You are on page 1of 231

‫تفسير الشعراوي‬

‫قَالَ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا بِالّذِي َآمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (‪)76‬‬

‫إذن فقد أعلنوا الكفر بالقول وضموا إليه بالعمل وهو قتل الناقة‪ ،‬ويقول الحق‪َ { :‬ف َعقَرُواْ النّا َقةَ‬
‫وَعَ َتوْاْ‪} ...‬‬

‫(‪)1019 /‬‬

‫َفعَقَرُوا النّاقَ َة وَعَ َتوْا عَنْ َأمْرِ رَ ّب ِه ْم َوقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪)77‬‬

‫والعقر‪ :‬هو الذبح بالنسبة للنوق‪.‬‬


‫وهم هنا يقولون أيضا مثلما قال السابقون لهم‪...{ :‬ائْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }‬
‫[العراف‪]77 :‬‬
‫و " الصادقين " تؤول أيضا إلى المرسلين‪ .‬لقد اتهموا صالحا عليه السلم بالكذب كنبي مرسل لهم‬
‫برغم حدوث الية الواضحة وهي خروج الناقة من الجبل‪ ،‬لذلك يحل عليهم غضب ال في قوله‬
‫جفَةُ فََأصْ َبحُواْ‪} ...‬‬
‫الحق‪ { :‬فَأَخَذَ ْت ُهمُ الرّ ْ‬

‫(‪)1020 /‬‬

‫جفَةُ فََأصْبَحُوا فِي دَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ (‪)78‬‬


‫خذَ ْتهُمُ الرّ ْ‬
‫فَأَ َ‬

‫والرجفة هي الهزة التي تحدث رجة في المهزوز‪ .‬ويسميها القرآن مرة بالطاغية في قوله الحق‪{:‬‬
‫فََأمّا َثمُودُ فَأُهِْلكُواْ بِالطّاغِ َيةِ }[الحاقة‪]5 :‬‬
‫والتي أصبحوا من بعدها " جاثمين " ‪ ،‬وهو التعبير الدقيق الذي يدل على أن الواحد منهم إن كان‬
‫واقفا ظل على وقوفه‪ ،‬وإن كان قاعدا ظل على قعوده‪ ،‬وإن كان نائما ظل على نومه‪ .‬أو كما‬
‫نقول‪ " :‬إنسخطوا على هيئاتهم "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫" فالجاثم " هو من لزم مكانه فلم يبرح أو لصق بالرض‪.‬‬
‫وبعد أن أخذهم بالرجفة يقول الحق‪ { :‬فَ َتوَلّىا عَ ْنهُ ْم َوقَالَ يَا َقوْمِ‪} ...‬‬

‫(‪)1021 /‬‬

‫صحِينَ (‪)79‬‬
‫حتُ َل ُك ْم وََلكِنْ لَا تُحِبّونَ النّا ِ‬
‫فَ َتوَلّى عَ ْنهُمْ َوقَالَ يَا َقوْمِ َلقَدْ أَبَْلغْ ُتكُمْ رِسَاَلةَ رَبّي وَنَصَ ْ‬

‫فهل كان سيدنا صالح يخاطبهم وهم موتى؟‪ .‬نعم يخاطبهم إنصافا لنفسه وإبراء لذمته‪ ،‬مثلما يقع‬
‫واحد في ورطة فيقول له صديقه‪ :‬ل أملك لك شيئا الن‪ :‬فقد نصحتك من قبل‪ .‬أو أن شريرا قد‬
‫قتل‪ ،‬فتقول له‪ " :‬ياما نصحتك "‪ .‬وأنت تتكلم لكي تعطي لنفسك براءة العذر‪ " ،‬أو كما فعل صلى‬
‫ال عليه وسلم مع قتلى بدر وناداهم واحدا واحدا بعد أن ألقوا جثثهم في قليب بدر‪ ،‬وقال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ :‬يا أهل القليب‪ ،‬يا فلن‪ ،‬يا فلن‪ ،‬يا فلن‪ ،‬هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا‪ ،‬فإني قد‬
‫وجدت ما وعدني ربي حقا‪ ،‬فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا‪ ،‬فقال الصحابة‪:‬‬
‫‪ -‬أو تكلمهم يا رسول ال وقد جيّفوا‪ .‬قال‪ :‬وال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم ل يستطيعون‬
‫أن يجيبوني "‪.‬‬
‫وكأن سيدنا صالح قال ذلك ليتذكروا كيف أبلغهم رسالت ال ومنهجه ونصح لهم وتحنن عليهم أن‬
‫يلتزموا بمنهج ال‪ ،‬لكنهم لم يستمعوا للنصح‪ .‬ولم يحبوا الناصحين؛ لن الناصح يريد أن يُخرج‬
‫المنصوح عما ألفه من الشر‪ ،‬وعندما ينصحه أحد يغضب عليه‪.‬‬
‫وبعد أن انتهى من قصة ثمود مع نبيهم يقول سبحانه‪ { :‬وَلُوطا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ‪.} ...‬‬

‫(‪)1022 /‬‬

‫شةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)80‬‬


‫وَلُوطًا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ‬

‫وكما قال الحق‪َ { :‬لقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحا } وقال‪ { :‬وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا } ‪ { ،‬وَإِلَىا َثمُودَ َأخَاهُمْ‬
‫صَالِحا } فهو هنا يأتي باسم " لوط " منصوبا لنه معطوف على من سبقه من أصحاب الرسالت‪.‬‬
‫وما هو زمان الِرسال؟ إن قوله الحق‪ { :‬إِذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ } يفيد أن زمن القول كان وقت الِرسال‪.‬‬
‫وهي الِشارة القرآنية ذات الدللة الواضحة على أن الرسول حين يبعث ويرسل إليه ويبّلغ‬
‫الرسالة ل يتوانى لحظة في أداء المهمة‪ ،‬فكأن تبليغ الرسالة تزامن مع قوله‪ { :‬يَا َقوْمِ }‪ .‬والسلوب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يريد أن يبين لك أنه بمجرد أن يقال له‪ " :‬بلغ " فهو يبلغ الرسالة على الفور‪ ،‬وكأن الرسالة جاءت‬
‫ساعة التبليغ فل فاصل بينهما‪ { .‬وَلُوطا ِإذْ قَالَ ِلقَ ْومِهِ } [العراف‪]80 :‬‬
‫وكلمة " قومه " تعني أنه منهم‪ ،‬ولماذا لم يقل‪ " :‬أخاهم لوطا "؟ وهذه لها معنى يفيد أن السابقين‬
‫من الرسل كانوا من بيئة القوام الذين أرسلوا إليهم؛ فعاد كان " هود " من بيئتهم و " ثمود " كان‬
‫صالح من بيئتهم وإذا كان الحق لم يقل " أخاهم لوطا " فلنلحظ أنه أوضح أنه قد أرسله إلى قومه‪،‬‬
‫وهذه تنبهنا إلى أن لوطا لم يكن من هذا المكان‪ ،‬لن لوطا وإبراهيم عليهما السلم كانا من مدينة‬
‫بعيدة‪ ،‬وجاء إلى هذا المكان فرارا من الضطهاد هو وإبراهيم عليهما السلم‪ ،‬وهذا يبين لنا أن‬
‫لوطا طارئ على هذا المكان‪ ،‬ولم يكن أخاهم المقيم معهم في البيئة نفسها‪ .‬ولكنهم " قومه " لنه‬
‫عاش معهم فترة فعرف بعضهم بعضا‪ ،‬وعرفوا بعضا من صفاته‪ ،‬وأنسوا به‪.‬‬
‫أقول ذلك لننتبه إلى دقة أداء القرآن‪ ،‬فمع أن القصص واحد فسبحانه يضع لنا التمييز الدقيق‪ ،‬ولم‬
‫يقل لهم لوط‪ :‬إن ربي نهاكم عن هذه العملية القذرة وهي إتيان الرجال‪ .‬بل أراد أن يستفهم منهم‬
‫استفهاما قد يردعهم عن العملية ويقبحها‪.‬‬
‫وكان استفهام سيدنا لوط هو استفهام تقريع‪ ،‬واستفهام إنكار‪ ،‬فلم يقل لهم‪ :‬إن ربنا يقول لكم‬
‫امتنعوا عن هذا الفعل‪ ،‬بل يستنكر الفعل كعمل مضاد للفطرة‪ ،‬واستنكار فطري‪...{ .‬أَتَأْتُونَ‬
‫شةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ } [العراف‪]80 :‬‬
‫ا ْلفَاحِ َ‬
‫وهذا يدل على أنه يريد أن يسألهم سؤالً إنكاريّا ليحرجهم‪ ،‬لن العقل الفطري يأبى هذه العملية‪{ :‬‬
‫حدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ }‪.‬‬
‫أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِشَةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ أَ َ‬
‫أي أن هذه المسألة لم تحدث من قبل لنها عملية مستقذرة؛ لن الرجل إنما يأتي الرجل في محل‬
‫القذارة‪ ،‬لكنهم فعلوها‪ ،‬وهذا الفعل يدل على أنها مسألة قد تشتهيها النفس غير السويّة‪ .‬ولكنها‬
‫عملية قذرة تأباها الفطرة السليمة‪.‬‬
‫وكلمة " فاحشة " تعطينا معنى التزيد في القبح؛ فهي ليست قبحا فقط‪ ،‬بل تَزَيّ ٌد وإيغال وتعمق في‬
‫القبح ومبالغة فيه؛ لن الفاحشة تكون أيضا إذا ما أتى الرجل أنثى معدة لهذه العملية لنه لم يعقد‬
‫عليها‪ ،‬ولم يتخذها زوجا‪ ،‬وعندما يتزوجها تصير حِلّ له‪ ،‬لكن إتيان الذكر للذكر هو تزيد في‬
‫الفحش‪.‬‬

‫وإذا كان هذا المر محرما في النثى التي ليست حللً له ويعد فاحشة‪ ،‬فالرجل غير مخلوق لمثل‬
‫شةَ مَا‬
‫هذا الفعل ول يمكن أن يصير حللً‪ ،‬يكون إتيانه فاحشة بمعنى مركّب‪...} .‬أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ‬
‫سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ { [العراف‪]80 :‬‬
‫وقلنا من قبل‪ :‬إن " من " قد تأتي مرة زائدة‪ ،‬ويمكنك أن تقول إنها زائدة في كلم النسان‪ ،‬لكن‬
‫من العيب أن تقول ذلك في كلم ربنا‪ .‬وقوله‪ } :‬مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ {‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي ما سبقكم أحد من العالمين‪ ،‬و " أحد " هي الفاعل‪ ،‬وجاءت " من " لتوضح لنا أنه لم يأت بها‬
‫أحد ابتداءً‪ ،‬مثلما قلنا قديما‪ ،‬حين تأتي لواحد لتقول له‪ " :‬ما عندي مال "‪ .‬فأنت قد نفيت أن يكون‬
‫عندك مال يعتد به‪ .‬وقد يكون معك من بداية ما يقال له أنه مال‪ ،‬وقوله الحق‪...} :‬مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا‬
‫حدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ {‪[ .‬العراف‪]80 :‬‬
‫مِنْ أَ َ‬
‫يعني أنه لم يسبقكم أي أحد من بداية ما يقال له أحد‪ ،‬وسبحانه يريد بذلك أن ينفيها أكثر‪ ،‬و " من "‬
‫التي في قوله‪ } :‬مّن ا ْلعَاَلمِينَ { هي تبعيضية أي ما سبقكم بها أحد " من بعض " العالمين‪ .‬فما هذا‬
‫المر؟ لقد سماها فاحشة‪ ،‬وهي تزيد في القبح ووصفة لها بأنها لم يأتها أحد من العالمين جعلها‬
‫مسألة فظيعة للغاية‪.‬‬
‫لننا حين نبحث هذه المسألة بحثا عقليا نجد أن النسان مخلوق كخليفة في الرض وعليه استبقاء‬
‫نوعه؛ لن كل فرد له عمر محدود‪ ،‬ويخلف الناس بعضهم بعضا‪ ،‬ولبد من بقاء النوع‪ ،‬وقد‬
‫ضمن ال للنسان القوات التي تبقيه‪ ،‬وحلل له الزواج وسيلة لبقاء النوع‪ ،‬ومهمة الخلفة تفرض‬
‫أن يخلف بعضنا بعضا‪.‬‬
‫وكل خليفة يحتاج إلى اقتيات وإلى إنجاب‪ .‬و " القتيات " خلقه ال في الرض التي قدر فيها‬
‫أقواتها‪.‬‬
‫والنوع البشري جعل منه سبحانه الذكر والنثى ومنهما يأتي النجاب الخلفي؛ فهو محمول أولً‬
‫في ظهر أبيه نطفة‪ ،‬ثم في أمه جنينا ثم تضعه لترعاه مع والده ويربيه الثنان حتى يبلغ رشده‪.‬‬
‫وهذه خمس مراحل‪ ،‬وكل مرحلة منها شاقة‪ ،‬فحمل الم في الطفل تسعة شهور هو أمر شاق؛ لن‬
‫الِنسان منا إن حمل شيئا طوال النهار سيصاب بالتعب‪ ،‬لكن الم تحمل الجنين تسعة أشهر‪ ،‬وأراد‬
‫ال أن يكون الحمل انسيابيا بمعنى أن الجنين في نشأته الولى ل يبلغ وزنه إل أقل القليل‪ ،‬ثم‬
‫يكبر بهدوء وبطء لمدة تسعة شهور حتى يكتمل نموه‪.‬‬

‫وهذا الجنين كان صغيرا في بدء تكوينه‪ ،‬ثم صار وزنه غالبا ثلثة كيلو جرام في يوم ولدته‪،‬‬
‫وبين بدء تكوينه إلى لحظة ميلده هناك فترة زمنية ينمو فيها هذا الجنين تدريجيا‪ ،‬وبشكل‬
‫انسيابي‪ ،‬فهو ل يزيد في الوزن كل ساعة‪ ،‬بل ينمو في كل جزء من المليون من الثانية بمقدار‬
‫يناسب هذا الجزء من الثانية‪ ،‬وهذا يعني أن الجنين ينمو انسيابيا بما يناسب الزمن‪.‬‬
‫نلحظ ذلك أيضا في أثناء التدريب على رياضة حمل الثقال أنهم ل يدربون اللعب الناشئ على‬
‫حمل مائة كيلو جرام من أول مرة بل يدربونه على حمل عشرين كيلو جراما في البداية‪ ،‬ثم يزاد‬
‫الحمل تباعا بما ل يجعل حامل الثقال في عنت‪ ،‬ويسمون ذلك‪ :‬انسياب التدريب؛ لن حمل هذه‬
‫الثقال يحتاج إلى تعود‪ ،‬ولهذا ل يتم تدريبه على حمل الثقال فجأة‪ ،‬بل بانسياب بحيث ل يدرك‬
‫الزمن مع الحركة‪ ،‬كذلك النمو‪ ،‬فأنت إذا نظرت إلى طفلك الوليد ساعة تلده أمه‪ ،‬وسأقدر جدلً‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنك ظللت تنظر إليه دائما‪ ،‬فهو ل يكبر في نظرك أبدا؛ لنه ينمو بطريقة غير محسوسة لديك‪،‬‬
‫لكنك لو غبت شهرا عنه وتعود لرؤيته ستدرك نموه‪ ،‬وهذا النمو الزائد قد تجمع في الزمن‬
‫الفاصل بين آخر مرة رأيته فيها قبل غيابك وأول مرة تراه بعد عودتك‪.‬‬
‫ومن لطف ال ‪ -‬إذن ‪ -‬في الحمل أن الجنين ينمو انسيابيا‪ ،‬ولذلك يزداد الرحم كل يوم من بدء‬
‫الحمل إلى آخر يوم فيه‪ ،‬وترى الم الحامل‪ ،‬وهي تسير بوهن وتبطئ في حركتها‪ ،‬ثم يأتي الميلد‬
‫مصحوبا بمتاعب الولدة وآلمها‪ ،‬وبعد أن يولد المولود تستقبله رعاية أمه وأبيه‪ ،‬ويأخذ سنوات‬
‫إلى أن يبلغ الرشد‪ .‬ونعلم أن أطول الجناس طفولة هو النسان‪ ،‬ولذلك نجد الب الذي يريد‬
‫النجاب يتحمل مع الم متاعب التربية‪ ،‬وقد قرن ال هذا المر بشهوة‪ ،‬وهي أعنف شهوة تأتي‬
‫من الِنسان‪ ،‬وبعد ميلد الطفل نجد المرأة تقول‪ :‬لن أحمل مرة أخرى‪ ،‬ولكنها تحمل بعد ذلك‪.‬‬
‫إذن كأن الشهوة هي الطُعم الموضوع في المصيدة ليأتي بالصيد وهو الِنجاب؛ لذلك قرن الحق‬
‫الِنجاب بالشهوة لنقبل عليها‪ ،‬وبعد أن نقبل عليها‪ ،‬ونتورط فيها نتوفر ونبذل الجهد لنربي‬
‫الولد‪ .‬فإذا أنت عزلت هذه الشهوة عن الِنجاب والمتداد تكون قد أخللت وملت عن سنة الكون‪،‬‬
‫لنك ستأخذ اللذة بدون الِنجاب‪ ،‬وإذا تعطل الِنجاب تعطلت خلفة الرض‪ ،‬والشيء الخر أن‬
‫الرجل في الجماع يلعب دور الفاعل‪ ،‬وفي الشذوذ وهو العملية المضادة التي فعلها قوم لوط ينقلب‬
‫حدٍ‬
‫حشَةَ مَا سَ َبقَكُمْ ِبهَا مِنْ أَ َ‬
‫الرجل إلى منفعل بعد أن كان فاعلً‪ } .‬وَلُوطا ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ أَتَأْتُونَ ا ْلفَا ِ‬
‫مّن ا ْلعَاَلمِينَ { [العراف‪]80 :‬‬
‫والفاحشة هي العملية الجنسية الشاذة‪ ،‬ولم يحددها سبحانه من البداية كدليل على أنها أمر معلوم‬
‫شةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّن ا ْلعَاَلمِينَ { يعرفون ما فعلوا‪.‬‬
‫بالفطرة‪ ،‬فساعة يقول‪ } :‬أَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ‬
‫وإن افترضنا أن هناك أغبياء أو من يدعون الغباء ويرفضون الفهم‪ ،‬فقد جاء بعدها بالقول‬
‫ش ْه َوةً‪{ ...‬‬
‫الواضح‪ } :‬إِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ َ‬

‫(‪)1023 /‬‬

‫ش ْه َوةً مِنْ دُونِ النّسَاءِ َبلْ أَنْتُمْ َقوْمٌ ُمسْ ِرفُونَ (‪)81‬‬
‫إِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ َ‬

‫والِسراف هو تجاوز الحد‪ ،‬وال قد جعل للشهوة لديك مصرفا طبيعيا منجبا‪ ،‬وحيث تأخذ أكثر من‬
‫ذلك تكون قد تجاوزت الحد‪ ،‬ولقد جعل ال للرجل امرأة من جنس البشر وجعلها وعاء للِنجاب‪،‬‬
‫وتعطيك الشهوة وتعطيها أنت الشهوة‪ ،‬وتعطيك الِنجاب‪ ،‬وتشتركان من بعد ذلك في رعاية‬
‫الولد‪ .‬وأي خروج عما حدده ال يكون الدافع إليه هو الشهوة فحسب لكي ينبغي أن يكون الدافع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إلى هذه العملية مع النثى هو الشهوة والنجاب معا؛ لبقاء النوع‪ ،‬ولذلك وصف الحق فعل قوم‬
‫لوط‪َ ...{ :‬بلْ أَنْ ُتمْ َقوْمٌ مّسْ ِرفُونَ }‪ .‬ويأتي الحق سبحانه بما أجابوا به عن سؤال سيدنا لوط‪َ { :‬ومَا‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ‪} ...‬‬
‫كَانَ َ‬

‫(‪)1024 /‬‬

‫طهّرُونَ (‪)82‬‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّا أَنْ قَالُوا أَخْ ِرجُوهُمْ مِنْ قَرْيَ ِت ُكمْ إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَتَ َ‬
‫َومَا كَانَ َ‬

‫وبذلك تمادى هؤلء القوم رافضين أن يقبح أحد لهم الشذوذ؛ لذلك قالوا‪ { :‬أَخْ ِرجُوهُمْ مّن‬
‫قَرْيَ ِتكُمْ‪.} ...‬‬
‫وما هي الحجة التي من أجلها إخراج لوط والذين آمنوا معه من القرية؟ {‪...‬أَخْ ِرجُوهُمْ مّن قَرْيَ ِت ُكمْ‬
‫طهّرُونَ } [العراف‪]82 :‬‬
‫إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَتَ َ‬
‫فهل التطهر عيب! ل‪ ،‬لكنهم عاشوا في النجاسة وألفوها‪ ،‬ويرفضون الخروج منها‪ ،‬لذلك كرهوا‬
‫التطهر‪ .‬والمثال على ذلك حين نجد شابا يريد أن ينضم إلى صداقة جماعة في مثل عمره‪ ،‬لكنه‬
‫وجدهم يشربون الخمور‪ ،‬فنصحهم بالبتعاد عنه‪ ،‬ووجدهم يغازلون النساء فحذرهم من مغبة‬
‫الخوض في أعراض الناس‪ ،‬لكن جماعة الصدقاء كرهت وجوده بينهم لنه لم يألف الفساد‬
‫فيقولون‪ :‬لنبتعد عن هذا المستقيم المتزهد المتقشف‪ ،‬وكأن هذه الصفات صارت سُبة في نظر‬
‫أصحاب المزاج المنحرف‪ ،‬مثلهم مثل الحيوان الذي يحيا في القذارة‪ ،‬وإن خرج إلى النظافة‬
‫يموت‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ِإلّ امْرَأَتَهُ‪} ...‬‬

‫(‪)1025 /‬‬

‫فَأَنْجَيْنَا ُه وَأَهَْلهُ إِلّا امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ (‪)83‬‬

‫وهم حين أرادو طرد لوط وأهله‪ ،‬إنما كانوا يجازفون‪.‬‬


‫إنهم بذلك قد تعجلوا العقاب‪ ،‬وجاءهم العقاب وأنجى الحق سبحانه لوطا وأهله بتدبير حكيم ل‬
‫يحتاج فيه سبحانه إلى حد‪ ،‬وإذا تساءل أحد‪ :‬ومن هم أهل لوط الذين أنجاهم ال معه؟ أهم أهل‬
‫النسب أم أهل التدين والتبعية؟‪ .‬إن كان أهله بالنسب فالحق يستثني منهم " إمرأته " ‪ ،‬وهذا دليل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على أن أهل البيت آمنوا بما قاله لوط وكذلك التباع أيضا { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ ِإلّ امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ‬
‫ا ْلغَابِرِينَ }‪.‬‬
‫إذن كان مع لوط أيضا بعض من أهله وبعض من التباع‪ ،‬وكانوا من المتطهرين‪ ،‬والتطهر هو‬
‫أن يترفع النسان عن الرجس والسوء‪ .‬ولذلك نجد سيدنا شعيبا حين ينصح وقومه‪ {:‬فََأ ْوفُواْ ا ْلكَ ْيلَ‬
‫وَا ْلمِيزَانَ وَلَ تَ ْبخَسُواْ النّاسَ َأشْيَاءَ ُهمْ‪[} ...‬العراف‪]85 :‬‬
‫ويتعجب القوم سائلين شعيبا‪َ {:‬أصَلَاو ُتكَ تَ ْأمُ ُركَ أَن نّتْ ُركَ مَا َيعْ ُبدُ ءابَاؤُنَآ‪[} ...‬هود‪]87 :‬‬
‫إنهم يتعجبون من أن الصلة تنهى عن ذلك‪ ،‬لقد أعمى ضللهم بصيرتهم‪ ،‬فلم يعرفوا أن الصلة‬
‫تنهى عن كل شيء‪ .‬وكذلك فعل بعض من الكافرين حين اتهموا سيدنا رسول ال بأنه مجنون‪{:‬‬
‫َوقَالُواْ ياأَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ إِ ّنكَ َلمَجْنُونٌ }[الحجر‪]6 :‬‬
‫ومن قولهم يتأكد غباء تفكيرهم‪ ،‬فماداموا قد قالوا‪ { :‬نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ ال ّذكْرُ } فمن الذي نزل هذا الذكر؟‪،‬‬
‫والذكر هو القرآن‪ ،‬والذي نزله هو ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فكيف يعترفون بالقرآن كذكر‪ ،‬ثم‬
‫يتهمون الرسول بأنه " مجنون "؟‪ ،‬لنهم ماداموا قد قالوا عن القرآن إنه ذكر‪ ،‬وإنه قد نزل عليه‪،‬‬
‫ولم يأت به من عنده‪ ،‬فكيف يكون مجنونا؟ إنهم هم الكاذبون‪ ،‬وقولهم يؤكد أن فكرهم نازل هابط‪.‬‬
‫وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق يقول سبحانه‪ { :‬فَأَنجَيْنَا ُه وَأَهَْلهُ ِإلّ امْرَأَتَهُ‬
‫كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ } [العراف‪]83 :‬‬
‫إن إمرأة سيدنا لوط لم تدخل في النجاء لنها من الغابرين‪ ،‬و " غبر " تأتي لمعان متعددة‪ ،‬فهي‬
‫تعني إقامة ومكثا بالمكان‪ ،‬أو تعني أي شيء مضى‪ ،‬كما يقال‪ :‬هذا الشيء غبرت أيامه؛ أي‬
‫مضت أيامه‪ ،‬ولسائل أن يقول‪ :‬كيف تأتي الكلمة الواحدة للمعنى ونقيضه؟ فغبر تعني بقي‪ ،‬وغبر‬
‫أيضا تعني مضى وانتهى‪ .‬نقول‪ :‬إن المعنى ملتق هنا في هذه الية‪ ،‬فمادام الحق ينجيه من العذاب‬
‫الذي نزل على قوم لوط في القرية فنجد زوجته لم تخرج معه‪ ،‬بل بقيت في المكان الذي نزل فيه‬
‫العذاب‪ ،‬وبقيت في الماضي‪ ،‬وهكذا يكون المعنى ملتقيا‪ .‬فإن قلت مع الباقين الذين آتاهم العذاب‬
‫فهذا صحيح‪ .‬وإن قلت إنها صارت تاريخا مضى فهذا صحيح أيضا‪ِ { :‬إلّ امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ‬
‫ا ْلغَابِرِينَ }‪.‬‬
‫ونحن ل ندخل في تفاصل لماذا كانت امراته من الغابرين؛ لن البعض تكلم في حقها بما ل يقال‪،‬‬
‫وكأن ال يدلس على نبي من أنبيائه‪ ،‬ل‪ ،‬نحن ل نأخذ إل ما قاله الحق بأنها كانت مخالفة لمنهجه‬
‫وغير مؤمنة به‪.‬‬

‫ونلحظ أيضا أن الحق تحدث عن امرأة نوح وامرأة لوط في مسألة الكفر؛ فقال‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً‬
‫حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ َفخَانَتَا ُهمَا‪} ...‬‬
‫لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُوحٍ وَامْرََأتَ لُوطٍ كَانَتَا َت ْ‬
‫[التحريم‪]10 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَاِلحَيْنِ فَخَانَتَا ُهمَا { وتساءل البعض عن معنى‬
‫ودقق النظر في كلمة } تَ ْ‬
‫الخيانة وهل المقصود بها الزنا؟‪ .‬ونقول‪ :‬ربنا ل يدلس على نبي له‪ ،‬لكن أن تؤمن الزوجة أو‬
‫تكفر‪ ،‬فهذه مسألة اختيارية‪ .‬وكأن ال سبحانه يوضح لنا أن الرسول مع أنه رسول من ال إل أنه‬
‫ل يستطيع أن يفرض إيمانا على امرأته؛ فالمسألة هي حرية العتقاد‪ .‬وانظر إلى التعبير القرآني‪:‬‬
‫ح وَامْرََأتَ لُوطٍ {‪.‬‬
‫} ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُو ٍ‬
‫حتَ عَ ْبدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا‬
‫إياك أن تظن أن أيّا منهما متكبرة على زوجها؛ لن الحق يقول‪ } :‬كَانَتَا َت ْ‬
‫حتَ عَبْدَيْنِ { لكن الِيمان‬
‫{ أي أن إمرة وقوامة الرجل مؤكدة عليها‪ ،‬يشير إلى ذلك قوله‪ } :‬كَانَتَا َت ْ‬
‫هو مسالة اختيار‪ ،‬وهذا الختيار متروك لكل إنسان‪ ،‬وأكد الحق ذلك في مسألة ابن سيدنا نوح‪{:‬‬
‫إِنّهُ لَ ْيسَ مِنْ أَهِْلكَ }[هود‪]46 :‬‬
‫وحاول البعض أن يلصق تهمة الزنا بامرأة نوح وامرأة لوط‪ ،‬وهم في ذلك يجانبون الصدق‪ ،‬إنه‬
‫حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ‬
‫محض افتراء‪ ،‬وقد نبهنا الحق إلى ذلك فقال عن امرأة نوح وامرأة لوط‪ {:‬كَانَتَا َت ْ‬
‫عِبَادِنَا }[ التحريم‪]10 :‬‬
‫ولنفهم أن الختيار في العقيدة هو الذي جعلهما من الكافرين‪ ،‬وأن الرسولين نوحا ولوطا لم‬
‫يستطيعا إدخال اليمان في قلبي الزوجتين؛ حتى يتأكد لدينا أن العقيدة ل يقدر عليها إل الِنسان‬
‫عوْنَ ِإذْ قَاَلتْ‬
‫نفسه‪ ،‬ولذلك ضرب سبحانه لنا مثلً آخر‪َ {:‬وضَرَبَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ آمَنُواْ امْرََأتَ فِرْ َ‬
‫عمَلِ ِه وَنَجّنِي مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[التحريم‪:‬‬
‫ن وَ َ‬
‫عوْ َ‬
‫َربّ ابْنِ لِي عِن َدكَ بَيْتا فِي ا ْلجَنّ ِة وَنَجّنِي مِن فِرْ َ‬
‫‪]11‬‬
‫فهذه زوجة فرعون المتجبر؛ الذي " ادّعى اللوهية " ‪ ،‬لكنه ل يقدر أن يمنع امرأته من أن تؤمن‬
‫بال‪ ،‬وهكذا نجد نبيّا ل يقدر أن يقنع امرأته بالِيمان‪ ،‬ونجد مدّعي اللوهية عاجزا عن أن يجعل‬
‫امرأته كافرة مثله‪ ،‬وهذا يدل على أن العقيدة أمر اختياري محمي بكل أنواع الحماية؛ حتى ل‬
‫يختار الِنسان دينه إل على أساس من اقتناعه ل على أساس قهره‪.‬‬
‫عمْرَانَ‪[} ...‬التحريم‪]12 :‬‬
‫وضرب ال مثلً آخر‪َ {:‬ومَرْيَمَ ابْ َنتَ ِ‬
‫ونلحظ أن الحق لم يأت بأسماء زوجتي نوح ولوط‪ ،‬وكذلك لم يأت باسم امرأة فرعون‪ ،‬لكنه‬
‫أورد لنا اسم مريم واسم والدها‪ .‬فلماذا كان الِبهام أولً؟ لنعلم أنه من الجائز جدّا أن يحصل مثل‬
‫هذا المر لي امرأة‪ ،‬فقد تكون تحت جبار وكافر‪ ،‬وتكون هي مؤمنة‪ ،‬وقد تكون تحت عبد مؤمن‬
‫ول يلمس الِيمان قلبها‪ } .‬فَأَنجَيْنَا ُه وَأَهْلَهُ ِإلّ امْرَأَ َتهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ {‪[ .‬العراف‪]83 :‬‬
‫فكلمة " أنجيناه " تشير إلى أن عذابا سيقع في المكان الذي فيه قوم لوط‪ ،‬ولنه سبحانه شاء أن‬
‫يعذب جماعة ول يعذب جماعة أخرى‪ ،‬فلبد أن يدفع الجماعة التي كتب لها النجاة إلى الخروج‪.‬‬
‫طهّرُونَ }‬
‫وهذا الخروج أراده لهم من يكرهونهم‪ ،‬فقد قالوا‪َ... {:‬أخْرِجُوهُمْ مّن قَرْيَ ِتكُمْ إِ ّنهُمْ أُنَاسٌ يَتَ َ‬
‫[العراف‪]82 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكن ربنا هو الذي أخرجهم‪ ،‬والِخراج كان من العذاب الذي نزل بهؤلء المجرمين؛ إنه كان‬
‫لِنجاء لوط وأهله مما نزل بهؤلء الفجرة‪.‬‬
‫ويأتي العذاب من الحق‪ } :‬وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ مّطَرا فَانْظُرْ‪{ ...‬‬

‫(‪)1026 /‬‬

‫وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ َمطَرًا فَانْظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ (‪)84‬‬

‫فهل كان ذلك المطر مثل المطر الذي ينزل عادة؟ ل‪ ،‬بل هو مطر من نوع آخر‪ .‬فسبحانه يقول‪{:‬‬
‫س ّومَةً عِندَ رَ ّبكَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ }[الذاريات‪]34-33 :‬‬
‫سلَ عَلَ ْيهِمْ حِجَا َرةً مّن طِينٍ * مّ َ‬
‫لِنُرْ ِ‬
‫يقول الحق‪ :‬إنه سبعذبهم بالمطر‪ ،‬فلننتبه أنه ليس المطر التقليدي‪ ،‬بل إنه يعذبهم ويستأصلهم بنوع‬
‫آخر من المطر‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬انظر " أي فاعتبر يا من تسمع هذا النص‪ ،‬وهذه القصة تبين وتوضح أن ال ل يدع‬
‫المجرمين يصادمون دعوة ال على لسان رسله دون عقاب‪.‬‬
‫شعَيْبا‪} ...‬‬
‫ويقول سبحانه‪ { :‬وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَا ُهمْ ُ‬

‫(‪)1027 /‬‬

‫شعَيْبًا قَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ قَدْ جَاءَ ْت ُكمْ بَيّنَةٌ مِنْ رَ ّبكُمْ فََأ ْوفُوا‬
‫وَإِلَى َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ‬
‫حهَا ذَِل ُكمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ‬
‫ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ وَلَا تَ ْبخَسُوا النّاسَ أَشْيَا َءهُ ْم وَلَا ُتفْسِدُوا فِي الْأَ ْرضِ َبعْدَ ِإصْلَا ِ‬
‫كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)85‬‬

‫و " مدين " هو ابن من أبناء سيدنا إبراهيم جاء واستقر في هذا المكان‪ ،‬فهو علم على شخصه‪،‬‬
‫وعلم على المكان الذي أقام فيه وسمي المكان باسمه‪ ،‬فلما تكاثر أبناؤه وصاروا قبيلة أخذت القبيلة‬
‫اسمه‪ .‬إذن فـ " مدين " اسم عََلمٌ على ابن إبراهيم‪ ،‬وأطلق على المكان الذي استقر فيه من طور‬
‫شعَيْبا }‪.‬‬
‫سيناء إلى الفرات‪ ،‬وأطلق على القبيلة‪ { :‬وَإِلَىا َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ‬
‫الحق سبحانه وتعالى هنا يكرر " أخ " ليبين لك؛ أنه إن قسا عليهم مرة فسيحنو عليهم مرة أخرى؛‬
‫لنهم إخوة له ومأنوس بهم‪ ،‬وفيهم عاش ويعرفون عنه كل شيء‪ ،‬وكان مدين قد تزوج من رقبة‬
‫ابنة سيدنا لوط‪ ،‬وحين تكاثر الثنان صاروا قبيلة‪ ،‬ويبلغهم سيدنا شعيب بالقضية العقدية التي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يبلغها كل رسول‪ { :‬يَا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ }‪.‬‬
‫والعبادة هي الطاعة للمر والطاعة للنهي‪ ،‬وأنت ل تطيع أمر آمر ول نهي ناه إل إذا كان أعلى‬
‫منك‪ ،‬لنه إن كان مساويا لك‪ ،‬فبعد أن يقول لك‪ " :‬افعل كذا " ستسأله أنت‪ :‬لماذا؟‪ ،‬وبعد أن ينهاك‬
‫عن شيء ستسأله أيضا‪ :‬لماذا؟‪ .‬لكن الب حينما يقول لطفله‪ :‬أنت ل تفعل الشيء الفلني‪ ،‬فالبن‬
‫ل يناقش؛ لنه يعرف أن أباه هو من يطعمه ويشربه ويكسوه‪ ،‬وحين يكبر الطفل فهو يناقش؛ لن‬
‫شعَيْبا قَالَ يَا َقوْمِ‬
‫ذاتيته تتكون‪ ،‬ويريد أن يعرف المر الذي سيقدم عليه‪ { .‬وَإِلَىا َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ‬
‫اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ ِإلَـاهٍ غَيْ ُرهُ قَدْ جَآءَ ْتكُمْ بَيّ َنةٌ مّن رّ ّبكُمْ‪[ } ...‬العراف‪]85 :‬‬
‫ومادام قد قال لهم‪ { :‬اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ } فهو رسول قادم ومرسل من ال‪ ،‬ول بد‬
‫أن تكون معجزة يثبتها‪ ،‬إل أن شعيبا لم يأت لنا بالمعجزة‪ ،‬إنما جاء بالبينة‪َ { .‬قدْ جَآءَ ْتكُمْ بَيّنَةٌ مّن‬
‫رّ ّبكُمْ فََأ ْوفُواْ ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ‪[ } ...‬العراف‪]85 :‬‬
‫لن كل المعاصي والكفر تدفع إلى الخلل في الكيل والميزان‪ ،‬وإذا كان شعيب قد قال ذلك لقومه‬
‫فلبد أن الخلل في الكيل والميزان كان هو المر الشائع فيهم‪ .‬فيأتي ليعالج المر الشائع‪ .‬وهم‬
‫كانوا يبخسون الكيل والميزان‪.‬‬
‫ويظن الناس في ظاهر المر أنها عملية سهلة‪ ،‬وأن القبح فيها قليل‪ ،‬والختلس فيها هين يسير‪،‬‬
‫فحين يبخس في الميزان ولو بجزء قليل‪ ،‬إنما يأخذ لنفسه في آخر المر جزءا كبيرا‪ .‬وأنت ساعة‬
‫تكيل وتزن وتطفف فأنت تفعل ذلك في من يشتري‪ .‬وستذهب أنت بعد ذلك لتشتري من أناس‬
‫كثيرين سيفعلون مثلما فعلت‪ ،‬فإذا ما وفيت الكيل والميزان‪ ،‬فأنت تفعل ما هو في مصلحتك‪ ،‬لنك‬
‫تنشر العدل السلوكي بين الناس بادئا بنفسك‪ ،‬ومصالحك كلها مع الخرين‪.‬‬
‫إنك حين تبيع أي سلعة ولو كانت بلحا وتنقص في الميزان‪ ،‬وستحقق لنفسك ربحا ليس فيه حق‪،‬‬
‫وإن كنت تكيل قمحا لتبيعه وأنقصت الكيل‪ ،‬فأنت تأخذ ما ليس لك‪ ،‬والقمح والبلح هما بعض من‬
‫مقومات حياتك؛ لنك تحتاج إلى سلع كثيرة عند من يزن‪ ،‬وعند من يكيل‪ ،‬فإن أنقصت الميزان أو‬
‫الكيل فلسوف يفعلون مثلما فعلت فيما يملكون لك‪ ،‬وبذلك تخسر أنت ويصبح الخسران عاما‪.‬‬

‫خسُواْ النّاسَ َأشْيَاءَ ُهمْ‪[ { ...‬العراف‪]85 :‬‬


‫} فََأ ْوفُواْ ا ْلكَ ْيلَ وَا ْلمِيزَانَ َولَ تَبْ َ‬
‫وإذا كانت الخسارة في الكيل والميزان طفيفة ومحتملة‪ ،‬فمن باب أولى أل نبخس الناس أشياءهم‬
‫فل نظلمهم بأخذ أموالهم والستيلء على حقوقهم‪ ،‬فل نسرف لن السارق يأخذ ما تصل إليه يده‪،‬‬
‫ول نغتصب‪ ،‬ول نختلس‪ ،‬ول نرتشي‪ ،‬لنه إذا كان وفاء الكيل هو أول مطلوب ال منكم مع أن‬
‫الخسارة فيه طفيفة‪ ،‬إذن فبخس الناس أشياءهم يكون من باب أولى‪.‬‬
‫حهَا‪[ { ...‬العراف‪]85 :‬‬
‫ويتابع سبحانه‪ } :‬وَلَ ُتفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ َب ْعدَ ِإصْلَ ِ‬
‫وبذلك نكون أمام أكثر من أمر جاء بها نبي ال شعيب‪ } :‬اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ وهذه العبادة لتربي فيهم مهابة وتزيدهم حبا واحترا ًم للمر العلى‪ ،‬وكذلك ليخافوا من جبروته‬
‫سبحانه‪ .‬وبعد ذلك ضرورة يكون المر بالوفاء بالكيل والميزان‪ ،‬والزجر عن أن يبخسوا الناس‬
‫حهَا { ‪،‬‬
‫أشياءهم‪ ،‬ثم النهي والتحذير من الِفساد في الرض } َولَ ُتفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ َبعْدَ ِإصْلَ ِ‬
‫والِصلح الذي يطلبه ال منا أن نستديمه أو نرقيه إنما يتأتى بإيجاد مقومات الحياة على وجه‬
‫جميل‪.‬‬
‫مثال ذلك الهواء وهو العنصر الول في الحياة المسخرة لك؛ يصرّفه سبحانه حتى ل يفسد‪.‬‬
‫والنعيم الثاني في الحياة وهو الشراب؛ إنه سبحانه ينزل لك الماء من السماء‪ ،‬ثم القوت الذي‬
‫يخرجه لك من الرض‪ .‬والمواشي التي تأخذ منها اللبن‪ ،‬والوبار‪ ،‬والصواف‪ ،‬والجلود‪ ،‬كل ذلك‬
‫سخره ال لك‪ ،‬وهذا إصلح في الرض‪ ،‬لكن هل هذه كل المقومات الساسية؟ ل؛ لنه إن وجدت‬
‫كل هذه المقومات الساسية ثم وجد الغصب‪ ،‬والسرقة‪ ،‬والرشوة‪ ،‬والختلس‪ ،‬فسيفسد كل شيء‪،‬‬
‫ول يعدل كل ذلك ويقيمه ويجعله سويا إل الدين؛ لنه كمنهج يمنع الِفساد في الرض‪َ } .‬قدْ‬
‫ن َولَ تَ ْبخَسُواْ النّاسَ أَشْيَا َءهُ ْم َولَ ُتفْسِدُواْ فِي الَرْضِ‬
‫ل وَا ْلمِيزَا َ‬
‫جَآءَ ْتكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّ ّب ُكمْ فََأ ْوفُواْ ا ْلكَ ْي َ‬
‫حهَا‪[ { ...‬العراف‪]85 :‬‬
‫َبعْدَ ِإصْلَ ِ‬
‫إذن فهذه الشياء التي هي إيفاء الكيل والميزان يأتي المر بها‪ ،‬ثم يتبعها بما ينهى عنه وهو أل‬
‫نبخس الناس أشياءهم وأل نفسد في الرض بعد إصلحها‪ ،‬كل ذلك يجمع المنهج‪ .‬أوامر ونواهي‪،‬‬
‫وقد يبدو في ظاهر المر أنها مسائل تقيد حرية النسان‪ ،‬فنقول‪ :‬ل تنظر إلى نفسك أيها الِنسان‬
‫وأنت بمعزل عن المجتمع الواسع‪ ،‬فأنت ل تملك من مصالحك إل أمرا واحدا‪ ،‬وهذا المر الذي‬
‫تملكه أنت من مصالحك يكون أقل الشياء عندك‪ ،‬ولكن المور الخرى التي تحتاج إليها هي بيد‬
‫غيرك‪ ،‬فإن أنت وفيت الكيل والميزان‪.‬‬

‫فذلك خير لك؛ فالذي يقيس لك القماش ل يغشك‪ ،‬والذي يزن لك ما ليس عندك ل يغشك‪ ،‬والذي‬
‫يكيل لك الذي ليس عندك ل يغشك‪ ،‬إذن فأنت واحد منهي عن أن تفعل ذلك‪ ،‬وجميع الناس‬
‫منهيون أن يفعلوا ذلك معك‪ ،‬وبذلك تكون أن الكاسب‪.‬‬
‫وإذا جئت إلى قوله تعالى‪ } :‬وَلَ تَ ْبخَسُواْ النّاسَ َأشْيَاءَ ُهمْ { ‪ ،‬فأنت مأمور أل تبخس الناس‬
‫أشياءهم‪ ،‬وكل الناس مأمورون أل يبخسوك شيئا‪ ،‬وإذا أفسدت في الرض بعد إصلحها فالناس‬
‫مأمورون أيضا أل يفسدوا هذه الرض وبذلك تكون احظ منهم في كل شيء‪ .‬ولذلك يجب على‬
‫كل مكلف حين يستقبل تكليفا قد يكون شاقا على نفسه أن يتأمل هذا التكليف وأن يقول لنفسه‪ :‬إياك‬
‫أن تنظر إلى مشقة التكليف على نفسك‪ ،‬ولكن انظر إلى ما يؤديه لنفسه‪ :‬إياك أن تنظر إلى‬
‫التكليف لك‪ :‬لتنظر إلى محارم غيرك‪ ،‬فقد أمر غيرك أل ننظر محارمك‪ ،‬وفي هذا عزة لك‪ .‬وإذا‬
‫أمرك التكليف أل تضع يدك في جيب غيرك وتسرق‪ ،‬فقد أمر كل الناس أل يضعوا أيديهم في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جيوبك ليسرقوك‪ ،‬وبهذا نعيش في أمان‪.‬‬
‫وإذا طلب التكليف منك وأنت غني أن تخرج زكاة مالك إياك أن تقول‪ :‬مالي وتعبي وعرقي؛ لن‬
‫المال مال ال‪ ،‬وأنت كإنسان مخلوق ليس لك إل توجيه الحركة‪ ،‬والحركة تكون بطاقة مخلوقة ل‪،‬‬
‫والعقل الذي خطط مخلوق ل‪ ،‬والنفعال الذي انفعل لك في الرض من خلق ال‪ ،‬ولكن الحق‬
‫احترم عملك وناتجه وفرض عليك أن تخرج منه زكاة مقدرة‪ .‬فإياك أن تقول‪ :‬أنه يأخذ مني‪،‬‬
‫لماذا؟ لن عالم الغيار باد وظاهر أمامك‪ ،‬وكم رأيت من قوي ضعف‪ ،‬ومن غني افتقر‪ ،‬فإذا كان‬
‫سبحانه قد طلب منك أن تعطي الفقير وتقويه‪ ،‬فإن افتقرت فسيفعل لك ذلك‪ ،‬وفي ذلك تأمين‬
‫حياتك؛ لنك تعيش في مجتمع فل تأس على نفسك إن مرت بك الغيار لن مجتمعك اليماني لن‬
‫ضعَافا خَافُواْ‬
‫يتركك‪ ،‬أنت أو أولدك‪ ،‬ويقول الحق‪ {:‬وَلْ َيخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّ ًة ِ‬
‫عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُواّ اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َق ْولً سَدِيدا }[النساء‪]9 :‬‬
‫فإن أردت أن تطمئن على أولدك الصغار بعد موتك فانظر لليتام في مجتمعك وكن أبا لهم‪،‬‬
‫وحين تصير أنت أبا لهم‪ ،‬وهذا أب لهم‪ ،‬وذلك أب لهم‪ ،‬سيشعر اليتيم أنه فقد أبا واحدا‪ ،‬لكنه يحيا‬
‫في مجتمع إيماني أوجد له من كل المؤمنين آباء‪ ،‬فل يحزن‪ ،‬وكذلك لن تخاف على أولدك إن‬
‫صاروا أيتاما بعد أن غادرتهم إلى لقاء ربك؛ لنك رعيت اليتامى وعشت في مجتمع يرعاهم‪.‬‬
‫ولكنك تحزن عندما ترى يتيما مضيعا في مجتمع ل يقوم على شأنه وتقول لنفسك‪ :‬أنا إن مت‬
‫سيضيع أبنائي هكذا‪.‬‬

‫وهكذا تكون تكاليف اليمان هي تأمينا للحياة‪ .‬ومثال ذلك حين نقول للمرأة‪ :‬تحجبي‪ ،‬ول تبدي‬
‫زينتك لغير محارمك‪ ،‬قد تظن المرأة في ظاهر المر أننا ضيقنا على حريتها‪ ،‬لنها تنسى أن‬
‫المنهج يؤمن لها قبح الشيخوخة‪ ،‬لنها حين تتزوج صغيرة‪ ،‬ثم يصل عمرها فوق الربعين ويتغير‬
‫شكلها من متاعب الحمل وتربية البناء‪ ،‬ثم يرى زوجها فتاة في العشرين وغير محتشمة قد تفتنه‬
‫وتصرفه عن زوجته‪ ،‬وينظر إلى زوجته نظر غير المكترث بها‪ ،‬وغير الراغب فيها‪ .‬فالشرع قد‬
‫أمر بالحجاب للمرأة وهي صغيرة؛ ليصون لها زوجها إن صارت كبيرة غير مرغوب فيها‪ .‬فإن‬
‫منعها وهي صغيرة فقد منع عنها وهي كبيرة؛ كل ذلك إذن من تأمينات المنهج للحياة‪.‬‬
‫إذن فإيفاء الكيل‪ ،‬وعدم إبخاس الناس أشياءهم وعدم الفساد في الرض بعد إصلحها خير‬
‫للجميع في الدنيا‪ ،‬بالضافة إلى خير الخرة‪ ،‬ولذلك يذيل الحق الية الكريمة بقوله‪...} :‬ذاِلكُمْ خَيْرٌ‬
‫ّلكُمْ إِن كُن ُتمْ ّم ْؤمِنِينَ {‪[ .‬العراف‪]85 :‬‬
‫و " ذلكم " إشارة إلى ما سبق من المر بعبادة ال فل إله غيره وإلى المر باستيفاء الكيل‬
‫والميزان‪ ،‬وأل نبخس الناس أشياءهم‪ ،‬وأل نفسد في الرض بعد إصلحها‪ ،‬ووضع الحق ذلك في‬
‫إطار } إِن كُن ُتمْ ّم ْؤمِنِينَ { على الرغم من أن الخير سيأتي أيضا لغير المؤمن‪ ،‬وهكذا تكون كلمة "‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خير " تشمل خيرا في الدنيا‪ ،‬وخيرا في الخرة للمؤمن فقط‪ .‬أما الكافر فسيأخذ الخير في الدنيا‬
‫فقط‪ ،‬ول خير له في الخرة‪ ،‬فإن كنتم مؤمنين فسيضاعف الخير لكم ليصير خيرا دائما في الدنيا‬
‫والخرة‪.‬‬
‫ل صِرَاطٍ تُوعِدُونَ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬ولَ َتقْعُدُواْ ِب ُك ّ‬

‫(‪)1028 /‬‬

‫عوَجًا وَا ْذكُرُوا إِذْ‬


‫عدُونَ وَ َتصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ َآمَنَ بِ ِه وَتَ ْبغُو َنهَا ِ‬
‫ل صِرَاطٍ تُو ِ‬
‫وَلَا َتقْعُدُوا ِب ُك ّ‬
‫كُنْتُمْ قَلِيلًا َفكَثّ َركُمْ وَانْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْل ُمفْسِدِينَ (‪)86‬‬

‫ل صِرَاطٍ } أي ل تقعدوا على كل طريق‪ ،‬لن من يقعد على الطريق قد‬


‫وقوله‪َ { :‬ولَ َت ْقعُدُواْ ِب ُك ّ‬
‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }‬
‫ل ْقعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ‬
‫يمنع من يحاول الذهاب ناحية الرسول‪ .‬والشيطان قد قال‪َ ... {:‬‬
‫[العراف‪]16 :‬‬
‫فحين تقعدون على كل صراط يصير كل منكم شيطانا والعياذ بال؛ لن الشيطان قال لربنا‪:‬‬
‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ } ‪ ،‬وهنا ينهى الحق عن القعود بكل صراط؛ لن الصراط سبيل‪،‬‬
‫ل ْقعُدَنّ َل ُه ْم صِرَا َ‬
‫{ َ‬
‫وحين يجمع الحق السبل لينهي عنها‪ ،‬إنما ليذكرنا أن له صراطا مستقيما واحدا‪ ،‬وسبيلً واحدا‬
‫يجب علينا أن نتبعه‪ .‬ولذلك يقول‪ {:‬فَاتّ ِبعُو ُه َولَ تَتّ ِبعُواْ السّ ُبلَ فَ َتفَرّقَ ِب ُكمْ عَن سَبِيِلهِ‪[} ...‬النعام‪:‬‬
‫‪]153‬‬
‫إذن فللشيطان سبل متعددة وسبيل الستقامة واحد‪ ،‬لن للطرق المتعددة غوايات منوعة‪ ،‬فهذا‬
‫طريق يغوي بالمال‪ ،‬وذلك يغوي بالمرأة‪ ،‬وذاك يغوي بالجاه‪ .‬إذن فالغوايات متعددة‪.‬‬
‫أو أن الهداية التي يدعو إليها كل رسول شائعة في كل ما حوله؛ فمن يأتي ناحية أي هداية يجد‬
‫من يصده‪ .‬ومن يطلب هداية الرسول يلقى التهديد والوعيد‪ ،‬والمنع عن سبيل الحق‪ .‬ولماذا يفعلون‬
‫عوَجا }‪.‬‬
‫ذلك؟ تأتي إجابة الحق‪ { :‬وَتَ ْبغُو َنهَا ِ‬
‫إنهم يبغون ويودون شريعة ال معوجة ومائلة عن الستقامة‪ ،‬أو تصفونها بأنها غير مستقيمة‬
‫لتصدوا الناس عن الدخول فيها‪ ،‬ولتنفروا منها‪ ،‬مثال ذلك السخرية من تحريم الخمر والدعاء‬
‫بأنها تعطي النفس السرور والنسجام‪ .‬إن الواحد من هؤلء إنما ينفر من شريعة ال‪ ،‬ويدعي أنها‬
‫شريعة معوجة‪ ،‬فنجد من يحلل الربا؛ لن تحريم الربا في رأيهم السقيم المنحرف يضيق على‬
‫الناس فرصهم‪ .‬إنهم يبغون شريعة ال معوجة ليستفيدوا هم من اعوجاجها‪ ،‬وينفروا الناس منها‪.‬‬
‫سدِينَ }‪[ .‬العراف‪]86 :‬‬
‫{‪...‬وَا ْذكُرُواْ إِذْ كُنْ ُتمْ قَلِيلً َفكَثّ َركُ ْم وَانْظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمفْ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نعلم أن كل ردع‪ ،‬وكل توجيه يهدف إلى أمرين اثنين‪ :‬ترغيب وترهيب‪ ،‬وعلى سبيل المثال نجد‬
‫المدرس يقول للتلميذ‪ :‬من يجتهد فسنعطيه جائزة‪ ،‬وهذا ترغيب‪ ،‬ويضيف الستاذ للتلميذ‪ :‬ومن‬
‫يقصر في دروسه فسنفصله من المدرسة؛ وهذا ترهيب‪ .‬وما دام الناس صالحين لعمل الخير‬
‫ولعمل الشر بحكم الختيار المخلوق فيهم ل فل بد من مواجهتهم بالمرين بالترغيب في الخير‬
‫والترهيب من الشر‪.‬‬
‫والحق هنا يقول في الترغيب‪ { :‬وَا ْذكُرُواْ ِإذْ كُنْتُمْ قَلِيلً َفكَثّ َركُمْ }‪.‬‬
‫وكأنه يطالبهم بأن يكونوا أصحاب ذوق وأدب‪ ،‬فنحن نعلم أن مدين تزوج وأنجب عددا من الذرية‬
‫وكانوا قلة في العدد فكثرهم حتى صاروا قبيلة‪ ،‬وكانوا ضعافا فقواهم‪ ،‬وكانوا فقراء فأغناهم‪ ،‬فمن‬
‫صنع فيكم ولكم كل هذه المسائل أل يصح أن تطيعوا أوامره‪ .‬كان عليكم أن تطيعوا أوامره‪ .‬وهذا‬
‫ترغيب وتحنين‪.‬‬
‫ونعلم أن شعيبا هو خامس نبي جاء بعد نوح‪ ،‬وهود‪ ،‬وصالح‪ ،‬ولوط‪ .‬لذلك يذكرهم الحق بما‬
‫حدث لمن كذبوا النبياء الربعة السابقين‪ .‬وقد يكون قوم نوح معذورين لنهم كانوا البداية‪ ،‬فلم‬
‫يسبقهم من أخذ بالعذاب لتكذيب رسلهم‪ ،‬ثم صارت من بعد ذلك قاعدة هي أن من يكذب الرسل‬
‫خذْنَا بِذَن ِبهِ‪[} ...‬العنكبوت‪]40 :‬‬
‫يلقى العذاب‪ ،‬مصداقا لقوله الحق‪َ {:‬فكُلّ أَ َ‬
‫فإذا كان شعيب ينذرهم بأن ينظروا كيف كان عاقبة المفسدين ممن سبقوهم فهذا تذكير بمن‬
‫أغرقهم ومن أخذتهم الصيحة‪ ،‬ومن كفأ وقلب ودمر ديارهم‪ ،‬ومن جاء لهم بمطر من سجيل‪ ،‬فإن‬
‫لم يعرفوا واجبهم نحو ال الذي أنعم عليهم بأن كانوا قليلً فكثرهم‪ ،‬فعليهم أن يخافوا عاقبة‬
‫المفسدين‪ .‬إذن فقد جمع لهم بين الترغيب والترهيب‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وَإِن كَانَ طَآ ِئفَةٌ مّنكُمْ آمَنُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)1029 /‬‬

‫ح ُكمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَ ُهوَ‬


‫س ْلتُ ِب ِه وَطَا ِئفَةٌ َلمْ ُي ْؤمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتّى يَ ْ‬
‫وَإِنْ كَانَ طَا ِئفَةٌ مِ ْنكُمْ َآمَنُوا بِالّذِي أُرْ ِ‬
‫خَيْرُ الْحَا ِكمِينَ (‪)87‬‬

‫وهذا القول يوضح لنا أن طائفة آمنت‪ ،‬وطائفة لم تؤمن‪ ،‬ثم جاء المر للطائفتين‪ ،‬فأمر المؤمنين‬
‫بالصبر تأنيس لهم‪ ،‬وأمر الكافرين بالصبر تهديد لهم‪.‬‬
‫وهذه دقة القرآن في الداء وعظمة البيان والبلغة‪ .‬إذن‪ ،‬فكلمة‪ :‬فاصبروا نفعت في التعبير عن‬
‫المر بالصبر للذين آمنوا‪ ،‬ونفعت في كشف المصير الذي ينتظر الذين لم يؤمنوا‪ ،‬فصبر الكافرين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مآله وعاقبته‪ ،‬إما أن يخجلوا من أنفسهم فيؤمنوا‪ ،‬وإما أن يجدوا العذاب‪ ،‬وصبر المؤمنين يقودهم‬
‫إلى الجنة‪ ،‬وأن الذي يحكم هو ال وهو خير الحاكمين؛ لن المحكوم عليهم بالنسبة له سواء‪ ،‬فل‬
‫أحد منهم له أفضلية على أحد‪ ،‬ول أحد منهم قريبه‪ ،‬وإل قرابة القربى والزلفى إليه‪ ،‬وسبحانه هو‬
‫العادل بمطلق العدل‪ ،‬ول يظلم أحدا‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬قَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)1030 /‬‬

‫ب وَالّذِينَ َآمَنُوا َم َعكَ مِنْ قَرْيَتِنَا َأوْ لَ َتعُودُنّ فِي‬


‫شعَ ْي ُ‬
‫قَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا مِنْ َق ْومِهِ لَنُخْ ِرجَ ّنكَ يَا ُ‬
‫مِلّتِنَا قَالَ َأوََلوْ كُنّا كَارِهِينَ (‪)88‬‬

‫علمنا من قبل أن المل هم السادة‪ ،‬والعيان الذين يملون العيون هيبة‪ ،‬ويملون القلوب هيبة‪،‬‬
‫ويملون الماكن تحيزا‪ .‬وقد استكبر المل من قوم شعيب عن اليمان به‪ ،‬طغوا وهددوه بأن‬
‫يخرجوه من أرضهم‪ .‬وقالوا مثلما قال من سبقوهم‪ .‬فقد نادى بعض من قوم لوط بأن يخرجوا‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ َأخْرِجُواْ آلَ لُوطٍ‬
‫لوطا ومن آمن معه من قريتهم‪ .‬قال تعالى‪َ {:‬فمَا كَانَ َ‬
‫طهّرُونَ }[النمل‪]56 :‬‬
‫مّن قَرْيَ ِتكُمْ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَتَ َ‬
‫وكلمة " قرية " تأخذ في حياتنا وضعا غير وضعها الحقيقي‪ ،‬فالقرية الن هي الموقع القل من‬
‫المدينة الصغيرة‪ .‬لكنها كانت قديما البلد الذي توجد فيه كل متطلبات الحياة‪ ،‬بدليل أنهم كانوا‬
‫يقولوا عن مكة " أم القرى "‪ .‬وقد وضع شعيبا ومن آمن معه بين أمرين‪ :‬إما أن يخرجوهم حتى‬
‫ل يفسدوا من لم يؤمن فيؤمن‪ ،‬وإما أن يعودوا إلى الملة‪.‬‬
‫وهنا " لفتة لفظية " أحب أن تنتبهوا إليها في قوله‪َ { :‬أوْ لَ َتعُودُنّ فِي مِلّتِنَا } لن العود يقتضي‬
‫وجودا سابقا خرج عنه‪ ،‬ونريد أن نعود إلى الصل‪ ،‬فهل كان شعيب والذين آمنوا معه على ملتهم‬
‫ثم آمنوا والمطلوب منه أنهم يعودون؟‬
‫علينا أن ننتبه إلى أن الخطاب هنا يضم شعيبا والذين معه‪ .‬وقد يصدق أمر العودة إلى الملة‬
‫القديمة على الذين مع شعيب‪ ،‬ولكنها ل تصدق على شعيب لنه نبي مرسل‪ ،‬وهنا ننتبه أيضا إلى‬
‫أن الذي يتكلم هنا هم المل من قوم مدين‪ ،‬ووضعوا شعيبا والذين آمنوا معه أمام اختيارين‪ :‬إما‬
‫العودة إلى الملة‪ ،‬وإمّا الخروج‪ ،‬ونسوا أن الحق قد يشاء تقسيما آخر غير هذين القسمين‪ .‬فقد‬
‫يوجد ويريد سبحانه أمرا ثالثا ل يخرج فيه شعيب والذين آمنوا معه‪ ،‬وأيضا ل يعودون إلى ملة‬
‫الكفر‪ ،‬كأن تأتي كارثة تمنع ذلك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد عزل المل من قوم شعيب أنفسهم عن المقادير العليا‪ ،‬لن ال قد يشاء غير هذين المرين‪ ،‬فقد‬
‫يمنعكم أمر فوق طاقتكم أن ُتخْرِجوا؛ شعيبا ومن آمن معه؛ بأن يصيبكم ضعف ل تستطيعون معه‬
‫أن تخرجوهم‪ ،‬أو أن يسلط ال عليكم أمرا يفنيكم وينجي شعيبا والذين آمنوا معه‪ .‬إذن أنت أيها‬
‫الِنسان الحادث‪ ،‬العاجز ل تفتئت ول تفتري وتختلق على القوة العليا في أنك تخير بين أمرين قد‬
‫يكون ل أمر ثالث ل تعلمه‪ ،‬ويأتي الرد على لسان مَن آمنوا مع شعيب‪ { :‬قَالَ َأوََلوْ كُنّا كَارِهِينَ }‬
‫[العراف‪]88 :‬‬
‫لقد سأل شعيب والذين معه‪ :‬أيمكن أن يتم قهر أحد على أن يترك الِيمان إلى الكفر‪ ،‬كأن الكافرين‬
‫قد تناسوا أن التكليف مطمور في الختيار‪ ،‬فالِنسان يختار بين سبيل الِيمان وسبيل الكفر‪.‬‬
‫ويتتابع القول من شعيب والذين آمنوا معه‪َ { :‬قدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ َكذِبا‪} ...‬‬

‫(‪)1031 /‬‬

‫قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلّ ِتكُمْ َبعْدَ إِذْ َنجّانَا اللّهُ مِ ْنهَا َومَا َيكُونُ لَنَا أَنْ َنعُودَ فِيهَا ِإلّا أَنْ‬
‫ق وَأَ ْنتَ‬
‫حّ‬‫شيْءٍ عِ ْلمًا عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َق ْومِنَا بِالْ َ‬
‫سعَ رَبّنَا ُكلّ َ‬
‫يَشَاءَ اللّهُ رَبّنَا وَ ِ‬
‫خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ (‪)89‬‬

‫وقولهم‪ { :‬قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبا إِنْ عُدْنَا فِي مِلّ ِتكُمْ } أي أنهم يعلمون أن العودة إلى مثل هذه‬
‫الملة لون من الكذب المتعمد على ال‪ .‬لن الكذب أن تقول كلما غير واقع‪ ،‬وتعلن قضية غير‬
‫حقيقية ثم قلت على مقتضى علمك فهذا مطلق كذب‪ .‬لكن إن كنت عارفا بالحقيقة ثم قلت غيرها‬
‫فهذا افتراء واختلق وكذب‪ .‬والذين آمنوا مع شعيب عليه السلم يعلمون أن الملة القديمة ملة‬
‫باطلة‪ ،‬وهم قد شهدوا مع شعيب حلوة الِيمان بال؛ لذلك رفضوا الكذب المتعمد على ال‪.‬‬
‫ويقولون بعد ذلك‪َ { :‬بعْدَ ِإذْ نَجّانَا اللّهُ مِ ْنهَا َومَا َيكُونُ لَنَآ أَن ّنعُودَ فِيهَآ ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ‪} ...‬‬
‫[العراف‪]89 :‬‬
‫قد عرفوا أن التكليف اختيار وهم قد اختاروا الِيمان‪ ،‬وأقروا وأكدوا إيمانهم بأنه سبحانه له طلقة‬
‫القدرة‪ ،‬فقالوا‪ِ { :‬إلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ }‪ .‬فمشيئته سبحانه فوق كل مشيئة‪ .‬ألم يقل رسول ال صلى ال‬
‫ب واحدٍ يصرفُه حيث‬
‫عليه وسلم‪ " :‬إن قلوب بني آدم كلّها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقَ ْل ٍ‬
‫شاء "‪.‬‬
‫لصْنَامَ‪[} ...‬إبراهيم‪:‬‬
‫وألم يقل سيدنا إبراهيم وهو أبو النبياء والرسل‪ {:‬وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن ّنعْبُدَ ا َ‬
‫‪]35‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لم يقل‪ :‬واجنبنا‪ .‬بل قالها واضحة ودعا ربّه أن يبعده وينأى به وببنيه أن يعبدوا الصنام‪ ،‬لنه‬
‫يعلم طلقة قدرته سبحانه‪ .‬إذن فمن آمنوا مع شعيب احترموا طلقة القدرة في الحق؛ لذلك قالوا‪:‬‬
‫{ َومَا َيكُونُ لَنَآ أَن ّنعُودَ فِيهَآ ِإلّ أَن َيشَآءَ اللّهُ رَبّنَا‪[ } ...‬العراف‪]89 :‬‬
‫ولكن ال ل يشاء لمعصوم أن يعود‪ ،‬وسبحانه يهدي من آمن بهداية الدللة ويمده بالمزيد من‬
‫هداية المعونة إلى الطريق المستقيم‪.‬‬
‫شيْءٍ عِلْما عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ‬
‫ويتابع أهل اليمان مع شعيب‪...{ .‬وَسِعَ رَبّنَا ُكلّ َ‬
‫َق ْومِنَا بِا ْلحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ } [العراف‪]89 :‬‬
‫جاء قولهم‪ { :‬عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا } لن خصومهم من المل بقوتهم وبجبروتهم قالوا لهم‪ :‬انتم بين‬
‫أمرين اثنين‪ :‬إما أن تخرجوا من القرية‪ ،‬وإما أن تعودوا في ملتنا‪ .‬وأعلن المؤمنون برسولهم‬
‫شعيب‪ :‬أن العود في الملة ل يكون إل بالختيار وقد اخترنا أل نعود‪ .‬إذن فليس أمامهم إل‬
‫الخراج بالجبار؛ لذلك توكل المؤمنون على ال ليتولهم‪ ،‬ويمنع عنهم تسلط هؤلء الكافرين‪.‬‬
‫ق وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ } [العراف‪]89 :‬‬
‫حّ‬‫{ عَلَى اللّهِ َت َوكّلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َق ْومِنَا بِالْ َ‬
‫وساعة نسمع كلمة " افتح " أو " فتَح " أو " فَتْح " نفهم أن هناك شيئا مغلقا أو مشكلً‪ ،‬فإن كان من‬
‫المُحسّات يكون الشيء مغلقا والفتح يكون بإزالة الغلق وهي القفال‪ ،‬وإن كان في المعنويات‬
‫فيكون الفتح هو إزالة الشكال‪ ،‬والفتح الحسي له نظير في القرآن‪ ،‬وحين نقرأ سورة يوسف نجد‬
‫قوله الحق‪:‬‬

‫عهُمْ وَجَدُواْ ِبضَاعَ َتهُمْ ُر ّدتْ إِلَ ْيهِمْ قَالُواْ ياأَبَانَا مَا نَ ْبغِي هَـا ِذهِ ِبضَاعَتُنَا ُر ّدتْ‬
‫{ وََلمّا فَتَحُواْ مَتَا َ‬
‫إِلَيْنَا‪[} ...‬يوسف‪]65 :‬‬
‫عهُمْ { تعني أن المتاع الذي معهم كان مغلقا واحتاج إلى فتح حسي ليجدوا‬
‫وكلمة } وََلمّا فَتَحُواْ مَتَا َ‬
‫بضاعتهم كما هي‪ .‬وأيضا يقول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَسِيقَ الّذِينَ ا ّت َقوْاْ رَ ّبهُمْ إِلَى اّلجَنّةِ ُزمَرا‬
‫حتْ أَ ْبوَا ُبهَا‪[} ...‬الزمر‪]73 :‬‬
‫حَتّىا ِإذَا جَآءُوهَا َوفُتِ َ‬
‫ومادام هناك أبواب تفتح فهذا فتح حسي‪ ،‬وقد يكون الفتح فتح علم مثلما نقول‪ :‬ربنا فتح علينا‬
‫حدّثُو َنهُم ِبمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَ ْيكُمْ لِ ُيحَآجّوكُم ِبهِ عِنْدَ رَ ّبكُمْ‪[} ...‬البقرة‪:‬‬
‫باليمان والعلم‪ ،‬ويقول الحق‪ {:‬أَتُ َ‬
‫‪]76‬‬
‫فما دام ربنا قد علمهم من الكتاب الكثير فهذا فتح علمي‪ .‬ويكون الفتح بسوق الخير والمداد به‪.‬‬
‫سكَ َلهَا‪[} ...‬فاطر‪]2 :‬‬
‫حمَةٍ فَلَ ُممْ ِ‬
‫والمثال على ذلك قوله الحق‪ {:‬مّا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّ ْ‬
‫سمَآءِ‬
‫وكذلك قوله سبحانه‪ {:‬وَلَوْ أَنّ َأ ْهلَ ا ْلقُرَىا آمَنُو ْا وَا ّتقَواْ َلفَتَحْنَا عَلَ ْيهِمْ بَ َركَاتٍ مّنَ ال ّ‬
‫وَالَرْضِ‪[} ...‬العراف‪]96 :‬‬
‫والبركات من السماء كالمطر وهو يأتي من أعلى‪ ،‬وهو سبب فيما يأتي من السفل أي من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرض‪.‬‬
‫والفتح أيضا بمعنى إزالة إشكال في قضية بين خصمين‪ ،‬ففي اليمن حتى الن‪ ،‬يسمون القاضي‬
‫الذي يحكم في قضايا الناس " الفاتح " لنه يزيل الشكالت بين الناس‪ .‬وقد يكون " الفتح " بمعنى‬
‫" النصر " ‪ ،‬مثل قوله الحق‪َ {:‬وكَانُواْ مِن قَ ْبلُ يَسْ َتفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ َكفَرُواْ‪[} ...‬البقرة‪]89 :‬‬
‫لقد كانوا ينتظرون النبي صلى ال عليه وسلم لينتصروا به على الذين كفروا‪ ،‬ومن الفتح أيضا‬
‫الفصل في المر من قوله الحق هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪ } :‬رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا‬
‫ق وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ‪[ { ...‬العراف‪.]89 :‬‬
‫وَبَيْنَ َقوْمِنَا بِا ْلحَ ّ‬
‫وهذا القول هو دعاء للحق‪ :‬احكم يا رب بيننا وبين قومنا بالحق بنصر الِيمان وهزيمة الكفر‪،‬‬
‫وأنت خير الفاتحين فليس لك هوى ضد أحد أو مع أحدٍ من مخلوقاتك‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬وقَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ َكفَرُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)1032 /‬‬

‫شعَيْبًا إِ ّن ُكمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (‪)90‬‬


‫َوقَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َق ْومِهِ لَئِنِ اتّ َبعْتُمْ ُ‬

‫وهنا يقول المل من قوم مدين لمن آمنوا ولمن كان لديهم الستعداد والتهيؤ للِِيمان محذرين لهم‬
‫من اتباع شعيب حتى ل يظل المل والكبراء وحدهم في الضلل‪:‬‬
‫وساعة نرى " اللم " في " لئن " نعلم أن هنا قَسَما دلّت عليه هذه " اللم "‪ .‬وهنا أيضا " إن "‬
‫الشرطية‪ ،‬والقسم يحتاج إلى جواب‪ ،‬والشرط يحتاج كذلك إلى جواب‪ ،‬فإذا اجتمع شرط وقسم‬
‫اكتفينا بالِتيان بجواب المتقدم والسابق منهما‪ ،‬مثل قولنا‪ " :‬وال إن فعلت كذا ليكونن كذا "‪ { :‬لَئِنِ‬
‫شعَيْبا إِ ّنكُمْ إِذا لّخَاسِرُونَ }‪.‬‬
‫اتّ َبعْتُمْ ُ‬
‫وماذا سيخسرون؟ سيخسرون لنهم كانوا سيأخذون أكثر من حقهم حين يطففون الكيل ويخسرون‬
‫الميزان‪ ،‬والقوي يأخذ من الضعيف؛ فإذا ما ارتبطوا بالمنهج واتبعوه خسروا ما كانوا يأخذونه من‬
‫تطفيف الكيل وبخس وخسران الميزان بمنهج‪ .‬وهذه هي الخسارة في نظر المنحرف‪.‬‬

‫(‪)1033 /‬‬

‫جفَةُ فََأصْبَحُوا فِي دَارِ ِهمْ جَا ِثمِينَ (‪)91‬‬


‫خذَ ْتهُمُ الرّ ْ‬
‫فَأَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والرجفة هي الهزّة العنيفة التي ترج الِنسان رجّا غير اختياري‪ ،‬وصاروا بها جاثمين أي قاعدين‬
‫على ركبهم؛ ول حراك بهم؛ ميتين‪ ،‬وفي هيئة الذلة‪ .‬وهذا يدل على أن كل منهم ساعة ُأخِذ تذكر‬
‫كل ما فعله من كفر وعصيان‪ ،‬وأراد استدراك ما فاته من مخالفاته للرسول‪ ،‬وأخذ يوبخ نفسه‬
‫ويندم على ما فعل‪ ،‬ولم تأخذه البهة والستكبار‪ ،‬لن هناك لحظة تمر على الِنسان ل يقدر فيها‬
‫أن يكذب على نفسه‪ ،‬ولذلك نجد أن من ظلم وطغى وأخذ حقوق الغير ثم يأتيه الموت يحاول أن‬
‫ينادي على كل من بغى عليه أو ظلمه ليعطيه حقه لكنه ل يجده‪ .‬ولذلك يسمون تلك اللحظة أنها‬
‫التي يؤمن فيها الفاجر‪ ،‬لكن هل ينفع إيمانه؟ طبعا ل‪ .‬في هذه الحالة ل ينفع نفسا إيمانها لم تكن‬
‫آمنت من قبل‪.‬‬
‫شعَيْبا كَأَن‪} ...‬‬
‫ويتابع سبحانه وصف ما حدث لهم إثر الرجفة‪ { :‬الّذِينَ كَذّبُواْ ُ‬

‫(‪)1034 /‬‬

‫شعَيْبًا كَانُوا هُمُ ا ْلخَاسِرِينَ (‪)92‬‬


‫شعَيْبًا كَأَنْ لَمْ َيغْ َنوْا فِيهَا الّذِينَ كَذّبُوا ُ‬
‫الّذِينَ َكذّبُوا ُ‬

‫وغنى بالمكان‪ :‬أقام به؛ فحين صاروا جاثمين وخلت منهم الديار‪ ،‬كأنهم لم تكن لهم إقامة إذ‬
‫شعَيْبا إِ ّنكُمْ إِذا‬
‫استؤصلوا وأهلكوا إهلكا كامل‪ ،‬وإذا كان هؤلء المكذبون قد قالوا‪ { :‬لَئِنِ اتّ َبعْتُمْ ُ‬
‫شعَيْبا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ }‪.‬‬
‫لّخَاسِرُونَ } فيكون مآلهم هو ذكره ربنا بقوله‪ { :‬الّذِينَ كَذّبُواْ ُ‬
‫ويتتابع قوله الحق عن سيدنا شعيب‪ { :‬فَ َتوَلّىا عَ ْنهُ ْم َوقَالَ يا َقوْمِ‪} ...‬‬

‫(‪)1035 /‬‬

‫حتُ َلكُمْ َفكَ ْيفَ آَسَى عَلَى َقوْمٍ كَافِرِينَ (‪)93‬‬


‫فَ َتوَلّى عَ ْنهُمْ َوقَالَ يَا َقوْمِ َلقَدْ أَبَْلغْ ُتكُمْ رِسَالَاتِ رَبّي وَ َنصَ ْ‬

‫و " تولى عنهم " أي تركهم وسار بعيدا عنهم‪ ،‬وحدثهم متخيلً إياهم { َلقَدْ أَبَْلغْ ُتكُمْ ِرسَالَتِ رَبّي‬
‫حتُ َلكُمْ } ‪ ،‬فكأن المنظر العاطفي النساني حين رأى كيف أصبحوا‪ ،‬وتعطف عليهم وأسى‬
‫وَ َنصَ ْ‬
‫من أجلهم‪ ،‬لكن يرد هذا التعاطف متسائل متعجبا { َفكَ ْيفَ آسَىا عَلَىا َقوْمٍ كَافِرِينَ }؟ إنهم نوع‬
‫من الناس ل يحزن عليهم المؤمن‪ .‬فما بالنا بنبي ورسول؟ إنه يحدث نفسه وكأنه يقول‪ :‬ما‬
‫قصرت في مهمتي‪ ،‬بل أبلغتكم رسالتي التي تلقيتها من ال‪ ،‬والرسالت إذا جمعت فالمقصود‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫منها أو رسالته ورسالة الرسل السابقين في المور التي لم يحدث فيها نسخ ول تغيير‪ ،‬أو رسالته‬
‫أي في كل أمر بلغ به؛ لنه كان كلما نزل عليه حكم يبلغه لهم‪ .‬أو أن لكل خير رسالة‪ ،‬ولكل شر‬
‫رسالة‪ ،‬وقد أبلغهم كل ما وصله من ال‪ ،‬ولم يقتصر على البلغ بل أضاف عليه النصح‪ ،‬والنصح‬
‫غير البلغ‪ ،‬فالبلغ أن تقول ما وصلك وينتهي المر‪ ،‬و " النصح " هو اللحاح عليهم في أن‬
‫يثوبوا إلى رشدهم وأن يتبعوا نهج ال‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ { :‬ومَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ‪} ...‬‬

‫(‪)1036 /‬‬

‫َومَا أَ ْرسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَ ِبيّ إِلّا َأخَذْنَا َأهَْلهَا بِالْبَأْسَا ِء وَالضّرّاءِ َلعَّلهُمْ َيضّرّعُونَ (‪)94‬‬

‫وعرفنا من قبل أن القرية هي البلد الجامع لكل مصالح سكانها في دنياهم‪.‬‬


‫والمقصود هنا أن القرية التي يرسل إليها الحق رسولً ثم ُتكَذّب فسبحانه يأخذ أهلها بالبأساء‬
‫والضراء‪ .‬والبأساء هي المصيبة تصيب النسان في أمر خارج عن ذاته؛ من مال يضيع‪ ،‬أو‬
‫تجارة تبور وتهلك‪ ،‬أو بيت يهدم‪ ،‬والضراء هي المصيبة التي تصيب النسان في ذاته ونفسه‬
‫كالمرض‪ ،‬ويصيبهم الحق بالبأساء والضراء لنهم نسوا ال في الرخاء فأصابهم بالبأساء والضراء‬
‫لعلهم يرجعون إلى ربهم ويتعرفون إليه‪ ،‬ليكون معهم في السراء والضراء‪ .‬والحق يقول‪ {:‬وَِإذَا‬
‫شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ‬
‫مَ ّ‬
‫مّسّهُ‪[} ...‬يونس‪]12 :‬‬
‫وكان من الواجب على النسان أنه ساعة ما تمسه الضراء أن يتجه إلى خالقه‪ ،‬ولقد جعل ال‬
‫الضراء وسيلة تنبيه يتذكر بها النسان أن له ربا‪ ،‬وفي هذه اللحظة يجيب الحق النسان‬
‫جعَُلكُمْ‬
‫شفُ السّو َء وَيَ ْ‬
‫المضطر‪ ،‬ويغيثه مصداقا لقوله الحق‪َ {:‬أمّن يُجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ إِذَا دَعَا ُه وَ َيكْ ِ‬
‫خَُلفَآ َء الَ ْرضِ أَإِلَـاهٌ مّعَ اللّهِ قَلِيلً مّا َت َذكّرُونَ }[النمل‪]62 :‬‬
‫وإذا صنع ال مع المضطر هذا فقد يثوب إلى رشده ويقول‪ :‬إن الله الذي لم أجد لي مفزعا إل‬
‫هو‪ ،‬ل يصح أن أنساه‬
‫وكأن الحق سبحانه وتعالى يذكرنا بطلقة قدرته حين يقول‪ {:‬فََلوْل إِذْ جَآ َءهُمْ بَ ْأسُنَا َتضَرّعُواْ‪} ...‬‬
‫[النعام‪]43 :‬‬
‫وكأنه سبحانه يطلب منا حين تجيء البأساء أن نفزع إليه ول نعتقد أننا نعيش الحياة وحدنا‪ ،‬بل‬
‫نعيش في الحياة بالسباب المخلوقة ل وبالمسبب وهو ال‪ ،‬فالذي عزت عليه السباب وأتعبته‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يروح للمسبب‪ ،‬ولذلك يأخذ سبحانه أية قرية ل تصدق الرسل بالبأساء والضراء لعلهم يضرعون‬
‫وذلك رحمة بهم‪.‬‬
‫ستْ قُلُو ُبهُمْ‪[} ...‬النعام‪]43 :‬‬
‫ويقول‪ {:‬وَلَـاكِن َق َ‬
‫فهل يتركهم ال في السراء والضراء دائما؟ ل‪ ،‬فهو سبحانه يجيئهم ويبتليهم بالبأساء والضراء‬
‫ليلفتهم إليه‪ ،‬فإذا لم يلتفتوا إلى ال‪ ،‬فسبحانه يبدل مكان السيئة الحسنة‪ ،‬لذلك يقول‪ { :‬ثُمّ َبدّلْنَا َمكَانَ‬
‫السّيّ َئةِ‪} ...‬‬

‫(‪)1037 /‬‬

‫عفَوْا َوقَالُوا قَدْ مَسّ آَبَاءَنَا الضّرّاءُ وَالسّرّاءُ فََأخَذْنَا ُهمْ َبغْتَ ًة وَ ُهمْ لَا‬
‫حسَنَةَ حَتّى َ‬
‫ثُمّ َبدّلْنَا َمكَانَ السّيّ َئةِ الْ َ‬
‫شعُرُونَ (‪)95‬‬
‫يَ ْ‬

‫ويعطي سبحانه بعد ذلك لهم الرزق‪ ،‬والعافية‪ ،‬والغنى؛ لن الحق إذا أراد أن يأخذ جبارا أخذ‬
‫عزيز مقتدر فهو يمهله‪ ،‬ويرخي له العِنان ليتجبر ‪ -‬كفرعون ‪ -‬من أجل أن يأخذه بغتة‪ ،‬كأنه‬
‫يسقط من أعلى‪ ،‬فيعليه من أجل أن ينزل به ‪ -‬كما يقولون ‪ -‬على جذور رقبته‪ُ { :‬ثمّ بَدّلْنَا َمكَانَ‬
‫عفَوْاْ }‪.‬‬
‫حسَنَةَ حَتّىا َ‬
‫السّيّ َئةِ الْ َ‬
‫ل وقوة أي أنه ما أخذهم سبحانه بالبأساء والضراء إلّ وكان القصد‬
‫عفَوْا) أي كثروا عددا وما ً‬
‫(َ‬
‫منها أن يلفتهم إليه‪ ،‬فلم يلتفتوا‪ ،‬فيمدهم ويعطي لهم العافية وما يسرّهم‪ ،‬ثم يصيبهم بالعذاب بغتة‪{ .‬‬
‫عفَوْ ْا ّوقَالُواْ قَدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّآ ُء وَالسّرّآءُ فََأخَذْنَا ُهمْ َبغْتَ ًة وَ ُهمْ‬
‫حسَنَةَ حَتّىا َ‬
‫ثُمّ َبدّلْنَا َمكَانَ السّيّ َئةِ الْ َ‬
‫شعُرُونَ } [العراف‪]95 :‬‬
‫لَ َي ْ‬
‫ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى بعد أن تكلم على خلفة الِنسان في الرض‪ ،‬وأنه أمده بكل ما‬
‫تقوم به حياته‪ ،‬وأمده بالقيم بواسطة مناهج السماء‪ ،‬وأنزل المنهج مبينا ما أحل‪ ،‬وما حرم بعد أن‬
‫كانوا يحلون ما حرم ال‪ ،‬ويحرمون ما أحل ال‪ ،‬فبيّن لهم الحق أن الذي خلق الخلق عالم بما‬
‫يصلحهم فأحله‪ ،‬وعالم بما يفسدهم فحرّمه‪ ،‬فليس لكم أن تقترحوا على ال حللً‪ ،‬ول حراما‪،‬‬
‫ولكن بعض المشككين في منهج ال قالوا ‪ -‬ومازالوا يقولون ‪ :-‬إذا كان ال قد أحل شيئا وحرم‬
‫شيئا فلماذا خلق ما حرم؟ ونقول‪ :‬لقد خلق سبحانه كل شيء لحكمة قد تكون لغير الطعام والشراب‬
‫والكسوة‪ ،‬فبعض الشياء يكون مخلوقاَ لمهمة وإن لم تكن مباشرة لك؛ فالبترول مثلً مخلوق‬
‫لمهمة أن يوجد طاقة‪ ،‬لذلك ل نشربه‪.‬‬
‫والخنزير مخلوق لحكمة ل نعلمها نحن‪ ،‬وإنما يعلمها من خلق‪ ،‬لنه من الجائز أن يكون أداة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للتقاط الميكروبات التي تنشأ من عفن الشياء التي يستعملها الناس في حياتهم‪ ،‬إذن فكل شيء‬
‫مخلوق لحكمة‪ ،‬فل تخرج أنت حكمة الشياء من غير مراد خالقها؛ لن صانع الصنعة هو الذي‬
‫يحدد الشيء الذي يوجد وينشئ القوة لها‪ .‬ونحن نعلم ‪ -‬مثلً ‪ -‬أن أنواع الوقود كثيرة‪ ،‬فهناك "‬
‫البنزين " النقي جدا ويرقمونه برقم (‪ )1‬وهو مخصص للطائرة‪ ،‬ووقود السيارة وهو " البنزين "‬
‫رقم (‪ .)2‬فإذا استخدمنا وقود ماكينة وآلة بدل ماكينة أخرى أفسدناها‪ .‬كذلك خلق ال النسان‬
‫وسخر له كل المخلوقات وأوضح‪ :‬هذا يصلح لك مباشرة‪ ،‬وهذا مخلوق ليخدمك خدمة غير‬
‫مباشرة فدعه في مكانه‪.‬‬
‫وبعد أن عرض الحق سبحانه وتعالى مواقف الجنة‪ ،‬ومواقف النار‪ ،‬ومواقف أصحاب العراف‬
‫الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم؛ وبعد أن بين المنهج كله أراد أن يبين أن ذلك ليس نظريا‪ ،‬وإنما‬
‫هو واقع كوني أيضا‪ .‬ففرق بين الشيء يقال نظرا‪ ،‬والشيء يقع واقعا‪ ،‬فقص علينا قصص النبياء‬
‫حين أرسلهم إلى أقوامهم‪ ،‬فمن كذب بالرسل أخذه ال أخذ عزيز مقتدر بواقع يشهده الجميع؛ فذكر‬
‫نوحا مع قومه‪ ،‬وذكر عادا وأخاهم هودا‪ ،‬وذكر ثمود وأخاهم صالحا‪ ،‬ومدين وأخاهم شعيبا‪ ،‬وقوم‬
‫لوط وسيدنا لوطا‪.‬‬

‫وبين ما حدث للمؤمنين بالنجاة‪ ،‬وما حدث للكافرين بالعطب والذلل‪ ،‬ويوضح الحق سبحانه‬
‫وتعالى‪ :‬أنني آخذ الناس بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون‪ ،‬لن النسان مخلوق أفاض ال عليه‬
‫من صفات جلله‪ ،‬ومن صفات جماله الشيء الكثير‪ ،‬فال قوي‪ ،‬وأعطى النسان من قوته‪ .‬وال‬
‫غني وأعطى النسان من غناه‪ ،‬وال حكيم وأعطى النسان من حكمته‪ ،‬وال عليم وأعطى النسان‬
‫من علمه‪.‬‬
‫وإذا أردت أن تستوعب ما يقربك إلى كمال العلم في ال‪ ،‬فانظر ما علمه لكل خلق ال‪ .‬ومع ذلك‬
‫فعلمهم ناقص‪ .‬ويريدون إلى العلم الذاتي في الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬وربما غر النسان بالسباب‬
‫وهي تستجيب له‪ ،‬فهو يحرث ويبذر ويروي‪ ،‬وإذا بالرض تعطيه أكلها‪ .‬وهو يصنع الشيء‬
‫فيستجيب له‪ .‬كل ذلك قد يغريه بأن الشياء استجابت لذاتيته فيذكره ال‪ :‬أن أذكر من ذللها لك‪{.‬‬
‫طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق‪]7-6 :‬‬
‫ن الِنسَانَ لَ َي ْ‬
‫كَلّ إِ ّ‬
‫وساعة ما يجد الِنسان أن كل السباب مواتية له فعليه أن يذكر ال‪ .‬إن الِنسان بمجرد إرادة أن‬
‫يقوم من مكانه فهو يقوم‪ .‬وبمجرد إرادة أن يصفع أحدا فهو يصفعه؛ لن البعاض التي في‬
‫الِنسان خاضعة لمراده‪ ،‬فإذا كانت أبعاضك خاضعة لمراداتك أنت‪ ،‬وأنت مخلوق‪ ،‬فكيف ل يكون‬
‫الكون كله مرادا للحق بالِرادة؟ فإذا استغنى الِنسان بالسباب‪ ،‬فالحق يلفته إليه‪ .‬فالقادر الذي كان‬
‫بفتوته يفعل‪ .‬سلب ال منه القدرة بالمرض؛ فيمد يده ليساعده إنسان على القيام والذي اعتز بشيء‬
‫يذله ال بأشياء‪ .‬لماذا؟ حتى يلفته إلى المسبّب‪ ،‬فل يُفتن بالسباب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويدع لنا الحق سبحانه وتعالى في كونه عجائب‪ ،‬ونجد العالم وقد تقدم الن تقدما فضائيّا واسعا‪،‬‬
‫واستطاع الِنسان أن يكتشف من أسرار كون ال ما شاء‪ ،‬ولكن الحق يصنع لهم أحيانا أشياء‬
‫تدلهم على أنهم ل يزالون عاجزين‪ .‬فبعد أن تكتمل لهم صناعة اللت المتقدمة يكتشفون خطأ‬
‫واحدا يفسد اللة ويحطمها‪ ،‬وتهب زوبعة أو إعصار يدمر كل شيء‪ ،‬أو يشتعل حريق هائل‪ .‬فهل‬
‫يريد ال بكونه فسادا وقد خلقه بالصلح؟ ل‪ ،‬إنه يريد أن يلفتنا إلى أل نغتر بما أوتينا من أسباب‪.‬‬
‫فالذين عملوا " الرادار " لكي يبين لهم الحدث قبل أن يقع‪ ،‬يفاجئهم ربنا ‪ -‬أحيانا ‪ -‬بأشياء تعطل‬
‫عمل " الرادار " ‪ ،‬فيعرفون أنهم مازالوا ناقصي علم‪.‬‬
‫إذن فالخذ بالبأساء‪ ،‬والخذ بالضراء‪ ،‬سنة كونية الِنسان فاهما وعالما أنه خليفة في الرض ل‪.‬‬
‫وفساد الِنسان أن يعلم أنه أصيل في الكون‪ ،‬فلو كنت أصيلً في الكون فحافظ على نفسك في‬
‫الكون ول تفارقه بالموت‪.‬‬

‫وإن كنت أصيلً في الكون فذلل الكون لمراداتك‪ .‬ولن تستطيع؛ لن هناك طبائع في الكون تتمرد‬
‫عليك‪ ،‬ول تقدر عليها أبدا‪.‬‬
‫وترى أكثر من مفاعل ذري ينفجر بعد إحكامه وضبطه لماذا؟! ليدل على طلقة القدرة وأن يد ال‬
‫فوق أيديهم‪ ،‬إذن فأخذ الناس بالبأساء والضراء‪ ،‬وبالشيء الذي نقول إنه شر إنما هو طلب اعتدال‬
‫للِنسان الخليفة‪ ،‬حتى إذا اغتر يرده ال سبحانه وتعالى من السباب إلى المسبّب‪ .‬وحين يأخذ ال‬
‫قوما بالبأساء التي تصيب الِنسان في غير ذاته‪ :‬مال يضيع‪ ،‬ولد يفقد‪ ،‬بيت يهدم‪ ،‬أو يأخذهم‬
‫بالضراء وهي الشياء التي تصيب الِنسان في ذاته‪ ،‬فلذلك ليسلب منهم أبهة الكبرياء‪ ،‬فل يجدون‬
‫ملجأ إل أن يخضعوا لرب الرض والسماء‪ ،‬ولكي يتضرعوا إلى ال‪ ،‬ومعنى التضرع ‪ -‬كما‬
‫ج ِد وينفع فيهم هذا‪ ،‬وقالوا‪ :‬ل‪ ،‬إن البأساء والضراء مجرد سنن‬
‫عرفنا ‪ -‬إظهار الذلة ل‪ .‬وإذا لم يُ ْ‬
‫كونية‪ ،‬وقد تأتي للناس في أي زمان أو مكان‪ .‬نقول لهم‪ :‬صحيح البأساء والضراء سنن كونية من‬
‫مكوّن أعلى من الكون‪ ،‬فإذا لم يرتدعوا بالبأساء والضراء ويرجعوا إلى ربهم ويتوبوا إليه يبتليهم‬
‫شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ‬
‫ال بالنعماء‪ ،‬فهو القائل‪ {:‬فََلمّا َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫أُوتُواْ َأخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ مّبْلِسُونَ }[النعام‪]44 :‬‬
‫فالمجتمعات حين تبتعد عن منهج السماء نجد الحق ينتقم منهم انتقاما يناسب جرمهم‪ ،‬ولو أنه‬
‫أخذهم على حالهم المتواضع فلن تكون الضربة قوية؛ لذلك يوسع عليهم في كل شيء حتى إذا ما‬
‫سلب منهم وأخذهم بغتة وفجأة تكون الضربة قوية قاصمة ويصيبهم اليأس والحسرة‪.‬‬
‫وقديما قلنا تعبيرا ريفيّا هو‪ :‬إن الِنسان إن أراد أن يوقع بآخر ل يوقعه من على حصيرة‪ ،‬إنما‬
‫يوقعه من مكان عال‪ .‬وربنا يعطي للمنكرين الكثير ويمدهم في طغيانهم ثم يأخذهم أخذ عزيز‬
‫مقتدر‪ .‬وقد دلت وقائع الحياة على هذا‪ ،‬ورأينا أكثر من ظالم وجبار في الرض والحق يملي له‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في العلو ويمد له في هذه السباب ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬ولو بواسطة حارسه‪ُ } .‬ثمّ بَدّلْنَا‬
‫خذْنَا ُهمْ َبغْتَ ًة وَهُمْ لَ‬
‫عفَوْ ْا ّوقَالُواْ قَدْ مَسّ آبَاءَنَا الضّرّآ ُء وَالسّرّآءُ فَأَ َ‬
‫حسَنَةَ حَتّىا َ‬
‫َمكَانَ السّيّئَةِ الْ َ‬
‫شعُرُونَ { [العراف‪]95 :‬‬
‫يَ ْ‬
‫وقد يضبط الِنسان أشياء ُتعْلمه بواقع الشر في مستقبله‪ .‬مثلها مثل " الرادار " الذي يكشف لنا أي‬
‫شعُرُونَ { أي ليس عندهم حساب‬
‫خطر في الفق قبل أن يأتي‪ ،‬وحين يقول سبحانه‪ } :‬وَهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫ول مقاييس تدلهم على أن شرّا يحيق بهم‪.‬‬
‫وأنت لو نظرت إلى هذه المسألة لوجدت الِنسان بعقله وفكره الذي لم يسلك فيه طريق ال بل‬
‫سلك فيه السبيل غير الممنهج بمنهج ال‪ ،‬وبينما ل يلتفت النسان إلى مجيء الكارثة‪ ،‬ويتساءل‪:‬‬
‫لماذا تجري هذه الحيوانات؟! إنه في هذه الحالة يكون أقل من الحيوانات؛ لن الحيوان من واقع‬
‫الحداث في بلد تحدث فيه الزلزل يكون أول خارج من منطقة الزلزال‪ ،‬إنّ ال قد سلبه هذه‬
‫المعرفة حتى تتمكن منه الضربة‪ ،‬إننا نجد الحمار يجري ليغادر مكان الزلزال‪ ،‬بينما يظل الِنسان‬
‫واقفا حتى يحيق ويحيط به الخطر‪ ،‬فأي إحساس وأي استشعار عند الحيوان؟ إنه استشعار‬
‫غريزي خلقه ربه فيه؛ لنه سلب منه التعقل فأعطاه حكمة الغرائز‪.‬‬

‫وما دام الحق قد نبه الِنسان بالبأساء فلم يلتفت‪ ،‬وبالضراء فلم ينتبه إلى المنهج؛ لذلك يأتي له‬
‫الحق ويمد له بالطغيان‪.‬‬
‫لكن أهل الِيمان أمرهم يختلف‪ ،‬فيقول سبحانه‪ } :‬وََلوْ أَنّ َأ ْهلَ ا ْلقُرَى‪{ ...‬‬

‫(‪)1038 /‬‬

‫ض وََلكِنْ َكذّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ ِبمَا‬


‫سمَا ِء وَالْأَ ْر ِ‬
‫وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلقُرَى َآمَنُوا وَاتّ َقوْا َلفَتَحْنَا عَلَ ْيهِمْ بَ َركَاتٍ مِنَ ال ّ‬
‫كَانُوا َي ْكسِبُونَ (‪)96‬‬

‫أي أنهم لو آمنوا بالموجود العلى‪ ،‬واتقوا باتباع منهجه أمرا باتباع أمرا ونهيًا تسلم آلتهم‪ ،‬لن‬
‫الصانع من البشر حتى يصنع آلة من اللت‪ ،‬يحدد ويبيّن الغاية من اللة قبل أن يبتكرها‪ ،‬ويصمم‬
‫لها أسلوب استخدام معين‪ ،‬وقانون صيانة خاصا لتؤدي مهمتها‪ ،‬فما بالنا بمن خلق الِنسان‪ ،‬إذن‬
‫فالبشر إذا تركوا رب الِنسان يضع منهج صيانة الِنسان لعاش هذا الِنسان في كل خير‪،‬‬
‫وسبحانه وتعالى أوضح أنهم إن اتقوا‪ ،‬تأت لهم بركات من السماء والرض‪ ،‬فإن أردتها بركات‬
‫مادية تجدها في المطر الذي ينزل من أعلى‪ ،‬وبركات من الرض مثل النبات‪ ،‬وكذلك كنوزها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التي تستنبط منها الكماليات المرادة في الحياة‪.‬‬
‫وما معنى البركة؟‪ .‬البركة هي أن يعطي الموجودُ فوق ما يتطلبه حجمه؛ كواحد مرتبه خمسون‬
‫جنيها ونجده يعيش هو وأولده في رضا وسعادة‪ ،‬ودون ضيق‪ ،‬فنتساءل‪ :‬كيف يعيش؟ ويجيبك‪:‬‬
‫إنها البركة‪ .‬وللبركة تفسير كوني لن الناس دائما ‪ -‬كما قلنا سابقا ‪ -‬ينظرون في وارداتهم إلى‬
‫رزق الِيجاب‪ ،‬ويغفلون رزق السلب‪ .‬رزق الِيجاب أن يجعل سبحانه دخلك آلف الجنيهات‬
‫ولكنك قد تحتاج إلى أضعافهم‪ ،‬ورزق السلب يجعل دخلك مائة جنيه ويسلب عنك مصارف‬
‫كثيرة‪ ،‬كأن يمنحك العافية فل تحتاج إلى أجر طبيب أو نفقة علج‪.‬‬
‫سمَآ ِء وَالَ ْرضِ } أي أن يعطي الحق سبحانه وتعالى القليل الكثير في‬
‫إذن فقوله‪ { :‬بَ َركَاتٍ مّنَ ال ّ‬
‫الرزق الحلل‪ ،‬ويمحق الكثير الذي جاء من الحرام كالربا‪ ،‬ولذلك سمى المال الذي نخرجه عن‬
‫المال الزائد عن الحاجة سماه زكاة مع أن الزكاة في ظاهرها نقص‪ ،‬فحين تملك مائة جنيه‬
‫وتخرج منها جنيهين ونصف الجنيه يكون قد نقص مالك في الظاهر‪ .‬وإن أقرضت أحدا بالربا‬
‫مائة جنيه فأنت تأخذها منه مائة وعشرة‪ ،‬لكن الحق سمى النقص في الولى نماء وزكاة‪ ،‬وسمى‬
‫الزيادة في الثانية محقا وسحتا‪ ،‬وسبحانه قابض باسط‪ { .‬وََلوْ أَنّ أَ ْهلَ ا ْلقُرَىا آمَنُواْ وَا ّتقَواْ َلفَتَحْنَا‬
‫خذْنَاهُمْ ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ } [العراف‪]96 :‬‬
‫ض وَلَـاكِن كَذّبُواْ فَأَ َ‬
‫سمَآ ِء وَالَرْ ِ‬
‫عَلَ ْيهِمْ بَ َركَاتٍ مّنَ ال ّ‬
‫إذن فلو أخذ الِنسان قانون صيانته من خالقه لستقامت له كل المور‪ ،‬لكن الِنسان قد ل يفعل‬
‫ذلك‪ .‬ويقول الحق‪ { :‬وَلَـاكِن كَذّبُواْ فََأخَذْنَا ُهمْ ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }‪.‬‬
‫وهكذا نعلم أن الخذ ليس عملية جبروت من الخالق‪ ،‬وإنما هي عدالة منه سبحانه؛ لن الحق لو‬
‫لم يؤاخذ المفسدين‪ ،‬فماذا يقول غير المفسدين؟‪ .‬سيقول الواحد منهم‪ :‬مادمنا قد استوينا والمفسدين‪،‬‬
‫وحالة المفسدين تسير على ما يرام‪ ،‬إذن فلفسد أنا أيضا‪ .‬وذلك يغري غير المفسد بأن يفسد‪،‬‬
‫ويعطي لنفسه راحتها وشهوتها‪ ،‬لكن حين يأخذ ال المفسدين بما كانوا يكسبون‪ ،‬يعلم غير المفسد‬
‫أن سوء المصير للمفسد واضح‪ ،‬فيحفظ نفسه من الزلل‪.‬‬
‫كان القياس أنه يقول سبحانه‪ :‬بما كانوا يكتسبون‪ ،‬لن مسألة الحرام تتطلب انفعالت شتى‪،‬‬
‫وضربنا المثل من قبل بأن إنسانا يجلس مع زوجته‪ ،‬وينظر إلى جمالها ويمل عينيه منها‪ ،‬لكن إن‬
‫جلس مع أجنبية وأراد أن يغازلها ليتمتع بحسنها‪ ،‬فهو يناور ويتحايل‪ ،‬وتتضارب ملكاته بين‬
‫انفعالت شتى‪ ،‬وهو يختلف في ذلك عن صاحب الحلل الذي تتناسق ملكاته وهو يستمتع بما أحل‬
‫له ال‪ ،‬ولكنْ هؤلء المفسدين تدربوا على الفساد فصار دربة تقرب من الملكة فقال فيهم الحق‪:‬‬
‫إنهم يكسبون الفساد‪ ،‬ول يجدون في ارتكابه عنتا‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ { :‬أفََأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَىا أَن يَأْتِ َيهُمْ‪} ...‬‬

‫(‪)1039 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َأفََأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَى أَنْ يَأْتِ َيهُمْ بَ ْأسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَا ِئمُونَ (‪َ )97‬أوََأمِنَ أَ ْهلُ ا ْلقُرَى أَنْ يَأْتِ َيهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى‬
‫وَهُمْ يَ ْلعَبُونَ (‪)98‬‬

‫ونلحظ وجود ذ " همزة استفهام " و " فاء تعقيب " في قوله‪َ { :‬أفََأمِنَ } وهذا يعني أن هناك‬
‫معطوفا ومعطوفا عليه‪ ،‬ثم دخل عليهما الستفهام‪ ،‬أي أنهم فعلوا وصنعوا من الكفر والعصيان‬
‫فأخذناهم بغتة‪ ،‬أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا وعذابنا بياتا أو ضحى كما صنع بمن‬
‫كان قبلهم من المم السابقة؟ هم إذن لم يتذكروا ما حدث للمم السابقة من العذاب والدمار‪.‬‬
‫ويوضح الحق أن الذين كذبوا من أهل القرى‪ ،‬هل استطاعوا تأمين أنفسهم فل يأتيهم العذاب بغتة‬
‫كما أتى قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب؟ والبأس هو الشدة التي يؤاخذ بها‬
‫الحق سبحانه المم حين يعزفون عن منهجه‪ .‬وما الذي جعلهم يأمنون على أنفسهم أن تنزل بهم‬
‫أهوال كالتي نزلت بمن سبقهم من المم‪.‬‬
‫وحين يتكلم الحق عن الحداث فهو يتكلم عما يتطلبه الحداث من زمان ومكان؛ لن كل حدث‬
‫لبد له من زمن ولبد له من مكان‪ ،‬ول يوجد حدث بل زمان ول مكان‪ ،‬والمكان هنا هو القرى‬
‫التي يعيش فيها أهلها‪ ،‬والزمان هو ما سوف يأتي فيه البأس‪ ،‬وهو قد يأتي لهم وهم نائمون‪ ،‬أو‬
‫يأتي لهم ضحى وهم يلعبون‪ ،‬وهذه تعابير إلهية‪ ،‬والِنسان إذا ما كان في مواجهة الشمس فالدنيا‬
‫تكون بالنسبة له نهارا‪ .‬والمقابل له يكون الليل‪ .‬وقد يجيء البأس على أهل قرية نهارا‪ ،‬أو ليلً في‬
‫أي وقت من دورة الزمن‪ ،‬ونعلم أن كل لحظة من اللحظات للشمس تكون لمكان ما في الرض‬
‫شروقا‪ ،‬وتكون لمكان آخر غروبا‪ ،‬وفي كل لحظة من اللحظات يبدأ يوم ويبدأ ليل‪ ،‬إذن أنت ل‬
‫تأمن يا صاحب النهار أن يأتي البأس ليلً أو نهارا‪ ،‬وأنت يا صاحب الليل ل تأمن أن يكون البأس‬
‫نهارا أو ليلً‪.‬‬
‫خذْنَاهُمْ ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[ العراف‪:‬‬
‫وأهل القرى هم الذين قال ال فيهم‪... {:‬وَلَـاكِن كَذّبُواْ فَأَ َ‬
‫‪]96‬‬
‫وماداموا قد كذبوا فمعنى ذلك أنهم لم يؤمنوا برسول مبلغ عن ال‪ ،‬وتبعا لذلك لم يؤمنوا بمنهج‬
‫يحدد قانون حركتهم بـ " افعل " و " ل تفعل "‪.‬‬
‫إذن فنهارهم هو حركة غير مجدية‪ ،‬وغير نافعة‪ ،‬بل هي لعب في الحياة الدنيا‪ ،‬وليلهم نوم وفقد‬
‫للحركة‪ ،‬أو عبث ومجون وانحراف‪ ،‬وكل من يسير على غير منهج ال يقضي ليله نائما أو لهيًا‬
‫عاصيّا‪ ،‬ونهاره لعبا؛ لن عمله مهما عظم‪ ،‬ليس له مقابل في الخرة من الجزاء الحسن‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ { :‬أفََأمِنُواْ َمكْرَ اللّهِ‪} ...‬‬

‫(‪)1040 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َأفََأمِنُوا َمكْرَ اللّهِ فَلَا يَ ْأمَنُ َمكْرَ اللّهِ إِلّا ا ْل َقوْمُ ا ْلخَاسِرُونَ (‪)99‬‬

‫و " المن " هو الطمئنان إلى قضية ل تثير مخاوف ول متاعب‪ ،‬ويقال‪ :‬فلن " آمن "؛ أي ل‬
‫يوجد ما يكدر حياته‪ .‬والحق يقول‪َ { :‬أفََأمِنُواْ َمكْرَ اللّهِ } ونحن نسمع بعض الكلمات حين ينسبها‬
‫ال لنفسه نستعظمها‪ ،‬ونقول‪ :‬وهل يمكر ربنا؟ لننا ننظر إلى المكر كعملية ل تليق‪ ..‬وهنا نقول‪:‬‬
‫انتبه إلى أن القرآن قد قال‪َ {:‬ولَ يَحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّيّىءُ ِإلّ بَِأهْلِهِ‪[} ...‬فاطر‪]43 :‬‬
‫إذن ففيه مكر خير‪ ،‬ولذلك قال الحق‪... {:‬وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل عمران‪]54 :‬‬
‫والمكر أصله اللتفاف‪ .‬وحين نذهب إلى حديقة أو غابة نجد الشجر ملتف الغصان وكأنه مجدول‬
‫بحيث ل تستطيع أن تنسب ورقة في أعلى إلى غصن معين؛ لن الغصان ملفوفة بعضها على‬
‫بعض‪ ،‬وكذلك نرى هذا اللتفاف في النباتات المتسلقة ونجد أغصانها مجدولة كالحبل‪.‬‬
‫إذن فالمكر مؤداه أن تلف المسائل‪ ،‬فل تجعلها واضحة‪ .‬ولكي تتمكن من خصمك فأنت تبيت له‬
‫أمرا ل يفطن إليه‪ ،‬وإذا كان الِنسان من البشر حين يبيت لخيه شرّا‪ ،‬ويفتنه فتنا يُعمي عليه وجه‬
‫الحق وليس عند الِنسان العلم الواسع القوي الذي يمكر به على كل من أمامه من خصوم لنهم‬
‫سيمكرون له أيضا‪.‬‬
‫وإذا كان هناك مكر وتبييت ل يكتشفه أحد فهو مكر وتبييت ال لهل الشر‪ ،‬وهذا هو مكر الخير؛‬
‫لن ال يحمي الوجود من الشر وأهله بإهلكهم‪َ { .‬أفََأمِنُواْ َمكْرَ اللّهِ فَلَ يَ ْأمَنُ َمكْرَ اللّهِ ِإلّ ا ْل َقوْمُ‬
‫الْخَاسِرُونَ } [العراف‪]99 :‬‬
‫وهناك من يسأل‪ :‬هل أمن النبياء مكر ال؟ نقول نعم‪ .‬لقد آمنوا مكر ال باصطفائهم للرسالة‪،‬‬
‫وهناك من يسأل‪ :‬كيف إذن ل يأمن مكر ال إل القوم الخاسرون؟!‬
‫نقول‪ :‬لقد جاء في منهج الرسل جميعا أن الذي يأمن مكر ال هو الخاسر؛ لن ال هو القادر‪ ،‬وهو‬
‫الذي أنزل المنهج ليختار الِنسان به كسب الدنيا والخرة إن عمل به‪ ،‬وإن لم يعمل به يخسر‬
‫طمأنينة الِيمان في الدنيا وإن كسب فيها مال أو جاها أو علما‪ ،‬ويخسر الخرة أيضا‪.‬‬
‫ن الَ ْرضَ‪} ...‬‬
‫ويتابع سبحانه‪َ { :‬أوَلَمْ َيهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُو َ‬

‫(‪)1041 /‬‬

‫َأوَلَمْ َيهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الْأَ ْرضَ مِنْ َبعْدِ أَهِْلهَا أَنْ َلوْ َنشَاءُ َأصَبْنَا ُهمْ بِذُنُو ِبهِ ْم وَنَطْ َبعُ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ‬
‫س َمعُونَ (‪)100‬‬
‫لَا يَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن الَ ْرضَ مِن َبعْدِ أَهِْلهَآ }‬
‫و { َيهْدِ } أي يبين للذين يرثون الرض طريق الخير‪ ،‬ومعنى { يَرِثُو َ‬
‫أن الرض كانت مملوكة لسواهم‪ ،‬وهم جاءوا عقبهم‪ .‬وحين يستقرئ الِنسان الوجود الحضاري‬
‫في الكون يجد أن كل حضارة جاءت على أنقاض حضارة‪ ،‬وما في يدك وملكك جاء على أنقاض‬
‫ملك غيرك‪ ،‬والذي يأتي على أنقاض الغير يسمى إرثا‪ ،‬ومادمتم قد رأيتم أنكم ورثتم عن غيركم‬
‫كان يجب أن يظل في بالكم أن غيركم سيرثكم‪.‬‬
‫إذن فالمسألة ُدوَلٌ‪ ،‬ويجب أل يغتر الِنسان بموقع أو منصب‪ ،‬ونحن نرى في حياتنا من يحتل‬
‫منصبا كبيرا‪ ،‬ثم يُقال ويعزل عن منصبه‪ ،‬أو يحال إلى التقاعد ويأتي آخر من بعده‪ .‬ولذلك يقال‪:‬‬
‫لو دامت لغيرك ما وصلت إليك‪ .‬فإن كنت صاحب مكانة وقد أحسنت الدخول إلى وضعك وإلى‬
‫جاهك‪ ،‬وإلى منصبك؛ فيجب أن تفطن وتتذكر الخروج قبل الدخول إلى هذا المنصب حتى ل يعز‬
‫عليك فراقه يوما‪.‬‬
‫واحذر أن تحسن الدخول في أمر قبل أن تحاول أن تحسن الخروج منه‪.‬‬
‫واستمع إلى قول الشاعر في هذا المعنى‪:‬إن المير هو الذي يُمسي أميرا يوم عزلهْ إن زال سلطان‬
‫ن الَ ْرضَ }‪.‬‬
‫الِمارة لم يزل سلطانُ فضِلهْوحين يقول الحق‪َ { :‬أوَلَمْ َيهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُو َ‬
‫نلحظ أنه سبحانه لم يجعل المهديين هنا على وضع المفعول‪ ،‬فلم يقل‪ :‬أو لم يهد الذين‪ ،‬بل قال‪:‬‬
‫{ َي ْهدِ لِلّذِينَ } ‪ ،‬فما الحكمة في ذلك؟‪ .‬نعرف أن " الهداية " هي الدللة على الطريق الموصل‬
‫للغاية‪ ،‬وقد تعود فائدته عليك‪ ،‬أي أنك قد َهدَيْت غيرك لصالحك‪ .‬وقد تكون الهداية وهي الدللة‬
‫على فعل الخير لمر يعود على الذي َهدَى وعلى ال َمهْ ِديّ معا‪ ،‬لكن إذا كانت الهداية ل تعود إل‬
‫لك أنت‪ ،‬ول تعود على مَن هداك‪ ،‬أتشك في هدايته لك؟ ل‪ ،‬إن من حقك أن تشك في الهداية إذا‬
‫كان هذا المر يعود على من َهدَى‪ ،‬أو يعود أمرها على الثنين؛ ففي ذلك شبهة لمصلحة‪ ،‬لكن إذا‬
‫كان المر ل يعود على من َيهْدِي ويعود كله لمن ُيهْدَي فليس في ذلك أدنى شك‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه في حديثه القدسي‪:‬‬
‫"‪ ...‬يا عبادي لو أنّ أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد‬
‫ذلك في ملكي شيئا‪ ،‬يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإِنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل‬
‫واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا‪ ،‬يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في‬
‫صعيد واحد فسألوني ِ فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إل كما ينقص ال َمخْيط‬
‫خلَ البحر "‪.‬‬
‫إذا أُدْ ِ‬

‫إذن فحين يهديهم الحق إلى الصراط المستقيم فما الذي يعود عليه سبحانه من صفات بهذا العمل؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد خلقكم بصفات الكمال فيه‪ ،‬فلن ينشئ خلقه لكم صفة من صفات الكمال زائدة على ما هو له‪،‬‬
‫وهكذا نرى أن كل هداية راجعة إلى ال َمهْ ِديّ‪ .‬وبذلك يتأكد قوله‪َ } :‬يهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الَرْضَ { ما‬
‫ن الَ ْرضَ مِن َبعْدِ َأهِْلهَآ أَن ّلوْ نَشَآءُ َأصَبْنَاهُمْ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَنَطْبَعُ‬
‫هو مصلحتهم‪َ } .‬أوَلَمْ َي ْهدِ لِلّذِينَ يَرِثُو َ‬
‫س َمعُونَ { [العراف‪]100 :‬‬
‫عَلَىا قُلُو ِبهِمْ َفهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫والحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن المشيئة يقول‪ّ } :‬لوْ نَشَآءُ { ويحدد أسباب المشيئة وهو قوله‪:‬‬
‫} َأصَبْنَا ُهمْ بِذُنُو ِبهِمْ { ‪ ،‬وهكذا نعلم أن المشيئة ليست مشيئة ربنا فقط ل‪ ،‬بل هي أيضا مشيئة العباد‬
‫جمِيعا‪[} ...‬الرعد‪]31 :‬‬
‫الذين ميزهم بالختيار‪ ،‬وسبحانه يقول‪ {:‬أَن ّلوْ يَشَآءُ اللّهُ َل َهدَى النّاسَ َ‬
‫وما الذي يمنعه سبحانه أن يشاء هداية الناس جميعا؟‪ .‬ل أحد يمنع الخالق‪ ،‬ولكنه سبحانه خلق‬
‫خلقا مهديين بطبيعتهم‪ ،‬ل قدرة لهم على المعصية وهم الملئكة‪ ،‬وجعل سائر أجناس الرض‬
‫مسخرة مسبحة‪ ،‬وذلك يثبت صفة القدرة‪ ،‬فل يستطيع أحد أن يخرج عن مراد ال‪ ،‬ولكن هذا ل‬
‫يعطي صفة المحبوبية للمشرع العلى‪ ،‬ثم إنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬خلق خلقا لهم اختيار في أن يطيعوا‬
‫وأن يعصوا‪.‬‬
‫فالمخلوق الذي اختصه سبحانه بقدرة الختيار في أن يؤمن وأن يكفر‪ ،‬وأن يطيع وأن يعصي‪ ،‬ثم‬
‫آمن يكون إيمانه دليل على إثبات صفات المحبوبية للِله‪.‬‬
‫إذن المقهورون على الفعل أثبتوا القدرة‪ ،‬والمختارون الفعل أثبتوا المحبوبية للمشروع العلى‪،‬‬
‫س َمعُونَ‬
‫ويتابع سبحانه في الية نفسها‪ } :‬أَن ّلوْ َنشَآءُ َأصَبْنَا ُهمْ بِذُنُو ِبهِ ْم وَ َنطْبَعُ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ لَ َي ْ‬
‫{‪[ .‬العراف‪]100 :‬‬
‫ونلحظ أن الحق لم يقل أنه لو نشاء أصبناهم لذنوبهم وذلك رحمة منه‪ ،‬بل جعل العقاب بالذنوب‬
‫التي يختارونها هم‪ ،‬وكذلك جعل الطبع على القلوب نتيجة للختيار‪ .‬وسبق أن تكلمنا في أول‬
‫سورة البقرة‪ .‬عن كلمة " الطبع "؛ وهو الختم‪ {:‬خَتَمَ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ‪[} ...‬البقرة‪]7 :‬‬
‫لن القلوب وعاء اليقين الِيماني؛ فحين يمل إنسان وعاء اليقين الكفر‪ ،‬فهذا يعني أنه عشق الكفر‬
‫وجعله عقيدة عنده؛ لذلك يساعده ال على مراده‪ ،‬وكأنه يقول له‪ :‬أنا سأكون على مرادك‪ ،‬ولذلك‬
‫أطبع على قلبك فل يخرج ما فيه من الكفر‪ ،‬ول يدخل فيه ما خرج منه من الِيمان الفطري الذي‬
‫خلق ال الناس عليه‪ .‬لنك أنت قد سَبّقت ووضعت في قلبك قضية يقينية على غير إيمان؛ لن‬
‫أصول الِيمان أن تُخْرِج ما في قلبك من أي اعتقاد‪ ،‬ثم تستقبل الِيمان بال‪ ،‬ولكنك تستقبل الكفر‬
‫وترجحه على الِيمان‪.‬‬
‫إن ال سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين في جوفه‪ :‬قلب يؤمن‪ ،‬وقلب ل يؤمن‪ ،‬بل جعل قلبا‬
‫واحدا‪ ،‬والقلب الواحد حيز‪ ،‬والحيز ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬ل تداخل للمحيّز فيه؛ فحين نأتي بزجاجة فارغة‬
‫ونقول‪ :‬إنها " فارغة " فالذي يدل على كذب هذه الكلمة أننا حين نضع فيها المياه تخرج منها‬
‫فقاقيع الهواء‪ ،‬وخروج فقاقيع الهواء هو الذي يسمح بدخول المياه فيها؛ لن الزجاجة ليست‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فارغة‪ ،‬بل يخيل لنا ذلك؛ لن الهواء غير مرئي لنا‪.‬‬

‫ولو كانت الزجاجة مفرغة من الهواء دون إعداد دقيق قي صناعتها لتلك المهمة لكان من الحتمي‬
‫أن تنكسر‪ .‬والقلب كذلك له حيز إن دخل فيه الِيمان بال ل يسع الكفر‪ ،‬وإن دخل فيه الكفر ‪-‬‬
‫والعياذ بال ل يسع الِيمان‪ ،‬والعاقل هو من يطرح القضيتين خارج القلب‪ ،‬ثم يدرس هذه ويدرس‬
‫تلك‪ ،‬وما يراه مفيدا لحياته ولخرته يسمح له بالدخول‪ .‬أما أن تناقش قضية الِيمان بيقين قلبي‬
‫بالكفر فهذه عملية ل تؤدي إلى نتيجة‪َ } .‬أوَلَمْ َيهْدِ لِلّذِينَ يَرِثُونَ الَ ْرضَ مِن َبعْدِ أَهِْلهَآ أَن ّلوْ َنشَآءُ‬
‫س َمعُونَ { [العراف‪]100 :‬‬
‫علَىا قُلُو ِبهِمْ َفهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫َأصَبْنَاهُمْ ِبذُنُو ِبهِ ْم وَنَطْبَعُ َ‬
‫أي أو لم يتبيّن للذين يُستخلفون في الرض من بعد إهلك الذين سبقوهم بما فعلوا من المعاصي‬
‫والكفر فسار هؤلء القوم سيرة من سبقهم وعملوا أعمالهم وعصوا ربهم أن لو نشاء فعلنا بهم من‬
‫س َمعُونَ { أي السماع المؤدي إلى العتبار والتعاظ‬
‫العذاب كما فعلنا بمن قبلهم وقوله‪َ } :‬فهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫فكأنهم لم يسمعوا‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬تِ ْلكَ ا ْلقُرَىا َن ُقصّ‪{ ...‬‬

‫(‪)1042 /‬‬

‫سُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانُوا لِ ُي ْؤمِنُوا ِبمَا كَذّبُوا مِنْ قَ ْبلُ‬


‫تِ ْلكَ ا ْلقُرَى َن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَا ِئهَا وََلقَدْ جَاءَ ْتهُمْ رُ ُ‬
‫كَذَِلكَ َيطْبَعُ اللّهُ عَلَى قُلُوبِ ا ْلكَافِرِينَ (‪)101‬‬

‫هذا هو المراد في سرد القصص بالنسبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم الذي أوضحه الحق في‬
‫سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ‪[} ...‬هود‪:‬‬
‫موضع آخر من القرآن فقال‪َ {:‬وكُـلّ ّنقُصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ‬
‫‪]120‬‬
‫فإذا ما حدث لك من أمتك وقومك شيء من العناد والِصرار والمكابرة فاعلم أنك لست بدعا من‬
‫الرسل؛ لن كل رسول قد قابلته هذه الموجة الِلحادية من القوم الذين خاطبهم‪ .‬وإذا كان رسول‬
‫يأخذ حظه من البلء بقدر ما في رسالته من العلو فلبد أن تأخذ أنت ابتلءات تساوي ابتلءات‬
‫الرسل جميعا‪ { .‬تِ ْلكَ ا ْلقُرَىا َنقُصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنبَآ ِئهَا وََلقَدْ جَآءَ ْتهُمْ ُرسُُلهُم بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ‬
‫ِبمَا كَذّبُواْ مِن قَ ْبلُ كَذَِلكَ يَطْ َبعُ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِ ا ْلكَافِرِينَ } [العراف‪]101 :‬‬
‫والطبع ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬هو الختم؛ لن قلوبهم ممتلئة بالضلل؛ لذلك يعلنون التكذيب للرسول‪ .‬وقد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طبع ال على قلوبهم ل قهرا منه‪ ،‬ولكن لستبطان الكفر وإخفائه في قلوبهم‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ { :‬ومَا وَجَدْنَا لَكْثَرِهِم مّنْ‪} ...‬‬

‫(‪)1043 /‬‬

‫سقِينَ (‪)102‬‬
‫جدْنَا َأكْثَرَ ُهمْ َلفَا ِ‬
‫ن وَ َ‬
‫عهْ ٍد وَإِ ْ‬
‫َومَا َوجَدْنَا لَِأكْثَرِ ِهمْ مِنْ َ‬

‫وهؤلء الذين كذبوا الرسل‪ ،‬وردوا منهج ال الذي أرسله على ألسنة رسله‪ .‬كانت لهم عهود‬
‫كثيرة‪ .‬فما وفوا بعهد منها‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬العهد الجامع لكل الخلق‪ ،‬وهو العهد الذي أخذه ال على‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا }‬
‫ذرية آدم من صلبه حين مسح ال على ظهر آدم‪ ،‬وأخرج ذريته وقال‪ {:‬أََل ْ‬
‫[العراف‪]172 :‬‬
‫وقد يقف العقل في أخذ مثل هذا العهد على الذرية الموجودة في آدم؛ لذلك نقول‪ :‬إذا قال ال فقد‬
‫عقِلْنا ذلك أو لم نعقله‪ ،‬إنك لو نظرت إلى " آحاد البشر " ‪ ،‬أي إلى الفراد الموجودين‪ ،‬تجد‬
‫صدق َ‬
‫ن الِنسان وجد من حيوان منوي حي انتقل‬
‫نفسك وغيرك يجد نفسه نسلً لبائكم‪ ،‬وهذا يدل على أ ّ‬
‫إلى بويضة حيّة من أمه فنشأ هذا النسان‪ .‬ولو طرأ على الحيوان المنوي موت‪ ،‬أو طرأ على‬
‫البويضة موت امتنع الِنسال‪.‬‬
‫إذن فكل إنسان منا جزء من حياة أبيه‪ ،‬وأبوه جزء من حياة والده‪ ،‬ووالده جزء من حياة أبيه‪ ،‬وإن‬
‫سلسلت ذلك فسنصل لدم‪ ،‬فكل واحد من ذرية آدم إلى أن تقوم الساعة فيه جزئ حي من آدم‪.‬‬
‫ومادام فيه جزئ حي من آدم فقد شهد الخلق الول‪ ،‬ولذلك حين يسألهم ال سؤال التقرير ويقول‪:‬‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ }؟ فيقولون‪ { :‬بَلَىا }‪.‬‬
‫{ أََل ْ‬
‫وضربنا المثل لنقرب وقلنا إن الذرة الشائعة في شيء‪ ،‬تشيع في أضعاف الشيء‪ ،‬وسبق أن قلنا‪:‬‬
‫إننا إذا جئنا بمادة حمراء ‪ -‬مثلً ‪ -‬في حجم سنتيمتر مكعب‪ ،‬ثم أذبناها في قارورة‪ ،‬وبذلك يصبح‬
‫كل جزء في القارورة فيه جزء من المادة الملونة‪ ،‬وإن أخذت القارورة وألقيتها في برميل واسع‪،‬‬
‫هنا تصير كل قطرة من البرميل فيها جزيء من المادة الحمراء‪ ،‬وإن أخذت ماء البرميل وألقيته‬
‫في البحر فكل ذرة في البحر الواسع يصير فيها جزيء من المادة الملونة‪ ،‬وهكذا يقرب من ذهن‬
‫كل منا أن في كل إنسان جزيئا من آدم‪ ،‬وقد شهد هذا الجزئ العهد الول‪ .‬ولقائل أن يسأل‪ :‬كيف‬
‫يخاطب ال الذر الذي كان موجودا في ظهر آدم؟‪ .‬نقول‪ :‬كما خاطب الرض وخاطب السماء‪،‬‬
‫طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا‬
‫سمَآءِ وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ‬
‫فهو القائل‪ُ {:‬ثمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ‬
‫طَآ ِئعِينَ }[فصلت‪]11 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن فعدم إدراكنا لكيفية الخطاب بين رب ومربوب‪ ،‬ل يقدح في أن هذه المسألة لها أصل ولها‬
‫وجود‪.‬‬
‫وهذا بالنسبة للعهد الول‪ ،‬وبعده العهد الثاني الذي أخذه ال على رسله‪ ،‬مصداقا لقوله الحق‪ {:‬وَإِذْ‬
‫ح ْكمَةٍ ُثمّ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ بِهِ‬
‫ب وَ ِ‬
‫خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَا ٍ‬
‫أَ َ‬
‫ش َهدُواْ وَأَنَاْ َم َعكُمْ مّنَ‬
‫خذْتُمْ عَلَىا ذاِلكُمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ‬
‫وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْتُ ْم وَأَ َ‬
‫الشّا ِهدِينَ }‬

‫[آل عمران‪]81 :‬‬


‫ثم هناك عهود خاصة أنشأتها الحداث الخاصة‪ ،‬مثلما يقول الحق سبحانه وتعالى‪ُ {:‬هوَ الّذِي‬
‫ك وَجَرَيْنَ ِبهِم بِرِيحٍ طَيّ َب ٍة َوفَرِحُواْ ِبهَا جَآءَ ْتهَا رِيحٌ‬
‫يُسَيّ ُركُمْ فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ حَتّىا إِذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْل ِ‬
‫عوُاْ اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ لَئِنْ‬
‫ن وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ أُحِيطَ ِبهِمْ دَ َ‬
‫صفٌ وَجَآءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَا ٍ‬
‫عَا ِ‬
‫أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ }[يونس‪]22 :‬‬
‫إنهم ل يسلمون أنفسهم للعطب‪ ،‬ول يغترون بجاههم وبالسباب التي عندهم لنها قد امتنعت‪،‬‬
‫ولذلك ل يغشون أنفسهم بل يلجأون صاغرين إلى ال قائلين‪... {:‬لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ‬
‫مِنَ الشّاكِرِينَ }[يونس‪]22 :‬‬
‫هكذا نرى أنهم أعطوا العهد في حادثة‪ ،‬فلما أنجاهم ال أعرضوا‪ ،‬وفي ذلك يقول الحق سبحانه‪{:‬‬
‫شفْنَا عَ ْن ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ َيدْعُنَآ إِلَىا‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ‬
‫وَإِذَا مَ ّ‬
‫ضُرّ مّسّهُ‪[} ...‬يونس‪]12 :‬‬
‫إذن فالعهد إما أن يكون عهدا عاما وإما أن يكون عهدا خاصّا‪.‬‬
‫سقِينَ {‪.‬‬
‫جدْنَآ َأكْثَرَهُمْ َلفَا ِ‬
‫والحق يقول‪ } :‬وَإِن وَ َ‬
‫أي أن حال وشأن أكثرهم ظل على الفسق ونقض العهد والخروج عنه؛ لن العهد إطار يحكم‬
‫حركة المختار فيما أعطاه على نفسه من المواثيق‪ ،‬وهو حر في أن يفعل أو ل يفعل‪ ،‬لكنه إذا‬
‫عاهد أن يفعل أصبح ملزما ووجب عليه أن ينفذ العهد باختياره‪ ،‬لنه إذا قطع العهد على نفسه‬
‫فعليه أن يحكم حركته في إطار هذا العهد‪ ،‬فإن خرج بحركته عن إطار هذا العهد فهذا هو الفسق‪،‬‬
‫والصل في الفسق أنه خروج الرطبة من القشرة لن القشرة تصنع سياجا على الثمرة بحيث ل‬
‫تُدخل إلى الثمرة شيئا مفسدا من الخارج‪ ،‬ويقال‪ :‬فسقت الرطبة أي خرجت عن قشرتها‪ .‬كأن ربنا‬
‫جعل التكليف تغليفا حماية للِنسان من العطب‪ ،‬فإذا ما خرج عن الدين مثل خروج الرطبة عن‬
‫الغطاء والقشرة صار عرضة للتلوث وللميكروبات؟‪ ،‬فسمى ال الخارج على منهجه بالفاسق‪ ،‬لنه‬
‫خرج عن الِطار الذي جعله ال له ليحميه من المفاسد‪ ،‬ومن العطب الذي يقع عليه‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬ثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِم مّوسَىا‪{ ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1044 /‬‬

‫ن َومَلَئِهِ فَظََلمُوا ِبهَا فَا ْنظُرْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْل ُمفْسِدِينَ (‬
‫عوْ َ‬
‫ثُمّ َبعَثْنَا مِنْ َب ْعدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْ َ‬
‫‪)103‬‬

‫وبعد أن تكلم الحق عن نوح وهو وصالح ولوط وشعيب وما دار بينهم وبين أقوامهم‪ ،‬وكيف أهلك‬
‫سبحانه المكذبين وأنجى المؤمنين‪ ،‬أراد أن يأتي بتاريخ رسول من أولى العزم من الرسل‪ ،‬أي من‬
‫الذين تعرضوا في رسالتهم لشياء ل يتحملها إل جَلْد قوي‪ .‬وأظن أنكم تعلمون أن علج موسى‬
‫لليهود أخذ قسطا وافرا في القرآن‪ ،‬بل إن قصة موسى مع قومه هي أطول قصص القرآن؛ لن‬
‫انحرافاتهم ونزواتهم وتمردهم على أنبيائهم كانت كثيرة‪ ،‬وكان أنبياؤهم كثيرون لذلك فهم‬
‫يفتخرون بأنهم كثيرو النبياء‪ ،‬وقالوا‪ :‬نحن أكثر المم أنبياء‪ .‬وقلنا لهم‪ :‬إن كثرة أنبيائكم تدل على‬
‫تأصل دائكم؛ لن الطباء ل يكثرون إل حين يصبح علج المريض أمرا شاقا‪ .‬إذن فكثرة‬
‫أنبيائكم‪ ،‬دليل على أن رسولً واحدا ل يكفيهم‪ ،‬بل لبد من أنبياء كثيرين‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ُ { :‬ثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْدِهِم مّوسَىا }‪.‬‬
‫وكلمة " بعث " ‪ -‬كما نفهمها ‪ -‬توحي وتشير إلى أنه سبحانه قد أرسل موسى رسولً إلى‬
‫فرعون‪ ،‬واختيرت كلمة " بعث " للرسالت لن البعث يقتضي أن شيئا كان موجودا ثم انطمر ثم‬
‫بعثه الحق من جديد‪ ،‬والِيمان يتمثل في عهد الفطرة الول الذي كان من آدم؛ لن ال خلقه بيديه‬
‫خلقا مباشرا وكلفه تكليفا مباشرا‪ ،‬فنقل آدم الصورة للذرية‪ ،‬وهذه الصورة الصلية هي التي تضم‬
‫حقائق الِيمان التي كانت لدم‪ ،‬وحين يبعث ال رسولً جديدا‪ ،‬فهو ل ينشئ عقيدة جديدة‪ ،‬بل‬
‫يحيي ما كان موجودا وانطمر‪ ،‬وحين يطم الفساد يبعث ال الرسول‪ ،‬فكأن الحق سبحانه وتعالى‬
‫حينما كلف آدم التكليف الول طلب منه أن ينقل هذا التكليف إلى ذريته‪ ،‬ولو أن الِنسان أخذ‬
‫تكاليف الدين كما أخذ مقومات الحياة ممن سبقه لظل الِيمان مسألة رتيبة في البشر‪.‬‬
‫إننا نأخذ الشياء التي أورثها لنا أجدادنا وتنفعنا في أمور الدنيا نحتفظ بها ونحرص عليها‪ ،‬فلماذا‬
‫لم نأخذ الدين منهم؟ لن الدين يحجر على حرية الحركة ويضعها في إطارها الصحيح‪ .‬والِنسان‬
‫يريد أن ينفلت من تقييد حرية الحركة‪ ،‬وحين يقول ربنا مرة إنه‪ " :‬أرسل " الرسل‪ ،‬ومرة أخرى‬
‫إنه قد بعثهم‪ ،‬فهذا يدل على أنه لم يجيء بشيء جديد‪ ،‬ولكنه جاء بشيء كان المفروض أن يظل‬
‫فيكم كما ظلت فيكم الشياء التي ورّثها لكم أسلفكم وتنتفعون بها؛ مثال ذلك‪ :‬نحن ننتفع برغيف‬
‫الخبز وننتفع بخياطة الِبرة فلماذا انتفعنا بهذه الشياء المادية ونسينا الشياء المنهجية؟ لن‬
‫الشياء المادية قد تعين الِنسان على شهواته‪ ،‬أما قيم الدين فهي تحارب الشهوات‪ { .‬ثُمّ َبعَثْنَا مِن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن َومَلَئِهِ‪[ } ...‬العراف‪]103 :‬‬
‫عوْ َ‬
‫َبعْدِهِم مّوسَىا بِآيَاتِنَآ إِلَىا فِرْ َ‬
‫واليات ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬جمع آية‪ ،‬وهي المر العجيب الذي يقف العقل عنده مشدوها‪.‬‬

‫وتُطلق اليات ثلث إطلقات؛ فهي تطلق على اليات القرآنية لنها عجيبة أسلوبيّا معبرة عن كل‬
‫كمال يوجد في الوجود إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬وكل قارئ لها يأخذ منها على قدر ذهنه وقدر فهمه‪.‬‬
‫واليات الكونية موجودة في خلق الرض والسماء وغير ذلك‪ ،‬وكذلك تطلق اليات على‬
‫المعجزات الدالة على صدق النبياء‪ .‬والبعث يقتضي مبعوثا وهو موسى‪ ،‬ويقتضي باعثا وهو‬
‫ال‪ ،‬ومبعوثا إليهم‪ .‬وهم قوم فرعون‪ ،‬ومبعوثا به وهو المنهج‪.‬‬
‫واليات التي بعث ال بها موسى هي أدلة صدق النبوة‪ ،‬وهي أيضا الكلمات المعبرة عن المنهج‬
‫ليشاهدها ويسمع لها فرعون وملؤه‪ ،‬والمل ‪ -‬كما عرفنا من قبل ‪ -‬هم القوم الذين يملون العيون‬
‫هيبة‪ ،‬فل يقال للناس الذين ل يلتفت إليهم أحد إنهم مل‪ ،‬أو هم الناس الذين يملون صدور‬
‫المجالس‪ ،‬أي الشراف والسادة‪ .‬ولماذا حدد الحق هنا أن موسى قد بعث لفرعون وملئه فقط؟ لن‬
‫الباقين من أتباعهم تكون هدايتهم سهلة إن اهتدى الكبار‪ ،‬والغالب والعادة أن الذي يقف أمام منهج‬
‫الخير هم المنتفعون بالشر‪ ،‬وهم القادة أو من حولهم‪ ،‬ول يرغبون في منهج الخير لنه يصادم‬
‫أغراضهم‪ ،‬وأهواءهم‪ ،‬ولذلك يحاربونه‪ ،‬أما بقية العامة فهم المغلوبون على أمرهم‪ ،‬وساعة يرون‬
‫أن واحدا قد جاء ووقف في وجه الذين عضوهم بمظالمهم وعضوهم بطغيانهم‪ ،‬تصبح قلوبهم مع‬
‫ن َومَلَئِهِ‪[ { ...‬العراف‪]103 :‬‬
‫عوْ َ‬
‫هذا المنقذ! } ُثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْدِهِم مّوسَىا بِآيَاتِنَآ إِلَىا فِرْ َ‬
‫وإن كانت اليات هي الكلمات المؤدية للمنهج الموجودة في التوراة‪ ،‬أو كانت اليات هي‬
‫المعجزات التي تدل على صدق موسى فقد كان ذلك يقتضي إيمانهم‪ .‬ونعلم أن القرآن قد عدد‬
‫اليات المعجزات التي أرسلها الحق مع موسى‪ {:‬وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ‪[} ...‬الِسراء‪:‬‬
‫‪]101‬‬
‫ومن هذه اليات العصا‪ ،‬واليد يدخلها في الجيب أو تحت جناحه وإبطه وتخرج بيضاء من غير‬
‫سوء أو علة‪ ،‬وأخذ آل فرعون بالسنين‪ ،‬وكلمة " سنين " تأتي للجدب الشديد الذي يستمر لفترة من‬
‫الزمن بحيث يلفت الناس إلى حدثٍ في زمان‪ ،‬ولذلك نقول‪ :‬كانت سنة عصيبة؛ لن السنة عضة‬
‫من الحداث‪ ،‬تهدم ترف الحياة‪ ،‬ثم تأتي لهم بما يهدم مقومات الحياة‪ ،‬وأولها الطعام والشراب‬
‫فيصيبهم بنقص الثمرات‪ ،‬وهو الجدب والقحط‪ ،‬وسمي الجدب سنة‪ ،‬وجمعه سنين‪ ،‬لنه شيء‬
‫يؤرخ به‪ ،‬فماذا كان استقبال فرعون وملئه لليات التي مع موسى عليه السلم؟ يقول الحق‪} :‬‬
‫فَظََلمُواْ ِبهَا {‪.‬‬
‫وهل كانت اليات أداة للظلم أو ظلموا بسببها لنهم رفضوها كمنهج حياتي؟‪ .‬لقد ظلموا بها لنهم‬
‫رفضوا اتباع المنهج الحق‪ ،‬وظلوا على فسادهم‪ ،‬والمفسدون ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬هم الذين يعمدون إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الصالح في ذاته فيفسدونه‪ ،‬برغم أن المطلوب من الِنسان أن يستقبل الوجود استقبال من يرى أن‬
‫هناك أشياء فوق اختياراته ومراداته‪ ،‬وأشياء باختياره ومراداته‪ ،‬فإذا نظر الِنسان في الشياء‬
‫التي بها مقومات الحياة‪ ،‬مما ل يدخل في اختياره يجدها على منتهى الستقامة‪.‬‬

‫إننا نجد الِنسان ل يتحكم في حركة الشمس أو حركة القمر‪ ،‬أو النجوم أو الريح أو المطر‪ ،‬فهذه‬
‫الكائنات مستقيمة كما يريدها ال‪ ،‬ول يأتي الفساد إل في المر الذي للِنسان مدخل فيه‪ ،‬والناس‬
‫ش َكوْا‬
‫ل تشكو من أزمة هواء ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬لنه ل دخل في حركة الهواء لحد‪ ،‬لكنهم َ‬
‫من أزمة طعام لن للبشر فيه دخلً‪ ،‬ونجد شكواهم من أزمة المياه أقل؛ لن مدخل الِنسان على‬
‫الماء قليل‪.‬‬
‫إنه سبحانه وتعالى يجعل المر الذي يدير حركتك الوقودية لك فيه بعض من الدخل‪ ،‬فيجعل من‬
‫جسمك ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬مخزنا للدهون ليعطيك لحظة الجوع ما كنزته فيه من طاقة‪ .‬ومن‬
‫العجيب أن الدهون هذه هي مادة واحدة وساعة نحتاج إلى التغذية منها تتحول المادة الواحدة إلى‬
‫المواد الخرى التي نحتاج إليها‪.‬‬
‫تحتاج مثل إلى زلل‪ ،‬فيتحول الدهن إلى زلل‪ ،‬تحتاج إلى كربون‪ ،‬يعطي لك الدهن الكربون‪،‬‬
‫تحتاج إلى فوسفور يعطيك فوسفورا‪ ،‬تحتاج إلى مغنسيوم يعطيك الدهن المغنسيوم‪ ،‬وهكذا فإذا كنا‬
‫نصبر على الطعام بقدر المخزون في أجسامنا‪ ،‬ونصبر على الماء أيضا بقدر المخزون في هذه‬
‫الجساد‪ ،‬فنحن ل نصبر على الهواء لن التنفس شهيق وزفير‪ ،‬ولو أن إنسانا ملك الهواء يعطيك‬
‫إياه لحظة الرضا‪ ،‬ويمنعه عنك لحظة الغضب‪ ،‬لمت قبل أن يرضى عنك‪ ،‬لكن إياه منع عنك‬
‫الماء فترة فقد يحن قلب عدوك أو يأتي لك أحد بالماء أو قد تسعى أنت بحيلة ما لتصل إليه‪.‬‬
‫إذن فالمر الذي ل دخل للِِنسان فيه نجد على منتهى الستقامة‪ ،‬ول يأتي الفساد إل من المر‬
‫ن َومَلَئِهِ َفظََلمُواْ ِبهَا فَا ْنظُرْ‬
‫عوْ َ‬
‫الذي للِنسان فيه دخل‪ُ } .‬ثمّ َبعَثْنَا مِن َبعْ ِدهِم مّوسَىا بِآيَاتِنَآ إِلَىا فِرْ َ‬
‫كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ ا ْل ُمفْسِدِينَ { [العراف‪]103 :‬‬
‫أي أن آخر المر سيعاقب ال المفسدين‪.‬‬
‫وأراد سبحانه أن يَ ْذكُر سلسلة القصة ل من بدء سلسلتها‪ ،‬بل يبدأ من نهايتها‪ ،‬فسبحانه ل يدرس‬
‫لنا التاريخ‪ ،‬ولكن يضع أمامنا العظة‪ ،‬وللقطة التي يريدها في هذا السياق‪ ،‬ولذلك لم يتكلم سبحانه‬
‫في هذه السورة عن ميلد موسى وكيف أوحى لمه أن تلقيه في البحر‪ ،‬ولم ترد حادث ذهابه إلى‬
‫مدين ومقابلته لسيدنا شعيب‪ ،‬لكنه هنا يتكلم سبحانه عن مهمة سيدنا موسى مع فرعون‪.‬‬
‫عوْنُ‪{ ...‬‬
‫ويقول سبحانه‪َ } :‬وقَالَ مُوسَىا يافِرْ َ‬

‫(‪)1045 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عوْنُ إِنّي َرسُولٌ مِنْ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)104‬‬
‫َوقَالَ مُوسَى يَا فِرْ َ‬

‫ويشرح لنا القرآن أمر بلغ موسى لفرعون وقومه بان ال واحد أحد وهو رب العالمين‪ ،‬وكان‬
‫قوم فرعون يعتقدون بوجود إله للسماء وآخر للرض‪ ،‬لذلك يبلغهم موسى بأن الِله واحد‪ {:‬قَالَ‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَآ إِن كُن ُتمْ مّوقِنِينَ }[الشعراء‪]24 :‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫َربّ ال ّ‬
‫ونجد موسى يعدد كلمة الربوبية في آيات أخرى؛ ليأتي بالمظهر الذي دُسّت فيه دسيسة الربوبية‬
‫لفرعون‪ ،‬وكانوا يعتقدون أن للسماء إلها‪ ،‬وللرض إلها آخر‪ ،‬فقال موسى‪ :‬إنني أتكلم عن الِله‬
‫الواحد الذي هو رب السماء والرض معا فل إله إل ال وحده‪ .‬وكانوا يعتقدون أن للشرق إلها‪،‬‬
‫وللغرب إلها‪ ،‬فأبلغهم موسى بأنه إله واحد‪ ،‬وكانوا يعتقدون أن للحياء ألها وربا‪ ،‬وللموات إلها‬
‫وربا‪ ،‬فقال لهم موسى‪ {:‬قَالَ رَ ّبكُ ْم وَ َربّ آبَآ ِئكُمُ الَوّلِينَ }[الشعراء‪]26 :‬‬
‫ويبلغ هنا موسى فرعونَ وقومَه‪...{ :‬إِنّي رَسُولٌ مّن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [العراف‪]104 :‬‬
‫وما دام موسى رسول من رب العالمين‪ ،‬فهو ل يقول إل الحق‪ ،‬لذلك يتابع الحق على لسان‬
‫علَى أَنْ لّ َأقُولَ‪} ...‬‬
‫حقِيقٌ َ‬
‫موسى‪َ { :‬‬

‫(‪)1046 /‬‬

‫سلْ َم ِعيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (‬


‫حقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا َأقُولَ عَلَى اللّهِ إِلّا ا ْلحَقّ َقدْ جِئْ ُت ُكمْ بِبَيّنَةٍ مِنْ رَ ّب ُكمْ فَأَرْ ِ‬
‫َ‬
‫‪)105‬‬

‫فأي هذه المور هو الذي يحتاج إلى بينة‪ ،‬هل البلغ بأنه رسول من رب العالمين؟ إن هذا القول‬
‫يدلنا على أن موسى اختلف مع فرعون أولً في أن موسى رسول‪ ،‬وأن للعالمين ربا واحدا‪ ،‬وأنه‬
‫ل يبلغ إل بالحق‪ ،‬هذه ‪ -‬إذن ‪ -‬ثلث قضايا خلفية بين موسى وفرعون‪ ،‬ولكن فرعون لم‬
‫يختلف مع موسى إل في قضية واحدة هي‪ :‬هل هو رسول بلغ عن ال بالقول الحق؟ فماذا طلب‬
‫منه؟ طلب الدليل على أنه رسول من رب العالمين‪ .‬وهذا يوضح أن فرعون يعلم أن العالم له رب‬
‫أعلى‪.‬‬
‫كذلك فإن فرعون لم يقف مع موسى في مسألة أن للعالمين ربّا‪ ،‬وأن هذا الرب ل يستطيع كل‬
‫إنسان أن يفهم مراده منه فلبد أن يرسل رسولً‪ ،‬بل وقف فرعون في مسألة‪ :‬هل موسى رسول‬
‫مبلغ عن ال أول؟‬
‫سلْ‬
‫حقّ قَدْ جِئْ ُتكُمْ بِبَيّ َنةٍ مّن رّ ّبكُمْ فَأَرْ ِ‬
‫ن لّ َأقُولَ عَلَى اللّهِ ِإلّ الْ َ‬
‫حقِيقٌ عَلَى أَ ْ‬
‫ولذلك يقول موسى‪َ { :‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َمعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [العراف‪]105 :‬‬
‫كأن مهمة موسى عند فرعون أن يخلص بني إسرائيل‪ .‬ونعرف أن قصة بني إسرائيل ناشئة من‬
‫أيام نبي ال يعقوب وابنه يوسف حين كاد الخوة لخيهم يوسف‪ ،‬وتشاوروا في أمر قتله أو‬
‫طرحه أرضا أو إلقائه في غيابة الجب‪ ،‬لقد جاء الحق بقصة بني إسرائيل على مراحل لنتدرج‬
‫بالنفعال معها‪ .‬فمراحل النفعال النفسي أمام من تكره تأخذ صورتين اثنتين‪ :‬صورة تدل على‬
‫تصعيد الرحمة في قلبك‪ ،‬وصورة تدل على تصعيد الشر في قلبك‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬لنفترض أن لك‬
‫خصما وصنع فيك مكيدة‪ ،‬وتحكي أنت لِخوانك ما فعله هذا الخصم‪ ،‬وكيف أنك تريد النتقام منه‬
‫فتقول‪ :‬أريد أن انتقم منه بضربه صفعتين‪ ،‬ثم تصعد الشر فتقول‪ :‬أنا أريد أن أقتله بالرصاص‪،‬‬
‫هذا شأن الشرير‪ ،‬أما الخيّر فيقول‪ :‬أنا ل أريد أن أقتله أو أصفعه أو أشتمه وأسبّه فهذا تصعيد في‬
‫الخير‪ .‬إذن‪ .‬يختلف تصعيد النتقام أو السماح حسب طاقة الخير أو الشر التي في النفس‪ .‬وهكذا‬
‫عصْبَةٌ‪} ...‬‬
‫حبّ إِلَىا أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ ُ‬
‫ف وَأَخُوهُ أَ َ‬
‫س ُ‬
‫نجد إخوة يوسف وهو يكيدون له‪ ،‬فقالوا‪ {:‬لَيُو ُ‬
‫[يوسف‪]8 :‬‬
‫هم يعترفون أنهم قوة وعصبة‪ ،‬ويحسدون يوسف وأخاه على محبة الب لهما‪ ،‬ويعترضون على‬
‫ذلك‪ ،‬ويظهرون البينة على أن يوسف وأخاه أحب إلى الب منهم‪ ،‬وذكر القرآن هذه البينة لنعرف‬
‫أهميتها‪ ،‬حتى ل يغفل أحد عنها‪ .‬لقد كان قلب نبي ال يعقوب مع يوسف وأخيه لصغرهما‬
‫وضعفهما‪ ،‬بينما بقية أبنائه كبار أقوياء أشداء؛ لن ال سبحانه وتعالى وضع في قلب البوة‬
‫والمومة من الرحمة على قدر ضعف الوليد الصغير‪ .‬فالصغير هو من يحتاج إلى رعاية وعناية‪،‬‬
‫ويكون قلب الم والب مع البن المريض أو الغائب‪.‬‬

‫ولذلك حينما سئلت امرأة حكيمة‪ :‬من أحب بنيك إليك؟ قالت‪ :‬الصغير حتى يكبر‪ ،‬والغائب حتى‬
‫يعود‪ ،‬والمريض حتى يشفى‪.‬‬
‫عصْبَةٌ {‪ .‬هو بينة ضدهم‪ .‬وكان المنطق يقتضى أن يعرفوا أنهم‬
‫إذن فقول إخوة يوسف‪ } :‬وَنَحْنُ ُ‬
‫ما داموا عصبة فل بد أن يكون قلب أبيهم مع يوسف وأخيه فكلهما كان صغيرا ويحتاج إلى‬
‫رعاية‪ ،‬وبطبيعة تكوين أبناء يعقوب كأسباط وذريّة أنبياء‪ ،‬نجدهم يصعدون الخير ل الشر‪ ،‬فقد‬
‫بدأوا بإعلن رغبة القتل‪ ،‬ثم استبدلوا بها الطرح أرضا بأن يلقوه في أرض بعيدة نائية ليستريحوا‬
‫منه ويخلو لهم وجه أبيهم‪ ،‬ثم استبدلوا بها إلقاءه في غياهب الجب؛ بدأوا بالقتل في لحظة عنفوان‬
‫الغضب ثم تنازلوا عن القتل بالطرح أرضا‪ ،‬أي أن يتركوه في مكان يكون فيه عرضة لن يضل‪،‬‬
‫ثم تنازلوا عن ذلك واكتفوا بإلقائه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة‪ ،‬فهل كانوا يريدون أن‬
‫يضروه‪ ،‬أو كانوا يفكرون في نجاته؟‪ .‬إذن فهذا تصعيد للخير‪.‬‬
‫وتوالت الحداث مع سيدنا يوسف واستقر معه بنو إسرائيل في مصر وكثرت أعدادهم‪ .‬وعندما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نستقرئ التاريخ‪ ،‬نجد أن الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن ملوك مصر‪ ،‬خص بعضهم باسم‬
‫فرعون‪ ،‬وخص بعضهم باسم ملك‪ ،‬فهناك فرعون وهناك ملك‪.‬‬
‫لوْتَادِ }[الفجر‪]10 :‬‬
‫عوْنَ ذِى ا َ‬
‫فإذا ما نظرت إلى القديم نجد أن الحق يقول‪َ {:‬وفِرْ َ‬
‫هكذا نجد الحق يسمى حاكم مصر " فرعون " وفي أيام سيدنا موسى أيضا يسميه الحق فرعون‪.‬‬
‫لكن في أيام يوسف عليه السلم لم يسمه فرعون‪ ،‬بل سمّاه ملكا‪َ {:‬وقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي بِهِ‪} ...‬‬
‫[يوسف‪]50 :‬‬
‫وبعد أن اكتشف العالم الفرنسي شامبليون ‪ -‬حجر رشيد ‪ -‬عرفنا أن الفترة التي دخل فيها سيدنا‬
‫يوسف مصر‪ ،‬لم يكن الفراعنة هم الذين يحكمون مصر‪ ،‬بل كان الحكام هم ملوك الهكسوس‬
‫الرعاة‪ ،‬وطمر القرآن هذه الحقيقة التاريخية حين سمى حكام مصر قبل يوسف فراعين‪ ،‬وفي‬
‫الفترة التي جاء فيها سيدنا يوسف سماهم " الملوك " ‪ ،‬وهؤلء هم من أغاروا على مصر‬
‫وحكموها وساعدهم بنو إسرائيل وخدموهم‪ ،‬وقاموا على مصالحهم‪ ،‬وبعد أن طرد المصريون‬
‫الهكسوس التفت الفراعنة بالشّر إلى من أعان الهكسوس؛ فبدأوا في استذلل بني إسرائيل‬
‫لمساعدتهم الهكسوس إبّان حكمهم مصر‪ .‬وأراد ال أن يخلصهم بواسطة موسى عليه السلم‪،‬‬
‫عوْنُ إِنّي َرسُولٌ مّن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ *‬
‫ولذلك يقول الحق على لسان موسى‪َ {:‬وقَالَ مُوسَىا يافِرْ َ‬
‫سلْ َم ِعيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ }‬
‫ن لّ َأقُولَ عَلَى اللّهِ ِإلّ ا ْلحَقّ َقدْ جِئْ ُت ُكمْ بِبَيّنَةٍ مّن رّ ّب ُكمْ فَأَرْ ِ‬
‫حقِيقٌ عَلَى أَ ْ‬
‫َ‬
‫[العراف‪]105-104 :‬‬
‫وكأن موسى يريد أن يخلص بني إسرائيل‪ ،‬أما مسألة اللوهية وربوبية فرعون فقد جاءت‬
‫عرضا‪.‬‬
‫ويقول فرعون‪ } :‬قَالَ إِن كُنتَ جِ ْئتَ بِآيَةٍ‪{ ...‬‬

‫(‪)1047 /‬‬

‫قَالَ إِنْ كُ ْنتَ جِ ْئتَ بِآَيَةٍ فَ ْأتِ ِبهَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ (‪)106‬‬

‫وهكذا يواجه فرعون موسى سائلً إياه أن يُظهر الية إن كان من الصادقين‪ ،‬إذن ففرعون يعتقد‬
‫أن ل آيات تثبت صدق الرسول بدليل أنه قال له‪ :‬هاتها إن كنت من الصادقين‪.‬‬
‫عصَاهُ فَإِذاَ‪} ...‬‬
‫ويكشف موسى عليه السلم الية‪ { :‬فَأَ ْلقَىا َ‬

‫(‪)1048 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مُبِينٌ (‪)107‬‬
‫فَأَ ْلقَى َ‬

‫وهذا اللقاء كان له سابق تجربة أخرى حينما خرج مع أهله من مدين ورأى نارا وبعد ذلك قال‬
‫ستُ نَارا‪[} ...‬طه‪]10 :‬‬
‫لهله‪ {:‬ا ْمكُثُواْ إِنّي آ َن ْ‬
‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي‬
‫ثم سمع خطابا‪َ {:‬ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا * قَالَ ِهيَ َ‬
‫وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا }[طه‪]18-17 :‬‬
‫وحين يقال له‪َ { :‬ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا } ‪ ،‬كان يكفي أن يقول في الجواب‪ :‬عصاي‪ ،‬ول‬
‫داعي أن يقول‪ " :‬هي " ول داعي أن يشرح ويقول‪ :‬إنه يتوكأ عليها وأن له فيها مآرب أخرى؛‬
‫لن الحق لم يسأله ماذا تفعل بعصاك‪ ،‬إذن فجواب موسى قد جاوز في الخطاب قدر المطلوب‪،‬‬
‫ويظن البعض أنه كان من الواجب أن يعطي الجواب على قدر السؤال‪ .‬لكن من يقول ذلك ينسى‬
‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ‬
‫أنه ل يوجد من يزهد في النس بخطاب ال‪ .‬وحين قال موسى عليه السلم‪ِ {:‬هيَ َ‬
‫عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي‪[} ...‬طه‪]18 :‬‬
‫ولقد شعر موسى عليه السلم واستدرك هيبة المخاطب فكان تهافته على الخطاب حبّا لنسه في‬
‫ال‪ ،‬لكنه حين شعر أنه قارب أن يتجاوز قال‪ { :‬وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَىا } كان من الممكن أن‬
‫يقول استعمالت كثيرة للعصا‪ .‬إذن فللعصا أكثر من إلقاء‪ ،‬إلقاء الدربة والتمرين على لقاء فرعون‬
‫سعَىا }[طه‪]20-19 :‬‬
‫حين أمره الحق‪ {:‬قَالَ أَ ْل ِقهَا يامُوسَىا * فَأَ ْلقَاهَا فَِإذَا ِهيَ حَيّةٌ تَ ْ‬
‫خفْ سَ ُنعِيدُهَا سِيَر َتهَا الُولَىا }[طه‪]21 :‬‬
‫فماذا حدث؟ قال له ال‪ {:‬قَالَ خُذْهَا وَلَ َت َ‬
‫فساعة خاف‪ ،‬دل على أن ما حدث للعصا ليس من قبيل السحر؛ لن الساحر حين يلقي عصاه أو‬
‫حبله يرى ذلك عصا أو حبلً‪ ،‬بينما يرى ذلك غيرُه حية‪ ،‬ولذلك يقول الحق عن السحرة‪ {:‬سَحَرُواْ‬
‫أَعْيُنَ النّاسِ‪[} ...‬العراف‪]116 :‬‬
‫وهذا يدل على أن حقيقة الشيء في السحر تظل كما هي في نظر الساحر‪ ،‬لكن موسى أوجس في‬
‫نفسه خيفة‪ ،‬فهذا يدل على أن العصا انتقلت من طبيعتها الخشبية وصارت حية‪.‬‬
‫وكان من الممكن أن تورق العصا وتخضر على الرغم من أنها كانت غصنا يابسا‪ .‬ولو حدث ذلك‬
‫فسيكون معجزة أيضا‪ ،‬ولكن نقلها ال نقلتين‪ :‬نقلها من الجمادية‪ ،‬وتعدى بها مرحلة النباتية إلى‬
‫مرحلة الحيوانية‪.‬‬
‫وكأن الحق العليم أزلً يرد على من أراد اللغط في مسألة إلقاء العصا‪ ،‬وقد ظن بعض الجاهلين‬
‫أن ذلك تكرار في الكلم في قصة واحدة‪ .‬ولم يلحظوا أن جهة الِلقاء للعصا كانت منفكة‪ ،‬ففي‬
‫القرآن ثلثة إلقاءات للعصا‪ :‬إلقاء التدريب حينما اصطفى ال موسى رسولً وأعلمه بذلك في‬
‫طور سيناء‪ {:‬إِنّنِي أَنَا اللّهُ ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ فَاعْبُدْنِي‪[} ...‬طه‪]14 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عصَايَ‪[} ...‬طه‪]18-17 :‬‬
‫وبعد ذلك قال له‪َ {:‬ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا * قَالَ ِهيَ َ‬
‫وإلقاء التدريب على المهمة هدفه طمأنة موسى‪ ،‬حتى إذا ما باشرها أمام فرعون باشرها وهو‬
‫على يقين أن العصا ستستجيب له فتنقلب حية بمجرد إلقائها‪ ،‬ولو أن ال قال له خبرا " إذا ذهبت‬
‫إلى فرعون فألق العصا فستنقلب حية " ‪ ،‬فقد ل يطمئن قلبه إلى هذا المر‪.‬‬

‫فأراد ال أن يدربه عليها تدريبا واقعيّا‪ ،‬ليعلم أن العصا ستستجيب له حين يلقيها فتنقلب حية‪،‬‬
‫وكان ذلك أول إلقاء لها‪ ،‬أما الِلقاء الثاني فكان ساعة أن جاء لفرعون للِعلم بمهمته أنه رسول‬
‫رب العالمين‪ ،‬وإعلمه بالبينة‪ ،‬وهو ما نحن بصدده الن في هذه الية التي نتكلم بخواطرنا‬
‫الِيمانية فيها‪.‬‬
‫ثم هناك إلقاء ثالث وهو إلقاء التحدي للسحرة‪ ،‬ولن لكل إلقاء موقعا فل تقل أبدا‪ :‬أن ذلك تكرار‪.‬‬
‫وإنما هو تأسيس لتعدد المواقف والملبسات‪ ،‬فلكل موقف ما يتطلبه‪ ،‬فل تغني لقطة هنا عن لقطة‬
‫عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مّبِينٌ { [العراف‪]107 :‬‬
‫هناك‪ } .‬فَأَ ْلقَىا َ‬
‫ومرّة يقول عن العصا‪ } :‬كَأَ ّنهَا جَآنّ {‪.‬‬
‫ويقول المشككون في كلم ال من المستشرقين‪ :‬كيف يقول مرة إنها ثعبان مبين‪ .‬ثم مرة أخرى‬
‫سعَىا { ‪ ،‬ومرة ثالثة يقول‪ } :‬كَأَ ّنهَا جَآنّ {‪ .‬ونقول‪ :‬إن هناك فارقا بين‬
‫يقول‪ } :‬فَِإذَا ِهيَ حَيّةٌ تَ ْ‬
‫مختلفات تتناقض‪ ،‬ومختلفات تتكامل‪ ،‬فهي ثعبان مرة‪ ،‬وهي حية مرة ثانية‪ ،‬وهي جان؛ لن‬
‫الثعبان هو الطويل الخفيف الحركة‪ ،‬والحية هي الكتلة المخيفة بشكلها وهي متجمعة‪ ،‬والجان هو‬
‫الحية المرعبة الشكل‪ .‬فكأنها تمثلت في كل مرة بمثال يرعب من يراه‪ ،‬وكل مرة لها شكل؛ فهي‬
‫مرة ثعبان‪ ،‬ومرة حية‪ ،‬وثالثة جان‪ ،‬أو تكون ثعبانا عند من يخيفه الثعبان‪ ،‬وتكون حية عند من‬
‫تخيفه الحية‪ ،‬وتكون جانا عند من يخيفه الجان‪ ،‬ولذلك تجد أن إشاعة الِبهام هو عين البيان‬
‫للمبهم‪.‬‬
‫ومثال ذلك إبهام الحق لمر الموت‪ ،‬فل يحكمه سن‪ ،‬ول يحكمه سبب‪ ،‬ول يحكمه زمان‪ ،‬وفي هذا‬
‫إبهام لزمانه وإبهام لسببه مما يجعله بيانا شائعا تستقبله بأي سبب في أي زمان أو في أي مكان‪،‬‬
‫وهكذا يأتي الِبهام هنا لكي يعطينا الصور المتكاملة‪ ،‬وقال بعض المستشرقين‪ :‬إن المسلمين‬
‫يستقبلون القرآن بالرهبة وبالنبهار‪ .‬ول يحركون عقولهم لكي يروا المتناقضات فيه‪ ،‬لكن غير‬
‫المسلم إن قرأ القرآن يتبين فيه أشياء مختلفة كثيرة‪ ،‬قالوا بالنص‪ " :‬أنتم تعلمون بقضايا اللغة أن‬
‫التشبيه إنما يأتي لتُلْحِق مجهولً بمعلوم " ‪ ،‬فيقال‪ :‬أنت تعرف فلنا‪ ،‬فتقول‪ :‬ل وال ل أعرفه‪.‬‬
‫فيقول لك‪ :‬هو شكل فلن؛ في الطول‪ ،‬وفي العرض‪ ،‬وفي الشكل‪ ،‬إذن فقد ألحق مجهولً بمعلوم‬
‫ل بمجهول‪ ،‬إن هذا ل يعطي صورة مثلما تكلم القرآن عن‬
‫ليُوضحه‪ .‬فكيف يلحق القرآن مجهو ً‬
‫جحِيمِ * طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ ُرءُوسُ الشّيَاطِينِ }‬
‫صلِ الْ َ‬
‫شجرة الزقوم فقال‪ {:‬إِ ّنهَا شَجَ َرةٌ تَخْرُجُ فِي َأ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[الصافات‪]65-64 :‬‬
‫فكيف توجد شجرة في الجحيم‪ ،‬إنها أشياء متناقضة؛ لن الشجرة فيها خضرة‪ ،‬وتحتاج إلى ري‪،‬‬
‫ومائية‪ ،‬والجحيم نار وجفاف‪ ،‬ثم إن الشيطان غير معلوم الصورة للبشر‪ ،‬وشجرة الزقوم غير‬
‫ل بمجهول‪.‬‬
‫معلومة لنها ستأتي في الخرة‪ ،‬فكيف ُيشَبّه ال مجهو ً‬

‫واستخدم المستشرقون ذلك كدليل على أن المسلمين يأخذون القرآن بانبهار ول يبحثون فيه‪ ،‬ونرد‬
‫عليهم‪ :‬أنتم ل تعلمون لغة العرب كملكة‪ ،‬بل عرفتموها صناعة‪ ،‬ولم تتفهموا حقيقة أن القرآن جاء‬
‫على لغة العرب‪ .‬وقد تخيلت لغة العرب أشياء رأت فيها البشاعة والقبح؛ كأن قالوا‪ " :‬ومسنونة‬
‫زرق كأنياب أغوال " ‪ ،‬والغول كائن غير موجود‪ ،‬لكنهم تخيلوا الغول المخيف وأن له أنيابا‪...‬‬
‫إلخ‪.‬‬
‫إذن التشبيه قد يكون للمر المُتَخَيّل في أذهان الناس‪ ،‬والصل في التشبيه أن يلحق مجهولً ليُعلم‪،‬‬
‫وشجرة الزقوم ل نعرفها‪ ،‬ورءوس الشياطين لم نرها‪ ،‬وهكذا ألحق ال مجهولً بمجهول‪ ،‬ولماذا‬
‫لم يأت بها في صورة معلومة؟‪ .‬لنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يريد أن يشيع البيان‪ ،‬ويعمم الفائدة ويرببها؛‬
‫لن الِخافة تتطلب مخيفا‪ ،‬والمخيف يختلف باختلف الرائين‪ ،‬فقد يوجد شيء يخيفك‪ ،‬ولكنه ل‬
‫يخيف غيرك‪ ،‬وقد تستقبح أنت شيئا‪ ،‬ولكن غيرك ل يستقبحه‪ ،‬ولذلك ضربنا ‪ -‬سابقا ‪ -‬مثلً‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬لو أننا أحضرنا من كبار رسامي الكاريكاتور في العالم‪ ،‬وقلنا لهم‪ :‬ارسموا لنا صورة‬
‫الشيطان تخيلوا الشيطان وارسموه‪ ،‬أيتفقون على شكل واحد فيه؟ ل؛ لن كل رسام سيرسم من‬
‫وحي ما يخيفه هو‪.‬‬
‫ولقد قال ال في صورة‪ :‬شجرة الزقوم } طَ ْل ُعهَا كَأَنّهُ رُءُوسُ الشّيَاطِينِ {؛ ليتخيل كل سامع ما‬
‫يخيفه من صورة الشيطان‪ ،‬فتكون الفائدة عامة من التخويف من تلك الشجرة‪ .‬لكنه لو قالها‬
‫بصورة واحدة لخاف قوما ولم يخف الخرين‪ .‬ومثال ذلك أمر عصا موسى‪ ،‬فهي مرة ثعبان‪،‬‬
‫ومرة جان‪ ،‬ومرة حية‪ ،‬وكلها صور لشيء واحد مخيف‪ ،‬ويقول الحق هنا في سورة العراف‪} :‬‬
‫عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مّبِينٌ {‪.‬‬
‫فَأَ ْلقَىا َ‬
‫وقوله‪ } :‬فَإِذَا ِهيَ { يوضح الفجائية التي أذهلت فرعون‪ ،‬فقد تحولت العصا إلى ثعبان ضخم في‬
‫لمح البصر بمجرد إلقائها‪ ،‬ومن فوائد تدريب سيدنا موسى على إلقاء العصا في طور سيناء أن‬
‫موسى لن تأخذه المفاجأة حين يلقيها أمام فرعون‪ ،‬بل ستأخذ المفاجأة فرعون‪ .‬كأن التدريب أولً‬
‫لِقناع موسى وضمان عدم خوفه في لحظة التنفيذ‪ ،‬وقد خاف منها موسى لحظة التدريب؛ لن‬
‫العصا صارت ثعبانا وحيّة حقيقية‪ ،‬ولو كانت من نوع السحر لظلت عصا في عين الساحر ول‬
‫يخاف منها‪ ،‬إذن خوفه منها إبّان التدريب دليل على أنها انقلبت حقيقة‪ ،‬ول تخيلً‪ ،‬وتلك هي‬
‫مخالفة المعجزة للسحر‪ ،‬فالمعجزة حقيقة والسحر تخييل‪ ،‬وهذا هو الذي سيجعل السحرة يخرون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عصَاهُ فَإِذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مّبِينٌ { [العراف‪]107 :‬‬
‫ساجدين لنهم قد ذهلوا مما حدث‪ } .‬فَأَ ْلقَىا َ‬
‫و " مبين " أي بيّن‪ ،‬وواضحة ملمحه المخيفة التي ل تخفى على أحد‪ ،‬ويقدم موسى عليه السلم‬
‫الية الثانية‪ ،‬فيقول‪ } :‬وَنَ َزعَ َي َدهُ فَإِذَا‪{ ...‬‬

‫(‪)1049 /‬‬

‫وَنَزَعَ َي َدهُ فَإِذَا ِهيَ بَ ْيضَاءُ لِلنّاظِرِينَ (‪)108‬‬

‫وهذه آية معجزة أخرى‪ .‬وقوله‪ " :‬ونزع " تعني إخراج اليد بعسر‪ ،‬كأن هناك شيئا يقاوم إخراج‬
‫اليد؛ لنه لو كان إخراج اليد سهلً‪ ،‬لما قال الحق‪ { :‬وَنَ َزعَ َي َدهُ } لنّ النزع يدل على أن شيئا‬
‫يقاوم‪ ،‬ومثال ذلك قوله الحق‪ُ {:‬قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ‬
‫تَشَآءُ‪[} ...‬آل عمران‪]26 :‬‬
‫لن نزع الملك ليس مسألة سهلة؛ ففي الغالب يحاول صاحب الملك التشبث بملكه‪ ،‬لكن الحق‬
‫ينزعه من هذا الملك‪ .‬كذلك قوله‪ { :‬وَنَ َزعَ يَ َدهُ } ‪ ،‬وهذا يدل على أن يده لها وضع‪ ،‬ونزع يده‬
‫وإخراجها بشدة له وضع آخر‪ ،‬كأنها كانت في مكان حريص عليها‪ .‬إذن ففيه لقطة بينت الِدخال‪،‬‬
‫خلْ َي َدكَ فِي جَيْ ِبكَ َتخْرُجْ‬
‫ولقطة بينت النزع‪ ،‬وهما عمليتان اثنتان‪ .‬وقال سبحانه في آية ثانية‪ {:‬وَأَ ْد ِ‬
‫بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ‪[} ...‬النمل‪]12 :‬‬
‫و " الجيب " هو مكان دخول الرأس من الثوب‪ ،‬وإن كنا نسمي " الجيب " في أيامنا مطلق شيء‬
‫نجعله وعاء لما نحب‪ ،‬وكان الصل أن الِنسان حين يريد أن يحتفظ بشيء‪ ،‬يضعه في مكان‬
‫أمامه وتحت يده‪ ،‬ثم صنع الناس الجيوب في الملبس‪ ،‬فسميت الجيوب جيوبا لهذا‪.‬‬
‫حكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً ُأخْرَىا }‬
‫ضمُمْ َي َدكَ إِلَىا جَنَا ِ‬
‫والحق قال في موضع آخر‪ {:‬وَا ْ‬
‫[طه‪]22 :‬‬
‫إذن ففيه إدخال وإخراج‪ ،‬وكل آية جاءت بلقطة من اللقطات؛ فآية أوضحت دخول اليد في الجيب‪،‬‬
‫وأخرى أوضحت ضم اليد إلى الجناح‪ ،‬وثالثة أوضحت نزع اليد‪ ،‬وهذه لقطات متعددة‪ ،‬تكوّن كلها‬
‫الصورة الكاملة؛ لنفهم أن القصص في القرآن غير مكرّر‪ ،‬فالتكرير قد يكون في الجملة‪ .‬لكن كل‬
‫تكرير له لقطة تأسيسية‪ ،‬وحين نستعرضه نتبين أركان القصة كاملة‪ .‬فكل هذه اللقطات تجمّع لنا‬
‫القصة‪ .‬وقلنا قبل ذلك‪ :‬إن الصراع بين فرعون وموسى ل ينشأ إل عن عداوة‪ ،‬وحتى يحتدم‬
‫الصراع لبد أن تكون العداوة متبادلة‪ ،‬فلو كان واحد عدوّا والثاني ل يشعر بالعداوة فلن يكون‬
‫لديه لدد خصومة‪ ،‬وقد يتسامح مع خصمه ويأخذ أمر الخلف هينا ويسامحه وتنفض المسألة‪ .‬لكن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذي يجعل العداوة تستعر‪ ،‬ويشتد ويعلو لهيبها أن تكون متبادلة‪ .‬وتأتي لنا لقطة في القرآن تثبت‬
‫لنا العداوة من فرعون لموسى‪ ،‬ولقطة أخرى تثبت العداوة من موسى لفرعون‪ ،‬فالحق يقول‪{:‬‬
‫خ ْذهُ عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّهُ‪[} ...‬طه‪]39 :‬‬
‫يَأْ ُ‬
‫عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ عَ ُدوّا َوحَزَنا‪[} ...‬القصص‪:‬‬
‫طهُ آلُ فِرْ َ‬
‫هذه تثبت العداوة من فرعون لموسى‪ {:‬فَالْ َتقَ َ‬
‫‪]8‬‬
‫وهذه تثبت لن موسى عدوّ لهم‪ .‬وكلتا اللقطتين يُكمل بعضها بعضا لتعطينا الصورة كاملة‪.‬‬
‫والحق هنا يقول‪ { :‬وَنَزَعَ يَ َدهُ فَإِذَا ِهيَ بَ ْيضَآءُ لِلنّاظِرِينَ } [العراف‪]108 :‬‬
‫ونعرف أن موسى كان أسمر اللون‪ ،‬لذلك يكون البياض في يده مخالفا لبقية لون بشرته‪ ،‬ويده‬
‫صارت بيضاء بحيث يراها الناس يلفتهم ضوؤها ويجذب أنظارهم‪ ،‬وهي ليست بيضاء ذلك‬
‫البياض الذي يأتي في سُمرة نتيجة البرص‪ ،‬ل؛ لن الحق قال في آية أخرى‪َ {:‬تخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ‬
‫غَيْرِ سُوءٍ‪[} ...‬طه‪]22 :‬‬
‫وكل لقطة كما ترى تأتي لتؤكد وتكمل الصورة‪ .‬إذن فقوله‪ { :‬بَ ْيضَآءُ لِلنّاظِرِينَ } يدل على أن‬
‫ضوءها لمع وضئ‪ ،‬يلفت نظر الناس جميعا إليها‪ ،‬ول يكون ذلك إل إذا كان لها بريق ولمعان‬
‫وسطوع‪ ،‬وقوله‪ { :‬بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } يؤكد أن هذا البياض ليس مرضا‪.‬‬
‫ويتابع الحق سبحانه‪ { :‬قَالَ ا ْلمَلُ مِن َقوْمِ‪} ...‬‬

‫(‪)1050 /‬‬

‫عوْنَ إِنّ َهذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (‪)109‬‬


‫قَالَ ا ْلمَلَأُ مِنْ َقوْمِ فِرْ َ‬

‫عرفنا أن المل هم القوم الذين يتصدرون المجالس‪ ،‬ويملونها أو الذين يملون العيون هيبة‪،‬‬
‫والقلوب مهابة وهم هنا المقربون من فرعون‪ .‬وكأنهم يملكون فكرة وعلما عن السحر‪ .‬وفي سورة‬
‫حوْلَهُ إِنّ هَـاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ }[الشعراء‪]34 :‬‬
‫الشعراء جاء القول الحق‪ {:‬قَالَ لِ ْلمَلِ َ‬
‫إذن فهذه رواية جاءت بالقول من المل‪ ،‬والية الخرى جاءت بالقول على لسان فرعون‪ ،‬وليس‬
‫في هذا أدنى تناقض‪ ،‬ومن الجائز أن يقول فرعون‪ :‬إنه ساحر‪ ،‬وأيضا أن يقول المل‪ :‬إنه ساحر‪.‬‬
‫وتتوارد الخواطر في أمر معلوم متفق عليه‪ .‬وقد حدث مثل هذا في القرآن حينما نزلت آيات في‬
‫خلق الِِنسان وتطوره بأن كان علقة فمضغة إلخ فقال كاتب الوحي بصوت مسموع‪ ... {:‬فَتَبَا َركَ‬
‫اللّهُ أَحْسَنُ الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون‪]14 :‬‬
‫عن أنس رضي ال عنه قال‪ :‬قال عمر بن الخطاب رضي ال عنه‪ :‬وافقت ربي في أربع‪ :‬نزلت‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خَلقْنَا الِنْسَانَ مِن سُلَلَةٍ مّن طِينٍ } الية قلت أنا‪ :‬فتبارك ال أحسن الخالقين‬
‫هذه الية‪ { :‬وََلقَدْ َ‬
‫حسَنُ الْخَاِلقِينَ }‪.‬‬
‫فنزلت‪ { :‬فَتَبَا َركَ اللّهُ أَ ْ‬
‫" وعن زيد بن ثابت النصاري قال‪ :‬أملى عليّ رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية‪ { :‬وََلقَدْ‬
‫خََلقْنَا الِنْسَانَ مِن سُلََلةٍ مّن طِينٍ } إلى قوله‪ ...{ :‬خَلْقا آخَرَ } فقال معاذ‪ { :‬فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ‬
‫الْخَاِلقِينَ } فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقال له معاذ‪ :‬مِمّ تضحك يا رسول ال؟ فقال‪:‬‬
‫" بها ختمت فتبارك ال أحسن الخالقين "‪.‬‬
‫لقد جاءت الخواطر في الحالة المهيجة لحاسيس الِيمان لحظة نزول الوحي بمراحل خلق‬
‫الِنسان‪.‬‬
‫فما الذي يمنع من توارد الخواطر فيجيء الخاطر عند فرعون وعند المل فيقول ويقولون؟ أو‬
‫يكون فرعون قد قالها وعلى عادة التباع والذناب إذا قال سيدهم شيئا كرروه‪ { .‬قَالَ ا ْلمَلُ مِن‬
‫عوْنَ إِنّ هَـاذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } [العراف‪]109 :‬‬
‫َقوْمِ فِرْ َ‬
‫ولم يصفوا فعل سيدنا موسى بأنه ساحر فقط بل بالغوا في ذلك وقالوا‪ :‬إنه ساحر عليم‪ .‬وأضافوا‬
‫ما جاء على ألسنتهم بالقرآن في هذه السورة‪.‬‬

‫(‪)1051 /‬‬

‫ضكُمْ َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ (‪)110‬‬


‫جكُمْ مِنْ أَ ْر ِ‬
‫يُرِيدُ أَنْ يُخْ ِر َ‬

‫إنها نكبة جاءت لفرعون الذي يدعي اللوهية‪ ،‬ونكبة لمن حوله من هؤلء الذين يوافقونه‪ ،‬فكيف‬
‫يواجهها حتى يظل في هيئته وهيبته؛ قال عن موسى‪ :‬إنه ساحر‪ ،‬لكي يصرف الناس الذين رأوا‬
‫معجزات موسى عن الِيمان والقتناع به‪ ،‬وأنه رسول رب العالمين‪ ،‬وبعد ذلك يهيج فرعون‬
‫ضكُمْ‬
‫جكُمْ مّنْ أَ ْر ِ‬
‫وطنيتهم ويهيج ويثير غيرتهم ويحرك انتماءهم إلى مكانهم فقال‪ { :‬يُرِيدُ أَن ُيخْرِ َ‬
‫َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ }‪.‬‬
‫اتهموا موسى عليه السلم بأنه يريد أن يخرج الناس بسحره من أرضهم‪ ،‬وهذا القول من فرعون‬
‫ومن معه له هدف هو تهييج الناس وإثارتهم؛ لن فرعون اقنع الناس أنه إله‪ .‬وها هي ذي‬
‫اللوهية تكاد تنهدم في لحظة‪ ،‬فقال عن موسى إنه ساحر‪ ،‬وبين قوم لهم إلف بالسحر‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫{ َفمَاذَا تَ ْأمُرُونَ } على لسان المل من قوم فرعون تدل على أن القائل للعبارة أدنى من المقول‬
‫لهم‪ ،‬فالمفروض أن فرعون هو صاحب المر على الجميع‪ ،‬ومجيء القول‪َ { :‬فمَاذَا تَ ْأمُرُونَ } يدل‬
‫على أن الذي يأمر في مسائل مثل هذه هو فرعون‪ ،‬وهذا يشعر بأن فرعون قد أدرك أن مكانته قد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫انحطت وأنه نزل عن كبريائه وغطرسته‪ .‬أو أن يكون ذلك من فرعون تطييبا لقلوب من حوله‪،‬‬
‫وأنه ل يقطع أمرا إل بالمشورة‪ ،‬فكيف تشاور الناس يا فرعون وأنت قد غرست في الناس أنك‬
‫إله؟ وهل يشاور الِله مألوها؟‪ .‬إن قولك هذا يحمل الخيبة فيك لنك تدعي اللوهية ثم تريد أن‬
‫تستعين بأمر المألوه‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ { :‬قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ‪} ...‬‬

‫(‪)1052 /‬‬

‫سلْ فِي ا ْلمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (‪)111‬‬


‫ج ْه وَأَخَا ُه وَأَرْ ِ‬
‫قَالُوا أَرْ ِ‬

‫جوْنَ‪[} ...‬التوبة‪.]106 :‬‬


‫و { أَ ْرجِهْ } أي أَخّره مثل قوله الحق‪ {:‬وَآخَرُونَ مُ ْر َ‬
‫أي أنهم مؤخرون للحكم عليهم وهم الثلثة الذين تخلفوا عن الغزو فخلفوا وأرجئ أمرهم حتى‬
‫نزل فيهم قوله سبحانه‪ { :‬وَعَلَى الثّلَثَةِ الّذِينَ خُّلفُواْ } إلخ الية‪.‬‬
‫وقولهم‪ { :‬أَ ْرجِ ْه وَأَخَاهُ } [ العراف‪]111 :‬‬
‫وهكذا كان طلب الرجاء لن المسألة أخطر من أن يُ َتصَرّف فيها تصرفا سريعا بل تحتاج إلى أن‬
‫يؤخّر الرأي فيها حتى يجتمع المل‪ ،‬ويرى الجميع كيفية مواجهتها‪ ،‬فهي مسألة ليست هينة لن‬
‫فيها نقض ألوهية فرعون‪ ،‬وفي هذا دك لسلطان الفرعون وإنهاء لنتفاعهم هم من هذا السلطان‪.‬‬
‫فإذا كان قد قال لهم‪َ { :‬فمَاذَا تَ ْأمُرُونَ }‪.‬‬
‫فكأنه كان يطلب منهم الرأي فورا‪ ،‬لكنهم قالوا إن المسألة تحتاج إلى تمهل وبطء‪ ،‬وأول درجات‬
‫البطء والتمهل أن يُستدعى القوم الذين يفهمون في السحر‪ .‬فما دمنا نقول عن موسى‪ :‬إنه ساحر‪،‬‬
‫فلنواجهه بما عندنا من سحر‪ :‬وقبول فرعون لهذه المشورة هدم للوهيته؛ لنه يدعي أنه إله‬
‫سلْ فِي‬
‫ويستعين بمألوه هم السحرة‪ ،‬والسحرة أتباع له‪ .‬وقوله الحق كان على ألسنتهم‪ { :‬وَأَرْ ِ‬
‫ا ْلمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ } [ العراف‪]111 :‬‬
‫يدل على أن السحر كان منتشرا‪ ،‬ومنبثقا في المدائن وقد أتبع سبحانه هذا القول على لسان المل‬
‫بقوله‪ { :‬يَأْتُوكَ ِب ُكلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }‬

‫(‪)1053 /‬‬

‫يَأْتُوكَ ِب ُكلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (‪)112‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولن المستشرقين يريدون أن يشككونا في القرآن قالوا‪ :‬ولماذا قال في سورة الشعراء‪ { :‬يَأْتُوكَ‬
‫ِب ُكلّ سَحّارٍ عَلِيمٍ }‪ .‬وكان هؤلء المستشرقين يريدون أن يفرقوا بين { سَاحِرٍ عَلِيمٍ } و { سَحّارٍ‬
‫عَلِيمٍ }؛ ولنهم ل يعرفون اللغة لم يلتفتوا إلى أن " سحّار " تفيد المبالغة من جهتين‪ .‬فكلمة " ساحر‬
‫" تعني أنه يعمل بالسحر‪ ،‬و " سحّار " تعني أنه يبالغ في إتقان السحر‪ ،‬والمبالغات دائما تأتي‬
‫لضخامة الحدث‪ ،‬أو تأتي لتكرر الحدث‪ .‬فـ " سحّار " تعني أن سحره قوي جدّا‪ ،‬أو يسحر في‬
‫كل حالة‪ ،‬فمن ناحية التكرار هو قادر على السحر‪ ،‬ومن ناحية الضخامة هو قادر أيضا‪ .‬ومادام‬
‫القائلون متعددين‪ ..‬فواحد يقول‪ :‬ساحر‪ ،‬وآخر يقول‪ :‬سحّار وهكذا‪ .‬والقرآن يغطي كل اللقطات‪{.‬‬
‫سلْ فِي ا ْلمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ ِب ُكلّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ }[العراف‪]112-111 :‬‬
‫ج ْه وَأَخَا ُه وَأَرْ ِ‬
‫قَالُواْ أَرْ ِ‬
‫و " حاشرين " تعني مَن يحشر لك السحرة ويجمعهم ل بإرادتهم ولكن بقوة فرعون وبطش جنده‪.‬‬
‫عوْنَ‪} ...‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ { :‬وَجَآءَ السّحَ َرةُ فِرْ َ‬

‫(‪)1054 /‬‬

‫عوْنَ قَالُوا إِنّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنّا نَحْنُ ا ْلغَالِبِينَ (‪)113‬‬
‫وَجَاءَ السّحَ َرةُ فِرْ َ‬

‫عوْنَ } يدل على بطش المر‪ ،‬أي أنه ساعة قال الكلمة هُرع الجند‬
‫وقوله‪ { :‬وَجَآءَ السّحَ َرةُ فِرْ َ‬
‫بسرعة ليجمعوا السحرة‪ .‬وقد ولغ بعض المستشرقين في هذه اللقطة أيضا فتساءلوا‪ :‬ولماذا جاء‬
‫لجْرا‪[} ...‬الشعراء‪]41 :‬‬
‫بقول مختلف في سورة أخرى حين قال‪ {:‬إِنّ لَنَا َ‬
‫لقد جاء بها بهمزة الستفهام‪ ،‬وفي سورة العراف جاء من غير همزة الستفهام‪ ،‬وهذه آية‬
‫قرآنية‪ ،‬وتلك آية قرآنية‪ .‬وأصحاب هذا القول يتناسون أن كل ساحر من سحرة فرعون قد انفعل‬
‫انفعالً أدى به مطلوبه؛ فالذي يستفهم من فرعون قال‪ " :‬أإن " ‪ ،‬والشجاع قال لفرعون‪ { :‬أَإِنّ لَنَا‬
‫نل‬
‫لَجْرا }‪ .‬وفي القضية الستفهامية ل يتحتم الجر لنه من الجائز أن يرد الفرعون قائل‪ :‬أ ْ‬
‫أجر لكم‪ ،‬ولكن في القضية الخبرية " إن لنا لجرا " اي أن بعض السحرة قد حكموا بضرورة‬
‫وجود الجر‪ ،‬وقد غطى القرآن هذا الستفهام‪ ،‬وهذا الخبر‪.‬‬
‫وتأتي إجابة فرعون على طلب السحرة للجر‪ { :‬قَالَ َنعَمْ وَإِ ّنكُمْ َلمِنَ‪} ...‬‬

‫(‪)1055 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قَالَ َن َع ْم وَإِ ّنكُمْ َلمِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ (‪)114‬‬

‫و " نعم " حرف جواب قائمة مقام جملة هي‪ :‬لكم أجر‪ ،‬وأضاف أيضا‪ { :‬وَإِ ّنكُمْ َلمِنَ ا ْلمُقَرّبِينَ }‪.‬‬
‫وهذا دليل على أنه ينافقهم أو يبالغ في مجاملتهم؛ لنه يحتاج إليهم أشد الحاجة‪ .‬وهكذا نجد ألوهية‬
‫فرعون قد خارت أمام المألوهين السحرة‪ .‬وقوله‪َ { :‬لمِنَ ا ْلمُقَرّبِينَ } هذه تدل على فساد الحكم؛‬
‫لنه مادام حاكما فعليه أن يكون كل المحكومين بالنسبة إليه سواء‪ .‬لكن إذا ما كان هناك مقربون‬
‫فالدائرة الولى منهم تنهب على قدر قربها‪ ،‬والدائرة الثانية تنهب أيضا‪ ،‬وكذلك الثالثة والرابعة‬
‫فتجد كل الدوائر تمارس فسادها مادام الناس مصنفين عند الحاكم‪.‬‬
‫ولذلك كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم إذا ما جلس الصحابة يستمعون إليه كان يسوّي الناس‬
‫جميعا في نظره حتى يظن كل إنسان أنه أولى بنظر رسول ال‪ ،‬ول يدنى أحدا أو يقربه من‬
‫مجلسه إل من شهد له الجميع بأنه مقرب‪..‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ { :‬قَالُواْ يامُوسَىا‪} ...‬‬

‫(‪)1056 /‬‬

‫ي وَِإمّا أَنْ َنكُونَ نَحْنُ ا ْلمُلْقِينَ (‪)115‬‬


‫قَالُوا يَا مُوسَى ِإمّا أَنْ تُ ْلقِ َ‬

‫ونلحظ أنهم لم يؤكدوا لموسى رغبتهم في أن يلقي هو أول عصاه‪ .‬ولكنهم أكدوا رغبتهم في أن‬
‫يكونوا هم أول الملقين‪ .‬فجاءوا بضمير الفصل وهو (نحن) الذي يفيد التأكيد‪.‬‬
‫ونعلم أن مَن يعقّب ويكون عمله تاليا لمن سبقه‪ ،‬فإن فعله هو الذي سيترتب عليه الحكم‪ .‬ولبد أن‬
‫يكون قوي الحجة‪ .‬هم يريدون أم يكونوا هم المعقبين‪ ،‬وأن موسى الذي يبدأ‪ ،‬لكن عزتهم تفرض‬
‫ي وَِإمّآ أَن ّنكُونَ‬
‫عليهم أن يبدأوا هم أولً؛ لذلك جاءوا بالعبارة التي تحمل المعنيين‪ِ { :‬إمّآ أَن تُ ْل ِق َ‬
‫نَحْنُ ا ْلمُلْقِينَ } [العراف‪]115 :‬‬
‫فعلم موسى أنهم حريصون‪ ،‬على أن يبدأوا هم بالِلقاء فأتوا بكلمة (نحن)‪ .‬وفكر موسى أن من‬
‫صالحه أن يلقوا هم أولً؛ لن عصاه ستلقف وتبتلع ما يلقون؛ لذلك يأتي قوله سبحانه‪ { :‬قَالَ َأ ْلقَوْاْ‬
‫فََلمّآ أَ ْل ُقوْاْ سَحَرُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)1057 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عظِيمٍ (‪)116‬‬
‫س وَاسْتَرْهَبُو ُه ْم وَجَاءُوا ِبسِحْرٍ َ‬
‫قَالَ أَ ْلقُوا فََلمّا أَ ْل َقوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النّا ِ‬

‫هم ‪ -‬إذن ‪ -‬سحروا أعين الناس‪ ،‬والسحر ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬لطف حيلة يأتي بأعجوبة تشبه المعجزة‪.‬‬
‫وكأنها تخرق القانون‪ ،‬وهو غير الحيلة التي يقوم بها الحواة؛ لن الحواة يقومون بخفة حركة‪،‬‬
‫وخفة يد‪ ،‬ليعموا المر على الناس‪ .‬لكن " السحر " شيء آخر‪ ،‬ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى‬
‫خلق كل جنس بقانون؛ خلق الِنس بقانون‪ ،‬وخلق الجن بقانون‪ ،‬وخلق الملئكة بقانونها‪َ {:‬ومَا َيعْلَمُ‬
‫جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ‪[} ...‬المدثر‪]31 :‬‬
‫وكل قانون له خصائصه ومميزاته التي تناسب عنصر تكوينه‪ ،‬فالِنسان ‪ -‬مثلً ‪ -‬لنه مخلوق‬
‫من الطين له من الكثافة ما يمنعه من التسلل من خلل جدار؛ لنك لو كنت تجلس وهناك تفاحة‬
‫وراء الجدار الذي تجلس بجواره فلن يتعدى ريحها ول طعمها إلى فمك؛ لن الجدار يحول بينك‬
‫وبين ذلك‪ ،‬لكن لو كانت هناك جذوة من نار بجانب الجدار الذي تستند عليه لكان من الممكن أن‬
‫يتعدى أثرها لك؛ لن النار إشعاعات تنفذ من الشياء‪ ،‬ولن الجن مخلوق من نار‪ ،‬لذلك نجد له‬
‫هذه الخاصية‪ {.‬إِنّهُ يَرَا ُكمْ ُه َو َوقَبِيلُهُ مِنْ حَ ْيثُ لَ تَ َروْ َنهُمْ‪[} ...‬العراف‪]27 :‬‬
‫فإذا كان الجن له قانون والِنس له قانون‪ ،‬فهل القانون هو الذي يسيطر؟ ل‪ ،‬بل رب القانون هو‬
‫الذي يسيطر لنه جل وعل فوق القانون‪ .‬فيأتي ال للِنس و ُيعَلّم واحدا منهم بعضا من أسرار‬
‫كونه ليستذل الجن لخدمته‪ ،‬برغم ما للجن من خفة حركة‪ ،‬فسبحانه يوضح‪ :‬ل تظن أيها الجن أنك‬
‫قد أخذت خصوصيتك من العنصر الذي يكونك لن هناك القادر العلى وهو المعنصر لك‬
‫ولغيرك‪ ،‬بدليل أن الِنسان وهو من عنصر آخر يتحكم فيك بعد أن علمه ال بعضا من أسرار‬
‫كونه‪ .‬ولننتبه دائما أن العلم بأسرار تسخير الجن هو من ابتلءات الحق للخلق؛ لنه سبحانه‬
‫وتعالى يقول‪َ {:‬ومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ َأحَدٍ حَتّىا َيقُولَ إِ ّنمَا نَحْنُ فِتْ َنةٌ فَلَ َت ْكفُرْ‪[} ...‬البقرة‪]102 :‬‬
‫فكأن هاروت وماروت وهما يعلّمان الِنسان كيف يمارس السحر‪ ،‬ينصحان الِنسان الذي يرغب‬
‫في أن يتعلم السحر أولً‪ ،‬ويوضحان له أنهما فتنة أي ابتلء واختبار ويقولن له‪ { :‬فَلَ َت ْكفُرْ } ‪،‬‬
‫مما يدل على أن كل من يتعلم السحر؛ إن قال لك‪ :‬إني سأستعمله في الخير فهو كاذب؛ لنه يقول‬
‫ذلك ساعة صفاء نفسه تجاه الخلق‪ ،‬لكن ماذا إن غافله إنسان من أي ناحية وغلبه على بعض أمره‬
‫وهو يملك بعضا من أسرار السحر؟ هل يقدر على نفسه؟ لقد قال إنه أمين وقت التحمل‪ ،‬لكن هل‬
‫يظل أمينا وقت الداء؟ إن من يتعلم السحر قد يستخدمه في النتقام من غيره‪ ،‬وبذلك يضيع تكافؤ‬
‫الفرص‪ ،‬ونعلم أن تكافؤ الفرص هو الذي يحمي الناس‪ ،‬ويعطي بعضهم المن من بعض‪ ،‬ويُلزم‬
‫كل إنسان حدّه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا أخذ إنسان سلحا ليس عند غيره فقد يستخدمه ضد من ل يملك مثله‪ ،‬والِنسي الذي يأخذ‬
‫سلح استخدام الجن إنما يأخذ سلحا ل يملكه أخوه الِنسي‪ ،‬وبذلك يكون قد أخذ فرصة أقوى من‬
‫غيره وفي هذا ابتلء؛ لن الِنسان قد ينجح فيه وقد يخفق فل يظفر بما يطلبه‪ ،‬وقوله سبحانه‪} :‬‬
‫ضمَنون وقت‬
‫فَلَ َت ْكفُرْ { يدل على أنهما علما طبائع البشر في أنهم حين يأخذون فرصة أعلى قد ُي ْ‬
‫ضمَنون يوم تعكير نفوسهم‪ {.‬فَيَ َتعَّلمُونَ مِ ْن ُهمَا مَا ُيفَ ّرقُونَ ِبهِ بَيْنَ ا ْلمَرْءِ‬
‫صفاء نفوسهم‪ ،‬ولكنهم ل ُي ْ‬
‫وَ َزوْجِ ِه َومَا هُم ِبضَآرّينَ ِبهِ مِنْ َأحَدٍ ِإلّ بِإِذْنِ اللّهِ‪[} ...‬البقرة‪]102 :‬‬
‫ما دام الحق هو الذي أعطاهم هذه القدرة فهو سبحانه القادر على أن يسلبها منهم‪ ،‬مثلما يمنح ال‬
‫سبحانه وتعالى القدرة لِنسان ليكون غنيّا وقادرا على شراء سلح ناري‪ ،‬وأن يتدرب على إطلق‬
‫النار‪ ،‬فهذا الرجل ساعة يغضب قد يتصور أن يحل خلفه مع غيره أو ينهي غضبه مع أي إنسان‬
‫آخر بإطلق الرصاص عليه‪ .‬لكن لو لم يكن معه " مسدس " فقد ينتهي غضبه بكلمة طيبة‬
‫حدٍ حَتّىا‬
‫يسمعها‪ ،‬إذن فساعة ما يمنع ال أمرا فهو يريد أن يرحم؛ لذلك يقول‪َ } :‬ومَا ُيعَّلمَانِ مِنْ أَ َ‬
‫َيقُولَ إِ ّنمَا نَحْنُ فِتْ َنةٌ فَلَ َت ْكفُرْ {‪.‬‬
‫وفي هذا تحذير لمن يتعلم مثل هذا المر‪ ،‬ويريد سبحانه أن يحمي خلقه من هذه المسألة‪ ،‬فلو أنك‬
‫تتبعت هؤلء لستذلوك واستنزفوك‪ ،‬ويتركك ال لهم لنك اعتقدت فيهم‪ ،‬أما إن قلت " اللهم إنك‬
‫قد أقدرت بعض خلقك على السحر والشر‪ ،‬ولكنك احتفظت لنفسك بإذن الضر‪ ،‬فإني أعوذ بما‬
‫احتفظت به مما أقدرت عليه‪ ،‬بحق قولك‪َ } :‬ومَا هُم ِبضَآرّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ ِإلّ بِِإذْنِ اللّهِ { ‪ ،‬ويكفي‬
‫أن نعلم أنه سبحانه قد قال‪َ } :‬ومَا هُم ِبضَآرّينَ بِهِ مِنْ َأحَدٍ ِإلّ بِإِذْنِ اللّهِ {‪ .‬هنا لن يمكنهم ال منك‪،‬‬
‫إنما إن استجبت وسرت معهم‪ ،‬فهم يستنزفونك‪ ،‬وأراد ال أن يفضح هذه العملية فقال على ألسنة‬
‫السحرة الذين استدعاهم فرعون‪ {:‬أَإِنّ لَنَا لَجْرا‪[} ...‬الشعراء‪{ 41 :‬‬
‫وكأنهم يعترفون بالنقص فيهم‪ ،‬فعلى الرغم من ادعائهم القدرة على فعل المعجزات إل أنهم‬
‫عاجزون عن الكسب الذي يوفي حاجاتهم؛ لذلك طلبوا الجر من فرعون‪ ،‬وهذا حال الذين‬
‫يشتغلون بالسحر والشعوذة‪ .‬هم يدعون القدرة ويعانون الفاقة والعوز‪ .‬هكذا حكم الحق بضيق‬
‫رزق من يعمل بالسحر‪ ،‬ويفضحهم الحق دائما‪ ،‬وللعاقل أن يقول‪ :‬ماداموا َيدّعُون الفلح فليفلحوا‬
‫في إصلح أحوالهم‪ .‬ومادام الساحر يدعي أنه يعرف أماكن الكنوز المخبوءة فلماذا ل يعرف‬
‫كنوزا في الرض التي ليست مملوكة لحد ويأخذها لنفسه؟ هذا إن افترضنا أن الساحر أمين‬
‫للغاية ول يريد أن يأخذ من خزائن الناس‪.‬‬
‫ولذلك تجد كل العاملين بالسحر والشعوذة يموتون فقراء‪ ،‬بشعي الهيئة؛ مصابين في الذرية؛ لن‬
‫الكائن منهم استغل فرصة ل توجد لكل واحدٍ من جنسه البشري‪ ،‬وذلك للِضرار بالناس‪.‬‬

‫ن الِنسِ َيعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ ا ْلجِنّ فَزَادُو ُهمْ‬


‫واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رَهَقا }[الجن‪]6 :‬‬
‫وهنا يقرر الحق أنهم سيعيشون في إرهاق وتعب‪ .‬ولذلك يتحدد موقفنا من السحر بأننا ل ننكره‬
‫مثلما ينكره آخرون‪ .‬فقد قال بعض من العلماء‪ :‬إن السحرة جاءوا بعصيّ وضعوا فيها زئبقا‪،‬‬
‫وعند وجود الزئبق تحت أشعة الشمس تعطي له حرارة فتتلوى العصى‪ ،‬لكن نحن ل ننكر‬
‫السحر‪ ،‬كما ل ننكر الجن لنه ل يفوتنا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬إن عفريتا من‬
‫الجن تفلّت عليّ البارحة ليقطع عليّ الصلة فأمكنني ال تبارك وتعالى منه وأردت أن أربطه إلى‬
‫سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم فذكرت قول أخي سليمان عليه‬
‫حدٍ مّن َبعْدِي { "‪.‬‬
‫غفِرْ لِي وَ َهبْ لِي مُلْكا لّ يَن َبغِي لَ َ‬
‫الصلة والسلم‪َ } :‬ربّ ا ْ‬
‫فمادام الحق قد قال‪ :‬إنه خلق خلقا ل تدركهم بإحساسك‪ ،‬فنحن نقر بما أبلغنا به الحق؛ لن وجود‬
‫الشيء أمر وإدراك وجوده أمر آخر‪ ،‬وكل مخلوق له قانونه‪ ،‬فالعفريت من الجن قال لسيدنا‬
‫سليمان عن عرش بلقيس‪ {:‬أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن ّمقَا ِمكَ‪[} ...‬النمل‪]39 :‬‬
‫وكأن الجن يطلب زمنا ما‪ ،‬فقد يجلس سليمان في مقامه معهم ساعة أو ساعتين أو ثلثا‪ ،‬لكن الذي‬
‫عنده علم من الكتاب يقول‪ {:‬أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَ ْبلَ أَن يَرْ َتدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ‪[} ...‬النمل‪]40 :‬‬
‫ولبد أن يكون طرفه قد ارتد في أقل من ثانية بعد أن قال ذلك‪ ،‬ولهذا نجد القرآن يورد ما حدث‬
‫على الفور فيقول‪ } :‬فََلمّا رَآهُ مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ {‪.‬‬
‫مما يدل على أن ال قد خلق الجناس‪ ،‬وخلق لكل جنس قانونا‪ ،‬وقد يكون هناك قانون أقوى من‬
‫قانون آخر‪ ،‬لكن صاحب القانون مخلوق لذلك ل يحتفظ به؛ لن خالق القانون يبطله‪ ،‬ويسلط أدنى‬
‫سحَرُواْ أَعْيُنَ النّاسِ {‪.‬‬
‫على من هو أعلى منه‪ .‬ولندقق في التعبير القرآني‪َ } :‬‬
‫ونحن أمام أشياء هي العصى والحبال‪ .‬وجمع من البشر ينظر‪ .‬ونفهم من قوله الحق‪ } :‬سَحَرُواْ‬
‫صبّ على الرائي له‪ ،‬لكن المرئي يظل على حالته‪ ،‬فالعصى هي هي‪،‬‬
‫أَعْيُنَ النّاسِ { أن السحر يَ ْن َ‬
‫والحبال هي هي‪ ،‬والذي يتغير هو رؤية الرائي‪ .‬ولذلك قال سبحانه في آية ثانية‪... {:‬يُخَ ّيلُ إِلَ ْيهِ‬
‫سعَىا }[طه‪]66 :‬‬
‫سحْرِهِمْ أَ ّنهَا َت ْ‬
‫مِن ِ‬
‫إذن فالسحر ل يقلب الحقيقة‪ ،‬بل تظل الحقيقة هي هي ويراها الساحر على طبيعتها‪ .‬لكن الناس‬
‫هي التي ترى الحقيقة مختلفة‪ .‬إذن فالسحرة قد قاموا بعملهم وهو‪ } :‬سَحَرُواْ أَعْيُنَ النّاسِ‬
‫وَاسْتَرْهَبُوهُمْ {‪.‬‬
‫واسترهبوهم أي أدخلوا الرهبة في نفوس الناس من هذه العملية‪ ،‬وظن السحرة أن موسى سيخاف‬
‫مثل بقية الناس المسحورين‪ ،‬ونسوا أن موسى لن ينخدع بسحرهم؛ لنه باصطفاء ال له وتأييده‬
‫بالمعجزة صار منفذا لقانون الذي أرسله فجعل عصاه حية‪ ،‬وصاحب القانون هو الذي يتحكم‪.‬‬
‫وهم قد جاءوا بسحر عظيم‪ ،‬وهو أمر منطقي؛ لن العملية هي مباراة كبرى يترتب عليها هدم‬
‫ألوهية فرعون أو بقاء ألوهيته‪ ،‬لذلك ل بد أن بأتوا يآخر وأعظم ما عندهم من السحر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويقول الحق‪ } :‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا‪{ ...‬‬

‫(‪)1058 /‬‬

‫عصَاكَ فَإِذَا ِهيَ تَ ْلقَفُ مَا يَ ْأ ِفكُونَ (‪)117‬‬


‫وََأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ َ‬

‫ولماذا احتاجت هذه المسألة إلى وحي جديد خصوصا أنه قد سبق أن تم تدريب موسى على إلقاء‬
‫العصا؟‪ .‬ونقول‪ :‬فيه فرق بين التعليم للعداد لما يكون‪ ،‬والتنفيذ ساعة يكون‪ ،‬فساعة يأتي أمر‬
‫التنفيذ يجيء الحق بأمر جديد‪ ،‬فربما يكون قد دخل على بشرية موسى شيء من السحر العظيم‪،‬‬
‫والسترهاب‪ ،‬هذا ونعلم أن قصة موسى عليه السلم فيها عجائب كثيرة‪ .‬فقد كان فرعون يقتل‬
‫الذكران‪ ،‬ويستحي النساء‪ ،‬وأراد ربنا أل يُقتل موسى فقال سبحانه‪ {:‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ‬
‫خ ْفتِ عَلَ ْيهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَمّ‪[} ...‬القصص‪]7 :‬‬
‫ضعِيهِ فَإِذَا ِ‬
‫أَ ْر ِ‬
‫خفْتِ عَلَيْهِ } يدل على أن العملية المخوفة لم تأت بعد‪ ،‬بل ستأتي‬
‫ضعِيهِ فَإِذَا ِ‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬أَ ْر ِ‬
‫لحقّا‪ .‬وهات أيّة امرأة وقل لها‪ :‬إن كنت خائفة على ابنك من أمر ما فارميه في البحر‪ .‬من‬
‫المؤكد أنها لن تصدقك‪ ،‬بل ستسخر منك؛ لنها ستتساءل‪ :‬كيف أنجيه من موت مظنون إلى موت‬
‫محقق؟‪ .‬وهذا هو المر الطبيعي‪ ،‬لكن نحن هنا أمام وارد من ال إلى خلق ال‪ ،‬ووارد ال ل‬
‫يصادمه شك‪ .‬إذن فالخاطر والِلهام إذا جاء من ال ل يزاحمهما شيء قط‪ .‬ول يطلب الِنسان‬
‫ل لن نفسه قد اطمأنت إليه؛ لذلك ألقت أم موسى برضيعها في البحر‪.‬‬
‫عليه دلي ً‬
‫ويقدّر ال أنها أم فيقول‪ {:‬وَلَ تَخَافِي َولَ تَحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْيكِ‪[} ...‬القصص‪]7 :‬‬
‫ولن يرده إليها فقط‪ ،‬بل سيوكل إليه أمرا جللً‪... {.‬وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص‪]7 :‬‬
‫وكأن الحق سبحانه يوضح لم موسى أن ابنها لن يعيش من أجلها فقط‪ ،‬بل إن له مهمة أخرى في‬
‫الحياة فسيكون رسولً من ال‪ .‬فإذا لم تكن السماء ستحافظ عليه لجل خاطر الم وعواطفها‪ ،‬فإن‬
‫السماء ستحفظه لن له مهمة أساسية { وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }‪ .‬ونلحظ أن الحق هنا لم يأت‬
‫بسيرة التابوت لكنه في آية ثانية يقول‪ {:‬إِذْ َأ ْوحَيْنَآ إِلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا * أَنِ ا ْق ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ‬
‫حلِ }[طه‪]39-38 :‬‬
‫فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْ َيمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ‬
‫ولم يقل في هذه الية‪َ { :‬ولَ تَخَافِي َولَ َتحْزَنِي }؛ لنه أوضح لها ما سوف يحدث من إلقاء اليم‬
‫خ ْفتِ عَلَيْهِ }‪ .‬هو إعداد للحدث قبل أن يجيء‪ ،‬وفي هذه‬
‫له بالساحل‪ .‬وقوله في الولى‪ { :‬فَإِذَا ِ‬
‫الية‪ِ { :‬إذْ َأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا‪ } ...‬إلخ تجد اللقطات سريعة متتابعة لتعبر عن التصرف‬
‫ك َوجَاعِلُوهُ مِنَ‬
‫لحظة الخطر‪ .‬لكن في الية الولى‪َ { :‬ولَ تَخَافِي وَلَ َتحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ا ْلمُرْسَلِينَ } نجد البطء والهدوء والرتابة؛ لنها تحكي عن الِعداد‪ .‬لما يكون‪.‬‬
‫إذن فالحق سبحانه وتعالى يعطي كل جنس قانونا‪ ،‬وكل قانون يجب أن يُحترم في نطاقه‪ ،‬لن‬
‫تكافؤ الفرص بين الجناس هو الذي يريده ال‪ .‬وحينما أراد سبحانه وتعالى أن يبين لنا هذه‬
‫المسألة أوضح أن على المؤمن أن ينظر إلى المعطيات من وراء التكاليف‪ ،‬وفي آية الدّيْن ‪ -‬على‬
‫سبيل المثال ‪ -‬نجد الحق يوصي المقترض " المدين " ‪ -‬وهو الضعيف ‪ -‬أن يكتب الدّيْن‪ ،‬ويعطي‬
‫بذلك إقرارا للدائن وهو القوي القادر فيقول سبحانه‪:‬‬

‫صغِيرا أَو كَبِيرا إِلَىا أَجَِلهِ‪[} ...‬البقرة‪]282 :‬‬


‫{ َولَ تَسَْأمُواْ أَن َتكْتُبُوهُ َ‬
‫والمسألة هنا في ظاهر المر أنه يحمي الدائن ونقوده‪ ،‬لكن علينا أن ننتبه إلى أنه يحمي المدين‬
‫من نفسه؛ لن الدّيْن إن لم يكن موثقا فالمدين لن يبذل الجهد الكافي للسداد‪ ،‬وباجتهاد المدين نفيد‬
‫الوجود بطاقة فاعلة‪ .‬ولكن إن لم نوثق الدّيْن‪ ،‬وتكاسل المدين عن العمل والسداد فقد تشيع‬
‫الفوضى في المجتمع ويرفض كل إنسان أن يقرض أحدا ما يحتاج إليه‪ .‬وبذلك تفسد المور‬
‫القتصادية‪.‬‬
‫إذن فسبحانه حين يأمر بتوثيق الدّيْن‪ ،‬وإن كان في ظاهر المر حماية للدائن‪ .‬لكنّه في باطن المر‬
‫يحمي سبحانه المدين‪ ،‬لن هناك فرقا بين ساعة التحمل للحكم‪ ،‬وساعة أداء الحكم‪.‬‬
‫مثال ذلك حين يأتيك إنسان قائلً‪ :‬أنا عندي ألف جنيه وخائف أن يضيع مني فخذه أمانة عندك إلى‬
‫أن أحتاج إليه‪ ،‬وبذلك يكون هذا الِنسان قد استودعك أمانة ول يوجد إيصال أو شهود‪ ،‬والمر‬
‫مردود إلى أمانة المودَع عنده إن شاء أنكر‪ ،‬وإن شاء أقر‪ .‬ونجد من يقول لهذا الِنسان‪ :‬هات ما‬
‫عندك‪ .‬يقول ذلك وفي ذمته ونيته أن صاحب اللف جنيه حين يأتي ليطلبه يعطيه له‪ ،‬إنه َيعِدُ ذلك‬
‫ساعة التحمل‪ ،‬لكنه ل يضمن نفسه ساعة الداء‪ ،‬فقد تأتي له ظروف صعبة ساعة الداء فيتعلل‬
‫بالحجج ليبعد صاحب المال عنه‪.‬‬
‫إذن هناك فرق بين حالة واستعداد حامل المانة ساعة الداء لهذه المانة‪ .‬والمؤمن الحق هو من‬
‫يتذكر ساعة التحمل والداء معا‪ ،‬إنّ بعض الناس يرفض المانة ليزيل عن نفسه عبء الداء‪.‬‬
‫والذي يتعلم شيئا يناقض ناموس وجوده كتعلم السحر نقول له‪ :‬احذر أن تُبتلى وتُفتن‪ ،‬بل ابتعد‬
‫واحفظ نفسك ول تستعمل ذلك‪ ،‬واحذر أن تقول أنا سأستعمل ما تعلمته من سحر في الخير‪ ،‬ومن‬
‫يأتي لي وهو في أزمة سوف أحلها له بالسحر‪ .‬ونقول‪ :‬لهذا الِنسان‪ :‬أنت تتكلم عن وقت التحمل‪،‬‬
‫ولكنك ل تتكلم عن وقت الداء‪.‬‬
‫عصَاكَ فَِإذَا ِهيَ تَ ْل َقفُ مَا يَ ْأ ِفكُونَ‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ } :‬وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا أَنْ أَ ْلقِ َ‬
‫{ [العراف‪]117 :‬‬
‫والِفك هو قلب الشيء على وجهه‪ ،‬ومنه الكذب‪ .‬وعلمنا من قبل أن كل شيء له نسبة كلمية وله‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نسبة واقعية‪ ،‬فإذا قلت مثلً " محمد مجتهد " فهذه نسبة كلمية‪ ،‬لكن أيوجد واحد في الواقع اسمه‬
‫محمد وموثوق في اجتهاده؟‪ .‬إن كان المر كذلك فقد وافقت النسبة الكلمية النسبة الواقعية‪،‬‬
‫ويكون الكلم هو الصدق‪ ،‬أما الكذب فهو أن تقول " محمد مجتهد " ول يوجد إنسان اسمه محمد‪،‬‬
‫وإن كان موجودا فهو غير مجتهد‪ ،‬ويكون الكلم كذبا لن النسبة الكلمية خالفت النسبة الواقعية‪،‬‬
‫وحين يكذب أحد فهو يقلب المسألة ونسمى ذلك كذبا‪ ،‬وشدة الكذب تسمى إفكا‪.‬‬

‫أو الكذب أل يكون هناك تطابق‪ ،‬وإن لم تكن تعلم‪ ،‬والِفك أن تتعمد الكذب‪ ،‬وهذا أيضا افتراء‪} .‬‬
‫عصَاكَ فَإِذَا ِهيَ تَ ْل َقفُ مَا يَ ْأ ِفكُونَ {‪.‬‬
‫أَنْ أَ ْلقِ َ‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬فَِإذَا { وهي تعبر عن الفجائية حيث ابتلعت عصا موسى ‪ -‬بعد‬
‫أن صارت حية ‪ -‬ما أتى السحرة وجاءوا به من الكذب والِفك وسحروا به أعين الناس‪.‬‬
‫طلَ‪{ ...‬‬
‫ق وَ َب َ‬
‫ويقول سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬ف َوقَعَ ا ْلحَ ّ‬

‫(‪)1059 /‬‬

‫طلَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)118‬‬


‫ق وَبَ َ‬
‫حّ‬‫َف َوقَعَ الْ َ‬

‫وقوله‪َ { :‬ف َوقَعَ ا ْلحَقّ } أي صار الحق النظري واقعا ملموسا؛ لن هناك فارقا بين كلم نظريّا‬
‫وكلم يؤيده الواقع‪ ،‬والوقوع عادة يكون من أعلى بحيث يراه ويعرفه كل من يراه‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ { :‬ف َوقَعَ ا ْلحَقّ } أي ثبت الحق‪ ،‬فبعد أن كان كلما خبريّا يصح أن يصدّق ويصح‬
‫طلَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }‪.‬‬
‫ق وَبَ َ‬
‫حّ‬‫أن ُيكَذب‪ .‬صار بصدقه واقعا‪َ { .‬ف َوقَعَ الْ َ‬
‫والذي بطل هو ما كانوا يعملون من السحر‪ .‬إن الحق جعل الصدق موسى واقعا مشهودا‪ .‬وبذلك‬
‫غُلب السحرة‪.‬‬
‫ك وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ }‬
‫ويقول الحق‪َ { :‬فغُلِبُواْ هُنَاِل َ‬

‫(‪)1060 /‬‬

‫ك وَا ْنقَلَبُوا صَاغِرِينَ (‪)119‬‬


‫َفغُلِبُوا هُنَاِل َ‬

‫ولم يغلب السحرة فقط‪ ،‬بل غلب أيضا فرعون وجماعته‪ ،‬وعاش كل من هو ضد موسى في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صغَار‪ ،‬صغار للمستدعِي وصغار للمستدعَى‪ .‬لذلك ذيل الحق الية بقوله‪ { :‬وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ }‬
‫َ‬
‫أي أذلء‪.‬‬
‫جدِينَ }‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وَأُ ْل ِقيَ السّحَ َرةُ سَا ِ‬

‫(‪)1061 /‬‬

‫وَأُ ْلقِيَ السّحَ َرةُ سَاجِدِينَ (‪)120‬‬

‫ولم يقل الحق‪ :‬وسجد السحرة‪ ،‬ولكنه قال‪ " :‬ألقى " مما يدل على أن خرورهم للسجود ليس‬
‫برأيهم‪ ،‬لكنه عملية انبهارية مما حصل أمامهم‪ ،‬كأن شيئا آخر ألقاهم ساجدين‪ ،‬وهو النبهار‬
‫بالحق‪ .‬فالساحر منهم كان يعتقد أنه هو الذي يسحر‪ ،‬ثم يفاجأ مجموع السحرة أن موسى حين ألقى‬
‫عصاه رأوها حية بالفعل فعرفوا أن المسألة ليست سحرا‪ ،‬وحينما ألقوا عصيهم وحبالهم التي‬
‫جاءوا بها من كل المدائن‪ ،‬قيل إنها حُملت على سبعين بعيرا وشاهدوا كيف أن العصا التي‬
‫صارت حية أو ثعبانا لقفت كل هذا وابتلعته! وحجم العصا هو حجم العصا مهما طالت‪ ،‬وهكذا‬
‫تيقن أن هذا ل يمكن أن يكون من فعل ساحر‪ ،‬وانظر إلى الستجابة منهم لمّا رأوا‪ { :‬قَالُواْ آمَنّا‬
‫بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‬

‫(‪)1062 /‬‬

‫قَالُوا َآمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)121‬‬

‫وهل هم سجدوا بعد الِيمان؟ أم آمنوا بعد السجود؟ النص هنا يظهر منه أنهم آمنوا بعد السجود‪،‬‬
‫ولكن كان المر يقتضي أل يسجد أحد إل لنه آمن‪ ،‬لكن نحن نعرف أن الِيمان عمل قلبي‪،‬‬
‫والسجود عمل عضلي وسلوك عملي‪ ،‬فكل منهم آمن بقلبه فسجد‪.‬‬
‫وهناك فرق بين أن يؤمنوا فيسجدوا ثم يعلنوا إيمانهم؛ فيقولوا‪ :‬آمنا برب العالمين؛ لذلك نحن ل‬
‫نرتب السجود على إيمان‪ ،‬بل نرتب السجود مع القول بالِيمان وبإعلن الِيمان؛ لن إعلن‬
‫الِيمان شيء‪ ،‬والِيمان شيء آخر‪ ،‬فكأنهم آمنوا فخروا ساجدين وبعد هذا قاموا بإعلن الِيمان‪،‬‬
‫وكأن الناس سألوهم‪ :‬ما الذي جرى لكم؟ فقالوا‪ { :‬آمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }‪.‬‬
‫إذن فمن يحاول أن يستدرك على النص فعليه أن ينتبه إلى أن إخبارهم عن الِيمان يعني وجود‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الِيمان أولً‪ ،‬والسحرة قد آمنوا فسجدوا‪ ،‬فاستغرب منهم الناس هذا السجود‪ ،‬وهنا قال السحرة‪ :‬ل‬
‫تستغربوا ول تتعجبوا فنحن قد آمنا برب العالمين‪ { .‬آمَنّا بِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ } [العراف‪]121 :‬‬
‫وقيل في بعض التفاسير‪ :‬إن فرعون قال‪ :‬أنا رب العالمين‪ .‬لكن السحرة لم يتركوا قوله هذا‬
‫فأعلنوا أن رب العالمين هو‪َ { :‬ربّ مُوسَىا وَهَارُونَ }‪ .‬وقال فرعون‪ :‬لقد ربيت أنا موسى‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬لكنك لم ترب هارون‪.‬‬
‫ولذلك أوضح الحق هنا أن رب العالمين هو‪َ { :‬ربّ مُوسَىا وَهَارُونَ }‬

‫(‪)1063 /‬‬

‫َربّ مُوسَى وَهَارُونَ (‪)122‬‬

‫ولن السحرة أعلنوها واضحة بالِيمان برب العالمين رب موسى وهارون‪ ،‬وكان لبد أن يغضب‬
‫عوْنُ آمَن ُتمْ بِهِ‪} ...‬‬
‫فرعون‪ ،‬فيأتي القرآن بما جاء على لسانه‪ { :‬قَالَ فِرْ َ‬

‫(‪)1064 /‬‬

‫س ْوفَ‬
‫عوْنُ َآمَنْتُمْ بِهِ قَ ْبلَ أَنْ آَذَنَ َلكُمْ إِنّ هَذَا َل َمكْرٌ َمكَرْ ُتمُوهُ فِي ا ْلمَدِي َنةِ لِ ُتخْرِجُوا مِ ْنهَا أَهَْلهَا فَ َ‬
‫قَالَ فِرْ َ‬
‫َتعَْلمُونَ (‪)123‬‬

‫وكأن فرعون مازال يحاول تأكيد سلطانه‪ ،‬ونعلم أن بني إسرائيل اختلطوا بالناس في مصر‪،‬‬
‫ومنهم من تعلم السحر‪ .‬ولذلك اتهم فرعون السحرة بأنهم قد اتفقوا مع موسى على هذه المسألة‪.‬‬
‫لقد كان فرعون في مأزق ويريد أن يخرج منه؛ لن الناس جميعا قد شاهدوا المسألة‪ ،‬وهو ل‬
‫يريدهم أن يتشككوا في ألوهيته‪ ،‬فينهدم الصرح الذي أقامه على الكاذيب؛ لذلك قال السحرة‪ :‬إن‬
‫هذا لمكر مكرتموه في المدينة‪ ..‬أي أنكم اتفقتم مع موسى‪ ،‬وسيأتي ويقول‪ :‬اتهاما لموسى‪ {:‬إِنّهُ‬
‫َلكَبِي ُركُمُ الّذِي عَّل َمكُمُ السّحْرَ‪[} ...‬طه‪]71 :‬‬
‫طعَنّ أَ ْيدِ َيكُ ْم وَأَرْجَُل ُكمْ‬
‫لقَ ّ‬
‫ونتيجة لهذا المكر المتوهم بين بني إسرائيل وموسى يتوعدهم فرعون‪ُ { :‬‬
‫لفٍ‪} ...‬‬
‫مّنْ خِ َ‬

‫(‪)1065 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ج َمعِينَ (‪)124‬‬
‫طعَنّ أَ ْيدِ َيكُ ْم وَأَرْجَُل ُكمْ مِنْ خِلَافٍ ُثمّ لَُأصَلّبَ ّنكُمْ َأ ْ‬
‫لَُأقَ ّ‬

‫والوعيد ‪ -‬كما نراه ‪ -‬قاسٍ وفظيع‪ ،‬فتقطيع اليدي والرجل ثم الصلب كلها أمور تخيف‪ ،‬فماذا‬
‫يكون الرد ممن يتلقون هذا الوعيد‪ ،‬وقد خالطت بشاشة الِيمان قلوبهم؟ إنهم يقولون‪ { :‬قَالُواْ إِنّآ‬
‫إِلَىا‪} ...‬‬

‫(‪)1066 /‬‬

‫قَالُوا إِنّا إِلَى رَبّنَا مُ ْنقَلِبُونَ (‪)125‬‬

‫إنك قد عجلت لنا الخير لننا سنكون في جوار ربنا‪ ،‬فأنت بطيشك وحماقتك قد أسديت لنا معروفا‬
‫وخيرا من حيث ل تدري‪ .‬ويزيدون في تقريع فرعون بما يجيء في القرآن على ألسنتهم‪َ { :‬ومَا‬
‫تَنقِمُ مِنّآ ِإلّ أَنْ آمَنّا‪} ...‬‬

‫(‪)1067 /‬‬

‫علَيْنَا صَبْرًا وَ َتوَفّنَا مُسِْلمِينَ (‪)126‬‬


‫َومَا تَ ْنقِمُ مِنّا إِلّا أَنْ َآمَنّا بِآَيَاتِ رَبّنَا َلمّا جَاءَتْنَا رَبّنَا َأفْ ِرغْ َ‬

‫ما الذي تكرهه منا لن " تنقم " تعني تكره‪ ،‬وقولهم لفرعون‪ :‬أليس الذي تكرهه منا أنّا آمنا بآيات‬
‫ربنا لما جاءتنا؟ وهل الِيمان بآيات الِله حين تجيء مما يُكره؟!! ويسمون ذلك في اللغة تأكيد‬
‫المدح بما يشبه الذم؛ كأن يقول إنسان‪ :‬ماذا تكره فيّ؟ أصدقي؟ أمانتي؟ أجودي؟ أعلمي؟‬
‫كأنه يعدد أشياء يعرف كل الناس واقعا أنها ل تُكره‪ ،‬لكن الخطأ في مقاييس من يكره الصواب‪،‬‬
‫فهي أمور ل تستحق أن تُكره أو تعاب أو تُذَم‪ .‬لقد تيقنوا أن لقاء ال على الِيمان هو الخير وكلهم‬
‫يفضل جوار ال على جوار فرعون‪ .‬وهذا الذي يعتبره فرعون عقابا إنما يثبت خيبته حتى في‬
‫توقع العقوبة؛ لنه لو لم يهددهم بهذه الميتة فهم سيموتون ليرجعوا إلى ال‪ ،‬وهذا أمر مقطوع به‪،‬‬
‫طعَنّ أَيْدِ َي ُكمْ‬
‫لقَ ّ‬
‫وكل مخلوق مصيره أن ينقلب إلى ال‪ ،‬وكأنهم أبطلوا وعيد فرعون حين قال لهم‪ُ {:‬‬
‫ج َمعِينَ }[العراف‪]124 :‬‬
‫لصَلّبَ ّنكُمْ َأ ْ‬
‫لفٍ ثُ ّم ُ‬
‫وَأَرْجَُلكُمْ مّنْ خِ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يتجهون إلى ربهم وخالقهم فيقولون‪ { :‬رَبّنَآ َأفْ ِرغْ عَلَيْنَا صَبْرا وَتَ َوفّنَا مُسِْلمِينَ }‪.‬‬
‫و " الفراغ " أن ينصب شيء على شيء ليغمره‪ ،‬وكانهم يقولون‪ :‬أعطنا يا رب كل الصبر‪ ،‬وهم‬
‫يحتاجون إلى الصبر لن فرعون قد توعدهم بأن يقطع أيديهم وأرجلهم‪ .‬ولذلك قال بعض العارفين‬
‫بال‪ :‬عجبي لسحرة فرعون كانوا أول النهار كفرة سحرة وكانوا آخر النهار شهداء بررة‪.‬‬
‫ويقول سبحانه‪َ { :‬وقَالَ ا ْلمَلُ مِن َقوْمِ فِرْعَونَ‪} ...‬‬

‫(‪)1068 /‬‬

‫ك وَآَِلهَ َتكَ قَالَ سَ ُنقَ ّتلُ‬


‫ض وَيَذَ َر َ‬
‫عوْنَ أَ َتذَرُ مُوسَى َوقَ ْومَهُ لِ ُيفْسِدُوا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫َوقَالَ ا ْلمَلَأُ مِنْ َقوْمِ فِرْ َ‬
‫أَبْنَاءَ ُه ْم وَنَسْتَحْيِي ِنسَاءَ ُه ْم وَإِنّا َف ْوقَهُمْ قَاهِرُونَ (‪)127‬‬

‫وهكذا نعرف أن المقربين من فرعون هم أول من خافوا على سلطانهم‪ ،‬ويدل هذا القول أيضا‬
‫على أن فرعون لم يتعرض لموسى بأي أذى؛ لنه مازال يعيش في رهبة اليقين وصولة الحق‬
‫مما جعله متوجسا وخائفا من موسى؛ لن فرعون أول من يعلم أن مسألة ألوهيته كذب كلها‪،‬‬
‫ويعلم جيدا أن موسى على حق‪ ،‬لكن إعلن انهزامه أمام الجمع ليس أمرا سهلً على النفس‬
‫البشرية‪ ،‬وسأل المل من قوم فرعون الذين اهتز أمامهم سلطانه ومكانته‪ ،‬قالوا‪ :‬لفرعون‪ :‬أتترك‬
‫موسى وقومه ليفسدوا في الرض؟‪ .‬أو فيما يبدو أن موسى وهارون تركا المكان بعد أن انتهيا‬
‫من أمر السحرة‪ ،‬ولم يقبض عليهما فرعون؛ لذلك تساءل المل من قوم فرعون‪َ { :‬وقَالَ ا ْلمَلُ مِن‬
‫ك وَآِلهَ َتكَ } [العراف‪]127 :‬‬
‫َقوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَىا َو َق ْومَهُ لِ ُيفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ وَيَذَ َر َ‬
‫و " يذرك " أي يدعك ويتركك‪ ،‬وكان فرعون يعتقد أن هناك آلهة علويين وآلهة سفليين‪ ،‬وهو رب‬
‫العالم السفلي كله‪ .‬لذلك قالوا‪ { :‬وَيَذَ َركَ وَآِلهَ َتكَ }‪ .‬وهناك قراءة أخرى " ويذرك إلهتك أي‬
‫عبادتك "‪ .‬أي يتركك أنت ويترك عبادتك‪ .‬ويقول فرعون‪ { :‬قَالَ سَ ُنقَ ّتلُ أَبْنَآءَهُ ْم وَنَسْ َتحْيِـي‬
‫نِسَآ َءهُمْ }‪.‬‬
‫وحتى تلك اللحظة لم يتعرض فرعون لموسى‪ ،‬ول يزال خوفه من موسى يمنعه من القتراب أو‬
‫الدنو أو التصال به ولو بكلمة‪ ،‬إنه يأخذ الحذر من أن يقدم على شيء ضد موسى‪ ،‬فيفاجئه‬
‫موسى مفاجأة ثانية‪ .‬ويقال إن الثعبان الذي ظهر ساعة ألقى موسى عصاه فتح شدقيه واتجه إلى‬
‫فرعون‪ ،‬فقال‪ :‬كف عني وأومن بما جئت به‪ .‬وهو أمر محتمل؛ لن فرعون حتى هذه اللحظة لم‬
‫يجرؤ على القتراب من موسى‪ ،‬وجاء بخبر قتل البناء وسبيْ النساء ولم يأت بسيرة موسى‪.‬‬
‫{‪...‬سَ ُنقَ ّتلُ أَبْنَآءَ ُه ْم وَنَسْتَحْيِـي نِسَآءَهُ ْم وَإِنّا َف ْو َقهُمْ قَاهِرُونَ } [العراف‪]127 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والقوي حين يملك القدرة على الضعيف ل يشد الخناق عليه شدّا ليفتك به؛ لنه يعرف ضعفه‪،‬‬
‫ويستطيع أن يناله في أي وقت‪ ،‬لكن لو كان الخصم أمامك قويّا فأنت ترهبه بالقوة حتى يخضع‬
‫لك‪ .‬وهنا يقول فرعون‪ { :‬وَإِنّا َف ْو َقهُمْ قَاهِرُونَ }‪.‬‬
‫إن فرعون يؤكد لقومه أنهم مسيطرون وغالبون‪ ،‬ولن يستطيع قوم موسى أن يفلتوا منهم‪ .‬ويؤكد‬
‫فرعون‪ :‬سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم؛ لن البناء هم العدة‪ ،‬والنساء عادة شأنهن مبني على‬
‫الحجاب‪ ،‬وعلى الستر‪ ،‬وفي إبقاء المرأة وقتل الرجل إذلل للرجال؛ لن التعب سيكون من نصيب‬
‫النساء‪ .‬ولذلك كان العرب حين يغيرون على عدو‪ ،‬يصحبون نساءهم لتزيد الحمية ول يخور ول‬
‫يجبن واحد وتراه زوجه أو أخته أو ابنته وهو على هذا الحال‪ ،‬وكذلك كان العرب يخافون‬
‫النهزام حتى ل يمسك العدو نساءهم ويأخذهن سبايا‪.‬‬
‫وهنا يؤكد فرعون إصراره على إذلل قوم موسى بأن يعيد قتل البناء‪ ،‬وأن يستحيي النساء‪،‬‬
‫وكان الفرعون يفعل مثل ذلك المر من قبل‪ ،‬والسبب في ذلك أن بني إسرائيل كانوا يساعدون‬
‫ملوك الهكسوس‪ ،‬وبعد أن طرد الفراعنة الهكسوس‪ ،‬اتجهوا إلى إيذاء بني إسرائيل الذين كانوا في‬
‫صف الهكسوس‪ ،‬ومن بقي من بني إسرائيل تعرض لتقتيل البناء‪ ،‬لكن الحق أنقذ موسى حين‬
‫أوحى لمه أن تلقيه في اليم ليربيه فرعون‪ .‬وها هو ذا فرعون يعيد الكرة مرة أخرى بالمر‬
‫بتقتيل البناء وسبي النساء‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬قَالَ مُوسَىا ِلقَ ْومِهِ‪} ...‬‬

‫(‪)1069 /‬‬

‫قَالَ مُوسَى ِل َق ْومِهِ اسْ َتعِينُوا بِاللّ ِه وَاصْبِرُوا إِنّ الْأَ ْرضَ لِلّهِ يُورِ ُثهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَا ْلعَاقِبَةُ‬
‫لِ ْلمُ ّتقِينَ (‪)128‬‬

‫ويقرر موسى الحقيقة الواضحة وهي أن الرض ليست لفرعون‪ ،‬والعاقبة ل تكون إلّ للمتقين‪.‬‬
‫وكأنه بهذا القول يريد أن يردهم إلى حكم التاريخ حيث تكون العاقبة دائما للمتقين‪ ،‬فإن قال‬
‫لفرعون‪ :‬وإنا فوقهم قاهرون‪ ،‬مستعلون غالبون مسلطون مسيطرون‪ ،‬فإن موسى يرد على ذلك‪:‬‬
‫أنا أستعين بمن هو أقوى منك‪ .‬إن موسى عليه السلم يأمر بأن يستعينوا بال‪ ،‬ويصبروا على ما‬
‫ينالهم من بطش فرعون وظلمه‪.‬‬
‫ولن قوم موسى كانوا من المستضعفين‪ ،‬فإن ال وعدهم أن يؤمّنهم في الرض ويمكن لهم فيها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذا إخبار من ال وإخبار ال حقائق‪ .‬ولكن ماذا كان موقف قوم موسى منه بعد هذا النصر‬
‫العظيم لموسى‪ ،‬والنصر لهم؟‪ .‬نجد الحق سبحانه يقول‪ { :‬قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَ ْبلِ‪} ...‬‬

‫(‪)1070 /‬‬

‫ع ُد ّوكُ ْم وَيَسْتَخِْل َفكُمْ فِي‬


‫قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَ ْبلِ أَنْ تَأْتِيَنَا َومِنْ َبعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَ ّبكُمْ أَنْ ُيهِْلكَ َ‬
‫الْأَ ْرضِ فَيَنْظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ (‪)129‬‬

‫لقد قالوا لموسى‪ :‬من قبل أن تأتينا أوذينا بأن قتلوا البناء واستحيوا النساء‪ ،‬وبعد أن جئت ها نحن‬
‫أولء نتلقى الِيذاء‪ .‬كأن مجيئك لم يصنع لنا شيئا‪ .‬إذن هم نظروا للبتلءات التي يجريها ال‬
‫على خلقه‪ ،‬ولم ينظروا إلى المنة والمنحة والعطاء وإلى آلء النتصار‪ ،‬وإلى أن فرعون قد حشد‬
‫كل السحرة‪ ،‬وبعد ذلك هزمهم موسى‪ ،‬وكان يجب أن يكون تنبيها لهم لقدر عطاءات ال‪ ،‬هم‬
‫يحسبون أيام البلء‪ ،‬ولم يحسبوا أيام الرخاء‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬فَيَنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ } يدل على أنهم سوف يخونون العهود‪ ،‬ويفعلون الشياء التي ل‬
‫تتناسب مع هذه المقدمات‪ .‬وفي الِسلم نجد عمرو بن عبيد وقد دخل على المنصور قبل أن يكون‬
‫أميرا للمؤمنين‪ ،‬وكان أمامه رغيف أو رغيفان‪ ،‬فقال‪ :‬التمسوا رغيفا لبن عبيد‪ .‬فرد عليه العامل‪:‬‬
‫ل نجد‪ .‬فلما ولي الخلفة وعاش في ثراء الملك ونعمته دخل عليه ابن عبيد وقال‪ :‬لقد صدق معكم‬
‫الحق يا أمير المؤمنين في قوله‪...{ :‬عَسَىا رَ ّبكُمْ أَن ُيهِْلكَ عَ ُد ّوكُ ْم وَيَسْ َتخِْل َفكُمْ فِي الَ ْرضِ فَيَنظُرَ‬
‫كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ } [العراف‪]129 :‬‬
‫وقد قال موسى لقومه بعد أن عايروه بعدم قدرته على رد العذاب عنهم‪ .‬وهكذا استقبل قوم موسى‬
‫أول هزيمة لفرعون أمام موسى‪ ،‬وقالوا له‪ :‬أوذينا من قبل أن تأتينا‪ ،‬ومن بعد ما جئتنا‪ ،‬أي‬
‫بالتذبيح‪ ،‬واستحياء النساء‪ ،‬وقتل البناء‪ ،‬فكأن مجيئك لم يفدنا شيئا لننا مقيمون على العذاب الذي‬
‫كنا نُسامه‪ .‬فل حاجة لنا بك‪ ،‬ول ضرورة في أن تكون موجودا؛ بدليل أن الذي حدث بعدك هو‬
‫الذي حدث قبلك‪.‬‬
‫ولم يلتفتوا إلى أن الِيذاء من قبل ومن بعد ل ينشأ إل من عدو‪ ،‬فكأن موسى يرد عليهم بأن‬
‫أسباب الِيذاء ستنتهي‪ ،‬وأن ال سيهلك عدوكم الذي آذاكم من قبل ويؤذيكم من بعد‪ .‬ولن يقتصر‬
‫المر على هذه النعمة؛ بل يزيدكم بأن يستخلفكم في الرض‪ ،‬ويعطيكم ملكهم ويعطيكم أرضهم‪.‬‬
‫وكأن هنا أمرين‪ :‬المر الول سلبي‪ :‬وهو إهلك العدو‪ ،‬والمر الثاني إيجابي‪ :‬وهو استخلفكم‬
‫في الرض وهذا أمر لكم‪ ،‬ووعد من ال بأن تكون لكم السيادة والملك وعليكم أن تنتبهوا إلى أن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نعمة ال عليكم بإهلك عدوكم‪ ،‬وباستخلفكم في الرض لن تترك هكذا‪ ،‬بل أنا رقيب عليكم أنظر‬
‫ماذا تفعلون‪ ،‬هل تستقبلون هذه النعم بالشكر وزيادة الِيمان واليقين والرتباط بال‪ ،‬أو تكفرون‬
‫بهذه النعمة؟‬
‫وحين يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان موسى { عَسَىا } فهي كلمة ‪ -‬كما يقول علماء اللغة‬
‫‪ -‬تدل على الرجاء‪ ،‬ومعنى الرجاء أن ما بعدها يكون مرجو الحصول‪ .‬وهناك فرق بين التمني‬
‫ل أو يكون في الحصول عليه عسر‪ ،‬ولكنك تريد ‪-‬‬
‫وبين الرجاء‪ .‬فالتمني أن تتطلب أمرا مستحي ً‬
‫فقط ‪ -‬بالتمني إشعار حبك له‪ ،‬فأنت إذا قلت‪ :‬ليت الشباب يعود‪ ،‬فهذا أمر ل يكون‪ ،‬ولكنك تعلن‬
‫حبك لمرحلة الشباب‪.‬‬

‫وقصارى ما يعطيه أن يعلمنا أنك تحب هذا المتمنّي‪ .‬لكن هل يتحقق أو ل يتحقق‪ ..‬فهذه ليست‬
‫واردة‪.‬‬
‫لكن " الرجاء " شيء محبوب يوشك أن يقع‪ .‬وهكذا نعرف أن الرجاء أقوى من التمني‪ .‬وأداة‬
‫التمني " ليت " وأداة الرجاء " عسى "‪ .‬وحين يكون بعد " عسى " ما يُ ْرجَى فلذلك مراحل تتفاوت‬
‫بقوة أسباب الرجاء في الوقوع‪ .‬فأنا مثلً إذا قلت‪ :‬عسى أن أكرمك فهذا أمر يعود إليّ أنا‪ ،‬لنّ‬
‫إكرامي لك يقتضي بقائي‪ ،‬وعدم تغير نفسي من ناحيتك‪ ،‬فمن الجائز أن تتغير نفسي قبل أن‬
‫أكرمك ول يقع إكرامي لك‪ .‬هذا هو الرجاء من صاحب الغيار‪ ،‬ومادمت صاحب أغيار فقد ل‬
‫أقدر على الِكرام‪ ،‬أو أقدر ولكني لم أعد أحب هذا المر فقد انصرفت نفسي عنه‪ ،‬وهذا يفسد‬
‫الرجاء ويقلل المل في حصوله‪ .‬فإذا قلت لِنسان‪ :‬عسى ال أن يكرمك فلن وهو مساويه‪ ،‬فهذا‬
‫أمر مستبعد قليلً؛ لن من يقول ذلك ل يملك أن يقوم فلن بإِكرام المساوي له‪ ،‬لنه صاحب‬
‫أغيار‪.‬‬
‫لكن إذا قلت‪ :‬عسى ال أن يكرمك فهذه أقوى‪ ،‬لن ربنا ل يعجزه شيء عن إكرام إنسان‪ .‬وهل‬
‫يقبل ال أن يجيب رجاءك؟ هذه مسألة تحتاج إلى وقفة‪ ،‬فسبحانه من ناحية القوة له مطلق القدرة‬
‫عسَىا رَ ّبكُمْ { فقد‬
‫فل شيء يعطله أو يستعصي أو يتأبى عليه‪ .‬فإذا ما قال الحق عن نفسه‪َ } :‬‬
‫انتهت المسألة وتقرر الوعد وتحقق‪ ،‬وهذا ما يقال عنه رجاء محقق‪ .‬إذن مراحل الرجاء هي‪:‬‬
‫عسى أن أكرمك‪ ،‬وعسى أن يكرمك زيد‪ ،‬وعسى ال أن يكرمك‪ ،‬وأقوى ألوان الرجاء أن بعد‬
‫ع ُد ّوكُمْ‪[ { ...‬العراف‪]129 :‬‬
‫عسَىا رَ ّبكُمْ أَن ُيهِْلكَ َ‬
‫الحق بالِكرام أو بالرحمة‪َ } .‬‬
‫والكلم كما نراه هو من موسى‪ ،‬ول يقدر على هذه المسألة إل ال‪ ،‬فما موقع هذا من تحقيق‬
‫الرجاء؟‪ .‬نعلم أن موسى رسول أرسله ال لهداية الخلق‪ ،‬وأرسله مؤيدا بالمعجزة‪ ،‬فإذا كان‬
‫عسَىا رَ ّبكُمْ أَن‬
‫الرسول المؤيد بالمعجزة قد أمره ال أن يبلغهم ذلك‪ ،‬فيكون الرجاء منه مقبولً‪َ } :‬‬
‫ُيهِْلكَ عَ ُد ّوكُمْ {‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومرة تكون إزالة الشيء الضار نعمة بمفردها‪ ،‬أما أن يهلك ال عدوي ويعطيني الحق مكانة‬
‫عدوي العالية فهذه نعمة إيجاب‪ ،‬تكون بعد نعمة سلب‪ .‬ومثل هذا ما سوف يحدث يوم القيامة؛ لن‬
‫خلَ ا ْلجَنّةَ َفقَدْ فَازَ‪[} ...‬آل عمران‪]185 :‬‬
‫الحق يقول‪َ {:‬فمَن ُزحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَُأدْ ِ‬
‫ومجرد الزحزحة عن النار فضل ونعمة‪ ،‬فما بالك بمن زُحزح عن النار وأدخل الجنة؟‪ .‬لقد نال‬
‫نعمتين‪ .‬وهنا يقول الحق سبحانه‪ } :‬عَسَىا رَ ّبكُمْ أَن ُيهِْلكَ عَ ُد ّوكُمْ {‪ .‬وتلك وحدها نعمة تليها نعمة‬
‫أخرى هي‪ } :‬وَيَسْتَخِْل َفكُمْ فِي الَ ْرضِ {‪.‬‬

‫لكن ثمن هذه النعم هو أن ينظر ماذا تعملون؟‪ .‬هل ستشكرون هذه النعم وتكونون عبادا صالحين‪،‬‬
‫أو تجحدونها وتكفرونها؟ فالِنسان ظلوم كفار‪.‬‬
‫وكلمة " ينظر " إذا جاءت على الِنسان ُفهِم المراد منها أي يراك بناظره‪ .‬وإذا أُسندت ل فالمر‬
‫مختلف‪ ،‬فتعالى ال أن تكون له حدقة عين مثل عيوننا‪ .‬لكنه سبحانه ل يجهل شيئا لينظره؛ لنه‬
‫هو ‪ -‬سبحانه ‪ -‬عالمه قبل أن يقع‪ .‬ونعلم أن هناك فارقا بين الحكم على المخلوق بعلم الخالق‪،‬‬
‫وبين الحكم على المخلوق بعمل المخلوق‪.‬‬
‫مثال ذلك نجد الستاذ في مادة ما يعرف مستويات الطلب الذين يدرسون على يديه‪ .‬وعميد الكلية‬
‫يقول له‪ :‬ما رأيك؟ فيقول فلن تلميذ يستحق النجاح بتقدير مرتفع والثاني لبد أن يرسب‪ .‬الستاذ‬
‫يقول هذا الحكم بناء عن علمه بحال كل طالب‪ .‬لكن إذا أرسب الستاذ طالبا بناء على تقديره دون‬
‫امتحان فالطالب الذي رسب قد يقول لستاذه‪ :‬أنت شططت في الحكم؛ ولو مكنتني من المتحان‬
‫لنجحت‪ .‬وحين يقرر العميد امتحان الطالب‪ ،‬ويؤدي المتحان بالفعل‪ ،‬ولكنه يرسب‪ .‬هنا يتأكد‬
‫للعميد أن الحكم برسوب طالب قد عرفه الستاذ أولً ثم تل ذلك إخفاق الطالب في المتحان‪.‬‬
‫إن ال سبحانه حين يقول‪ } :‬فَيَنظُرَ كَ ْيفَ َت ْعمَلُونَ {‪ .‬هو سبحانه ل ينظرها ليعلمها ‪ -‬حاشا ال ‪-‬‬
‫فهو عالمها‪ ،‬ولكنه ل يريد أن يحكم بعلمه على خلقه‪ .‬ولكن يريد أن يحكم على خلقه بفعل خلقه‪،‬‬
‫ل بكل من يهدي ومن يضل‪ .‬ولذلك خلق الجنة وخلق النار لتسع كل منهما كل‬
‫وسبحانه عالم أز ً‬
‫الخلق‪ ،‬ولم يخلق أماكن في الجنة على قدر من سوف يدخلونها فقط‪ ،‬وكذلك لم يخلق أماكن في‬
‫النار ل تسع فقط أهل النار‪ ،‬بل يمكنها أن تسع كل الخق‪ ،‬ولم يحكم بعلمه في هذه المسألة‪ ،‬بل‬
‫يترك الحكم الخير لواقع الشياء مادام هناك اختيار للِنسان‪ ،‬فعلى فرض أنكم جميعا آمنتم فلكم‬
‫كلكم أماكن في الجنة‪ .‬وعلى فرض أنكم ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬كفرتم فلكم أماكن في النار‪ ،‬وسبحانه لن‬
‫ينشئ شيئا جديدا‪ ،‬بل أعد كل شيء وانتهى المر‪.‬‬
‫وحين يأتي أهل الجنة ليدخلوا الجنة‪ ،‬وأهل النار ليدخلوا النار سوف يكون لهل الجنة مقاعد‬
‫أخرى كانت مخصصة لمن دخلوا النار‪ .‬ويعلن لهل الجنة‪ :‬أورثتموها وخذوها أنتم‪ {:‬وَنُودُواْ أَن‬
‫تِ ْلكُمُ ا ْلجَنّةُ أُورِثْ ُتمُوهَا‪[} ...‬العراف‪]43 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهي ميراث من الذين كانت معدة لهم ولم يقوموا بالعمل المؤهل لمتلكها‪ .‬فإياك أن تفهم أن‬
‫نظر ال إلى خلقه ليعلم منه شيئا‪ .‬ل‪ .‬أنّه العليم أزلً‪.‬‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُر ُه وَرُسَُلهُ بِا ْلغَ ْيبِ‪[} ...‬الحديد‪]25 :‬‬
‫وسبحانه يعلم أزلً ويتحقق بسلوك الناس علمهم بأفعالهم واقعا‪ ،‬وعلم الواقع هو الذي يكون حجة‬
‫على الخلق‪ .‬وهنا في الية التي نحن بصددها ثلثة أشياء‪ :‬أن يهلك سبحانه عدوكم‪ ،‬وأن يستخلفكم‬
‫في الرض‪ ،‬فينظر كيف تعملون‪ .‬ونحقق فيما تحقق منهما‪.‬‬
‫خذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِينَ‪{ ...‬‬
‫وجاء سبحانه في مقدمة الِهلك‪ ،‬فقال‪ } :‬وََلقَدْ أَ َ‬

‫(‪)1071 /‬‬

‫ن وَ َن ْقصٍ مِنَ ال ّثمَرَاتِ َلعَّل ُهمْ يَ ّذكّرُونَ (‪)130‬‬


‫عوْنَ بِالسّنِي َ‬
‫خذْنَا َآلَ فِرْ َ‬
‫وَلَقَدْ أَ َ‬

‫وهكذا نرى أن الِهلك لم يحدث دفعة واحدة‪ ،‬بل على مراحل لعلهم إذا أصابتهم شدة يضرعون‬
‫إلى ال‪.‬‬
‫نحن نعلم أن السنة هي العام‪ ..‬أي من مدة إلى نهاية مدة مثلها‪ ،‬لكنها تطلق ‪ -‬أيضا ‪ -‬على‬
‫الجدب والقحط‪ .‬ولذلك يقول الرسول صلى ال عليه وسلم في دعائه على قومه‪:‬‬
‫" اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف "‬
‫أي أن ينزل بهم سبحانه بعضا من الجدب ليتأدبوا قليلً‪.‬‬
‫ويقال‪ " :‬أسنت القوم " أي أصابهم قحط وجدب‪ .‬إذن فالسنة المراد منها هنا القحط والجدب‪.‬‬
‫ولماذا سماها سنة؟ لن نعم ال متوالية كثيرة‪ ،‬وابتلءاته لخلقه بالشرّ قليلة في الكون‪ ،‬وسبحانه‬
‫ينعم عليهم مدة طويلة ثم يبتليهم في لحظة‪ ،‬فإذا ما ابتلهم في وقت يؤرخ به‪ ،‬ويقال حدث البتلء‬
‫سنة كذا‪ ,‬فيقال‪ :‬سنة الجراد‪ ،‬سنة حريق القاهرة‪ ،‬وهكذا نجد الناس تؤرخ بالحداث المفجعة؛ لن‬
‫الحداث السارة عادة تكون أكثر من الحداث السيئة‪ .‬ولذلك قلنا إن الذي يعد أيام البلء عليه أن‬
‫يقارنها بأيام الرخاء‪ ،‬وعلى الواحد منا أن ينظر إلى أيام السنة التي عاشها‪ ،‬إن جاء له يوم بلء‬
‫حزن نقل له‪ :‬وكم مرة عشت ونعمت بالرخاء؟ ونجد أن أيام الرخاء هي أكثر من أيام البلء‪:‬‬
‫ن وَ َنقْصٍ مّن ال ّثمَرَاتِ }‪.‬‬
‫{ وََلقَدْ َأخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِي َ‬
‫وعرفنا أن السنين ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬تعني الجدب والقحط‪ ،‬أما قوله سبحانه‪ { :‬وَنَ ْقصٍ مّن ال ّثمَرَاتِ }‬
‫فهو يدل على أن بعضا من الثمار كان موجودا‪ ،‬أو كان الجدب والقحط في البادية‪ ،‬أما " نقص‬
‫الثمرات " فكان في الحضر‪ ،‬ويقال‪ :‬إن النخلة الواحدة في الحضر كانت ل تطرح في السنة إل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بلحة واحدة‪ .‬ولماذا هذه البلحة؟ لن أسباب رحمته سبحانه يجب أن تبقى في خلقه‪ ،‬ولو أن النخل‬
‫كله لم يطرح ول بلحة واحدة ل نقطع نسل النخيل؛ لذلك يُبقي ال أسباب رحمته لنا‪.‬‬
‫إننا نرى في واقعنا مهما حاولوا أن يستزرعوا فواكهه بدون بذور بواسطة التقدم العلمي‬
‫المعاصر‪ ،‬نجد ثمرة وقد شذت وفيها بذرة‪ ،‬لماذا؟ يقال لنا لستبقاء النوع‪ ،‬فلو خرجت كل الثمار‬
‫بل بذور ثم أكلناها جميعها فكيف نزرع محصولً جديدا؟ ولذلك قلنا من قبل إن الحق سبحانه‬
‫وتعالى من رحمته بالخلق في استبقائه للنعم ومقومات الحياة لم يجعل الثمار حلوة تستساغ إل بعد‬
‫أن تَنْضج بذرتها‪ ،‬فأنت حين تفتح البطيخة إن كان بذرها أبيض تجد طعمها ل يستساغ وترميها‪.‬‬
‫لكن حين يسودّ بذرها ويكون صالحا لن تعيد زراعته‪ ،‬هنا تكون ثمرة البطيخة ناضجة وحلوة‬
‫الطعم‪ .‬وبذلك يوضح لك الحق أن الثمار لن تصير مقبولة ومستساغة إل بعد أن تنضج بذرتها‬
‫لتكون صالحة لستنباتها من جديد‪ ،‬وفي هذا استبقاء للرحمة‪ ،‬وحتى مع العاصين نجده سبحانه‬
‫يستبقي الرحمة معهم‪.‬‬

‫ن وَ َنقْصٍ مّن ال ّثمَرَاتِ َلعَّلهُمْ َي ّذكّرُونَ { [العراف‪]130 :‬‬


‫} وََلقَدْ َأخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بِالسّنِي َ‬
‫وقوله‪َ } :‬لعَّلهُمْ َي ّذكّرُونَ { يعني أن على الِنسان أن يتذكر أنه الخليفة في الرض وأنه غير أصيل‬
‫في الكون حتى يظل العالم مستقيما‪ .‬لكن الذي يفسد العالم أن الِنسان حينما تستجيب له أسباب‬
‫الحياة‪ ،‬وسننها الكونية ويحرث ويبذر ويطلع الزرع‪ ،‬ويشعل النار ويستخرج المياه من البار‬
‫ينسى أن كل ذلك " أسباب " ول يتذكر المُسبّب إل حينما تمتنع عليه السباب‪.‬‬
‫والمثال في حياتنا اليومية أن الِنسان منا إذا جاء ليفتح صنبور المياه في البيت فلم يجد ماءً فيتجه‬
‫أول ما يتجه إلى محبس المياه الذي يتحكم في مياه المنزل ويرى هل به خلل أو سدد‪ ،‬وإن وجده‬
‫سليما‪ ،‬يبحث هل أنبوبة وماسورة المياه الرئيسية مكسورة أو ل؟ وإن كانت ماسورة المياه سليمة‬
‫فهو يبحث عن الخلل في آلة رفع المياه‪ ،‬ويظل يبحث في السباب الكثيرة‪ ،‬وقديما لم تكن المياه‬
‫تأتي إل من البار وعندما ل يوجد في البئر ماء يقول العبد‪ :‬يا رب اسقني‪ .‬والحضارة الن‬
‫أبعدتنا بالسباب عن المسبّب‪.‬‬
‫والحق قد أخذ قوم فرعون بالسنين ونقص الثمرات لينفض أيديهم من أسبابها‪ ،‬فإذا نفضت اليد من‬
‫السباب لم يبق إل أن يلتفتوا إلى المسبّب ويقولون‪ " :‬يا رب " ويقول القرآن عن الِنسان‪ {:‬وَإِذَا‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما‪[} ...‬يونس‪]12 :‬‬
‫مَ ّ‬
‫إذن فالِنسان يذكر المسبّب حين تمتنع عنه السباب‪ ،‬لنها مقومات الحياة‪ ،‬فإذا امتنعت مقومات‬
‫الحياة يقول الِنسان‪ :‬يا رب‪ ،‬وهكذا كان ابتلء ال لقوم فرعون بأخذهم بالسنين ونقص الثمرات‬
‫ليذكروا خالقهم‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬فَإِذَا جَآءَ ْتهُمُ ا ْلحَسَنَةُ قَالُواْ‪{ ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1072 /‬‬

‫حسَنَةُ قَالُوا لَنَا َه ِذ ِه وَإِنْ ُتصِ ْبهُمْ سَيّ َئةٌ يَطّيّرُوا ِبمُوسَى َومَنْ َمعَهُ أَلَا إِ ّنمَا طَائِرُهُمْ عِ ْندَ‬
‫فَإِذَا جَاءَ ْتهُمُ الْ َ‬
‫اللّ ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ لَا َيعَْلمُونَ (‪)131‬‬

‫والحسنة إذا أطلقت فهي المر الذي يأتي من ورائه الخير‪ .‬ولكن الحسنة مرة تكون لك‪ ،‬ومرة‬
‫تُطْلَب منك‪ ،‬فالحسنة التي لك في ذاتك أولً أن تكون في عافية وسلم‪ ،‬ثم الحسنة في مقومات‬
‫الذات ومقومات الحياة‪ ،‬وهي في النبات‪ ،‬والحيوان‪ ،‬والخصب والثروة‪ .‬والحسنة المطلوبة منك‬
‫هي أيضا لك‪ .‬فسبحانه يطلب منك عمل شيء يورّثك في الخرة حسنة‪ ،‬ولذلك يقول سبحانه‪ {:‬مَن‬
‫حسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا‪[} ...‬النعام‪]160 :‬‬
‫جَآءَ بِالْ َ‬
‫وهذه هي الحسنة التي تعطي الِنسان خيرا فيما بعد‪ .‬إذن فالحسنة التي في ذاتك من عافية‬
‫وسلمة أو في مقومات الذات من ثمرات وحيوانات وخصب وأعشاب وثراء فكلها موقوتة بزمن‬
‫موقوت هو الدنيا‪ .‬والحسنة الثانية غير محدودة لن زمنها غير محدود‪ .‬فأي الحسنات أرجح‬
‫وأفضل بالنسبة للِنسان؟‪ .‬إنها حسنة الخرة‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ { :‬فَِإذَا جَآءَ ْتهُمُ ا ْلحَسَ َنةُ } أي جاء لهم قدر من الخصب والثمار وغير ذلك من الرزق‬
‫يقولون‪ " :‬لنا هذه " أي أننا نستحقها؛ فواحد يقول‪ :‬أنا أستحقها لنني رتبت لها وأتقنت الزراعة‬
‫ىعِلْمٍ عِندِي‪[} ...‬القصص‪]78 :‬‬
‫عَل ٰ‬
‫والحصاد مثلما قال قارون‪ {:‬إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ َ‬
‫وأجرى عليه الحق التجربة‪ ،‬فمادام يدعي أنه جاء بالمال على علم من عنده فليجعل العلم الذي‬
‫عنده يحافظ له على المال أو يحافظ له على ذاته‪ .‬وهم قالوا عن الحسنات التي يهبها ال لهم‪" :‬‬
‫قالوا لنا هذه " أي نستحقها‪ ،‬لننا قدمنا مقدمات تعطينا هذه النتائج‪ .‬وجرت العادة قديما بأن يفيض‬
‫النيل كل سنة يغمر الرض‪ ،‬ثم يبذرون الحب وينتظرون الثمار‪ .‬فإن جاءت لهم سيئة مثل أخذهم‬
‫ال لهم بالسنين ينسبون ذلك لموسى‪...{ .‬وَإِن ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ َيطّيّرُواْ ِبمُوسَىا َومَن ّمعَهُ أَل إِ ّنمَا‬
‫طَائِرُ ُهمْ عِندَ اللّ ِه وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ } [ العراف‪]131 :‬‬
‫فإذا ما جاءتهم سيئة يطّيّرون أي يتشاءمون لن الطيرة هي التشاؤم‪ ،‬وضده التفاؤل‪ ،‬ويقال‪" :‬‬
‫فلن طائره نحس " ‪ ،‬و " فلن طائره يمن وسعد "‪ .‬وقديما حينما كانوا يريدون طلب مسألة ما‪،‬‬
‫يأتون بطير ويضعه صاحب المسألة على يده ويزجره ويثيره‪ ،‬فإن طار يمينا فهذا فأل حسن‪ ،‬وإن‬
‫طار يسارا فهذا فأل سيئ‪ ،‬والحق هنا يوضح‪ :‬ل تظلموا موسى‪ ،‬لن شؤمكم أو حظكم السيئ‬
‫ليس من موسى؛ لن موسى ل يملك في كون ال شيئا‪ ،‬وإنما المالك للكون هو رب موسى‪ .‬وكأن‬
‫الحق يريدهم أيضا أل يفتنوا في موسى إن صنع شيئا يأتي لهم بخير‪ ،‬وهنا يقول لهم ل تتطيروا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بموسى‪ ،‬لن طائركم من عند ال‪.‬‬
‫ولن أحداث الحياة صنفان‪ :‬حدث لك فيه مدخل‪ ،‬مثل التلميذ الذي لم يذاكر ويرسب‪ ،‬أو إنسان ل‬
‫يحسن قيادة سيارته فقادها فعطبت به أو أصاب أحدا إصابة خطيرة‪ ،‬وهنا ل غريم لهذا الِنسان‪،‬‬
‫بل هو غريم نفسه‪.‬‬

‫وهناك شيء يقع عليك‪ ،‬واسمه حدث قهري‪ ،‬فالِنسان في الحداث بين أمرين اثنين‪ :‬إما مصيبة‬
‫دخلت عليه من ذات نفسه لتقصيره في شيء‪ .‬وإمّا أحداث قدرية تنزل بالِنسان ونقول إنها من‬
‫عند ال لحكمة ل يعرفها الِنسان؛ لن الِنسان ينظر إلى سطحيات الشياء‪ ،‬وإلى عاجل المر‬
‫فيها‪ ،‬ولكنه ل ينظر إلى عاقبة المر‪ .‬ولهذا تحدث له بعض من الحداث ليس له فيها مدخل‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬أن يكون للِنسان ابن نجيب وذكي وترتيبه دائما من العشرة الوئل‪ ،‬ثم جاء في ليلة‬
‫المتحان أو في يوم المتحان وأصابه صداع جعله ل يعرف كيف يجيب عن أسئلة المتحان‬
‫ورسب‪ ،‬وهذه مصيبة ليس له مدخل فيها‪.‬‬
‫وعادة ما يحزن الناس من مثل هذه المصائب لكن المؤمن يقول‪ :‬إن الولد لم يقصر‪ ،‬وهذا أمر‬
‫جاء من ال‪ ،‬وسبحانه منزه عن العبث‪ ،‬بل حكيم ولبد أن له حكمة في مثل هذه المور‪ .‬وبعد‬
‫مدة تتبين الحكمة‪ ،‬فلو كان الولد قد نجح لصابته عين الحسود‪ .‬وحدث له ما يكره‪ ،‬فكأن ال‬
‫يصنع له تميمة يحميه بها من الحسد‪ .‬وقديما حين كانوا يصنعون للطفل الجميل " فاسوخة " ‪ ،‬ول‬
‫يهتمون بنظافته ول بملبسه‪ ،‬لماذا؟ يقال حتى ل تتجه إليه عين العائن الحاسد‪.‬‬
‫وأقول‪ :‬وما الذي يدرك أن ال سبحانه وتعالى صنع الحادث الطارئ ليرد عنه العين‪ ،‬ويُسكت‬
‫الناس عنه؟ وما الذي يدريك أن ال أراد له أن يرسب هذا العام لنه لم يكن يستطيع الحصول‬
‫على المجموع الذي يدخله الكلية التي يريدها‪ ،‬ثم يستذكر في العام التالي وتكون المذاكرة سهلة‬
‫بالنسبة له‪ ،‬ونقول له‪ :‬احمد ربك على أنك لم تنجح في العام السابق وأن ال أراد بك خيرا‪ ..‬لتبذل‬
‫جهدا وتنجح وتنال المجموع الذي أردته لنفسك‪.‬‬
‫إذن فالمقادير التي تجري على الناس بدون دخل لهم فيها‪ ،‬فلله فيها حكمة‪ ،‬وهنا يقال‪ } :‬طَائِرُ ُهمْ‬
‫عِندَ اللّهِ { ‪ ،‬أما إن كان للِِنسان دخل فيما يجري له فيقال‪ :‬طائرك من عندك أنت وشؤمك من‬
‫نفسك وعصيانك‪ } .‬فَِإذَا جَآءَ ْتهُمُ ا ْلحَسَ َنةُ قَالُواْ لَنَا هَـا ِذهِ وَإِن ُتصِ ْبهُمْ سَيّئَةٌ َيطّيّرُواْ ِبمُوسَىا َومَن‬
‫ّمعَهُ أَل إِ ّنمَا طَائِ ُرهُمْ عِندَ اللّ ِه وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ { [العراف‪]131 :‬‬
‫ألم يتطير اليهود في المدينة برسول ال صلى ال عليه وسلم حينما قالوا‪ :‬قلت المطار وارتفعت‬
‫السعار من شؤم مجيء هذا الرجل‪ ،‬ولم يتفهموا حكم ال‪ .‬لقد كانوا سادة في الجزيرة؛ لنهم أهل‬
‫علم بالكتاب وسيطروا على حركة السوق التجارية‪ ،‬وتعاملوا في الربا وتجارة السلح وكان‬
‫عندهم الحصون‪ ،‬والسلحة‪ ،‬وأراد ال أن يشغلهم بأخذ شيء من أسبابهم ويهد كيانهم ليلفتهم إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنهم خرجوا عن المنهج إلى أن هناك رسولً قد جاء بعودة إلى المنهج‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ } :‬وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ { يفيد أن هناك قلة تعلم‪ .‬فما موقف هذه القلة‪ ،‬ولماذا لم‬
‫يرفضوا موقف الكثرة؟‪ .‬كان موقفهم هو الصمت خوفا من الطغيان؛ لن الطاغية أجبرهم وقهرهم‬
‫وجعلهم يسكتون ول يعترضون على باطل‪ ،‬ونرى في حياتنا كثيرا من الناس يعلمون الزور‬
‫ويعلمون الطغيان ولكنهم ل يتكلمون‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬وقَالُواْ َم ْهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آ َيةٍ‪{ ...‬‬

‫(‪)1073 /‬‬

‫َوقَالُوا َم ْهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا ِبهَا َفمَا نَحْنُ َلكَ ِب ُم ْؤمِنِينَ (‪)132‬‬

‫أي وقال قوم فرعون لموسى عليه السلم‪ :‬أي شيء تأتينا به من المعجزات لتصرفنا عما نحن‬
‫فلن نؤمن لك‪ ،‬وسموا ما جاء به موسى " آية " استهزاء منهم وسخرية‪ .‬وكل هذه مقدمات تبرز‬
‫الِهلك الذي قال ال فيه‪ {:‬عَسَىا رَ ّبكُمْ أَن ُيهِْلكَ عَ ُد ّوكُمْ‪[} ...‬العراف‪]129 :‬‬
‫وأعلنوا أن ما جاء به موسى هو سحر على الرغم من أنهم رأوا السحرة الذين برعوا في السحر‬
‫جمِعوا‬
‫وعرفوا طرائقه وبذّوا فيه سواهم قد خروا ساجدين وآمنوا‪ ،‬كيف يحدث هذا والسحرة كلهم ُ‬
‫إلى وقت معلوم؟ وشهد كل الناس التجربة الواقعية التي ابتلعت فيها عصا موسى كل سحر‬
‫السحرة فآمنوا وسجدوا‪ ،‬فكيف يتأتى لمن ل يعرفون السحر أن يتهموا موسى بالسحر؟ وكيف‬
‫يظنون أن ما يأتي به من آيات ال هو لون من السحر؟‪ .‬إنهم يقولون كلمة " مهما " وهي تدل‬
‫على استمرارية العناد في نفوسهم مثلما يقول واحد لخر‪ :‬لقد صممت على أل أقبل كلمك‪،‬‬
‫فيكرر الرجل‪ :‬انتظر لتسمع حجتي الثانية فقد تقنعك‪ ،‬فيقول‪ :‬مهما تأتني من حجج فلن أسمع لك‪،‬‬
‫وهذا يعني استمرارية العناد والجحود والتمرد ويقدمون حيثيات هذا الجحود فيقولون‪َ { :‬وقَالُواْ‬
‫سحَرَنَا ِبهَا َفمَا نَحْنُ َلكَ ِب ُم ْؤمِنِينَ } [العراف‪]132 :‬‬
‫َم ْهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آ َيةٍ لّتَ ْ‬
‫وإذا كانوا يظنون أن آيات ال التي مع موسى من السحر‪ ،‬فهل للمسحور إرادة مع الساحر؟‪ .‬لو‬
‫كانت المسألة سحرا لسحركم وانتهى المر‪ .‬وقلنا قديما في الرد على الذين قالوا‪ :‬إن محمدا يسحر‬
‫ليؤمنوا به‪ ،‬قلنا إذا كان هو قد سحر الناس ليؤمنوا به‪ ،‬فلماذا لم يسحركم لتؤمنوا وتنفض المسألة؟‬
‫إن بقاءكم على العناد دليل على أنه ل يملك شيئا من أمر السحر‪.‬‬
‫وأنت ساعة تسمع كلمة " مهما " تعرف أن هناك شرطا‪ ،‬وله جواب‪ ،‬ويقول العلماء‪ :‬إن أصلها "‬
‫مه " أي ُكفّ عن أن تأتينا بأية آية فلن نصدقك‪ .‬وهذا يعني أن هناك إصرار وعنادا على عدم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الِيمان‪.‬‬
‫سلْنَا عَلَ ْيهِمُ الطّوفَانَ وَالْجَرَادَ‪} ...‬‬
‫ويبين الحق عقابه لهم على ذلك‪ { :‬فَأَرْ َ‬

‫(‪)1074 /‬‬

‫ضفَا ِدعَ وَالدّمَ آَيَاتٍ ُم َفصّلَاتٍ فَاسْ َتكْبَرُوا َوكَانُوا َق ْومًا‬


‫ل وَال ّ‬
‫ن وَالْجَرَا َد وَا ْل ُقمّ َ‬
‫فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِهمُ الطّوفَا َ‬
‫مُجْ ِرمِينَ (‪)133‬‬

‫وكلمة " الطوفان " يراد بها طغيان ماء‪ ،‬والماء ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬هو سبب الحياة‪ ،‬وقد يجعله ال سببا‬
‫للدمار حتى ل تفهم أن المسائل بذاتيتها‪ ،‬بل بتوجيهات القادر عليها‪ ،‬وعندما ننظر إلى الطوفان‬
‫الذي أغرق من قبل قوم نوح‪ ،‬ولم ينج أحد إل من ركب مع نوح في السفينة؛ وهنا مع قوم موسى‬
‫ل توجد سفينة‪ ،‬لن ال يريد أن يؤكد لهم العقاب على طغيانهم‪ .‬وإذا كان الطوفان قد أصاب آل‬
‫فرعون ومعهم بنو إسرائيل لدرجة أن الواحد منهم كانت المياه تبلغ التراقي فيبقى واقفا لنه لو‬
‫جلس يموت‪ ،‬ويظل هكذا‪ ،‬وأمطرت عليهم السماء سبعة أيام‪ ،‬ل يعرفون فيها الليل من النهار‬
‫ويرون أمامهم بيوت بني إسرائيل ل تلمسها المياه‪ ،‬وهذه معجزة واضحة‪ ،‬لقد عمّ الطوفان وأراد‬
‫الحق أن ينجي بني إسرائيل منه دون حيلة منهم حتى ل يقال آية كونية جاءت على هيئة طوفان‬
‫وانتهت المسألة‪ ،‬لكن الطوفان جاء لبيوتهم ولم يلمس بني إسرائيل‪.‬‬
‫وقال الرواة‪ :‬إن الطوفان دخل على فرعون حتى صرخ واستنجد بموسى‪ ،‬وقال له‪ :‬كف عنا هذا‬
‫ونؤمن بما جئت به‪ ،‬ودعا موسى ربه فكف عنهم الطوفان‪ .‬لكنهم عادوا إلى الكفر‪.‬‬
‫وجعل ال من آياته لمحات‪ ،‬وإشارات‪ ،‬بدأت بالطوفان‪ ،‬وحين يوضح ربنا‪ :‬أنا عذبت بالطوفان‬
‫قوم نوح‪ ،‬وقوم فرعون‪ ،‬فهو يعطينا ملمح تشعرنا بصدق القضية‪ ،‬فيهبط السيل في أي بلد ويهدم‬
‫الديار ويغرق الزرع والحيوانات‪ ،‬لنرى صورة كونية‪ ،‬وكذلك الجراد يرسله ال على فترات‬
‫فيهبط في أي وقت من الوقات‪ ،‬ونقيم الحملت لمكافحته‪ ،‬وهذا دليل على صدق الشياء التي‬
‫حكى ال عنها‪ ،‬فلو لم يوجد جراد ول طوفان لكنا عرضة أل نصدق‪ .‬وابتلهم ال بالقمل كذلك‪.‬‬
‫{ وَا ْل ُق ّملَ } هو غير ال َقمْل‪ .‬فال َقمْل هو الفة التي تصيب الِنسان في بدنه وثيابه وتنشأ من قذارة‬
‫الثياب‪ ،‬أما ال ُقمّل فقيل هو السوس الذي يصيب الحبوب‪ ،‬ومفردها ُقمّلَة‪ ،‬وقيل هو ما نسميه‬
‫بالقراد‪ ،‬وقيل هو الحشرات التي تهلك النبات والحرث‪ ،‬وحين نراه نفزع ونبحث عن تخليص‬
‫الزرع منه باليد والمبيدات‪ ،‬وكل ذلك من تنبيهات الحق للخلق‪ ،‬وهي مجرد تنبيه وإرشاد وَل ْفتٌ‬
‫لللتفات إلى الحق‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضفَا ِدعَ } ‪ ،‬وعندما يضع أي إنسان منهم يده في شيء يجد فيها‬
‫وكذلك يرسل ال عليهم { وال ّ‬
‫الضفادع؛ فإناء الطعام يرفع عنه الغطاء فترى فيه الضفادع‪ ،‬والمياه التي يشربها يجد فيها‬
‫الضفادع!! وإن فتح فمه تدخل ضفدعة في الفم!!‪ .‬فهي آية ومعجزة‪ ،‬وكذلك { والدّمَ } ‪ ،‬فكان كل‬
‫شيء ينقلب لهم دما‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إن امرأة من قوم فرعون أرادت أن تشرب ماء‪ ،‬فذهبت إلى امرأة من بني إسرائيل وقالت‬
‫لها‪ :‬خذي الماء في فمك ومُجيه في فمي‪ ،‬كأنها تريد أن تحتال على ربنا وتأخذ مياها من غير دم‪،‬‬
‫فينتقل من فم السرائيلية وهو ماء‪ ،‬فإذا ما دخل فم المرأة التي هي من قوم فرعون صار دما‪.‬‬

‫ع وَالدّمَ آيَاتٍ ّم َفصّلَتٍ‪[ { ...‬العراف‪]133 :‬‬


‫ل وَالضّفَا ِد َ‬
‫ن وَالْجَرَا َد وَا ْلقُ ّم َ‬
‫} فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمُ الطّوفَا َ‬
‫لتٍ { أي لم يأت بها جل وعل كلها مجتمعة مع بعضها البعض لتفزعهم‬
‫وقوله سبحانه‪ّ } :‬م َفصّ َ‬
‫دفعة واحدة وتختبرهم أيعلنون الِيمان أم ل؟ بل جاء سبحانه بكل آية مُفصلة عن الخرى؛ فل‬
‫توجد آية مع آية أخرى في وقت واحد‪ ،‬أو جاء بها علمات واضحات فيها مواعظ وعبر‪ ،‬مما‬
‫يدل على موالة الِنذارات للرغبة في أن يَذّكروا‪ ،‬وأن يرتدعوا‪ ،‬فلو اذكروا وارتدعوا من آية‬
‫واحدة يكف عنهم سبحانه البأس‪.‬‬
‫وأرسل سبحانه اليات وهي‪ :‬طوفان‪ ،‬جراد‪ ،‬قمل‪ ،‬ضفادع‪ ،‬دم‪ ،‬هذه آيات خمس في هذه آيات‬
‫خمس في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها‪ ،‬ومن قبل قال الحق إنه أخذهم بالسنين‪،‬‬
‫وكذلك نقص الثمرات‪ ،‬فأصبحت اليات سبعا‪ ،‬ومن قبل كانت عصا موسى التي كانت تلقف ما‬
‫صنعه السحرة فصارت ثماني آيات‪ ،‬وكذلك " اليد البيضاء " التي أراها موسى لفرعون وملئه‬
‫فيصبح العدد تسع آيات‪ ،‬إذن فاليات بترتيبها هي‪ :‬العصا‪ ،‬واليد‪ ،‬والخذ بالسنين‪ ،‬ونقص‬
‫الثمرات‪ ،‬والطوفان‪ ،‬والجراد‪ ،‬والقمل‪ ،‬والضفادع‪ ،‬والدم‪.‬‬
‫واليات المفصلت‪ ..‬هي عجائب؛ كل منها عجيبة يسلطها ال على مَن يريد إذلله‪ ،‬ويبتلي ال‬
‫بها نوعا من الناس ول يبتلي بها قوما آخرين‪ .‬فماذا كان موقفهم من اليات العجائب؟ نجد الحق‬
‫يذيل الية‪ } :‬فَاسْ َتكْبَرُواْ َوكَانُواْ َقوْما مّجْ ِرمِينَ {‪ .‬إنهم لم يؤمنوا‪ ،‬بل تكبروا وأجرموا في حق‬
‫أنفسهم وقطعوا ما بينهم وبين الِيمان‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وََلمّا َوقَعَ عَلَ ْيهِمُ الرّجْزُ‪{ ...‬‬

‫(‪)1075 /‬‬

‫ش ْفتَ عَنّا الرّجْزَ لَ ُن ْؤمِنَنّ‬


‫عهِدَ عِ ْن َدكَ لَئِنْ كَ َ‬
‫علَ ْيهِمُ الرّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ِبمَا َ‬
‫وََلمّا َوقَعَ َ‬
‫ك وَلَنُرْسِلَنّ َم َعكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (‪)134‬‬
‫َل َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هم إذن بعد أن استكبروا وكانوا قوما مجرمين‪ ،‬وتوالت عليهم الحداث‪ ،‬والرجز هو المور‬
‫المفزعة وما نزل بهم من العذاب‪ ،‬وهنا ذهبوا إلى موسى ليسألوه أن يدعو ال ليكشف ويرفع‬
‫عنهم ما نزل بهم من العقاب‪ .‬إذن فهم آمنوا بأن موسى مرسل من رب‪ ،‬وهم قد فهموا أن الرجز‬
‫الذي عاشوا فيه لن يرتفع إل من ذلك الرب‪ .‬وهذا ينقض ربوبية إلههم فرعون‪ ،‬لنه لو كانت‬
‫ربوبية فرعون في عقيدتهم لذهبوا إليه ولم يذهبوا إلى عدوهم موسى ليسألوه أن يدعو لهم ال‪.‬‬
‫ومن هنا نأخذ أكثر من قضية عقدية هي أولً‪ :‬أن ألوهية فرعون باطلة‪ ،‬وثانيا‪ :‬أن موسى مقبولْ‬
‫الدعاء عند ربه‪ ،‬وثالثا‪ :‬أنه إن لم يكشف ربه هذا العذاب فسيستمر هذا العذاب‪ ،‬وكل هذه مقدمات‬
‫ش ْفتَ عَنّا الرّجْزَ لَ ُن ْؤمِنَنّ‬
‫عهِدَ عِن َدكَ لَئِن كَ َ‬
‫تعطي الِيمان بال‪ ...{ .‬قَالُواْ يامُوسَىا ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ِبمَا َ‬
‫ك وَلَنُرْسِلَنّ َم َعكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ } [العراف‪]134 :‬‬
‫َل َ‬
‫أي ادع ربّك بما أعطاك ال من العهد أن ينصرك لنك رسوله المؤيّد بمعجزاته وهو لن يتخلى‬
‫عنك‪ .‬ادع ال أن يرفع عنا العذاب وال لئن رفعت وكشفت عنا ما نحن فيه من العذاب لنؤمنن بك‬
‫ولنصدقن ما جئت به ولنرسلن ونطلقن معك بني إسرائيل‪ ،‬وقد كانوا يستخدمونهم في أحط وأرذل‬
‫العمال‪ ،‬ولكنهم في كل مرة بعد أن يكشف الحق عنهم العذاب يعودون إلى نقض العهد بدليل‬
‫شفْنَا عَ ْنهُمُ الرّجْزَ‪} ...‬‬
‫قوله سبحانه عنهم‪ { :‬فَلَماّ كَ َ‬

‫(‪)1076 /‬‬

‫جلٍ ُهمْ بَاِلغُوهُ إِذَا هُمْ يَ ْنكُثُونَ (‪)135‬‬


‫شفْنَا عَ ْنهُمُ الرّجْزَ إِلَى أَ َ‬
‫فََلمّا كَ َ‬

‫شفْنَا عَ ْنهُمُ‬
‫فكأن لهم مع كل آية نقضا للعهد‪ ،‬وانظر الفرق بين العبارتين‪ :‬بين قوله الحق‪ { :‬فَلَماّ كَ َ‬
‫عهِدَ عِن َدكَ لَئِن‬
‫جلٍ هُم بَاِلغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } وبين قوله السابق‪ { :‬ا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ ِبمَا َ‬
‫الرّجْزَ إِلَىا أَ َ‬
‫ش ْفتَ عَنّا الرّجْزَ } ‪ ،‬فمن إذن يكتشف الرجز؟ إن الكشف هنا منسوب إلى ال‪ ،‬وكل كشف‬
‫كَ َ‬
‫جلٍ هُم بَاِلغُوهُ ِإذَا ُهمْ يَنكُثُونَ }‪.‬‬
‫للرجز له مدة يعرفها الحق‪ ،‬فهو القائل‪ { :‬إلَىا َأ َ‬
‫والنكث هو نقض العهد‪.‬‬
‫ويتابع سبحانه‪ { :‬فَانْ َتقَمْنَا مِ ْنهُمْ‪} ...‬‬

‫(‪)1077 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فَانْ َتقَمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَا ُهمْ فِي الْيَمّ بِأَ ّن ُهمْ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا َوكَانُوا عَ ْنهَا غَافِلِينَ (‪)136‬‬

‫ويوضح هنا سبحانه أنه مادام قد أخذهم بالعقاب في ذواتهم‪ ،‬وفي مقومات حياتهم‪ ،‬وفي معكرات‬
‫صفوهم لم يبق إل أن يهلكوا؛ لنه ل فائدة منهم؛ لذلك جاء المر بإغراقهم‪ ،‬ل عن جبروت قدرة‪،‬‬
‫بل عن عدالة تقدير؛ لنهم كذبوا باليات وأقاموا على كفرهم‪ .‬ويلحظ هنا أن أهم ما في القضية‬
‫وهو الِغراق قد ذكر على هيئة الِيجاز‪ ،‬وهو الحادث الذي جاء في سورة أخرى بالتفصيل‪،‬‬
‫فالحق سبحانه يقول‪ {:‬وَأَوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا أَنْ أَسْرِ ِبعِبَادِي إِ ّنكُم مّتّ َبعُونَ }[الشعراء‪]52 :‬‬
‫ولم يأت الحق هنا بتفاصيل قصة الِغراق؛ لن كل آية في القرآن تعالج موقفا‪ ،‬وتعالج لقطة من‬
‫اللقطات؛ لن القصة تأتي بإجمال في موضع وبإطناب في موضع آخر‪ ،‬وهنا يأتي موقف‬
‫الِغراق بإجمال‪ { :‬فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَاهُمْ فِي الْيَمّ }‪.‬‬
‫وكلمة { فَأَغْ َرقْنَا ُهمْ } لها قصة طويلة معروفة ومعروضة عرضا آخر في سورة أخرى‪ ،‬فحين‬
‫خرج موسى وبنو إسرائيل من مصر خرج وراءهم فرعون‪ ،‬وحين رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا‬
‫بمنطق الحداث‪ { :‬إِنّا َلمُدْ َركُونَ }‪ .‬مدركون من فرعون وقومه لن أمامهم البحر وليس عندهم‬
‫وسيلة لركوب البحر‪ .‬لكن موسى المرسل من ال علم أن ال لن يخذله؛ لنه يريد أن يتم نعمة‬
‫الهداية على يديه‪ ،‬كان موسى عليه السلم ممتلئا باليقين والثقة لذلك قال بملء فيه‪ {:‬كَلّ إِنّ َم ِعيَ‬
‫رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء‪]62 :‬‬
‫هو يقول‪ " :‬كل " أي لن يدركوكم ل بأسبابه‪ ،‬بل أسباب من أرسله بدليل أنه جاء بحيثيتها معها‬
‫وقال‪ { :‬إِنّ َم ِعيَ رَبّي سَ َي ْهدِينِ }‪ .‬لقد تكلم بمنطق المؤمن الذي أوى إلى ركن شديد‪ ،‬وأن المسائل‬
‫ل يمكن أن تنتهي عند هذا الوضع؛ لنه لم يؤد المهمة بكاملها‪ ،‬لذلك قال‪ " :‬كل " يملء فيه‪ ،‬مع‬
‫أن السباب مقطوع بها‪ .‬فالبحر أمامهم والعدو من خلفهم‪ ،‬وأتبع ذلك بقوله‪ { :‬إِنّ َم ِعيَ رَبّي‬
‫سَ َيهْدِينِ } بالحفظ والنصرة‪ ..‬أي أن السباب التي سبق أن أرسلها معي ال فوق نطاق أسباب‬
‫البشر‪ ،‬فالعصا سبق أن نصره ال بها على السحرة‪ ،‬وهي العصا نفسها التي أوحى له سبحانه‬
‫باستعمالها في هذه الحالة العصيبة قائلً له‪ {:‬اضْرِب ّب َعصَاكَ الْ َبحْرَ‪[} ...‬الشعراء‪]63 :‬‬
‫ونعرف أن البحر وعاء للماء‪ ،‬وأول قانون للماء هو السيولة التي تعينه على الستطراق‪ ،‬ولو لم‬
‫يكن الماء سائلً‪ ،‬وبه جمود وغلظة لصار قطعا غير متساوية‪ ،‬ولكن الذي يعينه على الستطراق‬
‫هو حالة السيولة‪ ،‬ولذلك حين نريد أن نضبط دقة استواء أي سطح نلجأ إلى ميزان الماء‪.‬‬
‫وقال الحق سبحانه لموسى عليه السلم‪ {:‬اضْرِب ّب َعصَاكَ الْبَحْرَ }[الشعراء‪]63 :‬‬
‫وحين ضرب موسى بعصاه البحر امتنع عن الماء قانون السيولة وفقد قانون الستطراق‪ ،‬ويصور‬
‫طوْدِ ا ْلعَظِيمِ }‪.‬‬
‫ال هذا المر لنا تصويرا دقيقا فيقول‪َ { :‬فكَانَ ُكلّ فِ ْرقٍ كَال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي صار كل جزء منه كالطود وهو الجبل‪ ،‬ونجد في الجبل الصلبة‪ ،‬وهكذا فقد الماء السيولة‬
‫وصار كل فرق كالجبل الواقف‪ ،‬ول يقدر على ذلك إل الخالق‪ ،‬لن السيولة والستطراق سنة‬
‫كونية‪ ،‬والذي خلق هذه السنة الكونية هو الذي يستطيع أن يبطلها‪ .‬وحين سار موسى وقومه في‬
‫اليابس‪ ،‬وقطع الجميع الطريق الموجود في البحر سار خلفهم فرعون وجنوده وأراد موسى أن‬
‫يضرب البحر بعصاه ليعود إلى السيولة وإلى الستطراق حتى ل يتبعه فرعون وجنوده‪ ،‬وهذا‬
‫تفكير بشري أيضا‪ ،‬ويأتي لموسى أمر من ال‪ {:‬وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ رَهْوا‪[} ...‬الدخان‪]24 :‬‬
‫أي اترك البحر ساكنا على هيئته التي هو عليها ليدخله فرعون وقومه‪ ،‬إنه سبحانه ل يريد للماء‬
‫أن يعود إلى السيولة والستطراق حتى يُغري الطريق اليابس فرعون وقومه فيأتوا وراءكم‬
‫ليلحقوا بكم‪ ،‬فإذا ما دخلوا واستوعبهم اليابس؛ أعدنا سيولة الماء واستطراقه فيغرقون؛ ليثبت الحق‬
‫أنه ينجي ويهلك بالشيء الواحد‪ ،‬وكل ذلك يجمله الحق هنا في قوله‪ } :‬فَانْ َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ فَأَغْ َرقْنَا ُهمْ فِي‬
‫الْيَمّ {‪ .‬و " اليم " هو المكان الذي يوجد به مياه عميقة‪ ،‬ويطلق مرة على المالح‪ ،‬ومرة على‬
‫خفْتِ‬
‫ضعِيهِ فَإِذَا ِ‬
‫العذب‪ ،‬فمثلً في قصة أم موسى‪ ،‬يقول الحق‪ {:‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ‬
‫عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ‪[} ...‬القصص‪]7 :‬‬
‫وكان المقصود باليم هناك النيل‪ ،‬لكن المقصود به هنا في سورة العراف هو البحر‪ .‬ويأتي سبب‬
‫الِغراق في قوله‪ } :‬بِأَ ّن ُهمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا َوكَانُواْ عَ ْنهَا غَافِلِينَ {‪.‬‬
‫كيف إذن يعذبهم ويغرقهم نتيجة الغفلة‪ ،‬ونعلم أن الغفلة ليس لها حساب؟ بدليل أن الصائم قد يغفل‬
‫ويأكل ويصح صيامه‪ .‬ويقال إن ربنا أعطى له وجبة تغذيه بالطعام وحسب له الصيام لنه غافل‪.‬‬
‫لكن هنا يختلف أمر الغفلة؛ فالمراد بـ " غافلين " هنا أنهم قد كانوا قد كذبوا بآيات ال ثم‬
‫أعرضوا إعراضا ل يكون إل عن غافل عن ال وعن منهجه‪ ،‬ولو أنهم كانوا عبادا مستحضرين‬
‫لمنهج ال لما صح أن يغفلوا‪ ،‬وهذا القول يحقق ما سبق ان قاله سبحانه‪ {:‬عَسَىا رَ ّب ُكمْ أَن ُيهِْلكَ‬
‫عَ ُد ّوكُمْ‪[} ...‬العراف‪]129 :‬‬
‫ثم يأتي بعد ذلك القول الذي يحقق ما سبق أن قاله سبحانه‪ {:‬وَيَسْتَخِْل َفكُمْ فِي الَ ْرضِ فَيَنظُرَ كَ ْيفَ‬
‫َت ْعمَلُونَ }[العراف‪]129 :‬‬
‫ويقول الحق تأكيدا لذلك‪ } :‬وََأوْرَثْنَا ا ْل َقوْمَ الّذِينَ‪{ ...‬‬

‫(‪)1078 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ض َو َمغَارِ َبهَا الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ‬
‫ض َعفُونَ مَشَا ِرقَ الْأَ ْر ِ‬
‫وََأوْرَثْنَا ا ْل َقوْمَ الّذِينَ كَانُوا يُسْ َت ْ‬
‫ن َو َق ْومُهُ َومَا كَانُوا َيعْرِشُونَ (‬
‫عوْ ُ‬
‫علَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ِبمَا صَبَرُوا وَ َدمّرْنَا مَا كَانَ َيصْنَعُ فِرْ َ‬
‫حسْنَى َ‬
‫الْ ُ‬
‫‪)137‬‬

‫أي صارت مصر والشام تحت إمرة بني إسرائيل‪ ،‬وهي الرض التي باركها ال‪ ،‬بالخصب‪،‬‬
‫وبالنماء‪ ،‬بالزروع‪ ،‬بالثمار‪ ،‬بالحيوانات‪ ،‬وبكل شيء من مقومات الحياة‪ ،‬وترف الحياة‪ { :‬وَ َت ّمتْ‬
‫كَِلمَةُ رَ ّبكَ ا ْلحُسْنَىا عَلَىا بَنِي إِسْرَآئِيلَ ِبمَا صَبَرُواْ }‪.‬‬
‫{ وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ } أي استمرت عليهم الكلمة وتم وعد ال الصادق بالتمكين لبني إسرائيل في‬
‫الرض ونصره إياهم على عدوهم‪ ،‬واكتملت النعمة؛ لن ال أهلك عدوهم وأورثهم الرض‪،‬‬
‫خِلفَكُمْ فِي الَ ْرضِ فَيَنظُرَ كَ ْيفَ‬
‫وتحققت كلمته سبحانه التي جاءت على لسان موسى‪... {:‬وَيَسْتَ ْ‬
‫َت ْعمَلُونَ }[العراف‪]129 :‬‬
‫ق الَ ْرضِ‬
‫ض َعفُونَ مَشَا ِر َ‬
‫هكذا تمت كلمة ال بقوله سبحانه‪ { :‬وََأوْرَثْنَا ا ْلقَوْمَ الّذِينَ كَانُواْ يُسْ َت ْ‬
‫َو َمغَارِبَهَا } [العراف‪]137 :‬‬
‫ق الَ ْرضِ َو َمغَارِ َبهَا } تقال بالنسبيات؛ فليس هناك مكان اسمه مشرق وآخر‬
‫ونعلم أن كلمة { مَشَا ِر َ‬
‫اسمه مغرب‪ ،‬لكن هذه اتجاهات نسبية؛ فيقال هذا مشرق بالنسبة لمكان ما‪ ،‬وكذلك يقال له "‬
‫مغرب " بالنسبة لمكان آخر‪ .‬وحين ينتقل الِنسان إلى مكان آخر يوجد مشرق آخر ومغرب آخر‪.‬‬
‫وعلى سبيل المثال نجد من يسكن في الهند واليابان يعلمون أن منطقة الشرق الوسط بالنسبة لهم‬
‫مغرب‪ ،‬ومن يسكنون أوروبا يعرفون أن الشرق الوسط بالنسبة لهم مشرق‪.‬‬
‫وقلنا من قبل‪ :‬إن الحق حين جاء " بالمشرق والمغرب " بصيغة الجمع كما هنا فذلك إنما يدل‬
‫على أن لكل مكان مشرقا‪ ،‬ولكل مكان مغربا؛ فإذا غربت الشمس في مكان فهي تشرق في مكان‬
‫آخر‪ .‬وفي رمضان نجد الشمس تغرب في القاهرة قبل السكندرية بدقائق‪.‬‬
‫ونعلم أن سبب هذه الدورة إنما هو ليبقى ذكر ال بكل مطلوبات ال في كل أوقات ال‪ ،‬مثال ذلك‬
‫حين نصلى نحن صلة الفجر نجد أناسا يصلون في اللحظة نفسها صلة الظهر‪ ،‬ونجد آخرين‬
‫يصلون صلة العصر‪ ،‬وقوما غيرهم يصلون صلة المغرب‪ ،‬وغيرهم يصلي صلة العشاء‪.‬‬
‫وبذلك تحقق إرادة ال في أن هناك عبادة في كل وقت وفي كل لحظة‪ ،‬فحين يؤذن مسلم قائلً "‬
‫ال أكبر " لينادي لصلة الفجر‪ ،‬هناك مسلم آخر يقول‪ " :‬ال أكبر " مناديّا لصلة الظهر أو‬
‫العصر أو المغرب أو العشاء‪ ،‬وهذا هو الختلف في المطالع أراد به سبحانه أن يظل اسمه‬
‫مذكورا على كل لسان في كل مكان لتعلو " ال أكبر‪ ،‬ال أكبر " في كل مكان‪.‬‬
‫وأنت إذا حسبت الزمن بأقل من الثانية تجد أن كون ال ل يخلو من " ل إله إل ال " أبدا‪ { :‬وَ َت ّمتْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كَِلمَةُ رَ ّبكَ ا ْلحُسْنَىا }‪ .‬ونعلم أن كلمة " الحسنى " وصف للمؤنث‪ ،‬و " كلمة " مؤنثة‪ ،‬والكلمة هي‬
‫جعََل ُهمُ ا ْلوَارِثِينَ }‬
‫جعََل ُهمْ أَ ِئمّ ًة وَنَ ْ‬
‫ض ِعفُواْ فِي الَ ْرضِ وَنَ ْ‬
‫قوله الحق‪ {:‬وَنُرِيدُ أَن ّنمُنّ عَلَى الّذِينَ اسْ ُت ْ‬
‫[القصص‪]5 :‬‬
‫لقد قال الحق القصة بإيجاز‪ ،‬وهذه هي التي قالها ربنا وهي كلمة " الحسنى " لنه سبحانه لم يعط‬
‫لهم نعمة معاصرة لنعمة العدو‪ ،‬بل نعمة على أنقاض العدو‪ ،‬فهي نعمة تضم إهلك عدوهم‪ ،‬ثم‬
‫علَىا بَنِي‬
‫أعطاهم بعد ذلك أن جعلهم أئمة وهداة وورثهم الرض‪ { :‬وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ الْحُسْنَىا َ‬
‫إِسْرَآئِيلَ ِبمَا صَبَرُواْ }‪.‬‬

‫وهم بالفعل قد صبروا على الِيذاء الذي نالوه وذكره سبحانه من قبل حين قال‪َ {:‬يسُومُو َنكُمْ سُوءَ‬
‫ا ْلعَذَابِ يُذَبّحُونَ أَبْنَآ َءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآ َءكُمْ‪[} ...‬البقرة‪]49 :‬‬
‫عوْنُ َوقَ ْومُ ُه َومَا كَانُواْ َيعْرِشُونَ‬
‫وجاء عقاب ال لقوم فرعون‪ ...} :‬وَ َدمّرْنَا مَا كَانَ َيصْنَعُ فِرْ َ‬
‫{ [العراف‪]137 :‬‬
‫والتدمير هو أن تدرك شيئا وتخربه‪ ،‬وقد ظل ما فعله ال بقوم فرعون باقيّا في الثار التي تدلك‬
‫على عظمة ما فعلوا‪ ،‬وتجد العلماء في كل يوم يكتشفون تحت الرض آثارا كثيرة‪ .‬ومن العجيب‬
‫أن كل كشوف الثار تكون تحت الرض‪ ،‬ول يوجد كشف أثري جاء من فوق الرض أبدا‪.‬‬
‫وكلمة " دمرنا " تدل على أن الشياء المدمرة كانت عالية الرتفاع ثم جاءت عوامل التعرية‬
‫لتغطيها‪ ،‬ويبقى ال شواهد منها لتعطينا نوع ما عمّروا؛ كالهرام مثلً‪ .‬وكل يوم نكتشف آثارا‬
‫جديدة موجودة تحت الرض مثلما اكتشفنا مدينة طيبة في وادي الملوك‪ ،‬وكانت مغطاة بالتراب‬
‫بفعل عوامل التعرية التي تنقل الرمال من مكان إلى مكان‪ .‬وأنت إن غبت عن بيتك شهرا ومع‬
‫أنك تغلق البواب والشبابيك قبل السفر؛ ثم تعود فتجد التراب يغطي جميع المنزل والثاث؛ كل‬
‫ذلك بفعل عوامل التعرية التي تنفذ من أدق الفتحات‪ ،‬ولذلك لو نظرت إلى القرى القديمة قبل أن‬
‫تنشأ عمليات الرصف التي تثبت الرض نجد طرقات القرية التي تقود إلى البيوت ترتفع مع‬
‫الزمن شيئا فشيئا وكل بيت تنزل به قليلً‪ ،‬وكل فترة يردمون أرضية البيوت لتعلو‪ ،‬وكل ذلك من‬
‫عوامل التعرية التي تزيد من ارتفاع أرضية الشوارع‪ .‬وكل آثار الدنيا ل تكتشف إل بالتنقيب‪،‬‬
‫إذن فكلمة " دمرنا " لها سند‪ .‬والحق يقول عن أبنية فرعون‪َ {:‬وفِرْعَوْنَ ذِى الَوْتَادِ }[الفجر‪]10 :‬‬
‫ونجد الهرم مثلً كشاهد على قوة البناء‪ ،‬وإلى الن لم يكتشف أحد كيف تم بناء الهرم‪ .‬وكيف‬
‫تتماسك صخوره دون مادة كالسمنت مثلً‪ ،‬بل يقال‪ :‬إن بناء الهرم قد تم بأسلوب تفريغ الهواء‪،‬‬
‫ول أحد يعرف كيف نقل المصريون الصخرة التي على قمة الهرم‪ .‬إذن فقد كانوا على علم واسع‪.‬‬
‫وإذا ما نظرنا إلى هذا العلم عمارة وآثارا وتحنيطا لجثث القدماء‪ ،‬إذا نظرت إلى كل هذا وعلمت‬
‫أن القائمين به كانوا من الكهنة المنسوبين للدين‪ ،‬لتأكدنا أن أسرار هذه المسائل كلها كانت عند‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رجال الدين‪ ،‬وأصل الدين من السماء‪ ،‬وإن كان قد حُرّف‪ .‬وهذا يؤكد لنا أن الحق هو الذي هدى‬
‫ق الَ ْرضِ‬
‫ض َعفُونَ مَشَا ِر َ‬
‫الناس من أول الخلق إلى واسع العلم‪ } .‬وََأوْرَثْنَا ا ْلقَوْمَ الّذِينَ كَانُواْ يُسْ َت ْ‬
‫علَىا بَنِي ِإسْرَآئِيلَ ِبمَا صَبَرُواْ وَ َدمّرْنَا مَا‬
‫َو َمغَارِبَهَا الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ الْحُسْنَىا َ‬
‫عوْنُ َوقَ ْومُ ُه َومَا كَانُواْ َيعْرِشُونَ { [العراف‪]137 :‬‬
‫كَانَ َيصْنَعُ فِرْ َ‬
‫و " يعرشون " أي يقيمون جنات معروشات‪ ،‬وقلنا من قبل‪ :‬إن الزروع مرة تكون على سطح‬
‫الرض وليس لها ساق ومرة يكون لها ساق‪ ،‬وثالثة يكون لها ساق لينة فيصنعون له عريشة أو‬
‫كما نسميه نحن التكعيبة لتحمله وتحمل ثمرهُ‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول الحق‪ } :‬وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَآئِيلَ‪{ ...‬‬

‫(‪)1079 /‬‬

‫ج َعلْ لَنَا ِإَلهًا‬


‫علَى َأصْنَامٍ َلهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى ا ْ‬
‫علَى َقوْمٍ َي ْع ُكفُونَ َ‬
‫وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَ َتوْا َ‬
‫جهَلُونَ (‪)138‬‬
‫َكمَا َلهُمْ َآِلهَةٌ قَالَ إِ ّنكُمْ َقوْمٌ َت ْ‬

‫لقد قالوا ذلك وهم مازالوا مغمورين في نعم ال إنجاء من عدو‪ ،‬واستخلفا في الرض‪ ،‬ومع ذلك‬
‫بمجرد أن طلعوا إلى البر ورأوا جماعة يعبدون صنما طالبوا موسى أن يجعل لهم صنما يعبدونه‪.‬‬
‫لقد حسدوا من يجهلون قيمة الِيمان ويعكفون على عبادة الصنام‪ ،‬ويعكف تعني أن يقيم إقامة‬
‫لزمة‪ ،‬ومنه العتكاف في المسجد‪ ،‬أي النقطاع عن حركة الحياة خارج المسجد إلى عبادة ال‬
‫ج َعلْ لّنَآ إِلَـاها َكمَا َلهُمْ آِلهَةٌ‪[ } ...‬العراف‪:‬‬
‫في بيته‪َ { .‬ي ْع ُكفُونَ عَلَىا َأصْنَامٍ ّلهُمْ قَالُواْ يامُوسَىا ا ْ‬
‫‪]138‬‬
‫وهذا القول من قوم موسى هو قمة الغباء‪ ،‬كأن الِله بالنسبة لهم مجهول على رغم أنه قد أسبغ‬
‫عليهم من النعم الكثير‪ ،‬وهذه أول خيبة‪ ،‬وهم يريدون أن يكون الِله مجعولً برغم أن الِله‬
‫بكمالته وطلقة قدرته جاعل‪ ،‬ولكن عقيلتهم لم تستوعب النعم الغامرة وقلوبهم مغلقة لم يعمها‬
‫الِيمان‪ .‬وقالوا‪ :‬اجعل لنا إلها! وأرادوا أن ينحت لهم الصنام‪ ،‬وقد يقول واحد منهم‪ :‬رأس الِله‬
‫ج َعلْ لّنَآ‬
‫ل صغّرها بعض الشيء‪ ،‬وأنفه غير مستقيمة فلنعدلها بالِزميل‪ ،‬وقولهم‪ { :‬ا ْ‬
‫كبيرة قلي ً‬
‫إِلَـاها }‪ .‬وهذا ما يجعلنا نفهم أن عقولهم لم تستوعب حقيقة الِيمان؛ لذلك يقول لهم موسى‪:‬‬
‫جهَلُونَ }‪.‬‬
‫{ إِ ّن ُكمْ َقوْمٌ تَ ْ‬
‫ولم يقل لهم‪ " :‬ل تعلمون " بل قال‪ " :‬تجهلون " لن هناك فارقا بين عدم العلم بالشيء‪ ،‬وبين‬
‫الجهل بالشيء‪ ،‬فعدم العلم يعني أن الذهن قد يكون خاليا من أي قضية‪ ،‬أما " الجهل " فهو يعني‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أن تعلم مناقضا للقضية‪ ،‬إذن فهناك قضية يعتقدها الجاهل ولكنها غير واقعية‪ .‬أما الذي ل يعلم‬
‫فليس في باله قضية‪ ،‬وحين تأتي له القضية يقتنع بها‪ ،‬ول يحتاج ذلك إلى عملية عقلية واحدة مثل‬
‫المي مثلً الذي ل يعلم‪ ،‬لن ذهنه خال من قضية‪ ،‬أما الذي يعلم قضية مخالفة فهو يحتاج من‬
‫الرسول إلى عمليتين عقليتين‪ :‬الولى أن يخرج ما في نفسه من قضية الجهل‪ ،‬والثانية أن يعطي‬
‫له القضية الجديدة‪ ،‬إن الذي يخرج ما في نفسه من قضية الجهل‪ ،‬والثانية أن يعطي له القضية‬
‫الجديدة‪ ،‬إن الذي يرهق العالم هم الجهلء ل الميون‪ ،‬لن المي حين تعطي له المعلومة فليس‬
‫عنده ما يناقضها‪ .‬لكن الجاهل عنده ما يناقضها ويخالف الواقع‪.‬‬
‫ويقول سبحانه بعد ذلك‪ { :‬إِنّ هَـاؤُلءِ مُتَبّرٌ‪} ...‬‬

‫(‪)1080 /‬‬

‫طلٌ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)139‬‬


‫إِنّ َهؤُلَاءِ مُتَبّرٌ مَا هُمْ فِي ِه وَبَا ِ‬

‫و { مُتَبّرٌ } أي هالك ومدمر‪ ،‬وهنا يوضح لهم موسى أن هؤلء الجماعة التي تعبد الصنام؛ وهم‬
‫وأصنامهم هالكون‪ ،‬وما يعملون هو باطل لن قضايا الكون إن أردتم أن تعرفوا حقيقتها‪ ،‬فلبد لها‬
‫من ثبوث‪ ،‬والحق ثابت ل يتغير أبدا لن له واقعا يُستقرأ‪ ،‬ومثال ذلك إذا حصلت حادثة بالفعل‬
‫أمامنا جميعا‪ ،‬ثم طلب من كل واحد على انفراد أن يقول ما رآه فلن نختلف في الوصف لننا‬
‫نستوحي واقعا‪ ،‬لكن إن كانت القضية غير واقعية فكل واحد سيقولها بشكل مختلف‪ ،‬ولذلك نجد‬
‫من لباقة القضاء أن القاضي يحاور الشهود محاورات ليتبيّن ما يثبتون عليه وما يتضاربون فيه‪.‬‬
‫وإن كان الشهود يستوحون حقيقة واقعية‪ ،‬فلن يختلفوا في روايتهم‪ ،‬ولكنهم يختلفون حين ل يتأكد‬
‫أحدهم من الواقعة أو أن تكون غير حقيقية‪.‬‬
‫والمثل العربي يقول‪ " :‬إن كنت كذوبا فكن ذكورا " أي إن كذبت ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬وقلت قولً غير‬
‫صادق فعليك أن تتذكر كذبتك‪ ،‬وأنت لن تتذكرها لنها أمر متخيّل وليس أمرا ثابتا‪ .‬وقد يجوز أن‬
‫يأخذ غير الواقع زهوة ولمعانا فنقول‪ :‬إياك أن تغتر بهذه الزهوة لن الحق سبحانه وتعالى يقول‪{:‬‬
‫سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ‬
‫أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫جفَآءً وََأمّا مَا‬
‫طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫حّ‬‫ابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثُْلهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ‬
‫لمْثَالَ }[الرعد‪]17 :‬‬
‫يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا َ‬
‫لقد شبه سبحانه الباطل بالزبد وهو ما يعلو السائل أو الماء من الرغوة والقش والمخلفات التي‬
‫تعوم على سطح المياه إنه يتلشى ويذهب‪ ،‬أما ما ينفع الناس فيبقى‪ .‬ونحن نختبر المعادن لنعرف‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هل هي مغشوشة أو ل‪ ..‬ونعرضها على النار‪ ،‬فيطفوا ما فيها من مادة غير أصيلة وما فيها من‬
‫شوائب‪ ،‬ويبقى في القاع المعدن الصيل‪.‬‬
‫طلٌ مّا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }‬
‫وهنا يقول الحق على لسان موسى‪ { :‬إِنّ هَـاؤُلءِ مُتَبّرٌ مّا هُمْ فِي ِه وَبَا ِ‬
‫[العراف‪]139 :‬‬
‫والحداث إما فعل أو قول‪ ،‬والقول‪ :‬عملية اللسان‪ ،‬والفعل‪ :‬لبقية الجوارح‪ ،‬وكل الحداث ناشئة‬
‫عن قول أو عن فعل‪ ،‬والقول والفعل معا هما " عمل "‪ .‬ولذلك يقول الحق‪ِ {:‬لمَ َتقُولُونَ مَا لَ‬
‫َت ْفعَلُونَ }[الصف‪]2 :‬‬
‫إذن فالعمل يشمل القول‪ ،‬ويشمل الفعل‪.‬‬
‫طلٌ مّا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ } إن الصنام التي كانوا يصنعونها ويعبدونها‪ ،‬كانت تقوم‬
‫وقوله الحق‪ { :‬وَبَا ِ‬
‫على أقوال وأفعال‪ ،‬كأن يقولوا‪ :‬يا هبلٍ‪ ،‬يا لت‪ ،‬يا عزّى‪ ،‬ويناجون هذه الصنام ويطلبون منها‬
‫أن تحقق لهم بعضا من العمال وكانوا يقفون أمامها صاغرين أذلء‪ ،‬إذن فقد صدر منهم قول‬
‫وفعل يضمهما معا العمل‪.‬‬
‫ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلم‪ { :‬قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِيكُمْ‪} ...‬‬

‫(‪)1081 /‬‬

‫قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِيكُمْ إَِلهًا وَ ُهوَ َفضَّلكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ (‪)140‬‬

‫جهَلُونَ } ‪ ،‬ثم قال‪{ :‬‬


‫هم حينما قالوا لموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‪ ،‬قال لهم أولً‪ { :‬إِ ّنكُمْ َقوْمٌ َت ْ‬
‫طلٌ مّا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ } ‪ ،‬وبعد ذلك رجع إلى الدليل على أن هذا‬
‫إِنّ هَـاؤُلءِ مُتَبّرٌ مّا هُمْ فِي ِه وَبَا ِ‬
‫طلب جهل‪ ،‬وأن الذين يعبدون الصنام من دون ال إنما يفعلون باطلً؛ فقال‪ { :‬قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ‬
‫أَ ْبغِيكُمْ إِلَـاها وَ ُهوَ َفضَّلكُمْ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ }‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬أَغَيْرَ اللّهِ } أي أن الِله الذي عرفتم بالتجربة العملية أنه فضلكم على العالمين ورأيتم ما‬
‫صنع بعدوكم الذي استذلكم وسامكم سوء العذاب‪ ،‬إنه قد أهلكه ودمره‪ ،‬هل يمكن أن تطلبوا ربّا‬
‫غيره؟‬
‫وقوله‪ { :‬قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَ ْبغِيكُمْ } أي أأطلب لكم إلها غيره؟ وفي سؤاله هذا استنكار لنه يتبعه‬
‫بتفضيل ال لهم على العالم‪ ،‬ثم أراد أن يذكرهم بقمة التفضيل لهم فيقول سبحانه على لسان‬
‫موسى‪ { :‬وَإِذْ أَ ْنجَيْنَاكُمْ مّنْ آلِ فِرْعَونَ‪} ...‬‬

‫(‪)1082 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عوْنَ يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيقَتّلُونَ أَبْنَا َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ ِنسَا َءكُ ْم َوفِي ذَِل ُكمْ‬
‫وَإِذْ أَ ْنجَيْنَاكُمْ مِنْ َآلِ فِرْ َ‬
‫بَلَاءٌ مِنْ رَ ّب ُكمْ عَظِيمٌ (‪)141‬‬

‫وإذا سمعت " إذ " فافهم ان معناها ظرف زمان يريد الحق أن نتذكر ما حدث فيه‪ ،‬و " إذ " يعني‬
‫جيدا ول يغيب عن بالكم حين أنجاكم ال من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب وأفظعه وأشده‪.‬‬
‫ويقول بعدها مبينا ومفسرا ذلك العذاب‪ُ { :‬يقَتّلُونَ أَبْنَآ َءكُ ْم وَيَسْ َتحْيُونَ نِسَآ َءكُمْ }‪.‬‬
‫ونلحظ أنه لم يأت بالعطف هنا‪ ،‬فلم يقل‪ :‬يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون‬
‫نساءكم‪ .‬مما يدل على أنه جاء بقمة سوء العذاب؛ لن الحتقار‪ ،‬والتسخير هما جزء من العذاب‪.‬‬
‫لكن قمة العذاب هي تقتيل البناء‪ ،‬واستحياء النساء‪.‬‬
‫عوْنَ َيسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيذَبّحُونَ‬
‫وفي آية ثانية يقول سبحانه‪ {:‬وَإِذْ َنجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْ َ‬
‫أَبْنَآ َءكُمْ‪[} ...‬البقرة‪]49 :‬‬
‫عوْنَ‬
‫أي أنهم تعرضوا للتقتيل‪ ،‬وتعرضوا للتذبيح‪ ،‬وفي آية ثالثة يقول‪ِ {:‬إذْ أَنجَا ُكمْ مّنْ آلِ فِرْ َ‬
‫يَسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْل َعذَابِ وَ ُيذَبّحُونَ أَبْنَآ َء ُكمْ‪[} ...‬إبراهيم‪]6 :‬‬
‫لقد جاء بـ " الواو " هنا للعطف‪ .‬لن المتكلم هنا مختلف‪ ،‬فقد يكون المتكلم ال‪ ،‬وسبحانه يمتن‬
‫بقمة النعم‪ .‬لكن‪ { :‬وَإِذْ قَالَ مُوسَىا ِلقَ ْومِهِ يَا َقوْمِ ا ْذكُرُواْ } ‪ ،‬فموسى يمتن بكل النعم التي ساقها ال‬
‫إلى بني إسرائيل صغيرة وكبيرة‪.‬‬
‫عظِيمٌ }‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية الكريمة‪َ { :‬وفِي ذاِلكُمْ بَلءٌ مّن رّ ّبكُمْ َ‬
‫هو بلء شديد الِيلم والوقع لفراق من يقتل أو يذبح‪ ،‬وبلء آخر في الهم والحزن على من‬
‫يستبقي من النساء لستباحة أعراضهن وامتهانهن في الخدمة‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ { :‬ووَاعَدْنَا مُوسَىا‪} ...‬‬

‫(‪)1083 /‬‬

‫َووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَ ًة وَأَ ْت َممْنَاهَا ِبعَشْرٍ فَ َتمّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْ َبعِينَ لَيْلَ ًة َوقَالَ مُوسَى لَِأخِيهِ هَارُونَ‬
‫ح وَلَا تَتّبِعْ سَبِيلَ ا ْل ُمفْسِدِينَ (‪)142‬‬
‫اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي وََأصْلِ ْ‬

‫وعلمنا من قبل في مسألة العداد أن هناك أسلوبين‪ :‬السلوب الول إجمالي‪ ،‬والثاني تفصيلي؛‬
‫فمرة يتفق التفصيل مع الِجمال‪ ،‬وبذلك ل توجد شبهة أو إشكال‪ ،‬وسبحانه في سورة البقرة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عدْنَا مُوسَىا أَرْ َبعِينَ لَيْلَةً‪[} ...‬البقرة‪]51 :‬‬
‫يقول‪ {:‬وَإِ ْذ وَا َ‬
‫جاء بها هناك بالِجمال‪ .‬لكنه شاء هنا في سورة العراف أل يأتي بها مرة واحدة مجملة‪ .‬بل‬
‫فصلها بثلثين ليلة ثم أتمّها الحق بعشر أخر لمهمة سنعرفها فيما بعد‪ ،‬ليكون الميقات قد تم أربعين‬
‫ليلة‪ ،‬وإذا جاء العدد مجملً مرة‪ ،‬ومفصلً مرة‪ ،‬واتفق الِجمال مع التفصيل فل إشكال‪ .‬لكن إذا‬
‫حمَل التفصيل على الِجمال‪ ،‬لن المفصّل يمكن أن يتداخل‬
‫اختلف الِجمال عن التفصيل فعادة يُ ْ‬
‫ليصير إلى الِجمال‪.‬‬
‫وضربنا من قبل المثل في خلق السماء والرض في ستة أيام‪ ،‬وكل آيات الخلق تأتي بخبر الستة‬
‫أيام وهي مجملة‪ .‬لكنه شاء سبحانه في موضع آخر بالقرآن أن يقول‪ُ {:‬قلْ أَإِ ّن ُكمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي‬
‫سيَ مِن َف ْو ِقهَا‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫ن وَتَ ْ‬
‫ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْ ِ‬
‫خََل َ‬
‫سوَآءً لّلسّآئِلِينَ }[فصلت‪]10-9 :‬‬
‫وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ‬
‫وظاهر المر هنا أن المهمة قد اكتمل أمرها وخلقها في ستة أيام‪ ،‬لكنه قال جل وعل بعدها‪ُ {:‬ثمّ‬
‫طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ *‬
‫سمَآءِ وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ‬
‫اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ‬
‫سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْنِ‪[} ..‬فصلت‪]12-11 :‬‬
‫َفقَضَاهُنّ سَبْعَ َ‬
‫وهنا في موقف أيام خلق الدنيا نجد إجمالً وتفصيلً‪ ،‬والتفصيل يصل في ظاهر المر بأيام الخلق‬
‫إلى ثمانية‪ ،‬والِجمال يحكي أنها ستة أيام فقط‪.‬‬
‫فهل هي ستة أيام أم ثمانية أيام؟ نقول‪ :‬إنها ستة أيام لننا نستطيع أن ندخل المفصل بعضه في‬
‫بعضه‪ ،‬فإذا قلت‪ :‬سافرت من مصر إلى طنطا في ساعتين‪ ،‬وإلى الِسكندرية في ثلث ساعات‪،‬‬
‫فمعنى هذا القول أن الساعتين دخلتا في الثلث الساعات‪ { :‬وَوَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلَثِينَ لَيْلَ ًة وَأَ ْت َممْنَاهَا‬
‫ِبعَشْرٍ }‪.‬‬
‫والوعد هو أن ال وعد موسى بعد أن تحدث عملية إنجاء بني إسرائيل أنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬سينزل‬
‫عليه كتابا يجمع فيه كل المنهج المراد من خلق ال لتسير حركة حياتهم عليه‪ ،‬لكن ما إن ذهب‬
‫موسى لميقات ربه حتى عبدوا العجل‪ ،‬في مدة الثلثين يوما ولم يشأ ال أن يرسل موسى بعد‬
‫الثلثين يوما بل أتمها بعشر آخر حتى ل يعود موسى ويرى ما فعله قومه؛ لنه بعد أن عاد‬
‫أمسك برأس أخيه يعنفه ويشتد عليه ويأخذ بلحيته يجره إليه إذ كيف سمح لبني إسرائيل أن يعبدوا‬
‫خذْ بِلِحْيَتِي َولَ بِرَأْسِي إِنّي خَشِيتُ‬
‫العجل‪ .‬وفي ذلك يقول الحق على لسان هارون‪ {:‬قَالَ يَبْ َنؤُ ّم لَ تَأْ ُ‬
‫ل وَلَمْ تَ ْر ُقبْ َقوْلِي }‬
‫أَن َتقُولَ فَ ّر ْقتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِي َ‬

‫[طه‪]94 :‬‬
‫فكأن العشرة أيام زادوا عن الثلثين يوما ليعطيك الصورة الخيرة الموجودة في سورة البقرة‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق في سورة العراف‪َ } :‬وقَالَ مُوسَىا لَخِيهِ هَارُونَ اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي وََأصْلِحْ َولَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سدِينَ { [العراف‪]142 :‬‬
‫تَتّبِعْ سَبِيلَ ا ْل ُمفْ ِ‬
‫و " اخلفني " أي كن خليفة لي فيهم إلى أن أرجع وذلك فيما هو مختص بموسى من الرسالة‬
‫فاستخلف موسى لهارون ليس تكليفا لهارون بامتداد إرسال ال لموسى وهارون‪ ،‬فأسلوب تقديم‬
‫موسى وهارون أنفسهما لفرعون جاء بضمير التثنية التي تجمع بين موسى وهارون‪ {:‬إِنّا َرسُولَ‬
‫رَ ّبكَ‪[} ...‬طه‪]47 :‬‬
‫ل منهما رسول‪ ،‬وقول الحق‪َ } :‬وقَالَ مُوسَىا لَخِيهِ هَارُونَ { فيه التحنن‪ ،‬أي أنني لي بك‬
‫لن ك ّ‬
‫صلة قبل أن تكون شريكا لي في الرسالة فأنا أخ لك وأنت أخ لي‪ ،‬ومن حقي عليك أن تسمع‬
‫كلمي وتخلفني‪ .‬فالخوة مقرونة بأنك شريك معي في الرسالة إذن نجد أن موسى قد قدم حيثية‬
‫الخوة والمشاركة في الرسالة‪ .‬وأكد موسى عليه السلم بكلمة " قومي " أنهم أعزاء عليه‪ ،‬ول‬
‫يريد بهم إل الخير الذي يريده لنفسه‪ ،‬فإذا جاءكم بأمر فاعلموا أنه لصالحكم‪ ،‬وإذا نهاكم نهيّا‬
‫فاعلموا أن موسى هو أول من يطبقه على نفسه‪.‬‬
‫وقيل كان موسى عليه السلم قد قام بإعداد نفسه للقاء ربه‪ ،‬ولبد أن يكون الِعداد بطهر وبتطهير‬
‫وبتزكية النفس بصيام‪ ،‬فصام ثلثين يوما‪ ،‬وبعد ذلك أنكر رائحة فمه‪ ،‬فأخذ سواكا وتسوك به‬
‫ليذهب رائحة فمه‪ ،‬فأوضح الحق سبحانه له‪ :‬أما علمت يا موسى أن خلوف فم الصائم أطيب‬
‫عندي من ريح المسك‪ .‬وما دمت قد أزلت الخلوف وأنا أريد أن تقبل عليّ بريح المسك فزد عشرة‬
‫أيام؛ حتى تأتي كذلك‪ .‬وقال بعض العلماء‪ :‬إن تفصيل الربعين إلى ثلثين وإلى عشرة‪ ،‬لن‬
‫الثلثين يوما هي اليام التي عبد فيها القوم بعد موسى العجل‪ ،‬فكان ولبد أن تكون هناك فترة من‬
‫الفترات؛ حتى يميز ال الخبيث من الطيب‪َ } .‬وقَالَ مُوسَىا لَخِيهِ هَارُونَ اخُْلفْنِي فِي َقوْمِي‬
‫سدِينَ { [العراف‪]142 :‬‬
‫وََأصْلِحْ َولَ تَتّبِعْ سَبِيلَ ا ْلمُفْ ِ‬
‫وهنا أمر ونهى " أصلح " هي أمر‪ ،‬و " ل تتبع " هي نهي‪ ،‬ونعرف أن كل تكاليف الحق سبحانه‬
‫وتعالى محصورة في " افعل كذا " ‪ ،‬و " ل تفعل كذا " ‪ ،‬ول يقول الحق للمكلّفين‪ " :‬افعلوا كذا "‬
‫إل إذا كانوا صالحين للفعل ولعدم الفعل‪ ،‬وإن قال لهم‪ " :‬ل تفعلوا " فلبد أن يكونوا صالحين‬
‫للفعل ولعدم الفعل‪ ،‬ولذلك أوضحنا من قبل ان ال ركز كل التكاليف في مسألة آدم وحواء في‬
‫الجنة فقال‪َ } :‬وكُلَ مِ ْنهَا رَغَدا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا { ‪ ،‬وكان هذا هو المر‪ .‬وقال‪َ } :‬ولَ َتقْرَبَا هَـا ِذهِ‬
‫ح َولَ تَتّ ِبعْ سَبِيلَ ا ْل ُمفْسِدِينَ {‪.‬‬
‫الشّجَ َرةَ { ‪ ،‬وهذا نهي‪ } :‬وََأصْلِ ْ‬
‫وكلمة " أصلح " تستلزم أن يبقى الصالح على صلحه فل يفسده‪ ،‬وإن شاء ال يزيد فيه صلحا‬
‫فليفعل‪.‬‬

‫وقوله‪َ } :‬ولَ تَتّ ِبعْ سَبِيلَ ا ْل ُمفْسِدِينَ { لنه قول موجه لنبي وهو هارون‪ ،‬ل يتأتى منه الِفساد‪ ،‬ولكنّ‬
‫موسى أعلمه أنه ستقوم فتنة بعد قليل‪ ،‬فكأن موسى قد ألهم أنه سيحدث إفساد‪ ،‬فقصارى ما يطلبه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من أخيه هارون ألّ يتبع سبيل المفسدين‪ ،‬ولذلك سيقول هارون بعد ذلك مبررا تركه بني إسرائيل‬
‫على عبادة العجل بعد أن بذل غاية جهده في منعهم وإنذارهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إل‬
‫أن يقتلوه‪... {.‬إِنّي خَشِيتُ أَن َتقُولَ فَ ّر ْقتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ وََلمْ تَ ْر ُقبْ َقوْلِي }[طه‪]94 :‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وََلمّا جَآءَ مُوسَىا‪{ ...‬‬

‫(‪)1084 /‬‬

‫وََلمّا جَاءَ مُوسَى ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ رَبّهُ قَالَ َربّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَ ْيكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وََلكِنِ ا ْنظُرْ إِلَى الْجَ َبلِ‬
‫ص ِعقًا فََلمّا َأفَاقَ قَالَ‬
‫جعََلهُ َدكّا وَخَرّ مُوسَى َ‬
‫س ْوفَ تَرَانِي فََلمّا تَجَلّى رَبّهُ ِللْجَ َبلِ َ‬
‫فَإِنِ اسْ َتقَرّ َمكَانَهُ فَ َ‬
‫سُ ْبحَا َنكَ تُ ْبتُ ِإلَ ْيكَ وَأَنَا َأوّلُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)143‬‬

‫والميقات هو الوقت الذي يعد لعمل من العمال‪ .‬ونسميه وقت العمل‪ .‬وغلب على أشياء في‬
‫الِسلم‪ ،‬كمواقيت الحج‪ .‬ونحن نعلم أن كل عمل وحدث يتطلب أمرين ُيظْرَف فيهما‪ ،‬أي يكونان‬
‫ظرفا له؛ فلبد له من مكان يحدث فيه‪ ،‬ومن زمان يحدث فيه كذلك‪ ،‬واسمهما ظرف الزمان‪،‬‬
‫وظرف المكان‪ .‬إل أن ظرف الزمان غير قار أي غير ثابت؛ فقد يأتي الصبح ويذهب ويأتي‬
‫بعده‪ ،‬الظهر‪ ،‬والعصر والمغرب والعشاء‪ .‬لكن ظرف المكان قار وثابت‪.‬‬
‫والمواقيت ‪ -‬إذن ‪ -‬إما أن يتحكم فيها الزمان‪ ،‬وإما أن يتحكم فيها المكان‪ ،‬وإما أن يتحكم فيها‬
‫المكان والزمان معا‪ .‬فإذا أخذنا المواقيت على أنها زمن كل فعل نجد فريضة " الصوم " لها زمن‬
‫محدد وهو رمضان‪ .‬فالذي يتحكم في الصوم هو الزمن‪ ،‬فيكون ويحدث في أي مكان‪ .‬وكذلك‬
‫صيام عرفة يتحكم فيه أيضا الزمان لنه صيام يوم عرفة‪ ،‬ومن يجلس في أي مكان يصوم يوم‬
‫عرفة ولكنه غير مطلوب من الحاج‪ .‬ولكن الوقوف بعرفة يتحكم فيه المكان والزمان معا‪.‬‬
‫والِحرام بالحج أو العمرة يتحكم فيه المكان وهو ما يسمى بالميقات المكاني ولكل أهل جهة‬
‫ل وهم محرمون‪ .‬فمرة يتحكم الزمان‪ ،‬ومرة‬
‫ميقاتهم المكاني الذي يطلب منهم ألّ يمروا عليه إ ّ‬
‫يتحكم المكان‪ ،‬وثالثة يتحكمان معا‪.‬‬
‫وجاء موسى لميقاتنا المضروب له بعد أربعين ليلة‪.‬‬
‫وهل جاء موسى للميقات أو جاء في الميقات؟ لقد جاء في الميقات‪ ،‬واللم تأتي بمعنى " عند "‪.‬‬
‫شمْسِ‬
‫لةَ ِلدُلُوكِ ال ّ‬
‫ونعلم أن " اللم " تأتي بمعنى " عند " كثيرا في القرآن‪ ،‬مثل قوله‪َ {:‬أقِمِ الصّ َ‬
‫سقِ الّ ْيلِ‪[} ...‬الِسراء‪]78 :‬‬
‫إِلَىا غَ َ‬
‫أي أقم الصلة عند دلوك الشمس أي عند زوالها عن وسط وكبد السماء إلى غسق الليل‪ .‬ومن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الدلوك إلى الغسق نجد صلة الفجر ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء‪ ،‬وهذه أربعة‬
‫فروض‪ ،‬وبقي الفرض الخامس وهو الفجر‪ ،‬وقال فيه الحق‪َ ... {:‬وقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ‬
‫شهُودا }[الِسراء‪]78 :‬‬
‫مَ ْ‬
‫ولماذا بدأ بدلوك الشمس؟ وهل النهار يبدأ بالظهر أو يبدأ بالصبح؟‪ .‬إن السراء والمعراج كانا‬
‫ليلً‪ ،‬ورسول ال جاء صباحا إلى مكة‪ ،‬وقد فرضت الصلة في المعراج‪ ،‬فكانت أول فريضة هي‬
‫الظهر‪ ،‬وكأن الحق يعني خذ الغاية وخذ البداية‪ ،‬وكانت البداية هي صلة الظهر والعصر‬
‫شهُودا }‪.‬‬
‫والمغرب والعشاء وبقي الفجر‪ ،‬وجاء فيه‪َ { :‬وقُرْآنَ ا ْلفَجْرِ إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ مَ ْ‬
‫ثم يخص ال رسوله بالتهجد وهو قيام الليل إنه فرض على رسول ال دون غيره‪ ،‬فإنه بالنسبة‬
‫حمُودا }[الِسراء‪:‬‬
‫لسائر المة تطوع‪َ {.‬ومِنَ الّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً ّلكَ عَسَىا أَن يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ مَقَاما مّ ْ‬
‫‪]79‬‬
‫ومن يتشبه برسول ال فله الثواب الجزيل والجر العظيم ولكن هذا المر مرجعه إلى اختيار‬
‫المسلم‪ { :‬وََلمّا جَآءَ مُوسَىا ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ رَبّهُ }‪.‬‬

‫وهذه المسألة تحتاج إلى بحث‪ ،‬وقوله سبحانه‪َ } :‬وكَلّمَهُ رَبّهُ { هو قول يدل على أن كلما حصل‬
‫من ال لموسى فكيف يحدث ذلك وسبحانه قد قال في مسألة الكلم بالنسبة للبشر كلما عاما‪َ {:‬ومَا‬
‫حيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ‪} ...‬‬
‫سلَ رَسُولً فَيُو ِ‬
‫كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإلّ َوحْيا َأوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ َأوْ يُرْ ِ‬
‫[الشورى‪]51 :‬‬
‫وفي هذا نفي أن يكلم ال البشر‪ .‬إل بالوسائل الثلث‪ :‬الوحي أو من وراء حجاب أو يرسل‬
‫رسولً‪ ،‬والوحي بالنسبة للنبياء يكون بإلقاء المعنى في قلب النبي دفعة‪ ،‬مع العلم اليقيني بأن ذلك‬
‫من ال عز وجل‪ ،‬وقد يراد بالوحي الِلهامات؛ مثل الوحي إلى أم موسى‪ ،‬والوحي إلى‬
‫الحواريين‪ ،‬وكذلك إلى الملئكة‪ ،‬وقد يراد بالوحي‪ :‬التسخير؛ كالوحي للرض‪ ،‬والنحل‪.‬‬
‫سلَ رَسُولً { هو‬
‫وبعد ذلك‪َ } ..‬أوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ { أي أن يسمع كلما ول يرى متكلما‪َ } ،‬أوْ يُرْ ِ‬
‫جبريل عليه السلم‪ .‬والقرآن لم ينزل إل بطريقة واحدة‪ ،‬بواسطة نزول جبريل على سيدنا رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬فما نزل القرآن بالِلهام‪ ،‬وما نزل القرآن من وراء حجاب بل نزل‬
‫بواسطة رسول من ال وهو جبريل وله علمات‪.‬‬
‫وهنا في كلم موسى نقول إن الكلم وقع فيه من وراء حجاب وهنا نمسك عن الخوض فيما وراء‬
‫ذلك لنه غيب لم يكشف لنا عنه ونترك المر فيه ال‪.‬‬
‫وقد سبق أن قلنا‪ :‬إن صفات ال ل يوجد مثلها في البشر‪ .‬فليس وجود الِنسان كوجود ال‪ ،‬وليس‬
‫غنى الِنسان كغنى ال‪ ،‬وكذلك لن يكون أبدا كلمك ككلم ال‪ ،‬لن كل شيء يخص ال إنما‬
‫شيْءٌ {‪ .‬وقد بين الحق سبحانه وتعالى أن كلمه لموسى تميز‬
‫نأخذه في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لمِي‪[} ...‬العراف‪]144 :‬‬
‫طفَيْ ُتكَ عَلَى النّاسِ بِ ِرسَالَتِي وَ ِبكَ َ‬
‫لموسى‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪ {:‬إِنّي اصْ َ‬
‫ويجب أن نأخذ كل وصف يوجد في البشر‪ ،‬ويوجد مثله‪ .‬في وصف ال مثل " استوى " ‪ ،‬و "‬
‫شيْءٌ {‪ } .‬وََلمّا جَآءَ مُوسَىا‬
‫جلس " و " وجه " ‪ ،‬و " يد " نأخذ كل ذلك في إطار } لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ رَبّهُ قَالَ َربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ‪[ { ...‬العراف‪]143 :‬‬
‫وحينما خص ال موسى بميزة أن تكلم إليه‪ ،‬حصل من موسى استشراق اصطفائي‪ ،‬وكأنه قال‬
‫لنفسه‪ :‬مادام قد كلمني فقد أقدر أن أراه؛ لن استطابة النس تمد للنفس سبل المل في المتداد في‬
‫الشياء مثلما قال موسى من قبل ردا على سؤال ال‪َ {:‬ومَا تِ ْلكَ بِ َيمِي ِنكَ يامُوسَىا }[طه‪]17 :‬‬
‫عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا‬
‫كان الجواب يكفي أن يقول‪ " :‬عصا " لكنه قال‪ {:‬قَالَ ِهيَ َ‬
‫غَ َنمِي‪[} ...‬طه‪]18 :‬‬
‫قال ذلك على الرغم من أن الحق لم يسأله‪ :‬ما تفعل بها؟ وأراد بالكلم أن يطيل النس بربه‪،‬‬
‫وكأنه عرف أنه من غير اللئق أن يكون الجواب مجرد كلمة ردا على سؤال‪.‬‬

‫ول المثل العلى ‪ -‬نجد الِنسان منا حين يرى طفلً صغيرا فهو يداعبه ويطيل الكلم معه إيناسا‬
‫له‪ .‬وحين وجد موسى أن ال يكلمه استشرفت نفسه أن يراه‪ } :‬وََلمّا جَآءَ مُوسَىا ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ‬
‫رَبّهُ قَالَ َربّ أَرِنِي أَنظُرْ ِإلَ ْيكَ {‪.‬‬
‫لم يقل موسى‪ :‬أرني ذاتك‪ .‬بل قال‪ } :‬أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ { كأنه يعلم أنه بطبيعة تكوينه يعرف أنه ل‬
‫يمكن أن يرى ال‪ ،‬لكن إن أراه ال‪ ،‬فهذا أمر بمشيئة الحق‪ ,‬وقدم موسى الطلب معلقا بمشيئة ال‬
‫وإرادته؛ لنه يعلم أنه غير معد لستقبال رؤية ال؛ لن تكوينه ل يقوى على ذلك‪ ،‬وحتى في‬
‫الوحي والكلم لم يكلم ربنا الناس مباشرة‪ ،‬بل لبد أن يصطفى من الملئكة رسلً‪ ،‬ثم تكون‬
‫مرحلة ثانية أن يصطفى من البشر رسلً‪ ،‬ويبلغ الرسل الناس كلم ال؛ لن الصفات الكمالية‬
‫العليا الخالقة ل يمكن أن يستوعبها المخلوق‪.‬‬
‫ضربنا المثل من قبل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬بصناعات البشر‪ ،‬وأن الِنسان حين ينام ليلً‪ ،‬قد‬
‫يستيقظ لي شيء‪ ،‬فإذا كانت الدنيا ظلما قد يحطم الشياء التي هي أقل منه أو تحطمه الشياء‬
‫التي هي أكثر صلبه منه؛ وإن اصطدم بشيء صغير فقد يكسره‪ ،‬وإن اصطدم بدولب أو حائط‬
‫فقد ينكسر الِنسان‪ .‬ولذلك ترك الِنسان في البيت شيئا من النور الضئيل؛ ليستفيد من سكون الليل‬
‫وظلمته‪ ،‬فيضع ما نسميه " الوناسة " قوة شمعتين أو خمس شمعات‪ ،‬ول يقدر أن يركبها على قوة‬
‫التيار الموجود في المنزل؛ لنها تفسد فورا‪ ،‬لذلك يأتي لها بمحول يأخذ من القوي ويعطي‬
‫الضعيف‪.‬‬
‫إذن إذا كانت صناعة البشر نجد فيها الضعيف الذي ل يأخذ من القوي إل بواسطة‪ ،‬فمن باب‬
‫أولى أنه ل يمكن أن يتلقى خلق ال عن ال إل بواسطة‪ .‬وكانت الواسطة من البشر اصطفاء ومن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الملئكة اصطفاء‪ ،‬فليس كل ذلك صالحا لهذه المسألة‪ ،‬فمصطفى من الملئكة يعطي مصطفى من‬
‫البشر‪.‬‬
‫وبعد ذلك يعطي المصطفى من البشر للبشر‪ .‬كذلك الرؤية وسيظهر ذلك لنا حينما يعطي ال‬
‫الدليل على أنه خلقكم ل على هيئة أن تروه الن‪ ،‬ولكن حين تبرزون في الخرة وتعدون إعدادا‬
‫آخر‪ ،‬فمن الممكن أن تنالوا شرف رؤيته‪ُ } :‬وجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إِلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ {‪.‬‬
‫ول يستوي الناس في ذلك؛ لن المؤمن هو من ينال شرف النظر إلى ال‪ ،‬أما الكافر فهو محجوب‬
‫عن رؤية الحق‪ .‬يقول تعالى في شأن الكفار‪ } :‬كَلّ إِ ّن ُهمْ عَن رّ ّبهِمْ َي ْومَئِذٍ ّل َمحْجُوبُونَ { فل يستوي‬
‫المؤمن والكافر في هذه الحالة‪ ،‬فمادام الكافر محجوبا فالمؤمن غير محجوب ويرى ربّه‪ .‬وقال‬
‫موسى‪َ } :‬ربّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَ ْيكَ {‪.‬‬

‫قال الحق‪ } :‬قَالَ لَن تَرَانِي {‪.‬‬


‫وفي اللغة نجد أن " لن " تأتي تأبيدية‪ ،‬أي تؤبد المستقبل أي ل يحدث ول يتحقق ما بعدها‪ .‬فهل‬
‫معنى ذلك أن قول الحق‪ } :‬لَن تَرَانِي { أن موسى لن يرى ال في الدنيا ول في الخرة؟‪ .‬ونقول‪:‬‬
‫ل الَ ْرضُ‬
‫ومن قال إن زمن الخرة هو زمن الدنيا؟ إن هذه لها زمن وتلك لها زمن آخر‪َ {:‬يوْمَ تُبَ ّد ُ‬
‫ت وَبَرَزُواْ للّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[إبراهيم‪]48 :‬‬
‫سمَاوَا ُ‬
‫غَيْ َر الَ ْرضِ وَال ّ‬
‫إذن فزمن الخرة وإعادة الخلق فيها سيكون أمرا آخر‪ ،‬يكفي أن أهل الجنة سيأكلون ولن تكون‬
‫لهم فضلت‪ ،‬إنه خلق جديد‪ .‬إن مجيء " لن " في قوله الحق‪ } :‬لَن تَرَانِي { تأبيدها إضافي‪ ،‬أي‬
‫بالنسبة للدنيا‪ ،‬وفيها تعليل لعدم قدرة موسى على الرؤية‪ ،‬وأضاف سبحانه‪ } :‬وَلَـاكِنِ ا ْنظُرْ إِلَى‬
‫صعِقا‪...‬‬
‫جعَلَهُ َدكّا وَخَرّ موسَىا َ‬
‫س ْوفَ تَرَانِي فََلمّا َتجَلّىا رَبّهُ لِ ْلجَ َبلِ َ‬
‫الْجَ َبلِ فَإِنِ اسْ َتقَرّ َمكَانَهُ فَ َ‬
‫{ [العراف‪]143 :‬‬
‫وسبحانه هنا يعلل لموسى بعملية واقعية فأوضح‪ :‬لن تراني ولكن حتى أطمئنك أنك مخلوق‬
‫بصورة ل تمكنك من رؤيتي انظر إلى الجبل‪ ،‬والجبل مفروض فيه الصلبة‪ ،‬والقوة‪ ،‬والثبات‪،‬‬
‫والتماسك؛ فإن استقر مكانه‪ ،‬يمكنك أن تراني‪ .‬إن الجبل بحكم الواقع‪ ،‬وبحكم العقل‪ ،‬وبحكم‬
‫المنطق أقوى من الِنسان‪ ،‬وأصلب منه وأشد‪ ،‬ولما تجلّى ربه للجبل اندك‪ .‬والدكّ هو الضغط‬
‫ت الَ ْرضُ َدكّا َدكّا }‬
‫على شيء من أعلى ليسوّي بشيء أسفل منه‪ .‬والحق هو القائل‪ {:‬كَلّ ِإذَا ُد ّك ِ‬
‫[الفجر‪]21 :‬‬
‫وهنا في موقف موسى وحواره مع ال يتأكد لنا أن ال تجلى على خلق من خلقه‪ ،‬ولكن أيقدر‬
‫المتجلَّي عليه على هذا التجلي أم ل يقدر؟‪ .‬إن أقدره ال فهو يقدر‪ ،‬أما إن لم يقدره ال فلن يقدر‪.‬‬
‫والجبل هو الصلب‪ ،‬فلما تجلى له ربه اندك‪ ،‬إذن فمن الممكن أن يتجلى ال على بعض خلقه‪،‬‬
‫ولكن المهم أيقوى المستقبل للتجلي أو ل يقوى؟ ولم تقو طبيعة موسى على التجلي ل بدليل أن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫القوى منه لم يقو‪ .‬وبعد ذلك أراد ال أن يلفتنا لفتة تصاعدية‪ .‬ويبين لنا أن موسى قد صعق‬
‫جعَلَهُ َدكّا وَخَرّ موسَىا‬
‫لرؤية المتجلّى عليه فكيف لو رأى المتجلّي؟!! } فََلمّا َتجَلّىا رَبّهُ لِ ْلجَ َبلِ َ‬
‫صعِقا {‪ .‬ويقال‪ :‬خر الشيء إذا سقط من أعلى إلى أسفل‪ ،‬ويقول الحق في آية قرآنية‪ {:‬وَظَنّ‬
‫َ‬
‫دَاوُودُ أَ ّنمَا فَتَنّاهُ فَاسْ َت ْغفَرَ رَبّ ُه َوخَرّ رَاكِعا‪[} ...‬ص‪]24 :‬‬
‫صعِقا { ‪ ،‬وصعقه تُطلق ويراد بها الوفاة‪ ،‬ولكن هنا صعقة‬
‫والحق يخبرنا هنا‪ } :‬وَخَرّ موسَىا َ‬
‫صعِقَ مَن فِي‬
‫أخرى تعبر عن الِغماءة الطويلة‪ .‬وصعقة الوفاة يقول فيها الحق سبحانه‪َ ... {:‬ف َ‬
‫سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ ِإلّ مَن شَآءَ اللّهُ ثُمّ ُنفِخَ فِيهِ أُخْرَىا فَِإذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ }[الزمر‪]68 :‬‬
‫ال ّ‬
‫إذن النفخة الولى لصعق وموت الجميع‪ ،‬ثم تأتي النفخة الثانية للبعث‪ .‬وهنا يقول الحق‪ } :‬فََلمّآ‬
‫َأفَاقَ قَالَ سُ ْبحَا َنكَ تُ ْبتُ إِلَ ْيكَ {‪.‬‬

‫وهذا يدل على أن الصعقة ليست هي الصعقة المميتة‪ ،‬وأفاق سيدنا موسى من الصعقة‪ ،‬وانتبه إلى‬
‫أنه لم يكن من اللئق أن يطلب الرؤية المباشرة ل‪ .‬وكما نقول‪ " :‬فلن فاق لنفسه " وهنا " أفاق "‬
‫موسى على حاجتبن اثنتين‪ ،‬أفاق من الغشية التي حصلت له من الصعقة‪ ،‬وكأنّه تساءل‪ :‬لماذا‬
‫انصعقت؟ لقد انصعق لنه سأل ربنا ما ليس له به علم‪ } :‬فََلمّآ َأفَاقَ قَالَ سُبْحَا َنكَ { ‪ ،‬وساعة تسمع‬
‫كلمة " سبحانك " اعرف أنّه يراد بها التنزيه ل من الحدث الذي نحن بصدده وهو رؤيته ‪ -‬تعالى‬
‫‪ -‬أي تنزيها لك يا رب أن يراك مخلوقك؛ لن الرؤية قدرة بصر على مرئي‪ ،‬ومعنى‪ " :‬رأيت‬
‫الشيء " أي أن عين البشر قد قدرت على الشيء‪ ،‬ولو أننا نحن المخلوقين رأينا ال بقانون‬
‫الضوء‪ ،‬فهذا يعني أن أبصارنا تقدر على ربنا وهذا ل يمكن أبدا؛ لن المقدور ل ينقلب قادرا‪،‬‬
‫ك وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْل ُمؤْمِنِينَ { [العراف‪:‬‬
‫والقادر ل ينقلب مقدورا‪ ...} .‬فََلمّآ َأفَاقَ قَالَ سُ ْبحَا َنكَ تُ ْبتُ إِلَ ْي َ‬
‫‪]143‬‬
‫وتوبة موسى هنا من أنه سأل ال ما ليس له به علم‪ ،‬ولنه لم يقف عند التجليات المخالفة لنواميس‬
‫الكون‪ ،‬وأنّ ربنا فقد أعطاه بدون أن يسأل‪ ،‬لقد كلمه ال‪ ،‬فلماذا يُصعد المسألة ويطلب الرؤية؟‬
‫ولماذا لم يترك المور للفيوضات التي يعطيها ال له ويتنعم بفيض جود ل ببذل مجهود؟‪.‬‬
‫ويقرر موسى ويقول‪ } :‬وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { ‪ ،‬أي بأنّ ذاتك ‪ -‬سبحانك ‪ -‬ل يقدر مخلوق أن‬
‫يراها ويدركها‪ .‬لقد شعر موسى ببعض من انكسار الخاطر لنه طمح إلى ما يفوق استطاعته‬
‫ك وَأَنَاْ َأ ّولُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { وكأنه قد فهم ما أوضحه الحق له‪ :‬ل تلتفت إلى ما‬
‫وقال‪ } :‬سُبْحَا َنكَ تُ ْبتُ إِلَ ْي َ‬
‫منعتك‪ ،‬ولكن انظر إلى ما أعطيتك‪ } :‬قَالَ يامُوسَىا إِنّي‪{ ...‬‬

‫(‪)1085 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ك َوكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ (‬
‫طفَيْ ُتكَ عَلَى النّاسِ بِ ِرسَالَاتِي وَ ِبكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْ ُت َ‬
‫قَالَ يَا مُوسَى إِنّي اصْ َ‬
‫‪)144‬‬

‫طفَيْ ُتكَ عَلَى النّاسِ } تعبير فيه دقة الداء لنه لو‬
‫والصطفاء هو استخلص الصفوة‪ ،‬وقوله‪ { :‬اصْ َ‬
‫قال اصطفيتك فقط‪ ،‬ولم يقل على الناس‪ ،‬فقد يُفهم الصطفاء على الملئكة أيضا‪ .‬ولكن الصطفاء‬
‫لمِي }‪ .‬ولقائل‬
‫طفَيْ ُتكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالَتِي وَ ِبكَ َ‬
‫صَ‬‫هنا محدد في دائرة الصطفاء البشري‪ { :‬إِنّي ا ْ‬
‫طفَىا ءَادَمَ‬
‫صَ‬‫أن يقول‪ :‬إن الحق اصطفى غيره أيضا من الرسل‪ ،‬والحق هو القائل‪ {:‬إِنّ اللّهَ ا ْ‬
‫وَنُوحا‪[} ...‬آل عمران‪]33 :‬‬
‫ونقول‪ :‬هناك فرق بين اصطفاء رسالة منفردة‪ ،‬وبين اصطفاء في رسالة ومعها شيء زائد‪،‬‬
‫وأضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬فإذا جئت كمدرس لتلميذ وأعطيت واحدا منهم هدية‬
‫عبارة عن قلم كمكافأة‪ ،‬ثم أعطيت الثاني قلما وزجاجة حبر‪ ،‬أنت بذلك اصطفيت التلميذ الول‬
‫بهدية القلم‪ ،‬واصطفيت الخر باجتماع قلم وزجاجة حبر في هدية واحدة‪ .‬والصطفاء هنا لموسى‬
‫طفَيْتُكَ عَلَى النّاسِ‬
‫صَ‬‫بالرسالة كما اصطفى غيره من الرسل بالضافة إلى شرف الكلم‪ { :‬ا ْ‬
‫لمِي }‪.‬‬
‫بِرِسَالَتِي وَ ِبكَ َ‬
‫وعرفنا من قبل أن " رسالتي " هي في مجموعها رسالة واحدة‪ ،‬ولكن الرسالة مع سيدنا رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم استمرت جزئياتها ثلثا وعشرين سنة في النزول‪ ،‬فكأن كل نجم رسالة‪،‬‬
‫أو كل باب من أبواب الخير رسالة‪ ،‬فهي رسالت متعددة‪ ،‬أو أن رسالته جمعت رسالت‬
‫ك َوكُنْ مّنَ‬
‫طفَيْ ُتكَ عَلَى النّاسِ بِرِسَالَتِي وَ ِبكَلَمِي فَخُذْ مَآ آتَيْ ُت َ‬
‫السابقين‪ { :‬قَالَ يامُوسَىا إِنّي اصْ َ‬
‫الشّاكِرِينَ } [العراف‪]144 :‬‬
‫أي ل تنظر إلى ما منعتك‪ ،‬بل اذكر أني اصطفيتك وكلمتك وعليك أن تشكر لي هذا‪ .‬ولذلك يجب‬
‫على الِنسان المؤمن حين يتلقى قضاء ال فيه أن ينظر دائما إلى ما بقي له من النعم‪ .‬ل إلى ما‬
‫سلب عنه من النعم‪ .‬ولذلك نجد المؤمن المتفاءل ينظر إلى الكوب الذي نصفه مملوء بالماء فيقول‪:‬‬
‫ل منهما‬
‫الحمد ل نصف الكوب ملن‪ .‬أما المتشائم فيقول‪ :‬إن نصف الكوب فارغ‪ ،‬وبرغم أن كُ ّ‬
‫يقرر الحقيقة إل أن المؤمن المتفائل نظر إلى ما بقي من نعم ال‪.‬‬
‫إننا نجد ابن جعفر حين ذهب للخليفة الموي في دمشق وجرحت رجله في أثناء السير من المدينة‬
‫إلى دمشق‪ ،‬ولم تكن هناك عناية طبية فتقيحت‪ ،‬وحين أحضروا له الطباء وقرروا قطع رجله‪،‬‬
‫قال بعض الحاضرين‪ :‬التمسوا له مرقدا أي دواء تخدير يجعله ل يحس باللم‪ ،‬فقال‪ :‬ل‪ ،‬فإني ل‬
‫أريد أن أغفل عن ربي لحظة عين‪ ،‬فلما قطعوها أخذوها ليدفنوها‪ ،‬فقال هاتوها‪ .‬فأحضروها له‬
‫وأمسك بها وقال‪ :‬اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو فقد عافيت في أعضاء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه نظرة المؤمن الذي ل ينظر إلى ما أُخذ منه بل ينظر إلى ما بقي له‪ .‬وكذلك كان توجيه الحق‬
‫لموسى عليه السلم‪ ،‬فقد أوضح له‪ :‬ل تنظر إلى أني منعتك الرؤية‪ ،‬ل‪ ،‬بل انظر الصطفاء‬
‫وشرف الكلمة إلى الخالق واشكر ذلك‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ { :‬وكَتَبْنَا لَهُ فِي الَ ْلوَاحِ‪} ...‬‬

‫(‪)1086 /‬‬

‫خذْهَا ِب ُق ّوةٍ وَ ْأمُرْ َق ْو َمكَ يَ ْأخُذُوا‬


‫شيْءٍ فَ ُ‬
‫شيْءٍ َموْعِظَ ًة وَ َت ْفصِيلًا ِل ُكلّ َ‬
‫َوكَتَبْنَا َلهُ فِي الْأَ ْلوَاحِ مِنْ ُكلّ َ‬
‫سقِينَ (‪)145‬‬
‫حسَ ِنهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ ا ْلفَا ِ‬
‫بِأَ ْ‬

‫والكتْب هو الرقم بقلم على ما يكتب عليه من ورق أو جلد أو عظم أو أي شيء‪ ،‬وعندما يقول‬
‫ربنا‪َ { :‬وكَتَبْنَا } فال لم يزاول الكتابة بنفسه‪ ،‬ولكن أرسله من الملئكة يكتبون بأمر من الحق وهو‬
‫القائل‪ {:‬إِنّا نَحْنُ ُنحْيِي ا ْل َموْتَىا وَ َنكْ ُتبُ مَاَ قَ ّدمُواْ‪[} ...‬يس‪]12 :‬‬
‫وكتابة الرسل من الملئكة لعمالنا هي بالمر من ال‪ ،‬ومرة ينسب المر إلى العلى‪ ،‬أو ينسب‬
‫ظ ًة وَ َتفْصِيلً }‪.‬‬
‫شيْءٍ ّموْعِ َ‬
‫إلى المباشر أو إلى الواسطة‪َ { :‬وكَتَبْنَا َلهُ فِي الَ ْلوَاحِ مِن ُكلّ َ‬
‫ونحن نعرف اللواح‪ ،‬وكنا نكتب عليها قديما‪ .‬وللكتابة على اللواح سبب‪ ،‬فقديما كانوا يكتبون‬
‫على أي شيء مبسوط‪ ،‬وتبين لنا الثار أن هناك كتبا مكتوبة على جلود الحيوانات‪ ،‬مثلً نجد‬
‫قدماء المصريين قد كتبوا على الحجار‪ ،‬مثل حجر رشيد الذي أتاح لنا معرفة تاريخهم‪ .‬وكان‬
‫العرب يكتبون على القحف المأخوذ من النخل‪ ،‬وكذلك كتبوا على عظام الذبائح‪ ،‬أخذوا منها قطعة‬
‫العظم المبسوطة مثل عظم اللوح وكتبوا عليها‪ ،‬وكانت هذه الوسيلة مشهورة جدّا لديهم‪ ،‬وصار‬
‫شيْءٍ‪[ } ...‬العراف‪]145 :‬‬
‫كل مكتوب يسمونه لوحا‪َ { .‬وكَتَبْنَا لَهُ فِي الَ ْلوَاحِ مِن ُكلّ َ‬
‫شيْءٍ } يعني‪ :‬من كل شيء تتطلبه خلفة الِنسان في الرض في الوقت‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬مِن ُكلّ َ‬
‫المناسب له؛ فالرسل تأتي بعقيدة‪ ،‬لكن قد يأتي تشريع مناسب للفترة الزمنية التي جاء فيها‬
‫الرسول‪ ،‬ويضيف ال لرسول آخر يأتي من بعده‪ ،‬إلى أن جاء محمد صلى ال عليه وسلم بالمنهج‬
‫المكتمل إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫لقد أوضح سبحانه أنه كتب في اللواح الموعظة والتفصيل لمنهج الحياة‪ ،‬والموعظة تعني ألّ‬
‫تنشئ حكما للسامع‪ ،‬بل تعظه بتنفيذ ما عُلِم له من قبل‪ ،‬ولذلك يقال‪ :‬واعظ وهو الذي ل يُنشئ‬
‫مسائل جديدة‪ .‬بل يعرف أن المستمع يعلم أركان الدين ويعظه بما يعلم‪.‬‬
‫خذْهَا ِب ُق ّوةٍ } أي أن الكلم لم يأت مجملً‪ ،‬بل يأتي‬
‫شيْءٍ فَ ُ‬
‫وقوله الحق سبحانه‪ { :‬وَتَ ْفصِيلً ّل ُكلّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالتفصيل‪ ،‬ويأمر الحق موسى أن يقبل على الموعظة والتفصيلت التي في اللواح بقوة‪ .‬ولماذا‬
‫جاء المر هنا بأن يأخذها بقوة؟ لن الِنسان حين يؤمر أمرا قد يكون المر مخالفا لرتابة ما‬
‫ألف‪ ،‬وحين يُنهي نهيا قد يكون هذا النهي مخالفا لرتابة ما ألف‪ .‬وبذلك ينزع هذا النهي أو ذلك‬
‫المر الِنسان مما ألف‪ ،‬ويأخذه ويخرجه عما اعتاد‪.‬‬
‫إن الِنسان في هذه الحالة يحتاج إلى قوة نفس تتغلب على الشهوة الرتيبة التي تخلقها العادة‪،‬‬
‫ولذلك فمن يريد أن يقبل على منهج ال فعليه أن يعرف أن المنهج سوف يخرجه مما ألف‪ ،‬ولبد‬
‫أن يقبل على المنهج بقوة وعزم ليواجه إلف النفس‪ ،‬لن إلف النفس قد يقول للِنسان‪ :‬ل تفعل‪،‬‬
‫والمنهج يقول له‪ " :‬افعل " وعلى المؤمن ‪ -‬إذن ‪ -‬أن يأخذ التكاليف بقوة‪ ،‬لن شهوات النفس‬
‫تحقق متع الدنيا الزائلة‪ ،‬والمنهج يعطي متعة طويلة الجل‪.‬‬

‫إن الشهوة قد تحقق للِنسان لذة على مقدار قدرته واستعداده‪ ،‬لكن التكليف يعطي للمؤمن نفعا‬
‫يتناسب مع طلقة قدرة ال في النفع‪ .‬إذن لبد أن تشحن نفسك بما يعطيه ال لك من المنهج‪،‬‬
‫وإياك ساعة أن ترى المنهج مطالبا لك ببعض من الجهد أن تقول‪ :‬إن تلك أمور صعبة لنك لست‬
‫وحدك في المنهج‪ ،‬بل معك غيرك‪ .‬فإذا قال لك‪ :‬ل تسرق‪ ،‬إياك أن تقول‪ :‬أيحدد المنهج حريتي؟‬
‫ل‪ ،‬ل تنظر إلى أن حظر وتحريم السرقة هو تحديد لحريتك بل هو صيانة لك من أن يعتدي عليك‬
‫آخرون؛ فقد قال المنهج للناس كلهم ل تسرقوا منه وأنت الكاسب في هذه الحالة‪ .‬ويتابع الحق بيان‬
‫ما في اللواح من قيم فيقول سبحانه‪ } :‬وَ ْأمُرْ َق ْو َمكَ يَ ْأخُذُواْ بَِأحْسَ ِنهَا {‪.‬‬
‫" أحسن " تفيد أن هناك مرتبة أقل منها وهي " حسن "؛ فأمرهم الحق أن يتركوا الحسن ويأخذوا‬
‫بالحسن‪ ،‬ونعلم أن الِنسان من الغيار‪ ،‬إذا ما أصابته مصيبة من أحد يعتبره غريما له‪ ،‬فإذا ما‬
‫كان للِنسان غريم تحركت نوازع نفسه إلى عقابه بمثل ما أصابه به‪ .‬وهذا ما يبيحه ال في‬
‫القصاص‪ ،‬ولكن ال يطلب من المؤمن إن قدر على نفسه أن يعفو‪ ،‬إذن فالعقوبة بالقصاص أو‬
‫بغيره مادامت مشروعة من ال بمثل ما عوقبت فهذه مرتبة الحسن‪ ،‬لكن إذا تركت نوازع نفسك‬
‫وعفوت فهذه مرتبة " الحسن " ‪ ،‬وجاءت هذه الترقيات لن الحق سبحانه وتعالى خلق في‬
‫الِنسان عواطف وغرائز‪ ،‬وللعواطف والغرائز مهمة في حركة الحياة‪ ،‬ولكن العواطف ل يمكن‬
‫أن يسيطر عليها الِنسان‪ ،‬ولذلك ل يقنن ال للعاطفة ولكنه سبحانه يقنن للغرائز‪ .‬كيف؟‪.‬‬
‫نحن نعلم أن " حب الطعام " غريزة‪ ،‬ولكن يجب أل يصل حب الطعام إلى مرتبة النهم والشره‪.‬‬
‫وأيضا " بقاء النوع " أو المتعة الجنسية أوجدها الحق من أجل بقاء النوع‪ .‬لكن ل يصح أن تتحول‬
‫إلى درجة الشرود والوقوع في أعراض الناس وانتهاك حرماتهم‪ ،‬وحب الستطلع غريزة‪،‬‬
‫والذين اكتشفوا الكشوف العلمية جاءت أعمالهم من حب استطلعهم على أسرار الوجود‪ .‬لكن ل‬
‫يصح ول ينبغي أن يصل حب الستطلع إلى التجسس الستذللي‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن للِنسان غرائز يعليها الشرع؛ أمّا الحب فهو مسألة عاطفية‪ .‬فالمشرع‪ ،‬يقول لك‪ :‬أحبب من‬
‫شئت وأبغض من شئت‪ ،‬ولكن ل تظلم من أبغضته ول تظلم الناس لحساب من أحببت‪.‬‬
‫ولنا في رسول ال أسوة حسنة حين قال‪:‬‬
‫" ل يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين "‪.‬‬
‫فقال عمر‪ :‬كيف؟‪.‬‬
‫وكررها رسول ال فعلم عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬بفطرته أن ذلك أمر تكليفي‪.‬‬

‫وعرف أن الحب المراد هو الحب العقلي‪ .‬فيقول المؤمن لنفسه‪ :‬من أنا لول رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم؟‪ .‬وكل مؤمن يحب رسول ال حبّا عقليّا‪ ،‬وقد يتسامى إلى أن يصير حبّا عاطفيّا‪.‬‬
‫والِنسان منا ‪ -‬كما قلنا سابقا ‪ -‬يحب الدواء بعقله ل بعاطفته لنه مُرّ‪ ،‬ولكنه يغضب إن اختفى‬
‫الدواء من السواق ويفرح بمن يأتي له به‪.‬‬
‫إذن التكليف يتطلب الحب العقلي‪ .‬ومن أخبار سيدنا عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬عندما‬
‫مرّ أمامه قاتل أخيه زيد بن الخطاب فقال له عمر‪ :‬ازو نفسك عني فأنا ل أحبك‪ ،‬فرد الرجل بكل‬
‫جرأة إيمانية‪ :‬أو عدم حبك لي يمنعني حقّا من حقوقي؟‪ .‬قال عمر‪ :‬ل‪ ،‬قال الرجل‪ :‬إنما يبكي على‬
‫الحب النساء‪.‬‬
‫خذُواْ بَِأحْسَ ِنهَا { فمثلً‪ ،‬حين ُيقْ َتلُ إنسان فلولي الدم أن يقتص‪ ،‬لكن الحق‬
‫والحق يقول هنا‪ } :‬يَأْ ُ‬
‫شيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِا ْل َمعْرُوفِ‪[} ...‬البقرة‪:‬‬
‫ع ِفيَ لَهُ مِنْ َأخِيهِ َ‬
‫يحنن قلب ولي الدم على القاتل فيقول‪َ {:‬فمَنْ ُ‬
‫‪]178‬‬
‫وحين يسمى الحق القاتل أخا فهو يهدئ من صراع العواطف ويخفف من رغبة النتقام‪ .‬ويقول‬
‫لمُورِ }[الشورى‪]43 :‬‬
‫غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْز ِم ا ُ‬
‫سبحانه أيضا‪ {:‬وََلمَن صَبَ َر وَ َ‬
‫ونجده سبحانه يؤكد أن مثل هذا المر من " عزم المور " لنه أمر يتطلب الصبر والمغفرة‪.‬‬
‫ومادام المؤمن قد استطاع أن يصبر وأن يغفر لغريم له‪ ،‬أفل يصبر إذا نزلت مصيبة عليه بدون‬
‫غريم كمرض مفاجئ أو افتقاد حبيب؟‪ .‬من إذن غريمك في المرض؟ وممن تغضب‪ ،‬وعلى من‬
‫تهيج وإلى أين انفعالك؟ ولذلك يقول لك الحق سبحانه‪ } :‬وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ { أي مما ل‬
‫لمُورِ {‪ .‬ونلحظ أن الحق هنا لم يؤكد "‬
‫غريم لك فيه‪ ،‬ويوضح لك سبحانه‪ } :‬إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم ا ُ‬
‫باللم " لكنه أكد الخرى " باللم "؛ لن لك غريما يهيجك ساعة أن تراه‪ ،‬وفي الية التي نحن‬
‫حسَ ِنهَا {‪.‬‬
‫خذُواْ بِأَ ْ‬
‫بصدد خواطرنا عنها يقول الحق لسيدنا موسى‪ } :‬وَ ْأمُرْ َقوْ َمكَ يَأْ ُ‬
‫يعني إذا وجدت لهم ذريعة ووسيلة وسببا إلى شيء ويوجد ما هو أحسن فأمرهم أن يأخذوا‬
‫بالحسن‪ ،‬لماذا؟؛ لن الِنسان إذا روّض نفسه وذللها وعودها على الحسن يكون قد فهم عن ال‪.‬‬
‫ونفرض أن واحدا أساء إليك ويمكنك أن تسيء إليه‪ ،‬فعليك أن تراعي في ردك للِساءة أن تكون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بقدرها مصداقا لقوله الحق سبحانه‪َ {:‬فعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ ِبهِ‪[} ...‬النحل‪]126 :‬‬
‫ولكن منَ منا يتصف بالدقة في الموازين النفسية حتى يستطيع أن يعرف المثلية بالهوى؟ فإن كان‬
‫هناك من صفعك وتريد أن ترد الصفعة‪ ،‬فمن أين لك أن تقدر حجم اللم الذي في صفعتك له؟‪ .‬ل‬
‫يمكن لك أن تحدد هذا القدر من اللم؛ لن هذه مسألة تتناسب مع القوة‪.‬‬

‫إذن لماذا تدخل نفسك في متاهات‪ ،‬ولماذا ل تعفو وينتهي المر؟‬


‫وحين يدلك الحق على أن العفو أحسن‪ ،‬إنما يريد بذلك أن ينهي شراسة النفوس وضغن الصدور‪.‬‬
‫فحين يقتل إنسانٌ إنسانا آخرَ؛ سيكون هناك قصاص ودم‪ ،‬ولكن إذا عفا وليّ الدم تكون حياة‬
‫المعفو عنه هبة من وليّ الدم فيستحي القاتل ‪ -‬بعد ذلك ‪ -‬أن يجعل أية حركة من حركات هذه‬
‫الحياة ضد وليّ الدم أو من ينسب إلى وليّ الدم‪ ،‬وحينذاك تنتهي أي ضغينة أو رغبة في الثأر‪،‬‬
‫ولذلك نجد البلد التي تحدث فيها الثأرات وتستشري فيها عادة الخذ بالثأر ‪ -‬مثل صعيد مصر ‪-‬‬
‫نجد القاتل إذا ما أخذ كفنه على يده ودخل على وليّ الدم وقال له‪ :‬أنا جئت إليك‪ ..‬يعفو عنه وليّ‬
‫الدم وتفهم العائلة كلها أن حياة المطلوب للثأر صارت هبة من وليّ الدم‪ ،‬وتصفى الثأرات‬
‫حسَ ِنهَا {‪ .‬ومثال آخر‬
‫وتنتهي‪ .‬ولذلك جاء المر من الحق بالخذ بالحسن‪ } :‬وَ ْأمُرْ َق ْومَكَ يَ ْأخُذُواْ بِأَ ْ‬
‫على الخذ بالحسن‪ ،‬قد نجد مدينا غير قادر أن يوفي الدين‪ ،‬هنا نجد الحق يقول‪ {:‬فَنَظِ َرةٌ ِإلَىا‬
‫مَيْسَ َرةٍ‪[} ...‬البقرة‪]280 :‬‬
‫اقترض الرجل لنه محتاج؛ لن القرض ل يكون إل عن حاجة‪ ،‬وهو عكس السؤال الذي يكون‬
‫عن حاجة أو عن غير حاجة‪ ،‬ولهذا نجد ثواب القرض أكثر من ثواب الصدقة؛ لن المقترض ل‬
‫يقترض إل عن حاجة‪ ،‬ولن المتصدق حين يتصدق بشيء من ماله يكون قد أخرج هذا المال من‬
‫نفسه ولم يعد يتعلق به‪ .‬لكن القرض تتعلق به النفس‪ ،‬فكلما صبر المقرِض مع تعلق نفسه بماله‬
‫أخذ أجرا‪ ،‬وهكذا يكون القرض أحسن من الصدقة‪.‬‬
‫إذن فهناك حَسَن وهناك أحسن‪ ،‬الحَسَن هو أن تأخذ حقك المشروع‪ ،‬والحسن أن تتنازل عنه‪،‬‬
‫ومن يتنازلون هم الفاهمون عن ال فهما واسعا‪ ،‬ولنا المثل والسوة في سيدنا الحسن البصري ‪-‬‬
‫رضي ال عنه ‪ -‬الذي أحسن لمن أساء إليه فقال كلمته‪ " :‬أل نحسن إلى من جعل ال في جانبنا‬
‫"‪ .‬ودائما أضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬هب أن إنسانا عنده أولد وأساء واحد منهم‬
‫للخر‪ .‬نجد قلب الب يكون مع من أُسي إليه‪ ،‬وكذلك المر فينا نحن خلق ال‪ .‬إن أساء واحد من‬
‫خلق ال إلى واحد آخر من خلق ال؛ نجد رب الخلق مع من أُسيء إليه‪ ،‬وعلى من أسيء إليه أن‬
‫يقول‪ :‬هذا الِنسان الذي أساء إلي قد جعل ربنا في جانبي ولذلك فهو يستحق أن أحسن إليه‪ .‬ولهذا‬
‫حسَنَهُ }[الزمر‪]18 :‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪ {:‬الّذِينَ َيسْ َت ِمعُونَ ا ْل َق ْولَ فَيَـتّ ِبعُونَ أَ ْ‬
‫وفي آية ثانية يقول الحق‪ {:‬وَاتّ ِبعُـواْ أَحْسَنَ مَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيكُم مّن رّ ّبكُـمْ‪[} ...‬الزمر‪]55 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سقِينَ {‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله‪ } :‬سَُأوْرِيكُمْ دَارَ ا ْلفَا ِ‬

‫ودار الفاسقين هي النار‪ ،‬وكأن الحق هنا يقول‪ :‬سأريكم النار‪ ،‬ونعلم أن كل البشر سيمرون عليها‬
‫ويرونها‪ ،‬ولكن المؤمنين سيعبرونها ويردون عليها ويدخلون الجنة‪ .‬ولقائل أن يقول‪ :‬ولماذا تأتي‬
‫سيرة النار هنا؟ ونقول‪ :‬جاءت سيرة النار ليرهب ويخيف النفس ويحملها على أن تبتعد عن كل‬
‫ما أمر يقرب إلى النار‪ .‬والقول هنا أيضا لبني إسرائيل الذين نصرهم الحق على قوم فرعون‬
‫وأخذوا منهم الكنوز والمقام الكريم‪ .‬وكأن الحق يقول لهم‪ :‬إن كنتم تحبون أن يكون مآلكم مثل مآل‬
‫قوم فرعون فافعلوا مثلهم‪ ،‬وإن كنتم ل تريدون هذا المآل فالتزموا منهج الحق‪.‬‬
‫سقِينَ { معناه حملهم على ما في اللواح من عظة‪ ،‬وعلى أن‬
‫إذن فقوله الحق‪ } :‬سَُأوْرِيكُمْ دَارَ ا ْلفَا ِ‬
‫سقِينَ { هي المدائن التي دمرّت‬
‫يأخذوه بقوة‪ ،‬وعلى أن يتبعة أحسن ما أنزل على ال‪ .‬أو } دَارَ ا ْلفَا ِ‬
‫وخربت بتمرد وكفر وعصيان أهلها وفسقهم لتعتبروا فل تفسقوا مثل فسقهم فينكل ال بكم مثل‬
‫نكاله بهم‪ ،‬وأنتم تمرون عليها في الغدو والرواح‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬سََأصْ ِرفُ عَنْ آيَاتِي‪{ ...‬‬

‫(‪)1087 /‬‬

‫ق وَإِنْ يَ َروْا ُكلّ آَ َيةٍ لَا ُي ْؤمِنُوا ِبهَا وَإِنْ‬


‫سََأصْ ِرفُ عَنْ آَيَا ِتيَ الّذِينَ يَ َتكَبّرُونَ فِي الْأَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَ ّ‬
‫شدِ لَا يَتّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَ َروْا سَبِيلَ ا ْلغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َكذّبُوا بِآَيَاتِنَا َوكَانُوا‬
‫يَ َروْا سَبِيلَ الرّ ْ‬
‫عَ ْنهَا غَافِلِينَ (‪)146‬‬

‫واليات جمع آية وهي المر العجيب‪ ،‬وتطلق ثلث إطلقات‪ ،‬فإما أن تكون آية كونية مثل قوله‬
‫لوْلِي الَلْبَابِ } ‪ ،‬وإما أن‬
‫ل وَال ّنهَا ِر ليَاتٍ ُ‬
‫لفِ الّ ْي ِ‬
‫ت وَالَ ْرضِ وَاخْتِ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫تعالى‪ { :‬إِنّ فِي خَ ْلقِ ال ّ‬
‫تكون آية دللة على صدق الرسول في البلغ‪ ،‬وإما أن تكون آية قرآنية فيها حكم من أحكام ال‪،‬‬
‫حقّ‪[ } ...‬العراف‪:‬‬
‫وهنا يقول الحق‪ { :‬سََأصْ ِرفُ عَنْ آيَاتِي الّذِينَ يَ َتكَبّرُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ الْ َ‬
‫‪]146‬‬
‫إذن يوضح سبحانه هنا أنه سيصرف الذين يتكبرون في الرض بغير الحق عن أن ينظروا نظر‬
‫اعتبار في آيات الكون‪ ،‬أو أن الذين يتكبرون في الرض بغير الحق سيبطل كيدهم في أن يتجهوا‬
‫للحق بالهدم؛ لن الواحد من هؤلء ساعة يرى آية من آيات ال سينظر إليها على أنها سحر‪ ،‬أو‬
‫شعوذة‪ ،‬أو أن يقول عنها إنها ضمن أساطير الولين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن وجه الصرف أن يسلط الحق عليه من الكبر ما يجعله غير قادر على وزن الية بالميزان‬
‫الصحيح لها‪ ،‬والمتكبر هو من ظن أن غيره أدنى منه وأقل منزلة‪ ،‬ومقومات الكبر قد تكون قوة‪،‬‬
‫لكن ألم يرَ المتكبر قويّا قد ضعف؟ وقد يكون الثراء من مقومات التكبر‪ ،‬لكن ألم يرَ المتكبر غنيّا‬
‫قد افتقر؟ أو يكون المتكبر صاحب جاه‪ ،‬ألم يرَ ذا جاه صار ذليلً؟‪.‬‬
‫إذن فمن يتكبر‪ ،‬عليه أن يتكبر بشيء ذاتي ل ُيسْلَب منه أبدا‪ .‬فإذا ما أردت أن تطبق هذا على‬
‫البشر فلن تجد واحدا يستحق أن يكون متكبرا أبدا؛ لنه ل يوجد في الِنسان خاصية ذاتية فيه‬
‫تلزمه ول تفارقه أبدا‪ ،‬بل كلها موهوبة‪ ،‬ومن الغيار التي تحدث وقد تزول‪ .‬فكلها من ال‬
‫وليست أمورا ذاتية؛ لن القوة فيك إن كانت ذاتية فحافظ عليها‪ ،‬ولن تستطيع‪ .‬وإن كان الثراء‬
‫ذاتيّا فحافظ على غناك أبدا‪ ،‬ولن تستطيع‪ .‬وإن كانت العزة ذاتية فحافظ على عزتك أبدا ولن‬
‫تستطيع‪ .‬إذن فمقومات الكبرياء في البشر غير ذاتية‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬يَ َتكَبّرُونَ فِي الَ ْرضِ ِبغَيْرِ ا ْلحَقّ } يفيد أن هناك كبرياء بحق لمن يملك في ذاته‬
‫كل عناصر القوة والثراء والجاه والعزة‪ ،‬ولذلك فالكبرياء ل وحده‪ .‬واعلموا أن كل متكبر في‬
‫الرض ل يخطر ال بباله؛ لنه لو خطر ال بكماله وجلله في باله لتضاءل؛ لن ال يخطر فقط‬
‫ببال المتواضعين من الناس‪ ،‬ولذلك نضرب هذا المثل‪ :‬إننا نجد من حولنا إنسانا هو الرئيس‬
‫العلى‪ ،‬وهناك رئيس لطائفة ومرؤوس لخر‪ ،‬وهناك مرؤوس فقط‪ .‬والرئيس المرؤوس ل‬
‫يستطيع أن يجلس مع المرؤوسين له بتكبر ويضع ساقا على ساق ويعطي أوامر؛ لنه قد يلتفت‬
‫فيجد رئيسه وقد دخل عليه‪ .‬فلو فعل الرئيس المرؤوس ذلك لضحك منه المرؤوسون له‪.‬‬

‫فكذلك الناس الذين ل يستحضرون ال في بالهم نجدهم مثار سخرية‪ ،‬لكن الذين يستحضرون ال‬
‫الذي له الكبرياء في السموات والرض ل يتكبرون أبدا‪.‬‬
‫إنه سبحانه يصرف عن المتكبرين النظر في اليات الكونية فل يعتبرون‪ ،‬ويصرف عنهم تصديق‬
‫اليات الدالة على نبوة النبياء‪ ،‬ويصرف عنهم القدرة على تصديق أحكام القرآن‪ ،‬ويطبع على‬
‫قلوبهم‪ ،‬فما بداخل هذه القلوب من الكفر ل يخرج‪ ،‬وما في خارج هذه القلوب من الِيمان ل‬
‫يدخل‪ .‬وهم برغم حركتهم في الحياة إل أن الحق يعجزهم عن رؤية آياته في الكون‪ } .‬وَإِن يَ َروْاْ‬
‫ل وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ ا ْلغَيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً‪...‬‬
‫ُكلّ آيَ ٍة لّ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّشْدِ لَ يَتّخِذُوهُ سَبِي ً‬
‫{ [العراف‪]146 :‬‬
‫وحين يرى أهل الكبر الية الكونية أو الية الِعجازية أو آيات الحكام فهم ل يؤمنون بها‪ ،‬وحين‬
‫يرون سبيل الرشد ل يتخذونه سبيلً؛ لن سبيل الرشد يضغط على شهوات النفس وهواها‪ ،‬فينهى‬
‫عن السيئات وهم ل يقدرون على كبح جماح شهواتهم لنها تمكنت منهم‪ ،‬ولكن سبيل الغي يطلق‬
‫العِنان لشهوات النفس‪ ،‬ول يكون كذلك إل إذا غفل عن معطيات الِيمان الذي يحرمه من شيء‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ليعطيه أشياء أثمن‪ ،‬وهكذا تكون نظرة أهل الكبر سطحية‪ .‬ونلحظ أن كلمة السبيل تأتي مرة‬
‫خذُوهُ سَبِيلً { ‪ ،‬ومرة تأتي مؤنثة‪ ،‬فالحق يقول‪ُ } :‬قلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي {‪.‬‬
‫كمذكر كقوله؛ } لَ يَتّ ِ‬
‫وهنا يقول الحق عن الذين يتبعون سبيل الغي من أهل الكبر‪ } :‬ذاِلكَ بِأَ ّنهُمْ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا َوكَانُواْ‬
‫عَ ْنهَا غَافِلِينَ {‪ .‬وقديما قلنا إن الغفلة ل توجب الجزاء عليها؛ لن الغافل ساهٍ وناس‪ ،‬ولكن هؤلء‬
‫صدفوا عن المر صدوفا عقليّا مقصودا‪ ،‬لدرجة أنهم ل يعيرون اليمان أي التفات‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَالّذِينَ كَذّبُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)1088 /‬‬

‫عمَاُلهُمْ َهلْ ُيجْ َزوْنَ إِلّا مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)147‬‬


‫طتْ أَ ْ‬
‫وَالّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا وَِلقَاءِ الَْآخِ َرةِ حَ ِب َ‬

‫وقد جاء لفظ اليات هنا أكثر من مرة‪ ،‬فقد قال الحق‪ { :‬وَإِن يَ َروْاْ ُكلّ آ َي ٍة لّ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا }‪ .‬ويقول‬
‫أيضا‪ { :‬ذاِلكَ بِأَ ّنهُمْ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا }‪ .‬ويقول سبحانه‪ { :‬وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا }‪.‬‬
‫إذن فالمسألة كلها مناطها في اليات الكونية للستدلل على من أوجدها‪ ،‬والِعجازية للستدلل‬
‫على صدق مَنْ أرسل من الرسل‪ ،‬والقرآنية لخذ منهج ال لتقويم واستواء حركة الِنسان‪.‬‬
‫عمَاُلهُمْ‪[ } ...‬العراف‪]147 :‬‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫{ وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَِلقَآءِ الخِ َرةِ حَبِ َ‬
‫ويقال‪ :‬حبط الشيء أي انتفخ وورم من علة أو مرض‪ .‬أي أنهم في ظاهر المر يبدو لهم أنهم‬
‫عملوا أعمال حسنة ولكنها في الواقع أعمال باطلة وفاسدة‪ ،‬وقد يوجد من عمل عملً حسنا نافعا‬
‫للناس‪ ،‬ولكن ليس في باله أنه بفعل ذلك إرضاء ل‪ ،‬بل للشهرة لينتشر ذكره ويذيع صِيتُه ويثني‬
‫الناس عليه‪ ،‬أو للجاه والمركز والنفوذ‪ .‬ولذلك حين " سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬من‬
‫الشهيد؟‪ .‬قال‪:‬‬
‫" من قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في سبيل ال "‪.‬‬
‫لن الرجل قد يقاتل حمية‪ ،‬أو ليعرف الناس مثلً أنه شجاع‪ .‬إذن فهناك من يعمل عملً ليفتخر به‪.‬‬
‫ويقال مثلً‪ :‬إن الكفار هم من اكتشفوا الميكروب وصعدوا إلى الفضاء‪ .‬ونقول‪ :‬نعم لقد أخذوا‬
‫التقدير من الناس لن الناس كانت في بالهم‪ ،‬ولن يأخذوا التقدير من ال لنهم عملوا أعمالهم‬
‫وليس في بالهم ال‪ .‬والِنسان يأخذ أجره ممن عمل له‪ ،‬وال سبحانه وتعالى لن يضيع أجر‬
‫أعمالهم الحسنة‪ ،‬بل أعطى لهم أجورهم في الدنيا‪ ،‬لكن حرث الخرة ليس لهم‪ {.‬مَن كَانَ يُرِيدُ‬
‫حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ فِي حَرْثِ ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا‪[} ...‬الشورى‪]20 :‬‬
‫فمن زرع وأحسن اختيار البذور‪ ،‬واختيار التربة وروى بنظام يأتي له الزرع بالثمر لنه أخذ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالسباب‪ ،‬وهذا اسمه عطاء الربوبية وهو عطاء عام لكن مَن خلق ال‪ ،‬مؤمنا كان أو كافرا‪،‬‬
‫عاصيّا أو طائعا‪ ،‬لكن عطاء اللوهية يكون في اتباع المنهج بـ " افعل ول تفعل " وهذا خاص‬
‫بالمؤمنين‪ ،‬فإذا ما أحسنوا استعمال أسباب الحياة في السنن الكونية‪ .‬يأخذون حظهم منها‪،‬‬
‫والكافرون أيضا يأخذون حظهم منها‪ ،‬إذا أحسنوا الخذ بالسباب؛ ويكون ذلك بتخليد الذكرى‬
‫وإقامة التماثيل لهم‪ .‬وأخذ المكافآت والجوائز وحفلت التكريم‪ .‬أما جزاء الخرة فيأخذه من عمل‬
‫لرب الخرة‪ ،‬أما من لم يفعلوا من أجل لقاء ال فهو سبحانه يقول في حقهم‪َ {:‬وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا‬
‫جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان‪]23 :‬‬
‫ع َملٍ َف َ‬
‫عمِلُواْ مِنْ َ‬
‫َ‬
‫ظمْآنُ مَآءً‪[} ...‬النور‪]39 :‬‬
‫عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ‬
‫وكذلك يقول‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫فالكافرون مثلهم مثل الظمآن الذي يسير في صحراء ويخيل له أن أمامه ماء‪ ،‬ويمشي ويمشي فل‬
‫يجد ماء‪.‬‬

‫أما غير الظمآن فل يهمه إن كان هناك ماء أو ل يوجد ماء‪ ،‬فالظمآن ساعة يرى السراب يمني‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ لَمْ‬
‫حسَبُهُ ال ّ‬
‫نفسه بأن المياه قادمة وأنه سيحصل عليها‪ {.‬كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ‬
‫ج ْدهُ شَيْئا‪[} ...‬النور‪]39 :‬‬
‫يَ ِ‬
‫جدَ اللّهَ عِن َدهُ {‪ .‬إنه يفاجأ بأن الِله الذي كان ل‬
‫وليس المهم أنه لم يجده شيئا‪ ،‬بل يفاجأ‪َ } :‬ووَ َ‬
‫يصدق بأنه موجود يجده أمامه يوم القيامة فيوفيه حسابه ويجزيه على عمله القبيح‪ .‬إذن فإن عمل‬
‫الِنسان عملً فلينتظر الجر ممن عمل له‪ ،‬وإن عمل الِنسان عملً وليس في باله ال فعليه ألّ‬
‫يتوقع الجر منه‪ ،‬وعلى الرغم من ذلك يعطي ال لهؤلء الجر في قانون نواميس الحياة الكونية؛‬
‫عمَاُلهُمْ َهلْ‬
‫طتْ أَ ْ‬
‫لن من يحسن عملً يأخذ جزاءه عنه‪ } .‬وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا وَِلقَآءِ الخِ َرةِ حَبِ َ‬
‫يُجْ َزوْنَ ِإلّ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { [العراف‪]147 :‬‬
‫هم إذن كذبوا بآيات ال‪ ،‬وكذبوا باليوم الخر‪ ،‬ولم يعملوا وفق منهج الِيمان‪ ،‬فلهم جزاء وعقاب‬
‫من الحق الذي أنزل هذا المنهج‪ ،‬ولكنّهم أعرضوا عنه وكذبوه‪.‬‬
‫سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ ُهمْ‬
‫ضلّ َ‬
‫ن َ‬
‫عمَالً * الّذِي َ‬
‫ولذلك يقول سبحانه‪ُ {:‬قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَخْسَرِينَ أَ ْ‬
‫حسِنُونَ صُنْعا }[الكهف‪]104-103 :‬‬
‫حسَبُونَ أَ ّن ُهمْ يُ ْ‬
‫يَ ْ‬
‫خذَ َقوْمُ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَاتّ َ‬

‫(‪)1089 /‬‬

‫خوَارٌ أَلَمْ يَ َروْا أَنّهُ لَا ُيكَّل ُمهُمْ وَلَا َي ْهدِيهِمْ سَبِيلًا‬
‫سدًا لَهُ ُ‬
‫وَاتّخَذَ َقوْمُ مُوسَى مِنْ َب ْع ِدهِ مِنْ حُلِ ّيهِمْ عِجْلًا جَ َ‬
‫خذُوهُ َوكَانُوا ظَاِلمِينَ (‪)148‬‬
‫اتّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله‪ { :‬مِن َبعْ ِدهِ } أي من بعد ذهابه لميقات ربه بعد أن قال لهارون‪ { :‬اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي }‪.‬‬
‫بعد ذلك اتخذ قوم موسى من حليهم عجلً جسدا له خُوار‪ ،‬ونعرف أن الحلي هو ما يُتَزين به من‬
‫الذهب‪ ،‬والجواهر والشياء الثمينة‪ ،‬وسيد هذه الحلي هو الذهب دائما‪ ،‬ونعلم أن الصائغ الماهر‬
‫يشكل الذهب كما يريد‪ ،‬وإن انكسر يسهل إصلحه‪ ،‬كما أن كسر الذهب بطيء‪ ،‬ولذلك يقال‪ :‬إن‬
‫الذهب كالِنسان الطيب‪ ،‬كسره بطيء‪ ،‬واجباره سهل‪.‬‬
‫وساعة نسمع كلمة " زينة " قد يدخل فيها الماس والزمرد‪ ،‬والياقوت‪ ،‬لكن الذهب سيد هذه الحلي‪.‬‬
‫ونعلم أن العالم مهما ارتقى‪ ،‬فلن يكون هناك رصيد لمواله إل الذهب‪ ،‬ولذلك لم يأت سبحانه‬
‫بالياقوت‪ ،‬أو بالجواهر‪ ،‬أو بالماس‪ .‬ولذلك إذا أطلقت كلمة " الحلي " فالمراد بها الذهب‪.‬‬
‫وهذه الزينة هي التي صنع منها موسى السامري تمثال العجل‪ ،‬وبطبيعة الحال أخذ الحلي الذهبية‬
‫لن الماس والجواهر ل يمكن صهرها‪ .‬لكن من أين جاء قوم موسى بالحلي وقد كانوا‬
‫مستضعفين‪ ،‬ومستذلين؟ لقد احتالوا على أهل مصر وأخذوا منهم الحلي كسلفة سيردونها من بعد‬
‫ذلك‪ .‬ثم جاء رحيلهم فأخذوا الحلي معهم!‬
‫وغرق قوم فرعون وبقيت الحلي مع قوم موسى‪ ،‬وصنع موسى السامري من ذهب هذه الحلي‬
‫حجّم‪ ،‬أي له‬
‫عجلً‪ ،‬والعجل هو الذكر من ولد البقر‪ ،‬وساعة تسمع قوله‪ { :‬عِجْلً جَسَدا } أي أنه مُ َ‬
‫حجم واضح‪ .‬وأخذ أهل التفسير من كلمة " جسدا " أن ذلك العجل هو بدن ل روح له‪ ،‬مثلما‬
‫نقول‪ " :‬فلن هذا مجرد جثة "‪ .‬أي كأنه جثة بل روح‪.‬‬
‫خوَارٌ } ‪ ،‬هذا القول يدل على أن جسدية العجل لم تكن لها حياة؛‬
‫جسَدا لّهُ ُ‬
‫عجْلً َ‬
‫وقوله الحق‪ِ { :‬‬
‫لنه لو كان جسدا فيه روح لما احتاج إلى أن يقول عجلً جسدا له خوار‪ ،‬ولكتفي بالقول بأنه‬
‫خوَارٌ } دليل على أن الجسدية في العجل ل تعطي له الحياة‪ .‬وجاء‬
‫عجل‪ .‬لكن قوله سبحانه‪ { :‬لّهُ ُ‬
‫خوَارٌ } والخُوار هو صوت البقر‪ .‬وقد صنعه من الذهب وكأنه يريد أن‬
‫بالوصف في قوله‪ { :‬لّهُ ُ‬
‫يتميز عن اللهة التي كانت من الحجار‪ ،‬وحاول أن يجعله إلها نفيسا‪ ،‬فصنعه ‪ -‬كما نعرف ‪-‬‬
‫من الحلي المسروقة‪ ،‬وصنعه بطريقة أن هذا العجل الجسد إذا ما استقبل من دبره هبة الهواء؛‬
‫صنعت وأحدثت في جوفه صوتا يشبه صوت وخوار البقر الذي يخرج من فمه‪ ،‬وهذه المسألة‬
‫نراها في الناي وهو أنبوبة من القصب مما يسمى الغاب البلدي وتصنع به ثقوب‪ ،‬ويعزف عليه‬
‫العازف ليخرج منه النغمة التي يريدها‪.‬‬
‫وحين صنع موسى السامري العجل بهذه الحيلة‪ ،‬حدث هذا الصوت مشابها لخوار البقر‪.‬‬

‫وقصة هذا العجل تأتي في سورة طه بوضوح وسنتعرض لها حين نتعرض بخواطرنا الِيمانية‬
‫خوَارٌ أَلَمْ يَ َروْاْ أَنّ ُه لَ ُيكَّل ُمهُ ْم َولَ َي ْهدِيهِمْ سَبِيلً اتّخَذُوهُ‬
‫لسورة طه بإذن ال‪...} :‬عِجْلً جَسَدا لّهُ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َوكَانُواْ ظَاِلمِينَ { [العراف‪]148 :‬‬
‫ولماذا اختار السامري العجل؟ لنهم حين خروجهم من مصر‪ ،‬رأوا قدماء المصريين وهم يعبدون‬
‫العجل لمزية فيه‪ ،‬فقد كانوا يرون فيه مظهر قوة‪ ،‬كما عبد الخرون الشمس حين رأوا فيها مظهر‬
‫قوة‪ ،‬وكذلك من عبدوا القمر‪ ،‬والنجوم‪ .‬وقدماء المصريين عبدوا العجل لن فيضان النيل كان‬
‫يغمر الرض بالمياه‪ ،‬وكانوا يستخدمون العجل‪ .‬حين يريدون حرث الرض‪ .‬وكان أَيّدًا‪ ،‬أي قويّا‬
‫وشديدا في حرث الرض وهذا مظهر من مظاهر القوة‪ ،‬ولكن كيف اتخذ قوم موسى من بعده‬
‫عجلً يعبدونه بعد أن أتم عليهم ال المنة العظيمة حين أنجاهم وأغرق فرعون وآله؟‪ .‬وهنا أوضح‬
‫لنا ال أنه جاوز ببني إسرائيل البحر ومروا على قوم يعبدون الصنام؛ فقالوا لموسى عليه السلم‪:‬‬
‫اجعل لنا إلها كما لهم آلهة‪.‬‬
‫خذُوهُ َوكَانُواْ ظَاِلمِينَ‬
‫ويأتي القول من الحق‪ ...} :‬أَلَمْ يَ َروْاْ أَنّ ُه لَ ُيكَّل ُمهُ ْم َولَ َي ْهدِيهِمْ سَبِيلً اتّ َ‬
‫{ [العراف‪]148 :‬‬
‫وهذه قضية تهدم كل عبادة دون عبادة ال؛ لن العبد لبد أن يتلقى من المعبود أوامر‪ ،‬وأن يكون‬
‫عند المعبود منهج يريد من العبد أن ينفذه‪ ،‬وأن يأتي المنهج بواسطة رسل يبلغون رسالت ال‬
‫وكلم ال للبشر‪ .‬أما الذين يعبدون الشمس ‪ -‬مثلً ‪ -‬فنسألهم‪ :‬لماذا تعبدونها؟ وما المنهج الذي‬
‫أرسلته الشمس لكم؟‪ .‬إن العبادة هي طاعة العابد للمعبود في " افعل " و " ل تفعل " فهل قالت لكم‬
‫الشمس " افعلوا " و " ل تفعلوا "؟ ل؛ لنه ل توجد واسطة كلمية تقول لكم المنهج‪ ،‬وكيف يوجد‬
‫‪ -‬إذن ‪ -‬معبود بدون منهج للعابد؟ وهل قالت‪ :‬إن من يعبدني سأشرق عليه‪ ،‬وأعطيه الضوء‬
‫والحرارة‪ ،‬ومن ل يعبدني فلن أعطيه شيئا من ذلك؟ لم تقل الشمس ذلك فهي تعطي من آمن بها‬
‫ومن كفر‪ ،‬ولم ترسل خبرا عن الخرة وقيام القيامة‪.‬‬
‫وهكذا يبطل أمامنا كل عبادة لغير ال من ناحية أن العبادة تقتضي أمرا ونهيا‪ ،‬في " افعل " و " ل‬
‫تفعل " ولم يقل معبود من هؤلء ما الذي نطيعه وما الذي نعصاه‪ .‬والصل في المعبود أنه يهدي‬
‫العابد السبيل الموصل إلى خيره في الدنيا وفي الخرة‪ .‬لذلك يقول الحق‪ } :‬أَلَمْ يَ َروْاْ أَنّ ُه لَ ُيكَّل ُمهُمْ‬
‫وَلَ َيهْدِي ِهمْ سَبِيلً اتّخَذُو ُه َوكَانُواْ ظَاِلمِينَ {‪ .‬و } َوكَانُواْ ظَاِلمِينَ { لنهم أعطوا حقّا لمن ليس له‬
‫عظِيمٌ {‪.‬‬
‫الحق‪ ،‬والحق سبحانه أعلى قمة في الحق‪ ،‬ولذلك قال عن الشرك به‪ } :‬إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ َ‬
‫سقِطَ فِي أَ ْيدِيهِمْ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وََلمّا ُ‬

‫(‪)1090 /‬‬

‫حمْنَا رَبّنَا وَ َي ْغفِرْ لَنَا لَ َنكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ‬


‫سقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَ ّن ُهمْ قَ ْد ضَلّوا قَالُوا لَئِنْ َلمْ يَرْ َ‬
‫وََلمّا ُ‬
‫(‪)149‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا يوضح لنا أن عبادة العجل بين قوم موسى صار لها جمهور‪ .‬لكن الناس الذين امتلكوا قدرا‬
‫من البصيرة‪ ،‬أو بقية إيمان قالوا‪ :‬هذه الحكاية سخيفة‪ ،‬وما كان لنا أن نفعلها وندموا على ما كان‪،‬‬
‫سقِط في يده‪ ،‬وهذه من الدللت الطبيعية الفطرية التي ل تختلف فيها أمة عن أمة‪ ،‬بل هي‬
‫ويقال‪ُ :‬‬
‫في كل الجناس‪ ،‬وفي كل لغة تشير إلى أن الِنسان إذا ما فعل فعل وحدث له عكس ما يفعل‬
‫يعض على النامل ندما وغمّا‪ ،‬وهذه من الدللت الفطرية الباقية لنا من اللتقاء الطبعي في‬
‫المخاطبات‪ ،‬في كل الجناس‪ .‬ويعض الِنسان النامل لنه عمل شيئا ما كان يصح أن يعمله‪ ،‬فإذا‬
‫كان الشيء عظيما فهو ل يكتفي بالنملة بل يمسك يده كلها ويعضها‪ .‬والحق يقول‪ { :‬وَ َيوْمَ َي َعضّ‬
‫الظّاِلمُ عَلَىا َيدَيْهِ }‪.‬‬
‫و " سُقط في أيديهم " أي جاءت أنيابهم على أيديهم‪ ،‬كأن الندم بلغ أشده‪ ،‬إن ذلك حدث من التائبين‬
‫الذين أبصروا بعيونهم ورأوا أن ذلك باطل وخسران‪ .‬أي قالوا‪ :‬لئن لم يتداركنا ال برحمته‬
‫ومغفرته لنكونن من الهالكين‪ ،‬وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى ال عز وجل‪.‬‬
‫جعَ مُوسَىا‪} ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وََلمّا رَ َ‬

‫(‪)1091 /‬‬

‫سمَا خََلفْ ُتمُونِي مِنْ َبعْدِي أَعَجِلْ ُتمْ َأمْرَ رَ ّبكُ ْم وَأَ ْلقَى‬
‫سفًا قَالَ بِئْ َ‬
‫غضْبَانَ أَ ِ‬
‫وََلمّا َرجَعَ مُوسَى إِلَى َق ْومِهِ َ‬
‫ش ِمتْ ِبيَ‬
‫ضعَفُونِي َوكَادُوا َيقْتُلُونَنِي فَلَا ُت ْ‬
‫خذَ بِرَأْسِ َأخِيهِ َيجُ ّرهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ ا ْلقَوْمَ اسْ َت ْ‬
‫ح وَأَ َ‬
‫الْأَ ْلوَا َ‬
‫جعَلْنِي مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ (‪)150‬‬
‫الْأَعْدَا َء وَلَا تَ ْ‬

‫وكون موسى يعود إلى قومه حالة كونه غضبان أسِفا‪ ،‬يدلنا على أنه علم الخبر بحكاية العجل‪.‬‬
‫والغضب والسف عملية نفسية فيها حزن وسموها‪ " :‬المواجيد النفسية " ‪ ،‬أي الشيء الذي يجده‬
‫الِنسان في نفسه‪ ،‬وقد يعبر عن هذه المواجيد بانفعالت نزوعية‪ ،‬ولذلك تجد فارقا بين من يحزن‬
‫ويكبت في نفسه‪ ،‬وبين من يغضب‪ ،‬فمن يغضب تنتفخ أوداجه ويحمر وجهه ويستمر هياجه‪،‬‬
‫وتبرق عيناه بالشر وتندفع يداه‪ ،‬وهذا اسمه‪ :‬غضبان‪ .‬وصار موسى إلى الحالتين الثنتين؛ وقدّم‬
‫الغضب لنه رسول له منهجه‪ .‬ول يكفي في مثل هذا المر الحزن فقط‪ ،‬بل لبد أن يكون هناك‬
‫الغضب نتيجة هياج الجوارح‪.‬‬
‫وقديما قلنا‪ :‬إن كل تصور شعوري له ثلث مراحل‪ :‬المرحلة الولى‪ .‬مرحلة إدراكية‪ ،‬ثم مرحلة‬
‫وجدانية في النفس‪ ،‬ثم مرحلة نزوعيه بالحركة‪ ،‬وضربنا المثل لذلك بالوردة‪ .‬فمن يرى الوردة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهذا إدراك‪ ،‬وله أن يعجب بها ويسر من شكلها ويطمئن لها ويرتاح‪ ،‬وهذا وجدان‪ .‬لكن من يمد‬
‫يده ليقطفها فهذا نزوع حركي‪ .‬والتشريع للِدراك أو للوجدان لكنه قنن للسلوك‪ .‬إل في غض‬
‫البصر عما حرم ال وذلك رعاية لحرمة العراض‪.‬‬
‫والسف عند موسى لن يظهر للمخالفين للمنهج‪ .‬بل يظهر الغضب وهو عملية نزوعية‪ ،‬ونلحظ‬
‫بكلمة أَسِف‪ .‬وهي مبالغة‪ .‬فهناك فرق بين َأسِف وآسف‪ ،‬آسف خفيفة قليلً‪ ،‬لكن أسِف صيغة‬
‫عجِلْتُمْ‬
‫سمَا خََلفْ ُتمُونِي مِن َبعْدِي أَ َ‬
‫مبالغة‪ ،‬مما يدل على أن الحزن قد اشتد عليه وتمكن منه‪ { .‬قَالَ بِئْ َ‬
‫َأمْرَ رَ ّبكُمْ‪[ } ...‬العراف‪]150 :‬‬
‫عجِلْتُمْ َأمْرَ رَ ّبكُمْ } أي استبطأتموني‪ ،‬وهذا نتيجة لذهاب موسى لثلثين ليلة‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬أَ َ‬
‫وأتممها بعشر‪ ،‬فتساءل موسى‪ :‬هل ظننتم أنني لن آتي؟ أو أنني أبطأت عليكم؟ وهل كنتم تعتقدون‬
‫وتؤمنون من أجلي أو من أجل إله قادر؟‪ .‬ولذلك قال سيدنا أبو بكر رضي ال عنه‪ :‬عندما انتقل‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الرفيق العلى‪:‬‬
‫" من كان يعبد محمدّا فإن محمدّا قد مات‪ ،‬ومن كان يعبد ال فإن ال حي ل يموت "‪ .‬وهنا يقول‬
‫سيدنا موسى‪ :‬افترضوا أنكم عجلتم المر واستبطأتموني أو خفتم أن أكون قد مت‪ .‬فهل كنتم‬
‫تعبدونني أو تعبدون ربنا‪.‬‬
‫عجِلْتُمْ َأمْرَ رَ ّبكُ ْم وَأَ ْلقَى الَ ْلوَاحَ } ‪ ،‬ونعلم أن اللواح فيها المنهج‪ ،‬وقدر موسى على أخيه‪:‬‬
‫{ أَ َ‬
‫{ وََأخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُ ّرهُ إِلَ ْيهِ } وهذا " النزوع الغضبي " الذي جعله يأخذ برأس أخيه‪ ،‬كأن‬
‫ضعَفُونِي َوكَادُواْ‬
‫الخوة هنا ل نفع لها‪ ،‬فماذا كان رد الخ هارون‪:‬؟ {‪...‬قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ ا ْلقَوْمَ اسْ َت ْ‬
‫جعَلْنِي مَعَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } { العراف‪]150 :‬‬
‫عدَآ َء َولَ تَ ْ‬
‫ش ِمتْ ِبيَ الَ ْ‬
‫َيقْتُلُونَنِي فَلَ تُ ْ‬
‫نلحظ أنه قال‪ " :‬ابن أم " ولم يقل‪ " :‬ابن أب " لن أبا موسى وهارون طُوي اسمه في تاريخ‬
‫النبوات ولم يظهر عنه أي خبر‪ ،‬والعلم جاءنا عن أمه لنها هي التي قابلت المشقات في أمر‬
‫حياته‪ ،‬لذلك جاء لنا بالقدر المشترك البارز في حياتهما‪ ،‬ولن المومة مستقر الرحام؛ لذلك أنت‬
‫تجد أخوة من الم‪ ،‬وأخوة من الب فقط‪ ،‬وأخوة من الب والم‪ ،‬والخوة من الب والم أمرهم‬
‫معروف‪.‬‬

‫لكن نجد في أخوة الم حنانا ظاهرا‪ ،‬ويقل الحنان بين الخوة من الب‪ .‬وجاء الحق هنا بالقدر‬
‫المشترك بينهما ‪ -‬موسى وهارون ‪ -‬وهو أخوة الم‪ ،‬وله وجود مستحضر في تاريخهم‪ .‬أما الب‬
‫عمران فنحن ل نعرف عنه شيئا‪ ،‬وكل اليات التي جاءت عن موسى متعلقة بأمه‪ ،‬لذلك نجد أخاه‬
‫ضعَفُونِي َوكَادُواْ َيقْتُلُونَنِي {‪.‬‬
‫هارون يكلمه بالسلوب الذي يحننه‪ } :‬قَالَ ابْنَ أُمّ إِنّ ا ْلقَوْمَ اسْ َت ْ‬
‫ومادام قد قال‪َ } :‬وكَادُواْ َيقْتُلُونَنِي { فهذا دليل على أنه وقف منهم موقف المعارض والمقاوم الذي‬
‫ي الَعْدَآءَ‬
‫ش ِمتْ ِب َ‬
‫أدى ما عليه إلى درجة أنهم فكروا في قتله‪ ،‬ويتابع الحق بلسان هارون‪ } :‬فَلَ تُ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَلْنِي مَعَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ {‪.‬‬
‫وَلَ َت ْ‬
‫والشماتة هي إظهار الفرح بمصيبة تقع بخصم‪ ،‬والعداء هم القوم الذين اتخذوا العجل‪ ،‬وقد‬
‫وصفهم بالعداء كدليل على أنه وقف منهم موقف العداوة‪ ،‬وأن موقف الخلف بين موسى‬
‫وهارون سيفرحهم‪ ،‬وقوله‪ } :‬وََأخَذَ بِرَ ْأسِ أَخِيهِ {‪ ..‬إجمال للرأس في عمومها‪ ،‬وفي آية أخرى‬
‫خذْ بِِلحْيَتِي َولَ بِرَأْسِي {‪.‬‬
‫يقول‪ } :‬لَ تَأْ ُ‬
‫ولقد صنع موسى ذلك ليسمع العذر من هارون؛ لنه يعلم أن هارون رسول مثله‪ ،‬وأراد أن‬
‫يسمعنا ويسمع الدنيا حجة أخيه حين أوضح أنه لم يقصر‪ .‬قال‪ :‬إن القوم استغضعفوني لني‬
‫وحدي وكادوا يقتلونني‪ ،‬مما يدل على أنه قاومهم مقاومة وصلت وانتهت إلى آخر مجهودات‬
‫الطاقة في الحياة؛ حتى أنهم كادوا يقتلونه‪ ،‬إذن فهو لم يوافقهم على شيء‪ ،‬ولكنه قاوم على قدر‬
‫جعَلْنِي مَعَ ا ْلقَوْمِ الظّاِلمِينَ {‪.‬‬
‫الطاقة البشرية‪ ،‬لذلك يذيل الحق الية بقوله سبحانه‪ } :‬وَلَ َت ْ‬
‫ن بي أنني كنت‬
‫وكأنه يقول‪ :‬لموسى إنك أن آخذتني هذه المؤاخذة في حالة غضبك‪ ،‬ربما ظُ ّ‬
‫معهم‪ ،‬أو سلكت مسلكهم في اتخاذ العجل وعبادته‪ .‬وأراد الحق سبحانه أن يبين لنا موقف موسى‬
‫وموقف أخيه؛ فموقف موسى ظهر حين غضب على أخيه وابن أمه‪ ،‬وموقف هارون الذي بيّن‬
‫العلة في أن القوم استضعفوه وكادوا يقتلونه‪ ،‬ول يمكن أن يطلب منه فوق هذا‪ ،‬وحينما قال‬
‫هارون ذلك تنبه موسى إلى أمرين‪:‬‬
‫المر الول‪ :‬أنه كيف يلقي اللواح وفيها المنهج؟ والمر الثاني‪ :‬أنه كيف يأخذ أخاه هذه الخذة‬
‫قبل أن يتبين وجه الحق منه؟‬
‫غفِرْ لِي‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق على لسانه بعد ذلك‪ } :‬قَالَ َربّ ا ْ‬

‫(‪)1092 /‬‬

‫حمِينَ (‪)151‬‬
‫ك وَأَ ْنتَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ‬
‫حمَ ِت َ‬
‫غفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَ ْدخِلْنَا فِي َر ْ‬
‫قَالَ َربّ ا ْ‬

‫قال يا رب اغفر لي إن كان قد بدر مني شيء يخالف منطق الصواب والحق‪ .‬واغفر لخي‬
‫هارون ما صنع‪ ،‬فقد كان يجب عليه أن يأخذ في قتال من عبدوا العجل حتى يمنعهم أو ينالوا منه‬
‫ولو مادون القتل جرحا أو خدشا أو‪ ..‬أو‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫حمِينَ } [العراف‪:‬‬
‫حمَ ِتكَ وَأَنتَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ‬
‫ويطلب موسى لنفسه ولخيه الرحمة‪ { :‬وَأَدْخِلْنَا فِي َر ْ‬
‫‪]151‬‬
‫حمِينَ } أو { خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } ‪ ،‬أو { خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ } ‪ ،‬أو { َأحْسَنُ‬
‫وحين تسمع { أَ ْرحَمُ الرّا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الْخَاِلقِينَ } ‪ ،‬وكل جمع هو وصف ل‪ ،‬وإنه بهذا أيضا يدعو خلقه إلى التخلق بهذا الخلق‪،‬‬
‫ويوصف به خلقه‪ .‬فاعلم أن ال لم يحرمهم من وصفهم بهذه الصفات لن لهم فيها عمل وإن كان‬
‫محدودا يتناسب مع قدرتهم ومخلوقيتهم وعبوديتهم‪ ،‬فضل على أنها عطاء ومنحة منه ‪ -‬سبحانه‬
‫‪ -‬أما صفات ال فهي صفات ل محدودة ول متناهية جلل وكمال وجمال فسبحانه { لَيْسَ َكمِثْلِهِ‬
‫حمِينَ } فهذا يعني أنه سبحانه لم يمنع الرحمة من خلقه‬
‫شيْءٌ } ‪ ،‬فإذا كان خلق ال هو { أَ ْرحَمُ الرّا ِ‬
‫َ‬
‫على خلقه؛ فمن رحم أخاه سُميّ رحيما‪ ،‬وراحما‪ ،‬ولكن ال أرحم الراحمين؛ لن الرحمة من كل‬
‫إنسان ضمان لمظهرية الغضب في هذا الحد‪ ،‬يقال‪ " :‬رحمت فلنا " أي من غضبك عليه‬
‫ن عقوبتك على قدر قوتك‪ ،‬لكن ال حين يريد أن يأخذ واحدا بذنب فقوته ل نهاية‬
‫وعقوبتك‪ ،‬وإ ّ‬
‫لها‪ ،‬وكذلك رحمته أيضا ل نهاية لها‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬إِنّ الّذِينَ اتّخَذُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)1093 /‬‬

‫ضبٌ مِنْ رَ ّب ِه ْم وَذِلّةٌ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوكَذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمفْتَرِينَ (‬


‫غ َ‬
‫جلَ سَيَنَاُل ُهمْ َ‬
‫خذُوا ا ْلعِ ْ‬
‫إِنّ الّذِينَ اتّ َ‬
‫‪)152‬‬

‫جلَ } قد نجد من يتساءل‪ :‬هل اتخذوه مذبوحا يأكلونه؟ أو يثير الرض أو‬
‫حين يقال‪ { :‬اتّخَذُواْ ا ْل ِع ْ‬
‫يسقي الحرث ويدير السواقي؟ لن العجل موجود لهذه المهام‪ ،‬لكنهم لم يأخذوا العجل لتلك المهام‪،‬‬
‫بل إنهم قد اتخذوا العجل إلها ومعبودا‪ ،‬أما اتخاذه فيما خُِلقَ له فل غبار عليه‪ ،‬وهو هنا محذوف‬
‫ومتروك لفطنة السامع؛ فإذا اتخذنا العجل فيما خُلِقَ له العجل ل ينالنا غضب من ال‪ ،‬أما الذين‬
‫ضبٌ‬
‫غ َ‬
‫سينالهم غضب ال فهم من اتخذوا العجل في غير ما خُِلقَ له‪ ،‬إنهم اتخذوه إلها‪ { :‬سَيَنَاُلهُمْ َ‬
‫مّن رّ ّبهِ ْم وَذِلّةٌ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا }‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬سَيَنَاُل ُهمْ } يدل على أن أوان الغضب والذلة لم يأت بعد‪ ،‬وسيحدث في المستقبل‪ ،‬ومستقبل‬
‫غضَبٌ‬
‫الدنيا هو الخرة‪ ،‬ولكن الحق هنا يقول‪ :‬إن الذلة ستحدث في الدنيا‪ ،‬فكيف يكون { سَيَنَاُلهُمْ َ‬
‫سكُمْ ذَِل ُكمْ خَيْرٌ‬
‫} مع أنهم تابوا؟ ويوضح سبحانه لنا ذلك في قوله‪ { :‬فَتُوبُواْ إِلَىا بَارِ ِئكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُ َ‬
‫ّلكُمْ عِ ْندَ بَارِ ِئكُمْ فَتَابَ عَلَ ْيكُمْ }‪.‬‬
‫فبعضهم تاب إلى بارئه وقتل نفسه فلماذا إذن الغضب؟‬
‫ويوضح الحق لنا أن الذي ينالهم من الغضب هو ما ألجأهم إلى أن يقال لهم‪ " :‬اقتلوا أنفسكم " ‪،‬‬
‫ضبٌ } أي قبل أن يتوبوا‪ ،‬وقتل النفس هو منتهى الذلة‬
‫غ َ‬
‫وهكذا نفهم أن قوله تعالى‪ { :‬سَيَنَاُلهُمْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضبٌ مّن رّ ّبهِ ْم وَذِلّةٌ فِي الْحَياةِ الدّنْيَا َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْل ُمفْتَرِينَ }‬
‫غ َ‬
‫ومنتهى الهانة‪ ...{ .‬سَيَنَاُلهُمْ َ‬
‫[العراف‪]152 :‬‬
‫أي أن هذا المر ليس بخاصية لهم‪ ،‬فكل مفتر يتجاوز حده فوق ما شرعه ال لبد أن يناله هذا‬
‫الجزاء؛ لن ربنا حين يقول لنا ما حدث في تاريخهم؛ وحين يسرد لنا هذه القصة فإنه يريد من‬
‫وراء ذلك ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أن يعتبر السامع للقصة في نفسه‪ .‬واعتبار السامع للقصة في نفسه ل‬
‫يتأتى إل بأن يقول له ال تنبيها وتحذيرا‪َ { :‬وكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْل ُمفْتَرِينَ } أي احذر أن تكون مثل‬
‫هؤلء فينالك ما نالهم‪ ،‬وهو سبحانه ينبه كل لينتفع من هذه العبرة وهذه اللقطة فإنّ التاريخ‬
‫مسرود لخذ العبرة‪ ،‬والعظة ليتعظ بها السامع‪.‬‬
‫عمِلُواْ‪} ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وَالّذِينَ َ‬

‫(‪)1094 /‬‬

‫عمِلُوا السّيّئَاتِ ُثمّ تَابُوا مِنْ َبعْدِهَا َو َآمَنُوا إِنّ رَ ّبكَ مِنْ َبعْدِهَا َل َغفُورٌ َرحِيمٌ (‪)153‬‬
‫وَالّذِينَ َ‬

‫وهذا ما حدث‪ ،‬فبعد أن اتخذوا العجل‪ ،‬وقال لهم‪ :‬اقتلوا أنفسكم توبة إلى بارئكم‪ ،‬ثم تابوا إلى ال‬
‫وآمنوا بما جاءهم‪ ،‬غفر ال لهم‪ .‬وإذا كان الحق قد قص علينا مظهرية جباريته فإنه أيضاً لم يشأ‬
‫أن يدعنا في مظهرية الجبارية‪ ،‬وأراد أن يدخلنا في حنان الرحمانية‪ .‬لذلك يقول هنا‪ { :‬وَالّذِينَ‬
‫عمِلُواْ السّيّئَاتِ ثُمّ تَابُواْ مِن َب ْعدِهَا وَآمَنُواْ إِنّ رَ ّبكَ مِن َبعْ ِدهَا َل َغفُورٌ رّحِيمٌ } [ العراف‪]153 :‬‬
‫َ‬
‫وقوله‪ { :‬ثُمّ تَابُواْ } أي ندموا على ما فعلوا وأصروا وعزموا على ألّ يعودوا‪ ،‬ونعلم من قبل أن‬
‫التوبة لها مظهريات ثلثة؛ أولً‪ :‬لها مظهرية التشريع‪ ،‬ولها مظهرية الفعل من التائب ثانيا‪ ،‬ولها‬
‫قبولية ال للتوبة من التائب ثالثا‪ .‬ومشروعية التوبة نفسها فيها مطلق الرحمة‪ ،‬ولو لم يكن ربنا قد‬
‫شرع التوبة سيستشري شره في السيئة فهذه رحمة بالمذنب‪ ،‬وبالمجتمع الذي يعيش فيه المذنب‪.‬‬
‫بعد ذلك يتوب العبد‪ ،‬ثم يكون هنا مظهرية أخرى للحق‪ ،‬وهو أن يقبل توبته‪.‬‬
‫التوبة ‪ -‬إذن ‪ -‬لها تشريع من ال‪ ،‬وذلك رحمة‪ ،‬وفعل من العبد بأن يتوب‪ ،‬وذلك هو الستجابة‪،‬‬
‫وقبول من ال‪ ،‬وذلك هو قمة العطاء والرحمة منه سبحانه‪.‬‬
‫عمِلُواْ السّيّئَاتِ ثُمّ تَابُواْ مِن َب ْعدِهَا وَآمَنُواْ‪[ } ...‬العراف‪]153 :‬‬
‫وقوله الحق‪ { :‬وَالّذِينَ َ‬
‫إنّ هذا القول يدل على أن عمل السيئة يخدش الِيمان‪ ،‬فيأمر سبحانه عبده‪ :‬جدّد إيمانك‪،‬‬
‫واستحضر ربك استحضارا استقباليّا؛ لن عملك السيئة يدل على أنك قد غفلت عن الحق في أمره‬
‫ونهيه‪ ،‬وحين تتوب فأنت تجدد إيمانك وتجد ربك غفورا رحيما‪ { :‬إِنّ رَ ّبكَ مِن َبعْ ِدهَا َل َغفُورٌ رّحِيمٌ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫}‪.‬‬
‫إن ذنب العبد يكون فيما خالف منهج ربه في " افعل " و " ل تفعل " ‪ ،‬ومادام العبد قد استغفر ال‬
‫وتاب فسبحانه يقبل التوبة‪ .‬ويوضح‪ :‬إذا كنت أنا غفورا رحيما‪ ،‬فإياكم يا خلقي أن ُت َذكّروا مذنبا‬
‫بذنبه بعد أن يتوب؛ لن صاحب الشأن غفر‪ ،‬فإياك أن تقول للسارق التائب‪ " :‬يا سارق " ‪ ،‬وإياك‬
‫أن تقول للزاني التائب‪ " :‬يا زاني " ‪ ،‬وإياك أن تقول للمرتشي التائب‪ " :‬يا مرتشي " لن المذنب‬
‫مادام قد جدّد توبته وآمن‪ ،‬وغفر ال له‪ ،‬فل تكن أنت طفيليّا وتبرز له الذنب من جديد‪.‬‬
‫س َكتَ عَن مّوسَى‪} ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وَلَماّ َ‬

‫(‪)1095 /‬‬

‫حمَةٌ لِلّذِينَ ُهمْ لِرَ ّبهِمْ يَرْهَبُونَ (‬


‫ح َوفِي ُنسْخَ ِتهَا هُدًى وَرَ ْ‬
‫خذَ الْأَ ْلوَا َ‬
‫ضبُ أَ َ‬
‫س َكتَ عَنْ مُوسَى ا ْل َغ َ‬
‫وََلمّا َ‬
‫‪)154‬‬

‫وهل للغضب سكوت؟ هل للغضب مشاعر حتى يسكت؟ نعم؛ لن الغضب هيجان النفس لتعمل‬
‫عملً نزوعيّا أمام من أذنب‪ ،‬فكأن الغضب يلح عليه‪ ،‬ويقول للغاضب‪ :‬اضرب‪ ،‬اشتم‪ ،‬اقتل‪ .‬كأن‬
‫صوّر في صورة شخص له قدرة إصدار الوامر‪ ،‬فشبّه ال الغضب بصورة‬
‫الغضب قد مُثّل و ُ‬
‫إنسان يلح على موسى في أن يفعل كذا‪ ،‬ويفعل كذا‪ ،‬فلما قال ال ذلك كأن الغضب قد سكت عنه‪.‬‬
‫أو هو كما قال إخواننا العلماء‪ :‬من القلب في اللغة‪ ،‬أي أنه يقلب المسألة‪ ،‬اتكالً على أن فطنة‬
‫السامع سترد كل شيء إلى أصله؛ كما نسمع في اللغة‪ :‬خرق الثوبُ المسمارَ‪ ،‬نفهم من هذا القول‬
‫أن المسمار هو الذي قام بخرق الثوب؛ لننا لن نتخيل أنّ الثوب يخرق مسمارا‪ .‬ويسمى ذلك "‬
‫القلب " أي أن يأتي بمسألة مقلوبة تفهمها فطنة السامع‪ .‬أو أن المسمار مستقر في مكانه‪ ،‬والثوب‬
‫هو الذي طرأ عليه فانخرق‪ ،‬فيكون سبب الخرق من الثوب‪ ،‬فكأن الفاعلية الحقيقية من الثوب‪:‬‬
‫ضبُ }‪.‬‬
‫س َكتَ عَن مّوسَى ا ْل َغ َ‬
‫{ وَلَماّ َ‬
‫خذَ‬
‫ضبُ أَ َ‬
‫س َكتَ عَن مّوسَى ا ْل َغ َ‬
‫أو تكون كلمة (سكت) كناية عن أن الغضب زال وانتهى‪ { .‬وَلَماّ َ‬
‫ح َمةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَ ّب ِهمْ يَرْهَبُونَ } [العراف‪]154 :‬‬
‫سخَ ِتهَا هُدًى وَرَ ْ‬
‫الَ ْلوَاحَ َوفِي نُ ْ‬
‫وأول عمل قام به موسى ساعة أن كان غضبان أسفا أنه ألقى اللواح‪ ،‬وأول ما ذهب الغضب عنه‬
‫وزايله أخذ اللواح‪ ،‬وهذا أمر منطقي‪ ،‬فالغضب جعله يلقي اللواح‪ ،‬ويأخذ برأس أخيه‪ ،‬ثم فهم ما‬
‫فعله أخوه واعتذر به فقبل عذره‪ ،‬وطلب من ال أن يغفر له‪ ،‬وأن يغفر لخيه وانتهى الغضب‬
‫حمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَ ّبهِمْ يَرْهَبُونَ }‬
‫وكانت اللواح ملقاة فأخذها ثانية‪َ ...{ .‬وفِي نُسْخَ ِتهَا هُدًى وَرَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[العراف‪]154 :‬‬
‫النسخة من الكتاب مأخوذة من الشيء المنسوخ أي المنقول من مكان إلى مكان‪ ،‬ويقال‪ :‬نسخت‬
‫الكتاب الفلني من الكتاب الفلني‪ .‬أي أن هناك كتابا مخطوطا ثم نقلناه بالطباعة أو بالكتابة إلى‬
‫نسخة أو عدد من النسخ‪ ،‬أي أخذته من الصل إلى الصورة‪ ،‬واسمه منسوخ‪ ،‬وكلمة نُسخة على‬
‫وزن " ُفعْلَة " وتأتي بمعنى مفعولة‪ ،‬فنسخة تعني منسوخة‪ ،‬وفي القرآن مثل هذا كثير‪ .‬والحق‬
‫ط َعمْهُ فَإِنّهُ مِنّي ِإلّ‬
‫سبحانه وتعالى قال‪ {:‬إِنّ اللّهَ مُبْتَلِي ُكمْ بِ َنهَرٍ َفمَن شَ ِربَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنّي َومَن لّمْ َي ْ‬
‫مَنِ اغْتَ َرفَ غُ ْرفَةً بِيَ ِدهِ‪[} ...‬البقرة‪]249 :‬‬
‫و " غُرْفة " أي مغروفة‪ ،‬وهي القليل من المياه في اليد لتبل الريق فقط‪ ،‬والغرفة أيضا تكون في‬
‫البيوت؛ لنها مكان متقطع من مكان آخر ولها جدران تحددها‪ .‬واسمها غرفة لنها مغروفة من‬
‫حمَةٌ }‪.‬‬
‫المكان في حيز مخصوص‪ .‬وهنا يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وفِي ُنسْخَ ِتهَا ُهدًى وَرَ ْ‬
‫و " هدى " المقصود بها المنهج الموصل للغاية في " افعل " و " ل تفعل "‪.‬‬

‫إنّه يوصل للغاية وهي ثواب الخرة‪ .‬إذن فالهدى والرحمة شيء واحد له طرفان‪ ،‬فالهدى هو‬
‫حمَةٌ لّلّذِينَ هُمْ لِرَ ّب ِهمْ‬
‫المنهج الذي إن اتبعته تصل إلى الرحمة‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪ } :‬هُدًى وَرَ ْ‬
‫يَرْهَبُونَ {‪.‬‬
‫وهكذا نجد المنهج هدى ورحمة‪ ،‬فمن يسمع كلم ال ويتبعه يهتدي ويرحمه ربنا؛ لنه جعل ال‬
‫في باله‪ ,‬وخاف من صفات الجبارية في الحق‪ ،‬ولهذا لبد أن يستحضر الِنسان أو المؤمن رهبته‬
‫لربه وخوفه منه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬ليكون المنهج هدى ورحمة له‪ .‬ويكون من الذين يرهبون ربهم‪.‬‬
‫وساعة ترى المفعول تقدم في مثل قوله سبحانه هنا‪ ...} :‬لّلّذِينَ هُمْ لِرَ ّبهِمْ يَرْهَبُونَ { [العراف‪:‬‬
‫‪]154‬‬
‫نفهم أن هذا هو ما يسمى في اللغة " اختصاص " وقَصْر مثلما قال الحق في فاتحة الكتاب‪ } :‬إِيّاكَ‬
‫َنعْبُدُ {‪.‬‬
‫وما الفرق بين } إِيّاكَ َنعْبُدُ { و " نعبدك "؟ إن قلنا‪ " :‬نعبدك " فهو قول ل يمنع من العطف عليه‪،‬‬
‫فقد نعبدك ونعبد الشركاء معك؛ لكن قولنا‪ } :‬إِيّاكَ َنعْبُدُ { أي خصصناك بالعبادة وقصرناها عليك‬
‫سبحانك فل تتعدى إلى غيرك‪.‬‬
‫إذن حين تقدم المفعول فهذا هو عمل الختصاص‪ .‬ومثال ذلك في حياتنا حين نقول‪ " :‬أكرمتك " ‪،‬‬
‫ول مانع أن نقول بعدها " وأكرمت زيدا وأكرمت عمرا "‪ .‬لكن إن قلت‪ :‬إياك أكرمت‪ ،‬فهذا يعني‬
‫أني لم أكرم إل إياك‪ .‬وهنا يقول الحق‪ } :‬لّلّذِينَ ُهمْ لِرَ ّبهِمْ يَرْهَبُونَ {‪ .‬ولقائل أن يقول‪ :‬أل يمكن أن‬
‫يدعي أحد الرهبة ظاهرا وأنه ممتثل لمر ال رياء أو سمعة حتى يقول الناس‪ :‬إن فلنا حسن‬
‫الِسلم‪ ،‬ويأخذون في الثناء عليه؟ ولكن هنا نجد التخصيص الذي يدل على أن العبد ل يرهب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أحدا غير ال‪ ،‬وأن الرهبة خالصة ل‪ ،‬وليست رياء‪ ،‬ول سمعة‪ ،‬ول لقصد الثناء‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وَاخْتَارَ مُوسَىا َق ْومَهُ‪{ ...‬‬

‫(‪)1096 /‬‬

‫جفَةُ قَالَ َربّ َلوْ شِ ْئتَ أَهَْلكْ َت ُهمْ مِنْ قَ ْبلُ‬


‫جلًا ِلمِيقَاتِنَا فََلمّا َأخَذَ ْت ُهمُ الرّ ْ‬
‫وَاخْتَارَ مُوسَى َق ْومَهُ سَ ْبعِينَ رَ ُ‬
‫ت وَلِيّنَا‬
‫ضلّ ِبهَا مَنْ َتشَا ُء وَ َتهْدِي مَنْ َتشَاءُ أَ ْن َ‬
‫سفَهَاءُ مِنّا إِنْ ِهيَ إِلّا فِتْنَ ُتكَ ُت ِ‬
‫وَإِيّايَ أَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ال ّ‬
‫حمْنَا وَأَ ْنتَ خَيْرُ ا ْلغَافِرِينَ (‪)155‬‬
‫غفِرْ لَنَا وَارْ َ‬
‫فَا ْ‬

‫وكلمة " اختار " تدل على أن العمل الِختياري يُرجح العقل فيه فعلً على عدم فعل أو على فعل‬
‫آخر‪ ،‬وإل فل يكون في المر اختيار؛ لن " اختار " تعني طلب الخير والخيار‪ ،‬وكان في مكنتك‬
‫أن تأخذ غيره‪ ،‬وهذا ل يتأتى إل في المور الختيارية التي هي مناط التكليف‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬اللسان‬
‫خاضع لِرادة صاحبه الختيارية التي هي مناط التكليف‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬اللسان خاضع لِرادة صاحبه‬
‫فخضع للمؤمن حين قال‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬وخضع للملحد حين قال ‪ -‬لعنه ال ‪ :-‬ل وجود ل‪ ،‬ولم‬
‫يعص اللسان في هذه‪ ،‬ول في تلك‪ .‬والذي رجح أمرا على أمر هو ترجيح الِِيمان عند المؤمن في‬
‫أن يقول‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬وترجيح الِلحاد عند الملحد في أن يقول ما يناقض ذلك‪ .‬والحق هنا‬
‫يقول‪ { :‬وَاخْتَارَ مُوسَىا َق ْومَهُ سَ ْبعِينَ رَجُلً }‪.‬‬
‫ل مثل قولنا‪" :‬‬
‫والذين درسوا اللغة يقولون‪ :‬إن هناك حدثا‪ .‬وأنّ هناك موجدا للحدث نسميه فاع ً‬
‫كتب زيد الدرس " أي أن زيدا هو الذي أدى الكتابة‪ ،‬ونسمي " الدرس " الذي وقعت عليه الكتابة‬
‫مفعولً به‪ ،‬ومرة يكون هناك ما نسميه " مفعولً له " أو " مفعولً لجله " مثل قول البن‪ :‬قمت‬
‫لوالدي إجللً‪ ،‬فالذي قام هو البن‪ ،‬والِجلل كان سببا في إِيقاع الفعل فنسميه " مفعول لجله "‪:‬‬
‫صمْت يوم كذا " ونسميه " مفعولً فيه " ‪ ،‬وهو أن الفعل‪ ،‬وقع في هذا الزمن‪ .‬فمرة يقع‬
‫ونقول‪ُ " :‬‬
‫الحدث على شيء فيكون مفعولً به‪ ،‬ومرة يقع لجل كذا فيكون مفعولً لجله‪ ،‬ومرة يقع في يوم‬
‫كذا؛ العصر أو الظهر فيكون مفعولً فيه‪ ،‬ومرة يكون مفعولً معه " مثل قولنا‪ :‬سرت والنيل‪ :‬أي‬
‫أن الِنسان سار بجانب النيل وكلما مشى وجد النيل في جانبه‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق‪ { :‬وَاخْتَارَ مُوسَىا َق ْومَهُ سَ ْبعِينَ َرجُلً ّلمِيقَاتِنَا‪[ } ...‬العراف‪]155 :‬‬
‫ولن اختيار موسى للسبعين كان وقع من القوم؛ فيكون المفعول قد جاء من هؤلء القوم‪ ،‬ويسمى‬
‫" مفعولً منه "؛ لنه لم يخترهم كلهم‪ ،‬إنما اختار منهم سبعين رجلً لميقاته مع ال سبحانه‪.‬‬
‫وقالوا في علة السبعين إن من اتبعوا موسى كانوا أسباطا‪ ،‬فأخذ من كل سبط عددا من الرجال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ليكون كل السباط ممثلين في الميقات‪ ،‬وكلمة " ميقات " مرت قبل ذلك حن قال ال‪ {:‬وََلمّا جَآءَ‬
‫مُوسَىا ِلمِيقَاتِنَا َوكَّلمَهُ رَبّهُ‪[} ...‬العراف‪]143 :‬‬
‫وهل الميقات هذا هو الميقات الول؟ ل؛ لن الميقات الول كان لكلم موسى مع ال‪ ،‬والميقات‬
‫خذَ ْتهُمُ‬
‫الثاني هو للعتذار عن عبدة العجل‪ { .‬وَاخْتَارَ مُوسَىا َق ْومَهُ سَ ْبعِينَ َرجُلً ّلمِيقَاتِنَا فََلمّا أَ َ‬
‫جفَةُ قَالَ َربّ َلوْ شِ ْئتَ أَهَْلكْ َت ُهمْ‪.‬‬
‫الرّ ْ‬

‫‪[ { ..‬العراف‪]155 :‬‬


‫ولماذا أخذتهم الرجفة؟‬
‫لنهم لم يقاوموا الذين عبدو العجل المقاومة الملئمة‪ ،‬وأراد ال أن يعطي لهم لمحة من عذابه‪،‬‬
‫والرجفة هي الزلزلة الشديدة التي تهز المرجوف وتخيفه ونترهبه من الراجف‪ .‬وحين أخذتهم‬
‫الرجفة قال موسى‪َ } :‬ربّ َلوْ شِ ْئتَ أَ ْهَلكْ َتهُمْ مّن قَ ْبلُ وَإِيّايَ {‪.‬‬
‫أوضح موسى‪ :‬لقد أحضرتهم من قومهم‪ .‬وأهلوهم يعرفون أن السبعين رجلً قد جاءوا معي‪ ،‬فإن‬
‫أهلكتهم يا رب فقد يظن أهلهم أنني أحضرتهم ليموتوا وأسلمتهم إلى الهلك‪ .‬ولو كنت مميتهم يا‬
‫رب وشاءت مشيئتك ذلك لمتّهم من قبل هذه المسألة وأنا معهم أيضا‪ .‬ويضيف القرآن على لسان‬
‫ضلّ ِبهَا مَن َتشَآ ُء وَ َتهْدِي‬
‫س َفهَآءُ مِنّآ إِنْ ِهيَ ِإلّ فِتْنَ ُتكَ ُت ِ‬
‫موسى والقوم معا‪ ...} :‬أَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ال ّ‬
‫حمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلغَافِرِينَ { } العراف‪]155 :‬‬
‫غفِرْ لَنَا وَارْ َ‬
‫مَن تَشَآءُ أَنتَ وَلِيّنَا فَا ْ‬
‫أنت أرحم يا رب من أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا‪ ،‬وهذا القول يدل على أن العملية عملية فعل‪،‬‬
‫والفعل هو عبادة العجل؛ فلو أن هذا هو الميقات الول لما احتاج إلى مثل هذا القول؛ لن قوم‬
‫موسى لم يكونوا قد عبدوا العجل بعد‪ .‬ولكنهم قالوا بعد الميقات الول‪ :‬مادام موسى قد كلم ال‪،‬‬
‫جهْ َرةً‪[} ...‬النساء‪]153 :‬‬
‫فلبد لنا أن نرى ال‪ ،‬وقالوا فعلً لموسى‪ {:‬أَرِنَا اللّهَ َ‬
‫جهْ َرةً { وليس‬
‫إذن نجد أن ما حصل من قوم موسى بعد الميقات الول هو قولهم‪ } :‬أَرِنَا اللّهَ َ‬
‫س َفهَآءُ مِنّآ إِنْ ِهيَ ِإلّ فِتْنَ ُتكَ {‪.‬‬
‫الفعل‪ ،‬أما هنا فالية تتحدث عن الفعل‪ } :‬أَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ال ّ‬
‫وهكذا نعلم أن الية تتحدث عن ميقات ثانٍ تحدد بعد أن عبد بعضهم العجل‪ ،‬والفتنة هي الختبار‪،‬‬
‫والختبار ليس مذموما في ذاته‪ ،‬ول يقال في أي امتحان إنه مذموم‪ .‬إنما المذموم هو النتيجة عند‬
‫من يرسب‪ ،‬والختبار والمتحان غير مذموم عند من ينجح‪.‬‬
‫إذن فالفتنة هي البتلء والختبار‪ ،‬وهذا الختبار يواجه الِنسان الجاهل الذي ل يعلم بما تصير‬
‫إليه المور وتنتهي إليه ليختار الطريق ويصل إلى النتيجة‪ .‬ول يكون ذلك بالنسبة ل؛ لنه يعلم‬
‫أزلً كل سلوك لعباده‪ ،‬لكن هذا العلم ل يكون حجة على العباد؛ ولبد من الفعل من العباد ليبرز‬
‫ويظهر ويكون له وجود في الواقع لتكون الحجة عليهم‪ .‬والخذ بالواقع هو العدل‪.‬‬
‫ضلّ ِبهَا مَن تَشَآ ُء وَ َتهْدِي مَن تَشَآءُ‪[ { ...‬العراف‪:‬‬
‫وقول موسى عليه السلم‪ } :‬إِنْ ِهيَ ِإلّ فِتْنَ ُتكَ ُت ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪]155‬‬
‫هذا القول يعني‪ :‬أنك يا رب قد جعلت الختبار لنك خلقتهم مختارين؛ فيصح أن يطيعوا ويصح‬
‫أن يعصوا‪ .‬وال سبحانه هو من يُضل ويهدي؛ لنه مادام قد جعل الِنسان مختارا فقد جعل فيه‬
‫القدرة على الضلل‪ ،‬والقدرة على الهدى‪.‬‬
‫وقد بيّن سبحانه من يشاء هدايته‪ ،‬ومن يشاء إضلله فقال‪... {:‬وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }‬

‫[آل عمران‪]86 :‬‬


‫والسبب في عدم هدايتهم هو ظلمهم‪ ،‬وكذلك يقول الحق‪... {:‬وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫[البقرة‪]264 :‬‬
‫وهكذا نرى أن الكفر منهم هو الذي يمنعهم من الهداية‪ .‬إذن فقد جعل ال للعبد أن يختار أو أن‬
‫يختار الضلل‪ ،‬وما يفعله العبد ويختاره ل يفعله قهرا عن ال؛ لنه سبحانه لو لم يخلق كل منا‬
‫مختارا لما استطاع الِنسان أن يفعل غير مراد ال‪ ،‬ولكنه خلق الِنسان مختارا‪ ،‬وساعة ما تختار‬
‫‪ -‬أيها الِنسان ‪ -‬الهداية أو تختار الضلل فهذا ما منحه ال لك‪ ،‬وسبحانه قد بيّن أن الذي يظلم‪،‬‬
‫والذي يفسق هو أهل لن يعينه ال على ضلله‪ ،‬تماما كما يعين من يختار الهداية؛ لنه أهل أن‬
‫يعينه ال على الهداية‪.‬‬
‫حمْنَا وَأَنتَ‬
‫غفِرْ لَنَا وَا ْر َ‬
‫ويقول الحق على لسان سيدنا موسى في نهاية هذه الية‪...} :‬أَنتَ وَلِيّنَا فَا ْ‬
‫خَيْرُ ا ْلغَافِرِينَ { [العراف‪]155 :‬‬
‫والولي هو الذي يليك‪ ،‬ول يليك إل من قربته منك بودك له‪ ،‬ولم تقربّه إل لحيثية فيه قد تعجبك‬
‫وتنفعك وتساعدك إذا اعتدى عليك أحد أو تأخذ من عمله لنه عليم‪ .‬إذن فالمعنى الول لكلمة‬
‫الولي أي القريب الذي قربته لن فيه خصلة من الخصال التي قد تنفعك‪ ،‬أو تنصرك‪ ،‬أو تعلمك‪.‬‬
‫ت وَلِيّنَا { أي ناصرنا‪ ،‬والقرب إلينا‪ ،‬فإن ارتكب الِنسان منا ذنبا فأنت أولى به‪،‬‬
‫وقول موسى } أَن َ‬
‫غفِرْ لَنَا { ‪ ،‬ونعلم من هذا أنه يطلب‬
‫إنك وحدك القادر على أن تغفر ذنبه؛ لذلك يقول موسى‪ } :‬فَا ْ‬
‫درء المفسدة أولً لن درءها مقدم على جلب المصلحة‪ ،‬فقدم موسى عليه السلم طلب غفر‬
‫الذنب‪ ،‬ثم طلب ودعا ربّه أن يرحمهم‪ ،‬وهذه جلب منفعة‪ .‬وقد قال ربنا في مجال درء المفسدة‪} :‬‬
‫خلَ ا ْلجَنّةَ {‪ .‬وهذا جلب منفعة‬
‫َفمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ { وهذا درء مفسدة وهو البعد عن النار‪ } :‬وَُأدْ ِ‬
‫ومصلحة‪.‬‬
‫إذن فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة‪ - ،‬وعلى سبيل المثال ‪ -‬إنك ترى تفاحة على‬
‫الشجرة‪ ،‬وتريد أن تمد يدك لتأخذها‪ ،‬ثم التفت فوجدت شابّا يريد أن يقذفك بطوبة‪ ،‬فماذا تصنع؟‬
‫انت في مثل هذه الحالة النفعالية تدفع الطوبة أولً ثم تأخذ التفاحة من بعد ذلك‪ .‬وهذا هو درء‬
‫المفسدة المقدم على جلب المصلحة‪ ،‬وهنا درء المفسدة متمثل في قول موسى‪ } :‬فَاغْفِرْ لَنَا { ثم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شفَآءٌ‬
‫حمْنَا { وهذا جلب مصلحة‪ ،‬والقرآن يقول‪ {:‬وَنُنَزّلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫قال بعد ذلك‪ } :‬وَارْ َ‬
‫حمَةٌ‪[} ...‬الِسراء‪]82 :‬‬
‫وَرَ ْ‬
‫لن الداء يقع أولً‪ ،‬وحين تذهب لمنهج القرآن يشفيك من هذا الداء‪ ،‬والرحمة ألّ يجيء لك داء‬
‫حمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ‬
‫بالمرة‪ .‬فإذا أخذت القرآن لك نصيرا فلن يأتي لك الداء أبدا‪...} .‬فَاغْفِرْ لَنَا وَارْ َ‬
‫ا ْلغَافِرِينَ { [العراف‪]155 :‬‬
‫ومثلها مثل قول الحق سبحانه‪ } :‬خَيْرُ الرّا ِزقِينَ { ‪ ،‬و } خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ { ‪ ،‬و } خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ‬
‫{ و } خَيْرُ ا ْلغَافِرِينَ { هنا؛ لن المغفرة قد تكون من الِنسان للِنسان‪ ،‬ولكنا نعرف أن مغفرة‬
‫الرب فوق مغفرة الخلق؛ لن الغافر من البشر قد يغفر رياء‪ ،‬وقد يغفر سمعة‪ ،‬قد يغفر لنه خاف‬
‫بطش المقابل‪ .‬لكنه سبحانه ل يخاف من أحد‪ ،‬وهو خير الغافرين من غير مقابل‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَاكْ ُتبْ لَنَا‪{ ...‬‬

‫(‪)1097 /‬‬

‫حمَتِي‬
‫وَاكْتُبْ لَنَا فِي َه ِذهِ الدّنْيَا حَسَ َن ًة َوفِي الَْآخِ َرةِ إِنّا ُهدْنَا إِلَ ْيكَ قَالَ عَذَابِي ُأصِيبُ بِهِ مَنْ َأشَا ُء وَرَ ْ‬
‫شيْءٍ َفسََأكْتُ ُبهَا لِلّذِينَ يَ ّتقُونَ وَيُؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَالّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا ُي ْؤمِنُونَ (‪)156‬‬
‫س َعتْ ُكلّ َ‬
‫وَ ِ‬

‫حمْنَا }‪.‬‬
‫غفِرْ لَنَا وَارْ َ‬
‫ونلحظ أن هذه الية تضم طلبات جديدة لسيدنا موسى من ربّه بعد قوله‪ { :‬فَا ْ‬
‫ونرى أن خير الغافرين تعود لقول موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ { :-‬فَاغْفِرْ لَنَا } أما الحسنة في قوله‪{ :‬‬
‫وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَـا ِذهِ الدّنْيَا حَسَ َنةً } فإنها تعود على طلب الرحمة‪ { :‬وَاكْ ُتبْ لَنَا فِي هَـا ِذهِ الدّنْيَا‬
‫حسَنَ ًة َوفِي الخِ َرةِ }‪.‬‬
‫َ‬
‫هو إذن يطلب الحسنة في الدنيا وكذلك في الخرة‪ ،‬والحسنة لها معنى " لغوي " ‪ ،‬ومعنى "‬
‫شرعي " أما المعنى اللغوي فكل ما يستحسنه الِنسان يُسمى حسنة‪ ،‬ولكن الحسنة الشرعية هي ما‬
‫حسنه الشرع‪ ،‬فالشرع رقيب على كل فعل من أفعالنا وتصرفاتنا‪ ،‬فالحسنة ليست ما يستحسنه‬
‫الِنسان؛ لن الِنسان قد يستحسن المعصية‪ ،‬وهذا استحسان بشري بعيد عن المنهج‪ ،‬أما‬
‫الستحسان الشرعي فهو في تنفيذ المنهج بـ " افعل " و " ل تفعل "‪.‬‬
‫والحسنة المعتبرة في عرف المكلفين من ال هي الحسنة الشرعية؛ لن الِنسان قد يستحسن شيئا‬
‫وهو غير شرعي لنه ينظر إلى عاجلية النفع فيه‪ ،‬ول ينظر إلى آجلية النفع‪ ،‬ول ينظر إلى كمية‬
‫النافع‪ .‬والنفع ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬في الدنيا على قدر تصورك في النفع‪ ،‬أما النفع في الخرة فل يعلم‬
‫قدره إل علّم الغيوب ‪ -‬سبحانه ‪ -‬إذن فقوله‪ { :‬وَاكْ ُتبْ لَنَا فِي هَـا ِذهِ الدّنْيَا حَسَنَةً } يكون المراد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بها الحسنة الشرعية في الدنيا عملً‪ ،‬وفي الخرة جزاءً‪.‬‬
‫ونلحظ أن موسى أراد بالحسنة الولى ما يعم الحسنة الشرعية والحسنة اللغوية؛ فهو دعاء بالعافية‬
‫والنعم الجلية الطيّبة؟‪ ،‬وكل خير الدنيا في ضوء منهج ال‪ .‬والحق سبحانه وتعالى يقول‪ُ {:‬قلْ هِي‬
‫لِلّذِينَ آمَنُواْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا خَاِلصَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ‪[} ...‬العراف‪]32 :‬‬
‫إذن فالحسنة الخالصة هي في يوم القيامة‪ ،‬ولكن هناك من ينتفع بها في الدنيا؛ فالجماد منتفع‬
‫برحمة ال‪ ،‬والنبات برحمة ال‪ ،‬والحيوان منتفع برحمة ال‪ ،‬والكافر منتفع برحمة ال‪ .‬كل ذلك‬
‫في الدنيا‪ ،‬وهي الرحمة التي وسعت كل شيء‪ ،‬لكن مسالة الخرة كجزاء على الِحسان فهو جزاء‬
‫خاص بالمؤمنين‪.‬‬
‫ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلم‪ { :‬إِنّا هُدْنَـآ إِلَ ْيكَ }‪.‬‬
‫و " هاد " أي رجع‪ ،‬و " هدنا إليك " أي رجعنا إليك‪ ،‬وهذا كلم موسى عن نفسه وعن أخيه‪ ،‬وعن‬
‫القوم الذين عبدوا العجل ثم تابوا‪ ،‬وما دمنا قد رجعنا إليك يا ربي فأنت أكرم من أن تردنا خائبين‪.‬‬
‫شيْءٍ َفسََأكْتُ ُبهَا ِللّذِينَ‬
‫س َعتْ ُكلّ َ‬
‫حمَتِي وَ ِ‬
‫عذَابِي ُأصِيبُ ِبهِ مَنْ أَشَآ ُء وَرَ ْ‬
‫ويرد الحق سبحانه‪...{ :‬قَالَ َ‬
‫ن وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَـا َة وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا ُي ْؤمِنُونَ } [العراف‪]156 :‬‬
‫يَ ّتقُو َ‬
‫عذَابِي ُأصِيبُ ِبهِ مَنْ أَشَآءُ } أي ل يوجد من يدفعني ويرشدني في توجيه العذاب‬
‫وقوله الحق‪َ { :‬‬
‫لحد؛ فحين يذنب عبد ذنبا أنا أعذبه أو أغفر له؛ لذلك ل يقولن عبد لمذنب إن ال لبد أن يعذبه؛‬
‫شيْءٍ‪.‬‬
‫س َعتْ ُكلّ َ‬
‫حمَتِي وَ ِ‬
‫عذَابِي ُأصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَ ْ‬
‫لنه سبحانه هو القائل‪َ { :‬‬

‫‪[ { ..‬العراف‪]156 :‬‬


‫وما المقصود بالرحمة هنا؟ أهي الرحمة في الدنيا أو الرحمة في الخرة؟ إنها الرحمة في الدنيا‬
‫التي تشمل الطائع والعاصي‪ ،‬والمؤمن والكافر‪ ،‬ولكنها خالصة في اليوم الخر ‪ -‬كما قلنا ‪-‬‬
‫للمؤمنين‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ } :‬فسََأكْتُ ُبهَا { يدل على أن هذا سيكون في الخرة‪ .‬أي أن رحمة ال وسعت كل‬
‫شيء في الدنيا ولكنها رحمة تنتهي بالنسبة للكافرين في إطار الدنيا‪ ،‬ولكن بالنسبة للمؤمنين فهي‬
‫ل ومنّة وعطاء منه ‪ -‬سبحانه ‪...} -‬‬
‫رحمة مستمرة قد كتبها ال أزلً وتعطي للمؤمنين فض ً‬
‫ن وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَـا َة وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا ُي ْؤمِنُونَ { [العراف‪]156 :‬‬
‫فَسََأكْتُ ُبهَا لِلّذِينَ يَ ّتقُو َ‬
‫وعندما سمع بعض اليهود ذلك قالوا‪ :‬نحن متقون‪ ،‬فقيل لهم‪ :‬في أي منهج أنتم متقون أفي منهج‬
‫موسى؟ لو كنتم متقين في منهج موسى ‪ -‬كما تزعمون ‪ -‬لمنتم بمحمد ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬
‫لن من تعاليم موسى أن تؤمنوا برسول ال محمد ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬ولذلك جاء قوله‬
‫تعالى‪ } :‬الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ‪{ ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1098 /‬‬

‫الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِبيّ الُْأ ّميّ الّذِي َيجِدُونَهُ َمكْتُوبًا عِنْ َدهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة وَالْإِنْجِيلِ يَ ْأمُرُ ُهمْ‬
‫ث وَ َيضَعُ عَ ْنهُمْ ِإصْرَ ُهمْ‬
‫حلّ َل ُهمُ الطّيّبَاتِ وَ ُيحَرّمُ عَلَ ْيهِمُ الْخَبَا ِئ َ‬
‫ف وَيَ ْنهَاهُمْ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ وَ ُي ِ‬
‫بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫وَالْأَغْلَالَ الّتِي كَا َنتْ عَلَ ْيهِمْ فَالّذِينَ َآمَنُوا ِب ِه وَعَزّرُوهُ وَ َنصَرُوهُ وَاتّ َبعُوا النّورَ الّذِي أُنْ ِزلَ َمعَهُ أُولَ ِئكَ‬
‫هُمُ ا ْل ُمفْلِحُونَ (‪)157‬‬

‫فهذه تسع صفات لسيدنا رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ -‬وهي أن ال أوحى إليه كتابًا مختصا‬
‫به وهو القرآن‪ ،‬وأنه صاحب المعجزات‪ ،‬أنه بلّغ ونبأ بأفضل وأتم العقائد والعبادات والخلق ‪-‬‬
‫وهو ‪ -‬عليه الصلة والسلم ‪ -‬المي الذي لم يمارس القراءة والكتابة ولم يجلس إلى معلم‪ ،‬فهو‬
‫‪ -‬عليه السلم ‪ -‬باقٍ على الحالة التي ولد عليها‪ ،‬وقد ذكره ربّه ‪ -‬جل وعل ‪ -‬باسمه وصفاته‬
‫ونعوته عند اليهود والنصارى في التوارة والِنجيل وقد كتمها الكافرون منهم أو أساءوا تأويلها‪،‬‬
‫كما وصفه ربه بأنه يأمرهم بالمعروف ويكلفهم بفعل ما تدعوا إليه الطبائع المستقيمة والفطر‬
‫السليمة؛ لن في ذلك النجاح في الدنيا والفلح في الخرة‪ ،‬وأنه ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪-‬‬
‫يزجرهم وينهاهم عن كل منكر مستهجن تستقبحه الجبلة القويمة‪ ،‬والخلقة السوية‪ ،‬ويحل لهم ما‬
‫حرم عليهم من الطيبات التي منعوا منها وحظرها ال عليهم جزاء طغيانهم وضللهم‪ ،‬ويحرم‬
‫عليهم كل ضار وخبيث‪ :‬كأكل الميتة والمال الحرام من الربا والرشوة والغش‪ ،‬ويخفف عنهم ما‬
‫شق عليهم وثقل من التكاليف التي كانت في شريعة موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬كقطع العضاء‬
‫الخاطئة وتحريم الغنائم عليهم ووجوب إحراقها‪ ،‬وكذلك يخفف ال ويحط عنهم المواثيق الشديدة‬
‫التي فرضت عليهم عقابا لهم على فسوقهم وظلمهم‪.‬‬
‫علَ ْيهِمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُ ْم وَ ِبصَدّ ِهمْ عَن سَبِيلِ‬
‫يقول ‪ -‬جل شأنه ‪ {:-‬فَبِظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ حَ ّرمْنَا َ‬
‫عذَابا‬
‫طلِ وَأَعْ َتدْنَا لِ ْلكَافِرِينَ مِ ْنهُمْ َ‬
‫اللّهِ كَثِيرا * وَأَخْ ِذهِمُ الرّبَا َوقَدْ ُنهُواْ عَ ْن ُه وََأكِْلهِمْ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ‬
‫أَلِيما }[النساء‪]161-160 :‬‬
‫وهكذا أعلم ال الرسل السابقين على سيدنا رسول ال أن يبلغوا أقوامهم بمجيء محمد صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ ،‬وأن يؤمن القوام التي يشهدون ويعاصرون رسالته صلى ال عليه وسلم‪ ،‬صحيح أن‬
‫رسول ال لم يكن معاصرا لحد من الرسل‪ ،‬ولكن البشارة به قد جاءت بها أنبياؤهم وسجلت في‬
‫الكتب المنزلة عليهم‪ ،‬وكل رسول سبق سيدنا محمدا صلوات ال وسلمه عليه‪ ،‬قد أمره ال أن‬
‫يبلغ الذين أرسل إليهم أن يتبعوا الرسول محمدا ويؤمنوا به ول يتمسكوا بسلطة زمنية ويخافوا أن‬
‫تنزع منهم‪ .‬ومادام الرسول صلى ال عليه وسلم قد جاء ومعه معجزة وبينة فلبد أن يؤمنوا به‪{.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ‪[} ...‬آل عمران‪]81 :‬‬
‫إذن فقد صنع ال سبحانه وتعالى خميرة إيمانية حتى ل يتعارض اتباع الديان‪ .‬ول يفهم أصحاب‬
‫دين موجود أن دينا آخر جاء لينسخه ويأخذ منه السلطة الزمنية؛ لن رسالة الِيمان موصولة‬
‫وتحدث القضية للناس بامتداد الزمان‪ .‬فكل الرسل يحرصون على أن تكون الحياة آمنة سعيدة‬
‫تتساند فيها المواهب ول تتعاند فيها الحركات‪.‬‬

‫وقد طلب الحق من الرسل ذلك وأخذ عليهم العهد وبعد ذلك أكده فقال‪:‬‬
‫} أََأقْرَرْ ُتمْ { واستوحى منهم الكلم الذي يؤيد هذا المنهج‪ .‬ولذلك ل يصح لتابع نبي أن يصادم‬
‫رسالة جديدة مؤيدة بمعجزة ومؤيدة بمنهج يضمن للِنسان الحياة وسلمتها وسعادتها‪.‬‬
‫ولم يكتف الحق بأن يجعل الِيمان برسالة رسول ال صلى ال عليه ونسلم مجرد خبر‪ ،‬بل وضع‬
‫لمحمد وحده سمة في الكتب التي سبقته‪ ،‬ووصفه لهم مشخصا‪ ،‬وحين يصفه مشخصا فهذا أوضح‬
‫من الخبر عنه بكلم‪ .‬ولذلك قال عبدال بن سلم عندما سأله عمر رضي ال عنه عن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬أنا أعلم به منّي يا بني‪ .‬قال‪ :‬وَِلمَ؟ قال‪ :‬لني لست أشك في محمد أنه‬
‫نبيّ‪ ،‬فأما ولدي فلعل والدته قد خانت‪ ،‬فقبّل عمر رأسه‪ .‬ولذلك يقول الحق سبحانه‪َ } :‬يعْ ِرفُونَهُ َكمَا‬
‫َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآءَهُمُ {‪.‬‬
‫ول شك أن الِنسان يعرف ابنه معرفة دقيقة‪ .‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم كانت له سمات‬
‫خاصة وهي التي تثبت شخصيته صلى ال عليه وسلم المادية‪ ،‬وليس المر في رحلة الِسراء‬
‫والمعراج مجرد كلم‪ ،‬بل إنه حينما سئل عن هذه الرحلة قال‪ " :‬رأيت موسى وإذا رجل ضَ ْربٌ‪،‬‬
‫جلٌ كأنه من رجال شنوءة‪ ،‬ورأيت عيسى فإذا رَبعة أحمر كأنه خرج من ديماس‪ -‬الحمّام‪ -‬وأنا‬
‫رَ َ‬
‫أشبه ولد إبراهيم به "‪.‬‬
‫وكذلك أعطى ال في التوراة والِنجيل ل الخبر عن محمد صلى ال عليه وسلم فقط‪ ،‬بل أعطي‬
‫تفاصيل صورته بحيث تتشخص لهم‪ ،‬فل يلتبس به عند مجيئه مع التشخيص شريك‪ ،‬فبقول‬
‫سبحانه‪َ } :‬يعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَآ َءهُمُ {‪ .‬ولكن فريقا منهم كتموا الحق ليحتفظوا بالسلطة‬
‫الزمنية‪ ،‬لنهم كانوا يظنون أنه حين يأتي دين جديد سيأخذ منهم هذه السلطة الزمنية ويقود المم‬
‫والشعوب‪ .‬لقد أراد الحق سبحانه وتعالى أن يجعل رسل السماء إلى الرض متعاونين ل‬
‫حمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ َمعَهُ َأشِدّآءُ‬
‫متعاندين‪ ،‬ينصر بعضهم بعضا‪ .‬كما جاء في سورة الفتح‪ {:‬مّ َ‬
‫حمَآءُ بَيْ َنهُمْ تَرَاهُمْ ُركّعا سُجّدا يَبْ َتغُونَ َفضْلً مّنَ اللّ ِه وَ ِرضْوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ‬
‫عَلَى ا ْل ُكفّارِ ُر َ‬
‫شطَْأهُ فَآزَ َرهُ فَاسْ َتغْلَظَ‬
‫مّنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَِلكَ مَثَُلهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة َومَثَُلهُمْ فِي الِنجِيلِ كَزَ ْرعٍ َأخْرَجَ َ‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِ ْنهُم‬
‫جبُ الزّرّاعَ لِ َيغِيظَ ِبهِمُ ا ْل ُكفّا َر وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫فَاسْ َتوَىا عَلَىا سُوقِهِ ُيعْ ِ‬
‫عظِيما }[الفتح‪]29 :‬‬
‫ّمغْفِ َر ًة وَأَجْرا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد جاء الحق بصورة المؤمنين برسالة رسول ال صلى ال في التوراة والِنجيل‪ ،‬لن الدين‬
‫الِسلمي الذي نزل على محمد لن يأتي دين بعده؛ لذلك جاء بسيرة رسول ال وصفاته وصفات‬
‫أتباعه في التوراة والِنجيل‪ ،‬وفي هذا الدين ما تفتقده اليهودية التي انجرفت إلى مادية صرفة‬
‫وتركت الروحانيات؛ لذلك تأتي سيرة أتباع محمد في التوراة‪ } :‬سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِه ِهمْ مّنْ أَثَرِ‬
‫السّجُودِ {‪.‬‬
‫حين أسرف اليهود في المادية أراد ال أن يأتي برسول يجنح ويميل إلى الروحانية وهو سيدنا‬
‫عيسى بن مريم عليه السلم‪.‬‬

‫‪ .‬ليحصل العتدال في تناول الحياة دون إفراط أو تفريط‪.‬‬


‫إذن فالحق سبحانه وتعالى مهد لكل رسول بأن يبشر به الرسول السابق لنه ل معاندات في‬
‫الرسالت‪ .‬ولما كان رسول ال صلى ال عليه وسلم هو خاتم الموكب الرسالي‪ ،‬كان ولبد أن‬
‫يصفه ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬وصفّا ليس بالكلم‪ ،‬بل يصفه كصورة‪ ،‬بحيث إذا رأوه يعرفونه‪ ،‬ولذلك‬
‫نجد سيدنا سلمان الفارسي حين رأى رسول ال في المدينة ورأى منه علمات كثيرة أحب أن‬
‫يرى فيه علمة مادية‪ ،‬فرأى في كتف الرسول خاتم النبوة‪.‬‬
‫ولكن هل نفع ذلك؟ نعم‪ ،‬فكثير من الناس آمن به‪ " .‬وقد أقام رسول ال مناظرة بينه وبين اليهود‬
‫بواسطة عبدال بن سلم‪ ،‬الذي قال بعد أن أسلم بين يدي رسول ال‪ " :‬يا رسول ال إن اليهود قوم‬
‫بهت إن علموا بإسلمي قبل أن تسألهم بهتوني عندك‪ ،‬فجاءت اليهود ودخل عبدال البيت‪ ،‬فقال‬
‫رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ :-‬أي رجل فيكم عبدال بن سَلَم؟ قالوا‪ :‬أعلمنا وابن أعلمنا‬
‫وأخيرنا وابن أخيرنا‪ .‬فقال رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ :-‬أفرأيتم إن أسلم عبدال؟ قالوا‪:‬‬
‫أعاذه ال من ذلك؟ فخرج عبدال إليهم‪ ،‬فقال‪ :‬أشهد أن ل إله إلّ ال‪ ،‬وأشهد أن محمدا رسول ال‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه "‪.‬‬
‫إذن فالوصاف الكلمية والوصاف الشخصية المشخصة جاءت حتى ل يقال‪ :‬إن أديان السماء‬
‫تتعاند‪ ،‬إنها كلها متكاتفة في أن تصل الرض بالسماء على ما تقتضيه حالة العصر زمانا ومكانا‪.‬‬
‫وقديما كان العالم معزولً عن بعضه‪ ،‬وكل بيئة لها أجواؤها وداءاتها؛ فيأتي الرسول ليعالج في‬
‫مكان خاص داءات خاصة‪ ،‬لكن ال جاء برسوله صلى ال عليه وسلم بعد أن توحدت هذه الداءات‬
‫في الدنيا؛ جاء رسولنا الكريم ليعالج هذه الداءات العالمية‪ ،‬وجاء رسول ال مؤيدا بأوصافه ومؤيداُ‬
‫غلّ وهو‬
‫حمْل الثقيل‪ ،‬والغلل جمع ُ‬
‫بتعاليمه التي تخفف عنهم إصرهم وأغللهم‪ ،‬والِصر هو ال ِ‬
‫الحديدة التي تجمع اليدين إلى العنق لتقييد الحركة‪.‬‬
‫وقد ذكر الحق الوصاف ومهّد الذهان إلى مجيء رسالة محمد صلى ال عليه وسلم ليضع عنهم‬
‫الغلل بالنور الذي نزل على محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فالرسالة المحمدية هي الجامعة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المانعة‪ ،‬ولذلك يقول الحق بعد ذلك‪ُ } :‬قلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ‪{ ...‬‬

‫(‪)1099 /‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ يُحْيِي‬


‫جمِيعًا الّذِي َلهُ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ َ‬
‫وَ ُيمِيتُ فََآمِنُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ النّ ِبيّ الُْأ ّميّ الّذِي ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َوكَِلمَاتِ ِه وَاتّ ِبعُوهُ َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ (‪)158‬‬

‫جمِيعا } في رسالة تعم‬


‫هنا يأمر الحق رسوله بالتي‪ُ { :‬قلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ َ‬
‫الزمان‪ ،‬وتعم المكان‪ .‬وفي ذلك يقول رسول ال‪:‬‬
‫" أعطيت خمسا لم ُيعْطَهن أحد من النبياء قبلي‪ ..‬نُصرت بالرعب مسيرة شهر‪ ،‬وجُعلت لي‬
‫الرض مسجدا وطهورا‪ ،‬فأيما رجل من أمتي أدركته الصلة فليصل‪ ،‬وأحلت لي الغنائم وكان‬
‫النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة وأعطيت الشفاعة "‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك أراد الحق سبحانه وتعالى أن يثبت عمومية الرسالة بعمومية تسخير الكون للخلق؛‬
‫لذلك كان الحديث موجها إلى كافة الناس‪ُ { :‬قلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ }‪ .‬وكل من يطلق عليهم ناس‬
‫جمِيعا } وأراد سبحانه أن يعطينا الحيثيات التي‬
‫فالرسول مرسل إليهم‪ { :‬إِنّي َرسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ َ‬
‫تجعل ل رسولً يبلغ قومه وكافة القوام منهج ال في حركة حياتهم‪ ،‬فقال‪ { :‬الّذِي لَهُ مُ ْلكُ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫ومادام هو الذي يملك السموات والرض‪ ،‬ولم يدّع أحد من خلقه أنه يملكها‪ ،‬وفي السموات‬
‫والرض وما بينهما حياتنا ومقومات وجودنا فهو سبحانه أولى وأحق أن يعبد‪ .‬ولو أن السماء‬
‫لواحد‪ ،‬والهواء لواحد‪ ،‬والرض لواحد‪ ،‬وما بينهما لواحد لكان من الممكن أن يكون إله هنا‪ ،‬وإله‬
‫علَىا‬
‫ضهُمْ َ‬
‫ق وََلعَلَ َب ْع ُ‬
‫هناك وإله هنالك‪ .‬وفي هذا يقول الحق‪ {:‬إِذا لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خََل َ‬
‫َب ْعضٍ‪[} ...‬المؤمنون‪]91 :‬‬
‫إذن فما دام الوجود كله من السموات والرض وما سواهما ل‪ ،‬فهو الوْلى أن يعبد‪ ،‬وأول قمة‬
‫العبادة أن تشهد بأنه ل إله إل ال‪ ،‬وحيثية ألوهيته الولى أن له ملك السماوات والرض‪ .‬وما دام‬
‫إلها فل بد أن يطاع‪ ،‬ول يطاع إل بمنهج‪ ،‬ول منهج إل بافعل ول تفعل‪ .‬وأول المنهج القمة‬
‫العقدية إنه هو التوحيد‪ .‬وجعل ال للتوحيد حيثية من واقع الحياة فقال‪ُ { :‬يحْيِـي وَ ُيمِيتُ }‪ .‬وهذا‬
‫أمر لم يدعه أحد أبدا؛ لن ال هو الذي له ملك السموات والرض‪ ،‬ولنه يحيي ويميت‪.‬‬
‫ولذلك نجد من حاجّ إبراهيم في ربه يقول الحق عنه‪ {:‬أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي‬
‫يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ‪[} ...‬البقرة‪]258 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحاول هذا الملك أن يدير حوارا سفسطائيّا مضلل ليفحم ويسكت إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬فقال‪{:‬‬
‫أَنَا ُأحْيِـي وَُأمِيتُ‪[} ...‬البقرة‪]258 :‬‬
‫وذلك بأن يأمر بقتل انسان ثم يعفو عنه‪ ،‬وهو بذلك ل يميته بل يحييه في منطق السفسطائيين‪ .‬لكن‬
‫هل المر بالقتل هو الموت؟‪ .‬طبعا ل؛ لن هناك فارقا بين الموت والقتل‪ ،‬فقد يقتل إنسان إنسانا‬
‫آخر‪ ،‬لكنه ل يمكن أن يميته؛ لن الموت يأتي بدون هدم بنيته بشيء؛ برصاصة أو بحجر أو‬
‫بقنبلة‪ .‬ول أحد قادر على أن يميت احدا إذا رغب في أن يميته‪ ،‬فالموت هو الحادث بدون سبب‪،‬‬
‫لكن أن يقتل إنسان إنسانا آخر فهذا ممكن‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه عن نفسه‪ { :‬يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ‬
‫فَآمِنُواْ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ‪.‬‬

‫‪[ { ..‬العراف‪]158 :‬‬


‫وانظروا إلى الدقة في الداء؛ فما دام قد أمر الحق رسوله أن يقول‪ :‬إني رسول ال إليكم جميعا‪،‬‬
‫وحيثية الِيمان هي الِقرار والعتقاد بوحدانية الِله الذي له ملك السموات والرض‪ ،‬وهو ل إله‬
‫إل هو‪ ،‬وهو يحيي ويميت؛ لذلك يدعوهم إلى الِيمان بالخالق العلى‪ } :‬فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ {‪.‬‬
‫لم يقل محمدٌ وآمنوا بي؛ لنها ليست مسألة ذاتية في شخصك ما يا محمد‪ ،‬إنما هو تكريم لرسالتك‬
‫إلى الناس‪ ،‬فالِِيمان ل بذاتك وشخصك‪ ،‬ولكن لنك رسول ال‪ ،‬فجاء بالحيثية الصلية } فَآمِنُواْ‬
‫بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ { ‪ ،‬والرسول قد يكون محمدا أو غير محمد‪ ..‬وبعد ذلك قال في وصف النبي‪} :‬‬
‫لمّيّ الّذِي ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َوكَِلمَاتِهِ {‪ .‬والمية ‪ -‬كما علمنا من قبل ‪ -‬شرف في سيدنا محمد‬
‫ياُ‬
‫النّ ِب ّ‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم يؤمن بكلمات ال‪ ،‬وهي إما بما بلغنا عنه من‬
‫أسلوب القرآن‪ ،‬وإمّا بالذي قاله موسى لقومه‪ " :‬وجعل كلمي في فيه "‪.‬‬
‫ويقول فيه عيسى ‪ -‬الذي ل يتكلم من قِبَل نفسه ‪ ،-‬وإنما تأتي له كلمات ربنا في فمه‪ ،‬والقول‬
‫طقُ عَنِ‬
‫الشامل في وصف كلمات محمد صلى ال عليه وسلم‪ :‬ما بيّنه الحق في قوله‪َ {:‬ومَا يَن ِ‬
‫ا ْل َهوَىا }[النجم‪]3 :‬‬
‫أو أن الِيمان بالكلمات هو أن يؤمن بأن كل كون ال مخلوق بكلمة منه‪ {:‬إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا‬
‫أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪]82 :‬‬
‫ولقائل أن يقول‪ :‬كيف يخاطب ال شيئا وهو لم يكن بعد؟ ونقول‪ :‬إنه سبحانه قد علمه أزلً‪،‬‬
‫ووجوده ثابت وحاصل‪ ،‬ولكن ال يريد أن يبرز هذا الموجود للناس‪ ،‬فوجود أي شيء هو أزلي‬
‫في علم ال‪ ،‬وكأنه يقول للشيء‪ :‬اظهر يا كائن للوجود ليراك الناس بعد أن كنت مطمورا في طيّ‬
‫قدرتي‪.‬‬
‫وسواء أكانت الكلمة بخلق السباب‪ ،‬مثل خلث الشمس والقمر أم بخلق شيء بل أسباب‪ ،‬كعيسى‬
‫‪ -‬عليه السلم ‪ -‬فأنه " كلمة منه " أي كلمة تخطت نطاق السباب؛ بأن ولدت سيدتنا مريم من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غير رجل‪ .‬وفي هذا تخطٍ للسباب‪ ،‬ولذلك قال الحق سبحانه‪:‬‬
‫} ِبكَِلمَةٍ مّنْهُ {‪ .‬ونعلم أن كل شيء ل يكون إل بكلمة منه سبحانه‪ ،‬ولكن بكلمة لها أسباب‪ ،‬أو‬
‫بكلمة ل أسباب لها‪ .‬والكلمات هي أيضا اليات التي فيها منهج الحكام‪ ،‬ولذلك يأتي قوله الحق‪{:‬‬
‫ط َومَآ‬
‫ق وَ َي ْعقُوبَ وَالَسْبَا ِ‬
‫ل وَإِسْحَا َ‬
‫سمَاعِي َ‬
‫قُولُواْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَآ أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا َومَآ أُن ِزلَ إِلَىا إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫حدٍ مّ ْنهُ ْم وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ }‬
‫أُو ِتيَ مُوسَىا وَعِيسَىا َومَا أُو ِتيَ النّبِيّونَ مِن رّ ّبهِمْ لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ أَ َ‬
‫[البقرة‪]136 :‬‬
‫ويروي لنا الثر أن سيدنا موسى عليه السلم قال لربه‪:‬‬
‫" أني أجد في اللواح أمة يؤمنون بالكتاب الول وبالكتاب الخر ويقاتلون فصول الضللة حتى‬
‫يقاتلوا العور الكذاب‪ ،‬فاجعلهم أمتي قال‪ :‬تلك أمة أحمد "‪.‬‬

‫وقول موسى آمنوا بالكتاب الخر‪ ،‬هو الذي يدل عليه قول الحق سبحانه‪ {:‬قُولُواْ آمَنّا بِاللّ ِه َومَآ‬
‫ق وَ َيعْقُوبَ وَالَسْبَاطِ‪[} ...‬البقرة‪]136 :‬‬
‫سمَاعِيلَ وَِإسْحَا َ‬
‫أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا َومَآ أُن ِزلَ إِلَىا إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ‬
‫ويذيل الحق الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله‪:‬‬
‫} وَاتّ ِبعُوهُ َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ {‪ .‬و " لعل " رجاء وطلب‪ .‬ونعلم أن كل طلب يتعلق بأحد أمرين‪ :‬إما‬
‫طلب لمحال لكنك تطلبه لتدل بذلك على أنك تحبه‪ ،‬وهو لون من التمني مثل قول من قال‪ :‬ليت‬
‫الشباب يعود يوما‪ ،‬إنه يعلم أن الشباب ل يعود لكنه يقول ذلك ليشعرك بأنه يحب الشباب‪ .‬أو‬
‫كقول إنسان‪ :‬ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح‪ ،‬وهذا طلب لمحال‪ ،‬إل أنه يريد أن‬
‫يشعرك بأن هذا أمر يحبه‪ ،‬إمّا طلب ممكن التحقيق‪ .‬وهو ما يسمى بالرجاء‪ .‬وله مراحل‪ :‬فأنت‬
‫حين ترجو لِنسان كذا‪ ،‬تقول‪ :‬لعل فلنا يعطيك كذا‪ ،‬والِدخال في باب الرجاء أن تقول‪ :‬لعلي‬
‫أعطيك؛ لن الرجاء منك أنت‪ ،‬وأنت الذي تقوله‪ ،‬ومع ذلك قد ل تستطيع تحقيقه‪ ،‬والقوى أن‬
‫تقول‪ :‬لعل ال يعطيك‪ .‬أما ال يعطيك‪ .‬ولكنها من كلمك أنت فقد يستجيب ال لك وقد ل‬
‫يستجيب‪ ،‬أما إذا قال ال‪ :‬لعلكم‪ ،‬فهذا أرجي الرجاءات‪ ،‬ولبد أن يتحقق‪.‬‬
‫وحينما يتكلم الحق عن قوم موسى‪ ،‬يتكلم عنهم بعرض قصصهم‪ ،‬وفضائحهم للعهد بعد نعم ال‬
‫الواسعة الكثيرة عليهم‪ ،‬وأوضح لنا‪ :‬إياكم أن تأخذوا هذا الحكم عاما؛ لن الحكم لو كان عاما‪ ،‬لما‬
‫وُجد من أمة موسى من يؤمن بمحمد‪ .‬ولذلك قلنا قديما إن هناك ما يسمى " صيانة الحتمال "‪.‬‬
‫ومثال على ذلك نجد من اليهود من آمنوا برسالة رسول ال مثل مخريق الذي قال فيه رسول ال‬
‫‪ -‬صلى ال عليه وسلم ‪ " :-‬مخريق خير يهود "‪ .‬وعبدال بن سلم إن بعض اليهود كانوا‬
‫مشغولين بقضية الِيمان‪ ،‬ولذلك ل تأخذ المسألة كحكم عام؛ لن من قوم موسى من يصفهم الحق‬
‫بالقول الكريم‪َ } :‬ومِن َقوْمِ مُوسَىا ُأمّةٌ‪{ ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1100 /‬‬

‫ق وَبِهِ َيعْدِلُونَ (‪)159‬‬


‫حّ‬‫َومِنْ َقوْمِ مُوسَى ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِالْ َ‬

‫وحين يسمع قوم موسى هذا القول سيقولون في أنفسهم أنه يعلم ما في صدورنا من تفكير في‬
‫الِيمان برسالة صلى ال عليه وسلم‪ .‬ولكن لو عمّم الحكم فمن يفكر في الِيمان بمحمد يقول‪ :‬لماذا‬
‫يصدر حكما ضدي وأنا أفكر في الِيمان؟ لكن الحق " صان الحتمال " وأوضح لكل واحد من‬
‫هؤلء الذين يفكرون في الِيمان بمحمد صلى ال عليه وسلم أن يتجه إلى إعلن الِيمان فقال‪:‬‬
‫ق وَبِهِ َيعْدِلُونَ } [العراف‪]159 :‬‬
‫حّ‬‫{ َومِن َقوْمِ مُوسَىا ُأمّةٌ َي ْهدُونَ بِالْ َ‬
‫أي يدلون الناس على الحق ويدعونهم إلى طريق الخير‪ ،‬وبهذا الحق يعدلون في حكمهم بين الناس‬
‫ول يجورون‪.‬‬
‫طعْنَا ُهمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ‪} ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ { :‬وقَ ّ‬

‫(‪)1101 /‬‬

‫سقَاهُ َق ْومُهُ أَنِ اضْ ِربْ ِب َعصَاكَ‬


‫عشْ َرةَ أَسْبَاطًا ُأ َممًا وََأوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى ِإذِ اسْ َت ْ‬
‫طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ َ‬
‫َوقَ ّ‬
‫عشْ َرةَ عَيْنًا قَدْ عَِلمَ ُكلّ أُنَاسٍ مَشْرَ َبهُمْ وَظَلّلْنَا عَلَ ْيهِمُ ا ْل َغمَا َم وَأَنْزَلْنَا عَلَ ْيهِمُ‬
‫ستْ مِنْهُ اثْنَتَا َ‬
‫جَ‬‫حجَرَ فَانْبَ َ‬
‫الْ َ‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ (‪)160‬‬
‫ظَلمُونَا وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫ن وَالسّ ْلوَى كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُ ْم َومَا َ‬
‫ا ْلمَ ّ‬

‫وحين يقول الحق " قطعناهم " فهذه عودة لقوم موسى‪ ،‬ونعرف أن القرآن ل يخصص كأي كتاب‬
‫فصلً لموسى وآخر لعيسى وثالثا لمحمد‪ ،‬ل‪ ،‬بل يجعل من المنهج الِيماني عجينة واحدة في‬
‫الدعوة‪ ،‬فيأتي بقضية عيسى‪ ،‬ثم يدخل في الدعوة قضية موسى وغيره وهكذا‪ ،‬ثم يرجع إلى‬
‫القضية الصلية كي يستغل انفعالت النفس بعد أي قصة من القصص‪.‬‬
‫وهنا يعود الحق سبحانه لقوم موسى مرة أخرى‪ .‬فبعد أن أنصفهم وبيّن أن فيهم أمة يهدون بالحق‬
‫طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ أَسْبَاطا ُأمَما }‪ .‬والمقصود هنا بنو إسرائيل‪ ،‬ومعنى "‬
‫وبه يعدلون‪ .‬يقول‪َ { :‬و َق ّ‬
‫قطعت الشيء " أن الشيء كان له تمام وجودي مع بعضه‪ ،‬ثم قطعته وفصلت بعضه عن بعض‪،‬‬
‫وجعلته قطعا وأجزاء‪ .‬فهم كلهم بنو إسرائيل‪ ،‬ولكن الحق يوضح أنه قطعهم وجعلهم " أسباطا " ‪،‬‬
‫و " السبط " هو ولد والولد‪ ،‬وهم هنا أولد سيدنا يعقوب وكانوا اثني عشر ولدا‪ ،‬وحكت سورة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س وَا ْل َقمَرَ رَأَيْ ُتهُمْ لِي سَاجِدِينَ }[يوسف‪:‬‬
‫شمْ َ‬
‫حدَ عَشَرَ َك ْوكَبا وَال ّ‬
‫يوسف وقالت‪... {:‬ياأَبتِ إِنّي رَأَ ْيتُ أَ َ‬
‫‪]4‬‬
‫وحين تعد وتحصي ستجد أحد عشر كوكبا مرئية‪ ،‬وتضم إليها الشمس والقمر والرائي‪ ،‬فيصير‬
‫العدد أربعة عشر واترك الشمس والقمر لنهما يرمزان إلى يعقوب وزوجه‪ ،‬وخذ الحد عشر‬
‫كوكبا‪ ،‬وأضف الرائي وهو يوسف فيكون العدد اثنى عشر‪ .‬وهؤلء هم الثنى عشر سبطا‪ ،‬فقد‬
‫أنجب سيدنا يعقوب اثنى عشر ابنا من أمهات مختلفة‪ ،‬وعرفنا من قبل أن المهات حين تتعدد‬
‫فالميول الهوائية بين البناء قد تتعاند‪ .‬ولذلك تنبأ سيدنا يعقوب وقال لسيدنا يوسف‪ {:‬لَ َت ْقصُصْ‬
‫خوَ ِتكَ فَ َيكِيدُواْ َلكَ كَيْدا‪[} ...‬يوسف‪]5 :‬‬
‫ُرؤْيَاكَ عَلَىا إِ ْ‬
‫طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ‬
‫هذا أول دليل على أنهم مختلفون‪ ،‬وهو سبب من أسباب وحيثية التقطيع‪َ { :‬و َق ّ‬
‫أَسْبَاطا }‪.‬‬
‫حقّا‪[} ...‬يوسف‪]100 :‬‬
‫جعََلهَا رَبّي َ‬
‫وفي سورة يوسف نقرأ‪ {:‬هَـاذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِن قَ ْبلُ قَدْ َ‬
‫حجَرَ‬
‫سقَاهُ َق ْومُهُ أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ الْ َ‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا ِإذِ اسْتَ ْ‬
‫ستْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْ َرةَ عَيْنا‪[ } ...‬العراف‪]160 :‬‬
‫فَانبَجَ َ‬
‫إنهم ل يريدون حتى مجرد الشتراك في الماء تحسبا للختلف فيما بينهم‪ ،‬فجعل الحق لكل سبط‬
‫منهم عينا يشرب منها ليعالج ما فيهم من داءات الغيرة والحقد على بعضهم البعض؛ لن الحق‬
‫طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ َأسْبَاطا ُأمَما }‪.‬‬
‫قال عنهم‪َ { :‬وقَ ّ‬
‫وهنا وقفة لغوية فقط‪ ،‬والسباط في أولد يعقوب وإسحاق يقابلون القبائل في أولد إسماعيل‪،‬‬
‫وأولد إسماعيل " العرب " يسمونهم قبائل‪ ،‬وهؤلء يسمونهم " أسباطا " ‪ ،‬ونعرف أن لفظ " اثنتي‬
‫" يدل على أنهم إناث‪ ،‬و " عشرة " أيضا إناث‪ ،‬لننا نقول‪ " :‬جاءني رجلن اثنان " و " امرأتان‬
‫اثنتان "؛ أي اثنان للذكور‪ ،‬واثنتان للِناث‪ ،‬وكلمة " اثنتي عشرة " عدد مركب وتمييزه يكون دائما‬
‫حدَ عَشَرَ َك ْوكَبا }‪.‬‬
‫مفردا‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪ { :‬أَ َ‬

‫إذن " اثنتا عشرة " يدل على أنه مؤنث‪ .‬لكن المذكور هنا " سبط " وسبط مذكر‪ ،‬ولنا أن نعرف‬
‫أنه إذا جمع صار مؤنثا لنهم يقولون‪ " :‬كل جمع مؤنث " وأيضا فالمراد بالسباط القبائل‪،‬‬
‫ومفردها قبيلة وهي مؤنثة‪ ،‬وقطعهم أي كانت لهم ‪ -‬من قبل ‪ -‬وحدة تجمعهم‪ ،‬فأراد الحق أن‬
‫يلفتنا إلى أنهم من شيء واحد‪ ،‬فجاء بكلمة " أسباط " مكان قبيلة‪ ،‬وقبيلة مفردة مؤنثة‪ ،‬ويقال‪" :‬‬
‫اثنتا عشرة قبيلة " ‪ ،‬ول يقال اثنتا عشرة قبائل‪ ،‬فوضع أسباطا‪ ،‬موضع قبيلة لن كل قبيلة تضم‬
‫طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ َأسْبَاطا ُأمَما‪[ { ...‬العراف‪]160 :‬‬
‫أسباطا لذا جاء التمييز مذكرا‪َ } ...‬وقَ ّ‬
‫أي جعلنا كل سبط أمة بخصوصها‪ .‬والواقع الكوني أثبت أنهم كذلك؛ لنك ل تجد لهم ‪ -‬فيما‬
‫مضى ‪ -‬تجمعا قوميّا وهو ما يسمونه " الوطن القومي لليهود " برغم أن الدول الظالمة القوية‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أعانوهم وأقاموا لهم وطنّا على أرض فلسطين‪ ،‬ومع ذلك نجد في كل بلد طائفة منهم تعيش‬
‫معزولة عن الشعوب التي تحيا في رحابها‪ ،‬وكأنهم ل يريدون أن يذوبوا في الشعوب‪ ،‬ففي باريس‬
‫‪ -‬مثلً ‪ -‬تجد " حي اليهود " ‪ ،‬وفي لندن المسألة نفسها‪ ،‬وفي كل مدينة كبيرة تتكرر هذه الحكاية‪،‬‬
‫فهم يعيشون فيها بطقوسهم وبشكلهم وبأكلهم‪ ،‬وبعاداتهم معزولين عن الشعوب‪ ،‬وكأنهم ينفذون قدر‬
‫عشْ َرةَ أَسْبَاطا ُأمَما {‪.‬‬
‫طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ َ‬
‫ال فيهم‪َ } :‬وقَ ّ‬
‫وقطعهم ربنا في الرض أي أنه نشرهم في البلد‪ ،‬ولم يجعل لهم وطنا مستقلً‪ ،‬ولذلك ستقرأ في‬
‫سكُنُواْ الَرْضَ‪.{ ...‬‬
‫سورة الِسراء إن شاء ال‪َ } :‬وقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫أي أنه سبحانه قال لهم بعد سيدنا موسى‪ :‬اسكنوا الرض وحين تقول لنا يا رب‪ " :‬اسكن " فأنت‬
‫تحدد مكانا من الرض‪ .‬كأن يسكن الِنسان في الِسكندرية أو القاهرة أو الردن أو سوريا‪ ،‬لكن‬
‫سكُنُواْ الَ ْرضَ { فهذا يعني أن انساحوا فيها فل تجمع لكم‪.‬‬
‫أن يصدر الحكم بأن } ا ْ‬
‫ويقول الحق‪ } :‬فَِإذَا جَآ َء وَعْدُ الخِ َرةِ جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا {‪.‬‬
‫أي أنه حين يجيء وعد الخرة تكون ضربة قاضية عليكم ‪ -‬أيها اليهود ‪ -‬لن عدوكم لن يتتبعكم‬
‫في كل أمة من المم‪ ،‬ويبعث جيشا يحاربكم في كل مكان تعيش فيه طائفة منكم‪ ،‬لكن إذا جاء‬
‫وعد الخرة يأتي بهم الحق لفيفا ويتجمعون‪ .‬في هذا الوطن القومي الذين يفرحون به‪ ،‬ونقول لهم‪:‬‬
‫ل تفرحوا فهذا هو التجمع الذي قال ال عنه‪ } :‬جِئْنَا ِبكُمْ َلفِيفا { لتكون الضربة موجهة لكم في‬
‫مكان واحد تستأصلكم وتقضي عليكم‪.‬‬
‫سقَاهُ َق ْومُهُ أَنِ اضْرِب‬
‫ويأتي الحق بعد ذلك بخبر المعجزات‪ } :‬وََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا إِذِ اسْتَ ْ‬
‫ّب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ‪.‬‬

‫‪[ { ..‬العراف‪]160 :‬‬


‫و " استسقى " المراد منه هو طلب السقيا‪ ،‬والسقيا هي طلب الماء الذي يمنع على الِنسان‬
‫العطش‪ ،‬ومادام قد طلبوا السقيا فلبد أنهم يعانون من ظمأ‪ ،‬كأنهم في التيه‪ .‬وأراد ال سبحانه أن‬
‫يبرز لهم نعمه وقت الحاجة‪ ،‬فقد تركهم إلى أن عطشوا ليستسقوا وليشعروا بنعمة الرّي‪.‬‬
‫سقَاهُ َق ْومُهُ { ‪ ،‬أي طلبوا من سيدنا موسى أن يسأل ال السقيا‪ .‬فلماذا لجأوا‬
‫والحق يقول‪ِ } :‬إذِ اسْ َت ْ‬
‫إلى موسى وقت الظمأ؟ وقال لهم موسى‪ :‬ليس بذاتي أرويكم‪ ،‬ولكن سأستسقي لكم ربي‪ ،‬ونعلم أن‬
‫مقومات الحياة بالترتيب الوجودي الضطراري‪ :‬الهواء والماء والطعام‪ .‬وساعة ترى " همزة "‬
‫وسينا " وتاء " واقعة على شيء من الشياء فاعرف أنه أمر مطلوب ومرغوب فيه‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ :‬حين سار موسى والعبد الصالح ونزل قرية استطعما أهلها‪ ،‬أي طلبا طعاما وهذا هو‬
‫المقوم الثالث للحياة‪ .‬وهنا " استسقى " أي طلب المقوم الثاني وهو الماء‪ ،‬ونعلم أن المقوم الول‬
‫وهو الهواء ل نستغني عنه‪ .‬لذا لم يضعه ال في يد أحد بل أعطاه ومنحه كل الخلق‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولما كان الهواء غير مملوك وهو مشاع؛ لذلك لم توجد فيه هذه العملية‪ .‬إنما الطعام يُمكن أن‬
‫يُملك‪ ،‬والماء يُمكن أن يُملك‪ ،‬فقال سبحانه مرة " استطعم " ‪ ،‬وقال هنا " استسقى " ‪ ،‬ولم يوجد "‬
‫استهوى " لطلب الهواء‪ ،‬لكن وجد في القرآن " استهوى " بمعنى طلب أن تكون على هواه‪{:‬‬
‫اسْ َت ْهوَتْهُ الشّيَاطِينُ‪[} ...‬النعام‪]71 :‬‬
‫أي طلبت الشياطين أن يكون هواه ومراده تبعا لما يريدون ل لما يريده ال‪.‬‬
‫سقَىا مُوسَىا ِل َق ْومِهِ {‪ .‬وفي سورة‬
‫وقصة الستسقاء وردت من قبل في سورة البقرة‪ } :‬وَإِذِ اسْ َت ْ‬
‫العراف التي نحن بصدد خواطرنا عنها هم الذين طلبوا الستسقاء‪ .‬فهل هناك تعارض؟‪ .‬طبعا‬
‫ل؛ لن قوم موسى طلبوا السقيا من موسى‪ ،‬فطلب لهم السقيا من ربه‪ .‬فهل هذا تكرار؟ ل؛ لنه‬
‫سبحانه تكلم عن الواسطة‪ ،‬وبعد ذلك تكلم عن الصل‪ ،‬وهو سبحانه الواهب للماء؛ فقال هنا‪ " :‬إذ‬
‫سقَىا مُوسَىا ِل َقوْمِهِ {‪.‬‬
‫استسقاه قومه " ‪ ،‬وفي سورة البقرة قال‪ } :‬وَِإذِ اسْ َت ْ‬
‫وهذا ترتيب طبيعي‪ .‬أقول ذلك لنعرف الفارق بين العبارتين حتى نؤكد أنه ل خلف ول تكرار؛‬
‫لن المستسقي هنا القوم‪ ،‬والمستسقي لهم هنا هو موسى والمستسقي منه هو ال ‪ -‬جلت قدرته‪-‬‬
‫وهذا أمر طبيعي‪.‬‬
‫سقَىا مُوسَىا ِل َق ْومِهِ َفقُلْنَا اضْرِب ّب َعصَاكَ‬
‫والحق سبحانه يقول في سورة البقرة‪ {:‬وَإِذِ اسْتَ ْ‬
‫حجَرَ‪[} ...‬البقرة‪]60 :‬‬
‫الْ َ‬
‫ونجد الوحي نزل إلى موسى بقوله‪َ } :‬فقُلْنَا اضْرِب {؛ وهنا في سورة العراف نجد الحق يقول‪} :‬‬
‫سقَاهُ َق ْومُهُ أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ‪[ { ...‬العراف‪]160 :‬‬
‫وََأوْحَيْنَآ إِلَىا مُوسَىا إِذِ اسْتَ ْ‬
‫ولنا أن نعرف أَنّ } َفقُلْنَا { تساوي " أوحينا " تماما‪ ،‬لن المقصود بالقول هنا ليس من مناطات‬
‫تكليم ال لموسى‪ ،‬بل مناط هذه القضية غير المناط في قوله الحق‪َ } :‬وكَلّمَ اللّهُ مُوسَىا َتكْلِيما {‪.‬‬

‫فليس كل وحي لموسى جاء بكلم مباشر من ال‪ ،‬بل سبحانه كلمه مرة واحدة كتشريف له‪ ،‬ثم‬
‫أوحي له من بعد ذلك كغيره من الرسل‪.‬‬
‫عشْ َرةَ عَيْنا‪[ { ...‬العراف‪]160 :‬‬
‫ستْ مِنْهُ اثْنَتَا َ‬
‫وقوله الحق‪ } :‬أَنِ اضْرِب ّب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ فَان َبجَ َ‬
‫هذا القول يدلنا على الِعجاز المطلق‪ ،‬فمرة أمر الحق موسى أن يضرب الماء بالعصا } فَانفَلَقَ‬
‫طوْدِ ا ْلعَظِيمِ { ‪ ،‬ومرة يأمره هنا أن يضرب الحجر فينحبس منه الماء‪ ،‬وهكذا‬
‫َفكَانَ ُكلّ فِ ْرقٍ كَال ّ‬
‫نرى طلقة قدرة ال في أن يعطي ويمنع بالشيء الواحد‪ ،‬ولم يكن ذلك إل بالسباب التي في يد‬
‫ال يحركها كيف يشاء‪ .‬ولذلك رأينا أمر ال حين ضرب موسى البحر بعصاه‪ ،‬فصار كل فرق‬
‫كالطود‪ ،‬أي كالجبل‪ ،‬وامتنعت السيولة‪ ،‬ولما خرج موسى وقومه إلى البر بعد أن عبر البحر أراد‬
‫أن يضرب البحر ليعود ثانية إلى سيرته الولى من السيولة‪ ،‬فأوحى له ال‪ } :‬وَاتْ ُركِ الْبَحْرَ رَهْوا‬
‫{‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي تركه كما هو عليه؛ لن ال يريد أن يغتر فرعون وقومه بأن يروا اليابس طريقا موجودا بين‬
‫الماء‪ ،‬فيحاولوا النفاذ منه وراء موسى وقومه‪ ،‬وما أن دخل فرعون وقومه خلف موسى حتى عاد‬
‫الماء إلى سيولته فغرق فرعون وقومه‪ .‬وهكذا أنجى ال وأغرق بالشيء الواحد‪ ،‬وكذلك في أمر‬
‫العصا؛ إنها حين ضربت الماء فلقته فصار كل فرق كالطود والجبل الشامخ‪ ،‬ثم ضرب موسى بها‬
‫الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينا من الماء‪ ،‬وهكذا نرى قدرة من بيده القدرة والسباب‪} .‬‬
‫عشْ َرةَ عَيْنا‪[ { ...‬العراف‪]160 :‬‬
‫ستْ مِنْهُ اثْنَتَا َ‬
‫اضْرِب ّب َعصَاكَ ا ْلحَجَرَ فَان َبجَ َ‬
‫وهنا تعبير " انبجست " ‪ ،‬وهناك تعبير " انفجرت " ‪ ،‬ونعلم أن النبجاس يحدث أولً ثم يتبعه‬
‫النفجار ثانيا‪ ،‬فالنبجاس أن يأتي الماء قطرة قطرة‪ ،‬ثم يأتي النفجار وتتدفق المياه الكثيرة‪ ،‬فكان‬
‫موسى عليه السلم أول ما يضرب الضربة تأتي وتجيء المياه قليلة ثم تنفجر بعد ذلك‪ .‬إذن فقد‬
‫تكلم الحق عن المراحل التي أعقبت الضربة في لقطات متعددة لمظهر واحد؛ له أولية وله آخرية‪.‬‬
‫وحين تكلم أمير الشعراء عن عطاء ال وقدرته قال‪:‬‬
‫سبحانك اللهم خير معلم علمت بالقلم القرون الولىأرسلت بالتوراة موسى مرشدا وابن البتول‬
‫فعلّم الِنجيلثم جاء لسيدنا محمد وقال‪:‬‬
‫وفجرت ينبوع البيان محمدا فسقى وناول التنزيلوهنا توفيق رائع في العبارة حين قال‪ " :‬فسقى‬
‫ستْ مِنْهُ اثْنَتَا‬
‫جَ‬‫الحديث " ‪ ،‬فالحديث سقيا أما القرآن فمناولة من ال لخلقه‪ .‬والحق يقول‪ } :‬فَانبَ َ‬
‫عَشْ َرةَ عَيْنا {‪.‬‬
‫إن الضربة واحدة من عصا واحدة‪ ،‬وكان المفترض أن تحدث هذه الضربة عينا واحدة تنبع منها‬
‫المياه‪ ،‬لكن الحق أرادها اثنتي عشرة عينا وعلم كل أناس مشربهم؛ لذلك كان لبد أن يكون المكان‬
‫متسعا‪.‬‬

‫عشْ َرةَ عَيْنا قَدْ عَِلمَ ُكلّ‬


‫ستْ مِنْهُ اثْنَتَا َ‬
‫جَ‬‫وأن هذه الضربة كانت إيذانا بالنفعال من الرض‪ } .‬فَانبَ َ‬
‫أُنَاسٍ مّشْرَ َب ُهمْ‪[ { ...‬العراف‪]160 :‬‬
‫ومن أين عرف كل قسم منهم الماء الذي يخصه؟ إنها قسمة ال وصارت كل عين تجذب‬
‫أصحابها‪ ،‬فلم يتزاحموا‪ ،‬وهذا يدل أيضا على التساوي‪ ،‬فلم تنفجر عين بماء أكثر من الخرى‬
‫فتثير الطمع‪ ،‬ل‪ ،‬بل انتظم الجميع فيما أراده الحق‪ } :‬قَدْ عَِلمَ ُكلّ أُنَاسٍ مّشْرَ َبهُمْ {‪.‬‬
‫والحق هنا يتكلم عن رحلة بني إسرائيل في التيه‪ ،‬وفي الصحراء والشمس محرقة‪ ،‬ول ماء‪،‬‬
‫فاستسقوا موسى‪ ،‬فطلب لهم السقيا من ال‪ ،‬وجاءت لهم اثنتا عشرة عينا حتى ل يتزاحموا‪،‬‬
‫وعرف كل منهم مشربه‪.‬‬
‫ويضيف الحق‪ } :‬وَظَلّلْنَا عَلَ ْي ِهمُ ا ْل َغمَامَ {‪.‬‬
‫ولن الشمس محرقة يرحمهم ال بمسيرة من الغمامات تظللهم‪ ،‬ولكل سبط غمامة على قدره‪ ،‬فإذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كان الواحد من البشر حين يوزع جماعة من كتل صغيرة‪ ،‬ل يعجز أن يضعهم في عشرين خيمة‬
‫مثل‪ ،‬فهل يعجز ربنا عن ذلك؟ طبعا ل‪ .‬وإذا كان الحق قد ضمن لنا في الرض الرزق حتى ل‬
‫نجوع‪ ،‬ول نعرى‪ ،‬ول تحرقنا الشمس‪ ،‬ونجد ماء‪ .‬إذن لقد بقي أمر الطعام لهؤلء‪ .‬فقال‪ :‬ل‬
‫ن وَالسّ ْلوَىا‬
‫علَ ْيهِمُ ا ْلمَ ّ‬
‫تحرقنا الشمس‪ ،‬ونجد ماء‪ .‬إذن لقد بقي أمر الطعام لهؤلء‪ .‬فقال‪ } :‬وَأَنْزَلْنَا َ‬
‫كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ‪[ { ...‬العراف‪]160 :‬‬
‫ساعة تأتي كلمة " أنزلنا " نعرف أنها مسألة جاءت من علو‪ ،‬ول يُفترض أن يكون مكانها عاليّا‪،‬‬
‫لكن هي مسألة جاءت من أعلى من قدرتك‪ ،‬أي من فوق أسبابك إنها بقدرة العلى‪.‬‬
‫و " المنّ " مادة بيضاء اللون حلوة الطعم مثل قطرات الزئبق‪ .‬يجدونه على الشجر‪ .‬ول يزال هذا‬
‫الشجر موجودا إلى الن في العراق‪ ،‬يهزونه صباحا فيتساقط ما على الورق من قطرات متجمدة‬
‫لونها أبيض‪ ،‬فيأخذونه على ملءة بيضاء واسمه عندهم المنْ ‪ -‬أيضا ‪ -‬وهو طعم القشدة‬
‫وليونتها‪ ،‬وحلة العسل‪.‬‬
‫و " السلوى " هو طير من رتبة الدجاجيات يستوطن أوروبا وحوض البحر المتوسط واحدته "‬
‫سَلواة " وهو " السّماني " ويسميه أهل السواحل " السّمان " وهو يأتي مهاجرا ولم يربه أحد‪ ،‬وفي‬
‫ن وَالسّ ْلوَىا كُلُواْ‬
‫هذا إنزال من ال لنه رزق من فوق قدرة العباد وأسبابهم‪ } .‬وَأَنْزَلْنَا عَلَ ْيهِمُ ا ْلمَ ّ‬
‫مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ‪[ { ...‬العراف‪]160 :‬‬
‫وهناك مصانع تصنع المن في أشكال مختلفة وأنواع من الحلوى جميلة‪ ،‬ومن زار العراق ذاقه أو‬
‫أحضره لهله‪ .‬والسلوى ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬هو طائر " السمان " الموجود في بيئة أخرى يغريه ربنا‬
‫بالطقس الدافئ فيأتي إلينا لنأخذه‪ ،‬وهذه الطيور جاءت طالبة استمرار الحياة‪ ،‬ويبعثها ربنا لتصير‬
‫لنا طعاما ليدلل على أنه حين يريد الماء‪ ،‬وكما ظلّلهم بالغمام‪ ،‬وبذلك صارت حاجاتهم قدريّة ليس‬
‫لهم فيها أسباب وجاءت لهم بالهناء‪.‬‬

‫فقالوا‪ :‬ومن يدرينا أن الرزق الذي يأتينا من المن والسلوى سيستمر‪ ،‬ثم كيف لنا أن نصبر على‬
‫طعام واحد؟ إنهم قالوا لنبيهم سيدنا موسى ما حكاه القرآن بقوله‪ {:‬وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىا لَن ّنصْبِرَ‬
‫سهَا‬
‫طعَا ٍم وَاحِدٍ فَا ْدعُ لَنَا رَ ّبكَ يُخْرِجْ لَنَا ِممّا تُنْ ِبتُ الَ ْرضُ مِن َبقِْلهَا َوقِثّآ ِئهَا َوفُو ِمهَا وَعَ َد ِ‬
‫عَلَىا َ‬
‫وَ َبصَِلهَا‪[} ...‬البقرة‪]61 :‬‬
‫وهنا قال الحق‪ :‬اذهبوا إلى أي ِمصْ ٍر من المصار والمدن تجدوا ما تريدون‪ } :‬اهْبِطُواْ ِمصْرا‬
‫فَإِنّ َلكُمْ مّا سَأَلْتُمْ {‪ .‬لقد أعطاهم الحق الرزق بدون السببية‪ ،‬إنه منه مباشرة‪ ،‬فكان من الواجب أن‬
‫تشكروا من أراحكم‪ ،‬وجعل لكم الرزق ميسرا‪ .‬لكنهم لم يشكروا ال‪ ،‬بل تمردوا‪ ،‬ولذلك ذيل الحق‬
‫س ُهمْ يَظِْلمُونَ {‪ .‬نعم فهم ظلموا بعدم شكر النعمة‪.‬‬
‫الية بقوله‪َ } :‬ومَا ظََلمُونَا وَلَـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ‬
‫سكُنُواْ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَإِذْ قِيلَ َل ُهمُ ا ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1102 /‬‬

‫سكُنُوا هَ ِذهِ ا ْلقَرْيَ َة َوكُلُوا مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْ ُت ْم َوقُولُوا حِطّ ٌة وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا َن ْغفِرْ َل ُكمْ‬
‫وَإِذْ قِيلَ َلهُمُ ا ْ‬
‫خطِيئَا ِتكُمْ سَنَزِيدُ ا ْل ُمحْسِنِينَ (‪)161‬‬
‫َ‬

‫وهذه القصة مذكورة أيضا في سورة البقرة‪ ،‬ونعرف أن قوله سبحانه‪ { :‬وَإِذْ قِيلَ َلهُمُ } ‪ ،‬ولم يذكر‬
‫الحق من القائل؛ لن طبيعة المر في السباط أنه سبحانه جعل لكل سبط منهم عينا يشرب منها‪،‬‬
‫وكل سبط له نقيب‪ ،‬وهذا دليل على أنهم ل يأتلفون؛ فل يكون القول من واحد إلى الجميع‪ ،‬بل‬
‫يصدر القول من المشرع العلى وهو الحق إلى الرسول‪ ،‬والرسول يقول للنقباء‪ ،‬والنقباء يقولون‬
‫للناس‪.‬‬
‫وبعد أن تلقى موسى القول أبلغه للنقباء‪ ،‬والنقباء قالوه للسباط‪ ،‬وفي آية أخرى قال الحق‪ { :‬وَإِذْ‬
‫قُلْنَا }‪ .‬وهذا القول الول وضعنا أمام لقطة توضح أن المصدر الصيل في القول هو ال‪ ،‬ولنهم‬
‫أسباط ولكل سبط مشرب؛ لذلك يوضح هنا أنه أوحى لموسى‪ .‬وساعة ما تسمع " وإذ " فاعلم أن‬
‫المراد اذكر حين قيل لهم اسكنوا هذه القرية‪ ،‬لقد قيل إن هذه القرية هي بيت المقدس أو أريحا‪،‬‬
‫لكنهم قالوا‪ :‬لن ندخلها أبدا لن فيها قوما جبارين وأضافوا‪... {:‬فَاذْ َهبْ أَنتَ وَرَ ّبكَ َفقَاتِل إِنّا هَاهُنَا‬
‫قَاعِدُونَ }[المائدة‪]24 :‬‬
‫والحق ل يبين لنا القرية في هذه الية؛ لن هذا أمر غير مهم‪ ،‬بل جاء بالمسألة المهمة التي لها‬
‫سكُنُواْ هَـا ِذهِ ا ْلقَرْيَ َة َوكُلُواْ مِ ْنهَا }‪.‬‬
‫وزنها وخطرها وهي تنفيذ المر على أي مكان يكون‪ { :‬ا ْ‬
‫ويوضح الحق‪ :‬أنا تكفلت بكم فيها كما تكفلت بكم في التيه من تظليل غمام‪ ،‬وتفجير ماء غماما‪،‬‬
‫ن وسلوى‪ .‬وحين أقول لكم ادخلوا القرية واسكنوها فلن أتخلى عنكم‪{ :‬‬
‫وتفجير ماء من صخر‪ ،‬ومَ ّ‬
‫حطّ ٌة وَا ْدخُلُواْ‬
‫َوكُلُواْ مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْتُمْ }‪ .‬وقديما كان لكل قرية باب؛ لذلك يتابع سبحانه‪َ { :‬وقُولُواْ ِ‬
‫سجّدا }‪.‬‬
‫الْبَابَ ُ‬
‫والحطة تعني الدعاء بأن يقولوا‪ :‬يا رب حط عنا ذنوبنا فنحن قد استجبنا لمرك وجئنا إلى القرية‬
‫التي أمرتنا أن نسكنها‪ ،‬وكان عليهم أن يدخلوها ساجدين؛ لن ال قد أنجاهم من التيه بعد أن أنعم‬
‫عليهم ورفّههم فيه‪ .‬وإذا ما فعلوا ذلك سيكون لهم الثواب وهو‪ّ ...{ :‬ن ْغفِرْ َلكُمْ خَطِيئَا ِت ُكمْ سَنَزِيدُ‬
‫حسِنِينَ } [العراف‪]161 :‬‬
‫ا ْلمُ ْ‬
‫وسبحانه يغفر مرة ثم يكتب حسنة‪ ،‬أي سلب مضرة‪ ،‬وجلب منفعة‪ ،‬لكن هناك في سورة البقرة قد‬
‫جاء النص التالي‪ {:‬وَإِذْ قُلْنَا ا ْدخُلُواْ هَـا ِذهِ ا ْلقَرْيَةَ َفكُلُواْ مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْتُمْ رَغَدا وَا ْدخُلُواْ الْبَابَ سُجّدا‬
‫حطّةٌ ّن ْغفِرْ َلكُمْ خَطَايَا ُك ْم وَسَنَزِيدُ ا ْلمُحْسِنِينَ }[البقرة‪]58 :‬‬
‫َوقُولُواْ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالكيان العام واحد ونجد خلفا في اللفاظ واللقطات عن الية التي وردت في سورة العراف‪.‬‬
‫أول خلف { وَإِذْ قُلْنَا } ‪ ،‬و { وَإِذْ قِيلَ } ‪ ،‬وشاء الحق ذلك ليأتي لنا بلقطة مختلفة كنا أوضحنا من‬
‫سكُنُواْ } ‪،‬‬
‫قبل‪ .‬ففي آية سورة البقرة يقول سبحانه‪ { :‬ادْخُلُواْ } وفي آية سورة العراف يقول‪ { :‬ا ْ‬
‫ونعلم أن الدخول يكون لغاية وهي السكن أي ادخلوا لتسكنوا‪ ،‬وأوضح ذلك بقوله في سورة‬
‫سكُنُواْ } ليبين أن دخولهم ليس للمرور بل للِقامة‪.‬‬
‫العراف‪ { :‬ا ْ‬

‫وأراد سبحانه أن يعطيهم الغاية النهائية؛ لنه ل يسكن أحد في القرية إل إذا دخلها‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن كلمات القرآن ل تأتي لتكرار‪ ،‬بل للتأسيس وللِتيان بمعنى جديد يوضح ويبين‬
‫ويشرح‪ .‬ويقول الحق هنا في سورة العراف‪َ } :‬وكُلُواْ مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْتُمْ {‪ .‬وفي آية سورة البقرة‬
‫يقول‪َ } :‬فكُلُواْ مِ ْنهَا حَ ْيثُ شِئْ ُتمْ رَغَدا {‪.‬‬
‫وحين أمرهم ال بالدخول وكانوا جوعى أمرهم الحق أن يأكلوا‪ ،‬على الفور والتوّ بتوسع‪ ،‬لذلك‬
‫أتى بكلمة " رغدا " لن حاجتهم إلى الطعام شديدة وملحة‪ ،‬لكنه بعد أن أمرهم بالسكن أوضح لهم‬
‫أن يأكلوا؛ لن السكن يحقق الستقرار ويتيح للِنسان أن يأكل براحة وتأن‪ .‬وقال الحق هنا في‬
‫سورة العراف‪َ } :‬وقُولُواْ حِطّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّدا {‪ .‬أي أنه قدم قولهم " حطة " على السجود‪،‬‬
‫حطّةٌ‪[} ...‬البقرة‪]58 :‬‬
‫وفي آية سورة البقرة قدم السجود فقال‪ {:‬وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجّدا َوقُولُواْ ِ‬
‫جاء الحق بهذا الختلف لنه علم أن انفعالت السامعين تختلف ساعة الدخول‪ ،‬فهناك من ينفعل‬
‫للقول‪ ،‬فيقول أول دخوله ما أمر به من طلب الحطة وغفران الذنب من ال‪ ،‬وهناك آخر ينفعل‬
‫للفعل فيسجد من فور الدخول تنفيذا لمر ال‪ .‬وأيضا قال الحق هنا في سورة العراف‪ّ ...} :‬ن ْغفِرْ‬
‫َلكُمْ خَطِيئَا ِتكُمْ سَنَزِيدُ ا ْلمُحْسِنِينَ { [العراف‪]161 :‬‬
‫وفي سورة البقرة يقول‪ّ } :‬ن ْغفِرْ َلكُمْ خَطَايَا ُك ْم وَسَنَزِيدُ ا ْلمُحْسِنِينَ {‪.‬‬
‫ونعلم أن صيغة الجمع تختلف؛ فهناك " جمع تكسير " وجمع تأنيث‪ ،‬ففي جمع التكسير نغير من‬
‫ترتيب حروف الكلمة‪ ،‬مثل قولنا " قفل " فنقول في جمعها " أقفال "‪ .‬أما في جمع التأنيث فنحن‬
‫نزيد على الكلمة ألفا وتاء بعد حذف ما قد يوجد في المفرد من علمة تأنيث‪ ،‬مثل قولنا " فاطمة "‬
‫‪ ،‬و " فاطمات " ‪ ،‬و " أكلة " ‪ ،‬و " أكلت " وهذا جمع مؤنث سالم‪ ،‬أي ترتيب حروفه لم يتغير‪،‬‬
‫وجمع المؤنث السالم يدل على القلة‪ .‬لكن جمع التكسير يدل على الكثرة فجاء‪ -‬سبحانه‪ -‬بجمع‬
‫المؤنث السالم الذي يدل على القلة وبجمع التكسير الذي يدل على الكثرة لختلف درجات ونسب‬
‫الخطايا؛ لن المخاطبين غير متساوين في الخطايا‪ ،‬فهناك من ارتكب أخطاء كثيرة‪ ،‬وهناك من‬
‫أخطأ قليلً‪ .‬والختلف حدث أيضا في عجز اليتين‪ ،‬فقال في سورة البقرة‪ } :‬وَسَنَزِيدُ ا ْل ُمحْسِنِينَ {‬
‫وجاء عجز سورة العراف بدون " واو " فقال‪ } :‬سَنَزِيدُ ا ْل ُمحْسِنِينَ {‪.‬‬
‫وقد عودنا ودعانا الحق إلى أن نقول‪ :‬اغفر لنا وأنت خير الغافرين‪ ،‬وارحمنا وأنت خير‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الراحمين‪ ،‬واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة‪ .‬وهنا يوضح سبحانه‪ :‬أنا لن أكتفي بأن أغفر لكم وأن‬
‫أرفع عنكم الخطايا‪ .‬لكني سأزيدكم حسنا‪ ،‬وفي هذا سلب للضرر وجلب للنفع‪ .‬كأن ال حينما قال‪:‬‬
‫" خطاياكم " بجمع التكسير الذي ينبئ ويدل على كثرة الذنوب والخطايا و " خطيآتكم " التي تدل‬
‫حسِنِينَ { هل يغفر‬
‫على القلة انشغلوا وتساءلوا‪ :‬وماذا بعد الغفران يا رب فقيل؟ لهم‪ } :‬سَنَزِيدُ ا ْلمُ ْ‬
‫لنا فقط‪ ،‬أو أنه سيجازينا بالحسنات أيضا؟ وكانت إجابة ال أنه سيغفر لهم ويزيدهم ويمدهم‬
‫بالحسنات‪ .‬وقد عقدنا هذه المقارنة المفصلة بين آية سورة البقرة وآية سورة العراف لنعرف أن‬
‫اليات ل تتصادم مع بعضها البعض‪ ،‬بل تتكامل مصداقا لقول الحق‪... {:‬وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ‬
‫اللّهِ َلوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفا كَثِيرا }[النساء‪]82 :‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)1103 /‬‬

‫سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيظِْلمُونَ‬


‫فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُمْ َقوْلًا غَيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ ِرجْزًا مِنَ ال ّ‬
‫(‪)162‬‬

‫هذه الية تدل على أنهم افترقوا فرقتين؛ لن الحق سبحانه مادام قد قال‪ { :‬مِ ْنهُمْ } فهذا يعني أن‬
‫بعضهم قالوا وفعلوا المطلوب‪ ،‬وبعضهم ظلموا وبدلوا القول‪ ،‬فقد أمرهم الحق أن يقولوا‪ " :‬حطة "‬
‫وطلب منهم أن يدخلوا سجدا‪ .‬والتغيير منهم جاء في القول؛ لن القول قد يكون بين الِنسان وبين‬
‫نفسه بحيث ل يسمعه سواه‪ .‬لكن الفعل مرئي مما يدل على أن بعضهم يرائي بعضا‪ ،‬ففي القول‬
‫أرادوا أن يهذروا ويتكلموا بما ل ينبغي ول يليق‪ ،‬فبدلً من أن يقولوا‪ " :‬حطة " قالوا‪ " :‬حنطة "‬
‫استهزاءً بالكلمة‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن التبديل جاء في القول‪ ،‬لكن الفعل لم يأت فيه كلم‪ ،‬وإن قال بعضهم‪ :‬إن التبديل‬
‫أيضا حدث من بعضهم في الفعل‪ .‬فبدلً من أن يدخلوا ساجدين دخلوا زاحفين على مقعداتهم‪،‬‬
‫كنوع من التعالي‪ ،‬لكن الحق لم يذكر شيئا من ذلك؛ لن سلوكهم في الفعل قد يكون السبب فيه أن‬
‫بعضهم ل قدرة له على الفعل‪ { .‬فَبَ ّدلَ الّذِينَ ظََلمُواْ مِ ْنهُمْ َقوْلً غَيْرَ الّذِي قِيلَ َلهُمْ‪[ } ...‬العراف‪:‬‬
‫‪]162‬‬
‫وكأن الحق يذكرنا بما فعله معهم من رعايتهم في أثناء التيه وكيف ظلل عليهم الغمام وأنزل‬
‫عليهم المن والسلوى‪ ،‬واستسقى لهم موسى فجاءت المياه‪ .‬لكن غريزة التبديل والتمرد لم تغادرهم‪.‬‬
‫سمَآءِ }‪.‬‬
‫وما داموا قد بدّلوا في كلمات ال‪ ،‬فعليهم أن ينالوا العقاب‪ { :‬فَأَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ ِرجْزا مّنَ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآءِ }‬
‫وهناك آية ثانية في سورة البقرة يقول فيها الحق‪ {:‬فَأَنزَلْنَا عَلَى الّذِينَ ظََلمُواْ ِرجْزا مّنَ ال ّ‬
‫[البقرة‪ .]59 :‬والفارق بين " الِنزال " وبين " الِرسال " أن الِنزال يكون مرة واحدة‪ .‬أما‬
‫سمَآءِ مَآءً‬
‫الِرسال فهو مسترسل ومتواصل‪ .‬ولذلك يقول الحق سبحانه في المطر‪ { :‬وَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫طهُورا }‪ .‬لن المطر ل ينزل طوال الوقت من السماء‪ .‬لكن في الِرسال استمرار‪ ،‬اللهم إل بعضا‬
‫َ‬
‫من تأثير الهواء‪ .‬ولذلك يقول الحق‪ { :‬وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ }‪ .‬فالذي يحتاج إلى استمرارية في‬
‫الفعل يقول فيه الحق‪ " :‬أرسل " بدليل أن ال حينما أراد أن يجيء بالطوفان ليغرق المكذبين‬
‫بموسى قال‪ {:‬فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمُ الطّوفَانَ‪[} ...‬العراف‪]133 :‬‬
‫وعندما أراد أن يرغب عادا قوم سيدنا هود في الستغفار والتوبة والرجوع عما كانوا عليه من‬
‫سمَآءَ عَلَ ْيكُمْ مّدْرَارا‪[} ...‬هود‪:‬‬
‫سلِ ال ّ‬
‫الكفر والثام قال لهم‪ {:‬وَيا َقوْمِ اسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّب ُكمْ ثُمّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْ ِ‬
‫‪]52‬‬
‫إذن فالِرسال يعني التواصل‪ ،‬أما الِنزال فهو لمرة واحدة‪ ،‬وأراد الحق سبحانه من قصة بني‬
‫إسرائيل أن يأتي لنا بلقطة فجاء بكلمة " أنزلنا " ‪ ،‬ولقطة أخرى جاء فيها بـ " أرسلنا "؛ لن‬
‫العقوبة تختلف باختلف المذنبين‪ ،‬والمذنبون مقولون بالتشكيك‪ ،‬فهذا له ذنب صغير‪ ،‬وآخر ذنبه‬
‫أكبر‪ ،‬وكل إنسان يأخذ العذاب على قدر ذنبه؛ فمن أذنب ذنبا صغيرا أنزل ال عليه عقابا على‬
‫قدر ذنبه‪.‬‬

‫ومن تمادى أرسل ال عليه عذابا يستمر على قدر ذنوبه الكبيرة‪.‬‬
‫سمَآءِ ِبمَا كَانُواْ يَظِْلمُونَ { [العراف‪]162 :‬‬
‫سلْنَا عَلَ ْيهِمْ ِرجْزا مّنَ ال ّ‬
‫وهنا يقول الحق‪...} :‬فَأَرْ َ‬
‫و " رجزا " أي عذابا‪ ،‬وهناك رِجْز‪ ،‬و ُرجْز‪ ،‬والرّجز يُولد من الرّجز؛ وينشأ مثل قوله الحق‪} :‬‬
‫وَالرّجْزَ فَا ْهجُرْ {‪ .‬أي اهجر الرّجز‪ ..‬أي المآثم والمعاصي والذنوب لتسلم من الرّجز‪ ..‬أي من‬
‫العذاب‪ .‬وهنا يبين الحق أنهم تلقوا العذاب بسبب ظلمهم‪ ،‬وهناك في الية الخرى قال‪ِ } :‬بمَا كَانُواْ‬
‫سقُونَ {‪.‬‬
‫َيفْ ُ‬
‫والفسق يسبق الظلم؛ لن الِنسان ل يمكن أن يظلم نفسه بمخالفة منهج إل إذا فسق أولً‪ ،‬ولذلك‬
‫جاء الحق بالمسبّب وجاء السبب‪ ،‬وهكذا نتأكد أن كل كلمة في القرآن جاءت لمعنى أساسي تؤديه‬
‫ول تكرار إل لمجموع القصة في ذاتها‪ ،‬أما لقطات القصة هنا‪ ،‬ولقطات القصة هناك فأمور‬
‫جاءت تأسيسا في كل شيء لتعطي معاني ولقطات جديدة‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَسْئَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ‪{ ...‬‬

‫(‪)1104 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَاسْأَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْبَحْرِ ِإذْ َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ ِإذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَا ُنهُمْ َيوْمَ سَبْ ِتهِمْ‬
‫سقُونَ (‪)163‬‬
‫شُرّعًا وَ َيوْمَ لَا َيسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَ َذِلكَ نَبْلُوهُمْ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬

‫هنا سؤال عن القرية التي كانت حاضرة البحر‪ ،‬ونعلم أن القرية الولى التي دخلوها هي " بيت‬
‫المقدس " ولم تكن على البحر‪ ،‬والقرية التي كانت على البحر هي " أيلة " أو " مدين " أو " طبرية‬
‫" ‪ ،‬المهم أنها كانت " حاضرة البحر " أي قريبة من البحر ومشرفة عليه؛ لننا نقول فلن حضر‪،‬‬
‫أي كان بعيدا فاقترب‪ .‬فمثل الِسكندرية يمكن أن نسميها حاضرة البحر‪.‬‬
‫وقوله‪ " :‬واسألهم " والسؤال هنا موجه إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ليوجه السؤال إلى أهل‬
‫الكتاب‪ ،‬ويطلب منهم أن ينظروا في كتبهم ليعرفوا أن ما يقوله هو وحي من ال إليه؛ لنهم‬
‫يعلمون أنه صلى ال عليه وسلم لم يجلس إلى معلم‪ ،‬ولم يقرأ في كتاب‪ ،‬وإنما علّمه من أرسله‪،‬‬
‫إنّه صلى ال عليه وسلم ل يريد أن َيعْلَم منهم‪ ،‬بل يريد أن ُيعِْلمَهم أنه يعلم‪ ،‬وهم يعلمون أنه ل‬
‫مصدر له كعلم سائر البشر؛ ل جلس على معلم ول قرأ في كتاب ولذلك تجد " ماكُنّات " القرآن‬
‫أي قوله الحق‪ " :‬ما كنت " و " ماكنت " و " ما كنت " و " ما كنت " مثل قوله‪َ {:‬ومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ‬
‫لمْرَ‪[} ...‬القصص‪]44 :‬‬
‫ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ‬
‫ومثل قوله تعالى‪َ {:‬ومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا‪[} ...‬القصص‪]45 :‬‬
‫ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْكفُلُ مَرْيَمَ َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ‬
‫ومثل قوله تعالى‪َ ... {:‬ومَا كُنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يُ ْلقُون َأقْ َ‬
‫صمُونَ }[آل عمران‪]44 :‬‬
‫يَخْ َت ِ‬
‫إذن فأنت يا رسول ال لم تكن معهم لتقول ما حدث وحصل لهم‪ ،‬بل إن ذلك موجود عندهم في‬
‫كتبهم‪ ،‬إذن فالذي علمك هو من أرسلك‪ .‬كذلك هنا مصداقا لقوله تعالى‪َ {:‬ومَا كُنتَ تَ ْتلُواْ مِن قَبِْلهِ‬
‫خطّهُ بِ َيمِي ِنكَ إِذا لّرْتَابَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }[العنكبوت‪]48 :‬‬
‫مِن كِتَابٍ َولَ تَ ُ‬
‫وفي هذا القول أمر من ال سبحانه وتعالى أن يخبرهم أنه سبحانه قد علمه وأعلمه بما ل‬
‫يستطيعون إنكاره ليتيقنوا أن ال يعلمه ليؤمنوا به‪ { .‬وَسْئَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ‬
‫الْبَحْرِ‪[ } ...‬العراف‪]163 :‬‬
‫وكلمة " واسألهم " تحل لنا إشكالت كثيرة‪ ،‬مثال ذلك حديث الِسراء‪ ،‬وأن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم صلى بالنبياء بصلة إبراهيم‪.‬‬
‫فعن أبي هريرة رضي ال عنه قال‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬لقد رأيتني في الحجر‬
‫وقريش تسألني عن مسراي‪ ،‬فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربا مثله قط‪،‬‬
‫فرفعه ال إليّ أنظر إليه‪ ،‬ما سألوني عن شيء إل أنبأتهم به‪ ،‬وقد رأيتني في جماعة من النبياء‪،‬‬
‫وإذا موسى قائم يصلي وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة‪ ،‬وإذا عيسى قائم يصلي أقرب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الناس شبها به عروة بن مسعود الثقفي‪ ،‬وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبها به صاحبكم ‪-‬‬
‫يعني نفسه ‪ -‬فحانت الصلة فأممتهم فلما فرغت قال قائل‪ :‬يا محمد هذا مالك خازن جهنم فالتفت‬
‫إليه فبدأني بالسلم "‪.‬‬

‫وتأتي آية في القرآن تقول‪ {:‬وَسْ َئلْ مَنْ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ مِن رّسُلِنَآ‪[} ...‬الزخرف‪]45 :‬‬
‫والمر لرسول ال عليه الصلة والسلم أن يسأل رسل ال من قبله‪ ،‬ومتى يسألهم؟ لبد أن توجد‬
‫فرصة ليلتقوا فيسأل‪ .‬إذن حين يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم إنه التقى بالنبياء وكلمهم‬
‫وصلى بهم فالخبر مصدق لنه أدى أمر ال‪ } :‬وَسْئَ ْلهُمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْبَحْر {‪.‬‬
‫والسؤال هنا سؤال للتقرير والتقريع والتوبيخ‪ :‬وما قصة القرية التي كانت حاضرة البحر؟‬
‫لقد قلنا إن حاضرة البحر أي القريبة من البحر‪ ،‬ونفهم أن ما تتعرض له الية من سؤالهم يشير‬
‫إلى أنّ للبحر فيه مدخلً؛ لن المسألة متعلقة بالحيتان والسمك والصيد؛ لذلك لبد أن تكون بلدة‬
‫ن لَ تَأْتِيهِمْ‬
‫ساحلية‪ِ...} .‬إذْ َيعْدُونَ فِي السّ ْبتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَا ُنهُمْ َيوْمَ سَبْ ِتهِمْ شُرّعا وَ َيوْ َم لَ يَسْبِتُو َ‬
‫سقُونَ { [العراف‪]163 :‬‬
‫كَذَِلكَ نَبْلُوهُم ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫وحيتان جمع حوت‪ ،‬مثلما يجمعون " نُونا " ‪ -‬وهو الحوت أيضا ‪ -‬على " نينان "؛ وهو صنف‬
‫من السماك‪ .‬لقد حرم ال عليهم العمل في يوم معين لينقطعوا فيه للعبادة وهو يوم " السبت " ‪،‬‬
‫ومازالت عندهم بعض هذه العادات‪ ،‬حتى إن واحدا منهم زار أمريكا ورفض أن يركب سيارة يوم‬
‫السبت لنه يوم عطلة‪ ،‬ورفض كذلك أن يعمل حتى جاء اليوم التالي‪ .‬وشاء الحق سبحانه أن‬
‫يؤدبهم حينما ارتكبوا أشياء مخالفة للمنهج‪ ،‬وسلب منهم وقتا للعمل وقال‪ {:‬فَ ِبظُلْمٍ مّنَ الّذِينَ هَادُواْ‬
‫حَ ّرمْنَا عَلَ ْي ِهمْ طَيّبَاتٍ ُأحِّلتْ َلهُمْ‪[} ...‬النساء‪]160 :‬‬
‫وفي هذه مُثُل وعِبَر لي منحرف‪ ،‬ولكل منحرف نقول‪ :‬إياك أن تظن أنك بانحرافك عن منهج ال‬
‫ستأخذ أشياء من وراء ربنا وتسرقها‪ ،‬ل؛ لن ربنا قادر أن يبتيله بعقاب يفوق ما أخذ آلف‬
‫المرات‪ ،‬فالمرتشي مثلً يفتح له ال أبوابا من المراض ومن العلل ومن المصائب فيضيع عليه‬
‫كل شيء أخذه‪.‬‬
‫إذن فقد استحل بنو إسرائيل أشياء محرمة‪ ،‬فابتلهم ال بأن يحرمهم من أشياء كانت حللً لهم‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن ما وقع عليهم من عقاب كان بظلمهم لنفسهم؛ لنهم انشغلوا بالدنيا وبالمادة‪ ،‬فحرم‬
‫عليهم العمل في يوم السبت‪ ،‬وهؤلء الذين كانوا يقيمون قريبا من حاضرة البحر يبتليهم ال البلء‬
‫العظيم‪ ،‬ويرون السمك في المياه وهو يرفع زعانفه كشراع المركب‪ ،‬وتطل عليهم أشرعة الحيتان‬
‫وهم في بيوتهم‪ ،‬وهذا ابتلء من ربهم لهم وعقاب؛ لنهم ممنوعون من صيده‪ ،‬ويرون هذا السمك‬
‫أمامهم في يوم السبت‪ ،‬لكن في بقية اليام التي يباح فيها العمل‪ ،‬كيوم الحد والثنين والثلثاء‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن لَ تَأْتِيهِمْ َكذَِلكَ‬
‫والربعاء والخميس والجمعة ل تظهر لهم ول سمكة واحدة‪ } :‬وَ َيوْ َم لَ يَسْبِتُو َ‬
‫سقُونَ {‪.‬‬
‫نَبْلُوهُم ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬

‫وهنا قالوا‪ :‬ما دام ربنا قد حرم علينا أن نصطاد يوم السبت فعلينا أن نحتال‪ .‬وصنعوا كيسا من‬
‫السلك المضفر والذي نسميه " الجوبية " وهم أول من صنعوا هذه الجوبية بشكل خاص‪ ،‬ويدخل‬
‫السمك فيها ول يستطيع الخروج منها‪ ،‬فيأتي السمك يوم السبت في الجوبية ويستخرجونه يوم‬
‫الحد‪ .‬وفي هذا اعتداء‪ .‬أو يصنعون حوضا له مدخل وليس له مخرج وفي هذا مكر‪ .‬وتمكر لهم‬
‫السماء بحيلة أشد‪ .‬لقد أراد ال ابتلءهم لنهم فسقوا عن المنهج‪ .‬وخرجوا عن الطاعة‪ ،‬واستحلوا‬
‫أشياء حرمهما ال؛ لذلك يحرم ال عليهم أشياء أحلها لغيرهم‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَإِذَا قَاَلتْ ُأمّةٌ مّ ْنهُمْ ِلمَ‪{ ...‬‬

‫(‪)1105 /‬‬

‫شدِيدًا قَالُوا َمعْذِ َرةً إِلَى رَ ّبكُمْ‬


‫عذَابًا َ‬
‫وَإِذْ قَاَلتْ ُأمّةٌ مِ ْنهُمْ لِمَ َت ِعظُونَ َق ْومًا اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ َأوْ ُمعَذّ ُبهُمْ َ‬
‫وََلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ (‪)164‬‬

‫وحينما تجد أن طائفة قالت قولً‪ ،‬فلبد أن هناك أناسا قيل لهم هذا القول‪ .‬إذن ففيه " قوم واعظون‬
‫" ‪ ،‬و " قوم موعوظون " ‪ ،‬و " قوم مستنكرون وعظ الواعظين "‪ .‬وهكذا صاروا ثلث فرق‪:‬‬
‫الذين قالوا وعظا لهم‪ :‬لماذا ل تلتزمون بمنهج ال؟ هؤلء هم المؤمنون حقّا‪ .‬وقالوا ذلك لنهم‬
‫رأوا من يخالف منهج ال‪ .‬والذين لموا الواعظين هم الصلحاء من أهل القرية الذين يئسوا من‬
‫صلح حال المخالفين للمنهج‪.‬‬
‫وحين ندقق في الية‪ { :‬وَِإذَا قَاَلتْ ُأمّةٌ مّ ْنهُمْ ِلمَ َتعِظُونَ َقوْما اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ‪[ } ...‬العراف‪]164 :‬‬
‫نعلم أن القائلين هم من الذين لم يعتدوا‪ ،‬ولم يعظوا وقالوا هذا التساؤل لمن وعظوا؛ لنهم رأوا‬
‫الوعظ مع الخارجين على منهج ال ل ينفع‪ .‬كما قال ال لرسوله صلى ال عليه وسلم‪َ { :‬لعَّلكَ‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }‪.‬‬
‫بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫هنا يسأل الحق رسوله‪ :‬ولماذا تُحزن نفسك وتعمل على إزهاق روحك‪ .‬وهنا قال بعض بني‬
‫إسرائيل‪ :‬لم تعظون هؤلء المغالين في الكفر‪ ،‬لماذا ترهقون أنفسكم معهم‪ ،‬إنهم يعملون من أجل‬
‫أن يعذبهم ال‪ .‬وماذا قال الواعظون؟‪ { :‬قَالُواْ َمعْذِ َرةً إِلَىا رَ ّب ُك ْم وََلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ }‪.‬‬
‫وما هي المعذرة إلى ال؟‪ .‬يقال‪ " :‬عذرك فلن إذا كنت قد فعلت فعلً كان في ظاهره أنه ذنب ثم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بينت العذر في فعله‪ ،‬كأن تقول‪ :‬لقد جعلتني انتظرك طويلً وتأخرت في ميعادك معي‪ .‬انت تقول‬
‫ذلك لصديق لك لنه أتى بعمل مخالف وهو التأخر في ميعادٍ ضربه لك‪ .‬فيرد عليك‪ :‬تعطلت مني‬
‫السيارة ولم أجد وسيلة مواصلت‪ ،‬وهذا عذر‪ .‬إذن فمعنى " العذر " هو إبداء سبب لمر خالف‬
‫ن الَعْرَابِ‪[} ...‬التوبة‪:‬‬
‫مراد الغير‪ .‬ولذلك يقال‪ :‬أعذر من أنذر‪ ،‬والحق يقول‪َ {:‬وجَآءَ ا ْل ُمعَذّرُونَ مِ َ‬
‫‪]90‬‬
‫ونعلم أيضا أن هناك ُمعْذِرا‪ .‬وال ُمعَذّر هو من يأتي بعذر كاذب‪ ،‬وال ُمعْذِر هو من يأتي بعذر‬
‫صادق‪ .‬وقال الواعظون‪ :‬نحن نعظهم‪ ،‬وأنتم حكمتم بأن العظة ل تنفع معهم لنهم اختاروا أن‬
‫يهلكهم ال ويعذبهم ولكنا لم نيأس‪ ،‬وعلى فرض أننا يئسنا من فعلهم‪ ،‬فعلى القل قد قدمنا لربنا‬
‫المعذرة في أننا عملنا على قدر طاقتنا‪.‬‬
‫وكلمة " وَعْظ " تقتضي أن نقول فيها‪ :‬إن هناك فارقا بين بلغ الحكم‪ ،‬والوعظ بالحكم؛ فالوعظ‬
‫أن تكرر لموعوظ ما يعلمه لكنه ل يفعله‪ .‬كأن تقول لِنسان‪ :‬قم إلى الصلة‪ ،‬هو يعلم أن الصلة‬
‫مطلوبة لكنه ل يقوم بأدائها‪.‬‬
‫إذن فالوعظ معناه تذكير الغافل عن حكم‪ ،‬ومن كلمة الوعظ نشأت الوعّاظ‪ .‬وهم من يقولون للناس‬
‫الحكام التي يعرفونها‪ ،‬ليعملوا بها‪ ،‬فالوعاظ إذن ل يأتون بحكم جديد‪.‬‬
‫وبعض العلماء قال‪ :‬إن قول الحق‪ { :‬لِمَ َت ِعظُونَ َقوْما اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ } ليس مرادا به الفئة التي لم‬
‫تفعل الذنب ولم تعظ‪ ،‬إنما يراد به الفئة الموعوظة‪ ،‬كأن الموعوظين قالوا‪ :‬إن ربنا سيعذبنا فلماذا‬
‫توعظوننا؟‪ .‬ونقول‪ :‬ل؛ لن عجز الية ينافي هذا‪ .‬فالحق يقول‪َ { :‬معْذِ َرةً إِلَىا رَ ّبكُ ْم وََلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ‬
‫}‪.‬‬
‫ومجيء " لعلهم " يؤكد أن هذا خبر عن الغير ل أنّه من الموعوظين‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬فَلَماّ نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ‪} ...‬‬

‫(‪)1106 /‬‬

‫فََلمّا نَسُوا مَا ُذكّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الّذِينَ يَ ْن َهوْنَ عَنِ السّوءِ وَأَخَذْنَا الّذِينَ ظََلمُوا ِبعَذَابٍ بَئِيسٍ ِبمَا كَانُوا‬
‫سقُونَ (‪)165‬‬
‫َيفْ ُ‬

‫ويخبرنا الحق هنا أن الموعوظين حينما نسوا ما وعظهم به بعض المؤمنين أهلكهم ال بالعذاب‬
‫الشديد جزاءً لخروجهم وفسوقهم عن المنهج وأنجى ال الفرقة الواعظة‪ .‬وماذا عن الفرقة الثالثة‬
‫التي لم تنضم إلى الواعظين أو الموعوظين؟ الذين قالوا‪ِ { :‬لمَ َتعِظُونَ َقوْما اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ } إن قولهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا لون من الوعظ؛ فساعة يخوفونهم بأن ربنا مهلك أو معذب من يخرج على منهجه‪ ،‬فهو وعظ‬
‫من طرف آخر‪.‬‬
‫وقوله الحق‪ { :‬فَلَماّ َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ } يدل على أنه قد وعظهم غيرهم وذكروهم‪ .‬ويعذب الحق‬
‫هؤلء الذين ضربوا عرض الحائط بمنهجه ولم يسمعوا مَن وعظوهم‪ ،‬وخرجوا على تعاليمه‬
‫فظلموا أنفسهم واستحقوا العذاب الشديد؛ فالمسألة ليست تعنتا من ال؛ لنهم السبب في هذا‪ ،‬إما‬
‫بفسق‪ ،‬وإمّا بظلم للنفس‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬فَلَماّ عَ َتوْاْ عَن مّا ُنهُواْ عَنْهُ‪} ...‬‬

‫(‪)1107 /‬‬

‫فََلمّا عَ َتوْا عَنْ مَا ُنهُوا عَنْهُ قُلْنَا َل ُهمْ كُونُوا قِرَ َدةً خَاسِئِينَ (‪)166‬‬

‫وأخذهم بعذاب يدل على أنه لم يزهق حياتهم ويميتهم؛ لن العذاب هو إيلم من يتألم‪ ،‬والموت‬
‫ليس عذابا لنه ينهي الِحساس باللم‪ ،‬ولنتعرف على الفارق بين الموت والعذاب حين نقرأ قصة‬
‫الهدهد مع سيدنا سليمان‪ ،‬يقول سيدنا سليمان حين تنبه لغياب الهدهد عندما وجد مكانه خاليا‪{:‬‬
‫مَاِليَ لَ أَرَى ا ْل ُهدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَآئِبِينَ * لُعَذّبَنّهُ عَذَابا شَدِيدا َأ ْو لَاْذْ َبحَنّهُ‪[} ...‬النمل‪]21-20 :‬‬
‫هكذا نرى الفارق بين العذاب وبين الموت‪ .‬وهنا يقول الحق‪ { :‬فَلَماّ عَ َتوْاْ عَن مّا ُنهُواْ عَ ْنهُ } و "‬
‫عتوا " تعني أبْوا وعصوْا واستكبروا فحق عليهم عذاب ال الذي أوضحه قول الحق‪ { :‬كُونُواْ‬
‫قِرَ َدةً خَاسِئِينَ }‪.‬‬
‫لن " العتو " كبرياء وإباء؛ فيعاقبهم ال بأن جعلهم كأخس الحيوانات فصيرهم أشباه القرود‪ ،‬كل‬
‫منهم مفضوح السوءة‪ ،‬يسخر الناس منهم ويستهزئون بهم‪ .‬فهل انقلبوا قردة؟‪ .‬نعم؛ لنك حين‬
‫تأمر إنسانا بفعل‪َ ..‬ألَ ُتقَدّر قبل المر له بالفعل أنه صالح أن يفعل وأل يفعل؟‪ .‬وحين يقول ال‪{ :‬‬
‫كُونُواْ قِرَ َدةً } فهل في مكنتهم أن يصنعوا من أنفسهم قردة؟‪ .‬ونقول‪ :‬إن هذا اسمه " أمر تسخيري‬
‫" أي اصبحوا وصُيرّوا قردة‪ .‬وقد رأوهم على هذه الهيئة من وعظوهم‪ ،‬وهي هنا مقولة " خبر "‬
‫نصدقه بتوثيق من قاله‪ ،‬وكان هذا الخبر واقعا لمن شاهده‪.‬‬
‫ولذلك نجد المعجزات التي حدثت لسيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم غير القرآن الذي وصلنا‬
‫ككتاب منهج ومعجزة وسيظل كذلك إلى قيام الساعة‪ ،‬لكن ألم ينبع الماء من بين أصابعه صلى ال‬
‫عليه وسلم؟ لقد حدث ذلك وغيره من المعجزات وشاهده أصحابه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأخبرونا‬
‫بالخبر‪ ،‬وكان ذلك آية تُثبّت يقينهم وإيمانهم‪ .‬وتثبت لنا خبرا‪ ،‬فإن اتسع لها ذهنك فأهلً وسهلً‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإن لم يتسع لها فل توقف إيمانك؛ لنها آية لم تأت من أجلك أنت‪ ،‬وكل معجزة كونية حدثت‬
‫لرسول ال فالمراد بها من شاهدها‪ ،‬ووصلتك أنت كخبر‪ ،‬إن وثقت بالخبر صدقته‪ ،‬وإن لم تثق به‬
‫ووقفت عنده فلن ينقص إيمانك‪ .‬غير أنه يجب على من وصل إليه الخبر بطريق مقطوع به‪ ،‬أن‬
‫يصدق ويذعن‪.‬‬
‫وقد أخبر الحق هنا بالمر بقوله‪ { :‬كُونُواْ قِرَ َدةً خَاسِئِينَ } بأنه أوقع عليهم عذابا بأن جعلهم قردة‬
‫خاسئين‪ ،‬فهذا عقاب للذين عتوا عمّا نهوا عنه‪ .‬والذين وعظوهم أو عاصروهم هم من شاهدوا‬
‫وقوع العذاب‪.‬‬
‫وهل الممسوخ يظل ممسوخا؟‪ .‬إن الممسوخ قردا أو خنزيرا‪ ،‬يظل فترة كذلك ليراه من رآه‬
‫ظالما‪ ،‬ثم بعد ذلك يموت وينتهي‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ‪} ...‬‬

‫(‪)1108 /‬‬

‫ب وَإِنّهُ‬
‫وَإِذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ َيسُو ُمهُمْ سُوءَ ا ْل َعذَابِ إِنّ رَ ّبكَ لَسَرِيعُ ا ْل ِعقَا ِ‬
‫َل َغفُورٌ رَحِيمٌ (‪)167‬‬

‫وتَأَذّن نجد مادتها من الهمزة والذال والنون‪ ،‬فمنه ُأذُن‪ ،‬ومنها َأذَان‪ ،‬وكلها يراد بها الِعلم‪،‬‬
‫والوسيلة للِعلم هي الذن والسمع‪ ،‬حتى الذي سنُعلمه بواسطة الكتابة نقول له ليسمع‪ .‬ثم يكتب‬
‫ويقرأ‪ ،‬وما قرأ إل بعد أن سمع؛ لنه لن يعرف القراءة إل بعد أن يسمع أسماء الحروف " ألف‬
‫" ‪ " ،‬باء " إلخ‪ ،‬ثم تهجاها‪ .‬إذن فل أحد يقرأ إل بعد أن يسمع‪ ،‬وهكذا يكون السمع هو الصل في‬
‫حقّتْ }[النشقاق‪]2-1 :‬‬
‫شقّتْ * وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا َو ُ‬
‫سمَآءُ ان َ‬
‫المعلومات‪ ،‬ونقول في القرآن‪ {:‬إِذَا ال ّ‬
‫وأذنت لربها‪ ..‬أي سمعت لربها‪ ،‬فبمجرد أن قال لها‪ " :‬انشقي " امتثلت وانشقت‪ { .‬وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكَ‬
‫لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ إِلَىا َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ مَن يَسُو ُمهُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ إِنّ رَ ّبكَ لَسَرِيعُ ا ْل ِعقَابِ وَإِنّهُ َلغَفُورٌ رّحِيمٌْ }‬
‫[العراف‪]167 :‬‬
‫والكلم هنا بالنسبة لبني إسرائيل‪ ،‬ويبين لنا سبحانه أنهم مع كونهم مختارين في أن يفعلوا‪ " ،‬فإن‬
‫مواقفهم الِيمانية ستظل متقلبة مترددة‪ ،‬ولن يهدأ لهم حال في نشر الفساد وإشاعته‪ ،‬ولذلك يسلط‬
‫ال عليهم من يسومهم سوء العذاب ولماذا؟‪.‬‬
‫لنهم منسوبون لدين‪ ،‬وال ل يسوم العذاب للكافر به وللملحد‪ ،‬لنه بكفره وإلحاده خرج عن هذه‬
‫الدائرة‪ ،‬إذ لم يبعث ال له رسول‪ .‬ولكن المنسوب ل ديانة‪ ،‬والمنسوب ل رسالة‪ ،‬والمنسوب ل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كتابا؛ إذا فسد مع كون الناس ويعلمون عنه أنه تابع لنبي‪ ،‬وأن له كتابا‪ ،‬حينئذ يكون أسوة سيئة‬
‫في الفساد للناس‪ ،‬فإذا ما سلط ال عليهم العذاب فإنما يسلط عليهم ل لجل الفساد فقط‪ ،‬ولكن لنه‬
‫فساد لمن هو منسوب إلى ال‪ .‬وعرفنا أن مادة أذن كلها مناط الِعلم‪ ،‬وحينما تكلم ال عن خلقنا‬
‫لفْئِ َدةَ‪} ...‬‬
‫سمْ َع وَالَ ْبصَارَ وَا َ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫جكُم مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ‬
‫قال‪ {:‬وَاللّهُ َأخْرَ َ‬
‫[النحل‪]78 :‬‬
‫إنّ الحق ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يسمي العرب المعاصرين لرسول ال أميين‪ ،‬أي ليس عندهم شيء من‬
‫أسباب العلم‪ ،‬وسبحانه خلق لنا وسائل العلم‪ .‬بأن جعل لنا السمع والبصار والفئدة‪ ،‬وهي وسائل‬
‫العلم التي تبدأ بالسمع ثم بالبصار ثم الفئدة‪ .‬ومن العجيب أنه رتبها في أداء وظيفتها؛ لن‬
‫الِنسان منا إذا كان له وليد ‪ -‬كما قلنا سابقا ‪ -‬ثم جاء أحد بعد ميلده ووضع أصبعه أمام عينه‬
‫فإنه ل يطرف؛ لنه عينه لم تؤد بعد مهمة الرؤية‪ ،‬وعيون الوليد ل تؤدي مهمة الرؤية إل بعد‬
‫مدة من ثلثة أيام إلى عشرة‪ ،‬ولكنك إذا جئت في أذنه وصرخت انفعل‪.‬‬
‫إن هذا دليل على أن أذنه أدت مهمتها من فور ولدته‪ ،‬بينما عينه ل تؤدي مهمة الرؤية إل بعد‬
‫مدة‪ ،‬فأولً يأتي السمع‪ ،‬ثم يأتي البصر‪ ،‬ومن السمع والبصر تتكون المعلومات‪ ،‬فتنشأ عند الِنسان‬
‫معلومات عقلية‪ ،‬ويقولون للطفل مثلً‪ :‬إياك أن تقبل على هذه النار حتى ل تحرقك‪ ،‬فل يصدق‪،‬‬
‫ومنظر النار يجذبه فيلمسها‪ ،‬فتلسعه مرة واحدة‪ ،‬وبعد أن لستعه النار مرة واحدة‪ ،‬لم يعد في‬
‫حاجة إلى أن يتكرر له القول‪ :‬بأن النار محرقة‪.‬‬

‫فقد تكونت عنده معلومة عقلية‪ .‬فأولً يأتي السمع‪ ،‬ثم البصار‪ ،‬ثم تأتي الفئدة‪ .‬ولذلك قال‬
‫شكُرُونَ {‪ .‬تشكرون له سبحانه أن أمدكم بوسائل العلم ليخرجكم مِن أميتكم‪.‬‬
‫سبحانه‪َ } :‬لعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫وهناك لفتة إعجازية أخرى؛ فحين تكلم الحق عن وسائل العلم‪ ،‬تكلم عن السمع بالِفراد‪ ،‬وعن‬
‫البصار بالجمع‪ .‬مع أن هذه آلة‪ ،‬وهذه آلة؛ فقال‪( :‬السمع والبصار) ولم يقل السمع والبصر‪ ،‬ولم‬
‫يقل السماع والبصار؛ لن السمع هي اللة التي تلتقط الصوات‪ ،‬وليس لها سد من طبيعتها‪ ،‬أما‬
‫العين فليست كذلك‪ ،‬ففي طبيعة تكوينها حجاب لتغمض‪ .‬وإذا أنت أصدرت صوتا من فمك يسمعه‬
‫الكل‪ ،‬وعلى هذا فمناط السمع واحد‪ ،‬لكن في أي منظر من المناظر قد تكون لديك رغبة في أن‬
‫تراه‪ ،‬فتفتح عينيك‪ ،‬وإن لم تكن بك رغبة للرؤية فأنت تغمضهما‪.‬‬
‫إذن فالبصار تتعدد مرائيها‪ ،‬أما السمع فواحد ول اختيار لك في أن تسمع أو ل تسمع‪ .‬أما البصر‬
‫فلك اختيار في أن ترى أو ل ترى‪ ،‬وهذه المور رتبها لنا الحق في القرآن قبل أن ينشأ علم‬
‫وظائف العضاء‪ ،‬ورتبها سبحانه فأفرد في السمع‪ ،‬وجمع في البصر مع أنهما في مهمة واحدة‪،‬‬
‫سؤُولً }‬
‫سمْ َع وَالْ َبصَرَ وَالْ ُفؤَادَ ُكلّ أُولـا ِئكَ كَانَ عَنْهُ مَ ْ‬
‫إل آية واحدة جاءت في القرآن‪... {:‬إِنّ ال ّ‬
‫[الِسراء‪]36 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قال الحق ذلك لن المسئولية هنا هي الفردية الذاتية‪ ،‬وكل واحد مسئول عن سمعه وبصره‬
‫وفؤاده‪ ،‬وليس مسئولً عن أسماع وأبصار وأفئدة الناس‪ .‬ونرى مادة السمع قد تقدمت‪ ،‬وبعدها‬
‫س ِمعْنَا‪} ...‬‬
‫جاءت مادة البصر إل في آية واحدة أيضا‪ ،‬تتحدث عن يوم القيامة‪ {:‬رَبّنَآ أَ ْبصَرْنَا وَ َ‬
‫[السجدة‪]12 :‬‬
‫هنا قدّم الحق مادة البصار على مادة السمع؛ لن هول القيامة ساعة يأتي سنرى تغيرا في الكون‬
‫قبل أن نسمع شيئا‪ } .‬وَإِذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْي ِهمْ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَن َيسُومُهُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ إِنّ‬
‫ب وَإِنّهُ َل َغفُورٌ رّحِيمٌْ { [العراف‪]167 :‬‬
‫رَ ّبكَ لَسَرِيعُ ا ْل ِعقَا ِ‬
‫وتأذّن أي أَعْلم ال إعلما مؤكدا بأنكم يا بني إسرائيل ستظلون على انحراف دائم‪ ،‬ولذلك سيسلط‬
‫ال عليكم من يسومكم سوء العذاب‪ ،‬إما من جهة إيمانية‪ ،‬مثلما فعل رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم في بني النضير وبني النضير وبني قريظة وبني قينقاع وخيبر‪ ،‬وإما أن يسلط عليهم حاكما‬
‫ظالما غير متدين‪ ،‬مصداقا لقوله الحق‪َ {:‬وكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا‪[} ...‬النعام‪]129 :‬‬
‫وكذلك مثلما حدث من بختنصر‪ ،‬وهتلر‪ .‬إذن } وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكَ { أي أعلم ربك إعلما مؤكدا؛ لن‬
‫البشر قد ُيعْلمون بشيء‪ ،‬ولكن قدرتهم ليست مضمونة لكي يعملوا ما أعلموا به‪ ،‬فإذا أعلمت أنت‬
‫بشيء فأنت قد ل تملك أدوات التنفيذ‪ ،‬أمّا ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فهو المالك لدوات التنفيذ‪ ،‬والعلم‬
‫منه مؤكد‪ ،‬ولذلك ُيعْلم بالشيء‪ ،‬أما غيره فالظروف المحيطة به قد ل تساعده على أن ينفذ‪.‬‬

‫مثال ذلك‪ :‬صحابة رسول ال الول وهم مستضعفون ولم يستطيعوا أن يحموا أنفسهم من اضطهاد‬
‫المشركين والكافرين‪ ،‬وصار كل واحد يبحث لنفسه عن مكان يأمن فيه؛ منهم من يذهب إلى‬
‫الحبشة أو يذهب إلى قوي يحتمي به‪ ،‬فينزل ال في هذه الظروف العصيبة آية قرآنية لرسول ال‬
‫جمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪]45 :‬‬
‫يقول فيها‪ {:‬سَ ُيهْ َزمُ الْ َ‬
‫وتساءل البعض كيف يُهزمون ونحن غير قادرين على حماية أنفسنا‪ .‬فعندما نزلت هذه الية قال‬
‫سيدنا عمر‪ :‬أي جمع يُهزم‪ ،‬قال عمر‪ :‬فلما كان يوم بدر رأيت رسول ال ‪ -‬صلى ال عليه وسلم‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ { ‪ ،‬فعرفت تأويلها يومئذ‪ .‬إن ال‬
‫‪ -‬يثب في الدروع وهو يقول‪ } :‬سَ ُيهْزَمُ الْ َ‬
‫علَمَ بالنصر‪ .‬وهو قادر على إنفاذ ما أعْلَم به على وفق ما أعَلم؛ لنه ل يوجد إله‬
‫سبحانه وتعالى أَ ْ‬
‫آخر يصادمه‪ .‬إذن } وَِإذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ { يعني أعلم إعلما مؤكدا‪ ،‬وحيثية العلم المؤكد أنه ل توجد‬
‫قوة أخرى تمنع قدرته ول تنقض حكمه‪ } .‬وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ‪...‬‬
‫{ بالعراف‪]167 :‬‬
‫أي يبعث ال عليهم من يسومهم سوء العذاب‪ .‬وهناك بنص القرآن مبعوث‪ ،‬وال يخلي بينه‬
‫وبينهم‪ ،‬فل يمنعهم ال منه‪ ،‬إنما يسلط ال عليهم العذاب باختيار الظالم‪ .‬مثلما قال الحق‪ {:‬أَلَمْ تَرَ‬
‫أَنّآ أَرْسَلْنَا الشّيَاطِينَ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ َتؤُزّهُمْ أَزّا }[مريم‪]83 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي أنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬أرسلهم لهذه المهمة وخلّى بينهم وبين الذين يستمعون إليهم‪ } :‬وَِإذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ‬
‫لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْيهِمْ إِلَىا َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ {‪.‬‬
‫وكلمة } إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ { تفيد أن هذا العنصر‪ ،‬المشاكس من اليهود سيبقى في الكون كخميرة‬
‫(عكننة) إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬لماذا؟!‬
‫هم يقومون بمهمة الشر في الوجود‪ ،‬ولول أن هذا الشر موجود في الوجود‪ ،‬ويعضّ الناس‬
‫بمساوئه وإفساداته‪ ،‬لم يكن من الناس من يتهافت على الحق وعلى الخير‪ .‬فالشر ‪ -‬إذن ‪ -‬جاء‬
‫ليعضّ الناس بآلمه وإفساده ليتجه الناس إلى الخير‪ ،‬ولذلك تجد أقوى انفعالت تعتمل في صدور‬
‫المسلمين وأقوى نزوع حركي إلى الِسلم حين يجدون مَن يضطهد قضية الِسلم‪.‬‬
‫إنَ مهمة الشر في الوجود أنه يجمع عناصر الخير في الوجود ومهمة الباطل في الوجود أنه يحفز‬
‫عناصر الحق ويحضهم على محاربة الشر ومناهضته؛ لن الباطل حين يعم‪ ،‬ويتضايق منه‬
‫الناس‪ ،‬ترفع يدها وتقول‪ :‬يا ناس افعلوا الخير‪ .‬ولو لم يحدث ذلك فلن تجد من يقبل على الخير‬
‫بحمية وحرارة‪ } .‬وَِإذْ تَأَذّنَ رَ ّبكَ لَيَ ْبعَثَنّ عَلَ ْي ِهمْ إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَن َيسُومُهُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ‪.‬‬

‫‪[ { ..‬العراف‪]167 :‬‬


‫(ويسوم) من مادتها سام‪ ،‬ونسمعها في البهائم ونسميها السائمة وهي التي تطلب مقومات حياتها‪،‬‬
‫وليس صاحبها هو الذي يجهز لها مقومات حياتها‪ .‬أما البهائم التي تُرْبط وليست سائمة التي تجد‬
‫من يجهز لها طعامها‪ ،‬إذن أصل " سام " أي طلب‪ ،‬وبهيمة سائمة أي تطلب رزقها وأكلها بنفسها‪.‬‬
‫و " سام " أيضا أي طلب العذاب‪ .‬ول يطلب أحد العذاب إل أن يكون قد أفرغ قوته في التعذيب‪.‬‬
‫فيطلب ممن يقدر على العذاب أن يعذب‪ ،‬أي أن ال يسلط ويبعث عليهم من يقوم بتعذيبهم جهد‬
‫طاقته‪ ،‬فإذا فترت طاقته أو ضعفت فإنه يستعين على تعذيبهم بغيره‪.‬‬
‫عذّب هو‪ ،‬ولم يكتف بأنه عذّب بل طلب لهم عذابا آخر‪ ،‬و }‬
‫إذن فطلب العذاب معناه أنّه‪َ :‬‬
‫يَسُو ُمهُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ { أي العذاب السيء الشديد‪ .‬ويذيل الحق الية بقوله تعالى‪...} :‬إِنّ رَ ّبكَ‬
‫ب وَإِنّهُ َل َغفُورٌ رّحِيمٌْ { [العراف‪]167 :‬‬
‫لَسَرِيعُ ا ْل ِعقَا ِ‬
‫ومعنى سرعة الشيء أن تأخذه زمنا أقل مما يتوقع له؛ لن السرعة هي اختصار الزمن‪ } .‬لَسَرِيعُ‬
‫ا ْل ِعقَابِ { هي للدنيا وللخرة‪ ،‬فساعة يقترفون ذنبا‪ .‬يسلط عليهم من يعذبهم في الدنيا‪ ،‬أما الخرة‬
‫ففيها سرعة عالية؛ لن مسافة كل إنسان إلى العذاب ليست هي عمر الدنيا‪ ،‬فالِنسان بمجرد أن‬
‫يموت تنتهي الدنيا بالنسبة له‪ .‬والرسول صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬إذا مات أحدكم فقد قامت‬
‫قيامته "‪.‬‬
‫إن هناك سرعة لحساب الخرة‪ .‬وحتى لو افترضنا أننا سنبقى جميعا دون حساب إلى أن تنتهي‬
‫الدنيا‪ ،‬فإن الحساب سيكون سريعا لن كل لحظة تمر على أي إنسان تقربه من العقاب‪ ،‬وحتى لو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كان عمر الدنيا مليون سنة‪ ،‬فكل يوم يمر سينقص من عمر الدنيا‪.‬‬
‫وحين يقول الحق سبحانه بعد سرعة العقاب } وَإِنّهُ َل َغفُورٌ رّحِيمٌْ { قد نجد من يسأل كيف والحديث‬
‫هنا عن العقاب؟ ونقول‪ :‬إنه سبحانه الذي يتكلم‪ .‬وهو القادر‪ ،‬فإذا قال‪ :‬أنه لسريع العقاب‪ ،‬فهذا‬
‫يعني أنه يسرع بعقاب المفسدين والظالمين؛ لنه غفور رحيم بالمظلومين الذين يُظلمون‪ ،‬إذن‬
‫فسرعة عقاب الظّلمَة رحمة منه بالمظلومين‪ .‬أو أن ال كما قال " سريع العقاب " فإنه ‪ -‬سبحانه‬
‫‪ -‬يأتي بالمقابل لكي يشجع كل إنسان على الدخول في رحمته‪.‬‬
‫طعْنَا ُهمْ فِي الَرْضِ‪{ ...‬‬
‫ويقول سبحانه بعد ذلك‪َ } :‬وقَ ّ‬

‫(‪)1109 /‬‬

‫حسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ َلعَّل ُهمْ‬


‫ك وَبََلوْنَاهُمْ بِالْ َ‬
‫ن َومِ ْنهُمْ دُونَ ذَِل َ‬
‫طعْنَاهُمْ فِي الْأَ ْرضِ ُأ َممًا مِ ْنهُمُ الصّالِحُو َ‬
‫َوقَ ّ‬
‫جعُونَ (‪)168‬‬
‫يَرْ ِ‬

‫طعْنَاهُمُ اثْنَ َتيْ عَشْ َرةَ أَسْبَاطا ُأمَما‪[} ...‬العراف‪]160 :‬‬


‫وقد قال سبحانه قبل ذلك أيضا‪َ {:‬وقَ ّ‬
‫ن َومِ ْنهُمْ دُونَ ذاِلكَ‬
‫طعْنَاهُمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما مّ ْنهُمُ الصّالِحُو َ‬
‫ولكن القول هنا يجيء لمعنى آخر‪َ { :‬وقَ ّ‬
‫}‪.‬‬
‫وقد قطعهم الحق حتى ل يبقى لهم وطن‪ ،‬ويعيشون في ذلة؛ لنهم مختلفون غير متفقين مع‬
‫بعضهم منذ البداية‪ ،‬كانوا كذلك منذ أن كانوا أسباطا وأولد إخوة على خلف دائم‪ .‬وهنا يقول‬
‫طعْنَاهُمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما }‪.‬‬
‫الحق‪َ { :‬وقَ ّ‬
‫طعْنَاهُمْ } أي أن كل قطعة يكون لها تماسك ذاتي في نفسها‪ ،‬وأيضا ل تشيع في‬
‫ومعنى { َوقَ ّ‬
‫المكان الذي تحيا فيه‪ ،‬ولذلك قلنا‪ :‬إنهم ل يذوبون في المجتمعات أبدا‪ -،‬كما قلنا ‪ -‬فعندما تذهب‬
‫إلى أسبانيا مثلً تجد لهم حيّا خاصّا‪ ،‬كذلك فرنسا‪ ،‬وألمانيا‪ ،‬وكل مكان يكون لهم فيه تجمع خاص‬
‫خلُوا‬
‫بهم‪ ،‬ل يدخل فيه أحد‪ ،‬ول يأخذون أخلقا من أحد‪ ،‬وشاء الحق بعد ذلك أن قال لهم‪ {:‬ادْ ُ‬
‫الَ ْرضَ ال ُمقَدّسَةَ الّتِي كَ َتبَ اللّهُ َل ُكمْ‪[} ...‬المائدة‪]21 :‬‬
‫فبعد أن مَنّ عليهم بأرض يقيمون فيها‪ ،‬قالوا‪... {:‬إِنّا لَنْ نّدْخَُلهَآ أَبَدا مّا دَامُواْ فِيهَا فَا ْذ َهبْ أَنتَ‬
‫وَرَ ّبكَ َفقَاتِل إِنّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }[المائدة‪]24 :‬‬
‫فحرم ال عليهم أن يستوطنوا وطنا واحدا يتجمعون فيه‪ ،‬ونشرهم في الكون كله لنهم لو كانوا‬
‫متجمعين لعم فسادهم فقط في دائرتهم التي يعيشون فيها‪ .‬ويريد ال أن يعلن للدنيا كلها أن فسادهم‬
‫فساد عام‪ .‬ولذلك فهم إن اجتمعوا في مكان فلبد أن تتآلب عليهم القوى وتخرجهم مطرودين أو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تعذبهم‪ ،‬وأظن حوادث هتلر الخيرة ليست بعيدة عن الذاكرة‪ ،‬وقد أوضحنا ذلك من قبل في شرح‬
‫سكُنُو ْا الَ ْرضَ‪[} ...‬الِسراء‪]104 :‬‬
‫قوله الحق‪َ {:‬وقُلْنَا مِن َب ْع ِدهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ا ْ‬
‫لقد قلنا‪ :‬إن السكن في الرض هو أن يتبعثروا فيها؛ لنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬لم يحدد لهم مكانا يقيمون‬
‫فيه‪ ،‬فإذا جاء وعد الخرة ينتقم ال منهم بضربة واحدة‪ ،‬ويأتي الحق بهم لفيفا تمهيدا للضربة‬
‫طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما مّ ْنهُمُ الصّاِلحُونَ َومِ ْنهُمْ دُونَ ذاِلكَ }‪.‬‬
‫القاصمة‪َ { :‬وقَ ّ‬
‫وهناك فريق منهم جاء إلى المدينة المنورة ووسعتهم المدينة وصاروا أهل العلم وأهل الكتاب‪،‬‬
‫وأهل الثراء وأهل المال‪ ،‬وأهل بنايةٍ للحصون‪ ،‬وحين هاجر رسول ال صلى ال عليه وسلم عقد‬
‫معهم معاهدة‪ .‬فالذي دخل منهم في الِيمان استحق معاملة المؤمنين‪ ،‬فلهم ما لهم وعليهم وما‬
‫ق وَبِهِ َي ْعدِلُونَ }[العراف‪]159 :‬‬
‫حّ‬‫عليهم‪ ،‬والحق قد قال‪َ {:‬ومِن َقوْمِ مُوسَىا ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِالْ َ‬
‫وقلنا إن هذه تسمى صيانة الحتمال لمن يفكرون في الِيمان برسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫ن َومِ ْنهُمْ دُونَ ذاِلكَ }‪ .‬و " دون " أي غير‪ ،‬فالمقابل‬
‫طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما مّ ْنهُمُ الصّالِحُو َ‬
‫{ َوقَ ّ‬
‫للصالحين هم المفسدون‪ .‬أو منهم الصالحون في القمة‪ ،‬ومنهم من هم أقل صلحا‪ .‬فهناك أناس‬
‫يأخذون الحسن‪ ،‬وأناس يأخذون الحسن فقط‪.‬‬

‫جعُونَ { [العراف‪]168 :‬‬


‫حسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ َلعَّلهُمْ يَرْ ِ‬
‫ويتابع الحق سبحانه‪...} :‬وَبَلَوْنَا ُهمْ بِالْ َ‬
‫جعُونَ { هي التي جعلتنا نفهم أن قول الحق سبحانه وتعالى‪ :‬أن منهم أناسا‬
‫كلمة } َلعَّلهُمْ يَرْ ِ‬
‫صالحين‪ ،‬ومنهم دون ذلك‪ ،‬أي كافرون؛ لنهم لو كانوا قد صنعوا الحسن والحسن فقط‪ ،‬لما جاء‬
‫جعُونَ {‪ .‬أو هم يرجعون إلى الحسن‪.‬‬
‫الحق بـ } َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫و " بلونا " أي اختبرنا؛ لن ل في الختبارات مطلق الحرية‪ ،‬فهو يختبر بالنعمة ليعلم واقعا منك‬
‫لنه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬عالم به‪ ،‬من قبل أن تعمل‪ ،‬لكن علمه الزلي ل يُعتبر شهادة منا‪ .‬لذلك يضع‬
‫حسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ {‪.‬‬
‫أمامنا الختبار لتكون نتيجة عملنا شهادة إقرار منا علينا‪ } :‬وَبََلوْنَا ُهمْ بِالْ َ‬
‫وسبحانه وتعالى يختبر بالنعمة ليرى أتغزنا السباب في الدنيا عن المُسبّب العلى الذي وهبها‪{:‬‬
‫طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق‪]7-6 :‬‬
‫ن الِنسَانَ لَ َي ْ‬
‫كَلّ إِ ّ‬
‫فالواجب أن نشكر النعمة ونؤديها في مظان الخير لها‪ .‬فإن كان العبد سيؤديها بالشكر فقد نجح‪،‬‬
‫وإن أداها على عكس ذلك فهو يرسب في الختبار‪ .‬إذن فهناك البتلء بالنعم‪ ،‬وهناك البتلء‬
‫بالنقم‪ .‬والبتلء بالنقم ليرى الحق هل يصبر العبد أو ل يصبر‪ ،‬أي ليراه ويعلمه واقعا حاصلً‪،‬‬
‫وإل فقد علمه ال أزلً‪.‬‬
‫لهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَ ُه وَ َن ّعمَهُ فَ َيقُولُ رَبّي َأكْ َرمَنِ *‬
‫ولذلك يقول الحق سبحانه‪ {:‬فََأمّا الِنسَانُ ِإذَا مَا ابْتَ َ‬
‫لهُ َفقَدَرَ عَلَ ْيهِ رِ ْزقَهُ فَ َيقُولُ رَبّي أَهَانَنِ }[الفجر‪]16-15 :‬‬
‫وََأمّآ إِذَا مَا ابْتَ َ‬
‫إننا نجد من يقول‪ } :‬رَبّي َأكْ َرمَنِ {‪ .‬ومَن يقول‪ } :‬رَبّي أَهَانَنِ { والحق يوضح‪ :‬أنتما كاذبان‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فليست النعمة دليل الِكرام‪ ،‬ول سلب النعمة دليل الِهانة‪ .‬ولكن الِكرام ينشأ حين تستقبل النعمة‬
‫بشكر‪ ،‬وتستقبل النقمة بصبر‪ .‬إذن مجيء النعمة في ذاتها ليس إل اختبارا‪ .‬وكذلك إن قَدَر ال‬
‫عليك رزقك وضيقه عليك‪ ،‬فهذا ليس للِهانة ولكنه للختبار أيضا‪.‬‬
‫سكِينِ *‬
‫طعَامِ ا ْلمِ ْ‬
‫ويوضح الحق جل وعل‪ {:‬كَلّ بَل لّ ُتكْ ِرمُونَ الْيَتِيمَ * وَلَ َتحَآضّونَ عَلَىا َ‬
‫جمّا }[الفجر‪]20-17 :‬‬
‫وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ َأكْلً ّلمّا * وَ ُتحِبّونَ ا ْلمَالَ حُبّا َ‬
‫أنتم ل تطعمون في مالكم يتيما ول تحضون على طعام مسكين‪ .‬فكيف يكون المال نعمة؟ إنه نقمة‬
‫جعُونَ {‪ .‬ول المثل العلى‪،‬‬
‫ت وَالسّيّئَاتِ َلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫عليكم‪ .‬وهنا يقول الحق‪ } :‬وَبََلوْنَاهُمْ بِا ْلحَسَنَا ِ‬
‫نقول‪ :‬إن فلنا أتعبني‪ ،‬لقد قلبته على الجنبين‪ ،‬ل الشدة نفعت فيه‪ ،‬ول اللين نفع فيه‪ ،‬ول سخائي‬
‫عليه نفع فيه‪ ،‬ول ضنى عليه نفع فيه‪ ،‬وقد اختبر ال بني إسرائيل فلم يعودوا إلى الطاعة مما يدل‬
‫على أن هذا طبع تأصل فيهم‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬فخََلفَ مِن َب ْعدِهِمْ خَ ْلفٌ‪{ ...‬‬

‫(‪)1110 /‬‬

‫خذُونَ عَ َرضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَ ُي ْغفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْ ِت ِهمْ‬
‫فَخََلفَ مِنْ َبعْدِ ِهمْ خَ ْلفٌ وَرِثُوا ا ْلكِتَابَ يَأْ ُ‬
‫ق وَدَرَسُوا مَا فِيهِ‬
‫حّ‬‫عَ َرضٌ مِثْلُهُ يَ ْأخُذُوهُ أَلَمْ ُي ْؤخَذْ عَلَ ْي ِهمْ مِيثَاقُ ا ْلكِتَابِ أَنْ لَا َيقُولُوا عَلَى اللّهِ إِلّا الْ َ‬
‫وَالدّارُ الَْآخِ َرةُ خَيْرٌ لِلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ (‪)169‬‬

‫خلْف أو الخليفة هو من يأتي بعد ذلك‪ ،‬ويقال‪ :‬فلن خليفة فلن‪ ،‬ومن قبل قرأنا أن‬
‫والخَلَف أو ال َ‬
‫سيدنا موسى قال لسيدنا هارون‪ {:‬اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي‪[} ...‬العراف‪]142 :‬‬
‫أي كن خليفة لي‪ ،‬إل أنك حين تسمع " خَ ْلفُ " بسكون اللم‪ ،‬فاعلم أنه في الفساد‪ ،‬وإن سمعتها "‬
‫خََلفٌ " بفتح اللم فاعلم أنه في الخير‪ ،‬ولذلك حين تدعو لواحد تقول‪ :‬اللهم اجعله خير خَلَف لخير‬
‫سلف‪ .‬وهنا يقول الحق‪ { :‬فَخََلفَ مِن َبعْدِ ِهمْ خَ ْلفٌ }‪ .‬والحديث هنا عن أنهم هم الفاسدون‬
‫والمفسدون‪ ،‬والشاعر يقول‪:‬ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خَ ْلفٍ كجلد الجربالشاعر هنا‬
‫يبكي موت الكرماء وأهل السماحة‪ ،‬فلم يعد أحد من الذين كان يعيش في رحاب كرمهم‬
‫وسماحتهم؛ فقد ذهب الذين يُعاش في أكنافهم أي جوارهم؛ لن هذا الجوار كان نعمة أيضا‪ .‬وحين‬
‫يجاور رجل ضُيّق وقُدِر عليه رزقه رجلً طيبا عنده نعمة‪ ،‬فتنضح عليه نعمة الرجل الطيب‪.‬‬
‫والشاعر هنا قال‪ " :‬وبقيت في خَ ْلفٍ كجلد الجرب " أي أن جلده قريب ولصق لكنه جلد أجرب‪.‬‬
‫وعرفنا قصة " أبودلف " وكان رجلً كريما في بغداد‪ .‬يعيش في نعمته كل الناس ومن يحتاج‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يعطيه‪ .‬وطرأ طارئ على جار فقير له‪ ،‬وأراد أن يبيع داره‪ ،‬فعرض الدار للبيع‪ ،‬وسألوه عن‬
‫الثمن الذي يرتضيه‪ ،‬فقال‪ :‬داري بمائة دينار‪ .‬لكن جواري لبي دلف بألف دينار‪ ،‬فبلغ هذا الكلم‬
‫أبا دلف فقال‪ :‬إن رجلً قدر جوارنا بعشرة أمثال ما قدر به داره لحقيق أل يفرّط فيه‪ .‬قالوا له‪:‬‬
‫فليبق جارا لنا وليأخذ ما يريد من مال‪.‬‬
‫ف وَرِثُواْ ا ْلكِتَابَ }‪ .‬والكتاب هو التوراة‪ ،‬والخَلْف أخذوه ميراثا‪ ،‬والشيء ل‬
‫{ َفخََلفَ مِن َبعْدِهِمْ خَ ْل ٌ‬
‫يكون ميراثا إل إذا حمله السابق بأمانة وأدّاه للحق‪ ،‬ولكن لنهم أهل إفساد فلنر ماذا فعلوا في‬
‫الكتاب؟ لقد ورثوه‪ .‬وبُلّغ إليهمُ وعرفوا ما فيه‪ { .‬يَ ْأخُذُونَ عَ َرضَ هَـاذَا الَدْنَىا وَيَقُولُونَ سَ ُي ْغفَرُ‬
‫خذُوهُ‪[ } ...‬العراف‪]169 :‬‬
‫لَنَا وَإِن يَأْ ِتهِمْ عَ َرضٌ مّثْلُهُ يَأْ ُ‬
‫ل يكونوا أصحاب منهج خير‪ ،‬لكنهم لم يلتفتوا إلى ما في الكتاب ‪ -‬التوراة ‪-‬‬
‫أي ل حجة لهم في أ ّ‬
‫من المواثيق‪ ،‬والحلل‪ ،‬والحرام‪ ،‬وافعل كذا ول تفعل كذا؛ لم يلتفتوا لكل هذا؛ لنهم قالوا لنفسهم‪:‬‬
‫إن هذا الكتاب يعطي النعيم البعيد في الخرة‪ ،‬وهم يريدون النعيم القريب‪ ،‬فمنهم من قبل الرشوة‬
‫واستغلل النفوذ‪ .‬وبذلك أخذوا عَ َرضَ الحياة الدنى وهو عرض الدنيا‪ .‬ولم يأخذوا إدارة الدنيا‬
‫بمنهج ال‪ ،‬والدنيا فيها جواهر أو أعراض‪ ،‬والجوهر هو الشيء الذاتي‪ ،‬فالِنسان بشحمه ولحمه "‬
‫جوهر " أما لونه إن كان أسمر أو أبيض فهذا عَرَض‪ ،‬قصيرا أو طويلً‪ ،‬صحيحا أو مريضا‪،‬‬
‫وغنيّا أو فقيرا فهذا عرض‪.‬‬

‫إذن فالعراض هي ما توجد وتزول‪ ،‬والجواهر هي التي تبقى ثابتة على قدر ما كتب لها من‬
‫بقاء‪ ،‬وكما يقول علماء المنطق‪ :‬الجوهر ما قام بنفسه‪ ،‬والعَرَض ما قام بغيره‪.‬‬
‫وهم قد أخذوا العرض من الحياة الدنيا‪ ،‬وعرض الدنيا قد يتمثل في المال الحرام‪ ،‬وأن يغشوا‬
‫ويستحلوا الرشوة‪ .‬ونعلم أن الِنسان ‪ -‬حتى المؤمن ‪ -‬قد تحدث منه معصية ول يمنع ربنا هذا؛‬
‫لن المشرع العلى حين يشرع عقوبة لجريمة‪ ،‬فهذا إذْنٌ بأنها قد تحدث‪ ،‬وحين يقول الحق‪{:‬‬
‫طعُواْ أَ ْيدِ َي ُهمَا‪[} ...‬المائدة‪]38 :‬‬
‫وَالسّارِقُ وَالسّا ِرقَةُ فَاقْ َ‬
‫ن معنى هذا القول أن المؤمن قد تسول له نفسه أَنْ يسرق مثلً‪ ،‬ولم يترك الحق هذا الجرم بدون‬
‫إّ‬
‫عقوبة‪ .‬وإن رأينا مسلما يسرق‪ ،‬نقل له هذا فعل مُجَرّم من الِسلم‪ ،‬وله عقوبة‪ ،‬والمُجْرَم ل يمكن‬
‫أن يرتكب الجُرْم وهو ملتزم بالدّين‪ ،‬بل هو منسوب للدين فقط‪ ،‬وعندما يرتكب مسلم ذنبا أو‬
‫معصية ثم يندم ويتوب ويعزم على أنه لن يعود تصح توبته‪ ،‬وكذلك لو ألحّت عليه معصيته فيعود‬
‫إليها‪ ،‬ثم تاب‪ ،‬المهم أنه في كل مرة ل يصر على الفعل‪ ،‬ثم يقول‪ :‬سوف أتوب‪ .‬وهم كانوا‬
‫يصرون على المعصية ويقولون‪ :‬سبغفر ال لنا‪ ،‬بل إنهم لم يفكروا في التوبة‪ ،‬ووجدنا منهم من‬
‫يقول‪َ {:‬نحْنُ أَبْنَاءُ اللّ ِه وَأَحِبّا ُؤهُ‪[} ...‬المائدة‪]18 :‬‬
‫ويأتي الرد‪ُ {:‬قلْ فَلِمَ ُيعَذّ ُبكُم ِبذُنُو ِبكُم َبلْ أَنتُمْ َبشَرٌ ِممّنْ خََلقَ‪[} ...‬المائدة‪]18 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن هم يأخذون عرض هذا الدنى‪ ،‬ويحكمون في أخذهم بهذا العرض أنه سبحانه سوف َي ْغفِر‬
‫لهم‪ .‬وبذلك استحلوا الحرام وانتقلوا من منطقة المعصية إلى منطقة الكفر؛ لن هناك فرقا بين أن‬
‫تفعل الشيء وتقول هو معصية‪ .‬لكن أن يرتكب الِنسان المعصية ويقول‪ :‬ليست بمعصية‪ ،‬فهذا‬
‫انتقال من العصيان إلى الكفر‪ ،‬ومثال ذلك الربا حين نجد من يحلله‪ ،‬نقول له‪ :‬اقْ َبلْ أن تكون‬
‫عاصيّا ول تدخل نفسك في الكفر؛ لنك إن حللت ما حرم ال يقع عليك الكفر وتوصف به والعياذ‬
‫بال‪ ،‬أما إن قلت‪ :‬هو حرام ولكن ظروفي صعبة ول أقدر على نفسي فقد يغفر ال لك‪ .‬لكن قوم‬
‫موسى كانوا يصرون على المعصية ويقولون‪ :‬سيغفر ال لنا‪:‬‬
‫خذُوهُ {‪.‬‬
‫ويقول الحق‪ } :‬وَإِن يَأْ ِتهِمْ عَ َرضٌ مّثُْلهُ يَأْ ُ‬
‫وهم بعد ذلك تركوا العلى وأخذوا عرض الحياة الدنى ويتمادون في غيهم ويرتكبون المعاصي‬
‫تلو المعاصي دون أن يدقوا باب التوبة‪ .‬لذلك ينبههم الحق سبحانه‪ } :‬أَلَمْ ُيؤْخَذْ عَلَ ْي ِهمْ مّيثَاقُ‬
‫ا ْلكِتَابِ أَن لّ ِيقُولُواْ عَلَى اللّهِ ِإلّ ا ْلحَقّ‪[ { ...‬العراف‪]169 :‬‬
‫ق أل يقولوا على ال إل الحق‪ ،‬لكن هل‬
‫لقد ورثوا الكتاب‪ ،‬وفي الكتاب قد أُخذ عليهم عهدٌ موث ٌ‬
‫يعدل الفاسق عن الباطل ويعود إلى الحق؟‪ .‬طبعا ل‪ ،‬هم إذن تجاهلوا ما في هذا الكتاب‪ ،‬رغم أنهم‬
‫قد درسوا ما فيه مصداقا لقوله الحق‪ } :‬وَدَ َرسُواْ مَا فِيهِ {‬
‫وكلمة " دَرَسَ " تدل على تكرار العمل‪ ،‬فيقال‪ " :‬فلن درس الفقه " أي تعلمه تعلما متواصلً‬
‫ليصير الفقه عنده ملكة‪.‬‬

‫وهو مختلف عمن قرأ الكتاب مرة واحدة‪ ،‬هنا ل يصبح الفقه عنده ملكة‪ .‬وحتى نفهم الفرق بين "‬
‫العلم " و " الملكة " ‪ ،‬نقول‪ :‬إن العلم هو تلقي المعلومات‪ ،‬أما من درس المعلومات وطبقها‬
‫وصارت عنده المسألة آلية‪ ،‬فهذا هو من امتلك ناصية العلم حتى صار العلم عنده ملكة‪.‬‬
‫إذا التقى صائم ‪ -‬مثل ‪ -‬بفقيه وسأله عن فتوى في أمر الصيام يجيبه فورا؛ لنه علم كل صغيرة‬
‫وكبيرة في الفقه‪ .‬لكن إن تسأل تلميذا مبتدئا في الزهر فقد يرتبك وقد يطلب أن يرجع إلى كتبه‬
‫ليعثر على الجابة؛ لن الفقه لم يصبح لديه ملكه‪ .‬والملكة في المعنويات هي مقابل اللية في‬
‫الماديات التي تحتاج إلى دُرْبة‪ ،‬فمن يمسك النول لينسج النسيج ويتقن تمرير المكوك بين الفتلتين‬
‫ل يفعل ذلك إل عن دُرْبة‪ .‬إنه قد تعلم ذلك بصعوبة وتكرار تدريب‪.‬‬
‫إذن فقوله‪ } :‬وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ { اي تكررت دراسة الكتاب حتى عرفوا ما فيه من علم‪ .‬ونحن أخذنا‬
‫" درس العلم " من مسألة حسية هي " درس القمح " ‪ ،‬ويعلم من تربى في الريف كيف ندرس‬
‫القمح‪ ،‬حين يدور النورج على سنابل القمح فيخرج لنا الحب من أكمامه‪ ،‬ويقطع لنا العيدان‪ ،‬وهذه‬
‫العملية تسمى " درس القمح "‪.‬‬
‫إن ما فعلوه من عصيان ليس عن غفلة عن هذا الميثاق في ألّ يقولوا على ال إل الحق‪ ،‬لنهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫درسوا ما في الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة دراسة مستوعبة‪ ،‬لكنهم أخذوا العرض الدنى‪.‬‬
‫وكان لبد أن يأتي بمقابل العرض الدنى فيوضح لنا أنّ مصير من يريد الدار الخرة هو الثواب‬
‫الدائم ولذلك يقول الحق‪ ...} :‬وَالدّارُ الخِ َرةُ خَيْرٌ لّلّذِينَ يَ ّتقُونَ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ { [العراف‪]169 :‬‬
‫وهذا يعني التنبيه بأنه من الواجب قبل أن تفعلوا الفعل أن تنظروا ما يعطيه من خير‪ ،‬وأن تتركوه‬
‫إن كان يعطي الكثير من الشر‪ ،‬وزنوا المسألة بعقولكم‪ ،‬وساعة أن تَزنوا المسألة بعقولكم‬
‫ستعرفون أن عمل الخير راجح‪.‬‬
‫سكُونَ بِا ْلكِتَابِ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَالّذِينَ ُيمَ ّ‬

‫(‪)1111 /‬‬

‫ب وََأقَامُوا الصّلَاةَ إِنّا لَا ُنضِيعُ أَجْرَ ا ْل ُمصْلِحِينَ (‪)170‬‬


‫سكُونَ بِا ْلكِتَا ِ‬
‫وَالّذِينَ ُيمَ ّ‬

‫إنّ الكثير من بني إسرائيل ورثوا الكتاب‪ ،‬وأخذوا العرض الدنى‪ ،‬ولم يزنوا المور بعقولهم؛‬
‫لذلك لم يتمسكوا بالكتاب‪ ،‬وتركوه‪ ،‬وساروا على هواهم؛ كأنهم غير مقيدين بمنهج افعل كذَا ول‬
‫تفعل كذَا‪ ،‬ويقابلهم بعض الذين يتمسكون بالكتاب الذي ورثوه‪ ،‬ول يقولوا على ال إل الحق‪.‬‬
‫ومادة الميم والسين والكاف تدل على الرتباط الوثيق؛ فالذي يجعل النسان متصلً بالشيء هو‬
‫سكَ " ‪ ،‬و " أمسك " ‪ ،‬وتقول " استمسك " ‪ ،‬و " تماسك " ‪،‬‬
‫سكَ " وتقول‪َ " :‬م ّ‬
‫ماسكه‪ ،‬وتقول‪ " :‬م َ‬
‫وكلها مادة واحدة‪ .‬وقوله الحق‪ " :‬يمسّكون " مبالغة في المسك‪ ،‬كُل قطع وقطّع‪ ،‬ولكن قطّع أبلغ‪.‬‬
‫و(مسّك) يعني أن الماسك تمكن مما يمسك‪ ،‬و(استمسك) أي طلب‪ ،‬و(تماسك) أي أنّ هناك تفاعلً‬
‫بين الثنين؛ بين الماسك والممسوك‪ .‬ومن رحمة ربنا أنه ل يطلب منا أن نمسك الكتاب‪ .‬بل‬
‫يطلب أن نستمسك بالكتاب‪ ،‬ولذلك يوضح لك الحق سبحانه وتعالى‪ :‬إن أنت ملت إلى القرب مني‬
‫والزلفىإليّ‪ ،‬فاترك الباقي عنك فالمعونة منّي أنا‪ ،‬ولذلك يدلنا على أن من ينفذ منهج القرآن ل‬
‫سكَ بِا ْلعُ ْر َوةِ ا ْلوُثْقَىا لَ انفِصَامَ َلهَا } وهنا يستخدم الحق سبحانه كلمة‬
‫يلقى الهوان أبدا { َفقَدِ اسْ َتمْ َ‬
‫(استمسك) ل كلمة مسَك‪ ،‬فمن وجه نيته في أن يفعل يعطيه ال المعونة‪ ،‬ولذلك يقول سبحانه في‬
‫الحديث القدسي‪:‬‬
‫" أنا عند ظن عبدي بي‪ ،‬وأنا معه إذا ذكرني‪ ،‬فإن ذكرني في نفسه‪ ،‬ذكرته في نفسي‪ ،‬وإن ذكرني‬
‫في مل‪ ،‬ذكرته في مل خير منه‪ ،‬وإن تقرب إليّ بشبر‪ ،‬تقربت إليه ذراعا‪ ،‬وإن تقرب إليّ ذراعا‪،‬‬
‫تقربت إليه باعا‪ ،‬وإن أتاني يمشي‪ ،‬أتيته هرولة‪" .‬‬
‫فأنت بإيمانك بال تعزز نفسك وتقويها بمعونه ال لك‪ .‬فإن أردت أن يذكرك ال فاذكر ال؛ فإن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذكرته في نفسك يذكرك في نفسه‪ ،‬وإن ذكرته في مل يذكرك في مل خير منه‪ ،‬وإن تقربت إليه‬
‫شبرا تقرب إليك ذراعا‪ ،‬فماذا تريد أكثر من ذلك‪ ،‬خاصة أنك لن تضيف إليه شيئا‪ ،‬إذن فالموقف‬
‫في يدك‪ ،‬فإذا أردت أن يكون ال معك فسر في طريقه تأت لك المعونة فورا‪ .‬وهكذا يكون‬
‫الموقف معك وينتقل إليك‪ ،‬وذلك بإيمانك بال وإقبالك على حب الرتباط به‪.‬‬
‫ولذلك قلنا من قبل‪ :‬إن النسان إذا أراد أن يلقى عظيما من عظماء الدنيا وفي يده مصلحة من‬
‫مصالح الِنسان فهو يكتب طلبا‪ ،‬فإما أن يوافق هذا العظيم وإما ألّ يوافق‪ ،‬وحين يوافق هذا‬
‫العظيم يحدد الزمان ويحدد المكان‪ ،‬ويسألك مدير مكتبه عن الموضوعات التي ستتكلم فيها‪ ،‬وحين‬
‫تقابله وينتهي الوقت‪ ،‬فهو يقف من كرسيه لينهي المقابلة‪ ،‬هذا هو العظيم من البشر‪ ،‬لكن ماذا عن‬
‫العظيم العظم العلى الذي تلتقي به في الِيمان؟ أنت تلقى ال في أي وقت‪ ،‬وفي أي مكان‪،‬‬
‫وتقول له ما تريد‪ ،‬وأنت الذي تنهي المقابلة‪ ،‬أل يكفي كل ذلك لتستمسك بالِيمان؟‪.‬‬

‫لةَ إِنّا لَ ُنضِيعُ أَجْرَ ا ْل ُمصْلِحِينَ { [العراف‪]170 :‬‬


‫سكُونَ بِا ْلكِتَابِ وََأقَامُواْ الصّ َ‬
‫} وَالّذِينَ ُيمَ ّ‬
‫والكتاب هنا هو الكتاب الموروث‪ ،‬والمقصود به التوراة وهو الذي درسوا ما فيه‪ ،‬وقد أخذ ال في‬
‫لةَ { فهل‬
‫هذا الكتاب الميثاق عليهم أل يقولوا على ال إل الحق‪ ،‬والحق يقول هنا‪ } :‬وََأقَامُواْ الصّ َ‬
‫هذا الكتاب ليس فيه إل الصلة؟ ل‪ ،‬ولكنه خص الصلة بالذكر‪ .‬لننا نعلم أن الصلة عماد الدين‪،‬‬
‫وعرفنا في رسالة محمد صلى ال عليه وسلم أن الصلة قد فرضت بالمباشرة‪ ،‬وكل فروض‬
‫الِسلم ‪ -‬غير الصلة ‪ -‬قد فرضت بالوحي‪.‬‬
‫لقد قلنا من قبل ول المثل العلى‪ ،‬إن رئيس أي مصلحة حكومية حين يريد أمرا عاديا رُوتينيا‪،‬‬
‫فهو يوقع الورق الذي يحمل هذا المر ويكتب عليه‪ " :‬يعرض على فلن " ويأخذ الورق مجراه‪،‬‬
‫وحين يهتم بأمر أكثر‪ ،‬فهو يتحدث تليفونيا إلى الموظف المختص‪ ،‬وحين يكون المر غاية في‬
‫الهمية القصوى فهو يطلب من الموظف أن يحضر لديه‪ ،‬وهكذا فرضت الصلة بهذا الشكل لنها‬
‫الِعلن الدائم للولء ل خمس مرات في اليوم‪ ،‬وإن شئت أن تزيد على ذلك تنفل وتهجدا فعلت‪.‬‬
‫إنك بالصلة توالى ال بكل أحكامه‪ ،‬إنك توالي ال بالزكاة كل سنة‪ ،‬وبالصوم في شهر واحد هو‬
‫رمضان‪ ،‬وبالحج مرة واحدة في العمر إن استطعت‪ .‬لكن الصلة ولء دائم متجدد‪ ،‬ولن الصلة‬
‫لها كل هذه الهمية؛ لذلك ل تسقط أبدا‪ .‬وأركان الِسلم ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬خمسة؛ شهادة أن ل إله إل‬
‫اله وأن محمدا‪ .‬رسول ال‪ ،‬إنها الِيمان بال وبالرسول كوحدة واحدة ل تنفصل‪ ،‬ويكفي أن ينطقها‬
‫الِنسان مرة لتكتب له‪ ،‬ثم تأتي أركان الصلة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والصوم‪ ،‬والحج‪ ،‬والحج ليس ركنا‬
‫مفروضا إل على من يستطيعون‪ .‬قد ل يكون للِنسان مال يخرج عنه الزكاة؛ فل يجب عليه‬
‫إخراج شيء حينئذ‪ ،‬وقد يكون الِنسان مريضا أو مسافرا فل يصوم‪.‬‬
‫إذن فبعض فروض الِسلم قد تسقط عن المسلم‪ ،‬إل الصلة فهي ل تسقط أبدا؛ لن في الصلة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في ظاهر المر قطعا لبعض الوقت عن حركة عملك‪ ،‬وإن كان كل فرض يأخذ مثلً نصف‬
‫ساعة‪ ،‬فالِنسان يقتطع من وقته ساعتين ونصف الساعة كل يوم في أداء الصلة‪ .‬والوقت عزيز‬
‫عند الِنسان‪ .‬ففي الصلة بذل لبعض الوقت الذي يستطيع أن يكسب الِنسان فيه مالً‪ ،‬وفيها أيضا‬
‫الصوم عن الكل والشرب ومباشرة الزوجات‪ ،‬ففيها كل مقومات أركان الِسلم‪ ،‬لذا فهي ل تسقط‬
‫لةَ‪[ { ...‬العراف‪]170 :‬‬
‫ب وََأقَامُواْ الصّ َ‬
‫سكُونَ بِا ْلكِتَا ِ‬
‫أبدا‪ } .‬وَالّذِينَ ُي َم ّ‬
‫إذن الستمساك واضح هنا جدا‪ ،‬وأداء الصلة تعبير عن اللتزام بالستمساك بمنهج الِيمان‪.‬‬

‫ولذلك نسمع من يقول‪ :‬حين ذهبنا إلى مكة والمدينة عشنا الصفاء النفسي والِشراق الروحي‪،‬‬
‫وعشنا مع التجلّي والنور الذي يغمر العماق‪ .‬وأقول لمن يقول ذلك‪ :‬إن ربنا هنا هو ربنا هناك‪،‬‬
‫فقط أنت هناك التزمت‪ ،‬وساعة كنت تسمع الذان كنت تجري وتسعى إلى الصلة‪ ،‬وإذا صنعت‬
‫هنا مثلما صنعت هناك فسترى التجليات نفسها‪ .‬إذن إن صرت على ولء دائم مع الحق سبحانه‬
‫وتعالى فالحق لن يضيع أجرك كاحد المصلحين‪ .‬لنه القائل‪ } :‬إِنّا لَ ُنضِيعُ أَجْرَ ا ْل ُمصْلِحِينَ {‪.‬‬
‫وهذه قضية عامة‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى ل يضيع أجر المصلح‪ .‬وقوله‪ } :‬إِنّا لَ ُنضِيعُ َأجْرَ‬
‫لةَ { دليل على أن أي إصلح في المجتمع‬
‫سكُونَ بِا ْلكِتَابِ وََأقَامُواْ الصّ َ‬
‫ا ْل ُمصْلِحِينَ { بعد قوله‪ُ } :‬يمَ ّ‬
‫يعتمد على من يمسكون بالكتاب ويقيمون الصلة؛ لن المجتمع ل يصلح إل إذا استدمت أنت‬
‫صلتك بمن خلقك وخلق المجتمع‪ ،‬وأنزل لك المنهج القويم‪ .‬ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَإِذ نَ َتقْنَا‬
‫الْجَ َبلَ‪{ ...‬‬

‫(‪)1112 /‬‬

‫خذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ ِب ُق ّوةٍ وَا ْذكُرُوا مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ‬


‫وَإِذْ نَ َتقْنَا الْجَ َبلَ َف ْو َقهُمْ كَأَنّهُ ظُلّةٌ وَظَنّوا أَنّ ُه وَاقِعٌ ِب ِهمْ ُ‬
‫تَ ّتقُونَ (‪)171‬‬

‫والجبل معروف أنه من الحجار المندمجة في بعضها والمكونة لجرم عالٍ قد يصل إلى ألف متر‬
‫أو أكثر‪ ،‬والحق يقول عن الجبال‪ { :‬وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا } ول يقال أرساها إل إذا كان وجد شيء له‬
‫ثقل‪ ،‬فأنت ل تقول‪ " :‬أرسيت الورقة على المكتب " ‪ ،‬ولكنك تقول‪ " :‬أرسيت لوح الزجاج‬
‫علىالمكتب ليحميه " ‪ ،‬وأنت بذلك ترسي شيئا له وزن وثقل‪.‬‬
‫وقد أرسى ربنا الجبال وجعلها في الرض أوتادا‪ ،‬والوَتِد ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬ممسوك من الموتود‬
‫والمثبت فيه‪ ،‬بدليل أنه لو تخلخل في مكانه نضع له ما نسميه " تخشينة " لتلصقه وتربطه بما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يثبت فيه‪ ،‬وهنا يقول الحق‪ { :‬وَإِذ نَ َتقْنَا الْجَ َبلَ } " نتقنا " أي قلعنا‪ ،‬وهناك قول آخر‪ {:‬وَ َر َفعْنَا‬
‫َف ْو َقهُمُ الطّورَ ِبمِيثَا ِقهِ ْم َوقُلْنَا َلهُمُ ا ْدخُلُواْ الْبَابَ سُجّدا َوقُلْنَا َلهُ ْم لَ َتعْدُواْ فِي السّ ْبتِ‪[} ...‬النساء‪:‬‬
‫‪]154‬‬
‫وقال الحق أيضا‪ {:‬وَإِذْ َأخَذْنَا مِيثَا َقكُ ْم وَ َر َفعْنَا َف ْو َقكُمُ الطّورَ‪[} ...‬البقرة‪]63 :‬‬
‫وهنا اختلف بين " نتق " و " رفع "؛ لن الجبل راسٍ في الرض‪ ،‬وممسوك كالوتد؛ لذلك يحتاج‬
‫قبل أن يرفع إلى عملية نزع واقتلع من الرض‪ ،‬ثم يأتي من بعد ذلك الرفع‪ ،‬و " نتقا " تعني‬
‫نزعنا الجبل من مكان إرسائه حتى نرفعه‪ ،‬وقد رفعه ال ليجعل منه ظلة عليهم‪ ،‬أي أن هناكَ‬
‫ثلث عمليات‪ :‬نتق أي نزع وخلع‪ ،‬ثم رفع‪ ،‬ثم جعله سبحانه ظلة لهم‪ ،‬وهذا يحتاج إلى اتجاه في‬
‫المرفوع إلى جهة ما‪ .‬والحق يقول‪ " :‬وإذ " أي اذكر إذ نتقنا الجبل‪ ،‬أي نزعناه وخلعناه من‬
‫الرض‪ ،‬ول ننزعه ونخلعه من الرض إل لمهمة أخرى أي نجعله ظلة‪ ،‬وكان تظليل الغمام‬
‫رحمة لهم من قبل‪ ،‬وصار الجبل ظلة " عذاب "؛ لن الحق أنزل لهم التوراة على موسى فقالوا‬
‫له‪ :‬إن أحكام هذه التوراة شديدة‪ .‬وللِنسان أن يتساءل‪ :‬لماذا كل هذا التلكؤ مع التشريعات التي‬
‫جاءت لمصلحة البشر؟‪ .‬وجاء لهم العقاب من الحق بأن رفع فوقهم الجبل كظلة تحمل التهديد كأنه‬
‫ظلّ ٌة وَظَنّواْ أَنّ ُه وَاقِعٌ ِبهِمْ }‪.‬‬
‫قد يقع فوقهم { كَأَنّهُ ُ‬
‫لذلك نجد أن كل يهودي يسجد على حاجبه اليسر‪ ،‬على الرغم من أن السجود يقتضي تساوي‬
‫وضع الجبهة على الرض‪ ،‬ولكنهم يسجدون بميل إلى الحاجب اليسر لن السابقين لهم رأوا‬
‫الجبل فوقهم وتملكهم الخوف من سقوط الجبل‪ ،‬وكانوا يسجدون وفي الوقت نفسه يرقبون الجبل‪،‬‬
‫وبقيت هذه المسألة لزمة فيهم‪ ،‬وصاروا ل يسجدون إل على حاجبهم اليسر‪ ،‬بسبب حكاية الجبل‬
‫الذي نتقه ال وقلعه فصار فوقهم‪ { .‬وَظَنّواْ أَنّ ُه وَاقِعٌ ِب ِهمْ }‪.‬‬
‫والظن هو رجحان قضية‪ ،‬وقد يأتي ويراد به أنه رجحان قوى قد يصل إلى درجة اليقين‪ ،‬مثل‬
‫قوله الحق‪ { :‬الّذِينَ َيظُنّونَ أَ ّنهُم مّلَاقُواْ رَ ّبهِمْ }‬
‫وحين بقيت الحالة هذه‪ ،‬وخافوا من الجبل أن يقع عليهم‪ ،‬ولن هناك كتابا قد أنزل إليهم وهو‬
‫التوراة وهم يعصون ويتمردون على ما فيه؛ لذلك قال لهم الحق‪.{ :‬‬

‫‪..‬خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ وَا ْذكُرُواْ مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ { [العراف‪]171 :‬‬
‫و " خذوا " فعل أمر‪ ،‬والمر يقتضي آمرا‪ ،‬ولبد له من شيء يأمر به‪ .‬وكلمة " القوة " هذه هي‬
‫الطاقة الفاعلة‪ ،‬والصل في الكون كله أن نقبل على كل شيء بقوة؛ لن الكون الذي تراه مسخرا‬
‫ليس له رأي في أن يفعل أو ل يفعل‪ ،‬بل هو فاعل دائما إذا أمُر‪ ،‬وكما قلنا من قبل‪ :‬لم تغضب‬
‫الشمس على الناس وقالت‪ :‬لن أطلع هذا اليوم‪ ،‬وكذلك لم يمتنع الهواء‪ ،‬وأيضا ل يرفض الحمار‬
‫مثلً أن يحمل الروث‪ ،‬أو أن ينظفه صاحبه ويأتي له بـ " البرذعة " ليجعله ركوبة متميزة‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شمْسُ‬
‫الحمار إذن ل يعصي هنا ول يعصي هناك‪ ،‬والكون كله مسخر بقوانين مادية ثابتة‪ {.‬لَ ال ّ‬
‫ك ال َقمَ َر وَلَ الّ ْيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ َيسْبَحُونَ }[يس‪]40 :‬‬
‫يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ‬
‫وقد وضع الحق هذا النظام للكون نظرا لنه مقهور وليس له تكليف‪ ،‬والمحكوم بالغريزة الكونية‬
‫صالح للحياة عن المحكوم بالختيار الفعلي‪ ،‬ومع هذا الختيار فالنسان له أشياء تفعل فعلها فيه‬
‫ول َيدْرِي عنها شيئا مع أن بها قوام حياته‪ ،‬فل أحد يمسك قلبه ويضبطه ويقول له‪ :‬دق‪ ،‬والرئة‬
‫كذلك وحركة التنفس‪ ،‬والحركة الدودية في المعاء‪ ،‬والحالب‪ ،‬ويرغب النسان في دخول دورة‬
‫المياه عندما تمتلئ المثانة بالبول‪ ،‬كل هذه مسائل رتيبة ل اختيار للنسان فيها أبدا‪ ،‬والمور‬
‫المحكومة بالغرائز ليس لنا فيها اختيار‪ ،‬كأن يأكل النسان ويتكلم في أثناء تناول الطعام فتنزل‬
‫حبة أرز في القصبة الهوائية فيحاول النسان أن يطردها بالسعال‪ ،‬هذا اسمه " غريزة " أي أمر‬
‫غير محكوم بالفعل الختياري‪.‬‬
‫وكذلك الحيوان إذا أحضرت له طعاما فهو ل يأكل أكثر من طاقته حتى لو ضربه صاحبه‪ .‬أما‬
‫النسان فقد يأكل بعد أن يشبع‪ ،‬وحين يقول له مُضيفه ‪ -‬على سبيل المثال ‪ :-‬أنت لم تذق هذا‬
‫اللون من اللحم‪ ،‬فيأكل‪ .‬ولهذا نجد أن المراض في النسان أكثر من المراض في الحيوان؛ لن‬
‫اختيار النسان يمتد إلى مجالت متعددة متفرقة قد تضر به وتؤذيه‪.‬‬
‫ونعرف جميعا هذا المثال للفارق بين النسان والحيوان‪ ،‬نجد النسان يغلي النعناع ويشربه‪،‬‬
‫ويطبخ الملوخية ليأكلها‪ ،‬وقد فعل ذلك لنه اختبر الثنين‪ ،‬فلم يأكل النعناع وأكل الملوخية‪ ،‬رغم‬
‫تشابه أوراقهما‪ .‬لكن هات شجرة النعناع أمام الجاموسة أو الحمار‪ ،‬وهات النجيل الناشف وضع‬
‫الثنين أمام الجاموسة أو الحمار‪ ،‬ستجد الجاموسة والحمار يتجهان إلى النجيل الناشف ويتركان‬
‫نبات النعناع الخضر الرطب‪ ،‬وهما يفعلن ذلك بالغريزة‪ ،‬فالمحكوم بالغريزة له نظام‪ ،‬ولو كان‬
‫الحيوان مختارا لرْتَبَكت حركة الحياة كلها واختلطت واشتد على الناس شأنها‪.‬‬

‫وهكذا نعرف أن مقومات الحياة تقوم على قوانين الغريزة‪ ،‬وهذه القوانين موجودة في الكون‬
‫لتخدمنا نحن بني البشر‪ .‬فالكهرباء مثلً كانت موجودة قبل أن ننتفع بها‪ ،‬لكن بعد ذلك انتفعنا بها‪،‬‬
‫وكذلك الجاذبية‪ ،‬كانت موجودة في الكون منذ الزل‪ ،‬لكنا لم ننتبه لها‪ ،‬وحين اكتشفناها زادت‬
‫قدراتنا على الستفادة منها‪ ،‬وهكذا نرى أن النسان واحد من هذا الكون‪ ،‬إل أنه يتميز بأن له جهة‬
‫اختيار في بعض المور‪ ،‬وله جهة قهر في البعض الخر‪ ،‬فهو يشارك الكون في القهر‪ ،‬ويتميز‬
‫عن بقية المخلوقات ‪ -‬عدا الجن ‪ -‬بالختيار في أمور أخرى‪ .‬ونجد على سبيل المثال أن النسان‬
‫الذي يعاني قلبه من ضعف ما‪ ،‬عندما يصعد هذا النسان سلما ينهج ويتتابع َنفَسه من العياء‬
‫وكثرة الحركة‪ ،‬لنّ غريزته المحكوم بها تُنبه الجسد إلى ضرورة أن تعمل الرئة أكثر لتعطي‬
‫الوكسجين الذي يساعد على الصعود‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل ل يقربها‪،‬‬
‫ومثال آخر‪ ،‬نجد الذكر في الحيوانات يقترب من أنثاه ليشمها‪ ،‬فإن وجدها حام ً‬
‫والحيوان في هذا المر مختلف عن النسان؛ لن الحيوان تحركه الغريزة التي تبين له أن العملية‬
‫الجنسية بين الذكر والنثى لحفظ النوع‪ ،‬ومادامت النثى قد حملت‪ ،‬فالذكر ل يقربها‪ ،‬فاختلف‬
‫النسان عن الحيوان في هذا المر؛ فلذة النسان في الجنس أعلى من لذة الحيوان؛ لنها في‬
‫الحيوان ترضخ للغريزة فحسب‪ ،‬أما في النسان فإنها مع الغريزة ترضخ أيضا للختيار الذي‬
‫منحه ال للنسان‪.‬‬
‫ومن رحمة ال ‪ -‬إذن ‪ -‬أن يكون النسان مقهورا في بعض الشياء ومختارا في أشياء أخرى‪،‬‬
‫بـ " افعل " و " ل تفعل " حتى يختار بين البديلت‪.‬‬
‫خذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُقوّة {‬
‫وهنا يقول الحق‪ُ } :‬‬
‫أي خذوا ما آتاكم في الكتاب بجد واجتهاد‪ .‬وكان هذا القول مقدمة لما جاء به العلم في شرح‬
‫معنى القوة‪ .‬وقد وصل إلينا خبر العلم قبل أن يصل لنا واقعه المادي‪ ،‬فصرنا نرى الطاقة التي‬
‫تعطي القوة‪ .‬وجاء نيوتن ليكشف لنا قانون الجاذبية‪ ،‬القانون الول والثاني والثالث‪ ،‬واكتشف أن‬
‫كل جسم يظل على ما هو عليه‪ ،‬فإن كان ساكنا يبق على سكونه إلى أن يأتي محرك يحركه‪ .‬وإن‬
‫كان الجسم متحركا فهو ل يتوقف إلى أن يصدمه صادم أو يمسكه ماسك‪ .‬وسمّى العلماء هذا‬
‫طلُ عن الحركة إل أن يحركه محرك‪،‬‬
‫التأثير بالقصور الذاتي‪ .‬أو التعطل‪ ،‬أي أن الساكن ُيعَ ّ‬
‫طلُ عن السكون إل أن يوقفه موقف‪ ،‬فأنت إذا ركبت سيارة وأنت قاعد وساكن‬
‫والمتحرك ُيعَ ّ‬
‫والسيارة تسير‪ ،‬فإنك تظل ساكنا‪ ،‬إلى أن يوقفها السائق فجأة فتتحرك من مكانك ما لم تمسك‬
‫بشيء‪.‬‬

‫وفي السواق نرى الحواة وهم يؤدون بعض اللعاب ليسحروا أعين الناس فيأتي بمنضدة وعليها‬
‫مفرش لمع وأملس‪ ،‬ثم يضع عليها أطباقا وأكوابا‪ ،‬ثم يحرك المفرش بخفة لينزعه بهدوء من‬
‫تحت الكواب حتى ل تتحرك بحركة المفرش‪.‬‬
‫وحين جاء نيوتن عقد مقارنة وموازنة بين القوة والحركة والعطالة‪ ،‬وقلنا‪ :‬إنّ العطالة تعني أن‬
‫الساكن يتعطل عن الحركة‪ ،‬والمتحرك يتعطل عن السكون‪ ،‬وهذه هي القضية المادية في الكون‬
‫التي خدمت العلم الفضائي الخاص بسفن الفضاء والصواريخ‪ .‬ونحن نرى السفن الفضائية ونعتقد‬
‫أنها تدور في الفضاء بالوقود‪ ،‬رغم أن حجمها ل يسع الوقود الذي يسيرها لسنوات‪ ،‬والحقيقة أنها‬
‫تسير بقانون القصور الذاتي أو العطالة إنّها بدون وقود‪ ،‬وهي تندفع إلى الفضاء بقوة الصاروخ‬
‫إلى أن تخرج إلى الفضاء الكوني‪ ،‬وتظل متحركة ما لم يوقفها موقف‪ .‬ونرى ذلك في التجربة‬
‫اليسيرة حين يطلق إنسان رصاصة من مسدس فتنطلق الرصاصة بقوة الطلقة مسافة ثم تقع إن لم‬
‫يوجد حاجز يصدها‪ ،‬وهي تقع بعد مسافة معينة؛ لن الهواء يقابلها فيصادم الحركة إلى أن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تتوقف‪ ،‬أما في الفضاء الخارجي فليس هناك هواء؛ لذلك ل تتوقف سفينة الفضاء‪ ،‬لنها تسير‬
‫بقانون القصور الذاتي أو العطالة‪.‬‬
‫وهذه السفن الفضائية تعتمد في صعودها إلى الفضاء على الصواريخ لتصل إلى المدار الخارجي‪.‬‬
‫والصواريخ تسير بالغاز المتفلت الذي أخذ القانون الثالث من قوانين نيوتن‪ ،‬وهو القانون القائل‪:‬‬
‫إن كل فعل له رد فعل يساويه ومضاد له في التجاه‪ ،‬وحين يسخن هذا الغاز المتفلت يخرج من‬
‫خلف الصاروخ بقوة فيندفع الصاروخ للمام‪.‬‬
‫وهكذا نرى قول الحق‪ } :‬خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ { في الواقع المادي والواقع القيمي‪ .‬وانظر إلى‬
‫غير المتدينين تجدهم ساكنين في بعض المور ول يتحركون عنها ول يجاوزونها‪ ،‬فالواحد منهم‬
‫ل يصلي‪ ،‬ول يزكي‪ ،‬ول يقول كلمة معروف‪ ،‬وهو في ذلك يحتاج إلى قوة تحرك سكونه عن‬
‫طاعة ال‪ .‬ونجد أيضا من غير المتدينين من يشرب خمرة‪ .‬أو يزني أو يسرق أو يرتشي‪ .‬وهو‬
‫هنا يحتاج إلى قوة لتصده عن مثل هذه الحركة‪ .‬ولذلك نقول‪ :‬إن النسان في أفعاله الختيارية‬
‫يحتاج إلى أمرين‪ :‬الول إن كان ساكنا عن فعل الخير نأت له بقوة تحركه إلى هذا الخير‪ ،‬وإن‬
‫كان متحركا إلى الشر نأت له بقوة توقفه عنه‪ ،‬وهذا هو ما يقدمه المنهج اليماني في " افعل " ‪ ،‬و‬
‫" ل تفعل "‪ .‬فمن يتراخى عن الصلة وسكن عنها نقول له صلّ‪ .‬ومن يذهب للقمار ويتحرك إليه‬
‫ل يمكن أن يقف إل إذا جاءت له قوة توقفه عن ذلك وتمنعه‪ ،‬إذن فالقوة الشرعية تكون في المنهج‬
‫بـ " افعل " ليحرك الساكن‪ ،‬و " ل تفعل " ليقف المتحرك شريطة أن يكون كل من السكون‬
‫والحركة في ضوء المنهج‪.‬‬

‫ولنعرف أن ال سبحانه وتعالى يسخر لنا الكافرين ليبينوا لنا المستغلق علينا في قوانين الكون‪ ،‬فقد‬
‫اكتشفوا قوانين القوة المادية وفهمناها نحن في إطار الماديات والمعنويات‪ ،‬وليس اكتشاف الكافرين‬
‫للقوانين في الكون مدعاة للكسل والعتماد عليهم‪ ،‬بل علينا أن نشحذ الهمم لنتقدم في العلم الذي‬
‫يُسير أمور الحياة‪ ،‬ولنعلم أنه ل شيء ينشىء فينا فطرة جديدة؛ لن البشر من قديم مفطورون‬
‫على الفطرة السليمة التي تلفتهم إلى أن لهذا العالم صانعا‪ ،‬فكل ذراتنا وكل اتجاهاتنا تؤكد لنا‬
‫وجود إله واحد‪ .‬بل إن الفلسفة حينما بحثوا وارء المادة تأكد لهم ذلك‪ ،‬وأغلب الفلسفة كانوا غير‬
‫مؤمنين‪ ،‬وهم ببحثهم وراء المادة إنما يبحثون عن الخالق العظم؛ لن النسان ل يبحث عن شيء‬
‫ل يظن وجوده‪ .‬ولنهم جميعا يعلمون أن النسان طرأ على كون‪ ،‬وهذا الكون مقام بهندسة‬
‫حكيمة‪ ،‬ومخلوق بقوة ل تستطيع قوى البشر جميعا أن تأتي بمثلها‪ ،‬إذن لبد لهذا الكون من‬
‫الخالق‪.‬‬
‫لقد بيّنا أن القوانين التي تظهر لنا في المادة تتماثل مع قوانين القيم‪ ،‬إل أن الناس يتهافتون على‬
‫قانون المادة لنها تحقق لهم خيرا أو تدفع عنهم شرا‪ ،‬فيأخذون ما ينفعهم ويدعون ويتركون ما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يضرهم‪ ،‬ولذلك احتاج النسان إلى منهج من السماء ليوضح ويبين له قوانين القيم التي تحقق له‬
‫السعادة العاجلة في الدنيا والجلة في الخرة‪ ،‬أما قوانين المادة في الرض فتركها ال لنشاط‬
‫العقل‪ ،‬حتى الذين ل يؤمنون بال يذهبون إلى قوانين المادة ويصنعونها‪ ،‬ويتهربون من قوانين‬
‫القيم لنها تحد من شهوات النفس‪ ،‬وتتعب بمشقة التكليف‪ ،‬فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يقول‬
‫خذُواْ مَآ ءَاتَيْنَاكُم ِب ُق ّوةٍ وَا ْذكُرُواْ مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ { [العراف‪]171 :‬‬
‫فيها‪ُ ...} :‬‬
‫وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطي من قانون المادة ما يقرب لنا قوانين القيم في الفعل ورد‬
‫الفعل‪ ،‬لنفهم أن كل حركة للشر قد تحبها النفس لنها تحقق لها شهوة من شهواتها‪ ،‬لكن يجب أل‬
‫يغيب عن ذهنك أيها النسان أن لكل فعل رد فعل مساويا له في الحركة ومضادا له في التجاه‪،‬‬
‫فإن كنت ترتاح في هذا العمل وتحبه وتشتهيه فتذكر جيدا رد الفعل الذي يأتيك بالعقاب عليه‪،‬‬
‫وكذلك مشقات التكليف‪ ،‬حين تفعل الطاعة تكون صعبة عليك ولكن يجب أن تذكر رد الفعل فيها‬
‫وهو الراحة وحسن الثواب‪ ،‬ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَا ِبمَآ أَسَْلفْتُمْ فِي‬
‫الَيّامِ ا ْلخَالِيَةِ }[الحاقة‪]24 :‬‬
‫وفي هذا القول فعل ورد فعل‪ ،‬الفعل هو العمل الصالح في اليام التي مضت‪ ،‬ورد الفعل هو‬
‫الطعام والشراب الهنيء في الخرة‪ .‬ولمن اغتر واعتز بنفسه وجبروته وقوته يقول له الحق‪{:‬‬
‫ل وَلْيَ ْبكُواْ كَثِيرا‪[} ...‬التوبة‪]82 :‬‬
‫حكُواْ قَلِي ً‬
‫فَلْ َيضْ َ‬
‫وهكذا نجد البكاء الكثيف الشديد الكثير نتيجة للضحك القليل‪.‬‬

‫ويأتي النسان من هؤلء يوم القيامة ليقال له‪ُ {:‬ذقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان‪]49 :‬‬
‫إن كنت قد فهمت أنك عزيز كريم فأسأت إلى الناس فلسوف تتلقى العقاب‪ .‬ولذلك يقول لنا الحق‬
‫عن المنهج‪ } :‬وَا ْذكُرُواْ مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ {‪ .‬وإياكم أن تطرأ عليكم الغفلة من هذه الناحية‪ ،‬فالذي‬
‫يتعب الناس في مناهج ال أنهم يغفلون عنها؛ لن الطاعة تكلفهم مشقة وبعض عناء‪ ،‬والمعاصي‬
‫تكسبهم لذة وشهوة‪ ،‬فأوضح الحق‪ :‬اذكروا جيدا الفعل ورد الفعل في هذه القيم‪.‬‬
‫ونعلم أن ال ّذكْر يحتاج إلى أشياء كثيرة جدا‪ ،‬فالواعظ مثلً يذكرهم دائما‪ ،‬وقلنا إن " الوعظ " هو‬
‫نوع من إعادة التذكير بالعلم بالحكم‪ ،‬فأنا أعظ من عَِلمَ الحكم؛ لني أريد أن يفعله‪ ،‬فبعد أن‬
‫علمه الموعوظ علما فقط يريد منه الوَاعظ أن ينفذه عمليا‪ .‬فكلنا نعلم أن الصلة ركن‪ ،‬وأن الحج‬
‫ركن‪ ،‬والزكاة ركن من أركان السلم‪ ،‬وكلنا جاءنا العلم بذلك‪ ،‬لكن منا من يكسل في تطبيق هذا‬
‫العلم‪ .‬ونظل ندق على دماغه بالتذكير والوعظ‪ ،‬وهذا من خيرية أمته صلى ال عليه وسلم‪ {:‬كُنْتُمْ‬
‫جتْ لِلنّاسِ‪[} ...‬آل عمران‪]110 :‬‬
‫خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ‬
‫ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ‪[} ...‬آل عمران‪]110 :‬‬
‫ولماذا هذا التذكير؟‪ .‬يجيب الحق‪ {:‬تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫المر بالمعروف عظة قولية‪ ،‬والنهي عن المنكر عظة قولية‪ ،‬ويعددها الرسول صلى ال عليه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسلم لبقاء التذكير‪ ،‬وليأخذ كل مسلم منهج ال بقوة‪ ،‬فيقول في الحديث‪:‬‬
‫" من رأى منكم منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه‪ ،‬وإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف‬
‫اليمان "‪.‬‬
‫إذن فقد نقل الرسول المسألة من المر وهو القول والنهي وهو قول أيضا إلى أن نباشرها فعلً‪،‬‬
‫فإن لم يستطع النسان منا تغيير المنكر بلسانه أو بيده فلينكره بقلبه‪ ،‬ونجد القرآن قد جاء بها أمرا‬
‫ونهيا‪ ،‬والرسول جاء بها فعلً‪ ،‬لن هناك فرقا بين المعلومة التي تدخل الذهن‪ ،‬وحمل النفس على‬
‫مطلوب المعلومة‪ .‬ولذلك نحن ندرس الدين في مدارسنا‪ ،‬وندرس فيها أيضا الجبر والهندسة‪،‬‬
‫والكيمياء والطبيعة‪ ،‬والمتعب ليس تدريس الدين‪ ،‬بل الذي يتعب الناس هو حمل النفس على‬
‫مطلوب الدين‪ .‬لكن التلميذ حين يتعلم الجبر والهندسة أو الكيمياء‪ ،‬فهذه علوم تعطي النسان خير‬
‫الدنيا فيذهب لها‪ ،‬لكن مسألة الدين مسألة قيم؛ لذلك ل يكفي أن نعلم الدين بل لبد أن تنفذ ذلك‬
‫العلم‪ ،‬وتنفيذ هذه المسألة يكون بالتطبيق في سلوك من أسوة حسنة وقدوة طيبة‪.‬‬
‫وهب أن الذي يُعلم الدين يدرسه معلومة ويدخلها في نفوس التلميذ‪ ،‬ثم ل يجدون من أثر هذه‬
‫المعلومة نضحا على سلوك مَن علّمها‪ ،‬ماذا يكون الموقف؟‪ .‬هنا تضعف ثقة التلميذ في أستاذة‪،‬‬
‫وتضعف ثقته في الدين؛ لنه لم ير من الدين إل كلما يقال‪ ،‬بدليل أن من يقولونه ل ينفذونه‪ ،‬وفي‬
‫هذا فشل في تعليم منهج الدين‪ ،‬والخطأ إذن أن الناس يظنون أن منهج الدين يقف عند تعليم‬
‫المعلومات الدينية‪ ،‬ل‪.‬‬

‫إن تعليم الدين يقتضي تنفيذ ما فيه من معلومات‪ ،‬عكس العلوم الخرى التي تعطي المعلومة فقط‪.‬‬
‫وإن أراد النسان أن ينتفع بها في حياته انتفع‪ ،‬وإن لم يرد فهو حر في ذلك‪.‬‬
‫إذن فالتذكير مرة يكون بالمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر‪ ،‬ومرة يكون بالفعل‪ " ،‬من رأى‬
‫منكم منكرا فليغيره بيده‪ ،‬فإن لم يستطع فبلسانه " وماذا يعني التغيير باللسان؟‪ .‬يعني أن النسان‬
‫إن كان عنده حسن تأد واستعداد للعظة ومعرفة أدب النصح فله أن يقبل على تناول العظة‪ .‬وليس‬
‫كل إنسان صالحا لن ينصح؛ لن المنصوح يخالف المنهج‪ ،‬والناصح يقف أمامه حتى ل يخالف‬
‫المنهج‪ ،‬إنه يخرجه عما ألف وأحب‪ ،‬لذلك يجب أن يتلطف الناصح في النصح‪.‬‬
‫ومثال ذلك نجد الطبيب حين يذهب إليه المريض يصف له الدواء‪ ،‬والدواء قديما كان كله مرّا‪.‬‬
‫وكانت الناس تأخذ الدواء بصعوبة‪ ،‬ويمسك الكبار الطفال ليعطوهم الدواء‪ .‬وحين ارتقت صناعة‬
‫الدواء‪ ،‬قام الصيادلة بتغليف جرعة الدواء بغلف يحجب المرارة‪ .‬ليتلطفوا مع مريض الجسم‪ ،‬فما‬
‫بالنا بمريض القيم؟‪ .‬إنه يحتاج إلى المسألة نفسها‪ .‬لذلك لبد أن نجعل النصح خفيفا‪ ،‬ول نجمع‬
‫على المنصوح بين أن نخرجه عما ألف وما يكره من الساليب‪ ،‬ولذلك قلنا‪ :‬إن النصح ثقيل‪ ،‬لنك‬
‫حين تنصح إنسانا فمعنى ذلك أنك افترضت أنك أفضل سلوكا منه‪ ،‬وهو أقل منك في ذلك‪ ،‬وهذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هو أول مطب‪ ،‬وينظر لك المنصوح على أنك تفهم أحسن منه‪ .‬ولهذا قالوا في الثر‪ :‬النصح ثقيل‬
‫فل ترسله جبل‪ ،‬ول تجعله جدلً‪ .‬وقيل أيضا‪ :‬الحقائق مرة فاستعيروا لها خفة البيان‪ .‬هكذا يكون‬
‫التذكير‪ ،‬وإن لم تستطع أن تمنع بالفعل فامنع بالقول؛ لن التغيير باليد يحتاج إلى سلطة المغيّر‬
‫على المغيّر‪ ،‬وهذا ل يأتي إل بأن يكون للمغير مقدمة وسابقة مع المغيّر يثبت فيها المغيّر أنه‬
‫يحب مصلحة المغيّر‪ .‬وقد يكون ذلك واردا من غير أن تقول‪ .‬كأن تكون أباه أو أمه‪ ،‬والب والم‬
‫يقومان برعاية البن‪ ،‬وتلبية احتياجاته طعاما ومشربا ومسكنا ومصروفا‪ .‬وكل منهما هو المتولي‬
‫لمصالح البن‪ .‬وإذا كان الناصح ليس له هذه الصلة بالمنصوح‪ ،‬فعليه أن يتلطف له أولً بما‬
‫يحب‪ .‬فحين يطلب منك أمرا تقوم بإجابته إلى طلبه‪ ،‬وتنبهه بعد ذلك إلى ما تريد أن تنصحه إنك‬
‫قد قدمت له شيئا من المعروف فيتحمل منك النصح‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ :‬افرض أن ابنك قد طلب منك أن تحضر له ساعة‪ ،‬وبعد ذلك قالت لك أمه‪ :‬إنه لم‬
‫يستذكر دروسه حتى الن‪ .‬ثم تأتي له بالساعة وتقول له‪ :‬يا ولد أنت أردت مني ساعة وأحضرتها‬
‫لك‪ ،‬وتناولها له وتقول‪ :‬إن أمك قالت لي إنك غير مهتم بدروسك‪ ،‬ولو تذكرت قولها لما أحضرت‬
‫لك الساعة‪.‬‬

‫وقد توجه له توبيخا فيضحك لنك قد حننت قلبه‪ ،‬وبينت له أنك تحبه فيقبل النصح‪ ،‬حتى ولو‬
‫صفعته قد يقبل لنه يعلم أنك تحب مصلحته‪ .‬إذن للتذكير ألوان متعددة‪ :‬عظة بالقول‪ ،‬وتغيير‬
‫بالفعل وإنكار بالقلب‪.‬‬
‫} وَا ْذكُرُواْ مَا فِيهِ َلعَّلكُمْ تَ ّتقُونَ { والصل في التقوى أن تتقي شيئا بشيء؛ تتقي مؤلما بجعل وقاية‬
‫ع ّدتْ‬
‫بينك وبينه‪ ،‬وهي تأتي كما علمنا في المتقابلت؛ فالحق سبحانه يقول‪ {:‬وَا ّتقُواْ النّارَ الّتِي أُ ِ‬
‫لِ ْلكَافِرِينَ }[آل عمران‪]131 :‬‬
‫وهو سبحانه وتعالى يقول‪... {:‬وَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[البقرة‪[ ]189 :‬آل عمران‪]130 :‬‬
‫ونجد من يتساءل‪ :‬كيف يقول‪ " :‬اتقوا ال " ‪ " ،‬واتقوا النار "؟‬
‫نقول‪ :‬نعم؛ لن اتقوا ال تعني اتقوا غضب ال عليكم‪ ،‬واتقوا عذاب ال لكم بأن تجعلوا بينكم وبين‬
‫عقابه وقاية‪ ،‬ولبد أن تجعل بينك وبين النار وقاية؛ لن الحق سبحانه وتعالىَ كما علمنا لَه صفات‬
‫جلل وصفات جمال‪ ،‬وصفات الجمال هي التي تسعد النسان ككونه ‪ -‬سبحانه ‪ " -‬غفورا " ‪ ،‬و‬
‫" رحيما " ‪ " ،‬باسطا " ‪ ،‬وكما أن ل صفات جمال تعطيك الرغبة والقبال عليه ‪ -‬سبحانه ‪ -‬فله‬
‫صفات جلل تعطيك الرهبة‪ ،‬فهو ‪ -‬جل شأنه ‪ -‬جبار منتقم‪ .‬فاتق ال حتى تحجب عن نفسك‬
‫متعلقات صفات الجلل التي منها جبار منتقم‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَإِذْ أَخَذَ رَ ّبكَ مِن‪{ ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1113 /‬‬

‫شهِدْنَا‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُوا بَلَى َ‬
‫سهِمْ َألَ ْ‬
‫شهَ َدهُمْ عَلَى أَ ْنفُ ِ‬
‫ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ‬
‫وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِنْ بَنِي َآدَمَ مِنْ ُ‬
‫أَنْ َتقُولُوا َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (‪)172‬‬

‫وإذ تنصرف إلى الزمن‪ ،‬أي اذكر وقت أن أخذ ال من بني آدم‪ ،‬والخذ هو ال‪ ،‬والمأخوذ منه‬
‫بنو آدم‪ ،‬والشيء المأخوذ هو ذريتهم‪ ،‬هذه هي العناصر‪ .‬ولنتأمل ذلك بدقة‪ ،‬إن الرب هنا هو‬
‫الخذ‪ ،‬وبنو آدم مأخوذ منهم‪ ،‬والمأخوذ هو الذرية‪ .‬وبنو آدم هم أولد آدم من لدنه إلى أن تقوم‬
‫الساعة‪ ،‬وهنا اتحد المأخوذ والمأخوذ منه‪ ،‬ولبد أن نرى تصريفا في هذا النص؛ لنه يشترط أن‬
‫يكون المأخوذ منه كلً‪ ،‬والمأخوذ بعضه‪.‬‬
‫والمثال‪ :‬إن أنا أخذتُ منك شيئا‪ ،‬فالمأخوذ منه هو الكل‪ ،‬والمأخوذ بنفسه هوالبعض‪ .‬لكننا هنا نجد‬
‫المأخوذ هو عين المأخوذ منه‪ ،‬وأزال سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم هذا الشكال في هذه‬
‫الية فقال صلى ال عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي ال عنه‪:‬‬
‫" لما خلق ال أدم مسح ظهره‪ ،‬فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة‪ ،‬وجعل بين‬
‫عيني كل إنسان منهم وميضا من نور ثم عرضهم على آدم‪ ،‬فقال‪ :‬أيْ َربّ‪ .‬من هؤلء؟ قال‪:‬‬
‫هؤلء ذريتك‪ .‬فرأى رجلً منهم‪ .‬فأعجبه وميض ما بين عينيه‪ .‬فقال‪ :‬أي رب‪ .‬من هذا؟ قال‪ :‬هذا‬
‫رجل من آخر المم من ذريتك‪ ،‬يقال له داود‪ ،‬فقال‪ :‬رب كم جعلت عمره؟ قال‪ :‬ستين سنة‪ .‬قال‪:‬‬
‫عمُر آدم جاءه ملك الموت‪ .‬فقال‪ :‬أو لم يَبْقَ من‬
‫أي رب زده من عمري أربعين سنة‪ ،‬فلما قُضي ُ‬
‫عمُري أربعون سنة؟ قال‪ :‬أو لم تعطها ابنك داود؟ قال‪ :‬فجحد آدمُ فجحدتُ ذُريته‪ ،‬ونسي فنسيت‬
‫ُ‬
‫ذريته‪ .‬وخطئ آدم فخطئت ذريته "‬
‫إذن ذرية آدم أُخذت من ظهر آدم‪ .‬وعرفنا من قبل أنّ كُلً منا قبلَ أن تحملَ به أمّه كان ذَ ّرةً في‬
‫ظهر أبيه‪ ،‬وأبوه كان ذرّة في ظهر أبيه حتى آدم‪ .‬وهكذا نجد أنّ كل واحد مأخوذ من ظهره‬
‫ذرية‪ ،‬هناك أناس يؤخذون ‪ -‬كذرية ‪ -‬ول يؤخذ منهم‪ ،‬مثًل من فرض عليهم ال أن يكون الواحد‬
‫منهم عقيما‪ ،‬وكذلك آخرُ جيل تقومُ عليه الساعة‪ ،‬ولن ينجبوا‪ .‬وآدم مأخوذ منه لنه أول الخلق‪،‬‬
‫وهو غير مأخوذ من أحد‪ .‬وما بين الب آدم وآخر ولد؛ مأخوذ ومأخوذ منه‪ .‬وبذلك يكون كل‬
‫واحد مأخوذ ومأخوذ منه‪ ،‬وهكذا يستقيم المعنى‪.‬‬
‫والمأخوذ منه آدم ثم كل ولد من أول أولد آدم إلى الجيل الخير الذي سينقطع عن النسل‪.‬‬
‫وأوضح النبي صلى ال عليه وسلم‪ :‬أن ربنا سبحانه وتعالى مسح بيده على ظهر آدم وأخرج منه‬
‫الذرية‪ ،‬وقال لهم‪ :‬ألست بربكم؟ قالوا‪ :‬بلى‪ .‬وبهذا عَلمْنا أنّ كل ذرّة من الذرات قد أُخذت مما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قبلها‪ ،‬وأُخذ منها ما بعدها؛ وكلها مأخوذ ومأخوذ منه‪ ،‬اللهم إل القوسين؛ القوس الول‪ :‬آدم لنه‬
‫مأخوذ منه وليس مأخوذا من شيء‪ ،‬والقوس الثاني‪ :‬آخر ولد من أولده مأخوذ وليس مأخوذا منه؛‬
‫لن النسان منا وُجد من حيوان أبيه المنويّ‪.‬‬

‫ولو أن الحيوانَ المَنَويّ أصابه موت لما أنجب الب‪ .‬ومن وُلد من حيوان مَ َن ِويّ لب‪ ،‬هذا الب‬
‫مأخَوذ من حيوان مَ َن ِويّ حيّ من الجد أيضا‪ ،‬وسلسلها إلى آدم؛ ستجد أن كل واحد منا فيه جزيء‬
‫حيّ من لدن آدم لن يدركه موت أبدا‪.‬‬
‫َ‬
‫ظهُورِهِمْ‪[ { ...‬العراف‪]172 :‬‬
‫لذلك يقول ربنا‪ } :‬وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ُ‬
‫ول تقل إن الكل سيكون في ظهره؛ لن المأخوذ منه هو الساس الموجود في ظهره‪ ،‬ومادام كل‬
‫شيء يتكاثر فهو قد وجد من أقل شيءٍ ونعلم أن القل يوجد فيه الكثر مطمورا‪ .‬وقد أخذ ربنا من‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ {؟‪.‬‬
‫ظهور بني آدم الذرية وخاطب الذرية بقوله تعالى‪ } :‬أَلَ ْ‬
‫وهنا قد يقول قائل‪ :‬أكان لهذه الذرية القدرة على النطق؛ إنها ذرية تنتظر التكوين الخر؛ لتتحد‬
‫مثلً بـ " البويضة " في رحم الم؟ فنرد عليه ونقول‪ :‬لماذا تظن أن مخاطبة ربنا لهم أم ُر صعب؟‬
‫إن الواحد من البشر يستطيع أن يتَعلّم عَشْ َر لغاتٍ‪ ،‬ويتزوجَ من أربع سيدات‪ ،‬وكل سيدة ينجب‬
‫منها ذرية‪ ،‬ويقعد يوما عند سيدة وذريتها ويعلمهَا اللغة النجليزية مثل‪ ،‬ويجلس مع الخرى‬
‫ويعلمها اللغة اللمانية‪ ،‬ويعلم الثالثة وأولدها اللغة العربية وهكذا‪ ،‬بل يستطيع أن يتفاهم حتى‬
‫بالشارة معَ من ل يعرف لغته‪ ،‬وإذا كان النسانُ يستطيع أن يعدد وسائل الداء‪ ،‬ألَ يقدر أن‬
‫يعدد وسائل الداء لمخلوقاته؟ إنه قادر على أن يعدد ويخاطب‪ ،‬ألم يقل الحق تبارك وتعالى‬
‫للجبال‪ {:‬ياجِبَالُ َأوّبِي َمعَهُ‪[} ...‬سبأ‪]10 :‬‬
‫كيف إذن ل يتسع أفق النسان لن يدرك أن ال قادر على أن يخاطب أيّاّ من مخلوقاته؟‪ .‬إنه قادر‬
‫سخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ‬
‫على أن يخاطب كل مخلوق له بلغة ل يفهمها الخر‪ .‬وهو القائل سبحانه‪ {:‬وَ َ‬
‫الْجِبَالَ ُيسَبّحْنَ‪[} ...‬النبياء‪]79 :‬‬
‫ونعلم أن القرآن الكريم كذلك أن الجبال تسبح أيضا من غير داود‪ ،‬شأنها شأن المخلوقات جميعها‬
‫ح ُهمْ‪...‬‬
‫حمْ ِد ِه وَلَـاكِن لّ َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ‬
‫شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ بِ َ‬
‫مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَإِن مّن َ‬
‫}[السراء‪]44 :‬‬
‫وحتى ذرات يد الكافر تسبح‪ ،‬وإن كان تسبيحها ل يوافق إرادته‪.‬‬
‫وقول الحق سبحانه‪ } :‬وَسَخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ا ْلجِبَالَ يُسَبّحْنَ {‬
‫يبين لنا أن الجبال كانت تردد تسبيح داوود وتلوته للزبور‪ ،‬ول يقتصر أمر الحق إلى الجبال بل‬
‫إلى كل مخلوق‪ ،‬فنحن ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬نقرأ في القرآن الكريم أن ربنا اوحى إلى النحل أن‬
‫اتخذي من الجبال بيوتا من الشجر ومما يعرشون‪ .‬إذن فلله مع خلقه أدوات خطاب؛ لنه هو الذي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خلق الكون والمخلوقات‪ ،‬وله سبحانه خطاب بألفاظ‪ ،‬وخطاب إشارات‪ ،‬وخطاب بإلهام‪ ،‬وخطاب‬
‫بوحي‪ ،‬فإذا قرأنا أن الحق تبارك وتعالى قال لذرية آدم‪ :‬ألست بربكم؟ فهذا يعني أنه قالها لهم‬
‫باللغة التي يفهمونها‪ ،‬لنه هو سبحانه الذي قال للسماء والرض‪:‬‬

‫طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت‪]11 :‬‬


‫{ ‪...‬ائْتِيَا َ‬
‫ولقد تكلمت النملة وفهم سليمان كلمها‪ ،‬ولو َلمْ ُيعْلِم الُ سليمانَ كيف يفهم كلمها لما عرفنا أنها‬
‫طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَانُ وَجُنُو ُدهُ‪[} ...‬النمل‪]18 :‬‬
‫حِ‬‫تكلمت‪ {:‬قَاَلتْ َنمَْلةٌ ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ ا ْدخُلُواْ مَسَاكِ َنكُ ْم لَ يَ ْ‬
‫إنها تفهم ما يفعله البشر حين يدوسون على كائنات صغيرة دون أن يروها‪ ،‬ولكن سليمان نبي من‬
‫أنبياء ال‪ ،‬ولن يعتدي على خلق ال‪ ،‬والنملة التي تكلمت كانت تحرس بقية النمل‪ .‬وكذلك تكلم‬
‫الهدهد ليخبر سيدنا سليمان عن مملكة سبأ وحالة بلقيس وقومها‪.‬‬
‫إذن فال عز وجل يخاطب جميعَ خلقه‪ ،‬ويجيبُه جميعُ خلقه‪ ،‬فل تقل‪ :‬كيف خاطب المولى سبحانه‬
‫الذر‪ ،‬والذَر لم يكن مكلفا بعد؟ ولم يحاول العلماء أن يدخلوا في هذه المسألة؛ لنها في ظاهرها‬
‫بعيدة عن العقل‪ ،‬ويكفي أن ربنا الخالق القادر قد أبلغنا أنه قد خاطب الذرات قائل‪ :‬ألست بربكم؟‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬بلىَ‪ .‬ويبدو من هذا القول أن المسألة تمثيل للفطرة المودعة في النفس البشرية‪ .‬وكأنه‬
‫سبحانه قد أودع في النفس البشرية والذات النسانية فطرةً تؤكد له أنّ وراءَ هذا الكونِ إلها خالقا‬
‫قادرا مدبرا‪.‬‬
‫وقديما قلنا‪ :‬هب أنّ طائر ًة وقعت في صحراء‪ ،‬وحين أفقت من إغماءة الخوف؛ فكرّت في حالك‬
‫وكيف أنك ل تجد طعاما أو شرابا أو أنيسا‪ ،‬وأصابك غمّ من هذه الحالة فنمت‪ ،‬ثم استيقظت‬
‫فوجدت مائدة عليها أطايب الطعام والشراب‪ ،‬أل تتلفت لتسأل من الذي أقام لك هذه المأدبة قبل أن‬
‫تمد يدك إلى أطايب الطعام؟‪ .‬كذلك النسان الذي طرأ على هذا الكون الحكيم الصنع؛ البديع‬
‫التكوين؛ أل يجدرُ بهِ أن يسأل نفسه من خلق هذا الكون؟‪.‬‬
‫إننا نعلم أن المصباح الكهربي احتاج لصناعته إلى علماء وصناع مهرة كثيرين وإلى إمكانات ل‬
‫حصر لها لينير هذا المصباح حجرة محدودة‪ ،‬وحين نرى الشمس تنير الكون كله‪ ،‬ول يصيبها‬
‫ب ول تحتاج منا إلى صيانة‪ ،‬أل نسأل من صنعها؟ وخصوصا أنّ أحدا لم يدّع أنه قد‬
‫كللٌ أو تع ٌ‬
‫صنعها‪ ،‬وقد أبلغنا المولى سبحانه وتعالى بأنه هو الذي خلق الرض وخلق الشمس وخلق القمر‪،‬‬
‫فإما أن يكون هذا الكلم صحيحا؛ فنعبده‪ ،‬وإما ل يكون الكلم صحيحا فنبحث عمن صنع وخلق‬
‫الكون لنعبده‪.‬‬
‫وبما أن أحدا لم يَ ّدعِ لنفسه صناعة هذه الكائنات‪ ،‬فهي تسلم لصاحبها وأنه ل إله إل ال‪ .‬إذن‬
‫فالفطرة تهدينا أن وراء هذا الكون العظيم قدرةً تناسب هذه العظمة؛ قدرة تناسب الدقة؛ هذه الدقة‬
‫التي أخذنا منها موازين لوقتنا؛ فقد أخذنا من الفلك مقياسا للزمن؛ ولول حركة الفلك التي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تنظم الليل والنهار؛ لما قسمنا اليوم إلى ساعات‪ ،‬ولول أن حركة الفلك مصنوعة بدقة متناهية؛‬
‫لما استطعنا أن َنعُدّها مقياسا للزمن‪.‬‬

‫حسْبَانٍ }[الرحمن‪]5 :‬‬


‫س وَا ْل َقمَرُ بِ ُ‬
‫شمْ ُ‬
‫وحينما نستعرض قول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬ال ّ‬
‫نجد أن كلمة " بحسبان " وردت مرتين‪ ،‬فقد أبلغنا الحق سبحانه وتعالى‪ :‬أنه جعل الشمس والقمر‬
‫بحسبان‪ ،‬أو حسبانا‪ ،‬وهما من اليات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه ولم يخلقهما عبثا بل‬
‫حسَابَ‪[} ...‬يونس‪]5 :‬‬
‫ن وَالْ ِ‬
‫عدَدَ السّنِي َ‬
‫لحكمة عظيمة‪ {.‬لِ َتعَْلمُواْ َ‬
‫فقد أخذنا من دورة الشمس والقمر مقياسا‪ ،‬ولم نكن لنفعل ذلك إل أن كانت مخلوقة بحساب؛ لن‬
‫الكون مصنوع ومخلوق على هذه الدرجة من الدقة والحكام لهذا يجب أن نلتفت إلى أن هناك‬
‫قدرة وراء هذا العالم تناسب عظمته‪ .‬لكن أنعرف ماذا تريد هذه القوة بالعقل؟ إن أقصى ما يهدينا‬
‫العقل هو أن نعرف أنّ هناك قو ًة ول يعرف العقل اسم هذه القوة‪ ،‬وكذلك لم يعرف العقل‬
‫مطلوبات هذه القوة‪ ،‬وكان لبد أن يأتي لنا رسولٌ من طرف تلك القوة ليقول لنا مرادَها‪ ،‬وجاء‬
‫الموكب الرسالي فجاءت الرسل ليبلغ كلّ رسولٍ مرادَ الحق من الخلق‪ ،‬فقال كلّ رسول‪ :‬إن اسم‬
‫القوة التي خلقتكم هو ال‪ ،‬وله مطلق التصرف في هذا الكون‪ ،‬ومراد الحق من الخلق تعمير هذا‬
‫الكون في ضوء منهج عبادة الحق الذي خلق النسان والكون‪ .‬وكل هذه المور ما كانت لتدرك‬
‫بالعقل‪.‬‬
‫ن بقوةٍ خالقه وراءَ هذا الكون‪ ،‬وتستوي العقول الفطرية‬
‫وهكذا نعلم أن منتهى حدود العقل هو إيما ٌ‬
‫في هذه المسألة‪ .‬أما اسم القوة والمنهج المطلوب لهذا الله فلبد له من رسول‪.‬‬
‫وأرهق الفلسفة أنفسهم في البحث عن هذه القوة ومرادها‪ .‬وسموها مجال البحث " الميتافيزيقا "‬
‫أي " ماوراء الطبيعة " وعادة ما يقابل الفلسفة من يسألهم من أهل اليمان‪ :‬ومن الذين قال لكم إن‬
‫وراء المادة قوة يجب أن تبحثوا عنها؟‪.‬‬
‫وغالبا ما يقول الفيلسوف منهم‪ :‬إنها الفطرة التي هدتني إلى ذلك‪ .‬وتشعبت الفلسفة إلى مدارس‬
‫كثيرة‪ .‬وحاول أهل الفلسفة أن يتصوروا هذه القوة‪ ،‬وهذا هو الخلل؛ لن النسان يمكنه أن يعقل‬
‫وجود القوة الخالقة‪ ،‬ول يمكن له أن يتصورها‪ .‬وغرق الكثيرون من الفلسفة في القلق النفسي‬
‫المدمّر‪ .‬وأنقذ بعضهم نفسه باليمان‪ .‬وكان يجب على كل فيلسوف أن يرهف أذنه ويسمع ما قاله‬
‫الرسل ليحلّوا لنا هذا اللغز‪ ،‬بدلً من إرهاق النفس بالخلط بين تعقل وجود قوة وراء المادة‪ ،‬وبين‬
‫تصور هذه القوة‪.‬‬
‫وإنني في هذا الصدد أضرب هذا المثل وأرجو آل تنسوه أبدا‪ :‬إننا إذا كنا قاعدين في حجرة‪،‬‬
‫والحجرة مغلقة البواب‪ .‬ودق الجرس وكلنا يجمع على أن طارقا بالباب؛ وهذا الشيء المجمع‬
‫عليه من الكل يَعدّ تعقلً‪ ،‬لكن أنستطيع أن نتصور من الطارق؟ رجل؟ امرأة؟ شاب؟ شيخ؟‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المؤكد أننا سنختلف في التصور وإن اتحدنا في التعقل‪.‬‬
‫ونقول للفلسفة‪ :‬أنتم أولى الناس بأن ترهفوا آذانكم لمجيء رسول يحل لكم لغز هذا الكون‪ ،‬واسم‬
‫القوة التي وراء هذا الكون‪ ،‬ومطلوب هذه القوة منا‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يهدينا إلى هذا عبر الرسل‪ ،‬ويقول هنا‪ } :‬وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن‬
‫شهِدْنَآ‪[ { ...‬العراف‪]172 :‬‬
‫ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ‬
‫سهِمْ أَلَ ْ‬
‫ش َهدَهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ‬
‫ُ‬
‫وهذه شهادة الفطرة‪ ،‬ونحن نرى أن الفطرة تكون موجودة في الطفل المولود الذي يبحث بفمه عن‬
‫ثدي أمه حتى ولو كانت نائمة ويمسك الثدي ليرضع بالفطرة وبالغريزة‪ ،‬وهذه الفطرة هي التي‬
‫تصون النسان منا في حاجات كثيرة‪ ،‬وفي رد فعل النعكاسي؛ مثال ذلك حين تقرب أصبعك من‬
‫عين طفل‪ ،‬فيغمض عينيه دون أن يعلمه أحد ذلك‪.‬‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ‬
‫سهِمْ أَلَ ْ‬
‫شهَ َدهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫وقد أشهدنا الحق على وحدانيته ونحن في عالم الذر‪ } :‬وَأَ ْ‬
‫شهِدْنَآ {‬
‫بَلَىا َ‬
‫ويقال " أشهدته " أي جعلته شاهدا‪ ،‬والشهادة على النفس َلوْنٌ من القرار‪ ،‬والقرار سيد الدلة؛‬
‫لنك حين تُشهد إنسانا على غيره؛ فقد يغيّر الشاهد شهادته‪ ،‬ولكن المر هنا أن الخلق شهدوا على‬
‫أنفسهم وأخذ ال عليهم عهد الفطرة خشية أن يقولوا يوم القيامة‪ } :‬إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ {‬
‫فحين يأتي يوم الحساب‪ ،‬ل داعي أو يقولَن أحد إنني كنت غافلً‪.‬‬
‫ويتابع المولى سبحانه‪ :‬وتعالى قوله‪َ } :‬أوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا‪{ ...‬‬

‫(‪)1114 /‬‬

‫َأوْ َتقُولُوا إِ ّنمَا أَشْ َركَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَ ْبلُ َوكُنّا ذُرّيّةً مِنْ َبعْدِ ِهمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُبْطِلُونَ (‪)173‬‬

‫كأن الحق يريد أن يقطع عليهم حجة مخالفتهم لمنهج ال‪ ،‬فينبه إلى عهد الفطرة والطبيعة والسجية‬
‫المطمورة في كل إنسان؛ حيث شهد كل كائن بأنه إلهٌ واحدٌ أحَدٌ‪ ،‬ويذكرنا سبحانه بهذا العهد‬
‫الفطري قبل أن توجد أغيار الشهوات فينا‪.‬‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا } وهل كان أحد من الذر وهو في علم ال وإرادته وقدرته يجرؤ على أن‬
‫{ أََل ْ‬
‫يقول‪ :‬ل لست ربي؟‪ .‬طبعا هذا مستحيل‪ ،‬وأجاب كل الذر بالفطرة " بلى "‪ .‬وهي تحمل نفي‬
‫حكَمِ ا ْلحَا ِكمِينَ }[التين‪]8 :‬‬
‫النفي‪ ،‬ونفي النفي إثبات مثل قوله الحق‪ {:‬أَلَيْسَ اللّهُ بَِأ ْ‬
‫و " أليس " للستفهام عن النفي؛ ولذالك يقال لنا‪ :‬حين تسمع " أليس " عليك أن تقول " بلى "‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبذلك تنفي النفي أي أثبتّ أنه ل يوجد أحكم الحاكمين غيره سبحانه‪ ،‬وهنا يقول الحق‪ " :‬ألست‬
‫بربكم "؟ وجاءت الجابة‪ :‬بلى شهدنا‪ .‬ولماذا كل ذلك؟ قال الحق ذلك ليؤكد لكل الخلق أنهم‬
‫بالفطرة مؤمنون بأن ال هو الرب‪ ،‬والذي جعلهم يغفلون عن هذه الفطرة تحرّك شهواتهم في‬
‫نطاق الختيار‪ ،‬ومع وجود الشهوات في نطاق الختيار إن سألتهم من خلقهم؟ يقولون‪ :‬ال‪ ،‬ومادام‬
‫س وَا ْلقَمَرَ‬
‫شمْ َ‬
‫سخّرَ ال ّ‬
‫ت وَالَ ْرضَ وَ َ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خلَقَ ال ّ‬
‫هو الذي خلقهم فهو ربهم‪ {.‬وَلَئِن سََألْ َتهُمْ مّنْ َ‬
‫لَ َيقُولُنّ اللّهُ‪[} ...‬العنكبوت‪]61 :‬‬
‫وجاء الحق بقصة هذه الشهادة حتى ل يقولَنّ أحدُ‪ { :‬إِ ّنمَآ َأشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْبلُ }‬
‫وبذلك نعلم أن أعذار العاصين وأعذار الكافرين التي يتعللون ويعتذرون بها تنحصر في أمرين‬
‫اثنين‪ :‬الغفلة عن عهد الذر‪ ،‬وتقليد الباء‪.‬‬
‫وما الغفلة؟ وما التقليد؟‪ .‬الغفلة قد ل يسبقها كفر أو معصية‪ ،‬ويقلدها الناس الذين يأتون من بعد‬
‫ذلك‪ .‬والمثال الواضح أن سيدنا آدم عليه السلم قد أبلغ أولده المنهج السوي المستقيم لكنهم غفلوا‬
‫عنه ولم يعد من اللئق أن يقول واحد منهم إن أباه قد أشرك‪ .‬ولكن جاء هذا المر من الغفلة‪ ،‬ثم‬
‫جاء إشراك الباء في المرحلة الثانية؛ لن كل واحد لو قلد أباه في الشراك؛ لنتهى الشرك إلى‬
‫آدم‪ ،‬وآدم لم يكن مشركا‪ ،‬لكن الغفلة عن منهج ال المستقيم حدثت من بعض بني آدم‪ ،‬وكانت هذه‬
‫الغفلة نتيجة توهم أن هناك تكاليف شاقةً يتطلبها المنهج‪ ،‬فذهب بعض من أبناء آدم إلى ما يحبون‬
‫وتناسوا هذا المنهج ولم يعد في بؤرة شعورهم؛ لن النسان إنما ينفذ دائما الموجود في بؤرة‬
‫شعوره‪ .‬أما الشيء الذي سيكلفه مَشقّة فهو يحاول أن يتناساه ويغفل عنه‪ ،‬هكذا كانت أول مرحلة‬
‫من مراحل النفصال عن منهج ال وهي الغفلة في آبائهم‪ .‬وهنا يضاف عاملن اثنان‪ :‬عامل‬
‫الغفلة‪ ،‬وعامل السوة في أهله وآبائه‪ .‬ولم تكن القضايا اليمانية في بؤرة الشعور‪ ،‬ولذلك يقال‪:‬‬
‫الغالب أل ينسى أحد ما له ولكنه ينسى ما عليه؛ لن النسان يحفظ ما له عند غيره في بؤرة‬
‫الشعور‪ ،‬ويُخرج النسان ما عليه بعيدا عن بؤرة الشعور‪.‬‬

‫ولن البعض قد يتصور أن في التكليف الِيماني مشقة‪ ،‬لذلك فهو يحاول أن يبعد عنه وينساه‪،‬‬
‫وكذلك يحاول هذا البعض أن ينأى بنفسه عن هذه التكاليف‪.‬‬
‫ونأخذ المثل من حياتنا‪ :‬قد نجد إنسانا مَدِينا لمحل بقالة أو لنجاّرٍ وليس عنده مال يعطيه له‪ ،‬لذلك‬
‫يحاول أن يبتعد عن محل هذا البقال‪ ،‬أو أن يسير بعيدا عن أعين النجار‪ .‬وهكذا يكون افتعال‬
‫الغفلة في ظاهره هو أمرا مَنْجِيا من مشقات التكاليف‪ ،‬لكن البشر في ميثاق الذر قالوا‪ } :‬بَلَىا‬
‫شهِدْنَآ {‬
‫َ‬
‫خذَ ذلك العهدُ عليهم‪ ،‬وأُقرّوا به واستشهد الحقّ بهم‪ ،‬على أنفسهم حتى ل يقولوا يوم القيامه }‬
‫وقد أُ ِ‬
‫إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ { لنه ل يصح أن نغفل عن هذا العهد أبدا‪ ،‬ولكنّ الحقّ تبارك وتعالى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سيَ‪[} ...‬طه‪]115 :‬‬
‫عهِدْنَآ إِلَىا ءَا َدمَ مِن قَ ْبلُ فَنَ ِ‬
‫ع َرفَ أنّنا بشرٌ‪ ،‬وقال في أبينا آدم‪ {:‬وََلقَدْ َ‬
‫ومادام آدم قد نسي‪ ،‬فنسيانه يقع عليه حيث بيّن وأوضح لنا السلم أن المم السابقة على السلم‬
‫تؤخذ بالنسيان‪ ،‬وجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم بخبر واضح‪ :‬فقال عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "‬
‫ن ألّ يجيءَ الحكمُ على بال‬
‫والخطأ معلوم‪ ،‬كأن يقصدَ النسانُ شيئا ويحدث غيرهُ‪ ،‬والنسيا ُ‬
‫النسان‪ .‬وال ُمكْ َرهُ هو من يقهره من هُو أقْوى منه بفقدان حياته أو بتهديد حريته وتقييدها ما لم‬
‫يفعل ما يؤمر به‪ ،‬وفي الحالت الثلث يرفع التكليف عن المسلم‪ .‬وذكر الرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم أن ال أكرم المة المحمدية بصفة خاصة برفع ما ينساه المسلم‪ .‬وهذا دليل على أن من‬
‫عاشوا قبل بعثة رسول ال صلى ال عليه وسلم كانوا يؤاخذون به‪ .‬وإذا سلسلنا من قبل رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم نصل إلى سيدنا آدم الذي خُلق بيد ال المباشرة‪ ،‬بينما نحن أبناء آدم‬
‫مخلوقون بالقانون؛ أن يوجد رجل وتوجد امرأة وتوجد علقة زوجية فيأتي النسل‪.‬‬
‫وقد كلف ال آدم في الجنة التي أعدها له ليتلقى التدريب على عمارة الرض بأمر ونهي؛ فقال له‬
‫سبحانه وتعالى‪َ {:‬وكُلَ مِ ْنهَا رَغَدا حَ ْيثُ شِئْ ُتمَا َولَ َتقْرَبَا هَـا ِذهِ الشّجَ َرةَ‪[} ...‬البقرة‪]35 :‬‬
‫إذن فقصارى كل تكليف هو أمر في " افعل " ‪ ،‬ونهي في " ل تفعل؛‪ ،‬وقد نسي آدم التكليف في‬
‫المر الواحد البسيط وهو المخلوق بيد ال والمكلف منه بأمر واحد أن يأكل حيث يشاء ويمتنع عن‬
‫الكل من الشجرة‪ ،‬وإن لم يتذكر آدم ذلك‪ ،‬فما الذي يتذكره؟ وما كان يصح أن ينسى لنه مخلوق‬
‫بيد ال المباشرة ومكلف من ال مباشرة‪ ،‬والتكليف وإن كان بأمرين؛ لكن ظاهر العبء فيه على‬
‫أمر واحد؛ الكل من حيث شاءا هو أمر لمصلحة آدم‪ ،‬و " ل تقرب " هو تكليف واحد‪.‬‬

‫‪ -‬ولذلك قال الحق في آية أخرى‪... {:‬وَعَصَىا ءَادَمُ رَبّهُ َف َغوَىا }[طه‪]121 :‬‬
‫وهو عصيان لنه نسيان لمر واحد‪ ،‬ما كان يصح أن ينساه‪ .‬لعدم تعدده ويقول الحق تبارك‬
‫ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ‬
‫وتعالى‪َ } :‬أوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ‬
‫{ [العراف‪]173 :‬‬
‫جاء هذا القول لينبهنا إلى أن الغفلة ل يجب أن تكون أسوة لن التكاليف شاقة‪ ،‬والنسان قد يسهو‬
‫عنها فيورث هذا السهو إلى الجيال اللحقة فيقول البناء‪َ } :‬أوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْبلُ‬
‫َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َب ْعدِهِمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُبْطِلُونَ {‪.‬‬
‫وهذا يعني أن إيمانهم هو إيمان المقلد‪ ،‬رغم أن الحق قد أرسل لهم البلغ‪ ،‬وإذا كان الباء مبطلين‬
‫للبلغ بالمنهج فل يصح للبناء أن يغفلوا عن صحيح اليمان‪.‬‬
‫صلُ‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬وكَذاِلكَ ُن َف ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1115 /‬‬

‫جعُونَ (‪)174‬‬
‫ت وََلعَّلهُمْ يَرْ ِ‬
‫صلُ الْآَيَا ِ‬
‫َوكَذَِلكَ ُنفَ ّ‬

‫واليات التي فصلها الحق هنا هي العهود الخاصة‪ ،‬ورفع الجبل ليأخذوا التوارة بقوة‪ ،‬وكذلك‬
‫العهد العام الذي اشترك فيه كل الخلق من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬وجاء سبحانه بكل ذلك‬
‫ليؤكد لهم أن قضية اليمان عقيدةً يجب أن تكون في بؤرة الشعور‪ ،‬فمن غفل فليتذكر‪ ،‬ومن قلد‬
‫آباه في شيء مخالف للمنهج القويم‪ ،‬فليرجع عن هذا التقليد؛ لن التكاليف اليمانية تكاليف ذاتية‪،‬‬
‫وسبحانه ل يكلفك وأنت في حاجة إلى أبيك‪ ،‬أو إلى أمك‪ .‬لكنه يكلفك من بعد البلوغ؛ لنك بعد‬
‫البلوغ تستقل بذاتيتك استقلل كامل مثل والدك‪ ،‬ومادمت مكتمل الرجولة كوالدك وصالحا‬
‫للنجاب فل ولية إيمانية لبيك عليك أبدا‪ ،‬فل تقل إنني أقلد أبي ولو كان على غير المنهج‬
‫السليم؛ لن مثل هذا القول يمكن أن يكون مقبولً لو كان التكليف للنسان وهو في دور الطفولة‪،‬‬
‫حيث الب يسعى لطعام أبنائه ورعايتهم‪ ،‬لكن التكليف ل يأتي للنسان إل بعد البلوغ‪ ،‬ومعنى‬
‫بعد البلوغ‪ :‬أنك صالح لنجاب مثلك ورعاية نفسك‪.‬‬
‫ولذلك يطلب الحق سبحانه وتعالى من الباء أن يدربوا أبناءهم ويعودوهم على مطلوبات التكليف‬
‫قبل مجيء أوان تكليف ال‪ ،‬ويقول النبي عليه الصلة والسلم‪:‬‬
‫" مروا أولدكم بالصلة وهم أبناء سبع سنين‪ ،‬واضربوهم على تركها وهم أبناء عشر سنين‬
‫وفرقوا بينهم في المضاجع‪ ..‬إلخ "‬
‫الب إذن يأم ُر ويُعاقب قبل أوان التكليف ليتدرب البناء عليه ويصير دربة سهلة ل يتعب منها‬
‫جعُونَ }‪.‬‬
‫ت وََلعَّلهُمْ يَ ْر ِ‬
‫صلُ اليَا ِ‬
‫النسَان بعد البلوغ‪َ { .‬وكَذاِلكَ ُنفَ ّ‬
‫أي أن على الغافل أن يرجع عن غفلته فيتذكر‪ ،‬وأن يرجع المقلد لبائه عن التقليد‪ ،‬ويقتنع اقتناعا‪،‬‬
‫مصداقا لقوله الحق‪ {:‬لّ َيجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَ ِد ِه َولَ َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَن وَالِ ِدهِ شَيْئا‪[} ...‬لقمان‪]33 :‬‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك‪ { :‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ‪} ...‬‬

‫(‪)1116 /‬‬

‫وَا ْتلُ عَلَ ْي ِهمْ نَبَأَ الّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِ ْنهَا فَأَتْ َبعَهُ الشّيْطَانُ َفكَانَ مِنَ ا ْلغَاوِينَ (‪)175‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولنهم قالوا‪ { :‬إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ } ‪ ،‬فال سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا خبر هؤلء‬
‫فيقول‪ { :‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ الّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِ ْنهَا }‪.‬‬
‫والنبأ هو الخبر المهم وله جدوى اعتبارية ويمكن أن ننتفع به وليس مطلق خبر‪ .‬ولذلك يقول‬
‫سبحانه وتعالى عن اليوم الخر‪ {:‬عَمّ يَ َتسَآءَلُونَ * عَنِ النّبَإِ ا ْلعَظِيمِ }[النبأ‪]2-1 :‬‬
‫كما يقول { وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ الّذِي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا } ‪ ،‬كأن هذا النبأ كان مشهورا جدا‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه قد‬
‫قيل في " ابن بعوراء " أو أمية بن أبي الصلت‪ ،‬أو عامر الراهب‪ ،‬أو هو واحد من هؤلء‪ ،‬والمهم‬
‫ليس اسمه‪ ،‬المهم أنّ إنسانا آتاه ال آياته ثم انسلخ من اليات‪ ،‬فبدلً من أن ينتفع بها صيانة لنفسه‪،‬‬
‫وتقربا إلى ربه { فَانْسَلَخَ مِ ْنهَا } واتبع هواه ومال إلى الشيطان‪.‬‬
‫وكلمة " انسلخ " دليل على أن اليات محيطة بالنسان إحاطة قوية لدرجة أنها تحتاج جبروت‬
‫معصية لينسلخ النسان منها؛ لن الصل في السلخ إزاحة جلد الشاة عنها‪ ،‬فكأن ربنا يوضح أنه‬
‫سبحانه وتعالى أعطى النسان اليات فانسلخ منها‪ ،‬وهذا يعني أن اليات تحيط بالنسان كما يحيط‬
‫الجلد بالجسم ليحفظ الكيان العام للنسان؛ لن هذا الكيان العام فيه شرايين‪ ،‬وأوردة‪ ،‬ولحم‪،‬‬
‫وشحم‪ ،‬وعظام‪ .‬وجعل ال التكاليف اليمانية صيانة للنسان‪ ،‬ولذلك سمي الخارج عن منهج ال "‬
‫فاسقا " مثله مثل الرطبة من البلح‪ ،‬فبعد أن تضرب الشمس البلحة يتبخر منها بعض من الماء‪،‬‬
‫فتنكمش ثمرة البلحة داخل قشرتها وتظهر الرطبة من القشرة‪ ،‬ولذلك سمي الخارج عن المنهج "‬
‫فاسقا " من فسوق الرطبة عن قشرتها‪ ،‬وال عز وجل يقول هنا‪ { :‬ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا }‪ .‬وكان يجب أل‬
‫يغفل عنها‪ ،‬لن التيان نعمة جاءت ليحافظ النسان عليها‪ ،‬لكن النسان انسلخ من اليات‪.‬‬
‫ونعرف جميعا ثوب الثعبان وهو على شكل الثعبان تماما‪ ،‬ويغير الثعبان جلده كل فترة‪ ،‬ول ينخلع‬
‫من الجلد القديم إل بعد أن يكون الجلد الذي تحته قد نضج‪ ،‬وصلح لتحمل الطقس والجو‪ ،‬وكذلك‬
‫حين يندلق سائل ساخن على جلد النسان‪ ،‬تلحظ تورم المنطقة المصابة وتكون بعض المياه فيها‪،‬‬
‫وله أفرغ النسان هذه المياه تصاب هذه المنطقة بالتهاب‪ ،‬أما إذا تركها فهي تحمي المنطقة‬
‫المصابة إلى أن يتربى الجلد تحتها وتجف وتنفصل عن الجسم‪ ،‬وكذلك نعلم أن الشاة ‪ -‬مثلً ‪ -‬ل‬
‫تسلخ نفسها‪ .‬بل نحن نسلخها‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى يقول‪ {:‬وَآ َيةٌ ّلهُمُ الّ ْيلُ َنسْلَخُ مِنْهُ ال ّنهَارَ‪} ...‬‬
‫[يس‪]37 :‬‬
‫فكأن الليل كان مجلدا ومغلفا بالنهار‪ ،‬والليل أسود‪ ،‬والنهار فيه الضوء‪ ،‬ونعلم أن اللون السود‬
‫ليس من ألوان الطيف‪ ،‬وكذلك اللون البيض ليس من ألوان الطيف؛ لن ألوان الطيف‪ :‬الحمر‪،‬‬
‫البرتقالي‪ ،‬الصفر‪ ،‬الخضر‪ ،‬الزرق‪ ،‬النيلي‪ ،‬البنفسجي‪ ،‬واللون السود يأخذ ألوان الطيف‬
‫ويجعلها غير مرئية‪ ،‬لنك ل ترى الشياء إل إذا جاءت لك منها أشعة لعينيك‪ ،‬واللون السود‬
‫يمتص كل الشعة التي تأتي عليه فل يرتد إلى العين شعاع منها فتراه مظلما‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والبيض هو مزيج من ألوان متعددة إن مزجتها مع بعضها يمكنك أن تصنع منها اللون البيض‪،‬‬
‫وهكذا نعلم أن البيض مثله مثل السود تماما‪ ،‬فالسود يمتص الشعة فل يخرج منه شعاع‬
‫لعينيك‪ ،‬والبيض يرد الشعة ول يخرج منه شعاع لعينيك‪ .‬وقوله الحق‪ } :‬نَسْلَخُ مِنْهُ ال ّنهَارَ { كأن‬
‫سواد الليل جاء يغلف بياض النهار‪.‬‬
‫وإذا انسلخ من آتاه خبر اليمان عن المنهج يقول الشيطان‪ :‬إنه يصلح لن يتبعني‪ ،‬وكأن الشيطان‬
‫حين يجد واحدا فيه أمل‪ ،‬فهو يجري وراءه مخافة أن يرجع إلى ما أتاه ال من الكتاب الحامل‬
‫للمنهج‪ ،‬ويزكي الشيطان في نفس هذا النسان مسألة الخروج عن منهج ربنا‪.‬‬
‫وقلنا من قبل‪ :‬إن المعاصي تأتي مرة من شهوة النفس‪ ،‬ومرة من تزيين الشيطان وأوضحنا‬
‫الفارق‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن الشيطان ل يجرؤ عليك إل إن أوضحت للشيطان سلوكك أن له أملً فيك‪ ،‬لكن‬
‫إن اهتديت وأصلحت من حالك فالشيطان يوسوس للنسان في الطاعة ويحاول أن يكرهه فيها‪،‬‬
‫والشيطان ل يذهب ‪ -‬مثل ‪ -‬إلى الخمارة‪ ،‬بل يقعد عند الصراط المستقيم ليرى جماعة الناس‬
‫التي تتجه إلى الخير‪ ،‬أما الخرون فنفوسهم جاهزة له‪ .‬إذن فالشيطان ساعة يرى واحدا بدأ في‬
‫الغفلة عن اليات فهو يلحقه مخافة أن تستهويه اليات ثانية‪ ،‬ولذلك لبد لنا أن نفرق بين الدافع‬
‫إلى المعصية هل هو من النفس أم من نزغ الشيطان‪ ،‬فإن جاءت المعصية وحدثتك نفسك بأن‬
‫تفعلها ثم عزت عليك تلك المعصية لي ظرف طارئ ثم ألححت عليها ذاتها مرة ثانية‪ ،‬فاعلم أنها‬
‫شهوة نفسك‪ .‬لكن إن عزت عليك ثم فكرت في معصية ثانية فهذا من نزغ الشيطان؛ لن الشيطان‬
‫ل يريدك عاصيا بمعصية مخصوصة‪ ،‬بل يريدك بعيدا عن المنهج فقط‪ ،‬لكن النفس تريد معصية‬
‫بعينها وتقف عندها‪ ،‬فإن رأيت معصية وقفت عندها نفسك‪ ،‬فاعلم أنها من نفسك‪ ،‬وإن امتنعت‬
‫عليك معصية وتركتها‪ ،‬ثم فكرت في معصية ثانية‪ .‬فهذا نزغ من الشيطان ‪ -‬ويقول الحق‪...} :‬‬
‫فَأَتْ َبعَهُ الشّ ْيطَانُ َفكَانَ مِنَ ا ْلغَاوِينَ { [العراف‪]175 :‬‬
‫الغاوي وال َغ ِويّ هو من يضل عن الطريق وهو الممعن في الضلل‪ ،‬ونعلم أن الهدى هو الطريق‬
‫الموصل للغاية‪ ،‬ومن يشذ عن الطريق الموصل للغاية يضل أو يتوه في الصحراء‪ .‬وهو الذي‬
‫يُسمى " الغاوي " ‪ ،‬ومادام من الغاوين عن منهج ال فالفساد ينشأ منه لنه فسد في نفسه ويفْسد‬
‫غيره‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا وَلَـاكِنّهُ‪{ ...‬‬

‫(‪)1117 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫علَيْهِ يَ ْل َهثْ َأوْ‬
‫ح ِملْ َ‬
‫ض وَاتّبَعَ َهوَاهُ َفمَثَلُهُ َكمَثَلِ ا ْلكَ ْلبِ إِنْ َت ْ‬
‫وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا وََلكِنّهُ أَخَْلدَ إِلَى الْأَ ْر ِ‬
‫صصَ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ (‪)176‬‬
‫صصِ ا ْلقَ َ‬
‫تَتْ ُركْهُ يَ ْل َهثْ ذَِلكَ مَ َثلُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا فَا ْق ُ‬

‫وهنا أمران اثنان‪ ،‬الرفعة‪ :‬وهو العلو والتسامي‪ ،‬ويأتي بعدها المر الثاني وهو الخلد إلى‬
‫الرض أي إلى التسفل‪ ،‬والفعلن منسوبان لفاعلين مختلفين‪.‬‬
‫{ وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ } ‪ ،‬والفعل رفع هنا مسند ل‪ .‬ولكنه اختار أن يخلد في الرض‪ .‬وجاء المر‬
‫كذلك لن الرفعة من المعقول أن تنسب ل‪ .‬لكن التسفل ل يصح أن يُنسب ل‪ ،‬وكان كل فعل هو‬
‫بأمر صاحب الكون‪ .‬وربنا هنا يرفع من يسير على المنهج‪ ،‬وحين يقول الحق تبارك وتعالى‬
‫{ وََلوْ شِئْنَا } أي أنها مشيئتنا‪ .‬فلو أردنا أن نرفعه كانت المشيئة صالحة‪ ،‬لكن هذا المر ينقض‬
‫الختيار‪ ،‬والحق يريد أن يُبقَي للنسان الختيار‪ ،‬فإن اختار الصواب فأهل به وجزاؤه الجنة‪ ،‬وإن‬
‫أراد الضلل فلسوف يَلْقى العذاب الحق‪ ،‬ولمزيد من العتبار بقصص القرآن اقرأ معي قصة‬
‫حمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَّلمْنَاهُ مِن‬
‫جدَا عَبْدا مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَ ْ‬
‫العبد الصالح مع موسى عليه السلم‪َ {:‬فوَ َ‬
‫لّدُنّا عِلْما * قَالَ َلهُ مُوسَىا َهلْ أَتّ ِب ُعكَ عَلَىا أَن ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ رُشْدا }[الكهف‪]66-65 :‬‬
‫ورغم أن موسى رسول من عند ال إل أنه لم يتأبّ على أن عبدا من عباد ال تقرب إلى ال‬
‫فاتبعه موسى ليقول له‪َ { :‬هلْ أَتّ ِب ُعكَ عَلَىا أَن ُتعَّلمَنِ ِممّا عُّل ْمتَ رُشْدا }‪.‬‬
‫وفي هذا تأكيد على رغبة موسى أن يستزيد بالعلم ممن أعطاه ال العلم‪ .‬وجاء القرآن بهذه القصة‬
‫ليعلمنا أدب التعلم‪.‬‬
‫ي صَبْرا * َوكَ ْيفَ َتصْبِرُ‬
‫وماذا قال العبد الصالح؟ لقد عذر موسى وقال‪ {:‬قَالَ إِ ّنكَ لَن َتسْتَطِيعَ َمعِ َ‬
‫عَلَىا مَا لَمْ ُتحِطْ بِهِ خُبْرا }[الكهف‪]68-67 :‬‬
‫أي أنك يا موسى لن تصبر ل لنقص فيك‪ ،‬بل لنك سترى أمورا ل تعرف أخبارها‪ .‬لكن سيدنا‬
‫موسى قال له ل‪ { :‬سَ َتجِدُنِي إِن شَآءَ اللّ ُه صَابِرا } وأصرّ موسى أن يتبع العبد الصالح وأنه لن‬
‫يعصي له أمرا‪ ،‬واشترط العبد الصالح أل يسأله سيدنا موسى عن شيء إل أن يحدثه العبد‬
‫الصالح‪ .‬وكان كل ذلك مجرد كلم نظري‪ ،‬فيه أخذ ورد‪ ،‬وحين جاء الواقع تغير الموقف تماما‪.‬‬
‫بعد أن ركبوا في السفينة وخرقها العبد الصالح‪ ،‬لم يصبر سيدنا موسى بل قال‪َ... {:‬لقَدْ جِ ْئتَ شَيْئا‬
‫ِإمْرا }[الكهف‪]71 :‬‬
‫وهكذا أثبتت التجربة العملية أن موسى لم يصبر على أفعال العبد الصالح‪ ،‬وحين ذكره العبد‬
‫الصالح بما وعد به من أل يسأل‪ ،‬تراجع موسى‪ ،‬وتكرر السؤال‪ ،‬وتكرر التذكير‪ .‬إلى أن أوضح‬
‫العبد الصالح لموسى كل أسرار ما لم يحط به علما وهنا يقول الحق‪ { :‬وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا }‬
‫لماذا؟‪ .‬لن مشيئة ال مشيئة مطلقة‪ ،‬يفعل ما يريده‪ ،‬ولكنه سبحانه قد سبق منه أن جعل للختيار‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جزاءً‪ ،‬لهذا لم يرفعه مع أنه مخالف‪ ،‬لنها سنة ال‪ ،‬ولن تجد لسنة ال تبديلً‪.‬‬

‫وسنة ال أن من عمل عملً طيبا يثيبه ال عليه‪ .‬ومن عمل سوءا يعاقبه‪ ،‬ومشيئته سبحانه مطلقة‪،‬‬
‫ول راد لمشيئته ول معقب لحكمه‪.‬‬
‫وبمقضى مشيئة ال فهو يعذب المذنب بعدله ويثيب الطائع بفضله‪ ،‬وله سبحانه مطلق الرادة فهو‬
‫عزيز‪ ،‬وحكيم في كل فعل‪ } .‬وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا وَلَـاكِنّهُ أَخَْلدَ إِلَى الَ ْرضِ وَاتّبَعَ َهوَاهُ‪...‬‬
‫{ [العراف‪]176 :‬‬
‫و } َأخْلَدَ ِإلَى الَ ْرضِ { ‪ ،‬أي أنه اختار أن ينزل إلى الهاوية‪ ،‬رغم أن الحق هدى النسان وبين له‬
‫طريق الخير ليسلكه فيصعد إلى العلو‪ ،‬والحق يقول‪ُ {:‬قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ مَا حَرّمَ رَ ّب ُكمْ عَلَ ْيكُمْ‪} ...‬‬
‫[النعام‪]151 :‬‬
‫ونخطئ حين نفهم أن " تعالوا " بمعنى " أقبلوا " فقط وهذا فهم ناقص‪ ،‬إنها دعوة للقبول وإلى‬
‫العلو‪ ،‬لنه سبحانه وتعالى يشرع لنا حتى ل نلزم منهج الرض السفلى‪ .‬بل نرتقي ونأخذ منهج‬
‫ال الذي يضمن لنا العلو‪ .‬وكأنه سبحانه يقول‪ :‬تعالوا وتساموا في أخذ منهجكم من ال العلي‬
‫العلى وإياكم أن تأخذوا منهجكم مما وضعه البشر ويناقض ما جاء في شرع ال‪ ،‬لن في هذا‬
‫ض وَاتّبَعَ َهوَاهُ َفمَثَُلهُ‬
‫تسفل ونزول إلى الحضيض‪ } .‬وََلوْ شِئْنَا لَ َر َفعْنَاهُ ِبهَا وَلَـاكِنّهُ َأخْلَدَ إِلَى الَرْ ِ‬
‫ح ِملْ عَلَيْهِ يَ ْل َهثْ‪[ { ...‬العراف‪]176 :‬‬
‫َكمَ َثلِ ا ْلكَ ْلبِ إِن َت ْ‬
‫ويقال‪ " :‬حملت على الكلب " ‪ ،‬فأنت حين تجلس ويقبل الكلب عليك وتزجره وتطرده وتنهره‪ ،‬فهذا‬
‫تفسير لقوله‪ " :‬تحمل عليه " ‪ ،‬أي أنك تحمل عليه طردا أو زجرا؛ لذلك يلهث‪ ،‬وأن تركت الكلب‬
‫بدوح حمل عليه طردا أو زجرا فهو يلهث‪ ،‬لن طبيعته أنه لهث دائما‪ ،‬وهذه الخاصية في الكلب‬
‫وحده‪ ،‬حيث يتنفس دائما بسرعة مع إخراج لسانه‪.‬‬
‫ونعلم أن الحيوانات ل تلهث إل أن فزعت فتجري‪ ،‬لتفوت من اللم أو من العذاب الذي يترصدها‬
‫من كائن آخر‪ ،‬وحين يجري الحيوان فهو يحتاج لطاقة‪ ،‬فيدق القلب بشدة ليدفع الدم بما فيه من‬
‫غذاء إلى كل الجسم‪ ،‬ولبد للقلب أن يتعاون مع الرئة التي تمد الدم بالهواء‪ .‬ونلحظ أن الكائن‬
‫الحي حين يجلس برتابة فهو ل يلحظ تنفسه‪ ،‬لكن إذا جرى يلحظ أن تجويف الصدر أو سعة‬
‫الصدر تنقبض وتنبسط لتسحب " الوكسجين " من الهواء لتصل به للدم بكمية تناسب الحركة‬
‫الجديدة‪ ،‬فيحاول أن يتنفس أكثر‪ .‬ول تفعل الحيوانات مثل هذه المسألة إل إذا كانت جائعة أو‬
‫متعبة أو مهاجمة‪ ،‬لكن الكلب وحده هو الذي يفعلها‪ ،‬جائعا أو شبعان‪ ،‬عطشان أو غير عطشان‪،‬‬
‫مزجورا أو غير مزجور‪ ،‬إنه يلهث دائما‪ .‬ولماذا يشبهه سبحانه بالكلب اللهث؟؛ لن الذي يظهر‬
‫بهذه الصورة تجده مكروها دائما؛ لنه متبع لهواه‪ ،‬وتتحكم فيه شهواته‪ .‬وحين تتحقق له شهوة‬
‫الن‪ ،‬يتساءل هل سيفعل مثلها غدا؟ وتتملك الشهوة كل وقته‪ ،‬لذلك يعيش في كرب مستمر‪ ،‬لنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يخاف أن يفوته النعيم أو أن يفوت هو النعيم‪ ،‬ويصير حاله كحال الكلب يلهث آمنا أو غير آمن‪،‬‬
‫جائعا أو غير جائع‪ ،‬عطشان أو غير عطشان‪.‬‬

‫ح ِملْ عَلَيْهِ يَ ْل َهثْ َأوْ تَتْ ُركْهُ يَ ْلهَث ذِّلكَ مَ َثلُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا‬
‫}‪َ ...‬فمَثَلُهُ َكمَ َثلِ ا ْلكَ ْلبِ إِن تَ ْ‬
‫صصَ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ { [العراف‪]176 :‬‬
‫صصِ ا ْل َق َ‬
‫فَا ْق ُ‬
‫هكذا يكون مصير من كذّب باليات‪.‬‬
‫صصَ { يوضح لنا أن ال ل يريد أن يعلمنا تاريخا‪ ،‬لكنه يعلمنا كيف‬
‫وقول الحق‪ } :‬فَا ْقصُصِ ا ْل َق َ‬
‫نأخذ العبرة من التاريخ‪ ،‬بدليل أنه يكرر القصة أكثر من مرة وكل مرة يأتي سبحانه بلقطة جديدة‪،‬‬
‫لتعدد ما في القصة الواحدة من العبر‪ ،‬ولو أنه أراد أن يقص علينا التاريخ لقال لنا روايته مرة‬
‫واحدة‪ .‬ونجد في القرآن الكثير من قصص الحق مع الباطل‪ ،‬ومن قصص المبطلين مع المحقين‪،‬‬
‫ومن قصص المعاندين مع الرسل؛ لن القصة أمر واقعي‪ ،‬والتقنين للمناهج أمر لفظي‪ ،‬فيريد‬
‫سبحانه وتعالى أن يوضح لنا المنهج المناسب للواقع؛ لن واقع الحياة يعطي القصة القولية حرارة‬
‫وسخونة فل يظل المنهج مجرد كلم نظري معزول عن الواقع‪.‬‬
‫وهكذا بَيّن الحقّ سبحانه وتعالى في هذه الية‪ ،‬أنه سبحانه قد أنزل علم منهجه بواسطة الرسل إلى‬
‫بعض خلقه‪ ،‬فمنهم من يأخذ منهج ال بالستيعاب أولً‪ ،‬وتوظيف ما علم ثانيا‪ ،‬وبذلك يرتفع من‬
‫منطق الرض إلى منطق السماء‪ .‬ومن يعطيه ال ذلك المنهج‪ ،‬ما كان يصح له أن يترك ارتفاعه‬
‫إلى السماء‪ ،‬ليهبط إلى مستوى الرض‪ .‬وهذا ما يفعله البشر حين يقننون لنفسهم‪ ،‬ويضعون نظم‬
‫الحياة على وفق هواهم‪ ،‬وعلى وفق نظمهم‪ ،‬ويتركون منهج ال الذي خلقهم وصنعهم ووضع لهم‬
‫قانون صيانتهم‪.‬‬
‫وهذا كلم نظري له واقع في ابن " باعوراء " ‪ ،‬هذا الذي آتاه ال العلم‪ ،‬ولكنه أخلد في الرض‬
‫ولم يتبع ما علم‪ ،‬فانسلخ من المنهج كما تنسلخ الشاة من جلدها وقال فيه الحق‪َ } :‬فمَثَلُهُ َكمَ َثلِ‬
‫ح ِملْ عَلَيْهِ يَ ْل َهثْ َأوْ تَتْ ُركْهُ يَ ْلهَث ذِّلكَ‪[ { ...‬العراف‪]176 :‬‬
‫ا ْلكَ ْلبِ إِن تَ ْ‬
‫ومن يريد أن يرفعه ال إلى السماء بالوحي بالمنهج ثم يهبط إلى الرض نجد الحق سبحانه‬
‫وتعالى يمثل حاله بحال الكلب‪ ،‬مع الفارق بين الثنين؛ لن الكلب يلهث غريزة‪ .‬فهو غير مذموم‬
‫حين يلهث وهو مطرود‪ ،‬ويلهث غير مطرود فهذه غريزة فيه‪ ،‬ول يذم على هذه ول على تلك‪،‬‬
‫لكن النسان الذي فطره ال على حب الخير وميز غرائزه بمنهج عقلي يصون حركته ما كان‬
‫يصح له أن يفعل ذلك ول ينبغي أن تقولوا‪ :‬وما ذنب الكلب في أنه يلهث‪ ،‬ويضرب به المثل في‬
‫الكفر؟ لن الكلب يفعلها غريزة‪ ،‬وهو بغير تكليف فيفعل ما يشاء‪ ،‬أما النسان الذي ارتفع بكفره‬
‫وميزه ال بأن يختار بين البديلت ما كان يصح له أن يصل إلى هذا المستوى‪ ،‬ومثل هذا السلوك‬
‫في الكلب محمود فيه لن طبيعته هكذا‪ ،‬وإياك أن تقول‪ :‬لماذا ربنا يضرب المثل بأشياء وما ذنبها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هي؟‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه ‪ -‬هو القائل عن اليهود‪:‬‬

‫سفَارا‪[} ...‬الجمعة‪]5 :‬‬


‫ح ِملُ َأ ْ‬
‫حمَارِ يَ ْ‬
‫حمِلُوهَا َكمَ َثلِ ا ْل ِ‬
‫حمّلُواْ ال ّتوْرَاةَ ثُمّ لَمْ َي ْ‬
‫{ مَ َثلُ الّذِينَ ُ‬
‫هل الحمار حين يحمل أسفارا يستحق الذم لنه لم يفقه ما في السفار؟ الجواب ل؛ لن مهمته‬
‫ليس منها فقه وفهم ما في السفار‪ ،‬بل مهته أن يحمل ما عليه فقط‪ ،‬وكأن الحق يقول‪ :‬ل تكونوا‬
‫مثل الحمار الذي يكتفي من الخير بأن يحمله‪ ،‬ولكن أريد منكم أن تحملوا المنهج وأن تنتفعوا بما‬
‫يحويه من التشريع‪ .‬إذن فهذه المثلة ليست ذما للكلب‪ ،‬ول هي ذما للحمار‪ .‬إنما ذم لمن يتشبه‬
‫بهما؛ لنه نزل إلى مرتبة لم يرده ال لها‪ ،‬وأراد ال المثل فيها بشيء ل تذم منه‪ ،‬ولكنه مذموم‬
‫من النسان‪.‬‬
‫والنسان الذي ل يتبع منهج ال يكون مضطرب الحركة في الحياة‪ ،‬حتى وإن كان في نعمة‪ ،‬لنه‬
‫معزول عن ال‪ ،‬ومادام معزولً عن ال تجده دائم التساؤل‪ :‬أيدوم لي هذا النعيم أو ل يدوم؟‬
‫ويعيش دائما في قلق ورعب مخافه أن يفوت النعيم أو أل يدوم له النعيم‪ ،‬ومثله كالكلب يلهث حال‬
‫صصَ َلعَّل ُهمْ يَ َت َفكّرُونَ {‪.‬‬
‫راحته ويلهث حال تعبه‪ } .‬ذِّلكَ مَ َثلُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا فَا ْقصُصِ ا ْل َق َ‬
‫إذن حين يضرب ال لنا مثلً من المثال الواقعية في هذا الرجل المسمى " ابن باعوراء " ‪،‬‬
‫فسبحانه يعطينا واقعا لما حدث بالفعل‪.‬‬
‫أي أن الذي يريد ال أن يرفعه بما علمه من منهج فانسلخ من دينه فهو مثل القوم الذين كذبوا‬
‫بآيات ال‪ ،‬ولستم بدعا في هذا‪ ،‬فال يريد أن يرفعكم بمنهج السماء وأنتم تخلدون إلى الرض‪ ،‬وقد‬
‫حدث هذا مع ابن باعوراء‪ ،‬وكلمة " مثل " إذا سمعتها هي من مادة الـ " م " والـ " ث " والـ "‬
‫لم " ‪ ،‬وتنطق كما يأتي‪ :‬إما أن تنطقها مثْل " يكسر الميم وسكون الثاء " ‪ ،‬وإما أن تنطقها مَثَل "‬
‫بفتح الميم والثاء " ‪ ،‬والمَ ْثلَ هو المشابه والنظير‪ ،‬فتقول‪ :‬فلن مِثْل فلن في الكرم‪ ،‬في العلمَ‪ ،‬في‬
‫الَطول‪ ،‬في العرض‪ ،‬وبذلك أعطيت تشَبيه ما هو مجهول للمخاطب بما هو معلوم له‪.‬‬
‫شيْءٌ‪[} ...‬الشورى‪]11 :‬‬
‫والحق سبحانه يقول‪ {:‬لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫أي ل أحد يشبهه في شيء؛ لنه مَنَزّه في الذات والصفات والفعال‪.‬‬
‫وأيضا نقول‪ :‬هذا مَثَل هذا؛ أي أن فلنا المشبه به يكون أعلى منه فيما يشبهه به‪ ،‬لكن الناس ل‬
‫تعرف ذلك‪ .‬وإن كان المشبه به ذائع الصيت؛ بحيث يجري اسمه على كل لسان؛ فنحن نقول‪ :‬إنّه‬
‫مَ َثلٌ؛ كقولنا عن الكريم‪ " :‬هو حاتم " لن شهرة حاتم في الكرم جعلته مَثَلً‪.‬‬

‫والفرق أنك إذا قلت في فلن إنه يشبه حاتما في الكرم‪ ،‬فقد تكون أول من يخبر عنه‪ ،‬ولك أن‬
‫تأتي بواحد له شهرة ذائَعة الصيت على كل لسان؛ فهذا مَثَل‪ ،‬كأن تقول‪ :‬مَثَل حاتم في الكرم‪ ،‬أو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مَثل عنترةَ في الشجاعة‪ .‬والمَثَل في الذكاء إياس‪ ،‬لن كل واحد منهم مشهور بصفة‪ ،‬ولذلك لما‬
‫مدح الشاعر الخليفة قال فيه‪ :‬إقدام عمرو (في شجاعته) في سماحة حاتم (أي الطائي) في حلم‬
‫أحنف (الحنف بن قيس وكان مشهورا بالحلم عند العرب) وفي ذكاء إياس‪ .‬وقال رجل من القوم‪:‬‬
‫كيف ُتشَبّ ُه الميرَ بصعاليك العرب؟ إن المير فوق من ذكرت جميعا‪.‬‬
‫ما عمرو بالنسبة للمير؟!‬
‫وما حاتم بالنسبة للمير؟!‬
‫فقال الشاعر‪:‬‬
‫وشبهه المدّاح في الباس والندى بمن لو رآه كان أصغر خادمففي جيشه خمسون ألفا كعنتر وفي‬
‫خُزنه أُلف ألف كحاتمأي أن عنده أمثالَ حاتمٍ وأمثال عنترة‪ .‬فما كان منه إل أن أسعفته ذاكرته‬
‫وبديهيته؛ فقال‪:‬‬
‫ل تنكروا ضربي له من دونه مثلً شرودا في الندى والباسفال قد ضرب القل لنوره مثل من‬
‫المشكاة والنبراسوكأن الشاعر يقول‪ :‬أنا ضربت بهم المَثل لنهم أصبحوا المثل المشهور والمثال‬
‫ل تتغير‪.‬‬
‫ل مشهورا في‬
‫وأنت تقدر في المثل‪ ،‬فقد تقول‪ :‬فلن حاتم‪ ،‬وحاتم انقضى عمره‪ ،‬لكنه قد صار مث ً‬
‫التاريخ‪ ،‬أو تقول‪ " :‬فلن عنتر " ‪ ،‬أو " فلن إياس " ‪ ،‬وفي ذلك يرتقي التشبيه‪ ،‬بأن صار المشبّه‬
‫به مشهورا معلوما متواردا على اللسنة وكل واحد يشبه به‪.‬‬
‫و ُيعَرفون المَثَل بأنه‪ :‬قول شبّه مورده بمضربه‪ ،‬أي أنك تشبه الحالة التي قيل فيها المثل أولً‪،‬‬
‫ومثال ذلك‪ :‬حينما أرسلَ عظيمٌ من عظماء العرب خاطبةً اسمها " عصام " لتخطب له أمّ إياس؛‬
‫فقد بلغه أنها جميلة وأنها وأنها‪ ،‬فقال‪ :‬اذهبي حتى تعلمي لي علم ابنة عوف‪ ،‬فذهبت الخاطبة‬
‫وخلّت أم الفتاة بينها وبينها‪ ،‬وقالت لها‪ :‬يا هذه‪ ،‬هذه خالتك جاءت لتنظر إلى بعض أمرك فل‬
‫تستري عنها شيئا أرادت النظر إليه‪ ،‬من وجه وخلق‪ ،‬وناطقيها فيما استنطقتك به‪ .‬ثم أرسلت إلى‬
‫خباء‪ ،‬ونظرتها كلها وفحصتها فحصا شاملً‪ .‬فلما عادت إلى من أرسلها‪ ،‬وكان ينتظرها في شوق‬
‫وكأنه على أحر من الجمر‪ ،‬قال لها‪ " :‬ما وراءكِ يا عصامُ؟ " قالت‪ " :‬أبدي المخض عن الزّبد "‬
‫أي أن الرحلة جاءت بفائدة‪.‬‬
‫وأصبح العرب بعد ذلك كلما أرسلوا رسولً ذكرا أو أنثى أو مثنى أو جمعا؛ وبعد أن يعود إليهم‬
‫ويستعملوا منه عن نتيجة رحلته‪ ،‬فهم يقولون له‪ " :‬ما وراءَك يا عصام؟ " ‪ ،‬ولو كان رجلً‪ ،‬لن‬
‫المثال ل تغير‪ .‬وكل شيء يجدي الجهد فيه يقال عنه‪ " :‬أبدي المخض عن الزبد "‪.‬‬

‫فحين ينجح الولد ويأتي بالمجموع المناسب يقال‪ " :‬أبدي المخض عن الزبد "‪.‬‬
‫والحق تبارك وتعالى يقول‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا‪[} ...‬البقرة‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪]26‬‬
‫وكانوا قد قالوا‪ :‬كيف يضرب ال المثل ببعوضة؛ وقال سبحانه‪ {:‬لَن يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ‬
‫لَهُ‪[} ...‬الحج‪]73 :‬‬
‫لقد فهموا قوله‪ " :‬فما فوقها " أنها أكبر منها‪ ،‬والمراد غير ذلك؛ لنه سبحانه ضرب المثل بالقل؛‬
‫لذلك قال‪ " :‬فما فوقها " من باب فما فوقها في الحتقار منكم والقلة في الحجم مما تنكرونه‪ ،‬وهو‬
‫الضآلة‪ .‬وحتى تفهم ذلك نسمع أحيانا‪ :‬فلن مريض‪ .‬ويراد السامع وفلن فوقه في المرض‪ .‬ونجد‬
‫" فوقه " هنا ل تعني المرض القل‪ ،‬بل المرض الكثر شدة‪...} :‬ذِّلكَ مَ َثلُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا‬
‫صصَ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ { [العراف‪]176 :‬‬
‫صصِ ا ْل َق َ‬
‫فَا ْق ُ‬
‫والكلم موجه لليهود‪ :‬أي أنتم يا بني إسرائيل مَثَلكم مثل الرجل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها‪،‬‬
‫ولقد جاءت لكم في التوراة بشارة بمحمد‪ ،‬ووصفته بسمات وعلمات‪ ،‬بحيث إذا رآه النسان‬
‫يعرف أنه الرسول الذي جاء ذكره في التوراة‪ ،‬ويعرفه الواحد منكم كما يعرف ابنا له‪ ،‬لنه‬
‫مذكور لكم بنصه ونعته وشكله وطوله‪ ،‬وعرضه‪ .‬وكنتم تستفتحون به على العرب‪ .‬لكنكم امتنعتم‬
‫عن التصديق باليات‪ ،‬وعندما جاءكم بما عرفتم عنه كفرتم به‪ .‬وصار مثلكم كمثل الرجل الذي‬
‫آتاه ال اليات فانسلخ منها‪ } .‬ذِّلكَ مَ َثلُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا {‬
‫وهم بعنادهم وبغيهم وكفرهم قد كذبوا باليات الكونية التي يراها البصر؛ السماء والرض‬
‫والشمس‪ ،‬واليات المعجزات التي يثبت بها الرسول صدق بلغه عن ال‪ ،‬وكذلك آيات القرآن‬
‫التي تحمل منهج ال‪.‬‬
‫صصِ ا ْل َقصَصَ َلعَّلهُمْ يَ َتفَكّرُونَ { وعليك يا محمد أن تقصص القصص وأن تقول ما حدث‬
‫} فَا ْق ُ‬
‫وما كان‪ ،‬وأنت لن تحكي المر التافه‪ ،‬بل ستحكي ما يقال له قصص ويكون فيه عبرة؛ تنتفع بها‬
‫حركة المجتمع‪.‬‬
‫ويذيل الحق الية بقوله تعالى‪َ } :‬لعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ { ‪ ،‬ونعلم أن القرآن قد جاء فيه المر بالتفكر‬
‫والتذكر والتدبر‪.‬‬
‫والتفكر ‪ -‬كما نعرف ‪ -‬هو عمل العقل في المقارنات بين البديلت المتنوعة لِيُرَجّح بدلً على‬
‫بديل فتُعقلَ به القضايا‪.‬‬
‫والتذكر يعني إن غفلت عن هذا فتذكره‪ ،‬حتى يزيح عنك الغفلة عن القضية المعلومة‪.‬‬
‫أما التدبر فهو أيضا بحث عقلي‪ .‬فل تنظر إلى واجهة الشياء‪ ،‬بل إلى كلية الشياء من جميع‬
‫جهاتها بواجهة وجوانب وخلف‪ ،‬وما ينتج عنها‪ .‬وعلى سبيل المثال يقال‪ :‬انظر خلف العبارة‪،‬‬
‫لتجد المعنى الخفي فيما يقال‪ .‬والمثال في قول الحق‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ يَسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا‬
‫َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا‪[} ...‬البقرة‪]26 :‬‬
‫وحين تفكرنا وتدبرنا وجدنا أن معنى " فما فوقها " ل يعني العلى منها في القوة‪ ،‬بل العلى منها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في الضعف الذي أنكروه‪ .‬لذلك ل يجب أن تنظر إلى معنى ومدلول اللفظ حسب ظاهره فقط‪ ،‬بل‬
‫لما خلف اللفظ‪ ،‬ومعطياته‪.‬‬
‫صصِ ا ْل َقصَصَ َلعَّلهُمْ يَ َتفَكّرُونَ { أي يتفكرون في أسلوب توجيه المنهج؛ لعلهم يؤمنون‪ ,‬وهذه‬
‫} فَا ْق ُ‬
‫فائدة القصص‪.‬‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك‪ } :‬سَآءَ مَثَلً ا ْل َقوْمُ الّذِينَ‪{ ...‬‬

‫(‪)1118 /‬‬

‫سهُمْ كَانُوا َيظِْلمُونَ (‪)177‬‬


‫سَاءَ مَثَلًا ا ْلقَوْمُ الّذِينَ َكذّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُ َ‬

‫والحق قال فيهم من قبل‪ :‬إنهم كذبوا بآياتنا‪ ،‬وضرب لهم المثل بابن باعوراء وكان مشهورا في‬
‫أيامهم‪ ،‬لكنهم فاقوا ابن باعوراء لنه كان فردا وهم جماعة؛ لذلك ل تقل إن في المسألة تكرارا؛‬
‫لن المثل من قبل ما كان على فرد واحد‪ ،‬أوتي آيات ال فانسلخ منها‪ ،‬ولكنهم كانوا جماعة‪ .‬لذلك‬
‫فانسلخهم عن المنهج يجعل موقفهم أشد سوءا‪ { .‬سَآءَ مَثَلً ا ْل َقوْمُ الّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا }‬
‫و " ساء " أي قَبُح‪ ،‬وحين نقول‪ :‬ساء فلن؛ أي قبح أمره‪ ،‬ولكن أي أمر من أموره هو القبيح؟‬
‫فنقول‪ :‬ساء صحةً أي صار مريضا أو ساء حالً أي صار فقيرا‪ ،‬أو ساء خلقا أي صار شرسا‪،‬‬
‫وأنت حين تقول‪ :‬ساء‪ ،‬فهذا السوء عام له جوانب متعددة‪ ،‬ويقتضي المر التمييز‪.‬‬
‫و " ساء مثلً " أي ساء من جهة المثل‪ ،‬والمثل في ذاته ل يسوء؛ لن ال تعالى يضرب المثل لنا‪.‬‬
‫والمثل إنما يجيء ليبين ويشرح ويوضح‪ ،‬والمعنى هنا‪ :‬ساء مثلً حال القوم‪ .‬أو القوم أنفسهم هم‬
‫الذين ساءوا‪ .‬لنهم حين كذبوا باليات ظلموا أنفسهم‪ ،‬فالتكذيب منهم لم يعرقل منهج ال في‬
‫الرض‪ ،‬ولم يعرقلوا بالتكذيب شيئا في كون ال تعالى‪ ،‬فالكون بنظامه ونسقه يسير بإرادته‬
‫سبحانه وآيات الكون سائرة‪ .‬إذن كان تكذيبهم بآيات لن يضير أبدا في أي شيء‪ .‬والخيبة إنما تقع‬
‫عليهم‪ .‬وإن كان التكذيب في اليات المعجزات فقد بقي ذكر المعجزات إلى الن‪ .‬وهم الذين‬
‫خابوا‪ ،‬وإن كانوا قد كذبوا بآيات المنهج فهم أيضا الذين خسروا ولم يصب اليات العجازية أو‬
‫القرآنية أي شيء‪ .‬وهم قد ظلموا أنفسهم ومثلهم في ذلك مثل المريض الذي لم يسمع كلم الطبيب‬
‫فإنه يسيء إلى نفسه ولن يضر الطبيب شيء‪ ،‬وال سبحانه قد أعطانا المنهج لتستقيم به حركة‬
‫الحياة‪ ،‬فمن يأخذه ينفع نفسه‪ ،‬ومن ل يأخذه لن يضر ال شيئا‪.‬‬
‫هم إذن ظلموا أنفسهم‪ ،‬ومن يظلم نفسه كان هو أول عدو لها ولن يضر ال شيئا‪ ،‬ول الرسول‪،‬‬
‫سهُمْ كَانُواْ يَظِْلمُونَ } [العراف‪]177 :‬‬
‫ول المجتمع‪...{ .‬وَأَنفُ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحين تجد معمولً تقدم على عامله ‪ -‬قاعدة نحوية ‪ -‬فعلم أن هناك ما يسمى بالقصر في علم‬
‫البلغة‪ ،‬وقد نقول‪ " :‬يظلمون أنفسهم " ويصح أن تعطف قائلً‪ :‬ويظلمون الناس‪ .‬ولكن حين‬
‫نقول‪ :‬أنفسهم يظلمون‪ ،‬فمعنى ذلك أنه ل يتعدى ظلمهم أنفسهم‪ ،‬ويكون الكلم فيه قصر‬
‫وتخصيص‪ ،‬مثلما نقول‪ " :‬ل المر من قبل ومن بعد " ‪ ،‬أي أن المر ل يتعدى إلى غيره أبدا‪.‬‬
‫ويقول المولى سبحانه وتعالى بعد ذلك‪ { :‬مَن َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ‪} ...‬‬

‫(‪)1119 /‬‬

‫مَنْ َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِي َومَنْ ُيضِْللْ فَأُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (‪)178‬‬

‫وهذه الية هي الوحيدة التي جاء فيها سبحانه وتعالى‪ { :‬ا ْل ُمهْتَدِي } ‪ -‬بالياء ‪ -‬بينما جاء المولى‬
‫سبحانه وتعالى بكلمة " المهتد " ‪ -‬من غير ياء‪ -‬في آيات متعددة عدا هذه الية‪:‬‬
‫واقرأ قوله تعالى‪َ {:‬ومَن َي ْهدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِ‪[} ...‬السراء‪]97 :‬‬
‫سقُونَ }[الحديد‪]26 :‬‬
‫ويقول الحق‪َ ... {:‬فمِ ْنهُمْ ّمهْتَ ٍد َوكَثِيرٌ مّ ْنهُمْ فَا ِ‬
‫وكذلك تأتي الكلمة بدون " ياء " في قوله سبحانه‪... {:‬مَن َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَ ِد َومَن ُيضِْللْ فَلَن تَجِدَ‬
‫لَ ُه وَلِيّا مّرْشِدا }[الكهف‪]17 :‬‬
‫والمعركة الخاصة بقضية الهداية والضلل قائمة من قديم‪ ،‬ول تزال أيضا ذيول هذه المعركة‬
‫موجودة إلى الن‪ ،‬وأوضحنا هذه القضية من قبل ولكننا نكررها للتأكيد ولتستقر في الذهان‪ ،‬لن‬
‫هناك دائما من يقول‪ :‬إذا كان ال هو الهادي والمضل‪ ،‬فلماذا يعذبني إن ضللت؟‪ .‬وشاع هذا‬
‫السؤال وأخذه المستشرقون والفلسفة ويراد منه إيجاد مبرر للنفس العاصية غير الملتزمة‪ .‬ونقول‬
‫لكل مجادل‪ :‬لماذا قصرت العتراض على مسألة الضر والعذاب إن ضللت؟ ولماذا ل تذكر‬
‫الثواب إن أحسنت وآمنت؟‪ .‬إن اقتصارك على الولى دون الثانية دليل على أن الهداية التي‬
‫جاءت لك هي مكسب تركته وأخذت المسألة التي فيها ضرر‪ .‬ول يقول ذلك إل المسرفون على‬
‫أنفسهم‪.‬‬
‫وضرَبْنا من قَ ْبلُ أمثلةً كثيرة‪ .‬لنفرق في هذه المسائل بين المختلفين؛ لن الجهة عندهم منفكة‪ ,‬وهم‬
‫قد ناقشوا مسألة " خلق أفعال العباد " وتساءلوا‪ :‬مَنْ خلق هذه الفعال؟ هل خلقها ال أم أن العبد‬
‫يخلق أفعاله؟‪.‬‬
‫ونسأل‪ :‬ما هو الفعل؟‪ .‬إنه توجيه طاقة لحداث حدث؛ فطاقة اليد أنها تعمل أيّ عمل تريده منها؛‬
‫قد تضرب بها إنسانا أو تحمل بها إنسانا واقعا على الرض‪ ،‬أو تربت بها على اليتيم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن ففي اليد طاقة تصلح لن تفعل الخير وتفعل الشر‪ ،‬وأنت لحظة أن تضرب إنسانا؛ فأي عضلة‬
‫تحركها حين ترتفع اليد لتضرب؟‪ .‬إنك بمجرد رغبتك في أن تضرب؛ تضرب؛ عكس النسان‬
‫اللي حين يرفع شيئا‪ ،‬فله أجزاء وأزرار تعمل‪ .‬وكلها آلت‪.‬‬
‫وأنت حين تربت على كتف يتيم‪ ،‬ما هي العضاء والجهزة التي تحركها لتعمل هذا العمل؟‪ .‬إذن‬
‫فال هو الذي خلق فيك النفعال للفعل‪ .‬فإن نظرت إلى ذلك‪ ،‬فكل فعل من ال‪ ،‬ولكن توجيه‬
‫الجارحة إلى الفعل هو محل التكليف‪.‬‬
‫إذن فأنت تحاسب لنك فعلت‪ ،‬ل لنك خلقت؛ لن خالق الفعال هو ال سبحانه وتعالى‪ ،‬وأنت‬
‫تفعل بمجرد الرادة والختيار‪ ،‬مثل اللسان فيه طاقة مخلوقة لبيان ما في النفس؛ إن أردت أن‬
‫تقول بها " ل إله إل ال " صلحت‪ ،‬وصلحت كذلك عند الملحد أن يقول ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬ل يوجد‬
‫إله‪ .‬واللسان لم يعص في هذه ول في تلك‪.‬‬

‫إذن فالذي خلق قدرة الجارحة على الفعل هو ال‪ .‬وأنت توجه الجارحة‪ ،‬إذن فكل الفعال مخلوقة‬
‫ل‪ ،‬لكن توجيه الطاقة للفعل بالميل والختيار إنما يكون من العبد‪ .‬والحق سبحانه وتعالى يهدي‬
‫الجميع بالمنهج‪ ،‬ومن يقبل عليه بنيّة اليمان‪ ،‬يعينه على ذلك‪ ،‬ولذلك ل يصح أن نختلف في‬
‫مسألة مثل هذه‪ ،‬وأن نسأل من خلق الفعال‪ ،‬بل علينا أن نحدد الفعال وكيف توجد‪ ،‬وما دور‬
‫النسان فيها؛ لننا نعلم أن ال قد يسلب طاقة الفعل على الحداث‪ ،‬مثل من يريد أن يؤذي إنسانا‬
‫بيده لكنه يصاب بشلل فل يقدر أن يرفع يده‪ .‬ولو كان هو الذي يخلق لرفع يده وآذى بها من‬
‫أراد‪ ،‬لكنه ل يخلق الطاقة الصانعة للفعل‪.‬‬
‫وعلى ذلك تكون الهدايةُ نوعين‪ :‬هداية دللة‪ ،‬وهي للجميع؛ للمؤمن والكافر؛ لن الحق لم يدل‬
‫المؤمن فقط‪ ،‬بل يدل المؤمن والكافر على اليمان به‪ ،‬فمن ُيقْبل على اليمان به؛ فإن الحق تبارك‬
‫وتعالى يجد فيه أهلً للمعونة‪ .‬فيأخذ بيده‪ ،‬ويعينه‪ ،‬ويجعل اليمان خفيفا على قلبه‪ ،‬ويعطي له‬
‫طاقة لفعل الخير‪ ،‬ويشرح له صدره وييسر له آمره‪ :‬وسبحانه القائل‪ {:‬وَا ّتقُواْ اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ‬
‫اللّهُ‪[} ...‬البقرة‪]282 :‬‬
‫ويقول سبحانه وتعالى‪َ ...} :‬ومَن ُيضِْللْ فَُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ الْخَاسِرُونَ { [العراف‪]178 :‬‬
‫فإذا كان ال قد عمّم حكما ثم خصّصه‪ ،‬فالتخصيص هو الذي يحكم التعميم‪.‬‬
‫ويقول ربنا عز وجل‪ :‬إن من شاء هدايته فهو سبحانه وتعالى يعطيه الهداية‪ ،‬ومن شاء له الضلل‬
‫زاده ضللً‪ ،‬وقد بيّن أن من شاء هدايته يهتدي وهذه معونة من ال‪ ،‬والكافر ل يهتدي وكذلك‬
‫الظالم‪ ،‬والفاسق؛ لنه سبحانه قد ترك كل واحد منهم لختياره‪ ،‬وهكذا يمنع سبحانه وتعالى عنهم‬
‫هداية المعونة‪ .‬ونقرأ في القرآن الكريم ما يوضح هذه المسألة‪ ،‬فهو سبحانه يقول‪ {:‬وََأمّا َثمُودُ‬
‫َفهَدَيْنَا ُهمْ فَاسْتَحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى ا ْلهُدَىا‪[} ...‬فصلت‪]17 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والهداية التي كانت لقوم ثمود إنما هي هداية الدللة‪ ،‬وليست هداية المعونة‪.‬‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَا ُهمْ َت ْقوَاهُمْ }[محمد‪]17 :‬‬
‫أي أنه سبحانه قد زاد من اختاروا الهداية‪ ،‬بالمعونة وجعل بينهم وبين النار وقاية‪ ،‬والحق سبحانه‬
‫ك لَ َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْبتَ‪[} ...‬القصص‪]56 :‬‬
‫وتعالى يقول لرسوله‪ {:‬إِ ّن َ‬
‫أي أنك يا محمد لن تعين أحدا على الطاعة لن هذا أمر يملكه ربك‪.‬‬
‫ويقول سبحانه لرسوله‪... {:‬وَإِ ّنكَ لَ َت ْهدِي إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[الشورى‪]52 :‬‬
‫أي أنك يا محمد تهدي هدايةَ الدّللة بالمنهج الذي أنزله ال إليك‪.‬‬
‫إذن إذا رأيت فعلً أو حدثا مُثبتا لواحد ومنفياّ عنه‪ ..‬فاعلم أن الجهة منفكة‪ ،‬والكلم هنا لحكيم‬
‫عليم‪ .‬ولماذا يقول الحق سبحانه‪ } :‬مَن َيهْدِ اللّهُ َف ُهوَ ا ْل ُمهْتَدِي َومَن ُيضِْللْ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‬
‫{ [العراف‪]178 :‬‬
‫لن الحق سبحانه وتعالى حين ينصرف عن معونة عبده‪ ،‬فعلى العبد أن يواجه حركة الحياة وحده‬
‫بدون مدد من خالقه‪ .‬ويعيش وحالته كرب‪ ،‬سواء كان في يسر مادي أو في عسر‪ .‬هذا إن اعتبر‬
‫أن الدنيا هي كل شيء‪ ،‬فإذا أضيف إلى ذلك غفلته عن أن الدنيا معبر للخرة‪ ،‬فالخسارة تكون‬
‫كبيرة حقا‪.‬‬
‫جهَنّمَ كَثِيرا‪{ ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وََلقَدْ ذَرَأْنَا لِ َ‬

‫(‪)1120 /‬‬

‫ن وَالْإِنْسِ َل ُهمْ قُلُوبٌ لَا َيفْ َقهُونَ ِبهَا وََلهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُ ْبصِرُونَ ِبهَا وََلهُمْ‬
‫جهَنّمَ كَثِيرًا مِنَ ا ْلجِ ّ‬
‫وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ِل َ‬
‫ضلّ أُولَ ِئكَ ُهمُ ا ْلغَافِلُونَ (‪)179‬‬
‫س َمعُونَ ِبهَا أُولَ ِئكَ كَالْأَ ْنعَامِ َبلْ ُهمْ َأ َ‬
‫َآذَانٌ لَا يَ ْ‬

‫وذرأ‪ ،‬بمعنى بث ونشر‪ ،‬وقد قال الحق سبحانه وتعالى في أول سورة النساء‪ { :‬وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا ِرجَالً‬
‫كَثِيرا وَنِسَآءً }‬
‫كما يقول الحق أيضا‪َ { :‬يذْ َر ُؤكُمْ فِيهِ }‬
‫ن وَالِنْسِ‪[ } ...‬العراف‪:‬‬
‫جهَنّمَ كَثِيرا مّنَ ا ْلجِ ّ‬
‫وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬وََلقَدْ ذَرَأْنَا لِ َ‬
‫‪]179‬‬
‫ونعرف أن في الكون أشياء عابدة بطبيعتها وهي كل ما عدا النس والجن؛ لن كل منهما في‬
‫سلك الختيار‪ ،‬وهم من يقول عنهم ربنا في سورة الرحمن‪ { :‬سَ َنفْرُغُ َلكُمْ أَيّهَ ال ّثقَلَنِ }‬
‫وذرأنا معناها بثثنا ونشرنا وكثّرنا‪ ،‬وكلمة كثير ل تعني أن المقابل قليل‪ ،‬فقد يكون الشيء كثيرا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سجُدُ َلهُ مَن فِي‬
‫ومقابله أيضا كثير‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم‪ {:‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ‬
‫ل وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآبّ‪[} ...‬الحج‪]18 :‬‬
‫س وَا ْل َقمَرُ وَالنّجُو ُم وَالْجِبَا ُ‬
‫شمْ ُ‬
‫سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ وَال ّ‬
‫ال ّ‬
‫إذن كل الكائنات من جمادات ونباتات وحيوانات تسجد ل سبحانه وتسبحه‪ ،‬ولكن المر انقسم عند‬
‫حقّ عَلَيْهِ ا ْلعَذَابُ‪} ...‬‬
‫س َوكَثِيرٌ َ‬
‫النسان فقط‪ ،‬حيث يقول الحق في ذات الية‪َ {:‬وكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ‬
‫[الحج‪]18 :‬‬
‫أي هناك كثير يسجدون ويخضعون ل‪ .‬ومقابل ذلك كثير كفروا ولم يسجدوا وحق عليهم العذاب‪.‬‬
‫ن وَالِنْسِ }‬
‫جهَنّمَ كَثِيرا مّنَ ا ْلجِ ّ‬
‫وإذا كان المولى تبارك وتعالى يقول‪ { :‬وََلقَدْ ذَرَأْنَا ِل َ‬
‫فقد يثور في الذهان سؤال هو‪:‬‬
‫هل أنت خالقهم يا رب لجهنم‪ ،‬ماذا تستطيعون إذن؟ ول شيء في قدرتهم مادمت قد خلقتهم لذلك؟‬
‫ونقول‪ :‬ل‪ .‬ولنلفت النظار إلى أن في اللغة ما يسمى " لم العاقبة " ‪ ،‬وهو ما يؤول إليه المر‬
‫بصورة تختلف عنا كنت تقصده وتريده؛ لن القصد في الخلق هو العبادة مصداقا لقوله الحق‬
‫ن وَالِنسَ ِإلّ لِ َيعْ ُبدُونِ }[الذاريات‪]56 :‬‬
‫تبارك وتعالى‪َ {:‬ومَا خََلقْتُ ا ْلجِ ّ‬
‫ومعنى العبادة طاعة المر‪ ،‬والكف عن المنهي عنه‪ ،‬والمأمور صالح أن يفعل وأل يفعل‪ ،‬فالعبادة‬
‫‪ -‬إذن ‪ -‬تستدعي وجود طائع ووجود عاصٍ‪ ،‬وأضرب هذا المثل ول المثل العلى ومنزه‬
‫سبحانه وتعالى‪ :‬يأتي لك من يروي لمحة من سيرة إنسان ويقول لك‪ :‬لماذا يقف منك هذا الموقف‬
‫العدائي‪ ،‬أليس هو الذي أخذته معك لتوظفه؟ فترد عليه‪ " :‬زرعته ليقلعني "‪ .‬هل كان وقت مجيئك‬
‫به كنت تريده أن يقلعك؟ ل‪ .‬ولكن النتيجة والنهاية صارت هكذا‪.‬‬
‫والحق سبحانه لم يخلق البشر من أجل الجنة أو النار‪ ،‬لكنه عز وجل خلقهم ليعبدوه‪ ،‬فمنهم من‬
‫آمن وأصلح فدخل الجنة‪ ،‬ومنهم من عصى فدخل النار وهذا اسمه " لم العاقبة " ‪ ،‬أي ما صار‬
‫خفْتِ عَلَ ْيهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَمّ‬
‫إليه غير مرادك منه‪ ،‬ومثال ذلك حينما قال ال سبحانه لم موسى‪ {:‬فَإِذَا ِ‬
‫عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ‬
‫ك وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ * فَالْ َتقَطَهُ آلُ فِرْ َ‬
‫وَلَ َتخَافِي َولَ تَحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ‬
‫عَ ُدوّا‪} ...‬‬

‫[القصص‪]8-7 :‬‬
‫ك لَ َتقْتُلُوهُ‬
‫هل التقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا؟ ل‪ ،‬لن زوجة فرعون قالت‪ {:‬قُ ّرةُ عَيْنٍ لّي وََل َ‬
‫عَسَىا أَن يَ ْن َفعَنَا‪[} ...‬القصص‪]9 :‬‬
‫فقد كانت علة اللتقاط ‪ -‬إذن ‪ -‬هي أن يكون قرة عين‪ ،‬لكنه صار عدوا في النهاية‪ ،‬وهذا اسمه‬
‫‪ -‬كما قلت ‪ -‬لم العاقبة‪.‬‬
‫وهكذا ل تكون علة الخلق أن يدخل كثير من الجن والنس النار‪ ،‬في قوله الحق‪ } :‬وََلقَدْ ذَرَأْنَا‬
‫جهَنّمَ كَثِيرا مّنَ الْجِنّ وَالِنْسِ {‬
‫لِ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لن علة الخلق في الصل هي العبادة‪ ،‬والعبادة تقتضي طائعا وعاصيا‪ ،‬فالذي يطيع يدخل الجنة‪،‬‬
‫والذي يعصي يدخل النار‪ ،‬ول المثل العلى‪ ،‬أذكركم بالمثل الذي ضربته من قبل حين يسأل‬
‫وزير التعليم مدير إحدى المدارس أو عميد كلية ما عن حال الدراسة والطلبة فيقول العميد أو‬
‫المدير‪ :‬إننا نعلم جيدا من هم أهل للرسوب ومن هم أهل للنجاح وإن شئت أقول لك عليهم‬
‫وأحددهم‪ .‬لم يقل العميد أو المدير لنه يتحكم في إجابات الطلبة‪ ،‬ولكنه علم من تصرفاتهم ما‬
‫جهَنّمَ‬
‫يؤولون إليه‪ ،‬والعلم صفة انكشاف ل صفة تأثير‪ .‬وعلى ذلك فإن قوله تعالى‪ } :‬وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ِل َ‬
‫كَثِيرا مّنَ الْجِنّ وَالِنْسِ {‬
‫يعني أننا نشرنا وبثثنا لجهنم كثيرا من الجن والنس‪ ،‬وهم من يعرضون عن منهجنا‪ ،‬ثم يأتي‬
‫بالحيثيات لذلك وهي أول‪َ } :‬ل ُهمْ قُلُوبٌ لّ َي ْفقَهُونَ ِبهَا‪[ { ...‬العراف‪]179 :‬‬
‫ن لّ يُ ْبصِرُونَ ِبهَا‪[ { ...‬العراف‪]179 :‬‬
‫وثانيا‪ } :‬وََلهُمْ أَعْيُ ٌ‬
‫س َمعُونَ ِبهَآ { [العراف‪]179 :‬‬
‫ن لّ يَ ْ‬
‫وثالثا‪ } :‬وََلهُمْ آذَا ٌ‬
‫ولقائل أن يقول‪ :‬إن كانت قلوبهم مخلوقة بحيث ل تفقه فما ذنبهم هم؟‪ .‬ومادامت عيونهم مخلوقة‬
‫بحيث ل ترى فما ذنبهم؟ وكذلك مادامت الذان مخلوقة بحيث ل تسمع فلماذا يعاقبون؟‪ .‬ونقول‪:‬‬
‫ل‪ ،‬لم يخلقهم ال للعذاب‪ ،‬لكنهم انشغلوا بما استحوذ عليهم من شهواتهم‪ ،‬وصارت عقولهم ل تفكر‬
‫في شيء غيره وتخطط للحصول على الشهوة‪ ،‬وكذلك العيون ل ترى إل ما يستهويها‪ ،‬وكذلك‬
‫الذان‪ .‬وكل منهم يرى غير مراد الرؤية‪ ،‬ويسمع غير مراد السمع‪.‬‬
‫والفرق بين فقه القلب ورؤية العين وسماع الذان‪ ..‬أن فقه القلب هو فهم القضايا التي تنتهي إليها‬
‫الدراكات‪ .‬ونعلم أن الدراكات تأتي بواسطة الحواس الخمس‪ ،‬فنحن نعرف أن الحرير ناعم‬
‫باللمس‪ ،‬ونعرف أن المسك رائحته طيبة بالشم‪ ،‬ونعلم أن العسل حلو الطعم بالذوق‪.‬‬
‫إذن لكل وسيلة إدراك‪ ،‬وهي من المحسَات‪ ،‬وبعد أن تتكون المحسَات يمتلك النسان خميرة علمية‬
‫في قلبه وتنضج لتصير قضية عقلية منتهية ومسلما بها‪.‬‬
‫وكلنا يعرف أن النار محرقة؛ لن النسان أول ما يلمس النار تلسعه‪ ،‬فيعرف أن النار محرقة‪،‬‬
‫ويتحول الدراك إلى إحساس ثم إلى معنى‪ .‬إذن فالمعلومات وسائلها إلى النفس النسانية وملكاتها‬
‫الحواس الظاهرة‪ ،‬وهناك حواس أخرى غير ظاهرة مثل قياس وزن الشياء بالحمل‪ .‬وقد انتبه‬
‫العلماء لذلك واكتشفوا حاسة اسمها حاسة العضل؛ لنك حين تحمل شيئا قد تجهد العضلة أكثر إن‬
‫كان الحمل ثقيلً‪.‬‬

‫وحينما ترى واحدا من قريب وواحدا من بعيد‪ ،‬فهذه اسمها حاسة البعد‪ ،‬وكذلك حاسة البين وهي‬
‫التي تميز بها سمُك القماش مثلً‪.‬‬
‫كل الحواس ‪ -‬إذن ‪ -‬تربي المعاني عند النسان وحين تربي المعاني في النفس النسانية تتكون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫القضايا التي تستقر في القلب‪.‬‬
‫جكُم مّن ُبطُونِ‬
‫ولذلك يمتن الحق سبحانه وتعالى على خلقه بأنه علمهم فقال تعالى‪ {:‬وَاللّهُ أَخْ َر َ‬
‫شكُرُونَ }[النحل‪]78 :‬‬
‫لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫سمْ َع وَالَبْصَا َر وَا َ‬
‫ج َعلَ َلكُمُ ا ْل ّ‬
‫ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ‬
‫ب لّ َيفْ َقهُونَ ِبهَا {‬
‫ونعود إلى قول الحق تبارك وتعالى‪َ } :‬لهُمْ قُلُو ٌ‬
‫والفقه هو الفهم ويصير الفهم قضية مرجحة انتهى إليها القتناع من المرائي والمحسّات‪ ،‬لكنّ‬
‫هؤلء الكافرين ل يرون بأعينهم إلى هواهم‪ ،‬وكذلك ل تسمع آذانهم إل ما يروق لهم‪ ،‬فل‬
‫يستمعون إلى الهدى‪ ،‬ول يلتفتون إلى اليات التي يستدلون بها على الخالق فتعيش قلوبهم بل فقه‪،‬‬
‫فهم إذن لهم قلوب وأعين وآذان بدليل أنهم فقهوا بها وسمعوا بها ورأوا بها الشياء التي تروق‬
‫لنحرافهم‪.‬‬
‫ضلّ ُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلغَافِلُونَ‬
‫ويصف الحق تبارك وتعالى هؤلء فيقول‪ُ } :‬أوْلَـا ِئكَ كَالَنْعَامِ َبلْ هُمْ َأ َ‬
‫{‬
‫وهنا وقفة لثارة سؤال هو‪ :‬ما ذنب النعام التي تُشبه بها الكفار؟ إن النعام غير مكلفة وليس لي‬
‫منها قلب يفقه أو عين تبصر آيات ال أو آذان تسمع بها آيات ال‪ .‬هي فقط ترى المْرعَى فتذهب‬
‫إليه‪ ،‬وترى الذئب فتفر منه‪ ،‬وتتعود على أصوات تتحرك بها‪ ،‬وكافة الحيوانات تحيا بآلية‬
‫الغريزة‪ ،‬ويهتدي الحيوان إلى أموره النافعة له وإلى أموره الضارة به بغريزته التي أودعها ال‬
‫فيه‪ ،‬ل بعقله‪.‬‬
‫والنسان منا ل يبتعد عن الضرر إل حين يجربه ويجد فيه ضررا‪ .‬لكن الحيوان يبتعد عن الضر‬
‫من غير تجربة بل بالغريزة‪ ،‬لن الحيوان ليس له عقل وكذلك ليس له قدرة اختيار بين البديلت‪،‬‬
‫وفطره ال على غريزة تُسَيّر ُه إلى مقومات صالحة‪ ،‬ومثال ذلك‪ :‬أنه قد يوجد الحيوان في بيئة ما‪،‬‬
‫ويعطي ال له لونا يماثل لون هذه البيئة ليحمي نفسه من حيوانات أقوى منه‪.‬‬
‫ومثال آخر‪ :‬نحن نعلم أن الحيوان مخلوق لينفع النسان‪ ،‬ولبد أن يتناسل ليؤدي ما يحتاج إليه‬
‫النسان من ذرية هذا الحيوان ويمارس الحيوان العملية الجنسية كوسيلة للتناسل وليست كما هي‬
‫في النسان‪ ،‬حيث تصير في بعض الحيان غاية في ذاتها‪ ،‬بجانب أنها وسيلة للنسل‪ .‬ولذلك نجد‬
‫كثيرا من ظواهر الحياة المتعلقة بالنسان قد تعلمها من الحيوان مثلما قال الحق تبارك وتعالى‪{:‬‬
‫سوْ َءةَ َأخِيهِ‪[} ...‬المائدة‪]31 :‬‬
‫حثُ فِي الَ ْرضِ لِيُرِيَهُ كَ ْيفَ ُيوَارِي َ‬
‫فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا يَ ْب َ‬
‫إذن فالغراب َمهْ ِديّ بغريزته إلى كل متطلباته‪ ،‬ولذلك نجد من يقول‪ :‬كيف نشبه الضال بالنعام؟‬
‫نقول‪ :‬إن الضال يختلف عن النعام في أنه يملك الختيار وقد رفع فوق النعام‪ ،‬لكنه وضع نفسه‬
‫موضع النعام حين لم يستخدم العقل كي يختار به بين البدائل‪.‬‬

‫وبذلك صار أضل من النعام‪ ،‬وكلمة " أضل " تبين لنا أن النعام ليست ضالة‪ ،‬لنها محكومة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالغريزة ل اختيار لها في شيء‪ .‬لكن الكفار الذين ذرأهم ربنا لجهنم من الجن والنس‪ ،‬ل يعرفون‬
‫شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ‬
‫ربهم‪ ،‬بينما النعام‪ ،‬والجمادات والنباتات تعرف ربها لن الحق يقول‪ {:‬وَإِن مّن َ‬
‫ح ُهمْ‪[} ...‬السراء‪]44 :‬‬
‫حمْ ِدهِ وَلَـاكِن لّ َتفْ َقهُونَ تَسْبِي َ‬
‫بِ َ‬
‫إذن فالنعام تعرف ربنا وتسبحه وتحمده‪ .‬وفي آية أخرى يقول المولى تبارك وتعالى‪ُ {:‬كلّ قَدْ عَلِمَ‬
‫حهُ‪[} ...‬النور‪]41 :‬‬
‫صَلَتَ ُه وَتَسْبِي َ‬
‫وعلى ذلك فكل الجماد ‪ -‬إذن ‪ -‬بعلم صلته وتسبيحه‪.‬‬
‫ولذلك قصصنا قصة من قصص العارفين بال حين يجلسون مع بعضهم البعض كوسيلة تنشيط‬
‫إلى غايات وأهداف سامية‪ .‬والعارف بال من هؤلء الصالحين يستقبل الحسن منه في العبادة‬
‫بالضحك‪ ،‬أما الحسن منه في أمور الدنيا فيستقبله " بالتكشير " ‪ ،‬وقال واحد منهم لخر‪ :‬أتشتاق‬
‫إلى ربك؟ فرد عليه‪ :‬ل‪.‬‬
‫تساءل الخر‪ :‬كيف تقول ذلك؟‪.‬‬
‫ضلّ ُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ ا ْلغَافِلُونَ‬
‫قال له‪ :‬نعم‪ .‬إنما ُيشْتَاقٌ إلى غائب‪ُ ...} .‬أوْلَـا ِئكَ كَالَ ْنعَامِ َبلْ هُمْ َأ َ‬
‫{ [العراف‪]179 :‬‬
‫ول تظنن أن الضلل لعدم وجود منهج‪ ،‬أو لعدم مُ َذكّر‪ ،‬أو لعدم وجود مُنْذ ٍر أو مُ َبشّر‪ .‬بل هي‬
‫غفلة منهم‪ ،‬فالمور واضحة أمامهم‪ ،‬لكنهم يهملونها و َيغُفلون عنها‪.‬‬
‫حسْنَىا‪{ ...‬‬
‫سمَآءُ الْ ُ‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَللّ ِه الَ ْ‬

‫(‪)1121 /‬‬

‫سمَا ِئهِ سَ ُيجْ َزوْنَ مَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‬


‫سمَاءُ ا ْلحُسْنَى فَادْعُوهُ ِبهَا وَذَرُوا الّذِينَ ُيلْحِدُونَ فِي أَ ْ‬
‫وَلِلّهِ الَْأ ْ‬
‫‪)180‬‬

‫سمَآءُ الْحُسْنَىا } نقول‪ :‬أنه ل يوجد لغير ال اسم‬


‫وحين يقول المولى سبحانه وتعالى { وَللّ ِه الَ ْ‬
‫يوصف بأنه من الحسنى‪ ،‬إن قلت عن إنسان إنه " كريم " ‪ ،‬فهذا وصف‪ ،‬وكذلك إن قلت إنه "‬
‫حليم " ‪ ،‬وكلها صفات عارضة في حادث‪ ،‬ول تصير أسماء حسنى إل إذا وصف ال بها‪ .‬فأنت‪-‬‬
‫مثل‪ -‬لك قدرة تفعل أفعالً متعددة‪ ،‬ول قدرة‪ ،‬لكن قدرتك حادثة من الغيار‪ ،‬بدليل أنها تسلب‬
‫منك لتصير عاجزا‪ ،‬أما قدرة ال تعالى فلها طلقة ل يحدها شيء‪ .‬فهي قدرة مطلقة‪ .‬وأنت قد‬
‫تكون غنيا‪ ،‬لك غنى‪ ،‬ول غنى‪ ،‬لَكنّ ثراءك محدود‪ ،‬وأمّا غنى ال فإنه غير محدود‪.‬‬
‫إذن السماء الحسنى على إطلقها هي ل‪ ،‬وإن وجدت في غيره صارت صفات محدود ًة مهما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآءُ ا ْلحُسْنَىا فَادْعُوهُ ِبهَا }‬
‫اتسعت‪ { .‬وَللّهِ الَ ْ‬
‫والحسنى‪ ..‬تأنيث لكلمة " الحسن " اسم تفضيل‪ ،‬وهي السماء الحسنى في صلحية اللوهية لها‪،‬‬
‫وصلحيتها لللوهية‪ .‬وحين تقول عنه سبحانه‪ :‬إنه " رحيم " ‪ ،‬فهذا أمر أحسن عندي وعندك‬
‫لنني أنظر إلى رحمته لي‪ ،‬وأنت تنظر إلى رحمته لك‪ .‬وحين تقول‪ " :‬غفار " فأنت وأنا وكل من‬
‫يسمعها تعود عليه‪.‬‬
‫وحين تقول‪ " :‬قهّار " وأنت مذنب ستخاف‪ ،‬وهي صفة حسنى بالنسبة للله؛ لن الله لبد أن‬
‫تكون له صفات جمال وصفاتُ جلل‪ ،‬فصفات الجمال لمن أطاع‪ ،‬وصفات الجلل لمن عصى‪.‬‬
‫ولذلك ل تأخذ النعم بمدلولها عندك‪ ،‬بل خذ النعم بمرادات ال تعالى فيها‪.‬‬
‫وساعة يتكلم الحق سبحانه وتعالى قائل‪ {:‬سَ َنفْ ُرغُ َلكُمْ أَيّهَ ال ّثقَلَنِ*فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ*يا َمعْشَرَ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ فَانفُذُواْ لَ تَنفُذُونَ ِإلّ‬
‫طعْ ُتمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ َأقْطَارِ ال ّ‬
‫الْجِنّ وَالِنسِ إِنِ اسْتَ َ‬
‫شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ*فَبَِأيّ آلءِ‬
‫سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ‬
‫بِسُ ْلطَانٍ*فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ*يُرْ َ‬
‫رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن‪]36-31 :‬‬
‫فهل إرسال الشواظ من النار والنحاس نعمة يقول بعدها‪ { :‬فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }؟‬
‫نقول‪ :‬نعم‪ ،‬هي نعمة كبيرة‪ ،‬لنه سبحانه وتعالى ينبهنا قبل أن توجد النار‪ ،‬أن النار قوية‪ ،‬ويعطي‬
‫لك نعمة العظة والعتبار‪ .‬وعظته وتنبيهه ‪ -‬إذن ‪ -‬قبل أن توجد النار نعمة كبرى‪ ،‬وأيضا هي‬
‫نعمة بالنسبة للمقابل‪ ،‬فحين يطيعه المؤمنون في الدنيا ويلزمون أنفسهم بمنهج ال‪ ،‬فلهم ثواب حق‬
‫اللتزام‪ ،‬والمقابل لهم الذين لم يلتزموا وأخذوا الخروج عن المنهج غاية‪ ،‬يتوعدهم سبحانه‬
‫سمَآءُ الْحُسْنَىا فَادْعُوهُ ِبهَا }‬
‫بالعقاب‪ ،‬وهذه نعمة كبرى‪ { .‬وَللّ ِه الَ ْ‬
‫والحق سبحانه وتعالى عرفنا اسمه بالبلغ منه‪ ،‬لننا قد نعرف مسماه من القوى القادرة وهي التي‬
‫تعرف بالعقل‪ ،‬لكن العقل ل يقدر أن يعرف السم‪ .‬وسبق أن قلت‪ :‬لنفترض أن أناسا يجلسون في‬
‫حجرة ثم طرق الباب‪ .‬هنا يجمع الكل على أن طارقا بالباب‪ ،‬لكن حين دخلوا في التصور‬
‫اختلفوا‪ ،‬فواحد يقول‪ :‬إن الطارق رجل‪ ،‬فيرد الخر‪ :‬ل إنها امرأة لن نقرتها خفيفة‪ ،‬ويقول ثالث‪:‬‬
‫هذه النقرة على الباب تأتي من أعله وهي دليل على أن الطارق ضخم‪ ،‬وهو نذير لنه يطرق‬
‫بشدة‪ ،‬ويختلف تصور كل الحضور عن الطارق‪ ،‬ول أحد يعرف اسمه‪.‬‬

‫إذن حين تريد أن تعرف من الطارق‪ ،‬فأنت تسأله من أنت؟ فيقول لك " اسمه "‪.‬‬
‫إذن فإن السم ل يدرك بالعقل‪ .‬ومن خلق الخلق كله قوي‪ ،‬قادر‪ ،‬حكيم‪ ،‬عليم‪ ،‬لن عملية الخلق‬
‫تقتضي كل هذا‪ .‬أما اسم ال‪ .‬فهذه مسألة ل يعرفها العقل وتحتاج إلى توقيف‪ .‬إذن فأسماء ال‬
‫تبارك وتعالى توقيفية‪ ،‬فحين يقول لنا‪ :‬هذه أسمائي فإننا ندعوه بها‪ ،‬وما لم يقل لنا عليه ل دعوة‬
‫لنا به‪ ،‬ولذلك يقول تعالى‪ } :‬فَادْعُوهُ ِبهَا {‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا أنت نقلت هذا إلى غيره‪ .‬فأنت تدعو بالسماء الحسنى سواه‪ ،‬مثلً كذاب اليمامة مسيلمة سمى‬
‫نفسه الرحمان‪ ،‬وبذلك ألحد في اسم ال حيث نقل أحد أسماء ربنا إلى ذاته‪ ،‬ومثله فعل غيره‪ ،‬ألم‬
‫يسموا " اللت " من ال؟‪ .‬ألم يسموا " العزّى " من العزيز؟‪ .‬ألم يسموا " مناة " من المنان؟‪ .‬كل‬
‫هؤلء ألحدوا في أسماء ال التي ل ندعو غيره بها‪ ،‬ولذلك ورد عنه صلى ال عليه وسلم قوله في‬
‫ي قضاؤك‬
‫دعآئه‪ " :‬اللهم أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك‪ ،‬عدل ف ّ‬
‫أسألك بكل اسم هو لك‪ ،‬سميت به نفسك‪ ،‬أو أنزلته في كتابك‪ ،‬أو علمته أحدا من خلقك‪ ،‬أو‬
‫استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلء همي وذهاب‬
‫حزني وغمي "‬
‫إذن فهذه السماء وضعها ربنا لنفسه‪ ،‬لنها ل تعرف بالعقل‪ .‬أما إذا نظرت إلى الوصاف‬
‫المبدعة للخلق فأنت تتعرف على هذه الوصاف؛ لنه تعالى خلق الكون بحكمة وتدبير وقدرة‪.‬‬
‫وأضرب هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬نحن نؤسس مصانع كثيرة وكبيرة لتصنع المصابيح‪،‬‬
‫فنصنع زجاجا ونفرغه من الهواء‪ ،‬ونضع داخله أسلكا تتحمل ذبذبة الكهرباء‪ ،‬وبعد استخدام هذه‬
‫المصابيح لفترة تفسد‪ ،‬بينما الشمس تضيء الكون كل هذا العمر‪ ،‬من بدء الخلق‪ ،‬ول تحتاج منا‬
‫إلى قطعة غيار‪.‬‬
‫وحين نقول هو‪ " :‬حكيم " ‪ ،‬نقولها ونرى أثر ذلك في حركة الكواكب التي تسير منسجمة‪ ،‬وكل‬
‫كوكب يدور في فلكه ول يصطدم بآخر‪ ،‬وهذا دليل على أن الكواكب قد خلقت بحكمة‪.‬‬
‫حسْنَىا فَادْعُوهُ‬
‫سمَآءُ الْ ُ‬
‫وينبهنا الحق سبحانه وتعالى أن ندعوه بالسماء الحسنى في قوله‪ } :‬وَللّ ِه الَ ْ‬
‫عدْم‪.‬‬
‫عدَم‪ ،‬وأمد من ُ‬
‫ِبهَا { لنه يريد من خلقه دائما أن يذكروه؛ لنه هو الرب الذي خلق من َ‬

‫وصان الخلق بقيوميتة‪ ،‬وحين تأتي لك حاجة وجب عليك أن تذكر أسماء ال الحسنى وتنادي ال‬
‫بها‪ ،‬وحين تريد أن تتقرب إلى ال ل تناديه إل بالسم الذي وضعه لنفسه وهو " ال " ‪ ،‬لن هذا‬
‫هو اسم علم على واجب الوجود‪ ،‬وأسماء ال الحسنى كلها صفات وصلت إلى مرتبة السماء‪،‬‬
‫وهناك أسماء تدل على مجموع الصفات‪.‬‬
‫ول المثل العلى‪ :‬أنت تقول‪ " :‬زيد " فيعرف السامع أن هذا اسم علم على شخص اسمه زيد‪ ،‬ثم‬
‫له صفات أخرى‪ ،‬كأن يكون تاجرا‪ ،‬أو عالما متفقها في العلم‪ ،‬أو مهندسا‪ .‬لكن السم العلم هو زيد‬
‫وهو الذي ل يشترك معه أحد من معارفك فيه وهو زيد‪ ،‬لكن الصفات الخرى قد يشترك معه‬
‫فيها غيره‪.‬‬
‫والسماء ل نوعان‪ ،‬اسم يدل على ذات ال‪ ،‬الذات المجردة عن أي شيء وهو ال‪ ،‬ولكن هناك‬
‫صفات ل مثل الرحمن والرحيم والملك والقدوس والسلم والمؤمن والمهيمن‪ ،‬وهذه صفات ارتقت‬
‫في السمو والعلو لنه ل أعلى منها‪ ،‬حتى أصبحت إذا أطلقت إطلق الكمال العلى ل تنصرف‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إل ل‪ .‬فصارت أسماء‪.‬‬
‫قد نقول فلن غني‪ ،‬وفلن كريم‪ ،‬وفلن حكيم‪ ،‬لكن الغنى على إطلقه هو ل تعالى‪.‬‬
‫والسماء الحسنى ناشئة من صفات مبالغة في العلو فيها‪ ،‬لنه سبحانه الكمل فيها وهي في‬
‫الصل صفات لها متعلقات فعلية‪ ،‬وهذه نوعان اثنان‪ :‬نوع يطلق على ال منها اسم ومقابله‪ ،‬ونوع‬
‫يطلق عليه السم ول يطلق عليه المقابل‪ ،‬ونأتي بصفة شبيهة بالشتقاق‪ ،‬فنقول‪ " :‬غني " ‪،‬‬
‫ونقول‪ " :‬مغني " فهو غني في صفة ذاته قبل أن يوجد من يُغنيه‪ ،‬ومغني وجدت بعد وجود من‬
‫يُغنيه من عباده‪ ،‬وسبحانه حي في ذاته‪ ،‬ومحيي لغيره‪ ،‬والحياء صفة فعل في الغير‪ .‬ولبد لها‬
‫من مقابل‪ ،‬فنقول‪ :‬محيي ومميت‪ .‬ولم نقل حي ومقابله‪ ،‬الغير‪ .‬إذن فالسم الذي ترى له مقابلً هو‬
‫صفات الفعل‪ ،‬أما صفات الذات فهي التي ل يوجد لها المقابل‪ .‬ويلحدون في أسماء ال أي يُميلونها‬
‫إلى غير ال وينقلها الواحد منهم لغير ال أو يأتي باسِم للغير ويطلقه على ال‪ ،‬أو يطلق اسما ليس‬
‫له معنى أو ل يُفهَم منه أي معنى على ال‪ .‬إذن " اللحاد " يأتي في ثلثة أشياء‪ :‬إما أن ينقل أحد‬
‫أسماء ال إلى غير ال‪ ،‬أو يأتي باسم للغير ويطلقه على ال‪ ،‬أو يطلق اسما ل من غير أن يكون‬
‫سمَآ ِئهِ سَ ُيجْ َزوْنَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ {‬
‫قد أنزله ال توقيفيا‪ } .‬وَذَرُواْ الّذِينَ ُيلْحِدُونَ فِي أَ ْ‬
‫ونعلم أن " العمل " هو اسم للحدث من أي جارحة؛ فنطق اللسان عمل‪ ،‬وشم النف عمل‪ ،‬ونعلم‬
‫أن هناك ما يسمى بـ[قول وفعل]‪ ،‬والفعل عمل الجوارح ما عدا اللسان؛ والقول عمل اللسان‪،‬‬
‫والثنان يطلق عليهما عمل‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪ :‬تبارك وتعالى في سورة الصف‪:‬‬

‫{ ِلمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الية‪.]2 :‬‬


‫إذن فالقول مقابله الفعل‪ ،‬والجزاء هنا على الفعل والقول لن كليهما عمل‪.‬‬
‫وإذا كان ل أسماءُ كثيرةٌ‪ ،‬فهل يجوز هنا لنا أن نأخذ من فعل ال في شيء اسما له؟ وخصوصا‬
‫سمَآءَ كُّلهَا‪[} ...‬البقرة‪]31 :‬‬
‫انه القائل‪ {:‬وَعَلّمَ ءَا َد َم الَ ْ‬
‫وهو القائل أيضا‪ {:‬وَعَّل َمكَ مَا لَمْ َتكُنْ َتعْلَمُ‪[} ...‬النساء‪]113 :‬‬
‫هل يمكن أن نقول‪ :‬إن ال معلم؟ وهل يصح أن نأخذ من قوله‪ {:‬وََأكِيدُ كَيْدا }[الطارق‪]16 :‬‬
‫اسما هو كائد؟‬
‫ل يجوز ذلك لن أسماء ال توقيفية‪ ،‬وإن رأيت فعلً منسوبا ل فقف عند الفعل فقط ول تأخذ منه‬
‫اسما ل تعالى‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬و ِممّنْ خََلقْنَآ ُأمّةٌ َي ْهدُونَ‪{ ...‬‬

‫(‪)1122 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ق وَبِهِ َي ْعدِلُونَ (‪)181‬‬
‫َو ِممّنْ خََلقْنَا ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِا ْلحَ ّ‬

‫ن وَالِنْسِ } أراد أن يطمئن أهل منهج ال‪،‬‬


‫جهَنّمَ كَثِيرا مّنَ ا ْلجِ ّ‬
‫وبعد أن قال سبحانه‪ { :‬وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ِل َ‬
‫فلم يقل‪ " :‬كل الناس " ‪ ،‬بل كثير من الجن والنس " ‪ ،‬وعرفنا المقابل يكون كثيرا أيضا بدليل‬
‫علَيْهِ ا ْلعَذَابُ }أي كثير من الناس‬
‫قوله تعالى في سورة الحج‪َ {:‬وكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ َوكَثِيرٌ حَقّ َ‬
‫يسجدون ل وكثير حق عليهم العذاب‪.‬‬
‫ق وَبِهِ َيعْ ِدلُونَ } [العراف‪]181 :‬‬
‫حّ‬‫ويعني قول الحق تبارك وتعالى‪َ { :‬ومِمّنْ خََلقْنَآ ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِالْ َ‬
‫أن كون ال ل يخلو من هداة مهديين‪ ،‬لتستمر السوة السلوكية في المجتمع‪ .‬والسوة السلوكية في‬
‫المجتمع هي التي تربي عقائد المواجيد عند الصغار‪ ،‬فالصغير ل يعرف كيف يصلي‪ ،‬ول كيف‬
‫يصوم‪ ،‬ول يميز بين الكذب والصدق ولكنّه يتعلم بالتقليد لوالديه‪ ،‬فالطفل حين يرى والده وأمه‬
‫ساعة َيؤَذّنُ للصلة يقوم كل منهما إلى الوضوء وأداء الصلة‪ ،‬هنا يتعلم الطفل كيفية الصلة‪،‬‬
‫وحين يتكلم إنسان في سيرة آخر‪ ،‬يقول الب أو الم‪ :‬ل داعي للخوض في سيرة الخرين حتى ل‬
‫نحبط حسناتنا؛ بذلك يتعلم الطفل كيف يصون لسانه عن الخوض في سيرة الغير‪ ،‬لن السوة‬
‫السلوكية تنضح عليه‪ ،‬بدليل أن الصغير الذي لم يبلغ مبلغ الفهم إذا سمع المؤذن بعد ذلك يقوم من‬
‫نفسه ليُحضر سجادة الصلة ويقلد والده ووالدته‪.‬‬
‫ونفهم من قوله تعالى‪ { :‬وَبِهِ َيعْدِلُونَ }‬
‫إنهم في حكمهم على الشياء يقيمون العدل بالحق‪ ،‬أو أن يكون العدل هو نفي الشرك‪ ،‬وقد يكون‬
‫العدل في مسألة الكبائر‪ ،‬أو يقيمون العدل في مسألة الحقوق بين الناس‪َ { .‬و ِممّنْ خََلقْنَآ ُأمّةٌ }‬
‫وقوله في الية الكريمة‪ " :‬أمة " يعني أن صفات الكمال المنهجية أكثر من أن يحيط بها واحد‬
‫لينفذها كلها‪ ،‬فكل واحد له جزء يقوم به‪ ،‬فهناك من يتميز بالصدق‪ ،‬وآخر في الشجاعة‪ ،‬وثالث في‬
‫الكرم‪ ،‬وهكذا تبقى السوة في مجموع الصفات الحسنة‪ ،‬وقد ميز ال سيدنا إبراهيم ‪ -‬على نبينا‬
‫وعليه السلم ‪ -‬فقال‪ {:‬إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتا لِلّهِ حَنِيفا وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[النحل‪]120 :‬‬
‫حقّ‬
‫أي أنه جامع لخصال الخير التي ل توجد إل في مجتمع واسع‪َ { ،‬ومِمّنْ خََلقْنَآ ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِالْ َ‬
‫وَبِهِ َيعْدِلُونَ }‬
‫وأي أمة من أمم الرض ‪ -‬إذن ‪ -‬هي التي تهدي بالحق؟ لقد سبحانه في قوم موسى!{ َومِن َقوْمِ‬
‫مُوسَىا ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِا ْلحَقّ‪[} ...‬العراف‪]159 :‬‬
‫ثم جاءت أمة محمد صلى ال عليه وسلم ول رسول بعده‪ ،‬لذلك تظل هذه المة المسلمة مأمونة‬
‫على صيانة منهج ال إلى قيام الساعة‪.‬‬
‫فإذا رأيت إلحادا انتشر فاعلم أن ل مددا‪ ،‬وكلما زاد الناس في اللحاد‪ ،‬زاد ال في المدد‪ ،‬وحتى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إن صارت بلد مسلمة غارقة في الفسق فقد يكون فيها واحد يجمع كل هذه الصفات الكريمة‬
‫الهادية إلى الحق لتبقى شريعة ال مصونة بالسلوكيين التابعين لمنهج ال‪.‬‬

‫إذن فالحق سبحانه وتعالى ترك للفساد أن يصنع الشر‪ ،‬ولسائل أن يسأل‪ :‬ما لزوم هذا الشر في‬
‫كون خلقه ال على هيئة محكمة؟ نقول! لول أن الناس يضارون بالشر؛ لما تنبهوا إلى حلوة‬
‫الخير‪ ،‬ولو أن النسان لم يصب من أصحاب الباطل بسوء؛ ما تحمس للحق أحدٌ‪ ،‬ول عرف‬
‫الناسُ ضرورة أن يتأصل الحق في الوجود‪ ،‬فللشر ‪ -‬إذن ‪ -‬رسالته في الوجود‪ .‬وهو أن يهيج‬
‫إلى الخير‪ ،‬فكما ذرأ ال لجهنم كثيرا من الجن والنس؛ أوضح سبحانه وتعالى في قوله‪َ } :‬و ِممّنْ‬
‫ق وَبِهِ َيعْدِلُونَ { في الحكم‪ ،‬عدلً في القمة؛ وهو أل يشركوا بال شيئا‪،‬لن‬
‫حّ‬‫خََلقْنَآ ُأمّةٌ َي ْهدُونَ بِالْ َ‬
‫أول مخالفة لقضية العدل هي مخالفة الشرك وهو ظلم عظيم‪ ،‬فالشرك والعياذ بال ينقل المر من‬
‫مستحقه إلى غير مستحقه‪ ،‬وكذلك تحريم ما أحل ال‪ ،‬أو حل ما حرم ال‪ ،‬وكل ذلك ظلم‪ ،‬وكذلك‬
‫عدم حفظ التوازن في الحقوق بين الناس‪ ،‬فإن لم يحصن العدل بحفظ الحقوق بين الناس من حاكم‬
‫وولي ومسلط؛ سنجد كل إنسان وهو يضن بجهده في الحياة يكتفي بأن يصنع على قدر حاجته‬
‫بحيث ل يترك للظالم أن يأخذ منه شيئا‪ ،‬فل يتحرك في الحياة إل حركة محدودة‪ ،‬ول يعمل إل‬
‫بقدر ما يكفيه فقط‪ ،‬فإذا ما حدث ذلك؛ فلن يجد الضعاف الذين ل يقدرون على الحركة النتاجية‬
‫أي فائض ليعيشوا به‪.‬‬
‫إذن أراد ال أن يضمن بالعدل عَرَق وتعب كل واحد‪ .‬فأوضح له أن ما تكسبه من حل هو ملك‬
‫لك‪َ .‬لكِنْ ل حق فيه‪ ،‬وأنت لك الباقي‪ ،‬حتى يجد الضعيف الذي ل يقدر على حركة الحياة من‬
‫يقيته‪ ،‬ولذلك يحذرك المنهج اليماني بقوله‪ :‬إياك أن تستكثر أن تدفع للضعيف‪ ،‬لن ُقوّتَك التي‬
‫استعملتها في تحصيل هذا المال إنما هي عرض ل يدوم لك‪ ،‬فإن أخذنا منك وأنت قويّ قادر على‬
‫الحركة‪ ،‬سنأخذ لك حينما تكون عاجزا ل تقدر على الحركة‪ ،‬وذلك هو التأمين والعدالة‪.‬‬
‫وبالنسبة للمة في تلك الية } َو ِممّنْ خََلقْنَآ ُأمّةٌ َي ْهدُونَ بِا ْلحَقّ وَبِهِ َيعْدِلُونَ {‬
‫فقد جاء في الثار أن المراد بالمة في هذه الية المة المحمدية‪ ،‬قال قتادة‪ :‬بلغني " أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم كان يقول‪ :‬إذا قرأ هذه الية‪ :‬هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها "‬
‫ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون "‬
‫ويخاطب النبي صلى ال عليه وسلم صحابته بقوله‪ :‬هذه لكم‪ ،‬أي في أمتكم ويؤكد ذلك قول ال‬
‫جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ‪[} ...‬آل‬
‫سبحانه وتعالى‪ {:‬كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ‬
‫عمران‪]110 :‬‬
‫وكلمة " للناس " هنا تفيد أن ال لم يجعل خيرية المة المحمدية وهي أمة الجابة للمؤمنين فقط‪،‬‬
‫ق وَبِهِ َيعْدِلُونَ {‬
‫حّ‬‫خَلقْنَآ ُأمّةٌ َيهْدُونَ بِالْ َ‬
‫بل جعل خيريتها للناس جميعا؛ مؤمنهم وكافرهم‪َ } .‬و ِممّنْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وذكر " أمة " لن خصال الخير ل يمكن أن تجتمع في إنسان واحد‪ ،‬بل كل واحد يأخذ لمسة من‬
‫خير‪ ،‬هذا فيه ذكاء‪ ،‬وذاك فيه شجاعة‪ ،‬وذاك عنده مال‪ ،‬وذلك له خلق‪ .‬فكأن المة المحمدية قد‬
‫وجد في أفرادها ما يجمع المواهب الصالحة للخلفة في الرض‪.‬‬
‫ويأتي الحق بعد ذلك بمقابلهم‪ ،‬لن مجيء الشيء بمقابله أدعى إلى أن يتمكن من النفس فيقول‬
‫سبحانه‪ } :‬وَالّذِينَ كَذّبُواْ‪{ ...‬‬

‫(‪)1123 /‬‬

‫جهُمْ مِنْ حَ ْيثُ لَا َيعَْلمُونَ (‪)182‬‬


‫وَالّذِينَ كَذّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْ َتدْرِ ُ‬

‫وهؤلء هم المقابلون للذين خلقهم ال أمة يهدون بالحق وبه يعدلون‪ ،‬واليات جمع آية‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن‬
‫اليات التي في الكون ثلث؛ آيات تنظرها تهتدي بها إلى من صنع ذلك الكون المترامي‬
‫الطراف بتلك الدقة العظيمة‪ ،‬وذلك الحْكام المتقن‪ ،‬آيات تلفتك مثل الليل والنهار والشمس‬
‫والقمر‪ ،‬وكذلك آيات تخرق ناموس الكون لتثبت صدق الرسول بالبلغ عن ال‪ ،‬وآيات قرآنية‬
‫تحمل منهج ال‪ .‬والذين كذبوا بآيات ال الكونية ولم يعتبروا بها‪ ،‬ولم يستنبطوا منها وجود إله‬
‫قوي قادر حكيم‪ ،‬وكذبوا اليات المعجزات لصدق النبوة‪ ،‬وكذلك كذبوا آيات القرآن فلم يعملوا‬
‫بها‪ ،‬ولم يتمسكوا بها؛ هؤلء يلقون الحكم من ال فلن يدخلهم الحق النار فقط‪ ،‬بل لهم عذاب أقرب‬
‫من ذلك في الدنيا‪ ،‬لن المسألة لو أجلت كلها للخرة لستشرى بغي الظالم الذي ل يؤمن بالحياة‬
‫الخرة‪ ،‬لكن من يؤمن بالخرة هو من سيحيا بأدب اليمان في الكون‪ ،‬وتكون حركته جميلة‬
‫متوافقة مع المنهج‪ .‬عكس من يعربد في الكون؛ لذلك لبد أن يأتي العقاب لمن يعربد في الكون‬
‫أثناء الحياة الدنيا‪ ،‬وسبحانه وتعالى القائل‪ {:‬وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ عَذَابا دُونَ ذَِلكَ‪[} ...‬الطور‪]47 :‬‬
‫أي أن لهم عذابا قبل الخرة‪.‬‬
‫ث لَ َيعَْلمُونَ‬
‫ج ُهمْ مّنْ حَ ْي ُ‬
‫ويقول الحق بعد ذلك عن العذاب في الدنيا‪ { :‬وَالّذِينَ َكذّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْ َتدْرِ ُ‬
‫}‬
‫وحين تقول‪ :‬أنا استدرجت فلنا‪ ،‬فأنت تعني أنك أخذت تحتال عليه حتى يقر بما فعل‪ ،‬مثل وكيل‬
‫النيابة حين يحقق مع المجرم‪ ،‬ويحاصره بالسئلة من هنا‪ ،‬ومن هناك‪ ،‬إلى أن يقر ويعترف‪ ،‬وهذا‬
‫هو الستدراج‪ .‬و " الستدراج " من الدرج ونسميه في لغتنا اليومية " السلّم " وهو وسيلة للنتقال‬
‫من أسفل إلى أعلى ومن أعلى إلى أسفل فمن المستحيل على النسان أن يقفز بخطوة واحدة إلى‬
‫الدور الخامس مثل في عمارة ما‪ ،‬ولذلك صمموا الصعود على درجات إلى مستويات متعددة على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وفق الحركة العادية للنفس‪ ،‬وهناك من يجعل علو الدرجة مثلً اثنى عشر سنتيمترا بحيث يستطيع‬
‫كل إنسان أن يرفع قدمه ويضعها على الدرج دون إرهاق النفس‪ ،‬وهذا يعني أننا نستدرج العلو‬
‫لنصل إليه أو ننزل منه‪.‬‬
‫وقد خصوا في الخرة الجنة بالدرجات العليا‪ ،‬والنار بالدرجات السفلى‪.‬‬
‫ث لَ َيعَْلمُونَ } [العراف‪]182 :‬‬
‫جهُمْ مّنْ حَ ْي ُ‬
‫وهنا يقول الحق‪ { :‬وَالّذِينَ كَذّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْ ِر ُ‬
‫أي نأخذهم درجة درجة‪ ،‬ونعطي لهم نعمة ثم نرهقهم بما وصلوا إليه‪ ،‬كما قال سبحانه من قبل‪{:‬‬
‫حَتّىا ِإذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ َأخَذْنَا ُهمْ َبغْتَةً‪[} ...‬النعام‪]44 :‬‬
‫لن ال حين يريد أن يعاقب واحداَ على قدر جرمه في حق أخيه النسان في الدنيا يأخذه من أول‬
‫علِ‪ {.‬فََلمّا نَسُواْ مَا‬
‫جرم؛ لن الخذة في هذه الحالة ستكون لينة‪ ،‬لكنه يملي له ويعليه ثم يلقيه من َ‬
‫شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً‪[} ...‬النعام‪]44 :‬‬
‫ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫وهكذا يكونُ الخذ أخذ عزيز مقتدر‪.‬‬
‫وحينَ يستدرج البشرُ‪ ،‬فإن الطرف المستدرج له أيضا ذكاء‪ ،‬ويعرف أن هذا نوع من الكيد وفخ‬
‫منصوب له‪ ،‬لَكنْ حين يكون ربنا القوي العزيز هو الذي يستدرج فلن يعرف أحد كيف يفلت‪.‬‬
‫ث لَ َيعَْلمُونَ }؛ لن البشر يعلمون طرق‬
‫جهُمْ } هي قوله‪ { :‬مّنْ حَ ْي ُ‬
‫والعلة في قوله‪ { :‬سَنَسْتَدْ ِر ُ‬
‫استدراج بعضهم لبعض‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وَُأمْلِي َلهُمْ إِنّ‪} ...‬‬

‫(‪)1124 /‬‬

‫وَُأمْلِي َلهُمْ إِنّ كَيْدِي مَتِينٌ (‪)183‬‬

‫والملء هو المهال وهو التأخير‪ ،‬أي أنه ل يأخذهم مرة واحدة‪ ،‬فساعة يقوم الفاسد بالكثير من‬
‫الشر في المجتمع‪ ،‬نجد أهل الخير وهم يزيدون من فعل الخيرات‪ ،‬ونسمع دائما من يقول‪ :‬لو لم‬
‫يكن هناك إيمان لكل الناسُ بعضهم بعضا‪ ،‬فاليمان يُعطي السوة واليقين‪ .‬والملء للظالم الكافر‬
‫ليس إهمالً له من المولى تعالى‪ ،‬بلَ هو إمهال فقط‪ ،‬ثم يأخذه ال أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬وهنا يوضح‬
‫الحق‪ :‬إذا كنت سأستدرج وسأملي فاعلم أن كيدي متين‪ .‬والكيد هو المكر‪ ،‬والمكر أخذهم من‬
‫حيث ل يشعرون وهو عملية خفية تسوء الممكور به‪.‬‬
‫وهو تدبير خفي حتى ل يملك الممكور به ملكات الدفع‪ .‬وإذا كان البشر يمكرون ويدبرون تدبيرا‬
‫يخفى على بعضهم‪ ،‬فماذا حين يدبر ال للكافرين مكيدة أو مكرا؛ أيستطيع واحد أن يكشف من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذلك شيئا؟‪ .‬طبعا لن يستطيع أحد ذلك‪ .‬هذا هو معنى { إِنّ كَ ْيدِي مَتِينٌ }؛ ومتين أي قوي‪ ،‬والمتانة‬
‫مأخوذة من المتن وهو الظهر‪ ،‬ونعرف أن الظهر مُكوّنٌ من عمود فقري وفقرات عظيمة‪ ،‬تحيط‬
‫بها عضلت‪ .‬فلو كان العمود الفقري من عظم فقط لكان أي حمل عليه يكسره‪ .‬فشاءت تجلياتُ‬
‫رَبنا عز وجل واقتضت رحمتُه وقدرتُه أن يحاط هذا العظام بعضلتين كبيرتين‪ ،‬وهما ما نسميه‬
‫في عرف الجزارين " الفلتو " لحماية الظهر وتقويته ووقايته‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إلى كلمة " متين " ‪ ،‬نجد " المتن " هو الشيء العمودي في الشياء‪ ،‬وفي العلم مثلً‬
‫ندرس الفقه وندرس النحو‪ ،‬ويقال‪ :‬هذا هو المتن في الفقه‪ ،‬أي الكلم الموجز الذي يختزل العلم‬
‫في كلمات محددة‪ ،‬والذكي هو من يستوعبه‪ .‬وغالبا مع المتن الموجز شرحا للمتن‪ ،‬ثم حاشية‬
‫للمتن‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ { :‬أوَلَمْ يَ َتفَكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبهِمْ‪} ...‬‬

‫(‪)1125 /‬‬

‫َأوَلَمْ يَ َت َفكّرُوا مَا ِبصَاحِ ِبهِمْ مِنْ جِنّةٍ إِنْ ُهوَ ِإلّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (‪)184‬‬

‫وهنا يُنَبّه الحقّ سبحانه وتعالى كلّ الخلق أن يتفكروا في أمر الرسول المبلغ الذي ينقلُ عن القوة‬
‫العليا مرادَها من الخلق‪ .‬وأول ما يستحق التفكير فيه أن نعرف هل هذا النسان الذي يقول عنه‬
‫رسول صادق أو غير صادق؟ ولقد ثبت صدق رسول ال صلى ال عليه وسلم من قبل نزول‬
‫الرسالة عليه‪ ،‬وجاءت الرسالة لتأخذ بيد الخلق إلى اليمان بال‪ .‬لكنهم ل يريدون أن يسمعوا‪،‬‬
‫ليوجدوا لنفسهم مبررات بالنكوص عن المنهج‪ ،‬فقال بعضهم اتهاما للرسول‪ :‬إنه مجنون‪ ،‬مثلما‬
‫قال بعضهم من قبل‪ :‬إنه ساحر‪ ،‬وكاهن‪ ،‬وقالوا‪ :‬شاعر‪ ،‬ويرد ربنا على كل تلك القاويل‪.‬‬
‫ونتساءل‪ :‬من هو المجنون؟‪.‬‬
‫نعلم أن المجنون هو من فقد التوازن الفكري في الختيار بين البدائل‪ ،‬وحين يأخذ منه هذه القدرة‬
‫على التوازن الفكري‪ ،‬يصبح غير أهل للتكليف؛ لن التكليف فيه اختيار أن تفعل كذا ول تفعل‬
‫كذا‪ ،‬والمجنون ل يملك القدرة على هذا الترجيح‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى لم يكلف النسان إل حين يبلغ ويعقل؛ لنه حين يبلغ تصير له ذاتية مستقلة‬
‫عن أهله وعن أبيه وأمه؛ لذلك نلحظ الطفل وهو صغير يختار له والدهُ أو والدتُه الملبس‬
‫والطعام‪ ،‬وبعد أن يكبر نجد الطفل قد صار مراهقا يتمرد ويقرر أن يختار لنفسه ما يريده لنه قد‬
‫صارت له ذاتية‪ ،‬والذاتية ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬توجد في النبات وفي الحيوان والنسان وذلك بمجرد أن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يصير الفرد منها قادرا على إنجاب مثله‪ ،‬سواء كان هذا الفرد من النبات أو الحيوان أو النسان‪.‬‬
‫أما إن كان النسان قد صارت له ذاتية في النجاب والنسل‪ ،‬وليست له ذاتية ناجحة عاقلة في‬
‫التفكير؛ فهنا يسقط عنه التكليف؛ لنه مكره بفقدان العقل‪.‬‬
‫وهكذا نعرف أن التكليف يسقط عن الذي لم يَبْلغ‪ ،‬والمجنون والمكره بمن هو أقوى منه‪ ،‬وهذه‬
‫عدالة الجزاء من الحق‪ ،‬وهكذا نجد أن التكليف ل يلزم إل من بلغ جسمه ونضج عقله‪ ،‬وبهذا‬
‫يحرس رَبّنا الكون ِبقَيّومِيّتِه‪.‬‬
‫وإذا كان المجنون هو فاقد الميزان العقلي الذي يختار بين البديلت‪ ،‬فكيف يقولون ذلك على سيدنا‬
‫محمد عليه الصلة والسلم وهو قد عاش بينهم‪ ،‬ولم يكن قط فاقدا لميزان الختيار بين البديلت‪،‬‬
‫بل كانوا يعتبرونه الصادق المين‪ ،‬وكانوا يحفظون عنده كل غالٍ نفيس لهم حتى وهم كافرون‬
‫به‪ .‬وخلقه الفاضل ذاتي مستمر ودائم‪.‬‬
‫لقد قالوا ذلك على محمد ظلما له‪ ،‬وب َغوْغَائِيّة‪ ،‬وكل واحد يلقى اتهاما ليس له من الواقع نصيب؛‬
‫ظكُمْ ِبوَاحِ َدةٍ أَن َتقُومُواْ ِللّهِ‬
‫لذلك قال الحقَ تبارَك وتعالى لصحاب هذه التهامات‪ُ {:‬قلْ إِ ّنمَآ أَعِ ُ‬
‫مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن جِنّةٍ‪[} ...‬سبأ‪]46 :‬‬
‫أي أن يجلس كل اثنين ويتدارسا‪ :‬هل محمد عاقل أم مجنون؟ وسيجد كل منهما من واقع تجربته‬
‫أنّ محمدّا هو أكثر الناس أمانة‪ ،‬وكان الجميع يسمونه المين‪ ،‬حتى قبل أن يتصل به الوحي‪،‬‬
‫وليس من المعقول أن يضره الوحي‪ ،‬أو أن يفقد بالوحي توازنه الخلقي‪ ،‬لذلك قال الحق سبحانه‬
‫وتعالى‪:‬‬

‫ك لَجْرا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ‬


‫سطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبمَجْنُونٍ * وَإِنّ َل َ‬
‫{ ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَ ْ‬
‫َلعَلَىا خُُلقٍ عَظِيمٍ }[القلم‪]4-1 :‬‬
‫كان خُلُق رسول ال صلى ال عليه وسلم خُلُقا عظيما؛ لن الخُلق هو الصفات التي تؤهل النسان‬
‫خلُقه سليما‪ ،‬فمعيار الحكم عنده سليم‪.‬‬
‫لن يعيش في مجتمع سليم وهو مسالم‪ .‬ومادام ُ‬
‫وبعد ذلك قالوا عنه‪ :‬إنه " ساحر " ‪ ،‬ونقول لهؤلء‪ :‬لماذا إذن لم يسحر كبار رجال قريش ليؤمنوا‬
‫برسالته؟ إن كل ذلك جدل خائب‪ ،‬والمسألة ليس فيها سحر على الطلق‪َ } .‬أوَلَمْ يَ َت َفكّرُواْ مَا‬
‫ِبصَاحِ ِبهِمْ مّن جِنّةٍ إِنْ ُهوَ ِإلّ نَذِيرٌ مّبِينٌ {‬
‫الجنّة التي تقولون عليها وتفترون بها على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ -‬هي منتَهى العقل‬
‫ومنتهى الخلق‪ ،‬فمحمد صلى ال عليه وسلم نذير واضح‪ ،‬جاءكم أولً بالبشارة لكنكم في غيكم ل‬
‫تستحقون البشارة‪ ،‬بل تستحقون النذار‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪َ } :‬أوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مََلكُوتِ‪{ ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)1126 /‬‬

‫شيْ ٍء وَأَنْ عَسَى أَنْ َيكُونَ قَدِ اقْتَ َربَ‬


‫ض َومَا خََلقَ اللّهُ مِنْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫َأوَلَمْ يَ ْنظُرُوا فِي مََلكُوتِ ال ّ‬
‫حدِيثٍ َب ْع َدهُ ُي ْؤمِنُونَ (‪)185‬‬
‫أَجَُل ُهمْ فَبَِأيّ َ‬

‫وبذلك ينتقل الجدل من الرسول المباشر لهم الذي يأخذ بيدهم إلى اليمان العلى‪ ،‬ينتقل الجدل إلى‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }‬
‫التفكير ومسئوليته‪َ { :‬أوَلَمْ يَ ْنظُرُواْ فِي مََلكُوتِ ال ّ‬
‫والتفكير هو إعمال العقل حتى ل يقولَنّ أحد‪ :‬إن رسول ال مجنون‪ ،‬لن مجرد النظر في الكون‬
‫يجعل النسان رائيا للسماء مرفوعة بل عمد‪ ،‬والرض مبسوطة والهواء يتحرك في انتظام دقيق‪.‬‬
‫ت وَالَ ْرضِ }‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫{ َأوََلمْ يَنْظُرُواْ فِي مََلكُوتِ ال ّ‬
‫إذن فوقَنا سماء‪ ،‬وهناك ما فوق السماء‪ ،‬وتحتنا الرض‪ ،‬وفيها ما تحت الرض‪ ،‬وهناك بين‬
‫السسموات والرض‪ .‬وما نراه في الظاهر هو ما يسمونه " مُلْك " أما الخفي عنك الذي ل تقدر أن‬
‫تصل إليه بمعادلت تستخرج منها النتائج فاسمه " ملكوت "‪.‬‬
‫ت وَالَرْضِ‪[} ...‬النعام‪:‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫ويقول سبحانه في سيدنا إبراهيم‪َ {:‬وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ‬
‫‪]75‬‬
‫فكلمة " ملكوت " معناها مبالغة في الملك‪ ،‬مثل رهبوت أي الرهبة الشديدة‪ ،‬ورحموت أي الرحمة‬
‫سمَاوَاتِ‬
‫الشديدة‪ ،‬وكلها صيغة " فعلوت " وهي صيغة المبالغة‪َ { .‬أوَلَمْ يَ ْنظُرُواْ فِي مََلكُوتِ ال ّ‬
‫شيْءٍ }‬
‫ض َومَا خََلقَ اللّهُ مِن َ‬
‫وَالَرْ ِ‬
‫ونحن نرى السماء والرض بوضوح‪ ،‬ولكن العظمة والسر ليسا في السماء والرض فقط‪ ،‬بل‬
‫هناك أشياء دقيقة جدا‪ ،‬بلغت من اللطف أنها ل تدرك بالنظر‪ ،‬ومع ذلك فإن فيها الحكمة العليا‬
‫للخلق‪ .‬وأنت قد ترى ساعة " بيج بن " الشهيرة في لندن وتكاد أن تكون أضخم ساعة في العالم‪،‬‬
‫لكن الصانع المحترف من البشر صنع ساعة يد صغيرة في حجم الخاتم‪ ،‬وننبهر ونعجب بدقة‬
‫عمله وصنعته‪ .‬فما بالنا بالخالق العظم الذي يعظم خلقه من السماوات والرض لنها فوق‬
‫إدراكات البشر‪ ،‬وخلق أيضا مخلوقات دقيقة لطيفة ل تستطيع أن تدركها أنت بمجرد النظر‪،‬‬
‫كالميكروب‪ ،‬أو تدركها بصعوبة كالذبابة والبعوضة وبكل هذه الكائنات كل مقومات حياتها‪ ،‬حتى‬
‫الكائن الذي ل معدة له يجهزه خالقه بقدرة على امتصاص الدماء مباشرة بعقله أو غريزته ويسعى‬
‫ليأكل ويمل معدته وله أجهزة تحول غذائه ليكون دما‪.‬‬
‫إذن فليست العظمة مقصورة على خلق السماوات والرض فقط‪ ،‬لذلك يقول الحق‪َ { :‬ومَا خََلقَ اللّهُ‬
‫شيْ ٍء وَأَنْ عَسَى أَن َيكُونَ قَدِ اقْتَ َربَ َأجَُلهُمْ فَبَِأيّ حَدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫مِن َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي من أول شيء يقال له شيء‪ ،‬صار محكوما عليه وجوديا‪ ،‬بأنك إن نظرت إليه ستجد الجهزة‬
‫التي نعطي له الحياة‪ ،‬وتعينه‪ ،‬حتى وإن كانت حواس استشعارية في ذات هذا الكائن‪ ،‬ول يقوى‬
‫عليها صاحب العقل‪ .‬مثال ذلك‪ :‬نجد أن ما يفر قبل حدوث الزلزل هو الحمير التي نتهمها‬
‫بالغباء‪.‬‬
‫وحين يتأمل العقل ما وصل إليه العلم في البحث في عالم الحيوان وعالم البحار‪ ،‬سنجد اليمان‬
‫بضرورة وجود خالق حكيم‪ .‬وإن كان الكافرون مصروفين عن النظر في ملكوت السموات‬
‫والرض وما خلق ال من كائنات قد ل تراها العين المجردة‪ ،‬كان عليهم أن يراعوا مصلحتهم‬
‫فعسى أن يكون قد اقترب أجلهم‪.‬‬

‫إننا نعلم أن النسان جنس‪ ،‬وأن له نوعين‪ :‬نوع ذكورة‪ ،‬ونوع أنوثة‪ ،‬وبينهما جنس مشتبه نسميه‬
‫الخنثى‪ ،‬والجناس لها أفراد متعددة‪ .‬وكل واحد له خلق‪ ،‬وكل واحد له موهبة‪ ،‬وكل واحد له‬
‫مهمة‪ .‬وساعة يطلب منا الحق‪ :‬إياك أن تستصغر شيئا منك ضد فيرك‪ ،‬وإياك أن تستكثر شيئا‬
‫منك لغيرك‪ ،‬ويجب عليك أن تجعل كلمة " شيء " هذه هي المقياس‪ ،‬ولذلك يقول لك الشرع‪ :‬إنك‬
‫حين تقدم حسنة إياك أن تستكثرها‪ ،‬بل قل هي ليست بشيء ذي بال‪ .‬وإن ه ّم واحد بعمل سيئة فل‬
‫يقل‪ :‬وماذا ستفعل لي سيئة واحدة؟ مستصغرا شأن هذه السيئة‪ .‬وهذا نقول له‪ :‬ل‪ ،‬لن كلمة "‬
‫شيء " يجب أن تحكم الكون‪ .‬إنك إن نظرت لهذه المسألة قد تجد واحدا مثلً ضئيل التكوين‪ ،‬ول‬
‫بسطة له في جسمه‪ ،‬لكن من الجائز أن له موهبة كبيرة‪ ،‬وقد تجد إنسانا آخر متين التكوين وليست‬
‫عنده أية موهبة؛ لن ال قد يعطي الضئيل فكرا عميقا‪ ،‬أو حيلة كبيرة‪ ،‬أو موهبة خاصة في أي‬
‫شيء‪ .‬فل تنظر إلى شيء قليل في أي إنسان‪ ،‬بل انظر إلى الشيء الجميل الذي فيه وهو المخفي‬
‫حدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ {‬
‫عنك في نفسك‪ } .‬وَأَنْ عَسَى أَن َيكُونَ قَدِ اقْتَ َربَ َأجَُلهُمْ فَبَِأيّ َ‬
‫ولماذا تأتي هنا حكاية اقتراب الجل؟ وللجابة عن التساؤل أقول‪ :‬إنها هامة جدا؛ لننا مادمنا‬
‫أفرادا أي جنسين أو ثلثة أجناس‪ ،‬وقال عنا ربنا إننا خلفاء في الرض‪ ،‬فعلينا أن نعلم أن الخليفة‬
‫في الرض جاء ليخلف من سبقوه‪ ،‬وقد يُميت ربنا أي إنسان في سن شهر أو سنة‪ ،‬أو سنتين أو‬
‫خمسين عاما؛ لن العمر بالنسبة لكل إنسان هو أمر قد اختص به الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬نفسه‬
‫ول يعلمه أحد؛ لن غاية المتساوي لبد أن تكون متساوية‪ ،‬وعلى سبيل المثال‪ :‬إن سألنا طلبة‬
‫كلية الحقوق عن غايتهم من دراسة الحقوق قالوا‪ :‬لنيل إجازة الليسانس‪ ،‬وسنجد منهم الطويل‪،‬‬
‫والقصير‪ ،‬والبيض‪ ،‬والسود‪ ،‬والذكي والغبي‪ ،‬والقوي والضعيف‪ ،‬وهم ل يتفقون إل على دراسة‬
‫الحقوق‪ ،‬وكذلك ل نتساوى جميعا كبشر إل أمام الموت‪ ،‬فهناك من يموت وهو في بطن أمه‪ ،‬ومن‬
‫يموت وهو طفل‪ ،‬ومن يموت وهو فتى‪ .‬وإن كنا نختلف فيما بقي بعد ذلك‪ ،‬والمؤمن أو الكافر‬
‫يرى هذه الحداث أمامه ول يستطيع أن يقول‪ :‬ل لن أموت‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومادمت ستموت فانظر إلى مصلحتك أنت‪ ،‬لتثاب على ما فعلت في الدنيا بدلً من أن تعاقب‪،‬‬
‫فعسى أن يكون قد اقترب أجلك وأنت ل تعرف متى يجيء الجل‪ ،‬وإبهام الجل من ال لنا إشاعة‬
‫للجل‪ ،‬والبهام هو أوضح أنواع البيان‪ ،‬فحين يريد ربنا أن يوضح أمرا توضيحيا كاملً فهو‬
‫يبهمه‪.‬‬

‫ومثال ذلك‪ :‬لو جعل ال للموت سنّا‪ ،‬لصار المر محددا بل أمل‪ .‬لكنه سبحانه لم يجعل للموت‬
‫سنّا أو سببا‪ ،‬وأشاعة في كل زمن‪ ،‬والنسان عرضة لن يستقبل الموت في أي لحظة‪ ،‬ونزل‬
‫الموت ل يتوقف على سبب‪ ،‬فقد يأتي بسبب وقد يأتي بغير سبب‪ ،‬ومادام النسان يستقبل الموت‬
‫في أي وقت‪ ،‬فعلى العاصي أل يستقبل الموت وهو على عصيان ل‪.‬‬
‫وإياك أن تقول‪ :‬كيف مات فلن وهو غير مريض؟؛ لن هناك العديد من السباب للموت‪ ،‬واعلم‬
‫أن الموت بدون أسباب هو السبب‪ ،‬فالنسان الذي نفقده بالموت‪ ،‬مات لن أجله قد انتهى‪ ،‬والحق‬
‫هنا يوضح‪ :‬أيها الكافرون أل تعلمون أن منكم من مات وعمره سنة ومن مات وعمره سنتان‪،‬‬
‫ومن مات وعمره ثلث سنوات‪ ،‬ومن مات وهو ظالم‪ ،‬ومن مات وهو مظلوم‪ ،‬ولو لم تكن هناك‬
‫حياة ثانية فماذا تساوي هذه الحياة؟‪ .‬وما ذنب الذي لم يعش في الدنيا إل شهرا؟ لبد أن تعرفوا أن‬
‫هناك غاية تنتظركم‪ ،‬غايات فردية هي آجال الناس بذواتهم‪ ،‬وآجال إجماعية تتمثل في يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫وفي قوله تعالى‪ } :‬فَبَِأيّ حَدِيثٍ َبعْ َدهُ ُي ْؤمِنُونَ {‬
‫يوضح الحق تبارك وتعالى‪ :‬إنه إذا كان هذا الحديث الذي أنزلته إليهم وفيه ما فيه من العجاز‬
‫ومن البداع‪ ،‬ويجمع كل أنواع الكمالت‪ ،‬فماذا يريدون أكثر من ذلك؟‬
‫وهل في اتباعهم للهواء ولتقنينات بعضهم لبعض سعادة لهم؟ بالعكس إنهم يشقوْن بذلك‪ .‬وكان‬
‫يجب عليهم أن يتأدبوا مع ال ومع الرسول‪.‬‬
‫ولذلك يقول سبحانه وتعالى‪ } :‬مَن ُيضِْللِ اللّهُ‪{ ...‬‬

‫(‪)1127 /‬‬

‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ (‪)186‬‬


‫مَنْ ُيضِْللِ اللّهُ فَلَا هَا ِديَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي ُ‬

‫وقد كرر الحق هذا كثيرا‪ ،‬لن الشياء التي قد يقف العقل فيها‪ ،‬أو تأخذه مذاهب الحياة منها‪،‬‬
‫ويكررها ال‪ ،‬ليجعلها في بؤرة الهتمام دائما‪ ،‬لعل هذا التكرار يصادف وعيا من السامع‪ .‬وانظر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إلى الحق وهو يعدد نعمه في سورة الرحمن فيقول بعد كل نعمة‪ { :‬فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬
‫إنه يكرر ذكر النعم ليستقر المر في ذهن السامع‪ { .‬مَن ُيضِْللِ اللّهُ فَلَ هَا ِديَ لَهُ }‬
‫وسبحانه ل يرغم واحدا على أن يهتدي‪ ،‬فإن اهتدى فلنفسه‪ ،‬وإن لم يهتد فليشرب مرارة الضلل‪.‬‬
‫وكلنا نعرف أن الطبيب يكتب أسلوب العلج للمريض‪ ،‬ليتم الشفاء بإذن من ال‪ ،‬الدواء إذن وسيلة‬
‫إلى العافية‪ ،‬فإن رفض المريض تناول الدواء فهل في ذلك إساءة للطبيب؟ ل‪ .‬وكذلك منهج ال‪{ .‬‬
‫مَن ُيضِْللِ اللّهُ فَلَ هَا ِديَ لَهُ }‬
‫لكن هل يريد ال الضلل لحد‪ ،‬ل‪ ،‬بل سبحانه دعا الناس جميعا بهداية الدللة‪ ،‬فمن اهتدى زاده‬
‫بهداية المعونة‪ ،‬ومن ضل فليذهب إلى الكفر كما شاء‪ .‬ولذلك يقول لنا الشرع‪ :‬إياك أن تشرك بال‬
‫شيئا في أي عمل؛ لن ربنا يقول لنا في الحديث القدسي الذي يرويه لنا رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم عن ربه فيقول‪ :‬قال ال تبارك وتعالى‪ " :‬أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملً‬
‫أشرك فيه غيري تركته وشركه "‬
‫ومعنى الشركة في عرف البشر‪ ،‬أن مجموعة من الناس عرفوا أن عمل كل منهم ومال كل منهم‪،‬‬
‫وموهبة كل منهم‪ ،‬ل تكفي لقامة مشروع ما‪ ،‬لذلك يكونون شركة لنتاج معين‪ ،‬فهل هناك ما‬
‫ينقص ربنا ليستكمله من آخر؟ حاشا ل‪ .‬بل إن مجرد توهم العبد بأن هناك شريكا يجعل ال‬
‫رافضا لعبادة العبد المشرك‪ .‬لذلك يقول في الحديث القدسي‪ " :‬أنا أغنى الشركاء عن الشرك من‬
‫عمل عملً أشرك فيه غيري تركته وشركه "‪ .‬ومادام ربنا قد تنازل عن رعايته له فليتلق المتاعب‬
‫من حيث ل يدري‪.‬‬
‫ومن قوله تعالى‪ { :‬مَن ُيضِْللِ اللّهُ فَلَ هَا ِديَ لَهُ }‬
‫نتبين أنه حين يحكم ال بضلل إنسان أو بهداية آخر فلن يستطيع البشر أن يعدّل على ال‪ ،‬ليجعل‬
‫شيئا من ضلل هو هدى‪ ،‬أو شيئا من هدى هو ضلل‪.‬‬
‫كما يتضح من تلك الية الكريمة أن من في قلوبهم مرض يزيدهم ال مرضا ويتركهم في طغيانهم‬
‫يعمهون‪ ،‬والعمه هو فقدان القلب للبصيرة‪ ،‬والعمى هو فقدان العين للبصر‪.‬‬
‫ويقل الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬بعد ذلك‪ { :‬يَسَْألُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ‪} ...‬‬

‫(‪)1128 /‬‬

‫عةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِنْدَ رَبّي لَا ُيجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَا ِإلّا ُهوَ َثقَُلتْ فِي‬
‫يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّا َ‬
‫ح ِفيّ عَ ْنهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِ ْندَ اللّ ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلّا َبغْ َتةً يَسْأَلُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ‬
‫ال ّ‬
‫النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ (‪)187‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمسئول هو رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والسائل إما هم اليهود الذين سألوه عن الساعة‪،‬‬
‫وعن الروح‪ ،‬وعن ذي القرنين‪ ،‬فكان الجواب منه مطابقا لما عندهم في التوارة لنهم ظنوا أن‬
‫الكلم الذي يقوله محمد إنما يأتي منه جزافا بدون ضابط وليس من رب يُنْزلُه‪ .‬فلما أجاب بما‬
‫عندهم في التوراة‪ ،‬علموا أنه ل يقول الكلم من عنده‪ ،‬ولذلك سألوه أيضا عن أهل الكهف وما‬
‫حدث لهم‪ ،‬وكانوا جماعة في الزمن الماضي‪ ،‬واتفقوا معه على كل شيء حدث لهل الكهف إل‬
‫على الزمن فنزل القرآن يحدد هذا الزمن بقوله سبحانه‪ {:‬وَلَبِثُواْ فِي َك ْه ِفهِمْ ثَلثَ مِاْ َئةٍ سِنِينَ‬
‫وَازْدَادُواْ ِتسْعا }[الكهف‪]25 :‬‬
‫فقال اليهود‪ :‬الثلثمائة سنة نعرفها‪ ،‬أما التسعة فل نعرفها‪ ،‬وما علموا أن الحق سبحانه وتعالى‬
‫شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ‬
‫ع ّدةَ ال ّ‬
‫يؤرخ لتاريخ الكون بأدق حسابات الكون لن ربنا هو القائل‪ {:‬إِنّ ِ‬
‫شهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ‪[} ...‬التوبة‪]36 :‬‬
‫َ‬
‫إذن التوقيتات كلها حسب التوقيت العربي‪ ،‬ونعلم أن الذين يريدون أن يحكموا التاريخ حكما دقيقا‬
‫فهم يؤرخون له بالهلل‪ ،‬والمثال أن كل عَالَم البحار تكون الحسابات المائية فيها كلها بالهلل‪،‬‬
‫لنه أدق‪ ،‬وأيضا فالهلل آية تعلمنا متى يبدأ الشهر‪ ،‬ول نعرف من الشمس متى يبدأ الشهر؛ لن‬
‫الشمس دللة يومية تدل على النهار والليل‪ ،‬بينما القمر دللة شهرية‪ ،‬ومجموع الثنى عشر هو‬
‫الدللة السنوية‪ .‬لكنهم لم يفطنوا إلى هذه‪ ،‬وأخذوا على الثلثمائة سنة بالحساب الشمسي‪ ،‬وأضاف‬
‫الحق‪ { :‬وَازْدَادُواْ تِسْعا } لنك إن حسبت الثلثمائة سنة الشمسية بحساب السنة القمرية تزداد تسع‬
‫سنين‪.‬‬
‫ومادة السؤال في القرآن ظاهرة صحية في اليمان؛ لن اليمان إنما جاء ليحكم حركة الحياة بـ "‬
‫افعل " و " ل تفعل " ‪ ،‬وساعة يقول الشرع‪ :‬افعل‪ ،‬ففي ظاهر هذا الفعل مشقة‪ ،‬وساعة يقول‪ :‬ل‬
‫تفعل ففي ظاهر هذا الطلب أنه سهل ومرغوب‪ ،‬والمنع عنه يناقض شهوات النفس‪ .‬وللتأكد من أن‬
‫السئلة ظاهره صحية من المؤمنين نجد أسئلة كثيرة موجهة لرسول ال من أمته‪ ،‬حكاها القرآن‬
‫بصور متعددة‪ ،‬ورد السؤال مرة بفعل مضارع مثل قوله‪ { :‬ويَسْأَلُو َنكَ }؛ ومرة ورد بصورة فعل‬
‫ماض " وإذا سألك "‪ .‬وكثيرا ما جاء السؤال بهيئة المضارع { َيسْأَلُو َنكَ } ‪ ،‬لن المضارع يكون‬
‫للحال وللستقبال‪.‬‬
‫وجاءت السئلة بالقرآن في صيغة المضارع خمس عشرة مرة‪ ،‬وجاءت بصيغة الماضي مرة‬
‫واحدة‪ .‬وإن نظرت إلى الخمس عشرة مرة تجد كل مرة مِنْها جاءت لتبين حكما‪ .‬وإذا نظرنا إلى‬
‫ن الَهِلّةِ ُقلْ‬
‫مادة الفعل " يسأل " في القرآن وبترتيب المصحف‪ ،‬نجد القرآن يقول‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ‬
‫ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّاسِ‪[} ...‬البقرة‪]189 :‬‬
‫لقْرَبِينَ‪} ...‬‬
‫ن وَا َ‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُ ْنفِقُونَ ُقلْ مَآ أَ ْن َفقْتُمْ مّنْ خَيْرٍ فَلِ ْلوَالِدَيْ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[البقرة‪]215 :‬‬
‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدّ عَن‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى‪َ {:‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫سجِدِ الْحَرَا ِم وَإِخْرَاجُ َأهْلِهِ مِنْهُ َأكْبَرُ عِندَ اللّ ِه وَا ْلفِتْنَةُ َأكْبَرُ مِنَ ا ْلقَ ْتلِ‪} ...‬‬
‫سَبِيلِ اللّهِ َوكُفْرٌ بِ ِه وَا ْلمَ ْ‬
‫[البقرة‪]217 :‬‬
‫خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ َومَنَافِعُ لِلنّاسِ‪[} ...‬البقرة‪:‬‬
‫ويقول سبحانه وتعالى‪َ {:‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ الْ َ‬
‫‪]219‬‬
‫ومرة أخرى يقول في ذات الية السابقة‪ } :‬وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َع ْفوَ‪{ ...‬‬
‫ويقول سبحانه وتعالى‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَىا ُقلْ ِإصْلَحٌ ّلهُمْ خَيْرٌ‪[} ...‬البقرة‪]220 :‬‬
‫ويقول عز وجل‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلمَحِيضِ ُقلْ ُهوَ َأذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي ا ْل َمحِيضِ‪[} ...‬البقرة‪:‬‬
‫‪]222‬‬
‫حلّ َلكُمُ الطّيّبَاتُ {‬
‫حلّ َلهُمْ ُقلْ ُأ ِ‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ مَاذَآ أُ ِ‬
‫وبعد ذلك في سورة العراف يقول‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِنْدَ‬
‫رَبّي‪[ { ...‬العراف‪]187 :‬‬
‫حفِيّ عَ ْنهَا‪[ { ...‬العراف‪]187 :‬‬
‫وأيضا يقول سبحانه‪َ } :‬يسْأَلُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ‬
‫ل الَنفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ‪[} ...‬النفال‪]1 :‬‬
‫ن الَ ْنفَالِ ُق ِ‬
‫ثم يقول الحق‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ ُقلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي‪[} ...‬السراء‪]85 :‬‬
‫ويقول المولى سبحانه‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ ُقلْ سَأَتْلُواْ عَلَ ْيكُم مّنْهُ ِذكْرا }[الكهف‪]83 :‬‬
‫س ُفهَا رَبّي َنسْفا }[طه‪]105 :‬‬
‫ويقول الحق‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلجِبَالِ َف ُقلْ يَن ِ‬
‫ويختم هذه السئلة بقوله‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّاعَةِ أَيّانَ مُ ْرسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ِذكْرَاهَا }[النازعات‪:‬‬
‫‪]43-42‬‬
‫تلك هي خمس عشرة آية جاء فيها الحق بقوله } َيسْأَلُو َنكَ { ‪ ،‬وآية واحدة يقول فيها الحق تبارك‬
‫ع َوةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ‪[} ...‬البقرة‪]186 :‬‬
‫وتعالى‪ {:‬وَِإذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَ ْ‬
‫واليات الخمس عشرة التي جاء فيها الحق بصيغة المضارع } َيسْأَلُو َنكَ { نجد كل جواب فيها‬
‫مُصدرا بـ " قل " وهو أمر للرسول‪ :‬قل كذا‪ ،‬قل كذا‪ ،‬ولكن في الية الواحدة التي جاء فيها الفعل‬
‫ع َوةَ الدّاعِ { ‪ ،‬لن‬
‫الماضي } وَإِذَا سَأََلكَ { ‪ ،‬لم يقل‪ :‬فقل إني قريب‪ ،‬بل قال‪ } :‬فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَ ْ‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }‬
‫ال يعلم حب محمد لمته‪ ،‬وحرصه عليهم ولذلك يقول‪َ {:‬لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫[الشعراء‪]3 :‬‬
‫حدِيثِ أَسَفا }[الكهف‪]6 :‬‬
‫سكَ عَلَىا آثَارِ ِهمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا الْ َ‬
‫خعٌ ّنفْ َ‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬فََلعَّلكَ بَا ِ‬
‫ولذلك حين علم الحق علم وقوع‪ :‬أن رسول ال مهتم بأمر أمته ومشغول بها وحريص على أن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يشملها ال بمغفرته ورحمته وأل يسؤوه فيها‪ ،‬أخبره المولى عز وجل بأنه سوف يرضيه في أمته‪.‬‬
‫وقد ورد في الحديث ما يؤيد ذلك‪ ،‬فقد روى عبدال بن عمرو بن العاص رضي ال عنهما " أن‬
‫النبي صلى ال عليه وسلم تل قول ال عز وجل في إبراهيم صلى ال عليه وسلم } َربّ إِ ّنهُنّ‬
‫غفُورٌ رّحِيمٌ {‬
‫عصَانِي فَإِ ّنكَ َ‬
‫َأضْلَلْنَ كَثِيرا مّنَ النّاسِ َفمَن تَ ِبعَنِي فَإِنّهُ مِنّي َومَنْ َ‬
‫ك وَإِن َت ْغفِرْ َل ُهمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ‬
‫وقول عيسى صلى ال عليه وسلم‪ } :‬إِن ُتعَذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُد َ‬
‫حكِيمُ { فرفع يديه فقال‪ :‬أمتي أمتي وبكى فقال ال عز وجل‪ :‬يا جبريل اذهب إلى محمد وربك‬
‫الْ َ‬
‫أعلم َفسَلْهُ ما يبكيه؟ فأتاه جبريل فأخبره رسول ال صلى ال عليه وسلم بما قال وهو أعلم‪ ،‬فقال‬
‫ال تعالى‪ :‬يا جبريل اذهب إلى محمد إنا سنرضيك في أمتك ول نسوؤك "‬

‫وتأكيدا لعلم الحق تبارك وتعالى من حرص رسوله على أمته‪ ،‬أراد أن يكرم هذه المة من نوع‬
‫ما كرّم به الرسول‪ ،‬فجاء الخطاب في آية الدعاء بدون " قل "‪ {.‬وَِإذَا سَأََلكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي‬
‫قَرِيبٌ‪[} ...‬البقرة‪]186 :‬‬
‫وأراد ال أن يبين لمحمد ولمته أن ال يعلم ل بما تسألونه فقط‪ ،‬بل يعلم ما سوف تسألونه عنه‪.‬‬
‫لذلك نجد أربع عشرة آية تأتي فيها } َيسْأَلُو َنكَ { وتكون الجابة " قل " ‪ ،‬والية الخامسة عشرة‬
‫جاء فيها } َيسْأَلُو َنكَ { وكانت الجابة " فقل " لتدل على " الفاء " على أن السؤال لم يقع بعد‪ ،‬فكأن‬
‫الفاء دلت على شرط مقدر هو‪ :‬إن سألوك فقل ينسفها ربي نسفا‪ ،‬وهنا يقول الحق سبحانه‪} :‬‬
‫عةِ أَيّانَ مُرْسَاهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِنْدَ رَبّي لَ يُجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَآ ِإلّ ُهوَ َثقَُلتْ فِي‬
‫يَسْأَلُو َنكَ عَنِ السّا َ‬
‫حفِيّ عَ ْنهَا ُقلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِندَ اللّ ِه وَلَـاكِنّ‬
‫ض لَ تَأْتِيكُمْ ِإلّ َبغْتَةً َيسْأَلُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫س لَ َيعَْلمُونَ { [العراف‪]187 :‬‬
‫َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫و " يجٌليها " أي يُظهرها‪ ،‬وهناك ما يسمى " الجلوة " وما يسمى " الخلوة " ‪ ،‬و " الجلوة " أن‬
‫يظهر النسان للناس‪ ،‬و " الخلوة " أن يختلي عن الناس‪ ،‬و " ل يجليها " أي ل يظهرها‪ ،‬و "‬
‫لوقتها " ترى أنها مسبوقة باللم‪ ،‬ويسمونها في اللغة العربية " لم التوقيت " ‪ ،‬مثلما يقول الحق‬
‫شمْسِ‪[} ...‬السراء‪]78 :‬‬
‫لةَ لِدُلُوكِ ال ّ‬
‫سبحانه‪َ {:‬أ ِقمِ الصّ َ‬
‫وهي بمعنى " عند " ‪ ،‬ومعنى دلوك الشمس‪ ،‬أنها تتجاوز نصف السماء‪ ،‬وتميل إلى المغرب قليلً‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬لَ يُجَلّيهَا ِل َوقْ ِتهَآ ِإلّ ُهوَ { أي ل يُبَيّنُها عند وقتها إل هو سبحانه وتعالى‪َ } .‬ثقُلَتْ فِي‬
‫ض لَ تَأْتِيكُمْ ِإلّ َبغْتَةً {‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫ال ّ‬
‫والثقل يعني أن تكون كتلة الشيء أكبر من الطاقة التي تحمله؛ لن الكتلة إن تساوت مع الطاقة‬
‫فهي ل تثقل على الحمل‪.‬‬
‫أو أن الطاقة التي تحمل لم تقدر على جاذبية الرض؛ فيكون الشيء ثقيلً‪ ،‬وقد يكون هذا الثقل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أمْرا ماديا‪ ،‬كما يحمل النسان ‪ -‬مثلً ‪ -‬على ظهره أردبا من القمح فيقدر على حمله‪ ،‬لكنه إن‬
‫زاده إلى أردب ونصف‪ ،‬فالحمل يكون ثقيلً على ظهره لن طاقته ل تتحمل مثل هذا الوزن "‬
‫ت وَالَرْضِ {‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫فينخ " به‪َ } .‬ثقَُلتْ فِي ال ّ‬
‫والثقل ل يكون ماديا فقط‪ ،‬بل هو فكري وعقلي أيضا‪ ،‬مثال ذلك حين يقوم الطالب بحل هندسي‬
‫أو تمرين في مادة الجبر‪ ،‬فالطالب يشعر أحيانا أن مثل هذا التمرين ثقيل على فكره‪ ،‬وصعب‬
‫الحل في بعض الحيان‪.‬‬

‫وقد يكون المر ثقيلً على النفس في ملكاتها‪ ،‬مثل الهم جاثم على الصدر وثقيل عليه‪ ،‬وهو أقسى‬
‫أنواع الثقل‪ ،‬ولذلك فالشاعر القديم يقول‪:‬‬
‫ليس بحمل ما أطاق الظهر ما الحمل إل ما وعاه الصدرإذن هناك ثلثة أثقال‪ :‬ثقل مادي‪ ،‬وثقل‬
‫فكري‪ ،‬وثقل نفسي‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ { ‪ ،‬ونحن نعلم أن السموات فيها الملئكة‪ .‬ونعلم أن الملئكة أيضا ل‬
‫و } َثقَُلتْ فِي ال ّ‬
‫تعرف ميعاد الساعة‪ ،‬ول يحاول معرفتها إل النسان بشهوة الفكر‪ ،‬أما الملئكة فهي ليست مكلفة‬
‫لنها ل اختيار لها‪ ،‬وبعضها يخدم البشر‪ ،‬وهم الملئكة الذين سجدوا لدم وهم الموكلون‬
‫بمصالحه‪ ،‬وبحياته‪ ،‬وقد رضخوا لمر الحق بأن هناك سيدا جديدا للكون‪ .‬فكونوا جميعا مسخرين‬
‫في خدمته‪ ،‬وهم الملئكة الحفظة الكرام الكاتبون‪ ،‬ولهم إلف بالخلق‪ ،‬إلف كاره للعاصي‪ ،‬وإلف‬
‫محب للطائع‪ .‬ومن يسير على منهج ال من البشر يفرحون به‪ .‬وإن وقع من الطائع زلة‪ ،‬يأسون‬
‫له ويتمنون أل تقع منه زلة أخرى‪ .‬ومن يسير ضد منهج ال يغضبون منه‪ ،‬والنبي صلى ال عليه‬
‫وسلم يقول فيما يرويه عنه أبو هريرة رضي ال عنه‪ " :‬ما من يوم يصبح العياد فيه إل ملكان‬
‫ينزلن فيقول أحدهما‪ :‬اللهم أعط منفقا خلفا‪ ،‬ويقول الخر اللهم أعط ممسكا تلفا "‬
‫ونعلم أن المنفق سيأخذ ثواب إنفاقه‪ ،‬أما الممسك فإن تلف ماله وصبر عليه فهو أيضا ينال ثوابا‬
‫عليه‪ .‬وهكذا تدعو لنا الملئكة‪.‬‬
‫و " ثقلت " هنا تعني أن ميعاد الساعة ل يعرفه إل ربنا‪ ،‬فل يعرف ذلك الميعاد من هم في‬
‫السموات وكذلك من هم في الرض‪ ،‬وكل من على الرض خائف مما سوف يحدث لحظة قيام‬
‫الساعة‪ ،‬وخصوصا أن المصطفى صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يعطي لها صورة توضح قوله الحق‪ } :‬لَ‬
‫تَأْتِيكُمْ ِإلّ َبغْتَةً {‬
‫ويخبرنا الرسول صلى ال عليه وسلم بالحالة التي تأتي عليها فيقول‪ " :‬إن الساعة تهيج بالناس‬
‫والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقيم سلعته في السوق والرجل يخفض‬
‫ميزانه ويرفعه "‬
‫ومثل هذه التوقعات تخيف‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ لَ تَأْتِي ُكمْ ِإلّ َبغْتَةً {‬
‫وقوله الحق‪َ } :‬ثقَُلتْ فِي ال ّ‬
‫أي أن الواقع في هذا اليوم يكون فوق احتمال البشر وهو يأتي بغتة‪ ،‬أي يجيء من غير استعداد‬
‫حفِيّ عَ ْنهَا {‬
‫نفسي لستقباله‪ .‬ويتابع سبحانه‪ } :‬يَسَْألُو َنكَ كَأَ ّنكَ َ‬
‫وحفيَ من الحفاوة‪ ،‬والحفيّ هو المُلِحّ في طلب الشياء‪ ،‬مثل التلميذ الذي يتوقف عند درس ل‬
‫يفهمه‪ ،‬فيسأل هذا‪ ،‬وذاك إلى أن يجد إجابة‪.‬‬
‫والحفى بالسؤال عن أمر يحاول أن يصل إليه‪ ،‬والحفى أيضا عالم بما يسأل عنه‪ ،‬وسبب العلم أنه‬
‫ألحّ في السؤال عليها‪.‬‬
‫والمور التي يعالجها النسان إما أن يعالجها وهو مستقر في مكانه كالمور الفكرية أو العضلية‬
‫الموقوتهَ بمكان‪ ،‬وقد يكون أمرا بعيدا عن مكانه ويريد أن يعالجه‪ ،‬فيقطع المسافة إلى المكان‬
‫الثاني لتحقيق هذه المهمة‪ ،‬إنما يمشي ويسعى على رجليه‪ ،‬و " يدوب " النعل الذي يضعه في‬
‫قدميه من المشي فيقال عنه إنه‪ " :‬حافي "‪.‬‬

‫ولذلك يقال‪ :‬حفي فلن إلى أن وصل للشيء الفلني‪ ،‬أي سار مرات كثيرة وقطع عدة مسافات‪،‬‬
‫ح ِفيّ عَ ْنهَا { أي‬
‫مزقت نعله حتى جعلته يمشي حافيا‪ .‬وهنا يقول الحق على ألسنة القوم‪ } :‬كَأَ ّنكَ َ‬
‫أنك ُمعْنى بها‪ ،‬ودائب السؤال عنها‪ ،‬وعارف لها‪.‬‬
‫ع ْل ُمهَا عِندَ اللّهِ {‬
‫وتأتي الجابة من الحق‪ُ } :‬قلْ إِ ّنمَا ِ‬
‫وفي ذات الية سبق أن قال‪ } :‬عِ ْل ُمهَا عِنْدَ رَبّي {‬
‫والربوبية متعلقها الخلق‪ ،‬والرعاية بالقيومية لمصالح البشر‪ ،‬والوهية متعلقها العبادة وتطبيق‬
‫المنهج‪ ،‬وجاء الحق في هذه الية‪ ،‬مرة بالربوبية‪ ،‬ومرة باللوهية‪ .‬والولى هي علة الثانية‪ ،‬فأنت‬
‫أخذت ال معبودا‪ ،‬وأطعته لنه خلقك ووضع لك المنهج‪ ،‬ول يذخر وسعا بربوبيته أن يقدم للعبد‬
‫الصالح كل شيء ويمنحه البركة‪ ،‬وكذلك يعطي الكافر إن أخذ بالسباب ولكن دون بركة وبغير‬
‫ثواب في الدنيا أو الخرة‪ ،‬لذلك هو الله الحق الذي نتبع منهجه‪ُ } .‬قلْ إِ ّنمَا عِ ْل ُمهَا عِندَ اللّهِ‬
‫س لَ َيعَْلمُونَ {‬
‫وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫وأكثر الناس الذين يسألون عن موعد الساعة ل يعلمون أن ربنا قد أخفاها‪ ،‬وسبحانه هو القائل‪{:‬‬
‫سعَىا }[طه‪]15 :‬‬
‫خفِيهَا لِتُجْزَىا ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا تَ ْ‬
‫عةَ آتِ َيةٌ َأكَادُ ُأ ْ‬
‫إِنّ السّا َ‬
‫هم إذن ل يعلمون أن علمها عند ال‪.‬‬
‫ويقول سبحانه وتعالى‪ } :‬قُل لّ َأمِْلكُ لِ َنفْسِي َنفْعا‪{ ...‬‬

‫(‪)1129 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ُقلْ لَا َأمِْلكُ لِ َنفْسِي َن ْفعًا وَلَا ضَرّا إِلّا مَا شَاءَ اللّ ُه وََلوْ كُ ْنتُ أَعَْلمُ ا ْلغَ ْيبَ لَاسْ َتكْثَ ْرتُ مِنَ الْخَيْ ِر َومَا‬
‫مَسّ ِنيَ السّوءُ إِنْ أَنَا إِلّا َنذِي ٌر وَبَشِيرٌ ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ (‪)188‬‬

‫ويقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسوله‪ :‬أنتم تسألونني عن الساعة‪ ،‬وأنا بشر‪ ،‬ومتلقّ فقط‪،‬‬
‫والرسال بالمنهج يأتي من ال وأنا أبلغه‪ ،‬ول علم لي بموعد قيام الساعة‪ ،‬ول أملك لنفسي ل‬
‫ضرا ول نفعا‪ ،‬أي ل أملك أن أدفع الضر عني أو أجذب النفع لنفسي‪ ،‬ولكن حين يسوق ال النفع‬
‫أو يمنع الضر‪ ،‬فالنسان يملك ما يعطيه ال‪ ،‬والعاقل حين يملك‪ ،‬يقول‪ :‬إن هذا ملك عَرَضي‪ ،‬ل‬
‫آمن أن ينزع مني‪ .‬لذلك قال لنا الحق تبارك وتعالى‪ُ {:‬قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآءُ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }[آل‬
‫علَىا ُكلّ َ‬
‫وَتَنزِعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآ ُء وَ ُتعِزّ مَن تَشَآ ُء وَتُ ِذلّ مَن َتشَآءُ بِ َي ِدكَ الْخَيْرُ إِ ّنكَ َ‬
‫عمران‪]26 :‬‬
‫ل ضَرّا ِإلّ مَا شَآءَ اللّهُ }‬
‫وهنا يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬قُل لّ َأمِْلكُ لِ َنفْسِي َنفْعا وَ َ‬
‫أيْ أنّ أحدا ل يملك شيئا إل ما شاء ال أن يملكه‪ ،‬ورسول ال من البشر‪ .‬ويضيف‪ { :‬وََلوْ كُنتُ‬
‫أَعْلَمُ ا ْلغَ ْيبَ لَسْ َتكْثَ ْرتُ مِنَ ا ْلخَيْ ِر َومَا َمسّ ِنيَ السّوءُ‪[ } ...‬العراف‪]188 :‬‬
‫ومحمد صلى ال عليه وسلم لو كان يعلم الغيب لستكثر من الخير‪ ،‬فقد حارب‪ ،‬وانتصر‪ ،‬وحارب‬
‫وانهزم‪ ،‬وتاجر فربح‪ ،‬ويسير عليه ما يسير على البشر‪ ،‬ومرة يدبر المر الذي لم يكن فيه منهج‬
‫من السماء‪ ،‬فمرة يصيب ومرة يخطىء‪ .‬فيصحح له ال؛ لذلك يأتي القول على لسانه بأمر من‬
‫ال‪ :‬لو كنت أعلم الغيب لما وقعت في كل هذه المسائل‪ ،‬وكان أهل رسول ال من قريش قد قالوا‪:‬‬
‫إننا أقاربك‪ ،‬فقل لنا على موعد الساعة‪ .‬حتى نستعد لملقاتها‪.‬‬
‫ويتابع المولى سبحانه قوله‪َ { :‬ومَا مَسّ ِنيَ السّوءُ إِنْ أَنَاْ ِإلّ نَذِي ٌر وَبَشِيرٌ ّلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫وساعة ترى " إن " فهي مرة تكون شرطية مثل‪ " :‬إن ذاكرت تنجح " ‪ ،‬ومرة تكون للنفي وتجد‬
‫بعدها اسما‪ ،‬والمعنى‪ :‬ما أنا إل نذير وبشير لقوم يؤمنون‪ .‬والكلم موجه إلى المؤمنين لنهم هم‬
‫الذين ينتفعون بالنذارة وبالبشارة‪ ،‬وما يُنذروا به ل يفعلوه‪ ،‬وما يبشروا به يفعلوه‪.‬‬
‫سكُنَ إِلَ ْيهَا‪} ...‬‬
‫جهَا لِيَ ْ‬
‫ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫ح َد ٍة وَ َ‬
‫س وَا ِ‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ُ { :‬هوَ الّذِي خََل َقكُمْ مّن ّنفْ ٍ‬

‫(‪)1130 /‬‬

‫خفِيفًا‬
‫حمْلًا َ‬
‫حمََلتْ َ‬
‫سكُنَ إِلَ ْيهَا فََلمّا َتغَشّاهَا َ‬
‫جهَا لِ َي ْ‬
‫ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫س وَاحِ َد ٍة َو َ‬
‫ُهوَ الّذِي خََل َقكُمْ مِنْ َنفْ ٍ‬
‫عوَا اللّهَ رَ ّب ُهمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ (‪)189‬‬
‫َفمَ ّرتْ ِبهِ فََلمّا أَ ْثقََلتْ دَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جهَا }‬
‫ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫ح َدةٍ } المقصود بها آدم‪ ،‬وقول الحق‪ { :‬وَ َ‬
‫س وَا ِ‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬خََل َقكُمْ مّن ّنفْ ٍ‬
‫المقصود بها حواء‪ ،‬ونلحظ في الداء في هذه الية أن الضمير عائد إلى مؤنث‪ُ { .‬هوَ الّذِي خََل َقكُمْ‬
‫جهَا }‬
‫ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫مّن ّنفْسٍ وَاحِ َد ٍة وَ َ‬
‫سكُنَ إِلَ ْيهَا }‬
‫ثم جاء بالتذكير في قوله‪ { :‬لِ َي ْ‬
‫سكُنَ }‪ .‬فكأن الكلم في النفس معنىّ به جنس بني آدم‬
‫إذن فصل الذكورة عن النوثة جاء عند { لِ َي ْ‬
‫وهو الذي نسميه " النسان " ومنه ذكورة ومنه أنوثة‪ ،‬ولذلك فسبحانه حينما يتكلم عن الذكورة‬
‫سكُنَ إِلَ ْيهَا }‪.‬‬
‫كذكورة‪ ،‬والنوثة كأنوثة‪ ،‬يأتي بضمير المذكر‪ ،‬أو بضمير المؤنث‪ ،‬وقوله‪ { :‬لِ َي ْ‬
‫لنه يريد أن يوضح أن المرأة جُعلَت للرجل سكنا‪ ،‬ل يقال‪ :‬إنها له سكن إل إذا كان هو متحركا‪،‬‬
‫كأن الحركة والكدح في الحياة للرجل‪ ،‬ثم يستريح مع المرأة ويسكن إليها بالحنان‪ ،‬بالعطف‪،‬‬
‫بالرقة‪ .‬أما إن لم تكن سكنا فهو يخرج من البيت لن ذلك أفضل له‪ .‬وقول الحق تبارك وتعالى‪{ :‬‬
‫جهَا }‪.‬‬
‫ج َعلَ مِ ْنهَا َز ْو َ‬
‫وَ َ‬
‫يذكرنا بما عرفناه من قبل من أن ال خلق آدم من الطين ومن الصلصال ثم نفخ فيه ربّنا الروحَ‪،‬‬
‫أما حواء فقد ذكرها في هذه المسألة‪ ،‬وأوضح‪ :‬أنا جعلت منها زوجها‪ ،‬و " منها " أي أنها قطعة‬
‫منه‪ ،‬وقيل‪ :‬إنها خلقت من ضلع أعوج‪ ،‬ومن يرجع هذا الرأي يقول لك‪ :‬لن ال يريد أن يجعل‬
‫السكن ارتباطا عضويا‪ ،‬فالمرأة بعض من الرجل‪ ،‬ونعرف أن الواحد منا يحب ابنه لنه بعض‬
‫منه‪ .‬وعلى ذلك فهذا القول جاء لتقديم اللفة‪ .‬وهناك من يقول‪ :‬إن حواء خلقت مثل آدم فلماذا جاء‬
‫ذكر آدم ولم يأت بذكر حواء؟‬
‫ونقول‪ :‬إن آدم أعطى الصورة في خلق النسان من طين‪ ،‬لن آدم هو الرسول وهو المسجود له‪.‬‬
‫ونعلم أن المرأة دائما مبنية على الستر‪ .‬ومثال ذلك نجد الفلح في مصر ل يقول‪ :‬زوجتي‪ ،‬بل‬
‫يقول‪ " :‬الجماعة " أو " الولد " أو يقول‪ " :‬أهلي " ول يذكر اسم الزوجة أبدا‪.‬‬
‫ج َعلَ مِ ْنهَا } ‪ ،‬فإن كانت مخلوقة من الضلع فـ " مِنْ " تبعيضية‪ ،‬وإن كانت‬
‫والحق يقول هنا‪ { :‬وَ َ‬
‫مخلوقة مثل آدم تكون " مِنْ " بيانية‪ ،‬أي من جنسها‪ ،‬مثلها مثلما يقول ربنا‪ُ {:‬هوَ الّذِي َب َعثَ فِي‬
‫لمّيّينَ َرسُولً مّ ْنهُمْ‪[} ...‬الجمعة‪.]2 :‬‬
‫اُ‬
‫أي الرسول من جنسنا البشري ليكون إلف المبلغ عن ال‪ ،‬والمبلغ عن ال واحدا منا ونكون‬
‫مستأنسين به‪ ،‬ولذلك قلنا‪ :‬إن اختيار ال للرسول صلى ال عليه وسلم من البشر فيه رد على من‬
‫أرادوا أن يكون الرسول من جنس آخر غير البشر‪ ،‬فقال الحق على ألسنتهم‪َ {:‬ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن‬
‫ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ َبشَرا رّسُولً }‬

‫[السراء‪.]94 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَآءِ مَلَكا‬
‫طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ‬
‫ويأتي الرد عليهم‪ {:‬قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ مُ ْ‬
‫رّسُولً }[السراء‪.]95 :‬‬
‫ثم لو كان الرسول من جنس الملئكة فكيف كانوا يرونه على حقيقته؟ كان ل بد أن يخلقه ال على‬
‫هيئة النسان‪.‬‬
‫خفِيفا {‬
‫حمْلً َ‬
‫حمََلتْ َ‬
‫ويتابع سبحانه‪ } :‬فَلَماّ َتغَشّاهَا َ‬
‫و } َتغَشّاهَا { تعبير مهذب عن عملية الجماع في الوظيفة الجنسية بين الزوج والزوجة‪ ،‬والغشاء‬
‫هو الغطاء‪ ،‬وجعل ال الجماع من أجل التناسل ليبث منهما رجالً كثيرا ونساء‪.‬‬
‫والمعنى هنا أنها حملت الجنين لفترة وهي ل تدري أنها حامل‪ ،‬لن نموّ الجنين بطىء بطىء ل‬
‫عوَا اللّهَ رَ ّب ُهمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحا لّ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ‬
‫تشعر الم به‪َ } .‬فمَ ّرتْ بِهِ فََلمّآ أَ ْثقََلتْ دّ َ‬
‫{ [العراف‪.]189 :‬‬
‫ومرت به‪ ،‬مقصود بها أنها تتحرك حركة حياتها قياما وقعودا إلى أن تثقل وتشعر بالحمل في‬
‫شهوره الخيرة‪.‬‬
‫وهنا عرف الزوج أن هناك حمل ورفع الثنان أيديهما بالدعاء ل عز وجل أن يكون الولد صالحا‬
‫جهَا‬
‫ج َعلَ مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫س وَاحِ َدةٍ وَ َ‬
‫بالتكوين البدني وصالحا للقيام بقيم المنهج‪ُ } .‬هوَ الّذِي خََل َقكُمْ مّن ّنفْ ٍ‬
‫سكُنَ إِلَ ْيهَا { [العراف‪.]189 :‬‬
‫لِيَ ْ‬
‫أي أن الذكورة قد انفصلت عن النوثة‪ ،‬وصار الذكر يسكن عند النثى‪.‬‬
‫وهكذا كان المر الخاص بآدم‪ ،‬ثم جاء الكلم للذرية‪ ،‬وخصوصا أن حواء كانت تحمل بذكر‬
‫وأنثى‪ ،‬وآدم وحواء وأولدهما هم أصل التواجد البشري وأصل التوالد‪.‬‬
‫والقرآن قد يتكلم في موضوعات تبدو متباعدة‪ .‬لكنها تضم قيما ذات نسق فريد‪ ،‬فنجد الحق يتكلم‬
‫في أمر ثم يتكلم في آخر‪ ،‬مثل قوله‪ُ {:‬هوَ الّذِي يُسَيّ ُر ُكمْ فِي الْبَ ّر وَالْبَحْرِ حَتّىا إِذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْلكِ‬
‫ن وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ‬
‫ف وَجَآءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَا ٍ‬
‫وَجَرَيْنَ ِبهِم بِرِيحٍ طَيّبَةٍ َوفَرِحُواْ ِبهَا جَآءَ ْتهَا رِيحٌ عَاصِ ٌ‬
‫أُحِيطَ ِبهِمْ‪[} ...‬يونس‪.]22 :‬‬
‫ولم يأت بسيرة البر هنا‪ ،‬بل تكلم بالبر والبحر ثم انتقل إلى الحديث عن مجيء الموت‪ ،‬وأيضا‬
‫انظر إلى قول الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬و َوصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَيْهِ ِإحْسَانا‪[} ...‬الحقاف‪.]15 :‬‬
‫حمُْلهُ‬
‫ضعَتْهُ كُرْها وَ َ‬
‫حمَلَ ْتهُ ُأمّهُ كُرْها وَ َو َ‬
‫هنا يوصي الحق النسان بوالديه‪ ،‬بالب وبالم‪ ،‬ثم يتابع‪َ {:‬‬
‫شهْرا‪[} ...‬الحقاف‪.]15 :‬‬
‫َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ‬
‫ولم تأت سيرة الرجل بل كل الحيثيات للم‪.‬‬
‫جعَلَ لَهُ شُ َركَآءَ‪.{ ...‬‬
‫ويقول سبحانه وتعالى بعد ذلك‪ } :‬فََلمّآ آتَا ُهمَا صَالِحا َ‬

‫(‪)1131 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ (‪)190‬‬
‫جعَلَا لَهُ شُ َركَاءَ فِيمَا آَتَا ُهمَا فَ َتعَالَى اللّهُ َ‬
‫فََلمّا آَتَا ُهمَا صَاِلحًا َ‬

‫صيّ " وهو جد من أجداده صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فقد طلب "‬
‫ويروى أن هذه الية قد نزلت في " ٌق َ‬
‫ُقصَيّ " من ال أن يعطي له الذرية الصالحة‪ ،‬فلما أعطاه ربنا الذرية الصالحة سماها بأسماء‬
‫العبيد‪ ،‬فلم يقل‪ :‬عبدال أو عبدالرحمن‪ ،‬بل قال‪ :‬عبدمناف‪ ،‬عبدالدار‪ ،‬عبدالعزى‪ .‬وجعل ل شركاء‬
‫جعَلَ لَهُ شُ َركَآءَ فِيمَآ آتَا ُهمَا }؛ ليدلنا على أن النسان في‬
‫في التسمية‪ ،‬ولهذا جاء قول الحق‪َ { :‬‬
‫أضعف أحواله‪ ،‬أي حينما يكون ضعيفا عن استقبال الحداث‪ ،‬يخطر بباله ربنا؛ لنه يحب أن‬
‫يسلم نفسه لمن يعطي له ما يريده‪ ،‬وبعد أن ينال مطلبه ينسى‪ ،‬ولذلك يقول الحق‪ {:‬وَإِذَا مَسّ‬
‫شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ ِإلَىا ضُرّ‬
‫الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ‬
‫مّسّهُ‪[} ...‬يونس‪.]12 :‬‬
‫إذن فائدة الضر أنه يجعلنا نلجأ إلى ربنا‪ ،‬ولذلك نجد النسان أحسن ما يكون ذكرا ل وتسبيحا ل‬
‫حينما يكون في الشدة وفي المرض‪ ،‬ولذلك لو قدر المريض نعمة ال عليه في مرضه وشدته‪ ،‬ل‬
‫أقول‪ :‬إنه قد يحب أن يستطيل مدة المرض والشدة‪ .‬ل‪ ،‬بل عليه فقط أل يضجر وأن يلجأ إلى ربه‬
‫ويدعوه‪ .‬وقد علمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك حينما قال‪ " :‬اللهم إليك أشكو ضعف‬
‫قوتي‪ ،‬وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين‪ .‬أنت رب المستضعفين‪ ،‬وأنت ربي‪ .‬إلى‬
‫من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى عدوّ مّلكته أمري؟ إن لم يكن بك علي غضب فل أبالي‪،‬‬
‫ولكن عافيتك هي أوسع لي‪ .‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا‬
‫والخرة من أن تنزل بي غضبك‪ ،‬أو يحل عليّ سخطك‪ ،‬لك العتبى حتى ترضى ول حول ول‬
‫قول إل بك "‪.‬‬
‫والنسان ساعة يوجد في المرض عليه أن يعرف النعمة فيه‪ ،‬فهو في كل حركة من حركاته يذكر‬
‫ال‪ ،‬وكما تخمد فيه طاقات الندفاعات الشهوانية‪ ،‬يمتلىء بإيجابيات علوية‪ ،‬ولذلك نجد الحديث‬
‫القدسي يقول فيه ربنا سبحانه وتعالى‪:‬‬
‫" يا ابن آدم مرضت فلم تعدني‪ ،‬قال‪ :‬وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال‪ :‬أما علمت أن عبدي‬
‫فلنا مرض فلم تعده؟ أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني‪،‬‬
‫قال‪ :‬يا رب‪ .‬كيف أطعمك‪ ،‬وأنت رب العالمين؟ قال‪ :‬أما علمت أنه استطعمك عبدي فلن‪ ،‬فلم‬
‫تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم استسقيتك فلم تسقني‪ ،‬قال‪ :‬يا‬
‫رب‪ .‬كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال‪ :‬استسقاك عبدي فلن فلم تسقه‪ ،‬أما إنك لو سقيته‬
‫لوجدت ذلك عندي "‪.‬‬
‫إذن ماذا عن حال مريض يستشعر أن ربه عنده‪ ،‬ويكون في المرض مع المنعم‪ ،‬وفي الصحة مع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمّا ُيشْ ِركُونَ } [العراف‪:‬‬
‫جعَلَ َلهُ شُ َركَآءَ فِيمَآ آتَا ُهمَا فَ َتعَالَى اللّهُ َ‬
‫النعمة‪ { .‬فََلمّآ آتَا ُهمَا صَالِحا َ‬
‫‪.]190‬‬
‫ومعنى هذا أن ربنا تبارك وتعالى ينزه نفسه عما يقول فيه المبطلون ويشركون معه ما يزعمون‬
‫من آلهة‪ .‬ولذلك يقول سبحانه وتعالى‪ { :‬أَيُشْ ِركُونَ مَا لَ يَخُْلقُ‪} ...‬‬

‫(‪)1132 /‬‬

‫أَيُشْ ِركُونَ مَا لَا َيخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ ُيخَْلقُونَ (‪)191‬‬

‫أيشركون في عبادة ال من ل يخلقون شيئا‪ ،‬وهم أنفسهم مخلوقون ل‪ ،‬إن من أشركوا بال‬
‫الصنام فعلوا ذلك بالوهم وتنازلوا عن العقل‪ ،‬وكان الواجب أن يكونوا عقلء فل يتخذون من‬
‫الصنام آلهة‪ { .‬أَيُشْ ِركُونَ مَا لَ يَخُْلقُ شَيْئا وَهُمْ ُيخَْلقُونَ }‬
‫ولذلك فإن هناك آية أخرى تفضح زعمهم يقول فيها الحق تبارك وتعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن‬
‫خُلقُواْ ذُبَابا وَلَوِ اجْ َت َمعُواْ َلهُ‪[} ...‬الحج‪.]73 :‬‬
‫دُونِ اللّهِ لَن يَ ْ‬
‫ونعلم أن البشر في المعامل قد عرفوا العجز عن خلق خلية واحدة وهي التي ل ترى بالعين‬
‫المجردة‪ ،‬ولذلك أوضح الحق أن المسألة ليست أمر خلق‪ ،‬بل إن الذباب لو وقع على طعام إنسان‬
‫وأخذ على جناحه أو في خرطومه شيئا‪ ،‬لن يستطيع أحد أن يسترد المأخوذ منه‪ ،‬فقد ضعف‬
‫الطالب والمطلوب‪.‬‬
‫والخلق ‪ -‬كما نعلم ‪ -‬أول مرتبة من مراتب القدرة‪ ،‬فإذا كانت الصنام التي اتخذها هؤلء شركاء‬
‫ل تخلق شيئا بإقرارهم هم‪ ،‬فكيف يعبدونها؟ إنها ل تخلق شيئا بدليل أنها ل تتناسل‪ .‬بل إذا أراد‬
‫العابدون أن يزيدوا صنما صنعه العابدون بأنفسهم‪ .‬ونلحظ أن الحق جاء هنا بالقول‪ { :‬أَ ُيشْ ِركُونَ }‬
‫بصيغة تعجب‪ ،‬والتعجب ينشأ عن إنكار ما به الستفهام‪ ،‬أي تعجب منكرا على وفق الطباع‬
‫العادية‪ ،‬مثلما يقول لنا‪ {:‬كَ ْيفَ َتكْفُرُونَ بِاللّهِ‪[} ...‬البقرة‪.]28 :‬‬
‫أي قولوا لنا ما الطريقة التي بها تكفرون بال وتسترون وجوده‪ ،‬مع هذه اليات البينات‬
‫الواضحات؟ فكأن ذلك أمْر عجب يدعو أهل الحق للدهشة والستغراب والنكار الشديد‪ ،‬وحينما‬
‫يتكلم الحق بإنكار شيء لنه أمر عجيب‪ ،‬يوجه الكلم مرة إليهم‪ ،‬ومرة أخرى يوجهه إلى غيرهم‪،‬‬
‫مثل قوله هنا‪ { :‬أَيُشْ ِركُونَ مَا لَ َيخْلُقُ شَيْئا وَهُمْ يُخَْلقُونَ }‬
‫والكلم للمؤمنين لنه يريد أن يعطي لقطتين في الية‪ ،‬اللقطة الولى‪ :‬أن ينكر ما فعله هؤلء‪،‬‬
‫وأن يزيد القوم الذين لم يفعلوا ثقة في نفوسهم‪ ،‬وفرحة بمواقفهم اليمانية‪ ،‬حيث لم يكونوا مثل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هؤلء { أَ ُيشْ ِركُونَ مَا لَ َيخْلُقُ شَيْئا وَهُمْ ُيخَْلقُونَ }‪.‬‬
‫وفي الية الكريمة وقفة لفظية في السلوب العربي نفسه قد تثير عند البعض إشكال‪ ،‬في قوله‬
‫تعالى‪ { :‬مَا لَ يَخُْلقُ شَيْئا }‪ .‬و " ما " تعني الذي لم يخلق شيئا‪ ،‬و " يخلق " هنا للمفرد‪ ،‬وسبحانه‬
‫وتعالى جعل للمفرد هنا عمل الجمع فقال‪ { :‬أَيُشْ ِركُونَ مَا لَ يَخُْلقُ شَيْئا }‪.‬‬
‫وأقول‪ :‬إن الذي يقف هذه الوقفة‪ ،‬ويلحظ هذا الملحظ إنسان سطحي الثقافة بالعربية‪ ،‬لنه ل يعلم‬
‫أن " ما " و " من " و " الـ " تطلق على المفرد والمفردة‪ ،‬وعلى المثنى والمثناة‪ ،‬وعلى جمع‬
‫الذكور وجمع الناث‪ ،‬فتقول‪ :‬جاءني من أكرمته‪ ،‬وجاءتني من أكرمتها‪ ،‬وجاءني من أكرمتهما‪،‬‬
‫وجاءت من أكرمتهما‪ ،‬وجاء من أكرمتهم وجاء من أكرمتهن‪.‬‬

‫وكذلك " ما "‪ .‬إذن فقول الحق‪ } :‬مَا لَ يَخُْلقُ { في ظاهرها مفرد‪ ،‬ولكن اللفظ يطلق على المفرد‬
‫والجماعة؛ لذلك جاء في المر الثاني وراعى الجماعة‪ ،‬إذن " يخلق " للمفرد‪ ،‬و " هم يخلقون "‬
‫للجمع لن قوله‪ " :‬ما " صالح للجميع أي للمفرد وللمثنى وللجمع وللمذكر وللمؤنث‪.‬‬
‫ومثال ذلك قول الحق تبارك وتعالى‪َ {:‬ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ‪} ...‬‬
‫[محمد‪.]16 :‬‬
‫وسبحانه قال هنا‪َ } :‬ومِ ْنهُمْ مّن َيسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ { ‪ ،‬ولم يقل‪ " :‬حتى إذا خرج من عندك " بل قال‪} :‬‬
‫َومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا إِذَا خَ َرجُواْ { أي أنه جاء بالجماعة‪ ،‬فإذا رأيت ذلك في " ما " و " من‬
‫" و " الـ " فاعلم أن هذه اللفاظ يستوي فيها المفرد والمفردة والمثنى والمثناة وجمع الذكور‬
‫خلُقُ شَيْئا وَهُمْ ُيخَْلقُونَ {‪.‬‬
‫وجمع الناث‪ } .‬أَ ُيشْ ِركُونَ مَا لَ يَ ْ‬
‫وهنا في هذه الية وقفة لغوية أخرى في قوله‪ " :‬هم " وهي ل تطلق إل على جماعة العقلء‪،‬‬
‫فكيف يطلق على الصنام " هم " وليست من العقلء؟ وأقول‪ :‬إن الحق سبحانه وتعالى لما علم‬
‫أنهم يعتقدون أنها تضر‪ ،‬وأنها تنفع‪ ،‬فقد تكلم معهم على وفق ما يعتقدون‪ ،‬لكي يرتقي معهم في‬
‫رد النكار لكل ما يستحق النكار‪ .‬فأول مرحلة عرفهم أن الصنام ل تخلق‪ ،‬وثاني مرحلة عرفهم‬
‫أنهم هم أنفسهم مخلوقون والصنام ل تقدر على نصرهم‪ ،‬إذن فهم معطلون من كل ناحية؛ لنهم‬
‫ل يخلقون‪ .‬وهذا أول عجز‪ ،‬ومن ناحية أخرى أنهم يُخْلَون وهذا عجز آخر‪ ،‬لكن بعد هذا العجز‬
‫الول والعجز الثاني فهل هم قادرون على نصر غيرهم؟ ها هو ذا سبحانه يترقى في الحوار‬
‫معهم ترقية أخرى فيقول‪َ } :‬ولَ يَسْتَطِيعُونَ َلهُمْ َنصْرا‪{ ...‬‬

‫(‪)1133 /‬‬

‫سهُمْ يَ ْنصُرُونَ (‪)192‬‬


‫وَلَا يَسْتَطِيعُونَ َلهُمْ َنصْرًا وَلَا أَ ْنفُ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن فل أحد من الصنام قادر على أن ينصر نفسه أو يضمن نصر غيره‪.‬‬
‫وهكذا نجد الترقي في الحوار على أربع مراحل‪ ،‬أولَ‪ :‬ل يخلقون‪ ،‬ثانيا‪ :‬هم يُخلَقون‪ ،‬ثالثا‪ :‬ل‬
‫ينصرونكم‪ ،‬ورابعا‪ :‬ول ينصرون أنفسهم‪ .‬ثم تأتي المرحلة الخامسة في قوله الحق‪ { :‬وَإِن‬
‫تَدْعُوهُمْ إِلَى ا ْلهُدَىا لَ يَتّ ِبعُوكُمْ‪} ...‬‬

‫(‪)1134 /‬‬

‫عوْ ُتمُوهُمْ أَمْ أَنْ ُت ْم صَامِتُونَ (‪)193‬‬


‫سوَاءٌ عَلَ ْيكُمْ َأدَ َ‬
‫وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى ا ْلهُدَى لَا يَتّ ِبعُوكُمْ َ‬

‫وعلى ذلك فهي خمس مراحل ‪ -‬إذن ‪ ،-‬أكررها لتستقر في الذهن‪ ،‬أولها أنه من الجائز أنه ل‬
‫يَخلُق‪ ،‬ومن الجائز أن يكون مخلوقا‪ ،‬ومن الجائز أنه ل يقدر أن ينتصر لغيره لنه ضعيف‪ ،‬ول‬
‫ينتصر لنفسه لنه أضعف‪ ،‬ومع ذلك إن أردت أن تهديه إلى شيء من ذلك أو إلى شيء من العلم‬
‫فل يقبل منك‪.‬‬
‫وكانوا في الجاهلية حين يفزعهم أمر جسيم ينادونهم ويقولون‪ :‬يا هبل‪ ،‬يا لت‪ ،‬يا عزى‪ .‬وإن لم‬
‫يصبهم أمر سكتوا عن نداء الصنام؛ لذلك يقول لهم ال من خلل الوحي لرسوله صلى ال عليه‬
‫عوْ ُتمُوهُمْ أَمْ أَنْ ُت ْم صَامِتُونَ }‬
‫سوَآءٌ عَلَ ْيكُمْ َأدَ َ‬
‫وسلم‪ { :‬وَإِن تَدْعُو ُهمْ إِلَى ا ْلهُدَىا لَ يَتّ ِبعُوكُمْ َ‬
‫[العراف‪.]193 :‬‬
‫أي إن دعوتكم لهم ل تفيد في أي أمر تماما كصمتكم‪.‬‬
‫صمَتّم "؛‬
‫عوْ ُتمُوهُمْ } فلم يقل‪ " :‬أدعوتموهم أم َ‬
‫سوَآءٌ عَلَ ْيكُمْ َأدَ َ‬
‫ونلحظ أن السلوب هنا مختلف { َ‬
‫لن الفعل يقتضي الحدوث‪ ،‬ولنا أن نعرف أنهم كانوا ل يفزعون إلى آلهتهم إل عند الحداث‬
‫الجسام‪ .‬أما بقية الوقت فقد كانوا ل يكلمونهم أبدا؛ لذلك جاءت " صامتون " لزمة‪ ،‬لنها اسم‪،‬‬
‫والسم يقتضي الثبوت والستمرار‪ ،‬أما الفعل فيقتضي الحدوث والتجدد‪.‬‬
‫والحق هنا يبلغ المشركين‪ :‬سواء عليكم أدعوتموهم أم لم تدعوا‪ ،‬فعدم الستجابة متحقق فيهم‬
‫وواقع منهم‪ ،‬وعدم النصر لنفسهم ولغيرهم متحقق منهم‪.‬‬
‫ثم يتكلم الحق عن قضية أخرى فيقول‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ‪} ...‬‬

‫(‪)1135 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ عِبَادٌ َأمْثَاُلكُمْ فَادْعُو ُهمْ فَلْيَسْ َتجِيبُوا َلكُمْ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ (‪)194‬‬

‫و { َتدْعُونَ } لها معنيان‪ ،‬المعنى الول يعني أنكم قد تتخذونهم آلهة وتعبدونهم‪ ،‬والمعنى الثاني‬
‫هو أن يقال‪ " :‬تدعونه " أي تطلب منه شيئا‪ .‬والمعنيان يجيئان في هذه الية‪ { :‬إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ‬
‫مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ َأمْثَاُل ُكمْ فَادْعُوهُمْ }‪.‬‬
‫وعنْدَما يسمع النسان كلمة " عباد " يفهم أنها من الجنس المتعقل الحي‪ ،‬فكيف تكون الصنام‬
‫عبادا؟ وأقول‪ :‬نحن هنا نأخذها على شهرة اللفظ‪ ،‬أما إذا أردنا تحقيق اللفظ وتعقيده‪ ،‬فالبناء مأخوذ‬
‫من التذلل والخضوع‪ ،‬ألم يقل موسى لفرعون‪:‬؟{ وَتِ ْلكَ ِن ْعمَةٌ َتمُّنهَا عََليّ أَنْ عَبّدتّ بَنِي إِسْرَائِيلَ }‬
‫[الشعراء‪.]22 :‬‬
‫أي أذللتهم‪ .‬وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تكون الصنام عبادا أمثالهم في أنهم يُذلون؛‬
‫لن السيل إذا نزل أو هبت الريح نجد هذه الصنام قد وقعت وتكسرت رقابها‪ ،‬فيهرع المشركون‬
‫ليأتوا بمن يعيد ترميم هذه اللهة!! إذن فأنتم أيها المشركون؛ لنكم مخلوقون بال قد تملكون قدرة‪،‬‬
‫وقوة تستطيعون بها إن جاء لكم ضر أن تدفعوا الضر عنكم‪ ،‬أما الصنام فليست لها أدنى قدرة إن‬
‫جاءها من يحطمها‪ ،‬أو يكسرها‪ ،‬أو يقبلها‪ ،‬فهي أضعف منكم‪ .‬وبذلك تكون كلمة { عِبَادٌ َأمْثَاُلكُمْ }‬
‫لونا من الترقي‪.‬‬
‫وعلى فرض أنهم عباد أمثالكم‪ ،‬فالعبد من الحياء حينما يأتي شيء يستذله‪ ،‬قد يستطيع أن يدفع‬
‫عن نفسه بعض الشيء إل إن كان الشيء قويا فوق طاقته‪ .‬فالمراد والمقصود أنهم عباد أمثالكم‬
‫أي مذللون ومسخرون ول يستطيعون دفع شيء عن أنفسهم‪ .‬وأنت إذا ما نظرت إلى هذه المسألة‬
‫وأخذت معنى عباد على معناها الطلقي‪ ،‬فأنت تعلم أن العبد هو كل مسخر مذلل من العباد‪.‬‬
‫لكن هناك مذلل ومسخر فيما ل اختيار له فيه‪ ،‬وآخر مذلل ومسخر فيما له فيه اختيار أيضا‪،‬‬
‫والفرق بين الثنين أن الكافر فيما له اختيار؛ إما أن يؤمن وإما أن ل يؤمن ويختار الكفر‪ ،‬بل إن‬
‫النسان المؤمن له الختيار في أن يطيع أو يعصي‪ .‬ولكن هناك أشياء أخرى تجري على النسان‬
‫ل اختيار له فيها‪ ،‬كأن يمرض ول يقدر أن يقول‪ :‬ل لن أمرض‪ ،‬أو قد يأتيه الموت فل يقدر أن‬
‫يقول‪ :‬لن أموت‪ .‬وقد يهلك ماله أو تحترق داره فل يستطيع دفع القدر‪ ،‬وكل هذه أمور قهرية‬
‫يكون النسان فيها مذللً مسخرا‪ ،‬والكافر والمؤمن في هذه المور سواء‪.‬‬
‫والمؤمن يتميز بأنه يتبع منهج ال فيما له فيه اختيار‪ ،‬وهذه فائدة اليمان‪ ،‬وبذلك يخرج المؤمن‬
‫عن الختيار المخلوق ل‪ ،‬إلى مراد ال منه في الحكم‪ ،‬ويستوي بكل شيء مسخر ل‪ ،‬ولذلك نقول‬
‫للذين يكفرون‪ :‬كفرتم وتأبيتم بما خلق فيكم من الختيار عن اليمان بال‪.‬‬
‫وقد جعلها ال لكم بقوله‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ ‪َ ...‬فمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف‪]29 :‬‬
‫وما دام الواحد منكم أيها الكافرون يتأبى ويستكبر على حكم ال‪ ،‬إذن فللواحد منكم أيها الكافرون‬
‫رياضة على التمرد‪ ،‬فلماذا ل تقول للمرض لن أستسلم لك‪ .‬ولن يستطيع أحد الكافرين ذلك‪ ،‬لنه‬
‫إنما يكفر بما له حق ممنوح من ال في منطقة الختيار‪ ،‬أما في غير ذلك فالكل عباد مذللون‪} .‬‬
‫إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ َأمْثَاُلكُمْ فَادْعُو ُهمْ فَلْيَسْ َتجِيبُواْ َلكُمْ { [العراف‪]194 :‬‬
‫وقول الحق تبارك وتعالى‪ } :‬فَادْعُو ُهمْ { أي اطلبوا منهم أن يلبوا لكم أي طلب‪ ،‬وهم لن يستجيبوا‬
‫لكم؛ لنهم ل يقدرون أبدا‪ .‬وفي هذا القول لون من التحدي } فَلْ َيسْتَجِيبُواْ َلكُمْ { لكنهم لن يستجيبوا‪،‬‬
‫فليست لهم قدرة لن يخرجوا على أمر ربنا ويقولوا سنعطيكم ما تطلبون‪ ،‬لن طاقتهم وطبيعتهم‬
‫ل تقدر أن تستجيب‪.‬‬
‫وبعد أن قال الحق عن الصنام‪ :‬إنهم عباد أمثالكم‪ ،‬أراد أن ينزلهم منزلة أدنى من البشر فقال‪} :‬‬
‫جلٌ َيمْشُونَ ِبهَآ‪{ ...‬‬
‫أََلهُمْ أَ ْر ُ‬

‫(‪)1136 /‬‬

‫س َمعُونَ ِبهَا‬
‫جلٌ َيمْشُونَ ِبهَا أَمْ َل ُهمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ ِبهَا َأمْ َلهُمْ أَعْيُنٌ يُ ْبصِرُونَ ِبهَا َأمْ َلهُمْ آَذَانٌ َي ْ‬
‫أََلهُمْ أَ ْر ُ‬
‫ُقلِ ادْعُوا شُ َركَا َء ُكمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (‪)195‬‬

‫وينبه الحق تبارك وتعالى كل مشرك‪ ،‬وكأنه يقول له‪ :‬أنت لك رجل تمشي بها‪ ،‬ولك يد قد تبطش‬
‫بها‪ ،‬ولك أذن تسمع‪ ،‬ولك عين تبصر‪ ،‬فهل للصنام حواس مثل هذه؟‪ .‬ل‪ ،‬ليست لهم‪ ،‬إذن‪،‬‬
‫فالصنام أقل منك‪ ،‬فكيف تجعل القل إلها للكبر؟ إن هذا هو جوهر الخيبة‪.‬‬
‫س َمعُونَ } و { يُ ْبصِرُونَ } جاءت لن المشركين صوروا التمثال وله‬
‫وقوله‪َ { :‬يمْشُونَ ِبهَآ } ‪ ،‬و { يَ ْ‬
‫رجلن وله اذنان وله عينان ويضعون في مكان كل عين خرزة لتكون مثل حدقة العين‪ ،‬وحين‬
‫ينظر إنسان منهم إلى التمثال يخيل إليه أن التمثال ينظر إليه‪ .‬ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى‪{:‬‬
‫ك وَهُ ْم لَ يُ ْبصِرُونَ }[العراف‪.]198 :‬‬
‫‪...‬يَنظُرُونَ إِلَ ْي َ‬
‫جلٌ َي ْمشُونَ ِبهَآ َأمْ َلهُمْ أَيْدٍ يَ ْبطِشُونَ ِبهَآ أَمْ َلهُمْ أَعْيُنٌ يُ ْبصِرُونَ ِبهَآ أَمْ َلهُمْ‬
‫وفي قوله تعالى‪َ { :‬أَلهُمْ أَ ْر ُ‬
‫س َمعُونَ ِبهَا‪[ } ...‬العراف‪.]195 :‬‬
‫آذَانٌ يَ ْ‬
‫حين يعرض الحق مثل هذه المور بأسلوب الستفهام‪ .‬فإنما يريد أن يحقق المسائل عن أقوى‬
‫طريق‪ ،‬لن الستفهام ل بد له من إجابة‪ .‬والكلم من ال عند الكافر يحتمل الصدق ويحتمل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الكذب‪ .‬وإجابة الكافر ستكون قطعا بعدم استطاعة الصنام المشي أو اللمس أو الرؤية أو السماع؛‬
‫لذلك أراد الحق أل يكون الحكم من جهته‪ .‬بل الحكم من جهة المشركين‪ ،‬وفي هذا إقرار منهم‪.‬‬
‫ك صَدْ َركَ }[النشراح‪.]1 :‬‬
‫ولذلك يقول الحق مخاطبا الرسول صلى ال عليه وسلم‪ {.‬أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ‬
‫أما كان يستطيع سبحانه وتعالى أن يقول‪ :‬شرحنا لك صدرك؟ كان يستطيع ذلك‪ .‬ولكنه يأتي‬
‫جلٌ َيمْشُونَ‬
‫بالستفهام الذي يكون جوابه‪ :‬بلى لقد شرحت لي صدري‪ .‬وينبه قوله تعالى‪ { :‬أََلهُمْ أَ ْر ُ‬
‫س َمعُونَ ِبهَا‪} ...‬‬
‫ِبهَآ أَمْ َل ُهمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ ِبهَآ َأمْ َلهُمْ أَعْيُنٌ يُ ْبصِرُونَ ِبهَآ َأمْ َلهُمْ آذَانٌ َي ْ‬
‫إلى مقارنة الصنام بالبشر‪ .‬فالبشر لهم أرجل وأ ْيدٍ وأعين وآذان‪ ،‬وكل من هذه الجوارح لها عمل‬
‫تؤديه‪ ،‬وهكذا يتأكد للمشركين أنهم أعلى مرتبة من أصنامهم‪ .‬فكيف يجوز في عرف العقل أن‬
‫يكون العلى مرتبة مربوبا للدنى مرتبة؟ إن ذلك لون من الحمق‪ُ ...{ .‬قلِ ادْعُواْ شُ َركَآ َءكُمْ ُثمّ‬
‫كِيدُونِ فَلَ تُنظِرُونِ }‬
‫ورسول ال جاء بهذا القول ليدحض إيمانهم بهذه الصنام التي اتخذوها آلهة وليسفه أحلمهم فيها‪،‬‬
‫وبذلك أعلن العداوة ضدهم ‪ -‬العابدين‪ ،‬والمعبودين ‪ -‬وصارت خصومة واقعة‪ ،‬وسألهم أن يدعوا‬
‫الشركاء ليكيدوا لرسول ال بالذى أو التعب أو منع النصر الذي جاء للسلم‪ ،‬إن كانت عندكم أو‬
‫عندهم قدرة على ضر أو نفع { ُقلِ ادْعُواْ شُ َركَآ َءكُمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلَ تُنظِرُونِ }‪.‬‬
‫ويتحداهم صلى ال عليه وسلم أن يكيدوا هم وآلهتهم‪ ،‬والكيد هو التدبير الخفي المحكم‪ .‬وانظروا‬
‫ما سوف يحدث‪ ،‬ولن يصيب رسول ال بإذن ربه أدنى ضر‪.‬‬
‫ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى قد أجرى على رسول ال أشياء‪ ،‬ليثبت بها أشياء‪ ،‬وقد قالوا‪ :‬إن‬
‫واحدا قد سحر النبي‪ ،‬ولنفرض أن مثل ذلك السحر قد حصل‪ ،‬فكيف ينسحر النبي؟ ونقول‪ :‬ومن‬
‫الذي قال‪ :‬إنه سحر؟‪.‬‬

‫إن ربنا أعلمه بالساحر وبنوع السحر‪ ،‬وأين وضع الشيء الذي عليه السحر‪ ،‬ليبين لهم أن كيدهم‬
‫حتى بواسطة شياطينهم مفضوح عند ال‪ {.‬وَإِذْ َي ْمكُرُ ِبكَ الّذِينَ َكفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ َأوْ َيقْتُلُوكَ َأوْ‬
‫يُخْ ِرجُوكَ‪[} ...‬النفال‪.]30 :‬‬
‫وهم كانوا قد بيتوا المكر لرسول ال وأرادوا أن يضربوه ضربة واحدة ليتفرق دمه في القبائل‪،‬‬
‫فأوضح ربنا‪ :‬أنتم بيتم‪ ،‬ولكن مكركم يبور أمام أعينكم‪ .‬وليثبت لهم أنهم بالمواجهة لن يستطيعوا‬
‫مصادمته في دعوته‪ .‬ول بالتبييت البشري يستطيعون أن يصدموا دعوته‪ ،‬ول بتبييت الجن ‪-‬‬
‫وهم أكثر قدرة على التصرف ‪ -‬يستطيعون مواجهة دعوته‪ .‬وما داموا قد عرفوا أنهم لن يظهروا‬
‫على الرسول‪ ،‬ولن يفيد مكرهم أو سحرهم أو كيدهم مع شياطينهم‪ ،‬إذن فل بد أن ييأسوا‪ ،‬ولذلك‬
‫تحداهم وقال‪ُ ...} :‬قلِ ادْعُواْ شُ َركَآ َءكُمْ ُثمّ كِيدُونِ فَلَ تُنظِرُونِ { [العراف‪.]195 :‬‬
‫وأنظره يعني أخره‪ ،‬والقول هنا‪ :‬ل تؤخروا كيدكم مع شركائكم‪ ،‬بل نفذوا الكيد بسرعة‪ ،‬وقد أمر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحق رسوله صلى ال عليه وسلم أن يقول ذلك لن الرسول صلى ال عليه وسلم إنما آوى إلى‬
‫ركن شديد؛ لذلك يقول رسول ال بأمر الحق‪ } :‬إِنّ وَلِيّـيَ اللّهُ الّذِي نَ ّزلَ ا ْلكِتَابَ‪{ ...‬‬

‫(‪)1137 /‬‬

‫ن وَلِ ّييَ اللّهُ الّذِي نَ ّزلَ ا ْلكِتَابَ وَ ُهوَ يَ َتوَلّى الصّالِحِينَ (‪)196‬‬
‫إِ ّ‬

‫وما دام الوليّ هو ال‪ ،‬فالرسول صلى ال عليه وسلم ل يبالي بهم‪ ،‬و " الولي " هو الذي يليك‪،‬‬
‫وأنت ل تجعل أحدا يليك إل أقربهم إلى نفسك‪ ،‬وإلى قلبك‪ ،‬ول يكون أقربهم إلى نفسك وإلى قلبك‪،‬‬
‫إل إذا آنست منه نفعا فوق نفعك‪ ،‬وقوة فوق قوتك‪ ،‬وعلما فوق علمك‪ ،‬وقول الرسول بأمره‬
‫ن وَلِيّـيَ اللّهُ‪} ...‬‬
‫سبحانه وتعالى‪ { :‬إِ ّ‬
‫أي أنه ناصري على أي كيد يحاول معسكر الشرك أن يصنعه أو يبيته لي‪ .‬فال هو ولي الرسول‬
‫أي ناصره‪ ،‬والقريب منه بصفات الكمال والجلل التي تخصه سبحانه وتعالى‪ ،‬وعندما يكون‬
‫لمؤمن خصلة ضعف فهو يذهب لمن عنده خصلة قوة‪ ،‬ولذلك قلنا في قصة موسى عليه السلم‬
‫حين التفت قومه ووجدوا قوم فرعون فقالوا‪ { :‬إِنّا َلمُدْ َركُونَ }‬
‫أي أن جيش فرعون سيدركهم‪ ،‬لن البحر أمامهم والعدو وراءهم‪ .‬وليس أمامهم فسحة أمامية‬
‫للهرب ول منفذ لهم إل أن يصمدوا أمام جيش فرعون وهم بل قوة ولم يكذبهم موسى عليه السلم‬
‫في قولهم‪ .‬بل قال لهم يطمئنهم‪ {:‬كَلّ إِنّ َمعِيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء‪.]62 :‬‬
‫وهنا خرجت المسألة عن أسباب البشر وانتهت إلى الركن الشديد الذي يأوي إليه الرسل‪ .‬ول يقول‬
‫هذا القول إل وهو واثق تمام الثقة من نصرة ال‪ ،‬وسبق أن رويت لكم حكاية المرأة الوروبية‬
‫التي أسلمت لنها كانت تقرأ سيرة الرسول صلى ال عليه وسلم كبطل من أبطال العالم‪ ،‬صنع‬
‫أكبر انقلب في تاريخ البشرية‪ ،‬ولما مرت في تاريخه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬قرأت أن صحابته‬
‫كانوا يحرسونه من خصومه وأعدائه‪ ،‬إلى أن فوجئوا في يوم ما بأن قال لهم رسول ال صلى ال‬
‫ص ُمكَ مِنَ النّاسِ‪[ " } ...‬المائدة‪.]67 :‬‬
‫عليه وسلم‪ " :‬اذهبوا عني‪ .‬فإن ال أنزل عليّ‪ { :‬وَاللّهُ َي ْع ِ‬
‫واستوقفت هذه الواقعة هذه المرأة فقالت‪ :‬إن هذا الرجل إن أراد أن يكذب على الناس جميعا ما‬
‫كذب على نفسه‪ ،‬ول يمكن أن يُسلم نفسه لعدائه بدون حراسة إل إذا كان واثقا من أن ال أنزل‬
‫عليه هذا‪ ،‬وأنه قادر أن يعصمه‪ ،‬وإل دخلَ بنفسه في تجربة‪ .‬والباحثة من هذه الواقعة قد أخذت‬
‫لفتة العبرة‪ .‬وفي مثل هذا يقول الحق تبارك وتعالى على لسان رسول ال صلى ال عليه وسلم‪{:‬‬
‫‪ُ ...‬قلِ ادْعُواْ شُ َركَآ َءكُمْ ثُمّ كِيدُونِ فَلَ تُنظِرُونِ }[العراف‪.]195 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكأنه صلى ال عليه وسلم يستدعيهم إلى التحدي بالمعركة بالمكر والتبييت‪ ،‬وأل يتأخروا عن‬
‫ب وَ ُهوَ يَ َتوَلّى‬
‫ن وَلِيّـيَ اللّهُ الّذِي نَ ّزلَ ا ْلكِتَا َ‬
‫ذلك وهو واثق من أن ال عز وجل ينصره‪ { .‬إِ ّ‬
‫الصّالِحِينَ } [العراف‪]196 :‬‬
‫وأنزل الحق تبارك وتعالى على رسوله الكتاب المبين ليبلغه للخلق‪ ،‬ول يمكن أن يسلمه إلى عدو‬
‫يمنعه من تمام البلغ عن ال‪.‬‬

‫ن وَلِيّـيَ اللّهُ‬
‫لقد أنزل الحق الكتاب على رسوله ليبلغه إلى الكافة ول يمكن أن يتخلى عنه‪ } .‬إِ ّ‬
‫ب وَ ُهوَ يَ َتوَلّى الصّاِلحِينَ {‬
‫الّذِي نَ ّزلَ ا ْلكِتَا َ‬
‫وقوله‪ } :‬وَ ُهوَ يَ َتوَلّى الصّاِلحِينَ { أي أنه ل يجعل الولية خصوصية للرسول صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬بل يقول لكل واحد من أتباعه‪ :‬كن صالحا في أي وقت‪ ،‬أمام أي عدو‪ ،‬ستجد ال وهو‬
‫يتولك بالنصر‪ ،‬وساعة يعمم ال الحكم؛ فهو ينشر الطمأنينة اليمانية في قلوب أتباعه صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ .‬وكل من يحمل من أمر دعوته صلى ال عليه وسلم شيئا ما سوف يكون له هذا‬
‫التأييد‪ ،‬وسبحانه الذي جعل رسوله مُبلغا عنه المنهج‪ ،‬وهو سبحانه يتولى الصالحين لعمارة‬
‫الكون؛ لن ال قد جعل النسان خليفة ليصلح في الكون‪ ،‬وأول مراتب الصلح أن يبقى الصالح‬
‫على صلحه‪ ،‬أو أن يزيده صلحا إن أمكن‪.‬‬
‫ويقول سبحانه بعد ذلك‪ } :‬وَالّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ‪{ ...‬‬

‫(‪)1138 /‬‬

‫سهُمْ يَ ْنصُرُونَ (‪)197‬‬


‫وَالّذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا َيسْتَطِيعُونَ َنصْ َركُ ْم وَلَا أَ ْنفُ َ‬

‫لن الذي ل يستطيع نصرك‪ .‬يجوز أن يكون ضنينا بنصرتك؛ لن حبه لك حب رياء‪ ،‬أو لنه‬
‫يرغب في أن يحتفظ بما ينصرك به لنفسه‪ ،‬أما حين يكون غير قادر على نصرتك؛ لنه ل يملك‬
‫أدوات النصر‪ ،‬فهذا يبين عجز وقصور من اتخذته وليا‪ ،‬وهكذا كان حال المشركين‪ .‬وفي يوم‬
‫الفتح جاء المسلمون بالمعاول وكُسرت الصنام‪ ،‬ولم يقاوم صنم واحد‪ .‬بل تكسرت كلها جميعا‪.‬‬
‫س َمعُواْ‪} ...‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وَإِن تَدْعُو ُهمْ إِلَى ا ْلهُدَىا لَ يَ ْ‬

‫(‪)1139 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ك وَهُمْ لَا يُ ْبصِرُونَ (‪)198‬‬
‫س َمعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَ ْي َ‬
‫وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى ا ْلهُدَى لَا يَ ْ‬

‫وبطبيعة الحال لو أن أحدا دعا هذه الصنام إلى الهداية فلن تهتدي الصنام لنها من الجماد الذي‬
‫ل تصلح معه دعوة أو فهم‪ .‬رغم أن الصنم منها له عيون كالتي تراها حاليا في معابد الهندوس أو‬
‫البوذيين‪ ،‬حين يضعون للتماثيل في مكان حدقة العين خرزا ملونا يشبه العين‪ ،‬وتوجه الحدقة‬
‫بميلها وكأنه ينظر إليك وهو ل يرى شيئا‪.‬‬
‫خذِ ا ْل َع ْفوَ وَ ْأمُرْ‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك مخاطبا نبيه صلى ال عليه وسلم‪ُ { :‬‬
‫بِا ْلعُ ْرفِ‪} ...‬‬

‫(‪)1140 /‬‬

‫خذِ ا ْل َعفْ َو وَ ْأمُرْ بِا ْلعُ ْرفِ وَأَعْ ِرضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (‪)199‬‬
‫ُ‬

‫وهذه آية جمع فيها المولى سبحانه وتعالى مكارم الخلق‪.‬‬


‫وبعد أن أبلغ الحق تبارك وتعالى رسوله صلى ال عليه وسلم بأن يدعو المشركين لن يكيدوا له‬
‫مع شياطينهم وأصنامهم ولن يستطيعوا‪ .‬وبعد ذلك يوضح له‪ :‬أنا أحب أن تأخذ بالعفو‪ ،‬وفي هذا‬
‫تعليم لرسول ال صلى ال عليه وسلم ولمن يتبعه‪ ،‬وكلمة " العفو " ترد على ألسنتنا‪ ،‬ونحن ل‬
‫ندري أن لها معنى أصيلً في اللغة‪ .‬وقد يسألك سائل‪ :‬من أي أتيت بهذا الشيء؟ فتقول له‪ :‬جاءني‬
‫عفوا‪ ،‬أي بدون جهد‪ ،‬وبدون مشقة‪ ،‬وبدون سعي إليه ول احتيال لقتنائه‪.‬‬
‫ويقال أيضا‪ :‬إن هذا الشيء جاء لفلن عفو الخاطر‪ ،‬أي لم يفكر فيه‪ ،‬بل جاء ميسرا‪ .‬هذا هو‬
‫معنى العفو‪ .‬والحق هنا يأمر رسوله عليه الصلة والسلم أن يأخذ العفو‪ ،‬أي أن يأخذ المر‬
‫الميسر السهل‪ ،‬الذي ل تكلف فيه ول اجتهاد؛ لنك بذلك تُسهل على الناس أمورهم ول تعقدها‪،‬‬
‫أما حين تتكلف الشياء‪ ،‬فذلك يرهق الناس‪ ،‬ولذلك يأمر الحق رسوله أن يقول‪ُ {:‬قلْ مَآ أَسْأَُل ُكمْ‬
‫عَلَيْهِ مِنْ َأجْ ٍر َومَآ أَنَآ مِنَ ا ْلمُ َتكَّلفِينَ }[ص‪.]86 :‬‬
‫وقوله‪َ { :‬ومَآ أَنَآ مِنَ ا ْلمُ َتكَّلفِينَ } أي أنه صلى ال عليه وسلم ل يتكلف المور حتى تصير الحياة‬
‫سهلة ول يوجد لدد بين الناس؛ لن الذي يوجد اللدد هو التكلف وقهر الناس‪ ،‬ويجب أن تقوم‬
‫المعاملة فيما بينهم بدون لدد أو تكلف‪ .‬ولذلك يقال‪ :‬إن المؤمن هو السمح إذا باع‪ ،‬والسمح إذا‬
‫اشترى‪ ،‬والسمح إذا اقتضى‪ ،‬والسمح إذا اْق ُتضِي منه‪ :‬أي أنه في كل أموره سمح‪.‬‬
‫وللمر بأخذ " العفو " معنى آخر وهو أن تعفو عمن ظلمك؛ لن ذلك ييسر المور‪.‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والعفو أيضا له معنى ثالث‪ ،‬هو المر الزائد‪ ،‬مثل قوله الحق تبارك وتعالى من قبل أن تفرض‬
‫الزكاة‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ مَاذَا يُن ِفقُونَ ُقلِ ا ْل َع ْفوَ‪[} ...‬البقرة‪.]219 :‬‬
‫ثم حدد الحق بعد ذلك الزكاة وأوجه إنفاقها‪ ،‬ونلحظ أن المر بالنفاق من قبل أن تفرض الزكاة‪،‬‬
‫والنفاق بعد أن نزل المر بالزكاة يلتقيان في السهولة؛ لن المؤمن ل ينفق مما يحتاجه‪ .‬بل من‬
‫الزائد عن حاجته‪.‬‬
‫عطِ " وقد تعطي إنسانا‬
‫وقول ال سبحانه وتعالى في الية " خذ العفو " فيه أمر " خذ " ومقابله " أ ْ‬
‫فل يأخذ منك إن رأى أن ما تعطيه له ليس في مصلحته‪ ،‬لكن إذا قال الحق تبارك وتعالى‪ " :‬خذ "‬
‫فهذا أمر يعود نفعه عليك‪ ،‬فإن كان العفو عمن ظلمك في ظاهر المر ينقصك شيئا‪ ،‬فاعلم أنك‬
‫أخذت العفو لنفسك‪.‬‬
‫واعلم أن الحق سبحانه وتعالى يحب من عبده المؤمن أن يكون هينا لينا مع إخوانه من المؤمنين‪.‬‬

‫فإن عز عليه أخوه المؤمن فَلْيَهنْ له‪ ،‬فإن تعالى أو تعالم أخ مسلم عليك‪ ،‬فل تتعال عليه أو تتعالم‬
‫حتى ل تقوم معركة بينكما‪ ،‬بل تواضع أنت‪ ،‬ليزيدك ال رفعة وعزة‪.‬‬
‫وكأن ال سبحانه وتعالى يؤكد لك‪ :‬أنك حين تعطي العفو تأخذ الخير من خلله‪ .‬ودائما أضرب‬
‫هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬أنت حين تدخل إلى منزلك وتجد ابنا لك قد أساء إلى أخيه فيتجه‬
‫قلبك وحنانك إلى المظلوم‪ .‬ونحن عيال ربنا‪ ،‬فإن ظلم واحدٌ آخرَ‪ ،‬فالظالم بظلمه يجعل ال في‬
‫جانب المظلوم‪ ،‬ولذلك يحتاج الظالم إلى أن نحسن إليه حيث كان سببا في رعاية ال لنا فنفعل معه‬
‫مثلما فعل سيدنا حسن البصري عندما قيل له‪ :‬إن فلنا اغتابك بالمس‪ .‬ونادى سيدنا حسن‬
‫البصري الخادم وقال له‪ :‬جاءنا طبق من باكورة الرطب‪ .‬اذهب به إلى فلن ‪ -‬وحدد للخادم اسم‬
‫من اغتابه ‪ -‬وتعجب الخادم‪ :‬كيف تبعث بالرطب إليه وهو قد اغتابك؟ فقال‪ :‬أفل أحسن إلى من‬
‫جعل ال بجانبي‪ ،‬قل له‪ " :‬يقول لك سيدي بلغه أنك قد اغتبته فأهديت إليه حسناتك‪ ،‬وهو أهداك‬
‫ف وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلجَاهِلِينَ {‬
‫رطبه "‪ } .‬خُذِ ا ْل َع ْفوَ وَ ْأمُرْ بِا ْلعُ ْر ِ‬
‫وتتناول الية الكريمة المر بالعرف‪:‬‬
‫والعرف هو السلوك الذي تعرف العقول صوابه‪ ،‬وتطمئن إليه النفوس‪ ،‬ويوافق شرع ال‪ ،‬ونسميه‬
‫العرف؛ لن الكل يتعارف عليه‪ ،‬ول أحد يستحيي منه‪ ،‬لذلك نسمع في شتى المجتمعات عن بعض‬
‫ألوان السلوك‪ :‬هذا ما جرى به العرف‪ .‬وما يجري به العرف عند المجتمعات المؤمنة يعتبر‬
‫مصدرا من مصادر الحكام الشرعية‪.‬‬
‫وخير مثال على ذلك‪ :‬أننا نجد الشاب ل يخجل من أن يطرق باب أسرة ليطلب يد ابنتها‪ ،‬لن هذا‬
‫أمر متعارف عليه ول حياء منه‪ ،‬بينما نجد المجتمع المسلم يستحي أن يوجد بين أفراده إنسان‬
‫يزني‪ ،‬والغاية من الزنا الستمتاع‪ ،‬والغاية من طلب يد الفتاة هو الستمتاع‪ ،‬لكْن هناك فارق كبير‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بين متعة يحرمها ال عز وجل‪ ،‬ومتعة يٌحلّها ال تعالى‪.‬‬
‫وفي نهاية الية يقول ال تعالى‪...} :‬وَأَعْرِضْ عَنِ ا ْلجَاهِلِينَ {‬
‫وكيف يكون العراض عن الجاهلين؟‪ .‬يخطئ من يظن أن الجاهل هو الذي ل يعلم‪ ،‬لن من ل‬
‫يعلم هو المي‪ ،‬أما الجاهل فهو من يعلم قضية تخالف الواقع‪ .‬ونلحظ أن المشكلت ل تأتي من‬
‫الميين الذي ل يعلمون‪ ،‬فالمي من هؤلء يصدق أي قضية تحدثه عنها وتكون مقبولة بالفطرة؛‬
‫لنه ل يملك بديلً لها‪ ،‬أما الجاهل فهو من يعلم قضية مخالفة للواقع ويحتاج إلى تغيير علمه بتلك‬
‫القضية‪ ،‬والخطوة الثانية أن تقنعه بالقضية الصحيحة‪.‬‬
‫والحق هنا يوضح‪ :‬أعرضْ عن الجاهل الذي يعتقد قضية مخالفة للواقع ويتعصب لها‪ ،‬وأنت حين‬
‫تعرض عن الجاهل‪ ،‬يجب أل تماريه‪ ،‬أي ل تجادله؛ لن الجدل معه لن يؤدي إلى نتيجة مفيدة؛‬
‫لذلك أقول لكل من يواجه قضية التدين ولم يقرأ عن الدين كتابا واحدا‪ ،‬وقرأ في كتب النحراف‬
‫عن الدين المئات‪ ،‬أقول له‪ :‬كما قرأت فيما يناهض الدين مئات الكتب فمن الحكمة يجب عليك أن‬
‫تكون عادلً ومنصفا فتقرأ في مجال التدين بعض الكتب الخاصة به مثلما قرأت في غيرها‪.‬‬

‫وإن أردت أن تبحث قضية الدين بحثا منطقيا يصحح لك عقيدتك‪ ،‬فعليك أن تخْرِج كل القتناعات‬
‫المسبقة من قلبك ووجدانك‪ .‬وتدرس المرين بعيدا عن قلبك‪ ،‬ثم أدخل إلى قلبك المر الذي ترتاح‬
‫إليه‪ ،‬لكن ل تحتفظ في قلبك بقضية وتناهض منطوقها بظاهر لسانك‪ .‬والحق سبحانه وتعالى‬
‫ج ْوفِهِ‪[} ...‬الحزاب‪.]4 :‬‬
‫جلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ لِ َر ُ‬
‫يقول‪ {:‬مّا َ‬
‫فأنت لك قلب واحد‪ ،‬إما أن يمتلئ باليمان واليقين وإما بغير ذلك‪ .‬والقلب حيز واحد فل تشغله‬
‫أنت بباطل‪ ،‬حين تبحث قضية الحق‪ ،‬بل أخرج الباطل من قلبك أولً‪ ،‬واجعل الباطل والحق‬
‫خارجه‪ ،‬وابحث بعقلك‪ ،‬والذي ييسرُ إليك أن تدخله إلى قلبك فأدخله‪.‬‬
‫وفي بيان معنى هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها روى لنا أبيّ قال‪ :‬لما أنزل ال عز‬
‫وجلّ على نبيه صلى ال عليه وسلم‪ " :‬خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين " قال‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ما هذا يا جبريل؟ قال‪ :‬إن ال أمرك أن تعفو عمن ظلمك‪،‬‬
‫وتعطي من حرمك‪ ،‬وتصل من قطعك "‪.‬‬
‫وسبحانه ‪ -‬إذن ‪ -‬يريد أن يعلمنا قضية إيمانية إنسانية؛ لنك كمسلم تساعد المصاب في بدنه‪ ،‬فما‬
‫بالك بالمصاب في قيمه‪ ،‬أل يحتاج إلى معونتك؟‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ } :‬وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ‪{ ...‬‬

‫(‪)1141 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ (‪)200‬‬
‫وَِإمّا يَنْزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ‬

‫و " نزغ " تساوي كلمة " نخس " أي أمسك بشيء ووضع طَ َرفَه في جسد من بجانبه أو من أمامَه‪.‬‬
‫ويتضح من معنى " نخس " أن هناك مسافة بين الناخس والمنخوس ووسيلة أو أداة للنخس‪.‬‬
‫وعملية النخس ل يدرك بها الناخس أو المنخوس حرارة بعضهما البعض‪ ،‬أما كلمة " مس " فقد‬
‫يشعر الماس والممسوس كل واحد بحرارة الخر منهما بسرعة‪ ،‬لكن أحدهما ل يدرك نعومة‬
‫الخر‪ ،‬أما اللمس ففيه إدراك لنعومة وحرارة اللمس والملموس‪ .‬ومعارك الحرب كلها تدور في‬
‫هذا النطاق‪ ،‬فحين يكون العدو بعيدا يحتاج خصمه إلى أن يبتعد عنه كيل يصيبه بالنبال أو‬
‫السهام‪ ،‬ويحاول هو أن يصيب خصمه بالنبال أو السهام‪ .‬وكما تفعل الجيوش الحديثة حين ترسل‬
‫طائراتها لترمي القنابل على قوات الخصم‪ .‬وتقاس قوة الدول بقدرتها على ضرب القوات المعادية‬
‫دون قدرة تلك القوات على الرد‪ ،‬لنها تصيبه من بعد في عصر الصواريخ بعيدة المدى‪ .‬ونجد‬
‫طعْ ُتمْ مّن ُق ّوةٍ‪[} ...‬النفال‪.]60 :‬‬
‫الشارة في قول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَأَعِدّواْ َلهُمْ مّا اسْتَ َ‬
‫وأوضح سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم معنى القوة فيما رواهُ عنه عقبة ابن عامر قال‪:‬‬
‫سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول وهو على المنبر‪ " :‬إل أن القوة الرمي "‪ .‬لن الرمي‬
‫ُي َمكّن قذيفتك من عدوك‪ ،‬وأنت بعيد عنه فل يقدر أن يصيبك بما يرميه‪.‬‬
‫وقديما كانت الجيوش تزحف‪ ،‬فيُلقى الخصوم عليها النبال والسهام‪ ،‬وإذا ما اقتربت الجيوش أكثر‬
‫من خصومها فكل فريق يوجه الرماح إلى ما يقرب من أجساد الفريق الخر‪ .‬وإذا حمى وطيس‬
‫المعركة تتلقى السيوف‪ .‬إذن كلها من النخس‪ ،‬والمس‪ ،‬واللمس‪.‬‬
‫وحينما خاطب الرسول صلى ال عليه وسلم ربه قائلً‪ " :‬يا رب كيف بالغضب؟ " أي كيف يكون‬
‫سمِيعٌ عَلِيمٌ }‬
‫علج الغضب؟ نزل قول الحق‪ { :‬وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َت ِعذْ بِاللّهِ إِنّهُ َ‬
‫[العراف‪.]200 :‬‬
‫وقد يستفهم قائل فيقول‪ :‬أينزغ الشيطان الرسول؟‪ .‬وأقول‪ :‬إنّ الحق تبارك وتعالى لم يقل‪ " :‬وإذ‬
‫نزغك الشيطان " ‪ ،‬ولكنه قال‪ " :‬وإما ينزغنك " أي إن حدث ذلك‪ ،‬وهو قول يفيد الشك ‪ -‬ثم لماذا‬
‫يحرم ال رسوله صلى ال عليه وسلم من لذة مجابهة الشيطان؟‪ .‬ونعم عن ابن مسعود أنه قال‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" ما منكم من أحد إل وقد وكل به قرينه من الجن‪ ،‬وقرينه من الملئكة‪ .‬قالوا‪ :‬وإياك؟ قال‪ :‬وإياي‬
‫إل أن ال أعانني عليه فأسلم فل يأمرني إل بخير "‪.‬‬
‫وهنا يقول الحق تبارك وتعالى‪ { :‬وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّ ْيطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َتعِذْ بِاللّهِ‪.} ...‬‬
‫والستعاذة تعني طلب العون والملجأ والحفظ وأنت ل تطلب العون ول تلجأ ول تستجير إل بمن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هو أقوى ممن يريد أن ينالك بشر‪.‬‬

‫ومعلوم أن الشيطان له من خفة الحركة‪ ،‬وقدرة التغلغل‪ ،‬ووسائل التسلل الكثير؛ لذلك فينبغي أل‬
‫تستعيذ بمثله أو بمن هو دونه‪ ،‬ولكنك تستعيذ بخالق النس والجن وجميع المخلوقات‪ ،‬وهو القادر‬
‫على أن يعطل فاعلية الشيطان‪ .‬وسبحانه سميع عليم‪ ،‬والسمع له متعلق‪ ،‬والعلم له متعلق‪ ،‬فحين‬
‫تستحضر معنى الستعاذة وأنت مشحون باليمان وتلجأ إلى من خلقك‪ .‬وخلق ذلك الشيطان؛ عندئذ‬
‫ل بد أن يهرب الشيطان من طريقك لنه يعلم أنك تلجأ إلى الخالق القوي القادر وهو ليست له قوة‬
‫على خالقه‪ ،‬وسبحانه سميع لقولك‪ " :‬أعوذ بال " ‪ ،‬عليم بما في نفسك من معنى هذه الكلمة‪.‬‬
‫وإذا كان الحق تبارك وتعالى هنا قد تكلم عن حضرة النبي عليه الصلة والسلم‪ ،‬وقال‪ } :‬وَإِماّ‬
‫يَنَزَغَ ّنكَ {‬
‫أي أن الشيطان بعيد‪ ،‬وهو يحاول مجرد النزغ‪ ،‬فماذا عن أمة رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫سهُمْ طَا ِئفٌ‪.{ ...‬‬
‫إزاء هذا؟‪ .‬هنا يقول الحق تبارك وتعالى‪ } -:‬إِنّ الّذِينَ ا ّتقَواْ ِإذَا مَ ّ‬

‫(‪)1142 /‬‬

‫سهُمْ طَا ِئفٌ مِنَ الشّ ْيطَانِ تَ َذكّرُوا فَإِذَا هُمْ مُ ْبصِرُونَ (‪)201‬‬
‫إِنّ الّذِينَ ا ّتقَوْا ِإذَا مَ ّ‬

‫ومن رحمة ال تعالى بأمة محمد صلى ال عليه وسلم أنه قال‪ " :‬إذا مسّهم " ولم يقل‪ " :‬لمسَهم "‪.‬‬
‫لنهم من الذين اتقوا‪ ،‬أي وضعوا بينهم بين صفات جلل ال وقاية تجعلهم يقفون عند حدوده‬
‫سهُمْ طَا ِئفٌ مّنَ الشّ ْيطَانِ تَ َذكّرُواْ }‪.‬‬
‫ولذلك يقول‪ { :‬إِنّ الّذِينَ ا ّتقَواْ إِذَا مَ ّ‬
‫والطائف هو الخيال الذي يطوف بالنسان ليلً‪ ،‬وبما أن الشيطان ل يرى‪ ،‬لذلك نصوره على أنه‬
‫خيال‪ ،‬فإذا ما طاف الشيطان بالمس للذين اتقوا وتذكروا خالق الشيطان وخالقهم‪ ،‬وتذكروا منهج‬
‫ال الذي يصادم شهواتهم‪ ،‬وتذكروا أن عين ال تراهم ول تغفل عنهم‪ ،‬وأن محارم ال واضحة‬
‫وبينة‪ ،‬وسيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول‪ :‬في الحديث الذي يرويه عنه النعمان بن‬
‫بشير‪ " :‬الحلل بيّن والحرامُ بيّن وبينهما مشَبهات ل يعلمها كثير من النّاس‪ ،‬فمن اتّقى الشبهات‬
‫استبرأ لدينه وعرضه‪ ،‬ومن وقع في الشبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه‪ ،‬أل وإن‬
‫لكل ملك حمى‪ ،‬أل إن حمى ال في أرضه محارمه‪ ،‬أل وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح‬
‫الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله أل وهي القلب "‪.‬‬
‫وإذا ما تذكر المؤمنون العقوبة المترتبة على أي فعل شائن يزينه الشيطان لهم‪ ،‬هنا تزول عنهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي غشاوة ويبصرون الطريق القويم‪.‬‬
‫خوَا ُنهُمْ َيمُدّو َنهُمْ فِي ا ْل َغيّ‪.} ...‬‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك‪ { :‬وَِإ ْ‬

‫(‪)1143 /‬‬

‫خوَا ُنهُمْ َيمُدّو َنهُمْ فِي ا ْل َغيّ ثُمّ لَا ُيقْصِرُونَ (‪)202‬‬
‫وَإِ ْ‬

‫ونحن حين نتتبّع كلمة " يمدونهم " في القرآن‪ ،‬نجدها مرة " يمدونهم " ومرة يمددكم كما جاء في‬
‫قول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬وَ ُيمْدِ ْد ُكمْ بَِأ ْموَالٍ وَبَنِينَ‪[} ...‬نوح‪.]12 :‬‬
‫ونعلم أن الشياطين لن تترك المؤمنين في حالهم‪ ،‬بل تظل في محاولة الغواية‪ ،‬وتحاول الشياطين‬
‫غواية المؤمنين الطائعين أكثر من محاولتهم غواية العاصين؛ لن العاصي إنما يعاون الشيطان‬
‫باتباعه شهوات نفسه‪ ،‬ول يقصر العاصي أو الشيطان في ذلك‪ ،‬بل يحاول العاصي أو الشيطان‬
‫غواية المؤمنين و " أقصر " من مادة " قصر " ‪ ،‬أي أنه قادر أن يطول المسافة لكنه يقصرها‪.‬‬
‫وهكذا إلحاح الشياطين لغواية المؤمنين‪.‬‬
‫فالشيطان ‪ -‬كما جاء في القرآن ‪ -‬يعترف بموقفه من ملحقة المؤمنين بالوسوسة وتزيين‬
‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[العراف‪.]16 :‬‬
‫ل ْقعُدَنّ َلهُمْ صِرَا َ‬
‫المعاصي‪َ ... {.‬‬
‫والشيطان يعلم أن من ل يتقي ال ل يحتاج إلى تزيين أو غواية؛ لنه يرغب ويميل للمعاصي‬
‫والعياذ بال؛ لذلك ل يبذل الشيطان لغوايته جهدا كبيرا‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪ { :‬وَإِذَا لَمْ تَأْ ِتهِمْ بِآيَةٍ قَالُواْ‪} ...‬‬

‫(‪)1144 /‬‬

‫وَإِذَا َلمْ تَأْ ِتهِمْ بِآَ َيةٍ قَالُوا َلوْلَا اجْتَبَيْ َتهَا ُقلْ إِ ّنمَا أَتّبِعُ مَا يُوحَى إَِليّ مِنْ رَبّي َهذَا َبصَائِرُ مِنْ رَ ّبكُمْ‬
‫حمَةٌ ِلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ (‪)203‬‬
‫وَهُدًى وَرَ ْ‬

‫وقد جاء الحق تبارك وتعالى من قبل بكلمة " آيات " ‪ ،‬واليات ‪ -‬كما أوضحنا ‪ -‬إما آيات كونية‬
‫وإما آيات المعجزات الدالة على صدق الرسل‪ ،‬وإما آيات الحكام‪.‬‬
‫وال سبحانه وتعالى جاء هنا بكلمة‪ " :‬آية " ل " آيات " ‪ ،‬والكون أمامهم ملئ بآياته‪ ،‬والمنهج‬
‫المنزل على الرسول عليه الصلة والسلم واضح‪ ،‬ول ينقص إل أن تأتي الية المعجزة ‪ -‬من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وجهة نظرهم ‪ -‬وينبه الحق هؤلء بقوله تبارك وتعالى في سورة السراء‪ {:‬وََلقَ ْد صَ ّرفْنَا لِلنّاسِ‬
‫فِي هَـاذَا ا ْلقُرْآنِ مِن ُكلّ مَ َثلٍ فَأَبَىا َأكْثَرُ النّاسِ ِإلّ ُكفُورا * َوقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا‬
‫سقِطَ‬
‫ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ ُت ْ‬
‫ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ‬
‫مِ َ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّ ِه وَا ْلمَل ِئكَةِ قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن ُزخْ ُرفٍ َأوْ‬
‫سمَآءَ َكمَا زَ َ‬
‫ال ّ‬
‫سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا ّنقْ َر ُؤهُ ُقلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ ِإلّ َبشَرا‬
‫تَ ْرقَىا فِي ال ّ‬
‫رّسُولً }[السراء‪.]93 - 89 :‬‬
‫إذن فالياتُ المعجزاتُ التي طلبوها‪ ،‬ل يأتي بها الرسول من عنده‪ ،‬واليات التي ينزل بها المنهج‬
‫أيضا ليست من عنده‪ ،‬بل هي تنزيل من لدن عزيز حكيم‪ .‬وكانوا يتهمونه صلى ال عليه وسلم أنه‬
‫يفتري القرآن‪ .‬لذلك طلبوا منه صلى ال عليه وسلم المعجزة الحسية متناسين ما جاءت به آيات‬
‫القرآن الكريم من معجزة لم يستطيعوا هم أن يأتوا بآية واحدة من مثل آياتها؛ وقالوا للرسول‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ { :‬قَالُواْ َل ْولَ اجْتَبَيْ َتهَا ُقلْ إِ ّنمَآ أَتّبِعُ مَا يِوحَىا إَِليّ مِن رّبّي }‬
‫يأمره هنا ربه أن يقول‪ُ { :‬قلْ إِ ّنمَآ أَتّبِعُ مَا يِوحَىا إَِليّ مِن رّبّي }‬
‫أي أن رسولَ ال صلى ال عليه وسلم مكلف أن يبلغهم بما يأتي به الوحي يحمله الروح المين‬
‫جبريل عليه السلم من آيات القرآن الحاملة للمنهج اللهي‪ ،‬وهذا المنهج في حد ذاته معجزة‬
‫حمَةً ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫متجددة العطاء‪ ،‬لذلك يضيف‪...{ :‬هَـاذَا َبصَآئِرُ مِن رّ ّبكُ ْم وَهُدًى وَ َر ْ‬
‫[العراف‪.]203 :‬‬
‫ففي القرآن الكريم بصائرُ وهدىً رحمةُ‪ ،‬والبصائر جمع بصيرة‪ ،‬من البصار‪ ،‬إذا امتل القلب‬
‫بنور اليقين اليماني فإن صاحبه يعيش في شفافية وإشراق‪ ،‬ويسمى صاحب هذه الرؤية المعنوية‬
‫صاحب بصيرة‪ ،‬أما البصر فهو مهمة العين في المور الحسية‪ ،‬لكنْ هناك أمور معنوية ل تكشفها‬
‫إل البصيرة‪ ،‬والبصيرة تضيء القلب بالنور حتى يستكشف تلك المور المعنوية‪ ،‬ول يمتلك القلب‬
‫البصيرة إل حين يكونُ مشحونا باليقين اليماني‪.‬‬
‫والقرآن الكريم بصائر؛ لنه يعطي ويمنح من يؤمن به ويتأمله بصائر ليجدد المور المعنوية وقد‬
‫صارت مُبصَ َرةً‪ ،‬وكأنه قادر على رؤيتها ومشاهدتها وكأنها عينُ اليقين‪.‬‬

‫وهذا القرآن المجيد بصائرُ وهدى‪ ،‬أي يدل النسان ويهديه إلى المنهج الحق وإلى طريق ال‬
‫المستقيم‪ ،‬وهو رحمةٌ أيضا لمن ل يملك إشراقات القلب التي تهدي لليمان ول يملك قوة أخذ‬
‫الدليل الذي يوصله إلى الهداية‪ ،‬إذن فهو رحمة لكل الناس‪ ،‬وهدى لمن يسأل عن الدليل‪ ،‬وبصائر‬
‫لمن تيقين أصول اليمان مشهديا‪.‬‬
‫وكما قلنا من قبل‪ :‬إنّ ال قد أخبر المؤمنين بأمور غيبية‪ ،‬ومن هذه المور الغيبية أن له جنةً وأن‬
‫له نارا‪ ،‬وصدق المؤمنون بكل ما جاءهم من البلغ عن ربهم‪ ،‬وعلموا أن ذلك من ال‪ ،‬وصار‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا العلم علم يقين كقدر مشترك فيما بينهم‪ ،‬فإذا جاءَ يوم القيامة ورأوا الصراط مضروبا عن متن‬
‫جهنم مطابقا لما صدقوه وصار عين يقين‪ ،‬وإذا ما دخل بعضهم النار ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬تكفيرا‬
‫لذنوب ارتكبوها‪ ،‬فهذا حق يقين‪ .‬وضربت المثل من قبل ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬كان الجغرافيون‬
‫يحدثوننا ونحن طلب عن خريطة الوليات المتحدة‪ ،‬ويقولون‪ :‬إن عاصمتها " واشنطن " ‪،‬‬
‫والميناء الكبير فيها اسمه " نيويورك " ‪ ،‬وفي " نيويورك " توجد ناطحات السحاب وهي مبان‬
‫ضخمة يزيد ارتفاع المبنى الواحد من هذه المباني على مائة طابق أي أكثر من مائتي متر‪،‬‬
‫وصدقنا نحن أستاذ الجغرافيا‪ ،‬وعندما أتيحت للبعض منا فرصة السفر ورأوا واشنطن ونيويورك‬
‫من الطائرة‪ ،‬صارت الرؤية عين يقين بعد أن كانت علم يقين‪ .‬وعند هبوط الطائرة في مطار‬
‫واشنطن صارت الرؤية حق يقين‪.‬‬
‫وقد عرض الحق سبحانه وتعالى لنا اليمان ببعض من الغيب في قوله تعالى‪ {:‬أَ ْلهَاكُمُ ال ّتكّاثُرُ *‬
‫علْمَ الْ َيقِينِ *‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ * كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ ِ‬
‫س ْوفَ َتعَْلمُونَ * ثُمّ كَلّ َ‬
‫حَتّىا زُرْ ُتمُ ا ْل َمقَابِرَ * كَلّ َ‬
‫جحِيمَ * ثُمّ لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ }[التكاثر‪.]7 - 1 :‬‬
‫لَتَ َروُنّ الْ َ‬
‫أورد سبحانه هناك " علم اليقين " " وعين اليقين " ‪ ،‬وأما " حق اليقين " فقد جاء في قوله‪ {:‬فََأمّآ إِن‬
‫صحَابِ الْ َيمِينِ * فَسَلَمٌ ّلكَ‬
‫كَانَ مِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ * فَ َروْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَ ّنتُ َنعِيمٍ * وََأمّا إِن كَانَ مِنْ َأ ْ‬
‫جحِيمٍ *‬
‫حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ َ‬
‫مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ * وََأمّا إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ * فَنُ ُزلٌ مّنْ َ‬
‫إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ حَقّ الْ َيقِينِ }[الواقعة‪.]95 - 88 :‬‬
‫والمؤمنون المصدقون بأخبار الغيب على درجات مختلفة‪ ..‬فهناك من صدق ال في الخبر عن‬
‫الغيب كعين يقين‪ ،‬وهناك من صدق قول ال حق اليقين‪ ،‬ولذلك فإننا نجد المام عليا ‪ -‬كرم ال‬
‫وجهه ‪ -‬يقول‪ " :‬لو انكشف عني الحجاب ما ازددت يقينا "‪.‬‬
‫وفي الحوار التي الذي دار بين حضرة النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والصحابي الجليل الحارث بن‬
‫مالك ما يكشف لنا جوهر هذا اللون من اليمان‪:‬‬

‫" فقد روى الحارث بن مالك النصاري‪ :‬أنه مرّ برسول ال صلى ال عليه وسلم فقال له‪ :‬كيف‬
‫أصبحت يا حارث؟ قال‪ :‬أصبحت مؤمنا حقّا‪ ،‬قال‪ " :‬انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة‬
‫فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا‪ ،‬فأسهرت ليلي وأظلمت نهاري‪ ،‬وكأني أنظر إلى‬
‫عرش ربي بارزا‪ ،‬وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها‪ ،‬وكأني أنظر إلى أهل النار‬
‫يتضارغون فيها‪ .‬فقال يا حارث عرفت فالزم ثلثا "‪.‬‬
‫هذا الصحابي الجليل وصل إلى أن كل ما قاله النبي صلى ال عليه وسلم قد صار حق يقين‪،‬‬
‫وامتلك البصيرة التي رأى بها كلّ ذلك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫} وَإِذَا لَمْ تَأْ ِت ِهمْ بِآيَةٍ قَالُواْ َل ْولَ اجْتَبَيْ َتهَا ُقلْ إِ ّنمَآ أَتّبِعُ مَا يِوحَىا إَِليّ مِن رّبّي هَـاذَا َبصَآئِرُ مِن رّ ّبكُمْ‬
‫حمَةً ّلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [العراف‪.]203 :‬‬
‫وَهُدًى وَرَ ْ‬
‫وهكذا نجد القرآن الكريم بصائر لصحاب المنزلة والدرجات العالية‪ ،‬وهدى لصحاب الستدلل‬
‫ورحمةً للجميع‪.‬‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى بعد ذلك‪ } :‬وَِإذَا قُرِىءَ ا ْلقُرْآنُ فَاسْ َت ِمعُواْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)1145 /‬‬

‫حمُونَ (‪)204‬‬
‫وَإِذَا قُ ِرئَ ا ْلقُرْآَنُ فَاسْ َت ِمعُوا َل ُه وَأَ ْنصِتُوا َلعَّلكُمْ تُرْ َ‬

‫وما دام قد أوضح لك المولى سبحانه وتعالى من قبل أن هذا القرآن بصائر من ربنا وهدى‬
‫ورحمة‪ ،‬أل يستحق أن تحتفي به أيها المؤمن؟‪ ..‬أل تجذبك هذه الحيثيات الثلث لن تعطي له‬
‫أذنك وأل تنصرف عنه؟‪.‬‬
‫إذن ل بد أن تنصت للقرآن الكريم لتتلقى الفوائد الثلث؛ البصائر‪ ،‬والهدى‪ ،‬والرحمة‪ ،‬وهو حقيق‬
‫وجدير أن يُحْرَص على سماعه إن قُرئ‪.‬‬
‫ولنلحظ أن ال تعالى قال‪ { :‬فَاسْ َت ِمعُواْ لَهُ } ولم يقل " اسمعوا " ‪ ،‬لن الستماع فيه تعمد أن تسمع‪،‬‬
‫أما السمع فأنت تسمع كل ما يقال حولك‪ ،‬وقد تنتبه إلى ما تسمع وقد ل تنتبه‪ ،‬ومن الرحمة‬
‫المحمدية يقول حضرة النبي صلى ال عليه وسلم ناهيا عن التسمع لسرار الغير تجسسا عليهم‬
‫بالبحث عن عوراتهم فيما يرويه عنه سيدنا أبو هريرة رضي ال عنه حيث قال‪ :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم " ل تحاسدوا ول تباغضوا‪ ،‬ول تجسّسُوا ول تحسّسوا ول تناجشوا وكونوا‬
‫عباد ال إخوانا "‪.‬‬
‫وفي هذا تحذير من هذه المور الخمسة التي منها التلصص والتصنت إلى أسرار الناس‪ { .‬وَإِذَا‬
‫حمُونَ } [العراف‪.]204 :‬‬
‫قُرِىءَ ا ْلقُرْءَانُ فَاسْ َت ِمعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ َلعَّلكُمْ تُ ْر َ‬
‫والنسان قد يصمت ويستمع ولكن بغير نية التعبد فيحرم من ثواب الستماع‪ ،‬فاستمع وأنصت بنية‬
‫العبادة‪ ،‬لن ال هو الذي يتكلم‪ ،‬وليس من المعقول والتأدب مع ال أن يتكلم ربك ثم تنصرف أنت‬
‫عن كلمه‪ ،‬وقد لفت أنظارنا سيدنا جعفر الصادق‪ :‬ونبهنا إلى ما فيه الخير حيث يقول‪:‬‬
‫حسْبُنَا اللّهُ وَ ِنعْمَ ا ْل َوكِيلُ } ‪ ،‬فإني سمعت‬
‫" عجبت لمن خاف ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى‪َ { :‬‬
‫س ُهمْ سُوءٌ }‪.‬‬
‫ضلٍ لّمْ َيمْسَ ْ‬
‫ال عقبها يقول‪ { :‬فَا ْنقَلَبُواْ بِ ِن ْعمَةٍ مّنَ اللّ ِه َو َف ْ‬
‫وعجبت لمن اغتم‪ ،‬ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى‪ { :‬لّ إِلَـاهَ ِإلّ أَنتَ سُبْحَا َنكَ إِنّي كُنتُ مِنَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الظّاِلمِينَ } فإني سمعت ال عقبها يقول‪ { :‬فَاسْتَجَبْنَا لَ ُه وَنَجّيْنَاهُ مِنَ ا ْلغَ ّم َوكَذاِلكَ نُنجِـي‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }‪.‬‬
‫وعجبت لمن مُكر به‪ ،‬ولم يفزع إلى قوله تبارك وتعالى‪ { :‬وَُأفَ ّوضُ َأمْرِي إِلَى اللّهِ إِنّ اللّهَ َبصِيرٌ‬
‫بِا ْلعِبَادِ }‪ .‬فإني سمعت ال عقبها يقول‪ { -:‬فَوقَاهُ اللّهُ سَيّئَاتِ مَا َمكَـرُواْ }‪.‬‬
‫وعجبت لمن طلب الدنيا ولم َيفْزَع إلى قوله تبارك وتعالى‪ { :‬مَا شَآءَ اللّ ُه لَ ُق ّوةَ ِإلّ بِاللّهِ }‪ .‬فإني‬
‫سمعت ال عقبها يقول‪ { -:‬فعسَىا رَبّي أَن ُيؤْتِيَنِ خَيْرا مّن جَنّ ِتكَ }‪.‬‬
‫حسْن الدب الذي يجب أن نستقبل به‬
‫ونحن حين نستمع لقراءة القرآن الكريم بنية التعبد فذلك هو ُ‬
‫العبر التي تعود بالفائدة علينا‪.‬‬
‫ووقف العلماء حول النصات سماعا للقرآن؛ أيكون النصات إذا قرئ القرآن مطلقا في أي حال‬
‫من الحوال‪ ،‬أو حين يُقرأ في الصلة‪ ،‬أو حين يُقرأ في خطبة الجمعة؟‬
‫وقد اختلفوا في ذلك‪ ،‬فبعضهم قال‪ :‬إن المقصود هو النصات للقرآن حين يُقرأ في الصلة‪،‬‬
‫والسبب في ذلك أن الوائل من المسلمين كانوا حينما يقرأ رسول ال صلى ال عليه وسلم في‬
‫الصلة‪ ،‬يعيدون بعده كل جملة قرآها فإذا قال‪ :‬بسم ال الرحمن الرحيم؛ قالوا‪ :‬بسم ال الرحمن‬
‫الرحيم‪ ،‬وإذا قال‪ " :‬الحمد ل رب العالمين " ‪ ،‬قالوا‪ " :‬الحمد ل رب العالمين " فينبههم ال عز‬
‫وجل إلى أن يتركوا رسول ال صلى ال عليه وسلم يقرأ وهم يستمعون إليه دون ترديد للقراءة‪.‬‬

‫وقال آخرون من العلماء‪ :‬النصات للقرآن الكريم يكون في الصلة‪ ،‬وفي خطبة الجمعة أو‬
‫العيدين‪ ،‬لنها تشتمل على آيات من القرآن‪ ،‬ولكن اشتمالها على اليات أقل مما يقوله الخطيب‪،‬‬
‫ونبه البعض إلى أن النصات للخطبة ثبت بدليل قول النبي عليه الصلة والسلم‪ " :‬إذا قلت‬
‫لصاحبك والمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت "‪.‬‬
‫إذن النصات للخطبة جاء بدليل من السنة‪.‬‬
‫وهناك قول بأن الستماع مطلوب للقرآن في أي وضع من الوضاع حين يُقرأ؛ ففي هذا احترامٌ‬
‫ومهابةٌ لكلم ال عز وجل‪ ،‬وينسب هذا القول إلى إمامنا وسيدنا ومولنا سيدي " أبي عبدال‬
‫الحسين " ‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫إذا قُرئ القرآن سوا ٌء إن كنت في صلة أو كنت في خطبة‪ ،‬أو كنت حرّا فأنصت؛ لن الحق‬
‫سبحانه وتعالى أراد أن يميز القرآن على مطلق الكلم‪ ،‬فميزه بأشياءَ‪ ،‬إذا قُرئ ننصت له‪ ،‬وإذا‬
‫مسّ المصحف ل بد أن يكون على " وضوء " حتى ل يجترئ الناس ويمسّوا المصحف كأي كتاب‬
‫من الكتب‪ ،‬وهذا يربي المهابة فل تمسك المصحف إل وأنت متوضئ‪ ،‬فإذا علمنا أولدنا‪ ،‬نقول‬
‫للواحد منهم‪ :‬ل تقرب المصحف إل وأنت متوضئ؛ فتنشأ المهابة في نفس الولد‪.‬‬
‫وأيضا في " الكتابة " شاء الحق تبارك وتعالى لبعض ألفاظه كتابة خاصة غير كتابة التقعيد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الملئي؛ حتى يكون للقرآن قداسة خاصة‪ ،‬فهو كتاب فريد وليس ككل كتاب وكلمه ليس ككل‬
‫حمُونَ { [العراف‪.]204 :‬‬
‫كلم‪ } .‬وَإِذَا قُرِىءَ ا ْلقُرْءَانُ فَاسْ َت ِمعُواْ َل ُه وَأَنصِتُواْ َلعَّل ُكمْ تُرْ َ‬
‫وبعض العلماء قال‪ :‬ليس المطلوب مجرد الستماع بالذان‪ ،‬بل المقصود بالستماع هنا هو أن‬
‫نستجيب لمطالبه‪ ،‬أل تقولون لبعضكم حين يدعو بعضكم لبعض‪ " :‬ال يسمع دعاك "؟ إنك تقولها‬
‫وأنت تعلم أن ال سامعك‪ ،‬ولكنك تقصد بها أن يستجيب سبحانه وتعالى لهذا الدعاء‪ ،‬إذن‬
‫فالستماع للقرآن يقتضي الستجابة لمطلوبات القرآن‪ .‬لماذا؟ لننال الرحمة من الحق فهو الرحمن‬
‫حمُونَ {‪.‬‬
‫الرحيم‪َ } .‬لعَّلكُمْ تُرْ َ‬
‫ونعلم أن " لعل " " وعسى " حين تقال يقصد بها الرجاء‪ ،‬و " ليت " تعني التمني وهو مستحيل ول‬
‫يُ َت َوقّع‪ ،‬ونحن نتمنى لنظهر أن هذا أمر محبوب لنا‪ ،‬لكننا نعلم أنه مستحيل‪ ،‬مثلما قال الشاعر‬
‫العجوز‪:‬‬

‫أل ليت الشباب يعود يوما فأخبره بما فعل المشيبإنه يعلم يقينا أن الشباب لن يعود ولكن قوله يدل‬
‫على أن الشباب فترة محبوبة‪ .‬ومثل قول الشاعر‪:‬ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها عقود مدح فما‬
‫أرضى لكم كَلِمولن تدنو الكواكب‪.‬‬
‫إذن ساعة تسمع " عسى " أو " لعل " يتبادر إلى ذهنك أن هذا رجاء لن يحدث‪ ،‬وإذا كان رجاء‬
‫من ال‪ ،‬فهو رجاء من كريم ل بد له من واقع‪.‬‬
‫ويقول الحق بعد ذلك‪:‬‬
‫سمِع الغير‬
‫والذكر مرور الشيء‪ ،‬إن كان بالبال‪ ،‬فهو ذكر في النفس‪ ،‬وإن كان باللسان ول يُ ْ‬
‫سمِعك أنت فهذا ذكر السر‪ ،‬وإن كان جهرا فهو قسمان؛ جهر مقبول‪ ،‬وجهر غير مقبول‪،‬‬
‫ويُ ْ‬
‫والجهر غير المقبول هو أن يتحول الذّكرُ إلى إزعاج والعياذ بال‪ ،‬ولذلك يقول الحق تبارك‬
‫ك وَلَ ُتخَا ِفتْ ِبهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذاِلكَ سَبِيلً }[السراء‪.]110 :‬‬
‫جهَرْ ِبصَلَ ِت َ‬
‫وتعالى‪َ ... {:‬ولَ تَ ْ‬
‫ولعل إخواننا القراء يتنبهون إلى هذه الية؛ تنبها يجعلهم يلتفتون إلى أداء أمر ال في هذا المجال‬
‫فل يجهرون ول يرفعون أصواتهم به لدرجة الزعاج‪ ،‬لني أقول لكل واحد منهم‪ :‬إن ربك لم‬
‫يطلب منك حتى الجهر‪ ،‬إنما طلب دون الجهر‪ ،‬وأقول ذلك خاصة لهؤلء الذين يفسدون نعمة ال‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ‬
‫حمَتِهِ َ‬
‫على خلقه؛ فيصيحون ليل ويمنعونهم من رحمة ال ليل التي قال عنها‪َ {:‬ومِن رّ ْ‬
‫شكُرُونَ }[القصص‪.]73 :‬‬
‫سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ‬
‫الْلّ ْي َ‬
‫فل تفسدوا على الناس رحمة ربنا؛ لن الدعوة إلى ال ليست صياحا على المنابر‪ ،‬إل إذا كنتم‬
‫تصنعون لنفسكم دعاية إعلمية على مساجد ال وعلى منابر ال‪ .‬وهذا أمر مرفوض وغير‬
‫سكَ َتضَرّعا وَخِيفَةً { والحق تبارك وتعالى يقول مرة‪ {:‬ياأَ ّيهَا‬
‫مقبول شرعا‪ } .‬وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي َنفْ ِ‬
‫الّذِينَ آمَنُواْ ا ْذكُرُواْ اللّهَ ِذكْرا كَثِيرا }[الحزاب‪.]41 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومرة يقول‪ } :‬وَا ْذكُر رّ ّبكَ {‬
‫وقوله‪ " :‬اذكر ال " يستشعر سماعها التكاليف؛ لن ال هو المعبود‪ ،‬والمعبود هو المطاع في‬
‫الوامر والنواهي‪.‬‬
‫أما قوله‪ " :‬اذكر ربك " فهو تذكير لك بما حباك به من أفضال؛ خلقك ورباك وأعطاك من فيض‬
‫نعمه ما ل يعد ول يحصى‪ .‬فاذكر ربك؛ لنك إن لم تعشقه تكليفا‪ ،‬فأنت قد عشقته لنه ممدك‬
‫بالنعم‪ ،‬وسبحانه يتفضل علينا ويوالينا جميعا بالنعم‪.‬‬
‫وأضرب لك هذا المثل ‪ -‬ول المثل العلى وهو منزه عن التشبيه ‪ -‬وأنت لك أولد‪ ،‬وتعطي لهم‬
‫مصروفا‪ ،‬وحين تعطي لهم المصروف كل شهر‪ ،‬تجدهم ل يحرصون على أن يروك إل كل‬
‫شهر‪ ،‬لكن إن كنت تعطي مصروفهم يوميا فأنت تلتفت لتجدهم حولك‪ ،‬فإن كنت نائما يدخل ابنك‬
‫لغرفة نومك يسير بجانبك ويتنحنح ليقول إنه يحتاج لشيء موجود بالغرفة‪ ،‬فما بالك وأنت بكل‬
‫وجودك عبد لحسان ربك؟ وما دمت عبد الحسان فاذكر من يحسن إليك‪ ،‬اذكر ربك دائما‪.‬‬

‫واذكره على حالين‪ :‬الول تضرعا‪ .‬أي بذلة‪ ،‬لنك قد تذكر واحدا بكبرياء‪ ،‬إنما ال الخالق‬
‫المحسن يجب عليك أن تذكره بذلة عبودية لمقام الربوبية‪ ،‬واذكر ربك " خيفة " أي خائفا‬
‫متضرعا؛ لنك كلما ذللت له يعزك‪ ،‬ولذلك نجد العبودية مكروهة في البشر وهي استعباد‪ ،‬والناس‬
‫ينفرون ممن يستعبدهم؛ لن عبودية النسان لمساويه طغيان كبير وظلم عظيم فهي تعطي خير‬
‫العبد للسيد‪ ،‬ولكن عبوديتك ل تعطي خير ال لك‪ .‬ولذلك نجد الحق يمتن على رسوله صلى ال‬
‫ل ْقصَى الّذِي‬
‫ج ِد ا َ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَسْ ِ‬
‫عليه وسلم فيقول‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ‬
‫سمِيعُ ال َبصِيرُ }[السراء‪.]1 :‬‬
‫حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫بَا َركْنَا َ‬
‫وقد أخذ الرسول صلى ال عليه وسلم منزلة كبرى بحادث السراء‪ ،‬وكان الحديث عنها بامتنان‬
‫من ال على عبده ورسوله محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫والشاعر المؤمن يقول‪:‬حسب نفسي عزَا بأني عبد يحتفي بي بل مواعيد ربهو في قدسه العز‬
‫ولكن أنا ألقي متى وأين أحبوأنت أيها العبد المؤمن تلقى ال متى أردت‪ ،‬وإذا أسلمت زمامك‬
‫لليمان؛ فالزمام في يدك‪ .‬يكفي أن تنوي الصلة وتقول‪ :‬ال أكبر فتكون في حضرته سبحانه‬
‫سواء كنت في البيت أو في الشارع أو في أي مكان‪ .‬وفي منتهى العزة لك‪ {.‬وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي‬
‫جهْرِ مِنَ ا ْل َق ْولِ‪[} ...‬العراف‪.]205 :‬‬
‫سكَ َتضَرّعا َوخِيفَةً وَدُونَ الْ َ‬
‫َنفْ ِ‬
‫ولم يقل هنا رب العالمين‪ :‬بل ربك أنت يا محمد‪ ،‬وهذه قمة العطاءات التي جاءت للناس‪ ،‬فهذا‬
‫العطاء الذي جاء بمحمد رسولً‪ ،‬نعمةٌ ومن ٌة من ال على المؤمنين برسالته‪ ،‬وبعد ذلك ينسب لكل‬
‫سكَ { أي أنه سبحانه لم‬
‫مسلم العطاء الذي جاء لمحمد‪ .‬وقوله تعالى لرسوله‪ } :‬وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي َنفْ ِ‬
‫يجعل دليل عنايته بك مقصورا على ما يشاهد في الخارج والبعيد عنك فقط؛ لنك قد ل ترى شيئا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في الكون أو ل تسمع شيئا في الكون؛ لن الكون منفصل عنك‪ ،‬إنما انظر إلى نفسك أنت وستجد‬
‫سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات‪.]21 :‬‬
‫اليات كلها تذكرك بخالقك‪َ {،‬وفِي أَنفُ ِ‬
‫فقبل أن يجعل ربنا الدليل في الكون الذي حولك‪ ،‬جعل لك الدليل أيضا في نفسك؛ لن نفسك ل‬
‫تفارقك وأنت أعلم بملكاتها وبجوارحها‪ ،‬وبنوازعها‪ ،‬ولهذا كان التضرع إلى ال والخيفة منه لهما‬
‫مجال هنا؛ لنك تستطيع أن ترى سر صنعته فيك‪ ،‬وستجد الكثير من اليات‪ ،‬وهي آيات أكبر‬
‫منك‪ ،‬لذلك أنت تتضاءل أمام من وهب لك كل هذا‪ ،‬وتخاف أل تؤدي حقه لديك‪.‬‬
‫جهْرِ مِنَ ا ْلقَ ْولِ بِا ْلغُ ُدوّ‬
‫سكَ َتضَرّعا وَخِيفَ ًة وَدُونَ الْ َ‬
‫ونعود إلى قول ال تعالى‪ } :‬وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي َنفْ ِ‬
‫وَالصَالِ { والذكر حَ َدثٌ‪ ،‬والح َدثُ يحتاج إلى زمان وإلى مكان‪ .‬والغدو والصال زمنان‬
‫يستوعبان النهار؛ فالغدو هو أول النهار‪ ،‬والصال هو من العصر للمغرب‪ ،‬مثلما نقول " شمس‬
‫الصيل "‪.‬‬

‫وهذه الية الكونية تتكرر في القرآن الكريم كثيرا‪ ،‬فالحق تبارك وتعالى يقول‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ‬
‫ا ْذكُرُواْ اللّهَ ِذكْرا كَثِيرا * وَسَبّحُوهُ ُبكْ َرةً وََأصِيلً }[الحزاب‪.]42 - 41 :‬‬
‫وكما يقول عز وجل‪ {:‬إِنّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدا َومُبَشّرا وَنَذِيرا * لّ ُت ْؤمِنُواْ بِاللّ ِه وَرَسُوِل ِه وَ ُتعَزّرُوهُ‬
‫وَ ُتوَقّرُو ُه وَتُسَبّحُوهُ ُبكْ َر ًة وََأصِيلً }[الفتح‪.]9 - 8 :‬‬
‫و " الصيل " هنا مشترك‪ ،‬ومقابل الصيل يطلق الحق عليه مرة بكرة‪ ،‬وأخرى يطلق عليه‪:‬‬
‫شكَاةٍ فِيهَا ِمصْبَاحٌ ا ْل ِمصْبَاحُ فِي‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ مَ َثلُ نُو ِرهِ َكمِ ْ‬
‫الغدو‪ ،‬وسبحانه القائل‪ {:‬اللّهُ نُورُ ال ّ‬
‫جةُ كَأَ ّنهَا َك ْوكَبٌ دُ ّريّ يُوقَدُ مِن شَجَ َرةٍ مّبَا َركَةٍ زَيْتُونَ ٍة لّ شَ ْرقِيّ ٍة َولَ غَرْبِيّةٍ َيكَادُ زَيْ ُتهَا‬
‫زُجَاجَةٍ الزّجَا َ‬
‫لمْثَالَ لِلنّاسِ‬
‫سهُ نَارٌ نّورٌ عَلَىا نُورٍ َيهْدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن يَشَآ ُء وَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ‬
‫ُيضِيءُ وَلَوْ َلمْ َتمْسَ ْ‬
‫سمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِا ْلغُ ُدوّ‬
‫شيْءٍ عَلَ ِيمٌ * فِي بُيُوتٍ َأذِنَ اللّهُ أَن تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫وَاللّهُ ِب ُكلّ َ‬
‫وَالصَالِ }[النور‪.]36 - 35 :‬‬
‫إنك ساعة أن تقرأ " في بيوت " تعرف أن هنا حدثا؛ لن قوله‪ " :‬في بيوت " شبه جملة " في‬
‫معنى الظرف‪ ،‬وإذا استقرأت ما قبلها‪ ،‬لم تجد لها مُ َتعَلّقا‪ .‬والحظ إذن أن ما قبلها هو } نّورٌ عَلَىا‬
‫سمُهُ { فأنت حين تذهب إلى المسجد لتلقى ال‪،‬‬
‫نُورٍ { } فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُ ْرفَ َع وَيُ ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬
‫فذلك نور‪ ،‬وتصلى له فذلك نور‪ ،‬وتخرج من هذا النور بنور يهبط عليك في بيته‪ ،‬وكل هذا نور‬
‫على نور‪ ،‬فمن أراد أن يتعرض لنفحات نور ال عز وجل؛ فليكثر من الذهاب إلى بيوت ال‪،‬‬
‫وللمساجد مهابة النور لنها مكان الصلة‪ ،‬ونعلم أن الصلة هي الخلوة التي بين العبد وربه‪ ،‬وكان‬
‫رسول ال إذا حز به أمر قام إلى الصلة‪ .‬وأنت إذا ما اتبعت حضرة النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫وتصلي ركعتين ل فلن حز بك أمر وعزت عليك مسألة وكانت فوق أسبابك ثم ذهبت بها إلى ال‬
‫سمُهُ ُيسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِا ْل ُغ ُدوّ‬
‫فلن يخرجك ال إل راضيا‪ } .‬فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُ ْرفَ َع وَ ُي ْذكَرَ فِيهَا ا ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَالصَالِ {‪.‬‬
‫والغدو والصال أو البكرة والصيل كما عرفنا هي أزمنة أول النهار وأزمنة أول الليل‪.‬‬
‫ولماذا أزمنة أول النهار وأزمنة أو الليل؟‬
‫لن هذه الزمنة هي التي يطلب فيها الذكر‪ .‬فقبل أن تخرج للعمل في أول النهار أنت تحتاج‬
‫لشحنة من العزيمة تقابل بها العمل من أجل مطالب الحياة‪ ،‬وفي نهاية النهار أنت تحتاج أن تركن‬
‫إلى ربك ليزيح عنك متاعب هذا اليوم‪ ،‬لذلك إياك أن تشغلك الحياة عن واهب الحياة‪ ،‬ولك أن‬
‫تذكر ربنا وأنت تعيش مع كل عمل تؤديه وتقوم به وأن تقابل كل نتيجة للعمل بكلمة‪( :‬الحمد ل)‬
‫وعندما ترى أي جميل من الوهاب سبحانه وتعالى يجب عليك أن تقول‪ " :‬ما شاء ال " وعندما‬
‫ترى أي شيء يعجبك تقول‪( :‬سبحان ال)‪.‬‬

‫ولذلك حينما دعا ال خلقه المؤمنين به إلى الصلة قال‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُو ِديَ لِلصّلَاةِ مِن‬
‫س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَ ْيعَ ذَِلكُمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ }[الجمعة‪.]9 :‬‬
‫ج ُمعَةِ فَا ْ‬
‫َيوْمِ ا ْل ُ‬
‫وهذا التكليف في صلة الجمعة المفروضة كصلة للجماعة‪ ،‬والجماعة مطلوبة فيها‪ ،‬ومن‬
‫الضروري أن نتواجد فيها كجمع؛ لن الجماعة مشروطة فيها فل تصح بدون الجماعة‪.‬‬
‫لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ‬
‫ونعرف أن الصلة إنما هي ذكر لربنا‪ ،‬فماذا بعدها؟{ فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ‬
‫ضلِ اللّ ِه وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيرا ّلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[الجمعة‪.]10 :‬‬
‫وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ‬
‫أي إياك أن يشغلك انتشارك في الرض وابتغاؤك من فضل ال‪ ،‬والخذ بأسباب الدنيا عن واجبك‬
‫سكَ َتضَرّعا وَخِيفَةً‪.{ ...‬‬
‫نحو ال‪ ،‬بل عليك أن تذكره سبحانه وتعالى‪ } :‬وَا ْذكُر رّ ّبكَ فِي َنفْ ِ‬

‫(‪)1146 /‬‬

‫ل وَلَا َتكُنْ مِنَ ا ْلغَافِلِينَ‬


‫جهْرِ مِنَ ا ْل َق ْولِ بِا ْل ُغ ُدوّ وَالَْآصَا ِ‬
‫سكَ َتضَرّعًا وَخِيفَ ًة َودُونَ الْ َ‬
‫وَا ْذكُرْ رَ ّبكَ فِي َنفْ ِ‬
‫(‪)205‬‬

‫أي ل تكن من الغافلين عن مطلوبات ال بالحدود التي بينها ال عز وجل؛ لن الغفلة معناها‬
‫انشغال البال بغير خالقك‪ ،‬وأنت إن جعلت خالقك في بالك دائما فإنك ل تغفل عن مطلوباته في‬
‫الغدو والصال وفي كل وقت‪ ،‬سواء كنت في الصلوات الخمس‪ ،‬أو كنت تضرب الرض في أي‬
‫معنى من المعاني‪ ،‬وتأس أيها المؤمن بالملئكة الذين يسبحون الليل والنهار ل يفترون‪ ،‬فإذا كان‬
‫الملئكة والذين لم يرتكبوا أية معصية وليس لهم موجبات المعصية‪ ،‬ول يأكلون ول يتناسلون‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وليس لهم شهوة بطن ول شهوة فرج‪ ،‬وكل المعاصي جميعها تأتي من هذه الناحية‪ ،‬مع ذلك يجب‬
‫عليك أن تتأسى بهم؛ لنهم هم الذين ل يعصون ال ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ل يستكبرون‬
‫عن عبادته‪ ،‬ويسبحونه؛ وله يسجدون‪ ،‬لذلك يقول الحق بعد ذلك‪ { :‬إِنّ الّذِينَ عِندَ رَ ّبكَ‪} ...‬‬

‫(‪)1147 /‬‬

‫جدُونَ (‪)206‬‬
‫إِنّ الّذِينَ عِنْدَ رَ ّبكَ لَا يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبّحُونَ ُه وَلَهُ يَسْ ُ‬

‫وإذا كنا عند ربنا وفي حضرة ما منحه لما من خَلْق وما أمدنا به من إيجاد من عُدم سواء‪ ،‬فلماذا‬
‫خص هؤلء بالعندية؟‪.‬‬
‫إياك أن تفهم من العندية أنها عندية المكان؛ لن المكان مُحَيّز‪ ،‬وربنا عز وجل ل يتحيز في‬
‫مكان‪ ،‬والعندية هنا عندية الفضل‪ ،‬وعندية الرحمة‪ ،‬وعندية الملك‪ ،‬وعندية العناية‪ .‬أو إن كل خلق‬
‫ل جعل لهم أسبابا ومسبّبات‪ ،‬ولكن خلقا من خلقه يسبحونه بذاته‪ ،‬وليس لهم عمل آخر‪ ،‬ويعرفون‬
‫بالملئكة العالين‪ ،‬ل الملئكة المدبرات أمرا أو الحفظة‪ .‬ولذلك قلنا سابقا‪ :‬إن الحق سبحانه وتعالى‬
‫حينما أمر الملئكة بالسجود لدم‪ ،‬وامتنع إبليس‪ ،‬قال له‪َ {:‬أسْ َتكْبَ ْرتَ َأمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص‪:‬‬
‫‪.]75‬‬
‫و { ا ْلعَالِينَ } هم الذين لم يشملهم أمر السجود‪ ،‬فهم ملئكة موجودون ول عمل لهم إل تسبيح‬
‫الذات العلية ول يدرون عن الخلق أو الدنيا شيئا‪ .‬وهم غير الملئكة المسخرين لخدمتنا؛ فالذين‬
‫عند ربنا هم الملئكة المُهيّمون الذين ل يعرفون شيئا إل الذات اللهية وتسبيح الذات وعملهم‬
‫سجُدُونَ }‬
‫يحدده ال هنا‪ { :‬لَ يَسْ َتكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَ ِت ِه وَيُسَبّحُونَهُ وَلَهُ يَ ْ‬
‫واختلف العلماء في كيفية سجود الملئكة‪ ،‬أهو الخضوع؟ أهو الصلة؟ أهو السجود الذي نعرفه‬
‫نحن؟ والسجود عندنا هو منتهى ما يمكن من الخضوع ل عز وجل وقت الصلة‪ .‬لنه نزول‬
‫بأشرف شيء في النسان وهو الوجه الذي يضعه المؤمن على الرض خضوعا ل عز وجل‪.‬‬
‫ولذلك علمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أننا إذا مررنا على آية سجدة من آيات كتاب ال فيها‬
‫مثل ذلك فعلينا أن نستجيب لها استجابة حقيقية ونسجد لها سجدة تسمى التلوة‪ ،‬ويكون ذلك عند‬
‫تلوتها أو سماعها من القارئ‪ ،‬وحصرها العلماء فيما تجدونه في المصحف عند كل سجدة‬
‫وجعلوا عندها علمة ووضعوا تحت الكلمة التي نسجد عندها خطا‪ .‬وحين قام العلماء ببيان‬
‫المواضع التي تطلب فيها هذه السجدات وجدوها قد ابتدأت بسجدة آخر سورة " العراف " التي‬
‫نتناولها بخواطرنا الن‪ ،‬وانتهت بسجدة " العلق "‪ {:‬اقْرَأْ بِاسْمِ رَ ّبكَ الّذِي خََلقَ }[العلق‪.]1 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبينهما سجدات‪ ،‬وبعض العلماء عدّ في سورة الحج سجدتين وبعضهم أهمل السجدة الثانية في‬
‫هذه السورة‪ .‬فمن حسبها خمس عشرة سجدة‪ ،‬عدّ سجدة الحج الثانية المختلف عليها مع سجدة‬
‫الحج الولى ‪ -‬المتفق عليها ‪ -‬وبعض العلماء قال‪ :‬إنها أربع عشرة سجدة؛ لنه لم يحسب سجدة‬
‫الحج الثانية‪.‬‬
‫وهب أنك أردت أن تسجد ل شكرا في أي وقت‪ ،‬وعند أي آية فاسجد ل سجدة الشكر‪ ،‬وهي‬
‫سجدة واحدة كسجدة التلوة وتستحب عند تجدد نعمة أو انقشاع غمّه‪ ،‬أو زوال نقمة ول تكون إل‬
‫خارج الصلة‪.‬‬
‫والسجود بطبيعة الحال تبدأه بالتكبير‪ ،‬ورفع اليدين كأنك تبدأ الصلة‪ ،‬والمفترض أن تقول‪" :‬‬
‫سبحان ربي العلى " ‪ ،‬إل أن رسول ال صلى ال عليه وسلم علمنا ما نقوله في السجود للتلوة‪،‬‬
‫وروي عن ابن عباس قال‪:‬‬

‫" كنت عند النبي صلى ال عليه وسلم فأتاه رجل فقال‪ :‬إنّي رأيتُ البارحَة ‪ -‬فيما يرى النائم كأنّي‬
‫ططْ‬
‫أصلي إلى أصل شجرة‪ ،‬فقرأت السجدةَ فسجدت الشجرةُ لسجودي فسمعتها تقول‪ :‬اللهم اح ُ‬
‫جعْلها لي عندكَ ُذخْراَ‪ .‬قال ابنُ عباس‪ :‬فرأيت النبي صلى‬
‫عني بها وِزْرا‪ ،‬واكتُب لي بهاَ أَجْرا‪ ،‬وا ْ‬
‫ال عليه وسلم قرأ السجدة فسجد‪ ،‬فسمعته يقول في سجوده مثل الذي أخبره الرجلُ عن قولِ‬
‫الشجرة "‪.‬‬
‫وبذلك تختم سورة العراف‪ ،‬والتسمية للسورة في ذاتها متناسبة؛ لن " العراف " هو المكان‬
‫العالي البارز الذي يجلس عليه القوم ممن تساوت حسناتهم وسيئاتهم لينظروا إلى أهل الجنة‬
‫وينظروا إلى أهل النار‪ ،‬وهكذا تكون العراف مكانا يزيد في الرتفاع‪ ،‬وهي مأخوذة من " عرف‬
‫الفرس " ‪ ،‬وعرف الفرس أعلى شيء فيه‪ ،‬والنفال أيضا هي الزيادة؛ ولذلك فإن التسمية متناسبة‬
‫سواء بالنسبة لسورة العراف أو النفال‪ ،‬وأيضا يوجد التناسب في المعنويات‪ ،‬وهذا التناسب‬
‫سهُمْ‬
‫نلحظه عندما نقرأ قول الحق تبارك وتعالى في أواخر سورة العراف‪ {:‬إِنّ الّذِينَ ا ّتقَواْ ِإذَا مَ ّ‬
‫طَا ِئفٌ مّنَ الشّ ْيطَانِ َت َذكّرُواْ فَِإذَا هُم مّ ْبصِرُونَ }[العراف‪.]201 :‬‬
‫ن الَنْفَالِ ُقلِ الَنفَالُ للّ ِه وَالرّسُولِ‬
‫ثم يأتي قوله سبحانه وتعالى في أول سورة النفال‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ‬
‫فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْ ِنكُمْ‪[} ...‬النفال‪.]1 :‬‬
‫لن من مهام الشيطان أن يفرق بين المؤمنين بوسوسته لهم‪ ،‬فإذا ما تذكروا ال وما أعده لهل‬
‫اليمان؛ فهم يبصرون الحقيقة الولى التي ترتفع على كل شيء وهي اليمان بال‪ ،‬وهذا اليمان‬
‫إنما يتطلب تصفية القلوب من كل ما يكدرها حتى تكون خالصة نقية‪.‬‬

‫(‪)1148 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْأَ ْنفَالِ ُقلِ الْأَ ْنفَالُ لِلّ ِه وَالرّسُولِ فَا ّتقُوا اللّ َه وََأصْلِحُوا ذَاتَ بَيْ ِن ُك ْم وَأَطِيعُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ‬
‫إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِينَ (‪)1‬‬

‫يقول الحق سبحانه وتعالى مفتتحا سورة النفال‪َ { :‬يسْأَلُو َنكَ عَنِ الَنْفَالِ ُقلِ الَنفَالُ للّ ِه وَالرّسُولِ‬
‫فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْ ِنكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّ َه وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم ّم ْؤمِنِينَ }‬
‫السؤال يقتضي سائلً‪ :‬وهم صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويقتضي مسئولً هو الرسول‬
‫عليه الصلة والسلم‪ ،‬ويقتضي مسئولً عنه وهو موضوع السؤال المطروح‪.‬‬
‫والمسئول عنه قد يوجد بذاته‪ ،‬مثلما نسأل صديقنا‪ :‬ماذا أكلت اليوم؟ هذا السؤال فيه تحديد لمنطقة‬
‫الجواب‪ ،‬والجواب عنه أيضا يحدد المنطقة‪.‬‬
‫وموضوع السؤال في قول ال تعالى‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َمحِيضِ ُقلْ ُهوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النّسَآءَ فِي‬
‫طهُرْنَ }[البقرة‪.]222 :‬‬
‫ض َولَ َتقْرَبُوهُنّ حَتّىا يَ ْ‬
‫ا ْلمَحِي ِ‬
‫يدل عليه الجواب‪ ،‬فهم لم يسألوا عن أسباب المحيض‪ ،‬أو لماذا ينقطع عن الحامل أو من بلغت‬
‫الكبر‪ ،‬لكن كان موضوع السؤال الذي هو واضح من إجابة الحق تبارك وتعالى‪ :‬أيجوز أن يباشر‬
‫الرجل المرأة أثناء المحيض أو ل؟‬
‫وسؤال آخر سألوه للرسول صلى ال عليه وسلم عن اليتامى‪ ،‬ويحدد الجواب موضوع السؤال‪:‬‬
‫خوَا ُنكُمْ وَاللّهُ َيعْلَمُ‬
‫يقول ال تعالى‪ {:‬وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الْيَتَامَىا ُقلْ ِإصْلَحٌ ّل ُهمْ خَيْرٌ وَإِنْ ُتخَاِلطُوهُمْ فَإِ ْ‬
‫حكِيمٌ }[ البقرة‪.]220 :‬‬
‫ح وََلوْ شَآءَ اللّ ُه لَعْنَ َتكُمْ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬
‫ا ْل ُمفْسِدَ مِنَ ا ْل ُمصْلِ ِ‬
‫لنهم كانوا يتخوفون من مخالطة اليتامى في الموال ومن مؤاكلتهم‪ ،‬وغير ذلك من ألوان التعامل‪،‬‬
‫ورعا وبعدا عن الشبهات وجاءت الجابة لتحدد موضوع السؤال‪:‬‬
‫ومرة يأتي السؤال وفيه تحديد مناط الجابة لنها عامة مثل قوله الحق تبارك وتعالى‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ‬
‫س وَالْحَجّ }[البقرة‪.]189 :‬‬
‫ن الَهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ‬
‫عَ ِ‬
‫هم سألوا محمدا صلى ال عليه وسلم‪ :‬لماذا يبدأ الهلل صغيرا ولماذا يكبر‪ ،‬ثم لماذا يختفي في‬
‫المحاق؟‪ .‬وهذا سؤال في الفلك‪ .‬ولم يجبهم الرسول صلى ال عليه وسلم إل في الحدود التي‬
‫س وَالْحَجّ }‪.‬‬
‫يستفيدون منها وهي القيمة النفعية العملية‪ ،‬وجاءت الجابة‪ُ { :‬قلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ‬
‫لننا ورغم وجودنا في هذا القرن العشرين إل أن البعض من الناس ما زال يكذب الحقيقة العلمية‬
‫التي ثبتت بما ل يدع مجالً لي شك‪ .‬ونقول للعامة‪ :‬إن الهلل يشبه قلمة الظفر ثم يكبر ليستدير‬
‫ثم يختفي قليلً‪ .‬وفي هذا يقول الشاعر‪:‬وغاية ضوء قمير كنت آمله مثل القلمة قد قدت عن‬
‫الظفرولو قال لهم‪ :‬إن الهلل يظهر حين تتوسط الرض بين الشمس والقمر ثم يبدأ في الكتمال‬
‫تباعا‪ ،‬لما استطاعت عقولهم أن تستوعب هذه المسألة‪ ،‬فجاء لهم بالحكمة المباشرة النفعية التي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تدركها عقولهم تماما‪ ،‬ثم ارتقت العقول بالعلم ووصلنا إلى دراسة حركة الفلك التي توضح كل‬
‫التفاصيل الفلكية‪.‬‬
‫شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ‬
‫وهناك سؤال يجيء في أمر محدد‪ ،‬مثل قول الحق‪ {:‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫جدِ ا ْلحَرَا ِم وَِإخْرَاجُ أَهِْلهِ مِنْهُ َأكْبَرُ عِندَ اللّهِ }‬
‫فِيهِ كَبِي ٌر َوصَدّ عَن سَبِيلِ اللّ ِه َو ُكفْرٌ ِب ِه وَا ْلمَسْ ِ‬

‫[البقرة‪.]217 :‬‬
‫وهكذا عرفنا أن موضوع السؤال هو عن حكم القتال في الشهر الحرام‪ ،‬ل طلب تحديد الشهر‬
‫الحرم بالذات‪.‬‬
‫ن الَ ْنفَالِ { والنفالُ جمعُ َنفَل (بفتح الحرف الول‬
‫ويقول الحق تبارك وتعالى هنا‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ‬
‫والثاني)‪ ،‬مثل كلمة سَبَب وأسباب‪ ،‬والمراد بالنَفل هنا الغنيمة؛ لنها من فضل ال تعالى وهي من‬
‫خصائص سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم وقد اختصت بها هذه المة دون المم السابقة‪ ،‬والنفْل‬
‫بالسكون الزيادة‪ ،‬ومنه صلة النافلة؛ لنها زيادة عن الفريضة الواجبة‪ ،‬وفي هذا المعنى يقول ربنا‬
‫عز وجل في آية ثانية‪َ } :‬ومِنَ الْلّ ْيلِ فَ َتهَجّدْ بِهِ نَافِلَةً ّلكَ {‪.‬‬
‫ونافلة تعني أمرا زائدا غير مفروض‪ ،‬ولذلك نقول‪ :‬إن النفل هو العبادة الزائدة‪ ،‬وشرطها أن‬
‫تكون من جنس ما فُرض عليك؛ لن النسان ل يعبد ربه حسب هواه الشخصي‪ ،‬بل يعبد ربه بأي‬
‫لون من ألوان العبادة التي شرعها ال‪ ،‬وإذا أراد زيادة فيها فلتكن من جنس ما فرض ال‪ ،‬حتى ل‬
‫يبتدع العبد عبادات ليست مشروعة‪ .‬ولذلك قال الحق تبارك وتعالى لرسوله محمد صلى ال عليه‬
‫حمُودا }[السراء‪.]79 :‬‬
‫عسَىا أَن يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ َمقَاما مّ ْ‬
‫وسلم‪َ {:‬ومِنَ الْلّ ْيلِ فَ َت َهجّدْ ِبهِ نَافِلَةً ّلكَ َ‬
‫النفل إذن هو أمر تعبدي زائد عن الصل‪.‬‬
‫وحينما ابتلى ال سيدنا إبراهيم عليه السلم بأن يذبح ولده إسماعيل‪ ،‬جاءه البتلء ل بوحي‬
‫صريح‪ ،‬ولكن برؤيا منامية وهو ابتلء شاق‪ ،‬فلم يكن البتلء ‪ -‬مثل ‪ -‬أن يذبح إنسان آخر‬
‫سيدنا إسماعيل‪ ،‬ثم يصبر سيدنا إبراهيم على فقده‪ ،‬ل بل هو الذي يقوم بذبح ولده إسماعيل‪.‬‬
‫وهكذا كان البتلء كبيرا‪ ،‬خصوصا أنه لم يأت إل في آخر العمر‪ .‬وكانت هذه المسألة من‬
‫الملبسات القاسية على النفس‪ .‬ولذلك أوضح ربنا عز وجل أن سيدنا إبراهيم كان أمة‪ ،‬أي‬
‫اجتمعت فيه صفات اليمان اللزمة لمة كاملة‪ {.‬وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }[البقرة‪:‬‬
‫‪.]124‬‬
‫ولنر رحموت النبوة في سلوك سيدنا إبراهيم عليه السلم حين جاء لينفذ أمر الرؤيا بذبح البن‬
‫لن رؤيا النبياء وحي؛ لذلك لم يشأ أن يأخذ ولده أخذا دون أن يطلعه على الحقيقة؛ لنه لو فعل‬
‫ذلك سيعرض ولده لحظة لها جس عقوق لبيه‪ ،‬وقد يقول البن‪ :‬أي رجل هذا الذي يذبح ابنه؟‪.‬‬
‫وأراد سيدنا إبراهيم أن يشاركه ابنه كذلك في الثواب‪ ،‬وأن يكون البن خاضعا لمر الحق تبارك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىا }[الصافات‪.]102 :‬‬
‫وتعالى كأبيه فقال له‪ {:‬يابُ َنيّ إِنّي أَرَىا فِي ا ْلمَنَامِ أَنّي َأذْبَ ُ‬
‫وهكذا أوضح سيدنا إبراهيم عليه السلم البتلء الذي جاءه كرؤيا في المنام فماذا يقول البن‬
‫جدُنِي إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ }[الصافات‪:‬‬
‫إجابة على سؤال أبيه؟{ قَالَ ياأَ َبتِ ا ْف َعلْ مَا تُؤمَرُ سَتَ ِ‬
‫‪.]102‬‬
‫أي أن إسماعيل عليه السلم أسلم زمامه لمر الحق تبارك وتعالى‪ ،‬ويواصل المولى سبحانه‬
‫وتعالى وصف ابتلء سيدنا إبراهيم بذبح البن فيقول تبارك وتعالى‪:‬‬

‫{ فََلمّا َأسَْلمَا وَتَلّهُ لِ ْلجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَ ْد صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا َكذَِلكَ نَجْزِي ا ْل ُمحْسِنِينَ }‬
‫[الصافات‪.]105 - 103 :‬‬
‫فبعد أن رضي كل من سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل وسلما أمرهما ل تعالى وامتثل للمر‬
‫بالقضاء‪ ،‬رفع ال برحمته هذا القضاء؛ لذلك يصف الحق تبارك وتعالى هذا البلء وتكرمه بالفداء‬
‫عظِيمٍ }[الصافات‪.]107 - 106 :‬‬
‫فيقول‪ {:‬إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ * َوفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ َ‬
‫وتعلمنا هذه الواقعة أيها المسلم أنك إذا ما جاء لك قضاء من ال‪ ،‬إياك أن تجزع‪ ،‬إياك أن تسخط‪،‬‬
‫إياك أن تغضب‪ ،‬إياك أن تتمرد؛ لنك بذلك تطيل أمد القضاء عليك‪ ،‬ولكن سلم لقضاء ال فيُرفع‬
‫هذا القضاء؛ لن القضاء ل يُرفَع حتى يُرْضى به‪ .‬وهكذا لم يكن جزاء الصبر على القضاء لسيدنا‬
‫إبراهيم عليه السلم افتداء إسماعيل بذبح عظيم فقط‪ ،‬بل وزيادة على ذلك يسوق له المولى‬
‫سحَاقَ نَبِيّا مّنَ الصّالِحِينَ }[الصافات‪.]112 :‬‬
‫البشرى بمزيد من العطاء فيقول‪ {:‬وَبَشّرْنَاهُ بِإِ ْ‬
‫أي أنه لم يرزقه بولد ثانٍ فقط‪ ،‬بل بولدٍ يكون نبيا وصالحا‪ .‬وتأتي زيادة أخرى في العطاء الرباني‬
‫جعَلْنَا‬
‫ق وَ َي ْعقُوبَ نَافِلَ ًة َوكُلّ َ‬
‫لسيدنا إبراهيم عليه السلم فيقول سبحانه وتعالى‪َ {:‬ووَهَبْنَا لَهُ إِسْحَا َ‬
‫صَالِحِينَ }[النبياء‪.]72 :‬‬
‫هكذا يتجلى عطاء المولى سبحانه وتعالى لسيدنا إبراهيم عليه السلم فل يعطيه الولد الذي يحفظ‬
‫ذكره فقط‪ ،‬بل يعطيه الولد الذي يحفظ أمانة الدعوة أيضا‪ ،‬وكل ذلك نافلة من ال‪ ،‬أي عطاء كريم‬
‫زائد وفضل كبير لبي النبياء‪.‬‬
‫إذن النفل هو المر الزائد عن الصل‪ .‬ومثال ذلك ما خص ال به رسوله محمدا صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪:‬‬
‫" أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من النبياء قبلي‪ ،‬نصرت بالرعب مسيرة شهر‪ ،‬وجعلت لي‬
‫الرض مسجدا وطهورا‪ ،‬فأيما رجل من أمتي أدركتْه الصلة فليصل‪ ،‬وأحلت لي الغنائم‪ ،‬ولم‬
‫تحل لحد قبلي‪ ،‬وأعطيت الشفاعة‪ ،‬وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة‪ ،‬وبعثت إلى الناس عامة "‪.‬‬

‫إذن تشريع ال للغنائم في السلم أمر زائد عن الصل؛ لن الغنائم لم تحل لحد من النبياء قبل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رسولنا صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وهناك نفل‪ ،‬وهناك غنيمة‪ ،‬وهناك فيء‪ ،‬وهناك قبض‪.‬‬
‫وسنوجز معنى كل منها‪:‬‬
‫الغنيمة‪ :‬هي ما يأخذه المسلمون من العداء المهزومين‪ ،‬وتقسم فيما بينهم بنسب معينة‪ ،‬فللرجل‬
‫المقاتل سهم واحد‪ ،‬وللفارس سهمان‪ ،‬وهذا على سبيل المثال فقط وتقسيمها حسب تشريع ال عز‬
‫وجل‪ ،‬وسبق بيان النفَل والنفْل بفتح الوسط وسكونه‪ ،‬والفيء هو كل مال صار للمسلمين من غير‬
‫حرب ول قهر ‪ " -‬والقبَض " بتحريك الوسط بمعنى المقبوض وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن‬
‫تقسم‪.‬‬

‫لكن إذا جاء ولي المر وبين للمقاتلين مشجعا لهم على حركة الحرب مثلما فعل رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم وقال‪:‬‬
‫" من قتل كافرا فله سلبه "‪.‬‬
‫فلذلك أمر زائد في حصته في الغنيمة‪.‬‬
‫وقد يبعث القائد سريةً ويشجعها على خوض الصعاب فيقول لفراد تلك السرية‪ :‬لكم نصف ما‬
‫غنمتم‪ ،‬أو الربع أو الخمس‪ ،‬فهذا يعني أن من حقهم أن يأخذوا النسبة التي حددها لهم القائد كأمر‬
‫زائد‪ ،‬ثم تقسم الغنائم من بعد ذلك‪ ،‬وساعة يأخذ المقاتلون السلب والمتاع‪ ،‬والعتاد والموال من‬
‫السرى‪ ،‬فهذه تسمى غنائم‪ ،‬أما حين ُتجْمع الغنائم عند ولي المر فيصير اسمها القبَض وقد سبق‬
‫بيانه‪.‬‬
‫وفي يوم بدر حدثت واقعة يرويها الصحابي الجليل سعد بن مالك رضي ال عنه قائلً‪:‬‬
‫" قلت يا رسول ال‪ :‬قد شفاني ال اليوم من المشركين‪ ،‬فهب لي هذا السيف‪ ،‬قال عليه الصلة‬
‫والسلم‪ " :‬إن هذا السيف ل لك‪ ،‬ول لي‪ ،‬فضعه " ‪ ،‬قال‪ :‬فوضعته‪ ،‬ثم رجعت‪ ،‬فقلت‪ :‬عسى أن‬
‫يعطي هذا السيف من ل يبلي بلئي‪ ،‬قال‪ :‬فإذا رسول ال يدعوني من ورائي‪ .‬قال الصحابي‪ :‬قد‬
‫أنزل ال في شيئا؟‪ .‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم كنت سألتني السيف‪ ،‬وليس هو لي‪ ،‬وأنه‬
‫ل الَنفَالُ للّهِ‬
‫ن الَ ْنفَالِ ُق ِ‬
‫قد وُهِب لي‪ ،‬فهو لك " ‪ ،‬قال‪ :‬وأنزل ال هذه الية‪َ } :‬يسْأَلُو َنكَ عَ ِ‬
‫وَالرّسُولِ { [النفال‪]1 :‬‬
‫أي أن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يكن ليحكم في أمر السيف إل بعد أن ينزل حكم ال عز‬
‫وجل‪ .‬ونعلم جميعا أن النبي صلى ال عليه وسلم ذهب إلى غزوة بدر ولم يكن يقصد القتال‪ ،‬بل‬
‫كان الخروج للعير التي تحمل بضائع قريش القادمة من الشام‪ ،‬وليس معها إل بعد أربعون رجلً‬
‫يحرسونها‪ ،‬ولذلك خرج المسلمون وكان عددهم ثلثمائة وثلثة عشر رجلً وليس معهم عدة أو‬
‫عتاد‪ ،‬بل لم يكن لديهم إل فرسان اثنان لنهم لم يخرجوا لقتال‪ ،‬بل خرجوا للعير بغية أن يعوضوا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنفسهم شيئا مما سُلبوه في مكة‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن أبا سفيان سلك طريق‬
‫الساحل‪ .‬أي سار في طريق بعيد عن المسلمين ولم يأت من جهة الرسول والذين معه‪ ،‬واستنفرت‬
‫قريش كل رجالها ليحموا العير‪ ،‬وصار المر بين أن يرجع المؤمنون دون حرب‪ ،‬وإما أن‬
‫يواجهوا النفير‪ ،‬وهو التعداد الكثير‪ ،‬وكانوا ألفا ومعهم العُدّة والعتاد‪ ،‬فأراد رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أن يشجع الفتيان على الحرب فقال لهم‪ " :‬من قتل كافرا فله سلبه " ‪ ،‬أي أنه خصّهم‬
‫بأمر زائد عن سهمهم في الغنيمة‪ .‬فلما علم الكبار من الصحابة والشيوخ‪ ،‬قالوا‪ :‬يا رسول ال هم‬
‫قاتلوا وقتلوا‪ ،‬لكن نحن كنا عند الرايات‪ ،‬يفيئون إلينا إن وقعت عليهم هزيمة فل بد أن نتشارك‪،‬‬
‫وحدث لغط وخلف‪ ،‬فحسم ال سبحانه وتعالى هذا اللغط بأن أنزل قوله تعالى‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ عَنِ‬
‫الَنْفَالِ ُقلِ الَنفَالُ للّ ِه وَالرّسُولِ فَا ّتقُواْ اللّهَ {‪.‬‬

‫فبين سبحانه أن الحكم في قسمة الغنائم بين الجميع ل وللرسول وإياكم أن تخرجوا عن أمر ال‬
‫فيها‪ ،‬واجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية‪ .‬فل تنازعوا ول تختلفوا } وََأصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْ ِن ُكمْ {‪.‬‬
‫إن كان قد حصل بين الطرفين‪ ،‬الشبان والشيوخ الكبار قليل من الخلف فأصلحوا ذات بينكم‪.‬‬
‫وساعة تسمع } وََأصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْ ِنكُمْ { قد تسأل‪ :‬ما هو البين؟ الجواب " البين " هو ما بين شيئين‪،‬‬
‫فحين يجلس صف من الناس بجانب بعضهم البعض‪ ،‬فما بين كل منهم هو ما يُسمى " البين " ‪،‬‬
‫وقد يكون الذي يفصلنا عن بعض " بين مودة " أو بين جفوة‪ ،‬إذن فالبين له صورة وله هيئة‪ ،‬فإن‬
‫كانت الصورة التي بينكم وبين بعضكم فيها شيء من الجفوة فأصلحوا السبب الذي من أجله وُجدَ‬
‫" البين " حتى ل يكون بينكم جفوة ونزاع‪.‬‬
‫ثم يقول تبارك وتعالى‪ } :‬وَأَطِيعُواْ اللّ َه وَرَسُولَهُ { [النفال‪.]1 :‬‬
‫وقلنا إن أمر الطاعة معناه المتثال‪ ،‬والطاعة ليست للمر فقط بل للنهي أيضا‪ ،‬لن المر طلب‬
‫فعل‪ ،‬والنهي طلب عدم فعل‪ ،‬وكلهما طلب‪ .‬وحينما يقول الحق‪ } :‬وَأَطِيعُواْ اللّ َه وَرَسُولَهُ {‪.‬‬
‫تفهم هذا القول على ضوء ما عرفناه من قبل وهو أن مسألة الطاعة أخذت في القرآن صورا‬
‫ثلثا‪ ،‬الصورة الولى‪ :‬يقول الحق تبارك وتعالى‪ } :‬وَأَطِيعُواْ اللّ َه وَرَسُولَهُ { وفيها يكرر المطاع‬
‫وهو ال والرسول‪ ،‬ولكنه يفرد المر بالطاعة‪.‬‬
‫ومرة ثانية يقول المولى عز وجل‪ {:‬وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ }[المائدة‪.]92 :‬‬
‫أي أنه سبحانه يكرر المطاع‪ ،‬ويكرر المر بالطاعة‪.‬‬
‫ومرة ثالثة يقول سبحانه وتعالى‪ } :‬وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ {‪ .‬لن منهج ال فيه أمور ذكرها ال عز‬
‫وجل‪ ،‬وذكرها رسول ال صلى ال عليه وسلم وتواردت السنة مع النص القرآني‪ ،‬فنحن نطيع ال‬
‫والرسول في المر الصادر من ال‪ .‬وهناك بعض من التكاليف جاءت إجمالية‪ ،‬والجمال ل بد له‬
‫لةَ كَا َنتْ عَلَى‬
‫لةَ إِنّ الصّ َ‬
‫من تفصيل‪ ،‬مثل الصلة وفيها قال الحق تبارك وتعالى‪ {:‬فََأقِيمُواْ الصّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ كِتَابا ّم ْوقُوتا }[النساء‪.]103 :‬‬
‫إذن فال عز وجل أمر بالصلة إجمالً وقدّم الرسول صلى ال عليه وسلم لهذا الجمال تفسيرا‬
‫وتطبيقا فهي خمس صلوات‪ ،‬ركعتان للصبح‪ ،‬وأربع ركعات للظهر‪ ،‬وأربع ركعات للعصر‪،‬‬
‫وثلث ركعات للمغرب‪ ،‬وأربع ركعات للعشاء‪ ،‬وحدد الرسول عليه الصلة والسلم الصلوات‬
‫التي نجهر فيها بقراءة الفاتحة وبضع آيات من القرآن‪ ،‬وحدد الصلوات التي ل نجهر فيها‬
‫بالتلوة‪.‬‬
‫إذن فحين يقول الحق تبارك وتعالى } َأطِيعُواْ اللّهَ { ‪ ،‬أي أطيعوه في مجمل الحكم‪ ،‬وحين يقول‪} :‬‬
‫وَأَطِيعُواْ الرّسُولَ { أي أطيعوه في تفصيل الحكم‪ ،‬وإذا ما قال‪َ } :‬أطِيعُواْ اللّ َه وَالرّسُولَ { فهذا‬
‫يعني أن الحق قد أمر وأن الرسول قد بلغ‪ ،‬والمراد واحد‪ ،‬وإذا لم يكن ل أمر‪ ،‬وقال الرسول شيئا‬
‫فالحق يقول‪ } :‬وََأطِيعُواْ الرّسُولَ { ‪ ،‬وسبحانه قد أعطى رسوله تفويضا بقوله‪:‬‬

‫خذُوهُ َومَا َنهَاكُمْ عَ ْنهُ فَان َتهُواْ }[الحشر‪.]7 :‬‬


‫{ َومَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ‬
‫أي أن كل أمر من الرسول إنما يأتي من واقع التفويض الذي أكرمه ال به‪ ،‬وهنا يقول سبحانه‬
‫ن الَنْفَالِ ُقلِ الَنفَالُ للّ ِه وَالرّسُولِ فَا ّتقُواْ اللّ َه وََأصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْ ِن ُك ْم وَأَطِيعُواْ‬
‫وتعالى‪ } :‬يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ‬
‫اللّ َه وَرَسُوَلهُ إِن كُنتُم ّم ْؤمِنِينَ { [النفال‪.]1 :‬‬
‫أي إن كنتم مؤمنين حقا فاتقوا ال الذي آمنتم به واتّ ِبعُوا المر الصادر من ال ورسوله لكم‪ ،‬لن‬
‫مدلول اليمان هو اقتناع القلب بقضية ل تطفو للمناقشة من جديد‪ ،‬وكذلك اقتناع بأن هذا الكون له‬
‫إله واحد‪ ،‬وله منهج يبلغه الرسول المؤيد من ال عز وجل بالمعجزة‪ ،‬وهذا اليمان وهذا المنهج‬
‫يفرض عليكم تقوى ال بإصلح ذات البين‪ ،‬ويفرض عليكم طاعة ال والرسول في كل أمر‪ ،‬ومن‬
‫هذه المور التي تتطلب الطاعة هو ما أنتم بصدده الن‪ ،‬لنه أمر في بؤرة الشعور‪.‬‬
‫ويأتي الحق بعد ذلك ليبين من هم المؤمنون فيقول‪ } :‬إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الّذِينَ ِإذَا‪{ ...‬‬

‫(‪)1149 /‬‬

‫إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الّذِينَ إِذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَجَِلتْ قُلُو ُبهُ ْم وَإِذَا تُلِ َيتْ عَلَ ْي ِهمْ آَيَاُتهُ زَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَ ّبهِمْ‬
‫يَ َت َوكّلُونَ (‪ )2‬الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّلَا َة َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْن ِفقُونَ (‪)3‬‬

‫س صفاتٍ لها ترتيب عقائدي وحركي وجوارحي‪ ،‬وبذلك يتحدد‬


‫وفي هاتين اليتين الكريمتين خم ُ‬
‫تشخيص كلمة " المؤمنين " ‪ ،‬هذه الصفات هي الولى‪ :‬أنه إذا ذكر ال وجلت قلوبهم‪ ،‬وثانية‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الصفات أنه‪ :‬إذا تليت عليهم آيات ال زادتهم إيمانا‪ ،‬ثالثة الصفات‪ :‬أنهم على ربهم يتوكلون‪،‬‬
‫ورابعة الصفات‪ :‬أنهم يقيمون الصلة‪ ،‬وخامسة الصفات‪ :‬أنهم ينفقون مما رزقهم ال‪.‬‬
‫والصفة الولى للمؤمنين هي‪ { :‬إِذَا ُذكِرَ اللّهُ وَجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ } [النفال‪.]2 :‬‬
‫والوجل هو الخوف في فزع ينشأ منه قشعريرة‪ ،‬واضطراب في القلب‪ ،‬وحينما أراد الشعراء أن‬
‫يعطوا صورة بهذا الحساس‪ ،‬نجد شاعرا منهم يقول‪:‬كأن القلب ليلة قيل يغدي بليلي العامرية أو‬
‫يراحقطاط غرها شرك تجا ذبه وقد علق الجناحفالشاعرُ يصور حالة قلبه حين سمع بنبأ سفر‬
‫حبيبته‪ ،‬كأنه صار مثل حمامة تحاولُ أن تخلّص نفسها من شبكة أو َمصْيدة وقعت فيها‪ ،‬إنها‬
‫تجاذب المصيدة حتى تخرج‪ ،‬وهي ترجف في مثل هذا الموقف‪ ،‬هكذا حال القلب لحظة فراق‬
‫المحبوبة عند الشاعر‪.‬‬
‫وإذا كان ذكر ال عز وجل يدفع قلوب المؤمنين إلى الوجل‪ ،‬أل يتنافى ذلك مع قول الحق سبحانه‬
‫طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ }[الرعد‪.]28 :‬‬
‫طمَئِنّ قُلُو ُبهُمْ ِب ِذكْرِ اللّهِ َألَ ِب ِذكْرِ اللّهِ تَ ْ‬
‫وتعالى‪:‬؟{ الّذِينَ آمَنُو ْا وَتَ ْ‬
‫في الحقيقة ل يوجد تعارض بين القولين؛ لن ذكر ال تعالى يأتي بأحوال متعددة‪ ،‬فإن كان‬
‫النسان مسرفا على نفسه‪ ،‬فهو يرجف حين يذكر ال الذي خالف منهجه‪ .‬وإن كان النسان‬
‫يراعي حق ال في كل عمل قَدْر الستطاعة‪ ،‬فل بد أن يطمئن قلبه لحظة ذكر ال؛ لنه اتبع منهج‬
‫ال ما استطاع إلى ذلك سبيل‪.‬‬
‫إذن فالخوف أو الوجل إنما ينشأ من مَهاب ِة وسطوة صفات الجلل‪ .‬والطمئنان إنما يجيء من‬
‫إشراقات وحنان صفات الجمال‪ .‬ولذلك تجمعها آية واحدة هي قول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬اللّهُ نَ ّزلَ‬
‫شوْنَ رَ ّبهُمْ ُثمّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ َوقُلُو ُبهُمْ‬
‫شعِرّ مِنْهُ جُلُودُ الّذِينَ َيخْ َ‬
‫حدِيثِ كِتَابا مّتَشَابِها مّثَا ِنيَ َتقْ َ‬
‫حسَنَ الْ َ‬
‫أَ ْ‬
‫إِلَىا ِذكْرِ اللّهِ }[الزمر‪.]23 :‬‬
‫فالجلود تقشعر خوفا ووجَلً ومهابة من ال عز وجل‪ ،‬ثم تلين اطمئنانا وطمعا في حنان المنّان‬
‫سبحانه وتعالى‪ ،‬لن رّبنا قال‪ {:‬نَبّىءْ عِبَادِي أَنّي أَنَا ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }[الحجر‪.]49 :‬‬
‫إذن فل يقولن أحد إن هناك تعارضا بين الوجل والطمئنان‪ ،‬فكلها من ذكر ال بالحوال المتعددة‬
‫للنسان‪ ،‬فإذا ما وجل النسان فهو يتجه إلى فعل الخير فيطمئن مصداقا لقول الحق تبارك‬
‫حسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ ذاِلكَ ِذكْرَىا لِلذّاكِرِينَ }[هود‪.]114 :‬‬
‫وتعالى‪ {:‬إِنّ الْ َ‬
‫وهل يزيد اليمان أو ينقص؟‬
‫اختلف العلماء في هذا المر‪ .‬ونحن عندما ننظر إلى قول الحق نجده يؤكد زيادة اليمان‪ ،‬وحينما‬
‫نسأل ما اليمان؟ وما السلم؟‪ ....‬إلخ نجد الجواب في توضيح الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫ورده على السائل في الحديث التي والذي يرويه الصحابي الجليل سيدنا أبو هريرة رضي ال‬
‫عنه حيث قال‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫" كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال يا رسول ال‪ :‬ما اليمان؟‬
‫قال‪ :‬أن تؤمن بال وملئكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الخر‪ ،‬قال يا رسول ال‪ :‬ما‬
‫السلم؟ قال‪ :‬السلم أن تعبد ال ول تشرك به شيئا وتقيم الصلة المكتوبة وتؤدي الزكاة‬
‫المفروضة وتصوم رمضان‪ .‬قال يا رسول ال‪ :‬ما الحسان؟ قال‪ :‬أن تعبد ال كأنك تراه فإنك إن‬
‫ل تراه فإنه يراك‪ .‬قال‪ :‬يا رسول ال‪ :‬متى الساعة؟ قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل ولكن‬
‫سأحدثك عن أشراطها‪ ،‬إذا ولدت المة ربها فذلك من أشراطها‪ ،‬وإذا كانت العراة الحفاة رءوس‬
‫الناس فذاك من أشراطها‪ ،‬وإذا تطاول رعاءُ ال َبهْم في البنيان فذاك من أشراطها في خمس ل‬
‫يعلمهن إل ال‪ .‬ثم تل صلى ال عليه وسلم‪ :‬إن ال عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في‬
‫الرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن ال عليم خبير‪ ،‬ثم‬
‫أدبر الرجل فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬ردوا عليّ الرجل فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا‪،‬‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم "‪.‬‬
‫وجبريل عليه السلم حين جاء يسأل ليعلم بعضا من صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم قال‬
‫له الرسول عليه السلم عن اليمان‪ " :‬أن تؤمن بال وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر " ‪ ،‬وفي‬
‫رواية أخرى ذكر القضاء والقدر خيره وشره‪.‬‬
‫وهذه كلها أمور غيبية‪ ،‬ول يقال في المر المحسّ إيمان‪ ،‬فل يقول واحد‪ :‬أنا مؤمن أنى أتحرك‬
‫على الرض؛ لن هذا أمر حسيّ‪ .‬واليمان ل يكون إلّ بالمور الغيبية وأولها أن تؤمن بإله واحد‬
‫ل تدركه البصار وهو غيب‪ ،‬وبملئكته وهي غيب‪ ،‬وصدقنا وجودها لنه أبلغنا بذلك الوجود‪.‬‬
‫وكذلك أن نؤمن بالكتب المنزلة على الرسل‪ .‬وبالرسل‪ ،‬وصحيح أن الكتاب أمر حسيّ والرسول‬
‫كذلك له وجود حسيّ‪ ،‬لكن لم نشاهد الوحي وهو ينزل الكتاب على الرسول‪ .‬إذن فهو أمر غيبي‪،‬‬
‫وكذلك اليمان باليوم الخر أمر غيبي أيضا‪ ،‬واليمان بالقضاء والقدر وهو ما غابت عنا حكمته‪،‬‬
‫وكلها إذن أمور غيبية‪.‬‬
‫هذا اليمان في القمة‪ ،‬لكن هناك إيمان آخر يجيء لننا نعلم أن التشريعات لم تأت مرة واحدة‪ ،‬بل‬
‫كانت تأتي على مراحل‪ ،‬فتشريع ينزل أولً بأن نؤمن أنه من ال‪ .‬إذن فالذي يزيد وينقص من‬
‫اليمان هو اليمان بالتكليفات‪ ،‬وأنها صادرة من ال عز وجل‪ ،‬وكلما كانت تنزل آية بتشريع جديد‬
‫كانت تزيد المؤمنين إيمانا‪ ،‬فعندما نزل المر بالصلة آمنوا بإقامتها واستجابوا ونفذوا‪ ،‬ثم جاء‬
‫الصوم فامتثلوا للمر به‪ ،‬ثم يجيء المر بالزكاة فتكون الطاعة والتنفيذ‪ ،‬وطبعا هناك فرق بين أن‬
‫تؤمن بالشيء‪ ،‬وأن تفعل الشيء‪.‬‬

‫فاليمان شيء‪ ،‬وفعله شيء؛ لن السلم هو النقياد الظاهري للمنهج‪ ،‬وتطبيق كل ما يجيء به‬
‫السلم هو إيمان مستمر متزايد؛ لننا آمنا بأن ما يجيء من المنهج هو من ال‪ .‬إذن فالذي يزيد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هو توابع اليمان من التكليفات والمتثال لهذه التكليفات‪ ،‬مثال ذلك‪ :‬كلنا نعرف قول الحق‪ {:‬وَللّهِ‬
‫عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْ َتطَاعَ ِإلَيْهِ سَبِيلً }[آل عمران‪.]97 :‬‬
‫لكن هناك أناس يتمسكون بحرفية قوله الحق‪َ {:‬ومَن َكفَرَ فَإِنّ ال غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ }[آل عمران‪:‬‬
‫‪.]97‬‬
‫والذين يتمسكون بحرفية القول الحق لم يتساءلوا‪ :‬كفر بماذا؟ هل كفر لنه لم يحج؟ ل‪ ،‬إن كفره‬
‫في هذه المسألة ل يكون إل بأن ينكر أن الحج ركن من أركان السلم‪ ،‬فالمطلوب منا إيمانيا أن‬
‫نقر بالحج كركن من أركان السلم في حدود الستطاعة‪ ،‬فإن فعله النسان كان قد نفذ الحكم‪ ،‬أما‬
‫إن لم يفعله فقد يكون ذلك في حدود عدم الستطاعة‪.‬‬
‫ويذيل الحق تبارك وتعالى هذه الية الكريمة التي نحن بصددها بقوله‪ } :‬وَعَلَىا رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ {‪.‬‬
‫ومُتَعلّق الجار والمجرور دائما يكون متأخرا‪ ،‬بينما هنا يتقدم الجار والمجرور؛ لذلك ففي السلوب‬
‫حصر وقصر‪ ،‬مثلما نقول‪ " :‬لزيد المال " أي أن المال ليس لغيره‪ ،‬وقول الحق‪ } :‬وَعَلَىا رَ ّبهِمْ‬
‫يَ َت َوكّلُونَ { أي ل يتوكلون على غيره‪ ،‬بل قصروا توكلهم على ال سبحانه وتعالى‪ ،‬والتوكل‪ :‬أن‬
‫تؤمن بأن لك وكيلً يقوم لك بمهام أمورك‪ ،‬بدليل أن الشيء الذي ل تقوى عليه تقول بصدده‪" :‬‬
‫وكلت فلنا ينجزه لي على خير وجه " وحتى تختار الذي توكله ويكون مناسبا لداء تلك المهمة‬
‫فأنت تعلن باطمئنان‪ :‬أنك قد وكلت فلنا‪.‬‬
‫إذن معنى } وَعَلَىا رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ { أي أنهم يكلون أمورهم على من ائتمنوه على مصالحهم‪ ،‬وهو‬
‫الحق سبحانه وتعالى القادر العظيم الذي خلق الكون‪ ،‬وخلق فيه أسبابا تؤدي إلى مسبّبات السباب‬
‫مقدمة‪ ،‬والمسبّبات هي النتيجة‪ .‬وبعد ذلك ترك أمورا ليس فيها أسباب‪ ،‬إل أن نلحظ دائما المسبب‬
‫وهو ال تعالى‪ ،‬فكل أمر يعز عليك في أسبابه؛ إياك أن تيأس من أنه ل يحدث‪ ،‬بل قل‪ :‬تلك هي‬
‫قضية السباب‪ ،‬أما أنا فلي رب خلق السباب‪ .‬وهو القادر فوق كل السباب‪ ،‬وفي حياتنا اليومية‬
‫نلحظ أن الناس يخلطون بين عمل الجوارح‪ ،‬وعمل القلوب‪ ،‬ويظن إنسان ما أنه متوكل ول يأخذ‬
‫بالسباب ويركن إلى الكسل ويقول‪ :‬أنا متوكل على ال‪ ،‬وهذا نقول له‪ :‬ل‪ ،‬إن هذا منك تواكلٌ‬
‫وليس توكلً؛ لن التوكل ليس عمل جوارح‪ ،‬التوكل عمل قلوب‪.‬‬
‫والمؤمن الذي يستقبل منهج ال بالفهم يجد السباب التي يجب أن يأخذها‪ ،‬وسبحانه وتعالى هو‬
‫المسبب العلى‪ ،‬واليمان يؤكد أن الجوارح تعمل والقلوب تتوكل‪ ،‬فعلى الجوارح أن تحرث‬
‫الرض‪ ،‬وأن تختار البذرة الطيبة‪ ،‬وتنثرها في الرض‪ ،‬ثم ترويها‪ ،‬وتتعهدها‪ ،‬وهذه العمليات‬
‫اسمها السباب‪ ،‬ثم ل تركن إلى السباب فقط‪ ،‬بل عليك أن تقول‪ :‬إن فوق كل السباب هناك‬
‫المس ّببُ‪.‬‬

‫ع وينمو‪ ،‬ثم تأتي له آفةٌ من مطر أو حر وتضيعه‪.‬‬


‫فمن الجائز أن يخضر الزر ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومن ينقل التوكل إلى الجوارح‪ .‬نقول له‪ :‬أنت تواكلت‪ ،‬أي نقلت عمل القلب إلى الجوارح‪ .‬ومن‬
‫يقول ذلك إنما يكذب على نفسه وعلى الناس‪ .‬لنه تكاسل عن الخذ بالسباب وادّعى أنه متوكل‬
‫على ال‪ .‬ولو كان الواحد من هؤلء صادقا في توكله على ال لخذ بالسباب‪ .‬وعادة فإني دائما‬
‫أقول لمن يدّعي التوكل مع الكسل‪ :‬لماذا ل تترك الطعام يأتي إلى فمك‪ ،‬لماذا تمد إليه يديك؟‪ .‬إن‬
‫من يكسل إنما يكذب في التوكل‪ ،‬فل أحد مثلً يترك قطعة اللحم تقفز من طبق الطعام إلى فمه‪،‬‬
‫لكنه يأخذها بيده‪ .‬ويمضغها بأسنانه‪ ،‬ويبلعها بعد المضغ‪ ،‬ولو كان صادقا في أن التوكل هو أل‬
‫تعمل جوارحه لما فعل شيئا من ذلك‪ ،‬لكنه يكذب ويتواكل فيما يتعبه ويشغل جوارحه فيما يريحه‪،‬‬
‫ول يستعملها في المور التي تتعبه‪ .‬وقول الحق تبارك وتعالى‪ } :‬وَعَلَىا رَ ّب ِهمْ يَ َت َوكّلُونَ {‪.‬‬
‫هذا القول يعني أنهم يؤمنون بأن السباب من خلق ال‪ .‬وحين يأخذ المؤمن بالسباب فهو يؤمن‬
‫أنه لجىء إلى ال ومعتمد عليه‪ ،‬لكن إن عزت عليه السباب فهو يعلم أن له ربا‪ ،‬ولذلك قال‪} :‬‬
‫وَعَلَىا رَ ّب ِهمْ { ‪ ،‬والرب هو الخالق من عَدَم‪ ،‬والممد من عُدْم‪ ،‬وما دام قد خلقك وأمدك من عُدْم‬
‫قبل أن يكلفك‪ ،‬فهل من المعقول أن يظلمك؟ طبعا ل‪ .‬لكن عليك أن تفطن أنه لك جوارح‪،‬‬
‫فاستعملْ الجوارح فيما خلقت من أجله‪.‬‬
‫وتأتي الية التالية لتوضح عمل الجوارح‪ ،‬وهي تحمل الصفتين الرابعة والخامسة من صفات‬
‫ل َة َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُنفِقُونَ { [النفال‪.]3 :‬‬
‫المؤمنين‪ } :‬الّذِينَ ُيقِيمُونَ الصّ َ‬
‫والقيام والقعود والقراءة والتسبيح والتكبير في الصلة عمل جوارح‪ ،‬وكذلك الزكاة هي عمل ناتج‬
‫من عمل سبق‪ ،‬فحتى تخرج الزكاة ل بد أن تبذل الجهد وتأخذ بالسباب لتنتج ما يعولك أنت‬
‫ودائرتك القريبة من زوجة وأبناء ثم أقارب‪ ،‬ومن بعد ذلك يفيض من المال ما تستقطع منه‬
‫حقّهُ َي ْومَ‬
‫الزكاة‪ ،‬وهذه بطبيعة الحال غير زكاة الزروع التي ُتخْرَج في يوم الحصاد‪ {.‬وَآتُواْ َ‬
‫حصَا ِدهِ }[النعام‪.]141 :‬‬
‫َ‬
‫ودائما ما نجد الصلة والزكاة وهما مقترنتان ببعضهما‪ ،‬ول تجد آية فيها ذكر للصلة إل وفيها‬
‫ذكر للزكاة أيضا؛ لن الصلة تعني ترك أمورك الحياتية التي تسعى فيها لدنيا السباب‪ ،‬وتذهب‬
‫إلى الحق سبحانه وتعالى وتقف بين يديه‪ ،‬أي أنك قد اقتطعت جزءا من الزمن الذي كنت تقضيه‬
‫في حركة حياتك لتقف فيه أمام ربك خالق السباب‪.‬‬

‫والزكاة تعني أنك تقتطع جزءا من مالك‪ ،‬ولذلك قلنا‪ :‬إن الصلة فيها زكاة وزيادة‪ ،‬فأنت تخرج‬
‫مقدار اثنين ونصف في المائة مما يتبقى معك من مال يبلغ نصابا ويكون زائدا عن الحاجة‬
‫الصلية‪ ،‬لكنك بالصلة تضحي ببعض الوقت الذي تقضيه في العمل الذي يأتي لك بأصل المال‪،‬‬
‫إذن ففي الصلة زكاة وأكثر‪ .‬وأنت في الزكاة تتنازل عن بعض المال‪ ،‬لكنك في الصلة تتنازل‬
‫عن الوقت الذي هو محل العمل‪ ،‬وهو الذي تنتج فيه الرزق‪ ،‬والرزق وعاء الزكاة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويذيل الحق سبحانه وتعالى هذه الية قائلً‪:‬‬
‫} َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ { ونعلم أن الرزق كما ذكر العلماء هو كل شيء ينتفع به النسان‪ ،‬وحتى‬
‫اللص الذي يسرق وينتفع بسرقته يعد هذا بالنسبة له رزقا لكنه رزق غير طيب وله عقاب في‬
‫الدنيا إن تم ضبطه‪ ،‬ولن يفلت من عقاب ال الحاكم العادل في الدنيا والخرة‪ ،‬وهو بطبيعة الحال‬
‫غير الرزق الحلل الذي يأتي من عمل مشروع‪ ،‬والمؤمن الحق هو من ينفق من هذا الرزق‬
‫الحلل؛ سواء لمتطلبات حياته أو رعاية المجتمع اليماني‪.‬‬
‫وبعد ذلك يقول الحق تبارك وتعالى‪ُ } :‬أوْلـائِكَ ُهمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ‪{ ...‬‬

‫(‪)1150 /‬‬

‫حقّا َلهُمْ دَرَجَاتٌ عِ ْندَ رَ ّبهِ ْم َو َمغْفِ َر ٌة وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (‪)4‬‬


‫أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْل ُمؤْمِنُونَ َ‬

‫و " أولئك " تشير إلى من أنعم ال عليهم بالصفات الخمس السابق ذكرها‪ ،‬وهؤلء هم من وجلت‬
‫قلوبهم من ذكر ال‪ ،‬وزادتهم اليات في إيمانهم‪ ،‬وعلى ربهم يتوكلون ويقيمون الصلة ويؤتون‬
‫حقّا }‪.‬‬
‫الزكاة‪ ،‬هؤلء هم المؤمنون حقا { ُأوْلـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َ‬
‫ولنعلم أن الحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير ول تذهب به الغيار‪ ،‬ويخضع له كل الناس لنه‬
‫يتعلق بمصالح حياتهم‪ .‬وإن جاء الباطل ليزحزح الحق‪ ،‬نجد الحق ثابتا ل يتزحزح لنه قوي‪.‬‬
‫سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا‬
‫ولنقرأ قول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫طلَ‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫حّ‬‫رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثُْلهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ‬
‫لمْثَالَ }[الرعد‪:‬‬
‫جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَرْضِ كَذاِلكَ َيضْرِبُ اللّ ُه ا َ‬
‫فََأمّا الزّبَدُ فَ َيذْ َهبُ ُ‬
‫‪.]17‬‬
‫وحين ينزل المطر من السماء‪ ،‬يأخذ من مائة كل وادٍ من الوديان على قدر اتساعه وعمقه‪،‬‬
‫ويمتلىء‪ ،‬ترى الرغاوي وهي الزبد تطفو فوق السيْل‪ ،‬وهي عبارة عن هؤلء سببه وجود‬
‫الشوائب من قش وغيره‪ ،‬وهذا مثل نراه في حياتنا‪ ،‬ونجد الرض والناس وكل المخلوقات تنتفع‬
‫بالمياه‪ ،‬لكنها ل تنتفع بالزبد أو الرغاوي‪ .‬ثم ينتقل الحق في ذات الية من ضرب المثل بالماء‪،‬‬
‫إلى ضرب المثل بالنار فيقول‪َ {:‬ومِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْ َيةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَ َبدٌ مّثْلُهُ }‬
‫[الرعد‪.]17 :‬‬
‫وأنت حين ترى قطعة الحديد وهي تتحول إلى السيولة بالنصهار في النار‪ ،‬تجد شررا يتطاير‬
‫منها‪ ،‬ويطفو فوق سطح الحديد المصهور‪ ،‬وهو ما يسمى بـ " خبث الحديد " وتتم إزالة هذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الخبث ليبقى الحديد صافيا لتصنع منه السيوف أو الخناجر وغيرها‪ ،‬وهذه الحالة تحدث في الذهب‬
‫حين يصهره الصائغ ليزيل عنه أية شوائب ويعيد تشكيله ليكون حليا‪.‬‬
‫وزبد الماء وزبد الحديد وزبد الذهب يتجمع على الجوانب ويبقى الماء صافيا‪ ،‬وكذلك الحديد‬
‫طلَ }[الرعد‪.]17 :‬‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫حّ‬‫والذهب‪ ،‬ولهذا يقول الحق‪ {:‬كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ‬
‫أي أن الحق يبقى صافيا ثابتا‪ ،‬أما الباطل فيعلو ليتجمع على الجوانب ليذهب بغير فائدة‪.‬‬
‫سفْلَىا‬
‫ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ َكفَرُواْ ال ّ‬
‫ويوضح الحق علو كلمته سبحانه وتعالى في آية أخرى فيقول‪ {:‬وَ َ‬
‫َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا }[التوبة‪.]40 :‬‬
‫ونلحظ أن الحق تبارك وتعالى جاء بالجعل لكلمة الكافرين‪ ،‬أما كلمته سبحانه وتعالى فلها العلو‬
‫الثابت‪.‬‬
‫والحق هنا يبين أن المؤمنين الذين يتصفون بهذه الصفات الخمس هم مؤمنون حق اليمان فيقول‬
‫حقّا }‪.‬‬
‫عز وجل‪ُ { :‬أوْلـا ِئكَ ُهمُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ َ‬
‫ومعنى هذا أن هناك مؤمنين ليسوا على درجة عالية من اليمان‪ ،‬أي أن هناك منازل ودرجات‬
‫لليمان متفاوتة‪ ،‬ولكل قدر من الصفات منزلة وعطاء مناسب‪.‬‬
‫ونحن نرى البشر حينما يخصهم واحد بوده يفيضون عليه من خيراتهم‪ ،‬فنجد غير العالم يأخذ‬
‫ممن يودهم من العلماء بعض العلم‪ ،‬والضعيف الذي يعطي وده لقوي‪ ،‬يعينه القوي ببعضٍ من‬
‫قوته‪ ،‬والفقير الذي يعطي وده لغني‪ ،‬يعطيه الغني بعضا من المال‪ ،‬والرعن يأخذ ممن يودهم من‬
‫العقلء قدرا من التعقل للمور‪.‬‬

‫إذن أهل المودة والقرب والتقوى يفاض عليهم من المولى وهم ممن اختصهم ال بالعطاءات‪،‬‬
‫فالذي وجدت فيه هذه الصفات‪ ،‬ومؤمن حقا تكون له درجات عند ربه تناسب حظه من الحق‬
‫وحظه من الصفاء‪ ،‬ولنعرف أن السير في درب الحق يعطي الكثير‪ .‬والمثال الذي نقدمه على ذلك‬
‫أننا نجد من يصلي الوقات الخمسة في مواعيدها‪ ،‬وهذا هو المطلوب العام‪ ،‬إذا ما صلى ضعف‬
‫ذلك بالليل‪ ،‬أو واظب على الصلة في الجماعة ويلزم نفسه بمنهج ال‪ ،‬سوف يأخذ حظا من‬
‫الصفاء لم يكن موجودا عنده من قبل ذلك‪ ،‬وسيجد في قلبه إشراقات وتجليات‪ ،‬وتسير أمور حياته‬
‫بسهولة ويسر‪.‬‬
‫وقد يكون النسان من هؤلء ‪ -‬على سبيل المثال ‪ -‬خارجا من البيت وسألته زوجته‪ :‬ماذا نطبخ‬
‫اليوم؟ ويجيبها‪ :‬لنقض هذا اليوم بما تبقى عندنا من المس‪ .‬وعندما يعود قد يفاجأ بأن شقيقه قد‬
‫قدم من الريف‪ ،‬وأحضر له هدية من البط‪ ،‬والقشدة والفطائر‪ .‬فتسأله زوجته‪ :‬أكنت تعلم بمجيء‬
‫أخيك؟ فيقول‪ :‬لم أكن أعلم‪ ،‬وهذا مجرد مثال‪ ،‬لكن عطاءات الصفاء تكون أكثر من ذلك ماديا‬
‫ومعنويا‪ ،‬ومن يستمر في العبادة ويزيد عليها ويؤدي كل ذلك بحقه‪ ،‬سيزيد عطاء ال له؛ لن ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل يمل عطاء أهل الصفاء أبدا‪ .‬ومن يجرب مثل هذه العبادة ويزيدها سيجد عطاء ال وهو يزيد‪.‬‬
‫ودائما أضرب هذا المثل ول المثل العلى وهو منزه سبحانه وتعالى عن التشبيه لنفترض أن‬
‫إنسانا أراد أن يسافر من القاهرة إلى السكندرية‪ ،‬وسأل إنسانا آخر‪ ،‬فقال له‪ :‬إن ذهبت من‬
‫الطريق الفلني ستجد استراحة طيبة‪ ،‬عكس الطريق الفلني‪.‬‬
‫ويتبع المسافر نصائح من أرشده‪ ،‬فيجده صادقا‪ ،‬فيرتاح من بعد ذلك لرأيه‪ ،‬وكذلك أهل الصفاء‪،‬‬
‫هم أهل العطاء‪ ،‬وعلى قدر صفائهم يكون هذا العطاء‪ .‬والذي يشجع الناس الذين يبالغون في التعبد‬
‫هو هذا الشراق‪ ،‬وهناك من يصف الواحد منهم بأنه مجذوب وإن من يطلق على المتعبد الزاهد‬
‫هذا الوصف يرى المنزلة العالية وهي تشد هذا المتعبد إليها‪ ،‬وهو من جهة أخرى ينظر هذا‬
‫الزاهد إلى من يتعثرون في طلب الدنيا‪ ،‬ويصفهم بينه وبين نفسه بأنهم من " الغلبة " ويدعو لهم‪.‬‬
‫وأقول لمن يرى واحدا من هؤلء‪ :‬ل شأن لك بأي إنسان من هؤلء وإياك أن تتعرض لهم‬
‫واتركهم في حالهم‪ ،‬ما دام الواحد منهم ل يسألك شيئا‪ّ } .‬لهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَ ّبهِمْ {‪.‬‬
‫والدرجات عند البشر هي ارتقاءات يسعى إليها‪ ،‬فما بالنا بالدرجات التي عند الرب؟ وما دام ال‬
‫سبحانه وتعالى قد وعدهم بالدرجات العالية عنده فقد ضمنوا المغفرة؛ لن الواحد منهم سيطهر‬
‫بالمغفرة‪ ،‬وجاء الحق بعطاء الدرجات قبل المغفرة لنه سبحانه خلق الخلق ويعرف أنهم أهل‬
‫أغيار‪ ،‬ويعلم أن هناك من أسرفوا على أنفسهم‪ ،‬ويحاولون فعل الخيرات لنهم يؤمنون بأن‬
‫الحسنات يذهبن السيئات‪ ،‬وسبحانه علمنا أن معالم الدين تأخذ حظها من المسرفين على أنفسهم‪،‬‬
‫لن من لم يسرف على نفسه تجده يطيع ال طاعة هادئة رتيبة فليس وراءه ما يلهب ظهره‪.‬‬

‫أما من عملوا السيئات فإن هذه السيئات تقض مضاجعهم‪ .‬والمسرف على نفسه لحظة السراف‬
‫يظن أنه أخذ من ال شيئا واحدا من خلف منهجه‪ ،‬فيوضح له ربنا‪ :‬إياك أن تظن أن هناك من‬
‫يخدع ال‪ .‬فأنت ستعمل كثيرا وبشوق لخدمة منهج ال‪ ،‬ونجد المسرف على نفسه لحظة الفاقة‬
‫والتوبة‪ ،‬وهو يندفع إلى فعل الخيرات‪ .‬مصداقا لقول الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن ال تعالى‬
‫ليؤيد الدين بالرجل الفاجر "‪ .‬لن فجر الفاجر يتجسد أمامه ويريه سوء المصير‪ ،‬فيندفع إلى فعل‬
‫الخيرات ليمحو السيئات‪ ،‬أما من لم يخطىء فنجده هادىء القلب‪ ،‬مطمئن النفس‪ ،‬ل يلهب ظهره‬
‫شيء‪.‬‬
‫} ّل ُهمْ دَ َرجَاتٌ عِندَ رَ ّبهِمْ َومَ ْغفِ َرةٌ وَرِ ْزقٌ كَرِيمٌ { [النفال‪.]4 :‬‬
‫وهل هذا الرزق ناشىء من كريم؟ الجواب ل؛ لن الكرم تعدى من الكريم الصيل‪ ،‬إلى أن صار‬
‫الرزق نفسه كريما‪ ،‬وكأن هذا الرزق يتعشق صاحبه؛ لن ربنا ساعة يعطي إنسانا نعمةً‪ ،‬ثم‬
‫يستعملها العبد في الطاعة‪ ،‬تحس النعمة أنها مسرورة بالذهاب إلى هذا النسان لنه استعملها في‬
‫طاعة وفيما يرضى ال عز وجل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولك أن تعرف أن الرزق أعلم بمكانك منك بمكانه‪ .‬فل أحد يعرف عنوان الرزق الذي قدره ال‬
‫له‪ ،‬لكن الرزق يعرف عنوان صاحبه‪ ،‬ويبحث عنه في كل مكان إلى أن يجده‪ .‬هكذا نفهم أن‬
‫الكرم يتعدى إلى الرزق نفسه فيصبح الرزق كريما‪.‬‬
‫وجاء كل هذا الحديث بمناسبة الخلف على الغنائم والنفال‪ ،‬وفصل ربنا بالحكم وبين وأوضح أن‬
‫النفال ل والرسول ولم يعد لحد كلم بعد كلم ال‪ ،‬وهذه الحادثة في النفال حدثت في الخروج‬
‫إلى الحرب‪ ،‬فحين أراد الرسول صلى ال عليه وسلم أن يخرج للحرب‪ ،‬كان هناك فريق منهم‬
‫كاره لهذا الخروج ثم رضي به‪ .‬لكن حالهم اختلف في الغنائم فطالب بعضهم بأكثر مما يستحق؛‬
‫جكَ رَ ّبكَ مِن بَيْ ِتكَ‪{ ...‬‬
‫لذلك يقول المولى سبحانه وتعالى‪َ } :‬كمَآ أَخْ َر َ‬

‫(‪)1151 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like