغير يريد أن تأتي له الخير ثم يترك بعضا من الخير للناس .والرسول قد جاء لينشر خيره
للخرين ،وهو نفسه ل ينال من هذا الخير إل البلغ به .ويأمر سيدنا رسول ال صلى ال عليه
وسلم قبل أن يموت أل يأخذ أهله الزكاة ،أمّا ما تركه فقد صار صدقة للناس ،أي أنه لم ينتفع به
في الدنيا؛ لذلك هو مأمون على الرسالة ،ولم يردُ أن يأخذ الدنيا ليرثها أهله من بعده .وقد أراده
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال كذلك ليكون خيره لكل الناس .فالرسالة تكليف ،والنبوة ليس جزاؤها هنا ،بل من عظمة
الجزاء أنه في الخرة " ،ولذلك حينما جاء الرسول صلى ال عليه وسلم في بيعة العقبة وقالوا:
اشترط لنفسك .قال :تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وتعملون كذا وتعملون كذا" .
قالوا له :فما لنا؟ أنت اشترطت لنفسك ،فما لنا إن نحن وفينا؟ .ماذا قال الرسول صلى ال عليه
وسلم؟ .قال :لكم الجنة .هذا هو الثمن الذي عنده ،فمن يريد الجنة يأتي إلى اليمان ،ومن يريد ما
هو دون الجنة فليس مكانه مع أهل اليمان .مع أنه قال لهم فيما بعد ستركبون السفن وتفرشون
الزرابي والوسائد وتجلسون عليها ،وبشرهم بالكثير ،لكنه لم يقل لهم ذلك من البداية لن من
هؤلء من ل يدرك خيرا في الدنيا مع السلم؛ بل يموت والسلم ضعيف واتباعه في قلة ،لذلك
أعطاهم الجزاء المضمون لهم جميعا حين قالوا له :ماذا إن نحن َوفّيْنا؟.
قال :لكم الجنة .وكأنه صلى ال عليه وسلم يعلمهم أن الدنيا أهون من أن تكون جزا ًء على العمل
الصالح ،فجزاء العمل الصالح خالد ل يفوتك ول تفوته } .وَإِذَا جَآءَ ْتهُمْ آ َيةٌ قَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ..
{ [النعام]124 :
وحين نتأمل قولهم } :لَن ّن ْؤمِنَ { نجد أن في هذا القول إصرارا على عدم اليمان ،أي لن نؤمن
حتى في المستقبل إنهم تحكموا في المستقبل .ثم يفضحهم ال فيموت بعضهم على الكفر ،ومن بقي
منهم يأتون مؤمنين بعد الفتح .ومن العجيب أن العبارة التي ينطقون بها هي عبارة مهزوزة ل
تستقيم مع منطق الكفر منهم ،قالوا :لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل ال ،كأنهم قد عرفوا
أن هناك رسل من ال ،والصل في الية أن يؤمنوا برسل ال ورسول ال صلى ال عليه وسلم
خاتم الرسل ،وهذا القول يدل على مجرد المعارضة المقترنة بالغباء ،فما دمتم تعرفون أن ل
رسلً يصطفيهم ،فكيف تحاولون أنتم تحديد إرادة ال في الختيار؟.
إن رسل ال كانت لهم آيات كونية ،حسية مرئية ،وهي وإن كانت فيها قوة المشهد الملزم ،إل إنه
ل ديمومة لها ،فمن رأى سيدنا موسى وهو يضرب البحر فينفلق لن يكذب هذه الية الكونية ،إل
أنها أصبحت خبرا والخبر مناسب لمحدودية رسالة موسى ،كذلك رسالة عيسى عليه السلم حيث
أبرأ الكمة والبرص بإذن ال .وهذه الرسالت لزمن محدود وفي قوم محدودين ،لكن الرسول
صلى ال عليه وسلم جاء ومعه المنهج المعجزة الباقي إلى قيام الساعة ،فإن كانت المعجزة حسيّة
فلن يراها إلى أن تقوم الساعة .فل بد له من آية باقية إلى قيام الساعة؛ لذلك كانت الية في
المعنويات والعقليات التي ل تختلف فيها المم ول تختلف فيها الزمان ،لكنهم أرادوا معجزة
حسية ،وأخرى عقلية ،حتى إذا جاءت واحدة فقط أنكروا الثانية ،فحسم الحق المر وقال } :اللّهُ
ج َعلُ رِسَالَتَه {.
أَعْلَمُ حَ ْيثُ يَ ْ
ج َعلُ ِرسَالَتَهُ { ،فكلمة } أَعْلَمُ { تدل على أنه قد يمكّن ال
ولو نظروا إلى كلمة } اللّهُ أَعَْلمُ حَ ْيثُ َي ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بعضا من خلقه ليعلموا لماذا اختار ال محمدا صلى ال عليه وسلم؛ لن الذين واجههم صلى ال
عليه وسلم بأمر الدعوة ،هل انتظروا منه أن تكون له آية أو معجزة ،أو آمنوا به بمجرد
الخبار؟ .لقد آمنوا بمجرد الخبار؛ لن تجربتهم معه أكدت أنه صادق وأمين على خبر الرض،
ولبد أن يكون مأمونا على خبر السماء؛ لنه لم يكذب عليهم في أمر الرض ،فكيف يكذب في
أمر السماء؟
إننا نجد أن سيدنا أبا بكر ،بمجرد أن علم بأمر الرسالة قال :صدقت ،وسيدتنا خديجة صدقته من
فور أن قال ،وأخذت صدق بلغه من مقدمات حياته ،وقالت أول استنباط فقهي في السلم.
وكذا ذلك لسيدتنا أم المؤمنين خديجة قبل أن يعرف الفقه بمعناه الصطلحي الحديث ،مما يدل
على أن الستنباطات للدلة هي استنباطات للعقل الفطري السليم البعيد عن الهواء .إنه يقدر أن
يستقرئ المر ولبد أن يهتدي ،فحين أعلن لها أنه خائف أن يكون الذي أصابه مرض أو مسٌ
من الجن رفضت ذلك لنه يصل الرحم ،ويحمل الكلّ ،ويعين على نوائب الدهر ،وقال له :وال ل
يخزيك ال أبدا.
إذن فقد جاءت بالمقدمات التي ترشح أن ربنا ل يمكن أن يخذله ،وكل المقدمات مفاخر ،كلها خلق
عظيم ،وكلها التقاءات إنسانية قبل أن يأتي منهج السماء ،التقاءات إنسانية بالفطرة دون تقدير أو
تدبير ،وكان هذا أول استنباط فقهي في السلم .ولذلك نعرف السر لماذا جعل ال لرسوله أم
المؤمنين خديجة أو زوجة له؟ لنه ستمر به فترة ل يحتاج فيها إلى زوجة فقط .بل إلى ناضجة،
ذلك النضج الكامل الذي تستقبل به مسائل النبوة ،ولذلك حين يخرج إلى الغار تأتي له حكمة
خديجة في الستنباط قبل أن يوجد فقه السلم؟
ج َعلُ ِرسَالَتَه {؟ ،وهم قد أصروا على أل يعلموا على الرغم من أنهم وجدوا منه
} اللّهُ أَعَْلمُ حَ ْيثُ َي ْ
صغَارٌ عِندَ اللّهِ
خصالً وأشياءً حكموا بوجودها فيه وأنها صفات رسول } .سَ ُيصِيبُ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ َ
{ [النعام]124 :
هنا نجد فجوة انتقالية في الداء ،فمن قبل يتحدث سبحانه عمن يظنون أنهم كبار ،فيأتي ليقول :إن
الصّغار سيصيبهم ،وليس معنى الصغار الذل والهوان لدى الناس ،ل ،بل صغار وذل وهوان عند
نفس كل منهم ذاتيّا ،فكل منهم سيشعر بالذل أمام نفسه ويستصغر نفسه .كأن الصغار منسوبا إلى
عندية ال فهو ل يزول أبدا؛ لنه ل توجد قوة ثانية تقول ل إن قدرك لن يتحقق .فالصغار والذل
والهوان سينزل بهم هم مع كونهم أكابر المجرمين فلن يستطيعوا دفعه عن أنفسهم ،وسيصيبهم مع
ذلك عذاب شديد.
لماذا العذاب الشديد؟
لقد قلنا من قبل :إن العذاب يوصف مرة بأنه أليم ،ويوصف مرة أخرى بأنه مهين ،ويوصف هنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بأنه شديد .والعذاب المهين الذي تكون فيه ذلة النفس .والعذاب الليم الذي يكون في البنية؛ لن
الِنسان له بنية وله معنويات قيمية ،فمن ناحية البنية يصيبه العذاب ،ومن ناحية المعاني النفسية
تصيبه الِهانة ،فهناك من يتعذب لكنك ل تملك أن تهينه ويتحمل المشقة برجولة ،ومهما تلقى من
الِهانة فل تزال نفسه كريمة عليه ،مصدقا لقول الشاعر:
وتجلدي للشامتين أريهمو أني لريب الدهر ل أتضعضعُلذلك ينزل قدر ال بالعذاب على نوعين:
عذاب بنية وعذاب قيم ،وهذا هو الصغار ،والعذاب الشديد ،وهو الذي ل يقوى الِنسان على
تحمله ،ولم يُنزل الحق العذاب بهؤلء جزافا ،لكنه بسبب ما كانوا يمكرون ،فسبحانه هو القائل:
()902 /
نجد من يقول إن ربنا حين يريد لنسان أن يشرح صدره للسلم فذلك من إرادة ال وما ذنب
المكلف إذن؟.
وللرد على هذا نقول :لقد عرفنا من قبل أن الهداية لها معنيان :المعنى الول :الدللة وهي أمر
وارد وواجب حتى للكافر .فإن هُدى ال للكافر أن يدلّه إلى طريق الخير ،ولكن هناك هداية من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نوع آخر وهي للذي آمن ،ويصبح أهلً لمعونة ال بأن يخفف عنه أعباء التكاليف وييسرها له
ويجعله يعشق كل الوامر ويعشق البغض والتجافي عن كل النواهي.
يقول بعض الصالحين " :اللهم إني أخاف أل تثيبني على طاعة ،لني أصبحت أشتهيها " كأنه
عشق الطاعة بحيث لم يعد فيها مشقة أو تكليقا ،لذلك فهو خائف ،وكأنه قد فهم أنه لبد ان توجد
مشقة ،ولمثل هذا لنسان الصالح نقول :لقد فقدت الحساس بمشقة التكليف لنك عشقته فألفت
العبادة كما ألفتك وعشقتك ،وحدث النجذاب بينك وبين الطاعة ،وجعلت رسول ال مثلً لك
وقدوة ،فقد كان صلى ال عليه وسلم يرى أنه إذا نودي إلى الصلة يقوم الناس إليها كسالى لكنه "
صلى ال عليه وسلم يقول لبلل حينما يأتي وقت الصلة:أرحنا بها يا بلل ".
وهذا غير ما يقوله بعض ممن يؤدون الصلة الن حيث يقول الواحد منهم :هيا نصل لنزيحها من
على ظهورنا ،وهؤلء يؤدونها بالتكليف ل بالمحبة والعشق .أما الذين ألفوا الراحة بالصلة حينما
يحزبهم ويشتد عليهم أمر خارج عن نطاق أسبابهم ،ويقول الواحد منهم :مادامت الصلة تريح
القلب ،فلذهب إليها وألقى ربي زائدا على أمر تكليفه لى متقربا إليه بالنوافل ،ولذلك كان رسول
ال صلى ال عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلة .ومعنى حزبه أن السباب البشرية ل
تنهض به .فيقوم إلى الصلة ،وهذا أمر منطقي ،ل المثل العلى.
كان النسان منا وهو طفل إذا ما ضايقه أمر يذهب إلى أبيه ،فما بالنا إذا ما ضايقنا أمر فوق
السباب المعطاة لنا من ال فلمن نروح؟ إننا نلجأ لربنا ولقد كان صلى ال عليه وسلم إذا حزبه
أمر قام إلى الصلة.
إذن فعشق التكليف شيء يدل على أنك ذقت حلوة الطاعة ،وقد يجوز أنه شاق عليك؛ لنه
يخرجك أولً عما ألفت من العتياد .فعندما يأتيك أمر فيه مشقة تقول :إن هذه المشقة إنما يريد
بها لي حسن الجزاء ،فإذا ما عشقت الصلة صارت حبًا لك ،وكان واحد من الصالحين -كما
قلت -يخاف أل يثاب على الصلة لنها أصبحت شهوة نفس،ـ والنسان مطالب بأن يحارب
نفسه في شهواتها لكن رسول ال صلى ال عليه وسلم وضع لنا المثل فقال:
" ل يؤمن أحدكم حتى يصبح هواه تبعا لما جئت به " أي يصبح ما يشتهيه موافقا لمنهج ال ،فإذا
وصل وانتهى المؤمن إلى هذه المنزلة فهو نعم العبد السوي.
وهكذا عرفنا أن الهداية قسمان :هداية بمعنى الدللة ،وهداية بمعنى المعونة.
فإذا ما اقتعنت بهداية الدللة وآمنت بالحق فسبحانه يخفف عليك أمور التكليف ويجعلك عاشقا لها،
ولذلك يقول أهل الصلح :ربنا قد فرض علينا خمس صلوات ،وسبحانه يستحق منا الوقوف بين
يديه أكثر من خمس مرات ،وفرض علينا ربنا نصاب الزكاة وهو اثنان ونصف بالمائة ،وسبحانه
يستحق منا أكثر من ذلك لنه واهب كل شيء ،وهذا عشق التكليف ،وهذا هو معنى قولهَ } :فمَن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُرِدِ اللّهُ أَن َي ْهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْ َرهُ لِلِسْلَمِ {.
} َفمَن يُ ِردِ اللّهُ أَن َيهْدِيَهُ { أي يدلّه سبحانه كما دل كل العباد إلى المنهج ،لكن الذي اقتنع بالدللة
وآمن يسهل عليه تبعات التكليف مصداقا لقوله الحق {:وَيَزِيدُ اللّهُ الّذِينَ اهْتَدَواْ ُهدًى وَالْبَاقِيَاتُ
الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ مّرَدّا }[مريم]76 :
فهذه هداية المعونة ،وفيه فرق هنا بين الِسلم والِيمان لن الِيمان ل يحتاج فقط إلى العتقاد؛
إنما هو حمل النفس على مطلوبات الِيمان .ولذلك نجد أن كبار رجال قريش رفضوا أن يقولوا" :
ل إله إل ال "؛ لنهم علموا أنها ليست مجرد كلمة تقال ،ولكن لها مطلوبات تتعب في التكاليف
الناتجة عنها بـ " افعل " و " ل تفعل " .فالتكليف يقول لك " :افعل " لشيء هو صعب عليك،
ويقول لك " :ل تفعل " في شيء من الصعب أن تتركه ،لذلك يقول سبحانهَ } :فمَن يُرِدِ اللّهُ أَن
لسْلَمِ { [النعام]125 :
ح صَدْ َرهُ لِ ِ
َيهْدِيَهُ َيشْرَ ْ
وسبحانه يشرح صدره للِسلم بعد أن علم أنه قد اعتقد شريعة التوحيد ورضيها واطمأن بها،
فيأتي إلى فهم التكاليف؛ لن صحيح الِسلم يقتضي النقياد لمور التكاليف ،فمن أخذ الهداية
الولى وآمن بربه ،يوضح له سبحانه :آمنت بي وجئتني؛ لذلك أخفف عنك تبعات العمل ،ويشرح
ك صَدْ َركَ }
صدره للِسلم ،وشرح الصدر قد يكون جزاءً .فسبحانه هو القائل {:أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ
[الشرح]1 :
فقد جازاه ربنا بذلك؛ لنه أدّى ما عليه وصمد .كأن ال يريد بالِيمان من المؤمن أن يقبل على
الحق ،وحينما يقبل على الحق ،يبحث العبد ليتعرف على المراد والمطلوب منه فيعلم أنها
التكاليف ،فإذا رأى ال منك الستعداد المتميز لقبول التكاليف ،فإنّه يخففها عنك ل بالتقليل منها،
ولكن بأن يجعلك تشتهيها ،وقد تلزم نفسك بأشياء فوق ما كلفك ال؛ لتكون من أهل المودة ومن
أهل التجليات ومن الذين يدخلون مع ال في ود ،وتلتفت لنفسك وأنت تقول :لقد كلفني ال بالقليل
وسبحانه يستحق الكثير .فتزيد من طاعتك وتجد أمامك دائما الحديث القدسي.
" من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ،وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه،
ول يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره
الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها" .
أي بالمور التي تزيد على ما كلفه في الصلة والزكاة والصيام والحج.
لسْلَمِ { أي يجعل المور التي يظن بعض من
ح صَدْ َرهُ لِ ِ
إذن فمعنى } َفمَن يُ ِردِ اللّهُ أَن َيهْدِيَهُ يَشْرَ ْ
الناس أنها متعبة فإنه بإقباله عليها وعشقه لها يجدها مريحة ويقبل عليها بشوق وخشوع .ولذلك
فالحق سبحانه وتعالى يترك في خلقه مُثُلً للناس .فنجد المال عزيزا على النفس حريصة عليه
لنه إن كان المال قد جاء بطريق شرعه ال وأحله فهو يأتي بتعب وبكدّ؛ لذلك يحرص عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الِنسان ،فيحنن ال العبد من أجل البذل والعطاء.
إننا نجد المؤمن يعطي للسائل لن السائل هو الجسر الذي يسير عليه المسلم إلى الثواب من ال،
فيقول العبد المؤمن للسائل :مرحبا بمن جاء ليحمل زادي إلى الخرة بغير أجرة ،ولذلك عندما
جاء مسلم إلى الِمام عليّ -رضي ال عنه وكرّم ال وجهه ،-قال المسلم :أنا أريد أن أعرف أأنا
من أهل الدنيا أم من أهل الخرة؟ واختار المام عليّ مقياسا للِيمان في نفس كل مؤمن ،وقال له:
إن جاءك من يطلب منك ،وجاء من يعطيك ،فإن كنت تهش لمن يعطيك فأنت من أهل الدنيا ،وإن
كنت تهش لمن يأخذ منك فأنت من أهل الخرة؛ لن النسان يحب من يعمر له ما يحب.
إذن فـ " يشرح صدره للسلم " أي يخفف عنه متاعب التكليف بحيث ل توجد مشقة ،ثم يرتقي
بعد ذلك ارتقاءًَ آخر بأن يعشقه في التكليف .ويهديه ال إلى طريق الجنة ،لن هناك هداية إلى
المنهج وهداية إلى الجزاء على المنهج ،ولذلك نجد القرآن يقول؛ عمن ضلوا {:إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ
جهَنّمَ خَاِلدِينَ فِيهَآ أَبَدا َوكَانَ ذاِلكَ
وَظََلمُواْ لَمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َلهُ ْم َولَ لِ َيهْدِ َيهُمْ طَرِيقا * ِإلّ طَرِيقَ َ
عَلَى اللّهِ َيسِيرا }[النساء]169-168 :
كأن هناك هداية إلى العمل وهداية إلى الجزاء ،ونجد الحق يقول {:وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن
عمَاَل ُهمْ * سَ َيهْدِي ِه ْم وَ ُيصْلِحُ بَاَلهُمْ * وَيُ ْدخُِلهُمُ ا ْلجَنّةَ عَ ّر َفهَا َل ُهمْ }[محمد]6-4 :
ضلّ أَ ْ
ُي ِ
وقد يتساءل إنسان :كيف يهدي ال من قتل ،وهل هناك تكليف بعد القتل؟ .نقول :انظر إلى
الهداية ،إنها هداية الجزاء " سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم ".
وهكذا نعرف أن هناك هداية الجزاء ،من يحسن العمل يُجزِه ال الجنة ،أما من يسيء فله عذاب
سمَآءِ كَذاِلكَ
صعّدُ فِي ال ّ
ج َعلْ صَدْ َر ُه ضَيّقا حَرَجا كَأَ ّنمَا َي ّ
في الدنيا والخرةَ } .ومَن يُ ِردْ أَن ُيضِلّهُ َي ْ
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ { [النعام]125 :
ج َعلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلَى الّذِي َ
يَ ْ
وهل هذا تجن من ال على خلقه؟ ل ،لنه مادام دعاهم لليمان فآمن بعضهم وصاروا أهلً
للتجليات ،وكفر بعضهم فلم يؤمنوا ،فصاروا أهلً للحرج وضيق الصدر.
ومعنى الضيق أن الشيء يكون حجمه أقل مما يؤدي به مهمته ،فحين يقال :ضاق البيت بي
وبعيالي ،فهذا يعني أن الرجل وزوجه في البداية عاشا في غرفتين ،وكان البيت متسعا .ثم انجبا
عيالً كثيرة فضاق بهم البيت .وهكذا نعلم أنه لم يطرأ شيء على الجدران ومساحة البيت ،لكن
حين زاد عدد الفراد شعر رب السرة بضيق المنزل .ويقال :صدره ضيّق أوضيْق فقد ورد في
القرآن لفظ ضيق على لغتين :فالحق يقولَ .. {:ولَ َتكُ فِي ضَيْقٍ ّممّا َي ْمكُرُونَ }[النحل]127 :
وهناك في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجد كلمة ضَيّق ،والحق يقول {:فََلعَّلكَ تَا ِركٌ
صدْ ُركَ[} ..هود]12 :
ك َوضَآئِقٌ بِ ِه َ
َب ْعضَ مَا يُوحَىا إِلَ ْي َ
فما المراد من " ضائق " ،و " ضيَق " ،و " ضيْق "؟ .نعرف أن الصدر هو مكان الجارحتين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الساسيتين في التكوين :القلب والرئة ،والرئة هي الجارحة التي ل تستمر الحياة ال بعملها؛ فقد
تبطئ المعاء مثل ،أو تتوقف قليل عن عملها ،ويتغذى النسان على خزينته من الدهن أو اللحم
ولذلك يصبر النسان على الجوع مدة طويلة ،ويصبر على الماء مدة أقل ،لكنه ل يصبر على
افتقاد الهواء لدقائق ،ول صبر لحد على ترك الشهيق والزفير.
ك بعضا قوت بعض .وأقل منه أن يملّك بعضا
ولقد قلنا من قبل :إن الحق سبحانه وتعالى قد يمل ّ
ماء بعض ،لكن أيملّك أحدا هواء أحد؟ ل؛ لن الرضا والغضب أغيار في النفس البشرية .فإذا
غضب إنسان على إنسان ،وكان يملك الهواء وحبسه عنه فالنسان يموت قبل أن يرضى عنه هذا
الخر ،ولذلك لم يملّك ال الهواء لحد من خلقه أبدا.
ج َعلْ صَدْ َرهُ ضَيّقا حَرَجا { نعلم عنها أن الصدر هو محل
إذن كل المسألة المتعلقة بقولهَ } :ي ْ
التنفس ،والرئة تأخذ الوكسجين وتطرد ثاني أوكسيد الكربون ،وعندما يصاب النسان بنوبة برد
نراه وهو يجد صعوبة في التنفس ،كأن حيّز الصدر صار ضيقا ،فل يدخل الهواء الكافي لتشغيل
الرئتين ،ويحاول النسان أن يعوض بالحركة ما فاته فينهج .ويشخص الطباء ذلك بأن المريض
يريد أن يأخذ ما يحتاجه إليه من الهواء فينهج؛ لن الحيّز قد ضاق ،وكذلك عندما يصعد النسان
سلما ،ينهج أيضا؛ لن الصعود يحتاج إلى مجهود ،لمعاندة جاذبية الرض ،فالرض لها جاذبية
تشد النسان ،ومن يصعد إنما يحتاج إلى قوة ليتحرك إلى أعلى ويقاوم الجاذبية.
إننا نجد نزول السلم مريحا؛ لن في النزول مساعدة للجاذبية ،لكن الصعود يحتاج إلى جهد أكثر،
فإذا ضاق الصدر فمعنى ذلك أن حيز الصدر لم يعد قادرا على أن يأخذ الهواء بالتنفس بطريقة
تريح الجسم ،ولذلك يقال " :فلن صدره ضيق " أي أن التنفس يجهده إجهادا بحيث يحتاج إلى
هواء أكثر من الحجم الذي يسعه صدره.
ج َعلْ صَدْ َرهُ ضَيّقا حَرَجا { والحرج معناه الحجز عن الفعل ،كأن نقول
} ومَن يُرِدْ أَن ُيضِلّهُ َي ْ
حرًّجت على فلن أن يفعل كذا ،أي ضيقت عليه ومنعته من أن يؤدي هذا العمل " .كأنما يصعّد
في السماء ".
وعلمنا أن الصعود لعلى هو امتداد لفعل الجسم إلى جهة من جهاته .فالجهات التي تحيط بأي
شيء ست :هي فوق وتحت ،ويمين ،شمال ،وأمام ،وخلف ،وعرفنا أن الهبوط سهل؛ لن الجاذبية
تساعد عليه ،والمشي ماذا يعني؟ المشي إلى يمين أو إلى شمال أو إلى أمام أو إلى خلف ،فهو
فعل في الستواء العادي الظاهر ،والذي يتعب هو أن يصعد النسان ،لنه سيعاند الجاذبية ،وهو
بذلك يحتاج إلى قوتين :قوة للفعل في ذاته ،والقوة الثانية لمعاندة الجاذبية.
سمَآءِ { وذلك بسبب مشقات
صعّدُ فِي ال ّ
ج َعلْ صَدْ َرهُ ضَيّقا حَرَجا كَأَ ّنمَا َي ّ
} َومَن يُرِدْ أَن ُيضِلّهُ َي ْ
التكليف؛ لنه لم يدخلها بعشق ،فل يدخل إلى مشقات التكليف بعشق إل المؤمن فهو الذي يستقبل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه التكاليف بشرح صدر وانبساط نفس وتذكر بما يكون له من الجزاء على هذا العمل ،والذي
يسهل مشقة العمال حلوة تصور الجزاء عليها؛ فالذي يجتهد في دروسه إنما يستحضر في ذهنه
ل وفي أهله .أما الذي ل يستحضر نتائج ما يفعل
لذة النجاح وآثار هذا النجاح في نفسه مستقب ً
سمَآءِ..
صعّدُ فِي ال ّ
صدْ َر ُه ضَيّقا حَرَجا كَأَ ّنمَا َي ّ
ج َعلْ َ
فيكون العمل شاقا عليه } .ومَن يُ ِردْ أَن ُيضِلّهُ َي ْ
{ [النعام]125 :
والسماء هي كل ما علك فأظلك ،فالجو الذي يعلوك هو سماء ،وكذلك السحابة ،وأوضح لنا ربنا
أنه أقام السماوات السبع ،وهنا أراد بعض العلماء الذين يحبون أن يظهروا آيات القرآن كمعجزات
كونية إلى أن تقوم الساعة ،أرادوا أن يأخذوا من هذا القول دليلً جديدا على صدق القرآن،
وتساءلوا :من الذي كان يدرك أن الذي يصعد في الجو يتعب ويحتاج إلى مجهودين :الول للعمل
والثاني لمناهضة الجاذبية ولذلك يضيق صدره لنه ل يجد الهواء الكافي لمداده بطاقة تولد
وقودا.
ونقول لهؤلء العلماء :ل يوجد ما يمنع استنباط ما يتفق في القضية الكونية مع القضية القرآنية
بصدق ،ولكن لنحبس شهوتنا في أن نربط القرآن بكل أحداث الكون حتى ل نتهافت فنجعل من
تفسيرنا لية من آيات القرآن دليلً على تصديق نظرية قائمة ،وقد نجد من بعد ذلك من يثبت خطأ
النظرية.
إنه يجب على المخلصين الذي يريدون أن يربطوا بين القرآن لما فيه من معجزات قرأنية مع
معجزات الكون أن يمتلكوا اليقظة فل يربطوا آيات القرآن إل بالحقائق العلمية ،وهناك فرق بين
النظرية وبين الحقيقة؛ فالنظرية افتراضية وقد تخيب.
لذلك نقول :أنبعد القرآن عن هذه حتى ل تعرضه للذبذبة .ول تربطوا القرآن إل بالحقائق العلمية
التي أثبتت التجارب صدقها.
وقائل القرآن هو خالق الكون ،لذلك ل تتناقض الحقيقة القرآنية مع الحقيقة الكونية؛ لذلك ل تحدد
أنت الحقيقة القرآنية وتحصرها في شيء وهي غير محصورة فيه .وتنبه جيدا إلى أن تكون
سمَآءِ كَذاِلكَ
صعّدُ فِي ال ّ
الحقيقة القرآنية حقيقة قرآنية صافية ،وكذلك الحقيقة الكونية..} .كَأَ ّنمَا َي ّ
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ { [النعام]125 :
ج َعلُ اللّهُ الرّجْسَ عَلَى الّذِي َ
يَ ْ
والرجس وهو العذاب ،إنما يأتيهم بسبب كفرهم وعدم إقبالهم على التكليف.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَهَـاذَا صِرَاطُ{ ..
()903 /
وَهَذَا صِرَاطُ رَ ّبكَ مُسْ َتقِيمًا َقدْ َفصّلْنَا الْآَيَاتِ ِل َقوْمٍ يَ ّذكّرُونَ ()126
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و " هذا " مقصود به ما تقدم من آيات .من كتاب الِسلم وهو القرآن ،وذلك ما يشرح الصدر
القابل للِيمان ،والقرآن هو الحامل لمنهج الِسلم؛ فمرة تعود الِشارة إلى القرآن أو إلى الِسلم.
وليس هناك خلف بين القرآن والِسلم.
{ وَهَـاذَا صِرَاطُ رَ ّبكَ مُسْ َتقِيما } .و " الصراط " هو الطريق السّوي ،والطريق السّوي قد يكون
مع استوائه معوجا لكن هذا الطريق مستوٍ ومستقيم ،ونعلم أن الطريق المستقيم هو أقصر الطرق
الموصلة للغاية .وعلى هذا فصراط ل تغني عن مستقيم ،ومستقيم ل يغني عن صراط ،بل لبد
من صراط معبد ومستقيم ليكون أقصر طريق إلى الغاية وبل متاعب ،إننا -نحن البشر -نرى
المهندسين وهم يقيسون البعاد والمسافات والغايات والبدايات والنهايات ،وبعد ذلك يربطون
البدايات بالغايات.
إنهم يحضرون آلت معينة ليرصدوا استقامة الطريق وكيفية تمهيده .وقد يعترض استقامة
الطريق عقبات صبعة شديدة كَأْدَاء كجبل مثلً ،فيقوم المهندسون إما بنحت نفق في الجبل ليضمنوا
له الستقامة ،وإما بأن يحني الطريق ليضمنوا جودة تعبيد الطريق .فإن جاء المهندسون وقالوا
نمشي من هنا لنضمن استقامة الطريق فإننا نفعل ذلك .وإلّ جعلوا الطريق متعرجا أو حلزونيّا؛
وذلك ليتفادى السائر العقبات التي ليس له قدرة عليها.
لكن إذا كان الصراط قد مهده رب ،أتوجد له عقبة؟ طبعا ل ،إذن فهو طريق مستقيم .ولنلحظ أنه
سبحانه قال " :صراط ربك " أي أنه جاء بها من ناحية الربوبية ،والربوبية عطاء الرب ،إنه سيد،
ومربٍ ،وخالق الخلق ويضمن لهم ما يعينهم على مهمتهم في الوجود معونة ميسرة سهلةً .وهكذا
نعرف أن طريق الحق هو الصراط المعبد المستقيم ،أي الذي يصل بين البداية والنهاية .فإن كان
الطريق الذي نتبعه مستقيما ومعبدا ،وسهلً ،فلماذا ل نتبعه؟
" هذا صراط ربك " .ونلحظ أنه سبحانه قد أسند الرب لمحمد ،أي من أجل خاطره جعل الصراط
مستقيما؛ لنه سبحانه هو المتولي لربوبيتك يا محمد ،وسبحانه رب الكون كله ،ورسول ال صلى
ال عليه وسلم عين أعيان الكون { .وَهَـاذَا صِرَاطُ رَ ّبكَ مُسْ َتقِيما َقدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِل َقوْمٍ َي ّذكّرُونَ }
[النعام]126 :
" فصّلنا " أي أنّ كل شيء في هذا الكون مخلوق لما يناسبه ،وكل قضية من قضايا الكون خلقها
ربنا لتحقق الفائدة منها بدون مشقة ،وبدون عنت .والمنهج الذي أنزله ال إنما يصلح الكون
ويجعل كل شيء فيه مناسبا لمهمته؛ لن ال إله كل الناس وهم بالنسبة إليه سواء لنه لم يتخذ ل
صاحبة ول ولدا .ول يعطي سبحانه الحياة لمخلوق ويوجده في الكون ،ثم يعرّيه من أسلحة
الحركة في الحياة ،ولكل إنسان سلح من موهبة أو قدرة وبذلك تتعدد السلحة والمواهب
والقدرات ،فمن يريد أن يبني بيتا ،أنقول له :اذهب إلى كلية الهندسة لتتعلم كيف ترسم البيت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتخططه؟ أنقول له :تعلم كيف تكون فنيّا وكهربيّا ونقاشا؟ إن الفرد الواحد ل يمكن أن يتعلم كل
هذه التخصصات ،لذلك وزّع ال المواهب على خلقه؛ هذا عنده موهبة ليعمل لنفسه ،ويعمل
لغيره.
وبعد ذلك يأتي غيره ليؤدي له عملً ليس له فيه موهبة بحيث يتكامل المجتمع كله ول يتكرر
أفراده.
ولو كنا تخرجنا جميعا كأطباء أو مهندسين لما نفعت الدنيا ،ومن نقول عليهم :إنهم فشلوا في
التعليم يقومون بأعمال في الحياة ما كنا نستطيع الحياة بدونها؛ فقد خلقهم ال بقدرات عقلية
محدودة ليهبهم قدرات أخرى تصلح في مهمات أخرى .وإن تعلم المجتمع كله تعليما عاليا لصار
الهرم مقلوبا .وإن انقلب الهرم فمعنى هذا أن أجراءً منه ستكون بغير دعائم في الرض .لذلك
نجد أن هناك إعدادا عقليا أراده الحق لكل واحد من الخلق ،ول نستطيع أن نقول لكل إنسان :تعلم
وتخرج في الجامعة ثم اكنس الشارع .وكن في الغد حدادا .لذلك ربط الحق كل عمل بالحاجة
إليه ،ومن يحسن استقبال قدر ال في نفسه يُعطِ ال له من العمل كل الخير.
ونلحظ الن أن من يعمل موظفا في الدولة يحيا في راتب محدود ،بينما تجد السباك يقدر عمله
بأجر يحدده هو ،ويبقى الويل والتعب لمن كان تقدير عمله في يد غيره } وَهَـاذَا صِرَاطُ رَ ّبكَ
مُسْ َتقِيما َقدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِل َقوْمٍ َي ّذكّرُونَ {.
وانظر كل قضية في الكون ،لم يُدخل ابن آدم فيها أنفه تجدها مستقيمة ،ول يأتي الفساد إل في
القضايا التي أدخل ابن آدم أنفه فيها بدون منهج ال .فإن دخلت في كل مسألة بمنهج ال يستقيم
الكون تماما .ولذلك يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى النظام العلى في كونه والذي ل تدخل لنا فيه.
ول سيطرة عليه؛ السموات ،والكواكب ،والشمس ،والقمر ،وحركة الرض ،كل تلك الكائنات نجد
ط َغوْاْ
سمَآءَ َر َف َعهَا َو َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ * َألّ تَ ْ
أمورها تسير بانتظام ،ولذلك يقول لنا الحق سبحانه {:وَال ّ
فِي ا ْلمِيزَانِ }[الرحمن]8-7 :
فإن أردتم أن تستقيم أموركم في شئونكم وأحوالكم الختيارية فادخلوا فيها بمنهج ال؛ لن الشياء
التي تدار بمنهج ال بدون أن يتدخل فيها البشر تؤدي مهمتها كما ينبغي.
فعلى الِنسان -إذن -أن يتذكر كيف يأخذ من المقدمات التي أمامه ما يوصل إلى النتائج ،ولبد
أن يأخذ المقدمات السليمة ليصل إلى الغايات الفطرية .وأقصر المور أن تسأل نفسك :أنت صنعة
من؟ صنعة نفسك؟ ل ،هل أنت من صنعة واحد مثلك؟ ل .وهل ادّعى واحد في كون ال -وما
أكثر ما يُدّعى -أنه خلقك أو خلق نفسه؟ ل .بل أنت وهو وكل الكون من صنعة ال ،فدعوا ال
يقرر قانون صيانتكم ،وسيظل الناس متعبين إلى أن يسلموا الصنعة إلى خالقها } .وَهَـاذَا صِرَاطُ
رَ ّبكَ مُسْ َتقِيما َقدْ َفصّلْنَا اليَاتِ ِل َقوْمٍ َي ّذكّرُونَ {.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولم يقل فصلنا اليات لواحد ،بل قال " لقوم " حتى إذا ما مال أو غفل واحد في الفكر بعدله غيره.
وكلنا متكافلون في التذكير ،وهذا التكافل في التذكير يعصم كل مؤمن من نفسه؛ فإن حصل عندي
قصور من سهو أو من غفلة أو من هوى يعدله غيري .وهذه قضية كونية لو استقرأت الوجود
كله وجدتها ل تتخلف أبدا ،ول بد من تذكر الغاية التي جاء بها قوله الحقَ } :ل ُهمْ دَارُ السّلَمِ{ ..
()904 /
َلهُمْ دَارُ السّلَامِ عِنْدَ رَ ّبهِ ْم وَ ُه َو وَلِ ّيهُمْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()127
أي أن لهؤلء المتقدمين الذين صبروا وصابروا ورابطوا ،لهم دار السلم ،وهو أسلوب مكون-
كما يقال -من مبتدأ وخبر ،ال أن المبتدأ أُخرّ هنا ،والخبر تقدّم ،وكان المنطق أن يقال " :دار
السلم لهؤلء " ولكن السلوب القرآني جاء ليقدم الخبر المكون من الجار والمجرور ومتعلقه،
ويؤخر المبتدأ وذلك لخصوصية أرادها الحق ،وهي أن هذه الدار لهم وحدهم دون غيرهم فهي
خالصة لهم يوم القيامة و " دار السلم " مكونة من كلمتين " ،دار " ومعناها ما يستقر فيه النسان،
ويجمع هذا المكان كل ما تتطلبه حياة النسان ،وهي أوسع قليلً من كلمة " بيت "؛ لن البيت
مكان يعد للبيتوتة ،لكن كلمة " دار " تعد للحياة ولما يتعلق بالحياة من مقوماتها.
و " دار " هنا مضافة إلى السلم ،وهو -كما نعلم -اسم من أسماء ال ،إذن فالحق هنا يوضح:
لهم دار منسوبة للسلم وهو ال ،وهم مستحقون لها جزاءً منه ،فإذا كانت الدار التي وعدها ال
هي دار السلم وهو ال ،فلبد أن فيها متعا وامكانات على قدر فضل المضاف إليه وهو ال،
ولماذا لم يقل ال " :دار ال "؛ لن ال أراد أن يأتي بوصف آخر من أوصافه؛ ليعطيهم السلم
والمن والطمئنان.
وهناك فرق بين دور الدنيا ،وهذه الدار؛ فدور الدنيا فيها متع ،ولكنك فيها بين أمرين :إما أن
تفوت أنت ما هي فيه ،وإما أن يفوتك ما فيها ،ولذلك ل يوجد في الدنيا أمن؛ لن غيرك قد يناوئك
فيها ويعاديك ،وقد تأتي لك مكدرات المرض ،وقد تأتي لك معكرات العداء ،كل ذلك ينغص
عليك المن والسلم في الدنيا .ولذلك أراد الحق ان تكون لك الخرة دار السلم مادمت قد آمنت،
لمِ عِندَ رَ ّبهِمْ } [النعام:
وأن تأمن فيها من كل الفات التي كانت في دار الدنياَ { .لهُمْ دَارُ السّ َ
]127
وكأن دار السلم ليست وعدا من ال بأن تكون ،ولكنها جاهزة معدة عند ال ومحفوظة لديه تنتظر
المؤمنين ،وسبحانه قد خلق جنانا تتسع لكل خلقه على فرض أنهم آمنوا ،وجعل من النار مثل ذلك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على قدر خلقه ،على فرض وتقدير أنهم كفروا .وسيأخذ المؤمنون ما أعد لهم من دور اليمان
ويرثون ما أعد للكافرين من دور اليمان على فرض أنهم آمنوا في الدنياُ {.أوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلوَارِثُونَ
* الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[المؤمنون]11-10 :
فلم يخلق الحق جنانا محدودة ،ل ،بل أعد وهيأ من الجنان ما يتسع لكل الخلق إن امنوا ،ومن
النيران ما يتسع لكل الخلق إن كفروا .ومادامت العندية منسوبة إلى ال فهي عندية مأمونة.
وبعد ذلك أيتخلّى ال عنهم ويكلهم إلى ما أعدّه لهم؟ .ل ،بل قال ..} :وَ ُهوَ وَلِ ّيهُمْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ
{ [النعام]127 :
فهناك إعداد ،ثم قيومة ولية ال ،وهذه القيومة ل ،هي للمؤمنين في الدنيا ،لكن فلنلحظ أن
الولية في الدنيا قد تكون فيها أسباب مخلوقة ل ،لكن في الخرة هناك الجزاء الذي ل يكله ال
للسباب ،فتكون الولية مباشرة له؛ لنه سيعطيك فورا ،وإذا خطر أي شيء بباللك تجده حاضرا:
فهي متعة على غير ما ألف الناس؛ لن الناس يتمتعون في الدنيا بواسطة السباب المخلوقة ل.
ولكن في الخرة فل ملكية لحد حتى في السباب ،لذلك يقول سبحانهّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ} ..
[غافر]16 :
وستجد الِجابة هي قوله -سبحانه {:-لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر]16 :
والحق هو الولي الذي يليك ،قربا تنتفع به ،فل تضطر حتى أن تنادي عليه ليأتي لك بالمنافع
ويدفع عنك المضار كما عمل لك في الدنيا ووفقك للعمل وهو وليك في الخرة بحسن الجزاء لك
بسبب ما كنت تعمل؛ فالعمل في الدنيا هو الزرع وهو الحرث لثمرة الخرة .ولكن أيعطينا ال
على قدر أعمالنا؟ ل ،بل يعطينا على قدر صبرنا؛ لنه إن كان العطاء على قدر العمال ،إننا لو
حسبناها لما أدينا ثمن عشر معشار نعم ال علينا في الدنيا .فكأننا نعمل في الدنيا لنؤدي شكر ما
أفاء علينا وأعطانا من النعم ،فإذا جاء الحق سبحانه وتعالى وأعطانا بعد ذلك ثوابا فهو الفضل
منه ،ولذلك يوضح الحق لنا :إياكم حين توفقون في العمل أن تفتتنوا بأعمالكم ،بل عليكم أن
ج َمعُونَ }
حمَتِهِ فَبِذَاِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا يَ ْ
ضلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ
تتذكروا ان ذلك فضل من الُ {:قلْ ِب َف ْ
[يونس]58 :
وقد شرح النبي عليه الصلة والسلم هذا المر وقال " :لن يُ ْدخِل أحدا منكم عملُه الجنة ،قالوا:
ول أنتَ يا رسول ال؟ قال :ول أنا إل أن يتغمدني ال منه بفضل ورحمة" .
إذن المسألة كلها بالفضل من ال ،ولكن فضل ال شرطه العمل الصالح؛ فأنت تعمل العمل
الصالح ،ويعطيك ربنا أضعافه ،وبطبيعة الحال فعملك لن ينفع جلله أو جماله أو كماله أو يزيده
صفة أو يزيده ملكا ،لكنه يعطيك على ما عملته لنفعك ولنفع بني جنسك.
ولذلك نجد الِمام الرازي -رضي ال عنه -يقول :إن العمل في ذاته يورث الذات شيئا من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصفاء الذي ترتاح له وتسعد به ،حتى تجد الجزاء في الراحة ،والراحة النفسية هي المر
المعنوي الذي يوجد في بنية مادية هي قالبك .فساعة يوجد شيء في النفس فهو يؤثر في القالب
أغيارا ،فإذا غضب النسان فهذا الغضب يظهر أثره في البينة نفسها فيحمر الوجه ،ويرتعش
الِنسان للنفعال بالغضب ،والغضب أمر معنوي لكنه أثّر في البينة ،وكذلك إذا ما حدث ما
يسرّك ،يظهر ذلك في البينة أيضا؛ فتشرق وتهلل أساريرك .إذن فالعمل يؤثر في البينة ،والبينة
تؤثر في العمل.
جمِيعا يَا َمعْشَرَ{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وَ َيوْمَ ِيحْشُرُ ُهمْ َ
()905 /
جمِيعًا يَا َمعْشَرَ ا ْلجِنّ قَدِ اسْ َتكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ َوقَالَ َأوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبّنَا اسْ َتمْ َتعَ
وَ َيوْمَ يَحْشُ ُرهُمْ َ
ض وَبََلغْنَا َأجَلَنَا الّذِي َأجّ ْلتَ لَنَا قَالَ النّارُ مَ ْثوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلّا مَا شَاءَ اللّهُ إِنّ رَ ّبكَ
َب ْعضُنَا بِ َب ْع ٍ
حكِيمٌ عَلِيمٌ ()128
َ
وساعة تسمع " يوم " اعرف أنها " ظرف زمان " ،أي أن هناك حدثا ،وقوله الحق " :ويوم
يحشرهم جميعا " أي اليوم الذي يقف فيه الجميع ويحشدون ،وحين ننظر إلى ما بعدها نجد أن
الحدث لم يأت ،ولكن جاء " يا معشر الجن " وهذا " نداء " .فكأن الحدث هو النداء نفسه ،والنداء
يقتضي مناديّا ،وهو الحق سبحانه ،ومنادى وهو معشر الجن والِنس ،وقولً يبرز صورة النداء.
فكأن العبارة هي :يوم يحشرهم جميعا فيقول يا معشر الجن والِنس ،و " الحشر " هو الجمع ،و "
المعشر " هم الجماعة المختلطة اختلط تعايش ،بمعنى أن يكون فيهم كل عناصر ومقومات
الحياة ،وقد يضاف المعشر إلى أهل حرفة بخصوصها؛ يا معشر التجار ،يا معشر العلماء ،يا
معشر الوزراء .لكن إن قلت :يا معشر المصريين فهي جماعة مختلطة اختلط تعايش ومعاشرة.
{ يَا َمعْشَرَ الْجِنّ َقدِ اسْ َتكْثَرْتُمْ مّنَ الِنْسِ[النعام]128 :
و " استكثر " أي أخذ منه كثيرا ،كمن استكثر من جمع المال ،أو استكثر من الصدقاء؛ فمادة "
استكثر " تدل على أنه أخذ كثرة .وماذا يعني استكثارهم من النس؟ .نحن نعلم أن من الجن
طائعين ،ومنهم عاصون ،والصل في العصيان في الجن " إبليس " الذي أقسم {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ
ج َمعِينَ }[ص]82 :
لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
فكأن الحق يوضح :أنكم معشر الجن قد حاولتم جاهدين أن تأخذوا النس إلى جانبكم واستكثرتم
بهم ،فبعد أن كان العاصون فقط من شياطين الجن وجد عصاة من النس أيضا ،واستكثرتم منهم،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بأن ظننتم ان لكم غلبة وكثرة وعزا ،لنهم إذا أطاعوكم في الوسوسة أصبحت لكم السيادة ،وذلك
ما كان يحدث ،فكان النسان إذا ما نزل واديا مثلً قال :أعوذ بسيد هذا الوادي -من الجن-
ويطلب أن يحفظه ويحفظ متاعه ،وحينما يوسوس له شيء يسارع إلى تنفيذه ،وهذا استكثار.
ن الِنْسِ رَبّنَا اسْ َتمْتَعَ َب ْعضُنَا بِ َب ْعضٍ } [النعام]128 :
{ َوقَالَ َأوْلِيَآؤُهُم مّ َ
وكذلك لم يستمتع الجن والنس فقط ،بل استمتع أيضا بالجن ،وهكذا نجد تبادل استمتاع من خلف
منهج ال ،لهؤلء إغواءٍ وسيادة ،يأمرونهم بعمل الشياء المخالفة لمنهج ال ،وهؤلء يستمتعون
بهم يحققون لهم شهواتهم في صور تدين ،فيقولون لهم :اعبدوا الصنام ،واعبدوا الشمس ،واعبدوا
القمر ،فيفعلون .وذلك يرضي فيهم غريزة النقياد التديني؛ لن كل نفس مفطورة على أن ترتبط
بقوة أعلى منها؛ لن النسان إذا نظر لنفسه وإلى أقرنائه وجدهم أبناء أغيار؛ الواحد منهم يكون
اليوم صحيحا وغدا مريضا ،ويكون اليوم غنيا وغدا فقيرا ،فمال الذي يضمن للنفس البشرية
حماية من هذه الغيار؟.
إن النسان يحبّ أن يلجأ ويرتبط بقَويّ؛ حتى إذا جاءت هذه الغيار كانت سندا له.
إل أن هناك من يصعدهُا في التدين وهؤلء هم الذين يركنون إلى اليمانية ل ويعتمدون عليه
سبحانه ويقبلون على اليمان بال بمطلوبات هذا اليمان في " افعل " و " ول تفعل " .لكن الشياء
التي يعبدونها من دون ال ليس لها مطلوبات أو تكاليف إل أن تكون موافقة لهواء النفس ،وهذا
الِكذاب للنفس أي حمل النفس على الكذب ل يدوم طويلً؛ لن النسان ل يغش نفسه؛ فاليمان
يحمي النفس إذا جاء أمر فوق أسبابك ،وليس هناك من يقول :يا شمس أو يا قمر ،يا شيطان أو يا
س الِنسَانَ الضّرّ
صخر! ل يمكن؛ لنك لن تكذب على نفسك أبدا .ومثال ذلك قول الحق {:وَإِذَا مَ ّ
شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ[} ..يونس:
دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ
]12
ض وَبََلغْنَآ أَجَلَنَا
وهنا يقول الحق عن النسَ } :وقَالَ َأوْلِيَآؤُهُم مّنَ الِنْسِ رَبّنَا اسْ َتمْتَعَ َب ْعضُنَا بِ َب ْع ٍ
الّذِي َأجّ ْلتَ لَنَا[ { ..النعام]128 :
أي أن هذا الستمتاع أمدا ،هو أمد الجل أي ساعة تنقضي وتنتهي الحياة ،ثم يبدأ الحساب
حكِيمٌ عَليمٌ
فيسمعون قول الحق ..} :قَالَ النّارُ مَ ْثوَاكُمْ خَاِلدِينَ فِيهَآ ِإلّ مَا شَآءَ اللّهُ إِنّ رَ ّبكَ َ
{ [النعام]128 :
و " الثواء " هو القامة ،و " مثواكم " أي إقامتكم " ،إل ما شاء ال " وهذا الستثناء كان محل
نقاش بين العلماء ،دار فيه كلم طويل؛ فهناك من قال :إن الحق سبحانه وتعالى قال " :إل ما شاء
ال " أي أن له طلقة القدرة والمشيئة؛ فيفعل ما يريد لكنه حسم المر وحدد هو " ما شاء " فقال{:
إِنّ اللّ َه لَ َي ْغفِرُ أَن ُيشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ مَا دُونَ ذَِلكَ ِلمَن يَشَآءُ[} ..النساء]48 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا حدد " ما شاء " ،أي أن ما شاء يكون في غير الشرك به فإن الشرك ل يكون محل غفران
منه سبحانه .أو يجوز " إل ما شاء ال " أن بعضا يفهم أنه بمجرد البعث والحشر ستكون النار
مثواهم ،ولكن المثوى في النار لن يكون إل بعد الحساب ،وهذا استثناء من الزمن الخلودي ،فلن
يحدث دخول للجنة أو للنار إل بعد الحساب .فزمن الحساب والحشر مستثنى وخارج عن زمن
الخلود في الجنة أو النار.
شقُواْ َففِي النّارِ
ونحن نجد أيضا } ِإلّ مَا شَآءَ رَ ّبكَ { في سورة هود حيث يقول الحق {:فََأمّا الّذِينَ َ
ت وَالَ ْرضُ ِإلّ مَا شَآءَ رَ ّبكَ إِنّ رَ ّبكَ َفعّالٌ
سمَاوَا ُ
شهِيقٌ * خَاِلدِينَ فِيهَا مَا دَا َمتِ ال ّ
َلهُمْ فِيهَا َزفِي ٌر وَ َ
ت وَالَ ْرضُ ِإلّ مَا شَآءَ رَ ّبكَ
سمَاوَا ُ
س ِعدُواْ فَفِي الْجَنّةِ خَاِلدِينَ فِيهَا مَا دَا َمتِ ال ّ
ّلمَا يُرِيدُ * وََأمّا الّذِينَ ُ
جذُوذٍ }[هود]108-106 :
عَطَآءً غَيْرَ مَ ْ
سمَاوَاتُ
إذن فهناك الستثناء في النار والستثناء في الجنة ،فقول الحق } :خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَا َمتِ ال ّ
وَالَرْضُ ِإلّ مَا شَآءَ رَ ّبكَ { فمجيء الستثناء بعد الوصف بالخلود ،يدل على أن الخلود ينقطع مع
أنه قد ثبت خلود أهل الجنة في الجنة وخلود أهل النار في النار للبد من غير استثناء فكيف ذلك؟
والرد على هذا أن أهل النار ل يخلدون في عذاب النار ،وحده بل يعذبون بالزمهرير وبأنواع من
العذاب سوى عذاب النار بما هو أغلظ منها كلها وهو سخط ال عليهم ولعنهم وطردهم وإهانته
إياهم.
وكذلك أهل الجنة لهم سوى الجنة ما أكبر منها واجل موقعا ،وهو رضوان ال كما قال } :وَعَدَ
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ
اللّهُ ا ْل ُمؤْمِنِي َ
وَ ِرضْوَانٌ مّنَ اللّهِ َأكْبَرُ { فلهم ما يتفضل ال به عليهم سوى ثواب الجنة مما ل يعرف كنهه إل
هو ،فهذا هو المراد بالستثناء ،والدليل عليه قوله " :عطاء غير مجذوذ " ومعنى قوله في
مقابلته } إِنّ رَ ّبكَ َفعّالٌ ّلمَا يُرِيدُ { أن ربك يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب ،كما يعطي اهل
الجنة الذي ل انقطاع له.
حكِيمٌ عَليمٌ { .حكيم في أن يعذب ،عليم بمن يستحق أن يعذّب،
ويذيل الحق الية بقوله } :إِنّ رَ ّبكَ َ
ومقدار عذابه ،وعليم بمن يستحق ان يثاب وينعم ،وبمقدار ثوابه ونعيمه ،وحكيم في أن يرحم.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :وكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ{ ..
()906 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و " كذلك تشير إلى ما حدث من الجن والنس من الجدل ،فقال الحق على ألسنة النس {:رَبّنَا
اسْ َتمْتَعَ َب ْعضُنَا بِ َب ْعضٍ[} ...النعام]128 :
ولم يأت بكلم الجن؛ لن كلمهم جاء في آيات أخرى؛ فالحق هو القائلَ {:وقَالَ الشّ ْيطَانُ َلمّا
خَلفْتُكُ ْم َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِإلّ أَن
ق َووَعَدّتكُمْ فَأَ ْ
حّلمْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُ ْم وَعْدَ الْ َ
ياَ
ُقضِ َ
خيّ[} ..إبراهيم:
خكُمْ َومَآ أَن ُتمْ ِب ُمصْرِ ِ
سكُمْ مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ
دَ َ
]22
وكذلك أورد ال ما يجيء عل لسان الشيطان في سورة أخرىَ {:كمَ َثلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلِنسَانِ
ا ْكفُرْ فََلمّا َكفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّنكَ[} ...الحشر]16 :
وكذلك جاء الحق في آيات أخرى بأقوال النس الذين ضلوا { :رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ ا ْلجِنّ
سفَلِينَ } [فصلت]29 :
ن الَ ْ
حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِ َ
جعَ ْل ُهمَا تَ ْ
وَالِنسِ َن ْ
وقوله الحق هنا في سورة النعامَ { :وكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا } [النعام]129 :
أي كما صنعنا مع الجن والِنس ،باستكثار الجن من الِنس واستمتاع بعضهم ببعض إضلل
وإغواء ،وطاعة وانقيادا ،نجعل من بينهم ولية ظالم على ظالم ،ول نولى عليهم واحدا من أهل
الخير؛ لن أهل الخير قلوبهم مملوءة بالرحمة ،ل يقوون على أن يؤدبوا الظالم؛ فهم قد ورثوا
النبوة المحمدية في قوله يوم فتح مكة " :اذهبوا فأنتم الطلقاء " ،ولذلك إذا أراد ال أن يؤدب
ظالما ل يأتي له بواحد من أهل الخير ليؤدبه ،إنه -سبحانه -بتكريمه لهل الخير لم يجعل منهم
من يكون في مقام من يؤدب الظالم .إنه -سبحانه -يجعل أهل الخير في موقف المتفرج على
تأديب الظالمين بعضهم بعضا.
والتاريخ أرانا ذلك .فقد صنع الظالمون بعضهم في بعض الكثير ،بينما لو تمكن منهم أعداؤهم
الحقيقيون لرحموهم؛ لن قلوبهم مملوءة بالرحمة.
ولذلك بلغنا عن سيدنا مالك بن دينار وهو من أهل الخير .يقول :قرأت في بعض الثار حديثا
قدسيا يقول فيه الحق " :أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي" .,
فإياكم أن يظن الطاغية أو الحاكم أو المستبد أنه أخذ الحكم بذكائه أو بقوته ،بل جاء به الحق
ليؤدب به الظلمة ،بدليل أنه ساعة يريد ال أن تنتهي هذه المسألة فهو بجلله ينزع المهابة من
قلوب حرّاسه وبدلً من أن يدفع عنه البندقية ،يصوّب البندقية إليه.
فإياكم أن تظنوا أن ملكا يأخذ الملك قهرا عن ال ،ولكن إذا العباد ظلموا وطغوا يسلط الحق عليهم
من يظلمهم ،ولذلك يقال " :الظالم سيف ال في الرض ينتقم به وينتقم منه "َ { .وكَذاِلكَ ُنوَلّي
َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ } [النعام]129 :
فكأن ما سلّط على الناس من شرّ عاتٍ هو نتيجة لعمالهم؛ ولذلك كان أحد الصالحين يقول :أنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خلُق دابتي؛ إن جمحت بي أقول ماذا صَ َن ْعتُ حتى جمحت بي
اعرف منزلتي من ربي من ُ
الدابة؟! وكأن المسألة محسوبة.
وهذه معاملة للخيار ،عندما يرتكب ذنبا يؤاخذ به على الفور حتى تصير صفحته نظيفة دائما.
قال عليه الصلة والسلم " :ما من مصيبة تصيب المسلم إل َكفّر ال بها عنه ،حتى الشوكة
يُشاكها" .
فإذا فعل العبد من أهل الخير بعضا من السيئات ،يوفيّه الحق جزاءه من مرض في جسمه أو
خسارة في ماله ،كذلك المسيء الذي ل يريد له ال النكال في الخرة .يقول الرسول صلى ال
عليه وسلم " :ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها إل حط ال تعالى به سيئاته كما تحط
الشجرة ورقها" .
} َوكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ { هم اعتقدوا أنهم أخذوا شيئا من وراء
ال وخلصوا به .نقول :ل ،فربك سيحاسبك ثوابا أو عقابا وذلك بما قدمت يداك من سيئات أو
حسنات.
ن وَالِنْسِ{ ..
ويقول الحق بعد ذلك } :يَا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ
()907 /
سلٌ مِ ْنكُمْ َيقُصّونَ عَلَ ْيكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُو َنكُمْ ِلقَاءَ َي ْومِكُمْ هَذَا قَالُوا
ن وَالْإِنْسِ أََلمْ يَأْ ِتكُمْ ُر ُ
يَا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ
سهِمْ أَ ّن ُهمْ كَانُوا كَافِرِينَ ()130
شهِدُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ
علَى أَ ْنفُسِنَا وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَ َ
شهِدْنَا َ
َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]130
وأنت حين تأتي إلى اثنين :أولهما معه مائه جنيه ،والثاني يسير معه وليس معه شيء وتقول" :
سلٌ مّ ْن ُكمْ } أي من
هذان معهما مائه جنيه " فهذا قول صحيح .فقوله سبحانه { :أََلمْ يَأْ ِتكُمْ ُر ُ
مجموعكم .أو أن الرسل تأتي للنس ،وبعد ذلك من الجن من يأخذ عن الرسول ليكون رسولً
حضَرُوهُ قَالُواْ
مبلغا إلى أخوانه من الجن {:وَإِ ْذ صَ َرفْنَآ إِلَ ْيكَ َنفَرا مّنَ الْجِنّ َيسْ َت ِمعُونَ ا ْلقُرْآنَ فََلمّا َ
ي وَّلوْاْ إِلَىا َق ْومِهِم مّنذِرِينَ }[الحقاف]29 :
ضَأَنصِتُواْ فََلمّا ُق ِ
فكأن المنذرين من الجن يأخذون من الرسل من النس وبعد ذلك يتوجهون إلى الجن { .أَلَمْ يَأْ ِتكُمْ
سلٌ مّ ْنكُمْ َي ُقصّونَ عَلَ ْي ُكمْ آيَاتِي[ } ..النعام]130 :
رُ ُ
واليات تطلق على المعجزات التي تثبت صدق الرسل ،وما يكون من شرح الدلة الكونية الدالة
على صدق الرسل .وكلمة { َي ُقصّونَ عَلَ ْي ُكمْ آيَاتِي } أي يروون لهم الموكب الرسالي من أول " آدم
" إلى أن انتهى إلى " محمد " صلى ال عليه وسلم .و { َي ُقصّونَ عَلَ ْيكُمْ آيَاتِي } قول يدل على دقة
الداء التاريخي؛ لن " قص " مأخوذ من قص الثر ،ومعناها تتبع القدم بدون انحراف عن كذا
وكذا ،وهكذا نجد أن المفروض في القصة أن تكون مستلهمة واقع التاريخَ { .ي ُقصّونَ عَلَ ْيكُمْ آيَاتِي
وَيُنذِرُو َنكُمْ ِلقَآءَ َي ْو ِمكُمْ هَـاذَا[ } ..النعام]130 :
وهو اليوم المخزي حيث سيقفون أمام ال ويذكرهم الحق أنه قد نبههم وقد أعذر من أنذر...{ .
س ِهمْ أَ ّنهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [النعام:
شهِدُواْ عَلَىا أَ ْنفُ ِ
شهِدْنَا عَلَىا أَ ْنفُسِنَا وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَ َ
قَالُواْ َ
]130
ش ِهدْنَا عَلَىا أَ ْنفُسِنَا } إقرار منهم على أنفسهم؛ فقد شهدوا على أنفسهم ،ولكن ما الذي
وقولهمَ { :
منعهم أن ينضموا إلى اليمان بمواكب النبوة؟ .تأتي الجابة من الحق { :وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا }.
والذي يغرّ هو الشيء الذي يكون له تأثير ،وهو موصوف بأنه " دنيا "!! لذلك فالغرور الذي يأتي
بالدنيا هو قلة تبصّر.
سهِمْ أَ ّنهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ { .ومن يستقرئ آيات القرآن يجد آية تقول {:وَاللّهِ رَبّنَا
علَىا أَ ْنفُ ِ
ش ِهدُواْ َ
} وَ َ
مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ }[النعام]23 :
فمرة ينفون عن أنفسهم أنهم كفروا ،ومرة يثبتون أنهم كافرون ،وهذا لضظراب المواقف أو
سهِمْ {؛ بمعنى أن أبعاضهم شهدت عليهم؛ لن النسان في
شهِدُواْ عَلَىا أَ ْنفُ ِ
اختلفها .أو أنهم } وَ َ
الدنيا له إرادة ،وهذه الِرادة مسيطرة على ما له من جوارح وطاقات مخلوقة ل؛ لن ال جعل
للِرادة في الِنسان ولية على البعاض التي تقوم بالعمال الختيارية .لكن العمال
الضطرارية القهرية ليس للِنسان إرادة فيها؛ فل أحد يملك أن يقول للقلب انبض كذا دقة في
الساعة ،ول أن يقول للمعاء :تحركي الحركة الدّودية هكذا .لكنه يقدر أن يمشي برجليه إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المسجد ،أو يمشي إلى الخّمارة .ويستطيع أن يقرأ القرآن أو يقرأ في كتاب يضر ول يفيد.
إذن فإرادة الِنسان مسيطرة على البعاض لتحقق الختيار المصحح للتكليف .لكن يوم القيامة
تسلب الِرداة التي للِنسان على أبعاضه ،وتبقى البعاض كلها حُرّة ،وحين تصير البعاض جُرّة
فالشياء التي كانت تقبلها في الدنيا بقانون تسخيرها لِرادتك قد زالت وانتهت ،فهي في الخرة
طقَنَا
شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ
تشهد على صاحبها؛ تشهد الجلود واليدي والرجلَ {:وقَالُواْ لِجُلُو ِدهِمْ ِلمَ َ
شيْءٍ[} ...فصلت]21 :
اللّهُ الّذِي أَنطَقَ ُكلّ َ
وحين يقولون لربنا :ما كنا مشركين ،فهذا كلمهم هم ،لكن جوارحهم تقول لهم :يا كذابون ،أنتم
عملتم كذا.
ويقول الحق بعد ذلك } :ذاِلكَ أَن لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ{ ...
()908 /
ذَِلكَ أَنْ لَمْ َيكُنْ رَ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَى بِظُ ْل ٍم وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ ()131
{ ذاِلكَ } إشارة إلى ما تقدم ،وهو إرسال الرسل مبلغين عن ال؛ حتى ل يكون لحد حُجة بعد
الرسل ،وقد أقروا بأن ال أرسل إليهم رسلً ،وشهدوا على أنفسهم ،وماداموا قد أقرّوا على أنفسهم
بأن ال أرسل لهم رسلً وشهدوا على أنفسهم بذلك ،إذن فهذا إقرار جديد بأن ال لم يكن مهلك
القرى بظلم وأهلها غافلون؛ لن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يعاقب على جُُرم ،وقبل أن يجرّم
ينزل النص بواسطة الرسل .أي أن ال ل يهلكهم بسبب ظلم وقع منهم إل بعد ذلك البلغ.
{ وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ } ،و " الغفلة " ضد اليقظة ،فاليقظة ،هي تنبّه الذهن الدائم ،و " الغفلة " أن تغيب
بعض الحقائق عن الذهن ،ومعنى أن ربنا ل يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون أي غير يقظين؛ فلو
أنهم كانوا يقظين ومتنبهين لما احتاجوا إلى الرسل؛ لن ال عندما خلق الخلق أرسل آدم إلى
ذريته ،وكان المفروض كما يلقن الباء البناء وسائل حياتهم أن يلقنوهم مع ذلك قيم دينهم .فكما
أن الباء يعلمون ذريتهم وسائل حياتهم ،ثم ينقلونها ويزيدون عليها بابتكاراتهم ،كان من الواجب
على الباء أن يقوموا بهذا العمل بالنسبة للقيم فتعيش القيم في الناس كما عاشت وسائل حياتهم.
ولماذا -إذن -عاشت وسائل حياتهم وتوارثوها وزادوا عليها أشياء؟! لن زاوية الدين هي التي
يغفل الناس عنها ،بسبب أنها تقيد حركتهم في " افعل " و " ل تفعل " ،ولكنهم يريدون الترف في
وسائل حياتهم .لماذا إذن أيها الِنسان تحرص على الترقي في ترف الحياة ول تحرص على
الترقي في القيم؟ .لقد كنت -على سبيل المثال -تشرب من الماء أو النبع بيدك ثم صنعت كوبا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لتشرب منه ،ونقيت الماء من الشوائب ونقلته من المنابع في صهاريج .أنت ترفه حياتك المادية
والمعيشية فأين إذن الهتمام بقيم الدين؟!!
ولو كانوا متيقظين لكان كل أب قد علم ابنه ما ورثه من آبائه من القيم ،وعلى الرغم من ذلك
رحم الحق سبحانه وتعالى هذه الغفلة ،وكرّر التنبيه بواسطة الرسل .وكلما انطمست معالم القيم
التي يحملها المنهج فهو -جل وعل -يرسل رسولً رحمة منه وفضلً وعدالة ،ولم يكن يهلك
القرى بظلم وأهلها غافلون ،والغفلة ضد اليقظة.
إذن لو كانوا متيقظين لما كانت هناك ضرورة للرسل؛ لن الباء كانوا سينقلون لبنائهم القيم كما
ينقلون إليهم وسائل حياتهم ،وهذا المر مستمر معنا حتى الن؛ إن الب -مثلً -إن غاب ابنه
عن المدرسة يوما يلوم البن ،وإن أهمل في دروسه أو رسب فهو يعاقب البن ،وهذه هي الغيرة
على المستقبل المادي للبن ،ول غيرة على أدائه لفروض الدين ،لماذا؟ .إن الناس لو عنوا
بمسائل قيمهم كما يعنون دائما بمسائل حياتهم لستقام منهج الخير في الناس وأصبح أمرا رتيبا.
وعرفنا أن الغفلة ضدها اليقظة ،كما أن السهو ضده التذكر ،والغروب ضده الشروق ،والغياب
ضده الحضور.
عمِلُواْ} ..
ويقول الحق بعد ذلك { :وَِل ُكلّ دَرَجَاتٌ ّممّا َ
()909 /
{ وَِل ُكلّ } ،وجاءت بالتنوين أي لكلّ من الِنس والجن درجات مما عملوا ،فكأن العمال تتفاوت؛
فقد تكون في ظاهرها قوالب متحدة ،لكن التفاوت إنما ينشأ بكثرة العمل ،أو بإخلص المقارف
للعمل والمكتسب والفاعل له ،فهناك من يخلص بكل طاقته ،وهناك من يؤدي عمله بنصف
إخلص ،ومسألة الِخلص هذه ل تحددها لوائح ول قوانين إنما يحددها الحق سبحانه وتعالى،
ولذلك يقول محمد صلى ال عليه وسلم مبلغا عن رب العزة هذا الحديث القدسي " :الِخلصُ سر
من سري استودعته قلب من أحببت من عبادي" .
إذن فمقاييس الِخلص ل يعرفها إل ربنا سبحانه وتعالى ،وعلى مقدار ذلك تكون الدرجات.
وتكون الدرجات على مقدار ما يزيده العبد من جنس ما فرضه ال عليه؛ فالحق قد فرض صلوات
خمسا ،فيزيد العبد عشر ركعات في الليلة مثلً .وال قد فرض الصيام شهرا ،فيصوم العبد يومي
الثنين والخميس.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والذي يقف عند ما فرض ال يجازيه ال على إخلصه في أداء ما عليه ،وحينما سأل أعرابي
رسول ال صلى ال عليه وسلم عن موقف الذي ل يؤدي إل الفروض فقط ،قال له " :أفلح إن
صدق " ،فالذي يزيد عما فرض ال من جنس ما فرض ال أشد فلحا .ول يصل الِنسان إلى
المرتبة التي هي أشد فلحا إل إذا كان في درجة أعلى ،وكلمة { دَ َرجَاتٌ } تفيد العُلّو ،وكلمة "
دركات " تفيد الهبوط ،والحق ل يغفل عن ظاهر وباطن كل عمل لي عبد.
ح َمةِ} ..
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :وَرَ ّبكَ ا ْلغَ ِنيّ ذُو الرّ ْ
()910 /
حمَةِ إِنْ يَشَأْ ُيذْهِ ْبكُ ْم وَيَسْ َتخِْلفْ مِنْ َبعْ ِدكُمْ مَا َيشَاءُ َكمَا أَنْشََأ ُكمْ مِنْ ذُرّيّةِ َقوْمٍ
وَرَ ّبكَ ا ْلغَنِيّ ذُو الرّ ْ
َآخَرِينَ ()133
وهنا يحنننا ال سبحانه وتعالى إلى عبادته ،وإلى تكاليفه؛ يحنننا إلى فضيلة الطاعة ،وكل ذلك
لمصلحتنا وهذا مطلق الربوبية الرحيمة ،فيحسن لنا الجزاء ،ويفخم لنا فيه لنعمل لصالحنا نحن؛
لن كل أعمالنا -كما قلنا -ل تزيد في ملك ال قدر جناح بعوضة ،وكل معصياتنا ل تنتقص من
ملك ال قدر جناح بعوضة؛ لن ال بكل صفات الكمال خلقنا ،ولم نزده نحن شيئا .لقد أوجد الدنيا
من عدم ،وفرق بين الصفة القائمة بذات ال ،وإيجاد متعلق الصفة .فال خالق؛ وال رحمن ،وال
رحيم ،وال قهار ،وسبحانه رحمن ورحيم وقهار وخالق حتى قبل أن يبرز ويظهر ما يخلقه؛ لنه
بصفة الخالق فيه خلق ،وهو رزاق قبل أن يخلق المرزوق ،فالصفة موجودة فيه قائمة به ،وبهذه
الصفة رزق ،وبوجود هذه الصفات فيه يقول للشيء كن فيكون ،وله هذا الكون كله ،وهو غني
عن العباد وله كل الملك ،وكذلك خلق التوبة ،والرسول صلى ال عليه وسلم يقولَ " :للّهُ أفرح
حمَةِ إِن
بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلة { " .وَرَ ّبكَ ا ْلغَنِيّ ذُو الرّ ْ
يَشَأْ ُيذْهِ ْبكُ ْم وَيَسْ َتخِْلفْ مِن َبعْ ِدكُمْ مّا َيشَآءُ َكمَآ أَنشََأ ُكمْ مّن ذُرّيّةِ َقوْمٍ آخَرِينَ } [النعام]133 :
إذن فالخلق مستمر اليجاد من العدميات وهو دليل على أن صفة الخالقية موجودة.وما آدم في
منطق العقل واحد ولكنه عند القياس أو ادمفالكون كله من أول آدم موجود ،وكل الكون المسخر
لدم كخليفة في الرض خاضع ل ،فإن شاء اذهب الخلق وأتى بخلق جديد .ويقول الحق بعد
ن لتٍ} ..
ذلك { :إِنّ مَا تُوعَدُو َ
()911 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت َومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ ()134
إِنّ مَا تُوعَدُونَ لََآ ٍ
والحق سبحانه وتعالى لنه ل إله إل هو ،إذا وعد فلبد أن يتحقق وعده ،وإذا أوعد فلبد أن يأتي
وعبده .والوعد إذا أطلق فهو في الخير ،والوعيد يكون في الشر .والذي يخلف الوعد أو الوعيد
من الخلق فهذا أمر متوقع لنه من الغيار ،فيتغير رأيه فلم يعد أهلً لهذا الوعد؛ لنه ربما يكون
قد وعد بشيء كان يظن أنه في مكنته ،وبعد ذلك خرج عن مكنته ،فليس له سيطرة على الشياء،
لكن إذا كان من وعد قادرا ،ول يوجد إله آخر يناقضه فيما وعد أو أوعد به فلبد أن يتحقق
الوعد أو يأتي الوعيد ..ولذلك حينما يحكم ال حكما فالمؤمن يأخذ هذا الحكم قضية مسلمة؛ لنه ل
ب وَ َتبّ *
إله مع ال سيغير الحكم ،وسبحانه ليس من الغيار ،والمثال أنه قال {:تَ ّبتْ َيدَآ أَبِي َل َه ٍ
طبِ * فِي جِيدِهَا
حمّالَةَ ا ْلحَ َ
سبَ * سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ َل َهبٍ * وَامْرَأَتُهُ َ
مَآ أَغْنَىا عَنْهُ مَاُل ُه َومَا َك َ
سدٍ }[المسد]5-1 :
حَ ْبلٌ مّن مّ َ
وهذا وعيد في أمر لهم فيه اختيار ،ومع ذلك لم يسلموا .وجاء بعدها ما يؤكد لكل مسلم :إياك أن
تأخذ هذه القضية مأخذ الشك،وتقول :قد يتوب أبو لهب هذا وزوجه ويسلمان ،ألم تتب هند؟! ألم
يسلم أبو سفيان؟! .لكنه سبحانه عالم بما يصير إليه اختيار أبي لهب واختيار زوجه ،وإن كان كل
منهما مختارا ،ول يوجد إله سواه ليغير المر عما قالُ {.قلْ ُهوَ اللّهُ َأحَدٌ[} ...الخلص]1 :
ن لتٍ َومَآ أَنتُم ِب ُمعْجِزِينَ } [النعام]134 :
أي ل يوجد إله أخر ليعدل هذا المر { .إِنّ مَا تُوعَدُو َ
قد يظن بعض الناس أن ال قد يأتي بما وعد به لكنهم قد يهربون منه ،ولكن ليس المر كما
يظنون؛ فالوعد آت وأنتم ل تستطيعون الهرب منه ،ول أحد بقادر على أن يمنع ال عن تحقيق ما
وعد أو أوعد ،ولن تفروا من وعده أو وعيده ،ولن تغلبوا ال أو تفوتوه وتعجزوه؛ فال غالب على
أمره.
عمَلُواْ عَلَىا} ..
ويقول سبحانه من بعد ذلكُ { :قلْ يَا َقوْمِ ا ْ
()912 /
س ْوفَ َتعَْلمُونَ مَنْ َتكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ
عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ إِنّي عَا ِملٌ فَ َ
ُقلْ يَا َقوْمِ ا ْ
الظّاِلمُونَ ()135
والقوم هم الجماعة ،وعادة يطلق على الرجال لنهم أهل القيام للمهمات؛ لن الشأن والصل في
المرأة الستر والبيتوتة والستقرار في البيت للقيام على أمره ورعايته .وحين تقرأ القرآن تجد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كلمة " قوم " وتفهم أن المقصود منها الجماعة التي تجمعهم رابطة ،وأنها للرجال خاصة ،والمثال
هو قول الحق {:لَ يَسْخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ عَسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ ِنسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىا أَن
َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ[} ...الحجرات]11 :
وما دام قد جاء بمقابل { َقوْمٌ }َ { :ولَ ِنسَآءٌ } ،فـ { َقوْمٌ } هذه للرجال ومأخوذ منها " القيام
للمهمات " ،ومأخوذ منها " القيامة " .ولذلك الشاعر يقول:ول أدري ولست أخال أدري أقوم آل
عمَلُواْ عَلَىا َمكَانَ ِتكُمْ } [النعام]135 :
حصن أم نساءيعني أرجال أم نساءُ { .قلْ يَا َقوْمِ ا ْ
و " المكان " هو الحيز الذي يأخذه جسم الِنسان؛ فكل كائن له مكان ،إن وقف له مكان ،إن قعد له
مكان ،والمكان هو المملوك والمخصص لك من الرض ،فحين تقف في مكان ل يقدر آخر أن
يقف فيه وأنت واقف ،بل يجب أن يزحزحك عنه ،وحين تزحزح من هو واقف ،فهو يروح إلى
مكان ثانٍ ،ويمتنع التداخل بين اثنين في حيز ل يسع إل واحدا ،وهذا أمر فطري؛ فتجد الولد
الصغير الذي لم يدرك أي شيء ويقدر أن يقف فقط ،ثم يريد أن يقعد على الكرسي الذي تجلس
عليه أخته أو أخوه ،فقبل أن يقعد على الكرسي يشد من يجلس عليه؛ لنه يعرف بالفطرة أن اثنين
ل يوجدان في حيز واحد.
وترى ذلك أيضا في غير الجرم المرئي ،فأنت حين تأتي قارورة وتضعها في ماء لتمتلئ تسمع
صوت الهواء الخارج منها في بقبقة؛ لن الماء ل يمكن أن يدخل إل أن خرج الهواء ،ولن المياه
أكثف فهي تضغط ليخرج الهواء ،وهذا ما يؤكد عدم التداخل .أي ل يوجد شيئان اثنان في حيز
واحد .ومكانتك هي الموقع الذي تستولي عليه ،ولذلك حتى في الجيوش وفي الحرب توضع
الخطط من أسلحة مختلفة ،لتستولي على الماكن.
عمَلُواْ عَلَىا َمكَانَ ِتكُمْ } هو قول موجه إلى الجماعة الذين عارضوا النبوة ووقفوا منها هذه
و{اْ
المواقف ،فيقول لهم الحق تهديدا لهم وتيئيسا من أنهم لن يصلوا إلى النيل من رسول ال :اعملوا
على قدر استطاعتكم من التمكن ،أو أثبتوا على ما أنتم عليه من الخلف والمناهضة ،لماذا؟؛ لنه
صلى ال عليه وسلم عامل أيضا :فلن يكون ثباتكم مانعا لي من العمل؛ أنتم تعملون وأنا أعمل،
أنتم تعملون على طاقاتكم ،وأنا أعمل على طاقاتي الِيمانية ومدد ربي العلى من الطاقةُ { .قلْ
سوْفَ َتعَْلمُونَ مَن َتكُونُ َلهُ عَاقِبَةُ الدّارِ إِنّ ُه لَ ُيفْلِحُ
عمَلُواْ عَلَىا َمكَانَ ِتكُمْ إِنّي عَا ِملٌ َف َ
يَا َقوْمِ ا ْ
الظّاِلمُونَ } [النعام]135 :
سوْفَ َتعَْلمُونَ مَن َتكُونُ َلهُ عَاقِبَةُ الدّارِ } و " له " تعطي دللة إلى أن الِيمان ستكون عاقبة
{ َف َ
الدار لصالحه؛ لن الخرين لن تكون لهم بل عليهم ،وساعة ترى " اللم " اعرف أن المر لهم ل
عليهم .فكأن الظالمين إن تنلهم عاقبة فهي ليست لهم ،وإنما عاقبتهم عليهم ،ولن يفلح الظالمون.
جعَلُواْ للّهِ ِممّا ذَرَأَ مِنَ ا ْلحَ ْرثِ} ..
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()913 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي نذروه ل .وأيضاًَ لنفترض أن عينا جارية ساحت فيها المياه لتروي الزرع المقسوم ل،
فيأخذوا منها للرض المزروعة للصنام .إذن هي قسمة ضيزى من البداية ،وليتهم وفوا بهذه
القسمة ،وهكذا ساء حكمهم وفسد.
ويقول الحق بعد ذلكَ { :وكَذاِلكَ زَيّنَ ِلكَثِيرٍ} ..
()914 /
َوكَذَِلكَ زَيّنَ ِلكَثِيرٍ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ قَ ْتلَ َأوْلَا ِدهِمْ شُ َركَاؤُ ُهمْ لِيُرْدُو ُه ْم وَلِيَلْبِسُوا عَلَ ْيهِمْ دِي َنهُ ْم وََلوْ شَاءَ اللّهُ
مَا َفعَلُوهُ َفذَرْهُ ْم َومَا َيفْتَرُونَ ()137
وأيضا نقلوا تلك القسمة الضيزى إلى ما يتعلق بذواتهم في النجاب والنسال؛ فشركاؤهم زينوا
لهم قتل أولدهم ،و " التزيين " هو إدخال عنصر التحسين على التزيين أمرا عرضيا طارئا،
ووجه التزيين أنهم كانوا إما أغنياء ،وإما فقراء ،فإن كانوا فقراء يقل الواحد منهم لماذا أجلب
لنفسي هّما على همّ ،وإن كانوا أغنياء يقل الواحد منهم :إن البناء سيأخذون منك ويفقرونك .إذن
ففيه أمران :إما فقر موجود بالفعل ،وإما فقر مخوّف منه ،ولذلك تجد اليات التي تعرضت لهذا
المعنى ،تأتي على أسلوبين اثنين؛ فال َعجُز مختلف باختلف الصدر ،والذين يحبون أن يستدركوا
على أساليب القرآن لنه مرة يقولَ {:ولَ َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ خَشْ َيةَ ِإمْلقٍ نّحْنُ نَرْ ُز ُقهُ ْم وَإِيّاكُم} ...
[السراء]31 :
ومرة ثانية يقول {:نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُ ْم وَإِيّا ُهمْ[} ...النعام]151 :
فما الفرق بين العبارتين؟
ونقول لمثل هذا القائل :أنت تقارن بين التذييل { نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُ ْم وَإِيّا ُهمْ } ،و { نّحْنُ نَرْ ُز ُقهُمْ
وَإِيّاكُم } .هذا تذييل لية ،وهذه تذييل لية ثانية .هات ذيل الية مع صدرها نجد أن ذيل كل آية
مناسب لصدرها .ومادام قد اختلف في الصدر فلبد أن يختلف في الختام ،ففي الية الولى يقول
خشْيَةَ ِإمْلقٍ } فالملق وهو الفقر واقع موجود .إذن فشغل
الحق سبحانهَ { :ولَ َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ َ
النسان برزقه أولى من شغله برزق من يعوله من الولد ،فيقول الحق لهؤلءَ {:ولَ َتقْتُلُواْ
َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْلَقٍ نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُ ْم وَإِيّا ُهمْ[} ...النعام]151 :
فالملق موجود ،وشغلهم برزق أنفسهم يمل نفوسهم .لذلك يقول لهم { :نَرْ ُز ُق ُك ْم وَإِيّاهُمْ }
فيطمئنهم سبحانه نحن نرزقكم ثم نرزقهم .أما إن كان الملق غير موجود فالحق يقولَ {:ولَ
َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ خَشْ َيةَ ِإمْلقٍ نّحْنُ نَرْ ُز ُقهُ ْم وَإِيّاكُم[} ...السراء]31 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي ل تقتلوا أولدكم خوفا من فقر ،فأنتم تملكون رزقكم ،وحين يأتي الولد نرزقهم ونرزقكم
معهم .وهكذا نرى أن الصدر مختلف في اليتين ،وكذلك العجز ،والشركاء كانوا يزينون قتل
الولد ،وهذه مسألة تحتاج إلى تزيين قاس؛ لن حب البناء غريزة في النفس البشرية ،والنفس
تحب أن يكون لها ذرية؛ لن النسان يفهم أنه مهما طال عمره فسوف يموت فيحب أن يظل
اسمه في الجيال المتتابعة .ونجد النسان وهو ممتلئ بالسعادة حين يأتيه حفيد ،ويقول :لقد
ضمنت ذكري لجيلين قادمين ،وينسى أن الذكر الحقيقي هو الذي يقدمه النسان من عمل ،ل
ذكرى البناء وحب امتداد الذات .وقتل البناء يحتاج إلى تزيين شديد ،كأن يقال :إن أنجبت أبناء
فسيفقرونك ويذلونك ،فأنتم أمة غارات وأمة حروب وكل يوم يدخلك أبناؤك في قتال ونزال فتكون
بين فقد لبنائك أو انتهاب لمالك ،وإن كانوا بنات فسيتم سبيهن من بعدك ،وهكذا تكون المبالغة في
الغراء لعملية تناقض الفطرة السليمة في امتداد النسلَ { .وكَذاِلكَ زَيّنَ ِلكَثِيرٍ مّنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ قَ ْتلَ
َأ ْولَدِهِمْ شُ َركَآؤُهُمْ لِيُرْدُو ُهمْ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تنشأ من أنك تكون حرّا في أن تفعل ،ولكنك تؤثر فعلً مراد ل على مرادك } .وََلوْ شَآءَ اللّهُ مَا
َفعَلُوهُ َفذَرْهُ ْم َومَا َيفْتَرُونَ {.
و " الفتراء " هو الختلق والكذب المتعمد ،وهم مفترون ،لنهم أرادوا أن يغيروا صدق الواقع
في الِنجاب ،فقد خلق ال الزوجين -الذكر والنثى -من أجل الِنجاب.
ويقول سبحانه من بعد ذلكَ } :وقَالُواْ هَـا ِذهِ أَ ْنعَامٌ{ ...
()915 /
وهذا تمادٍ في الشرك؛ لنهم قسموا الحيوانات والحرث وحجزوا قسما للصنام ،وهذه النعام
المرصودة للصنام ل يتصرف فيها أحد ،فل يؤخذ لبنها ول يستخدمها أحد كمطايا ،ول يتعدى
نفعها للناس .ولم يتنبهوا إلى أن هذه النعام نعمة من ال ،ولبد من النتفاع بها ،وليس من حسن
التعقل أن تترك حيوانا تستطيع أن تستفيد من تسخيره لك ول تفعل ،هم قد فعلوا ذلك وحكى الحق
ع ِمهِمْ[ } ..النعام:
ط َع ُمهَآ ِإلّ مَن نّشَآءُ بِزَ ْ
حجْ ٌر لّ َي ْ
عنهم فقالَ { :وقَالُواْ هَـا ِذهِ أَ ْنعَامٌ وَحَ ْرثٌ ِ
]138
ظهُورُهَا[ } ..النعام:
أي هي أنعام محرم استخدامها ،وحرموا أيضا ركوبها { .وَأَ ْنعَامٌ حُ ّر َمتْ ُ
]138
وتمادوا في الكفر فذكروا أسماء الصنام عليها { :وَأَ ْنعَا ٌم لّ َي ْذكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا افْتِرَآءً
عَلَيْهِ[ } ..النعام]138 :
وهذا لون من الفتراءات قد فعلوه ونسبوه إلى أنه متلقّى من ال ،ومأمور به منه -سبحانه -ولو
قالوا :إن هذه المور من عندهم لكان وقع الفتراء أقل حدة ،لكنه افتراء شديد لنهم جاءوا بهذه
الشياء ونسبوها إلى ال ،وهم قد انحلوا عن الدين وقالوا على بعض من سلوكهم إنه من الدين،
ولذلك يجازيهم ال بما افتروا مصداقا لقوله { :سَيَجْزِيهِم ِبمَا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [النعام]138 :
ويقول الحق بعد ذلكَ { :وقَالُواْ مَا فِي ُبطُونِ} ..
()916 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َوقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَ ِذهِ الْأَ ْنعَامِ خَاِلصَةٌ لِ ُذكُورِنَا َومُحَرّمٌ عَلَى أَ ْزوَاجِنَا وَإِنْ َيكُنْ مَيْ َتةً َفهُمْ فِيهِ
علِيمٌ ()139
حكِيمٌ َ
شُ َركَاءُ سَيَجْزِيهِمْ َوصْ َفهُمْ إِنّهُ َ
ويقودهم الباطل إلى باطل آخر فادعوا أن ما في بطون هذه النعام من اللبن ومن الجنة إذا نزلت
حيّة فهي للذكور منهم فقط ،ول تأكل النساء من ذلك شيئا ،وإن مات منها شيء أكله الرجال
والنساء وهذا يدل على التشقيق في القسمة.
حكِيمٌ عَلِيمٌ } [النعام]139 :
صفَهُمْ إِنّهُ ِ
ويذيل الحق الية بالقول الكريم..{ :سَ َيجْزِيهِ ْم َو ْ
أي سيجزيهم على كذبهم وافترائهم بما يليق عقابا للكاذبين؛ لنه -سبحانه( -حكيم) في أفعاله
وأقواله وشرعه وقدره (عليم) بما يفعلونه من خير وشر ،وإنه سيجازيهم على ما فعلوه أتم الجزاء
وأكمله.
ويقول الحق من بعد ذلك { :قَدْ خَسِرَ الّذِينَ} ...
()917 /
س َفهًا ِبغَيْرِ عِلْ ٍم َوحَ ّرمُوا مَا رَ َز َق ُهمُ اللّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللّهِ قَ ْد ضَلّوا َومَا
قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا َأوْلَادَ ُهمْ َ
كَانُوا ُمهْ َتدِينَ ()140
وجْه الخسران أنهم لم يلتفتوا إلى أن ال يرزقهم ويرزق أبناءهم أيضا ،ولعلك أيها الب قتلت
ولدا ،كنت ستعيش أنت في رحاب رزقه ،وكثيرا ما يكون البعض من الولد صاحب رزق
وفير ،ويقال عن مثل هذا البن :إن وجهه وجه الخير والسعد والبركة ،فمن يوم أن وُلد ولد معه
الخير ،وذلك حتى ل يتأبى النسان على عطاء ال؛ لنك حين تتأبى على عطاء ال تحرم نفسك
العطاء فيما تظنه غير عطاء ،وهذا خسران كبير.
إننا نلحظ أن العرب كانوا في بيئة تستجيب وتلبي الصريخ ،فساعد يصرخ من في شدة نزلت به
واستنجد ،يجد من ينقذه ،والولى بالنجدة أهل الرجل وأولده .والمثال على ذلك ما حدث من جد
رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما ذهب ليحفر البئر ،وجاءت قريش ووقفت له حتى ل يحفر.
فقال :لو أن لي عشرة أبناء سأضحي بواحد منهم .إذن فكثرة الولد في هذه المسائل تعطي
العزوة وتكثر الصريخ ،ول يفعل ذلك إل المفطور على النجدة.
وإن قتلت ابنا خوفا من الفقر فقد تخسر رزقا قد يكون في طي من تقتل من الذرية ،وفوق ذلك
تفقد مباهج الشأن أو العزوة أو الل .أو على القل أنهم قد خسروا ال أنهم عاكسوا مرادات ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سفَها ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ[ } ..النعام]140 :
في اليجاد بالنجاب { .قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُواْ َأ ْولَدَهُمْ َ
سفَها } تعني طيشا ،وحمقا ،وجهلً..{ .وَحَ ّرمُواْ مَا رَ َز َقهُمُ اللّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللّهِ َق ْد ضَلّواْ َومَا
و{ َ
كَانُواْ ُمهْ َتدِينَ } [النعام]140 :
وهم حين يحرمون على أنفسهم ما رزقهم ال من النعام ،فهم أهل حمق وضلل وخسران فلو
تركوها لنتفعوا منها في حمل أثقالهم أو فيما تدره من لبن ،أو في أكل لحمها .إنهم بحمقهم
وجهلهم قد خسروا كثيرا ،وهم مع ذلك فعلوا ما فعلوا بكذب متعمد على ال ،وهم قد ضلوا ولم
يكونوا أهلً للهداية ،وكان يكفي أن يصفهم بقولهَ { :ق ْد ضَلّواْ }؛ لكنه أضافَ { :ومَا كَانُواْ ُمهْتَدِينَ
} لن الضلل هو عدم الذهاب إلى المقصد الموصل للغاية ،وقد يكون ذلك عن جهل بالطريق،
لكن الحق سبحانه رسم لهم طريق الحق فآثروا الذهاب إلى الضلل مع وجود طريق الحق.
ويقول سبحانه بعد ذلك { :وَ ُهوَ الّذِي أَنشَأَ} ..
()918 /
ن وَال ّرمّانَ
ل وَالزّ ْرعَ مُخْتَِلفًا ُأكُلُ ُه وَالزّيْتُو َ
خَت وَالنّ ْ
وَ ُهوَ الّذِي أَنْشَأَ جَنّاتٍ َمعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ َمعْرُوشَا ٍ
حبّ
حصَا ِد ِه وَلَا ُتسْ ِرفُوا إِنّهُ لَا ُي ِ
حقّهُ َي ْومَ َ
مُتَشَا ِبهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ َثمَ ِرهِ ِإذَا أَ ْثمَ َر وَآَتُوا َ
ا ْلمُسْ ِرفِينَ ()141
وقول الحق { :أَنشَأَ } أي أوجد على إبداع لم يسبق له مثيل فلم يكن هناك نماذج توضيحية تدل ال
سبحانه ،وإنما ابتدأها على غير مثال سابق؛ لنه ل يوجد خالق سواه .والخالق إذا لم يكن هناك
سواه من شريك أو ندٍ فإنه حين يخلق إنما ينشىء خلقا على غير نظام أو مثالٍ كان قد سبقه.
وكلمة { جَنّاتٍ } تؤدي ما نعرفه من المكان المحدد الذي يجمع صنوف الزروع والثمار مما
نقتات ،ومما نتفكه به ،وتسمى جَنّة وتسمى جَنّات؛ لن المادة كلها تدل على الستر وعلى التغطية،
ومنه الجُنون لن فيه سترا للعقل ،ومنها الجنّ لنهم مستورون عن رؤية العين ،وكذلك " المِجَنّ "
لنه الذي يستر عن الِنسان طعنات الخصم.
والجَنّة هي المكان الممتلئ بالزرع والثمار وتعلو الشجار فيه وتكثف وتلتف أغصانها وفروعها
بحيث تستر من يكون بداخلها وتستره أيضا عن بقية المكنة؛ لنه ل حاجة له إلى المكنة
الخرى؛ ففي الجنة كل مقومات الحياة من غذاء وفاكهة ومرعى ،وماء وخضرة ومتعة ،وفيها
كل شيء .كما تسمى البيت العظيم المكتمل الذي يضم ويشتمل على كل المرافق " قصرا " لنّه
َقصَرَك على أي مكان سواه؛ لن فيه الشياء التي تحتاج إليها كلها ،فل تحتاج إلى شيء بعده.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ وَ ُهوَ الّذِي أَنشَأَ جَنّاتٍ ّمعْرُوشَاتٍ[ } ..النعام]141 :
ومادة العرش تدل على العلو ،ومنه قيل للسقف " عرش " ويطلق العرش أيضاَ على السرير؛ مثل
قوله الحق " { وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْشِ }.
ويطلق العرش على الملك مثل قوله الحق { :وََلهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ }.
كل ذلك يدل على " العلو " وقوله الحق هناّ { :معْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ َمعْرُوشَاتٍ } ،أي أن الزرع من
نوع العنب ،حين نعني به نجعل له القوائم والقواعد التي يقوم عليها؛ لن امتداد أغصانه اللينة ل
تنهض أن تقوم وحدها ،ولكن هناك نوع أيضا يقوم وحده نسميه العنب الرضي ،وكأن الكلم فيما
يختص بالكَرْم .أي :أنك إذا ما نظرت إلى الزرع الذي ل ساق له كالبطيخ ،والشمام ،وكالكوسة،
وكل الزروع التي ليس لها ساق تجدها مفروشة في الرض أي غير قائمة على قواعد وقوائم
وعروش .وإن كنا الن نحاول أن نرفعها لنعطي لها قوة النتاج .والكلم جاء على ما كان
موجودا عند العرب أيام بعثة النبي صلى ال عليه وسلم { وَ ُهوَ الّذِي أَنشَأَ جَنّاتٍ ّمعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ
خلَ وَالزّ ْرعَ } .والزرع يطلق ويراد به ما نقتات به من الحبوب.
َمعْرُوشَاتٍ وَالنّ ْ
{ ُمخْتَلِفا ُأكُُل ُه وَالزّيْتُونَ وَال ّرمّانَ مُ َتشَابِها وَغَيْرَ مُ َتشَابِهٍ[ } ..النعام} 141 :
وحين ننظر إلى هذه الية نجد أنه قد سبقتها آية فيها كل هذه المعاني يقول سبحانه {:وَ ُهوَ الّذِي
خضِرا نّخْرِجُ مِنْهُ حَبّا مّتَرَاكِبا َومِنَ
شيْءٍ فََأخْرَجْنَا مِ ْنهُ َ
سمَآءِ مَآءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ نَبَاتَ ُكلّ َ
أَن َزلَ مِنَ ال ّ
ن وَال ّرمّانَ مُشْتَبِها وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُواْ
خلِ مِن طَ ْل ِعهَا قِ ْنوَانٌ دَانِيَ ٌة َوجَنّاتٍ مّنْ أَعْنَابٍ وَالزّيْتُو َ
النّ ْ
إِلِىا َثمَ ِرهِ إِذَآ أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ إِنّ فِي ذاِل ُك ْم ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }
[النعام]99 :
وبعض الناس يحاولون نقد القرآن فيقولون :إنه يكرر المعاني الواحدة؛ لنهم ل يمتلكون فطنة أن
المتكلم هو ال ،وسبحانه يتكلم في كل شيء لمر حكيم ،فهو هنا يتكلم عن هذه الشياء كدليل على
الخالق ووحدانيته بدليل أنه ذيل الية بقوله } :إِنّ فِي ذاِلكُ ْم ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { ،ولكن الكلم
في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد جاء بقصد الحديث عن النتفاع بها فيقول } :كُلُواْ مِن
حصَا ِدهِ[ { ...النعام]141 :
حقّهُ َيوْمَ َ
َثمَ ِرهِ إِذَآ أَ ْثمَ َر وَآتُواْ َ
ول شك أن استقامة العقيدة باليمان بالِله الواحد تحتاج إلى الدليل أولً؛ لن فائدتها أشمل ،وأعم،
وأعمق ،وأخلد من الكل ،لن الكل قصارى ما فيه أنه يقوتنا هذه الحياة ،ولكن الدلة الولى
تعطينا الثواب الباقي والنعيم المقيم؛ لذلك فالية الولى متعلقة بالدليل ،وهذه الية متعلقة بالنتفاع،
وهنا نلحظ أنه قال } :كُلُواْ مِن َثمَ ِرهِ إِذَآ أَ ْثمَرَ { ،وفي هذه إباحة لتناول الشياء منه قبل أن
تنضج دون أن يترتب على ذلك لون من الضرر وإل عالجناها بما يزيل وينفي عنا الضرر ،فإذا
ما وجدت ثمارا لم تنضج لك أن تأكل منها ،ولم يجعل الحق لنا حرجا فيما نحرث ونبذر ونروي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن ال سبحانه هو الذي يزرع ونحن نأكل منه ،ونجد أهل الريف يشوون الذرة قبل أن تنضج
حصَا ِدهِ {.
حقّهُ َيوْمَ َ
ويقول سبحانه } :وَآتُواْ َ
لقد قالوا إن الية مختصة بما يُحصَد وهي الزروع ،أما الشياء التي ل يقال فيها :حصد فهي
خارجة عن ذلك مثل الفواكه ،لكن الِمام أبا حنيفة يرفض ذلك ويرى :أن كل ما تنبته الرض
ينطبق عليه هذا النص؛ لنه ل يصح أن تأخذ معنى الحصاد على العرف ،ولكن بفهم اللغة.
ما معنى الحصاد في اللغة؟ .الحصاد في اللغة القطع ،فحينما تفصل الثمرة المطلوبة فهذا هو
الحصاد .ولكن يوم الحصاد للحبوب؛ تكون الغلل في السنابل ،ويرى الِمام أبو حنيفة أن تعطي
من البداية لمن حضر القسمة ،وكذلك حينما تدرسه وتذريه تعطي ،وعندما تغربل الحبوب أعط
أيضا ،ويبتدئ الحصاد من ساعة أن تُكيل ،وما تقدم غير محسوب ،ما تأتيه من الحق يوم حصاده
هو غير المفروض؛ لنه لم يقل الحق المعلوم ،وفي هذا اتساع لدائرة امتداد الخير إلى غير
حبّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ { [النعام]141 :
الزارعينَ ...} .ولَ تُسْ ِرفُواْ إِنّهُ لَ ُي ِ
والسراف هو مجاوزة الحد ،والبعض قد فسّر الِسراف بالزيادة فقط ،ولكن الحقيقة أن أي تجاوز
للحد زيادة أو نقصا يسمى إسرافا؛ لنه مأخوذ من " سرف الماء " ،وهو أن يُطلق الماء ويذهب
في غير نفعٍ ،وسيدنا مجاهد يقول :لو أن للِنسان مثل جبل أبي قبيس ذهبا ثم أنفقه في حلّ ما عُدّ
سرفا ،ولو صرف درهما واحدا في معصية يعد سرفا.
إذن فمعنى " :ول تسرفوا " أمران اثنان بمعنى ل تتجاوزوا الحدود التي شرعها الحق فتستعملوا
هذا في معصية ،أو ل تسوفوا في أن تعطوا للفقير أقل مما يستحق.
وكان حاتم الطائي كريما جدا ،وقعدوا يلومونه على هذا الكرم ،فقال واحد له :ل خير في السرف.
رد عليه فقال له :ول سرف في الخير .أي أنه مادام في الخير فل يكون سرفا.
وإذا كنا سنأخذ المر على المعنيين الثنين :النقص والزيادة ،فما المانع أن نعطي للفقير أكثر؟.
ويحكي الثر أن أناسا قد تأخذهم الريحية والنشاط للبذل والعطاء ساعة يرون كثرة غلتهم ،وما
أفاء ال عليهم من ريع أرضهم .إنهم يعطون الكثير مثلما عمل ثابت بن قيس ،وكان عنده خمسون
نخلة وجزها وأعطاها كلها للفقراء ،ولم يترك لولده شيئا .فلما ُرفِع المر إلى رسول ال صلى
ال عليه وسلم قال له :أعط ول تسرف ،لماذا؟ مخافة أن تحتاج بعد ذلك إلى ما أعطيت فتندم
على أنك أعطيت.
حمُولَةً{ ..
ن الَ ْنعَامِ َ
ويقول الحق بعد ذلكَ } :ومِ َ
()919 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طوَاتِ الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َل ُكمْ عَ ُدوّ مُبِينٌ (
حمُولَةً َوفَرْشًا كُلُوا ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّ ُه وَلَا تَتّ ِبعُوا خُ ُ
َومِنَ الْأَ ْنعَامِ َ
)142
وبعد أن تكلم سبحانه عن نعمه علينا في الزراعة ونعمه علينا في الماشية قالَ { :ومِنَ الَ ْنعَامِ }
حمُولَةً } والحمولة هي التي تحمل ،فيقال " :فلن حَمول " أي يتحمل
وهي البل والبقر والغنمَ { ،
ق الَنفُسِ[} ...النحل]7 :
شّح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَىا بََلدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ بِ ِ
كثيرا .والحق يقول {:وَتَ ْ
حمُولة " .ولذلك نقول عن السيارة التي تنتقل " حمولة كذا طن
والذي تحمله فوق ظهرها يسمى " ُ
" " .ومن النعام حمولة وفرشا ".
والبل نحمل عليها الرحال ،وكل متطلباتنا ،و " فرشا " معناها :مقابل الحمولة .فالحمولة هي
المشتدة التي تقوى على أن تحمل .وكل ما ل يستطيع الحمل لصغره ،أو لنه لم يعد لذلك ،إذا ما
نظرت إليه نظرة سطحية تجده وكأنه فارش للرض .أو " ومن النعام حمولة "؛ وهي التي تحمل
متاعكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إل بشق النفس " .وفرشا " أي ومن ما تتخذون منه فرشا بأن
حمُولَةً َوفَرْشا كُلُواْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّ ُه َولَ
ن الَ ْنعَامِ َ
ننسج من وبره وصوفه وشعره ما نفرشهَ { .ومِ َ
ع ُدوّ مّبِينٌ } [النعام]142 :
طوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ َلكُمْ َ
تَتّ ِبعُواْ خُ ُ
وفي الحديث عن النعام ،جاء بالحمولة والفرش ويأتي أيضا بسيرة الكل؛ لننا نأكل لحمها
وألبانها ومشتقات اللبان كلها ،وهكذا تتعدد المنافع ،فهي تحملنا ونأخذ من أصوافها وأوبارها
وشعورها الفرش ،والوبر وهو شعر الجمال ،والصوف وهو شعر الغنم ،وشعر الماعز يتميز
بلمعة وانفصالية بين شعيراته.
ونلحظ أنه سبحانه قال في الية الولى " :كلوا " وفي الثانية " :كلوا "؛ لن ذلك جاء بعد الكلم
عما حرموه على أنفسهم من أرزاق ال في الرض .فكان ولبد أن يؤكد هذا المعنى ،ويوضح:
إن الذي خلق هو ال ،والذي كلف هو ال ،فل تأخذوا تحليلً لشيء ول تحريما لشيء إل ممن
خلق وممن كلف.
طوَاتِ الشّ ْيطَانِ إِنّهُ َل ُكمْ عَ ُدوّ مّبِينٌ }.
خُ{ ...كُلُواْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّ ُه َولَ تَتّ ِبعُواْ ُ
الشيطان هو الذي يوسوس لهم بالمخالفة لمنهج ال ،وعداوة الشيطان ظاهرة .فإذا ماكنت العداوة
سابقة ،فقد أنزل آدم وحواء من رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية وجرأهما على المخالفة فخرجا
ط في قبول هذه الوسوسة.
من الجنة ،كان من الواجب أن نحتا ُ
ثم يفصل الحق لنا النعام التي نتخذها حمولة ،أو نأخذ منها فرشا فقالَ { :ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ
الضّأْنِ} ..
()920 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ آَل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأمِ الْأُنْثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَ ْيهِ
َثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ
أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ ()143
وكلمة { أَ ْزوَاجٍ } ،جمع زوج ،و " الزوج " يطلق على الشيء معه ما يقارنه مثل " زوج النعل
" ،ونحن في أعرافنا نأخذها على الثنين ،لكنها في الصل تطلق على الواحد ومعه ما يقارنه،
إل أنه إذا لم يكن هناك فارق بين الثنين بحيث ل يتم النتفاع بأحدهما إل مع الخر ولكن ل
تميز لحدهما على الخر كالجورب مثل ،ففي مثل هذا نستسمح اللغة في أن نسمي الثنين زوجا،
لكن إذا كان هناك خلف بين الثنين ل نقول على الثنين :زوج.
والذكر والنثى من البشر ،صحيح أنهما يقترنان في أن كل واحد منهما إنسان ،لكن للذكر مهمة
وللنثى مهمة مختلفة .أما الجوارب فكل " فردة " منها نضعها في أي قدم لنه فارق بينهما ،إذن
سكُنْ أَ ْنتَ
كلمة " زوج " تطلق ويراد بها الشيء الواحد الذي معه ما يقارنه .والحق يقول {:ا ْ
جكَ الْجَنّةَ[} ...البقرة]35 :
وَ َزوْ ُ
وكلمة " زوج " هنا أطلقت على حواء؛ فآدم زوج وحواء زوج ،والحق هو القائل {:وَأَنّهُ خََلقَ
ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا }[النجم]45 :
ولم يقل عن الثنين :إنهما " زوج " و إل لقال :خلق الزوج الذكر والنثى .إذن فكلمة " زوج "
تطلق على واحد معه ما يقارنه ،مثلها كمثل كلمة " توأم " وهي ل تقال للثنين ،بل تقال لواحد
ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ }
معه آخر .لكن الثنين يقال لهما :توأمانَ { .ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ
[النعام]143 :
و " من الضأن اثنين " أي ذكرها وأنثاها فتسمى الذكر كبشا والنثى " نعجة " .ومن المعز اثنين،
والذكر نسميه " تيسا " ،والنثى نسميها " عنزة " ،وبذلك يكون معنا أربعة ،ومن هنا نفهم أن
الزوج مدلوله فرد ومعه ما يقارنه.
{ُ ...قلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأ ِم الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ }
[النعام]143 :
ومادمتم أنتم تحرمون وتحللون ،وتقولون :إن هذا من عند ال فقولوا لنا أحرّم الذكرين أم حرّم
النثيين؟ ول يجدون جوابا؛ لنه سبحانه ل حرّم هذا ول حرّم ذاك ،ولذلك أبرزت المسألة إبراز
الستفهام ،والشيء إذا أبرز الستفهام فمعناه أنه أمر مقرر بحيث إذا سألت الخصم ل يقول إل ما
تتوقعه ،واسمه السؤال أو الستفهام التقريري .ويقول الحق { :نَبّئُونِي ِبعِ ْلمٍ إِن كُنتُمْ صَا ِدقِينَ } أي
أخبروني بعلم ذلك في التحريم إن كنتم أهل صدق؛ لنكم لستم أهلً للتحريم ،إنما يحرم ويحلل من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خلق وشرع .فإن كان عندكم علم قولوا لنا هذا العلم.
ن الِ ْبلِ اثْنَيْنِ} ...
ثم يأتي الحق بخبر الربعة الباقية من النعام فيقولَ { :ومِ َ
()921 /
َومِنَ الْإِ ِبلِ اثْنَيْنِ َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ ُقلْ آَل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأمِ الْأُنْثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَ ْيهِ أَ ْرحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ
ضلّ النّاسَ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ إِنّ اللّهَ
ش َهدَاءَ ِإ ْذ َوصّاكُمُ اللّهُ ِبهَذَا َفمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِ ُي ِ
كُنْتُمْ ُ
لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ ()144
ومن البقر اثنين :ذكر وأنثى أيضا ،والذكر من البقر نسميه ثورا ،ويخطئ بعض الناس في تسمية
النثى من البقر " بقرة " ،إن البقرة اسم لكل واحد منهما :للذكر والنثى ،والتاء في بقرة للواحدة،
ن الِ ْبلِ اثْنَيْنِ َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ َأ ِم الُنْثَيَيْنِ } أنتم
واسم النثى " ثورة " { َومِ َ
تقولون :إنكم لم تتبعوا رسولً ،وكنتم على فترةٍ من الرّسل ،ولم يأت لكم رسول ،إذن فل تحريم
إل من ال ،ول يبلغكم تحريم ال إل عن طريق رسول .بل أكنتم شهداء مسألة التحريم ،أي
أشاهدتم ربكم ورأيتموه حين أمركم بهذا التحريم ،أم أنتم النبياء؟ .إنكم تتعمدون الكذب على ال
لِضلل الناس .إذن ،فالحق ل يهدي من يظلم نفسه ويظلم الناس.
حيَ إَِليّ ُمحَرّما} ..
جدُ فِي مَآ ُأوْ ِ
ويقول سبحانه بعد ذلك { :قُل لّ أَ ِ
()922 /
والحق سبحانه وتعالى قد تكلم عن التحريم في آيات كثيرة؛ فهناك الية التي قال فيها {:حُ ّر َمتْ
حةُ
عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْ َت ُة وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِي ِر َومَآ أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِ ِه وَا ْلمُ ْنخَ ِنقَةُ وَا ْلمَ ْوقُو َذ ُة وَا ْلمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِي َ
صبِ[} ...المائدة]3 :
َومَآ َأ َكلَ السّبُعُ ِإلّ مَا َذكّيْ ُت ْم َومَا ذُبِحَ عَلَى الّن ُ
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحصر في أربعة فقط ،فيقول سبحانه { :قُل لّ
سفُوحا َأوْ َلحْمَ خِنزِيرٍ
ط َعمُهُ ِإلّ أَن َيكُونَ مَيْ َتةً َأوْ دَما مّ ْ
عمٍ يَ ْ
حيَ إَِليّ ُمحَرّما عَلَىا طَا ِ
جدُ فِي مَآ ُأوْ ِ
أَ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فَإِنّهُ ِرجْسٌ َأوْ فِسْقا أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ[ } ..النعام]145 :
فكيف يتفق هذا النص مع النص الخر؟!
من يقول ذلك نقول له :أنت ل تفرق بين إيجاز وإطناب ،ول تفرق بين إجمال وتفصيل؛ فالذي
تُرِك في هذه الية داخل في الميتة؛ لن المنخقة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع ،والذي ذُبح
على النصب وما أهلّ به لغير ال موجود وداخل في كلمة " الميتة ".
ثم :من قال :إن القرآن هو المصدر الوحيد للتشريع؟ التشريع أيضا لرسول ال صلى ال عليه
خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ} ...
وسلم ،بتفويض من ال في قوله تعالىَ {:ومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
[الحشر]7 :
فل تقل إن المحرمات فقط محصورة في هذه الية لن فيه محرمات كثيرة ،بدليل أن ال مرّة
يُجْملها ،فيحرّم علينا الخبائث؛ فكل خبيث مُحرّم .وقلنا من قبل :إن الدم المسفوح مُحرّم ،والدم
المسفوح هو السائل الذي ينهال ويجري وينصب ساعة الذبح ،وهل هناك دم غير مسفوح؟ نعم،
وهو الدم الذي بلغ من قوة تماسكه أن كون عضوا في الجسم كالكبد أو الطحال .ولذلك يقول
الرسول صلى ال عليه وسلم " :أحلت لنا ميتتان ودمان :فأما الميتتان فالحوت والجراد ،وأما
الدمان فالكبد والطحال " وفي رواية أخرى :السمك والجراد.
وعلى منطق التحريم للميتة والدم كان لبد أل نأكل الميتة من السمك .ول الكبد والطحال ،ولكن
ال أحل السمك والجراد والكبد والطحال لنها ل تضر الجسم ،فالسمك والجراد ليس لهما نفسٌ
سائلة أي دم يجري؛ فإذا ما ذبحنا أحدهما ل يسيل له دم ،أما الكبد والطحال فهما من دم وصل
من الصلحية أنه يكوّن عضوا في الجسم ،ول يتكوّن عضو في الجسم يؤدي مهمة من دم فاسد،
بل ل بد أن يكون من دمٍ نقي.
والحق الذي شرّع يقدر الظروف المواتية للمكلّفين ،وقد تمر بهم ظروف وحالت ل يجدون فيها
إل الميتة ،وهنا يأكلون أكل ضرورة على قدر دفع الضر والجوع .لكن على المسلم أل يمل بطنه
غفُورٌ رّحِيمٌ } [النعام]145 :
غ َولَ عَادٍ فَإِنّ رَ ّبكَ َ
من تلك الشياءَ ..{ .فمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَا ٍ
وأنواع الضطرار :أل تجد ما يؤكل من الحلل ،أو أن يكون ما يؤكل من الحلل موجودا إل أن
هناك من يكرهك على أن تأكل هذا المحرم ،فالكراه داخل في الضطرار ،والضطرار يحملك
ويدفعك إلى أن تمنع عن نفسك الهلك؛ فتأخذ من طعام حتى تقتات فل تموت من الجوع ،فإذا
كان ال قد أباح لك أن تأكل من الميتة في حال مظنة أن تموت من الجوع فمالك من الِكراه
بالموت العاجل؛ إنه أولى بذلك؛ لنه سبحانه هو الذي رخّص ،وهو الذي شرع الرخصة ،ومعنى
ذلك أنها دخلت التكليف؛ لن ال يحب أن تؤتى رخصة كما يحب أن تؤتى عزائمه ،ومادامت قد
دخلت في دائرة التكليف فهنا يكون الغفران والرحمة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحق بعد ذلك } :وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ{ ..
()923 /
حمََلتْ
شحُو َم ُهمَا إِلّا مَا َ
ظفُرٍ َومِنَ الْ َبقَ ِر وَا ْلغَنَمِ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ ُ
وَعَلَى الّذِينَ هَادُوا حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ
حوَايَا َأوْ مَا اخْتََلطَ ِبعَظْمٍ ذَِلكَ جَزَيْنَاهُمْ بِ َبغْ ِي ِه ْم وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ ()146
ظهُورُ ُهمَا َأوِ ا ْل َ
ُ
هنا يأتي الحق بالتحريم الثاني ،وهو التحريم للتهذيب والتأديب ،مثلما قال من قبل {:فَ ِبظُلْمٍ مّنَ
الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُمْ[} ...النساء]160 :
ظفُر " هو ما يظهر عندما ننظر إلى أقدام بعض الحيوانات أو الطيور ،فهناك حيوانات نجد
فـ " ال ُ
تشقق إصبعها ظاهرا والصابع مفصلة ومنفرجة بعضها عن بعض ،فهذه ليست حراما عليهم،
ونوع آخر نجد أصابعها غير مفصولة وغير منفرجة مثل البل ،والنعام ،والبط ،والوز وهي ذو
ظفُر حرم على اليهود ،وقد حرم عليهم ل لخبث وضرر في المأكول ،ولكن تأديبا
الظفر .فكل ذي ُ
لهم لنهم ظلموا في أخذ غير حقوقهم؛ لذلك يحرمهم ال من بعض ما كان حلل لهم؛ فالب
يعاقب ابنه الذي أخذ حاجة أخيه اعتداء؛ فيمنع عنه المصروف ،والمصروف في ذاته ليس
ظلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا عَلَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ
حراما ،ولكن المنع هنا للتأديب .والحق هو القائل {:فَبِ ُ
أُحِّلتْ َل ُه ْم وَ ِبصَدّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرا * وَأَخْ ِذهِمُ الرّبَا َوقَدْ ُنهُواْ عَ ْن ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ
طلِ[} ...النساء]161-160 :
بِالْبَا ِ
ظفُ ٍر َومِنَ
ولنهم فعلوا كل ذلك يأتي لهم التحريم عقابا وتأديبا { وَعَلَى الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا ُكلّ ذِي ُ
ظمٍ ذاِلكَ
حوَايَآ َأوْ مَا اخْتََلطَ ِبعَ ْ
ظهُورُ ُهمَا َأوِ ا ْل َ
حمََلتْ ُ
شحُومَ ُهمَآ ِإلّ مَا َ
الْ َبقَرِ وَا ْلغَنَمِ حَ ّرمْنَا عَلَ ْي ِهمْ ُ
جَزَيْنَاهُم بِ َبغْ ِيهِ ْم وِإِنّا َلصَا ِدقُونَ } [النعام]146 :
وأنت حينما تذبح الذبيحة تجد بعضا من الدهن على الكلى ،ونجد في داخلها ما يسمونه " منديل
الدهن " وكذلك " ألية الخروف " ،وحين تقطع الرأس تجد فيها نوعا من الدهون ،وقد حرّم الحق
ظفُرٍ } محرم كله .وهناك استثناء في البقر
عليهم في البقر والغنم شحومهما .وكذلك { ُكلّ ذِي ُ
حوَايَآ }.
ظهُورُ ُهمَا َأوِ الْ َ
حمََلتْ ُ
والغنم هوِ { :إلّ مَا َ
أي أحل لهم ما هو فوق الظهر من الشحم ،وأحل لهم ما حملته الحوايا من الشحوم و " الحوايا "
جمع حوية أو حاوية أو حاوياء أو حاوياء وهي ما تحوّي من المعاء أي تجمع واستدار ،وفي
الريف تقول المرأة عن قطعة القماش التي تبرمها وتلفها وتصنع منها دائرة مستديرة تضعها على
رأسها لتحميه عندما تحمل فوقه الشياء؛ تقول :صنعت " حواية " والحواية هنا هي المعاء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الغليظة ،وطولها كذا متر ،ومن حكمة تكوينها الربانية نجدها تلتف على بعضها ،ولذلك اسمها "
الحوايا " ،وهي ما نسميه " الممبار " .وكذلك حلل لهم ما اختلط بعظم في القوائم والجنب والرأس
والعين ،وكذلك أحل لهم شحما اختلط بعظم منه اللية ،لن اللية تمسك بعَجْب الذنب .أي أصله،
صعُص .ولنه رحيم فهو ينزل عقوبة فيها الرحمة
وهو الجُ َزيْء في أصل الذّنب عند رأس ال ُع ْ
فيبيح له شيئا ويحرم شيئا آخر.
ويذيل الحق الية بقوله } :ذاِلكَ جَزَيْنَاهُم بِ َبغْ ِيهِمْ وِإِنّا َلصَا ِدقُونَ {.
وليس هذا التحريم تعدّيا عليهم ،أو تعنتا في معاملتهم ،بل لنهم َب َغوْا ،والباغي يجب أن يأخذ حظه
من الجزاء؛ حتى يفكر ماذا يحقق له البغي من النفع ،وماذا يمنع عنه من النفع أيضا ،وحين يقارن
بين الثنين قد يعدل عن بغيه ،وهم قد صدّوا عن سبيل ال ،وأخذوا ربا لينمّوا أموالهم وأكلوا
أموال الناس بالباطل ،لذلك حرّم عليهم الحق بعض الحلل .وسبحانه صادق في كل بلغ عنه،
ونعرف بذلك أن علة التحريم لبعض الحلل كانت بسبب ظلمهم وما بدر منهم من المعاصي فكان
التحريم عقوبة لهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :فَإِن كَذّبُوكَ َف ُقلْ رّ ّبكُمْ{ ...
()924 /
وكان مقتضى أنهم يكذبونك فيما أخبرت به عن ال ،أن يجعل ال لهم بالعذاب؛ لكن الحق لم
سعَةٍ } [النعام]147 :
حمَ ٍة وَا ِ
يعجل لهم بالعذاب لنه ذو رحمة واسعةَ { .فقُلْ رّ ّبكُمْ ذُو رَ ْ
ولكن إياكم أن تطمعوا في الرحمة الدائمة؛ إنها تأجيل فقط .ولن يفوتكم عذابه ،وهنا يحننهم ايضا
سعَةٍ } وكأنه يقول لهم :راجعوا أنفسكم واستحوا من ال ول
حمَ ٍة وَا ِ
فيقول سبحانه { :رّ ّب ُكمْ ذُو َر ْ
يغرنّكم انه ربّ ،خلق من عَدَم وأمدّ من عُدْم ،وتولّى التربية ،لكنه لن يرد ويمنع بأسه وعذابه عن
القوم المجرمين منكم.
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :سَ َيقُولُ الّذِينَ َأشْ َركُواْ} ...
()925 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ كَذَِلكَ كَ ّذبَ الّذِينَ مِنْ
سَ َيقُولُ الّذِينَ أَشْ َركُوا َلوْ شَاءَ اللّهُ مَا أَشْ َركْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَ ّرمْنَا مِنْ َ
قَبِْلهِمْ حَتّى ذَاقُوا بَأْسَنَا ُقلْ َهلْ عِنْ َد ُكمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتّ ِبعُونَ ِإلّا الظّنّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلّا
تَخْ ُرصُونَ ()148
وكلمة تقرأ آية فيها " سيقول " فاعلم أنها تنطوي على سرّ إعجازي للقرآن ،والذي يعطي هذا
السرّ هو الخصم حتى تعرف كيف يؤدي عدوّ ال الدليل على صدق ال ،مما يدل على أنه في
س َفهَآءُ مِنَ النّاسِ }[البقرة]142 :
غفلة .ومن قبل قال الحق سبحانه {:سَ َيقُولُ ال ّ
و " سيقول " معناها أنهم لم يقولوا الن ،ويخبر القرآن أنهم سيقولون ،ولم يخبئ ويستر القرآن
هذه الية ،بل قالها رسول ال صلى ال عليه وسلم قرآنا يُقرأ ويُصلى به .ولو أن عندهم شيئا من
الفكر لكانوا يسترون القول حتى يُظهروا المتكلم بالقرآن بمظهر أنه ل يقول الكلم الصحيح ،أو
على القل يقولون إنه يقول " :سيقول السفهاء " ،ونحن لسنا بسفهاء فل نقول هذا القول .لكنهم
يقولون القول السفيه برغم أن الية قد سبقتهم بالتنبؤ بما سوف يقولون؛ لن الذي أخبر هو ال،
ول يمكن أن يجيء احتياط من خلق ال ليستدرك به على صدق ال .هم سمعوا الكلمة ،ومع ذلك
لم يسكتوا بل سبقتهم ألسنتهم إليها ليؤيدوا القرآن.
وكل مسرف على نفسه في عدم اتباع منهج ال يقول :إن ربنا هو الذي يهدي وهو الذي يضلّ،
ويقول ذلك بتبجح ووقاحة لتبرير ما يفعل من سفه .وسيظل المسرفون على أنفسهم وكذلك
المشركون يقولون ذلك وسيحاولون تحليل ما حرّم ال .وقد جاء المشركون بقضيتين :قضية في
العقيدة ،وقضية في التكليف؛ قالوا في قضية العقيدةَ { :لوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْ َركْنَا } ،وكأنهم أشركوا
بمشيئة ال .وجاءوا إلى ما حرموا من حلل ال وقالوا إنهم قد فعلوا ذلك بمشيئة ال أيضا؛
ليوجدوا لنفسهم مبررا ،وهذا القول ليس قضية عقلية؛ لنها لو كانت وقفة عقلية لكانت في
الملحظين :الخير والشر ،فالواحد منهم يقول :كتب ربنا علينا -والعياذ بال -الشر ،لماذا يعذبني
إذن؟! ول يقول هذ النسان " وكتب ال لي الخير " .هذا ما كان يفرضه ويقتضيه المنطق لكنهم
تحدثوا عن الشر وسكتوا عمّا يعطى لهم من خير.
وقولهم { َلوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْ َركْنَا } صحيح المعنى؛ لنه سبحانه لو شاء أن يجعل الناس كلهم
مهديين لفعل ،لكنه شاء أن يوجد لنا اختيارا ،وفي إطار هذا الختيار ل يخرج أمر عن مشيئته
الكونية .بل يخرج الكفر والشر عن مراده الشرعي .وعلمنا من قبل أن هناك فرقا بين الكونية
والشرعية؛ فكفر الكافر ليس غصبا عن ال أو قهرا عنه سبحانه ،إنما حصل وحدث بما أعطاه ال
لكل إنسان من اختيار ،فالنسان صالح للختيار بين البديلتَ {:فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ
فَلْ َي ْكفُرْ[} ...الكهف]29 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالنسان قادر على توجيه الطاقة الموهوبة له من ال الصالحة للخير أو الشر.
إذن فأختيار النسان إما ان يدخله إلى اليمان وإما أن يتجه به إلى الكفر ،لذلك يقول الحق عن
الذين يدعون أن كفرهم كان بمشيئة ال } :كَذاِلكَ كَ ّذبَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِم حَتّىا ذَاقُواْ بَأْسَنَا..
{ [النعام]148 :
والسابقون لهم قالوا ذلك وفعلوا مثل ما يفعل هؤلء من التكذيب؛ وجاءهم بأس وعذاب من ال
شديد ،ولذلك يأمر الحق محمدا صلى ال عليه وسلمُ ...} :قلْ َهلْ عِن َدكُم مّنْ عِ ْلمٍ فَتُخْ ِرجُوهُ لَنَآ إِن
ن وَإِنْ أَنتُمْ َإلّ َتخْ ُرصُونَ { [ النعام]148 :
تَتّ ِبعُونَ ِإلّ الظّ ّ
ويسألهم محمدُ صلى ال عليه وسلم عن علم يؤكدون به صحة ما يدعونه ..ويزعمونه أي هل
عندكم بلغ من ال ،والحق أنهم ل علم لديهم ول دليل ،إنهم يتبعون الظن ،ويخرصون ،أي ان
كلمهم غير واضح الدللة على المراد منه ،إنه تخمين وظن وكذب.
حجّةُ{ ...
لذلك يقول سبحانهُ } :قلْ فَلِلّهِ الْ ُ
()926 /
ج َمعِينَ ()149
ُقلْ فَِللّهِ ا ْلحُجّةُ الْبَاِلغَةُ فََلوْ شَاءَ َلهَدَا ُكمْ أَ ْ
نعم فلو شاء سبحانه لقسرهم على الهداية وما استطاع واحد منهم أن يخرج عن الهداية ،ولكنه لم
يشأ ذلك ،بل أراد أن يكون القبال على اليمان به ،واتباع التكاليف أمرا داخلً في اختيارهم .ألم
يخلق سبحانه خلقا ل يعصون ال ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ ألم يخلق الكون كله مؤتمرا
حجّةُ الْبَاِلغَةُ[ } ..النعام]149 :
بأمره؟! { ُقلْ فَلِلّهِ الْ ُ
و " الحجة " هي الدليل الذي تقيمه لتأييد قولك في الجدل ،ولذلك نسمى عقودنا حجة على الملكية.
أو " الحجة البالغة " أي التي ل ينفذ منها شيء أبدا يعطل المراد منها.
شهَدَآ َءكُمُ} ...
ويقول الحق بعد ذلكُ { :قلْ هَُلمّ ُ
()927 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومادمتم ل تملكون العلم فمن المحتمل انكم تملكون شهودا على ما تقولون .والخطاب { :هَلُمّ
شهَدَآ َءكُمُ } هو خطاب للجماعة ،و " هلم " يستوي فيها المفرد والمفردة والمثنى مذكرا كان أم
ُ
مؤنثا .والجمع مذكرا أو مؤنثا ،فتقول :هلم يا زيد إليّ ،وهلم يا هند إليّ ،وهلم أيضا لجماعة
الذكور ولجماعة الناث ،وهذه لغة الحجازيين .وتختلف عن لغة بني تميم التي يزيدون علها
فيقال " :هلم يا رجل " ،و " هلمي يا امرأة " ،و " هلما ،وهلموا ،وهلممن " .والقرآن نزل بلغة
شهَدَآ َءكُمُ } .أي هاتوا وأحضروا شهداءكم أن ال حرّم
قريش " الحجازيين " ،والحق يقول { :هَُلمّ ُ
هذا ،لنكم بل علم ،وكذلك ل شهود عندكم على المدعي؛ فإن كان عندكم شهود هاتوا هؤلء
الشهود.
وماذا إن أحضروا شهود زور؟ إنه -سبحانه -يحذر رسوله ويوضح له أنهم حتى ولو أحضروا
شهداء إياك أن تصدقهم فهم كذابون:
وكأن ال يريد أن يفضح الشهود أيضا أمام المشهود أمامهم ،ويعطي أيضا قضيتين اثنتين؛
فسبحانه يدحض ويبطل حجتهم ،ويفضح الشهود الذين جاءوا بهم .فكأنه قال :هاتوا هؤلء الذين
قالوا لكم هذا الكلم ،وفي ذلك فضيحة لمن لقنهم هذه الوامر.
ويأمر الحق رسوله أل يتبع الذين كذبوا بآياته سبحانه .وكلمة " أهواء " ،جمع هوى ،وهو ما
يختمر في الذهن ليلوي الِنسان عن الحق؛ فهو شهوة ترد على الذهن فتجعله يعدل عن الحق:
{ َولَ تَتّبِعْ أَ ْهوَآءَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالّذِينَ لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ } [النعام]150 :
وهم ل يكذبون بآيات ال فقط بل ل يؤمنون بالخرة أيضا؛ لنهم لو كانوا يؤمنون بالخرة لعلموا
أنهم مجازون على هذا جزاء يناسب جرائمهم ،ولو أنهم قدروا هذه المسألة لمتنعوا عن اتباع
أهوائهم.
ويذيل الحق الية بقوله الكريم ...{ :وَهُم بِرَ ّبهِمْ َيعْدِلُونَ } [النعام]150 :
ونفهم من كلمة " يعدل " أنها من العدل بمعنى القِسط؛ إذا قيل :عدل في كذا ،أو عدل بين فلن
وفلن؛ أو عدل في الحكم ،أما عدل بكذا فيكون المراد منها أنه جعله عديل ومساويّا .وجاءت
ج َعلَ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ وَ َ
ح ْمدُ للّهِ الّذِي خَلَقَ ال ّ
بهذا المعنى في آية أخرى هي قوله الحق {:الْ َ
ت وَالنّورَ ثْمّ الّذِينَ َكفَرُواْ بِرَ ّب ِهمْ َيعْدِلُونَ }[النعام]1 :
الظُّلمَا ِ
أي يجعلون ما ل يصح أن يكون مساويّا ل؛ ومساويّا وعدل ل .وهذا فعل من جعلوا ل شركاء،
وكذلك من ل يؤمنون بال؛ فالواحد منهم يعدل عن ربه عدولً ويميل ويعرض عنه ويشرك به
ويسوّي به غيره .ويجب أن نلحظ عند النطق بكلمة " التوحيد " وهي( :ل إله إل ال) أل نقف عند
قول( :ل إله) لن ذلك يعني إنكار ونفي وجود إله وهذا والعياذ بال كفر .إذن يجب علينا أن
نصلها بما بعدها فنقول( :ل إله إل ال) أو نكون عند نطقنا بلفظ (ل إله) قد انعقدت قلوبنا على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحدانيته وما يجب له -تعالت عظمته -من صفات الجلل والكمال ،ومعنى (ل إله إل ال) أنه ل
معبود بحق إل ال ،لن المعبودين بباطل كثيرون كالصنام والنجوم والجن وبعض الِنس
والملئكة وغير ذلك.
وكلمة { بِرَ ّبهِمْ َيعْدِلُونَ } تفيد أنهم أهل شرك ،وكذلك من ينكر وجود ال إنه عن ربنا يعدل ويميل
ويحيد عن العتراف به إلها.
ويقول الحق بعد ذلكُ { :قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ} ...
()928 /
ننظر في هذه الية فل نجد شيئا من المحرمات من الطعمة التي بها قوام الحياة ،ولكن نجد فيها
محرمات التي إن اتبعناها نهدر القيم المعنوية التي هي مقومات الحياة الروحية ،إنها مقومات
الحياة من القيم { ُقلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ عَلَ ْي ُكمْ }.
والداء القرآني هنا يأخذ لفظ " تعال " بفهم أعمق من مجرد الِقبال ،فكأن الحق يقول :أقبل عليّ
إقبال من يريد التعالي في تلقي الوامر .فأنت تقبل على أوامر ال لتعلوا وترتفع عن حضيض
تشريع البشرية؛ فل تأخذ قوانينك من حضيض تشريع البشر؛ لن الشرط الواجب في المشرع ألّ
يكون مساويّا لمن شرّع له ،وألّ يكون منتفعا ببعض ما شرّع ،وأن يكون مستوعبا فل تغيب عنه
قضية ول يغفل عن شيء والمشرع من الخلق ل يشرع إل بعد اكتمال عقله ونضجه .ول يقدر
أن يمنع نفسه من النتفاع بالتشريع.
الرأسمالي -مثلً -يشرع ليستفيد ،والماركسي يشرّع ليستفيد .وكل واحد يشرع وفي نفسه
هوى ،ومن بعد ذلك تعدّل التشريعات عندما نستبين أنها أصبحت ل تفي ول تغطي أمور الحياة،
فكأن المشرع الول لقصور علمه غابت عنه حقائق فضحها المجتمع حين برزت القضايا ،فنظر
في قانونه فلم يجد شيئا يغطي هذه القضايا ،فيقول :نعدل القانون ،ونستدرك .ومعنى استدراك
القانون اي أن هناك ما جهله ساعة قنن.
إذن يشترط في المقنن ألّ يكون مساويّا لل ُمقَنن له ،وألّ تغيب عنه قضية من القضايا حتى ل
يُسْتَدّرَك عليه ،وألّ يكون منتفعا بالتشريع ،ول يوجد ذلك في بشر أبدا ،فأوضح الحق :اتركوا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حضيض التشريع البشري وارتفعوا إلى السماء لتأخذوا تقنينكم منها؛ فحين ينادي ال " تعالوْا "
فمعناها ارتفعوا عن حضيض تقنين بشريتكم إلى العلى لتأخذوا منه تقنيانكم التي تحكم حركة
حياتكم ،فهو ل ينتفع بما شرع ،بل أنتم الذين تنتفعون ،ولنه ل يغيب عنه شيء سبحانه ،وهو
خالق ،هو أولى ان يشرع لكمُ { .قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ عَلَ ْيكُمْ } [النعام]151 :
" أتل " من التلوة وهي القراءة { مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ عَلَ ْي ُكمْ } اي ما جعله حراما ..أي يمتنع عليهم
فعله ،وسأقول لكم كل البلغات بلغا بعد بلغَ { .ألّ تُشْ ِركُواْ بِهِ شَيْئا } [النعام]151 :
لقد جاء سبحانه بتحريم الشرك من خلل تركيب لغوي يؤكد علينا أل نشرك به؛ فأنت ساعة تأتي
لتلقى أوامر لمن ترأسه تقول له :استمع إلى ما أمنعك منه فاتبعه .ثم تبدأ في التفصيل ،والحق هنا
جاء بأول بند من المحرمات والمحظورات هو أل نشرك به شيئا .أي أتلو عليكم تحريم الشرك،
فأول المحرمات الشرك ،وعلينا أن نوحد ال ،فكل نهى عن شيء أمر بمقابله وكل أمر بشيء
نهى عن مقابله.
وعلى ذلك فكل أمر يستلزم نهيّا ،وكل نهي يستلزم أمرا .فل تلتبس عليكم الوامر والنواهي .أو
تكون " عليكم " منطقعة عما قبلها ،أي عليكم ترك الشرك ،وعليكم إحسانا بالوالدين ،وأل تقتلوا
أولدكم ،وألّ تقربوا الفواحش ..أي ألزموا ذلك.
ثم يقول سبحانه } :وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا { وسبحانه يأمر هنا بتأكيد الحسان إلى الوالدين؛ فهو أمر
بإيجاب ويستلزم نهيا عن مقابله وهو عقوق الوالدين ،أي ل تعقوهم .فعدم الحسان إلى الوالدين
يدخل فيما حرم ال .ثم يقول سبحانهَ } :ولَ َتقْتُلُواْ َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْلَقٍ نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُ ْم وَإِيّا ُهمْ..
{ [النعام]151 :
أي استبقوا حياة أولدكم ،فإن أدرتها من قبيل النهي فقل هو نهي عن قتل الولد ،وإن أردتها من
قبيل اليجاب فقل :استبقوا الحياة .وقول } :مّنْ إمْلَقٍ { أي من فقر ،فكأنهم كانوا فقراء ،ومادام
الملق موجودا فشغل النسان برزق نفسه يسبق النشغال برزق من يأتي بعده؛ فيا أهل الملق
تذكروا أن ال يرزقكم ويرزق من سيأتي زيادة وهم الولد .ويقول سبحانهَ } :ولَ َتقْرَبُواْ
ظهَرَ مِ ْنهَا َومَا بَطَنَ[ { ..النعام]151 :
ا ْل َفوَاحِشَ مَا َ
وهذا نهي عن القرب ،أي نهي عن الملبسات التي قد تؤدي إلى الفعل ل نهي عن الفعل فقط؛
فحينما أراد ال يحرم على آدم وعلى زوجه الشجرة قال {:وَلَ َتقْرَبَا هَـا ِذهِ الشّجَ َرةَ} ...
[العراف]19 :
لن القرب قد يغري بالكل ،وكذلكَ } :ولَ َتقْرَبُواْ ا ْل َفوَاحِشَ { أي ل تأتي إلى مقدمات الفواحش
بأن تلقي نظرة أو تحدق النظر إلى محرمات غيرك ،وكذلك المرأة التي تتبرج؛ إنها تقوم بالقبال
على مقدمات الفواحش ،فإذا امتنعت عن المقدمات أمنت الفتنة والزلل؛ لن الرسول صلى ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه وسلم يقول " :الحلل بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات ل يعلمها كثير من الناس فمن
اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول
الحمى يوشك أن يواقعه ،أل لكل ملك حمى ،أل وإن حمى ال تعالى في أرضه ،أل وإن في
الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله أل وهي القلب ".
ل تقرب ،أي أبعد نفسك عن مظنة أن تستهويك الشياء ،مثلها مثل " اجتنب "
ويمنعك الحق :أ ّ
تماما ،وسبحانه وتعالى يقول } :فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الَوْثَانِ[ { ..الحج ]30 :ويقول... {:وَاجْتَنِبُواْ
ظهَرَ مِ ْنهَا َومَا َبطَنَ {.
َقوْلَ الزّورِ }[الحج ]30 :وهنا يقول تعالىَ } :ولَ َتقْرَبُواْ ا ْل َفوَاحِشَ مَا َ
وكل ما ظهر من الفواحش هو من أفعال الجوارح التي ترتكب الموبقات و } َومَا بَطَنَ { هو من
أفعال السرائر مثل الحقد ،والغل ،والحسد.
ويتابع سبحانه } :وَلَ َتقْتُلُواْ ال ّنفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ ِإلّ بِا ْلحَقّ[ { ..النعام]151 :
وكلمة " النفس " يختلف الناس في معناها ،ول تطلق النفس إل على التقاء الروح بالمادة ،والروح
في ذاتها خيّرة ،والمادة في ذاتها خيرة مسبحة عابدة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بحث في الدلة فسيقتنع بأن له إلها حقا ،ولكننا ل نقتل الكافر الصلي.
إذن فقتل المرتد حماية لحزم الختيار ،فإِياك أن تدخل بدون روية؛ لنك لو دخلت ثم ارتددت
فسوف تقتل ،وبذلك يصفي الحق المسألة تصفية لزمة بأن يعرض من يقبل على الِسلم جميع
الحجج على نفسه ،ول يدخل إل بنية على هذا ،ففي أي عقد يحاول الِنسان أن يعرف التزاماته
وأن تتضح أمامه هذه اللتزامات .ول يدخل إلى الدين الدخول الهوج ،أو الدخول الرعن ،أو
الدخول المتعجل .بل يلزمه أن يدخل بتؤدة وروية.
وفي الزواج يدخل الِنسان بكلمة ويخرج بكلمة أيضا هي " :أنت طالق " ،ولذلك تحتاط المرأة،
فمادامت قد عرفت أن بقاء زواجها رهن بكلمة فعليها أن تحرص أل تضع هذا الحق إل في يد
أمينة عليه .وساعة أن يقول لها أبوها :اسمعي ،إن لك أن تختاري الزوج الذي إن أحبك أكرمك،
وإن كرهك ل يظلمك؛ لن بكلمة منه تنتهي الحياة الزوجية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في القرار ،وقد ختم الحق الخمسة الشياء التي ذكرها في هذه الية بـ } ذاِلكُ ْم َوصّاكُمْ ِبهِ َلعَّلكُمْ
َت ْعقِلُونَ { .وهذه الوامر متفق عليها في جميع الرسالت وفي جميع الديان ،ويسمونها " :الوصايا
العشر ".
والشياء الخمسة التي أوصى بها سبحانه هي:
* أل تشركوا به شيئا.
* وبالوالدين إحسانا.
* ول تقتلوا أولدكم من إملق.
* ول تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
* ول تقتلوا النفس التي حرّم ال إل بالحق.
فكان يجب أن يقول :ذلكم وصاكم بها ،لكنه قالَ } :وصّاكُمْ ِبهِ { ،فكأن أوامر ال ونواهيه أمر
واحد متلزم تتمثل كلها في :التزام ما أمر ال به ،واجتنب ما نهى ال عنه.
وقوله سبحانهَ } :لعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ { فكأن العقل لو خُليّ ليبحث هذه الشياء بحثا مستقلً عن منهج
السماء لوجد أن ضرورة العيش على الرض تتطلب وجود هذه الشياء.
إذن ،كيف ُنعْصم من أهوائنا المتضاربة بعضها مع بعض؟ .لبد أن يكون الله واحدا حتى ل
يتبع كل واحد منا هواه .إننا نعرف أن الصل في النسان هو الب والم .لذلك وصى بالصل
في } وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا { ،ووصى أننا ل نقتل الولد خشية الفقر؛ لن الحياة تستمر بهم ،وبعد
ذلك لبد أن تكون الحياة نظيفة ،طاهرة لجميع الفراد ،ول تشوبها شائبة الدنس أبدا ،ول يتأتى
ذلك إل إذا تركنا الفواحش :ما ظهر منها وما بطن؛ لننا نلحظ أن كل الولد غير الشرعيين
ُي ْهمَلون؛ فالحق سبحانه وتعالى يريد طهارة النسال في الحياة؛ حتى يتحمل كل واحد مسئولية
نسله .ويكون محسوبا عليه أمام المجتمع ،ويحذرنا سبحانه من أن نقتل النفس إل بالحق؛ لن
النفس أصل استبقاء الحياة.
ثم يجيء الحق بعد ذلك في الية التالية ليكمل الوصايا فيقولَ } :ولَ َتقْرَبُواْ مَالَ{ ...
()929 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونعلم أن اليتيم هو من فقد أباه ،ولم يبلغ مبلغ الرجال ،هذا في النسان ،أما اليتيم في الحيوان فهو
ش ّدهُ} ..
حسَنُ حَتّىا يَبُْلغَ أَ ُ
من فقد أمه .وقوله الحق { :وَلَ َتقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
[النعام]152 :
هنا يفرض سبحانه أن اليتيم له مال ،فلم يقل :ل تأكل مال اليتيم .بل أمرك أل تقترب منه ولو
بالخاطر ،ولو بالتفكير ،وعليك أن تبتعد عن هذه المسألة .وإذا كان قد قالَ { :ولَ َتقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ
حسَنُ } أي بأن
} فهل هذا المر على إطلقه؟ .ل؛ لنه اضاف وقال بعد ذلكِ { :إلّ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
نُ َثمّرَ له ماله تثمرا يسع عيشه ،ويبقى له الصل وزيادة ،ولذلك قال في موضع آخر {:وَارْ ُزقُوهُمْ
فِيهَا[} ...النساء]5 :
فل يأخذ أحد مال اليتيم ويدخره ،ثم يعطيه منه كل شهر جزءا حتى إذا بلغ الرشد يجد المال قد
نقص أو ضاع ،لذلك لم يقل :ارزقوهم منها ،بل قال { :وَارْ ُزقُوهُمْ فِيهَا } أي ارزقوهم رزقا ناشئا
منهاَ .فمَالُهم ظرفية للرزق ،ول يتأتىّ هذا إل بأن نثموها لليتيم ،ول نحرم الوصاية على اليتيم
لرعاية ماله من أصحاب الكفاءات في إدارة العمال والمناء ،وقد يوجد الكفء في إدارة العمل،
والمين فيه لكن حاله ل ينهض بأن يتحمل تبعات ومؤنة حياته وقيامة بإدارة أموال اليتيم؛ فقال-
سبحانه -في ذلكَ {:ومَن كَانَ غَنِيّا فَلْ َيسْ َت ْعفِفْ[} ...النساء]6 :
أي أن يهب الوصيّ تلك الرعاية ال ،وحين يهب تلك الرعاية ل ول يأخذ نظير القيام بها أجرا؛
جدَ في ذريته إلى يوم القيامة يتيم فسيجد من يعوله حسبة ل وتطوعا منه مدخرا
يضمن أنه إن وُ ِ
ضعَافا خَافُواْ عَلَ ْي ِهمْ
أجره عند ال .والحق هو القائل {:وَلْيَخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّ ًة ِ
سدِيدا }[النساء]9 :
فَلْيَ ّتقُواّ اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َقوْلً َ
وحينما يجد اليتيم من يرعاه ،وحين يتعاطف المجتمع مع كل يتيم فيه ،ويتولى أمور اليتامى أناس
أمناء قادرون على إدارة أمورهم فسوف يقل جزع النسان من أن يموت ويترك صغاره؛ لنه
سيجد كرامة ورعاية لليتيم ،فالناس تخاف من الموت لن لهم عيالً صغارا ،ويرون أن المجتمع
ل يقوم برعاية اليتامى ،لكن النسان إن وجد اليتيم مكرما ،ووجده آباء من المة السلمية
متعددين ،فإن جاءه الموت فسوف يطمئن على أولده لنهم في رعاية المجتمع ،ولكن ل تنتظر
حتى يصلح شأن المجتمع بل أصلح من نفسك وعملك تجاه أي يتيم ،ويمكنك بذلك أن تطمئن على
أولدك فستجد من يرعاهم بعد مماتك ،وحين يرعى المجتمع اليماني كل يتيم ستجد الناس ل
تضيق ذرعا بقدر ال في خلقه بأن يموت الواحد منهم ويترك أولدا .والمثل واضح في سورة
الكهف بين العبد الصالح وسيدنا موسى حينما مرّا على قرية:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلم طلبا نقودا ليدخراها ،ولكنهما طلبا طعاما لسد الجوع ،وهذه حاجة مُلحّة .ومع أنهما استطعما
أهل القرية أبى أهل القرية أن يضيفوهما .ومعنى ذلك أنها قرية لئيمة الهل .وعلى الرغم من
العبد الصالح وجد ردّهم علية وامتناعهم عن إطعامهما ،ولكنه عندما وجد جدار ،وبفراسته علم أن
الجدار يريد أن ينقض ،وكأن الجدار له إدارة ،فأقام الجدار ،ولمه سيدنا موسى عليه السلم،
وكان سيدنا موسى منطقيا مع نفسه ،فقد طلب هو وشيخه من أهل القرية مجرد الطعام فرفضوا،
فكيف ترد عليهم بأن تبنى لهم الجدار ،وكان يجب أن تأخذ على البناء أجرة ،فهم قوم لئام ،هذا
كلم موسى .لكن العبد الصالح جازاهم بما يستحقون؛ لنه ببنائه الجدار قد حال بينهم وبين أخذ
الكنز ،لنه لو ترك الجدار ينهار لظهر الكنز الذي تحته وهو ليتمين ،وهكذا عرف العبد الصالح
كيف يربيهم .وبعد ذلك أراد ال أن يشرح لنا أن الجدار لغلمين يتمين في المدينة {.فَأَرَادَ رَ ّبكَ
شدّ ُهمَا وَيَسْ َتخْرِجَا كَنزَ ُهمَا[} ...الكهف]82 :
أَن يَبُْلغَآ أَ ُ
فكأن استخراج الكنز مقارن ببلوغ الرشد ،وكأن العبد الصالح قد بنى الجدار بناء مؤقوتا ،بحيث ل
ينهار إل حين يبلغ الغلمان مبلغ الرشد ،لقد بنى العبد الصالح البناء وكأنه يضبط الميقات فل
يتماسك الجدار إل لساعة بلوغ الغلمين أشدهما ،وعندئذ يستخرج الغلمان كنزهما .وبعد ذلك
جاء لنا بالحثيثة لكل ذلك ،فقال سبحانهَ {:وكَانَ أَبُو ُهمَا صَالِحا[} ...الكهف]82 :
فكأن صلح الب هو الذي أراد به الحق أن يظهر لنا كيف حمى كنز البناء ،فيأتي العبد الصالح
وموسى لهل القرية اللئام ،ويطلبان طعاما ،فل يطعمونهما ،فيبي العبد الصالح الجدار الموقوت
حسَنُ..
الذي يصون الكنز من اللئام .والحق يقول هنا } :وَلَ َتقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
{ [النعام]152 :
من ل يقدر على قرب مال اليتيم بالتي هي أحسن فليبتعد عنه.
وحتى ل يتحرز ويتوقى الناس من رعايتهم مال اليتيم ،قال سبحانهَ {:ومَن كَانَ غَنِيّا فَلْيَسْ َت ْعفِفْ
َومَن كَانَ َفقِيرا فَلْيَ ْأ ُكلْ بِا ْل َمعْرُوفِ }[النساء]6 :
وكلمة } فَلْيَ ْأ ُكلْ بِا ْل َمعْرُوفِ { أي ل يكنز ول يدخر منه أبدا ،بل يأكل بما يدفع الجوع فقط ويكتسي
ما يستر جسمه .ونعرف أن اليتيم لم ينضج عقله بعد ،وكذلك الكبير السفيه هو أيضا ل يقدر على
التصرف؛ لذلك قال الحق في أدائه البياني حيث يؤدي اللفظ ما يوحي بالمعاني الواسعةَ {:ولَ
س َفهَآءَ َأ ْموَاَلكُمُ }[النساء]5 :
ُتؤْتُواْ ال ّ
وجعل الحق مال السفيه في مرتبة مال الولي؛ لن السفيه ل يحترم ملكيته وقد يبددها .ولكن المال
يعود لهذا الِنسان حين يذهب عنه السفه فيقول الحق {:فَإِنْ آنَسْ ُتمْ مّ ْنهُمْ رُشْدا فَا ْد َفعُواْ إِلَ ْيهِمْ َأ ْموَاَلهُمْ
}[النساء]6 :
إنه أداء قرآني عجيب ،يشجع الناس أل يتركوا السفيه يبدد ماله فتكون خسارة للمجتمع كله،
فمادام هو في سفه فانظر إلى المال كأنه مالك ،ولتكن أمينا عليه أمانتك على مالك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعندما ترى وتجد رشده وتطمئن على ذلك ،فإن الحق يأمرك أن تعيد له ماله .ونعود إلى اليتيم،
حسَنُ {.
هنا يقول الحقَ } :ولَ َتقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
هذا إن كان له مال ،فماذا عن اليتيم الذي ل مال له؟ .هنا تكون الوصية أقوى ،عن سهل بن سعد
رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا " "
وأشار بالسّبابة والوسطى وفرّج بينهما ".
وعن أبي هريرة رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الساعي على الرملة
والمساكين كالمجاهد في سبيل ال وكالذي يصوم النهار ويقوم الليل ".
وخذوا بالكم واجعلوا مسح رأس اليتيم ل ،فمن الجائز أن تكون لليتيم أم جميلة ،ويريد الولي أن
يتقرب منها عن طريق الولد ،احذروا ذلك ،فإنه فضل على أنه يسخط ال ويغضبه فهو خسة
ش ّدهُ { [النعام]152 :
حسَنُ حَتّىا يَ ْبلُغَ أَ ُ
ولؤم ونذالةَ } .ولَ َتقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
حسَنُ { لتشديد الحرص على مال
لم يقل ال -سبحانه -بالتي هي حسنة ولكنه قال } :بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
اليتيم حتى يبلغ أشده لن بلوغ الشد ،يعني أن اليتيم صارت له ذاتية مستقلة ،وما المعيار في
الذاتية المستقلة؟؛ أن يصبح قادرا على إنجاب مثله ،وهذا معيار النضج ،مثله مثل الثمرة حين
تنضج؛ أي صارت البذرة التي فيها صالحة لن نضعها في الرض لتكون شجرة .وأنت إن
قطفت الثمرة قبل أن تنضج ل تجد طعمها حلوا ،ول تستسيغ مذاقها إل حين تستوي البذرة
وتنضج.
و " الشد " أي أن الِنسان يصير قادرا على إنجاب مثله وهو ما نسميه البلوغ ،ويصبح أيضا
قادرا على حسن التصرف في المال وفي كل شيء .ويتابع سبحانه } :وَأَ ْوفُواْ ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ
بِا ْلقِسْطِ { [النعام]152 :
والكيل هي المعايير لما يكال حجما ،والموازين هي المعايير لما ُيقَدّر كثافة ،فهناك معيار للحجم
ومعيار للكثافة .معيار الحجم الكيل ،ومعيار الكثافة هو الوزن ،وهناك أيضا التقديرات العادلة في
القياس ،للقمشة مثلً ،المقياس فيها هو المتر ،إذن كل شيء بحسبه ،وإذا أردت الموزون فلبد
أن يكن بالقسط ،أي بالعدل.
وهذه المسألة من الصعب تحقيقها ،ولذلك تختلف الموازين باختلف نفاسة الشياء ،فحين نزن
الفول أو العدس أو البطاطس أو القلقاس ،فنحن نزنه بميزان كبير؛ لن فرق الميزان يكون حول
الكيلو جرام ،فالمر حينئذ يكون مقبولً .وحين نزن أشياء أثمن قليلً ،نأتي بالميزان الدقيق .فإن
كان الشيء الموزون ذهبا نحيط الميزان بجدران زجاجية لن لفحة الهواء قد تقلل أو تزيد الوزن.
إننا نحاول أن نمنع تأثير تيارات الهواء عليها .وحين نزن المواد الكيماوية نأتي بميزان يعمل
بالذرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن موزون يأخذ درجة ميزانه بمقدار نفاسته وتأثيره؛ لن تحقيق العدالة في الميزان مسألة
صعبة ،وكذلك المر في الكيل .فحين يكيل النسان كيلً يمسك إناء الكيلة ويهزه؛ حتى يأتي
الميكال دقيقا محررا ،وإن أراد أن يلغي ضميره ويأخذ أكثر من حقه فهو يمل المكيال بأكثر مما
ط ّففِينَ * الّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النّاسِ
يحتمل ويسند الزيادة بيده حتى لتقع .وربنا يقول {:وَ ْيلٌ لّ ْلمُ َ
يَسْ َت ْوفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ َأوْ وّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }[المطففين]3-1 :
فحين يكتال يستوفى ويطفف أي يزيد ما سوف يأخذه شراء ،وحين يبيع يقلل الكيل أو الوزن ليأخذ
ثمنا أكثر من ثمن ما يزن أو يكيل .وأصل المبادلت غالبا بين طرفين ،وبعض المتنطعين يقول:
ط ّففِينَ { والتطفيف في أي مسألة يكون بالزيادة ،ل بالنقص .ونقول:
كيف يقول الحق } :وَ ْيلٌ لّ ْلمُ َ
انتبه إلى أن المتحدث هو ال ،والتطفيف يزيد طرفا وينقص من طرف ،وكل صفقة بين اثنين فيها
بيع وشراء .فإن أراد واحد أن يجعل الخسران على طرف وأن يستوفي لنفسه فهو مطفف.
ط لَ ُنكَّلفُ َنفْسا ِإلّ
ل وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِسْ ِ
ولذلك تأتي دقة الداء القرآني من ربنا } :وََأ ْوفُواْ ا ْلكَ ْي َ
س َعهَا[ { ..النعام]152 :
وُ ْ
وقال الحق ذلك لنه يعلم أن الكيل والميزان بالعدل أمر متعذر؛ لن الحق سبحانه وتعالى لواسع
رحمته في التشريع لنا لم يجعل مجتال الستطاعة أمرا يمكن أن تتحكم فيه أشياء ل تدخل في
س َعهَا { لن المكيال والميزان
الستطاعة؛ ففي ضبط المكيال والميزان قال } :لَ ُنكَّلفُ َنفْسا ِإلّ وُ ْ
أداتان تتحكم فيهما ظروف ل تدخل في نطاق النسان .ولذلك قلنا :إن وزن الشياء التي نعلمها
إن كانت من الشياء التي ليست فيها نفاسة فوزنها له آلة .وإن كانت في المتوسط فوزنها له آلة،
وإن كان في الشياء النفيسة الدقيقة التي للقدر الصغير فيها قيمة مؤثرة ،فإن لها آلة مضبوطة
س َعهَا
ل وُ ْ
مصونة من عوامل الجو حتى ل تتأثر بهبّة الهواء ،فقول الحق } :لَ ُنكَّلفُ َنفْسا ِإ ّ
{ إباحة للشياء الزائدة او الناقصة التي ل تدخل في الستطاعة ،ثم قال سبحانه } :وَِإذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُو ْا وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَىا[ { ..النعام]152 :
نعلم أن القول نسبة كلمية ينطق بها المتكلم ليسمعها مخاطب ،ينفعل للمطلوب فيها خبرا أو
إنشاءً ،والقول مقابله الفعل ،وكلهما عمل ،فالقول عمل والفعل عمل؛ قل أو افعل ،فافهم أن القول
متعلق بجارحة اللسان ،والفعل متعلق بكل الجوارح ما عدا اللسان ،فإذا رأيت ،وإذا سمعت ،وإذا
شممت ،وإذا لمست كل ذلك يطلق عليه أنه فعل ،ولكن إذا ما تحرك اللسان فذلك قول } :وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُو ْا وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَىا {.
وهل العدل مقصور على القول؟ أو العدل أيضا يكون في الفعل؟ إن العدل قد يكون في خلف بين
اثنين ،وهذا ل يتأتى بفعلك ،وإنما يتأتى الحكم والفصل فيه بقولك ،وإذا ما تعودت العدل في
قولك ،ألفته وأنست به وأحببته حتى في أعمالك الخاصة الخرى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والقول منه القرار ،وإن تقر على شيء في نفسك فقله بالعدل وبالحق ،والشهادة .قلها بالحق،
والحكم .قله بالحق .والوصية .قلها بالحق .والفتوى .قلها بالحق .إذن فالحق في القول أمر دائر
في كثير من التصرفات؛ لنك إذا قلت بالحق أمكنك أن تعدل ميزان حركة الحياة؛ فميزان حركة
الحياة ل يختل إل إن رجح باطل على حق؛ لنك إذا حكمت لواحد بشيء ل يستحقه فقد أعطيته
ما ليس له ،وإنك بعملك هذا تجعل المتحرك في الحياة يزهد في الحركة ,لكن إذا ما حافظت على
حركة كل متحرك ،وأخذ كل واحد حظه من الحياة بقدر ما يعمل اتزنت كل المور ،ولم يعد
هناك قوم يعيشون على جهد غيرهم وعرق سواهم ،إذن فقول العدل هو مناط حركة الحياة الثابتة
المستقيمة الرتيبة الرشيدة } :وَإِذَا قُلْ ُتمْ فَاعْدِلُو ْا وََلوْ كَانَ ذَا قُرْبَىا {.
والذي يؤثر في العدل هو الهوى ،وحين يوجد الهوى فهو يحاول أن أن يميلك إلى ناحية ليس فيها
الحق ،وأولى النواحي أن يكون المر متعلقا بك أو بقرابة لك ،وقد تريد إن حكمت -والعياذ بال-
باطلً ،أن تسعد ذا قرباك ،وأنت بذلك لم تؤد حق القرابة؛ لن حق القرابة كان يقتضي أن تمنع
عنه كل شيء محرّم وتحمي عرضه ،وتحمي دينه قبل أن تحمي مصلحته في النفعية الزائلة.
ولذلك يأمرك الحق بأن تقول الكلمة بالعدل ولو كان المحكوم له أو عليه ذا قربى؛ لنك حين تحكم
بالباطل فأنت في الواقع حكمت عليه ل له } .وَ ِب َعهْدِ اللّهِ َأ ْوفُواْ { [النعام]152 :
ونحن نعلم أن عهد ال هو ما عاهدنا ال عليه ،وأول عهد وقمة العهود هو اليمان به سبحانه،
ل في
وترتب على ذلك أن نتلقى منه التكليف ،فكل تكليف من تكاليف ال لخلقه يُعتبر عهدا داخ ً
إطار الِيمان؛ لن ال ل يحكم حكما أو يبينه لمكلّف إل بعد أن يقول {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ} ...
[المائدة]1 :
أي يا من آمنت بالعهد الصيل في القيم وهو العقيدة ،وآمنت بي إلها :خذ التكليف مني؛ لنك قد
دخلت معي في عهد هو الِيمان.
ولذلك ل يكلف ال بالحكام كافرا به ،إنما يقول } :يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ { ولذلك يجب أن نأخذ كل
حكم بدليله من الِيمان بمن حكم به ،فل تبحث عن في كل حكم ،وإنما علة كل حكم أن تؤمن
بالذي أمرك ان تفعل كذاَ ،فعِلّة كل هي الحكم.
ويذيل الحق الية الكريمة بقوله تعالى } :ذاِلكُ ْم َوصّاكُمْ ِبهِ َلعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ { [النعام]152 :
و " ذلكم " إشارة إلى ما تقدم ،من أول قوله سبحانهُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ عَلَ ْيكُمْ }[النعام:
]151
إلى أن انتهينا إلى قوله سبحانه } :وَ ِب َعهْدِ اللّهِ َأ ْوفُواْ { [النعام]152 :
والتوصية تخصيص للتشريع؛ لن التشريع يعم احكاما كثيرة جدّا ،ولكن الوصية التي يوصي ال
بها تكون هي عيون التشريع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك قال ابن عباس رضي ال عنه عن هذه اليات " :إنها محكمات لم ينسخهن شيء من جميع
الكتب ،وقيل إنهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ،ومن تركهن دخل النار ".
ولم يوجد شرع جاء لينسخ واحدة من هذه الوصايا ،ولذلك يقول اليهودي الذي أسلم وهو كعب
الحبار " :والذي نفس كعب بيده إنّ هذه اليات لول شيء في التوراةُ } :قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ
رَ ّبكُمْ عَلَ ْيكُمْ { .ثم نجد أن هذه الوصية الخيرة هي جامعة لكل شيء؛ نجد تسع وصايا قد مرّت؛
خمسا منها قال فيهاَ } :لعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ { ،وأربعا قال فيهاَ } :لعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ { ،والعاشرة يقول} :
َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ { ،وهذه الوصية العاشرة هي الجامعة لكل أنواع الفضائل التكليفية إنّها قوله الحق} :
وَأَنّ هَـاذَا صِرَاطِي{ ...
()930 /
وَأَنّ هَذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيمًا فَاتّ ِبعُو ُه وَلَا تَتّ ِبعُوا السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِبكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَِلكُ ْم َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّلكُمْ
تَ ّتقُونَ ()153
أي أنه ختم الوصايا التسع بهذا القول؛ لن الصراط المستقيم يشمل الوصايا التسع السابقة ويشمل
كل ما لم يذكر هنا .وقلت :إننا نلحظ أن الخمس الول ذيلها الحق بقولهَ { :لعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ } ،
والربع التي بعدها ذيلها الحق بقولهَ { :لعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ } والواحدة الجامعة لكل شيء قال تذييلً
لهاَ { :لعَّل ُكمْ تَ ّتقُونَ }.
فما الفرق بين التعقل والتذكر والتقوى؟
إن الشياء الخمسة الولى التي قال الحق فيهاُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ عَلَ ْي ُكمْ َألّ تُشْ ِركُواْ بِهِ
حشَ مَا
شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا َولَ َتقْتُلُواْ َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْلَقٍ نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُ ْم وَإِيّاهُمْ وَلَ َتقْرَبُواْ ا ْلفَوَا ِ
حقّ ذاِلكُ ْم َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّلكُمْ َت ْعقِلُونَ }
ن َولَ َتقْتُلُواْ ال ّنفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ ِإلّ بِالْ َ
ظهَرَ مِ ْنهَا َومَا بَطَ َ
َ
[النعام]151 :
هذه الشياء كانت موجودة في بيئة نزول القرآن ،إنهم كانوا يشركون بال ويعقون والديهم ويقتلون
الولد ويقارفون الفواحش ويقتلون النفس التي حرم ال قتلها إل بالحق ،فأوضح لهمَ :ت َعقّلُوها،
فإذا ما تعقلتموها تجدون أن تكليف ال بمنعكم من هذه الفعال ،إنه أمر يقتضيه العقل السليم الذي
يبحث عن الشياء بمقدمات سليمة ونتائج سليمة ،لكن " الربع " الخرى ،هم كانوا يفعلونها
ويتفاخرون بها .ففي التي كانوا يعملونها من القيام على أمر مال اليتيم والوفاء في الكيل والميزان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والعدل في القول والوفاء بالعهد قالَ { :لعَّلكُمْ َت َذكّرُونَ } أي إياكم أن تغفلوها؛ فإذا كنتم تفعلونها
وأنتم على جاهلية؛ فافعلوها من باب أولى وأنتم على إسلمية .ثم جاء بالوصية الجامعة { :وَأَنّ
هَـاذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيما فَاتّ ِبعُو ُه وَلَ تَتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِب ُكمْ عَن سَبِيِلهِ ذاِل ُك ْم َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّلكُمْ
تَ ّتقُونَ } [النعام]153 :
ونظرا لن هذه الوصية تستوعب كل الحكام إيجابّا وسلبّا ،نهيّا وأمرا ،فوضح لهم أنه يجب
عليكم أن تتبعوا الصراط المستقيم :لتقوا أنفسكم آثار صفات القهر من الحق سبحانه وتعالى ،وأول
جنودها النار.
والصراط :هو الطريق المعبّد ،ويأخذون منه صراط الخرة ،وهو -كما يقال " -أدق من الشعرة،
وأحدّ من السيف " ،ما معنى هذا الكلم؟ .معناه أن يُمشى عليه بيقظة تامة واعتدال؛ لنه لو راح
يمنة يهوي في النار ،ولو راح يسرة يسقط فيها ،فهو صراط معمول بدقة وليس طريقا واسعا،
بل -كما قلنا " -أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف " فلتمش على صراط ال ومنهجه معتدلً ،فل
تنحرف يمنة أو يسرة؛ لن الميل -كما قلنا -يبعدك عن الغاية ،إنك إذا بدأت من مكان ثم اختل
توازنك فيه قدر ملليمتر فكلما سرت يتسع الخلل ،وأي انحراف قليل في نقطة البداية يؤدي إلى
زيادة الهوة والمسافة.
كذلك الدين ،كلما نلتقي فيه ويقرب بعضنا من بعض ،نسير في الطريق المستقيم ،وكلما ابتعدنا
عن التشريع تتفرق بنا السبل.
} وَأَنّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيما فَاتّ ِبعُوهُ َولَ تَتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِبكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذاِلكُ ْم َوصّاكُمْ بِهِ
َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ { [النعام]153 :
" ورسول ال صلى ال عليه وسلم؛ جلّي بالحركة الفعلية منطوق النسبة الكلمية ،حينما جلس بين
أصحابه وخطّ خطّا .وقال :هذا سبيل ال
.ثم خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن يساره ،ثم قال :هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان؛
يدعو إليها ،ثم قرأ هذه الية } :وَأَنّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيما فَاتّ ِبعُو ُه َولَ تَتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِبكُمْ
عَن سَبِيِلهِ" .{ ...
ولذلك فكل أهل الحق ،وأهل الخير كلما اقتربوا من المركز كان اللتقاء ،وهذا اللتقاء يظل يقرب
ويقرب إلى أن يتلشى ويصير الكل إلى نقطة واحدة.
وانظر إلى جلل الحق حينما يجعل الصراط المستقيم إليه في دينه ،منسوبا إلى رسوله } :وَأَنّ
هَـاذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيما { فالرسول يسير على هذا الصراط وهو ل يغش نفسه ،والذي يفعله
ويمشي فيه يأمركم بأن تمشوا فيه ،وهو لم يأمركم أمرا وهو بنجوة وبعدٍ عنه ،ولو غشكم جميعا
ل يغش نفسه ،وهذا هو صراطه الذي يسير فيه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والسبيل هنا معروف أنّه إلى ال فكأن سبيل ال هو طريق محمد صلى ال عليه وسلم .ونسب
الفعل والحدث ل وحده؛ ففي البداية قال } :وَأَنّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيما { ،ثم قال " :سبيله "
فالصراط لم يعمله محمد لنفسه ،ولكن أراده ال للمؤمنين جميعا ،ورسول ال هو الذي يأخذ
بأيديهم إليه.
وحين ننظر إلى كل الخلفات التي تأتي بين الديانات بعضها مع بعض ،بين اليهودية والنصرانية
ستِ الْ َيهُودُ
شيْ ٍء َوقَاَلتِ ال ّنصَارَىا لَيْ َ
ستِ ال ّنصَارَىا عَلَىا َ
على سبيل المثالَ {:وقَاَلتِ الْ َيهُودُ لَيْ َ
شيْءٍ[} ...البقرة]113 :
عَلَىا َ
ن لَ َيعَْلمُونَ مِ ْثلَ
والمشركون قالوا :ل هؤلء على شيء ،ول هؤلء على شيء {:كَذَِلكَ قَالَ الّذِي َ
َقوِْلهِمْ[} ...البقرة]113 :
أي أننا أمام ثلثة أقوال :اليهود قالوا :ليست النصارى على شيء ،والنصارى قالوا :ليست اليهود
على شيء ،وقال الذين ل يعلمون -وهم أهل مكة -مثل قولهم ،ثم نجد الدين الواحد منهما ينقسم
إلى طوائف متعددة ،وكل طائفة لها شيء تتعصب له ،وترى أن الذي تقول له هو الحق ،والذي
يقول به غيرها هو الباطل ،وكيف ينشأ هذا مع أن المصدر واحد ،والتنزيلت اللهية على الرسل
واحدة؟! إن آفة كل هذا تنشأ من شهوة السلطة الزمنية ،وكل إنسان يريد أن يكون له مكانة ونفوذ
وخلفة .وهذا يريد أن يتزعم فريقا ،وذاك يريد أن يتزعم فريقا ،ولو أنهم جُمعوا على الطريق
الواحد لما كانوا فرقاء.
ونجده صلى ال عليه وسلم يقول " :افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ،وتفرقت النصارى
على اثنتين وسبعين فرقة ،وتفرقت أمتي على ثلث وسبعين فرقة ".
وفي رواية " :كلها في النار إل واحدة وهي الجماعة "
والجماعة :هم أهل السنة والجماعة ،وفي رواية " :ما أنا عليه وأصحابي ".
ونلحظ دقة هذا القول في عدد المذاهب والفرق ،وإن كنتم ل تسمعون عن بعضها لنها ماتت
بموت الذين كانوا يتعصبون لها ،والذين كانوا يريدون أن يعيشوا في جللها.
إذن الفة تأتي خير ننظر حين إلى حكم من الحكام ،يرى فيه واحد رأيا ،ويأتي الخر فيرى فيه
حكَم ،وحكم تركه ال
رأيا آخر ،ل لشيء إل للختلف .ونقول لهم :انتبهوا إلى الفرق بين حكم ُم ْ
مناطا للجتهاد فيه ،فالحكم الذي أراده ال محكما جاء فيه بنص ل يحتمل الخلف ،وهذا النص
يحسم كل خلف .والحكم الذي يحبه ال من المكلّفين تخفيفا عنهم على وجه من الوجوه يأتي
بالنص فيه محتملً للجتهاد ،ومجيء النص من المشرع في حكم محتمل للجتهاد ،هو إذن
بالجتهاد فيه؛ لنه لو أراده حُكما ل نختلف فيه لجاء به محكما.
والمثال المستمر ما تركه لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم في سنته الشريفة ،فحينما أراد الحق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه وتعالى أل يضع السلح قبل أن يؤدب بني قريظة ،وهم من شايعوا مشركي مكة في
الحرب .فقال صلى ال عليه وسلم " :ل ُيصَلّيَنّ أحد العصر إل في بني قريظة ".
فذهب الصحابة في طريقهم إلى بني قريظة ،وآذنت الشمس بالمغيب وهم في الطريق فانقسم
صحابة رسول ال إلى قسمين :قسم قال :نصلي العصر قبل أن تغيب الشمس ،وقال قسم آخر:
قال رسول ال ل نصلين العصر إل في بني قريظة .فصلى قوم العصر قبل مغيب الشمس ،ولم
يصل الخرون حتى وصلوا إلى بني قريظة ،ورفعوا أمرهم إلى المشرع وهو رسول ال ،فأقرّ
هذا ،وأقرّ هذا ،لن النص محتمل.
لماذا؟ .لن كل حدث من الحداث يتطلب ظرفا له زمان ومكان؛ فالذين قالوا إن الشمس كادت
ل في بني
تغرب ولبد أن نصلي العصر قبل مغيبها نظروا إلى الزمان .والذين قالوا ل نصلي إ ّ
قريظة نظروا إلى المكان .وحينما ُرفِعَ المر إلى المشرع العلم أقرّ هؤلء وأقرّ هؤلء.
إذن فالحكم إن كان فيه نص محكم فل احتمال للخلف فيه ,وإن كان ال قد تركه موضعا للجتهاد
فيه فهو يأتي لنا بالنص غير المحكم .ومَن ذهب إليه ل يصح أن نخطّئه ،ولذلك بقي لنا من أدب
الئمة الذين بقيت مذاهبهم إلى الن بعضهم مع بعض .نجد الواحد منهم يقول :الذي ذهبت إليه
صواب يحتمل الخطأ ،والذي ذهب إليه مقابلي خطأ يحتمل الصواب ،وجميل أدبهم هو الذي أبقى
مذاهبهم إلى الن ،وعدم أدب الخرين جعل مذاهبهم تندثر وتختفي ول تدرون بها ،الحمد ل أنكم
ل تدرون بها.
ثم يقول الحق بعد ذلك } :ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ{ ...
()931 /
ونحن إذا سمعنا بكلمة " ثم " نعلم انها من حروف العطف ،وحروف العطف كثيرة ،وكل حرف
له معنى يؤديه ،وهنا { ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ } ،وإيتاء موسى الكتاب كان قبل أن يأتي قوله:
{ ُقلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ عَلَ ْي ُكمْ } فالتوارة جاءت ثم الِنجيل ،ثم جاء القرآن ككتاب خاتم.
فكيف جاءت العبارة هنا بـ " ثم "؟ .مع أن إتيان موسى الكتاب جاء قبل مجيء قوله الحقُ { :قلْ
َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ عَلَ ْيكُمْ }؟
ونقول لصحاب هذا الفهم :أنت أخذت " ثم " لترتيب أفعال وأحداث ،ونسيت أن " ثم " قد تأتي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لترتيب أخبار .فقد يأتي مَن يقول لك :لماذا ل تسأل عن فلن ول تؤدي الحق الواجب عليك له؛
كحق القرابة مثل ،فتقول :كيف ،لقد فعلت معه كذا ،ثم أنا فعلت مع أبيه كذا ،ثم أنا فعلت مع جدّه
كذا.
إذن ،فأنت تقوم بترتيب أخبار .وتتصاعد فيها ،وتترقى ،ولذلك قال الشاعر العربي:إن من ساد ثم
ساد أبوه ثم قد ساد قبل ذلك جدّهفالسيادة جاءت أولً للجد ،ثم جاءت للب ،ثم انتقلت للبن .و "
ثم " في هذه الحالة ليست لترتيب الحداث وإنما جاءت للترتيب الِخباري أي يكون وقوع
المعطوف بها بعد المعطوف عليه بحسب التحدث عنهما ل بحسب زمان وقوع الحدث على
أحدهما فالمراد الترقي في الِخبار بالحداث.
سجُدُو ْا لَ َدمَ} ...
صوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ ا ْ
وانظر إلى القرآن بكمال أدائه يقول {:وََلقَدْ خََلقْنَاكُمْ ثُ ّم َ
[العراف]11 :
ونعلم أن المر من ال للملئكة بالسجود لدم كان من البداية .فسبحانه في هذا القول الكريم يريد
أن يرتب حالنا ،إنه -سبحانه -خلقنا بعد أن صورنا ،وصورنا ،بعد أن قال للملئكة اسجدوا لدم.
ول المثل العلى ،تجد من يقول لبنه :لقد اعتنيت بك في التعليم العالي ،ثم ل تنس أني قد
اعتنيت بك في التعليم العالي ،ثم ل تنس أنني قد اعتنيت بك في التعليم الثانوي ،ثم ل تنسى أنني
قد اعتنيت بك في التعليم العدادية؛ ثم ل تنسى أنني قد اعتنيت بك من قبل كل ذلك التعليم
البتدائي .وأنت بذلك ترتقي إخباريا ل أحداثيا .فقد يكون الحدث بعد ولكن ترتيب الخبر فيه يكون
قبل { .ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ[ } ...النعام]154 :
طبعا مادام جاء بسيرة موسى فالكتاب هو التوارة وإذا أطلق الكتاب من غير تحديد؛ فإنه ينصرف
إلى القرآن ،لنه هو الكتاب الجامع لكل ما في الكتب ،والمهيمن على كل ما في الكتب .أما لو
قيل مثلً :أنزلنا على موسى الكتاب ،فيكون الكتاب هو التوارة ،أو أنزلنا على عيسى الكتاب،
شيْءٍ
فيكون الكتاب هو النجيل { .ثُمّ آتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ َتمَاما عَلَى الّذِي أَحْسَنَ وَتَ ْفصِيلً ّل ُكلّ َ
حمَةً ّلعَّلهُمْ بِِلقَآءِ رَ ّبهِمْ ُي ْؤمِنُونَ } [النعام]154 :
وَهُدًى وَرَ ْ
والتمام هو استيعاب صفات الخير ،ولذلك يقول الحق:
{ الْ َي ْومَ َأ ْكمَ ْلتُ َل ُكمْ دِي َن ُك ْم وَأَ ْت َممْتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي[} ...المائدة]3 :
و " أكملت " فل نقصان ،وأتممتها فل استدراك .ولماذا جاء بالتمام على الذي أحسن في أمر
موسى عليه السلم؟ .جاء ذلك لن الذين تصدوا للجاج والجدل معه صلى ال عليه وسلم هم
اليهود.
وأنتم تعلمون أنهم صوروا في مصر هنا فيلما سينمائيا اسمه " الوصايا العشر " عن قصة سيدنا
موسى عليه السلم .والوصايا العشر هي التي أقر " كعب الحبار " أنها موجودة في التوراة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجاءت في اليات السابقة التي تناولناها وشرحناها .فمن المناسب أن يأتي هنا ذكر موسى عليه
السلم.
وحينما جاء موسى عليه السلم بالتوراة كما أنزلها ال عليه عاصره أناس آمنوا بما في التوراة،
وكانوا من الناجين ،وقد ماتوا .أما الذين استمرت حياتهم إلى أن جاء رسول ال ،فكان من
المطلوب منهم أن يؤمنوا به؛ لن الحق أوضح لهم في التوراة أن هناك رسولً قادما ،ولبد أن
تؤمنوا حتى تتم نعمة الحسان عليكم ،لنكم وإن كنتم مؤمنين بموسى ،وعاملين بمنهجيه فلبد من
اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم .والسابقون لكم أحسنوا في زمن بعثة رسالة موسى عليه
السلم ،وجاء محمد بالرسالة الخاتمة فإن أردتم أن يتم ال عليكم الحسن والكرامة والنعمة ،فلبد
أن تعلنوا اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم ،منكم من أحسن القتداء بموسى عليه السلم وآمنوا
حمَةً ّلعَّلهُمْ بِِلقَآءِ رَ ّبهِمْ ُي ْؤمِنُونَ {.
شيْ ٍء وَ ُهدًى وَرَ ْ
بمحمد فتم لهم الحسن } :وَ َت ْفصِيلً ّل ُكلّ َ
شيْءٍ { أي أنّه مناسب لزمنه ،ول المثل العلى ،عندما يكون لك ولد صغير السن
} وَ َت ْفصِيلً ّل ُكلّ َ
فتقول :أنا فصلت له ملبسه ،أي فصلت له الملبس التي تناسبه .وحين يكبر لن تظل ملبسه
شيْءٍ { أي القيم التي تناسب الوقت الذي يعيشونه،
القديمة صالحة لن يرتديها } .وَتَ ْفصِيلً ّل ُكلّ َ
فإذا ما جئنا بتفصيل جديد في القرآن فهو مناسب لوقته ،ولقائل أن يقول :هنا تفصيل ،وهنا
تفصيل ،فما الفرق بين تفصيل وتفصيل؟ .نقول :إن كل تفصيل مناسب لزمنه ،وآيات القرآن
مفصلة جاهزة ومعدة لكل زمن وللناس جميعا إلى أن تقوم الساعة.
والفة -دائما -في القائمين على أمر التشريع ،فحينما تأتيهم حالة لذي جاه وسلطان يحاولون
إعداد وتفصيل حكم يناسبه ،فنقول لمثل هذا الرجل :أنت تفصل الحكم برغم أن الحكام جاهزة
ومعدة ظاهرة ،إننا نجد القوالب البدنية تختلف فيها التفصيلت للملبس بينما القوالب المعنوية نجد
فيها التساوي بين الناس كلها ،فالصدق عند الطفل مثل الصدق عند اليافع ،مثل الصدق عند
الرجل ،مثل الصدق عند المرأة ،مثل الصدق عند العالم ،مثل الصدق عند التاجر .وليس لكل منهم
صدق خاص ،وكذلك المانة.
ورحمنا السلم بالقضية العقدية وكذلك بالقضية الحكيمة الجاهزة .المناسبة لكل بشر ،وليست
شيْ ٍء وَهُدًى
هناك آية على مقاس واحد تطبق عليه وحده ،ل ،فاليات تسع الجميع } وَتَ ْفصِيلً ّل ُكلّ َ
حمَةً[ { ...النعام.]154 :
وَرَ ْ
والهُدَى هو ما يدل على الغايات ،لن دين الفطرة قد انطمس بعدم تبليغ الباء إلى الولد منهج
السماء في أمور الحياة ومتعلقاتها والقيم التي يجب أن تسود .والفة أن الب يعلم ولده كيف يأكل
ويشرب ،وينسى أن يعلمه أمور القيم ،لكن الحق سبحانه وتعالى رحم غفلتنا ،ورحم نسياننا؛
فشرع وأرسل لكل زمان رسولً جديدا ،وهدْيا جديدا ليذكرناّ...} .لعَّل ُهمْ بِِلقَآءِ رَ ّبهِمْ ُي ْؤمِنُونَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ [النعام]154 :
إن كل آفة تنبع من العزوف عن تشريعات ال ،وهم ينسون أن يضعوا في أذهانهم لقاء ال ،لكن
لو أن لقاء ال متضح في أذهانهم لستعدوا لذلك؛ لن الغايات هي التي تجعل النسان يقبل على
الوسائل .والشاعر يقول:أل من يريني غايتي قبل مذهبي ومن أين والغايات هي بعد المذاهبونقول
لهذا الشاعر :قولك :أل من يريني غايتي قبل مذهبي كلم صحيح ،أما قولك :ومن أين والغايات
بعد المذاهب ،هذا كلم غير دقيق ،فالغاية هي التي تحدد المذهب ،وكذلك شرع ال الغاية أولً،
بعد ذلك جعل لهذا السبيل .وقد شرع ال لكل شيء ما تقضيه ظروف البشر الحياتية ،ولذلك ل
استدراك عليه لن فيه تفصيل لكل شيء .ويقول الحق بعد ذلك } :وَهَـاذَا كِتَابٌ{ ...
()932 /
حمُونَ ()155
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَا َركٌ فَاتّ ِبعُوهُ وَاتّقُوا َلعَّلكُمْ تُ ْر َ
{ وَهَـاذَا } إشارة وعادة ما تأتي وترد على متقدم ،ولكن إذا لم يكن لسم الشارة متقدم أو
حاضرة يشار إليه فهذا دليل على أنك إن أشرت ل ينصرف إل إليه لنه متعين ينصرف إليه
الذهن بدون تفكير لوضوحه .وكلمة { كِتَابٌ } تدل على أنه بلغ من نفاسته أنه يجب أن يُكتَب
ويسجل؛ لن النسان ل يُسجل ول يكتب إل الشيء النافع ،إنما اللغو ل يسأل عنه ،وقال ربنا عن
القرآن :إنه " كتاب " ،ومرة قال فيه " :قرآن " فهو " قرآن " يتلى من الصدور ،و " كتاب " يحفظ
في السطور .ولذلك حينما جاءوا ليجمعوه اتوا بالمسطور ليطابقوه على ما في الصدور { .وَهَـاذَا
كِتَابٌ أَن َزلْنَاهُ مُبَا َركٌ[ } ...النعام]155 :
و " أنزلناه " أي أمَرْنا بإنزاله ،ونزل به الروح المين ،وكلمة مبارك مأخوذة من " البركة :أي أنه
يعطي من الخير والثمرة فوق ما يُظَنّ فيه ،وقد تقول :فلن راتبه مائتا جنيه ،ويربي أولده جيدا
ويشعر بالرضا ،وتجد من يقول لك :هذه هي البركة .كأن الراتب ل يؤدي هذه المسئوليات أبدا.
وكلمة " البركة " تدل على أن يد ال ممدودة في السباب ،ونعلم أن الناس ينظرون دائما إلى
رزق اليجاب ،ول ينظرون إلى الرزق الوسع من اليجاب وهو رزق السلب ،فرزق اليجاب
يأتي لك بمائتي جنيه ،ورزق السلب يسلب عنك مصارف ل تعرف قدرها .فنجد من يبلغ مرتبه
ألفا من الجنيهات ،لكن بعض والده يمرض ،ويحتاج ولد آخر إلى دروس خصوصية فتتبدد اللف
جنيه ويحتاج إلى ما فوقها.
إذن فحين يسلب الحق المصارف وإنفاق المال في المعصية أو المرض فهذه هي بركة الرزق،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونجد الرجل الذي يأتي ماله من حلل ويعرق فيه يوفقه ال إلى شراء كل شيء يحتاج إليه،
ويخلع ال على المال القليل صفة القبول ،ونجد آخر يأتي ماله حرام فيخلع ال على ماله صفة
الغضب فينفقه في المصائب والبليا ويحتاج إلى ما هو أكثر منه.
وأنت حين تقارن القرآن بالتوراة في الحجم تجده أصغر منها ولكن لو رأيت البركة التي فيه
فستجدها بركة ل تنتهي؛ فكل يوم يعطي القرآن عطاءه الجديد ول تنقضي عجائبه ،ويقرأه واحد
فيفهم منه معنى ،ويقرأه آخر فيفهم منه معنى جديدا .وهذا دليل على أن قائله حكيم ،وضع في
الشيء القليل الفائدة الكثيرة ،وهذا هو معنى { كِتَابٌ أَن َزلْنَاهُ مُبَا َركٌ }؛ فكل كتاب له زمن محدود
وعصر محدود وأمة محدودة ،أما القرآن فهو يواجه من يوم أن أنزله ال إلى أن تقوم الساعة
قضايا متجددة يضع لها حلولً .والمهم أن القرآن قد جاء على ميعاد مع طموح البشريات،
وحضارتها وارتقاءاتها في العقول؛ لذلك كان لبد أن يواجه كل هذه المسائل مواجهة تجعل له
السبق دائما ول يكون ذلك إل إذا كانت فيه البركة.
وكلنا يعلم أن القرآن قد نزل على رجل أمّي ،وفي أمة أميّة ،ولذلك حكمة بالغة لن معنى " أمّي "
أي أنه لم يأخذ علما من البشر ،بل هو كما والدته أمه ،وجاءت ثقافته وعلمه من السماء.
إذن فالمية فيه شرف وارتقاء بمصادر العلم له .ونزل القرآن في أمة أمية؛ لن هذا الدين وتلك
التشريعات ،إنما نزلت في هذ المة المتبديّة المتنقلة من مكان إلى آخر وليس لها قانون بل يتحكم
فيها رب القبيلة فقط ،وحين تنزل إليها هذه القيم الروحية والحكام التشريعية ففي ذلك الدليل على
أن الكتاب الذي يحمل هذه القيم والحكام قادم من السماء .فلو نزل القرآن على أمة متحضرة لقيل
نقلة حضارية ،لكنه نزل على أمة ل تملك قوانين مثل التي كانت تُحكم بها الفرس أو الروم.
ومادام الكتاب له هذه الوصاف التي تريح الخلق من عناء التشريع لنفسهم ويضم كل الخير،
حمُونَ { [النعام]155 :
لذلك يأتي المر من ال } :فَاتّ ِبعُو ُه وَا ّتقُواْ َلعَّلكُمْ تُ ْر َ
وساعة تأتي بـ " لعل " فاعلم أن فيها رجاء ،وقد ترجو أنت من واحد وتقول :لعل فلنا يعطيك
كذا ،والرجاء هنا من واحد ،ومَن يفعل العمل المرجو إنسان آخر ،وقد يفعل الخر هذا العمل،
وقد يغضب فل يفعله؛ لن النسان ابن أغيار ،بل ومن يدري أنه ساعة يريد أن يفعل فل يقدر.
وإذا قلت " :لعلي أفعل لك كذا " ،وهنا تكون أنت الراجي والمرجوّ في آن واحد ،ولكنك أيضا
ابن للغيار ،فأنت تتوقع قدرتك على الفعل وعند إرادتك الفعل قد ل تتيسر لك مثل هذه القدرة.
ولماذا أنزل الحق هذا الكتاب؟ .يأتي الحق هنا بالتمييز للمة التي أراد لها أن ينزل فيها القرآن
فيقول } :أَن َتقُولُواْ إِ ّنمَآ{ ...
()933 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أَنْ َتقُولُوا إِ ّنمَا أُنْ ِزلَ ا ْلكِتَابُ عَلَى طَا ِئفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنّا عَنْ دِرَاسَ ِتهِمْ َلغَافِلِينَ ()156
فالكتاب يصفي العقائد السابقة التي نزلت على الطائفتين من اليهود والنصارى ،وإذا كنتم قد غفلتم
عن دراسة التوراة والِنجيل؛ لنكم أمة أمية ل تعرف القراءة والكتابة؛ لذلك أنزلنا إليكم الكتاب
الكامل مخافة أن تصطادوا عذرا وتقولوا :إن أميتنا منعتنا من دراسة الكتاب الذي أنزل على
طائفتين من قبلنا من اليهود والنصارى .وكأن ال أنزل ذلك الكتاب قطعا لعتذارهم.
()934 /
حمَةٌ َفمَنْ
َأوْ َتقُولُوا َلوْ أَنّا أُنْ ِزلَ عَلَيْنَا ا ْلكِتَابُ َلكُنّا أَ ْهدَى مِ ْنهُمْ َفقَدْ جَا َءكُمْ بَيّ َنةٌ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَ ُهدًى وَرَ ْ
أَظَْلمُ ِممّنْ كَ ّذبَ بِآَيَاتِ اللّ ِه َوصَ َدفَ عَ ْنهَا سَ َنجْزِي الّذِينَ َيصْ ِدفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ ا ْلعَذَابِ ِبمَا كَانُوا
َيصْ ِدفُونَ ()157
قد يحتج المشركون من أن التوراة والِنجيل لو نزلت عليهم لكانوا أهدى من اليهود والنصارى،
وفي هذا القول ما يعني أن أذهانهم مستعدة لتقبل اليمان ،وقد قطع ال عليهم كل عذر فجاء لهم
بالقرآن ،ويقول الحقَ { :فمَنْ َأظْلَمُ ِممّن َك ّذبَ بِآيَاتِ اللّ ِه َوصَ َدفَ عَ ْنهَا[ } ...النعام]157 :
و " صدف " من الفعال التي تُستعمل متعدية وتُستعمل لزمة ،ومعنى " لزمة " أنها تكتفي
بالفاعل ول تتطلب مفعولً ،فمثلً إذا قيل لك :جلس فلن .تفهم أن فلنا قد جلس ويتم لك المعنى
ول تتطلب شيئا آخر .لكنك إن قيل لك :ضَربَ زيد ،فل بد أنك تنتظر من محدثك أن يبين لك من
الذي ضُرَب ،أي أنك جئت بفعل يطلب شئيا بعد الفاعل ليقع عليه الفعل .وهذا اسمه فعل " متعد "
أي يتعدى به الفاعل إلى مفعول به.
و " صدف " فيها الخاصتان .وجاء الحق بهذه الصيغة المحتملة لن تكون لزمة وأن تكون
متعدية ليصيب السلوب غرضين؛ الغرض الول :أن تكون " صدف " بمعنى انصرف وأعرض
فكانت لزمة أي ضل في ذاته ،والمر الثاني :أن تكون صدف متعدية فهي تدل على أنه يصرف
غيره عن اليمان ،أي يضل غيره ،ويقع عليه الوزر؛ لضلل نفسه أولً ثم عليه وزر من أضل
ثانيا ،ولذلك جاء سبحانه باللفظ الذي يصلح للثنتين " صدف عنها " أي انصرف ،ضللً لنفسه،
وصدف غيره أي جعل غيره يصدف ويعرض فأضل غيره ،وبذلك يعذبه ال عذابين ،فيقول
سبحانه ...{ :سَنَجْزِي الّذِينَ َيصْ ِدفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ ا ْلعَذَابِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ ِدفُونَ } [النعام]157 :
فكأن المسألة يرتكبها :الذين صدفوا أنفسهم ،وصرفوها عن اليمان ويصدفون كل من يحاول أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يؤمن .وهؤلء هم القوم الذين أعرضوا وانصرفوا عن منهج الهدى ،أو تغالوا في ذلك فصرفوا
غيرهم عن منهج الهدى ،ولو أنهم استقرأوا الوجود الذي يعايشونه لوجدوا الموت يختطف كل يوم
قوما على غير طريقة رتيبة ،فل السن يحكم ويحدد وقت وزمن انقضاء الجل ،ول السباب
تحكمه ،ول المرض أو العافية تحكمه ،فالموت أمر شائع في الوجود ،ومعنى ذلك أن على كل
إنسان أن يترقب نهايته ،فكأنه يتساءل :لماذا إذن يصدفون؟ .وماذا ينتظرون من الكون؟ .أرأوا
خلودا في الكون لموجود معهم؟.
ويقول سبحانه من بعد ذلكَ { :هلْ يَنظُرُونَ ِإلّ} ...
()935 /
َهلْ يَنْظُرُونَ إِلّا أَنْ تَأْتِ َيهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ َأوْ يَأْ ِتيَ رَ ّبكَ َأوْ يَأْ ِتيَ َب ْعضُ آَيَاتِ رَ ّبكَ َيوْمَ يَأْتِي َب ْعضُ آَيَاتِ
رَ ّبكَ لَا يَ ْنفَعُ َنفْسًا إِيمَا ُنهَا لَمْ َتكُنْ َآمَ َنتْ مِنْ قَ ْبلُ َأوْ كَسَ َبتْ فِي إِيمَا ِنهَا خَيْرًا ُقلِ انْ َتظِرُوا إِنّا مُنْتَظِرُونَ
()158
فهل ينتظرون من عطاءات الوجود المحيط بهم إل أن تأتيهم الملئكة التي تقبض الروح؟
سهِمْ فَأَ ْل َقوُاْ
والملئكة تأتي هنا مجملة .وفي آيات أخرى يقول {:الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ
السَّلمَ[} ...النحل]28 :
ولن يتأبى أحد على الملئكة؛ لذلك يلقون لهم السلم وتنتهي المسألة.
ك لَ يَنفَعُ َنفْسا
ويتابع سبحانهَ { :أوْ يَأْ ِتيَ رَ ّبكَ َأوْ يَأْ ِتيَ َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ َيوْمَ يَأْتِي َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّب َ
إِيمَا ُنهَا لَمْ َتكُنْ آمَ َنتْ مِن قَ ْبلُ َأوْ كَسَ َبتْ فِي إِيمَا ِنهَا خَيْرا ُقلِ ان َتظِرُواْ إِنّا مُنتَظِرُونَ } [النعام]158 :
ووقف العلماء عند هذا القول الكريم لنهم أرادوا أن يفسروا التيان من الرب على ضوء التيان
منا ،والتيان منا يقتضي انخلعا من مكان كان النسان فيه إلى مكان يكون فيه ،وهذا المر ل
يصلح مع ال ,ونقول :أفسرت كل مجيء على ضوء المجيء بالنسبة لك؟ بال قل لي :ما رأيك
حقّ[} ...ق]19 :
سكْ َرةُ ا ْل َم ْوتِ بِالْ َ
في قوله تعالى {:وَجَا َءتْ َ
كيف جاءت سكرة الموت وهي المخلوقة ل؟ إننا ل نعرف كيف يجيء الموت وهو مخلوق؟
فكيف تريدون أن نعرف كيف يجيء ال؟ .عليكم أن تفسروا كل شيء بالنسبة ل بما يليق بذات
شيْءٌ } ولنتأذب ونعط العقول مقدارها من الفهم ،ولنجعل كل شيء
ال في إطار { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
منسوبا ل بما يناسب ذات ال؛ لن المجيء يختلف بأقدار الجائين ،فمجيء الطفل غير مجيء
الشاب ،غير مجيء الرجل العجوز ،غير مجيء الفارس ،فما بالنا بمجيء ال سبحانه؟!! إياك -
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن -أن تفهم المجيء على ضوء مجيء البشر .وأكررها دائما :عليك أن تأخذ كل شيء بالنسبة
له سبحانه ل بقانونك أنت ،ولكن بقانون الذات العلى ،واجعل كل ما يخصه في إطار { لَيْسَ
شيْءٌ } ،ولذلك قل :له سمْع ليس كسمعنا ،وبصر ليس كبصرنا ،ويد ليست كايدينا ،في
َكمِثْلِهِ َ
شيْءٌ } .وإياكم أن تسمعوا مناقشة في قوله { :يَأْ ِتيَ رَ ّبكَ } .وقل إن إتيان ال
إطار { لَيْسَ َكمِثِْلهِ َ
شيْءٌ } { َأوْ يَأْ ِتيَ رَ ّبكَ َأوْ يَأْ ِتيَ َب ْعضُ آيَاتِ
ومجيئه ليس كفعل البشر ،بل سبحانه { لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
رَ ّبكَ َيوْمَ يَأْتِي َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ }.
و { َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ } ،هي العلمات ،وقد قال صلى ال عليه وسلم " :بَادِرُوا بالعمال سِتّا:
ح ِدكُ ْم وأمْرَ العامّة ".
خوَ ْيصَةً أ َ
طلوعَ الشمس من مغربها ،والدّخَان ،ودابّةَ الرض ،والدّجّالَ ،و ُ
و " خُو ْيصَةُ أحدكم " تصغير :خاصة ،والمراد حادثة الموت التي تخص النسان ،وصغّرت
لستصغارها في جنب سائر العظائم من بعث وحساب وغيرهما وقيل :هي ما يخص الِنسان من
الشواغل المقلقة من نفسه وماله وما يهتم به.
و " أمر العامّة " :أي القيامة؛ لنها تعم الخلئق ،أو الفتنة التي تعمي وتصم ،أو المر الذي يستبد
به العوام ويكون من قبلهم دون الخواص.
} َأوْ يَأْ ِتيَ رَ ّبكَ َأوْ يَأْ ِتيَ َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ َيوْمَ يَأْتِي َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ لَ يَنفَعُ َنفْسا إِيمَا ُنهَا َلمْ َتكُنْ
آمَ َنتْ مِن قَ ْبلُ { [النعام]158 :
لن اليمان ل يكون إل بأمر غيبي؛ فكل أمر مشهدي مدرك بالحواس ل يسمى إيمانا؛ فأنت ل
تقول :انا أؤمن بأني أقرأ الن في كتاب خواطر الشيخ الشعراوي حول آيات القرآن الكريم؛ لنك
بالفعل تقرأ هذه الخواطر الن .وأنت ل تقول :أنا أؤمن بأن النور يضيء الحجرة؛ لن هذا أمر
مشهدي ،وليس أمرا غيبيّا .والِيمان يكون دائما بأمر غيبي ،ولكن إذا جاءت اليات فإننا ننتقل
من الِيمان بالمر الغيبي إلى الِيمان بالمر الحسي ،وحينئذ ل ينفع الِيمان من الكافر ،ول تقبل
الطاعة من صدقة أو غيرها من أنواع البر والخير بعد أن تبلغ الروح الحلقوم وتقول :لفلن كذا
ولفلن كذا ،وقد كان لفلن .هذا ل ينفع؛ لن المال لم يعد مَالَك ،بل صار مال الورثة ،كذلك الذي
لم يؤمن وبعد ذلك رأى اليات الستة التي قال الشارع عنها :إنها ستحدث بين يدي الساعة أو قبل
مجيء الساعة .وساعة ترى هذه اليات لن يُقبل منك أن تقول :آمنت؛ لن الِيمان إنما يكون
بالمر الغيبي ،وظهور اليات هو أمر مشهدي فلن يُقبل بعده إعلن الِيمان .والحق هو القائل} :
ك لَ يَنفَعُ َنفْسا إِيمَا ُنهَا لَمْ َتكُنْ
َأوْ يَأْ ِتيَ رَ ّبكَ َأوْ يَأْ ِتيَ َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّبكَ َيوْمَ يَأْتِي َب ْعضُ آيَاتِ رَ ّب َ
آمَ َنتْ مِن قَ ْبلُ َأوْ َكسَ َبتْ فِي إِيمَا ِنهَا خَيْرا { [النعام]158 :
أي أن الِيمان يجب أن يكون سابقا لظهور هذه اليات ،وأل يكون المانع له من العمل القصور،
كأن يكون الِنسان -والعياذ بال -مجنونا ولم يفق إل بعد مجيء العلمة ،أو لم يَبْلُغ إل بعد وجود
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العلمة فهذا هو من ينفعه الِيمان.
وقد عرض الحق لنا من هذه الصور ما حدث في التاريخ السابق ،فهو القائل {:وَجَاوَزْنَا بِبَنِي
ن وَجُنُو ُدهُ َبغْيا وَعَدْوا حَتّىا إِذَآ أَدْ َركَهُ ا ْلغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنّهُ ل ِإلِـاهَ
عوْ ُ
إِسْرَائِيلَ الْ َبحْرَ فَأَتْ َب َعهُمْ فِرْ َ
ل وَأَنَاْ مِنَ ا ْلمُسِْلمِينَ }[يونس]90 :
ِإلّ الّذِي آمَ َنتْ ِبهِ بَنواْ إِسْرَائِي َ
عصَ ْيتَ قَ ْبلُ[} ...يونس]91 :
ن َوقَدْ َ
وماذا كان رد ال عليه؟ لقد قال سبحانه {:آل َ
إذن :إذا بلغت الروح الحلقوم ،وهذه مقدمات الموت فل ينفع حينئذ إعلنك اليمان.
ويذيل الحق الية بقوله...} :ان َتظِرُواْ إِنّا مُنتَظِرُونَ { [النعام]158 :
هم منتظرون الخيبة ونحن منتظرون الفلح.
ويقول الحق بعد ذلك } :إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ{ ...
()936 /
شيْءٍ إِ ّنمَا َأمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ُثمّ يُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا كَانُوا
ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ
إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُوا دِي َنهُ ْم َوكَانُوا شِ َيعًا لَ ْ
َي ْفعَلُونَ ()159
هذه الية تشرح الية التي سبقت خواطرنا عنها ،وهي قوله الحق {:وَأَنّ هَـاذَا صِرَاطِي مُسْ َتقِيما
فَاتّ ِبعُوهُ َولَ تَتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِبكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذاِلكُ ْم َوصّاكُمْ بِهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ }[النعام]153 :
والذين فرقوا دينهم نسوا أن الدين إنما جاء ليجمع ل ليفرق ،والدين جاء ليوحد مصدر المر
والنهي في الفعال الساسية فل يحدث بيننا وبين بعضنا أي خلف ،بل الخلف يكون في
المباحات فقط؛ إن فعلتها فأهلً وسهلً ،وإن لم تفعلها فأهلً وسهلً ،ومالم يرد فيه أفعل ول تفعل؛
فهو مباح.
إذن الذين يفرقون في الدين إنما يناقضون منهج السماء الذي جاء ليجمع الناس على شيء واحد؛
لتتساند حركات الحياة في الناس ول تتعاند ،وإذا كان لك هوى ،وهذا له هوى ،وذلك له هوى
فسوف تتعاند الطاقات ،والمطلوب والمفروض أن الطاقات تتساند وتتعاضد.
والشيع هم الجماعة التي تتبع أمرا ،هذا المر يجمعهم ولو كان ضلل.
وهناك تشيع لمعنى نافع وخير ،وهناك تشيع لعكس ذلك ،والتشيع على إطلقه هو أن تجنمع
ستَ
جماعة على أمر ،سواء أكان هذا المر خيرا أم شرا { .إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َن ُه ْم َوكَانُواْ شِيَعا لّ ْ
شيْءٍ[ } ...النعام]159 :
مِ ْنهُمْ فِي َ
إذن هم بعيدون عن منهجك يا محمد ،ول يصح أن ينسبوا إلى دينك؛ لن السلم جاء لثبات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القيم للوجود مثل الماء لثبات حياة الوجود .ونعرف أن الماء ل يأخذ لونا ول طعما ول رائحة،
فإن أخذ لونا أو طعما أو رائحة فهو يفقد قيمته كماء صاف .وكذلك السلم إن أخذ لونا ،وصار
المسلمون طوائف؛ فهذا أمر يضر الدين ،وعلينا أن نعلم أن السلم لون واحد...{ .إِ ّنمَآ َأمْرُ ُهمْ
إِلَى اللّهِ ُثمّ يُنَبّ ُئهُم ِبمَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ } [النعام]159 :
إن شاء سبحانه عاجلهم بالهزيمة أو بالعذاب ،وإن شاء آجلهم إلى يوم القيامة.
ويقول الحق بعد ذلك { :مَن جَآءَ بِا ْلحَسَنَةِ} ...
()937 /
حسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا َومَنْ جَاءَ بِالسّيّ َئةِ فَلَا يُجْزَى ِإلّا مِثَْلهَا وَهُمْ لَا ُيظَْلمُونَ ()160
مَنْ جَاءَ بِالْ َ
هناك " حسن " ،و " حسنة " ول تقل :إن حسنة هي مؤنث حسن ،لن فيها تاء .كأنها تاء التأنيث،
ولكن اسمها " تاء المبالغة " تأتي على اللفظ الذي للذكر ،مثلما تقول " :فلن علّمة " " ،فلن
راوية للشعر " وفلن نسّابة .هذه هي تاء المبالغة.
والحسنة هي الخير الذي يورث ثوابا ،وكلما كان الثواب أخلد وأعمق كانت الحسنة كذلك .وإذا
قال الحق سبحانه وتعالى { :مَن جَآءَ بِا ْلحَسَنَةِ فََلهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا }.
فـ " أمثالها " جمع " مثل " ،والمثل مذكر ،والقاعدة تقول :حين يكون المعدود مذكرا نأتي له
بالتاء ،وحين يكون مؤنثا نحذف التاء لن أصل العداد مبني على التاء ،لنك عندما تعد تقول
واحد ،اثنان ثلثة إلى عشرة فأصل العداد مبنيّ على التاء ،وإذا استعملته مع المؤنث تخالف
بحذف التاء فيه ،وإن استعملت العدد مع الصل وهو المذكر ،تستعمله على طبيعته فتقول " :ثلثة
رجال " .وإذا أردت أن تتكلم عن النثى ،تقول " :ثلثة نسوة " ،والحق هنا يقول { :فََلهُ عَشْرُ
َأمْثَاِلهَا } ،و " مثل " -كما قلنا -مذكر .والحق لم يجعل الصل في العطاء هو " المثل " ،بل
جعل الصل هو الحسنة { :مَن جَآءَ بِا ْلحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا َومَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ فَلَ ُيجْزَى ِإلّ
مِثَْلهَا[ } ...النعام]160 :
وهذا هو مطلق الرحمة والفضل ،ولذلك ورد الحديث القدسي.
عن ابن عباس رضي ال عنهما أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال -فيما يروى عن ربه
تبارك وتعالى " -إن ربكم عز وجل رحيم .من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ،فإن عملها
كتبت له عشرا إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة ،ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ،فإن
عملها كتبت له واحدة او يمحوها ال عز وجل ول يهلك على ال إل هالك ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونعرف أن الحق يجزي الحسنة بعشر أمثالها ويضاعف ذلك إلى سبعمائة ضعف ،لن كل فعل
تلزمه طاقة من الِخلص في نفاذه ،فكأن الحق قد وضع نظاما بأن الحسنة بعشر أمثالها ،ثم
بالنية المخلصة تبلغ الضعاف إلى ما شاء ال .وقد وضع الحق هذا النظام؛ لنه جل وعل يريد
للحسنة أن تُفعل ،وينتفع الغير بها ،فإن كان فاعلها حريصا على الجر الزائد فهو يقدمها بنية
عفَهُ لَ ُه وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ }
مخلصة ،ويقول الحق لنا {:مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَا ِ
[الحديد]11 :
ضعَافا كَثِي َر ًة وَاللّهُ َيقْ ِبضُ
عفَهُ لَهُ َأ ْ
حسَنا فَ ُيضَا ِ
ويقول أيضا {:مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا َ
وَيَبْسُطُ[} ...البقرة]245 :
ويحدد هنا جزاء الحسنة بأن ثوابها عشر أمثالها ،ونية معطي الحسنة هي التي يمكنها أن
تضاعفها إلى سبعمائة أو أزيد.
والحق سبحانه وتعالى يعطي مثلً لذلك في قوله تعالى {:مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبّةٍ[} ...البقرة ]261:وإذا كانت الرض وهي
مخلوقة ل تعطيها أنت حبة فتعطيك سبعمائة فماذا يعطي خالق الرض؟ إن عطاءه غير محدود
عفُ ِلمَن يَشَآءُ }[البقرة]261 :
ول ينفد ،ولذلك يقول سبحانه {:وَاللّهُ ُيضَا ِ
ويتابع الحق سبحانهَ ...} :ومَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ فَلَ ُيجْزَى ِإلّ مِثَْلهَا وَ ُه ْم لَ يُظَْلمُونَ { [النعام]160 :
مادام ل يجزي إل مثلها فهم ل يظلمون أبدا.
ويقول الحق بعد ذلكُ } :قلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّي{ ...
()938 /
ُقلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ دِينًا قِ َيمًا مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ ()161
و " دينا قيما " أي تقوم عليه مسائل الحياة ،وهو قائم بها ،و " قيما " مأخوذة من " القيمة " أو من "
القيام " على المر ،وقام على المر أي باشره مباشرة من يصلحه ،كذلك جاء الدين ليصلح للناس
حركة حياتهم بأن أعطاهم القيم ،وهو قائم عليهم أيضا { :دِينا قِيَما مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا }.
وفي كل أمر مهم له خطره ومنزلته يأتي لنا الحق بلمحة من سيرة سيدنا إبراهيم عليه السلم،
لنه صلوات ال وسلمه على نبينا وعليه فيه القدر المشترك الذي يجمع كفار مكة ،وأهل الكتاب
الذين يتمحكون فيه .فقالت اليهود :إبراهيم كان يهوديّا ،وقالت النصارى :إن إبراهيم كان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نصرانيّا ،وربنا يقول لهم ولنا {:مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ َيهُودِيّا َولَ َنصْرَانِيّا وََلكِن كَانَ حَنِيفا مّسْلِما} ...
[آل عمران]67 :
واليهودية والنصرانية جاءتا من بعده .أما بالنسبة للجماعة الخرى ففي بيئتهم ،وكل حركات
حياتهم ،وتجاربهم ونفعهم من آثار إبراهيم عليه السلم ما هو ظاهر وواضح .يقول الحق {:رّبّنَآ
ج َعلْ َأفْئِ َدةً مّنَ
لةَ فَا ْ
سكَنتُ مِن ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْل ُمحَرّمِ رَبّنَا لِ ُيقِيمُواْ الصّ َ
إِنّي أَ ْ
النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ[} ...إبراهيم]37 :
فسيدنا إبراهيم هو الذي رفع القواعد من البيت الحرام ،وهو الذي عمل لهم مهابة جعلت تجاربهم
تذهب إلى الشمال وإلى الجنوب ول يتعرض لها أحد ،وجاءت لهم بالرزق الوفير .وحين يقول
الحق { :دِينا قِيَما مّلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفا َومَا كَانَ مِنَ ا ْل ُمشْ ِركِينَ } [النعام]161 :
المقصود هو الدين الذي تعيشون في كنف خيرات آثاره ،و " الحنف " هو اعوجاج في القدم.
وبطبيعة الحال لم يكن دين إبراهيم مائلً عن الحق والصواب بل هو مائل عن النحراف دائم
الستقامة .ونعرف أن الرسل إنما يجيئون عند طغيان النحراف ،فإذا جاء إبراهيم مائلً عن
المنحرف؛ فهو معتدل.
سكِي} ...
ن صَلَتِي وَنُ ُ
ويقول الحق بعد ذلكُ { :قلْ إِ ّ
()939 /
و " صلتي " مقصود بها العبادة والركن الثاني في الِسلم الذي يتكرر كل يوم خمس مرات،
وهي الركن الذي ل يسقط أبدا؛ لن شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال -كما قلنا
سابقا -يكفي أن تقولها مرة في العمر ،وقد يسقط عنك الصوم إن كنت ل تستطيع ،وقد ل تزكي
لنه ليس لك مال ،وقد ل تستطيع الحج ،وتبقى الصلة التي ل تسقط أبدا عن العبد .وهي -كما
نعلم -قد أخذت من التكليف حظها من الركينة.
إن كل تكليف من التكاليف جاء بواسطة الوحي إل الصلة فإنها جاءت بالمباشرة ،وتلقاها رسول
ن صَلَتِي } ،فهو يذكر لنا
ال صلى ال عليه وسلم من ربه دون واسطة .وحين يقول الحق { :إِ ّ
عمدة الركان والتي اشتملت على كل الركان كما أوضحنا سابقا .حتى إن الِنسان إذا كان راقدا
في مرض ول يستطيع القيام فعليه أن يحرك رأسه بالصلة أو يخطر أعمال الصلة على قلبه.
جعَلْنَا
سكِي } .و " النسك " يطلق ويراد به كل عبادة ،والحق يقولّ {:ل ُكلّ ُأمّةٍ َ
ويقول الحق { وَنُ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُوهُ[} ...الحج]67 :
مَنسَكا ُهمْ نَا ِ
" النسك " إذن هو عبادة ويطلق بالخص على أفعال كثيرة في الحج ،مثل نسك الطواف ونسك
السعي ،ونسك الوقوف بعرفة ،ونسك الرمي ،ونسك الجمار ،وكل هذه اسمها مناسك ،والصل
فيها أنها مأخوذة من مادة " النسيكة " وهي السبيكة من الفضة التي تصهر صهرا يُخرج منها كل
المعادن المختلطة بها حتى تصير غاية في النقاء .فسميت العبادة نسكا لهذا ،أي يجب أن تصفى
سكِي
ن صَلَتِي وَنُ ُ
العبادة ل كما تصفى سبيكة الفضة من كل المعادن التي تخالطهاُ { :قلْ إِ ّ
ي َو َممَاتِي }.
َومَحْيَا َ
وهنا أمران اختياريان ،وأمران ل اختيار للِِنسان فيهما ،الصلة والمناسك كلهما داخل في قانون
الختيار ،لكن المحيا والممات ل يدخل أي منهما في قانون الختيار؛ إنهما في يد ال ،والصلة
والنسك أيضا ل ،ولكن باختيارك ،وأنت ل تصلي إل لنك آمنت بالمر بالصلة ،أو أن الجوارح
ما فعلت كذا إل ل .إذن فأنت لم تفعل شيئا من عندك أنت ،بل وجهت الطاقات المخلوقة ل لتأدية
المنهج الذي أنزله ال إذن إن أردت نسبة كل فعل فانسبه إلى ال.
ولماذا جاء بالصلة والنسك وكلهما أمر اختياري؟؛ لنه إن كان في ظاهر المر لكم اختيار،
فكل هذا اختيار ،فكل هذا الختيار نابع من إيجاد ال لكم مختارين .وهو الذي وضع المنهج
فجعلكم تصلون ،أو :إن صلتي ل ونسكي ل ،أي أن تخلص فيها ،ول تشرك فيها ،ول تصلي
مرائيا ،ول تصنع نسكا مرائيا ،ول تذهب إلى الحج من أجل أن يقولوا لك " :الحاج فلن " أبدا،
بل اجعلها كلها ل؛ لنك إن جعلتها لغيره فليس لغيره من القدرة على الجزاء ما يجازيك ال به؛
إن جعلتها لغيره فقد اخترت الخيبة في الصفقة؛ لذلك اجعل الصلة والنسك للذي يعطيك الجر{ .
ي َو َممَاتِي للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [النعام]162 :
سكِي َومَحْيَا َ
ن صَلَتِي وَنُ ُ
ُقلْ إِ ّ
والحياة هبة ال ،وإياك أن تصرف قدرة الحياة ومظاهر الحياة في غير ما يرضي ال .فينبغي أن
يكون حياتك ل ل لشهوتك ،ومماتك ل ل لورثتك ،وتذكر جيدا لن الحق يقول بعد ذلك { :لَ
شَرِيكَ لَهُ وَبِذاِلكَ} ...
()940 /
وهذا القول يدل على أن بعض الخلق قد يجعل ل شريكا في العبادة فيجعل صلته ظاهرية رياء،
ومناسكه ظاهرية رياء ،وحياته يجعلها لغير واهب الحياة .ويعمل حركاته لغير واهب الحياة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت وَأَنَاْ
ويجعل مماته للورثة وللذرية؛ لذلك عليك أن تتذكر أن ال ل شريك له...{ .وَبِذاِلكَ ُأمِ ْر ُ
َأ ّولُ ا ْل ُمسِْلمِينَ } [النعام]163 :
وهذا أمر من ال لرسوله ،وكل أمر للرسول هو أمر لكل مؤمن برسالته صلى ال عليه وسلم،
والوامر التي صدرت عن الرب هي لصالحك أنت .فسبحانه أهل لن يُحب ،وكل عبادة له فيها
الخير والنفع لنا ،وأنا ل أدعيه لنفسي بل هو عطاء من ربكم وربي الذي أمر .ولذلك فالحق
سبحانه وتعالى حينما رأى أن رسوله صلى ال عليه وسلم مشغول بأمر أمته أبلغنا {:عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ
مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة]128 :
وفي كل شيء كان صلى ال عليه وسلم يقول :أمّتي أمتي أمتي أمتي ،وأراد الحق سبحانه وتعالى
أن يطمئن رسوله على محبوبية أمته فقال له " :إنا سنرضيك في أمتك ول نسؤوك ".
والحديث بتمامه كالتي:
" عن عبدال بن عمرو بن العاص رضي ال عنهما أن النبي صلى ال عليه وسلم تل قول ال عز
وجل في إبراهيمَ { :ربّ إِ ّنهُنّ َأضْلَلْنَ كَثِيرا مّنَ النّاسِ َفمَن تَ ِبعَنِي فَإِنّهُ مِنّي } ...الية.
حكِيمُ }.
ك وَإِن َت ْغفِرْ َل ُهمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
وقال عيسى عليه السلم { :إِن ُتعَذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُد َ
فرفع يديه وقال " :اللهم أمتي أمتي " وبكى ،فقال ال عز وجل :يا جبريل اذهب إلى محمد وربك
أعلم فسلْه ما يُبكيك؟ فأتاه جبريل عليه الصلة والسلم ،فسأله وأخبره رسول ال صلى ال عليه
وسلم بما قال وهو اعلم ،فقال عز وجل :يا جبريل اذهب إلى محمد فقل :إنا سَنُرضيك في أمتك
ول نسوؤك ".
س ْوفَ ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَىا }[الضحى]5 :
ونزل قوله الحق {:وَلَ َ
روي عن علي رضي ال عنه قال :قال صلى ال عليه وسلم " :إذن ل أرضى وواحد من أمتي
في النار ".
ويذيل الحق الية بقوله { :وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْلمُسِْلمِينَ }
وحين يقول صلى ال عليه وسلم :وأنا أول المسلمين في أمته فهذا قول صحيح صادق لنه قبل أن
يأمر غيره بالسلم آمن هو بالسلم ،وكل رسول أول المسلمين في أمته ،لكن هناك أناس
يقولون :لنأخذ العبارة هكذا ،ونقول :إن الرسول صلى ال عليه وسلم له منزلة بين رسل ال
أجمعين تتجلى في أنه أخذ العهد على غيره له ،ولم يؤخذ العهد علية لحد .فإن أول المسلمين في
أمته ،فهو أول المسلمين بين الرسل أيضآ ،وإن لم تأخذها حدثا خذها للمكانة .وأضرب هذا المثل:
هب أن كلية الحقوق أنشئت مثل سنة كذا وعشرين ،لكل سنة لها أول من التلميذ ثم جاء واحد
وحصل على %100هذا العام فنقول عنة :إنة الول على كلية الحقوق من يوم أن أنشئت.
ويقول الحق بعد ذلكُ { :قلْ أَغَيْرَ اللّهِ} ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()941 /
سبُ ُكلّ َنفْسٍ ِإلّا عَلَ ْيهَا وَلَا تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ
شيْ ٍء وَلَا َتكْ ِ
ُقلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِي رَبّا وَ ُهوَ َربّ ُكلّ َ
ج ُعكُمْ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْ َتِلفُونَ ()164
أُخْرَى ُثمّ إِلَى رَ ّبكُمْ مَ ْر ِ
معنى الرب هو الذي تولى التربية ،وله السيادة ،وكل شيء في الوجود مربوب ل ،فكيف أخذ
شيئا من الشياء التي هو ربها ليكون شريكا له؟!! إن ذلك ل يصح أبدآُ { .قلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِي
رَبّا} ...
وهذا إنكار يأتي في صورة استفهام من كل سامع .وكأن الحق يقول لكل منا :أعرض هذا على
ذهنك عرضا غير متحيّز ،وأنا سأئتمنك على الجواب .ول تقال ذلك إل وقد تأكد أن الجواب
يكون :ل ،فلو كان الجواب يحتمل هذه أو تلك لما آمنك على الجواب .وكأنه يقول :إن أي عاقل
يجيب على هذا السؤال سيوافقني في أنه ل ينبغي أن يتخذ غير ال ربّاُ { .قلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِي رَبّا
سبُ ُكلّ َنفْسٍ ِإلّ عَلَ ْيهَا[ } ...النعام]164 :
شيْ ٍء َولَ َتكْ ِ
وَ ُهوَ َربّ ُكلّ َ
و " أبغى " أي أطلب ،و " تكسب " مأخوذة من مادة " كسب " و " اكتسب " ،و " كسب " دائما
تأتي في الخير -كما علمنا من قبل ،-و " اكتسب " تأتي في الشر .لكنْ هناك أناس يعتادون على
فعل السيئات ولم تعد تكلفهم شيئا ،فكأنها لسهولة ذلك عليهم تعتبر كسبا .ومن الحمق أن تقول هذا
كسب ،وهو عليك وليس لك؛ لنك حين تنظر إلى التسمية نفسها تفهم أنها ليست رصيدا لك بل
سبُ ُكلّ َنفْسٍ ِإلّ عَلَ ْيهَا َولَ تَزِ ُر وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَىا[ } ...النعام]164 :
عليكَ { .ولَ َتكْ ِ
والوزر هو الحمل الشاق ،وإن اشتق منه شيء فإن المشقة والصعوبة تلزمه؛ ككلمة " وزير " ،
جعَل لّي وَزِيرا مّنْ َأهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي }[طه]31-29 :
والحق هو القائل {:وَا ْ
كأن موسى عليه السلم عرف أن حمل الرسالة إلى اليهود عملية شاقة فقال ل :أعطني أخي
يساعدني في هذه المشقة.
ظهْ َركَ }[الشرح:
ك وِزْ َركَ * الّذِي أَن َقضَ َ
ضعْنَا عَن َ
ك صَدْ َركَ * َو َو َ
والحق هو القائل {:أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ
] 3 -1
وكان النبي عليه الصلة والسلم في أول استقباله للوحي قد عانى من وقع هذه العملية وكان
أمرها شاقا عليه؛ لن المسألة تقتضي التقاءات مَلَكية ببشرية ،ولبد أن يحدث تفاعل ،وهذا
التفاعل الذي كان يظهر على رسول ال صلى ال عليه وسلم فيحمر وجهه ،ويتصبب منه العرق،
وبعد ذلك يقول :زملوني زملوني ودثروني ،وإن كان قاعدا وركبته على ركبة أحد بجانبه فيشعر
جاره بالثقل ،وإن كان على دابة تئط وتئن تعبا ،لن التقاء الوحي برسول ال صلى ال عليه وسلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحتاج إلى أمرين :إما أن يتحول الوحي وهو حامل الرسالة إلى بشرية مماثلة لبشرية الرسول،
وإما أن الرسول ينتقل إلى ملئكية تتناسب مع استقباله للملك .وهكذا كان التقاؤه بالملكية يتطلب
ل وتفاعلً.
انفعا ً
لكن لما أنس صلى ال عليه وسلم بالوحي عرف حلوة استقباله نسي المتاعب ،ولذلك عندما فتر
الوحي عن رسول ال صلى ال عليه وسلم اشتاق إليه .وكان الوحي من قبل ذلك يتعبه ،ويجهده،
فأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبقى في نفسه حلوة ما أوحي به إليه ،وتهدأ نفسه وترتاح ويشتاق
سبُ ُكلّ َنفْسٍ ِإلّ عَلَ ْيهَا
إلى الوحي ،فإذا ما استقبل الوحي بشوق فلن يتذكر المتاعبَ ...} .ولَ َتكْ ِ
ج ُعكُمْ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ فِيهِ َتخْتَِلفُونَ { [النعام]164 :
وَلَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ ُأخْرَىا ثُمّ إِلَىا رَ ّب ُكمْ مّرْ ِ
إذن مادة الوزر هي الثقل بمشقة ،أي ل يحمل إنسان مشقة ثقيلة عن آخر؛ فالمسئولية ل تتعدى إل
إذا تعدى الفعل ،وعرفنا من قبل الفارق بين من ضل في ذاته ،ومن أضل غيره ليحمل أوزاره مع
أوزارهم لتعديه بإضللهم .وسنعود جميعا إلى ربنا لينبئنا بما كنا فيه نختلف.
جعََلكُمْ{ ...
ويقول جل وعل بعد ذلك } :وَ ُهوَ الّذِي َ
()942 /
ضكُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبُْل َوكُمْ فِي مَا آَتَا ُكمْ إِنّ رَ ّبكَ
ض وَ َرفَعَ َب ْع َ
جعََلكُمْ خَلَا ِئفَ الْأَ ْر ِ
وَ ُهوَ الّذِي َ
ب وَإِنّهُ َل َغفُورٌ َرحِيمٌ ()165
سَرِيعُ ا ْلعِقَا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ترتوي ،وإذا أكلت تشبع .من أين أخذت كل ذلك؟.
إنك قد أخذته من أن الحق الذي سخّر لك ما في الكون ،وجعل أسبابا ومسببات ،فكأنك أنت خليفة
إرادات؛ لكي يثبت لنا سبحانه أنه يفعل ما يريد ،فعلينا أن نأخذ هذه القضية قضية مسلمة ،وإن
أردت أن تختبر ذلك فانظر إلى أي إنسان ولو كان كافرا ويريد أن يقوم من مكانه ،وتنفعل له
جوارحه فيقوم ،فأي جارحة أمرها أن تفعل ذلك؟ .إنه ل يعرف إل أنه بمجرد أنه أراد أن يقوم قد
قام .وحتى ل تفهم أنك أخذت كل ذلك بشطارتك فهو يجعل بعضا من المور مشاعا عالميا ،مثل
الموت والحياة إنهما أمران ،ل يختلف فيهما النجليزي عن الفرنسي ،عن العربي ،وكذلك
الضحك والبكاء ،وهل هناك فرق بين ضحكة إنجليزية ،أو ضحكة شيوعية أو ضحكة رأسمالية؟.
ك وَأَ ْبكَىا }[النجم]43 :
حَطبعا ل ،فكلها ضحك وهو لغة عالمية ،ولذلك قال {:وَأَنّهُ ُهوَ َأضْ َ
وسبحانه جاء بأمر مشترك موجود في الناس كلها ،فأنت تتكلم وتعمل على الصورة والكيفية التي
تريدها ،لكنك ساعة تضحك فهو سبحانه الذي يضحك .وأنت حين تود مجاملة أحد وتضحك له
فتفاجأ بأن ضحكتك صناعية.
والحق يوضح لك :إن زمام كوني في يدي ،أجعل القوم مختارين في أشياء ،وأجعلهم مرغمين
ومتحدين على رغم أنوفهم في أشياء؛ فأنا الذي أضحك وأبكي .ول يوجد بكاء إنجليزي أو بكاء
جعََلكُمْ خَلَ ِئفَ
فرنساوي أو بكاء ألماني ،وكل البشر شركاء في مثل هذه المور { .وَ ُهوَ الّذِي َ
الَ ْرضِ[ } ...النعام]165 :
إن إرادتك على أبعاضك ،وعلى جوارحك -أيها النسان -موهوبة لك من الواهب العلى والمريد
العلى ،وسبحانه يسلب ذلك من بعض الفراد ،فيأمر المخ :إياك أن ترسل إشارة لتلك الجارحة
لتنفعل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي أن البعض قد ُر ِفعَ ،والبعض الخر ُرفِعَ عليه ،فمن هو البعض المرفوع؟
ومن هو البعض المرفوع عليه؟ .إن كل واحد فيكم مرفوع في جهة مواهبه ،ومرفوع عليه فيما ل
مواهب له فيه؛ لن الحق يريد أن يتكاتف المخلوقون ،ول ينشأ التكاتف تفضلً ،وإنما ينشأ
لحاجة ،فلبد أن تكون إدارة المصالح في الكون اضطرارا ،وهذه هي هندسة المكون العلى
سبحانه التي تتجلى في أنك وضعت خريطة لمن دخلوا معك في مرحلة التعليم البتدائي .ومن
ترك منهم الدراسة ومن استمر ليدخل الدراسة العدادية .إنك تجدهم أقل ،ومن درس في المرحلة
الثانوية أقل ،ومن تعلم التعليم العالي أقل ،ومن نال الدكتوراه أقل.
وهكذا نجد أن البعض يتساقط من التعليم لن هناك أكثر من مهمة في الكون ل تحتاج إل إلى
حامل البتدائية فقط ،أو حامل العدادية ،أو إلى حامل شهادة إتمام الدراسة الثانوية ،ولو ظل كل
واحد منهم في التعليم العالي ،فلن نجد لتلك المهام أحدا .لذلك جعل ال التكاتف في الكون احتياجا
ل تفضلً.
والحظوا جيدا :أن النسان إذا عضّه جوع بطنه أو جوع عياله فهو يقبل أي عمل ،وإن رضي
بقدر ال فيما وضعه فيه ،ولم يحقد على سواه فسيتقن هذا العمل ،وسيتفوق فيه وسيرزقه ال
الرزق الحلل الطيب .ولذلك قال المام علي :قيمة كل امرئ ما يحسنه ،فإن أحسن النسان
عمله ،فهو إنسان ناجح في الوجود.
وهكذا أراد الحق سبحانه وتعالى أل يجلنا أشخاصا مكررين ،ولكن جعلنا متفاضلين متفاوتين،
فرفع بعضا على بعض ،وكل منا مرفوع فيما يجيد ،ومرفوع عليه فيما ل يجيد ،حتى يحتاج
النسان منا إلى غيره ليؤدي له العمل الذي ل يجيده وبذلك يرتبط العالم ارتباط مصلحة وحاجة ل
ضكُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ لّيَبُْل َوكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ.
ارتباط تفضل } .وَ َرفَعَ َب ْع َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عنك ،واجعل طاعتك لمن ل تستغني عنه ،واجعل خضوعك لمن ل تخرج عن ملكه وسلطانه.
إذن فكل صفة من صفات الحق يتجلى ويظهر أثرها في المخلوق هبة من ال له ،فأنت إذا أردت
أن تقف ،مثلً ،ل تعرف ما هي العضلت التي تحركها لتقف ،ولكنك بمجرد إرادتك ان تقف
تقف ،وذلك مظهر لرادة ال إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
وما دمنا خلئف فلبد أن نتكامل ول نتكرر ،بمعنى أن كل واحد فيه موهبة تنقص من الخر،
وفي الخر موهبة تنقص في غيره ،ليضطر كل مخلوق في الرض أن يتعاون مع آخر ،ليأخذ
ثمرة مواهب غيره ،ويعطي هو ثمرة مواهبه .ول يريد الحق منا أن نعطي ثمرات المواهب
تفضلً ،وإنما يريد أن يجعلها حاجة .فأنت تحتاج إلى موهبة من ل موهبة لك فيه ،إنك تحتاج إلى
الغير ،وهو كذلك أيضا يحتاج إلى عملك.
وحين يستخلفنا ال تبارك وتعالى بهذه الصورة فبعضنا في ظاهر المر يكون أعلى من بعض،
لذلك يوضح سبحانه :أنا فضلت بعضكم على بعض ،لكني لم أفضل طائفة لجعل طائفة مفضولً
ل مفضل في شيء لن له فيه مواهب ،ويكون مفضل عليه في شيء آخر ل
عليها ،ولكن ك ْ
مواهب له فيه ،وهكذا يتساوى الناس جميعا.
إننا جميعا عيال ال ،وليس أحد منا أولى بال من أحد؛ لنه سبحانه لم يتخذ صاحبة ول ولدا؛
ولذلك إن حاولنا إحصاء المواهب في البشر وتوزيعها على الخلق جميعا لوجدنا أن مجموع كل
إنسان يساوي مجموع كل إنسان آخر ،ولكن أنت تأخذ في موهبة ما تفوقا ،وفي الموهبة الخرى
ل تجد نفسك قادرا عليها ،وفي موهبة ثالثة قد تقدر عليها لكنك ل تحبها ،واجمع الدرجات كلها
في جميع المواهب ستجد أن كل إنسان يساوي الخر ،ول فضل لحد على أحد إل بالتقوى.
ضكُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ لّيَبُْل َوكُمْ فِي مَآ آتَا ُكمْ إِنّ رَ ّبكَ
جعََلكُمْ خَلَ ِئفَ الَ ْرضِ وَ َرفَعَ َب ْع َ
} وَ ُهوَ الّذِي َ
سَرِيعُ ا ْلعِقَابِ[ { ...النعام]165 :
إذن فكل واحد منا يقدر أن يقول :أنا مرفوع ،ولكن عليه ألّ يغتر؛ لنه مرفوع عليه أيضا.
والتوازن يأتي من هذه الناحية ،فل غرور برفعتك في درجة ،ول مذلة بانخفاضك في درجة؛ لن
هذا مراد ال وذلك مراد له -سبحانه -والذي يحترم قدر ال في توزيع مواهبه على الخلق
يعطيه ال خير موهبته ،فل يتميز ذو موهبة أخرى عليه أبدا.
ولكن أينجح الناس جميعا في هذا؟ .ل ،فهناك أناس يتساقطون ،وهناك من يرى واحدا أغنى منه
وهو فقير ،فيبدأ في الغل والحقد والحسد ،ونقول له :انظر إلى قوتك فقد تكون أقوى منه ،وقد
تكون أسعد منه في أمور كثيرة .خذ الموهبة التي أعطاها ال لك ،والموهبة التي أعطاها لغيرك
وستجد مجموع كل إنسان يساوي مجموع كل إنسان ،فالذي ينجح في هذه المعادلت التفاضلية
يكون له من ال ثواب .فيتجاوز له سبحانه عن بعض سيئاته ،ويغفر له .والذي ل يحترم قدر ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في خلق ال يعاقبه ال؛ لذلك أوضح سبحانه :أنا أبلوكم وأختبركم ،فمن ينجح فله غفران ورحمة،
ومن ل ينجح فله عقاب ،ول تظنوا أن عقابي بعيد؛ لن ما بين النسان والعقاب أن يموت ،وليس
هناك سبب معروف للموت؛ فمن الممكن أن يموت النسان لوقته ،فيبدأ عقابه ...} .إِنّ رَ ّبكَ
ب وَإِنّهُ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ { [النعام]165 :
سَرِيعُ ا ْلعِقَا ِ
حمْدُ للّهِ {.
وبذلك ختمت سورة النعام ،التي استهلها ال بقوله سبحانه } :ا ْل َ
وختمها بقوله } :وَإِنّهُ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ {.
فالحمد ل في الولى.
والحمد ل في الخرة.
()943 /
المص ()1
قبل أن نبدأ خواطرنا في سورة العراف لبد أن نلحظ ملحظة دقيقة في كتاب ال ،ال يقول{:
ب وَإِنّهُ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }[النعام]165 :
إِنّ رَ ّبكَ سَرِيعُ ا ْل ِعقَا ِ
ونقرأ الكلمة الخيرة في سورة النعام { رّحيِمٌ } ،ونجدها مبنية على الوصل؛ لن آيات القرآن
غفُورٌ
كلها موصولة ،وإن كانت توجد فواصل آيات ،إل أنها مبنية على الوصل ،ولذلك تجد { َ
رّحِيمٌ } وعليها الضمة وبجوارها ميم صغيرة؛ لن التنوين إذا جاء بعده باء ،يقلب التنوين ميما،
فالميم الصغيرة موجودة على رحيم ،قبل أن تقرأ { بسم ال الرّحْمانِ الرّحِيـمِ } ،وتصبح
القراءة " :غفور رحيم " " بسم ال ".
وكل آيات القرآن تجدها مبنية على الوصل ،فكأن القرآن ليس أبعاضا .وكان من الممكن أن
يجعلها سكونا ،وأن يجعل كل آية لها وقف ،ل ،إنّه سبحانه أراد القرآن موصولً ،وإن كان في
بعض اليات إقلب ،وفي بعضها إدغام ،وهذا بغُنّة ،وهذا بغير غُنّة ،ويقول الحق:
بسم ال الرّحْمانِ الرّحِيـمِ
{ المص }
وفي هذه الية فصل بين كل حرف ،فنقرأها " :ألف " ثم نسكت لنقرأ " لم " ثم نسكت لنقرأ " ميم
" ثم نسكت لنقرأ " صاد " .وهنا حروف خرقت القاعدة لحكمة؛ لن هذه حروف مقطعة ،مثل "
الم ،حم ،طه ،يس ،ص ،ق ،وكلها مبنية على السكون مما يدل على أن هذه الحروف وإن
الحروف وإن خيل لك أنها كلمة واحدة ،لكن لكل حرف منها معنى مستقل عند ال ،وقال رسول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال صلى ال عليه وسلم " :من قرأ حرفا من كتاب ال فله حسنةٌ ،والحسنة بعشر أمثالها ،ل أقول
ألم حرف ،ولكن َأِلفٌ حرف ،ولمٌ حرفَ ،ومِيمٌ حرف ".
والرسول صلى ال عليه وسلم أشار إلى أن هذه الحروف بها أمور استقللية ،ول تكون كذلك إل
إذا كانت لها فائدة يحسن السكوت والوقوف عليها ،فهمها من فهمها ،وتعبد بها من تعبد بها ،وكل
قارئ للقرآن يأخذ ثوابه بكل حرف ،فلو أن قارئا قال " :أعوذ بال من الشيطان الرجيم " ونطق
بعد ذلك بحرف أو بأكثر ،فهو قد أخذ بكل حرف حسنة ،وحين نقرأ بعضا من فواتح السور ،نجد
أن سورة البقرة تبدأ بقوله الحق {:الم }[البقرة]1 :
ونقرأ هنا في أول سورة العراف { :المص } [العراف]1 :
وهي حروف مقطعة .نطقت بالِسكان ،وبالفصل بين كل حرف وحرف .ويلحظ فيها أيضا أنها
لم تقرأ مسميات ،وإنما قُرئت أسماء ،ما معنى مسميات؟ وما معنى أسماء؟ .أنت حين تقول:
كتب ،ل تقول " كاف " " تاء " " باء " ،بل تنطق مسمى الكاف كَ ،واسمها كاف مفتوحة ،أما
مسماها فهو " كَ ".
إذن فكل حرف له مسمى ،أي الصوت الذي يقوله الِنسان ،وله اسم ،والمي ينطق المسميات،
وإن لم يعرف أسماءها .أما المتعلم فهو وحده الذي يفهم أنه حين يقول " :كتب " أنها مكونة من
كاف مفتوحة ،وتاء مفتوحة ،وباء مفتوحة ،أما المي فهو ل يعرف هذا التفصيل.
وإذا كان رسول ال قد تلقى ذلك وقال :ألف لم ميم ،وهو أمي لم يتعلم .فمن قال له انطق
مسميات الحروف بهذه السماء؟.
لبد أنه قد عُّل َمهَا وتلقاها ،والحق هو القائل {:فَِإذَا قَرَأْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ }[القيامة]18 :
فالذي سوف تسمعه يا محمد ستقرأه ،ولذلك تجد عجائب؛ فأنت تجد " ألم " في أول البقرة ،وفي
صحَابِ
أول سورة آل عمران ،ولكنك تقرأ الية الولى من سورة الفيل {:أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأ ْ
ا ْلفِيلِ }[الفيل]1 :
ما الفرق بين اللف واللم والميم في أول سورة البقرة ،وسورة آل عمران وغيرهما ،والحروف
نفسها في أول سورة الفيل وغيرها كسورة الشّرْح؟ أنت تقرأها في أول سورة البقرة وآل عمران
أسماء .وتقرأها في أول سورة الفيل مسميات .والذي جعلك تفرق بين هذه وتلك أنك سمعتها تقرأ
في أول البقرة وآل عمران هكذا ،وسمعتها تقرأ في أول سورة الفيل هكذا .إذن فالقراءة توقيف،
وليس لحد أن يجترئ ليقرأ القرآن دون سماع من معلم .ل ،لبد أن يسمعه أولً حتى يعرف
كيف يقرأ.
ونقرأ } المص { في أول سورة العراف ،وهي حروف مقطعة ،ونعرف أن الحروف المقطعة
ثمانية وعشرون حرفا ،ونجد نصفها أربعة عشر حرفا في فواتح السور ،وقد يوجد منها في أول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السورة حرف واحد مثل {:ق وَا ْلقُرْآنِ ا ْلمَجِيدِ }[ق]1 :
وكذلك قوله الحق {:ص وَا ْلقُرْآنِ ذِي ال ّذكْرِ }[ص]1 :
وكذلك قوله الحق {:ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا َيسْطُرُونَ }[القلم]1 :
ومرة يأتي من الحروف المقطعة اثنان ،مثل قوله الحق {:حـم }[الحقاف]1 :
ومرة تأتي ثلثة حروف مقطعة مثل {:الم }[البقرة]1 :
ومرة يأتي الحق بأربعة حروف مقطعة مثل قوله الحق } :المص { [العراف]1 :
ومرة يأتي بخمسة حروف مقطعة مثل قوله الحق {:كهيعص }[مريم]1 :
وإذا نظرت إلى الربعة عشر حرفا وجدتها تمثل نصف الحروف البجدية ،وهذا النصف فيه
نصف أحكام الحروف ،فبعضها منشور ،أو مهموس ،أو مخفي ،أو مستعلٍ ،ومن كل نوع تجد
النصف ،مما يدل على أنها موضوعة بحساب دقيق ،ومع أن توصيف الحروف ،من مستعل ،أو
مفخم ،أو مرقق ،أو منشور ،أو مهموس ،هذا التوصيف جاء متأخرا عن نزول القرآن ،ولكن
الذي قاله يعلم ما ينتهي إليه خلقه في هذه الحروف المقطعة وله في ذلك حكمة ،وكان رسول ال
صلى ال عليه وسلم أميّا ،ولم يجلس إلى معلم ،فكيف نطق بأسماء الحروف ،وأسماء الحروف ل
يعرفها إل من تعلم؟! فهو إذن قد تلقنها ،وإننا نعلم أن القرآن جاء متحديّا العرب؛ ليكون معجزة
لسيد الخلق ،ول يُ َتحَدّى إل من كان بارعا في هذه الصنعة.
وكان العرب مشهورين بالبلغة ،والخطابة والشعر ،والسجع وبالمثال؛ فهم أمة كلم ،وفصاحة،
وبلغة ،فجاء لهم القرآن من جنس نبوغهم ،وحين يتحدى ال العرب بأنه أرسل قرآنا ل
يستطيعون أن يأتوا بمثله ،فالمادة الخام -وهي اللغة -واحدة ،ومن حروف اللغة نفسها التي برع
العرب فيها .وبالكلمات نفسها التي يستعملونها ،لكنهم عجزوا أن يأتوا بمثله؛ لنه جاء من رب
قادر ،وكلم العرب وبلغتهم هي من صنعة النسان المخلوق العاجز.
وهكذا نعلم سر الحروف المقطعة التي جاءت لتثبت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم تلقى
القرآن من المل العلى لنه أمي لم يتعلم شيئا ،لكنه عرف أسماء الحروف ،ومعرفة أسماء
الحروف ل يعرفها -كما قلت -إل المتعلم ،وقد علمه الذي علم بالقلم وعلم النسان ما لم يعلم،
ويمكن للعقل البشري أن يحوم حول هذه اليات ،وفي هذه الحروف معان كثيرة ،ونجد أن الكثير
من المفكرين والمتدبرين لكلم ال وجدوا في مجال جلل وجمال القرآن الكثير ،فتجد متصوفا
يقول إن " المص " جاءت هنا لحكمة ،فأنت تنطق أو كلمة ألف وهي الهمزة من الحلق ،واللم
تنطقها من اللسان ،والميم تنطقها من الشفة ،وبذلك تستوعب مخارج الحروف من الحلق واللسان
والشفة.
قال المتصوف ذلك ليدلك على أن هذه السورة تتكلم في أمور الحياة بدءا للخلق من آدم .إشارة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى أولية خلق النسان ،ووسطا وهو المعاش ،ونهاية وهو الموت والحساب ثم الحياة في الدار
الخرة ،وجاءت " الصاد " لن في هذه السورة قصص أغلب النبياء.
هكذا جال هذا المتصوف جولة وطلع بها ،أنردها عليه؟ ل نردها بطبيعة الحال ،ولكن نقول له:
أذلك هو كل علم ال فيها؟ .ل؛ لن علينا أن نتعرف على المعاني التي فيها وأن نأخذها على قدر
بشريتنا ،ولكن إذا قرأناها على قدر مراد ال فيها فلن نستوعب كل آفاق مرادات ال؛ لن أفهامنا
قاصرة.
ونحن البشر نضع كلمات ل معنى لها لكي تدل على أشياء تخدم الحياة ،فمثل نجد في الجيوش
من يضع " كلمة سر " لكل معسكر فل يدخل إل من يعرف الكلمة .من يعرف " كلمة السر "
يمكنه أن يدخل .وكل كلمة سر لها معنى عند واضعها ،وقد يكون ثمنها الحياة عند من يقترب من
معسكر الجيش ول يعرفها } .المص { [العراف]1 :
ونجد بعد هذه الحروف المقطعة حديثا عن الكتاب ،فيقول سبحانه } :كِتَابٌ أُن ِزلَ ِإلَ ْيكَ{ ...
()944 /
كِتَابٌ أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ فَلَا َيكُنْ فِي صَدْ ِركَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ِذكْرَى لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ ()2
وساعة تسمع " أنزل " فافهم أنه جاء من جهة العلو أي أن التشريع من أعلى .وقال بعض العلماء:
وهل يوجد في صدر رسول ال حرج؟ .لننتبه أنه ساعة يأتي أمر من ربنا ويوضح فيه { فَلَ َيكُنْ
صدْ ِركَ حَرَجٌ } ،فالنهي ليس لرسول ال صلى ال عليه وسلم وإنما النهي للحرج أو الضيق
فِي َ
أن يدخل لرسول ال ،وكأنه سبحانه يقول :يا حرج ل تنزل قلب محمد.
صدْ ِركَ حَرَجٌ }؛ لن الحق
لكن بعض العلماء قال :لقد جاء الحق بقوله سبحانه { :فَلَ َيكُنْ فِي َ
يعلم أم محمدا قد يضيق صدره ببشريته ،ويحزن؛ لنهم يقولون عليه ساحر ،وكذاب ،ومجنون,
وإذا ما جاء خصمك وقال فيك أوصافا أنت أعلم منه بعدم وجودها فيك فهو الكاذب؛ لنك لم
تكذب ولم تسحر ،وتريد هداية القوم ،وقوله سبحانه { :فَلَ َيكُنْ فِي صَدْ ِركَ حَرَجٌ } قد جاء لمر
من اثنين :إما أن يكون المر للحرج أل يسكن صدر رسول ال ،وإما أن يكون المر للرسول
طمأنة له وتسكينا ،أي ل تتضايق لنه أنزل إليك من إله ،وهل ينزل ال عليك قرآنا ليصبح منهج
خلقه وصراطا مستقيما لهم ،ثم يسلمك إلى سفاهة هؤلء؟ ل ،ل يمكن ،فاطمئن تماما...{ .فَلَ َيكُنْ
صدْ ِركَ حَرَجٌ مّنْهُ لِتُنذِرَ ِب ِه وَ ِذكْرَىا لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ } [العراف]2 :
فِي َ
والِنذار ل يكون إل لمخالف؛ لن الِنذار يكون إخبارا بشر ينتظر من تخاطبه .وهو أيضا تذكير
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للمؤمنين مثلما قال من قبل في سورة البقرة...{ :هُدًى لّ ْلمُ ّتقِينَ }
ل أعلى وهو ال ،ومُرَسَلً وهو الرسول ،ومُرْسَلً إليه وهم
وهنا نلحظ ان الرسالت تقتضي مُرْسِ ً
المة ،والمرسَل إليه إما أن يستمع ويهتدي وإما ل ،وجاءت الية لتقول { :كِتَابٌ أُن ِزلَ } من ال
وهو المرسِل ،و " إليك " لنك رسول والمرسَل إليهم هم المة ،إما أن تنذرهم إن خالفوا وإما أن
تذكرهم وتهديهم وتعينهم أو تبشرهم إن كانوا مؤمنين.
ويقول الحق بعد ذلك { :اتّ ِبعُواْ مَآ أُن ِزلَ} ...
()945 /
اتّ ِبعُوا مَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكُمْ مِنْ رَ ّبكُ ْم وَلَا تَتّ ِبعُوا مِنْ دُونِهِ َأوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا َت َذكّرُونَ ()3
وما دام العباد سينقسمون أمام صاحب الرسالة والكتاب الذي جاء به إلى من يقبل الهداية ،ومن
يحتاج إلى النذارة لذلك يقول لهم { :اتّ ِبعُواْ مَآ أُن ِزلَ ِإلَ ْيكُمْ مّن رّ ّبكُمْ } [العراف]3 :
وينهاهم عن الشرك وعدم الستهداء أي طلب الهداية فيقولَ { :ولَ تَتّ ِبعُواْ مِن دُونِهِ َأوْلِيَآءَ قَلِيلً مّا
تَ َذكّرُونَ } [العراف]3 :
وحينما يأتي الحق سبحانه في مثل هذه اليات ويقول " :وذكرى " .أو " وذكّر " إنما يلفتنا إلى أن
الفطرة المطبوع عليها الِنسان مؤمنة ،والرسالت كلها لم تأت لتنشئ إيمانا جديدا ،وإنما جاءت
لتذكر بالعهد الذي أخذ علينا أيام كنا في عالم الذر ،وقبل أن يكون لنا شهوة اختيار {:وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ
شهِدْنَآ} ...
ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ
مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
[العراف]172 :
هذا هو القرار في عالم الذر ،إذن فحين يقول الحق { :قَلِيلً مّا تَ َذكّرُونَ } فنحن نلتفت إلى ما
نسي الباء أن يبلغوه للبناء؛ فالباء يعلمون البناء متطلبات حياتهم ،وكان من الواجب أن
يعلموهم مع ذلك قيم هذه الحياة التي تلقوها؛ لن آدم وحواء ما نزل إلى الرض قال لهما الحق{:
فَِإمّا يَأْتِيَ ّنكُم مّنّي هُدًى َفمَنِ اتّ َبعَ هُدَايَ[} ...طه]123 :
وهكذا نعلم أن هناك " هدى " قد نزل على آدم ،وكان من الواجب على آدم أن يعلمه للبناء،
ويعلمه البناء للحفاد ،وكان يجب أن يظل هذا " الهدى " منقولً في سلسلة الحياة كما وصلت كل
أقضية الحياة .ويأتي سبحانه لنا بحيثيات التباع { .اتّ ِبعُواْ مَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيكُمْ مّن رّ ّبكُمْ[ } ...العراف:
]3
فالمنهج الذي يأتي من الرب العلى هو الذي يصلح الحياة ،ول غضاضة على أحد منكم في أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يتبع ما أنزل إليه من الله المربي القادر .الذي ربّى ،وخلق من عدم ،وأمد من عدم ،وهو المتولي
للتربية ،ول يمكن أن يربي أجسادنا بالطعام والشراب والهواء ول يربي قيمنا بالخلقَ { .ولَ
تَتّ ِبعُواْ مِن دُونِهِ َأوْلِيَآءَ }.
ومادام قد أوضح :اتبعوا ما أنزل إليكم من أعلى ،فل يصح أن تأتي لمن دونه وتأخذ منه ،مثلما
يفعل العالم الن حين يأخذ قوانينه من دون ال ومن هوى البشر .فها يحب الرأسمالية فيفرضها
بالسيف ،وآخر يحب الشتراكية فيفرضها البشر .بالسيف .وكل واحد يفرض بسيفه القوانين التي
تلئمه .وكلها دون منهج ال لنها أفكار بشر ،وتتصادم بأفكار بشر ،والولى من هذا وذاك أن
نأخذ مما ل نستنكف أن نكون عبيدا له.
{َ ...ولَ تَتّ ِبعُواْ مِن دُونِهِ َأوْلِيَآءَ قَلِيلً مّا تَ َذكّرُونَ } [العراف]3 :
وتذكر أيها المؤمن أن عزتك في اتباع منهج ال تتجلّى في أنك ل تخضع لمساوٍ لك ،وهذه ميزة
الدين الذي يجعل النسان يحيا في الكون وكرامته محفوظةً ،وإن جاءته مسألة فوق أسبابه يقابلها
بالمتاح له من السباب مؤمنا بأن رب السباب سيقدم له العون ،ويقدم الحق له العون فعلً فيسجد
ل شاكرا ،أما الذي ليس له رب فساعة أن تأتي له مسألة فوق أسبابه تضيق حياته عليه وقد
ينتحر.
ثم بعد ذلك يبين الحق أن موكب الرسالت سائر من لدن آدم ،وكلما طرأت الغفلة على البشر
أرسل ال رسولً ينبههم .ويوقظ القيم والمناعة الدينية التي توجد في الذات ،بحيث إذا مالت الذات
إلى شيء انحرافي تنبه الذات نفسها وتقول :لماذا فعلت هكذا؟ .وهذه هي النفس اللوامة .فإذا ما
سكتت النفس اللوامة واستمرأ النسان الخطأ ،وصارت نفسه أمارة بالسوء طوال الوقت؛ فالمجتمع
الذي حوله يعدله.
وهذه فائدة التواصي بالحق والصبر ،فكل واحد يوصّى في ظرف ،ويوصّي في ظرف آخر؛
فحين تضعف نفسه أمام شهوة يأتي شخص آخر لم يضعف في هذه الشهوة وينصح النسان،
ويتبادل النسان النصح مع غيره ،هذا هو معنى التواصي؛ فالوصية ل تأتي من جماعة تحترف
توصية الناس ،بل يكون كل إنسان موصيا فيما هو فيه قوي ،ويوصي فيما هو فيه ضعيف ،فإذا
فسد المجتمع ،تتدخل السماء برسول جديد ومعجزة جديدة ،ومنهج جديد ،لكن ال أمن أمة محمد
على هذا المر فلم يجيء رسول بعده لننا خير أمة أخرجت للناس .والخيرية تتجلى في أننا نأمر
جتْ لِلنّاسِ
بالمعروف وننهى عن المنكر ،فالتواصي باقٍ إلى أن تقوم الساعة {.كُنْ ُتمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ[} ...آل عمران]110 :
وهذه خاصية لن تنتهي أبدا ،فإن رأيت منكرا فلبد من خلية خير تنكره وتقول :ل ،وإذا كان
الحق قد جعل محمدا خاتم الرسل ،فذلك شهادة لمته أنها أصبحت مأمونة ،وأن المناعة الذاتية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيها ل تمتنع وتنقطع ،وكذلك ل تمتنع منها أبدا المناعة الجتماعية فلن يأتي رسول بعد سيد
الخلق محمد صلى ال عليه وسلم.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :وكَم مّن قَرْيَةٍ{ ...
()946 /
َوكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ َأهَْلكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا َأوْ هُمْ قَائِلُونَ ()4
وساعة تسمع " كم " فاعرف أن المسألة خرجت عن العد بحيث تستوجب أن تستفهم عنها ،وهذا
يدل على أمر كثير فوق العدد ،لكن عندما يكون العدد قليلً فل يستفهم عنه ،بل يعرف .والقرية
اسم للمكان المعد إعدادا خاصا لمعيشة الناس فيه .وهل القرى هي التي تهلك أم يهلك من فيها؟.
أوضح الحق أنها تأتي مرة ويراد منها المكان والمكين :أو يكون المراد بالقرية أهلها ،مثال ذلك
قوله الحق في سورة يوسف {:وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَاّلعِيْرَ[} ...يوسف]82 :
وبطبيعة الحال لن يسأل إنسان المكان أو المباني ،بل يسأل أهل القرية ،ولم يقل الحق :اسأل أهل
القرية؛ لن المسئول عنه هو أمر بلغ من الصدق أن المكان يشهد مع المكين ،ومرة أخرى يوضح
الحق أنه يدمر القرية بسكانها ومبانيهاَ { .وكَم مّن قَرْ َيةٍ أَهَْلكْنَاهَا فَجَآ َءهَا بَأْسُنَا }.
ل فيهلك؟ .الذي يأتي أولً هو البأس فيهلك ،فمظاهر
وأيهما يأتي أولً :الهلك أم يأتي البأس أو ً
الكونيات في الحداث ل يأتي أمرها ارتجالً ،وإنما أمرها مسبق أزلً ،وكأن الحق يقول هنا :وكم
من قرية حكمنا أن نهلكها فجاءها بأسنا ليتحقق ما قلناه أزلً ،أي أن تأتي الحداث على وفق
المرادات؛ حتى ولو كان هناك اختيار للذي يتكلم عنه الحق.
ونعلم أن القرية هي المكان ،وعلى ذلك فليس لها اختيار .وإن كان لمن يتحدث عنه ال حق
الختيار ،فسبحانه يعلم أزلً أنه سيفعل ما يتحدث عنه سبحانه .ويأتي به في قرآن يتلى؛ ليأتي
السلوك موافقا ما أخبر به الَ { .وكَم مّن قَرْيَةٍ أَهَْلكْنَاهَا َفجَآءَهَا بَ ْأسُنَا بَيَاتا َأوْ ُهمْ قَآئِلُونَ }
[العراف]4 :
والبأس هو القوة التي ترد ول تقهر ،و " بيتا " أي بالليلَ { ،أوْ ُهمْ قَآئِلُونَ } أي في القيلولة .ولماذا
يأتي البأس في البيات أو في القيلولة؟ .ونجد في خبر عمّن أَ ْهِلكُوا مثل قوم لوط أنّه حدث لهم
الهلك بالليل ،وقوم شعيب حدث لهم الهلك في القيلولة ،والبيات والقيلولة هما وقت السترخاء
ووقت الراحة وتفاجئهم الحداث فل يستطيعون أن يستعدوا {.فَِإذَا نَ َزلَ بِسَاحَ ِت ِهمْ فَسَآءَ صَبَاحُ
ا ْلمُنْذَرِينَ }[الصافات]177 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي يأتيهم الدمار في وقت هم نائمون فيه ،ول قوة لهم لمواجهة البأس...{ .فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتا َأوْ
هُمْ قَآئِلُونَ } [العراف]4 :
وإذا قال سبحانه { :بَيَاتا َأوْ هُمْ قَآئِلُونَ } فيصح أن لهذه القرية امتدادات ،ووقت القيلولة عند
جماعة يختلف عن وقت من يسكن امتداد القرية ،فيكون الوقت عندهم ليلً ،والقيلولة هي الوقت
الذي ينامون فيه ظهرا للسترخاء والراحة .ولكن كيف استقبلوا ساعة مجيء البأس الذي
سيهلكهم؟.
عوَاهُمْ إِذْ} ...
ويقول الحق سبحانهَ { :فمَا كَانَ دَ ْ
()947 /
عوَاهُمْ إِذْ جَاءَ ُهمْ بَأْسُنَا إِلّا أَنْ قَالُوا إِنّا كُنّا ظَاِلمِينَ ()5
َفمَا كَانَ دَ ْ
()948 /
والحق يسأل الرسل بعد أن يجمعهم عن مدى تصديق أقوامهم لهم ،والسؤال إنما يأتي للِِقرار،
ومسألة السؤال وردت في القرآن بأساليب ظاهر أمرها أنها متعارضة ،والحقيقة أن جهاتها منفكة،
وهذا ما جعل خصوم القرآن يدعون أن القرآن فيه تضارب .فالحق سبحانه يقول {:فَإِذَا ُنفِخَ فِي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصّورِ فَلَ أَنسَابَ بَيْ َنهُمْ َي ْومَئِ ٍذ َولَ يَتَسَآءَلُونَ }[المؤمنون]101 :
حمِيما }[المعارج]10 :
حمِيمٌ َ
ويقول سبحانه أيضا{ َولَ يَسَْألُ َ
ويقول جل وعل... {:وَلَ يُسَْألُ عَن ذُنُو ِبهِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ }[القصص]78 :
س َولَ جَآنّ }[الرحمن]39 :
ويقول سبحانه وتعالى {:فَ َي ْومَئِ ٍذ لّ يُسَْألُ عَن ذَنبِهِ إِن ٌ
سلَ إِلَ ْيهِ ْم وَلَنَسَْألَنّ ا ْلمُرْسَلِينَ } [العراف]6 :
ثم يقول هنا { :فَلَ َنسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْ ِ
وهذا ما يجعل بعض المستشرقين يندفعون إلى محاولة إظهار أن بالقرآن -والعياذ بال-
متناقضات .ونقول لكل منهم :أنت تأخذ القرآن بغير ملكة البيان في اللغة ،ولو أنك نظرت إلى أن
القرآن قد استقبله قوم لسانهم عربي ،وهم باقون على كفرهم فل يمكن أن يقال إنهم كانوا
يجاملون ،ولو أنهم وجدوا هذا التناقض ،أما كانوا يستطيعون أن يردوا دعوى محمد فيقولوا:
أيكون القرآن معجزا وهو متعارض؟! لكن الكفار لم يقولوها ،مما يدل على أن ملكاتهم استقبلت
القرآن بما يريده قائل القرآن .وفي أعرافنا نورد السؤال مرتين؛ فمرة يسأل التلميذ أستاذه ليعلم،
ومرة يسأل الستاذ تلميذه ليقرر.
إذن فالسؤال يأتي لشيئين اثنين :إما أن تسأل لتتعلم ،وهذا هو الستفهام ،وإما أن تسأل لتقرر حتى
تصبح الحجة ألزم للمسئول ،فإذا كان ال سيسأله ،أي يسأله سؤال إقرار ليكون أبلغ في الحتجاج
سعِيرِ * فَاعْتَ َرفُواْ
سمَعُ َأوْ َن ْع ِقلُ مَا كُنّا فِي َأصْحَابِ ال ّ
عليه ،وبعد ذلك يقولونَ {:وقَالُواْ َلوْ كُنّا نَ ْ
سعِيرِ }[الملك]11-10 :
لصْحَابِ ال ّ
بِذَن ِبهِمْ فَسُحْقا َ
وهذا اعتراف وإقرار منهم وهما سيدا الدلة؛ لن كلم المقابل إنما يكون شهادة ،ولكن كلم المقر
هو إقرار اعتراف.
إذن إذا ورد إثبات السؤال فإنه سؤال التقرير من ال لتكون شهادة منهم على أنفسهم ،وهذا دليل
أبلغ للحجة وقطع للسبل على الِنكار .فإما أن يقر الِنسان ،وإن لم يقر فستقول أبعاضه؛ لن
شهِدتّمْ
الِرادة انفكت عنها ،ولم يعد للِنسان قهر عليها ،مصداقا لقوله الحقَ {:وقَالُواْ لِجُلُو ِدهِمْ ِلمَ َ
شيْءٍ[} ...فصلت]21 :
طقَ ُكلّ َ
طقَنَا اللّهُ الّذِي أَن َ
عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ
سلِينَ }.
سلَ إِلَ ْي ِه ْم وَلَنَسْأَلَنّ ا ْلمُرْ َ
والحق هنا يقول { :فَلَنَسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْ ِ
سلَ فَ َيقُولُ مَاذَآ ُأجِبْتُمْ[} ...المائدة]109 :
جمَعُ اللّهُ الرّ ُ
وهو سؤال للِقرار .قال ال عنهَ {:يوْمَ َي ْ
وحين يسأل الحق المرسلين ،وهم قد أدوا رسالتهم فيكون ذلك تقريعا للمرسَل إليهم.
ويقول الحق بعد ذلك { :فَلَ َن ُقصّنّ عَلَ ْيهِم ِبعِلْمٍ} ...
()949 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي سيخبرهم بكل ما عملوا في لحظة الحساب؛ لنه سبحانه لم يغب يوما عن أي من خلقه؛ لذلك
قالَ { :ومَا كُنّا غَآئِبِينَ } ،ونعلم أن الخلق متكرر الذوات ،متكرر الحداث ،متكرر المواقع ،هم
ذوات كثيرة ،وكل ذات لها حدث ،وكل ذات لها مكان .فإذا قال الحق للجميعَ { :ومَا كُنّا غَآئِبِينَ }
أي أنه مع الجميع ،ومادام ليس بغائب عن حدث ،ول عن فاعل حدث ،ول عن مكان حدث،
وهؤلء متعددون .إذن هو في كل زمان وفي كل مكان.
شيْءٌ } ،ومثل هذه
وإن قلت كيف يكون هنا وهناك؟ أقول :خذ ذلك في إطار قوله { :لَيْسَ َكمِثِْلهِ َ
المعاني في الغيبيات ل يمكن أن تحكمها هذه الصور .والمر سبق أن قلناه حين تحدثنا عن
مجيء ال؛ فله طلقة القدرة وليس كمثله شيء ،وما كان غائبا في حدث أو مكان.
ويقول الحق بعد ذلك { :وَا ْلوَزْنُ َي ْومَئِذٍ} ...
()950 /
في هذه اليات نجد الحديث عن الوزن للعمال ،وهذا كله تأكيد للحجة عليهم؛ فال ل يظلم أحدا،
وفي وزن العمال إبطال للحجة من الذين يخافون النار ،ولم يؤدوا حقوق ال في الدنيا ،وكل ذلك
ليؤكد الحجة ،ويظهر النصاف ويقطع العذر ،وهنا قول كريم يقول فيه الحق سبحانه {:وَ َنضَعُ
ا ْل َموَازِينَ ا ْلقِسْطَ لِ َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ[} ...النبياء]47 :
هذه الموازين هي عين العدل ،وليست مجرد موازين عادلة ،بل تبلغ دقة موازين اليوم الخر أنها
حقّ } .نعم ،الميزان في هذا اليوم حق
هي عدل في ذاتها .وهنا يقول الحق { :وَا ْلوَزْنُ َي ْومَئِذٍ الْ َ
ودقيق ،لنذكر انه قال من قبل {:مَن جَآءَ بِا ْلحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا َومَن جَآءَ بِالسّيّئَةِ فَلَ ُيجْزَى ِإلّ
مِثَْلهَا وَهُ ْم لَ يُظَْلمُونَ }[النعام]160 :
والميزان الحق هو الذي قامت عليه عدالة الكون كله ،وكل شيء فيه موزون ،وسبحانه هو الذي
يضع المقادير على قدر الحكمة والِتقان والدقة التي يؤدي بها كل كائن المطلوبَ منه ،ولذلك
سمَآءَ َر َف َعهَا َو َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن]7 :
يقوله سبحانه {:وَال ّ
ولم نر السماء قذفت وألقت علينا أحداثا غير متوقعة منها ،فالكون له نظام دقيق .والوزن في يوم
القيامة هو مطلق الحق ،ففي هذا اليوم تبطل موازين الرض التي كانت تعاني إما خللً في اللة
التي يوزن بها ،وإمّا خللً في الوزن ،وإمّا أن تتأثر بأحداث الكون ،وما يجري فيه من تفاعلت،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما ميزان السماء فل دخل لحد به ول يتأثر إل بقيمة ما عمل الِنسان ،وساعة يقول سبحانه:
{ وَا ْلوَزْنُ َي ْومَئِذٍ ا ْلحَقّ }.
فكأن الميزان في الدنيا يمكن أن يحصل فيه خلل ،وكذلك المِلْك أيضا؛ لنه سبحانه أعطى أسبابا
للملك المناسب لكل إنسان ،فهذا يملك كذا ،والثاني يملك كذا ،والثالث يملك كذا ،وبعد ذلك
يتصرف كل إنسان في هذا الملك إن عدلً ،وإن ظلما على ضوء الختيار .لكن حين يأتي اليوم
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر]16 :
الخر فل ملك لحدّ... {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
فالمر حينئذ يكون كله ل وحده ،فإن كان الملك في الدينا قد استخلف فيه الحق عباده ،فهذه
الولية تنتهي في اليوم الخرَ { :فمَن َثقَُلتْ َموَازِينُهُ فَُأوْلَـائِكَ ُهمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ }.
خ ّفتْ َموَازِينُهُ *
وسبحانه هو القائل {:فََأمّا مَن َثقُلَتْ َموَازِينُهُ * َف ُهوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ * وََأمّا مَنْ َ
فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ * َومَآ َأدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِ َيةٌ }[القارعة]11-6 :
إذن فالميزان يثقل بالحسنات ،ويخف بالسيئات ،ونلحظ أن القسمة العقلية لِيجاد ميزان ووزان
وموزون تقتضي ثلثة أشياء :أن تثقل كفة ،وتخف الخرى ،أو أن يتساويا ،ولكن هذه الحال غير
خ ّفتْ
موجودة هنا .ويتحدث الحق عن الذين تخف موازينهم فيقول سبحانه وتعالىَ { :ومَنْ َ
َموَازِينُهُ} ...
()951 /
والسورة السابقة جاء فيها بالحالتين ،وفي هذه السورة أيضا جاء بالحالتين ،ومن العجيب أن هذا
الكلم عن الثقل والخفة وعدم وجود الحالة الثالثة وهي حالة تساوي الكفتين يأتي في أول سورة
العراف ،ولكنه -سبحانه يقول بعد ذلك في سورة العراف { :وَعَلَى الَعْرَافِ ِرجَالٌ َيعْ ِرفُونَ
كُلّ بِسِيمَاهُمْ }.
وهؤلء هم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم ،وقد جعل لهم ربنا مكانا يشبه عرف الفرس ،وعرف
الفرس يعتبر أعلى شيء فيه ،فحينا يأتي شعر الفرس يمينا ،وحينا يأتي شعر الفرس يسارا ،وليس
هناك جهة أولى بالشعر من الخرى .وقد أعد الحق لصحاب العراف مكانا يسمعون فيه
أصحاب النار وهم ينادون أصحاب الجنة ،وأصحاب الجنة وهم ينادون أصحاب النار ،وأصحاب
العراف يجلسون؛ ل هم في الجنة ول هم في النار ،فهم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم ،وبذلك
صحت القسمة العقلية في قول الحق سبحانه وتعالى {:وَعَلَى الَعْرَافِ رِجَالٌ َيعْ ِرفُونَ كُلّ ِبسِيمَاهُمْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
}[العراف]46 :
فل الحسنات ثقلت ليدخلوا الجنة ،ول السيئات خفت ليدخلوا النار ،فميزانهم تساوت فيه الكفتان.
وقال بعض العلماء عن الميزان؛ إن هناك ميزانا بالفعل .وقال البعض إن المراد بالميزان هو
العدالة المطلقة التي أقامها العادل العلى ،والعجب أن الحق قال :إن هناك موازين ،فهل لكل
واحد ميزان أو لكل عمل من أعمال التكليفات ميزان :ميزان العقائد ،وميزان الحكام ..إلخ ،وهل
سيحاسبنا ربنا تباعا .أو أن هناك موازين متعددة ،بدليل أن سيدنا الِمام عليّا عندما سألوه:
أيحاسب ال خلقه جميعا في وقت واحد؟ فقال :وأي عجب في هذا؟ أليس هو رازقهم في وقت
خفّتْ
واحد؟ إذن فالميزان بالنسبة ل مسألة سهلة جدّا .وهيّنة فسبحانه ل يتأبى عليه شيءَ { .ومَنْ َ
سهُم ِبمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا ِيظِْلمُونَ } [العراف]9 :
َموَازِينُهُ فَُأوْلَـ ِئكَ الّذِينَ خَسِرُواْ أَ ْنفُ َ
نعم هم قد خسروا أنفسهم فكل منهم كان يأخذ شهوات ويرتكب سيئات يمتع بها نفسه ،ويأتي اليوم
الخر ليجد نفسه قد خسر كل شيء ،وكما يقول المثل العام :خسر الجلد والسقط .لماذا؟ تأتي
الِجابة من الحقِ ...{ :بمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظِْلمُونَ }.
ويقول سبحانه بعد ذلك { :وََلقَدْ َمكّنّاكُمْ فِي} ...
()952 /
شكُرُونَ ()10
جعَلْنَا َلكُمْ فِيهَا َمعَايِشَ قَلِيلًا مَا َت ْ
ض َو َ
وَلَقَدْ َمكّنّاكُمْ فِي الْأَ ْر ِ
ال ُم َمكّن هو الذي يحتل المكان بدون زحزحة؛ فيقال مكّنتك من كذا .أي أعطيتك المكان ول
ينازعك أحد فيه .وقد مكننا سبحانه في الرض وجعل لنا فيها وسائل استبقاء الحياة ،وترف
الحياة ،وزينة الحياة ،ورياش الحياة ،ولم تبخل الرض حين حرثناها ،بل أخرجت لنا الزرع ،ولم
تغب الشمس عنا بضوئها وإشعاعها وحراراتها .ما في الدنيا يؤدي مهمته ،ولم نُمكّن في الرض
بقدراتنا بل بقدرة ال .وكان يجب أل يغيب ذلك عن أنظارنا أبدا .فل أحد منا مسيطر على
الشمس أو القمر أو الريح أو الرض ،ولكن الذي خلقها وجعلها مسخرة ،هو ربك وربها؛ فأنت
جعَلْنَا َلكُمْ فِيهَا َمعَايِشَ
ض وَ َ
ُم َمكّن ،وكل شيء مستجيب لك .بتسخير ال له { .وَلَقَدْ َمكّنّاكُمْ فِي الَ ْر ِ
شكُرُونَ } [العراف]10 :
قَلِيلً مّا تَ ْ
و " معايش " جمع معيشة ،والمعيشة هي الحياة ،فالعيش هو مقومات الحياة ،ولذلك سموا الخبز
في القرى عيشا لن عندهم دقة بالغة؛ لنهم عرفوا أنه مقوّم أساسي في الحياة.
شكُرُونَ } دل على أن هناك من يشكر ،ومن الناس من يشكر نعم ال
وقول الحق { :قَلِيلً مّا تَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكرا عاما على مجموع النعم ،أو يشكره شكرا خاصّا عند كل نعمة ،ومنهم من يشكر شكرا
خاصّا ل عند كل نعمة ،ولكن عند جزئيات النعمة الواحدة ،فعندما يبدأ في الكل يقول " :بسم ال
الرحمن الرحيم " ،ويقول بعد الكل " :الحمد ل "؛ وهناك من يقول عند تناول لقمة واحدة " :بسم
ال " وعندما يمضغها ويبلعها يقول " :الحمد ل " لنها لم تقف في حلقه ،وأيضا حين نشرب علينا
أن نشرب على ثلث دفعات :أول دفعة نقول " :بسم ال " .وننتهي منها فنقول " :الحمد ل "
وكذلك في الدفعة الثانية والدفعة الثالثة .ومن يفعل ذلك فل تتأتّى منه معصية ،مادامت آثار شربة
الماء هذه في جسمه؛ لنها كلها " بسم ال " .فتحرسه من الخطيئة؛ لن النعمة الواحدة لو
استقصيتها لوجدت فيها نعما كثيرة.
وأنتم حين ل تشكرون إنما تضيقون عليكم أبواب النعم من ال؛ لنكم لو شكرتموه على النعم
شكَرْ ُت ْم لَزِيدَ ّنكُمْ } ومن الحمق أل نشكر.
لزادت النعم عليكم { ،لَئِن َ
خَلقْنَاكُمْ ُثمّ} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :وََلقَدْ َ
()953 /
ومسألة الخلق سبق أن تقدمت في سورة البقرة :خلق آدم ،والشيطان ،والقضية تتوزع على سبع
سور ،في سبعة مواضع موجودة في سورة البقرة ،وسورة العراف ،وسورة الحج ،وسورة
السراء ،وسورة الكهف ،وسورة طه ،وسورة ص ،إل أن القصة في في كل موضع لها لقطات
متعددة ،فهنا لقطة ،وهناك لقطة ثانية ،وتلك لقطة ثالثة ،وهكذا؛ لن هذه نعمة لبد أن يكررها
ال؛ لتستقر في أذهان عباده ،ولو أنه ذكرها مرة واحدة فقد تُنسى ،لذلك يعيد ال التذكير بها أكثر
من مرة .وإذا أراد ال استحضار النعم والتنبيه عليها في أشياء ،فهو يكررها كما كررها في
استحضار النعم في سورة واحدة في قوله سبحانه { :فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }.
ق الِنسَانَ مِن صَ ْلصَالٍ كَالْفَخّارِ * وَخََلقَ الْجَآنّ مِن
إنه يذكر هذه النعم من بدايتها ،فيقول {:خََل َ
ن وَ َربّ ا ْل َمغْرِبَيْنِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا
مّارِجٍ مّن نّارٍ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ * َربّ ا ْلمَشْ ِرقَيْ ِ
خ لّ يَ ْبغِيَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * يَخْرُجُ
ُتكَذّبَانِ * مَرَجَ الْ َبحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ * بَيْ َن ُهمَا بَرْزَ ٌ
جوَارِ ا ْلمُنشَئَاتُ فِي الْ َبحْرِ كَالَعْلَمِ *
مِ ْن ُهمَا الّلؤُْلؤُ وَالمَرْجَانُ * فَبَِأيّ آلَءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * وَلَهُ الْ َ
لكْرَامِ * فَبَِأيّ
ل وَا ِ
لِفَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * ُكلّ مَنْ عَلَ ْيهَا فَانٍ * وَيَبْقَىا وَجْهُ رَ ّبكَ ذُو الْجَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن]28-14 :
وكل نعمة يقول بعدها { :فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
وأراد سبحانه بذلك أن يكثر ويردد تكرارها على الذان لتستقر في القلوب حتى في الذان
شوَاظٌ مّن نّارٍ
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
الصماء؛ فمرة يأتي بها في شيء ظاهره أنه ليس نعمة ،مثل قوله {:يُرْ َ
وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن]36-35 :
وجاء الحق بذكر كل ذلك؛ لنه ساعة يجلي لنا المور على حقائقها ونحن في دار التكليف فهذه
رحمة ونعمة منه علينا؛ لن ذلك يدعونا إلى اتقاء المحظورات والبعد والتنحي عن المخالفات.
ول المثل العلى من قبل ومن بعد ،فحين يدخل البن إلى المدرسة نقول له :إن قصرت في كذا
فسوف ترسب ،وأنت بهذا القول ترحمه بالنصيحة ،فلم تتركه دون أن تبصره بعواقب المور،
وأيضا ساعة ترى شرا يحيق بالكافرين ،فإن هذا المر يسرك ،لنه لو تساوى الكافرون مع
المؤمنين لما كان لليمان فضل أو ميزة ،فالعذاب نقمة على الكافر ،ونعمة على المقابل وهو
المؤمن.
وقد جاءت قصة خلق آدم بكل جوانبها في القرآن سبع مرات؛ لنها قصة بدء الخلق ،وهي التي
تجيب عن السؤال الذي يبحث عن إجابته النسان؛ لنه تلفت ليجد نفسه في كون معد له على
أحسن ما يكون .ولم يجيء الكون من بعد النسان ،بل طرأ النسان على الكون ،وظل السؤال
واردا عن كيفية الخلق ،والسؤال مهم أهمية وجود النسان في الكون ،فأنت تستقرئ أجناسا في
الكون ،وكل جنس له مهمة ،ومهمته متعلقة بك ،جماد له مهمة ،ونبات له مهمة ،وحيوان له
مهمة ،وكلها تصب في خدمتك أنت؛ لن الجماد ينفع النبات ،ويتغذى منه لكي يغذي الحيوان،
والحيوان ينفعك ويغذيك ،إذن فكل الجناس تصب في خدمتك.
أمّا أنت أيها الِنسان فما عملك في هذا الكون؟؛ لذلك كان لبد أن يتعرف الِنسان على مهمته.
وأراد الحق سبحانه أن يُعرّف الِنسان مهمته؛ لنه جل وعل هو الصانع،وحين يبحث الِنسان
عن صانعه تتجلى له قدرة ال في كل ما صنع .وكان لبد أيضا أن يستقبل الِنسان خبرا من
الخالق .إنه -سبحانه -يُنزل لنا المنهج من السماء ويصاحب هذا المنهج معجزة على يد رسول،
وأنزل الحق عليه المنهج وأوكل له مهمة البلغ .فالرسول يخبر ،ثم نستدل بالمعجزة على صدق
خبره .فكان من اللزم أن نصدق الرسول ،لنه قادم بآية ومعجزة من ال.
والرسول عليه الصلة والسلم جاء بالرسالة في سن الربعين ومعه المنهج المعجزة ،وأبلغنا أنه
رسول من ال .وكان لبد أن نبحث لنتثبت من صدق البلغ عن ال بالتعقل في دعواه؛ فهذا
الرسول جاء بعد أربعين سنة من ميلده ومعه معجزة من جنس ما نبغ فيه قومه ،وليس من جنس
ما نبغ فيه هو ،إن معجزته ليست من عنده ،بل هي من عند ال؛ لن الرسول جاء بالمعجزة بعد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أربعين سنة من ميلده ،ومن غير المعقول أن تتفجر عبقرية بعد أربعين سنة من الميلد؛ لننا
نعلم أن العبقريات تأتي في آخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث من عمر الِنسان ،ونلتفت فنجده
يتكلم كل الكلم البلغي المعجز .وليس من المعقول ان يأتي بأخبار الكون وهو المي الذي مات
أبوه وهو في بطن أمه ،ثم ماتت أمه وهو في السادسة ،وكذلك مات جده .ورأى الناس يتساقطون
من حوله ،فمن الذي أدراه -إذن -انه سيمهل ويمد في أجله إلى أن يصل إلى الربعين ليبلغنا
بمعجزته؟.
ولذلك نجد القرآن يستدل على هذه ،فيقول {:وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ قَالَ الّذِينَ لَ يَ ْرجُونَ
ِلقَآءَنَا ا ْئتِ ِبقُرْآنٍ غَيْرِ هَـاذَآ َأوْ بَدّ ْلهُ ُقلْ مَا َيكُونُ لِي أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِ ْلقَآءِ َنفْسِي إِنْ أَتّبِعُ ِإلّ مَا يُوحَى
عذَابَ َيوْمٍ عَظِيمٍ }[يونس]15 :
عصَ ْيتُ رَبّي َ
إَِليّ إِنّي أَخَافُ إِنْ َ
وهكذا تتجلى الحجة القوية من أنه صلى ال عليه وسلم مكلف بالبلغ بما يُوحَى إليه ،ويتأكد ذلك
عمُرا مّن
مرة ثانية في قوله الحق {:قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُمْ وَلَ َأدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِ ْثتُ فِي ُكمْ ُ
قَبْلِهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[يونس]16 :
وهنا نجد أن الرسول صلى ال عليه وسلم قد تلقى المر من ال بأن يبيّن لهم :هل علمتم عني
خلل عمري أني قلت شعرا أو حكمة أو جئتكم بمثل؟ إذن إن نحن عقلنا المر وتبصرنا وتأملنا
دعواه لصدقنا أنه رسول ال ،وأن المعجزة نزلت عليه من السماء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الِنسان .ومن يبحث بحثا استقرائيّا ويرجع إلى الوراء فلبد أن يجد أن المر منطقي؛ لن العالم
يتكاثر ،وتكاثره أمر مرئي ،وليس التكاثر في البشر فقط ،بل فيمن يخدمون البشر من الجناس
الخرى ،نجد فيهم ظاهرة التكاثر نباتا وحيوانا ،وإذا ما نظرنا إلى التعداد من قرن وجدنا العدد
يقل عن التعداد الحالي وهو خمسة آلف مليون ،وكلما عدنا ورجعنا إلى الزمن الماضي يقل
التعداد إلى أن نصل إلى اثنين؛ لن الخلق إنما يأتي من اثنين ،وحلّ ال لنا اللغز فقال {:الّذِي
جهَا[} ...النساء]1 :
ح َد ٍة وَخََلقَ مِ ْنهَا َزوْ َ
س وَا ِ
خََل َقكُمْ مّن ّنفْ ٍ
وهذا كلم صحيح يثبته الِحصاء وييقنه؛ لن العالم يتكاثر مع مرور الزمن مستقبل {.وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا
رِجَالً كَثِيرا وَنِسَآءً[} ...النساء]1 :
خَلقْنَا َزوْجَيْنِ[} ...الذاريات]49 :
شيْءٍ َ
وهذا كلم صادق .وسبحانه القائلَ {:ومِن ُكلّ َ
وأبلغنا سبحانه بقصة خلق آدم ،وكيفية خلق حوّاء فهل أخذ جزءًا من آدم وخلق منه حوّاء؟ قد
يصح ذلك ،أو خلق منها زوجها ويكون المقصود به أنه خلقها من الجنس نفسه وبالطريقة نفسها؟
وذلك يصح أيضا ،فسبحانه قد اكتفى بذكر خلق آدم عن ذكر خلق حوّاء ،وأعطانا النموذج في
جهَا {.
واحد ،وقالَ } :وخَلَقَ مِ ْنهَا َزوْ َ
و } مِ ْنهَا { في هذه الية يحتمل أن تكون غير تبعيضية ،مثلها مثل قوله الحق " :رسول من
أنفسكم ".
فسبحانه لم يأخذ قطعة من العرب وقال :إنها " محمد " ،بل جعل محمدّا صلى ال عليه وسلم من
علٌ فِي الَ ْرضِ
الجنس نفسه خلقا وإيجادا ،وسبحانه حين يتكلم هنا يقول للملئكة {:إِنّي جَا ِ
خَلِيفَةً[} ...البقرة]30 :
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي َف َقعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ }[الحجر]29 :
سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ
وهذا أول بلغ ،ثم اتبع ذلك {:فَِإذَا َ
إذن فقبل النفخ في الروح ستوجد تسوية ،فلمن تحدث التسوية ،ومن هو " المسوّى منه "؟ .إن
التسوية لدم .وجاء القول بأنه من صلصال ،ومن حمأ مسنون ،ومن تراب ،ومن طين؛ إنّها
مراحل متعددة ،فإن قال سبحانه عن آدم :إنه تراب ،نقول :نعم ،وإن قال " :من ماء " نقول :نعم،
وإن قال " من طين " فهذا قول حق؛ لن الماء حين يختلط بالتراب يصير طينا .وإن قال } :مّنْ
حمَإٍ مّسْنُونٍ { ،فهذا جائز؛ لن الحمأ طينٌ اختمر فتغيرت رائحته ثم جف وصار صلصالً .إذن
َ
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي {.
فهي مراحل متعددة للخلق ،ثم قال الحق } :وَنَفَ ْ
وهكذا تكتمل فصول الخلق ،ثم قالَ } :ف َقعُواْ َلهُ سَاجِدِينَ {.
ويقول العلماء :إن المراد من السجود هو الخضوع والتعظيم ،وليس السجود كما نعرفه ،وقال
البعض الخر :المراد بالسجود هو السجود الذي نعرفه ،وأن آدم كان كالقبلة مثل الكعبة التي نتجه
إليها عند الصلة .ولكنْ لنا هنا ملحظة ،ونقول :إننا ل نسجد إل ال ،ومادام ربنا قد قال :اسجدوا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالسجود هنا هو امتثال لمر خالق آدم .والنية إذن لم تكن عبادة لدم ،ولكنها طاعة لمر ال
الول .والمر بالسجود لدم قد أراده ال؛ لنه سبحانه سخر الكون كله لخدمة آدم ،ومن الملئكة
مدبرات أمر ،ومنهم حفظة ،ومنهم من هو بين يدي ال ،فلم يكن السجود للملئكة خضوعا من
الملئكة لدم ،بل هو طاعة لمر ال ،ولذلك سجد من الملئكة الموكلون بالرض وخدمة
ن الملئكة المقربون ل يدرون شيئاُ عن أمر آدم ،ولذلك يقول الحق لِبليس{:
النسان ،لك ْ
...أَسْ َتكْبَ ْرتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص{ 75 :
والمقصود بالعالين الملئكة الذين لم يشهدوا أمر السجود لدم ،فليس للملئكة العالين عمل مع
آدم؛ لن المر بالسجود قد صدر لمن لهم عمل مع آدم وذريته والذين يقول فيهم الحق سبحانه{:
حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ[} ...الرعد]11 :
لَهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ يَ ْ
وهناك الرقيب ،والعتيد والقعيد .وفي كل ظاهرة من ظواهر الكون هناك ملك مخصوص بها،
صوّرْنَاكُمْ ُثمّ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ اسْجُدُو ْا لَ َدمَ
ويبلغنا الحق بمسألة الخلق ،والخطاب لنا } وََلقَدْ خََلقْنَاكُمْ ثُ ّم َ
{ وهذا ترتيب اخباري ،وليس ترتيبا للحداث .أو أن الحق سبحانه وتعالى طمر الخلق جميعا في
خلق آدم ،والعلم الحديث يعطينا أيضا مؤشرات على ذلك ،حين يأتون ببذرة ويكتشفون فيها كل
مقومات الثمرة ،وكذلك الحيوان المنوي توجد فيه كل صفات النسان.
ولذلك نجدهم حين يدرسون قانون الوراثة يقولون :إن حياة كل منا تتسلسل عن آخر ،فأنت من
ميكروب أبيك ،وقد نزل من والدك وهو حي ،ولو أنه نزل ميتا لما اتصل الوجود .ووالدك جاء
من ميكروب جده وهو حي ،وعلى ذلك فكل مكائن الن فيه كائن الن فيه جزئ حي من لدن
آدم ،لم يطرأ عليه موت في أي حلقة من الحلقات.
إذن فكلنا كنا مطمورين في جزيئات آدم ،وقال ربنا سبحانه {:وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن
سهِمْ[} ...العراف]172 :
ش َهدَهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ
ُ
ونقول :صدق الحق فهو الخالق القادر على أن يخرجنا من ظهر آدم ،وهكذا كان الخلق أولً
والتصوير أولً ،وكل ذلك في ترتيب طبيعي ،وهو سبحانه له أمور يبديها ول يبتديها ،أي أنه
سبحانه يظهرها فقط ،فإذا خاطب آدم وخاطب ذريته فكأنه يخاطبنا جميعا } .وََلقَدْ خََلقْنَاكُمْ ثُمّ
جدِينَ { [العراف]11 :
جدُواْ ِإلّ إِبْلِيسَ لَمْ َيكُنْ مّنَ السّا ِ
جدُو ْا لَدَمَ َفسَ َ
صوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ اسْ ُ
َ
جدِينَ
سجَدُواْ ِإلّ إِبْلِيسَ لَمْ َيكُنْ مّنَ السّا ِ
وعرفنا من هم الملئكة من قبل ،وما هي علة السجود } .فَ َ
{.
والحق سبحانه يستثنيه بأنه لم يكن من الساجدين .وهذا دليل على أنه دخل في المر بالسجود،
ولكن هل إبليس من الملئكة؟ ل؛ لنك إذا جئت في القرآن ووجدت نصّا يدل باللتزام ،ونصّا
يدل بالمطابقة والقطع فاحمل نص اللتزام على النص المحكم الذي يقطع بالحكم .وقد قال الحق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سجَدُواْ ِإلّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ ا ْلجِنّ َففَسَقَ عَنْ َأمْرِ رَبّهِ} ...
سجُدُو ْا لَ َدمَ فَ َ
في ذلك {:وَإِذْ قُلْنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ ا ْ
[الكهف]50 :
وفي هذا إخراج لبليس من جنس الملئكية ،وتقرير أنه من الجن ،والجن كالنس مخلوق على
الختيار ،يمكنه أن يعصي يمكنه أن يطبع أو أن يعصي ،إذن فقوله الحقَ } :ففَسَقَ عَنْ َأمْرِ رَبّهِ
{.
يعني أن هذا الفسوق أمر يجوز منه؛ لكن الملئكة ل يعصون ال ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون،
وإن تساءل أحد :ولماذا جاء الحديث عن إبليس ضمن الحديث عن الملئكة؟ .نقول :هب أن فردا
مختارا من الِنس أو من الجن التزم بمنهج ال كما يريده ال ،فأطاع ال كما يجب ولم يعص..
أليست منزلته مثل الملك بل أكثر من الملك ،لنه يملك الختيار .ولذلك كانوا يسمون إبليس
طاووس الملئكة ،أي الذي يزهو في محضر الملئكة لنه ألزم نفسه بمنهج ال ،وترك اختياره،
وأخذ مرادات ال فنفذها ،فصار ل يعصي ال ما أمره ويفعل ما يؤمر ،وصار يزهو على
الملئكة لنهم مجبورون على الطاعة ،لكنه كان صالحا لن يطيع ،وصالحا -أيضا -لن يعصي،
ومع ذلك التزم ،فأخذ منزلة متميزة من بين الملئكة ،وبلغ من تميزه أنه يحضر حضور الملئكة.
فلما حضر مع الملئكة جاء البلغ الول عن آدم في أثناء حضوره ،وقال ربنا للملئكة} :
سجُدُو ْا لَدَمَ {.
اْ
وكان أولى به أن يسارع بالمتثال للمر الطاعة ،لكنه استنكف ذلك .وهب أنه دون الملئكة
ومادام قد جاء المر للعلى منه وهم الملئكة ،ألم يكن من الجدر به وهو الدنى أن يلتزم
بالمر؟ لكنه لم يفعل .ولنه من الجن فقد غلبت عليه طبيعة الختيار.
جدَ إِذْ{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :قَالَ مَا مَ َن َعكَ َألّ َتسْ ُ
()954 /
جدَ إِذْ َأمَرْ ُتكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خََلقْتَنِي مِنْ نَا ٍر َوخََلقْتَهُ مِنْ طِينٍ ()12
قَالَ مَا مَ َن َعكَ أَلّا َتسْ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جدَ } كلم سليم واضح؛ يعني :ما حجزك عن السجود .لكن { مَا
النافية .وقوله { مَا مَ َن َعكَ أَن تَسْ ُ
حسَن الدب
مَ َن َعكَ َألّ َتسْجُدَ } هي التي تحتاج لوقفة .لذلك قال العلماء :إن " ل " هنا زائدة ،ومَنْ أَ ْ
منهم قال :إن " ل " صلة .لكن كل القولين ل ينفع ول يناسب؛ لن من قال ذلك لم يفطن إلى مادة
" منع " ولي أمر تأتي ،وأنت تقول " :منعت فلنا أن يفعل " ،كأنه كان يهم أن يفعل فمنعته.
سجُدَ } كأنّه كان عنده تهيؤ للسجود ،فجاءت قوة أقوى منه ومنعته وحجزته
إذن { مَا مَ َن َعكَ أَن تَ ْ
وحالت بينه وبين أن يسجد .لكن ذلك لم يحدث .وتأتي " منع " للمتناع بأن يمتنع هو عن الفعل
وذلك بأن يقنعه غيره بترك السجود فيقتنع ويمتنع ،وهناك فرق بين ممنوع ،وممتنع؛ فممنوع هي
سجُدَ } ،وممتنع تعني أنه امْتنع من نفسه ولم يمنعه أحد ولكنّه أقنعه .وإن كان
في { مَ َن َعكَ أَن تَ ْ
المنع من المتناع فالسلوب قد جاء ليؤكد المعنى الفعلي وهو المنع عن السجود .وهذا هو السبب
جدَ إِذْ َأمَرْ ُتكَ }
في وجود التكرار في القرآن .ولذلك قال الحق سبحانه { :قَالَ مَا مَ َن َعكَ َألّ َتسْ ُ
[العراف]12 :
وسبحانه قد أمر الملئكة وكان موجودا معهم إما بطريق العلو ،لنه فاق الملئكة وأطاع ال وهو
مختار فكانت منزلته عالية ،وإما بطريق الدنو؛ لن الملئكة أرفع من إبليس بأصل الخلقة
والجبلة ،وعلى أي وضع من العلو والدنو كان على إبليس أن يسجد ،ولكنه قال في الرد على
ربّه...{ :أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خََلقْتَنِي مِن نّارٍ وَخََلقْتَهُ مِن طِينٍ } [العراف]12 :
وسبحانه لم يسأل إبليس عن المقارنة بينه وبين آدم ،ولكن سأله وهو يعلم أزلً أنّ إبليس قد امتنع
باقتناع ل بقهر ،ولذلك قال إبليس :أنا خير منه ،فكأن المسألة دارت في ذهنه ليوجد حيثية لعدم
السجود .ول يصح في عرفه البليسي أن يسجد العلى للدنى ،فما دام إبليس يعتقد أنه خير من
آدم ويظن أنه أعلى منه ،فل يصح أن يسجد له .وأعلى منه لماذا؟ لنه قال { :خََلقْتَنِي مِن نّارٍ
وَخََلقْتَهُ مِن طِينٍ } فكأن النار لها علو ،وهو في ذلك مخطئ تماما لن الجناس حين تختلف؛ فذلك
لن لكل جنس دوره ،ول يوجد جنس أفضل من جنس ،النار لها مهمة ،والطين له مهمة ،والنار
ل تقدر أن تؤدي مهمة الطين ،قل يمكن أن نزرع في النار.
إذن فالخيرية تتأتى في المرين معا مادام كل منهما يؤدي مهمته ،ولذلك ل تقل :إن هذا خير من
هذا ،إنما قل :عمل هذا أحسن من عمل هذا ،فكل شيء في الوجود حين يوضع في منزلته المرادة
منه يكون خيرا ،ولذلك أقول :ل تقل عن عود الحديد إنه عود مستقيم ،وتقول عن الخطاف :إن
هذا عود أعوج ،لن مهمة الخطاف تقتضي أن يكون أعوج ،وعوجه هو الذي جعله يؤدي مهمته،
لن الخيرية إنما تتأتى في متساوي المهمة ،ولكن لبليس قال } :أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ[ { ...العراف]12 :
قالها للمعاندة ،للكبر ،للكفر حين أعرض عن أمر ال وأراد أن يعدل مراد ال في أمره ،وكأنه
يخطّئ الحق في أمره ،ويردّ المر على المر .فما كان جزاء الحق سبحانه وتعالى لبليس إل أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قال له } :قَالَ فَاهْ ِبطْ{ ...
()955 /
قَالَ فَاهْبِطْ مِ ْنهَا َفمَا َيكُونُ َلكَ أَنْ تَ َتكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِ ّنكَ مِنَ الصّاغِرِينَ ()13
والهبوط يستدعي النتقال من منزلة عالية إلى منزلة أقل ،وهذا ما جعل العلماء يقولون إن الجنة
التي وصفها ال بأنها عالية في هي السماء ،ونقول :ل ،فالهبوط ل يستدعي أن يكون هبوطا
مكانيا ،بل قد يكون هبوط مكانة ،وهناك فرق بين هبوط المكان ،وهبوط المكانة ،وقد قال الحق
ك وَعَلَىا ُأمَمٍ ّممّن ّم َعكَ[} ...هود:
لمٍ مّنّا وَبَركَاتٍ عَلَ ْي َ
لنوح عليه السلم {:قِيلَ يانُوحُ اهْ ِبطْ بِسَ َ
]48
أي اهبط من السفينة ،إذن مادة الهبوط ل تفيد النزول من مكان أعلى إلى مكان أدنى ،إنما نقول
من مكان أو من مكانة { .قَالَ فَاهْ ِبطْ مِ ْنهَا }.
ل لن يكون في محضر الملئكة؛ فقد كان في محضر
وهذا تنزيل من المكانة لنه لم يعد أه ً
الملئكة؛ لنه الزم نفسه بالطاعة ،وهو مخلوق على أن يكون مختارا أن يطيع أو أن يعصي ،فلما
ل لن يكون في هذا المقام ،وذلك أن الملئكة ل يعصون ال ما
تخلت عنه هذه الصفة لم يعد أه ً
أمرهم ويفعلون ما يؤمرون { .قَالَ فَاهْ ِبطْ مِ ْنهَا َفمَا َيكُونُ َلكَ أَن تَ َتكَبّرَ[ } ...العراف]13 :
أي ما ينبغي لك أن تتكبر فيها.
إن امتناعك عن أمر من المعبود وقد وجهه لك وأنت العابد هو لون من الكبرياء على المر،
والملئكة جماعة ل يعصون ال ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ،فما دامت أنت أهل استكبار
واستعلء على هذه المكانة فلست أهلً لها ،فكأن العمل هو الذي أهله أن يكون في العلو ،فلما
ل لن يكون في الدنو ،وهكذا لم يكن المر متعلقا بالذاتية ،وفي هذا هبوط
زايله وفارقه كان أه ً
لقيمة كلمه في أنه من نار وآدم من طين؛ لن المقياس الذي توزن به المور هو مقياس أداء
العمل ،ومن حكمة الحق أن الجن يأخذ صورة القدرة على أشياء ل يقدر عليها النس ،مثل
السرعة ،واختراق الحواجز ،والتغلب على بعض السباب ،فقد ينفذ الجن من الجدار أو من
الجسم ،وكما قال الرسول صلى ال عليه وسلم " :إن الشيطان يجري من النسان مجرى الدم" .
وهو ذلك مثل الميكروب ،لنه هذه طبيعة النار ،وهي المادة التي خُلق منها .وهي تتعدى
الحواجز .والجن قد بلغ من اللطف والشفافية أنه يقدر على أن ينفذ من أي شيء ،لكن الحق
سبحانه وتعالى أراد أن يوضح للجن ل تعتقد أن عنصريتك هي التي أعطتك هذا التمييز ،وإنما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هي إرادة ال ُمعَنْصر ،بدليل أنه جعلك أدنى من مكانة النسان ،إنه -سبحانه -يجعل إنسيا مثل
سيدنا سليمان مخدوما لك أيها الجنى ،إنه يسخرك ويجعلك تخدمه .وأنه في مجلس سليمان ،جعل
الذي عنده علم من الكتاب ،يأتي بقوة أعلى من قوة " عفريت " من الجن.
()956 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى { أَنظِرْنِي } أمهلني أي ل تمتني بسرعة ،ول تجعل أجلي قريبا ،بدليل قوله سبحانه { :قَالَ
إِ ّنكَ مِنَ} ...
()957 /
فالِنظار طلب الِمهال ،وعدم التعجيل بالموت ،وقد طلبه إبليس لكي يشفي غليله من بني آدم
صغَار والذلة والطرد والهبوط ،ولذلك أصر على أن يجتهد في أن يغري
وآدم؛ انه جاء له بال ّ
أولد آدم ليكونوا عاصين أيضا .وكأن إبليس في هذا الطلب أراد أن يُنْقذ من الموت وأن يبقى حيّا
إلى يوم البعث الذي يبعث فيه كل من مات .وكأنه يريد أن يقفز على قول الحقُ {:كلّ َنفْسٍ ذَآ ِئقَةُ
ا ْل َم ْوتِ[} ...آل عمران]185 :
فأوضح الحق :أن تأجيل موتك هو إلى يوم الوقت المعلوم لنا وغير المعلوم لك؛ لن الجل لو
عرف فقد يعصي من يعلمه مدة طويلة ثم يقوم بالعمل الصالح قبل ميعاد الجل ،ولكن ال أراد
بإبهام زمان الموت أن يشيع زمانه في كل وقت .وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه {:إِلَىا َيوْمِ
ا ْل َو ْقتِ ا ْل َمعْلُومِ }[الحجر]38 :
ت َومَن فِي الَ ْرضِ
سمَاوَا ِ
صعِقَ مَن فِي ال ّ
والوقت المعلوم هو النفخة الولى {:وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ َف َ
ِإلّ مَن شَآءَ اللّهُ ُثمّ ُنفِخَ فِيهِ أُخْرَىا فَِإذَا ُهمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }[الزمر]68 :
وكأن إبليس كان يريد أن يفر من الموت ليصل إلى النفخة الثانية ،لكن ربنا أوضح أنه باق إلى
وقت معلوم ،وآخر الوقت المعلوم هذا لبد أن يكون قبل النفخة الولى.
غوَيْتَنِي} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :قَالَ فَ ِبمَآ أَ ْ
()958 /
والغواء .إغراء بالمعصية ،ومن الغواء اَلغّي وهو :الهلك ،ويقول الحق سبحانه وتعالى{:
سوْفَ يَ ْلقَونَ غَيّا }[مريم]59 :
...فَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غوَيْتَنِي } أي فبإغوائك يا ال لي سأفعل كذا وكذا ،وبذلك يكون قد نسب
وحين نقرأ { فَ ِبمَآ أَ ْ
الغواء ل ,لكن هل يغوي ربنا أو يهدي؟ .إن ال يهدي دللة وتمكينا ،وسبق أن تكلمنا كثيرا عن
هداية الدللة ودللة التمكين ،وسبحانه خلق الشيطان مختارا ،ولم يخلقه مرغما ومسخرا
كالملئكة ،ولنه قد خلق مختارا فقد أعطاه فرصة أن يطيع وأن يعصي ،وكأن الشيطان بقوله هذا
يتمنى لو أنه قد خلق مقهورا .ويقول إن ال هو الذي أعطاه سبب العصيان .ولم يلتفت إلى أن
الختيار إنما هو فرصة ل للغواية فقط ،ولكنه فرصة للهداية أيضا .وأنت أيها الشيطان الذي
اخترت الغواية.
غوَيْتَنِي } إنما يريد به الشيطان :أن يدخل بمعصيته على ال ،ونقول
إذن فقول الشيطان { :فَ ِبمَآ أَ ْ
له :ل ،إن ربنا لم يغو؛ لن الحق سبحانه وتعالى ل يغوي وإنما يهدي؛ لن ال لو خلقه مرغما
مقهورا ما أعطاه فرصة أن يختار كذا أو يختار كذا؛ فقد خلقه على هيئة " افعل " و " ل تفعل " ،
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } [العراف:
ل ْقعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ
غوَيْتَنِي َ
ل يفعل إل المعصية { .قَالَ فَ ِبمَآ أَ ْ
واختار هو أ ّ
]16
والمفهوم من العبارة أنهم بنو آدم ،والقعود لون من ألوان حركة الجسم الفاعل؛ لن المتحرك إما
أن يكون قائما ،وإما أن يكون قاعدا ،وإما أن يكون مضجعا نائما .وأريح الحالت أن يكون نائما
مضجعا؛ لن الجسم في هذه الحالة يكون مستريحا بفعل الجاذبية الرضية ،وحين يكون النسان
قاعدا تقاومه الجاذبية قليلً ،وحين يكون واقفا فهو يحمل جسمه على قدميه ،ولذلك نقول لمن وقف
طويلً على قدميه " :اقعد حتى ترتاح " ولو قعد وكان متعبا فيقال له " :مضجع قليلً لترتاح ".
لقْعُدَنّ }؟ حتى يكون مطمئنا ،فقد يتعب من الوقفة ،أيضا وهو
ولماذا اختار الشيطان أن يقولَ { :
في حالة القعود يكون منتبها متيقظا ،والحق يقول {:وَا ْقعُدُواْ َلهُمْ ُكلّ مَ ْرصَدٍ[} ...التوبة]5 :
ولم يقل " :قفوا " حتى ل يرهق الناس أنفسهم بالوقوف الطويل ،ولكن ساعة يواجهون المر
فعليهم بالنهوض .والقعود أقرب إلى الوقوف ،لن الضجع أقرب إلى التراخي والنوم ،وقد اختار
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }.
ل ْقعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ
الشيطان الموقف الذي يحفظ له قوته ،ويبقى له انتباههَ { :
ومادام الشيطان سيغوي ،وسيضل الغير ،فسيختار للغواية من يكون في طريق الهداية .إنما من
غوى باختياره وضل بطبيعته فالشيطان قد استراح من ناحيته ول يريده ،وتلك ظاهرة تحدث
للناس حينما يجدون ويجتهدون في الطاعة؛ فالشاب الطائع الملتزم يحاول الشيطان أن يخايله
ليصرفه عن الصلة والطاعة؛ لن الشيطان يتلصص على دين النسان ،فهو كاللص ،واللص ل
يحوم حول بيت خرب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
له الوسواس ،ويشككني في الصلة ،نقول له :نعم هذا صحيح ،وحين يأتي لك هذا الوسواس
فاعتبره ظاهرة صحية في اليمان؛ لن معناه أن الشيطان عارف أن عملك مقبول ،ولذلك يحاول
أن يفسد عليك الطاعة؛ لنك لو كنت فاسدا من البداية ،ووقفت للصلة دون وضوء لما جاءك
الوسواس .لكن الشيطان يريد أن يفسد عليك الطاعة ولذلك يقول ال {:وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ
نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ[} ...العراف]200 :
لماذا؟ .لن ال خلقك وخلقه ،وإن كنت ل تستطيع دفعه لنه يجري منك مجري الدم في العروق
وينفذ إليك بالخواطر والمواجيد التي ل تضبطها؛ ويأتي إليك بمهام الشياء في وقت الصلة؛
فتتذكر الشياء التي لم تكن تتذكرها ،ويأتي لك بأعقد المسائل وأنت تصلي؛ وكل ذلك لنه قال} :
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ { ،ولم يقل إنه سيقعد على الطريق المنحرف ،ولن يجلس الشيطان
ل ْقعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ
َ
في مجلس خمر ،لكنه يقعد على أبواب المساجد أو في المساجد ليفسد للناس أعمالهم الصالحة.
فماذا نفعل في هذه الحال؟ .يدلنا الحق سبحانه أن نستعيذ } :وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ
فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ {
فمعنى } فَاسْ َتعِذْ { أي فالتجئ منه إلى ال؛ لن ال الذي أعطاه الخاصية في أن يتغلغل فيك ،وفي
دمك ،وفي خواطرك ،هو القادرعلى منعه ،وحين تقول " :أعوذ بال من الشيطان الرجيم " بفزع
والتجاء إليه -سبحانه -فإنه -جل شأنه -ينقذك منه .وإن كنت تقرأ القرآن ثم جاء لك الخاطر من
الشيطان فقل " :أعوذ بال من الشيطان الرجيم " فإذا قلت هذا فكأنك نبهته إلى أنك أدركت من أين
جاءت هذه النزغة :مرة واثنتين وثلثا ،فيقول الشيطان لنفسه :إن هذا المؤمن حاذق فطن وحذر
ل أستطيع غوايته ،ولبحث عن غيره.
ولذلك رأينا المام أبا حنيفة ،وقد شهرَ عنه الفتيا ،وذهب إليه سائل يقول :ضاع مني مال في
أرض كنت قد دفنته فيها ،ول أعرف الن مكانه .دلني عليه أيها الشيخ؟ .وبطبيعة الحال كان هذا
السؤال في غير العلم ،فقال أبو حنيفة :يا بني ليس في ذلك شيء من العلم ،ولكني احتال لك؛ إذا
جاء الليل فقم بين يدي ربك مصليا هذه الليلة ،لعل ال سبحانه وتعالى يبعث لك جندا من جنوده
يقول لك عن مكان مالك.
وبينما أبو حنيفة يؤدي صلة الفجر ،وإذا بالرجل يقبل ضاحكا مبتسما قائل :يا إمام لقد وجدت
المال ،فضحك أبو حنيفة ،وقال :وال لقد علمت أن الشيطان ل يدعك تتم ليلتك مع ربك ،وسيأتي
ليُخبرك ،فهلّ أتممتها شكرا ل ،هيا قم إلى الصلة.
غوِيَ ّنهُمْ
إذن فقد عرف الشيطان كيف يقعد :وكيف يقسم ،لنه في آية أخرى يقول {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ
ج َمعِينَ }[ص]82 :
أَ ْ
غوِيَ ّنهُمْ { أي بامتناعك عن
ك لُ ْ
لقد استطاع أن يأتي بالقسم الذي يعينه على مهمته؛ فقال } :فَ ِبعِزّ ِت َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خلقك وعدم حاجتك إليهم فأنت الغالب الذي ل يقهر؛ لنك إن أردتهم ما استطعتُ أن آخذهم ،لكنك
شئت لكل إنسان أن يختارَ {:فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف]29 :
ج َمعِينَ {.
غوِيَ ّنهُمْ أَ ْ
ك لُ ْ
فأقسم ،ومن هذا الباب يدخل الشيطان على الِنسان } :فَ ِبعِزّ ِت َ
واستدرك على نفسه أيضا وقالِ {:إلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص]83 :
لن الذي يريده ال مهديّا ل يستطيع الشيطان أن يغويه؛ لنه ل يناهض ربنا ول يقاومه ،إنما
يناهض خلق ال ،ول يدخل مع ربنا في معركة ،إنما يدخل مع خلقه في معركة ليس له فيه حجة
ول قوة؛ لن الذي يغلب في المعارك إما أن يرغمك على الفعل ،وإما أن يقنعك لتفعل أنت بدون
إرغام .وهل يملك إبليس واحدة من هذه؟ .ل ،ولذلك سيأتي في الخرة يقولَ {:ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ
عوْ ُتكُمْ فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي[} ...إبراهيم]22 :
مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
والسلطان قسمان :سلطان يقهر ،وسلطان يقنع .والشيطان يدخل على الِنسان من هذه البواب.
ويقول الحق بعد ذلك على لسان إبليس } :ثُمّ لتِيَ ّنهُمْ مّن{ ...
()959 /
فالذي بين اليد هو ما كان إلى المامَ { ،ومِنْ خَ ْل ِفهِمْ } أي من الوراء { ،وعَنْ أَ ْيمَا ِنهِمْ } أي من
شمَآئِِل ِهمْ } أي من جهة اليسار .والشيء الذي أمام العالم كله ،ونسير إليه
جهة اليمين { ،وعَن َ
جميعا هو { الدّارُ الخِ َرةُ } وحين يأتي الشيطان من المام فهو يشككهم في حكاية الخرة
ويشككهم في البعث .ويحاول أن يجعل الِنسان غير مقبل على منهج ال ،فيصير من الذين ل
يؤمنون بلقاء ال ،ويشكّون في وجود دار أخرى س ُيجَازى فيها المحسن بإحسانه والمسيء
بإساءته .وقد حدث ذلك ووجدنا من يقول القرآن بلسان حاله {:أَإِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا
لوّلُونَ }[الصافات]17-16 :
َلمَ ْبعُوثُونَ * َأوَ آبَآؤُنَا ا َ
ولذلك يعرض الحق قضية البعث عرضا ل يجعل للشيطان منفذا فيها ،فيوضح لنا أنه سبحانه لم
يعجز عن خلقنا أولً؛ لذلك لن يعجز عن إعادتنا ،والِعادة بالتأكيد أهون من البداية؛ لنّه سيعيدهم
من موجود ،لكن البداية كانت من عدم ،إنه -سبحانه -عندما يبيّن للناس أن الِعادة أهون من
البداية فهو يخاطبهم بما ل يجدون سبيلً إلى إنكاره ،وإلّ فال -جل شأنه -تستوي لدى طلقة
قدرته كل العمال فليس لديه شيء سهل وهيّن وآخر صعب وشاق ويبلغنا -سبحانه -بتمام
حفِيظٌ }[ق]4 :
ص الَ ْرضُ مِ ْنهُ ْم وَعِندَنَا كِتَابٌ َ
عِلمْنَا مَا تَنقُ ُ
إحاطة علمه فيقول {:قَدْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي أن لكل واحدٍ كتابا مكتوبا فيه كل عناصره وأجزائه.
والشيطان -أيضا -يأتي من الخلف ،وخلف كل واحد منا ذريته ،يخاف ضيعتهم ،فيوسوس
الشيطان للبعض بالسرقة أو النهب أو الرشوة من أجل بقاء مستقبل البناء ،وفساد أناس كثيرين
يأتي من هذه الناحية ،ومثل هذا الفساد يأتي حين يبلغ بعض الناس منصبّا كبيرا ،وقد كبرت سنّه،
ويقبل على ال بشرّ ،ويظن أنه يترك عياله بخير .لكن إن كنت تخاف عليهم حقّا فأمّن عليهم في
ضعَافا خَافُواْ
خ ْلفِهِمْ ذُرّيّ ًة ِ
يد ربهم ،ول تؤمّن حياتهم في جهة ثانية {.وَلْيَخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ َ
عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُواّ اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َق ْولً سَدِيدا }[النساء]9 :
ولماذا لم يأت الشيطان للِنسان من فوق ومن تحت لن الفوقية هي الجهة التي يلجأ إليها مستغيثا
ومستجيرا بربه ،والتحتية هي جهة العبودية الخاصة .فالعبد أقرب ما يكون من ربه وهو ساجد،
فهو في هاتين الحالتين محفوظ من تسلط الشيطان عليه؛ لن ال تعالى يقول { :إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ
عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانٌ }.
شمَآئِِلهِ ْم َولَ َتجِدُ َأكْثَرَهُمْ
ويقول تعالى { :ثُ ّم لتِيَ ّنهُمْ مّن بَيْنِ أَ ْيدِيهِ ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ أَ ْيمَا ِنهِمْ وَعَن َ
شَاكِرِينَ } [العراف]17 :
ويأتي الشيطان من اليمين ليزهد الناس ويصرفهم عن عمل الحسن والطاعة .واليمين رمز العمل
الحسن؛ لن كاتب الحسنات على اليمين ،وكاتب السيئات على الشمال ،ويأتي عن شمائلهم
شمَآئِِلهِمْ } ولم
ليغريهم بشهوات المعصية .ونلحظ أن الحق استخدم لفظ { عَنْ أَ ْيمَا ِنهِمْ } و { عَن َ
يأت بـ " على " لن " على " فيها استعلء ،والشيطان ليس له استعلء أبدا؛ لنه ل يملك قوة
القهر فيمنع ،ول قوة الحجة فيقنع .ولن أكثر الناس ل تتذكر شكر المنعم عليهم ،فيجيد الشيطان
جدُ َأكْثَرَ ُهمْ شَاكِرِينَ } [العراف]17 :
غوايتهم .ولذلك يقول الحق تذييلً للية...{ :وَلَ تَ ِ
ويقول الحق بعد ذلك { :قَالَ اخْرُجْ مِ ْنهَا} ...
()960 /
ج َمعِينَ ()18
جهَنّمَ مِ ْنكُمْ أَ ْ
قَالَ اخْرُجْ مِ ْنهَا مَ ْذءُومًا َمدْحُورًا َلمَنْ تَ ِب َعكَ مِ ْنهُمْ لََأمْلَأَنّ َ
لقد بلغ الغرور بالشيطان أن تخيّل أنه ذكي ،فشرح لنا خطته ومنهجه فدلل لنا على أن حكم ال
ضعِيفا }[النساء]76 :
ن َ
فيه قد نفذ بأن جعل كيده ضعيفا ،فسبحانه القائل... {:إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَا َ
لقد نبهنا الحق لكيد الشيطان وغروره ،والناصح هو من يحتاط ،ويأخذ المناعة ضد النزغ
الشيطاني .وهنا يقول الحق { :قَالَ اخْرُجْ مِ ْنهَا مَذْءُوما مّ ْدحُورا[ } ...العراف]18 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقال له الحق من قبل {:قَالَ فَاهْ ِبطْ مِ ْنهَا َفمَا َيكُونُ َلكَ أَن تَ َتكَبّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِ ّنكَ مِنَ الصّاغِرِينَ }
[العراف]13 :
إذن فهناك هبوط وخروج بصَغار ومجاوزة المكان ،ثم هنا أيضا تأكيد بأنه في حالة الخروج
لمْلَنّ
سيكون مصاحبا للذم والصغار والطرد واللعن .ويقول الحق سبحانهّ...{ :لمَن تَ ِب َعكَ مِ ْنهُ ْم َ
ج َمعِينَ } [العراف]18 :
جهَنّمَ مِنكُمْ أَ ْ
َ
وفي هذا اخبار لمن يتبعون الشيطان بأنهم أهل لجهنم ،ولم يعدّها سبحانه لتسع الكافرين فقط ،لكنه
أعدّها على أساس أن كل الخلق قد يكفرون به سبحانه ،كما أعدّ الجنة على أساس أن الخلق جميعا
يؤمنون به؛ فليس عنده ضيق مكان ،وإن آمن الخلق جميعا؛ فإنه -جل شأنه -قد أعد الجنة
لستقبالهم جميعا ،وإن كفروا جميعا فقد أعدّ النار لهم جميعا؛ تأكيدا لقوله الحقُ {:أوْلَـا ِئكَ هُمُ
ا ْلوَارِثُونَ * الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[المؤمنون]11-10 :
جهَنّمَ أَنتُمْ َلهَا وَارِدُونَ }[النبياء]98 :
صبُ َ
ح َ
وقوله الحق {:إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْ ُبدُونَ مِن دُونِ اللّهِ َ
وبهذا نكون قد شرحنا مسألة إبليس الذي امتنع عن طاعة أمر المر العلى بالسجود لدم.
سكُنْ} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :وَيَآءَادَمُ ا ْ
()961 /
جكَ ا ْلجَنّةَ َفكُلَا مِنْ حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا وَلَا َتقْرَبَا هَ ِذهِ الشّجَ َرةَ فَ َتكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ (
ت وَ َزوْ ُ
سكُنْ أَ ْن َ
وَيَا آَ َدمُ ا ْ
)19
جكَ ا ْلجَنّةَ
ت وَ َزوْ ُ
سكُنْ أَن َ
ويعاود القرآن الحديث عن آدم بعد تناول مسألة إبليس فيقول { :وَيَآءَا َدمُ ا ْ
}.
كثير من العلماء تواتر نقل العلم عندهم إلى أن الجنة هي جنة الخرة والخلود ،واعترض البعض
متسائلين :كيف يدخل إبليس جنة الخلود؟ .وكيف يخرج منها؟ .وهل الذي يدخل الجنة يخرج
منها؟ .وهؤلء العلماء الذي قالوا :إن الجنة هي جنة الخرة ،لم يفطنوا إلى مدلول كلمة " جنة "؛
فساعة تطلق كلمة جنة ،تأخذ ما يسمى في اللغة " غلبة الستعمال " ،أي تأخذ اللفظ من معانيه
المتعددة إلى معنى واحد يستقل به عرفا ،بحيث إذا سُمع انصرف الذهن إليه ،فأنت إذا سمعت يا
مؤمن كلمة الجنة ينصرف ذهنك إلى جنة الخرة؛ لنها هي التي تُعتبر جنة بحق ،لكن حينما يأتي
اللفظ في القرآن والمتكلم هو ال ،فلبد أولً أن ندرس اللفظ واستعمالته في اللغة؛ لن القرآن
جاء بلسان عربي مبين ،فمن الجائز أن يوجد اللفظ في اللغة وله معانٍ متعددة .وعندما يتعلق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المر بالدين والفقه فإننا نأخذ اللفظ من معناه اللغوي ،ونجعله ينصرف إلى المعنى الشرعي
الصطلحي.
مثال ذلك كلمة " الحج " فأنت ساعة تسمع كلمة " الحج " تقول :هو قصد بيت ال الحرام للنسك
والعبادة في أشهر معلومة ،على الرغم من أن " الحج " في اللغة هو القصد ،فإذا قصدت أي شيء
تقول :حججت إليه .فلما جاء الِسلم أخذ هذا اللفظ من اللغة واستعمله في الحج بالمعنى
الشرعي ،وهو قصد البيت الحرام للنسك ،وكذلك كلمة " الصلة " إنها في اللغة الدعاء ،فقوله
تعالى { :وصلّ عليهم } أي ادع لهم ،ولما جاء الِسلم أخذ الكلمة من اللغة ،وجعلها تطلق على
معنى اصطلحي جديد بحيث إذا أطلق انصرفت إليه ،وهي القوال والفعال المخصوصة،
المبدوءة بالتكبير المختومة بالتسليم بشرائطها الخاصة.
ولكن هل معنى أننا أخذنا اللفظ من اللغة وجعل له الشرع معنىً اصطلحيّا أن هذا يكون تركا
لمعناه الصلي؟ .ل؛ لنك إن أردت أن تستعمله في معناه الصلي فلك ذلك ،ولكنك تحتاج إلى
قرينة تدل على أنك ل تريد الصلة الشرعية لن كلمة " صلة " أصبحت هي الصلوات الخمس
المعروفة لنا ،مع أن معناها الصلي كان الدعاء ،وهذا هو ما جعل العلماء يذهبون إلى أن كلمة "
الجنة " ساعة تُطلق ينصرف الذهن إلى جنة الخلود .ونقول :المعنى اللغوي للجنة أنها المكان
الذي فيه أشجار غزيرة ومتنوعة ،أما غزارتها وعلوها فتستر الِنسان وتُجِنّه عن كل ما حوله،
وأما ما فيها من الثمار والضروريات والكماليات فلنها تستر الِنسان عن خارجها ويكتفي بأن
يكون فيها ،والقرآن لم يجيء بالجنة بمعنى جنة الخلد فقط ،بل يقول أيضا:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد خلق ال آدم ليكون خليفة في الرض ،وكان عليه أن يتلقى من ال التكاليف محصورة في "
افعل " و " ل تفعل "؛ لنك إن لم تمتثل سيظهر الفساد في المجتمع ،أما الذي ل يظهر منه فساد
فسبحانه يتركه مباحا؛ لذلك فكل ما لم يرد فيه " افعل " و " ل تفعل " ل يفسد به المجتمع .إذن فـ
" افعل " و " ل تفعل " هي مقياس ضمان الصلح في الرض.
وهل خلق ال الِنسان هكذا بدون منغصات تفسد عليه منهج ال؟ .ل ،فمادام الشيطان قد وقف هذا
الموقف مع آدم ،وقال أنا سأغوي؛ فسيزين لك في " افعل " ،و " ل تفعل " ويأتيك المر بالصلة
فينزغك الشيطان حتى ل تصلي .ويأتيك المر أل تشرب الخمر فيزين لك الشيطان أن تشربها،
ويحاول أن ينقل مجال " افعل " إلى مجال " ل تفعل " ،وكذلك يحاول أن يزين لك " أن تفعل " ما
هو في مجال " ل تفعل " فترتبك حركتك.
إن الحق سبحانه يريد منهجا يحكم حركة الحياة ،ويضمن للخلفة في الرض أن تؤدي مهمتها
أداءً يسعد الِنسان فيها في الدنيا وينعم في الخرة؛ لذلك كان لبد أن يدرب الحق سبحانه خليفته
في الرض على المنهج؛ حتى ل يتلقى المنهج تلقيّا نظريّا ،لذلك شاء الحق سبحانه وتعالى ألّ
يجعل آدم يباشر مهمة الخلفة إل بعد أن يعطيه تدريبا على المهمة في " افعل " و " ل تفعل ".
وحذره من العقبات التي تعترض " افعل "؛ حتى ل تجيء في منطقة " ل تفعل " ،وكذلك من
العقبات في منطقة " ل تفعل " حتى ل تجيء في منطقة " افعل " ،واختار له مكانا فيه كل
مقومات الحياة وترفها حتى ل يتعب في أي شيء أبدا في أثناء التدريب ،وأوضح له أن هذه هي
الجنة وهي بستان جميل وفيه كل مقومات الحياة وترفها ،وأمرهُ :كلْ من كل شيء فيها ،ولكن ل
تقرب هذه الشجرة.
" كل " هذا هو المر ،و " ل تقرب " هذا هو النهي .وأوضح سبحانه لدم أن الذي سيعكر عليه
تطبيق منهج ال هو العدو الذي ثبتت عداوته إنّه " إبليس "؛ لنه حين امتنع عن السجود لدم تلقى
ج َمعِينَ }[ص]82 :
غوِيَ ّنهُمْ أَ ْ
ك لُ ْ
الطرد واللعنة فأقسم وقال {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِت َ
كأن الحق سبحانه وتعالى جعل الجنة كمكان فيه كل مقومات الحياة لدم بصنع ال -سبحانه-
وإعداده ،وأعطى له منها القدر الذي يعطي المقوم فل فضلت تتعبه ،ول ينفخ ول يعاني من
متاعب في الصحة ...إلخ؛ لنه سبحانه يعطي لدم القدر المقوم .وسبحانه قادر على كل شيء
بدليل أنه يرعى الجنين في بطن أمه ،والجنين ينمو ،والنمو معناه أنه يتلقى الغذاء ،ول يخرج منه
فضلت؛ لن الغذاء الذي يدخله ال له على قدر النمو فقط ،وحين يكون ربنا هو الذي يمد جنة
التدريب بالغذاء ،فهو قادر على كامل الِعداد.
إذن فالجنة التي وُجد فيها آدم بداية ليست هي جنة الجزاء؛ لن جنة الجزاء لبد أن تأتي بعد
التكليف .ول يمكن أن يكون فيها تكليف ،ومن يسكنها ل يخرج منها .وآدم -كما علمنا -مخلوق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للرض ،إذن وجود الجنة هنا يعني أنها مكان التدريب على المهمة في الخلفة أمرا متمثلً في }
َفكُلَ { ،ونهيا متمثلً في } َولَ َتقْرَبَا { ،لم يقل لهما :ل تأكل ،بل قالَ } :ولَ َتقْرَبَا { لن القِربان
مظنة أنه يؤدي إلى الغواية ويدفع إليها .وهو قد أكل منها لنه جاء ناحيتها واقترب منها ،ولو
كان قد استمع ولم يقرب لما أكل منها.
فكأن ال جعل لدم في جنة التدريب والتمرين رمزين :الرمز الول :لـ " افعل " ،والرمز
الثاني :لـ " ل تفعل " ،ونجد أن الذي نهى ال عنه قليل بالنسبة لما أباحه وأمر به .وهذا من
رحمة ال بالعباد ،فيفعل المؤمن ما يؤمر به ،ول يحوم حول ما حرمه ال؛ لنه ل يأمن حين
يرى ما حرم ال أن تميل نفسه إليه ،ولذلك قالَ } :ولَ َتقْرَبَا { فلو أنهما لم يقربا ما كانت الشجرة
تغريهما بأي منظر .ولذلك في كثير من الشياء التي يحرمها الحق سبحانه وتعالى وفي قمتها ما
يصون ويحفظ العقيدة الساسية ،يقول بعدم القتراب أو الجتناب ،فسبحانه هو القائل:
()962 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كلمة " وسوس " تدل على الهمس في الغواء ،ونعرف أن الذي يتكلم في خير ل يهمه أن يسمعه
الناس .لكن من يتكلم في شرّ فيهمس خوفا من أن يفضحه أحد ،وكأن كل شر لبد أن يأتي همسا،
وصاحبه يعرف أن هذا الكلم ل يصح أن يحدث ،ويستحي منه ،ول يحب أن يعرف المجتمع عنه
هذا الشيء ،و " وسوس " مأخوذة من الصوت المغري ،لن الوسوسة هي صوت رنين الذهب
والحلي ،إذن فما قاله الشيطان لدم وزوجه هو كلم مغرٍ ليلفتهما عن أوامر رب حكيم.
سوَسَ َل ُهمَا } يعطينا حيثيات البراءة لحواء؛ لن الشائع أن حواء هي التي ألحت
وقوله الحقَ { :فوَ ْ
على آدم ليأكل من الشجرة ،وكثير منا يظلم حواء على الرغم من أن القرآن يؤكد أن الوسوسة
سوْءَا ِت ِهمَا }.
سوَسَ َل ُهمَا الشّ ْيطَانُ لِيُبْ ِديَ َل ُهمَا مَا وُو ِريَ عَ ْن ُهمَا مِن َ
كانت لدم وحواء معاَ { .فوَ ْ
[العراف]20 :
وهل وسوس الشيطان لهما ليبدي لهما ما ووري من سوءاتهما ،أو وسوس ليعصيا ال؟ .لقد
وسوس ليعصيا ال ،وكان يعلم أن هناك عقوبة على المعصية ،ويعلم أنهما حين يأكلن من الشيء
الذي حرمه ربنا ستظهر سواءتهما ،و " السوءة " هي ما يسوء النظر إليه ،ونطلقها على العورة،
والفطرة تستنكف أن يرى الِنسان المكتمل الِنسانية السوءة .وكأنهما في البداية لم ير أحدهما
سوْءَا ِت ِهمَا }.
سوءة الخر أو سوءة نفسه لن الحق يقول { :لِيُبْ ِديَ َل ُهمَا مَا وُو ِريَ عَ ْن ُهمَا مِن َ
والسوءات أربع :اثنتان للرجل واثنتان للمرأة ،فكأن كل إنسان منهما ل يرى سوءتيه ،وكذلك ل
يرى سوءتي الخر ،لن السوءات كلها لها ما يخفيها عن الرؤية ،وهذا كلم معقول جدا .ألم تقل
سيدتنا أم المؤمنين عائشة -رضي ال عنها " :-ما رأيت ول أرى مني " ،وفي هذا القول تتجلّى
قمة الدب لنها لم تجيء حتى باللفظ ،لن العضو مادام سوءة فهو مبني على الستر .وذلك حين
حدّث رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " " :يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى ال حفاة عراة
غرل كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " ،تعجبت السيدة عائشة فقال لها" :
سوْءَا ِت ِهمَا }
المر أخطر من أن ينظر أحد إلى أحد { " .لِيُ ْب ِديَ َل ُهمَا مَا وُورِيَ عَ ْن ُهمَا مِن َ
[العراف]20 :
وبماذا ووري؟ .ل بد أن هناك لباسا كان على كل منهما ،وقال العلماء الكثير عن هذا اللباس،
فمن قائل :إن أظافر الِنسان هي بقية اللباس الذي كان موجودا عند آدم وحواء ،وهو ما كان
يواري السوءات ،ويقال :إنّ أيّ إنسان يكون في غاية الضحك والنبساط ،ويريد أن يكتم َنفْسه،
ويمنعها ويحول بينها وبين الضحك إنه يحدث له ذلك لو نظر إلى أظافره ،عندئذ ل يمكنه أن
يضحك لنها بقية لحظة الندم على كشف السوءة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أو أن الستار الذي كان يواري السوءة هو النور الِلهي الذي كان يلفهما ،والنور الساطع جدا حين
يلف ل يبين ،صحيح أنك بالنور ترى الشياء ،لكنه إن اشتد عمّى على الشياء فأخفاها فل تراها؛
لن أي أمر إذا زاد على حدّه انقلب إلى ضده ،فإما أن يكون الثوب الظافر ،وإما أن يكون النور
الِلهي الذي كان يغشاهما ويواري السوءة ،وقد سميت " سوءة " و " عورة " ،لنها تسوء ،فلماذا
تسوء؟ وما الفرق بين فتحتين :فتحة في الفم ،وفتحة في العورة؟.
إن فتحة العورة سوءة باعتبار ما يخرج منها .وحينما كانا يأكلن من إعداد ربنا لم يكونا -كما
قلنا -في حاجة إلى إخراج فضلت؛ لن إعداد ال يعطي كُلّ منهما على القدر الكافي للحركة
والفعل ،وكانت المسألة مجرد فتحات مثل بعضها .لكن حينما يخرجان عن مرادات ال في
الطعام ،ويأكلن غير ما أمر ال به ،ويمارسان اختيار الطعام بدأت الفضلت في الخروج بما لها
من رائحة غير مقبولة ،فهل ظهور السوءة لهما هو رمز إلى أن هناك مخالفة لمنهج ال سواء
أكان ذلك في القيم والمعنويات أم في المور المادية؟
نعم؛ لن كل شيء يُخَالَف فيه منهج ال لبد أن تبدو فيه العورة ،وإن رأيت أي عورة في
المجتمع فاعلم أن منهجا من مناهج ال قد عطل .وينقل القرآن ما قاله لهما الشيطان من
وسوسة } :وقَالَ مَا َنهَا ُكمَا رَ ّب ُكمَا عَنْ هَـا ِذهِ الشّجَ َرةِ ِإلّ أَن َتكُونَا مََلكَيْنِ َأوْ َتكُونَا مِنَ الْخَاِلدِينَ
{ [العراف]20 :
لقد همس الشيطان وأوحى لهما بأن الحق :أراد أل تقربا هذه الشجرة لن من يأكل منها يصير
مَلَكا ،أو خالدا .ولم يمحص أي منهما كلمات الشيطان ليعرف أن كيده كان ضعيفا واهيا وغبيا؛
لنه مادام قد عرف أن من يأكل من هذه الشجرة يصير ملكا أو يبقى من الخالدين فلماذا لم
يخطف منها ما يجعله مَلَكا أو خالدا؟ وفي هذا درس يبين لنا أن مَن يُزَيّن له ويتصدى له أحد
بالِغواء يجب عليه أن يمحص إلى أي غواية يسير ،وأن يدقق في نتائج ما سوف يفعل.
وإذا كان الشيطان قد قال {:قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }[العراف]14 :
فلماذا لم ينقذ نفسه بالكل من هذه الشجرة وتنتهي المسألة؟ .إذن كان ما يقوله الشيطان كذبا.
س َم ُهمَآ إِنّي َل ُكمَا{ ...
ويقول الحق بعد ذلكَ } :وقَا َ
()963 /
صحِينَ ()21
س َم ُهمَا إِنّي َل ُكمَا َلمِنَ النّا ِ
َوقَا َ
" قاسم " مادة فاعل ،تأتي للمشاركة ،أي أن هناك طرفين اثنين ،كل منهما فاعل في ناحية ومفعول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في ناحية أخرى ،مثل شارك زيد عمرا ،وهي تعني أيضا أن عمرا شارك زيدا ،وهكذا تكون مادة
فاعل وتفاعل ،فكل منهما فاعل من جهة ومفعول من جهة .وفي المعنى نجد الثنين فاعلً
ومفعول ،إذن " قاسم " تحتاج إلى عمليتين اثنتين ..فهل جلس إبليس يقسم لدم ولزوجته ،وهما
يقسمان؟ .ونقول :ل؛ لنها تأتي مرة لغير المفاعلة ،أو للمفاعلة اللزومية ،والمفاعلة اللزومية
تتضح في قوله الحقَ {:ووَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلَثِينَ لَيَْل ًة وَأَ ْت َممْنَاهَا ِبعَشْرٍ[} ...العراف]142 :
وواعدنا ،مثلها مثل فاعل ،من الذي واعد؟ .إنه ال الذي وعد موسى عليه السلم ،ودخل موسى
في الوعد بقبوله الوعد وتوفيته به.
س َمهُمَآ إِنّي َل ُكمَا َلمِنَ النّاصِحِينَ } [العراف]21 :
إذن " قاسمهما " أي قبل القسم ودخل فيهَ { .وقَا َ
و " قاسم " ،أي أقسم ،ولذلك حينما عاتب ربنا سيدنا آدم أوضح سبحانه :أنا قلت إنه عدو لك
ولزوجك ،ولسوف يخرجنكما من الجنة لتتعب وتشقى ،فقال آدم :يا ربي ما كنت أعتقد أن خلقا
من خلقك يقسم بك على الباطل .ولم يأتي على البال أن خلقا يقسم بال على الباطل .وكانت هذه
أول خديعة في الخلق .ولذلك نجد قتادة -رضي ال عنه -يقول " :المؤمن بال يُخدع ".
" والنبي عليه الصلة والسلم عقد على امرأة ودخلت به ،ومن كيد النساء وهن زوجات للنبي
صلى ال عليه وسلم وقد خفن أن يشغف بها حُبّا ،فقلن لها :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم،
يحب هذه الكلمة ،فإذا دخل عليك فقوليها! ،قولي " :أعوذ بال منك " ،ولحظة أن دخل عليها
سيدنا رسول ال ،قالت له " :أعوذ بال منك " .فقال لها :استعذت بمعاذ .ولم يقربها الرسول " ،
وهذا ما يشرح لنا كيف يُخدع المؤمن بال .وها هو ذا سيدنا عبد ال بن عمر كان يعتق من العبيد
من يحسن الصلة ويتقنها ويؤديها في مواعيدها ،ويقف فيها خاشعا ،وحين عرف العبيد ذلك
احترفوا إقامة الصلة أمام المكان الذي يجلس فيه وكانوا يؤدونها بخشوع ،وكان رضي ال عنه
يعتقهم ،وذهب له من يقول :إن العبيد يخدعونك ،فيقول :من خدعنا بال ،انخدعنا له.
والنصح هنا :إغراء بمخالفة أمر ال ،وكان يجب أل تكون هناك غفلة من آدم ،وكان لبد أن
يقارن بين المرين ،بين غواية الشيطان له بالكل ،وبين أمر الحق سبحانه الذي قال له ولزوجه:
ل تقربا .لكنه لم يفعل.
ويقول الحق بعد ذلك { :فَ َدلّ ُهمَا ِبغُرُورٍ فََلمّا} ...
()964 /
ن وَرَقِ الْجَنّةِ
صفَانِ عَلَ ْي ِهمَا مِ ْ
خ ِ
ط ِفقَا َي ْ
سوْآَ ُت ُهمَا وَ َ
فَدَلّا ُهمَا ِبغُرُورٍ فََلمّا ذَاقَا الشّجَ َرةَ بَ َدتْ َل ُهمَا َ
ع ُدوّ مُبِينٌ ()22
وَنَادَا ُهمَا رَ ّب ُهمَا أََلمْ أَ ْن َه ُكمَا عَنْ تِ ْل ُكمَا الشّجَ َرةِ وََأقُلْ َل ُكمَا إِنّ الشّيْطَانَ َل ُكمَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َف َدلّ ُهمَا ِبغُرُورٍ } أي فأنزلهما من رتبة الطاعة إلى درك المعصية والذنب مما غرهما وخدعهما
من القسم .و " دلّ " مأخوذة من دلّى رجليه في البئر كي يرى إن كان فيه ماء أم ل ،أو دلّى جبل
الدلو لينزله في البئر ،ومعناها :أنه يفعل الشيء مرة فمرة ،و " بغرور " أي بإغراء لكي يوقعهما
في المخالفة ،فأظهر لهما النصح وأبطن لهما الغش.
وهنا وقفة تدل على الصطراع بين الحق والباطل في النفس { ،فََلمّا ذَاقَا الشّجَ َرةَ } هذا يدل على
أنهما بمجرد المذاق تذكرا أن النزغ من إبليس جعلهما يذهبان إلى الشجرة .وأن ما أخذاه فقط كان
طفِقَا
سوْءَا ُت ُهمَا َو َ
مجرد المذاق ،فتنبه كلهما إلى جسامة المر { .فََلمّا ذَاقَا الشّجَ َرةَ بَ َدتْ َل ُهمَا َ
صفَانِ عَلَ ْي ِهمَا مِن وَرَقِ ا ْلجَنّةِ } [العراف]22 :
خ ِ
يَ ْ
و " الخصف " أي تأتي بشيء وتلزقه على شيء لتداري شيئا .وقديما حينما كان يبلى نعل الحذاء،
ويظهر به خرق فالِسكافي يضع عليه رقعة من الجلد تكون أوسع من الخرق حتى تتمكن منه.
وهكذا فعل آدم وحواء؛ أخذا من ورق الجنة ووضعا ورقة على ورقة ليداريا السوءة .وقوله
طفِقَا } يعني وجعل من ورق الشجر غطاء للسوءات.
الحق { :وَ َ
وهنا يقول الحق...{ :وَنَادَا ُهمَا رَ ّب ُهمَآ أَلَمْ أَ ْن َه ُكمَا عَن تِ ْل ُكمَا الشّجَ َر ِة وََأقُل ّل ُكمَآ إِنّ الشّ ْيطَآنَ َل ُكمَا عَ ُدوٌ
مّبِينٌ } [العراف]22 :
لقد كان التكليف هنا في أمر واحد ،والِباحة في أمور متعددة ،وسبحانه لم يكلفهما إل بأمر واحد
هو عدم القتراب من الشجرة ،والمباح كان كثيرا؛ لذلك لم يكن من اللئق أن يتولى عن التكليف.
ولم يكن هذا التكليف بالواسطة ولكن كان بالمباشرة ،ولذلك سينفعنا هذا الموقف في الفهم في لقطة
عصَىا ءَادَمُ رَبّهُ َف َغوَىا }[طه]121 :
للقصة في سورة غير هذه وهو قوله الحق... {:وَ َ
ولم يأت الحق هنا بسيرة المعصية ،وقال لهما...{ :أَلَمْ أَ ْن َه ُكمَا عَن تِ ْل ُكمَا الشّجَ َر ِة وََأقُل ّل ُكمَآ إِنّ
الشّ ْيطَآنَ َل ُكمَا عَ ُدوٌ مّبِينٌ } [العراف]22 :
وسبحانه ل يجرم إل بنص ،وسبق أن قال سبحانه { :وَلَ َتقْرَبَا هَـا ِذهِ الشّجَ َرةَ } وأوضح :أن
هناك عنصرا إغوائيا هو إبليس وعداوته مسبقة في أنه امتنع عن السجود ،وقد طرده الحق لهذا
السبب .إذن إنْ آخذهما وعاقبهما ال بهذا الذنب فهو العادل ،وهما اللذان ظلما أنفسهما .وكان لبد
أن يكون الجواب :نعم يا رب نهيتنا ،وقلت لنا ذلك .وهذا إيراد للحكم بأقوى الدلة عليه؛ لن
الحكم قد يأتي بالِخبار ،وقد يأتي بالستفهام بالِيجاب ،ويكون أقوى لو جاء بالستفهام بالنفي.
ع ُدوٌ مّبِينٌ } [العراف]22 :
{...إِنّ الشّيْطَآنَ َل ُكمَا َ
ونحن نعلم أن العدو هو الخصم الذي يريد إلحاق الضرر واليذاء بك ،و " مبين " أي محيط،
وهذا دليل يظهر عداوة الشيطان وإحاطتها؛ لنه قد سبق أن أوضح أنه سيأتي من بين أيديهم ومن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم .أو بيّن العداوة وشديد الخصومة.
ويأتي القرار بالذنب من آدم وحواء { :قَالَ رَبّنَا ظََلمْنَآ} ...
()965 /
وتلك هي الكلمات التي قال ال عنها في سياق آخر {:فَتََلقّىا ءَا َدمُ مِن رّبّهِ كَِلمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنّهُ
ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ }[البقرة]37 :
فكأن الحق سبحانه وتعالى قدّر غفلة خلقه عن المنهج؛ فشرّع لهم وسائل التوبة إليه ،ووسائل
التوبة ثلث مراحل :تشريعها رحمة ،ثم القبال عليها من المذنب اعترافا وإنابة ،وقبولها منه
سبحانه رحمة ،فالتشريع يطلب منك أن تفعل ،وحين تتوب يتوب ال عليك.
تشريع التوبة -إذن رحمة ،ل بالمذنب فقط ،بل وبغيره أيضا؛ لن ال لو لم يشرع التوبة ،كان
الذي يعمل معصية ،وليجد مغفرة ،يستشري في المعاصي ،وإذا استشرى في المعاصي تعب
حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ ا ْلخَاسِرِينَ } [العراف:
المجتمع كله { .قَالَ رَبّنَا ظََلمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ َت ْغفِرْ لَنَا وَتَرْ َ
]23
وهذا هو الموقف بعد الذنب من آدم وزوجته ،وهو يختلف عن موقف إبليس بعد الذنب؛ فإبليس
خَلقْتَ طِينا }[السراء]61 :
جدُ ِلمَنْ َ
أراد أن يبرر المخالفة... {:قَالَ أََأسْ ُ
حمْنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
فماذا قال آدم وحواء؟...{ :رَبّنَا ظََلمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ َت ْغفِرْ لَنَا وَتَرْ َ
[العراف]23 :
ولذلك كان جزاء إبليس -وهو المتأبي على أوامر ال وحكمه -أن يطرد من رحمته .وجزاء
المعترف بأنه أذنب ،وأنه ظلم نفسه أن تُقبل توبته .إذن ل يصح للناس الذين يقيمون على معصية
أن يقول الواحد منهم " :هذه هي ظروفي " ،ويبرر ويحلل ما يفعله من المعاصي ،بل على الواحد
منهم أل يطرد نفسه بنفسه من منطقة الرحمة ،وعليه أن يقول " :ما أفعله ،حرام ،لكن ل أقدر
على نفسي " وبذلك ل يكون قد ردّ الحكم ،بل اتهم نفسه بالتقصير واعترف بالذنب ،فصار أهلً
للمغفرة وأهلً للتوبة.
وهنا نسأل :ما الفرق بين معصية إبليس ومعصية آدم؟ .نقول :إبليس عصى وجاء بحيثية رفض
المر ،لكن آدم عصى وأقر بالذنب وطلب المغفرة.
ظَلمْنَآ أَنفُسَنَا } معا وفي َنفَس واحد ،ونغمة حزينة نادمة ،أل
وحين قال آدم وزوجته حواء { :رَبّنَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يدل ذلك على أنهما قد تعلماها؟ .إن كل منهما لو اعتذر ل بمفرده لختلفا في أسلوب العتذار.
وهذا دليل على أنها ملقنة ،ولهذا قال ربنا {.فَتََلقّىا ءَا َدمُ مِن رّبّهِ كَِلمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ[} ...البقرة:
]37
وهما قد قال { :رَبّنَا ظََلمْنَآ أَنفُسَنَا } ،وأنفسنا جمع َنفْس ،ولم يقول " نفسينا " ،بل قال { أَنفُسَنَا }
أي أن قلبيهما أيضا قد صفيا وخلصا من أثر تلك المعصية ،وأن ذلك مطمور وداخل في نفوس
ذريتهما.
ضكُمْ} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :قَالَ اهْ ِبطُواْ َب ْع ُ
()966 /
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي الْأَ ْرضِ مُسْ َتقَ ّر َومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ()24
قَالَ اهْبِطُوا َب ْع ُ
ونلتفت لنجد أن هناك أمرا قد يسبق لِبليس بالهبوط ،وهنا أمر آخر بالهبوط ،وبال لو كانت جنة
الخلود هي محل إقامتهما ،وآدم مخلوق لها ثم عصى ثم تاب لما خرجا منها أبدا .لكنه سبحانه أمر
آدم بأن يهبط إلى الرض التي جعله خليفة فيها ،ليباشر مهمة الخلفة في إطار التجربة التي
وقعت له ،وعليه أن يحترم أمر ال في كل تكليف ،وأن يحترم نهي ال في كل تكليف ،وليحذر
عداوة الشيطان فإنه سيوسوس له .وقد جرب ذلك بنفسه ،فلينزل مزودا بالتجربة ،وليس له عذر
ع ُدوّ }.
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ َ
من بعد ذلك { .قَالَ اهْ ِبطُواْ َب ْع ُ
جمِيعا[} ...طه:
والمر هنا للجماعة؛ ولم يقل لهما اهبطا .وفي آية ثانية قال {:قَالَ اهْبِطَا مِ ْنهَا َ
]123
وذلك لنعرف أن ورود القصة في أماكن متعددة جاء لتعطي لقطات كثيرة .والمر هنا جاء بقوله:
{ اهْبِطُواْ } لن الهبوط اشترك فيه الثلثة؛ آدم وحواء ،وإبليس ..والعداوة مسبقة ول ندعيها.
العداوة بين طرفين :اثنان في طرف هما آدم وحواء ،وواحد في طرف هو إبليس .ويريد الحق لنا
بيان الحقائق وأن المتكلم إله ،إنّ كل حرف عنده بميزان؛ ولذلك نجده سبحانه يقول لناَ {:أفَلَ
يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ[} ...النساء]82 :
أي إياك أن تأخذ واجهة النص ،ولكن ابحث في خلفيات النص ،ول تأخذ واجهة اللفظ ،بل انظر
ضكُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي الَ ْرضِ مُسْ َتقَ ّر َومَتَاعٌ ِإلَىا
إلى ما وراء اللفاظ { .قَالَ اهْ ِبطُواْ َب ْع ُ
حِينٍ } [العراف]24 :
وكلمة " عدو " تعني وجود صراع ،ومعارك سوف تقوم بين أولد آدم بعضهم مع بعض ،أو تقع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العداوة بينهم وبين أعدائهم من سكان الرض من جن وغيرهم ،لكنها لمدة محدودة ،ولذلك قال:
{ وََلكُمْ فِي الَ ْرضِ مُسْ َتقَ ّر َومَتَاعٌ إِلَىا حِينٍ }.
أي أن لكم استقرارا في الرض ومتاعا إلى حين .وصراع صاحب الحق في الحق يجب أن يأخذه
على أنه متاع في الدنيا ول يأخذه على أنه معركة بل جزاء ،ل ،فأنت تجاهد وتأخذ جزاء كبيرا
على الجهاد وهذا متاع.
ن َوفِيهَا} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :قَالَ فِيهَا تَحْ َيوْ َ
()967 /
كأنه قال { :وََلكُمْ فِي الَ ْرضِ مُسْ َتقَ ّر َومَتَاعٌ إِلَىا حِينٍ } فأحب أن يعطينا الصور لرحلة الحياة،
علٌ فِي الَ ْرضِ خَلِيفَةً[} ...البقرة]30 :
ويرسم لنا علقتنا بالرض التي قال فيها {:إِنّي جَا ِ
فقد ربطنا بالرض .إيجادا من طينها ،ومتعة بما فيها من ميزات ،وخيرات وثمرات ،ثم نموت
لنعود لها ونبعث من بعد ذلك .فالِنسان منا من الرض ،منها يحيا وفيها يموت ،ويذهب إلى
أصله ومرجعه ،إلى الم الرض ،فهي تكفته وتضمه وتأخذه في حضنها فهي الحانية عليه
وبخاصة في وقت ضعفه .وساعة ما يكون الِنسان في حالته الطيبة ،وله أخ حالته عكس ذلك فإن
قلب الم إنما يكون مع الضعيف ،ومع المريض ،ومع الصغير.
والرض هي التي تأخذ كل البشر ،تأخذ الِنسان وتمص منه الذى ،وتداري رائحته ،أمّا أحبابه
في الدنيا وإخوانه ،فقد سارعوا بمواراته التراب تفاديا لرحلة التحلل .وبمجرد أن يموت النسان،
أول ما يُنْسىَ هو اسمه؛ فيقولون " :أين الجثة " ،ول يقولون " :أين فلن " .وبعد الكفن يوضع
الجثمان في النعش ،ليوارى في التراب ويدمدم اللحاد عليه برجليه.
وينتقل الحق بعد ذلك بالخطاب إلى أبناء آدم فيقول { :يَابَنِي ءَادَمَ َقدْ أَنزَلْنَا} ...
()968 /
سوْآَ ِتكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ ال ّت ْقوَى ذَِلكَ خَيْرٌ ذَِلكَ مِنْ آَيَاتِ اللّهِ
يَا بَنِي آَ َدمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَ ْيكُمْ لِبَاسًا ُيوَارِي َ
َلعَّلهُمْ َي ّذكّرُونَ ()26
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة { يَابَنِي ءَادَمَ } لفت إلى أن تتذكروا ماضي أبيكم مع عدوكم المبين ،إبليس ،أنتم أولد آدم،
والشيطان موجود ،فانتبهوا .لقد أنزل الحق عليكم لباسا يواري سوءاتكم؛ لن أول مخالفة حدثت
كشفت السوءة ،والنزال يقتضي جهة علو لنفهم أن كل خير في الرض يهبط مدده من السماء،
وسبحانه هو من أنزل اللباس لنه هو الذي أنزل المطر ،والمطر روى بذور النبات فخرجت
النباتات التي غزلناها فصارت ملبس ،وكأنك لو نسبت كل خير لوجدته هابطا من السماء .ولذلك
ن الَ ْنعَامِ َثمَانِ َيةَ أَ ْزوَاجٍ[} ...الزمر]6 :
يمتن الحق سبحانه وتعالى على عباده فيقول {:وَأَن َزلَ َلكُمْ مّ َ
نعم هو الذي أنزل من النعام أيضا لن السببية في النبات من مرحلة أولى ،والسببية في الحيوان
من مرحلة ثانية ،فهو الذي جعل النبات يخرج من الرض ليتغذى عليه الحيوان ،ويقول سبحانه
ط وَأَنزَلْنَا ا ْلحَدِيدَ
أيضاَ {:لقَدْ أَ ْرسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَاتِ وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَابَ وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِسْ ِ
فِيهِ بَأْسٌ شَدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ[} ...الحديد]25 :
نعم فسبحانه هو من أنزل الحديد أيضا؛ لننا نأخذه من الرض التي خلقها ال ،وهذا دليل على أن
التنزيلت إنما أراد ال أن يحمي بها كل منهج { .يَابَنِي ءَا َدمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَ ْيكُمْ لِبَاسا ُيوَارِي
سوْءَا ِتكُمْ[ } ...العراف]26 :
َ
فإذا كنا قد أنزلنا اللباس يواري سوءات الحس وسوءات المادة ،كذلك أنزلنا اللباس الذي يواري
سوءات القيم .فكلما أنكم تحسّون وتدركون أن اللباس المادي يداري ويواري السوءة المادية
الحسية فيجب أن تعلموا أيضا أن اللباس الذي ينزله ال من القيم إنما يواري ويستر به سواءتكم
المعنوية .ولباس الحياة المادية لم يقف عند موارة السوءات فقط ،بل تعدى ذلك إلى ترف الحياة
سوْءَا ِت ُك ْم وَرِيشا وَلِبَاسُ ال ّت ْقوَىا ذاِلكَ خَيْرٌ
أيضا .لذلك قال الحق...{ :قَدْ أَنزَلْنَا عَلَ ْي ُكمْ لِبَاسا ُيوَارِي َ
ذاِلكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ َلعَّل ُهمْ يَ ّذكّرُونَ } [العراف]26 :
والريش كساء الطير ،وقديما كانوا يأخذون ريش الطير ليزينوا به الملبس .وكانوا يضعون
الريش على التيجان ،وأخذ العوام هذه الكلمة وقالوا :فلن مريش أي ل يملك مقومات الحياة فقط،
بل عنده ترف الحياة أيضا ،فكأن هذا القول الكريم قد جاء بمشروعية الترف شريطة أن يكون
ذلك في حل .وقيل أن يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى مقومات الحياة لفتنا إلى الجمال في الحياة،
حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَةً[} ...النحل]8 :
ل وَالْ ِبغَالَ وَا ْل َ
فقال سبحانه {:وَالْخَ ْي َ
جمَال.
والركوب لتجنب المشقة ،والزينة من أجل ال َ
وكذلك يقول الحق سبحانهُ {:قلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْرَجَ ِلعِبَا ِد ِه وَالْطّيّبَاتِ مِنَ الرّ ْزقِ} ...
[العراف]32 :
سجِدٍ} ...
بل سبحانه طلب زينتنا في اللقاء له في بيته فيقول {:يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَ َت ُكمْ عِندَ ُكلّ مَ ْ
[العراف]31 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فهذا أمر بالزينة ،وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه { :وَرِيشا
وَلِبَاسُ ال ّت ْقوَىا ذاِلكَ خَيْرٌ.
()969 /
قبل أن يطلب منا سبحانه أل نفتتن بالشيطان ،أوضح أنه قد رتب لنا كل مقومات الحياة ،وعلينا
أن نتذكر موقف الشيطان ،من أبينا آدم وإِغواءه له.
والفتنة في الصل هي الختبار ،وتُطلق -أحيانا -على الثر السيء حيث تكون أشد من القتل،
لكن هل يسقط الِنسان في كل فتنة؟ ل؛ لن الفتنة هي الختبار ،وفي الختبار إما أن ينجح
الِنسان ،وإمّا أن يرسب ،فإن نجح أعطته الفتنة خيرا وإن رسب تعطه شرّا.
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وتعالى قصة خلق آدم ،وأعلمنا أنه خلقه للخلفة في الرض ،وأن
موضوع الجنة هو حلقة مقدمة لتلقي الخلفة؛ لنه إذا ما أصبح خليفة في الرض؛ فلله منهج
يحكمه في كل حركاته ،ومادام له منهج يحكمه في كل حركاته فرحمة به لم ينزل ال للرض
ابتداءً ليتلقى المنهج بدون تدريب واقعي على المنهج ،فجعل الجنة مرحلة من مراحل ما قبل
الستخلف في الرض ،وحذره من الشيطان الذي أبى أن يسجد له ،وأراد منه أن يأخذ التجربة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في التكليف .وكل تكليف محصور في " افعل كذا " و " ل تفعل كذا "؛ لذلك شاء ال أن يجعل له
في الجنة فترة تدريب على المهمة؛ لينزل إلى الرض مباشرا مهمة الخلفة بعد أن زود بالتجربة
الفعلية الواقعية ،وأوضح له :أَنْ ُكلْ مِنْ ُكلّ ما في الجنة ،ولكن ل تقرب هذه الشجرة .و " ُكلْ "
َأمْرٌ ،و " ول تقرب " َن ْهيّ .وكل تكليف شرعي هو بين " ل تفعل " وبين " افعل ".
وبعد ذلك حذره من الشيطان الذي يضع ويجعل له العقبات في تنفيذ منهج ال ،فلما قرب آدم
وحواء وأكل منها؛ خالفا أمر ال في { َولَ َتقْرَبَا } ،وأراد ال أن يبين لهما بالتجربة الواقعية أن
مخالفة أمر ال لبد أن ينشأ عنها عورة تظهر في الحياة ،فبدت له ولزوجته سواءتهما ،فلما بدت
لهما سواءتهما علم كل منهما أن مخالفة أمر ال تُظهر عورات الرض وعورات المجتمع ،فأمره
ال :أن اهبط إلى الرض مزودا بهذه التجربة.
ولما هبط آدم وزوجه إلى الرض أرسل إليه منهج السماء بعد التجربة ،وأراد أن يبين لنا أنه
عصى أمر ربه في قولهَ { :ولَ َتقْرَبَا } ،وتلقى من ربه كلمات فتاب عليه ،وأراد سبحانه أن يبين
لنا أن آدم يتمثل فيه أنه بشر يصيب ويخطئ ،وتدركه الغفلة ،وقد يخالف منهج ال في شيء ،ثم
يستيقظ من غفلته فيتوب ،وبعد أن كلفه أن يبلغ رسالة ال وصار نبيّا؛ جاءت له العصمة فل يغفل
ول ينسى في تبليغ الرسالة.
ولذلك يجب أن نفطن إلى النص القرآني:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن الجنة كانت مرحلة من المراحل التي سبقت الخلفة في الرض .وبعد ذلك يريد الحق سبحانه
وتعالى أن يخلع علينا التجربة لدم حتى نتعظ بها ،وأن نعرف عداوة الشيطان لنا ،وأل نقع في
الفتنة كما وقع آدم } .يَابَنِي ءَا َد َم لَ َيفْتِنَنّكُمُ الشّيْطَانُ َكمَآ أَخْرَجَ أَ َبوَ ْيكُمْ مّنَ الْجَنّةِ يَن ِزعُ عَ ْن ُهمَا
سوْءَا ِت ِهمَآ[ { ...العراف]27 :
س ُهمَا لِيُرِ َي ُهمَا َ
لِبَا َ
وهذا نهي لبني آدم وليس نهيا للشيطان ،وهذا في مُكنة النسان أن يفعل أو ل يفعل ،فسبحانه ل
ينهى النسان عن شيء ليس في مكنته ،بل ينهاه عما في مكنته ،والشيطان قد أقسم أن يفتنه
ج َمعِينَ { .فإياكم أن تنخدعوا بفتنة الشيطان؛
غوِيَ ّنهُمْ أَ ْ
ك لُ ْ
وسيفعل ذلك لنه أقسم وقال } :فَ ِبعِزّ ِت َ
لن أمره مع أبيكم واضح ،ويجب أن تنسحب تجربته مع أبيكم عليكم فل يفتننكم كما أخرج أبويكم
من الجنة ،ويتساءل البعض :لماذا لم يقل ال :ل يفتننكم الشيطان كما فتن أبويكم ،وقال } :لَ
َيفْتِنَ ّنكُمُ الشّ ْيطَانُ َكمَآ أَخْرَجَ أَ َبوَ ْيكُمْ مّنَ الْجَنّةِ {؟ .ونقول هذا هو السمو والفتنان الراقي في الداء
البياني للقرآن.
وإن هذا تحذير من فتنة الشيطان حتى ل يخرجنا من جنة التكليف .كما فتن أبوينا فأخرجهما من
جنة التجربة .ويقال عن هذا السلوب إنه أسلوب احتباك ،وهو أن تجعل الكلم شطرين وتحذف
من كل منهما نظير ما أثبت في الخر قصد الختصار .وهذا هو السلوب الذي يؤدي المعنى
بمنتهى اليجاز؛ لينبه ذهن السامع لكلم ال.
فيلتقط من الداء حكمة الداء وإيجاز الداء ،وعدم الفضول في الساليب } .لَ َيفْتِنَ ّنكُمُ الشّيْطَانُ
َكمَآ أَخْرَجَ أَ َبوَ ْيكُمْ مّنَ الْجَنّةِ[ { ...العراف]27 :
والفتنة -كما علمنا -هي في الصل الختبار حتى ننقي الشيء من الشوائب التي تختلط به ،فإذا
كانت الشوائب في ذهب فنحن نعلم أن الذهب مخلوط بنحاس أو بمعدن آخر ،وحين نريد أن نأخذ
الذهب خالصا نفتنه على النار حتى ينفض ويزيل عنه ما علق به .كذلك الفتنة بالنسبة للناس ،إنها
تأتي اختبارا للنسان لينقي نفسه من شوائب هذه المسألة ،وليتذكر ما صنع إبليس بآدم وحواء.
فإذا ما جاء ليفتنك فإياك أن تفتن؛ لن الفتنة ستضرك كما سبق أن الحقت الضرر بأبيك آدم وأمك
حواء .والشيطان هو المتمرد على منهج ال من الجن ،والجن جنس منه المؤمن ومنه الكافر .فقد
ن َومِنّا دُونَ ذَِلكَ[} ...الجن]11 :
قال الحق سبحانه {:وَأَنّا مِنّا الصّالِحُو َ
والشيطان المتمرد من هذا الجنس على منهج ال ليس واحدا ،واقرأ قول الحق سبحانهَ {:أفَتَتّخِذُونَهُ
ع ُدوّ[} ...الكهف]50 :
وَذُرّيّتَهُ َأوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَ ُهمْ َلكُمْ َ
وهنا يقول الحق سبحانه } :إِنّهُ يَرَاكُمْ ُه َو َوقَبِيلُهُ مِنْ حَ ْيثُ لَ تَ َروْ َنهُمْ[ { ...العراف]27 :
ج َمعِينَ
ك لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
سمَه {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِت َ
و " قبيله " هم جنوده وذريته الذين ينشرهم في الكون ليحقق َق َ
}[ص]82 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن ففتنة الشيطان إنما جاءت لتخرج خلق ال عن منهج ال ،وحينما عصى إبليس ربّه عزّ عليه
ذلك ،فبعد أن كان في قمة الطاعة صار عاصيّا لمر ال معصية َأدّته وأوصلته إلى الكفر؛ لنه
ردّ الحكم على ال .إن ذلك قد أوغر صدره وأحنقه ،وجعله يوغل ويسرف في عداوة الِنسان لنه
ث لَ تَ َروْ َنهُمْ...
عرف أن طرده ولعنه كان بسبب آدم وذريته } .إِنّهُ يَرَاكُمْ ُهوَ َوقَبِيلُهُ مِنْ حَ ْي ُ
{ [العراف]27 :
وهذا يدل على أن المراد ذرية الشيطان ،فلو كان المراد شياطين الِنس معهم لما قال } :إِنّهُ يَرَاكُمْ
ث لَ تَ َروْ َنهُمْ {.
ُه َو َوقَبِيلُهُ مِنْ حَ ْي ُ
وعلى ذلك فهذه الية خاصة بالذرية ،ويعلمنا الحق سبحانه وتعالى أن نتنبه إلى أن الشيطان لن
يكتفي بنفسه ولن يكتفي بالذرية بل سيزين لقوم من البشر أن يكونوا شياطين الِنس كما وُجد
س وَالْجِنّ
ن الِنْ ِ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ عَ ُدوّا شَيَاطِي َ
شياطين الجن ،وهم من قال فيهم سبحانهَ {:وكَذَِلكَ َ
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ غُرُورا[} ...النعام]112 :
يُوحِي َب ْع ُ
وكلمة } ُزخْ ُرفَ ا ْلقَ ْولِ { تعني الستمالة التي تجعل الِنسان يرتكب المعصية وينفعل لها ،ويتأثر
بزخارف القول .وكل معصية في الكون هكذا تبدأ من زخرف القول ،فللباطل دعاته ،ومروجوه،
ومعلنوه ،إنهم يزينون للِنسان بعض شهواته التي تصرفه عن منهج ال ،ونلحظ أن أعداء ال،
وأعداء منهج ال يترصدون مواسم الِيمان في البشر ،فإذا ما جاء موسم الِيمان خاف أعداء ال
أن يمر الموسم تاركا هبة في نفوس الناس ،فيحاولوا أن يكتلوا جهودهم حتى يحرموا الناس نفحة
الموسم ،فإذا ما حرموا الناس من نفحة الموسم فقد حققوا غرضهم في العداوة للِسلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهو من نار ،والملئكة من نور ،والثنان كل منهما جنس خفي مستور ،وقد تشكل المَلك بهيئة
إنسان ،وجاء لرسول ال وقال لنا صلى ال عليه وسلم " :هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم ".
وعلى ذلك رأى السابقون المعاصرون لرسول ال صلى ال عليه وسلم جبريل ل على صورة
ملئكيّته ،ولكن على صورة تتسق مع جنس البشر ،فيتمثل لهم مادة " .وقد ثبت أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم رأى الشيطان وقال " :إن عفريتا من الجن جعل يفتك عليّ البارحة ليقطع
عليّ الصلة ،وإن ال أمكنني منه َفذَعَتّهُ فلقد هممت أن أربطه إلى جنب سارية من سوراي
المسجد حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون ".
وذلك من أدب النبوة .إذن فالشيطان يتمثل وأنت ل تراه على حقيقته ،فإذا ما أرادك أن تراه ..فهو
يظهر على صورة مادية .وقد ناقش العلماء هذا المر نقاشا يدل على حرصهم على فهم كتاب
ال ،ويدل على حرصهم على تجلية مراداته وأسراره ،فقال بعضهم :حين يقول ال إن الشيطان
يراكم هو وقبيله من حيث ل ترونهم ،لبد أن نقول :إننا لن نراه.
وأقول :إن النسان إن رأى الجني فلن يراه على صورته ،بل على صورة مادية يتشكل بها ،وهذه
الصورة تتسق وتتفق مع بشرية النسان؛ لن الجني لو تصور بصورة مادية كإنسان أو حيوان أو
شيء آخر يمكن أن يراه النسان ،وحينئذ لفقدنا الوثوق بشخص من نراه ،هل هو الشيء الذي
نعرفه أو هو شيطان قد تمثل به؟
إن الوثوق من معرفة الشخاص أمر ضروري لحركة الحياة ،وحركة المجتمع؛ لنك ل تعطف
على ابنك إل لنك تعلم أنه ابنك ومحسوب عليك ،ول تثق في صديقك إل إذا عرفت أنه صديقك.
ول تأخذ علما إل من عالم تثق به .وهب أن الشيطان يتمثل بصورة شخص تعرفه ،وهنا سيشكك
هذا الشيطان ويمنع عنك الوثوق بالشخص الذي يتمثل في صورته .وأيضا أعدى أعداء الشيطان
هم الذين يبصرون بمنهج ال وهم العلماء ،فما الذي يمنع أن يتشكل الشيطان بصورة عالم موثوق
في علمه ،ثم يقول كلما مناقضا لمنهج ال؟.
إذن فالشيطان ل يتمثل ،هكذا قال بعض العلماء ،ونقول لهم :أنتم فهمتم أن الشيطان حين يتمثل،
يتمثل تمثلً استمراريا ،ل .هو يتمثل تمثل الومضة؛ لن الشيطان يعلم أنه لو تشكل بصورة إنسان
أو لصورة مادية لحكمته الصورة التي انتقل إليها ،وإذا حكمته الصورة التي انتقل إليها فقد يقتله
من يملك سلحا ،إنه يخاف منا أكثر مما نخاف منه ،ويخاف أن يظهر ظهورا استمراريا؛ لذلك
يختار التمثل كومضة ،ثم يختفي ،والنسان إذا تأمل الجني المشكل .سيجد فيه شيئا مخالفا ،كأن
يتمثل -مثل -في هيئة رجل له ساق عنزة لتلتفت إليه كومضة ويختفي؛ أنه يخاف أن تكون قد
عرفت أن الصورة التي يتشكل بها تحكمه .وإذا عرفت ذلك أمكنك أن تصرعه.
جعَلْنَا الشّيَاطِينَ َأوْلِيَآءَ لِلّذِينَ لَ ُي ْؤمِنُونَ { [العراف]27 :
ويتابع الحق سبحانه...} :إِنّا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعْل ال ،وسبحانه خلّى بينهم وبين الذين يريدون أن يفتنوهم وال لو أراد ال
والشياطين من َ
منعهم من أن يفتنوهم .لفعل ..إذن فكل شيء في الوجود ،أو كل حدث في الوجود يحتاج إلى
أمرين :طاقة تفعل الفعل ،وداع لفعل الفعل .فإذا ما كانت عند النسان الطاقة للفعل ،والداعي إلى
الفعل ،فإبراز الفعل في الصورة النهائية نستمدها من عطاء ال من الطاقة التي منحها ال
للنسان .فأنت تقول :العامل النساج نسج قطعة من القماش في غاية الدقة ،ونقول :إن العامل لم
ينسج ،وإنما اللة ،واللة لم تنسج ،لكن الصانع الذي صنعها أرادها كذلك ،والصانع لم يصممها
ال بالعالم الذي ابتكر قانون الحركة بها.
إذن فالعامل قد وجّه الطاقة المخلوقة للمهندس في أن تعمل ،واعتمد على طاقة المهندس الذي
صنعها في المصنع ،والمهندس اعتمد على طاقة البتكار وعلى العالم الذي ابتكر قانون الحركة،
والعالم قد ابتكرها بعقل خلقه ال ،وفي مادة خلقها ال.
إذن فكل شيء يعود إلى ال فعلً؛ لنه خالق الطاقة ،وخالق من يستعمل الطاقة ،والنسان يوجه
الطاقة فقط ،فإذا قلت :العامل نسج يصح قولك ،وإذا قلت :اللة نسجت ،صح قولك ،وإذا قلت :إن
المصنع هو الذي نسج صح قولك.
إذن فالمسألة كلها مردها في الفعل إلى ال ،وأنت وجهت الطاقة المخلوقة ل بالقدرة المخلوقة ل
جعَلْنَا الشّيَاطِينَ { أي خلّينا بينهم وبينهم المفتونين بهم،
في فعل أمر من المور .فإذا قال ال } إِنّا َ
ج َمعِينَ * ِإلّ
غوِيَ ّنهُمْ أَ ْ
غير أننا لو أردنا ال يفتنوا أحدا لما فتنوه .وهذا ما فهمه إبليس... {.لُ ْ
عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص]83-82 :
إذن من يريده ال معصوما ل يستطيع الشيطان أن يغويه ،وتعلم الشياطين أن ال خلّى بينهم في
الختيار ،هذه اسمها تخلية؛ ولذلك ل معركة بين العلماء .فمنهجهم أن الطاقة مخلوقة ل ،ونسب
كل فعل إلى ال ،ومنهم من رأى أنّ موجّه الطاقة من البشر فينسب الفعل للبشر ،ومنهم من رأى
طلقة قدرة ال في أنه الفاعل لكل شيء ،ومنهم من قال :إن النسان هو الذي فعل المعصية ..أي
أنه وجه الطاقة إلى عمل والطاقة صالحة له ،فربنا يعذبه على توجيه الطاقة للفعل الضار ول
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ { [العراف]27 :
جعَلْنَا الشّيَاطِينَ َأوْلِيَآءَ لِلّذِي َ
خلف بينهم جميعا...} .إِنّا َ
إذن جعل ال الشياطين أولياء لمن لم يؤمن ،ولكن الذي آمن ل يتخذه الشيطان وليًا.
شةً قَالُو ْا وَجَدْنَا{ ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَِإذَا َفعَلُواْ فَاحِ َ
()970 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حشَاءِ أَ َتقُولُونَ
جدْنَا عَلَ ْيهَا آَبَاءَنَا وَاللّهُ َأمَرَنَا ِبهَا ُقلْ إِنّ اللّهَ لَا يَ ْأمُرُ بِا ْلفَ ْ
حشَةً قَالُوا وَ َ
وَإِذَا َفعَلُوا فَا ِ
عَلَى اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ ()28
والفاحشة مأخوذة من التفحش أي التزايد في القبح ،ولذلك صرفها بعض العلماء إلى لون خاص
من الذنوب ،وهو الزنا ،لن هذا تزيد في القبح ،فكل معصية يرتكبها النسان تنتهي بأثرها ،لكن
الزنا يخلف آثارا ..فإمّا أن يوأد المولود ،وإما أن تجهض المرأة ،وإما أن تلد طفلها وتلقيه بعيدا،
ويعيش طريدا في المجتمع ل يجد مسئولً عنه ،وهكذا تصبح المسألة ممتدة امتدادا أكثر من أي
معصية أخرى .وتصنع هذه المعصية الشك في المجتمع .ولنا أن نتصور إن إنسانا يشك في أن
من ينسبون إليه ويحملون اسمه ليسوا من صلبه ،وهذه بلوى كبيرة للغاية .والذين قالوا :إن
ش ًة وَسَآءَ
الفاحشة المقصود بها الزنا نظروا إلى قول ال سبحانهَ {:ولَ َتقْرَبُواْ الزّنَىا إِنّهُ كَانَ فَاحِ َ
سَبِيلً }[السراء]32 :
أو الفاحشة هي ما فيه حد ،أو الفاحشة هي الكبائر ،ونحن نأخذها على أنها التزيد في القبح على
أي لون من اللوان.
ج َعلَ اللّهُ مِن َبحِي َر ٍة َولَ
فما هي الفاحشة المقصودة هنا؟ .إنها الفواحش التي تقدمت في قوله {:مَا َ
سَآئِبَةٍ[} ...المائدة]103 :
وكذلك ما جاء في قوله تعالىَ {:وكَذاِلكَ زَيّنَ ِلكَثِيرٍ مّنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ قَ ْتلَ َأ ْولَدِهِمْ شُ َركَآؤُهُمْ} ...
[النعام]137 :
ث وَالَ ْنعَامِ َنصِيبا َفقَالُواْ هَـاذَا للّهِ
جعَلُواْ للّهِ ِممّا ذَ َرأَ مِنَ الْحَ ْر ِ
وكذلك في قوله الحق سبحانه {:وَ َ
ع ِمهِ ْم وَهَـاذَا ِلشُ َركَآئِنَا[} ...النعام]136 :
بِزَ ْ
أو أن المقصود أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة ،فيطوف الرجال نهارا ،والنساء يطفن ليلً،
عوْا الورع .وقالوا :نريد أن نطوف إلى بيت ربنا كما ولدتنا أمهاتنا ،وأن نتجرد
لماذا؟ .لنهم ادّ َ
من متاع الدنيا ،ول نطوف ببيت ال في ثياب عصينا ال فيها.
جدْنَا عَلَ ْيهَآ آبَاءَنَا } تقليد ،والتقليد ل يعطي حكما تكليفيا ،وإن أعطى علما تدريبيا ،بأن
وقولهم { :وَ َ
ندرب الولد على مطلوب ال من المكلف ليستطيعوا ويألفوا ما يكلفون به عندما يصلون إلى سن
التكليف .ومما يدل على أن التقليد ل يعطي حقيقة ،أنك تجد المذهبين المتناقضين -الشيوعية
والرأسمالية مثلً -مقلدين؛ لهذا المذهب مقلدون ،ولهذا المذهب مقلدون .فلو أن التقليد معترف به
حقيقة لكان التقليدان المتضادان حقيقة ،والمتضادان ل يصبحان حقيقة؛ لنهم -كما يقولون -
الضدان ل يجتمعان ،هذا هو الدليل العقلي في إبطال التقليد .ولذلك نلحظ في أسلوب الداء
علَ ْيهَآ آبَاءَنَا وَاللّهُ
شةً قَالُو ْا وَجَدْنَا َ
القرآني أنه أداء دقيق جدا؛ فالذي يتكلم إله { .وَِإذَا َفعَلُواْ فَاحِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َأمَرَنَا ِبهَا } [العراف]28 :
والرد من ال عليهم أنه سبحانه لم يأت في مسألة التقليد بردّ لنه بداهة ل يؤدي إلى حقيقة ،بل
قالُ ...{ :قلْ إِنّ اللّ َه لَ يَ ْأمُرُ بِا ْلفَحْشَآءِ أَ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ } [العراف]28 :
وهذا رد على قولهم :وال أمرنا بها .وأين الرد على قولهم { :وَجَدْنَا عَلَ ْيهَآ آبَاءَنَا }؟.
نقول إنه أمر ل يحتاج إلى رد؛ لنه أمر يرفضه العقل الفطري ،ولذلك ترك ال الرد عليه؛
لوضوح بطلنه عند العقل الفطري ،وجاء بالرد على ادعائهم أن ال يأمر بالفحشاء ،فال ل يأمر
بالفحشاء .ثم كيف كان أمر ال لكم؟ .أهو أمر مباشر ..بمعنى أنه قد أمر كل واحد منكم أن
ل وَحْيا َأوْ مِن
يرتكب فاحشة؟ ألم تنتبهوا إلى قول الحق سبحانهَ {:ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ
سلَ َرسُولً[} ...الشورى]51 :
وَرَآءِ حِجَابٍ َأوْ يُرْ ِ
أم بلغكم المر بالفاحشة عن طريق نبي فكيف ذلك وأنتم تكذبون مجيء الرسول؟ .وهكذا يكون
قولكم مردودا من جهتين :الجهة الولى :إنه ل طريق إلى معرفة أمر ال إل بأن يخاطبكم مباشرة
أو يخاطبكم بواسطة رسل؛ لنكم لستم أهلً للخطاب المباشر ،والجهة الثانية :أنكم تنكرون مسألة
النبياء والرسل .فأنتم لم يخاطبكم ال بالمباشرة أو بواسطة الرسل فلم يبق إل أن يقال لكم...} :
أَ َتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ { [العراف]28 :
ول جواب على السؤال إل بأمرين :إما أن يقولوا " :ل " فقد كذبوا أنفسهم ،وإما أن يقولوا " :نعم
"؛ فإذا قالوا :نعم نقول على ال ما ل نعلم؛ فقد فضحوا أنفسهم وأقروا بأن ال لم يأمر بالفاحشة،
سطِ{ ...
بل أمر ال بالقسط ،لذلك يقول سبحانه بعد ذلكُ } :قلْ َأمَرَ رَبّي بِا ْلقِ ْ
()971 /
والقسط هو العدل من قسط قِسطا ،وأمّا قاسط فهي اسم فاعل من قسط قَسْطا وقَسُوطا أي جار
وعدل عن الحق ،والقاسطون هم المنحرفون والمائلون عن الحق والظالمون ،كلمة العدل هي
التسوية ،فإن ملت إلى الحق ،فذلك العدل المحبوب .وإن ملت إلى الباطل ،فذلك أكره مكروه { ُقلْ
َأمَرَ رَبّي بِا ْلقِسْطِ }.
جدٍ } [العراف]29 :
وهذه جملة خبرية { .وََأقِيمُو ْا وُجُو َهكُمْ عِندَ ُكلّ مَسْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا فعل أمر ،وقد يتبادر إلى الذهن إن هذا من عطف المر على الخبر ،ولكن لنلتفت أن الحق
يعطفها على " قل " ،فكأن المقصود هو أن يقولُ { :قلْ َأمَرَ رَبّي بِا ْلقِسْطِ وََأقِيمُو ْا وُجُو َهكُمْ عِندَ
ُكلّ َمسْجِدٍ }.
والوجه هو السمة المعينة للشخص؛ لن النسان إن أخفى وجهه لن تعرفه إل أن كان له لباس
مميز ل يرتديه ال هو .والوجه أشرف شيء في التكوين الجسمي ،ولذلك كان السجود هو وضع
الوجه في الرض ،وهذا منتهى الخضوع لمر ال بالسجود؛ لن السجود من الفاعل المختار وهو
النسان يكون بوضع الجبهة على الرض .وكل شيء خاضع لحكم ال نقول عنه :إنه ساجد {.أََلمْ
ل وَالشّجَرُ
س وَا ْلقَمَ ُر وَالنّجُومُ وَالْجِبَا ُ
شمْ ُ
سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ وَال ّ
سجُدُ َلهُ مَن فِي ال ّ
تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ
وَال ّدوَآبّ[} ...الحج]18 :
والشجر يسجد وهو نبات ،والدواب تسجد وهي من جنس الحيوان ،والشمس والقمر والنجوم
والجبال من الجماد وهي أيضا ساجدة ،لكن حين جاء الحديث عن النسان قسمها سبحانه وقال{:
حقّ عَلَيْهِ ا ْل َعذَابُ[} ...الحج]18 :
س َوكَثِيرٌ َ
َوكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ
لن النسان له خاصية الختيار ،وبقية الكائنات ليس له اختيار .إذن فالسجود قد يكون لغير ذي
وجه ،والمراد منه مجرد الخضوع ،أما النسان فالسجود يكون بالوجه ليعرف أنه مستخلف وكل
الكائنات مسخرة لخدمته وطائعة وكلها تسبح ربنا ،فإذا كان السيد الذي تخدمه كل هذه الجناس
حيوانا ،ونباتا ،وجمادا قد وضع وجهه على الرض فهو خاضع من أول المر حين نقول عنه إنه
جدٍ[ } ...العراف]29 :
ساجد { .وََأقِيمُو ْا وُجُو َهكُمْ عِندَ ُكلّ مَسْ ِ
والقامة أن تضع الشيء فيما هيىء له وخُلق وطُلب منه ،وإن وجهته لناحية ثانية تكون قد ثنيته
عوّجته .إذن فإقامة الوجه تكون بالسجود؛ لن الذي سخر لك هذا الوجود
وأملته وحنيته ،و َ
وحكمك بمنهج التكليف هو من جعلت وجهك في الرض من أجله ،وإن لم تفعل فأنت تختار
العوجاج لوجهك ،واعلم أن هذا الخضوع والخشوع والسجود ل لن يعطيك فقط السيادة على
الجناس الخرى التي تعطيك خير الدنيا ،ولكن وضع جبهتك ووجهك على الرض يعطيك
البركة في العمل ويعطيك خير الخرة أيضا .والعاقل هو من يعرف أنه أخذ السيادة على الجناس
فيتقن العبودية ل ،فيأخذ خيري الدنيا والخرة حيث ل يفوته فيها النعيم ول يفوت هو النعيم ،أما
في الدنيا فأنت تقبل عليها باستخلف وتعلم أنك قد يفوتك النعيم ،أو تفوت أنت النعيم ،وحين تتذكر
ال وتكون خاضعا ل فأنت تنال البركة في حركة الستخلف.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى الخلق كافة وختم بي النبيون ".
إذن فكل موضع في الرض مسجد؛ فإن دخلت معبدا لتصلي فهذا مسجد .والرض كلها مسجد
لك .يصح أن تسجد وتصلي فيها .وتزاول فيها عملك أيضا ،ففي المصنع تزاول صنعتك فيه،
وحين يأتي وقت الصلة تصلي ،وكذلك الحقل تصلي فيه ،لكن المسجد الصطلحي هو المكان
الذي حُبس على المسجدية وقصر عليها ،ول يزاول فيه شيء آخر .فإن أخذت المسجد على أن
الرض مسجد كلها تكن } وََأقِيمُواْ ُوجُو َهكُمْ { في جميع أنحاء الرض .وإن أخذتها على المسجد،
فالمقصود إقامة الصلة في المكان المخصوص ،وله متجه وهو الكعبة .وكذلك يكون اتجاهك
وأنت تصلي في أي مكان .والمساجد نسميها بيوت ال ولكن باختيار خلق ال ،فبعضنا يبني
مسجدا هنا أو هناك .ويتجهون إلى بيت باختيار ال وهو الكعبة .ولذلك كانت كعبة ومتوجها
لجميع بيوت ال.
وقصارى المر أن نجعل قبلة المسجد متجهة إلى الكعبة وأن نقيم الوجه عليها ،أي على الوجه
الذي تستقيم فيه العبادة .وهو أن تتجهوا وأنتم في صلتكم إلى الكعبة فهي بيت ال باختيار ال.
جدٍ { يقصد بها
وساعة ما تصادفك الصلة صل في أي مسجد ،أو } َأقِيمُو ْا وُجُو َهكُمْ عِندَ ُكلّ مَسْ ِ
التوجه للصلة في المسجد ،وهنا اختلف العلماء ،هل أداء الصلة وإقامتها في المسجد ندبا أو
حتما؟ .والكثرية منهم قالوا ندبا ،والقلية قالوا حتما .ونقول :الحتمية ل دليل عليها.
من قال بحتمية الصلة في المسجد استدل بقوله صلى ال عليه وسلم " :والذي نفسِ بيده لقد
هممت أن آمر بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلة فيؤذن لها ثم آمر رجل فيؤم الناس ثم أخالف إلى
رجال فأحرق عليهم بيوتهم ".
ونقول :هل فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك أو لم يفعل؟ لم يفعل رسول ال ذلك ،إنما
أراد بالمر التغليظ ليشجعنا على الصلة في المساجد عند أي أذان للصلة.
ويقول الحق سبحانه } :وَادْعُوهُ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ[ { ...العراف]29 :
والدعاء :طلب من عاجز يتجه به لقادر في فعل يحبه الداعي .وحين تدعو ربك ادعه مخلصا له
الدين بحيث ل يكون في بالك السباب؛ لن السباب إن كانت في بالك فأنت لم تخلص الدين ،لن
معنى الِخلص هو تصفية أي شيء من الشوائب التي فيه ،والشوائب في العقائد وفي العمال
تفسد الِتقان والِخلص ،وإياكم أن تفهموا أن أحدا ل تأتي له هذه المسألة ،فرسول ال صلى ال
عليه وسلم يقول:
" أنّي لَ ُيغَانُ على قلبي وإني لستغفر ال كل يوم مائة مرة ".
إذن فالِخلص عملية قلبية ،وأنت حين تدعوا ال ادعه دائما عن اضطرار ،ومعنى اضطرار .أن
ينقطع رجاؤك وأملك بالسباب كلها .فذهبت للمسبب ،وما دمت مضطرا سيجيب ربنا دعوتك؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لنك استنفدت السباب ،وبعض الناس يدعون ال عن ترف ،فالِنسان قد يملك طعام يومه ويقول:
ارزقني ،ويكون له سكن طيب ويقول :أريد بيتا أملكه .إذن فبعضنا يدعو بأشياء ل فيها أسباب،
فيجب أن نأخذ بها ،وغالبية دعائنا عن غير اضطرار .وأنا أتحدى أن يكون إنسان قد انتهى به
أمر إلى الضطرار ول يجيبه ال.
ويذيل الحق الية الكريمة بقولهَ ...} :كمَا َبدََأكُمْ َتعُودُونَ { [العراف]29 :
وال سبحانه يخاطب الِنسان ،ويحننه ،مذكرا إياه بـ " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " .وسبحانه
قادر أن يخلقه مرغما على أن يفعل ،لكنه -جل وعل -شاء أن يجعل الِنسان سيدا وجعله
مختارا ،وقهر الجناس كلها أن تكون مسخرة وفاعلة لما يريد ،وأثبت لنفسه -سبحانه -صفة
القدرة ،ول شيء يخرج عن قدرته؛ فأنت أيها العبد تكون قادرا على أن تعصي ولكنك تطيع،
وهذه هي عظمة الِيمان إنّها تثبت صفة المحبوبية ل ،فإذا ما غُر الِنسان بالسباب وبخدمة
الكون كله ،وبما فيه من عافية ،وبما فيه من قوة ،وبما فيه من مال ،تجد الحق يلفته :لحظ أنك
لن تنفلت مني :أنا أعطيت لك الختيار في الدنيا ،لكنك ترجع لي في الخرة ولن تكون هناك
أسباب ،ولن تجد إل المسبب ،ولذلك اقرأّ... {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر]16 :
كأن المُ ْلكَ -قبل ذلك -أي في الدنيا -كان للبشر فيه شيء لمباشرتهم السباب هذا يملك ،وذلك
يملك ،وآخر يوظف ،لكن في الخرة ل مالك ،ول مَِلكٌ إل ال ،فإياكم أن تغتروا بالسباب ،وأنها
دانت لكم ،وأنكم استطعتم أن تتحكموا فيها؛ لن مرجعكم إلى ال.
ويقول الحق بعد ذلك } :فَرِيقا هَدَىا َوفَرِيقا{ ...
()972 /
فَرِيقًا هَدَى َوفَرِيقًا حَقّ عَلَ ْي ِهمُ الضّلَالَةُ إِ ّنهُمُ اتّخَذُوا الشّيَاطِينَ َأوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللّ ِه وَ َيحْسَبُونَ أَ ّنهُمْ
ُمهْتَدُونَ ()30
اذكروا أننا قلنا من قبل :إن ال هدى الكل ..بمعنى أنه قد بلّغهم بمنهجه عبر موكب الرسل،
وحين يقول سبحانه { :فَرِيقا هَدَىا َوفَرِيقا حَقّ عَلَ ْيهِمُ الضّلَلَةُ } فالمقصود هنا ليس هداية الدللة،
لكن دللة المعونة .وقد فرقنا بين هداية الدللة وهداية المعونة.
وقوله الحق { فَرِيقا َهدَىا } أي هداية المعونة؛ لن هذا الفريق أقبل على ال بإِيمان فخفف ال
عليه مؤونة الطاعة ،وبغّضه في المعصية ،وأعانه على مهمته .أما الذي تأبّى على ال ،ولم
يستجب لهداية الدللة أيعينه ال؟ ل .إنه يتركه في غيّه ويخلي بينه وبين الضللة ،ولو أراده
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مهديّا لما استطاع أحد أن يغير من ذلك .وسبحانه منزه عن التجني على أحد من خلقه ،ولكن
الذين حق عليهم الضللة حصل لهم ذلك بسبب ما فعلوا ...{ .إِ ّنهُمُ اتّخَذُوا الشّيَاطِينَ َأوْلِيَآءَ مِن
دُونِ اللّ ِه وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُم ّمهْتَدُونَ } [العراف]30 :
إن من يرتكب المعصية ويعترف بمعصيته فهذه تكون معصية ،أمّا من يقول إنها هداية فهذا تبجح
وكفر؛ لنه يرد الحكم على ال .وخير للذين يرتكبون المعاصي أن يقولوا :حكم ال صحيح ولكننا
لم نقدر على أنفسنا ،أما أن يرد العاصي حكم ال ويقول :إنه الهداية ،فهذا أمره عسير؛ لنه ينتقل
من مرتبة عاصٍ إلى مرتبة كافر والعياذ بال...{ .وَيَحْسَبُونَ أَ ّنهُم ّمهْتَدُونَ } [العراف]30 :
لنهم يفعلون ما حرم ال ،وليتهم فعلوه على أنه محرّم ،وأنهم لم يقدروا على أنفسهم ،ولكنهم
فعلوه وظنوا أن الهداية في الفعل .وهذا المر يشيع في معاصٍ كثيرة مثل الربا ،فنجد من يقول:
إنه حلل ،ونقول :قل هو حرام ولكن لم أقدر على نفسي ،فتدخل في زمرة المعصية ،ول تدخل
في زمرة الكفر والعياذ بال ،ويمكنك أن تستغفر فيغفر لك ربنا ،ويتوب عليك ،ولكن أن ترد
الحكم على ال وتقول إنه حلل!! فهذا هو الخطر؛ لنك تبتعد وتخرج عن دائرة المعصية وتتردى
وتقع في الكفر ،اربأ بنفسك عن أن تكون كذلك واعلم أن كل ابن آدم خطاء ،وما شرع ال التوبة
لعباده إل لنه قدّر أن عبيده يخطئون ويصيبون ،ومن رحمته أنه شرع التوبة ،ومن رحمته كذلك
أنه يقبل هذه التوبة ،فلماذا تخرج من حيز يمكن أن تخرج منه إلى حيز يضيق عليك ل تستطيع
أن تخرج منه؟.
خذُواْ زِينَ َت ُكمْ} ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :يَابَنِي ءَادَمَ ُ
()973 /
والزينة إذا سمعتها تنصرف إلى تجميل فوق قوام الشيء ،وقوله سبحانه وتعالى { :خُذُواْ زِينَ َتكُمْ
سجِدٍ } [العراف]31 :
عِندَ ُكلّ مَ ْ
هذا يعني أن يذهب المسلم إلى المسجد بأفخر ما عنده من ملبس ،وكذلك يمكن أن يكون المقصود
جدٍ } هو رد على حالة خاصة وهو أنهم كانوا يطوفون بالبيت
بـ { خُذُواْ زِينَ َتكُمْ عِندَ ُكلّ مَسْ ِ
عراة ،وأن المراد بالزينة هنا هو ستر العورة .أو المراد بالزينة ما فوق ضروريات الستر ،أو إذا
كان المراد بها اللباس الطيب الجميل النظيف ،فنحن نعلم أن المسجد هو مكان اجتماع عباد ال،
وهم متنوعون في مهمات حياتهم ،وكل مهمة في الحياة لها زيها ولها هندامها؛ فالذي يجلس على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مكتب لمقابلة الناس له ملبس ،ومن يعمل في " الحِدَادَة " له زي خاص مناسب للعمل ،ولكن إذا
ذهبتم إلى المسجد لتجتمعوا جميعا في لقاء ال أيأتي كل واحد بلباس مهنته ليدخل المسجد؟ ل،
فليجعل للمسجد لباسا ل ُيضَايق غيره ،فإن كانت ملبس العمل في مصنع أو غير ذلك ل تليق،
فاجعل للمسجد ملبس نظيفة حتى ل يُؤذَي أحد بالوجود بجانبك؛ لننا نذهب إلى المسجد لعمل
مشترك يحكم الجميع وهو لقاء ال في بيت ال ،فلبد أن تحتفي بهذا اللقاء...{ .وكُلُو ْا وَاشْرَبُواْ
حبّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ } [العراف]31 :
وَلَ تُسْ ِرفُواْ إِنّ ُه لَ يُ ِ
والمأكل والمشرب من المور المباحة لن فيها مقومات الحياة ،وكل واشرب على قدر مقومات
الحياة ول تسرف ،فقد أحل ال لك الكثر وحرّم عليك القل ،فل تتجاوز الكثر الذي أُحلّ لك إلى
ما حرم ال؛ لن هذا إسراف على النفس ،بدليل أنه لو لم تجد إل الميتة ،فهي حلل لك بشرط أل
تُسرف .ول يصح أن تنقل الشياء من تحليل إلى تحريم؛ لن ال جعل لك في الحلل ما يغنيك
عن الحرام ،فإذا لم يوجد ما يغنيك ،فالحق يحل لك أن تأخذ على قدر ما يحفظ عليك حياتك،
والمسرفون هم المتجاوزون الحدود .ول سرف في حل ،إنما السرف يكون في الشيء المحرم،
ولذلك جاء في الثر:
حلّ ما اعتبرت مسرفا ،ولو أنفقت درهما واحدا في محرم لعتبرت
" لو أنفقت مثل أحد ذهبا في ِ
مسرفا " " .ولذلك يطلب منك رسول ال صلى ال عليه وسلم أن تعطي كل نعمة حقها بشرط أل
يؤدي بك ذلك إلى البطر ،وحينما ذهب إليه سيدنا عثمان بن مظعون ،وقد أراد أن يترهب،
ويتنسك ،ويسيح في الكون ،وقال لرسول ال :يا رسول ال ،إنني أردت أن اختصي؛ أي يقطع
خصيتيه؛ كي ل تبقى له غريزة جنسية ،فقال صلى ال عليه وسلم :يا عثمان خصاء أمتي الصوم
"
لذلك قال صلى ال عليه وسلم في شأن من لم يستطع الزواج " " :يا معشر الشباب من استطاع
منك الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء
".
" وقد روي أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ذكر الناس وخوفهم فاجتمع عشرة من الصحابة
وهم :أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود وأبو ذر وسالم مولى أبي حذيفة والمقداد وسليمان
وعبدال بن عمرو بن العاص ومعقل بن مقرن في بيت عثمان بن مظعون فاتفقوا على أن
يصوموا النهار ويقوموا الليل ول يناموا على الفراش ول يأكلوا اللحم ول يقربوا النساء ويجبّوا
مذاكيرهم " .فكان التوجيه النبوي أن حمد الرسول صلى ال عليه وسلم ربه وأثنى عليه وقال" :
ما بال أقوام قالوا كذا وكذا ولكني أصلي وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن
سنتي فليس مني ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويتابع الحق سبحانه بعد ذلكُ } :قلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ{ ...
()974 /
ُقلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْرَجَ ِلعِبَا ِد ِه وَالطّيّبَاتِ مِنَ الرّ ْزقِ ُقلْ ِهيَ لِلّذِينَ َآمَنُوا فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا
صلُ الْآَيَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ ()32
خَاِلصَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كَذَِلكَ ُن َف ّ
وما دام أخرجها لعباده فهو قد أرادها لهم ،وما ينفع منها للناث جعلتها السنة للِناث ،وما يصح
منها للذكور أحلتها السنّة لهم ،وكذلك الطيب من الرزق حلل للمؤمنين والمؤمنات .ولنلحظ دقة
السلوب هنا في قوله تعالىُ { :قلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا[ } ...العراف]32 :
ثم يتابع سبحانه { :خَاِلصَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ[ } ...العراف]32 :
فكأننا أمام حالتين اثنتين :حالة في الدنيا ،وأخرى في يوم القيامة ،معنى ذلك أن الزينة في الحياة
الدنيا غير خالصة؛ لن الكفار يشاركونهم فيها ،فهي من عطاء الربوبية ،وعطاء الربوبية للمؤمن
وللكافر ،وربما كان الكافر أكثر حظّا في الدنيا من المؤمن ،ولكن في الخرة تكون الزينة خالصة
للمؤمنين ل يشاركهم فيها الكافرون.
وكذلك فإن الحق سبحانه وتعالى يعطي اليقظة الِيمانية في المؤمن بوجود الغيار فيه ،ومعنى
وجود الغيار أنه قد يتعرض الِنسان لتقلبات بين الصحة والمرض والغنى والفقر والقوة
والضعف .وهكذا يكون الٍنسان في الدنيا؛ فهي دار الغيار ،ويصيب الِنسان فيها أشياء قد
يكرهها؛ لذلك فالدنيا ليست خالصة النعيم لما فيها من أغيار تأتيك فتسوؤك .إنها تسوؤك عند غيبة
شحنة الِيمان منك؛ لنك إن استصحبت شحنة الِيمان عند كل حدث أجراه ال عليك لََلفَ َتكَ ال
إلى حكمتهُ { .قلْ هِي لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا خَاِلصَةً َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ[ } ...العراف]32 :
ويمكن أن نقرأ كلمة " خالصة " منصوبة على أنها حال ،ويمكن أن نقرأها في قراءة أخرى
مرفوعة على أنها خبر بعد خبر ،والمعنى :أنها غير خالصة للمؤمنين في الدنيا لمشاركة الكفار
لهم فيها ،وغير خالصة أيضا من شوائب الغيار ولكنها وفي الخرة خالصة للمؤمنين فل
يشاركهم الكفار ول تأتي لهم فيها الغيار.
صلُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ َيعَْلمُونَ } [العراف]32 :
ويذيل الحق الية بقوله...{ :كَذَِلكَ ُن َف ّ
صلُ اليَاتِ } أي ل نأتي باليات مجملة بل نفصل اليات لكل مؤمن ،فل نترك خللً،
معنى { ُنفَ ّ
ونأتي فيها بكل ما تتطلبه أقضية الحياة ،بتفصيل يُفهمنا قضايانا فهما ل لبس فيه.
ويقول الحق بعد ذلكُ { :قلْ إِ ّنمَا حَرّمَ رَ ّبيَ ا ْل َفوَاحِشَ} ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()975 /
والحق سبحانه -قد بدأ الية بـ " إنما " التي هي للحصر :أي ما حرم ربي إل هذه الشياء،
الفواحش ما ظهر منها وما بطن ،والِثم ،والبغي بغير الحق ،والشرك بال ،والقول على ال ما ل
نعلم ،فل تدخلوا أشياء أخرى وتجعلوها حراما ،لنها ل تدخل في هذه ،وقول ال في الية
السابقةُ { :قلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ } هوعلى صيغة استفهام لكي يجيبوا هم .ولن يجدوا سببا لتحريم
ظهَرَ مِ ْنهَا َومَا
زينة ال لن الحق قد وضح وبينّ ما حرم فقالُ { :قلْ إِ ّنمَا حَرّمَ رَ ّبيَ ا ْل َفوَاحِشَ مَا َ
ق وَأَن تُشْ ِركُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَ ّزلْ ِبهِ سُ ْلطَانا وَأَن َتقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لَ
حّن وَالِثْ َم وَالْ َب ْغيَ ِبغَيْرِ الْ َ
بَطَ َ
َتعَْلمُونَ } [العراف]33 :
ونتأمل الخمسة المحرمات التي جاءت بالية؛ فحين ننظر إلى مقومات حياة الخلفة في الرض
ليبقى الِنسان خليفة فيها نرى أنه لبد من صيانة أشياء ضرورية لسلمة هذه الخلفة وأداء
مهمتها ،وأول شيء أن يسلم للمجتمع طهر أنسابه .وسلمة طهر النساب أي الِنجاب والنسال
ضرورية للمجتمع؛ لن الِنسان حين يثق أن ابنه هذا منه فهو يحرص عليه لنه منسوب إليه،
ويرعاه ويربيه .أما إذا تشكك في هذه المسألة فإنه يهمله ويلفظه ،كذلك يهمله المجتمع ،ول أحد
يربيه ول يلتفت إليه ول يعنى به.
إذن فسلمة النساب أمر مهم ليكون المجتمع مجتمعا سليما ،بحيث ل يوجد فرد من الفراد إل
وهو محسوب على أبيه ،بحيث يقوم له بكل تبعات حياته ،ولذلك يجب أن تعلموا أن الطفال
المشردين مع وجود آبائهم حدث من أن شكا طرأ على الب في أن هذا ليس ابنه .ولذلك ماتت
فيه غريزة الحنان عليه ،فل يبالي إن رآه أم لم يره ،ول يبالي أهو في البيت أم شرد ،ل يبالي
أكل أم جاع ،ل يبالي تعرى أم ل.
إذن فطهارة النساب ضمان لسلمة المجتمع؛ لن المجتمع سيكون بين مربّ يقوم على شأن
وصغير مرّبى ،المربي قادر على أن يعمل ،والمربّى صغير يحتاج إلى التربية .ولذلك حرم ال
الفواحش .والفحش -كما قلنا -ما زاد قبحه ،وانتهوا على أنه هو الزنا؛ لن أثره ل يتوقف فقط
عند الذنب والستمتاع .بل يتعدى إلى النسال .وما تعدى إلى النسال فهو تعد إلى المجتمع،
ويصير مجتمعا مهملً ل راعي له.
والِثم :أهو كل كبيرة أو ما يقام على فاعله حد؟ .لقد انتهى العلماء على أن الِثم هو الخمر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والميسر؛ لن ال قال بالنص {:وَإِ ْث ُمهُمَآ َأكْبَرُ مِن ّن ْف ِع ِهمَا[} ...البقرة]219 :
وأراد الحق بذلك أن يضمن مقوم تنظيم حركة الحياة في الِنسان وهو العقل وأن الخمر تغيب
العقل ،والِنسان مطالب بأن يحفظ عقله ليواجه به أمور الحياة مواجهة تبقى الصالح على صلحه
أو تزيده صلحا ول تتعدى على الِنسان ,فإذا ما ستر العقل بالخمر فسد واختل ،ويختل بذلك
التخطيط لحركة الحياة.
والذين يأتون ويشربون ويقولون :نريد أن ننسى همومنا نقول لهم :ليس مراد الشارع أن ينسى
كل واحد ما أهمه؛ لنه إن نسي كل واحد ما أهمه فلن يحتاط أحد ولن يقوم على تقدير المور
التي تضمن السلمة.
إن الشارع يطلب منك أن تواجه الهموم التي تعاني منها مضاعف لتزيلها .أما أن تستر العقل
فأنت قد هربت من المشكلة ،إذن يجب عليك أن تواجه مشكلت الحياة بعقلك وبتفكيرك .فإن
كانت المشكلة ،قد نشأت من أنك أهملت في واجب سببي أي له أسباب وقد قصرت في الخذ بها
فأنت الملوم .وإن كانت المشكلة جاءتك من أمر ليس في قدرتك ،أي هبطت عليك قضاء وقدرا؛
فاعلم أن مجريها عليك له فيها حكمة.
وقد يكون البلء ليحيمك ال من عيون الناس فيحسدوك عليها ،لن كل ذي نعمة محسود ،وحتى
ل تتم النعمة عليك؛ لن تمام النعمة على النسان يؤذن بزوالها ،وأنت ابن الغيار وفي دنيا
الغيار ،وإن تمت لك فقد تتغير النعمة بالنقصان.
إذن فالتفكير في ملفاة السباب الضارة وتجنبها يأتي بالعقل الكامل ،والتفكير في الشياء التي
ليس لها سبب يأتي من اليمان ،واليمان يطلب منك أن ترد كل شيء إلى حكمة الحكيم .إذن
فأنت تحتاج إلى العقل فل تستره بشرب الخمر؛ لن العقل يدير حركة الحياة.
البغي نعرف انه مجاوزة الحد ظلما أو أكبر ،أو بخلً .والظلم أن تأخذ حق غيرك وتحرمه من
ثمرة عمله فيزهد في العمل؛ لذلك يحرم الحق أن يبغي أحد على أحد .ل في عرضه ،ول في
نفسه ،ول في ماله .ويجب أن نصون العرض من الفواحش؛ لن كل فاحشة قد تأتي بأولد من
حرام .وإن لم تأت فهي تهدر العرض ،والمطلوب صيانته ،كذلك ل يبغى أحد على محارم أحد،
وكذلك ل يبغى أحد على حياة إنسان بأن يهدمها بالقتل.
ويصمون الحق المال فيمنع عنه البغي فل يأخذ أحد ثمرة عمل آخر وكفاحه عدوانا وظلما،
ومظاهر البغي كثيرة .ومن البغي أن تأخذ سلطة قسرا بغير حق ولكن هناك من يأخذ سلطة قسرا
وقهرا بحق ،فإن كنت -على سبيل المثال -تركب سفينة ،ثم قامت الرياح والزوابع ،وأنت أمهر
في قيادتها أتترك الربان يقودها وربما غرفت بمن فيها أم تضرب على يده وتمسك بالدفة وتديرها
لتنقذها ومن فيها ،إنك في هذه الحالة تكون قد أخذت القيادة بحق صيانة أرواح الناس ،وهذا بغي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بحق ،وهو يختلف عن البغي بغير الحق .وحتى تفرق بين البغي البغي بحق والبغي بغير الحق
نقول .إن هذا يظهر ويتضح عندما نأخذ مال السفيه منه للحفاظ عليه وصيانته وتثميره له ،فنكون
قد أخذنا من صاحبه رعاية لهذا الحق ،فهو وإن كان في ظاهره بغيا على صاحب الحق إل أنه
كان لصالحه وللصالح العام فهذا بغي بحق أو أنه سمي بغيا؛ لنه جاء على ذكر الشيء بلفظ
غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير ،ونقرأ أيضا قول ال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تكلف به أنت وحدك ،وإنما انظر إلى المر المكلف به الخرون ..وإياك أن تقول :إنه حدد
بصري من أن يتمتع بجسم يسير أمامي ،إنه -سبحانه -كما حرم نظرك إلى ذلك ،حرم أنظار
الناس جميعا أن ينظروا إلى محارمك؛ وفي هذا صيانة لك.
وبعد أن حلل هذه الطيبات والزينة ،وحرم الفواحش والمنكر والبغي والِثم يقول سبحانه } :وَِل ُكلّ
جلٌ فَإِذَا جَآءَ{ ...
ُأمّةٍ َأ َ
()976 /
جلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَُلهُمْ لَا يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة وَلَا َيسْ َتقْ ِدمُونَ ()34
وَِلكُلّ ُأمّةٍ أَ َ
نحن هنا أمام نص قرآني تثبته قضايا الوجود الواقعي؛ فالذين سفكوا ،وظلموا ،وانتهكوا
العراض ،وأخذوا الموال .لم يدم لهم ذلك ،بل أمد ال لهم في طغيانهم ،وأخذهم به أخذ عزيز
مقتدر .ولو أراد خصومهم النتقام منهم لما وصلوا إلى أدنى درجات انتقام السماء .ويجري الحق
هذا النتقام من الطغاة لصيانة سلمة المجتمع .فإن رأيت فسادا أو طغيانا إياك أن تيأس؛ لن
الحق سبحانه قد أوضح أن لكل أمة أجلً ،بداية ونهاية ،ففي أعمارنا القصيرة رأينا أكثر من أمة
جلٌ فَِإذَا جَآءَ َأجَُلهُ ْم لَ
جاء أجلها .إذن فكل طاغية يجب أن يتمثل هذه الية { :وَِل ُكلّ ُأمّةٍ َأ َ
يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ } [العراف]34 :
والجل لكل أمة معروف عند ال؛ لن الباطل والظلم إن لم يعض الناس عضة تجعلهم يصرخون
فهم ل يستشرفون إلى الحق ول يتطلعون إليه ،واللم وسيلة العافية لنه يؤكد لك أن وضعك غير
طبيعي ،وعلى ذلك فالمسائل التي تحدث في الكون وهذه المم التي تظلم .وتضطهد .ولها
جبروت وطغيان إنما تفعل ذلك إلى أجل معلوم .فإياك أن تيأس ،ولكن عليك أن تستشرف إلى
الحق .وإلى جناب ال فتلوذ به وحده ،ولذلك نجد أكثر الناس الذين حدثت لهم هذه الحداث لم
يجدوا إل واحة الِيمان بال؛ ففروا إلى بيته حجاجا وإلى مساجده عمارّا وإلى قراءة قرآنه ذكرا.
وننظر إلى هذه المور ونقول :إن الطاغية الفاجر مهما فعل فلبد أن يسخره ال لخدمة دينه،
وهناك أناس لول أن الدهر عضهم وأخنى عليهم كأن سلط عليهم ظالما لما فروا إلى ال بحثا عن
نجاة ،ولما التفتوا لربنا عبادة.
إن في واقع حياتنا يعرف كل منا أناسا ،كان الواحد منهم ل يعبد ربه فل يصلي ول يصوم ول
يذكر ربه ،ثم جاءت له عضة من ظالم فيلجأ الِنسان المعضوض إلى ال عائذا به ملتجئا إليه،
ولذلك نقول للظالم :وال لوعرفت ماذا قدمت أنت لدين ال ،ولم تأخذ عليه ثوابا لندمت ،فأنت قد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قدمت لدين ال عصبة ممن كانوا من غير المتدينين به .ولو أنك تعلم ما يأتي به طغيانك وظلمك
وجبروتك من نصر لدين ال لما صنعته أنت ،إنّ لكل أمة أجلً ،فإن كنت ظالما وعلى رأس
جماعة ظالمة فلذلك نهاية.
وانظر إلى التاريخ تجد بعض الدول أخذت في عنفوانها وشدتها سيادة على الشعوب ،ثم بعد فترة
من الزمن تحل بها الخيبة وتأتي السيطرة عليها من الضعاف؛ لن هذا هو الجل .إن الحق يعمي
بصائرهم في تصرف ،يظنون أنه يضمن لهم التفوق فإذا به يجعل الضعيف يغلبهم ويسيطر
عليهم .وإذا جاء الجل فل أحد يستطيع تأخيره؛ لن التوقيت في يد قيوم الكون ،وهم أيضا ل
يستقدمون هذا الجل ،ونلحظ هنا وجود كلمة " ساعة " ،والساعة لها اصطلح عصري الن من
حيث إنها معيار زمني لضبط المواقيت ،ونعلم أن اليوم مقسم إلى أربع وعشرين ساعة ،والقل
من الساعة الدقيقة ،والقل من الدقيقة الثانية ،والكبر من الساعة هو اليوم .ومن يدري فقد يخترع
البشر آلتٍ لضبط الجزء من الثانية.
وكذلك تطلق الساعة على قيام القيامة.
سلٌ} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :يَابَنِي ءَادَمَ ِإمّا يَأْتِيَ ّن ُكمْ رُ ُ
()977 /
هنا ينادي الحق أبناء آدم ،بعد أن ذكرهم أنه أحل لهم الطيبات والزينة وحرم عليهم المسائل
الخمسة من الفاحشة والمنكر والبغي والِثم والشرك ،ووضع لهم نظاما يضمن سلمة المجتمع،
وطمأنهم بأنه منتقم من أي أمة ظالمة بأن جعل للظلم نهاية وأجلً .فعليكم يا بني آدم أن تأخذوا
سلٌ مّن ُكمْ َيقُصّونَ عَلَ ْيكُمْ آيَاتِي} ...
أمور حياتكم في إطار هذه المقدمات { .يَابَنِي ءَا َدمَ ِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ ُر ُ
[العراف]35 :
عليكم أن تستقبلوا رسل ال استقبال الملهوف المستشرق المتطلع إلى ما يحميه وإلى ما ينفعه؛ لن
الرسول هو من يعلن لكل واحد منكم ما أحله ال من طيبات الحياة وملذها ،ويبين لكم ما حرم
ال ليحيا المجتمع سليما.
كان المظنون أن ساعة يأتي الرسول نجد المجتمع يحرص على ملزمته وعلى تلقي البلغ منه،
ل أن يظل الرسول يدعو باللين بينما المجتمع يتأبى عليه .لكن من رحمة ال أن يتأبى المجتمع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويلح الرسول مبينا آيات ال وبيناته كي يأخذ كل إنسان ما يساعده على أمر حياته ويهتدي إلى
الصراط المستقيم ،وأنت إذا ما أصبت في عافيتك تلح على الطبيب وتبحث عنه ،فكان مقتضى
العقل أنه إذا جاء رسول ليبلغنا منهج ال في إدارة حركة الحياة أن نتشوق إليه ونتطلع ،ل أن
نعاديه ،وعادة ما يسعد بالرسول أهل الفطرة السليمة بمجرد أن يقول الرسول :أنه رسول ومعه
آية صدقه .ويقيس أهل الفطرة السليمة قول الرسول بماضيه معهم ،فيعلمون أنه مخلص لم يرتكب
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ
الثم .وهذه فائدة قوله الحقَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة]128 :
فلم يأت لكم إنسان ل تعرفونه بل لكم معه تاريخ واضح وجلي ،لذلك نجد الذين آمنوا برسول ال
أول المر لم ينتظروا إلى أن يتلو عليهم القرآن ،لكنهم آمنوا به بسوابق معرفتهم له؛ لنهم
عايشوه ،وعرفوا كل تفاصيل أخلقه .ومثال ذلك :عندما أخبر محمد صلى ال عليه وسلم سيدتنا
خديجة -رضوان ال عليها -بنبأ رسالته وأسرّ لها بخوفه من أن يكون ما نزل إليه هو من
أمور الجن أو مسها ،أسرعت إلى ورقة بن نوفل؛ لنه عنده علم بكتاب ،وقبل ذلك قالت لرسول
ال صلى ال عليه وسلم " :إنك لتصل الرحم وتحمل ال َكلّ وتعين على نوائب الحق وتكسب
المعدوم ".
وكل هذه المقدمات تدل على أنك -يا رسول ال -في حفظ ال ورعايته؛ لنك كنت مستقيم
السلوك قبل أن تُنّبّأ ،وقبل أن توجد كرسول من ال .وهل معقول أن مَن يترك الكذب على الناس
يكذب على ال؟! وكذلك نجد سيدنا أبا بكر الصديق بمجرد ما أن قال رسول ال :أنا رسول ،قال
له :صدقت.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على صدق الفطرة ،وهذه هي فائدة } رسول من أنفسكم { أو من
جنسكم البشري حتى نجد فيه السوة الحسنة .ولو جاء لنا رسول من الملئكة وقال لنا :هذا هو
المنهج ولكم أسوة بي ،كنا سنرد عليه الرد المقنع السهل اليسير :وهل نقدر أن نفعل مثلك وأنت
مَلكٌ مفطور على الخير؟ .لكن حين يأتينا رسول من جنسنا البشري ،وهو صالح أن يصدر منه
الخير ،وصالح أن يصدر منه الشر فهو السوة الموجودة ،ولذلك كان من غباء الكافرين أن قالوا
ما جاء به القرآن على ألسنتهمَ {:ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ إِذْ جَآءَ ُهمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ
بَشَرا رّسُولً }[السراء]94 :
إنه الغباء وقصر النظر والغضب؛ لن ال بعث محمدا وهو من البشر ،فهل كانوا يريدون مَلَكا؟
ولو كان ملكا فكيف تكون به السوة وطبعه مختلف عن طبائع البشر؟ .ولذلك يرد الحق الرد
سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }
علَ ْيهِم مّنَ ال ّ
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا َ
المنطقي {:قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ مُ ْ
[السراء]95 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وذلك حتى تتحقق لنا السوة فيه؛ فسبحانه لم يقتحم وجودكم التكليفي ،ولم يُدخلكم في أمر يشتد
ويشق عليكم لكنه جاء لكم بواحد منكم تعرفون تاريخه .ولم يأت به من جنس آخر } .يَابَنِي ءَادَمَ
سلٌ مّنكُمْ َيقُصّونَ عَلَ ْيكُمْ آيَاتِي[ { ...العراف]35 :
ِإمّا يَأْتِيَ ّنكُمْ ُر ُ
وانظر قولهَ } :ي ُقصّونَ عَلَ ْيكُمْ آيَاتِي { ،لقد جاء بكلمة " يقصّون " لن القصص مأخوذة من مادة "
القاف " و " الصاد المضعّفة "؛ وهذا مأخوذ من " قصّ الثر " ،وكان الرجل إذا ما سرقت جماله
أو أغنامه يسير ليرى أثر القدام .إذن } َيقُصّونَ عَلَ ْيكُمْ آيَاتِي { أي أنهم ملتزمون بما جاء لهم ،ل
ينحرفون عنه كما ل تنحرفون أنتم عن قص الثر حين تريدون المؤثّر في الثرَ ...} .فمَنِ ا ّتقَىا
خ ْوفٌ عَلَ ْي ِه ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ { [العراف]35 :
وََأصْلَحَ فَلَ َ
و " التقوى " هو أن تجعل بينك وبين شيء يضرك وقاية .ولذلك يقول الحق } :ا ّتقُواْ النّارَ { ،
لنرد عن أنفسنا بالعمل الصالح لهيب النار .وإذا قيل } :وَا ّتقُواْ اللّهَ { أي اتقوا متعلقات صفات
الجبروت من ال؛ لنكم لن تستطيعوا تحمل جبروت ربنا ،وعليكم أن تلتزموا بفعل الوامر
وتلتزموا أيضا بترك النواهي .والمر بالتقوى هنا يعني أل ننكر ونجحد رسالت الرسل؛ لنهم
إنما جاءوا لِنقاذ البشر ،فالمجتمع حين يمرض ،عليه أن يسرع ويبادر إلى الطبيب القادم بمنهج
ال ليرعاه ،وهو الرسول؛ لذلك ل يصح الجحود برسالة عليها دليل ومعجزةَ } .فمَنِ ا ّتقَىا وََأصْلَحَ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ {.
فَلَ َ
و " أصلح " تدل على أن هناك شيئا غير صالح فجعله صالحا ،أو حافظ على صلح الصالح
ورقّى صلحه إلى أعلى ،مثل وجود بئر نشرب منه ،فإن كانت البئر تؤدي مهمتها ل نردمها،
ول نلقي فيها قاذورات ،وبذلك نبقي الصالح على صلحه ،ويمكن أن نزيد من صلح البئر بأن
نبني حول فوهتها سورا ،أو أن نقوم بتركيب مضخة تمتص الماء من البئر لضخه إلى البيوت.
وبذلك نزيد الصالح صلحا ،والفة في الدنيا هم الذين يدعون الِصلح بينما هم مفسدون ،يقول
حسَبُونَ أَ ّن ُهمْ
سعْ ُيهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ ُهمْ يَ ْ
ضلّ َ
ن َ
عمَالً * الّذِي َ
ال فيهمُ {:قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ
حسِنُونَ صُنْعا }[الكهف]104-103 :
يُ ْ
إذن فحين تقدم على أي عمل لبد أن تعرف مقدمات هذا العمل ،وماذا ستعطيه تلك المقدمات،
وماذا سوف تأخذ منه .وأبق الصالح في الكون على صلحه أو زده إصلحا ،وهنا ل خوف
سوْاْ عَلَىا مَا فَا َتكُ ْم َولَ َتفْرَحُواْ ِبمَآ
عليك ولن تحزن على شيء فاتك ليتحقق قول الحقّ {:لكَيْلَ تَ ْأ َ
آتَاكُمْ[} ...الحديد]23 :
وما المقابل لمن ل خوف عليهم ول هم يحزنون؛ أي هؤلء الذين أصلحوا واتقوا؟ المقابل هو ما
يأتي في قوله الحق } :وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا{ ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()978 /
وَالّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْ َتكْبَرُوا عَ ْنهَا أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ()36
ولماذا يكون مصير المكذبين باليات والمستكبرين عنها أن يكونوا أصحاب النار ويكونوا فيها
خالدين؟ لنهم وإن تيسرت لهم أسباب الحياة لم يضعوا في حسابهم أن يكون لهم نصيب في
الخرة ولم يلتفتوا إلى الغاية ،وغاب عنهم الِيمان بقول الحق {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ
لَهُ فِي حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا لَهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى]20 :
وهب أن الواحد منهم قد أخذ ما أخذ في الدنيا ،فلماذا نسي أنها موقوتة العمر؟ ولماذا لم يلتفت إلى
الزمن في الخرة؟ .عليك أن تعلم أنك في هذه الدنيا ،خليفة في الرض ،ومادمنا جميعا أبناء
جنس واحد ومخلوقين فيها والسيادة لنا على الجناس فلبد أن تكون لنا غاية متحدة؛ لن كل
شيء اختلفنا فيه ل يعتبر غاية ،فالغاية الخيرة هي لقاء ال؛ لن النهاية المتساوية في الكون هي
الموت ليسلمنا لحياة ثانية ،فالذي يستكبر عن آيات ال هو من دخل في صفقة خاسرة؛ لن من
يقارن هذه الدنيا بالحياة الخرى سيجد أن زمن الِنسان في الدنيا قليل ،وزمن الخرة ل نهاية له.
وعمر الِنسان في الدنيا مظنون غير متيقن ،والمتعة فيها على قدر أسباب الفرد وإمكاناته ،لكن
صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا
الخرة متيقنة ،ونعيم المؤمن فيها على قدر طلقة قدرة الُ { .أوْلَـا ِئكَ َأ ْ
خَاِلدُونَ } [العراف]36 :
وأصحاب النار .يعني أن يصاحب ويلزم المذنب النار كما يصاحب ويلزم الِنسان منا صاحبه؛
لن النار على إلف بالعاصين ،وهي التي تتساءلَ { :هلْ مِن مّزِيدٍ }؟.
ويقول الحق بعد ذلكَ { :فمَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا} ...
()979 /
َفمَنْ أَظَْلمُ ِممّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َأوْ كَ ّذبَ بِآَيَاتِهِ أُولَ ِئكَ يَنَاُلهُمْ َنصِي ُبهُمْ مِنَ ا ْلكِتَابِ حَتّى إِذَا
سهِمْ
شهِدُوا عَلَى أَ ْنفُ ِ
جَاءَ ْتهُمْ رُسُلُنَا يَ َت َوفّوْ َنهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْ ُتمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ قَالُوا ضَلّوا عَنّا وَ َ
أَ ّنهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ()37
و { َفمَنْ َأظْلَمُ } تأتي على صيغة السؤال الذي لن تكون إجابته إل الِقرار .ول أحد أظلم ممن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
افترى على ال الكذب؛ لنه أولً ظلم نفسه ،وظلم أمته ،وأول ظلم النفس أن يرتضي حياة زائلة
وأن يترك حياة أبدية ،وأما ظلمه للناس فلنه سيأخذ أوزار ما يفعلون؛ لنه قد افترى على ال
كذباَ { .أوْ كَ ّذبَ بِآيَاتِهِ }.
أي قوّل ال ما لم يقله ،أو كذّب ما قاله ال ،وكل المرين مساوٍ للخر .والية -كما نعلم -هي
المر العجيب ،واليات أُطلقت في القرآن على معانٍ متعددة؛ فالحق يقول {:كِتَابٌ ُفصَّلتْ آيَاتُهُ...
}[فصلت]3 :
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن
وكذلك أطلقت على المعجزات التي يرسلها ال تأييدا لرسلهَ {.ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
لوّلُونَ[} ...السراء]59 :
كَ ّذبَ ِبهَا ا َ
فاليات هنا هي المعجزات أي المور العجيبة.
س وَا ْل َقمَرُ} ...
شمْ ُ
ل وَال ّنهَا ُر وَال ّ
وحدثنا القرآن عن اليات الكونية فقال سبحانهَ {:ومِنْ آيَاتِهِ الّ ْي ُ
[فصلت]37 :
فالية إذن هي الشيء العجيب وهي تشمل آيات القرآن؛ لنك حين تنظر إلى نظم آيات القرآن،
وإلى استيعابها إلى حقائق الوجود وإلى استيفائها لقضايا الكون كله تقول لنفسك :هذا شيء
عجيب؛ لن الذي جاءت على لسانه هذه اليات نبي أمي ،ما عرف عنه أنه زاول تعلما ،وما
جربوا عليه أنه قال شعرا ،أو نثرا أو له رياضة في كلم ،وبعد ذلك ما جرب حكم أمم ،وما
درس تاريخ المم حتى يستنبط القوانين التي أعجزت الحضارات المعاصرة عن مجاراتها.
إن المة البدوية حينما ذهب بمنهجها إلى الفرس ،وكانت الفرس لها حضارة الشرق كلها ،وعلى
الرغم من ذلك أخذت الفرس قوانينها من هذه المة البدوية ،وكان كل نظام هذه المة المتبدية قبل
مجيء الرسالة مع سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يتخلص في نظام القبيلة وكل قبيلة لها
رئيس ،وبعد أن جاءت رسالته صلى ال عليه وسلم جاء بنظام يجمع أمم العالم كلها ،ثم ينجح في
أدراة الدنيا كلها ،وهذه مسألة عجيبة ،وكل آية من هذه اليات كانت معجزة وعجيبة.
وكذلك اليات الكونية التي نجدها تتميز بالدقة الهائلة؛ فالشمس والقمر بحسبان ،وكل في فلك
يسبحون ،إنه نظام عجيب.
إذن فالعجائب في اليات هي آيات القرآن ،والمعجزات واليات الكونية .وكيف يكذبون إذن
باليات؟ .أل ينظرون إلى الكون .وما فيه من دقة صنع وهندسة بناء تكويني ل تضارب فيه؟
وهي آيات تنطق بدقة الخالق؛ فهو العالم ،القادر ،الحكيم ،الحسيب .وكذلك كيف يكذبون الرسول
القادم بالمعجزات ،ويقولون :إنه ساحر ،وحين تتلى عليهم آيات يكذبونها .إذن هم لم ينظروا في
آيات الكون ليستنبطوا منها عظمة الصانع وحكمته ودقته ،ولم يلتفتوا إلى الِيمان به قمة عقيدية،
وكذلك كذبوا باليات المعجزات التي جاء بها الرسل فلم يصدقوا الرسل وآخرها وقمتها آيات
القرآن العظيم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحينما عرض الحق سبحانه وتعالى هذه القضية ،تساءل :كيف تقولون .إنه سحر الناس فآمنوا
به ،فلماذا لم يسحركم أنت؟ .وحينما قالوا {:إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ[} ...النحل]103 :
ي وَهَـاذَا ِلسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل]103 :
ج ِم ّ
قال الحق... {:لّسَانُ الّذِي يُ ْلحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْ َ
لوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا َف ِهيَ ُتمْلَىا عَلَ ْيهِ ُبكْ َر ًة وََأصِيلً }[الفرقان]5 :
وقالواَ {:وقَالُواْ َأسَاطِي ُر ا َ
عمُرا مّن قَبِْلهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[يونس]16 :
فيعلم الحق رسله أن يقولَ ... {:فقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
وهنا يأمر الحق رسوله أن يذكرهم بأنه عاش بينهم أربعين عاما فهل عرف عنه أنه يقول أو يتكلم
بشيء من هذا؟
فهل يترك الحق من كذبوا باليات؟ أنهم خلق ال ،وال استدعاهم إلى الوجود ،لذلك يضمن لهم
مقومات الحياة ،وأمر أسباب الكون أن تكون خدمة هؤلء المكذبين الكافرين كما في خدمة
الطائعين المؤمنين .ومن يحسن منهم السباب يأخذ نتائجها ،وإن أهمل المؤمنون الخذ بالسباب
فلن يأخذوا نتائجها ،وكل هذا لنه عطاء ربوبية ولنه خلق فلبد أن يرزق ،والنواميس الكونية
تخدم الطائع وتخدم العاصي؛ لن ذلك من سنة ال ولن يجد أحد لسنة ال تبديل.
إذن فكفرهم لن يمنع عنهم نصيبهم من الكتاب الذي قَدّر لهم ،من الرزق والحياة ،ما هو مسطر
في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لذلك يقول الحقُ } :أوْلَـا ِئكَ يَنَاُل ُهمْ َنصِي ُبهُم مّنَ ا ْلكِتَابِ...
{ [العراف]37 :
أو ينالهم ،أي يصيبهم عذاب مما هو مبين في الكتاب الذي أرسلناه ليوضح أن الطائع له الثواب،
والعاصي له العقاب ،فيقول الحق هنا...} :حَتّىا إِذَا جَآءَ ْتهُمْ رُسُلُنَا يَ َت َوفّوْ َنهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُن ُتمْ
سهِمْ أَ ّن ُهمْ كَانُواْ كَافِرِينَ { [العراف]37 :
شهِدُواْ عَلَىا أَ ْنفُ ِ
تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُو ْا ضَلّواْ عَنّا وَ َ
وساعة تسمع } يَ َت َو ّفوْ َنهُمْ { تفهم أن الحياة تنتهي ،وتنفصل الروح عن الجسد فهذا هو " التوفي " ،
فمرة ينسب إلى الحق العلى سبحانه وتعالى ،ومرة ينسب إلى المَلَك ،ومرة يراد منه أتباع المَلَك
ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ َت َوفّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَ ُيفَرّطُونَ { ،
أي جنوده يقول -سبحانه } :-حَتّىا إِذَا جَآءَ أَ َ
والساليب الثلثة ملتقية؛ لن ملك الموت لم يأت بالموت من عنده ،بل أخذ التلقي من ال ،فالمر
العلى من ال ،وأمر التوسط للملك ،وأمر التنفيذ للرسل.
و " التوفي " على إطلقه هو استيفاء الجل ،فإن كان أجل الحياة فهو ترفية بالموت ،وإن كان
الجل البرزخ وهو المدة التي بين القبر والحساب .إلى أن يجيء ميعاد دخولهم النار فهذا هو
توفي أجلهم الثاني؛ لن كل إنسان له أجلن :أجل ينهي هذه الحياة ،والجل الذي يأخذه في
البرزخ إلى أن يجيء الحساب .وهذا ل يمنع أن يقال :إن قيامة كل إنسان تأتي بموته؛ لن للقيامة
مراحل بدءا من القبر ونهاية بالخلود في الجنة أو في النار.
سهِمْ
شهِدُواْ عَلَىا أَ ْنفُ ِ
وحين تسألهم الملئكة...} :أَيْنَ مَا كُن ُتمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُو ْا ضَلّواْ عَنّا وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أَ ّنهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ { [العراف]37 :
هم إذن يعترفون أن من كانوا يدعونهم من دون ال قد غابوا واختفوا ول يظهر لهم أثر.
()980 /
ن وَالْإِنْسِ فِي النّارِ كُّلمَا َدخََلتْ ُأمّةٌ َلعَ َنتْ أُخْ َتهَا حَتّى
خلُوا فِي ُأمَمٍ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلكُمْ مِنَ ا ْلجِ ّ
قَالَ ادْ ُ
ض ْعفًا مِنَ النّارِ قَالَ
جمِيعًا قَاَلتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَا ُهمْ رَبّنَا َهؤُلَاءِ َأضَلّونَا فَآَ ِت ِهمْ عَذَابًا ِ
إِذَا ادّا َركُوا فِيهَا َ
ف وََلكِنْ لَا َتعَْلمُونَ ()38
ض ْع ٌ
ِل ُكلّ ِ
ويوضح لنا الحق أنه بأوامر " كن " سيدخلون كما دخلتها أمم قد خلت من قلبهم فليسوا بدعا،
وليدخلوا معهم إلى المصير الذي يذهبون إليه ،وهم أمم خليط؛ لن الكفر سوف يلتقي كله في
الجزاء.
إن القتداء بالمم التي سبقت هو الذي قادهم إلى الكفر؛ فالمم التي سبقت كانت أسوة في الضلل
للمة التي لحقت ،فإذا ما دخلوا لعنوهم.
وهب أن إنسانا دخل مرة السجن لجرم ارتكبه ،وبعد ذلك دخل عليه من كان يغربه بالجرم .ومن
كان يزين له ،ومن اقتدى به .بال ساعة يلتقيان في السجن أل يلعن الول الثاني؟ {...كُّلمَا دَخََلتْ
جمِيعا قَاَلتْ ُأخْرَاهُمْ لُولَهُمْ رَبّنَا هَـاؤُلءِ َأضَلّونَا فَآ ِتهِمْ
ُأمّةٌ ّلعَ َنتْ أُخْ َتهَا حَتّىا إِذَا ادّا َركُواْ فِيهَا َ
ف وَلَـاكِن لّ َتعَْلمُونَ } [العراف]38 :
ض ْع ٌ
ضعْفا مّنَ النّارِ قَالَ ِل ُكلّ ِ
عَذَابا ِ
وبعد أن يلحق بعضهم بعضا ويجتمعوا ،يحدث بينهم هذا الحوار العجيب { :قَاَلتْ ُأخْرَاهُمْ لُولَهُمْ
ضعْفا مّنَ النّارِ[ } ...العراف]38 :
رَبّنَا هَـاؤُلءِ َأضَلّونَا فَآ ِت ِهمْ عَذَابا ِ
فإن قلت الخرى أي التي دخلت النار متأخرة كانت الولى هي القدوة في الضلل وقد سبقتهم إلى
النار { ،قَاَلتْ ُأخْرَا ُه ْم لُولَهُمْ } ،أي أن الولى هم القادة الذين أضلوا ،والطائفة الخرى هم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التباع الذين قلدوا { .قَاَلتْ أُخْرَا ُه ْم لُولَ ُهمْ رَبّنَا هَـاؤُلءِ َأضَلّونَا } .وهم يتوجهون بالكلم إلى
ربنا { :رَبّنَا هَـاؤُلءِ َأضَلّونَا }.
كيف يتأتى هذا؟ .وكان المقياس أن يقول :قالت أخراهم لولهم أنتم أضللتمونا لكن جاء هذا
القول ،لن الذين أضلوا غيرهم أهون من أن يخاطبوا؛ لن الموقف كله في يد ال ،وإذا ما قالوا
ل المواجه للجميع { :هَـاؤُلءِ َأضَلّونَا } فهؤلء ،هذه رشارة إليهم ،فكأن القول موجه ل شهادة
منهم إلى من كان وسيلة لضللهم وهم يقولون لربنا هذا حتى يأخذوا عذاب الضعف من النار
ضعْفا مّنَ النّارِ[ } ...العراف]38 :
مصداقا لقوله الحق { :فَآ ِتهِمْ عَذَابا ِ
ف وَلَـاكِن لّ َتعَْلمُونَ }.
ضعْ ٌ
ل ِ
فقال لهم جميعاِ...{ :ل ُك ّ
ضعْف معناه " شيء مساوٍ لمثله " ،
فلكل أمة منهم ضعف العذاب بما ضلت وأضلت .ونفهم أن ال ّ
فأنتم أيها المقلدون غيركم قد أضللتم سواكم بالسوة أيضا؛ لنكم كثرتم عددهم وقويتم شوكتهم
وأغريتم الناس باتباعهم.
ويكون لكم ضعف العذاب بحكم أنكم أضللتم أيضا ،وأنتم ل تعلمون أن من يحاسبكم دقيق في
الحساب ،ويعطي كل إنسان حقه تماما.
وماذا تقول أولهم لخرهم؟ يقول الحق سبحانهَ { :وقَاَلتْ أُولَ ُه ْم لُخْرَا ُهمْ} ...
()981 /
أي مادمتم ستأخذون ضعف العذاب مثلنا فقد تساوت الرءوس { َفذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُن ُتمْ َتكْسِبُونَ }
كأن المجرم نفسه ساعة يلتقي ويستقبل مجرما مثله ،يقول له :اشرب من العذاب نفسه ،وليس ذلك
تجنيا من ال ،ول بسلطة القهر لعباده ،ولكن بعدالة الحكم؛ لن ذلك إنما حدث بسبب ما كسبتم.
ومعلوم أن التذوق في الطعوم ،فهل هم يأكلون العذاب؟ .ل ،إنّ الحق قد جعل كل جارحة فيهم
تذوق العذاب ،والحق حين يريد شمول العذاب للجسم يجعل لكل عضو في الجسم حساسية الذوق
كالتي في اللسان.
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ
ولذلك يقول الحق سبحانهَ {:وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْيَةً كَا َنتْ آمِ َنةً مّ ْ
خوْفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }[النحل]112 :
َمكَانٍ َفكَفَ َرتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
وهذه هي الذاقة ،كأنها صارت لباسا من الجوع يشمل الجسد كله ،والِذاقة أشد الِدراكات تاثيرا،
واللباس أشمل للجسد { .فَذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ ِبمَا كُن ُتمْ َتكْسِبُونَ }.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولم يقل الحق :بما كنتم تكتسبون؛ لن اكتسابهم للسيئات لم يعد فيه افتعال ،بل صار أمرا طبيعيا
بالنسبة لهم ،وعلى الرغم من أن المر الطبيعي في التكوين أن يصنع النسان الحسنة دون تكلف
ول تصنع ،وفي السيئات يجاهد نفسه؛ لن ذلك يحدث على غير ما طبع عليه ،ولكن هؤلء من
فرط إدمانهم للسيئات فسدت فطرتهم ولم تعد ملكاتهم تتضارب عند فعل السيئات ،بل صاروا
يرتكبون الثم كأمر طبيعي ،وهذا هو الخطر الذي يحيق بالمسرفين على أنفسهم؛ لن الواحد منهم
يفرح بعمل السيئات.
ويقول الحق بعد ذلك { :إِنّ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْ َتكْبَرُواْ} ...
()982 /
ج َملُ
سمَا ِء وَلَا يَ ْدخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّى يَلِجَ ا ْل َ
إِنّ الّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْ َتكْبَرُوا عَ ْنهَا لَا ُتفَتّحُ َلهُمْ أَ ْبوَابُ ال ّ
فِي سَمّ ا ْلخِيَاطِ َوكَذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمجْ ِرمِينَ ()40
والحق يريد أن يعطي حكما جديدا ويحدد من هو المحكوم عليه ليعرف بجريمته ،وهي جريمة
غير معطوفة على سابقة لها ،وليعرف كل إنسان أن هذه جريمة ،وأن من يرتكبها يلقى حكما
وعقابا { .إِنّ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْ َتكْبَرُواْ عَ ْنهَا }.
وقد عرفنا من قبل معنى اليات .وأنها ايات القرآن المعجزة أو اليات الكونية ،وأي إنسان يظن
نفسه أكبر من أن يكون تابعا لمنهج جاء به رسول عرف بين قومه بأمانته ،وهذا النسان يستحق
العقاب الشديد .فصحيح أن محمدا صلى ال عليه وسلم لم يكن له من الجاه ول سلطان ما ينافس
جلٍ مّنَ
به سادة وكبراء قريش ،ولذلك وجدنا من يقولَ {:وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف]31 :
إنهم يعترفون بعلو القرآن ،لكنهم تمنوا لو أن القرآن قد نزل على إنسان غيره بشرط أن يكون من
العظماء بمعاييرهم وموازينهم المادية.
ومن يكذب اليات ويستكبر عن اتباع الرسول ل تفتح له أبواب السماء { .إِنّ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا
سمّ ا ْلخِيَاطِ
ج َملُ فِي َ
سمَآ ِء َولَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّةَ حَتّىا يَلِجَ ا ْل َ
وَاسْ َتكْبَرُواْ عَ ْنهَا لَ ُتفَتّحُ َلهُمْ أَ ْبوَابُ ال ّ
َوكَذاِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمجْ ِرمِينَ } [العراف]40 :
وبذلك نعرف من هم الذين ل تفتح لهم أبواب السماء ،وبطبيعة الحال نعرف أن المقابلين لهم هم
الذين تفتح لهم أبواب السماء ..إنهم المؤمنون ،وحين تصعد أرواحهم إلى المل العلى تجد
أعمالهم الصالحة تصعد وترتفع بهم إلى أعلى .أما المكذبون فهم ل يترقون بل يهبطون ول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يدخلون الجنة ،وقد علق سبحانه دخول الجنة بمستحيل عقلً وعادة وطبعاَ { :ولَ يَ ْدخُلُونَ الْجَنّةَ
ج َملُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ }.
حَتّىا يَلِجَ الْ َ
سمّ ا ْلخِيَاطِ } هو ثقب البرة ،أي الذي تدخل فيه فتلة الخيط ،ول تدخل فتلة الخيط في الثقب
و{ َ
إل أن يكون قطر الفتلة أقل من قطر الثقب ،وأن تكون الفتلة من الصلبة بحيث تنفذ ،وأن تكون
الفتلة غير مستوية الطرف؛ لنها إن كانت مقصوصة وأطرافها مستوية فهي ل تدخل في الثقب؛
لذلك نجد الخياط يجعل للفتلة سنا ليدخلها في ثقب البرة.
وحين نأتي بالجمل ونقول له :ادخل في سم الخياط ،فهل يستطيع؟ طبعا ل؛ لذلك نجد الحق
سبحانه قد علق دخول هؤلء الجنة على مستحيل.
بعض الناس قالوا :وما علقة الجمل بسم الخياط؟
نقول :إن الجمل يطلق أيضا على الحبل الغليظ المفتول من حبال ،مثل حبال المركب إننا نجده
سميكا مجدولً.
وأخذ الشعراء هذه المسألة؛ ونجد واحدا منهم يصف انشغاله بالحبيب وشوقه إليه وصبابته به حتى
يهزل ويستبد به الضعف فيقول:ولو أن ما بي من جوى وصبابةعلى جمل لم يدخل النار كافرلن
الجوى والصبابة التي يعاني منهما هذا الشاعر ،لو أصيب بهما الجمل فلسوف ينحف وينحف
ويهزل ،إلى أن يدخل في سم الخياط ،وهنا يوضح ربنا :إن دخل الجمل في سم الخياط فسوف
ط َوكَذاِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمجْ ِرمِينَ } [العراف]40 :
ج َملُ فِي سَمّ ا ْلخِيَا ِ
أدخلهم الجنة...{ .حَتّىا يَلِجَ ا ْل َ
وهم يستحقون هذا الجزاء بما أجرموا.
جهَنّمَ ِمهَا ٌد َومِن َف ْو ِقهِمْ} ...
ويقول الحق بعد ذلكَ { :لهُمْ مّن َ
()983 /
المهاد هو الفراش ،ومنه مهد الطفل ،والغاشية هي الغطاء ،أي أن فرش هذا المهاد وغطاءه
جهنم .وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالىَ {:لهُمْ مّن َف ْو ِقهِمْ ظَُللٌ مّنَ النّا ِر َومِن تَحْ ِتهِمْ
ظَُللٌ[} ...الزمر]16 :
إذن الظلل والغواشي تغطي جهتين في التكوين البعدي للِنسان ،والبعاد ستة وهي :المام
والخلف ،واليمين والشمال ،والفوق والتحت ،والمهاد يشير إلى التحتية ،والغواشي تشير إلى
الفوقية ،وكذلك الظلل من النار ،ولكن الحق شاء أن يجعل جهنم تحيط بأبعاد الكافر الستة فيقول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه {:إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارا َأحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا[} ...الكهف]29 :
وهذا يعني شمول العذاب لجميع اتجاهات الظالمين.
وجهنم مأخوذة من الجهومة وهي الشيء المخوف العابس الكريه الوجه ،ثم يأتي بالمقابل ليشحن
النفس بكراهية ذلك الموقف ،ويحبب إلى النفس المقابل لمثل هذا الموقف ،فيقول سبحانه { :وَالّذِينَ
آمَنُواْ} ...
()984 /
وبهذا يخبرنا الحق أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم أصحاب الجنة وهم فيها خالدون ،ويضع
س َعهَا }؛ لنفهم أن المسرفين على
ل وُ ْ
لنا الحق تنبيها بين مقدمة الية وتذييلها { لَ ُنكَّلفُ َنفْسا ِإ ّ
أنفسهم بالكفر وتكذيب اليات لم يفهموا حقيقة الِيمان ،وأن حبس النفس عن كثير من شهواتها هو
في مقدور النفس وليس فوق طاقتها؛ لذلك أوضح لنا سبحانه أنه كلف بـ " افعل ول تفعل " وذلك
في حدود وسع المكلّف.
وحين نستعرض الصورة إِجمالً للمقارنة والموازنة بين أهل النار وأهل الجنة نجد الحق قد قال
سمَآ ِء َولَ َيدْخُلُونَ ا ْلجَنّةَ
في أهل النار {:إِنّ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْ َتكْبَرُواْ عَ ْنهَا لَ ُتفَتّحُ َلهُمْ أَ ْبوَابُ ال ّ
ط َوكَذاِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمجْ ِرمِينَ }[العراف]40 :
ج َملُ فِي سَمّ الْخِيَا ِ
حَتّىا يَلِجَ الْ َ
فهم لن يدخلوا الجنة ،وعلى ذلك فقد سلب منهم نفعا ،ول يتوقف المر على ذلك ،ولكنهم يدخلون
النار ،إذن فهنا أمران :سلب النافع وهو دخولهم الجنة ،إنه سبحانه حرمهم ومنعهم ذلك النعيم،
جهَنّمَ
وذلك جزاء إجرامهم .وبعد ذلك كان إدخالهم النار ،وهذا جزاء آخر؛ فقال الحقَ {:لهُمْ مّن َ
غوَاشٍ َوكَذاِلكَ نَجْزِي الظّاِلمِينَ }[العراف]41 :
ِمهَا ٌد َومِن َف ْوقِهِمْ َ
في الولى قال - :سبحانه َ { -وكَذاِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمجْ ِرمِينَ }.
وفي الثانية قالَ { :وكَذاِلكَ َنجْزِي الظّاِلمِينَ }.
فكأن الجرام كان سببا في أل يدخلوا الجنة ،والظلم كان سببا في أن يكون من فوقهم غواش ،لهم
من جهنم مهاد ،وهم في النار يحيطهم سرداقها.
ومن المناسب بعد تلك الشحنة التي تكرهنا في أصحاب النار وفي سوء تصرفهم فيما كلفوا به
عمِلُواْ
أولً ،وسبب بشاعة جزائهم ثانيا؛ أن نتلهف على المقابل .فقال سبحانه { :وَالّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س َعهَا ُأوْلَـا ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ ُهمْ فِيهَا خَاِلدُونَ } [العراف]42 :
ت لَ ُنكَّلفُ َنفْسا ِإلّ وُ ْ
الصّالِحَا ِ
س َعهَا } جاء بين المبتدأ والخبر ،ككلم
ل وُ ْ
وقول الحق سبحانه وتعالى { :لَ ُنكَّلفُ َنفْسا ِإ ّ
اعتراضي؛ لن أسلوب يقتضي إبلغنا أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم الخلود في الجنة،
س َعهَا } بين العمدتين وهما المبتدأ والخبر؛ لننا حينما نسمع { وَالّذِينَ
ل وُ ْ
وجاءت { لَ ُنكَّلفُ َنفْسا ِإ ّ
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } وهذا عمل الجوارح ،وبذلك أي بعمل
آمَنُواْ } فهذا عمل قلبي ،ونسمع بعده { وَ َ
القلب مع عمل الجوارح يتحقق من السلوك ما يتفق مع العقيدة .والعتقاد هو يسهل دائما السلوك
اليماني ويجعل مشاق التكاليف في العمال الصالحة مقبولة وهينة ،ولذلك أوضح سبحانه :إياكم
أن تظنوا أني قد كلفتكم فوق طاقتكم ،ل؛ فأنا ل أكلف إل ما في الوسع ،وإياكم أن تفهموا قولي{ :
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ } هو رغبة في إرهاق نفوسكم ،ولكن ذلك في قدرتكم لنني
وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
المشرع ،والمشرع إنما يضع التكليف في وسع المكلّف.
ونحن في حياتنا العملية نصنع ذلك؛ فنجد المهندس الذي يصمم آلة يخبرنا عن مدى قدرتها ،فل
يحملها فوق طاقتها وإل تفسد.
وإذا كان الصانع من البشر ل يكلف اللة الصماء فوق ما تطيق ،أيكلف الذي خلق البشر فوق ما
يطيقون؟ محال أن يكون ذلك.
إذن فيجب أن نوصد الباب أمام الذين يحاولون أن يتحللوا من التزامات التكليف عليهم ،فل تعلق
الحكم على وسعك الخائر الجائر ،ولكن غلق الوسع على تكليف ال ،فإن كان قد كلف فأحكم لن
ذلك في الوسع؛ والدليل على كذب من يريد الفلت من الحكم هو محاولته إخضاع الحكم لوسعه
هو؛ أن غيره يفعل ما ل يريد أن يفعله .فحين ينهى الحق عن شرب الخمر تجد غيرك ل يشرب
ل لمر ال ،وكذلك تجد من يمتنع عن الزنا أو أكل الربا؛ فإذا كان مثيلك وهو فرد من
الخمر امتثا ً
نوعك قادرا على هذا العمل فمن ل يمتنع عن مثل هذه المحرمات هو المذنب ل لصعوبة
التكليف.
فالتكليف هو أمر الشارع الحكيم بـ " افعل " و " ل تفعل " وسبحانه ل يكلف النسان إل إذا كان
قادرا على أن يؤدي مطلوبات الشرع؛ لن ال ل يكلف إل على قدر الطاقة ،واستبقاء الطاقة
يحتاج إلى قوت ،طعام ،شراب ،لباس ،وغير ذلك مما تحتاج إليه الحياة ،لذلك أوضح سبحانه أنه
يوفر للِنسان كل ماديات الحياة الساسية ،وإياكم أن تظنوا أن ال حين يكلف النسان يكلفه
شططا ،ولكن النسان هو الذي يضع في موضع الشطط .فقالَ {:ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِ ْزقُهُ} ...
[الطلق]7 :
علَيْهِ رِ ْزقُهُ { أي ضيق عليه قليلً.
} َومَن قُدِرَ َ
ويقول سبحانه {:فَلْيُنفِقْ ِممّآ آتَاهُ اللّ ُه لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإلّ مَآ آتَاهَا[} ...الطلق]7 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن ل تفترض وتقدر أنت تكاليف المعيشة ثم تحاول إخضاع وارداتك إلى هذا التصور ،بل انظر
إلى الوارد أليك وعش في حيز وإطار هذا الوارد ،فإن كان دخلك مائة جنيه فرتب حياتك على أن
يكون مصروفك يساوي دخلك؛ لن ال ل يكلفك إل ما آتاك.
ولننظر إلى ما آتانا ال؛ لذلك ل تدخل في حساب الرزق إل ما شرع ال ،فل تسرق .ول تنهب
ول تختلس ول ترتش ثم تقول :هذا ما آتاني ال ،ل ،عليك ألَ تأخذ ول تنتفع إل بما أحل ال لك،
فإن عشت في نطاق ما أحل ال يعينك ال على كل أمرك وكل حاجاتك ،لنك تحيا بمنهج ال،
فيصرف عنك الحق مهمات الحياة التي تتطلب أن تزيد على ما آتاك ال ،فل تخطر على بالك أو
على بال أولدك .وتجد نفسك -على سبيل المثال -وأنت تدخل السوق وآتاك ال قدرا محدودا
من المال ،وترى الكثير من الخيرات ،لكن الحق يجعلك ل تنظر إل في حدود ما في طاقتك،
وكذلك يُحسّن لك ال ما في طاقتك ويبعد عنك ما فوق طاقتك؛ لن ال ل يكلف نفسا إل ما آتاها،
ول يحرك شهوات النفس إل في حدود ذلك.
()985 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غلّ } ينطبق -أيضا -على أهل الجتهاد الذين اجتهد
وقوله الحق { :وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ ِ
كل منهم في الدنيا ،واختلفوا ،هؤلء يبعثون يوم القيامة وليس في صدر أحدهم غل ول حقد .لذلك
تجد سيدنا الِمام عليّا -كرم ال وجهه -حين يقرأ هذه الية يقول " :اللهم اجعلني أنا وعثمان
وطلحة والزبير من هؤلء " .لن هؤلء هم الذين وقع بينهم الخلف في مسألة الخلفة ،وكل
منهم صحابي ومبشر بالجنة ،فإن كانت النفوس قد دخلت فيها أغيار ،فإياكم أن تظنوا أن هذه
الغيار سوف تصحبكم في دار الجزاء في الخرة؛ لن ال يقول { :وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ
غلّ }.
ِ
إن الخلف كان خلفا اجتهاديا بين المؤمنين وهم قد عملوا الصالحات وكل منهم أراد الحسن من
العمال ،ونشأ عن ذلك في أغيار الدنيا شيء من عمل القلب ،فأوضح سبحانه :إياكم أن تفهموا
أن ذلك سوف يستمر معهم في الخرة؛ لنهم جميعا حينما اختلفوا كانوا يعيشون باجتهادات ال،
وفي الخرة ل اجتهاد لحد .ويريد الحق أن يجعل هذا المر قضية كونية ،ومثال ذلك تجد رجلً
قد تزوج امرأة بمقاييس غير مقاييس ال في الزواج؛ تزوجها لنها جميلة مثلً ،أو لن والدها له
جاه أو غني ،وبعد الزواج لم يعطه والدها الغني شيئا من ماله فيقول :غشني وزوجني ابنته ،أو
كانت جميلة ،ثم لقى فيها خصال قبيحة كثيرة فكرهها ،ونقول لمثل هذا الرجل :مادمت لم تأخذها
بمقاييس ال فعليك أن تنال جزاء الختيار.
ولكن من تزوج امرأة على دين ال ،ووجد منها قبحا ،فلن يصحبه هذا القبح في الخرة ،ولذلك
نجد الحق قد جاء بهذه القضية بالذات ،ولم يأت بها في البناء أو في البنات ،بل في الزوج
والزوجة لنهما عماد السرة .فبيّن للرجل :إياك أن تتخيل أن المرأة التي أغاظتك أو أتعبتك أو
كدرت عليك بخصلة سيئة فيها ،إياك أن تظن أن هذه الخصلة السيئة ستصاحبها في الخرة،
طهّ َرةٌ[} ...آل عمران]15 :
ولذلك قال سبحانه {:وَأَ ْزوَاجٌ مّ َ
وأزواج مطهرة من الشياء التي كنت تغضب منها وستكون مطهرة بتطهير ال لها { .وَنَزَعْنَا مَا
غلّ تَجْرِي مِن َتحْ ِتهِ ُم الَ ْنهَارُ[ } ...العراف]43 :
صدُورِهِم مّنْ ِ
فِي ُ
ونجد الحق يقول مرةَ { :تجْرِي تَحْ َتهَا الَ ْنهَارُ } ومرة يقول { :تَجْرِي مِن َتحْ ِتهِ ُم الَ ْنهَارُ } ،ونجد
" مِن " فارقا بين القولين .إننا نرى من يستقر في قصر ونجد الماء منسابا حوله وتحته يسر
العيون ،وماء الخرة هو ماء غير آسن ،وليس فيه أكدار الدنيا ،وكما أننا نسر بالماء في الدنيا
سنسر به أضعاف ذلك في الخرة .وقد تجري المياه تحت القصر ولكن نبعها من مكان بعيد
فيخاف صاحب القصر أن يقطعها آخر عنه ،ويطمئن الحق عباده الصالحين :ستجري من تحت
جنانكم النهار وكل المياه ستكون ذاتيتها من موقع كل مكون أنت فيه ولن يتحكم فيك أحد ،ولن
يسد أحد عنك منبع المياه وسترى أنهار الخرة بل شطآن؛ لن كل شيء ممسوك ل بالسباب كما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الدنيا ،ولكن بـ " كن " التي هي ل.
حمْدُ للّهِ الّذِي هَدَانَا ِلهَـاذَا َومَا كُنّا لِ َنهْ َت ِديَ َلوْل أَنْ هَدَانَا
ولذلك يقول العباد في جنة الخرة } :ا ْل َ
اللّهُ[ { ...العراف]43 :
إنهم يقولون الحمد ل لنه جل وعل قد جمعهم ودلهم وأرشدهم إلى الثواب والنعيم دون منغصات،
والحمد ل هي عبادة يقولها المؤمنون في الخرة؛ لنهم أدوا حق ال في تكاليفه في الدنيا ويعطيهم
ال فوق ما يتوقعون في الخرة .ونعيم الخرة ل قيد عليه ،ولن يستطيع بشر مهما ارتقى
بالبتكار أن يصل إلى ما في الجنة؛ لن الشيء يتحقق لك من فور أن يخطر ببالكَ } .وقَالُواْ
ح ْمدُ للّهِ {.
الْ َ
وهذا الحمد ل كان في الدنيا عبادة تكليف ،أمّا في الخرة فهو " عبادة غبطة وسرور وتلذذ} .
حمْدُ للّهِ الّذِي هَدَانَا ِلهَـاذَا َومَا كُنّا لِ َنهْتَ ِديَ َلوْل أَنْ هَدَانَا اللّهُ {.
َوقَالُواْ ا ْل َ
يقولها المؤمن؛ لن ال لو لم ينزل منهجا سماويا يحدد له حركة حياته استقامة وينذره ويخوفه من
المعاصي لما وصل إلى الجنة .والهداية -كما قلنا -هي الدللة على الطريق الموصل للغاية ،إذن
لبد أن تعرف الغاية أولً ثم تضع الطريق الموصل لها ،بحيث ل يكون معوجا ول يعترضك فيه
ما يطيل عليك المسافة ،وقوله الحقَ } :ومَا كُنّا لِ َنهْتَ ِديَ َلوْل أَنْ َهدَانَا اللّهُ { يمنع أن يضع البشر
للبشر قوانين تهديهم إلى الغاية؛ لن البشر أنفسهم ل يعرفون الغاية؛ لذلك يوضحها لهم خالقهم
بمنهجه المنزل على رسوله.
ومادامت الهداية من ال فسبحانه لن يخاطب كل إنسان مباشرة ،لكنه سبحانه ينزل الرسل يتلون
علينا آيات ال ويوضحون لنا المنهج؛ لذلك يأتي الحق في الية نفسها يقوله الحكيمَ...} :لقَدْ جَآ َءتْ
ق وَنُودُواْ أَن تِ ْل ُكمُ الْجَنّةُ أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ { [العراف]43 :
سلُ رَبّنَا بِا ْلحَ ّ
رُ ُ
أنت في الحياة الدنيا حين تجد من يقول لك :إن أردت أن ترتاح فأنا أنصحك أن تمشي إلى المكان
الفلني واذهب إليه عن الطريق الفلني ،وستجدك سعيدا مرتاح البال ،ثم صدقته ونفذت ما قال،
ووجدت الرجل صادقا .أل تشعر بالسعادة؟ .وإذا كان الحق قد أرسل الرسل بالبينات واليات
والمنهج الصحيح ،وسار عليه المؤمنون ثم وجدوا الجنة والنعيم؛ لذلك كان لبد أن يشكروا ال
حقّ { ,لن الرسل لم يكذبوهم بل جاءوا بالخير لهم} .
سلُ رَبّنَا بِالْ َ
وأن يقولواَ } :قدْ جَآ َءتْ ُر ُ
وَنُودُواْ أَن تِ ْلكُمُ ا ْلجَنّةُ أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ {.
وكأن الحق يوضح لنا ونحن في دار التكليف أن نستقبل المنهج على هذا الساس ،وعلى كل واحد
أن يحدد مكانه من الجنة؛ بقربه من منهج ال أو بعده عنه؛ لن دخول الجنة هو جزاء العمل طبقا
لمنهج الحق.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ووقف العلماء هنا -جزاهم ال خيرا -وقالوا :كيف نوفق بين هذه الية } :وَنُودُواْ أَن تِ ْلكُمُ ا ْلجَنّةُ
أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا كُن ُتمْ َت ْعمَلُونَ { [لعراف]43 :
وبين قول الرسول صلى ال عليه وسلم:
" لن يُدخل أحدا عمله الجنة
قالوا :ول أنت يا رسول ال؟
قال :ول أنا إل أن يتغمدني ال بفضل ورحمة ".
وأقول :ليس هناك تناقض بين قول ال سبحانه وتعالى وقول الصادق المصدوق صلى ال عليه
وسلم الذي بلغ عن ال سبحانه ،بل بينهما تأييد؛ فالحق ساعة ما شرع أوضح أن من يعمل العمل
الصالح سيدخل الجنة ،وهذا التشريع لم يجبر أحد ال عليه ،بل هو الذي يعطيه لنا فضل منه؛
فليس لحد حق على ال؛ لنه ل يوجد عمل يعود بفائدة على ال ،واتباع المنهج إنما يعود على
العبد بالمنفعة والخير ،فإن دخلت الجنة فهذا أيضا بالفضل من ال .وينبهنا القرآن إلى الجمع بين
حمَتِهِ فَ ِبذَِلكَ
ضلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ
هذه اليات وأنه ل تعارض بين نص حديثي ونص قرآني .يقولُ {:قلْ ِب َف ْ
ج َمعُونَ }[يونس]58 :
فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا َي ْ
فجزاء كل عمل عائد على النسان لنه يأخذ مكافأته على فعله ،فإن كانت المكأفاة أكبر من جزاء
سبَ َرهَينٌ }[الطور]21 :
الفعل فهي من الفضل؛ لن الحق هو القائل... {:كُلّ امْرِىءٍ ِبمَا َك َ
سعَىا }[النجم]39 :
وسبحانه أيضا هو القائل {:وَأَن لّيْسَ لِلِنسَانِ ِإلّ مَا َ
إن فهمت اللغة وكنت صاحب ملكة ناضجة نقول :هذه " اللم " للملك .وتفيد أنه لحق لك على
ضلِ
ال إل بسعيك على وفق منهج ال ،وأن هذه الية قد حددت العدل ولم تحدد الفضلُ {.قلْ ِبفَ ْ
حمَتِهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ[} ...يونس]58 :
اللّ ِه وَبِ َر ْ
والمثال على ذلك أننا كمسلمين نصلى على الميت المسلم ،وقد أمرنا التشريع بذلك ،وأن ندعو ال
أن يتجاوز عن سيئاته .فهل تضيف هذه الصلة إلى الميت شيئا زائدا عن عمله؟ لو لم تكن صلة
تضيف شيئا لما أمر التشريع بها .فهي صلة على ميت مسلم ،وأسلمه من عمله ،ونجد الحق
يقول {:وَالّذِينَ آمَنُواْ وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُتهُم بِإِيمَانٍ[} ...الطور]21 :
حقْنَا ِبهِمْ ذُرّيّ َت ُهمْ} ...
أي أن الباء والبناء يشتركون معا في اليمان وفي العمل ،قوله تعالى {:أَ ْل َ
[الطور]21 :
هذا اللحاق يفيد أن منزلة الذرية كانت أقل من منزلة الباء ،لكن الحق يرفع من منزلتهم إكراما
للباء .وهذا اللحاق جزاء للذرية ،وقد يكون أيضا جزاء للباء؛ فيحضر لهم أولدهم معهم مادام
الكل قد اشتركوا في اليمان ،وكان الباء يتحرون الحلل في إطعام البناء ول يربونهم إل على
منهج ال .وقد يرى الب أبناء جار له يلبسون الملبس الفاخرة ويأكلون الكل الطيب ،ويتحمل
البناء ويعيشون عيش الكفاف مع هذا الب الملتزم بالعمل الصالح والجر الحلل ،وينال البناء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الجنة مع الب لنهم تحملوا معه مشاق اللتزام بالحلل.
وهكذا نجد كل إنسان مؤمن قد أخذ نتيجة عمله وزيادة...} .وَنُودُواْ أَن تِ ْل ُكمُ الْجَنّةُ أُورِثْ ُتمُوهَا ِبمَا
كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ { [لعراف]43 :
و } أُورِثْ ُتمُوهَا { من " الرث " وتدل على أن هناك شيئا آل إلى الغير .ونعلم أن ال ،علم أزل
كيف سيسلك كل مخلوق وما سيفعله من كفر وإيمان وطاعة ومعصية ،وعلى رغم ذلك أعد
سبحانه لكل واحد من خلقه مكانه في الجنة على أنه مؤمن ،وأعد لكل واحد من خلقه مكانا في
النار على أساس أنه سيكفر.
إذن فقد أعدّ سبحانه جنانا بعدد خلقه ،وأع ّد أماكن في الجحيم بعددهم ،فليست هناك أزمة أماكن
عند إله قادر مقتدر .فإن آمنا كلنا فلن يضيق بنا واسع الجنة ،و -والعياذ بال -إن كفر الخلق
جميعا فلن تضيق بهم النار .فإذا كانوا جماعة من خلق سيدخلون الجنة بالعمل ،فأين تذهب أماكن
أهل النار؟ إن الحق بفضل منه يمنحها المؤمنين.
إذن فقد ورثوا الذين لم يستحقوا الجنة بسبب الكفر.
وبعد الكلم في الجنة والجزاء وفي حمد التلذذ والسرور والغبطة وفي عهد الجنة ،بعد ذلك كان
من المناسب أن يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن موقف أهل الجنة من أهل النار؛ فيقول سبحانه} :
وَنَادَى َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ{ ...
()986 /
حقّا
عدَ رَ ّبكُمْ َ
جدْتُمْ مَا وَ َ
حقّا َف َهلْ وَ َ
وَنَادَى َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ َأصْحَابَ النّارِ أَنْ قَ ْد َوجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا َ
علَى الظّاِلمِينَ ()44
قَالُوا َنعَمْ فَأَذّنَ ُمؤَذّنٌ بَيْ َنهُمْ أَنْ َلعْ َنةُ اللّهِ َ
وهكذا نرى التبكيت ،وتصور لنا الية كيف يرى أهل الجنة أهل النار ،وهذا الترائي من ضمن
النعيم ومن ضمن العذاب الليم ،فحين يرى المؤمن بمنهج ال من عاداه وقهره وآذاه وهو في
النار فهذا من تمام اللذة .والخر حين يرى مخالفه في الجنة فهذا أيضا من تمام العذاب .إذن لبد
أن يتراءوا ،ولذلك يحدث الحوار ،وينادي أصحاب الجنة أصحاب النار معترفين بأنهم وجدوا ما
وعدهم به ال حقا وصدقا ،وأن الحق قد وهبهم هذه الجنة .فهل -يا أهل النار -وجدتم ما وعد
ربكم حقا؟
ونلحظ أن هناك خلفا بين السلوبين مع أن السياق المنطقي واحد؛ فأهل الجنة يقولون " :قد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " ،ولم يأت بالكاف في كلمة ما وعد (الثانية) بل قال " :فهل وجدتم ما
وعد ربكم حقا "؟
إنه قال سبحانه " :ما وعد " فقط ،ولم يقل ما وعدكم كما قال( :ما وعدنا) لن المراد أن يلفتهم
إلى مطلق الوعد ،وليس الخاص بهم فقط ،بل وأيضا الخاص بالمقابل ،وهكذا يتحقق الوعد
المطلق ل .فأهل الجنة بإيمانهم وأعمالهم في الجنة فضلً من ال ،وأهل النار بكفرهم وعصيانهم
عقابا من ال.
وهنا يجيب أهل النار( :قالوا نعم).
وهذا إقرار منهم بالواقع الذي عاشوه واقعا بعد أن ،كان وعيدا ،وهم لم يكابروا لن المكابرة إنما
تحدث بين الخصمين في غير مشهد ،وهم في الدنيا قبل أن يوجد المشهد كانوا يكذبون البلغ عن
ال ،وصارت الدار الخرة واقعا ،وتحقق وجودهم في النار...{ .فَأَذّنَ ُمؤَذّنٌ بَيْ َنهُمْ أَن ّلعْ َنةُ اللّهِ
عَلَى الظّاِلمِينَ } [العراف]44 :
أي فينادي مناد من الملئكة يُسمع أهلَ الجنّة وأهل النار بأن الطرد من رحمة ال على الظالمين
الذين ظلموا أنفسهم؛ بعدم الِيمان وبالتكذيب باليوم الخر.
ويقول الحق بعد ذلك { :الّذِينَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} ...
()987 /
والذي يصد عن سبيل ال هو من امتنع عن سبيل ال ،وصد غيره ،أي ضلّ في ذاته ثم أضل
غيره ،وهؤلء هم الذين يطلبون منهج ال معوجا ،ويذمونه ول يؤمنون به فيعترضون على إقامة
الحدود والقصاص ،وينفرون الناس عن منهج ال؛ لينصرف الناس عن الدين .هم إذن قد صدوا
عن سبيل ال وطلبوا العوج فيما شرع ال لينفروا الناس عمّا شرع ال ،ولم يقتصر المر على
ذلك ،بل هم بالخرة كافرون ،ولو كان الواحد منهم مؤمنا بالخرة ويعلم أن له مرجعا ومردا إلى
ال لما فعل ذلك.
حجَابٌ وَعَلَى الَعْرَافِ} ...
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :وَبَيْ َن ُهمَا ِ
()988 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سلَامٌ عَلَ ْيكُمْ لَمْ
ب وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ َيعْ ِرفُونَ كُلّا بِسِيمَاهُمْ وَنَا َدوْا َأصْحَابَ الْجَنّةِ أَنْ َ
وَبَيْ َن ُهمَا حِجَا ٌ
ط َمعُونَ ()46
يَ ْدخُلُوهَا وَهُمْ َي ْ
الحجاب موجود بين أصحاب الجنة وأصحاب النار ،وهم يتراءون من خلله ،وبيّنه الحق سبحانه
جعُو ْا وَرَآ َء ُكمْ
ن وَا ْلمُنَافِقَاتُ لِلّذِينَ آمَنُواْ انظُرُونَا َنقْتَبِسْ مِن نّو ِركُمْ قِيلَ ارْ ِ
فقالَ {:يوْمَ َيقُولُ ا ْلمُنَافِقُو َ
حمَةُ وَظَاهِ ُرهُ مِن قِبَلِهِ ا ْلعَذَابُ }[الحديد:
فَالْ َتمِسُواْ نُورا َفضُ ِربَ بَيْ َنهُم بِسُورٍ لّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرّ ْ
]13
باطن هذا الحجاب الرحمة من ناحية أهل الجنة ،وظاهره المواجه لهل النار فيه العذاب ،والحق
هو القادر على كل شيء؛ لذلك ل ينال أهل الجنة شيء من شقاء أهل النار ،ول ينال أهل النار
شيء من نعيم أهل الجنة ،ويسمع أهل النار ردا على طمعهم في أن ينالهم بعض من نور أهل
الجنة ،إنكم تلتمسون الهدى في غير موطن الهدى؛ فزمن التكليف قد انتهى ،ومن كان يرغب في
نور الخرة كان عليه أن يعمل من أجله في الدنيا ،فهذا النور ليس هبة من خلق لخلق ،وإنما هو
هبة من خالق لمخلوق آمن به .وأنتم تقولون :انظرونا نقتبس من نوركم ،وليس في مقدور أهل
ب وَعَلَى الَعْرَافِ
حجَا ٌ
الجنة أن يعطوا شيئا من نور أهل الجنة فالعطاء حينئذ ل { .وَبَيْ َن ُهمَا ِ
رِجَالٌ َيعْ ِرفُونَ كُلّ بِسِيمَاهُمْ[ } ...العراف]46 :
و { كُلّ } المعنيّ بها أصحاب الجنة وأصحاب النار ،فقد تقدم عندنا فريقان؛ أصحاب الجنة،
وأصحاب النار وهناك فريق ثالث هم الذين على العراف ،و " العراف " جمع " عُرف " مأخوذ
من عرف الديك وهو أعلى شيء فيه ،وكذلك عرف الفرس .كأن بين الجنة مكانا مرتفعا كالعرف
يقف عليه أناس يعرفون أصحاب النار بسيماهم فكأن من ضمن السمات والعلمات ما يميز أهل
النار عن أهل الجنة.
وكيف توجد هذه السمات؟ يقال إن النسان ساعة يؤمن يصير أهل لستقبال سمات اليمان ،وكلما
دخل في منهج ال طاعة واستجابة أعطاه ال سمة جمالية تصير أصيلة فيه تلزمه ول تفارقه,
وبالعكس من ذلك أصحاب النار فتبتعد عنهم سمات الجلل والجمال وتحل محلها سمات القبح
والشناعة والبشاعة.
وإذا ما رأى أهل العراف أصحاب الجنة يقولون :سلم عليكم؛ لن الدنى منزلة -أصحاب
العراف -يقول للعلى -أصحاب الجنة -سلم عليكم.
وجماعة العراف هم من تساوت سيئاتهم مع حسناتهم في ميزان العدل اللهي الذي ل يظلم أحدا
خ ّفتْ َموَازِينُهُ * فَُأمّهُ
مثقال ذرة {.فََأمّا مَن َثقُلَتْ َموَازِينُهُ * َف ُهوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِ َيةٍ * وََأمّا مَنْ َ
هَاوِيَةٌ }[القارعة]9-6 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويا رب لقد ذكرت الميزان ،وحين قدرت الموزون لهم لم تذكر لنا إل فريقين اثنين ..فريق ثقلت
موازينه ،وفريقا خفت موازينه ،ومنتهى المنطق في القياس الموازيني أن يوجد فريق ثالث هم
الذين تتساوى سيئاتهم مع حسناتهم ،فلم تثقل موازينهم فيدخلوا الجنة ،ولم تجف موازينهم فيدخلوا
النار ،وهؤلء هم من تعرض أعمالهم على " لجنة الرحمة " فيجلسون على العراف .ومن
العجيب أنهم حين يشاهدون أهل الجنة يقولون لهم سلم عليكم على الرغم من أنهم لم يدخلوا،
لمٌ
لكنهم يطمعون في أن يدخلوا ،لن رحمة ال سبقت غضبه...{ .ونَا َدوْاْ َأصْحَابَ الْجَنّةِ أَن سَ َ
ط َمعُونَ } [العراف]46 :
عَلَ ْيكُمْ َلمْ يَ ْدخُلُوهَا وَهُمْ َي ْ
وبطبيعة الحال ليس في هذا المكان غش ول خداع.
وماذا حين ينظرون إلى أهل النار؟
()989 /
انظر إلى التعبير القرآني { صُ ِر َفتْ أَ ْبصَارُهُمْ } أي لم يصرفوا أبصارهم لن المسألة ليست
اختيارية؛ لنهم يكرهون أن ينظروا لهم لنهم ملعونون ،وكأن في { صُ ِر َفتْ أَ ْبصَارُ ُهمْ } لونا من
التوبيخ لهل النارُ.
جعَلْنَا مَعَ
وقوله الحق { :وَِإذَا صُ ِر َفتْ أَ ْبصَارُ ُهمْ تِ ْلقَآءَ } أي جهة أصحاب النار يقولون { :رَبّنَا لَ تَ ْ
ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }.
هنا يدعو أهل العراف :يا رب جنبنا أن نكون معهم .إنهم حين يرون بشاعة العذاب يسألون ال
ويستعيذون به أل يدخلهم معهم.
ب الَعْرَافِ} ...
ويقول الحق سبحانه { :وَنَادَىا َأصْحَا ُ
()990 /
وكأن أصحاب العراف قد صرفت أنظارهم لصحاب النار ويرون فيهم طبقات من المعذبين،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهذا أبو جهل ،وذاك الوليد ،ومعه أمية بن خلف وغيرهم ممن كانوا يظنون أن قيادتهم لمجتمعهم
وسيادتهم على غيرهم تعطيهم كل سلطان وكيان ،وكانوا يسخرون من السابقين إلى السلم كعمار
وبلل وصهيب وخباب ،وغيرهم ممن عاشوا للحق مع الحق ،فيقول أهل العراف لهؤلء { :مَآ
ج ْم ُعكُ ْم َومَا كُنْ ُتمْ تَسْ َتكْبِرُونَ }.
أَغْنَىا عَنكُمْ َ
وكأنهم يقولون لهم :إن اجتماعكم على الضلل في الدنيا لم ينفعكم بشيء ..شياطينكم ،والصنام
والسلطان لم ينفعوكم وكذلك استكباركم على الدعوة إلى اليمان هل أغنى عنكم شيئا؟ ل .لم يغن
عنكم شيئا.
سمْتُمْ} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :أَهَـؤُلءِ الّذِينَ َأقْ َ
()991 /
ويشير أهل العراف إلى المؤمنين الصادقين من أمثال بلل وخباب ويقولون لهل النار من أمثال
أبي جهل والوليد بن المغيرة :أهؤلء البرار من أهل الجنة الذين تقولون إنهم لن ينالوا رحمة
ال؟ هم إذن -أهل العراف -قد عقدوا المقارنة والموازنة بين أهل الجنة وأهل النار ،وكأنهم
نسوا حالهم أن يقفوا في انتظار الفرج وفرحوا بأصحاب الجنة ووبخوا أهل النار ،ولم يشغلهم
حالهم أن يقفوا موقف الفصل في هذه المسألة ،وهنا يدخل الحق سبحانه أصحاب العراف جنته
خ ْوفٌ عَلَ ْي ُك ْم وَلَ أَن ُتمْ
لفرحهم بأصحاب الجنة ،وتوبيخهم أهل النار ويقول لهم...{ :ادْخُلُواْ الْجَنّةَ لَ َ
تَحْزَنُونَ } [العراف]49 :
وهؤلء -كما قلنا -هم الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم؛ هي الطائفة التي جلست على
العراف ،فلم تثقل حسناتهم لتدخلهم الجنة ،لم تثقل سيئاتهم ليدخلوا النار.
صحَابُ النّارِ} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :وَنَادَىا َأ ْ
()992 /
صحَابَ الْجَنّةِ أَنْ َأفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ ا ْلمَاءِ َأوْ ِممّا رَ َز َقكُمُ اللّهُ قَالُوا إِنّ اللّهَ
وَنَادَى َأصْحَابُ النّارِ َأ ْ
حَ ّر َم ُهمَا عَلَى ا ْلكَافِرِينَ ()50
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وينادي أصحاب النار أصحاب الجنة مستغيثين طالبين أن يعطوهم ويفيضوا عليهم من الماء أو
من رزق ال لهم في الجنة ،فيقول أهل الجنة :نحن مربوطون الن بـ " كن " ،ولم يعد لنا
الختيار ،وقد حرم ال عليكم أي شيء من الجنة ومنعه عنكم ،فأنتم يا أهل النار ممنوعون أو هذه
المتع ممنوعة عنكم .وحين يطلب أهل النار الماء ،فهم يطلبون أوليات الوجود ،في نار أحاطت
بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه.
خذُواْ دِي َنهُمْ} ...
ولذلك يقول الحق بعد ذلك عن الكافرين الذين حرم عليهم خير الجنة { :الّذِينَ اتّ َ
()993 /
الّذِينَ اتّخَذُوا دِي َنهُمْ َل ْهوًا وََلعِبًا وَغَرّ ْتهُمُ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْ َيوْمَ نَنْسَا ُهمْ َكمَا نَسُوا ِلقَاءَ َي ْو ِمهِمْ َهذَا َومَا
جحَدُونَ ()51
كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَ ْ
وهكذا يبين لنا الحق سبحانه وتعالى في هذه الية من هم الكافرون الذين حرّم عليهم الجنة؛ إنهم
من اتخذوا دينهم لهوا ولعبا ،وأول مرحلة تمر على الِنسان هي اللعب ثم تأتي له مرحلة اللهو.
ونعلم أن كل فعل ُت َوجّه إليه طاقة فاعلة ،وقبل أن تُوجّه إليه الطاقة الفاعلة يمر هذا الفعل على
الذهن كي يحدد الغاية من الجهد .وهذا المقصود له حدود؛ إما أن يجلب له نفعا ،وإما أن يدفع
عنه ضُرّا .وكل مقصد ل يجلب نفعا ول يدفع ضرا ،فهو لعب.
إذن فتعريف اللعب :هو فعل لم يقصد صاحبه به قصدا صحيحا لدفع ضر أو جلب نفع .كما يلعب
الطفال بلعبهم ،فالطفل ساعة يمسك بالمدفع اللعبة أو السيارة اللعبة ،هل له مقصد صحيح ليوجه
طاقته له؟ .ل؛ لنه لو كان المقصد صحيحا لما حطم الطفل ُلعَبَهُ .والطفل غالبا ما يكسر لعبته بعد
قليل ،وهذا دليل على أنه يوجه الطاقة إلى غير قصد صحيح ول يجلب لنفسه نفعا ول يدفع عنها
مضرة.
ولكن حين ُتوَجّه الطاقة إلى ما هو أدنى من المهم فهذا هو اللهو ،كأن يكون المطلوب منك شيئا
وأنت توجه الطاقة إلى شيء آخر .والذي يعاقب عليه ال هو اللهو .أما اللعب فل.
ولذلك نجد النبي صلى ال عليه وسلم يطلب من الهل أن يدربّوا البناء على شيء قد يفيد المة
كالسباحة والرماية وركوب الخيل ،ولكن خيبة البشر في زماننا أنهم جعلوا اللعب غاية لذاته .ومن
العجيب أن اللعب صار له قانون الجد ول يمكن أن يخرقه أحد دون أن يُعاقَب؛ لن الحَكم يرقب
المباراة ،وإذا ما تناسى الحكم أمرا أو أخطأ هاج الجمهور .وأتساءل :لقد نقلتم قانون الجد إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللعب ،فلماذا تركتم الجد بل قانون؟
وكذلك نجد أن خيبة اللهو ثقيلة؛ لن الِنسان اللهي يترك المر المهم ويذهب إلى المر غير
المهم .فيجلس إلى لعبة النرد وهي طاولة ويترك الشغل الذي ينتج له الرزق ،وليت هذا اللهو
مقصورٌ على اللهي ،ولكنه يجذب أنظار غير اللهي ويأخذ وقته ،هذا الوقت الذي كان يجب أن
يُستغل في طاقة نافعة .وفساد المجتمعات كلها إنما يأتي من أن بعضا من أفرادها يستغلون
خذُواْ دِي َنهُمْ
طاقاتهم فيما ل يعود على ذواتهم ول على أمتهم بالخير ,إذن فاللهو طاقة معطلة { .اتّ َ
َلهْوا وََلعِبا وَغَرّ ْتهُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا }.
وغرورهم بالحياة الدنيا إنما يأتي من السباب التي خلقها ال مستجيبة لهم فظن كل منهم أنه السيد
المسيطر .وحين غرتهم الحياة الدنيا نسوا الجد الذي يوصلهم إلى الغاية النافعة الخالدة ،ويكون
عقابهم هو قول ال سبحانه...{ :فَالْ َيوْمَ نَنسَا ُهمْ َكمَا نَسُواْ ِلقَآءَ َي ْو ِمهِمْ هَـاذَا َومَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا
جحَدُونَ } [العراف]51 :
يَ ْ
فهل يعني قوله عز وجل { :نَنسَا ُهمْ } أنه يتركهم لما يفعلون؟.
ل ،بل تأخذهم جهنم لتشويهم ،ونسيانهم هنا هو أنه -سبحانه -ل يشملهم بمظاهر فضله ولطفه
ورحمته ويتركهم للنار تلفح وجوههم وتنضج جلودهم.
وهكذا يتأكد من جديد أن الدنيا هي المكان الذي يعد فيه الِنسان مكانه في الخرة ،فإن أراد مكانا
في عليين فعليه أن يؤدي التكليف الذي يعطيه مكانه في عليين .وإذا أراد مكانه أقل من ذلك فعليه
أن يؤدي العمل القل .كأن الِنسان بعمله هو الذي يحدد مكانه في الخرة؛ لن الحق ل يجازي
الخلق استبدادا بهم وافتياتا أو ظلما ،ولكنه يجازي الِنسان حسب العمل؛ لذلك فهناك أصحاب
الجنة ،وهناك أصحاب النار ،وهناك أصحاب العراف .وهذا العلم الذي يُنزله لنا الحق قرآنا
ينذرنا ويبشرنا هو دليل لكل مسلم حتى نتنافس على أن تكون مواقعنا في الخرة مواقع مشرفة} .
الّذِينَ اتّخَذُواْ دِي َنهُمْ َلهْوا وََلعِبا وَغَرّ ْتهُمُ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا فَالْ َيوْمَ نَنسَا ُهمْ َكمَا نَسُواْ ِلقَآءَ َي ْو ِمهِمْ هَـاذَا َومَا
جحَدُونَ { [العراف]51 :
كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَ ْ
جحَدُونَ { فاليات إما آيات كونيةَ {:ومِنْ آيَاتِهِ الّ ْيلُ
وحين يقول الحق سبحانهَ } :ومَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَ ْ
س وَا ْل َقمَرُ[} ...فصلت]37 :
شمْ ُ
وَال ّنهَارُ وَال ّ
وإما آيات قرآنية كقوله سبحانه {:كِتَابٌ ُفصَّلتْ آيَاُتهُ قُرْآنا عَرَبِيّا ّلقَوْمٍ َيعَْلمُونَ }[فصلت]3 :
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن
وإما أن تكون آيات معجزات لِثبات النبوة كقوله سبحانهَ {:ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
لوّلُونَ[} ...السراء]59 :
كَ ّذبَ ِبهَا ا َ
هم إذن جحدوا اليات كلها ،وكان أول جحود هو جحود باليات الكونية التي شاهدوها قبل أن
يأتي التكليف ،فهم عاشوا الليل والنهار .وتنفسوا الهواء ،واستمتعوا بدفء الشمس ،وروى المطر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أراضيهم ووجدوا الكون مرتبا منظما يعطي النسان قبل أن يكون للنسان إدراك أو طاقة ،وكان
يجب أن تلفتهم هذه اليات إلى أن لهم خالقا هو الحق العلى .وحين جاء لهم الموكب الرسالي
جحدوا آيات المعجزات التي تدل على صدق الرسل .وحين جاء القرآن معجزا جحدوا اليات
التفصيلية التي تحمل المنهج .إذن فل عذر لهم في شيء من ذلك أن الحق يقول } :وََلقَدْ جِئْنَاهُمْ
ِبكِتَابٍ َفصّلْنَاهُ{ ...
()994 /
أي ل عذر لهم في شيء من هذا الجحود؛ لن الكتاب مفصل ،وقد يقولون :إن الكتاب الطارئ
علينا ،وكذلك الرسول الذي جاء به .إذن فما موقفهم من اليات الكونية الثابتة؟ لقد جحدوها أيضا.
{ وََلقَدْ جِئْنَاهُمْ ِبكِتَابٍ َفصّلْنَاهُ عَلَىا عِ ْلمٍ }.
ل أو مبهما ،ل ،بل فيه تفصيل العليم الحكيم ،أنه
و { َفصّلْنَاهُ } أي أنه سبحانه لم ينزل كلما مجم ً
فصل أحكامه ومعانيه ومواعظه وقصصه حتى جاء قيما غير ذي عوج ،وسبحانه هو القادر أن
ينزل المنهج المناسب لقياس ومقام كل إنسان.
إنه حينما يأتي إلينا من يستفتينا في أي أمر ويحاول أن يلوي في الكلم لنأتي له بفتوى تبرر له ما
يفعله ،فنحن نقول له :ليس لدينا فتوى مفصلة؛ لن الفتاوي التي عندنا كلها جاهزة ،ولك أن تدخل
حمَةً ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ } [العراف]52 :
بمسألتك في أي فتوىَ ...{ .فصّلْنَاهُ عَلَىا عِ ْلمٍ ُهدًى وَرَ ْ
وهناك أناس سمعوا القرآن ورأوا اليات واهتدوا ،فلماذا اهتدى هؤلء وضل هؤلء؟ لقد آمن من
ب لَ رَ ْيبَ فِيهِ هُدًى لّ ْلمُتّقِينَ }[البقرة:
صدق بالوجود العلى كما قلنا في سورة البقرة {:ذَِلكَ ا ْلكِتَا ُ
]2
إذن فقد آمن بالقرآن من اهتدى إلى الحق ،ومنهم من أوضح الحق عنهم :أنهم حين يستمعون
القرآن تفيض أعينهم من الدمع .وأيضا هناك من ل يلمس اليمان قلوبهم حين يستمعون إلى
القرآنَ {.ومِ ْنهُمْ مّن َيسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا...
}[محمد]16 :
وهؤلء هم الذين غلظت قلوبهم فلم يتخللها أو يدخلها ويخالطها نور القرآن ،لذلك تجد الحق يرد
علَىا قُلُو ِبهِمْ وَاتّ َبعُواْ أَ ْهوَآءَ ُهمْ }[محمد]16 :
عيلهم بقوله سبحانهُ... {:أوْلَـائِكَ الّذِينَ طَ َبعَ اللّهُ َ
علَ ْيهِمْ
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْ ٌر وَ ُهوَ َ
شفَآ ٌء وَالّذِي َ
ويقول سبحانهُ {:قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمًى[} ...فصلت]44 :
َ
سبق أن ضربنا المثل بأن الفعل في بعض الحالت واحد ،لكن القابل للفعل مختلف ،لذلك تكون
النتيجة مختلفة .وعلى سبيل المثال :إذا كنت في الشتاء ،وخرجت ووجدت الجو باردا ،وشعرت
أن أطراف أصابعك تكاد تتجمد من البرد ،فتضم فبضتك معا وتنفخ فيهما ،وقد تفعل ذلك بل إرادة
من كل تدفئ يديك .وكذلك حين يأتي لك كوب من الشاي الساخن جدا ،وتحب أن تشرب منه،
فأنت تنفخ فيه لتأتي له بالبرودة .والنفخة من فمك واحدة؛ تأتي بحرارة ليديك ،وتأتي بالبرودة
لكوب الشاي ،وهكذا فالفعل واحد لكن القابل مختلف .وكذلك القرآن فمن كان عنده استعداد
لليمان فهو يهتدي به ،ومن ل يملك الستعداد فقلبه غلف عن اليمان.
وموقف هؤلء العاجزين عن استقبال الرحمة غير طبيعي ،وماذا ينتظرون بعد هذا الكفر ،وبعد
الفتئات وبعد الستكبار وبعد التأبي وبعد اتخاذ الدين لهوا ولعبا ،ما ينتظرون؟
ها هو ذا الحق سبحانه يوضح لهم العاقبةَ { :هلْ يَنظُرُونَ ِإلّ تَ ْأوِيلَهُ َيوْمَ} ...
()995 /
وما معنى التأويل؟ ..التأويل هو ما يؤول إليه الشيء ،هو العاقبة التي يعدها الحق ،فالرحمة
والجنة لمن آمن ،والنار لمن كفر ،والحق هو من يقول ويملك قوله لن الكون كله بيده.
وهنا يقول سبحانه وتعالىَ { :هلْ يَنظُرُونَ ِإلّ تَ ْأوِيلَهُ }.
أي هل ينتظرون إل لمرجع الذي يؤول إليه عملهم؟ إن مرجعهم الخير هو العذاب بعد الحساب
يوم يأتي تأويل وغاية وعاقبة ما عملوا.
وحين يأتي يوم القيامة ويتضح الحق ويظهر صدق ما جاء به الرسول من الوعد والوعيد ماذا
سيكون قولهم؟ ..سيقولون ما أورده سبحانه على ألسنتهمَ { :يقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِن قَ ْبلُ َقدْ جَآ َءتْ
سلُ رَبّنَا بِا ْلحَقّ }.
رُ ُ
أي أنهم سيعلنون التصديق حين ل ينفع هذا التصديق؛ لنهم لن يكونوا في دار التكليف ،سيقرون
حقّ َفهَل لّنَا مِن
سلُ رَبّنَا بِالْ َ
بالِيمان لحظة ل ينفعهم ذلكَ { .يقُولُ الّذِينَ نَسُوهُ مِن قَ ْبلُ قَدْ جَآ َءتْ رُ ُ
ش َفعُواْ لَنَآ[ } ...العراف]53 :
ش َفعَآءَ فَيَ ْ
ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هم إذن يقرون بأن الرسل حملت المنهج الحق ويتساءلون عن الشفيع .ونعلم أن الشفيع لبد أن
يكون محبوبا عند من يشفع عنده ،ونحن في الدنيا نجد من يبحث لنفسه عمن يشفع له عند صاحب
جاه يكون أثيرا وعزيزا لديه ،أو يكون له كلمة وفضل عليه فل يرد عليه كلمته .فمن يأتي يوم
القيامة بالشفاعة لهؤلء؟ ..ل أحد ،وسنجدهم يتخذون الشفعاء من الذين اتخذوهم أندادا ل.
وسيعلن هؤلء أيضا الكراهية لهم ،ولو مكنهم ال من الشفاعة ما أعطوها للكافرين المشركين؛
ففي الدنيا كان هؤلء مؤتمرين بأمر البشر وضللتهم .أما يوم الحساب فل أحد خاضع لِرادة
أحد ،حتى الجوارح ل تخضع لِرادة صاحبها ،بل هي خاضعة للحق العلى .وفي الخرة ل
مرادات لحد.
وقد ضربنا من قبل المثل وقلنا :هب أن سرية في جيش ما وعليها قائد صغير برتبة ضابط،
ومفروض في جنود السرية أن ينفذوا كلمه ،ثم راحوا لموقعة وأعطاهم الضابط الصغير أوامر
خاطئة بما له من فرض إرادة عليهم فنفذوا ما أمروا به .ولحظة أن يعودوا ويحاسبهم القائد
العلى فسيقولون :لقد فعلنا ما أمرنا به الضابط المكلف بقيادتنا ،وكذلك ستأتي الجوارح في
الخرة :تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم وجلودهم.
إذن فالبعاض سترفع شكواها إلى ال يوم أل يكون لحد من ملك سواه ،ويومئذ سيقول المكذبون
سلُ رَبّنَا بِا ْلحَقّ[ } ...العراف]53 :
الصدق الذي لن ينفعهم { .قَدْ جَآ َءتْ رُ ُ
وسوف يبحثون عن شفاعة ،لكنهم لن يجدوا ،بل إن أول من يسخر من الذين عبدوا غير ال هم
المعبودون أنفسهم.
جهَنّمَ أَنتُمْ َلهَا وَارِدُونَ }
صبُ َ
ح َ
ولذلك نجد قوله الحق سبحانه {:إِ ّن ُك ْم َومَا َتعْ ُبدُونَ مِن دُونِ اللّهِ َ
[النبياء]98 :
وما ذنب المعبود؟ ..إن الصنام ل ذنب لها ،بل كل منها يريد أن يشفي نفسه بأن يكون أداة
تعذيب لمن أعطوه غير حقه.
ولذلك نجد أن الحجار التي عُبدت تقول :عبدونا ونحن أعبد ل من القائمين بالسحار؛ لن القائم
في السحار من الغيار قد يختار أمرا غير هذا ،ولكنا كنا مقهورين على الطاعة ،وقد اتخذوا
صمتنا علينا دليلً.
إن الحجار تعلن أنها لم تكن تملك قدرة رفض أن يعبدها أحد أو أن تعبده عنها وتعلن له غباءه.
والشاعر يقول:قد تجنوا جهل كما قد تجنوا على ابن مريم والحواريللمغالي جزاؤه والمغالي فيه
تنجيه رحمة الغفاروهكذا يأتيهم الحق واضحا يوم القيامة.
إنهم سيطلبون العودة إلى الدنيا ،وهذا من الخيبة؛ لن مثل هذا الِقرار ليس من الِيمان ،فالِيمان
يكون بالغيب ل في المشهد .وحتى ولو عادوا ،فلن يؤمنوا!.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق هو القائل {:وََلوْ ُردّواْ َلعَادُواْ ِلمَا ُنهُواْ عَنْهُ[} ...النعام]28 :
وكأنهم نسوا لحظة إقرارهم أنهم من الغيار ،وأتى فيهم القول الفصل من ال...} .قَدْ خَسِرُواْ
ضلّ عَ ْن ُهمْ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ { [العراف]53 :
سهُ ْم َو َ
أَ ْنفُ َ
لقد جاء لهم الخسران بعد أن غاب عنهم ما كانوا يفترون على ال في الدنيا ،إنهم رفضوا عبادته-
سبحانه -وعبدوا غيره أصناما صارت وقودا للنار التي سيصلونها.
ويقول الحق بعد ذلك } :إِنّ رَ ّب ُكمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ{ ...
()996 /
هنا ربوبية ،وهنا ألوهية { :رَ ّب ُكمُ اللّهُ } ول أحد يختلف في مسألة الربوبية لن الحق يقول على
ت وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ[} ...الزمر:
سمَاوَا ِ
ألسنة الكافرين والمشركين {:وَلَئِن سَأَلْ َت ُهمْ مّنْ خََلقَ ال ّ
]38وكذلك إن سألتهم من خلقهم؟ سيقولون :ال ،ولم يدّع أحد نفسه مسألة الربوبية ،لن الربوبية
جاءت بنفع لهم ،لكن اللوهية دخلت بمنهج هو " :افعل ول تفعل "؛ لن التكليف من الله الرب،
والتكليف نعمة منه وهو لمصلحتكم أنتم ،فل شيء في التكليف يعود على ال .وفعلكم الحسن أو
السيء لن يعطي ل صفة لم تكن له؛ لن صفات الكمال أوجدكم .وإن كنتم أنتم في شك في هذه
الربوبية فربكم هو ال -ول المثل العلى -منزه عن التشبيه ،كأن تقول الم للولد :قال لك
أبوك ل تسهر خارج المنزل ليلً ،فيتأبى الولد .وتنبه الم ولدها :إن أباك هو الذي يأتي لك
بالكل والشرب ،والملبس ويعطيك مصروف اليد ..إلخ.
وقد ضربت هذا المثل لشرح كيف أن المكلف هو الرازق ول أحد سواه يرزق ،لذلك كان يجب
أن تقبل تكاليفه لن سبق لك بالفضل بأن أعطى لك وسخر لك الدنيا.
ومن قبل فصل الحق سبحانه خلق النسان ،ويفصل لنا هنا خلق السماء والرض لن ظرف
وجود النسان هو السماء والرض ،وكل الخيرات تأتي له من السماء ومن الرض ،وإذا كان ال
قد علمنا كيف خلقنا ،فهو هنا يعلمنا كيف خلق السموات والرض ،وخلق النسان وخلق السموات
والرض مسألتان ينشغل بهما العلم الحديث ،فمن العلماء من قال :إن الرض انفصلت عن
الشمس ،ومنهم من افترض نظريا أن النسان أصله قرد ،ولهؤلء نقول :هذا حكم منكم ل يقبل؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لنكم لم تشهدوا الخلق ،ولذلك فعليكم أن تسمعوا ممن خلق الخلق ليقول لكم كيف خلق الخلق.
ت وَالَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ُثمّ اسْ َتوَىا عَلَى
سمَاوَا ِ
هو سبحانه يقول { :إِنّ رَ ّبكُمُ اللّهُ الّذِي خََلقَ ال َ
سخّرَاتٍ بَِأمْ ِرهِ َألَ لَهُ ا ْلخَلْقُ
س وَا ْل َقمَرَ وَالنّجُومَ مُ َ
شمْ َ
ا ْلعَرْشِ ُيغْشِي الّ ْيلَ ال ّنهَارَ َيطْلُبُهُ حَثِيثا وَال ّ
وَالَمْرُ تَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [العراف]54 :
والية تتعرض للخلق الول وهو السموات والرض -كما أوضحت -وهو الظرف الوجودي
للنسان الخليفة وطرأ النسان على هذا الكون بكل ما فيه من قوى ونواميس ،فكأن ال أعد الكون
للخليفة قبل أن يُخلَق الخليفة ليجيء الخليفة فيجد كونا مسخرا له؛ ول يستطيع أي كائن منه أن
يخرج عن مراد ال في شيء { إِنّ رَ ّبكُمُ اللّهُ الّذِي خََلقَ }.
ومعنى " الخلق " أي أوجد شيئا كان معدوما وبرأه على غير مثال سبقه .فربنا سبحانه قدر كل
شيء بنظام غير مسبوق ،هذا هو معنى الخلق ،وكلمة " الخلق " مادتها الفاعلة هي :خالق،
وسبحانه وتعالى يجمعها مع أنه الخالق الوحيد فيقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مفردا؟ ..لماذا لم يقل :سبع أراضين؟؛ لن كلمة " أراضين " ثقيلة على اللسان فتركها لثقلها وأتى
بالسماوات مجموعة لخفتها ويسر نطقها.
والسماء هي كل ما علك فأظلك ،هذا معنى السماء في اللغة .لكن هل السماء التي يريدها ال هي
كل ما علك؟ ..إن النجم هو ما علك؛ وقد يقال :إن الشمس علتك ،والقمر علنا جميعا .ونلفت
النتباه هنا ونقول للناس الذين أحبوا أن يجعلوا السموات هي الكواكب إنها ليست دائما ما علنا؛
فالشمس تعلو وقتا وتنخفض وقتا آخر .وكذلك القمر.
إذن فالوصف منحسر عن الشمس أو القمر بعض الوقت ،ول يصح أن يوصف أي منهما بأنه
سماء دائما .وشيء آخر وهو أنهم حينما قالوا على الكواكب التي كانت معروفة بأنها كواكب
سبعة وقالوا :إن هذه السماء ،إنهم بقولهم هذا قد وقعوا في خطأ .وأوضح الحق لنا بالعلم أن
للشمس توابع أخرى .فمرة رأى العلماء ثمانية توابع ،ومرة تسعة ،وأخرى عشرة توابع ،وهكذا
انهدمت فكرة أن التوابع هي السماء ،وبقيت السماء هي ما فوق هذا كله ،والحق هو القائل:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله } :فِي سِتّةِ أَيّامٍ { هو ظرف للخلق .واليوم نعرف أنه المدة من طلوع الشمس إلى الغروب
ثم إلى الشروق ومدته أربع وعشرون ساعة .لكن لبد لنا أن نعرف بعضا من اصطلحات الحق
القرآنية.
ي وَأَيّاما آمِنِينَ }[سبأ]18 :
فهو يقول سبحانه وتعالى... {:سِيرُواْ فِيهَا لَيَاِل َ
أي هناك ليل وهناك يوم ،إذن فاليوم عند الحق غير اليوم عندنا؛ لننا نطلق على المدة الزمنية من
طلوع الشمس إلى غروبها وشروقها من جديد .هكذا يكون اليوم في العرف الفلكي :من شروق
ي وَأَيّاما آمِنِينَ {.
إلى شروق ،أو من غروب إلى غروب ،وقول الحق } :سِيرُواْ فِيهَا لَيَاِل َ
يعني أنه سبحانه قد جعل الليل قسما والنهار قسما ،وهل كان هناك من عرف اليوم إل بعد أن
وجدت الشمس؟ ..وإذا كانت الشمس هي التي تحدد اليوم فكيف عرف اليوم قبلها وخصوصا أن
السماء والرض حينما خلقتا لم تكن هناك شمس أو كواكب؟ ..وعلينا هنا أن نعرف أن هذا هو
تقديره سبحانه وقد خاطبنا به بعد أن عرفنا مدة اليوم .ألم تقرأ قول ال سبحانه... {:وََلهُمْ رِ ْز ُقهُمْ
فِيهَا ُبكْ َرةً وَعَشِيّا }[مريم]62 :
وليس في الخرة بكرة ول عشى ،إذن سبحانه قد قدر البكرة وقدر العشي ،وكذلك } فِي سِتّةِ أَيّامٍ
{ وتلك هي اليات المحكمات في القرآن بالنسبة لزمن الخلق؛ ستة أيام ،ولكن آية التفصيل للخلق،
جاءت في ظاهر المر أنها ثمانية أيام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العلى -بصانع الزبادي ،الذي يأتي بأكواب اللبن الدافئ ،ثم يضع في كل منها جزءا من خميرة
الزبادي ،ويضع تلك الكواب في الجو المناسب .فهل يؤدي هذا الرجل عملً لمدة أثنتي عشرة
ساعة في كل كوب ،وهي المدة اللزمة لتخمر الكوب؟ ..طبعا ل ،فقد اكتفى بأن في كل كوب
عناصر التخمر لتتفاعل بذاتها إلى أن تنضج.
ولنظر إلى خلق الجنين من تزاوج بويضة وحيوان منوي .ويأخذ المر تسعة شهور وسبحانه جل
جلله ل يعمل في خلق الجنين تسعة شهور ،لكنه يترك المر ليأخذ مراحل تفاعلته.
إذن فخلق ال السماوات والرض في ستة أيام ل يعني أن الستة أيام كلها كانت مشغولة بالخلق،
بل قال سبحانه " :كن " وبعد ذلك ترك مكونات السموات والرض لتأخذ قدرها ومراحلها؛ لن
ميلدها سيكون بعد ستة أيام .وفي القرآن آية من اليات أعطتنا لمحة عن هذه المسألة ،فقال
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا فِي سِتّةِ أَيّا ٍم َومَا مَسّنَا مِن ّلغُوبٍ }
سبحانه {:وََلقَدْ خََلقْنَا ال ّ
[ق]38 :
أي خلق سبحانه السموات والرض دون تعب؛ لنه ل يعالج مسألة الخلق ،بل إنما يحدث ذلك
بأمر " كن " فكانت السموات والرض .والية التي بعدها فورا تقول } :فَاصْبِرْ عَلَىا مَا َيقُولُونَ {
وكأن قوله سبحانه هنا جاء لتسلية الرسول صلى ال عليه وسلم موضحا له :إنهم يكذبونك وقد
ترغب في أن نأخذهم أخذ عزيز مقتدر .لكن الحق جعل لكل مسألة كتابا ،فهو قد خلق السماوات
والرض في ستة أيام .ونحن في حياتنا نقول لمن يتعجل أمرا :يا سيدي إن ربنا خلق السماء
والرض في ستة أيام .فل تتعجل المور.
إذن كان ربنا هو القادر على أن ينجز خلق السماء والرض في لحظة ،لكنه أمر " بكن " وترك
المواد تتفاعل لستة أيام .ولماذا ل نقول :جاء بكل ذلك ليعلمنا التأني ،وأل نتعجل الشياء؟ لنه
وهو القادر على إبراز السموات والرض في لحظة ،خلقها في ستة أيام ،لذلك قال سبحانه{:
فَاصْبِرْ عَلَىا مَا َيقُولُونَ[} ...ق]39 :
أي ل ترهق نفسك لنه سبحانه خلق السماء والرض في ستة أيام ،وسيأتي لهؤلء الجاحدين
يومهم الذي يؤاخذون فيه بسوء أعمالهم وسوف يأتي حتما.
وهناك من يتساءل :كيف خلق الكون بما فيه من الرواسي والكائنات؟ ..ونقول :إن النجاز الذي
أخبر به سبحانه مرة واحدة ،وانفعلت الكائنات للقدرة مرة واحدة ،وتعددت استدامة انفعالت
السامع بقدرة ال ،في كل جزيئة من جزئيات الفعل ،وأخذ المر ستة أيام .واستقر المر بعد ذلك
واستتب ،وسبحانه يقول } :ثُمّ اسْ َتوَىا عَلَى ا ْلعَرْشِ[ { ...العراف]54 :
عظِيمٌ }[النمل]23 :
ولبد أن نعرف العرش ما هو .وسبحانه يقول في ملكة سبأ... {:وََلهَا عَرْشٌ َ
فالعرش إذن هو سرير الملك؛ لن الملك ل يجلس على العرش إل بعد إن تستقر المور.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكأن قوله } :اسْ َتوَىا عَلَى ا ْلعَرْشِ { كناية عن تمام المور؛ وخلقها وانتهت المسألة .لكن العلماء
حين جاءوا في } اسْ َتوَىا { ،اختلفوا في فهمها؛ لن العرش لو كان كرسيا يجلس عليه ال ،لكان
في ذلك تحييز ل ووضعه وضمه في جرم ما .وسبحانه منزه عن أن يحيزه شيء .ولذلك أخذ
العلماء يتلمسون معاني لكلمة } اسْ َتوَىا { منهم من قال :إن معناها هو قصد إليها بخلقه
واختراعه ،ومنهم من قال :المقصود بها أنه استعلى وارتفع أمره ،ومنهم من قال " :صعد " أمره
سمَآ ِء وَ ِهيَ ُدخَانٌ[} ...فصلت]11 :
إلى السماء واستند إلى قوله الحق {:ثُمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ
وكلها معانٍ متقاربة .وجماعة من العلماء أرادوا أن يخرجوا من التشبيهات؛ فقالوا :المقصود بـ "
استوى " أنه استوى على الوجود ،ولذلك رأوا أن وجود العرش والجلوس عليه هو سمة لستقرار
الملك .وحتى ل ندخل في متاهات التشبيهات ،أو متاهات التعطيل نقول :علينا أن نأخذ كل شيء
شيْءٌ }[الشورى]11 :
منسوب إلى ال في إطار {:لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
فحين يقول سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عنها التشبيه .ثم إن من يمنعون التأويل نقول لكل منهم :أنت ستضطر أخيرا إلى أن تؤول؛ لن
جهَهُ[} ...القصص]88 :
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
الحق يقولُ {:كلّ َ
جهَهُ { فكل ما يطلق عليه شيء يهلك ،ويبقى وجهه سبحانه فقط ،فلو
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
ومادام } ُكلّ َ
أنت قلت الوجه هو هذا الوجه ،فكأن يده تهلك ورجله تهلك وصدره يهلك ،وحاشا ل أن يحدث
ذلك .وتكون قد دخلت في متاهة ما لها من آخر .لذلك نقول :لنأخذ النص وندخله في إطار } لَيْسَ
شيْءٌ { .وآية الستواء على العرش هذه ،مذكورة في سور كثيرة ،وهي تحديدا في " سبعة
َكمِثْلِهِ َ
مواضع "؛ في سورة العراف التي نحن بصددها ،وسورة يونس ،وسورة الرعد ،وسورة طه،
وسورة الفرقان ،وسورة السجدة ،وسورة الحديد.
وهنا يقول الحق بعد الحديث عن الستواء على العرشُ } :يغْشِي الّيلَ ال ّنهَارَ {.
ال -سبحانه -قد خلق السماء والرض للخليفة في الرض وهيأ له فيها أصول الحياة
الضرورية ودلّه على ما يحتاج إليه ،فماذا سيفعل هذا الخليفة؟.
.ل بد أن يقوم بكل مقومات الحياة ،وإذا ما عمل فسيبذل جهدا ،والجهد يقتضي راحة .ومن
يشتغل ساعة ل بد أن يرتاح ساعة .وإن اشتغل ساعتين ولم يسترح ساعة غُلب على نفسه.
ونحن نرى في اللة التي تعمل ثلث ورديات يوميا أي التي تعمل لمدة الربع والعشرين ساعة
دون توقف أنها تُستهلك أكثر من اللة التي تعمل ورديتين ،واللة التي تعمل وردية واحدة لمدة
ثماني ساعات يطول عمرها أكثر .وكل إنسان يحتاج إلى الراحة .فشاء الحق سبحانه وتعالى أن
ل وَال ّنهَارَ
ج َعلَ َلكُمُ الّ ْي َ
حمَتِهِ َ
يبين لنا أن الليل والنهار متعاقبان من أجل هذا الهدفَ {:ومِن رّ ْ
سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ[} ...القصص]73 :
لِتَ ْ
أي لتسكنوا في الليل ،وتبتغوا الفضل في النهار ،فإن كنت لم تسترح بالليل فلن تقدر أن تعمل
بالنهار ،فمن ضروريات حركة الخلفة في الرض أن يوجد وقت للراحة ووقت للعمل .لذلك
أوضح سبحانه لنا :أنا خلقت الليل والنهار ،وجعلت الليل سكنا إلى للراحة والبعد عن الحركة،
والحق يقول هناُ } :يغْشِي الّ ْيلَ ال ّنهَارَ[ { ...العراف]54 :
ويكون المعنى هنا أن النهار يغشي الليل ،ولذلك تحدثنا من قبل عن تتابع الليل والنهار لنستنبط
ج َعلَ الّ ْيلَ وَال ّنهَارَ خِ ْلفَةً ّلمَنْ أَرَادَ أَن يَ ّذكّرَ َأوْ أَرَادَ
منها الدليل على أن الرض كرة {.وَ ُهوَ الّذِي َ
شكُورا }[الفرقان]62 :
ُ
والليل يخلف النهار ،والنهار يخلف الليل ،وفي مصر نكون في نهار مثل ،ويكون هذا الوقت في
بلد آخر ليلً ،وإذا سلسلتها إلى أول ليل وإلى أول نهار ،وأيهما الذي كان خلفه للثاني؟ فلن تجد؛
لن كل الثنين خلقا معا .ولو كانت الرض مخلوقة على هيئة التسطيح وكانت الشمس قد خلقت
مواجهة لسطح الرض لكان النهار قد خلق أولً ثم يعقبه الليل ،ولو كانت الشمس قد خلقت غير
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مواجهة للسطح كان الليل سيأتي أولً ثم تطلع الشمس على السطح ليوجد النهار .والحق سبحانه
أراد من الليل والنهار أن يكون كلهما خلفة للخرة ،ول يمكن أن يكون ذلك إل إذا كان ال
سبحانه خلق الليل والنهار دفعة واحدة .كان لبد أن تكون الرض كرة؛ ليغشى النهار الجزء
المواجه للشمس ،وليغشى الليل الجزء غير المواجه للشمس ،وحين تدور الرض يأتي النهار خلفة
ج َعلَ الّ ْيلَ وَال ّنهَارَ خِ ْلفَةً ّلمَنْ أَرَادَ أَن َي ّذكّرَ َأوْ أَرَادَ
لليل ،ويكون الليل خلفه للنهار {.وَ ُهوَ الّذِي َ
شكُورا }[الفرقان]62 :
ُ
} ُيغْشِي الّ ْيلَ ال ّنهَارَ { ويغشى النهار الليل وحذفت للعتماد على اليات السابقة التي منها قوله
الحق سبحانه {:وَلَ الّ ْيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَارِ[} ...يس]40 :
أي أن الليل ل يسبق النهار وكذلك النهار ل يسبق الليل ،وهذا دليل على أنهما خُلقا دفعة واحدة.
لمْرُ.
ق وَا َ
خلْ ُ
سخّرَاتٍ بَِأمْ ِرهِ َألَ َلهُ الْ َ
س وَا ْل َقمَرَ وَالنّجُومَ مُ َ
شمْ َ
والحق يقول هنا } :وَال ّ
{ ..
فل أحد من هذه الكائنات له اختيار أن يعمل أو ل يعمل ،بل كلها مسخرة ،ولذلك تجد النواميس
الكونية التي ل دخل للنسان فيها ولختياراته دخل في أمورها تسير بنظام دقيق ،ففي الوقت
الفلني ستأتي الرض بين الشمس والقمر ،وفي الوقت الفلني سيقع القمر بين الرض والشمس،
وسيحدث للشمس خسوف ،وكل أمر من هذا له حساب دقيقُ } .ي ْغشِي الّ ْيلَ ال ّنهَارَ َيطْلُبُهُ حَثِيثا
لمْرُ[ { ...العراف]54 :
ق وَا َ
سخّرَاتٍ بَِأمْ ِرهِ َألَ َلهُ ا ْلخَلْ ُ
س وَا ْل َقمَرَ وَالنّجُومَ مُ َ
شمْ َ
وَال ّ
والخلق إيجاد الشياء من عدم ،فبعد ان خلق ال الكون لم يترك شؤون الكون لحد ،بل -سبحانه
-له المر بعد ذلك .وقيوميته؛ لنه لم يزاول سلطانه في ملكه ساعة الخلق ثم ترك النواميس
تعمل ،ل ،فبأمره يُعطل النواميس أحيانا ،ولذلك شاء الحق أن تكون معجزات النبياء لتعطيل
لمْرُ {.
ق وَا َ
النواميس؛ لنفهم أن الكون ل يسير بالطبع أو بالعلة .لذلك يقولَ } :ألَ َلهُ ا ْلخَلْ ُ
لمْرَ كُلّهُ للّهِ[} ...آل عمران]154 :
ناَ
وإذا نظرت إلى كلمة " المر " تجد الحق يقولُ {:قلْ إِ ّ
والمقصود هو المر الكوني ،أما المور الختيارية فلله فيها أمر يتمثل في المنهج ،وأنت لك فيها
لمْرُ تَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ
ق وَا َ
أمر إما أن تطيع وإما أن تعصي ،وأنت حرَ...} .ألَ لَهُ ا ْلخَلْ ُ
{ [العراف]54 :
حسَنُ ا ْلخَاِلقِينَ { ،فكل لفظ له معنى ،ففي
وحين يقول سبحانه } :تَبَا َركَ اللّهُ { وقال من قبل } :أَ ْ
خلقه من البشر مواهب تَخْلق ولكن من موجود وأوضحنا ذلك.
وفي قول آخر يصف الحق نفسه {:وَ ُهوَ أَسْ َرعُ ا ْلحَاسِبِينَ }[النعام]62 :
والناس تتعلم الحساب وخلقوا آلت حاسبة ،وهي آلت تتم " برمجتها " وإعدادها وتهيئتها للجمع
والطرح والضرب والقسمة ،وكل حدث من الحساب يأخذ مدة .لكن الحق يحسب لكل البشر دفعة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واحدة .لذلك فهو أسرع الحاسبين؛ لنه ليس هناك حساب واحد ،فأنت لك حساب مع ال ،والخر
له حساب مع ال ،والحساب مع ال متعدد بتعدد أفراد المحاسبين ،وحساب الحق للخلق ل يحتاج
إلى علج ،بل ينطبق عليها ما ينطبق على الرزق ،ولذلك حينما سئل عليّ كرم ال وجهه:
-أيحاسب ال خلقه في وقت واحد؟
قال :وما العجب في ذلك ألم يرزقهم في وقت واحد؟
حمِينَ
حسَنُ الْخَاِلقِينَ { ،و } أَ ْرحَمُ الرّا ِ
وانظر إلى القرآن تجد الحق } َأسْ َرعُ الْحَاسِبِينَ { و } أَ ْ
{ و } خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ { .وهذه هي اللفاظ التي وردت ،ول فيها مع خلقه صفة ،لكن صفة ال دائما
شيْءٌ { } .تَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ {.
في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
و } تَبَا َركَ اللّهُ { أي أنه -تعالى -تنزّه؛ لن هناك فرقا بين القدرة المطلقة -وهي قدرة ال -
والنفعال للقدرة المطلقة بالِرادة وبـ " كن " وهذا هو النفعال والنقياد وللِرادة والمر.
خفْيَةً{ ...
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك } :ادْعُواْ رَ ّبكُمْ َتضَرّعا وَ ُ
()997 /
والدعاء إنما يكون من عاجز يدعو أو قادرا على إنجاز وتحقيق ما عجز عنه أو يعينه عليه.
وعندما تشعر أنك عاجز فأنت ترتكن إلى من له مطلق القدرة؛ لن قدرتك محدودة .إذن فإن كنت
تطغى أو تتكبر فاعرف مكانتك ومنزلتك جيدا وتراجع عن ذلك لنك عرض زائل ،والدعاء هو
تضرع ،وذلة ،وخشوع ،وإقرار منك بأنك عاجز ،وتطلب من ربك المدد والعون .واستحضار
عجزك وقدرة ربك تمثل لك استدامة اليقين الِيماني .وما جعل ربنا للناس حاجات إل من أجل
ذلك؛ لن الِنسان إذا ما رأى الشياء تنفعل له ،ويبتكر ويخترع فقد يأخذه الغرور ،فيأتي له
بحاجة تعز وتعجز فيها السباب ،فيقف ليدعو .ومن كان متكبرا وعنده صلف وغطرسة يذهب
إلى رجل " غلبان " زاهد تجرد من الجاه والسلطان منقطع لعبادة ال ويقول له :أستحلفك برسول
ال أن تدعو لي لني في أزمة والذي يسأل الغلبان الزاهد هو رجل عزيز في قومه لكنه يظن أن
الغلبان الزاهد أقرب إلى ال منه.
إذن الدعاء هو الضراعة وإظهار الذلة والخشوع ل؛ لكي يستديم اليقين الِيماني { .ادْعُواْ رَ ّب ُكمْ
خفْيَةً[ } ...العراف]55 :
َتضَرّعا وَ ُ
وإياك أن تدعو وفي بالك أن تقضي حاجتك بالدعاء ،عليك بالدعاء فقط لقصد إظهار الضراعة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والذلة والخشوع ،ولنك لو لم تدع فستسير أمورك كما قُدر لها ،والدعاء هو إظهار للخشوع،
وإياك أن تفهم أنك تدعو ال ليحقق لك مطالبك؛ لنه سبحانه منزه أن يكون موظفا عندك ،وهناك
نظام وضعه سبحانه لتحقيق مطالب العباد .ومن الناس من يطلب بالدعاء أشياء ضارة {.وَيَ ْدعُ
ن الِنْسَانُ عَجُولً }[السراء]11 :
الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِا ْلخَيْ ِر َوكَا َ
والِنسان قد يتعلق قلبه بأماني قد تضره؛ لذلك نقول :ل تتعجل بالدعاء طلبا لمنيات قد تكون شرا
عليك ،والحق العليم ينظم لنا أمورنا ،وإياك أيضا أن تيأس حين ل تجاب دعوتك التي في بالك؛
لن ال يحقق الخير لعباده .ولو حقق لك بعضا مما تدعو فقد يأتي منها الشر ،ويترك ال
لقضيتك أمورا تبين لك هذا ،وتقول :إن الشيء الفلني الذي كنت أتمناه تحقق وجاء شرا عليّ.
مثال ذلك قد تحجز لطائرة لكنك ل تلحق بها فقد أقلعت قبل أن تصل إليها وحزنت لن بعضا من
مصالحك قد فاتك ولم يتحقق وتفاجأ بأن هذه الطائرة سقطت في البحر.
إذن ،اجعل حظك من الدعاء هو الخشوع والتذلل والضراعة له سبحانه ل إجابتك إلى ما تدعو
إليه ،إنك دعوت لتطلب الخير ،فدع الحق بقيوميته وعلمه يحقق لك الخير .واسمع قول ال{:
وَيَ ْدعُ الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِا ْلخَيْ ِر َوكَانَ الِنْسَانُ عَجُولً }[الِسراء]11 :
خفْيَةً } فسبحانه يطلب منا أن ندعوه لننا سنواجه
إذن فحين يقول الحق { :ادْعُواْ رَ ّبكُمْ َتضَرّعا وَ ُ
لحظات متعددة نعجز فيها عن أشياء ،فبدلً من أن تظل مقهورا بصفة العجز عن الشيء اذكر أن
لك ربا قويا مقتدرا ،وساعة تذكر ذلك لن تأخذك السباب من حظيرة الِيمان.
وقلنا من قبل :من له أب ل يحمل هما للحياة ،فإذا كان الذي له أب ل يحمل هما لمطلوبات الحياة
فمن له رب عليه أن يستحي ويعرف أن ربه سيوفر له الخير؛ لذلك يوضح سبحانه :إذا أعجزتكم
السباب فاذكروا أن لكم ربا .وقد طلب منكم أن تدعوه ،ول تظن أن حظك من الدعاء أن تجاب
إلى ما طلبت ،بل ليكن حظك من الدعاء إظهار التذلل والخشوع ل؛ فقد يكون ما حدث لك نتيجة
أنك قد اغتررت بنفسك .وقد سبق " قارون " إلى الغرور ،فماذا حدث له؟ ..لقد هزمه الحق وأنزل
به شر العقاب .وقد يجعل الحق من تأبّى السباب وامتناعها عليك مغزى لتلتفت إلى ال ،لكن
لفتتك ل ل يصح أن تكون بغرض أن يقضي حاجتك ،بل اجعل أساس لفتتك ل أن تظهر العجز
خفْيَةً...
أمامه والخضوع والخشوع؛ ليعيط ما لم يكن في بالك حين تدعو } .ادْعُواْ رَ ّب ُكمْ َتضَرّعا وَ ُ
{ [العراف]55 :
خفية لها معنى وهو أن يكون الدعاء دعاءً مستورا مختبئا ،ولها معنى آخر وهو أن تكون من
الخوف أي أدعو ربكم خوفا من متعلقات صفات الجلل كالجبار والقهار أو خوفا من أن يردها
ال عليك فل يقبلها منك.
ادعوا ربكم تضرعا بذلة وانكسار وخضوع خفية بينك وبين ربك ،فل تجهر بالدعاء وتجعله
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عملك الوحيد لن النبي صلى ال عليه وسلم علمنا حينما كان في غزوة غزاها فنزل أصحابه
واديا ،فلما نزلوا الوادي صاحوا بالتهليل والتكبير ،فقال " :أيها الناس اربعوا على أنفسكم ،إنكم
ليس تدعون أص ّم ول غائبا ،إنكم تدعون سميعا قريبا وهو معكم ".
والدعاء إلى ال خُفية يبتعد بك عن الرياء وهو أستر لك في مطلوباتك من ربك لنه حين يوضح
لك :ادعني في سرّك لنني سميع عليم؛ فاعلم كل ما ظهر منك وما بطن ،ادع بالخضوع
والخشوع والتذلل لتنكسر فيك شهوة الكبرياء ،وشهوة الغطرسة ،وشهوة الجبروت.
وإذا ما نظرت إلى هذا تجد أن كثيرا من العلماء يقولون:
-نعرف قوما يقرأون القرآن في محضرنا وما عرفنا لشفاههم حركة ،وعرفنا قوما يستنبطون
الحكام من كلم ال وما رأينا منهم انفعالً يصرفهم عنا.إذن فالمسألة تعبر عن شغل باطني
داخلي.
ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يبعدنا عن الرياء ويريد أن يستر علينا مطلوباتنا؛ لن الِنسان قد
خفْيَةً...
يطلب من ال سبحانه وتعالى ما يستحي أن يسمعه آخر } .ادْعُواْ رَ ّبكُمْ َتضَرّعا وَ ُ
{ [العراف]55 :
ولو نظرت إلى هذه الية لوجدت أن كثيرا من الناس يخالفونها مخالفات جماعية؛ في الليل مثلً
تجد من يصعدون على المآذن أو يصيحون في مكبرات الصوت التي أغنتهم عن صعود المآذن،
ويكون الواحد من هؤلء نائما طول النهار لن رفع الذان هو عمله ليس غير ،وبعد ذلك يظل
يصرخ ويستغيث ويقول " :أن هذه ابتهالت ".
بينما من الناس من هو نائم ليأخذ قسطه من الراحة ليؤدي عمله نهارا ،ول أحد يطلب من هذا
النائم إل أنه وإذا جاء الفجر يستيقظ ويؤدي الصلة .فلماذا نقلق الناس بهذا؟ إننا لبد أن ننبه
هؤلء الذين يظنون أنهم يذكرون الناس بدين ال ،إنهم بعملهم هذا ل يسلكون الطريق الصحيح؛
لننا ل يمكن أن نذكر الناس بال ونصنع مخالفة أو نؤذي أحدا؛ فسبحانه يقول } :ادْعُواْ رَ ّبكُمْ
خفْيَةً {.
َتضَرّعا وَ ُ
والتضرع والخُفية تقتضي أل أقلق الناس ،أو أن أعلن المور التي أريدها لنفسي خاصة بصوت
عال مثل من يأتي في ختام الصلة ويقول دعاءه بصوت عال وهو رافع يديه ،ولمثل هذا أقول:
إن ال سبحانه وتعالى جعل لنا القنوت لندعو فيه ،وترك كل مسلم أن يدعو بما ينفعل له .وأنت
حين تدعو في ختام الصلة قد يوجد مُصل مسبوق لحق الصلة بعد أن سبقه المام بركعة أو
باثنين أو بثلث ويريد أن يكمل صلته ،وأنت حين ترفع صوتك بالدعاء حين تختم صلتك إنما
تفسد عليه إتمام صلته .وتشغله بمنطوق من عندك وبكلم من عندك عن شيء واجب عليه .ومن
بفعل ذلك إنما يفعله عن حسن نية ،لكنه يسيء إلى عبادة آخر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فلبد أن ننتّبه إلى أن ال سبحانه وتعالى له مطلوبات ،هذه المطلوبات قد تخالفها النفس
ضلّ
عمَالً * الّذِينَ َ
لخْسَرِينَ أَ ْ
لغرض ترى أنه حسن ،لكن خذها في إطارُ {:قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِا َ
ن صُنْعا }[الكهف]401-103 :
حسَبُونَ أَ ّنهُمْ ُيحْسِنُو َ
سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ ُهمْ يَ ْ
َ
فلبد أن نتنبه إلى مثل هذه المسائل ،وعلينا أن نوفر الراحة لمن ينام ليقوم ويصلي الصبح ويذهب
إلى عمله؛ لذلك ل داعي أن يفتح إنسان " الميكروفون " ويعلو صوته بالدعاء ،ومن يفعل ذلك
يظن أنه يحرص على أمر مطلوب فيزعج النائم ،بل ويزعج من يصلي بالليل أو " يشوش " على
من يقرأ القرآن أو يستذكر بعضا من العلم .إن على من يفعل ذلك أن يترك كل إنسان لنفعالته،
وأن يكون ملك نفسه وملك اختياره.
خفِيّا * قَالَ َربّ إِنّي وَهَنَ
ويعطينا الحق سبحانه وتعالى صورا كهذه فيقول {:إِذْ نَادَىا رَبّهُ نِدَآءً َ
شقِيّا }[مريم]4-3 :
ظمُ مِنّي وَاشْ َت َعلَ الرّ ْأسُ شَيْبا وَلَمْ َأكُنْ بِدُعَآ ِئكَ َربّ َ
ا ْلعَ ْ
إذن كلمة " خفي " موجودة في القرآن ،ولبد أن نتنبه إلى الدعاء الخفي } .ادْعُواْ رَ ّبكُمْ َتضَرّعا
حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ { [العراف]55 :
خفْيَةً إِنّ ُه لَ ُي ِ
وَ ُ
إذن إن لم يكن تضرعا وخفية فهو اعتداء في الدعاء؛ لنك مكلف وال هو المُكلَف ،وهو يقول
لك :ادعوني تضرعا وخفية.
فإن فعلت غير هذا تكن معتديا ،وعلى كل هؤلء أن يفهموا أنهم معتدون فإما أن يكون العتداء
في أسلوب الطلب وإما ان يكون العتداء في المطلوب.
لن الحق حدد أسلوب الطلب فأوضح :ادعوني بخفاء ،فإن دعوت في غير الخفاء تكن معتديا
على منهج ال .وكذلك قد يكون العتداء في المطلوب فل يصح مثلً أن تقول :إنني أدعوك يا
رب أن تجعلني نبيا .إن ذلك ل يصح وربنا سبحانه وتعالى علمنا فيما سرده عن نوح .فقال{:
حكَمُ الْحَا ِكمِينَ * قَالَ يانُوحُ
ق وَأَنتَ َأ ْ
حّن وَعْ َدكَ الْ َ
وَنَادَى نُوحٌ رّبّهُ َفقَالَ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ َأهْلِي وَإِ ّ
ظكَ أَن َتكُونَ مِنَ
ع َملٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ إِنّي أَعِ ُ
إِنّهُ لَ ْيسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ
الْجَاهِلِينَ }[هود]46-45 :
وهنا نبه الحق نوحا إلى العتداء في المطلوب فقال الحق {:فَلَ َتسْئَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ} ...
[هود]46 :
ولذلك نجد نوحا يستغفر لنه سأل ودعا ال هذا الدعاء عن غير علم ،فلما عرف ذنبه استغفر ال
وقال {:قَالَ َربّ إِنّي أَعُوذُ ِبكَ أَنْ أَسْأََلكَ مَا لَيْسَ لِي ِبهِ عِلْمٌ[} ...هود]47 :
ك وَعَلَىا ُأمَمٍ ّممّن ّم َعكَ[} ...هود]48 :
وقال له الحق سبحانه {:اهْ ِبطْ بِسَلَمٍ مّنّا وَبَركَاتٍ عَلَ ْي َ
إذن فالذي ل يسمع منهج ال أو ل يطبقه في الدعاء يكون معتديا على الحق سبحانه وتعالى،
وسبحانه ل يحب المعتدين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حهَا{ ...
لِويقول الحق بعد ذلكَ } :ولَ ُتفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ َبعْدَ ِإصْ َ
()998 /
الرض هي مكان الخليفة وهو الِنسان ،وفيها السباب الصيلة لستبقاء الحياة والسماء والرض
والشمس والهواء كلٌ مسخر لك .ول تحتاج إلى تكليف فيه ،فل أنت تقول " :يا شمس أشرقي " أو
" يا هواء هب " فكل ذلك مسخر لك .وأنت مطالب أل تفسد فيما لك فيه اختيار؛ لنك ل تستطيع
أن تفسد قوانين الكون العليا ،ل تستطيع أن تغير مسار الشمس ول مسار القمر ول مسار الريح،
وأنت لن تستطيع إصلح ما ل يمكن أن تقترب من إفساده ،لن أمره ليس بيدك لنه ل اختيار لك
فيه .وإنما يأتي الِفساد من ملكات الختيار الموجودة فيك ،ولم يتركنا ال أحرارا فيها ،بل حددها
بمنهج يحمي حركة الحياة بـ " افعل " و " ل تفعل " ،فإذا كان سبحانه قد أنزل قرآنا ،والقرآن
فيه منهج يحمي اختيارك إذن فقد أعطاك عناصر الِصلح ولذلك يقول لكَ { :ولَ ُتفْسِدُواْ فِي
طمَعا[ } ...العراف]56 :
خوْفا وَ َ
حهَا وَادْعُوهُ َ
الَ ْرضِ َب ْعدَ ِإصْلَ ِ
وهنا يعود الحق مرة أخرى للحديث عن الدعاء ،فأولً جاء بالمر أن يكون الدعاء تضرعا
طمَعا }.
خوْفا وَ َ
وخفية ،وهنا يوضح الحق سبيلً ثانيا للدعاء { :وَادْعُوهُ َ
خوفا من صفات جبروته وقهره ،وطمعا في صفات غفرانه ورحمته؛ لن ل صفات جمال
وصفات جلل ،وادعوه خوفا من متعلقات صفات الجلل ،وطمعا في متعلقات صفات الجمال .أو
ح َمتَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ
طمَعا إِنّ َر ْ
خوْفا وَ َ
خوفا من أن تُرد وطمعا فيما أنت ترجو...{ .وَادْعُوهُ َ
حسِنِينَ } [العراف]56 :
ا ْلمُ ْ
إذن من الذي يحدد قرب الرحمة منه؟ إنه الِنسان فإذا أحسن قربت منه الرحمة والزمام في يد
الِنسان؛ لن ال ل يفتئت ول يستبد بأحد .فإن كنت تريد أن تقرب منك رحمة ال فعليك
حسِنِينَ }.
ح َمتَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ ا ْلمُ ْ
بالِحسان { .إِنّ َر ْ
ولذلك قلنا إن الحق سبحانه وتعالى يقول " :ل أمل حتى تملّوا "[ .من حديث قدسي]
وأنت تدخل بيوت ال تصلى في أي وقت ،وتقف في أي مكان لتؤدي الصلة ،إذن فاستحضارك
أمام ربك في يدك أنت ،وسبحانه حدد لك خمسة أوقات ،ولكن بقية الوقات كلها في يدك،
وتستطيع أن تقف بين يدي ال في أي لحظة .وسبحانه يقول " :ومن جاءني يمشي أتيته هرولة "
[من حديث قدسي] .وهو جل وعل يوضح لك :استرح أنت وسآتي لك أنا؛ لن الجري قد يتعبك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكني ل يعتريني تعب ول عي ول عجز .وكأن الحق ل يطلب من العبد إل أن يملك شعورا بأنه
يريد لقاء ربه .إذن فالمسألة كلها في يدك ،ويقول سبحانه " :من ذكرني في نفسه ذكرته في
نفسي ،ومن ذكرني في مل ذكرته في مل خير منه ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قارب .مثل رحيم وراحم .أي أن رحمة ال هي التي تُقرب من المحسنين ،والمر ليس كذلك ،فإن
الرحمة هي المقروبة ،والحسان هو الذي يقرب إليها فيكون فعيل هنا بمعنى مفعول الذي يستوي
فيه المذكر والمؤنث ،أن يكون جاءت كذلك على تأويل الرحمة بالرحم أو الترحم ،أو لنه صفة
لموصوف محذوف أي شيء قريب ،أو لن تأنيث الرحمة غير حقيقي ،أو أن الرحمة مصدر،
وحق المصدر التذكير.
سلُ{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وَ ُهوَ الّذِي يُ ْر ِ
()999 /
وتصريف الرياح إهاجة للهواء في الكون ،والهاجة للهواء في الكون تأتي منها فوائد كثيرة
للغاية ،ونحن حين نجلس في مكان مكتظ وممتلئ بالنفاس نقول لمن يجلس بجوار النافذة" :
لنهوي الغرفة قليلً .وإن لم يكف هواء النافذة تأت بمروحة لتأخذ من طبقات الجو طبقة هواء
جديدة فيها أوكسجين كثير .إذن فإرسال الرياح ضرورة حتى ل يظل الهواء راكدا .ويتلوث الجو
بهذا الركود ،ولو أن كل إنسان سيستقر في مكان مكتوم الهواء لمتل المكان بثاني أكسيد الكربون
الخارج من تنفسه ،ثم ل يلبث أن يختنق ،ولذلك أراد ال حركة الرياح رحمة عامة مستمرة في
كل شيء ،وهي أيضا رحمة تتعلق بالقوت كما تعلقت بمقومات الحياة من نفس وماء وطعام،
وتصريف الرياح من أجل تجديد الهواء الذي تتنفسة ،وكذلك تكوين الماء .لن سبحانه القائل عن
سقْنَاهُ لِبََلدٍ مّ ّيتٍ[ } ...العراف]57 :
سحَابا ِثقَالً ُ
الرياح { .حَتّىا ِإذَآ َأقَّلتْ َ
والرياح هي التي تساعد في تكوين المطار التي تنزل على الرض فتروي التربة التي نحرثها،
هكذا تكون الرياح بشرى في ثلثة أشياء :الشيء الول تحريك طبقات الهواء وإل لفسد الجو في
الماء ،لن الرياح هي التي تحمل السحاب وتحركه وتنزل به هناك فرقا بين بشرى ،وبشرا؛
فالبشرى مفرد ،وقد وردت في قوله الحق {:وََلقَدْ جَآ َءتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَى[} ...هود]69 :
أي التبشير .لكن بشرا جمع بشير وهي كلمة مخففة ،والصل فيها بشر.
والحق يقول { :فََلمّآ أَن جَآءَ الْبَشِيرُ }.
وجمع البشير " بُشُر " مثل " :نذير " و " ُنذُر " بضم الشين فسكنت تخفيفا ،فتنطق ُبشْرا وبُشُرا.
حمَتِهِ }.
{ ُبشْرا بَيْنَ يَ َديْ َر ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هي بين يدي رحمته لنها ستأتي لنا بالماء ،وهو الرحمة في ذاته ،وبواسطته يعطينا ري الرض،
ونحن نرتوي منه مباشرة أيضا .ونلحظ كلمة الرياح إذا أطلقت بالجمع فهي تأتي للخير ،أما حين
ح صَ ْرصَرٍ عَاتِ َيةٍ }[الحاقة]6 :
يكون فيها شر فيأتي بكلمة " ريح " مفردة ،مثل قوله... {:بِرِي ٍ
فإذن عندما ترى كلمة " رياح " فاعلم أنها خير ،أما كلمة " ريح " فاعلم أنها شر لماذا؟ أنت إذا
كنت قاعدا في حجرة فيها فتحة نافذة يأتي منها الهواء ،ويتسلط التيار على إنسان ،فالِنسان
يصاب بالتعب؛ لن الهواء يأتي من مكان واحد ،لكن حين تجلس في الخلء ويهب الهواء فأنت ل
تتعبَ ،لن الرياح متعددة .ولكن الرياح تأتي كالصاروخ.
الرياح إذن يرسلها الحق بين يدي رحمته؛ حتى إذا أقلت أي حملت يقال " :أقل فلن الحمل " أي
رفعه من على الرض وحمله لنه أقل من طاقته ،لنه لو كان أكثر من طاقته لما استطاع أن
يرفعه عن الرض ،وما دام قد أقله فالحمل أقل بالنسبة لطاقته وبالنسبة لجهده ،أقلت أي حملت،
وما دامت قد حملت فجهدها فوق ما حملته ،وإذا كان الجهد أقل من الذي حملته لبد أن ينزل إلى
الرض.
وأقلت سحابا أي حملت سحابا .نعرف أن السحاب هو البخرة الطالعة والصاعدة من الرض ثم
تتجمع وتصعد إلى طبقات الجو العليا ،وتضربها الرياح إلى أن تصادف منطقة باردة فيحدث
تكثيف للسحاب؛ فينزل المطر؛ ونرى ذلك في الماء المقطر الذي يصنعونه في الصيدلية؛ فيأتي
الصيدلي بموقد وفوقه إناء فيه ماء ويغلي الماء فيخرج البخار ليسير في النابيب التي تمر في
سقْنَاهُ لِبََلدٍ مّ ّيتٍ {.
سحَابا ِثقَالً ُ
تيار بارد فيتكثف البخار ليصير ماء } .حَتّىا ِإذَآ َأقَّلتْ َ
وقال الحق " :سقناه " بضمير المذكر؛ لنه نظر إلى السحاب في اسم جنسه ،أو نظر إلى لفظه،
وجاء بالوصف مجموعا فقال " :ثقال " نظرا إلى أن السحاب جمع سحابة فرق بينه وبين واحدة
بالتاء ،وما دامت السحب كلها داخلة في السّوق فليس لها تعددات فكأنها شيء واحد } .حَتّىا إِذَآ
سقْنَاهُ لِبَلَدٍ مّ ّيتٍ { [العراف]57 :
َأقَّلتْ سَحَابا ِثقَالً ُ
السحاب ل يتجه إلى مكان واحد ،بل يتجه لماكن متعددة ،إذن فالحق يوجه السحاب الثقال لكثر
سقْنَاهُ لِبََلدٍ مّ ّيتٍ {.
من مكان .لكن الحق سبحانه وتعالى يقولُ } :
والميت هو الذي ل حراك فيه وانتهى اختياره في الحركة ،كذلك الرض ،فالماء ينزل من السماء
على الرض وهي هامدة ليس بها حركة حياة أي أن ال يرسل السحاب ويزجيه إلى البلد الميت
ت وَرَ َبتْ وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ }
في أي مكان من الرض... {.فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّز ْ
[الحج]5 :
سقْنَاهُ لِبَلَدٍ مّ ّيتٍ
إذن فالرض التي ل يأتيها الماء تظل هامدة أي ليس بها حركة حياة مثل الميتُ } .
فَأَنْزَلْنَا بِهِ ا ْلمَآءَ فَأَخْ َرجْنَا بِهِ مِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ[ { ...العراف]57 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يلفتنا وينبهنا إلى القضية اليويمية التي نراها دائما في صور شتى،
وهي أن الرض تكون في بعض الحيان جدبا ،ثم يهبط عليها بعض المطر ،وبمجرد أن ينزل
المطر على الجبل ،وبعد يومين من نزول المطر نجد الجبل في اليوم الثالث وهو مخضر ،فمن
الذي بذر البذرة للنبات هذا اليوم؟ إذن فالنبات كان ينتظر هذه المياه ،وبمجرد أن تنزل المياه
يخرج النبات دون أن يبذر أحد بذورا ،وهذا دليل على أن كل منطقة في الرض فيها مقومات
الحياة...} .فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ كَذاِلكَ ُنخْرِجُ الْموْتَىا َلعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ { [العراف]57 :
فالماء الذي ينزل على الرض الميتة يحيي الرض؛ لنه سبحانه يخرج الحياة كل يوم ،وحين
يوضح لنا سبحانه أن سيبعثنا من جديد فليس في هذا أمر عجيب ،وهكذا جعل ال القضية الكونية
مرئية وواضحة لكل واحد ول يستطيع أحد أن يكابر ويعاند فيها؛ لنها أمر حسيّ مشاهد ،ومنها
نستنبط صدق القضية وصدق الرب.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَالْبَلَدُ الطّ ّيبُ َيخْرُجُ{ ...
()1000 /
وَالْبَلَدُ الطّ ّيبُ يَخْرُجُ نَبَاُتهُ بِإِذْنِ رَبّ ِه وَالّذِي خَ ُبثَ لَا يَخْرُجُ إِلّا َنكِدًا َكذَِلكَ ُنصَرّفُ الْآَيَاتِ ِل َقوْمٍ
شكُرُونَ ()58
يَ ْ
إذن الية السابقة عالجت قضية البعث بضرب المثل بالية الكونية الموجودة؛ فالرياح التي تحمل
السحاب ،والسحاب يساق إلى بلد ميت وينزل منه الماء فيخرج به الزرع .والرض كانت ميتة
ويحييها ال بالمطر وهكذا الِخراج بالبعث وهذه قضية دينية ،ويأتي في هذه الية بقضية دينية
ث لَ يَخْرُجُ ِإلّ َنكِدا }.
أيضا { :وَالْبََلدُ الطّ ّيبُ َيخْرُجُ نَبَاتُهُ بِِإذْنِ رَبّ ِه وَالّذِي خَ ُب َ
والبلد الطيب هو البلد الخصب الذي ل يحتاج إل لى المياه فيخرج منه الزرع ،أما الذي خبث،
فمهما نزل عليه الماء فلن يخرج نباته إلّ بعد عناء ومشقة وهو مع ذلك قليل وعديم النفع .وهنا
يخدم الحق قضية دينية مثلما خدم القضية الدينية في البعث أولً .وقال النبي صلى ال عليه وسلم:
" مثل ما بعثني ال به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة؛ قبلت
الماء وأنبتت الكل والعشب الكثير ،وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع ال بها الناس ،فشربوا
منها وسقوا وزرعوا ،وأصاب طائفة أخرى منها ،إنما هي قيعان ل تمسك ماء ول تنبت كل،
فذلك مثل فقه في دين ال تعالى ،ونفعه ما بعثني ال به ،فعلم وعلّم ،ومثل من لم يرفع بذلك رأسا
ولم يقبل هدي ال الذي أرسلت به ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن فالمنهج ينزل إلى الناس وهم ثلثة أقسام؛ قسم يسمع فينفع نفسه وينقل ما عنده إلى الغير
فينفع غيره مثل الرض الخصبة شربت الماء وقبلته ،وأنبتت الزرع ،وقسم يحملون المنهج
ويبلغونه للناس ول يعملون به وينطبق عليهم قوله الحق... {:لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف:
]2
صحيح سينتفع الناس من المنهج ،ولذلك قال الشاعر:خذ بعلمي ول تركن إلى عملي واجن الثمار
وخل العود للنارويقول صلى ال عليه وسلم " :من ستر مسلما ستره ال في الدنيا والخرة ".
فستر المؤمن على المؤمن مطلوب وستر المؤمن على العالم آكد وأشدّ طلبا؛ لن العالم غير
معصوم وله فلتات ،وساعة ترى زلته وسقطته ل تُذِعْها لن الناس سينتفعون بعلمه .فل تشككهم
فيه ،والقسم الثالث هو من ل يشرب الماء ول يسقيه لغيره أي الذي ل ينتفع هو ،ول ينفع غيره.
ث لَ يَخْرُجُ ِإلّ َنكِدا كَذاِلكَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ ِل َقوْمٍ
{ وَالْبََلدُ الطّ ّيبُ َيخْرُجُ نَبَاتُهُ بِِإذْنِ رَبّهِ وَالّذِي خَ ُب َ
شكُرُونَ } [العراف]58 :
يَ ْ
إذن منهج ال مثله مثل المطر تماما؛ فالمطر ينزل على الرض ليرويها وتخرج النبات وهناك
أرض أخرى ل تنتفع منه ولكنها تمسكه فينتفع غيره ،وهناك من ل ينتفع ول ينفع ،فكذلك العلم
ث لَ يَخْرُجُ ِإلّ َنكِدا كَذاِلكَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ }.
الذي ينزله ال على لسان رسوله { .وَالّذِي خَ ُب َ
قلنا من قبل :إن اليات تطلق على معانٍ ثلثة :اليات الكونية التي نراها واقعة في الكون مثل
س وَا ْل َقمَرُ[} ...فصلت]37 :
شمْ ُ
ل وَال ّنهَا ُر وَال ّ
قوله الحقَ {:ومِنْ آيَاتِهِ الّ ْي ُ
وآيات هي آيات القرآن ،واليات التي تكون هي المعجزات للنبياء { .كَذاِلكَ ُنصَ ّرفُ اليَاتِ }
[العراف]58 :
اليات هنا في الكونية كالماء الذي ينزل ،إنه مثل المنهج ،من أخذ به فاز ونجا ،ومن تركه
سلْنَا نُوحا إِلَىا
وغوى وكل آيات ال تقتضي أن نشكر ال عليها ويقول الحق بعد ذلكَ { :لقَدْ أَرْ َ
َق ْومِهِ َفقَالَ} ...
()1001 /
عذَابَ َيوْمٍ
َلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ َفقَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ إِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َ
عَظِيمٍ ()59
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الطائعين وعن العاصين في الدنيا ،وتكلم عن مواقف الخرة
الجزائية في أصحاب الجنة ،وأصحاب النار والعراف أراد أن يبين بعد ذلك أن كل دعوة من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دعوات ال سبحانه أهل الرض لبد أن تلقي عنتا وتضييقا ،وتلقى إعراضا ،وتلقى إيذاء ،إنه -
سبحانه -يريد أن يعطي المناعة لرسوله صلى ال عليه وسلم ،فيوضح له :لست أنت بادعا من
الرسل؛ لن كل رسول جاء إلى قومه قوبل بالضطهاد ،وقوبل بالتكذيب ،وقوبل بالنكرات ،وقوبل
باليذاء ،وإذا كان كان كل رسول قد أخذ من هذا على قدر مهمته الرسالية زمانا محدوأ ،ومكانا
محصورا فأنت يا رسول ال أخذت الدنيا كلها زمانا ومكانا ،فل بد أن تكون مواجها لمصاعب
تناسب مهمتك ورسالتك؛ فأنت في قمة الرسل ،وستكون اليذاءات التي تنالك وتصيبك قمة في
اليذاء ،فلست بدعا من الرسل ،فوطّن نفسك على ذلك .وحين توطن نفسك على ذلك ستلقى كل
إيذاء وكل اضطهاد بصبر واحتمال في ال ،وقص الحق قصص الرسل على رسول ال ،وعبر
سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ} ...
ال بالهدف من قص القصص بقولَ {:وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
[هود]120 :
فكأنا القصص تثبيت لفؤاده صلى ال عليه وسلم ،فكلما أهاجه نكران ،أو كلما أهاجه جحود ،قص
عليه الحق -سبحانه -قصة رسول قوبل بالنكران وقوبل بالجحود ليثبت به فؤاده صلى ال عليه
وسلم وفؤاد أتباعه لعلهم يعرفون كل شيء ويوطنون أنفسهم على هذا العنت؛ فلم يقل الحق لتباع
محمد :إنكم مقبلون على أمر والرض مفروشة لكم بالورود ،ل .إنما هي متاعب لتجابهوا شر
الشيطان في الرض .والقصص له أكثر من هدى يثبت به فؤاد الرسول صلى ال عليه وسلم
ويبين له أنه ليس بدعا من الرسل ،ويقوي نفوس أتباعه ،لنهم حينما يرون أن أهل الحق مع
النبياء انتصروا ،وهزم الجميع ووليّ الدبر ،وأنهم منصورون دائما فهذا يقوي يقين المؤمنين،
سمُهُ عَلَى
ويكسر من جهة أخرى نفوس الكافرين مثلما قال الحق عن واحد من أكابر قريش { .سَنَ ِ
الْخُ ْرطُومِ }.
قال الحق لهم ذلك عن واحد من أكابر قريش وهم ل يقدرون حينئذ أن يدافعوا أو يذودوا عن
أنفسهم ،وذهبوا وهاجروا إلى الحبشة حماية لنفسهم من بطش هؤلء الكابر ،وكل مؤمن يبحث
س ُمهُ عَلَى الْخُ ْرطُومِ } ،
له عمن يحميه ،وينزل قوله الحق بعد ذلك في الوليد بن المغيرة { سَنَ ِ
والوليد بن المغيرة سيد قومه ،ويأتي يوم بدر فيوجد أنفه وقد ضرب وخطم ويتحقق قول ال{:
س ُمهُ عَلَى الْخُ ْرطُومِ }[القلم]16 :
سَنَ ِ
فمن -إذن -يحدد ضربة قتال بسيف في يد مقاتل قبل أن يبدأ القتال؟ لقد حددها العلم بما يكون
عليه المر.
وأيضا فقصص الرسل إنما جيء بها ليثبت للمعاصرين له أنه تلقى القرآن من ال؛ لنه رسول
أميّ؛ المة أمية ،ولم يدّع أحد من خصومه أنه جلس إلى معلم ،أو قرأ كتابا ،فمن أين جاءته هذه
الخبار إذن؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واسمع قول الحق سبحانه وتعالى في اليات التي يأتي فيها " :ما كنت " مثل قوله الحقَ {:ومَا
لمْرَ[} ...القصص]44 :
كُنتَ ِبجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
خطّهُ بِ َيمِي ِنكَ إِذا لّرْتَابَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }
ومثل قوله الحقَ {:ومَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبِْلهِ مِن كِتَابٍ َولَ تَ ُ
[العنكبوت]48 :
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َيكْ ُفلُ مَرْيَمَ[} ...آل عمران]44 :
ومثل قولهَ {:ومَا كُنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ ُي ْلقُون َأقْ َ
فمن أين جاءت هذه الخبار إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وهم يعلمون أنه لم يجلس إلى
معلم ولم يقرأ كتابا؟ لقد جاءت كلها من الحق سبحانه وتعالى ،وهذا دليل آخر على صدق رسالته.
وقصة سيدنا نوح من القصص التي وردت كثيرا في القرآن الكريم مثل قصة موسى عليه السلم،
ومن العجيب أن لقطات القصة تنتشر في بعض السور ،لكن السورة التي سميت بسورة نوح ليس
فيها من المواقف التي تعتبر من عيون القصة ،إنها تعالج لقطات أخرى؛ تعالج إلحاحه في دعوة
قومه ،وأنه ما قصّر في دعوتهم ليلً ونهارا ،وسرّا وعلنية ،كلما دعاهم ابتعدوا ،ولم تأت قصة
المركب في سورة نوح ،ول قصة الطوفان ،وهذه لقطات من عيون القصة ،وكذلك لم تأت فيها
قصته مع ابنه ،بل جاء بها في سورة هود.
إذن كل لقطة جاءت لوضع مقصود ،ولهذا رأينا قصة نوح في سورة " نوح " وقد خلت من
عناصر مهمة في القصة ،وجاءت هذه العناصر في سورة " هود " أو في سورة " العراف " التي
نتناولها الن بالخواطر الِيمانية.
إذن ،كل قصة من القصص القرآني تجدها قد جاءت تخدم فكرة ،ومجموعها يعطي كل القصة؛
لن الحق حين يورد القصص فهو يأتي بلقطة في سورة لتخدم موقفا ،ولقطة أخرى تخدم موقفا
آخر وهكذا .وحين شاء أن يرسل لنا قصة محبوكة تماما ،جاء بقصة " يوسف " في سورة يوسف
ولم يكررها في القرآن ،لنها مستوفية في سورة يوسف ،اللهم إل في آية واحدة {:وَلَقَدْ جَآ َءكُـمْ
شكّ ّممّا جَآ َءكُـمْ بِهِ حَتّىا إِذَا هََلكَ قُلْتُمْ لَن يَ ْب َعثَ اللّهُ مِن
سفُ مِن قَ ْبلُ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا زِلْ ُتمْ فِي َ
يُو ُ
َبعْ ِدهِ رَسُولً[} ...غافر]34 :
لقد وردت في سورة يوسف حياة يوسف منذ أن كان طفل حتى أصبح عزيز مصر ،وهكذا نرى
أن الحق حين يشاء أن يأتي بالقصة كتاريخ يأتي بها محبوكة ،وحين يريد أن يلفتنا إلى أمور فيها
مواقف وعظات ،يوزع لقطات القصة على مواقع متعددة تتناسب وتتوافق مع تلك المواقع لتأكيد
وخدمة هدفَ } .لقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحا إِلَىا َق ْومِهِ َفقَالَ يَا َقوْمِ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والقوم هم الرجال خاصة من المعشر؛ لن القوم عادة هم المواجهون للرسالة ،والمرأة محتجبة؛
تسمع من أبيها أو من أخيها أو من زوجها ،ولذلك قالت النساء للنبي :غلبنا عليك الرجال.
أي أننا ل نجد وسيلة لنقعد معك ونسألك ،فاجعل لنا يوما من أيامك تعظنا فيه ،فجعل لهن يوما؛
لن المفروض أن تكون المرأة في ستر ،وبعد ذلك ينقل لها الزوج المنهج .إن سمع من الرسول
شيئا ،وكذلك الب يقول لبنته ،والخ يقول لخته.
فإذا تكلم الرسول يقال :إن الرسول واجه القوم ،من قولهم هو قائم على كذا .وقيم على كذا .ولذلك
الشاعر العربي يقول:وما أدرى ولست أخال أدري أقوم آل حصن أم نساءوجاء هنا بالقوم،
عسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ نِسَآءٌ
سخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ َ
والمراد بهم الرجال ،والقرآن يقول {:لَ يَ ْ
مّن نّسَآءٍ عَسَىا أَن َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ[} ...الحجرات]11 :
إذن النساء ل تدخل في القوم؛ فالقوم هم المواجهون للرسول ومنهم تأتي المتاعب والتصلب في
الرأي ،ويكون الِنكار والجحود والحرب منهم.
وسيدنا نوح عليه السلم دعا قومه ونبههم إلى ثلثة أشياء :عبادة ال ،فقال } :يَا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ
{ ،وبين لهم أنه ليس هناك إله سواه فقال } :مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ { ،وأظهر لهم حرصه
عظِيمٍ {.
وإشفاقه عليهم إذا خالفوا وعصوا فقال } :إِنّي أَخَافُ عَلَ ْي ُكمْ عَذَابَ َيوْمٍ َ
وهكذا تكلم عن العقيدة في الِله الواحد المستحق للعبادة ،وليس آلهة متعددة ،ونعبده أي نطيع أمره
ونهيه ،ولنهم إن لم يفعلوا ذلك فهو يخاف عليهم من عذاب يوم عظيم ،وهو عذاب يوم القيامة.
أو أنّ ال كان قد أوحى له بأنه سيأخذهم أخذ عزيز مقتدر ،وعذاب يوم عظيم أي يوم الِغراق ،و
" الخوف " مسألة تتعب تفكير من يستقبلها ويخاف أن يلقاها .فمن الذي يفزع بهذا؟
إن الذي يفزع هم الطغاة والجبابرة والسادة والعيان ووجوه القوم ،وكانوا قد جعلوا من أنفسهم
سادة ،أما سائر الناس وعامتهم فهم العبيد والمستضعفون .والذي يهاج بهذه الدعوة هم السادة لنه
ليس هناك إل إله واحد ،والمر لواحد والنهي لواحد والعبادة والخضوع لواحد ،ومن هنا فسوف
تذهب عنهم سلطتهم الزمنية ،لذلك يوضح الحق لنا موقف هؤلء من الدعوة حين يقول } :قَالَ
ا ْلمَلُ مِن َق ْومِهِ{ ...
()1002 /
قَالَ ا ْلمَلَأُ مِنْ َق ْومِهِ إِنّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ()60
والمل هم سادة القوم وأعيانهم وأشرافهم ،أو الذين " يملون " العين هيئة ويملون القلوب هيبة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويملون صدور المجالس بنية.
إنهم خائفون أن تكون دعوة نوح هي الدعوة إلى الطريق المستقيم وكلمه هو الهداية؛ فيمنّوا
للٍ مّبِينٍ }.
أنفسهم بأن هذا ضلل وخروج عن المنهج الحق { :إِنّا لَنَرَاكَ فِي ضَ َ
أي غيبة عن الحق ،أو في تيه عن الحق ،و " مبين " أي محيط بصورة ل يمكن النفاذ منها.
ويرد نوح عليه السلم { :قَالَ يَا َقوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَلَةٌ} ...
()1003 /
قَالَ يَا َقوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَ ٌة وََلكِنّي رَسُولٌ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ()61
هم قالوا له { :إِنّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَلٍ مّبِينٍ } ،المتبادر أن يكون الرد :ليس في أمري ضلل ،لكنه
قال هنا { :لَ ْيسَ بِي ضَلَلَةٌ } ،أقول ذلك لنعرف أن كل حرف في القرآن موزون لموضعه .هم
قالوا له :إنا لنراك في " ضلل ،فيرد عليهم ليس بي ضللة؛ لن الضلل جنس يشمل الضللت
الكثيرة ،وقوله يؤكد أنه ليس عنده ضللة واحدة .وعادة نفي القل يلزم منه نفي الكثر ،مثلً
عندما يقول صديق :عندك تمر من المدينة المنورة؟ تقول له :ليس عندي ول تمرة واحدة .أنت
بذلك نفيت القل ،وهذا أيضا نفي للكثر { .قَالَ يَا َقوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَلَةٌ }.
وحين ينفي نوح عن نفسه وجود أدنى ضللة فذلك لنه يعرف أنه لم يأت من عنده بذلك ،ولو
كان المر كذلك لتّهم نفسه بأن هواه قد غلبه ،لكنه مرسل من عند إله حق...{ .وََلكِنّي رَسُولٌ مّن
ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [العراف]61 :
وقوله " :ولكني " استدراك فل تقولوا :أنا في ضلل؛ فليس فيّ ضللة واحدة ،لكن أنا رسول يبلغ
عن ال ،ال ل يعطي غير الهدى.
{ َرسُولٌ مّن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ } أي من سيد العالمين ومن متولى تربية العالمين ،ومن يتولى التربية
ل يُنزل منهجا يضل به من يربيهم ،بل ينزل منهجا ليصلح من يربيهم ،وسبحانه قبل أن يأتي بهم
إلى الوجود سخر لهم كل هذا الكون ،وأمدهم بالرزاق حتى الكافرين منهم ،ومن يعمل كل ذلك
لن يرسل لهم من يضلهم.
ويستمر البلغ من نوح عليه السلم لقومه فيقول { :أُبَّل ُغكُمْ ِرسَالَتِ رَبّي وَأَنصَحُ} ...
()1004 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أُبَّل ُغكُمْ رِسَالَاتِ رَبّي وَأَ ْنصَحُ َلكُ ْم وَأَعَْلمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ ()62
والبلغ هو إنهاء المر إلى صاحبه؛ فيقال :بلغت المكان الفلني ..أي انتهيت إليه .و " البلغة "
هي النهاية في أداء العبارة الجميلة ،و " أبلغكم " أي أنهي إليكم ما حملنيه الحق من منهج هداية
لتِ رَبّي }.
لحركة حياتكم { .أُبَّل ُغكُمْ ِرسَا َ
لتِ رَبّي } لن أي رسول يأتي بالمنهج
وكان يكفي أن يقول " :رسالة ربي " إل أنّه قال { :رِسَا َ
الثابت كما جاءت به الرسالت السابقة حتى ل يقول أحد :إنه جاء ليناقض ما جاء به الرسل
السابقون ،فما قاله به أي رسول سابق يقوله ،ونعلم أنه كانت هناك صحف لشيت ولِدريس .فقال:
إنه يبلغ رسالته المتضمنة للرسالت السابقة سواء رسالة إدريس وهو اخنوخ ،وكذلك شيت وغيره
من الرسل.
أي أبلغكم كل ما جعله ال منهجا لهل الرض من المور المستقيمة الثابتة ،مثلما قال سبحانه{:
شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا ِبهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ[} ...الشورى]13 :
لتِ رَبّي } ،لنه
وهو المور المستقرة الثابتة ،العقدية ،والحكام التي ل تتغير .أو { رِسَا َ
كرسول يتلقى كل يوم قسطا من الرسالة؛ فاليوم جاءت له رسالة يبلغها ،وغدا تأتي له رسالة
يبلغها ،ولو قال " :الرسالة " لكان عليه أن ينتظر حتى تكتمل البلغات من ال له ثم يقولها ،لكنْ
نوح كان يبلغ كل رسالة تأتيه في وقت إبلغه بها؛ لذلك فهي " رسالت " .أو لن موضوع
الرسالت أمر متشعب تشعبا يماثل ما تحتاج إليه الحياة من مصالح؛ فهناك رسالة للوامر،
ورسالة للنواهي ،ورسالة للوعظ ،ورسالة للزجر ،ورسالة للتبشير ،ورسالة للِنذار ،ورسالة
للقصص ،وهكذا تكون رسالت.
أو أن كل نجم -أي جزء من القرآن وقسط منه -يعتبر رسالة ،فما يرسله ال في يوم هو رسالة
للنبي ،وغدا له رسالة أخرى وهكذا.
وقوله { :وَأَنصَحُ َلكُمْ } لن البلغ يقتضي أن يقول لهم منهج ال ،ثم يدعو القوم لتباع هذا المنهج
بان يرقق قلوبهم ويخاطبهم بالسلوب الهادئ وينصحهم ،والنصح أمر خارج عن بلغ الرسالة.
ولنلتفت إلى فهم العبارة القرآنية { .وَأَنصَحُ َلكُمْ }.
والنصح أن توضح للِنسان المصلحة في العمل ،وتجرد نيتك مما يشوهه .وهل أنت تنصح آخر
بأن يعود نفعه عليك؟ إنك إن فعلت ذلك تكون النصيحة متهمة ،وإن نصحته بأمر يعود عليه
وعليك فهذه نصيحة لك وله ،ولكن حينما تقول " :نصحت لك " أي أن النصيحة ليس فيها مسألة
خاصة بك ،بل كل ما فيها لصالح من تبلغه فقط ،وبذلك يتضح الفارق بين " نصحته " و "
نصحت لك " { .وَأَنصَحُ َلكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ } [العراف]62 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكأن سيدنا نوحا يخاطب قومه :إياكم أن تظنوا أن ما أقوله لكم الن هو كل العلم من ال ،ول كل
علم ال ،ول كل ما علمني ال ،بل أنا عندي مسائل أخرى سوف أقولها لكم إن اتقيتم ال وامتلكتم
الستعداد الِيماني ،وهنا سأعطيكم منها جرعات.
أو قوله } :وَأَعَْلمُ مِنَ اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ { يعني أنه سيحدث لكم أمر في الدنيا لم يحصل للمم
السابقة عليكم وهو أن من يُكذب الرسول يأخذه ال بذنبه .وتلك التجربة لم تحدث مع قوم شيت أو
ح ُة َومِ ْنهُمْ مّنْ
خذَتْهُ الصّيْ َ
خذْنَا بِذَن ِبهِ َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِنْهُمْ مّنْ أَ َ
إِدريسَ {.فكُلّ أَ َ
سفْنَا ِب ِه الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا[} ...العنكبوت]40 :
خََ
ولم يحدث مثل هذا العقاب من قبل نوح ،وقد بين لهم نوح :أنا أعلم أن ربنا قد دبر لكم أن من
ُيكّ ّذبَ سيأخذه أخذ عزيز مقتدر.
أو } وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ { ،أي أن ال أعلمني ل على قدر ما قلت لكم من الخير ،لكنه
سبحانه قد علمني أن لكل إخبار بالخير ميلدا وميعادا.
عجِبْتُمْ أَن جَآ َءكُمْ ِذكْرٌ مّن رّ ّبكُمْ{ ...
ويقول سبحانه بعد ذلكَ } :أوَ َ
()1005 /
حمُونَ ()63
جلٍ مِ ْنكُمْ لِيُ ْنذِ َركُ ْم وَلِتَ ّتقُوا وََلعَّلكُمْ تُ ْر َ
َأوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَا َءكُمْ ِذكْرٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ عَلَى رَ ُ
عجِبْتُمْ } وكان من الممكن أن يقول " :أعجبتم " ،لكن ساعة أن يجيء بهمزة الستفهام ويأتي
{ َأوَ َ
بعدها بحرف عطف .فاعرف أن هناك عطفا على جملة؛ أي أنه يقول :أكذّبْتُم بي ،وعجبتم من أن
ال أرسل على لساني { ِذكْرٌ مّن رّ ّبكُمْ } .والذكر ضد النسيان ،وأن الشيء يكون على البال ،ومرة
يتجاوز البال ويجري على اللسان.
وقد وردت معانٍ كثيرة للذكر في القرآن ،وأول هذه المعاني وقمتها أن الذكر حين يطلق يراد به
حكِيمِ }[آل عمران]58 :
القرآن {:ذاِلكَ نَتْلُوهُ عَلَ ْيكَ مِنَ اليَاتِ وَال ّذكْرِ الْ َ
وكذلك في قوله الحق {:إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَافِظُونَ }[الحجر]9 :
إذن يطلق الذّكر ويراد به القرآن ،ومرة يطلق الذكر ويراد به الصيت أي الشهرة الِعلمية
ك وَلِ َق ْو ِمكَ[} ...الزخرف]44 :
الواسعة .وقد قال الحق لرسوله عن القرآن {:وَإِنّهُ َل ِذكْرٌ ّل َ
أي أن القرآن شرف كبير لك ولمتك وسيجعل لكم به صيتا إلى يوم القيامة؛ لن الناس سترى في
القرآن على تعاقب العصور كل عجيبة من العجائب ،وسيعلمون كيف أن الكون يصدق القرآن،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن بفضل القرآن " العربي " ،سيظل اسم العرب ملتصقا ومرتبطا بالقرآن ،وكل شرف للقرآن
ينال معه العرب شرفا جديدا.
أي أن القرآن شرف لكم .ويقول سبحانهَ {:لقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكُمْ كِتَابا فِيهِ ِذكْ ُركُمْ[} ...النبياء.]10 :
أي فيه شرفكم ،وفيه صيتكم ،وفيه تاريخكم ،ويأتي الِسلم الذي ينسخ القوميات والجناس،
جعَلْنَاكُمْ
ويجعل الناس كلها سواسية كأسنان المشط {.ياأَ ّيهَا النّاسُ إِنّا خََلقْنَاكُم مّن َذكَ ٍر وَأُنْثَىا وَ َ
شعُوبا َوقَبَآئِلَ لِ َتعَا َرفُواْ[} ...الحجرات]13 :
ُ
والرسول صلى ال عليه وسلم يقول " :ل فضل لعربي على أعجمي إل بالتقوى ".
وسيظل القرآن عربيا ،وهو معجزة في لغة العرب ،وبه ستظل كلمة العرب موجودة في هذه
الدنيا .إذن فشرف القوم يجيء من شرف القرآن ،ومن صيت القرآن .والحق يقول {:ص وَا ْلقُرْآنِ
ذِي ال ّذكْرِ }[ص]1 :
أي أن شرفه دائم أبدا .حين يأتي إلى الدنيا سبق علمي ،نجد من يذهب إلى البحث عن أصول
السبق في القرآن ،ونجد غير المسلمين يعتنون بالقرآن ويطبعونه في صفحة واحدة ،وعلى ورق
فاخر قد ل يستعملونه في كتبهم .هذا هو القرآن ذو الذكر على الرغم من أن بعض المسلمين
ينحرفون قليلً عن المنهج ،وقد يتناساه بعضهم ،لكن في مسألة القرآن نجد الكل يتنبه .وكما قلت
من قبل :قد تجد امرأة كاشفة للوجه وتضع مصحفا كبيرا على صدرها ،وقد تجد من ل يصلي
ويركب سيارة يضع فيها المصحف ،وكل هذا ذكر .وتجد القرآن يُقرأ مرتلً ،ويُقرأ مجودا،
ومجودا بالعشرة ثم يسجل بمسجلت يصنعها من ل يؤمنون بالقرآن .وكل هذا ذكر وشرف كبير.
عرفنا أن " الذكر " قد ورد أول بمعنى القرآن ،وورد باسم الصيت والشرف :ويطلق الذكر ويراد
به ما نزل على جميع الرسل؛ فالحق سبحانه يقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمُهُ
والتحميد .انظر إلى قوله الحق سبحانه وتعالى {:فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُ ْر َف َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ
لةِ وَإِيتَآءِ
ل لّ تُ ْلهِيهِمْ ِتجَا َر ٌة َولَ بَ ْيعٌ عَن ِذكْرِ اللّ ِه وَِإقَامِ الصّ َ
يُسَبّحُ َلهُ فِيهَا بِا ْلغُ ُد ّو وَالصَالِ * رِجَا ٌ
ال ّزكَـاةِ[} ...النور{ 37-36 :
وهو ذكر لن هناك من يسبح له فيها بالغدو والصال وهم رجال موصوفون بأنهم ل تلهيهم
تجارة ول بيع عن ذكر ال.
وقد يُطلق الذكر ويراد منه خير ال على عبادة ويراد به كذلك ذكر عبادتهم له بالطاعة؛ فسبحانه
يذكرهم بالخير وهم يذكرونه بالطاعة .اقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى... {:وَيَ ْنهَىا عَنِ
ظكُمْ َلعَّلكُمْ تَ َذكّرُونَ }[النحل]90 :
ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وَالْ َب ْغيِ َيعِ ُ
لةَ تَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَآ ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ وََل ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَ ُر وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا
وفي آية أخرى... {:إِنّ الصّ َ
َتصْ َنعُونَ }[العنكبوت]45 :
وما دام قد قال جل وعل } :وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ { أي ذكر ال لهم بالنعم والخيرات ،فذكره فضل
وإحسان وهو الكبير المتعال .فهناك إذن ذكر ثان ،ذكر أقل منه ،وهو العبادة لربهم بالطاعة ،هنا
جلٍ مّ ْنكُمْ لِيُنذِ َركُ ْم وَلِتَ ّتقُواْ وََلعَّلكُمْ
عجِبْتُمْ أَن جَآ َءكُمْ ِذكْرٌ مّن رّ ّب ُكمْ عَلَىا رَ ُ
يقول الحقَ } :أوَ َ
حمُونَ { [العراف]63 :
تُرْ َ
ما وجه العجب هنا؟ نعلم أن العجب هو إظهار الدهشة وانفعال النفس من حصول شيء علي غير
ما تقتضيه مواقع المور ومقدماتها ،إذن تظهر الدهشة ونتساءل كيف حدث هذا؟ ولو كان المر
طبيعيا ورتيبا لما حدثت تلك الدهشة وذلك العجب.
وعجبتم لماذا؟ اقرأ -إذن -قول الحق سبحانه وتعالى {:ق وَالْقُرْآنِ ا ْلمَجِيدِ * َبلْ عَجِبُواْ أَن
جَآءَهُمْ مّنذِرٌ مّ ْنهُمْ[} ...ق]2-1 :
موضع العجب هنا أن جاء لهم منذر ورسول من جنسهم؛ فمن أي جنس كانوا يريدون الرسول؟
عجِبُواْ أَن جَآءَهُمْ مّنذِرٌ مّ ْنهُمْ َفقَالَ ا ْلكَافِرُونَ هَـاذَا
كان من غبائهم أنهم أرادوا الرسول مَلَكاَ {.بلْ َ
عجِيبٌ }[ق]2 :
شيْءٌ َ
َ
وجاء العجب أيضا في البعث .فتساءل الكافرون هل بعد أن ذهبنا وغبنا في الرض وصرنا ترابا
بعد الموت يجمعنا البعث مرة ثانية؟!
إذن فالعجب معناه إظهار الدهشة من أمر ل تدعو إليه المقدمات أو من أمر يخالف المقدمات.
العجب عندهم في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها لن نوحا عليه السلم يريد منهم أن يبحثوا
في الِيمان بوجود إِله .وكان المنطق يقتضي أنه إذا رأوا شيئا هندسته بديعة ،وحكيمة ،وطرأ
عليها هذا المخلوق وهو الِنسان ليجد الكون منسقا موجودا من قبله ،كان المنطق أن يبحث هذا
الِنسان عمن خلق هذا الكون وأن يلحّ في أن يعرف مَن صنع الكون ،وحين يأتي الرسول ليقول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكم من صنع هذا الكون ،تتعجبون؟!
كان القياس أن تتلهفوا على من يخبركم بهذه الحقيقة؛ لن الكون وأجناسه من النبات والجماد
والحيوان في خدمتك أيها النسان .ل بقوتك خلقت هذا الكون ول تلك الجناس ،بل أنت طارئ
على الكون والجناس ،ألم يدر بخلدك أن تتساءل من صنع لك ذلك؟
إذن فالكلم عن الِيمان كان يجب أن يكون عمل العقل ،وقلت قديما :هب أن إنسانا وقعت به
طائرة في مكان ،وهذا المكان ليس به من وسائل الحياة شيء أبدا ،ثم جاع ،ولم يجد طعاما،
وقهره التعب ،فنام ،ثم أفاق من هذه الِغفاءة؛ وفوجئ بمائدة أمامه عليها أطايب الطعام والشراب
وهو ل يعرف أحدا في المكان ،بال قبل أن يأكل أل يتساءل عمن أحضرها؟!! كان الواجب
يقتضي ذلك.
إذن أنتم تتعجبون من شيء تقتضي الفطرة أن نبحث عنه ،وأن نؤمن به وهو الِله الذي ل ينتفع
بطاعاتنا أو بعبادتنا ،ول تعود عليه العبادة بشيء ،بل تعود علينا ،والعبادة فيها مشقات لنها تلجم
الشهوات وتعقل وتمنع من المعاصي والمحرمات ،ولكن يُقابِل ذلك الثوابُ في الخرة.
وهناك من قال :ولماذا ل يعطينا الثواب بدون متاعب التكليف؟ مادام ل يستفيد .إنّ العقل كاف
ليدلنا -دون منهج -إلى ما هو حسن فنفعله ،وما نراه سيئا فل نفعله ،والذي ل نعرفه أهو حسن
أم سيىء .ونضطر له نفعله ،وإن لم نكن في حاجة له ل نفعله.
ونقول لها القائل :لكن من الذي أخبرك أن العقل كاف ليدلنا إلى المر الحسن ،هل حسّن لك
وحدك أم لك وللخرين؟ فقد يكون الحسن بالنسبة لك هو السوء بالنسبة لغيرك لنك لست وحدك
في الكون .ولنفترض أن هناك قطعة قماش واحدة ،الحسن عندك أن تأخذها ،والحسن عند غيرك
أن يأخذها .لكن الحُسْن الحقيقي أن يفصل في مسألة ملكية هذه القطعة من القماش مَن يعدل بينك
وبين غيرك دون هوى .وألّ يكون واحد أولى عنده من الخر .إذن لبد أن يوجد إله يعصمنا من
أهوائنا بمنهج ينزله يبين لنا الحسن من السيء؛ لن الحسن بالمنطق البشري ستصدم فيها
أهواؤنا.
ومثال آخر :افرض أننا دخلنا مدينة ما ،ورأينا مسكنا جميل فاخرا وكل منا يريد أن يسكن فيه
وكل واحد يريد أن يأخذه؛ لن ذلك هو الحسن بالنسبة له ،لكن ليس كذلك بالنسبة لغيره ،إذن
فالحسن عندك قد يكون قبيحا عند الغير.
فالحسن عند بعض الرجال إذا رأى امرأة أن ينظر إليها ويتكلم معها ،لكن هل هذا حسن عند
أهلها أو أبيها أو زوجها؟ ل.
إنّ الذي تعجبتم منه كان يجب أن تأخذوه على أنه هو المر الطبيعي الفطري الذي تستلزمه
المقدمات .فقد جاءكم البلغ على لسان رجل منكم .ولماذا لم يقل الحق :لسان رجل؟ إننا نعلم أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هناك آية ثانية يقول فيها الحق {:رَبّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتّنَا عَلَىا رُسُِلكَ[} ...آل عمران]194 :
كأنه يقول لهم :إن الوعد الذي وعده الحق لكم قد جاء لكم بالمنهج الذي نزل على الرسل .ومهمة
الرسل صعبة؛ فليست مقصورة على التبليغ باللسان لن مشقاتها كلها على كاهل كل رسول ،ول
تظنوا أن ربنا حين اختار رسولً قد اختاره ليدلـله على رقاب الناس ،ل .لقد اختاره وهو يعلم
أن المهمة صعبة ،والرسول صلى ال عليه وسلم -كما تعلمون -لم يشبع من خبز شعير قط،
وأولده وأهله -على سبيل المثال -ل يأخذون من الزكاة ،والرسل ل تورث فجميع ما تركوه
صدقة ،وكل تبعات الدعوة على الرسول ،وهذه هي الفائدة في أنه لم يقل على لسان رسول ،لن
المر لو كان على لسان الرسول فقط لعطى البلغ فقط ،إنما " على رجل منكم " تعطي البلغ
جلٍ مّ ْنكُمْ...
عجِبْتُمْ أَن جَآ َء ُكمْ ِذكْرٌ مّن رّ ّب ُكمْ عَلَىا رَ ُ
ومسئولية البلغ على هذا الرجلَ } .أوَ َ
{ [العراف]63 :
ما هو العجب؟ لقد كان العجب أن تردوا اللوهية والنبوة.
وبعضهم لم يرد اللوهية ورد فكرة النبوة على الِنسان .وطالب أن يكون الرسول من الملئكة؛
لن الملئكة لم تعص ولها هيبة ول يُعرف عنها الكذب ,لكن كيف يصبح الرسول ملكا؟ وهل أنت
ترى الملك؟ إن البلغ عن ال يقتضي المواجهة ،ولبد أن يراه القوم ويكلموه ،والملك أنت لن
تراه .إذن فلسوف يتشكل على هيئة رجل كما تشكل جبريل بهيئة رجل .إذن أنتم تستعجبون من
شيء كان المنطق يقتضي ألّ يكونَ {.ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ
أَ َب َعثَ اللّهُ َبشَرا رّسُولً }[السراء]94 :
وقولهم هذا في قمة الغباء .فقد كان عليهم أن يتهافتوا ويقبلوا على الِيمان؛ لن الرسول منهم .وقد
عرفوا ماضيه من قبل ،وكذلك أنسوا به ،ولو كانت له انحرافات قبل أن يكون رسولً لخزي
واستحيا أن يقول لهم :استقيموا .وما دام هو منكم وتعرفون تاريخه وسلوكه حين دعاكم للستقامة
كان من الواجب أن تقولوا لنفسكم :إنه لم يكذب في أمور الدنيا فكيف في أمور الخرة ،ولم
يسبق له أن كذب على خلق ال فكيف يكذب على ال؟ ولنه منكم فلبد أن يكون إنسانا ولذلك قال
الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليستقبل الخير القادم .وأن يبتعد عن الشيء المخيف.
وهكذا يكون التبشير والنذار لتتقي الشرور وتأخذ الخير ،وبذلك يحيا النسان في التقوى التي
تؤدي إلى الرحمة.
إذن فمواطن تعجبهم من أن يجيئهم رسول مردودة؛ لن مواطن التعجب هذه كان يجب أن يلح
عليها فطريا ،وأن تنعطف النفس إليها ل أن يتعجب أحد لنها جاءت ،فقد جاءت الرسالة موافقة
للمقدمات ،وقد جاء الرسول ولم يأت ملكا ليكون قدوة.
وكذلك لم يرسله ال من أهل الجاه من العيان ومن صاحب التباع؛ حتى ل يقال إن الرسالة قد
انتشرت بقهر العزوة ،إن التباع كانوا موافقين على الباطل بتسلط الكبراء والسادة ،فمخافة أن
يقال :إن كل تشريع من ال آزره المبطلون بأتباعهم جاءت الدعوة على أيدي الذين ليس لهم أتباع
ول هم من أصحاب الجاه والسلطان .ولقد تمنى أهل الشرك ذلك ويقول القرآن على لسانهم{:
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف]31 :
َوقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
ولقد كان تمنيهم أن ينزل القرآن على رجل عظيم بمعاييرهم ،وهذه شهادة منهم بان القرآن في
ذاته منهج ومعجزة .ولم يتساءلوا :وهل القرآن يشرف بمحمد أو محمد هو الذي يشرف بالقرآن؟
إن محمدا يشرف بالقرآن؛ لذلك يقول الحق {:مَا نَرَاكَ ِإلّ بَشَرا مّثْلَنَا َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ ُهمْ
أَرَاذِلُنَا بَا ِديَ الرّ ْأيِ[} ...هود]27 :
وهذه هي العظمة؛ لن اتباع محمد صلى ال عليه وسلم لم يكونوا من الذين يفرض عليهم الواقع
أن يحافظوا على جاههم ويعملوا بسطوتهم وبطشهم وبقوتهم ،ويفرضوا الدين بقوة سلطانهم ،ل،
بل يمر على أتباع رسول ال فترة ضعاف مضطهدون ،ويؤذوْن ويهاجرون ،فالمهمة في البلغ
عن ال تأتي لينذر الرسول ،ويتقى التباع لتنالهم الرحمة نتيجة التقوى ،والتقوى جاءت نتيجة
النذار.
ويقول الحق بعد ذلكَ } :فكَذّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالّذِينَ َمعَهُ{ ...
()1006 /
عمِينَ ()64
ك وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا إِ ّنهُمْ كَانُوا َق ْومًا َ
َفكَذّبُوهُ فَأَنْجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ فِي ا ْلفُلْ ِ
وهنا يتكلم الحق عن حكاية النجاء ،ونعلم المقدمة الطويلة التي سبقت إعداد سيدنا نوح عليه
علَيْهِ مَلٌ مّن َق ْومِهِ
السلم للرسالة ،فقد أراد ال أن يتعلم النجارة ،وأن يصنع السفينةَ {.وكُّلمَا مَرّ َ
سخِرُواْ مِ ْنهُ[} ...هود]38 :
َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولم يجيءالحق هنا بسيرة الطوفان التي قال فيها في موضع آخر من القرآنَ {:ففَتَحْنَآ أَ ْبوَابَ
سمَآءِ ِبمَاءٍ مّ ْن َهمِرٍ }[القمر]11 :
ال ّ
وجاء الحق هنا بالنتيجة وهي أنهم كذبوهَ { .فكَذّبُوهُ فَأَنجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ
كَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ[ } ...العراف]64 :
وكانت هذه أول حدث عقابي في تاريخ الديانات؛ لن رسالة نوح عليه السلم هي أول رسالة
تعرضت إلى مثل هذا التكذيب ومثل هذا العناد ,وكان الرسل السابقون لنوح عليهم البلغ فقط،
ولم يكن عليهم أن يدخلوا في حرب أو صراع ،والسماء هي التي تؤدب ،فحينما علم الحق سبحانه
وتعالى أنه بإرسال رسوله صلى ال عليه وسلم ستبلغ الِنسانية رشدها صار أتباع محمد مأمونين
على أن يؤدبوا الكافرين.
وفي تكذيب نوح عليه السلم يأتينا الحق هنا بالنتيجة.
{ فَأَنجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ } ولم يقل الحق :كيف أنجاه ولم يأت بسيرة الفلك ،بل أخبر بمصير من
عمِينَ }
كذبوه ،ويأتي بالعقاب من جنس الطوفان...{ .وَأَغْ َرقْنَا الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَآ إِ ّنهُمْ كَانُواْ َقوْما َ
[العراف]64 :
عمَهُ ،وال َعمَهُ في
عمِه وأَ ْ
هناك " أعمى " لمن ذهب بصره كله من عينيه كلتيهما ،وهناك أيضا َ
البصيرة كالعمى في البصر ..أي ذهبت بصيرته ولم يهتد إلى خير.
ثم انتقل الحق إلى رسول آخر .ليعطي رسول ال صلى ال عليه وسلم السوة فيه أيضا .فبعد أن
جاء بنوح يأتي بهود.
()1007 /
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَا تَ ّتقُونَ ()65
وساعة ما تسمع { :وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا } أي أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا ،و " أخاهم " موقعها
سلْنَا نُوحا } ،وكذلك أرسلنا
الِعرابي " مفعول به " ويدلنا على ذلك قوله في الية السابقة { :أَرْ َ
إلى عاد أخاهم هودا .وكلمة " أخاهم " ُتشْعرُ بأشياء كثيرة؛ إنه من جنسهم ،ولغته لغتهم ،وأنسهم
به ،ويعرفون كل شيء وكل تاريخ عنه ،وكل ذلك إشارات تعطى النس بالرسول؛ فلم يأت لهم
برسول أجنبي عاش بعيدا عنهم حتى ل يقولوا :لقد جاء ليصنع لنفسه سيادة علينا ,بل جاء لهم
بواحد منهم وأرسل إليهم " أخاهم " وهذا الكلم عن " هود ".
إذن كان هود من قوم عاد ،ولكن هناك رأي يقول :إن هودا لم يكن من قوم عاد ،ولنّ الخوة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نوعان :أخوّة في الب القريب ،أو أخوّة في الب البعيد ،أي من جنسكم ،من آدم؛ فهو إما أخ من
الب القريب ،وإمّا أخ من الب البعيد .وقد قلنا من قبل :إن سيدنا معاوية كان يجلس ثم دخل
عليه الحاجب فقال :يا أمير المؤمنين ،رجل بالباب يقول إنه أخوك ،فتساءلت ملمح معاوية
وتعجب وكأنه يقول لحاجبه :أل تعرف إخوة أمير المؤمنين؟ وقال له :أدخله ،فأدخله .قال معاوية
للرجل :أي إخوتي أنت؟!
قال له :أخوك من آدم.
فقال معاوية :رحم مقطوعة -أي أن الناس ل تتنبه إلى هذه الخوة -وال لكونن أول من
وصلها { .وَإِلَىا عَادٍ َأخَاهُمْ هُودا قَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ مَا َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَ تَ ّتقُونَ }
[العراف]65 :
ونلحظ أن الحق قال على لسان سيدنا نوح لقومهَ ... {:فقَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ مَا َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ
عظِيمٍ }[العراف]59 :
عذَابَ َيوْمٍ َ
غَيْ ُرهُ إِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َ
وأرسل الحق هودا إلى عاد ،لكن قول هود لقوم عاد يأتي { :قَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ
إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَ تَ ّتقُونَ }.
وهنا " قال " فقط من غير الفاء؛ وجاء في قول نوح " :فقال " .وهذه دقة في الداء لننتبه؛ لن
الذي يتكلم إله ورب ،فتأتي مرة بـ " فاء " وتأتي مرة بغير " فاء " رغم أن السياق واحد،
والمعنى واحد والرسول رسول ،والجماعة هم قوم الرسول .ونعلم أن " الفاء " تقتضي التعقيب،
ع ْوتُ َق ْومِي
وتفيد الِلحاح عليهم ،وهذا توضحه سورة نوح؛ لن الحق يقول فيها {:قَالَ َربّ إِنّي دَ َ
جعَلُواْ َأصَا ِب َعهُمْ فِي
عوْ ُتهُمْ لِ َت ْغفِرَ َلهُمْ َ
ل وَ َنهَارا * فَلَمْ يَ ِزدْهُمْ دُعَآئِي ِإلّ فِرَارا * وَإِنّي كُّلمَا دَ َ
لَيْ ً
جهَارا * ُثمّ إِنّي أَعْلَ ْنتُ
عوْ ُتهُمْ ِ
شوْاْ ثِيَا َبهُمْ وََأصَرّو ْا وَاسْ َتكْبَرُواْ اسْ ِتكْبَارا * ثُمّ إِنّي دَ َ
آذَا ِنهِ ْم وَاسْ َتغْ َ
غفّارا }
َلهُ ْم وَأَسْرَ ْرتُ َلهُمْ إِسْرَارا * فَقُ ْلتُ اسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّبكُمْ إِنّهُ كَانَ َ
[نوح]10-5 :
إذن فالفاء مناسبة هنا ،لكن في مسألة قوم هود نجد أن سيدنا هودا قال لهم مرة أو اثنتين أو ثلث
مرات ،لكن بل استمرار وإلحاح ،وهذا يوضح لنا أن إلحاح نوح على قومه يقتضي أن يأتي في
سياق الحديث عنه بـ " :فقال " وأل تأتي في الحديث عن دعوة سيدنا هود .وقد يتعجب الِنسان
لن مدة هود مع عاد ل تساوي مدة نوح مع قومه ،وقد جاء الِيضاح بزمن رسالة سيدنا نوح في
خمْسِينَ عَاما[} ...العنكبوت]14 :
قوله الحق {:فَلَ ِبثَ فِي ِهمْ أَ ْلفَ سَنَةٍ ِإلّ َ
ظل سيدنا نوح قُرابة ألف سنة يدعو قومه ليلً ونهارا سرّا وعلنية ،لكنهم كانوا يفرون من
الِيمان ،لذلك يأتي الحق في أمر دعوة نوح بالفاء التي تدل على المتابعة .أما قوم عاد فلم يأت
لهم " بالفاء " .بل جاء بـ " قال " } :وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا قَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غَيْ ُرهُ[ { ...العراف]65 :
عظِيمٍ
عذَابَ َيوْمٍ َ
وقال نوح من قبل... {:يَا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ إِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ َ
}[العراف]59 :
وفي مسألة قوم عاد قال } :يَا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَ تَ ّتقُونَ {.
ومع أن السلوب واحد والمعاني واحدة ،وكان ذلك يقتضي الِنذار ،لكن لم يقل الحق ذلك؛ لن
نوحا عنده علم بالعذاب الذي سوف ينزل؛ لنها كانت أول تجربة ،لكن سيدنا هود لم يكن عنده
علم بالعذاب.
العملية التي حدثت لنوح مع قومه وإهلكهم بالغرق كانت أولية بالنسبة له؛ فال سبق أن أعلمه
بها ،وحين ذهب هود إلى قوم عاد كانت هناك سابقة أمامه ،وأخذ ربنا المكذبين لنوح بالعذاب،
لذلك ألمح سيدنا هود فقط إلى احتمال العذاب حين قالَ } :أفَلَ تَ ّتقُونَ {.
أي أن العذاب قد ينتظركم وينالكم مثل قوم نوح.
ويقول الحق بعد ذلك } :قَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ{ ...
()1008 /
في هذه الية جاء قوله { :الّذِينَ َكفَرُواْ } ،وفي قصة نوح قال سبحانه { :قَالَ ا ْلمَلُ مِن َق ْومِهِ }
ولم يأت فيها بالذين كفروا ،لن قوم نوح لم يكن فيهم من آمن وكتم إيمانه وأخفاه ،بخلف عاد
قوم هود فإنه كان فيهم رجل اسمه مرثد بن سعد آمن وكتم وستر إيمانه ،فيكون قوله تعالى في
شأنهم { :الّذِينَ َكفَرُواْ } قد جاء مناسبا للمقام ،لن فيهم مؤمنا لم يقل ما قولوا من رميهم لسيدنا
سفَاهَةٍ وِإِنّا لَنَظُ ّنكَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ
هود بالسفاهة حيث قالوا ما حكاه ال عنهم بقوله...{ :إِنّا لَنَرَاكَ فِي َ
} [العراف]66 :
للٍ مّبِينٍ }[العراف]60 :
أما قوم نوح فقد قالوا... {:إِنّا لَنَرَاكَ فِي ضَ َ
فقال لهم نوح عليه السلم {:قَالَ يَا َقوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَلَةٌ[} ...العراف]61 :
ما الفرق بين الضلل والسفاهة؟
الضلل هو مجابنة حق ،والسفاهة طيش وخفة وسخافة عقل ،وأضافت عاد اتهاما آخر لسيدنا
هود { :وِإِنّا لَنَظُ ّنكَ مِنَ ا ْلكَاذِبِينَ }.
والظن رجحان المر بدون يقين ،فهناك راجح ،ومرجوح ،أو أن الظن هنا هو التيقن .على حد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قوله سبحانه {:الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُم مّلَاقُواْ رَ ّبهِمْ[} ...البقرة]46 :
سفَاهَةٌ} ...
أي يتيقنون ،وجاء بالرد من سيدنا هود { :قَالَ يَا َقوْمِ لَيْسَ بِي َ
()1009 /
وفي هذا القول نفي للتهام بالسفاهة ،وإبلغ لهم بأنه مبلّغ عن ال بمنهج تؤديه الية التالية وهي
قوله الحق { :أُبَّل ُغكُمْ رِسَالتِ رَبّي وَأَنَاْ} ...
()1010 /
()1011 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جاء الحق هنا بالذكر للِنذار فقال { :لِيُنذِ َركُمْ } فقط ،وليس كما قال في قوم نوح { :وَلِتَتّقُو ْا وََلعَّلكُمْ
حمُونَ } لن الِنذار لم يأت لمجرد الِنذار ،بل لنرتدع ونتقي ،لِكي نُرحم ،إذن فحين يأتي بأول
تُرْ َ
الحلقة وأول الخيط وهو الِنذار فنحن نستنتج الباقي وهو التقوى لنصل إلى الرحمة { :وَاذكُرُواْ ِإذْ
جعََلكُمْ خَُلفَآءَ مِن َبعْدِ َقوْمِ نُوحٍ }.
َ
عذّبوا حين لم يؤمنوا ،وجاء سيدنا هود إلى عاد بعد
وهذا كلم جديد؛ لن قوم نوح هم أول قوم ُ
جعََلكُمْ خَُلفَآءَ مِن َبعْدِ َقوْمِ
ذلك ،يبلّغهم وينذرهم ليأخذوا العبرة من نوح وقومه...{ :وَاذكُرُواْ إِذْ َ
طةً فَا ْذكُرُواْ آلءَ اللّهِ َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ } [العراف]69 :
خلْقِ َبصْ َ
نُوحٍ وَزَا َدكُمْ فِي الْ َ
ويذكرهم سيدنا هود أن الحق قد أعطى لهم أجساما فارعة فيها بسطة وطول ،ويقال :إن الطويل
منهم كان يبلغ طوله مائة ذراع ،والقصير منهم كان يبلغ طوله ستين ذراعا ،ويأمرهم سيدنا هود
أن يذكروا آلء ال ،أي نعمه عليهم ،وأول النعم أن أرسل إليهم رسولً يأخذ بأيديهم إلى مناطق
الخير.
فماذا كان ردهم؟
يقول الحق { :قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِ َنعْ ُبدَ} ...
()1012 /
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِ َنعْ ُبدَ اللّهَ وَحْ َد ُه وَنَذَرَ مَا كَانَ َيعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا ِبمَا َت ِعدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ ()70
كان المنطق أن يعبدوا ال وحده ل أن يعبدوا الشركاء الذين ل ينفعوهم ول يضرونهم ،ول
يسمعونهم .بل إن الواحد منهم كان يرى الهواء يهب على الصنم ،فيميل الصنم ويقع على الرض
وتنكسر رقبته ،فيذهب إلى الحداد ليعيد تركيب رأس جديد للصنم ،فكيف يعبد مثل هذا الصنم؟
لكنهم قالوا لهود :نحن نقلد آباءنا ول يمكن أن نترك ما كان يعبد آباؤنا لننا على آثارهم نسير.
وإن كان إلهك ينذرنا بعذاب فأتنا به إن كنت من الصادقين .وهكذا وضح أنه ل أمل في اقتناعهم
بالدعوة إلى الِيمان.
فماذا يقول الحق بعد ذلك؟
يجيء القول الفصل على لسان سيدنا هود { :قَالَ قَ ْد َوقَعَ عَلَ ْي ُكمْ مّن رّ ّبكُمْ} ...
()1013 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمّيْ ُتمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَا ُؤكُمْ مَا نَ ّزلَ
سمَاءٍ َ
غضَبٌ أَ ُتجَادِلُونَنِي فِي َأ ْ
س وَ َ
ج ٌ
قَالَ َق ْد َوقَعَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ رَ ّب ُكمْ رِ ْ
اللّهُ ِبهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنّي َم َعكُمْ مِنَ ا ْلمُنْتَظِرِينَ ()71
لقد كان يكلمهم ويكلمونه ،قالوا له :ائتنا بالعذاب ،فقال لهم { :قَ ْد َوقَعَ عَلَ ْيكُمْ مّن رّ ّبكُمْ ِرجْسٌ
غضَبٌ } ،فكيف يقول وقع؟ لقد قال ذلك لنه يخبر عن ال .و " وقع " فعل ماض ،لكنا نعلم أن
وَ َ
كلم ال مجرد عن الزمان ماضيا كان أو حاضرا ،أو مستقبل ،لقد قال سيدنا هود " :وقع "
والعذاب لم يقع بعد ،لكن لما كان قوله بلغا عن ال فإنّه يؤكد وقوع العذاب حتما؛ لن الذي
أخبر به قادر لما كان قوله بلغا عن ال فإنّه يؤكد وقوع العذاب حتما؛ لن الذي أخبر به قادر
على إنقاذه في أي وقت ،ول إله آخر ول قوة أخرى قادرة على أن تمنع ذلك .والذي وقع عليهم
هو الرجس ،والرجس أي التقذير ،ضد التزكية والتطهير .وغضب ال الواقع لم تحدده هذه الية.
لكن ل بد أن له شكلً سيقع به.
سمّيْ ُتمُوهَآ أَنْتُمْ وَآبَآؤكُمُ } ،وكل اسم يكون له
سمَآءٍ َ
ويسائلهم هو ساخرا { :أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَ ْ
مسمى ،وهذه السماء أنتم أطلقتموها على هذه اللهة ،هل لها مسميات حقيقة لِتُعبد؟ .ل ،بل أنتم
خلعتم على ما ليس بإله أنه إله ،وهذه أسماء بل مسميات ،وأنتم في حقيقة المر مقلدون لبائكم.
وما تعبدونه أسماء بل سلطان من الِله الحق { .مّا نَ ّزلَ اللّهُ ِبهَا مِن سُلْطَانٍ } [العراف]71 :
أي ليس لهذه السماء من حجة على ما تقولون ،بدليل أنهم كانوا يسمون في الجاهلية إلها باسم "
العزّى " وعندما يكسرونه ل يجدون عزا ول شيئا؛ لن هذا الِله المزعوم لم يدفع عن نفسه،
فكيف يكون إلها وقيّوما على غيره؟ وكذلك سموا " اللت " أي ال ومضاف له التاء ،وعندما
يكسرونه ل يجدون له قوة أو جبروتا أو طغيانا.
ويقول هود لقومه ما يؤكد وقوع العذاب...{ :فَانْتَظِرُواْ إِنّي َم َعكُمْ مّنَ ا ْلمُنْ َتظِرِينَ } [العراف]71 :
غضَبٌ } بأن
وقوله { :فَانْتَظِرُواْ } ،جعلنا نفهم قوله السابقَ { :ق ْد َوقَعَ عَلَ ْيكُمْ مّن رّ ّب ُكمْ رِجْسٌ وَ َ
الرجس والغضب قادمان ل محالة .صحيح أنه عبر عن ذلك بالفعل الماضي ،ولكن لنقرأ قوله
الحق {:أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ َتسْ َتعْجِلُوهُ[} ...النحل]1 :
و " أتي " فعل ماضٍ ،وفي الظاهر أنه يناقض قوله { :فَلَ تَسْ َت ْعجِلُوهُ } لن الستعجال يدل على
أنّ الحدث لم يأت زمنه بعد .ولكن لنا أن نعلم أن الذي أخبر هو ال ،ول توجد قوة ثانية تغير
مرادات ال أن تكون أو ل تكون.
يقول الحق بعد ذلك { :فَأَنجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ} ...
()1014 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طعْنَا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا َومَا كَانُوا ُم ْؤمِنِينَ ()72
حمَةٍ مِنّا َوقَ َ
فَأَنْجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ بِرَ ْ
ك وَأَغْ َرقْنَا
ونلحظ أن الحق قد بين وسيلة نجاة سيدنا نوحَ { :فكَذّبُوهُ فَأَنجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ فِي ا ْلفُ ْل ِ
الّذِينَ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَآ }.
حمَةٍ
أما هنا في مسألة عاد فلم يوضح لنا وسيلة النجاة ،بل قال سبحانه { :فَأَنجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ بِ َر ْ
طعْنَا دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا َومَا كَانُواْ ُم ْؤمِنِينَ } [العراف]72 :
مّنّا َوقَ َ
وقوله { :فَأَنجَيْنَاهُ } تدل على أن عذابا عاما وقع ،إل أن ربنا أوحى لسيدنا هود أن يذهب بعيدا
عن المكان هو والذين معه قبل أن يقع هذا العذاب .وكان العرب قديما إذا حزبهم أمر ،أو دعتهم
ضرورة إلى شيء خرج عن أسبابهم يذهبون إلى بيت ال؛ ليضرعوا إلى ال أن يخلصهم منه،
حتى الكفرة منهم كانوا يفعلون ذلك .كما حدث من عاد حين أرسل ال إليهم سيدنا هودا نبيّا
فكذبوه وازدادوا عتوّا وتجبرا فأصابهم جدب وظل ثلث سنوات فما كان منهم أل أن فزعوا إلى
الكعبة لكي يدعوا ربهم أن يخفف عنهم العذاب ،وذهب واحد منهم اسمه " قيل بن عنز " ،وآخر
اسمه " مرثد بن سعد " الذي كان يكتم إسلمه على رأس جماعة منهم إلى مكة ،وكان لهم بها
أخوال من المعاليق؛ من أولد عمليق بن لوث بن سام بن نوح ،وكانوا هم الذين يحكمون مكة
في هذا الوقت ،وعلى رأسهم واحد اسمه " معاوية بن بكر " ،فنزلوا عنده ،وأكرم وفادتهم على
طريقة العرب ،واستضافهم ضيافة ملوك وأمراء ،وجاء لهم بالقيان والكل والشراب ،فاستمرأوا
المر ،وظلوا شهرا ،فقال معاوية بن بكر :لقد جاءوا لينقذوا قومهم من الجدب وما فكروا أن
يذهبوا إلى الكعبة ،ول فكروا في أن يدعوا ربنا وأخاف أن أقول لهم ذلك فيقولوا إنه ضاق بنا.
وتكون سبّة فيّ .وأخذ يفكر في المر .وكان عنده مغنيتان اسمهما " الجرادتان " .فقالت المغنيتان:
قل في ذلك شعرا ،ونحن نغنيه لهم ،فقال معاوية:أل يا قيل ويحك قم فهينم لعل ال يمطرنا
غمامافيسقى أرض عاد إن عادا قد أمسوا ل يبينون الكلمافلما غنتا ،والغناء فيه ترديد وخصوصا
إذا كان غناءً موجها " أل يا قيل ويحك قم فهينم " وهينم :أي ادعوا ال ،ألم تحضر من أجل
الدعاء لعل ال يمطرنا الغمام على أرض عاد ،وينتهي الجدب ،وقد بلغ منهم الجهد أنهم ل يبينون
الكلم ،فتنبه القيل ،وتنبه مرثد بن سعد ،وكان قد نمى إلى علم " القيل " أن مرثد بن سعد مؤمن
بهود عليه السلم ،فرفض أن يصحبه معه ،وبالفعل ذهب قيل وأخذ يدعو ال ،فسمع هاتفا يقول
له " :اختر قومك " وقد رأى سحابة سوداء وسحابة حمراء وسحابة بيضاء ،ونبهه الهاتف أن
يختار سحابة تذهب لقومه من بين الثلثة ،فاختار السحابة السوداء ،لنها أكثر السحاب ماء ،وهو
على قدر اجتهاده اختار السحابة السوداء ،وعادوا لبلدهم ليجدوا السحابة السوداء فقال لهم :أنا
اخترت السحابة لنها توحى بماء كثير منهمر ،وقال الحق في هذا المر:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا[} ...الحقاف]24 :
أي أن هذه هي السحابة التي قال عليها " :قيل " سوف تعطينا المطر.
شيْءٍ بَِأمْرِ
عذَابٌ أَلِيمٌ * تُ َدمّرُ ُكلّ َ
فيرد الحق عليهم ويقول لهمَ {:بلْ ُهوَ مَا اسْ َتعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا َ
رَ ّبهَا فَ ْأصْبَحُو ْا لَ يُرَىا ِإلّ َمسَاكِ ُنهُمْ[} ...الحقاف]25-24 :
إذن فقولهم السابق لسيدنا هود الذي أورده الحق هنا في سورة العراف... {:فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَآ إِن
كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ }[ العراف]70 :
أي أن عذابهم يتأكد بالمطر والريح الذي جاء به قول سيدنا هود هنا في سورة العراف } :قَالَ قَدْ
ضبٌ {.
غ َ
س وَ َ
َوقَعَ عَلَ ْيكُمْ مّن رّ ّبكُمْ رِجْ ٌ
طعْنَا
ح َمةٍ مّنّا َوقَ َ
ولم يفلت من العذاب إل من آمن مصداقا لقوله الحق } :فَأَنجَيْنَا ُه وَالّذِينَ َمعَهُ بِرَ ْ
دَابِرَ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا َومَا كَانُواْ ُم ْؤمِنِينَ { [العراف]72 :
لقد يسّر الحق النقاذ لسيدنا هود ومن آمن معه ليهجروا المكان لحظة ظهور السحاب ،فقد سمع
هود هاتفا يؤكد له أن في هذا السحاب العذاب الشديد ،فأخذ الجماعة الذين آمنوا معه وهرب إلى
مكة ،وتم إهلك الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب رسولهم ورفضهم الِيمان بربهم.
ويقول الحق بعد ذلك } :وَإِلَىا َثمُودَ َأخَاهُ ْم صَالِحا{ ...
()1015 /
وَإِلَى َثمُودَ َأخَا ُه ْم صَالِحًا قَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ قَدْ جَاءَ ْتكُمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَ ّبكُمْ هَ ِذهِ
نَاقَةُ اللّهِ َلكُمْ آَيَةً َفذَرُوهَا تَ ْأ ُكلْ فِي أَ ْرضِ اللّ ِه وَلَا َتمَسّوهَا بِسُوءٍ فَيَ ْأخُ َذ ُكمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ()73
لقد قال سيدنا صالح لثمود مثلما قال سيدنا هود لعاد ،وحمل لهم الِنذار ليتقوا فيرحموا ،قال سيدنا
صالح { :يَا َقوْمِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ }.
إذن فالِنذار للتقوى وللوصول إلى الرحمة والفلح ،ولذلك أقول دائما :إن القرآن حينما يتعرض
لمر قد ل يأتي به مفصل ولكن سياقه يوحي بالمراد منه ،ول يكرر وذلك ليربي فينا ملكة
الستيقاظ إلى استقبال المعاني .والمثال على ذلك في قصة الهدهد مع سيدنا سليمان ،يقول القرآن
ي لَ أَرَى ا ْلهُدْ ُهدَ أَمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَآئِبِينَ }[النمل]20 :
على لسان سيدنا سليمان {:وَتَ َفقّدَ الطّيْرَ َفقَالَ مَاِل َ
ويهدد سيدنا سليمان الهدهد قائلً {:لُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا َأوْ لَذْبَحَنّهُ[} ...النمل]21 :
ثم جاء الهدهد ليقول... {:وَجِئْ ُتكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ َيقِينٍ }[النمل]22 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم أرسل سيدنا سليمان الهدهد إلى قوم سبأ قائلً {:اذْهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا فَأَ ْلقِهْ إِلَ ْيهِمْ ثُمّ َت َولّ عَ ْنهُمْ
جعُونَ }[النمل]28 :
فَانْظُرْ مَاذَا يَرْ ِ
وبعد هذه الية مباشرة قال القرآن {:قَاَلتْ ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ إِنّي أُ ْل ِقيَ إَِليّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }[النمل]29 :
وكأن الهدهد قد ذهب بالكتاب ،ورماه إلى ملكة سبأ ،وقالت هي الرد مباشرة .إذن لم يكرر القرآن
ما حدث ،بل جعل بعضا من الحداث متروكا للفهم من السياق.
وكذلك هنا في قوله الحق { :وَإِلَىا َثمُودَ أَخَاهُمْ[ } ...العراف]73 :
وكلمة " أخاهم " هنا تؤكد أن سيدنا صالحا كان مأنوسا به عند ثمود ،ومعروف التاريخ لديهم،
سوابقه في القيم والخلق معروفة لهم تماما وأضيفت ثمود له لنه أخوهم .وقد جاءت دعوته
مطابقة لدعوة نوح وهود...{ .قَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ قَدْ جَآءَ ْت ُكمْ بَيّنَةٌ مّن
عذَابٌ أَلِيمٌ }
خ َذكُمْ َ
رّ ّبكُمْ هَـا ِذهِ نَاقَةُ اللّهِ َلكُمْ آيَةً َفذَرُوهَا تَ ْأ ُكلْ فِي أَ ْرضِ اللّ ِه َولَ َتمَسّوهَا ِبسُوءٍ فَيَأْ ُ
[العراف]73 :
والبنية هي الدليل على الصدق في البلغ عن ال ،وهي الناقة .فما قصة الناقة؟ هل خرج لهم
بناقة ونسب ملكيتها ل؟ بطبيعة الحال ،ل ،بل ل بد أن تكون لها قصة بحيث يعلمون أن هذه
الناقة ليست لحد من البشر .وحين قام سيدنا صالح بدعوته ،تحداه السادة من قومه ،وقالوا :نقف
نحن وأنت ،نستنجد نحن بآلهتنا ،وأنت تستنجد بإلهك ،وإن غلبت آلهتنا تتبعنا ،وإن غلب إلهك
نتبعك ،وجلسوا يدعون آلهتهم ،فلم يحدث شيء من تلك اللهة ،وهنا قالوا لسيدنا صالح :إن كنت
صادقا في دعوتك ،هذه الصخرة منفردة أمامك في الجبل اسمها " الكاثبة " فليخرج ربك لنا من
هذه الصخرة ناقة هي عشراء كالبخت -أحسن أنواع الِبل -فدعا ال سبحانه وتعالى ،وانشقت
الصخرة عن الناقة ،وخروج الناقة من الصخرة ل يدع مجالً للشك في أنها آية من ال ظهرت
أمامهم .إنها البينة الواضحة .لقد انشقت الصخرة عن الناقة ووجدوها ناقة عشراء ،وَبْرَاء -أي
كثيرة الوَبَر -يتحرك جنينها بين جنبيها ثم أخذها المخاض فولدت فصيلً ،وهكذا تتأكد الِلهية
دون أن يجرؤ أحد على التشكيك فيها ،وهي ناقة من ال وهو القائل:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صحيح أن الناقة منعتهم المياه لكنهم أخذوا منها اللبن الذي يطعمونه ،ولنها ناقة ال كان لبد أن
ل وحجما يناسبها وكمية من الطعام والشراب مناسبة لتقيم بها حياتها ،وكمية إدرار اللبن
تأخذ هيك ً
مناسبة لشربها وطعامها وحجمها ،فمادامت منسوبة ل فلبد أن فيها مواصفات إعجازية ،وكان
الفصيل الذي ولدته معها ،وكان إذا ما جاء الحر في الصيف تسكن الناقة في المشارف العالية،
وبقية النوق تنزل في الرض الوطيئة ،وحين يأتي الشتاء تنزل إلى المناطق المنخفضة.
والمعروف أن مدائن صالح كانت منطقة شديدة الحرارة ،ويمكن لمن يزور المدينة أو " تبوك " أن
يمر عليها.
كانت الناقة حرة في اختيار المكان الذي تعيش فيه صيفا أو شتاءً فل أحد بقادر أن يمسها بسوء.
وكانت هناك امرأتان لهما نياق .وناقة ال تغلب نياق المرأتين في المراعي والماء .فأحضرت
المرأتان رجلً يطلق عليهُ " :أحَيْمر ثمود :واسمه قُدار بن سالف " ليقتلها ،فقتل الناقة ،فلما قتلت
الناقة ،طلع ابنها الفصيل على جبل يسمى " قارة " وخار ثلثة أصوات ،فنادى سيدنا صالح :يا
قوم أدركوا هذا الفصيل ،لعل ال بسبب إدراككم له يرفع عنكم العذاب ،فراحوا يتلمسونه فلم
يجدوه وأعلم ال صالحا النبي أن العذاب قادم ،ففي اليوم الول تكون وجوههم مصفرة ،وفي اليوم
الثاني تكون محمرة ،وفي اليوم الثالث تكون مسودّة ،فقد كانت الناقة هي ناقة ال المنسوبة له
سبحانه ،وقد تأكدوا بالمر المشهدي من ذلك ،وكان من الواجب عليهم ساعة أن وجدوا الية
الكونية المشهودة أن يأخذوا منها العبرة ،وأنها مقدمة للشيء الموعود به .لكنّ الغباء أنساهم أنها
عذَابٌ
ناقة ال...} .هَـا ِذهِ نَاقَةُ اللّهِ َلكُمْ آيَةً َفذَرُوهَا تَ ْأ ُكلْ فِي أَ ْرضِ اللّ ِه َولَ َت َمسّوهَا بِسُوءٍ فَيَ ْأخُ َذكُمْ َ
أَلِيمٌ { [العراف]73 :
وبالفعل حدث العذاب بعد أن قتل أحميرثمود الناقة.
جعََلكُمْ خَُلفَآءَ{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وَا ْذكُرُواْ ِإذْ َ
()1016 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهي بالتأكيد أقدم قليلً من قصة عاد.
ويذكرهم الحق أيضا أنه جعل في الرض منازل يسكنونها ،فاتخذوا من سهولها قصورا ،والسهل
هو المكان المنبسط الذي ل توجد به تلل أو صخور أو جبال ،وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا،
وكان عمر الِنسان منهم يطول لدرجة أن البيت ينهدم مرتين في العمر الواحد للِنسان .ولذلك
قرروا أن يتخذوا من الجبال بيوتا لتظل آمنة ،وحين يرى الِنسان مدائن صالح منحوتة في الجبل
فهي فرصة لن يتأمل عظمة الحق في تنبيه الخلق إلى ما يفيدهم وهي بالفعل من نعم ال ،ويقول
سبحانه...{ :فَا ْذكُرُواْ آلءَ اللّ ِه َولَ َتعْ َثوْا فِي الَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ } [العراف]74 :
وآلء ال -كما عرفنا -هي نعمه التي ل تحصى ،وينبههم إلى عدم نشر الفساد في الرض.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :قَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ} ...
()1017 /
سلٌ مِنْ
ن صَاِلحًا مُرْ َ
ضعِفُوا ِلمَنْ َآمَنَ مِ ْنهُمْ أَ َتعَْلمُونَ أَ ّ
قَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا مِنْ َق ْومِهِ لِلّذِينَ اسْ ُت ْ
سلَ بِهِ ُم ْؤمِنُونَ ()75
رَبّهِ قَالُوا إِنّا ِبمَا أُ ْر ِ
ونعرف أن هناك سادة ،وهناك أتباعا .ومن قبل قال الحقِ {:إذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ
اتّ َبعُواْ[} ...البقرة]166 :
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها حوار بين السادة وبين المستضعفين الذين ل جاه
لهم ل جبروت يُحافظ عليه ،ورأوا دعوة الِيمان ووجدوا فيها النفع لهم فأقبلوا عليها ،أما المل
وهم السادة الشراف العيان الذين يملون العين هيبة ،والقلوب مهابة فقد قالوا لمن آمن من
المستضعفين -لن هناك مستضعفين ظلوا على ولئهم للكفر -قال هؤلء المل من المستكبرين
سلَ ِبهِ
سلٌ مّن رّبّهِ قَالُواْ إِنّا ِبمَآ أُرْ ِ
ن صَالِحا مّرْ َ
لمن آمن من المستضعفين...{ :أَ َتعَْلمُونَ أَ ّ
ُم ْؤمِنُونَ } [العراف]75 :
وعندما سمع المستكبرون قول المؤمنين من المستضعفين .فماذا قال المل المستكبرون؟
يقول الحق { :قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ} ...
()1018 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا