Professional Documents
Culture Documents
َلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ فِي َموَاطِنَ كَثِي َرةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ِإذْ أَعْجَبَ ْت ُكمْ كَثْرَ ُتكُمْ فََلمْ ُتغْنِ عَ ْنكُمْ شَيْئًا َوضَا َقتْ
عَلَ ْيكُمُ الْأَ ْرضُ ِبمَا َرحُ َبتْ ثُ ّم وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ()25
وقولهَ { :لقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ فِي َموَاطِنَ كَثِي َرةٍ } يلفتنا إلى أن النصر يكون من عند ال وحده ،والدليل
على أن النصر من عند ال أنه سبحانه قد نصر رسوله والذين معه في مواطن كثيرة ،و
{ َموَاطِنَ } جمع " موطن " والموطن هو ما استوطنت فيه .وكل الناس مستوطنون في الرض،
وكل جماعة منا تُحيز مكانا من الرض ليكون وطنا لها ،والوطن مكان محدد نعيش فيه من
الوطن العام الذي هو الرض؛ لن الرض موطن البشرية كلها ،ولكن الناس موزعون عليها،
وكل جماعة منهم تحيا في حيز تروح عليه وتغدو إليه وتقيم فيه.
وال سبحانه هنا يقولَ { :لقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ فِي َموَاطِنَ كَثِي َرةٍ } ،وما دام الحديث عن النصر ،يكون
المعنى :إن الحق سبحانه قد نصركم في مواطن الحرب أي مواقعها ،مثل يوم بدر ،ويوم
الحديبية ،ويوم بني النضير ،ويوم الحزاب ،ويوم مكة ،وكل هذه كانت مواقع نصر من ال
للمسلمين ،ولكنه في هذه الية يخص يوما واحدا بالذكر بعد الكلم عن المواطن الكثيرة ،فبعد أن
تحدث إجمالً عن المعارك الكثيرة يقول { :وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُت ُكمْ } إذن :فكثرة عدد
المؤمنين في يوم حنين كان ظرفا خاصّا ،أما المواطن الخرى ،مثل يوم بدر فقد كانوا قلة ،ويوم
فتح مكة كانوا كثرة ،ولكنهم لم يعجبوا؛ وبذلك يكون يوم حنين له مزية ،فهو يوم خاص بعد
الحديث العام.
{ وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَ ْتكُمْ } هذا العجاب ظرف ممدود على اليوم نفسه ،إذن فيوم حنين ليس
معطوفا على { َموَاطِنَ كَثِي َرةٍ } ولكنه جملة مستقلة بنفسها؛ لن الكثرة والعجاب بالكثرة لم تكن
في بقية المواطن ،وهذه دقة في الداء اللغوي تتطلب بحثا لغويّا .فكلمة { َموَاطِنَ } هي ظرف
مكان ،و { َيوْمَ حُنَيْنٍ } هي ظرف زمان ،فكيف جاز أن نعطف ظرف الزمان على ظرف
المكان؟
ونقول :هذا هو ما يسميه العرب " احتباك "؛ لن كل حدث مثل " أكل " و " شرب " و " ضرب "
و " ذاكر "؛ كل حدث ل بد له من زمان ول بد له من مكان ،فإذا قلت :أكلت ،نقول :متى؟ في
الصبح ،أو في الظهر ،أو في العصر ،أو في العشاء؟ وأين؟ في البيت ،أو في الفندق ،أو في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المطعم ،أو في الشارع.
إذن :فل بد لكل حدث من ظرف زمان وظرف مكان ،فإذا راعيت ذلك أخذت الظرفية المطلقة؛
ظرفية مكان حدوث الفعل ،وظرفية زمان حدوث الفعل .فإذا قلت :أكلت الساعة الثالثة ولم أسألك
أين تم الكل؟ أو إذا قلت :أكلت في البيت ولم أسألك عن موعد الكل ظهرا أو عصرا أو ليلً،
يكون الحدث غير كامل الظرفية.
ومعلوم أن الزمان والمكان يشتركان في الظرفية ،ولكنهما يختلفان ،فالمكان ظرف ثابت ل يتغير.
والزمان دائم التغير ،فهناك الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء .والزمان يدور ،هناك
ماض وحاضر ومستقبل ،وهكذا يشترك الزمان والمكان في الظرفية ،ولكن الزمان ظرف متغير،
أما المكان فهو ظرف ثابت.
وجاءت الية هنا بالثنين ،فـ } وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ { هو زمان ومكان لحدث عظيم ،وأخذت الية ظرف
المكان في } َموَاطِنَ كَثِي َرةٍ { وظرف الزمان في } وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ { فإذا قيل :لم يحضر ظرف الزمان
والمكان في كل واحدة ،نقول :ل ،لقد حضر ظرف المكان في ناحية وظرف الزمان في ناحية
ثاني ،وهذا يسمونه -كما قلنا " -احتباك " .وقد حذف المعنى :لقد نصركم ال يوم مواطن كذا
وكذا وكذا .فإذا عطفت عليها يوم حنين يكون المعنى " ومواطن يوم حنين " ،أي :جاء بالثنين
هنا .ولكن شاء ال سبحانه وتعالى أل يكون هناك تكرار ،فأحضر واحدة هنا وواحدة هناك ،وهذا
يظهر واضحا في قوله تعالىَ {:قدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَىا
كَافِ َرةٌ }[آل عمران.]13 :
فما دامت الخرى } كَافِ َرةٌ { تكون الولى " مؤمنة " ،ولكن حذفت " مؤمنة " لن } كَافِ َرةٌ { تدل
عليها ،وما دامت الولى المؤمنة تقاتل في سبيل ال ،فالفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان.
وحذفت تقاتل في سبيل الشيطان؛ لن } ُتقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ { دّلتْ عليها .وذلك حتى ل يحدث
تكرار .ونجد أن المؤمن الذي يستمع إلى كلم ال تعالى ل بد أن يكون عنده عمق فهم ،وأن
يكون كله آذانا صاغية حتى يعرف ويتنبه إلى أنه حذف من واحدة ما يدل على الثانية .إذن:
فيكون ظرف الزمان موجودا في واحدة ،وظرف المكان موجودا في واحدة ،وكلهما يدل على
الخر .والمثال على ذلك أنه بعد أن انتهت هذه الغزوة ،وعاد المسلمون إلى المدينة مجهدين لم
يخلعوا ملبس الحرب ،قال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل يصلين أحد العصر إل في
بني قريظة ".
فانطلق المسلمون -دون أن يستريحوا -إلى أرض بني قريظة ،وهم اليهود الذين كانوا يسكنون
المدينة ،وخانوا عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم وتحالفوا مع الكفار ضد المسلمين ،وبينما
الصحابة في طريقهم إلى بني قريظة كادت الشمس تغيب ،فقال بعض الصحابة :إن الشمس
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ستغيب ول بد أن نصلي العصر ،وصلوا .وفرقة ثانية من الصحابة قالت :إن رسول ال صلى ال
عليه وسلم طلب منا أل نصلي العصر إل في بني قريظة ولم ُيصَلّوا حتى وصلوا إلى هناك.
ونقول :إن الفريقين استخدما المنطق؛ لن الصلة تحتاج إلى ظرف زمان وظرف مكان ،فالذي
نظر إلى ظرف الزمان قال :الشمس ستغيب ،وصلى ،والذي نظر إلى ظرف المكان الذي حدده
صلّ.
رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لم ُي َ
وأقر رسول ال صلى ال عليه وسلم الفريقين ،واحترم اجتهادهما في :ظرفية الزمان ،وظرفية
المكان .وفي هذا يروي نافع عن ابن عمر رضي ال عنهما أن النبي صلى ال عليه وسلم قال
يوم الحزاب " :ل يصلين أحد العصر إل في بني قريظة " فأدرك بعضهم العصر في الطريق
فقال بعضهم :ل نصلي حتى نأتيهم ،وقال بعضهم :بل نصلي ،لم يُ َردْ منا ذلك ،فذُكر ذلك للنبي
صلى ال عليه وسلم فلم يعنف واحدا منهم.
} وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُتكُمْ فَلَمْ ُتغْنِ عَن ُكمْ شَيْئا { والغنى هو عدم الحاجة إلى الغير ،وحنين
هو موضع في واد بين مكة والطائف ،تجمّع فيه الكفار الذين ساءهم فتح المسلمين لمكة ،فأرادوا
أن يقوموا بعملية مضادة تُضيّع قيمة هذا النصر .فاجتمعت قبائل هوزان وثقيف ،واختاروا مالك
بن عوف ليكون قائدهم في هذه المعركة .واستطاع مالك بن عوف أن يجمع أربعة آلف مقاتل،
وانضم إليهم عدد من العراب المحيطين بهم .ووضع مالك خطته على أساس أن يخرج الجيش
ومعه ثروات المشاركين في الجيش من مال ،وبقر وإبل .وأن يخرج مع الجيش النساء والطفال.
وذلك حتى يدافع كل واحد منهم عن عرضه وماله فل يفر من المعركة ،ويستمر في القتال
بشجاعة وعنف؛ لنه يدافع عن نسائه وأمواله وأولده .وبذلك وضع كل العوامل التي تضمن له
النصر .بينما المؤمنون عندما تبدأ المعركة سيقاتلون مدافعين عن دين ال ومنهجه.
واجتمع الكفار ونزلوا بوادٍ اسمه " وادي أوطاس " .وكان فيهم رجل كبير السن ضرير .اسمه "
دريد بن الصّمة " .وكان رئيسا لقبيلة " جشم " .فلما وصل إلى مكان المعركة سأل :بأي أرض
نحن؟ فقالوا :نحن بوادي أوطاس ..فابتسم وقال :ل حزنا ضرس ول سهلً دهس ،أي أنها أرض
مناسبة ليس فيها أحجار مدببة ،تتعب الذي يسير عليها ،وليست أرضا رخوة تغوص فيها أقدام من
يسير عليها ،من " الحزن " فالحزن هو :الخشونة والغلظة ،و " ضرس " هو :التعب أثناء السير،
وأيضا ليست أرضا سهلة منبسطة رملية تغوص فيها القدام.
وعندما سمع العجوز بكاء الطفال وثغاء الشاة ،قال :أسمع بكاء الصبيان وخوار البقر .فقالوا له:
إن مالك بن عوف استصحب ذراريه واصطحب كل أمواله ،فقال :أما الموال فل بأس ،وأما
النساء والذراري فهذا هو الرعن -أي :ل يفهم في الحرب -أرسلوه لي ،فأحضروه له .فلما
حضر قال :يا مالك ما حملك على هذا؟ قال :وماذا تريد؟ قال :ارجع بنسائك وذراريك إلى عُليّا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دارك ،فإن كان المر ذلك؛ لحقك من وراءك .وإن كان المر عليك لم تفضح أهلك وذراريك.
فقال له مالك :لقد كبرت وذهب علمك وذهب عقلك .وأصر على رأيه .ثم بدأ مالك بن عوف
شعَابِ وتحت الشجار حتى ل يراهم المسلمون عند مجيئهم .فيتقدمون غير
يرتب الجيش في ال ّ
متنبهين للخطر ،وحينئذ يتم الهجوم عليهم من كل جهة ومن كل مكان.
وعندما جاء جيش المسلمين لم يتنبهوا إلى وجود الكفار المختفين عن العين .وحينئذ أعطى مالك
بن عوف إشارة البدء بالهجوم ،فخرج الكفار من كل مكان .وفاجأوا المسلمين بهجوم شديد ،قال
المتحدث :فوال ما لبث المسلمون أمامهم إل زمن حلب شاة ،حتى إنه من قسوة المعركة
وضراوتها وقوة المفاجأة انهزم جيش المسلمين في الساعات الولى للمعركة ،ووصل بعض
الفارين من القتال إلى مكة ولم يبق مع رسول ال صلى ال عليه وسلم في ساحة المعركة إل
تسعة بينهم العباس عم رسول ال صلى ال عليه وسلم .وكان ممسكا بالدابة التي يركبها رسول
ال صلى ال عليه وسلم .وسيدنا علي بن أبي طالب وكان يحمل الراية .وسيدنا الفضل ،وكان
يقف على يمين رسول ال صلى ال عليه وسلم .وسيدنا أبو سفيان بن الحارث ابن عم رسول ال
صلى ال عليه وسلم وكان يقف على يساره .وكان معهم أيمن بن أم أيمن وعدد من الصحابة.
وهنا نتساءل :لماذا حدثت هذه الهزيمة للمسلمين في بداية المعركة؟ لنهم عندما خرجوا إلى
الحرب قالوا :نحن كثرة لن نهزم من قلة ،وبذلك ذهبوا إلى السباب وتناسوا المسبب ،فأراد ال
أن يعاقبهم عقابا يخزيهم و ُيعْلي من قدر رسول ال صلى ال عليه وسلم .ولما رأى رسول ال
صلى ال عليه وسلم ما حدث ،قال العباس -وكان العباس صاحب صوت عال :أذن في الناس،
فقال العباس بصوت عال :يا معشر النصار -يا أهل سورة البقرة ،يا أهل بيعة الشجرة .فلما
سمع الناس نداء العباس ،قالوا :لبيك لبيك .وكان الذي يقول " :لبيك " يسمعه من هم وراءه
ويقولون مثله ،حتى عاد عدد كبير من المؤمنين إلى القتال ،وحمى القتال واشتدت الحرب وصار
لها أوار ،فضحك رسول ال صلى ال عليه وسلم :الن حمى الوطيس ،أي اشتدت الحرب ،ثم قال
عليه الصلة والسلم " :أنا النبي ل كذب ،أنا ابن عبد المطلب ".
ويروى هذا الحديث عن النبي صلى ال عليه وسلم البراء بن عازب ،فقد جاء في الصحيحين عن
البراء بن عازب رضي ال عنه " .أن رجلً قال له :يا أبا عمارة أفررتم عن رسول ال صلى ال
عليه وسلم يوم حنين؟ فقال :لكن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يفر ،إن هوزان كانوا قوما
ُرمَاةً ،فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا ،فأقبل الناس على الغنائم ،فاستقبلونا بالسهام ،فانهزم
الناس ،فلقد رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأبو سفيان بن الحارث آخذ بلجام بغلته
البيضاء وهو يقول " :أنا النبي ل كذب .أنا ابن عبد المطلب "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أنه رسول ال ،وال لن يتخلى عنه ولن يخذله ،ولم يثبت أمام المؤمنين واحد من هوازن
وثقيف ،وانتهت المعركة عن ستة آلف أسير من النساء ،كما غنم المسلمون أموالً ل حصر لها
وعددا كبيرا من البل والبقر والغنم والحمير .وأحضر رسول ال صلى ال عليه وسلم بديل بن
ورقاء وقال له :أنت أمير على هاذ المغنم .اذهب به وأنا سأتتبع الهاربين.
وانطلق جيش المسلمين إلى الطائف ليطارد الفارين .واختبأ مالك بن عوف قائد العدو .ثم عاد
رسول ال صلى ال عليه وسلم بعد ذلك وقسم الغنائم ،وكاد تقسيم الغنائم أن يحدث فتنة بين
المسلمين؛ لن الرسول صلى ال عليه وسلم أعطى الغنائم للمؤلفة قلوبهم ،ولسائر العرب ولم يعط
منها النصار ،لقد أراد رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يقارن بين شيئين ،بين سبايا هي أيضا
من متاع الدنيا فيعطي منها المؤلفة قلوبهم وبين حب ال ورسوله فيكون حظ النصار منه،
فالنصار الذين آووه صلى ال عليه وسلم في رأيه صلى ال عليه وسلم يستغنون بحبهم لرسول
ال وقوة إيمانهم بال عن مثل هذا المتاع الدنيوي ،إل أنه على الرغم من ذلك شعر بعض من
النصار بال ُغصّة ،وتأثر هذا البعض بذلك.
لما أعطى رسول ال صلى ال عليه وسلم ما أعطي من تلك العطايا في قريش وقبائل العرب ولم
يكن في النصار منها شيء ،وجد هذا الحي من النصار في أنفسهم حتى كثرت فيهم القالة ،حتى
قال قائلهم :لقي رسول ال صلى ال عليه وسلم قومه فدخل عليه سعد بن عبادة فقال :يا رسول
ال إن هذا الحي قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت ،قسمت في
قومك وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ،ولم يكن في هذا الحي من النصار شيء .قال:
فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال :يا رسول ال ما أنا إل امرؤ من قومي وما أنا .قال :فاجمع لي
قومك في هذه الحظيرة .قال :فخرج سعد فجمع الناس في تلك الحظيرة .قال :فجاء رجال من
المهاجرين فتركهم فدخلوا وجاء آخرون فردهم ،فلما اجتمعوا أتاه سعد فقال :قد اجتمع لك هذا
الحي من النصار قال :فأتاهم رسول ال صلى ال عليه وسلم فحمد ال وأثنى عليه بالذي هو له
أهل .ثم قال :يا معشر النصار ما قَالَةٌ بلغتني عنكم وج َد ٌة وجدتموها في أنفسكم ،ألم آتكم ضللً
ن وأفضل.
فهداكم ال ،وعالة فأغناكم ال ،وأعداء فألف ال بين قلوبكم .قالوا :بل ال ورسوله أم ّ
قال :أل تجيبوني يا معشر النصار؟ قالوا :وبماذا نجيبك يا رسول ال ول ولرسوله المنّ
والفضل؟ قال :أما وال لو شئتم لقلتم فلصدقتم وصدقتم ،أتيتنا مكَذّبا فصدقناك ،ومخذولً
فنصرناك ،وطريدا فآويناك ،وعائلً فأغنيناك
أي :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ذكر لهم ثلثة أشياء من فضل السلم عليهم ،وهي أنه
نقلهم من الضلل إلى الهدى ،ومن الفقر إلى الغنى ،ومن العداوة إلى الخوة والمحبة.
وعندما تحدث رسول ال صلى ال عليه وسلم عن فضل النصار على الدعوة ذكر أربع فضائل،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهي أن أهل مكة كانوا قد حاولوا قتل الرسول صلى ال عليه وسلم فهاجر منها فآواه أهل
المدينة ،وجاء الرسول والمؤمنون إلى المدينة ل يملكون شيئا ،فأعطاهم النصار من أموالهم
وزوجاتهم ،وكان الكفار يحاولون قتل رسول ال صلى ال عليه وسلم فأمّنه النصار ،وكان
رسول ال صلى ال عليه وسلم قد خذله قومه من قريش فنصره النصار.
عندما سمع النصار قول رسول ال صلى ال عليه وسلم في ذكر مفاخرهم .قالوا :المنة ل
والرسوله ،أي :إننا معشر النصار ل نقول هذا الكلم الذي قلته أبدا؛ لن حلوة اليمان وجزاء
اليمان أكبر من هذا بكثير ،وبهذا ل يكونون هم الذين أعطوا ،بل اليمان هو الذي أعطاهم.
ل َمكُمْ َبلِ اللّهُ َيمُنّ عَلَ ْي ُكمْ
فاليمان َن ْفعُه َنفْع أبدي .والحق تبارك وتعالى يقول {:قُل لّ َتمُنّواْ عََليّ ِإسْ َ
أَنْ هَداكُمْ لِلِيمَانِ }[الحجرات.]17 :
وعندما قال النصار لرسول ال صلى ال عليه وسلم :بل المنة ل ولرسوله ،قال لهم رسول ال
عليه الصلة والسلم:
ت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى
" أوجدتم في أنفسكم يا معشر النصار في لعاعة من الدنيا تأّلفْ ُ
إسلمكم ،أفل ترضون يا معشر النصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ،وترجعون برسول ال
صلى ال عليه وسلم في رحالكم ،فوالذي نفس محمد بيده لول الهجرة لكنت امرءا من النصار،
ولو سلك الناس شعْبا وسلكت النصار شعبا لسلكت شعبْ النصار ،اللهم ارحم النصار وأبناء
النصار وأبناء أبناء النصار " فلمَا سمعوا هذا القول من رسول ال صلى ال عليه وسلم َب َكوْا
حتى اخضّلتْ لحاهم وقالوا :رضينا بال وبرسوله قسما وحظا .وانتهت المسألة.
وهكذا نرى أنه حين تأتي مقارنة بين شيئين ،ل بد أن نتفاخر بالشيء الدائم الباقي الذي حصلنا
عليه ،أما الشيء الذي مآله إلى فناء فإنّ من ليس معه يعيش كمن عاش معه ،وهو متاع الدنيا،
تعيش معه وتعيش بدونه .ولكن ل أحد يستغني عن اليمان ،نستغني عن الدنيا نعم ،أما عن
اليمان وعن ال ورسوله فل .وبعد أن قسم رسول ال صلى ال عليه وسلم الغنائم ،جاء وفد
ن أصل
هوازن رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو بالجعرانة وقد أسلموا .فقالو :يا رسول ال إ ّ
وعشيرة ،وقد أصابنا من البلء ما ل يخفى عليك فامنن علينا منّ ال عليك.
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟ قالوا :يا رسول ال
خيّرتنا بين أحسابنا وبين أموالنا بل تردّ علينا نساؤنا وأبناؤنا فهو أحب إلينا فقال لهم :أما ما كان
لي ولبني عبد المطلب فهو لكم فإذا صليت للناس الظهر فقوموا فقولوا :إنا نستشفع برسول ال
صلى ال عليه وسلم إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم في أبنائنا
ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم .فلما صلى رسول ال صلى ال عليه وسلم بالناس الظهر
قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به فقال رسول ال صلى ال عليه سولم :أما ما كان لي ولبني عبد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المطلب فهو لكم .قال المهاجرون :وما كان لنا فهو لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقالت
النصار :وما كان لنا فهو لرسول ال صلى ال عليه وسلم .قال القرع بن حابس :أما أنا وبنو
تميم فل .وقال عيَيْنة بن حصن بن حذيفة بن بدر :أما أنا وبنو فزارة فل .قال عباس بن مرداس:
أما أنا وبنو سليم فل ،قالت بنو سليم :ل ،ما كان لنا فهو لرسول ال صلى ال عليه وسلم .فقال
عباس :يا بني سليم وهنتموني .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :أما من تمسك منكم بحقه من
هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول شيء نصيبه ،فردوا على الناس أبناءهم
ونساءهم ..ذلك هو ما يشير إليه قول الحق ،تبارك وتعالى:
} َلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ فِي َموَاطِنَ كَثِي َر ٍة وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُت ُكمْ فَلَمْ ُتغْنِ عَن ُكمْ شَيْئا َوضَا َقتْ
عَلَ ْيكُ ُم الَ ْرضُ ِبمَا رَحُ َبتْ ُث ّم وَلّيْتُم مّدْبِرِينَ { [التوبة.]25 :
أي :أنكم بدأتم المعركة ولم يكن ال في حسبانكم ،بل كنتم معتمدين على كثرتكم فلم تنفعكم ولم
تحقق لكم النصر؛ ولذلك فررتم خوفا من الهزيمة ووجدتم الرض ضيقة أمامكم ،أي :تبحثون هنا
وهناك عن مكان تختبئون فيه فل تجدون ،مع أن الرض رحبة أي واسعة ،ولكنها أصبحت ضيقة
في نظركم وأنتم تفرون من المعركة .إل أن الحق سبحانه وتعالى لم يرد أن ينهي المعركة هذا
النهاء .ولكنه أراد فقط أن ينزع من قلوب المسلمين المباهاة بكثرة العدد وظنهم أن اللجوء إلى
السباب الدنيوية هو الذي سيحقق لهم النصر .أراد منهم سبحانه وتعالى أن يعلموا جيدا أنهم إنما
ينتصرون بال عز وجل ،وأن كثرتهم دون العتماد عليه سبحانه ل تحقق لهم شيئا.
سكِينَ َتهُ عَلَىا رَسُولِ ِه وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ{ ...
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى } :ثُمّ أَنَزلَ اللّهُ َ
()1247 /
سكِينَتَهُ عَلَى َرسُولِ ِه وَعَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَأَنْ َزلَ جُنُودًا لَمْ تَ َروْهَا وَعَ ّذبَ الّذِينَ َكفَرُوا وَذَِلكَ
ثُمّ أَنْ َزلَ اللّهُ َ
جَزَاءُ ا ْلكَافِرِينَ ()26
أي :أن ال تبارك وتعالى أنزل سكينته أولً على رسوله وعلى المؤمنين الذين ثبتوا معه ،ثم
أنزلها على المؤمنين الذين فردوا من المعركة ثم عادوا إلى القتال مرة أخرى ،وقوله تعالى:
{ وَأَن َزلَ جُنُودا لّمْ تَ َروْهَا وَع ّذبَ الّذِينَ َكفَرُواْ وَذاِلكَ جَزَآءُ ا ْلكَافِرِينَ } [التوبة.]26 :
وقد حدّثونا عن أن الملئكة نزلت وثبّتت المؤمنين ،وألقت الرعب في قلوب الكافرين وأنزلت
العذاب بهم .والذين آمنوا هم الذين شهدوا بذلك؛ لنهم وصفوا كائنات على جياد بُلْق ولم يكن
عندهم مثلها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا حدثنا القرآن الكريم بأن الملئكة قد نزلت وأن هناك من رآهم ،فعلى النسان منا أن يقف
موقف المؤمن ،وأن يثق في القائل وهو صادق فليؤمن بما قال ول يبحث عن الكيفية .وإن كان
منكم من يقف أمام هذه المسألة فعليه أل يقف وقفة الرافض لوجودها ،ولكن وقفة الجاهل لكيفيتها؛
لن وجود الشيء مختلف تماما عن إدراك كيفية وجوده.
وهناك أشياء كثيرة في الكون ،موجودة وتزاول مهمتها ،ونحن ل ندرك كيفية هذا الوجود .وليس
معنى عدم إدراكنا لها أنه غير موجودة .وكل الكتشافات التي قدمها لنا العلم المعاصر كانت
موجودة .ولكننا لم نكن ندرك كيفية وجودها من قبل .فالجاذبية الرضية كانت موجودة .لكننا لم
ندرك وجودها ول كيفية عملها ،وكذلك الكهرباء كانت موجودة في الكون منذ بداية الخلق ،ولكننا
لم نكن ندرك وجودها حتى كشف ال تعالى لنا وجودها فاستخدمناها ،والميكروبات كانت موجودة
في الكون تؤدي مهمتها ولم نعرفها ،حتى كشف ال لنا عنها فعرفنا وجودها وكيفية هذا الوجود،
فكل هذه الشياء كانت موجودة في كون ال منذ خلق ال الكون .ولكننا لم نكن ندرك وجودها.
وعدم معرفتنا لم ينقص من هذا الوجود شيئا؛ ولذلك إذا حُدّثْت بشيء ل يستطيع عقلك أن يفهمه
فل تنكر وجوده؛ لن هناك أشياء لم نكن نعرف عنها شيئا ،ثم أعطانا ال تعالى العلم فوجدنا أنه
تعيش بقوانين مادية محددة .إذن :فوجود الشيء يختلف تماما عن إدراك هذا الوجود.
ن وَأَن َزلَ جُنُودا لّمْ
سكِينَتَهُ عَلَىا َرسُولِ ِه وَعَلَى ا ْل ُمؤْمِنِي َ
وقول الحق سبحانه وتعالىُ { :ثمّ أَنَزلَ اللّهُ َ
تَ َروْهَا } كلمة { لّمْ تَ َروْهَا } تعطي العذر لكل من لم ير ،ويكفي أن ال قال ليكون هذا حقيقة
واقعة .والحق سبحانه وتعالى يقولَ {:ومَا َيعَْلمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ }[المدثر.]31 :
وحين كان يقال لنا :إنّ ل خلقا هم الجن ،كما أن له خلقا آخرين هم الملئكة ،والجن يروننا ونحن
ل نراهم .كان البعض يقف موقف الستنكار .وكذلك قال لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن
الشيطان يَجْرِي من ابن آدم مَجْرى الدم ".
وكان بعض الناس ينكرون هذا الكلم ويتساءلون :كيف يدخل الشيطان عروق النسان ويجري
منها مجرى الدم؟! وعندما تقدمنا في العلم التجريبي واكتشفنا الميكروبات ورأينا من دراستها أنه
تخترق الجسم وتدخل إلى الدم في العروق ،هل يحس أحد بالميكروب وهو يخترق جسمه؟ هل
علم أحد بالميكروب ساعة دخوله للجسم؟ طبعا ل ،ولكن عندما يتوالد ويتكاثر ويبدأ تأثير يظهر
على أجسامنا نحس به ،وهذا يدل على أن الميكروب بالغ الدقة مبلغا ل تحس به شعيرات
الحساس الموجود تحت الجلد.
ومن فرط دقته يخترق هذه الشعيرات أو يمر بينها ونحن ل ندري عنه شيئا ،ويدخل إلى الدم
ويجري في العروق ونحن ل نحس بشيء من ذلك ،والدم يجري في عروق يحكمها قانون هو :أن
مربع نصف القطر يوزع على الكل ،ومثال ذلك ما يحدث في توزيع المياه ،فنحن نأتي بماسورة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رئيسية نصف قطرها ثماني بوصات وندخلها إلى قرية ،تكون كمية الصب هي ..8 × 8أي 64
بوصة مربعة ،حينما نأتي لنوزعها على مواسير أخرى فرعية نأخذ منها ماسورة نصف قطرها
أربع بوصات ،ومنها نأخذ ماسورة نصف قطرها بوصتان ،ومنها نأخذ ماسورة نصف قطرها
بوصة أو نصف بوصة ،المهم أن مربع أنصاف أقطار المواسير الفرعية يساوي ما تصبه
الماسورة الكبيرة.
وهكذا عروق الدم ،فالدم يجري في شرايين واسعة وأوردة وشعيرات دقيقة ..ولكن دقة حجم
الميكروب تجعله يخترق هذه الشعيرات فل ينزل منها دم ،وعندما تضيق هذه الشرايين تحدث
المراض التي نسمع عنها ،من تراكم الكوليسترول أو حدوث جلطات ،فيتدخل الطب ليوسع
الشرايين؛ لنها مواسير الدم .وهناك جراحات تجري بأشعة الليزر أو غيرها من الكتشافات
الحديثة تخترق هذه الشعة الجلد بين الشعيرات؛ لنها أشعة دقيقة جدا فل تقطع أي شعيرة ول
تُسيل أي دماء.
إذن :فكل ما في داخل الجسم محسوب بإرادة ال تعالى ،ولكل ميكروب فترة حضانة يقضيها
داخل الجسم دون أن نحس به ،ثم بعد ذلك يبدأ تأثيره فيظهر المرض وتأخذ عمليات توالد
الميكروب في الدم ومقاومة كرات الدم البيضاء له فترة طويلة ،بينما نحن ل نحس ول ندرك ما
يحدث.
فإذا كان " الميكروب " وهو من مادتك ،أي :شيء له كثافة وله حجم محدد ول تراه إل
بالميكروسكوب فتجد له شكلً مخفيا ،وهو يتوالد ويتناسل وله دورة حياة ،إذا كان هذا " الميكروب
" ل تحس به وهو في داخل جسمك؛ فما بالك بالشيطان الذي هو مخلوق من مادة أكثر شفافية من
مادة الميكروب ،هل يمكن أن تحس به إذا دخل جسدك؟ ل ،وإذا كان الشيء المادي قد دخل
جسدك ولم تحس به ،فما بالك بالمخلوق الذي خلقه ال تعالى من مادة أشف وأخف من الطين؟ أل
يستطيع أن يدخل ويجري من ابن آدم مجرى الدم؟!
فإذا قال رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم " .فل تتعجب ول تُكذّب لنك ل تحس به .فال
أعطاك في عالم الماديات ما هو أكثر كثافة في الخلق ويدخل في جسدك ول تحس به.
إذن :فالعلم أثبت لنا أن هناك موجودات ل نراها .ولو أننا باستخدام الميكروسكوبات اللكترونية
الحديثة فحصنا كل خلية في جسم النسان فإننا سنرى العجب ،سنرى في جلد النسان الذي نحسبه
أملسَ آبارا يخرج منها العرق ،وغير ذلك من تفاصيل بالغة الدقة ل تدركها العين ،فإذا حدّثنا ال
سبحانه وتعالى لنا ما يطمئن بشريتنا فقال } :جُنُودا لّمْ تَ َروْهَا { ،فإن قال واحد :إنّه رآها ،وقال
آخر :لم أرَ شيئا ،نقول :إن قول الحق } لّمْ تَ َروْهَا { أي :لم تروْها مجتمعين ،فهناك من لمحها،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهناك من لم يرها.
وقول الحق سبحانه وتعالى } :وَع ّذبَ الّذِينَ َكفَرُواْ { أي :بالقتل أو بالسر أو بسلب أموالهم،
وقوله تعالى } :وَذاِلكَ جَزَآءُ ا ْلكَافِرِينَ { أي :أن ما لحق بهم من هزيمة كان جزاءً لهم على
كفرهم .ولكن البعض يتساءل :لماذا لم ينزل الجزاء وتتم الهزيمة من أول لحظة ،لكان ذلك أخف
على أنفسهم وأقل عذابا ،ولكنه أعطاهم أولً فرحة النصر حتى تأتي الهزيمة أكثر قسوة وأكثر
غمَامةٌ فلمّا رأوْهَا أقشعتْ وتجلّتفحين تمر سحابة
عطَاشا َ
بشاعة ،والشاعر يقول:كَما أدر َكتْ َقوْما ِ
على قوم يعانون من شدة العطش ،هم يحلمون أن تمطر عليهم ،لكن الحلم يتبدد تماما كالمسجون
الذي يعاني من عطش شديد .فيطلب من السجان شربة ماء فيقول له السجان :سأحضرها لك.
وفعلً يذهب السجان ويحضر له كوب ماء مثلج فيعطيه له ويمسك المسجون الكوب بيده ونفسه
تمتلئ فرحا .وإذا بالسجان يضربه بشدة على يده فيسقط الكوب على الرض ،فيصاب المسجون
بصدمة شديدة .وهذه أبشع طرق التعذيب .ولو أن السجان رفض إحضار كوب الماء من أول
المر لكان ذلك أقل إيلما للسجين .لكن بعد أن يحضر كوب الماء للمسجون ويضعه في يده ثم
يحرمه منه فهذا أكثر عذابا .وهكذا أراد ال أن يزيد من عذاب الكافرين فأعطاهم مقدمات النصر
وحلوته أولً ،ثم جاءت من بعد ذلك مرارة الهزيمة لتسلبهم كل شيء ،وبذلك تجتمع لهم
فجيعتان :فجيعة اليجاب ،وفجيعة السلب.
ثم تأتي لمحة الرحمة التي يغمر بها ال سبحانه وتعالى كونه كله ،ويفتح الباب لكل عاص ليعود
إلى طريق اليمان فيتقبله ال ،ويقول الحق تبارك وتعالىُ } :ثمّ يَتُوبُ اللّهُ مِن َبعْدِ ذاِلكَ عَلَىا مَن
يَشَآءُ{ ...
()1248 /
وهذه هي عظمة الخالق ،الرحمن الرحيم ،فهو يفتح الباب دائما لعباده؛ لنه هو خالق هذا الكون،
وكل من عصى يفتح ال أمامه باب التوبة ،وهذه مسألة منطقية؛ لن الذي يكفر والذي يعصي ل
يضر ال شيئا ،ولكنه يؤذي نفسه ويحاول أن يفتري على نواميس الحق ،وحين يعلم العاصي أنه
ل ملجأ له إل ال ،فال عز وجل يفتح له باب التوبة.
وبعد أن بيّن ال سبحانه وتعالى لنا في هذه السورة أن ال ورسوله بريء من المشركين ،وكشف
عن طبيعتهم بأنهم ل عهد لهم ول ذمة ،ويصفي هذه المسائل تصفية عقدية في { بَرَآ َءةٌ مّنَ اللّهِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَرَسُولِهِ } ،وطلب منا أن ننهي العقود التي بيننا وبينهم ..فمن نقض العهد انتهى عهده ،ومن
حافظ عليه حافظنا نحن على العهد إلى مدته ،ثم طلب من المشركين أل يقربوا المسجد الحرام،
وصفّى أي ضغينة أو ذنب بفتح باب التوبة .ومن بعد ذلك ينتقل سبحانه من المعاهدة التي انتهت
مع ذوات الكفار إلى ذوات الكفار بأنفسهم ،فيقول تبارك وتعالى { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِ ّنمَا
سجِدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَـاذَا} ..
ا ْلمُشْ ِركُونَ نَجَسٌ فَلَ َيقْرَبُواْ ا ْلمَ ْ
()1249 /
خفْتُمْ عَيَْلةً
جدَ الْحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ هَذَا وَإِنْ ِ
جسٌ فَلَا َيقْرَبُوا ا ْلمَسْ ِ
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ نَ َ
حكِيمٌ ()28
س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ َفضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ َ
فَ َ
أي :أنه ل يكفي أن يقطع المؤمنون كل عهودهم مع المشركين ،بل ل بد أن يبرأوا أيضا من
المشركين أنفسهم؛ لنهم نجس ،والنجس هو الشيء المستقذر الذي تعافه النفس وتنفر منه ،وقد
يكون المشرك من هؤلء مقبولً من ناحية الشكل والملبس ،ولكن هذا هو القالب ،والحق سبحانه
وتعالى حينما يتكلم إنما يتكلم عن المعاني وعن الخلق .فال عز وجل ل ينظر إلى القوالب ،بل
إلى القلوب ،ويقول الرسول صلى ال عليه وسلم في الحديث الذي يرويه عنه أبو هريرة رضي
ال عنه " :إن ال ل ينظر إلى أجسامكم ول إلى صوركم ،ولكن ينظر إلى قلوبكم ".
فقد تكون الصورة مقبولة شكلً ،لكن العقيدة التي توجد في قلوب تلك الجساد قذرة ونجسة،
وسبحانه ل يأخذ بالظواهر ول بالصور ،بل بالقيم .وأنت إذا ما نظرت إلى القيم وإلى العقائد
الحقة الصادقة ،تجد كل عقيدة تنبئ عن تكوين مادتها ،وعلى سبيل المثال ،حينما تكون فرحا،
يتضح ذلك على أساريرك ،ومن سيقابلك سيلحظ ذلك ويعرف أنك مبتهج ،وإن كنت غاضبا أو
تعاني من ضيق ،فهذا يتضح على أساريرك.
إذن :فالمادة تنفعل بانفعال القيم ،وما دامت القيم فاسدة فالمادة التي يتكون منها جسده تكون
متمردة على صاحبها؛ لن المادة بطبيعتها عابدة مسبحة ل ،وكذلك الروح بطبيعتها عابدة مسبحة
ل تعالى ،ول ينشأ الفساد إل بعد أن توضع الروح في المادة ،ثم تتكون النفس من الثنين معا،
المادة والروح ،فإن غلّبت النفس النفس منهج ال صارت مطمئنة ،وإن تأرجحت النفس بين
الطاعة والمعصية ،فإما أن تطيع فتكون نفسا لوامة ،وإما أن تكفر وتتخذ طريق الشر فتكون نفسا
أمارة بالسوء .أما قبل أن تنفخ الروح في المادة ،فكل منها مسبح ل تعالى؛ لن كل شيء في
الوجود عابد مسبح ،والنفس في كل سلوكها مقهورة لرادة صاحبها بتسخير من ال عز وجل،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين يأتي الموت ،تنتهي الرادة البشرية وتسقط سيطرة النسان على جسده ،بل إن هذا الجسد
يشهد على صاحبه يوم القيامة .والنسان في الحياة الدنيا يعيش وإرادته تسيطر على مادته بأمر
من ال ،فاليد قد تضرب إنسانا ،وقد تعين إنسانا آخر وقع في عسرة ،ولسان المسلم يشهد أن ل
إله إل ال ،ولسان الكافر يشرك مع ال آلهة أخرى.
إذن :فمادة النسان خاضعة لرادة صاحبها في دنيا الغيار ،فإذا انتقل إلى الخرة فل تأثير له
على المادة ،وتتحرر المادة من طاعة صاحبها في المعصية ،وتتمرد عليه ،وتشهد على صاحبها
ش ِهدَ عَلَ ْيهِمْ
بأنه كان يستخدمها في المعصية .والحق سبحانه وتعالى يقول {:حَتّىا إِذَا مَا جَآءُوهَا َ
طقَنَا اللّهُ
شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ
س ْم ُعهُ ْم وَأَ ْبصَارُهُ ْم َوجُلُودُهُم ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ * َوقَالُواْ لِجُلُو ِدهِمْ ِلمَ َ
َ
جعُونَ }
شيْءٍ وَ ُهوَ خََل َقكُمْ َأ ّولَ مَ ّر ٍة وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
الّذِي أَنطَقَ ُكلّ َ
[فصلت.]21-20 :
فكأن جوارح النسان تقول له يوم القيامة :لقد أتعبتني في الدنيا وأكرهتني على فعل أشياء لم أكن
لفعلها لنني عابدة مسبحة ل ،وإن ما أمرتني به يخرج عن طاعة ال عز وجل ،وسبق أن
ضربت المثل بقائد الكتيبة الذي يصدر أوامر خاطئة فيطيعه الجنود ،فإذا ما عادوا إلى القائد
العلى شكوا له مما كان قائد الكتيبة يكرههم عليه ،كذلك أبعاض الجسم تشهد عليه عند خالقها
يوم القيامة .فإن كنت عابدا مُسبّحا كانت جوارحك معك .وإن كنت غير ذلك كانت جوارحك
ضدك ،فاللسان مثلً عابد مسبح في ذاته ،فإذا أكرهته على أن يشرك بال فهو ُمكْ َرهٌ في الدنيا،
ويصير شاهدا عليك يوم القيامة .والحق سبحانه وتعالى ينادي يومئذ قائلًّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
ا ْلوَا ِ
جسٌ { أي :أن عقيدتهم الفاسدة تنضح على
وهنا يقول الحق عز وجل } :إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ نَ َ
تصرفاتهم ،وسبحانه وتعالى يربب المعاني اليمانية في النفوس أي يزيدها ،ومثال ذلك :نحن
نرجم إبليس كمنسك من مناسك الحج ،نرجم قطعة من الحجر رمزنا إليها بالشيطان ،ونحن ل
نرى الشيطان ،وقد وضعنا له رمزا وأرسينا في أعماقنا أن الشيطان عدو لنا ويجب أن نرجمه
لنبتعد عن مراداته ،وبذلك أبرزنا هذه المعاني في أمر حسي؛ لنوضح للنفس البشرية أن الشيطان
عدو لنا ،وكلما وسوس الشيطان لنا بأمر نرجمه بأن نبين لنفسنا قضايا اليمان الناصعة فيهرب
منا .وكل منا عليه أن يتذكر أن الشيطان سوف يضحك على العاصين والكافرين في يوم القيامة،
عوْ ُتكُمْ
ويقول ما أورده الحق سبحانه وتعالى على لسانهَ {:ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْي ُكمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي }[إبراهيم.]22 :
وفي هذا القول سخرية ممن صدقوه؛ لن السلطان إما سلطان القهر بأن تأتي لنسان بما هو أكبر
منه وتقهره على فعل شيء بالقوة ،وإما سلطان القناع بأن تقنع إنسانا بأن يفعل شيئا .والشيطان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليس له سلطان القهر والحجة.
جدَ ا ْلحَرَامَ َب ْعدَ عَا ِمهِمْ
والحق سبحانه وتعالى عندما يقول } :إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ َنجَسٌ فَلَ َيقْرَبُواْ ا ْلمَسْ ِ
هَـاذَا { فإنه يوضح لنا أن نجسهم يحتم علينا أن نمنعهم من دخول الماكن التي ل يدخلها إل
النسان الطاهر .وجعل الحق سبحانه وتعالى النجاسة المعنوية مثلها مثل النجاسة المادية ،ولذلك
قال العلماء :ما دام الحق قد وصفهم بأنهم نجس فل بد أن يكون فيهم نجس مادي ،ولذلك إذا
اقتربت منهم تجد لهم رائحة غير طيبة ،لنهم ل يتطهرون من حدث ،ول يغتسلون من جنابة.
وعندما ذهبنا إلى الجزائر بعد تحريرها من فرنسا ،لم نجد في البيوت حمامات؛ لن الواحد من
المستعمرين ل يذهب إلى الحمام إل كل عشرين يوما مثلً ،لذلك جعلوا الحمامات بعيدا عن
المساكن ،ولكن بعد أن تحررت الجزائر صار في البيوت حمامات؛ لن الثقافة السلمية مبنية
على الطهارة ،ويتوجب على المسلم أنه كلما دخل النسان الحمام تطهر ،وكلما كان جنبا اغتسل.
ولقد قال البعض :لو أنني سلّمت على مشرك ويده رطبة ..فل بد أن أغسل يدي .فإذا كانت يده
جافة فيكفي أن أمسح على يدي .وفي هذا احتياط وتأكيد على اجتناب هؤلء المشركين .وإذا كنا
نجتنبهم أجسادا وقوالب ،أل يجدر بنا أن نجتنبهم قلوبا؟
وقد أنزل الحق سبحانه وتعالى هذه الية الكريمة في العام التاسع من الهجرة وهو العام الذي
صدر فيه منع المشركين من القتراب من المسجد الحرام والبراءة من هؤلء المشركين ،وتساءل
العلماء :هل الممنوع والمحرم هو اقتراب المشرك من المسجد الحرام ،أم من الحرم كله؟ وحدد
المام الشافعي التحريم على المشركين بالوجود في المسجد الحرام .ومع احترامنا لجتهاد المام
الشافعي نقول :إن الحق سبحانه وتعالى قال } :فَلَ َيقْرَبُواْ { ولم يقل :فل يدخلوا .وتحريم
القتراب يعني أل يكونوا قريبين منه ،وأقرب شيء للمسجد الحرام هو كل الحرم ،ولو كان المراد
هو المسجد فقط لمنع الحق دخولهم إليه بالنص على ذلك.
وهكذا نرى كيف يمكن أن يجتهد النسان ويبحث في المعاني ليستخرج المضمون الحق .ويتابع
س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ إِن شَآءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ
خفْتُمْ عَيْلَةً فَ َ
المولى سبحانه وتعالى قوله } :وَإِنْ ِ
حكِيمٌ { .وفي هذا القول الكريم حديث عن الغيب .والغيب -كما عرفنا -هو ما يغيب عنك وعن
َ
غيرك ،أما الشيء الذي يغيب عنك ول يغيب عن غيرك فل يكون غيبا ،فإذا سرق منك مال مثلً
فأنت ل تعرف من الذي سرق ،والسارق في هذه الحالة غيب عنك ،ولكنه ليس غيبا عن غيرك؛
فالسارق يعرف نفسه؛ والذي دبر له الجريمة يعرفه ،ومن رآه وستر عليه يعرفه .وأنت -أيضا
-ل تعرف مكان المسروقات ،ولكن السارق يعرف المكان الذي خبأها فيه.
إذن :فهي غيب عنك وليست غيبا عن غيرك .وهذه لعبة الفاقين والنصابين الذين يُسخّرون
الجن ،فما دام الشيء معروفا ومعلوما لغيرك من الناس؛ فالكشف عنه مسألة سهلة ،ولكنّ هناك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غيبا عنك وعن غيرك ،وهذا هو ما ينفرد به الحق سبحانه وتعالى في قوله سبحانه {:عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ
ظهِرُ عَلَىا غَيْ ِبهِ أَحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ[} ...الجن.]27-26 :
فَلَ يُ ْ
ولكنْ هناك غيبٌ عن الناس جميعا ،ولكنه لن يظل غيبا إلى آخر الزمان ،فمثلً الكهرباء كانت
غيبا واكتشفناها ،وتفتيت الذرة كان غيبا وعرفناه ،وقوانين الجاذبية كانت غيبا ثم دخلت في علم
النسان فأصبحت معلومة له وليس هذا هو الغيب الذي يقصده ال سبحانه وتعالى في قوله} :
عَالِمِ ا ْلغَ ْيبِ { ،فهذا غيب يختص نفسه به ،ل تقل :إن فلنا يعلم الغيب ،ولكن قل :إنه مُعلّم غيب،
والمسائل الغيبية :إما أن يحجبها الزمان أو يحجبها المكان ،فالثار المطمورة مثلً ،تعبّر عن
شيء ماض واندثر ،وفيه أخبار المم السابقة ،ول يعرفها أحد ،وستره حجاب الزمن الماضي،
إلى أن يتم الكشف عنها ويهيّئ ال لها من يفكّ ألغازها.
أما إبلغ ال رسوله من أنباء المم السابقة مما جاء في القرآن الكريم فهو اختراق لحجاب الزمن
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َيكْ ُفلُ مَرْيَ َم َومَا كُ ْنتَ لَدَ ْيهِمْ إِذْ
الماضي ،نحو قوله تعالىَ {:ومَا كُنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
صمُونَ }[آل عمران.]44 :
يَخْ َت ِ
لمْ َر َومَا كنتَ مِنَ
ويقول سبحانه وتعالىَ {:ومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
الشّا ِهدِينَ * وََلكِنّآ أَنشَأْنَا قُرُونا فَ َتطَا َولَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْل ُعمُ ُر َومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ[} ..القصص:
.]45-44
وقوله سبحانهَ } :ومَا كُنتَ { في آيات أخرى دليل على أن ال سبحانه وتعالى أخبر رسوله صلى
ال عليه وسلم بما كان مستورا في الزمن الماضي .أما الشيء الذي سوف يحدث في المستقبل،
فهو محجوب عنك بحجاب الزمن المستقبل ،وقد اخترق القرآن الكريم حجاب المستقبل في آيات
كثيرة كلها تبدأ بحرف السين ،وحرف السين دليل على أن الشيء لم يحدث بعد ،وقوله تعالى{:
سهِمْ }[فصلت.]53 :
ق َوفِي أَنفُ ِ
سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
دليل على أنه من الزمن المستقبل يكشف ال لنا عن آياته الموجودة في الرض ،وقوله تعالى{:
غلِ َبتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى الَ ْرضِ وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِب ِهمْ سَ َيغْلِبُونَ }[الروم.]3-1 :
الـم * ُ
وهذا اختراق لحجاب المستقبل؛ لن النصر حدث بعد نزول هذه الية بتسع سنوات .إذن :فالذي
يحدث في المستقبل محجوب عنك بالزمن المستقبل ،ولكن هناك شيئا يحدث في الحاضر ول
نعرفه وهو محجوب عنك بحجاب المكان ،فما يحدث في مكان لست موجودا فيه ل تعرفه ،فأنت
إن كنت جالسا في مكة مثلً ،فأنت ل تعرف ما يحدث في المدينة المنورة لنه محجوب عنك
بحجاب المكان ،وهناك أيضا حجاب النفس ،أي :أن ما يدور في نفسك ل يعرفه أحد غيرك؛ لنه
محجوب بحجاب النفس.
سجِدَ ا ْلحَرَامَ َبعْدَ عَا ِمهِمْ
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى } :إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ نَجَسٌ فَلَ َيقْرَبُواْ ا ْلمَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هَـاذَا { فسبحانه وتعالى يخاطب قوما يريد منهم أن ينفذوا هذا المر ،ولكنه سبحانه يعلم السرائر
التي تستقبل النص .مثلما يأتي إنسان ويخبرك أن المخبز القريب من منزلك سوف يغلق فأول ما
يتبادر إلى ذهنك السؤال :ومن أين سنأتي بالخبز؟ أو أن يقال لك " :إن الباخرة التي تحمل اللحم
والخضروات ضلت الطريق " فأول ما يخطر على بالك لحظتها :ومن أين نأكل؟
وكان المشركون يأتون إلى الحج ومعهم أموالهم ويتاجرون وينفقون ،هذه الفترة تمثل بالنسبة لمن
يعيشون حول بين ال الحرام فترة الرواج المادي الذي يعيشون عليه طوال العام.
جدَ ا ْلحَرَامَ َب ْعدَ
فإذا كان الحق سبحانه وتعالى يقول لهم } :إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ َنجَسٌ فَلَ َيقْرَبُواْ ا ْلمَسْ ِ
عَا ِمهِمْ هَـاذَا { فأي شيء يختلج في نفوس المسلمين؟ ل بد أن يدور في أعماقهم السؤال :ومن
الذي سيشتري بضائعنا؟ لكن هل ترك ال عز وجل مثل هذا القول دون أن يرد عليه؟ ل ،فقد رد
س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ إِن شَآءَ {.
خفْتُمْ عَيْلَةً فَ َ
على التساؤل بقوله تعالى } :وَإِنْ ِ
وهكذا كشف ال حجاب النفس ،وردّ على ما سيدور في نفوس المؤمنين في نفس الية التي حرم
فيها على المشركين أن يقتربوا من المسجد الحرام ،ولم ينتظر الحق سبحانه وتعالى حتى يعلن
المؤمنون ما في أنفسهم ،بل رد على ما يجول بخواطرهم قبل أن يعلنوه.
وحين يكشف ال عز وجل حجاب النفس بهذا الشكل ،فالمؤمن الذكي يقول :هذا ما جاء في بالي.
ولطمئن لنه عرف ما بنفسي فسوف يرزقني .ولو لم يأت ذلك في بالهم َلكَذّبوا النص .ولو كذبوا
النص لما بقوا على اليمان ،وما داموا قد َب َقوْا على اليمان فقد جاء النص معبرا عما يجول
بأنفسهم تماما.
وال سبحانه وتعالى كشف حجاب النفس في آيات كثيرة في القرآن الكريم ،منها قوله تعالى عن
س ِهمْ َل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ }[المجادلة.]8 :
المنافقين والكفار {:وَ َيقُولُونَ فِي أَنفُ ِ
وقول النفس ل يسمعه أحد ،ولو أن هؤلء لم يقولوا هذا في أنفسهم لقالوا :وال ما خطر ذلك في
نفوسنا .ولنهم قالوه في أنفسهم فقد ُبهِتُوا لكشف القرآن الكريم لما يدور داخل أنفسهم .ولقد رد
ال سبحانه وتعالى في الية الكريمة على ما سيدور في خواطر المؤمنين عندما يستمعون إليها،
فلم ينتظر الحق سبحانه وتعالى حتى يشكو المؤمنون لرسول ال صلى ال عليه وسلم خوفهم الفقر
وقلة الرزق ،بل أجاب سبحانه وتعالى على ذلك قبل أن يخطر على بالهم .فكأن الحق سبحانه
وتعالى يُشرّع حتى للخواطر قبل أن تخطر على البال ،ول يترك المور حتى تقع ثم يُشرّع لها.
خفْتُمْ عَيْلَةً { والعيلة هي الفقر ،ويتابع الحق جل وعل} :
وهنا يقول المولى سبحانه وتعالى } :وَإِنْ ِ
س ْوفَ { وهي
س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ إِن شَآءَ { ،ولم يقل الحق " سيغنيكم " بل قال } :فَ َ
فَ َ
تقتضي زمنا سيمر ولكنه زمن قريب؛ لن الخير الذي سيأتي له أسباب كثيرة كفيلة بتحقيقه كأن
يعوضهم ال عما كان يأتي به الكفار بأن تمطر السماء مطرا فينبت النبات ،وهذه تحتاج إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
زمن ،وأن يأخذوا بالسباب بأن يروج لهم تجارة على غير المشركين ،أو يكشف لهم من كنوز
س ْوفَ { .والسباب تحتاج إلى وقت ،فنزلت المطار قرب جدة
الرض ما يغنيهم .ولذلك قال } :فَ َ
التي أسلمت ونبت الزرع في وادي خليط ،وتبالي باليمن وجرش وصنعاء ،وجاءت أحمال البعير
بالخير لهل مكة وحدثت الفتوحات السلمية ،فجاء الخير من الجزية والخراج .وهكذا نرى أن }
س ْوفَ { امتدت لمراحل كثيرة ،وما زالت موجودة ممتدة حتى الن.
فَ َ
خفْتُمْ
إذن :فقد أخذت المد الطويل .على أننا ل بد نلتفت إلى قول الحق سبحانه وتعالى } :وَإِنْ ِ
عَيْلَةً { هي حيثية بأن المؤمن عليه أل يتهاون في أمر دينه رغبة في تحقيق أمر من أمور الدنيا،
فكل من يرتكب معصية خوفا من أن تضيع منه فائدة مادية أو دنيوية ،كأن يخشى قول الحق خوفا
من أن يضيع منع منصبه ،أو يغضب عليه صاحب العمل فيطرده من وظيفته ،نقول له :ل عذر
س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ {.
خفْتُمْ عَيْلَةً فَ َ
لك؛ لن ال سبحانه وتعالى قال } :وَإِنْ ِ
وحيث إن الرزق من عند ال سبحانه وتعالى ،وهذا هو كلم ال عز وجل ،فل عذر لحد أن
يرتكب معصية بحجة المحافظة على رزقه ،أو بحجة أنه يدفع الفقر عن نفسه وبيته وأولده.
على أن قوله تعالى } :إِن شَآءَ { قد تجعل النسان يظن أن الزمن سوف يباعد بينه وبين الرزق؛
لنه سبحانه قد يشاء أو ل يشاء ،فكيف يكون هذا المر وهو سبحانه أراد بالية طمأنة المسلمين.
س ْوفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ {
خفْتُمْ عَ ْيلَةً فَ َ
وإذا كان ال قد قال } :وَإِنْ ِ
فإننا نقول :إن الحق سبحانه وتعالى يريد الصلة الدائمة بعبده وأل يفسد على العبد الرجاء الدائم
في ال تعالى .وقوله عز وجل } :إِن شَآءَ { هو إبقاء لهذا الرجاء؛ لن العبد سيظل في رجاء إلى
ال عز وجل فيظل ال تعالى في باله؛ ولنه سيطلب دائما رضا ال فإن هذا يجعله يبتعد عن
المعصية ويتمسك بالطاعة.
وفوق ذلك كله ،فإن الحق تبارك وتعالى له طلقة القدرة في كونه ،فقدر ال وقضاؤه ليسا حجة
على ال سبحانه وتعالى تقيد مشيئته سبحانه ،فمشيئة ال مطلقة ل يقيدها حتى قدر ال .فهو إن
شاء حدث القدر .وإن شاء لم يحدث .وهكذا تظل طلقة قدرة ال في كونه.
وبعض العارفين بال قد يكشف لهم ال لمحة من لمحات الغيب ،فيخبر الواحد منهم الناس ،فيخلف
ال سبحانه وتعالى ما كشفه؛ حتى يظل ال وحده عالم الغيب؛ فما دام ذلك اصطفاه ال بغيب أطلع
الناس عليه .فسبحانه يُغيّر أحداث الغيب ول يعطي لذلك الشخص خبرا عن أي غيب آخر.
إذن فكلمة } :إِن شَآءَ { هي إثبات لطلقة قدرة ال في كونه ،فإن شاء أعطاكم ،وإن شاء لم
ُيعْطِكم ،فالعطاء له حكمة ،والمنع له حكمة ،فقد يفتري البعض بالنعمة فيحجبها الحق عنهم،
وهذا ما حدث في كثير من البلد التي طغت وكفرت بنعمة ال عليها؛ لنه سبحانه لو ترك النعمة
هكذا بدون ضوابط لستشرى في تلك البلد الفساد والمعاصي ،إذن :فالمشيئة تقتضي إعطاءً ،أو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منعا ،والعطاء له حكمة ،والمنع له حكمة؛ لن الحق سبحانه وتعالى يعامل خلقه على أنهم من
الغيار القُلّب؛ منهم من يأتيه النعمة فتطغيه ،ولذلك يقول سبحانه وتعالى:
()1250 /
قَاتِلُوا الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِالْ َيوْمِ الَْآخِ ِر وَلَا يُحَ ّرمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُ ُه وَلَا يَدِينُونَ دِينَ
حقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلكِتَابَ حَتّى ُيعْطُوا الْجِزْ َيةَ عَنْ َي ٍد وَهُ ْم صَاغِرُونَ ()29
الْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يعود الحق سبحانه وتعالى إلى التحدث عن القتال ،ونعلم أن الذين تحدث عنهم المولى
سبحانه في هذه السورة ،هم المشركون وأحوالهم ،والمر بإلغاء المعاهدة معهم ،وإبعاد ذواتهم عن
المسجد الحرام ،وتقتيل من يحاول البقاء منهم ليحض على الشرك؛ حتى ل يجتمع في جزيرة
العرب دينان.
وعرفنا من قبل السبب ،وأما الذين يتحدث عنهم ال في هذه الية فهم غيرهم ...فرغم أن الحق
سبحانه وتعالى أرسل لمشركي العرب محمدا صلى ال عليه وسلم وهو رسول من أنفسهم ،فهم
يعرفونه حق المعرفة ،كما أن المعجزة التي جاء بها صلى ال عليه وسلم من جنس فصاحتهم،
فإذا كذبوه فهم مخطئون ،ورغم هذا كذبوه ولم يؤمنوا به ،أما خارج الجزيرة فالرسول ليس منهم،
والقرآن لم ينزل بلغتهم ،وكان عليهم أن يأخذوا من المنهج التطبيق المناسب .وهكذا نرى أن
مصادمة اليمان لم تكن من مشركي مكة فقط ،بل كانت أيضا من بعض يهود المدينة وبعض من
نصارى نجران ،وإذا كان الحق سبحانه وتعالى قد حدد في هذه السورة موقف اليمان من
المشركين به ،فقد أراد أيضا أن يحدد موقف اليمان من أهل الكتاب.
ونحن نعرف أن هناك فرقا بين أهل الشرك وأهل الكتاب ،فالمشركون لم يكونوا يؤمنون بال إلها
واحدا بل معه شركاء ،ولكن أهل الكتاب يؤمنون بالله ويؤمنون برسول وكتاب سماوي ،وهم
بذلك أقرب إلى اليمان .ولذلك نجد القرآن الكريم يعرض لنا مثل هذه القضية كطبيعة فطرية،
فنجد أن النبي صلى ال عليه وسلم قد حزن هو وصحابته حين غُلِبتْ الروم في أدنى الرض.
لماذا حزن الرسول صلى ال عليه وسلم وهو يعلم أن الروم سيقفون أيضا ضده؟ لقد حزن صلى
ال عليه وسلم لنهم يؤمنون أن للكون خالقا واحدا وأن له رسلً يوحي إليهم وأن له كتبا منزلة،
لكن المر يختلف بالنسبة للمشركين ،فهم يكفرون بال وهذا قمة الكفر .صحيح أن بعضا من أهل
الكتاب وقفوا مع المشركين في موقف العداء لرسول ال ،لكن قلبه صلى ال عليه وسلم معهم
لنهم أهل إيمان بالقمة .ويُسَرّي الحق عن رسوله صلى ال عليه وسلم فيقول {:الـم * غُلِ َبتِ
ض وَهُم مّن َب ْعدِ غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ }[الروم.]3 - 1 :
الرّومُ * فِي أَدْنَى الَ ْر ِ
وهنا يبرز سؤال يقول :متى سيغلبون؟ تأتي الجابة من الحق تبارك وتعالى {:فِي ِبضْعِ سِنِينَ }
[الروم.]4 :
والبضع بالنسبة للزمن هو فترة تتراوح من ثلث لتسع سنوات ،ولم يحدد الحق سبحانه وتعالى
البضع هنا؛ لن المعارك لها أوليات ونهايات ،لهذا جاء قول الحق تبارك وتعالى مراعيا لما
تستغرقه هذه المراحل كلها ،وجاء القول بأن نصر الروم على الفرس سوف يأتي بعد بضع سنين.
وبال قولوا لي :كيف يتحكم نبي أمي في جزيرة تسكنها أمة أمية ،ول علم لهذا الرسول بأخبار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المم وكيف لهذا النبي أن يأتي بأخبار نصر أمة على أخرى؟ ويظل هذا الخبر في الكتاب الذي
يحمل منهج رسالته قرآنا يُتْلَى ويتعبد به إلى قيام الساعة؟ لقد قالها بثقة في حدوث ما جاء في
القرآن في المستقبل القريب؛ لنها جاءته عن ربه ،وهو واثق أن قائل هذا الخبر قادر على إنفاذ
ما يقول.
وإل ،فماذا كان يحدث لو أن الرسول صلى ال عليه وسلم قال ذلك ثم مر بضع سنين ولم يأت
نصر الروم؟ وماذا يكون موقف الذين آمنوا به كرسول من عند ال؟
إذن :هو صلى ال عليه وسلم لم يكن ليجازف وينطقها إل بثقة في أن القائل هو الحق سبحانه
الذي شاء أن ينزل بالخبر في آية قرآنية تُتلى ،وتُكتب ،وتُحفظ ،و ُيصَلّى بها في كل وقت إلى أن
تقوم الساعة .وينزلها سبحانه على محمد صلى ال عليه وسلم وقت أن كان ضعيفا ل يعرف
ميزان القوي ،ول يعلم هل ستستعد الروم لتنتصر أو ل؟
ثم ألم يكن من الممكن أن يتصالح الروم والفرس؟ كل ذلك لم يكن في حسبان محمد صلى ال
عليه وسلم؛ لن الخبر جاء من ال وسبحانه القادر على إنفاذ ما يقول.
ألم يكن هناك إخبار عن أمور خالفت النواميس؟ نعم كانت هناك أمور خارجة عن النواميس وجاء
بها الخبر من ال سبحانه وتعالى ..ألم يقل زكريا عليه السلم حين ُبشّر بالولد {:قَالَ َربّ أَنّىا
ل ٌم َوكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرا َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ ا ْلكِبَرِ عِتِيّا * قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ
َيكُونُ لِي غُ َ
ل وَلَمْ َتكُ شَيْئا }[مريم.]9-8 :
ن َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْب ُ
هَيّ ٌ
أي :ما دام ال سبحانه وتعالى قد قال فقد تأكد الحدوث.
وكان المؤمنون أقرب إلى الروم لنهم أهل كتاب؛ ولن لهم صلة بالسماء ،ومن له صلة بالسماء
يمتلئ بالحنين إلى أخبار السماء ،ويتسمع أخبار المؤمنين في القمة العقدية .ومن العجيب أن هذه
الية تصدق في الروم وفارس ،فينتصر الروم على الفرس ،وتصدق في محمد صلى ال عليه
وسلم وأصحابه ،فينتصر رسول ال وأصحابه في بدر .ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى {:وَ َي ْومَئِذٍ
َيفْرَحُ ا ْل ُمؤْمِنُونَ * بِ َنصْرِ اللّهِ[} ..الروم.]5-4 :
وفي الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق تبارك وتعالى:
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَلَ بِالْ َيوْ ِم الخِ ِر َولَ ُيحَ ّرمُونَ مَا حَرّمَ اللّ ُه وَرَسُولُ ُه َولَ يَدِينُونَ دِينَ
} قَاتِلُواْ الّذِي َ
حقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ حَتّىا ُيعْطُواْ ا ْلجِزْيَةَ عَن َي ٍد وَهُ ْم صَاغِرُونَ { [التوبة.]29 :
الْ َ
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قد وصفهم هنا بأنهم ل يؤمنون بال مع أنهم أهل إيمان .والمعنى
أنهم ل يؤمنون بال اليمان الذي يعطي ال جلل الصفات وكمالها؛ لن بعضهم قال :إن ال له
ابن اسمه عزير ،وقال البعض الخر :المسيح ابن ال ،إذن فهم لم يؤمنوا بال حق اليمان تسبيحا
عمّا ل يليق بها ،وكذلك يختلف إيمانهم باليوم الخر عن اليمان الحق به،
وتنزيها لذاته الكريمة َ
إنه إيمان ل يتفق مع مرادات ال تعالى؛ فهم يقولون مثلً :إن النعيم في الخرة ليس ماديا ولكنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نعيم روحي.
ونقول :عندما يحدثنا ال عن نعيم الخرة فل بد أن نعرف هذا النعيم حتى نفهم المعنى ،ونتساءل:
ما هو النعيم الروحي؟ هل النعيم الروحي هو خواطر في النفس فقط ل علقة لها بالحقيقة؟ أيكون
هذا هو نعيم الخرة؟
لقد أوضح المولى سبحانه وتعالى بما ل يدع مجالً للظن أو الشك أنه قد أعد جنة للمؤمنين وأعد
نارا للكافرين ،وحكى لنا الحق سبحانه وتعالى عن هذه الحياة بما فيها من ثواب ومن عقاب؛ بما
يقنعنا أن فيها نعيمًا مثل الذي نعرفه ،فإذا كان هذا النعيم روحيا ونحن ل نعرف النعيم الروحي
ول نعلم شيئا عنه ،فكيف يغرينا ال عز وجل بشيء ل نعلمة؟ إذن :فإيمان هؤلء الناس باليوم
الخر ليس إيمانا كما يريده ال.
فسبحانه حين يحدثنا عن الجنة إنما يحدثنا عن أشياء من جنس ما نعرف وليس من جنس ما ل
نعرف .وصحيح أن ال سبحانه وتعالى قد بيّن لنا بعض صور النعيم في الجنة ،وقال :إنها مثل
كذا وكذا .قال الحق جل جلله {:مّ َثلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُ ّتقُونَ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ ُأكُُلهَا دَآئِمٌ
عقْبَىا الّذِينَ ا ّتقَو ْا وّعُقْبَى ا ْلكَافِرِينَ النّارُ }[الرعد.]35 :
وِظِّلهَا تِ ْلكَ ُ
إذن :فال عز وجل يعطي مثلً فقط .ومعلوم أن اللفظ في اللغة ل بد أن يوضع لمعنى معروف.
ولذلك فعندما يحدثنا ال عن نعيم الجنة ل بد أن يحدثنا بكلم نعرف معانيه .ورسول ال صلى ال
عليه وسلم قال عن الجنة " :فيها ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر ".
إذن :فل توجد في اللغة ألفاظ تعبر عن نعيم الجنة؛ لن المعنى غير معروف لنا ،ولكن ال أراد
أن يحببنا فيها فأعطانا صورة نفهمها عن النعيم ،فيقول عز وجل } :مّ َثلُ الْجَنّةِ { وهو يريدنا أن
نعرف أن فيها نعيما خاليا من كل المنغصات التي تكون في المثل .فمثلً الخمر في الدنيا فيها
خصلتان؛ الولى أنها تغتال العقول والثانية :أنها ل تشرب بقصد اللذة ،والذي يشرب الخمر ل
يشربها مثلما يشرب كوب عصير المانجو أو عصير الليمون الذي يستطعمه ويشربه على مهل،
ولكنه يسكب الكأس في فمه دفعة واحدة؛ لن طعمها غير مستساغ وليقلل زمن مرور الخمر على
الحس الذائق ،ومعنى هذا أن طعمها غير مستطاب ،ثم إنها تذهب بوعي الشارب لها فيفقد
السيطرة على سلوكه ،ويعتذر في الصباح عما فعل أثناء احتسائه للخمر ويقول خجلً " :لم أدر
غوْل فيها.
موقع رأسي من موقع قدمي " هذه خمر الدنيا ،ولكن الخمر في الجنة ل َ
.أي :ل تغتال العقول ،حلوة المذاق ،ولذلك يصفها ال سبحانه وتعالى بقوله {:لّ ّذةٍ لّلشّارِبِينَ }
[محمد.]15 :
أي :أنها مختلفة تماما عن تلك الخمر التي حرمها ال في الدنيا .وتتجلى الحكمة في معنى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الستطعام في قول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ثلث من كُنّ فيه وجد بهنّ طعم اليمان:
من كان ال ورسوله أحب إليه مما سواهما ،ومن أحب عبدا ل يحبه إل ل ،ومن يكره أن يعود
في الكفر بعد أن أنقذه ال منه كما يكره أن يُ ْلقَى في النار ".
ومن رحمة ال تعالى بخلقه أنه لم يجعل الطعام وقودا للطاقة فقط ،بل يغري الناس على وقود
الطاقة لستبقاء الحياة بأن يستلذ النسان الطعام ،ويطيل أمد اللذة ساعة تناوله ،ل أن ينتظر النفع
بعد أن يهضم الطعام .فكأن اليمان ل يستمر إل لمن يحب في ال ويكره في ال؛ فذلك يعطيه
الطاقة التي تستبقي إيمانه ،كما تستبقي طاقة الطعام حياة النسان .وشاء ال سبحانه وتعالى أن
يعطينا في تصوير الجنة المثل لما في الجنة ،ل بتشخيص وتحديد لما في الجنة فعلً ،ويقول
خفِيَ َلهُم مّن قُ ّرةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[السجدة.]17 :
سبحانه وتعالى {:فَلَ َتعْلَمُ َنفْسٌ مّآ ُأ ْ
وإذا كانت النفس ل تعلم شيئا ،فهي ل تملك ألفاظا تضع فيها ما ل تعلمه ،فإذا خاطبها ال تعالى
بواقع الجنة فهي لن تفهم ،لذلك شاء الحق تبارك وتعالى أن يخاطبها بواقع المثل ،فيقول عز
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ أَنّ َل ُهمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ كُّلمَا رُ ِزقُواْ
وجل {:وَبَشّرِ الّذِين آمَنُو ْا وَ َ
طهّ َرةٌ
مِ ْنهَا مِن َثمَ َرةٍ رّزْقا قَالُواْ هَـاذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِن قَ ْبلُ وَأُتُواْ ِبهِ مُتَشَابِها وََلهُمْ فِيهَآ أَ ْزوَاجٌ مّ َ
وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[البقرة.]25 :
إذن :فهو رزق يشبه الرزق الموجود في الدنيا ولكن ليس هو ،أما أن يقال :إن نعيم الجنة هو
النعيم الروحي أو نعيم الخواطر أو ما نسميه آمال النفس ،كأن يتخيل إنسان جائع أنه أكل كمية
كبيرة من اللحم أو السمك؛ فتسعد روحه بذلك من غير واقع يحدث ،فكل هذا غير حقيقي ،ولكنهم
يقولون هذا الكلم؛ لنهم إذا ما تصوروا نعيم الجنة كالخواطر ،فسوف يكون عذاب النار مقابلً
أيضا لنعيم الجنة ،أي سيكون عذاب الخواطر ،وفي هذا تصور لعذاب سهل؛ لنهم يخافون عذاب
النار فيريدونه عذابا روحيا.
ولكن الحساس بالنعيم والعذاب ل بد أن يكون له واقع يشبهه في الدنيا ،وإل ما وُجِد في أنفسنا ما
يجعلنا نرغب في نعيم الجنة ونخاف من عذاب النار.
لذلك فإن نعيم الجنة حق ،وعذاب النار حق .وشاء ال سبحانه أن يصفي النعيم من كل الشوائب،
سلٍ ّمصَفّى }[محمد.]15 :
فقال عز وجل عن أنهار الجنة {:وَأَ ْنهَارٌ مّنْ عَ َ
أي :ليس فيه كل الشوائب الموجودة في عسل الدنيا .وكذلك قال عن لبن الجنة {:وَأَ ْنهَارٌ مّن لّبَنٍ
ط ْعمُهُ }[محمد.]15 :
لّمْ يَ َتغَيّرْ َ
ط ْعمُهُ { لها عند العرب أيام رسول ال صلى ال عليه وسلم معنى؛ لن العربي
وكلمة } لّمْ يَ َتغَيّرْ َ
كان يحلب الجمال ويضع ألبانها في الواني ،وكان اللبن يتغير طعمه ويصير حامضا ،لكنه كان
ط ْعمُهُ { فهو يعطيه المثل من
مضطرا أن يشربه؛ لذلك فحين يسمع } وَأَ ْنهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَ َتغَيّرْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حياته ،بعد أن ينقيه من كل الشوا ِئبِ التي تفسد طعم اللبن في الحياة الدنيا.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّهِ { أي اليمان الواجب بعظمة ال
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى } :قَاتِلُواْ الّذِي َ
وتنزيهه .واليهود يؤمنون إيمانا إجماليا بال ،ولكنهم يُجسّمونه ويقولون :إنه جلس على صخرة
ومد قدميه في قصعة من الزمرد ثم استنكف ال أن يمده لبني إسرائيل ،وهذا تصوير ل يليق
بكمال ال ول بذاته المقدسة ،وهذا خطأ في التصوير .وكذلك كان خطؤهم في تصور نعيم الجنة
وعذاب النار ،وبذلك لم يؤمنوا إيمانا حقا باليوم الخر ،ولهذا جاء قول الحق } :وَلَ بِالْ َيوْمِ الخِرِ
{ وهم لم يقفوا فقط ضد السلم كمنهج ،بل وقفوا أيضا من أديانهم مثل هذا الموقف ،ويقول
المولى سبحانه وتعالى:
} َولَ يُحَ ّرمُونَ مَا حَرّمَ اللّ ُه وَرَسُولُهُ {
وهم كأهل كتاب حرفوا وبدلوا في دينهم فأحلوا ما حرم ال .ولذلك يقول سبحانهَ } :ولَ يَدِينُونَ
دِينَ ا ْلحَقّ {
والحق -كما نعلم -هو الشيء الثابت الذي ل يتغير .وإذا نظرنا إلى كل رسول في عصره؛
نجده قد جاء بالحق ،وإذا جاء رسول من بعده فهو ل ينسخ العقائد ،ولكنه ينسخ في الحكام،
وهكذا نعلم أن كل رسول جاء بالعقائد الثابتة وبالحكام التي تناسب الزمان إلى أن بعث ال محمدا
صلى ال عليه وسلم ،فكان النبي الخاتم إلى أن تقوم الساعة ،ول بد أن يكون الحق الذي جاء به
هو الحق الثابت الذي ل يتغير؛ لنه خاتم النبياء والمرسلين فل رسول بعده ،إذن فقولهَ } :ولَ
حقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ { أي :أنهم ل يؤمنون حتى بما جاء في كتبهم من بشارة
يَدِينُونَ دِينَ الْ َ
به صلى ال عليه وسلم ،وهذا حكم خاص بهم؛ لن المشكلة معهم أنهم لم يصدقوا بلغ رسول ال
صلى ال عليه وسلم عن ال وأنه مرسل إليهم ،وسَنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم في معاملتهم
ما شرعه ال تعالى ،وذلك أن يعاملوا معاملة مختلفة عن المشركين ،فمعاملة المشركين كانت
براءة من العهد ،وإبعادا عن المسجد الحرام وقتالً إن وجدناهم ،أو أن يسلموا.
أما معاملة رسول ال صلى ال عليه وسلم مع أهل الكتاب فكانت :إما أن يسلموا ،وإما أن يعطوا
الجزية مع استبقاء الحياة ،ولذلك قال الحق تبارك وتعالى:
} حَتّىا ُيعْطُواْ ا ْلجِزْيَةَ عَن َي ٍد وَهُ ْم صَاغِرُونَ {
أي :حتى يؤدوا ما فُرِض عليهم دفعة من أموال مقابل حصولهم على المان والحماية ،وفي هذا
صون لدمائهم ،ولذلك نجد أن المسلمين قد فتحوا بلدا غير إسلمية وصاروا قادرين على رقابهم
ولم يقتلوهم ،بل أبقوا عليهم ،وإبقاء الحياة نعمة من نعم السلم عليهم ،وهناك نعمة ثانية وهي أنه
لم يفرض عليهم دينا ،وإنما حمى اختيارهم الدين الذي يرونه ،وفي ذلك رد على من يقول :إن
السلم انتشر بالسيف ،ونقول :إن البلد التي فتحت بالمسلمين أقرت أهل الديان على أديانهم،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحمت فقط حرية الختيار ،بل وقف المسلمون بالسيف أمام القوم الذين يقفون أمام اختيار الناس،
وتركوا الناس أحرارا .لكننا نجد المغالطات تمل كتابات الغرب حول مسألة السيف .ونرد دائما
أن السلم لو انتشر بالسيف لما وجدنا في البلد التي فتحها أناسا باقين على دياناتهم ،بل كان
السلم يأخذ الجزية ممن َب َقوْا على دياناتهم من أهل الكتاب .وأخْذُ الجزية دليل على أنهم ظلوا
على دينهم وظلوا أحياء ،وهاتان نعمتان من نعم السلم ،وكان يجب أن يؤدوا جزاء على ذلك،
وكان الجزاء هو الجزية .وهي مادة " جزى " و " يجزي " .فكأن الجزية فعلة من " جزى " "
يجزي "؛ لن السلم قدم لهم عملً طيبا بأن أبقى على حياتهم وأبقاهم على دينهم من غير إكراه،
فوجب أن يُعطوا جزاء على هذه النعمة التي أنعم ال تعالى بها عليهم بالسلم.
وأيضا ،فإنهم سيعيشون في مجتمع إيماني؛ الولية فيه للسلم ،ويتكفل المسلمون بحمايتهم
وضمان سلمتهم في أنفسهم وأهلهم وفي أموالهم وفي كل شيء ،فإذا كان المسلم يدفع لبيت المال
زكاة تقوم بمصالح الفقراء والمسلمين ،فأهل الكتاب الموجودون في المجتمع السلمي ينتفعون -
أيضا -بالخدمات التي يؤديها السلم لهم ،ويجب عليهم أن يؤدوا شيئا من مالهم نظير تلك
الخدمات ،والسلم مثلً ل يكلف أهل الكتاب أن يدخلوا جندا في حرب ضد أي عدو للمسلمين إل
إذا تطوعوا هم بذلك ،إذن :فالجزية ليست فرض قهر ،وإنما هي مقابل منفعة أداها السلم لهم؛
إبقاءً على حياتهم وإبقاء على دينهم الذي اختاروه ،وقرر الحق أن يعطوا الجزية } عَن َيدٍ { واليد
هي الجارحة التي تُؤدّي بها العمال ،وأغلب العمال إنما تُزَا َولُ باليَد ،ونجد القرآن الكريم
شكُرُونَ }[يس.]35 :
عمِلَتْهُ أَ ْيدِيهِمْ َأفَلَ يَ ْ
يقولَ {:ومَا َ
واللسان أيضا آلة الكلم ،والحق تبارك وتعالى يجازي على القول الطيب أو السيىء ،ولكن
الصل في العمل هو " اليد " ،وتطلق اليد ويراد بها القدرة التي تعمل ،أو يراد بها النعمة ،مثل
قولنا :فلن له يد على فلن ،وفلن له أياد بيضاء على الناس.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى } :حَتّىا ُيعْطُواْ ا ْلجِزْيَةَ عَن َيدٍ {.
فهل المقصود بـ } عَن يَدٍ { أي من ُيعْطُونَ الجزية ،أم أيدي الخرين الخذين للجزية؟
إن هذا القول } :عَن يَدٍ { مثلما يقال :فلن نفض يده من هذا المر ،أي خرج عن المر ولم يعد
يعاون عليه .إذن يكون معنى } عَن َيدٍ { أي غير رد للنعمة .وعن يد منهم أي من المعطين
للجزية ،أو } عَن َيدٍ { أي :يدا بيده فل يجلس الواحد من أهل الكتاب في المة السلمية
المحكومة بالسلم في مكانه ويرسل رسولً من عنده ليسلم الجزية ،ل ،بل عليه أن يدفعها
ويحضرها بيده .أو نقول } :عَن يَدٍ { من معنى القدرة ،فمن عنده قدرة ،فتأخذ الجزية من القادر
ول نأخذها من العاجز.
إذن :يشترط في اليد إن كانت منهم ثلثة ملحظ؛ الملحظ الول :أن يكونوا موالين ل نافضين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليديهم منا ومن حكمنا ،والملحظ الثاني :أن يأتي بها بنفسه ل أن يرسل بها رسولً من عنده ،وإن
جاء بها ل بد أن يأتي بها وهو ماش وأن يعطيها وهو واقف ومن يأخذ الجزية قاعد ،وهذا هو
معنى } وَهُ ْم صَاغِرُونَ { .ولماذا يعطونها عن صَغار؟ لن الحق عز وجل أراد للسلم أن يكون
جهة العلو ،وقد صنع فيهم السلم أكثر من جميل ،فلم يقتلهم ولم يرغمهم على الدخول إلى
السلم؛ لذلك فعليهم أن يتعاملوا مع المسلمين بل كبرياء ول غطرسة ،وأن يخضعوا لحكام
السلم ،وأن يكونوا موالين للمسلمين ،ل ناقضين اليدي ،وأن يؤدوا الجزية يدا بيد ،وأما العاجز
وغير القادر فيعفى من دفع الجزية.
صغَار من مادة الصاد والغين والراء ،وتدل
} حَتّىا ُيعْطُواْ ا ْلجِزْيَةَ عَن َي ٍد وَهُ ْم صَاغِرُونَ { وال ّ
صغُرُ " مثل قولنا :فلن كبر يكبر .وإن
صغُر " " َي ْ
على معنيين؛ إن أردتها عن السن يقال " َ
صغِر " " يصغَر " ،أي :صغر مقاما أو حجما ،ولذلك يقول
أردتها في الحجم والمقام نقول " َ
الحق تبارك وتعالى {:كَبُ َرتْ كَِلمَةً تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِه ِهمْ }[الكهف.]5 :
وهنا في قوله } :حَتّىا ُيعْطُواْ ا ْلجِزْيَةَ عَن َي ٍد وَهُ ْم صَاغِرُونَ { تعني أن يؤدوها عن انكسار ل عن
علو ،حتى إنّ من يُعطي ل يظن أنه يعطي عن علو ،ونقول له :ل ،إن اليد الخذة هنا هي اليد
العليا.
ثم أراد الحق سبحانه وتعالى أن يعطينا حيثيات قتال الذين ل يؤمنون بال ول باليوم الخر ،فقال
بعد ذلكَ } :وقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ{ ...
()1251 /
َوقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ َوقَالَتِ ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَِلكَ َقوُْلهُمْ بَِأ ْفوَا ِههِمْ ُيضَاهِئُونَ َق ْولَ
الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ قَ ْبلُ قَاتََل ُهمُ اللّهُ أَنّى ُي ْؤ َفكُونَ ()30
هذا الدعاء فيه مساس بجلل ال تعالى ،فالنسان يتخذ ولدا لعدة أسباب؛ إمّا لنه يريد أن يبقى
ِذكْره في الدنيا بعد أن يرحل ،وال سبحانه دائم الوجود؛ وإمّا لكي يعينه ابنه عندما يكبر
ويضعف ،وال سبحانه وتعالى دائم القوة؛ وإما ليرث ماله وما يملك ،وال تبارك وتعالى يرث
الرض ومن عليها .وإما ليكون عزوةً له ،وال جل جلله عزيز دائما .وهكذا تنتفي كل السباب
التي يمكن أن تؤدي إلى هذا الدعاء .ول يعقل أن يرسل ال سبحانه رسولً ليبين للناس منهج
الحق فإذا به يقول للناس :إنّه ابن ال .إذن فهم لم يؤمنوا اليمان الكامل بال.
ويسوق الحق تبارك وتعالى قول كل من اليهود والنصارىَ { :وقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّ ِه َوقَاَلتْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ }.
وهكذا نجد أنهم لم ينزهوا ال وأخلّوا باليمان الحق .ول بد أن نعلم أن من قالوا :إن عُزَيْرا ابن
ال ليسوا هم كل اليهود ،بل جماعة منهم فقط هي التي جعلت عُزَيْرا ابنا ل لما رأى أفرادها على
يديه نعمة أفاءها ال تعالى عليه ،فقالوا :هذه نعمة عظيمة جدا ل يمكن أن يعطيها ربنا لشخص
عادي ،بل أعطاها لبنه .ذلك أن اليهود بعد سيدنا موسى عليه السلم قتلوا النبياء ،وعاقبهم ال
بأن رفع التوراة من صدور الحافظين لها ،ولكن طفلً لم يعجبه مشهد قتل النبياء فخرج شاردا
في الصحراء مهاجرا وهاربا ،فقابله شخص في الطريق فسأله :لماذا أنت شارد؟ فقال :خرجْت
أطلب العلم .وكان هذا الشخص هو جبريل عليه السلم ،فعلّمه أن ل توراة ،فحفظها فصار واحدا
من أربعة ،هم فقط من حفظوا التوراة :موسى ،وعيسى ،وعزير ،واليسع ،ولن الكتب قديما لم
تكن تكتب على ورق رقيق مثل زماننا ،بل كانت تكتب على الحجار وسعف النخيل ،لذلك كان
حمْل بعير ،وحين رجع عزير حافظا للتوراة ،اندهش قومه وقالوا :ل
وزن التوراة يقدر بسبعين ِ
بد أنه ابن ال؛ لن ال أعطاه التوراة وآثره على القوم جميعا .ونشأت جماعة من اليهود تؤمن
بذلك ،وكان منهم سلّم بن مشكم ،وشاس بن قيس ،ومالك ابن الصيف ،ونعمان بن أوفى .وحينما
أنزل ال قولهَ { :وقَاَلتِ الْ َيهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ } لم ينكر اليهود المعاصرون لهذا النزول تلك
المسألة ولم يكذبوها ،فكأن هناك من اليهود الذين كانوا بالمدينة من كان يؤمن بذلك ،وإل
لعترضوا على هذا القول ،وهذا دليل على أن ما جاء بالية يصدق على بعضهم أو هم عالمون
بأن قوما منهم قد قالوا ذلك .وكذلك قالت النصارى عن عيسى عليه السلم ،فجاء قول الحق
تبارك وتعالىَ { :وقَالَتْ ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ }
ويتابع الحق { :ذاِلكَ َقوُْلهُم } فيوضح لنا سبحانه أن النبوة ل جاءت فيها مشبهة ،كان يجب أن
يلتفتوا إليها وينزهوا ال عن ذلك؛ لن الحق سبحانه وتعالى يصف عباده بأنهم عباد ال ،وأن
الخلق كلهم خلق ال تعالى.
فالمولى سبحانه وتعالى وهو الخالق والقادر على كل شيء خلق كل الخلق من عدم ولم يتخذ
صاحبة ول ولدا .ولكن الشبهة عند بعض من أتباع المسيح جاءت من أنه أوجِدَ من دون أب،
ونقول لهم :لو أن هذا المر جاء لكم من هذا الطريق ،فكان من الوْلى أن تجيء ذات الشبهة في
خلق آدم؛ لن قصارى ما في المسيح أنه جاء من غير أب ،ولكن آدم جاء من غير أب ومن غير
أم ،فأيهما كان أوْلى أن يكون ابن إله؟
ولذلك يقول القرآن الكريم } :إِنّ مَ َثلَ عِيسَىا عِندَ اللّهِ َكمَ َثلِ ءَا َدمَ { .والحق سبحانه وتعالى يخلق
الشيء -أي شيء -بأسباب ،وكل الَسباب مخلوقة له ،والولد منا -في جمهرة الناس -ينشأ
من اجتماع الب والم ،والشيء المردود بين شيئين له صور منطقية أربعة :إما أن يوجد بوجود
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيئين ذكر وأنثى ،وإما أن يوجد بانعدام الشيئين مثل آدم ،وإما أن يوجد بوجود واحد من الشيئين
جهَا { ،وإما بوجود
وهو الذكر مثل حواء ،فقد خلقها ال من آدم مصداقا لقولهَ } :وخَلَقَ مِ ْنهَا َزوْ َ
واحد من الشيئين وهي النثى وخلق عيسى عليه السلم منها بدون وجود الذكر .وليعلمنا ال
سبحانه وتعالى جميعا أن السباب ل دخل لها في التكوين ،وأن المسبّب هو القادر على أن يوجِد
من غير أب وأم كما أوجد آدم ،وأن يوجد من أب وأم كما أوجد جمهرة الناس ،وأن يوجد من أم
دون أب كما أوجد عيسى ،وأن يوجد من دون أم كما أوجد حواء.
إذن :فالقسمة دائرة بقدرة ال وإرادته ،ول دخل لحد إل إرادة الحق سبحانه وتعالى ،فالسباب
ليست هي الفاعلة في ذاتها ،بل إرادة الخالق سبحانه هي الفاعلة ،ولذلك يقول المولى سبحانه
ت وَالَرْضِ َيخْلُقُ مَا َيشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ ال ّذكُورَ
سمَاوَا ِ
وتعالىِ {:للّهِ مُ ْلكُ ال ّ
عقِيما إِنّهُ عَلِيمٌ َقدِيرٌ }[الشورى.]50-49 :
ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ
* َأوْ يُ َزوّ ُ
أي :قد يوجد الذكر والنثى ول يعطي لهما الحق عز وجل أولدا ،وهذه طلقة قدرة من ال
تعالى ،فإياك أن تقول إنها بأسباب ،بل سبحانه وتعالى َي َهبُ لمن يشاء إناثا ،ويهب لمن يشاء
ذكورا ،ويجمع لمن يشاء بين الذكور والناث ،ويجعل من يشاء عقيما ،وكان استقبال الناس
للمواليد يختلف؛ فالعرب كانوا يحبون إنجاب الذكر؛ لنه قوي ويحقق العزوة ويركب الخيل،
ويحارب العداء .ولم يكونوا يحبون إنجاب الفتاة لنها قد تأتي منها الفضائح ،ولذلك يقول الحق
سوَدّا وَ ُهوَ كَظِيمٌ * يَ َتوَارَىا مِنَ ا ْلقَوْمِ مِن
جهُهُ مُ ْ
ل وَ ْ
ظّتبارك وتعالى {:وَِإذَا بُشّرَ َأحَ ُدهُمْ بِالُنْثَىا َ
سُوءِ مَا ُبشّرَ بِهِ} ..
[النحل.]59-58 :
وجاء السلم ليوضح :أنه ما دام ل دخل لك في النجاب والنسال ،فَدع المر لمن يهب البناء.
وقد سمى الحق تبارك وتعالى البناء " هبة " ليذكرك أن النجاب شيء أعطاه سبحانه لك بل
مقابل منك ،فالذكور هبة ،والناث أيضا هبة .فل تفضل تلك الهبة عن هذه الهبة .ودائما أقول
للذي ينجب بنات ،ويذهب هو وزوجته إلى الطباء :لو استقبلتم هبة ال في الناث كما تستقبلونها
في الذكور ،فإن الحق سبحانه وتعالى يجزيكم جزاء ل يخطر لكم على البال ،فيحسن ال كل ابنة
لكم في عين رجل صالح ويتزوجها ،فإن كُن عشر بنات فهُنّ يأتين بعشرة رجال أزواج يعاملون
الب والم لكل زوجة معاملة الب والم ،وهكذا يرزق ال من يرضى بقسمة ال في النجاب،
ويصبح أزواج البنات أطوع من البناء الذكور ،فالذي يرضى بالهبة في الناث يوضح له ال:
رضيتَ بهبتي فيك ولم تكن على سنة العرب من كراهة الناث؛ لذلك أهبك من أزواج البنات
أبناء لم تتعب في تربيتهم ويكونون أكثر حنانا وولءً من أي أبناء تنجبهم أنت .ولذلك إذا ما
وجدت إنسانا قد ُوفّقَ في زيجات بناته ،من رجال يصونون أعراضهم ويحسنون معاملة أهل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الزوجة ،فاعلم أن الب قد استقبل ميلد النثى بالرضا؛ لنها هبة ال.
عقِيما }[الشورى.]50 :
ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ
ويقول المولى سبحانه وتعالى {:وَيَ ْ
إذن :فالعقم أيضا هبة إلهية؛ لن النسان إذا ما استقبل العقم برضا ال؛ َلوَجَد في كل رجل يراه
ابنا له؛ لنه استقبل الهبة في المنع برضا ،مثله مثل من استقبل الناث كاستقبال الذكور .إذن :ما
دامت المسألة هبة من ال فيجب أن تستقبل عطاء ال ومنعه بالرضا.
وعيسى عليه السلم جاء بنسبة طلقة القدرة من الخالق سبحانه وتعالى؛ لن القسمة العقدية
ج َد أولً ،ومن وجدوا بعد آدم جاء كل منهم من
والعقلية ل تتم إل به ،ولن تتكرر؛ لن آدم وُ ِ
جدَت من قبلهم ،فهذه ثلث صور قد وجدت في الكون وبقيت صورة
أبوين ،وكذلك حواء وُ ِ
ناقصة ،هي أن يوجد إنسان من أم دون أب ،فأتمها ال عز وجل بعيسى عليه السلم:
} َوقَاَلتْ ال ّنصَارَى ا ْلمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذاِلكَ َقوُْلهُم بَِأ ْفوَا ِههِمْ {
وقول الحق } ذاِلكَ { إشارة إلى القول بأن المسيح ابن ال أو عزير ابن ال ،ويضيف الحق عز
وجل توضيحا } ذاِلكَ َقوُْلهُم بَِأ ْفوَا ِههِمْ { .ونسأل :وهل يوجد قول بغير أفواه؟ إن كل قول إنما
يكون بالفواه؛ حتى قول المؤمنين بأن ال واحد وأن محمدا رسول ال هو قول بالفواه .ونقول:
هناك قول بالفم فقط دون أن يكون له معنى من المعاني ،وهناك قول بالفم أيضا وله معنى ،إل أنه
غير حقيقي ،وكاذب.
ولنعرف أولً :ما هو القول؟ إنه كلم يعبر به كل قوم عن أغراضهم؛ كأن تقول للطفل :اجلس،
ول بد أن يكون الطفل فاهما لمعنى الجلوس ،وإن قلتها بالعربية لطفل إنجليزي فلن يفهم معناها.
إذن :فاللغة ألفاظ يعبر بها كل قوم عن أغراضهم ،والغرض هو معنى متفق عليه بين المتكلم
والسامع ،ول بد أن يعرف الثنان ما يشير إليه اللفظ من موضوعات .فإن لم يعرف السامع اللفظ
الذي يتكلم به المتكلم فهو ل يفهم شيئا.
وهكذا نعلم أن الفهم بين المتكلم والمخاطب يشترط فيه أن يكونا عليمين باللفظ ،فإذا تكلم متكلم
بشيء ل علم للسامع به؛ فهو ل يفهم .وكانوا يضربون لنا المثل قديما بعلقمة النحوي وكان
مشهورا في النحو واللفاظ واللغة ،ويتقعر في استخدام الكلمات ،ول يتكلم إل باللغة الفصيحة
الشاذة التي ل يعرفها الناس ،وكان عند علقمة خادم ،فمرض علقمة النحوي مرة وذهب إلى طبيب
اسمه " أعجز " ليشكو له علة عنده ،وقال علقمة للطبيب :قد أكلت من لحوم هذه الجوازىء
فقصأت منها قصأة أصابني منها وجع من الوابية إلى دأبة العنق ،ولم يزل يمني حتى خالط الخلب
وأملت منه السراسيب .ولم يكن الطبيب متخصصا في اللغة ول معاجم عنده ،فوقف مستغربا من
كلمات علقمة وقال له :أعدْ عليّ ما قلته فإني لم أفهم ،فأعاد علقمة عليه ما قاله بغضب ولوم لنه
لم يفهم لغته ،وعرف الطبيب تقعر علقمة فقال له :هات القلم والورقة لكتب لك الدواء ،وكتب له:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خذ حرقة وسلقة ورهرقة واغسله بماروس واشربه بماء ماء .فقال علقمة :أعِدْ عليّ فوال ما
فهمت شيئا ،فقال الطبيب :لعن ال أقلّنا إفهاما لصاحبه .وعرف علقمة أنه متقعر في اللغة ويأتي
بألفاظ ليست من اللفاظ الدائرة على ألسن الناس .وقال أساتذتنا لنا :ولم يؤدبه عن هذا إل غلمه
أي خادمه ،فقد استيقظ علقمة ذات ليلة وقال :يا غلم أصعقت العتاريف ،ولن الغلم لم يفهم فقد
رد قائلً :زقفيل ،وقال علقمة للغلم :وما زقفيل؟ قال :وأنت ما أصعقت العتاريف؟ فقال له :يا
بني لقد أردت أصاحت الديكة؟ فقال :وأنا أردت لم َتصِحْ.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى } :ذاِلكَ َقوُْلهُم بَِأ ْفوَا ِههِمْ { إذن :القول هو اللفظ الملفوظ من الفم،
وهذا القول إما أن يكون له معنى ،وإما ليس له معنى .مثل كلمة " زقفيل " التي قالها خادم علقمة،
هذه الكلمة ليس لها وجود في اللغة فهي قول باللسان ليس له معنى .وقد يكون القول له معنى؛ إل
أنه كلم باللسان ل يؤيده واقع ،فهو كذب.
وقول الحق سبحانه وتعالى } :ذاِلكَ َقوُْلهُم بَِأ ْفوَا ِههِمْ { يحتمل المرين .إما أنهم يقولون كلما ل
يقصدونه ول يعرفون معنى ما يقولون ،والمثال :أن نقول " :كتب " ،وهي كلمة مكونة من الكاف
والتاء والباء ،ويمكن أن نستخدم ذات الحروف فنقول " :كبت " وهي نفس الحروف أيضا ولها
معنى.
أو نقول " :تكب " وهو لفظ غير مستعمل ،وهو كلم بالفم ول معنى له في اللغة ،بل هو لفظ
مهمل .فإذا قال إنسان كلما له معنى فهمناه مثل قول " :زيد كان بالمس بالمكان الفلني " وهنا
زيد معلوم ،والمكان معلوم ،وأمس معلوم .لكن زيدا لم يذهب إلى ذلك المكان ،وبذلك يكون القول
في حقيقته كذبا لم يحدث .ويكون كلما بالفم ،ول واقع له في الحياة.
إذن :فالقول بالفم إما أن يكون ل معنى له أبدا ،فيستعمل كلفظ مهمل ل وجود له في اللغة ،وإما
أن يكون له معنى في ذاته إل أنه ليس له واقع يؤيده.
ج ْوفِهِ[} ..الحزاب.]4 :
جلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي َ
ج َعلَ اللّهُ لِرَ ُ
والحق سبحانه وتعالى يقول {:مّا َ
ج َعلَ أَدْعِيَآ َءكُمْ أَبْنَآ َءكُمْ
ج ُكمُ اللّئِي تُظَاهِرُونَ مِ ْنهُنّ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم َومَا َ
ج َعلَ أَ ْزوَا َ
وال سبحانه يقولَ {:ومَا َ
ذَاِل ُكمْ َقوُْلكُم بَِأ ْفوَا ِهكُمْ[} ..الحزاب.]4 :
هذا إذن كلم ل وجود له في الواقع ،فالزوجة ل تصير أمّا لزوجها والولد المتبني ل يكون ابنا
سطُ عِندَ اللّهِ }[الحزاب:
للرجل أو المرأة ،لذلك يقول الحق تبارك وتعالى {:ادْعُو ُه ْم لبَآ ِئهِمْ ُهوَ َأقْ َ
.]5
ع َوجَا * قَيّما
جعَل لّهُ ِ
ح ْمدُ لِلّهِ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَىا عَبْ ِدهِ ا ْلكِتَابَ وََلمْ يَ ْ
والحق سبحانه وتعالى يقول {:الْ َ
شدِيدا مّن لّدُنْ ُه وَيُبَشّرَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ َلهُمْ أَجْرا حَسَنا * مّاكِثِينَ
لّيُنْذِرَ بَأْسا َ
فِيهِ أَبَدا * وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُواْ اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدا }[الكهف.]4-1 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن هذا القول منهم كلم له معنى في اعتقادهم ،ولكن ليس له واقع ،ولذلك قال المولى سبحانه
وتعالى } :كَبُ َرتْ كَِلمَةً َتخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ { أي :ل واقع لهذا القول يسنده فهو كذب.
} ذاِلكَ َقوُْلهُم بَِأ ْفوَا ِههِمْ { وهل هذا القول بالفواه أهم ابتكروه أم ابتدعوه؟ إن الحق سبحانه يوضح
لناُ } :يضَاهِئُونَ َق ْولَ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن قَ ْبلُ { أي :أنهم لم يأتوا بهذا التصور من عندهم ،بل من
جعَلُواْ ا ْلمَلَ ِئكَةَ الّذِينَ ُهمْ عِبَادُ
شيء له واقع ،فقد قال المشركون ما أورده الحق على ألسنتهم {:وَ َ
حمَـانِ إِنَاثا }[الزخرف.]19 :
الرّ ْ
فقد توهم المشركون أن ل تعالى بنات والعياذ بال -وسبحانه منزه عن ذلك ،في ذلك يخاطبهم
المولى } أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَ ُه الُنْثَىا { -إذن :فهذا كلم قديم؛ لذلك قال الحق عنهمُ } :يضَاهِئُونَ
{ أي :يشابهون ويماثلون الذين من قبلهم حينما قالوا مثل ذلك ،كما أن البوذية في الصين واليابان
قالت ببنوة الله والحلول وقد حفظ بعضهم من هؤلء ،ولم يطرأ جديد من ألسنتهم ،وهم كما
وصفهم القرآن الكريم } ُيضَاهِئُونَ { أي :يشابهون ويماثلون به قول الذين كفروا من قبل ،و "
المضاهاة " هي المماثلة والمشابهة ،وقالوا :إن مادتها مأخوذة من امرأة " ضَهيْاء " وهي التي
ضاهت وشابهت الرجل ،في عدم الحيض أو الحمل أو الولدة ،وهي بذلك تكون شبيهة بالرجل.
} ُيضَاهِئُونَ َق ْولَ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن قَ ْبلُ { والتعقيب هنا إنما يصدر من الحق تبارك وتعالى عليهم،
ولم يتركه الحق لنا ،وساعة تسمع } :اتّخَذَ اللّ ُه وَلَدا { فالفطرة النسانية تفرض أن يقول السامع
لهذا الكلم :قاتلهم ال كيف يقولون هذا؟ وشاء الحق هنا أن يتحملها عنا جميعا؛ لننا إن قلنا نحن:
" قاتلهم ال أو لعنهم ال " فل أحد منا يضمن استجابة الدعاء عليهم ،فالمر قد ل يتحقق ،ولكن
حين يقولها الحق سبحانه وتعالى .فتكون أمرا مقضيا .لذلك يقول الحق } :قَاتََلهُمُ اللّهُ أَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ
{ ،وما معنى قاتلهم ال؟ أنت إذا رأيت فعلً قبيحا من فرد ،تقول :قاتله ال .لن حياته تزيد
المنكرات ،ومثال ذلك من يسب أباه ،يقول من يسمعه " قاتله ال " بينما يقول النسان منا لنسان
يفعل الخير " :فليعش هذا الرجل الطيب "؛ لنك ترى أن حياته فيها خير للناس.
وقول الحق } :قَاتََلهُمُ اللّهُ { أي لعنهم وطردهم ،ويقول سبحانه وتعالى } :أَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ { ،
وكلمة } أَنّىا { ترد بمعنيين ،فمرة تعني " من أين؟ " ،ومرة أخرى تعني " كيف؟ " ،والمثال
على معناها الول قول الحق سبحانه وتعالى على لسان سيدنا زكريا لما دخل على مريم البتول{:
أَنّىا َلكِ هَـاذَا }[آل عمران.]37 :
قال ذلك لنه رأى عندها أشياء من الخيرات لم يأت بها إليها ،مع أنه هو الذي يكفلها ،والمفترض
فيه أن يأتي لها بمقومات حياتها ،وعندما دخل عليها ووجد شيئا هو لم يأت به ،سألها } :أَنّىا َلكِ
هَـاذَا { أي :من أين لك هذا؟ فأجابت مريم المصطفاة بما جاء في القرآن الكريم {:قَاَلتْ ُهوَ مِنْ
عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران.]37 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجاء الحق بهذه الكلمة لتخدم أمورا إيمانية كثيرة جدا ،وجاء بها على لسان مريم المصطفاة؛ لن
المسألة ليست مجرد طعام يأتيها من مصدر ل يعلمه البشر حتى من هي في كفالته .بل هي تقديم
لما سوف يحدث .فل تظن أن المور تسير سير المسألة الحسابية بأسباب ومسببات ،وعلل
ومعللت ،ومقدمات ونتائج ،بل هي بإرادة ال تعالى؛ لنها لو كانت من عند النسان لفعلها
بحساب ،ولكن الحق سبحانه وتعالى يعطي بل حساب؛ لنه خالق السباب ،وهو قادر على أن
يخلق المسبّب على الفور {:يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران.]37 :
وحين أنطق الحق سبحانه وتعالى مريم بهذا إنما كان ليوضح لها ولزكريا في آن واحد :إنك يا
زكريا تأتي لها بالرزق في حدود قدراتك وحساباتك البشرية ،ولكن ال يأتيها بالرزق بغير
حساب ،وهو ما تستطيع أن تأتي به قدرات البشر ،فقد يكون الرزق الذي رآه سيدنا زكريا عند
سيدتنا مريم لونا من الطعمة ل يأتي إل في الصيف ،بينما كان الوقت شتاء ،أو العكس ،وقد
يصح أن هذا الرزق ليس في بلدهم مثله ،ولذلك قال } :أَنّىا َلكِ هَـاذَا { وقول الحق تبارك
وتعالى } :أَنّىا َلكِ هَـاذَا { هو قضية تربوية اجتماعية بمعنى أن الكفيل على قوم حينما يرى
عندهم أشياء لم يأتِ بها هو ،وجب عليه أن يسأل عن مصدرها ،فحينما ترى في يد ابنك قلم حبر
غالي الثمن وأنت لم تحضره له ،ل بد أن تسأله :من أين جئت به؟ وذلك لتعرف التأثيرات
الخارجية عليه ،هل سرقه؟ أم أن أحدا أراد استدراجه إلى غرض سَيّئ فأغراه بهذا القلم؟
ل بد إذن أن تسأل ابنك :من أين لك هذا؟ وكذلك إن رأيت ابنتك ترتدي ثوبا لم تأت لها به ول
أتت به أمها بعلمك ،ل بد أن تسأل ابنتك :من أين لك هذا؟ وهذه القضية إن سيطرت على كل
بيت من بيوتنا فلن يحدث في البيوت ما يشينها ،لكننا للسف الشديد نرى في بعض البيوت طفلً
يدخل ومعه قطعة من الشيكولتة ،ول تسأله الم :من أين لك هذا؟ بل تربت عليه وتأخذ منه
قطعة من " الشيكولته " لتأكل معه.
لكن الم التي تجيد التربية تماما تسأل البن :من أين أتيت بها؟ حتى تعرف هل ثمنها مناسب
لمصروف يده أم ل ،فإن لم تجد أنه قد جاء بهذه " الشيكولتة " من مصدر معلوم لها وحلل فهي
تحذره وتضرب على يده.
ول بد لنا أن نعلم أن قانون " :من أين لك هذا؟ " يحكم العالم كله؛ لنه يتحكم في التربية
الجتماعية كلها .وقد سبق السلم العالم بأربعة عشر قرنا حين أنزل الحق تبارك وتعالى قوله} :
أَنّىا َلكِ هَـاذَا { ،وأجابت سيدتنا مريم اليجاب اليماني ،وأوضحت لسيدنا زكريا عليه السلم:
أنت تتكلم بحسابك ولكني أتكلم بحساب ال تعالى؛ لن ال يرزق من يشاء بغير حساب ،أنطقها
الحق ذلك لن هذا القول سوف يخدم قضايا عقدية متعددة في الكون:
القضية الولى :أنها ساعة أن قالت {:إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران.]37 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نبهت زكريا إلى قضية عقدية ،وهي أن ال سبحانه وتعالى غير محكوم بالسباب ،وسبحانه يعطي
بل حساب ،ونظر زكريا إلى نفسه متسائلً :ما دام ال عز وجل يعطي بغير حساب ،وأنا قد بلغت
من الكبر عتيا ،وامرأتي عاقر ،فلماذا ل أطلب منه أن يعطيني الولد؟
إذن :فقد نبهت مريم سيدنا زكريا عليه السلم ولفتت نظره إلى قضية عقدية ،وهي أن ال يعطي
بل أسباب ،وبل حساب ،فدعا ال أن يرزقه غلما فلما بشره الحق بالغلم تساءل :كيف يرزق
بالغلم وامرأته عاقر ،وهو قد بلغ من الكبر عتيا؟ وجاءت الجابة من الحق سبحانه وتعالى:
{ قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ هَيّنٌ َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْبلُ وَلَمْ َتكُ شَيْئا }[مريم.]9 :
وهكذا انتفع زكريا بعطاء ال بالبن ،ولم يكتَف الحق سبحانه وتعالى بذلك ،بل تكفل عن زكريا
بتسميته ،ول ملحظ في تسميته ،ونحن نعلم أن الناس تسمي الوليد الصغير بأسماء تتيمن بها ،مثل
أن يسمى رجل ابنه " سعدا " رجاء أن يكون سعيدا ،وقد يسمونه " فارسا " ،رجاء أن يكون
فارسا ،ويسمونه " فضلً " رجاء أن يكون كريما ،ويسمون الفتاة " قمرا " لعلها تكون جميلة .إذن:
فالتسمية باسم يحمل معنىً شريفا على أمل أن يكون الوليد هكذا ،وهناك شاعر كان أولده يموتون
سمّيتُه يَحْيى
بعد الولدة ،فجاءه ابن وسمّاه يحيى ،فمات هذا البن أيضا فقال الشاعر متحسّراَ :
لِيَحْيا فَلمْ يكُنْ لِرد قضاء الِ فيه سَبِيلُإذن :فالتسمية بالسم الشريف ،أو بالسم الذي يدل على
الشيء المؤمَل هو رجاء أن يكون الوليد هكذا ،لكن المسمى ل يملك أن يكون سعيدا ،ول أن
يكون فارسا ،ول أن يعيش؛ لن الذي يملك كل ذلك هو ال سبحانه وتعالى ،فإذا كان ال هو الذي
سمى يحيى ،فل بد أن يكون المر مختلفا؛ لن الذي يملك هو الذي سمّى ،فهل سيعيش يحيى بن
زكريا كالحياة التي نحياها وفيها الموت مُحتّم على الجميع؟ نعم؛ لذلك شاء له ال أن يموت لتبقى
حياته موصولة إلى أن تقوم الساعة .وهكذا رأت سيدتنا مريم آثار ذلك منذ أن قال لها زكريا عليه
حسَابٍ }[آل عمران.]37 :
السلم } أَنّىا َلكِ هَـاذَا { وأجابت {:إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
لقد رأت كل ذلك في سيدنا زكريا وفي ميلد يحيى ،وجعل ال كل ذلك مقدمات لها؛ لنها
سَتُمتحن في عِرْضها فهي التي ستنجب ولدا من غير أب ،وعليها أن تتذكر دائما قولها {:إِنّ اللّهَ
يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران.]37 :
ولذلك تجد القرآن الكريم في قصصه العجيب يقول على لسان مريم {:أَنّىا َيكُونُ لِي غُلَ ٌم وَلَمْ
َيمْسَسْنِي بَشَرٌ }[مريم.]20 :
سمُهُ
وقد بشرّها الحق تبارك وتعالى بذلك في سورة آل عمران {:إِنّ اللّهَ يُ َبشّ ُركِ ِبكَِلمَةٍ مّنْهُ ا ْ
ا ْلمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم }[آل عمران.]45 :
وما دام قد نسبه ال لها فلن يكون له أب ،فتساءلت :كيف يكون لي غلم من غير أب .ويُذكّرها
حسَابٍ }[آل عمران.]37 :
الحق عز وجل بهذا القول {:إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقال لها {:كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ }[مريم.]21 :
مثلما قال لزكريا من قبل ،إذن } أَنّىا { هذه هي مفتاح الموضوع العقدي كله ،في زكريا ويحيى،
وفي مريم وعيسى ،وهذا هو معنى } أَنّىا { وقلنا إن " أنّى " تأتي بمعنى كيف؟ مثل قول الحق
تبارك وتعالى على لسان إبراهيم عليه السلمَ {:ربّ أَرِنِي كَ ْيفَ تُحْيِـي ا ْل َموْتَىا }[البقرة.]260 :
وسيدنا إبراهيم ل يُكذب أن ال قادر على الحياء ،ولكنه يسأل عن الكيفية ،وهنا يقول الحق} :
قَاتََلهُمُ اللّهُ أَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ { أي :كيف يعدلون عن الحق؟ فالقضية منطقية ،وما كان يصح أن تغيب
عنهم ،فكيف يُصرَفون عن هذه الحقيقة التي توجبها الفطرة اليمانية؟ وكيف يضلون عن الحق
وهو ظاهر ويعدلون إلى الباطل؟
ويقول سبحانه بعد ذلك عن أهل الكتاب } :اتّخَذُواْ َأحْبَارَهُمْ وَرُهْبَا َنهُمْ أَرْبَابا مّن دُونِ اللّ ِه وَا ْلمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ{ ...
()1252 /
خذُوا أَحْبَارَ ُه ْم وَرُهْبَا َنهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ وَا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَ َم َومَا ُأمِرُوا إِلّا لِ َيعْ ُبدُوا إَِلهًا وَاحِدًا
اتّ َ
عمّا ُيشْ ِركُونَ ()31
لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ سُ ْبحَانَهُ َ
و " الحَبْر " هو لقب عند اليهود ،وهو العالم .ويقال في اللغة " حِبر " أو " حَبْرُ " أي رجل يدقق
الكلم ويزنه بأسلوب عالم .والرهبان عند النصارى والمقصود بهم المنقطعون للعبادة ،فالحَبر
عالِم اليهود ،والراهب عابد النصارى ،أما عالم النصارى فيسمى " قسيس " ولذلك قال الحق
ن وَرُهْبَانا }[المائدة.]82 :
سبحانه وتعالى {:قِسّيسِي َ
فإن قصدنا عالم الدين المسيحي قلنا " :قسيس " ،وإن قصدنا رجل التطبيق أي العابد قلنا" :
الراهب " والراهب هو من يقول :إنه انقطع لعبادة ال فوق ما طلب ال منه من جنس ما طلب،
ونعلم أنه ل رهبانية في السلم ،ولكن النسان يستطيع أن يتقرب إلى ال كما يحلو له من جنس
ما طلب ال منه ،فإن كان الحق عز وجل قد أمر بإقامة الصلة خمس مرات في اليوم ،فالمسلم
الذي يرغب في زيادة التقرب إلى ال يمكنه أن يصلي ضعف عدد مرات الصلة ،وإذا كان الحق
سبحانه قد فرض أن تكون الزكاة بمقدار اثنين ونصف في المائة ،فالعبد الصالح قد يزيد ذلك
بضعفه أو أضعافه .وهذه زيادة من جنس ما فرض ال تعالى وزيادة ،وهذا يعني في السلم
الدخول إلى مقام الحسان ،واقرأ إن شئت قول الحق تبارك وتعالى {:إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ
* آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ َذِلكَ مُحْسِنِينَ }[الذاريات.]16-15 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أنهم قد دخلوا إلى مقام الحسان أي ارتقوا فوق مقام اليمان .ويزيدنا الحق علما بمقام
حقّ
سحَارِ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ َ
جعُونَ * وَبِالَ ْ
الحسان فيقول {:كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ
ل وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات.]19-17 :
لّلسّآ ِئ ِ
وسبحانه ل يطلب منا في فروض الدين أل نهجع إل قليل من الليل ،بل نصلي العشاء وننام إلى
الفجر .لكن إنْ قام النسان منّا وتهجد فذلك زيادة عما فرض ال ولكنه من جنس ما فرض ال.
وكذلك الستغفار فمن تطوع به فهو خير له .وكذلك الصدقة على غير المحتاج ،فهنا زيادة في
حدّ َدتْ من قبل في قول الحق تبارك وتعالى {:وَالّذِينَ
العطاء على ما فرضه ال من الزكاة التي ُ
حقّ ّمعْلُومٌ }[المعارج.]24 :
فِي َأ ْموَاِلهِمْ َ
والرهبانية كانت رغبة من بعضهم في الدخول إلى مقام الحسان ،ولكن الحق لم يفرضها عليهم؛
لنه هو الذي خلق وَعلم أزلً قدرات من خلق ،لذلك قال الحق وتعالى {:وَرَهْبَانِيّةً اب َتدَعُوهَا مَا
كَتَبْنَاهَا عَلَ ْيهِمْ }[الحديد.]27 :
هم إذن قد ابتدعوها ابتغاء رضوان ال وزيادة في العبادة ،وليس في ذلك ملمة عليهم ،ولكنها
ضد الطبيعة البشرية؛ لذلك لم يراعوا الرهبانية حق رعايتها ،ويقول المولى سبحانه وتعالى هنا
في الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ اتّخَذُواْ َأحْبَارَهُمْ وَرُهْبَا َنهُمْ أَرْبَابا } فهل معنى ذلك أنهم يقولون للحبر أو الراهب " رب "؟ ل،
ولكن كانت معاملتهم لهم كمن يعامل ربه؛ لن ال هو الذي يُحل ويحرم بـ " افعل " و " ل تفعل
" ،فإذا جاء هؤلء الحبار وأحلّوا شيئا حرمه ال أو حرّموا شيئا أحلّه ال ،فهم إنما قد أخذوا
صفة اللوهية فوصفوهم بها؛ لن التحليل والتحريم هي سلطة ال ،فلذلك
" عندما دخل عدي بن حاتم على سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ووجد الرسول صلى ال
عليه وسلم في عنق الرجل صليبا من الذهب أو من الفضة قال سيدنا رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :اخلع هذا الوثن " ،ومن أدب الرجل مع الرسول خلع الصليب .وقال صلى ال عليه
وسلم " " :إنكم لتتخذون الحبار والرهبان أربابا " .فقال الرجل :نحن ل نعبدهم ..قال له رسول
ال صلى ال عليه وسلم :أول تطيعونهم فيما حرموا وأحلوا؟ قال :نعم .قال :تلك هي العبادة ".
} اتّخَذُواْ َأحْبَارَهُمْ وَرُهْبَا َنهُمْ أَرْبَابا مّن دُونِ اللّ ِه وَا ْلمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ { ولسائل أن يسأل :وما معنى
عطف المسيح على الرباب ،وعلى الحبار والرهبان؟ والجابة :إن الذي يحلل ويحرم إن لم يكن
رسولً ،فهو إنسان يطلب السلطة الزمنية ،وذلك ل يتأتى من الرسول؛ لن الرسول صلى ال
عليه وسلم إنما جاء ليلفت الناس إلى عبادة ال بما شرعه ال ،وعيسى عليه السلم هو رسول لم
يقم إل بالبلغ عن ال ،ولكن البعض أخطأ التقدير وظن أنه ابن ال ،ولذلك يتابع الحق قوله:
عمّا ُيشْ ِركُونَ { وهكذا يذكر الحق
} َومَآ ُأمِرُواْ ِإلّ لِ َيعْبُدُواْ إِلَـاها وَاحِدا لّ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ سُ ْبحَانَهُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن المر لم يصدر منه سبحانه وتعالى إل بأن يعبد من يؤمن بالرسالت الله الواحد .ورسولنا
صلى ال عليه وسلم يقول " :خير ما قلته أنا والنبيون :ل إله إل ال ".
وأنت حين تنظر إلى " ل إله إل ال " تجد النفي في " ل " والستثناء من النفي والثبات في " إل
" ،وهذا نفي اللوهية عن غير ال وإثباتها له وحده ،وحين نقول " :ال واحدا " فهذا يتضمن
الثبات فقط .ويأخذ الفلسفة الذين يملكون قوة الداة والبيان من هذه القضية " الثبات والنفي " ،
أو " الموجب والسالب " ،ويقولون :كل التقاء بين موجب وسالب إنما يعطي طاقة ،والطاقة يمكن
استخدامها في النارة أو تدار بها آلة ،وكذلك الطاقة اليمانية تحتاج إلى " سالب وموجب " ،
ويقول الشاعر إقبال:إنما التوحيدُ إيجَابٌ وسَلبٌ فِيهِما للنفْسِ عز ٌم و َمضَاءويقول سبحانه وتعالى
عمّا يُشْ ِركُونَ { وحين تسمع كلمة } سُبْحَانَهُ { فاعرف أنها للتنزيه،
تذليلً للية الكريمة } :سُبْحَا َنهُ َ
فل ذات مثل ذات ال ،ول صفة مثل صفات ال ،فال عني وأنت غني ،فهل غناك الحادث مثل
غنى ال الزلي؟ وأنت حي وال حي ،فهل حياتك الموقوتة مثل حياته؟ فحياته ذاتية وحياتك
موهوبة ،فسبحانه حي بذاته ،ولذلك يجب أن تفرق بين اسمه " الحي " واسمه " المحيي " ،فهو
حي في ذاته ،ومُحْي لغيره ،وإن كانت الصفة ل في الذات فهي ل تتعدى إلى الغير ،إن ال
يوصف بها ول يوصف بنقيضها ،فتقول " حي " ول تقول المقابل ،ولكن إن قلت " :محيي " فأنت
تأتي بالمقابل وتقول " :مميت ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال سبحانه وتعالى بقدرة البشر مهما كان ،بل إن العمل ينسب لقدرة صاحبه ،وكلما زادت القوة
عمّا يُشْ ِركُونَ { هو تنزيه ل ،ول تجد بشرا
زادت القدرة وال هو القوي .وقوله تعالى } :سُبْحَانَهُ َ
يقول لبشر حتى من الكفار الذين يعاندون اليمان ،ل يقول واحد منهم لخر " سبحانك " لن
التنزيه أمر يختص به ال عز وجل.
والناس تضع أسماء أولدها ،فالسماء مقدور عليها من البشر ،ولكنك ل تجد كافرا معاندا محاربا
لدين ال عز وجل يسمى ابنه " ال " فالمؤمن ل يجرؤ على هذه التسمية لنه يؤمن بال ،والكافر
ل يجرؤ عليها أبدا بقدرة ال وقهره .لذلك فكلمة } سُبْحَا َنهُ { ولفظ الجللة " ال " لفظان يختص
بهما ال وحده بالقدرة المطلقة ل سبحانه وتعالى ،وسبحانه القائل:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
زيادة خصوبة الرض .ولكن الشياء التي صنعها النسان ملت أجواء الدنيا بالسموم ولوثت
الجو؛ لن الولى مخلوقة بهندسة إلهية ،والثانية بهندسة بشرية علم صانعها أشياء وغابت عنه
أشياء.
ت مشكلت الكون ،ثم بعد ذلك وعندما تمر
وقد يعتقد الناس أن هناك بعضا من الكتشافات قد حّل ْ
السنوات يعرفون أنه جاءت بالشقاء للبشرية ،ولعل تلوث البيئة الذي بدأ يؤثر على حياة الكون
أخيرا يلفتنا إلى ذلك ،حتى إن النسان الذي قطع الشجار وأزال الغابات التي خلقها ال في هذا
الكون لتكون مصدرا للهواء النقي وأنشأ بدلً منها مصانع ومُدنا؛ بدأ الن يحاول أن يعيد زراعة
جوّه وماءه وأفسد لمنهج ال تعالى لستقام
هذه الشجار بعد أن علم أن تدخله في الكون قد أفسد َ
أمر الدنيا ،كما استقام الكون العلى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أكبر من النسان فهو يحطم النسان ،وهكذا يلعب النور دورا في الحسيات ،وكذلك جعل ال
للمعنويات نورا ،لذلك قال الحق سبحانه وتعالى {:نّورٌ عَلَىا نُورٍ َي ْهدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن يَشَآءُ }
[النور.]35 :
والمفسد يكره أن يوجد مثل هذا النور ،بل يريد أن يطفئه ،ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى بعد
طفِئُواْ نُورَ اللّهِ{ ...
ذلك } :يُرِيدُونَ أَن ُي ْ
()1253 /
طفِئُوا نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يُتِمّ نُو َر ُه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ ()32
يُرِيدُونَ أَنْ ُي ْ
لكن هل يستطيعون أن يطفئوا نور ال؟ ل؛ لن النسان في المر الحسّي ل يستطيع أن يطفئ
النور؛ لن هناك فَرقا بين مصدر النور وبين أداة التنوير ،فالنسان يمكنه أن يحطم الدائرة
الزجاجية التي تحمل النور ،لكن ل أحد بإمكانه أن يطفئ " المُنوّر " والمنوّرُ العلى هو ال ،ول
طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِههِ ْم وَيَأْبَىا اللّهُ } أي :ل يريد ال شيئا
أحد يستطيع إطفاءه { .يُرِيدُونَ أَن يُ ْ
{ ِإلّ أَن يُ ِتمّ نُو َرهُ } ،وسبحانه قد أرسل الرّسُل حاملة لمنهج النور ولم يرسل الرسل لينتصر
عليهم الكفر ،ولذلك يقول لنا { :وَيَأْبَىا اللّهُ } أي ل يريد { ِإلّ أَن يُتِمّ نُو َر ُه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }.
سلَ رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَىا وَدِينِ ا ْلحَقّ} ...
ويتابع الحق جل وعل قولهُ { :هوَ الّذِي أَرْ َ
()1254 /
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ ()33
حقّ لِ ُي ْ
سلَ رَسُولَهُ بِا ْل ُهدَى وَدِينِ الْ َ
ُهوَ الّذِي أَ ْر َ
والرسول صلى ال عليه وسلم إنما جاء بالقيم التي تهدي إلى الطريق المستقيم ،جاء بالدين الحق.
فكلمة " دين " أخ َذتْ واستعملت أيضا في الباطل ،ألم يأمر الحق سبحانه وتعالى نبيه صلى ال
عليه وسلم أَن يقول لكفار ومشركي مكةَ {:لكُمْ دِي ُنكُ ْم وَِليَ دِينِ }[الكافرون.]6 :
فهل كان لهم دين؟ نعم كان لهم ما يدينون به مما ابتكروه واخترعوه من المعتقدات؛ لكن { وَدِينِ ا
} هو الذي جاء من السماء.
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ } ولنلحظ أن الحق سبحانه
حقّ لِيُ ْ
سلَ َرسُولَهُ بِا ْلهُدَىا وَدِينِ الْ َ
{ ُهوَ الّذِي أَرْ َ
وتعالى جاء بهذا القول ليؤكد أن السلم قد جاء ليظهر فوق أي ديانة فاسدة ،ونحن نعلم أن هناك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاوَاتُ
حقّ أَ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
ديانات متعددة جاءت من الباطل ،فسبحانه القائل {:وََلوِ اتّ َبعَ الْ َ
وَالَرْضُ }[المؤمنون.]71 :
ونتوقف عند قول الحق سبحانه وتعالى { :عَلَى الدّينِ كُلّهِ } ،فلو أن الفساد كان في الكون من
لون واحد ،كان يقال ليظهره على الدين الموجود الفاسد ،ولكنّ هناك أديانا متعددة؛ منها البوذية
وعقائد المشركين ،وديانات أهل الكتاب والمجوس الذين يعبدون النار أو بعض أنواع من
الحيوانات ،وكذلك الصابئة .ولذلك فإن ال سبحانه وتعالى ل يريد أن يظهر دينه؛ الذي هو دين
الحق على دين واحد؛ من أديان الباطل الموجودة ،ولكن يريد سبحانه أن يظهره على هذه الديان
ظهْر هذه الديان كلها ،والشيء إذا جاء على
كلها ،وأن يعليه حتى يكون دين ال واقفا فوق َ
ظهَرُوهُ }[الكهف:
ظهْر أصبح عاليا ظاهرا .والحق سبحانه وتعالى يقولَ {:فمَا اسْطَاعُواْ أَن يَ ْ
ال ّ
.]97
أي :أن يأتوا فوق ظهره .وكل الديان هي في موقع أدنى بكثير من الدين السلمي .بعض الناس
يتساءل :إذن كيف يكون هناك كفار ومجوس وبوذيون وصابئون وأصحاب أديان أخرى كاليهودية
والنصرانية ،فما زالت دياناتهم موجودة في الكون وأتباعها كثيرون ،نقول :لنفهم معنى كلمة
العلء ،إن العلء هو إعلء براهين وسلمة تعاليم ،بمعنى أن العالم المخالف للسلم سيصدم
بقضايا كونية واجتماعية ،فل يجد لها مخرجا إل باتباع ما أمر به السلم ويأخذون تقنيناتهم من
السلم ،وهم في هذه الحالة ل يأخذون تعاليم السلم كدين ،ولكنهم يأخذونها كضرورة اجتماعية
ل تصلح الحياة بدونها .وأنت كمسلم حين تتعصب لتعاليم دينك ،فليس في هذا شهادة لك أنك
آمنت ،بل دفعك وجدانك وعمق بصيرتك لنْ تؤمن بالدين الحق ،ولكن الشهادة القوية تأتي حين
يضطر الخصم الذي يكره السلم ويعانده إلى أن يأخذ قضية من قضايا السلم ليحل بها
مشكلته ،هنا تكون الشهادة القوية التي تأتي من خصم دينك أو عدوك .ومعنى هذا أنه لم يجد في
أي فكر آخر في الكون حلً لهذه القضية فأخذها من السلم.
فإذا قلنا مثلً :إن إيطاليا التي فيها الفاتيكان الذي يسيطر على العقائد المسيحية في العالم الغربي
كله ،وكانت الكنيسة الكاثوليكية في الفاتيكان تحارب الطلق وتهاجم السلم لنه يبيح الطلق ،ثم
اضطرتهم المشكلت الهائلة التي واجهت المجتمع اليطالي وغيره من المجتمعات الوروبية إلى
أن يبيحوا الطلق؛ لنهم لم يجدوا حلً للمشكلت الجتماعية الجسيمة إل بذلك.
ولكن هل أباحوه لن السلم أباحه ،أم أباحوه لن مشاكلهم الجتماعية ل تُحلّ إل بإباحة الطلق؟
وساعة يأخذون حلً لقضية لهم من ديننا ويطبقون الحل كتشريع ،فهذه شهادة قوية ،يتأكد لهم بها
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ { [التوبة {]33 :وَلَوْ
صحة دين ال ويتأكد بها قول الحق سبحانه وتعالى } :لِ ُي ْ
كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }[التوبة ،]32 :وبال لو كان الظهار غلبة عقدية ،بمعنى ألّ يوجد على الرض
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أديان أخرى ،بل يوجد دين واحد هو السلم لما قال الحق هنا } :وَلَوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ { ولما قال
في موضع آخر من القرآن } :وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ { وهذا يعني أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل
من المعارضين للسلم من يظهر السلم على غيره من الديان ل ظهور اقتناع وإيمان ،ل ،بل
يظلون على دينهم ولكن ظروفهم تضطرهم إلى أن يأخذوا حلولً لقضاياهم الصعبة من السلم.
ومثال آخر من قضية أخرى ،هي قضية الرضاعة ،يقول الحق سبحانه وتعالى {:وَا ْلوَالِدَاتُ
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمّ ال ّرضَاعَةَ }[البقرة.]233 :
ضعْنَ َأوْلَدَهُنّ َ
يُ ْر ِ
وقامت في أوروبا وأمريكا حملت كثيرة ضد الرضاعة الطبيعية ،وطالبوا الناس باستخدام اللبن
المجفف والمصنوع كيميائيا بدلً من لبن الم ،وكان ذلك في نظرهم نظاما أكمل لتغذية الطفل ،ثم
بعد ذلك ظهرت أضرار هائلة على صحة الطفل ونفسيته من عدم رضاعته من أمه .واضطر
العالم كله إلى أن يعود الطفل ونفسيته من عدم رضاعته من أمه .واضطر العالم كله إلى أن يعود
إلى الرضاعة الطبيعية وبحماسة بالغة .هل فعلوا ذلك تصديقا للقرآن الكريم أم لنهم وجدوا أنه ل
حلّ لمشكلتهم إل بالرجوع إلى الرضاعة الطبيعية؟
َ
وكذلك الخمر نجد الن حربا شعواء ضد الخمر في الدول التي أباحتها من قبل وتوسعت فيها،
ولكن شنّوا عليها هذه الحرب بعد أن اكتشف العلم أضرارها على الكبد والمخ والسلوك النساني،
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ { أي :يجعله غالبا بالبرهان والحجة والحق والدليل على
هذا هو معنى } لِيُ ْ
ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّ ِه وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلمُشْ ِركُونَ
كل ما عداه .ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى } :لِيُ ْ
{ فقد ظهر هذا الدين وغلب في مواجهة قضايا عديدة ظهرت في مجتمعات المشركين والكافرين
الذين يكرهون هذا الدين ويحاربونه ،وهو ظهور غير إيماني ولكنه ظهور إقراري ،أي رغما
عنهم.
وبعد أن بيّن ال سبحانه وتعالى أن الحبار والرهبان ل يؤمنون بال اليمان الصحيح ،ول باليوم
الخر بالشكل السليم ،ويحلون ما حرم ال ،ويحرمون ما أحل ال ،ويتخذهم أتباعهم أربابا من
ن الَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ
دون ال .هنا يقول الحق سبحانه وتعالى } :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ كَثِيرا مّ َ
ل وَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ{ ...
طِلَيَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ
()1255 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعد أن شرح سبحانه لنا ما يدور في ذواتهم ،وانحرافهم عن منهج ال تعالى ،والغرق في حب
الدنيا وحب الشهوات ،وهم قد اشتروا بآيات ال ثمنا قليلً ،وحرّفوا تعاليم السماء حتى يأكلوا
أموال الناس بالباطل ،ولكن هل الموال تؤكل؟ طبعا ل ،بل نشتري بالمال الطعام الذي نأكله،
فلماذا استخدم الحق سبحانه عبارة { لَيَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ النّاسِ }؟ أراد الحق سبحانه وتعالى بذلك أن
يلفتنا إلى أنهم ل يأخذون المال على قدر حاجتهم من الطعام والشراب ،ولكنهم يأخذون أكثر من
حاجتهم ليكنزوه.
ولذلك يأتي قوله تعالى في ذات الية أنهم { وَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َهبَ
وَا ْلفِضّ َة َولَ يُنفِقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْ ُهمْ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ } .هم إذن أكلوا أموال الناس بالباطل،
ل من أموال
طلِ } ومعنى ذلك أنّ هناك أكْ ً
مصداقا لقول الحق سبحانه { لَيَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ
الناس بالحق في عمليات تبادل المنافع ،فالتاجر يأخذ مالك ليعطيك بضاعة؛ ويذهب التاجر
ليشتري بها بضاعة وهكذا ،وقانون الحتياط هنا في أن يكون هناك رهبان وأحبار محافظون على
تعاليم الدين ،ول يأكلون أموال الناس بالباطل ،وهذا ظاهر في قول الحق سبحانه وتعالى { :إِنّ
طلِ } ولم يقل جل جلله :كل الحبار
ن الَحْبَا ِر وَالرّهْبَانِ لَيَ ْأكُلُونَ َأ ْموَالَ النّاسِ بِالْبَا ِ
كَثِيرا مّ َ
والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ،بل قال { إِنّ كَثِيرا مّنَ الَحْبَا ِر وَالرّهْبَانِ }؛ لنه قد يوجد
عدد محدود من الحبار والرهبان ملتزمون ،وال ل يظلم أحدا؛ لذلك جاء بالحتمال .فلو أن ال
سبحانه وتعالى عمّم ووُجد منهم من هو ملتزم بالدين .فمعنى ذلك أن يكون القرآن الكريم لم يُغطّ
كل الحتمالت ،ومعاذ ال أن يكون المر كذلك؛ لن الحق سبحانه وتعالى في قرآنه يصون
الحتمالت كلها.
إذن :فاستيلء بعض من هؤلء الحبار والرهبان على أموال الناس ل يكون بالحق ،لي ل
يحصلون فقط على ما يكفيهم ،بل بالباطل أي بأكثر مما يحتاجون .وهم يأخذون المال ليصدوا به
عن سبيل ال ،وهم في سبيل الحصول على الموال الدنيوية؛ يُغيّرون منهج ال بما يتفق مع
شهوتهم للمال ،وما يحقق لهم كثرة الموال التي يحصلون عليها ،ولهذا تأتي العقوبة في ذات الية
فيقول المولى سبحانه وتعالى:
ب وَا ْل ِفضّةَ وَلَ يُن ِفقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ َبشّرْهُمْ ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ } والكنز مأخوذ
{ وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َه َ
من المتلء والتجمع ،ولذلك يقال " :الشاة مكتنزة " ،أي مليئة باللحم وتجمّعَ فيها لحمٌ كثير.
ب وَا ْلفِضّةَ }؛ وهذان
إذن :فيكنزون أي يجمعون ،وقول الحق سبحانه وتعالىَ { :يكْنِزُونَ الذّ َه َ
المعدنان هما أساس القتصاد الدنيوي ،فقد بدأ التعامل القتصادي بالتبادل ،أي سلعة مقابل سلعة،
وهي ما يسمى عمليات عمليات المقايضة ،وعندما ارتقى التعامل القتصادي اخترعت العملة التي
صارت أساسا للتعامل بين الناس والدول.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والعملة من بدايتها حتى الن ترتكز على الذهب والفضة .وحتى عندما وجدت العملة الورقية،
كان ل بد أن يكون لها غطاء من الذهب لكي تصبح لها قيمة اقتصادية؛ لنّ العملة الورقية ل
يكون لها قيمة إل بما يغطيها من الذهب والفضة.
ومن إعجاز القرآن الكريم أن الحق سبحانه وتعالى حين يتكلم عن الذهب والفضة وهما معدنان،
يجعلهما الساس في النقد والتجارة ،ولقد وجدت معادن أخرى أغلى من الذهب وأغلى من الفضة
كالماس مثلً .لكن ل يزال الساس النقدي في العالم هو الذهب والفضة .وعلى مقدار رصيد
الذهب الذي يغطي العملة الورقية ترتفع قيمة عملة أي بلد أو تنخفض ..فمثلً في مصر في عهد
الحتلل البريطاني كان النقد المتداول ثمانية مليين جنيه ،ورصيدنا من الذهب عشرة مليين
جنيه فيكون الفائض من الذهب مليوني جنيه ،وبذلك كانت قيمة الجنيه المصري تساوي جنيها من
الذهب مضافا إليه قرشان ونصف القرش .والذي يهبط بالنقد إلى الحضيض أن يكون رصيد
الذهب قليلً وكمية النقد المتداولة كثيرة ،وهكذا يبقى الذهب هو الحجة والساس في القتصاد
العالمي.
إذن :فالحق سبحانه وتعالى في هذه الية الكريمة أراد أن يلفتنا إلى أن الذهب والفضة هما أساس
التعامل في تسيير حركة العالم القتصادية ،وأن هذا التعامل يقتضي الحركة الدائمة للمال؛ لن
وظيفة المال هي النتفاع به في عمارة الرض ،ولو أنك لم تحرك مالك وكنت مؤمنا ،فإنه ينقص
كل عام بنسبة %2,5وهي قيمة الزكاة .ولذلك يفنى هذا المال في أربعين سنة .فإن أراد المؤمن
أن يُبْقي على ماله؛ فيجب أن يديره في حركة الحياة ليستثمره وينميه ول يكنزه حتى ل تأكله
الزكاة؛ وهي نسبة قليلة تُدفَعُ من المال .ولكن إذا أدار صاحب المال ما يملكه في حركة الحياة،
فسينتفع به الناس وإن لم يقصد أن ينفعهم به؛ لن الذي يستثمر أمواله مثلً في بناء عمارة ليس
في باله إل ما سيحققه من ربح لذاته ،ولكن الناس ينتفعون بهذا المال ولو لم يقصد هو نفعهم؛ فمن
وضع الساس يأخذ أجرا ،ومن جاء بالطوب يأخذ قدر ثمنه ،ومن أحضر أسمنتا أخذ ،ومن جاء
بالحديد أخذ ،والمعامل التي صنعت مواد البناء أخذت ،وأخذ العمال أجورهم؛ في مصانع الدوات
الصحية وأسلك الكهرباء وغيرها ،والذين قاموا بتركيب هذه الشياء أخذوا ،إذن :فقد انتفع عدد
كبير في المجتمع من صاحب العمارة ،وإن لم يقصد هو أن ينفعهم .ولذلك فإن الذي يبني عمارة
يقدم للمجتمع خدمة اقتصادية ينتفع بها عدد من الناس ،وكذلك كل من يقيم مشروعا استثماريا.
إذن :سبحانه وتعالى ل يريد من المال أن يكون راكدا ،ولكنه يريده متحركا ولو كان في أيدي
الكافرين؛ لنه إذا تحرك أفاد الناس جميعا فيحدث بيع وشراء وإنتاج للسلع وإنشاء للمصانع،
وتشغيل لليدي العاملة إلى غير ذلك ،ولكن إن كنز كل واحد منا ماله فلم يستثمره في حركة
الحياة ،فالسلع لن تستهلك ،والمصانع ستتوقف ،ويتعطل الناس عن العمل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكما يحث السلم على استثمار المال ،يطالبنا أيضا بأل يذهب المال إلى الناس بغير عمل؛ حتى
ل يعتادوا على الكسب مع الكسل وعدم العمل .ولذلك قيل :إذا كثر المال ولم تكن هناك حاجة إلى
مشروعات جديدة ،فل تترك الناس عاطلين؛ بل عليك أن تأمرهم ولو بحفر بئر ثم تأمرهم بطمّها
أي ردمها ،في هذه الحالة سيأخذ العمال أجر الحفر والردم ،فل تنتشر البطالة ويتعود الناس أن
يأكلوا بدون عمل؛ لن هذا أقصر طريق لفساد المجتمع.
إذن :فالحق سبحانه وتعالى يريد للمال أن يتحرك ول يكنز؛ ولذلك قال المولى سبحانه وتعالى} :
وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َهبَ وَا ْل ِفضّ َة َولَ يُن ِفقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْ ُهمْ ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ { لنهم بكنزهم المال
إنما يُوقفُونَ حركة الحياة التي أرادها ال تعالى لكونه .وأنت ترى العالم الن يعيش في غائلة
البطالة؛ لن المال ل يتحرك لعمارة الكون ،بل هناك من يكتنزون فقط.
ولقائل أن يقول :ولكن الناس الن يتعاملون بالنقد الورقي ،بينما ذكر ال سبحانه وتعالى الذهب
والفضة؛ نقول :إن العملة الورقية ليست نقدا بذاتها ،ولكنها استخدمت لتعفي الناس من حمل
كميات كبيرة وثقيلة من الذهب والفضة ،قد ل يقدرون على حملها ،إذن فهي عملية للتسهيل ،وهي
منسوبة إلى قيمتها ذهبا ،إذن :فالذين يكنزون العملة الورقية ول ينفقونها فيما يعمر بها الكون وتتم
عمارته تنطبق عليهم الية الكريمة.
ولكن الكنز في هذه الية ل يأتي فقط بمعنى الجمع؛ ولكنه أيضا بمعنى أنهم ل يؤدون حق ال
فيها .ولذلك فإن المال الذي أخرجتَ زكاته ل يُعدّ كنزا ،لنه يتناقص بالزكاة عاما بعد آخر؛ أما
ل مهما كانت قيمته ويؤدي حق ال
المال المكنوز فهو المال الذي ل تُؤدّى زكاته .والذي يملك ما ً
فيه ل يعتبر كانزا للمال .بل الكنز في هذه الحالة ما لم يؤد فيه حق ال.
ب وَا ْل ِفضّ َة َولَ يُن ِفقُو َنهَا { نتساءل :لماذا
عدْنا إلى نص الية الكريمة } :وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َه َ
وإذا ُ
لم يقل ال :ول ينفقونهما مع أنهما معدنان؟ ونقول :إن الحق سبحانه وتعالى استخدم أسلوب
الجمع؛ لن الذهب يطلق إطلقات كثيرة ،فهناك من يملك ألف دينار من الذهب ،وغيره يملك مائة
دينار من الذهب ،وثالث ليس لديه إلّ دينار ذهبيّ واحد وكذلك الفضة ،وما دام الجمع هنا موجودا
فل بد أن تستخدم } يُنفِقُو َنهَا {.
ولم تقل الية الكريمة :والذي يكنز .ولكنها قالت } :وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ { ،إذن :فالمخاطبون
متعددون ،فهذا عنده ذهب ،وهذا عنده ذهب ،وثالث عنده فضة ،إذن فل بد من استخدام صيغة
الجمع .ويلفتنا القرآن الكريم إلى هذه القضية في قوله تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتمسك سيفا وتقاتل الثانية ،وإنما كل فرد من الطائفة الولى يقاتل كل فرد من الطائفة الثانية ،إذن
فهما طائفتان ساعة السلم ،ولكن ساعة الحرب يتقاتل كل أفراد الطائفة الولى مع كل أفراد
الطائفة الثانية .ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى } :اقْتَ َتلُواْ { ،ولم يقل " اقتتل " .أما في حالة
الصلح فقد قال سبحانه وتعالى {:فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا }[الحجرات.]9 :
واستخدم هنا " المثنى " لننا ساعة نصلح بين طائفتين ،ل نأتي بكل فرد من الطائفة الولى
ونصلحه على كل فرد من الطائفة الثانية ،ولكن نأتي بزعيم الطائفة الولى ونصالحة على زعيم
الطائفة الثانية فيتم الصلح .ولذلك هنا تجب التثنية.
وكذلك في قوله تعالى } :وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َهبَ وَا ْل ِفضّةَ { لم يقل ول ينفقونهما ،ولكن قال سبحانه
وتعالى } :وَلَ يُنفِقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ { والنفاق في سبيل ال يشمل مجالت متعددة ،ففي سبيل ال
تحدث حركة في المجتمع يستفيد منها الناس ،فحين تُخْرجُ الزكاة يستفيد منها الناس ،وحين تُجهّزُ
بها جيوش المسلمين يستفيد منها الناس ،ونظرية عدم كنز المال ربما ظهرت حديثا في القتصاد
العالمي ولكنها موجودة منذ نزول القرآن الكريم.
فأنت إن أنفقت ولم تكنز حدث رواج في السوق .والرواج معناه إيجاد العمل ووسائل الرزق.
وإيجاد الحافز الذي يؤدي إلى ارتقاء البشرية ،وأنت حين تشتري لبيتك غسالة أو ثلجة أو بنيت
بيتا صغيرا فإنك تُوجِدُ رواجا اقتصاديا في المجتمع .وفي نفس الوقت ارتقيت بوسائل
استخداماتك .والرواج يدفع إلى اكتشاف الحسن الذي يفيد البشرية ،ولكن إذا كنزت كل مالك ساد
الكساد القتصادي.
وليس معنى ذلك أن ينفق صاحب المال كل ماله وزيادة؛ لن الحق سبحانه وتعالى يريد الوسط
في كل الشياء .ولذلك يقول سبحانه وتعالى {:وَالّذِينَ ِإذَآ أَن َفقُواْ َلمْ يُسْ ِرفُو ْا وَلَمْ َيقْتُرُو ْا َوكَانَ بَيْنَ
ذَِلكَ َقوَاما }[الفرقان.]67 :
والحق سبحانه وتعالى في هذه الية يحذر من سفاهة النفاق ،وعدم البقاء على جزء من المال
لمواجهة أي أزمة مفاجئة .لكنك إن قترت حدث كساد في السوق وتوقف النتاج وتعطل العمال،
والسلم يريد نفقة معتدلة توجد الرواج السلعي ،وادخارا تستخدمه في الرتقاء بحياتك ومواجهة
الزمات.
والنفاق أنواع :إنفاق في المساوي لبقاء الحركة الدائمة بين المنتج والمستهلك ،وإنفاق في غير
المساوي بإعطاء الزكاة للفقير والمحتاج والمعدم ،والزكاة تنقي المجتمع من مفاسد كثيرة؛ فهي
تمنع الحقد بين الناس؛ لن الفقير إذا وجد من يعطيه فهو يتمنى له دوام النعمة حتى يستمر العطاء
فل يسخط الفقير على الغني ،والغني والفقير متساويان في النتفاع؛ لن الفقير عندما يأخذ ل
يسخط على أنه فقير ،ولكنه يحس بالعطاء حوله ،والغني حين يعطي يحس أن هذا أمان له؛ لنه
إن ذهبت عنه النعمة فسوف يجد من يعطيه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا يحدث توازن في المجتمع بين الناس ،فل يوجد من ل يستطيع الحصول على ضروريات
الحياة ،ول يوجد من لديه فائض يحبسه عن الناس .ولهذا يدعونا اليمان إلى العمل بما يزيد عن
قدر الحاجة ،ليكون هناك فائض للزكاة والصدقة .والنسان إذا عمل فإنه ل يفيد نفسه فقط بل يفيد
المجتمع أيضا .فسائق " التاكسي " مثلً إذا كسب مائة جنيه في اليوم قد يظن أنه نفع نفسه فقط،
ولكنه في الحقيقة نفع المجتمع كله بأن يسّر على العباد مصالحهم ،فنقل هذا إلى عمله؛ ونقل ذلك
إلى المستشفى ،ونقل غيرهما إلى السوق ليشتري ما يحتاج إليه ،ونقل رابعا ليزور قريبا أو ليحقق
مصلحة وهكذا.
إذن :فالذي يعمل يكون عمله خيرا لنفسه وخيرا للمجتمع ،وإن عمل كل الناس على قدر حاجاتهم
فقط ،فمن أين يعيش غير القادر على العمل؟ من أين يعيش المستحق للزكاة والصدقة؟ إنه ل
يعيش إل بفائض القادر على العمل ،ولذلك ل بد للنسان المسلم أن يعمل على قدر طاقته ،وليس
على قدر حاجته .والعمل على قدر الحاجة يجعله يوفي بحاجات من يعولهم ،ول يضطرهم إلى أن
يمدوا أيديهم للخرين؛ أي أنه يقيهم شر الحاجة .أما العمل على قدر الطاقة فيجعله يأخذ حاجته،
ويعطي لغير القادر ما يقيم حياته ،وبذلك يقدم الخير لنفسه ومن يعولهم وللخرين.
إن المجتمع الذي يجد فيه غير القادر حاجته ،هو مجتمع يملؤه الطمئنان بالنسبة للقادر وغير
القادر .ونحن نعلم أننا نعيش في دنيا أغيار ،ول يوجد من يدوم غناه أو من يدوم فقره؛ لن دوام
الحال من المحال ،إن عاش الغني في مجتمع متكافل يجد فيه الفقير حاجته فهو لن يخشى تقلبات
الزمن؛ لنه وهو الن يعطي الفقير ،إن أصبح فقيرا فسوف يجد مقومات حياته ،والفقير إذا أغناه
ال تعالى فسيذكر أنه كان يأخذ من الغنياء ،فيبادر ليعين الفقراء كنوع من َردّ الجميل .وبذلك
يعيش المجتمع كله حياة آمنة ،كما أن الحياة في مثل هذا المجتمع إنما تهيىء الطمئنان للناس
على أولدهم وذريتهم ،ذلك أن العمار بيد ال ،وعندما يحس النسان بأنه إن مات وترك أولدا
صغارا ضعافا فسوف يتكفل المجتمع بهم ،عندئذ يحس بالمان في حياته ،ولكن إذا كان المجتمع
قاسيا يضيع في حق اليتيم ،فالب يعيش غير مطمئن على أولده الصغار ،ولهذا نجد أن الحق
س الب
تبارك وتعالى قد أمر بكفالة اليتيم؛ ليعوضه عن أب واحد بآباء متعددين يَرْعَونهُ ،فَيُح ّ
خشَ
بالمان وتُحس الم بالمان ويحس الصغار بالمان ،ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى {:وَلْيَ ْ
ضعَافا خَافُواْ عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُواّ اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َق ْولً سَدِيدا }
الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّةً ِ
[النساء.]9 :
وتقوى ال تكون ضمانا في أن يكفل المجتمع اليتيم؛ فيدخل المن في قلب كل أب يخشى أن
يموت وأولده صغار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فساعة يكفل المجتمع اليتيم فالطفل لن يسخط على القدر الذي حرمه من أبيه لنه وجد آباء
يرعونه ،وهناك قصة يرويها عدد من إخواننا العلماء ،فقد مات زميل من زملئهم وأولده
صغار ،وكانت الم تبكي على أطفالها لنهم تيتموا ،ثم مرت السنوات وكبر الطفال فصار هذا
مهندسا وصار ذلك طبيبا ،والثالث أصبح محاميا ،بينما من ل يزال آباؤهم على قيد الحياة كانوا
متعثرين في دراستهم ،فقال أحدهم للخر :ليتنا نموت حتى يفتح ال باب الرزق على أولدنا.
إذن :فهناك آباء محابس رزق ،إذا ذهبوا فاض ال بالرزق على أولدهم ،وهذه صورة نراها في
الكون؛ فنعرف أن المسألة في يد ال سبحانه وتعالى القائل {:إِنّ اللّهَ ُهوَ الرّزّاقُ ذُو ا ْل ُق ّوةِ ا ْلمَتِينُ }
[الذاريات.]58 :
إذن :فالقتصاد السلمي مبني على وجود حركة في الكون ،ول بد أن تكون هذه الحركة على
قدر طاقة المتحركين ،وليس على قدر حاجاتهم؛ حتى يكون هناك فائض يأخذه غير القادر من
المتحرك القادر.
ثم يعطينا ال سبحانه وتعالى لمحة إيمانية ،حينما نرى الفقير غير القادر وهو يتلقى العطاء من
أي إنسان غني يتعب في عمله ،وكأن من هم أغنى منه يعملون ليعطوه ،وسبحانه وتعالى حين
سلب القوة من هذا الرجل فقد عوّضه بأن أعطاه ثمرة من جهد وناتج عمل غيره فل يسخط على
اختبار ال تعالى له بالبتلء.
ب وَا ْل ِفضّةَ وَلَ يُن ِفقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ َبشّرْهُمْ ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ {
} وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َه َ
وساعة تسمع كلمة } فَبَشّرْ ُهمْ { تعرف أن البشارة عادة تكون في خبر سار ،وإن جاءت في خبر
محزن تكون تهكمًا ،فالنسان الذي هو عزيز قومه ويجعل الناس له اعتبارا ،إن ظلم وطغى
وخاف الناس أن يردوه؛ لنه ل يخشى ال فيهم ،هذا الظالم يُؤتَى به يوم القيامة ويُعذّب أشد
العذاب ،ويقال لهُ {:ذقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان.]49 :
وبطبيعة الموقف في النار هو مهان بعذاب جهنم ول يمكن أن يكون عزيزا كريما ،ولكن قول
ملئكة النارُ } :ذقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ { ،هو تهكم شديد ،وهو في ذلك كقول الحق تبارك
شوِي الْوجُوهَ }[الكهف.]29 :
وتعالى {:وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ
وهم ساعةَ يسمعون كلمة } ُيغَاثُواْ { يفرحون؛ لن عطشهم شديد وهم قد استغاثوا فقيل لهم إنهم
سيغاثون ،وهذا خبر سار بالنسبة لهم ،ولكن الغاثة تأتيهم بماء يشوي وجوههم ،فهل هذه إغاثة؟
إنه تهكم عليهم وزيادة في عذابهم ،كذلك قول الحق سبحانه وتعالى هنا } :فَ َبشّرْهُمْ ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ
{ ويصف لنا الحق هذا العذاب الليم الذي سيتعرضون له ،ويُبيّن لنا خبر المغيّب عنّا في الخرة
جهَنّمَ فَ ُت ْكوَىا ِبهَا جِبَا ُههُ ْم وَجُنو ُبهُمْ
حمَىا عَلَ ْيهَا فِي نَارِ َ
بصورة ُمحَسّة لنا فيقولَ } :يوْمَ ُي ْ
ظهُورُهُمْ{ ...
وَ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1256 /
سكُمْ فَذُوقُوا
ظهُورُهُمْ َهذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَ ْنفُ ِ
جهَنّمَ فَ ُت ْكوَى ِبهَا جِبَا ُههُ ْم َوجُنُو ُبهُ ْم وَ ُ
حمَى عَلَ ْيهَا فِي نَارِ َ
َيوْمَ يُ ْ
مَا كُنْتُمْ َتكْنِزُونَ ()35
نحن نعلم أن النار ل تُحمى إل للمعادن ،فإن كان ما كنزوه أوراقَ نقد فكيف يُحمَى عليها؟ وإن
كان ما كنزوه معادن فهي صالحة لنْ ُت ْكوَى بها أجسادهم ،أما الورق فكيف يتم ذلك؟ ونقول :إن
حمَى عليه مُحمىً ،أو يحولها إلى ذهب
القادر سبحانه وتعالى يستطيع أن يجعل من غير المُ ْ
وفضة؛ وتكوى بها نَواحٍ متعددة من أجسادهم ،والكية هي أن تأتي بمعدن ساخن وتلصقه بالجلد
فيحرقه ويترك أثرا.
و " حين مات أحد الصحابة في عهد الرسول صلى ال عليه وسلم وبحثوا في ثيابه فوجدوا فيها
دينارا ،قال الرسول صلى ال عليه وسلم " :هذه كَيّة من النار " ؛ لن صاحبه كان حريصا على
أن يكنزه ،كما " وجدوا مع صحابي آخر دينارين كنزهما ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :
هاتان كَيّتانِ " ".
كان هذا قبل أن تشرع الزكاة ،أما إذا كان صاحب المال قد أدى حق ال فيه فل ُيعَدّ كنزا ،وإل لو
قلنا :إنّ النسان إذا أبقى بعضا من المال لولده حتى ولو أدى زكاته فإن ذلك يعتبر كنزا ،لو قلنا
ذلك لكنا قد أخرجنا آيات الميراث في القرآن الكريم عن معناها؛ لن آيات الميراث جاءت لتورث
ما عند المتوفي .والمال المورّث المفترض فيه أنه قد أتى عن طريق حلل وأدى فيه صاحبه حق
ال ،لذلك ل يعتبر كنزا.
خصّ ال
ظهُورُهُمْ } ،لماذا َ
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى { :فَ ُت ْكوَىا ِبهَا جِبَا ُه ُه ْم وَجُنو ُبهُ ْم وَ ُ
هذه الماكن بالعذاب؟ لن كل جارحة من هذه الجوارح لها مدخل في عدم إنفاق المال في سبيل
ال .كيف؟ مثلً :تجدون الوجه هو أداة المواجهة ،وإذا رأيت إنسانا فقيرا متجها إليك ليطلب
صدقة ،وأنت تعرف أنه فقير وقد جاءك لحاجته الشديدة ،فإن كان أول ما تفعله حتى ل تؤدي حق
ال أن تشيح بوجهك عنه ،أو تعبس ويظهر على وجهك الغضب ،فإن هذا الفقير يحس بالمهانة
والذلة؛ لن الغني قد تركه وابتعد عنه ،فإذا لم تنفع إشاحة الوجه واستمر الفقير في تقدمه من
الغني ،فإنه يعرض عنه بأن يدير له جنبه ليحس بعدم الرضا ،فإذا استمر الفقير واقفا بجانبه فإنه
يعطي له ظهره.
إذن :فالجوارح الثلث قد تشترك في منع النفاق في سبيل ال ،وهي الوجه الذي أداره بعيدا ،ثم
أعطاه جانبه ،ثم أعطاه ظهره .هذه هي الجوارح الثلث التي تشترك في منع حق ال عن الفقير،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك ل بد أن تُعذّب فَ ُتكْوى الجباه والجنوب والظهور.
سكُمْ } ،أي :هذا ما منعتم فيه حق ال ،فإن
ثم يقول الحق تبارك وتعالى { :هَـاذَا مَا كَنَزْتُمْ لَنْفُ ِ
كنز النسان مالً كثيرا فسيكون عذابه أشد ممن كنز مالً قليلً؛ لن ال َكيّ سيكون بمساحة كبيرة،
أما إن كان الكنز صغيرا فتكون الكية صغيرة.
ولهذا ل يجب أن يغتر المكتنز بكمية ما كنز؛ لن حسابه سوف يكون على قدر ما كنز.
وقوله سبحانه وتعالى } :فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ َتكْنِزُونَ { أي :أن عذابكم في الخرة سيكون بسبب كنزكم
المال ،فالمال الذي تفرحون بكنزه في الدنيا كان يجب أن يكون سببا في حزنكم؛ لنكم تكنزون
عذابا لنفسكم يوم القيامة ،ومهما أعطاكم كنز المال من تفاخر وغرور في الحياة الدنيا ،فسوف
يقابله في الخرة عذابٌُ ،كلّ على قدر ما كنز.
شهْرا فِي كِتَا بِ اللّهِ
عشَرَ َ
شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا َ
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك } :إِنّ عِ ّدةَ ال ّ
ت وَالَ ْرضَ مِ ْنهَآ أَرْ َبعَةٌ حُ ُرمٌ{ ...
سمَاوَا ِ
خلَقَ ال ّ
َيوْمَ َ
()1257 /
والشهر :هو دورة القمر كما هو معلوم ،ونحن نعرف أن الكون فيه شمس وقمر وفيه نجوم ،هذه
هي الشياء المرئية لنا ،وهناك كواكب أخرى بعيدة عنا تستطيع أن تأخذ مليون شمس في جوفها،
كل هذا يعطيك فكرة عن مدى اتساع الكون ،فل تعتقد أن الشمس هذه موجودة بذاتها ،بل هي
تأخذ أشياء من كواكب أعلى منها كثيرة ،ولكن ما نراه بأعيننا محدود ،وهناك ما ل يمكننا أن
نراه؛ لنه غير منظور لنا .وأنت إذا نظرت إلى مصباح كهربائي ،فنور المصباح ليس ذاتيا ،بل
إن وراءه أجهزة كثيرة تمده بالكهرباء من أسلك وكابلت وأكشاك ،ثم محطة توليد الكهرباء التي
تولد التيار الكهربائي ،ثم المصانع التي أنتجت اللت التي تعمل في محطة الكهرباء ،إذن :فوراء
هذا المصباح الصغير حجم هائل من العمل والجهزة المختلفة.
ونحن نرى الشمس فيها ضياء ،والقمر فيه نور ،فما الفرق بين الضياء والنور؟
الضياء :فيه نور وفيه حرارة .والنور :فيه ضوء وليس فيه حرارة .ولذلك يسمون ضوء القمر "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الضوء الحليم " ،أي :أنك عندما تجلس في ضوء القمر ل تحتاج إلى مظلة تحميك منه ،ولكن إن
جلست تحت ضوء الشمس فأنت تحتاج إلى مظلة تحميك من حرارة الشمس الشديدة.
والحق سبحانه وتعالى يسمى الشمس سراجا وهّاجا ،والسراج فيه حرارة وفيه ضوء .أما القمر
فسماه منيرا؛ لن أشعة الشمس تنعكس عليه فينير ،وهذان الكوكبان العلويان -الشمس والقمر -
وضع ال فيهما موازين الزمن .والزمن له حالت كثيرة تتطلب موازين وقياسات مختلفة ،وأساس
الزمن هو اليوم والليلة ،وأساس اليوم هو صباح وظهر وعصر ومغرب ،وهناك الفجر الصادق
والفجر الكاذب والشروق ،وهناك أوقات يتساوى فيها الشيء وظله ،وأوقات يكون الظل مثَْليْ
الشيء .والليل فيه الظلم ،ويأتي بعد النهار والليل -في مقاييس الزمن -الشهورُ ،وبعد الشهور
تأتي السنوات.
إذن :فمقاييس الزمن محتاجة للت تقاس بها ،وأنت تعرف بداية اليوم بشروق الشمس .إذن
فالشمس معيار اليوم .وأنت تعرف بداية الليل بغروب الشمس .وهكذا فالشمس تعطينا بداية ونهاية
الليل والنهار ،ولكنها ل تعطينا شيئا عن الشهور ،فإذا نظرت إلى الشمس فإنك ل تعرف هل أنت
في أول الشهر أو في منتصفه أو في آخره .ولكنك إذا نظرت إلى القمر عرفت ،ففي أول الشهر
يكون القمر هللً ،وفي منتصفه يكون بدرا ،وفي آخره المحاق .والشهور عند ال اثنا عشر
شهرا.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه وتعالى قبل أن يخلق النسان ،ويجعله خليفة في الرض؛ خلق له
كونا ُمعَدّا إعدادا حكيما لستقباله ،فقدّر في الرض القوات وجعل الشمس والقمر وأنزل المطر،
فكل ما يقيم حياة النسان كان موجودا في الكون قبل أن يأتي النسان إليه.
والنسان جعله ال خليفة في الرض وله حركة ،وهي الحداث التي تقع منه أو تقع فيه أو تقع
عليه ،والحداث تتطلب زمانا ومكانا ،ولذلك خلق ال لها الزمان والمكان .إذن :فالحياة كلها
تفاعل بين حركة النسان الخليفة وبين الزمان والمكان.
وكما أعدّ ال سبحانه وتعالى للنسان في كونه مقومات حياته اليومية ..أنزل له القيم التي تحفظ
له معنويات حياته ،وأراد بها الحق سبحانه وتعالى أن تتساند حركة النسان ول تتعاند ،ومعنى
التساند أنْ تتحد حركة الناس جميعا في إيجاد النافع لمزيد من الصلح في الرض ،أما إن
تعاندت حركات البشر ضد بعضها البعض ،فإن الفساد يظهر في الرض؛ لن كل واحد يريد أن
يهدم ما يفعله الخر.
ولكي تتساند حركات النسان في الكون؛ فل بد من مُشَرّع واحد -وهو المشرع العلى -يعطي
قوانين الحركة البشرية لكل الناس .وإن ابتعد الناس عن تشريعات ال تعالى ،وأخذوا يقنّنون
لنفسهم ،نجد قوانين البشر تتبع أهواءهم ،وكل واحد يحاول أن يحصل على مَيْزات لنفسه ،ويأخذ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقوق الخرين؛ فتفسد الحياة ،ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى {:وََلوِ اتّبَعَ ا ْلحَقّ َأ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ
سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ }[المؤمنون.]71 :
ال ّ
إن اتباع الحق لهوائهم سيُخضِعُ الكون لهواء البشر ،هذا يريد وهذا ل يريد ،والحق سبحانه
يريد في الكون حركة السلم والمن والطمئنان ،وهذه ل تتم إل إذا التزم كل إنسان بمنهج ال؛
حينئذ يوجد سلم دائم ومستوعب شامل ،مستوعب لسلم النسان مع نفسه ،ولسلم النسان مع
الكون ،ولسلم النسان مع ال ،لكن النسان الذي خلقه ال مُخيّرا وأنزل له المنهج بالتكليف ،في
إمكانه أن يطيع هذا المنهج أو أن يعصيه .وإن عصى النسان المنهج فهو يفسد في الرض
وينشر فيها الظلم والفساد.
وأراد الحق سبحانه أن يضع للسلم ضمانا ،وهو أن توجد قوة تقف أمام الفساد في الرض؛ لذلك
شاء الحق أن يكون للحرب وجود في هذا الكون؛ لتتصارع الرادات ،فما دام للنسان اختيار،
وما دام هناك من يعصي ومن يطيع ،فل بد أن يحدث الصراع .أما المور التي ل اختيار
للنسان فيها فهي ل تعكر السلم في الكون ،فلن تقوم ثورة -مثلً -لكي تشرق الشمس ،أو
تشتعل حرب لنزال المطر؛ لن هذه المور تسير بقوانين القهر التي أرادها ال لها ،وتعطي
نفعها للجميع ،ولكن الفساد يأتي من انحراف الناس عن منهج ال ،وما دام في الكون حراس
للمنهج من البشر ،بحيث إذا انحرف إنسان ضربوا على يده حتى يعود إلى الطريق السليم؛ فإن
عمّ الفساد ،ولم يوجد في المجتمع من يقف ضده تعاندت
الحياة المطمئنة المنة تبقى .ولكن إن َ
حركات الحياة وتعب الناس في حياتهم وأرزاقهم.
ولكي يسود السلم في الكون؛ وضع الحق سبحانه في الزمن وفي المكان حواجز أمام طغيان
النفوس؛ عَلّها تفيق وتعود إلى الحق ،فجعل في الزمان أشهرا حُرما يمتنع فيها القتال ،ويسود فيها
السلم بأمر السماء ،وأراد الحق أن يكون هذا السلم القسري فرصة تجعل هؤلء المتحاربين
يفيقون إلى رشدهم وينهون الخلف بينهم ،كذلك خصّ ال بعض الماكن بتحريم القتال فيها ،فإذا
التقى الناس في هذه الماكن كانت هناك فرصة لتصفية النفوس وإنهاء الخلف.
والنسان في حربه مع أخيه النسان يُنهك بنيران ونتائج الحرب ،تنهكه دما ،وتنهكه مالً ،وتنهكه
عتادا ،ويصيب الضعفُ النسان نتيجة هذه النهاكات منتصرا كان أم مهزوما ،ولكنه أمام عزة
نفسه في مواجهة خصمه يريد أن يستمر في الحرب حتى ل يظهر أمام الخصم بأنه قد ُذلّ .فيشاء
ال برحمته لخلقه أن يجعل في الزمان وفي المكان ما يحرم فيه القتال؛ حتى ل يقال :إن قبيلة ما
أو جماعة ما قد أوقفت القتال خوفا من خصومها ،أو لن خصومها هم القوى؛ ولكن ليقول
الناس :إنهم أوقفوا الحرب بأمر ال.
وبهذا يحتفظ كل طرف من الطراف المتحاربة بكرامته؛ فيسهل الصلح وتسلم الرواح والنفوس.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك إن لجأ واحد من المتحاربين إلى المكان أو الماكن التي يحرم ال فيها القتال ،أمن على
نفسه ،وفي هذا منع للشر أن يستمر ،وصون للنفوس من المهانة والذلة والنكسار أمام الغير؛
لذلك أراد ال أن يوضح لنا :أنا خالقكم ،وأنا الرحيم بكم ،وسأجعل لكم من الزمان زمانا أحرم فيه
القتال ،وأجعل مكانا مَنْ دخله كان آمنا ،فاستتروا وراء ذلك وكُفّوا عن القتال.
وهذه هي بعض من رحمة ال ،يعطي بها سبحانه للناس فرص الحياة ،وهذا من عطاءات
الربوبية ،وعطاء الربوبية من ال هو لخلقه جميعا ،المؤمن منهم والكافر ،والطائع والعاصي،
وكل نعم الكون من عطاءات ربوبية ال.
إن عطاءات ال سبحانه ل تفرق بين المؤمن والكافر ،فالرض مثلً ل تعطي الزرع للطائع
وتمنعه عن العاصي ،والشمس ل تضيء وتسقط دفئها وحرارتها للمؤمن دون الكافر؛ فَ ِنعَ ُم الكون
المادية كلها من عطاء ربوبية ال سبحانه وتعالى لخلقه.
السباب -إذن -هي للناس جميعا ،ولهم أن يتخذوا الزمان المواتية لحركة الحياة كما يحبون،
فيسيرون الزراعات على أي تقويم ،ويحددون المواسم على حسب ما يفيدهم ،وهم يحددون بذلك
مصالحهم المادية التي هي من عطاء الربوبية .ولكن ال رب قَيّم ،ولذلك فهناك عطاء ألوهية ل
في المنهج الذي أرسل به الرسل للناس فأوضح :أنا أختار الزمان الذي أجده مناسبا للقيم والمعاني
السامية ،وأختار الماكن المناسبة للقيم والمعاني السامية.
وأراد الحق برسالة محمد صلى ال عليه وسلم أن يشيع اصطفاء المكان والزمان لكل الزمان
والمكان.
والشهور والزمان عند ال هي اثنا عشر شهرا ،وما دام قد قال } :عِندَ اللّهِ { ،فهناك " عند "
غير ال؛ وهناك " عند " الناس.
وأوضح سبحانه لخلقه :قَدّروا أزمانكم بمصالحكم ،وهذا ما يحدث في الواقع المعاش ..إنك تجد
من يزرع حسب التقويم القبطي ،حيث تكون شهور الصيف فيه ثابتة ،وكذلك شهور الشتاء
والربيع والخريف؛ لن التقويم القبطي قائم على التقويم الشمسي.
شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا
ع ّدةَ ال ّ
ولكن الحق سبحانه وتعالى يريد للقيم أزمانا مخصوصة؛ لذلك قال } :إِنّ ِ
شهْرا { وأوضح سبحانه :ل تجعلوا زمن القيم كالزمان التي تجعلونها لمصالحكم.
عَشَرَ َ
وأراد ال سبحانه أن تعم القِي َم كل الزمن ،ول تكون مقصورة على أزمان معينة ،ولذلك اختار
سبحانه أزمانا للصلة مثلً ،فصلة الصبح لها قوت ،وصلة الظهر لها وقت ،والعصر لها وقت،
والمغرب لها وقت ،والعشاء لها وقت .ولكن أوقات الصلة رغم أنها محدودة فهي تشمل الزمن
كله؛ فالصلة تقام مثلً في أسوان ،وبعد دقائق في القصر ،وبعد دقائق في القاهرة ،وبعد دقائق
في السكندرية ،ثم تتدرج إلى دول أوربا ،وهكذا .فكأنها ل تتوقف عند فترة معينة ،بل هي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مستمرة حسب اختلف الوقات في الدول المختلفة ،فصلة الفجر -على سبيل المثال -قبل
شروق الشمس .والشمس تشرق في كل دقيقة على بقعة مختلفة من الرض .فكأن الصلة دائمة
على سطح الرض .بل أكثر من ذلك نجد أننا في الوقت الذي نصلي فيه نحن الظهر ،قد يصلي
غيرنا العصر في شمال أوربا ،والمغرب في أمريكا ،والعشاء في كندا مثلً ،فكأن الصلة تقام في
كل وقت على ظهر الرض؛ ذلك لن الكون كله مُسبّح ل.
ونأتي بعد ذلك إلى اختيار ال ليوم وقفة عرفات ،ولشهر الصوم وغير ذلك من الوقات ،فشهر
رمضان يأتي مرة في الصيف ،كما يأتي في الشتاء وفي الربيع ،وفي الخريف .كذلك الحج يأتي
في فصول السنة المختلفة .وهكذا شاء عدل ال أن تكون اليام المفضلة عنده مُوزّعة على الزمن
كله .وجعل الحق سبحانه وحدة الزمن هي اليوم ،واليوم يتكون من الليل والنهار ،واليام وحدتها
الشهر ،والشهور وحدتها العام ،وجعل من مهمة الشمس أن تحدد لنا اليوم ،ومن مهمة القمر أن
يحدد لنا الشهر؛ فهو في أول الشهر هلل ،ثم تربيع أول وتربيع ثانٍ فبدْر إلى آخره .إذن فالقمر
هو الذي يحدد بداية الشهر ونهايته.
ولقد حدد الحق سبحانه شهور العام ،فقال:
شهْرا { وقال } :مِ ْنهَآ أَرْ َبعَةٌ حُرُمٌ {.
شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ َ
} إِنّ عِ ّدةَ ال ّ
ولكن لماذا لم يجعل الحق الشهر سلما؟ نقول :إن الحق في تشريعه أراد أن يسود السلم ،ولكن
الحرب أيضا قد تكون سببا لتحقيق السلم ،فليس كل إنسان أو مجتمع يسير على الجادة ،فمن
الممكن أن تخرج جماعة عن الجادة ،ولهذا ل بد من قتال تلك الجماعة ،ول بد كذلك من وقفة
للخير أمام الشر ،وما دام النسان له اختيار؛ فقد يسير في اختياره إلى ناحية السوء؛ لذلك ل بد
أن يضرب المجتمع على يد المسيء ،وإذا ما اختارت دولة قتال دولة أخرى اعتداءً ،فالحرب
ضرورة للدفاع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقت قصير .وإن رأيت معركة تطول سنوات طويلة فاعرف أنه بين باطل وباطل ،وإذا قامت
الحرب بين وباطل فإن السماء ل تتدخل ،وأما إذا قامت المعركة بين حق وباطل فإن السماء
حقّيْن أبدا؛ لن الحق في الدنيا كلها واحد ،فل
تنصر الحق على الباطل .ول تقوم معركة بين َ
يوجد حقان ،بل حق وباطل ،وإن وجد الصراع فإنه ل يطول بينهما؛ لن الباطل زهوق بطبيعته،
وإن وجدت حرب بين باطلين ،فالسماء توضح لنا أنه ل يوجد باطل منهما أولى بأن ينصره ال
على الخر؛ بل يترك سبحانه هذا الصراع لسبابهم؛ مما يطيل أمد الحرب.
وحين شرع ال الشهر الحرم ،ضمن الناس مطلوبات السلم الدائم؛ لن الناس تنهكهم الحرب
ويحبون أن يرتاحوا منها ،فإذا جاءت الشهر الحرم كانت فرصة للناس ليوقفوا الحرب ،دون أن
يشعر أحدهم بالذل والهوان والهزيمة .ونحن نلجأ إلى ذلك أحيانا ،فإذا كنا في بيت يسكنه عدد من
الناس -كما يحدث في الريف -وسُرِق شيء ثمين من هذا البيت ،والسارق من السكان ونريد
منه أن يعيده دون أن ينكشف أمره فهم يحددون مكانا معينا ،وكل واحد من سكان البيت يأتي ليلً
ويضع حفنة من التراب في هذا المكان ،لعل السارق يضع ما سرقه دون أن يعرفه أحد ،وفي هذا
ستر له فل ينفضح أمام الناس.
والشهر الحرم فرصة للسلم دون أن ينفضح أحد من الطراف المتحاربة أمام الناس بأنه
ضعيف أو غير قادر على الستمرار في الحرب ،وتتوقف خللها الحرب وقد ستر ال كل
أطرافها ،وتقوى خللها فرص أكبر للسلم والصلح ،وبذلك تكون فرص السلم أكبر من فرص
الحرب بكثير.
ولكن ماذا يحدث عندما يعتدي عصاة غير مطيعين ل على المؤمنين في الشهر الحرم التي حرم
ال القتال فيها؟ إن الحق سبحانه ل يعني بتشريعاته أبدا أن تكون مصدر إذلل للمؤمنين وإعزاز
للكافرين؛ ولذلك ينبهنا إلى أننا يجب أل نسمح لعداء ال بأن يستغلوا حرمة الشهر الحرم
ليتمادوا في العدوان على المؤمنين ،فأباح للمؤمنين القتال في هذه الشهر إذا قاتلهم الكفار فيها،
شهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ُقلْ قِتَالٌ فِيهِ
وكذلك في الماكن المحرّم فيها القتال ،فقال {:يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
كَبِيرٌ[} ...البقرة.]217 :
وهكذا أباح ال القتال في الشهر الحرام ليدافع المؤمنون فيه عن أنفسهم إذا بدأهم الكفار بالقتال،
وأباح الحق سبحانه أيضا القتال في المسجد الحرام إذا قام الكفار بقتال المؤمنين فيه ،رغم أننا
نعلم أن تحريم القتال في المسجد الحرام هو تحريم دائم ،ولكن الحق سبحانه وضع استثناء فقال{:
سجِدِ ا ْلحَرَامِ حَتّىا ُيقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُو ُهمْ كَذَِلكَ جَزَآءُ ا ْلكَافِرِينَ }
وَلَ ُتقَاتِلُوهُمْ عِ ْندَ ا ْلمَ ْ
[البقرة.]191 :
وهكذا جاء التقنين اللهي ليحمي المؤمنين من طغيان الكافرين ،فالمؤمنون يلتزمون بعدم القتال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الشهر الحرم كما أمر ال؛ بشرط التزام الطرف الخر الذي يقاتلهم ،فإن لم يلتزم الكفار بهذا
التحريم ،فسبحانه ل يترك المؤمنين للهزيمة ،وهكذا شاء الحق أن يضع التشريعات المناسبة لهذا
الموقف .فإن احترمها الطرفان كان بها ،أما إن خالفها الكفار فقد سمح ال للمؤمنين بالقتال.
وهنا يقول سبحانه:
شهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ { والكتاب يطلق على الشيء المكتوب
شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ َ
} إِنّ عِ ّدةَ ال ّ
المدوّن ،ول يُدوّن الكلم إل إذا كانت له أهمية ما ،أما الحاديث التي تتم بين الناس فهم ل
يكتبونها ول تُدوّن .بينما الكلم المهم وحده هو الذي يُكتب حتى يكون حجة في الستشهاد به في
حالة وجود خلف.
ولكن أين } كِتَابِ اللّهِ { الذي كُ ِتبَ فيه هذا؟
إنه اللوح المحفوظ عند ال ،والمهيمن على كل الكتب التي نزلت في مواكب الرسل ،ويقصد
بالكتاب -أيضا -القرآن الكريم الذي نزلت فيه هذه الية ،وقد جاء القرآن جامعا لمنهج ال بدءا
بآدم عليه السلم إلى أن تقوم الساعة .وتغير في القرآن كثير من الحكام الموجودة في الرسالت
السابقة ،أما العقائد فهي واحدة .كما أن القرآن قد تضمن الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة
س وَالْحَجّ} ...
ن الَهِلّةِ ُقلْ ِهيَ َموَاقِيتُ لِلنّا ِ
وقت نزوله ،والمثال هو قوله الحق {:يَسْأَلُو َنكَ عَ ِ
[البقرة.]189 :
س ضِيَآ ًء وَا ْل َقمَرَ نُورا َوقَدّ َرهُ مَنَا ِزلَ لِ َتعَْلمُواْ عَ َددَ
شمْ َ
ج َعلَ ال ّ
وأيضا يقول الحق سبحانهُ {:هوَ الّذِي َ
ن وَا ْلحِسَابَ[} ...يونس.]5 :
السّنِي َ
فكأنه ربط السنين والحساب بالقمر ،وهذا الحساب هو من ضمن إعجازات الداء البياني في
القرآن؛ لن العالم قد بحث عن أدق حساب للزمن ،فلم يجد أدق من حساب القمر ،وكل الحياء
المائية تعتمد في حسابها على الحساب القمري ،وال سبحانه يريد منا حين نقرأ كتابا أن نتمعن في
وضع اللفاظ في موضعها.
فيقول سبحانه:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ { وبعد ذلك
شهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ َيوْمَ خَلَقَ ال ّ
شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ َ
} إِنّ عِ ّدةَ ال ّ
يأتي باستثناء هو } :مِ ْنهَآ { أي من الثني عشر شهرا } أَرْ َب َعةٌ حُ ُرمٌ ذاِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ فَلَ َتظِْلمُواْ
سكُمْ { ،ولقائل أن يقول :لماذا لم يقل ال " :فيها " بدلً من } فِيهِنّ { ما دام قد قال من
فِيهِنّ أَ ْنفُ َ
قبل } :مِ ْنهَآ أَرْ َبعَةٌ حُرُمٌ {؟
ونقول :إن الحق ينهى عن الظلم العام في كل الشهور ،وإن كان المقصود الشهر الحرم الربعة،
فالمقصود النهي عن ظلم الحرب .وهنا قاعدة لغوية يجب أن نلتفت إليها؛ وعندنا في اللغة جمع
قلة وجمع كثرة؛ جمع القلة من ثلثة إلى عشرة ،ويختلط المر على بعض الناس في مسألة جمع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القلة وجمع الكثرة ،وجمع التكسير وجمع الصحيح .فجمع القلة وجمع الكثرة ،غير جمع التكسير،
والجمع الصحيح؛ لن التكسير هو أن تكسير بنية الكلمة ،فمثلً بيت جمعها بيوت ،ورسول جمعها
رسل؛ هنا كس ْرتَ بنية الكلمة أي :غيّرتها.
أما إن قلت " :مسلم " فجمعها " مسلمون " ،وهنا تضيف " واوا ونونا " ،ولكن كلمة " مسلم "
صحيحة ،أي أننا لم نكسر المفرد .ولكن إن قلت " :سفينة " وجمعها " سفن " تكون قد كسرت
المفرد.
شهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ { فما دام العدد هو اثنا
شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ َ
ع ّدةَ ال ّ
وقول الحق هنا } :إِنّ ِ
عشر شهرا تكون قد زادت عن جمع القلة؛ لن جمع القلة من ثلثة إلى عشرة ،وجمع القلة
يعاملونه معاملة الجماعة .وإن زاد على عشرة يعاملونه معاملة المفرد المؤنث ،مثل وضع
سكُمْ { وجاء هنا بـ "
الشهور الربعة المحرمة في كتاب ال ،ولذلك قال } :فَلَ تَظِْلمُواْ فِيهِنّ أَ ْنفُ َ
نون النسوة " للجمع .والقاعدة -كما قلنا -إن جمع القلة يعامل معاملة الجماعة ،فإن كان جمع
كثرة عومل معاملة المفرد المؤنث؛ لن الفرد يكون معصوما بالجماعة ،أي أنه بمفرده ضعيف.
فإن وجد جماعة ينتمي إليها فهو يُحِسّ بالقوة.
إذن :فالفرد يعصم بالجماعة ،وبهذا تعامل الحماعة كلها كهيئة واحدة ،وهناك شاعر يستهزىء
جمْعٍ مُؤنّثٍإذن :فكل جمع يكون مؤنثا،
جمْـ ـ ُعهُنّ ُكلّ َ
بقوة جماعة ما ،فيقول:لَ أُبَالِي بِج ْم ِعهِنّ َف َ
سكُمْ { .وأكرر :إن أردت
وهذا ما ينطبق على قوله سبحانه وتعالى هنا } :فَلَ َتظِْلمُواْ فِيهِنّ أَ ْنفُ َ
الظلم العام فإن ال قد حرم الظلم في كل شهور السنة؛ سواء ظلمك لنفسك أم ظلمك للناس ،وإن
سكُمْ { قد
أردتَ من معنى الكلم تحريم الحرب في الشهر الحرم تكون } :فَلَ تَظِْلمُواْ فِيهِنّ أَ ْنفُ َ
أتت بالمؤنث.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحج هو الصيف دائما ،فسوف يؤديه الذين يعيشون في المناطق الحارة بسهولة ،بينما يؤديه من
يحيا في المناطق الباردة بصعوبة ،ولتمام عدل ال بين خلقه نجده سبحانه قد أدار الشهر القمرية
في السنة الميلدية ،فل يأتي الحج أبدا في طقس واحد ،وبذلك تستوي كل البيئات وكل الناس في
أحكام ال.
وأيضا صوم رمضان لو كان يأتي في الصيف دائما ،لوجدنا بعض الناس سيصومون ثماني أو
تسع ساعات ،والذين يعيشون قرب القطب الشمالي يصومون عشرين ساعة في اليوم ،ولكن
مجيء رمضان في فصول السنة كلها يجعل أولئك الذين يعيشون قرب القطب الشمالي يصومون
مرة تسع عشرة ساعة مثلً ،ومرة ساعتين أو ثلثا ،وهذه تعوض تلك ،فيتم العدل ،وإذا أخذنا
متوسط ساعات الصيام بالنسبة لهؤلء الناس على مدار السنة ،نجد أن فترات صومهم فترة تسع
عشرة ساعة وفترات ثلث ساعات ،وبذلك يتساوون في المتوسط مع أولئك الذين يصومون ثماني
أو تسع ساعات يوميا.
ونجد بالحساب أن تقويم الهلل ينقص عن تقويم الشمس بمقدار أحد عشر يوما وثلث يوم كل
عام ،ويكون الفرق عاما كاملً كل ثلث وثلثين سنة وثلث العام ،أي أن رمضان يأتي مرة في
يناير ومرة في فبراير ومرة في مارس ،وكذلك الحج ،وبذلك تتكافأ الفرص بين المؤمنين جميعا،
فالذين يصومون في الصيف المعروف بيومه الطويل ،يصومون في الشتاء ويومه قصير .والذين
يعانون من الصوم في حرارة الجو ،يصومون أيضا في برد الشتاء ،وهكذا يدور رمضان والحج
في شهور العام كله ،وبذلك يتم عدل ال على الجميع بالتشريع الحق ،ويدور التكليف مشقة ويُسْرا
وصعوبة وسهولة على جميع المؤمنين.
وإذا نظرنا إلى ربط اليوم بالشمس نجد أن الحق سبحانه وتعالى الذي ربط أوقات الصلة
بالشمس ،كفل لها الدوام التكليفي ،لماذا؟
لن القمر نراه أياما ،ولكننا ل نراه في أيام المحاق ،فلو ربطنا الصلة بالقمر لضاع منا الدوام،
مضافا إلى ذلك أن القمر يظهر لنا في أوقات غير متساوية؛ فعندما يكون هللً ل يظهر للعين في
الفق معدودة ،ولكن الشمس تشرق كل يوم في وقت محدد ،وتغيب كل يوم في وقت محدد ،وهي
بضوئها ظاهرة للناس كل الناس من الشروق إلى الغروب ،فل يجدون مشقة في رؤيتها .ولذلك
فربْطُ الصلة بالشمس فيه ُيسْر التكليف ودوامه ،وكما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم" :
الصلة عماد الدين ،من أقامها أقام الدين " وهي الركن الوحيد من أركان السلم الذي ل يسقط
أبدا؛ لن الفقير تسقط عنه الزكاة ،والمريض يسقط عنه الصوم ،وغير المستطيع يسقط عنه الحج،
وشهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا رسول ال يكفي أن تقال مرة واحدة في العمر ،ولكن إقامة
الصلة ل تسقط أبدا .إذن فهي عماد الدين ،ولذلك تتكرر خمس مرات يوميا لكل أهل الرض،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالصبح في دولة قد يكون ظهرا في دولة ثانية ،وعصرا في دولة ثالثة ومغربا في دولة رابعة
وعشاء في دولة خامسة؛ وذلك بسبب فروق التوقيت بين دول العالم ،وهكذا تكون في كل لحظة
من الزمن جميع أوقات الصلة قائمة على الرض ،فيظل ال سبحانه وتعالى معبودا بالصلة في
كل الزمن في كل بقاع الرض .وهكذا يرتفع الذان :ال أكبر أشهد أن ل إله إل ال .أشهد أن
محمدا رسول ال في كل لحظة على الرض.
قد نجد رجلً أميا ل يعرف القراءة أو الكتابة ،لكن له إشراقات نورانية ،أفاض ال عليه يقول :يا
زمن وفيك كل الزمن ،أي يا فجر وفيك كل أوقات الصلة على سطح الرض .ولذلك فظاهر
المر أن الصلوات خمس ،والحقيقة أن الصلة دائمة على وجه الرض في كل ثانية ،ول يوجد
جزء من الزمن إل وال معبود فيه بعبادات كل الزمن ،أي أنه في كل لحظة تمر نجد ال معبودا
بالصلوات الخمس على ظهر الرض .وهذا سبب ربط الصلة بالشمس.
وإذا عرفنا هذه الحقيقة ،وعلمنا أن الكون كله يصلي ل في كل لحظة من الزمن ،فإننا نعلم أن
القرآن يتسع لشياء كثيرة ،وأن كل جيل يأخذ من القرآن على قدر عقله ،فإذا ارتقى العقل أعطى
القرآن عطاءً جديدا .وهذا ما يؤكد أن آيات القرآن يتسع إدراكها في الذهن كلما مر الزمن ،فنتنبه
إلى معان جديدة لم نكن ندركها.
وعندما يأتي المستشرقون ليقولوا :إن في القرآن تناقضا في الكونيات.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشمس مرتبطة بعلمة يومية ظاهرة وهي النهار ،واختفاؤها عنك مرتبط بعلمة يومية ظاهرة
وهي الليل .ولكن القمر غير مرتبط بعلمة يومية ،صحيح أن القمر موجود دائما ،ولكن النسان
ل يستطيع أن يدركه أو يراه إل في أوقات محددة.
بعض الناس يقول :إذا كان المقصود بهذه الية -التي نحن بصدد خواطرنا عنها -هو بيان
الشهر الربعة الحرم ،فما فائدة باقي أشهر السنة؟
ونقول :إنك لن تستطيع أن تحدد الشهر الحرم إل من خلل بيان وتوضيح أمر السنة ومعرفة
عدد أشهرها ،وهذا أمر ضروري أيضا حتى تستطيع أن تحدد الشهر الربعة الحرم في العام.
وإل كيف يمكن أن نميز هذه الشهر وزمنها؟ ل بد لنا إذن من أن نعلم أن هناك عاما ،وأن العام
فيه اثنا عشر شهرا لنستطيع أن نحدد الشهر الحرم .والشهر الحرم منها ثلثة متتابعة وشهر
فرد ،والشهر المتتابعة هي :ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ،وشهر رجب هو الشهر الفرد.
وتحديد الحق لهذه الشهر الربعة يعني أنها تتميز بخصوصيات؛ لن الحق سبحانه وتعالى لو
أراد أن تكون هذه الشهور في أي وقت من السنة لتركها لنا لنحددها بمعرفتنا فنختار أي أربعة
أشهر على هوانا ،لنمتنع فيها عن القتال ،ولكن كون ال تبارك وتعالى حددها فذلك لخصوصيات
فيها .جاء البعض وقال :ما دام سبحانه وتعالى قد جعل الشهور اثني عشر شهرا وجعل منها
أربعة حرما ،ونحن نريد أن نحارب في شهر المحرم فلنفعل ذلك ونمتنع عن القتال في شهر آخر
غيره ،وبذلك نكون قد حافظنا على عدد الشهر الحرم وهي أربعة كما حددها ال.
ونقول :إنكم حافظتم على العدد ولم تحافظوا على المعدود .ولو أن رسول ال صلى ال عليه
وسلم لم يبين الربعة الشهر المقصودة بالية الكريمة من الثني عشر شهرا ،لصبح من حق كل
جماعة أن تختار ما تريده من أشهر السنة ،ولكنه صلى ال عليه وسلم خصصها؛ لننا علمنا بذلك
كيف نحافظ على الفرق بين العدد والمعدود.
إن مسألة العدد والمعدود حَّلتْ لنا إشكالت كثيرة ،منها إشكالت أثارها المستشرقون الذين
يريدون أن يسيئوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقالوا :إن الزواج كان مطلقا عند العرب،
ثم حدد ال سبحانه وتعالى عدد الزوجات بأربع ،وأمر النبي عليه الصلة والسلم الذين كانوا قد
تزوجوا بأكثر من أربع زوجات أن يمسك الواحد منهم أربعا ويفارق الباقيات ،وأضاف
المستشرقون تساؤلً :إذا كان الرسول قد شرع للناس ،فلماذا لم يطبق هذا المر على نفسه ،ولماذا
اتخذ تسع زوجات؟
ونقول :إننا إذا قمنا بعملية حسابية منصفة ،لوجدنا أنه ليست توسعة لرسول ال صلى ال عليه
وسلم وإنما هي تضييق عليه ،فأنت حين تأخذها من ناحية العدد فقط تقول :إن رسول ال صلى
ال عليه وسلم أخذ تسع زوجات وأمته أخذت أربعا ،ولكنك لم تلحظ مع العدد المعدود ،أي أنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذا ماتت زوجاتك الربع أحلت لك أربع أخريات ،وإن ماتت واحدة أحلت لك أخرى ،إذن فأنت -
ت واحدة أو اثنتين حلّت لك زوجة أو زوجتان
كمسلم -عندك عدد ل معدود ،بحيث إذا طّلقْ َ
أخريان ،فأنت مُقيّد بالعدد ،ولكن المعدود أنت حُرّ فيه .أما رسول ال صلى ال عليه وسلم فقد
عجَ َبكَ
ج وََلوْ أَ ْ
حلّ َلكَ النّسَآءُ مِن َب ْع ُد َولَ أَن تَ َب ّدلَ ِبهِنّ مِنْ أَ ْزوَا ٍ
نزلت هذه الية الكريمة {:لّ يَ ِ
حسْ ُنهُنّ[} ...الحزاب.]52 :
ُ
وهكذا نجد أن التشريع ضَيّق على رسول ال صلى ال عليه وسلم في المعدود .وكان استثناؤه
عليه الصلة والسلم في العدد للتشريع ،فقد كان الرسول صلى ال عليه وسلم يتزوج بإرادة
التشريع التي يشاؤها ال.
شهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ
وسبحانه يقول في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :إِنّ عِ ّدةَ ال ّ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ { وعرفنا أن قوله سبحانه } :فِي كِتَابِ اللّهِ
شهْرا فِي كِتَابِ اللّهِ َيوْمَ خََلقَ ال ّ
َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ { معناه :أنها
{ معناها اللوح المحفوظ أو القرآن ،وقوله تعالىَ } :يوْمَ خَلَقَ ال ّ
مسألة لم تطرأ على الكون ،ولكنها محسوبة من قبل أن يُخلقَ النسان .فهي إذن مسألة من النظام
الكوني الذي خُلق عليه الكون .وهو سبحانه قد خلق الكون بدقة وإحكام ،فكأن الحق يريد أن يلفتنا
إلى أن من مهام الشمس والقمر أن يكونا حسابا للزمن؛ لليوم والشهر والعام ،ولذلك يقول
س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ }[الرحمن.]5 :
شمْ ُ
سبحانه {:ال ّ
شمْسَ وَالْ َقمَرَ
سكَنا وَال ّ
ج َعلَ الْلّ ْيلَ َ
ح وَ َ
لصْبَا ِ
قاِ
أي :أنهما خُِلقَا بحساب دقيق ،ويقول سبحانه {:فَالِ ُ
حسْبَانا }[النعام.]96 :
ُ
أي :أنه سبحانه يطالبنا بأن نستخدم الشمس والقمر حسابا لنا .وهذا يتفق مع منطق المور،
فالشيء الذي تريد أن تتخذه حسابا لنا.
وهذا يتفق مع منطق المور ،فالشيء الذي تريد أن تتخذه حسبا لك ،ل بد أن يكون مصنوعا
بحساب دقيق .ولذلك فإن الساعة مثلً إن لم تكن مصنوعة بدقة فإنها ل تصلح قياسا للوقت؛ لنها
تقدم أو تؤخر .ولكن إن كانت مصنوعة بحساب دقيق فهي تعطيك الزمن الدقيق .إذن :فدقة قياس
الزمن تعتمد أساسا على دقة صناعة آلت القياس.
وقبل أن يُن ِزلَ الحق هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،كان العرب يعترفون بالشهر
الربعة الحرم ،ولكنهم كانوا يغيّرون في مواعيدها ،فكانت الجماعة منهم تقاتل الخرى ،فإذا ما
أحسوا بقرب انتصارهم وجاءت الشهر الحرم قالوا :نستبدل شهرا بشهر ،أي نقاتل في الشهر
الحرام ،ثم نأخذ شهرا آخر نمتنع عن القتال فيه ،وحسبوا أنهم ما داموا قد حافظوا على العدد
يكونون بذلك قد أدوا مطلوبات ال ،ولكنهم نسوا أنهم لم يحافظوا على المعدود ،ونسوا أن الدين
مجموعة من القيم التي ل بد أن نؤمن بها ونطبقها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واليمان -كما نعلم -هو انقياد وتسليم ل سبحانه وتعالى ،فإذا أمر ال بأمر من المور فل
اختيار لنا فيه؛ لنه سبحانه وتعالى يرى بحكمته وعلمه هدفا أو أهدافا أو حكمة ،وهنا يجب أن
يقف الختيار البشري ،بمعنى أنه ل أحد يملك تعديل مرادات ال بأي شكل من الشكال؛ لننا في
حياتنا اليومية حين نرى واحدا من البشر قد اشتهر بحكمته وعلمه في أمر من المور أكثر منا،
نقول له :وكّلْناكَ في هذا المر ،وسنسير وراءك فيما تقرره .ومعنى هذا أننا سنسلم اختيارنا
لختيارات هذا الحكيم.
إننا ل نعطي أحدا هذه الصلحية إل إذا تأكدنا بالتجربة أنه عليم بهذه المسألة ،وأنه حكيم في
تصرفه.
وإن سألك أحد من الناس :لماذا تتصرف في ضوء ما يقوله لك فلن؟ فتقول :إنه حكيم وخبير في
هذه المسائل ،وهذا دليل منك على أنك واثق في علمه ،وواثق في صدقه ،وواثق في حكمته.
والمثال الحي المتجدد أمامنا هو سيدنا أبو بكر رضي ال عنه عندما قيل له :إن رسول ال صلى
ال عليه وسلم أعلن أنه نبي ال ،قال أبو بكر رضي ال عنه :إن كان قد قال فقد صدق .قال أبو
بكر رضي ال عنه هذا القول؛ لنه عرف ولمس أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم يكذب قط
في كل الحداث السابقة ،فإذا كان عليه الصلة والسلم ل يكذب على أهل الرض أيكذب على
السماء؟ طبعا هذا غير معقول.
وأنت ل تسلم زمام أمرك للمساوي لك إذا كانت هناك مقدمات أثبتت أنه أعلى منك في ناحية
معينة ،صحيح أنه مساويك في الفردية وفي الذاتية ،ولكنه أعلى منك علما في المجال الذي يتفوق
فيه.
فما يقوله تنفذه بل نقاش لنك وثقت في علمه .وأنت إذا مرضت -ل قدر ال -وكان هناك
طبيب تثق في علمه وقال لك :خذ هذا الدواء؛ أتناقشه أو تجادله؟ طبعا ل ،بل تفعل ما يأمرك به
بل نقاش.
فإذا سألك أحدهم :لماذا تتناول هذا الدواء؟ تقول :لقد كتبه لي الطبيب الذي أثق فيه .وهذا يكفي
كحيثية للتنفيذ.
فإذا جئنا إلى ال سبحانه الذي أعدّ لنا هذا الكون وأنزل إلينا منهجا وطالبنا أن نُسلِمَ له وجوهنا،
وأن نفعل ما يأمرنا به في كل أمور الحياة ،فإن احتجنا إلى حكمة فهو الحكيم وحده ،وإن احتجنا
إلى قدرة فهو القادر دائما ،وإذا احتجنا إلى قهر فهو القاهر فوق عباده ،وإن احتجنا إلى رزق فهو
الرازق ،وعنده كنوز السماوات والرض .أيوجد من هو أحق من الحق سبحانه لُنسْلمَ زمامنا له
ونفعل ما يأمرنا به؟ طبعا ل يوجد ،وإذا سألنا أحد :لماذا نتبع هذا المنهج؟ نقول :إنه سبحانه قد
أمرنا باتباعه .وهذا هو السلم الحقيقي؛ أن تسلم اختيارك في الحياة لمرادات الخالق العلى،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالدين معناه اللتزام والنقياد ل ،ولذلك يقول سبحانه } :ذاِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّمُ { أي قَيّم على كل أمور
حياتنا ،والدليل على ذلك قائم فيما تحدثنا عنه ،فما دام ال سبحانه وتعالى قد قال ،فنحن نفعل.
إذن :فالدين قَيّم علينا .والدين قَيّم أيضا على غيره من الرسالت السماوية ،أي ُمهَ ْيمِنٌ عليها ،وفي
هذا يقول الحق {:وَأَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ يَدَ ْيهِ مِنَ ا ْلكِتَابِ َومُهَ ْيمِنا عَلَيْهِ} ...
[المائدة.]48 :
حددت الية -التي نحن بصدد خواطرنا عنه -أشهرا حُرما يحرم فيها القتال وحذرت من الظلم
بالحرب أو غيرها ،وقد يقال :إن معنى هذا أن تضعف حمية الحرب عند من يريد الحرب ضد
الباطل ،فنرى الباطل أمامنا خلل الشهر الحرم ول نحارب.
نقول :إن هذا غير صحيح ،ففترة السلم هذه تكون شَحْذا لِهمَمِ المقاتلين ضد الكفر والظلم؛ لنك
قد ترى الباطل أمامك لكنك تمتثل لمر ال في وقف القتال ،فإن ذلك يزيد النفعال الذي يحدثه
الباطل في تحديه للنفس المؤمنة ،فإذا انتهت الشهر الحرم كنت أكثر حماسة .تماما كالنسان
الحليم الذي يرى إنسانا يضايقه باستمرار فيصبر عليه شهرا واثنين وثلثة ،فإذا نفذ صبره كان
غضبه قويا شديدا ،وقتاله شرسا ،ولذلك قيل " :اتقوا غضب الحليم "؛ لن غضبه أقوى من غضب
أي إنسان آخر .وكذلك يكون حِلْم المؤمن على الكافر في الشهر الحرم؛ شحذا لهمته إذا استمر
الباطل في التحدي ،وفي هذا تحذير للمسلمين من أن تضعف في نفوسهم فكرة القتال وعزيمتهم
فيه ،ولذلك يقول الحق سبحانه:
} َوقَاتِلُواْ ا ْلمُشْ ِركِينَ كَآفّةً َكمَا ُيقَاتِلُو َنكُمْ كَآفّةً {
وكلمة } كَآفّةً { هنا سبقها أمرانَ } :وقَاتِلُواْ { فإلي أي طرف ترجع } كَآفّةً { هنا؟ هل تُرجعها إلى
المؤمنين المقاتلين ،أم إلى المقاتلين من الكفار؟ وهذا إثراء في الداء القرآني في إيجاد اللفظ الذي
يمكن أن نضعه هنا ونضعه هناك فيعطيك المعنى.
ولكن هل يريدنا الحق أن نقاتل المشركين حالة كوننا -نحن المؤمنين -كافة؟ أم نقاتل المشركين
حالة كونهم كافة؟ .إن } كَآفّةً { كما نعرف لفظ ل يُجمَعُ ول يُثنّى ،فالرجل كافة ،والرجلن كافة،
والقوم كافة ،وهي مأخوذة من الكف .وتطلق أيضا على حافة الشيء لنها منعت امتداده إلى حيز
غيره .وفي لغة من يقومون بحياكة الملبس يقال " :كافة الثوب " حين يكون الثوب حين يكون
الثوب قد تنسل ،فيقول الحائك بمنع التنسيل بتكفيف الثوب.
والحق سبحانه هنا يقولَ } :وقَاتِلُواْ ا ْلمُشْ ِركِينَ كَآفّةً { أي :ياأيها المؤمنون كونوا جميعا في قتال
المشركين .وهي تصلح للفرد ،أي :للمقاتل الواحد ،وللمقاتليْن ،ولجماعة المقاتلين.
وقولهَ } :وقَاتِلُواْ ا ْلمُشْ ِركِينَ كَآفّةً َكمَا ُيقَاتِلُو َنكُمْ كَآفّةً { ذلك أن الباطل يتجمع مع الباطل دائما،
والمثال الواضح في السيرة أن يهود المدينة تحالفوا مع الكفار ضد المسلمين ،فكما أن الباطل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يجتمع مع بعضه البعض فاجمعوا أنتم أيها المؤمنون وأصحاب الحق قوتكم لتواجهوا باطل الكفر
والشرك.
ويقول المام علي كرم ال وجهه " :أعجب كل العجب من تضافر الناس على باطلهم وفشلكم عن
حقكم " ويتعجب المام علي رضي ال عنه من أن أهل الحق يفرطون في حقهم رغم اجتماع أهل
الباطل على باطلهم .ويعطينا القرآن صورة من تجمّع أهل الباطل في قول اليهود لكفار مكة{:
هَاؤُلءِ أَهْدَىا مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلً[} ...النساء.]51 :
أي أن اليهود قالوا :إن عبدة الصنام أهدى من رسول ال صلى ال عليه وسلم وأتباعه ،قالوا ذلك
رغم أن كتبهم قد ذكرت لهم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم سيأتي بالدين الخاتم حتى إنهم
كانوا يقولون لهل المدينة من المشركين :لقد أطل زمان نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
كذلك في كتب أهل الكتاب نبأ رسول ال وأوصافه وزمانه .وعندما تحقق ما في كتبهم كفروا به
واجتمعوا مع أهل الباطل.
وهنا يوضح لنا الحق :ما دام الباطل قد اجتمع عليكم وأنتم على الحق فل بد أن تجتمعوا على
دحض الباطل وإزهاقه؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى } :وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ { إذن :فال
يأمر المؤمنين بأن يجتمعوا على قتال الكافرين ،ولن ال مع الذين آمنوا؛ لذلك فهو ينصر
المؤمنين ،وإذا وُجدَ ال مع قوم ولم يوجد مع آخرين ،فأيّ الكفتين أرجح؟ ل بد من رجحان كفة
المؤمنين } .وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ َمعَ ا ْلمُ ّتقِينَ {
والعلم -كما قلنا -حكم يقين عليه دليل ،أي ل يحتاج إلى دليل؛ لن العلم هو أن تأتي بقضية
غير معلومة ،م تقيم الدليل عليها لتصبح يقينا.
وإذا قال ال سبحانه وتعالى } :وَاعَْلمُواْ { فالعلم هنا ينتقل من علم يقين إلى عين يقين .والعلم -
كما نعرف -قضية معلومة في النفس يؤيدها الواقع وتستطيع أن تقيم عليها الدليل .فإذا علمت
بشيء أخبرت به ،ويقينك بما علمت يكون على قدر ثقتك بمن أخبرك.
والمثال :حين قيل لبي بكر رضي ال عنه :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إنه ُأسْ ِريَ
به من المسجد الحرام إلى المسجد القصى وعُرِجَ به إلى السماء السابعة ،هنا قال الصدّيق :إن
كان قد قال فقد صدق " ،وكانت هذه هي ثقته في القائل ،وهو يستمد منها الثقة فيما قال وروي.
وحينما أخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم سيدتنا خديجة رضي ال عنها بخبر الوحي وأبدى
سبُ
صلُ الرحم ،وتحمل ال َكلّ ،و َتكْ ِ
خوفه مما يرى ،قالت " :كل وال ما يخزيك ال أبدا ،إنك لت ِ
المعدوم ،وتقري الضيف ،وتعين على نوائب الحق " ،وهي بذلك قد أخذت من المقدمات حيثيات
الحكم وكانت أول مجتهدة في السلم عملت بالقياس .فقد قاست الحاضر بالماضي.
وعندما يقول الحق } :وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُتّقِينَ { فيكفينا أن يكون هذا كلم ال سبحانه ليكون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقينا في نفوسنا ،وهناك علم يقين يأتيك ممن تثق في علمه وصدقه ،وأنت إن رأيت الشيء الذي
أخبرت به وشاهدته يصبح عين يقين ،فإذا اختبرته وعِشْت فيه يصبح حقّ يقين.
وحين قال الحق } :وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُتّقِينَ { وجدنا بعض المؤمنين قد أخذوها على أنها علم
عين يقين ،أو حق يقين؛ لنهم شاهدوا ذلك في المعارك حين كانوا قلة ،فمن أخذ كلم ال دون
مناقشة عقلية -لن ال هو القائل -أخذه علم يقين .والذي أخذ الكلم على أنه يصل إلى درجة
المشاهدة أخذه على أنه حق يقين ،والذي أخذ الكلم كأنه عايشه فهذا عين يقين ،ولكي نعرف هذه
س ْوفَ
المنازل نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى {:أَ ْلهَاكُمُ ال ّتكّاثُرُ * حَتّىا زُرْ ُتمُ ا ْل َمقَابِرَ * كَلّ َ
س ْوفَ َتعَْلمُونَ * كَلّ َلوْ َتعَْلمُونَ عِلْمَ الْ َيقِينِ }[التكاثر.]5-1 :
َتعَْلمُونَ * ُثمّ كَلّ َ
جحِيمَ * ثُمّ
وهذه أولى الدرجات :علم يقين؛ لنه صادر عن الحق سبحانه وتعالى {:لَتَ َروُنّ الْ َ
لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ }[التكاثر.]7-6 :
أي :أنكم في الخرة سوف ترونها بأعينكم بعد أن كنتم مؤمنين بها كعلم يقين ،أما الن فقد
أصبحت عين يقين أي مشاهدة بالعين .وفي هذه السورة أعطانا الحق مرحلتين من مراحل اليقين
هما :علم اليقين وعين اليقين ،ففي الخرة سوف يُضرب الصراط على جهنم ،ويرى الناس -كل
الناس ،المؤمن منهم والكافر -نار جهنم ،وهم يمرون فوق الصراط ،ويرونها مشتعلة متأججة،
وحين يمر المؤمن فوق الصراط ويرى جهنم وهولها ،يعرف كيف نجاه اليمان من هذا العذاب
الرهيب فيفرح؛ فإذا دخل الجنة ورأى نعيمها يزداد فرحة؛ فله فرحة بأنه نجا من العذاب ،وفرحة
بالنعم وبالمنعم ،ويقول المؤمن :الحمد ل الذي أنقذني من النار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي سورة التكاثر جاء ال سبحانه وتعالى بمرحلتين فقط من مراحل اليقين ،وجاء بالمرحلة
ن وَجَ ّنتُ َنعِيمٍ * وََأمّآ
الثالثة في سورة الواقعة ،فقال {:فََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمقَرّبِينَ * فَ َروْحٌ وَرَيْحَا ٌ
صحَابِ الْ َيمِينِ * وََأمّآ إِن كَانَ مِنَ ا ْل ُمكَذّبِينَ الضّآلّينَ
إِن كَانَ مِنْ َأصْحَابِ الْ َيمِينِ * َفسَلَمٌ ّلكَ مِنْ َأ ْ
جحِيمٍ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ حَقّ الْ َيقِينِ }[الواقعة.]95-88 :
حمِيمٍ * وَ َتصْلِيَةُ َ
* فَنُ ُزلٌ مّنْ َ
وحقّ اليقين هو آخر مراحل العلم ،والنسان قد يكابر في حقيقة ما حين يقرؤها ،وقد يجادل في
حقيقة يشاهدها ،ولكنه ل يستطيع أن يكابر في واقع يعيشه ،وقد حدث ذلك وحملته لنا سطور
الكتب عن سيدنا عمر وقد قال عن أحد المعارك " :وحينما شهرت سيفي لقصف رأس فلن؛
وجدت شيئا سبقني إليه وقصف رأسه " أي :هناك من شاهد ذلك بنفسه.
وبعد ذلك يعطي ال الحكم فيمن يُغيّر الشهر الحرم أو يُبدلها فيقدمها شهرا ،أو يؤخرها شهرا،
ضلّ ِبهِ الّذِينَ َكفَرُواْ يُحِلّونَهُ عَاما وَ ُيحَ ّرمُونَهُ عَاما{ ...
فيقول } :إِ ّنمَا النّسِيءُ زِيَا َدةٌ فِي ا ْل ُكفْرِ ُي َ
()1258 /
ع ّدةَ مَا
ضلّ بِهِ الّذِينَ َكفَرُوا ُيحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَ ّرمُونَهُ عَامًا لِ ُيوَاطِئُوا ِ
إِ ّنمَا النّسِيءُ زِيَا َدةٌ فِي ا ْل ُكفْرِ ُي َ
عمَاِلهِ ْم وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ ()37
حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ َلهُمْ سُوءُ أَ ْ
والنسيء هو التأخير ،فكأنهم إذا ما دخلوا في قتال وجاء شهر حرام قالوا :ننقله إلى شهر قادم،
واستمروا في قتالهم؛ وهم بذلك قد أحلّوا الشهر الذي كان محرما وجعلوا الشهر الذي لم تكن له
حرمة؛ شهرا حراما ،وهنا يوضح الحق سبحانه أن هذا العمل زيادة في الكفر؛ لنه أدخل في
المحلل ما ليس منه ،وأدخل في المحرم ما ليس منه؛ لن الكفر هو عدم اليمان فإذا بدّ ْلتَ وغيّ ْرتَ
في منهج اليمان ،فهذا زيادة في الكفر.
ضلّ } هنا مبنية
ضلّ بِهِ الّذِينَ َكفَرُواْ ُيحِلّونَهُ عَاما وَيُحَ ّرمُونَهُ عَاما } و { ُي َ
ثم يقول سبحانهُ { :ي َ
للمجهول؛ ومعنى ذلك أن هناك من يقوم بإضلل الذين كفروا ،وهذه مهمة الشيطان؛ لن هناك
فرقا بين الضلل والضلل ،فالضلل في الذات والنفس ،أما الضلل فيتعدى إلى الغير ،فهناك
ضال ل يكتفي بضلل نفسه ،بل يأتي لغيره ويضله ويغويه على المعصية بأن يزينها له .ولذلك
هناك جزاء على الضلل ،وجزاء أشد على الضلل ،فإذا كان هناك إنسان ضال فهو في نفسه
غير مؤمن ،أي أن ضلله لم يتجاوز ذاته ،ولم ينتقل إلى غيره .ولكن إذا حاول أن يغري غيره
بالضلل والمعصية يكون بذلك قد ضلّ غيره .ويتخذ بعض المستشرقين هذه القضية مطعنا في
القرآن -بل وعي منهم أو فهم -فيقولون :إن القرآن يقولَ {:ولَ تَزِرُ وَازِ َرةٌ وِزْرَ ُأخْرَىا }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[فاطر.]18 :
حمِلُنّ أَ ْثقَاَلهُ ْم وَأَ ْثقَالً مّعَ أَ ْثقَاِلهِمْ[} ...العنكبوت.]13 :
ثم يأتي في آية أخرى فيقول {:وَلَ َي ْ
فكيف يقول القرآن :إن أحدا ل يتحمل إل وزره ،ثم يقول :إن هناك من سيتحمل وِزْره ووِزْر
غيره؟
ونقول لهم :أنتم لم تفهموا المعنى ،فالول :هو الضّالّ الذي يرتكب المعاصي ولكنه لم ُيغْرِ بها
ل وأضل غيره ..أي :أنه لم
غيره ،أي :أنه عصى ال ولم يتجاوز المعصية .أما الثاني :فقد ض َ
يكتف بارتكاب المعصية بل أخذ يغري الناس على معصية ال .وكلما أغرى واحدا على المعصية
كان عليه نفس وِزْر مرتكب المعصية.
ضلّ ِبهِ الّذِينَ َكفَرُواْ يُحِلّونَهُ عَاما وَ ُيحَ ّرمُونَهُ عَاما } وطبعا التحليل والتحريم
وهنا يقول الحقَ { :
هنا حدث منهم لظنهم أن هذه مصلحتهم ،أي أنهم أخضعوا الشهر الحرم لشهواتهم الخاصة،
وخرجوا عن مرادات ال في كونه ،يوم خلق السماوات والرض.
ع ّدةَ مَا حَرّمَ اللّهُ }
ولكن لماذا يُحلّونه عاما ويُحرّمونه عاما؟ تأتي الجابة من الحق { :لّ ُيوَاطِئُواْ ِ
أي :ليوافقوا عدة ما أحله ال حتى يبرروا ويقولوا لنفسهم :نحن لسنا عاصين ،فإن كان ال يريد
أربعة أشهر حرم ،فنحن قد التزمنا بذلك! ولكن تشريع ال ليس في العدد فقط ولكن في المعدود
أيضا ،وقد حدد لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم الشهر الحرم.
وكان عمرو بن لحي أو نعيم بن ثعلبة هما أول من قاما بعملية النسيء هذه ،فأحلّ شهر المحرم،
وحرّم غيره وهؤلء الذين قاموا بهذا العمل كانوا يعرفون أن هناك أربعة أشهر حرم بدليل أنهم
أحلوا وحرموا .ولو لم يعرفوها ما أحلوا ول حرموا ،ولكن هم أرادوا أن يُخضعُوا تشريع ال
لهوائهم .وهذا هو المغزى من تحليل شهر المحرم وتحريم شهر آخر ،وأرادوا بذلك إخضاع
مرادات ال لشهوات نفوسهم؛ لن المحرم ثابت فيه التحريم ،وهو شهر حرام سواء قام النسان
بتأجيله أم لم يؤجله ،فهو شهر حرام بمشيئة ال ل مشيئة الناس .ولذلك حكم الحق سبحانه على
النسيء بأنه زيادة في الكفر؛ لنك حين تؤخر حرمة شهر المحرم إلى شهر غيره ،تكون قد ُق ْمتَ
بعمليتين؛ أحللت شهرا حراما وهذا كفر ،وحرمت شهرا حللً وهذا كفر آخر ..أي :زيادة في
ع ّدةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّواْ مَا حَرّمَ اللّهُ { وقد حكم ال
الكفر .ثم يقول الحق سبحانه } :لّ ُيوَاطِئُواْ ِ
عليهم بالكفر بأنهم أحلوا ما حرمه ال.
عمَاِل ِهمْ { والتزيين :هو أمر طارئ أو زائد على حقيقة الذات مما
ثم يقول الحق } :زُيّنَ َل ُهمْ سُوءُ أَ ْ
يجعله مقبولً عند الناس ،فالمرأة مثلً لها جمال طبيعي ،ولكنها تتزيين .إذن :فالتزيين تغيير في
المظهر وليس في الجوهر .وهناك تزيين في أشياء كثيرة ،تزيين في الفكر مثلً ،بأن يكون هناك
استعداده للقتال فيأتي القائد فيزين للمقاتلين دخول المعركة ،ويقول :أنتم ستنتصرون في ساعات،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولن يصاب منكم أحد وسيفِرّ عدوكم؛ هذا تزيين محمود.
ولذلك أراد الحق أن يكشف لنا حقيقة التزيين الذي قاموا به حين حللوا حرمة الشهر الحرُم،
عمَاِلهِ ْم وَاللّ ُه لَ
وكشف لنا سبحانه أن هذا لون من التزيين غير المحمود فقال } :زُيّنَ َلهُمْ سُوءُ أَ ْ
َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ { وما دام قد زُيّن لهم السوء فهذا العمل قد خرج عن منطقة الهداية ،وخرج
عن نطاق التزيين المحمود إلى التزيين السيىء .وما داموا قد خرجوا عن هداية ال فلن يعينهم
ال؛ لنه سبحانه ل يعين من كفر ،ول يعين من ظلم ،ول يعين من فسق.
ولذلك قال سبحانه } :وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ { أي :أنهم بكفرهم قد أخرجوا أنفسهم عن
هداية ال ،فالحق سبحانه لم يمنع عنهم الهداية ،بل هم الذين منعوها عن أنفسهم بأن كفروا
فأخرجوا أنفسهم عن مشيئة هداية ال لهم ،وهذا ينطبق فقط على هداية المعونة ،ونحن نعلم أن ل
سبحانه هداية دللة وهداية معونة؛ هداية الدللة هي للمؤمن وللكافر ،ويدل ال الجميع على
المنهج ،ويريهم آياته ،وتبلغ الرسل منهج السماء الذي يوضح الطريق إلى رضاء ال والطريق
إلى سخطه وعذابه .فمن آمن بال دخل في مشيئة هداية المعونة ،فيعينه ال في الدنيا ويعطيه
الجنة في الخرة .أما من يرفض هداية الدللة من ال ،فال ل يعطيه هداية المعونة؛ لن الكفر قد
سبق من العبد.
وكذلك الظلم والفسق ،فيكون قد منع عن نفسه هداية المعونة بارتكابه لتلك الثام.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
} وَاللّ ُه لَ َي ْهدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ { [التوبة {.]37 :وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }[التوبة{.]19 :
سقِينَ }[التوبة.]24 :
وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
إذن :هم الذين قدّموا الكفر والظلم والفسوق ،فمنعوا عن أنفسهم هداية المعونة التي قال الحق
عنها {:وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَا ُهمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد.]17 :
وبعد أن طلب الحق سبحانه وتعالى من المؤمنين أن يواجهوا الباطل جميعا ،كما يجتمع الباطل
عليهم ويقاتلهم جميعا .يقول سبحانه } :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا َلكُمْ إِذَا قِيلَ َلكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
اثّاقَلْتُمْ{ ...
()1259 /
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا مَا َلكُمْ ِإذَا قِيلَ َلكُمُ ا ْنفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَ ْرضِ أَ َرضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا
مِنَ الْآَخِ َرةِ َفمَا مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا فِي الَْآخِ َرةِ إِلّا قَلِيلٌ ()38
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وساعةَ تسمع { ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } فهذا نداء خاص بمن آمن بال؛ لن ال ل يكلف من لم يؤمن
به شيئا ،ولكنه كلف الذين آمنوا ،فل يوجد حكم من أحكام منهج ال فيه تكليف لكافر أو غير
مؤمن .ولكن أحكام المنهج موجهة كلها للمؤمنين .ولذلك ساعةَ تسمع { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ }
تعرف أن ال يخاطب أو يأمر من آمن به؛ لنك أنت الذي آمنت باختيارك ،ودخلتَ على اليمان
برغبتك ،فالحق سبحانه لم يأخذك إلى اليمان قهرا ،ولكنك جئت لليمان اختيارا ،ولذلك يقول
سبحانه وتعالى لك :ما ُد ْمتُ قد آمنت بي إلها قادرا قيّوما ،له مطلق صفات الكمال ،فاسمع مني ما
أريده لحركة حياتكَ.
ول يحسب أحد أنه قادر على أن يدخل في اليمان ول ينفذ المنهج ،ول يحسب أحد أنه قادر أن
يضر ال شيئا ،وسبق أن ضربنا المثل بالمريض الذي يختار أبرع الطباء ،ولم يجبره أحد على
أن يذهب إليه ،وأجرى الطبيب الكشف على المريض ،وحدد الداء وكتب الدواء ،ولكن المريض
بعد أن خرج من العيادة أمسك بتذكرة الدواء ومزقها ،أو أنه اشترى الدواء ولم يتناوله .أيكون
بذلك قد عاقب الطبيب أم عاقب نفسه؟
إن الطبيب لن يتأثر ولن يضره شيء مما فعله هذا المريض ،ولكنه هو الذي سيزداد عليه
المرض ويقود نفسه إلى الهلك ،وكذلك النسان إن لم يتبع منهج ال ،فإنه يضيع نفسه ويُغرقها
في الشقاء؛ لن الحق سبحانه قد وضع هذا المنهج وفيه علج لكل أمراض النسان ،فإن عمل به
النسان نجا من بلء الدنيا ،وإذا عمل به مجتمع لن يظهر فيه الشقاء .بل يمتلىء بالرخاء والمن
والطمأنينة ،ومن لم يعمل به فلن يضر ال شيئا ،بل يحصل على الشقاء ويهلك نفسه.
وحين يخاطب الحق سبحانه الذين آمنوا يوضح :خذوا مني هذا التكليف ففيه سعادة النسان في
الدنيا والخرة ،ولهذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى ل يذكر أمرا من أوامره بأي تكليف أو نهيا من
نواهيه ،إل مسبوقا بقوله سبحانه { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ } مثل قوله تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ
عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ[} ...البقرة.]183 :
وقوله سبحانه {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِصَاصُ[} ...البقرة.]178 :
وهذه التكليفات لمَ تأتِ مبنية للمعلوم ،فمن الذين يكتب؟ إنه الحق سبحانه ،كما أنها صيغة مبنية
سمّ فاعله ،أي :أن الكتابة أتت من كثير .ونقول :صحيح أن ال سبحانه وتعالى هو
دائما لما لم يُ َ
الذي كتب ،فلماذا لم يقل :يأيها الذين آمنوا كتبتُ عليكم .ولماذا يقول { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُ ِتبَ
عَلَ ْيكُمُ الصّيَامُ }؟ .ونقول :لن ال وإن كان قد كتب ،إل أنه لم يكتبها على كل خلقه ،بل كتبها
على الذين آمنوا به ،وأنت بإيمانك أصبحت ملتزما بعناصر التكليف ،فكأن الحق سبحانه لم يكتب
ثم يلزمك ،ولكن التزامك تم في نفس اللحظة التي دخلت فيها باختيارك في اليمان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبذلك تكون كل هذه الحكام قد كُتِبتْ علينا باختيار كل منا ،فمن لم يَخْتَرْ اليمان ليس مكتوبا
عليه أن ينفذ أحكام اليمان؛ لنها ل تُنفذ إل بالعقد اليماني بيننا وبين الحق سبحانه؛ وقد احترم
سبحانه دخولنا في هذا العقد ،فلم ينسبه لذاته العلية فقط ،بل شمل أيضا كل مَنْ دخل في اليمان.
ولذلك فإن سأل أحد عن حكمة التكليف من ال ،نقول له :إن الحكمة تنبع من أنه سبحانه هو الذي
كَلّف .ثم إن معرفة الحكمة ل تكون إل من المساوي للمساوي ،فإن ذهب المريض إلى الطبيب
وكتب له الدواء ،وظل المريض يناقش الطبيب في الدواء وفوائده؛ فالطبيب يرفض المناقشة،
ويقول للمريض :ادخل كلية الطب وا ْقضِ فيها سبع سنوات ،واحصل على الدرجات العلمية ،ثم
َتعَالَ وناقشني.
إذن :فأنت تربط علة التكليف بأمر المكلف ،مع أن المكلف من البشر قد يخطئ .أما إذا جئنا
بمجموعة من الطباء ليكشفوا على مريض احتار الطب فيه ،ثم جلسوا بعد الكشف يتناقشون ،فكل
منهم يقبل مناقشة الخر؛ لنه مُسَاوٍ له في الفكر والثقافة والعلم إلى آخره ،لكن إنْ أردتَ أن تسأل
عن الحكمة في تكليف من ال فلن تجد مساويًا ل سبحانه وتعالى ،وبذلك تكون المناقشة مرفوضة.
إذن :فالمكلف ل بد أن تكون له منزلة سابقة على التكليف ،ومنزلة الحق أنك آمنت به ،ولهذا
أرى أن البحث عن أسباب التكليف هو أمر مرفوض إيمانيا ،فإذا قيل :إن ال فرض الصوم حتى
يشعر الغني بألم الجوع؛ ليعطف على الفقير ،نقول :ل ،وإل سقط الصوم عن الفقير؛ لنه يعرف
ألم الجوع جيدا .وإذا قيل لنا :إن الصوم يعالج أمراض كذا وكذا وكذا .نقول :إن هذا غير
صحيح ،وإل لما أسقط ال فريضة الصوم عن المريض في قوله تعالىَ {:ومَن كَانَ مَرِيضا َأوْ
سفَرٍ َفعِ ّدةٌ مّنْ أَيّامٍ أُخَرَ[} ...البقرة.]185 :
عَلَىا َ
فإذا كان ال قد أباح للمريض أن يفطر ،فكيف يأتي إنسان ويقول :إن علة فرض الصوم هي شفاء
سمَح معها بالصوم.
المراض؟ كما أن هناك بعض المراض ل ُي ْ
إذن :فنحن نصوم لن ال فرض علينا الصوم ،وما دام ال قد قال فسبب التنفيذ هو أن القول
صادر من ال سبحانه ،ول شيء غير ذلك ،فإذا ظهرت حكمة التكليف فإنها تزيدنا إيمانا ،مثلما
ثبت ضرر لحم الخنزير بالنسبة للنسان؛ لن لحم الخنزير مليء بالميكروبات والجراثيم التي
يأكلها مع القمامة ،ونحن ل نمتنع عن أكل لحم الخنزير لهذا السبب ،بل نمتنع عن أكله لن ال قد
أمرنا بذلك ،ولو أن هذه الحكمة لم يكشف عنها الطب ما قَّللَ هذا من اقتناعنا بعدم أكل لحم
الخنزير؛ لننا نأخذ التكليف من ال ،وليس من أي مصدر آخر.
ونعود إلى خواطرنا حول الية الكريمة } :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا َل ُكمْ إِذَا قِيلَ َل ُك ُم انفِرُواْ فِي سَبِيلِ
اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الَ ْرضِ { ،ونجد كلمة } :مَا َلكُمْ { تأتي حين نتعجب من حال ل يتفق مع حال،
وكأن حرب المؤمنين للكفار أمر متوقع وتقتضيه الحال؛ لن المؤمنين حين يقاتلون الكفار إنما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يدخلون شيئا من اليقين على أهل الستقامة ،فأهل الستقامة إن لم يجدوا من يضرب على أيدي
الكافرين فقد ينحرف على أيدي الكفار ،فإنه بفعله هذا يربب في المؤمن إيمانه؛ لنه يرى عدوه
وهو يتلقى النكال .كأن تقول للتلميذ :ما لك تهمل في مذاكرتك وقد قَ ُربَ المتحان؟ أي :أن
المفروض أنه إذا قرب المتحان ل بد أن يجتهد الطالب في المذاكرة .فإن أهمل التلميذ عمله
فنحن نتعجب من سلوكه؛ لنه ل يتفق مع ما كان يجب أن يحدث .وبذلك نستنكر أن يحدث مثل
هذا الهمال ،مثلما نستنكر ونتعجب من مريض يترك الدواء بينما هو يتألم.
ن إلى القتال؛ لن قوة اليمان تدعو دائما
عوْ َ
ويتعجب الحق سبحانه هنا من تثاقل المؤمنين حين يُدْ َ
إلى أن يكون هناك استعداد مستمر للقتال ،وهذا الستعداد يخيف الكفار ويمنع عدوانهم
واستهتارهم بالمؤمنين أولً ،كما أنه ثانيا يجعل المؤمنين قادرين على الرد والردع في أي وقت.
ويعطي ثالثا شيئا من اليقين للمجتمع المؤمن عندما يرى أن هناك من يضرب على يد الكافرين إذا
استهانوا بمجتمع اليمان وحاولوا أن يستذلوا المؤمنين.
إذن :فَِل َكيْ يبقى المجتمع المؤمن قويا وآمنا؛ ل بد أن يوجد استعداد دائم للقتال في سبيل ال
ورغبة في الشهادة ،وهنا يقول الحق } :مَا َل ُكمْ إِذَا قِيلَ َل ُك ُم انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ { فكأن الستعداد
ض ُعفَ هذا الستعداد أو َقلّ
المستمر للقتال في سبيل ال أمر ل بد أن يوجد بالفطرة وبالعقل ،فإذا َ
صار هذا المر موطنا للتعجب؛ لن المؤمنين يعرفون أن مجتمع الكفر يتربص بهم دائما ،وعليهم
أن يكونوا على استعداد دائم مستمر للمواجهة ،ويستنكر الحق أن يتثاقل المؤمنون إذا دُعُوا للقتال
في سبيل ال أو أن يتكاسلوا.
وقوله سبحانه } :انفِرُواْ { من " النفرة " وهي الخروج إلى أمر يهيج استقرار النسان ،فحين يكون
النسان جالسا في مكانه ،قد يأتي أمر يهيجه فيقوم ليفعل ما يتناسب مع المر المهيج ،فأنت مثلً
إذا رأيت إنسانا سيسقط في بئر ،فهذا المر يهيجك ،فتنطلق من مكانك لتجذبه بعيدا ،ومنه الّنفْره
التي تحدث بين الحباب الذين يعيشون في وُدّ دائم ،وقد يحدث بينهم أمر يُحوّل هذا الود إلى
جفْوة.
َ
إذن :فكلمة } انفِرُواْ { تدل على الخروج إلى أمر مهيج ،وهو المنطق الطبيعي الذي يجب أن
يكون؛ لن عمل الكفار يهيج المؤمنين على مواجهتهم.
وقول الحق سبحانه } :انفِرُواْ { يدل على الستفزاز المستمر من الكفار للمؤمنين .ويقول الحق
تعالى } :مَا َلكُمْ ِإذَا قِيلَ َلكُ ُم انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ {.
والثقل معناه :أن كتلة الشيء تكون زائدة على قدرة من يحمله ،فإن قلت :إن هذا الشيء ثقيل فهذا
يعني أن وزنه مثلً أكبر من قوة عضلتك فل تستطيع أن تحمله .أما التثاقل فهو عدم موافقة
الشيء لطبيعة التكوين .كأن تقول :فلن ثقيل أي أن وزنه ضخم ول يستطيع أن يقوم من مكانه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إل بصعوبة ،ول أن يتحرك إل بمشقة.
ولكن التثاقل معناه تكلف المشقة ،أي :لك قدرة على الفعل ،ولكنك تتصنع أنك غير قادر ،كأن
يكون هناك -على سبيل المثال -شيء وزنه رطل ،ثم تدّعي أنه ثقيل عليك ول تستطيع أن
تحمله.
إذن :فقوله تعالى } :اثّاقَلْ ُتمْ إِلَى الَ ْرضِ { أي :تكلفتم الثقل بدون حقيقة ،فأنتم عندكم قدرة على
القتال ولكنكم تظاهرتم بأن ل قدرة لكم.
وهكذا نعرف أن الموقف يقتضي النفرة ليواجهوا الكفر؛ لن المنهج الذي ارتضوه لنفسهم
والتزموا به يحقق السلمة والمن والطمئنان لهم ولغيرهم ،وكأن التثاقل إلى الرض له مقابل،
فالنفرة تكون في سبيل ال ،والمقابل في سبيل الشيطان أو في سبيل شهوات النفس.
لقد تحدث العلماء في المسائل التي تجعل النسان يُق ِبلُ على المعصية ،وهي النفس التي تُحدّث
النسان بشيء ،فالنسان يقبل على المعصية بهذين العاملين فقط .فما الفرق بين الثنين؟ وكيف
يتعرف النسان على ذلك؟ قال العلماء :إذا كانت النفس تُلحّ عليك أن تفعل معصية بعينها بحيث
إذا صرفتها عنها عادت تُلِحّ عليك لقتراف نفس المعصية لتحقق متعة عاجلة ،فهذا إلحاح من
النفس المّارة بالسوء.
ولكن الشيطان ل يريد منك ذلك ،إنه يريدك مخالفا لمنهج ال على أي لون ،فإذا استعصى عليه
أن يجذبك إلى المال الحرام ،فهو يزين لك شهوة النساء ،فإذا فشل جاء من ناحية الخمر .إذن:
فهو يريدك عاصيا بأي معصية ،ولكن النفس تريدك عاصيا بنفس المعصية التي تشتهيها .وهذا
هو الفرق.
وهكذا نعرف أن هناك واقعين ،واقعا يدعو المؤمنين إلى قتال الكفار الذين يفسدون منهج ال في
الرض ،وواقعا يدعوهم إلى أن يتثاقلوا عن هذا القتال ،وذلك إما بسبب حب الدنيا لتحقيق شهوة
النفس أو إغراء الشيطان ،ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى } :أَ َرضِيتُمْ بِالْحَيَاوةِ الدّنْيَا مِنَ الخِ َرةِ
{ والرضا هو حب القلب ،فيقال :فلن رَاضٍ لنه مسرور بالحال الذي هو فيه.
ومعنى تثاقل المؤمنين عن القتال في سبيل ال ،أن هناك شيئا قد غلب شيئا آخر في داخل
نفوسهم ،فالرضا بالحياة الدنيا قد تغّلبَ على حب الخرة .ولكن المنطق اليماني يقول :إنه إذا
كان هناك أمر آخر غير الدنيا ،أو حياة أخرى غير حياتنا الدنيوية ،فل بد أن نقارن بين ما تعطيه
الدنيا وبين ما تعطيه الخرة ،فإذا رضينا بما تقدمه لنا هذه الحياة المادية ،يكون المؤمن بل طموح
وبل ذكاء؛ لنه رضي بمتاع قليل زائل وترك متاعا أبديا ممتدا بقدرة ال.
وأنت لو نظرت إلى الدنيا نظرة فاحصة ،تجد أنها متغيرة متبدلة ،فالصحيح يصبح مريضا،
والغني يصبح فقيرا ،والقوي يصبح ضعيفا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فمتاع الدنيا متغير ول عصمة لك فيه ،وأنت ل تستطيع أن تعصم نفسك من المرض أو من
الضعف أو من الفقر؛ لن هذه كلها أغيار تحكمك ول تحكمها أنت؛ تقهرك ول تستطيع أنت أن
تقهرها .فإن رضيت بمتاع الدنيا اليوم فأنت ل تضمن استمراره إلى غد.
ولهذا ينبغي أل تؤخر تنفيذ ما يكلفك به ال؛ لنك الن تستطيع أن تؤديه ،لكن أنت ل تضمن إن
كنت قادرا غدا أم ل .كذلك ل تأخذ التكليف على أنه قد يسلبك حريتك أو مالك ،بل هو يسلبك
ويعطيك في نفس الوقت .فإذا أمر ال سبحانه بأن تُخرِجَ الزكاة ،قد تعتقد أن هذا يُنقصُ مالك ،أو
تقول :هذه غرامة .نقول :إن هذا في ظاهر المر قد يكون صحيحا ،ولكنه سبحانه يأخذ منك هذا
المال فيزيده لك ويُنميه فإذا بالجنيه الواحد قد تضاعف إلى سبعمائة مِثْل ،ثم تضاعف إلى ما شاء
ال ،كما أن هذا الحكم الذي يأخذ منك الن وأنت غني ،هو بذاته الذي سوف يعطيك إن افتقرتَ
ولجأت إلى الناس .فإذا كان الحكم الذي سيأخذ هو الذي سيعطي تكون هذه عدالة وتأمينا ضد
الغيار ،وعليك أن تقارن الصفقة النفعية بمقابلها ،وساعةَ تعطي أنت الذي ل يملك ،ل بد أن
تتذكر أنه قد يأتي عليك َيوْمٌ ل تملك فيه.
وكلمة دنيا بالنسبة لحياتنا أعطتنا الوصف الطبيعي الذي ينطبق عليها؛ لن " الدنيا " مقابلها "
العليا " .والحياة العليا تكون في الخرة .فإذا كانت هذه هي الحياة الدنيا .فلماذا تربط نفسك
خوَرا في العزيمة؟
بالدنى إل أن يكون ذلك َ
والمثال للقوة اليمانية هو :سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه ،وكان قبل أن يصبح خليفة
المؤمنين يرتدي أفخر الثياب ويتعطر بأجمل العطور ،وكان الناس يدفعون أموالً لمن يغسل ثياب
عمر بن عبد العزيز ليدخلوا ثيابهم مع ثيابه حتى تمتلئ عطرا .وذلك من غزارة وجود العطر
الذي كان يضعه عمر بن عبد العزيز على ثيابه فتخرج كل الثياب مليئة بالعطر .وعندما أصبح
عمر بن عبد العزيز خليفة ،كانوا يأتونه بالثوب الخشن الذي كان يرفض ارتداءه قبل الخلفة،
فيرفضه ويقول :هاتوا أخشن منه ،وامتنع عن العطر ،أي :أن معاييره قد تغيرت وليس في هذا
أدنى تناقض ،بل هو علو في الحياة ،ولذلك قال :اشتاقت نفسي إلى المارة فقلت لها :اقعدي يا
نفْسُ ،فلما نلْ ُتهَا اشتاقت نفسي إلى الخلفة فنهيتها عن ذلك ،فلما نلْتُها؛ أي نال الخلَفة ،اشتاقت
نفسي إلى الجنة فسلكتُ كل طريق يؤدي إليها.
()1260 /
شيْءٍ َقدِيرٌ (
عذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْ ِدلْ َق ْومًا غَيْ َركُ ْم وَلَا َتضُرّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
إِلّا تَ ْنفِرُوا ُي َعذّ ْبكُمْ َ
)39
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :إن لم تذهبوا إلى القتال فإن ال ينذركم بالعذاب .وإذا أنذر الحق فل بد أن يتحقق ما أنذر به،
فأنتم إن لم تنفروا مخافة العذاب المظنون ،وهو الرهاق والتعب ،فما بالكم بالعذاب المحقق إن لم
تنفذوا أمر ال بال ّنفْرة إلى القتال؟ وإذا كانت المقارنة بين مشقة السفر والقتال والحر الشديد ،وبين
عذاب ال ،فالمؤمن سوف يختار -بل شك -مشقة الحرب مهما كانت؛ لن كل فعل إنما يكون
بقياس فاعله ،فمظنة العذاب بالحر ،أو مشقة السفر ،وقسوة القتال ل يمكن قياسها بعذاب ال؛ لن
العذاب الذي ينتظر مَنْ يتباطأ أو يفِرّ من الزحف أكبر من مشقة الستجابة للزحف مهما كانت
مرهقة.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَيَسْتَ ْب ِدلْ َقوْما غَيْ َر ُكمْ } إذن :فل تظنوا أنكم بتباطئكم؛ وعدم رغبتكم في
القتال ستضرون ال شيئا؛ لن ال قادر على أن يأتي بخلق جديد ،وهو على ذلك قدير ،لذلك
شيْءٍ قَدِيرٌ } .وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه {:هَا أَن ُتمْ هَـا ُؤلَءِ
يقول { :وَاللّهُ عَلَىا ُكلّ َ
ي وَأَنتُمُ
س ِه وَاللّهُ ا ْلغَ ِن ّ
خلُ عَن ّنفْ ِ
خلْ فَإِ ّنمَا يَبْ َ
ل َومَن يَبْ َ
خُعوْنَ لِتُن ِفقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َفمِنكُم مّن يَبْ َ
تُدْ َ
ا ْلفُقَرَآ ُء وَإِن تَ َتوَّلوْاْ َيسْتَبْ ِدلْ َقوْما غَيْ َركُمْ ثُمّ لَ َيكُونُواْ َأمْثَاَلكُم }[محمد.]38 :
فل تظنوا أنكم بما معكم من ثراء أو قوة قادرون على عرقلة منهج ال بالبخل أو التخاذل؛ لنه
سبحانه قادر على أن يستبدلكم بقوم غيركم ،يملكون حمية القتال والتضحية في سبيل ال؛ لنه
القادر فوق كل الخلق.
شيْءٍ قَدِيرٌ } هو حيثية للحكام التي سبقتها من قولهِ { :إلّ تَنفِرُواْ
وقوله سبحانه { :وَاللّهُ عَلَىا ُكلّ َ
عذَابا أَلِيما وَيَسْتَ ْب ِدلْ َقوْما غَيْ َركُ ْم َولَ َتضُرّوهُ شَيْئا } وإن ظن واحد منهم أن هذا كلم
ُيعَذّ ْبكُمْ َ
نظري ،فالحق سبحانه يضرب لهم المثل العملي من الواقع الذي شاهدوه وعاصروه حينما اجتمع
كفار قريش ليقتلوه فنصره ال عليهم ،فقال جل جللهِ { :إلّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ َنصَ َرهُ اللّهُ ِإذْ أَخْ َرجَهُ
الّذِينَ َكفَرُواْ ثَا ِنيَ اثْنَيْنِ إِذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ إِذْ َيقُولُ ِلصَاحِ ِب ِه لَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا} ...
()1261 /
إِلّا تَ ْنصُرُوهُ فَقَدْ َنصَ َرهُ اللّهُ ِإذْ أَخْ َرجَهُ الّذِينَ َكفَرُوا ثَا ِنيَ اثْنَيْنِ ِإذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ ِإذْ َيقُولُ ِلصَاحِبِهِ لَا
سفْلَى
ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ كَفَرُوا ال ّ
سكِينَتَهُ عَلَ ْي ِه وَأَيّ َدهُ ِبجُنُودٍ لَمْ تَ َروْهَا وَ َ
تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا فَأَنْ َزلَ اللّهُ َ
حكِيمٌ ()40
َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ َ
ووقف المستشرقون عند قول الحق سبحانهِ { :إلّ تَنصُرُوهُ َفقَدْ َنصَ َرهُ اللّهُ } وكعادتهم -كمشككين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في السلم -نجدهم يبذلون جهدا كبيرا في محاولة التصيد لخطاء يتوهمونها في القرآن الكريم
فيقولون :إن مهابة القرآن وقدسيته عندكم أيها المسلمون ل تُمكّن أذهانكم من الجراءة اللزمة
للبحث في أساليبه؛ لتكتشفوا ما فيه من الخلل .ولكن إن نظرتم إلى القرآن ككتاب عادي ل قداسة
له سوف تجدون فيه التضارب والختلف.
وخصص المستشرقون بابا كبيرا للبحث في مجال النحو بالقرآن الكريم ،وجاءوا إلى مسألة
الشرط والجزاء ،ومن يقرأ نقدهم يتعرف فورا على حقيقة واضحة هي جهلهم بعمق أسرار اللغة
العربية ،ول يملكون فيها مَلَكة أو حُسْن فهم ،وقالوا :إن أساليب الشرط في اللغة العربية تقتضي
وجود جواب لكل شرط ،فإن قلت :إن جاءك زيد فأكرمه ،تجد الكرام يأتي بعد مجيء زيد ،وإن
قلت :إن تذاكر تنجح ،فالنجاح يأتي بعد المذاكرة .إذن :فزمن الجواب متأخر عن زمن الشرط.
وهم قدموا كل تلك المقدمات ليشككونا في القرآن .ونقول لهم :إن كلمكم عن الشرط وجوابه
صحيح ،ولكن افهموا الزائد ،فحين نحقق في المر نجد أن الجواب سبب في الشرط؛ لنك حين
تقول :إن تذاكر تنجح ،فالطالب إن لم يستحضر امتيازات النجاح فلن يذاكر ،بل ل بد أن يتصور
الطالب في ذهنه امتيازات النجاح ليندفع إلى المذاكرة ،إذن :فالجواب سبب دافع في الشرط ،ولكن
الشرط سبب في الجواب ولكنه سبب واقع ،فتصّور النجاح أولً هو سبيل لبذل الجهد في تحقيق
النجاح ،وهكذا تكون الجهة منفكة؛ لن هذا سبب دافع ،وهذا سبب واقع.
وقوله تعالىِ { :إلّ تَنصُرُوهُ } فعل مضارع ،زمنه هو الزمن الحالي ،ولكن الحق يتبع المضارع
بفعل ماضٍ هوَ { :فقَدْ َنصَ َرهُ اللّهُ } فهل يكون الشرط حاضرا ومستقبلً ،والجواب ماضيا؟ ونقول:
إن المعنى :إل تنصروه فسينصره ال .بدليل أنه قد نصره قبل ذلك .وهذا ليس جواب شرط،
وإنما دليل الجواب ،فحين يكون دليل الجواب ماضيا ،فهو أدل على الوثوق من حدوث الجواب،
فحين دعاهم ال لينفروا فتثاقلوا ،أوضح لهم سبحانه :أتظنون أن جهادكم هو الذي سينصر محمدا
وينصر دعوته؟ ل؛ لنه سبحانه قادر على نصره ،والدليل على ذلك أن ال قد نصره من قبل في
مواطن كثيرة ،وأهم موطن هو النصر في الهجرة ،وقد نصره برجل واحد هو أبو بكر على
قريش وكل كفار مكة ،وكذلك نصره في بدر بجنود لم تروها ،إذن :فسابقة النصر من ال لرسوله
سابقة ماضية ،وعلى ذلك فليست هي الجواب ،بل هي دليل الجواب.
ونرى في قوله تعالىِ { :إلّ تَنصُرُوهُ َفقَدْ َنصَ َرهُ اللّهُ } أن نصر ال له ثلثة أزمنة ،فـ { إِذْ }
جهُ الّذِينَ كَفَرُواْ ثَا ِنيَ اثْنَيْنِ إِذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ إِذْ َيقُولُ
تكررت ثلث مرات ،فسبحانه يقول { :إِذْ َأخْرَ َ
ِلصَاحِبِهِ لَ َتحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا } أي :أننا أمام ثلثة أزمنة :زمن الخراج ،وزمن الغار ،والزمن
الذي قال فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم لبي بكر { :لَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا } ،وقد جاء
النصر في هذه الزمنة الثلثة؛ ساعة الخراج من مكة ،وساعة دخل سيدنا رسول ال صلى ال
عليه وسلم مع أبي بكر إلى الغار ،وساعة حديثه مع أبي بكر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولسائل أن يسأل :هل أخرج الكفار رسول ال من مكة ،أم أن ال هو الذي أخرجه؟ ونقول :إن
عناد قومه وتآمرهم عليه وتعنّتهم أمام دعوته ،كل ذلك اضطره إلى الخروج ،ولكن الحق أراد
بهذا الخروج هدفا آخر غير الذي أراده الكفار ،فهم أرادوا قتله ،وحين خرج ظنوا أن دعوته
سوف تختنق بالعزل عن الناس ،فأخرجه ال لتنساح الدعوة ،وأوضح لهم سبحانه :أنتم تريدون
إخراج محمد بتعنتكم معه ،وأنا لن أمكنكم من أن تخرجوه مخذولً ،وسأخرجه أنا مدعوما
بالنصار .وقالوا :إن الهجرة توأم البعثة .أي :أن البعثة المحمدية جاءت ومعها الهجرة ،بدليل "
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما أخذته أم المؤمنين خديجة رضي ال عنها إلى ورقة بن
نوفل ،بعد ما حدث له في غار حراء ،قال له ورقة :ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك .قال ورقة
بن نوفل ذلك لرسول ال قبل أن يتثبت من النبوة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :أ ُمخْرجيّ
هم؟ قال ورقة بن نوفل :نعم ،لم يأت رجل بمثل ما جئت به إل عُودِي ".
إذن :فالهجرة كانت مقررة مع تكليف رسول ال صلى ال عليه وسلم بالرسالة ،لماذا؟ لنه صلى
ال عليه وسلم كان أول من أعلن على مسامع سادة قريش رسالة الحق والتوحيد .ففكرة الهجرة
مسبقة مع البعثة؛ ولن البعثة هي الصيحة التي دوّت في آذان سادة قريش وهم سادة الجزيرة.
ولو صاحها في آذان قوم ليسوا من سادة العرب لقالوا :استضعف قوما فصاح فيهم ،ولكن صيحة
البلغ جاءت في آذان سادة الجزيرة العربية كلها ،فانطلقوا في تعذيب المسلمين ليقضوا على هذه
الدعوة .وشاء ال سبحانه وتعالى أل ينصره بقريش في مكة؛ لن قريشا ألفَتْ السيادة على
سلَ فيهم :لقد تعصبتْ له
العرب ،فإذا جاء رسول لهداية الناس عامة إلى السلم ،لقال من أر ِ
قريش لتسود الدنيا كما سادت الجزيرة العربية .فأراد الحق سبحانه أن يوضح لنا :ل .لقد كانت
الصيحة الولى في آذان سادة العرب ،ول بد أن يكون نصر السلم والنسياح الديني ل من هذه
البلدة بل من بلد آخر؛ حتى ل يقال :إن العصبية لمحمد هي التي خلقت اليمان برسالة محمد
صلى ال عليه وسلم.
ولكن اليمان برسالة محمد هو الذي خلق العصبية لمحمد صلى ال عليه وسلم.
ويلحظ في أمر الهجرة أن فعلها " هاجر " .وهذا يدلنا على أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لم
يهجر مكة ،وإنما هاجر ،والمهاجرة مفاعلة من جانبين ،فكأن قومه أعنتوه فخرج ،والخراج نفسه
فيه نصر؛ لن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج وحده من بيته؛ الذي أحاط به شباب أقوياء
من كل قبائل العرب ليضربوه ضربة رجل واحد ،وينثر عليهم التراب فتغشى أبصارهم ،وكان
أبو بكر رضي ال عنه ينتظره في الخارج ،وكأن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يثبت لهم أنهم لن
ينالوا من محمد؛ ل بتآمر خفي ،ول بتساند علني .وهذا نصر من ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويتابع الحق سبحانه } :إِذْ ُهمَا فِي ا ْلغَارِ { ،ويتأكد في الغار نصر آخر .ذلك أن قصاص الثر
الذي استعانت به قريش واسمه كرز بن علقمة من خزاعة قد تتبع الثر حتى جاء عند الغار،
وقال :هذه محمد وهو اشبه بالموجود في الكعبة ،أي أشبه بأثر قدم إبراهيم عليه السلم ،ثم قال:
هذه قدم أبي بكر أو قدم ابنه وما تجتوزا هذا المكان .وكان قصاص الثر يتعرف على شكل القدم
وأثره على الرض .وأضاف :إنهما ما تجاوزا هذا المكان ،إل أن يكونا قد صعدا إلى السماء أو
دخل في جوف الرض .وبالرغم من هذا التأكيد فإنهم لم يدخلوا الغار ،ولم يفكر أحدهم أن يقلب
الحجر أو يفتش عن محمد وصاحبه ،مع أن هذا أول ما كان يجب أن يتبادر إلى الذهن ،فما دامت
آثار القدام قد انتهت عند مدخل الغار كان يجب أن يفتشوا داخله .لكن أحدا لم يلتفت إلى ذلك.
وجاء واحد منهم وأخذ يبول ،فجاء بعورته قبالة الغار ،وهذا هو السبب في قول أبي بكر لرسول
ال صلى ال عليه وسلم :لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لرآنا.
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم بفطنة النبوة :لو رأونا ما استقبلونا بعوراتهم وهذا دليل على
أن العربي كان يأنف أن تظهر عورته ،أو هي كرامة لمحمد صلى ال عليه وسلم أل يُريه عورة
غيره ،وليأخذها القارىء كما يأخذها ،وهي على كل حال فيض إلهامي لرسول ال صلى ال عليه
وسلم ،كذلك جعل الحق سبحانه العنكبوت ينسج خيوطه على مدخل الغار ،وجعل الحمام يبني
عُشّا فيه بيض ،وجعل سراقة بن مالك يقول :ل يمكن أن يكون محمد وصاحبه دخل الغار ،وإل
لكانا قد حطّما عُشّ الحمام ،وهتكا نسيج العنكبوت.
ونحن نعلم أن أوهى البيوت هو بيت العنكبوت ،فالحق سبحانه وتعالى يقول {:وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ
لَبَ ْيتُ ا ْلعَنكَبُوتِ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت.]41 :
ويظهر العجاز اللهي هنا في :أن ال سبحانه قد صد مجموعة كبيرة من المقاتلين القوياء
بأوهى البيوت ،وهو بيت العنكبوت ،وقدرة ال تجّلتْ في أن يجعل خيط العنكبوت أقوى من
الفولذ ،وكذلك شاء الحق أن يبيض الحمام وهو أودع الطيور ،وإنْ أهيجَ هاج.
وهذا نصر ،ثم هناك نصر ثالث نفسي وذاتي " ،فحين قال أبو بكر رضي ال عنه لرسول ال
صلى ال عليه وسلم :لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا ،نجد رسول ال صلى ال عليه وسلم يرد
في ثقة بربه " :ما ظنك باثنين ال ثالثهما ".
هذا الرد ينسجم مع سؤال أبي بكر؛ لن أبا بكر كان يخشى أنهم لو نظروا تحت أقدامهم لرأوا مَنْ
في الغار ،وكان الرد الطبيعي أن يقال " :لن يرونا " ،ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم أراد
أن يلفتنا لفتة إيمانية إلى اللزم العلى ،فقال " :ما ظنك باثنين ال ثالثهما " ،لنه ما دام رسول
ال صلى ال عليه وسلم وأبو بكر في معية ال ،وال ل تدركه البصار؛ فمن في معيته ل تدركه
البصار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتكون كلمة رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي تعوّد أبو بكر منه الصدق في كل ما يقول،
تكون هي الحجة على صدق ما قال ،فعندما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :إنه أسْرى به
إلى بيت المقدس وعُرِج به إلى السماء ،قال أبو بكر :إن كان قد قال فقد صدق .فحين يقول
رسول ال صلى ال عليه وسلم لبي بكر فيما يحكيه سبحانه } :لَ َتحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا { ،فل بد
أن يذهب الحزن عن أبي بكر ،وقد خشي سيدنا أبو بكر حين دخل الغار ووجد ثقوبا ،خشي أن
يكون فيها حيات ،أو ثعابين ،فأخذ يمزق ثوبه ويسد به تلك الثقوب؛ حتى لم يَ ْبقَ من الثوب إل ما
يستر العورة ،فسدّ الثقوب الباقية بيده وكعبه.
إذن :فأبو بكر يريد أن يفدي رسول ال صلى ال عليه وسلم بنفسه؛ لنه إن حدث شيء لبي بكر
فهو صحابي ،أما إن حدث مكروه لرسول ال صلى ال عليه وسلم فالدعوة كلها تُهدم .إذن :فأبو
بكر لم يحزن عن ضعف إيمان ،ولكنه حزن خوفا على رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ُيصَابَ
بمكروه.
سكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيّ َدهُ بِجُنُودٍ لّمْ
ويأتي الحق سبحانه وتعالى فيقول } :لَ َتحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا فَأَن َزلَ اللّهُ َ
تَ َروْهَا { اختلف العلماء في قوله تعالى } عَلَ ْيهِ { ،هل المقصود بها رسول ال صلى ال عليه
وسلم؟ أو أن المقصود بها أبو بكر؟ وما دامت السكينة قد نزلت؛ فل بد أنه نزلت على قلب أصابه
الحزن .ولكن العلماء يقولون :إى الضمائر في اليات تعود على رسول ال صلى ال عليه وسلم،
فالحق قالِ } :إلّ تَنصُرُوهُ { أي محمدا عليه الصلة والسلم ،وسبحانه يقول } :فَقَدْ َنصَ َرهُ اللّهُ
{ أي محمدا صلى ال عليه وسلم ،ويقول أيضاِ } :إذْ أَخْ َرجَه { أي محمدا صلى ال عليه وسلم،
فكل الضمائر في الية عائدة على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فالجنود الذين سخرهم ال لرسوله صلى ال عليه وسلم ليحفظوه خلل الهجرة ل يعلمهم إل
ال .وكل شيء في هذا الكون من جنود ال؛ فهو سبحانه وتعالى الذي سخر الكافر لخدمة اليمان،
ألم يكن دليل رسول ال صلى ال عليه وسلم في هجرته من مكة إلى المدينة هو عبد ال بن
أريقط ،وكان ما زال على الكفر ،فكأن ال سبحانه وتعالى يسخر له الكافر ليكون دليله في رحلته
من مكة إلى المدينة .وهكذا عمل الكافر في خدمة اليمان ،وفي الوقت نفسه فكل ما رصدتْه
قريش من جُعل لمن يدلّها على مكان رسول ال صلى ال عليه وسلم لم ُيغْرِ الدليل الكافر
بالخيانة ،بل أدخل ال على قلب الكافر ما يجعله أمينا على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
سفْلَىا { ،ولقد أراد الكفار
ج َعلَ كَِل َمةَ الّذِينَ َكفَرُواْ ال ّ
الحق سبحانه يقول } :وَأَيّ َدهُ ِبجُنُودٍ لّمْ تَ َروْهَا وَ َ
القضاء على الدعوة بقتل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،أو َنفْيه بإخراجه إلى مكان بعيد ،أو
سجنه ،وأراد ال سبحانه وتعالى أن يلفتنا إلى أن الباطل ل يمكن أن يعلو على الحق ،وأن الحق
سفْلَىا { ول يجعل ال
ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ َكفَرُواْ ال ّ
دائما هو العلى ،ولذلك قال سبحانه وتعالى } :وَ َ
عُلوّ.
كلمة الكفار السفلى إل إذا كانت في وقت ما في ُ
وإن كان عُلوها هو علو الزّبَدِ على الماء الذي قال عنه الحق سبحانه وتعالى {:فََأمّا الزّ َبدُ فَيَذْ َهبُ
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ }[الرعد.]17 :
ُ
سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَ ِرهَا }[الرعد.]17 :
ولقد ضرب ال هذا المثل فقال {:أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
أي :أن كل وادِ أخذ ما قدره ال له من الماء {.فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا }[الرعد.]17 :
وهذا نلحظه عندما يحدث سيل ،ونجده يأخذ معه القَشّ والقاذورات التي لها كثافة قليلة؛ لتطفو
على سطح الماء ،ولكن أتظل عليه؟ .ل ،بل تُطرد إلى الجوانب بقوة التيار ويبقى الماء نظيفا .ثم
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ
طلَ فََأمّا الزّ َبدُ فَيَ ْذ َهبُ ُ
ق وَالْبَا ِ
حّيقول الحق سبحانه وتعالى {:كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ }[الرعد.]17 :
إذن :فالحق سبحانه وتعالى يخبرنا أن كلمة الكفار كانت في عُُلوّ كالزّبَد ،ولكن :لماذا أوجد ال
علوا ولو مؤقتا للكفر؟ أراد الحق ذلك حتى إذا جاء السلم وانتصر على الكفر يكون قد انتصر
ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ
على شيء عال فيجعله أسفل؛ ولذلك جاء ال سبحانه وتعالى بالمقابل وقالَ } :و َ
سفْلَىا َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا { ،فالنسق الدائي في القرآن كان ل بد أن يتم على أساس؛
َكفَرُواْ ال ّ
سفْلَىا َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا {؛ لن كلمة ال دائما
ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ َكفَرُواْ ال ّ
لذلك جاء القول } :وَ َ
جعْلً ،فهي لم تكن في أي وقت من الوقات إل وهي
وأبدا هي العليا ،وليست كلمة ال عُلْيَا َ
العليا .ولهذا لم يعطفها بالنصب؛ لن كلمة الحق سبحانه وتعالى هي العليا دائما وأبدا وأزلً.
وإن كان الكفار قد أرادوا قتل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،أو أن يخرجوه إلى مكان بعيد ل
يستطيع فيه أن يمارس دعوته ،أو يحبسوه ،فإنهم لم يظفروا بشيء من هذا؛ لن ال عزيز ل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُغَلبُ ،وعِزّته مبنية على الحكمة.
وهنا يريد الحق سبحانه وتعالى أن يلفت المؤمنين إلى أن تثاقلهم عن الجهاد في غزوة تبوك لن
يضر الدعوة شيئا؛ لن ال قد نصر رسوله وهو وحده ،ونصره بجنود لم يَ َروْهَا ،فإذا كان النصر
ل يحتاج إل لكلمة ال ،ول يتم إل بإرادة ال ،فلماذا إذن التثاقل؟
سكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ{ ...
خفَافا وَثِقَالً وَجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ
ويقول سبحانه بعد ذلك } :ا ْنفِرُواْ ِ
()1262 /
سكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ ()41
خفَافًا وَ ِثقَالًا وَجَا ِهدُوا بَِأ ْموَاِلكُمْ وَأَنْفُ ِ
ا ْنفِرُوا ِ
وهكذا يفتح الحق باب الوصول إليه؛ ليهبّوا إلى نصرة الرسول ويزيل الضباب من أذهانهم ،ويفتح
لهم باب الوصول إليه لنهم خلق ال وعياله ،فهو سبحانه يريد منهم أن يكونوا جميعا مهديين،
وأن يشاركوا في ُنصْرة الدعوة إليه.
والقتال في سبيل ال قد يكون مشقة في ظاهر المر ،ولكنه َي َهبُ الدعوة انتشارا واستقرارا .وحين
يقوم المسلمون بنصر الدعوة إلى ال ،ففي هذا القيام مغفرة وتوبة ،وهو رحمة من ال بهم.
ورسول ال صلى ال عليه وسلم هو القائل:
" ال أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد أضله في أرض فلة ".
ويقول الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي " :قالت السماء :يا ربي إئذن لي أن أسقط كِسَفا على
طعِمَ خيرك ومنع شكرك ،وقالت البحار :يا رب إئذن لي أن أغرِقَ ابن آدم لنه
ابن آدم؛ لنه َ
طعِم خيرك ومنع شكرك ،وقالت الرض مثلهما ".
َ
فماذا قال الحق سبحانه وتعالى؟ قال " :دعوني وعبادي ،لو خلقتموهم لرحمتموهم ،إنْ تابوا إليّ
فأنا حبيبهم ،وإنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
وهكذا نرى رحمة ال بخلقه.
وبعد أن لم الحق سبحانه المسلمين؛ لنهم لم يتحمسوا للجهاد ،يفتح أمامهم باب التوبة فقال:
{ ا ْنفِرُواْ } أي :اخرجوا للقتال ،وهذا أمر من ال يوقظ به سبحانه اليمان في قلوب المسلمين،
وفي الوقت نفسه يفتح أمامهم باب التوبة لتباطئهم عن الخروج للقتال في غزوة تبوك .ولذلك قال:
خفَافا وَ ِثقَالً } والنفرة :هي الخروج إلى شيء بمهيج عليه ،والمثال :هو التباعد بين
{ ا ْنفِرُواْ ِ
إنسان وصديق له كان بينهما وُدّ ،ثم حدث من هذا الصديق سلوك أو قول يُهيج على الخروج
عليه ،فينفر منه النسان .والحق سبحانه هنا يأمر { :ا ْنفِرُواْ } والذي يهيج على النفور هو رفعة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خفَافا
دين ال وكلمته ،وحين ترفعون كلمة ال إنما يفتح لكم باب الرتفاع بها فقال { :ا ْنفِرُواْ ِ
وَثِقَالً } .والخفيف :هو الصحيح السليم القوي الذي ل تتبعه ول ترهقه الحركة .والثقيل :هو
المريض أو كبير السن.
وال يريد من الجميع أن يسارعوا إلى القتال؛ لينجوا من العذاب الليم ،وينالوا توبته ورضاه.
ولكن الصحيح خفيف الحركة يمكنه أن يقاتل ،فماذا يفعل المريض؟ يفعل مثلما فعل سيدنا سعيد
بن المسيّب وكان مريضا ،إذ قالوا له :إن ال أعفاك من الخروج إلى المعركة في قوله تعالى{:
ج َولَ عَلَى ا ْلمَرِيضِ حَرَجٌ }[الفتح.]17 :
ج َولَ عَلَى الَعْرَجِ حَرَ ٌ
عمَىا حَرَ ٌ
لّيْسَ عَلَى الَ ْ
فقال :وال أكَثّرُ سواد المسلمين وأحرس متاعهم.
ومن الممكن أن يكون المريض متميزا بالذكاء وصحة العقل ،ويمكن أن ُيسْتشار في مسألة ما.
وقد يكون المريض أسْوة في قومه ،فإذا خرج للقتال هاج قومه وخرجوا معه ،ويمكن أن يكون
المريض أو الضعيف حافزا للقوياء على القتال.
فحين يرى القوياء المريض وهو يخرج للقتال؛ فإنهم يخجلون أن يتخلفوا هم.
خفَافا وَثِقَالً { فبعضهم قال :إن هذه إشارة إلى
واختلف العلماء في تفسير قوله تعالى } :ا ْنفِرُواْ ِ
ذات النسان ،فهناك ذات خفيفة وذات ثقيلة في الوزن ل تستطيع الحركة بسهولة ،وقال آخرون:
خفَافا
إن الفرد الواد يمكن أن يكون فيه الوضعان ،وقوله تعالى } :ا ْنفِرُواْ { هو أمر للجماعة ،و } ِ
{ جمع " خفيف " ،و } ِثقَالً { جمع " ثقيل " ،ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة إلى آحاد.
والمعنى :أن ينفر كل واحد من المسلمين سواء كان خفيفا أم ثقيلً .وسبق أن ضربنا المثل حينما
يدخل الستاذ على الطلبة ويقول :أخرجوا كتبكم ،ومعنى هذا المر أن يُخرج كل تلميذ كتابه ،وإن
قلت :اركبوا سياراتكم ،فمعنى ذلك أن يركب كل واحد منكم سيارته.
إذن :فالية تعني :لينفر كل واحد منكم سواء كان ثقيلً أم خفيفا.
ولكن :كيف يكون النسان ثقيلً وخفيفا في وقت واحد؟ نقول :يكون خفيفا أي :ذا نشاط للجهاد،
وثقيلً أي :أنه سيدخل في مشقّة تجعل المهمة ثقيلة على نفسه .وال سبحانه وتعالى يقول {:كُ ِتبَ
ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ }[البقرة.]216 :
عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ
والدخول فيما هو مكروه في سبيل ال أمر يرفع درجات اليمان .إذن :فالية تحتمل أكثر من
معنى ،فهي تحمل المعنى العام :أن يكون البعض خفيفا والبعض ثقيلً في ذاته ،أو :أن يجمع
القتال بين الخفة في الحركة والثقل في المشقة ،أو :أن يكون الذي يملك دابة هو الخفيف؛ لن
الدابة تزيل المشقة وأسرع في الطريق ،والثقيل هو من يجاهد ماشيا؛ لنه سيتحمل طول المسافة.
وساعة يشحن الحق سبحانه وتعالى قلوب المؤمنين ،فهو يطلب منهم ما يكلفهم به بقوة ،ثم تتجلى
رحمته فيخفف التكليف .ولو جاء الحكم خفيفا في أول التشريع ،ثم يُصعّد؛ فإن هذا المر يكون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صعبا على النفس ،ولكن عندما يأتي الحكم ثقيلً ،ثم يخفف يكون أقرب إلى النفس ،والمثال في
قول الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم {:ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ حَ ّرضِ ا ْل ُمؤْمِنِينَ عَلَى ا ْلقِتَالِ
ن وَإِن َيكُنْ مّنكُمْ مّئَةٌ َيغْلِبُواْ أَلْفا مّنَ الّذِينَ َكفَرُواْ }
عشْرُونَ صَابِرُونَ َيغْلِبُواْ مِئَتَيْ ِ
إِن َيكُن مّنكُمْ ِ
[النفال.]65 :
وهنا يعطي الحق مقياسا لقدرة المؤمن بالنسبة للكافر .فالعشرون يغلبون مائتين ،أي :أن النسبة
هي واحد من المؤمنين إلى عشرة من الكافرين ،ولذلك فعندما نزلت هذه الية كان على المؤمن
الواحد أن يقتل عشرة من الكافرين ،لكن الحق سبحانه وتعالى قد علم أن هذا المر شديد على
نفوس المؤمنين بأن يواجه المؤمن الواحد عشرة من الكفار ،فإنه ل يقدر على ذلك إل أولو العزم،
ضعْفا }[النفال.]66 :
خ ّففَ اللّهُ عَنكُ ْم وَعَِلمَ أَنّ فِيكُ ْم َ
فقال سبحانه {:النَ َ
وما دام هناك ضعف فل بد أن يُخفف المر بالنسبة للمؤمنين في مواجهة الكفار أثناء القتال .ونقل
الحق سبحانه وتعالى النسبة من :واحد إلى عشرة ،إلى :واحد إلى اثنين ،فقال سبحانه وتعالى{:
ن وَإِن َيكُن مّنكُمْ
ضعْفا فَإِن َيكُنْ مّنكُمْ مّئَ ٌة صَابِ َرةٌ َيغْلِبُواْ مِئَتَيْ ِ
خ ّففَ اللّهُ عَنكُ ْم وَعَِلمَ أَنّ فِيكُ ْم َ
النَ َ
أَ ْلفٌ َيغْلِبُواْ أَ ْلفَيْنِ بِِإذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ }[النفال.]66 :
لذلك :مَنْ فَرّ من قتال اثنين يكون قد فَرّ من الزحف ،ولكن إن فرّ من مواجهة ثلثة ل يُحسب
فَارا؛ لنهم أكثر من النسبة التي قررها ال.
خفَافا وَ ِثقَالً { هو أمر يشمل الجميع
وقول الحق في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } ا ْنفِرُواْ ِ
على اختلف أشكالهم ،أي :أنها تحمل أمرا عاما لكافة المسلمين .ولكن هناك قول آخر في سورة
التوبة ،أعفى بعض حالت معينة من المؤمنين الذين أخلصوا قلوبهم ل ،فيقول سبحانه {:لّيْسَ
صحُواْ للّهِ
ضعَفَآ ِء َولَ عَلَىا ا ْلمَ ْرضَىا وَلَ عَلَى الّذِينَ لَ َيجِدُونَ مَا يُن ِفقُونَ حَرَجٌ إِذَا َن َ
عَلَى ال ّ
حمَِلهُمْ قُ ْلتَ
غفُورٌ رّحِيمٌ * َولَ عَلَى الّذِينَ إِذَا مَآ أَ َت ْوكَ لِتَ ْ
ل وَاللّهُ َ
حسِنِينَ مِن سَبِي ٍ
وَرَسُولِهِ مَا عَلَى ا ْلمُ ْ
جدُواْ مَا يُ ْنفِقُونَ }[التوبة-91 :
حمُِلكُمْ عَلَيْهِ َتوَّلوْا وّأَعْيُ ُنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ حَزَنا َألّ يَ ِ
لَ أَجِدُ مَآ أَ ْ
.]92
أي :ليس على هؤلء الذين جاءت اليتان الكريمتان بذكرهم أيّ حرج في أن يقعدوا عن القتال.
وكان هذا هو الستثناء من القاعدة العامة التي فرضت على كل مؤمن أن يقاتل في سبيل ال،
وهو ما جاءت به الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
سكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ { والمال هو الذي يجعلك تُعدّ
ل وَجَا ِهدُواْ بَِأ ْموَاِلكُمْ وَأَنْفُ ِ
خفَافا وَ ِثقَا ً
} ا ْنفِرُواْ ِ
السلح للحرب ،وحين يذهب الجيش إلى القتال ل بد أن يكون مُزوّدَا بالسلح ،وبالمركبات وهي
مثل الخيل على زمن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأيضا ل بد من الزاد الذي يكفي ليام
القتال ،لذلك جاء ال سبحانه وتعالى بذكر المال أولً ،ثم بعذ ذلك ذكر النفس والرواح ،ومن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يملك القوة والمال فعليه أن يجاهد بهما ،ومن يملك عنصرا من الثنين؛ القوة أو المال ،فعليه أن
يجاهد به .فإن كان ضعيفا فعليه أن يعين بماله القوي القادر على القتال بأن يوفر له السلحة
والخيول والدروع وغير ذلك من وسائل القتال.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى } :وَجَاهِدُواْ { ،و " جاهد " و " قاتل " مبنية على المفاعلة،
بمعنى :إن قاتلك واحد من الكفار ،فل بد أن تبذل كل جهدك في قتاله ،و " جاهد " مثل " شارك
عمْرا ،وقاتل زيد عمرا؟ إذن :فهناك
" ،فهل تقول :شارك زيد ثم تسكت ،أم تقول :شارك زيد َ
مفاعلة.
ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُو ْا َوصَابِرُو ْا وَرَابِطُواْ
وَاتّقُواْ اللّهَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لواحد والخطاب لجماعة.
وقوله تعالى } :ذاِل ُكمْ خَيْرٌ { ..عن أي خير يتحدث سبحانه؟
إن نفرتم وجاهدتم بأموالكم وأنفسكم فهو خير ،ول بد أن يكون خيرا من مقابل له .والمقابل له هو
القعود عن الجهاد بأموالكم وأنفسكم.
إذن :فالجهاد خير من القعود.
وكلمة } خَيْرٌ { تستعمل في اللغة استعمالين؛ الستعمال الول أن يراد بها الخير العام ،كقوله
تعالىَ {:فمَن َي ْعمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـ َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة.]8-7 :
ويكون مقابلها في هذه الحالة هو الشر .ومرة تأتي " خير " بمعنى " أفعل التفضيل " ،كأن تقول:
هذا خير من هذا .وفي هذه الحالة يكون كل من المرين خيرا ،ولكن أحدهما أفضل من الخر،
ب إلى ال من المؤمن
مثل قول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :المؤمن القوي خَيْرٌ وأح ّ
الضعيف ،وفي ُكلّ خير "
فإن جاءت " خير " دون أن تسبقها " من " فالمراد بها المقابل لها ،وهو " الشر ".
ونجد بعضا من أساتذة اللغة العربية يقولون :عندما تستخدم كلمة " خير " كأفعل تفضيل ل تقل" :
خير " ،بل قل " :الخير " ،ولكن اللفظ المستخدم هنا هو " خير " ،فإن اس ُت ْعمِل في أفعل
التفضيل فهو يعطي الصفة الزائدة لواحد دون الثاني ،والثنان مشتركان في الخيرية.
وعلى سبيل المثال " كان عند رسول ال صلى ال عليه وسلم عبد اسمه زيد بن حارثة اشترته
خديجة رضي ال عنها ،وأهدته لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،وعرف أبو زيد وعمه مكانه
فذهبا إلى مكة ليروه ،فقال له رسول ال صلى ال عليه وسلم " :فأنت قد علمت ورأيت محبتي لك
فاخترني أو اخترهما " .فقال زيد :ما أنا بالذي أختار عليك أحدا ،أي :أنه اختار أن يبقى مع
رسول ال صلى ال عليه وسلم ول يذهب مع أهله ،فأراد رسول ال صلى ال عليه وسلم أن
يكافئه؛ فألحقه بنفسه وقال " :يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه " وكان التبني مباحا
عند العرب ،وأراد الحق أن يُلغي التبني وأن يطبق رسول ال هذا اللغاء بنفسه ،فجاء قول الحق
حدٍ مّن رّجَاِل ُك ْم وَلَـاكِن رّسُولَ اللّهِ }[الحزاب.]40 :
حمّدٌ أَبَآ أَ َ
سبحانه وتعالى {:مّا كَانَ مُ َ
سطُ عِندَ اللّهِ
وهكذا أنهى الحق سبحانه وتعالى التبني ،وقال سبحانه وتعالى {:ادْعُوهُ ْم لبَآ ِئهِمْ ُهوَ َأقْ َ
}[الحزاب.]5 :
سطُ { يعني " أعدل " ،كأن الحق سبحانه وتعالى لم يَنْف عن رسوله صلى ال عليه وسلم
و } َأقْ َ
العدل ،ولكنه أنزل ما هو أعدل .إذن :فساعة ترى أَفعل التفضيل؛ فاعلم أنه يعطي الصفة الزائدة
ويُبقي الصفة الصلية .وفي الية التي نحن بصددها } ذاِلكُمْ خَيْرٌ { ومقابلها :أن القعود عن الجهاد
بالمال والنفس شر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول الحق سبحانه } :ذاِل ُكمْ خَيْرٌ ّلكُمْ إِن كُن ُتمْ َتعَْلمُونَ { إذن :فهناك موازين نعرف بها ما هو خير
وما هو شر ..وحينما قال الحق } :إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ { فكأن هناك مقدمات للعلم ،فإن لم يكونوا
يعلمون؛ فال يعلمهم ،ذلك أن الذي يجاهد بماله ونفسه يكون قد اقتنع بيقين أنه سوف يحصل من
الجهاد على ما هو خير من المال والنفس .وأيضا :إن قُتل فهو باستشهاده صار أسوة حسنة لمن
يأتي بعده .وحين أوضح سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه من يقاتل صابرا محتسبا يدخل
الجنة ،جاء له صحابي في فمه تمرة يمضغها فيقول :أليس بيني وبين أن أدخل الجنة إل أن أقاتل
فيقتلوني؟ فلما أجاب النبي صلى ال عليه وسلم :نعم .استبطأ الصحابي أن يضيع مضغ التمرة
وقتا ،وأن يتأخر عن القتال بسببها ،فرماها من فمه وقاتل حتى استشهد .وكان هذا دليلً على أنه
واثق تمام الثقة أن الستشهاد يعطيه جزاءً أعلى بكثير مما ترك.
ثم بعد ذلك يعود الحق سبحانه وتعالى إلى الذين يتثاقلون عن الجهاد ليصفي المسائل كلها ،فيقول
شقّةُ{ ...
سفَرا قَاصِدا لّتّبَعُوكَ وَلَـاكِن َبعُ َدتْ عَلَ ْي ِهمُ ال ّ
جل جللهَ } :لوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا وَ َ
()1263 /
طعْنَا
شقّ ُة وَسَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ َلوِ اسْ َت َ
سفَرًا قَاصِدًا لَاتّ َبعُوكَ وََلكِنْ َبعُ َدتْ عَلَ ْيهِمُ ال ّ
َلوْ كَانَ عَ َرضًا قَرِيبًا وَ َ
سهُ ْم وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ ()42
لَخَ َرجْنَا َم َعكُمْ ُيهِْلكُونَ أَ ْنفُ َ
والعَ َرضُ هو ما يقابل الجوهر ،والجوهر هو ما ل تطرأ عليه أغيار ،فالصحة عَرَض والمرض؛
لن كليهما ل يدوم ،إذن فكل ما يتغير يسمى عَ َرضٌ حاضر يأكل منها البَرّ والفاجر.
إذن :فقول الحق سبحانه وتعالىَ { :لوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا } أي :لو كان أمرا من متاع سهل
سفَرا
التناول ،ومحببا للنفس؛ وليس فيه مشقة السفر والتضحية بالمال والنفس؛ لسرعوا إليه { .وَ َ
قَاصِدا } ،والقاصد هو المقتصد الذي في الوسط؛ وبعض الناس يسرف في الكسل ،فل يستنبط
الخير من السعي في الرض ومما خلق ال ،وبعض الناس يسرف في حركة الدنيا ويركض
كركض الوحوش في البرية ،ول يكون له إل ما قسمه ال .وأمزجة الناس تتراوح ما بين
السراف والتقتير ،أما المؤمن فعليه أن يكون من المة المقتصدة .والحق هو القائل {:مّ ْنهُمْ ُأمّةٌ
ّمقْتَصِ َدةٌ }[المائدة.]66 :
لن المؤمن ل يأخذه الكسل فيفقد خير الدنيا ،ول يأخذه السراف فينسى اليمان .إذن :فالحق
سبحانه وتعالى يوضح لرسوله صلى ال عليه وسلم أنه لو كان هناك متاع من متاع الدنيا أو سفر
بل مشقة ول تعب لتبعوك ،فهم لم يتبعوك؛ لنه ليست هناك مغانم دنيوية؛ لن هناك مشقة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالرحلة إلى تبوك ،ومقاتلة الروم ،وهم أصحاب الدولة المتحضرة التي تضع رأسها برأس دولة
عسْر والحر شديد ،ولو أن المر سهل مُيسّر لتبعوك.
الفرس ،وهذه أيضا مشقة ،والعام ُ
شقّةُ } أي :أن المشقة طويلة ،ثم يقول { :وَسَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ
ويتابع سبحانه { :وَلَـاكِن َبعُ َدتْ عَلَ ْي ِهمُ ال ّ
طعْنَا لَخَ َرجْنَا َم َعكُمْ } هم إذن لم يتبعوك؛ لن المسألة ليست عرضا قريبا ول سفرا سهلً،
َلوِ اسْ َت َ
بل هي رحلة فيها أهوال ،وتضحيات بالمال والنفس ،وحين تعود من القتال سوف يحلفون لك؛
أنهم لو استطاعوا لخرجوا معكم للقتال.
وقد قال الحق ذلك قبل أن تأتي أوان الحلف ،وهذه من علمات النبوة؛ لكي يعرف رسول ال
صلى ال عليه وسلم المنافقين مِنْ صادقي اليمان .وسبحانه وتعالى يفضح غباء المنافقين؛ لذلك
حِلفُونَ بِاللّهِ } واستخدام حرف السين هنا يعني أنهم لم يكونوا قد قالوها بعد ،ولكنهم
قال { :وَسَيَ ْ
سيقولونها في المستقبل ،ولو أنهم تنبهوا إلى لم يكونوا قد قالوها بعد ،ولكنهم سيقولونها في
المستقبل ،ولو أنهم تنبهوا إلى ذلك لمتنعوا عن الحلف .ولقالوا :إن القرآن قال سنحلف ،ولكننا لن
نحلف .ولكن ال أعماهم فحلفوا ،وهكذا يأتي خصوم السلم ليشهدوا -رغم أنوفهم -للسلم.
حوّلت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة الشريفة؛ قال الحق
ومثال آخر على نفس المر؛ عندما ُ
سفَهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا َولّهُمْ عَن قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُواْ عَلَ ْيهَا }[البقرة.]142 :
سبحانه وتعالى {:سَ َيقُولُ ال ّ
وقوله هنا { سَ َيقُولُ } معناها أنهم لم يقولوا بعد ،وإل ما استخدم فيها حرف السين.
وهذه الية نزلت في القرآن يتلى ول يتغير ول يتبدل إلى يوم القيامة ..ورغم أنه كان في
استطاعتهم أل يقولوا ذلك القول ،ولو فعلوا لساهموا في التشكيك بمصداقية القرآن ،ولهدموا قضية
الدين التي يتمنون هدمها ،ولكنهم مع ذلك قالوا } :مَا وَلّ ُهمْ عَن قِبْلَ ِتهِمُ { وجاءوا مثبتين ومُصدّقين
للقرآن.
وفي هذه اليام نجد شيئا عجيبا؛ نجد من يقول :أنا ل أتبع إل ما جاء في القرآن ،أما السنة فلستُ
مطالبا باللتزام بها .وتقول لمن يردد هذا الكلم :كم عدد ركعات الصبح وركعات الظهر
والعصر والمغرب والعشاء؟ وسوف يرد قائلً :صلة الصبح ركعتان ،والظهر أربع ،والعصر
أربع ،والمغرب ثلث ،والعشاء أربع .ونقول :من أين أتيت بهذا؟ يقول :من السنة.
نقول :إذن فل بد من اتباع السنة حتى تستطيع أن تصلي ،ولن تفهم التطبيق العملي لكثير من
الحكام إل باتباع السنة.
ويجبر الحق سبحانه هذا الذي يحارب سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم ويدعو إلى عدم
اللتزام بها؛ يجبره سبحانه على العتراف بضرورة اتباع السنة ،وبهذا يصدق قول رسول ال
صلى ال عليه وسلم:
" يوشك الرجل يتكىء على أريكته يُحدّث بحديثي ،فيقول :بيني وبينكم كتاب ال ،فما وجدنا فيه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حللً استحللناه ،وما كان فيه حراما ح ّرمْناه ،وإن ما حرم رسول ال صلى ال عليه وسلم كما
حرم ال ".
طعْنا في الكتاب ،ولكنهم من حيث ل يدرون أكدوا صدق رسول ال صلى ال
وقد قالوا ذلك القول َ
عليه وسلم ،فهم لم يمتلكوا الذكاء؛ لن الذكاء الذي ل يهدي لليمان هو لون من الغباء وعَمى
البصيرة ،وكذلك كان حال من حلفوا بعدم استطاعتهم الخروج للقتال؛ فقد سبقهم قول ال} :
طعْنَا َلخَرَجْنَا َم َعكُمْ { وجاءوا من بعد ذلك وحلفوا؛ ليؤكدوا صدق القرآن.
وَسَيَحِْلفُونَ بِاللّهِ َلوِ اسْتَ َ
وهم في حلفهم يدّعون عدم استطاعتهم للقتال ،مع أن لديهم المال والقدرة.
سهُمْ وَاللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ { وما داموا قد حلفوا بال كذبا ،فقد
ويقول الحق عنهمُ } :يهِْلكُونَ أَ ْنفُ َ
أدخلوا أنفسهم في الهلك ،فهم لم يكتفوا بعدم الجهاد؛ بل كذبوا وفضح ال كذبهم.
عفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ َأذِنتَ َلهُمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلكَ{ ...
ويقول الحق بعد ذلكَ } :
()1264 /
عفَا } تدل على أن هناك أثرا قد مُحي؛ تماما كما يمشي إنسان في الرمال؛ ف ُتحْدِث أقدامه
وكلمة { َ
أثرا ،ثم تأتي الريح فتمل مناطق هذا الثر بالرمال وتزيله .وهي تُطلق في الدين على محو ال
سبحانه وتعالى لذنوب عباده فل يعاقبهم عليها .وما دام النسان قد استغفر من ذنبه وقال :أستغفر
ال الذي ل إله إل هو الحي القيوم وأتوب إليه ،فل يجب أن يحرجه أحد بعد ذلك ،ول أن يعايره
أحد ،فقد استغفر عند من يملك الملك كله ،وهو وحده سبحانه الذي يملك العفو والمغفرة ،فل
ن يملك
يُ ْدخِلنّ أحدكم نفسه في هذه المسألة ،ول يجب أن يحرج إنسان مذنبا ما دام قد استغفر مَ ْ
العفو ،ومن يسمع مستغفرا عليه أن يقول :عفا ال عنك .ول أحد يعرف إن كان ال قد عفا عنه أم
ل ،فَلْ ُتعِ ْنهُ بالدعاء له ،ومن يعاير مذنبا نقول له :تأدب؛ لنه لم يرتكب الذنب عندك ،ولكنه ارتكبه
عند ربه ،وإذا كان من يستغفر من ذنبه ل يُحرج به بين الناس ،فما بالنا بعفو ال سبحانه القادر
وحده على العفو.
وهنا يقدم الحق سبحانه العفو عن رسول ال صلى ال عليه وسلم الذي أذن لهم بالقعود عن
القتال ،ثم يأتي القرآن من بعد ذلك ليؤكد أن ما فعله رسول ال بالذن لهم بالقعود كان صوابا،
فيقول في موضع آخر من نفس السورةَ {:لوْ خَرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ ِإلّ خَبَالً }[التوبة.]47 :
إذن :فلو أنهم خرجوا لكانوا سببا في الهزيمة ،ل من أسباب النصر .وص ّوبَ الحق عمل الرسول،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهو صلى ال عليه وسلم له العصمة.
وهنا نحن أمام عفو من ال ،على الرغم من عدم وجود ذنب يُعفى عنه ،وهنا أيضا إذن من
الرسول لهم بالقعود ،ونزل القرآن ليؤكد صوابه.
وهناك من فهم قول الحقِ { :لمَ أَذِنتَ َل ُهمْ } على أنها استفهام استنكاري ،وكأن الحق يقول :كيف
أذِ ْنتَ لهم بالعفو؟
إذن :فرسول ال بين أمرين :بين عفو ل يُ ْذكَرُ بعده ذنب ،واستفهام يفيد عند البعض النكار.
ونقول :إن الحق سبحانه وتعالى أيّد رسوله صلى ال عليه وسلم بقولهَ {:لوْ خَ َرجُواْ فِيكُم مّا
زَادُوكُمْ ِإلّ خَبَالً }[التوبة.]47 :
ي إلى المر بفطرته اليمانية ،وقد أشار القرآن إلى ذلك؛ ليوضح لنا أن
فكأن الرسول قد ُه ِد َ
رسول ال صلى ال عليه وسلم معصوم وفطرته سليمة ،وكان عليه أن يقدم البيان العقلي للناس؛
لنه السوة حتى ل يأتي من بعده واحد من عامة الناس ليفتي في مسألة دينية ويقول :أنا رأيت
بفطرتي كذا ،بل ل بد أن يتبين النسان ما جاء في القرآن والسنة قبل أن يفتي في أمر من أمور
الدين.
()1265 /
ويلفتنا سبحانه :أن الذين طلبوا ذلك الذن بالقعود فضحوا أنفسهم ،فقد استأذنوا بعد مجيء المر
خفَافا وَ ِثقَالً } ،وكل مؤمن بال واليوم الخر -في تلك الظروف -ل يمكن أن
من ال { ا ْنفِرُواْ ِ
يتخلف عن الجهاد في سبيل ال .والمؤمن الحق لن يقدم العذار ليتخلف ،حتى وإن كانت عنده
أعذار حقيقية ،بل سيحاول إخفاءها عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ليخرج معه مجاهدا بل إنه
يسرع إلى الجهاد ،حتى ولو كان ال قد أعطاه رخصة بعدم الجهاد.
عيَ
وهذه الية -إذن -تحمل التوبيخ للذين استأذنوا ،بل وتحمل أكثر من ذلك ،فالمؤمن إذا دُ ِ
للجهاد مع رسول ال صلى ال عليه وسلم وبأمر من ال ل يكون تفكيره كالشخص العادي؛ لن
النسان في المور العادية إذا طُِلبَ منه شيء أدار عقله وفكره؛ هل يفعله أو ل يفعله؟ ولكن
المؤمن إذا دُعِي للجهاد في سبيل ال ،ومع رسول ال ،وبأمر من ال؛ ل يدور في عقله الجواب،
ول تأتي كلمة " ل " على خاطره أبدا ،بل ينطلق في طريقه إلى الجهاد.
وكيف يكون المر بالخروج إلى القتال صادرا من ال ،ثم يتحجج هؤلء بالستئذان بعدم الخروج؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فمجرد الستئذان دليل على اهتزاز اليمان في قلوبهم؛ لن الواحد منهم في هذه الحالة قد
أدار المسألة في عقله ،يخرج للجهاد أو ل يخرج ،ثم اتخذ قرارا بالتخلف .والغريب أن هؤلء
استأذنوا رسول ال صلى ال عليه وسلم في عدم الخروج ،مع أن أمر الجهاد صادر من ال
سبحانه وتعالى ،ولم تكن المسألة تحتاج إلى أن يأذن لهم الرسول بالتخلف .إل أنهم كانوا يبحثون
عن عذر يحتمون به.
والمثال من حياتنا اليومية أننا نجد أولد البلد يسخرون من البخيل الذي ل يكرم ضيفه ويدّعي أنه
سيكرمه ،فتجده ينادي ابنه ويقول له أمام الضيف :انزل إلى السوق وابحث لنا عن خروف نذبحه
للضيف ول تتأخر فنحن منتظرون عودتك ..وما إن يقول الضيف أدبا منه :ل .تجد البخيل
يصرف ابنه .ويتخذ من رفض الضيف أدبا منه :ل .تجد البخيل يصرف ابنه .ويتخذ من رفض
الضيف حجة لعدم إكرامه ،وكأنه يريد ذلك ،ولكن الواقع يقول :إنه ل يريده من أول المر.
ونعلم جميعا أن النسان ل يستأذن في إكرام ضيوفه .والمثال :هو إبراهيم عليه السلم عندما
جاءته الملئكة في هيئة رجال ،وأراد أن يكرمهم فلم يستأذنهم في أن يذبح لهم عجلً ،بل جاء به
إليهم مذبوحا ومشويا ،هذا سلوك مَنْ أراد إكرام الضيف بذبيحة فعلً ،أما مَنْ يريد أن يبحث عن
العذر ،فهو يتخذ أساليب مختلفة يتظاهر فيها بالتنفيذ ،بينما هو في حقيقته ل يريد أن يفعل ،مثلما
يقال لضيف :أتشرب القهوة أم أنت ل تحبها؟ أو يقال له :هل تريد تناول العشاء أم تحب أن تنام
خفيفا؟ أو يقال :هل تحب أن تنام عندنا أن تنام في الفندق ،وهو أكثر راحةً لك؟
وما دام هناك من سأل الرسول :أأخرج معك للقتال أم أقعد ،فهذا السؤال يدل على التردد،
واليمان يفترض يقينا ثابتا؛ لن التردد يعني الشك ،وهو الذهاب والرجوع على التوالي ،وهو
يعني أن صاحب السؤال متردد؛ لن طرفي الحكم عنده سواء.
إذن :فالمؤمنون بال ل يستأذنون رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا دُعوا إلى الجهاد؛ لن مجرد
الستئذان في الخروج إلى الجهاد ل يليق بمؤمن.
وقوله تعالى } :وَاللّهُ عَلِيمٌ بِا ْلمُ ّتقِينَ { أي :أن ال يعلم ما في صدورهم من تقوى ،فهم إنْ خدعوا
الناس ،فلن يستطيعوا خداع ال؛ لنه مُطّلع على ما تُخفي الصدور.
()1266 /
إِ ّنمَا يَسْتَ ْأذِ ُنكَ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الْآَخِ ِر وَارْتَا َبتْ قُلُو ُبهُمْ َفهُمْ فِي رَيْ ِبهِمْ يَتَرَدّدُونَ ()45
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يُنزِل ال حكمه في هؤلء فيقول:
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَارْتَا َبتْ قُلُو ُبهُمْ َفهُمْ فِي رَيْ ِبهِمْ يَتَ َردّدُونَ }
{ إِ ّنمَا َيسْتَأْذِ ُنكَ الّذِي َ
وهكذا أصدر ال حكمه فيمن أقدموا على الستئذان ،فما دام النسان قد تردد بين أن يخرج للجهاد
أو ل يخرج ،فهذا يكشف عن اهتزاز إيمانه ،وهذا الهتزاز يعني وجود شك في نفسه ،فيما أعد
ال له في الخرة؛ لنه إذا كان واثقا في داخله يقينا أنه سيدخل الجنة بل حساب إنْ استشهد ،ما
تردد ثانية واحدة ،ول أدار المر في رأسه هل يذهب أو ل يذهب؟ فما دامت الجن هي الغاية،
فأيّ طريق مُوصل إليها يكون هو الطريق الذي يتبعه مَنْ في قلبه يقين اليمان ،وكلما كان
الطريق أقصر كان ذلك أدعى إلى فرح النسان المؤمن؛ لنه يريد أن ينتقل من شقاء الدنيا إلى
نعيم الخرة ،وحتى لو كان يحيا في نعيم في الدنيا ،فهو يعرف أنه نعيم زائل وهو ل يريد هذا
النعيم الزائل ،بل يريد النعيم الباقي الذي ل يزول.
والتردد والستئذان هنا معناهما :أن الشك قد دخل في قلب النسان ،ومعنى الشك -كما نعلم -
هو وجود أمرين متساويين في نفسك ل يرجح أحدهما حتى تتبعه .والنسب الكلمية والقضايا
العقلية تدور بين أشياء متعددة ،فأنت حين تجزم بحكم فل بد أن يكون له واقع يؤيده؛ لنك إن
جزمتَ بشيء ل واقع له فهذا جهل ،والجهل -كما نعلم -أن نعتقد أن شيئا ما هو حقيقة ،وهو
غير ذلك ول واقع له .فإذا أنت على سبيل المثال قلت :إن الرض مبسوطة ،ثم جاءوا لك
بصورة الرض كروية وأصررت على أنها مبسوطة ،فهذا جهل وإصرار عليه .وفرق بين
الجاهل والمي ،فالمي الذي لم يكن يعرف أن الرض كروية ،ثم علم حقيقة العلم وصدقها فهو
مذ عرف الواقع صدقه وآمن به .ولكن الجاهل يؤمن بما يخالف الواقع .فإن جئت له بالحقيقة أخذ
يجادل فيها مُصرا على رأيه .ولذلك نجد مصيبة الدنيا كلها ليست من الميين ،ولكن من الجهلة
لن المي يحتاج إلى مجهود فكري واحد ،أن تنقل له المعلومة فيصدقها ،أما الجاهل فإقناعه
يقتضي مجهودين :الجهد الول :أن تخرج ما في عقله من معلومات خاطئة ،وأوهام ليست
موجودة في الواقع ،والجهد الثاني :أن تقنعه بالحقيقة.
وإذا كان هناك واقع في الحياة تستطيع أن تدلل عليه فهذا هو العلم .فإن لم تستطع التدليل عليه
فهذا هو التلقين ،والمثال :أننا حين نُلقن الطفل الصغير أن ال أحد ،وهو لم يبلغ السن التي
تستطيع عقليا أن تدلل له فيها على ذلك .ولكنك قلت له :إن ال أحد ،وجزم بها الطفل ،وهذه
حقيقة واقعة ،ولكنه ل يستطيع أن يدلل عليها.
وهو في هذه الحالة يُقلد أباه أو أمه أو مَنْ لقنه هذا الكلم حتى ينضج عقله ويستطيع أن يدلل على
ما اعتقده في صغره بالتلقين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فالعلم يقتضي أن تؤمن بقضية واقعية عليها دليل ،ولكن إن كنت لم تصل إلى مرحلة الجزم؛
تكون في ذهنك نسبتان؛ وليست نسبة واحدة .فإن لم ترجع نسبة على الخرى ،فهذا هو الشك.
وإن ظننتَ أنت أن إحداهما راجحة فهذا هو الظن ،فإن أخذت بالنسبة غير الراجحة فهذا هو
الوهم.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ { ولو استقر في
الحق سبحانه وتعالى يقول } :إِ ّنمَا َيسْتَأْذِ ُنكَ الّذِي َ
قلوبهم اليمان اليقيني بال واليوم الخر ،وأن مَردّهم إلى ال سبحانه وتعالى ،وأنهم سوف
يحاسبون على ما قدموا ،واعتبروا أن تضحيتهم بالمال والنفس عمل قليل بالنسبة للجزاء الكبير
الذي ينتظرهم في الخرة ،لو كان المر كذلك لنا استأذنوا ،ولكن ما دام الشك قد دخل قلوبهم
فمعنى هذا أن هناك ريبة في أمر ملقات ال في اليوم الخر .وهل هذا المر حقيقة يقينية؟
ولنهم يرتابون في هذه المسألة فهل يضحون بأموالهم وأنفسهم من أجل ل شيء ،ولذلك يقول
عنهم الحق سبحانه وتعالى } :وَارْتَا َبتْ قُلُو ُبهُمْ {.
إذن :فالرتياب محله القلب ،والعلم أيضا محله القلب ،ويمر كل من الرتياب والعلم علىالعقل؛
لن العقل هو الذي يُصفّى مثل تلك المسائل بعد أن يستقبل المحسّات ويناقش المقدمات والنتائج،
فإن صفّى العقل هذه المور واستقر على اليمان ،هنا يصبح اليمان قضية يقينية ثابتة مستقرة
في القلب ،ول تطفو مرة أخرى إلى العقل لتُناقَش من جديد ،ولذلك س ّموْها عقيدة ،أي عقدت
الشيء حتى يستقر في مكانه ول يتزحزح.
إن الطفل -مثلً -إنْ قرّب يده إلى شيء مشتعل فأحس بلسعة النار .هنا يعرف أن النار محرقة
ول يحاول تكرار نفس التجربة ،ول يناقشها في عقله ليقول :لن تلسعني النار في هذه المرة ،بل
تستقر في ذهنه المسألة ،وتنتقل من قضية حسية إلى قضية عقدية ل تخضع للتجربة من جديد ول
يحتاج فيها إلى دليل.
وهنا يقول الحق سبحانه } :وَارْتَا َبتْ قُلُو ُبهُمْ { ،وفي آية أخرى يقول سبحانه } :خَ َتمَ اللّهُ عَلَىا
قُلُوبِهمْ { والقلب هو محل القضايا التي انتهت من مرحلة التفكير العقلي ،وصارت قضايا ثابتة ل
يبحثها العقل من جديد.
وقوله هنا } :وَارْتَا َبتْ قُلُو ُبهُمْ { معناه :أن اليمان عندهم لم يصل إلى المرتبة التي ل يطفو فيها
مرة أخرى للتفكير العقلي ..أيؤمن أو ل؟ ،أي :لم يصل إلى مرتبة اليقين ،بل ما زال في مرحلة
الشك الذي يعيد القضايا من القلب إلى العقل لمناقشتها من جديد ،ولذلك يصفهم الحق سبحانه
وصفا دقيقا فيقولَ } :فهُمْ فِي رَيْ ِبهِمْ يَتَرَدّدُونَ { أي :أن اليمان عندهم يتردد بين العقل والقلب،
فينزل إلى القلب ثم يطفو إلى العقل ليُناقَشَ من جديد ،ثم ينزل إلى القلب مرة أخرى ،وهكذا يتردد
المر بين العقل والقلب ،ول يستقر في مكان ،وهم بذلك على غير يقين من الخرة ،وما أعدّ ال
لهم فيها من جزاء .ويشكّون في لقاء ال في اليوم الخر .ويدور كل ذلك في نفوسهم ،ولكنه ل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يصل إلى مرتبة اليقين.
ويريد ال سبحانه وتعالى أن يوضح لنا الصورة أكثر فيقول } :وََلوْ أَرَادُواْ ا ْلخُرُوجَ لَعَدّواْ لَهُ{ ..
()1267 /
ففي ترددهم دللة على أنهم ل يريدون الخروج للجهاد؛ ولو كانوا عازمين بالفعل على ذلك
لعدوا ما يلزمهم للحرب من الزاد الراحلة والسلح ،ولكنهم لم يفعلوا شيئا من هذا قط؛ لنهم
افتقدوا النية الصادقة للجهاد في سبيل ال بأموالهم وأنفسهم.
ولقائل أن يقول :ألم يكن من الجائز أن يعدوا كل شيء للقتال في آخر لحظة؟ نقول :ل ،فالذاهب
إلى القتال ل يمكن أن يستعد في آخر لحظة .بل ل بد أن يشغل نفسه بمقدمات الحرب من سلح
وزاد وراحلة وغير ذلك ،ولو لم يشغل نفسه بهذه المسائل قبل الخروج بفترة وتأكد من صلحية
سلحه للقتال؛ ووجود الطعام الذي سيحمله معه؛ وغير ذلك ،لما استطاع أن يخرج مقاتلً .فليست
المسألة بنت اللحظة .بل كان عدم استعدادهم للقتال ُي َعدّ كشفا للخميرة المبيّتة في أعماقهم بأل
يخرجوا ،وسبحانه قد اطلع علة نواياهم ،وما تُخْفى صدورهم ،وقد جازاهم بما أخفوا في أنفسهم.
لذلك يقول:
ط ُه ْم َوقِيلَ ا ْقعُدُواْ مَعَ ا ْلقَاعِدِينَ } وسبحانه وتعالى ل يحتاج إلى أحد
{ وَلَـاكِن كَ ِرهَ اللّهُ ان ِبعَا َثهُمْ فَثَبّ َ
من خلقه ،بل الخلق هم الذين في احتياج دائم إليه سبحانه؛ لذلك ثبط هؤلء عن الخروج ،وكره
سبحانه خروجهم للقتال ،و " ثبطهم " أي جعلهم في مكانهم ،ولم يقبل منهم أن يعدوا العدة للقتال
كراهية منه سبحانه أن يخرجوا بنشاط إلى القتال .والكره :عملية وجدانية .والتثبيط :عملية
نزوعية.
وأضرب هذا المثل دائما -ول المثل العلى -أنت ترى الوردة ،فتدرك بعينيك جمالها ،فإنْ
مددتَ يدك إليها لتقطفها ،هنا يتدخل الشرع ليقول لك :ل؛ لن هذا نزوع إلى ما ل تملك .وإن
أردت أن تحوز وردة مثلها ،فإما أن تشتريها وإما أن تزرع مثلها ،إذن :فالمشرع يتدخل -فقط -
في العمال النزوعية.
وكراهية ال لنزوعهم تجّلتْ في تثبيطهم وخذلهم وردّهم عن الفعل ،وزيّن لهم في نفوسهم أل
يخرجوا للقتال مع رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ وذلك لحكمة أرادها الحق سبحانه ،فوافقت ما
أذن فيه رسول ال في التخلف ،وهنا نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى قالَ { :وقِيلَ ا ْقعُدُواْ مَعَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْلقَاعِدِينَ } وإذا كان التثبيط من ال ،فكأنه أوضح لهم :اقعدوا بإذن ال من الرادة اللهية .أو أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم أذن لهم بالقعود والتخلف لمّا استشفّ تراخيهم ،أو أن الشياطين
س وَالْجِنّ
ن الِنْ ِ
ع ُدوّا شَيَاطِي َ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ َ
أوحتْ لهم بالقعود ،فالحق هو القائل سبحانهَ {:وكَذَِلكَ َ
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ غُرُورا }[النعام.]112 :
يُوحِي َب ْع ُ
سمّ فاعله لمكان أن يتعدد القائلون ،فال بتثبيطه لهم
وهكذا نجد أن كلمة { :قِيلَ } قد بُنيتْ لما يُ َ
كأنه قال لهم :اقعدوا ،والرسول صلى ال عليه وسلم قال لهم :اقعدوا ،والشياطين حينما زينوا لهم
القعود؛ كأنهم قالوا لهم :اقعدوا.
وقولهم بعضهم لبعض زيّن لهم القعود ،وهكذا أعطتنا كلمة واحدة عطاءات متعددة.
وهل ينفي عطاءٌ عطاءً؟ .ل ،بل كلها عطاءات تتناسب مع الموقف.
ط ُه ْم َوقِيلَ ا ْقعُدُواْ مَعَ ا ْلقَاعِدِينَ { والمقصود بالقاعدين هنا :هم الذين
} وَلَـاكِن كَ ِرهَ اللّهُ ان ِبعَا َثهُمْ فَثَبّ َ
ل يجب عليهم الجهاد من النساء والطفال والعجائز .فكأنهم قد تخلوا بعدم خروجهم عن رجولتهم
التي تفرض عليهم الجهاد .وهذه مسألة ما كان يصح أن يرتضوها لنفسهم .وفي موقع آخر من
نفس السورة قال الحق سبحانه:
ف وَطُبِعَ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ }[التوبة.]87 :
خوَاِل ِ
{ َرضُواْ بِأَن َيكُونُواْ مَعَ الْ َ
وقد كانت الرجولة تفترض فيهم أن يهبوا للقتال ،لكنهم ارتضوا لنفسهم ،ضعف النساء والطفال.
ونجد الشاعر العربي عندما أراد أن يستنفر أفراد قبيلته الذين تكاسلوا عن القتال معه ،فقال:
حصْنٍ أمْ ِنسَاءُوالقوم تُطَلقُ على الرجال دون النساء .ثم
ستُ إخَالُ أدْري أقوْمٌ آلُ ِ
َومَا أدْرِي ول ْ
يبين لنا الحق حكمة التثبيط ،فإن كان قعودهم من جانب الخير ،فتثبيط ال لهم حكمة ،وإذن
الرسول لهم بعدم الخروج حكمة .وإن كانت مسألة قعودهم من وسوسة الشياطين لهم أو وسوسة
النفوس ،فقد خدمت وسوسة الشياطين ووسوسة النفوس قضية اليمان ،وأعانوا على مراد ال،
وهذا هو الغباء الكفرى ،فزينت الوسوسة لهؤلء المنافقين عدم الخروج للجهاد في سبيل ال؛
لنهم لو خرجوا لحدث منهم ما قاله الحق سبحانه وتعالى فيهمَ } :لوْ خَ َرجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ ِإلّ
خَبَالً{ ..
()1268 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والخبال مرض عقلي ينشأ معه اختلل موازين الفكر ،فتقول :فلن مخبول ،أي :أنه يحكم في
القضايا بدون عقل ،إذن فقوله تعالى { :مّا زَادُوكُمْ ِإلّ خَبَالً } أي :أنهم لن يكونوا إل مصدرا
لبلبلة الفكار لو خرجوا معكم للقتال ،فل تستطيعون اتخاذ القرار السليم .فكأنهم عين عليكم،
وضدكم وليسوا معكم ،وقد يكونون من عوامل الهزيمة التي لم يُرِدْهَا ال لكم ،وليسوا من عوامل
النصر ،فكأن عدم خروجهم هو دفع لشَر ،كان سيقع لو أنهم خرجوا معكم .وشاء الحق عدم
خروجهم حفاظا على قوة المؤمنين وقدرتهم على الجهاد.
ضعُواْ خِلََلكُمْ } أي :أنهم كانوا س ُيحْدثون فُرْقة بين صفوف المؤمنين
ل ْو َ
وقوله تعالى { :و َ
ويُفرّقونهم ،وسيتغلغلون بينهم للفسَاد؛ لن الخلل هو الفُرْجة بين الشيئين أو الشخصين ،فيدخل
واحد منهم بين فريق من المؤمنين فيفسد ،وآخر يفسد فريقا آخر ،وهكذا يمشون خلل المؤمنين
ليفرقوا بينهم.
ولكن التساؤل :هل كانوا سيخرجون معهم أو فيهم؟ هم كانوا سيدخلون في الفُرج بين المؤمنين
ليبلبلوا أفكارهم .ونقول :إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض ،وعندما تسمع كلمة " فيكُم "
اعلم أنها تغلغل ظرف ومظروف؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالَى في موضع آخر من القرآن ما
خلِ }[طه.]71 :
يوضح لنا الظرف والمطروف ،قال الحقَ {:ولُصَلّبَ ّنكُمْ فِي جُذُوعِ النّ ْ
هل كان فرعون سيصلب السحرة في داخل الجذوع أم على الجذوع؟ وإن كان أهل اللغة قد قالوا:
إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض .فإننا ل نرضى هذا الجواب؛ لننا إن رضيناه في
أساليب البشر ،ل يمكن أن نقبله في أساليب كلم ال؛ لن هناك معنى " في " الظرفية؛ ومعنى
خلِ }
لصَلّبَ ّنكُمْ فِي جُذُوعِ النّ ْ
آخر في استخدام حرف " على " .ولو قال الحق سبحانه وتعالىَ { :و ُ
معناه :أن عملية الصّلْب ستتم بقوة بحيث تدخل أجزاء من جسم المصلوب في المصلوب فيه ،أي:
أن جنود فرعون كانوا سَيَدقّون على أجساد السحرة حتى تدخل في جذوع النخل ،وتصبح هذه
الجساد وجذوع النخل وكأنها قطعو واحدة ،هذه صورة لقسوة الصلب وقوته.
لكن إذا قلنا :على جذوع النخل لكان المعنى أخفّ ،ولكان الصّلْب أقل قسوة ،فكأن القرآن الكريم
قد استعمل ما يعطينا دقة المعنى .بحيث إذا تغيّر حرف اختل المعنى .ونجد الحق سبحانه وتعالى
يقول في موضع آخر من القرآن الكريم {:وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن رّ ّبكُمْ }[آل عمران.]113 :
أي :أن سرعتنا في العمل الصالح تنتهي بنا إلى المغفرة ،إذن :فنحن قبل أن نسرع إلى الصالح
من العمال لم نكن في المغفرة ،وعندما نسارع نصل إليها.
ثم نجد قول الحق سبحانه وتعالى أيضا {:إِ ّنهُمْ كَانُواْ ُيسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ }[النبياء]90 :
ولم يقل :يسارعون إلى الخيرات؛ لن عملهم الن خير ،وهم سيسارعون فيه؛ أي سيزيدونه؛
إذن :إنْ سارعتَ إلى شيء كأنه لم يكن في بالك ،ولكنك ستسرع إليه ،ولكن سارعتَ في الخير،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكأنك في الخير أولً ثم تزيد في فعل الخير.
ضعُواْ خِلََلكُمْ { نجد أن " أوضع " تعنى :أسرع بدرجة بين
لوْ َ
وإذا تدبرنا قول الحق سبحانه } :و َ
البطاء والسرعة ،فيقال " :أوضعت الدابة؛ أي مشتْ بخُطىً غير بطيئة وغير سريعة في نفس
الوقت ،ولو نظرتَ إلى حالة هؤلء المنافقين لو خرجوا مع المؤمنين للقتال ،لرأيتهم وهو يزينون
لهم الفساد ،ويعملون على أن تصاب عقول المقاتلين بالخبل ،ولوجدتَ أن هذا المر يتطلب آخر
البطء وأول السرعة في الحركة ،كانوا يحتاجون إلى البطء؛ لنهم كانوا سيهمسون في آذان
المؤمنين بتزيين الباطل وهذا يقتضى بُطئا ،ثم ينتقل الواحد منهم إلى مؤمن ثان ليقوم معه بنفس
العملية ،ول بد أن يسرع إلى التواجد بجانب المؤمن الخر .إذن :فالحركة هنا تحتاج إلى البطء
في الوسوسة؛ وسرعة في النتقال من مؤمن لخر .وهذا أدقّ وصف ينطبق على ما كان
سيحدث.
ولكن ما هدف هؤلء المنافقين من أن يضعوا الخبل في عقول المؤمنين؟ ويُفرّقوهم جماعات؟
الهدف :أن ينالوا من وحدتهم وقوتهم ،ويقول الحق سبحانه وتعالى } :يَ ْبغُو َنكُمُ ا ْلفِتْنَةَ { أي :يطلبون
لكم الفتنة؛ لن النسان الشرير حين يرى خيرا يقوم به غيره ،يجد الملكات اليمانية في أعماقه
تصيبه بنوع من احتقار النفس ،فيحاول التقليل من شأن فاعل الخير بأن يسخر مما يفعله أو أن
يستهزئ به ،وهذا أوضح ما يكون في مجالس الخمر ،حين يحس الجالسون في هذه المجالس
بالذنب الشديد؛ إن وُجِدَ بينهم إنسان ل يشرب الخمر ،فتجدهم يحاولون أن ُيغْروه بكل طريقه؛
لكي يرتكب نفس الثم ،فإذا رفض أخذوا يُعيّرونه ويستهزئون به ،ويسخرون منه ،ويدّعون أنه لم
يبلغ مبلغ الرجال ،وغير ذلك من أساليب السخرية .وأيضا تجذ الكذاب يحاول دفع الناس إلى
الكذب ،والسارق يغري الناس بالسرقة ،والمرتشي يحاول نشرة الرشوة بين جميع زملئه ،فإذا
وُجِدَ إنسان نزيه وسط هؤلء الذين يرتكبون هذه اللوان من السلوك السيء؛ فهم يضطهدونه
ويسخرون منه.
والمثال :حين يقوم إنسان للصلة بين عدد من تاركي الصلة ،تجدهم يحاولون السخرية منه ،فهذا
يقول له :خذني على جناحك ،وهذا يقول له مستهزئا :يجعلنا ال من بركاتك .ويُبيّن لنا القرآن
الكريم هذه القضية ليعطينا المناعة اليمانية فيقول {:إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ
حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا َأهِْلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْهُمْ قَالُواْ
َيضْ َ
حكُونَ *
ضَإِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُ ْرسِلُواْ عَلَ ْيهِمْ حَافِظِينَ * فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َي ْ
عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المطففين]36-29 :
وهذه اليات تعطينا صورة لما يحدث عندما يعمّ الفساد في الرض ،فالذين سخروا من المؤمنين
يضحكون ضحكات ستزول حَتْما طال الوقت أو َقصُر يتبعها عذاب في الخرة ،أما أهل اليمان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهم يخشون ال في الدنيا؛ فيثيبهم ال في الخرة ،ويضحكون ضحكة خالدة مستمرة.
إذن :فقوله تعالى } :يَ ْبغُو َنكُمُ ا ْلفِتْنَةَ { أي :إنهم من فَرْط حقدهم عليكم وعلى أيمانكم ،يحاولون أن
يفتنوكم في دينكم حتى تنزلوا إلى مستواهم ،تماما كأنماط السلوك التي بيّناها من قبل.
ثم يبيّن الحق سبحانه وتعالى أن الصف اليماني لن يكون في مَنَعة مما كان سيفعله هؤلء
المنافقون ،فصحيح أنهم لم يخرجوا مع المؤمنين ،ولكن هناك بين المؤمنين من كان يستمع لهم،
علِيمٌ بِالظّاِلمِينَ { وسمعتُ لفلن ،أي:
سمّاعُونَ َلهُ ْم وَاللّهُ َ
ويقول الحق تبارك وتعالىَ } :وفِيكُمْ َ
سمعتْ أذني ما قاله ،وسمعت من فلن ،أي :لصالح شخص آخر ،أي :من يستمع منهم أو من
يستمع أخباركم فهو ينقلها إليهم.
إذن :فاللم تأتي بالمعنيين ،فمن المؤمنين من كان سيسمع لهؤلء المنافقين إليهم أخبار المؤمنين
ويعملون لحسابهم ،وهناك من المؤمنين مَنْ سيسمع لهم أولً ،فإذا أصيبوا بالخبل بدأوا في نقل
أخبار المؤمنين إليهم ،وهكذا جاءت " اللم " فاصلة بين " سمعت له " أو " سمعت من غيره
لصالحه " ويزيد ال سبحانه هذا المر إيضاحا في قول الحق تبارك وتعالى {:إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ
خصِيما }[النساء]105 :
ح ُكمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّ ُه َولَ َتكُنْ لّلْخَآئِنِينَ َ
حقّ لِتَ ْ
ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
فنجد السطحي التفكير يقول :إن هذا تحذير من مخاصمة الخائنين؛ خوفا من ألّ يقدر عليهم ،أو
أن يزدادوا في إثمهم بسبب هذه الخصومة .ونقول :إنك لم تفهم المعنى ،فالمعنى الواضح هو :ل
تكُنْ لصالح الخائنين خصيما ،أي :ل تترافع عن الخائنين أو تدافع عنهم.
وقوله تعالى } وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّاِلمِينَ { لن الذي كان سيسمع ،والذين سيسمع لصالحهم؛ كلهما
ظالم وال عليم بهم.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالىَ } :لقَدِ ابْ َت َغوُاْ ا ْلفِتْنَةَ{ ..
()1269 /
والحق سبحانه وتعالى يريد أن يُذكّر المؤمنين بالوقائع السابقة التي ارتكبها المنافقون والكفار تجاه
السلم والمسلمين من :مؤامرات على السلم ،ومحاولت لليقاع بين المسلمين؛ والتآمر على
رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وقوله تعالى { :ابْ َت َغوُاْ ا ْلفِتْنَةَ مِن قَ ْبلُ } له صلى ال عليه وسلم دليل على تلك الوقائع السابقة .أما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمُورَ } .فالتقليب :هو جعل أسفل الشيء عاليه ،وعاليه أسفله؛ حتى ل
كاُ
قوله تعالى { َوقَلّبُواْ َل َ
يستتر منه شيء .وهذا مظهر الفاكهة مُنْتقىً بعناية ،فإذا اشتريتَ منه مل لك الكيس من الصنف
الرديء الذي أخفاه أسفل القفص .وهكذا يأتي لك بالسفل أو بالشيء الرديء المكشوف عورته.
والذي ل يمكن أن تشتريه لو رأيته ويضعه لك.
وهكذا يفعل المنافقون حين يُقلّبون المر على الوجوه المختلفة حتى يصادفوا ما يعطيهم أكبر الشر
للمؤمنين دون أن يصابوا هم بشيء .والمثال الواضح :عندما تآمرت قريش على رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،وجاءوا من كل قبيلة بشاب ليضربوه ضرب رجل واحد ليضيع دمه بين القبائل.
لكن الحق سبحانه يأتي إلى كل هذه الفتن ويجعلها لصالح المؤمنين ،ولذلك يقول جل جلله:
ظهَرَ َأمْرُ اللّ ِه وَهُمْ كَارِهُونَ } فالتآمر على رسول ال صلى ال عليه وسلم
ق وَ َ
حّ{ حَتّىا جَآءَ الْ َ
ومحاولة قتله جعل المور تؤدي إلى هجرته صلى ال عليه وسلم من مكة وخروجه منها مما
جعله ال سبحانه وتعالى سببا في إظهار الحق وانتشار السلم؛ لن ال ل يرسل رسولً ثم
يخذله ،فما دام قد أرسل رسولً فل بد أن ينصره ،فأريحوا أنفسكم ،ول تبغوا الفتنة؛ لن السابق
من الفتن انقلب عليكم وأدّى إلى خير كثير للمؤمنين.
وفي هذا يقول الحق سبحانه وتعالى {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ
* وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات]173-171 :
وقوله تعالى { :وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ } وهو قضية كونية عقدية ،فإذا رأيتَ قوما مؤمنين
التحموا بقتال قَوم كافرين وانهزموا ،فاعلم أنهم ليسوا من جنود ال حقّا ،وأن شرطا من شروط
الجندية ل قد اختل .ولذلك علينا أن نحاسب أنفسنا أولً.
فمثلً في غزو أُحد ،عندما طلب رسول ال صلى ال عليه وسلم من الرماة أل يتركوا أماكنهم
فخالفوه ،هنا اختل شرط من شروط الجندية ل وهو طاعة الرسول صلى ال عليه وسلم؛ فماذا
ت أوامر
كان يحدث للسلم لو أن هؤلء الرماة خالفوا رسول ال وانتصروا؟ لو حدث ذلك لَها َن ْ
الرسول عليه الصلة والسلم على المؤمنين.
ويوم حنين ،حين اعتقد المؤمنون أنهم سينتصرون بكثرتهم وليس بإيمانهم ،وكانت النتيجة أن
أصيبوا بهزيمة قاسية أول المعركة؛ لتكون لهم درسا إيمانيا .ولذلك رأيت إيمانا انهزم أمام كفر،
فاعلم أن شرطا من شروط الجندية اليمانية قد اختل.
واقرأ قول الحق سبحانه وتعالىَ {:وكَأَيّن مّن نّ ِبيّ قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ َفمَا وَهَنُواْ ِلمَآ َأصَا َبهُمْ فِي
غفِرْ
حبّ الصّابِرِينَ * َومَا كَانَ َقوَْلهُمْ ِإلّ أَن قَالُواْ ربّنَا ا ْ
ض ُعفُواْ َومَا اسْ َتكَانُو ْا وَاللّهُ يُ ِ
سَبِيلِ اللّهِ َومَا َ
لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي َأمْرِنَا وَثَ ّبتْ َأقْدَامَنَا وا ْنصُرْنَا عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْلكَافِرِينَ }[آل عمران]147-146 :
إذن :فأول شيء فعله هؤلء المقاتلون؛ أنهم عرفوا أن الذنوب يمكن أن تأتي إليهم بالهزيمة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فاستغفروا ال وتابوا إليه وحاربوا فنصرهم ال ،وإذا حدث لهم ولم ينتصر المؤمنون؛ فمعنى هذا
أن هناك خللً في إيمانهم؛ لن ال ل يترك قضية قرآنية لتأتي حادثة كونية فتكذبها.
يقول الحق سبحانه وتعالىَ } :ومِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ ا ْئذَن لّي {
()1270 /
هؤلء هم الذين استأذنوا رسول ال في عدم الخروج للجهاد ،ومنهم من قال هذه العبارة :ل تفتنني
بعدم إعطاء الذن ،ولكن ما موضوع الفتنة؟ هل هو عذاب ،أم سوء ،أم شرك وكفر -والعياذ
بال -؟ إن كل ذلك -وغيره -تجوز فيه الفتنة .والقول { :ائْذَن لّي َولَ َتفْتِنّي } ظاهره أنه أمر،
ولكنه هنا ليس أمرا؛ لن المر إذا جاء من الدنى للعلى فل يقال إنه أمر ،بل هو دعاة أو
رجاء ،وإن جاء من المساوى يقال " :مساو له " ،أما إن جاء من العلى إلى الدنى؛ فهذا هو ما
يقال له أمر ،وكلها طلب للفعل.
وكان الجد بن قيس -وهو من النصار -قد جاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال:
ائذن لي ول تفتني؛ لن رسول ال إن لم يأذن له فسيقع في فتنة مخالفة أوامر رسول ال صلى
ال عليه وسلم.
وقيل :إن هذا النصاري لم يكن له جََلدٌ على الحرب وشدائدها .وقيل :إنه كان على وَلَع بحب
النساء وسمع عن جمال بنات الروم ،وخشي أن يُفتنَ بِهنّ ،خصوصا أن المعركة ستدور على
أرض الروم .ومن المتوقع أن يحصل المقاتلون على سبايا من بنات الروم.
وقوله تعالى { :ائْذَن لّي َولَ َتفْتِنّي } أوقعه في الفتنة فعلً؛ لذاك جاء قول الحق { :أَل فِي ا ْلفِتْنَةِ
سقَطُواْ } .وكان هذا النصاري سمينا ،وشكا من عدم قدرته على السفر الطويل والحر ،فجاء
َ
الرد :إن كنتم من الحر والبرد تفرّون فالنار أحقّ بالفرار منها؛ ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى{ :
طةٌ بِا ْلكَافِرِينَ }.
جهَنّمَ َلمُحِي َ
وَإِنّ َ
شدّ حَرّا ّلوْ كَانُوا َي ْف َقهُونَ }إذن :فجحيم النار أِد قسوة
جهَنّمَ أَ َ
وفي آية أخرى قال سبحانهُ {:قلْ نَارُ َ
وحرارة من نار القتار ،وحر الدنيا مهما اشتد أهون بكثير من نار الخرة وهي تحيط بالكافرين.
سؤْهُمْ} ...
ويقول الحق بعد ذلك { :إِن ُتصِ ْبكَ حَسَنَةٌ َت ُ
()1271 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سؤْ ُه ْم وَإِنْ ُتصِ ْبكَ ُمصِيبَةٌ َيقُولُوا قَدْ َأخَذْنَا َأمْرَنَا مِنْ قَ ْبلُ وَيَ َتوَّلوْا وَهُمْ فَ ِرحُونَ (
حسَنَةٌ تَ ُ
إِنْ ُتصِ ْبكَ َ
)50
وما يزال الحديث عن المنافقين ،فبعد أن بيّن الحق سبحانه وتعالى كيف حاول المنافقون الهروب
من الحرب لسباب وأعذار مختلقة ،أراد سبحانه وتعالى أن يزيد الصورة توضيحيا في إظهار
الكراهية التي تخفيها قلوب المنافقين بالنسبة للمؤمنين .وهنا يقول سبحانه:
{ إِن ُتصِ ْبكَ حَسَنَةٌ } والمقصود بالحسنة هنا هيك النتصار في الحرب ،والنصر في الحرب هو
من وجهة نظر المنافقين ينحصر في حصول المؤمنين على الغنائم ،وهذه مسألة تسوء المنافقين
وتحزنهم؛ لن الهمّ الول للمنافقين هو الدنيا ،وهم يريدون الحصول على أكبر نصيب منها .وبما
أنهم لم يخرجوا للجهاد والتمسوا العذار غير الصحيحة للهروب من الحرب؛ لذلك فهم يحزنون
إذا انتصر المؤمنون؛ لنهم حينئذ لن يكون لهم حق في الغنائم .وفي هذه الحالة يقولون :يا ليتنا
كنا معهم؛ إذن لصبْنَا الغنائم وأخذنا منها.
أما إذا كانت الدائرة قد دارت على المسلمين وهُزِموا في الحرب؛ فهذه سيئة بالنسبة لكل مؤمن،
ولكن المنافقون يعتبرون الهزيمة لهل اليمان حسنة ،وسيقولون لنفسهم :لقد كنا أكثر رجاجةً في
الفكر واحتطْنا للمر ،ولم نخرج معهم ولذلك نجونا مما أصابهم .والمصيبة في الحرب تكون في:
الرواح ،والرجال والمال ،والعتاد بالضافة إلى مرارة الهزيمة .ولذلك يقول الحق سبحانه
وتعالى:
ل وَيَ َتوَلّو ْا وّ ُهمْ فَرِحُونَ }
خذْنَا َأمْرَنَا مِن قَ ْب ُ
سؤْهُ ْم وَإِن ُتصِ ْبكَ ُمصِيبَةٌ َيقُولُواْ َقدْ أَ َ
{ إِن ُتصِ ْبكَ حَسَنَةٌ تَ ُ
وكأنهم قد احتاطوا قبل أن يبدأ القتال فلم يخرجوا ،وهم كمنافقين يمكن أن يفرحوا؟إنْ أصابت
المسلمين كارثة أو مصيبة ،وهي هنا الهزيمة في الحرب .وسيقولونَ { :قدْ َأخَذْنَا َأمْرَنَا مِن قَ ْبلُ }
أي :قاموا بالحتياط فلم يخرجوا للقتال ،بينما لم يح َتطْ محمد وصَحْبُه وجيشه .ثم يديرون ظهورهم
خفُوا فرحتهم.
ليُ ْ
سؤْهُمْ } يوضح لنا أن أي نصر لليمان يحزن المنافقين في
حسَنَةٌ َت ُ
وحين يقول الحق { :إِن ُتصِ ْبكَ َ
نفوسهم ،ويصير هذا القول قرآنا يُتلى ويُتعبد به ويسمعونه بآذانهم ،بال لو لم تُحزنهم الحسنة التي
ينالها المنافقين في نفوسهم ،ويصير هذا القول قرآنا يُتلى ويُتعبد به ويسمعونه بآذانهم ،بال لو لم
تُحزنهم الحسنة التي ينالها المؤمنون ،ألم يكن ذلك دافعا لن يقولوا :نحن لم نفرح ولم نحزن؟
بال حين يفاجئهم القرآن بالكشف عن خبايا نفوسهم بالقرآن؛ ألم يكن ذلك داعيا لهدايتهم؟
لقد عرف محمد صلى ال عليه وسلم الغيب الذي في قلوبهم وفضح ضمائرهم وسرائرهم بعد أن
أطلعه الحق على ذلك .ومع هذا أضمروا النفاق في قلوبهم وانتظروا مَسَاءةً تَحل بمحمد صلى ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه وسلم وصحبه.
ويرد الحق سبحانه وتعالى عليهم { :قُل لّن ُيصِيبَنَآ ِإلّ} ...
()1272 /
ُقلْ لَنْ ُيصِيبَنَا إِلّا مَا كَ َتبَ اللّهُ لَنَا ُهوَ َموْلَانَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ()51
{ قُل لّن ُيصِيبَنَآ ِإلّ مَا كَ َتبَ اللّهُ لَنَا } الحديث هنا عما يصيب النسان أو ما يحدث له ،فإن حدث
للنسان شيء يأتي منه خير ،يكون بالنسبة له حسنة؛ وإن أتى منه شر يكون من وجهة نظره
سيئة ،إذن فالصابة هي التقاء هدف بغاية ،إذا تحقق الهدف وجاء بخير فهو حسنة ،وإن جاء ِبشَرّ
فهو سيئة .والمصائب نوعان :مصيبة للنفس فيها غريم ،ومصيبة ليس فيهاغريم ،فإن اعتدى عليّ
واحد بالضرب مثلً يصبح غريمي ،وتتولد في قلبي حفيظة عليه ،وغيظ منه ،وأرغب في أن أرد
عليه وأثأر لنفسي منه ،ولكن إن مرضت مثلً فمن هو غريمي في المرض؟ ل أحد.
إذن :فالمصائب نوعان؛ نوع لي فيه غريم ،ونوع ل يوجد لي غريم يمتلئ قلبي عليه بالحقد،
ظمِينَ ا ْلغَيْظَ
ويرغّبنا الحق سبحانه وتعالى في عدم الحقد والعفو عن مثل هذا الغريم ،فيقول {:وَا ْلكَا ِ
حسِنِينَ }[آل عمران]134 :
حبّ ا ْلمُ ْ
س وَاللّهُ يُ ِ
وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ
وهنا ثلث مراحل :الولى كظم الغيظ ،والثانية هي العفو ،والثالثة هي أن تحسن؛ فترتقي إلى
مقام من يحبهم ال وهم المحسنون.
لمُورِ }[الشورى]43 :
غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْز ِم ا ُ
وكذلك يقول الحق {:وََلمَن صَبَ َر وَ َ
أي :من صبر على ما أصابه ،وغفر لغريمه وعدوه ،فالصبر والمغفرة من المور التي تحتاج إلى
عزم وقوة حتى يطوّع النسان نفسه على العفو وعدم النتقام.
أما المصائب التي ليس للنسان فيها غريم فهي ل تحتاج إلى ذلك الجهد من النفس ،وإنما تحتاج
إلى صبر فقط ،إذ ل حيلة للنسان فيها .ونجد الحق سبحانه وتعالى يقول في هذا اللون من
لمُورِ }[لقمان]17 :
المصائب {:وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ ا ُ
لن العزم المطلوب هنا أقل ،ولذلك لم تستخدم " لم التوكيد " التي جاءت في قوله تعالى {:وََلمَن
لمُورِ }[الشورى]43 :
صَبَرَ وَغَفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم ا ُ
ظمِينَ ا ْلغَيْظَ
ول بد أن نلتفت إلى قول الحق سبحانه عن المشاعر البشرية حين قال {:وَا ْلكَا ِ
حسِنِينَ }[آل عمران]134 :
حبّ ا ْلمُ ْ
س وَاللّهُ يُ ِ
وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ
هذه الية الكريمة تمثل مراحل ما يحدث في النفس ،فالمطلوب أولً أن يكظم النسان غيظه ،أي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن الغيظ موجود في القلب ،ويتجدد كلما رأى النسان غريمه أمامه ،ويحتاج هذا من النسان أن
يكظم غيظه كلما رآه ،ثم يرتقي المؤمن في انفعاله اليماني ،فيأتي العفو ،وهذه مرحلة ثانية وهي
ل منه العفو.
أن يُخرجَ الغيظ من قلبه ،ويحل بد ً
حسِنِينَ }[آل عمران]134 :
حبّ ا ْلمُ ْ
ثم تأتي المرحلة الثالثة {:وَاللّهُ يُ ِ
أي :أن هذا إحسان يحبه ال ويجزي عليه ،وهو أن تحسن لمن أساء إليك ،فتنال حب ال ،وهذا
من كمال اليمان؛ لن العبيد كلهم عيال ال ،واضرب لنفسك المثل -ول المثل العلى َ -هبْ
أنك دخلت البيت ،ووجدت أحد أولدك قد ضرب الثاني ،فمع من يكون قلبك وأنت رب البيت؟ ل
بد أن يكون قلبك مع المضروب ،لذلك تُر ّبتُ على كتفه وتصالحه ،وقد تعطيه مالً أو تشتري له
شيئا لترضيه ،أي أنك تحسن إليه.
()1273 /
ن وَنَحْنُ نَتَرَ ّبصُ ِبكُمْ أَنْ ُيصِي َبكُمُ اللّهُ ِبعَذَابٍ مِنْ عِنْ ِدهِ َأوْ
حسْنَيَيْ ِ
حدَى الْ ُ
ُقلْ َهلْ تَرَ ّبصُونَ بِنَا إِلّا إِ ْ
بِأَيْدِينَا فَتَرَ ّبصُوا إِنّا َم َعكُمْ مُتَرَ ّبصُونَ ()52
وسبحانه وتعالى بهذه الية إنما يرد على من يحزن إن أصابت الحسنة المؤمنين ،ويفرح إن
أصابتهم مصيبة ،فيأتي قول الحق سبحانه ليوضح :إن كل ما يصيب المؤمنين هو لصالحهم.
ولذلك قال { :لّن ُيصِيبَنَآ ِإلّ مَا كَ َتبَ اللّهُ لَنَا } فلم يكتب سبحانه المور علينا ،بل لنا ،و " لنا " تفيد
الملكية؛ إما :تأديبا وإما تكفيرا عن ذنوب ،وإما اتجاها إلى الحق بعد زيغ الباطل ،وكل ذلك
لصالحنا.
وجاء سبحانه بعد ذلك بالقول { فَتَرَ ّبصُواْ } أي :تمهلوا وانتظروا وترقبوا نهايتنا ونهايتكم .أما
نهايتكم فاستدامة عذاب في الدنيا وفي الخرة .وأسباب العذاب مجتمعة لكم في الدنيا ،وأسباب
الخير ممتنعة عنكم في الخرة ،ونتيجة تربصنا لكم أن نرى السوء يصيبكم ،وتربصكم لنا يجعلكم
ترون الخير وهو يسعى إلينا ،إذن فنتيجة المقارنة ستكون في صالحنا نحن.
وبعد أن بيّن ال ذلك يطرأ على خاطر المؤمن سؤال :أل يصدر من هؤلء القوام فعل خير؟ وأل
يأتي إليهم أدنى خير؟ ونحن نعلم أن الحق سبحانه يجزي دائما على أدنى خير.
ونقول :إن الحق شاء أن يبين لنا بجسم مسألة الخيانة العظمى وهي الكفر والعياذ بال ،وبيّن أن
كل كافر بال ل يُقبل منه أي عمل طيب؛ لن الكفر يُحبطُ أيّ عمل ،وإن كان لعملهم خير يفيد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الناس ،فالحق يجازيهم ماديا في الدنيا ،ولكن ليس لهم في الخرة إل النار ،ويقولُ { :قلْ أَنفِقُواْ
طوْعا} ..
َ
()1274 /
سقِينَ ()53
طوْعًا َأوْ كَرْهًا لَنْ يُ َتقَ ّبلَ مِ ْنكُمْ إِ ّنكُمْ كُنْ ُتمْ َق ْومًا فَا ِ
ُقلْ أَ ْنفِقُوا َ
إذن :فشرط تقبّل ال لي عمل إنما يأتي بعد اليمان بال ،أما أن تعمل وليس في بالك ال ،فخذ
أجرك ممن كان في بالك وأنت تعمل.
عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ
لذلك ضرب ال مثلً بأعمال الذين كفروا في قوله تعالى {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
جدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ
ج ْدهُ شَيْئا َووَ َ
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ َلمْ يَ ِ
حسَبُهُ ال ّ
يَ ْ
حسَابِ }[النور]39 :
الْ ِ
عمَاُلهُمْ كَ َرمَادٍ اشْ َت ّدتْ بِهِ
ويعطينا ال سبحانه مثلً آخر في قوله تعالى {:مّ َثلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَ ّبهِمْ أَ ْ
للُ الْ َبعِيدُ }[إبراهيم]18 :
شيْءٍ ذاِلكَ ُهوَ الضّ َ
صفٍ لّ َيقْدِرُونَ ِممّا كَسَبُواْ عَلَىا َ
الرّيحُ فِي َيوْمٍ عَا ِ
ويقول الحق سبحانه وتعالى {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ
الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى]20 :
وهذا ما يشرح لنا ما استغلق على بعض العلماء فهمه في قول الحقَ {:فمَن َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا
يَ َرهُ * َومَن َيعْـمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة]8-7 :
فقد تساءل بعض من العلماء :أيجزي الحق سبحانه هؤلء الكفار في الخرة أم في الدنيا؟ وقد
استغلق عليهم المر لن الية عامة .ونقول :إن الحق يعطي في الدنيا الجزاء لمن عمل للدنيا،
ويعطي في الخرة لمن عمل للدنيا والخرة وفي قلبه ال .ولذلك فالذين يحسنون اتخاذ السباب
المخلوقة ل بمنح الربوبية ينجحون في حياتهم .والذين يتقدمون دنيويا في زراعة الرض وانتقاء
البذور والعناية بما يعطيهم ال جزاء عملهم في الدنيا ،ول يبخس منه شيئا؛ ولكن الحق سبحانه
جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان]23 :
ع َملٍ فَ َ
عمِلُواْ مِنْ َ
يقول أيضاَ {:وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا َ
هذا القول يوضح عطاء الخرة ،ولذلك فالخير الذي يعمله غير المؤمن ل يُجزى عليه في الخرة؛
ع ِملَ وليس في باله ال ،فكيف ينتظر جزاءه ممن لم يؤمن به؟
لنه َ
إن ال سبحانه يجزي مَنْ آمن به وعمل من أجله .ولكن من كفر بال حبط كل عمله .وهذا أمر
طبيعي؛ لنك ما ُد ْمتَ قد عملت الخير وليس في بالك ال ،فل تنتظر جزاءً منه .إن عملتَ
للنسانية أعطتْك النسانية ،وإن عملتَ للمجتمع أعطاك المجتمع وصنعوا لك التماثيل وأطلقوا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اسمك على الميادين والشوارع ،وأقيمت باسمك المؤسسات ،وتحقق لك الخلود في الدنيا ،وهذا هو
جزاؤك .ولكن إن كنت مؤمنا بال ،راجيا ثوابه تجيء يوم القيامة لتجد يد ال ممدودة لك بالخير
الذي قدمته.
طوْع :هو الفعل الذي تُقبل عليه
طوْعا َأوْ كَرْها } وال ّ
والحق سبحانه وتعالى يقول هناُ { :قلْ أَن ِفقُواْ َ
بإرادتك دون أن تكون مكرها ،فكيف ل تجازى على خير فعلته بإرادتك؟
ول بد لنا أن نفرق بين " طوع " و " طائع " ،وكذلك نفرق بين هذا وبين الفعل الذي تقوم به حين
يحملك غيرك ويُكرهك أن تفعله.
والفعال كلها إما أن تكون بالطواعية وبالرادة ،وإما أن تكون بالكراه .ولو كان الحق قد قال:
أنفقوا ،طاعة لما قال } :لّن يُ َتقَ ّبلَ مِنكُمْ {؛ لن الطاعة معناها انصياع عابد لرادة معبود ،ولكن
طوْعا { يكشف أن ما ينفقونه هو أمر اختياري من عندهم .وكانت أحوال المنافقين
قوله هناَ } :
كذلك ،فمنهم من قدم أولده للجهاد ،ومنهم من قدم بعضا من ماله ،وكانوا يفعلون ذلك طائعين
لنفسهم ويستترون بمثل هذه الفعال حتى ل يفتضح نفاقهم ،وكان الواحد يتقدم إلى الصف الول
من صفوف الصلة في المسجد ،ويفعل ذلك ط ْوعَ إرادته ،خوفا من افتضاح نفاقه ل طاعة ل،
فطاعة ال هي طاعة عابد لمعبود ،أما مثل تلك الفعال حين تنبع من طوع النفس فهي للمظهر
وليست للعبادة.
طوْعا َأوْ كَرْها { هل هذا أمر بالنفاق؟ أو هل يريد منهم أن ينفقوا فعلً ،خاصة أنه
} ُقلْ أَن ِفقُواْ َ
سبحانه لن يتقبل منهم؟ ل ليس هذا أمرا بالنفاق بل هو تهديد ووعيد .مثلما تقول لنسان :اصبر،
فذلك ليس أمرا بالصبر ولكن تهديد بمعنى :اصبر فَستَرى مني هولً كثيرا .وهذا مثل قوله
تعالى {:فَاصْبِرُواْ َأ ْو لَ َتصْبِرُواْ[} ..الطور]16 :
عمَلُواْ مَا شِئْتُمْ[} ..فصلت]40 :
وقوله تعالى {:ا ْ
أي :أنكم إن صبرتم أو لم تصبروا فإن ذلك لن يغير شيئا من الجزاء الذي سوف تلقونه ،فالمر
ل في
عمَلُواْ مَا شِئْ ُتمْ { أمرا؛ لكان كل من عمل معصية داخ ً
سواء .ولو كان قوله تعالى } :ا ْ
الطاعة؛ لن ال أمره أن يفعل ما يشاء .ولكن هذا أمر تمهيدي ،أي :افعلوا ما شئتم فأنتم عائدون
إلى ال وسيحاسبكم على ما عملتموه .ولن تستطيعوا الفرار من ال سبحانه.
وقوله تعالى } :أَنفِقُواْ { هو -إذن -أمر تمهيدي؛ لنه لن يجديكم أن تنفقوا طوعا أو كرها.
وكلمة } كَرْها { وردت في القرآن الكريم في أكثر من سورة ،فهي في سورة آل عمران ،وفي
سورة النساء ،وفي سورة التوبة ،وفي سورة الحقاف ،وفي سورة الرعد ،وفي سورة فصلت ،قد
ذكرت } كَرْها { بفتح الكاف وقرأها بعضهم بضم الكاف .وقال البعض :إن " كَرْها " بفتح الكاف
ل قول الحق
و " كُرْها " بضم الكاف بمعنى واحد .نقول لهم :ل ،إن المعنى ليس واحدا ،فمث ً
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضعَتْهُ كُرْها[} ...الحقاف]15 :
حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْها َو َو َ
سبحانه وتعالىَ {:
فالكُره هنا ليس للحمل ول للوضع ،ولكن للمشقة التي تعانيها الحامل أثناء حملها وعند الولدة .فلم
يكرهها أحد على هذا الحمل .ولكن البعض يقول :إن الحمل يحدث وليس للمرأة علج في أن
تحمل ول أن تضع ،فل توجد امرأة تقول لنفسها " :سوف أحمل الليلة "؛ لن الحمل يحدث دون
أن تَعيَ هي حدوثه ،فالحمل يحدث باللقاء بين الرجل والمرأة .والمرأة ل تستطيع أن تختار ساعة
الحمل ول أن تختار ساعة الولدة ،ول تستطيع أن تقول :سألد اليوم أو لن ألد اليوم.
فكل هذا يحدث إكراها بغير اختيار منها .ولذلك نقول لمن يقولون أن " كَرْها " بفتح الكاف و "
كَرْها " بضم الكاف بمعنى واحد :ل؛ لن " الكُرْه " بضم الكاف هو ما ل يريده النسان لن فيه
مشقة ،و " الكَره " بفتح الكاف هو ما فيه إكراه من الغير .إذن فـ " كَرْها " بفتح الكاف تختلف
في معناها عن " كُرْهًا " بضم الكاف.
الحق سبحانه وتعالى يقول:
طوْعا َأوْ كَرْها لّن يُ َتقَبّلَ مِنكُمْ { أي :لن يقبل ال منكم ما تنفقونه .ولكن ما الفرق؟ لقد
} ُقلْ أَن ِفقُواْ َ
كان المنافقون يدفعون الزكاة ويقبلها الرسول منه ولم يرفضها أدبا منه صلى ال عليه وسلم ،فكل
عمل يؤدى ثم يذهب إلى الرقيب العلى وهو الحق سبحانه وتعالى .ولكن حدث أن واحدا من
هؤلء هو ثعبلة طلب من رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يدعو له بالغنى ،فلما دعا له ورزقه
ال الرزق الوفير بَخِل عن الزكاة ،وحاول أن يتهرب من دفعها؛ فنزل القول الكريمَ {:ومِنْهُمْ مّنْ
ن وَلَ َنكُونَنّ مِنَ الصّاِلحِينَ * فََلمّآ آتَاهُمْ مّن َفضْلِهِ َبخِلُواْ بِهِ
عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن َفضْلِهِ لَ َنصّ ّدقَ ّ
عقَ َبهُمْ ِنفَاقا فِي قُلُو ِبهِمْ إِلَىا َيوْمِ يَ ْلقَوْنَهُ ِبمَآ َأخَْلفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُو ُه وَ ِبمَا
وَ َتوَلّو ْا وّهُمْ ّمعْرِضُونَ * فَأَ ْ
كَانُواْ َي ْكذِبُونَ }[التوبة]77-75 :
وعندما نزلت هذه اليات جاء ثعلبة ليدفع الزكاة لرسول ال صلى ال عليه وسلم فلم يقبلها منه.
وعندما توفي رسول ال صلى ال عليه وسلم جاء ثعلبة إلى أبي بكر رضي ال عنه فلم يقبل منه
الزكاة .وبعد أبي جاء إلى عمر بن الخطاب رضي ال عنه فلم يقبلها منه .ومات ثعبلة في عهد
عثمان .هذا هو عدم القبول.
ولكن هناك في عهد الرسول صلى ال عليه وسلم من دفع الزكاة من المنافقين وقُبَلتْ منه ،ولكن
ال لم يتقبلها منه .إذن :فكل عمل قد يُقبل من فاعله ،ولكن ال سبحانه وتعالى قد يتقبله أو قد ل
يتقبله .إذن فالية معناها :أنه ال لن يتقبل من هؤلء المنافقين إنفاقهم في الخير ولو تقبله البشر.
ثم يعطينا الحق سبحانه وتعالى السبب في ذلك فيقول:
سقِينَ { وكما قلنا :إن كلمة الفاسق مأخوذة من " فسقت الرّطَبَة " أي انفصلت
} إِ ّن ُكمْ كُنتُمْ َقوْما فَا ِ
القشرة عن الثمرة .وقشرة البلح مخلوقة لتحفظ الثمر .وعلمنا أن المعاني في التكليف الشرعي قد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أُخذت من المور الحسّية؛ ولهذا تجد أن الدين سياج يمنع النسان من أن يخرج على حدود ال
ويحفظه من المعصية ،والنسان حين ينفصل عن الدين إنما يصبح كالثمرة التي انفصلت عن
سياجها.
فالذي يشرب الخمر أو يرتكب الجرائم أو الزنا يُعاقب على معصيته ،أما إن كان النسان منافقا
بعيدا عن اليمان بال فطاعته ل تقبل .و َهبْ أن النسان مؤمن بال ولكنه ضعيف أمام معصية
ما ،هنا نقول :ل شيء يجور على شيء ،إن له ثوابَ إيمانه وعليه عقاب معصيته.
إذن :فالفسق في هذه الية الكريمة ليس هو الخروج عن مطلق الطاعة .ولكنه فسق من نوع
خاص؛ لن هناك فسقا محدودا وهو أن يخرج النسان عن مجرد تكليف .ولكن الفسق الكبير هو
أن يكفر النسان بال .ولذلك جاءت الية الكريمة التالية } َومَا مَ َن َعهُمْ أَن ُتقْ َبلَ مِ ْنهُمْ َنفَقَا ُتهُمْ{ ..
()1275 /
َومَا مَ َن َعهُمْ أَنْ ُتقْبَلَ مِ ْنهُمْ َن َفقَا ُتهُمْ إِلّا أَ ّنهُمْ كَفَرُوا بِاللّ ِه وَبِرَسُوِل ِه وَلَا يَأْتُونَ الصّلَاةَ إِلّا وَهُمْ ُكسَالَى وَلَا
يُ ْنفِقُونَ إِلّا وَهُمْ كَارِهُونَ ()54
إذن :فالفسق نوعان :فسق خاص .وقد يقول البعض :إنك إن ارتكبت معصية فصلتك وزكاتك
وكل عباداتك ل تنفعك.
ونقول :ل فما دامت القمة سليمة؛ إيمانا بال وإيمانا بالرسول عليه الصلة والسلم وتصديقا
بالمنهج ،فلكل عمل عبادي ثوابه ،ولكل ذنب عقابه؛ لن الحق سبحانه مطلق العدالة والرحمة،
ول يمكن أن يضع كل الشرور في ميزان النسان .فمن كان عنده خصلة من خير فسوف يأخذ
جائزتها وثوابها ،ومن كان عنده خصلة من شر فسوف ينال عقابها.
وقوله الحق هنا { َومَا مَ َن َعهُمْ أَن ُتقْ َبلَ مِ ْنهُمْ َن َفقَا ُتهُمْ ِإلّ أَ ّنهُمْ َكفَرُواْ بِاللّ ِه وَبِرَسُولِهِ } ،هذا القول
الكريم هو حيثية للحكم بعدم قبول نفقاتهم ،وفي هذا تحديد لعموم الفسق وهو الكفر ،ل في
خصوص الفسق ،وحدد الحق ثلث أشياء منعت التقبل منهم :الكفر بال ورسوله وهو كفر القمة،
ثم قيامهم إلى الصلة وهم كسالى ،ثم النفاق بكراهية.
ونفعهم المنع على أنه رَدّ الفعل إلى ما ينقض العمل أو ينافيه؛ كأن يريد إنسان القيام فتُعده ،أي
أنك رددت إرادة القيام إلى القعود ،وهو ما ينافيه ،أو أن يحاول إنسان ضرب آخر فتمنع يده،
فتكون بذلك قد منعت غيره من أن يعتدى عليه .إذن فالمنع مرة يأتي للفاعل ومرة للمفعول .فأنت
حين تمنع زيدا من الضرب تكون قد منعت الفاعل ،وحين تمنع عنه الضرب تكون قد منعت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المفعول ،وكل فلسفة الحياة قائمة على المنع ،الذي يوجزه الفعل ورد الفعل ،تجد ذلك في النسان
وفي الزمان وفي المكان.
وإذا بحثت هذه المسألة في النسان تجد أن حياته تقوم على التنفس والطعام والشراب ،والتنفس
هو المر الذي ل يصبر النسان على التوقف عنه ،فإن لم تأخذ الشهيق انتهت حياتك ،وإن كتمت
الزفير انتهت حياتك .وإذا منعت الهواء من الدخول إلى الرئتين يموت النسان ،وإذا منعت خروج
الهواء من الرئتين يموت النسان أيضا.
وحركة العالم كله مبنية على الفعل وما يناقضه .فإذا حاول إنسان أن يضرب شخصا آخر
وأمسكتَ يده ،وقلت له :سيأتي أبناؤه أو إخوته أو عائلته ويضربونك ،حينئذ يمتنع عن الفعل خوفا
من رد الفعل .والعالم كله ل يمكن أن يعيش في سلم إل إذا كان هناك خوف من رد الفعل؛
القوى يواجه قويا ،والكل خائف من َر ّد فعل اعتدائه على الخر .ولكن إذا واجه قوى ضعيفا ،تجد
القوى يفتك بالضعيف.
وهكذا العالم كله ،فالكون إما ساكن وإما متحرك .وتجد الكون المتحرك فيه قوى متوازية تعيش
في سلم خوفا من رد الفعل .وكذلك تجد العالم الساكن؛ فالعمارة الشاهقة تستمد ثباتها وسكونها
من أن الهواء ل يأتي من جهة واحدة ،ولكن من جهات متعددة تجعل الضغط متوازنا على كل
غتَ الهواء من ناحية وجعلته يهب من ناحية أخرى لتحطمت العمارة،
أجناب العمارة ،ولكن لو فرّ ْ
تماما كما تُف ّزغُ الهواء من إناء مغلق فيتحطم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والسبب الثالثَ } :ولَ يُنفِقُونَ ِإلّ وَ ُهمْ كَارِهُونَ { والنفقة هي بذل ما عندك من فضل ما أعطاه ال
لك؛ سواء أكان ذلك مالً أم علما أم جاها أم قوة ،وهذا ما يحقق التوازن في المجتمع؛ لن كل
مجتمع به أعراض كثيرة ،تجد القوي والضعيف ،الغني والفقير ،العالم والجاهل ،الصحيح
والمريض .ولو أن كل إنسان تحرك في حياته على قدر حاجته فقط لهلك الضعفاء والمرضى
والعاجزون والفقراء .ولكن لبد أن يعمل كل إنسان على قدر طاقته ،وليس على قدر حاجته،
ولبد أن يأخذ من ناتج عمله على قدر حاجته ومن يعول ،فأنت تأخذ حاجتك من ثمرة طاقتك ،ثم
تفيء على غيرك بفضل ال عليك ،خصوصا على هؤلء الذين ل يقدرون على الحركة في
الحياة ،فالصحيح يعطي المريض من قوته ما يعينه على الحياة .والغني يعطي الفقير من ماله ما
يعينه على الحياة .والقادر على الحركة يعطي من ل يقدر عليها ،هذا هو المجتمع المتكافل.
ومثل هذا السلوك هو لصالح الجميع؛ لن الغني اليوم قد يكون فقيرا غدا ،والقوى اليوم قد يكون
ضعيفا غدا ،فلو أحس النسان بأنه يعيش في مجتمع متكافل فهو لن يخشى الحداث والغيار.
وهذا هو التأمين الصحيح للقادر والغني ويشعر فيه كل إنسان بالتضامن والتكافل ،فل ينشغل
الفقير خوفا من الحداث المتغيرة ،وإن مات فلن يجوع عياله ،وإن افتقر الغني فسوف يجد
المساندة ،وإن مرض الصحيح فسوف يجد العلج.
إذن :فالنفقة أمر ضروري لسلمة المجتمع ،ونجد أن السوق توصف بأنها نافقة ،وهي التي يتم
فيها بيع كل من السلع وشراؤها .فمن أراد أن يبيع باع ،ومن أراد أن يشتري اشترى ،إذن
فالحركة فيها متكافئة .وأنت حين تذهب إلى السوق لتبيع أو تشتري ،فإما أن تأخذ مالً نقديا مقابل
ما ِب ْعتَ ،وإما أن تدفع مالً ثمنا لما اشتريت .وقديما كان النسان يبادل السلعة بسلعة أخرى .وبعد
اختراع النقود أصبح النسان يشتري السلع بثمن ،ومن ينفق ماله ويقدمه عند ال ،فالحق سبحانه
يأني له بكل خير.
وقد أراد الحق سبحانه للمنافقين العذاب الباطني في الدنيا ،والعذاب الواقع أمام الكل في الخرة،
طوْعا أو كَرْها لن يأتي لهم بالخير.
وبيّن لهم أن إنفاقهم َ
ولكن من ينظر إلى المنافقين قد يجد أنهم يستمتعون بالمال والولد .ول يلتفت النسان الناظر إليهم
إلى أن المال والولد هما أدوات عذابه .وقد يقول إنسان :إن ال قد قال {:ا ْلمَالُ وَالْبَنُونَ زِي َنةُ
الْحَيَاوةِ الدّنْيَا[} ..الكهف]46 :
ونقول لمن يقول ذلك :أكمل الية {:وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا وَخَيْرٌ َأمَلً }[الكهف:
]46
والحق سبحانه وتعالى يقول {:إِ ّنمَآ َأ ْموَاُلكُ ْم وََأوْلَ ُد ُكمْ فِتْنَةٌ[} ..التغابن]15 :
وال يخاطب رسوله صلى ال عليه وسلم ،وفي طي هذا الخطاب خطابٌ لجميع المسلمين ،وهنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول الحق سبحانه } :فَلَ ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأ ْولَدُهُمْ{ ..
()1276 /
سهُمْ وَهُمْ
فَلَا ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم وَلَا َأوْلَادُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَتَزْهَقَ أَ ْنفُ ُ
كَافِرُونَ ()55
وإياكم أن تروا واحدا من هؤلء ممن رزقهم ال المال والولد ثم تقولون :كيف يكون عذابهم في
الدنيا وهم يملكون المال والولد؟ ومثل هذا التعجب يعني استحسان المال والولد ،والظن أن فيهما
الخير كله ،لكنك إن نظرت بعمق إلى المال والولد وكل حطام الدنيا فستجده ل يستحق العجاب،
وإياك أن تغتر بشيء يمكن أن يتركك ،ويمكن أن يكون سببا في عذابك ،فالمال والولد قد يجعلن
النسان ملتفتا إلى النعمة ويلهيانه عن المنعم .وإن لم يلتفت النسان إلى المنعم ل يذكره .وإن لم
يذكر ال أهمل منهجه.
والمال والولد في الحياة الدنيا قد يكونان سببين في أن يخاف النسان ترك الدنيا .فإن لم يكن لك
إيمان بما عند ال في الخرة ،فقد تخاف أن يتركك المال أو الولد .والذي ل يؤمن باليوم الخر؛
فالدنيا هي كل زمنه؛ وإن فاتها كان ذلك مصيبة له ،وإن فاتته كان ذلك مصيبة عليه .وإن آمن
النسان بال واليوم الخر لقال :لئن فاتتني الدنيا فلي عند ال خير منها .ويريد الحق سبحانه أن
يمنع عن المؤمنين به فتنة النعمة التي تُ ْلهِي عن المنعم ،فيقول سبحانه:
{ فَلَ ُت ْعجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأ ْولَدُ ُهمْ } والية الكريمة تدلّنا على أن للمال وحده إعجابا ،وللولد
وحدهم إعجابا ،فمن عنده مال معجب بما عنده .ومن ليس عنده مال وعنده أولد معجب بهم
أيضا .فإذا اجتمع الثنان معا يكون العجاب أكبر وأشمل .والحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم
أن اجتماع المال والولد يجب أل يثير العجاب في نفوسنا ،بل إن سياق الية يحذرنا من أن
نعجب بمن عنده المال وحده ،أو بمن عنده الولد وحدهم ،لذلك كرر الحق سبحانه وتعالى كلمة:
{ ل } فقال { :فَلَ ُت ْعجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأ ْولَدُ ُهمْ }.
وأفهمنا الحق سبحانه وتعالى أنه إذا أمد الكافر أو المنافق بالمال والولد؛ فلذلك ليس رفعة من
شأنه ،وإنما ليعذبه بهما في الدنيا والخرة .فقال { :إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُي َعذّ َبهُمْ ِبهَا } ،واللم هنا في "
لِ ُيعَذّ َبهُمْ " هي لم تدخل على الفعل واسمها " لم العاقبة " .وهي تعني أننا ربما نقوم بالفعل لهدف
معين ،ولكن قد تكون عاقبته شيئا آخر تماما غير الذي قصدناه ،بل ربما تكون عكس الذي
قصدناه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ع ُدوّا وَحَزَنا...
عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ َ
وعندما نقرأ القرآن نجد قول الحق سبحانه وتعالى {:فَالْ َتقَطَهُ آلُ فِرْ َ
}[القصص]8 :
هل التقط آل فرعون موسى عليه السلم ليكون لهم عدوا؟ أم ليكون قرة عين لهم؟
هم قد التقطوه ليكون قرة عين لهم ،ولكن الذي حدث كان عكس ما قصدوه ساعةَ قيامهم بفعل
اللتقاط ،فبدلً من أن يصبح موسى قرة عين ،أصبح عدوا لفرعونن بل كان سببا في زوال مُلْكه،
إذن هذه هي لم العاقبة.
وال سبحانه وتعالى أعطى لبعض الكفار أموالً وأولدا ،وهذا في ظاهره رفعة في الدنيا ،ولكنهم
بدلً من أن يستخدموا هذه النعمة في التقرب إلى ال ألهتهم عن اليمان بال ،ووصل بهم المر
إلى أن يدخلهم الحق في العذاب .ولم يُرِد الحق العذاب لهم ،ولكنهم بحركتهم وفتنتهم بالمال والولد
استحقوا أن يدخلوا في العذاب .والعمل غير الشرعي في تنمية المال أو إرضاء الولد هو الذي
أوصلهم إلى العذاب.
} إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي ا ْلحَيَاوةِ الدّنْيَا { وأول ألوان العذاب :أن تلهيهم تلك النعمة عن
المنعم .وتبعدهم عن منهج ال فيصيرون في عداء مع المؤمنين بمنهج ال ،ويخافون إعلن هذا
العداء؛ لذلك حينما كان يرسل الرسول صلى ال عليه وسلم في طلب واحد من المنافقين أو اليهود
كانوا يرتعدون ويتساءلون :هل اكتشف الرسول أمرنا أم كشف ال لنا بعض خبايانا؟ وكانوا في
خوف أن يفتضح في خوف أن يفتضح أمرهم ،فيعاملهم معاملة المشركين ويشردهم.
وثانيا :كانوا يخافون من أن يدخل الرسول صلى ال عليه وسلم في حرب؛ لنهم ما داموا قد
أعلنوا اليمان فهم مطالبون ببذل المال ،وأن يذهب أولدهم الذين بلغوا سن القتال مع جيش
المسلمين ،وكانوا يقولون بينهم وبين أنفسهم :ما لنا نبذل المال ونضحي بالولد في سبيل ما ل
نؤمن به .وهم بمشاعرهم تلك يختلفون عن مشاعر المؤمنين الذين يُلبّون نداء رسول ال طمعا في
الجنة أو النصر .وهذا لون من ألوان العذاب.
وهناك لون آخر من العذاب :عندما يخرج هؤلء المنافقون إلى إحدى الغزوات ،فهم يخافون على
أنفسهم من القتل أو الذى بالسر أو سبي النساء ،فيكونون في عذاب نفسي طوال الرحلة إلى
الغزوة وفي أثناء الحرب.
ولون ثالث من ألوان العذاب :أن عابد المال يجمع المال من حرام ومن حلل ،ل يهمه من أين
ل يكون واضح الحركة في الحياة ،والذي
جاء المال؟ ولكن يهمه أن يأتي ،والذي يكسب حل ً
يكسب حراما هو لص يخاف أن ينكشف أمام الناس ،ويعيش في عذاب أليم دائم من أن يأتي يوم
يكشف ال ستره فيعرف الناس أنه ارتشى ،أو أنه اختلس ،أو أنه َزوّرَ وَزيّف .أو أنه فعل شيئا
يُحقّره في أعين الناس أو يُعرّضه للعقوبة؛ كأن يكون قد تاجر في المخدرات أو في العراض .أو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في غير ذلك ،وخوفه من انكشاف أمره يجعله يعيش في عذاب دائم وصراع مستمر.
وإذا أردنا أن نعرف الفرق بين الحلل والحرام نضرب هذا المثل :أنت إن أعجبك شيء في بيت
جارك ،وطلبته منه وأعطاك إياه ،فأنت ل تخشى أن يعرف الناس ما حدث .ولكن إذا أعجبك
شيء في بيت جارك وأردت أن تسرقه ،فأنت ل تأتي في النهار ول أمام الناس ،بل تأتي ليلً
وتحرص على أل يراك أحد.
ول تدخل من باب الشفقة ،بل تظل تدور وتخطط لتجد منفذا تدخل منه دون أن يراك أحد .وتضع
خطة للسرقة .وتدخل المنزل على أطراف أصابعك وأنت ترتعد .فإذا شعرت وأنت تنفذ الخطة
بصوت أقدام تنزعج وتجري لتختبئ وتأخذ الشيء وتكون حريصا على إخفائه وإن رآه أحد عندك
انزعجت ،وكل هذا عذاب يمر به كل من يجمع المال الحرام ،إذن فجمع المال الحرام عذاب.
وكل من يربي أولده من مال حرام ل يبارك ال لهم فيهم ،فإما أن ينشأ الواحد منهم عذابا لبيه
في تربيته فيرسب في المتحانات .ويُتلف المال في النفاق بل وعي .فكلما أعطيته أكثر احتاج
إلى المزيد من المال أكثر .ومثل هذا البن ل يطيع أباه .ويكون العذاب الكبر حينما ينشأ أحد
أبناء هذا النسان ويكون البن مؤمنا إيمانا صادقا بال ،فيرفض أن يأكل أو يلبس من مال أبيه،
أو أن يناقشه من أين جاء بهذا المال ويسمع منه ما يكره ،ويتمرد دائما عليه.
وفي عهد رسول ال صلى ال عليه سلم كان أبو عامر عدوا ل ورسوله .وكان ابنه حنظلة
مؤمنا ،وكلما رأى أبو عامر ابنه كان قلبه يغلي بالغيظ ،وعندما نودي للقتال ،وسمع حنظلة نداء
الجهاد بعد أن فرغ من الستمتاع مع زوجته فلم يصبر إلى أن يغتسل من الجنابة ،بل سارع إلى
الحرب مع رسول ال صلى ال عليه وسلم واستشهد في المعركة ,ولكن كيف عرف الصحابة
قصة حنظلة ،مع أن هذه المسألة تكون سرا بين الرجل وزوجته ل يعرفه أحد؟ لقد عرف
المؤمنون بخبر حنظلة حين رأى رسول ال صلى ال عليه وسلم بإشراقات ال أن الملئكة تنزل
غسْلً من
من السماء وتُغسّل حنظلة .ولما كان الشهيد ل يُغسل ،فقد عرف الرسول أن هذا ليس ُ
غسْل حتى ل ُيقْ ِبلَ الشهيد على ال وهو جُنُب ،رأى الرسول صلى ال عليه
الشهادة ،وإنما هو ُ
وسلم ما حدث لحنظلة ،وعندما عاد إلى المدينة بعث إلى زوجة حنظلة وسألها :ماذا حدث ساعة
غسْل .وتأمل كيف
ساعة خروج حنظلة إلى المعركة؟ فقالت أنه سمع نداء القتال ،خرج بدون ُ
نزلت الملئكة لتغسل شهيدا هو ابن عدو ال ورسوله .وكيف يكون هذا غَيْظا في قلب الب.
وقصة أخرى :سيدنا عبدال بن عبدال بي أبيّ؛ والده عبدال بن أبيّ كان زعيم المنافقين في
المدينة ،وهو الذي انسحب يوم أحد ومعه ثلث المقاتلين من المعركة .ويسمع عبدال أن صحابة
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،يطلبون منه الذن بقتل والده ابن أبيّ ،انظروا إلى اليمان .فها
هو البن يذهب إلى رسول ال عليه الصلة والسلم ،ويقول له :يا رسول ال إن كنتَ آمرا بقتل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غلّ عليه.
أبي فأمرني بقتله؛ حتى ل ألقي قاتله من المسلمين وفي قلبي ِ
وعندما يسمع الب أن ابنه يطلب أن يكون قاتله ،أليس هذا عذابا في قلبه؟ وهكذا نرى أن الموال
والولد الذين كان من المفروض أن يكونوا نعمة يصبحون نقمة ،أليس هذا عذابا في الدنيا؟
ولكن غير المؤمنين ل يلتفتون إلى واهب النعمة ،ول إلى الجزاء الذي ينتظرهم في الخرة ،ول
ينتبهون إلى حكمة الخلق التي تؤكد أن النسان خليفة ال في الرض ،وأن ال قد أعدّ الرض
بكل ما فيها من إمكانات ومن خيرات لتكون في خدمة هذا الخليفة ،أي :أنه أقبل على عالم كامل
من كل شيء؛ معدا له إعدادا فوق قدراته وطاقاته.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي " :خلقتُ الشياء من أجلك ،وخلقتُك من أجلي،
فل تشتغل بما هو لك عما أنت له "
أي :ل تشتغل بالنعمة عن المنعم ،تماما كما يدخل النسان إلى وليمة كبيرة ،فيجد المائدة مُعدّة
بكل ألوان الطعام ،وصاحب المائدة واقف فل يحييه ول يسلم عيه ويذهب مباشرة إلى الطعام،
فيُحسّ الناس أن هذا النسان جاحد بكرم الضيافة .بينما نجد رجلً آخر يدخل فيسلم على صاحب
الوليمة ويشكره على كرمه ويشيد به ،الول :انشغل بالنعمة ،والثاني :لم يُنْسه انشغاله بالنعمة أن
يشكر مَنْ أعدها له.
ومثال آخر :إن الصحة هي من أثمن النعم .أما المرض فإنه أقسى ما يمكن أن يصاب به
النسان؛ لن الصحة هي التي تجعل النسان يتمتع بنعم الحياة ،أما المرض فيحرمه هذه النعمة.
ولذلك فعندما يمرض النسان يعوضه ال بأنه بدلً من أن يكون في معيّة النعمة ،يكون في معيّة
المنعم وهو ال سبحانه .ولذلك يقول في حديث قدسي:
" عبدي فلن مرض فلم َت ُعدْني .فيقول له :يا رب وكيف أعودك وأنت رب العالمين؟ فيقول له:
أما عل ْمتَ أنك لو عُدته لوجدتني عنده "
قولوا لي بال :أيضيق أي مريض عندما يعرف أن الصحة كانت نعمة من ال وفارقته ،ولكن
المرض جعله مع المنعم ،وهو ال سبحانه وتعالى؟ ل ،بل إن ذلك يخفف عنه وطأة المرض،
ويجعله يشعر أن النْسَ بال يخفف عنه اللم .لكنك للسف تجد النسان غير منطقي مع نفسه،
فالعالم خُلق من أجل النسان .والنسان خُلق ليعبد ال .ولكنك تجده ل يلتفت لما خُلق من أجله،
بل يلتفت للشياء التي خُلقت له .وقد كان من المنطقي أن ينشغل بما خُلق من أجله.
وإذا أخذنا مثلً منطق النسان مع الزمن ،نجد أن الزمن إما أن يكون حاضرا أو ماضيا أو
مستقبلً .فإذا أردنا أن نذهب إلى ما ل نهاية نقول :إن الزمن حاضر وأزلي وأبدي.
والزلي :هو القديم بل بداية .والبد :هو المستقبل بل نهاية .والحاضر :هو ما نعيش فيه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والوجود الذي تراه أمامك خلقه الحق سبحانه واجبُ الوجود وبكلمة " كن " جاء كل " ممكن
الوجود "؛ لن كل وجود يحتاج إلى مُوجد هو وجزد ممكن ،وسيأتي له عدم .أما الوجود غير
المحتاج إلى موجد فهو وجود ل ينتهي .أي :أن واجب الوجود هو وجود ال وحده سبحانه
وتعالى .ولذلك فهو وجود أزلي قديم بل نهاية ،وأبد باقٍ بل نهاية .وبذلك فهو يخرج عن الزمن.
نأتي بعد ذلك إلى المخلوقات الممكنة ،أي التي لها مُوجدٌ ،وهي كل ما في الكون ما عدا ال
سبحانه وتعالى ،ومنها هذه الدنيا التي يعبدها بعض الناس من دون ال ،هذه الدنيا ليس لها أزل
ول أبد ،فالدنيا لم توجد إل عندما خلق ال السماوات والرض ،أي ليس لها وجود بل نهاية.
ولكن كان وجودها ببداية .إذن فهي ليست أزلً ،وهي ليست أبدا لنها تنتهي بيوم القيامة.
ولذلك ل يجتمع في قلب المؤمن حب ال وحب الدنيا؛ لن ال أزل وأبد ،والدنيا ل أزل ول أبد،
بل عمر الدنيا بالنسبة للنسان هي بمقدار عمره فيها .وقبل ميلده ل علقة له بها ،وبعد الموت
ل علقة له بها .وحتى إذا أخذنا الدنيا غي عمومها فإن لها بداية ونهاية ،فكيف يمكن أن يجتمع
في قلب المؤمن حب من ل بداية له ول نهاية ،وحب من له بداية ونهاية؟ ل يجتمعان.
ولذلك قال شيخنا الزمخشري رضي ال عنه :ما دام هذا الكون فيه وجود ،يكون الوجود :إما
واجبا ،وإما ممكنا .والوجود الواجب ل وحده .والوجود الممكن هو كل ما عدا ال ،ول يوجد أزل
ول أبد إل للحق سبحانه وتعالى.
فإذا قلنا :إن هناك وجودا فيه أزل وليس فيه أبد ،نقول :إن هذا ممتنع عقلً؛ لن الذي ل تكون له
بداية ل تكون له نهاية .أي :يكون دائم الوجود.
إذن :فيبقى أن يكون الوجود له أبد وليس له أزل ،أي :له بداية وليس له نهاية .ونقول :إن هذا
يجتمع في اثنتين؛ الخرة والنسان؛ النسان له بداية وهي تاريخ خَلْقه ،وليس له نهاية؛ لنه بعد
أن يموت يُب َعثُ مرة أخرى ،إما أن يخلد في النعيم ،وإما أن يُع ّذبَ قليلً ،ويدخل الجنة وإمّا يخلد
-والعياذ بال -في النار.
وكذلك الخرة لم يأت زمنها بعد .إذن فهي لم تبدأ بعد ،ولكنها متى بدأت فليس لها نهاية؛ لن
هناك حياة أبدية في الجنة أو في النار .إذن :فالنسان والخرة اشتركا في شيء واحد ،ول بد أن
يربط النسان نفسه بالخرة؛ فالذي يأخذ الدنيا إنما أخذ شيئا له بداية ونهاية ،ولكن الذي يطبق
ن ل بداية له ول نهاية له.
منهج ال ويعبده عن حب واختيار أخذ مَ ْ
والذي عمل للخرة ،عمل لما ل نهاية له أو للذي سيخلد فيه ،وتكون فيه حياته الحقيقية.
ولذلك حين نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى {:وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }
[العنكبوت.]64 :
نعرف أن الحياة الحقيقية هي في الخرة وليست الدنيا؛ لن الغايات في أي شيء يجب أن تكون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
متساوية ،فمثلً :إذا أردنا أن نصنع كُرْسيا .فالغرض من الكرسي أن نجلس عليه .إذن :فكل
الكراسي مهما اختلَفت أشكالها وألوانها لها غاية واحدة وهي أن نجلس عليها .والنسان غايته لبد
أن تكون متساوية .وما ُدمْنَا أفرادا لجنس واحد فل بد أن تكون لنا غاية واحدة :ما هي؟ أهي
الصحة؟ بعضنا مريض .أهي القدرة؟ بعضنا عاجز .أهي طول العمر؟ بعضنا عمره في الدنيا
ساعات.
وإذا استعرضنا كل ما في الدنيا فل نجد شيئا نتفق فيه إل الموت ،وفيما عدا ذلك فنحن نختلف.
إذن فل بد أن نلتفت في حياتنا الدنيا من أول يوم إلى أننا سوف نموت ونلقى ال ،وعلينا أن نعد
العدة لذلك ،وكلنا سائرون إلى هذه النهاية.
والحق سبحانه وتعالى يقول في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } فَلَ ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُمْ وَلَ
َأ ْولَدُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي ا ْلحَيَاوةِ الدّنْيَا { لم يقف عز وجل عند هذا الحد ،بل قال
سهُ ْم وَ ُهمْ كَافِرُونَ {
سبحانه } :وَتَزْهَقَ أَنفُ ُ
و } تَزْ َهقَ { أي تخرج بصعوبة ،لماذا؟ لن عابد الدنيا عمل من أجلها فقط .ولم يعمل شيئا من
أجل الخرة ،فعندما يأتي له الموت ،يجد أنه لم يقدم شيئا لخرته ،وأن ما ينتظره هو العذاب،
ولذلك يكره أن يترك نعيم الدنيا إلى عذاب الخرة .أما صاحب العمال الطيبة عندما يأتي له
الموت فهو يستبشر؛ لن الذي ينتظره خير يفوق كل الذي سيتركه .كمثل إنسان يعيش في كوخ
صغير ثم ينتقل إلى قصر فاخر ،أإل يكون سعيدا؟ وكذلك المؤمن عندما يأتيه الموت يصبح كالذي
ينتقل من كوخ صغير إلى قصر فاخر .أما صاحب الدنيا فمثل الذي يؤخذ من قصر إلى نار
محرقة ،ولذلك فهو يكره ساعة الموت.
والمؤمن يفرح حين ينتقل من الدنيا الفانية إلى الحياة الخالدة الباقية ،ومن النعمة إلى المنعم ،ومن
الحياة بالسباب إلى الحياة مع المسبّب ،فنحن في الدنيا ل بد أن نأخذ بالسباب إلى الحياة مع
المسبّب ،فنحن في الدنيا لبد أن نأخذ بالسباب لنصنع ما نريد ،والمثال :أنك إنْ أردت أن تأكل
فل بد من أن تطهو الطعام أو أن يُعدّه لك غيرك ،وإنْ أردتَ أن تلبس فل بد لك ممن يصنع لك
القماش ويحيك الثوب .ووراء كل نتيجة توجد سلسلة طويلة من السباب .فهناك الذي يزرع،
والذي يحصد ،والذي ينقل إلى المطحن أو إلى المصنع ،والذي يطحن الدقيق أو ينسج القماش ،أما
في الخرة فل توجد أسباب ،بل بمجرد أن يخطر الشيء على بالك تجده أمامك ،أليست هذه حياةَ
نعيمٍ؟
إذن :فالذي تنفرج أساريره ساعة الموت هو المؤمن ،والذي ينقبض وجهه ويتشنج عندما يأتيه
مََلكُ الموت هو الكافر والعاصي؛ لنه سينتقل من نعيم حتى ولو كان نسبيا إلى عذاب رهيب.
وقد قيل للمام علي رضي ال عنه :يا إمام ،أريد أن أعرف نفسي أأنا من أهل الدنيا أم من أهل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخرة؟ فقال المام عليّ :ال أرحم من أن يجعل جواب هذا السؤال عندي وجعل السؤال عندك
أنت ،إن كنت تحب من يدخل عليك وهو يريد أن يأخذ منك أكثر مما تحب من يدخل عليك وهو
يريد أن يعطيك هدية تكون من أهل الخرة.
أي :إذا دخل عليك إنسان يطلب صدقة أو مالً فاستقبلته بترحاب وتحية وتعطيه وأنت مسرور
تكون من أهل الخرة؛ لنك تعرف أنه أخذ منك في الفانية ما يحمله لك أجرا في الخرة التي
تعمل من أجلها ،ولذلك تحبه .أما إن كنت تحب من جاء يعطيك هدية أكثر ممن جاء يسألك تكون
من أهل الدنيا؛ لنه معطي الهدية يزيدك في دنياك .وما ُد ْمتَ تفرح بذلك أكثر من فرحك بالذي
يزيد آخرتك فأنت من أهل الدنيا.
ويقال :إن فلنا أحسن ال خاتمته لنهم دخلوا عليه لحظة الموت فوجدوا وجهه أبيض وملمحه
سمحة مستريحة .نقول :إن هذا صحيح ،فهذه لحظة ل يكذب النسان فيها على نفسه .ونحن نعلم
أن النسان حين يشتد عليه المرض فهو يتشبث بالمل في أن ينال الشفاء على يد طبيب بارع.
لكن المر يختلف ساعة الحتضار حين يعلم النسان أن الموت يتخلله وأنه ميت ل محالة،
مصداقا لقول الحق سبحانه {:فََل ْولَ ِإذَا بََل َغتِ ا ْلحُ ْلقُومَ }[الواقعة]83 :
ويرى ما كان محجوبا عنه في الدنيا .حينئذ يستعرض أعماله .فإنْ رأى شريط الحياة حُلْوا منيرا،
ابتسم وانفرجتْ أساريره فيُقبَضُ على هذا الوضع .أما من امتلت حياته بالسوء والمعاصي
فوجهه يس َو ّد وتنقبض أساريره فيُقبض على هذا الوضع .وهذا ما نسميه الخاتمة ،فلحظة
الحتضار فيها يقين بالموت ،تماما كساعة المتحان حيث تجد التلميذ الخائب مصفر الوجه
مرتعدا ومتشنجا ،أما التلميذ المجتهد فيكون مُبتسما مُنْفرجَ السارير.
وفي ساعة الحتضار يخلو الذهن من أي شيء إل صحيفة عمله ،فهي التي تبقى وفي بؤرة
شعوره ،وبؤرة الشعور هي المكان الذي إن استقر فيه شيء فإنه ل يُنسَى أبدا .فإذا عرف طالب
قبل المتحان بفترة قصيرة ،أن هناك سؤالً سيأتي في جزء معين من الكتاب وأمسك هذا الجزء
وقرأه مرة واحدة تجد أنه وهو يقرؤه ل يفكر في شيء آخر غيره ،ومجرد قراءته مرة تجعله
يجيب الجابة المتميزة؛ لن بؤرة الشعور مثل آلة التصوير ،تأخذ صورة ما ترى مرة واحدة.
إذن :فساعة اللتقاط هذه حيث ل شيء يشغل الذهن ،تجد أن الشعور ل يتسع إل لخاطر واحد،
فل يأتي خاطر إليها إل إذا تزحزح الخاطر الول عنها.
ولذلك إذا سمعتَ شيئا وحفظ َتهُ من أول مرة ،فهذا دليل على أن بؤرة شعورك كانت خالية
ومستعدة ساعة التقاط هذا الشيء .كذلك عند الموت ساعة الحتضار ل يجد الميت في بؤرة
شعوره خاطرا آخر يناقض أو يزاحم أمر الخرة ،فإن كانت حياته خيّرة أشرق وجهه وانفرجت
أساريره ،وإن كانت حياته سيئة انقبضت أساريره واسودّ وجهه والعياذ بال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ { يعطينا معنيين :المعنى الول :أن النعمة تظل معهم
وقوله تعالى } :وَتَزْهَقَ أَنفُ ُ
تلهيهم عن ال حتى تأتي ساعة الموت .والمعنى الثاني :أن ساعة الموت تكون شاقة وصعبة على
الكافر والمنافق؛ لنه يترك الموال والولد ويذهب إلى العذاب.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى } :وَيَحِْلفُونَ بِاللّهِ إِ ّنهُمْ{ ...
()1277 /
وَيَحِْلفُونَ بِاللّهِ إِ ّنهُمْ َلمِ ْنكُ ْم َومَا هُمْ مِ ْنكُمْ وََلكِنّهُمْ َقوْمٌ َيفْ َرقُونَ ()56
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما المنافق فتتناقض ملكاته .فهو يقول بلسانه " :أنا مؤمن وأشهد أن ل إله إل ال وأن محمدا
رسول ال " .لكن قلبه يناقض ما يقوله ،فل يشهد بوحدانية اللوهية ل ،ول يصدق رسالة رسوله
صلى ال عليه وسلم.
ش َهدُ إِ ّنكَ
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة " المنافقون "ِ {:إذَا جَآ َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُواْ نَ ْ
شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَافِقِينَ َلكَاذِبُونَ }[المنافقون]1 :
لَرَسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ ُه وَاللّهُ َي ْ
كيف يقول الحق سبحانه وتعالى { إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ } ،مع أنهم شهدوا بما شهد به ال ،وهو
أن محمدا صلى ال عليه وسلم رسول ال؟ نقول :إن الحق أراد أن يفضحهم ،فهم قد شهدوا
بألسنتهم فقط ولكن قلوبهم منكرة .وفضح ال ما في قلوبهم وأوضح أن ألسنتهم تكذب؛ لنها ل
تنقل صدق ما في قلوبهم.
إذن :فالمنافق يعيش في تناقض مع نفسه ،وهو شر من الكافر؛ لن الكافر يعلن عداءه للدين فهو
عدو ظاهر لك فتأخذ حذرك منه .أما المنافق فهو يتظاهر باليمان ،فتأمن له ويكون إيذاؤه أكبر،
س َفلِ مِنَ
ك الَ ْ
وقدرته على الغَدْرِ أشد .ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى {:إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ فِي الدّ ْر ِ
النّارِ[} ..النساء]145 :
ونحن نعلم أن تناقض الذات هو الذي يتعب الدنيا كلها ،ويبين لنا المتنبي هذه القضية ،ويشرح
كيف أنها أتعبُ شيء في الوجود ،فيقول:
ن صَداقتِه بُدّهذا هو تناقض الملكَاتِ حين تجد
َومِنْ َن َكدِ الدّنْيا علَى الحرّ أنْ يَرَى عَدوّا له مَا مِ ْ
عدوا لك ،وتحكم عليك الظروف أن تصادقه .وفي ذلك يقول شاعر آخر:
جمِعين عَلىَ الحمْدِوشاعر ثالث يريد أن يصور
جمِعينَ وحالُنَا مِنَ الخ ْوفِ حَالُ الم ْ
عَلَى الذّمّ بِتْناَ مُ ْ
التناقض في المجتمع الذي يجعل الناس يمجدون هذا وهم كارهون له ،فيقول:
خ ّوفِإذن :فالمنافقون يحلفون بألسنتهم
صدُق القوالُ باللسُنِ ال ُ
َكفَانَا هَوانا مِنْ تنا ُقضِ ذَاتِنا متى َت ْ
بأنهم من المؤمنين ،وهم كذلك في ظاهر التشريع ،ولكنهم ليسوا منكم في حقيقتهم ،فهم في قلوبهم
ليسوا منكم.
ويكمل الحق سبحانه وتعالى الصورة بقوله:
حِلفُونَ بِاللّهِ إِ ّنهُمْ َلمِنكُ ْم َومَا هُم مّنكُ ْم وَلَـاكِ ّنهُمْ َقوْمٌ َيفْ َرقُونَ { والفَرَق معناه :الخوف ،أي أنهم
} وَيَ ْ
في فزع دائم ،ويخافون أن يُفتضَحَ أمرهم فيعزلهم مجتمع السلم ويحاربهم محاربته للكفار.
ويشرّدهم ويأخذ أموالهم ويَسْبي نساءهم وأولدهم .إذن :فالخوف هو الذي جعلهم يحلفون كذبا
وخوفا من افتضاح أمرهم؛ ولذلك قال الحق لرسوله صلى ال عليه وسلم عنهم {:وََلوْ َنشَآءُ
لَرَيْنَاكَهُمْ فََلعَ َرفْ َتهُم بِسِيمَا ُه ْم وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ فِي َلحْنِ ا ْل َق ْولِ[} ...محمد]30 :
وفي هذا القول دعوة لفحص ما يقوله أهل النفاق ،حتى وإنْ بَدا القول على ألسنتهم جميلً.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول الحق جل وعلَ } :لوْ َيجِدُونَ مَلْجَئا{ ..
()1278 /
جمَحُونَ ()57
جدُونَ مَ ْلجَأً َأوْ َمغَارَاتٍ َأوْ ُمدّخَلًا َلوَّلوْا إِلَ ْي ِه وَهُمْ َي ْ
َلوْ يَ ِ
والملجأ :هو ما نلجأ إليه ليحمينا من الذى مثل الحصون ،وكذلك المغارة وهي الكهف في الجبل.
والمدّخَل :هو شيء يشبه النفق تحت الرض تدخل فيه بمشقة والتواء ،إذن :فهناك ثلثة ملجئ
ن وُجدوا في المعركة؛ لنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم .وهم يتم ّنوْن الذهاب
يفِرّون إليها إ ْ
إلى مكان بعيد؛ ليسبّوا السلم على ما هم فيه من مشقة القتال ،وهم ل يستطيعون أن يفعلوا ذلك
أمام المسلمين؛ لذلك تجدهم في حالة بحث عن مكان ل يسمعهم فيه أحد.
ج َمحُونَ } فالكلم إذن عن المنافقين الذين
{ َلوْ َيجِدُونَ مَلْجَئا َأوْ َمغَارَاتٍ َأوْ مُدّخَلً ّلوَّلوْاْ إِلَيْ ِه وَ ُهمْ يَ ْ
ذكر الحق أوصافهم ،وعهودهم التي نقضوها ،وحَلِفهم كذبا ،وما يعيشه كل منهم من تناقض
ظهِرُ غير ما يبطن ويخاف من
مَلَكاته ،ذلك التناقض الذي يورثه الشقاء؛ لن كل واحد منهم ُي ْ
انكشاف أمره .فيظل مضطربا لن ما بداخله يتناقض مع واقع حياته.
إن هذه الحالة هي عكس حالة المؤمن الذي يعيش حياة منسجمة؛ لن ما في قلبه هو ما يحكيه
لسانه ،فضلً عن انسجامه باليمان مع الكون الذي يعيش فيه ،وكذلك فحالة المنافق تختلف عن
حالة الكفر ،فالكافر قد أعلن الكفر الذي في قلبه بلسانه .أما المنافق فله قلب يكفر ولسان ينطق
كذبا باليمان .ولذلك فهو في تعب مستمر من أن ينكشف أمره ،أو يعرف المؤمنون ما في قلبه؛
لنه ُيكِنّ الحقد لمنهج ال وإن كان يعلن الحب ظاهرا.
والنسان إذا اضطر أن يمدح من يعاديه وأن يتظاهر له بالحب ،فإن هذا السلوك يمثل ثقلً نفسيا
رهيبا يحمله على ظهره ،وهكذا نرى أن المنافقين يُتعبون أنفسهم قبل أن يُتعبوا المجتمع ،تماما
كالرجل البخيل الذي يتظاهر بأنه كريم ،وكلما أنفق قرشا ليؤكد هذا التظاهر فإن هذا القرش
يذبحه في نفسه ويسبب له آلما رهيبة .وحتى يرتاح النسان مع الدنيا ل بد أن يرتاح مع نفسه
أولً ويتوافق مع نفسه.
ومن هنا نجد المنافقين حين يريدون أن يُنفّثوا عما في صدورهم ،فهم يَختَلّون ببعضهم بعضا بعيدا
غلّ وكراهية لهذا الدين ،ويبحثون
عن أعين وآذان المسلمين؛ ليُظهروا ما في نفوسهم من حقد و ِ
عن ملجأ يكونون آمنين فيه ،أو مغارة في الجبل بعيدا عن الناس حتى ل يسمعهم أحد ،أو مُدّخلً
وهو المكان الضيق الذي ل تستطيع أن تدخل فيه إل بصعوبة .هم إذن يبحثون عن مكان يغيبون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيه عن سمع المؤمنين وأنظارهم ليُخرِجوا الكراهية المحبوسة في صدورهم ،ولذلك يقول الحق
سبحانه وتعالى:
ج َمحُونَ } و { وَّلوْاْ } أي :انطلقوا إليه
{ َلوْ َيجِدُونَ مَلْجَئا َأوْ َمغَارَاتٍ َأوْ مُدّخَلً ّلوَّلوْاْ إِلَيْ ِه وَ ُهمْ يَ ْ
ج َمحُونَ } والجماح هو أن تفقد
وقد شغلهم السراع للذهاب إلى المكان عن أي شيء آخر { ،وَ ُهمْ يَ ْ
السيطرة على الفرس الذي تركبه ،فل تقدر على كَبْح جماحه أو التحكم فيه ،فينطلق بسرعة،
وحين يقال هذا عن النسان فهو يعني النطلق بسرعة إلى المكان الذي يقصد إليه ول يستطيع
أحدٌ منعه ،وإنْ تعرض له أحد دفعه بعيدا لينطلق في طريقه بسرعة.
والية هنا تعطينا صورة دقيقة لحالة المنافقين في أي معركة .فبمجرد بَدْءِ القتال تجدهم ل
يتجهون إلى الحرب ،ول إلى منازلة العدو ،ول يطلبون الستشهاد ،ولكنهم في هذه اللحظة التي
يبدأ فيها القتال يبحثون عن مكان آمن يهربون إليه ،أو مغارة يختبئون فيها ،أو مُدّخل في الرض
ينحشرون فيه بصعوبة ليحميهم من القتال .فإذا انتهت المعركة خرجوا لينضموا إلى صفوف
المسلمين ،ذلك أنهم ل يؤمنون .فكيف يقاتلون في سبيل دين ل يؤمنون به؟ ولذلك كنت تجدهم في
المدينة إذا نودي للجهاد فهم أول من يحاول الهروب ويذهبون للقاء النبي صلى ال عليه وسلم
طالبين التخلف عن المعركة ،ويقول الواحد منهم {:ائْذَن لّي َولَ َتفْتِنّي[} ...التوبة]49 :
وفي الصدقة يحاولون التشكيك في توزيع الصدقة وكيف يتم؛ فيقول الحق سبحانه وتعالى عنهم} :
َومِ ْنهُمْ مّن يَ ْلمِ ُزكَ فِي{ ...
()1279 /
خطُونَ ()58
طوْا مِ ْنهَا ِإذَا هُمْ يَسْ َ
عطُوا مِ ْنهَا َرضُوا وَإِنْ َلمْ ُيعْ َ
َومِ ْنهُمْ مَنْ يَ ْلمِ ُزكَ فِي الصّ َدقَاتِ فَإِنْ أُ ْ
وإذا جلسوا مع بعضهم البعض تجدهم يحاولون النّيْل من رسول ال صلى ال عليه وسلم بغرض
ي وَ ِيقُولُونَ ُهوَ أُذُنٌ ُقلْ ُأذُنُ
إيذائه ولمزه ،ويقول ال سبحانه وتعالى عنهمَ {:ومِنْهُمُ الّذِينَ ُيؤْذُونَ النّ ِب ّ
عذَابٌ
ح َمةٌ لّلّذِينَ آمَنُواْ مِنكُ ْم وَالّذِينَ ُيؤْذُونَ َرسُولَ اللّهِ َلهُمْ َ
خَيْرٍ ّل ُكمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَ ُي ْؤمِنُ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَرَ ْ
أَلِيمٌ }[التوبة]61 :
هذه بعض صفات المنافقين التي يفضحهم ال بها بكشفها للمؤمنين .وقد جاء الحق سبحانه لنا
بمزيد من الكشف لقبائحهم وفضائحهم .فقال فيهمَ { :ومِ ْنهُمْ مّن يَ ْلمِ ُزكَ فِي الصّ َدقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ
خطُونَ } [التوبة]58 :
طوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ َيسْ َ
مِ ْنهَا َرضُو ْا وَإِن لّمْ ُيعْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كلنا أيضا نقرأ قول ال سبحانه {:و ْيلٌ ّل ُكلّ ُهمَ َزةٍ ّلمَ َزةٍ }[الهمزة]1 :
فما هي ال ُهمَزة وما هي الّلمَزة؟
" الهمزة " :هو من يعيب في الخرين عيبا خفيا ويسخر منهم خفية ،ويكون ذلك بإشارة من عينه
أو بأي حركة من جوارحه ،ومثال هذا :حين تكون هناك مجموعة من الناس جالسين ،ويحاول
أحدهم النّيْل من أحد الحضور خفية ،فيغمز بطرف عينه لنسان آخر ،أو يكون باللسان َهمْسا في
أذن إنسان أو بأي طريقة أخرى ،المهم أن يُشَار إلى العيب بطريقة خفية ل يلحظها معظم
الحاضرين.
أما الّلمَزة العيّابون في غيرهم في حضورهم .فهناك القوي الذي يكشف العيوبَ بشجاعة وصراحة
وهو اللّماز ،أما الضعيف فهو يعيب خفية وهو الهمّاز .واللمزة تطلق على من يعيب كثيرا في
الناس.
وهمزة لمزة ،من صيغة المبالغة " ُفعَلَة " وتدل على كثرة فعل الشيء .فتقول " فلن أكَلة " -
بضمة على اللف -أي :يأكل كثيرا .وفلن ضُحَكة -بضمة على الضاد -أي :كثير الضحك.
إذن :فاللّمزة هي كثرة العيب في الغير ،وهي تدل على ضعف من يقول بها ،ولو لم يكن ضعيفا
لقال ما يريد بصراحة.
والحق سبحانه وتعالى يقولَ { :ومِ ْنهُمْ مّن يَ ْلمِ ُزكَ فِي الصّ َدقَاتِ } واللمز كما عرفنا هو البحث عن
العيب ،وهو هنا مظروف في شيء هو الصدقات .وكان بعض من المنافقين يغتابون تشريع
الصدقة ،وكانوا يعيبون أن يتعب الغني ويشقى في الحصول على المال ثم يأخذ الفقير المال بل
تعب ،فهل يعيبون التشريع نفسه؟ أم يعيبون كمية الصدقات المفروضة عليهم ويرونها كثيرة؟ أم
يعيبون حثّ ال للناس على الصدقة؟ أم يعيبون الطريقة التي يتم بها صرف الصدقة للفقراء ،وأن
بعضهم يُعطَى كثيرا وبعضهم ُيعْطى قليلً؟ لقد كانوا يعيبون في كل المور أو بعضها.
إذن :فاللمز إما أن يكون في التشريع ،وإما أن يكون في كمية الصدقات أو في طريقة الصرف،
والحادثة التي وقعت ونزلت فيها هذه الية الكريمة كانت في مصارف الصدقة ،فقد قام حرقوص
بن زهير ،وهو رأس الخوارج ،وهو ابن ذي الخويصرة ،وقال :اعدل يا محمد.
()1280 /
وََلوْ أَ ّن ُهمْ َرضُوا مَا آَتَا ُهمُ اللّ ُه وَرَسُوُل ُه َوقَالُوا حَسْبُنَا اللّهُ سَ ُيؤْتِينَا اللّهُ مِنْ َفضْلِ ِه وَرَسُولُهُ إِنّا إِلَى اللّهِ
رَاغِبُونَ ()59
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كيف يقول الحق سبحانه وتعالى { :مَآ آتَا ُهمُ } مع أنهم لم يأخذوا شيئا ،بل إنهم قد سخطوا؛ لنهم
لم يأخذوا شيئا.
نقول :إن ال يريد أن يلفتهم إلى أن له عطاء في المنح وعطاء في المنع .فعطاء الحق سبحانه
لمن أخذ ،وحرمان الحق سبحانه للبعض ،كل ذلك فيه عطاء من الحق جل وعل ،ولكن الناس ل
يلتفتون إلى ذلك .ورسول ال صلى ال عليه وسلم حين منع الغنائم عن النصار في حنين أخذوا
سمَى من الغنائم ،وقال لهم رسول
المعية مع رسول ال عليه أفضل الصلة والسلم ،وهذا أكبر وأ ْ
ال صلى ال عليه وسلم:
شعْب
شعْبا لَسل ْكتُ ِ
شعْبا وسلك النصار ِ
" المحيا محياكم ،والممات مماتكم .لو سلك الناس ِ
النصار "
وبذلك أخذوا ما هو أكبر وأهم وأعظم من الغنائم .إذن فقد يكون في المنع إيتاء.
الحق سبحانه وتعالى يقول { :مَآ آتَاهُمُ اللّ ُه وَرَسُولُهُ } وهو عز وجل المشرّع ،والرسول عليه
الصلة والسلم هو المبلّغ والمنفّذ ،فإذا ما َرضُوا بقسمة ال ،فالرّضاء عمل قلبي كان عليهم أن
حسْبُنَا اللّهُ } فكأن الرضا عمل القلب ،والتعبير عن الرضا
يترجموه بكلم نزوعي هوَ { :وقَالُواْ َ
عمل اللسان ،وما داموا قد احتسبوا المر عند ال ،فال هو الذي يرعى ،وفي عطائه خير وفي
منعه خير .ولذلك نجد الطيبين من الناس إن غُلِبُوا على أمرهم يقولون :إن لنا ربا ،أي :إياك أن
ن منعتني أو أخذت حقي بأن اعتديت عليّ ستمضي بهذا الفعل دون عقاب؛ لن لي
تفهم أنك حي َ
ربا يغار عليّ ،وسبحانه سيعوّضني أكثر مما أخذت ،ويجعل ما أخذته مني قَسْرا؛ نقمة عليك.
ولذلك فأهم ما يجب أن يحرص عليه المؤمن ليس هو الصلة بالنعمة ولكن الصلة بالمنعم .وفي أن
ال هو القادر على أن يعوّض أي شيء يفوت.
ويوضح لنا سبحانه الصورة أكثر فيقول { :سَ ُيؤْتِينَا اللّهُ مِن َفضْلِهِ } أي سيعوضنا عنها بخير
منها .وعطاء ال دائما فضل؛ لنه يعطي النسان قبل أن يكون قادرا على عبادته ،حتى وهو في
بطن أمه ل يقدر على شيء ،فإذا كنت في الدنيا قد فكرت بالعقل الذي خلقك لك ال ،وعملت
بالطاقة التي خلقها لك ال ،وفي الرض التي خلقها ال ،فإنك في بطن أمك لم تكن قادرا على أي
شيء .وحين تخرج وتنمو وتكبر فأنت تحيا في كون مليء بنعم ال ،لم تخلق فيه شيئا ،ولم تُوجد
فيه خيرا .وإنما جئت إلى الكون وهو كامل النعم ،فل أنت أوجدت الرض ول صنعتَ الشمس،
بل إن نعمة واحدة من نعم ال ،فل أنت أوجدت الرض ول صنعتَ الشمس ،بل إن نعمة واحدة
من نعم ال ،وهي المطر؛ إن توقفت هلك كل من في الرض.
ونلمس أثر ذلك حين تأتي مواسم الجفاف في أي منطقة من العالم ،ونرى كيف يهلك كل شيء؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الزرع والنسان والحيوان.
والحق سبحانه وتعالى قد خلقنا في عالم أغيار ،فالقادر اليوم قد يصبح غير قادر غدا ،والصحيح
اليوم قد يصبح مريضا معلولً غدا ،والقوي يضعف ،حتى نعرف أن ما نملكه من قدرة وقوة
ليست أمورا ذاتية فينا ،ولكنها منحة من ال؛ يأخذها وقتما يشاء ،ونرى القوى الذي كان يفتك بيده
ويؤذي بها غيره ويُ ِذلّ اناس بها .نراه وقد أصيبت يده ،فل تصل إليها الوامر من المخ فتُشَل.
إذن :فقدرة أي إنسان ليست ذاتية فيه ،بل هي من فضل ال سبحانه وتعالى ،وكل شيء في الكون
هو من فضل ال.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
} سَ ُيؤْتِينَا اللّهُ مِن َفضْلِ ِه وَرَسُوُلهُ إِنّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ { ويقال :رغب في كذا أي أراده ،ويقال:
رغب عن كذا ،أي ترك هذا المر .ويقال :رغب إلى كذا أي سار في الطريق نحوه .وهنا قال
الحق } :إِنّآ إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ { وما ُدمْنا إلى ال راغبين ،كان يجب أل نعزل عطاء الدنيا عن
عطاء الخرة ،فالدنيا ليست كل شيء عندك؛ ما ُدمْت راغبا إلى ال الذي سيعطيك نعيما ل حدود
له في الخرة .ولذلك فرغبتنا في ال كان يجب أل تجعلنا نسخط على نعيم فاتنا في الدنيا؛ لن
هناك نعيما بل حدود ينتظرنا في الخرة.
وأراد الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك أن يبين مصارف الصدقة حتى يعرف هؤلء الراغبون في
متاع الدنيا هذه المصارف ويتعرفوا إلى حقيقة المر ،وليتبينوا هل هم يستحقون الصدقة أم ل،
فقال جل جلله } :إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ لِ ْل ُفقَرَآءِ{ ....
()1281 /
ن َوفِي
ب وَا ْلغَا ِرمِي َ
إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ لِ ْل ُفقَرَاءِ وَا ْلمَسَاكِينِ وَا ْلعَامِلِينَ عَلَ ْيهَا وَا ْل ُمؤَّلفَةِ قُلُو ُبهُ ْم َوفِي ال ّرقَا ِ
حكِيمٌ ()60
سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّ ِه وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
وعندما تسمع كلمة { إِ ّنمَا } فافهم أنه يُرَادُ بها القصر ،فإن قلتَ " إنما الرجل زيد ،أي :أنك
قصرت الرجولة على زيد .وإن قلتَ :إنما الكريم حاتم ،تكون قد قصرت الكرم على حاتم .وقول
الحق سبحانه وتعالى { :إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ } معناها :أن الصدقات محصورة في هؤلء ول تتعداهم.
فمن هم هؤلء الذين حصر الحق سبحانه وتعالى فيهم الصدقة؟ وما المراد هنا بالصدقة؟ هل هي
صدقة التطوع أو الزكاة؟
نقول :ما دام الحق سبحانه وتعالى قد حدد لها مصارف فهي الزكاة ،ولسائل أن يسأل :لماذا لم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َيقُل الحق سبحانه وتعالى الزكاة وقال الصدقة؟
ن يكفرون في إنشاء
ونقول :أل ترى -في المجتمعات غير اليمانية الملحدة -أن من الناس مَ ْ
مؤسسات اجتماعية لرعاية الفقراء؟ إن عطف النسان على أخيه النسان هو أمر غريزي خلقه
ال فينا جميعا ،ولذلك كان يجب أن نفهم أن الزكاة صدقة ،ولو لم يشرعها ال لكان يجب أن
يقدمها النسان لخيه النسان .وحوادث الكون كلها تدل على صدق وصف الحق سبحانه وتعالى
للزكاة بأنها صدقة؛ لنها تأتي تطوعا من غير المؤمن وغير الملتزم بالتشريع ،ويحس القادر
بالسعادة وهو يعطي لغير القادر ،وعي غريزة وضعها ال في خلقه ليخفف من الشقاء في الكون.
وهنا يقول الحق { :إِ ّنمَا الصّ َدقَاتُ لِ ْلفُقَرَآ ِء وَا ْلمَسَاكِينِ } وقد احتار العلماء في ذلك ،فقال بعضهم:
إن الفقير هو الذي ل يجد شيئا فهو مُعدم .والمسكين هو من يملك شيئا ولكنه ل يكفيه ،وعلى هذا
ل من الفقير ،واستندوا في ذلك إلى نص قرآني في قوله تعالىَ {:أمّا
يكون المسكين أحسن حا ً
سفِينَةُ َفكَا َنتْ ِلمَسَاكِينَ َي ْعمَلُونَ فِي الْ َبحْرِ[} ...الكهف]79 :
ال ّ
وما دام هؤلء المساكين يملكون سفينة إذن فعندهم شيء يملكونه .ولكن العائد الذي تأتي به
السفينة ل يكفيهم.
ولكن بعض العلماء قالوا عكس ذلك ،ورأوا أن المسكين هو مَنْ ل يملك شيئا مطلقا ،والفقير هو
الذي يجد الكفاف .وعلى هذا يكون الفقير أحسن حالً من المسكين ،ول أعتقد أن الدخول في هذا
الجدل له فائدة؛ لن ال أعطى الثنين ..الفقير والمسكين .وكلمة " فقير " معناها الذي أتعبت
الحياة َفقَار ظهره أي فقرات ظهره ،وحاله يغني للتعبير عنه ،والمسكين هو الذي أذهلته المسكنة.
ثم يأتي بعد ذلك { :وَا ْلعَامِلِينَ عَلَ ْيهَا } أي :الذين يقومون بجمع الصدقات ويأخذونها ممن يعطيها
ويضعونها في بيت المال ،ونلحظ هنا أن { وَا ْلعَامِلِينَ عَلَ ْيهَا } جاءت مطلقة؛ فلم تحدد هل يستحق
الصدقة مَنْ كان يجمعها وهو فقير ،أو مَنْ كان يجمعها وهو غير محتاج .ونقول :إن جمع الصدقة
عمل ،ولو قلنا :إن غير المحتاج ويعمل في جمع الصدقة ل يجب أن يأخذ أجرا ،هنا يصبح عمله
لونا من التفضل ،وما دام العمل تفضّلً فلن يكون بنفس الكفاءة التي يعمل بها ،إذا كان العمل
بالجر.
وأيضا حتى ل يُحرَم المجتمع من جامع صدقة ذكي نشيط؛ لنه غير محتاج ،ولكن نعطيه أجرا
ليكون مسئولً عن عمله ،والمسئولية ل تأتي إل إذا ارتبطت بالجر.
والعامل على جمع الصدقة إنما يعمل لصالح الدولة اليمانية ،فهو يجمع الصدقات ويعطيها للحاكم
أو الوالي الذي يوزعها .وفي هذا مصلحة لمجتمع المسلمين كله .خصوصا إن كانت الصدقة
توزع من بيت المال فل يتعالى أحد على أحد ،ول يذلك أحد أمام أحد ،وفي هذا حفظ لكرتمة
سفْلى.
المؤمنين؛ لن من يأخذ من غير بيت المال سيعاني من انكساره يده ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن يعطي لغير بيت المال قد يكون في عطائه لون من تعالى صاحب اليد العليا ،وكذلك فإن
أولد الفقير لن يروا أباهم وهو ذاهب إلى رجل غني ليأخذ منه الصدقة و ُيصَاب بالذلة والنكسار.
ول يرى أولد الغني هذا الفقير وهو يأتي إلى أبيهم ليأخذ منه الصدقة؛ فَيتعاَلوْنَ على أبناء الفقير.
فإن أخذ الفقراء الصدقة من بيت المال ،كان ذلك صيانة لكرامة الجميع ،وإن حدث خلل بين
غني وفقير فلن يقول الغني للفقير :أنا أعطيك كذا وكذا ،أو يقول أولد الغني لولد الفقير :لول
أبونا َلمُتُمْ جوعا.
إذن :فقد أراد الحق سبحانه بهذا النظام أن يمنع طغيان المعطي ،ويمنع -أيضا -ذلة السؤال،
فالكل يذهب إلى بيت المال ليأخذ أو يعطي .وحين يذهب الفقير ليأخذ من بيت المال بأمر من
الوالي فل غضاضة؛ لن كل المحكومين تحت وليته مسؤولون منه.
ثم يأتي الحق إلى فئة أخرى فيقول } :وَا ْل ُمؤَلّفَةِ قُلُو ُبهُمْ { وهم من يريد السلم أن يستميلهم ،أو
على القل أن يكفوا آذاهم عن المسلمين .وكان المسلمون في الزمن الول للسلم ضعافا ل
يقدرون على حماية أنفسهم .وعندما أعز ال دولة المسلمين بالقوة والعزة والمكانة ،منع الخليفة
عمر بن الخطاب إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبا من الزكاة؛ لنه لم يجد أن قوة السلم تحتاج أحدا
غير صحيحي اليمان؛ لذلك لم يدخلهم عمر بن الخطاب في فئات الزكاة.
وقول الحق سبحانه } :وَا ْل ُمؤَلّفَةِ قُلُو ُبهُمْ { يثير سؤالً :هل يُؤلّف القلب؟ .نقول :نعم ،فالحسان
يؤلف قلب النسان السّوي ،وكذلك يؤلف جوارح النسان غير السوي ،فل يعتدى على من أحسن
إليه باللسان أو باليد.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وفِي ال ّرقَابِ { ومعناها العبيد الذين أُسروا في حرب مشروعة .وكانت
تصفية الرق من أهداف السلم؛ لذلك جعل من مصارف الزكاة تحرير العبيد .وبعض من الناس
يدّعون أن السلم جاء بالرق وأقره .ونقول :لم يأت السلم بالرق؛ لن الرق كان موجودا قبيل
البعثة المحمدية ،وجاء السلم بالعتق ليصفى الرق ،فجعل من َفكّ الرقبة كفارة لبعض الذنوب.
وجعل من مصارف الزكاة عتق العبيد .وقد نزل القرآن وقت أن كانت منابع الرق متعددة.
وكان من المعتاد في تلك اليام أن المدين الذي يعجز عن سداد ما عليه من دَيْن ،فالدائن يأخذه أو
يأخذ أحد أبنائه كعبد له.
وإذا فُعَلتْ جناية ،فالجاني يأخذ العفو من المجني عليه مقابل أن يعطيه أحد أولده عبدا .وإذا
سُرِق شيء فإن السارق ل يعاقب ،بل يعطي أحد أولده عبدا للمسروق منه .وكان القوياء
يستعبدون الضعفاء؛ فيخطفون نساءهم وأولدهم بالقوة ويبيعونهم في سوق الرقيق ،وهكذا كانت
منابع الرق في العالم متعددة ،ول يوجد إل مصرف واحد هو إرادة السيد؛ إن شاء حرر وإن شاء
لم يحرر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد كان الرق موجودا في أوروبا وفي آسيا وفي أفريقيا ووُجِد أيضا في أمريكا .إذن :كانت هناك
منابع متعددة للرق؛ ومصرف واحد هو إرادة السيد ،وقد كان الرق يتزايد ،وجاء السلم والعالمُ
غارق في الرق ،لماذا؟
لن الرق في ذلك الوقت كان يشبه حوضا تصب فيه صنابير متعددة ،وليس له إل بالوعة واحدة.
ولم يعالج السلم المسألة طفرة واحدة ،شأن معظم تشريعات ال ،ولكنه عالجها على مراحل،
تماما كتحريم الخمر حين بدأ التحريم بالمنع عند الصلة ،فقال الحق سبحانه وتعالىَ {:تقْرَبُواْ
سكَارَىا حَتّىا َتعَْلمُواْ مَا َتقُولُونَ[} ...النساء]43 :
لةَ وَأَنْتُمْ ُ
الصّ َ
ثم حرمها تحرميا قاطعا.
وحين جاء السلم ليعالج قضية الرق ويحرر النسان من العبودية ،بدأ بإغلق مصادر الرق.
وجعل المصدر الوحيد هو الحرب اليمانية المشروعة من ولي المر .أما كل الوسائل واللوان
الخرى من أبواب الرق ،كأن يتم استعباد أحد كعقوبة جنائية أو لعجزه عن تسديد دَيْن أو غير
ذلك ،فقد أغلقها السلم بالتحريم .أما ناحية المصرف فلم يجعله مصرفا واحدا هو إرادة السيد،
بل جعله مصارف متعددة؛ فالذي يرتكب ذنبا يعرف أن ال لن يغفر له إل إذا أعتق رقبة ،ومن
حلف يمينا ويريد أن يتحلل منها؛ يعتق رقبة .فإذا لم يفعل هذا كله وأراد أن يحسن إحسانا يزيد
من أجره عند ال؛ أعتق رقبة.
حمَ ا ْل َعقَبَةَ * َومَآ أَدْرَاكَ مَا ا ْلعَقَبَةُ * َفكّ َرقَ َبةٍ }[البلد:
وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى {:فَلَ اقتَ َ
]13-11
وهكذا جعل السلم مصارف كثيرة لتصفية الرق حتى ينتهي في سنوات قليلة ،ثم وضع بعد ذلك
ما يُنْهي الرق فعلً ،وإن لم يُ ْنهِه شكلً.
فإذا كان عند أي سيد لون من الصرار على أن يستبقى عبده ،فل بد أن يُلبسه مما يلبس،
ويُطعمه مما يَطْعم ،فإن كلّفه بعينه .وهكذا أصبح الفارق متلشيا بين السيد وعبده.
ق بالقانون ،ذهب الرقيق إلى أسيادهم وقالوا :دعونا نعش
وحين ألغتْ بعض الدول السلمية الر ّ
معكم كما كنا .وهم قد فعلوا ذلك لن حياتهم مع أسيادهم كانت طيبة .وهكذا ألغى السلم فوارق
الرق كلها ،وأصبحت مسألة شكلية ل تساوي شيئا.
ولكن بعض الناس يتساءل :وماذا عن قول الحق سبحانه وتعالىَ {:ومَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنكُمْ[} ...النساء:
]36
نقول :افهم عن ال ،فهذا أمر ل يسري إل إذا كانت المرأة المملوكة مشتركة في الحرب ،أي:
كانت تحارب مع الرجل ثم وقعت في السْر ،والذي يسري على الرجل في السر يسري عليها،
ثم من أي مصدر ستعيش وهي في بلد عدوة لها؛ إنّ تركها في المجتمع فيه خطورة على المجتمع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعليها .كما أن لهذه المرأة عاطفة سوف ُتكْبتُ ،فأوصى السلم السيد بأنه إذا أحب هذه المةَ
فلها أن تستمتع كما تستمتع زوجة السيد ،وإن أنجبت أصبحت زوجة حرة وأولدها أحرارا ،وفي
هذا تصفية للرق.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن لون آخر من مستحقي الزكاة } :وَا ْلغَا ِرمِينَ { والغارم :هو من
استدان في غير معصية ،ثم عجز عن الوفاء ِبدَيْنه .ولم يمهله صاحب الدّيْن كما أمر ال في قوله
تعالى {:فَنَظِ َرةٌ إِلَىا مَ ْيسَ َرةٍ[} ...البقرة]280 :
ولم يسامحه ولم يتنازل عن دَيْنه ،وفي هذه الحالة يقوم بيت المال بسداد هذا الدّيْن .لكن لماذا هذا
التشريع؟
لقد شاء الحق إعطاء الغارم الذي ل يجد ما يسد به دَيْنه حتى ل يجعل الناس ينقلبون عن الكرم
وعن أقراض الذي يمر بعسر ،وبذلك يبقى اليُسْر في المجتمع ،وتبقى نجدة الناس للناس في ساعة
العسرة ،فل يمتنع أحد عن إعطاء إنسان في عسرة؛ لنه يعلم أنه إن لم يدفع فسيقوم بيت المال
بالسداد من الزكاة .أو :أن الغارم هو الذي أراد أن يصلح بين طرفين ،كأن يكون هناك شخصان
مختلفان على مبلغ من المال ،فيقوم هو بفضّ الخلف و َدفْع المبلغ ،ثم تسوء حالته؛ لنه غرم هذا
المال بنخوة إيمانية ،فنقول له :خذ من بيت المال حتى يشيع في النفوس تصفية الخلفات وإشاعة
الحب بين الناس .إذن :فالغارم هو المستدين في غير معصية ول يقدر على سداد الدين ،أو
المتحمّل لتكلفة إصلح ذات البَيْن بين طرفين ،وهو مستحق لهذا اللون من المال.
ويقول الحق سبحانهَ } :وفِي سَبِيلِ اللّهِ { .يقول جمهور الفقهاء :إنها تنطبق على الجهاد؛ لن الذي
يضحي بماله مجاهدا في سبيل ال ،لو لم يعلم أن الجهاد باب يدخله الجنة لما ضَحّى بماله،
وعندما تضحي بالمال أو النفس في سبيل ال يكون هذا من يقين اليمان .فلو لم تكن على ثقة أنك
إذا استشهدت دخلت الجنة ما حاربت .ولو لم تكن على ثقة بأنك إذا أنفقتَ المال جهادا في سبيل
ال دخلتَ الجنة ما ما أنفقت.
والسلم يهدف إلى أمرين :دين يبلّغ ومنهج يُحقّق ،والمجاهد في سبيل ال أسوة لغيره من
المؤمنين .والسوة في السلم هي التي تُقوّيه وتُثبّته في النفوس؛ لنها العلم الحقيقي بأن ما
تعطيه من نفسك أو مالك ل ستجازى عنه بأضعاف أضعاف ما أعطيت.
()1282 /
حمَةٌ
ي وَ َيقُولُونَ ُهوَ ُأذُنٌ ُقلْ أُذُنُ خَيْرٍ َلكُمْ ُي ْؤمِنُ بِاللّهِ وَيُ ْؤمِنُ لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ وَرَ ْ
َومِ ْنهُمُ الّذِينَ ُيؤْذُونَ النّ ِب ّ
عذَابٌ أَلِيمٌ ()61
لِلّذِينَ َآمَنُوا مِ ْنكُ ْم وَالّذِينَ ُيؤْذُونَ َرسُولَ اللّهِ َلهُمْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونعلم أن اليذاء لرسول ال صلى ال جاء بعد النبوة ،وكان بعض الكفار يقولون ما حكاه القرآن
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا
حجَا َرةً مّنَ ال ّ
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأ ْمطِرْ عَلَيْنَا ِ
على ألسنتهم {:الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ
ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال]32 :
ن ل عقل له ،ولو كانوا يعقلون لقالوا :إن كان هذا الحق من عندك فَاهْدنا يا رب
وهذا دعاء مَ ْ
إليه ،أو اجعلنا نؤمن به .ولكنهم من فَرْط حقدهم وضللهم ،تمنّوا العذاب على اليمان بالحق.
وهذا يكشف لنا تفاهة عقول الكفار.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ َومِ ْنهُمُ الّذِينَ ُيؤْذُونَ النّ ِبيّ } والذين يؤذون رسول ال صلى ال عليه وسلم هم السادة ،وهم
أصحاب النفوذ الذين يخافون ان يذهب منهج هذا النبي بنفوذهم؛ وثرواتهم؛ وما أخذوه ظلما من
الضعفاء .والضعفاء -كما نعلم -هم أول من دخل إلى دين السلم؛ لنهم أحسوا أن هذا الدين
يحميهم من بطش الغنياء واستغللهم ونفوذهم .وشاء الحق أن يبدل خوف الضعفاء قوة وأمنا،
وشاء سبحانه أن يضم إلى اليمان عددا من الغنياء؛ ومن رجال القمة مثل :أبي بكر الصديق،
وعثمان بن عفان ،وعمر بن الخطاب وغيرهم رضي ال عنهم أجمعين ،حتى ل يقول أقوياء
قريش مثلما قال قوم نوح لنبيهمَ {:ومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا[} ...هود]27 :
وهكذا كان اليذاء له صلى ال عليه وسلم بعد الرسالة ،أما قبل الرسالة فكان في نظر الجميع هو:
المين والصادق والمؤتمن.
ومن العجيب أنهم ،بعد أن نزل الوحي ،كانوا ل يستأمنون أحدا مثلما يستأمنون محمدا صلى ال
عليه وسلم .فإذا كان هناك شيء ثمين عند الكافرين المعارضين ،ذهبوا إلى رسول ال ليحفظوا
هذه الشياء الثمينة عنده .وهذا التناقض ل يفسره إل وثوقهم في أخلقه صلى ال عليه وسلم.
ورغم ذلك كانوا في غيظ وكَمَدٍ؛ لن القرآن قد نزل عليه .والحق هو القائل ما جاء على
عظِيمٍ }[الزخرف]31 :
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
ألسنتهمَ {:وقَالُواْ َلوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
وهم بذلك قد اعترفوا بألسنتهم بعظمة القرآن ،بعد أن اعترفوا بسلوكهم بأمانة محمد صلى ال
عليه وسلم ،ولكنهم اعترضوا على اختيار الحق سبحانه له ،وتمنوا لو كان هذا القرآن قد نزل
سمْنَا بَيْ َن ُهمْ
ح َمتَ رَ ّبكَ َنحْنُ قَ َ
سمُونَ َر ْ
على أحدهم عظمائهم .ورد الحق سبحانه عليهم {:أَ ُهمْ َيقْ ِ
ّمعِيشَ َتهُمْ فِي الْحَيَاوةِ الدّنْيَا[} ...الزخرف]32 :
وفي هذا دعوة لن يتأدبوا مع ال سبحانه ،فهو لم يوكلهم في اختيار من ينزل عليه رحمته،
ورسالته ،ولكنه سبحانه هو الذي يختار .وهو الذي قسم بين العباد معيشتهم في الحياة الدنيا وفي
الخرة .وإذا كان لحد نعمة من مال أو جاه أو مجد ،أو غير ذلك ،فهذا ليس من قدرات البشر أو
من ذواتهم ،ولكنه نعمة من ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يقول الحق سبحانهَ } :ومِ ْنهُمُ الّذِينَ ُيؤْذُونَ النّ ِبيّ { إذن :فاليذاء سببه أنه صلى ال عليه وسلم
جاء بدعوة الخير ،ول يجيء رسول بدعوة الخير إل إذا كان الشر قد عم المجتمع .وحين يعم
الشر في المجتمع فهناك مستفيدون منه ،فإذا أتى رسول ال بالخير أسرع جنود الشر ليؤذوا
صاحب رسالة الخير ،إذن :فمن الطبيعي أن يكون للنبي أعداء.
س وَالْجِنّ يُوحِي َب ْعضُهُمْ
ن الِنْ ِ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ عَ ُدوّا شَيَاطِي َ
والحق سبحانه وتعالى يقولَ {:وكَذَِلكَ َ
إِلَىا َب ْعضٍ زُخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ غُرُورا[} ...النعام]112 :
بل إن كل من يحمل من العلماء رسالة رسول ال ليبلغها إلى الجيال التالية ،إن لم يكن له أعداء،
أنقض ذلك من حظه في ميراث النبوة ،وكل من له أعداء ويقوم بهداية الناس إلى منهج ال ،نقول
له :ل تنزعج ،واطمئن؛ لن معنى وجود من يعاديك ،أن فيك أثرا من آثار النبوة.
وتمثّل إيذاء المنافقين له صلى ال عليه وسلم في عدة صور؛ منها قولهم } :وَ ِيقُولُونَ ُهوَ ُأذُنٌ {.
وللنسان -كما نعلم -وسائل إدراك متعددة :فالذن وسيلة إدراك ،والعين وسيلة إدراك،
والجوارح كلها وسائل إدراك .وكل إنسان له ملكات متعددة ،منها ملكات إدراكية وملكات نفسية،
ولملكات الدراكية هي التي يدرك بها الشياء مثل :السمع والبصر والشم والذوق .أما الملكات
النفسية فهذه يوصف بها الناس .وعلى سبيل المثال :نحن نسمي الجاسوس عينا؛ لنه يتجسس
وينقل ما يراه إلى غيره .ونسمي الرجل الذي يسمع كل حدث " أُذُن " ،ونسمي اللص الذي يتعدّى
على ماله غيره صاحب اليد الطويلة وهكذا.
إذن :كل جارحة لها حاسة ،والنظر والسمع والشم واللمس والذوق كلها من وسائل الدراك
الحسية التي تتكون منهاالخمائر المعنوية ،ثم تصبح عقائد ،فوسائل الدراك هذه تتلقى من العالم
الحسي ما يعطيه لها من معلومات ،وتخزنها لتتصرف بعد ذلك على أساسها ،وتكون في
جكُم
مجموعها هي ما يعلمه النسان؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يمتنّ على خَلقه ،فيقول {:وَاللّهُ أَخْ َر َ
شكُرُونَ }[النحل:
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ تَ ْ
سمْ َع وَالَ ْبصَارَ وَا َ
ج َعلَ َلكُمُ الْ ّ
مّن بُطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
]78
والشكر ل يكون إل على النعمة ،فكأن وسائل الدراك هذه مما تسمعه أو تراه ببصرك ،أو تدركه
بفؤادك هي من نعم ال التي يجب أن نشكره عليها؛ لنها أعطتنا العلم الحسي بعد أن كنا ل نعلم
شيئا.
وإذا أطلقَ على النسان اسم جارحة من جوارحه ،فاعلم أن هذه الجارحة هي العمدة فيه ،فكأن
سبّ للرسول ،وكان الواحد منهم يقول :احذروا أن
قول المنافقين وصفا للرسول } ُهوَ أُذُنٌ { هو َ
يبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم فيكشف نفاقهم ويؤذيكم؛ لن محمدا عليه الصلة والسلم
في رأيهم يُصدّق كل شي .أرادوا أن يتهموه صلى ال عليه وسلم أنه ل يمحص القول الذي يُنقل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إليه ويصدق كل ما يقال له ،كما نقول نحن في العامية " فلن وِدَني " أي :يعطي أذنه لكل ما يقال
له.
()1283 /
يَحِْلفُونَ بِاللّهِ َل ُكمْ لِيُ ْرضُوكُ ْم وَاللّ ُه وَرَسُولُهُ َأحَقّ أَنْ يُ ْرضُوهُ إِنْ كَانُوا ُم ْؤمِنِينَ ()62
()1284 /
()1285 /
حذَرُ ا ْلمُنَا ِفقُونَ أَنْ تُنَ ّزلَ عَلَ ْيهِمْ سُو َرةٌ تُنَبّ ُئهُمْ ِبمَا فِي قُلُو ِبهِمْ ُقلِ اسْ َتهْزِئُوا إِنّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَا
يَ ْ
حذَرُونَ ()64
تَ ْ
()1286 /
ض وَنَ ْل َعبُ ُقلْ أَبِاللّ ِه وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ َتسْ َتهْزِئُونَ ()65
وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ لَ َيقُولُنّ إِ ّنمَا كُنّا َنخُو ُ
()1287 /
لَا َتعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ َبعْدَ إِيمَا ِنكُمْ إِنْ َنعْفُ عَنْ طَا ِئفَةٍ مِ ْنكُمْ ُنعَ ّذبْ طَا ِئفَةً بِأَ ّنهُمْ كَانُوا مُجْ ِرمِينَ ()66
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1288 /
()1289 /
()1290 /
()1291 /
()1292 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضهُمْ َأوْلِيَاءُ َب ْعضٍ يَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَيَ ْنهَوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَ ُيقِيمُونَ
ن وَا ْل ُمؤْمِنَاتُ َب ْع ُ
وَا ْل ُمؤْمِنُو َ
حكِيمٌ ()71
ح ُمهُمُ اللّهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
الصّلَا َة وَ ُيؤْتُونَ ال ّزكَا َة وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَ ِئكَ سَيَ ْر َ
()1293 /
وَعَدَ اللّهُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَا ْل ُم ْؤمِنَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا َومَسَاكِنَ طَيّ َبةً فِي جَنّاتِ
ضوَانٌ مِنَ اللّهِ َأكْبَرُ ذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ ()72
ن وَ ِر ْ
عَدْ ٍ
()1294 /
()1295 /
يَحِْلفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وََلقَدْ قَالُوا كَِلمَةَ ا ْل ُكفْ ِر َوكَفَرُوا َبعْدَ ِإسْلَا ِمهِ ْم وَ َهمّوا ِبمَا لَمْ يَنَالُوا َومَا َن َقمُوا إِلّا
أَنْ أَغْنَا ُهمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ َفضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا َيكُ خَيْرًا َلهُ ْم وَإِنْ يَ َتوَّلوْا ُيعَذّ ْبهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي
ن وَِليّ وَلَا َنصِيرٍ ()74
الدّنْيَا وَالَْآخِ َر ِة َومَا َلهُمْ فِي الْأَ ْرضِ مِ ْ
()1296 /
()1297 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فََلمّا آَتَا ُهمْ مِنْ َفضْلِهِ َبخِلُوا بِ ِه وَ َتوَّلوْا وَهُمْ ُمعْ ِرضُونَ ()76
()1298 /
عقَبَهُمْ ِنفَاقًا فِي قُلُو ِبهِمْ إِلَى َيوْمِ يَ ْل َقوْنَهُ ِبمَا أَخَْلفُوا اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَ ِبمَا كَانُوا َيكْذِبُونَ ()77
فَأَ ْ
()1299 /
()1300 /
()1301 /
اسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ َأوْ لَا َتسْ َتغْفِرْ َلهُمْ إِنْ تَسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ سَ ْبعِينَ مَ ّرةً فَلَنْ َيغْفِرَ اللّهُ َلهُمْ ذَِلكَ بِأَ ّنهُمْ َكفَرُوا بِاللّهِ
سقِينَ ()80
وَرَسُولِ ِه وَاللّهُ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
()1302 /
حكُوا قَلِيلًا وَلْيَ ْبكُوا كَثِيرًا جَزَاءً ِبمَا كَانُوا َي ْكسِبُونَ ()82
فَلْ َيضْ َ
()1304 /
ج َعكَ اللّهُ إِلَى طَا ِئفَةٍ مِ ْنهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِ ْلخُرُوجِ َف ُقلْ لَنْ تَخْ ُرجُوا َم ِعيَ أَ َبدًا وَلَنْ ُتقَاتِلُوا َم ِعيَ
فَإِنْ رَ َ
عَ ُدوّا إِ ّنكُمْ َرضِيتُمْ بِا ْل ُقعُودِ َأوّلَ مَ ّرةٍ فَا ْقعُدُوا مَعَ ا ْلخَاِلفِينَ ()83
()1305 /
سقُونَ
صلّ عَلَى َأحَدٍ مِ ْنهُمْ مَاتَ أَ َبدًا وَلَا َتقُمْ عَلَى قَبْ ِرهِ إِ ّنهُمْ َكفَرُوا بِاللّ ِه وَرَسُولِ ِه َومَاتُوا وَهُمْ فَا ِ
وَلَا ُت َ
()84
()1306 /
()1307 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1308 /
خوَاِلفِ َوطُبِعَ عَلَى قُلُو ِبهِمْ َفهُمْ لَا َيفْ َقهُونَ ()87
َرضُوا بِأَنْ َيكُونُوا مَعَ ا ْل َ
()1309 /
()1310 /
أَعَدّ اللّهُ َلهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ ()89
()1311 /
وَجَاءَ ا ْل ُمعَذّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِ ُيؤْذَنَ َلهُ ْم َو َقعَدَ الّذِينَ كَذَبُوا اللّ َه وَرَسُولَهُ سَ ُيصِيبُ الّذِينَ َكفَرُوا مِ ْنهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ ()90
()1312 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1313 /
()1314 /
()1315 /
جعْتُمْ إِلَ ْيهِمْ ُقلْ لَا َتعْتَذِرُوا لَنْ ُن ْؤمِنَ َلكُمْ َقدْ نَبّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَا ِركُمْ وَسَيَرَى اللّهُ
َيعْتَذِرُونَ إِلَ ْيكُمْ ِإذَا َر َ
شهَا َدةِ فَيُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ ()94
عمََلكُ ْم وَرَسُولُهُ ُثمّ تُرَدّونَ إِلَى عَاِلمِ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
َ
()1316 /
جهَنّمُ جَزَاءً
س َومَ ْأوَاهُمْ َ
سَ َيحِْلفُونَ بِاللّهِ َلكُمْ ِإذَا ا ْنقَلَبْتُمْ إِلَ ْي ِهمْ لِ ُتعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ فَأَعْ ِرضُوا عَ ْن ُهمْ إِ ّنهُمْ ِرجْ ٌ
ِبمَا كَانُوا َي ْكسِبُونَ ()95
()1317 /
سقِينَ ()96
ضوْا عَ ْنهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَ ْرضَى عَنِ ا ْل َقوْمِ ا ْلفَا ِ
ضوْا عَ ْنهُمْ فَإِنْ تَ ْر َ
يَحِْلفُونَ َلكُمْ لِتَ ْر َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1318 /
حكِيمٌ ()97
شدّ ُكفْرًا وَ ِنفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلّا َيعَْلمُوا حُدُودَ مَا أَنْ َزلَ اللّهُ عَلَى رَسُوِل ِه وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
الْأَعْرَابُ أَ َ
()1319 /
سمِيعٌ عَلِيمٌ (
سوْءِ وَاللّهُ َ
َومِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ مَا يُ ْنفِقُ َمغْ َرمًا وَيَتَرَ ّبصُ ِبكُمُ ال ّدوَائِرَ عَلَ ْيهِمْ دَائِ َرةُ ال ّ
)98
()1320 /
َومِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الَْآخِ ِر وَيَتّخِذُ مَا يُ ْنفِقُ قُرُبَاتٍ عِ ْندَ اللّ ِه َوصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلَا
غفُورٌ َرحِيمٌ ()99
حمَ ِتهِ إِنّ اللّهَ َ
إِ ّنهَا قُرْبَةٌ َل ُهمْ سَيُ ْدخُِلهُمُ اللّهُ فِي رَ ْ
()1321 /
()1322 /
ن َومِنْ أَ ْهلِ ا ْلمَدِي َنةِ مَرَدُوا عَلَى ال ّنفَاقِ لَا َتعَْل ُمهُمْ نَحْنُ َنعَْل ُمهُمْ
حوَْلكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَا ِفقُو َ
َو ِممّنْ َ
عذَابٍ عَظِيمٍ ()101
سَ ُنعَذّ ُب ُهمْ مَرّتَيْنِ ثُمّ يُ َردّونَ إِلَى َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1323 /
غفُورٌ
عسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَ ْيهِمْ إِنّ اللّهَ َ
عمَلًا صَالِحًا وَ َآخَرَ سَيّئًا َ
وَآَخَرُونَ اعْتَ َرفُوا بِذُنُو ِبهِمْ خََلطُوا َ
رَحِيمٌ ()102
()1324 /
سمِيعٌ عَلِيمٌ (
سكَنٌ َلهُ ْم وَاللّهُ َ
طهّرُ ُه ْم وَتُ َزكّيهِمْ ِبهَا َوصَلّ عَلَ ْيهِمْ إِنّ صَلَا َتكَ َ
خذْ مِنْ َأ ْموَاِلهِ ْم صَ َدقَةً تُ َ
ُ
)103
()1325 /
أَلَمْ َيعَْلمُوا أَنّ اللّهَ ُهوَ َيقْ َبلُ ال ّتوْبَةَ عَنْ عِبَا ِدهِ وَيَأْخُذُ الصّ َدقَاتِ وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ ()104
()1326 /
()1327 /
حكِيمٌ ()106
جوْنَ لَِأمْرِ اللّهِ ِإمّا ُيعَذّ ُب ُه ْم وَِإمّا يَتُوبُ عَلَ ْيهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
وَآَخَرُونَ مُرْ َ
()1328 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سجِدًا ضِرَارًا َو ُكفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ وَإِ ْرصَادًا ِلمَنْ حَا َربَ اللّ َه وَرَسُولَهُ مِنْ
وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَ ْ
شهَدُ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ ()107
حسْنَى وَاللّهُ يَ ْ
قَ ْبلُ وَلَ َيحِْلفُنّ إِنْ أَرَدْنَا ِإلّا الْ ُ
()1329 /
سجِدٌ أُسّسَ عَلَى ال ّت ْقوَى مِنْ َأوّلِ َيوْمٍ َأحَقّ أَنْ َتقُومَ فِيهِ فِيهِ ِرجَالٌ يُحِبّونَ أَنْ
لَا َتقُمْ فِيهِ أَبَدًا َلمَ ْ
طهّرِينَ ()108
حبّ ا ْلمُ ّ
طهّرُوا وَاللّهُ ُي ِ
يَتَ َ
()1330 /
()1331 /
حكِيمٌ ()110
لَا يَزَالُ بُنْيَا ُنهُمُ الّذِي بَ َنوْا رِيبَةً فِي قُلُو ِبهِمْ إِلّا أَنْ َتقَطّعَ قُلُو ُبهُ ْم وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
()1332 /
ن وَ ُيقْتَلُونَ
سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ الْجَنّةَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ َيقْتُلُو َ
إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَ ْنفُ َ
حقّا فِي ال ّتوْرَاةِ وَالْإِ ْنجِيلِ وَالْقُرْآَنِ َومَنْ َأ ْوفَى ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي
وَعْدًا عَلَيْهِ َ
بَا َيعْتُمْ بِهِ وَذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ ()111
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بعد أن تكلم الحق عن الذين تخلفوا عن الغزو ،وعن الذين اعتذروا بأعذار كاذبة ،وعن الذين
أرجأ ال فيهم الحكم ،أراد أن يبين سبحانه أن تخلفهم ليس له أي أهمية؛ لن ال سبحانه وتعالى
عوّض اليمان وعوّض السلم بخير منهم ،فإياكم أن تطنوا أنهم بامتناعهم عن الغزو سوف
يُتعبون السلم ،ل؛ لن الحق سبحانه ينصر دينه دائما.
فيقول ال سبحانه:
س ُه ْم وََأمْوَاَلهُمْ }
{ إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ
يقول العلماء :كيف يشتري ال من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ،وهو الذي خلق النفس وهو الذي
وهب المال؟ وقالوا :ولكن هبة ال لهم ل يرجع فيها ،بدليل أن المال مال ال ،وحين أعطاه
لنسان نتيجة عمله أوضح له :إنه مالك بحيث إذا احتاجه أخ لك في الدين ،فأنا أقترضه منك ،ولم
ضعَافا كَثِي َرةً
عفَهُ لَهُ َأ ْ
يقل " :أسترده " .فسبحانه القائل {:مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَا ِ
جعُونَ }[البقرة]245 :
ط وَإِلَيْهِ تُرْ َ
وَاللّهُ َيقْ ِبضُ وَيَبْسُ ُ
لقد احترم الحق الهبة للنسان ،واحترم عرقه وسعيه ،وكأنه سبحانه حينما وهب البشر الحياة،
ووهبهم النفس أعلن أنها ملكهم حقّا ،ولكنه أعطاها لهم ،وحين يريد أخذها منكم فل يقول :إنه
يستردها بل هو يشتريها منكم بثمن؛ ولذلك يقول النبي عليه الصلة والسلم " :إن سلعة ال غالية،
إن سلعة ال غالية ،إن سلعة ال هي الجنة" .
أي :اجعلوا ثمنها غاليا.
س ُه ْم وََأمْوَاَلهُمْ } .وكلمة { اشْتَرَىا } تدل على أن هناك صفقة،
{ إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ
عملية شراء وبيع .وإن كان هذا ملكا ل ،فال هو المشتري ،وال هو البائع ،فلبد أن لهذا المر
رمزية ،وهذه الرمزية يلحظها النسان في الولي على اليتيم أو السفيه ،فقد يصح أن يكون عندي
شيء وأنا ولي على يتيم ،فأشتري هذا الشيء بصفتي ،ثم أبيعه بصفتي الخرى ،فالشخص الواحد
يكون هو الشاري وهو البائع ،فكأن ال يضرب لنا بهذا المثل " :إنكم بدون منهج ال سفهاء،
فدعوا ال يبيع ودعوا ال يشتري ".
وما الثمن؟ يأتي التحديد من الحق { :بِأَنّ َلهُمُ الّجَنّةَ } هذا هو الثمن الذي ل يفنى ،ول يبلى،
ونعيمك فيها على قدر إمكانيات ال التي ل نهاية لها ،أما نعيمك في حياتك فهو على قدر
إمكانياتك أنت في أسباب ال ،وهكذا يكون الثمن غاليا.
" وحينما جاء النصار في بيعة العقبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم قال له عبدال بن رواحة:
اشترط لربك ولنفسك ما شئت.
قال :أشترط لربي أن تعبدوه ول تشركوا به شيئا ،وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه
أنفسكم وأموالكم "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قالوا :فما لنا إذا فعلنا ذلك؟
ماذا قال رسول ال؟ أقال لهم ستفتحون قصور ُبصْرى والشام وتصيرون ملوكا ،وينفتح لكم
المشرق والمغرب؟
لم يقل صلى ال عليه وسلم شيئا من هذا ،بل قال " :الجنة "؛ لن كل شيء في الدنيا تافه بالنسبة
لهذا الثمن ،قالوا " :ربح القليل ل نقيل ول نستقيل " وبمجرد عقد الصفقة العهدية بين رسول ال
صلى ال عليه وسلم وبين النصار ،كان من الممكن أن يموت واحد أو اثنان أو ثلثة قبل أن يبلغ
السلم حظه وذروته ،وقد يقال :فلن مات ولم يأخذ شيئا من ماديات الحياة.
لكنه صلى ال عليه وسلم حين قال " :الجنة " ،فمن مات يدخلها.
} بِأَنّ َلهُمُ اّلجَنّةَ { هذا هو الثمن ،وهو وعد بشيء يأتي من بعد ،ولكنه وعد ممن يملك إنفاذه؛ لن
الذي يقدح في وعود الناس للناس ،أنك قد تعدُ بشيء ولكن تظل حياتك ول تفي به ،أو أن تقل
إمكاناتك عن التنفيذ.
إذن :الوعد الحق هو ممن يملك ويقدر ،وحيّ ل يموت ،لذلك يقول في هذه الية:
س ُه ْم وََأمْوَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ اّلجَنّةَ {
} إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ
ويقول في آخرها:
حقّا { و " وَعْد " مصدر ،فأين الفعل ،إننا نفهمها :أي وعدهم ال بالجنة وعدا منه
} وَعْدا عَلَيْهِ َ
سبحانه وهو الذي يملك وهو وعد حق .والقرآن حين يأتي بقضية كونية ،فالمؤمن يستقبلها بأنها
سوف تحدث حتما ،فإذا ما جاء زمنها وحدثت صارت حقّا ثابتا ،مثلما يقول سبحانه {:وَإِنّ جُندَنَا
َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات]173 :
هذه قضية قرآنية ،حدثت من قبل وثبتت في الكون.
وماذا بعد أشتري ال من المؤمنين أموالهم وأنفسهم؟ هنا يحدد الحق المهمة أمامهمُ } :يقَاتِلُونَ فِي
ن وَ ُيقْتَلُونَ { و " قَاتَل " ،و " قَ َتلَ " غير " قَا َتلَ " .فالقتل عمل من جهة واحدة،
سَبِيلِ اللّهِ فَ َيقْتُلُو َ
علَ " توضح لنا
عمْرا " .وكل مادة " فا َ
لكن " قَا َتلَ " تقتضي مفاعلة ،مثلها مثل " شَا َركَ زيدٌ َ
الشركة في المر ،فكل واحد منهم فاعل ،وكل واحد منهم مفعول .ولذلك تجد في أساليب العرب
ما يدلك على أن ملحظ الفاعلية في واحد هو الغالب ،وملحظ المفعولية في الخر هو الغالب،
ولكن على التحقيق فإن كل واحد منهم فاعل من جهة ،ومفعول من الجهة الخرى.
فمثلً :الرجل الذي سار في الصحراء التي فيها حيّات وثعابين ،ولم يُهج الرجل أثناء سيره الحيّات
ول الثعابين ،بل تجنبها ،والثعبان ما ُدمْت ل تهيجه فهو ل يفرز سمّا؛ لن سمّ الثعبان ل يفرز إل
دفاعا.
سمّه ،فإذا كان الرجل سائرا وله قدرة المحافظة على
وساعة يرى الثعبان أنك ستواجهه يستعمل ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدم إهاجة الثعابين ول الحيات ،فهو قد " سالمها " ،والشاعر يقول:قد سَاَلمَ الحيّاتُ منه القَدَما
جعَما
وال ْفعُوان والشّجَاعَ الشّ ْ
والفعوان هو الثعبان الفظيع ،ونلحظ أن " الفعوان " منصوب ،وأن " الحياتُ " مرفوعة ،إذن:
فالقدم مفعول ،والحيات فاعل وجاء بالقدم منصوبة ،وكذلك الشجعم لما في الحيات من المفعولية؛
لن الحيّات إذا سالمت القدمَ فقد سالمها القدمُ ،فكأنه قال :سالم القدمُ الحيّاتِ ،ثم جعل الفعوان بدلً
منها.
وهنا يقول الحق:
} بِأَنّ َلهُمُ اّلجَنّةَ ُيقَاتِلُونَ { فمن يقاتل :إما أن َيقْتل وإما أن ُيقْتَل ،وفي قراءة الحسن يقدم الثانية
على الولى ،ويقول " :ف ُيقْتَلُون ويَقْتُلوُنَ "؛ فالمسألة صفقة بمقتضى قوله } :بِأَنّ َل ُهمُ الّجَنّةَ { لذلك
يُقدم قتلهم ،وهو القرب لمعنى الصفقة .وأيضا فإن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا؛
وإذا ما جاء المؤمنون في جانب؛ والكفار في جانب آخر فالمؤمنون بنيان ،والحق هو القائل {:إِنّ
حبّ الّذِينَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّا كَأَ ّنهُم بُنْيَانٌ مّ ْرصُوصٌ }[الصف]4 :
اللّهَ ُي ِ
فإذا ما سبق قوم من المؤمنين بأن ُيقْتَلوا ،فكأن الكل قُتل .إذن :فحين قتل بعض المؤمنين ،يمكننا
ن وَيُقْتَلُونَ ".
أن نقرأ قول الحق على قراءة الحسن ونقول " :فَ َيقْتُلُو َ
أو :أنهم حينما دخلوا إلى القتال وضعوا في أنفسهم أن يقتلوا ،ولم يغلبوا جانب السلمة.
وكلنا نعرف قصة الصحابي الذي قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم :أليس بيني وبين الجنة إل
أن ألقى هؤلء فيقتلوني؟ قال له " :نعم " فأخرج الصحابي تمرة كانت في فمه ،ودخل إلى القتال
وكأنه يستعجل الجنة.
ل وَا ْلقُرْآنِ { ،وهذا تأكيد بأن لهم الجنة ،وهو وعد من الحق
حقّا فِي ال ّتوْرَا ِة وَالِنْجِي ِ
} وَعْدا عَلَيْهِ َ
في التوراة والنجيل والقرآن لمن يدخلون المعارك دفاعا عن اليمان.
وكل دين في وقته له مؤمنون به ،ويدخلون المعارك دفاعا عنه .إذن :فالقتال في سبيل نصرة
الدين والدفاع عنه ليس مسألة مقصورة على المسلمين ،لكنها لم تكن عامة عند الرسل ،فقد كان
جبْ له
الحق سبحانه وتعالى هو الذي يتدخل لعقاب أهل الكفر ،وكان الرجل يبلّغ ،فإذا لم يست ِ
قومه؛ عاقبهم ال سبحانه ،والقرآن يقولَ {:فمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا عَلَ ْيهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَ ْتهُ الصّيْحَةُ
سفْنَا بِهِ الَ ْرضَ َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا[} ...العنكبوت]40 :
َومِ ْنهُمْ مّنْ خَ َ
ولم تَ ْأتِ مسألة القتال في سبيل ال إل عندما طلب اليهود من بعد سيدنا موسى عليه السلم أن
يقاتلوا في سبيل ال {:أَلَمْ تَرَ ِإلَى ا ْلمَلِ مِن بَنِي ِإسْرَائِيلَ مِن َب ْعدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَ ِبيّ ّلهُمُ ا ْب َعثْ لَنَا
مَلِكا ّنقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ[} ...البقرة]246 :
إذن :فهذا وعد من ال في التوراة للذين آمنوا بموسى عليه السلم ،وطالبوا بالقتال في سبيل ال،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك في النجيل للذين آمنوا بعيسى عليه السلم ،وأخيرا في القرآن للذين آمنوا بمحمد صلى
ال عليه وسلم.
أو :أن هذا الوعد خاص بأمة محمد صلى ال عليه وسلم؛ لنها المة المأمونة للدفاع عن كلمة ال
بالمجهود البشري.
وبهذا يكون الوعد في التوراة والنجيل والقرآن هو وعد لمة محمد صلى ال عليه وسلم ،فكأن
التوراة قد ُبشّر فيها بهذا للمسلمين المؤمنين بمحمد صلى ال عليه وسلم وكذلك النجيل قد ُبشّر
فيه بهذا الوعد للمة المسلمة .والدليل على ذلك هو قول الحق سبحانه في آخر سورة الفتح{:
حمَآءُ بَيْ َنهُمْ[} ...الفتح]29 :
حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ رُ َ
مّ َ
إذن :فالدين ل يطبع المتدين ل على الشدة ول على الرحمة ،إنما يطبعه انطباعا يصلح لموقف
الشدة فيكون شديدا ،ولموقف الرحمة فيكون رحيما .ولو أنه مطبوع على الشدة لكان شديدا طوال
الوقت ،ولو طُبع على الرحمة فقط لكان رحيما كل الوقت ،ولكن شاء الحق أن يطبع المؤمنين
ليكونوا أشداء على الكفار رحماء بينهم؛ ولذلك فالدين ل يطبع الناس على ذلة ول على عزة ،إنما
يجعلهم أذلة على المؤمنين ،وأعزة على الكفار.
وبذلك يُطوّع المؤمن نفسه ،هو شديد ورحيم ،عزيز وذليل ،فهو طوع للمنهج ،فحين يتطلب منه
منهج ال أن يكون شديدا يشتد ،وحين يتطلب منهج ال منه أن يكون رحيما يرحم ،وحين يتطلب
ال من أن يكون ذليلً بالنسبة لخوانه المؤمنين يذل ،وحين يتطلب ال منه أن يكون عزيزا على
حمَآءُ بَيْ َنهُمْ[} ...الفتح]29 :
شدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ ُر َ
حمّدٌ رّسُولُ اللّ ِه وَالّذِينَ َمعَهُ أَ ِ
الكافرين يعز {.مّ َ
سجّدا[} ...الفتح]29 :
وتتابع صفات المؤمنين في قوله سبحانه {:تَرَا ُهمْ ُركّعا ُ
وهم في ركوعهم وسجودهم إنما يعبرون عن قيم الولء ل.
ثم يصفهم سبحانه {:يَبْ َتغُونَ َفضْلً مّنَ اللّ ِه وَ ِرضْوَانا سِيمَاهُمْ فِي وُجُو ِههِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ} ...
[الفتح]29 :
وهم ل يريدون إل رضاء ال وفضله ،والنور يشع من وجوههم؛ لنهم أهل للقيم ،ويضيف
سبحانه {:ذَِلكَ مَثَُلهُمْ فِي ال ّتوْرَاةِ[} ...الفتح]29 :
أي :أن التوراة جاءت فيها البشارة بأن محمدا سيجيء بأمة فيها الخصال اليمانية والقيمية التي ل
توجد في اليهود ،هؤلء الذين تغلب عليهم المادية ول ترتقي أرواحهم بالقيم الدينية ،فأنت إن
نظرت إلى التوراة المحرفة فلن تجد فيها أي شيء عن اليوم الخر ،بل كلها أمور مادية.
أما في النجيل فقد جاءت المسيحية بالرهبنة ،والماديات فيها ضعيفة؛ ولذلك جاء القرآن منهجا
متكاملً تنتظم به الحياة ،قيما حارسة ،ومادة محروسة؛ فالعالم يفسد حين تأتي المادة فتطغى
وتنحسر القيم ،أو حين توجد قيم ليس لها قوة مادية تدافع عنها ،فيأبى القوي الظالم إل أن يطغى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بقوته المادية على القيم الروحية فيكون الخلل في البناء الجتماعي.
إذن :فنحن في حاجة دائمة إلى قيم تحرسها مادة ،ومادة تحرسها قيم .وأخبر ال قوم موسى :أنتم
ل تملكون القيم المعنوية ،وتعتزون بالقيم المادية ،لذلك ستأتي أمة محمد وهي تملك قيم الروح
ل من ال ورضوانا ،وسيماهم في وجوههم من أثر السجود.
والمادة ،فهم ُركّع ،سُجّد ،يبتغون فض ً
وأبلغ سبحانه قوم عيسى عليه السلم أنه سيأتي في أمة محمد بمنهج يعطيهم ما فقدتموه من
المادة؛ بسبب أنكم انعزلتم عن الحياة وابتدعتم رهبنة ما كتبها ال عليكم ،بينما نحن نريد حركة
شطَْأهُ فَآزَ َرهُ فَاسْ َتغَْلظَ فَاسْ َتوَىا
في الحياة {.ذَِلكَ مَثَُلهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة َومَثَُلهُمْ فِي الِنجِيلِ كَزَ ْرعٍ َأخْرَجَ َ
جبُ الزّرّاعَ لِ َيغِيظَ ِبهِمُ ا ْلكُفّارَ[} ...الفتح]29 :
عَلَىا سُوقِهِ ُي ْع ِ
ومن حق المسلمين أن يقولوا :أيها الكافرون ليست لكم مادة تطغون بها علينا؛ لن السلم يريد
من حركة حياتنا على ضوء منهجه في الرض أن تتوازن المادة مع القيم؛ لن القيم هي التي
تحرس الحضارة ،والمادة إنما تحرس القيم ،وحين يمتلك المسلمون القوة المادية فسيرتدع أي
عدّواْ َلهُمْ مّا
إنسان عن أن يطمع في فتنة المسلمين في دينهم؛ ولذلك قال الحق سبحانه {:وَأَ ِ
ع ْدوّ اللّ ِه وَعَ ُد ّوكُمْ[} ...النفال]60 :
طعْتُمْ مّن ُق ّو ٍة َومِن رّبَاطِ ا ْلخَ ْيلِ تُرْهِبُونَ بِهِ َ
اسْ َت َ
فالكفار إذا رأوك قد أعد ْدتَ لهم يتهيبون.
وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،يقول الحق:
ل وَا ْلقُرْآنِ {
حقّا فِي ال ّتوْرَا ِة وَالِنْجِي ِ
} وَعْدا عَلَيْهِ َ
وما دام الحق قد أعطى الوعد ،فلن يوجد من هو أوفى منه؛ لذلك يقولَ } :ومَنْ َأ ْوفَىا ِب َعهْ ِدهِ مِنَ
اللّهِ { وبذلك يطمئننا سبحانه على أن وعده محقق؛ لن العهد ارتباط بين ُمعَاهَد و ُمعَاهِد ،والذي
يخرج عن هذا الرتباط أمران:
الول :أل يكون صادقا حين أعطى عهدا ،بل كان في نيته أل يوفي ،ولكنه أقام العهد خديعة حتى
يستنيم له المعَاهَد.
والمر الثاني :أن يكون قد أعطى وعدا بما ل يستطيع تنفيذه ،فهو كاذب.
وال ل يليق به ل الكذب ول الخديعة؛ فسبحانه مُنزّه عن كل ذلك ،ول أحد أ ْوفَى بالعهد من ال.
فقد يُطعن في العهد والوفاء به عدم القدرة ،لكن قدرة الحق مستوفية.
إذن :فالعهد الحقيقي إنما يؤخذ من ال ،وقد جاء الحق بهذه القضية بشكل استفهامي } َومَنْ َأ ْوفَىا
ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ {؟ فالجابة :ل أحد؛ لن الذي يقدح في مسألة العهد الخُلف والكذب وغير ذلك.
وال سبحانه مُنزّه عن الكذب والخديعة؛ لن الخديعة ل تأتي إل من ماكر ،وإذا سمع أي إنسان }
َومَنْ َأ ْوفَىا ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ { ثم أدار فكره في الكون ليبحث عن جواب ،فل يجد إل أن يقول " :ال
" ،ول أحد أوفى من ال بالعهد .وما دام الوعد بالجنة ،فالجنة ل يملكها إل هو سبحانه ووعده
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حق ،وكلها تأكيدات بأن المسألة واقعة وحادثة.
ولهذا يقول سبحانه {:فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َيعْتُمْ ِب ِه وَذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ }[التوبة]111 :
فالنتيجة لهذه المسألة كلها من شراء ال من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ،ثم وعده
الحق المبيّن في التوراة والنجيل والقرآن ،وكلها شهادات مسجلة هي الستبشار بما باعه المؤمن
ل .فالنسان -ول المثل العلى -ل يسجل إل ما يكون في صالح قضيته ،ول يسجل للخصم،
صكّ على فلن ،فأنت الذي تحتفظ به وتحرص عليه؛ لنه يؤيد حقك.
فعندما يكون عندك َ
والحق سبحانه يقول {:إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْ َر وَإِنّا لَهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر]9 :
والقرآن هو الحجة الكاملة الشاملة في كل أمور الدنيا والخرة ،ومن فَرْط صدق القرآن أن البشر
قد يصلون إلى قضية كونية ما ،ومن بعد ذلك ُتخَالَف ،وحين تعود إلى القرآن تجد أن كلم القرآن
هو الذي صدق ،وقد حفظ الحق سبحانه القرآن لن قضايا الكون الذي خلقه ال ل يمكن أن تخرج
عن قضايا القرآن؛ لن منزل القرآن وخالق الكون واحد ،فل شيء يصادمه.
} فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َيعْتُمْ بِهِ {
قوله الحق } :فَاسْتَبْشِرُواْ { مأخوذ من " البشرة " ،وهي الجلد عامة ،وإن كان الظاهر منه هو
الوجه.
سهُمْ وََأمْوَاَلهُمْ { فقد يفهم أحد أن
وحين يقول الحق سبحانه } :إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ
النفس سوف تضيع ،وأن الموال سوف تنفق ،وهذا قد يُق ِبضُ النفس فهذا فيه الموت ،وخسارة
للمال ،وكان من الطبيعي أن يشحب وجه النسان ويفزع ويخاف .ولكن ساعة يقول الحق
سبحانه } :إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا { يجد بشرة المؤمن تطفح بالسرور .والبشر ،ويحدث له تهلل وإشراق،
مع أنه هنا سيأخذ نفسه ،ولكن المؤمن يعرف أنه سبحانه سيأخذ نفسه ليعطيه الحياة الخالدة.
إذن :قضايا اليمان كلها هكذا ل يجب أن تصيبنا بالخوف ،بل علينا أن نستقبلها بالستبشار،
ولذلك يقول الحق } :فَاسْتَبْشِرُواْ { أي :فليظهر أثر ذلك على بشرتكم إشراقا وسرورا وانبساطا.
} فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَ ْي ِعكُمُ { وهل يستبشر النسان بالبيع؟ نعم؛ لن النسان ل يبيع إل ما يستغني عنه
عادة ،ويشتري ما يحتاج إليه ،فهنا الستبشار بالبيع وليس بالشراء ،فالمؤمن هنا يبيع فانيا بباق.
} فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَ ْي ِعكُمُ الّذِي بَا َيعْتُمْ بِهِ وَذَِلكَ ُهوَ ا ْل َفوْزُ ا ْل َعظِيمُ { وأنت إذا ما نظرت إلى الذين يخالفون
العهد الذي أخذ عليهم ،تجد الواحد منهم يحتاج للمخالفة لن وفاءه يتبعه .لكن الحق سبحانه ليس
في حاجة لحد وهو غني عن الجميع ،ول يوجد أدنى مبرر لخُلْف الوعد أبدا.
وتأتي } وَذَِلكَ { إشارة إلى الصفقة التي انعقدت بينكم وبين ربكم.
} وَذَِلكَ ُهوَ ا ْلفَوْزُ ا ْل َعظِيمُ { والفوز هو بلوغ الغاية المأمولة في عرف العقل الواعي ،كما تقول
لبنك " :ذاكر لتفوز بالنجاح " وتقول للتاجر " :اجتهد في عملك بإخلص لتفوز بالربح ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فهناك " فوز " ،وهناك " فوز عظيم " والفوز في الدنيا أن يتمتع النسان بالصحة والمال
وراحة البال .وهناك فوز أعظم من هذا؛ أن تضمن أن النعمة التي تفوز بها ل تفارقك ول أنت
تفارقها ،فيكون هذا هو الفوز الذي ل فوز أعظم منه؟
ويقول الحق بعد ذلك } :التّائِبُونَ ا ْلعَا ِبدُونَ{ ...
()1333 /
وبعد أن عرض الحق هذه الصفقة ،فمن هم المقبلون عليها؟ إنهم التائبون ،والتوبة :هي الرجوع
عن أي باطل إلى حق.
وعمّ يتوب هؤلء التائبون؟
خذَ
نحن نعلم أن هناك إيمانا اسمه إيمان الفطرة .نجد ذلك في قول الحق سبحانه وتعالى {:وَِإذْ أَ َ
شهِدْنَآ أَن
ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ
رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن
َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ
َبعْدِ ِهمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ }[العراف]173-172 :
إذن :فاليمان أمر فطري ،والكفر هو الذي طرأ عليه ،وقلنا من قبل :إن الكفر هو الدليل الول
على اليمان؛ لن الكفر هو الستر ،فمن يكفر بال -والعياذ بال -إنما يستر وجوده ،فكأن
وجوده هو الصل ،ثم يطرأ الكفر فيسرته ،ثم يأتي من ينبه في النسان مشاعر اليقين واليمان
فيرجع النسان إلى اليمان بال بعد أن يزيل الغشاوة التي طرأت على الفطرة.
و { التّائِبُونَ } :منهم التائبون عن الكفر الطارئ على إيمان الفطرة ،وأخذوا منهج ال الذي آمنوا
به ،ومن هنا نشأت العبادة التي تقتضي وجود عابد ومعبود ،والعبادة تعني النصياع من العابد
لوامر ونواهي المعبود.
{ التّائِبُونَ ا ْلعَا ِبدُونَ الْحَامِدُونَ } والعبادة كلها طاعة تتمثل في تطبيق ما جاء به المنهج من " افعل
" و " ل تفعل " ،وقد يتدخل المنهج في حريتك قليلً ،وأنت بقوة اليمان تعتبر أن هذا التدخل في
هذه الحرية نعمة يجب أن تحمد ال عليها؛ لنه لو تركك على هواك ،كما يترك ولي المر التلميذ
ابنه على هواه فهو يفشل ،ولكن الب الذي يحث ابنه على المذاكرة وينهاه عن اللعب والعبث ،فل
بد أن ينجح.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :الوامر والنواهي هنا نعمة ،كان يجب أن نحمد ربنا عليها ،وكل ما يجريه ال على العبد
المؤمن يجب أن يأخذه العبد على أساس أنه نعمة.
إذن :فالذين تابوا عن الكفر الطارئ على إيمان الفطرة هم تائبون يأخذون منهج اليمان من
المعبود ،ويصبحون بذلك عابدين ل ،أي :منفذين الوامر ،ومبتعدين عن النواهي ،وهم يعلمون
حفّتِ
أن الوامر تقيد حركة النفس وكذلك النواهي ،ولكنهم يصدقون قوله صلى ال عليه وسلمُ " :
حفّت النارُ بالشّهوات "
الجنةُ بالمكاره ،و ُ
حين تعرف أن العبادة أوصلتك إلى أمر ثقيل على نفسك ،فاعرف أن هذا لمصلحتك وعليك أن
تحمد ال عليه؛ وبذلك يدخل المؤمن في زمرة الحَامِدينَ.
وأنت حين تؤمن بال ،يصبح في بالك ،فل يشغلك كونه عنه سبحانه ،وإياك أن تشغل بالنعمة عن
طغَىا * أَن رّآهُ
ن الِنسَانَ لَ َي ْ
المنعم ،واجعل ال دائما في بالك ،والحق سبحانه يقول {:كَلّ إِ ّ
اسْ َتغْنَىا }
[العلق]7-6 :
لذلك يفكر المؤمن في ال دائما ويشكر المنعم على النعمة وآثارها من راحة في بيت وأولد
وعمل.
و } ا ْلحَامِدُونَ { أيضا ل بد أن يستقبلوا كل قدر ل عليهم بالرضا؛ لن الذي يُجري عليهم القدر -
ما دام لم يأمرهم بما لم يقع في اختيارهم -فهو حكيم ول يُجري سبحانه عليهم إل ما كان في
صالحهم .وبعد أن ترضى النفس بما أجرى عليها تعرف الحكمة؛ ولذلك يقول سبحانه {:وَا ّتقُواْ
اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّهُ[} ...البقرة]282 :
ويتابع الحق صفات المقبلين على الصفقة اليمانية فيقول } :السّا ِئحُونَ { ومعنى " سائح " هو من
ترك المكان الذي له موطن ،فيه بيته وأهله وأولد وأنس بالناس ،ثم يسيح إلى مكان ليس فيه
شيء ما ،قد يتعرض فيه للمخاطر ،والمؤمن إنما يفعل ذلك؛ لنه ل شيء يشغله في الكون عن
المكوّن ،ويقول الحق سبحانهُ {:قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ ُثمّ انْظُرُواْ[} ...النعام]11 :
إذن :فالسياحة هي السير المستوعب ،والسير في الرض منه سير اعتبار لينظر في مكلوت
السموات والرض ،وليستنبط من آيات ال ما يدل على تأكيد إيمانه بربه ،ومنه سير استثمار بأن
يضرب في الرض ليبتغي من فضل ال.
إذن :فالسياحة إما سياحة اعتبار ،وإما سياحة استثمار ،أما سياحة الستثمار فهي خاصة بالذين
يضربون في الرض ،وهم الرجال.
أما سياحة العتبار؛ فهي أمر مشترك بين الرجل والمرأة ،بدليل أن ال قال ذلك في وصف
النساء {:عَسَىا رَبّهُ إِن طَّل َقكُنّ أَن يُ ْبدِلَهُ أَ ْزوَاجا خَيْرا مّنكُنّ مُسِْلمَاتٍ ّم ْؤمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عَابِدَاتٍ سَا ِئحَاتٍ[} ...التحريم]5 :
إذن } :سَا ِئحَاتٍ { هنا مقصود بها سياحة العتبار ،أو السياحة التي تكون في صحبة الزوج الذي
يضرب في الرض.
وقيل أيضا :إن السياحة أطلقت على " الصيام "؛ لن السياحة تخرجك عما أل ْفتَ من إقامة في
وطن ومال وأهل ،والصيام يخرجك عما أل ْفتَ من طعام وشراب وشهوة.
إذن :القَدْرُ المشترك بين الرجال والنساء هو في سياحة العتبار وسياحة الصوم.
ثم يقول الحق سبحانه:
} الرّا ِكعُونَ السّاجِدونَ { أي :المقيمون للصلة ،وقد جاء بمظهرين فقط من مظاهر الصلة ،مع
أن الصيام قيام وقعود وركوع وسجود؛ لن الركوع والسجود هما المران المختصان بالصلة،
وأما القيام فقد يكون في غير الصلة ،وكذلك القعود .إذن :فالخاصيّتان هما ركوع وسجود؛
سجُدِي وَا ْر َكعِي َمعَ الرّا ِكعِينَ }[آل عمران]43 :
ك وَا ْ
والحق يقول {:يامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَ ّب ِ
أي :صلّي مع المصلّين ،وهكذا نجد أن الركوع والسجود هما المران اللذان يختصان بالحركة في
الصلة.
ثم يقول سبحانه } :المِرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَالنّاهُونَ عَنِ ا ْلمُنكَرِ { والمر بالمعروف والنهي عن
المنكر هو حيثية تخص المة المحمدية لتكون خير أمة أخرجت للناس ،فالحق سبحانه يقول{:
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ[} ...آل عمران]110 :
كُنْتُمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ
فإذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ،فل بد أن تكون بمنأى عن هذا المنكر فليس معقولً أن
تنهى عن شيء أنت مزاول له.
إذن :فالمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،صلح أو هدى مُتَعدّ من النفس إلى الغير ،بعد أن
تكون النفس قد استو َفتْ حظها منه.
ويقتضي المر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تعرف المعروف الذي تأمر به ،وأن تعرف
المنكر الذي تنهى عنه؛ لذلك ل بد أن تكون من أهل الختصاص في معرفة أحكام ال ،ومعرفة
حدود ال حِلّ وحُرْمة ،أما أن يأتي أي إنسان ليُدخل نفسه في المر ويقول :أنا آمر بمعروف وأنا
أنهى عن منكر ،هنا نقول له :ل تجعل الدين ،ول تجعل التقوى في مرتبة أقل من المهن التي ل
بد أن يزاولها أهل فكر ومتخصصون فيها.
حدُودِ اللّهِ { و " الحدود " جمع " حد " وتأتي الحدود في القرآن
ثم يقول سبحانه } :وَالْحَا ِفظُونَ لِ ُ
على معنيين :المعنى الول هو المحافظة على الوامر ،وتلك التي يردفها الحق بقوله {:تِ ْلكَ حُدُودُ
اللّهِ فَلَ َتعْ َتدُوهَا[} ...البقرة]229 :
وكل أمر يقول فيه ذلك هو حد ال فل تتعدّ هذا الحد ،أما المعنى الثاني :فهو البعد عن المنهيات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدُودُ اللّهِ فَلَ َتقْرَبُوهَا[} ...البقرة]187 :
فل يقول لك :ل تتعداها ،بل يقول سبحانه {:تِ ْلكَ ُ
ويُنهى الحق سبحانه الية بقوله } :وَبَشّرِ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ { أيَ :بشّرْ هؤلء الذين يسلكون هذا السلوك
مطابقا لما اعتقدوه من اليقين واليمان ،ل هؤلء المنافقين الذي قد يصلون أو يصومون ظاهرا.
وكلمة } وَبَشّرِ { و " استبشر " و " البشرى " و " البشير " كلها مادة تدل على الخبر السار الذي
يجعل في النفس انبساطا وسرورا؛ بحيث إذا رأيت وجه النسان وجدته وجها متهللً تفيض بشرته
بالسرور.
وبعد ذلك يتكلم الحق عن أمر شغل بال المؤمنين الذين كان لهم آباء على الكفر؛ ومن حقوق هذه
البوة على البناء أن يستغفروا لهم لعل ال يغفر ،وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن
رعاية حدود ال وحقوقه أوْلَى من قرابة الدم ،وأوْلى من عاطفة الحنوّ والرحمة؛ فالحق سبحانه
وتعالى أوْلى بأن يكون النسان بارا به من أن يكون بارّا بالب الكافر ،وقد جعل الحق سبحانه
النسبَ في السلم نفسه.
ثم يقول الحق سبحانه } :مَا كَانَ لِلنّ ِبيّ وَالّذِينَ{ ...
()1334 /
ن وََلوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َلهُمْ أَ ّنهُمْ
ي وَالّذِينَ َآمَنُوا أَنْ َيسْ َت ْغفِرُوا لِ ْلمُشْ ِركِي َ
مَا كَانَ لِلنّ ِب ّ
َأصْحَابُ ا ْلجَحِيمِ ()113
قبل أن يحظر الحق سبحانه على المؤمنين الستغفار لبائهم المنافقين ،بدأ برسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فقالك { مَا كَانَ لِلنّ ِبيّ } ،وإذا كان النبي ينهى ،فالمؤمنون من باب أوْلى ليس بهم
الحق في ذلك؛ لن ال لو أراد أن يكرم أحدا من الباء لجل أحد ،لكرم أباء النبي إن كانوا غير
مؤمنين.
وكلمة { مَا كَانَ } تختلف عن كلمة " ما ينبغي " فساعة تسمع " ما ينبغي لك أن تفعل ذلك " فهذا
يعني أن لك قدرة على أن تفعل ،لكن ل يصح أن تفعل ،ولكن حين يقال " :ما كان لك أن تفعل
" ،أي :أنك غير مؤهل لفعل هذا مطلقا.
ومثال ذلك أن يقال لفقير جدّا " :ما كان لك أن تشتري فيديو "؛ لنه بحكم فقره غير مؤهل لشراء
مثل هذا الجهاز ،لكن حين يقال لخر :ما ينبغي لك أن تشتري فيديو " أي :عنده القدرة على
الشراء ،لكن القائل له يرى سببا غير الفقر هو الذي يجب أن يمنع الشراء .إذن :فهناك فَرْق بين
نفي المكان ،ونفي النبغاء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ي وَالّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْ َت ْغفِرُواْ لِ ْل ُمشْ ِركِينَ وََلوْ كَانُواْ ُأوْلِي
وهنا يقول الحق سبحانه { :مَا كَانَ لِلنّ ِب ّ
جحِيمِ }
صحَابُ الْ َ
قُرْبَىا مِن َبعْدِ مَا تَبَيّنَ َل ُهمْ أَ ّنهُمْ َأ ْ
أي :ما كان للنبي ول المؤمنين أن يستغفروا للذين ماتوا على الشرك والكفر ،ولو كانوا أولي
قربى .فهذا أمر ل يصح.
وحتى ل يحتج أحد من المؤمنين بأن سيدنا إبراهيم عليه السلم قد استغفر لبيه جاء الحق بالقول
الكريمَ { :ومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِيمَ} ...
()1335 /
فقد وعد سيدنا إبراهيم عليه السلم أباه ما ذكره القرآن {:سَلَمٌ عَلَ ْيكَ سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي إِنّهُ كَانَ
حفِيّا }[مريم]47 :
بِي َ
حفِيّا } أي :أن ربّ إبراهيم يحبه وسيكرمه في استغفاره لبيه.
{ َ
{ فََلمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ للّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ } ويأتي الحق سبحانه بالحيثية الموحية ،بأن إبراهيم له من
صفات الخير ،الكثير جداّ ،لدرجة أن ال خالقه يقول فيه {:إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً[} ...النحل]120 :
أي :أن خصال الخير في إبراهيم عليه السلم ل توجد مجتمعة في إنسان واحد ،ول في اثنين ول
في ثلثة ،بل خصال الخير موزعة على الناس كلها ،فهذا فيه صفة المانة ،وثان يتحلى بالصدق،
وثالث يتميز بالشهامة ،ورابع موهوب في العلم ،إذن :فخصال الخير دائما ينشرها ال في خلقه،
حتى يوجد تكافؤ الفرص بين البشر ،كالمهن ،والحرف ،والعبقريات ،والمواهب ،فل يوجد إنسان
تتكامل فيه المواهب كلها ليصبح مجمع مواهب.
لكن شاء الحق أن يجمع لسيدنا إبراهيم عليه السلم خصال خير كثيرة فقال { :إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً
} أي :فيه عليه السلم من خصال الخير التي تتفرق في المة .وبعد ذلك يعطينا الحيثية التي
جعلت من سيدنا إبراهيم أمة ،وجامعا لصفات الخير بهذا الشكل ،فإن أعطاه ال أمرا فهو ينفذه
بعشق ،ل مجرد تكليف يريد أن ينهيه ويلقيه من على ظهره ،بل هو ينفذ التكليف بعشق ،واقرأ
قول ال سبحانه {:وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ[} ...البقرة]124 :
أي :أتى بها على التمام ،فلما أتمهن أراد ال أن يكافئه ،فقال {:إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما} ...
[البقرة]124 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهو -إذن -مأمون على أن يكون إماما للناس لنه قدوة ،أي أنه يشترك مع الناس في أنه بشر،
ولكنه جاء بخصال الخير الكاملة فصار أسوة للناس ،حتى ل يقول أحد :إنه فعل الخير لنه ملك،
عُلكَ لِلنّاسِ
وله طبيعة غير طبيعة البشر ،ل ..إنه واحد من البشر ،قال فيه الحق سبحانه {:إِنّي جَا ِ
ِإمَاما[} ...البقرة]124 :
أي :أسوة وقدوة ،والسوة والقدوة يشترط فيها أن تكون من الجنس نفسه فل تكون من جنس
مختلف ،فل يجعل ال للبشر أسوة من الملئكة؛ حتى ل يقول أحد :وهل أنا أستطيع أن أعمل مثل
عمله؟ ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في عرض هذه القضيةَ {:ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ إِذْ
جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ َبشَرا رّسُولً }[السراء]94 :
فحين تعجّب بعض الناس من أن ربنا قد بعث من البشر رسولً أنزل الحق هذا القول وأضاف
سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
سبحانه {:قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َي ْمشُونَ ُم ْ
[السراء]95 :
فما دُمتم أنتم بشر فل بد أن يرسل لكم رسولً منكم لتحقق السوة ،لهذا يقول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وآيات جمع ،وبينات جمع ،ولم يأت من اليات البينات إل " ّمقَامُ إِبْرَاهِيمَ " {.فِيهِ آيَاتٌ بَيّـنَاتٌ
ّمقَامُ إِبْرَاهِيمَ[} ...آل عمران]97 :
أي :أن " مقام إبراهيم " هو مجموع اليات البينات؛ لن ال قد أمره أن يرفع القواعد ،وكان ل بد
أن يبحث عن المكانات التي تساعده في الرفع؛ لنه لو رفعها على قدر ما تطول يده لما بلغ
طول الكعبة فوق مستوى ما تطوله اليدان؛ لذلك فكر سيدنا سيدنا إبراهيم وتدبر وجاء بحجر ليقف
فوقه ليطيل في ارتفاع جدران الكعبة ،وهذا من دلئل أنه ينفذ التكليف بعشق ،وعلى أتم وجه؛
لذلك قال الحق:
} فِيهِ آيَاتٌ بَيّـنَاتٌ مّقَامُ إِبْرَاهِيمَ { وفي هذا آيات واضحة على أن النسان إذا كلف أمرا فعليه أل
ينفذ المر لينهى التكليف بأية طريقة ،ولكن عليه أن يؤدي ما يكلف به بعشق ،ويحاول أن يزيد
فيه ،وبذلك يؤدي " الفرض " والزائد على الفرض وهو " النافلة ".
ونحن هنا في قضية الستغفار } َومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِي َم لَبِيهِ ِإلّ عَن ّموْعِ َد ٍة وَعَدَهَآ إِيّاهُ فََلمّا
لوّاهٌ حَلِيمٌ {
تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ للّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ إِنّ إِبْرَاهِي َم َ
وهنا وقفة توضح لنا طبع سيدنا إبراهيم كأواه حليم ،والواه هو الذي يكثر التوجع والتأوه على
نفسه مخافة من ال ،وعلى الناس إن رأى منهم معصية ،فيحدث نفسه بما سوف يقع عليهم من
عذاب ،إنه يشعل نفسه بأمر غيره ،فهذه فطرته ،وهو أواه لن التأوه لون من السلوى يجعلها ال
في بعض عباده للتسرية عن عبادٍ له آخرين.
ولذلك يقول الشاعر:ول بد من شكوى إلى ذي مروءةٍ يواسيك أو يسلّيك أو يتوجعأي :أنه إذا
إصابت النسان مصيبة فهو يشكو إلى صاحب المروءة ،فإما أن يساعده في مواجهة المشكلة،
وإما أن يواسيه ليحمل عنه المصيبة ،بأن يتأوه له ويشاركه في تعبه لمصيبته ،وهذا التأوه علمة
رقة الرأفة وشفافية الرحمة في النفس البشرية.
فإبراهيم } َأوّاهٌ { ،وهذا طبع فيه يسلكه مع كل الناس ،فما بالك إن كان لقريب له؟ ل بد إذن أن
يكثر من التأوه ،وخصوصا إن كان المر يتعلق بأبيه ،ومع ذلك أراد ال أن يضع طبع إبراهيم
عليه السلم في التأوه في موضعه الصحيح ،ولكن ال أوضح له :إياك أن تستغفر لبيك ول شأن
لك به ،فالمسألة ليست في الطبع ،ولكن في رب الطبع الذي أمر بذلك.
وهنا قضية هامة أحب أن تصفى بين مدارس العلم والعلماء في العالم كله؛ لنها مسألة تسبب
الكثير من المشاكل ،وتثار فيها أقضية كثيرة.
لقد أمر الحق سبحانه إبراهيم عليه السلم أل يستغفر لبيه ،بعد أن تبين له أنه عدو ل ،وما دام
والد إبراهيم قد وصف بهذه الصفة وأنه عدو ال ومحمد صلى ال عليه وسلم من نسل إبراهيم
إذن :فلماذا يقول الرسول " :إنني خيار من خيار من خيار "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
؟ ولو فهمنا قول الحق :إن أبا إبراهيم عدو ل ،ففي هذا نقض لحديث رسول ال ،وما دام أبو
إبراهيم كان عدوا ل وتبرأ منه وقال له الحق :ل تستغفر .إذن :ففي نسبه صلى ال عليه وسلم
أحد أعداء ال ،وفي ذلك نقض لقوله صلى ال عليه وسلم " :خيار من خيار خيار ،ما زلت أنتقل
من أصلب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات "
ولهذا نريد أن نصفي هذه المسألة تصفية علماء ،ل تصفية غوغاء ،ولنسأل من هو الب؟ الب
هو من نَسََلكَ وأنجبك ،أو نسل من نسلك .إذن :فهناك أب مباشر وأبوه يعتبر أبا لك أيضا إلى أن
تنتهي لدم ،هذا هو معنى كلمة " الب " كما نعرفه ،لكننا نجد ان القرآن قد تعرض لها بشكل
أعمق كثيرا من فهمنا التقليدي ،وأغنى السور بالتعرض لهذه المادة " سورة يوسف "؛ لن مادة "
الب " جاءت ثماني وعشرين مرة خلل هذه السورة ،فمثلً تجد في أوائل سورة يوسف ،قول
عشَرَ َك ْوكَبا} ...
سفُ لَبِيهِ ياأَبتِ إِنّي رَأَ ْيتُ َأحَدَ َ
يوسف عليه السلمِ {:إذْ قَالَ يُو ُ
[يوسف]4 :
وبعد ذلك جاءت السورة بأن ال سوف يجتبئ يوسف ويعلمه من تأويل الحاديثَ {:وكَذاِلكَ
ك وَعَلَىا آلِ َي ْعقُوبَ َكمَآ أَ َت ّمهَآ عَلَىا
ل الَحَادِيثِ وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي َ
ك وَ ُيعَّل ُمكَ مِن تَ ْأوِي ِ
يَجْتَبِيكَ رَ ّب َ
أَ َبوَ ْيكَ مِن قَ ْبلُ[} ...يوسف]6 :
والبوان المقصودان هما إبراهيم وإسحاق عليهما السلم ،ثم قال الحق من بعد ذلك {:إِذْ قَالُواْ
حبّ إِلَىا أَبِينَا[} ...يوسف]8 :
سفُ وَأَخُوهُ أَ َ
لَيُو ُ
للٍ مّبِينٍ }[يوسف]8 :
عصْبَةٌ إِنّ أَبَانَا َلفِي ضَ َ
ثم جاء قوله الحق على لسان إخوة يوسف {:وَنَحْنُ ُ
خلُ َلكُ ْم َوجْهُ
سفَ َأوِ اطْ َرحُوهُ أَرْضا يَ ْ
وفي نفس السورة يقول الحق عن إخوة يوسف {:اقْتُلُواْ يُو ُ
أَبِيكُمْ[} ...يوسف]9 :
ثم يمهد إخوة يوسف للتخلص منه ،فيبدأون بالحوار مع الب {:قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا َلكَ لَ تَ ْأمَنّا عَلَىا
سفَ وَإِنّا َلهُ لَنَاصِحُونَ * أَ ْرسِلْهُ َمعَنَا غَدا يَرْتَ ْع وَيَ ْل َعبْ وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ }[يوسف]12-11 :
يُو ُ
وبعد أن ألقوه في غيابة الجب ،وعادوا إلى والدهمَ {:وجَآءُوا أَبَا ُهمْ عِشَآءً يَ ْبكُونَ }[يوسف]16 :
وكانت هذه هي المرة الثامنة في ذكر كلمة أب في سورة يوسف ،ثم تأتي التاسعة {:قَالُواْ يَاأَبَانَآ إِنّا
سفَ عِندَ مَتَاعِنَا[} ...يوسف]17 :
ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَ َركْنَا يُو ُ
ثم تدور أحداث القصة إلى أن دخل سيدنا يوسف السجن ،وقابل هناك اثنين من المسجونين
وأخبراه أنهما يريانه من المحسنين ،وأن عندهما رؤى يريدان منه أن يفسرها لهما فقال لهما {:لَ
طعَامٌ تُرْ َزقَا ِنهِ ِإلّ نَبّأْ ُت ُكمَا بِتَ ْأوِيلِهِ[} ...يوسف]37 :
يَأْتِي ُكمَا َ
وينسب ذلك الفضل إلى الحق سبحانه فيقول {:ذاِل ُكمَا ِممّا عَّلمَنِي رَبّي إِنّي تَ َر ْكتُ مِلّةَ َقوْ ٍم لّ
ق وَ َي ْعقُوبَ} ...
ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتّ َب ْعتُ مِلّةَ آبَآئِـي إِبْرَاهِي َم وَإِسْحَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[يوسف]38-37 :
وهكذا ذكر اسم ثلثة من آبائه :إبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلم.
ثم خرج يوسف من السجن وتولى أمر تنظيم اقتصاد مصر ،وجاء إخوته للتجارة فعرفهم ،ويحكى
جهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ ّلكُمْ مّنْ
جهّزَهُم ِب َ
للقرآن عن لقائه بهم دون أن يعرفوه ،وقال {:وََلمّا َ
أَبِيكُمْ[} ...يوسف]59 :
وقال أيضا {:قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ }[يوسف]61 :
ثم عادوا إلى أبيهم يرجونه أن يسمح لهم باصطحاب أخيهم الصغر معهم ،وسمح لهم يعقوب
عليه السلم باصطحابه بعد أن آتوه موثقا من ال أن يأتوه به إل أن يحيط بهم أمر خارج عن
حلِ أَخِيهِ ثُمّ َأذّنَ
سقَايَةَ فِي َر ْ
ج َعلَ ال ّ
جهَازِ ِهمْ َ
جهّزَ ُهمْ بِ َ
إرادتهم ،ونزلوا مصر وطلبوا الميرة {.فََلمّا َ
ك وَِلمَن
صوَاعَ ا ْلمَِل ِ
علَ ْيهِمْ مّاذَا َت ْفقِدُونَ * قَالُواْ َنفْقِ ُد ُ
ُمؤَذّنٌ أَيّ ُتهَا ا ْلعِيرُ إِ ّنكُمْ لَسَا ِرقُونَ * قَالُو ْا وََأقْبَلُواْ َ
ح ْملُ َبعِي ٍر وَأَنَاْ ِبهِ زَعِيمٌ * قَالُواْ تَاللّهِ َلقَدْ عَِلمْ ُتمْ مّا جِئْنَا لِ ُنفْسِدَ فِي الَ ْرضِ َومَا كُنّا سَا ِرقِينَ
جَآءَ بِهِ ِ
جدَ فِي رَحِْلهِ َف ُهوَ جَزَا ُؤهُ[} ...يوسف:
* قَالُواْ َفمَا جَزَآ ُؤهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُواْ جَزَآ ُؤهُ مَن وُ ِ
]75-70
حسِنِينَ }[يوسف]78 :
قالوا {:إِنّ َلهُ أَبا شَيْخا كَبِيرا َفخُذْ َأحَدَنَا َمكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُ ْ
خذَ ِإلّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِن َدهُ} ...
قال يوسفَ {:معَاذَ اللّهِ أَن نّأْ ُ
[يوسف]79 :
ش ِهدْنَآ ِإلّ
ق َومَا َ
جعُواْ إِلَىا أَبِيكُمْ َفقُولُواْ ياأَبَانَا إِنّ ابْ َنكَ سَرَ َ
ويأمرهم سيدنا يوسف عليه السلم {:ارْ ِ
ِبمَا عَِلمْنَا َومَا كُنّا لِ ْلغَ ْيبِ حَافِظِينَ }[يوسف]81 :
سكُمْ َأمْرا[} ...يوسف]83 :
سوَّلتْ َلكُمْ أَنفُ ُ
ويعودون إلى أبيهم الذي يعاتبهمَ {:بلْ َ
ف وَأَخِيهِ[} ...يوسف:
س َ
ثم يأمرهم أن يعودوا مرة أخرى قائلً {:يابَ ِنيّ اذْهَبُواْ فَ َتحَسّسُواْ مِن يُو ُ
]87
وعندما عرفهم يوسف بنفسه وعلم منهم أن والدهم قد صار أعمى قال لهم {:ا ْذهَبُواْ ِب َقمِيصِي
هَـاذَا فَأَ ْلقُوهُ عَلَىا وَجْهِ أَبِي يَ ْأتِ َبصِيرا }[يوسف]93 :
ثم يأمرهم يوسف عليه السلم بأن يأتوا بأهلهم أجمعين {.وََلمّا َفصََلتِ ا ْلعِيرُ قَالَ أَبُو ُهمْ إِنّي لَجِدُ
سفَ َلوْلَ أَن ُتفَنّدُونِ }[يوسف]94 :
رِيحَ يُو ُ
ش وَخَرّواْ لَهُ سُجّدَا َوقَالَ ياأَ َبتِ هَـاذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ
ثم يقول الحق سبحانه {:وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْ ِ
مِن قَ ْبلُ[} ...يوسف]100 :
ك وَ ُيعَّل ُمكَ مِن
وما يهمنا في كل ذلك آيتان اثنتان :الولى هي قوله سبحانهَ {:وكَذاِلكَ يَجْتَبِيكَ رَ ّب َ
ك وَعَلَىا آلِ َي ْعقُوبَ َكمَآ أَ َت ّمهَآ عَلَىا أَ َبوَ ْيكَ مِن قَ ْبلُ إِبْرَاهِيمَ
تَ ْأوِيلِ الَحَادِيثِ وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكِيمٌ }[يوسف]6 :
وَإِسْحَاقَ إِنّ رَ ّبكَ عَلِيمٌ َ
وإسحق هو أبو يعقوب ،وإبراهيم هو الب الثالث .وحين قال يوسف {:وَاتّ َب ْعتُ مِلّةَ آبَآئِـي} ...
[يوسف.]38 :
ق وَ َيعْقُوبَ} ...
و " أبائي " جمع أب .وعندما أراد أن يذكر العلم من آبائه قال {:إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَا َ
[يوسف.]38 :
ويعقوب هو أبو يوسف ،وإسحق أبو يعقوب ،وإبراهيم أبو إسحق ،إذن :فإبراهيم أب ،وإسحق
أب ،ويعقوب أب .وهكذا نرى أن كلمة " الب " تطلق على الجد ،وآباء الجد إلى آدم .وإذا نظرت
حضَرَ َي ْعقُوبَ ا ْل َم ْوتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا
شهَدَآءَ ِإذْ َ
في سورة البقرة تجد قول الحق سبحانه {:أَمْ كُن ُتمْ ُ
سمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ[} ...البقرة]133 :
َتعْبُدُونَ مِن َبعْدِي قَالُواْ َنعْبُدُ ِإلَـا َهكَ وَإِلَـاهَ آبَا ِئكَ إِبْرَاهِي َم وَإِ ْ
ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا ،وهكذا يكون إبراهيم أبا ،وإسماعيل أبا ،وإسحق أبا،
ولكن إسماعيل أخ لسحق ،إذن فقد أطلق الب هنا وأريد به العم ،وهكذا ترى أنه إذا ألحق بكلمة
" أب " اسم معين هو المقصود بها ،فالمعنى ينصرف إما إلى الجد وإما إلى العم ،وإن جاءت من
غير تحديد السم ،فهي تنصرف إلى الب المباشر فقط.
والحق يقول في شأن إبراهيم مع أبيه {:وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ[} ...النعام]74 :
لقد ذكر الحق هنا اسم الب وحدده بـ " آزر " ولو أنه أبوه حقيقة لما قال آزر ،مثلما يأتيك إنسان
ليسأل :أين أبوك؟ هنا نفهم أن السؤال ينصرف إلى الب المباشر ،لكن إذا قال :هل أبوك محمد
هنا؟ فهذا التحديد قد ينصرف إلى العم.
إذن :قول ال } :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم لَبِيهِ آزَرَ { يبين لنا أن آزر ليس هو الصّلب الذي انحدر منه
رسول ال ،ولكنه عمه ،وبذلك نحل الشكال واللغز الذي حير الكثيرين.
وهنا يقول الحق سبحانهَ } :ومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِيمَ لَبِيهِ ِإلّ عَن ّموْعِ َدةٍ وَعَدَهَآ إِيّاهُ فََلمّا تَبَيّنَ لَهُ
لوّاهٌ حَلِيمٌ { [التوبة]114 :
ع ُدوّ للّهِ تَبَرّأَ مِ ْنهُ إِنّ إِبْرَاهِي َم َ
أَنّهُ َ
و " الحليم " هو خلق يجعل صاحبه صبورا على الذى صفوحا عن الذنب.
وقد شغل صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم بإخوانهم المؤمنين ،الذين ماتوا قبل أن تكتمل
عندهم أحكام السلم؛ لن منهج السلم نزل في " ثلثة وعشرين عاما " .وليس من المفروض
فيمن آمن أن يأتي بكل أحكام السلم عند بداية آياته ،بل قد يكون قد آمن فقط بالشهادة ،فاعتبر
مسلما ،ومثال هذا مخيريق اليهودي الذي لم يصل ركعة واحدة في السلم؛ لن الحرب قامت بعد
إسلمه مباشرة ،وقال :مالي كله لمحمد وسأذهب لحارب معه ،وحارب فقتل ،وهكذا صار
شهيدا .لنه لم يمكث زمنا ينفذ فيه ما جاء به السلم قبل ذلك.
ومن باب أولى أن الذي مات قبل أن تتم أحكام السلم يعتبر مسلما ،والذي مات مثلً قبل أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تحرم الخمر تحريما نهائيّا ،أيقال :إنه عاصٍ أو كافر؟ ل ،إنه مسلم ،والذي مات قبل أن يعلم أن
القبلة قد حولت من بيت المقدس إلى الكعبة يعتبر مسلما وشاء الحق أن يبين للمسلمين أل يحزنوا
ضلّ َقوْما َب ْعدَ إِذْ هَدَا ُهمْ حَتّىا يُبَيّنَ َلهُم مّا يَ ّتقُونَ إِنّ
على هؤلء ،فنزل الوحيَ {:ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُي ِ
شيْءٍ عَلِيمٌ }[التوبة]115 :
اللّهَ ِب ُكلّ َ
وهذا يوضح ما نعرفه في عرف التقنين البشري أنه ل جريمة إل بنص ،ول عقوبة إل بتشريع،
فنحن ل نعاقب إل بعد تحديد الفعل الذي يعاقب عليه ،وأن يكون النص المحدد للجريمة والعقوبة
سابقا على الفعل.
إذن :ل عقوبة بتجريم ،ول تجريم إل بنص .والذي لم يبلغه النص؛ لنه مات قبل أن يوجد
النص؛ لنه ل رجعية في القانون السماوي ،إنما الرجعية فقط عند البشر؛ ولذلك نجد الحق يقول
في كثير من الياتِ {:إلّ مَا قَدْ سََلفَ[} ...النساء]22 :
إذن :فل تحزنوا على من مات من إخوانكم قبل أن يستكمل السلم كل أحكامه .فإسلمهم هو ما
بلغهم من هذه الحكام؛ فإن أدوها استووا بالذي يؤديها بعد أن تتم أركان السلم كلها؛ لذلك جاء
ضلّ{ ...
قوله الحقَ } :ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُي ِ
()1336 /
()1337 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومادة الـ (م .ل .ك) يأتي منها " مالك " ،و " مَلك " ،و " ملْك " ،ومنها " مُلْك " ،ومنها "
ملكوت " ،و " المِلْك " هو ما تملكه أنت في حيزك ،فإن كان هناك أحد يملكك أنت ومن معك
ويملك غيرك ،فهذا هو المَلِك ،أما ما اتسع فيه مقدور النسان أي الذي يدخل في سياسته وتدبيره،
فاسمه مُلك ،فشيخ القبيلة له ملك ،وعمدة القرية له ملك ،وحاكم المة له ملك ،ويكون في المور
الظاهرة ...واما الملكوت فهو ما ل في كونه من أسرار خفية.
ت وَالَرْضِ[} ...النعام]75 :
سمَاوَا ِ
مثل قوله تعالىَ {:وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
وساعة ترى " تاء المبالغة " في مثل " رهبوت " ،و " عظموت " تدرك أنها رهبة عظيمة.
إذن :إياك أن تفهم أن ال حين يمنعك أن تستغفر لبائك ،وأنك إن قاطعتهم فذلك يخل بوجودك في
الحياة؛ لنهم هم ومن يؤازرهم داخلون في ملك ال ،وما دام ال له ملك السموات والرض ،فل
يضيرك أحد أو شيء ول يفوتك مع ال فائت ،وما دام ال سبحانه موجودا فكل شيء سهل لمن
يأخذ بأسبابه مع اليمان به.
والحق سبحانه يبين لنا أنه سبحانه وحده الذي بيده الملك؛ فقالُ {:قلِ الّلهُمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ
مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ تَشَآ ُء وَ ُتعِزّ مَن َتشَآ ُء وَتُ ِذلّ مَن تَشَآءُ بِيَ ِدكَ الْخَيْرُ[} ...آل عمران]26 :
وفي هذا القول الكريم أربعة أشياء متقابلةُ { :تؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ } و { وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ } ،وإيتاء الملْك في
أعراف الناس خير ،ونزعه في أعراف الناس شر ،وإعزاز الناس خير ،وإذللهم شر ،ولم يقل ال
بيده " :الخير والشر " .وإنما قال في ُكلّ { :بِيَ ِدكَ ا ْلخَيْرُ }.
إذن :فحين يؤتي ال إنسانا مُلْكا؛ نقول :هذا خير وعليك أن تستغله في الخير .وحينما ينزع ال
منه الملك نقول له :لقد طغيت وخفف ال عنك جبروت الطغيان ،فنزعه ال منك فهذا خير لك.
وإن أعزك ال ،فقد يعذبك حقّا ،وإن أذلهم ال ،فالمقصود أل يطغوا أو يتجبروا .إذن :فكلها خير{.
ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن َتشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ َتشَآ ُء وَ ُتعِزّ مَن تَشَآ ُء وَتُ ِذلّ مَن تَشَآءُ بِ َي ِدكَ ا ْلخَيْرُ[} ...آل
عمران]26 :
ساعة تجد ملكا عضوضا ،إياك أن تظن أن هذا الملك العضوض قد أخذ ملكه دون إرادة ال ،ل،
بل هو عطاء من ال .ولو أن المملوك راعى ال في كل أموره لرقق عليه قلب مالكه .ولذلك
يقول لنا في الحديث القدسي " :أنا ال ملك الملوك ،قلوب الملوك ونواصيها بيدي ،فإن العباد
أطاعوني جعلتهم عليهم رحمة ،وإن هم عصوني جعلتهم عليهم عقوبة ،فل تشتغلوا بسب الملوك،
ولكن أطيعوني أعطفهم عليكم "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإن رأيت واحدا قد أخذ الملك وهو ظالم ،فاعلم أن ال قد جاء به ليربى به المملوكين ،وسبحانه
ل يربي الشرار بالخيار؛ لن الخيار ل يعرفون كيف يربون؛ وقلوبهم تمتلئ بالرحمة؛ ولذلك
يعلمنا سبحانهَ {:وكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا[} ...النعام]129 :
والخيّر ل يدخل المعركة بل يشاهد الصراع من بعيد ،ويجري كل شيء بعلم ال؛ لنه سبحانه لم
ملك السموات والرض وهو الذي يحيي ويميت ،فإياك أن ُتفْتَن في غير خالقك أبدا؛ لن الخلق
مهما بلغ من قدرته وطغيانه ،ل يستطيع أن يحمي نفسه من أغيار ال في كونه ولذلك فليأخذ
المؤمن من ال وليّا له ونصيرا.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ { يأتي لنا بالمر الذي يظهر فيه
وبعد أن قال لنا سبحانه } :إِنّ اللّهَ لَهُ مُ ْلكُ ال ّ
أثر القدرة ،ول يشاركه فيه غيره ،فقالُ } :يحْيِـي وَ ُيمِيتُ { .وقال بعض العلماء في قوله} :
يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ { أنه سبحانه " يحيي الجماد " ،و " يميت الحيوان "؛ لنهم ظنوا أن الحياة هي
الحس والحركة التي نراها أمامنا من حركة وكلم وذهاب وإياب ،ونسوا أن الحياة هي ما أودعه
ال في كل ذرة في الكون ،مما تؤدي به مهمتها ،ففي ذرة الرمل حياة ،والجبل فيه حياة ،وكل
حيّ عَن بَيّ َنةٍ} ...
شيء فيه حياة ،بنص القرآن حيث يقول {:لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ
[النفال]42 :
إذن :فالحياة مقابلها الهلك ،وفي آيات أخرى يقابل الحياة الموت ،فالهلك هو الموت .فإذا قال
جهَهُ[} ...القصص]88 :
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
الحق سبحانهُ {:كلّ َ
إذن :فكل شيء قبل أن يكون هالكا كان حيّا ،وهكذا نعرف أن الحياة ليست هي الحس والحركة
الظاهرتين ،وبعد التقدم العلمي الهائل في المجاهر الدقيقة تكشفت لنا حركة وحس كائنات كنا ل
نراها ،وإذا كان النسان قد توصل باللت التي ابتكرها إلى إدراك ألوان كثيرة من الحياة فيما
كان يعتقد أنه ل حياة فيها ،إذن :فكل شي في الوجود له حياة تناسبه فلو جئت بمعدن مثلً وتركته
ستجده تأكسد ،أي حدث فيه تفاعل مع مواد أخرى ..فهذه حياة.
بعد ذلك يقول الحقَ } :لقَدْ تَابَ ال عَلَىا النّ ِبيّ{ ...
()1338 /
ن وَالْأَ ْنصَارِ الّذِينَ اتّ َبعُوهُ فِي سَاعَةِ ا ْلعُسْ َرةِ مِنْ َب ْعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ
ي وَا ْل ُمهَاجِرِي َ
علَى النّ ِب ّ
َلقَدْ تَابَ اللّهُ َ
علَ ْيهِمْ إِنّهُ ِبهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ()117
قُلُوبُ فَرِيقٍ مِ ْنهُمْ ثُمّ تَابَ َ
قلنا :إن التوبة لها مراحل ،فهناك توبة شرعها ال ،ومجرد مشروعية التوبة من ال رحمة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالخلق ،وهي أيضا رحمة بالمذنب؛ لن الحق سبحانه لو لم يشرع التوبة لستشرى النسان في
المعاصي بمجرد انحرافه مرة واحدة ،وإذا استشرى في المعاصي فالمجتمع كله يشقى عليه
الذنب ،فمشروعية التوبة نفسها رحمة بمن عمل الذنب .وأنت إذا سمعت قوله الحق سبحانه {:ثُمّ
تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ[} ...التوبة]118 :
فافهم أن تشريع التوبة إنما جاء ليتوب العباد فعلً ،وبعد أن يتوبوا ،يقبل ال التوبة.
والحق هنا يقولَ { :لقَدْ تَابَ ال عَلَىا النّ ِبيّ } وعطف على النبي صلى ال عليه وسلم
ن وَالَنصَارِ } ،فأي شيء فعله رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى يقول الَ { :لقَدْ
{ ا ْل ُمهَاجِرِي َ
عفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ َلهُمْ[} ...التوبة:
تَابَ ال عَلَىا النّ ِبيّ }؟! ونقول ألم يقل الحق سبحانه لهَ {:
]43
فحين جاء بعض المنافقين استأذنوا النبي صلى ال عليه وسلم في التخلف عن الغزوة ،فأذن لهم،
مع أن ال سبحانه قالَ {:لوْ خَ َرجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ ِإلّ خَبَالً[} ...التوبة]47 :
إذن :فرسول ل صلى ال عليه وسلم كان بالفطرة السليمة قد اتخذ القرار الصائب ،ولكن الحق
سبحانه ل يريد ان يتبعوا فطرتهم فقط ،بل أراد أن يضع تشريعا محددا.
وشاء الحق سبحانه أن يخبرنا بأنه قدم العفو لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه أذن لمن
استأذنه من المنافقين أل يخرجوا إلى القتال ،وهناك أشياء يأخذها ال على عبده؛ لن العبد قام به
ضد صالح نفسه ،ومثال هذا من حياتنا ول المثل العلى :أنت إذا رأيت ولدك يذاكر عشرين
ساعة في اليوم؛ فإنك تدخل عليه حجرته لتأخذ منه الكتاب أو تطفئ مصباح الحجرة ،وتقول له" :
قم لتنام " .وأنت في هذه الحالة إنما تعنف عليه لنك تحبه ،ل ،لنه خالف منهجا ،بل لنه أوغل
ج وأسلوب عملٍ يرهق به نفسه.
في منه ٍ
وحين سمح النبي صلى ال عليه وسلم لقوم أن يتخلفوا ،فهل فعل ذلك ضد مصلحة الحرب أم مع
مصلحة الحرب؟ أنهم لو اشتركوا في الحرب لكثر ثوابهم حتى ولو حرسوا المتعة أو قاموا بأي
عمل ،إذن :فإذنه صلى ال عليه وسلم لهم بالتخلف هو تصعيب للمر على نفسه.
ولذلك نجد أن كل عتب على نبي ال ،إنما كان عتبا لصالحه ل عليه فسبحانه يقول لهِ {:لمَ تُحَرّمُ
حلّ اللّهُ َلكَ[} ...التحريم]1 :
مَآ أَ َ
والنبي صلى ال عليه وسلم لم يحل ما حرم ال بل حرم على نفسه ما أحل ال له ،وهذا ضد
مصلحته ،وكأن الحق يسائله :لماذا ترهق نفسك؟ .إذن :فهذا عتب لمصلحة النبي صلى ال عليه
وسلم ،وأيضا حين جاء ابن مكتوم العمى يسأل رسول ال في أمر من أمور الدين ،وكان ذلك
في حضور صناديد قريش ،فالتفت صلى ال عليه وسلم إلى الصناديد وهم كافرون ،يريد أن يلين
قلوبهم ،وترك ابن أم مكتوم؛ فنزل القول الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمَىا }[عبس]2-1 :
{ عَبَسَ وَتَوَلّىا * أَن جَآ َء ُه الَ ْ
وابن أم مكتوم جاء ليستفسر عن أمر إيماني ،ولن يجادل مثلما يجادل صناديد قريش ،فلماذا يختار
الرسول صلى ال عليه وسلم المر الصعب الذي يحتاج إلى جهد أكبر ليفعله؟ .إذن :العتب هنا
عفَا اللّهُ عَنكَ ِلمَ َأذِنتَ َل ُهمْ[} ...التوبة:
لصالح محمد صلى ال عليه وسلم ،وحين يقول الحق لهَ {:
]43
ثم جاء ها في الية بالمهاجرين والنصار معطوفين على رسول ال ،وذلك حتى ل يتحرج واحد
من المهاجرين أو النصار من أن ال تاب عليه ،بل التوبة تشمله وتشمل الرسول صلى ال عليه
وسلم نفسه؛ فل تحرّج.
وهذه المسائل التي حدثت كان لها مبررات ،فقد قال الحق } :مِن َب ْعدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ
مّ ْنهُمْ { ويزيغ :يميل ،أي :يترك ميدان المعركة كله؛ لنها كانت معركة في ساعة العسرة ،ومعنى
العسرة الضيق الشديد ،فالمسافة طويلة ،والجنود الذين سيواجهونهم هم جنود الروم ،والجو حارّ،
وليس عندهم رواحل كافية ،فكل عشرة كان معهم بعير واحد ،يركبه واحد منهم ساعة ثم ينزل
ليركبه الثاني ،ثم الثالث ،وهكذا ،ولم يجدوا من الطعام إل التمر الذي توالد فيه الدود.
وقد بلغ من العسرة أن الواحد منهم كان يمسك التمرة فيمصها بفيه يستحلبها قليلً ،ثم يخرجها من
فيه ليعطيها إلى غيره ليستحلبها قليلً ،وهكذا إلى أن تصير على النواة ،وكان الشعير قد أصابه
السوس ،وبلغ منه السوس أن تعفن ،وقال من شهد المعركة " :حتى إن الواحد منا كان إذا أخذ
حفنة من شعير ليأكلها يمسك أنفه حتى ل يتأذى من رائحة الشعير " .كل هذه الصّعاب جعلت من
بعض الصحابة من يرغب في العودة .ول يستكمل الطريق إلى الغزوة.
إذن :فالتوبة كانت عن اقتراب زيغ قلوب فريق منهم .وجاء الحق بتقدير ظرف العسرة ،ولذلك
تنبأ بالخواطر التي كانت في نواياهم ومنهم أيضا من همّ أل يذهب ،ثم حدجثته نفسه بأنه يذهب
مثل أبي خيثمة الذي بقي من بعد أن رحل رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى الغزوة ومرت
ط َهتْ
عشرة أيام ،ودخل الرجل بستانه فوجد العريشين ،وعند كل عريش زوجةٌ له حسناء ،وقد َ
كل منهما طعاما ،وهكذا رأى أبو خيثمة الظلل الباردة ،والثمر المدلّى ،فمسّته نفحة من صفاء
النفس؛ فقال " :رسول ال في الفيح -أي الحرارة الشديدة جدّا -والريح ،والقُرّ والبرد ،وأنا هنا
في ظل بارد ،وطعام مطهوّ ،وامرأتين حسناوين ،وعريش وثير ،وال ما ذلك بال ّنصَفة لك يا
رسول ال ،وأخذ زمام راحلته وركبها فكلًّمته المرأتان ،فلم يلتفت لواحدة منهما وذهب ليلحق
برسول ال صلى ال عليه وسلم.
فقال صحابة رسول ال :يا رسول ال إنّا نرى شبح رجل ُمقْبل .فنظر رسول ال صلى ال عليه
وسلم وقال " :كن أبا خيثمة " ،ووجده أبا خيثمة ،هذا معنى الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عةِ ا ْلعُسْ َرةِ مِن َبعْدِ مَا كَادَ
} َلقَدْ تَابَ ال عَلَىا النّ ِبيّ وَا ْل ُمهَاجِرِينَ وَالَنصَارِ الّذِينَ اتّ َبعُوهُ فِي سَا َ
يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مّ ْنهُمْ ُثمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ إِنّهُ ِبهِمْ َرءُوفٌ رّحِيمٌ { [التوبة]117 :
وفي واقعة الصحابة الذين راودتهم أنفسهم أن يرجعوا وتاب ال عليهم أيضا على آخرين اعترفوا
ل صَالِحا وَآخَرَ سَيّئا
عمَ ً
بذنوبهم ،فتاب الحق عليهم حين قال {:وَآخَرُونَ اعْتَ َرفُواْ بِذُنُو ِبهِمْ خَلَطُواْ َ
غفُورٌ رّحِيمٌ }[التوبة]102 :
عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَ ْي ِهمْ إِنّ اللّهَ َ
لمْرِ اللّهِ[} ...التوبة]106 :
ن َ
جوْ َ
وأرجـأ الحق أمر آخرين نزل فيهم قوله {:وَآخَرُونَ مُرْ َ
لمْرِ اللّهِ { أي :ما َبتّ ال سبحانه في أمرهم بشيء؛ فل بد من
جوْنَ َ
وما دام ال قد قال } :مُ ْر َ
النتظار إلى أن يأتي أمر ال ،ويجب أل نتعرض لهم حتى يأتي قول ال .وتاب أيضا على الثلثة
الذين خلفوا ،في قوله سبحانه } :وَعَلَى الثّلَثَةِ الّذِينَ خُّلفُواْ{ ...
()1339 /
سهُ ْم وَظَنّوا
ت َوضَا َقتْ عَلَ ْي ِهمْ أَ ْنفُ ُ
وَعَلَى الثّلَا َثةِ الّذِينَ خُّلفُوا حَتّى إِذَا ضَا َقتْ عَلَ ْي ِهمُ الْأَ ْرضُ ِبمَا رَحُ َب ْ
أَنْ لَا مَ ْلجَأَ مِنَ اللّهِ إِلّا إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُوا إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ ()118
قد يظن أحد أن (خُّلفُوا) هنا تدل على أن أحدا قال لهم :اقعدوا عن الخروج مع رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ولكن لم يقل لهم أحد هذا .إنما (خُّلفُوا) معناها :لم يظهر أمر الشارع فيهم كما
جوْنَ لَمْرِ اللّهِ }[التوبة ،]6 :وما دام
ظهر في غيرهم ،بل قال الحق فيهم من قبل {:وَآخَرُونَ مُ ْر َ
قد تأخر فيهم الحكم فل بد من النتظار.
سهُمْ
علَ ْيهِمْ أَنفُ ُ
ت َوضَا َقتْ َ
{ وَعَلَى الثّلَثَةِ الّذِينَ خُّلفُواْ حَتّىا إِذَا ضَا َقتْ عَلَ ْيهِ ُم الَ ْرضُ ِبمَا رَحُ َب ْ
وَظَنّواْ أَن لّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ ِإلّ إِلَيْهِ ثُمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ } [التوبة]118 :
ونعلم أن النسان إذا شغله همّ يُحدّث نفسه بأن يترك المكان الذي يجلس فيه ،ويسبب له الضيق،
لعل الضيق ينفك .ولكن هؤلء الثلثة قابلوا الضيق في كل مكان ذهبوا إليه حتى ضاقت عليهم
الرض بسعتها ،فلم يجد واحد منهم مكانا يذهب إليه ،وهذا معناه أن الكرب الذي يحيطهم قد عَمّ،
والنسان قد تضيق عليه الرض بما رحبت ولكن نفسه تسعه.
سهُمْ } أي :ضاقت عليهم الرض بما رحبت ،وضاقت
والحق يقول عنهمَ { :وضَا َقتْ عَلَ ْيهِمْ أَنفُ ُ
عليهم أنفسهم أيضا ،فقد تخلف الثلثة عن الغزوة ،ل لعذر إل مجرد الكسل والتواني ،وأمر
رسول ال صلى ال عليه وسلم المسلمين بمقاطعتهم ،فكان كعب بن مالك يخرج إلى السوق فل
يكلمه أحد ،ويذهب إلى أقربائه فل يكلمه أحد ،ويتسوّر عليهم الحيطان لعلهم ينظرون إليه ،فل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ينظرون إليه.
وبعد ذلك يتصاعد المر في عزل هؤلء ،حتى تعدى إلى نسائهم ،فأمرهم رسول ال صلى ال
عليه وسلم بأل يقربوا نساءهم هكذا بلغ العزل مبلغا شديدا ودقيقا ،فقد كان التحكم أولً في
المجتمع ،ثم في القارب ،ثم في خصوصيات السكن وهي المرأة ،حتى إن امرأة هلل بن أمية
ذهبت إليه وقالت :يا رسول ال إن هلل بن أمية ،رجل مريض ضعيف ،وأنا أستأذنك في أن
أصنع له ما يقيمه ،قال لها " :ولكن ل يقربنك " .قالت وال يا رسول ال ما به حركة إلى شيء،
ووال ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا .وذهب بعض المسلمين إلى كعب بن
مالك ليبلغوه أن رسول ال صرح لمرأة هلل أن تخدمه ،وقالوا له :اذهب إلى رسول ال
واستأذنه أن تخدمك امرأتك.
قال :إن هللً رجل شيخ ،فماذا أقول لرسول ال وأنا رجل شاب؟ وال ل أذهب له أبدا.
وظل الثلثة في حصار نفسي ومجتمعي لمدة خمسين يوما إلى أن جاء ال بالتوبة ،وفي هذا
تمحيص لهم ،فكعب بن مالك -على سبيل المثال -يقص عن حاله قبل الغزوة قائلً :لم أكن قط
أقوى ول أيسر منّي حين تخلفت عنه في تلك الغزوة ،وال ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى
جمعتهما في تلك الغزوة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صفات الجلل ،ول ينفع العبد وقاية من صفات الجلل إل صفات الجمال.
وكلنا يعلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد دعا ال بقوله " :أعوذ بك منك "
أي :أعوذ بصفات الجمال فيك من صفات جللك ،فلن يحميني من صفات جللك إل صفات
جمالك.
ولذلك حينما جاء في الحديث الشريف عن آخر ليلة من رمضان قوله صلى ال عليه وسلم.
" فإذا ما كان آخر ليلة من رمضان تجلّى الجبّار بالمغفرة" .
يظن بعض الناس أن هذه المسألة غير منطقية ،فكيف يتجلّى الجبّار بالمغفرة؟ ألم يكن من
المناسب أن يقال " :يتجلّى الغفّار "؟ ونقول :ل؛ فإن المغفرة تقتضي ذنبا ،ويصبح المقام لصفة
الجبار ،وهكذا تأخذ صفة الرحمة من صفة الجبار سُلْطتها ،وكأننا نقول :يا جبار أنت الحق
وحدك ،لكننا نتشفع بصفات جمالك عند صفات جللك .هذا هو معنى " :يتجلى الجبار بالمغفرة ".
وقد سمع الصمعي -وهو يطوف -مسلما عند باب الملتزم ،يقول :اللهم إني أستحي أن أطلب
منك المغفرة؛ لني عصيتك ،ولكني تطّل ْعتُ فلم أجد إلها سواك.
فقال له :يا هذا ،إن ال يغفر لك لحُسْن مسألتك.
ثم يقول الحق سبحانهُ } :ثمّ تَابَ عَلَ ْيهِمْ لِيَتُوبُواْ { والتوبة أولً -كما عرفنا -هي تشريعها ،ثم
تأتي التوبة بالقبول ،وقوله } :لِيَتُوبُواْ { أي :أنها تصبح توبة رجوع وعودة إلى ما كانوا عليه قبل
المعصية.
ويُنهي الحق الية بقوله } :إِنّ اللّهَ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ { فل توّاب ول رحيم سواه سبحانه وتعالى.
ويقول الحق بعد ذلك } :يَـأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ{ ...
()1340 /
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ّتقُوا اللّ َه َوكُونُوا مَعَ الصّا ِدقِينَ ()119
وساعة ينادي الحق عزّ وجلّ عباده المؤمنين ،فهو سبحانه إما أن يناديهم بحكم يتعلق باليمان،
وإما أن يناديهم باليمان ويطلب منهم اليمان مثل قوله الحق {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ
وَرَسُولِهِ[} ...النساء]136 :
والحق سبحانه يُبيّن للذين آمنوا به قبل أن يخاطبهم ،أنه من الممكن أن يؤمن النسان ثم يتذبذب
في إيمانه ،فيطلب منه الحق " دوام اليمان " .فإذا طلب ال من عباده ما كان موجودا فيهم ساعة
الخطاب ،فالمطلوب دوامه ،وإن طلب منهم حكما يتعلق باليمان ،فهو يوجّههم إلى الستماع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتطبيق ما يطلب منهم ،ومثال هذا قول الحق سبحانه { :ا ّتقُواْ اللّهَ } [التوبة]119 :
وكلمة { ا ّتقُواْ } تعني :اجعلوا بينكم وبين ال وقاية ،ويتساءل البعض :هل يطلب أحد من النسان
أن يجعل بينه وبين وقاية؟ إن العبد المؤمن يطلب أن يكون في معيّة ال .وهنا تأتي ضرورة فهم
صفات الجمال وصفات الجلل .إن قوله سبحانه { :ا ّتقُواْ اللّهَ } يعني :اجعلوا بينكم وبين صفات
الجلل وقاية ،مثلما قال سبحانه { :ا ّتقُواْ اللّهَ } [البقرة]24 :
لن النار من جنود صفات الجلل ،فاجعلوا بينكم وبين ال وقاية من صفات الجلل.
وهنا يقول الحق { :ا ّتقُواْ اللّ َه َوكُونُواْ مَعَ الصّا ِدقِينَ } ،وفسر بعض العلماء قولهَ { :وكُونُواْ مَعَ
الصّا ِدقِينَ } بمعنى كونوا من الصادقين ،أي :أن " مع " هنا بمعنى " من " والمقصود أن يعطي
هذا القول معنى إجماليّا عامّا .لكني أقول :هنام فرق بين { َوكُونُواْ مَعَ الصّا ِدقِينَ } و " كونوا من
الصادقين " ،فقوله الحقَ { :وكُونُواْ مَعَ الصّا ِدقِينَ } أي :التحموا بهم فتكونوا في معيّتهمـ وبعد
أن تلتحموا بهم يأتي الذين من بعدكم ويجدونكم مع الصادقين.
ويقتضي المر هنا أن نتذكر ما سبق أن قلناه عن النسبة الكلمية والنسبة الذهنية ،فأيّ قضية تمر
على ذهنك قبل أن تقولها هي نسبة ذهنية ،مثل قولك " :محمد زارني " ،وأنت قبل أن تقول هذه
العبارة جاء في ذهنك أن تنطقها ،وهذه " نسبة ذهنية " .ومن يسمعك ل يدري بها ،ولكونك المتكلم
فأنت وحدك الذي تدري بها ،فإذا ما نطقتها وسمعها منك المخاطب؛ علم أن نسبة ذهنية جاءت في
ذهنك فترجمتها قولً بالنسبة الكلمية .فحين قلت " :محمد زارني بالمس "؛ جاءت في ذهنك قل
أن تقولها ،فلما سمعها السامع عرف أن هناك نسبتين؛ نسبة سمعها عن نسبة عندك.
وحين يمحّص السامع هذا القول؛ يعلم أن هناك واحدا في الواقع اسمه محمد وعلم منك أنه قد
زارك ،وخبرته معك أنه قد زارك ،وخبرته معك دائما أنك صادق ،إذن :فالصدق هو أن تتطابق
النسبة الكلمية مع الواقع .أما إذا قلت :إن محمدا قد سافر إلى أمريكا ،وهو لم يسافر ،فهذا يعني
أن النسبة الكلمية لم تتطابق مع النسبة الواقعية وهذا هو الكذب.
إذن :فهناك " نسبة ذهنية " و " نسبة كلمية " و " نسبة واقعية " .فإن تطابقت النسبة الكلمية مع
النسبة الواقعية ،فذلك هو الصدق ،وإن لم تتطابق يكون الكذب.
وكل نسبة تقولها تحتمل أن تكون صادقة أو كاذبة ،والفيصل في هذا المر هو الواقع ،هل يتطابق
ما تقول أم ل؟ .أما إن قلت لك " :زُرْ فلنا " فهذه نسبة إنشاء؛ لن الواقع يأتي بعدها ،ل قبلها.
وهنا يقول الحق سبحانه } :ا ّتقُواْ اللّ َه َوكُونُواْ مَعَ الصّا ِدقِينَ { والصدق هو الخَلّة التي تجمع كل
اليمان ،ولنر التطبيق لذلك في قصة الرجل البدوي الذي ذهب إلى رسول ال صلى ال عليه
وسلم وقال :يا رسول ال ،إن فيّ خللً ثلثة ل أقدر على التخلّي عنها أبدا ،أما الولى فهي
النساء ،وأما الثانية فهي الخمر ،وأما الثالثة فهي الكذب ،وقد جئتك يا رسول ال ،لتختار لي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خصلة من الثلثة وتقوّيني عليها ،وأعاهد ربنا عليها .فاختار رسول ال للعرابي أن يتوب عن
الكذب ،وأن يتحلّى بالصدق ،فقال له :كن صادقا وما عليك .وحين أحب العرابي أن يشرب
كأس خمر؛ تساءل :وماذا إن سألني النبي صلى ال عليه وسلم أشربت الخمر؟ وامتنع عن الخمر
حتى ل يكذب على الرسول .وحين جاء ليختلس النظر إلى امرأة؛ قال لنفسه " :وماذا إن سألني
صلى ال عليه وسلم وكيف أُخزي نفسي بصفة ل تليق بمسلم؛ فامتنع عن النظر إلى المحارم،
وهكذا سيطر الصدق على الرجل فهذّب سلوكه .وحين سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم:
أيكون المؤمن جبانا؟ فقال :نعم .فقيل له :أيكون المؤمن بخيلً؟ فقال :نعم .فقيل له :أيكون المؤمن
كذابا؟ فقال :ل .لن مدخل اليمان هو التصديق بالقضية العقدية الجازمة ،وهكذا تجد أن الصدق
هو " رأس المر كله ".
وقوله الحقَ } :وكُونُواْ َمعَ الصّا ِدقِينَ { أي :ل تقولوا كلما ل يصادفه الواقع ،وكذلك إياكم أن
تقولوا كلما تناقضه أفعالكم ،لهذا يقول الحق سبحانه {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ
* كَبُرَ َمقْتا عِندَ اللّهِ أَن َتقُولُواْ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف]3-2 :
ق وَا ْل َمغْرِبِ
وفي سورة البقرة يقول الحق سبحانه {:لّيْسَ الْبِرّ أَن ُتوَلّواْ وُجُو َهكُمْ قِ َبلَ ا ْلمَشْ ِر ِ
وَلَـاكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِ ِر وَا ْلمَل ِئكَ ِة وَا ْلكِتَابِ وَالنّبِيّينَ وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَىا حُبّهِ َذوِي
ب وََأقَامَ الصّلو َة وَآتَى ال ّزكَاوةَ} ...
ن َوفِي ال ّرقَا ِ
ل وَالسّآ ِئلِي َ
ن وَابْنَ السّبِي ِ
ا ْلقُرْبَىا وَالْيَتَامَىا وَا ْلمَسَاكِي َ
[البقرة]177 :
ولننتبه إلى الملحظ الدقيقة في هذه الية ،فقد قال الحق هنا } :وَآتَى ا ْلمَالَ عَلَىا حُبّهِ َذوِي
ا ْلقُرْبَىا { [البقرة]177 :
ثم ذكر إقامة الصلة وإيتاء الزكاة ،فلماذا إذن ذكر } وَآتَى ا ْلمَالَ {؟ أقول :لقد ذكر الحق هنا المال
الذي ينفقه المؤمن دون أن يكون مفروضا عليه إخراجه مثل الزكاة ،فالزكاة واجبة ،أما إيتاء
المال تصدقا ،فهذا فوق الواجب.
ثم يقول سبحانه {:وَا ْلمُوفُونَ ِب َعهْدِ ِهمْ إِذَا عَاهَدُو ْا وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآ ِء والضّرّا ِء وَحِينَ الْبَ ْأسِ
ن صَ َدقُو ْا وَأُولَـا ِئكَ هُمُ ا ْلمُ ّتقُونَ }[البقرة]177 :
أُولَـا ِئكَ الّذِي َ
هذه هي صفات من صدقوا ،وهم هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قد تصدقوا واتقوا.
} يَـأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّ َه َوكُونُواْ مَعَ الصّا ِدقِينَ { [التوبة]119 :
وقد جاء الحق بصفة " الصدق " هنا؛ لن المجال هو الحديث عمن تخلّف عن الغزوات ،وكذب
في العذار التي افتعلها؛ لذلك يأتي التوجيه السماوي أن ادخلوا من باب الصدق.
ن لَ ْهلِ ا ْل َمدِينَ ِة َومَنْ{ ...
يقول الحق بعد ذلك } :مَا كَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1341 /
سهِمْ عَنْ
حوَْلهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَ َتخَّلفُوا عَنْ رَسُولِ اللّ ِه وَلَا يَرْغَبُوا بِأَ ْنفُ ِ
مَا كَانَ لِأَ ْهلِ ا ْلمَدِي َن ِة َومَنْ َ
خ َمصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَلَا َيطَئُونَ َموْطِئًا َيغِيظُ
صبٌ وَلَا َم ْ
ظمٌَأ وَلَا َن َ
َنفْسِهِ َذِلكَ بِأَ ّنهُمْ لَا ُيصِي ُبهُمْ َ
ع َملٌ صَالِحٌ إِنّ اللّهَ لَا ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ ()120
ع ُدوّ نَ ْيلًا إِلّا كُ ِتبَ َلهُمْ ِبهِ َ
ا ْل ُكفّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ َ
والحديث هنا فيه رجوع إلى الذين تخلفوا عن الغزوة ،وعرفنا من قبل أنك ساعة تقول " :ما كان
لك أن تفعل كذا " أي :أنك تنفي القدرة على الفعل ،أما إن قلت " :ما ينبغي " أي :عندك قدرة على
الفعل ،ول يجب أن تفعله.
حوَْلهُمْ مّنَ الَعْرَابِ أَن يَ َتخَّلفُواْ عَن رّسُولِ اللّهِ }
وهنا يقول الحق { :مَا كَانَ لَ ْهلِ ا ْل َمدِينَ ِة َومَنْ َ
وبعضهم قد تخلف عن رسول ال صلى ال عليه وسلم في الغزو.
س ِهمْ عَن ّنفْسِهِ } وهنا حديث عن نوعين من النفس :أنفس من
ثم يقول سبحانهَ { :ولَ يَرْغَبُواْ بِأَ ْنفُ ِ
قالوا بالتخلف ،ونفس رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وأنت إذا قلت " :رغبت " ،معناها :أنك
ملتَ ميلً قلبيا ،فإن قلت " :رغبت في " كان الميل القلبي إلى ممارسة الفعل وفيها التغلغل ،أما إن
قلت " :رغبت عن " وفيها التجاوز ،هذا يعني أن الميل القلبي يهدف إلى البتعاد عن الفعل .إذن:
فحرف الجر هو الذي يحدّد لون الميل القلبي.
سهِمْ عَن ّنفْسِهِ } أي :أنهم زهدوا في أمر صدر عن رسول ال
وقوله الحقَ { :ولَ يَرْغَبُواْ بِأَ ْنفُ ِ
صلى ال عليه وسلم وفضّلوا أمر نفوسهم على أمر رسول ال ،فيبين الحق لهم أنهم ما كان لهم
أن يفعلوا ذلك؛ لنكم ما دمتم آمنتم بال ،فإيمانكم ل يكمل حتى يكون رسول ال صلى ال عليه
وسلم أحب إليكم من نفوسكم.
ولذلك نجد سيدنا عمر رضي ال عنه لما سمع أن النبي صلى ال عليه وسلم قال " :ل يؤمن
أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " ،فقال :يا رسول ال ،أنا أحبك عن أهلي وعن مالي إنما
عن نفسي ،فل" .
وهكذا كان صدق عمر رضي ال عنه ،فكرر رسول ال صلى ال عليه وسلم القول " :ل يؤمن
أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " فعلم عمر أن رسول ال صلى ال عليه وسلم حازم في هذه
القضية اليمانية ،وعلم أن الحب المطلوب ليس حب العاطفة ،إنما هو حب العقل ،وهناك فرق
بين حب العاطفة وحب العقل؛ فحب العاطفة ل تكليف فيه ،لكن حب العقل يأتي بالتكليف.
وعلى سبيل المثال :فأنت تحب ابنك بعاطفتك ،حتى وإن لم يكن ذكيّا ،لكنك تحب بعقلك ابن
عدوك إن كان ذكيّا وأمينا وناجحا .وضربنا المثل من قبل وقلنا :إن النسان قد يحب الدواء المرّ؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لن فيه الشفاء ،والنسان ل يحب هذا الدواء بعواطفه ،ول يتلذذ به وهو يشربه ،بل يحبه بعقله؛
لن هذا الدواء قد يكون السبب في العافية ،وإن لم يجده في الصيدليات يغضب ويشكو ،ويسرّ بمن
يأتي له به من البلد الخرى.
إذن :فالذين تخلفوا عن رسول ال من أهل المدينة أو ممن حولهم ما كان لهم أن يتخلفوا؛ لن هذا
يناقض إيمانهم في أن يكون رسول ال صلى ال عليه وسلم أحب إليهم من أنفسهم ،وكان من
الواجب أن يرغبوا في رسول ال صلى ال عليه وسلم عن أنفسهم ،أما أن يكون المر بالعكس،
فل .لن اتباع رسول ال صلى ال عليه وسلم إنما يأتي لهم بالخير.
أما اتباع حبهم لنفسهم فهو حب ضيق البصيرة ،سيأتي لهم بالشرور ،وإن جاء لهم بخير فخيره
موقوت ،وبحسب إمكاناتهم ،ولكن حبهم لرسول ال صلى ال عليه وسلم عن أنفسهم يأتي لهم
بالخير الثابت الدائم الذي يتناسب مع قدرة ال سبحانه.
ظمَأٌ { و } ذاِلكَ { إشارة إلى حيثيات الترغيب التي
ثم يقول سبحانه } :ذاِلكَ بِأَ ّنهُ ْم لَ ُيصِي ُبهُمْ َ
ظمَأٌ { ،ونعلم أن الظمأ قد أصابهم
يأخذون بها الجزاء الطيب من الحق سبحانه بأنهم } لَ ُيصِي ُبهُمْ َ
في جيش العسرة لدرجة أن المقاتل كان يذبح البعير ،ويصفي الماء الذي في معدته لِي ُبلّ ريقه،
وريق زملئه.
صبٌ { وال ّنصَب :هو التعب ،وكانت الغزوة في جو حار مرهق.
} َولَ َن َ
خ َمصَةٌ { أي :المجاعة ،وقد كانوا يأكلون التمر الذي أصابه الدود ،والشعير الذي انتشر
} َولَ مَ ْ
فيه السوس .وإن كاناو قد عانوا من كل ذلك فهو في سبيل ال القادر على أن يمُنّ عليهم بكل خير
جزاء لما يقدمونه في سبيل نصرته.
} َولَ يَطَأُونَ َموْطِئا َيغِيظُ ا ْل ُكفّارَ { نعلم أن الكفار كان لهم رقعة من الرض يتمركزون فيها،
فحين يغير عليهم المؤمنون ويزحزحونهم عن هذا المكان ،وينزلون إلى الوديان والبساتين التي
يملكها الكفار ،فهذا أمر يغيظ أهل الكفر ،إذن :فهم حين يطأون موطئا ،فهذا يغيظ الكفار.
} َولَ يَنَالُونَ مِنْ عَ ُدوّ نّيْلً { أي :يأخذون من عدوّ منالً ،والمعنى :أن يقهروا العدو فيتراجع
ويشعر بالخسران ،حينئذ يأخذون الجزاء الخيّر من ال ،وكل ما حدث أن الظمأ والنصب
والمخمصة ووطء موطء يغيظ الكفار والنيل من عدوهم نيلً .كل واحدة من هذه الحداث لها
ع َملٌ صَالِحٌ {.
جزاء يحدده الحقِ } :إلّ كُ ِتبَ َلهُمْ بِهِ َ
إذن :فالذين رغبوا عن رسول ال بأنفسهم ولم بخرجوا للغزوة قد خسروا كثيرا؛ خسروا ما كتبه
الحق سبحانه قابله مَنْ خرجوا مع الرسول صلى ال عليه وسلم.
حسِنِينَ { فهؤلء الذين أحسنوا ل يضيع ال
ويُنهي الحق سبحانه الية } :إِنّ اللّ َه لَ ُيضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْ
أجرهم أبدا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يأتي بأحداث أخرى غير الظمأ والنصب والمخمصة ووطء الموطئ الذي يغيظ الكفار ،والنّيْل
صغِي َرةً َولَ{ ...
من عدو ال نيلً ،فيقول سبحانهَ } :ولَ يُن ِفقُونَ َن َفقَةً َ
()1342 /
كل شيء -إذن -محسوب ،فحتى هؤلء الذين أنفقوا ،فال سبحانه يعلم ماذا أنفقوا وسيجازيهم
عليه ،وهؤلء الذين ساروا الطريق الطويل وقطعوا الوديان ليلحقوا برسول ال صلى ال عليه
وسلم في غزواته ،فال سبحانه يكتب لهم الخير .وبعد ذلك تدفق المسلمون على تنفيذ أوامر رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،حتى كادت المدينة تفرغ من المسلمين؛ ليلحقوا بالسرايا التي يبعثها
رسول ال صلى ال عليه وسلم لنشر الدعوة.
وجاء قول الحقَ { :ومَا كَانَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ لِيَنفِرُواْ} ...
()1343 /
ن وَلِيُنْذِرُوا
َومَا كَانَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ لِيَ ْنفِرُوا كَافّةً فََلوْلَا َنفَرَ مِنْ ُكلّ فِ ْرقَةٍ مِ ْنهُمْ طَا ِئفَةٌ لِيَ َتفَ ّقهُوا فِي الدّي ِ
جعُوا إِلَ ْيهِمْ َلعَّلهُمْ يَحْذَرُونَ ()122
َق ْومَهُمْ إِذَا َر َ
هذه الية جاءت عقب آيات المتخلفين عن الغزو مع رسول ال ،وجاءت بعد أن بيّن ال سبحانه
ن لَ ْهلِ ا ْلمَدِي َن ِة َومَنْ
مزايا المجاهدين وما يثيبهم ال به جزاء هذا الجهاد في قوله سبحانه {:مَا كَا َ
سهِمْ عَن ّنفْسِهِ ذاِلكَ بِأَ ّنهُ ْم لَ
ن الَعْرَابِ أَن يَ َتخَّلفُواْ عَن رّسُولِ اللّ ِه َولَ يَرْغَبُواْ بِأَ ْنفُ ِ
حوَْلهُمْ مّ َ
َ
خ َمصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َولَ َيطَأُونَ َموْطِئا َيغِيظُ ا ْل ُكفّا َر َولَ يَنَالُونَ مِنْ
صبٌ َولَ مَ ْ
ظمٌَأ َولَ َن َ
ُيصِي ُبهُمْ َ
صغِي َرةً
حسِنِينَ * َولَ يُن ِفقُونَ َن َفقَ ًة َ
ع َملٌ صَالِحٌ إِنّ اللّ َه لَ ُيضِيعُ َأجْرَ ا ْلمُ ْ
عَ ُدوّ نّيْلً ِإلّ كُ ِتبَ َلهُمْ بِهِ َ
ن وَادِيا ِإلّ كُ ِتبَ َلهُمْ لِيَجْزِ َيهُمُ اللّهُ َأحْسَنَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[التوبة-120 :
طعُو َ
وَلَ كَبِي َر ًة َولَ َيقْ َ
]121
كانت تلك الحيثيات التي ترغّب الناس في الجهاد ترغيبا يخرجهم عما ألفوا من العيش في أوطانهم
وبين أهليهم وأموالهم؛ لن الثمن الذي يتلقونه مقابل ذلك ثمن كبير ،ثم جاءت هذه الية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحينما استقبل العلماء هذه الية قالوا :إنها تتمة ليات الجهاد ،وما دام ال قد رغّب في الجهاد هذا
الترغيب ،فإن الناس أقسموا بعده أل يتركوا غزوة من الغزوات ول سرية من السرايا إل ذهبوا
إليها ،فنشأ عن ذلك أن المدينة كادت تخلو على رسول ال صلى ال عليه وسلم وحده ،ورسول
ال صلى ال عليه وسلم يسقبل وحي ال.
واستقبال وحي ال يقتضي وجود سامعين ليبلغوه ،فلما انصرف الناس إلى مسألة الجهاد أراد ال
أن يعدل هذه الموجة من الرغبة في الجهاد ،فبيّن أن السلم مُنزّل من ال على رسوله ليبلغه
للناس؛ لن دين ال يحتاج إلى أمرين :أمر يحمله إلى الناس ،وأمر يثبت صدقه في الناس ،وحين
يرى الناس إنسانا يضحى بنفسه ويدخل معركة ،وآخر يضحي بماله ،حينئذ يعلم الناس أن من
يفعل ذلك ل بد أنه متيقن تمام التيقن من العقيدة التي يبذل في سبيلها الغالي والرخيص.
لكن يبقى أمر آخر ،هو ضرورة وجود من يحملون العلم بالسلم ،فإذا كان المناضلون
المضحّون بالنفس ،والمنفقون المضحّون بالمال هم دليل صدق اليمان ،فهذا ل يعني الستغناء
عن هؤلء الذين عليهم أن يسمعوا من رسول ال صلى ال عليه وسلم ما يوحي به ال.
إذن :فهناك منهج من ال ،وهناك استقبال لهذا المنهج من رسول ال صلى ال عليه وسلم أولً،
ومن السامعين لرسول ال ثانيا؛ ليسيحوا به في البلد ،سياحة إعلم بدين ال لنشر السلم ،وهكذا
كانت القامة مع رسول ال هي استقبال لذلك العلم ،وإل فماذا ُيعْلِمون؟
إذن :فل بد أن يحافظ الملسمون على أمرين :أمر بقاء الستقبال من السماء ،وأمر العلم بما
استقبلوه إلى البلد .فإن كنتم قد انصرفتم إلى الجهاد في سبيل ال فقد حقّقتم أمرا واحدا ،ولكنكم لم
تحققوا المر الخر وهو أن تظلوا؛ لتستقبلوا من رسول ال.
فأراد ال سبحانه أن يقسم المرين بين مجاهدين يجاهدون للعلم ،وباقين مع رسول ال ليستقبلوا
إرسال السماء لهذه الرض ،فقالَ } :ومَا كَانَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً {.
وساعة تسمع " كَانَ " منفيةً فاعلم أنها جحود لهذه المسألة ،أي :ما كان يصح أن ينفر المسلمون
كافة ،أي :جميعا ،بدون أن يبقى منهم أحد.
و } كَآفّةً { مأخوذة من كف الشيء ،وأنت تسمع خائط الثياب يقول " :أريد أن أكفّف الثوب "
معنى هذا أن الخائط حين يقص القماش ،فهناك بعض من الخيوط تخرج منه؛ فيكففها حتى ل
يتفكك نسيج الثوب ،إذن :فمعنى كلمة } كَآفّةً { :جميعا.
ولنا أن نتساءل :لماذا ل ينفر المسلمون إلى الجهاد جميعا ،أليس الجهاد إعلما بمنهج ال؟
نقول :نعم هو إعلم وسياحة بمنهج ال في الرض ،ولكن الذي يسيح للعلم بمنهج ال ل بد أن
تكون عنده حصيلة ُيعْلم بها ،وهذه الحصيلة كانت تأتي في زمن رسول ال صلى ال عليه وسلم
من منهج السماء حين ينزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فل بد من أناس يسمعون وحتى السماء ثم يعلمون به ويرسلونه لهل الرض جميعا ،ولو
انصرف كل هؤلء المؤمنين إلى الجهاد لما تحقق أمر حمل الدعوة للسلم؛ لذلك قال الحق} :
َومَا كَانَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً { وفي هذا نفي أمر فيه انبغاء أي :لهم قدرة عليه ،ويستطيعون
تنفيذ ما يطلبه رسول ال صلى ال عليه وسلم منهم.
ونحن نعلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم نشأ في أمة عربية لها فصاحة وبلغة ،أمة بيان
وأداء قويّ يسحر ،وكان في هذه المة كثيرون يتمتعون بموهبة الشعر والقول ،لكن رسول ال
صلى ال عليه وسلم لم يشتهر بهذا ،وحاول بعضهم أن يقلل من فصاحة رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فقالوا :إنها فصاحة دون من خطب ،ودون من قال ،ودون من شعر ،فجاء الرد عليهم من
شعْرَ َومَا يَن َبغِي لَهُ[} ...يس]69 :
الحقَ {:ومَا عَّلمْنَاهُ ال ّ
أي :أنه صلى ال عليه وسلم كان ل يستطيع أن يتفوق في ذلك ،لكن الحق سبحانه لم يُعلّمه
الشعر؛ لنه ل ينبغي له أن يتعلّمه ،لماذا؟ لن العرب يعلمون أن أعذب الشعر أكذبه ،وما دام
أعذبه أكذبه ،فالحق سبحانه ل يريد أن يعلم الناس أن محمدا صلى ال عليه وسلم مُرْتاض على
صناعة البيان أساليب الدب ،وبعد ذلك يُفاجئ الدنيا بالبيان العلى في القرآن ،ويعلن صلى ال
عليه وسلم أن هذا البيان ليس من عنده.
وقد عاش الرسول صلى ال عليه وسلم بينهم مدة طويلة ،ولم يسمعوا منه شعرا ،فكل ما جاء به
بلغا عن ال ل يُنسب لمحمد ،ولكنه منسوب إلى رب محمد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكيف يصل الوحي من الرسول صلى ال عليه وسلم إلى المؤمنين؟ ولو أنهم جلسوا جميعا في
المدينة فمن الذي يسيح في الرض معلّما الناس؟ أما إذا بقي الرسول صلى ال عليه وسلم
والمؤمنون معه ،في فترة ل قتال فيها ،فهذا أمر مختلف؛ لنها ستكون فترة استقبال فقط.
وكذلك إن خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى القتال فعلى المؤمنين القادرين على القتال أن
يصحبوه؛ لن الرسول القادر على استقبال الوحي من ال موجود معهم ،وكذلك العلم بالرسالة
موجود.
إذن :فالمشكلة كانت في حالة عدم وجود رسول ال صلى ال عليه وسلم مع الخارجين للجهاد،
فإذا ما خرج المقاتلون للجهاد ،وظل رسول ال صلى ال عليه وسلم في المدينة ،فعليهم أن
ينقسموا قسمين :قسما يبقى مع رسول ال ليتعلم منهج ال ،وقسما يخرج إلى القتال.
حين كان الرسول يخرج إلى اقلتال فالمهمة تسمى غزوة ،وإذا لم يخرج رسول ال صلى ال عليه
سمّيت العملية بـ " السّرِية ".
وسلم ،وأرسل جماعة للقتال ُ
سمّيت غزوة ولم يخرج فيها رسول ال ،وكان
ولم يخرج عن التسمية بالسرية إل عملية واحدة ُ
المفروض أن تُسمى سرية ولكنها سميت غزوة.
وقد خرجت المهمة عن اصطلح السرية إلى اصطلح الغزوة ،رغم أن رسول ال لم يحضرها؛
لن المعركة حدث فيها أشياء كالتي تحدث في الغزوات ،فقد كانت معركة حاسمة وقُتل فيها عدد
من المسلمين ،وحمل الراية مقاتل واستشهد فحملها غيره وقتل ،فحملها ثالث ،وكانت المعركة
حامية الوطيس فقالوا :ل يمكن أن نسمي تلك المعركة بـ " السّرية " بل هي غزوة؛ لن فيها عنفا
شديدا.
لم يلحظوا شيئا واحدا وهو أن التسمية بالغزوة انطبقت تمام النطباق على مؤتة؛ لن رسول ال
صلى ال عليه وسلم كان في المدينة والمسلمون خارجون للغزو وأرسل إلى القوات :إن مات
فلن في القتال فيليه فلن ،وإن مات فلن ففلن يخلفه ،أي :أنه صلى ال عليه وسلم قد سلسل
أمور الغزوة قبل أن تبدأ.
وهي الحملة القتالية الوحيدة التي خرجت بهذه التعليمات ،من بين مثيلتها ،من الحملت المحددة
التي لم يخرج فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم مع المقاتلين ،وكأنه صلى ال عليه وسلم كان
يعلم مُقدّما بمن سيموت من هؤلء الخارجين إلى القتال.
ثم وصلت الحملة إلى موقعها فسمعوا رسول ال صلى ال عليه وسلم يتكلم؛ قال :أخذ الراية فلن
فقُتل ،ثم أخذها بعده فلن فقُتِل .ثم قال :وأخذها بعده فلن ،وكان صلى ال عليه وسلم يقصّ
المعركة وهو في المدينة فقالوا :لم يقل ذلك إل لنه شهد.
وحينما عاد المقاتلون عرف الصحابة منهم أن المر قد دار كما رواه رسول ال صلى ال عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسلم وهو جالس في المدينة ،وقد حدث مطابقا غاية التطابق ،فقالوا :شهدها رسول ال؛ وما دام
قد شهدها رسول ال صلى ال عليه وسلم فهي غزوة.
ونعود إلى الية التي يقول فيها الحق:
} فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ لّيَ َت َف ّقهُواْ فِي الدّينِ[ { ...التوبة]122 :
وساعة تسمع كلمة " لول " فلك أن تعرف أن في اللغة ألفاظا قريبة من بعضها ،فـ " لو " و "
لول " و " لوما " و " هلّ " ،هي -إذن -ألفاظ واردة في اللغة ،وإذا سمعت كلمة " لو " فهذا
يعني أن هناك حكما بامتناع شيئين .شيء امتنع لمتناع شيء ،مثل قولك " :لو كان عندك زيد
لجئتك " وهنا يمتنع مجيئك لمتناع مجيء زيد ،فكلمة " لو " حرف امتناع لمتناع ،وتقول :لو
جئتني في بيتي لكرمتك .إذن :فأنا لم أكرمك لنك لم تأت.
وتقول " :لول زيد عندك لجئتك " أي :أنه قد امتنع مجيئي لك لوجود زيد .إذن :فـ " لول "
حرف امتناع لوجود .ونلحظ أن " لول " هنا جاء بعدها اسم هو " زيد " ،فماذا إن جاء بعدها
ض على الفعل ،مثل قوله الحقّ {:لوْل
فعل ،مثل قولك " :لول فعلت كذا "؟ هنا يكون في القول ح ّ
سهِمْ خَيْرا[} ...النور]12 :
ن وَا ْل ُم ْؤمِنَاتُ بِأَ ْنفُ ِ
س ِمعْ ُتمُوهُ ظَنّ ا ْل ُم ْؤمِنُو َ
إِذْ َ
شهَدَآءَ[} ...النور]13 :
ومثل قولهّ {:لوْلَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْ َب َعةِ ُ
ومثلها أيضا " لوما " مثل قوله الحق:
{ ّلوْ مَا تَأْتِينَا بِا ْلمَل ِئكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ }[الحجر]7 :
وأيضا قولكَ " :هلّ " .فهي أيضا تحضيض مثل قولنا " :هل ذاكرت دروسك "؟ وأنت بذلك
تستفهم بـ (هل) ،وجئت بالمد لتصبح (هلّ)؛ لتحثه على المذاكرة .أو قولك " :هل أكرمت فلنا؟
حثّ على أن تكرم فلنا.
" وفي هذا َ
والسلوب هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يجمع المؤمنين ويقول لهمَ } :ومَا كَانَ
ا ْل ُم ْؤمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً { ثم يأتي الحث على أن ينقسموا إلى قسمين في قوله } :فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ
فِ ْرقَةٍ { ،والقسمان يذهب أحدهما للعلم وللجهاد .والقسم الثاني يظل مع رسول ال صلى ال
عليه وسلم وهو يستقبل منهج السماء.
وقوله الحق } :فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ { فيه كلمة } َنفَرَ { وهي من النفور .لكنها استعملت دائما
في مسألة الخروج للحرب ،مثل قول الحق {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَا َلكُمْ ِإذَا قِيلَ َلكُ ُم انفِرُواْ فِي سَبِيلِ
اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الَ ْرضِ أَ َرضِيتُمْ بِا ْلحَيَاوةِ الدّنْيَا مِنَ الخِ َرةِ َفمَا مَتَاعُ ا ْلحَيَاوةِ الدّنْيَا فِي الخِ َرةِ ِإلّ
قَلِيلٌ * ِإلّ تَنفِرُواْ[} ...التوبة]39-38 :
ولماذا يجيء الحق بالنفرة في الجهاد؟ نقول :لن الذي يعوق النسان عن الجهاد حبه لدَعَته،
ولراحته ،ولسعادته بمكانه ،وبأهله ،وبماله ،فإذا ما خرج للقتال شَق ذلك على نفسه ،ولذلك يقول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّلكُمْ[} ...البقرة]216 :
الحق {:كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ
وفي ذكر أمر الكُرْه إنصاف لهم ،فصحيح أن القتال أمر صعب ويكرهه النسان ،لكن الحق قد
كتبه ،والمسلم إذا استحضر الجزاء عليه فهو يحتقر ما يتركه؛ لنه قليل بالنسبة لعطاء ال؛ لذلك
ينفر المؤمن الحق من الذي يملكه ،ويذهب للثواب العلى ،وهذا هو معنى التحديد في أنهم سمّوا
الجهاد نفرة ،فحين يقارن المؤمن بين حصيلة ما يأخذه من الجهاد وما يمسكه عن الجهاد لتساءل:
ما الذي يجعلني أتمسك بالقل ما دام هناك عطاء أكثر؟
فلما جاءت } فََل ْولَ َنفَرَ { فهموا أن هذه الية من تتمة الكلم عن الجهاد ،ولتبقى طائفة من
المؤمنين؛ لتسمع من رسول ال الوحي ،وقد يتساءل المسلم حين يقرأ الية ويجد قوله الحق} :
فََلوْلَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْر َقةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ لّيَ َتفَ ّقهُواْ فِي الدّينِ { ،هنا يقول المسلم لنفسه :وهل تنفر الطائفة
التي تتفقه في الدين ،إنها الفرقة الباقية والمستقرة مع رسول ال في المدينة؟
ونجيب :إن قول الحقَ } :ومَا كَانَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ
{ نجد فيه كلمة } فِ ْرقَةٍ { وهي الجماعة ،والجماعة إنما تنقسم إلى طوائف .مثلما نسمي في
الجيوش " الفرقة الولى " و " الفرقة الثانية " و " الفرقة الثالثة " ،ثم تنقسم الفرقة الواحدة إلى" :
جماعة الستطلع " و " جماعة التموين " و " الشئون المعنوية " ،ونجد كلمة } طَآ ِئفَةٌ { وهي
تعني " بعض الكثرة ".
وما دام الحق قد قال } :فََلوْلَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ { فهذا يعني أنه سبحانه قسمهم إلى
طائفتين ،إحداهما تنفر ،والخرى تبقى لتتفقه في الدين .إذن :فكأن أسلوب القرآن أسلوب أدائي
كل ينفر لمهمته.
} فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ { يبين أن طائفة منهم تكون قتالية والخرى إعلمية
جعُواْ إِلَ ْيهِمْ { فمن يجلس مع رسول ال صلى ال
ن وَلِيُنذِرُواْ َق ْو َمهُمْ إِذَا رَ َ
مهمتها } لّيَ َتفَ ّقهُواْ فِي الدّي ِ
عليه وسلم ليستمع إليه ،فهو يجهز للمقاتل حيثيات ما يجاهد على مقتضاه ،وحين يرجع المقاتلون
يُبلّغهم من جلس مع الرسول ما نزل عليه صلى ال عليه وسلم من وحي ،ويتناوب المسلمون
الجلوس مع الرسول في المدينة ،والقتال ،وكل طائفة تؤدي مهمتها.
وهناك من العلماء من رأي رأيا آخر ،وأخذ المسألة كلها مكتملة على بعضها ،وقال :إن من بقي
مع رسول ال له لون آخر من المجاهدة ،ولنه يأخذ من الرسول صلى ال عليه وسلم علْما
جديدا ،يتبادله مع المقاتلين في ساحة القتال بعد أن يعودوا ،فالمقاتلون في ساحة الجهاد يعودون
بما يؤكد نصرة ال للقلة على الكثرة ،وإمداد ال سبحانه للمؤمنين بالملئكة ،وتهدم العدو،
والمعجزات التي رأوها من رسول ال صلى ال عليه وسلم كنبوع الماء من بين أصابعه في حال
قلة المياه عند العطش.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم إنهم يسمعون من المجاهدين الجالسين لتلقي العلم أخبار الوحي والفقه ،وهكذا يتكافأ المؤمنون
في المهامن وكأنهم البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا.
وما تقدم فهو فهم للية إذا كانت خاصة بالجهاد ،فماذا إذا كان للية موضوع آخر غير الجهاد؟
نقول :إن الجهاد إعلم بمنهج ال في الرض ،والعلم بمنهج ال في الرض يقتضي المنهج
المعلوم من السماء الذي يوضح مصير المجاهدين ،ومصير المتخلفين .وهو هنا سبحانه يوضح
أمر استقبال ما نجاهد من أجله.
} فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ { أي :يذهب بعض المسلمين إلى البلد التي حول المدينة؛ ليقولوا للناس
حقيقة السلم ،وأيضا أن يأتي آخرون من البلد الخرى لِ َيعَْلمُوا أمر الدين ،ويعلموه لهاليهم.
ويكون قول الحق } :فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ { مقصود به هؤلء الذين يأتون من
الماكن البعيدة عن المدينة؛ليجلسوا إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم ليسمعوا ،ويتفقهوا في
الدين؛ ليرجعوا إلى مجتمعاتهم ،ويعلموهم أمور اليمان.
إذن :فالية إما أن تكون من تتمة آيات الجهاد ،وإما أن تكون أمرا مستقلً للذين يبعد بهم المكان
عن منبع المنهج ،وهو رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فهو صلى ال عليه وسلم يعلّم من يأتون
إليه من أي مجتمع؛ ليرجعوا بعد ذلك لقومهم ،ويبلغوهم مطلوبات المنهج ،وهذه مسألة بعيدة عن
القتال.
إذن :تكون النفرة للتفقه في الدين على أي معنى ،ليس هناك فرق بين الطائفة الباقية التي تتفقه؛
لتعلّم الطائفة التي تجاهد ،أو الطائفة التي تجاهد تتفقه بالمعجزات وبالحداث التي حدثت أثناء
قتالهم وتعلمها للطائفة التي لم تخرج للقتال.
أو أن المعنى هو المر الثاني الذي ل قتال فيه ،بل يتناول أمر استقبال الرسول صلى ال عليه
وسلم لطائفة من كل بلد ليسمعوا منه صلى ال عليه وسلم ،وقد سماها الحق " نفرة "؛ لنها جهاد
في البحث في المنهج وتعلمه ،وهي نفرة النفرة؛ لن النفرة للجهاد بالقتال تتطلب فهما لحيثيات
الدفاع عن هذا المنهج المنزّل من ال.
وقوله الحق } :فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ { علمنا منه أن الفرقة هي الجماعة ،والجماعة إما أن تنقسم
إلى أفراد وإما إلى طوائف ،والفرقة أقلها ثلثة؛ لنها جمع .وحينما يذهب اثنان من هذه الفرقة
للتعلم من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ويعودان للبلغ عنه صلى ال عليه وسلم نكون أمام
خبر من شاهدين اثنين بأن النبي قال كذا وأبلغ بكذا ،وكذلك قد يصح أن يكون المبلّغ عن الرسول
شاهدا واحدا ،واختلف العلماء المسلمون فيما بينهم ،هل يأخذون الخبر عن واحد فقط مبلّغ عن
رسول ال صلى ال عليه وسلم أم ل بد من الخذ بالخبر من شاهدين اثنين؟
وقد جاءت الية صريحة في أنه } فََل ْولَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ { والفرقة أقلها ثلثة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والطائفة إما أن تكون اثنين وإما أن تكون شخصا واحدا يرجع إلى قومه؛ ليفقههم في الدين،
ويؤدي البلغ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وتحفّظ البعض على ذلك بأن قالوا :إن الذي نفر ليس فردا من الفرقة ،بل طائفة من الفرقة،
ومفردات الفرقة طوائف ول واحد ،وكلمة طائفة مقصود بها الجماعة.
والنفرة لها علة محددة يذكرها الحق } :لّيَ َتفَ ّقهُواْ فِي الدّينِ { فالتفقّه إذن هو سبب النفرة ،مثلما
نبعث بعثة في أي بلد متقدم؛ لنأخذ بعلوم الحضارة ،فإن خرج واحد عن حدود البعثة؛ ليلعب،
ويلهو ،فهو لم يحقق النفرة .ل بد إذن من ان يستوعب كل واحد في البعثة أنه قد جاء للتفقه.
والفقه في اللغة :هو الفهم ،ويقال عن أي أمر تفهمه :فقهتُ المر الفلني .فإن فهمت في الهندسة
فهذا فقه ،وإن فهمت في العلوم فهذا فقه ،ولكن المعنى الذي غلب هو الفقه لحكام ال؛ لن هذا
المر هو أهم أمور الحياة ،فالفقيه في الدين هو من يبيّن للناس حدود المنهج بـ " افعل " و " ل
تفعل ".
إذن :الفقه مطلقا هو الفهم ،لكنه أصبح مصطلحا يعني فهم أحكام ال؛ لنه هو الذي يحدد الصواب
والخطأ .ول يقال " :الفقيه " إل لمن َفقُه .وهناك فرق بين فَقه و َفقُهَ .فقُهَ في دين ال ،أي :أصبح
الفقه عنده ملكه ،وساعة تسأله في أي موضوع ل يتردد ،بل يجيب؛ لن الفقه صار ملكه عنده،
والملكة :الصفة التي ترسخ في النفس من مزاولة أي عمل؛ فيسهل أداء هذا العمل.
وكذلك الفقه .وهكذا نعرف أن معنى َفقِهَ " :فهم شيئا " .أما َفقُهَ فمعناها :صار الفقه عند مََلكَة.
وقوله الحق } :لّيَ َت َف ّقهُواْ { أي :ليعلموا أحكام ال ،ويصير هذا العلم :من بعد ذلك مََلكَة عندهم.
ولكنْ ماذا إن نفروا لشيء آخر مثلما ينفر واحد من البدو ليسأل جماعته :إلى أين تذهبون؟
فيجيبون :نذهب إلى رسول ال لنسمع منه ،فيذهب معهم .لكنه ل يسمع بل يذهب هنا أو هناك،
ول يجلس لتفقّه العلم ،على الرغم من أن علّة نفوره مع غيره هي التفقّه في الدين؛ وليعلم حقائق
هذا الدين؛ لينذر به قومه حين يعود إليهم ،فالفقيه ل يطلب جاها ،أو رئاسة ،أو وظيفة ،بل هو
حذَرُونَ { أي :يتجنّبون ما
يبين للناس متطلبات الحركة على هذا المنهج الحق ،ولينذرهم } َلعَّلهُمْ يَ ْ
يضرّهم.
وحين ندقق في هذا المر نجده عدة مراحل } :فََلوْلَ َنفَرَ مِن ُكلّ فِ ْرقَةٍ مّ ْنهُمْ طَآ ِئفَةٌ { هذه هي
المرحلة الولى ،ثم } لّيَ َت َفقّهُواْ فِي الدّينِ { هذه هي المرحلة الثانية وهي التفقه ،أما الثالثة }
جعُواْ إِلَ ْيهِمْ { ،ومن تفقه لغير هذا؛ ليشار إليه بالبنان مثل؛ نقول له :أنت من
وَلِيُنذِرُواْ َق ْو َمهُمْ إِذَا َر َ
سعْ ُيهُمْ فِي ا ْلحَيَاوةِ الدّنْيَا وَ ُهمْ
ضلّ َ
ن َ
عمَالً * الّذِي َ
خسَرِينَ أَ ْ
الذين قال ال فيهمُ {:قلْ َهلْ نُنَبّ ُئكُم بِالَ ْ
حسِنُونَ صُنْعا }[الكهف]104-103 :
حسَبُونَ أَ ّن ُهمْ يُ ْ
يَ ْ
إذن :فالتفقه يكون للدعوة تبشيرا وإنذارا؛ حتى يتجنب القوم ما يضرهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول سبحانه بعد ذلك } :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ{ ...
()1344 /
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا قَاتِلُوا الّذِينَ يَلُو َنكُمْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ وَلْ َيجِدُوا فِيكُمْ غِ ْلظَ ًة وَاعَْلمُوا أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ (
)123
ينقلنا الحق هنا إلى الحديث عن الجهاد مرة أخرى .ولنا أن نتساءل :لماذا -إذن -جاء الحديث
عن النفرة والفقه كفاصل بين حديث متصل عن الجهاد؟ أجيب :شاء سبحانه هنا أن يعلمنا أن كل
من ينفر؛ لتعلّم الفقه ،وليعلّم غيره؛ هذا المسلم في حاجة إلى مرحلة التعلّم ،ومعرفة السباب التي
يقاتل من أجلها المسلمون وحيثيات الجهاد في سبيل ال.
وقد قسّم الحق سبحانه الناس في آيات الجهاد إلى قسمين :فرقة تنفر ،وطائفة منها تبقى مع رسول
ال صلى ال عليه وسلم .فإذا استوى المر ،فرقة تجاهد ،وفرقة تَ َتعَلم وتعلّم ،وتبادل الفرقتان
الخبرة اليمانية والقتالية ،تصبح الملكات اليمانية متساندة غير متعاندة ،ومن بعد ذلك يتجهون
إلى الكفار.
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الّذِينَ يَلُو َنكُمْ } وهذا يعني أن هناك قوما قريبين منهم ما زالوا كافرين،
وهناك قوم أبعد منهم ،والحق قد قالَ {:وقَاتِلُواْ ا ْلمُشْ ِركِينَ كَآفّةً َكمَا ُيقَاتِلُو َنكُمْ كَآفّةً[} ...التوبة]36 :
إذن :فهناك أولويات في القتال ،وقتال الكفار القريبين منك تأمين معسكر اليمان؛ لذلك جاء المر
بقتال القرب؛ لنه قتال لن يتطلب رواحل ول مؤونة للسفر البعيد ،كما أن العدو القريب منك
أنت أعلم بحال الكفار البعيدين عنك؛ لذلك فأنت تعلم مواطن قوتهم وضعفهم ،وكيفية تحصيناتهم.
فإذا تيسر أمر قتال العدو القرب كان ذلك طريقا لمجابهة العدو البعد ،بدلً من أن تواجه العدو
البعيد؛ فيتفق مع العدو القريب ،ويصنع الثنان حولك " كماشة " بلغة الحرب ،فل بد أن تحمي
ظهرك أولً ،من شر العدو القرب.
إذن :فل تعارض بين محاربة العدو البعيد والعدو القريب .ول تَعارض بين قوله الحق { :قَاتِلُواْ
الّذِينَ َيلُو َنكُمْ مّنَ ا ْل ُكفّارِ } وقوله سبحانهَ { :وقَاتِلُواْ ا ْلمُشْ ِركِينَ كَآفّةً }؛ لن معنى { كَآفّةً } أي:
جميعا ،ولكن الجماعة لها أولوية .فخذ القريب منك؛ لتضمه إليك ،فإذا كان الخصم معه سيف
ومعك سيف ،وبعد ذلك دخلت المعركة فأوقعت سيفه من يده؛ فأخذته؛ فبذلك يصبح معك سيفان
وهو ل سيف معه.
ولذلك يوضح الحق سبحانه وتعالى للكفار :اعتبروا أيها الكفار ،فأنتم ل ترون الرض كل يوم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهي تنقص من تحت أقدامكم ،وما ينقص من أرض الكفار يزيد في أرض اليمان .وما دام الحق
قد جاء بكلمة " قتال " فهذه الكلمة تحتاج إلى عزيمة ،وجرأة ُتجَرّيء على القتال ،وصبر عليه،
فقد تجد في مواجهتك من هو أقوى منك أو من هو أشجع منك ،فإن رأى شجاعة منك تفوق
س منك قوة ومثابرة تفوق قوته ومثابرته ،فهذا ينزع من قلبه المل في النتصار
شجاعتهن وأح ّ
عليك؛ ولذلك يقول الحق:
{ وَلْ َيجِدُواْ فِيكُمْ غِ ْلظَةً } والغلظة صفة ،ويقال :غِ ْلظَة ،وغُلْظَة ،وغَلْظَة ،والمعروف أنها الشدة،
فحين تضرب عدوكَ اضربه بقوة ،وبجرأة ،وبشجاعة.
وحين يحاول عدوك أن يضربك استقبلْ الضربة بتحمّل ،وهكذا نجد أن الغلظة مطلوبة في حالتين
اثنتين؛ في حالة الرسال منك ،وفي حالة الستقبال منه ،فل يكفي أن تضرب عدوك ضربة قوية،
وحين يردّ لك الضربة تخور وتضعف .إن الحق يطلب منك غلظة تح ِملُ على عدوّك ،وغلظة
تتحمّل من عدوّك.
ولذلك نجد آية آل عمران يقول فيه الحق {:اصْبِرُواْ[} ...آل عمران]200 :
ولكن َهبْ أن عدوّك يصبر أيضا ،فيأتي المر من الحقَ {:وصَابِرُواْ[} ...آل عمران]200 :
أي :حاول أن تغلبه في الصبر .وحذّر الحقّ من إلقاء السلح بعد انتهاء المعركة؛ لن العدو قد
يستنيم المؤمن؛ لذلك جاء المر من الحق {:وَرَابِطُواْ[} ...آل عمران]200 :
أي :استقر أيها المؤمن في الرض؛ ليعلم العدو أنك تنتظره إن حاول الكرّة من جديد أو حدّثته
نفسه بالقتال مرة أخرى .إذن :فالغلظة تطلب منك أن تهاجم ،وتطلب منك أن تتحمّل ،والتحمّل
يقتضي صبرا ،والتحامل يقتضي شجاعة ،فإذا ما كان في خصمك صبر وشجاعة؛ فعليك أن
تصابره أي :تصبر أكثر منه ،وهي مأخوذه في الصل من " نافس فلن فلنا ..أي سابقه وحاول
أن يسبقه " ،والمنافسة من النفس ،والحق يقولَ {:وفِي ذَِلكَ فَلْيَتَنَافَسِ ا ْلمُتَنَافِسُونَ }[المطففين]26 :
أي :تنافسوا في الخير ،ونحن نعلم أن تركيبة النفس النسانية تحتاج إلى شيء مرة أو مرتين في
اليوم ،وتحتاج إلى شيء ثالث دائما .فأنت في الكل تأكل ثلث وجبات ،وفي الشراب تحتاج إلى
لترين أو أربعة من الماء أو أكثر .أما التنفس فأنت ل تصبر على النقطاع عنه ،وهو أهم
الضروريات لحياة النسان.
وقلنا قديما :إن من رحمة ال سبحانه وتعالى أنه قد يملك إنسان طعامَ إنسان ،وقد يستطيع النسان
الصبر عن الطعام لسابيع ،ول يصبر النسان عن انقطاع الماء إل أياما تتراوح من ثلثة إلى
عشرة ،حسب كمية المياه التي في جسمه؛ لذلك لم يُملّك الحق سبحانه الماء مثلما مَلّك الطعام،
وأما الهواء فأنت ل تصبر على افتقاده للحظات؛ ولذلك لم يملّك ال الهواء لحد أبدا ،وكأنه
سمّي استنشاق الهواء وزفيره
سبحانه علم أن عباده غير مأمونين على بعضهم البعض ،ولذلك ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالتنفس ،وهو من النفس ،وهو سبب وجود النفْس وهي مزيج من المادة والروح ،والساس هو
َنفَس الهواء الذي يضمن استمرار النفس في الحياة.
وإذا ما نافست العدو فأنت تصطاد الشيء النفيس ،وهو إعلء منهج ال .وحين تصابر أهل
الباطل ،فكل واحد من أهل الباطل قد يصابر لجاجة لمدة قصيرة ثم يتراجع؛ لن الباطل زهوق،
وهنا يقول سبحانه } :وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً { يفيد أن الغلظة ليست صفة دائمة ،بل تعني أنك تَطَّلبَ
المُر فيجب أن تتوافر فيك ،وكذلك قلنا :إن ال لم يطبع المؤمن على الغلظة ،ولم يطبعه على
الشدة ،ولم يطبعه على العزة ،بل قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هكذا نفهم قوله الحق:
ظ ًة وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ {
} ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الّذِينَ يَلُو َنكُمْ مّنَ ا ْل ُكفّا ِر وَلْيَجِدُواْ فِي ُكمْ غِلْ َ
[التوبة]123 :
أي :كونوا في حربكم غلظا بما يناسب الموقف؛ لن الحرب تتطلب القسوة والشدة ،ولكن إياك
أن تستعمل هذه المور لصالحك ،ولكن استعملها ل؛ لتضمن أن تكون في معية ال
ويقول سبحانه بعد ذلك } :وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ{ ...
()1345 /
وَإِذَا مَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مَنْ َيقُولُ أَ ّي ُكمْ زَادَ ْتهُ َه ِذهِ إِيمَانًا فََأمّا الّذِينَ َآمَنُوا فَزَادَ ْتهُمْ إِيمَانًا وَ ُهمْ
يَسْتَبْشِرُونَ ()124
قوله الحق { :وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ } يعني :إذا نزلت ،ونعلم أن هناك " نَزَل " و " أَنْزلَ " و " نَزّل " فـ
" أنَزَل " للتعدية ،فالقرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا .ثم نزّله الحق نجوما .فالتنزيل
معناه :موالة النزول لبعاض القرآن ،فالقرآن قد أنزل كله ،ثم بعد ذلك نزله الحق ،ونزل به
جبريل -عليه السلم -على سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم.
وقد جمعت الية تنزيل الحق للقرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ،ثم نزول جبريل -
حقّ
عليه السلم -بالقرآن على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والحق سبحانه يقول {:وَبِالْ َ
حقّ نَ َزلَ[} ...السراء]105 :
أَنْزَلْنَا ُه وَبِالْ َ
لمِينُ }[الشعراء]193 :
وفي آية أخرى يقول سبحانه {:نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ ا َ
وهنا يقول الحق { :وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ } والسورة هي الطائفة من القرآن المسورة بسور خاص؛
أوله مثلً { :بسم ال الرّحْمانِ الرّحِيـمِ } وآخره تأتي بعده سورة أخرى تبدأ بقوله الحق { :بسم
ال الرّحْمانِ الرّحِيـمِ } ومأخوذة من السور الذي يحدد المكان .وهل المقصود بقوله الحق هنا
نزول سورة كاملة من القرآن أم نزول بعض من القرآن؟ إن المقصود هو نزول بعض من
القرآن.
وتتابع اليةَ { :فمِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا } والمقصود بهذا المنافقون الذين رجعوا
عن اليمان .ونحن نعلم أن القرآن حق وأنه من عند ال ،وله أسر وفاعلية إشراقية في صفاء
النفس ،وقد سمعه الكفار من قبل ،وشهدوا له ،أما المؤمنون فحين سمعوه فقد أسرهم.
وهذا المر بسبب الستعداد لتلقيه؛ لن المسألة في كل الحداث ليست من الفاعل وحده ،ولكن من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الفاعل والقابل للفعل -ول المثل العلى -أنت تأتي بمطرقة مثلً ،وتطرق قطعة حديد فترق
وتزيد مساحتها ،أما إن طرقت بالمطرقة قطعة صلب أقوى من المطرقة؛ فلن تؤثر فيها.
إذن :فالطرق شيء وقابلية الطرق شيء آخر ،وهكذا ل بد للفاعل من قابل ،والمطلوب من القابل
للشيء أن يستقبله بغير خصومة له نابعة من قلبه .فإذا أراد أحد أن يسمع القرآن فعليه أن يخرج
ما في قلبه مما هو ضد القرآن ،ويضع القرآن وضده خارج قلبه وليسمع هذا وهذا وما ينفذ إلى
قلبه بعد هذا فليصدقه .لكن أن يستقبل القرآن بما في قلبه من كراهية القرآن؛ فلن يتأثر به ،مثلما
قابل بعض المنافقين القرآن وقالوا :لم نتأثر به.
وسبب هذا أن هناك ما يسمى بالحيز ،وعدم التداخل في الحيز ،فالقلب حيز ل يسع الشيء
ونقيضه ،فل تمل قلبك ببغضك للدين ،ثم تقول :لقد سمعت القرآن ولم يؤثر فيّ .هنا نقول لك:
أخرج من قلبك ما يكون ضد القرآن ،واجعل القرآن أيضا خارج قلبك ،ثم انظر في الثنين لترى
ما الذي يستريح له قلبك ،لكن أن تكون مشحونا ضد القرآن ثم تقول :إن القرآن لم يؤثر فيك،
فهذا يعني أنك لم تنتبه إلى الفرق بين الفاعل والقابل ،ولم تنتبه إلى ما يسمى بالحيز ،ومدى قدرته
على الستيعاب.
فالزجاجة ذات الفوهة الضيقة ل تستقبل بداخلها الماء إن أغرقتها فيه؛ لن ضيق الفوهة ل يساعد
الهواء الذي بداخلها على الخروج ،ول يساعد الماء على الدخول؛ لن الماء لن يدخل إل إذا خرج
الهواء؛ لذلك ل بد أن تكون فوهة الزجاجة واسعة تسمح بخروج الهواء ودخول الماء ،وعند ذلك
سترى فقاقيع الهواء وهي تعلو الفوهة .وإذا كان المر كذلك في الحسيات ،فما بالك في المور
المعنوية وهي مثل المور الحسية.
إذن :فأخْرج ما يناقض الحق من قَلْبك ،واجعل الباطل والحق خارجا ،ثم استقبل الثنين .ل يمكن
لك في مثل هذه الحالة إل أن تستقبل الحق .ويصف سبحانه المصرين على الكفرَ {:وطَبَعَ اللّهُ
عَلَىا قُلُو ِبهِمْ[} ...التوبة]93 :
أي :أن ما هو خارج هذه القلوب ل يدخل إليها ،وما في داخلها ل يخرج منها.
إذن :ما دام الحق قد ختم على قلوبهم؛ فلن تفتح هذه القلوب لليمان ،وستظل محتفظة بالكفر .فإذا
كان من هؤلء الكافرين أو المنافقين من يسمع القرآن ،ول يأسره بيانه؛ فذلك بسبب عجزهم عن
النظر إلى ما فيه من معان وقيم؛ لن النسان حينما يسمع القرآن ،وتكون نفسه صافية ليس فيها
ما يشوش على ما في القرآن من جاذبية وبيان يؤثر فيه وتطمئن إليه نفسه.
ولذلك حين قرأ عمر بن الخطاب -رضي ال عنه -القرآن ،وكان من قبل ذلك شديدا على
السلم ،ثم ذهب إلى أخته؛ ليتحقق من أمر إسلمها ،وحين سال منها الدم رقت عاطفته لها ،ثم
قرأ القرآن فاستقر في قلبه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :ل بد أن تخرج ما في ذهنك أولً؛ لتستقبل القرآن .فإذا ما أنزلت سورة يستقبلها المؤمن
بصفاء .أما الكافرون والمنافقون ،فمنهم من يقول } :أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا { وتعطينا الية
معنى أننا أمام فريقين :واحد يقرأ ،والثاني يسمع .ونفهم من سياق الية أن الذي يتساءل مثل هذا
السؤال إنما يوجه لفريقين :أحدهما من ضعاف اليمان ،أو حديثي السلم ،أو المنافقين ،وهؤلء
هم الذين لم يُخْرجوا الكفر أو بعضه من قلوبهم ،وقابلية بعضهم لستقبال اليمان لم تتأَكد بعد،
ومنهم من قال فيهم الحقَ {:ومِ ْنهُمْ مّن َيسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ
ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا[} ...محمد]16 :
عمًى[} ...فصلت]44 :
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْ ٌر وَ ُهوَ عَلَ ْيهِمْ َ
ويقول {:وَالّذِي َ
إذن :الفاعل شيء ،والقابل شيء آخر .هم سمعوا القرآن بدليل أن الحق يقول } :وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ
سُو َرةٌ { وسياق الية يوحي لنا أن هناك همسا من بعضهم } :أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا { وهذا
الهمس يأتي بلهجة المستهزئ ،وقائل الهمس يعني أن سماعه للقرآن لم يزد شيئا عنده ،ولم
ينقص ،وهو يهمس لمنافق مثله ،أو لضعيف اليمان } أَ ّي ُكمْ زَادَ ْتهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا { فيرد ال على
القضية النفسية ،ويعلمنا أنه سبحانه قد قسم الناس قسمين :قسم كافر أو منافق ،وهذا القسم يزيده
القرآن كفرا ،أما القسم المؤمن؛ فاستقباله للقرآن يزيد من إيمانه.
إذن :الفاعل شيء والقابل مختلف .ووقف العلماء أمام هذه الية موقفا فيه اختلف بينهم } وَإِذَا مَآ
أُنزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا { فقال بعضهم :إن اليمان ينقص ويزيد،
وقال بعضهم :إن اليمان ل ينقص ول يزيد ،وقامت معركة بين علماء الكلم ،ول تتسرب
معركة بين عقلء إل إذا كانت جهة الفهم في المر الذي يختلفون فيه منفكة ،فمنهم من يذهب
فكره إلى ناحية ،ومنهم من يتجه فكره إلى ناحية أخرى.
فالذين قالوا :إن اليمان ل يزيد ول ينقص ،فلحظة أن يتألق اليمان في القلب؛ يستقر فيه ،وهو
اليمان بال ،وأن ل إله إل ال ول معبود سواه ،وأن محمدا رسوله المبلغ عنه؛ هذا اليمان ل
يزيد ول ينقص .والمثال :هو قول المام على كرم ال وجهه :لو انكشف عني الحجاب ما
ازدادت يقينا.
أما العلماء الذين قالوا بأن اليمان يزيد ول ينقص ،فقد قصدوا بذلك تطبيق مستلزمات اليمان من
اليات ،فكل آية تحتاج ممن يصدقها أن يكون مؤمنا بال أولً ،ثم ينفذ متطلبات الية.
وكل المسلمين مؤمنون بال ،ولكن في جزئيات التطبيق نجد من يطبق عشرين جزئية وآخر يطبق
ثلثين ،أما أصل اليمان الذي استقبل به النسان التكليف وهو التوحيد ،فل يزيد أو ينقص.
وهؤلء المنافقون عندما قالوا } :أَ ّيكُمْ زَادَ ْتهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا { هل تداولوا ذلك سرّا أم قالوه علنا؟ ل
بد أنهم قالوا ذلك سرّا وفضحهم الحق سبحانه ،وكان يكفي أن يعلموا أن ال يخبر رسوله صلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال عليه وسلم بكل ما يكتمونه ،ولكنهم احترفوا اللجاجة؛ لذلك قالوا } :أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا {.
ويرد الحق سبحانه:
} فََأمّا الّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَ ْتهُمْ إِيمَانا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ { و " يستبشر " أي :يمل السرور بشرته ،فترى
البريق ،والفرحة ،والنبساط .وكلها من علمات الستبشار ،ومن يستبشر بآية من آيات الحق فهو
الذي يفهم من الية شيئا جديدا؛ يدخل على نفسه السرور؛ ولذلك فهو يرتاج لنزول تكليفات إيمانية
جديدة ،ليعظم ويزداد ثوابه ،وهو غير ذلك الذي يكره أن ينزل حكم جديدة من ال,
هذا هو معنى " يستبشر ".
أما الخرون فيقول الحق سبحانه عنهم } :وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِم{ ...
()1346 /
والرجس :هو الشيء المستقذر ،وتكون القذارة حسية ،ومرة تكون معنوية .فالميتة مثلً قذارتها
حسية؛ لنها ماتت ودمها فيها ،والدم -كما نعلم -له مجريان؛ مجرى للدم قبل أن يكرر،
ومجرى آخر للدم بعد أن يكرر ،والدم قبل أن يكرر يمر على الرئة والكلى فتنفيه الرئة والكلى
من الشياء الضارة التي تصل إليه نتيجة تفاعلت أعضاء الجسم المختلفة .وبعد أن تتم تنقية عن
طريق الرئتين والكلى يصير دما صالحا.
فإذا مات الحيوان بقي فيه دمه الصالح ودمه الفاسد؛ لذلك نحن نذبح الحيوان قبل أن نأكله،
ونضحي بدمه الصالح مع الفاسد؛ حتى ل يصيبنا الدم الفاسد بالمراض؛ ولذلك تعتبر الميتة
خمْرُ
رجسا .والخمر أيضا نجاسة حسية ورجس .وهناك رجس معنوي ،ولذلك قال الحق {:إِ ّنمَا الْ َ
ع َملِ الشّ ْيطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ[} ...المائدة]90 :
ب وَالَزْلَمُ ِرجْسٌ مّنْ َ
وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَا ُ
إذن :فهناك رجس حسي ،ورجس معنوي ،ويطلق الرجس على الكفر أيضا ،ومرة يطلق الرجس
على همسات الشيطان ووسوسته.
طهّ َركُمْ بِهِ
سمَآءِ مَآءً لّيُ َ
وفي ذلك يقول الحقِ {:إذْ ُيغَشّيكُمُ الّنعَاسَ َأمَنَةً مّنْهُ وَيُنَزّلُ عَلَ ْيكُم مّن ال ّ
وَيُذْ ِهبَ عَنكُمْ ِرجْزَ الشّ ْيطَانِ[} ...النفال]11 :
س ِهمْ } ولنهم يكفرون
وهنا يقول الحق { :وََأمّا الّذِينَ فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ فَزَادَ ْتهُمْ ِرجْسا إِلَىا رِجْ ِ
بال وبآياته؛ فهذا يزيدهم رجسا على رجسهم ويصبح كفرهم مركّبا ،وهكذا نجد البشارة للمؤمنين،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما الكافرون فلهم النذارة؛ لن كفرهم يزيد ،ويموتون على ذلك الكفر.
ويقول سبحانه بعد ذلكَ { :أ َولَ يَ َروْنَ أَ ّنهُمْ ُيفْتَنُونَ فِي} ...
()1347 /
َأوَلَا يَ َروْنَ أَ ّنهُمْ ُيفْتَنُونَ فِي ُكلّ عَامٍ مَ ّرةً َأوْ مَرّتَيْنِ ُثمّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ َي ّذكّرُونَ ()126
وقوله الحقَ { :أ َولَ يَ َروْنَ } أي :أل يستشهد المنافقون تاريخهم مع السلم ،ويعلمون أنهم يفتنون
في كل عام مرة بالمصائب ومرة بالفضيحة ،فتجد رسول ال حين يراهم يخرج بعضهم من بين
الصفوف ويقول لهم " :اخرج يا فلن فإنك منافق " .ثم بعد شهور يتكرر الموقف ،وهنا يذكرهم
الحق سبحانه بأن رسول ال صلى ال عليه وسلم يصفيهم كل عام مرة أو مرتين.
الصل في الفتنة أنها امتحان واختبار ،وهي ليست مذمومة في ذاتها ،لكنها تذم بالنتيجة التي تأتي
منها ،فالمتحان -أي امتحان -غير مذموم ،لكن المذموم هو أن يرسب النسان في المتحان.
إذن :البتلء أو الفتنة في ذاتها ليست مذمومة ،إنما المذموم أن تأتي النتيجة على غير ما تشتهي،
وهم يفتنون حين يرون انتصار المسلمين وغم نفاقهم وكيدهم للمسلمين ،وكان يجب أن يعلموا أنهم
لن يستطيعوا عرقلة سير السلم؛ لنه منتصر بال .وكان يجب أن يعتبروا ويتوبوا لينالوا خير
السلم ،فخيره ممدود رغم أنوفهم ،والخسارة لن تكون على السلم ،وإنما الخسارة على من
يكفر به.
ونحن نعلم أن السلم بدأ بين الضعفاء إلى أن سار القوياء إليه ،وتلك سنة ال في الكون ،بل إننا
نجد أن النبي صلى ال عليه وسلم في بدء الرسالة كان مطلوبا منه أن يؤمن بأنه رسول .وكما
تقول أنت :أشهد أن ل إله إل ال ،وأشهد أن محمدا رسول ال ،كان على النبي صلى ال عليه
وسلم أيضا أن يقول :أشهد أن ل إله إل ال ،وأشهد أن محمدا رسول ال .وسبحانه جل شأنه،
شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ[} ...آل
الخالق الكرم ،آمن بنفسه أولً ،بدليل قوله سبحانهَ {:
عمران]18 :
فأول شاهد باللوهية الحقة هو ال ،وقد شهد لنفسه ،ومعنى ذكر شهادته لنفسه لنا أن نؤمن بأنه
سبحانه يزاول قيوميته وطلقة قدرته بكلمة " كن " وهو عالم أن مخلوقاته تستجيب قطعا ،وكان ل
بد أن يعلمنا أنه آمن أولً بأنه الول ،وأنه الله الحق ،بحيث إذا أمر أي كائن أمرا تسخيريا فل
شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لَ إِلَـاهَ ِإلّ
بد أن يحدث هذا المر ،وسبحانه ل يتهيب أن يأمر؛ لذلك قال لناَ { :
ُهوَ } شهادة الذات للذات ،وشهدت الملئكة شهادة المشهد وشهد أولو العلم شهادة الستدلل،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين يشهد محمد صلى ال عليه وسلم أنه رسول ال فهو يؤمن بأنه رسول ،ولو لم يؤمن
برسالته لتهيب أن يبلغنا بالرسالة ،وبعد أن آمن صلى ال عليه وسلم أنه رسول من ال جاءه
لقْرَبِينَ }[الشعراء]214 :
كاَ
التكليف من الحق {:وَأَنذِرْ عَشِيرَ َت َ
وظل رسول ال صلى ال عليه وسلم يدعو إلى السلم ،ويبلغ آيات الحق إلى أن جاءت آيات
الدفاع عن دين ال ،وقال الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضهُمْ إِلَىا{ ...
ويقول الحق بعد ذلك } :وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ نّظَرَ َب ْع ُ
()1348 /
ضهُمْ إِلَى َب ْعضٍ َهلْ يَرَاكُمْ مِنْ َأحَدٍ ُثمّ ا ْنصَ َرفُوا صَرَفَ اللّهُ قُلُو َبهُمْ
وَإِذَا مَا أُنْزَِلتْ سُو َرةٌ َنظَرَ َب ْع ُ
بِأَ ّنهُمْ َقوْمٌ لَا َيفْ َقهُونَ ()127
ومن قبل جاء قول الحق {:وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ َفمِ ْنهُمْ مّن َيقُولُ أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا} ...
[التوبة]124 :
أي :أن هؤلء المنافقين يشعرون بالضيق والحصار ،ويخافون أن يتكلموا؛ لنهم موجودون مع
المسلمين ،ولكنهم ل يعدمون وسيلة للتعبير عن كفرهم ،فيغمز الواحد منهم بعينه ،أو يشير إشارة
بيده ،فإذا ما كانوا قد تساءلوا من قبل بـ { أَ ّيكُمْ زَادَتْهُ هَـا ِذهِ إِيمَانا } فقد كان هذا السؤال يتعلق
بالتكاليف ،أما في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها فليس فيها تكاليف جديدة.
لقد كانوا يريدون أن يقولوا شيئا ،ولكنهم لم يستطيعوا أن يتكلموا بأفواههم ،فتكلموا بأعينهم
ونظراتهم ،فكأن النظر نفسه كان فيه هذه الكلمةَ { :هلْ يَرَاكُمْ مّنْ َأحَدٍ } ،وهذا قد تراه من واحد
يسمع خطبة الخطيب ،ولكنه يرى بها أشياء ل تعجبه ،فتجده يعبر بانفاعالت وجهه عن عدم
رضاه.
إذن :فهناك نظر ،وهناك كلم ،وهم قد تساءلوا :هل يراكم من أحد؟ زمثلها مثل قولك :ما عندي
من مال؟ أي أنك ل تملك بداية ما يقال عنه مال ،والقول الكريم أبلغ بالقطع من أن تقول :هل
يراكم أحد.
حدٍ } دليل على أنهم في خوف من أن يضبطهم أحد ،ومن بعد
إن قوله الحقَ { :هلْ يَرَاكُمْ مّنْ أَ َ
ذلك تجدهم يتسللون خارج دائرة الستماع للقرآن أو للرسول؛ لنهم ل يطيقون الستمرار في
الستماع؛ لن منطق الحق يلجم الباطل ،والواحد منهم غير قادر على أن يؤمن بالحق وغير قادر
على إعلن الكفر؛ فينسحبون ،وينصرف كل واحد منهم؛ لذلك نجد أن بعضهم قد قال من قبل {:لَ
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ[} ...فصلت]26 :
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
تَ ْ
وقد قالوا ذلك لن الكافر أو المنافق قد تأتيه لحظة غفلة عن الباطل ،فيتسلل اليمان إلى قلبه ،كما
أن المؤمن قد تأتيه لحظة غفلة عن الحق ،لكنه يستغفر ال عنها.
وإذا ما أتت للمنافق أو الكافر لحظة غفلة عن كفره أو نفاقه؛ فتأتيه هجمة اليمان فيخافها ،فيقول
لمن هم مثله :من الفضل أن نقول لمن معنا ل تسمعوا هذا القرآن .لماذا؟ حتى ل يصادف فترة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غفلة عن النفاق ،فإذا صادف فترة غفلة عن النفاق فمن الممكن أن يدخل اليمان القلب .ولذلك
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآنِ } ،ولم يقتصر المر على ذلك ،بل طلبوا من التباع ان يلغوا
قالوا { :لَ تَ ْ
فيه ،أي :أن يشوشوا عليه {:وَا ْل َغوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ[} ...فصلت]26 :
إذن :ل غلبة لهم مطلقا إل بعدم الستماع إلى القرآن ،أو أن يشوشوا عند سماع القرآن؛ حتى ل
ينفذ القرآن إلى القلوب.
وهنا يقول الحق سبحانه عن هؤلء المنافقين:
ضهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ َهلْ يَرَاكُمْ مّنْ َأحَدٍ } كانوا يقولون ذلك؛ لنهم
{ وَإِذَا مَآ أُنزَِلتْ سُو َرةٌ نّظَرَ َب ْع ُ
كمنافقين سبق لهم إعلن السلم ،وكانوا يدعون أنهم متقدمون في تطبيق أحكام اليمان ،وكانوا
يصرون على الوقوف أثناء الصلة في الصف الول؛ حتى يدفعوا عن أنفسهم تهمة النفاق ،وكما
يقول المثل :يكاد المريب أن يقول خذوني.
وينظر بعضهم إلى بعض متسائلينَ } :هلْ يَرَاكُمْ مّنْ َأحَدٍ ُثمّ انصَ َرفُواْ { لنهم ل يطيقون الجلوس
إلى الرسول صلى ال عليه وسلم أو إلى المؤمنين .وينهي الحق الية:
} صَ َرفَ اللّهُ قُلُو َبهُم بِأَ ّنهُمْ َقوْ ٌم لّ َيفْ َقهُونَ { وذلك نتيجة لنصرافهم نفسيّا إلى النفاق؛ فيساعدهم
سبحانه على ذلك ،فما داموا ل يعرفون قيمة اليمان؛ فليذهبوا بعيدا عنه ،فالحق لهم يصرفهم إل
باختيارهم ،حتى ل يقول أحد :إن ال هو مصرف القلوب ،فما ذنبهم؟ ل ،لقد انصرفوا هم بما
خلقه ال فيهم من اختيار ،فصرف ال قلوبهم ،لماذا؟ لنهم } َقوْ ٌم لّ َيفْ َقهُونَ { أي :ل يفهمون.
والفهم أول مرحلة من مراحل الذات النسانية ،وهناك فرق بين الفهم والعلم .فالفهم يعني أنك
تملك القدرة على َتفَهّم ذاتية الشياء بملكة فيك ،لكن العلم يعني أنك قد ل تفهم أنت بذاتك ،وإنما
يفهم غيرك ويعلمك .فأنت قد تعلم جزئية ل من عندك وإنما من معلم لك .ولكن قد يقول قائل :ما
داموا ل يفقهون فما ذنبهم؟ ونقول :الذي ل يفهم عليه أن يتقبل التعليم ،لكن هؤلء لم يفهموا ولم
يتعلّموا ،وأصروا على عدم قبول العلم.
وبعد ذلك يتأتى ختام سورة التوبة.
والسورة بدأت بالقطيعة {:بَرَآ َءةٌ مّنَ اللّ ِه وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَا َهدْتُمْ مّنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[التوبة]1 :
ووردت لنا أحوال الكفار والمنافقين وتكاليف الجهاد الشاقة ،وأراد الحق أن يختم السورة بما يبرر
هذه المشقات المتقدمة ،فبيّن لنا :إياكم أن تنفضّوا عن الرسول أو تغضبوه؛ لنه وإن جاء لكم
ببلغ فيه أمور شاقة عليكم فخذوا هذه المور الشاقة على أنها من حبيب لكم ،ل من عدو لكم.
إنك مثلً إن رأيت عدوّا ضرب ابنك وجرحه ،يكون وقع هذا المر شديدا عليك؛ لنه عدو .لكنك
إذا أخذت ابنك للطبيب وقرر الطبيب إجراء جراحة للبن ،فأنت تقبل ذلك؛ لتزيل عن ابنك
خطرا .إذن :فهناك فارق بين جرح عدوك لبنك وجرح الطبيب له رغم أن اليلم قد يكون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واحدا.
إذن :ل ترفض المور الشاقة عليك لمجرد ورود المشاق عليك ،ولكن اعرف أولً من الذي
أجرى المشاق عليك ،فإن كان ربك ،فربك بك رحيم .وإن كان الرسول فخذ أوامر الرسول
وطبيقها؛ لنها من حبيب يريد لك الخير.
سكُمْ عَزِيزٌ{ ...
وهنا يقول الحقَ } :لقَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
()1349 /
علَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُمؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ()128
سكُمْ عَزِيزٌ َ
َلقَدْ جَا َءكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَ ْنفُ ِ
ونلحظ هنا أن الحق قد نسب المجيء هنا للرسول صلى ال عليه وسلم ،ولم يقل :جئتكم برسول.
وكلنا يعلم أن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يأت من عند نفسه ،ولم يدع هذا المر الجليل
لنفسه ،ولكن الشحنة اليمانية تفيد أنه خلق بما يؤهله للرسالة ،وبمجرد أن نزل عليه الوحي امتلك
اندفاعا ذاتيّا لداء الرسالة ،ولم يحتج لمن يدفعه لداء الرسالة؛ لذلك أراد الحق سبحانه أن يثبت
للرسول صلى ال عليه وسلم المجيء ذاتيّا ،ولكن هذا المجيء الذاتي ليس من عند محمد صلى
ال عليه وسلم في البداية ،بل هو رسول من عند ال ،فأتى الحق سبحانه هنا بكلمة " جاء ".
وكلمة { َرسُولٌ } تدل على أنه ليس من عنده ،وكلمة " جاء " تدل على أن الشحنة اليمانية جعلت
لذاته عملً ،فهو صلى ال عليه وسلم يعشق الجهاد من أجل الرسالة ،ويعشق الكفاح من أجل
تحقيق هذه الرسالة.
إذن :ل تنظروا إلى ما جاءكم به الرسول صلى ال عليه وسلم نظرتكم إلى المور الشاقة التي
تتعبكم ،ولكن انظروا ممن جاءت ،إن كانت من الصل الصيل في إرسال الرسل ،فالرب رحيم،
خلقكم من عدم وأمدكم من عدم ،ويوالي نعمة عليكم حتى وأنتم في معصيته .فأنت تعصاه ويحب
ال سبحانه من يستر عليك ،فل تشك ول تتشكك .وعليك أن تأخذ التكاليف على أنها من حبيب
فل تقل :إنها مشقة .فأنت -ول المثل العلى -تطلب من ابنك أن يستذكر دروسه ،وتراجعها
معه قهرا عنه في بعض الحيان ،وأنت قد تمسك بيدي ابنك ليعطيع الطبيب حقنة من الدواء الذي
جعله ال سببا للشفاء.
إذن :فل تأخذ الحوال بوارداتها عليك ،ولكن خذها بوارداتها ممن قدرها وقضاها؛ وهو الحق
سبحانه وتعالى.
سكُمْ } أي :أن الحق سبحانه لم يأت بإنسان
وهنا يقول الحق سبحانهَ { :لقَدْ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُمْ } معان
غريب عنكم ،بل جاء بواحد منكم قادر على التفاهم معكم .ولقوله الحق { :مّنْ أَنفُ ِ
جهَا...
متعددة ،فمرة يكون معناها بـ " من جنسكم " ،مثلما قال الحق عن حواءَ {:وخَلَقَ مِ ْنهَا َزوْ َ
}[النساء]1 :
أي :خلق حواء من نفس جنس آدم البشري ،فل يقولن أحد :كيف بعث ال لنا بشرا رسولً؟ لن
الحق أراد الرسول من البشر رحمة بالناس؛ ولذلك يؤكد صلى ال عليه وسلم على بشريته أكثر
من مرة وفي مواقع كثيرة .والقرآن يقولَ {:ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن
قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ بَشَرا رّسُولً }[السراء]94 :
إذن :فبشرية رسول ال صلى ال عليه وسلم ل تؤخذ على ال ،ولكن تؤخذ ل؛ لنه أرسل واحدا
من نفس الجنس؛ ليكون قادرا على أن يتفاهم مع البشر ،وتكون السوة به سهلة.
سمَآءِ مَلَكا
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
ولذلك قال سبحانه {:قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َي ْمشُونَ ُم ْ
رّسُولً }[السراء]95 :
س ُكمْ { أي :من جنس العرب ،ولم يأت به من الروم أو من فارس ،لكن
وقوله الحق } :مّنْ أَنفُ ِ
سكُمْ { أي :من نفس القبيلة التي تنتمون
اختار لكم من هو أعلم بطبائعكم .أو أن معنى } مّنْ أَنفُ ِ
إليها معشر قريش.
سكُمْ { تعني :أنكم تعلمون تاريخه ،وتعرفون أنه أهل لتحمل أمانة السماء للرض،
أو أن } مّنْ أَنفُ ِ
كما تحمل أماناتكم من الرض للرض؛ ولن هذا هو سلوكه ،فهو قادر على أن يتحمل أمانة
السماء للرض .ولقد سميتموه الصادق المين ،والوفي ،وكلها مقدمات كانت توحي بضرورة
اليمان به كرسول من عند ال .وإن كانت سلسلة أعماله معكم تثير فخركم ،فمجيئة كرسول إنما
يرفع من ذكركم ،ويعلي من شأنكم .فأنتم أهل قريش ومكة ولكم السيادة في البيت الحرام ،وقد
جاء محمد صلى ال عليه وسلم؛ ليزيد من رقعة السيادة لكم ،فإذا كنتم قبل بعثته صلى ال عليه
وسلم سادة البيت ،فأنتم بعد بعثته سوف تصيرون سادة العالم.
س ْوفَ ُتسْأَلُونَ }[الزخرف]44 :
ك وَ َ
ك وَِل َقوْ ِم َ
ويقول الحق سبحانه {:وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ ّل َ
فهو نبي ال للعالم أجمع ومن العرب ومن قريش ،وكان يجب أن يفرحوا برسالته وأن يؤيدوها،
لكن ال لم يشأ ذلك؛ لن قريشا قبيلة قد ألفت السيادة على العرب ،وهذا جعل العرب يعملون لها
حسابا ،وخافت منها كل قبائل العرب في أنحاء الجزيرة العربية ،وكانت لها مهابة هائلة؛ لن كل
العرب مضطرون للحج إلى الكعبة ،وأثناء الحج تكون القبائل كلها في أرض قريش؛ لذلك كانت
كل القبائل ترعى قوافل قريش ،ول تتعرض أي قبيلة لقريش أبدا ،فقوافلها تروح وتغدو ،جنوبا
وشمالً ،ول تقدر قبيلة أن تقف في مواجهة قريش ،أو أن تتعرض لها.
وكل هذه المكانة وتلك المهابة أخذتها قريش من خدمتها لبيت ال الحرام؛ ولذلك شاء الحق أل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يمكن أبرهة من هدم البيت لتظل السيادة لقريش ،فلو انهدم البيت الحرام وانصرف الحج إلى اليمن
جعََلهُمْ
كما كان يريد أبرهة ،فمن أين تأتي السيادة لقريش؟ لذلك قال الحق عن أبرهة وقومهَ {:ف َ
َك َعصْفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل]5 :
ل ِفهِمْ ِرحْلَةَ الشّتَآ ِء وَالصّ ْيفِ }[قريش]2-1 :
لفِ قُرَيْشٍ * إِي َ
وأتبعها بقوله {:لِي َ
وما دام الحق سبحانه قد شاء هذا فيأتي أمره في الية التالية {:فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي
خ ْوفٍ }[قريش]4-3 :
ط َع َمهُم مّن جُوعٍ وَآمَ َنهُم مّنْ َ
أَ ْ
وشاء الحق سبحانه أن يبعث بمحمد صلى ال عليه وسلم رسولً يدعو أولً الصناديد ،والقبيلة ذات
المهابة والمكانة ،وأن تكون الصيحة اليمانية في آذان سادة الجزيرة الذي تهابهم كل القبائل ،حتى
ل يقال :إن محمدا قد استضعف قلة من الناس وأعلن دعوته بينهم ،ل ،بل جاءت دعوته في آذان
الصناديد ،والسادة ،وسفه أحلمهم ،وحين رفضوا دعوته هاجر ،ثم جاءه الذن بقتالهم ،ولم تأت
نصرة السلم من السادة ،بل آمن به الضعاف أولً ،ثم هاجر إلى المدينة؛ لتأتي منها النصرة.
فلو أن النصرة جاءت من السادة لقالوا :جاءت نصرة السلم من قوم ألفوا السيادة ،ولما ظهر
واحد منهم يقول :إنه رسول؛ أرادوا أن يسودوا به ،ل الجزيرة العربية ،بل الدنيا كلها ،فتكون
العصبية لمحمد هي التي خلقت اليمان بمحمد ،وال يريد أن تكون النصرة من الضعيف؛ حتى
يفهم الجميع أن اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم هو السبب في العصبية لمحمد.
سكُمْ { بكل ما تعنيه مراحل
هكذا نفهم معنىَ } :لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ { أي :مرسل من ال و } مّنْ أَنفُ ِ
النفس ،وهو مبلغ عن ال ،فلم يأت بشيء من عنده ،بل كل البلغ الذي جاء به من ربه ،والرب
بإقراركم هو الذي خلق لكم ما تنتفعون به من السموات والرض .وسبحانه يقول {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم
مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ[} ...الزخرف]87 :
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ[} ...لقمان]25 :
ويقول {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خََلقَ ال ّ
إذن :فالمخلوق هو الخليفة النسان ،وما خلقه ال في الكون ،إنما خلقه لخدمتكم كلكم ،وأنتم تقرون
ذلك ،فإذا كان الرب قد سبق لكم بهذه النعم ،وجاء الرسول الذي جاء لكم من عنده بما يسعدكم،
وقد استقبلتم خيره قبل أن يأتي لكم بالتكاليف ،واستقبلتم نعمته قبل أن تكونوا مخاطبين له ،إذن:
فال الذي أرسل رسوله بالتكاليف والمنهج لكم ،ل بد أن يكون قد كلف من هو مؤتمن عليكم ،وهو
صلى ال عليه وسلم لم يأت من جنس الملئكة ،بل هو بشر مثلكم ،فإذا قال لكم :افعلوا كذا وكذا
وأنا أسوة لكم في الفعل ،فل تتعجبوا ،لكن غبار الكافرين بال جعلهم يريدون أن يكون الرسول
ملكا ،فقال الحقَ {:ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ إِذْ جَآءَ ُهمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ بَشَرا رّسُولً
سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء:
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
* قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ مُ ْ
]95-94
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :إن كنتم تريدون مَلَكا ،فالملك له صورة ل ترونها ،ول بد أن نجعله ملكا في صورة بشر؛
ليخاطبكم ،إذنك فهل المشكلة مشكلة هيئة وشكل؟ ثم إن الملئكة بحكم الخلق {:لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ
َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم]6 :
فإذا قال لكم الرسول الملك :أنا أسوة لكم في العمل الصالح ،أكانت تصح السوة؟ من المؤكد أن
بعضنا سيقول :ل ،لن تنتفع السوة؛ لنك مَلَك مطبوع على الخير ،وليس لك شهوة بطن ،ول
شهوة فرج ،إذن :فأسوتنا بك ل تصلح.
إذن :فمن رحمته سبحانه بكم أن جعل لكم رسولً من أنفسكم ،ومن قبيلتكم ،ومن العرب ،ل من
فارس والروم ،وهو يخاطبكم بلغتكم؛ لنكم أنتم أول آذان تستقبل الدعوة؛ فل بد أن يأتي الرسول
بلسانكم ،وجاءكم محمد صلى ال عليه وسلم بالنس واللفة؛ لن من قريش التي لها بطون في كل
الجزيرة ولها قرابات ،وأنس وألفة بكل العرب ،وأنس ثالث أنه من البشر ،وجاء به الحق سبحانه
فردا من الفراد ،محكوم له بالصدق والمانة قبل أن يبلغكم رسالته من ال.
إذن :فإذا جاءكم الرسول بتكليف قد يشق عليكم ،فاستصحبوا كل هذه الشياء؛ لتردوا على
أنفسكم :هو بشر وليس مَلَكا .هو من العرب وليس من العجم .هو من قبيلتكم التي نشأ بينكم فيها.
هو من تعرفون سلوكه قبل أن يبلغ عن ال ،فما كذب على البشر في حق البشر .أفيكذب على
البشر بحق ال؟
سكُمْ { أي :أنه صلى ال عليه وسلم بالمقياس
وقرأ عبد ال بن قسيط المكي هذه الية } :مّنْ أَنفُ ِ
البشري هو من أقدركم وأحسنكم .ولذلك حينما جاء الرسول صلى ال عليه وسلم بالدعوة عن ال،
هل انتظرت سيدتنا خديجة رضي ال عنها أن يأتي لها بمعجزة؟ هل انتظر أبو بكر أن يأتي له
ل منهما أخذ المعجزة من ناحية تاريخه الماضي.
بمعجزة؟ ل ،لم ينتظر أحدهما لن ك ّ
وحينما قال لخديجة " :يأتيني ويأتيني ويأتيني " وكانت ناضجة التكوين والفكر والعقل ،وعلمنا مما
قالت لماذا اختار ال له أن يتزوجها وعمره خمسة وعشرون عاما ،وعمرها أربعون سنة ،مع أن
المألوف أن يحب النسان الزواج ممن هي دونه في العمر.
لكن المسألة لم تكن زواجا بالمعنى المعروف ،لكنه زواج لمهمة أسمى مما نعرف ،ففي فترة هذا
الزواج ستكون الفترة النتقالية بين البشرية العادية إلى البشرية التي تتلقى من السماء ،وهذه فترة
تحتاج إلى قلب أم ،ووعاء أم تحتضنه وتُربّت عليه.
فلو كانت فتاة صغيرة وقال لها مثلما قال صلى ال عليه وسلم لخديجة لشكت في قواه العقلية ،لكن
خديجة العاقلة استعرضت القضية استعراضا عقليّا بحتا .فحين قال لها :أنا أخاف أن يكون الذي
يأتيني رئي من الجن .قالت له " :إنك لتصل الرحم ،وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق،
وال ل يخزيك ال أبدا ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فقد أخذت من مقدمات حياته قبل البعثة ما يدل على صدقه بعد البعثة.
وكذلك أبو بكر رضي ال عنه ،حينما قالوا له :إن صاحبك يدعي أنه رسول .قال :أهو قالها؟
قالوا :نعم .قال :إنه رسول من ال لنه لم يكذب طوال عمره.
وبعد ذلك يقول الحق } :عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ { .وكلمة } عَزِيزٌ { أي :ل يُنال ول يقدر عليه أحد،
والشيء العزيز أي نادر الوجود .وقد تقول لنسان " :قد تكن وزيرا "؛ فيصمت رجاء ،لكن إن
قلت له " :ستصبح رئيس وزراء " فيقول :هذه مسألة مستعصية وكبيرة عليّ بعض الشيء.
()1350 /
حسْ ِبيَ اللّهُ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ وَ ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْل َعظِيمِ ()129
فَإِنْ َتوَّلوْا َف ُقلْ َ
ولم يقل الحق لرسوله " :إن تولوا وأعرضوا فاعتقد أن حسبك ال " ل ،بل أعلنها للناس كافة؛
حتى يسمعوها ،ولعل في إعلنك لها ما يلفتهم إلى الحقيقة؛ لنك إن قلتها؛ فلن تقولها إل وعندك
رصيد إيماني بها ،وإن فعل أحدهم شيئا ضدك؛ فسوف يعاقبه ال.
حسْ ِبيَ اللّهُ }
وحين تعلن { :حَسْ ِبيَ اللّهُ } بعد أن كذبوك ،فالحداث التي سوف تأتي بعد إعلنك { َ
ستؤكد أن حسبك في مكانه الصحيح ،ول المثل العلى -أنت تقول " :حسبي نصرة فلن "؛
لنك تثق في قدرة فلن هذا ،ولكن القوة في الحياة أغيار ،وحين تقول { :حَسْ ِبيَ اللّهُ } فل إله
غيره سبحانه ،ول إله آخر يعارضه في هذا أو في غيره.
حسْ ِبيَ اللّهُ } برصيد { ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ } و { ل إِلَـاهَ } نفي ،و { ِإلّ ُهوَ } إثبات ،إذن:
وقل { َ
ففي هذا القول { :ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ } نفي منطقي مع سلب ،وإثبات منطقي مع اليجاب ،وهنا نفي
أيّ ألوهية لغير ال ،والستثناء من ذلك هو ال ،ورحم ال شيخنا عبد الرحمن عزام حين ترجم
ب فيهما للنفسِ عزمٌ
عن محمد إقبال شاعر باكستان الكبير ،فقال:إنّما التوحيد إيجابٌ وسل ٌ
ومضاءُإيجاب في { ِإلّ ُهوَ } ،وسلب في { ل إِلَـاهَ } ،فيهما للنفس عزم ومضاء ،أي :هما
للنفس قطبا الكهرباء ،فاسلب اللوهية من غير ال وأثبتها ل.
والناس -كما نعلم -ثلثة أقسام :قسم ينكر وجود إله للكون مطلقا ،وهم الملحدة ،وقسم ثان
يقول :إن هناك ال الذي يوحده المسلمون؛ لكن له شركاء ينفعوننا عند ال .وقسم ثالث يقول
بوحدانية ال.
وساعة نقول { ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ } نكون قد أثبتنا اللوهية ل ،وأثبتنا أن ل شريك له ،وأثبتنا أل إله
غيره ،وسبحانه يقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ فَإِن َتوَّلوْاْ َف ُقلْ حَسْ ِبيَ اللّهُ ل ِإلَـاهَ ِإلّ ُهوَ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ } وهذا أمر طبيعي ،ويمكن أن نعرفه
بالحساب؛ ولذلك جاء بـ { حَسْ ِبيَ } من الحساب .واحسبها فلن تجد إل ال .وما دام حسبك ال
ول إله إل هو ،فسبحانه يبسط عليك حمايته ونصرته لك ،فمن العقل أن تضع نفسك بين يدي
رسولك ،الذي أبلغك البلغ الكامل عن ال ،وأن تتوكل عليه سبحانه.
وما دام سبحانه هو حسبك ول إله إل هو ،والواجب يفرض عليك أن تظل في مَعيّته سبحانه،
ومعيّة ال مرحلتان :الولى بأخذ السباب التي أمدّ بها خلقه ،ومعية إيمانك المطلق بأن السباب
إن عجزت معك ،فأنت تلجأ إلى مسبّب السباب الموجود وهو رب الوجود.
وترى -مثلً -الناس وهي تحتاج إلى المياه؛ لنها ضرورة للحياة؛ فيذهبون إلى البئر فل
يجدون الماء رغم وجود البئر؛ لن المياه التي تأتي من جوف الرض لم تعد تتسرب إليه،
ولماذا؟ لن المخزون من ماء المطر الذي كان يأتي من أعالي الجبال ويتسرب تحت الرض قد
نفد ،ولهذا نحتاج إلى مدد من أمطار السماء؛ لتجري إلى المسارب تحت الرض وتعود المياه إلى
البئر.
وإذا جفّت البار المحيطة بنا ،هل نيأس؟ ل؛ لن ربنا بيّن لنا :ارفعوا أيديكم لربكم .إذن :فنحن
إذا استنفدنا السباب نطلب من المسبب ،ولذلك أتحدى أن يستنفد واحد أسباب ال الممدودة إليه،
ويلجأ إلى ال فيرده.
إن يد ال ممدودة لنا بالسباب ول يصح أن يهمل إنسان ول يأخذ بالسباب ،ويقول :أنا متوكل
على ال ،إن على النسان أن يأخذ أولً بالسباب وأن يستنفدها ،وبعد ذلك يقول :ليس لي ملجأ إل
ضطَرّ إِذَا دَعَاهُ }[النمل]62 :
أنت سبحانك ،واقرأ إن شئت قول ال سبحانهَ {:أمّن يُجِيبُ ا ْل ُم ْ
والمضطّر :هو من استنفد أسبابه ،وليس له إل ال .لكن أن يقول إنسان :أنا أدعو ال ليل نهار
وأسبّحُه سبحانه وأقرأ سورة يس مثلً ،ول يستجيب ال لدعائي .ونقول لمثل هذا القائل :أنت ل
تدعو عن اضطرار ولم تأخذ بالسباب ،خذ بالسباب التي خلقها ال ،أولً ،ثم ا ْدعُ بعد ذلك .ول
ت ْدعُ إل إذا استنفدت السباب؛ فيجيبك المسبّب ،وبذلك ل تفتن بالسباب ،فحين تمتنع السباب؛
تلجأ إلى ال .ولو كانت السباب تعطي كلها لفُتِنَ النسان بالسباب ،والحق سبحانه يقول {:كَلّ إِنّ
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق]7-6 :
الِنسَانَ لَيَ ْ
لذلك نجد الحق يبيّن دائما أن كل السباب بيده ،فنرى من يحرث ويبذر ويروي ويرعى ،ثم
يقترب الزرع من النضج ،وبعد ذلك تأتي موجة حارة تميته ،أو ينزل سيل يجرفه .إذن :خذ
بالسباب واجعل المسبب دائما في بالك ،وهنا يصح توكلك على ال.
وكثير من الناس يخطئ في فهم كلمة " التوكّل " ،وأقول :إن التوكل يعني أن تأخذ ،أولً ،أسباب
ال التي خلقها سبحانه في كونه ،فإن عَزّت السباب ولم تصل إلى نتيجة؛ فاتجه إلى ال ،مصداقا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقولهَ } :أمّن ُيجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ إِذَا دَعَاهُ {.
ونحن ندعو أحيانا عن غير اضطرار ونهمل السباب ،والمثال تجده في حياتنا حين يقول البن
لمه " :ادعي لي حتى أنجح " وتجيب الم المية قائلة كلمة بسيطة هي " :ساعد الدعاء بقليل من
المذاكرة " ،وهي بذلك تدل ابنها على ضرورة الخذ بالسباب.
إذن :فمعنى التوكل ،أن تستنفد السباب التي مدّتها يد ال إليك .فإذا استنفدتها؛ إياك أن تيأس؛ لن
لك ربّا ،وهو سبحانه ركن شديد ترجع إليه.
ومثال آخر :إذا كنت سائرا في الشارع ومعك جنيه واحد مثلً ثم وقع منك أو سُرق ،ول تملك في
البيت أو في البنك مليما واحدا ،هنا تغضب وتحزن ،أما إن كان في البيت عشرة جنيهات؛ فنسبة
الغضب والحزن ستكون قليلة ،وإذا كان في البيت عشرة جنيهات وفي البنك مائة جنيه؛ فلن
تحزن أو تغضب لضياع الجنيه الواحد.
()1351 /
حكِيمِ ()1
الر تِ ْلكَ آَيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْل َ
و { الر } ثلثة حروف ،وقد سبقتها سورة البقرة بـ { الم } و { الم } في أول سورة آل عمران،
وفي أول سورة العراف { المص } وهنا { الر } في أول سورة يونس .ونلحظ أن { الم } و
{ المص } و { الر } كلها أسماء حروف.
وكل شيء له اسم وله مسمى ،أنا اسمي الشعراوي صحيح ،والمسمّى هو صورتي .فإذا أُطلق
السم جاءت صورة المسمّى في الذهن.
فساعة نقول " :السماء " يأتي الذهن " ما علك " .وساعة تقول " :المسجد " يأتي إلى الذهن
المكان المحيّز للصلة.
إذن :فهناك فرق بين السم والمسمّى .وكل إنسان أمّي ،أو متعلم ،له قدرة على الكلم ،لكن ل
ينطبق بأسماء الحروف إل من تعلّم .وفي النجليزية نطلب ممن يتعلمها أن يتهجّى أسماء
الحروف.
إذن :فال ُكلّ -كل متكلم -يعرف النطق بمسمّيات الحروف ولكن الذي يعرف المسميات ويعرف
السماء هو من جلس إلى معلّم .وعرف أنك حين تقول " :أكلت " ،فهذه الكلمة مكونة من (همزة،
وكاف ،ولم ،وتاء).
فإن كانت بعض سور القرآن قد بَدأت بـ { الم } وهذه أسماء حروف ،ل مسمّيات حروف،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومحمد صلى ال عليه وسلم أ ّميّ لم يتعلم ،فمن الذي علّمه أسماء الحروف؟
هي ،إذن ،رمزية على أنه -بإقرار الجميع -أمي ولم يجلس إلى معلم ،ولم يقل له أحد شيئا ،ثم
نطق بعد ذلك بأسماء الحروف " ألف لم ميم " ولو نظرت إلى المنطوق بالسماء تجدها أربعة
عشر حرفا تكررت ،وهي نصف حروف الهجاء.
ومن العجيب أن توصيف حروف الهجاء جاء بعد أن نزل القرآن .وقسمناها نحن إلى حروف
مهجورة وحروف مهموسة وحروف رقيقة وحروف رخوة .وقد حدث هذا التقسيم بعد أن نزل
القرآن .وبالستقراء تجد الربعة عشر حرفا التي تأتي في فواتح السور تمثل كل أنواع الحروف.
من :رقيق ،ومفخم ،ومجهور ،ومهموس ،ومستعلٍ ،وبدأ ال بها على أشكال مختلفة ،فمرة يبدأ
بحرف واحد {:ص وَا ْلقُرْآنِ ذِي ال ّذكْرِ }[ص]1 :
ويقول سبحانه {:ق وَا ْلقُرْآنِ ا ْلمَجِيدِ }[ق]1 :
سطُرُونَ }[القلم]1 :
ويقول سبحانه {:ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَ ْ
إذن :فثلث سور ابتدأت بحرف واحد.
وهناك سور ابتدأت بحرفين اثنين مثل { :طه } { .يس } { .طس } { ،حـم }.
وهناك سور بدئت بثلثة حروف { :الم } مثلما بدأت سورة البقرة ،وسورة آل عمران ،وسورة
العنكبوت ،وسورة الروم ،وسورة السجدة.
وهناك سور قد بدئت بـ { الر }.
وثلث سور تتفق في اللف واللم .وتختلف في " الميم والراء " ,و { الر } في أول سورة يونس
و { الر } في أول سورة يوسف .و { الر } في أول سورة إبراهيم ،و { الر } في أول سورة
الحجر.
وهناك سورة قد بدئت بأربعة حروف مثل { :المص } في أول سورة العراف ،وكذلك سورة
الرعد بدأت بـ { المر }.
وهناك سور قد بدأت بخمسة حروف مثل سورة مريم } كهيعص { .وكذلك سورة الشورى بدأت
بـ } حـم * عسق {.
ومرة يطلق الحرف أو الحرفان في أول السورة ول تعتبر آية وحدها؛ بل جزءا من آية ،وهناك
سورتان تبدآن بأحرف وتعتبر آية مثل } طه { ،و } يس { .أما في سورة النمل فهي تبدأ بـ }
طس { ول تعتبر آية وحدها.
إذن :فمرة تنطق الحروف وحدها كآية مكتملة ،ومرة تكون الحروف بعضا من آية ،ومرة تأتي
خمسة حروف مثل } كهيعص { ،وكل هذا يدلك على أن القرآن توقيفي .ولم تأت آياته على نسق
واحد؛ لننتبه إلى أن الحق سبحانه أنزل هذه الحروف هكذا ،وكذلك نجد كلمة " اسم " في القرآن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في } بسم ال { وتكتب من غير ألف ،وهي ألف وصل ،أي :تنطقها حين تقرأها لكن الحرف
سمِ رَ ّبكَ
يسقط عند الكتابة ،ولكنها ل تسقط عندما نكتب الية الولى من سورة العلق {:اقْرَأْ بِا ْ
الّذِي خَلَقَ }[العلق ]1 :ومثال آخر لو استعرضت في القرآن الكريم كلمة " تبارك " ،ستجد فيها
ألفا بعد الباء ،وتأتي مرة من غير ألف ،وكلمة " البنات " نجدها مرة بألف ومرة من غير ألف،
كل ذلك؛ لنفهم أن المسألة ليس لها رتابة كتابة؛ لنها لو كانت رتابة كتابة؛ لجاءت على نظام
واحد.
وقد شاء الحق هذا المر؛ لتكون كتابة القرآن معجزة ،كما كانت ألفاظه وتراكيبه معجزة .وقد قال
البعض :إن العرب المعاصرين لرسول ال صلى ال عليه وسلم لم يكونوا أهل إتقان للكتابة،
ونقول :لو كانوا على غير دراية بالكتابة لما كتبوا " بسم " من غير ألف في موقعها ،لقد علموا أن
القرآن يجب أن يكتب كما نزل به جبريل عليه السلم على رسول ال صلى ال عليه وسلم كتابة
توقيفية ،أي :كما أمر الحق سبحانه.
وعجيبة أخرى أن كل آيات القرآن مبنية على الوصل ،فأنت ل تقرأ ختام السورة بالسكون ،بل
تلتفت لتجد الكلمة التي في ختام أي سورة مشكلة بغير السكون.
والمثال هو } :وَ ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْلعَظِيمِ { وجاء الحرف الخير بالكسر ل بالسكون؛ لتقرأ
موصولة بما بعدها ،فتقرأ كالتي } :وَ ُهوَ َربّ ا ْلعَرْشِ ا ْل َعظِيمِ بسم ال الرّحْمانِ الرّحِيـمِ {.
عضِينَ
وهذه الحركة دلت على أن جميع آيات القرآن موصولة ببعضها ،وإياك أن تجعل القرآن } ِ
{ فل تأخذ بعضا من آياته مفصولً عن غيرها ،بل القرآن كله موصولة ،فليس في القرآن من
وقف واجب ،بل اليات كلها مبنية على الوصل ،وإن كانت الكلمة الخيرة تنتهي بالفتحة فأنت
تقرأها منصوبة ومن بعدها } بسم ال الرّحْمانِ الرّحِيـمِ { فنحن ل نسكّن الحرف الخير في أي
سورة؛ لنها موصولة بما بعدها.
وحتى في الحكم التجويدي إن وجد إقلب ننطقه إقلبا ،وإن وجد إظهاء ننطقه إظهارا؛ لن آيات
القرآن مبنية على الوصل.
ولقائل أن يقول :إذا كان القرآن قد بني على الوصل ،فكان المفروض أن آيات القرآن التي بدئت
بحروف المعجم تنبني على طريق المعجم .فل نقول (ألف لم ميم) بل نقول " ألم ".
ونقول لمثل هذا القائل :ل ،إن حروف القرآن التي بدئت بها السور يجب أن ننطقها كما هي،
فننطق " ألف " ثم نقف ،ونقرأ " ميم " ثم نقف ،ونقرأ " لم " ثم نقف ،ونقرأ " ميم " ثم نقف؛ لن
هذه الحروف جاءت هكذا ،وعلّمها جبريل عليه السلم لرسول ال صلى ال عليه وسلم هكذا،
حتى ل نقول رتابة كلم ،بل إن لذلك حكمة عند ال سواء فهمتها أنت الن أم لم تفهمها.
وقد نزل القرآن على أمة عربية وظل أناس على كفرهم ،وكانوا يعاندون رسول ال ،ويترصدون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لي هفوة؛ ليدخلوا منها للتشييك في القرآن ،ولكن أسمعتم رغم وجود الكافرين الصناديد أن واحدا
قال :ما معنى } الم {؟
لم يقل أحد من الكافرين ذلك ،رغم حرصهم على أن يأتوا بمطاعن في القرآن ،بل اعترفوا
بمطلق بلغة القرآن الكريم ،مما يدل على أنهم فهموا شيئا من } الم { بملكتهم العربية ،ولو لم
يفهموا منها شيئا؛ لطعنوا في القرآن .لكنهم لم يفعلوا.
وأيضا صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم وهم أهل حرص على الفهم ،هل سمعت أن أحدا
سأل رسول ال عن معنى } الم {؟ لم يحدث ،مما يدل على أنهم انفعلوا لقائلها بسرّ ال فيها ،ل
بفهم عقولهم لها؛ لن الوارد من عند ال ل يوجد له معارض من النفس ،وإن لم العقل فهو
يرفضه مع استراحة النفس له.
وضربنا من قبل مثلً ،فقلنا :إن آل فرعون حين استحيوا نساء بني إسرائيل وذبحوا الذكور ،فماذا
ضعِيهِ
فعلت أم موسى؟ لقد أوحى لها ال ما جاء خبره في القرآن {:وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
خفْتِ عَلَ ْيهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَمّ[} ...القصص]7 :
فَإِذَا ِ
هاتِ أيّ أمّ وقُلْ لها :حين تخافين على وليدك فارميه في البحر ،طبعا لن تنفذ أي أم هذا القتراح.
كان من الممكن أن تحاول أم موسى إخفاء موسى بأي وسيلة.
أما أن تلقيه في البحر مظنّة أن تنجيه من الذبح ،فهذا أمر غير متخيّل ،ولكن هذا أمر وارد من
الرحمن باللهام والوحي ،فل يأتي الشيطان؛ ليعارضه أبدا؛ ولذلك طمأنها الحق سبحانه؛ لن
خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ[} ...القصص]7 :
اليات وردت {:فَِإذَا ِ
وكأن هناك تمهيدا يعلّمها الستعداد للمر قبل أن يقع ،وحين جاء المر {:إِذْ َأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأ ّمكَ مَا
يُوحَىا * أَنِ ا ْق ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَا ْق ِذفِيهِ فِي الْيَمّ[} ...طه]39-38 :
والكلم هنا كلم عَجَلَة؛ لن هذا وقت التنفيذ ،وطمأنها سبحانه بأن أصدر أوامره للبحر أن يقذفه
إلى الشاطئ:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك في قراءة التعبد نأخذ اللفظ بسر ال في اللفظ؛ فليس كل قارئ للقرآن متخصصا في اللغة؛
ليعرف أصل كل كلمة ،والكثير منا أمي ،يريد التعبد بالقرآن ،إذن -فليأخذ القرآن بسر من لقنه
إياها.
وقد فهم العربي القديم عن الحروف التوقيفية في أوائل بعض السور أشياء ،وللغته فيها نظائر؛
جهَلنْ
لنه مثلً حين يقرأ الشعر ،ويلتفت إلى شاعر يقول:أل هُبّي بِصحْنكِ فَاصبِحينا ويقول:أل ل َي ْ
أحدٌ عليْنا فَنجهَل فوْقَ جَهل الجَاهِلينَاما معنى أل هنا ،ولماذا جاءت؟ فالمعنى واضح بدونها ،لكن
العربي القديم قد نطق هذا البيت ،وعرف أن الكلم وسيلة إفهام وفهم بين المتكلم والسامع.
والمتكلم هو مالك الزمام في أن يتكلم ،أو ل يتكلم ،والسامع مفاجأ بالكلم ،فإذا ما ألقيت الكلم إلى
السامع؛ قد يكون في ذهنه مشغولً ،وإلى أن ينتبه لكلماتك ،قد تفوته جزئية من جزئيات الكلم؛
فتنبه أنت إلى ما قلت؛ فيتنبه؛ ليستوعب كل ما قلت.
إذن :فما المانع أن يكون الحق سبحانه وتعالى يريد أن يهيئ الذهان بـ } الم {؛ حتى نسمع ،ثم
تأتي اليات الحاملة للمنهج من بعد ذلك؟
وما المانع في أن نفهم أن النبي المي ل يعرف كيف ينطق بأسماء الحروف ،فهو إن نطق فإنما
يصدر ذلك بعد تعليم ال له؟
ولماذا ل نفهم منها أيضا أن وسائل الفهم ل تنتهي إلى أن تقوم الساعة؟ وإل لو انتهت عند البشر؛
لكان كلم ال قد حددت صفته بفهم البشر ،وسبحانه قد شاء أن نغترف من معاني كلماته الكثير
على مدى الزمان ،والقرآن كلم ال ،وكلم ال صفته ،وصفته ل تتناهى في الكمال ،فإن عرفت
كل مدلولتها ،تكون قد حددت الكمال بعلم ،لكن القرآن ل نهاية له.
ولماذا ل نفهم أن القرآن الذي بيّن الحق سبحانه وتعالى أنه معجزو محمد صلى ال عليه وسلم
هو من جنس ما نبغ فيه قومه؛ فتحداهم من جنس ما برعوا فيه .ويقول لهم :هاتوا مثيلً له ،ولن
تستطيعوا ،ولو أنه جاء بالقرآن على غير لغتهم في الكلم لقالوا :ل نستطيع؛ لن حروف هذه
اللغة جديدة علينا.
وقد شاء الحق أن يكون القرآن من نفس الحروف التي يتحدثون بها ،وبالكلمات التي يعرفونها في
لغتهم ،وشاء سبحانه أن يجعل حروف وكلمات وآيات وأساليب القرآن غير قابلة للتقليد؛ لن
المتكلم مختلف ،وبهذا جاءت عظمة القرآن ل من ناحية المادة الخام التي تبني منها الكلمات وهي
الحروف؛ بل المعاني والنسق الذي جاءت به الحروف ،فالمادة الخام -وهي الحروف -واحدة.
وصار القرآن معجزة؛ لن المتكلم هو ال.
وضربنا من قبل المثل لنقرب ذلك إلى الذهان :هب أننا نريد أن نقيس مهارة من ينسجون
القمشة ،ونضع أمام كل منهم مجموعة من غزل الصوف وغزل القطن ،وغزل الحرير ،وهذه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مواد خام يختلف كل منها عن الخر ،ونقول لهم :كل واحد منكم عليه أن ينسج قطعة من كل
صنف لنعرف الفضل في النسج.
وسنسمع من يقول :إن نتيجة نسج الصوف نسيج خشن ،وناسج القطن سينسج قطعة تأخذ صفات
القطن ،وناسج الحرير سينسج لنا نسيجا ناعما ،أما إن أعطينا كلّ منهم نوعا واحدا من الغزل؛
صوفا أو قطنا أو حريرا ،هنا سنعرف من القدر على النسج.
إذن :لو أن القرآن جاء بغير حروف العرب ،وبغير كلمات العرب؛ لقالوا :لو كانت عندنا هذه
الحروف وهذه الكلمات؛ لتينا بأحسن منها.
لذلك شاء الحق أن يأتي القرآن من جنس الحروف والكلمات .ولذلك تحوم العقول حول مقدمات
آيات السور؛ لتعرف شيئا من اليناسات بعد أن تواصلت الثقافات ،ولم تعد اللغة العربية متوافرة
مثلما كان الحال أيام نزول القرآن ،ومن كانوا يملكون هذه الملكة الصافية أيام الرسول صلى ال
عليه وسلم سمعوا الحروف التي في أوائل بعض السور وقبلوها ،والحق سبحانه يقول } :الر تِ ْلكَ
حكِيمِ { [يونس]1 :
آيَاتُ ا ْلكِتَابِ الْ َ
و } تِ ْلكَ { :إشارة ،ول بد أن نفرق بين الشارة والخطاب؛ لن البعض يخلط بينهما ،فالشارة هي
التي تشير إلى شيء مثل قولنا :هذا وذا ،أو تلك ،وهذا :إشارة لمذكر ،والمثال هو قولنا :هذا القلم
جميل ،أما قولنا :تلك الدواة جميلة ،فهذه إشارة لمذكر ،والمثال هو قولنا :هذا القلم جميل ،أما
قولنا :تلك الدواة جميلة ،فهذه إشارة لمؤنثة .أما " الكاف " :فهي حرف للخطاب ،فالتاء :إشارة
لليات وهي مؤنثة ،و " الكاف " في } تِ ْلكَ { :للمخاطب ،وهو محمد صلى ال عليه وسلم .فال
يقول لرسوله :تلك اليات يا محمد.
وعلى ضوء الفوارق بين الشارة والخطاب تختلف أساليب القرآن ،مثل قوله الحقَ {:فذَا ِنكَ
بُرْهَانَانِ مِن رّ ّبكَ[} ...القصص]32 :
و } فَذَا ِنكَ { :إشارة لشيئين اثنين :للعصا.
خلْ َي َدكَ فِي جَيْ ِبكَ[} ...النمل]12 :
و{ وَأَ ْد ِ
ويقول الحق أيضا {:ذاِل ُكمَا ِممّا عَّلمَنِي رَبّي[} ...يوسف]37 :
وهذا ما قاله سيدنا يوسف عليه السلم للسجينين اللذين كانا معه .وتُظهر لنا العبارة أنه كان
يخاطب اثنين ،ولكنه يشير إلى التأويل بـ " ذا ".
وحين دعت امرأة العزيز النسوة؛ ليشاهدن جمال سيدنا يوسف ،وأعطت كل واحدة منهن سكينا؛
وقالت :اخرج عليهن ،ولنه مفرد مذكر ،وهن جماعة إناث ،فالعبارة تأتي بخطاب لجماعة
الناث ،وإشارة إلى المفرد المذكر فقالت {:فَذاِلكُنّ الّذِي ُلمْتُنّنِي[} ...يوسف]32 :
و " ذا " إشارة إلى سيدنا يوسف ،و " كن " خطاب للنسوة .والقرآن حين يخاطب جماعة يقول{:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَذَِلكُمْ ظَّنكُمُ الّذِي ظَنَنتُم بِرَ ّبكُمْ[} ...فصلت]23 :
إذن فهناك فرق بين الشارة واليات ،فالـ " ت " إشارة لليات ،واليات مؤنثة ،والمخاطب
الول بالتكليف هو رسول ال صلى ال عليه وسلم.
واليات -كما عرفنا من قبل -جمع آية ،والية هي المر العجيب ،وكل منا يسمع من يقول:
إنها آية في الحسن أو آية في الجمال ،أو آية في الفن ،أو آية في الروعة.
فالية إذن هي الشيء العجيب ،أو الشيء الذي بلغ من الحسن ومن الجمال درجة هائلة .وتطلق
اليات إطلقات متعددة :فهي إما أن تكون المعجزات التي أمدّ ال بها رسله؛ ليثبت صدقهم{.
سحَرَنَا ِبهَا َفمَا نَحْنُ َلكَ ِب ُم ْؤمِنِينَ }[العراف]132 :
َم ْهمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آ َيةٍ لّتَ ْ
وإما أن تطلق اليات على الشياء العجيبة في الكون مثل قوله الحق {:وَآيَةٌ ّل ُهمُ الّيلُ نَسْلَخُ مِ ْنهُ
ال ّنهَارَ[} ...يس]37 :
جعَلْنَا الّيلَ وَال ّنهَارَ آيَتَيْنِ[} ...السراء]12 :
وقوله سبحانه {:وَ َ
جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَةً[} ...المؤمنون]50 :
وقوله الحق {:وَ َ
إذن :فالية إما أن تكون شيئا في الكون ،وإما أن تطلق على المعجزة التي جاء بها الرسل؛ لتثبت
صدقهم في البلغ عن ال ،وقد يكون المقصود بها آيات القرآن.
إذن :فاليات تطلق على ثلثة أمور :اليات الكونية للنظر والعتبار ،وآيات إعجازية لصدق
الرسول صلى ال عليه وسلم في البلغ عن ال ،وآيات قرآنية تحمل الحكام والتحدي للمشركين
أن يأتوا بمثلها.
حكِيمِ { المراد بها :اليات القرآنية ،وما دام ال هو
وهنا في قوله الحق } :الر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْل َ
خالق اليات الكونية الحسية ،وخالق المعجزات؛ وهو منزَّل القرآن؛ فل تعارض بين اليات؛ لن
مصدرها واحد.
حكِيمِ { [يونس]1 :
وقوله } :الر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ الْ َ
حكِيمِ { معناها :الذي يضع الشيء في موضعه الدقيق بحكمة ،فل ينظر إلى ظاهر
وكلمة } ا ْل َ
معطيات الشيء الن ويغفل ما قد يأتي به من مضرّة.
ول المثل العلى أقول :إنك قد تصل إلى الشيء ،وتظن أنه يخلصك من متاعب أخرى ،لكنه قد
يؤدي إلى شيء أضر ،وهذا هو السبب في اختلف ألوان ووظائف العقاقير المختلفة ،ولذلك نجد
الطبيب الحاذق يكتب عددا من الدوية؛ ليستخلص المريض منها ما يشفيه ،ويحاول بقدر المكان
أن يُجنبه الثار الجانبية لتلك الدوية.
إذن :فهذه حكمة؛ لن الطبيب ل يكتب الدواء الواحد الذي قد يأتي منه أثر ضار ،بل يكتب معه
دواء يخفّف من ضرره ،وهذه حكمة منه لنه يعمل احتياطات لما قد ينشأ من ضرر أو أثر
جانبي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي أوائل الخمسينات ،حاول العلماء أن يقللوا من أثر تهديد الحشرات للزروع ،واخترعوا مادة
اسمها " د .د .ت " لمقاومة الحشرات ،وافتخروا بهذا كل الفخر حتى عل كل صوت ،وهذا لن
البشرية وصلت إلى مادة تقضي على الحشرات ،ولكنهم اكتشفوا أن هذه المادة تضر الكائنات
الحية الخرى ،والن تُوقع العقوبة على من يستخدم تلك المادة؛ لن ذلك عمل قد تم بغير حكمة.
قد نأخذ منه ظاهر النفع ،لكن له جوانب متعددة من الضرر ،فقد سمّم الحيوانات وسمّم الزروع.
إذن :فالحكمة تعني :أن تضع الشيء في موضعه؛ ليعطيك فائدة ل تحدث ضررا فيما بعد.
وقد أنزل ال المنهج في الكتاب ليقود حياتنا إلى كل صلح .فإن طبقناه؛ فلسوف يأتي منه كل
نفع ،ولن يأتي لنا أي ضرر ،وضربنا المثل في المعطيات التي أعطاها الحق لنا في الكون،
فسبحانه خلق لنا الحيوانات؛ لنأخذ من لبنها ،ونأخذ من أصوافها ،ونأخذ من أصوافها ،ونأخذ من
شقّ
ح ِملُ أَ ْثقَالَكُمْ إِلَىا بَلَدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ بِ ِ
جلودها ،ونأكل من لحومها .وهو القائل {:وَتَ ْ
الَنفُسِ[} ...النحل]7 :
أي :أنها ستعطينا درجة من الراحة ،وإذا كان النسان قد اخترع أدوات أخرى تحمل عنا هذه
المشقات ،وتبلغنا غاياتنا بدون تعب؛ فهذه اختراعات تحقق مصلحة البشرية -وقد كانت البشرية
تحمل أمتعتها فوق الحمار أو البغل -وقد صنع النسان هذه الختراعات؛ فصارت عندنا
السيارات الكبيرة التي تحمل أطنانا من المواد والمتاع ،ولكن لم نلتفت إلى ما تحدثه من عوادم
تسبب فساد الهواء ،وتلوثه على عكس فضلت الحمار أو البغل ،التي تفيد في خصوبة الرض.
إذن :فصناعة السيارات إن لم تتخلص من عيوب عوادمها بأسلوب ما ،فهي اختراع بل حكمة،
ويجب البحث عن وسائل لزالة أضرار احتراق الوقود ،وبذلك نستفيد من سرعة السيارات،
وقدرتها على حمل البضائع ،ونتخلص مما تسببه من ضرر .وهكذا نعرف أن الحكمة هي :وضع
الشيء في موضعه المفيد فائدة دائمة ل يأتي من بعدها ضرر.
حكِيمِ { هل الكتاب بمفرده له حكمة؟ أم أن
ولقائل أن يقول :وما معنى قول الحق } :ا ْلكِتَابِ ا ْل َ
حكِيمِ { أنه الكتاب الذي يمتلئ بالحكمة
الحكيم هو من أنزل الكتاب؟ ونقول :إن معنى } ا ْلكِتَابِ ا ْل َ
الصادرة من ال ،أو الكتاب الذي أنزله الرب الحكيم .وكلمة " حكيم " على وزن " فعيل " ،ومثلها
مثل " كريم " و " رحيم " وتأتي مرة بصيغة فاعل ،ومرة بصيغة فعيل ،وموضعها هو الذي يبين
لنا ذلك.
حكِيمِ " يتضح لنا من سياقها :فإن نسبت المر إلى الحكم فهو كتاب صادر من
ومعنى كلمة " ا ْل َ
الحق سبحانه ،وإن أردت الوصف بمعنى فاعل فهو من حاكم؛ والحاكم هو الذي يحكم في قضايا؛
ليبين وجه الحق فيها ،والقرآن يحكم في كل قضايا اليمان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقمة العقيدة التي يحكم فيها القرآن هي ل إله إل ال .ومن يفعل عكس ذلك هو الظالم ،وسبحانه
القائل {:إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ عَظِيمٌ }[لقمان]13 :
والقرآن يحسم هذه القضايا ،وهو كحاكم فاصل فيها.
فإن قلت " :محكم " تكون قد نسبته ل ،وإن قلت " :حاكم " فهو الفاعل وهو يحكم في قمة العقيدة "
ل إله إل ال " ،وهي شهادة ذات لذات ،وشهادة مشهد من الملئكة ،وشهادة أدلة من الخلق{:
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ وَا ْلمَلَئِكَ ُة وَُأوْلُواْ ا ْلعِلْمِ[} ...آل عمران]18 :
َ
وساعة يفصل القرآن في هذه القضية ،فهو يحكم حكما عدلً يبين وجه الحق في قمة العقائد .وهو
حاكم في الفعال؛ فيبين الحلل من الحرام ويضع حدّا فاصلً في الحكام بين الحلل والحرام.
وحاكم في الخلق.
إذن " :حاكم " تعني ما بين وجه الحق فيما تتعارض فيه الراء والفكار والمعسكرات المتضاربة.
و " حكيم " :إما أن تكون بمعنى " فاعل " وإما أن تكون بمعنى (مفعول) ووقعت الحكمة من قائله
عليه ،فصار " محكما " ،وإن كانت كلمة الحكيم بمعنى فاعل تكون بمعنى " حاكم " وكلمة حاكم
تدل على أن هناك فريقين :فريق يقول قضية ،وفريق آخر يناقضه ،فيأتي الحاكم؛ ليفصل بين
المرين ،وليعدل وينصف.
وقد جاء القرآن هكذا :حاكما في أمر القمة التي اختلف الخلق فيها؛ فمنهم من أنكر وجود إله وهم
الملحدة .ومنهم من قال :إن الله هو غير ال ،ومنهم من قال :الله شريك لغيره ،فجاء القرآن؛
ليفصل في هذه المسألة ،وحكم فيها حكما واضحا ،وبيّن :يا من تقولون :ل إله؛ أنتم كذابون ،ويا
من تقولون :إن الله غير ال؛ أنتم كذابون ،ويا من تقولون :إن الله غير ال؛ أنتم كذابون ،وبا
من تقولون :إن الله له شركاء مع ال؛ أنتم كذابون ،بل هو إله واحد ،وهذا أول حكم في قضية
القمة.
وما دام الحكم في قضية القمة قد صح؛ إذن :فالستقبال للمنهج سيكون واحدا ،فل آلهة متعددة
يضارب هذا ذاك ،أو يناقضه ،بل هو إله واحد ،يصدر عنه حكم واحد يحقق الوحدة في التكاليف
للناس جميعا ،ويُخرج جميع الناس من أهوائهم إلى مراده هو سبحانه ،ويكون القرآن حاكما أيضا
في الفعال ،فقد يختلف الناس في تقييمهم لفعل واحد .فهذا يقول فعل حسن ،وآخر يقول :فعل
قبيح ،ويحسم القرآن المر ويحدد الفعل الحسن؛ فيأمر به؛ ويحدد الفعل القبيح؛ فينهي عنه ،ويبين
القرآن لنا الحلل من الحرام.
إذن :فالقرآن حكم في العقائد وفي الفعال وفي ذوات الشياء حلّ وحُرْمة ،وهو يحكم أيضا في
قضية هامة تلي قضية الحكم في قمة العقيدة ،وهي صدق البلغ عن ال ،فهذا الرسول الذي يحمل
البلغ عن ال ل بد أن يكون صادقا ،وقد جاء القرآن بالحكم في هذه القضية بمعنى أنه قد جاء
معجزا ،فإن لم تكونوا قد صدقتم بأن هذا رسول؛ فأتوا بمثل ما جاء به هذا الرسول.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإن عجزتم؛ فالرسول بنفسه يخبركم أن القرآن ليس من عنده ،بل من عند خالقه وخالقكم.
وسواء أكانت " حكيم " بمعنى " فاعل " أم بمعنى " مفعول " فقد دلتنا على أنها تعني وضع الشياء
في نصابها وضعا يحقق النفع منها دائما ،ول ينتج عنها ضارا أبدا.
ثم يقول الحق بعد ذلكَ } :أكَانَ لِلنّاسِ عَجَبا أَنْ َأوْحَيْنَآ{ ...
()1352 /
جلٍ مِ ْنهُمْ أَنْ أَ ْنذِرِ النّاسَ وَبَشّرِ الّذِينَ َآمَنُوا أَنّ َلهُمْ َقدَ َم صِ ْدقٍ
عجَبًا أَنْ َأوْحَيْنَا إِلَى رَ ُ
َأكَانَ لِلنّاسِ َ
عِنْدَ رَ ّب ِهمْ قَالَ ا ْلكَافِرُونَ إِنّ هَذَا َلسَاحِرٌ مُبِينٌ ()2
ما هو العجيب -إذن -في أن ال أوحى إلى رجل منكم أن يبلغكم إنذار ال وبشارته؟ ما الذي
تعجبتم منه؟ وما موضع العجب فيه؟ وجاء تحديد العجب فيه ما ذكرته الحيثية في آخر السورة
سكُمْ[} ...التوبة]128 :
السابقة من أنه {:رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
أي :من البشر ،ومن العرب ،ومن قبائلكم ،ومن أنفسكم ممن تعرفون كل خُلُقه ،فما العجيب في
أن يرسله ال رسولً إليكم؟ إنكم قد ائتمنتموه على أموركم من قبل أن ينزل عليه الوحي من ال،
فكأنكم احترمتم طبعه الكريم ،وأنكم في كثير من الشياء قبلتم منه ما يصل إليه من أحكام.
ودليل هذا أنكم حين اختلفتم في بناء الكعبة ،وقالت كل قبيلة :نحن أولى بأن نضع بأيدينا أقدس
حكّموا أول داخل؛ فشاء
شيء في الكعبة ،وهو الحجر ،حين ذلك اختلفت القبائل؛ فما كان إل أن َ
ال أن يكون أول داخل هو محمد بن عبد ال ،فكيف يحل محمد بن عبد ال هذه المشكلة ،ولم يكن
قد نزل عليه وحي بعد؟ إنها الفطرة التي جعلته أهلً لستقبال وحي ال فيما بعد ،فماذا صنع؛
لينهي هذا الخلف؟
جاء برداء ،ووضع الحجر على الرداء ،ثم قال لكل قبيلة :أمسكوا بطرف من الرداء ،واحملوا
الحجر إلى مكانه .وتلك هي الفطرة السليمة .ورأينا أيضا سيدنا أبا بكر عندما قالوا له وهو راجع
من الرحلة التي كان يقوم بها :لقد ادعى صاحبك النبوة ،قال " :إن كان قد قالها فقد صدق ".
من أي أحداث جاء حكم أبي بكر .أهو سمع من رسول ال كلما معجزا؟ أسمع منه قرآنا؟ ل ،بل
صدّقه بمجرد أن أعلن أنه رسول .فقد جربه في كل شيء ووجده صادقا ،وجربه في كل شيء
صدُقَ فيما بين البشر ،ليكذب على ال.
ووجد أنه أمين ،فما كان محمد لِي ْ
وكذلك خديجة بنت خويلد حينما قال لها رسول ال صلى ال عليه وسلم :يأتيني كذا وأخاف أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يكون كذا ،فبينت له أن المقدمات التي في حياته ل توحي بأن ال يخذله ويفضحه ويسلط عليه
ل وتنصف المظلوم ،ولن يخزيك ال أبدا " وبذلك كانت
الجن " :إنك لتصل الرحم ،وتحمل ال َك ّ
السيدة خديجة أول فقيه مستنبط في السلم.
وقوله سبحانهَ { :أكَانَ لِلنّاسِ عَجَبا } يعني :التعجب من أن يصدر منهم العجب ،والقرآن يتعجب
كيف يصدر منهم هذا العجب؟ وما دام يتعجب كيف يصدر منهم هذا العجب؟ فمن المنطقي أل
يكونوا قد تعجبوا؛ لنك حين تتعجب من شيء فإما أن تتعجب منه؛ لنه بلغ من الحسن مبلغا فوق
مستوى ما تعرف من البشر ،مثلما ترى صنعة جميلة وتقول :ما أحسن هذه الصنعة ،ونتساءل :ما
الذي جعل هذه الصنعة جميلة إلى هذا الحد غير المتصور؟
وأنت تقول ذلك؛ لن الصنعة قد بلغت من الجمال مبلغاص ل تصدق به أن أحدا من الموجودين
في إمكانه أن يصنعها.
والمثال على ذلك :نجد من يقول :ما أحسن السماء؛ وهو يتعجب من الشيء الذي يفوق تصوره.
وقد يتعجب من شيء قبيح ،ما كان يجب أن يرد على الخاطر ،ولذلك يقول القرآن {:كَيْفَ
َت ْكفُرُونَ بِاللّهِ[} ...البقرة]28 :
أي :قولوا لنا :كيف قبلتم لنفسكم الكفر؟
لن الكفر مسألة عجيبة تتنافى مع الفطرة.
جلٍ مّ ْنهُمْ[ { ...يونس]2 :
عجَبا أَنْ َأوْحَيْنَآ إِلَىا رَ ُ
وهنا يقول الحقَ } :أكَانَ لِلنّاسِ َ
وهنا نتساءل :كيف تتعجبون وقد جئناكم برسول من أنفسكم {،عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْي ُكمْ
بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة]128 :
أليس هذا هو المطلوب في الرائد ،فكيف تعجبون؟.
إن عجبكم يدل على أن بصيرتكم غير قادرة على الحكم على الشياء ،وما كان يصح أن يُستقبل
الرسول بالعجب ،ونحن نتعجب من عجبكم هذا.
وحين تتعجب من العجب؛ فأنت تبطل التعجب.
} َأكَانَ لِلنّاسِ عَجَبا أَنْ َأوْحَيْنَآ[ { ...يونس]2 :
أي :أن إيحاءنا لرجل منكم كان عجيبا عندكم ،وما كان يصح أن يكون أمرا عجيبا؛ لنه أمر
منطقي وطبيعي.
ثم ما هو الوحي؟ لقد سبق أن أوضحنا أن الوحي هو العلم بخفاء .وهناك إعلم واضح مثل
قولك لبنك :يا بني اسمع كذا ،وافعل كذا .هذا إعلم واضح .وهناك إعلم بخفاء ،كأن يدخل
عندك ضيف؛ ثم يسهو خادمك -مثلً -عن تحيته ،فتشير للخادم إشارة؛ تعني بها أن يُسرع
بتقديم التحية للضيف؛ من مرطبات ،أو حلوى ،وهكذا تكون قد أعلمت خادمك بخفاء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جتِ
والحق سبحانه وتعالى يوحي إلى الجماد ،فسبحانه يقول {:إِذَا زُلْزَِلتِ الَرْضُ زِلْزَاَلهَا * وَأَخْرَ َ
الَ ْرضُ أَ ْثقَاَلهَا * َوقَالَ الِنسَانُ مَا َلهَا * َي ْومَئِذٍ ُتحَ ّدثُ أَخْبَا َرهَا * بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة:
] 5 -1
أي :أنه سبحانه وتعالى قد أعلمها إعلما خفيّا؛ وهي قد فهمت بطريقة ل نعرفها.
حلِ[} ...النحل]68 :
وسبحانه يوحي للحيوانات ،فهو القائل {:وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ
أي :أنها فهمت عن ال بما أودع فيها من الغرائز.
وسبحانه يوحي للملئكة وهو القائل {:إِذْ يُوحِي رَ ّبكَ إِلَى ا ْلمَل ِئكَةِ[} ...النفال]12 :
ويوحي الحق سبحانه إلى غير الرسل؛ كما أوحى إلى أم موسى{ وََأوْحَيْنَآ إِلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ
خ ْفتِ عَلَ ْيهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي اليَمّ[} ...القصص]7 :
ضعِيهِ فَإِذَا ِ
أَ ْر ِ
وأوحى سبحانه إلى الرسل جميعا.
إذن :فسبحانه يوحي للجماد ،ويوحي للحيوان ،ويوحي للملئكة ويوحي للصالحين من غير
النبياء ،ويوحي للنبياء وللرسل.
والوحي -كإعلم بخفاء -يقتضي ُمعْلِما ،وهو الحق سبحانه وتعالى ،و ُمعْلَما؛ وهو إما :الرض،
وإما النحل ،وإما الملئكة ،وإما إلى بعض الصالحين من غير النبياء ،وإما إلى الرسل والنبياء.
وقد يأتي الوحي من غير ال ،فسحبحانه يقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالشياء ،وهو ما نسميه بالعامية " ونّاسة " .إذن :فمهمة المحول أن يستقبل من مصدر الطاقة
القوي؛ ليضيء لمصدر الطاقة الضعيف.
فإذا كان ال سبحانه وتعالى هو الذي يوحي للرسول ،والرسول من البشر ل يمكنه التلقي المباشر
عن ال؛ لذلك ل بد من واسطة تبلغ في الرتقاء بما يمسح لها بالتلقي عن ال ،وتستطيع أن تلتقي
بالبشر؛ وهذه خاصية المَلَك.
ورغم أن أصاب الجهد والتعب سيدنا رسول صلى ال عليه وسلم في أول تلقيه للوحي ،وكان
صلى ال عليه وسلم يعرف حتى يتفصد العرق من جبينه ،وإذا انصرف عنه الوحي قال" :
زمّلوني ..زملوني " ويرتعد.
وكان الصحابة يقولون :كان إذا نزل الوحي على رسول على رسول ال ،وهو قاعد؛ وقد تكون
ركبته على فخذ أحد الصحابة ،فيجد الصحابي ثقلً على رجله من شدة وطأة ركبة الرسول صلى
ال عليه وسلم ،وإذا نزل الوحي ،والرسول يركب مطيه فهي تئط منه.
إذن :كان الوحي يُتعب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وبعد أن يُسرّي عنه التعب؛ تبقى له
حلوة ما أوحي إليه؛ فيتشوّق ثانية للوحي.
وقد شاء الحق أن يشوّق النبي صلى ال عليه وسلك ،للوحي ففتر الوحي لمدة من الزمن .وحين
اشتاق النبي للوحي؛ كان ذلك يعني أنه قد شحن نفسه بطاقة متقبلة لستقبال هذا الوحي؛ بما فيه
من تعب.
ول المثل العلى دائما ،قسْ أنت الجهد المبذول في رحلة إلى من تحب ،أثناء المطر ،والرض
موحلة ومليئة بالشوك ،ورغم ذلك أنت تقطع الرحلة دون أن تلتفت لما فيها من إرهاق وتعب.
وشاء سبحانه أن يرغّب رسوله شوقا إلى الوحي ،رغم ما فيه من جهد؛ لن التقاء مَلَك ببشر،
وهذا اللقاء يكون على صورتين :إما أن ينقلب الملَك إلى مرتبة بشرية؛ وهذه الصورة ليس فيها
إجهاد على رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لن عملية التحويل جاءت في العلى بينما يظل
رسول ال صلى ال عليه وسلم كما هو " ،مثلً دخل جبريل على رسول ال ،وكان معه بعض من
الصحابة ،وسأل النبي صلى ال عليه وسلم :ما اليمان؟ وما السلم؟ وما الحسان؟ ثم اختفى
السائل ،فسأل الصحابة رسول ال عن هذا السائل؛ فقال " :هذا جبريل جاءكم يُعلّمكم أمور دينكم.
"
هذه هي الصورة الولى في الوحي ،والتحول فيها كان من جهة الرسال فل مشقة فيها على النبي
صلى ال عليه وسلم.
أما الصورة الثانية ،فقد كان فيها مشقة على رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لن الملك يظل على
طبيعته ،والتحول إنما يحدث لمحمد صلى ال عليه وسلم ،وكان التحول يقتضي عملية كيمياوية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تصيبه بالجهد؛ فيقول بعد أن يُسرى عنه " :زمّلوني" .
وشاء الحق أن يتلطف برسوله ،ففتر الوحي فترة من الزمن .وقال الكافرون من العرب :إن رب
محمد قد قله وهذا غباء منهم؛ لنهم اعترفوا أن لمحمد ربّا .وما داموا قد اعترفوا ،فعدم إيمانهم
صلف وغباء ،وارادوا بذلك أن ينسبوا النقص لمحمد صلى ال عليه وسلم ،فقالوا :إن ال قد قلى
محمدا.
وقد شاء الحق أن ينقطع الوحي عن محمد صلى ال عليه وسلم هذه المدة؛ ليكشفهم أمام أنفسهم
وأمام غيرهم ،لتنكشف نواياهم ،وتثبت قلّة بصيرتهم ،وافتقادهم للمنطق السليم ،فهم حين اعترفوا
أن لمحمد ربّا ،كان عليهم أن يحتكموا إلى عقولهم؛ ليعرفوا أنهم قد أقروا باللوهية ،لكنهم أرادوا
بهذا العتراف أن ينسبوا النقص لرسول ال صلى ال عليه وسلم.
ولو قاضيناهم إلى عقولهم ،وإلى الكون الذي عاشوا فيه ،وإلى الظواهر المادية المحسوسة لهم،
لعرفوا أن الحداث ل بد لها من زمان ومكان؛ لن كل حديث يتطلب زمانا ومكانا ،وإذا لم يوجد
حدث؛ ل يوجد زمان أو مكان.
ولذلك أقول دائما لمن يسأل :أين كان ال؟ أقول له :أنت جئت بالينية من الزمان ،والمكانية من
المكان ،وهذا ل يتأتى إل بوجود حدث .وما دام ال غير حدث ،فل زمان يحدده ،ول مكان
يُجيّزه؛ لن الزمان كان به ،والمكان كان فيه .والحداث هي عند البشر ،فهم من يستقون في
المكان ،ويتوالى عليهم الزمان.
والزمان الذي يحدث فيه أي حدث اسمه " ظرف زمان " ،والمكان الذي يحدث فيه الحدث اسمه "
ظرف مكان "؛ وظرف المكان ظرف قارّ ثابت ،بينما ظرف الزمان غير قارٍ ،بل هو حال ،وبعد
قليل يصبح الحال زمنا ماضيا؛ ويأتي المستقبل ليكون حاضرا ،ثم يصبح ماضيا.
وهكذا نعلم أن زمنا يحدث فيه التناوب بين المستقبل والحال والماضي ،والليل والنهار هما أوضح
صور ظرف الزمان وفيهما اختلف ،فالليل يأتي والنهار خلفه؛ لن النهار جعله ال ضياء؛
للحركة والكدح والعمل ،وجعل سبحانه الليل ظلما؛ للسكون والراحة ،فإن لم ترتحْ بالليل؛ ل
تقوى علة العمل في الصباح ،وهكذا يكون الليل مكملً للنهار ل مناقضا له.
وكذلك شاء الحق أن يكون الوحي بهذا الشكل ،فحين جاء الوحي لول مرة أجهد رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ثم فتر الوحي ليستريح صلى ال عليه وسلم؛ وتتجدد قدرته على استقبال الوحي
من بعد ذلك.
وحين قال الكافرون :إن ربّ محمد قد قله ،ردّ عليهم الحق سبحانه وتعالى } :وَالضّحَىا *
ك َومَا قَلَىا { والضحى ضحوة النهار وهي -كما قلنا -للعمل
عكَ رَ ّب َ
وَاللّ ْيلِ إِذَا سَجَىا * مَا وَدّ َ
والحركة ،فإذا جاء الليل فهو يبدو وكأنه ضد النهار ،لكنه غير ذلك ،بل هو مكمل له ويساعده.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :ففتور الوحي لمدة من الزمن كان لمساعدة رسول ال صلى ال عليه وسلم لتجديد الحيوية.
وقد أقسم الحق سبحانه بالضحى والليل ،وهو قسم بالظاهرة الكونية المشاهدة والتي يعترف بها
كل إنسان ،مؤمنهم ،وكافرهم!
أقسم الحق بالضحى أنه ما قلى رسوله ،بل شاء بفتور الوحي أن يعطيه طاقة تزيد من حركته،
وتزيد من جهده ليشتاق صلى ال عليه وسلم لمر الوحي .وبذلك أعانه الحق على مهمته ،وفي
هذا أبلغ ردّ على من قالوا :إن رب محمد قد قله ،وإثبات أن الحق قد شاء لفترة فتور الوحي أن
تكون كالليل سكونا ،ليهدأ صلى ال عليه وسلم بعد الضحى المجهد الذي استقبل به الوحي.
وبعد أن تتجدد حيويته صلى ال عليه وسلم يأتي الوحي من جديد؛ لذلك قال الحق {:وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ
س ْوفَ ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَىا }[الضحى]5-4 :
ن الُولَىا * وَلَ َ
ّلكَ مِ َ
سجَىا * مَا
وبعد هذه السورة يقول الحق سبحانه في سورة الشرح {:وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ ِإذَا َ
ك َومَا قَلَىا * وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ ّلكَ مِنَ الُولَىا }[الشرح]4-1 :
عكَ رَ ّب َ
وَدّ َ
وهكذا بيّن لنا الحق أن مسألة فتور الوحي وعودته هي عملية متكاملة ،لكن الغبياء فقط هم من
يظنون أنها نتناقضة ويقولون( :ظلمة -وضوء) ،و (ليلٌ -ونهارٌ) والحق أنها متكاملة.
ومثل هذا المر تجده أيضا فيمن يحاولون خَلْق عداوة بين الرجل والمرأة ،ولم يتفهّموا أن الذكر
متمّم للنثى ،وأن النثى متمّمة للذكر.
س وَبَشّرِ الّذِينَ
جلٍ مّ ْنهُمْ أَنْ أَنذِرِ النّا َ
عجَبا أَنْ َأوْحَيْنَآ إِلَىا رَ ُ
وهنا يقول الحق } َأكَانَ لِلنّاسِ َ
آمَنُواْ[ { ...يونس]2 :
والنذار -كما نعلم -هو الخبار بشيء يمكن أن تتلفاه.
أما البشارة فهي الخبار بخير يحثّك من يبشرك على أن تقتنيه .وأنت تنذر من يهمل في دراسته
بأنه قد يرسب ،وأنت حين تنذره إنما تطالبه بأن يجتهد ،وفي المقابل فأنت تبشر المجتهد بالنجاح
وبالمستقبل الطيب.
إذن :فالنذار يعني أن تحث النسان على أل يقبل أو ُيقْدِمَ على ما يضره .والتبشير يعني أن تحث
سلْب وإيجاب.
النسان على أن يجتهد؛ لينال ما يحبه .والمور في الحداث كلها تدور بين َ
ولسائل أن يقول :ولماذا جاء سبحانه بالنذار قبل البشارة؟
فنقول :إن كلمة " النذار " كلمة عامة لكل الناس ،حتى يتجنبوا ما يقودهم إلى النار ،لكن البشارة
تكون لمن آمن فقط .أو أن النذار والبشارة للمؤمنين ،ولكن شاء الحق أن يجعل المؤمنين في
صف البشارة دائما ،وأن يكون النذار لونا من ضرورة التخلية من العيوب ،قبل التحلية بالكمال.
فأنت تدفع عن نفسك المر الذي يأتي بالضُ ّر أولً ،ثم تتجه إلى ما يجلب النفع من بعد ذلك؛ لن
دَرْء المفسدة مُقدّم على جلب المصلحة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونجد الحق سبحانه يحدد النذار بأنه للناس ،والناس :هم الجنس المنحدر من آدم إلى أن تقوم
الساعة .وقد وقف بعض المستشرقين عند كلمة " الناس " ،وأرادوا أن يدخلونا من خللها إلى
متاهات التشكيك في القرآن ،وقالوا :إن القرآن فيه تكرار ل لزوم له.
وأهم سورة أخذها هؤلء المستشرقون هي سورة " الناس " حيث يقول الحقُ {:قلْ أَعُوذُ بِ َربّ
سوِسُ فِي صُدُورِ
سوَاسِ الْخَنّاسِ * الّذِى ُيوَ ْ
النّاسِ * مَِلكِ النّاسِ * إِلَـاهِ النّاسِ * مِن شَرّ ا ْلوَ ْ
النّاسِ * مِنَ الْجِنّةِ وَالنّاسِ }[الناس]6-1 :
وهذا الجمع من المستشرقين فهموا أن المعنى لكلمة " الناس " في كل آية من آيات هذه السورة هو
معنى واحد .ولنهم لم يتمتعوا بملكة اللغة؛ لم يلتفتوا إلى أن معنى كلمة " الناس " في كل موقع هو
معنى مختلف وضروري؛ لن الحق سبحانه أراد بكل كلمة في القرآن أن تكون جائبة لمعناها،
وأن يكون كل معنى جاذبا للكلمة المناسبة له.
حسُدُونَ النّاسَ عَلَىا مَآ آتَاهُمُ اللّهُ
والمثال أيضا في كلمة " الناس "؛ هو قول الحق سبحانهَ {:أمْ يَ ْ
مِن َفضْلِهِ[} ...النساء]54 :
فهل كل الناس تتلقى الحسد؟ لو كان المر كذلك فمن الحاسد؟ إذن :فقوله الحق {:أَمْ َيحْسُدُونَ
النّاسَ[} ...النساء]54 :
إنما يعني أن هناك أناسا حاسدين ،وآخرين محسودين ،ول تكون كلمة " الناس " عامة شاملة لكل
الفراد إل في حالة الحكم العام.
ت ُوضِعَ لِلنّاسِ[} ...آل عمران]96 :
والمثال هو قوله الحق {:إِنّ َأ ّولَ بَ ْي ٍ
وهذا القول الحق يحل لنا إشكالً عاما ،فالبيت الحرام موضوع لكل الناس ،من َلدُن آدم ،وآدم أبو
الناس.
ول بد -إذن -أن يكون البيت موضوعا قبل أن يكون آدم ،وأن الذي وضعه هو من غير
الناس ،فالذي وضعه هو بأمر من الحق سبحانه ،فل يقولن أحد :إن إبراهيم -عليه السلم -هو
الذي وضع البيت الحرام؛ لن مهمة إبراهيم -عليه السلم -كانت هي رفع القواعد من البيت؛
لننا لو قلنا :إن إبراهيم -عليه السلم -هو الذي بنى البيت؛ فكيف ينسجم هذا مع قوله الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا يعني أن البيت كان موجودا قبل ذلك.
وقولنا هذا يرد على بعض العلماء الذين قالوا :إن إبراهيم -عليه السلم -هو أول من بنى
الكعبة فنقول لهم :وماذا عن الخلق البشري من قبل إبراهيم إلى َلدُنْ آدم ،أليسوا ناسا؛ فلماذا لم
يكن لهؤلء الناس من قبل إبراهيم بيتٌ محرّمٌ؟
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يكون البيت الحرام لكل الناس من لدن آدم ،وأنه موضوع من قِ َبلِ
ال.
وكلمة الناس -إذن -عامة حين يتعلق المر بحكم عام ،وتكون خاصة في مواقع أخرى ،مثل
علَىا مَآ آتَا ُهمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ[} ...النساء]54 :
حسُدُونَ النّاسَ َ
قولهَ {:أمْ يَ ْ
وأما سورة " الناس " بالستقراء الدقيق في هذه السورة ،نجد الحق سبحانه يقولُ {:قلْ أَعُوذُ بِ َربّ
النّاسِ }[الناس]1 :
وهذا إعلن للربوبية لكل الخلق ،فهو الرب الذي أوجد وأعطى الصفات لكل مخلوق.
ول تحسب أنك تستطيع أن تشرد منه؛ فهو سبحانه يقول {:مَِلكِ النّاسِ }[الناس]2 :
أي :أنه يملك كل الخلق ،وجعل لهم الختيار في أشياء؛ ومنع عنهم الختيار في أشياء ،ولم يقل" :
مليك النّاس "؛ لن هذا القول يعني أنهم مجبورون على اليمان ،ول يسعهم غير هذا ،ولكن ال
جعلهم مختارين في المور التي هي مَنَاط للتكليف ،وغير مختارين في أمور هي ليست محلّ
لهذا.
وأقول لي واحد ممن تمرّدوا على اليمان؛ فكفروا بال؛ أقول :أنت متمرّد على ال ،وتكفر به،
وتنكر اللوهية ،فلماذا ل تكون منطقيّا مع نفسك ،وتتمرّد على كل الحداث التي تصيبك ،فإن
أصابك مرض؛ قل له :ل ،لن أمرض.
فل أحد يستطيع أن يدفع عن نفسه قدرا شاءه ال؛ لن الحداث ستنال من كل إنسان من كل
إنسان ما قدره ال له.
إذن :فكل إنسان هو مملوك ل.
وهكذا نجد الفرق بين أن يقول سبحانهُ {:قلْ أَعُوذُ بِ َربّ النّاسِ }[الناس]1 :
وان يقول {:مَِلكِ النّاسِ }[الناس]2 :
و " الناس " في الية الولى هم المربون ،والناس في الية الثانية هم " المملوكون ل " فل أحد
يخرج عن قدرة ال في المور القهرية.
وتأتي " الناس " في الية الثالثة {:إِلَـاهِ النّاسِ }[الناس]3 :
لتؤكد أن الحق هو الله المعبود بحق ،وهو الذي يقيك مما ستأتي به الية الرابعة {:مِن شَرّ
سوَاسِ ا ْلخَنّاسِ }[الناس]4 :
ا ْلوَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صدُورِ النّاسِ }[الناس]5 :
سوِسُ فِي ُ
والية الخامسة {:الّذِى ُيوَ ْ
والوسواس الخناس :هو الذي يزين لك أفعال الشر في أذنك ،وهو خَنّاس؛ لنه يخنس ساعة يسمع
سوَسِ إليهم.
قولك " :أعوذ بال من الشيطان الرجيم " وهو يوسوس في صدور الناس ال ُموَ ْ
وهكذا نجد أن كلمة " الناس " قد جاءت؛ لتعبر عن المربوبين ،والمملوكين ،والمأهولين،
والموسوس إليهم ،وأن من يوسوِس قد يكون من الجن ،وقد يكون من الناس.
إذن :فليس هناك تكرار بل جاءت الكلمة الواحدة بمعنى يناسب كل موضع جاءت فيه.
والمثال في حياتنا -ول المثل العلى -قد أكون معلّما متميزا واختارتني الكلية التي أقوم
بالتدريس فيها لكون رائدا للطلب ،ورئيسا لجمعيتهم الصحفية ،ومشرفا عليهم في الرحلت،
ومراجعا لتصحيح أوراق إجاباتهم ،وهكذا تكون كلمة " الطلب " لها معنى مختلف في كل موقع.
س وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُواْ أَنّ َلهُمْ
والحق يقول في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :أَنْ أَنذِرِ النّا َ
قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَ ّبهِمْ[ { ...يونس]2 :
والحديث موجه لمحمد صلى ال عليه وسلم وهو الرسول الخاتم.
إذن :فالمراد بإنذار الناس هنا؛ هم جميع الناس.
وما المقصود بقوله } :أَنّ َل ُهمْ قَ َد َم صِدْقٍ عِندَ رَ ّبهِمْ { [يونس]2 :
إن القدم كما نعرفه :هو آلة السعي إلى الحركة ،كما أن اليد آلة العطاء؛ فتقول :فلن له يد
عندي ،أو تقول :أنا ل أنسى أياديك عليّ حين يقدم لك صديق هدية ما ،وهو قد سار على قدميه؛
ليحضر لك الهدية ،ولكنه يناولك لها بيديه.
إذن :فكل جارحة لها ظاهر في الحركة؛ وفي العمال .فالقدم تسعى إلى الشياء ،واليد تتحرك في
العطاء ،والذن في السمع ،والعين في الرؤية .وهكذا يكون معنى } قَدَمَ صِدْقٍ { هو سابقة فضل؛
لنهم حين استمعوا إلى منهج ال ،وأ ّدوْا مطلوبات هذا المنهج كما يحب ال؛ فعليك يا محمد ان
تبشرهم بالجنة .ذلك أن لهم سابق قدم ،سعي إلى الخير ،وهو قدم صدق.
لكن هل هناك ما يمكن أن نسميه " قدم كذب "؟
نعم ،وهو ما يخلعه الفاقون على تواريخ الناس ،فيصفونهم بما لم يكن فيهم ،وهكذا نفرق بين قدم
الصدق وقدم الكذب.
قدم الصدق -إذن -هو سابقة في الفضل أهّلتهم لن يكونوا موضع البشارة ،فهم قد صدقوا
المنهج ،وأعطوا من واعد حق.
والصدق -كما نعلم -هو الخصلة التي ل يمكن لمؤمن أن يتنحى عنها؛ لنه لو تنّحى عنها ،فهذا
يعني التنحّي عن اليمان .وحينما سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم :أيكون المؤمن جبانا؟
فقال :نعم ،فقيل له :أيكون المؤمن بخيلً؟ فقال :نعم ،فقيل له :أيكون المؤمن كذابا؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقال :ل.
إذن :فالصدق هو جماع الخير .وعلى الصدق تدور الحركة النافعة في الكون.
وحين يصدق التاجر في ثمن الشياء؛ ويصدق العامل في إخلصه للعمل؛ ويصدق الصحفي في
نقل الخبر ،ويصدق كل فرد في المجتمع ،هنا يتكامل المجتمع وينسجم؛ لن الفساد في الكون إنما
ينشأ من الكذب ،والكذب هو الذي يخل بحركة الحياة.
لذلك أتى ال بكلمة الصدق في القرآن في أكثر من موضع ،فهو القائل {:وََلقَدْ َبوّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
صدْقٍ[} ...يونس]93 :
مُ َبوّأَ ِ
طعَا ٍم وَاحِدٍ[} ...البقرة]61 :
فحين قالوا {:لَن ّنصْبِرَ عَلَىا َ
أنزلهم ال بمكان يحقق لهم ما طلبوا من طعام ،فلم يخدعهم سبحانه ،ويأتي الحق مرة ثانية بكلمة
ن صِ ْدقٍ فِي الخِرِينَ }[الشعراء]84 :
جعَل لّي لِسَا َ
الصدق فيقول {:وَا ْ
أي :اجعل لي ذكْرا حسنا فيمن يأتون من بعدي ،فل يقال في تاريخي كلم كذب ،وأل يخلع عليّ
الناس ما ليسَ فيّ.
حمَلَتْهُ ُأمّهُ
وقد قال الحق سبحانه وتعالى حينما تكلم عن النسانَ {:و َوصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَيْهِ إِحْسَانا َ
ش ّد ُه وَبَلَغَ أَرْ َبعِينَ سَنَةً قَالَ َربّ
شهْرا حَتّىا إِذَا بَلَغَ أَ ُ
حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ
كُرْها َو َوضَعَتْهُ كُرْها وَ َ
ع َملَ صَالِحا تَ ْرضَا ُه وََأصْلِحْ لِي فِي
ي وَأَنْ أَ ْ
ي وَعَلَىا وَالِ َد ّ
َأوْزِعْنِي أَنْ أَشكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َعمْتَ عََل ّ
ك وَإِنّي مِنَ ا ْل ُمسِْلمِينَ }[الحقاف]15 :
ذُرّيّتِي إِنّي تُ ْبتُ إِلَ ْي َ
عمِلُواْ وَنَ َتجَاوَزُ عَن سَيّئَا ِتهِمْ فِي
ثم يقول الحق سبحانهُ {:أوْلَـا ِئكَ الّذِينَ نَ َتقَبّلُ عَ ْنهُمْ أَحْسَنَ مَا َ
َأصْحَابِ ا ْلجَنّ ِة وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ }[الحقاف]16 :
ولماذا يصف الحق الوعد هنا بأنه وعد حق؟ لن هناك من يعد الوعد الكاذب ،حين يعد أحدهم بما
ل يملك ،أو أن تعد بما ل تقدر عليه ،أو أن تعد بما ل تمهلك الحياة لنفاذه.
علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ[} ...الكهف-23 :
شيْءٍ إِنّي فَا ِ
ولذلك قال الحق لنا {:وَلَ َتقْولَنّ لِ َ
]24
إذن :ل بد أن تسبق أي وعد بمشيئة ال؛ لنك حين تَعد؛ قد ل تملك إنفاذ ما وعدت به ،فقد تعد
إنسانا بأن تلقاه في الغد في مكان ما لتتحدثا في أمرٍ ما.
ونقول :أضمنت أن تستمر حياتك إلى الغد؟ ها هو أول عنصر قد يُفقد؛ أضمنت أن تستمر حياته؟
هذا هو العنصر الثاني الذي قد يُفقد ،ثم أضمنت أل يتغير السبب الذي من أجله تلقاه؟ ثم أضمنت
إن اجتمعت كل هذه العناصر أل تُغير أنت رأيك في هذه المسألة؟
إذن :ل تجازف بأن تعد بشيء ليس عندك عنصر من عناصر الوفاء له ،وأسند كل عمل إلى من
يملك كل العناصر ،وقل:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ ِإلّ أَن َيشَآءَ اللّهُ[} ...الكهف]24 :
إذن :فوعد الصدق معناه أن يكون الوعد ممن هو قادر على أن يحققه قطعا؛ ول تخرج الشياء
مهما كانت عن قدرته ،ولم يترك الشياء؛ لنه باقٍ .ولن يتغير رأيه؛ لنه ليس حدثا يتغير .بل
بيده كل شي وهو على كل شيء قدير .وسبحانه وتعالى يقول {:إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ َنهَرٍ * فِي
صدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ ّمقْتَدِرٍ }[القمر]55-54 :
َمقْعَ ِد ِ
هكذا وعد الحق عباده المتقين بأنهم سوف يقعدون في حضرته مقعد صدق وهو المليك المقتدر.
ج صِ ْدقٍ[} ...السراء]80 :
ق وََأخْرِجْنِي مُخْرَ َ
صدْ ٍ
خلَ ِ
وسبحانه يقولَ {:أدْخِلْنِي مُ ْد َ
أي :أدخلني في هذه البلدة مدخل صدق للغاية التي ل أستحي من أن أقولها ،ل أن أدخل بغرض
أمام الناس وأن أخفي غرضا آخر ،وكذلك أخرجني منها مخرج صدق.
ل صِ ْدقٍ { و
خَإذن :فكلمة الصدق دائرة } قَدَمَ صِدْقٍ { و } مُ َبوَّأ صِ ْدقٍ { و } َم ْقعَ ِد صِدْقٍ { و } مُدْ َ
ج صِدْقٍ { وكل هذا يُحببنا في الصدق؛ لن كل أمور الحياة؛ وفضائلها؛ وخيراتها ،وما
} ُمخْرَ َ
ينتظر الناس من سعادة؛ كل ذلك قائم على كلمة الصدق.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه } :وَبَشّرِ الّذِينَ آمَنُواْ أَنّ َل ُهمْ قَ َدمَ
صِدْقٍ { [يونس]2 :
ضلٍ عند ربهم يجازيهم بها؛ لنهم عملوا بمقتضى منهجه ،أما موقف الكافرين
أي :أن لهم سابقة َف ْ
فهو مختلف؛ لذلك يقول الحق سبحانه } :قَالَ ا ْلكَافِرُونَ إِنّ هَـاذَا لَسَاحِرٌ مّبِينٌ { [يونس]2 :
ولماذا جاء سبحانه بخبر الكافرين هنا رغم أن الموقف هو إنذار وبشارة؟
ونقول إن الرسول صلى ال عليه وسلم حين أبلغ المنهج عن ال ،استقبله أهل اليمان بالتصديق،
أما الكافرون فقد اختلف موقفهم ،فَإِتّهمَ بعضهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بأنه ساحر.
وجاء قول الحق على هذه الصورة المبينة بالية؛ لن القرآن يحذف أشياء أحيانا ،لن لباقة
السامع ستنتهي إليها ،فل يريد أن يكرر القول .وانظر إلى قصة بلقيس ،حيث نجد الهدهد يقول
لسيدنا سليمان {:أَحَطتُ ِبمَا َلمْ ُتحِطْ ِبهِ[} ...النمل]22 :
هذا هو الهدهد وهو المخلوق القل من سليمان عليه السلم يقول له :لقد عرفت ما لم تعرفه أنت،
وكأن هذا القول قد جاء؛ ليعلمنا حسن الدب مع من هو دوننا ،فهو يهب لمن دوننا ما ُيعَّلمُه لنا،
حثُ فِي الَرْضِ[} ...المائدة]31 :
ألم يُعلّمنا الغراب كيف نواري سوأة الميت؟{ فَ َب َعثَ اللّهُ غُرَابا يَبْ َ
سوْ َءةَ َأخِي فََأصْبَحَ مِنَ
عجَ ْزتُ أَنْ َأكُونَ مِ ْثلَ هَـاذَا ا ْلغُرَابِ فَُأوَا ِريَ َ
ويقول قابيل {:يَاوَيْلَتَىا أَ َ
النّا ِدمِينَ }[المائدة]31 :
وهكذا يتعلم النسان ممن هو دونه ،وممن سخره ال له .وانظر كيف أبرز لنا ال أن الدنى إن
رأى خبرا ،ل بد أن يبلغه للعلى ،فتتحقق سيولة المعلومات ،التي يتخذ العلى على ضوئها
القرار المناسب؛ فالهدهد يقول لسيدنا سليمان:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حطْ بِهِ وَجِئْ ُتكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ َيقِينٍ }[النمل]22 :
{ َأحَطتُ ِبمَا َلمْ تُ ِ
ويتخذ سليمان قرارا ينفذه الهدهد {:اذْهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا فَأَ ْلقِهْ إِلَ ْيهِمْ ُثمّ َت َولّ عَ ْن ُهمْ فَانْظُرْ مَاذَا
جعُونَ }[النمل]28 :
يَرْ ِ
وتتتابع الحكاية من بعد ذلك فيقول الحق {:قَاَلتْ ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ إِنّي أُ ْل ِقيَ إَِليّ كِتَابٌ كَرِيمٌ }[النمل]29 :
فكأن الهدهد أخذ الكتاب وألقاه إلى بلقيس فما قرأته؛ جمعت قومها؛ لتخبرهم .وهكذا حذف القرآن
بعضا من التفاصيل التي إن رُويت تكون تكرارا؛ ولكن جاءت المسألة بهذه الصورة؛ ليدلنا الحق
على أن أوامر التلقي كانت سريعة بحيث ل يوجد فاصل بين المر وتنفيذ المر ،فالتحم المران
معا.
إذن :فقوله الحق } :قَالَ ا ْلكَافِرُونَ إِنّ هَـاذَا َلسَاحِرٌ مّبِينٌ { [يونس]2 :
جاء منسجما مع ما يُفهم من النص ،فهم لم يقولوا ذلك التهام إل بعد أن بلغهم صلى ال عليه
وسلم أن ال قال له :بَشّر وأنذر ،فلما بشّر وأنذر ،جاء قولهم بأن الرسول ساحر ،وهكذا نفهم
كيف تكوّن موقفهم هذا من سياق الية؛ لنهم لم يقولوا ذلك إل بعد بلغ النذار ،أو بلغ البشارة.
وهكذا نجد أن القرآن قد ل يذكر الشياء التي إذا سمع السامع السلوب أخذها من نفسه دون أن
يتطلبها كلم منطوق ،ومثل هذا المر جاء في لقطة أخرى في قصة سبأ ،فبعد أن ائتمر الهدهد
بأمر سليمان وذهب بالكتاب فألقاه إلى ملكة سبأ ،وقرأته ،وجمعت القوم؛ لتأخذ رأيهم فيما تفعله
مع سليمان ،فكان من أمرها معهم ما ذكره القرآن ثم علم سيدنا سليمان بأمر مقدمها مع قومها،
شهَا قَ ْبلَ أَن يَأْتُونِي مُسِْلمِينَ }
فنجد سيدنا سليمان عليه السلم يسأل من حوله {:أَ ّيكُمْ يَأْتِينِي ِبعَرْ ِ
[النمل]38 :
إذن :فهو قد عَلِم أنهم مُقبلون عليه بالسلم ،فأراد أن ينقل العرش من مملكتها إلى مملكته؛ قبل
أن يجيئوا ،وما داموا قادمين في الطريق ،فعلى من يذهب ليفك العرش وينقله ،ل بد أن تكون له
طاقة تفوق قدرة النسان العادي ،ولذلك لم يتكلم النس العادي ،لكن الذي تكلم جني غير عادي،
ذكي ،فمن الجن من يتميز بالذكاء ،ومنهم غير ذلك.
ك وَإِنّي عَلَ ْيهِ
عفْرِيتٌ مّن ا ْلجِنّ أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن َتقُومَ مِن مّقَا ِم َ
وجاء قول الحق سبحانه {:قَالَ ِ
َلقَ ِويّ َأمِينٌ }[النمل]39 :
ومقام سليمان مع قومه قد يستمر ساعة أو ساعتين أو ثلث ساعات .وسيدنا سليمان يريد التعجيل
علْمٌ مّنَ
بنقل عرش بلقيس ،لذلك تجده يستمع إلى من عنده علم من الكتاب {:قَالَ الّذِي عِن َدهُ ِ
ا ْلكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن يَرْتَدّ إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ[} ...النمل]40 :
ألم يكن مثل هذا القول يحتاج إلى إذن من سيدنا سليمان ،وأن يقول سليمان اذهب فيذهب ويحل
العرش ويعود به؟ نعم ،المر يحتاج كل ذلك ،ولكن القرآن جاء بالقصة في تصوير متتابع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للسرعة ،وجاء القرآن بخبر العرش ،وقد جاء إلى حيث يجلس سليمان عليه السلم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والدليل على ان التغير قد حدث في حقيقة العصا ،أن السحرة الذين جمعهم فرعون من كل مكان،
ووقفوا في منافسة مع سيدنا موسى ،وقالوا لهِ {:إمّآ أَن تُ ْل ِقيَ وَِإمّآ أَن ّنكُونَ َأ ّولَ مَنْ أَ ْلقَىا }[طه:
]65
وقبل موسى عليه السلم التحدي ،وتجد القرآن يصور المسألة فيقول:
()1353 /
ومن بعد ذلك يرد الحق على حكاية العجب من أن ال أوحى لرسوله ،وكذلك مسألة اتهام الرسول
بالسحر ،فيلفتهم إلى قضية فوق هذه القضية ،وأنهم كان عليهم أن يروا العجب في غير مسألة
الوحي إلى الرسول صلى ال عليه وسلم.
أي :كان عليكم ان تروا هذه المسألة العجيبة ،وهي خلق السموات والرض وتتأملوا صنعها،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكيف حدثت؟
وإذا كان ال هو الذي خلق السموات والرض ،وجعلك أيها النسان تطرأ على عالم ،وعلى كون
معدّ لك إعدادا دقيقا ،فكان يجب أن تلتفت إلى هذه المسألة قبل أي شيء آخر.
وضربنا من قبل المثل ،وقلناَ :هبْ أن إنسانا ركب طائرة ،ثم نفد وقودها وسقطت في الصحراء،
وكُتبت له النجاة وتلفّت حوله فلم يجد ماء أو طعاما أو أي دليل من أدلة الحياة ،ثم غلبه النوم،
فلما استيقظ من نومه ،وجد مائدة عليها من أطايب الطعام ،وأطايب الشراب ،أما كان يسأل نفسه
قبل أن يأكل ويشرب :من الذي صنع وأحضر كل هذا الطعام ،وكل هذا الشراب؟
وهذا الكون قد أعدّ لك أيها النسان ،أما كان يصح أن تفكر فيمن أعدّ لك هذا الكون ،وخلق لك
كل ما ليس في متناول قدرتك ،وسخّر كل ذلك لك؟ وقد أبلغك الحق :أنا خلقت السماء ،وخلقت
الرض ،والشمس ،والنجوم ،وحين وصلك هذا البلغ ،فإما أن يكون صدقا ،فلتنفذ ما أمر به
الخالق .وإن لم يكن هذا الكلم صدقا ،فمن الذي خلق إذن؟ إن كان هناك إله غيره قد خلق الكون،
وسمع مثل هذا البلغ ،ولم يتحرك لبيان صدق المسألة ،لما كان هذا الخر يستحق أن يكون إلها.
وما دام لم يظهر معارض له سبحانه ،فهو الخالق؛ لن الدعوى إذا ما صدرت من واحد ،ولم
يظهر لها معارض ،فصاحبها هو من أصدرها إلى أن يوجد له معارض.
وقد ضربنا مثلً؛ فقلناَ :هبْ أن جماعة من أصدقائك جاءوا لزيارتك ،ثم خرجوا من عندك،
ووجدت أنت حافظة نقود ،ولم تعرف لمن هي ،ثم بعثت بخادمك؛ ليسأل من كانوا في زيارتك،
وقال كل واحد منهم :إن حافظة نقوده لم تضع منه ،إل واحدا قال :نعم ،هي حافظة نقودي.
وهكذا تثبت ملكية هذا القائل لحافظة النقود ،إلى أن يثبت العكس.
والحال هنا هكذا ،فحين أبلغنا الحق أنه خلق السماء والرض والشمس والقمر والنجوم وجعل في
الرض رزق البشر ،ولم يعارضه أحد ،إذن :يجب أن نصدق أنه الخالق.
وإذا كان ال سبحانه وتعالى قد خلق لكم كل هذا الكون مُسخّرا أفل تتركون له حرية أن يختار
رسولً منكم إليكم؟ فما وجه العتراض إذن؟
يكشف الحق منطقهم حين قالوا:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالعداوة هي لرسول ال ،وهي عداوة حاقدة غير منطقية؛ لن كل واحد منكم كان إذا ملك شيئا
نفيسا عزيزا عليه ،فهو ل يجد أمينا عليه إل محمدا.
إذن :فلماذا ل تغشون أنفسكم في مسألة استئمان محمد على الشياء النفيسة ،ولو كنتم غير مؤمنين
بصدقه .فلماذا استأمنتموه على نفائسكم؟ أليس هو محمد بن عبد ال الذي هاجر وترك عليّ بن
أبي طالب؛ ليرد المانات لصحابها؟
إذن :فل محمد دون مستوى الرسالة والمانة ،ول القرآن دون المستوى ،بشهادتكم أنتم؛ بشهادتي
القول والفعل.
ت وَالَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ[ { ...يونس.]3 :
سمَاوَا ِ
وهنا يقول الحق } :إِنّ رَ ّبكُمُ اللّهُ الّذِي خََلقَ ال ّ
س وَلَـاكِنّ
ت وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّا ِ
سمَاوَا ِ
وفي موقع آخر بالقرآن يقول سبحانه {:لَخَ ْلقُ ال ّ
س لَ َيعَْلمُونَ }[غافر]57 :
َأكْـثَرَ النّا ِ
وما دام هذا الخلق العجيب قد صدر منه ،فالتصرفات التي دون ذلك ل بد أن تكون مقبولة منه
سبحانه وتعالى ،وأن تكون لحكمة ما .وتعالوا نتحاكم إلى أنفسكم ،أنتم تقولونَ {:ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا
عظِيمٍ }[الزخرف]31 :
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
طعْنَ فيه ،بل تطعنون في مسألة أنه جاء على يد محمد صلى
إذن :ل شك عندكم في القرآن ل َ
ال عليه وسلم ،وتمنيتم لو أن القرآن قد جاء على يد واحد آخر تقبلونه .وأنتم في هذه المسألة غير
منطقيين؛ لنكم تريدون أن تتدخلوا في قسمة ال ورحمته في أن يُنزِل الوحي على من تشاءون،
ل من يشاء هو سبحانه.
وأنتم بذلك تريدون أن تتحكموا في الرحمة العليا من ال في أن يختار رسولً؛ ليبلغكم عنه.
ح َمتَ
سمُونَ َر ْ
وتتناسون أنكم في هذه الدنيا ل تقسمون الرزاق؛ لذلك يقول الحق {:أَ ُهمْ َيقْ ِ
رَ ّبكَ[} ...الزخرف]32 :
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي
فإذا كنتم تريدون أن تقسموا رحمة ال ،فاعلموا هذا القول من ال {:نَحْنُ قَ َ
الْحَيَاةِ الدّنْيَا[} ...الزخرف]32 :
وهذا المر السهل؛ تقسيم المعيشة في الحياة الدنيا تصرف فيه الحق سبحانه ،فكيف لكم -إذن -
أن تطمعوا في تقسيم المر العلوي وهو رحمة ال العليا في أن يرسل رسولً.
والحق سبحانه يقول في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :إِنّ رَ ّبكُمُ اللّهُ {.
وساعة تسمع كلمة " رب " ينصرف الذهن إلى الخلق وإلى التربية ،ولذلك نحن نستعمل هذه
الكلمة ونقول " :فلن رب هذه السرة " أي :أنه المتولي تربيتها ،وكلمة " الرب " بمعناها المطلق
عدْمٍ ،وهو بهذا الوصف ربّ كل خلقه:
تنصرف إلى ال ،فهو الخالق الذي خلق من عَدَم وأمدّ من ُ
المؤمن والكافر ،والطائع والعاصي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما دام ال سبحانه ربّا لكل الخلق ،فهو الرازق لكل خلقه ،فهو الذي استدعى خلقه إلى هذه الدنيا،
وهو الذي يعطي كل مخلوق الرزق الذي كتبه ال له ،وهو سبحانه يأمر نواميس الكون وأسبابه
أن تعطي له أو ل تعطي ،فإن زرع الرض وأحسن زراعتها؛ أعطى سبحانه المر للرض أن
تعطي هذا المخلوق الرزق.
وكل مخلوق يأخذ بالسباب ،ويوفر له الحق النجاح في السباب.
وأقول دائما لمن يرون تقدم الكفار في أمور الدنيا ،ويتساءلون :لماذا يتقدم الكفار في أمور الدنيا
ونتأخر نحن؟ أقول لهم :لقد أخذوا من عطاء الربوبية في السباب ،وأنتم لم تاخذوا من عطاء
الربوبية؛ حتى ل يسبقكم الكافرون إليها ،ول تجلسوا في موقع المتفرج ،بل المفروض فيكم أن
تسبقوا الكفار إلى عطاء الربوبية.
أما عطاء اللوهية ،وهو أن ُيقِرّ النسان بأن ال هو المعبود بحق ،وهو المطاع في " افعل " و "
ل تفعل " ،فهذا العطاء ل يناله إل مَنْ آمن به.
إذن :فال رب الجميع ،ولكنه إله مَنْ آمكن به .إذن :هناك فارق بين عطاء الله ،وهو المنهج
المتمثل في " افعل " و " ل تفعل " ،وعطاء الربوبية المتمثل في المور المادية وهي شركة بين
كل الناس :المؤمن والكافر ،والطائع والعاصي .وحين يُحسن الكاف ُر الخذ بالسباب؛ فهو يأخذ
نتائجها.
والحق سبحانه هو القائل {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ فِي حَرْ ِث ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ
الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى]20 :
إذن :فواجب على المؤمنين أن يستقبلوا عطاء الربوبية بحسن الخذ بالسباب؛ ليأخذوا النتيجة،
ول يتقدم أهل الكفر عليهم؛ لن الكافر حين يسبقك في الخذ بالسباب ،ربما استغل هذه المسألة
في ان يفرض عليك ما يخالف دينك.
وهنا يقول سبحانه } :إِنّ رَ ّبكُمُ اللّهُ[ { ...يونس]3 :
أي :أن الذي ربّي ،هو الذي كلّف ،ويجب أن تستمعواإلى منهجه.
ت وَالَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ[ { ...يونس]3 :
سمَاوَا ِ
ثم يقول سبحانه } :الّذِي خََلقَ ال ّ
وكلمة } سِتّةِ أَيّامٍ { هذه وردت في كل آيات القرآن التي تحدثت عن زمن مدة الخلق للرض
والسماوات ،لكن هناك آية جاءت بتفصيل ويظهر من أسلوبها أن الخلق قد استغرق ثمانية أيام،
جعَلُونَ َلهُ أَندَادا ذَِلكَ
ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ
وهي في سورة فصلتُ {:قلْ أَئِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خَلَ َ
سوَآءً
سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
لّلسّآئِلِينَ }[فصلت]10-9 :
وهذه ستة أيام.
طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ
سمَآ ِء وَ ِهيَ ُدخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ
ثم يقول سبحانه {:ثُمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءَ الدّنْيَا
سمَآءٍ َأمْرَهَا وَزَيّنّا ال ّ
ن وََأوْحَىا فِي ُكلّ َ
سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْ ِ
أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ * َفقَضَاهُنّ سَبْعَ َ
حفْظا ذَِلكَ َتقْدِيرُ ا ْلعَزِيزِ ا ْلعَلِيمِ }
ِب َمصَابِيحَ َو ِ
[فصلت]12-11 :
وهكذا يكون المجموع ثمانية أيام ،وهذا هو الفهم السطحي؛ لن آيات الجمال جاءت كلها بخبر
الخلق في ستة أيام .وتعلم أن كل مُجمل يفسره مُفصّلة إل العدد؛ فإن مفصّله محمول على مجمله،
فالرض خلقها ال في يومين ،وجعل فيها رواسي ،وبارك فيها ،وكل مخلوق ثان هو تَتمّة للول،
فاليومان الولن إنما يدخلن في الربعة اليام ،وأخذت بقية الخلق اليومين الخيرين ،فصار
المجموع ستة أيام.
إذن :فالزمن تتمة الزمن ،ولذلك تجد أن اليوم على كوكب الزهرة أطول من عامها؛ لن عامها
بتوقيت الرض هو مائتان وخمسة وعشرون يوما ،أما طول اليوم فيها فهو بتوقيت الرض
مائتان وأربعة وأربعون يوما.
إذن :فاليوم على كوكب الزهرة أطول من العام فيها .والسر في ذلك أن كوكب الزهرة يخضع
لدورة تختلف في سرعتها عن سرعة الدورة التي تخضع لها الرض ،فدورة كوكب الزهرة حول
نفسه بطيئة ،ودورته حول الشمس سريعة.
إذن :فكل كائن له نظام.
وما هو اليوم إذن؟ اليوم في اعتبارنا هو دورة الرض حول نفسها دورة يتحقق فيها الليل
والنهار .ولكننا نجد القرآن الكريم يطلق كلمة اليوم ويفصلها عن الليل ،فيقول سبحانه {:سِيرُواْ
فِيهَا لَيَاِليَ وَأَيّاما[} ...سبأ]18 :
وهنا جعل الحق اليوم للضوء والكدح ،والليل للظّلمة والراحة .والحساب الفلكي يسمى الليل
والنهار يوما.
ويبين القرآن لنا أن هناك يوما للدنيا ،ويوما للخرة ،ويوم الدنيا هو ما نحسبه نحن من شروق
إلى شروق آخر ،وكذلك هناك يوم عند ال هو بحساب الدنيا يقدر بألف سنة مما يحسبه البشر{:
وَإِنّ َيوْما عِندَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَنَةٍ ّممّا َتعُدّونَ }[الحج]47 :
خ ْمسِينَ أَ ْلفَ سَنَةٍ }
ويقول الحق في موضع آخرَ {:تعْرُجُ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَالرّوحُ ِإلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
[المعارج]4 :
إذن :فالزمنة متعددة ،ومنوعة ،وتختلف من قياس إلى آخر ،ومن كوكب إلى آخر .وما أظهره
ال لنا في القرآن من الزمنة إنما يدل على اختلفها ،ل على التعارض والتناقض.
ثم يقول الحق سبحانه في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :ثُمّ اسْ َتوَىا عَلَى ا ْلعَرْشِ
{ ووقف العلماء عند كلمة " اسْ َتوَى " طويلً ،واستعرضوا القرآن كله؛ ليحصروها في كتاب ال؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فوجدوها قد جاءت في اثنتي عشرة سورة :البقرة والعراف ويونس والرعد وطه والفرقان
والقصص والسجدة وفصلت والفتح والنجم والحديد.
وأول سورة جاء فيها ذكر استواء ال على العرش هي " العراف " يقول الحق {:الّذِي خَلَقَ
شمْسَ
طلُبُهُ حَثِيثا وَال ّ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْ َتوَىا عَلَى ا ْلعَرْشِ ُيغْشِي الّيلَ ال ّنهَارَ يَ ْ
ال َ
لمْرُ تَبَا َركَ اللّهُ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[العراف]54 :
ق وَا َ
وَا ْلقَمَ َر وَالنّجُومَ مُسَخّرَاتٍ بَِأمْ ِرهِ َألَ لَهُ الْخَ ْل ُ
وما دام ال سبحانه هو الذي خلق فل تعترض أن يكون المر له ،وأن يبعث سبحانه من شاء؛
ليكون رسولً؛ لذلك فل عجب أن أرسل لكم رجلً منكم؛ لنه لو كان هناك غيره سبحانه هو الذي
خلق ،ثم جاء ليفتئت فيأمر فيما خلق ،لكان للخلق شأن آخر ،لكن ال هو الذي خلق ،وهو سبحانه
الذي أرسل الرسول صلى ال عليه وسلم.
سمَاوَاتِ
والية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول فيها الحق } :إِنّ رَ ّبكُمُ اللّهُ الّذِي خََلقَ ال ّ
وَالَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ُثمّ اسْ َتوَىا عَلَى ا ْلعَرْشِ { ،أي :استتب له المر.
علَى ا ْلعَرْشِ
عمَدٍ تَ َروْ َنهَا ثُمّ اسْ َتوَىا َ
سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ
ثم تأتي آية سورة الرعد {:اللّهُ الّذِي َر َفعَ ال ّ
صلُ اليَاتِ َلعَّلكُمْ بِِلقَآءِ رَ ّب ُكمْ تُوقِنُونَ
لمْرَ ُي َف ّ
سمّـى يُدَبّرُ ا َ
جلٍ مّ َ
س وَا ْل َقمَرَ ُكلّ َيجْرِي لَ َ
شمْ َ
وَسَخّرَ ال ّ
}[الرعد]2 :
أما الصفات التي توجد في البشر ،ووصف ال نفسه بها ،هذه الصفات ل تؤخذ على مقتضى ما
هي في البشر ،فكل إنسان هو ممكن الوجود .ولكن الحق سبحانه وتعالى هو واجب الوجود؛ لذلك
شيْءٌ[} ...الشورى]11 :
تؤخذ تلك الصفات في إطار{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
ومثال هذا :أن الحق سبحانه وتعالى له عِلْم بأنك تقرأ الن في التفسير ،وفي أي مكان تقرأه،
والذين من حولك يعلمون ذلك ،ولكنْ أع ْلمُ ال يساوي علمَك وعلمَ مَنْ حولك؟ ل ،فعلمه سبحانه
وتعالى هو عِلْم أزليّ ،عِلْم قبل أن توجد أنت أو يوجد غيرك؛ لذلك فأنت إذا عَلمت شيئا ،وعَلمَ ال
شيئا ،فعِلْم ال يناسبه ،وعلْم البشر يناسبك .وأيّ صفة من صفات ال مطلقة ،وأيّ صفة من
صفاتك نسبية؛ لن الحق سبحانه هو واجب الوجود الزلي ،وأنت في هذه الحياة مجرد حدثٍ
محدود العمر بين قوى الميلد والموت.
فال غني ،وقد تكون أنت غنيّا ،لكن غناك ل يمكن أن يتساوى مع غنى ال .وأنت موجود وال
موجود ،ولكن وجودك ل يمكن أن ُيقَاس بوجود ال .فذاتُ ال ليست كذواتنا ،وكذلك صفات ال
ليست كصفاتنا ،وفعْله ليس كفعْلنا ،واستواؤه سبحانه ليس كاستوائنا ،بل في إطار } لَيْسَ َكمِثِْلهِ
شيْءٌ { لن الذي ُيفْسد الفهم أن يقال " :استوى " بمعنى :قعد .أو فلنأخذ الستواء كتمثيل للسيطرة،
َ
ش ّدهُ
وسبحانه مسيطر على كل شيء ،والستواء :يعني التمكن .وسبحانه القائل {:وََلمّا بََلغَ أَ ُ
وَاسْ َتوَىا[} ...القصص]14 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فاستوى :تعني بلوغ تكوين الكمال في الذات .والنسان منا وهو صغير -قبل البلوغ -إنما
تنقصه بعض من درجات النضج في الجهاز العصبي ،وكذلك في الجهاز التناسلي ،فإذا ما بلغ
اكتمل النضج ،ويقالَ( :اسْ َتوَى) أي :صار قادرا على إنجاب مثله ،وتمت له رجولته .ويقال عن
الثمرة :إنها استوت{ فَاسْ َتوَىا عَلَىا سُوقِهِ }[الفتح]29 :
أي :نضجت ُنضْجا يبلغها أن تعطي من ثمرتها مثل ذاتها ،وبذلك تضمن بقاء نوعها.
وحين بلغ الطوفان تمامه استوت مركب سيدنا نوح ومعه المؤمنون من قومه ،وقال الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلى ال عليه وسلم.
ونحن في مجالنا البشرى تختلف قدراتنا في قطع المسافات وأزمانها ،فمن يركب عربة يجرّها
حصان فقد يصل من القاهرة إلى السكندرية في أيام ،ومَنْ يركب سيارة فقد يصلها في ساعتين.
ومَنْ يركب طائرة فقد يصلها في نصف ساعة.
إذن :فكلما زادت القوة تجد الزمن يقل ،فما بالنا بقوة القويّ؛ أيكون معها زمن؟ طبعا ل.
وقال الحق سبحانه لسيدنا نوح {:فَإِذَا اسْ َتوَ ْيتَ أَنتَ َومَن ّم َعكَ عَلَى ا ْلفُ ْلكِ[} ...المؤمنون]28 :
أي :بعد أن ركب معك يا نوح مَنْ آمن من قومك ،واطمأننت على نجاتهم ،ستسير السفينة بإذن
ربها.
إذن :فقول الحق عن ذاته } :اسْ َتوَىا عَلَى ا ْلعَرْشِ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأنت حين ترى؛ فللرؤية حدود .وحين تسمع فأنت تسمع مرائي غيرك ،وما ل يخطر على البال
هو القمة ،فقد ارتقى الرسول في وصفه للجنة من حدود ما تراه العين إلى آفاق ما تسمعه الذن،
ثم ارتقى من حدود السمع إلى ما ل يخطر على البال؛ لنه صلى ال عليه وسلم علم أن اللغة هي
ألفاظ تعبر عن معان ،والمعاني تزجد أولً ثم نأتي لها باللفاظ؛ ولذلك فالمثال لمجرد التوضيح
باللغة.
وهكذا نطون قد استوفينا فهم قوله الحقُ } :ثمّ اسْ َتوَىا عَلَى ا ْلعَرْشِ { بما يليق بذات ال ،فل نأخذ
الستواء على المعنى الذي يدل على مكان محيّز؛ لنه سبحانه مُنَزّه عن أن يكون متحيزا في
مكان؛ فذاته سبحانه ليست كالذوات ،وفعله ليس كالفعال ،وصفاته ليست كالصفات.
لمْرَ { أي :أنه يرتب الوجود ترتيبا يجعل كل شيء موضوعا في مكانه
ثم يقول بعد ذلك } :يُدَبّ ُر ا َ
بحكمة.
والحق سبحانه وتعالى له صفة علم ،وصفة إرادة ،وصفة قدرة ،وصفة العلم هي التي تخضع كل
شيء في مكانه بحكمة .وصفة الرادة هي التي تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه .وصفة
القدرة تبرز المراد ل.
إذن :فهناك علم ،وهناك إرادة ،وهناك قدرة تبرز المراد على وفق العلم .ومن المنطقي أن يدبر
ال كل أمر؛ لنه سبحانه هو الذي خلق السموات وخلق الرض .واستوت له المور بحيث لم يعد
هناك خلق جديد إل ما يبرزه بـ " كن " .وهو سبحانه بعد أن خلق السموات والرض وخلق
النسان وسخّر له السموات والرض؛ لذلك ل بد أن يدبر سبحانه للنسان أمور مادياته ،وأمور
قيمه.
أما أمور الماديات فد ظهرت في خلق السموات والرض والشمس والقمر والنجوم والماء
والهواء .وما في الرض من عناصر تنبت للنسان ما يحتاج إليه في قوام حياته ،وهو سبحانه
الذي خلق كل ذلك قبل أن يخلق النسان ،ثم جاء بالنسان ليكون الخليفة والسيد.
إذن :فالنسان هو الذي طرأ على هذه المور المادية ،وكان ل بد أن يُن ِزلَ الحق سبحانه قيما يحيا
بها النسان كخليفة في هذه المور المادية.
وهكذا خلق ال القيم المعنوية ،فل تقولوا :لماذا أرسل رسولً ل يُحسب في نظر بعض الناس من
عظماء أقوامهم ،ول تقولوا لماذا أرسل محمدا بالتحديد؛ لن هذا الرسال هو من ضمن تدبير
ج َعلُ ِرسَالَتَهُ[} ...النعام]124 :
المور ،و{ اللّهُ أَعَْلمُ حَ ْيثُ َي ْ
لمْرَ { جاء ليؤكد َنفْي التعجب من أن يكون الوحي لمحمد صلى ال عليه
إذن :فقولهُ } :يدَبّ ُر ا َ
عجَبا أَنْ َأوْحَيْنَآ[} ...يونس]2 :
وسلمَ {:أكَانَ لِلنّاسِ َ
وعلتها أن ال هو ربكم وهو الذي خلق ،ول يجادل أحدٌ ال فيما خلق ،وفيمن خلق .وإذا كان هو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه الذي خلق النسان والكون ،فل بد أن ينظم حركة الوجود بين النسان والكون؛ لذلك
اختار الرسول المناسب؛ ليحمل منهج القيم للنسان في " افعل كذا " و " ل تفعل كذا " .ثم ترك
الحق للنسان أمورا ل يقول له فيها :افعلها أو ل تفعلها ،فهي من المباحات.
وإذا استقرأت الفعال والحداث ،ستجد أن الذي قال ال فيه " افعل " قليل ،والذي قال ال فيه " ل
تفعل " قليل .وبذلك تجد المباحات أكثر من " افعل " وأكثر من " ل تفعل ".
ن الكثير من المور المباحة ،فاترك القيم
وما دام سبحانه هو الذي شاء ذلك ،وترك لك أيها النسا ُ
ل؛ لن الكون المادي المخلوق ل في غاية الدقة وفي غاية النظام ،ولم تمتنع الشمس أن تشرق أو
تعطي ضوءها وحرارتها للناس ،وما امتنع القمر أن يعطي نوره ،وما امتنع السحاب أن يسقط
مطرا مدرارا ،وما امتنعت الرض أن تتفاعل مع أي غَرْس تغرسه فتعطيك الغذاء ،وكل شيء
داخل في نطاق القدرة في النواميس العليا؛ مُحكم؛ ول خلل فيه.
وإذا نظرتم إلى غير ذلك وجدتم الخلل قد حدث؛ لن الشيء الذي ل تدخل فيه قدرة النسان
وإرادته هو على أتم ما يكون من النظام ،ول يفسد إل الشيء الذي للنسان فيه عمل واختيار ،ول
يعني ذلك أن كل أعمال النسان تعاني من الخلل ،لكن العمال التي تعاني من الخلل هي العمال
التي يُقبل عليها النسان دون منهج ال .ولو اخترنا البدائل على ضوء منهج ال ،لستقامت القيم
كلها ،كما استقامت لنا نواميس الكون العليا.
فإذا رأيتم فسادا فلوموا أنفسكم؛ لن المر الذي ل تتناولونه بأيديكم ول دخل لكم فيه ،يعمل غاية
في الدقة ،فإن أردتم أن تعمل أموركم الختيارية بغاية الدقة؛ فخذوا منهج ال في الفعال ،ول
تفسدوها أنتم بأن تختاروا البدائل على غير مرادات ال.
ولذلك أقول دائما :إنك إذا ما رأيت عورةً في الوجود ،يتعب منها المجتمع ،فاعلم أن حدّا من
عطّل .وإن وجدت أمة متخلفة ،فاعلم أنها عطلت حدود ال ،وإن وجدت أمة تعاني
حدود ال قد ُ
من أمراض اجتماعية جسيمة ،فاعلم أنها ل تطبق منهج ال.
ن يقصر َفهْمَ عبادة ال على أنها النقطاع في المسجد ،أو الصوم ،أو إخراج الزكاة في
ويخطئ مَ ْ
ميعادها ،أو الذهاب إلى الحج ،فكل هذه هي رؤوس السلم تشحن العبد ليعمل َوفْق منهج ال،
فالصلة هي إعلن الولء ل خمس مرات في اليوم ،ومدة الصيام شهر كل عام ،والزكاة إنما هي
ك للمال والهل والولد.
من فائض المال ،والحج هو تَ ْر ٌ
كل ذلك من أجل شحن الطاقة ،فإذا ما شحنت الطاقة ،فوجّه الطاقة إلى عمل آخر .ولنأخذ الصلة
مثلً :فأنت تحتاج إلى طاقة تُقيمك وتُقعدك وتستبقي حياتك؛ وقوة حركتك تحتاج كل ذلك لتصلي!
إذن :فأنت تحتاج إلى طعام ،ولن ُتطْعم ما لم َيكُنْ لك عمل يتيح لك شراء الطعام ،وحتى يبيع لك
التاجر الخضر واللحم ،والفاكهة والخبز ،هو يحتاج إلى مَنْ ينتج ذلك ،ومَنْ ينتج الطعمة يحتاج
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى مَنْ يدرس طبيعة الرض والبذور ومعرفة الوقات ،وكل هذه المور تحتاج إلى أجهزة
منظمة لنتاج الطعام .فمن يزرع يحتاج إلى محاريث تحرث ،وهذا يستلزم وجود الحديد وآخرين
ليصهروه ويستخرجوا منه ما يصلح لصناعة المحاريث.
إذن :فقيامك إلى الصلة يحتاج إلى كل هذه العمال .وما ل يتم الواجب إل به فهو واجب .وهكذا
تجد أن كل العمال التي تُسهّل لك العبادة هي أعمال واجبة .والمثال :أنك حين تصلي تحتاج إلى
سَتْر عورتك؛ لذلك تشتري القماش ليُفصّل لك الخائط ما ترتديه من ملبس ،وكل هذه العمال
التي تنتج القماش وتصنع الثياب هي أعمال واجبة ،بدءا من زراعة القطن أو الكتان أو التيل
وغيرها إلى المغازل ومصانع النسيج ،وغير ذلك.
وهكذا تجد أن كل العمال التي يتم الواجب بها هي أعمال واجبة ،فَسَتْر العورة أمر شرعي،
وهكذا يتسع مفهوم العبادة ليكون معناها :كل حركة تؤدي إلى إبقاء الصالح على صلحه وزيادة
الصالح إلى ما هو أصلح.
والمثال الذي أضربه دائما :هو حاجة النسان إلى الماء للشرب ،والغُسْل من الجنابة وطهو الطعام
وغير ذلك ،وكان النسان قديما يشرب من البار ،ثم تطور التفكير إلى إقامة شبكات لتوزيع
المياه بعد تنقيتها ،كل هذه أعمال تُزيد المر الصالح صلحا؛ لنك أخذت الماء من المطر الذي
مل النهر ،وأعل ْيتَ الماء في خزانات لتنقيته ،ثم اكتشفت قوانين الستطراق ومضخات المياه؛
ليصل الماء الطاهر إلى كل من يحتاجه .وهكذا تزيد الصالح صلحا بالتفكير واستخدام العلم بما
يفيد النسان ،إذن :فهذا عمل عبادي ما دامت النية فيه ل.
وانظر إلى يوم السوق في أي قرية ،تجد من يدخله ومعه الماشية والنعام التي يرغب في بيعها،
وتجد مَنْ يدخل بالفواكه والطعمة ،ومَنْ يدخل ومعه الثياب أو أدوات المنزل ،وتجد من يدخل
ليس معه شيء ،وبعد انتهاء السوق تجد كل إنسان قد خرج بما يحتاج ،ل بما دخل لبيعه .وهكذا
ألقى ال الخواطر في قلب وتفكير إنسان ما ليبيع ما ل يحتاجه ،وآخر ليشتري ما يحتاجه من
إنتاج غيره.
وأنت إذا نظرت إلى قرية ما ،ستجد واحدا من أعيانها يرغب في بيع أرضه وقصره ،ويرغب في
الرحيل إلى بلدة أخرى ،وهكذا ترى الميزان القتصادي اللهي ،الذي يوزع العباد في الماكن
التي تليق بكل واحد منهم ،فإذا ما زاد واحد عن الحاجة في مكان ،فهو يرحل إلى مكان آخر
يحتاجه .وهذا هو التدبير اللهي على أحسن ما يكون.
وقد تجد -مثلً -الطفل يكتب بيده اليسرى ،على عكس أقرانه ،وقد تضربه على ذلك ،فيعجز
عن الكتابة باليمنى وباليسرى ،وحين يقول لك الطبيب :لقد شاء ال أن يجعل ابنك موهوبا في
الخط الجميل ،وهو يكتب بيده اليسرى ،فأنت تتعجب ،وتكتشف بالفعل أن خط الطفل باليد اليسرى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جميل.
وأقول دائما لمن يشكون أن بعضا من أولدهم يكتبون باليد اليسرى أو يأكلون باليد اليسرى ،أقول
لهم :إن هذه المسألة تتعلق بالجهاز العصبي للنسان ،فهناك من خلقه ال ل َيعْملَ باليد اليمنى،
وهناك من خلقه ال ليعمل باليد اليسرى ،وهناك من خلقه ال ليعمل بيديه الثنتين ،مثل سيدنا
عمر -رضي ال عنه -وكان " أضبط " أي :يعمل بيديه الثنتين.
وعلينا أن نحترم أقدار ال فيما خلق ومَنْ خلق .فسبحانه يخلق ما يريد ،ل َوفْق قوالب ،بل يخلق
خلٌ فيه ،فاعلموا أنه قد
ما يشاء ،ومع كل خَلْق مراد معين .وكما أحسن الحق تدبير ما ليس لكم َد ْ
ضمْنَ تدبير
خلٌ ،ويجعل أموركم منتظمة ،وكل ذلك يدخل ِ
أنزل المنهج لِيُحسّن مما لكم فيه دَ ْ
المر.
وأنت إذا نظرت إلى معنى كلمة " أمر " تجد أنها كل شيء ينشأ ،ولماذا عدل سبحانه عن قول" :
شيء " إلى قول " :أمر "؛ لن كل شيء ل يوجد في الوجود إل بـ " كن " وهي أمر .وسبحانه
القائل {:إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ َلهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس]82 :
وسبحانه يدبر المر في السنن المادية التي ل تتناولها يد النسان ،فإن أراد النسان أن يضبط
أمور حياته ،فليأخذ بالمنهج الذي أنزله ال بـ " افعل " و " ل تفعل " ،وأما المباحات فهي كثيرة،
والنسان حرّ فيها.
وإذا ما سأل سائل :ولماذا اتّبِع المنهج؟ أقول :إن الحق شاء أن يخلق النسان على هيئتين :هيئة
إرغامية قهرية ،وهيئة اختيارية ،فأنت أيها النسان مقهور في أشياء ،ومُحتار في أشياء أخرى؛
أنت مقهور في التنفس ،وتتنفس آليا دون تدخّل منك ،تتنفس مستيقظا أو نائما ،ولو كان التنفس
جتَ إلى مَنْ يدير حركة تنفسك وأنت نائم؟
باختيارك ،لحت ْ
إذن :فمن رحمته سبحانه أن جعلك مقهورا في مثل هذه المسألة وكذلك نبضات قلبك ،أنت مقهور
فيها ،وكذلك أنت مقهور في الحركة الدودية للمعاء ،وللحركة النبساطية والنقباضية في المعدة،
وإفراز العصارات الهضمية ،كل ذلك أنت مقهور فيه ،وأنت مُختار في أشياء أخرى ،كأن تشتري
من البائع الفلني ،أو بائعٍ غيره ،وأنت ُمخَيّر في أن تختار أصناف الطعام التي تهواها.
والمباحات في الوجود كثيرة ،وما أكثر ميادين الحرية في الحياة ،وما حدده لك الحق سبحانه
وتعالى بـ " افعل " و " ل تفعل " ،ل يخرج عن أمور محصورة تصونك وتصون مجتمعك،
ستَ أيها النسان حريتك في المور المباحة على أي لون
وكذلك الكون الذي تحيا فيه .وإنْ مار ْ
شئت ،فذلك ل يفسد الكون.
وقد شاء الحق سبحانه -أيضا -أن تكون مقهورا في بعض المور حتى ل يفسد الكون ،فإن
أكلت ما شئت من المأكولت غير المحرمة؛ فأنت حرّ ،وإن سلك كل إنسان كما يهوى في المور
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المباحة؛ فل مانع لذلك .وكل البشر يختلفون.
وأراد سبحانه أن يحمي النسان والكون؛ لنه علم أزلً أن أهواء البشر تتضارب ،وهو القائل{:
ت وَالَرْضُ[} ...المؤمنون]71 :
سمَاوَا ُ
حقّ أَ ْهوَآءَ ُهمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
وََلوِ اتّ َبعَ الْ َ
حكَم ،وما يسير بدون تَدَخّل من البشر إنما
ولهذا نرى أن تدبير ال فيما ل دخل لنا فيه ،تدبير ُم ْ
يتبع نظاما مستقيما ،وشاء الحق أن يجعل نواميس الكون تعمل بدقة يندهش لها المؤمنون بال
والكافرون به ،فسبحانه يحكم في مُلْكه بدقة متناهية؛ حتى إن بعض العلماء ممن ل يؤمنون بمنهج
ال قد حددوا مواعيد الكسوف الكلي أو الجزئي للشمس أو القمر بدقة متناهية وذلك باستقرائهم
لمعطيات الكون.
وما ُدمْتم أنتم تتميزون على الكافرين باليمان بال ،فخذوا منهج ال في حياتكم؛ لتستقيم أموركم
بمثل استقامة الكون.
لمْرَ[ { ...يونس]3 :
ولذلك قال سبحانه } :يُدَبّ ُر ا َ
شفِيعٍ ِإلّ مِن َب ْعدِ إِذْ ِنهِ { وجاء الحق بمسألة الشفاعة بعد مسألة تدبير المر؛
ويضيف } :مَا مِن َ
لن هؤلء الكافرين الذين تعجبوا من إرسال ال لرسوله صلى ال عليه وسلم ،كانوا يعبدون ما ل
يضرهم ول ينفعهم ،ويقولون :إن تلك الصنام تشفع لهم عند ال ،مصداقا لقوله الحق {:وَ َيعْبُدُونَ
ش َفعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ[} ...يونس]18 :
مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ َيضُرّ ُه ْم َولَ يَن َف ُعهُ ْم وَ َيقُولُونَ هَـاؤُلءِ ُ
ن يملك المر إل
ولذلك يُفصّل الحق سبحانه مسألة الشفاعة .فالنسان ل يحتاج إلى شفاعة عند مَ ْ
إذا ارتكب جُرْما أو حدث منه تقصير في أمر ما .والية أوضحت أنهم يعبدون ما ل يضرهم إن
لم يعبدوه ،وما ل ينفعهم إن عبدوه .واقرأوا أن مثل هذه الصنام إنما تشفع لهم ،والشفاعة من
الشفع ،والشفع ضد الوتر .والوتر هو ما ل يقبل القسمة على اثنين ،فيكون الوتر رقما فرديّا.
والعبد من هؤلء له موقف من الله الذي يعبده ،وهو غير قادر على مواجهته؛ لنه مقصر ،فبدلً
من أن يقابله فردا يأتي بآخر معه؛ ليشفع له ،وهكذا يكون معنى الشفع هو تعضيد الفرد بواحد
آخر؛ فينتقل من كونه وترا إلى كونه شفعا.
وكان الكفار على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم يقولون عن تلك الصنام :إنهم شفعاء لهم
شفِيعٍ ِإلّ مِن َبعْدِ
عند ال ،فيقول الحق سبحانه في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :مَا مِن َ
إِذْ ِنهِ[ { ...يونس]3 :
لن الشفاعة تقتضي شافعا ومشفوعا عنده ،ومشفوعا له ،ومشفوعا فيه ،هذه هي الربعة العناصر
في الشفاعة .والذي يستشفع هو المقصّر ،وهؤلء الكفار قالوا عن الصنام :إنها شفعاء لهم عند
ال ،وهذا إقرار منهم بالتقصير ،وأقروا بأن المشفوع عنده هو ال ،وأما المشفوع فيه؛ فهو تخفيف
العذاب أو إنهاء العذاب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فالمشفوع فيه أمر مشترك ،والمشفوع عنده أمر مشترك ،أما المر في الشافع ،والمر في
المشفوع له ،فهما مختلفان .وأنت -على سبيل المثال ،ل تأتي بإنسان يسير في الطريق وترسله
ليشفع لك (مثلً) عند المحافظ أو عند الوزير؛ إن كانت لك حاجة عند أي منهما ،بل تأتي بإنسان
تعلم رضا المحافظ عنه أو رضا الوزير عنه ،وله منزلة ومكانة ،وهذه المنزلة والمكانة تسمحان
له بالذن في أن يكلّم المحافظ أو الوزير في أمور الناس.
وإذا كان هذا هو الحال في الشفاعة من البشر لدى البشر ،فما بالنا بالشفاعة للنسان لدى ال؟
شفِيعٍ ِإلّ مِن َبعْدِ إِذْنِهِ
لذلك بيّن الحق هنا أن الشفيع ل بد أن يكون بإذن منه سبحانه } مَا مِن َ
{ [يونس]3 :
وفي سورة البقرة يقول سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
البئر ليسقي الكلب ،فنزل البئر ومل خفه ،وعاد إلى الكلب ليسقيه .وبطبيعة الحال لم يكن هذا
الرجل لينافق الكلب ،بل منتهى الرحمة بهذا الحيوان ،كذات خلقها ال؛ لذلك غفر الحق سبحانه
لهذا الرجل.
وهكذا نفهم أن الحق يغفر ويمحو السيئات .وقد جعل الحق سبحانه الشفاعة لرسول ال تكريما له
صلى ال عليه وسلم ،وكذلك في المأذون له في الشفاعة ،حتى يعلم المسلم أن الرسول قد يشفع
له ،وأن المؤمن قد يشفع لخيه ،وأن الب قد يشفع لبنه ،وحين يعلم المسلم ذلك ،فهو يحسن إلى
كل هؤلء؛ لعله يحصل على الشفاعة منهم ،ويحسن اتباع سنة الرسول صلى ال عليه وسلم،
ويحسن معاملة المؤمنين ،ويحسن البن معاملة والديه ،وهكذا يعيش المجتمع في كرامة الشفاعة
بعمل الخير وإخلص النية.
وإذا رأيت إنسانا محسنا في دينه ،فل بد لك أن تحترمه؛ لن إحسانه في دينه قد ينفعك أنت؛
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى في سورة الفاتحة يقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شفَاعَةٌ[} ...البقرة]123 :
َ
ومن حاولوا المقارنة بين اليتين بغرض الطعن في القرآن ،هم من الغرباء عن اللغة ول يملكون
ملكة البيان التي يمكن أن يستقبلوا الساليب بها ،ولو امتلكوا هذه الملكة لعلموا أن الصدر في
اليتين محتمل لوجهين ،فهناك نفس جازية هي التي تتشفع ونفس مجزيّ عنها هي التي يُتشفع
لها.
خذُ مِ ْنهَا { و } َولَ تَن َف ُعهَا { ،
والضمير الذي يأتي في قوله الحقَ } :ولَ ُيقْبَلُ مِ ْنهَا { و } َولَ ُيؤْ َ
هذا الضمير يصح أن يرجع إلى النفس الشافعة ،ويصح أن يرجع إلى النفس المشفوع لها.
والنسان منا إذا ما كان عليه شيء لنسان آخر ،وغير قادر على أن يستبرئ ذمته منه ،فهو يلجأ
إلى صديق لهذا الخر ،له مكانة عنده ليستشفع له .وفور أن يذهب صاحب المكانة إلى هذا الخر
فهو يقول له :هل تقبل شفاعتي لفلن؟ فإن قال صاحب المر :لن أقبل الشفاعة ،فالمستشفع عنده
يقول له :إذن :سأدفع العدل ،أي :ما يساوي قيمة ما كنت سأتشفع له فيه.
وهكذا نجد أنفسنا أمام نفسين :شافعة ،ومشفوع لها .والضمير يعود على أي من النفسين.
وهكذا نجد أن صدر كل آية من اليتين اللتين يقال عنهما :إنهما متشابهتان ،صدر كل منهما
منسجم مع عجزها.
وينهي الحق سبحانه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها بعد أن أوجزت الية فكرة عن خلق ال
تعالى للكون ،وأنه يشفع لمن شاء ويختار من يقدم له الشفاعة ،فيقول } :ذاِل ُكمُ اللّهُ رَ ّبكُمْ فَاعْبُدُوهُ
َأفَلَ تَ َذكّرُونَ { [يونس]3 :
فسبحانه خلق الكون ،واستتبّت بيده مقاليد المور ،وخلق النسان ليعمر هذا الكون ،ونعلم أنه
سبحانه قد شهد لنفسه أنه ل إله إل هو ،وحين يشهد الحق لنفسه ،فسبحانه على ثقة تامة بأن
أوامره في كونه نافذة.
وقوله سبحانه } :ذاِلكُمُ { أي :إشارة إلى ما تقدم من خلق السموات والرض ،والستواء على
العرش ،وتدبير المر كله ،ول أحد يشفع عنده إل بإذنه ،هذا هو ال ربكم ،وما دام هو ربكم
فاعبدوه؛ لنه هو الذي خلق من عدم ،وأمد من عُدْم ،وله كل صفات الكمال المطلق.
وهذه العبادة ل تعود عليه سبحانه بأي فائدة ،فسبحانه منزّه عن فائدة تعود عليه؛ لنكم إن
عبدتموه فلن تزيدوا في ملكه شيئا ،وإن لم تعبدوه فلن تنقصوا من ملكه شيئا .والعبادة يعود نفعها
عليكم؛ لنكم ستأخذون بها منهجا يخرج كل الخلق عن أهوائهم ،ويصير هوى الموجّه واحدا ،فل
تصطدم إرادة بإرادة ،بل تتساند الرادات؛ فيتكامل العالم.
إذن :فالعبادة توحّد أهواء الخلق إلى مراد واحد ،ل يأنف النسان منا أن يخضع له؛ لن هذا ليس
خضوعا من بشر لبشر ،بل خضوعا من مخلوق لخالق ،وبذلك تستقيم أموركم الختيارية ،كما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
استقامت أموركم غير الختيارية.
وهكذا ل تنحصر العبادة في أركان السلم الخمسة فقط ،بل تكون هذه الركان الخمسة هي
الدعائم التي تقوم عليها عمارة السلم ،وكل السلم هو كل أمر ل وكل نهي له سبحانه؛ ولذلك
حين نتابع تسلسل المور ،سنجد أن أركان السلم الواجبة تعتمد على حركة الحياة كلها ،وما ل
يتم الواجب إل به فهو واجب.
ويقول الحق في آخر اليةَ } :أفَلَ َت َذكّرُونَ { والذهن أو المخ -كما نسميه -فيه ملكات متعددة
مثل :ملكة التخيّل ،وملكة الحفْظ والختزان ،وكثير من الملكات الخرى منها مَلكَةُ التذكّر .ومعنى
التذكّر أن شيئا سبق لك إ ْلفٌ به ،فطرأ عليك ما أنساك ،وحين تنسى أمرا يخصّ أحد أقرانك ،فهو
يقول لك :تذكر يا أخي المر الفلني ،وهو ل يأتي لك بأمرٍ مجهول لم تعرفه أولً ،بل يأتي لك
بأمر كان معلوما لك ،ولكنك نسيته.
والنسان حين ينظر إلى الكون نظرة غير متحيزة ل بد أن يؤمن بأن لهذا الكون إلها ،وهذا المر
ل نأخذه من الفلسفة ،بل من رجل الشارع ،وراعى الشاة؛ فقد جاء في الثر أن راعيا كان يسير
في الصحراء فرأى َبعْرا في الطريق ،فقال :إذا كان البعر يدل على البعير ،والسير يدل على
المسير ،أفل يدل كل هذا الكون على وجود اللطيف الخبير؟!
والمثال من حياتنا اليومية :أن غسّالة الملبس الكهربية -وهي ل تدل على شيء ضروري في
الحياة ،بدليل أن السابقين علينا كانوا يغسلون ملبسهم بدونها ،فهي تمثل ترفا ،ل ضرورة -نجد
الناس يعرفون من الذي ابتكرها ،ومن أوصلها بالكهرباء ومَنْ صنع لها توقيتات دورات الغسيل،
ومثلها مثل المصباح الكهربي ومَنْ صنع لها توقيتات دورات الغسيل ،ومثلها مثل المصباح
الكهربي الذي يفسد بعد عدد معيّن من الساعات ،ونجد التلميذ يدرسون تاريخ من صنعه ،فهل
يمكن أن ننسى من خلق الشمس التي تضيء الكون؟
بل ونجد في زماننا العالم والكافر وهو يمدّنا بأدلة اليمان ،فكل اختراع نجد مَنْ يسجله؛ حتى ل
يسرقه غيره ،فما بالنا بالشمس التي تضيء وتُدْفئ ،والقمر الذي يحدد الشهور ،والنجوم التي تدل
الناس على التجاهات ول شيء في كون ال يحتاج إل قطع غيار ،أل نعترف بمن خلق كل ذلك،
ها هو ذا سبحانه يدلنا على مَنْ خلق ويبلغنا ما يسجل له ملكية ما خلق ،فأنزل القرآن على
الرسول صلى ال عليه وسلم ليدلنا على أنه سبحانه الذي خلق ،وأبقى ال الكافرين ليتحدى مَنْ
يناقض قضية الخلق.
وسجل الحق سبحانه ما خلقه لنفسه ،ولم يقدر أحد من الكافرين على إنكار ذلك.
ولن نأخذ الدلة على وجود ال من الفلسفة الذين يرتبون النتائج على المقدمات ،ومطابقة قياس
الشكل على الموضوع ،بل سوف نأخذ الدليل من كلمة " الكفر " نفسها ،هذه الكلمة (كفر) تعني:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
(ستر) ،فهل يُسْتَرُ إل موجودٌ؟
إذن :فالكفر بال دليل على وجود ال ،وما دام الكفر سَتْرا ،فالكفر أمر طارئ ،نتيجة للغفلة،
والغفلة إنما تأتي لن مقتضيات اليمان تقيد النفس في حركتها؛ لذلك قد يغفل النسان متناسيا أن
قيود المنهج ل تطبق عليه وحده ،بل تطبق على كل الناس.
فحين يُحرّم ال السرقة ،فهو لم يحرمها علىإنسان واحد ،بل حرمها على كل إنسان ،فقيّد الخرين
ومنعهم من أن يسرقوا منك.
وحين يأمرك بغضّ بصرك عن محارم جارك ،فهو يحمي محارمك أن ينظر إليها غيرك.
إذن :فاليمان جاء بالنفعية لكل إنسان .وما دام المر كذلك ،نجد الحق سبحانه يقول {:ا ْذكُرُواْ} ...
[فاطر]3 :
وحين يجلس النسان بمفرده ول تُحركه شهواته فهو يهتدي إلى اليمان بأن هذا الكون لم يَأتِ
صدفة.
واسم الخالق للكون ل يمكن أن يعرفه النسان بعقله؛ لن التصورات تختلف من إنسان لخر.
وتجد الفلسفة حين أقروا بأن هذا الكون ل بُدّ له من خالق لم يتعرفوا على السم ،بل أخطأ
بعضهم التصور وظنوا أن من خلق الكون ترك النواميس لتعمل ،وتناسوا أن الخالق ل يباشر
سلطانه في الكون مرة واحدة.
لذلك جاء الرسل بالمعجزات التي تخرق النواميس؛ ليدلنا سبحانه على أنه هو الذي خلق ،وله
قيومية على ما خلق ،فليست المسألة مسألة نواميس تعمل بذاتها ،بل شاء سبحانه أن يدلنا على
عدم اللية في الكون.
ونحن نعلم أن اللية التي يصممها البشر في بعض المعدات تتسبب في إحداث جمود ،فالعقل
اللكتروني ليست له قيومية على المعلومات المختزنة فيه ،فل يستطيع أن يخفي منها شيئا إذا
طلبت منه.
أما عقل النسان فله سيطرة على معلوماته ويستطيع أن يخفي ما شاء منها ،ولذلك قال الحق
ق وَأَنْ ُتمْ َتعَْلمُونَ }[البقرة]42 :
ل وَ َتكْ ُتمُواْ ا ْلحَ ّ
طِسبحانهَ {:ولَ تَلْبِسُواْ ا ْلحَقّ بِالْبَا ِ
فما دام قيل للنسان :ل تكتم الحق .إذن :فله قدرة على الخفاء.
والوردة الطبيعية -على سبيل المثال -حيويتها في ذبولها على عكس الوردة الصناعية التي
تظل على جمودها ليس فيها حياة.
والحق حين يقولَ {:أفَلَ َت ْعقِلُونَ[} ...المؤمنون]80 :
أو{ َأفَلَ تَ َت َذكّرُونَ[} ...السجدة]4 :
فهو يحرّض النسان على أن يتذكر ،ويتفكر ،ويعتبر .ولو كان القرآن يريد أن يخدع النسان ،لما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أثار انتباهه إلى ضرورة التذكر والتفكر والتدبر والعتبار.
وأضرب هذا المثل -ول المثل العلى :هب أنك ذهبت إلى محل للصوف لتشتري قماشا متميزا،
فتجد البائع يفرد أمامك القماش ،ويشده بيديه ليبين لك متانته ،ثم يأخذ منه خيطا ويحرقه ليبين لك
أنه صوف خالص نقي ،إن هذا البائع يحاول أن يشرح لك خبايا صناعة الصوف؛ لنه واثق من
جودة ما يبيع.
هذا ما يحدث فيما بين البشر ،فما بالنا حين يعرض خالق الكون على مخلوقاته أسرار الكون
ويدعوهم عبر منهجه إلى التذكّر والتعقّل والتفكّر والتدبّر والعتبار.
والحق سبحانه يطلب منا ذلك ثقة منه في أن النسان منا ،إن فعل ذلك؛ فسيصل إلى مراد الحق
من الخلق.
وإياكم أن تظنوا أن ال خَلَق لكم ،ثم خلق لكم ،ثم أنزل لكم المنهج ليسعد حياتكم في الدنيا
والخرة ،ثم اعتزلكم .ل ،بل هو قيّوم حياتكم ول تأخذه سنةٌ ول نوم ،ول يفلت منه شيء ،ول
أحد بقادر علىأن يختلس منه شيئا.
وفي الحديث القدسي " :يا عبادي إن كنتم تعتقدون أني ل أراكم فالخلل في إيمانكم .وإن كنتم
تعتقدون أني أراكم فَلِم جعلتموني أهون الناظرين إليكم ".
وأنت في الحياة اليومية تعرف أن أحدا ل يقترب من إنسان قوي منتبه.
جمِيعا وَعْدَ اللّهِ{ ...
ج ُعكُمْ َ
ويقول سبحانه بعد ذلك } :إِلَ ْيهِ مَرْ ِ
()1354 /
عمِلُوا الصّاِلحَاتِ
حقّا إِنّهُ يَبْ َدأُ الْخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ لِ َيجْ ِزيَ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
جمِيعًا وَعْدَ اللّهِ َ
ج ُعكُمْ َ
إِلَيْهِ مَ ْر ِ
حمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُوا َي ْكفُرُونَ ()4
ط وَالّذِينَ َكفَرُوا َلهُمْ شَرَابٌ مِنْ َ
بِا ْلقِسْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]4
حقّا[ } ...يونس]4 :
سمّي هذا المرجع في نفس الية { :وَعْدَ اللّهِ َ
وُ
ولقائل أن يقول :ولكن الوعد يطلق على المر الذي سيأتي بخير ،فإن كان المرجع للطائع فهذا
هو الخير ،ولكن العاصي لن يرى في الرجوع خيرا ،فلماذا لم يقل ال :إن المرجع للعاصي
وعيد؟
وأقول :إن الحق سبحانه إنما ينبه النسان لما ينتظره في المستقبل ،ويعظه ،وترك له الختيار،
وهذا تقديم للخير ،وهكذا تصبح المسألة كلها وعْدا .والصيغة التي يتقدم فيها المجرور رغم أن من
حقه التأخير ،فهي تعني تفرّد المرجع ،فكلنا نرجع إليه سبحانه ،مثل قوله سبحانه {:إِيّاكَ َنعْ ُبدُ} ...
[الفاتحة]5 :
إذن :فالطائع يفرح بجزاء ال له ،وعلى العاصي أن يراجع نفسه قبل أن يرجع إلى ال .وأضرب
هذا المثل -ول المثل العلى -أنت تنبه التلميذ إلى أن يذاكر طوال العام ،فالذي يذاكر فعلً،
يفرح بالمتحان؛ لنه سوف ينجح فيه ،والذي ل يذاكر قد يراجع نفسه ويقبل على المذاكرة خوفا
من الرسوب ،والتذكير لون من ألوان النذار؛ ليتهيب الموقف ويرتدع ،وهكذا يصير التذكير وعدا
ل وعيدا.
حقّا } ولقائل أن يقول :أليس كل
ويضيف الحق سبحانه لوصف وعده بأنه حق ،فيقول { :وَعْدَ اللّهِ َ
صفَ وعده
وعد من ال حقّا؟ ونقول :نعم .كل وعد من ال هو حق ،وشاء الحق سبحانه هنا أن َي ِ
بأنه حق ليذكرنا بان الحق هو الشيء الثابت؛ فإن خُيّل إليك في بعض الوقات أن الباطل هو
السائد والسيد ،فلتعلم أن الباطل ل ثبات له ول سيادة.
سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِ َيةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َومِمّا يُوقِدُونَ
وسبحانه يقول {:أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَ َيذْ َهبُ
ق وَالْبَا ِ
عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْ َيةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَ َبدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا ْلحَ ّ
لمْثَالَ }[الرعد]17 :
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
ُ
فحين ينزل المطر نجد كل وادٍ يأخذ من الماء على َقدْر حاجته ،وساعة ينزل المطر ويتجمع ،نجد
القشّ يطفو ومعه الحشائش والشياء التي ل فائدة منها؛ لن الماء في لحظة النزول إنما يُنظف
المكان الذي ينزل عليه؛ لذلك تطفو الشياء الخفيفة وغير المفيدة.
كذلك الباطل إنما يطفو على السطح لكنه ل يفيد ول يزعزع الحق الذي يستقر وينفع الرض
والناس ،وطفو الباطل إنما هو تنبيه لجنود الحق ،والباطل مَثَلُه مَ َثلُ اللم الذي ينبه للمرض،
وأخطر المراض هو الذي ل ألم فيه ،فيستفحل إلى الدرجة التي يصبح علجه صعبا ومستحيلً.
إذن :فاللم كالباطل ينبه جنود الحق؛ ولذلك أنت تلحظ أنه إذا ما أهيج السلم من أي عدو ،تجد
الحماسة وقد د ّبتْ في الناس جميعا ،حركة وتعاونا ،ونسيانا للحقاد؛ للدفاع عن السلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طعّمون الناس من نفس
وفي المراض التي تنتقل ببعض الفيروسات ،نجد الطباء وهم ُي َ
ميكروبات أو فيروسات المرض بجرعات ضعيفة لتستثير مقاومة الجسم ،إذن :فالباطل جندي من
جنود الحق ،كما أن اللم جندي من جنود العافية.
جمِيعا { فل بد أنه الوعد الحق؛ لنه سبحانه يملك ما
ج ُعكُمْ َ
وإذا كان الحق هو القائل } :إِلَيْهِ مَ ْر ِ
يعد به ،وسبحانه منزه عن الكذب وعن الخديعة؛ لنه القائلَ {:ومَنْ َأصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلً }[النساء:
]122
ولنه أقوى مما خلق؛ وممّنْ خلق .ول تخونه إمكاناته؛ لنه يملك الكون كله.
جمِيعا { تفيد أن تكون على شيء ثم تفارق هذا
ج ُعكُمْ َ
وكلمة " الرجوع " في قوله تعالى } :إِلَيْهِ مَ ْر ِ
الشيء وبعد ذلك ترجع له ،فهي وجود أولً ،ثم خروج عن الوجود ،ثم عودة إلى الوجود الول.
فإذا كانت في مكان ،ثم ذهبت إلى مكان آخر ،وترجع إلى المكان الول ،فهذا هو الرجوع.
جهُ رَ ّبكَ
والقول هنا يفيد أننا سنموت جميعا ،مصداقا لقوله الحقُ {:كلّ مَنْ عَلَ ْيهَا فَانٍ * وَيَ ْبقَىا وَ ْ
لكْرَامِ }[الرحمن]27-26 :
للِ وَا ِ
ذُو ا ْلجَ َ
وقد قال الكافرون ما ذكره القرآن {:أَِإذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا َذِلكَ رَجْعٌ َبعِيدٌ }[ق.]3 :
جدِيدٍ} ...
كأنهم قد استبعدوا فكرة البعث ،وقالوا أيضا {:أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي خَلْقٍ َ
[السجدة]10 :
أي :أنهم تساءلوا :هل بعد الموت والدفن وتحلّل الجثمان إلى عناصر تمتزج بعناصر الرض،
أبعد كل ذلك بعث ونشور؟
جمِيعا { ليفيد أن الخروج إلى الوجود بالميلد إلى الحياة،
ج ُعكُمْ َ
وجاء هنا قوله سبحانه } :إِلَيْهِ مَ ْر ِ
ثم بعد ذلك خروج على الحياة إلى مقابلها وهو الموت ،ومن بعد ذلك البعث.
وقد وقف الكافرون عند هذه النقطة واستبعدوها ،فأراد ال أن يبيّن لنا هذه المسألة؛ لنها تتمة
التمسك بالمنهج ،وكأنه يقول لنا :إياكم أن تظنوا أنكم أخذتم الحياة ،وأفلتم بها وتمتعتم ،ثم ينتهي
حقّا { [يونس]4 :
عدَ اللّهِ َ
جمِيعا وَ ْ
ج ُعكُمْ َ
المر؟ ل ،إن هناك بعثا وحسابا .لذلك قال } :إِلَيْهِ مَرْ ِ
فإن قال قائل :كيف يكون ذلك .يأتي القول الحق } :إِنّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ { فالذي قدر على أن
يخلق من عدم؛ أيعجز أن يعيد من موجود؟ إنه الحق القائل:
{ َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْبلُ وَلَمْ َتكُ شَيْئا }[مريم]9 :
فإذا شاء أن يعيدكم فل تتساءلوا كيف؟ لن ذراتكم موجودة ،والحق سبحانه يقولَ {:أ َفعَيِينَا بِالْخَ ْلقِ
جدِيدٍ }[ق]15 :
لوّلِ َبلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مّنْ خَ ْلقٍ َ
اَ
هكذا يستدل الحق سبحانه بالخلق الول على إمكان الخلق الثاني ،فإن كنتم تتعجبون من أنكم
تعودون بعد أن أوجد الحق أجزاءكم وذراتكم ومواصفاتكم؛ فانظروا إلى الخلق الول؛ فقد خلقكم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل ّولِ {.
قاَ
من ل شيء؛ أفيعجز أن يعيدكم من شيء؟ } َأ َفعَيِينَا بِا ْلخَلْ ِ
وجاء الفلسفة وأقاموا ضجة ،فجاء الحق سبحانه وتعالى من الكون بالدلة ،وقال {:وَتَرَى
الَ ْرضَ هَامِ َدةً[} ...الحج]5 :
ت وَرَ َبتْ وَأَنبَتَتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ
أي :أرضا ميتة وليس فيها أي حياة {.فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّز ْ
َبهِيجٍ }[الحج]5 :
إذن :فل عجب أن تصدر حياة عن موت ،وأنتم ترون ذلك كل ساعة .والحياة التي تراها أمامك
ليست إل دورة؛ لن ال حين خلق الكون ،خلق عناصره ،ول زيادة على هذه العناصر.
وخذ مادة واحدة وهي المياه ،فمنذ أن خلق الحق سبحانه المياه لم تزد ولم تنقص ،ويشرب منها
النسان والحيوان ،ولو أخذ كل واحد في حياته أيّ قدر من المياه ،تظل المياه كما هي؛ لن هذا
النسان يفرز ما شربه على هيئة عرق وإفرازات مختلفة ،وكل ذلك يخرج منه ،ويبقى ما يمثل
وزنه.
إذن :فما أخذته من المياه إنما يخرج منك مختلطا بأشياء نتيجة التفاعل الذي يعطيك طاقة الحياة،
وبعد ذلك يتبخر الماء ،وعملية التبخير هي تقطير للماء ،فأنت إذا أردت تقطير المياه تسخنها إلى
درجة الغليان فتتحول بعد ذلك إلى بخار ،ثم تكثفها لتعود مياها من جديد.
إذن :فالماء له دورة ،نروي منه الزرع؛ فيأخذ المائية ويصير أخضر اللون ،ويخرج منه الماء
الزائد عن حاجته في عملية النتح ،ثم يجف ،بعد أن تخرج منه المياه بالتبخر ،وكل ذلك دون أن
يشعر أحد بحكاية التبخير هذه.
وأنت حين تُحضّر كوبا من الماء المقطر في الصيدلية ،تتكلف كثيرا ،وتحتاج موقدا وإناءً
وأنابيب ،ثم إلى مياه أخرى باردة لتكثف البخار ،ولكن هذه مسألة تحدث في الكون مليين
المرات ،ول يدري بها أحد.
وبعد أن تتبخر المياه تصير سحابا ،ثم ينهمر المطر وهو مياه مقطّرة .ولذلك تجد أن مساحة رقعة
الماء ثلثة أرباع الرض لتخدم الربع الباقي (اليابسة)؛ لن ال يريد اتساع سطح الرض ،وهذا
التساع هو الذي يساعد على التقطير والتبخير والتكثيف.
مثلما تجيء أنت بكوب ماء ،وتضعه في حجرة ،ثم تغيب شهرا عن الحجرة ،فعند عودتك إيها قد
تجد الكوب نقص ما مقداره نصف سنتيمتر تقريبا ،لكنك إن أخذت كوب الماء نفسه وألقيت ما فيه
من ماء ليسيح على أرض الغرفة ،فستجد أن الرض جفت خلل ساعات قليلة ،وهكذا نجد ان
اتساع الرقعة إنما يساعد على سرعة البخر.
إذن :الكمية التي خلقها ال من المياه كما هي ،لم تَزدْ ولم تنقص ،تدور الدورة التي شاءها الحق،
وهكذا نرى أن الشيء يعود إلى أصله مرة أخرى ،ويمكن أن نرى ذلك في كل أوجه الحياة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاتِ َأمْرا
ت ِوقْرا * فَا ْلجَارِيَاتِ ُيسْرا * فَا ْل ُمقَ ّ
والحق سبحانه يقول {:وَالذّارِيَاتِ ذَرْوا * فَا ْلحَامِلَ ِ
* إِ ّنمَا تُوعَدُونَ َلصَا ِدقٌ }[الذاريات]5-1 :
يقسم الحق سبحانه هنا بالرياح التي تحمل السحاب ،وتمطر كل سحابة على الموقع المحدّد لها
بأمر من ال ،ويلفتنا الحق سبحانه هنا إلى دورة الماء ،الذي هو قوام الحياة ،بان الوعد منه
سبحانه يتحقق حتما.
تأمّل الوردة ،تجد لها نعومة ونضارة؛ لن فيها شيئا كثيرا من المائية ،ولها لون جميل ورائحة
ذكية تفوح ،فإذا قطفتها تتساقط أوراقها وتجف؛ لن ما فيها من المائية يتبخر؛ فما أخذته الوردة
من الماء عاد إلى مخزنه مرة أخرى ،وكذلك الرائحة تظل في أرواقها الذابلة إلى أن تنتهي،
وكذلك اللون ،ثم تخرج وردة جديدة.
إذن :حياة كل كائن في الوجود والعالم في حركته ناشئة عن هذه الدورة ،فإذا كانت مائية حياتكم
تدور؛ أتستبعد أن تدور أنت بمكنوناتك؟ َهبْ أن إنسانا وُجد ومات؛ بخروج الروح من الجسد
ويُواري الجثمان ويتبخر ما فيه من ماء ،وتتحلل مواد الجثمان مع عناصر الرض لتصير ترابا،
فهل يعجز الحق أن يعيد إلى الوجود أبعاض هذا النسان؟ طبعا ل يمكن أن يعجز.
الحياة -إذن -احتكاك هذه الدورات لتلك العناصر ،فلم يزد شيء عليها ،ولم ينقص منها شيء.
حفِيظٌ }[ق:
ص الَ ْرضُ مِ ْنهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ َ
واقرأ القرآن بتبصر تجد قوله الحق {:قَدْ عَِلمْنَا مَا تَن ُق ُ
]4
وهكذا يبيّن لنا الحق أن العناصر كلها موجودة في الكون ،قد تزيد في مخلوق عن الخر ،لكن
المجموع الكلي لكل العناصر ثابت ،وإذا كان العلم قد توصل إلى أن هناك ستة عشر عنصرا
تكوّن الكائنات ،فهذه العناصر ثابتة الكمية ،وإن اكتشفوا زيادة في عددها ،فالزيادة في عدد
العناصر ستكون أيضا ثابتة ال َكمّ لكل عنصر.
وقال العلماء :إن الستة عشر عنصرا هي :الوكسوجين ،والكربون ،والهيدروجين ،والنتروجين،
والمغنيسيوم ،والبوتاسيوم ،والصوديوم ،وغيرها.
كل هذه العناصر تعود إلى أصلها بعد أن تموت الكائنات وتتحلل.
حفِيظٌ }[ق]4 :
هكذا يصدق قول الحقَ {:قدْ عَِلمْنَا مَا تَن ُقصُ الَ ْرضُ مِ ْنهُ ْم وَعِندَنَا كِتَابٌ َ
وقد حاول بعض الفلسفة أن يعترضوا اعتراضا ثانيا وقالوا :هي أن إنسانا مات ،ثم تحللت
عناصره في الرض .أل تذهب عناصره إلى كائنات أخرى ،مثل شجرة أنتجت ثمرة أو غير
ذلك ،ثم أكلها إنسان آخر ،فدخلت في أجزائه ،إذن :فمن مات ونشأت على أنقاضه ثمرة ،أو غير
ذلك ،ودخلت المكونات في إنسان آخر ،فكيف يبعث ال كلّ إنسان من جديد؟
ونقول :أنت عرفت شيئا ،وغابت عنك أشياء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
انظر مثلً إلى السّمنة والنحافة كظاهرة موجودة في الناس وتراها كل يوم ،ومعنى السمنة أن
كمية من مادة معينة تزيد في النسان السمين أكثر من مادة النسان الخر النحيف .وقد يطرأ
على السمين ما يجعله نحيفا أو العكس.
فهل هذا يغيّر من شخصيته؟ طبعا ل ،وهكذا نجد فارقا بين المشخصات وبين تكوين المشخصات
من العناصر.
وما دام الحق سبحانه قد أعلمنا أنه ل شيء ينقص من الرض إل بمقدار مكونات الكائنات
الموجودة عليها ،فالعناصر التي في الرض تكفي كل الكائنات ،ويوزعها سبحانه بالنسب اللزمة،
وأنت إن جمعت هذه العناصر فستجدها ثابتة الكم وإن اختلفت في كيفية تكوين الكائنات.
مثال ذلك :أنك تجد إنسانا وزنه مائة كيلو جرام ،ويمرض؛ فيهزل وينقص وزنه إلى سبعين كيلو
جراما ،ومعنى ذلك أن الثلثين كيلو جراما الخرى ذهبت إلى الرض ،فلكل جسم قاعدة يقف
عندها الوزن إلى سن معينة ،وتُعتبر هذه هي القاعدة التي يزيد فوقها الوزن ،أو يقل عنها حسب
ظروف التغذية والصحة.
وأنت ترى الطفل يفرز أقل مما يتناول من الغذاء؛ حتى ينمو ،ولو كان يُخرج إفرازات تساوي -
في الكمية -ما يأكل ويشرب َلمَا كبر .ومن بعد ذلك يكبر إلى أن يصل إلى وزن ثابت تقريبا،
فتخرج منه إفرازات تساوي ما يدخل إليه ،ثم تأتي الشيخوخة فيخف الوزن ،وهذا يعني أن ما
يخرج منه أكثر مما يدخل إليه؛ فتنشأ النحافة.
و َهبْ أن طبيبا حاذقا استطاع أن يعلم الداء الذي يسبب إصابة مريض ما بالهزال ،وأعطاه من
الدواء ما جعله يسترد عافيته ،ومعها ما فُقد من الوزن ،وتتحسن تغذية هذا المريض أثناء فترة
العلج ،فهل تتغير شخصية هذا المريض؟ طبعا ل؛ لن ما خرج منه أثناء الهزال ذهب إلى
الرض ،ثم استرد مثله من الغذية أثناء الشفاء.
إذن :فل تقل :إن هناك شيئا نقص ،فعند ال كتاب حفيظ فيه مكونات كل الكون ،ويأتي بعناصر
معينة ،ويأمرها بـ " كن " فتكون إنسانا ،أو تكون كائنا آخر حسب مشيئة ال سبحانه.
وإذا كنا نتحدث الن كيميائيا فنحن نتكلم بذلك؛ ليثبت عقديّيا وعقليّا؛ لننا آمنا بأن هناك منهجا من
المكلّف ،والمنهج عُرْضة لن يطاع أو يعصى ،ومَنْ يُطع ال في المنهج ،فهو يحدد حريته،
والذي لم يُطع ال واستسلم للضياع فهو الخاسر؛ لن منطق العقل يؤكد أن من يأخذ المنهج ويلتزم
به ويكبح شهواته؛ ل يمكن أن يستوي مع من عبث ،ول بد أن يفترض منطق العقل أن يوجد
بعث يجازي بالطيبات مَنْ سار على المنهج ،ويعاقب مَنْ خرج على المنهج.
وما دام قد وجد إله ،ووجد بلغ عن ال بواسطة الرسل ،ووجد تكليف بـ " افعل " و " ل تفعل
" ،ووجدت طاعة للتكليف ،ومعصية للتكليف ،إذن :ل بد بعد هذه الحياة من بعث ،ويأخذ من
أحسَنَ جزاءه ،وينال مَنْ أساء عقابه؛ ولذلك قال الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ
حقّا إِنّهُ يَبْدَأُ ا ْلخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ لِيَجْ ِزيَ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
جمِيعا وَعْدَ اللّهِ َ
ج ُعكُمْ َ
} إِلَ ْيهِ مَرْ ِ
بِا ْلقِسْطِ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه الية.
سعَىا }
ولذلك حدث إشكال بين علماء الكلم في قول ال سبحانه {:وَأَن لّيْسَ لِلِنسَانِ ِإلّ مَا َ
[النجم]39 :
فقال بعضهم :إذا كان النسان ل يأخذ إل جزاء ما سعى ،فكيف يُجزى جزاء على الحسنة بعشر
أمثالها؟ وكذلك ماذا عن صلة الجنازة؟ وهل ينتفع بها الميت حين ندعو له بالمغفرة؟ وإن كان
النسان ل يأخذ إل ما سعى فلن ينتفع بها الميت ،فلماذا كلفنا الحق سبحانه بصلة الجنازة كفرض
كفاية ،ل فرض عين؟
ونقول :إن وجود اللم في قوله } :وَأَن لّيْسَ لِلِنسَانِ { يفيد الملْك ،أي :الحق ،والية تعطي الحق
ولكنها لم تمنع الفضل ،أو نقول :هل نصلي على كل ميت؟ نحن نصلي على الميت المؤمن،
واليمان من عمله ،وهو ُيجَازي بصلتنا عليه ،أي :جزاء عمله.
حمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُواْ َي ْكفُرُونَ { وهكذا نعرف
ويقول سبحانه } :وَالّذِينَ كَفَرُواْ َلهُمْ شَرَابٌ مّنْ َ
أن العذاب الليم قد جاء لهم بسبب الكفر ،مثلما يجيء الجزاء على العمال الصالحة للمقابل لهم
بسبب اليمان والعمل الصالح.
إذن :فالقسط هنا تعود على قسط ال ،وهو العدل ،وكذلك قسطهم هم؛ لنهم حكموا في الربوبية
بالعدل .أما الكافرون ،فالعدل معهم أن يذيقهم ال شرابا من حميم بما كانوا يكفرون ،وهذا ما
يرجح أن القسط هنا هو قسطهم هم.
حمِيمٍ { مأخوذة من مادة " الحاء " و " الميم " و " الميم " وهي مادة كل موارد معانيها
وكلمة } َ
فيها الحرارة والسخونة.
شوِي الْوجُوهَ[} ...الكهف:
والحق سبحانه يقول في آية أخرى {:وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُمهْلِ يَ ْ
]29
و } كَا ْل ُم ْهلِ { أي :أنه يغلي ،وحين تكون المادة من غير الماء ،فدرجة حرارتها أثناء الغليان تكون
أعلى من درجة حرارة غليان الماء؛ فالنحاس مثلً حين يغلي تكون درجته أعلى من درجة غليان
طعَا ُم الَثِيمِ * كَا ْل ُم ْهلِ
شجَ َرةَ ال ّزقّومِ * َ
الماء ،وكذلك الحديد والذهب وغيرها ،وسبحانه يقول {:إِنّ َ
حمِيمِ }[الدخان]46-43 :
َيغْلِي فِي الْ ُبطُونِ * َكغَ ْليِ ا ْل َ
إذن :فدرجة غليان المهل أعلى من درجة غليان الماء ،والمادة كلها تفيد الحرارة.
وإن نظرنا إلى كلمة " حمّام " و " استحم " ،فهي تعني أن الماء حين ينزل على البدم يكون له
ثلث صور :الصورة الولى مسح ،والصورة الثانية غسل ،والصورة الثالثة استحمام .والمسح أن
تبل الشيء بالماء بدون أن يقطر منه شيء ،والغسل أن تُسَيّل الماء من الجسد المغسول،
والستحمام أيضا فيه سيولة للماء .والغسل للتطهير ،لكن الستحمام للتنظيف ،فإن أحدثت فأنت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غسِلُو ْا وُجُو َهكُمْ[} ...المائدة]6 :
تقوم لتتوضأ {.فا ْ
تنفيذا لمر ال وهو غسل التطهير ،ويقوم مقامه التراب في حالة عدم وجود الماء وهو التيمم .أما
إذا كانت المسألة تنظيفا فهي تحتاج إلى الستحمام؛ لن مسام النسان لها إفرازات قد تكون
دهنية ،وبعد ذلك تطرأ عليها أتربة تسدها ،وهذه المسام أبعاض من النسان وأبعاض من تراب
طاهر جاء على الجسم ،وهي ل تنسجه ،فإن اغتسلت فيكفي أن تصب الماء على الجسم ،ولو بقي
بعض من ذرات التراب على البدن فهذا ل يمنع الطهارة ،لكن حين يستحم النسان فهو يأتي بماء
حار؛ ليذيب القذارة وينقّي المسام ،وتخرج بعض التربة ومعها الخليا الجلدية الميتة وكأنها
خيوط رفيعة.
إذن :هناك فرق بين ال َغسْل وهو للتطهير؛ وبين الستحمام الذي هو للنظافة .ونأخذ منه الحمام،
إذن :مادة الحاء والميم والميم فيها الحرارة وفيها السخونة.
حمِيمٍ { ،وكلمة } شَرَابٌ { تفيد الرتواء ،فلماذا
ويقول الحق هنا } :وَالّذِينَ َكفَرُواْ َل ُهمْ شَرَابٌ مّنْ َ
جاء بها ال هنا؟ إنها تصعيد للعذاب؛ لن النسان يرغب في الشراب ليرطّب جوفه ،فإذا ألهبه ما
شوِي الْوجُوهَ بِئْسَ
يشرب ،فهذا أكثر إيلما مثل قوله تعالى {:وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ
الشّرَابُ[} ...الكهف]29 :
وحين تسمع هذه الية تجد انبساط المل في صدر الية } وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ { وهم يستشرفون
للنجاة ،ثم يأتيهم غوث من لون يناسب ما اقترفوه من ذنوب } ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ {.
حمِي ٍم وَعَذَابٌ أَلِيمٌ ِبمَا كَانُواْ َيكْفُرُونَ { أي :بسبب كفرهم.
إذن :فـ } وَالّذِينَ َكفَرُواْ َلهُمْ شَرَابٌ مّنْ َ
وعرفنا أنهم كفروا بالقضايا العقدية.
شمْسَ{ ...
ج َعلَ ال ّ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :هوَ الّذِي َ
()1355 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا