Professional Documents
Culture Documents
ضلٍ َفضَْلهُ
سمّى وَ ُيؤْتِ ُكلّ ذِي َف ْ
جلٍ مُ َ
وَأَنِ اسْ َت ْغفِرُوا رَ ّب ُكمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ ُيمَ ّت ْعكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَ َ
وَإِنْ َتوَّلوْا فَإِنّي َأخَافُ عَلَ ْي ُكمْ عَذَابَ َيوْمٍ كَبِيرٍ ()3
وهكذا يبيّن الحق سبحانه أن على العبد أن يستغفر من ذنوبه السابقة التي وقع فيها ،وأن يتوب من
الن ،وأن يرجع إلى منهج ال تعالى ،لينال الفضل من الحق سبحانه.
المطلوب ـ إذن ـ من العبد أن يستغفر ال تعالى ،وأن يتوب إليه.
هذا هو مطلوب ال من العاصي؛ لن درء المفسدة مقدّم على جلب المصلحة ،وحين يعجل العبد
بالتوبة إلى ال تعالى فهو يعلم أن ذنبا قد وقع وتحقق منه ،وعليه أل يؤجل التوبة إلى زمنٍ قادم؛
لنه ل يعلم إن كان سيبقى حيا أم ل.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
سمّى } [هود.]3 :
جلٍ مّ َ
{ وَأَنِ اسْ َتغْفِرُواْ رَ ّبكُمْ ُثمّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ُيمَ ّت ْعكُمْ مّتَاعا حَسَنا إِلَىا َأ َ
والحق سبحانه يُجمل قضية اتباع منهجه في قوله تعالى:
شقَىا }[طه.]123 :
ل َولَ َي ْ
ضّ{ َفمَنِ اتّ َبعَ هُدَايَ فَلَ َي ِ
وقال في موضع آخر:
ل صَالِحا مّن َذكَرٍ َأوْ أُنْثَىا وَ ُهوَ ُمؤْمِنٌ فَلَ ُنحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّ َبةً }[النحل.]97 :
ع ِم َ
{ مَنْ َ
فالحياة الطيبة في الدنيا وعدم الضلل والشقاء متحققان لمن اتبع منهج ال تعالى.
وظن بعض العلماء أن هذا القول يناقض في ظاهره قول النبي صلى ال عليه وسلم بأن " الدنيا
سجن المؤمن وجنة الكافر " و " إن أشد الناس بلءً النبياء ،ثم الصالحون ،ثم المثل فالمثل ".
وقال بعض العلماء :فكيف تقولُ { :يمَ ّت ْعكُمْ مّتَاعا حَسَنا } [هود.]3 :
هنا نقول :ما معنى المتاع؟
المتاع :هو ما تستمتع به وتستقبله بسرور وانبساط.
ويعلم المؤمن أن كل مصيبة في الدنيا إنما يجزيه ال عليها حسن الجزاء ،ويستقبل هذا المؤمن
قضاء ال تعالى بنفس راضية؛ لن ما يصيبه قد كتبه ال عليه ،وسوف يوافيه بما هو خير منه.
وهناك بعض من المؤمنين قد يطلبون زيادة البتلء.
إذن :فالمؤمن كل أمره خير؛ وإياك أن تنظر إلى من أصابته الحياة بأية مصيبة على أنه مصاب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقا؛ لن المصاب حقا هو من حُرِم من الثواب.
ونحن نجد في القرآن قصة العبد الصالح الذي قتل غلما كان أبواه مؤمنين ،فخشي العبد الصالح
أن يرهقهما طغيانا وكفرا ،فهذا الولد كان فتنة ،ولعله كان سيدفع أبويه إلى كل محرم ،ويأتي لهما
بالشقاء.
إذن :فالمؤمن الحق هو الذي يستحضر ثواب المصيبة لحظة وقوعها.
ومنّا من قرأ قصة المؤمن الصالح الذي سار في الطريق من المدينة إلى دمشق ،فأصيبت ِرجْله
بجرح وتلوث هذا الجرح ،وامتل بالصديد مما يقال عنه في الصطلح الحديث " غرغرينة "
وقرر الطباء أن تٌقطع رجله ،وحاولوا أن يعطوه " مُ َرقّدا " أي :مادة تُخدّره ،وتغيب به عن
الوعي؛ ليتحمل ألم بتر الساق ،فرفض العبد الصالح وقال:
إني ل أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين.
ومثل هذا العبد يعطيه ال سبحانه وتعالى طاقة على تحمّل اللم ،لنه يستحضر دائما وجوده في
معية ال ،ومفاضٌ عليه من قدرة ال وقوته سبحانه.
وحينما قطع الطباء رجله ،وأرادوا أن يكفنوها وأن يدفنوها ،فطلب أن يراها قبل أن يفعلوا ذلك،
وأمسكها ليقول :اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو ،فإني قد عوفيت في أعضاء.
إذن :فصاحب المصيبة حين يستحضر الجزاء عليها ،إنما يحيا في متعة ،ولذلك ل تتعجب حين
يحمد أناس خالقهم على المصائب؛ لن الحمد يكون على النعمة ،والمصيبة قد تأتي للنسان بنعمة
أوسع مما أفقدته.
ولذلك نجد اثنين من العارفين بال وقد أراد أن يتعالم كل منهما على الخر؛ فقال واحد منهما:
كيف حالكم في بلدكم أيها الفقراء؟
ـ والمقصود بالفقراء هم العُبّاد الزاهدون ويعطون أغلب الوقت لعبادة ال تعالى ـ فقال العبد
الثاني:
حالنا في بلدنا إنْ أعطينا شكرنا ،وإنْ حُرمنا صبرنا.
فضحك العبد الول وقال:
هذا حال الكلب في " بلخ :أي :أن الكلب إن أعطيته يهز ذيله ،وإن منعه أحد فهو يصبر.
وسأل العبد الثاني العبد الول:
وكيف حالكم أنتم؟
فقال :نحن إن أعطينا آثرنا ،وإن حُرِمنا شركنا.
إذن :فكل مؤمن يعيش في منهج ال سبحانه وتعالى فهو يستحضر في كل أمر مؤلم وفي كل أمر
متعب ،أن له جزاءً على ما ناله من التعب؛ ثوابا عظيما خالدا من ال سبحانه وتعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك يقول الحق سبحانه:
} ُيمَ ّت ْعكُمْ مّتَاعا حَسَنا { [هود.]3 :
والحسن هنا له مقاييس ،يُقاس بها اعتبار الغاية؛ فحين تضم الغاية إلى الفعل تعرف معنى الحسن.
ومثال ذلك :هو التلميذ الذي ل يترك كتبه ،بل حين ياتي وقت الطعام ،فهو يأكل وعيناه ل تفارقان
الكتاب.
حسْنه ونعيم التفوق ،وهو تلميذ يشعر بالغاية وقت أداء الفعل.
هذا التلميذ يستحضر متعة النجاح و ُ
ويقول الحق سبحانه في نفس الية:
} وَ ُي ْؤتِ ُكلّ ذِي َفضْلٍ َفضْلَهُ { [هود.]3 :
أي :يؤتى كل ذي فضل مجزول لمن ل فضل له ،فكأن الحق سبحانه يمنّي الفضل للعبد.
ومثال ذلك :الفلح الذي يأخذ من مخزن غلله إردبا من القمح ليبذره في الرض؛ ليزيده ال
سبحانه وتعالى بزراعة هذا الردب ،ويصبح الناتج خمسة عشر إردبا.
والفضل هو الجر الزائد عن مساويه ،فمثلً هناك فضل المال قد يكون عندك ،أي :زائد عن
حاجتك ،وغيرك ل يملك مالً يكفيه ،فإن تفضلت ببعض من الزائد عندك ،وأعطيته لمن ل مال
عنده فأنت تستثمر هذا العطاء عند ال سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه وتعالى قد يعطيك قوة ،فتعطى ما يزيد منها لعبد ضعيف.
وقد يكون الحق سبحانه قد أسبغ عليك فضلً من الحلم ،فتعطى منه لمن أصابه السفه وضيق
الخلق.
إذن :فكل ما يوجد عند النسان من خصلة طيبة ليست عند غيره من الناس ،ويفيضها عليهم ،فهي
تزيد عنده لنها تربو عند ال ،وإن لم ُي ِفضْها على الغير فهي تنقص.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإن أعرضوا عنك فأبلغهم أنك تخاف عليهم من عذاب اليوم الخر ،ويُوصف العذاب مرة بأنه
كبير ،ويوصف مرة بأنه عظيم ،ويوصف مرة بأنه مهين؛ لنه عذاب ل ينتهي ويتنوع حسب ما
يناسب المعذب ،فضلً عن أن العذاب الذي يوجد في دنيا الغيار هو عذاب يجري في ظل
المظنة بأنه سينقضي ،أما عذاب اليوم الخر فهو ل ينقضي بالنسبة للمشركين بال أبدا.
ج ُعكُمْ {
ويقول الحق من بعد ذلك } :إِلَى اللّهِ مَرْ ِ
()1463 /
أي :إلى ال مرجعكم في اليجاد والمداد ،والبداية والنهاية ،وبداية النهاية التي ل انتهاء معها
وهي الخرة ،فيثيب المحسن على إحسانه ،ويعاقب المسيء على إساءته ،فيؤتي سبحانه لكل ذي
عمل صالح في الدنيا أجره ،وثوابه في الخرة.
ومن كثرت حسناته على سيئاته دخل الجنة ،ومن زادت سيئاته على حسناته دخل النار.
وفي الدنيا من زادت حسناته على سيئاته وعاش بين القبض والبسط.
والقبض والبسط هو إقبال على ال بتوبة وباعتراف بالذنب ،والقرار بالذنب هو بداية التوبة.
ومن كثرت سيئاته على حسناته كان في ضنك العيش وقلق النفس.
ويؤتي الحق سبحانه كل ذي فضل فضله ،فمن عمل ل عز وجل؛ وفقه ال فيما يستقبل على
طاعته ،والذين أعرضوا يُخاف عليهم من عذاب يوم كبير.
شيْءٍ َقدِيرٌ } [هود.]4 :
{ وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ
لنه سبحانه القادر على اليجاد وعلى المداد ،وعلى البداية والنهاية المحدودة ،وبداية الخلود إما
إلى جنة وإما إلى نار ،فهو القادر على كل شيء.
خفُواْ مِنْهُ }
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :أَل إِ ّن ُهمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِ َيسْتَ ْ
()1464 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا وجد " أل " في أول الكلم فأنت تعلم أنها للتنبيه ،ومعنى التنبيه أنه أمر يوقظ لك السامع إن
كان غافلً؛ لنك تحب أل تفوته كلمة من الكلم الذي تقوله.
وحين تنبهه بغير أداء السلوب الذي تريده منه ،هنا يكون التنبيه قد أخذ حقه ،ومن بعد ذلك
يجيء الكلم الذي تقوله ،وقد تهيّأ ذهن السامع لستقبال ما تقول.
فـ " أل " ـ إذن ـ هي أداة تنبيه؛ لن الكلم ستار بين المتكلم والمخاطب ،والمخاطب ل يعرف
الموضوع الذي ستكلمه فيه ،والمتكلم هو الذي يملك زمام الموقف ،وهو يهيىء ذهنه لترتيب ما
يقول من كلمات ،أما المستمع فسوف يفاجأ بالموضوع؛ وحتى ل يفاجأ ول تضيع منه الفرصة
ليلتقط كلمات المتكلم من أولها ،فهو ينبه بأداة تنبيه ليستمع.
ويقول الحق سبحانه هنا:
خفُواْ مِ ْنهُ } [هود.]5 :
صدُورَهُمْ لِ َيسْتَ ْ
{ أَل إِ ّنهُمْ يَثْنُونَ ُ
ويقال :ثنيت الشيء أي :طويته ،وجعلته جزئين متصلين فوق بعضهما البعض.
وحين يثني النسان صدره ،فهو يثنيه إلى المام ناحية بطنه ،ويداري بذلك وجهه ،والغرض هنا
من مداراة الوجه هو إخفاء الملمح؛ لن انفعال مواجيد النفس البشرية ينضح على الوجوه؟
وهم كارهون للرسول صلى ال عليه وسلم ،وحاقدون عليه؛ ول يريدون أن يلحظ الرسول صلى
ال عليه وسلم ما على ملمحهم من انفعالت تفضح مواجيدهم الكارهة.
ومثل ذلك جاء من قوم نوح عليه السلم ،حين قال الحق سبحانه على لسان نوح:
شوْاْ ثِيَا َبهُ ْم وََأصَرّو ْا وَاسْ َتكْبَرُواْ
جعَلُواْ َأصَا ِب َعهُمْ فِي آذَا ِن ِه ْم وَاسْ َتغْ َ
عوْ ُتهُمْ لِ َت ْغفِرَ َلهُمْ َ
{ وَإِنّي كُّلمَا دَ َ
اسْ ِتكْبَارا }[نوح.]7 :
ومن البداهة أن نعرف أن الصبع ل تدخل كلها إلى الذن ،إنما النملة تسد فقط فتحة السمع،
وعدّل القرآن الكريم ذلك بمبالغة تكشف موقف نوح ـ عليه السلم ـ ،فكل منهم أراد أن يُدخِل
إصبعه في أذنه حتى ل يسمع أي دعوة ،وهذا دليل كراهية ،وهذه شهادة ضدهم؛ لنهم يفهمون
أنهم لو سمعوا فقد تميل قلوبهم لما يقال.
ولذلك نجد أن القرآن الكريم وهو ينقل لنا ما قاله مشركو مكة لبعضهم البعض:
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ }[فصلت.]26:
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
{ َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُو ْا لَ َت ْ
فكأنهم تواصوا بالتشويش على القرآن ،ثقة منهم في أن القرآن لو تناهى إلى الذن فقد يؤثر في
نفسية السامع؛ لن النفس البشرية أغيار ،و قد تأتي للنفس ما يجعلها تميل دون أن يشعر
صاحبها.
ولو كان هذا القرآن باطلً ،فلماذا خافوا من سماعه؟
ولكنه الغباء في العناد والكفر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
ن َومَا ُيعْلِنُونَ }
خفُواْ مِ ْنهُ أَل حِينَ َيسْ َتغْشُونَ ثِيَا َبهُمْ َيعْلَمُ مَا يُسِرّو َ
صدُورَهُمْ لِ َيسْتَ ْ
{ أَل إِ ّنهُمْ يَثْنُونَ ُ
[هود.]5 :
وهم قد استغشوا ثيابهم ليغطوا وجوههم؛ مداراة للنفعالت التي تحملها هذه الوجوه ،وهي
انفعالت كراهية ،أو أنها قد تكون انفعالت أخرى ،فساعة يسمع واحد منهم القرآن قد ينفعل لما
يسمع ،ول يريد أن يُظهر النفعال.
إذن :فالنفعال قد يكون قسريا ،وكان كفار قريش رغم كيدهم وحربهم لرسول ال صلى ال عليه
وسلم ،يتسللون ناحية بيت النبي صلى ال عليه وسلم ليسمعوا القرآن ،وكانوا يضبطون بعضهم
البعض هنالك ،ويدّعي كل منهم أنه إنما مرّ على بيت النبي صلى ل عليه وسلم مصادفة.
سعَى لحجرةِ
سمّارِاختلسا ي ْ
وفي ذلك يقول الشاعر:اذكُرو ُهمْ وقد تسلّل كلّ بع َد ما انفضّ مجلسُ ال ّ
سحَارِعُذْرهم حُسْنُهُ فلمّا تَرا َءوْا عَلّلوها ببَارزِ العْذَارِوجاء الحق سبحانه
طهَ لسَماعِ التنزيلِ في ال ْ
َ
وتعالى هنا في نفس الية بـ " أل " في قوله:
ن َومَا ُيعْلِنُونَ إِنّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ { [هود.]5 :
} أَل حِينَ يَسْ َتغْشُونَ ثِيَا َبهُمْ َيعْلَمُ مَا يُسِرّو َ
فهم إن داروا على محمد صلى ال عليه وسلم ،فهل هم قادرون على المداراة على رب محمد؟
والذي ل يدركه بصر محمد فربّ محمد سيُعلمه به.
وما دام الحق سبحانه يعلم ما يسرون ،فمن باب أولى أنه سبحانه وتعالى يعلم ما يعلنون.
والحق سبحانه وتعالى غيب ،وربما ظن ظان أنه قد يفلت منه شيء ،ولكن الحق سبحانه يُحصي
ول يُحصَى عليه ،فإن ظن ظان أن الحق سبحانه يعلم الغيب فقط؛ لنه غيب ،فهذا ظن خاطىء؛
لنه يعلم السر والعلن ،فهو عليم بذات الصدور ،وكلمة " عليم " صيغة مبالغة ،وهي ذات في
كنهها العلم.
وقول الحق سبحانه:
} عَلِيمٌ بِذَاتِ الصّدُورِ { [هود.]5 :
نجد فيه كلمة } ذَاتِ { وهي تفيد الصحبة ،و(ذَاتِ الصّدُورِ) أي :المور المصاحبة للصدور.
ونحن نعلم أن الصدر محل القلب ،ومحل الرئة ،والقلب محل المعتقدات التي انتُهي إليها،
وصارت حقائق ثابتة ،وعليها تدور حركة الحياة.
ويُقصد بـ } بِذَاتِ الصّدُورِ { أي :المعاني التي ل تفارق الصدور ،فهي صاحبات دائمة الوجود
في تلك الصدور ،سواء أكانت حقدا أو كراهية ،أو هي الحاسيس التي ل تظهر في الحركة
العادية ،سواء أكانت نية حسنة أو نية سيئة.
وكل المور التي يسمونها ذات الصدور ،أي :صاحبات الصدور ،وهي القلوب ،وكأن الجِرْم نفسه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهو القلب معلوم للحق سبحانه وتعالى ،فخواطره من باب أولى معلومة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :ومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْرضِ {
()1465 /
وحين يذكر القرآن الكريم لقطة توضح صفة ما ،فهو يأتي بما يتعلق بهذه الصفة ،وما دام الحق
سبحانه عليما بذات الصدور ،فهذا علم بالمور السلبية غير الواضحة ،والحق سبحانه يعلم
اليجابيات أيضا ،فهو يعلم النية الحسنة أيضا ،ولكن الكلم هنا يخص جماعة يثنون صدورهم.
وجاء في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،وبيّن أنه عليم بكل شيء.
وقال سبحانه:
عهَا } [هود.]6 :
{ َومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْرضِ ِإلّ عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا وَ َيعْلَمُ مُسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ
والدابة :كا ما يدب على الرض ،وتستخدم في العرف الخاص للدللة على أي كائن يدب على
الرض غير النسان.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{ َومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْرضِ وَلَ طَائِرٍ يَطِيرُ ِبجَنَاحَ ْيهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ }[النعام.]38 :
شغِل ـ حينما كُلّف ـ بخواطر عن أهله،
وذكر الحق سبحانه وتعالى عن موسى عليه السلم أنه ُ
وتساءل :كيف أذهب لداء الرسالة وأترك أهلي؟
فأوحى ال سبحانه أن يضرب حجرا فانفلق الحجر عن صخرة ،فأمره الحق سبحانه أن يضرب
الصخرة ،فضربها فانفلقت ليخرج له حجر ،فضرب الحجر فانشق له عن دودة تلوك شيئا كأنما
تتغذى به ،فقال :إن الذي رزق هذه في ظلمات تلك الحجار كلها لن ينسى أهلي على ظهر
الرض .ومضى موسى عليه السلم إلى رسالته.
وهذا أمر طبيعي؛ لن الحق سبحانه خالق كل الخلق ،ول بد أن يضمن له استبقاء حياة واستبقاء
نوع؛ فاستبقاء الحياة بالقوت ،واستبقاء النوع بالزواج والمصاهرة.
إذن :فمن ضمن ترتيبات الخلق أن يوفر الحق سبحانه وتعالى استبقاء الحياة بالقوت ،واستبقاء
النوع بالتزاوج.
ولذلك نقول دائما :يجب أن نفرق بين عطاء الله وعطاء الرب ،فالله سبحانه هو رب الجميع،
لكنه إله من آمن به.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما دام الحق سبحانه هو رب الجميع ،فالجميع مسئولون منه؛ فالشمس تشرق على المؤمن وعلى
الكافر ،وقد يستخرج الكافر من الشمس طاقة شمسية وينتفع بها ،فلماذا ل يأخذ المؤمن بالسباب؟
والهواء موجود للمؤمن والكافر؛ لنه عطاء ربوبية ،فإن استفاد الكافر من الهواء ودرسه،
واستخدم وخواصه أكثر من المؤمن؛ فعلى المؤمن أن يجدّ ويكدّ في الخذ بالسباب.
إذن :فهناك عطاء للربوبية يشترك فيه الجميع ،لكن عطاء اللوهية إنما يكون في العبادة ،وهو
يُخرجك من مراداتك إلى مرادات ربك ،فحين تطلب منك شهواتك أن تفعل أمرا فيقول لك
المنهج :ل.
وفي هذا تحكم منك في الشهوات ،وارتقاء في الختبارات ،أما في المور الحياتية الدنيا ،فعطاء
الربوبية لكل كائن ليستبقي حياته.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ َومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْرضِ ِإلّ عَلَى اللّهِ رِ ْز ُقهَا } [هود.]6 :
وكلمة " على " تفيد أن الرزق حق للدابة ،لكنها لم تفرضه هي على ال سبحانه وتعالى ،ولكنه
سبحانه قد ألزم نفسه بهذا الحق.
ويقول سبحانه:
عهَا { [هود.]6 :
} وَ َيعْلَمُ ُمسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ
ولنه سبحانه هو الذي يرزق الدابة فهو يعلم مستقرها وأين تعيش؛ ليوصل إليها هذا الرزق.
والمستقر :هو مكان الستقرار ،والمستودع :هو مكان الوديعة.
والحق سبحانه ُيعْلِمنا بذلك ليطمئن كل إنسان أن رزقه يعرف عنوانه ،والنسان ل يعلم عنوان
الرزق.
فالرزق يأتي لك من حيث ل تحتسب ،لكن السعي إلى الرزق شيء آخر؛ فقد تسعى إلى رزق
ليس لك ،بل هو رزق لغيرك.
فمثلً :أنت قد تزرع أرضك قمحا فيأتي لك سفر للخارج ،وتترك قمحك؛ ليأكله غيرك ،وتأكل
أنت من قمح غيرك.
ولذلك يقول الحق سبحانه:
عهَا ُكلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ { [هود.]6 :
} وَ َيعْلَمُ ُمسْ َتقَرّهَا َومُسْ َتوْدَ َ
أي :أن كل أمر مكتوب ،وهناك فرق بين أن تفعل ما تريد ،ولكن ل يحكم إرادتك مكتوب؛ فما
يأتي على بالك تفعله ،وبين أن تفعل أمرا قد وضعت خطواته في خطة واضحة مكتوبة ،ثم تأتي
أفعالك وفقا لما كتبته.
ومن عظمة الخالق سبحانه أن كتب كل شيء ،ثم يأتي كل ما في الحياة وفق ما كتب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والدليل على ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن ال سبحانه كان يوحي إلى رسوله بالسورة من
القرآن الكريم ،وبعد ذلك يُسرّي عن رسول ال صلى ال عليه وسلم الوحي ،فيتلو السورة على
أصحابه ،فمن يستطيع الكتابة فهو يكتب ،ومن يحفظ فهو يحفظ.
ثم يأتي الرسول صلى ال عليه وسلم إلى الصلة ،فيقرأ السورة كما كُتِ َبتْ ،ويأتي كل نجم من
القرآن في مكانه الذي قاله النبي صلى ال عليه وسلم لصحابته ،فكيف كان يحدث ذلك؟
لقد حدث ذلك بما جاء به الحق سبحانه ،وأبلغه لرسوله صلى ال عليه وسلم:
{ سَ ُنقْرِئُكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى.]6 :
ت وَالَ ْرضَ {
سمَاوَا ِ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَ ُهوَ الّذِي خَلَق ال ّ
()1466 /
عمَلًا
حسَنُ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ فِي سِتّةِ أَيّا ٍم َوكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ا ْلمَاءِ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّي ُكمْ أَ ْ
وَ ُهوَ الّذِي خَلَقَ ال ّ
سحْرٌ مُبِينٌ ()7
وَلَئِنْ قُ ْلتَ إِ ّنكُمْ مَ ْبعُوثُونَ مِنْ َبعْدِ ا ْل َموْتِ لَ َيقُولَنّ الّذِينَ َكفَرُوا إِنْ هَذَا إِلّا ِ
وقد تعرض القرآن الكريم لمسألة خلق الرض والسماء أكثر من مرة.
وقلنا من قبل :إن الحق سبحانه وتعالى قد شاء أن يخلق الرض والسموات في ستة أيام من أيام
الدنيا ،وكان من الممكن أن يخلقها في أقل من طرفة عين بكلمة " كن " وعرفنا أن هناك فارقا بين
إيجاد الشيء ،وطرح مكونات إيجاد الشيء.
ومثال ذلك ـ ول المثل العلى ـ حين يريد النسان صنع " الزبادي " ،فهو يضع جزءا من
مادة الزبادي ـ وتسمى " خميرة " ـ في كمية مناسبة من اللبن الدافىء ،وهذه العملية ل تستغرق
من النسان إل دقائق ،ثم يترك اللبن المخلوط بخميرة الزبادي ،وبعد مضي أربع وعشرين ساعة
يتحول اللبن المخلوط بالخميرة إلى زبادي بالفعل.
وهذا يحدث بالنسبة لفعال البشر ،فهي أفعال تحتاج إلى علج ،ولكن أفعال الخالق سبحانه وتعالى
ل علج فيها؛ لنها كلها تأتي بكلمة " كن ".
أو كما قال بعض العلماء :إن ال شاء أن يجعل خلق الرض والسموات في ستة أيام ،وقد أخذ
بعض المستشرقين من هذه الية ،ومن آيات أخرى مجالً لمحاولة النيل من القرآن الكريم ،وأن
يدّعوا أن فيه تعارضا ،فالحق سبحانه وتعالى هنا يقول:
ت وَالَرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ } [هود.]7 :
سمَاوَا ِ
{ وَ ُهوَ الّذِي خَلَق ال ّ
وجاءوا إلى آية التفصيل وجمعوا ما فيها من أيام ،وقالوا :إنها ثمانية أيام ،وهي قول الحق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه:
ج َعلَ
جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
{ ُقلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ
سوَآءً لّلسّآئِلِينَ * ثُمّ اسْ َتوَىا
سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ
فِيهَا َروَا ِ
طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ * َف َقضَاهُنّ سَبْعَ
سمَآ ِء وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَرْضِ ائْتِيَا َ
إِلَى ال ّ
سمَاوَاتٍ فِي َي ْومَيْنِ }[فصلت9 :ـ .]12
َ
وهنا قال بعض المستشرقين :لو كانت هذه قصة الخلق للرض والسموات لطابقت آية الجمال
آية التفصيل.
وقال أحدهم :لنفرض أن عندي عشرة أرادب من القمح ،وأعطيت فلنا خمسة أرادب وفلنا ثلثة
أرادب ،وفلنا أعطيته إردبين ،وبذلك ينفد ما عندي؛ لن التفصيل مطابق للجمال.
وادّعي هذا البعض من المستشرقين أن التفصيل ل يتساوى مع الجمال .ولم يفطنوا إلى أن
المتكلم هو ال سبحانه وتعالى ،وهو يكلم أناسا لهم ملكة أداء وبيان وبلغة وفصاحة؛ وقد فهم
هؤلء ما لم يفهمه المستشرقون.
هم فهموا ،كأهل فصاحة ،أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قد خلق الرض في يومين ،ثم جعل فيها
رواسي وبارك فيها ،إما في الرض أو في الجبال ،وقدّر فيها أقواتها ،وكل ذلك تتمة للحديث عن
الرض.
ل ـ وإلى
ومثال ذلك :حين أسافر إلى السكندرية فأنا أصل إلى مدينة طنطا في ساعة ـ مث ً
السكندرية في ساعتين ،أي :أن ساعة السفر التي وصلت فيها إلى طنطا هي من ضمن ساعتي
السفر إلى السكندرية.
وكذلك خلق الرض والرواسي وتقدير القوت ،كل ذلك في أربعة أيام متضمنة َي ْومَىْ خَلْق
الرض ،ثم جاء خلق السماء في يومين.
ثم يقول الحق سبحانه:
شهُ عَلَى ا ْلمَآءِ { [هود.]7 :
} َوكَانَ عَرْ ُ
كل هذه المسائل الغيبية لها حجة أساسية ،وهي أن الذي أخبر بها هو الصادق ،فل أحد يشك أن
الرض والسموات مخلوقة ،ول أحد يشك في أن السموات والرض أكبر خلقا من خلق الناس،
وليس هناك أحد من البشر ادّعى أنه خلق الرض أو خلق السموات.
وكل المخترعات البشرية نعرف أصحابها ،مثل :المصباح الكهربي ،والهاتف ،والميكروفون،
والتليفزيون ،والسيارة ،وغيرها.
ولكن حين نجيء إلى السموات والرض ل نجد أحدا قد ادعى أنه قد خلقها.
وقد أبلغنا الحق سبحانه أنه هو الذي خلقها ،وهي لمن ادّعاها إلى أن يظهر مُعارِض ،ولن يظهر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا المعارض أبدا.
وكل هذا الخلق من أجل البلء:
عمَلً { [هود.]7 :
} لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ َأحْسَنُ َ
أي :ليختبركم أيكم أحسن عملً ،ولكن من الذي يحدد العمل؟
إنه ال سبحانه وتعالى.
وهل الحق سبحانه في حاجة إلى أن يختبر مخلوقاته؟
ل ،فال سبحانه يعلم أزلً كل ما يأتي من الخلق ،ولكنه سبحانه أراد بالختبار أن يطابق ما يأتي
منهم على ما عمله أزلً؛ حجة عليهم.
وهكذا فاختبار الحق سبحانه لنا اختبار الحجة علينا.
ثم يقول الحق سبحانه:
} وَلَئِن قُ ْلتَ إِ ّنكُمْ مّ ْبعُوثُونَ مِن َبعْدِ ا ْل َم ْوتِ لَ َيقُولَنّ الّذِينَ َكفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ سِحْرٌ مّبِينٌ { [هود:
.]7
وهنا يصور الحق ـ سبحانه وتعالى ـ تكذيب المعاندين لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فهم
يلقون باللفاظ على عواهنها من قبل أن تمر على تفكيرهم.
فلو أنهم قد مروا بهذه الكلمات على تفكيرهم؛ لستحال منطقيا أن يقولوها.
والرسول صلى ال عليه وسلم يخبرهم ببلغ الحق سبحانه وتعالى لهم بأنهم مبعوثون من بعد
الموت.
وهذا كلم إخباري بأنهم إن ماتوا ـ وهم سيموتون ل محالة ـ سيبعثهم ال سبحانه ،فما كان
منهم إل أن قالوا:
} إِنْ هَـاذَآ ِإلّ سِحْرٌ مّبِينٌ { [هود.]7 :
والخبر الذي يقوله لهم هو خبر ،فما موقع السحر منه؟ إنهم يعلمون أنه صلى ال عليه وسلم لم
يقل ذلك إل من نص القرآن الكريم ،وهم يقولون عن القرآن الكريم إنه سحر ،فكأن النص نفسه
من السحر الذي حكموا به على القرآن.
وأوضحنا من قبل أن إبطال قضية السحر في القرآن الكريم دليله منطقي مع القول؛ لنهم إن
كانوا قد ادعوا أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أو أن محمدا ـ في عرفهم ـ قد سحر القوم
الذين اتبعوه.
فالساحر له تأثير على المسحور ،والمسحور ل دخل له في عملية السحر ،فإذا كان محمد قد سحر
القوم الذين اتبعوه ،فلماذا لم يسحر هؤلء المنكرين لرسالته؛ بنفس الطريقة التي سحر بها غيرهم؟
وحيث إنهم قد بقوا على ما هم عليه من عناد لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فهذا دليل على أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المسألة ليست سحرا ،ولو كان المر كذلك لسحرهم جميعا.
سحْرٌ مّبِينٌ { [هود.]7 :
وقولهم } :إِنْ هَـاذَآ ِإلّ ِ
سحْرٌ مّبِينٌ { تعني :سحرا محيطا بكل
يدل على أنه سحر محيط ،ل سحر لناس خاصين ،فكلمة } ِ
من يريد سحره.
وبقاء واحد على الكفر دون إيمان برسول ال يدل على أن المسألة ليست سحرا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَلَئِنْ َأخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَىا ُأمّةٍ {
()1467 /
وَلَئِنْ أَخّرْنَا عَ ْن ُهمُ ا ْلعَذَابَ إِلَى ُأمّةٍ َم ْعدُو َدةٍ لَ َيقُولُنّ مَا َيحْبِسُهُ أَلَا َيوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ َمصْرُوفًا عَ ْن ُهمْ
وَحَاقَ ِبهِمْ مَا كَانُوا بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ ()8
وساعة تجد { لَئِنْ } فافهم اللم الولى التي بعد " و " إنما جاءت؛ لتدل على أن الكلم فيه قسم
مؤكد ،وإن كان محذوفا ،واكتفى باللم عن القسم ،وتقديره " :وال لئن ".
والقسم يأتي لتأكيد المقسم عليه بالمقسم به ،وتأكيد المقسم عليه إنما يأتي لن هناك من يشك فيه.
فأنت ل تٌقسم لنسان تلقاه وتقول له :وال لقد كنت عند فلن بالمس.
إذن :فالقسم يأتي لشك طرأ عند السامع ،وأنت ل تقسم ابتداء.
ويأتي القسم على مقدار مراتب الشك ،وتأكيدا بأدواته.
والقرآن الكريم يقول هنا:
{ وَلَئِنْ َأخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَىا ُأمّةٍ ّمعْدُو َدةٍ } [هود.]8 :
فالواو هنا هي واو القسم ،وهنا أيضا شرط ،والقسم يحتاج لجواب ،والشرط أيضا يحتاج إلى
جواب.
وإذا اجتمع الشرط والقسم فبلغة السلوب تكتفي بجواب واحد ،مثلما نقول " :وال إن فعلت كذا
لفعلن معك كذا ".
وهكذا ُيغْنِي جواب القسم عن جواب الشرط ،والمتقدم سواء أكان قسما أو شرطا هو الذي يغني
جوابه عن الخر.
مثلما نقول " :وال إن جاء فلن لكرمته " ،فالقسم هنا متقدم ،وأغنى جوابه عن جواب الشرط.
وإن قلت :إن جاءك فلن وال لتكرمه ،فهنا الشرط هو المتقدم.
والثنان متحدان ،لكن غاية ما هناك أن القسم تأكيد والشرط تأسيس ،فإذا تقدم ذو خبر على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الثنين ـ على الشرط وعلى القسم ـ نأتي بجواب الشرط فورا ،مثلما نقول " :زيد وال إن
جاءك أكرمه "؛ لن الشرط كما قلنا تأسيس ،والقسم تأكيد ،ويرجح هنا الشرط ،لن التأسيس أولى
من التأكيد.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلَئِنْ َأخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَىا ُأمّةٍ ّمعْدُو َدةٍ لّ َيقُولُنّ مَا َيحْبِسُهُ } [هود.]8 :
والجواب هنا للقسم ،وهو يغني عن جواب الشرط.
أي :أن العذاب يُؤخّر.
وقد أوعد الحق ـ سبحانه ـ الكافرين بمحمد صلى ال عليه وسلم بأن يعذبهم ،وكان العذاب
للمم السابقة هو عذاب استئصال ،منهم من أرسل ال سبحانه عليه عاصفة ،ومنهم من أخذته
الصيحة ،ومنهم من أغرقه ،ومنهم من خسف به الرض.
فكأن مهمة الرسل السابقين أن يبلغوا الدعوة ،ثم تتلوى السماء تأديب الكافرين بالرسالت.
ولكن الحق سبحانه وتعالى قد شاء أن يفضّل أمة محمد صلى ال عليه وسلم على المم كلها ،وأن
تعذّب الكافرين في المعارك.
وحين يتوعدهم الرسول صلى ال عليه وسلم بعذاب ،فللعذاب ميلد ،وقد يُؤخّر ليرى المحيطون
بالكافرين الضلل والفساد ،فإذا ما وقع عذاب ال سبحانه على هؤلء الكافرين ،فلن يحزن عليهم
أحد.
وهكذا أراد ال سبحانه المهال والملء ليكون لهما معنى واضح في الحياة ،والملء للظالم؛
لتزداد مظالمه زيادة تجعل المة التي يعيش فيها تكره ظلمه ،فإذا وقع عليه عذاب ،ل يعطف
عليه أحد.
ونحن نعلم أن النفس البشرية بنت المشهد ،فحين يُقتل واحد وتمر سنوات على قضيته ،ثم يصدر
الحكم بإعدامه ،فالناس تنسى لذعة القتل الول ،وتعطف على القاتل حين يصدر الحكم بإعدامه.
ولذلك أقول دائما:
إن من دواعي استمرار الجرائم إبطاءات المحاكمة ،تلك البطاءات التي تجعل عواطف الناس من
المجرم؛ لن مشهد المقتول أولً قد انتهى من ذاكرتهم.
ولكن لو استحضر الناس ـ وقت العقوبة ـ ظرف الجريمة؛ لَفرِحوا بالحكم على القاتل بالقتل.
ولذلك نجد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ حينما يريد أن يعذب أحدا يقول:
ش َهدْ عَذَا َب ُهمَا طَآ ِئفَةٌ مّنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }[النور.]2 :
{ وَلْيَ ْ
وذلك ليتم التعذيب أمام المجتمع الذي شقى بإفسادهم وشقى بمظالمهم ،فمن يُعتدَى على عرضه،
ويرى عذاب المعتدي فهو يُشْفى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يبيّن الحق سبحانه وتعالى لرسوله صلى ال عليه وسلم :لقد توعدتهم بالعذاب .ونحن نبطن
العذاب بالمهال لهم ،ولكنهم جعلوا من ذلك مناط السخرية والستهزاء والتهكم ،وتساءلوا :أين هو
العذاب؟
ونحن نجد القرآن يقول على ألسنتهم.
عجّل لّنَا قِطّنَا قَ ْبلَ َيوْمِ ا ْلحِسَابِ }[ص.]16 :
{ َوقَالُواْ رَبّنَا َ
والقط :هو جزاء العمل ،وهو مأخوذ من القط أي :القطع.
والعذاب إنما يتناسب مع الجرم ،فإن كانت الجريمة كبيرة فالعذاب كبير ،وإن كانت الجريمة
صغير فالعذاب يكون محدودا ،فكان العذاب موافقا للجريمة.
ومن العجيب أن منهم من قال:
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }
{ الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ ال ّ
[النفال.]32 :
وجاء على ألسنتهم ما أورده القرآن الكريم في قولهم:
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا }[السراء.]92 :
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
{ َأوْ ُت ْ
ول شك أن النسان ل يتمنى ول يرجو أن يقع عليه العذاب ،ولكنهم قالوا ذلك تحديا وسخرية
واستهزاءً.
وشاء الحق سبحانه وتعالى أل يعذب الكافرين المعاصرين لرسول ال صلى ال عليه وسلم مثلما
عذب الكافرين الذين عاصروا الرسالت السابقة؛ لن الحق سبحانه وتعالى هو القائل:
{ َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِمْ }[النفال.]33 :
فضلً عن أن هناك أناسا منهم ستروا إيمانهم؛ لنهم ل يملكون القوة التي تمكنهم من مجابهة
الكافرين ،ول يملكون القوة ليرحلوا إلى دار اليمان بالهجرة ،وحتمت عليهم ظروفهم أن يعيشوا
مع الكافرين.
وهناك في سورة الفتح ما يوضح ذلك ،حين قال الحق سبحانه وتعالى:
{ هُمُ الّذِينَ َكفَرُو ْا َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفا أَن يَبْلُغَ مَحِلّ ُه وََلوْلَ ِرجَالٌ ّم ْؤمِنُونَ
حمَتِهِ مَن
خلَ اللّهُ فِي رَ ْ
وَنِسَآءٌ ّم ْؤمِنَاتٌ لّمْ َتعَْلمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مّ ْنهُمْ ّمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ عِلْمٍ لّ ُيدْ ِ
عذَابا أَلِيما }[الفتح.]25 :
يَشَآءُ َلوْ تَزَيّلُواْ َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُواْ مِ ْنهُمْ َ
أي :لو تميّز الكافرون عن المؤمنين لسلّط الحق سبحانه العذاب الليم على الكافرين ،لكن لو دخل
المسلمون بجيشهم الذي كان في الحديبية على مكة ،ودرات هناك معركة ،فهذه المعركة ستصيب
كل أهل مكة ،وفيهم المؤمنون المنثورون بين الكافرين ،وهم غير متحيزين في جهة بحيث يوجد
المسلمون الضربة للجانب الكافر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فلو ضرب المسلمون المقاتلون ،لضربوا بعضا من المؤمنين ،وهذا ما ل يريده الحق سبحانه
وتعالى.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
} وَلَئِنْ َأخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَىا ُأمّةٍ ّمعْدُو َدةٍ { [هود.]8 :
والمة :هي الطائفة أو الجماعة من جنس واحد ،مثل أمة النس ،وأمة الجن ،وأمة النمل ..وغير
ذلك من خلق ال.
والحق سبحانه هو القائل:
شيْءٍ
{ َومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَ ْرضِ وَلَ طَائِرٍ يَطِيرُ ِبجَنَاحَ ْيهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأمْثَاُلكُمْ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
حشَرُونَ }[النعام.]38 :
ثُمّ إِلَىا رَ ّب ِهمْ يُ ْ
والمة :طائفة يجمعها نظام واحد وقانون واحد ،وأفرادها مستاوون في كل شيء ،فتكون كل
واحدة من هذه المم أمة ،وهناك المة :الطائفة من الزمن .مثل قول الحق سبحانه:
{ َوقَالَ الّذِي َنجَا مِ ْن ُهمَا وَا ّدكَرَ َبعْدَ ُأمّةٍ }[يوسف.]45 :
أي :أن هذا الذي تذكر بعد فترة من الزمن ،وقد تكون الفترة المسماة " أمة " ،هي الزمن الذي
يتحمل جيلً من الجيال.
المة ـ إذن ـ هي جماعة وطائفة لها جنس يجمعها ،ولها تميزات أفرادية ،وهي تلتقي في معنى
عام.
فأمة النسان هي حيوان ناطق مفكر ،وهناك قدر عام يجمع كل إنسان ،ولكن هناك تفاوتات في
المواهب.
ول توجد نفس بشرية واحدة تملك موهبة الهندسة والطب والتجارة والصيدلة والمحاسبة؛ لن كل
حرفة من تلك الحرف تحتاج إلى دراسة.
ول يملك إنسان من العمر ما يتيح له التخصص في كل تلك المجالت؛ ولذلك يتخصص كل فرد
في مجال؛ ليخدم غيره فيه ،وغيره يتخصص في مجال آخر ويخدم الباقين ،وهكذا.
وفي هذا تكافل اجتماعي ،يشعر فيه كل فرد بـأنه يحتاج للخرين ،وأنه ل يستطيع أن يحيا
مستقلً بذاته عن كل الخلق.
ولو عرف واحد كل الحرف التي في الدنيا ،من طب وهندسة وقضاء ،وسباكة ،ونجارة،
وزراعة ،وغيرها فلن يسأل عن الباقين؟
لذلك شاء ال سبحانه وتعالى أن تلتحم المجتمعات ضرورة وقسرا ،ل تفضّلً من أحد على أحد.
والذي يكنس الشارع أو يعمل في تنظيف الصرف الصحي ل يفعل ذلك تفضّلً ،بل يفعل ذلك
احتياجا؛ لنه يحتاج إلى العمل والرزق؛ لن جسمه يحتاج إلى الطعام ،وإلى الستر بالملبس،
وأولده يطلبون الطعام والمأوى والملبس ،ولول ذلك لما عمل في تلك المهنة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا أخلص في عمله فال سبحانه يحببه فيها ،وإن ارتقت أحواله ،يظل في هذا العمل؛ لنه عشق
إتقان مهنته.
ولقد رأيت رجلً كان يعمل في هذه المهنة ،ويحمل القذار على كتفه ،وحين وسّع ال عليه،
اشترى عربة يجرها حمار ليحمل فيها ما ينزحه من تلك المجاري.
وحين وسّع ال عليه أكثر ،اشترى سيارة فيها ماكينة شفط للقاذورات ،وصار يجلس على
الكرسي ،ويدير " موتور " نزح المجاري لداخل خزان السيارة المخصص لذلك.
إذن :فارتباطات المجتمع ل بد أن تنشأ عن حاجة ،ل عن تفضّل؛ لن التفضل ليس فيه إلزام
بالعمل ،لكن الحاجة هي التي فيها إلزام بالعمل؛ لتسير حركة الحياة.
ومن يعشق عمله على أي وضع كان ،يوفقه ال تعالى فيه أكثر؛ لنه احترم قدر ال تعالى في
نفسه ،ولم يستنكف ،ويعطيه ال سبحانه كل الخير من هذا العمل ،بقدر حبه للعمل وأخلصه فيه.
وإن نظرت إلى العظماء في كل مهنة مهما صغرت ،فستجد أن تاريخهم بدأ بقبولهم لقدر ال
سبحانه وتعالى فيهم.
ونحن نعلم أن قيمة كل امرىء فيما يحسنه؛ ولذلك تجد المة مكونة من مواهب متكاملة ل
متكررة ،حتى يحتاج كل إنسان إلى عمل غيره.
ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى:
ضهُم َبعْضا سُخْرِيّا }[الزخرف.]32 :
خذَ َب ْع ُ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ لّيَتّ ِ
{ وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
لن أحدا ل يسخّر الخر لعمل إل إذا كان المسخّر في حاجة إلى هذا العمل.
ولذلك تجد من يطرق بابك ويسأل :أل تحتاج إلى سائق؟ أل تحتاج إلى خادم؟
وصاحب الحاجة هو الذي يعرض نفسه؛ لعله يجد العمل الذي يتقنه.
ولذلك يجب أل يتصور أهل أي إنسان أنه حين يخدم في أي حرفة من الحرف أنه يخدم المخدوم،
ل ..إنه يخدم حاجة نفسه.
وهكذا تترابط المة ارتباط حاجات ،ل ارتباط تفضل.
وقد قال الحق سبحانه وتعالى عن سيدنا إبراهيم عليه السلم:
{ إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً }[النحل.]120 :
لن هناك مواهب متعددة قد اجتمعت فيه ،وهي مواهب ل تجتمع إل في أمة من الناس.
وكلمة " أمة " تطلق على الزمن ،وتطلق على الجماعة من كل جنس ،وتطلق على الرجل الجامع
لكل خصال الخير.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
} وَلَئِنْ َأخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَىا ُأمّةٍ ّمعْدُو َدةٍ { [هود.]8 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعادة ما تأتي كلمة } ّم ْعدُو َدةٍ { لتفيد القلة؛ مثل قول الحق سبحانه:
{ وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ َبخْسٍ دَرَاهِمَ َمعْدُو َد ٍة َوكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزّاهِدِينَ }[يوسف.]20 :
وما دام الثمن بَخْسا فل بد أن تكون الدراهم معدودة.
عدّ شيء إل مظنة أننا
والسبب في فهمنا لكلمة } ّمعْدُو َدةٍ { أنها تفيد القلة ،هو أننا ل نُقبل على َ
قادرون على عَدّه؛ لنه قليل ،لكن مال نُقبل على عدّه فهو الكثير.
ومثال ذلك :أن أحدا لم يعد الرمل ،أو النجوم.
ولذلك جاء قول الحق سبحانه:
حصُوهَا }[إبراهيم.]34 :
{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ لَ ُت ْ
و " إن " ـ كما نعلم ـ تأتي للشك ،ونعم ال سبحانه ليست مظنة الحصر.
ورغم أن البشرية قد تقدمت في علوم الحصاء فهل تفرّغ أحد ليُحصي نعم ال؟
طبعا ل ..وبطبيعة الحال يمكن إحصاء السكان والعاملين في أي مجال أو تخصص.
وقديما كان القائمون على فتح صناديق النذور ليحسبوا ما فيها ،فيضعوا الورق من فئة المائة جنيه
معا ،والورق من فئة العشرة جنيهات معا ،وكذلك بقية الفئات من الوراق المالية ،إلى أن يصلوا
إلى القروش ،فيقوموا بوزن كليو جرام منها ،ويحسبوا كم قرشا في الكيلو جرام ،ويزنوا بعد ذلك
بقية القروش؛ ليحسبوا المجموع على حساب عدد القروش التي حصروها في الكليو جرام الول.
وقول الحق سبحانه هنا:
} وَلَئِنْ َأخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَىا ُأمّةٍ ّمعْدُو َدةٍ لّ َيقُولُنّ مَا َيحْبِسُهُ { [هود.]8 :
كأنهم يتساءلون سخرية واستهزاء :لماذا يتأخر العذاب الذي توعّدهم به رسول ال صلى ال عليه
وسلم؛ لن النسان ل يتشوق إلى ما يؤلمه ،ول يقال مثل هذا الكلم إل على سبيل التهكم.
ويأتي الرد عليهم بأداة التنبيه ،وهي " أل " أي :تَنبّهوا إلى هذا الرد.
ويقول الحق سبحانه وتعالى:
} َيوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ َمصْرُوفا عَ ْنهُمْ { [هود.]8 :
وهذا تأكيد أن العذاب سيأتي ،ولكن العباد دائما يعجلون.
وال سبحانه ل يعجل بعجلة العباد؛ حتى تبلغ المور ما أراد ،وكل أمر له وقت وله ميلد،
وسيأتيهم ما كانوا يستعجلون؛ لن الحق سبحانه وتعالى يقول:
} وَحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْزِءُونَ { [هود.]8 :
وقد جاء تأكيد وصول العذاب إليهم بأشياء :أولها " :أل " وهي أداة تنبيه ،وكذلك قوله سبحانه
وتعالىَ } :يوْمَ يَأْتِيهِمْ { ،وهذا خبر بأن العذاب آت ل محالة؛ لن الذي يخبر به هو ال سبحانه
وتعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأيضا فهذا العذاب } :لَيْسَ َمصْرُوفا عَ ْن ُهمْ { [هود.]8 :
أي :أنه عذاب مستمر.
وقول الحق سبحانه وتعالى:
} وَحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْزِءُونَ { [هود.]8 :
يعني :أنه حل بهم ونزل عليهم ،ووقع لهم العذاب الذي استهزأوا به من قبل.
ونحن نعلم أن كلمة (حاق) فعل ماضٍ ،والكلم على أمر مستعجل ،ويُعبّر عن المر المستعجل
بالمضارع؛ لن الفعل المضارع يدل على الحال أو الستقبال ،فكيف يستعجلون أمرا ،ويأتي
التعبير عنه بالفعل الماضي؟
ولكن القائل هنا هو ال الحق سبحانه وتعالى ،والكلم مأخوذ بقانون المتكلم ،وكل فعل يُنسَب إلى
قوة فاعله ،وال سبحانه هو قوة القوى.
وقال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن:
{ أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ َتسْ َتعْجِلُوهُ }[النحل.]1 :
وكلمة " أتى " في عرفنا اللغوي فعل ماضٍ ،أي :أن الكلم جاء من المتكلم بعد وقوع النسبة
خارجا ،مثلما نقول " :نجح محمد " فهذا يعني أن النجاح قد حدث بالفعل.
وحين يقول ال سبحانه } :أَتَىا َأمْرُ اللّهِ { نفهم أن } أَتَىا َأمْرُ اللّهِ { نسبة كلمية سبقتها نسبة
واقعية.
وقوله سبحانه بعد ذلك } :فَلَ َتسْ َتعْجِلُوهُ { يدل على أن المر لم يقع ،ولكن المتكلم هنا هو ال
سبحانه وتعالى.
والمعنى أن المر واقع ل محالة؛ ذلك لن كل فعل إنما ينسب لقوة الفاعل.
ومثال ذلك من حياتنا ـ ول المثل العلى ـ أنك قد ترغب في أن تنقل حقيبة ضخمة وثقيلة،
فيقول ابنك الشاب :دعني أحملها لك ،وهو يقول ذلك لنه قادر على أن يحملها في زمن يناسب
قوته.
وإن جاءك ابنك الصغير وقال :سأحملها أنا .فهو لن يحمل الحقيبة إل في مقدار زمن يناسب
قوته ،وهي قوة ضعيفة.
إذن :ففي المجال البشري أنت تحكم على الماضي ،وقد يكون الحكم صادقا أو كاذبا ،ولكنك
بالنسبة لمر مستقبل ،ل تستطيع أن حكم عليه؛ لنك ل تملك من المستقبل شيئا.
أما إذا كان قائل الكلم قادرا على إنفاذ ما يقوله الن في المستقبل ،ول عائق يعوقه ،فاعلم أن
المر قادم ل محالة.
وهنا نجد الخبار من ال سبحانه وتعالى ،ول شيء في الكون يتأبّى على ال سبحانه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما دام الحق سبحانه قد قال إنه أمرٌ قد أتى ،فهو آتٍ ل محالة.
ولذلك قال سبحانه:
} وَحَاقَ ِبهِم { [هود.]8 :
مع أن السياق في العرف البشري أن يقال :وسيحيق بهم ما كانوا به يستهزئون؛ لنهم كانوا
يستعجلون العذاب.
وجاء قول الحق سبحانه وتعالى } :وَحَاقَ { لن المر بالنسبة له سبحانه لن يحول بينه وبين
وقوعه أي عائق.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَلَئِنْ َأ َذقْنَا الِنْسَانَ {
()1468 /
وهنا أيضا تبدأ الية الكريمة بقوله سبحانه { :وَلَئِنْ } وهذا يعني أن اللم قد سبقت لتدل على
القسم ،وكأنه يقول :لئن أذقنا النسان رحمة ،ثم نزعناها منه لوقع في الياس.
وهنا أيضا قسم وشرط ،والقسم متقدم ،فالجواب يكون للقسم.
وكلمة { َأ َذقْنَا } توضح أن الذاقة محلها الول الفم ،ومعناها :تناول الشيء لدراك طعمه :حلو أو
مر ،لذع أوغير لذع ،قلوي أو حامض.
ومن العجيب في دقة التكوين النساني أن كل منطقة في اللسان لها طعم تنفعل له ،فطرف اللسان
ينفعل لطعم معين ،ووسط اللسان ينفعل لطعم آخر ،وجوانب اللسان تنفعل لطعم ثالث ،وهكذا.
كل ذلك في عضو واحد شاء له الحق سبحانه هذه الدقة في التركيب.
وكل " حلمة " من مكوّنات اللسان لها شيء تحس به؛ ولذلك نجد النسان يذوق الطعام ،فيقول :إن
هذا الطعام ينقصه الملح ،أو يذوب الحلوى ـ مثل الكنافة ـ فيقول :إن السكر المحلة به
مضبوط.
وكذلك حرارة الجسم ،يقيس النسان حرارته ،فإن وجدها سبعة وثلثين درجة ونصف الدرجة؛
فيقول :إنها حرارة طبيعية .وإن نقصت حرارة النسان عن ذلك يقال :إنه مصاب بالهبوط .وإن
ارتفعت يقال :مصاب بالحمى.
وهذا قياس للحرارة بالجملة لجسم النسان ،ولها المنافذ الخاصة بها .ولكن كل عضو في الجسم
تلزمه درجة حرارة خاصة به ليؤدي عمله.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالكبد إن قلّت درجة حرارته عن أربعين درجة ل يؤدي مهمته .وجسم النسان فيه جوارح
متعددة؛ وحرارة العين مثلً تسع درجات؛ لنها لو زادت حرارتها عن ذلك لنفجرت العين،
وحرارة الذن ثماني درجات.
وأنت ل تستطيع أن تأتي بأشياء مختلفة الحرارة وتضعها مع بعضها ،ولكن الحق سبحانه وتعالى
شاء ذلك بالنسبة للجسم النساني.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلَئِنْ َأ َذقْنَا الِنْسَانَ } [هود.]9 :
والذوق هو للدراك ،ل للكل ،فأنت حين تشتري فاكهة يقول لك البائع " :تفضّل ُذقْ " فتأخذ
واحدة منها لتستطيب طعمها.
فالذوق ـ إذن ـ هو تناول الشيء لدراك طعمه.
والنعمة حين يشاء الحق سبحانه وتعالى أن تصيب النسان ،ثم تُنزَع منه ،هنا يصاب النسان
بالقلق أو الحزن أو الهلع ،أو اليأس.
والنعمة مهما قلّت فالنسان يستطيبها ،وإن نُزعت منه فهو يئوس كفور.
واليأس :هو قطع المل من حدوث شيء ،ولن النسان ل يملك الفعل ،ولو كان يقدر عليه لما
يئس.
والمؤمن ل ييأس أبدا؛ لن ال سبحانه هو القائل:
{ إِنّ ُه لَ يَيْأَسُ مِن ّروْحِ اللّهِ ِإلّ ا ْلقَوْمُ ا ْلكَافِرُونَ }[يوسف.]87 :
اليأس ـ إذن ـ هو أن تقطع المل من أمر مراد لك ،ول تملك الوسائل لتحققه.
والذي ييأس هو الذي ليس له إله يركن إليه؛ لن ال تعالى هو الركن الرشيد الشديد ،والمؤمن إن
فقد شيئا يقول " :إن ال سيُعوّضني خيرا منه ".
أما الذي ل إيمان له بإله فهو يقول " :إن هذه الصدفة قد ل تتكرر مرة أخرى ".
فالنسان الذي ُيسْرَق منه جنيه قد يحزن ،ولكن إذا ما كان عنده في المنزل عشرة جنيهات فهو
يحزن قليلً على الجنيه المفقود.
والنسان ل ييأس إل عند عدم يقينه بمصدر يرد عليه ما يريده ،ولكن حين يؤمن بمصدر يرد
عليه ما يريده فل تجده يائسا قانطا.
والمؤمن يعلم أن النعمة لها واهب ،إن جاءت شكر ال عليها ،وإن سُلبت منه ،فهو يعلم أن الحق
سبحانه قد سلبها لحكمة.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا:
ح َمةً { [هود.]9 :
} وَلَئِنْ َأ َذقْنَا الِنْسَانَ مِنّا رَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونحن نعلم أن النسان مقصود به كل أبناء آدم ـ عليه السلم ـ وهم كثيرون ،منهم المؤمن،
ومنهم الكافر.
وهنا تأتي كلمة " النسان " على إطلقها ،ولكن الحق سبحانه وتعالى يستثنى المؤمن في موضع
آخر حين يقول الحق سبحانه:
خسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ }[العصر1 :ـ .]3
ن الِنسَانَ َلفِى ُ
{ وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
و " النسان " مفرد يدل على النسان في كل مدلولته ،ويستثنى من نوع النسان من آمن به.
فإن رأيت كلمة إنسان فاعلم أن المراد بالنسان أفراد النسان كلهم.
والنسان لو عزل نفسه عن منهج ال تعالى فهو في خسران إل إذا اتبع منهج ال ،فالمنهج يحميه
من الزلل ،وتسير غرائزه إلى ما أراد الحق سبحانه لها.
فقد خلق الحق سبحانه الغرائز لمهام أساسية ،فغريزة الجوع تجعل النسان يطلب الطعام،
والعطش أراده ال سبحانه وتعالى لينتبه النسان إلى طلب الرتواء بالماء.
وغريزة بقاء النوع تدفع النسان للزواج ،وغريزة حب الستطلع هي التي تدفع النسان إلى
كشف المخترعات.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل عن الساهين عن استكشاف آيات ال تعالى:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف.]105 :
{ َوكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي ال ّ
والباحث العلمي التجريبي المعلمي ينظر في ظواهر الكون ليستطلع أسرار الكون.
وهناك فارق بين حب الستطلع لكتشاف أسرار الكون ،وحب الستطلع لخبار الناس.
إن حب الستطلع عموما هو مدار التقاءات الكون ،ولكن الدين والخلق هو الذي يوجه حب
الستطلع.
إذن :فالقرائن لها مهمة يجب ألّ تنفلت إلى غيرها ،والدين قد جاء ليعلي من الغرائز ويوجهها إلى
مهامها.
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
جسّسُواْ }[الحجرات.]12 :
{ َولَ تَ َ
أي :ل تتبعوا العورات؛ لننا لو أبحنا لواحد أن يتتبع عورات الناس؛ لبحنا لكل الخرين أن
يتتبعوا عوراته.
وحين منع الحق ـ سبحانه وتعالى ـ النسان من تتبّع عورات غيره ،فهو قد حماه من تتبع
عوراته.
وهنا يقول الحق سبحانه:
ح َمةً ثُمّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ { [هود.]9 :
} وَلَئِنْ َأ َذقْنَا الِنْسَانَ مِنّا رَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1469 /
وَلَئِنْ أَ َذقْنَاهُ َن ْعمَاءَ َب ْع َد ضَرّاءَ مَسّ ْتهُ لَ َيقُولَنّ ذَ َهبَ السّيّئَاتُ عَنّي إِنّهُ َلفَرِحٌ َفخُورٌ ()10
وهنا نجد الضراء هي الموجودة ،والنعماء هي التي تطرأ ،عكس الحالة الولى ،حيث كانت
الرحمة ،من خير ويسر ـ هي الموجودة.
فالنزع في الولى طرأ على رحمة موجودة ،والنعماء طرأت على ضرّاء موجودة.
وهناك فرق بين نعماء ونعمة ،وضراء وضر؛ فالضر هو الشيء الذي يؤلم النفس ،والنعمة هي
الشيء الذي تتنعم به النفس.
لكن التنعّم واللم قد يكونان في النفس ،ول ينضح أي منهما على النسان ،فإن نضح على النسان
أثر النعمة يقال فيها " نعماء " ،وإن نضح عليه أثر من الضر يقال " :ضراء ".
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَلَئِنْ َأ َذقْنَاهُ َن ْعمَآءَ َبعْ َد ضَرّآءَ مَسّتْهُ لَ َيقُولَنّ ذَ َهبَ السّيّئَاتُ عَنّي } [هود.]10 :
ول يفطن من يقول ذلك إلى المُذْهِب الذي أذهبَ السيئات؛ لن السيئة ل تذهب وحدها.
ولو كان القائل مؤمنا لقال :رفع ال عني السيئات.
لكنه غير مؤمن؛ ولذلك يغرق في فرح كاذب وفخر ل أساس له.
ويصفه الحق سبحانه وتعالى بقوله:
{ إِنّهُ َلفَرِحٌ فَخُورٌ } [هود.]10 :
وكأن الفرح بالنعمة أذهله عن المنعم ،وعمن نزع منه السيئة.
وأما الفخر ،فنحن نعلم أن الفخر هو العتداد بالمناقب ،وقد تجد إنسانا يتفاخر على إنسان آخر
بأن يذكر له مناقب وأمجادا ل يملكها الخر.
ونحن نعلم أن التميز لفرد ما يوجد في المجتمع ،ولكن أدب اليمان يفرض أل يفخر النسان
بالتميز.
ولذلك نجد النبي صلى ال عليه وسلم يقول " :أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ول فخر ".
وفي أحدى المعارك نجده صلى ال عليه وسلم يقول:
" أنا النبي ل كذب ،أنا ابن عبد المطلب ".
وقد اضطر رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يقول ذلك؛ لن الكافرين في تلك المعركة ظنوا
أنهم حاصروه هو ومن معه وأنه سوف يهرب ،لكنه صلى ال عليه وسلم بشجاعته أعلن:
" أنا النبي ل كذب ،أنا ابن عبد المطلب " وكان أقرب المسلمين إلى مكان العداء الكافرين وفي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مواجهتهم.
ونحن نجد المتصارعين أو المتنافسين ،واحدهم يدخل على الخر بصوت ضخم ليهز ثقة الطرف
الخر بنفسه.
والفخور إنسان غائب بحجاب الغفلة عن واهب المناقب التي يتفاخر بها ،ولو كان مستحضرا
لجلل الواهب لتضاءل أمامه ،ولو اتجهت بصيرة المتكبر والفخور إلى الحق سبحانه وتعالى
لتضاءل أمامه ،ولردّ كل شيء إلى الواهب.
ومثال ذلك في القرآن الكريم هو قول الحق سبحانه على لسان صاحب موسى عليهما السلم:
{ َومَا َفعَلْتُهُ عَنْ َأمْرِي }[الكهف.]82 :
وهذا سلوك العابد المتواضع.
أما حال الفخورين اللهين عن الحق سبحانه وتعالى ،فقد صوره القرآن في قول قارون:
{ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي }[القصص.]78 :
()1470 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة { صَبَرُواْ } هنا موافقة للمرين الذين سبقا في اليتين السابقتين ،فهناك نزع الرحمة،
وكذلك هناك " نعماء " من بعد " ضرّاء " ،وكل الموقفين يحتاج للصبر؛ لن كلّ منا مقدور
للحداث التي تمر به ،وعليه أن يصبر لملحظية حكمة القادر سبحانه.
وبدأ الحق سبحانه وتعالى هذه الية بالستنثاء ،فقال جل وعل:
ن صَبَرُواْ } [هود.]11 :
{ ِإلّ الّذِي َ
ولول هذا الستثناء لكان الكل ـ كل البشر ـ ينطبق عليهم الحكم الصادر في اليتين السابقتين،
حكم باليأس والكفر ،أو الفرح والفخر دون تذكّر واهب النعم سبحانه.
ولكن هذا الستثناء قد جاء ليُطمئن الذين صبروا على ما قد يصيبهم في أمر الدعوة ،أو ما
يصيبهم في ذواتهم؛ ل من الكافرين؛ لكن بتقدير العزيز العليم.
أو أنهم صبروا عن عمل إخوانهم المؤمنين.
إذن :فالصبر معناه حدّ النفس بحيث ترضى عن أمر مكروه نزل بها .والمر المكروه له مصادر
عدة ،منها:
* أمر ل غريم لك فيه كالمرض مثلً.
* أو أن يكون لك غريم في المر؛ كأن يُسرق منك متاع ،أو يُعتدى عليك ،وفي هذه الحالة
تنشغل برغبة النتقام ،وتتأج نفسك برغبة النيل من هذا الغريم ،أكثر مما تتأجج في حالة عدم
وجود الغريم ،فحين يمرض النسان فل غريم له.
وفي حالة الرغبة من النتقام فالصبر يختلف عن الصبر في حالة وجود الغريم.
ولذلك عرض الحق سبحانه وتعالى لتأتّي الصبر حسب هذه المراحل ،فسيدنا لقمان يقول لبنه:
لمُورِ }[لقمان.]17 :
{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْ ِم ا ُ
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه:
لمُورِ }[الشورى.]43 :
غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْز ِم ا ُ
{ وََلمَن صَبَ َر وَ َ
وفي هذه الية " لم " التوكيد لتؤكد أن هذا المر يحتاج إلى عزم قوي؛ لن لي فيها غريما يثير
غضبي.
فساعة أرى من ضربني أو أهانني أو سرقني أو أساء إليّ إساءة بالغة ،فالمر هنا يحتاج صبرا
وقوة وعزيمة.
أما في الحالة الولى ـ حالة عدم وجود غريم ـ فالحق سبحانه يكتفي فقط بالقول الكريم:
{ وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ }[لقمان.]17 :
ولكنه سبحانه أضاف في الية الخرى " اللم " لتأكيد العزم ،وليضيف سبحانه في حالة وجود
غريم طلب الغفران ،فيقول سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمُورِ }[الشورى.]43 :
غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَ ْز ِم ا ُ
{ وََلمَن صَبَ َر وَ َ
وهكذا نجد المستثنى ،وهم الصابرون على ألوانهم المختلفة.
وهنا يقول سبحانه:
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ } [هود.]11 :
ن صَبَرُواْ وَ َ
{ ِإلّ الّذِي َ
وما دام هنا صبر ،فالصبر ل يكون إل على إيذاء .ولكن إياك أن يكون اليذاء من خصمك في
اليمان ،أو من خصمك في ما دون اليمان ،صارفا لك عن نشاطك في طاعة ال سبحانه؛ لن
الصبر ل يعني أن تكبت غضبك وتعذب نفسك بهذا الكبت بما يصرفك عن مهامك في الحياة ،بل
يسمح لك الحق سبحانه أن تتخلص من غلّك وحقدك ،بمعايشة اليمان الذي يُخفف من غَلْواء
الغضب.
ولكسر حدة الغل أباح لك الحق سبحانه وتعالى أن تعتدي على من اعتدى عليك بمثل ما اعتدى؛
لن سبحانه وتعالى ل يريد لك أن تظل في حالة غليان بالغضب أو القهر بما يمنعك من العمل،
بل يريد الحق سبحانه أن تتوجه بطاقاتك إلى أداء عملك.
ولذلك ل يلزمك الحق سبحانه إل بحكم العدل فيقول عز وجل:
علَيْهِ ِبمِ ْثلِ مَا اعْتَدَىا عَلَ ْي ُكمْ }[البقرة.]194 :
{ َفمَنِ اعْ َتدَىا عَلَ ْيكُمْ فَاعْ َتدُواْ َ
ولكن هناك القادر على التحكم في نفسه ،ولذلك يقول الحق سبحانه:
ظمِينَ ا ْلغَيْظَ }[آل عمران.]134 :
{ وَا ْلكَا ِ
ومعنى كظم الغيظ :أن الغيظ موجود ،لكن صاحبه ل يتحرك بنزوع انتقامي ،مثلما تقول" :
كظمت القِرْبة " لن حامل القربة لو لم يكظم الماء فيها ،لتفلّت الماء منها ،أي :أنه يحبس الماء
فيها.
وكظم الغيظ درجة ومنزلة ،قد ل تكون إيجابية؛ لن الغيظ مازال موجودا؛ ولذلك تأتي مرحلة
أرقى ،وتتمثل في قول الحق سبحانه:
{ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ }[آل عمران.]134 :
أي :أن تُخرج الغيظ من قلبك وتتسامح.
إذن :فأنت هنا أمام مراحل ثلث:
أن تردّ العتداء عليك بمثله ،والمثليّة في رد العتداء أمر ل يمكن أن يتحقق ،فمن صفعك
صفعة ،كيف تستطيع أن تضبط كمية اللم في الصفعة التي ردها إليه؟
إن المتحكم في ردّ العتداء هو الغضب ،والغضب ل يقيس العتداء بمثله ،فل يتحقق العدل
المطلوب؛ لهذا يكون الصبر خيرا مصداقا لقوله تعالى:
{ وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }[النحل.]126 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت من قوة صفعتك تكون معتديا.
فإن أزد َ
ولعلنا نذكر مسرحية " تاجر البندقية " لشكسبير ،وبطلها هذا التاجر اليهودي الذي أقرض رجلً
صكّ القرض يفرض أن يقتطع اليهودي رطلً من لحم المقترض إن تأخر في السداد.
مالً ،وكان َ
وتأخّر المقترض في السداد ،وأراد المرابي اليهودي أن يقتطع رطلً من لحم المقترض ،وعُرِض
المر على القاضي ،وكان القاضي رجلً حكيما ،وأراد أن يصدر حكما يتلمس فيه العدالة ،فقال
ل واحدا بل زيادة أو
القاضي :ل مانع أن تأخذ رطلً من لحم الرجل؛ هات السكين ،واقطع رط ً
نقصان؛ لننا سنأخذ مقابل تلك الزيادة من لحمك أنت بنفس السكين ،وكذلك إن قطعت من اللحم
ما يقل عن الرطل ،فسنقطع الناقص لك من لحمك أنت عقابا لك.
وتردّد المرابي اليهودي؛ لن الجزار ـ أيّ جزار ـ ل يمكن أن يضبط يده ليقطع رطلً مكتمل
الوزن ،بل يقطع أحيانا ما يزيد عن الوزن المطلوب ،ويقطع أحيانا ما يقل عن الوزن المطلوب،
ثم يكمل أو ينقص الوزن حسب كل حالة.
وانسحب المرابي اليهودي وتنازل عن دعواه ،والذي دفعه إلى ذلك هو عدم قدرته على أخذ
المثل ،فلو كان قد ارتقى قليلً في مشاعره لما وصل إلى هذا الحكم.
والحق سبحانه وتعالى يحضنا على أن نرد العدوان بمثله ،وإن أردنا الرتقاء فلنكظم الغيظ ،وإن
أردنا الرتقاء أكثر فلنخرج الغيظ من القلب ولنكن من العافين عن الناس؛ لننال محبة ال تعالى،
لنه سبحانه وتعالى يقول:
حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ }[آل عمران.]134 :
ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُ ِ
ظمِينَ ا ْلغَيْ َ
{ وَا ْلكَا ِ
وفي هذا يرتقي المؤمن بمنهج ال سبحانه ،فيجعل المعتدَي عليه هو الذي يُحسن.
وحين تريد أن تفسر حب ال سبحانه للمحسنين فلسفيّا أو منطقيا أو اقتصاديا ،ستجد القضية
صحيحة ،وال سبحانه وتعالى يقول:
صفَحُواْ َألَ تُحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ َل ُكمْ }[النور.]22 :
{ وَلْ َي ْعفُواْ وَلْ َي ْ
فإن أساء أخوك إليك سيئة ،فإما أن ترد بالمثل ،أو تكظم الغيظ أو ترقى إلى العفو ،وبذلك تكون
من المحسنين؛ لنك إذا كنت قد ارتكبت سيئة ،وعلمت أن ال سبحانه وتعالى يغفرها لك ،أل
تشعر بالسرور؟
إذن :فما ُدمْت تريد أن يغفر ال تعالى لك السيئة عنده ،فلماذا ل تعفو عن سيئة أخيك في حقك؟
وقول الحق سبحانه:
{ َألَ ُتحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ َلكُمْ }[النور.]22 :
وقد جاء الحق سبحانه هنا من ناحية النفس ،فجعل عفو العبد عن سيئة العبد بحسنة ،فلعفو العبد
ثمن عند ال تعالى؛ لن العبد سيأخذ مغفرة ال تعالى ،وفوق ذلك فأنت تترك عقاب المسيء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والنتقام منه لربك ،وعند التسليم له راحة.
ولو اقتصصتَ أنت ممن أساء إليك ،فقصاصك على قدر قوتك ،أما إن تركته إلى قدرة ال تعالى،
فهذا أصعب وأشق؛ لنك تركته إلى قوة القوي.
وهكذا ينال العافي عن المسيء مرتبة راقية؛ لنه جعل ال ـ سبحانه وتعالى ـ في جانبه.
وهناك من يقول :كيف يأمر الدين الناس بأن يحسنوا لمن أساء إليهم؟ ويعلل ذلك بأنه أمر ضد
النفس.
ونقول :إن الحسان إلى المسيء هو مرحلة ارتقاء ،وليست تكليفا أصيلً؛ لن الحق سبحانه قد
أباح أن نرد العدوان بمثله ،ثم حثّ المؤمن على أن يكظم غيظه ،أو يرتقي إلى العفو وأن يصل
إلى الحسان ،وكل هذه ارتقاءات اليقين بال سبحانه وتعالى.
وانظر إلى نفسك ـ ول المثل العلى ومنزّه سبحانه عن كل مَثلٍ ـ إنْ أردت أن تطبق المر
على ذاتك حين تجد ولدا من أولدك قد اعتدى على أخيه ،فقلبك وعواطفك وتلطفاتك تكون مع
المعتدَى عليه.
ومن يقول :كيف يكلّفني الشرع بأن أحسن إلى من أساء إليّ؟
نقول له :تذكّرْ قول الحسن البصري رضي ال عنه " :أفل أحْسِنُ لمن جعل ال في جانبي ".
ولو طبّق العالم هذه القاعدة بيقينٍ وإخلصٍ لصارت الحياة على الرض جنة معجّلة ،التسامح،
قوامها القرب ،ومنهجها الحب.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه وتعالى:
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ ُأوْلَـا ِئكَ َلهُمْ ّمغْفِ َر ٌة وَأَجْرٌ كَبِيرٌ { [هود.]11 :
ن صَبَرُواْ وَ َ
} ِإلّ الّذِي َ
وإن تسأل أحد :ولماذا ينالون المغفرة؟
نقول :لنهم صبروا وغفروا؛ لذلك يهديهم ال تعالى مغفرة من عنده ،لنه صبر على الساءة،
وغفر لمن أساء ،فل بد أن يُثيبه ال تعالى ،ل بالمغفرة فقط ،ولكن بالجر الكبير أيضا.
ك َوضَآئِقٌ ِب ِه صَدْ ُركَ {
ويقول سبحانه بعد ذلك } :فََلعَّلكَ تَا ِركٌ َب ْعضَ مَا يُوحَىا إِلَ ْي َ
()1471 /
ك َوضَائِقٌ بِ ِه صَدْ ُركَ أَنْ َيقُولُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ َأوْ جَاءَ َمعَهُ
فََلعَّلكَ تَا ِركٌ َب ْعضَ مَا يُوحَى إِلَ ْي َ
شيْءٍ َوكِيلٌ ()12
مََلكٌ إِ ّنمَا أَ ْنتَ نَذِي ٌر وَاللّهُ عَلَى ُكلّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ فََلعَّلكَ تَا ِركٌ َب ْعضَ مَا يُوحَىا إِلَ ْيكَ } [هود.]12 :
وهو استفهام في معرض النهي.
ول المثل العلى ـ أنت قد تقول لبنك لتحثّه على الجتهاد " :لعلّك سُررت من فشل فلن "
حوَى هذا الخطاب ،استفهام في معرض النهي ،وهو استفهام يحمل الرجاء.
وفَ ْ
وهنا تجد أن الراجي هو ربك ـ سبحانه وتعالى ـ الذي أرسلك بالدعوة.
ولذلك يأتي قول الحق سبحانه مُبيّنا :ل يضيق صدرك يا رسول ال من هؤلء المتعنتين ،الذين
يريدون أن يخرجوك عن مقامك الذي تلحّ دائما في التأكيد عليه ،فأنت تؤكد لهم دائما أنك بشرٌ،
وكان المفروض فيهم أن تكون مطلوباتهم منك على مقدار ما أقررت على نفسك ،فأنت لم َتقُلْ أبدا
عن نفسك إنك إله ،ليطلبوا منك آيات تُخالف النواميس ،بل أنت مُبلّغ عن ال تعالى.
حجّة عليهم ،فلو ضاق
وإياك أن يضيق صدرك فل تُبلغهم شيئا مما أن ِزلَ إليك؛ لن البلغَ هو ال ُ
ت البلغ الموكّل إليك؛ لنهم كلما أبلغوا بآية كذّبوها ،فاعلمْ أن ال سبحانه
صدرُك منهم ،وانقص َ
وتعالى سوف يزيد عقابهم بقدر ما كذّبوا.
وكلمة " ضائق " اسم فاعل ،ويعني أن الموصوف به لن يظل محتفظا بهذه الصفة لتكون لزمة
له ،ولكنها تعبّر عن مرحلة من المراحل ،مثلما نقول " :فلن نَاجِر " أي :أنه قادر على القيام
ل ـ ول يحترف هذا العمل.
بأعمال النجارة مرّة واحدة ـ أو قلي ً
وكذلك كلمة " ضائق " وهي تعبّر في مرحلة ل أكثر مِنْ فَرْط ما قابلوا الرسول صلى ال عليه
وسلم من إنكار ،وما طالبوا به من أشياء تخرج عن نطاق إنسانيته ،فقد طالبوا هنا أن ينزل عليه
كَنْزٌ.
وقد جاء الحق سبحانه بذكر مسألة الكنز؛ ليدلنا على مدى ما عندهم من قيم الحياة ،فقيمة القيم
عندهم ترك ّزتْ في المال؛ ولذلك تمنّوا لو أن هذا القرآن قد نزل على واحد من الثرياء ،مصداقا
لقول الحق سبحانه:
عظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
{ َوقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
إذن :فلم يكن اعتراضهم على القرآن ،بل على مَنْ نزل عليه القرآن .وفي الية الكريمة التي نحن
بصدد خواطرنا عنها ،طلبوا أن ينزل إليه كَنْزٌ ،وقد ظنوا أن الثراء سيلهيه هو ومَنْ معه عن
الدعوة إلى ال تعالى ونسوا أنهم قد عرضوا الثروة عليه من قبل.
وهكذا وضح لمن عرض عليه هذا المر أن مسألة الكنز ل تشغله صلى ال عليه وسلم.
والكَنْزُ ـ لغويّا ـ هو الشيء المجتمع ،فإن كانت الماشية ـ مثلً ـ مليئة باللحم يقال لها" :
ُمكْتَنِ َزةٌ لحما " ولكن كلمة " الكنز " أطلقت على الشيء الذي هو ثمن لي شيءٍ ،وهو الذهب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ب وَا ْل ِفضّةَ وَلَ يُن ِفقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ َبشّرْهُمْ ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ }[التوبة.]34 :
{ وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َه َ
ونحن نعلم أن هناك فارقا بين الرزق المباشر والرزق غير المباشر ،فالرزق الغير مباشر هو ما
تنتفع به ،طعاما أو شرابا ،وهناك شيء يأتي لك بالرزق الغير مباشر؛ لكنه ل يُغني عن الرزق
المباشر المستمر.
فلو أن إنسانا في صحراء ومعه قناطير مقنطرة من الذهب ،ول يجد طعاما ول شربة ماء ،ماذا
يفعل له الذهب " ولو عرض عليه إنسانٌ آخر رغيف خبز وشربة ماء مقابل كل ما يملك من
ذهب لوافق على الفور .وهنا ل يكون التقييم أن قنطار الذهب مقابل الرغيف وشربة الماء ،ولكن
قنطار الذهب هنا مقابل استمرار الحياة وضرورة الحاجة.
إذن :معنى كلمة " كنز " هو نقد من الذهب والفضة مجتمعا ،ويقال عنه بالعامية عندنا في مصر:
" نقود تحت البلطة " ،ولكن إذا أدّى صاحب هذا النقد حقّ ال تعالى فيما ادّخره ،ل يُعتبر كَنْزا؛
لن الشرط في الكَنْزِ أن يكون مَخفيّا ،والزكاة التي تُخرَج من المال المدّخر توضح للمجتمع أن
صاحب المال ل يُخفى ما عنده.
ولذلك ل يُسمّى الكَنْ ُز إلّ للشيء المجتمع وممنوع منه حق ال تعالى ،فإنْ أدّى حقّ ال سبحانه فقد
رُف َعتْ عنه الكَنزية؛ لن الحق سبحانه وتعالى يقول:
ب وَا ْل ِفضّةَ وَلَ يُن ِفقُو َنهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ َبشّرْهُمْ ِب َعذَابٍ أَلِيمٍ }[التوبة.]34 :
{ وَالّذِينَ َيكْنِزُونَ الذّ َه َ
ن يملك مالً ويؤدّي حقّ ال فيه ،ل يُعتبر كَنْزا ،وحين تُنقِص
ومن هذا القول الكريم نفهم أن مَ ْ
الزكا ُة المالَ في ظاهر المر ،فهي تدفع النسان إلى أن ُيحْسِن استثمار هذا المال؛ حتى ل يفقده
على مدار أربعين عاما ،بحكم أن زكاة المال هي اثنان ونصف في المائة؛ ولذلك يحاول صاحب
المال أن يُثمّره ،وهو بذلك يُهيّىء فرصة لغير واجدٍ وقاد ٍر لن يعمل ،وبذلك تقلّ البطالة.
وقد تكون أنت صاحب المال؛ لكنك ل تفهم أسرار التجارة والصناعة ،فتشارك مَنْ يفهم في
التجارة أو الصناعة ،وبذلك تفتح أبواب فرص عمل لمن ل عمل له وقادر على إدارة العمل.
هذه هي إرادة الحق سبحانه وتعالى في أن يجعل من تكامل المواهب نماءً وزيادة ،تكامل مواهب
جهْد ،وبين الوجد والجهد تنشأ الحركة ،ويتفق صاحب المال مع
الوَجْد ـ النقود ـ ومواهب ال َ
صاحب الجهد على نسب الربح حسب العرض والطلب؛ لن كل تبادل إنما يخضع لهذا المر ـ
العرض والطلب ـ لن مثل هذا التعاون بين الواجد والقادر ينتج سلعة ،والسلعة ل َهوًى لها،
ولكن من يملك السلعة ومن يشتري السلعة لهما هوى ،فمالكُ السلعة يرغب في البيع بأعلى سعر،
ومن يرغب في شراء السلعة يريدها بأقل سعر ،لكن السلعة نفسها ل هوى لها.
وما دام العرض والطلب هو الذي يتحكّم في السلع ،فهذا توازن في ميزان القتصاد.
وعلى سبيل المثال :إن عُرضت اللحوم بسعر مرتفع ،فكبرياء الذات في النفس البشرية تدفع غير
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القادر لن يقول :إن تناول اللحم يرهقني صحيّا .ويتجه إلى الطعمة الخرى التي يقدر على
ثمنها؛ لن السلعة هي التي تتحكم ،أما إذا تدخل أحدٌ في تسعير السلع ،بأن اكتنز المال ،ولم
يخرجه للسوق لستثماره ،حينئذ تختفي قدرة الحركة لصاحب المال ،ول يجد صاحب الموهبة
ل لتقان صنعته.
مجا ً
وقول الحق سبحانه وتعالى في هذه الية:
} َل ْولَ أُن ِزلَ عَلَيْهِ كَنزٌ َأوْ جَآءَ َمعَهُ مََلكٌ { [هود.]12 :
فكلمة " لول " ـ كما نعلم ـ للتمني ،وهم تمنوا الكنز أولً ،ثم طلبوا مجيء مَلَك ،وكيف ينزل
المَلَك؟ أينزل على خِلقته أم على خِلْقته بأن يتجسد على هيئة رجل؟
والحق سبحانه وتعالى يقول:
جعَلْنَاهُ رَجُلً }[النعام.]9 :
جعَلْنَاهُ مَلَكا لّ َ
{ وََلوْ َ
وإن نزل المَلَك على هيئة رجل فكيف يتعرّفون إلى أصله كمَلَك؟ وهذا غباء في الطلب.
وأيضا قال الحق سبحانه وتعالى:
{ َومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَ ُهمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ بَشَرا رّسُولً * قُل َلوْ كَانَ فِي
سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء94 :ـ .]95
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َي ْمشُونَ ُم ْ
ولو أنزله الحق سبحانه مَلَكا فسوف يكون من نفس طبيعتهم البشرية ،وسوف يلتقي بهم ويتكلم
معهم ،ولن يستطيعوا تمييزه عن بقية الناس وسوف يُكذّبونه أيضا.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه رَدّا له عن هذا الطلب } :إِ ّنمَآ
أَنتَ نَذِيرٌ { [هود.]12 :
وهذا الكلم موجّه من ال سبحانه للرسول صلى ال عليه وسلم ليُلقّنه الحجة التي يرد بها عليهم،
وقد قال لهم الرسول صلى ال عليه وسلم عن نفسه إنه نذير وبشير ،وقد طلب غيركم اليات،
وحين جاءت اليات التي طلبوها لم يؤمنوا ،بل ظلّوا على تكذيبهم؛ فنكّل الحق سبحانه بهم.
إذن :فالعناد بالكفر ل ينقلب إلى إيمان بمجرد نزول اليات ،والحق سبحانه هو القائل:
لوّلُونَ }[السراء.]59 :
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن كَ ّذبَ ِبهَا ا َ
{ َومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
أي :أن اليات التي طلبها الكافرون لم يأت بها ال سبحانه؛ لن الولين قد كذّبوا بها؛ ولذلك يبلغ
الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم هنا بقوله:
} إِ ّنمَآ أَنتَ َنذِيرٌ { [هود.]12 :
وهو صلى ال عليه وسلم قد نزل عليه القرآن بالنذارة والبشارة.
ويُنهي الحق سبحانه وتعالى الية بقوله:
شيْ ٍء َوكِيلٌ { [هود.]12 :
} وَاللّهُ عَلَىا ُكلّ َ
وأنت حين توكّل إنسانا في البيع والشراء والهِبَة والنّقل ،وله حرية التصرف في كل ما خصك،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وترقب سلوكه وتصرّفه ،فإنْ أعجبك ظللتَ على تمسكك بتوكيله عنك ،وإن لم يعجبك تصرّفه
فأنت ُتلْغي الوكالة ،هذا في المجال البشري ،أما وكالة ال سبحانه وتعالى على الخَلْق فهي باقية
أبدا ،وإن أبى الكافرون منهم.
سوَرٍ {
يقول الحق سبحانه بعد ذلك } :أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُواْ ِبعَشْرِ ُ
()1472 /
وفي قول الحق سبحانه وتعالى هنا بيان لَِلوْنٍ آخر من مصادمة الكافرين لمنهج رسول ال صلى
ال عليه وسلم واليمان به ،فقالوا :إن محمدا قد افترى القرآن.
والفتراء :هو الكذب المتعمّد ،ومعنى الكذب المتعمد أنه كلم يخالف واقعا في الكون.
فإذا كان الواقع َنفْيا وأنت قلت قضيةَ إثبات؛ تكون قد خالفت الواقع ،كأن يُوجد في الكون شرّ ما
ثم تقول أنت :ل يوجد شرّ في هذا المكان ،وهكذا يكون الواقع إيجابا والكلم نفْيا.
ي وفي الكلم إيجابٌ ،فهذا أيضا كذبٌ؛ لن الصدق هو أن تتوافق
وكذلك أن يكون في الواقع َنفْ ّ
القضية الكلمية مع الواقع الكوني ،فإن اختلفتْ مع الواقع الكوني صار الكلم كاذبا.
والكذب نوعان :نوع متعمد ،ونوع غير متعمد .والكذب خرق واقع واختلق غير موجود .ويقال
خرقت الشيء أي :أنك أتيت لواقع وبدّلت فيه.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
ن وَبَنَاتٍ ِبغَيْرِ عِلْمٍ }[النعام.]100 :
{ وَخَ َرقُواْ َلهُ بَنِي َ
ويقول أيضا الحق سبحانه:
خُلقُونَ ِإفْكا }[العنكبوت.]17 :
{ وَتَ ْ
أي :تأتون بشيء من عدم ،وهو من عندكم فقط.
ويقول ال سبحانه تعالى:
{ وَإِنْ ُهمْ ِإلّ يَخْ ُرصُونَ }[النعام.]116 :
وحين اتهموا محمدا صلى ال عليه وسلم بهتانا بأنه افترى القرآن جاء الرد من القرآن الكريم
بمنتهى البساطة ،فأنتم ـ معشر العرب ـ أهل فصاحة وبلغة ،وقد جاء القرآن الكريم من جنس
ونوع نُبوغكم ،وما دمتم قد قُلْتم :إن محمدا قد افترى القرآن ،وأن آيات القرآن ليست من عند ال،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلماذا ل تفترون مثله؟
وما دام الفتراء أمرا سهلً بالنسبة لكم ،فلماذا ل تأتون بمثل القرآن ولو بعشْر سور منه؟ وأنتم قد
صغَره ،ولم يكن له شعْر ،ول نثر ،ول خطابة ،ول علقة له برياضاتكم
عِشْتم مع محمد منذ ِ
اللغوية ،ولم يزاول الشعر أو الخطابة ،ولم يشترك في أسواق البلغة والشعر التي كانت تُعقد في
الجاهلية مثل سوق عكاظ.
وإذا كان مَنْ ل رياضة له على الكلم ول على البلغة ،قد جاء بهذا القرآن؛ فَلْيكُنْ لديكم ـ وأنتم
أهل قُدْرة ودُرْبة ورياضة على البلغة أن تأتوا ببعض من مثله ،وإن كان قد افترى القرآن فلماذا
ل تفترون مثله؟
وأنتم تعرفون المعارضات التي تُقام في أسواق البلغة عندكم ،حين يقول شاعر قصيدة ،فيدخل
معه شاعر أخر في مباراة ليلقي قصيدة أفضل من قصيدة الشاعر الول ،ثم تُعقد لجان تحكيم تُبَيّن
مظاهر الحُسْن ومظاهر السوء في أي قصيدة.
ولو كان محمدٌ صلى ال عليه وسلم قد افترى القرآن ـ كما تقولون ـ فأين أنتم؟ ألم تعرفوه منذ
طفولته؟ ولذلك يأمر الحق سبحانه رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يقول:
عمُرا مّن قَبْلِهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }
{ قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْيكُ ْم َولَ أَدْرَا ُكمْ بِهِ َفقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
[يونس.]16 :
ظ أو
فهَل أثرَ عن محمد صلى ال عليه وسلم أنه قال شعرا أو ألقى خطبة أو تَبارَى في عكا َ
المربد أو ذي المجاز أو ال َمجَنّة ،وتلك هي أسواق البلغة ومهرجاناتها في تلك اليام؟
هو لم يذهب إلى تلك الماكن منافسا أو قائلً.
إذن :أفليسَ الذين تنافسوا هناك أقدر منه على الفتراء؟ ألم يكن امرؤ القيس شاعرا فَحْلً؟ لقد
كان ،وكان له نظير يعارضه.
شكُري ،كما جاء في عصور تالية آخرون
حلّزة الي ْ
وكذلك كان عمرو بن كلثوم ،والحارث بن ِ
مثل :جرير والفرزدق.
ن يقولون الشعر ومَنْ يعارضونهم من أمثالهم من الشعراء.
إذن :فأنتم تعرفون مَ ْ
إذن :فهاتوا مَنْ يفتري مثل سور القرآن ،فإنْ لم تفتروا ،فمعنى ذلك أن القرآن ليس افتراء.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا:
سوَرٍ مّثِْلهِ ُمفْتَرَيَاتٍ { [هود.]13 :
} َأمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ فَأْتُواْ ِبعَشْرِ ُ
سوَر من مثل القرآن الكريم في البيان السر
فهل كانوا قادرين على قبول التحدي ،بأنْ يأتُوا بعشر ُ
وقوة الفصاحة وأسرار المعاني؟
لقد تحدّاهم بأن يأتوا ـ أولً ـ بمثل القرآن ،فلم يستطيعوا ،ثم تحدّاهم بأن يأتوا بعشر سور ،فلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يستطيعوا ،وتحدّاهم بأن يأتوا بسورة ،ثم تحدّى أن يأتوا ولو بحديث مثله ،فلم يستطيعوا.
وهنا جاء الحق سبحانه بالمرحلة الثانية من التحدي ،وهو أنْ يأتوا ِبعَشْر سُور ،ولم يكتف الحق
جمَعا من البَُلغَاء ،فقال سبحانه:
سبحانه بذلك ،بل طالبهم أن يَدْعُوا مَ ْ
طعْ ُتمْ مّن دُونِ اللّهِ { [هود.]13 :
} وَادْعُواْ مَنِ اسْتَ َ
أي :هاتوا كلّ شركائكم وكل البُلغاء ،من دون ال تعالى.
الحق سبحانه وتعالى هنا يقطع عليهم فرصة الدّعاء عليه سبحانه حتى ل يقولوا :سوف ندعو
طعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُن ُت ْم صَا ِدقِينَ {
ال؛ ولذلك طالبهم الحق سبحانه أن يُجنّبوه } وَادْعُواْ مَنِ اسْ َت َ
[هود.]13 :
أي :إن كنتم صادقين في أن محمدا صلى ال عليه وسلم قد افترى القرآن ،وبما أنكم أهل ريادة
سوَرٍ من مثل القرآن ،أنتم ومَنْ تستطيعون دعوتهم من الشركاء.
عشْر ُ
في الفصاحة فَلْتفتروا َ
لذلك كان الرد الحكيم من ال في قول الحق سبحانه بعد ذلك } :فَإِلّمْ يَسْ َتجِيبُواْ َلكُمْ فَاعَْلمُواْ {
()1473 /
فَإِنْ لَمْ َيسْتَجِيبُوا َل ُكمْ فَاعَْلمُوا أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ ِبعِ ْلمِ اللّ ِه وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ َف َهلْ أَنْتُمْ مُسِْلمُونَ ()14
والخطاب هنا موجّه إلى الذين ادّعوا أنّ رسول ال صلى ال عليه وسلم قد افترى القرآن ،أو أن
الخطاب مُوجّه لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لن الحق سبحانه وتعالى قال في الية السابقة:
طعْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ * فَإِلّمْ
ت وَادْعُواْ مَنِ اسْ َت َ
سوَرٍ مّثِْلهِ ُمفْتَرَيَا ٍ
{ ُقلْ فَأْتُواْ ِبعَشْرِ ُ
يَسْ َتجِيبُواْ َلكُمْ }[هود13 :ـ .]14
أي :إن لم يردّوا على التحدي ،فليعلموا وليتيقّنوا أن هذا القرآن هو من عند ال تعالى ،بشهادة
الخصوم منهم.
ولماذا عدّل الحق سبحانه هنا الخطاب ،وقال:
{ فَإِلّمْ يَسْ َتجِيبُواْ َلكُمْ } [هود.]14 :
أي :من تدعونهم ،ثم قال سبحانه:
{ فَاعَْلمُواْ أَ ّنمَآ أُن ِزلَ ِبعِلْمِ اللّهِ } [هود.]14 :
وقد قال الحق سبحانه ذلك؛ لن الرسول صلى ال عليه وسلم مُطاَلبٌ بالبلغ وما بلغه الرسول
صلى ال عليه وسلم للمؤمنين مطلوب منه أن يُبلغوه ،وإنْ لم يستجيبوا للرسول صلى ال عليه
وسلم أو للمؤمنين ،ولم يأتِ أحد مع مَنْ يتهم القرآن بأنه مُفترًى مِن محمدٍ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد يكون هؤلء الموهوبون خائفين من التحدي؛ لنهم عرفوا أن القرآن حق ،وإن جاءوا ليفتروا
ن ل تؤمنون بالقرآن ـ أن القرآن { :أَ ّنمَآ أُن ِزلَ ِبعِ ْلمِ
مثله فلن يستطيعوا ،ولذلك فاعلموا ـ يا مَ ْ
اللّهِ } [هود.]14 :
إذن :فالخطاب يكون مرّة ـ موجّها للنبي صلى ال عليه وسلم ولمته.
ولذلك عَ َدلَ الحق سبحانه عن ضمير الفراد إلى ضمير الجمع في قوله تعالى:
{ فَإِلّمْ يَسْ َتجِيبُواْ َلكُمْ فَاعَْلمُواْ أَ ّنمَآ أُن ِزلَ ِبعِلْمِ اللّهِ } [هود.]14 :
أي :ازدادوا علما أيها المؤمنون بأن القرآن إنما نزل من عند ال.
والعِلْم ـ كما نعلم ـ مراحل ثلث :علم يقين ،وعين يقين ،وحق يقين.
أو أن الخطاب مُوجّه للكافرين الذين طلب القرآن منهم أن َيدْعُوا من يستطيعون دعاءه ليعاونهم
في معارضة القرآن { :فَاعَْلمُواْ أَ ّنمَآ أُن ِزلَ ِبعِلْمِ اللّهِ } [هود.]14 :
وأعلى مراتب العِلْم عند الحق سبحانه الذي يعلم كل العلم أزلً ،وهو غير علمنا نحن ،الذَي يتغير
حسب ما يتيح لنا ال سبحانه أن نعلم ،فأنت قد تكون عالما بشيءٍ وتجهل أشياء ،أوعلمتَ شيئا
وغابتْ عنك أشياء.
ولذلك تجد الطباء ،وأصحاب الصناعات الدقيقة وغيرهم من الباحثين والعلماء يستدرك بعضهم
ل ويصف له دواءً ل يستجيب له ،فيذهب المريض إلى
البعض ،فحين يذهب مريض لطبيب مث ً
طبيب آخر ،فيستدرك على الطبيب الول ،فيصف دواء ،وقد ل يستجيب له المريض مرة ثانية،
وهنا يجتمع الطباء على هيئة " مجمع طبي " يُقرّر ما يصلح أو ل يصلح للمريض.
ويستدرك كلّ منهم على الخر إلى أن يصلوا إلى قرار ،والذي يستدرك هو العلم؛ لن الطبيب
الول كتب الدواء الذي أرهق المريض أو لم يَستجبْ له ،وهو قد حكم بما عنده من عِلْم ،كذلك
بقية الباحثين والعلماء.
وما دام فوق كل ذي علمٍ عليمٌ؛ فالطبيب الثاني يستدرك على الطبيب الول ..وهكذا.
ولكن أيوجد أحدٌ يستدرك على ال سبحانه وتعالى؟ ل يوجد.
وما دام القرآن الكريم قد جاء بعلم ال تعالى ،فل علم لبشر يمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن.
} فَاعَْلمُواْ أَ ّنمَآ أُن ِزلَ ِبعِلْمِ اللّ ِه وَأَن لّ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ { [هود.]14 :
وجاء الحق سبحانه هنا بأنه ل إله إل هو؛ حتى ل يدّعي أحدٌ أن هناك إلها آخر غير ال.
وذكر ال سبحانه هنا أن هذا القرآن قد نزل في دائرة:
} لّ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ { [هود.]14 :
وما دام الحق سبحانه قد حكم بذلك فلنثق بهذا الحكم.
مثال ذلك :هو حكم الحق سبحانه على أبي لهب وعلى امرأته بأنهما سيدخلن النار فهل كان من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الممكن أن يعلن أبو لهب إسلمه ،ولو نفاقا؟ طبعا ل؛ لن الذي خلقَه علم كيف يتصرف أبو لهب.
لذلك نجد بعد سورة المسد التي قررت دخول أبي لهب النار ،قول الحق سبحانه:
حدٌ }[الخلص.]1 :
{ ُقلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
أي :أن الحق سبحانه ما دام قد أصدر حكمه بأن أبا لهب سيدخل وزوجه النار ،فلن يقدر أحد
على أن يُغيّر من حكمه سبحانه ،فل إله إل هو.
ويُنهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله تعالى:
} َف َهلْ أَنتُمْ مّسِْلمُونَ { [هود.]14 :
وهذا استفهام ،أي :طلب للفهم ،ولكن ليس كل استفهام طلبا للفهم ،فهذا الستفهام هنا صادر عن
إرادة حقيقية قادرة على فرض السلم على من يستفهم منهم.
ولكنه سبحانه شاء أن يأتي هذا الستفهام على لسان رسوله ليقابله جواب ،ولو لم يكن السائل واثقا
أنه ل يوجد إل السلم لما قالها ،ولو لم يكن السائل واثقا أنه ل جواب إل أن يُسْلِم السامع ،ما
جعل جواب السامع حجة على السامع.
وقائل هذا الكلم هو الخالق سبحانه ،ول المثل العلى ،وهو سبحانه مُنزّه عن كل مثل ،تجد
إنسانا يحكي لك أمرا بتفاصيله ،ثم يسألك :هل أنا صادق فيما قلت لك؟ ..وهو يأتي بهذا
الستفهام؛ لنه واثق من أنك ستقول له :نعم ،أنت صادق.
وإذا نظرنا في آية تحريم الخمر والميسر ـ على سبيل المثال ـ نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
خمْ ِر وَا ْلمَيْسِ ِر وَ َيصُ ّد ُكمْ عَن ِذكْرِ اللّهِ
{ إِ ّنمَا يُرِيدُ الشّ ْيطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْ َن ُكمُ ا ْلعَدَا َو َة وَالْ َب ْغضَآءَ فِي الْ َ
لةِ َف َهلْ أَنْ ُتمْ مّن َتهُونَ }[المائدة.]91 :
وَعَنِ الصّ َ
وكأن هذا الستفهام يحمل صيغة المر بأن :انتهوا من الخمر والميسر ،واخجلوا مما تفعلون.
إذن :فقول الحق سبحانه في آخر الية الكريمة:
} َف َهلْ أَنتُمْ مّسِْلمُونَ { [هود ]14 :يعني :أسلموا ،واتركوا اللجاجة بأن القرآن قد جاء من عند
محمد ،أو أنه افتراه ،بل هو من عند ال سبحانه الذي ل إله إل هو.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :مَن كَانَ يُرِيدُ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا {
()1474 /
وكان الكافرون قد تكلموا بما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم وقالوا:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َل ْولَ أُن ِزلَ عَلَيْهِ كَنزٌ }[هود.]12 :
فهم ـ إذن ـ مشغولون بنعيم الدنيا وزينتها.
والحياة تتطلب المقومات الطبيعية للوجود ،من ستر عورة ،وأكل لقمة وبيت يقي النسان ويؤويه.
أما الزينة فأمرها مختلف ،فبدلً من أن يرتدي النسان ما يستر العورة ،يطلب لنفسه الصوف
الناعم شتاء ،والحرير الملس صيفا ،وبدلً من أن يطلب حجرة متواضعة تقيه من البرد أو الحر،
يطلب لنفسه قصرا.
وفي ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
ب وَا ْل ِفضّةِ وَالْخَ ْيلِ
ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َه ِ
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ
حبّ ال ّ
{ زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
س ّومَ ِة وَالَ ْنعَا ِم وَالْحَ ْرثِ }[آل عمران.]14 :
ا ْلمُ َ
وكل هذه أشياء تدخل في متاع الحياة الدنيا ،ويقول الحق سبحانه:
حسْنُ ا ْلمَآبِ }[آل عمران.]14 :
{ ذاِلكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِ ْن َدهُ ُ
إذن :ما معنى كلمة " زينة "؟
حسْنٌ أو تحسين طارىء على الذات ،وهناك فرق بين الحسن الذاتي
معنى كلمة " زينة " أنها ُ
والحسن الطارىء من الغير.
والمرأة ـ على سبيل المثال ـ حين تتزين فهي تلبس الثياب الجميلة الملفتة ،وتتحلّى بالذهب
البرّاق ،فهو المعدن الذي يأخذ نفاسته من كثرة تللئه الذي يخطف البصار ،ول تفعل ذلك
بمغالة إل التي تشك في جمالها.
أما المرأة الجميلة بطبيعتها ،فهي ترفض أن تتزين؛ ولذلك يسمونها في اللغة " :الغانية " ،أي:
التي استغنت بجمالها الطبيعي عن الزينة ،ول تحتاج إلى مداراة كِبرَ أذنيها بقُرْط ضخم ،ول
تحتاج إلى مداراة رقبتها بعقد ضخم ،ول تحاول أن تداري معصمها الريان بسوار ،وترفض أن
تُخفِي جمال أصابعها بالخواتم.
وحين تُبالغ المرأة في ذلك التزيّن فهي تعطي النطباع المقابل.
وقد يكون المثل الذي أضربه الن بعيدا عن هذا المجال ،لكنه يوضح كيف يعطي الشيء المبالَغ
فيه المقابل له.
وفي ذلك يقول المتنبي:الطّيبُ أنت إذَا أصَابكَ طِيبهُ والماءُ أنتَ إذا اغتسلتَ الغاسلُوهو هنا يقول:
إن الطيب إذا ما أصاب ذلك النسان الموصوف ،فالطيب هو الذي يتطيّب ،كما أن الماء هو الذي
ُيغْسَل إذا ما لمس هذا النسان ،وكذلك تأبى المرأة الجميلة أن تُزيّن َنحْرَها بقلدة؛ لن نحرها
بدون قلدة يكون أكثر جمالً.
ويقال عن مثل هذه المرأة " غانية "؛ لنها استغنتْ بجمالها.
ويقال عن جمال نساء الحضر :إنه جمال مصنوع بمساحيق ،وكأن تلك المساحيق مثبتة على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الوجه بمعجون كمعجون دهانات الحوائط ،وكأن كل واحدة تفعل ذلك قد جاءت بسكين من
سكاكين المعجون لتمل الشقوق المجعدة في وجهها.
ولحظة أن يسيح هذا المعجون ترتبك ،ويختل مشهد وجهها بخليط اللوان؛ ولذلك يقال:حُسْنُ
حسْنٌ غيرُ مَجْلوبِ
الحضَارةِ ُمجْلُوبٌ بِ َتطْري ٍة وفي البدَاوةِ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومضمونا.
وعلى ذلك فالتخلّف ليس لزما ول ملزما للسلم ،وإنما جاء التخلّف لننا تركنا روح السلم
وتطبيقه.
وإنْ عقدنا مقارنة بين حال أوربا حينما كانت الكنيسة هي المسيطرة ،كنا نجد طل صاحب نشاط
عقلي مُبْ ِدعٍ ينال القتل عقوبة على البداع ،وكانت تسمى تلك اليام في أوربا " العصور المظلمة
".
وحينما جاءت الحروب الصليبية وعرفت أوربا قوة السلم والمسلمين ،ودحرهم المسلمون ،بدأوا
في محاولة الخروج على سلطان البابا والكنيسة ،وعندما فعلوا ذلك َتقَدّموا.
هم ـ إذن ـ عندما تركوا سلطان البابا تقدموا ،ونحن حين تركنا العمل بتعاليم السلم تخلّفنا.
إذن :فأيّ الجَرْعَتيْن خير؟
إن واقع الحياة قد أثبت تقدّم المسلمين حين أخذوا بتعاليم السلم ،وتخلفوا حين تركوها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1475 /
إذن :فالنار مثوى هؤلء الذين عملوا من أجل الدنيا دون إيمان بال ،فقد أخذوا حسابهم في الدنيا،
أما عملهم فقد حبط في الخرة ،والحَبَط هو انتفاخ الماشية حين تأكل شيئا أخضر لم ينضح بعد،
ويقال في الريف عن ذلك " :انتفخت البهيمة " أي :أن هناك غازات في بطنها ،وقد يظنها الجاهل
سمْنةً ،لكن هذا النتفاخ يزول بزوال سببه.
ِ
وعمل الكافرين إنما يحبط في الخرة؛ لنه باطل.
علَىا بَيّنَةٍ مّن رّبّهِ وَيَتْلُوهُ }
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :أ َفمَن كَانَ َ
()1476 /
والبيّنة هي بصيرة الفطرة السليمة التي تُ ْلفِت النسان إلى وجود وجب الوجود ،وتوضّح للنسان
أن هذا الكون الجميل البديع ل بُدّ له من واجد.
وهكذا تكون الهداية بالبصيرة والفطرة.
والعربي القديم حين سار في الصحراء ووجود َبعْرا مُ ْلقَى في الصحراء ،ورأى أثر قدم ،فقال" :
ال َبعْرة تدل على البعير ،والثر يدل على المسير ،وسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار
ذات امواج ،أفل يدل ُكلّ ذلك على اللطيف الخبير؟ ".
وهكذا اهتدى الرجل بالفطرة ،وهي بيّنة من ال.
وقد أودع ال سبحانه في كل إنسان فطرة ،وبهذه الفطرة شهدنا في عالم الذّرّ.
وفي ذلك يقول الحق سبحانه:
ستُ بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ
خذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
{ وَإِذْ أَ َ
شهِدْنَآ }[العراف.]172 :
َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فالبيّنة هي:إيمان الفطرة المركوز في ذرات الشياء.
وقد تُضبّب الشهوات هذا اليمان ،فل يحمل نفسه على المنهج فيرسل الحق سبحانه رحمة منه
رسلً تذكّرنا بالبينات الولى ،وتدلنا على العلل والحكام حتى تنضمّ البينة من الرسل على البينة
من الفطرية في الكائن.
وهكذا يبيّن الحق سبحانه وتعالى مناط القتناع بدين ال ،فقد يكون هذا المر مجهولً للخلق،
فيريد سبحانه أن يبيّن لنا أن هذا الجهل هو جهل غير طبيعي؛ لن الفطرة السليمة تهتدي قبل أن
يجيء رسولٌ يُ ْلفِتنا إلى القوة العليا التي تدبّر حركة هذا الكون.
وقد ضربت من قبل مثلً لذلك بمن سقطتْ به طائرة في الصحراء ،ل ماء فيها ول طعام ول
أنيس ول مأوى ،ثم غلبه النوم فنام ،وحين استيقظ وجد مائدة منصوبة عليها أطايب الطعام
وأطيب الشراب ،ووجد صوانا منصوبا ليأوي إليه؛ فل بد لهذا النسان أن يدور بفكره سؤالٌ :من
صنع هذا؟
وهو سيسأل نفسه هذا السؤال قبل أن يستمتع بشيء من هذا ،خصوصا وأنه لم يجد أحدا يقول له:
أنت في ضيافتي.
إذنْ :فل بد أن يفكر بعقله.
وكذلك النسان الذي طرأ على الوجود ،وما ادّعى واحدٌ من خَلْق ال تعالى أنه خلق هذا الوجود،
ل ما في الكون لخدمة
وما ادّعى أحدٌ أنه خلق السموات والرض ،وما ادّعى أحدٌ أنه سخّر ك ّ
النسان.
وكان من الواجب على النسان قبل أن ينعم بهذا ،أن يفكر :من الذي صنع له كل ذلك؟ فإذا جاء
رسول من جنس النسان ليقول له :أنا جئت لحل لك اللغز المطلوب لك.
هنا كان على النسان أن يرهف سمعه لذلك الرسول؛ لنه قد جاء ليحلّ للنسان أمرا يشغل باله.
ومن لطف ال سبحانه بنا أنه يطلب منا مقدّما أن نفكر في ذلك ،بل تركنا فترة طويلة بل تكليف
في هذه الدنيا ،لينعم النسان بخير ربه ،وبعد ذلك إذا ما جاء اكتمال الرشد ونضج ،ولم يكن
مكرها؛ فالحق سبحانه وتعالى يكلفه بتكاليف اليمان.
ول بد للنسان أن يتساءل :فكل شيء ـ مهما كان تافها ـ ل بد له من صانع ،والمصباح الذي
يضيء دائرة قطرها 20مترا ،عرفنا صانعه ،ودرسنا المعامل التي أنجزته ،والمكانات التي تم
استخدامها ،والمواد التي صنع منها ،أفل نعرف تاريخ هذه الشمس ،ومن جعلها ل تحتاج إلى
صيانة ول إلى وقود ول إلى قطع غيار ،وتنير نصف الكرة الرضية؟
هذه مسألة كان يجب أن نبحثها؛ لنرى آفاق تلك البينة ،بينة نور وقوة وفطرة ،يهبها ال للنسان
المفكر؛ ليهتدي إلى أن وراء هذه الكون خالقا مدبرا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا ما جاء إنسان مثله ليقول له :إن خالق الدنيا هو ال تعالى ،وهو سبحانه يطلب منك كذا وكذا،
كان أمرا منطقيا وطبيعيا أن نسمع لهذا النسان ونطابق ما يقول على إحساس الفطرة ورؤية
البينات.
إذن :فنحن نصل إلى المجهول أولً بالفطرة ،وقد نصل بالبديهة التي ل تشوبها أدنى شبهة ،فأنت
حين ترى دخانا تعتقد بالبديهة أن هناك نارا ،وحين تسير في الصحراء وترى خضرة؛ أل تعتقد
أن هناك مياها ترويها؟
هذه ـ إذن ـ أمور تعرفها بالبديهة ،ول تحتاج إلى بحث أو جهد.
وهناك أمور قد تتطلب منك جهدا عقليا تبحث به عما بعد المقدمات ،مثل الجهد العقلي الذي
استدل به العربي على أن هناك إلها خالقا يُدير هذا الكون ،فاستدل من البعرة على وجود البعير،
وأن أثر القدم يدل على المسير ،واستنتج من ذلك أن الكواكب ذات البراج ،والرض ذات
الفجاج ،والبحار ذات المواج ،كلها أمور تدل على وجود اللطيف الخبير.
كل هذه المور لم يقدر العقل إل على الحكم عليها جملة ،وإن لم يعرف التفصيل.
لقد عرف العقل أن وراء هذا الكون خالقا ،صانعا ،حكيما ،لكنه لم يعرف اسما له ،وهذا أمر ل
يعرفه النسان بالعقل ،ول يعرف أيضا ما هو المنهج المطلوب لهذا الخالق ،وبماذا يجزي المطيع
له ،ول بماذا يعاقب العاصي له.
إذن :ل بد من بلغ عن ال تعالى يدل على القوة التي اقتنعت بها جملة.
والمفكرون بالعقل في الكون يعلمون أن وراء هذا الكون خالقا ،لكن ل يعرفون اسمه ،ول
مطلوبه.
إذن :فأنت ل تعرف اسم ال إل منه ،عن طريق الوحي إلى رسوله ،ول تعرف مطلوب ال إل
من الرسول الذي أنزل عليه البلغ.
ومن رحمة ال بالنسان أنه سبحانه قد أرسل رسولً ،ومع هذا الرسول معجزة هي القرآن؛ لن
العقل حتى حين يهتدي إلى قوة القادر العلى سبحانه ،فإنها ستظل بالنسبة له مبهمة ،وحين أنزل
الحق سبحانه القرآن الكريم فقد أنزله رحمة بعباده وبينة لهم.
} َأ َفمَن كَانَ عَلَىا بَيّ َنةٍ مّن رّبّ ِه وَيَتْلُوهُ شَا ِهدٌ مّنْهُ { [هود.]17 :
فالقرآن حجة ونور ،وهو يهدي البصيرة الفطرية والموجودة في النسان } وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مّ ْنهُ
{ [هود ]17 :هو من أنزل عليه الوحي ،ويخبرنا عن الحق سبحانه وتعالى ما يوضح لنا أن
الخالق العلى والقوة المطلقة هو ال سبحانه ويوضح لنا الشاهد مطلوب ال تعالى.
ونحن هنا أمام ثلثة شهود:
الشاهد الول :هو الحجة والبينة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والشاهد الثاني :هو البرهان والبصيرة التي يهتدي إليها العقل ،والرسول هو من يبين لنا المنهج
بعد الجمال.
وهذا الرسول جاء من قبله كتاب موسى:
حمَةً { [هود.]17 :
} َومِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَىا ِإمَاما وَرَ ْ
وهذا هو الشاهد الثالث.
ومن ل يلتفت إلى المدلول بالدلة الثلثة مقصّر؛ فمن عنده تلك البينة ،ومن سمع الشاهد من
الرسول ،والشاهد الذي قبله ،وهو كتاب موسى عليه السلم وشاهد بعده إلى نفس قوم موسى ل بد
أن يقوده ذلك إلى اليمان.
وقول الحق سبحانه:
} ُأوْلَـا ِئكَ ُي ْؤمِنُونَ ِبهِ { [هود.]17 :
إشارة إلى من التفتوا إلى الدلة :بينة ،وشاهدا ،وشاهدا من قبله.
ثم يقول الحق سبحانه:
ن الَحْزَابِ فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ { [هود.]17 :
} َومَن َي ْكفُرْ ِبهِ مِ َ
والكفر ـ كما علمنا ـ هو الستر ،والكفر في ذاته دليل على اليمان ،فل يفكر أحد بغير موجود.
فوجود المكفور به سابق على الكفر ،والكفر طارىء عليه.
إذن :فالكفر طارىء على اليمان؛ لن اليمان هو أصل الفطرة.
ن الَحْزَابِ فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ { [هود.]17 :
} َومَن َي ْكفُرْ ِبهِ مِ َ
وكلمة " أحزاب " جمع حزب .والحزب هو الجماعة الملتقية على مبدأ تتحمس لتنفيذه ،مثل
الحزاب التي نراها في الحياة السياسية ،وهي أحزاب بشرية تتصارع في المناهج والغايات ،وهم
أحرار في ذلك؛ لنهم يتصارعون بفكر البشر.
أما في العقيدة الولى ،فَمنَ المُخطّط العلى ،وهو الحق سبحانه وتعالى ،فالمنهج يأتي منه؛ لن
هذا المنهج يوصل إليه؛ لذلك قال ال سبحانه عمّن يتبعون منهجه:
{ ُأوْلَـا ِئكَ حِ ْزبُ اللّهِ }[المجادلة.]22 :
أي :أنهم يدخلون في حزب يختلف عن أحزاب البشر التي تختلف أو تتفق في فكر البشر.
وهنا يقول الحق سبحانه:
ن الَحْزَابِ فَالنّارُ َموْعِ ُدهُ { [هود.]17 :
} َومَن َي ْكفُرْ ِبهِ مِ َ
والمقصود بهم كفار قريش عبدة الوثان ،والصابئة واليهود والنصارى الذين لم يؤمنوا برسالة
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكل منهم جماعة تمثل حزبا ،ويقول عنهم الحق سبحانه:
{ ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ فَ ِرحُونَ }[المؤمنون.]53 :
ومن يكفر من هؤلء برسالة رسول ال وبرسول ال فالجزاء هو النار ،وبذلك بيّن لنا الحق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه أن هنالك حزبين :حزب ال ،والحزاب الخرى ،وهما فريقان كلّ منهما مواجه للخر.
ويقول الحق سبحانه لرسوله ،والمراد أيضا أمة محمد صلى ال عليه وسلم:
} فَلَ َتكُ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ { [هود.]17 :
أي :ل تكن يا رسول ال في شك من ذلك؛ لن رسالتك وبعثتك تقوم على أدلة البينة والفطرة
والهدى والنور المطلوب من ال تعالى ،والشاهد معك ،كما شهد لك من جاء من قبلك أنك جئت
بالمنهج الحق:
} إِنّهُ ا ْلحَقّ مِن رّ ّبكَ { [هود.]17 :
والحق ـ كما علمنا من قبل ـ هو الشيء الثابت الذي ل يعتريه تغيير ،وهذا الحق ل يمكن أن
يأتي إل من إله ل تتغير أفعاله.
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
س لَ ُي ْؤمِنُونَ { [هود.]17 :
} وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
وهؤلء ل يؤمنون عنادا؛ لن الدلة منصوبة بأقوى الحجج ،ومَنْ يمتنع عليها هو مجرد معاند.
والحق سبحانه يقول في مثل هؤلء المعاندين:
سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا }[النمل.]14 :
جحَدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
{ وَ َ
أي :أنهم مع كفرهم يعلمون صدق الدلة على رسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وعلى
صدق بعثته ،فيكون كفرهم حنيئذ كفر عناد؛ لن الدلة منصوبة بأقوى الحجج ،فيكون من يمتنع
على اليمان بهذه الدلة إنسانا معاندا.
ظلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ كَذِبا {
يقول الحق سبحانه وتعالىَ } :ومَنْ أَ ْ
()1477 /
هذه الية تبدأ بخبر مؤكد في صيغة استفهام ،حتى يأتي القرار من هؤلء الذين افتروا على ال
كذبا ،والقرار سيد الدلة.
الواحد من هؤلء المفترين إذا سمع السؤال وأدار ذهنه في الظالمين ،فلن يجد ظلما أفدح ول أسوأ
من الذي يفتري على ال كذبا ،ويقر بذلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يأتي هذا الخبر في صيغة استفهام ،ليأتي القرار اعترافا بهذا الظلم
الفظيع.
وهؤلء المكذبون يُعرَضون على ال مصداقا لقول الحق سبحانه:
{ ُأوْلَـا ِئكَ ُيعْ َرضُونَ عَلَىا رَ ّب ِهمْ } [هود.]18 :
والعرض إظهار الشيء الخفي لنقف على حاله.
ومثال ذلك في حياتنا :هو الستعراض العسكري حتى يبيّن الجيش قوته أمام الخصوم ،وحتى تُبلغ
الدولة غيرها من الدول بحجم قوتها.
وكذلك نجد الضابط يستعرض فرقته ليقف على حال أفرادها ،ويقيس درجة انضباط كل فرد فيها
وحسن هندامه ،وقدرة الجنود على طاعة الوامر.
ومثال آخر من حياتنا :فنحن نجد مدير المدرسة يستعرض تلميذها لحظة إعلن نتائج المتحان،
ويرى المدير والتلميذ خزي المقصر منهم أو الذي لم يؤد واجبه بالتمام.
فما بالنا بالعرض على ال تعالى ،حين يرى المكذبون حالهم من الخزي؟
ذلك أنهم سيفاجأون بوجود ال الذي أنكروه افتراءً؛ لن الحق سبحانه يقول:
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ لَمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ
عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ
{ وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
عِن َدهُ }[النور.]39 :
فأيّ خزي ـ إذن ـ سيشعرون به؟!
ويُظهر الحق سبحانه وتعالى ما كان مخفيّا منهم حين يعرض الكل على ال تعالى مصداقا لقوله
سبحانه:
ك صَفّا }[الكهف.]48 :
{ وَعُ ِرضُواْ عَلَىا رَ ّب َ
وكذلك يُعرضون على النار؛ لن الحق سبحانه هو القائل:
غ ُدوّا وَعَشِيّا }[غافر.]46 :
{ النّارُ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا ُ
وهكذا يظهر الخزي والخجل والمهانة على هؤلء الذين افتروا على ال تعالى.
وهو سبحانه يعلم كل شيء أزلً ،ولكنه سبحانه شاء بذلك أن يكشف الناس أمام بعضهم البعض،
وأمام أنفسهم ،حتى إذا ما رأى إنسان في الجنة إنسانا في النار ،فل يستثير هذا المشهد شفقة
المؤمن؛ لنه يعلم أن جزاء المفتري هو النار.
ويا ليت المر يقتصر على هذا الخزي ،بل هناك شهادة الشهاد؛ لن الحق سبحانه وتعالى يقول
في نفس الية:
شهَادُ هَـاؤُلءِ الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىا رَ ّبهِمْ } [هود.]18 :
ل الَ ْ
{ وَ َيقُو ُ
والشهاد جمع له مفرد ،هو مرة " شاهد " ،مثل " صاحب " و " أصحاب " ،ومرة يكون المفرد "
شهيد " مثل " شريف " و " أشراف ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والشهاد منهم الملئكة؛ لن الحق سبحانه يقول:
{ مّا يَ ْلفِظُ مِن َقوْلٍ ِإلّ لَدَ ْيهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق.]18 :
وكذلك الحق سبحانه:
{ وَإِنّ عَلَ ْي ُكمْ لَحَا ِفظِينَ * كِرَاما كَاتِبِينَ * َيعَْلمُونَ مَا َت ْفعَلُونَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نطق قول الزور ،والقلب هو الذي حقد ،والساق هي التي مشت إلى المعصية.
والنسان ـ كما نعلم ـ مركّب من جوارح ،وهذه الجوارح لها أجهزة تكوّن الكل النساني،
ومدير كل الجسم هو العقل ،فهو الذي يأمر اليد لتمتد وتسرق ،أو تمتد لتربت على اليتيم؛ والعين
تأخذ أوامرها من العقل ،فإما أن يأمرها بأن تنظر إلى جمال الكون ،وتعتبر بما تراه من أحداث،
أو يأمرها بأن تنظر إلى الحرام.
إذن :الجوارح خادمة مطيعة مُسخّرة لذلك النسان وإرادته ،لكن المر يختلف في الخرة ،حيث
ل أمر لحد إل ال.
والحق سبحانه القائل:
{ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
فالجوارح تقول يوم القيامة لصحابها :كنا نفعل ما تأمروننا به من المعاصي رغما عنا؛ لننا كنا
مُسخّرين لكم في الدنيا ،والن انحّلتْ إرادتكم عنا فقلنا ما أجبرتمونا على فعله.
وهكذا تعترف الشهاد ،مصداقا لقول الحق سبحانه:
شهَادُ هَـاؤُلءِ الّذِينَ كَذَبُواْ عَلَىا رَ ّبهِمْ َألَ َلعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّاِلمِينَ { [هود.]18 :
ل الَ ْ
} وَ َيقُو ُ
وما داموا قد كذبوا على ربهم ،فالمكذوب عليه هو ال ،ول بد أن يطردهم من الرحمة ،وهم قد
ارتكبوا قمة الظلم وهو الشرك به واللحاد وإنكار الرسول صلى ال عليه وسلم والرسالة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :الّذِينَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ {
()1478 /
وهنا يحدثنا القرآن عن هؤلء الذين كفروا بال وآياته ورسوله صلى ال عليه وسلم ،ولم يكتفوا
بكفرهم ،بل تمادوا وأرادوا أن يصدوا غيرهم عن اليمان.
وبذلك تعدّوا في الجريمة ،فبعد أن أجرموا في ذواتهم؛ أرادوا لغيرهم أن يُجرم.
وسبق أن أنزل الحق سبحانه خطابا خاصّا بأهل الكتاب ،الذين سبق لهم اليمان برسول سابق
على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولكن أعماهم الطمع في السلطة الزمنية فطمسوا اليات
المبشرة برسول ال في كتبهم ،وهم بذلك إنما صدّوا عن سبيل ال ،وأرادوا أن تسير الحياة
معوجّة.
يقول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شهَدَآ ُء َومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ
عوَجا وَأَنْتُمْ ُ
{ ُقلْ ياأَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِلمَ َتصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَ ْبغُو َنهَا ِ
عمّا َت ْعمَلُونَ }[آل عمران.]99 :
َ
ج من أمور المنهج .والعوج هو
وقد أرسل الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم ليعدل المُعو ّ
عدم الستقامة والسوائية ،وقد يكون في القيم ،وهي ما قد خفي من المعنويات ،فتقول :أخلق فلن
فيها عوج ،وأمانة فلن فيها عوج.
ويقول الحق سبحانه:
عوَجَا }[الكهف.]1 :
جعَل لّهُ ِ
ب وَلَمْ َي ْ
حمْدُ ِللّهِ الّذِي أَنْ َزلَ عَلَىا عَبْ ِدهِ ا ْلكِتَا َ
{ ا ْل َ
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول ال سبحانه:
عوَجا } [هود.]19 :
{ وَيَ ْبغُو َنهَا ِ
عوَج ،فأنت إذا رأيت شيئا معوجا في
عوَج " ،بل يقالَ " :
أما في المور المحسة فل يقالِ " :
عوَج.
المور المحسة تقَولَ :
لكننا نقرأ في القرآن قول الحق سبحانه:
عوَجا وَل
س ُفهَا رَبّي نَسْفا * فَيَذَرُهَا قَاعا صَ ْفصَفا * لّ تَرَىا فِيهَا ِ
{ وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْلجِبَالِ َفقُلْ يَن ِ
َأمْتا }[طه105 :ـ .]107
وقد أوردها الحق سبحانه هنا بهذا الشكل لدقة الداء القرآني؛ لن هناك عوجا حسيا يحسه
النسان ،مثلما يسير النسان في الصحراء؛ فيجد الطريق منبسطا ثم يرتفع إلى ربوة ثم ينبسط
مرة أخرى ،ثم يقف في الطريق جبل ،ثم ينزل إلى وادٍ ،وأي إنسان يرى مثل هذا الطريق يجد
فيه عوجا.
أما إذا كنت ترى الرض مبسوطة مسطوحة كالرض الزراعية ،فقد تظن أنها أرض مستوية،
ولكنها ليست كذلك؛ بدليل أن الفلح حين يغمر الرض بالمياه ،يجد بقعة من الرض قد غرقت
بالماء ،وقطعة أخرى من نفس الرض لهم تمسها المياه ،وبذلك نعرف أن الرض فيها عوج
لحظة أن جاء الماء ،والماء ـ كما نعلم ـ هو ميزان كل الشياء المسطوحة.
ولذلك حين نريد أن نحكم استواء جدار أو أرض ،فنحن نأتي بميزان الماء؛ لنه يمنع حدوث أي
عوج مهما بلغ هذا العوج من اللطف والدقة التي قد ل تراها العين المجردة.
وفي يوم القيامة يأتي أصحاب العوج في العقيدة ،ويصورهم الحق سبحانه في قوله:
سمَعُ ِإلّ َهمْسا }[طه:
حمَـانِ فَلَ َت ْ
لصْوَاتُ لِلرّ ْ
تاَ
ش َع ِ
عوَجَ لَهُ وَخَ َ
عيَ لَ ِ
{ َي ْومَئِذٍ يَتّ ِبعُونَ الدّا ِ
.]108
هم ـ إذن ـ يصطفّون بل اعوجاج ،كما يصطف المجرمون تبعا لوامر من يقودهم إلى السجن،
صغَار ول ينطقون إل همسا.
في ذلة و َ
وهنا يقول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عوَجا وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ كَافِرُونَ } [هود.]19 :
{ الّذِينَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّ ِه وَيَ ْبغُو َنهَا ِ
صدّهم عن سبيل ال أنهم يريدون الحال ُمعْوجا ومائلً ،وأن يُنفّروا الناس من اليمان
والسبب في َ
ليضمنوا لنفسهم السلطة الزمنية ويفسدون في الرض؛ لن مجيء الصلح باليمان أمر
يزعجهم تماما ،ويسلب منهم ما ينتفعون به بالفساد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :أُولَـائِكَ َلمْ َيكُونُواْ ُمعْجِزِينَ فِي الَ ْرضِ }
()1479 /
والعجاز هو المتناع ،وأعجزت فلنا ،أي :برهنت على أنه ممتنع عن المر وغير قادر عليه.
وقد تجلّى العجاز ـ على سبيل المثال ـ في عجز هؤلء الذين أنكروا أن القرآن معجزة أن
يأتي بآية من مثله.
والمعجز في الرض هو من ل تقدر عليه.
ويبيّن لنا الحق سبحانه في هذه الية أن هؤلء الكافرين ل يُعجزون ال في الرض ،بدليل أن
هناك نماذج من أمم قد سبقت وكفرت ،فمنهم من أخذته الريح ،ومنهم من خسف ال بهم الرض،
ومنهم من غرق ،وإذا انتقلوا إلى الخرة فليس لهم ولي أو نصير من دون ال؛ لن الولي هو
القريب منك ،ول يقرب منك إل من تحبه ،ومن ترجو خيره.
فإذا قَرُب منك إنسان له مواهب فوق مواهبك ،نضح عليك من مواهبه ،وإذا كان من يقرب منك
قويا وأنت ضعيف ،ففي قوته سياج لك ،وإن كان غنيا ،فغناه ينضح عليك ،وإن كان عالما أفادك
بعلمه ،إن كان حليما أفادك بحلمه لحظة غضبك ،وكل صاحب موهبة تعلو موهبتك وأنت قريب
منه ،فسوف يفيدك من موهبته.
والولي هو النصير أيضا؛ لنك أول ما تستصرخ سيأتي لك القريب منك.
وهؤلء الذين يصدّون عن سبيل ال لن يجدوا وليّا ول نصيرا في الخرة ـ وإن وجدوه في الدنيا
ـ لن كل إنسان في الخرة سيكون مشغولً بنفسه:
سكَارَىا
حمَْلهَا وَتَرَى النّاسَ ُ
ح ْملٍ َ
ت وَ َتضَعُ ُكلّ ذَاتِ َ
ض َع ْ
عمّآ أَ ْر َ
ضعَةٍ َ
{ َيوْمَ تَ َروْ َنهَا َتذْ َهلُ ُكلّ مُ ْر ِ
شدِيدٌ }[الحج.]2 :
سكَارَىا وَلَـاكِنّ عَذَابَ اللّهِ َ
َومَا هُم ِب ُ
ويقول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شوْاْ َيوْما لّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَ ِد ِه َولَ َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَن وَالِ ِدهِ
{ ياأَ ّيهَا النّاسُ ا ّتقُواْ رَ ّب ُك ْم وَاخْ َ
شَيْئا }[لقمان.]33 :
وكذلك يقول الحق سبحانه:
{ َيوْمَ َيفِرّ ا ْلمَ ْرءُ مِنْ أَخِيهِ * وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَ ِت ِه وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }
[عبس34 :ـ .]37
إذن :فهؤلء الذين كفروا وصدوا عن سبيل ال ل يُعجزون ال في الرض ،ول يجدون الولي أو
النصير في الخرة ،بل:
عفُ َلهُمُ ا ْل َعذَابُ } [هود.]20 :
{ ُيضَا َ
ض ْعفَ على أنه الشيء يصير مرتين ،ونظن أن في ذلك قوة ،ونقول :ل؛ لن الذي
ونحن نفهم ال ّ
يأتي ليسند الشيء الول ويشفع له ،كان الول بالنسبة له ضعيف.
إذن :فال ُمضَاعفة هي التي تظهر ضعف الشيء الذي يحتاج إلى ما يدعمه.
ومُضَاعفة العذاب أمر منطقي لهؤلء الذين أرادوا المر عوجا ،وصدوا عن سبيل ال تعالى،
وأرادوا بذلك إضلل غيرهم.
وقول الحق سبحانه:
عفُ َلهُمُ ا ْل َعذَابُ } [هود.]20 :
{ ُيضَا َ
ل يتناقض مع قوله الحق:
{ َولَ تَزِ ُر وَازِ َر ٌة وِزْرَ أُخْرَىا }[النعام.]164 :
لن هؤلء الذين صدوا عن سبيل ال ليس لهم وزر واحد ،بل لهم وِزْران :ووزر الضلل في
ذواتهم ،ووزر الضلل لغيرهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يضاعف العذاب لولئك الذين صَدّوا عن سبيل ال،
وأرادوا إضلل غيرهم ،فارتكبوا جريمتين:
أولهما :ضللهم.
والثانية :إضللهم لغيرهم.
ولذلك تجد بعضا من الذين أضلّوا يقولون يوم القيامة:
سفَلِينَ }[فصلت:
ن الَ ْ
حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِ َ
جعَ ْل ُهمَا َت ْ
ن وَالِنسِ نَ ْ
{ رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ الْجِ ّ
.]29
ويقولون أيضا:
ض ْعفَيْنِ مِنَ ا ْل َعذَابِ وَا ْلعَ ْنهُمْ َلعْنا
طعْنَا سَادَتَنَا َوكُبَرَآءَنَا فََأضَلّونَا السّبِيلْ * رَبّنَآ آ ِتهِ ْم ِ
{ رَبّنَآ إِنّآ أَ َ
كَبِيرا }[الحزاب67 :ـ .]68
إذن :فالدعوة إلى النحراف إضلل ،وعمل الشيء بالنحراف إضلل؛ لنه أسوة أمام الغير.
ومضاعفة العذاب ل تعني الحراق مرة واحدة في النار؛ لن الحق سبحانه لو تركنا للنار لتحرقنا
مرة واحدة لنتهى اليلم؛ ولذلك أراد الحق سبحانه أن يكون هناك عذاب بعد عذاب.
يقول الحق سبحانه:
جتْ جُلُودُ ُهمْ بَدّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ }[النساء.]56 :
{ كُّلمَا َنضِ َ
فهو عذاب على الدوام.
أو أن العذاب الذي يضاعف له لون آخر ،فهناك عذاب للكفر ،وهناك عذاب للفساد.
يقول الحق سبحانه:
{ ِزدْنَاهُمْ عَذَابا َفوْقَ ا ْلعَذَابِ ِبمَا كَانُواْ ُيفْسِدُونَ }[النحل.]88 :
فالعذاب على الكفر ل يلغي العذاب على المعاصي التي يرتكبها الكافر.
فإذا كانت الشاة القرناء يُقتصّ للشاة الجلحاء منها ،أي :أن الشاة التي لها قرون وتنطح الشاة التي
ل قرون لها ،فيوم القيامة يتم القصاص منها ،رغم أنه ل حساب للحيوانات؛ لنها ل تملك
الختيار ،ولكنها سوف تُستخدم كوسيلة إيضاح لميزان العدالة.
ويقول الحق سبحانه:
سمْعَ َومَا كَانُواْ يُ ْبصِرُونَ { [هود.]20 :
عفُ َلهُمُ ا ْل َعذَابُ مَا كَانُواْ َيسْتَطِيعُونَ ال ّ
} ُيضَا َ
أي :ما كانوا يستطيعون الستفادة من السمع رغم وجود آلة السمع ،فلم يستمعوا لبلغ الرسول
صلى ال عليه وسلم ،ول استطاعوا الستفادة من أبصارهم ليروا آيات ال سبحانه وتعالى في
ع ْميٌ ،أو يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم السمع والبصار.
الكون ،فكأنهم صُمّ ُ
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
سمِعْ ِبهِ ْم وَأَ ْبصِرْ }[مريم.]38 :
{ َأ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن سمعهم وأبصارهم ستكون سليمة وجيدة في الخرة.
سهُمْ {
خسِرُواْ أَ ْنفُ َ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ } :أوْلَـائِكَ الّذِينَ َ
()1480 /
إذن :فهم خسروا أنفسهم؛ لنهم بظلم النفس وإعطائها شهوة عاجلة زمنها قليل ،أخذوا عذابا آجلً
زمنه خالد.
وفي هذا ظلم للنفس ،وهذه قمة الخيبة ،وهذا يدل على اختلل الموازين،
وأنت قد تظلم غيرك فتأخذ من عنده بعضا من الخير لتستفيد به ،وبذلك تظلم الغير لصالح نفسك.
وظلم النفس يعني أنك تعطيها متعة عاجلة وتغفل عنها عذابا آجلً ،والمتعة العاجلة لها مدة
محدودة ،أما العذاب فل مدة تحدده.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
ضلّ عَ ْنهُمْ مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [هود.]21 :
{ َو َ
أي :لم يهتد إليهم ما كانوا يعبدونهم من دون ال ،ولو كان لهؤلء الذين عبدوهم قوة يوم القيامة؛
لهرعوا إليهم ليستنقذوهم من العذاب ،ولكنهم بل حول ول قوة؛ لن الحق سبحانه قد حكم على
هؤلء الكافرين ،وقال:
{ َومَا َلهُمْ فِي الَ ْرضِ مِن وَِليّ َولَ َنصِيرٍ }[التوبة.]74 :
وكذلك هؤلء اللهة المعبودة من دون ال تعالى ،أو شركاء مع ال ،ل يهتدون إليهم ،حتى بفرض
قدرتهم على النصرة ،فتلك اللهة أو الشركاء ل يهتدون إليهم ،ول يعرفون لهم مكانا.
ضلّ عَ ْنهُمْ } [هود.]21 :
وقول الحق سبحانهَ { :و َ
أي :غاب وتاه عنهم.
وقوله سبحانه { :مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [هود.]21 :
أي :ما كانوا يدّعونه كذبا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :لَ جَرَمَ أَ ّن ُهمْ فِي الخِ َرةِ }
()1481 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خسَرُونَ ()22
لَا جَ َرمَ أَ ّنهُمْ فِي الَْآخِ َرةِ ُهمُ الْأَ ْ
واختلف العلماء في معنى كلمة { لَ جَ َرمَ } ،والمعنى العام حين تسمع كلمة { لَ جَرَمَ } أي :حق
وثابت ،أو ل بد من حصول شيء محدد.
وحين يقول الحق سبحانه:
{ لَ جَرَمَ أَنّ َل ُهمُ الْنّارَ }[النحل.]62 :
حقّ وثبت أن لهم النار؛ نتيجة ما فعلوا من أعمال ،وتلك العمال مقدمة بين يدي عذابهم،
أيَ :
فحين نسمع { لَ جَرَمَ } ومعها العمل الذي ارتكبوه ،تثق في أنه يحق على ال ـ سبحانه ـ أن
يعذبهم.
وقال بعض العلماء :إن معنى { :لَ جَرَمَ } حق وثبت.
وقال آخرون :إن معنى { لَ جَ َرمَ } هو ل بد ول مفر.
والمعنيان ملتقيان لن انتفاء البُدّية يدل على أنها ثابتة.
وكان يجب على العلماء أن يبحثوا في مادة الكلمة ،ومادة الكلمة هي " الجرم " ،والجرم :هو
القطع ،ويقال :جرم يده ،أي :قطع يده.
وقول الحق سبحانه هنا:
لخْسَرُونَ } [هود.]22 :
{ لَ جَرَمَ أَ ّنهُمْ فِي الخِ َرةِ هُ ُم ا َ
أي :ل َقطْع لقول ال فيهم بأن لهم النار ،ول شيء يحول دون ذلك أبدا ،ول بد أن ينالوا هذا
الوعيد؛ وهكذا التقى المعنى بـ " ل بد ".
إذن :فساعة تسمع كلمة " ل جرم " ،أي :ثبت ،أو ل بد من حدوث الوعيد.
وأيضا تجد كلمة " الجريمة " مأخوذة من " الجرم " ،وهي قطع ناموس مستقيم ،فحين نقرر أل
يسرق أحد من أحد شيئا ،فهذا ناموس مستقيم ،فإن سرق واحد من آخر ،فهو قد قطع المن
والسلم للناس ،وأيّ جريمة هي َقطْع للمألوف الذي يحيا عليه الناس.
وأيضا يقال :جرم الشيء أي :اكتسب شرّه ،ومنه الجريمة ،ولذلك يقال :من الناس من هو " جارم
" وهي اسم فاعل من الفعل " :جرم " ،مثل كلمة " كاتب " من الفعل " كتب " و " مجروم عليه "
وهي اسم مفعول ،مثلها مثل " مكتوب ".
فإن أخذت الجريمة من قطع المر السائد في النظام ،فهؤلء الذين افتروا على ال وظلموا وصدوا
عن سبيل ال ،فل جريمة في أن يعذبهم ال بالنار.
ومثل هذه العقوبة ليست جريمة؛ لن العقوبة على الجريمة ليست جريمة ،بل هي مَنْع للجريمة.
وهكذا تلتقي المعاني كلها ،فحين نقول { :لَ جَ َرمَ } فذلك يعني أنه ل جريمة في الجزاء؛ لن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الجريمة هي الثام العظيمة التي ارتكبوها.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثُْلهَا }[الشورى.]40 :
وقد سمّاها الحق سيئة؛ لنها تسيء إلى المجتمع أو تسيء إلى الفرد نفسه.
ولهذا يقول الحق سبحانه:
{ وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }[النحل.]126 :
وهكذا نجد أن هناك معاني متعددة لتأويل قول الحق سبحانه { :لَ جَ َرمَ } ،فهي تعني :ل قطع
لقول ال في أن المشركين سيدخلون النار ،أو ل بد أن يدخلوا النار ،أو حق وثبت أن يدخلوا
النار ،أو ل جريمة من الحق سبحانه عليهم أن يفعل بهم هكذا؛ لنهم هم الذين فعلوا ما يستحق
عقابهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فحين يسمع النسان قول الحق سبحانه:
{ إِنّ الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ }[النفطار.]13 :
فل بد أن يأتي إلى الذهن تساؤل عن مصير الفُجّار ،فيقول الحق سبحانه:
جحِيمٍ }[النفطار.]14 :
{ وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي َ
وهذا التقابل يعطي بسطة النفس الولى وقبضة النفس الثانية ،وبين البسطة والقبضة توجد
الموعظة ،ويوجد العتبار.
ويأتي الحق سبحانه هنا بالمقابل للمشركين الذين صدوا عن سبيل ال ،فصاروا إلى النار،
والمقابل هم المؤمنون أصحاب العمل الصالح.
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ {
فيقول الحق سبحانه } :إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
()1482 /
ت وَأَخْبَتُوا إِلَى رَ ّبهِمْ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ ا ْلجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ()23
عمِلُوا الصّالِحَا ِ
إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
اليمان ـ كما نعلم ـ أمر عقدي ،يعلن فيه النسان إيمانه بإله واحد موجود ،ويلتزم بالمنهج الذي
أنزله ال سبحانه وتعالى على الرسول صلى ال عليه وسلم ،ومن آمن بال تعالى ولم يعمل العمل
الصالح يتلقّ العقاب؛ لن فائدة اليمان إنما تتحقق بالعمل الصالح.
لذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول لنا:
ت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ َأسَْلمْنَا }[الحجرات.]14 :
{ قَاَل ِ
أي :اتبعتم ظاهر السلم.
وهكذا نعرف أنه يوجد مُتيقّن بصحة واعتقاد بأن الله الواحد الحد موجود ،وأن الرسول صلى
ال عليه وسلم مُبلّغ عن ال عز وجل؛ لكن العمل الذي يقوم به النسان هو الفيصل بين مرتبة
المؤمن ،ومرتبة المعلم.
فالذي يُحسن العمل هو مؤمن ،أما من يؤدي العمل بتكاسل واتّباع لظواهر الدين ،فهو المسلم،
وكلهما يختلف عن المنافق الذي يدّعي الحماس إلى أداء العبادات ،لكنه يمكر ويبّيت العداء
للسلم الذي ل يؤمن به.
وكان المنافقون على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم أسبق الناس إلى صفوف الصلة،
وكانوا مع هذا يكتمون الكيد ويدبرون المؤامرات ضد النبي صلى ال عليه وسلم.
وهنا يقول الحق سبحانه وتعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت وََأخْبَتُواْ إِلَىا رَ ّبهِمْ } [هود.]23 :
عمِلُواْ الصّالِحَا ِ
{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
هذا القول يبيّن لنا أن معيار اليمان إنما يعتمد على التوحيد ،وإتقان أداء ما يتطلبه منهج ال
ب معصية أورثت ذلً وانكسارا،
سبحانه ،وأن يكون كل ذلك بإخبات وخضوع ،ولذلك يقالُ :ر ّ
خير من عبادة أورثت عزّا واستكبارا.
أي :أن المؤمن عليه أل يأخذ العبادة وسيلة للستكبار.
وكلمة { وَأَخْبَتُواْ } أي :خضعوا خشية ل تعالى ،فهم ل يؤدون فروض اليمان لمجرد رغبتهم في
ألّ يعاقبهم ال ،ل بل يؤدون فروض اليمان والعمل الصالح خشية ل.
وأصل الكلمة من " الخبت " وهي الرض السهلة المطمئنة المتواضعة ،وكذلك الخبت في اليمان.
ويصف الحق سبحانه أهل اليمان المخبتين بأنهم:
{ ُأوْلَـا ِئكَ َأصْحَابُ الجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [هود.]23 :
أي :الملزمون لها ،وخلودهم في الجنة يعني أنهم يقيمون في النعيم أبدا ،ونعيم الجنة مقيم ودائم،
على عكس نعيم الدنيا الذي قد يفوته النسان بالموت ،أو يفوت النعيم النسان بالسلب؛ لن
النسان في الدنيا عرضة للغيار ،أما في الخرة ،فأهل اليمان أصحاب العمل الصالح المخبتون
لربهم ،فهم أهل النعيم المقيم أبدا.
وهكذا عرض الحق سبحانه حال الفريقين :الفريق الذي ظلم نفسه بافتراء الكذب وعلى ال،
وصدوا عن سبيل ال ،وابتغوا المر عوجا ،هؤلء لن يُعجزوا ال ،وليس لهم أولياء يحمونهم من
العذاب المضاعف.
وهم الذين خسروا أنفسهم ،ولن يجدوا عونا من اللهة التي عبدوها من دون ال ،ول شيء بقادر
على أن يفصل بينهم وبين العذاب ،وهم الخسرون.
أما الفريق الثاني فهم الذين آمنوا وعملوا الصالحة بخشوع وخشية ومحبة ل سبحانه وتعالى ،وهم
أصحاب الجنة الخالدون فيها.
إذن :فلكل فريق مسلكه وغايته.
لصَمّ }
عمَىا وَا َ
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك { :مَ َثلُ ا ْلفَرِيقَيْنِ كَالَ ْ
()1483 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة " الفريق " تعني :جماعة يلتقون عند غاية وهدف واحد ،مثلما نقول :فريق كرة القدم أو
غيره من الفرق ،فهي جماعات ،كل جماعة منها لها هدف يجمعها.
ونحن نجد الحق سبحانه وتعالى يقول:
سعِيرِ }[الشورى.]7 :
{ فَرِيقٌ فِي الْجَنّ ِة َوفَرِيقٌ فِي ال ّ
وكلمة { ا ْلفَرِيقَيْنِ } جاءت في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ لن كل فرقة تضم جماعة
مختلفة عن الجماعة الخرى ،ولهؤلء متعصبون ،وللخرين متعصبون.
ويضرب الحق سبحانه وتعالى في هذه الية المثل بسَيّدَي الحواس الداركية في النسان ،وهما
السمع والبصر ،فهما المصدران الساسيان عند النسان لخذ المعلومات ،إما مسموعة ،أو مرئية،
ثم تتكون لدى النسان قدرة الستنباط والتوليد مما سمعه بالذن ورآه بالعين.
ولذلك قال لنا الحق سبحانه:
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ
سمْعَ وَالَ ْبصَا َر وَا َ
ج َعلَ َل ُكمُ الْ ّ
جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
{ وَاللّهُ أَخْ َر َ
شكُرُونَ }[النحل.]78 :
تَ ْ
إذن فما دام الحق سبحانه قد جعل السمع و البصار والفئدة مصادر تأتي منها ثمرة ،هي
المعلومات وتمحيصها ،فالحق سبحانه يستحق الشكر عليها.
ونحن نعلم أن الطفرات الحضارية وارتقاءات العلم ،إنما تأتي بمن سمع ومن رأى ،ثم جاءت من
الستنباط أفكار تطبيقية تفيد البشرية.
ومثال ذلك :هو من رأى إناء طعام وله غطاء ،وكان بالناء ماء يغلي ،فارتفع الغطاء عن الناء.
هذا النسان اكتشف طاقة البخار ،واستنبط أن البخار يحتاج حيّزا أكبر من حيز السائل الموجود
في الناء؛ لذلك ارتفع الغطاء عن الناء ،وارتقى هذا الكتشاف ليطور كثيرا من أوجه الحياة.
ولو أن كل إنسان وقف عند ما يسمعه أو يراه ولم يستنبط منه شيئا لما تطورت الحياة بكل تلك
الرتقاءات الحضارية.
وهنا يقول الحق سبحانه:
سمِيعِ َهلْ َيسْ َتوِيَانِ مَثَلً } [هود.]24 :
لصَ ّم وَالْ َبصِي ِر وَال ّ
عمَىا وَا َ
{ مَ َثلُ ا ْلفَرِيقَيْنِ كَالَ ْ
ولن يشك كل من العمى أو الصم أن من يرى أو من يسمع هو خير منه ،ول يمكن أن يستوي
العمى بالبصير ،أو الصم بمن يسمع.
وهكذا جاء الحق سبحانه وتعالى بالشياء المتناقضة ،ليحكم النسان السامع أو القارىء لهذه الية،
وليفصل بحكم يُذكّره بالفارق بين الذي يرى ومن هو أعمى ،وكذلك بين من يسمع ومن هو أصم،
ومن الطبيعي أل يستويان.
لذلك يُنهي الحق سبحانه الية بقوله تعالى:
{ َأفَلَ َت َذكّرُونَ } أي :أل تعتبرون بوجود هذه الشياء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونحن نعلم أن ال سبحانه وتعالى قد قال لنا:
{ فَإِ ّنهَا لَ َت ْعمَى الَ ْبصَا ُر وَلَـاكِن َت ْعمَىا ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ }[الحج.]46 :
أي :أن النسان قد يكون مبصرا ،أو له أذن تسمع ،لكنه ل يستخدم حاسة البصار أو حاسة
السمع فيما خلقت من أجله في التقاط مجاهيل الشياء.
وبعد أن بيّن الحق سبحانه َوصْفَ كل طرف وصراعه مع الخر ،واختلف كل منهما في الغاية،
والصراع الذي بينهما تشرحه قصص الرسل عليهم السلم.
ويقول الحق سبحانه في بعض من مواضع القرآن الكريم ،وفي كل موضع لقطات من قصة أي
رسول ،واللقطة التي توجد في سورة قد تختلف عن اللقطة التي في سورة أخرى.
ومثال ذلك :أن الحق سبحانه قد تكلم في سورة يونس عن نوح وموسى وهارون ويونس عليهم
السلم ،وهنا ـ في سورة هود ـ تأتي مرة أخرى قصة نوح عليه السلم ،فيقول سبحانه وتعالى:
{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحا إِلَىا َق ْومِهِ }
()1484 /
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ إِنّي َل ُكمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ()25
والية توضّح مسألة إرسال نوح عليه السلم كرسول لقومه ،وعلى نوح الرسول أن يمارس
مهمته وهي البلغ ،فيقول:
{ إِنّي َلكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ } [هود.]25 :
ونحن نلحظ أن همزة (إن) في إحدى قِرَاءَتَى الية تكون مكسورة ،وفي قراءة أخرى تكون
مفتوحة ،أما في القراءة بالكسر فتعني أن نوحا عليه السلم قد جاء بالرسالة فبلغ قومه وقال:
{ إِنّي َلكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ } [هود.]25 :
وأما في القراءة الخرى بالفتح فتعني أن الرسالة هي:
{ إِنّي َلكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ } [هود.]25 :
فكأن القراءة الولى تعني الرواية عن قصة البلغ ،والقراءة الثانية تحدد مضمون الرسالة { :إِنّي
َلكُمْ َنذِيرٌ مّبِينٌ } [هود.]25 :
والقراءة الولى فيها حذف القول ،وحذف القول كثير في القرآن ،مثل قوله تعالى:
{ وَالمَلَ ِئكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَ ْيهِمْ مّن ُكلّ بَابٍ * سَلَمٌ عَلَ ْيكُم ِبمَا صَبَرْتُمْ }[الرعد23 :ـ .]24
وهذا يعني أن الملئكة يدخلون على المؤمنين في الجنة من كل باب ،وساعة الدخول يقول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الملئكة:
{ سَلَمٌ عَلَ ْيكُم ِبمَا صَبَرْتُمْ }[الرعد.]24 :
وقول نحو عليه السلم { :إِنّي َلكُمْ نَذِيرٌ مّبِينٌ } [هود.]25 :
نعلم منه أن النذير ـ كما قلنا من قبل ـ هو من يخبر بشرّ لم يأت وقته بعد ،حتى يستعد السامع
لملقاته ،وما دام أن نبي ال نوحا قد جاء نذيرا ،فالسياق مستمر؛ لن الحق سبحانه قال في الية
التي قبلها:
{ مَ َثلُ ا ْلفَرِيقَيْنِ }[هود.]24 :
أي :أن هناك فريقا عاصيا وكافرا وله نذير ،أما الفريق الخر فله بشير ،يخبر بخير قادم ليستعد
السامع أيضا لستقباله بنفس مطمئنة.
والفريق الكافر الذي يستحق النذار ،يأتي لهم الحق سبحانه بنص النذار في قوله تعالى { :أَن لّ
َتعْبُدُواْ ِإلّ اللّهَ }
()1485 /
ونحن نعلم أن نوحا عليه السلم محسوب على قومه ،وهم محسوبون عليه؛ ولذلك نجده خائفا
عليهم؛ لن الرباط الذي يربطه بهم رباط جامع قوي.
وكذلك نجد الحق سبحانه يُحنّن قلوب الرسل إليهم لعلهم يحسنون استقبال الرسول.
ومثال ذلك :قول الحق سبحانه:
{ وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا }[العراف.]65 :
ولن الرسول أخ لهم فلن يغشّهم أو يخدعهم.
واستقبل المل من قوم نوح المر بما يقوله الحق سبحانه عنهمَ { :فقَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن ِقوْمِهِ
}
()1486 /
َفقَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َق ْومِهِ مَا نَرَاكَ إِلّا بَشَرًا مِثْلَنَا َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ إِلّا الّذِينَ ُهمْ أَرَاذِلُنَا بَا ِديَ
ضلٍ َبلْ نَظُّنكُمْ كَاذِبِينَ ()27
ي َومَا نَرَى َلكُمْ عَلَيْنَا مِنْ َف ْ
الرّ ْأ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمل ـ كما نعلم ـ هم وجوه القوم ،وهم السادة الذين يملون العيون مهابة ،ويتصدرون أي
مجلس.
وهناك مثل شعبي في بلدنا يوضح ذلك المعنى حين نقول " :فلن يمل العين ".
أي :أن العين حين تنظر إليه ل تكون فارغة ،فل جزء في العين يرى غيره.
ويقال أيضا " :فلن قَيْد النواظر " أي :أنه إذا ظهر تقيّدت به كل النواظر ،فل تلتفت إلى سواه،
ول يمكن أن يكون كذلك إل إذا كانت فيه مزايا تجذب العيون إليه بحيث ل تتحول عنه.
حوْل كل مركز هناك
والمراد بذلك هو الحاشية المقربة ،أو الدائرة الولى التي حول المركز ،فَ َ
دوائر ،والمل هم الدائرة الولى ،ثم تليهم دائرة ثانية ،ثم ثالثة وهكذا ،والرتباك إنما ينشأ حين
يكون للدائرة أكثر من مركز ،فتتشتت الدوائر.
وردّ الذين يكوّنون المل على سيدنا نوح قائلين:
{ مَا نَرَاكَ ِإلّ َبشَرا مّثْلَنَا } [هود.]27 :
أي :أنه ل توجد لك ميزة تجعلك متفوقا علينا ،فما الذي سوّدك علينا لتكون أنت الرسول؟
وقولهم هذا دليل غباء؛ لن الرسول ما دام قد جاء من البشر ،فسلوكه يكون أسوة ،وقوله يصلح
للتباع ،ولو كان الرسول من غيرِ البشر لكان من حق القوم أن يعترضوا؛ لنهم لن يستطيعوا
اتخاذ الملك أسوة لهم.
ولذلك بيّن الحق سبحانه هذه المسألة في قوله تعالى:
{ َومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَ ُهمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ بَشَرا رّسُولً }[السراء.]94 :
وجاء الرد منه سبحانه بأن ُقلْ لهم:
سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء:
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
{ َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ مُ ْ
.]95
إذن :فالرسول إنما يجيء مُبلّغ منهج وأسوة سلوك ،فإذا لم يكن من جنس البشر ،فالسوة لن
تصلح ،ولن يستطيع إل البلغ فقط.
ومثال ذلك :أنت حين ترى السد في أي حديقة من حدائق الحيوان ،يصول ويجول ،ويأكل اللحم
النّيء المقدم له من الحارس ،أتحدثك نفسك أن تفعل مثله؟ ..طبعا ل ،لكنك إن رأيت فارسا على
جواد ومعه سيفه ،فنفسك قد تحدثك أن تكون مثله.
وهكذا نجد أن السوة تتطلب اتحاد الجنس؛ ولذلك قلنا :إن السوة هي الدليل على إبطال من
يدّعي اللوهية لعزير أو لعيسى عليهما السلم.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان المل الكافر من قوم نوح:
{ َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا } [هود.]27 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والراذل جمع " أرذل " ،مثل قولنا " :أفاضل قوم " ،وهي جمع " أفضل ".
والرذل هو الخسيس الدنيء في أعين الناس .ورذال المال أي :رديئه .ورذال كل شيء هو
نفايته.
ونرى في الريف أثناء مواسم جمع " القطن " عملية " فرز " القطن ،يقوم بها صغار البنين
والبنات ،فيفصلون القطن النظيف ،عن اللوز الذي لم يتفتح بالشكل المناسب؛ لن اللوزة المصابة
عادة ما تعاني من ضمور ،ولم تنضج النضج الصحيح.
وكذلك يفعل الفلحون في موسم جمع " البلح " ،فيفصلون البلح الجيد عن البلح المعيب.
إذن :فرذال كل شيء هو نفايته.
وقد قال المل من الكفار من قوم نوح:
} َومَا نَرَاكَ اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا { [هود.]27 :
أي :أنهم وصفوا من آمنوا بنوح عليه السلم بأنهم نفاية المجتمع.
وجاء الحق على ألسنتهم بقولهم في موضع آخر:
ك الَرْذَلُونَ }[الشعراء.]111 :
{ وَاتّ َب َع َ
ف نوح عليه السلم ذلك؛ لن الذين اتبعوه قد يكونون من الضعاف ،وهَم ضحايا الفساد؛
ولم يَ ْن ِ
لن القوى في المجتمع ل يقربه أحد؛ ولذلك فإنه ل يعاني من ضغوط المفسدين ،أما الضعاف فهم
الذين يعانون من المفسدين؛ فما إن يظهر المُخلّص لهم من المفسدين فل بد أن يتمسكوا به.
ولكن ذلك ل يعني أن اليمان ل يلمس قلوب القوياء ،بدليل أن البعض من سادة وأغنياء مكة
استجابوا للدعوة المحمدية مثل :أبي بكر الصديق ،وعمر بن الخطاب ،وعثمان بن عفان ،وعبد
الرحمن بن عوف ،رضي ال عنهم.
ولكن الغالب في دعوات الصلح أنه يستجيب لها المطحونون بالفساد ،هؤلء الذين يشعرون
بالغليان في مراجل اللم بسبب الفساد ،وما إن يظهر داعية الصلح ويريد أن يزحزح الفساد،
فيلتفّون حوله ويتعاطفون معه ،وإن كانوا غير عبيد ،لكن محكومين بالغير ،فهم يؤمنون علنا
برجل الصلح ،وإن كانوا عبيدا مملوكين للسادة؛ فهم يؤمنون خفية ،ويتحمل القوي منهم
الضطهاد والتعذيب.
إذن :فكل رسول يأتي إنما يأتي في زمن فساد ،وهذا الفساد ينتفع به بعض الناس؛ وطغيان يعاني
منه الكثيرون الواقع عليهم الفساد والطغيان.
ويأتي الرسول وكأنه ثورة على الطغيان والفساد؛ لذلك يتمسك به الضعفاء ويفرحون به ،وتلتف
قلوبهم حوله.
طعْن في الرسول ،لكنهم
أما المنتفعون بالفساد فيقولون :إن أتباعك هم أراذلنا .وكأن هذا القول َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أغبياء؛ لن هذا القول دليل على ضرورة مجيء الرسول؛ ليخلص هؤلء الضعاف ،ويجيء
الرسول ليقود غضبة على فساد الرض ،ولينهي هذا الفساد.
وهي غضبة تختلف عن غضبة الثائر العادي من الناس ،فالثائر من الناس يرى من يصفق له من
المطحونين بالفساد.
لكن آفة الثائر من البشر شيء واحد ،هي أنه يريد أن يستمر ثائرا ،ولكن الثائر الحق هو الذي
يثور ليهدم الفساد ،ثم يهدأ ليبني المجاد ،فل يسلط السيف على الكل ،ول يفضّل قوما على قوم،
طغِي عليهم ،ويظلم مَنْ طغوا.
ول يدلل مَنْ ُ
بل عليه أن يحكم بين الناس بالعدل والرحمة؛ لتستقيم المور ،وتذهب الحقاد ،ويعلم الناس كلهم
أن الثائر ما جاء ضد طائفة بعينها ،وإنما جاء ضد ظلم طائفة لغيرها ،فإذا أخذ من الظالم وأعطى
المظلوم؛ فليجعل الثنين سواء أمام عينيه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويتمعنوا في دعوة نوح قبل اليمان به ،ينقضه إصرار الضعفاء على اليمان؛ لنه يؤكد أن
جوهر الحكم عندهم جوهر سليم؛ لن الواحد من هؤلء الضعفاء ل يقيس المر بمقياس من يملك
المال ،ول بمقياس من يملك الجاه ،ول بمقياس من له سيادة،بل قاس الضعيف من هؤلء المر
بالقلب ،الذي تعقّل وتبصّر ،وباللسان الذي أعلن اليمان؛ لن النسان بأصغريه :قلبه ولسانه.
إذن :فهذا المل الكافر من قوم نوح ـ عليه السلم ،قد حكم بأن الضعاف أراذل بالمقاييس
الهابطة ،ل بالمقاييس الصحيحة.
ولو امتنع هؤلء الذي يُقال عنهم " أراذل " عن خدمة من يقال لهم " سادة " لذاق السادة المرّين،
فهم الذين يقدّمون الخدمة ،ولو لم يصنع النجار أثاث البيت لما كانت هناك بيوت مؤثثة.
ولو امتنع العمال عن الحفر والبناء لما كانت هناك قصور مشيدة.
ولو امتنع الطاهي عن طهي الطعام لما كانت هناك موائد ممتدة ،وكل خدمات هؤل ء الضعاف
تصب عند الغني أو صاحب المال أو صاحب الجاه.
وهكذا نرى أن الكون يحتاج إلى من يملك الثورة ـ ولو عن طريق الميراث ـ ليصرف على من
يحتاجه المجتمع أيضا ،وهم الضعاف الذين يعطون الخير من كدّهم وإنتاجهم.
إذن :فالضعفاء هم تتمة السيادة.
وحين نمعن النظر لوجدنا أن سيادة الثّريّ أو صاحب الجاه إنما تأتي نتيجة لمجهودات من يقال
عنهم :إنهم أراذل.
ولو أنهم تخلّوا عن الثرى أو صاحب الجاه ،لما استطاع أن يكون سيدا .ويذكر لنا الحق سبحانه
بقية ما قاله المل الكافر من قوم نوح:
ضلٍ َبلْ َنظُّنكُمْ كَاذِبِينَ { [هود.]27 :
علَيْنَا مِن َف ْ
} َومَا نَرَىا َلكُمْ َ
وهم ـ بهذا القول ـ قد أنكروا أن سيادتكم إنما نشأت بجهد من قالوا عنهم إنهم أراذل ،وأنكروا
فضل هؤلء الناس.
ويُلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى الفة الي تنتاب بعض المجتمعات حين يذكر لنا ما قاله الكافرون:
ح َمتَ رَ ّبكَ َنحْنُ
سمُونَ َر ْ
عظِيمٍ * أَهُمْ َيقْ ِ
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
{ َوقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
ضهُم َبعْضا
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َت ُهمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْعضَهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ لّيَتّخِذَ َب ْع ُ
قَ َ
سخْرِيّا }[الزخرف31 :ـ .]32
ُ
إذن :فالحق سبحانه هو الذي قسم المعيشة ،وآفة الحكم أن ننظر إلى المرفوع على أنه الغنى ،ل،
فليس المرفوع هو الغنى ،بل هو كل ذي موهبة ليست في سواه.
وما دام مرفوعا في مجال فهو سيخدم غيره فيه ،وغيره سيخدمونه فيما رُفعوا فيه؛ لن المسألة
أساسها التكامل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك ل يُديم ال سبحانه غِنَى أحدٍ أبد الدهر ،بل جعل الدنيا ُد َولً بين الناس.
إذن :فلو عرف هذا المل الكافر من قوم نوح ـ عليه السلم ـ معنى كلمة الفضل لما قالوها؛
لن الفضل هو الزائد عن المطلوب للكائن ،في المحسوسات أو المعاني والفضل يقتضي وجود
فاضل ومفضول.
ولينظر كل طاغية في حياته ليرى ما الفاضل فيها؟
إنه بعض من المال أو الجاه ،وكل مَنْ يخدم هذا الطاغية هم أصحاب الفضل؛ لن سيادة الطاغية
مبنية على عطائهم.
فهم أصحاب الفضل ،ما دام الفضل هو المر الزائد عن الضروري.
إذن :فحقيقة ارتباط العالم بعضه ببعض ،هو ارتباط الحاجة ل ارتباط السيطرة ،ولذلك حين نرى
مسيطرا يطغى ،فنحن نقول له :تعقّل المر؛ لنك ما سيطرت إل بأناس من الراذل ،فإظهار قوته
تكون بمن يُجيدون تصويب السلح ،أو بمن تدربوا على إيذاء البشر ،فهو يبني سيادته ببعض
الراذل ،كوسائل لتحقيق سيطرته.
وقول الكافرين من مل نوح ـ عليه السلم ـ:
ضلٍ { [هود.]27 :
علَيْنَا مِن َف ْ
} َومَا نَرَىا َلكُمْ َ
يكشف أنهم قد فهموا الفضل على أنه الغِنَى ،والجاه والمناصب ،وهم قد أخطأوا الفهم.
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
} َبلْ َنظُّنكُمْ كَاذِبِينَ { [هود.]27 :
والظن هو الراجح ،والمرجوح هو الوهم؛ وهذا يثبت أن في النسان فطرة تستيقظ في النفس
كومضات فالمتكبر يمضي في كبره إلى أن تأتي له ومضة من فطرته ،فيعرف أن الحق حق،
وأن الباطل باطل.
وحين جاءت هذه الومضة في نفوس هذا المل الكافر ،قالوا:
} َبلْ َنظُّنكُمْ كَاذِبِينَ { [هود.]27 :
ولم يقولوا " :نعتقد أنكم كاذبون ".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :قَالَ يا َقوْمِ أَ َرأَيْتُمْ {.
()1487 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقول نوح عليه السلم { :أَرَأَيْتُمْ } أي :أخبروني إن كنت على بين موهوبة من ال تعالى ونور
حمَةً } أي :رسالة ،بينما خفيت هذه المسألة
وبصيرة وفطرة بالهداية ،وآتاني الحق سبحانهَ { :ر ْ
عنكم ،فهل أجبركم على ذلك؟ ل؛ لن اليمان ل بد أن يأتي طواعية بعد إقناع ملموس ،وانفعال
مأنوس ،واختيار بيقين.
وحين ننظر في قوله:
{ أَنُلْ ِز ُم ُكمُوهَا وَأَنتُمْ َلهَا كَا ِرهُونَ } [هود.]28 :
نجد الهمزة الستفهامية ثم الفعل " نلزم " ثم كاف المخاطبة ،وهنا نكون أمام استفهام ،وفعل،
وفاعل مطمور في الفعل ،ومفعول أو هو كاف المخاطبة ،ومفعول ثان هو الرحمة.
إذن :فل إلزام من الرسول لقومه بأن يؤمنوا؛ لن اليمان يحتاج إلى قلوب ،ل قوالب ،وإكراه
القوالب ل يزرع اليمان في القلوب.
والحق سبحانه يريد من خلقه قلوبا تخشع ،ل قوالب تخضع ،ولو شاء سبحانه لرغمهم وأخضعهم
كما أخضع الكون كله له ،سبحانه القائل:
سمَآءُ }[النازعات.]27 :
شدّ خَلْقا َأمِ ال ّ
{ أَأَن ُتمْ أَ َ
فالحق سبحانه وتعالى أخضع السماء والشمس والقمر ،وكلّ الكون ،وهو سبحانه يقول لنا:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ }[غافر.]57 :
{ َلخَلْقُ ال ّ
والكون كله يخضع لمشيئة ال سبحانه وتعالى.
وقد خلق الحق سبحانه الملئكة وهم جنس أعلى من البشر ،وقال سبحانه عنهم:
{ لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَ ُه ْم وَ َيفْعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم.]6 :
إذن :فالحق سبحانه وتعالى لو أراد قوالب لخضع الخلق كلهم لعبادته ،ولكنه سبحانه وتعالى يريد
قلوبا تخشع؛ ولذلك يقول تبارك وتعالى:
سمَآءِ آ َيةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
{ َلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ضعِينَ }[الشعراء3 :ـ .]4
خَا ِ
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه مُنَ ّزهٌ عن رغبة أخضاع القوالب البشرية ،بل شاء سبحانه أن يجعل
النسان مختارا؛ ولذلك ل ُيكْ ِرهُ ال سبحانه أحدا على اليمان.
والدّين ل يكون بالكراه ،بل بالطواعية والرضا.
والحق سبحانه وتعالى هو القائل:
{ لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ }[البقرة.]256 :
وهكذا يطلب الحق سبحانه من الخلق أن يعرضوا أمر اليمان على العقل ،فالعقل بالدراك ينفعل
متعجبا لبداع المبدع ،وعند العجاب ينزع إلى اختياره بيقين المؤمن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقول الحق:
لوْلِي الَلْبَابِ }[آل عمران:
ت ُ
لفِ الّ ْيلِ وَال ّنهَارِ ليَا ٍ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَاخْتِ َ
{ إِنّ فِي خَلْقِ ال ّ
.]190
والكراه إنما يكون على أمر غير مُتَبَيّن ،أما الدّين فأمر يتبيّن فيه الرشد؛ لن المنهج حين يطلب
منك أل تسرق غيرك ،فهو يضمن لك أل يسرقك الغير ،وحين يأمرك أل تنظر إلى محارم
غيرك ،فهو يحمي محارمك ،وحين يأمرك أل تغتاب أحدا ،وأل تحقد على أحد ،ففي هذا كله
راحة للنسان.
إذن :فما يطلبه المنهج هو كل أمر مريح للنسان ،وأنت إن نظرت في مطلوبات المنهج فلن
تجدها مطلوبة منك وحدك ،ولكن مطلوبة من الناس لك أيضا.
()1488 /
وَيَا َقوْمِ لَا أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّا عَلَى اللّ ِه َومَا أَنَا ِبطَارِدِ الّذِينَ َآمَنُوا إِ ّن ُهمْ مُلَاقُو رَ ّب ِهمْ
جهَلُونَ ()29
وََلكِنّي أَرَاكُمْ َق ْومًا َت ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومثل هذا القول بمعناه جاء مع كل رسول ،ففي مواضع أخرى يقول الحق سبحانه:
{ قُل لّ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ َأجْرا }[النعام.]90 :
لن ال ِعوَض في التبادل قد ل يكون مالً ،بل قد يكون تمرا ،أو شعيرا أو قطنا أو غير ذلك،
والجر ـ كما نعلم ـ هو أعم من أن يكون مالً أو غير مال؛ لذلك يقول الحق سبحانه هنا:
{ ل أَسَْأُلكُمْ عَلَيْهِ مَالً إِنْ َأجْ ِريَ ِإلّ عَلَى اللّهِ } [هود.]29 :
وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد أغْلَى المر.
وقول الرسول:
{ إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَى اللّهِ } [هود.]29 :
هو قول يدل على أن المر الذي جاء به الرسول هو أمر نافع؛ لن الجرة ل تستحق إل مقابل
المنفعة.
ونحن نعلم أن مبادلة الشيء بعينه أو ما يساويه؛ تُسمّى شراء ،أما أن يأخذ النسان المنفعة من
العين ،وتظل العين ملكا لصاحبها ،فمن يأخذ هذه المنفعة يدفع عنها إيجارا ،فكان نوحا عليه
السلم يقول :لقد كنت أستحق أجرا لنني أقدّم لكم منفعة ،لكنني لن آخذ منكم شيئا ،ل زُهْدا في
الجر ،ولكني أطمع في الجر ممن هو أفضل منكم وأعظم وأكبر.
ولن هذا المل الكافر قد وصف من اتبع نوحا بأنهم أراذل؛ لذلك ياتي الرد من نوح عليه السلم:
{ َومَآ أَنَاْ ِبطَارِدِ الّذِينَ آمَنُواْ } [هود.]29 :
ويوضح هذا الرد أن نوحا عليه السلم ل يمكن أن يطرد إنسانا من حظيرة اليمان لنه فقير،
فاليقين اليماني ل علقة له بالثروة أو الجاه أو الفقر والحاجة.
ول ُيخْلِي رسولٌ مكانا من أتباعه الفقراء ليأتي الغنياء ،بل الكلّ سواسية أمام ال سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه يقول:
شيْ ٍء َومَا
جهَهُ مَا عَلَ ْيكَ مِنْ حِسَا ِبهِم مّن َ
ن وَ ْ
شيّ يُرِيدُو َ
{ َولَ تَطْ ُردِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُمْ بِا ْل َغدَا ِة وَا ْلعَ ِ
شيْءٍ فَ َتطْرُ َدهُمْ فَ َتكُونَ مِنَ الظّاِلمِينَ }[النعام.]52 :
حسَا ِبكَ عَلَ ْيهِمْ مّن َ
مِنْ ِ
وقد جعل الحق سبحانه هؤلء الذين يطلق عليهم كلمة " أراذل " فتنة ،فمن تكبّر بسبب فقر
وضعف أتباع الرسل ،فليغرق في كِبْره.
لذلك يقول الحق سبحانه:
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ لّ َيقُولواْ أَهَـاؤُلءِ مَنّ اللّهُ عَلَ ْيهِم مّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعَْلمَ
{ َوكَذاِلكَ فَتَنّا َب ْع َ
بِالشّاكِرِينَ }[النعام.]53 :
وأيضا يأمر الحق سبحانه رسوله بأن يضع عينه على هؤلء الضعاف ،وأل ينصرف عنهم أو
عن أي واحد منهم ،فيقول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهَ ُه َولَ َتعْدُ عَيْنَاكَ عَ ْن ُهمْ }
ن وَ ْ
شيّ يُرِيدُو َ
سكَ مَعَ الّذِينَ يَدْعُونَ رَ ّبهُم بِا ْلغَدَا ِة وَا ْلعَ ِ
{ وَاصْبِرْ َنفْ َ
[الكهف.]28 :
جاء هذا القول حتى ل ينشأ فساد أو عداء بين المؤمنين برسول ال صلى ال عليه وسلم ،ول
يقال " :فلن ُمقَرّبٌ منه "؛ ولذلك كان صلى ال عليه وسلم إذا جلس؛ يوزع نظره على كل
جلسائه ،حتى يظن كل جالس أن نظره ل يتحول عنه.
وفي هذه الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سحبانه وتعالى على لسان
سيدنا نوح ـ عليه السلم ـ وصفا لهؤلء الضعاف الذين آمنوا:
لقُواْ رَ ّب ِهمْ { [هود.]29 :
} إِ ّن ُهمْ مّ َ
وفي هذا بيانٌ أن نوحا ـ عليه السلم ـ لن يطرد هؤلء الضعاف المؤمنين ،فلو طردهم وهم
الذين سيلقون ال تعالى ،أيسمح نوح عليه السلم أن يقال عنه أمام الحق ـ تبارك وتعالى ـ إنه
قد طرد قوما آمنوا رسالته؟ طبعا ل.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه يحاسب رسله ،والمرسَل إليهم ،فهو سبحانه القائل:
سلَ إِلَ ْيهِ ْم وَلَ َنسْأَلَنّ ا ْلمُرْسَلِينَ }[العراف.]6 :
{ فَلَ َنسْأَلَنّ الّذِينَ أُرْ ِ
إذن :فنوح ـ عليه السلم ـ يعلم أنه مسئول أمام ربه ،ولكن هذا المل الكافر من قومه يجهلون؛
ولذلك يقول الحق سبحانه في نهاية هذه الية الكريمة على لسان نوح عليه السلم:
جهَلُونَ { [هود.]29 :
} وَلَـاكِنّي أَرَاكُمْ َقوْما تَ ْ
أي :أنهم ل يفهمون مهمة نوح عليه السلم ،وأنه مسئول أمام ربه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :وَيا َقوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ {
()1489 /
وَيَا َقوْمِ مَنْ يَ ْنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ طَرَدْ ُتهُمْ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ ()30
وهنا يوضّح نوح عليه السلم أنه ل يقدر على مواجهة ال إن طرد هؤلء الضعاف؛ لن أحدا لن
ينصر نوحا على ال ـ عز وجل ـ لحظة الحساب ،فهناك يوم ل ملك فيه لحد إل ل ،ول أحد
يشفع إل بإذنه سبحانه ،ول أحد بقادر على أن ينصر أحدا على ال تعالى؛ لنه القاهر فوق كل
خلقه،
والنصر ـ كما نعلم ـ يكون بالغلبة ،أما الشفاعة فهي بالخضوع ،والحق سبحانه ل يأذن لحد أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يشفع في طرد مؤمن من حظيرة اليمان.
وفي هذا القول تذكير من نوح عليه السلم لقومه؛ ولذلك قال الحق سبحانه:
{ َأفَلَ َت َذكّرُونَ } [هود]30 :
أي :يجب ألّ تأخذكم الغفلة ،وتُنسيكم ما يجب أن تتذكروه.
وكما جاء الحق سبحانه بالتذكّر ،وهو المر الذي بدوامه يبعد النسان الغفلة ،جاء الحق سبحانه
أيضا بالتفكّر ،وهو التأمل لستنباط شيء جديد عن طريق إعمال العقل بالتفكر ،الذي يجعل
النسان في تأمل يقوده إلى تقديس وتنزيه الخالق ،وبهذا يصل النسان إلى الحقائق التي تكشف له
معالم الطريق.
وجاء الحق ـ سبحانه ـ أيضا بالتدبر ،أي :أل يأخذ النسان المور بظواهرها ،أو أن ينخدع
بتلك الظواهر ،بل ل بد من البحث في حقائق الشياء.
جلّ وعَلَ:
لذلك يقول الحق َ
{ َأفَلَ يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ }[النساء.]82 :
أي :أفل يبحثون عن الكنوز الموجودة في المعطيات الخلفية للقرآن.
والتدبر هو الذي يكشف المعاني الخفية خلف ظواهر اليات ،والناس يتفاضلون في تعرضهم
لسرار كتاب ال حين ينظرون خلف ظواهر المعاني.
ولذلك نجد عبد ال بن مسعود رضي ال عنه يقولَ " :ثوّروا القرآن " أي :قَلّبوا معاني اليات
لتجدوا ما فيها من كنوز ،ول تأخذوا اليات بظواهرها ،فعجائب القرآن ل تنقضي.
ويقول الحق سبحانه وتعالى مواصلً ما جاء على لسان سيدنا نوحَ { :ولَ َأقُولُ َل ُكمْ عِندِي خَزَآئِنُ
اللّهِ }
()1490 /
سدّ نوح ـ عليه السلم ـ على هذا المل الكافر كل أسباب إعراضهم عن اليمان ،فإن
وهكذا يَ ُ
ظنوا أن اليمان يتطلب ثراءً ،فنوح ل يملك خزائن ل ،وهو ل يملك أكثر من هذا المل ،وإن
طلبوا أن يكشف لهم الغيب ،فالغيب علمه عند ال تعالى وحده.
ولم يَ ّدعِ نوح أنه من جنس آخر غير البشر ،إنما هو بشر مثلهم ،ل يملك ما يجبرهم به على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الطاعة ،ثراءً ،أو جاها ،أو علم غيب.
ولن يطرد نوح عليه السلم مَنْ آمن مِنَ الضّعاف الذين تزدريهم وتحتقرهم وتتهكّم عليهم عيون
جلّ ـ له إن سَ ّد في وجوه الضعاف أبواب
هذا المل الكافر؛ لن نوحا يخشى سؤال ال ـ عَزّ و َ
اليمان.
ول بد من وقفة هنا عند قول الحق سبحانه:
ب َولَ َأقُولُ إِنّي مََلكٌ وَلَ َأقُولُ لِلّذِينَ تَ ْزدَرِي
علَمُ ا ْلغَ ْي َ
{ َولَ َأقُولُ َل ُكمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّ ِه َولَ أَ ْ
أَعْيُ ُنكُمْ لَن ُيؤْتِ َيهُمُ اللّهُ خَيْرا } [هود.]31 :
حوّل إلى الغَيبة ،فلم يخاطب نوح عليه السلم الضعاف ويقول لهم :إن
ونلحظ هنا أن الخطاب قد ُ
ال سيمنع عنكم الخير ،ذلك لن ال سبحانه وتعالى هو العليم بما في نفوسهم ،ولو قال نوح لهم
مثل هذا القول لكان من الظالمين.
واللم في كلمة { لِلّذِينَ } تعني الحديث عن الضعاف ،ل حديثا إلى الضعاف.
ومجيء " اللم " بمعنى " عن " له نظائر ،مثل قول الحق سبحانه:
سحْرٌ مّبِينٌ }[سبأ.]43 :
حقّ َلمّا جَآءَ ُهمْ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ ِ
{ َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُواْ لِلْ َ
وهم هنا ل يقولون للحق ،ولكنهم يقولون عن الحق ،وهكذا جاءت " اللم " بمعنى " عن ".
وهكذا أوضح نوح ـ عليه السلم ـ أنه لو طرد من يقال عنهم " أراذل " ،لكان معنى ذلك أنه
يعلم النوايا ،ونوح ـ عليه السلم ـ يعلم يقينا أن ال هو العلم بما في النفوس؛ لذلك ل يضع
نوح نفسه في موضع الظلم ل لنفسه ول لغيره.
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك { :قَالُواْ يانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فََأكْثَرْتَ جِدَالَنَا }
()1491 /
جدَالَنَا فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَا إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ ()32
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فََأكْثَ ْرتَ ِ
والجدال هو قول كلم يقابل كلما آخر ،والقصد عند كل طرف متكلم أن يزحزح الطرف الخر
عن مذهبه بحجة أو بشبهة ،بهدف إسقاط المذهب.
إذن :فالجدال هو مناقشة طرفين ،يتقاسمان الكلم بهدف أن يقنع أحدهما الخر بأن ينصرف عن
مذهبه هو إلى مذهب القائل.
وكلمة " الجدال " مأخوذة من " الجَدْل " أي :الفَتْل ،وفتل الحبل إنما يأتي من أخذ شعرات من
ف كل
ضمّ شعرتين إلى بعضهما ،ثم القيام بَِل ّ
الكتان أو الحرير أو أي مادة مثل هذا أو ذاك ،ثم َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شعرتين أخريين ،وهكذا حتى يتم اكتمال الحبل.
ويقال للرجل القوي " :مفتول العضلت " ،أي :أن عضلته ليست رخوة أو ضعيفة ،بل مفتولة،
أي :متداخلة ومشدودة.
وحين تنظر إلى الجهاز العضلي فأنت تندهش لقدرة الحق سبحانه وتعالى الذي خلق كل عضلة
بشكل وأسلوب معين ،يتيح لها أن تتآزر وتتعاون مع غيرها من العضلت لداء الحركات
المطلوبة منها.
فحين يرفع النسان رأسه فهو يحتاج لحركة أكثر من عضلة ،وحين تعمل اليد فهي تحرك أكثر
من عضلة ،ولو تعطلت حركة عضلة واحدة ،لمتنعت الحركة المقابلة لها.
وهم قد قالوا لنوح عليه السلم:
{ َقدْ جَادَلْتَنَا فََأكْثَ ْرتَ جِدَالَنَا } [هود.]32 :
ونحن نعلم أن نوحا عليه السلم عاش ألف عام إل خمسين عاما ،ومعنى ذلك أن جداله معهم أخذ
وقتا طويلً.
والجدال يختلف عن المِرَاء ،لن الجدال إنما يكون لحقّ ،والمراء ،يكون بعد ظهور الحق.
الجدال ـ إذن ـ مطلوب ،والحق سبحانه هو القائل:
{ وَجَادِ ْلهُم بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ }[النحل.]125 :
وكذلك يقول سبحانه وتعالى:
جهَا وَتَشْ َتكِي إِلَى اللّهِ }[المجادلة.]1 :
سمِعَ اللّهُ َق ْولَ الّتِي ُتجَادُِلكَ فِي َزوْ ِ
{ َقدْ َ
إذن :فالجدال مطلوب لنصل إلى الحق ،شرط أن يكون جدلً حسنا ،ل احتكاك فيه ول إيذاء.
وهناك فارق بين احتكاك الراء ،وتحكّك الراء ،فالتحكك كالتلكّك ،وهو الرغبة في عدم الوصول
إلى الحق ،لكن الحتكاك هو الذي يوصل إلى الحق ،مثلما نحكّ الزناد بقطعة من حديد فتولد
الشرر لنرى الحق ،أما التحكّك فهو يواري ويطمس الحقيقة.
والمِرَاء هو الجدَال بعد أن يظهر الحق ،وهو مأخوذ من مَرَى الضّرع ،فحينَ يقومون بإنزال اللبن
من ضرع الناقة أو البقرة ،فالضرع يكون ملن ،وينزل منه اللبن بشدة وقوة ،وبعد أن ينتهي
حَ ْلبُ الضرع ،يظل مَنْ يحلبها ُممْسِكا بحَلَمات الناقة أو الجاموسة ،ويستحلب ما بقى من اللبن،
ويُقال لهذا الجزء الخير " المريى ".
ولذلك أخذوا من هذه العملية كلمة " المراء " ،وهو ما بعد ظهور الحق.
حجَاج؛ والمراد بالحجاج هو إظهار حجة
وهناك بجانب الجدال والمراء ،والحتكاك ،والتحكّك ،وال ِ
الخصم على الخصم.
وبعد أن مَلّوا من جدال نوح ـ عليه السلم ـ طلبوا أن ينزل بهم العذاب الذي أنذرهم به ،وقد
استبطأوا مجيء هذا العذاب؛ لن نوحا عليه السلم عاش بينهم ألف سنة إل خمسين ،وقالوا:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ فَأْتِنَا ِبمَا َت ِعدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ } [هود.]32 :
وكأنهم ـ بهذا القول ـ قد أخرجوا نوحا مَخْرج من بيده أن يأتي بالعذاب ،أو يمنع العذاب ،وهذه
مسألة ل يملكها نوح ،بل هي مِلْك ل سبحانه وتعالى.
ولذلك يُنبههم نوح عليه السلم { :قَالَ إِ ّنمَا يَأْتِيكُمْ ِبهِ اللّهُ }
()1492 /
قَالَ إِ ّنمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللّهُ إِنْ شَا َء َومَا أَنْتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ ()33
جلُ ال بعجلة
لن الحق سبحانه هو الذي يقدّر للعذاب أوانا ،ويقدّر لكل تعذيب ميلدا ،ول َي ْع َ
العباد حتى تبلغ المور ما أراد.
وهم لن يعجزوا ال تعالى ولن يفلتوا منه؛ لنه ل توجد قوة في الكون يمكن أن تمنع مشيئة ال
تعالى ،أو أن تتأبّى عليه.
صحِي إِنْ أَرَ ْدتّ أَنْ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان نوح عليه السلمَ { :ولَ يَن َفعُكُمْ ُن ْ
أَنصَحَ َلكُمَْ }
()1493 /
جعُونَ (
صحِي إِنْ أَرَ ْدتُ أَنْ أَ ْنصَحَ َل ُكمْ إِنْ كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَنْ ُي ْغوِيَكُمْ ُهوَ رَ ّبكُ ْم وَإِلَيْهِ تُ ْر َ
وَلَا يَ ْنفَ ُعكُمْ ُن ْ
)34
والمعنى هنا :إن كان ال سبحانه يريد أن يغويكم فلن تنتفعوا بالنصيحة إن أردت أن أنصحكم؛
لن الية بها تعدّد الشرطين.
ومثال ذلك من حياتنا :حين يطرد ناظر المدرسة طالبا ،عقابا له على خطأ معين ،فالطالب قد
يستعطف الناظر ،فيقول الناظر " :إن جئتني غدا أقبل اعتذارك إنْ كان معك والدك ".
وقول الناظر " :إن كان معك والدك " هو شرط متأخّر ،ولكنه كان يجب أن يتقدّم.
وفي الية الكريمة ـ التي نحن بصددها ـ جاء الشرط الول متأخّرا ،ولكن هل يغوي ال
سبحانه عِبادَه؟
ل ،إنه سبحانه يهديهم ،والغواية هي الضلل والبعد عن الطريق المستقيم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه يقول عن محمد صلى ال عليه وسلم:
غوَىا }[النجم.]2 :
ل صَاحِ ُبكُمْ َومَا َ
ضّ{ مَا َ
وقال سبحانه عن آدم عليه السلم حين أكل من الشجرة:
عصَىا ءَادَمُ رَبّهُ َف َغوَىا }[طه.]121 :
{ وَ َ
ونحن يجب ألّ نقع في الفة التي يخطىء البعض بها ،حين يستقبلون ألفاظ العقائد على أساس ما
ن متعددة.
اشتهر به اللفظ من معنى؛ فاللفاظ لها معا ٍ
لذلك ل بد أن نعرض كل معاني اللفظ لنأخذ اللفظ المناسب للسّياق.
ومثال ذلك هو قول الحق سبحانه:
س ْوفَ يَ ْلقُونَ غَيّا }[مريم.]59 :
ش َهوَاتِ فَ َ
لةَ وَاتّ َبعُواْ ال ّ
{ َفخََلفَ مِن َبعْدِهِمْ خَ ْلفٌ َأضَاعُواْ الصّ َ
س ْوفَ َي ْلقُونَ غَيّا }.
وقوله سبحانه هنا { :فَ َ
أي :سوف يلقون عذابا ،لن غَيّهم كان سببا في تعذيبهم ،فسمّى العذاب باسم مُسبّبه.
ومثل قول الحق سبحانه:
{ وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثُْلهَا }[الشورى.]40 :
والحق سبحانه ل يُسيء لعباده ،ولكنهم هم الذين يُسيئون لنفسهم ،فسمّى ما يلقاهم من العذاب
سيئةً.
وكذلك " ال َغيّ " يرد بمعنى " الغواء " ،ويرد بمعنى الثر الذي يترتب عن الغي من العذاب.
وقد عرض الحق سبحانه وتعالى في كتابه صورا متعددة للغواء ،فآدم عليه السلم حين تَن ّكبَ
ل يقربها ،قال الحق
عن الطريق ،وأكل من الشجرة المحرّمة رغم تحذير الحق سبحانه له أ ّ
سبحانه وتعالى في هذا الموقف:
عصَىا ءَادَمُ رَبّهُ َف َغوَىا }[طه.]121 :
{ وَ َ
وقد فعل آدم عليه السلم ذلك بحكم طبيعته البشرية ،فأراد ال تعالى أن يعلمه أنه إذا خالف
المنهج في " افعل " و " ل تفعل " ستظهر عورته وتبدو له سوءاته.
وهكذا أخذ آدم عليه السلم التجربة ليكون مُستعِدا لستقبال المنهج والوَحْي.
وقد ذكر لنا الحق سبحانه كلمات الشيطان بقوله:
ج َمعِينَ }[الحجر.]39 :
ض َولُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
غوَيْتَنِي لُزَيّنَنّ َلهُمْ فِي الَ ْر ِ
{ قَالَ َربّ ِبمَآ أَ ْ
ولكن هل أغوى ال ـ سبحانه ـ الشيطان؟
عصَى.
إن الحق سبحانه ل ُي ْغوِي ،ولكنه يترك الخيار للمكلّف إن شاء أطاع ،وإن شاء َ
ولو أنه سبحانه وتعالى جعلنا مؤمنين لما كان لنا اختيار ،فإن أطاع النسان نال عطاء ال ،وإن
ضلّ ،فقد جعل ال له الختيار ،ووَجّهه لغير المراد مع صلحيته للمراد.
َ
إذن :فالختيار ليس مقصورا على الغواء بل فيه الهداية أيضا ،والنسان قادر على أن يهتدي،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقادر على أن يضلّ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ إِنِ افْتَرَيُْتهُ }
()1494 /
أَمْ َيقُولُونَ افْتَرَاهُ ُقلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ َفعََليّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ ِممّا ُتجْ ِرمُونَ ()35
جاء هذا القول في صُلْب قصة نوح ـ عليه السلم ـ وقد يكون مما أوحى به ال سبحانه لنوح
عليه السلم ،أو يكون المراد به أنهم قالوا لرسول ال صلى ال عليه وسلم هذا الكلم.
والفتراء ـ كما نعلم ـ هو الكذب المتعمّد الذي يناقض واقعا.
وانظروا إلى كل ما جاء بالمنهج ليلتزم به الفرد ،ستجدون أنه مُلْ ِزمٌ للجميع ،وستكون الفائدة التي
تعود عليك بالتزام الجميع ـ بما فيهم أنت ـ فائدة كبيرة ،فإن قال لك المنهج :ل تسرقْ؛ فهذا
أمانٌ لك من أن يسرقك الناس.
ولذلك فساعة تسمع للمنهج ،ل تنظرْ إلى المأخوذ منك ،بل التفتْ إلى المأخوذ لك.
وعلى ذلك ل يمكن أن يكون المنهج افتراء.
ونحن نعلم أن المنهج يؤسّس في المجتمعات مقاييس عادلة للستقامة ،وحين يُشَرّع الحق سبحانه
تشريعا ،قد يبدو لك أنه ُيحِدّ من حريتك ،ولكنه في الواقع يُحقّق لك منافع متعدّدة ،ويحميك من أن
يعتدي الخرين عليك.
وكان الردّ على التهام بالفتراء يتمثّل في أمرين :إما أن يفتروا مثله ،أو أن يتحمّل هو وِزْرُ
إجرام الفتراء.
وإن لم يكن قد افتراه ،فعليهم يقع وِزْرُ إجرامهم باتّهامه أنه قد افترى.
وأسلوب الية الكريمة يحذف عنهم البراءة في الشطر الول منها ،ولو جاء بالقول دون احتباك،
لقال سبحانه :قل إن افتريته فعليّ إجرامي وأنتم براءه منه ،وإنْ لم أفْتَرِ فعليكم إجرامكم وأنا
برىء.
ق المقابل من شِقّ آخر ،وهذا ما يسمّى في اللغة " الحتباك ".
وجاء الحذف من شِ ّ
والحق سبحانه وتعالى يقول:
{ كَم مّن فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّهِ }[البقرة.]249 :
والفئة القليلة تكون قلّتُها في الفراد والعَتَاد وكلّ لوازم الحرب ،والفئة الكثيرة ،تظهر كثرَتها في
العُدّة والعَدَد وكلّ لوازم الحرب ،والفئة القليلة إنما َتغْلِب بإذن ال تعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا يوضّح الحق سبحانه أن السباب تقضي بغلبة الفئة الكثيرة ،لكن مشيئته سبحانه تغلب
السباب وتصل إلى ما شاءه ال تعالى.
ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى:
{ َقدْ كَانَ َلكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْ َتقَتَا فِئَةٌ ُتقَا ِتلُ فِي سَبِيلِ اللّ ِه وَأُخْرَىا كَافِ َرةٌ }[آل عمران.]13 :
وحذف سبحانه صفة اليمان عن الفئة الولى ،كما حذف عن الفئة الثانية صفة أنها تقاتل في
سبيل الطاغوت والشيطان ،وهذا يسمّى " الحتباك ".
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه:
{ ُقلْ إِنِ افْتَرَيُْتهُ َفعََليّ ِإجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا تُجْ ِرمُونَ } [هود.]35 :
ولكن الحق سبحانه وتعالى شاء أن يبين لنا قول رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم حين
خاطب قومه ،فقال سبحانه:
عمّا َت ْعمَلُونَ }[سبأ.]25 :
عمّآ َأجْ َرمْنَا وَلَ نُسَْألُ َ
{ قُل لّ تُسْأَلُونَ َ
عمّا تُجرمون " .فلم يقابل إيذاءهم القوليّ والما ّديّ له بإيذاء قوليّ.
فلم َي ُقلَْ " :
وكذلك ذكر الحق سبحانه ما جاء على لسان محمد صلى ال عليه وسلم:
للٍ مّبِينٍ }[سبأ.]24 :
{ وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَىا هُدًى َأوْ فِي ضَ َ
وهذا ارتقاء في الجدل يناسب رحمة رسول ال صلى ال عليه وسلم التي أنزلها ال على العالم
كله.
وبعد ألف عام إل خمسين من جدال نوح عليه السلم لقومه ،قال له الحق سبحانه وتعالى:
حيَ إِلَىا نُوحٍ أَنّهُ لَن ُي ْؤمِنَ }
{ وَأُو ِ
()1495 /
حيَ ِإلَى نُوحٍ أَنّهُ لَنْ ُي ْؤمِنَ مِنْ َق ْومِكَ إِلّا مَنْ َقدْ َآمَنَ فَلَا تَبْتَ ِئسْ ِبمَا كَانُوا َيفْعَلُونَ ()36
وَأُو ِ
ومجيء " إل " هنا ليس للستثناء ،ولكنها اسم بمعنى " غير " أي :لن يؤمن من قومك غير الذي
آمن.
ولهذا نظير في قمة العقائد حين قال الحق سبحانه:
سدَتَا }[النبياء.]22 :
{ َلوْ كَانَ فِي ِهمَآ آِل َهةٌ ِإلّ اللّهُ َلفَ َ
و " إل " هنا أيضا بمعنى " غير " ،ولو كانت " إل " بمعنى الستثناء لعنى ذلك أن ال سبحانه ـ
معاذ ال ـ سيكون ضمن آلهة آخرين ،لذلك ل يصلح هنا أن تكون " إل " للستثناء ،بل هي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل وتَفرّده باللوهية.
جّبمعنى " غير " ،وتفيد معنى الوحدانية ل عَزّ و َ
والية التي نتناولها بخواطرنا تؤكد أنه ل يوجد غير من آمن بنوح ـ عليه السلم ـ من قومه،
سوف يؤمن؛ فقد ختم ال المسألة.
وهذا يعطينا تبريرا لجتراء نوح ـ عليه السلم ـ على الدعاء على الذين لم يؤمنوا من قومه
بقوله:
علَى الَ ْرضِ مِنَ ا ْلكَافِرِينَ دَيّارا * إِ ّنكَ إِن َتذَرْهُمْ ُيضِلّواْ عِبَا َدكَ وَلَ يَلِدُواْ ِإلّ فَاجِرا
ب لَ تَذَرْ َ
{ ّر ّ
َكفّارا }[نوح26 :ـ .]27
وكان تبرير ذلك أنه عليه السلم قد دعاهم إلى اليمان زمانا طويلً فلم يستجيبوا ،وأوحى له ال
تعالى أنهم لن يؤمنوا ،وقال له سبحانه:
{ فَلَ تَبْتَئِسْ ِبمَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ } [هود.]36 :
والبتئاس هو الحزن المحبط ،وهم قد كفروا وليس بعد الكفر ذنب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وَاصْنَعِ ا ْلفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا }
()1496 /
وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا ُتخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُوا إِ ّنهُمْ ُمغْ َرقُونَ ()37
وهكذا علم نوح بمسألة الغراق من خلل الوحي له بصنع السفينة .ومعنى " أصنع " أي :اعمل
الصنعة ،وهناك فرق بين الصنعة والحرفة ،فالصنعة أنْ تُوجِدَ معدوما ،كصانع الكواب ،أو
جفَ ،أو صانع الكراسي ،أما الذي يقوم على صيانة الصنعة فهو
صانع الحذية ،أو صانع النّ َ
الحرفيّ.
حبّ
وهناك عملية أخرى للستنباطات مثل مهنة الزارع الذي يحرث الرض ويبذر فيها ال َ
ويرويها ليستنبط منها النباتات ،ويسمّى صاحب هذه المهنة " زارع " أو " فلّح "؛ لن اقتيات
الحياة المباشر يأتي من الزراعة.
أما الصانع فيأتي بشيء من متطلبات الحياة ،في تطورها ويوجد آلةً أو يصنع جهازا لم يكن
موجودا ،و الحرفيّ هو الذي يصون تلك اللة ،أما التاجر فهو الذي يقوم بعمليةٍ تجمع كل ذلك،
ويكون هو الوسيلة بين منتج الشيء والمستهلك ،فالتاجر يكون لعرض الشياء بغية البيع والشراء.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا لنوح عليه السلم:
{ وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ } [هود.]37 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أوجد شيئا من عدم ،إل أن هذا الشيء سيصنع من شيء آخر موجود ،لن نوحا عليه السلم
قد زرع من قبل شجرة وعاشت معه كل هذه المدة الطويلة ،وتضخّمت في الجذع والفروع.
وبدأ نوح عليه السلم في عملية شقّ الشجرة ليصنع منها السفينة التي بلغ طولها ـ كما قيل ـ
ثلثمائة ذراع وبلغ عرضها خمسين ذراعا ،وبلغ ارتفاعها ثلثين ذراعا ومكوّنة من ثلثة أدوار
لتسع المؤمنين ،وزوجين من كل نوع من حيوانات الرض ودوابّها وهوامها وسباعها ووحوشها.
ونحن قد علمنا أن الشجرة التي زرعها نوح عليه السلم قد تضخّمت جدا لطول المدّة التي قضاها
نوح في دعوته لقومه؛ ونعلم أيضا أن جذع الشجرة ينمو دائريا بمقدار دائرة كل عام .وحين نقطع
جذع الشجرة نجد أن قطر الجذع مكوّن من دوائر ،وكل دائرة تمثّل عاما من عمرها.
وهكذا بلغ حجم الشجرة ما يساعد نوحا عليه السلم على أن يصنع السفينة.
وقد علّمه الحق سبحانه بالوحي وإلهام الخواطر كيف يصنع السفينة ،ألمْ يُلهِم ال سبحانه نبيّه داود
عليه السلم في مسألة الحديد؟ وقال لنا سبحانه أنه ـ جلّ وعَل ـ قد أمر الجبال أو ُت َؤوّب معه،
وكذلك الطير ،فألن له الحديد دون نار:
ع َملْ سَا ِبغَاتٍ }[سبأ10 :ـ .]11
{ ياجِبَالُ َأوّبِي َمعَ ُه وَالطّيْ َر وَأَلَنّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ ا ْ
هكذا أخبرنا الحق سبحانه أن الحديد صار ليّنًا دون نار ـ بإذنه سبحانه ـ ليصنع منه داود
دروعا كبير مستوفية للظهور والصدر ،لتحمي معاطب النسان.
وقد أوحى الحق سبحانه لداود عليه السلم أن يصنع تلك الدروع بطريقة عجيبة ،بأن يجعلها
سابغات.
والسابغة هي المسرودة ،مثل الحصير ،حيث يُوضع العُود بجانب العود ،ويربط العواد كلها
بطريقة تسهل من فَرْد الحصير أو َلفّه.
وفي نفس الية يبيّن لنا الحق سبحانه كيفية الوحي لداود عليه السلم بتلك الصناعة الدقيقة ،فيقول
سبحانه:
{ َوقَدّرْ فِي السّرْدِ }[سبأ.]11 :
أي :أنك يا داود حين تنسج الحديد الليّن ـ بإذن ال تعالى ـ لتجعله دروعا عليك أن تصنع تلك
الدروع بتقدير دقيق كي ل تكون الدّرع ضيّقة على صدر المقاتل فتضيق حركته ،وتقلّل من قدرته
على التنفس ،فيلهث بسرعة ،ول يستطيع مواصلة القتال.
ل تكون الدّرع واسعة على صدر المقاتل؛ حتى ل تساعد سعة الدّرع سيف الخصم،
وكذلك يجب أ ّ
فيضرب الدّرع نفسه صدر المقاتل ،وتكون قوة الدّرع مضافة إلى قوة سيف الخصم ،ولكن حين
تكون الدّرع قادرة على الحاطة بالجسم دون أن يُكبّل الحركة ،فهذه الدّرع المناسبة للقتال.
وقد أتقن داود عليه السلم صناعة تلك الدّروع بتلك الهندسة الدقيقة التي أوحى الحق سبحانه بها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إليه ،فقد صنعها بأمر الحق العلى سبحانه حين قال لهَ {:وقَدّرْ }[سبأ ]11 :وكلمة قدر تعطي
معنى التقدير والتقان.
فعلى الذين يصنعون الشياء عليهم أن يعلموا أن القرآن الكريم لحظة يوجّه إلى التقان في الداء
والعمل ،فإنه يعلمنا طريقة التقدير والتقان في العمل والبداع فيه ،لتتخذ من هذا التوجيه نبراسا
نسير عليه؛ ليكون العمل صالحا ،وأنت ترى من يتقن صنعته وهو يقول " :ال " ،وكأن هذا
القول اعتراف الفطرة الولى بقدرة الحق سبحانه على أن َي َهبَ النسانَ طاقة التقان والبداع.
ويقول الحق سبحانه أيضا في تعليمه لداود عليه السلم:
{ وَعَّلمْنَا ُه صَ ْنعَةَ لَبُوسٍ }[النبياء.]80 :
وهكذا يلقي ال تعالى الخاطر في قلب الرسول أو النبي أن " افعل كذا "؛ فيفعل.
ل علومها وفنونها في التحنيط واللوان والنّحت،
وحين ننظر إلى حضارة مصر القديمة ،نجد ك ّ
كانت من اختصاص الكهنة الذين يُمثّلون السلطة الدينية ،ولم يكتب هؤلء الكهنة أسرار تلك
العلوم ،فلم يستطع أحد من المعاصرين أن يتعرف عليها.
وهكذا نجد أن كل أمر في أصوله؛ مصدره السماء.
وفي قصة نوح عليه السلم نجد الحق سبحانه يقول:
} وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا َولَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُواْ إِ ّنهُمْ ّمغْ َرقُونَ { [هود.]37 :
ومعنى " بأعيننا " هو بحفظنا وبرعايتنا .وكلمة " بأعيننا " تفيد شمول الحفظ وكمال الرعاية.
ألم يقل الحق سبحانه في مسألة تخصّ رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم؟
حكْمِ رَ ّبكَ فَإِ ّنكَ بِأَعْيُنِنَا }[الطور.]48 :
{ وَاصْبِرْ ِل ُ
وكذلك قال سبحانه في قصة سيدنا موسى عليه السلم:
{ وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه.]39 :
وأنقذ الحق سبحانه موسى عليه السلم من الفرعون الذي كان يقتل أطفال بني إسرائيل ،وألقى ال
تعالى المحبة لموسى في قلب زوجة الفرعون ،وقال سبحانه:
علَ ْيكَ مَحَبّةً مّنّي }[طه.]39 :
{ وَأَ ْلقَ ْيتُ َ
لن موسى عليه السلم حين كان طفلً رضيعا قد ألقىَ في اليَمّ ،والتقطه رجال الفرعون ،لكن
زوجة الفرعون قالت لزوجها طالبة لموسى الحياة:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقول الحق سبحانه:
} وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا { [هود.]37 :
أي :إنك إن توقّفتَ لية عقبة ،فسوف نُلهمك بما تُواجه به تلك العقبة.
وحين صنع نوح عليه السلم الفُلْك احتاج للواح خشبية ،ول بد أن تتماسك تلك اللواح ،ولم تكن
مسامير قد اختُرعتْ َبعْدُ ،فأوحى له ال تعالى أن يربط اللواح بالحبال المجدولة ،وقد فعل هذا
أحد مكتشفي أمريكا في العصر الحديث ،حين صنع سفينة من نبات البَرْدِى وربطها بالحبال
المجدولة القوية.
وقال الحق سبحانه في طريقة صنع سفينة نوح عليه السلم:
ح وَدُسُرٍ }[القمر.]13 :
علَىا ذَاتِ أَ ْلوَا ٍ
حمَلْنَاهُ َ
{ وَ َ
ح َكمَ الرّبط بقدر مقتدر
أي :أن نوحا عليه السلم قد أحضر من الخشب وربطها بحبال مجدولة ،وأ ْ
بما ل يسمح بتسرب الماء إلى داخل السفينة.
مثلما تصنع البراميل الخشبية في عصرنا ،حيث يصنعها الصانع من قطع خشبية مستطيلة،
ويرتّبها ثم يُحْكم رَبْطَها بإطار قويّ ،وحين يوضع فيها أي سائل ،فالخشب يتشرّب من هذا السائل
ويتمدّد ليسدّ المسَام ،فل ينضح السائل من البرميل؛ لن الخشب هو المادة الوحيدة التي تتمدّد
بالبرودة على العكس من كل المواد التي تتمدّد بالحرارة.
ولذلك نجد النّجّار الحاذق في صنعته هو مَنْ يصنع الثاث أو البواب أو الشبابيك في الفصول
الرتيبة؛ لنه إن صنعها في الصيف ،سنجد الخشب وهو منكمش؛ فإذا ما جاء الشتاء تمدّد ذلك
الخشب وسبّب عدم إحكام إغلق البواب والنوافذ ،وكذلك إن صنعها في الشتاء والخشب متمدّد
سيأتي الصيف وتنكمش البواب ،وتكون لها متاعبها ،فل يسهل ضبط إغلق البواب أو ضبط
أي صندوق أو شبّاك بإحكام.
ثم يقول الحق سبحانه:
} َولَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُواْ إِ ّن ُهمْ ّمغْ َرقُونَ { [هود.]37 :
أي :ل تحدّثني في أمر المغفرة لمن ظلموا أنفسهم بالكفر ،وهم مَن ارتكبوا الظلم العظيم ،وهو
الكفر في القمة العقدية ،وهي اليمان بال تعالى واحدا أحدا ل شريك له؛ لذلك استحقوا العقاب،
وهو الغراق.
ن صُنْعِ السفينة مرتبط بلون العقاب الذي سيقع على مَنْ كفروا
وهكذا عَِل َم نوح عليه السلم أ ّ
برسالته ،فهو ومَنْ آمنوا معه سوف ينجون ،أما مَنْ كفر فلسوف يغرق.
ويبيّن الحق سبحانه وتعالى حين يقول } :وَ َيصْنَعُ ا ْلفُ ْلكَ َوكُّلمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلٌ مّن َق ْومِهِ {
()1497 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَ َيصْنَعُ ا ْلفُ ْلكَ َوكُّلمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ َقوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا َنسْخَرُ مِ ْنكُمْ َكمَا
سخَرُونَ ()38
تَ ْ
وكان السادة والكبراء من مل نوح يمرون عليه وهو يصنع السفينة يسخرون منه ،بما يعني :ها
هو بعد أن ادّعى النبوة يتحوّل إلى نجّار ،ثم يتساءلون :كيف تصل هذه السفينة من " الموصل "
إلى البحر؟
ولم يكونوا قد علموا ما علمه نوح عليه السلم من أن الماء هو الذي سوف يأتي ليحمل السفينة.
ونحن نلحظ في قول الحق سبحانه وتعالى:
{ وَ َيصْنَعُ ا ْلفُ ْلكَ } [هود.]38 :
تنفيذ المر الذي صدر من ال سبحانه وتعالى إلى نوح عليه السلم حين قال سبحانه:
{ وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا َولَ تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُواْ إِ ّنهُمْ ّمغْ َرقُونَ }[هود.]37 :
عذَابٌ ُيخْزِيهِ }
سوْفَ َتعَْلمُونَ مَن يَأْتِيهِ َ
ثم يقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :ف َ
()1498 /
()1499 /
وكلمة { حَتّىا } تدل على الغاية وكلمة { َأمْرُنَا } تدل على الطوفان ،ثم المر من الحق سبحانه
بأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ،ومَنْ آمن معه وكانوا قِلّة قليلة.
إذن :ففي قصة نوح عليه السلم أكثر من مرحلة ،أمر من ال تعالى بقوله:
{ وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ }[هود.]37 :
وعمل من نوح عليه السلم بأن يصنع ،وقد استغرق هذا الفعل وقتا طويلً من نوح عليه السلم
إلى أن جاء أمر الطوفان الذي يدل عليه قول الحق سبحانه:
{ َوفَارَ التّنّورُ } [هود.]40 :
ومعنى كلمة { فَارَ } أي :أن الماء قد وصل إلى درجة الغليان.
فالماء يحتوي على هواء بدليل أن السمك يتنفس من الماء ،وحين نغلي الماء نرى فقاقيع الهواء
وهي تخرج من الماء ،ثم يثقل الماء إلى أن تشتد سخونة الغليان ،فيفور الماء منثورا خارج إناء
الغليان.
و " التنور " هو المكان الذي تتم فيه عملية الخبز ،وخروج الماء من التنور هو علمة مميزة
يعلمها نوح عليه السلم ليحمل من يريد نجاتهم ،من المؤمنين ،ومن متاع الدنيا كله.
وكانت العلمة هي خروج الماء من غير َمظَانّه وهو التنور.
واختلف العلماء في تفسير كلمة " التنور " فمنهم من قال :إن التنور هو المكان الذي كان آدم عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السلم يخبز فيه ،أو هو المكان الذي كانت تعمل فيه حواء ،أو هو بيت نوح ،أو هو بيت سيدة
عجوز.
وكل تلك التفسيرات ل تفيد ول تضرّ ،المهم أن فوران التنور كان علمة بين نوح عليه السلم
وربه ،وأنه إذا ما فار التنور فعَلَى نوح أن يحمل من كل زوجين اثنين.
وقول الحق سبحانه:
ح ِملْ فِيهَا مِن ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [هود.]40 :
{اْ
تعني :أن يحمل من كل الكائنات ،وتدل على ذلك كلمة { ُكلّ } المنونة ـ وتفيد التعميم ـ أي:
احمل في السفينة من كل شيء ،تطلبه حياة الناجين من جميع أصناف النباتات والحيوانات ،حتى
الخنزير كان ضمن ما حمله نوح عليه السلم.
والذين يقولون إن تحريم الخنزير جاء؛ لن نوحا عليه السلم لم يحمله معه ،لم يفطنوا إلى أهمية
الخنزير كحيوان يأكل القاذورات وينظف الرض منها؛ لن كل كائن له مهمة ،وليست مهمة
الكائنات فقط أن يأكلها النسان.
وكلمة:
{ َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } [هود.]40 :
تدل على أن كلمة " َزوْجٍ " هي مفرد؛ بدليل قول الحق سبحانه:
جهَا }[النساء.]1 :
خلَقَ مِ ْنهَا َزوْ َ
{ وَ َ
إذن :كلمة " َزوْجٍ " تعني مفرد معه مثله ،كزوج من الحذية مثلً.
أقول ذلك حتى ل نأخذ كلمة " الزوج " على أنها اثنان؛ ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في آية
أخرى.
ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ
{ َثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ
ن َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ }
أَرْحَا ُم الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ * َومِنَ الِ ْبلِ اثْنَيْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن َومَآ آمَنَ َمعَهُ ِإلّ قَلِيلٌ
ن وَأَهَْلكَ ِإلّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ا ْل َق ْولُ َومَنْ آمَ َ
ح ِملْ فِيهَا مِن ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْ ِ
}اْ
{ [هود.]40 :
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يستبقي الحياة بنجاة كل ما تحتاجه الحياة بالسفينة ،ويقال :إنهم عاشوا
في تلك السفينة عامين.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :وقَالَ ا ْركَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ َمجْرياهَا َومُرْسَاهَا {
()1500 /
هذه هي المرحلة الخيرة في قصة السفينة ،وبدأت القصة بأمر من ال سبحانه لنوح عليه السلم
أن اصنع الفلك ،ثم تمهيد من نوح لقومه ،ثم ظل يصنع الفلك حتى جاءت إشارة البدء بعلمة:
{ َوفَارَ التّنّورُ }[هود]40 :
ح َملَ نوح عليه السلم في الفُلْك ـ بأمر من ال تعالى ـ من كل شيء زوجين اثنين ،وأهله
وَ
ومَنْ آمن معه.
وقال نوح عليه السلم لمن آمن:
سمِ اللّهِ مَجْرياهَا َومُرْسَاهَا } [هود.]41 :
{ ا ْركَبُواْ فِيهَا بِ ْ
وهذا القول منسوب لنوح عليه السلم؛ لنه أضاف:
{ إِنّ رَبّي َل َغفُورٌ رّحِيمٌ } [هود.]41 :
والركوب يقتضي أن يكون الراكب على المركوب ،ومستعلٍ عليه .والستعلء يقتضي أن يكون
الشيء المُستعلَى عليه في خدمة المُستعلِي ،فكأن تسخير ال سبحانه للسفينة إنما جاء ليخدم
المستعلِي.
ولكن ال تعالى يقول هنا:
{ ا ْركَبُواْ فِيهَا } [هود.]41 :
ولم يقل " :اركبوا عليها ".
قال الحق سبحانه وتعالى ذلك؛ ليعطينا لقطة عن طريق صنع السفينة ،فقد صنعها نوح عليه
السلم بوحي من ال تعالى على أفضل نظام في البواخر ،ولم يصنعها بطريقة بدائية ،فهم ـ إذن
ـ لم يركبوها على سطحها ،بل تم بناؤها بما يتيح لهم السكن فيها ،خصوصا وأن تلك السفينة
تحمل وحوشا وهواما وحيوانات بجانب البشر ،لذلك كان ل بد من بنائها على هيئة طبقات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأدوار.
وقول الحق سبحانه:
{ ِبسْمِ اللّهِ مَجْرياهَا َومُرْسَاهَا } [هود.]41 :
يُبيّن لنا أنها قد صُنعت لتُنجي من الغرق؛ لذلك ل بد أن تسير بالراكبين فيها إلى مكان ل يصله
سوّ ،كما أتاح الفيضان عملية الجريان.
الماء ،ول بد أن يكون هذا المكان عاليا؛ ليتيح الرّ ُ
سوّها بإذنه سبحانه.
وهكذا كان جريانها باسم ال ،ورُ ُ
وقول نوح عليه السلم:
{ ِبسْمِ اللّهِ مَجْرياهَا َومُرْسَاهَا } [هود.]41 :
يعلّمنا أن جريانها إنما يتمّ بمشيئة ال تعالى وأنهم يركبون فيها ،ل لمكانتهم الشخصية ،ولكن
ليمانهم بال تعالى.
ومثال ذلك من حياتنا ـ ول المثل العلى ـ :نجد القاضي يقول مفتتحا الحكم " :باسم الدستور
والقانون " أي :أنه ل يحكم بذاته كقاضٍ ،لكنه يحكم باسم الدستور والقانون.
ونوح عليه السلم يقول:
{ ِبسْمِ اللّهِ مَجْرياهَا َومُرْسَاهَا } [هود,]41 :
لن السفينة ل أمر ،ولرسوله صناعة.
ولذلك يقال " :كل شيء ل يبدأ باسم ال فهو أبْتر ".
لنك حين تُقبل على فعل شيء ،فالفعال أو الحداث تحتاج إلى طاقات متعددة ،فإن كان الفعل
عضليّا ،فهو يحتاج لقوة ،وإن كان الفعل عقليّا فهو يحتاج لفكر ورويّة وأناة ،وإن كان فعلً فيه
مواجهة لهل الجاه فهو يحتاج إلى شجاعة ،وإن كان من أجل تصفية نفوس فهو يحتاج إلى الحِلْم؟
إذن :فاحتياجات الحداث كثيرة ومختلفة ،ومن أجل أن تحصل على القوة فقد تقول " :باسم القوي
القادر " ولكي تحصل على علم؛ تقول " :باسم العليم " ،وتريد الغني؛ فتقول " :باسم الغنيّ "
وحين تحتاج إلى الحلم تقول " :باسم الحليم " ،وعندما تحتاج إلى الشجاعة؛ تقول " :باسم القهار
".
وقد يحتاج الفعل الواحد لشياء كثيرة ،والذي ُيغْنِي عن كل ذلك أن تنادي ربك وتتبرّك باسم واجد
الوجود وهو ال سبحانه وتعالى ،ففيه تنطوي كل صفات الكمال والجلل.
وإياك أن تتهيّب أو تستحي ،بل ادخل على كل أمر باسم ال ،حتى لو كنت عاصيا؛ لن الحق
سبحانه رحمن رحيم.
وقول الحق سبحانه على لسان نوح عليه السلم:
} إِنّ رَبّي َل َغفُورٌ رّحِيمٌ { [هود.]41 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنما يقصد أن هؤلء المؤمنين برسالة نوح كانوا من البشر ،ولم يطبّقوا ـ كغالبية البشر ـ كل
التكاليف؛ لنهم ليسوا ملئكة.
لذلك َقدّر الحق سبحانه وتعالى إيمانهم وعفا عن بعض الذنوب التي ارتكبوها ولم يؤاخذهم بها.
هذه هي الميزة في قول " :بسم ال الرحمن الرحيم ".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك يَصفُ السفينة و ُركّابها } :وَ ِهيَ تَجْرِي ِبهِمْ فِي َموْجٍ كَالْجِبَالِ {
()1501 /
ل وَنَادَى نُوحٌ ابْنَ ُه َوكَانَ فِي َمعْ ِزلٍ يَا بُ َنيّ ا ْر َكبْ َمعَنَا وَلَا َتكُنْ مَعَ
وَ ِهيَ َتجْرِي ِبهِمْ فِي َموْجٍ كَالْجِبَا ِ
ا ْلكَافِرِينَ ()42
وجرت بهم السفينة ،ل بين موج هائج فحسب ،ولكن كان الموج كالجبال ،وهذا يدل على أنها
مُسيّرة بقوة عالية ل تؤثر فيها المواج ،ثم يجيء الحديث عن عاطفة البوة حين ينادي نوح ابنه:
{ وَنَادَىا نُوحٌ ابْ َن ُه َوكَانَ فِي َمعْ ِزلٍ يابُ َنيّ ا ْر َكبَ ّمعَنَا َولَ َتكُن مّعَ ا ْلكَافِرِينَ } [نوح.]42 :
ورفض البن مطلب أبيه معتمدا على أن الجبل يحميه.
وفي هذا يقول الحق سبحانه مبينا مُراد البن في مُخالفة مراد أبيه { :قَالَ سَآوِي ِإلَىا جَ َبلٍ
صمُنِي مِنَ ا ْلمَآءِ }
َي ْع ِ
()1502 /
صمَ الْ َيوْمَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ إِلّا مَنْ َرحِ َم َوحَالَ بَيْ َن ُهمَا
صمُنِي مِنَ ا ْلمَاءِ قَالَ لَا عَا ِ
قَالَ سََآوِي إِلَى جَ َبلٍ َي ْع ِ
ا ْل َموْجُ َفكَانَ مِنَ ا ْل ُمغْ َرقِينَ ()43
هكذا ظن ابن نوح أنه سينجو إن آوى إلى جبل ،لعل ارتفاع الجبل يعصمه من الغرق ،لكن نوحا
عليه السلم يعلم أن ل نجاة لكافر ،بل النجاة فقط هي لمن رحمه ال باليمان.
وهكذا فرّق الموج بين نوح وابنه؛ وغرق البن.
وأراد الحق سبحانه أن يُنهى الكلم عن نوح عليه السلم ،فجاء بلقطة استواء السفينة على
الجودي.
ويقال :إن جبل الجودي يوجد في الموصل ويقال :إنه ناحية الكوفة ،وإن كان هذا القول مجرد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علم ل ينفع ،والجهل به ل يضر.
ويقول الحق سبحانهَ { :وقِيلَ ياأَ ْرضُ ابَْلعِي مَآ َءكِ }
()1503 /
والبلع هو مرور الشيء من الحَلْق ليسقط في الجوف ،وساعة أن يأتي في القرآن أمر من ال
تعالى مثل:
{ َوقِيلَ ياأَ ْرضُ ابَْلعِي مَآ َءكِ } [هود.]44 :
فافهم أن القائل هو من تَ ْنصَاع له الرض.
ولم َيقُل ال سبحانه " :قال ال يا أرض ابلعي ماءك "؛ لن هناك أصلً متعيّنا وإنْ لم يقُله ،والحق
سبحانه يريد أن ينمّي فينا غريزة وفطنة اليمان؛ لن أحدا غير ال تعالى ليس بقادر على أن
يأمر الرض بأن تبلع الماء.
سمَآءُ َأقِْلعِي } أي :أن توقف المطر.
ويكون أمره سبحانه للسماء { :وَيا َ
وهكذا يُنهي الحق سبحانه الطوفان الذي أغرق الدنيا بأن أوقف المصبّ ،وأعطى المر للمصرف
أن يسحب الماء.
ونحن نلحظ عند سقوط المطر أن شبكة الصرف الصحيّ تطفح إن كان هناك ما يسدّ تصريف
الماء؛ لن أرض المدن حاليا صارت من السفلت الذي ل يمتص المياه؛ ولذلك نجد الجهات
المختصة تجنّد طاقاتها لصلح مواسير الصرف الصحي لتمتص مياه المطر حتى ل تتعطل
حركة الحياة.
وأقول هنا :إن حُسن استخدام الماء من حُسن اليمان؛ لني ألحظ أن الناس حين يتوضأون فهم
يفتحون صنابير الماء بما يزيد كثيرا عن حاجتهم للوضوء الشرعي ،فيجب أل نرتكب إثم ترك
الماء النقيّ ليضيع دون جدوى.
وعلى الناس أن يدّخروا الماء ،ول يُسيئوا استغلله؛ لن الماء حين يتوفّر فهو يُحيي الموات،
ونحن نحتاج الماء لستزراع الصحاري ،ونحتاج لتخفيف العبء على شبكات الصرف الصحيّ.
باختصار؛ نحن نحتاج إلى حُسن استقبال ِنعَمِ ال تعالى وحُسن التصرّف فيها؛ لننعم بها ،ونسعد
بخيرها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقول الحق سبحانه:
سمَآءُ َأقِْلعِي } [هود.]44 :
{ وَيا َ
أي :اتركي المطر ..ومن ذلك أخذنا كلمة " قِلْع " الذي يوضع فوق السفن الشراعية الصغيرة،
وهو الشّراع.
ويُقال " :أقلعت المركب " أي :تركت السكون الذي كانت عليه وهي واقفة على الشاطىء.
ويقول الحق سبحانه:
{ وَغِيضَ ا ْلمَآءُ } [هود.]44 :
وبناها الحق سبحانه هنا للمجهول؛ لنعلم أن ال تعالى هو الذي أمر الماء بأن يغيض.
ومادة " غاض " تُستعمل لزمةً ،وتُستعمل متعديةً.
ثم يقول سبحانه:
{ وَاسْ َت َوتْ عَلَى الْجُو ِديّ } [هود.]44 :
أي :استقرت السفينة على جبل الجودي.
ويُنهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله:
{ َوقِيلَ ُبعْدا لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [هود.]44 :
وهو بع ٌد نهائيّ إلى يوم القيامة.
وتتحرك عاطفة البوة في نوح عليه السلم ،ويظهرها قول الحق سبحانه { :وَنَادَى نُوحٌ رّبّهُ َفقَالَ
َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي }
()1504 /
وعاطفة البوة عاطفة محمودة ،والحق سبحانه يشحن بها قلب الب على قَدْر حاجة البنوة ،ولو لم
تكن تلك العاطفة موجودة ،لما تحمّل أيّ أبٍ أو أيّ أمّ متاعب تربية البناء.
وحتى نعلم أن النبياء ل بنوة لهم إل بنوة التّباع نجد المثل في إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى
نبينا أفضل الصلة والسلم ،حين قال فيه الحق سبحانه:
{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ }[البقرة.]124 :
أي :أن أداء إبراهيم عليه السلم للتكاليف كان على وجه التمام ،مثلما أراد أن يرفع القواعد من
البيت ،فرفعها فوق قامته بالحتيال ،فاحضر حجرا ووقف عليه ليُعلي جدار الكعبة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقال له ال تعالى:
{ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما }[البقرة.]124 :
لنك مأمون على منهج ال وقادر على أن تنفّذه بدقة ،فقال إبراهيم عليه السلم:
{ َومِن ذُرّيّتِي }[البقرة.]124 :
فقال الحق سبحانه:
عهْدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة.]124 :
{ لَ يَنَالُ َ
من هذا نعلم أن النبوّة ليس لها بنوّة ،بل النبوّة لها أتباع.
ويتضح ذلك أيضا في قول إبراهيم عليه السلم بعد أن استقرّ في ذهنه قول الحق سبحانه:
عهْدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة.]124 :
{ لَ يَنَالُ َ
قال إبراهيم لربه سبحانه طلبا للرزق لمكة وأهلها:
ج َعلْ هَـاذَا بَلَدا آمِنا وَارْ ُزقْ أَهَْلهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ
الخِرِ }[البقرة.]126 :
هكذا طلب إبراهيم عليه السلم الرزق للمؤمنين ،لكن الحق سبحانه يبيّن له أنه نقل المسألة إلى
غير مكانها؛ فالرزق عطاء ربوبية للمؤمن والكافر ،لكن تكليفات اللوهية هي للمؤمن فقط؛ لذلك
قال الحق سبحانه:
{ َومَن َكفَرَ }[البقرة.]126 :
أي :أن الرزق يشمل المؤمن والكافر ،عطاء من الربوبية.
ونريد أن نقول إنّ عاطفة البوة والمومة إنما تتناسب مع حاجة البن تناسبا عكسيّا ،فإن كان
البن قوّيا فعاطفة البوة والمومة تقلّ.
ومثال ذلك :أننا نجد شقيقين أحدهما غني قائم بأمر البوين ويتكفّل بهما ،بينما البن الخر فقير ل
يقدر على رعاية البوين.
وسنلحظ أن قلب الب والم يكون مع الفقير ،ل مع الغَنيّ ،فعاطفة البوة والمومة تكون مع
الضعيف والمريض والغائب ،وكلما كان البن في حاجة؛ كانت العاطفة معه.
وفي نداء نوح عليه السلم لربه سبحانه نلحظ أن نوحا كان يملك المبرّر طلبا لنجاة البن؛ لن
الحق سبحانه أمره بأن يحمل في السفينة من كلّ زوجين اثنين وكذلك أهله ،فأراد نوح عليه
السلم أن يطلب النجاة لبنه من أهله ،فقال:
حكَمُ ا ْلحَا ِكمِينَ } [هود.]45 :
ق وَأَنتَ َأ ْ
حّن وَعْ َدكَ الْ َ
{ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ َأهْلِي وَإِ ّ
إذن :فنوح عليه السلم يملك حق الدعاء؛ لنه يطلب تحقيق وعد ال تعالى بأن يحمل أهله معه
للنجاة.
حكَمُ ا ْلحَا ِكمِينَ } هو إقرار بأن ال سبحانه ل يخطىء؛ لن البن قد
وحين يقول نوح { :وَأَنتَ َأ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غرق ،بل ل بد أن ذلك الغرق كان لحكمة.
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ }
ويقول الحق سبحانه { :قَالَ يانُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَ ْهِلكَ إِنّهُ َ
()1505 /
ظكَ أَنْ
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ فَلَا َتسْأَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ إِنّي أَعِ ُ
قَالَ يَا نُوحُ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ
َتكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ()46
ويريد الحق سبحانه هنا أن يلفتَ نبيّه نوحا إلى أن أهليّة النبياء ليست أهلية الدم واللحم ،ولكنها
أهلية المنهج والتّباع ،وإذا قاس نوح ـ عليه السلم ـ ابنه على هذا القانون ،فلن يجده ابنا له.
ألم يقل نبينا صلى ال عليه وسلم عن سلمان الفارسي " :سلمان منّا آل البيت ".
إذن :فالبنوة بالنسبة للنبياء هي بنوة اتّباع ،ل بنوة َنسَب.
وانظر إلى دقة الداء في قول ال تعالى:
{ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ َأهِْلكَ } [هود.]46 :
ثم يأتي سبحانه بالعلة والحيثية لذلك بقوله:
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ } [هود.]46 :
{ إِنّهُ َ
فكأن البنوة هنا عمل ،وليست ذاتا ،فالذات منكورة هنا ،والمذكور هو العمل ،فعمل ابن نوح جعله
غير صالح أن يكون ابنا لنوح.
وهكذا نجد أن المحكوم عليه في البنوة للنبياء ليس الدم ،وليس الشحم ،وليس اللحم ،إنما هو
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ } ولو كان
التّباع بدليل أن الحق سبحانه وصف ابن نوح بقوله تعالى { :إِنّهُ َ
عملً صالحا لكان ابنه.
ويقول الحق سبحانه:
ظكَ أَن َتكُونَ مِنَ ا ْلجَاهِلِينَ } [هود.]46 :
عُ{ فَلَ َتسْئَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ إِنّي أَ ِ
والحق سبحانه يطلب من نوح هنا أن يفكّر جيّدا قبل أن يسأل ،فل غبار على النبياء حين يربيّهم
ربّهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :قَالَ َربّ إِنّي أَعُوذُ ِبكَ أَنْ أَسْأََلكَ }
()1506 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمْنِي َأكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (
قَالَ َربّ إِنّي أَعُوذُ ِبكَ أَنْ أَسْأََلكَ مَا لَيْسَ لِي ِبهِ عِلْمٌ وَإِلّا َتغْفِرْ لِي وَتَرْ َ
)47
وهنا يدعو نوح عليه السلم ربه سبحانه وتعالى أن يغفر له ما قاله ،وهو هنا يقرّ بأنه لما أحبّ
أن يسأل نجاة ابنه لم يستطع أن يكتم سؤاله ،ولكن الحق سبحانه وتعالى وحده هو القادر على أن
يمنع من قبله مثل هذا السؤال ،وهذه قمة التسليم ل تعالى.
وقول نوح عليه السلم:
{ إِنّي أَعُوذُ ِبكَ } [هود.]47 :
يوضّح لنا أن النسان ل يعوذ من شيء بشيء إل إن كانت قوته ل تقدر على أن تمتنع عنه.
ولذلك يستعيذ نوح عليه السلم من أن يسأل ما ليس له به علم ،ويرجو مغفرة ال سبحانه وتعالى
ورحمته حتى ل يكون من الخاسرين.
لمٍ }
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :قِيلَ يانُوحُ اهْ ِبطْ بِسَ َ
()1507 /
عذَابٌ
سهُمْ مِنّا َ
ك وَعَلَى ُأ َممٍ ِممّنْ َم َعكَ وَُأمَمٌ سَ ُنمَ ّت ُعهُمْ ثُمّ َيمَ ّ
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ ِبسَلَامٍ مِنّا وَبَ َركَاتٍ عَلَ ْي َ
أَلِيمٌ ()48
وهكذا تطرأ الغفلة على أصحاب المنهج ،ويقول صلى ال عليه وسلم " :تُعرض الفِتَن على القلوب
كالحصير عودا عودا ،فأيّما قلب أشْرِبَها نُكتت فيه نكتة سوداء ،وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة
بيضاء ،حتى تصير على قلبين ،على أبيض مثل الصفا ل تضرّه فتنة ما دامت السموات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والرض ،والخر أسود مُرْبادا كالكوز مُجَخّيا ل يعرف معروفا ،ول ينكر منكرا إل ما أشْ ِربَ
مِنْ هَواه ".
وأعوذ بال تعالى من طروء فتنة الغفلة على القلوب.
والحق سبحانه يتحدث في هذه الية عن الذين بقوا مع نوح عليه السلم وهم صفوة من المؤمنين،
لكن منهم من ستطرأ عليه الغفلة ،وسيمتّعهم ال سبحانه وتعالى أيضا بمتاع الدنيا ،ولن يضنّ
عليهم ،ولكن سَيَلحقُهم العذاب.
فإذا ما جاء جيل على الغافلين فهو يخضع لمؤثّرين اثنين:
المؤثر الول :غفلته هو.
المؤثر الثاني :أسوة الغافلين من السابقين عليه.
ونحن نعلم أن مِنْ ذرية نوح عليه السلم " قوم عادٍ " الذين أرسل الحق سبحانه إليهم هودا عليه
السلم ،وكذلك " قوم ثمود " الذين أرسل إليهم أخاهم صالحا عليه السلم ،وقوم لوطٍ ،وهؤلء
جميعا رَا َنتِ الغفلة على قلوبهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكِ } :ت ْلكَ مِنْ أَنْبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ نُوحِيهَآ إِلَ ْيكَ {
()1508 /
وكلمة " تلك " إشارة وخطاب ،والمخاطب هو رسول ال صلى ال عليه وسلم ،و " التاء " إشارة
إلى السفينة وما تبعها من أنباء الغيب ،ولم يكن رسول ال صلى ال عليه وسلم معاصرا لها ول
يعلمها هو ،ول يعلمها أحد من قومه.
وأنت يا رسول ال لم يُعلَم عنك إنك جلستَ إلى معلّم ،ولم يذكر عنك أنك قرأت في كتاب؛ ولذلك
يأتي في القرآن:
لمْرَ }[القصص.]44 :
{ َومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
وجاء:
صمُونَ }[آل عمران:
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْ َي َم َومَا كُ ْنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يَخْ َت ِ
{ َومَا كُنتَ لَدَ ْيهِمْ إِذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
.]44
إذن :فما دمتَ يا محمد لم تقرأ ولم تتعلّم عن معلّم فمَن علّمك؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنما عَلّمك ال سبحانه.
وكأن ال سبحانه وتعالى علّم رسوله صلى ال عليه وسلم قصة نوح عليه السلم وأراد بها إلقاء
السوة وإلقاء العبرة لرسول ال صلى ال عليه وسلم حتى يثق بأن كل رسول إنما يصنع حركته
اليمانية المنهجية بعين من ال ،وأنه سبحانه لن يسلّمه إلى خصومة ول أعدائه.
ولذلك يأتي القول الكريم { :فَاصْبِرْ }؛ لنك قد عرفت الن نتيجة صبر نوح عليه السلم الذي
استمر ألف سنة إل خمسين ،ويأتي بعدها قوله سبحانه:
{ إِنّ ا ْلعَاقِبَةَ لِ ْلمُ ّتقِينَ } [هود.]49 :
تأتي بعد ذلك قصة قوم عاد بعد قصة نوح ،ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى ل يُرسل رسولً
عمّ الفساد.
إل إذا َ
إذن :فقد حصلت الغفلة من بعد نوح ،وانضمّت لها أسوة البناء بالباء فانطمس المنهج ،وعزّ
على الموجودين أن يقيموه.
وال سبحانه وتعالى ل يبعث برسلٍ جُددٍ إل إذا لم يوجد في المة من يرفع كلمة ال؛ لننا نعلم أن
المناعة اليمانية في النفس النسانية قد تكون مناعة ذاتية ،بمعنى أن النسان قد تُحدّثه نفسه
بالنحراف عن منهج ال ،لكن النفس اللوّامة تردعه وتردّه إلى اليمان.
أما إذا تصلّبتْ ذاتُه ،ولم توجد لديه نفس لوّامة ،فالمناعة الذاتية تختفي ،ولكن قد يقوم المجتمع
المحيط بَِل ْومِهِ.
ولكن إذا اختفت المناعة الذاتية ،والمناعة من المجتمع فل بد أن يبعث ربّ العزة سبحانه برسولٍ
جديدٍ ،وبيّنة جديدة ،وبرهان جديد.
هكذا حدث من بعد نوح عليه السلم.
ولذلك يأتي قول الحق سبحانه { :وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا }
()1509 /
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلّا مُفْتَرُونَ ()50
يفتتح الحق سبحانه الية بتحنينهم ومؤانستهم بالمرسَل إليهم ،فيُخبرهم أنه أخوهم ،ول يمكن للخ
أن يريد لهم العَ َنتَ ،بل هو ناصح ،مأمون عليهم ،وعلى ما يبلغهم به.
وحين يقول لهم:
{ يا َقوْمِ } [هود.]50 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهذا لليناس أيضا.
ثم يدعوهم إلى عبادة ال تعالى وحده؛ لنهم اتخذوا غير ال إلها ،وهذا قمة الفتراء.
وال سبحانه لم يقل:
{ إِنْ أَنتُمْ ِإلّ ُمفْتَرُونَ } [هود.]50 :
إل لن الفساد قد طَمّ.
ويقول سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان هود { :يا َقوْمِ ل أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ أَجْرا }
()1510 /
يَا َقوْمِ لَا َأسْأَُلكُمْ عَلَ ْيهِ أَجْرًا إِنْ أَجْ ِريَ إِلّا عَلَى الّذِي َفطَرَنِي َأفَلَا َتعْقِلُونَ ()51
وكأن هودا عليه السلم يقول لهم :ما الذي يشقّ عليكم فيما آمركم به وأدعوكم إليه ،إنني أقدّم لكم
هذا البلغ من ال تعالى ،ول أسألكم عليه أجرا ،فليس من المعقول أن أنقلكم مما ألفتم ،ثم آخذ
منكم مالً مقابل ذلك ،ول يمكن أن أجمع عليكم مشقة تَرْك ما تَعوّدْتُم عليه وكذلك أجر تلك
الدعوة.
وما ُد ْمتُ لن آخذ منكم أجرا ،إذن :فل مشقة أكلّفكم بها ،كما أنني في غِنًى عن ذلك الجر؛ لن
أجري على من أرسلني.
{ إِنْ أَجْ ِريَ ِإلّ عَلَى الّذِي َفطَرَنِي َأفَلَ َتعْقِلُونَ } [هود.]51 :
أي :أنّ أجري على مَنْ خَلَقني ُمعَدّا لهذه الرسالة؛ لن الفطرة تعني التكوين الساسي للنسان.
والحق سبحانه قد أعدّ هودا عليه السلم ليكون رسولً ،ونحن نعلم ـ أيضا أن الجر يكون عادة
مقابلً للمنفعة.
وسبق أن ضربنا المثل بمن يشتري بيتا ،فهو يدفع ثمن البيت لصاحبه ،وتُسمّى هذه العملية بيعا
وشراءً.
أما إذا استأجر النسان بيتا فهو يدفع إيجارا مقابل انتفاعه بالسكن فيه.
وقول هود عليه السلم:
{ ل أَسَْأُلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا } [هود.]51 :
يفيد أنه كان من الواجب أن يدفعوا أجرا كبيرا مقابل منفعتهم بما يدعوهم إليه؛ لن الجر الذي
تدفعونه في المستأجرات العامة لكم إنما يكون مقابلً لمنافع موقوتة ،لكن ما يقدمه لهم هود عليه
السلم هو منفعة غير موقوتة!
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك ترك هود عليه السلم الجر لمن يقدر عليه ،وهو ال سبحانه وتعالى .فهو القادر على كل
شيء.
وقد أوضحنا من قبل أن كل مواكب الرسل جاءت بهذه العبارة:
{ ل أَسَْأُلكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا } [هود.]51 :
إل إبراهيم وموسى عليهما السلم؛ فسيدنا إبراهيم لم َيقُلْها بسبب أبيه ،وسيدنا موسى لم يقلها؛ لن
فرعون قال له:
{ أََلمْ نُرَ ّبكَ فِينَا وَلِيدا }[الشعراء.]18 :
جمّة ،وهي المنهج الرّسالي الذي جاء به هود
إذن :كان يجب على قوم هود أن يعقلوا الفائدة ال َ
عليه السلم.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلم مخاطبا قومه { :وَيا َقوْمِ اسْ َت ْغفِرُواْ
رَ ّبكُمْ }
()1511 /
سمَاءَ عَلَ ْيكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِ ْدكُمْ ُق ّوةً إِلَى ُقوّ ِتكُ ْم وَلَا تَ َتوَّلوْا
سلِ ال ّ
وَيَا َقوْمِ اسْ َت ْغفِرُوا رَ ّب ُكمْ ثُمّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْ ِ
مُجْ ِرمِينَ ()52
وهكذا نعلم أن الستغفار هو إقرار بالتقصير وارتكاب الذنوب ،فنقول يارب اغفر لنا.
وساعة تطلب المغفرة من ال تعالى ،فهذا إعلن منك باليمان ،واعتراف بأن تكليف الحق لك هو
تكليف حق.
وما دام النسان قد طلب من ال تعالى أن يغفر له الذي فات من ذنوب ،فعليه أل يرتكب ذنوبا
جديدة ،وبعد التوبة على العبد أن يحرص على تجنب المعاصي.
وعلى النسان أن يتذكّر أن ما به من نعمة فمن ال ،وأن الكائنات المسخرة هي مسخرة بأمر ال
تعالى؛ فل تنسيك رتابة الحياة عن مسببها الواهب لكل النعم.
والحق سبحانه وتعالى حين يرسل رسولً ،فأول ما ينزل به الرسول إلى المة هو أن يصحّح
العقيدة في قمتها ،ويدعوهم إلى اليمان بإله واحد يتلقّون عنه " افعل " و " ل تفعل ".
وهنا يكون الكلم من هود عليه السلم إلى قومه " قوم عاد " ،والدعوة إلى اليمان بإله واحد
وعبادته ،والخذ بمنهجه ل يمكن أن يقتصر على الطقوس فقط من الشهادة بوحدانية ال تعالى،
والصلة ،والصيام ،والزكاة ،والحج.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن عبادة ال تعالى هي أن تؤدّي الشعائر والعبادات ،وتتقن كل عمل في ضوء منهج ال ،فل
تعزل الدين عن حركة الحياة.
والذين يخافون من دخول السلم في حركة الحياة ،يريدون منّا أن نقصر الدين على الطقوس،
ونقول لهم :إن السلم حينما دخل في حركة الحياة غزا الدنيا كلها ،وحارب حضارتين عريقتين؛
حضارة الفرس في الشرق ،وحضارة الرومان في الغرب.
وهؤلء كانوا أمما لها حضارات قديمة وقوية ،وثقافات وقوانين ،ومع ذلك جاء قوم من البدو
المّيين؛ يقود عقيدتهم رجلٌ أ ّميّ أرسله ال سبحانه وتعالى؛ فيطيح بكل هؤلء؛ نظما وثقافات
وارتقاءات بمستوى الحياة إلى مستوى طموح العقل.
يريد هؤلء ـ إذن ـ أن يقوقعوا السلم في الركان الخمسة فقط؛ ليعزلوه عن حركة الحياة.
ونقول لهم :ل ،ل يمكنكم أن تقصروا العبادات على الركان الخمسة فقط؛ لن العبادة معناها أن
يوجد عابد لمعبود حقّ ،وأن يطيع العابد أوامر المعبود؛ وتتمثّل أوامر المعبود في " افعل " و " ل
تفعل "؛ وما لم يَردْ فيه " افعل " و " ل تفعل "؛ فهو مباح؛ إن شئت فعلته وإن شئت لم تفعله؛
وبفعله أو عدم فعله ل يفسد الكون.
إذن :فالعبادة هي كل أمر صادر من ال تعالى؛ فل تعزلوها في الطقوس؛ لن رسول ال صلى
ال عليه وسلم أبلغنا؛ وأوضح لنا أن أركان السلم الخمس هي التي بني عليها السلم؛ وليست
هي كل السلم.
إذن :فالسلم بناء يقوم على أركان؛ لذلك ل يمكن أن نحصر السلم في أركانه فقط؛ فالسلم
هو كل حركة في الحياة ،ول بد أن تنتظم حركات البشر تبعا لمنهج ال ،لتنتظم الحياة كما انتظم
الكون من حولنا.
فالعبادة تستوعب كل حركة في الحياة ،وقد فهم البعض خطأ أن العبادة تنحصر في باب العبادات
في تقسيم الفقهاء ،وأغفلوا أن باب المعاملت هو من العبادة أيضا ،واستقامة الناس في المعاملت
تؤدي إلى انتظام حياة الناس.
وفي الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
} وَيا َقوْمِ اسْ َتغْفِرُواْ رَ ّبكُمْ { [هود.]52 :
والستغفار ل يكون إل عن ذنوب سبقت؛ وإذا كان هذا هو أول ما قاله هود عليه السلم لقومه؛
إذن :فالستغفار هنا عن الذنوب التي ارتكبوها مخالفة لمنهج الرسول الذي جاء من قبله ،أو هي
الذنوب التي ارتكبوها بالفطرة.
ثم يدعوهم بقولهُ } :ثمّ تُوبُواْ إِلَيْهِ { [هود.]52 :
والتوبة تقتضي العزم على أل تُنشئوا ذنوبا جديدة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول الحق سبحانه في نفس الية:
سمَآءَ عَلَ ْي ُكمْ مّدْرَارا وَيَزِ ْد ُكمْ ُق ّوةً إِلَىا ُقوّ ِتكُمْ { [هود.]52 :
سلِ ال ّ
} يُ ْر ِ
ولقائل أن يقول :وما صلة الستغفار بهذه المسألة الكونية؟
ونقول :إن للكون مالكا لكلّ ما فيه؛ جماده ونباته وحيوانه؛ وهو سبحانه قادر ،ول يقدر كائن أن
يعصي له أمرا؛ وهو القادر أن يخرج الشياء عن طبيعتها؛ فإذا جاءت غيمة وتحسب أنها
ممطرة؛ قد يأمرها الحق سبحانه فل تمطر.
مثلما قال سبحانه في موضع آخر من كتابه الكريم:
{ فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْ ِبلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ ُهوَ مَا اسْ َت ْعجَلْتُم ِبهِ رِيحٌ فِيهَا
عَذَابٌ أَلِيمٌ }[الحقاف.]24 :
إذن :فل تأخذ السباب على أنها رتابة؛ إنما ربّ السباب يملكها؛ فإن شاء فعل ما يشاء.
وإذا ما عبدتَ ال تعالى العبادة التي تنتظم بها كل حركة في الحياة؛ فأنت تُقبل على عمارة
الرض؛ وتوفّر لنفسك القُ ْوتَ باستنباطه من السباب التي طمرها ال سبحانه وتعالى في الرض.
والقوت ـ كما نعلم ـ من جنس الرض؛ لذلك ل بد أن نزرع الرض؛ و َتمُدّ البذور جذورها
الضارعة المسبّحة الساجدة ل تعالى؛ فيُمطر الحقّ سبحانه السماءَ؛ فتأخذ البذور حاجتها من الماء
المتسرّب إليها عبر الرض؛ ونأخذ نحن أيضا حاجتنا من هذا الماء.
والسماء هي كل ما عَلكَ فأظّلكَ؛ أما السماء العليا فهذا موضوع آخر ،وكل الشياء دونها.
وانظروا قول الحق سبحانه:
سمَآءِ ُثمّ لْ َيقْطَعْ فَلْيَ ْنظُرْ َهلْ
{ مَن كَانَ َيظُنّ أَن لّن يَنصُ َرهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ فَلْ َي ْمدُدْ ِبسَ َببٍ ِإلَى ال ّ
يُذْهِبَنّ كَيْ ُدهُ مَا َيغِيظُ }[الحج.]15 :
أي :من كان يظن أن ال تعالى لن ينصر رسوله فليأت بحبل أو أي شيء ويربطه فيما عله
ويعلّق نفسه فيه؛ ولسوف يموت ،وغيظه لن يرحل عنه.
سمَآءَ عَلَ ْي ُكمْ مّدْرَارا { [هود.]52 :
سلِ ال ّ
} يُ ْر ِ
والمدرار :هو الذي يُدِرّ بتتابع ل ضرر فيه؛ لن المطر قد يهطل بطغيان ضارّ ،كما فتح ال
سبحانه أبواب السماء بماء منهمر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه يقول:
س ُهمْ يَظِْلمُونَ }[يونس.]44 :
{ وَلَـاكِنّ النّاسَ أَنفُ َ
ويأتي الحق سبحانه من بعد ذلك بالردّ الذي قاله قوم عاد } :قَالُواْ ياهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيّنَةٍ {
()1512 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آمن به ،وانتهت تلك المعجزات؛ لكن القرآن الكريم باقٍ إلى أن تقوم الساعة.
ويستطيع أي واحد من أمة محمد صلى ال عليه وسلم قبل قيام الساعة أن يقول :محمد رسول ال
ومعجزته القرآن؛ لن محمدا صلى ال عليه وسلم جاء رسولً عامّا؛ ول رسول من بعده؛ لذلك
كان ل بد أن تكون معجزته من الجنس الباقي؛ ومع ذلك قالوا له:
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِ َنبٍ
{ َوقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
ع ْمتَ عَلَيْنَا ِكسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ وَا ْلمَلئِكَةِ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ ُت ْ
قَبِيلً }[السراء90 :ـ .]92
وكل ما طلبوه مسائل حسية؛ لذلك يأتي الرد:
{ َأوََلمْ َي ْكفِهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ }
[العنكبوت.]51 :
ومع ذلك كذّبوا.
وأضاف قوم عاد:
} َومَا نَحْنُ بِتَا ِركِي آِلهَتِنَا عَن َقوِْلكَ َومَا َنحْنُ َلكَ ِب ُم ْؤمِنِينَ { [هود.]53 :
هم ـ إذن ـ قد خدعوا أنفسهم بتسميتهم لتلك الصنام " آلهة "؛ لن الله مَنْ يُنزل منهجا يحدّد
من خلله كيف ُيعْبَد؛ ولم َتقُل الصنام لهم شيئا؛ ولم تُبلغهم منهجا.
إذن :فالقياس المنطقي يُلغي تَصوّر تلك الصنام كآلهة؛ فلماذا عبدوها؟
لقد عبدوها؛ لن الفطرة تنادي كل إنسان بأن تكون له قوة مألوه لها؛ والقوة المألوه لها إن كان لها
أوامر تحدّ من شهوات النفس ،فهذه الوامر قد تكون صعبة على النفس ،أما إن كانت تلك اللهة
بل أوامر أو نواهي فهذه آلهة مريحة لمن يخدع نفسه بها ،ويعبدها مظنة أنها تنفع أو تضر.
وهذه هي حُجّة كل ادّعاء نبوة أو ادّعاء مَهديّة في هذا العصر ،فيدّعي النبيّ الكاذب النبوّة ،ويدعو
للختلط مع النساء ،وشرب الخمر ،وارتكاب الموبقات ،ويسمّى ذلك دينا.
وتجد مثل هذه الدّعاوَي في البهائية والقاديانية؛ وغيرها من المعتقدات الزائفة.
وقولهم:
} َومَا نَحْنُ بِتَا ِركِي آِلهَتِنَا عَن َقوِْلكَ { [هود.]53 :
يعني :وما نحن بتاركي آلهتنا بسبب قولك.
وقولهمَ } :ومَا نَحْنُ َلكَ ِب ُم ْؤمِنِينَ { [هود.]53 :
أي :وما نحن لك بمصدّقين ،لن (آمن) تأتي بمعاني متعددة.
فإنْ عدّيتها بنفسها مثل قول الحق سبحانه:
خ ْوفٍ }[قريش.]4 :
{ وَآمَ َنهُم مّنْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإنْ عدّيتها بحرف " الباء " مثل قول الحق سبحانه:
ل صَالِحا فََلهُمْ َأجْرُهُمْ }[البقرة.]62 :
عمِ َ
{ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِ ِر وَ َ
فالمعنى يتعلّق باعتقاد اللوهية.
وإن عدّيتها بحرف " اللم "؛ مثل قول الحق سبحانه:
ن َومَلَ ِئهِمْ أَن َيفْتِ َنهُمْ }[يونس.]83 :
عوْ َ
خ ْوفٍ مّن فِرْ َ
{ َفمَآ آمَنَ ِلمُوسَىا ِإلّ ذُرّيّةٌ مّن َق ْومِهِ عَلَىا َ
تكون بمعنى التصديق.
يقول الحق سبحانه بعد ذلك } :إِن ّنقُولُ ِإلّ اعْتَرَاكَ َب ْعضُ آِلهَتِنَا ِبسُوءٍ {
()1513 /
و " إن " التي تُفتتح بها الية الكريمة أداة شرطية ،وأداة " إن " الشرطية يأتي بعدها جملة شرط،
وجواب شرط ،فإن لم تكن كذلك فهي تكون بمعنى النفي؛ مثل قول الحق سبحانه:
{ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ ِإلّ اللّئِي وََلدْ َنهُمْ }[المجادلة.]2 :
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ إِن ّنقُولُ ِإلّ اعْتَرَاكَ } [هود.]54 :
أي " :ما نقول إل اعتراك ".
وهكذا نعلم أن كلمة " إنْ " هنا جاءت بمعنى النفي.
و " إل " هي أداة استثناء ،وقبلها فعل هو " نقول " ،وإذا وجدت أداة استثناء ،ولم يذكر المستثنى
منه صراحة ،فاعلم أنه واحد من ثلثة :إما أن يكون مصدر الفعل ،وإما أن يكون ظرف الفعل،
وإما أن يكون حال الفعل.
وعلى ذلك فمعنى الية الكريمة:
سفّهتهم وأبْطَلتَ ألوهيّتهم ،وجئتَ بإلهٍ جديدٍ من
وما نقول لك إل أنّ آلهتنا أصابتك بسوء؛ لنك َ
عندك ،فأصابتك اللهة بسوء ـ يراد به الجنون ـ فأخذتَ تخلط في الكلم الذي ليس له معنى.
ويردّ عليهم هود عليه السلم بما جاء في نفس الية:
شهَدُواْ أَنّي بَرِيءٌ ّممّا تُشْ ِركُونَ } [هود.]54 :
ش ِهدُ اللّ َه وَا ْ
{ قَالَ إِنّي أُ ْ
وهو يُشهِد ال الذي يثق أنه أرسله ،ويحمي ذاته ،ويحمي عقله؛ لن عقل الرسول هو الذي يدير
كيفية أداء البلغ عن ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه وتعالى ل يمكن أن يرسل رسولً ول يحميه.
وقد قال الكافرون عن سيدنا رسول ال محمد صلى ال عليه وسلم أنه مجنون؛ فأنزل الحق
سبحانه وتعالى قوله الكريم:
ك لَجْرا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ َلعَلَىا خُُلقٍ عَظِيمٍ }[القلم2 :ـ
{ مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِب َمجْنُونٍ * وَإِنّ َل َ
.]4
ونحن نعلم أن المجنون ل خُلُق له ،وفي هذا البيان أن رسول ال صلى ال عليه وسلم في قمة
العقل؛ لنه في قمة الخُلُق الطيّب.
وهنا يُشهد هود عليه السلم قومه ويطالبهم أن يرجعوا إلى الفطرة السليمة ،ويحكموا :أهو مجنون
أم ل ،ويشهدهم أيضا أنه بريء من تلك اللهة التي يُشركون بعبادتها من دون ال تعالى.
جمِيعا ُث ّم لَ
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان هود عليه السلم { :مِن دُونِهِ َفكِيدُونِي َ
تُنظِرُونِ }
()1514 /
وقوله { :مِن دُونِهِ } أي :من دون ال ،فهم قد عبدوا أصناما من دون ال سبحانه ،ومطلب هود
عليه السلم منهم أن يكيدوا له جميعا ،وهم كثرة طاغية ،وهو فرد واحد؛ وإن كادت الكثرة
المتجبّرة لواحد ،فمن المتوقع أن يغلبوه ،وهو ـ عليه السلم ـ هنا يتحداهم ويطلب منهم أن
يعملوا كل مكرهم وكيدهم ،وأن يقتلوه لو استطاعوا ،وهذه قمة التحدي.
والتحدي هنا معجزة؛ لنه ساعة يتحداهم فهو يعلم أن ال سبحانه وتعالى ينصره ،وهو ـ عليه
السلم ـ متأكد من قوله:
شهِدُ اللّهَ }[هود.]54 :
{ ُأ ْ
الذي قاله في الية السابقة ،ول يمكن أن يرمي مثل هذا التحدي جزافا ،لن النسان ل يجازف
بحياته في كلمة.
جمِيعا ثُ ّم لَ تُنظِرُونِ } [يونس ]55 :إل إذا كان قد آوى إلى ركن شديد،
وهو لم َي ُقلَْ { :فكِيدُونِي َ
وإنه ينطق بالكلمة عن إيمان بأن الحق سبحانه سيهبه قدرة على نفاذ الكلمة.
وهو قد أشهد ال تعالى ،وال سبحانه هو أول من شهد لنفسه ،يقول الحق سبحانه:
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ }[آل عمران.]18 :
{ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك شهدت الملئكة وأولو العلم ،وال سبحانه وتعالى حين شهد لنفسه فإنما يطمئننا أنه إذا ألقى
أمرا علم أنه مُنفّذ ل محالة.
وقد أشهد هود عليه السلم ربّه سبحانه ،وهو واثق من حمايته له وما كان الحق سبحانه ليرسل
رسولً ليُمكّن منه قوما يُزيحوه من حركة الرسالة.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان هود عليه السلم { :إِنّي َت َوكّ ْلتُ عَلَى اللّهِ رَبّي
وَرَ ّبكُمْ }
()1515 /
إِنّي َت َوكّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبّي وَرَ ّبكُمْ مَا مِنْ دَابّةٍ ِإلّا ُهوَ َآخِذٌ بِنَاصِيَ ِتهَا إِنّ رَبّي عَلَى صِرَاطٍ ُمسْ َتقِيمٍ (
)56
يعلن لهم هود عليه السلم حقيقة أنه يتوكّل على ال تعالى الذي ل يعلوهم فقط ،ول يرزقهم
وحدهم ،بل هو الخذ بناصية كل دابّة تدّب في الرض ولها حرية وحركة ،والناصية هي مقدّم
الرأس ،وبها خصلة من الشعر.
وحين تريد إهانة واحد فأنت تمسكه من خصلة الشعر هذه وتشدّه منها.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
لقْدَامِ }[الرحمن.]41 :
خذُ بِال ّنوَاصِي وَا َ
{ ُيعْ َرفُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ بِسِيمَا ُهمْ فَ ُيؤْ َ
وفي آية أخرى يقول ال سبحانه:
سفَعا بِالنّاصِيَةِ }[العلق.]15 :
{ كَلّ لَئِن لّمْ يَنتَهِ لَنَ ْ
إذن :فكيف لم يجرؤ قوم عاد على أن يسلّطوا مجموعة ثعابين ،وأعدادا من الكلب المتوحشة ـ
مثلً ـ على سيدنا هود عليه السلم.
لم يستطيعوا ذلك ،وقد أعلن لهم سبب عجزهم عن الضرار به حين قال لهم:
خذٌ بِنَاصِيَ ِتهَآ إِنّ رَبّي عَلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ } [هود.]56 :
{ مّا مِن دَآبّةٍ ِإلّ ُهوَ آ ِ
ونحن نلحظ أنه عليه السلم قال في صدر الية:
{ رَبّي وَرَ ّبكُمْ } [هود ،]56 :وفي عَجزُ الية قال { :إِنّ رَبّي } [هود ،]56 :والسبب في قوله:
{ رَبّي وَرَ ّبكُمْ } [هود ]56 :أنهم كانوا قادحين في مسألة ربوبية الحق سبحانه.
لذلك قال عليه السلم في مجال السيطرة { :رَبّي وَرَ ّبكُمْ } أما في عجز الية فقال:
{ إِنّ رَبّي عَلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ } [هود.]56 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن الله الواحد سبحانه له مطلق العدالة ،ولم يأتِ هنا بشيء يخصّ أربابهم؛ لنه هنا يتحدث
عن مطلق عدالة الحق سبحانه.
والحق سبحانه وتعالى على صراط مستقيم في منتهى قُدرته ،و َقهْره وسيطرته ،ول شيء يُفلت
منه ،ومع كل قدرة ال تعالى اللمتناهية فهو ل يستعمل قهره في الظلم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :فَإِن َتوَلّوْاْ َفقَدْ أَبَْلغْ ُتكُمْ مّآ أُرْسِ ْلتُ بِهِ إِلَ ْيكُمْ }
()1516 /
فَإِنْ َتوَّلوْا َفقَدْ أَبَْلغْ ُتكُمْ مَا أُرْسِ ْلتُ ِبهِ إِلَ ْيكُ ْم وَيَسْ َتخِْلفُ رَبّي َق ْومًا غَيْ َركُ ْم وَلَا َتضُرّونَهُ شَيْئًا إِنّ رَبّي
حفِيظٌ ()57
شيْءٍ َ
عَلَى ُكلّ َ
الفعل " تولّوا " أصله " :تتولّوا " ،وفي اللغة :إذا ابتدأ فعل بتاءين يُقتصَر على تاء واحدة.
وهكذا يكون المعنى:
إن تتولّوا فقد أبلغتكم المنهج الذي أرسلت به إليكم ،ول عُذر لكم عندي؛ لن الحق سبحانه ل
يعذّب قوما وهم غافلون؛ لذلك أرسلني إليكم.
أو أن الخطاب من ال سبحانه لهود عليه السلم ليبّين له :فإن تولّوا فقل لهم { :أَبَْلغْ ُتكُمْ مّآ أُ ْرسِ ْلتُ
بِهِ إِلَ ْي ُك ْم وَيَسْتَخِْلفُ رَبّي َقوْما غَيْ َر ُكمْ } [هود.]57 :
والستخلف أن يوجد قوم خلفاء لقوم ،إما أن يكونوا عادلين؛ فل يقفوا من المناهج ول من
الرسالت مثلما وقف قوم عاد.
وإما أن يكونوا غير عادلين ،مثل من قال فيهم الحق سبحانه:
ش َهوَاتِ }[مريم.]59 :
لةَ وَاتّ َبعُواْ ال ّ
{ َفخََلفَ مِن َبعْدِهِمْ خَ ْلفٌ َأضَاعُواْ الصّ َ
والحق سبحانه قد وعد المؤمنين وعدا طيّبا:
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَ َيسْتَخِْلفَ ّنهُمْ فِي الَ ْرضِ َكمَا اسْتَخَْلفَ الّذِينَ مِن
{ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِ ْنكُ ْم وَ َ
قَبِْلهِمْ }[النور.]55 :
إذن :فالستخلف إما أن يكون الخلف فيه صاحب عمل صالح ،أو أن يبدد المنهج فل يتبعه ،بل
يتبع الشهوات.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
خلُ عَن ّنفْسِهِ
خلْ فَإِ ّنمَا يَ ْب َ
خلُ َومَن يَ ْب َ
عوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َفمِنكُم مّن يَ ْب َ
{ هَا أَنتُمْ هَـاؤُلَءِ ُتدْ َ
ي وَأَنتُمُ ا ْل ُفقَرَآ ُء وَإِن تَ َتوَّلوْاْ يَسْتَ ْب ِدلْ َقوْما غَيْ َركُمْ ُث ّم لَ َيكُونُواْ َأمْثَاَلكُم }[محمد.]38 :
وَاللّهُ ا ْلغَ ِن ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ َولَ َتضُرّونَهُ شَيْئا } [هود.]57 :
لن المنهج الذي نزل على الخَلْق ،أنزله الحق سبحانه وتعالى لصلح العباد ،وهو سبحانه خَلَق
أولً بكل صفات الكمال فيه ،ولن يزيده العباد وصفا من الوصاف ،ولن يسلبه أحد وصفا من
الوصاف.
ولذلك نقول للمتمردين على عبوديتهم ل كفرا ،وللمتمردين على المنهج بالمعصية:
أنتم ألفتم التمرد؛ إما التمرد في القمة وهو الكفر بال ،وإما التمرد على أحكام ال بمخالفتها ،فلماذا
ل يتمرد أحدكم على المرض ،ويقول " :لن أمرض "؟ ولماذا ل يتمرد أحدكم على الموت
ويرفض أن يموت؟
إذن :فما ُد ْمتَ قد عرفت التمرد فيما لك فيه اختيار ،فهل تستطيع التمرد على أحكام ال القهرية
فيك؟
إنك لن تستطيع؛ لنك مأخوذ بناصيتك .والحق سبحانه إن شاء أن يوقف القلب ،فلن تستطيع أن
تأمر قلبك بعدم التوقف.
لذلك قال هود عليه السلم:
حفِيظٌ } [هود.]57 :
شيْءٍ َ
{ َولَ َتضُرّونَهُ شَيْئا إِنّ رَبّي عَلَىا ُكلّ َ
فال سبحانه رقيب؛ لنه قيوم قائم على كل أمور كونه.
وبعض الفلسفة قالوا :إن ال قد خلق الكون ،وخلق النواميس والقوانين ،ثم تركها تقوم بعملها.
ولهؤلء نقول :ل؛ فأنتم أقررتم بصفات الخالق القادر ،فأين صفات القيومية ل القائم على كل
نفس بما كسبت ،وهو سبحانه القائل لعبيده عن نفسه:
{ لَ تَ ْأخُ ُذهُ سِ َن ٌة َولَ َنوْمٌ }[البقرة.]255 :
وهو سبحانه حين يقول هذا إنما يطمئن العباد؛ ليناموا ويرتاحوا؛ لنه سبحانه مُنزّه عن ال َغفْلة أو
النوم ،بل هو سبحانه قيوم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا َنجّيْنَا هُودا وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ }
()1517 /
وساعة تسمع { وََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا } فأنت تعرف أن هناك آمرا وأمرا مُطاعا ،وبمجرد صدور المر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من المر سبحانه يكون التنفيذ؛ لنه يأمر مَنْ له قدرة على التنفيذ:
ولذلك يقول الحق سبحانه:
ح ّقتْ }[النشقاق1 :ـ .]2
ش ّقتْ * وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ
سمَآءُ ان َ
{ ِإذَا ال ّ
إذن :فهي بمجرد السمع َنفّذت أمر الحق سبحانه.
وحين شاء الحق سبحانه أن يُنجي موسى عليه السلم من الذبح الذي أمر به فرعون؛ أوحى ال
سبحانه لمّ موسى قائلً:
ك وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }
خ ْفتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َي ّم وَلَ َتخَافِي َولَ تَحْزَنِي إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْي ِ
{ فَِإذَا ِ
[القصص.]7 :
وكيف تفعل أمّ ذلك.
إن كل أمّ إنما تحرص على ابنها؛ والذبح لموسى أمر مظنون ،واللقاء في البحر موت محقّق،
لكن أم موسى استقبلت الوحي؛ ولم تتردد؛ مما يدل على أنها تُناقش المر بمقاييس البشر ،بل
شكّ أو شيطان.
بتنفيذ إلها ٍم واردٍ إليها من ال سبحانه؛ إلهام ل ينازعه َ
وبعد ذلك يأمر ال سبحانه البحر:
حلِ }[طه.]39 :
{ فَلْيُ ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ
وقد استقبل البح ُر الم َر اللهي؛ لنه أمر من قادر على النفاذ ،كما قام بتنفيذ الضد.
في قصة نوح عليه السلم قال الحق سبحانه:
{ حَتّىا إِذَا جَآءَ َأمْرُنَا َوفَارَ التّنّورُ }[هود.]40 :
وحدث الطوفان؛ ليغرق الكافرين.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا } [هود.]58 :
يعني :مجيء المر بالعذاب للمخالفين لدعوة هود عليه السلم ،وقد تحقّق هذا العذاب بطريقة
خاصة ودقيقة؛ تتناسب في دقتها مع عظمة المر بها سبحانه وتعالى.
ح صَ ْرصَ ٌر أو صَيحةٌ طاغيةٌ ،فهذا العذاب من خارجهم ،وما دام العذاب من
فحين تأتي رِي ٌ
الخارج ،وبقوة من قوى الطبيعة الصادرة بتوجيه ال؛ فقد َيعُمّ المكذّبين لسيدنا هود ،ومعهم
المصدّقون به وبرسالته ،فكيف يتأتّى أن تذهب الصيحة إلى آذان المكذّبين فقط ،وتخرق تلك
الذان؛ وتترك آذان المؤمنين؟
إنها قدرة التقدير ل قوة التدمير .إن مُوجّه الصيحة قد حدّد لها مَنْ تُصيب ومن تترك ،وهي
صيحة موجّهة ،مثلها مثل حجارة سِجّيل التي رمتها طير أبابيل على أبرهة الحبشي وجنوده؛ مع
نجاةَ جنود قريش بنفس الحجارة؛ ولم تكن إصابة بالطاعون كما ادّعى بعضٌ من المتفلسفين.
وهذه من أسرار عظمة الحق سبحانه فهو يأخذ بشيء واحد؛ ولكنه يُنجي المؤمن؛ ويعذّب الكافر؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فل يوجد ناموس يحكم الكون بدون قدرة مسيطرة عليه.
حكْمِ
ن والّل َم ِم َوكَانَ حَاُلهُما فِي ال ُ
جهِنا َومَا تُسوّدُ بِيضَ العَي ِ
شمْسُ مِنّا بِيضَ أو ُ
سوّدُ ال ّ
يقول المتنبي:تُ َ
ح َكمِوهكذا يضرب المتنبي المثل بأن جلوس الواحد منا في
واحِ َدةً لَو احْ َت َكمْنَا مِنَ الدّنْيَا إلَى َ
الشمس؛ يجعل بشرة البيض تميل إلى السمرة ول تسود بياض الشعر ،لكن إن تركت شيئا أسود
في الشمس فترة لوجدته يميل إلى البيض؛ ويحدث ذلك رغم أن الفاعل واحد؛ لكن القابل مختلف.
()1518 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و " تلك " إشارة إلى المكان الذي عاش فيه قوم عاد؛ لن الشارة هنا لمؤنث ،ولنتذكر أن المتكلم
هنا هو ال سبحانه وتعالى.
وهكذا فصل بين " عاد " المكان ،و " عاد " المكين ،وهم قوم عاد؛ لذلك قال سبحانه { جَحَدُواْ
بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ } [هود ]59 :فهم قد ذهبوا وبقيت آثارهم.
و " عاد " إما أن تطلق على المكان والمحل ،وإما أن تطلق على الذوات التي عاشت في المكان،
فإذا أشار سبحانه بـ { تِ ْلكَ } فهي إشارة إلى الديار ،والديار لم تجحد بآيات ال؛ ولذلك جاء بعدها
بقوله تعالى:
حدُواْ بِآيَاتِ رَ ّب ِهمْ } [هود.]59 :
{ جَ َ
والجحود هو النكران مع قوة الحجة والبرهان.
واليات ـ كما نعلم ـ جمع آية ،وهي المور العجيبة الملفتة للنظر التفاتا يوحي بإيمان بما تنص
عليه.
ومن اليات ما يدل على قمة العقيدة ،وهو اليمان بواجب الوجود؛ بال الرب الخالق الحكيم القادر
سبحانه وتعالى ،مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر ،ورؤية الرض خاشعة إلى آخر تلك
اليات التي في القمة.
وكذلك هناك آيات أخرى تأتي مصدقة لمن يخبر أنه جاء رسولً من عند ال تعالى ،وهي
المعجزات.
وآيات أخرى فيها الحكام التي يريدها ال سبحانه بمنهجه لضمان صحة حركة الحياة في خلقه.
وقوم عاد جحدوا بكل هذه اليات؛ جحدوا اليمان ،وجحدوا تصديق الرسول بالمعجزة ،وأهملوا
وتركوا منهج ال جحودا بإعراض.
لذلك يقول الحق سبحانه:
صوْاْ رُسُلَهُ } [هود.]59 :
ع َ
{ وَ َ
وهود عليه السلم هو الذي أرسله الحق سبحانه إلى قوم عاد ،فهل هو المعنيّ بالعصيان هنا؟
نقول :ل؛ لن ال عز وجل قال:
ح ْكمَةٍ ُثمّ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ
ب وَ ِ
خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَا ٍ
{ وَإِذْ أَ َ
بِ ِه وَلَتَنصُرُنّهُ }[آل عمران.]81 :
إذن :فكل أمة من المم عندها بلغ من رسولها بأن تصدق أخبار كل رسول يُرسَل.
ولذلك قال الحق سبحانه:
{ ُكلّ آمَنَ بِاللّ ِه َومَل ِئكَتِ ِه َوكُتُبِ ِه وَرُسُلِ ِه لَ ُنفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رّسُلِهِ }[البقرة.]285 :
فهم قد انقسموا إلى قسمين؛ لن الحق سبحانه يقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صوْاْ رُسُلَهُ وَاتّ َبعُواْ َأمْرَ ُكلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ } [هود.]59 :
ع َ
{ وَ َ
أي :أن هناك مُتّبِعا ،ومُتّبَعا.
والمقصود بالجبار العنيد هم قمم المجتمع ،سادة الطغيان والصنف الثاني هم من اتبعوا الجبابرة.
ومن رحمته سبحانه أنه حين يتكلم عن الفِرَق الضالة ،فهو يتكلم أيضا عن الفرق المضلة ،فهناك
ضلّ لغيره.
ضالّ في ذاته ،وهناك ُم ِ
والمضل لغيره عليه وزران :وزر ضللة في ذاته ،ووزر إضلل غيره.
أما الذين اتّبعوا فلهم بعض العذر؛ لنهم اتّبعوا بالجبروت والقهر ،ل بالقناع والبينة.
وانظر إلى القرآن الكريم حين يعالج هذه القضية ،فيتحدث عن الفئة التي ضلت في ذاتها ويقول:
ي وَإِنْ هُمْ ِإلّ َيظُنّونَ }[البقرة.]78 :
ن لَ َيعَْلمُونَ ا ْلكِتَابَ ِإلّ َأمَا ِن ّ
{ َومِ ْنهُمْ ُأمّيّو َ
ويتحدث الحق سبحانه بعد ذلك عن الفئة المضلة فيقول:
{ َفوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِي ِهمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً }[البقرة:
.]79
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وَأُتْ ِبعُواْ فِي هَـا ِذهِ الدّنْيَا َلعْنَةً }
()1519 /
وَأُتْ ِبعُوا فِي َه ِذهِ الدّنْيَا َلعْ َن ًة وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ أَلَا إِنّ عَادًا َكفَرُوا رَ ّبهُمْ أَلَا ُبعْدًا ِلعَادٍ َقوْمِ هُودٍ ()60
والزمان بالنسبة للخلق ثلثة أقسام :حياتهم زمن أول ،ومن لحظة الموت إلى أن تقوم الساعة زمن
ثان وهو زمن البرزخ ،وساعة يبعثون هي الزمن الثالث.
والحياة الولى فيها العمل ،وحياة البرزخ فيها عرض الجزاء ،مجرد العرض ،والحياة الثالثة هي
الخرة إما إلى الجنة وإما إلى النار.
يقول الحق سبحانه:
جعُونَ }[البقرة.]28 :
{ كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّ ِه َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتا فَأَحْيَاكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ ثُمّ ِإلَيْهِ تُ ْر َ
هذه هي الزمنة الثلثة ـ حياة ،وبرزخ ،وبعث ـ وكل وقت منها له ظرف.
ويعبر القرآن عن هذا ،فيقول عن عذاب آل فرعون منذ أن أغرقهم ال سبحانه في البحر:
عوْنَ َأشَدّ ا ْل َعذَابِ }[غافر:
غ ُدوّا وَعَشِيّا وَيَوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ َأدْخِلُواْ آلَ فِرْ َ
{ النّارُ ُيعْ َرضُونَ عَلَ ْيهَا ُ
.]46
وفي هذا دليل على عرض الجزاء في البرزخ مصداقا لقول رسول ال صلى ال عليه وسلم "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القبر إما روضة من رياض الجنة ،وإما حفرة من حفر النار ".
إذن :فهنا زمنان :زمن عرضهم على النار غدوّا وعشيّا ،وزمن دخولهم النار.
وهذا يثبت عذاب البرزخ؛ لن النسان الكافر يرى فيه موقعه من النار ،ويرى نصيبه من
العذاب ،ثم تقوم الساعة ليأخذ نصيبه من العذاب.
وبالنسبة لقوم عاد ،أذاقهم ال سبحانه العذاب في الدنيا ،ثم يدخلهم النار يوم القيامة.
ويقول الحق سبحانه في نفس الية:
{ أَل إِنّ عَادا َكفَرُواْ رَ ّب ُهمْ َألَ ُبعْدا ّلعَادٍ َقوْمِ هُودٍ } [هود.]60 :
وكلمة " أل " هي أداة تنبيه ـ كما قلنا من قبل ـ تنبه السامع إلى أهمية ما يلقيه المتكلم حتى ل
يجابه السامع بالكلم وهو غافل ،ولن المتكلم هو الذي يقود زمام الكلم ،فيجب أل يستقبله
السامع غافلً ،فتأتي كلمة " أل " كجرس ينبه إلى ما بعدها من كلم.
والكلم عن قوم عاد الذين نالوا عذابا في الدنيا بالريح العقيم ،ثم أتبعوا لعنة من البرزخ ،وسوف
يُستقبلون يوم القيامة باللعنات؛ فهذه لعنات ثلث.
وجاء الحق سبحانه وتعالى بحيثية هذه اللعنات مخافة أن يرى قلب السامع من كثرة ما يقع عليهم
من لعن ،فبيّن بكلمة " أل " أي :تنبهوا إلى أن قوم عاد كفروا ربهم.
وللجريمة زمن ،وللعقوبة عليها زمن ،وكفرهم بربهم حدث في الدنيا ،وهو كفر في القمة؛ لذلك
نالوا عقابا في الدنيا.
والخطر كل الخطر أن يتأخر زمن العقوبة عن زمن الجريمة ،فل تأخذكم بهم الرحمة الحمقاء،
لن كفرهم هو الكفر بالقمة العقدية؛ لذلك تواصل لعنهم في البرزخ ،ثم تأتي لهم لعنة الخرة.
وهم لم يكفروا بنعمة ربهم ،بل كفروا بربهم.
والحق سبحانه لم يطلب من أحد عبادته قبل سن التكليف ،وقدم لهم كما يقدم لكل الخلق نعمه التي
ل تعد ول تحصى؛ ولذلك فهم يستحقون اللعنات وهي الجزاء العادل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} َألَ ُبعْدا ّلعَادٍ َقوْمِ هُودٍ { [هود.]60 :
ونقول :لقد قال الحق سبحانه وتعالى في موضع آخر من القرآن:
{ وَأَنّهُ أَهَْلكَ عَادا الُولَىا }[النجم.]50 :
وهذا يوضح لنا أن " عادا " كانت اثنتين :عادا الولى ،وهم قوم عاشوا وضَلّوا فأهلكهم ال،
وهناك عاد الثانية.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه } :وَإِلَىا َثمُودَ َأخَا ُه ْم صَالِحا {
()1520 /
وَإِلَى َثمُودَ َأخَا ُه ْم صَالِحًا قَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُرهُ ُهوَ أَنْشََأ ُكمْ مِنَ الْأَ ْرضِ
وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا فَاسْ َت ْغفِرُوهُ ُثمّ تُوبُوا إِلَ ْيهِ إِنّ رَبّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ ()61
ونحن نلحظ أن الحق سبحانه يبيّن لنا هنا أنه أرسل إلى ثمود واحدا منهم هو صالح عليه السلم.
وجاء الحق سبحانه بلفظ { أَخَاهُمْ } ليبين العلقة التي بين صالح ـ عليه السلم ـ وقومه ،فهو قد
نشأ بينهم ،وعرفوه وخبروه ،فإذا ما جاءهم بدعوة ـ وقد لمسوا صدقه ـ فل بد أن يؤمنوا بما
جاء به من منهج.
وناداهم صالح عليه السلم { :يا َقوْمِ } ،وهي من القيام ،يعني :يا من تقومون للمور .والذي يقوم
على المر عادة هم الرجال؛ لن أمر النساء مستور ـ دائما ـ في طي الرجال ،فليس كل حكم
من أحكام الدين يأتي فيه ذكر المرأة ،بل نجد كثيرا من الحكام تنزل للرجال ،والنساء مطويات
سكْنى وتربية الولد.
على الستر في ظل الرجال ،والرجل يشقى ويكدح ،والمرأة تدير حياة ال ُ
ونحن نجد من النساء ومن الرجال من يتراضون عند الزواج على أل تخرج المرأة للعمل.
إن للمرأة حق العمل إن احتاجت ولم تجد من يعولها ،ولكن إن وجدت من يقوم عليها ،فلماذا ل
تلتفت إلى عمل ل يقل أهمية عن عمل الرجل ،وهو رعاية السرة؟
وكذلك يجد من يقوم باسم الحرية بالهجوم على الحجاب ،ونقول لمن يفعل ذلك :إذا كنت لم تنتقد
صفْتَهُ بأنه " حرية " ،فلماذا تتدخل في أمر الحجاب ،ول تعتبره " حرية "
التهتك في الملبس ،و َو َ
أيضا.
ونعود إلى الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها { اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ ِإلَـاهٍ غَيْ ُرهُ }
[هود ]61 :والعبادة تقتضي تلقي أوامر الله المعبود بـ " افعل " و " ل تفعل " في كل حركة من
حركات الحياة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكان أول شيء طلبه صالح من قومه ثمود { اعْ ُبدُواْ اللّهَ } وأمر عبادة ال وحده مطلوب من كل
أحد ،ول يسع أحدا مخالفته.
{ مَا َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ } [هود.]61 :
تقرير واقع ل تستطيعون تغييره ،فليس لكم إله آخر غير ال ،مهما حاولتم ادعاء آلهة أخرى.
ويقول الحق سبحانه:
ض وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا } [هود.]61 :
ن الَ ْر ِ
{ ُهوَ أَنشََأكُمْ مّ َ
والنشاء هو اليجاد ابتداء من غير واسطة شيء ،ويقال :أنشأ ،أي :أوجد وجودا ابتداءً من غير
الستعانة بشيء آخر.
لذلك ل نقول لمن اخترع :إنه " أنشأ " لنه استعان بأشياء كثيرة ليصل إلى اختراعه؛ فقد يكون
مستعينا بمادة أخذها من الجبال ،وبخبره تجارب صنعها من سبقوه ،ولكن الحق سبحانه وتعالى
هو الذي ينشيء من عدم.
والوجود من العدم قسمان :قسم أوجدته باستعانة بموجود ،وقسم أوجدته من عدم محض ،وهذا
الخير هو النشاء ول يقدر عليه إل ال سبحانه وتعالى.
والحق سبحانه جلّت مشيئته في النشاء ،فهو ينشيء النسان من التقاء الزوج والزوجة ،وإن
أرجعت هذا النشاء إلى البداية الولى في آدم عليه السلم ،فستجد أن الحق سبحانه وتعالى قد
خلقه من نفس مادة الرض ،والرض مخلوق من مخلوقات ال.
فمنيّ الزوج وبويضة الزوجة يتكونان من خلصة الدم ،الذي هو خلصة الغذية وهي تأتي من
الرض ،فسواء رمزت لدم بإنشائه من الرض ،أو أبقيتها في ذريته ،فكل شيء مَردّه إلى
الرض.
وقول الحق سبحانه:
ض وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا { [هود.]61 :
ن الَ ْر ِ
} أَنشََأكُمْ مّ َ
نجد فيه كلمة } اسْ َت ْعمَ َركُمْ { وساعة ترى اللف والسين والتاء فاعلم أنها للطلب ،وهكذا يكون
معنى كلمة " استعمر " هو طلب التعمير.
ومن الخطأ الشائع تسمية البلد التي تحتل بلدا أخرى " :دول الستعمار ".
أقول :إن ذلك خطأ ،لنهم لو كانوا دول استعمار ،فهذا يعني أنهم يرغبون في عمارة الرض،
ولكنهم في حقيقة المر كانوا يخربون في الرض؛ ولذلك كان يجب أن تسمى " دول الستخراب
".
} وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا { أي :طلب منكم عمارتها ،وهذا يتطلب أمرين اثنين :أن يبقي الناس المر
الصالح على صلحه ،أو يزيدوه صلحا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكما ضربت المثل من قبل بتحسين وسائل وصول المياه إلى المنازل بعد اكتشاف نظرية الواني
المستطرقة ،فقد كان الناس يشربون الماء من الترع ،ثم تم اختراع كيفية تكرير المياه ،ثم جاءت
نظرية الواني المستطرقة ،فاستغلها الناس في بناء خزانات عالية ،وتوصيل الماء بواسطة
مواسير تدخل لكل بيت.
وهكذا تصل المياه النقية لكل منزل ،وهكذا يزداد في المر الصالح صلحا.
وأيضا إن استصلحنا الرض البور ،فنحن نزيد الرض رقعة صالحة لنتاج الغذاء لمقابلة الزيادة
في عدد السكان.
وما دام عدد السكان في زيادة فل بد من زيادة رقعة الرض بالستصلح؛ لن الزمة التي نعاني
منها الن ،هي نتيجة للغفلة التي مرت علينا ،فزاد التكاثر عن الستصلح ،وكان الواجب يقتضي
أن نزيد من الستصلح بما يتناسب مع الزيادة في السكان.
وهكذا نفهم معنى استعمار الرض.
ومن عظمة الحق سبحانه وتعالى أنه تجلّى على الخَلْق بصفات من صفاته ،فالقويّ يعين
الضعيف ،والحق سبحانه له مطلق القوة ،و َي َهبُ الخلق من حكمته حكمة ،ومن قبضه قبضا ،ومن
بسطه بسطا ،ومن غناه غنىً؛ ولكن الصفات الحسنى كلها ذاتية فيه وموهوبة منه لنا.
والدليل على ذلك أن القوي فينا يصير إلى ضعف ،والغني منا قد يصيبه الفقر؛ حتى ل نفهم أن
هذه الصفات ذاتية فينا ،وأن الحق سبحانه وتعالى قد أعطانا من صفاته قدرة لنفعل.
ومن أعطاه ال تعالى قدرة ليفعل؛ عليه أن يلحظ أنه انتفع بفعل من سبقه ،فإن أكل اليوم تمرا ـ
على سبيل المثال ـ فعليه أن يتذكر أن الذي زرع له النخلة هو من سبقه ،فليزرع من يأكل البلح
الن نخلة لتفيده بعد سبع سنين ـ وهو الزمن اللزم لتطرح النخلة بلحا ـ وليستفيد بها من يأتي
من بعده.
ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلم لقومه " ثمود " في الية التي
نحن بصدد خواطرنا عنها:
} فَاسْ َتغْفِرُوهُ ثُمّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنّ رَبّي قَرِيبٌ مّجِيبٌ { [هود.]61 :
فإن استغفر النسان ،فالحق سبحانه قريب من كل عبد يستغفر عن ذنوب ل تمثل حقوقا للناس،
وال سبحانه وتعالى يجيب لطالب المغفرة.
فماذا كان الرد من قوم ثمود؟
جوّا قَ ْبلَ هَـاذَا {
يقول الحق عز وجل ما جاء على ألسنتهم } :قَالُواْ ياصَالِحُ َقدْ كُنتَ فِينَا مَرْ ُ
()1521 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكّ ِممّا تَدْعُونَا
جوّا قَ ْبلَ َهذَا أَتَ ْنهَانَا أَنْ َنعْ ُبدَ مَا َيعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنّنَا َلفِي َ
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُ ْنتَ فِينَا مَرْ ُ
إِلَيْهِ مُرِيبٍ ()62
كانوا ينظرون إلى صالح ـ عليه السلم ـ بتقدير ورجاء قبل أن يدعوهم لعبادة ال تعالى وحده،
ول إله غيره.
والمرجوّ هو النسان المؤمّل فيه الخير ،ذكاءً ،وطموحا ،وأمانة ،وأية خصلة من الخصال التي
تبشر بأنه له مستقبلً حسنا.
ولكن ما إن دعاهم صالح ـ عليه السلم ـ إلى عبادة ال سبحانه وتعالى أعلنوا أنه ـ بتلك
الدعوة ـ إنما يفسد رجاءهم فيه وما كانوا يأملون فيه.
وقد أوضح لهم صالح ـ عليه السلم ـ ما أوضحه الرسل من قبله ومن بعده ،أن اتخاذ الصنام
أو الشجار أو الشمس آلهة ُتعْبد هو أمر خاطىء؛ لن العبادة تقتضي أوامر ونواهي ينزل بها
منهج؛ يتبعه من يعبدون ،وتلك الكائنات المعبودة ل منهج لها ،ول عبادة دون منهج.
وأضاف قوم ثمود:
شكّ ّممّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [هود.]62 :
{ وَإِنّنَا َلفِي َ
والشك هو استواء الطرفين :النفي والثبات.
إذن :فهم ليسوا على يقين أن عبادتهم لما عبد آباؤهم هي عبادة صادقة ،ودعوة صالح عليه السلم
لهم جعلتهم يترددون في أمر تلك العبادة؛ وهذا يُظهر أن خصال الخير في صالح عليه السلم
جعلتهم يترددون في أمر عبادتهم.
ويقول الحق سبحانه وتعالى ما جاء على لسان صالح عليه السلم لثمود { :قَالَ يا َقوْمِ أَرَأَيْ ُتمْ إِن
كُنتُ عَلَىا بَيّ َنةً مّن رّبّي }
()1522 /
عصَيْتُهُ
حمَةً َفمَنْ يَ ْنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ َ
علَى بَيّ َنةٍ مِنْ رَبّي وَآَتَانِي مِ ْنهُ رَ ْ
قَالَ يَا َقوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُ ْنتُ َ
َفمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ ()63
وكأن صالحا قد ارتضاهم حكما فقال :أخبروني إذا كنت أنا على بينة من ربي ويقين بأنه أرسلني
وأيّدني ،وأنا إن خدعت الناس جميعا فلن أخدع نفسي ،فهل أترك ما أكرمني به ربي وأنزل إليّ
منهجا أدعوكم إليه؟ هل أترك ذلك وأستمع لكلمكم؟ هل أترك يقيني بأنه أرسلني بهذه الرسالة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَةً } [هود ]63 :وهي النبوة؟
{ وَآتَانِي مِنْهُ َر ْ
عصَيْتُهُ } [هود.]63 :
{ َفمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ َ
وساعة يستفهم إنسان عن شيء في مثل هذا الموقف فهو ل يستفهم إل عن شيء يثق أن الجابة
ستكون بما يرضيه.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى على لسان صالح عليه السلم:
{ َفمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ َتخْسِيرٍ } [هود.]63 :
ونحن نعلم أن الخسارة ضد المكسب ،ومعنى الخسارة أن يقل رأس المال .فهل التخسير واقع منه
عليهم أم واقع منهم عليه.
إن ثراء السلوب القرآني هنا يوضح لنا هذه المعاني كلها ،فإن أطاعهم صالح ـ عليه السلم ـ
وعصى ربه ،فهو قد أزاد في خسارته ،أو أنه ينسبهم إلى الخسران أكثر ،لنهم غير مهديين،
ويريدون له أن يضل ويتبع ما يعبدون من دون ال تعالى.
إذن :فالتخسير إما أن يكون واقعا عليهم من صالح ـ عليه السلم ـ وإما أن يكون واقعا منهم
على صالح.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك على لسان صالح عليه السلم { :وَيا َقوْمِ هَـا ِذهِ نَاقَةُ اللّهِ َلكُمْ آيَةً }
()1523 /
عذَابٌ قَرِيبٌ
وَيَا َقوْمِ هَ ِذهِ نَا َقةُ اللّهِ َلكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَ ْأ ُكلْ فِي أَ ْرضِ اللّهِ وَلَا َت َمسّوهَا بِسُوءٍ فَيَ ْأخُ َذكُمْ َ
()64
وكان قوم صالح قد طلبوا آية ،فقالوا له :إن كنت نبيّا فأخرج لنا ناقة من تلك الصخرة ،وأشاروا
إلى صخرة ما ،وهم قوم كانوا نابغين في نحتن بيوتهم في الجبال .ومن يَزُورْ المنطقة الواقعة بين
الشام والمدينة ،يمكنه أن يشاهد مدائن صالح ،وهي منحوتة في الجبال.
وقد قال فيهم الحق سبحانه:
{ وَتَنْحِتُونَ مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتا فَارِهِينَ }[الشعراء.]149 :
هم ـ إذن ـ قد حددوا الية ،وهي خروج ناقة من صخرة أشاروا إليها ،فخرجت الناقة وهي
حامل.
وبعد أن وُجدت الناقة على وفق ما طلبوها لم يطيقوا أن يعلنوا التصديق ،وقد قال لهم صالح عليه
السلم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ وَيا َقوْمِ هَـا ِذهِ نَاقَةُ اللّهِ } [هود.]64 :
وساعة تسمع شيئا مضافا إلى ال تعالى ،فاعلم أن له عظمة بعظمة المضاف إليه.
مثلما نقول " :بيت ال " ،وهذا القول إن أُطلق فالمقصود به الكعبة المشرفة ،وإن حددنا موقعا
وقلنا عنه " :بيت ال " فنحن نبني عليه مسجدا ،وتكون أرضه قد حُكرت لتكون ُمصَلّى ،ول
يُزاوَل فيها أي عمل آخر.
هكذا تكون الكعبة هي بيت ال باختيار ال تعالى ،وتكون هناك مساجد أخرى هي بيوت ل
باختيار خَلْق ال.
ولذلك فبيت ال ـ باختيار ال ـ هو قبلة لبيوت ال باختيار خلق ال.
إذن :فإن أضيف شيء ل تعالى ،فهو يأخذ عظمة الحق سبحانه وتعالى ،وقد قال لهم صالح:
{ هَـا ِذهِ نَاقَةُ اللّهِ } [هود ]64 :وهي ليست ناقة زيد أو ناقة عمرو.
ولم يلتفت قوم صالح إلى ما قاله صالح عليه السلم ،ولم يلحظوا أن الشيء المنسوب ل تعالى له
عظمة من المضاف إليه.
ومثال ذلك " :ابن أبي لهب ،وكان قد تزوج ابنة لرسول ال صلى ال عليه وسلم وحين اشتد عناد
أبي لهب للرسول صلى ال عليه وسلم ،قال أبو لهب لبنه :طلق بنت محمد ،فطلقها ،وفعل فعلً
يدل على الزدراء ،فدعا عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال " :أما إني أسأل ال أن يسلط
عليه كلبه ".
فقال أبو لهب :إني لتوجس شرّا من دعوة محمد.
ثم سافر ابن أبي لهب مع بعض قومه في رحلة ،وكانوا إذا ناموا طلب أبو لهب مكانا في وسط
رحال الركب كله خوفا على ابنه من دعوة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وإذا بأسد يقفز من
الرحال ويأكل الولد " ،فهنا نسب رسول ال صلى ال عليه وسلم المر إلى ال فقال " :أكلك كلب
من كلب ال " فكان كلب ال أسدا.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يوضح لهم صالح عليه السلم :هذه الناقة هي الية
التي طلبتموها وقد جاءت من الصخر.
وكان يقدر أن يأتي لهم بالجنس الرقى من الجماد ،وهو النبات ،ولكن الحق سبحانه استجاب
للية التي طلبوها وهي من جنس الحيوان.
ونحن نعلم أن الكائنات الرضية إما أن تكون جمادا ،وإما أن يأخذ الجماد صفة النمو فيصير
نباتا ،وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة فيصير حيوانا ،وإما أن يأخذ صفة الحس والحركة
والفكر فيصير إنسانا.
وكان من الممكن أن يأتي لهم صالح عليه السلم بشجرة من الصخر ،وهذا أمر فيه إعجاز أيضا،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن الحق سبحانه أرسل الية كما طلبوها؛ ناقة من جنس الحيوان ،وحامل في الوقت نفسه.
وطالبهم صالح عليه السلم أن يحافظوا عليها؛ لنها معجزة ،عليهم أل يتعرضوا لها .وقال لهم:
عذَابٌ قَرِيبٌ { [هود.]64 :
خ َذكُمْ َ
} َفذَرُوهَا تَ ْأ ُكلْ فِي أَ ْرضِ اللّ ِه َولَ َتمَسّوهَا ِبسُوءٍ فَيَأْ ُ
وهكذا وعظهم ،وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض ال ،وإن مسّوها بسوء ولم يأخذهم
عذاب ،فمن آمن به ل بد أن يكفر.
إذن :فل بد أن يأتي العذاب القريب إن هم مسّوها.
وهم قد مسّوها بالفعل ،وهو ما تبينه الية الكريمة التاليةَ } :ف َعقَرُوهَا َفقَالَ َتمَ ّتعُواْ فِي دَا ِر ُكمْ ثَلَثَةَ
أَيّامٍ {
()1524 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الفعل ،فهل يملك أحدٌ شيئا من كل هذا؟
إن النسان ل يملك نفسه أن يعيش إلى الغد ،ول يملك من يعده أن يوجد غدا حتى يلقاه ،ول يملك
أن يظل السبب سببا للّقاء؛ فربما انتهى السبب ،ول يملك حين تجتمع السباب كلها أن توجد له
قدرة وقوة على إنفاذ السبب.
إذن :فإذا قال " :أفعل ذلك غدا مع فلن "؛ يكون قد جازم وتكلم في شيء ل يملك عنصرا واحدا
من عناصره ،فقل " :إن شاء ال " ،أي :أنك تستعين بمشيئة من يملك كل هذه العناصر.
ويعطي الحق سبحانه في كل لقطة إيمانية من اللقطات ،قدرته على خلقه فهو سبحانه القائل:
ك وَعْدٌ غَيْرُ َمكْذُوبٍ } [هود.]65 :
{ َف َعقَرُوهَا َفقَالَ َتمَ ّتعُواْ فِي دَا ِركُمْ ثَلَثَةَ أَيّامٍ ذاِل َ
وقوله { :فِي دَا ِركُمْ } لن من هؤلء الذين كفروا قوما في مكان يختلف عن مكان آخر يوجد به
أيضا قوم كافرون ،ومنهم المسافر ،ومنهم العائد من سفر ،فتتبعهم العذاب حيثما كانوا ،فلم ينزل
على مكان واحد ،إنما نزل على المكين منهم في أي مكان.
ولم يَنْجُ من هذه المسألة إل واحد اسمه " أبو رغال " ،وكان يحج إلى بيت ال ،فلم يتبعه عذابه
في بيت ال؛ لن ال سبحانه طلب منا نحن عباده أن نؤمّن من دخل بيته ،فهو سبحانه وتعالى
أوْلى بأن يؤمّن من دخل البيت الحرام ،وظل الحجر الذي سيُضرب به ،أو الصيحة التي كان
عليها أن تأخذه ،ظلت إلى أن خرج من الحرم فوقعت عليه.
.وعَمّ العذابُ الكافرين من قوم صالح ،وتتبع من في الديار إل هذا الرجل ،وما إن خرج من
البيت الحرام حتى وقع عليه العذاب.
ولذلك كان قاتل الب أو النسان الذي عليه دم نتيجة أنه ارتكب جريمة قتل ،إذا ما دخل البيت
الحرام فهو يُؤمّن إلى أن يخرج ،وكانوا يُضيّقون عليه ،فل يطعمه أحد ،ول يسقيه أحد ليضطر
إلى الخروج ،فيتم القصاص منه بعد خروجه من البيت الحرام ،ولتظل حرمة البيت الحرام
ُمصَانة.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه أراد من تحريم القتال في البيت الحرام ،صيانة وتكريما للكرامة
النسانية.
ونحن نعلم أيضا أن كل حدث من الحداث يقتضي زمانا ،ويقتضي مكانا.
وكان العرب دائمي الغارات على بعضهم البعض ،فأراد الحق سبحانه أن يوجد مكان يحرم فيه
القتال؛ فخصّ البيت الحرام بذلك ،وأراد سبحانه أن يوجد زمان يحرم فيه القتال؛ فكانت الشهر
الحرم؛ لن الحرب قد تكون سجالً بين الناس وتوقظ فيهم الحمية والنفة والعزة.
وكل واحد منهم يحب في ذاته أن ينتهي من الحرب ،ولكنه ل يحب أن يجبن أمام الناس ،فأراد
الحق سبحانه أن يجعل لهم شيئا يتوارون فيه من الزمان ومن المكان ،فحرم القتال في الشهر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحرم.
وما إن تأتي الشهر الحرم حتى يعلن المقاتل من هؤلء :لول الشهر الحرم لكنت قد أنزلت
بخصمي الهزيمة الساحقة ،وهو يقول ذلك ليداري كبرياءه؛ لنه في أعماقه يتمنى انتهاء الحرب.
وكذلك حين يدخل مقاتل إلى البيت الحرام ،هنا يقول مَنْ كان يحاربه :لو لم يدخل الحرم؛ لذقته
عذاب الهزيمة.
وبمضيّ الزمان وبالمكث في المكان ينعم الناس بالمن والسلم ،وربما عشقوه فانتهوا من
الحرب.
ثم يقول الحق سبحانه } :فََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا نَجّيْنَا صَالِحا وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ {
()1525 /
فحين شاء الحق أن يُنزل العذاب بثمود ،بعد مُضيّ المدة التي أنذروا بنزول العذاب بعدها ،نجّى
الحق صالحا عليه السلم والذين آمنوا برسالته من الهلك ،فحفظتهم رحمة ال؛ لنهم آمنوا بما
نزل على صالح من منهج ،ولم ُيعَانِ المؤمنون برسالة صالح ما عانى منه قوم ثمود من الذل
والفضيحة.
هذا الذل وتلك الفضيحة التي حاقت بثمود.
ويذيل الحق سبحانه الية الكريمة بقوله:
{ إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ ا ْلقَ ِويّ ا ْلعَزِيزُ } [هود.]66 :
هذا خطاب لمحمد صلى ال عليه وسلم تسلية وتسرية عنه وتقوية لعزمه ،فالحق سبحانه مقتدر
يأخذ كل كافر ،ول يغلبه أحد ول يعجزه شيء ،وفي هذا إنذار لمن كفروا برسالة رسول ال
صلى ال عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وََأخَذَ الّذِينَ ظََلمُواْ الصّيْحَةُ }
()1526 /
وَأَخَذَ الّذِينَ ظََلمُوا الصّيْحَةُ فََأصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَا ِثمِينَ ()67
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويسمي الحق سبحانه هنا العذاب الذي نزل على ثمود " الصيحة " وسمّاه في موضع آخر "
الطاغية ":
{ فََأمّا َثمُودُ فَأُ ْهِلكُواْ بِالطّاغِيَةِ }[الحاقة.]5 :
وسمّاه في موضع آخر " صاعقة " فقال سبحانه:
ل صَاعِقَةِ عَا ٍد وَ َثمُودَ }[فصلت.]13 :
عقَةً مّ ْث َ
{ فَإِنْ أَعْ َرضُواْ َف ُقلْ أَنذَرْ ُتكُ ْم صَا ِ
وفي سورة العراف سمّاه " الرجفة " ،وكل من الصاعقة والصيحة والرجفة تؤدي معنى الحدث
الذي َيدْهَمُ ،ول يمكن الفكاك منه.
ولقائل أن يقول :لماذا لم يقل الحق سبحانه هنا " :وأخذت الذين ظلموا الصيحة "؟ لماذا اختفت تاء
التأنيث من الفعل ،وقال سبحانه:
{ وََأخَذَ الّذِينَ ظََلمُواْ الصّ ْيحَةُ } [هود.]67 :
ونقول :إن الذي يتكلم هنا هو رب العباد سبحانه ،ول يصح أن نفهم الصيحة على أنها جاءت
لتعبر عن صيحة واحدة ،فتاء التأنيث تعبر عن الصيحة لمرة واحدة ،أما إذا تكررت وصارت
صياحا كثيرا تأخذهم كل صيحة من الصياح.
وهنا نلمح أن الصيحة فيها ضعف النوثة ،أما الصياح ففيه عزيمة وقوة الرجولة ،فأراد الحق
سبحانه أن يجمع المرين ،فقال " :أخذ " ولم يقل " :أخذت ".
ثم قال سبحانه:
{ فََأصْبَحُواْ فِي دِيَا ِرهِمْ جَا ِثمِينَ } [هود.]67 :
أي :مُلْقون على ُركَبهم وعلى جباههم بل حركة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :كَأَن لّمْ َيغْ َنوْاْ فِيهَآ }
()1527 /
كَأَنْ لَمْ َيغْ َنوْا فِيهَا أَلَا إِنّ َثمُودَ َكفَرُوا رَ ّبهُمْ َألَا ُبعْدًا لِ َثمُودَ ()68
ومادة " غَ ِنيَ " " ..غِنىً " ،أو " غَنَاءً " كلها متساوية؛ لن الغَنَاء هو الوجود؛ وجود شيء ُيغَنِي
عن شيء ،فالغِنَى هو وجود مال يغنيك عن غيرك ،والغناء هو ما نسمعه من ال ُمغَنّين ،والغنية
التي يعجب النسان من كلماتها ولحنها ،فهو يقيم معها إقامة تطرد ما سواها مما سمع من الكلم
على كثرة ما سمع أو قرأ ،والغَناء هو للقامة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه يقول:
ت الَ ْرضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا لَيْلً َأوْ
خ َذ ِ
{ حَتّىا إِذَآ أَ َ
لمْسِ }[يونس.]24 :
حصِيدا كَأَن لّمْ َتغْنَ بِا َ
جعَلْنَاهَا َ
َنهَارا فَ َ
أي :كأنها لم توجد من قبل.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ كَأَن لّمْ َيغْ َنوْاْ فِيهَآ } [هود.]68 :
أي :لم يقيموا فيها ،لنها صارت حصيدا.
ثم يقول الحق سبحانه في نفس اليةَ { :ألَ إِنّ َثمُودَاْ كَفرُواْ رَ ّبهُمْ } [هود ،]68 :وهذه هي حيثية
العذاب الذي نزل بهم.
وعادة ما تتعدى كلمة " كفر " بالباء ،ويقال :كفروا بربهم ،ولكن الحق سبحانه يقول هنا:
{ َألَ إِنّ َثمُودَاْ كَفرُواْ رَ ّبهُمْ } [هود.]68 :
والفارق كبير بين المعنيين ،فمعنى { كَفرُواْ رَ ّبهُمْ } أي :ستروا وجوده ،فل وجود له ،ولكن معنى
" كفروا بربهم " هو اعتراف بال الموجود ،لكنهم لم يؤمنوا به.
وقول الحق سبحانه { :كَفرُواْ رَ ّبهُمْ } يرد على الملحدة الذين ل يقرون بوجود ال ،لن ذنب
إنكار وجود ال ليس بعده ذنب ،ول يوجد ما هو أكثر منه في الذنوب.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{ َألَ ُبعْدا لّ َثمُودَ } [هود.]68 :
أي :أنهم :يستحقون ما وقع عليهم من إهلك وطرد من رحمة ال ،ولن يعطف عليهم أحد
لضخامة ذنبهم.
ويأتي الحق سبحانه في الية التالية بقصة جديدة من قصص النبياء ،وهي جزء من قصة أبي
النبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلة والسلم ،يقول سبحانه { :وََلقَدْ جَآ َءتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ
بِالْبُـشْرَىا }
()1528 /
وكلمة " رسل " جمع " رسول " ،والرسول هو المرسَل من جهة إلى جهة ،وأي إنسان تبعثه إلى
جهة ما؛ اسمه رسول ،ولكن المعنى الشرعي للرسول :أن يكون مُرسَلً من ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحق سبحانه:
ل َومِنَ النّاسِ }[الحج.]75 :
طفِي مِنَ ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُ ً
{ اللّهُ َيصْ َ
واصطفاء الملئكة كرسل لتيسير التلقّي عن الخالق سبحانه؛ لن القوة التي تتلقى عن الخالق
سبحانه وتعالى ل بد أن تكون قوة عالية ،والنسان منا ل يقدر على أن يتلقى مباشرة عن الحق
سبحانه.
جلّ عُلَه بالرسل ،فيصطفي من الملئكة المخصوصين القادرين على التلقي
لذلك يأتي لنا ال َ
لينزلوا على المصطفى من البشر القادر على حمل الرسالة.
وهكذا نعلم أن الملئكة ليست كلها قادرة على التلقي من ال تعالى ،ول كل البشر بقادرين على
التلقي عن ال أو عن الملئكة.
وهذه الحلقات في البلغ أرادها الحق سبحانه ،لتؤهل للضعيف أن يأخذ من القوى؛ والبشر
يلجأون إلى ذلك في حياتهم.
وسبق أن ضربت المثل ،بأننا أثناء الليل نطفىء نور المنزل ،لكننا نترك ضوءا خافتا يوضح لنا
ملمح البيت ،فإن قمنا ليلً من النوم؛ ل نصطدم بمتاع البيت ،فيتحطم ما نصطدم به إن كان
أضعف منا ،أو ُنصَاب نحن إن اصطدمنا بما هو أقوى منا.
والنور الضعيف يتيح لنا أن نرى مكان مفتاح الضوء القوي.
وكذلك يفعل ال سبحانه وتعالى ،فيأتي بمصطفى من الملئكة ،يتلقى عن الحق سبحانه ويبلغ
المََلكُ من هؤلء الرسولَ المصطفى من البشر.
والحق سبحانه هو القائل:
حيَ بِإِذْ ِنهِ مَا يَشَآءُ
سلَ َرسُولً فَيُو ِ
ل وَحْيا َأوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ َأوْ يُ ْر ِ
{ َومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن ُيكَّلمَهُ اللّهُ ِإ ّ
}[الشورى.]51 :
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وََلقَدْ جَآ َءتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُـشْرَىا } [هود.]69 :
والبشرى هي الخبار بشيء يسرّ قبل أوان وقوعه ،وهي عكس النذار الذي يعني الخبار بشيء
محزن قبل أوانه.
وقبل أن يوضح الرسل لبراهيم ـ عليه السلم ـ البشارة التي جاءوا من أجلها ،يعلمنا الحق
سبحانه المقدمات اللزمة للدخول إلى الماكن ،فمن أدب الدخول إلى أي مكان أن نسلّم على أهل
هذا المكان ،والحق سبحانه القائل:
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ تَ ْدخُلُواْ بُيُوتا غَيْرَ بُيُو ِتكُمْ حَتّىا تَسْتَأْنِسُو ْا وَتُسَّلمُواْ عَلَىا أَهِْلهَا }[النور.]27 :
ولذلك يأتي الحق سبحانه هنا بما قالته الملئكة من قبل إبلغ البشرى:
{ قَالُواْ سَلَما } [هود.]69 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجاء سبحانه بردّ إبراهيم عليه السلم:
لمٌ } [هود.]69 :
{ قَالَ سَ َ
ونحن نلحظ أن السلم جاء على ألسنتهم بالنصب ،والرد بالسلم جاء بالرفع ،وقولهم { :سَلَما }
دل على فعل يوضح التجدد ،والرد جاء بكلمة { سَلَمٌ } بالرفع؛ ليدل على الثبات والصرار.
والحق سبحانه هو القائل:
{ وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيّةٍ فَحَيّواْ بَِأحْسَنَ مِ ْنهَآ َأوْ رُدّوهَآ }
[النساء.]86 :
هكذا استقبل إبراهيم عليه السلم رسل الحق سبحانه.
ثم يقول الحق سبحانه:
جلٍ حَنِيذٍ { [هود.]69 :
} َفمَا لَ ِبثَ أَن جَآءَ ِب ِع ْ
والعجل هو ولد البقر.
وهناك آيات كثيرة في القرآن تعرضت لقصة إبراهيم عليه السلم في أكثر من موضع من
مواضع القرآن ،ل بقصد التكرار ،ولكن لن كل لقطة في أي موضع هي لقطة مقصودة لها
ج ِم َعتْ اللقطات فسوف تكتمل لك قصة إبراهيم عليه السلم في شمول
دلئلها وأسرارها ،فإذا ُ
متكامل.
وعلى سبيل المثال :يقول الحق سبحانه:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }[النعام.]75 :
{ َوكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
وفي موضع آخر يتعرض الحق سبحانه للتربية اليقينية التي أرادها لبراهيم ،فيقول سبحانه:
ب الفِلِينَ * فََلمّآ رَأَى ا ْل َقمَرَ
ح ّ
{ فََلمّا جَنّ عَلَيْهِ الّ ْيلُ رَأَى َكوْكَبا قَالَ هَـاذَا رَبّي فََلمّآ َأ َفلَ قَالَ ل أُ ِ
لكُونَنّ مِنَ ا ْلقَوْمِ الضّالّينَ * فَلَماّ رَأَى
بَازِغا قَالَ هَـاذَا رَبّي فََلمّآ َأ َفلَ قَالَ لَئِن لّمْ َيهْدِنِي رَبّي َ
غةً قَالَ هَـاذَا رَبّي هَـاذَآ َأكْبَرُ فََلمّآ َأفََلتْ قَالَ يا َقوْمِ إِنّي بَرِيءٌ ّممّا تُشْ ِركُونَ * إِنّي
شمْسَ بَازِ َ
ال ّ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ حَنِيفا َومَآ أَنَاْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[النعام76 :ـ .]79
ج ِهيَ لِلّذِي فَطَرَ ال ّ
ج ْهتُ وَ ْ
وَ ّ
إن هذه اليات تبين وظيفة الحواس إدراكا ،ووظيفة الوجدان انفعالً ،ووظيفة الختيار توحيدا
وإذعانا بيقين.
ثم يقول الحق سبحانه في موضع آخر على لسان إبراهيم عليه السلم فخاطب عمه باحترام
لمكانته التي تساوي منزلة الب.
يقول الحق سبحانه:
سمَعُ وَلَ
ل لَبِيهِ ياأَ َبتِ ِلمَ َتعْبُدُ مَا لَ يَ ْ
{ وَا ْذكُرْ فِي ا ْلكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنّهُ كَانَ صِدّيقا نّبِيّا * إِذْ قَا َ
ك صِرَاطا
يُ ْبصِرُ وَلَ ُيغْنِي عَنكَ شَيْئا * ياأَ َبتِ إِنّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ا ْلعِ ْلمِ مَا لَمْ يَأْ ِتكَ فَاتّ ِبعْنِي أَ ْه ِد َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكَ
عصِيّا * ياأَ َبتِ إِنّي َأخَافُ أَن َيمَ ّ
حمَـانِ َ
ت لَ َتعْبُدِ الشّيْطَانَ إِنّ الشّ ْيطَانَ كَانَ لِلرّ ْ
سوِيّا * ياأَ َب ِ
َ
ن وَلِيّا }[مريم41 :ـ .]45
حمَـانِ فَ َتكُونَ لِلشّيْطَا ِ
عَذَابٌ مّنَ الرّ ْ
فهذه الية تبين رفق الداعي مع جمال العرض.
فأصرّ العَمّ على الشرك ،فقال إبراهيم عليه السلم:
{ سَأَسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي }[مريم.]47 :
وبعد ذلك يتبرأ منه لصراره على الكفر.
ثم هناك لقطة من يُحاجِج إبراهيم في ربه:
{ أََلمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ ِإذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ
قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَُأمِيتُ }[البقرة.]258 :
وكانت تلك سفسطة في القول ناتجة عن عجز في التعبير ،فليس إصدار حكم بالقتل على إنسان،
ثم العفو عنه ،هو إحياء وإماتة ،فأخذه إبراهيم عليه السلم إلى منطقة ل يجرؤ عليها أحد ،وقال:
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ }[البقرة.]258 :
{ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
وهذه الية تبين منطق الحق أمام زيف الباطل ،ثم يأتي في موضع آخر من القرآن ليبين المقارنة
بين فكرة الكفر ،وفكرة اليمان ،فيقول سبحانه:
ظلّ َلهَا عَاكِفِينَ
ل لَبِي ِه َو َق ْومِهِ مَا َتعْبُدُونَ * قَالُواْ َنعْبُدُ َأصْنَاما فَ َن َ
{ وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَا َ
س َمعُو َنكُمْ إِذْ َتدْعُونَ * َأوْ يَن َفعُو َنكُمْ َأوْ َيضُرّونَ * قَالُواْ َبلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا َكذَِلكَ َيفْعَلُونَ }
* قَالَ َهلْ يَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك نلحظ قوله:
{ الّذِي خََلقَنِي َف ُهوَ َي ْهدِينِ }[الشعراء.]78 :
فلم يقل " :الذي خلقني يهديني " لن هذه دعوى؛ ستُدّعى ،وسيضع الناس قوانين لنفسهم ،فبيّن
الحق سبحانه أن الذي خَلَق هو الذي َيهْدِي.
وجاء الحق سبحانه بكلمة " هو " لحصر المر حتى ل يشارك الخلق خالقهم فيه ،لكن المر الذي
لم ُي ّدعَ ،لم يأت فيه بكلمة " هو " كقوله:
{ وَالّذِي ُيمِيتُنِي ُثمّ يُحْيِينِ }[الشعراء.]81 :
فما ل شركة فيه عند الخَلْق يأتي به القرآن من غير تأكيد الضمير ،ولكن في المر الخر يأتي
بتأكيد الضمير كقوله:
شفِينِ }[الشعراء.]80 :
{ وَإِذَا مَ ِرضْتُ َف ُهوَ يَ ْ
فقد قال " :إن الطبيب هو الذي يشفيني " ،ولكن ذلك غير حقيقي؛ لن ال سبحانه هو الذي يضع
العلم ،وهو الذي خلق الداء وخلق الدواء.
ثم بعد ذلك يقول الحق سبحانه في قصة إبراهيم عليه السلم:
{ وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ }[البقرة.]127 :
إذن :فكل مناسبة تأتي لتأكيد معنى من معاني اليمان تأتي معها لقطة من لقطات قصة إبراهيم
جمِعت اللقطات كلها تجد قصة إبراهيم كاملة.
عليه السلم ،وإذا ُ
وإذا كان ال سبحانه وتعالى يريد أن يقص على نبيه محمد صلى ال عليه وسلم القصص ،فذلك
لتثبيت فؤاده صلى ال عليه وسلم:
سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ }[هود.]120 :
{ َوكُـلّ ّنقُصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
لن النبي صلى ال عليه وسلم يتعرض لكثير من الحداث فيذكّره ال سبحانه بما حدث للرسل
عليهم السلم ويأتي باللقطات اليمانية ليثبت فؤاد الرسول صلى ال عليه وسلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى فعل هو السلم.
والشرع ل يتدخل في الدراك أو المواجيد ،ولكنه يتدخل في النزوع ،إل في أمر واحد من
مدركات النسان ،وهو إدراك الجمال في المرأة.
لذلك أمر الشرع بغض البصر؛ حتى ل يدرك النسان ذلك فينزع إلى سلوك ليس له حق فيه،
حسْن المرأة قد يدفع الغرائز إلى السلوك الفوري؛ لن الغرائز ل تفصل النزوع عن
ولن إدراك ُ
الوجدان والدراك.
وهنا بيّن الحق مواجيد إبراهيم عليه السلم حين قال:
خفْ }[هود.]70 :
{ وََأوْجَسَ مِ ْنهُمْ خِيفَةً قَالُو ْا لَ تَ َ
وجاء بالمعنى النزوعي حين قال:
} قَالُواْ سَلَما قَالَ سَلَمٌ { [هود.]69 :
وهو حين التأكيد والتثبيت.
وقال الحق سبحانه:
جلٍ حَنِيذٍ { [هود.]69 :
} َفمَا لَ ِبثَ أَن جَآءَ ِب ِع ْ
وهو :العجل السمين المشوي على الحجارة؛ لن الشواء ـ كما نعلم ـ قد يكون على اللهب أو
على الفحم ،أو على الحجارة.
ومثل ذلك يحدث في البلد العربية حين يأتون بحجر رقيق جدّا ،ويحمّونه على النار ،ثم يشوون
عليه اللحم ،وهذا ما يضمن عدم حدوث تفاعلت بين اللحم والحجر؛ لن هناك تفاعلت تحدث
من الحديد أو من الفحم؛ ولذلك فهذه أنظف طريقة للشواء.
جلٍ حَنِيذٍ { [هود.]69 :
أو أن كلمةِ } :بعِ ْ
أي :ينزل منه الدهن بعد الشواء.
وقول الحق سبحانه:
جلٍ حَنِيذٍ { [هود.]69 :
} َفمَا لَ ِبثَ أَن جَآءَ ِب ِع ْ
لن طبيعة سيدنا إبراهيم عليه السلم هي محبة الضيوف وإكرامهم.
ومن عادة الكرام أن يُعجّلوا بإكرام الضيف ،وتقديم الطعام له ،والكريم هو من يفعل ذلك؛ لنه ل
يعلم ما قد مر على الضيف دون طعام ،فإن كان الضيف جائعا؛ أكل ،وإن كان شبعان فهو يعلن
ذلك.
ويقول الحق سبحانه ما حدث بعد أن جاء لهم إبراهيم عليه السلم بالعجل المشوي } :فََلمّا رَأَى
صلُ إِلَيْهِ َنكِرَهُمْ {
أَيْدِ َيهُمْ لَ َت ِ
()1529 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خفْ إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَى َقوْمِ لُوطٍ (
صلُ إِلَيْهِ َنكِرَ ُه ْم وََأوْجَسَ مِ ْنهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا َت َ
فََلمّا رَأَى أَيْدِ َي ُهمْ لَا َت ِ
)70
وحين رأى إبراهيم أن أيديهم ل تصل إلى الطعام توجس من ذلك شرّا ونكرهم ،أي :استنكر أنهم
لم يأكلوا من طعام قدّمه لهم ،فهل علم إبراهيم أنهم ملئكة؟
لقد علم إبراهيم عليه السلم أنهم ملئكة من كلمهم.
وقد بيّن ذلك قول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن:
جلْ إِنّا نُبَشّ ُركَ ِبغُلمٍ عَلِيمٍ * قَالَ
{ ِإذْ َدخَلُواْ عَلَيْهِ َفقَالُواْ سَلما قَالَ إِنّا مِ ْنكُ ْم َوجِلُونَ * قَالُواْ لَ َتوْ َ
حقّ فَلَ َتكُن مّنَ ا ْلقَانِطِينَ * قَالَ
أَبَشّرْ ُتمُونِي عَلَىا أَن مّسّ ِنيَ ا ْلكِبَرُ فَبِمَ تُ َبشّرُونَ * قَالُواْ بَشّرْنَاكَ بِالْ َ
حمَةِ رَبّهِ ِإلّ الضّآلّونَ * قَالَ َفمَا خَطْ ُب ُكمْ أَ ّيهَا ا ْلمُرْسَلُونَ * قَالُواْ إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىا
َومَن َيقْنَطُ مِن رّ ْ
َقوْمٍ مّجْ ِرمِينَ }[الحجر52 :ـ .]58
إذن :فهم لم يقولوا له مثلما قالوا للوط عليه السلم:
سلُ رَ ّبكَ }[هود.]81 :
{ إِنّا رُ ُ
وهنا حين قالوا لبراهيم عليه السلم:
خفْ إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَىا َقوْمِ لُوطٍ } [هود.]70 :
{ لَ َت َ
أي :أنهم فهموا أن إبراهيم عليه السلم يعلم أنهم ملئكة؛ لن المَلك قد يتشكل في هيئة إنسان،
مثلما تشكّل جبريل عليه السلم أمام سيدنا محمد صلى ال عليه وسلم.
وكذلك الجن لهم قدرة على التشكل ،إل أن هناك فارقا بين تشكل الملك وتشكل الجن ،فالجن إن
تشكل تحكمه الصورة ،فإن تشكل في صورة رجل فيمكنك أن تمسك به وتؤذيه.
ألم َي ُقلْ رسول ال صلى ال عليه وسلم:
" إن عفريتا من الجن تفلّت البارحة ليقطع عليّ صلتي ،فأمكنني ال منه ،فأخذته ،فأردت أن
أربطه على سارية من سواري المسجد ،حتى تنظروا إليه كلكم ،فذكرت دعوة أخي سليمان:
حدٍ مّن َبعْدِي إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلوَهّابُ } [ص.]35 :
غفِرْ لِي وَ َهبْ لِي مُلْكا لّ يَن َبغِي لَ َ
{ قَالَ َربّ ا ْ
فرددته خاسئا ".
إذن :إذا تشكل الجن حكمته الصورة ،ويمكن أن نضربه مثلً ،أما الملك إذا تشكل فالصورة ل
تحكمه.
حكْم الصورة عند تشكل الجني هي التي تحمينا من مخاوفنا ،وهو أيضا يخاف منا مثلما نخاف
وُ
منه ،ولذلك ل يظهر الجني متشكلً في صورة إل لحظة قصيرة ليختفي على الفور؛ لنه يخاف
أن تكون قد علمتم أن الصورة التي تشكل عليها تحكمه وتستطيع أن تفتك به؛ لذلك فالجن يخافون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من البشر.
وشاء الحق سبحانه ذلك المر حتى ل يفزع الجنّ الناسَ.
وهنا يقول الحق سبحانه:
صلُ إِلَيْهِ َنكِرَ ُهمْ } [هود.]70 :
{ فََلمّا رَأَى أَ ْيدِ َيهُ ْم لَ َت ِ
وكلمة { َنكِرَ ُهمْ } تقتضي أن ننظر في مادة " النون والكاف والراء " وكلمة " نكر " وكلمة " أنكر
" كلتاهما مستعملة في القرآن.
ب والصّلَعاوالستعمال اللغوي
والشاعر يقول:وَأ ْنكَرتَنِي ومَا كَانَ الّذِي َنكِ َرتْ مِنَ الحَوادِث إلّ الشّي َ
يدل على أن المقابح من ألوان السلوك تسمى منكرات ،أي :ينكرها النسان بفطرته.
وهنا حين رأى إبراهيم عليه السلم أن أيديهم ل تصل إلى العجل الحنيذ نكرهم ،وأوجس في نفسه
خيفة ،فلحَظوا ذلك ،وقالوا:
خفْ إِنّا أُرْسِلْنَا إِلَىا َقوْمِ لُوطٍ { [هود.]70 :
} لَ َت َ
وهكذا عرف لمن جاءوا ،واطمأن أن قومه لم يأتوا بفعل يستحقون عليه العذاب ،وخصوصا أن
كتب التاريخ تقول :إن إمرأة إبراهيم عليه السلم قالت له :أل تضم ابن أخيك إلى كنفك هنا؛ لن
قومه يوشك أن يعمهم ال بالعذاب.
وحين سمعت أن الرسل إنما جاءت إلى قوم لوط سُ ّرتْ من فراستها ،وتبسّمت لنها تنبهت إلى
هذه المسألة.
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
س ّومَةً عِندَ رَ ّبكَ
حجَا َرةً مّن طِينٍ * مّ َ
سلَ عَلَ ْي ِهمْ ِ
{ قَالُواْ إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىا َقوْمٍ مّجْ ِرمِينَ * لِنُرْ ِ
لِ ْلمُسْ ِرفِينَ }[الذاريات32 :ـ .]34
ح َكتْ فَبَشّرْنَاهَا بِِإسْحَاقَ {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَامْرَأَتُهُ قَآ ِئمَةٌ َفضَ ِ
()1530 /
فعندما كانت أمرأته قائمة على خدمة الضيوف ،وسمعت كلم الملئكة اطمأنت على أنه ل عذاب
على قومهم ،وتحققت فراستها فضحكت فأزادها ال سرورا ،وبشّرتها الملئكة بإسحق ،ومن وراء
إسحق يعقوب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فبعد دفع العذاب ،وبيان أمر العذاب لقوم آخرين مجرمين ،تأتي البشارة بتحقيق ما كان إبراهيم
عليه السلم وزوجه يصبوان إليه ،وإن كان أوانها قد فات؛ لن زوجة إبراهيم كانت قد بلغت
التسعين من عمرها ،وبلغ هو المائة والعشرين عاما .وفي هذا امتنان على إبراهيم بمجيء ابن
البن أيضا ،وكذلك يمتن ال سبحانه على عباده حين يقول:
حفَ َدةً }[النحل.]72 :
ن َو َ
جكُم بَنِي َ
ج َعلَ َلكُمْ مّنْ أَ ْزوَا ِ
س ُكمْ أَ ْزوَاجا وَ َ
ج َعلَ َلكُمْ مّنْ أَ ْنفُ ِ
{ وَاللّهُ َ
ولذلك قال الحق سبحانه:
سحَاقَ َي ْعقُوبَ } [هود.]71 :
ق َومِن وَرَآءِ إِ ْ
سحَا َ
{ فَ َبشّرْنَاهَا بِإِ ْ
فالنسان يحب أن يكون له ابن ،ويحب أكثر أن يرى ابن ابنه ،لن هذا يمثل امتدادا له.
وهكذا توالت البشارات ،فقد أعلنت الملئكة أنها جاءت لتعذب قوم لوط ،هؤلء الذين اختلف معهم
إبراهيم عليه السلم؛ لما جاءوا به من الفواحش،وكذلك لن إبراهيم عليه السلم وامرأته قد علما
أنهما لم يأتيا بأي أمر يغضب ال تعالى.
والثالثة من البشارات هي الغلم ،وكان ذلك حُلْما قديما عند امرأة إبراهيم عليه السلم لنها عاقر،
واستقبلت امرأة إبراهيم البشارة الولى بالضحك ،واستقبلت البشارة بالبن بالدهشة.
عجُوزٌ }
وهذا ما يقول فيه الحق سبحانه { :قَاَلتْ يَاوَيْلَتَىا أَأَلِ ُد وَأَنَاْ َ
()1531 /
والشيء العجيب هو الذي يخالف نواميس الكون المعتادة ،ولكن هناك فرقا بين النواميس وخالق
النواميس ،الذي هو قادر على أن يخرق النواميس.
وها هو سيدنا إبراهيم يقول في موضع آخر:
{ أَ َبشّرْ ُتمُونِي عَلَىا أَن مّسّ ِنيَ ا ْلكِبَرُ }[الحجر.]54 :
ولم يأت هنا بقول امرأة إبراهيم التي قالت:
{ يَاوَيْلَتَىا أَأَِل ُد وَأَنَاْ عَجُو ٌز وَهَـاذَا َبعْلِي شَيْخا } [هود.]72 :
وتسمية الزوج بعلً فيها دقة شديدة؛ لن البعل هو الذي يقوم بأمر المبعول ول يحوجه لحد.
كذلك الزوج يقوم بأمر زوجته فيما ل يستطيع أبوها ول أخوها أن يقوما به ،وهو الحساس
بالنوثة والخصاب ،وهو أهم ما تطلبه المرأة.
سمّي النخل بالبعل ،لنه ل يطلب من زارعة أن يسقيه ،وإنما يكتفي النخل بما يمتصه من
وأيضا ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرض ،وما ينزل له من مطر السماء.
سمّي نوع من الفول " بالفول البعلي " ،وهو الذي ل يحتاج إلى إرواء.
وكذلك ُ
إذن :فالبعل هو الزوج الذي يقوم على أمر زوجته فل يُحوجها إلى غيره في أي شيء من
الشياء.
وهنا تتعجب زوجة إبراهيم عليه السلم من أمر النجاب؛ لن هذا شيء عجيب يقع على غير
انتظار؛ ولذلك يرد الملئكة عليها.
ويقول الحق سبحانه عن ذلك { :قَالُواْ أَ َت ْعجَبِينَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ }
()1532 /
والعجب ـ إذن ـ إنما يكون من قانون بشري ،وإنما القادر العلى سبحانه له طلقة القدرة في
أن يخرق الناموس ..ومن خرق النواميس جاءت المعجزات لتثبت صدق البلغ عن ال تعالى،
فالمعجزات أمر خارق للعادة الكونية.
والقصة التي حدثت لبراهيم عليه السلم وامرأته تكررت في قصة زكريا عليه السلم ،والحق
سبحانه هو الذي أعطى مريم عليها السلم بشارة التذكير لزكريا عليه السلم حين سألها:
{ أَنّىا َلكِ هَـاذَا }[آل عمران.]37 :
فقالت مريم:
{ ُهوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن َيشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران.]37 :
إذن :فالحساب يكون بين الخلق وبعضهم ،ل بين الخالق ـ سبحانه ـ وخَلْقه.
ولذلك ياتي قول الحق عز وجل:
{ هُنَاِلكَ دَعَا َزكَرِيّا رَبّهُ }[آل عمران.]38 :
وما دام زكريا عليه السلم قد تذكّر بقول مريم:
حسَابٍ }[آل عمران.]37 :
{ إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
فمن حقه أن يدعو:
{ قَالَ َربّ َهبْ لِي مِن لّدُ ْنكَ ذُرّيّةً }[آل عمران.]38 :
فأوحى له ال سبحانه وتعالى:
سمِيّا }[مريم.]7 :
جعَل لّهُ مِن قَ ْبلُ َ
سمُهُ يَحْيَىا لَمْ َن ْ
{ يا َزكَرِيّآ إِنّا نُبَشّ ُركَ ِبغُلَمٍ ا ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن الحق سبحانه لم يرزقه البن فقط ،بل وسماه له أيضا باسمٍ لم يسبقه إليه أحد.
وتسمية ال تعالى غير تسمية البشر ،فإن كان بعض البشر قد سموا من بعد ذلك بعض أبنائهم
باسم " يحيى " فقد فعلوا ذلك من باب الفأل الحسن في أن يعيش البن.
لكن الحق سبحانه حين يسمي اسما ،فقد سماه " يحيى " ليحيا بالفعل ،ويبلغ سن الرشد ،ثم ل يأتي
الموت؛ لذلك قُتِل يحيى وصار شهيدا ،والشهيد حيّ عند ربه ل يأتي إليه موتٌ أبدا.
وهذا عكس تسمية البشر؛ لن النسان قد يسمي ابنه " سعيد " ويعيش البن حياته في منتهى
الشقاء.
سمّيْتُهُ يَحْيَى لِ َيحْيَا فَلَمْ َيكُنْ لِ َردّ َقضَاءِ ال
والشاعر يقول عن النسان الذي سمى ابنه " يحيى ":وَ َ
فيهِ سَبِيلُوحين نرجع إلى أن مريم عليها السلم هي التي نبهت إلى قضية الرزق من ال ،نجد أن
زكريا عليه السلم قد دعا ،وذكر أنه كبير السن وأن زوجه عاقر.
ول بد أن زكريا عليه السلم يعرف أن الحق سبحانه وتعالى يعلم كل شيء أزلً ،ولذلك شاء ال
سبحانه أن يطمئن زكريا عليه السلم بأنه سيرزقه الولد ويسميه ،ويأتي قول الحق سبحانه
وتعالى:
{ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ }[مريم.]9 :
وما دام الحق سبحانه وتعالى هو الذي قرّر ،فل رادّ لما أراده ،ولذلك يقول سبحانه:
{ ُهوَ عََليّ هَيّنٌ َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْبلُ وَلَمْ َتكُ شَيْئا }[مريم.]9 :
وهكذا توالت الحداث بعد أن نبهت مريم زكريا عليه السلم إلى قضية خَرْق النواميس التي
تعرضت هي لها بعد ذلك ،حينما تمثّل لها المَلك بشرا ،وبشّرها بغلم اسمه المسيح عيسى ابن
مريم ـ عليه السلم.
وتساءلت مريم عن كيفية حدوث ذلك ـ وهي التي لم يمسسها بشر ـ فيذكّرها الملك بأنها هي
التي أجرى ال سبحانه وتعالى على لسانها قوله الحق في أثناء كلمها مع زكريا عليه السلم:
حسَابٍ }[آل عمران.]37 :
{ إِنّ اللّهَ يَرْ ُزقُ مَن يَشَآءُ ِبغَيْرِ ِ
وكان ل بد من طمأنتها؛ لن إنجابها للمسيح عيسى ـ عليه السلم ـ دون أب هي مسألة عرض،
ويجب أن تُقبل عليها وهي آمنة ،غير مرتابٍ فيها ول متهمة.
والية التي نحن بصددها هنا تتعرض لمرأة إبراهيم عليه السلم حين جاءتها البشارة بالطفل،
وكيف أوضحت لها الملئكة أنه ل عجب مما قدّره ال تعالى وأراده ،خلفا للناموس الغالب في
خلقه؛ لن رحمة ال تبارك وتعالى بكل خير فيها قد وسعت أهل بيت النبوة ،ومن تلك الرحمة
والبركات هبة البناء في غير الوان المعتاد.
ولهذا قال الحق سبحانه هنا:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَةُ اللّ ِه وَبَ َركَاتُهُ عَلَ ْيكُمْ َأ ْهلَ الْبَ ْيتِ { [هود.]73 :
} َر ْ
وينهي الحق سبحانه الية بقوله تعالى:
حمِيدٌ مّجِيدٌ { [هود.]73 :
} إِنّهُ َ
أي :أنه سبحانه يستحق الحمد لذاته ،وكل ما يصدر عنه يستوجب الحمد له من عباده ،فل حد
ق صفات المجد.
لخيره وإحسانه ،وال تعالى مُطَْل ُ
وكلمة " حميد " ـ في اللغة ـ من " َفعِيل " وتَرِدُ على معنيين :إما أن تكون بمعنى فاعل مثل
قولنا " :ال رحيم " بمعنى أنه راحم خلقه .وإما أن تكون بمعنى مفعول؛ كقولنا " :قتيل " بمعنى "
مقتول ".
وكلمة " حميد " هنا تأتي بالمعنيين معا " :حامدٌ " و " محمودٌ " ،مثل قول الحق سبحانه عن نفسه
أنه " الشكور "؛ لنه سبحانه يشكر من يشكره على نعمه بطاعته .وال سبحانه " حميدٌ "؛ لنه
حامدٌ لمن يطيعه طاعة نابعة من اليمان ،وال سبحانه " محمودٌ " ممن أنعم عليهم نعمه السابغة.
وال سبحانه هو المجيد الذي يعطي قبل أن يُسأل.
ولذلك نجد عارفا بال تعالى قد جاءه سائل ،فأخرج كيسا ووضعه في يده ،ثم رجع إلى أهله يبكي،
فقالت له امرأته :وما يبكيك وقد أديت له حق سؤاله؟ قال :أنا أبكي لني تركته ليسأل ،وكان
المفروض أل أجعله يقف موقف السائل.
والحق سبحانه وتعالى أعطانا ،حتى قبل أن نعرف كيف نسأل ،ومثال ذلك :هو عطاء الحق
سبحانه وتعالى للجنين في بطن أمه ،والجنين لم يتعلم الكلم والسؤال.
والحق سبحانه وتعالى في كل لقطة من لقطات القرآن يعطي فكرة اجتماعية مأخوذة من الدين،
فها هو ذا سيدنا إبراهيم عليه السلم يقدم العجل الحنيذ للضيوف ،ليعلمنا أنه إذا جاء لك ضيف،
وعرضت عليه الطعام ،ولم يأكل ،فل ترفع الطعام من أمامه ،بل عليك أن تسأله أن يأكل ،فإن رد
بعزيمة ،وقال :لقد أكلت قبل أن أحضر إليك ،فََلكَ أن ترفع الطعام من أمامه بعد أن أكدت عليه
في تناول الطعام.
ويروي بعض العارفين أن سيدنا إبراهيم عليه السلم حينما قال :أل تأكلون؟ قالت الملئكة :ل
نأكل إل إذا دفعنا ثمن الطعام .فقال إبراهيم ،بما آتاه ال من حكمة النبوة ووحي اللهام :ثمنه أن
تُسمّوا ال أوله ،وتحمدوه آخره.
وأنت إذا أقبلت على طعام وقلت في أوله " :بسم ال الرحمن الرحيم " وإذا انتهيت منه وقلت" :
الحمد ل "؛ تكون قد أديت حق الطعام مصداقا لقول الحق سبحانه:
{ ُثمّ لَتُسْأَلُنّ َي ْومَئِذٍ عَنِ ال ّنعِيمِ }[التكاثر.]8 :
وهكذا بيّن لنا الحق سبحانه أن إبراهيم عليه السلم وزوجه قد أطمأنا على أن الملئكة قد جاءت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لهما بالبشرى ،وأنها ل تريد بإبراهيم أو بقومه سوءا ،بل هي مكلفة بتعذيب قوم لوط.
وهنا يقول الحق سبحانه } :فََلمّا َذ َهبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ال ّر ْوعُ {
()1533 /
()1534 /
إذن :فالعلة في الجدال أنه حليم ل يُعجّل بالعقوبة ،وأوّاه؛ أي :يتأوه من القلب ،والتأوه رقة في
القلب ،وإن كان التأوه من العلى فهذا يعني الخوف من أل يكون قد أدى حق ال تعالى ،وإن كان
التأوه للقل فهو رحمة ورأفة.
ولذلك فقد طلب إبراهيم عليه السلم من ال تعالى تأجيل العذاب لقوم لوط لعلهم يؤمنون ،وتأوّههُ
هنا ل تعالى ،وعلى هؤلء الجهلة بما ينتظرهم من عذاب أليم.
وقال الحق سبحانه في صفات إبراهيم أنه " منيب " أي :يرجع إلى الحكم وإلى الحق في قضاياه.
ألم َي ُقلْ الحق سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َومَا كَانَ اسْ ِت ْغفَارُ إِبْرَاهِي َم لَبِيهِ ِإلّ عَن ّموْعِ َد ٍة وَعَدَهَآ إِيّاهُ }[التوبة.]114 :
وبعد أن بحث إبراهيم عليه السلم عن الحق ،وأناب إليه ،يبين لنا ال سبحانه وتعالى مظهرية
النابة في قوله تعالى:
{ فََلمّا تَبَيّنَ لَهُ أَنّهُ عَ ُدوّ للّهِ تَبَرّأَ مِنْهُ }[التوبة.]114 :
وهنا في الية التي نحن بصدد خوطرنا عنها والتي أوضحت تأوه إبراهيم ل عز وجل وتأوهه
رحمة بهؤلء الذين لم يؤمنوا ،وهم قوم لوط ،وأيضا كانت حجة إبراهيم ـ عليه السلم ـ في
الجدال ما قاله الحق سبحانه في سورة العنكبوت:
{ وََلمّا جَآ َءتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْ ُبشْرَىا قَالُواْ إِنّا ُمهِْلكُواْ َأ ْهلِ هَـا ِذهِ ا ْلقَرْيَةِ إِنّ أَهَْلهَا كَانُواْ ظَاِلمِينَ *
قَالَ إِنّ فِيهَا لُوطا }[العنكبوت31 :ـ .]32
وكان سؤال إبراهيم للملئكة :كيف تُهلكون أهل هذه القرية وفيهم من هو يؤمن بال وعلى رأسهم
نبي من ال هو لوط عليه السلم ،وردت عليه الملئكة:
{ َنحْنُ أَعَْلمُ ِبمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنّ ُه وَأَهْلَهُ ِإلّ امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ }[العنكبوت.]32 :
وكأن إبراهيم خليل الرحمن يعلم أن وجود مؤمنين مع الكافرين في قرية واحدة ،يبيح له الجدال
عن أهل القرية جميعا.
ويتلقى إبراهيم الرد هنا في سورة هود في الية التالية { :يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْ ِرضْ عَنْ هَـاذَآ }
()1535 /
وقول الملئكة:
{ يَاإِبْرَاهِيمُ أَعْ ِرضْ عَنْ هَـاذَآ } [هود.]76 :
يعني إبلغ إبراهيم أن مسألة تعذيب من لم يؤمن من قوم لوط أمرٌ مُنت ٍه ومحسوم ،فهم قد جاءوا
لينفذوا ،ل ليهدّدوا؛ وأبلغوا إبراهيم:
{ إِنّهُ قَدْ جَآءَ َأمْرُ رَ ّبكَ } [هود.]76 :
وإذا ما كان المر قد جاء من ال ،فإبراهيم عليه السلم لنه { مّنِيبٌ } يعلم أن أي أمر من ال
تعالى ل بد أن يُنفّذ ،فل بد أن يَتقبّل ـ أمرَ الحق سبحانه:
عذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ } [هود.]76 :
{ وَإِ ّنهُمْ آتِيهِمْ َ
أي :ل أحد بقادر على أن يرد عذاب ال .وكما أن هناك وعدا من ال تعالى غير مكذوب ،فهناك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أيضا عذاب غير مردود.
ويُروى أن إبراهيم عليه السلم في جداله قال للملئكة :إذا كان في قوم لوط خمسون قد آمنوا بال
تعالى ،أتعذبونهم؟ قالوا :ل .قال :وإن كان فيهم عشرة يؤمنون بال ،أتعذبونهم؟ قالوا :ل .قال وإن
كان فيهم واحد هو لوط؟ فردّت الملئكة:
{ َنحْنُ أَعَْلمُ ِبمَن فِيهَا لَنُنَجّيَنّ ُه وَأَهْلَهُ ِإلّ امْرَأَتَهُ }[العنكبوت.]32 :
وانتهى الجدال ،وذهبت الملئكة إلى مهمتها التي هي إيقاع العذاب بقوم لوط.
ويقول الحق سبحانه { :وََلمّا جَآ َءتْ رُسُلُنَا لُوطا سِيءَ ِب ِهمْ }
()1536 /
عصِيبٌ ()77
سلُنَا لُوطًا سِيءَ ِبهِ ْم َوضَاقَ ِبهِمْ ذَرْعًا َوقَالَ هَذَا َيوْمٌ َ
وََلمّا جَا َءتْ رُ ُ
أي :أن لوطا شعر بالسوء ،وضاق بهم ذرعا ،والذرع مأخوذ من الذراع التي فيها الكف
والصابع وندفع بها الشياء ،وأي شيء تستطيع أن تمد إليه ذراعك لتدفع به ،وإن لم َتطُله
ذراعك؛ قلت " :ضقت به ذرعا " أي :أن يدي لم تطله ،وهو أمر فوق قوتي وطاقتي ،وفوق ما
آتاني ال من اللت ومن الحيل.
وما الذي يسيء لوطا في مجيء الملئكة؟
قيل :لن الملئكة قد جاءوا على الشكل المعروف من الجمال ،فحين يُقال " :فلن ملك " ،أي:
شكله جميل.
ولوط ـ عليه السلم ـ يعلم أن آفة قومه هي إتيان الذكور ،وامرأته تعلم هذه الفة ،لكن موقفها
من ذلك غير موقف لوط ،فهي ترحب بتلك الفة.
ويُقال :إنها تنبهت لمجيء الرجال الحِسان ـ ولم تعرف أنهم ملئكة العذاب ـ وصعدت إلى
سطح المنزل ،وصفقت لعل القوم ينتبهون لها ،فلم يلتفت لها أحد ،فأشعلت نارا فانتبه لها القوم،
وأشارت لهم بما يعبر عن مجيء ضيوف يتميزون بالجمال.
وهنا قال لوط عليه السلم:
عصِيبٌ } [هود.]77 :
{ هَـاذَا َيوْمٌ َ
أي :يوم شديد المتاعب.
ويقال " :يوم عصيب " و " يوم عصبصب " ،ومنه " ال ُعصْبَة " وهم جماعة يتكاتفون على شيء،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقوى الفرد بمجموعهم ،وقد صدق ظن لوط.
وفي هذا يقول الحق سبحانه عن ذلك { :وَجَآ َءهُ َق ْومُهُ ُيهْرَعُونَ إِلَيْهِ َومِن قَ ْبلُ كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }
()1537 /
طهَرُ َلكُمْ
وَجَا َءهُ َق ْومُهُ ُيهْرَعُونَ إِلَيْهِ َومِنْ قَ ْبلُ كَانُوا َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ قَالَ يَا َقوْمِ َهؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنّ َأ ْ
جلٌ رَشِيدٌ ()78
فَا ّتقُوا اللّ َه وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِ ْنكُمْ َر ُ
وقول الحق سبحانه { :وَجَآ َءهُ َقوْمُهُ ُيهْرَعُونَ إِلَ ْيهِ } [هود.]78 :
أي :يسرعون إليه في تدافق ،والنسان إذا لم يكن قد مرن على الشر وله به دُربة ،يكون مترددا
خائفا ،أما من له دربة فهو يقبل على الشر بجرأة ونشاط.
وكلمة " يهرعون " هي من اللفاظ العجيبة في اللغة العربية ،وألفاظ اللغة تجد فيها فعلً له فاعل،
عمْرا " أي :أن الضارب هو " زيد " والمضروب هو " عمرو " ،ونقول" :
كقولنا " :يضربُ زيدٌ َ
سمّي عمرو " نائب فاعل ".
ُيضْ َربُ عمرو " أي :أننا بنينا الفعل للمجهول ،و ُ
أما في الفعل " ُيهْ َرعُ " فل نجد أحدا يقول " :يُهرع " إل ويكون بعدها فاعل وليس نائب فاعل،
مثلها مثل الفعل " جُنّ " فهل هناك من يأتي لنفسه بالجنون ،أم أن الجنون هو الذي جاءه؟ ل أحد
يعرف سبب الجنون؛ ولذلك بُنيت الكلمة للمجهول ،ولكن ما يأتي بعدها يكون فاعلً .وهذا من
إعجاز البيان القرآني.
وكذلك نقولُ " :زكِمَ فلن " فمن الذي أصابه بالزكام؟ ل نعرف سببا ظاهرا للزكام.
ج ِهلَ الفاعل فنحن نبني الفعل للمجهول ،ولكن ما يأتي بعده يكون فاعلً.
إذن :فإذا ُ
وقول تعالى:
{ ُيهْرَعُونَ إِلَيْهِ } [هود.]78 :
يبيّن أنهم أقبلوا باندفاع ،كأنهم يعشقون ما يذهبون إليه؛ لن كلً منهم له دربة على ذلك الفعل
المشين ،أو أن كلً منهم ذاهب إلى ما يحب دون تَهيّب ،باندفاع من نفسه و َدفْع من غيره ،مثلما
تقول " :سنوزع تموينا بالمجان "؛ هنا تجد الناس يتدافعون ،كل منهم من تلقاء نفسه ،وغيره يدفعه
ليرتد إلى الوراء.
وقوم لوط كانوا على دُرْبة بتلك الفاحشة.
يقول الحق سبحانه عنهم:
{ َومِن قَ ْبلُ كَانُواْ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ } [هود.]78 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن هذه المسألة عندهم كانت محببة ،ولهم دربة عليها وخفيفة على قلوبهم ،ول حياء يمنعهم
عنها.
فالحياء يعني أن بعض الناس يعمل السيئة ويخشى الخرون أن يفعلوها ،لكن إذا ما كانوا يحبون
تلك السيئة ،فلن يخجل أحد من الخر.
وماذا يكون موقف لوط ـ عليه السلم ـ في هذا اليوم العصيب؟ لقد أقبلوا عليه بسرعة ،وفي
كوكبة واندفاع ،وهو يعلم نياتهم ويعلم سوابقهم ،وفكّر لوط ـ عليه السلم ـ في أن يصرفهم
انصرافا من جنس اندفاعهم.
يقول الحق سبحانه:
طهَرُ َلكُمْ } [هود.]78 :
{ قَالَ يا َقوْمِ هَـاؤُلءِ بَنَاتِي هُنّ َأ ْ
وقد قال ذلك لن المرأة مخلوقة لذلك ،ومن الممكن أن يتزوجوا من بناته.
وكان العُرْف في أيام لوط عليه السلم ل يمنع أن يزوّج المؤمن ابنته لغير المؤمن؟ وقد َزوّجَ
رسولُ ال صلى ال عليه وسلم إحدى بناته لعُتبة بن أبي لهب ،وأخرى لبي العاص بن الربيع؟
قبل تحريم الحق سبحانه تزويج المؤمنة لغير المؤمن.
فهل كان المقصود :بناته من صُلبه أم بنات أمته ،أم بنات المؤمنين به؟ وقد قيل :إنه لم يؤمن بال
إل لوط وابنتاه ،فكيف يكون الزواج لبنتين من كل هذا العدد من الرجال المتدافعين؟
وقيل :إنه بحث عن السادة القوياء الذين بيدهم القرار ،وأراد أن يراضيهم بهذا الزواج؛ لعلهم
يرجعون عن الفواحش والسيئات ،وفي هذا طهر لهم ،وبذلك يحفظون كرامته أمام ضيوفه.
يقول لوط عليه السلم:
} فَا ّتقُواْ اللّ َه َولَ تُخْزُونِ فِي ضَ ْيفِي { هود.]78 :
وكلمة " ضيف " ـ كما نعلم ـ جاءت هنا مفردة ،ولكنها تطلق أيضا على الجمع ،والمثنى،
وتصلح للدللة على المذكر وعلى المؤنث أيضا ،فإن جاء ضيف واحد تقول " :هذا ضيفي " ،
وإن جاء اثنان تقول " :هذان ضيفي " ،وإن كانت امرأة تقول " :هذه ضيفي " ،وإن كانتا
امرأتين تقول " :هاتان ضيفي " ،وإن جاءت جماعة تقول " :هؤلء ضيفي ".
والحق سبحانه يقول:
ث ضَ ْيفِ إِبْرَاهِيمَ ا ْل ُمكْ َرمِينَ }[الذاريات.]24 :
{ َهلْ أَتَاكَ حَدِي ُ
وهناك ألفاظ أخرى كذلك في اللغة مثل :كلمة " طفل " فهي مفرد؛ ولكنها قد تطلق على الجماعة،
إل أن كلمة " طفل " وُجِد لها جمع هو " أطفال ".
والحق سبحانه يقول:
ن َولَ يُبْدِينَ زِينَ َتهُنّ ِإلّ
خمُرِهِنّ عَلَىا جُيُو ِبهِ ّ
ظهَرَ مِ ْنهَا وَلْ َيضْرِبْنَ ِب ُ
{ َولَ يُبْدِينَ زِينَ َتهُنّ ِإلّ مَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خوَا ِنهِنّ َأوْ
خوَا ِنهِنّ َأوْ بَنِي ِإ ْ
لِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ آبَآ ِئهِنّ َأوْ آبَآءِ ُبعُولَتِهِنّ َأوْ أَبْنَآ ِئهِنّ َأوْ أَبْنَآءِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ ِإ ْ
طفْلِ
خوَا ِتهِنّ َأوْ نِسَآ ِئهِنّ َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُنّ َأوِ التّا ِبعِينَ غَيْرِ ُأوْلِي الِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ َأوِ ال ّ
بَنِي أَ َ
عوْرَاتِ النّسَآءِ }[النور.]31 :
ظهَرُواْ عَلَىا َ
الّذِينَ لَمْ َي ْ
إذن :فكلمة " طفل " تطلق أيضا ،ويراد بها الجماعة.
وهنا يطلب لوط عليه السلم من قومه أل يخزوه في ضيفه ،والخزي فضيحة أمام النفس وأمام
الناس.
والنسان قد تهون عليه نفسه ويُقبل على العمل السيىء ما لم يره أحد ،أما أن يراه الناس ،ففي
هذا فضح له؛ فالفضيحة تكون بين جمهرة الناس ،والهوان أن يكون العمل السيىء بينه وبين
نفسه.
ويتساءل لوط عليه السلم:
جلٌ رّشِيدٌ { [هود.]78 :
} أَلَ ْيسَ مِ ْنكُمْ َر ُ
أي :أل يوجد بينكم رجل له عقل ومروءة وكرامة ،يمنع هذه المسألة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :قَالُواْ َلقَدْ عَِل ْمتَ مَا لَنَا فِي بَنَا ِتكَ {
()1538 /
قَالُوا َلقَدْ عَِل ْمتَ مَا لَنَا فِي بَنَا ِتكَ مِنْ حَقّ وَإِ ّنكَ لَ َتعَْلمُ مَا نُرِيدُ ()79
هذه الية تحمل رد المتدافعين طلبا للفحشاء من قوم لوط؛ فقد قالوا له :أنت تعلم مقصدنا ،وليس
لنا في بناتك أية حاجة نعتبرها غاية لمجيئنا.
وكان هذا يعني العراض عن قبول نصحه لهم بالتزوج من بناته بدلً من طلب فعل الفاحشة مع
ضيوف لوط ،وهم الملئكة الذين جاءوا في هيئة رجال بلغوا مبلغ الكمال في الجمال.
ويأتي الحق سبحانه برد لوط عليه السلم { :قَالَ َلوْ أَنّ لِي ِبكُمْ ُق ّوةً }
()1539 /
قَالَ َلوْ أَنّ لِي ِب ُكمْ ُق ّوةً َأوْ َآوِي إِلَى ُركْنٍ شَدِيدٍ ()80
وساعة تقرأ كلمة " لو " فهذا هو التمني ،أي :رجاء أن يكون له قوة يستطيع أن يدفع بها هؤلء،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكان ل بد من وجود شرط ،مثل قولنا " :لو أن زيدا عندك لجئت " ،لكن نجد هنا شرطا ول
جواب ،كأن يقال " :لو أن لي بكم قوة لفعلت كذا وكذا ".
ولذلك يقال إن الملئكة قالت له :إن ركنك لشديد؛ ولذلك قال:
{ َأوْ آوِي إِلَىا ُركْنٍ شَدِيدٍ } [هود.]80 :
والشيء الشديد هو المتجمّع تجمّعا يصعب َفصْلُه ،أو المختلط اختلطا بمزجٍ يصعب تحلّله؛ لنك
حين تجمع الشياء؛ فإما أن تجمع أشياء أجناسها منفصّلة ،ولكنك تربطها ربطا قويا ،مثل أن
تربط المصلوب على شجرة برباط قوي ،لكن كليهما ـ المصلوب والشجرة ،منفصل عن الخر
وله ذاته ،وهناك ما يُسمّى خلطا ،وهناك ما يُسمّى مزجا ،والخلط هو أن تخلط أشياء ،وكل شيء
منها متميز عن غيره بحيث تستطيع أن تفصله ،أما المزج فل يمكن فصل الشياء الممتزجة
ببعضها.
ومثال ذلك :أنك قد تخلط فول التدميس مثلً مع حبات من الفول السوداني ،وتستطيع أن تفصل
الثنين بعضهما عن بعض؛ لنك جمعتهما على استقلل .ولكن إن ُق ْمتَ بعصر ليمون على كوب
من الماء المحلى بالسكر؛ فهذا مزج يصعب حَلّه.
وقد قال لوط عليه السلم ذلك لنه لم يكن في مَنعةٍ من قومه ،أهل " سدوم " ويقال :إنها خمس
قرى قريبة من " حمص ".
وقد تعجّب رسول ال صلى ال عليه وسلم من قول لوط ،فقال ـ فيما رواه البخاري ـ:
" رحم ال أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد ".
فَلِهوْل ما عانى لوط عليه السلم من كرب المفاجأة قال ذلك ،وهو يعلم أنه ل يوجد سند أو ركن
أشد من الحق سبحانه وتعالى.
سلُ رَ ّبكَ لَن
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قالته الملئكة للوط عليه السلم { :قَالُواْ يالُوطُ إِنّا رُ ُ
َيصِلُواْ إِلَ ْيكَ }
()1540 /
حدٌ إِلّا
ل وَلَا يَلْ َت ِفتْ مِ ْنكُمْ أَ َ
سلُ رَ ّبكَ لَنْ َيصِلُوا إِلَ ْيكَ فَأَسْرِ بِأَ ْهِلكَ ِبقِطْعٍ مِنَ اللّ ْي ِ
قَالُوا يَا لُوطُ إِنّا ُر ُ
امْرَأَ َتكَ إِنّهُ ُمصِي ُبهَا مَا َأصَا َبهُمْ إِنّ َموْعِ َدهُمُ الصّبْحُ أَلَ ْيسَ الصّبْحُ ِبقَرِيبٍ ()81
وهكذا علم لوط ـ لول مرة ـ أنهم رسل من ال تعالى ،رغم أنهم حين تكلموا مع إبراهيم لم
يقولوا أنهم رسل من ال؛ ليدلنا على أن إبراهيم عليه السلم كان يعلم أنهم رسل من الحق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه ،لكنه لم يكن يعلم سبب مجيئهم.
سلُ رَ ّبكَ لَن َيصِلُواْ إِلَ ْيكَ } [هود ]81 :فمن باب أولى أل يصلوا
وهم حين أخبروا لوطا { :إِنّا رُ ُ
إليهم ،وتخبر الملئكة لوطا أن يسري بأهله ليلً أي :أخرج بأهلك في جزء من الليل ،وقد
أوضحت الملئكة أن موعد النكال بقوم لوط هو الصبح:
{ إِنّ َموْعِدَهُمُ الصّبْحُ َألَيْسَ الصّبْحُ ِبقَرِيبٍ } [هود.]81 :
لذلك قالوا:
{ فََأسْرِ بِأَهِْلكَ ِبقِطْعٍ مّنَ الّ ْيلِ } [هود.]81 :
والمقصود أن يترك ربع الليل الول ،وربعه الخر ،وأن يسير في نصف الليل الذي بعد ربع
الليل الول وينتهي عند ربع الليل الخير ،وقيل :إن أليق ما يكون بالقطع هو النصف.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ َولَ يَلْ َتفِتْ مِنكُمْ َأحَدٌ } [هود.]81 :
واللتفات :هو النصراف عن الشيء الموجود قبالتك ،ويسمى النصراف عن المقابل .فهل
المقصود هو اللتفات الحسي أم اللتفات المعنوي؟
نحن نعلم أن لوطا سيصحب المؤمنين معه؛ من ديارهم وأموالهم ،وما ألفوه من مقام ومن حياة؛
لذلك تنبههم الملئكة أل تتجه قلوبهم إلى ما تركوه ،وعليهم أن ينقذوا أنفسهم ،وسيعوضهم ال
سبحانه خيرا مما فاتهم.
هذا هو المقصود بعد اللتفات المعنوي ،وأيضا مقصود به عدم اللتفات الحسي.
وتوصي الملئكة لوطا عليه السلم أل يصحب امرأته معه؛ لنها خانته بموالتها للقوم المفسدين،
وإفشائها للسرار ،وعليه أن يتركها مع الذين يصيبهم العذاب.
ولكنها لحظة الخروج ادعت أنها مخلصة للوط ،وقالت :سأخرج حيث تخرج ،ثم نظرت إلى القوم
وقالت :وا قوماه ورجعت لتمكث معهم ،ولينالها العذاب الذي نالهم في الموعد الذي حددته
الملئكة وهو الصبح:
{ إِنّ َموْعِدَهُمُ الصّبْحُ َألَيْسَ الصّبْحُ ِبقَرِيبٍ } [هود.]81 :
وقد تحدد الصبح لهلكهم؛ لنه وقت الدعة والهدوء فيكون العذاب أشد نكالً.
جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا }
ويقول الحق سبحانه { :فََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا َ
()1541 /
جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهَا حِجَا َرةً مِنْ سِجّيلٍ مَ ْنضُودٍ ()82
فََلمّا جَاءَ َأمْرُنَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه يبين لنا هنا أن المر بالعذاب حين يصدر ،فالمأمور يستجيب قهرا ،ويقال إن قرى
قوم لوط خمس :قرية " سدوم " وقرية " دادوما " وقرية " ضعوه " ،وقرية " عامورا " وقرية "
قتم ".
وقوله تعالى:
جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا } [هود.]82 :
{ َ
أي :انقلبت انقلبا تامّا.
ويقول القرآن في موضع آخر:
{ وَا ْل ُمؤْ َتفِكَةَ أَ ْهوَىا }[النجم.]53 :
والمؤتفكة من الفك وهو الكذب المتعمّد ،أي :قول نسبة كلمية تخالف الواقع ،ولن من يقول
الفك إنما يقلب الحقيقة إلى غير الحقيقة زعما ،ويقلب غير الحقيقة إلى ما يشبه الحقيقة.
كذلك المؤتفكة ،أي :القرى التي جعل عاليها سافلها فانقلبت فيها الوضاع.
ونفذ أمر ال بأن أمطر عليهم حجارة من سجيل منضود ،وهو طين قد تحجّر.
حجَا َرةً مّن طِينٍ }[الذرايات.]33 :
والحق سبحانه يقول في آية أخرى{ ِ
وكلمة " حجارة " تعطي الحساس بالصلبة ،أما كلمة " طين " فتعطي إحساسا بالليونة ،ولكن
الطين الذي نزل قد تحجر بأمر من ال تعالى ،وهو قد نزل منضودا ..أي :يتتابع في نظام ،وكأن
س ّومَةً عِندَ رَ ّبكَ }
كل حجر يعرف صاحبه ،لن الحق سبحانه يقول بعد ذلك { :مّ َ
()1542 /
وكلمة " مسوّمة " أي :مُعلّمة ،وكأن كل حجر قد تم توجيهه إلى صاحبه ،فهذا الحجر يذهب إلى
فلن ،وذلك إلى فلن ،مثل الصواريخ الموجهة إلى البلد ،ولكن الدقة في هذه الحجارة أن كل
حجر يعرف على من بالتحديد سوف ينزل بالعذاب ،وقد جعلها الحق سبحانه لتعذيب المكين ،أي:
النسان ،ول تدمر البلد.
وهي مُرتّبة؛ لن الحق سبحانه قال:
{ سِجّيلٍ مّ ْنضُودٍ }[هود.]82 :
ووردت كلمة (سجيل) أيضا في قول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ طَيْرا أَبَابِيلَ * تَ ْرمِيهِم ِبحِجَا َرةٍ مّن سِجّيلٍ }[الفيل3 :ـ .]4
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
{ َومَا ِهيَ مِنَ الظّاِلمِينَ بِ َبعِيدٍ } [هود.]83 :
والظالمون هنا مقصود بهم الكافرون برسالة الحق ـ سبحانه وتعالى ـ التي تتابعت في الموكب
الرسالي وخاتمها هو محمد صلى ال عليه وسلم.
ونحن نعلم أن القصص القرآني قد نزل تسلية وثباتا بيقين لرسول ال صلى ال عليه وسلم وتذكرة
بالسوة:
سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ }[هود.]120 :
{ َوكُـلّ ّنقُصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
وتحكي القصص المعارك التي قامت بين كل رسول مُؤيّد بمعجزة من ال ،وبين المنكرين له
والكافرين به ،وقد انتهت كل هذه المعارك بنصرة الرسول على الكافرين ،إل أن الرسل السابقين
لم يُكلّفوا أن يقاتلوا من أجل اليمان ،بل كان عليهم أن يعلنوا الحجة اليمانية فقط ،وأن يبلغوا
المنهج ،فإن عصى القوم؛ فالسماء هي التي تتدخل لتأديب المخالفين.
والحق سبحانه يقول:
{ أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ * وَ َثمُودَ الّذِينَ
ط َغوْاْ فِي الْبِلَدِ * فََأكْثَرُواْ فِيهَا ا ْلفَسَادَ *
لوْتَادِ * الّذِينَ َ
عوْنَ ذِى ا َ
جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْ َ
عذَابٍ * إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ }[الفجر6 :ـ .]14
سوْطَ َ
صبّ عَلَ ْي ِهمْ رَ ّبكَ َ
َف َ
ولكن المر اختلف بمجيء محمد صلى ال عليه وسلم ،لن دين محمد صلى ال عليه وسلم هو
الدين الذي تقوم عليه الساعة ،وقومه مأمونون على البلغ عن ال تعالى خلفة للرسول صلى ال
عليه وسلم.
وعلى كل واحد من أمة محمد صلى ال عليه وسلم يعلم حكما من أحكام ال تعالى أن يبلغه؛ لنه
قائم مقام الرسول صلى ال عليه وسلم.
والحق سبحانه يقول:
شهِيدا }[البقرة:
شهَدَآءَ عَلَى النّاسِ وَ َيكُونَ الرّسُولُ عَلَ ْيكُمْ َ
جعَلْنَاكُمْ ُأمّةً وَسَطا لّ َتكُونُواْ ُ
{ َوكَذَِلكَ َ
.]143
إذن :فكل واحد من أمته صلى ال عليه وسلم هو امتداد لرسالة السلم ،وبدلً من أن السماء
كانت تتدخل لتأديب الكافرين ،جعل ال سبحانه لمة محمد صلى ال عليه وسلم أن يقفوا بالقوة
أمام الكافرين ،ل لفرض اليمان؛ لن اليمان ل يُفرض ،ول يُكره عليه؛ لنك قد تُكره إنسانا في
المور الحسية ،لكنك ل تستطيع أن تملك قلبه ،والحق سبحانه يريد اليمان الغيبي الذي يملك
القلوب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك يقول الحق سبحانه:
سمَآءِ آ َيةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
{ َلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ضعِينَ }[الشعراء3 :ـ .]4
خَا ِ
إذن :فالحق سبحانه يريد قلوبا تخشع ،ل أعناقا تخضع.
ضتْ في نقل رسالة محمد صلى ال
ضتْ أمة محمد صلى ال عليه وسلم تفويضينُ :ف ّو َ
وهكذا ُف ّو َ
عليه وسلم إلى الجيال ،وكل جيل ينقلها إلى الجيل الذي يليه.
وها هو صلى ال عليه وسلم يقولَ " :نضّر ال امرأ سمع مقاتلي فوعاها وأداها إلى من لم
يسمعها ،ف ُربّ مُبلغٍ أوعى من سامع ".
ضتْ أمة محمد صلى ال عليه وسلم في أن تقف من الكافرين موقف تأديب ،ل لتفرض الدين
وفُ ّو َ
ولكن لتحمي حق اختيار الدين ،فلم يحدث أن رُفع سيفٌ في السلم ليفرض دينا؛ بل رفع السيف
ليحمي حرية اختيار النسان للدين.
يقول سبحانه:
{ َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف.]29 :
فإذا آمن فعليه اللتزام باليمان ،فل يكسر حكما من أحكام اليمان ،وهذا تصعيب للدخول في
السلم ،فمن أين يأتي ادعاء فرض الدين على المخالفين؟!
إذن :فقد آمن المؤمن من أمة محمد صلى ال عليه وسلم إيمانين :اليمان الول هو أن يؤمن
بالسلم ،واليمان الثاني أن يبلغ الدعوة.
ولذلك قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل ".
فهل المقصود بالعلماء هم من يعلمون العلم فقط؛ ل ،بل يقصد كل من يعرف قضية من قضايا
اليمان معرفة سليمة وصحيحة وينساح بالدعوة في الرض ليعلّم غير المؤمنين ويترك الناس
أحرارا في اختيار الدين.
وكذلك يقف المؤمنون برسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم لية قوة تحارب حرية اختيار
الدين.
وهكذا جاءت قصص القرآن لتثبيت فؤاده صلى ال عليه وسلم.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه قد بعث المصطفى صلى ال عليه وسلم وهو في مكة ،فصرخ
بالدعوة ،ل في آذان القبائل الواهية في أطراف الجزيرة ،ولكن في آذان سادة الجزيرة ،حتى ل
يقال :إنه استضعف قوما فناداهم إلى اليمان به ،ولم يجرؤ على السادة ،وهم قريش ،التي أخذت
السيادة بحكم إقامتها في مكان البيت العتيق ،وكان كل العرب يحجون إلى البيت الحرام ،فإذا ما
تعرضت قبيلة لقريش بسوء ،فقريش قادرة على أن تنال من أبناء تلك القبيلة حين يحجون إلى
البيت الحرام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا أخذت قريش هيبتها من وجودها حول البيت.
إذن :فالبيت هو الذي صنع السيادة لقريش ،وهو الذي صنع السيادة لللهة المدّعاة من الصنام
حين يأتي كل قوم بإلههم من الحجر؛ ليضعوه في البيت؛ ليكتسب الحجر قداسة من قداسة البيت.
إذن :فقد أخذت قريش السيادة من البيت الحرام ،وجاء رسول ال صلى ال عليه وسلم فأعلن
سفّه أحلمهم ،ولم يُبَالِ بجبروتهم وسيادتهم على الجزيرة.
الدعوة على أسماع السادة ،و َ
لكن الحق سبحانه قد شاء أل يكون انتصار السلم على يد السادة من قريش في مكة ،بل جاء
انطلق السلم من المدينة؛ لن ال سبحانه أراد أن يُعلّم الدنيا كلها أن العصبية لمحمد لم تخلق
اليمان بمحمد.
ولكن ال تعالى قد شاء أن يكون المستضعفون من أطراف الجزيرة هم الذين نصروا الدعوة؛
فكأن اليمان بمحمد صلى ال عليه وسلم هو الذي خلق العصبية لمحمد للحق الممثّل في رسالة
محمد ،ولم تخلق العصبية لمحمد إيمانا به وبرسالته.
وإذا كان الحق سبحانه قد نعتهم بالظالمين ،وبيّن لهم أن المكان الذي قُِلبَ عاليه أسفله ،ليس ببعيد
عنهم ،فهل لهم أن يتخذوا من ذلك عبرة؟
والظلم ـ كما نعلم ـ هو مجاوزة الحق للغير ،أي :أن تأخذ حق الغير وتعطيه لغير ذي حق ،فإذا
كان ظلما في اللوهية ،فهذا هو الشرك العظيم ،وإن كان ظلما في إعطاء حق من حقوق الدنيا
للغير ،فهو ظلم للنسانية ،والظلم درجات بحسب الجريمة.
وقد ظلمت قريش نفسها ظلما عظيما؛ لنها أشركت بال؛ وجعلت له شركاء في اللوهية؛ وهذا
أقصى أنواع الظلم.
وال سبحانه يريد أن يذكّر هؤلء الظالمين بأن عذاب ال حين يجيء ،أو أمر ال حين يأتي؛ ل
يمكن أن يقوم أمامه قائم يمنعه ،فتنبهوا جيدا إلى أنكم عُرْضة أن يُنزل ال تعالى بكم العذاب كما
أنزل بهذه القرى؛ وهي غير بعيدة عنكم ،فالمسافة بين المدينة والشام قد تبدو مسافة طويلة إل أن
ال تعالى قد جعلهم يمرون عليها في كل رحلة من رحلت الصيف إلى الشام.
إذن :فهي قرى تقع على طريق مسلوكة؛ ولذلك يقول الحق سبحانه عن موقعها:
{ وَإِ ّنهَا لَبِسَبِيلٍ ّمقِيمٍ }[الحجر.]76 :
أي :بطريق تمرون عليها ،ل يجرفها سيل ،ول يغير معالمها ريح.
بل هي طريق ثابتة مقيمة تمرون عليها حينما تذهبون في رحلة الصيف إلى الشام ،فكان من
الواجب أن تأخذوا في كل مرور لقطة وعبرة؛ حتى ل تقعوا في ظلم آخر.
وقد نبهكم ال سبحانه أيضا بمروركم على ديار قوم صالح الذين خاطبهم الحق سبحانه بقوله:
طشْتُمْ جَبّارِينَ }
خذُونَ َمصَانِعَ َلعَّلكُمْ تَخُْلدُونَ * وَإِذَا َبطَشْ ُتمْ بَ َ
{ أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ آيَةً َتعْبَثُونَ * وَتَتّ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[الشعراء128 :ـ .]130
هكذا ترون ديار ثمود وديار عاد وديار لوط وهي خاوية ،وكان من الواجب ـ معشر قريش ـ
أل تبالغوا في الظلم ،وأن تنتبهوا بالعبرة إلى مصير كل من يشرك بال تعالى.
ويلفتهم الحق سبحانه إلى أنهم لم يكفروا بحق اللوهية فقط ،ولكنهم ـ ايضا ـ كفروا بشكر
النعمة ،وظلموا؛ لن ال سبحانه هو الذي أنعم عليهم برحلة الشتاء إلى اليمن ،وبرحلة الصيف
إلى الشام ،والرحلتان للتجارة التي تأتي بالزيادة لقريش؛ لنهم يخرجون بالموال ويعودون
بالبضائع التي يبيعونها لهل مكة ،ولزوار بيت ال الحرام.
وقد أخذت قريش مهابتها عند كل قوم يمرون عليهم أثناء الرحلتين ،من أنهم يعيشون حول البيت
الحرام ،لذلك يمتن ال سبحانه على قريش في قوله سبحانه:
سلَ عَلَ ْيهِمْ طَيْرا
ج َعلْ كَيْ َدهُمْ فِي َتضْلِيلٍ * وَأَرْ َ
صحَابِ ا ْلفِيلِ * أََلمْ يَ ْ
{ أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأ ْ
جعََل ُهمْ َك َعصْفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل1 :ـ .]5
سجّيلٍ * فَ َ
أَبَابِيلَ * تَ ْرمِيهِم ِبحِجَا َرةٍ مّن ِ
فالقوم الذين جاءوا ليهدموا البيت الحرام ـ وهو رمز السيادة ـ لو هدم وتحوّل الحجيج إلى
صنعاء ،لسقطت مهابة قريش ،ولكن ال تعالى حمى البيت وأرسل عليهم طيرا أبابيل ،وجعل
الذين قصدوه بسوء كعصف مأكول.
لماذا صنع ال تعالى ذلك؟
تأتي الجابة في السورة التالية لسورة الفيل حيث يقول الحق سبحانه في سورة قريش:
ط َع َمهُم مّن
حلَةَ الشّتَآ ِء وَالصّ ْيفِ * فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي َأ ْ
لفِ قُرَيْشٍ * إِل ِفهِمْ رِ ْ
{ لِي َ
خ ْوفٍ }[قريش1 :ـ .]4
جُوعٍ وَآمَ َنهُم مّنْ َ
إذن :كان من الواجب حين يمرون على هذه الديار أن يأخذوا منها عبرة ،وأنهم ـ وإن كانوا
يمرون على هذه الديار بقصد التجارة وهي سر معاشهم ـ إذا لم يأخذوا من هؤلء العبرة فهم
يقترفون ظلما جديدا آخر.
لذلك يقول الحق سبحانه:
} َومَا ِهيَ مِنَ الظّاِلمِينَ بِ َبعِيدٍ { [هود.]83 :
أو :أن ال سبحانه وتعالى أراد أن ينبه قريشا إلى أن الهلك الذي نزل بهؤلء القوم المشركين،
ليس ببعيد أن يصيب قريشا ،وأن يرسل ال سبحانه على كل واحد من الكافرين به حجرا مسوّما
يصيبه في مكانه الذي يكون فيه.
والسطحيّون ـ في اللغة ـ يخطئون فيأخذون على القرآن مآخذ ،ل تلتفت إليها الملكة الصحيحة
في اللغة ،ويقولون :كيف يقول ال:
} َومَا ِهيَ مِنَ الظّاِلمِينَ بِ َبعِيدٍ { [هود.]83 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة " ما هي " مؤنثة ،وتقتضي أن يقول " :بعيدة " بدلً من كلمة " بعيد " ،أي :أن يكون
القول " :وما هي من الظالمين ببعيدة " ونسوا أن المتكلم هو ال تعالى ،وأنهم لم يدرسوا اللغة
دراسة صحيحة؛ لن " فعيل " إن جاءت بمعنى " مفعول " ،فهنا يستوي المذكر والمؤنث.
ومثال ذلك من القرآن الكريم أيضا هو قول الحق سبحانه:
ظهِيرٌ }[التحريم.]4 :
{ وَا ْلمَلَ ِئكَةُ َبعْدَ ذَِلكَ َ
وقول الحق سبحانه:
ح َمتَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ ا ْل ُمحْسِنِينَ }[العراف.]56 :
{ إِنّ رَ ْ
إذن :فعدم درايتهم باللغة هو الذي جعلهم يخطئون مثل هذا الخطأ.
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بقصة أخرى من القصص التي جاء بها ال في هذه السورة لموكب
شعَيْبا {
الرسل ،فيأتي بقصة شعيب عليه السلم ،ويقول سبحانه } :وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَا ُهمْ ُ
()1543 /
ل وَا ْلمِيزَانَ
شعَيْبًا قَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إَِلهٍ غَيْ ُر ُه وَلَا تَ ْن ُقصُوا ا ْل ِمكْيَا َ
وَإِلَى َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ
عذَابَ َي ْومٍ مُحِيطٍ ()84
إِنّي أَرَاكُمْ ِبخَيْ ٍر وَإِنّي َأخَافُ عَلَ ْيكُمْ َ
و " مدين " هو اسم ابن إبراهيم عليه السلم ،ولم يكن هذا البن موجودا وقت بعثة شعيب ،لكن
سمّيت باسمه ،وكذلك القرية التي أقامت فيها القبيلة سميت باسمه ،فإن
القبيلة التي تناسلت منه ُ
قلت إن شعيبا أرسل لقبيلة مدين ،فهذا قول سليم ،وإن قلت إنه أرسل لقرية مدين ،فهذا قول سليم
أيضا؛ لن القرية ل بد لها من سكان.
والحق سبحانه يقول على لسان إخوة يوسف عليه السلم:
{ وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا }[يوسف.]82 :
والمقصود " أسأل أهل القرية ".
إذن :فمرة يطلب السم على المكان ،ومرة يطلق المكان ويراد به المكين.
وقد بدأ شعيب رسالته مع قومه من حيث بدأ كل الرسل بالدعوة إلى قمة التدين ،وهو أن يعبدوا
ال وحده ل شريك له ول إله غيره ،وهذا هو القدر المشترك في كل الرسالت.
والحق سبحانه يقول:
ك َومَا َوصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا
{ شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْي َ
ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى ا ْلمُشْ ِركِينَ مَا تَدْعُو ُهمْ إِلَيْهِ اللّهُ َيجْتَبِي ِإلَيْهِ مَن
وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يَشَآءُ وَ َيهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }[الشورى.]13 :
إذن :فقمة الدين قي قضية العقيدة اليمانية ،وهي عبادة ال تعالى وحده ول إله غيره ،لن الحق
سبحانه حين يوجه الوامر التكليفية " افعل " و " ل تفعل " فال سبحانه ل يوجهها إل لمن آمن به
إلها واحدا ،أما الذي ل يؤمن به ،فال سبحانه ل يوجه إليه أي حكم.
ولذلك تجد حيثية كل حكم تكليفي في القرآن ُمصَدّرا بقوله تعالى:
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ }[البقرة.]178 :
سواء أكان المر صياما ،أم قصاصا ،ففي كل تكليف يُصدّر بهذا القول ،ل بد أن يأتي المعنى :يا
من آمنت بي إلها قادرا حكيما ،اسمع مني التكليف.
ولذلك أقول دائما:
إن علة كل تكليف هي اليمان بالمكلّف ،ول داعي للبحث عن علة أخرى.
فمثلً حيث ُيقَال :إن علة الوضوء النظافة ،نقول :وإن لم يوجد ماء ،فنحن نلمس التراب أو الحجر
ثم نمسح وجوهنا في التيمم.
إذن :فالمقصد هو أن نتهيأ للصلة بأي شكل يحقق مقصود العبادة وهو الطاعة للخالق سبحانه
وتعالى.
وإياك أن تؤخر تنفيذ الحكم إلى أن تبرره؛ لن مبرره هو صدوره عن ال سبحانه وتعالى.
وكذلك كل شيء يقوله رسول ال صلى ال عليه وسلم فنحن نتبعه ،ول نبحث عن علة له ،وإل لو
كنا نؤجل الحكام إلى أن تثبت تبريراتها العلمية مثل فساد لحم الخنزير بما يحمله من أمراض،
ومثل قدرة الخمر على إهلك المخ وتدمير خلياه ،فضلً عن تدمير خليا الكبد ،فنحن لو كنا قد
أجلنا تلك الحكام ،فماذا كان الموقف؟
لقد طبّق المسلمون هذه الحكام فور نزولها؛ ليمانهم بالمنهج وحبهم في القرب من ال ،ثم أثبتت
اليام صدق ال تعالى في تكليفه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} مَا َل ُكمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ { [هود.]84 :
أي :إياك أن تأخذ حكما تكليفيا من أحد آخر غير ال سبحانه وتعالى ،لنه ل إله إل ال وحده ل
شريك له.
وإياك أن تستدرك من البشر حكما على ال سبحانه وتعالى ،وتظلم نفسك وتقول " :لقد فات ال أن
يقول لنا هذا الحكم ،ولنأتي لنفسنا بحكم جديد ".
إياك أن تستدرك حكما على ال .افهم الحكم أولً ،فإن جاء حكما محكما فخذه ،وإنْ كان غير
محكم بأن جاء مجملً ،أو غير مبيّن ،فانظر باجتهادك إلى أية جهة تصل.
ولذلك " نجد رسول ال صلى ال عليه وسلم يسأل من أرسله مبعوثا إلى اليمن فقال " :كيف تصنع
إن عرض لك قضاء؟ قال :أقضي بما في كتاب ال .قال فإن لم يكن في كتاب ال؟ قال :فبسنة
رسول ال صلى ال عليه وسلم .قال :فإن لم يكن في سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ قال:
أجتهد رأيي ول آلو ،قال :فضرب رسول ال صلى ال عليه وسلم على صدري ثم قال :الحمد ل
الذي وفق رسول رسول ال صلى ال عليه وسلم لما يرضي رسول ال صلى ال عليه وسلم ".
وبعد أن دعا شعيب ـ عليه السلم ـ آل مدين لعبادة ال سبحانه وحده ،وهذا هو المر المشترك
بين جميع الرسل ـ عليه السلم ـ تأتي الحكام الخرى ،فمن يعمل فاحشة له علجه ،ومن
ينقص في الكيل والميزان ،فالرسول يعالج هذا المر.
لن العالم القديم كان عالم انعزال ،ل التحام فيه أو مواصلة؛ فقد يوجد عيب وآفة في مكان ،ول
يوجد هذا العيب أو تلك الفة في مكان آخر.
وكل رسول يأتي ليعالج عيبا محددا في المكان الذي أرسله ال إليه ،ولكن رسول ال محمدا صلى
ال عليه وسلم جاء ـ وهو الرحمة المهداة للجميع وخاتم النبياء والمرسلين ـ جاء صلى ال
عليه وسلم والدنيا على ميعاد باللتقاء اليماني ،فلما تقاربت البلد عن طريق سرعة التصالت،
وما يحدث في عصرنا الن بقارة أمريكا نجده عندنا في نفس اليوم أو غدا ،فالعالم الن عالم
التقاء ،وتعددت الداءات فيه وتوحدت بسبب سرعة اللتقاء عن طريق عدم التمييز بين الخبيث
والطيب.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يكون محمد صلى ال عليه وسلم هو خاتم الرسل.
وكانت خيبة آل مدين هي عدم عبادة ال وحده ،وكذلك كانت فيهم خسيسة التطفيف في الكيل
والميزان ،لذلك يقول الحق سبحانه على لسان شعيب عليه السلم:
} َولَ تَنقُصُواْ ا ْل ِمكْيَالَ وَا ْلمِيزَانَ إِنّي أَرَا ُكمْ بِخَيْرٍ { [هود.]84 :
وحين قرأ العلماء هذا القول الكريم لم يلتفتوا إلى أن المراد ليس نقص المكيل والموزون ،لنه لو
شاء لقال " :ول تنقصوا المكيل أو الموزون " هذا إذا نظرنا إلى المر من وجهة ما يريد البائع،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن القول هنا يقصد أن يأخذ كل ذي حق حقه ،أن يأخذ المشتري حقه من السلعة ،وأن يأخذ
البائع حقه في الربح.
إذن :فهذا القول الكريم يشمل البائع والمشتري معا.
والكيل ـ كما نعرف ـ هو تعديل شيء بشيء ،فإن كان في الخفة والثقل؛ فالمر يحتاج إلى
ميزان ،وإن كان تعديل شيء بشيء في الكم ،فهذا يحتاج إلى الكيل ،وهذا هو المر المشهور في
الكيل والميزان ،وأي تعديل شيء بشيء يحتاج إلى ما يناسبه؛ فالقماش مثلً ـ يتم تعديله بالمتر،
والرض يتم تعديلها بالمساحة؛ أي :قياس الطول والعرض ،وبعض الشياء تُباع بالحجم ،وهذا
يعني قياس الطول والعرض والرتفاع واستخراج الناتج بعملية ضرب كل منهم في الخر.
إذن :فالمر المهم هو أن يأخذ كل إنسان حقه ،حتى وإن كان تأجير قوة عامل لينجز عملً ،فأنت
تعدل زمن وقوة العمل بالجر الملئم ،والمر المشهور هو الكيل والميزان ،لكن بقية التقييمات
موجودة؛ ليأخذ كل ذي حق حقه.
لن النسان لو أخذ غير حقه لستمرأ أن يأخذ حقوق الناس ،ولو أكل بعض الناس حقوق البعض
الخر؛ لَزهدَ من أكلتْ حقوقهم في العمل.
وأنت حين تعطي للنسان أقل مما يستحق ،أو تأخذ من جهده فوق ما تدفع له من أجر ،تجده
يبطىء في العمل ،ول ينجز المطلوب منه على تمام الدقة ،ومن هنا يحدث الخلل.
ولذلك أقول :إن إعطاء كل ذي حق حقه يزيد من جودة الداء في العمل.
وعلينا أن نترك صاحب الطموح ليعمل؛ بدلً من أن يخزن ماله أو يكنزه؛ لن صاحب الطموح
حين يقيم مشروعا أو بناءً؛ فهو يفيد الفقراء وينفعهم ـ حتى وإن كان ل يفكر في ذلك ـ فالذي
يبني عمارة سكنية ينفع الصناع والعمال ومنتجي المواد اللزمة للبناء ـ دون أن يقصد ـ
وسينتفع العامل الفقير ـ دون أن يقصد صاحب العمل ـ وربما انتفع كل الفقراء مما يصنعه
صاحب العمل ،قبله فيما يفعل.
إذن :فمن المهم أن يأخذ كل إنسان حقه قبل أن يجف عرقه؛ مصداقا لقول رسول ال صلى ال
عليه وسلم " :أعطوا الجير أجره قبل أن يجف عرقه ".
وهكذا نعلم أن الدين في ظاهر المر يحض على اليثار ،وفي واقع المر ،هو يحرص على تأكيد
ثواب النسان عند ربه؛ لن الذي يؤثر غيره على نفسه ـ ولو كان به خصاصة ـ لو كان معه
مال قليل وأعطاه لخر عنده ضائقة ،وليس عند هذا الخر مال ،هنا يكون صاحب المال القليل قد
آثر الخر على نفسه في ظاهر المر،ـ ولكنه سيأخذ أضعاف هذا المال ثوابا من عند ال تعالى.
وهكذا يعلمنا الدين النفعية الراقية ،وهي النفعية التي يعاملنا بها ال سبحانه؛ وحين نترك قانون
النفعية ليسيطر على حركة الناس ،فنحن نوفر سيولة النتفاع في المجتمع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا في الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها عرفنا أن شعيبا قال لهل مدين:
} َولَ تَنقُصُواْ ا ْل ِمكْيَالَ وَا ْلمِيزَانَ إِنّي أَرَا ُكمْ بِخَيْرٍ { [هود.]84 :
أي :أنكم يا أهل مدين غير مضطرين لذلك؛ لن من يبيع منكم عنده سلع ،ومن يشتري إنما يملك
نقودا ،فاكتفوا بالخير الذي عندكم ،وليأخذ كل ذي حق حقه ،وهذه قضية يغفل عنها كثير من
الناس؛ فالذي يبيع قد يبيع صنفا واحدا ،فإن غش في الكيل أو الميزان ،فسوف يغشه ويخدعه
غيره في الصناف الخرى التي تلزمه لحياته.
وإن اشتغل واحد في إنقاص الكيل والميزان ،فالخرون سيفعلون مثل ذلك في كل ما يخص
حياته؛ لن المخادع الواحد ،سيلقي مخادعين كثيرين ،وهنا يقول شعيب عليه السلم :ما الذي
يضطركم إلى ذلك وأنتم بخير؟
ثم يقول محذرا:
} وَإِنّي أَخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ مّحِيطٍ { [هود.]84 :
لنك حين تنقص شيئا وأنت تبيع أو تزيد شيئا حين تشتري ،فأنت ل تخدع من تتعامل معه ،وإنما
تخدع نفسك.
وكلنا يعلم أن الغفلة قد تطرأ على البائع ،وقد تطرأ على المشتري ،وقد يحاول بائع أن يستغل
غفلة المشتري فيزيد من ثقل الميزان بإصبعه ،وقد يحاول المشتري أن يستغل غفلة البائع بأن
يرفع كفة الميزان بإصبعه من غير أن يراه البائع ،فيأخذ غير حقه ،وهذا نوع من خداع النفس؛
لن الحق سبحانه إنما يأمر بالستقامة في البيع والشراء؛ لن النتفاع بأي شيء مهما كَثُر ،فهو
موقوت بعمر النسان في الدنيا ،وعمر النسان موقوت ،ولكن الذي يغش ويخدع إنما يُعرّض
نفسه لعذاب ال سبحانه في الخرة ،وهو عذاب بل أمد ول نهاية.
وهكذا يسلّم النسان نفسه لفائدة قليلة في الدنيا الزائلة ،ثم يلقى عذابا ل ينتهي في آخرة غير
زائلة.
والعذاب في الخرة عذاب محيط ،بمعنى أن المعذّب ل يستطيع أن يفلت منه ،فأنت في الدنيا
بإمكانك أن تحتال في النجاة من العذاب ،وقد تلجأ إلى من هو أقوى منك ليحميك ،ولكنك في
الخرة تواجه يوما ل بيع فيه ول خُلّة ول شفاعة ،إن كنت من أهل النار.
يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب مواصلً الحديث إلى أهل مدين } :وَيا َقوْمِ
ل وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِسْطِ {
َأ ْوفُواْ ا ْل ِمكْيَا َ
()1544 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سدِينَ (
ط وَلَا تَ ْبخَسُوا النّاسَ أَشْيَا َءهُ ْم وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ مُفْ ِ
ل وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِسْ ِ
وَيَا َقوْمِ َأ ْوفُوا ا ْل ِمكْيَا َ
)85
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كَ ْيفٌ.
وكلمة " أشياء " مفردها " :شيء " ،ويقولون عن الشيء " :جنس الجناس " فالثمرة يقال لها" :
شيء " ،وكل الثمر يقال له " :شيء ".
والحق سبحانه وتعالى يوصينا أل يغرنا أي شيء مهما كان قليلً.
ونحن نلحظ هنا أن كلمة " الناس " جمع ،وكلمة " أشياءهم " جمع أيضا ،وإذا قوبل جمع بجمع
اقتضت القسمة آحادا .أي :ل تبخس الفرد شيئا ،وإنْ َقلّ.
ونجد واحدا من العارفين بال قد استأجر مطيّة من خان ليذهب بها من مكان إلى مكان آخر ،فلما
ركب المطية وقع منه السوط الذي يحركها به ،فأوقف الدابة مكانها وعاد ماشيا على قدميه إلى
موقع سقوط السوط ليأخذه ،ثم رجع ماشيا إلى مكان الدابة ليركبها ،فقال له واحد من الناس :لماذا
لم ترجع بالدابة إلى موقع السوط لتأخذه وتعود؛ فأجاب العارف بال :لقد استأجرتها لصِلَ بها إلى
مكان في اتجاه معين ،ولم يتضمن اتفاقي مع صاحبها أن أبحث بها عن السوط.
ونجد عارفا آخر جلس يكتب كتابا ،وكان الناس في ذلك الزمان يجففون الحبر الزائد بوضع قليل
من الرمال فوق الصفحات المكتوبة ،ولم يجد العارف بال ما يجفف به المكتوب ،فأخذ حفنة من
تراب بجانب جدار ،ثم ذهب إلى صاحب الجدار وقال له :أنا أخذت ترابا من جانب جدارك فقوّمه
فقال صاحب الجدار :وال لِورَعِك ل أقوّم ،أي :أنه قد تسامح في هذا المر.
ويُنهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله:
} َولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ { [هود.]85 :
وكلمة عثاَ ،يعْثي ،ويعثوا ،وعثى .يعثي؛ كلها تعني :زاول فسادا ،أي :أن يعمد النسان إلى
طمْر بئر ماء ،أو حفر طريق يسير فيه الناس ،وهو كل أمر يخرج
الصالح في ذاته فيفسده ،مثل َ
الصالح ـ في ذاته ـ عن صلحه.
والمجتمع كله ـ بكل فرد فيه ـ مأمور بعدم مزاولة الفساد ،ولو طبّق كل واحدٍ ذلك لصار
المجتمع كله صالحا ،ولكن الفة أن بعض الناس يحب أن يكون غيره غير مفسد ،ولكنه هو نفسه
يفسد ،ول يريد من أحد أن يعترض عليه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :بقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ ّلكُمْ {
()1545 /
حفِيظٍ ()86
ن َومَا أَنَا عَلَ ْيكُمْ ِب َ
َبقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ ُم ْؤمِنِي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :ما يبقى لكم من المر الحلل خير لكم؛ لن من يأخذ غير حقه يخطىء؛ لنه يزيل البركة
عن الحلل بالحرام؛ فمن يأخذ غير حقه يسلط ال عليه أبوابا تنهب منه الزائد عن حقه.
وأنت تسمع من يقول " :فلن هذا إنما يحيا في بركة " ،أي :أن دخله قليل ،ولكن حالته طيبة،
ويربي أولده بيسر ،على عكس إنسان آخر قد يكون غنيّا من غير حلل ،لكنه يحيا في ضنك
العيش.
وقد تجد هذا النسان قد انفتحت عليه مصارف الدنيا فل يكفي ماله لصد همومه ،لن ال سبحانه
قد جَرّأ عليه مصارف سوء متعددة.
وقد يستطيع النسان أن يخدع غيره من الناس ،ولكنه لن يستطيع أن يخدع ربه أبدا.
وقول الحق سبحانه:
{ َبقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ ّلكُمْ } [هود.]86 :
أي :أن ال تعالى يُذهِب ـ عمن يراعي حقوق غيره ـ مصارف السوء.
وسبق أن قلنا قديما :فلننظر إلى رزق السلب ل إلى رزق اليجاب؛ لن الناس في غالبيتها تنظر
إلى رزق اليجاب ،بمعنى البحث عن المال الكثير ،وينسون أن الحق سبحانه وتعالى قد يسلط
مصارف السوء على صاحب المال الكثير الذي جمعه من غير حق ،بينما يسلب عن الذي يرعى
حقوق الناس تلك المصارف من السوء.
سحْت أو حرام ،ل يبارك ال فيهم؛ لن هناك في تكوينهم شيئا حراما.
ومن يُربّون أولدهم من ُ
فنجد ـ على سبيل المثال ـ ابن المرتشي يأخذ دروسا خصوصية ويرسب ،بينما ابن المنضبط
والملتزم بتحصيل الكسب الحلل مقبل على العلم وناجح .أو قد يرزق ال تعالى صاحب المال
الحرام زوجة ل يرضيها أي شيء ،بل تطمع في المزيد دائما ،بينما يعطي ال سبحانه من يرعى
حقوق الناس زوجة تقدر كل ما يفعله.
يقول الحق سبحانه:
{ َبقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ ّلكُمْ إِن كُنتُم ّم ْؤمِنِينَ } [هود.]86 :
أي :إن كنتم مؤمنين بأن ال تعالى رقيب ،وأنه سبحانه قيّوم؛ فل تأخذ حقّا غير حقك؛ لنك لن
تستغل إل نفسك؛ لن ال سبحانه وتعالى رقيب عليك.
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
حفِيظٍ } [هود.]86 :
{ َومَآ أَنَاْ عَلَ ْي ُكمْ بِ َ
أي :أن شعيبا عليه السلم قد أوضح لهل مدين :أنا لن أقف على رأس كل مفسد لمنعه من
الفساد؛ لن كل إنسان عليه أن يكون رقيبا على نفسه ما دام قد آمن بال سبحانه ،وما دام قد
عرف أن الحق سبحانه قد قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َبقِيّةُ اللّهِ } [هود.]86 :
أي :أن ما يبقى إنما تشيع فيه البركة.
وهذه هي فائدة اليمان :ما يأمر به وما ينهي عنه.
وهذا أمر يختلف عن القانون الوضعي؛ لن عين القانون الوضعي قاصرة عما يخفى من أمور
الناس فكأنها تحميهم من الوقوع تحت طائلته.
()1546 /
شعَ ْيبُ َأصَلَا ُتكَ تَ ْأمُ ُركَ أَنْ نَتْ ُركَ مَا َيعْبُدُ آَبَاؤُنَا َأوْ أَنْ َنفْ َعلَ فِي َأ ْموَالِنَا مَا َنشَاءُ إِ ّنكَ لَأَ ْنتَ
قَالُوا يَا ُ
الْحَلِيمُ الرّشِيدُ ()87
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رمضان ،ثم حج البيت لمن استطاع إليه سبيلً.
وأنت إن نظرت إلى هذه الركان فقد تجد إنسانا ل يملك ما يزكّى به أو ما يحج به ،وقد يكون
مريضا فل صوم عليه ،وهو ينطق بالشهادة مرة واحدة في حياته ،ول يبقى في أركان الدين إل
الصلة؛ ولذلك يقال عنها " :عماد الدين من أقامها فقد أقام الدين ،ومن تركها فقد هدم الدين "
لنها الركن الوحيد الذي يعلن العبد فيه الولء لربه كل يوم خمس مرات ،دواما في الولء ل.
ول تسقط الصلة أبدا عن أي إنسان مهما كانت ظروفه ،فإن عجز عن الحركة؛ فله أن يصلي
برموش عينيه ،وإن عجز عن تحريك رموش عينيه فَلْيُجْرِ الصلة على قلبه ،حتى في حالة
الحرب والمسايفة فالنسان المسلم يصلي صلة الخوف.
إذن :فالصلة هي الركن الذي ل يسقط أبدا ،ويُكرّر في اليوم خمس مرات ،وقد أعطاها الحق
سبحانه في التشريع ما يناسبها من الهمية.
وكل تكليفات السلم جاءت بوحي من ال سبحانه وتعالى ،فجبريل عليه السلم يحمل الوحي إلى
الرسول صلى ال عليه وسلم؛ ويبلغنا الرسول صلى ال عليه وسلم إياه ،وتميزت الصلة وحدها
بأن الحق سبحانه قد كلّف بها النبي صلى ال عليه وسلم في أثناء وجوده في المل العلى؛ عند
سدرة المنتهى ،وذلك لفرط أهميتها.
ومثال ذلك من حياتنا ـ ول المثل العلى ـ نجد الرئيس في أي موقع من مواقع العمل؛ وهو
يستقبل البريد اليومي المتعلق بالعمل ،ويحول كل خطاب إلى الموظف المختص ليدرسه أو ليقترح
بخصوصه اقتراحا ،وإذا وجد الرئيس أمرا مهمّا قادما من أعلى المستويات؛ فهو يستدعي
الموظف المختص؛ ويرتب معه الجراءات والترتيبات الواجب اتخاذها؛ وإذا كان هذا يحدث في
المور البشرية ،فما بالنا بالتكليف من ال سبحانه وتعالى للرسول؟
وقد شاء الحق سبحانه أن يكون تكليف الصلة ـ لهميته ـ هو التكليف الوحيد الذي نال تلك
المنزلة؛ لنها الركن الذي يتكرر خمس مرات في اليوم الواحد؛ ول مناص منه.
فأنت قد ل تنطق الشهادة إل مرة واحدة؛ لكنك تقولها في كل صلة.
وفي الزكاة تضحّي ببعض المال؛ وأنت لم تولد ومعك المال؛ إل إن كنت قد ورثت وأنت في بطن
أمك؛ ول بد أن تزكّي من مالك؛ والمال ل يأتي إل من العمل؛ والعمل فرع من الوقت؛ وأنت في
الصلة تضحّي بالوقت نفسه؛ والوقت أوسع من دائرة الزكاة.
وفي الصيام أنت تمتنع عن شهوتي البطن والفرج؛ من الفجر إلى المغرب؛ لكنك تمارس كل
أنشطة الحياة؛ أما في الصلة فأنت تصوم عن شهوتي الفرج والطعام؛ وتصوم أكثر عن أشياء
مباحة لك في الصيام.
وفي الحج أنت تتوجه إلى بيت ال الحرام؛ وأنت في كل صلة تتوجه إلى بيت ال الحرام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا تجتمع كل أركان السلم في الصلة.
وأهل مدين هنا ـ في الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ قد هزءوا برسولهم شعيب
عليه السلم ،وصلته؛ مثلما فعل كفار قريش مع رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وقال أهل مدين لشعيب عليه السلم:
} َأصَلَاو ُتكَ تَ ْأمُ ُركَ { [هود.]87 :
وظنوا أنهم بهذا القول إنما يتهكمون عليه؛ لن شعيبا كان كثير الصلة؛ وهم ـ ككفار قريش ـ
يجهلون أن الصلة تأمر وتنهى.
والحق سبحانه يقول:
لةَ تَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَآ ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ }[العنكبوت.]45 :
{ إِنّ الصّ َ
إذن :فللصلة أمر ،وللصلة نهي ،وما دام قد ثبت لشيء حكم؛ يثبت له مقابله ،وأنت تسمع من
يقول لخر :أنت تصلي لذلك فأنا أثق في أمانتك وتسمع إنسانا آخر ينصح صديقا بقوله :كيف
تسمح لنفسك أن ترتكب هذا الثم وأنت خارج من الصلة؟
وكثير من الناس يغفلون عن أن التقابل في الجهات إنما يحل مشاكل متعددة؛ فيأخذون جهة
ويتركون الخرى.
ولذلك أقول :ما دام الحق سبحانه قد قال إن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر ،فل بد أنها تأمر
بالبر والخير.
ومثال آخر :نجده في قول الحق سبحانه عن غرق قوم فرعون:
سمَآ ُء وَالَ ْرضُ }[الدخان.]29 :
{ َفمَا َب َكتْ عَلَ ْيهِمُ ال ّ
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد نفى بكاء السموات والرض على قوم فرعون؛ ففي المقابل فل
بد أنها تبكي على قوم آخرين؛ لن السموات والرض من المسخّرات للتسبيح ،وقال الحق
سبحانه عنهما:
حمِلْ َنهَا }[الحزاب.]72 :
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَا ْلجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَ ْ
علَى ال ّ
لمَانَةَ َ
{ إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
وبهذا القول اختارت كل من السموات والرض مكانة الكائنات المسبّحة ،مصداقا لقول الحق
سبحانه:
ح ْم ِدهِ }[السراء.]44 :
شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ
{ وَإِن مّن َ
فإذا رأت السموات والرض إنسانا مُسبّحا؛ فل بد أن تحبه ،وإن رأت إنسانا كافرا ،معاندا؛ فل بد
أن تكرهه.
وما دامت السموات والرض لم تبكِ على قوم فرعون؛ فذلك لنهم ضالون؛ لنها ل تبكي إل
على المهديين.
وقد حلّ لنا المام علي بن أبي طالب ـ كرم ال وجهه ـ هذه المسألة؛ فقال " :إذا مات المؤمن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بكى عليه موضعان :موضع في الرض ،وموضع في السماء ،أما موضعه الذي في الرض؛
فمصلّه ،وأما موضعه في السماء فمصعد عمله ".
لن موضعه الذي كان يصلي فيه؛ يُحرم من أن واحدا كان يصلي فيه ،وأما موضعه الذي كان
يصعد منه عمله؛ فيفتقد رائحة عبور العمل الصالح.
فإن أردت بالصلة الدين؛ وهي رمز الدين؛ فللصلة أمر هو نفس أمر الدين ،وهي المر باليمان
الحق ،لن اليمان المقلد ل نفع له.
إذن :فقد أراد أهل مدين التهكم على دعوة شعيب لهم؛ وتساءلوا:
} َأصَلَاو ُتكَ تَ ْأمُ ُركَ أَن نّتْ ُركَ مَا َيعْبُدُ ءابَاؤُنَآ { [هود.]87 :
وهذا القول يحمل أيضا ردهم على دعوته لهم ألّ يعبدوا غير ال؛ فل إله غيره؛ وردوا كذلك على
دعوته لهم ألّ ينقصوا الكيل والميزان؛ وألّ يبخسوا الناس أشياءهم؛ وأن يتيقنوا أن ما يبقى عند
ال هو الخير لهم ،وأل يعثوا في الرض مفسدين.
وقالوا :أتنهانا أيضا عن أن نفعل بأموالنا ما نشاء؟ وكأنهم قد عميت بصيرتهم؛ لنهم إن أباحوا
لنفسهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون؛ فغيرهم سيبيحون لنفسهم أن يفعلوا بأموالهم ما يشاءون؛
وستصطدم المصالح ،ويخسر الجميع.
ك لَنتَ الْحَلِيمُ الرّشِيدُ { [هود.]87 :
وقولهم } :إِ ّن َ
استمرار في التهكم الذي بدءوه بقولهم:
} َأصَلَاو ُتكَ تَ ْأمُ ُركَ أَن نّتْ ُركَ مَا َيعْبُدُ ءابَاؤُنَآ { [هود.]87 :
مثلهم في ذلك مثل منافقي المدينة الذين قالوا للنصار:
{ لَ تُن ِفقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّىا يَنفَضّواْ }[المنافقون.]7 :
وكانوا يريدون أن يضربوا المؤاخاة بين المهاجرين والنصار؛ وقد قالوا } :رَسُولِ اللّهِ { تهكما؛
وهم يحرضون أثرياء المدينة على تجويع المهاجرين.
ومثلهم ـ أيضا ـ مثل قوم لوط حين نهاهم عن فعل تلك الفحشاء؛ فقالوا تهكما منه وممن آمن
معه:
طهّرُونَ }[العراف.]82 :
{ َأخْرِجُو ُهمْ مّن قَرْيَ ِتكُمْ إِ ّن ُهمْ أُنَاسٌ يَ َت َ
فهل تطهرهم علة للخراج من القرية ،ولكنهم قالوا هذا لنهم ل يريدون أن يكون بينهم من يعكر
ما هم فيه.
وهذا مثلما نسمع في حياتنا من يقول " :ل تستعن بفلن لنه حنبلي ".
هم ـ إذن ـ قد قالوا:
حلِيمُ الرّشِيدُ { [هود.]87 :
ك لَنتَ الْ َ
} إِ ّن َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا منطق السخرية منه؛ لنه لم يوافقهم على عبادة غير ال؛ ولم يوافقهم على إنقاص الكيل
والميزان؛ ونهاهم عن َبخْس الناس أشياءهم.
ح ْكمٌ وهو حقّ؛ ويقوله من ل يؤمن به؛ فهو يقصد به الهُزْء والسخرية.
وإذا قيل ُ
وهو لون من التهكم جاء في القرآن الكريم في مواضع متعددة؛ فنجد الحق سبحانه يقول لمن تجبر
وطغى في الدنيا؛ ويلقى عذاب السعير في الخرة:
{ ذُقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان.]49 :
وكذلك يقول الحق سبحانه:
شوِي الْوجُوهَ }[الكهف.]29 :
{ وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ
ل من القولين تهكم وسخرية ،وكذلك قولهم في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
وفي ُك ّ
} َأصَلَاو ُتكَ تَ ْأمُ ُركَ { [هود.]87 :
وهذا قول يحمل التهكم بصلته.
وكذلك قولهم:
حلِيمُ الرّشِيدُ { [هود.]87 :
ك لَنتَ الْ َ
} إِ ّن َ
يعني التساؤل :كيف يصح لك وأنت العاقل الحليم أن تتورط وتقول لنا:
{ اعْ ُبدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ }[هود.]84 :
وقد قالوا ذلك لنهم قد ألفوا عبادة الصنام ،وكذلك تهكموا على دعوته لهم بعدم إنقاص الكيل
والميزان.
سفَه أن
وأيضا لم يقبلوا منه قوله بأن يحسنوا التصرف في المال ،والعلة التي برروا بها كل هذا ال ّ
شعيبا حليم رشيد؛ فيكف يدعوهم إلى ما يخالف أهواءهم؟
جلّ شأنه } :قَالَ يا َقوْمِ أَ َرأَيْتُمْ إِن كُنتُ
ويأتي الحق سبحانه بما قاله شعيب ـ عليه السلم ـ فيقول َ
عَلَىا بَيّنَةٍ مّن رّبّي {
()1547 /
علَى بَيّ َنةٍ مِنْ رَبّي وَرَ َزقَنِي مِنْهُ رِ ْزقًا حَسَنًا َومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَاِلفَكُمْ إِلَى مَا
قَالَ يَا َقوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُ ْنتُ َ
ت وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ()88
ط ْعتُ َومَا َت ْوفِيقِي إِلّا بِاللّهِ عَلَيْهِ َت َوكّلْ ُ
أَ ْنهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلّا الِْإصْلَاحَ مَا اسْ َت َ
وهنا يعلن لهم شعيب ـ عليه السلم ـ أنه على يقين من أن ال سبحانه وتعالى قد أعطاه حجة
ومنهجا ،وقد رزقه الرزق الحسن الذي ل يحتاج معه إلى أحد؛ فامور حياته ميسورة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد يكون المقصود بالرزق الحسن رحمة النبوة.
ثم يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان شعيب عليه السلم:
{ َومَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَاِلفَكُمْ إِلَىا مَآ أَ ْنهَاكُمْ عَنْهُ } [هود.]88 :
خسِر ميزانا ،ول أبخس أحدا
أي :أنني أطبق ما أدعوكم إليه على نفسي؛ فل أنقص كيلً أو أ ْ
أشياءه؛ لني ل أعبد غير ال.
وكلمة " أخالف " تدل على اتجاهين متضادين ،فإن كان قولك بهدف صرف إنسان عن فعل لكي
تفعله أنت؛ تكون قد خالفته " إلى " كذا ،وإن كنت تريده أن يفعل فعلً كيل تفعله أنت؛ تكون قد
خالفته " عن " كذا.
فشعيب ـ عليه السلم ـ يوضح لهم أنه ل ينهاهم عن أفعال؛ ليفعلها هو؛ بل ينهاهم عن الذي ل
يفعله؛ لن الحق سبحانه قد أمره بأل يفعل تلك الفعال ،فالحق سبحانه هو الذي أوحى له بالمنهج،
وهو الذي أنزل عليه الرسالة.
وشعيب ـ عليه السلم ـ ل ينهاهم عن أفعال يفعلها هو؛ لنه ل يستأثر لنفسه بما يرونه خيرا؛
فليس في نقص الكيل والميزان؛ أو الشرك بال أدنى خير ،فكل تلك الفعال هي الشر نفسه.
ويوضح لهم شعيب ـ عليه السلم ـ مهمة النبوة؛ فيقول:
ط ْعتُ } [هود.]88 :
لصْلَحَ مَا اسْتَ َ
لاِ
{ إِنْ أُرِيدُ ِإ ّ
فالنبوات كلها ل يرسلها ال تعالى إل حين يطم الفساد ،ويأتي النبي المُرسَل بمنهج يدل الناس إلى
ما يصلح أحوالهم؛ من خلل " افعل " و " ل تفعل " ويكون النبي المُرسَل هو السوة لتطبيق
المنهج؛ فل يأمر أمرا هو عنه ب َنجْوةٍ؛ ويطبق على نفسه أولً كل ما يدعو إليه.
ولذلك قال شعيب ـ عليه السلم ـ:
ط ْعتُ } [هود.]88 :
لصْلَحَ مَا اسْتَ َ
لاِ
{ إِنْ أُرِيدُ ِإ ّ
لن ال سبحانه وتعالى ل يكلف نفسا إل وسعها ،وما يدخل في طوعها.
ويقول شعيب ـ عليه السلم ـ بعد ذلك:
{ َومَا َت ْوفِيقِي ِإلّ بِاللّهِ عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } [هود.]88 :
وهكذا نعلم أن هناك فرقا بين العمل؛ وبين التوفيق في العمل؛ لن جوارحك قد تنشغل بالعمل؛
ولكن النية قد تكون غير خالصة؛ عندئذ ل يأتي التوفيق من ال.
أما إن أقبلت على العمل؛ وفي نيتك أن يوفقك ال سبحانه لتؤدي هذا العمل بإخلص؛ فستجد ال
تعالى وهو يصوّب لك أيّ خطأ تقع فيه؛ وستنجز العمل بإتقان وتشعر بجمال التقان ،وفي الجمال
جلل.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا ما جاء على لسان شعيب عليه السلم { :عَلَ ْيهِ َت َوكّ ْلتُ }؛ أي :أنه
ل يتوكل إل على ال؛ ول يصح أن تعطف على هذا القول شيئا؛ لنك إن عطفت على هذا القول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقلت " على ال توكلت وعليك "؛ فتوقع أل يوفقك ال ،لنك أشركت أحدا غير ال.
ونجد في القرآن الكريم قول الحق سبحانه على لسان هود عليه السلم:
{ َت َوكّ ْلتُ عَلَى اللّهِ }[هود.]56 :
ويجوز لك هنا أن تعطف.
ولك أن تتذكر قول أحد العارفين " :اللهم إني أستغفرك من كل عملٍ قصدتُ به وجهك فخالفني
فيه ما ليس لك ".
فل تترك شيئا يزحف على توكلك على ال تعالى؛ لنك إليه تنيب؛ وترجع؛ كما قال شعيب عليه
السلم } :وَإِلَيْهِ أُنِيبُ {.
شقَاقِي {
ويقول الحق سبحانه وتعالى من بعد ذلك } :وَيا َقوْمِ لَ َيجْ ِرمَ ّنكُمْ ِ
()1548 /
شقَاقِي أَنْ ُيصِي َبكُمْ مِ ْثلُ مَا َأصَابَ َقوْمَ نُوحٍ َأوْ َقوْمَ هُودٍ َأوْ َقوْمَ صَالِحٍ َومَا َقوْمُ
وَيَا َقوْمِ لَا يَجْ ِرمَ ّن ُكمْ ِ
لُوطٍ مِ ْنكُمْ بِ َبعِيدٍ ()89
يقول لهم شعيب عليه السلم :أرجو أل تحملكم عداوتكم لي على أن تُجرموا جُرْما؛ يكون سببا في
أن ينزل الحق سبحانه بكم عقابا ،مثلما أصاب القوم الذين سبقوكم؛ من الذين خالفوا رسلهم؛ فأنزل
ال ـ عز وجل ـ عليهم العذاب كالغرق ،و الرجفة ،والصيحة ،والصاعقة ،فاحذروا ذلك.
وشعيب عليه السلم ينصحهم هنا حرصا منه عليهم ،على الرغم من علمه أنهم يكنون له العداء؛
لنه دعاهم إلى ترك عبادة الصنام التي عبدوها آباءهم؛ ونهاهم عن إنقاص الكيل والميزان ،وأل
يبخسوا الناس أشياءهم؛ وسبق أن عذّب الحق سبحانه المخالفين لشرع ال من المم السابقة؛
ويذكرهم شعيب ـ عليه السلم ـ بأقرب من عُذّبوا زمانا ومكانا؛ وهم قوم لوط.
يقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك { :وَاسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّب ُكمْ ثُمّ تُوبُواْ إِلَ ْيهِ }
()1549 /
وَاسْ َت ْغفِرُوا رَ ّبكُمْ ُثمّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنّ رَبّي َرحِي ٌم وَدُودٌ ()90
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه الية تبين لنا أن الحق سبحانه ل يغلق أمام العاصي ـ حتى ال ُمصِرّ على شيء من
المعصية ـ باب التوبة.
ويقول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ال أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره وقد
أضله في أرض فلة ".
ولنا أن نتخيل بماذا يشعر من فقد بعيره؛ وهذا البعير يحمل زاد صاحبه ورَحْله؛ ثم يعثر الرجل
على بعيره هذا.
ل بد ـ إذن ـ أن يفرح صاحب البعير بالعثور عليه.
والحق سبحانه يقول هنا ما جاء على لسان شعيب ـ عليه السلم ـ لقومه:
{ وَاسْ َت ْغفِرُواْ رَ ّبكُمْ ثُمّ تُوبُواْ إِلَ ْيهِ } [هود.]90 :
وما دمتم ستستغفرونه عن الذنوب الماضية؛ وتتوبون إليه؛ بأل تعودوا إلى ارتكابها مرة أخرى؛
فالحق سبحانه ل يرد مَنْ قصد بابه { :إِنّ رَبّي رَحِي ٌم وَدُودٌ } [هود ]90 :لن مغفرته تستر
العذاب ،ورحمته تمنع العذاب.
وجاء الحق سبحانه هنا بأوسع المعاني :المغفرة ،والرحمة ،ومعهما صفته " الودود "؛ وهي من
الود؛ والود هو الحب؛ والحب يقتضي العطف على قدر حاجة المعطوف عليه.
ول المثل العلى :نرى الم ولها ولدان :أولهما قادر ثري يأتي لها بما تريد؛ وثانيهما ضعيف
فقير؛ فنجد قلب الم ـ دائما ـ مع هذا الضعيف الفقير؛ وتحنّن قلب القويّ القادر على الفقير
الضعيف.
ونجد المرأة العربية القديمة تجيب على من سألها :أي أبنائك أحب إليك؟ فتقول :الصغير حتى
يكبر؛ والغائب حتى يعود؛ والمريض حتى يشفى.
إذن :فالحب يقتضي العطف على قدر الحاجة.
ويقول الحق سبحانه في الحديث القدسي:
" يا بن آدم؛ ل َتخَافنّ من ذي سلطان؛ ما دام سلطاني باقيا؛ وسلطاني ل ينفد أبدا .يا بن آدم ل
تَخْشَ من ضيق رزق؛ وخزائني ملنة ،وخزائني ل تنفد أبدا .يا بن آدم خلقتك للعبادة؛ فل تلعب،
وضمنت لك رزقك فل تتعبَ ،فوَعِزّتي وجللي إن رضيت بما قسمتُه لك أرحتُ قلبك وبدنك؛
وكنتَ عندي محمودا؛ وإن أنت لم ترض بما قسمتُه لك؛ فوعزتي وجللي لسلّطنّ عليك الدنيا،
تركض فيها ركض الوحوش في البرية؛ ثم ل يكون لك منها إل ما قسمته لك .يا بن آدم خلقت
عيَ بخلقهنّ؛ أيعييني رغيف عيش أسوقه لك؟ يا بن آدم ل تسألني رزق
السموات والرض ولم أ ْ
حبّ؛ فبحقي عليك كنْ لي ُمحِبّا ".
غد كما أطلب منك عمل غدٍ .يا بن آدم أنا لك مُ ِ
وهذا الحديث الكريم يبيّن مدى مودة ال سبحانه لخلقه؛ تلك المودة التي ل تستوعبها القلوب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المشركة.
ويأتي الحق ـ سبحانه وتعالى ـ بعد ذلك بقول أهل مدين رَدّا على شعيب عليه السلم ـ:
شعَ ْيبُ مَا َن ْفقَهُ كَثِيرا }
{ قَالُواْ يا ُ
()1550 /
وهذا يُظاهي قول مشركي قريش لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقد قالوا:
حجَابٌ }[فصلت.]5 :
{ قُلُوبُنَا فِي َأكِنّةٍ ِممّا تَدْعُونَا إِلَ ْي ِه َوفِي آذانِنَا َوقْ ٌر َومِن بَيْنِنَا وَبَيْ ِنكَ ِ
واليمان يتطلب قلبا غير ممتلىء بالباطل؛ ليُحسن استقباله؛ أما القلوب الممتلئة بالباطل ،فهي غير
قادرة على استقبال اليمان؛ إل إذا أخلت العقولُ تلك القلوبَ من الباطل ،وناقشت العقول كُلً من
الحق والباطل ،ثم تأذن لما اقتنعت به أن يدخل القلوب.
ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يطبع ويختم على القلوب الممتلئة بالكفر؛ فل يخرج منها الكفر
ول يدخل فيها اليمان.
ولم يكتف أهل مدين بإعلن الكفر؛ بل هددوا شعيبا وقالوا:
ك َومَآ أَنتَ عَلَيْنَا ِبعَزِيزٍ } [هود.]91 :
جمْنَا َ
طكَ لَرَ َ
ضعِيفا وََلوْلَ رَ ْه ُ
{ وَإِنّا لَنَرَاكَ فِينَا َ
وهذا التهديد يحمل تحدّيا ،وكأنهم ظنوا أن بقدرتهم الفتك به؛ لنهم يبغضون حياته؛ وأعلنوا حجة
واهية؛ وهي أن رهطه ـ أي :قومه وأهله؛ لن الرهط هم الجماعة التي يتراوح عدد أفرادها بين
ثلثة وعشرة أفراد ـ ما زالوا على عبادة الصنام؛ وأن هذا الرهط سيغضب لي ضرر يصيب
شعيبا؛ وتناسوا أن الذي أرسل شعيبا ـ عليه السلم ـ ل بد أن يحميه ،وهم ـ بتناسيهم هذا ـ
حققوا مشيئة ال ـ عز وجل ـ بأن يُسخّر الكفر لخدمة اليمان.
ومثال ذلك :هو بقاء عم النبي صلى ال عليه وسلم أبي طالب على دين قومه؛ وقد ساهم هذا
المر في حماية محمد صلى ال عليه وسلم في ظاهر السباب
ثم يأتي الحق سبحانه من بعد ذلك بردّ شعيب عليه السلم على قومه؛ فيقول { :قَالَ يا َقوْمِ أَرَ ْهطِي
أَعَزّ عَلَ ْيكُم مّنَ اللّهِ }
()1551 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظهْرِيّا إِنّ رَبّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ مُحِيطٌ ()92
خذْ ُتمُو ُه وَرَا َءكُمْ ِ
قَالَ يَا َقوْمِ أَرَ ْهطِي أَعَزّ عَلَ ْيكُمْ مِنَ اللّ ِه وَاتّ َ
وهنا يتساءل شعيب عليه السلم باستنكار :أوضعتم رهطي في كفة؛ ومعزّة ال تعالى في كفة؟
وغلّبتم خوفكم من رهطي على خوفكم من ال؟! ولم يأبه شعيب عليه السلم باعتزازهم برهطه
أمام اعتزازه بربه؛ لنه أعلن ـ من قبل ـ توكله على ال؛ ولنه يعلم أن العزة ل تعالى أولً
وأخيرا.
ولم يكتفوا بذلك العتزاز بالرهط عن العتزاز بال؛ بل طرحوا التفكير في اليمان بال وراء
ظهورهم؛ لن شعيبا عليه السلم يقول لهم:
ظهْرِيّا } [هود.]92 :
{ وَاتّخَذْ ُتمُوهُ وَرَآ َءكُمْ ِ
أي :لم يجعلوا ال سبحانه ـ أمامهم ،فلم يأبهوا بعزة ال؛ ول بحماية ال؛ وجعلوا لبعض خلقه
معزّة فوق معزّة ال.
ظهْرِيّا) نسبة إلى (الظهر) ،فعندما ننسب تحدث تغييرات ،فعندما ننسب إلى اليمن
ولم يقلِ ( :
نقول :يمنيّ .ونقول :يمانيّ ،فالنسب هنا إلى الظهري ،وهي المنسي والمتروك ،فأنت ساعة تقول:
أنت طرحت فلنا وراء ظهرك ،يعني جعلته بعيدا عن الصورة بالنسبة للحداث ،ولم تحسب له
حسابا .إذن :فهناك تغييرات تحدث في باب النسب.
ويذكّرهم شعيب عليه السلم بقوله:
{ إِنّ رَبّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ مُحِيطٌ } [هود.]92 :
أي :أن كل ما تقولونه أو تفعلونه محسوب عليكم؛ لن الحق سبحانه ل تخفَى عليه خافية ،وقد
سبق أن عرفنا أن القول يدخل في نطاق العمل؛ فكلّ حدث يقال لهم " :عمل "؛ وعمل اللسان هو
القول؛ وعمل بقية الجوارح هو الفعال.
وقد شرّف الحق سبحانه القول لنه وسيلة العلم الولى عنه سبحانه.
عمَلُواْ عَلَىا
يقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما جاء على لسان شعيب عليه السلم { :وَيا َقوْمِ ا ْ
َمكَانَ ِتكُمْ }
()1552 /
س ْوفَ َتعَْلمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ ُيخْزِي ِه َومَنْ ُهوَ كَا ِذبٌ
عمَلُوا عَلَى َمكَانَ ِتكُمْ إِنّي عَا ِملٌ َ
وَيَا َقوْمِ ا ْ
وَارْتَقِبُوا إِنّي َم َعكُمْ َرقِيبٌ ()93
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فشعيب عليه السلم عنده القضية المخالفة؛ لن ال تعالى عنده أعزّ من رهطه؛ وباعتزازه
بربه قد آوى إلى ركن شديد ،وبهذا اليمان يعلن لهم :افعلوا ما في وُسْعكم ،وما في ُمكْنتكم هو ما
في ُمكْنة البشر ،وسأعمل ما في ُمكْنتي ،ولست وحدي ،بل معي ال سبحانه وتعالى؛ ولن تتسامى
قوتكم الحادثة على قدرة ال المطلقة.
ومهما فعلتم لمعارضة هذا الصلح الذي أدعوكم إليه؛ فلن يخذلني الذي أرسلني؛ وما دمتم
تريدون الوقوف في نفس موقف المم السابقة التي تصدت لموجات الصلح السماوية؛ فهزمهم
ال سبحانه بالصيحة ،وبالرجفة ،وبالريح الصرصر ،وبالقذف بأي شيء من هذه الشياء ،وقال
لهم :اعملوا على مكانتكم ،وإياكم أن تتوهموا أني أتودد إليكم؛ فأنا على بينة من ربي ،ولكني أحب
الخير لكم ،وأريد لكم الصلح.
ولم َي ُقلْ شعيب عليه السلم هذا القول عن ضعف ،ولكن قاله ردّا على قولهم:
جمْنَاكَ }[هود.]91 :
طكَ لَرَ َ
ضعِيفا وََلوْلَ رَ ْه ُ
{ وَإِنّا لَنَرَاكَ فِينَا َ
وأبرز لهم مكانته المستمدة من قوة مَنْ أرسله سبحانه وتعالى ،وقال:
عمَلُواْ عَلَىا َمكَانَ ِتكُمْ إِنّي عَا ِملٌ } [هود.]93 :
{اْ
س ْوفَ َتعَْلمُونَ مَن
وهكذا أوضح لهم :أنا لن أقف مكتوف اليدي ،لني سأعمل على مكانتي ،و { َ
عذَابٌ يُخْزِيهِ َومَنْ ُهوَ كَا ِذبٌ وَارْ َتقِبُواْ إِنّي َم َعكُمْ َرقِيبٌ } [هود.]93 :
يَأْتِيهِ َ
أي :أن المستقبل سوف يبيّن مَنْ مِنّا على الحق ومَنْ مِنّا على الضلل ،ولم سيكون النصر
والغلبة ،ومن الذي يأتيه الخزي؛ أي :أن يشعر باحتقار نفسه وهوانها؛ ويعاني من الفضيحة أمام
الخلق؛ ومَنْ مِنّا الكاذب ،ومَنْ على الحق.
شعَيْبا وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ }
وكان ل بد أن تأتي الية التالية { :وََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا نَجّيْنَا ُ
()1553 /
ونلحظ أن الحق سبحانه قد أورد في هذه السورة :أسلوبين منطوقين أحدهما بالواو ،والخر بالفاء.
الول { :وََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا } [هود ،]94 :في قصة اثنين آخرين من الرسل.
الثاني {:فََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا }[هود.]66 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في قصة اثنين من الرسل.
وقصة شعيب هي إحدى القصتين اللتين جاء فيهما { وََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا } ولم يأت بـ " الفاء " لنها
ـ كما نعلم ـ تقتضي التعقيب بسرعة ،وبدون مسافة زمنية؛ وتسمى في اللغة " فاء التعقيب " ،
مثل قول الحق سبحانه:
{ ُثمّ َأمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ }[عبس.]21 :
أما " ثم " فتأتي لتعقيب مختلف؛ وهو التعقيب بعد مسافة زمنية؛ مثل قول الحق سبحانه:
{ ُثمّ إِذَا شَآءَ أَنشَ َرهُ }[عبس.]22 :
وقد جاءت " الفاء " مرة في قصة قوم لوط؛ لن الحق سبحانه قد حدد الموعد الذي ينزل فيه
العذاب ،وقال:
{ إِنّ َموْعِدَهُمُ الصّبْحُ َألَيْسَ الصّبْحُ ِبقَرِيبٍ }[هود.]81 :
فكان ل بد أن تسبق " الفاء " هذا الحديث عن عذابهم ،فقال:
سجّيلٍ مّ ْنضُودٍ }[هود.]82 :
حجَا َرةً مّن ِ
جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهَا ِ
{ فََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا َ
أما هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،فقد قال الحق سبحانه:
شعَيْبا وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ } [هود.]94 :
{ وََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا َنجّيْنَا ُ
ولم يذكر وعدا ولم يحدد موعد العذاب.
والحق سبحانه يقول:
{ وََلمّا جَآءَ َأمْرُنَا } [هود.]94 :
وكل أمر يقتضي آمرا؛ ويقتضي مأمورا؛ ويقتضي مأمورا به.
والمر هنا هو ال سبحانه؛ وهو القادر على إنفاذ ما يأمر به ،ول يجرؤ مأمور ما على مخالفة ما
يأمر به الحق سبحانه؛ فالكون كله يأتمر بأمر خالقه.
إذن :فحين يخبرنا الحق سبحانه وتعالى أن العذاب قد جاء لقوم؛ فمعنى ذلك أن المر قد صدر؛
ولم يتخلف العذاب عن المجيء؛ لن التخلف إنما ينشأ من مجازفة أمر لمأمور قد ل يطيعه ،ول
يجرؤ العذاب على المخالفة لنه مُسخّر ،ل اختيار له.
والقائل هنا هو ال سبحانه صاحب المر الكوني والمر التشريعي؛ فإذا قال الحق سبحانه حكما
من الحكام وسجله في القرآن؛ فتيقن من أنه حادث ل محالة؛ لن القضية الكونية هي من الحق
سبحانه وتعالى ،ول تتخلف أو تختلف مع مشيئته سبحانه ،والحكم التشريعي يسعد به مَنْ يُطّبقه؛
ويشقى من يخالفه.
جلّ شأنه:
والحق سبحانه يعطينا مثالً لهذا في قصة أم موسى ..يقول َ
خفْتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َيمّ }[القصص.]7 :
ضعِيهِ فَِإذَا ِ
{ وََأوْحَيْنَآ ِإلَىا أُمّ مُوسَىا أَنْ أَ ْر ِ
خفْتِ على ابنك ألقيه في البحر؟ كيف ننجيه من موت
فمنطق البشر يقول :كيف نقول لمرأة :إذا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مظنون إلى موت محقق؟
هذا وإن كان مخالفا لسنن العادة إل أن أم موسى سارعت لتنفيذ أمر ال سبحانه؛ لن أوامر ال
باللهام للمقربين ،ل يأتي لها معارض في الذهن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ول يقدر على ذلك إل إله قادر مقتدر؛ يُصرّف المور كما يشاء سبحانه.
وكلمة " نجينا " :من النجاة؛ أي :أن يوجد بنجوة؛ وهي المكان العالي ،والعرب قد عرفوا مبكرا
طغيان الماء؛ فقد كانوا يقيمون في اليمن ثم بعثرهم السيل مصداقا لقول الحق سبحانه:
شكُرُواْ َلهُ بَلْ َدةٌ طَيّبَةٌ
شمَالٍ كُلُواْ مِن رّ ْزقِ رَ ّبكُ ْم وَا ْ
ن وَ ِ
سكَ ِنهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَن َيمِي ٍ
{ َلقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَ ْ
ط وَأَ ْثلٍ
خمْ ٍ
غفُورٌ * فَأَعْ َرضُواْ فَأَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِمْ سَ ْيلَ ا ْلعَرِ ِم وَبَدّلْنَا ُهمْ ِبجَنّتَ ْيهِمْ جَنّتَيْنِ َذوَا َتىْ ُأ ُكلٍ َ
وَ َربّ َ
سدْرٍ قَلِيلٍ }[سبأ15 :ـ .]16
شيْءٍ مّن ِ
وَ َ
هكذا تفرق العرب من اليمن؛ وانتشروا في الجزيرة العربية ،وكانوا يخافون من الماء ـ رغم أنه
سر الحياة؛ وفضّلوا التعب في البحث عن الماء للشرب لهم ولنعامهم؛ بدلً من الوجود بجانب
الماء ،ومن عداوة الماء جاءت كلمة " نجا " أي :صعد إلى مكان مرتفع.
واستخدمت كلمة " نجا " في كل موقف ينجو فيه النسان من الخطر الداهم ،فيقال " :نجا من النار
"؛ " ونجا من العدو "؛ " ونجا من الحيوان المفترس "؛ وكلها مأخوذة من النجوة ،أي :المكان
المرتفع .ويقال في الفعل (نجا) :نجا فلن ،إذا كانت قوته تسعفه ليخلص نفسه من العذاب.
أما إذا كانت قوته غير قادرة على تخليصه من العذاب ،فهو يحتاج إلى مَنْ يُنجيه ،ويُقال " :أنجاه
" ،إذا كانت المسألة تحتاج إلى جهد ومعالجة صعبة ليتحقق الفوز.
ونسب الفعل فيها إلى ال؛ فقال " نجينا ".
ويأتي الحق سبحانه في مثل هذا المر بضمير الجمع ،كقوله تعالى:
{ إِنّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ ا ْلقَدْرِ }[القدر.]1 :
فكل شيء فيه فعل من الحق سبحانه وتعالى يأتي ال فيه بضمير الجمع :إنّا.
أما إذا كان الشيء متعلقا بصفة من صفات الذات اللهية ،فإن الحق سبحانه يأتي بضمير الفراد
(أنا) مثل قوله تعالى:
{ إِنّنِي أَنَا اللّهُ }[طه.]14 :
وقد أنجى الحق سبحانه شعيبا والذين آمنوا معه؛ لن شعيبا عليه السلم قال لقومه:
عمَلُواْ عَلَىا َمكَانَ ِتكُمْ إِنّي عَا ِملٌ }[هود.]93 :
{اْ
وكان عمل شعيب عليه السلم فيه صحة وعزيمة التوكل؛ لذلك أنجاه ال تعالى والذين آمنوا معه،
فهو سبحانه ل يريد من عباده إل التوجه بالنية الخالصة الصادقة إليه ،فإذا توجّه العبد بالنية
الصادقة إلى ال ،فالحق سبحانه يريح العبد ،ويُعينه بالطمئنان على أداء أي عمل.
ومجرد اليمان بال تعالى والتجاه إليه بصدق وإخلص؛ يفتح أمام العبد آفاقا من النجاح
والرفعة ..والمفتاح في يد العبد؛ لن الحق سبحانه قد قال في الحديث القدسي:
" من ذكرني في نفسه ذكرته في مل خير منه ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فالمفتاح في يد العبد.
والحق سبحانه هو القائل:
" ومن تقرّب إليّ شبرا تقرّبتُ إليه ذراعا ".
وهكذا يترك الحق سبحانه أمر التقرب إليه للعبد ،وعندما يتقرب العبد من ال تعالى ،فإنه سبحانه
يتقرّب إلى العبد أكثر وأكثر.
ثم يقول الحق سبحانه في حديثه القدسي:
" ومن جاءني يمشي أتيته هرولة " لن المشي قد يُتعب العبد ،لكن ل شيء يُتعب الحق سبحانه
أبدا؛ لنه مُن ّزهٌ عن ذلك.
إذن :فالحق سبحانه يريد منا أن نُخلص النية في اللتحام بمعية ال تعالى ،ليضفي علينا ربنا
سبحانه من صفات جلله وصفات جماله.
وانظروا إلى سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ومعه أبو بكر الصديق رضي ال عنه في
الغار ..يقول الحق سبحانه:
{ ِإذْ َيقُولُ ِلصَاحِ ِب ِه لَ تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ َمعَنَا }
[التوبة.]40 :
أي :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ينهى صاحبه عن الحزن بعلة معية ال سبحانه وتعالى،
ول بد أن أبا بكر الصديق قد قال كلما يفيد الحزن؛ لن الحزن لم يأت له من تلقاء نفسه ،بل من
قانونٍ كوني ،حين قال لرسول ال صلى ال عليه وسلم " :لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا " لكن
رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يتكلم عن القانون الكوني ،لكنه يتكلم عن طلقة قدرة المكوّن
سبحانه ،فقال " :ما ظنك باثنين ال ثالثهما؟ ".
فمعية ال أضفت عليهما شيئا من جلله وجماله ،وال سبحانه ل تدركه البصار ،وهو يدرك
البصار.
وقد أنجى الحق سبحانه شعيبا والذين آمنوا معه برحمة منه سبحانه ،والرحمة أل يصيبك شيء.
ومثال ذلك :إن النسان يعالج فيشفى ،ومرة أخرى يحميه ال من الداء.
ولذلك انتبهوا إلى حقيقة أن القرآن قد جاء بأمرين :شفاء ،ورحمة ،فإذا كان هناك داء وترجعه
إلى منهج ال؛ فالحق سبحانه يشفيه ،والرحمة أل يصيبك الداء من البداية.
وأما الذين ظلموا فقد أخذتهم الصيحة ،وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{ وََأخَذَ الّذِينَ ظََلمُواْ الصّ ْيحَةُ }[هود.]67 :
وفي هذه الية يقول الحق سبحانه:
حةُ { [هود.]94 :
} وََأخَ َذتِ الّذِينَ ظََلمُواْ الصّيْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لن القرآن على جمهرته جاء على لغة قريش ،ل ل ُيعْلي قريشا؛ ولكن لن لغة قريش كانت مُصفّاة
من جميع القبائل العربية ،فهي تملك صفوة لغة كل القبائل ،ولكن لم يكن ذلك يعني أن نطمس بقية
القبائل.
ولذلك جاء في القرآن بعض من لغات القبائل الخرى ،حتى ل يعطي لقريش سيادة في السلم
كما كان لها سيادة في الجاهلية ،لذلك يأتي بلغات القبائل الخرى ،فمرة ياتي بتاء التأنيث ومرة ل
يأتي بها.
والتأنيث إما أن يكون حقيقيا أو مجازيا .والتأنيث الحقيقي هو المقابل للمذكر ،مثل :المرأة.
والتأنيث المجازي مثل " :الصيحة " و " الحجرة " .وكانت القبائل العربية تتجاوز في المؤنث
المجازي؛ فمرة تأتي " التاء " ومرة ل تأتي.
وإن كان هناك َفصْل بين الفعل والفاعل ،فالفاصل قائم مقام التأنيث فيقول سبحانه:
{ وََأخَذَ الّذِينَ ظََلمُواْ الصّ ْيحَةُ }[هود.]67 :
فكأن الصيحة لها مقدرة على أن تأخذ بما أودعه فيها مُرسِل الصيحة من قوة الخذ ،وأخذه أليم
شديد.
ويُنهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله تعالى:
} فََأصْبَحُواْ فِي دِيَا ِرهِمْ جَا ِثمِينَ { [هود.]94 :
ونلحظ أن كل عذاب إنما يحدد له الحق سبحانه موعدا هو الصبح ،مثل قوله تعالى:
{ إِنّ َموْعِدَهُمُ الصّبْحُ َألَيْسَ الصّبْحُ ِبقَرِيبٍ }[هود.]81 :
ومثل قوله الحق:
{ َفسَآ َء صَبَاحُ ا ْلمُنْذَرِينَ }[الصافات.]177 :
والصبح هو وقت الهجمة على الغافل الذي لم يغادره النوم بعد ،مثل ُزوّار الفجر الذين يقبضون
على الناس قبيل النهار.
ويقول الحق سبحانه:
} فََأصْبَحُواْ فِي دِيَا ِرهِمْ جَا ِثمِينَ { [هود.]94 :
ولم يقل سبحانه " :فأصبحوا في دارهم جاثمين "؛ لن بعضهم قد ل يكون في بيته ،بل في مكان
آخر لزيارة أو تجارة.
ومثال ذلك :قصة أبي رغال ،وكان في مكة ،لكن الحجر الذي قتله بإرادة ال سبحانه نزل عليه
في البقاع ولم ينزل عليه الحجر في مكة؛ لن ال سبحانه قد شاء أل ينزل عليه الحجر في البيت
الحرام ،المن ،وكأن الحجر قد تتّبعه ،مثلما تتبعت الصيحة الكفار من أهل مدين.
ونلحظ في الكلمة الخيرة من هذه الية الكريمة وهي " جاثمين " أن حرفي " الجيم " و " الثاء "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حين يجتمعان معا ـ بصرف النظر عن الحرف الثالث ،ففيهما شيء من الهلك ،وشيء من
الغنائية .ومعنى " جاثمين " أي :مُلقَون على بطونهم بل حراك.
والحق سبحانه يقول:
{ وَتَرَىا ُكلّ ُأمّةٍ جَاثِيَةً }[الجاثية.]28 :
أي :يركع كل مَنْ فيها على ركبتيه .ويقال عن الميت " :الجثة ".
وانظروا إلى عظمة الحق سبحانه حين يجعل الناس تنطق لفظ " الجثة " تعبيرا عن أي " ميت "
عظيما كان أم وضيعا ،ثم توضع جثته في القبر ،لتحتضنه أمه الولى؛ الرض.
ومن يرغب في تهدئة إنسان ملتاع وغاضب لموت عزيز عليه ،فَلْي ُقلْ له :هل تتحمل جثمانه
أسبوعا؟ وسوف يجيب " :ل ".
إذن :فبمجرد أن ينزع ال سبحانه السر الذي به كان النسان إنسانا ،وهو الروح ،يصبح النسان
جثة ثم يتخشب ،ثم يَ ِرمّ.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك وصفا لمن أخذتهم الصيحة من أهل " مدين " } :كَأَن لّمْ َيغْ َنوْاْ فِيهَآ {
()1554 /
كَأَنْ لَمْ َيغْ َنوْا فِيهَا أَلَا ُب ْعدًا ِلمَدْيَنَ َكمَا َبعِ َدتْ َثمُودُ ()95
أي :أن من يمر على أهل " مدين " بعد ذلك كأنهم لم يكن لهم وجود.
والحق سبحانه يقول:
ت الَ ْرضُ ُزخْ ُر َفهَا وَازّيّ َنتْ وَظَنّ أَهُْلهَآ أَ ّنهُمْ قَادِرُونَ عَلَ ْيهَآ أَتَاهَآ َأمْرُنَا }[يونس:
خ َذ ِ
{ حَتّىا إِذَآ أَ َ
.]24
فالنسان الذي ارتقى حتى وصل إلى الحضارات المتعددة ،إلى حد أنه قد يطلب القهوة بالضغط
على زر آلة ،فإذا شاء ال سبحانه أزال كل ذلك في لمح البصر.
هذه الحياة المرفهة يستمتع فيها النسان كمخدوم ،وهي غير الجنة التي ينال فيها النسان ما
يشتهي بمجرد أن يخطر المر بباله.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ كَأَن لّمْ َيغْ َنوْاْ فِيهَآ } [هود.]95 :
ومادة " الغنى " منها :الغناء ـ بكسر الغين ـ وهو ما يغنيه المطربون ،ومنها الغناء ـ بفتح
الغين ـ وهو يؤدي إلى الشيء الذي يغنيك عن شيء آخر ،فالغنى بالمال يكتفي عما في أيدي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الناس.
وهكذا الغناء؛ لن الذن تسمع كثيرا ،والعين تقرأ كثيرا ،لكن النسان ل يردد إل الكلم الذي
يعجبه ،والملحّن بطريقة تعجبه؛ فالغناء هو اللحن المستطاب الذي يغنيك عن غيره.
والغَناء ،أي :القامة في مكان إقامةً تغنيك عن الذهاب إلى مكان آخر ،وتتوطن في هذا المكان
الذي يغنيك عن بقية الماكن.
إذن :فقول الحق سبحانه:
{ كَأَن لّمْ َيغْ َنوْاْ فِيهَآ } [هود.]95 :
أي :كأنهم لم يقيموا هنا ،ويستغنوا بهذا المكان عن أي مكان سواه.
ويقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن الكريم:
حصِيدٌ }[هود.]100 :
{ مِ ْنهَا قَآئِمٌ وَ َ
أي :أن الطلل قائمة بما تحتويه من أحجار ورسوم ،مثل معابد قدماء المصريين ،وأنت حين
تزورها ل تجد المعابد كلها سليمة ،بل تجد عمودا منتصبا ،وآخر مُلْقىً على الرض،ـ وبابا غير
سليم ،ولو كانت كلها حصيدا؛ لختفت تماما ،ولكنها بقايا قائمة ،ومنها ما اندثر.
وهذا يثبت لنا صدق الداء القرآني بأنه كانت هناك حضارات ،لنها لو ذهبت كلها؛ لما عرفنا أن
هناك حضارات قد سبقت.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ َألَ ُبعْدا ّلمَدْيَنَ َكمَا َبعِ َدتْ َثمُودُ } [هود.]95 :
وكلمة " أل " ـ كما عرفنا من قبل ـ هي " أداة استفتاح " ليلتفت السامع وينصت،فل تأخذه غفلة
عن المر المهم الذي يتكلم به المتكلم ،وليستقبل السامع الكلم كله استقبال المستفيد.
وكلمة " ُبعْدا " ليست دعاءً على أهل مدين بالبعد؛ لنها هلكت بالفعل ،ومادة كلمة " ُبعْدا " هي" :
الباء " و " العين " و " الدال " وتستعمل استعمالين :مرة تريد منها الفراق؛ والفراق بينونة إلى لقاء
مظنون ،إما إذا كانت إلى بينونة متيقنة أل تكون ،ولذلك جاء بعدها:
{ َكمَا َبعِ َدتْ َثمُودُ } [هود.]95 :
وهي تدل على أنه بعدٌ ل لقاء بعده إل حين يجمع الحق سبحانه الناس يوم القيامة.
والشاعر يقولَ :يقُولُون ل تبعدْ وهُمْ يَدفِنُونَني وأينَ َمكَانُ البُعدِ إل مَكانِيَافهذا هو البعد الذي يذهب
إليه النسان ول يعود.
خصّ الحق سبحانه ثمود بالذكر هنا ،وقد سبق أن قال سبحانه عن أقوام آخرين " :أل بعدا "؟
ولما َ
لن الصيحة قد جاءت لثمود ،وبذلك اتفقوا في طريقة العذاب.
وتنتهي هنا قصة شعيب عليه السلم مع مدين ،ونلحظ أن لها مساسا برسلٍ مثل موسى عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السلم ،مثلما كان لقوم لوط مساس بإبراهيم عليه السلم.
وهكذا نعلم أن هناك رسلً قد تعاصرت ،أي :أن كل واحد منهم أرسل إلى بيئة معينة ومكان
معين .ولن المرسل إليهم هم عبيد ال كلهم؛ لذلك أرسل لكل بيئة رسولً يناسب منهجه عيوب
هذه البيئة.
وإبراهيم عليه السلم هو عم لوط عليه السلم ،وموسى عليه السلم هو صهر شعيب عليه
السلم .وقد ذهب موسى إلى أهل مدين قبل أن يرسله ال إلى فرعون.
ونحن نعلم أن الماكن في الزمنة القديمة كانت منعزلة ،ويصعب بينها التصال ،وكل جماعة
تعيش في موقع قد ل يدرون عن بقية المواقع شيئا ،وكل جماعة قد يختلف داؤها عن الخرى.
لكن حين أراد الحق سبحانه بعثة محمد صلى ال عليه وسلم كرسولٍ خاتمٍ ،فقد علم الحق سبحانه
أزلً أن رسول ال صلى ال عليه وسلم على ميعاد مع ارتقاء البشرية ،وقد توحدت الداءات.
فما يحدث الن في أي مكان في العالم ،ينتقل إلينا عبر القمار الصناعية في ثوانٍ معدودة ،لذلك
كان ل بد من الرسول الخاتم صلى ال عليه وسلم.
أما تعدد الرسل اللقطات لكل رسول بالقرآن ،فليست تكرارا كما يظن السطحيون؛ لن الصل في
القصص القرآني أن الحق سبحانه قد أنزله لتثبيت الرسول صلى ال عليه وسلم ،فقد كانت اليات
تنزل من السماء الدنيا بالوحي لتناسب الموقف الذي يحتاج فيه الرسول صلى ال عليه وسلم إلى
تثبيت للفؤاد.
ويبيّن الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم أن يتذكر إخوانه من الرسل وما حدث لهم مع
أقوامهم وانتصار ال لهم في النهاية ،وحين أراد الحق سبحانه أن يقص قصة محبوكة جاء بسورة
يوسف.
وهكذا فليس في القرآن تكرار ،بل كل لقطة إنما جاءت لتناسب موقعها في تثبيت الرسول صلى
ال عليه وسلم.
ولنا أن نلحظ أن قصة شعيب عليه السلم مع قومه ،ما كان يجب أن تنتهي إل بأن تأتي فيها لقطة
من قصة موسى عليه السلم ،وهو صهر شعيب عليه السلم.
والملحظ أن الحق سبحانه قد ذكر هنا من قصة موسى عليه السلم لقطتين:
اللقطة الولى :هي الرسال باليات إلى فرعون.
واللقطة الثانية :هي خاتمة فرعون ل مع موسى عليه السلم ،ولكن مع الحق سبحانه يوم القيامة،
يقول تعالى:
{ َيقْ ُدمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فََأوْرَدَ ُهمُ النّا َر وَبِئْسَ ا ْلوِرْدُ ا ْل َموْرُودُ * وَأُتْ ِبعُواْ فِي هَـا ِذهِ َلعْ َن ًة وَ َيوْمَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْلقِيَامَةِ بِئْسَ ال ّر ْفدُ ا ْلمَ ْرفُودُ }[هود98 :ـ .]99
وكان لشعيب عليه السلم مهمة تثبيت قلب موسى عليه السلم من الهلع ،حين أعلن له أنه خائف
من أن يقتله قوم فرعون لنه قتل رجلً منهم ،فقال له شعيب عليه السلم ما ذكره الحق سبحانه
في قوله:
ج ْوتَ مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ }[القصص.]25 :
{ َن َ
وهكذا ثبّته وهيّأ له حياة يعيش فيها آمنا لمدة ثماني حجج أو أن يتمها عشر حجج ،مصداقا لقول
الحق سبحانه:
عشْرا َفمِنْ
حجَجٍ فَإِنْ أَ ْت َم ْمتَ َ
علَىا أَن تَأْجُرَنِي َثمَا ِنيَ ِ
حكَ ِإحْدَى ابْنَ َتيّ هَاتَيْنِ َ
{ قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِ َ
شقّ عَلَ ْيكَ سَ َتجِدُنِي إِن شَاءَ اللّهُ مِنَ الصّالِحِينَ * قَالَ ذَِلكَ بَيْنِي وَبَيْ َنكَ أَ ّيمَا
ك َومَآ أُرِيدُ أَنْ أَ ُ
عِن ِد َ
ي وَاللّهُ عَلَىا مَا َنقُولُ َوكِيلٌ }[القصص27 :ـ .]28
الَجَلَيْنِ َقضَ ْيتُ فَلَ عُ ْدوَانَ عََل ّ
وهكذا باشر شعيب عليه السلم مهمة في قصة موسى عليه السلم.
ومن هذا ومن ذلك يعطينا الحق سبحانه الدرس بأن الفطرة السليمة لها تقنينات قد تلتقي مع قانون
السماء؛ لن الحق سبحانه ل يمنع عقول البشر أن تصل إلى الحقيقة ،لكن العقول قد تصل إلى
الحقيقة بعد مرارة من التجربة ،مثلما قنّن الحق سبحانه الطلق في السلم ،ثم أخذت به بلد
أخرى غير مسلمة بعد أن عانت مُرّ المعاناة.
ومثلما حرّم الحق سبحانه الخمر ،ثم أثبت العلم مضارها على الصحة ،فهل كنا مطالبين بأن
نؤجل حكم ال تعالى إلى أن يهتدي العقل إلى تلك النتائج؟
ل؛ لن الحق سبحانه قد أنزل في القرآن قانون السماء الذي يقي النسان شر التجربة؛ لن الذي
أنزل القرآن سبحانه هو الذي خلقنا وهو مأمون علينا ،وقد أثبتت اليام صدق حكم ال تعالى في
كل ما قال بدليل أن غير المؤمنين بالقرآن يذهبون إلى ما نزل به القرآن ليطبقوه.
وفي قصة موسى عليه السلم مثل واضح على مشيئة الحق سبحانه ،فها هو فرعون الكافر قد قام
بتربية موسى بعد أن التقطه لعله يكون قرة عين له ،رغم أن فرعون كان يُقتّل أطفال تلك
الطائفة.
ثم تلحظ أخت موسى أخاها ،ويرد الحق سبحانه موسى عليه السلم إلى أمه.
وقد صوّر الشاعر هذا الموقف بقوله:إذا لَمْ تُصا ِدفْ في بَنِيكَ عِنَايةً مِنَ الِ فقدْ كَذبَ الرّاجِي
سلُوقد جاءت قصة
وخَابَ المأمُلفَمُوسَى الذي رَبّاهُ جِبريلُ كافرٌ ومُوسَى الذي ربّاه فِرْعونُ مُر َ
موسى عليه السلم هنا موجزة ،في البداية وفي النهاية؛ ليبيّن لنا الحق سبحانه أن لشعيب دورا
مع واحد من أولي العزم من الرسل ،وهو موسى عليه السلم،
وكان مقصود موسى عليه السلم قبل أن يبعث ـ هو ماء مدين ،فحدث ما يمكن أن نجد فيه حلً
لمشاكل الجنسين ـ الرجل والمرأة ـ وهي رأس الحربة التي تُوجّه إلى المجتمعات السلمية؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لن البعض يريد أن تتبذل المرأة في مفاتنها ،لغواء الشباب في أعز أوقات شراسة المراهقة.
حلّ هذه المسألة في رحلة بسيطة ،ولنقرأ قول الحق سبحانه عن موسى:
لكن القرآن َ
ن َووَجَدَ مِن دُو ِنهِمُ امْرَأَتَينِ تَذُودَانِ }
سقُو َ
جدَ عَلَيْهِ ُأمّةً مّنَ النّاسِ َي ْ
ن وَ َ
{ وََلمّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَ َ
[القصص.]23 :
أي :تمنعان الماشية من القتراب من المياه ،وكان هذا المشهد مُلْفتا لموسى عليه السلم ،وكان من
الطبيعي أن يتساءل :ألم تأتيا إلى هنا لتسقيا الماشية؟! وقال القرآن السؤال الطبيعي:
{ مَا خَطْ ُب ُكمَا }[القصص.]23 :
فتأتيه الجابة من المرأتين:
سقِي حَتّىا ُيصْدِرَ الرّعَآ ُء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ }[القصص.]23 :
{ قَالَتَا لَ َن ْ
وهكذا نعلم أن خروج المرأة له علة أن الب شيخ كبير ،وأن خروج المرأتين لم يكن بغرض
المزاحمة على الماء ،ولكن بسبب الضرورة ،وانتظرتا إلى أن يسقي الرعاة ،بل ظلّتا محتجبتين
بعيدا؛ لذلك تقدم موسى عليه السلم ليمارس مهمة الرجل:
سقَىا َل ُهمَا }[القصص.]24 :
{ َف َ
وهذه خصوصية المجتمع اليماني العام ،ل خصوصية قوم ،ول خصوصية قربى ،ول خصوصية
أهل ،بل خصوصية المجتمع اليماني العام.
فساعة يرى النسان امرأة قد خرجت إلى العمل ،فيعرف أن هناك ضرورة ألجأتها إلى ذلك،
فيقضي الرجل المسلم لها حاجتها.
وأذكر حين ذهبت إلى مكة في عام 1950م أن نزل صديقي من سيارته أمام باب منزلٍ ،وكان
يوجد أمام الباب لوح من الخشب عليه أرغفة من العجين التي لم تخبز بعد ،وذهب به إلى
المخبز ،ثم عاد به بعد خبزه إلى نفس الباب .وقال لي :إن هذه هي عادة أهل مكة ،إن وجد إنسان
لوحا من العجين غير المخبوز؛ فعليه أن يفعل ذلك؛ لن وجود هذا اللوح أمام الباب إنما يعني أن
الرجل رب البيت غائب.
وهذا كله مأخوذ من كلمة:
سقَىا َل ُهمَا }[القصص.]24 :
{ َف َ
وعمر بن الخطاب رضي ال عنه كان يأمر الجنود أن تدق البواب لتسأل أهل البيوت عن
حاجاتهم.
والمر الثالث والمهم هو أن المرأة التي تخرج إلى مهمة عليها أل تستمرىء ذلك ،بل تأخذها
على قدر الضرورة ،فإذا وجدت منفذا لهذه الضرورة ،فعليها أن تسارع إلى هذا المنفذ ،ولذلك
قالت الفتاة لبيها شعيب:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمِينُ }[القصص.]26 :
{ ياأَ َبتِ اسْتَأْجِ ْرهُ إِنّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَ ْرتَ ا ْل َق ِويّ ا َ
ويُنهي شعيب عليه السلم هذا الموقف إنهاءً إيمانيا حكيما حازما ،فيقول لموسى:
عشْرا َفمِنْ
حجَجٍ فَإِنْ أَ ْت َم ْمتَ َ
علَىا أَن تَأْجُرَنِي َثمَا ِنيَ ِ
حكَ ِإحْدَى ابْنَ َتيّ هَاتَيْنِ َ
{ قَالَ إِنّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِ َ
عِن ِدكَ }[القصص.]27 :
وهكذا يعلم موسى ـ عليه السلم ـ أن شعيبا ل يُلقي بابنته هكذا دون مهر ،ل ..بل ل بد أن
يكون لها مهر ،وأيضا تصبح أختها محرمة عليه.
وهذه القصة وضعت لنا مبادىء تحل كل المشكلت التي يتشدق بها خصوم السلم.
وهنا نحن نجد في الغرب صيحات معاصرة تطالب بأن تقوم المرأة بالبقاء في المنزل لرعاية
السرة والولد؛ ليس لن المرأة ناقصة ،ولكن لن كمال المرأة في أداء أسمى مهمة توكل إليها،
وهي تربية البناء.
ونحن نعلم أن طفولة النسان هي أطول أعمار الطفولة في كل الكائنات ،والبناء الذين ينشأون
برعاية أم متفرغة يكونون أفضل من غيرهم.
وهكذا نتعلم من قصة شعيب عليه السلم مع موسى عليه السلم.
وهنا يقول الحق سبحانه } :وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىا بِآيَاتِنَا {
()1555 /
ونحن نعلم أن اليات إذا وردت في القرآن إنما تنصرف إلى ثلثة أشياء:
آيات كونية تعاصر كل الناس ويراها كل واحد ،مثل آيات الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم
والرض الخاشعة إذا ما نزل عليها الماء اهتزت وربت ،وكلها آيات كونية تلفت العقل إلى النظر
في أن وراء هذا الكون الدقيق تكوينا هندسيا أقامه إله قادر.
وهناك آيات تأتي لبيان صدق الرسول في البلغ عن ال ،وهي المعجزات مثل :ناقة ثمود
المبصرة ،وشفاء عيسى عليه السلم للكمه والبرص بإذن ال.
ثم آيات الحكام التي تبيّن مطلوبات المنهج بـ " افعل " و " ل تفعل ".
وهنا قال الحق سبحانه:
{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مُوسَىا بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مّبِينٍ } [هود.]96 :
فهناك آيات تدل على صدقه ،وفوق ذلك سلطان ظاهر ،إما أن يكون سلطانا يقهر الغالب ،أو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سلطان حجة تقنع العقل.
وسلطان القوة قد يقهر الغالب ،لكنه ل يقهر القلب ،وال سبحانه يريد قلوبا ،ل قوالب؛ لذلك قال
سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم:
سمَآءِ آ َيةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
{ َلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ضعِينَ }[الشعراء3 :ـ .]4
خَا ِ
إذن :فالحق سبحانه يطلب القلوب ل القوالب ،قلوب تأتي إلى ال تعالى طواعية بدون إكراه.
لذلك فالسطان الهم هو سلطان الحجة؛ لنه يقنع النسان أن يفعل ..ولم يكن لموسى عليه السلم
ن من القوة ليظهر ،بل كان له سلطان الحجة ،وهو قول الحق سبحانه:
سلطا ٌ
حقّ
ن لّ َأقُولَ عَلَى اللّهِ ِإلّ الْ َ
حقِيقٌ عَلَى أَ ْ
عوْنُ إِنّي رَسُولٌ مّن ّربّ ا ْلعَاَلمِينَ * َ
{ َوقَالَ مُوسَىا يافِرْ َ
سلْ َم ِعيَ بَنِي ِإسْرَائِيلَ }[العراف104 :ـ .]105
قَدْ جِئْ ُتكُمْ بِبَيّنَةٍ مّن رّ ّبكُمْ فَأَرْ ِ
فيرد عليه فرعون:
عصَاهُ فَِإذَا ِهيَ ُثعْبَانٌ مّبِينٌ *
{ قَالَ إِن كُنتَ جِ ْئتَ بِآ َيةٍ فَ ْأتِ ِبهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ * فَأَ ْلقَىا َ
وَنَزَعَ َي َدهُ فَإِذَا ِهيَ بَ ْيضَآءُ لِلنّاظِرِينَ }[العراف106 :ـ .]108
وبياض اليد مسألة ذاتية في موسى عليه السلم ،وطارئة أيضا ،فلم تكن مرضا كالبهاق مثلً،
بدليل الحتياط في قوله تعالى:
حكَ تَخْرُجْ بَ ْيضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ }[طه.]22 :
ضمُمْ َي َدكَ إِلَىا جَنَا ِ
{ وَا ْ
أما العصا فهي الحجة التي دفعت فرعون إلى أن يأتي بالسحرة ،ليغلبهم موسى أمام فرعون
والمل ،فيتبع السحرة موسى ويؤمنوا برب موسى وهارون.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه قد أرسل موسى عليه السلم بتسع آيات هي :العصا التي تصير ثعبانا
يلقف ما صنع السحرة ،واليد البيضاء من غير سوء ،ثم أخذ آل فرعون بالسنين ،ونقص في
النفس والثمرات ،لن الجدب يمنع الزرع ،ونقص الموال يحقق المجاعة ،وكذلك أرسل الحق
سبحانه على قوم فرعون الطوفان والجراد وال ُقمّل والضفادع ،هذه هي اليات التسع التي أرسلها
الحق سبحانه على آل فرعون ،بسبب عدم إيمانهم برسالة موسى عليه السلم.
وهناك آيات آخرى أرسلها الحق سبحانه لقوم موسى بواسطة موسى عليه السلم؛ هي نتق الجبل،
وضرب البحر بالعصا ،ثم ضرب الحجر بالعصا لتتفجر اثنتا عشرة عينا ،وكذلك نزول التوراة
في ألواح.
إذن :فالكلم في اليات التسع المقصود بها اليات التي أرسل بها موسى إلى فرعون ،أما هذه
اليات فقد كانت بعد الخروج من مصر أو مصاحبة له كضرب البحر بالعصا.
والدليل على أن قصة موسى مع فرعون خاصة ،أن موسى كانت له رسالتان :الرسالة الولى مع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فرعون ،والرسالة الثانية مع بني إسرائيل.
ولذلك نلحظ أن الحق سبحانه وتعالى يخبرنا في آخر السورة بالخلف بين موسى عليه السلم
وبني إسرائيل:
{ وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا ا ْلكِتَابَ فَاخْتُِلفَ فِيهِ }[هود.]110 :
إذن :فقصته مع بني إسرائيل تأتي بعد إيتائه الكتاب ،أي :التوراة.
وهنا يتكلم الحق سبحانه عن آيات موسى عليه السلم مع فرعون فيقول:
} وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مُوسَىا بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مّبِينٍ { [هود.]96 :
أي :سلطان محيط ل يدع للخصم مكانا أو فكاكا.
عوْنَ َومَلَئِهِ {
ثم يقول الحق سبحانه } :إِلَىا فِرْ َ
()1556 /
والمل :هم القوم الذين يملون العيون ،ويتصدرون المجالس .ويقال " :فلن ملء العين " أي :ل
تقتحمه العيون؛ لنه واضح ظاهر.
فالمل ـ إذن ـ هم أشراف القوم ،وهم ـ عادة ـ الذين يزينون للطاغية الستخفاف بالرعية.
والحق سبحانه يقول:
سقِينَ }[الزخرف.]54 :
خفّ َق ْومَهُ فَأَطَاعُوهُ إِ ّنهُمْ كَانُواْ َقوْما فَا ِ
{ فَاسْتَ َ
وحين يتكلم الحق سبحانه عن فرعون والمل والقوم ،نجده يبيّن ويفصل بين المل من جهة،
وفرعون من جهة أخرى ،وكذلك يفصل بين الفرعون والمل من جهة ،والقوم من جهة أخرى..
فلكل طرف من تلك الطراف الثلثة أسلوب يعامله الحق سبحانه به.
وهنا يبيّن لنا ال سبحانه أن المل قد اتبعوا أمر فرعون ،هذا المر الذي يصفه الحق سبحانه
بقوله:
عوْنَ بِرَشِيدٍ } [هود.]97 :
{ َومَآ َأمْرُ فِرْ َ
والرشد يقابله الغيّ ،وهذا القول يدلنا على أن المل من قوم فرعون لم يتدارسوا أمر فرعون بتأنّ،
ولم تستقبله عقولهم بالبحث ،وهم لو فعلوا ذلك لما اتبعوا أمر فرعون.
ويبيّن الحق سبحانه لنا عدم رشد أمر فرعون ،فهو يذكر لنا ما يحدث له يوم القيامة هو وقومه،
فيقول تعالىَ { :يقْدُمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1557 /
َيقْدُمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فََأوْرَ َدهُمُ النّارَ وَبِئْسَ ا ْلوِرْدُ ا ْل َموْرُودُ ()98
وكلمة " يقدم " هي من مادة " القاف " و " الدال " و " الميم " .وعند استخدام هذه المادة في التعبير
قولً أو كتابة ،فهي تدل على القبال بالمواجهة؛ فيقال " :قدم فلن " دليل إقباله عليك مواجهة.
وإذا قيل " :أقبل فلن " فهذا يعني القبال بشيءٍ من العزم .و " قدم القوم يقدمهم " أي :أنهم
يتقدمون في اتجاه واحد ،ومن يقودهم يتقدمهم.
ويُفهم من هذا أن فرعون اتبعه المل ،والقوم اتبعوا المل وفرعون ،وما داموا قد اتّبعوه في
الولى؛ فل بد أن يتبعوه في الخرة.
ويأتي القرآن بآيات ويُبيّنها ،مثل قول الحق سبحانه:
شدّ
جهَنّمَ جِثِيّا * ُثمّ لَنَنزِعَنّ مِن ُكلّ شِيعَةٍ أَ ّي ُهمْ أَ َ
ح ْولَ َ
حضِرَ ّنهُمْ َ
حشُرَ ّنهُ ْم وَالشّيَاطِينَ ثُمّ لَنُ ْ
{ َفوَرَ ّبكَ لَنَ ْ
حمَـانِ عِتِيّا * ُثمّ لَ َنحْنُ أَعْلَمُ بِالّذِينَ ُهمْ َأوْلَىا ِبهَا صِلِيّا }[مريم68 :ـ .]70
عَلَى الرّ ْ
فالحق سبحانه ينزع من كل جماعة الشد فتوة وسطوة ،ويلقيه في النار ،لنه أعلم بمن يجب أن
َيصْلَى السعير.
ويقول الحق سبحانه:
{ وَإِن مّنكُمْ ِإلّ وَارِ ُدهَا كَانَ عَلَىا رَ ّبكَ حَتْما ّم ْقضِيّا * ثُمّ نُ َنجّي الّذِينَ ا ّتقَو ْا وّنَذَرُ الظّاِلمِينَ فِيهَا
جِثِيّا }[مريم71 :ـ .]72
ولم يقل الحق سبحانه " :وإنْ منهم إلّ واردُها ".
ل وَارِدُهَا }[مريم.]71 :
وإنما قال {:وَإِن مّن ُكمْ ِإ ّ
وبذلك عمّم الخطاب للكل ،أو أنه يستحضر الكفار ويترك المؤمنين بمعزل.
وهنا يقول الحق سبحانه عن قوم فرعون:
{ فََأوْرَ َدهُمُ النّا َر وَبِئْسَ ا ْلوِرْدُ ا ْل َموْرُودُ } [هود.]98 :
وحين تكلم كتاب ال الكريم عن " الورود " ،وهو الكتاب الذي نزل بلسان عربي مبين ،نجد أن
الورود يأتي بمعنى الذهاب إلى الماء دون شرب من الماء ،قلت " :وردَ يردُ ورودا " ،وإن أردت
التعبير عن شرب الماء مع الورود ،فقل " :وردَ ير ُد وِرْدا " بدليل أن الحق سبحانه يقول هنا:
{ وَبِئْسَ ا ْلوِ ْردُ ا ْل َموْرُودُ } [هود.]98 :
أي :إنهم يشعرون بالبؤس لحظة أن يروا ماء جهنم ويشربون منه.
إذن :فكلمة " الوِرْد " تطلق على عملية الشرب من الماء ،وقد تطلق على ذات الورادين مثل قوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهَنّ َم وِرْدا }[مريم.]86 :
{ وَنَسُوقُ ا ْلمُجْ ِرمِينَ إِلَىا َ
ضعْنَ
جمَامُ ُه َو َ
وقد قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى في معلقته:فَلمّا وَرَدْنَ الماءَ زُرقا ِ
صيّ الحاضِرِ اُلمَتَخ ّيمِوالشاعر هنا يصف ال ّركْب ساعة يرى المياه الزرقاء الخالية من أي شيء
ع ِ
ِ
يعكرها أو يُكدّرها ،فوضع القوم عصا الترحال.
وكان الغالب قديما أن يحمل كل من يسير عصا في يده ،مثل موسى عليه السلم حين قال:
عصَايَ أَ َت َوكّأُ عَلَ ْيهَا وَأَهُشّ ِبهَا عَلَىا غَ َنمِي وَِليَ فِيهَا مَآ ِربُ ُأخْرَىا }[طه.]18 :
{ ِهيَ َ
ويقول الشاعر:فألقتْ عصَاها واستقرّ بها ال ّنوَى كمَا قَرّ عينا بالياب المُسَافرُ
فساعة رأى الركب المياه زرقاء ،فهذا يعني أنها مياه غير مكدّرة.
ونحن نعلم أن المياه ل لون لها ،ولكنها توصف بالزّرْقة إن كانت خالية من الشوائب ،شديدة
الصفاء ،فتنعكس عليها صورة السماء الزرقاء.
والشاعر يصف قومه ساعة أن وصلوا إلى الماء الصافي وتوقفوا وأقاموا في المكان.
وهكذا نجد أن الورود يعني الذهاب إلى الماء دون الشرب منه .والورد للماء يُفرح النفس أولً ،ثم
يورده ويرويه ما يشربه منها ،ومن يرد الماء ل شك أنه يعاني من ظمأ يريد أن يرويه ،وحرارة
كبد يريد أن يبردها.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} وَبِئْسَ ا ْلوِ ْردُ ا ْل َموْرُودُ { [هود.]98 :
وفي هذا تهكم شديد ،لنهم ـ قوم فرعون ـ ساعة يرون الماء يشعرون بقرب ري الظمأ وإبراد
الحرارة ،ولكنهم يشربون من ماء جهنم ،فبئس ما يشربون ،فهو يُطمعهم أولً ،ثم يؤيسهم بعد
ذلك.
كما في قوله سبحانه:
شوِي الْوجُوهَ }[الكهف.]29 :
{ وَإِن َيسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ
فهم ساعة يسمعون كلمة " يغاثوا " يفهمون أن هناك فرجا قادما لهم ،فإذا ما علموا أنه ماء كالمهل
يشوي الوجوه ،عانوا من مرارة التهكم.
ول المثل العلى :فأنت تجد من يدعوك لطايب الطعام ،وبعد ذلك تغسل يديك ،فيلح عليك من
دعاك إلى تناول الحلوى ،فتستشرف نفسك إلى تناول الحلوى ،بينما يكون من دعاك قد أوصى
الطباخ أن يخلط الحلوى بنبات " الشطة " فيلتهب جوفك؛ أليس في هذا تهكم شديد؟!
والحق سبحانه يبيّن لهم أن الورد إنما جاء لترطيب الكبد ،لكن أكبادهم ستشتعل بما تشربونه من
هذا الماء ،وكذلك الطعام الذي يأكله أهل النار.
والحق سبحانه يقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غسْلِينٍ }[الحاقة.]36 :
طعَامٌ ِإلّ مِنْ ِ
{ َولَ َ
وهكذا تصير النكبة نكبتين.
وبعض الناس قد فهم قول الحق سبحانه:
{ وَإِن مّنكُمْ ِإلّ وَارِ ُدهَا }[مريم.]71 :
بمعنىأنهم جميعا سوف يَرِدون جهنم.
ولكن الحق سبحانه يقول أيضا:
{ ُثمّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالّذِينَ ُهمْ َأوْلَىا ِبهَا صِلِيّا }[مريم.]70 :
إذن :فالحق سبحانه يعطي لكل الناس صورة للنار ،فإذا رأى المؤمنون النار وتسعّرها ،ولم
يدخلوها ،عرفوا كيف نجّتهم كلمة اليمان منها فيحمدون ال سبحانه وتعالى على النجاة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَأُتْ ِبعُواْ فِي هَـا ِذهِ َلعْنَةً وَيَوْمَ ا ْلقِيَامَةِ {
()1558 /
وَأُتْ ِبعُوا فِي َه ِذهِ َلعْنَ ًة وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ بِئْسَ ال ّر ْفدُ ا ْلمَ ْرفُودُ ()99
أي :أن اللعنة قد بقيت لهم ،وما زلنا نحن المسلمين نلعنهم إلى الن ،ثم يصيرون إلى اللعنة
الكبرى ،وهي لعنة يوم القيامة { :بِ ْئسَ ال ّرفْدُ ا ْلمَ ْرفُودُ } [هود ]99 :والرفد :هو الغطاء ،فهل تعد
اللعنة في الخرة عطاءً؟
إن هذا تهكم منهم أيضا ،مثلها مثل قول الحق سبحانه:
{ وَبِئْسَ ا ْلوِ ْردُ ا ْل َموْرُودُ }[هود.]98 :
ثم يقول الحق سبحانه { :ذَِلكَ مِنْ أَنْبَآءِ ا ْلقُرَىا }
()1559 /
حصِيدٌ ()100
ذَِلكَ مِنْ أَنْبَاءِ ا ْلقُرَى َن ُقصّهُ عَلَ ْيكَ مِ ْنهَا قَائِمٌ وَ َ
وقد أهلك الحق سبحانه تلك القرى بالعذاب؛ لنها كذّبت أنبياءها .والخطاب موجّه لرسول ال
صلى ال عليه وسلم لتثبيت فؤاده ،والحق سبحانه إنما يبيّن له أن الكافرين لن يكونوا بمنجىً من
العذاب؛ كما أخذ ال سبحانه المم السابقة الكافرة بالعذاب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقول الحق سبحانه:
{ َن ُقصّهُ عَلَ ْيكَ } [هود.]100 :
يتطلب أن نفرّق بين المعنى الشائع عن القصة ،والمعنى الحقيقي لها ،فبعض الناس يقول :إن
القرآن فيه قصص ،والقصص عادة تمتلىء بالتوسع ،وتوضع فيها أحداث خيالية من أجل الحبكة.
ولهؤلء نقول :أنتم لم تفهموا معنى كلمة " القصة " في اللغة العربية ،لنها تعني ـ في لغتنا ـ
اللتزام الحرفي بما كان فيها من أحداث ،فهي مأخوذة من كلمة " :قصّ الثر " ،ومن يقص الثر
إنما يتتبع مواقع القدام إلى أن يصل إلى الشيء المراد.
إذن :فقصص القرآن يتقصى الحقائق ول يقول غيرها ،أما ما اصطُلح عليه من عرف العامة أنه
قصص ،بما في تلك القصص من خيالت وعناصر مشوقة ،فهذا ما يُسمّى ـ لغويا ـ بالروايات،
ول يُعتبر قصصا.
وقصص الهلك للمم التي كفرت إنما هو عبرة لمن ل يعتبر ،والناس تعلم أن ما رواه القرآن
من قصص هو واقع تدل عليه آثار الحضارات التي اندثرت ،وبقيت منها بقايا أحجار ونقوش
على المقابر.
ونحن نجد في آثار الحضارات السابقة ما هو قائم من بقايا أعمدة ونقوش ،ومنها ما هو مُحطّم.
ولذلك يقول الحق سبحانه في موضع آخر من القرآن:
{ وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْي ِهمْ ّمصْبِحِينَ * وَبِالّ ْيلِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[الصافات137 :ـ .]138
أي :أنكم تشاهدون من الثار ما هو قائم وما هو حطيم.
سهُمْ }
ظَلمُواْ أَنفُ َ
ويقول الحق سبحانه عن تلك القرىَ { :ومَا ظََلمْنَاهُ ْم وَلَـاكِن َ
()1560 /
شيْءٍ َلمّا
سهُمْ َفمَا أَغْ َنتْ عَ ْنهُمْ آَِلهَ ُتهُمُ الّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ َ
َومَا ظََلمْنَاهُمْ وََلكِنْ ظََلمُوا أَ ْنفُ َ
ك َومَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ()101
جَاءَ َأمْرُ رَ ّب َ
ويبيّن الحق سبحانه هنا أنه حين أخذ تلك القوام بالعذاب لم يظلمهم؛ لن معنى الظلم أن يكون
لنسانٍ الحق ،فتسلبه هذا الحق.
وفي واقع المر أن تلك المم التي كفرت وأخذها ال بالعذاب ،هي التي ظلمت نفسها بالشرك،
وكذّبت تلك القوام الرسل الذين جاءوا وفي يد كل منهم دليل الصدق وأمارات الرسالة.
وهكذا ظلم هؤلء الكفار أنفسهم؛ لذلك ل بد أن نعلم أن الحق سبحانه مُنزّه عن أن يظلم أحدا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهم حين أشركوا بال ـ تعالى ـ آلهة أخرى ،لماذا لم تتحرك تلك اللهة المزعومة وتتدخل
لتحمي مَنْ آمنوا بها؟!
ويخبرنا الحق سبحانه أن الحجارة التي عبدوها تلعنهم ،وهم في النار ،وهذه الحجار تكون وقودا
للنار.
والحق سبحانه يقول عن النار:
س وَا ْلحِجَا َرةُ }[البقرة.]24 :
{ فَا ّتقُواْ النّارَ الّتِي َوقُودُهَا النّا ُ
وهؤلء الذين عبدوا واحدا من الناس أو بعضا من الصنام ،إنما تجنّوا ،بالجهل على هذا النسان
الذي عبدوه أو تلك الحجار التي صلّوا لها أو قدّسوها.
والشاعر المسلم تأمل غار حراء وغار ثور ـ وكلمها من الحجار ـ فوجد أن غار حراء قد
شهد نزول الوحي على الرسول صلى ال عليه وسلم ،وغار ثور حمى رسول ال صلى ال عليه
وسلم حين اختفى فيه ومعه الصديق أبو بكر في أثناء الهجرة من مكة إلى المدينة،ـ فتخيل
سدْنَا حِراءً حينَ يَرى الرّوحَ أمينا َيغْزُوكَ
الشاعر أن غار ثور قد حسد غار حراء وقال:كَمْ حَ َ
حجَارِفغار حراء شهد جبريل عليه السلم
بالنْوَا ِرفَحِرَا ٌء و َثوْرٌ صَارَا سَواءً بِهما تَشفّ ْع لمّةِ ال ْ
وهو يهبط بالنور على محمد صلى ال عليه وسلم ،لكن غار ثور نال أيضا الشرف لحمايته
الرسول في الهجرة.
ل كمَا
جهْ ً
ويقول الشاعر على لسان الحجار:عَبَدُونا ونَحْنُ أعْبَدُ لِ مِنَ القائِمينَ بالسْحَا ِر َقدْ تَجنّوا َ
ح َمةُ ال َغفّارِوهكذا ل تُغني
قَدْ تجَنّوا علَى ابنِ مَرْيَمَ والحوَارِيلِل ُمغَالِي جَزَاؤ ُه وال ُمغَالَى فيهِ تُنْجِيهِ رَ ْ
عنهم آلهتهم المعبودة شيئا سواء أكانت بشرا أم حجارة ،لم تُغنِ عنهم شيئا ولم ترفع عنهم العذاب
الذي تلقوه عقابا في الدنيا وسعيرا في الخرة ،وإذا كانوا قد دعوهم من دون ال في الدنيا ،فحين
جاء العذاب لم تتقدم تلك اللهة لتحميهم من العذاب.
ويُنهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله:
{ َومَا زَادُو ُهمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } [هود.]101 :
أي :أن تخلّي تلك اللهة التي أشركوها مع ال تعالى أو عبدوها من دون ال ..هذا التخلي يزيدهم
ألما وإهلكا نفسيا وتخسيرا ،لن التتبيب هو القطع والهلك.
والحق سبحانه يقول:
ب وَ َتبّ }[المسد.]1 :
{ تَ ّبتْ َيدَآ أَبِي َل َه ٍ
كذلك الخذ الذي أخذ ال به القرى التي كذّبت أنبياءها.
لذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :وكَذاِلكَ أَخْذُ رَ ّبكَ }
()1561 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شدِيدٌ ()102
خذَ ا ْلقُرَى وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ إِنّ َأخْ َذهُ َألِيمٌ َ
خذُ رَ ّبكَ إِذَا أَ َ
َوكَذَِلكَ أَ ْ
أي :أن الخذ الذي أخذ به ال القرى الكافرة ،إنما هو مثل حي لكل من يكفر.
والحق سبحانه يقول:
سمٌ لّذِى حِجْرٍ }
شفْ ِع وَا ْلوَتْرِ * وَالّ ْيلِ ِإذَا يَسْرِ * َهلْ فِي ذَِلكَ قَ َ
{ وَا ْلفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ * وَال ّ
[الفجر1 :ـ .]5
أي :أن الحق سبحانه يقسم لعل كل صاحب عقلٍ يستوعب ضرورة اليمان ،ويضرب المثلة
بالقوم الذين جاءهم الخذ بالعذاب ،فيقول سبحانه:
{ أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ ُيخْلَقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ * وَ َثمُودَ الّذِينَ
ط َغوْاْ فِي الْبِلَدِ * فََأكْثَرُواْ فِيهَا ا ْلفَسَادَ *
لوْتَادِ * الّذِينَ َ
عوْنَ ذِى ا َ
جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْ َ
عذَابٍ * إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ }[الفجر6 :ـ .]14
سوْطَ َ
صبّ عَلَ ْي ِهمْ رَ ّبكَ َ
َف َ
فهو سبحانه قد أخذ كل هؤلء أخذ العزيز المقتدر.
وقوله سبحانه هنا:
{ َوكَذاِلكَ } [هود.]102 :
خ َذتْ به القرى التي كذّبت رسلها ،فظلمت نفسها.
أي :مثل الخذ الذي أ ِ
والخذ هنا عقاب على العمل ،بدليل أنه أنجى شعيبا عليه السلم وأخذ قومه بسبب ظلمهم ،فالذات
النسانية بريئة ،ولكن الفعل هو الذي يستحق العقاب.
ومثال ذلك :نجده في قصة نوح عليه السلم حين قال له الحق سبحانه:
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ }[هود.]46 :
{ إِنّهُ لَيْسَ مِنْ َأهِْلكَ إِنّهُ َ
فالذي وضع ابن نوح في هذا الموضع هو أن عمله غير صالح؛ لذلك فل يقولن نوح :إنه ابني.
فليس الهلك بعلّة الذات والدم والقرابة ،بل الهلك بعلة العمل ،فأنت ل تكره شخصا يشرب
الخمر لذاته ،وإنما تكرهه لعمله ،ونحن نعلم أن البنوة للنبياء ليست بنوة الذوات ،وإنما بنوة
العمال.
وكذلك نجد الحق سبحانه ينبه إبراهيم عليه السلم أل يدعو لكل ذريته ،فحين كرّم الحق سبحانه
إبراهيم عليه السلم وقال:
{ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما }[البقرة.]124 :
جاء الطلب والدعاء من إبراهيم عليه السلم ل تعالى:
{ َومِن ذُرّيّتِي }[البقرة.]124 :
لن إبراهيم عليه السلم أراد أن تمتد المامة إلى ذريته أيضا ،فجاء الرد من ال سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عهْدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة.]124 :
{ لَ يَنَالُ َ
وظلت هذه القضية في بؤرة شعور إبراهيم عليه السلم ،وعلم تماما أن البنوّة للنبياء ليست بنوة
ذوات ،بل هي بنوة أعمال.
ولذلك نجد دعاء إبراهيم عليه السلم حين نزل بأهله في وادٍ غير ذي زرع ،وقال:
ج َعلْ هَـاذَا بَلَدا آمِنا وَارْ ُزقْ أَهْلَهُ مِنَ ال ّثمَرَاتِ }[البقرة.]126 :
{ َربّ ا ْ
وهنا انتبه إبراهيم عليه السلم وأضاف:
{ مَنْ آمَنَ مِ ْنهُمْ }[البقرة.]126 :
فجاء الرد من الحق سبحانه موضحا خطأ القياس؛ لن الرزق عطاء ربوبية يستوي فيه المؤمن
والكافر ،والطائع والعاصي؛ فل تخلط بين عطاء الربوبية وعطاء اللوهية؛ لن عطاء اللوهية
تكليف ،وعطاء الربوبية رزق ،لذلك قال الحق سبحانه:
ضطَ ّرهُ إِلَىا عَذَابِ النّا ِر وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ }
{ َومَن َكفَرَ فَُأمَ ّتعُهُ قَلِيلً ثُمّ َأ ْ
[البقرة.]126 :
فأنت يا إبراهيم دعوتَ برزق الهل بالثمرات لمن آمن ،لن بؤرة شعورك تعي الدرس ،لكن
هناك فرقا بين عطاء اللوهية في التكليف ،وعطاء الربوبية في الرزق ،فمن كفر سيرزقه ربه،
ويمتعه قليلً ثم يكون له حساب آخر.
إذن :فأخْذُ الحق سبحانه للظالمين بكفرهم هو عنف التناول لمخالفٍ ،وتختلف قوة الخذ بقوة
الخذ ،فإذا كان الخذ هو ال سبحانه ،فهو أخْذ عزيز مقتدر.
وهو أخذ لمن ظلموا أنفسهم بقمة الظلم وهو الكفر ،وإن كان الظلم لحقوق الخرين فهو فسق،
وأيضا ظلم النفس فسق؛ لن الحق سبحانه حين يُحرّم عليك أن تظلم غيرك فهو قد حرّم عليك
أيضا ظلم نفسك.
ويصف الحق سبحانه أخذه للظالمين بقوله:
خ َذهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ { [هود.]102 :
} إِنّ أَ ْ
أي :أن أخذه موجع على قدر طلقة قدرته سبحانه.
و َهبْ أن إنسانا أساء إلى إنسان ،فالحق سبحانه أعطى هذا النسان أن يرد السيئة بسيئة ،حتى ل
تتراكم النفعالت وتزداد.
لذلك يقول الحق سبحانه:
{ وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ }[النحل.]126 :
حتى ل تبيت انفعالتك عندك قهرا ،ولكن من كان لديه قوة ضبط النزوع فعليه أن ينظر في قول
الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظمِينَ ا ْلغَيْظَ }[آل عمران.]134 :
{ وَا ْلكَا ِ
إذن :فإما أن ترد السيئة بعقاب مماثل لها ،وإما أن تكظم غيظك ،أي :ل تُترجم غيظك إلى عمل
نزوعي ،وإما أن ترتقي إلى الدرجة العلى وهي أن تعفو؛ لن ال تعالى يحب من يحسن بالعفو.
ولذلك حين سألوا الحسن البصري :كيف يُحسِن النسان إلى من أساء إليه؟
أجاب :إذا أساء إليك عبد ،ألَ يُغضب ذلك ربه منه؟ قالوا :نعم .قال :وحين يغضب ال من الذي
أساء إليك؛ أل يقف إلى جانبك؛ أفل تحُسِن إلى من جعل ال يقف إلى جانبك؟
ولهذا السبب يُروى عن أحد الصالحين أنه سمع أن شخصا اغتابه؛ فأهدى إليه ـ مع خادمه ـ
طبقا من بواكير الرطب ،وتعجب الخادم متسائلً :لماذا تهديه الرطب وقد اغتابك؟
قال العارف بال :بَّلغْهُ شكري وامتناني لنه تصدّق عليّ بحسناته عندما اغتابني ،وحسناته ـ بل
شك ـ أنفَسُ من هذا الرطب.
ولذلك يقال :إن الذي يعفو أذكى فهما ممن عاقب ،لن الذي يعاقب إنما يعاقب بقوته؛ والذي يعفو
فهو الذي يترك العقاب لقوة ال تعالى ،وهي قوة ل متناهية.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه:
شدِيدٌ { [هود.]102 :
} َوكَذاِلكَ َأخْذُ رَ ّبكَ إِذَا َأخَذَ ا ْلقُرَىا وَ ِهيَ ظَاِل َمةٌ إِنّ َأخْ َذهُ أَلِيمٌ َ
أي :أخذٌ موجعٌ على قدر قوة ال سبحانه؛ وهو أخذ شديد؛ لن الشدة تعني :جمع الشيء إلى
الشيء بحيث يصعب انفكاكه؛ أو أن تجمع شيئين معا وتقبضهما بحيث يصعب تحلل أي منهما
عن الخر.
وهذه أقوى غاية القوة.
عذَابَ الخِ َرةِ {
ك ليَةً ّلمَنْ خَافَ َ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :إِنّ فِي ذاِل َ
()1562 /
شهُودٌ ()103
جمُوعٌ لَهُ النّاسُ وَذَِلكَ َيوْمٌ مَ ْ
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َيةً ِلمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآَخِ َرةِ ذَِلكَ َيوْمٌ مَ ْ
من يخاف عذاب الخرة ،فإن هذه اليات التي تخبر عن الذي حدث للمم السابقة ،إنما تلفته إلى
ضرورة اليمان بأن ال سبحانه يحاسب كل إنسان على اليمان وعلى العمل.
ومن يسمع لقصص القوام السابقة؛ ويعتبر بما جاء فيها؛ وينتفع بالخبرة التي جاءت منها؛ فهو
صاحب بصيرة نافذة؛ فكل ما حدث للقوام السابقة آيات ملفتة.
ولذلك يقال " :إن لكل آية من مواليد؛ هي العبر باليات " ومن ل يؤمن فهو لن يعتبر؛ مصداقا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقول الحق سبحانه:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف.]105 :
{ َوكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي ال ّ
إذن :فقد شاء الحق سبحانه أن يلفتنا باليات لنعتبر بها ونكون من أولي اللباب؛ فل ندخل في
دائرة من ل يخافون العذاب؛ أولئك الذي يتلقّون العذاب خزيا في الدنيا وجحيما في الخرة؛
وعذاب الخرة ل نهاية له؛ والفضيحة فيه أمام كل الخلق.
لذلك قال الحق سبحانه:
شهُودٌ } [هود.]103 :
س وَذَِلكَ َيوْمٌ مّ ْ
جمُوعٌ لّهُ النّا ُ
{ ذاِلكَ َيوْمٌ مّ ْ
أي :أن الفضيحة في هذا اليوم تكون مشهودة من كل البشر؛ من لدن آدم إلى آخر البشر؛ لذلك
تكون فضيحة مدوية أمام من يعرفهم النسان؛ وأمام من ل يعرفهم.
وقول الحق سبحانه:
جمُوعٌ لّهُ النّاسُ } [هود.]103 :
{ ذاِلكَ َيوْمٌ مّ ْ
وكلمة " مجموع " تقتضي وجود " جامع "؛ و " المجموع " يتناسب مع قدرة " الجامع "؛ فما بالنا
والجامع هو الحق الخالق لكل الخلق سبحانه وتعالى.
ول يجتمع الخلق يومها عن غفلة؛ بل يجتمعون وكلهم انتباه؛ فالحق سبحانه يقول:
خصُ فِي ِه الَ ْبصَارُ }[إبراهيم.]42 :
شَ{ إِ ّنمَا ُي َؤخّرُهُمْ لِ َي ْومٍ تَ ْ
ويقول الحق سبحانه أيضا:
خصَةٌ أَ ْبصَارُ الّذِينَ َكفَرُواْ }[النبياء.]97 :
{ وَاقْتَ َربَ ا ْلوَعْدُ ا ْلحَقّ فَإِذَا ِهيَ شَا ِ
وهنا يقول سبحانه:
شهُودٌ } [هود.]103 :
{ وَذَِلكَ َي ْومٌ مّ ْ
أي :أن الخلق سيشهدون هذا الفضح المخزي لمن لم يعتبر باليات.
جلٍ ّمعْدُودٍ }
لَويقول الحق سبحانه بعد ذلك في ميعاد هذا اليومَ { .ومَا ُن َؤخّ ُرهُ ِإلّ َ
()1563 /
وهكذا نعلم أن تأخر مجيء يوم القيامة؛ ل يعني أنه لن يأتي؛ بل سوف يأتي ـ ل محالة ـ ولكن
لكل حدث ميعاد ميلد ،ولكم في تتابع مواليدكم ما يجعلكم تثقون بأن مواليد الحداث إنما يحددها
ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقول الحق سبحانه:
جلٍ } [هود.]104 :
ل لَ َ
{ َومَا ُنؤَخّ ُرهُ ِإ ّ
يتطلب أن نعرف أن كلمة " الجل " تطلق مرة على مدة عمر الكائن من لحظة ميلده إلى لحظة
نهايته.
والحق سبحانه يقول:
جلٍ كِتَابٌ }[الرعد.]38 :
{ ِل ُكلّ َأ َ
وتطلق كلمة " الجل " مرة أخرى على لحظة النهاية وحدها ،مصداقا لقول الحق سبحانه:
جُلهُ ْم لَ يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ }[العراف.]34 :
{ فَِإذَا جَآءَ أَ َ
ولنعرف جميعا أن كل أجل ـ وإن طال ـ فهو معدود ،وكل معدود قليل مهما بدا كثيرا؛ لذلك
فَلْنقُلْ أن كل معدود قليل .ما ُدمْنَا قادرين على إحصائه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ { :ي ْومَ يَ ْأتِ لَ َتكَلّمُ َنفْسٌ ِإلّ بِِإذْنِهِ }
()1564 /
سعِيدٌ ()105
ش ِقيّ وَ َ
َيوْمَ يَ ْأتِ لَا َتكَلّمُ َنفْسٌ ِإلّا بِإِذْنِهِ َفمِ ْنهُمْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الجوارح.
وقد يسلب ال سبحانه هذا الذن فل تنفعل الجوارح للرادة ،فتجد الحق سبحانه يقول في آية
أخرى.
صوَابا }[النبأ.]38 :
ن َوقَالَ َ
حمَـا ُ
{ لّ يَ َتكَّلمُونَ ِإلّ مَنْ أَذِنَ َلهُ الرّ ْ
ويقول الحق عز وجل في آية أخرى:
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ يَتَسَآءَلُونَ }[الصافات.]27 :
{ وََأقْ َبلَ َب ْع ُ
وهناك آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه:
طقُونَ * َولَ ُي ْؤذَنُ َلهُمْ فَ َيعْتَذِرُونَ }[المرسلت35 :ـ .]36
{ هَـاذَا َيوْ ُم لَ يَن ِ
ويقول الحق سبحانه أيضا:
سهَا }[النحل.]111 :
{ َيوْمَ تَأْتِي ُكلّ َنفْسٍ تُجَا ِدلُ عَن ّنفْ ِ
وفي موضع آخر يقول سبحانه:
{ َو ِقفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ }[الصافات.]24 :
وهكذا قد يُخيّل للبعض أن هناك آيات تناقض بعضها؛ فهناك آيات تسمح بالكلم ،وهناك آيات
تنفي القدرة على الكلم.
وأقول :يجب أن نفهم أن الكلم الذي سيعجز الشقياء عن نطقه يوم القيامة هو الكلم المجدي
النافع ،وسيتكلم البعض كلم السفسطة الذي ل يفيد ،مثل لومهم بعضهم البعض؛ وذكره لنا القرآن
في قوله سبحانه:
حتَ َأقْدَامِنَا }[فصلت.]29 :
جعَ ْل ُهمَا تَ ْ
{ َوقَال الّذِينَ َكفَرُواْ رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ الْجِنّ وَالِنسِ َن ْ
وهذا كلم ل يشفع لصاحبه ول يجدي.
إذن :فالممنوع هو الكلم المجدي المفيد ،أو أن مقامات القيامة متفاوتة؛ فوقت يتكلمون فيه؛ ووقت
يؤخذون فيه ،فينبهرون ول يتكلمون ،ويأمر الحق سبحانه الجوارح المنفعلة أن تتكلم وتشهد
عليهم.
ويقسّم الحق سبحانه أحوال الناس قسمين ،كما في قوله تعالى في آخر الية:
سعِيدٌ } [هود.]105 :
ي وَ َ
شقِ ّ
{ َفمِ ْنهُمْ َ
وجاء بالسم المحدد لكل من القسمين " :شقي " و " سعيد "؛ لن السم يدل على الثبوت ،فالشقاء
ثابت لمن نُعت بالشقي؛ والسعادة ثابتة لمن نُعت بالسعيد.
سعِدوا؛ ولذلك يعدل عن استخدام السم إلى
شقُوا ،ومنازل مَنْ ُ
ثم يبيّن لنا الحق سبحانه منازل مَنْ َ
شقُواْ َففِي النّارِ }
استخدام الفعل ،فيقول سبحانه { :فََأمّا الّذِينَ َ
()1565 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شهِيقٌ ()106
شقُوا َففِي النّارِ َلهُمْ فِيهَا َزفِي ٌر وَ َ
فََأمّا الّذِينَ َ
والذين حكموا على أنفسهم بالشقاء لخروجهم عن منهج ال؛ يجمعهم الشقاء؛ لكنهم يدخلون النار
أفرادا و ُزمَرا.
والحق سبحانه يقول:
جهَنّمَ ُزمَرا }[الزمر.]71 :
{ وَسِيقَ الّذِينَ كَـفَرُواْ إِلَىا َ
وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{ كُّلمَا دَخََلتْ ُأمّةٌ ّلعَ َنتْ ُأخْ َتهَا }[العراف.]38 :
وهكذا نفهم أن الكافرين ـ في الوصف الثابت ـ أشقياء ،لكنهم لحظة دخول النار إنما يدخلونها
أفرادا؛ بل ويدخل معهم بعض من المسلمين العصاة ،ويتلقى كل واحد منهم عقابه المناسب لما
ارتكب من الذنوب والمعاصي؛ ويعاني كل منهم من شقاء يتناسب مع آثامه؛ وبذلك يجتمعون في
الشقاء ويختلفون في نوع وكمية العذاب؛ كلّ حسب ذنوبه ،ول يظلم ربك أحدا.
وجاء الحق سبحانه هنا بالفعل " شقوا " ليبيّن لنا أنهم هم الذين اختاروا الشقاء؛ وأتوا به لنفسهم؛
لن الحق سبحانه خلق عباده وترك لكل منهم حق الختيار؛ وأنزل لهم المنهج؛ ليصونوا أنفسهم؛
وأعان ـ من اختار اليمان ـ على الطاعة.
ثم يذكر الحق سبحانه في نفس الية موقف مَنْ أدخلوا على أنفسهم الشقاء ،فيقول عنهم:
شهِيقٌ } [هود.]106 :
{ َففِي النّارِ َلهُمْ فِيهَا َزفِي ٌر وَ َ
ونحن نعلم أن الذي يتنفس في النار سيخرج الهواء من صدره ساخنا مثلما يأخذ الشهيق ساخنا.
ويواصل الحق سبحانه وتعالى َوصْفَ ما يتلقاه أهل الشقاء في النار ،فيقول سبحانه { :خَاِلدِينَ فِيهَا
ت وَالَرْضُ }
سمَاوَا ُ
مَا دَا َمتِ ال ّ
()1566 /
ت وَالْأَ ْرضُ إِلّا مَا شَاءَ رَ ّبكَ إِنّ رَ ّبكَ َفعّالٌ ِلمَا يُرِيدُ ()107
س َموَا ُ
خَاِلدِينَ فِيهَا مَا دَا َمتِ ال ّ
وكلمة " الخلود " تفيد المكث طويلً؛ مكوثا له ابتداء ول نهاية له؛ وإذا أبّد فهو تأكيد للخلود.
والذين شقوا إنما يدخلون النار؛ بدءا من لحظة:
{ َيوْمَ يَ ْأتِ لَ َتكَلّمُ َنفْسٌ ِإلّ بِِإذْنِهِ }[هود.]105 :
وهو عذاب ل نهاية له بالنسبة للكافرين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأما عذاب المسلم العاصي على ما ارتكب من آثام؛ فبدايته من لحظة انتهاء الحساب إلى أن
تنتهي فترة عذابه المناسبة لمعاصيه؛ ويدخل الجنة من بعد ذلك.
ولهذا قال الحق سبحانه:
{ ِإلّ مَا شَآءَ رَ ّبكَ } [هود.]107 :
وهكذا ينقص الحق سبحانه الخلود في النار بالنسبة لنصاف المؤمنين ،فالحق سبحانه { َفعّالٌ ّلمَا
يُرِيدُ } [هود ]107 :ول يحكمه أي شيء.
وإياكم أن تظنوا أن قدر ال يحكمه؛ فالقدر ِفعْلُه ،ول أحد يسأل ال سبحانه عمّا يفعل؛ لن ذات
ال هي الفاعلة؛ فإن شاء سبحانه أن ينقص خلود مسلم عاصٍ في النار؛ فالنقص يكون في النهاية؛
وبذلك يتحقق أيضا نقص خلوده في الجنة ،لنه ل يدخلها إل بعد أن يستوفي عقابه.
وبهذا التصور ينتهي الشكال الذي اختلف حوله مائة وخمسون عالما؛ فقد ظن بعضهم أن الحق
سبحانه يغلق أبواب النار على من أدخلهم إياها ،ويستمر ذلك إلى ما ل نهاية ،وكذلك من دخل
الجنة من البداية سيظل فيها أبدا ،ولن يُلحق ال أصحاب الكبائر بالجنة ،ومن قال بذلك الرأي إنما
يُسوّي بين من ارتكب الكبيرة وبين الكافر بال ،وهذا أمر غير متصور ،وهو بعيد عن رحمة ال.
وإذا كان هذا البعض من العلماء قد استدل على رأيه بالية الكريمة التي جاءت في سورة الجن،
والتي يقول فيها الحق سبحانه:
جهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَدا }[الجن:
{ ِإلّ بَلَغا مّنَ اللّ ِه وَرِسَالَتِ ِه َومَن َي ْعصِ اللّ َه وَرَسُولَهُ فَإِنّ لَهُ نَارَ َ
.]23
فنحن نقول :إن الحق سبحانه يربّب لطفه للكافر حتى يؤمن ،وللعاصي حتى يتوب ،وهذا من
رحمة ال سبحانه ،فتأبيد الخلود في العذاب لم يرد إل في آيتين ،وهذا دليل على عظيم رحمة ال
سعَة عفوه سبحانه.
وِ
ولذلك قيل عن رسول ال صلى ال عليه وسلم إنه رحمة ال للعالمين؛ وكلمة " العالمين " جمع "
عالَم " والعالَم هو ما سِوى ال تعالى.
ولذلك هناك رحمة للكافر؛ هي عطاء ال له في الدنيا.
وهكذا نعلم أن ال سبحانه هو الذي يملك نواميس الكون ،ولم يتركها تفعل وحدها ،بل يزاول
سبحانه سلطانه عليها ،وما دام القدر هو فعله سبحانه؛ فهو يغيّر فيه كما يشاء.
فهو سبحانه رب الزمان والمكان والحركة ،وما دام هو رب كل شيء فإنه فعال لما يريد ،وهنا
تخضع أبدية الزمان لمراده ومشيئته.
وقول الحق سبحانه:
سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ } [هود.]107 :
{ مَا دَا َمتِ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نفهم منه أن الجنة أو النار ل بد أن يوجد لهما ما يعلوهما ويظللهما ،ول بد أن يوجدا فوق أرض
ما.
وإذا قال قائل :إن الحق سبحانه قد ذكر في القرآن أن السماء سوف تمور وتنفطر.
نقول ردا عليه :ل تأخذ آية في القرآن إل بضميمة مثيلتها.
ولذلك قال الحق سبحانه:
سمَاوَاتُ }[إبراهيم.]48 :
ض وَال ّ
ل الَ ْرضُ غَيْرَ الَرْ ِ
{ َيوْمَ تُبَ ّد ُ
والحق سبحانه يورث أرض الجنة لمن يشاء؛ لنه سبحانه هو القائل على لسان المؤمنين يوم
القيامة:
{ وََأوْرَثَنَا الَ ْرضَ نَتَ َبوّأُ مِنَ الْجَنّةِ حَ ْيثُ نَشَآءُ }[الزمر.]74 :
أو لن النسان له أغيار ،وما حوله له أغيار.
ومن العجيب أن النسان المخدوم بالمادة الجامدة؛ وبالنبات النامي؛ وبالحيوان الذي يحس
ويتحرك؛ هذا النسان قد يكون أطول عمرا من بعض المخلوقات المسخّرة لخدمته؛ لكنه أقل
عمرا من الشمس ومن القمر.
لكن الحق سبحانه هنا يصور عمر النسان في الخرة؛ فكأنه سبحانه يعطي المد على أطول ما
عرفنا من العمار؛ ولذلك قال سبحانه:
سمَاوَاتُ وَالَ ْرضُ { [هود.]107 :
} مَا دَا َمتِ ال ّ
وإذا علّق ال سبحانه شيئا على شيء ،فل بد أن يوجد هذا التعليق.
والحق سبحانه يتكلم عن أهل النار من الكفار ،فيقول تعالى:
ج َملُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ }[العراف.]40 :
{ َولَ يَ ْدخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّىا يَلِجَ الْ َ
سمّ الخِياط؟ إن ذلك محال.
فهل سيلج الجمل في َ
ولذلك أقول :فلنأخذ التعليقات في نطاق أنه سبحانه:
} َفعّالٌ ّلمَا يُرِيدُ { [هود.]107 :
وقد جاء في الكتاب قول سيدنا عيسى عليه السلم:
حكِيمُ }[المائدة.]118 :
ك وَإِن َت ْغفِرْ َل ُهمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
{ إِن ُتعَذّ ْبهُمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُد َ
فكان مقتضى السياق أن يقول سبحانه :وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم.
وهذه نظرة سطحية لمدلولت القرآن ،بعقول البشر ،أما ببلغة الحق سبحانه فيكون المر مخالفا،
فأمر التعذيب أو الغفران موكول ل سبحانه بيده وحده ،وليس لحد أن يسأله لِمَ فعل هذا؟ ولِمَ
ترك هذا؟
لذلك كان هذا هو معنى العزة؛ ولذلك كان سبحانه عزيزا ،وهو سبحانه أيضا حكيم في أي أمر
يحكم فيه سواء أكان بالتعذيب أو المغفرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك جاء سبحانه بالخاتمة التي تثبت للحق سبحانه التعذيب أو المغفرة.
ففي تعذيب الكافرين قال سبحانهَ } :فعّالٌ ّلمَا يُرِيدُ { [هود.]107 :
سعِدُواْ َففِي ا ْلجَنّةِ {
وفي الكلم عن الطائعين الذين أدخلوا الجنة قال سبحانه } :وََأمّا الّذِينَ ُ
()1567 /
عطَاءً غَيْرَ
س َموَاتُ وَالْأَ ْرضُ إِلّا مَا شَاءَ رَ ّبكَ َ
سعِدُوا َففِي ا ْلجَنّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَا َمتِ ال ّ
وََأمّا الّذِينَ ُ
مَجْذُوذٍ ()108
فالحق سبحانه يعطي المؤمنين ما شاء ،ويؤكد خلودهم في الجنة ،وعطاؤه لهم ل مقطوع ول
ممنوع.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه { :فَلَ َتكُ فِي مِرْيَةٍ ّممّا َيعْ ُبدُ هَـاؤُلءِ }
()1568 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نقول :ل ،إنما هو لدامة التقوى ،فإنه إذا أمر العلى الدنى بأمر هو بصدد فعله ،انصرف هذا
المر إلى الدوام ،واتباع أمته للتقوى والعراض عن النفاق والكفر ،وهو خطاب للرسول وأمته،
فللرسول الدوام والترقي والحصانة ،ولمته التباع لمنهج ال.
ومثل هذا قوله تعالى:
{ يَآأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ }[البقرة.]153 :
وهو سبحانه يناديهم باليمان؛ لنهم اعتقدوا اعتقاد اللوهية الواحدة ،ومن يسمع منهم هذا الخطاب
عليه أن يداوم على اليمان.
وما دام قد آمن بالله الواحد قبل الخطاب ،فقد استحق أن ينال التكريم من الحق سبحانه بأن
يخاطبه ويصفه بأنه من المؤمنين ،فإذا نُودِي عليهم بهذه الصفة فهي علمة السمو المقبول.
وإذا طُلبت الصفة ممن توجد الصفة فيه ،فاعلم أنه سبحانه يطلب دوام الصفة فيه واستمرارها،
وفي الستمرارية ارتقاء.
وقول الحق سبحانه هنا:
{ ّممّا َيعْبُدُ هَـاؤُلءِ } [هود.]109 :
نجد أن التحقيق ل يثبت لهم عبادة؛ لن معنى العبادة ائتمار عابدٍ بأمر معبود .وهؤلء إنما
يعبدون الصنام ،وليس للصنام منهج يسير عليه من آمنوا بها.
ولكن الحق سبحانه أثبت لهم هنا أنهم عبدوا الصنام ،وهم قد قالوا من قبل:
{ مَا َنعْ ُبدُهُمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى }[الزمر.]3 :
وهو إيمان فقد حجية التعقل اليماني ،أي :أن تستقبل أنت بذاتك القضية اليمانية وتناقشها لتدخل
عليها باقتناع ذاتك.
وهم قد دخلوا إلى اليمان بعبادة الصنام باقتناع الغير ،وهم الباء ،فإيمانهم إيمان تقليد ،وفي
التقليد جفاف الفطرة السليمة وهو ل ينفع.
ونحن نعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد جعل النّسَب في الكون إما ليثبت نسبة إيجابية ،أو نسبة
سلبية.
{ مَا َيعْ ُبدُونَ } [هود.]109 :
أي :على ما قالوا إنه عبادة ،ولكنه ليس عبادة ،لن العبادة تقتضي أمرا ونهيا ،وليس للصنام
أوامر أو نواهٍ ،وعبادتهم هي عبادة تقليدية للباء؛ ولذلك قالوا:
{ َبلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَ ْيهِ آبَآءَنَآ }[البقرة.]170 :
ولذلك يقرر الحق سبحانه هنا جزاءهم ،فيقول تعالى:
{ وَإِنّا َل ُم َوفّوهُمْ َنصِي َبهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } [هود.]109 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :سنعطيهم جزاءهم كاملً؛ لنهم يفسدون في الكون ،رغم أن الحق سبحانه قد جعل لكل منهم
حق الختيار في أن يفعل الشيء أو ل يفعله ،وإن لم تنضبط حركة الختيار ،فالتوازن الجتماعي
يصير إلى اختلل.
وما دام للنسان حق الختيار؛ فقد أنزل الحق سبحانه له المنهج الذي يضم التكاليف اليمانية.
وهم حين قلدوا الباء قد ساروا في طريق إفساد الكون؛ لذلك يُوفّيهم الحق سبحانه نصيبهم من
العذاب.
والمفهوم من كلمة " النصيب " أنها للرزق ،ويذكرها الحق سبحانه هنا لتقرير نصيب من العذاب،
وفي هذا تهكم عليهم ،وسخرية منهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا ا ْلكِتَابَ فَاخْتُِلفَ فِيهِ {
()1569 /
شكّ مِنْهُ
وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ فَاخْتُِلفَ فِي ِه وََلوْلَا كَِلمَةٌ سَ َب َقتْ مِنْ رَ ّبكَ َل ُقضِيَ بَيْ َنهُ ْم وَإِ ّنهُمْ َلفِي َ
مُرِيبٍ ()110
وسورة هود هي السورة الوحيدة في القرآن التي جاء فيها ذكر رسول واحد مرتين ،فقد ذكر الحق
سبحانه أنه أمر موسى عليه السلم بأن يذهب إلى فرعون ،وأن يريه اليات ،ولم يزد ،ثم انتقل
من ذلك البلغ فقال سبحانه:
{ َيقْ ُدمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ }[هود.]98 :
أي :أنه أعقب أولية البلغ بالختام الذي انتهى إليه فرعون يوم القيامة ،فيُورِد قومه النار.
ثم يأتي الحق سبحانه هنا إلى موسى عليه السلم بعد ابتداء رسالته؛ ولذلك يقول تعالى:
{ وََلقَدْ آتَيْنَا مُوسَىا ا ْلكِتَابَ } [هود.]110 :
ونحن نعلم أن ِذكْر موسى عليه السلم في البداية كان بمناسبة ِذكْر ما له علقة بشعيب عليه
السلم حين ورد موسى ماء مدين ،ولكن العجيب أنه عند ِذكْر شعيب لم يذكر قصة موسى معه،
وإنما ذكر قصة موسى مع فرعون.
وقد علمنا أن موسى عليه السلم لم يكن آتيا إلى فرعون إل لمهمة واحدة ،هي أن يرسل معه بني
إسرائيل ول يعذبهم.
وأما ما يتأتى بعد ذلك من اليمان بال فقد جاء كأمر تبعيّ ،لن رسالة موسى عليه السلم لم تكن
إل لبني إسرائيل؛ ولذلك جاء هنا بالكتاب ليبلغه إلى بني إسرائيل منهجا ،أما في الموضع الول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقد ذكر سبحانه اليات التي أرسل بها موسى إلى فرعون.
ونحن نعلم أن سورة هود عرضت لمواكب الرسل :نوح ،وهود ،وصالح ،وشعيب ،وإبراهيم ـ
عليهم جميعا السلم ـ وجاء الحديث فيها عن موسى عليه السلم مرتين :مرة في علقته
بفرعون ،ومرة في علقته ببني إسرائيل.
وفي كل لقطة من اللقطات مهمة أساسية من مهمات المنهج اللهي للناس عموما ،من أول آدم
عليه السلم إلى أن تقوم الساعة؛ إل أنه عند ذكر كل رسول يأتي باللقطة التي تعالج دا ًء موقوتا
عند القوم.
فالقَدْر المشترك في دعوات كل الرسل هو قوله سبحانه:
{ اعْ ُبدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ }[العراف.]59 :
ثم يختلف المر بعد ذلك من رسول لخر ،فمنهم من يأمر قومه أل يعبدوا الصنام؛ ومنهم من
يأمر قومه أل ينقصوا الكيل والميزان.
وهكذا نجد في كل لقطة مع كل رسول علج داء من داءات تلك المة ،أما السلم فقد جاء ليعالج
داءات البشرية كلها؛ لذلك جمعت كل القيم الفاضلة في القرآن كمنهج للبشرية.
لذلك فالحق سبحانه ل يقص علينا القصص القرآني للتسلية ،أو لقتل الوقت ،أو لتعلم التاريخ؛
ولكن لنلتقط العبرة من رسالة كل رسول إلى أمته التي بعث إليها ليعالج داءها.
وبما أن أمة محمد صلى ال عليه وسلم ستكون آخر عهدٍ للتقاء البشر بالبشر ،وستكون فيها كل
أجواء وداءات الدنيا ،لذلك فعليهم التقاط تلك العبر؛ لن رسالتهم تستوعب الزمان كله ،والمكان
كله.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهو سبحانه مُنزّه في ذاته عن أي تشبيه ،ول صفات ،وهي ليست ككل الصفات ،فالحق سبحانه
موجود ،وأنت موجود ،لكن وجوده قديم أزليّ ل ينعدم ،وأنت موجود طارىء ينعدم.
ونحن نأخذ كل ما يتعلق بال سبحانه في إطار:
شيْءٌ }[الشورى.]11 :
{ لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
فإذا تكلم الحق سبحانه عن الفعل فخذ كل فعلٍ صدر عنه بقوته سبحانه غير النهائية.
وقوله سبحانه هنا:
} آتَيْنَا مُوسَىا ا ْلكِتَابَ { [هود.]110 :
نفهم منه أن هذا الفعل قد استلزم صفات متكاملة ،علما وحكما ،وقدرةً ،وعفوا ،وجبروتا ،وقهرا،
فهناك أشياء كثرة تتكاتف لتحقيق هذا التيان.
وقد يسأل سائل :وما دام موسى عليه السلم قد أوتي الكتاب ،واختُلف فيه ،فلماذا لم يأخذ الحق
سبحانه قوم موسى كما أخذ قوم نوح ،أو قوم عاد ،أو قوم ثمود ،أو بقية القوام الذين أخذهم ال
بالعذاب؟
ونقول :ما نجوا من عذاب ال بقدرتهم؛ بل لن الحق سبحانه قد جعل عذابهم آجلً ،وهو يوم
الحساب.
ولذلك قال سبحانه في الية نفسها:
ضيَ بَيْ َن ُهمْ { [هود.]110 :
} وََل ْولَ كَِل َمةٌ سَ َب َقتْ مِن رّ ّبكَ َل ُق ِ
وبذلك حكم الحق حكما فاصلً ،كما حكم على المم السابقة التي كانت مهمة رسلهم هي البلغ،
ولم تكن مهمة رسلهم أن يحاربوا من أجل إرساء دعوة أو تثبيت حق؛ ولذلك كانت السماء هي
التي تتدخل بالمر النهائي.
لكن اختلف المر في رسالة موسى عليه السلم ،فقد سبق فيه قول ال تعالى بالتأجيل للحساب إلى
يوم القيامة.
ثم يقول الحق سبحانه هنا:
شكّ مّنْهُ مُرِيبٍ { [هود.]110 :
} وَإِ ّنهُمْ َلفِي َ
كأنهم في شك من يوم القيامة ،وفي شك من الحساب ،مثل قوله سبحانه في أول الية عن
الختلف في الكتاب وموسى عليه السلم.
عمَاَل ُهمْ {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَإِنّ كُـلّ ّلمّا لَ ُي َوفّيَ ّنهُمْ رَ ّبكَ أَ ْ
()1570 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فالحق سبحانه قد أخذ قوم الرسل السابقين على موسى بالعذاب ،أما في بدء رسالة موسى
عليه السلم فقد تم تأجيل العذاب ليوم القيامة.
ويبيّن الحق سبحانه :ل تعتقدوا أن تأجيل العذاب ليوم القيامة يعني الفلت من العذاب ،بل كل
واحد سيوفّى جزاء عمله؛ بالثواب لمن أطاع ،وبالعقاب لمن عصا ،فأمر ال سبحانه آت ـ ل
محالة ـ وتوفية الجزاء إنما تكون على قدر العمال ،كفرا أو إيمانا ،صلحا أو فسادا ،وميعاد
ذلك هو يوم القيامة.
وهنا وقفة في أسلوب النص القرآني ،حتى يستوعب الذين ل يفهمون اللغة العربية كمَلَكة ،كما
فهمها العرب القدمون.
ونحن نعلم أن العربي القديم لم يجلس إلى معلم ،لكنه فهم اللغة ونطق بها صحيحة؛ لنه من أمة
مفطورة على الداء البياني الدقيق ،الرقيق ،الرائع.
فاللغة ـ كما نعلم ـ ليست جنسا ،وليست دما ،بل هي ظاهرة اجتماعية ،فالمجتمع الذي ينشأ فيه
الطفل هو الذي يحدد لغته ،فالطفل الذي ينشأ في مجتمع يتحدث العربية ،سوف ينطق بالعربية،
والطفل الذي يوجد في مجتمع يتحدث اللغة النجليزية ،سينطق بالنجليزية؛ لن اللغة هي ما
ينطق به اللسان حسبما تسمع الذن.
وكانت غالبية البيئة العربية في الزمن القديم بيئة منعزلة ،وكان من ينشأ فيها إنما يتكلم اللغة
السليمة.
أما العربي الذي عاش في حاضرة مثل مكة ،ومكة ـ بما لها من مكانة ـ كانت تستقبل أغرابا
كثيرين؛ ولذلك كان أهل مكة يأخذون الوليد فيها لينقلوه إلى البادية؛ حتى ل يسمع إل اللغة العربية
الفصيحة ،وحتى ل يحتاج إلى من يضبط لسانه على لغة العرب الصافية.
ولنق ّربْ هذا المر ،ولننظر إلى أن هناك في حياتنا الن لغتين :لغة نتعلمها في المنازل والشوارع
ونتخاطب بها ،وتسمى " اللغة العامية " ،ولغة أخرى نتعلمها في المدارس ،وهي اللغة المصقولة
المميزة بالفصاحة والضبط.
وكان أهل مكة يرسلون أبناءهم إلى البادية لتلتقط الذن الفصاحة ،وكانت اللغة الفصيحة هي "
العامية " في البادية ،ولم يكن الطفل في البادية يحتاج إلى معلم ليتعلمها؛ لن أذنه ل تسمع إل
الفصاحة.
وكانت هذه هي اللغة التي يتفوق فيه إنسان ذلك الزمان كملكة ،وهي تختلف عن اللغة التي
نكتسبها الن ،ونصقلها في مدارسنا ،وهي لغة تكاد تكون مصنوعة ،فما بالنا بالذين لم يتعلموا
العربية من قبل من المستشرقين ،ويتعلمون اللغة على كِبَر.
وهؤلء لم يمتلكوا صفاء اللغة ،لذلك حاولوا أن يطعنوا في القرآن ،وادعى بعض أغبيائهم أن في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القرآن لحنا ،قالوا ذلك وهم الذين تعلموا اللغة المصنوعة ،رغم أن من استقبلوا القرآن من رسول
ال صلى ال عليه وسلم وهم أهل الفصاحة ،لم يجدوا في القرآن لحنا ،ولو أنهم أخذوا لحنا على
القرآن في زمن نزوله؛ لعلنوا هذا اللحن؛ لن القرآن نزل باللغة الفصيحة على أمة فصيحة،
بليغة صناعتها الكلم.
ولمرٍ ما أبق ال سبحانه صناديد قريش وصناديد العرب على كفرهم لفترة ،ولو أن أحدا منهم
اكتشف لحنا في القرآن لعلنه.
وذلك حتى ل يقولن أحد أنهم قد آمنوا فستروا على القرآن عيوبا فيه .ولو كان عند أحدهم َم ْهمَزٌ
لما منعه كفره أن يبين ذلك ،فهل يمكن لهؤلء المستشرقين الذين عاشوا في القرن العشرين أن
يجدوا لحنا في القرآن ،وهم لم يمتلكوا ناصية اللغة ملكة ،بل تعلموها صناعة ،والصنعة عديمة
الحساس الذوقي.
ومثال ذلك :عدم فهم هؤلء لسرار اللغة في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،فالحق سبحانه
يقول:
عمَاَلهُمْ إِنّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ خَبِيرٌ { [هود.]111 :
} وَإِنّ كُـلّ ّلمّا لَ ُي َوفّيَ ّنهُمْ رَ ّبكَ أَ ْ
أي :أن كل واحد من الذين صدّقوا أو من الذين كذّبوا ،له توفية في الجزاء ،للطائع الثواب؛
وللعاصي العقوبة.
وكلمة " إنّ " ـ كما نعلم ـ هي في اللغة " حرف توكيد " في مقابلة مَنْ ينكر ما يجيء بعدها.
والنكار ـ كما نعلم ـ مراحل ،فإذا أردت أن تخبر واحدا بخبر ل يعلمه ،فأنت تقول له مثلً" :
زارني فلن بالمس ".
وهكذا يصادف الخبر ذهن المستمع الخالي ،فإن قال لك " :لكن فلنا كان بالمس في مكان آخر "
،فأنت تقول له " :إن فلنا زارني بالمس ".
وحين يرد عليك السامع " :لكنني قابلت فلنا الذي تتحدث عنه أمس في المكان الفلني ".
وهنا قد تؤكد قولك " :وال لقد زارني فلن بالمس ".
حسْب درجة النكار.
إذن :فأنت تأتي بالتوكيد على َ
وحين يؤجل الحق سبحانه العذاب لبعض الناس في الدنيا ،قد يقول غافل :لعل ال لم يعد يعذّب
أحدا.
ولذلك بيّن الحق سبحانه مؤكدا أن الحساب قادم ،لكل من الطائع والمصدّق ،والعاصي المكذّب،
فقال سبحانه:
عمَاَلهُمْ { [هود.]111 :
} وَإِنّ كُـلّ ّلمّا لَ ُي َوفّيَ ّنهُمْ رَ ّبكَ أَ ْ
والذين لم تستقم لهم اللغة كملكة ،كالمستشرقين ،وأخذوها صناعة ،توقفوا عند هذه الية وقالوا:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لماذا جاء بالتنوين في كلمة " كلً "؟
ع َوضٌ عن
وهم لم يعرفوا أن التنوين يغني عن جملة ،فساعة تسمع أو تقرأ التنوين ،فاعلم أنه ِ
جملة ،مثل قول الحق سبحانه:
{ فََل ْولَ إِذَا َبَل َغتِ ا ْلحُ ْلقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }[الواقعة83 :ـ .]84
و " كلً " في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها توجز أن كلً من الطائع المؤمن ،والعاصي
الكافر ،سوف يلقى جزاءه ثوابا أو عقابا.
أما قوله سبحانهّ } :لمّا { في نفس الية ،فنحن نعلم أن " لما " تستعمل في اللغة بمعنى " الحين " و
" الزمان " مثل قول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وال سبحانه بما يفعل العباد خبير ،هو سبحانه يعلم أفعال العبد قبل أن تقع ،ولكنها حين تقع ل
يمكن أن تُنسَى أو تذهب أدراج الرياح؛ لن من يعلمها هو " الخبير " صاحب العلم الدقيق،
والخبير يختلف عن العالِم الذي قد يعلم الجماليات ،لكن الخبير هو المدرّب على التخصص.
ولذلك غالبا ما تأتي كلمتا " اللطيف والخبير " معا؛ لن الخبير هو من يعلم مواقع الشياء،
واللطيف هو من يعرف الوصول إلى مواقع تلك الشياء.
ومثال هذا :أنك قد تعرف مكان اختباء رجل في جبل مثلً ،هذه المعرفة وهذه الخبرة ل تكفيان
للوصول والنفاذ إلى مكانه ،بل إن هذا يحتاج إلى ما هو أكثر ،وهو الدقة واللطف.
والحق سبحانه جاء بهذا الحديث عن موسى عليه السلم ليسلّي رسوله صلى ال عليه وسلم ،لن
بعضا من الكافرين برسالة محمد عليه الصلة والسلم قالوا :ما دام ال يأتي بالعذاب ليبيد من
يكفرون برسله ،فلماذا ل يأتي لنا العذاب؟
ولهذا جاء ما يخبر هؤلء بأن الحق سبحانه سيوقع العقوبة على الكافرين ،ل محالة ،فإياك أن
يخادعوك ـ يا رسول ال ـ في شيء ،أو يساوموك على شيء ،مثلما قالوا :نعبد إلهك سنة،
وتعبد آلهتنا سنة.
وهذا هو قطع العلقات التام في تلك المسألة التي ل تقبل المساومة ،وهي العبادة.
ونحن نعلم أن العبادة أمر قلبي ،ل يمكن المساومة فيه ،وقطع العلقات في مثل هذا المر أمر
واجب؛ لنه ل يمكن التفاوض حوله؛ فهي ليست علقات ظرف سياسي ،ولكنه أمر ربّاني،
يحكمه الحق سبحانه وحده.
وقول الحق سبحانه:
{ لَ أَعْ ُبدُ مَا َتعْبُدُونَ * َولَ أَن ُتمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْ ُبدُ * َولَ أَنَآ عَابِدٌ مّا عَبَدتّمْ }[الكافرون2 :ـ .]4
هذا القول الكريم يشعر من يسمعه ويقرؤه أنهم سيظلون على عبادة غير ال ،وأن محمدا سيظل
على عبادة ال ،وأن كلمة " ال " ستعلو؛ لن الحق سبحانه يأتي بعد سورة " الكافرين " بقوله
تعالى:
حمْدِ رَ ّبكَ
{ ِإذَا جَآءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ * وَرَأَ ْيتَ النّاسَ َيدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجا * فَسَبّحْ ِب َ
وَاسْ َت ْغفِ ْرهُ إِنّهُ كَانَ َتوّابا }[النصر1 :ـ .]3
وهنا يقول الحق سبحانه } :فَاسْ َتقِمْ َكمَآ ُأمِ ْرتَ {
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1571 /
والستقامة معناها :عدم الميل أو النحراف ـ ولو قيد شعر ٍة ـ وهذا أمر يصعب تحقيقه؛ لن
الفاصل بين الضدين ،أو بين المتقابلين هو أدق من الشعرة في بعض الحيان.
ومثال ذلك :حين ترى الظل والضوء ،فأحيانا يصعد الظل على الضوء ،وأحيانا يصعد الضوء
على الظل ،وسنجد صعوبة في تحديد الفاصل بين الظل والنور ،مهما دقت المقاييس.
وهكذا يصبح فصل الشيء عن نقيضه صعبا ،ولذلك فالستقامة أمر شاق للغاية.
وساعة أن نزلت هذه الية قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :شيبتني هود وأخواتها ".
ولول أن قال الحق سبحانه في كتابه الكريم:
طعْ ُتمْ }[التغابن.]16 :
{ فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْتَ َ
فلول نزول هذه الية لتعب المسلمون تماما ،وقد أنزل الحق سبحانه هذا القول بعد أن قال:
حقّ ُتقَاتِهِ }[آل عمران.]102 :
{ ا ّتقُواْ اللّهَ َ
وعزّ ذلك على صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأنزل الحق سبحانه ما يخفف به عن أمة
محمد صلى ال عليه وسلم بأن قال سبحانه:
طعْ ُتمْ }[التغابن.]16 :
{ فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْتَ َ
إذن :فالمر بالستقامة هو أمر بدقة الداء المطلوب ل أمرا ونهيا ،بحيث ل نميل إلى جهة دون
جهة.
وهكذا تطلب الستقامة كامل اليقظة وعدم الغفلة.
ويقول الحق سبحانه:
{ فَاسْ َتقِمْ َكمَآ ُأمِ ْرتَ َومَن تَابَ َم َعكَ } [هود.]112 :
وهذا إيذان بألّ ييأس رسول ال صلى ال عليه وسلم من وقوف صناديد قريش أمام دعوته صلى
ال عليه وسلم؛ لنهم سيتساقطون يوما بعد يوم.
وقول الحق سبحانه:
ط َغوْاْ إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ } [هود.]112 :
{ َولَ تَ ْ
يعني أل نتجاوز الحد ،فالطغيان هو مجاوزة الحد.
وهكذا نعلم أن اليمان قد جعل لكل شيء حدّا ،إل أن حدود الوامر غير حدود النواهي؛ فالحق
سبحانه إن أمرك بشيء ،فهو يطلب منك أن تلتزمه ول تتعده.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقال الحق سبحانه:
{ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتعْ َتدُوهَا }[البقرة.]229 :
وهذا القول في الوامر ،أما في النواهي فقد قال سبحانه:
{ تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتقْرَبُوهَا }[البقرة.]187 :
أي :أن تبتعد عنها تماما.
ويقول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى
حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ،أل وإن لكل ملكٍ حمى ،أل وإن حمى ال محارمه ".
وحين ينهانا الحق سبحانه عن القتراب من شيء فهذه هي استقامة الحتياط ،وهي قد تسمح لك
بأن تدخل في التحريم ما ليس داخلً فيه ،فمثلً عند تحريم الخمر ،جاء المر باجتنابها أي:
البتعاد عن كل ما يتعلق بالخمر حتى ل يجتمع المسلم هو والخمر في مكان.
وجعل الحق سبحانه أيضا الستقامة في مسائل الطاعة ،وهو سبحانه يقول:
حصَا ِد ِه َولَ ُتسْ ِرفُواْ }
حقّهُ َيوْمَ َ
{ وَآتُواْ َ
[النعام.]141 :
والنهي عن السراف هنا؛ ليعصمنا الحق سبحانه من لحظة نتذكر فيها كثرة ما حصدنا ،ولكننا ل
نجد ما نقيم به الود فقد يسرف النسان لحظة الحصاد لكثرة ما عنده ،ثم تأتي له ظروف صعبة
عطِ " .وهكذا يعصمنا الحق سبحانه من هذا الموقف.
فيقول " :يا ليتني لم أُ ْ
ويقول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :سدّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة،
وأن أحب العمال أدومها إلى ال وإن قل "؛ لن الدين قوي متين ،و " لن يشاد الدين أحد إل غلبه
".
وهكذا نجد الحق سبحانه ونجد رسوله صلى ال عليه وسلم أعلم بنا ،وال ل يريد منا عدم
الطغيان من ناحية المحرمات فقط ،بل من ناحية الحلّ أيضا ،فيوصينا سبحانه بالرفق واللين
والهوادة ،وأن يجعل النسان لنفسه ُمكْنة الختيار.
ومثال ذلك :أن يلزم النسان نفسه بعشرين ركعة كل ليلة ،وهو يلزم نفسه بذلك نذرا ل تعالى في
ساعة صفاء ،لكنه حين يبدأ في مزوالة ذلك القدر يكتشف صعوبته ،فتكرهه نفسه.
ولذلك يأمرنا الحق سبحانه بالستقامة وعدم الطغيان؛ استقامة في تحديد المأمور به والمنهي عنه؛
ولذلك كان الحتياط في أمر العبادات أوسع لمن يطلب الستقامة.
ويقول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الحلل بيّن ،والحرام بين ،وبينهما أمور مشتبهات ل
يعلمهن كثير من الناس ،فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ".
ولذلك يطلب الشارع الحكيم سبحانه منا في الحتياط أن نحتاط مرة بالزيادة ،وأن نحتاط بمرة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالنقص ،فحين تصلي خارج المسجد الحرام ،يكفيك أن تكون جهتك الكعبة ،أما حين تصلي في
المسجد الحرام ،فأنت تعلم أن الكعبة قسمان :قسم بنايته عالية ،وقسم اسمه " الحطيم " وهو جزء
من الكعبة ،لكن نفقتهم أيام رسول ال صلى ال عليه وسلم قد قصرت؛ فلم يبنوه.
لذلك فأنت تتجه ببصرك إلى البناء العالي المقطوع بكعبيته ،وهذا هو الحتياط بالنقص.
أما الحتياط بالزيادة ،فمثال ذلك :هو الطواف ،وقد يزدحم البشر حول الكعبة ،ول تسمح ظروفك
إل بالطواف حول المسجد.
وهكذا يطول عليك الطواف ،لكنه طواف بالزيادة فعند الصلة يكون الحتياط بالنقص ،أما عند
الطواف فيكون الحتياط بالزيادة.
وهكذا نجد الحتياط هو الذي يحدد معنى الستقامة.
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله تعالى:
} إِنّهُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ َبصِيرٌ { [هود.]112 :
وفي الية السابقة قال سبحانه {:إِنّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ خَبِيرٌ }[هود.]111 :
وعلمنا معنى الخبير ،أما المقصود بالبصير هنا فهو أنه سبحانه يعلم حركة العبادة؛ لن حركة
العبادة مرئية.
سكُمُ {
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :ولَ تَ ْركَنُواْ إِلَى الّذِينَ ظََلمُواْ فَ َتمَ ّ
()1572 /
س ُكمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ َأوْلِيَاءَ ثُمّ لَا تُ ْنصَرُونَ ()113
وَلَا تَ ْركَنُوا ِإلَى الّذِينَ ظََلمُوا فَ َتمَ ّ
والكافرون ـ كما نعلم ـ قد عرضوا على رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يعبد آلهتهم سنة،
وأن يعبدوا هم ال سنة ،ولكن الحق سبحانه قطع وفصل في هذا المر.
ويأتي هنا توكيد هذا المر؛ فيقول سبحانه:
{ َولَ تَ ْركَنُواْ إِلَى الّذِينَ ظََلمُواْ } [هود.]113 :
والركون هو الميل والسكون والمودة والرحمة ،وأنت إذا ركنت للظالم؛ أدخلت في نفسه أن لقوته
شأنا في دعوتك.
والركون أيضا يعني :المجاملة ،وإعانة هذا الظالم على ظلمه ،وأن تزّين للناس ما فعله هذا
الظالم.
وآفة الدنيا هي الركون للظالمين؛ لن الركون إليهم إنما يشجعهم على التمادي في الظلم،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والستشراء فيه .وأدنى مراتب الركون إلى الظالم أل تمنعه من ظلم غيره ،وأعلى مراتب الركون
إلى الظالم أن تزين له هذا الظلم؛ وأن تزين للناس هذا الظلم.
وأنت إذا استقرأت وضع الظلم في العالم كله لوجدت آن آفات المجتمعات النسانية إنما تنشأ من
الركون إلى الظالم؛ لكنك حين تبتعد عن الظالم ،وتقاطعه أنت ومن معك؛ فلسوف يظن أنك لم
تُعرْض عنه إل لنك واثق بركن شديد آخر؛ فيتزلزل في نفسه؛ حاسبا حساب القوة التي تركن
إليها؛ وفي هذا إضعاف لنفوذه؛ وفي هذا عزلة له وردع؛ لعله يرتدع عن ظلمه.
والركون للظالم إنما يجعل النسان عرضة لن تمسه النار بقدر آثار هذا الركون؛ لن الحق
سبحانه يقول:
سكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِنْ َأوْلِيَآءَ ثُ ّم لَ تُنصَرُونَ }
{ َولَ تَ ْركَنُواْ إِلَى الّذِينَ ظََلمُواْ فَ َت َم ّ
[هود.]113 :
فأنتم حين تركنون إلى ظالم إنما تقعون في عداء مع منهج ال؛ فيتخلى ال عنكم ول ينصركم
ي ول ناصر إل ال تعالى.
أحد؛ لنه ل ول ّ
لةَ طَ َر َفيِ ال ّنهَارِ }
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وََأ ِقمِ الصّ َ
()1573 /
وََأقِمِ الصّلَاةَ طَ َر َفيِ ال ّنهَا ِر وَزَُلفًا مِنَ اللّ ْيلِ إِنّ ا ْلحَسَنَاتِ يُ ْذهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَِلكَ ِذكْرَى لِلذّاكِرِينَ ()114
وهذا أمر بالخير؛ يوجهه ال سبحانه إلى رسوله صلى ال عليه وسلم.
ونحن نلحظ في هذه اليات من سورة هود أنها تحمل أوامر ونواهي؛ الوامر بالخير دائما؛
والنواهي عن الشر دائما.
ونلحظ أن الحق سبحانه قال:
{ فَاسْ َتقِمْ َكمَآ ُأمِ ْرتَ َومَن تَابَ َم َعكَ }[هود.]112 :
ط َغوْاْ }[هود ]112 :ولم يقل " :فاستقم ول تطغي " لن المر
ثم وَجّه النهي للمة كلهاَ {:ولَ تَ ْ
بالخير يأتي للنبي صلى ال عليه وسلم وأمته معه؛ وفي النهي عن الشر يكون الخطاب موجها إلى
المة ،وفي هذا تأكيد لرفعة مكانة النبي صلى ال عليه وسلم.
ونرى نفس المر حين يوجه الحق سبحانه الحديث إلى أمة محمد صلى ال عليه وسلم فيقول
سبحانه وتعالى:
{ َولَ تَ ْركَنُواْ إِلَى الّذِينَ ظََلمُواْ }[هود.]113 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولم يقل " :ول تركن إلى الذين ظلموا ".
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم
ولمته:
لةَ } [هود.]114 :
{ وََأقِمِ الصّ َ
والقامة تعني :أداء المطلوب على الوجه الكمل ،مثل إقامة البنيان؛ وأن تجعله مؤديا للغرض
المطلوب منه.
ويقال " :أقام الشيء " أي :جعله قائما على المر الذي يؤدي به مهمته.
وقول الحق سبحانه:
لةَ طَ َر َفيِ ال ّنهَارِ } [هود.]114 :
{ وََأقِمِ الصّ َ
أي :نهايته من ناحية ،ونهايته من الناحية الخرى؛ لن طرف الشيء هو نهايته.
وتتحدد نهاية الطرفين من منطقة وسط الشيء ،فالوسط هو الفاصل بين الطرفين؛ فما على يمين
الوسط يعد طرفا؛ وما على يسار الوسط يعد طرفا آخر؛ وكل جزء بعد الوسط طرف.
وعادةً ما يعد الوسط هو نقطة المنتصف تماما ،وما على يمينها يقسم إلى عشرة أجزاء ،وما على
يسارها يقسم إلى عشرة أجزاء أخرى ،وكل قسم بين تلك الجزاء التي على اليمين و التي على
اليسار يعد طرفا.
وقول الحق سبحانه:
لةَ طَ َر َفيِ ال ّنهَارِ } [هود.]114 :
{ وََأقِمِ الصّ َ
يقتضي أن تعرف أن النهار عندنا إنما نتعرف عليه من بواكير الفجر الصادق ،وهذا هو أول
طرف نقيم فيه صلة الفجر ،ثم يأتي الظهر؛ فإن وقع الظهر قبل الزوال حسبناه من منطقة ما قبل
الوسط ،وإن كان بعد الزوال حسبناه من منطقة ما بعد الوسط.
وبعد الظهر هناك العصر ،وهو طرف آخر.
وقول الحق سبحانه:
{ وَزُلَفا مّنَ الّ ْيلِ } [هود.]114 :
يقتضي منا أن نفهم أن كلمة { زُلَفا } هي جمع؛ زلفة ،وهي مأخوذة من :أزلفه ،إذا قرّبه.
والجمع أقله ثلثة؛ ونحن نعلم أن لنا في الليل صلة المغرب ،وصلة العشاء ،ولذلك نجد المام
أبا حنيفة يعتبر الوتر واجبا ،فقال :إن صلة العشاء فرض ،وصلة الوتر واجب؛ وهناك فرق بين
الفرض والواجب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك مباشرة:
حسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ } [هود.]114 :
{ إِنّ الْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا التعقيب يضع الصلة في قمة الحسنات ،وقد أوضح رسول ال صلى ال عليه وسلم هذا بأن
قال " :الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم ُتغْشَ الكبائر ".
واختلف العلماء في معنى السيئات والحسنات ،وقال بعضهم :الحسنة هي ما جعل ال سبحانه على
عملها ثوابا ،والسيئة هي ما جعل ال على عملها عقابا.
وأول الحسنات في اليمان أن تشهد أن ل إله إل ال ،وهذه حسنة أذهبت الكفر؛ لن الحسنات
يذهبن السيئات.
ولذلك قال بعض العلماء :إن المسلم الذي ارتكب معصية أو كبيرة من الكبائر ،ل يخلد في النار؛
لنه إذا كانت حسنة اليمان قد أذهبت سيئة الكفر ،أفل تذهب ما دون الكفر؟.
وهكذا يخفّف العقاب على المسلم فينال عقابه من النار ،ولكنه ل يخلد فيها؛ لننا ل يمكن أن
نساوي بين من آمن بال ومن لم يؤمن بال.
واليمان بال هو أكبر حسنة ،وهذه الحسنة تذهب الكفر ،ومن باب أولى أن تذهب ما دون الكفر.
وتساءل بعض العلماء :هل الفرائض هي الحسنات التي تذهب السيئات؟
وأجاب بعضهم :هناك أحاديث صحيحة قد وردت عن رسول ال صلى ال عليه وسلم عن حسنات
في غير الفرائض ،ألم يقل رسول ال صلى ال عليه وسلم " إن صوم يوم عرفة إلى صوم يوم
عرفة يذهب السيئات ".
ألم يقل رسول ال صلى ال عليه وسلم " إن النسان الذي يستقبل نعمة ال بقوله :الحمد ل الذي
ل مني ول قوة " .وهذا
ل مني ول قوة ،والحمد ل الذي كساني من غير حو ٍ
رزقنيه من غير حو ٍ
القول يكفّر السيئات.
ألم يقل صلى ال عليه وسلم " إنك إذا قلت :سبحان ال ،والحمد ل ،ول إله إل ال ،وال أكبر ول
حول ول قوة إل بال العليّ العظيم " فهذا القول كفارة؟
إذن :فالحسنات مطلقة سواء أكانت فرضا أم غير فرضٍ ،وهي تذهب السيئات .والسيئة هي عمل
توعد ال ـ سبحانه ـ من يفعله بالعقوبة.
وتساءل أيضا بعض العلماء :إن السيئة عمل ،والعمل إذا وقع يُرفع ويُسجّل ،فكيف تُذهبها
الحسنة؟
وأجابوا :إن ذهاب السيئة يكون إما عن طريق مَنْ يحفظ العمل ،ويكتبه عليك ،فيمحوه ال من
كتاب سيئاتك ،أو أن يعفو ال سبحانه وتعالى عنك؛ فل يعاقبك عليه ،أو يكون ذهاب العمل في
ذاته فل يتأتى ،وما وقع ل يرتفع؛ أو يحفظها ال إن وقعت؛ لنه هو سبحانه القائل:
{ مّا يَ ْلفِظُ مِن َقوْلٍ ِإلّ لَدَ ْيهِ َرقِيبٌ عَتِيدٌ }[ق.]18 :
ويقول سبحانه:
{ وَإِنّ عَلَ ْي ُكمْ لَحَا ِفظِينَ * كِرَاما كَاتِبِينَ }[النفطار10 :ـ .]11
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا يكون إذهاب السيئة ،إما محوها من الكتاب ،وإما أن تظل في الكتاب ،ويذهب ال سبحانه
عقوبتها بالمغفرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمخ كآلة التصوير الفوتوغرافية يلتقط أحيانا من مرة واحدة ،وأحيانا من مرتين ،أو أكثر،
واللتقاط من أول مرة إنما يتم لن المخ في تلك اللحظة كان خاليا من الخواطر.
ونحن نجد أن من فقدوا أبصارهم إنما ينعم ال سبحانه عليهم بنعمة أخرى ،هي قدرتهم الكبيرة
على حفظ العلم؛ لنه حين يسمع الكفيف العلم ل تشغله الخواطر المرئية التي تسرق انتباه بؤرة
الشعور ،أما المبصر ،فقد تسرق بؤرة شعوره ما يمر أمامه ،فيسمع العلم لكثر من مرة إلى أن
يصادف العلم بؤرة الشعور خالية فيستقر فيها.
وهكذا تفعل الذكرى؛ لنها تستدعي ما في حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور ،فإذا انشغلت عن
طاعة وذهبت إلى معصية ،فالذكرى توضح لك آفاق المسئولية التي تتبع المعصية ،وهي العقاب.
ولذلك يقال " :ل خير في خيرٍ بعده النار ،ول شر في شر بعده الجنة ".
والحق سبحانه يقول هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
لةَ طَ َر َفيِ ال ّنهَا ِر وَزُلَفا مّنَ الّ ْيلِ { [هود.]114 :
} وََأقِمِ الصّ َ
وأنت حين تنظر إلى أركان السلم ،ستجد أنك تشهد أل إله إل ال ،وأن محمدا رسول ال مرة
واحدة في العمر ،والركن الثاني ،وهو الصلة ،وهو ركن ل يسقط أبدا ،فهي كل يوم خمس
مرات ،فيها تنطق بالشهادة ،وتزكّي ببعض الوقت ليبارك لك ال ـ سبحانه وتعالى ـ فيما بقي
لك من وقتٍ ،وفيها تصوم عن الطعام والشراب وكل ما يفسد الصيام ،وأنت تتجه لحظة قيام
الصلة إلى البيت الحرام.
ففي الصلة تتضح العبادات الخرى ،ففيها من أركان السلم الخمس.
ولذلك ل تسقط الصلة أبدا؛ لنك إن لم تستطع الصلة واقفا؛ فََلكَ أن تصلي قاعدا ،وإن لم تكن
تستطيع الحركة فََلكَ أن تحرك رموش عينيك ،وأنت تصلي.
وهكذا تجد في الصلة كل أركان الدين ،ولهميتها نجد أنها تبقى مع النسان إلى آخر رمقٍ في
حياته ،وهي قد أخذت أهميتها في التشريع على قدر أهميتها في التكليف ،وكل تكاليف السلم قد
جاءت بواسطة الوحي إل الصلة ،فقد جاءت مباشرة من ال تعالى ،فقد استدعى ال سبحانه
رسوله صلى ال عليه وسلم إليه ليفرض عليه الصلة وهي تحية لمة محمد صلى ال عليه وسلم؛
نظرا لنها شرعت في قرب محمد صلى ال عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى.
لذلك جعل الحق سبحانه الصلة المفروضة في القرب وسيلة لقرب أمة رسوله صلى ال عليه
وسلم جميعا؛ ولذلك فهي الباقية.
ويُحكَى أن المام عليا ـ كرم ال وجهه ورضي عنه ـ أقبل على قوم وقال لهم :أي آي ٍة في
كتاب ال أَرْجَى عندكم؟
أي :ما هي الية التي تعطي الرجاء والطمأنينة والبشرى بأن الحق سبحانه يقبلنا ويغفر لنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويرحمنا ،فقال بعضهم :هي قول الحق سبحانه:
{ إِنّ اللّ َه لَ َي ْغفِرُ أَن يُشْ َركَ بِهِ وَ َيغْفِرُ مَا دُونَ ذاِلكَ ِلمَن يَشَآءُ }[النساء.]116 :
فقال المام علي :حسنة ،وليست إياها؟ أي :أنها آية تحقق ما طلبه ،لكنها ليست الية التي يعنيها.
فقال بعض القوم إنها قول الحق سبحانه:
غفُورا رّحِيما }[النساء.]110 :
جدِ اللّهَ َ
ظلِمْ َنفْسَهُ ُثمّ يَسْ َت ْغفِرِ اللّهَ يَ ِ
{ َومَن َي ْع َملْ سُوءا َأوْ يَ ْ
فكرر المام علي :حسنة ،وليست إياها.
فقال بعض القوم :هي قول الحق سبحانه:
جمِيعا }
حمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ َي ْغفِرُ الذّنُوبَ َ
سهِ ْم لَ َتقْنَطُواْ مِن رّ ْ
علَىا أَنفُ ِ
{ ُقلْ ياعِبَا ِديَ الّذِينَ َأسْ َرفُواْ َ
[الزمر.]53 :
فقال المام علي :حسنة ،وليست إياها:
فقال بعضهم :هي قوله سبحانه:
سهُمْ َذكَرُواْ اللّهَ فَاسْ َت ْغفَرُواْ لِذُنُو ِبهِ ْم َومَن َي ْغفِرُ الذّنُوبَ ِإلّ اللّهُ
{ وَالّذِينَ إِذَا َفعَلُواْ فَاحِشَةً َأوْ ظََلمُواْ أَ ْنفُ َ
}[آل عمران.]135 :
فقال المام علي :حسنة ،وليست إياها.
وصمت القوم وأحجموا ،فقال المام علي كرّم ال وجهه :ما بالكم يا معشر المسلمين؟ وكأنه
يسألهم :لماذا سكتم؟ ..فقالوا :ل شيء.
وهكذا جعل المام علي التشويق أساسا يبني عليه ما سوف يقول لهم :واشرأبت أعناقهم ،وأرهفوا
السمع ،فقال لهم المام علي :سمعت حبيبي رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :أَرْجَى آية في
كتاب ال هي قول الحق سبحانه:
لةَ طَ َر َفيِ ال ّنهَا ِر وَزُلَفا مّنَ الّ ْيلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ ذاِلكَ ِذكْرَىا لِلذّاكِرِينَ
} وََأقِمِ الصّ َ
{ [هود.]114 :
يا علي إن أحدكم ليقوم من وضوئه فتتساقط عن جوارحه ذنوبه ،فإذا أقبل على ال بوجهه وقلبه
ل ينفتل ـ أي :ل يلتفت ـ إل وقد غفر ال له كل ذنوبه كيوم ولدته أمه؛ فإذا أحدث شيئا بين
الصلتين فله ذلك ،ثم ع ّد الصلوات الخمس واحدة واحدة ،فقال بين الصبح والظهر ،وبين الظهر
والعصر ،وبين العصر والمغرب ،وبين المغرب والعشاء ،وبين العشاء والفجر ،ثم قال صلى ال
عليه وسلم " :يا علي إنما الصلوات الخمس لمتي كنهر جارٍ بباب أحدكم ،أو لو كان على جسد
واحد منكم درن ثم اغتسل في البحر ،أيبقى على جسده شيء من الدرن؟ قال :فذلكم وال
الصلوات لمتي ".
ولذلك لو نظرنا إلى العمال لوجدنا كل عمل له مجاله في عمره إل مجال الصلة ،فمجالها كل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمر النسان.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وَاصْبِرْ فَإِنّ اللّ َه لَ ُيضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ {
()1574 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا رأيت إشراقات فيوضات على مَنْ دخل مقام الحسان فل تنكرها عليه ،وإل لسويت بين من
وقف عند ما فُ ِرضَ عليه ،وبين من تجاوز ما فُ ِرضَ عليه من جنس ما فَ َرضَ ال.
وجرب ذلك في نفسك ،والتزم أمر ال باحترام مواقيت الصلة ،وقم لتصلي الفجر في المسجد ،ثم
احرص على أن تتقن عملك ،وحين يجيء الظهر قم إلى الصلة في المسجد ،وحاول أن تزيد من
ت في أعماقك ،وامتلتَ بإشراقات نوارينة تفوق
ركعات السنة ،وستجد أن كثافة الظلمانية قد َر ّق ْ
إدراكات الحواس ،ولذلك ل تستكثر على مَنْ يرتاض هذه الرياضة الروحية ،حين تجد الحق
سبحانه قد أنار بصيرته بتجليات من وسائل إدراك وشفافية.
ولذلك ل نجد واحدا من أهل النور والشراق يدّعي ما ليس له ،والواحد منهم قد يعلم أشياء عن
خصّه بأشياء وصفات ل يجب
إنسان آخر غير ملتزم ،ول يعلنها له؛ لن ال سبحانه وتعالى قد َ
أن يضعها موضع التباهي والمراءاة.
وحين عرض الحق سبحانه هذه القضية أراد أن يضع حدودا للمرتاض ولغير المرتاض ،في قصة
موسى عليه السلم حينما وجد موسى وفتاة عبدا صالحا ،ووصف الحق سبحانه العبد الصالح
بقوله تعالى:
حمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَّلمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْما }[الكهف.]65 :
{ عَبْدا مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ َر ْ
وقال العبد الصالح لموسى عليه السلم:
{ إِ ّنكَ لَن تَسْتَطِيعَ َم ِعيَ صَبْرا }[الكهف.]67 :
وبيّن العبد الصالح لموسى ـ بمنتهى الدب ـ عذره في عدم الصبر ،وقال له:
علَىا مَا لَمْ ُتحِطْ ِبهِ خُبْرا }[الكهف.]68 :
{ َوكَ ْيفَ َتصْبِرُ َ
وردّ موسى عليه السلم:
عصِي َلكَ أمْرا }[الكهف.]69 :
جدُنِي إِن شَآءَ اللّ ُه صَابِرا َولَ أَ ْ
{ سَتَ ِ
فقال العبد الصالح:
{ فَإِنِ اتّ َبعْتَنِي فَلَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتّىا ُأحْ ِدثَ َلكَ مِنْهُ ِذكْرا }[الكهف.]70 :
ولكن الحداث توالت؛ فلم يصبر موسى؛ فقال له العبد الصالح:
{ هَـاذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْ ِنكَ }[الكهف.]78 :
وهذا حكم أزلي بأن المرتاض للرياضة الروحية ،ودخل مقام الحسان ل يمكن أن يلتقي مع غير
المرتاض على ذلك ،وليلزم غير المرتاض الدب مثلما يلتزم المرتاض الدب ،ويقدم العذر في
أن ينكر عليه غير المرتاض معرفة ما ل يعرفه.
ولو أن المرتاض قد عذر غير المرتاض ،ولو أن غير المرتاض تأدب مع المرتاض لستقرّ
ميزان الكون.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه يبيّن لنا مقام الحسان وأجر المحسنين ،في قوله تعالى:
ت وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ َذِلكَ مُحْسِنِينَ }[الذاريات:
{ إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ
15ـ .]16
ويبيّن الحق سبحانه لنا مدارج الحسان ،وأنها من جنس ما فرض ال تعالى ،في قوله سبحانه:
جعُونَ }[الذاريات.]17 :
{ كَانُواْ قَلِيلً مّن الّ ْيلِ مَا َيهْ َ
والحق سبحانه لم يكلف في السلم أل يهجع المسلم إل قليلً من الليل ،وللمسلم أن يصلي العشاء،
وينام إلى الفجر.
وتستمر مدارج الحسان ،فيقول الحق سبحانه:
{ وَبِالَسْحَارِ هُمْ َيسْ َت ْغفِرُونَ }[الذاريات.]18 :
والحق سبحانه لم يكلّف المسلم بذلك ،ولكن الذي يرغب في الرتقاء إلى مقام الحسان يفعل ذلك.
ويقول الحق سبحانه أيضا:
ل وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات.]19 :
حقّ لّلسّآ ِئ ِ
{ َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ َ
ولم يحدد الحق سبحانه هنا هذا الحق بأنه حق معلوم ،بل جعله حقا غير معلوم أو محددٍ ،وال
سبحانه لم يفرض على المسلم إل الزكاة ،ولكن من يرغب في مقام الحسان فهو يبذل من ماله
للسائل والمحروم.
وهكذا يدخل المؤمن إلى مقام الحسان ،ليودّ الحق سبحانه.
ول المثل العلى :نحن نجد النسان حين يوده غيره؛ فهو يعطيه من خصوصياته ،ويفيض عليه
من مواهبه الفائضة ،علما ،أو مالً ،فما بالنا بمن يدخل في ودّ مع ال سبحانه وتعالى.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :فََل ْولَ كَانَ مِنَ ا ْلقُرُونِ مِن قَبِْل ُكمْ {.
()1575 /
فََلوْلَا كَانَ مِنَ ا ْلقُرُونِ مِنْ قَبِْلكُمْ أُولُو َبقِيّةٍ يَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلفَسَادِ فِي الْأَ ْرضِ ِإلّا قَلِيلًا ِممّنْ أَنْجَيْنَا مِ ْنهُمْ
وَاتّبَعَ الّذِينَ ظََلمُوا مَا أُتْ ِرفُوا فِي ِه َوكَانُوا مُجْ ِرمِينَ ()116
وكلمة " لول " هنا تحضيضية ،والتحضيض إنما يكون حثا لعفلٍ لم يأت زمنه ،فإن كان الزمن قد
انتهى ول يمكن استدراك الفعل فيه ،تكون " لول " للتحسر والتأسف.
وفي سورة يونس يقول الحق سبحانه:
{ فََل ْولَ كَا َنتْ قَرْ َيةٌ آمَ َنتْ فَ َن َفعَهَآ إِيمَا ُنهَا ِإلّ َقوْمَ يُونُسَ }[يونس.]98 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وذكّرهم باليات .ونحن قد علمنا أن " لول " لها استعمالن في اللغة ،فهي إن دخلت على جملة
اسمية ،فهي تدل على امتناع لوجود ،كقول إنسان لخر " :لول أن أباك فلنا لضربتك على ما
أذنبت " وتسمى " لول " في هذه الحالة " حرف امتناع لوجود ".
وإذا دخلت " لول " على جملة فعلية ،فهي أداة تحضيض ،وتحميس ،وحث المخاطب على أن
يفعل شيئا ،مثلما تشجّع طالبا على المذاكرة ،فتقول له " :لول ذاكرت بجد واجتهاد في العام
الماضي لما نجحت ووصلت إلى هذه السنة الدراسية ".
وفي هذا تحميس له على بذل مزيد من الجهد ،أما إذا قلت لراسب " :لول ذاكرت لما رسبت "
فهذا توبيخ وتأسيف له على ما فات ،وشحن طاقته لما هو آت؛ لن الزمن قد فات وانتهى وقت
المذاكرة؛ لذلك تكون " لول " ـ هنا ـ للتقريع والتوبيخ.
والحق سبحانه وتعالى يرشدنا إلى أن بقية الشياء هي التي ثبتت أمام أحداث الزمن ،فأحداث
الزمن تأتي لتطوح بالشيء التافه أولً ،ثم بما دونه ثم بما دونه ،ويبقى الشيء القوي؛ لنه ثابت
على أحداث الزمن؛ وبقية الشياء دائما خيرها.
والحق سبحانه قد بيّن لنا أنه قد أهلك المم التي سبقت؛ لنه لم توجد فئة منهم تنهى عن الفساد
في الرض ،وجاء الهلك لمتناع من يقاوم الفساد بالمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر.
وضرب الحق سبحانه لنا المثل بالبقية في كل شيء ،وأنها هي التي تبقى أمام الحداث ،ففي قصة
شعيب عليه السلم يقول الحق سبحانه:
{ يا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُر ُه َولَ تَنقُصُواْ ا ْل ِمكْيَالَ وَا ْلمِيزَانَ إِنّي أَرَا ُكمْ بِخَيْرٍ وَإِنّي
ط َولَ تَ ْبخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآ َءهُمْ
سِأَخَافُ عَلَ ْيكُمْ عَذَابَ َيوْمٍ مّحِيطٍ * وَيا َقوْمِ َأ ْوفُواْ ا ْل ِمكْيَالَ وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِ ْ
وَلَ َتعْ َثوْاْ فِي الَرْضِ ُمفْسِدِينَ * َبقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ ّلكُمْ إِن كُنتُم ّم ْؤمِنِينَ }[هود84 :ـ .]86
ومعنى ذلك أن نقص المكيال أو الميزان قد يزيد التاجر ما عنده ،ولكنه ل يلتفت إلى ماهو
مدخور.
ولذلك قال شعيب عليه السلم:
ط َولَ تَ ْبخَسُواْ النّاسَ أَشْيَآ َءهُمْ }[هود.]85 :
سِ{ وَيا َقوْمِ َأ ْوفُواْ ا ْل ِمكْيَالَ وَا ْلمِيزَانَ بِا ْلقِ ْ
فأنت إن نظرت إلى شيء قد ذهب ،فامتلك القدرة على أن تحقق فيه بالفهم ،لتجده مدخرا لك باقيا.
ولنا المثل في موقف رسول ال صلى ال عليه وسلم مع أم المؤمنين عائشة ـ رضي ال عنها ـ
حينما سألها عن شاة أُهديت له ،وكانت تعرف أن رسول ال صلى ال عليه وسلم يحب من الشاة
كتفها ،فتصدقت بكل الشاة إل جزءا من كتفها ،فلمّا سألها :ما فعلت بالشاةّ قالت :ذهبت كلها إل
كتفها.
هكذا نظرت عائشة ـ رضي ال عنها ـ هذا المنظور الواقعي؛ بأن الباقي من الشاة هو كتفها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقط ،وأنها تصدقت بباقي الشاة ،ويلفتها رسول ال صلى ال عليه وسلم لفتة إيمان ويقين ،ويقول
لها " :بقى كلها إل كتفها ".
هكذا نظر رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى ما بقي من الشاة من خير.
ويؤيد ذلك حديث قاله صلى ال عليه وسلم " :وهل لك يابن آدم من مالك إل ما أكلت فأفنيت ،أو
لبست فأبليت ،أو تصدقت فأمضيت ".
ويلفتنا القرآن الكريم إلى المنظور ،وإلى المدخور ،فيقول الحق سبحانه:
ل وَالْبَنُونَ زِينَةُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا }[الكهف.]46 :
{ ا ْلمَا ُ
ويصف الحق سبحانه هذا المدخور بقوله:
{ َثوَابا وَخَيْرٌ َأمَلً }[الكهف.]46 :
وفي آية أخرى يقول سبحانه:
{ وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَ ّبكَ َثوَابا َوخَيْرٌ مّرَدّا }[مريم.]76 :
إذن :ل بد أن تنظر إلى الباقيات في الشياء؛ لنها هي التي يُعوّل عليها.
ويلفتنا الحق سبحانه إلى ذلك في أكثر من موضع من القرآن الكريم ،فيقول تعالى:
{ وَالخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَىا }[العلى.]17 :
ويقول سبحانه:
{ َومَا عِندَ اللّهِ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَىا }[القصص.]60 :
إذن :فإياك أن تنظر إلى الذاهب ،ولكن انظر إلى الباقي.
ضتِ النسان الحداث في أي شيء ،نجد أن سطحي اليمان يفزع مما ذهب ،ونجد راسخ
وإذا ع ّ
اليمان شاكرا ل تعالى على ما بقي.
وها هو ذا سيدنا عبد ال بن جعفر ـ رضي ال عنه ـ حينما جُرحت ساقه جرحا شديدا ،وهو
في الطريق إلى الشام ،ولحظة أن وصل إلى قصر الخلفة قال الطباء :ل بد من التخدير لنقطع
الساق المريضة ،فقال :وال ما أحب أن أغفل عن ربي طرفة عين.
وكان هذا القول يعني أن تجرى له جراحة بتر الساق دون مخدر ،فلمّا قُطعت الساق ،وأرادوا أن
يأخذوها ليدفنوها؛ لتسبقه إلى الجنة إن شاء ال؛ قال :ابعثوا بها ،فجاءوا بها إليه ،فأمسكها بيده
وقال :اللهم إن كنت قد ابتليت في عضو؛ فقد عافيت في أعضاء.
هكذا نظر المؤمن إلى ما بقي.
وحين يتكلم القرآن الكريم عن مراتب ومراقي اليمان يقول مرة:
{ فَُأوْلَـا ِئكَ يَ ْدخُلُونَ الْجَنّةَ }[غافر.]40 :
ويقول عن أناس آخرين:
{ أُولَـا ِئكَ عَلَ ْيهِ ْم صََلوَاتٌ مّن رّ ّبهِمْ }[البقرة.]157 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والجنة باقية بإبقاء ال لها ،ولكن رحمة ال باقية ببقاء ال ،وهكذا تكون درجة الرحمة أرقى من
درجة الجنة.
وهكذا تجد في كل أمر ما يسمى بالباقيات.
وهنا يقول الحق سبحانه:
} فََل ْولَ كَانَ مِنَ ا ْلقُرُونِ مِن قَبِْلكُمْ ُأوْلُواْ َبقِيّةٍ يَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلفَسَادِ فِي الَ ْرضِ ِإلّ قَلِيلً ّممّنْ أَنجَيْنَا
مِ ْنهُمْ { [هود.]116 :
أي :لول أن كان في الناس بقية من الخير وبقية من اليمان ،وبقية من اليقين ،وكانوا ينهون عن
الفساد في الرض ،لول هم لخسف ال الرض بمن عليها.
والبقايا في كل الشياء هي نتيجة الختيار ،والختبار؛ مصداقا لقول الحق سبحانه:
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ }[الرعد.]17 :
{ فََأمّا الزّ َبدُ فَيَ ْذ َهبُ ُ
وفي العصر الحديث نقول " :البقاء للصلح ".
إذن :فالحق سبحانه إنما يحفظ الحياة بهؤلء الذين ينهون عن الفساد في الرض؛ لنهم يعملون
على ضوء منهج ال ،وهذا المنهج ل يزيد ملكا ل ،ول يزيد صفة من صفات الكمال ل ،لنه
سبحانه خلق الكون بكل صفات الكمال فيه ،ومنهجه سبحانه إنما يُصلح حركة الحياة ،وحركة
الحياء.
وهكذا يعود منهج السماء بالخير على مخلوقات ال ،ل على ال الذي كوّن الكون بكماله.
واقرأ إن شئت قول الحق سبحانه:
ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ }[الرحمن7 :ـ .]8
سمَآءَ َر َف َعهَا وَ َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ * َألّ َت ْ
{ وَال ّ
فكما رفع الحق سبحانه السماء بل عمد ،وجعل المور مستقرة متوازنة؛ فلكم أن تعدلوا في الكون
في المور الختيارية بميزان دقيق؛ لن اعوجاج الميزان إنما يفسد حركة الحياة.
ومن اعوجاج الميزان أن يأخذ العاطل خير الكادح ،ويرى الناس العاطل ،وهو يحيا في ترفٍ من
سرقة خير الكادح ،فيفعلون مثله ،فيصير المر إلى انتشار الفساد.
وينزوي أصحاب المواهب ،فل يعمل الواحد منهم أكثر من قدر حاجته؛ لن ثمرة عمله إن زادت
فهي غير مصونة بالعدالة.
وهكذا تفسد حركة الحياة ،وتختل الموازين ،وتتخلف المجتمعات عن ركب الحياة.
والحق سبحانه وتعالى يقول:
} فََل ْولَ كَانَ مِنَ ا ْلقُرُونِ مِن قَبِْلكُمْ ُأوْلُواْ َبقِيّةٍ يَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلفَسَادِ فِي الَ ْرضِ { [هود.]116 :
وشاء الحق سبحانه أن يجعل أمة محمد صلى ال عليه وسلم خير المم بشرط أن يأمورا
بالمعروف ،وينهوا عن المنكر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قال ال تعالى:
ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ }[آل عمران.]110 :
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
{ كُنْ ُتمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
وجعلها الحق سبحانه المة الخاتمة ،لنه ل رسالة بعد رسالة محمد صلى ال عليه وسلم ،وقد
كانت الرسالت قبلها تأتي بعد أن يتقلص الخير في المجتمعات ،وفي النفوس.
فقد وضع الحق سبحانه المنهج لول الخلق في النفس النسانية ،وكانت المناعة ذاتية في النسان،
إن ارتكب ذنبا فهو يتوب ويرجع بعد أن يلوم نفسه ،ولكن قد يستقر أمره على المعصية ،وتختفي
منه " النفس اللوّامة " ،ويستسلم للنفس المّارة بالسوء ،فيجد من المجتمع من يقوّمه ،فإذا ما فسد
المجتمع ،فالسماء تتدخل بإرسال الرسل ،إل أمة محمد صلى ال عليه وسلم فقد أمّنها الحق
سبحانه أنه سيظل فيها إلى أن تقوم الساعة من يدعو إلى الخير ،ومن يأمر بالمعروف ،ومن ينهى
عن المنكر؛ ولذلك لن يوجد أنبياء بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم.
ولذلك يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم تأكيدا لهذا المعنى " :علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل
".
والعَالِم :هو كل من يعلم حكما من أحكام ال سبحانه ،وعليه أن يبلغه إلى الناس.
ورسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :نضّر ال وجه امرىءٍ سمع مقاتلي فوعاها ،وأدّاها إلى
من لم يسمعها ،ف ُربّ مُبلّغ أوعى من سامِع ".
ويقول الحق سبحانه:
} ُأوْلُواْ َبقِيّةٍ يَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلفَسَادِ فِي الَ ْرضِ ِإلّ قَلِيلً ّممّنْ أَنجَيْنَا مِ ْنهُ ْم وَاتّبَعَ الّذِينَ ظََلمُواْ مَآ أُتْ ِرفُواْ
فِي ِه َوكَانُواْ مُجْ ِرمِينَ { [هود.]116 :
وقد أنجى الحق سبحانه بعضا ممن نهوا عن الفساد في الرض.
ونرى أمثلة على ذلك في القرية التي كانت حاضرة البحر ،وكانت تأتيهم حيتانهم شُرعا يوم
السبت الذي حرموا فيه الصيد على أنفسهم ،ويوم ل يسبتون ل تأتيهم.
ويقول الحق سبحانه:
{ وَإِذَا قَاَلتْ ُأمّةٌ مّ ْنهُمْ ِلمَ َتعِظُونَ َقوْما اللّهُ ُمهِْل ُكهُمْ َأوْ ُمعَذّ ُب ُهمْ عَذَابا شَدِيدا قَالُواْ َمعْذِ َرةً إِلَىا رَ ّبكُمْ
خذْنَا الّذِينَ ظََلمُواْ ِبعَذَابٍ
وََلعَّلهُمْ يَ ّتقُونَ * فَلَماّ َنسُواْ مَا ُذكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الّذِينَ يَ ْن َهوْنَ عَنِ السُو ِء وَأَ َ
سقُونَ }[العراف164 :ـ .]165
بَئِيسٍ ِبمَا كَانُواْ َيفْ ُ
هكذا أنجى ال سبحانه الذي نهوا عن السوء في تلك القرية ،وقد نرى في بعض المجتمعات
عنصرين:
الول :أنه ل يوجد طائفة تنهى عن الفساد.
والعنصر الثاني :أن ينفتح على المجتمع باب الترف على مصراعيه ،وفي انفتاح باب الترف على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مصراعيه مذلّة للبشر؛ لنك قد تجد إنسانا ل تترفه إمكاناته؛ فيزيد هذه المكانات بالرشوة
والسرقة والغصب.
وكل ذلك إنما ينشأ لن النسان يرى مترفين يتنعمون بنعيم ل تؤهله إمكاناته أن يتنعم به.
ويقول الحق سبحانه وتعالى عن إهلك مثل هذه المجتمعات:
سقُواْ فِيهَا }[السراء.]16 :
{ وَإِذَآ أَ َردْنَآ أَن ّنهِْلكَ قَرْيَةً َأمَرْنَا مُتْ َرفِيهَا َففَ َ
وبعض الناس يفهمون هذه الية الكريمة على غير وجهها؛ فهم يفهمون الفسق على أنه نتيجة
لمر من ال ـ سبحانه وتعالى ـ والحقيقة أنهم إنما قد خالفوا أمر ال؛ لن الحق سبحانه يقول:
{ َومَآ ُأمِرُواْ ِإلّ لِ َيعْبُدُواْ اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ }[البينة.]5 :
أي :أن الحق سبحانه أمر المترفين أن يتبعوا منهج ال ،لكنهم خالفوا المنهج اللهي مختارين؛
ففسقوا عن أمر ربهم.
وفي الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} وَاتّبَعَ الّذِينَ ظََلمُواْ مَآ أُتْ ِرفُواْ فِيهِ { [هود.]116 :
وقوله سبحانه( :ظلموا) تبين أن مادة الترف التي عاشوا فيها جاءت من الظلم ،وأخذ حقوق الناس
وامتصاص دماء الكادحين.
ومادة (ترف) تعني النعمة يتنعم بها النسان .ومنها :أَترف ،وأُترف ،وكلمة " أترف " أي :أطغته
النعمة ،وأنسته المنعم سبحانه .وأترف ،أي :مد ال له في النعمة ليأخذه أخذ عزيز مقتدر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} َوكَانُواْ مُجْ ِرمِينَ { [هود.]116 :
أي :كانوا يقطعون ما كان يجب أن يوصل؛ وهو اتباع منهج السماء؛ لن كلمة (مجرمين) مأخوذة
من مادة " جرم " وتعني " :قطع " ،وقطع اتباع منهج السماء؛ والغفلة عن اليمان بالخالق
سبحانه ،والستغراق في الترف الذي حققوه لنفسهم بظلم الغير ،وأخذ نتيجة عرق وجهد الغير.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ } :ومَا كَانَ رَ ّبكَ لِ ُيهِْلكَ ا ْلقُرَىا {.
()1576 /
وساعة تقرأ أو تسمع (ما كان) يتطرق إلى ذهنك :ما كان ينبغي.
ومثال ذلك :هو قولنا " :ما كان يصح لفلن أن يفعل كذا " .وقولنا هذا يعني أن فلنا قد فعل أمرا
ل ينبغي أن يصدر منه.
وهناك فرق بين نفي الوجود؛ ونفي انبغاء الوجود.
والحق سبحانه يقول:
شعْ َر َومَا يَن َبغِي لَهُ }[يس.]69 :
{ َومَا عَّلمْنَاهُ ال ّ
وهذا ل يعني أن طبيعة الرسول صلى ال عليه وسلم جامدة ،ول يستطيع ـ معاذ ال ـ أن
يتذوق المعاني الجميلة؛ لنه صلى ال عليه وسلم جُبل على الرحمة؛ وقد قال فيه الحق سبحانه:
حوِْلكَ }[آل عمران.]159 :
حمَةٍ مّنَ اللّهِ لِنتَ َلهُ ْم وََلوْ كُ ْنتَ َفظّا غَلِيظَ ا ْلقَ ْلبِ لَ ْن َفضّواْ مِنْ َ
{ فَ ِبمَا َر ْ
ولهذا نفهم قوله الحق:
شعْ َر َومَا يَن َبغِي لَهُ }[يس.]69 :
{ َومَا عَّلمْنَاهُ ال ّ
أي :أن الحق سبحانه لم يشأ له ان يكون شاعرا.
وهكذا نفهم أن هناك فرقا بين " نفي الوجود " وبين " نفي انبغاء الوجود ".
والحق سبحانه يقول هنا:
{ َومَا كَانَ رَ ّبكَ لِ ُيهِْلكَ ا ْلقُرَىا بِظُ ْلمٍ } [هود.]117 :
أي :ل يتأتى ،ويستحيل أن يهلك ال القرى بظلم؛ لن مراد الظالم أن يأخذ حق الغير لينتفع به؛
ول يوجد عند الناس ما يزيد ال شيئا؛ لنه سبحانه واهب كل شيء؛ لذلك فالظلم غير وارد على
الطلق في العلقة بين الخالق سبحانه وبين البشر.
وحين يورد الحق سبحانه كلمة " القرى " ـ وهي أماكن السكن ـ فلنعلم أن المراد هو " المكين "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
،مثل قول الحق سبحانه:
{ وَسْئَ ْل ُهمْ عَنِ ا ْلقَرْيَةِ الّتِي كَا َنتْ حَاضِ َرةَ الْ َبحْرِ }[العراف.]163 :
وقوله الحق أيضا:
{ وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا }[يوسف.]82 :
والحق سبحانه في مثل هاتين اليتين؛ وكذلك الية التي نتناولها الن بهذه الخواطر إنما يسأل عن
المكين.
وال سبحانه يقول هنا:
{ َومَا كَانَ رَ ّبكَ لِ ُيهِْلكَ ا ْلقُرَىا بِظُ ْلمٍ } [هود.]117 :
حدّ ،لكن له أن يهلكهم بعدل؛ لن العدل ميزان ،فإن كان
أي :أنه مُنزّه عن أن يهلكهم بمجاوزة َ
الوزن ناقصا كان الخسران ،ومن العدل العقاب ،وإن كان الوزن مستوفيا كان الثواب.
وفي مجالنا البشرى؛ لحظة أن نأخذ الظالم بالعقوبة؛ فنحن نتبعه فعلً؛ لكننا نريح كل المظلومين؛
وهذه هي العدالة فعلً.
ومن خطأ التقنينات الوضعية البشرية هو ذلك التراخي في إنفاذ الحقوق في التقاضي؛ فقد تحدث
الجريمة اليوم؛ ول يصدر الحكم بعقاب المجرم إل بعد عشر سنوات ،واتساع المسافة بين ارتكاب
الجريمة وبين توقيع العقوبة؛ إنما هو واحد من أخطاء التقنينات الوضعية؛ ففي هذا تراخٍ في إنفاذ
حقوق التقاضي؛ لن اتساع المسافة بين ارتكاب الجريمة وبين توقيع العقوبة؛ إنما يضعف
الحساس ببشاعة الجريمة.
ولذلك حرص المشرع السلمي على أل تطول المسافة الزمنية بين وقوع الجريمة وبين إنزال
ح ُموّة وجود الثر النفسي عند المجتمع؛ يجعل المجتمع راضيا بعقاب
العقوبة ،فعقاب المجرم في ُ
المجرم ،ويذكّر الجميع ببشاعة ما ارتكب؛ ويوازن بين الجريمة وبين عقوبتها.
ويقول الحق سبحانه هنا:
} َومَا كَانَ رَ ّبكَ لِ ُيهِْلكَ ا ْلقُرَىا بِظُ ْل ٍم وَأَهُْلهَا ُمصْلِحُونَ { [هود.]117 :
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه:
{ لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا ِبظُلْمٍ وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ }[النعام.]131 :
إذن :ل بد من إزاحة الغفلة أولً ،وقد أزاح ال سبحانه الغفلة عنا بإرسال الرسل وبالبيان وبالنذر؛
حتى ل تكون هناك عقوبة إل على جريمة سبق التشريع لها.
وهكذا أعطانا ال سبحانه وتعالى البيان اللزم لدارة الحياة ،ثم جاء من بعد ذلك المر بضرورة
الصلح:
} َومَا كَانَ رَ ّبكَ لِ ُيهِْلكَ ا ْلقُرَىا بِظُ ْل ٍم وَأَهُْلهَا ُمصْلِحُونَ { [هود.]117 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والصلح في الكون هو استقبال ما خلق ال سبحانه لنا في الكون من ضروريات لننتفع بها ،وقد
كفانا ال ضروريات الحياة؛ وأمرنا أن نأخذ بالسباب لنطور بالبتكارات وسائل الترف في
الحياة.
وضروريات الحياة من طعام وماء وهواء موجودة في الكون ،والتزاوج متاح بوجود الذكر
والنثى في الكائنات المخلوقة ،أما ما نصنعه نحن من تجويد لساليب الحياة ورفاهيتها فهذا هو
الصلح المطلوب منا.
وسبق أن قلنا :إن المصلح هو الذي يترك الصالح على صلحه ،أو يزيده صلحا يؤدي إلى ترفه
وإلى راحته ،وإلى الوصول إلى الغاية بأقل مجهود في أقل وقت.
والقرى التي يصلح أهلها؛ ل يهلكها ال؛ لن الصلح إما أن يكون قد جاء نتيجة اتباع منهج نزل
من ال تعالى؛ فتوازنت به حركة النسان مع حركة الكون ،ولم تتعاند الحركات؛ بل تتساند
وتتعاضد ،ويتواجد المجتمع المنشود.
وإما أن هؤلء الناس لم يؤمنوا بمنهج سماوي ،ولكنهم اهتدوا إلى أسلوب عمل يريحهم ،مثل المم
الملحدة التي اهتدت إلى شيء ينظم حياتهم؛ لن ال سبحانه وتعالى لم يمنع العقل البشري أن
يصل إلى وضع قانون يريح الناس.
لكن هذا العقل ل يصل إلى هذا القانون إل بعد أن يرهق البشر من المتاعب والمصاعب ،أما
المنهج السماوي فقد شاء به ال سبحانه أن يقي الناس أنفسهم من التعب ،فل تعضهم الحداث.
وهكذا نجد القوانين الوضعية وهي تعالج بعض الداءات التي يعاني منها البشر ،ل تعطي عائد
الكمال الجتماعي ،أما قوانين السماء فهي تقي البشر من البداية فل يقعون فيما يؤلمهم.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه:
} وَأَهُْلهَا ُمصِْلحُونَ { [هود.]117 :
لنهم إما أن يكونوا متبعين لمنهج سماوي ،وإما أن يكونوا غير متبعين لمنهج سماوي ،لكنهم
يصلحون أنفسهم.
إذن :فالحق سبحانه وتعالى ل يهلك القرى لنها كافرة؛ بل يبقيها كافرة ما دامت تضع القوانين
التي تنظم حقوق وواجبات أفرادها؛ وإن دفعت ثمن ذلك من تعاسة وآلم.
ولكن على المؤمن أن يعلن لهم منهج ال؛ فإن أقبلوا عليه ففي ذلك سعادتهم ،وإن لم يقبلوا؛ فعلى
المؤمنين أن يكتفوا من هؤلء الكافرين بعدم معارضة المنهج اليماني.
ولذلك نجد ـ في البلد التي فتحها السلم ـ أناسا َبقَوْا على دينهم؛ لن السلم لم يدخل أي بلد
لحمل الناس على أن يكونوا مسلمين ،بل جاء السلم بالدليل المقنع مع القوة التي تحمي حق
النسان في اختيار عقيدته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جلّ عله:
يقول ال َ
سطُواْ
ن وَلَمْ ُيخْرِجُوكُمْ مّن دِيَا ِركُمْ أَن تَبَرّو ُه ْم وَتُقْ ِ
{ لّ يَ ْنهَاكُمُ اللّهُ عَنِ الّذِينَ لَمْ ُيقَاتِلُوكُمْ فِي الدّي ِ
حبّ ا ْل ُمقْسِطِينَ }[الممتحنة.]8 :
إِلَ ْيهِمْ إِنّ اللّهَ ُي ِ
فإذا كانت بعض المجتمعات غير مؤمنة بال ،ومُصْلِحة؛ فالحق سبحانه ل يهلكها بل يعطيهم ما
يستحقونه في الحياة الدنيا؛ لنه سبحانه القائل:
{ مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ فِي حَرْثِ ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا َومَا َلهُ فِي
الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى.]20 :
ح َدةً {.
ج َعلَ النّاسَ ُأمّ ًة وَا ِ
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ لَ َ
()1577 /
ونحن نعلم أن النسان قد طرأ على هذا الكون بعد أن خلق ال ـ سبحانه ـ في هذا الكون كل
مقومات الحياة؛ المسخرة بأمر ال لهذا النسان؛ ليمارس مهمة الخلفة في الرض؛ ولم تتأبّ تلك
الكائنات على خدمة النسان ،سواء أكان مؤمنا أم كافرا؛ لن الحق ـ سبحانه ـ هو الذي
استدعى النسان إلى الوجود ،وما دام قد استدعاه؛ فهو ـ سبحانه ـ لن يضن عليه بمقومات هذا
الوجود؛ من بقاء حياة ،وبقاء نوع.
وهذا هو عطاء الربوبية الذي كفله ال ـ سبحانه ـ لكل البشر :مؤمنهم وكافرهم ،وهو عطاء
يختلف عن عطاء اللوهية المتمثل في المنهج اليماني " :افعل " و " ل تفعل ".
ومن يأخذ عطاء اللوهية مع عطاء الربوبية فهو من سعداء الدنيا والخرة.
إذن :فقدرة ال ـ سبحانه ـ قد أرغمت الكون ـ دون النسان ـ أن يؤدي مهمته ،وكان من
الممكن أن يجعل البشر أمة واحدة مهتدية ل تخرج عن نظام أرادة ال ـ سبحانه وتعالى ـ كما
لم تخرج الشمس أو القمر أو الهواء أو أي من الكائنات الخرى المسخّرة عن إرادته.
لن الحق ـ تبارك وتعالى ـ أثبت لنفسه طلقة القدرة في تسخير أجناس لمراده؛ بحيث ل تخرج
عنه ،وذلك يثبت ل ـ سبحانه ـ القدرة ول يثبت له المحبوبية.
أما الذي يثبت له المحبوبية فهو أن يخلق خَلْقا؛ ويعطيهم في تكوينهم اختيارا.
ويجعل هذا الختيار كلّ واحدٍ فيهم صالحا أن يطيع ،وصالحا أن يعصي ،فل يذهب إلى اليمان
والطاعة إل لمحبوبية ال ـ تعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا نعلم أن الكون المسخّر المقهور قد كشف لنا سَيّال القدرة ،والجنس الذي وهبه ال الختيار
إن أطاع فهو يكشف لنا سيال المحبوبية.
والحق ـ سبحانه ـ هو القائل:
{ َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ }[الكهف.]29 :
ولكن أيُترك النسان حتى يأتي له الغرور في أنه يملك الختيار دائما؟
ل ..فمع كونك مختارا إياك أن تغتر بهذا الختيار؛ لن في طيّك قهرا ،وما دام في طيك قهر
فعليك أن تتأدب؛ ول تتوهّم أنك مختار في أن تؤمن بال أو ل تؤمن؛ ول تتوهم أنك مُنفلت من
قبضة ال ـ تعالى ـ فهو يملك زمامك في القهريات التي تحفظ لك حياتك مثل :الحيوان والنبات
والجماد ،ولكنه ـ سبحانه ـ ميّزك بالعقل.
وخطأ النسان دائما أنه قد يعطي السماء معاني ضد مسمياتها ،فكلمة " العقل " مأخوذة من " عقل
" وتعني " :ربط "؛ فل تجمح بعقلك في غير المطلوب منه؛ لن مهمة العقل أن يكبح جماحك.
وتذكر دائما :في قبضة من أنت؛ وفي زمام من أنت؛ وفي أي المور أنت مقهور؟
وما ُد ْمتَ مقهورا في أشياء فاختر أن تكون مقهورا لمنهج ال سبحانه واحفظ أدبك مع ال ،واعلم
أنه قد وهبك كل وجودك سواء ما أنت مختار فيه أو مقهور عليه.
وانظر إلى من سلبهم الحق ـ سبحانه ـ بعض ما كانوا يظنون أنها أمور ذاتية فيهم ،فتجد من
كان يحرك قدمه غير قادر على تحريكها ،أو يحاول أن يرفع يده فل يستطيع.
عصَتْه ،وهذا دليل على أنها أمور موهوبة من
ولو كانت مثل هذه المور ذاتية في النسان لما َ
ال ،وإنْ شاء أخذها ،فهو ـ سبحانه ـ يأخذها ليؤدّب صاحبها.
وما دام النسان بهذا الشكل ،فليقُل لنفسه :إياك أن تَغترّ بأن ال جعل فيك زاوية اختيار ،وتذكّر
أنك على أساس من هذه الزاوية تتلقّى التكليف من ال بـ " افعل " ،و " ل تفعل "؛ لن معنى "
ل تفعل؛ ومعنى " ل تفعل كذا " :أنك صالحٌ أنْ تفعل؛ لن لديك منطقة
حأّ
افعل كذا " :أنك صال ٌ
اختيار؛ ولكن لديك في زواياك الخرى منطقة َقهْرٍ وتسخير ،فتأ ّدبْ في منطقة الختيار ،كما
تأدبت في منطقة الضطرار والقهر.
وقد وصف الحق ـ سبحانه ـ النسان بأنه كنود ،قال تعالى:
{ إِنّ الِنسَانَ لِرَبّهِ َلكَنُودٌ }[العاديات.]6 :
لن النسان ل يتذكر أحيانا أن مهمة عقله الولى هي أن يعقل حدوده ،وأن يقول لنفسه :ما دامت
ي مقهورة؛ فَلكُنْ مؤدبا مع ربي ،وأجعل منطقة
الحيوانية فيّ مقهورة ،وما دامت الجمادية ف ّ
الختيار على مراد منهج ال.
وأنت إنْ أردتَ أن تضع إحصائية لـ " افعل " ول " تفعل " لوجدت ما لم يَرِدْ فيه تكليف بـ "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
افعل " و " ل تفعل " ل يقل عن خمسة وتسعين في المائة من حركة الحياة ،وهو المباح.
وأنزل ال ـ سبحانه ـ التكليف لتنضبط به حركة حياتك كلها ـ إنْ جعلت التكليف هو مرادك ـ
وهو لن يأخذ أكثر من خمسة في المائة من حركة الحياة ،ويعود خير ذلك عليك.
فساعة يقول لك التكليف :عليك أن تزكّي عن مالك ،فل بد لك من أن تقدّر المقابل ،لنك إن
جتَ؛ سيأتيك من زكاة الخرين ما يلبّي احتياجاتك ،فمن " أفعل " التي تلتزم بها
افتقرتَ واحت ْ
ويلتزم بها غيرك تأتي الثمرة التي تسدّ عجز أي ضعف في المجتمع اليماني بالتراحم المتبادل
النابع عن اليقين بالمنهج.
وحين يقول لك التكليف :ل تعتدِ على حُرمات الغير ،فهو يقيّد حريتك في ظاهر المر ،لكنه
يحمي حُرماتك من أن يعتدي عليها الغير ،وحين تتعقل أوامر التكليف كلها ستجدها لصالحك؛
سواء أكان المر بـ " افعل " أو " ل تفعل ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ح َدةً { [هود.]118 :
ج َعلَ النّاسَ ُأمّ ًة وَا ِ
} وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ لَ َ
يعني أنه ـ سبحانه ـ لو شاء لجعل الناس كلهم على هداية؛ لنه بعد أن خلقهم؛ وأنزلهم إلى
الرض؛ وأنزل لهم المنهج؛ كانوا على هداية ،ولكن بحكم خاصية الختيار التي منحها ال لهم،
اختلفوا.
ثم يقول الحق ـ سبحانهَ } :ولَ يَزَالُونَ مُخْتَِلفِينَ { [هود.]118 :
أي :أنهم سيظلون على الخلف.
ك وَلِذاِلكَ
ويأتي الحق ـ سبحانه وتعالى ـ في الية التالية بالستثناء فيقولِ } :إلّ مَن رّحِمَ رَ ّب َ
خََل َقهُ ْم وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ {.
()1578 /
ج َمعِينَ ()119
جهَنّمَ مِنَ الْجِنّ ِة وَالنّاسِ أَ ْ
ك وَلِذَِلكَ خََل َقهُ ْم وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ لََأمْلَأَنّ َ
إِلّا مَنْ َرحِمَ رَ ّب َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي حياتنا اليومية نلحظ أن العمال التي تسير بها حركة الحياة وبدون أن ينزل تكليف فيها؛
نجد فيها اختلفا ل محالة؛ لن الحق سبحانه وتعالى لو شاء لخلقنا كلنا عباقرة في كل مناحي
الحياة؛ أو يخلقنا كلنا شعراء أو أطباء أو فلسفة.
ولو شاء ـ سبحانه ـ ذلك فمن سيقوم بالعمال الخرى؟ فلو أننا كنا كلنا أطباء فمن يقوم بأعمال
الزراعة وغيرها؟ ولو كنا جميعا مهندسين؛ فمن يقوم بأعمال التجارة وغيرها؟
وقد شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يجعل مواهبنا مختلفة ليرتبط العالم ببعضه ارتباط تكاملٍ
وضرورة؛ ل ارتباط تفضّل.
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه:
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
ح َمتَ رَ ّبكَ نَحْنُ قَ َ
سمُونَ رَ ْ
{ َأهُمْ َيقْ ِ
ضهُم َبعْضا سُخْرِيّا }[الزخرف.]32 :
دَ َرجَاتٍ لّيَتّخِذَ َب ْع ُ
وهكذا نعرف أن رفع الدرجات ل يعني تلك النظرة الحمقاء الرعناء ،والتي تدعي أن في ذلك
التقسيم رفعة للغنى وتقليلً لشأن الفقير؛ لن الواقع يؤكد أن كل إنسان هو مرفوع في جهة بسبب
ما يُحسنه فيها؛ ومرفوع عليه في جهة أخرى بسبب ما ل يُحسنه ويُحسنه غيره ،وغيره مكمل له.
وهكذا يتبادل البشر ما يحققه اختلف مواهبهم ،واختلف المواهب هي مقومات التلحم.
ولذلك قلنا :إن مجموع سمات ومواهب كل إنسان إنما يتساوى مع مجموع سمات ومواهب كل
إنسان آخر ،ول تفاضل إل بالتقوى؛ وقيمة كل امرىء ما يُحسنه.
وقد ترى صاحب السيارة الفارهة وهو يرجو عامل إصلح السيارات الذي يرتدي ملبس رثة
ح صاحب
ومتسخة؛ ليصلح له سيارته؛ فيقول له العامل :ل وقت عندي لصلح سيارتك؛ فيل ّ
السيارة الفارهة بالرجاء؛ فيرضى العامل ويرق قلبه لحال هذا الرجل صاحب السيارة الفارهة
ويذهب لصلحها.
لذلك أقول :إذا نظرتَ لمن هو دونك في أي مظهر من مظاهر الحياة؛ فل تغترّ بما تفوقتَ
وتميزتَ به عليه؛ ولكن ُقلْ لنفسك :ل بد أن هذا النسان متفوق في مجال ما.
ونحن نعلم أن ال ـ سبحانه وتعالى ـ ليس له أبناء ليميز واحدا بكامل المواهب ،ويترك آخر
دون موهبة.
ك وَلِذاِلكَ خََل َقهُمْ }
حمَ رَ ّب َ
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه ـ هناَ {:ولَ يَزَالُونَ مُخْتَِلفِينَ * ِإلّ مَن رّ ِ
[هود118 :ـ .]119
وإن كان الختلف في المقدرات والمنهج؛ فهذا ما يولّد الكفر أو اليمان ،ولنا أن نعرف أن الكفر
له رسالة؛ بل هو لزم ليستشعر المؤمن حلوة اليمان .ولو لم يكن للكفر وظيفة لما خلقه ال.
وقد قلت قديما :إن الكفر يعاون اليمان؛ مثلما يعاوِن اللم العافية ،فلول اللم لما جئنا بالطبيب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ليشخّص الداء ،ويصفَ الدواء الشافي بإذن ال.
ولذلك نقول :اللم رسول العافية.
والحق سبحانه يقول هناَ {:ولَ يَزَالُونَ ُمخْتَِلفِينَ * ِإلّ مَن رّحِمَ رَ ّبكَ }[هود118 :ـ .]119
وأنت إن دقّقت النظر في الختلف لوجدته عين الوفاق.
ومثال ذلك :اختلف أبنائك فيما يحبونه من ألوان الطعام ،فتجد ابنا يفضّل صدر الدجاجة ،وآخر
يفضل الجزء السفل منها " الوَرِك " ،وتضحك أنت لهذا الختلف ،لنه اختلف في ظاهر
المر ،ولكن باطنه ِوفَاق ،لو اتفقنا جميعا في المزجة لوجدنا التعاند والتعارض؛ وهذا ما ينتشر
بين أبناء المهنة الواحدة.
ولمن يسأل :هل الخلق للختلف أم الخلق للرحمة؟
نقول :إن الخلق للختلف والرحمة معا ،لن الجهة مُنفكّة.
ج َمعِينَ {
جهَنّمَ مِنَ الْجِنّ ِة وَالنّاسِ َأ ْ
لمْلَنّ َ
ك َ
ثم يقول ـ سبحانه ـ في نفس الية } :وَ َتمّتْ كَِلمَةُ رَ ّب َ
[هود.]119 :
والحق سبحانه قد علم أزلً بمن يختار اليمان ومن يختار الكفر ،وهذا من صفات العلم الزليّ ل
ـ سبحانه وتعالى ـ ولذلك قال ـ سبحانه } :وَ َت ّمتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ { أي :علم ـ سبحانه ـ مَنْ مِنْ
عباده سيختار أن يعمل في الدنيا عملَ أهل النار ،ومن سيختار أن يعمل عملَ أهل الجنة؛ لسبْق
علمه الزليّ بمرادات عباده واختياراتهم.
وسبق أن ضربنا مثلً ـ ول المثل العلى ـ بعميد الكلية الذي يعلن للساتذة ضرورة ترشيح
المتفوقين في كل قسم؛ لن هناك جوائز في انتظارهم ،فيرشح كل أستاذ أسماء المتفوقين الذين
لمسَ فيهم النبوغ والخلص للعلم ،ويطلب العميد من أساتذة من خارج جامعته أن يضعوا
امتحانات مفاجئة لمجموع الطلب؛ ويُفاجأ العميد بتفوق الطلبة الذين لمس فيهم أساتذتهم النبوغ
والخلص للعلم ،وهنا يتحقق العميد من صدق تنبؤ الساتذة الذين يعملون تحت قيادته.
ولكن قد تحدث مفاجأة :أن يتخلف واحد من هؤلء الطلبة لمرض أصابه أو طارىء يطرأ عليه
من تعب أعصاب أو إرهاق أو غير ذلك؛ وبهذا يختلّ تقدير أستاذه؛ لكن تقدير الحق ـ سبحانه ـ
ل فهو مُحقّق ل محالة؛ لذلك بيّن لنا أنه عِلْم أزليّ ،ويتحدى الكافر
مُنزّه عن الخطأ ،وما عَلِمه أز ً
به أن يغيره.
وكلنا يعرف أن الحق ـ سبحانه ـ أنزل قوله الكريم:
ب وَ َتبّ }[المسد.]1 :
{ تَ ّبتْ َيدَآ أَبِي َل َه ٍ
وسمعها أبو لهب ولم يتحدها بإعلن اليمان ـ ولو نفاقا.
وقول الحق } :وَ َتمّتْ كَِلمَةُ رَ ّبكَ { تبيّن لنا أن الحق ـ سبحانه ـ إنْ قال شيئا فهو قد تَ ّم بالفعل؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فل رادّ لمشيئته ،أما نحن فعلينا أن نسبق كل وعد بعمل سنقوم به بقولِ {:إلّ أَن َيشَآءَ اللّهُ }
[الكهف.]24 :
علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ }[الكهف23 :ـ
لن الحق يقول لناَ {:ولَ َتقْولَنّ ِلشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ
.]24
وفي هذا احترامٌ لوضعنا البشري ،وإيمانٌ بغلبة القهر ،ومعرفة لحقيقة أننا من الغيار؛ لن كل
حدث من الحداث يتطلب فاعلً؛ ومفعولً يقع عليه الفعل؛ ومكانا؛ وزمانا؛ وسببا؛ ول أحدَ مِنّا
يملك أيّ واحد من تلك العناصر.
فإن قُ ْلتَِ } :إلّ أَن َيشَآءَ اللّهُ { تكون قد عصمتَ نفسك من أن تكون كاذبا ،أو أن َتعِدَ بما ل
عمّا قال ،فهو وحده القادر
تستطيع ،لكن إذا كان مَنْ يقول هو مالك كل شيء ،ول قوة تخرجه َ
على أن ينفّذ ما يقول.
ولذلك قلنا :إن كل فعل يُنسب إلى ال ـ تعالى ـ يتجرد عن الزمن؛ فل نقول " :فعل ماضٍ " أو
" فعل سيحدث في المستقبل " أو " فعل مضارع "؛ لن تلك المور إنما تُقاسُ بها أفعال البشر،
لكن أفعال ال ـ سبحانه ـ ل تقاس بنفس المقياس ،فسبحانه حين يقرر أمرا فنحن نأخذه على
أساس أنه قد وقع بالفعل.
والحق ـ سبحانه ـ يقول:
{ أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ َتسْ َتعْجِلُوهُ }[النحل.]1 :
وقوله سبحانه } :أَتَىا { بمعنى :تَقرّر المر ولم يُنفّذ ـ بعد ـ فل تتعجّلوه؛ وهذا هو تحدّي
القيومية القاهرة ،ول توجد قوة قادرة على أن تمنع وقوع أمر شاءه ال ـ سبحانه وتعالى ـ فهو
يحكم فيما يملك ،ول مُنَازِع له سبحانه.
ج َمعِينَ { [هود.]119 :
جهَنّمَ مِنَ الْجِنّ ِة وَالنّاسِ َأ ْ
لمْلَنّ َ
وقوله الحقَ } :
فسببه أن النس والجن هما الثقلن المكلّفان.
سلِ {.
ويقول الحق ـ سبحانه ـ بعد ذلكَ } :وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
()1579 /
ظ ٌة وَ ِذكْرَى
ك وَجَا َءكَ فِي هَ ِذهِ ا ْلحَقّ َومَوْعِ َ
سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َد َ
َوكُلّا َن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ ()120
وساعة ترى التنوين في قوله الحق { َوكُـلّ } فاعلمْ أن المقصود هو قصة كل رسول جاء بها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق ـ سبحانه ـ في القرآن الكريم.
وحين يتكلم الحق ـ سبحانه وتعالى ـ عن فعل قد أحدثه؛ فلنا أنْ ننظر :هل هذا الفعل مأخوذ من
صفة له ـ سبحانه ـ أم مأخوذ من اسم موجود؟ فيحقّ لنا أن نأخذ السم ونأخذ الفعل مثل قوله
ـ تعالى {:خََل َقكُمْ }[النحل.]70 :
نعلم منه أنه ـ سبحانه ـ خالق ،ولكن إنْ جاء فعل ليس له أصل في أسماء ال الحسنى ،فإياك
ق من الفعل اسما ل.
أنْ تشت ّ
ومثال ذلك قوله ـ سبحانهَ { :وكُـلّ ّن ُقصّ } [هود.]120 :
والذي يقصّ هنا هو ال ـ سبحانه ـ لكن ل أحد في إمكانه أن يقول :إن ال قصّاص ،مثلما ل
ن وَ َي ْمكُرُ اللّ ُه وَاللّهُ
يحق لحد أن يقول :إن ال ماكر ،رغم أن ال ـ سبحانه ـ قد قال {:وَ َيمْكُرُو َ
خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال.]30 :
وكذلك ل يصح لحد أن يقول :ال المخادع ،رغم أن الحق ـ سبحانه قد قال {:إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ
عهُمْ }[النساء.]142 :
يُخَادِعُونَ اللّ َه وَ ُهوَ خَادِ ُ
وهكذا نتعلم أدب الحديث عن ال المتصف بكل صفات الكمال والجلل؛ وأن نكتفي بقول :إن مثل
هذا الفعل جاء للمشاكلة ما دام ليس له وجود ضمن أسماء ال الحسنى.
وهنا يقول الحق ـ سبحانه:
سلِ } [هود.]120 :
{ َوكُـلّ ّنقُصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
و " أنباء " جمع " نبأ " ،وهو الخبر العظيم الذي له أهمية ،والذي يختلف به الحال عند العلم به،
وأخبار الرسل ـ عليهم السلم ـ تتناثر لقَطاتٍ مختلفة عَبْرَ سور القرآن الكريم ،موضحة ما جاء
به كل رسول معالجا الداء الذي عانى منه قومه ،وكذلك ما عاناه كل رسول من عَنَت القوم
المبعوث لهم ،وجاء ذكر تلك النباء في القرآن لتثبيت فؤاد الرسول صلى ال عليه وسلم؛ لن
الرسول سيصادف في الدعوة المتاعب والصعاب.
وقد ذكر القرآن بعضا من تلك المواقف ،يقول الحق ـ سبحانه:
{ وَزُلْزِلُواْ حَتّىا َيقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ مَتَىا َنصْرُ اللّهِ }[البقرة.]214 :
ويقول الحق ـ سبحانه ـ مصوّرا حال المؤمنين:
ت الَ ْبصَارُ وَبََل َغتِ ا ْلقُلُوبُ ا ْلحَنَاجِ َر وَتَظُنّونَ بِاللّهِ
غ ِ
س َفلَ مِنكُ ْم وَِإذْ زَا َ
{ ِإذْ جَآءُوكُمْ مّن َف ْو ِقكُ ْم َومِنْ أَ ْ
الظّنُونَاْ }[الحزاب.]10 :
ومثل هذه المواقف تقتضي تثبيت الفؤاد؛ بمعنى تسكينه على منطق اليقين اليماني بربّ أرسله
رسولً ليبلّغ منهجا ،وما كان ال سبحانه ليرسل رسولً ليبلّغ منهجا ثم يُسلمه لعدائه.
فإذا ما ذكر له أخبار الرسل والصعاب التي تعرضوا لها تهون عليه المصاعب التي يتعرض لها،
ويثبت فؤاده.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و " الفؤاد " هو ما نقول عنه " :القلب " ،وهو وعاء العقائد ،بمعنى أن المخ يستقبل من الحواس
ـ وسائل الدراكات من عين ترى ،ومن أذن تسمع ،ومن أنف يشُم ،ومن َفمٍ يستطعم ،ومن كفّ
تلمس ـ فتتولد المعلومات التي يصنفها المخ ،ويرتبها كقضايا عقلية.
ويناقش المخ تلك القضايا العقلية إلى أن تصح القضية العقلية صحة ل يأتي بعدها ما ينقضها،
فيسقطها المخ في الفؤاد لتصير عقيدة؛ ل تطفو بعدها إلى العقل لتُناقش من جديد؛ ولذلك يسمونها
" عقيدة " ـ من العقدة ـ فل تتذبذب بعد ذلك.
إذن :فالفؤاد هو الوعاء القابل للقضايا التي انتهى المخ من تمحيصها تمحيصا وصل فيه إلى
الحق ،وأسقطها على القلب ليدير حركة الحياة على مُقْتضاها.
وعلى سبيل المثال :نجد الشاب الذي يفكر في مستقبله ،فيدرس مزايا وعيوب المهن المختلفة
ليختار منها التخصص الذي يتناسب مع مواهبه؛ وأحلمه ،ثم يدرس المحسّات التي استقبلها
بحواسه ليُمحّصها بعقله؛ وما ينتهي إليه عقله يسقطه في قلبه؛ ليصير عقيدة يدير بها حركة
حياته.
مثال هذا :أنه قد استقر في وجدان الناس وعقولهم أن النار ُمحْرقة ،ولكن من أين جاء هذا اليقين
في أن النار محرقة؟ نقول :جاء من أمر حسي بأن شاهد الناس أن مَنْ مسّته النار أحرقته.
ل بد ـ إذن ـ أن يكون القلب ثابتا؛ غير مذبذب.
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه:
سلِ مَا نُثَ ّبتُ بِهِ ُفؤَا َدكَ { [هود.]120 :
} َوكُـلّ ّنقُصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
لن الفؤاد هو الوعاء الذي من مهمته أن يكون مستعدا لستقبال كلمة الحق؛ وليقبل تنبيه الذكرى،
وجلل الموعظة ،وكمال الوارد من الحق ـ سبحانه ـ وما يأتي من الحق ـ سبحانه ـ هو
الحق أيضا ،والحق هو الشيء الثابت الذي ل يطرأ عليه تغيير.
وحق الحق ينبوع العقيدة الذي ستصدر عنه طاعة التكليف ،ول بد أن يكون النسان على ثقة من
حكمه المكلّف قبل أن يُق ِبلَ على التكليف؛ لذلك لزم أن يأتي الدليل على وجود الحق ـ سبحانه ـ
وهو قمة الوجود العلى ـ قبل أن تأتي الموعظة ،ويكون اليمان بالوجود العلى الذي ل يتغير
ول تطرأ عليه الغيار هو السابق لمجيء تلك الموعظة.
لن الموعظة قد تتطلب من النسان شيئا يكره أن يلتزم به ،وهي هنا صادرة من الحق ـ سبحانه
،الذي خلق ،ول يمكن أن يغش أو يخدع مخلوقاته ،ويحملها لك رسول منه ـ سبحانه.
وقد تكره الموعظة إن صدرت عن إنسان مثلك؛ لنه لن َيعِظك إل بكمال يتميز به ليعدد نقصا
فيك ،وإن لم يكن الواعظ يتمتع بالكمال الذي يعظ به؛ بالموعوظ سيردّ على الواعظ قائلً :فَلْت ِعظْ
نفسك أولً.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك نجد قول الحق ـ سبحانه:
{ كَبُرَ َمقْتا عِندَ اللّهِ أَن َتقُولُواْ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }
[الصف.]3 :
لن الواعظ الذي َيعِظُ بما ل يطبقه على نفسه يعطي الحجة للموعوظ ليرفض الموعظة؛ وليقول
لنفسه " :لو كان في هذا المر خير لطبّقه على نفسه ".
وهكذا بيّنت الية الكريمة موقف الرسول صلى ال عليه وسلم كمُثَبّتٍ ،وأيضا موقف المؤمنين
برسالته كمذكّرين من الرسول بأنهم سيتعرضون للمتاعب؛ متاعب مشقة التكليف التي سيعاني
منها مَنْ ل يأخذ التكليف بعمق الفهم.
فقد يرى بعض المكلّفين ـ مثلً ـ أن المر ب َغضّ الطّرْف حرمانٌ من شهوة طارئة ول يَسْبر
غضّ الطّرْف أمرا لكافة المؤمنين أن يغضوا الطرف عن محارمه ،وقد يرى في
غورَ الفهم بأن َ
خذٌ من ماله ،ول يَسْبر غور الفهم بأن في الزكاة تأمينا له إنْ مرّت عليه الغيار
الزكاة أنها أ ْ
وصار فقيرا؛ عندئذ سيقدم له المجتمع اليماني التأمين الجتماعي الذي يحميه وعياله من مَغبّة
السؤال.
وعمق الفهم أمر مطلوب؛ لن الحق ـ سبحانه ـ هو القائل:
{ َأفَلَ يَ َتدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ }[النساء.]82 :
لنك حين تتدبر المعاني ستعلم أن التكليف هو تشريف لك؛ وستقول لنفسك " :ما كلفني ال إل
لخير نفسي؛ وإن ظهر أنه لخير الناس ".
ومن المتاعب أيضا ما يلقاه المؤمنون من عنت المستفيدين من الفساد؛ هؤلء الذين يعيشون على
النتفاع من المفاسد ،ويواجهون كل من يريد أن يقضي على الفساد؛ لن الفساد في الرض ل
ل مقاومٍ له.
يعيش إل إذا ُوجِد منتفعٌ بهذا الفساد؛ والمنتفع بالفساد يكره ويعلن الخصومة لك ّ
إذن :فموقف خصوم النبي صلى ال عليه وسلم موقف طبيعي لصالحهم ،ولكنهم ـ لحمقهم ـ
حددوا الصالح بمصالحهم النية في الحياة الدنيا؛ ولم ينظروا إلى عاقبة ما يؤول إليه أمرهم في
الخرة نعيما أو عذابا.
ولو أنهم امتلكوا البصيرة؛ لعرفوا أن من مصلحتهم أن يوجد مَنْ يُقوّمهم حتى ل يقدموا لنفسهم
شرا يوجد لهم في الخرة.
ولو أنهم فَطِنوا؛ لعلموا أن الرسول كما جاء لصلح المستضعفين المستغلين بالفساد؛ جاء أيضا
لصالحهم ،ولو أنهم كانوا على شيء من التعقل؛ لكانوا من أنصار رسول ال صلى ال عليه
وسلم؛ ولكان من الواجب عليهم كلما حدثتهم أنفسهم بالسعي إلى الفساد؛ وسمعوا من الرسول
صلى ال عليه وسلم ما ينتظرهم نتيجة لهذا الفساد؛ أن يتبعوه وأن يشكروه؛ لنه خلّصهم من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طاقة الشر الموجودة فيهم.
وهنا يوضح الحق ـ سبحانه ـ لرسوله :أنت لست بدعا من الرسل ،وكل رسول تعرّض
للمتاعب مثلما تتعرض أنت لمثلها ،وأنت الرسول الخاتم ،ولن الدين الذي جئتَ به لن يأتي بعده
دين آخر؛ لذلك ل بد أن تتركز المتاعب كلها معك؛ فكُنْ على ثقة تماما أنك مُصا ِدفٌ للمتاعب.
ولذلك نثبّت فؤادك بما نقصّه عليك من أنباء الرسل؛ لن هذا الفؤاد هو الذي سيستقبل الحقائق
اليمانية من قمة " ل إله إل ال " إلى أن يكون ذكرى تذكّرك والمؤمنين معك.
وهكذا بيّنتْ الية موقف الرسول صلى ال عليه وسلم كمثّبت؛ وموقف المؤمنين كمذكّرين من
الرسول؛ لنهم سيتعرضون للمتاعب أيضا.
ونحن نعرف جميعا ما قاله رسول ال صلى ال عليه وسلم للنصار حين بايعوه في العقبة على
نصرته ،وقالوا :إنْ نحن وفينا بما عاهدناك عليه؛ فماذا يكون لنا؟ ولم َيقُلْ لهم صلى ال عليه
وسلم " :ستملكون الدنيا ،وستصبحون سادة الفُرْس والروم " ،بل قال لهم " :لكم الجنة ".
لنه صلى ال عليه وسلم يعلم أن منهم مَنْ سيموت قبل أن تتحقق تلك النتصارات؛ لذلك وعدهم
ن يموت بعد إعلنه لليمان ،وبين مَنْ سيعيش ليشهد تلك
بالقَدْر المشترك الذي يتساوى فيه مَ ْ
النتصارات.
وهكذا تبينا كيف تضمّنت الية الكريمة تثبيت فؤاد الرسول صلى ال عليه وسلم؛ وكيفية إعداد
هذا الفؤاد لستقبال الحق والموعظة وذكرى المؤمنين معه.
هذا هو الطرف الول ،فماذا عن الطرف الثاني؛ الطرف المكذّب للرسول؟
كان ول بد أن يتكلم الحق ـ سبحانه ـ هنا عن المكذّبين للرسول؛ لن استدعاء المعاني يجعل
النفس قابلة للسماع عن الطرف الخر.
وما دام الحق ـ سبحانه ـ قد تكلم عن تثبيت وعاء الستقبال ،والموعظة ،وتذكير المؤمنين؛
لحظة أن تخور منهم العزائم ،فل بُدّ ـ إذن ـ أن يتكلم ـ سبحانه ـ عن القسم الخر؛ وهو
القسم المكذّب ،فيوضح ـ سبحانه ـ لرسوله أن له أن يتحداهم ول يتهيّب.
عمَلُواْ {.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ ا ْ
يقول الحق ـ سبحانهَ } :وقُل لّلّذِي َ
()1580 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :اصنعوا ما شئتم ،ومعنى ذلك أنه صلى ال عليه وسلم مستندٌ إلى رصيد قويّ من اليمان بإلهٍ
ل يهوله أن يستعد له الخصم؛ فهو صلى ال عليه وسلم والذين معه ل يواجهون الخصم بذواتهم؛
ول بعدَدهم وعُددهم؛ وإنما يواجهونه بالركن الركين الذي يستندون إليه ،وهو الحق سبحانه
وتعالى.
ونحن نرى في حياتنا اليومية أن أي قائد في معركة إنما يشعر بالثقة حين يصل إلى علمه أن
مددا سوف يصله من الوطن الذي يحارب من أجله؛ لنه سيعزز من قوته ،فما بالنا بالمدد الذي
يأتي ممن ل ينفد ما عنده؛ وممن ل يُجير عليه أحدٌ؛ فهو يُجير ول يُجَار عليه.
ولذلك نلحظ أن النبياء استظلوا بتلك المظلة ،فموسى ـ عليه السلم ـ حين كاد الفرعون أن
يلحق به؛ ورأى قومه أنْ ل نجاة لهم؛ فالبحر أمامهم والعدو وراءهم؛ صرخوا:
{ إِنّا َلمُدْ َركُونَ }[الشعراء.]61 :
لكن موسى ـ عليه السلم ـ يطمئنهم:
{ كَلّ إِنّ َم ِعيَ رَبّي سَ َيهْدِينِ }[الشعراء.]62 :
فموسى ـ عليه السلم ـ يعلم أنه مُستند بقوة ال ل بقوة قومه ،وأمدّه ال ـ سبحانه ـ بمعجزة
جديدة:
{ اضْرِب ّب َعصَاكَ الْبَحْرَ }[الشعراء.]63 :
فينفلق البحر؛ ليفسح بين مياهه طريقا يابسة؛ وسار موسى عليه السلم وقومه ،وفكر موسى في
قطع السبيل على عدوه حتى ل يسير في نفس الطريق المشقوق بأمر ال عبر معجزة ضرب
البحر بالعصا ،وأراد موسى ـ عليه السلم ـ أن يضرب البحر ضربة ثانية ليعود البحر إلى
حالة السيولة مرة أخرى ،فيقول له ال ـ سبحانه {:وَاتْ ُركِ الْ َبحْرَ رَهْوا إِ ّنهُمْ جُندٌ ّمغْ َرقُونَ }
[الدخان.]24 :
أي :أتركه على ما هو عليه؛ لينخدع فرعون ويسير في الطريق اليابسة ،ثم يعيد الحق ـ سبحانه
ـ البحر كما كان ،وبذلك أنْجَى الحق ـ سبحانه ـ وأ ْهَلكَ بالشيء الواحد؛ وهذه ل يقدر عليها
غير ال ـ سبحانه وتعالى وحده.
وهكذا َي َهبُ الحق ـ سبحانه ـ المؤمنين به القدرة على تحدي الكافرين .واليمان كله معركة من
التحدي؛ تحدّ في صدق الرسول كمبلّغ عن ال ،ومعه معجزة تدل على رسالته ،وتح ّد في نصرة
الرسول ومَنْ معه من قلة مؤمنة؛ فيغلبون الكثرة الكافرة.
والحق ـ سبحانه يقول {:كَم مّن فِئَةٍ قَلِيَلةٍ غَلَ َبتْ فِئَةً كَثِي َرةً بِإِذْنِ اللّ ِه وَاللّهُ مَعَ الصّابِرِينَ }[البقرة:
.]249
وهكذا يشيع التحدي في معارك اليمان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد تميّز كل رسول بمعجزة يتحدى بها أولً؛ ثم ينتهي دورها؛ لينزل له بعدها منهج من السماء؛
ليبشّر به قومه ،لكن رسول ال صلى ال عليه وسلم تميّز بمعجزة ل تنتهي ،وهي عَيْنُ منهجه؛
لنه رسول إلى كل الزمان وإلى كل المكنة؛ فكان ل بد من معجزة تصاحب المنهج إلى يوم
القيامة.
ولذلك نجد كل مؤمن بالرسالة المحمدية يقول :محمد رسول ال والقرآن معجزته إلى أن تقوم
الساعة.
عمَلُواْ عَلَىا َمكَانَ ِتكُمْ { [هود.]121 :
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ ا ْ
والحق ـ سبحانه ـ يقول هناَ } :وقُل لّلّذِي َ
ونحن نعلم أن كل كائن منّا له مكان ،أي :له حَيّز وجِرْم .ويقال :فلن له مكانة في القوم ،أي :له
مركز مرموق؛ إذا خل منه ل يستطيع غيره أنْ يشغله ،وهو مكان يدلّ على الشرف والعظمة
والسيادة والوجاهة ونباهة الشأن.
عمَلُواْ عَلَىا َمكَانَ ِتكُمْ { [هود.]121 :
فقول الحق } :ا ْ
أي :اعلموا على َقدْر طاقتكم من عُدة ومن عَدد ،فإن لمحمدٍ صلى ال عليه وسلم ربا سيهديه
وينصره ،وفي هذا تهديد لهم؛ وليس أمرا لهم؛ لنهم ككفار لن يمتثلوا لمر مِنْ عَدوّهم.
ولو أنهم امتثلوا لمر محمد وربّ محمد َلمَا كانوا كافرين؛ بل لصبحوا من الطائعين.
وحين يقول لهم ـ سبحانه ـ في آخر الية:
} إِنّا عَامِلُونَ { [هود.]121 :
فمعنى ذلك أن كل ما في قدراتكم هو محدود لنكم من الغيار الحداث؛ أما فعل ال ـ تعالى ـ
ي ل تحده حدود ،ولن يناقض عمل المُحدَث الحادث
فهو غير محدود؛ لنه ـ سبحانه ـ قديمٌ أزل ّ
عمل القديم الزلي ،فقوة الحادث المُحدَث موهوبة له من غيره ،أما قوة الحق ـ سبحانه ـ فهي
ذاتية فيه.
ونحن نعلم أن أيّ عمل إنما ُيقَاس بقوة فاعله ،وخطأ المستقبلين لمنهج ال أنهم إذا جاء عمل؛
ع ِملَ العمل ،ولو كان العمل من فعل البشر لَحقّ للنسان أن يتكلم ،لكن إذا ما كان
نَسَوا مَنِ الذي َ
العمل من ال ـ تعالى ـ فليلزمِ النسان حدوده.
ومثال ذلك :هؤلء الذين جادلوا في مسألة السراء التي قال فيها الحق ـ تبارك وتعالى {:سُ ْبحَانَ
حوْلَهُ }[السراء.]1 :
لقْصَى الّذِي بَا َركْنَا َ
سجِدِ ا َ
الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْل َمسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ
وقالوا :إننا نضرب إليها أكباد البل شهرا ،فكيف يقول إنه أتاها في ليلة؟
وكان الرد عليهم :إن محمدا لم َي ُقلْ إنه سَرَى من البيت الحرام إلى المسجد القصى بقوته هو ،بل
أُسْ ِريَ به ،والذي عمل ذلك هو ال ـ سبحانه ـ وليس محمدا ،فقيسوا هذا العمل بقوة ال تعالى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وليس بقوة محمد.
ويقول الحق ـ سبحانه ـ بعد ذلك } :وَانْ َتظِرُواْ إِنّا مُنتَظِرُونَ {.
()1581 /
في هذه الية نلمس الوعيد والتهديد؛ فالكافرون ينتظرون وعد الشيطان لهم ،والمؤمنون ينتظرون
وعد الرحمن لهم.
ل وَجَدتّم مّا وَعَدَ
حقّا َف َه ْ
جدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبّنَا َ
ولذلك سيقول المؤمنون للكافرين يوم القيامة {:أَن قَ ْد وَ َ
حقّا }[العراف.]44 :
رَ ّبكُمْ َ
ت الحداث المستقبلة
وفي انتظار الكفار تهديد لهم ،وفي انتظار المؤمنين تثبيت لقلوبهم ،ولو لم تَ ْأ ِ
كما قالها القرآن لتشكك المؤمنون ،ولكن المؤمنين لم يتشككوا ،وهكذا نتأكد أن القول بالنتظار لم
يكن ليصدر إل مِنْ واثقٍ بأن ما في هذا القول سوف يتحقق.
وقد جاء الواقع بما يؤيد بعض الحداث التي جاءت في القرآن.
ألم ينزل قول الحق ـ سبحانه:
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر.]45 :
{ سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
وكان وقت نزول هذا القول الحكيم إبان ضعف البداية ،حتى قال عمر ـ رضي ال عنه ـ أيّ
جمْعٍ يهزم؟ لن عمر حينئذ كان يلمس ضعف حال المؤمنين ،وعدم قدرة بعض المؤمنين على
َ
حماية نفسه ،ثم تأتي غزوة بدر؛ ليرى المؤمنون صدق ما تنبأ به رسول ال صلى ال عليه وسلم.
ومن العجيب أنه صلى ال عليه وسلم خطط على الرض مواقع مصرع بعض كبار الكافرين ،بل
س ُمهُ عَلَى
وأماكن إصاباتهم ،وجاء ذلك قرآنا يُتلى على مر العصور ،مثل قوله الحق {:سَنَ ِ
الْخُ ْرطُومِ }[القلم.]16 :
وهكذا شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يأتي الواقع بما يؤيد صدق الرسول صلى ال عليه وسلم ،كما
شاء ـ سبحانه ـ أن يُنزل على الرسول لقطاتٍ من قصص الرسل الذين سبقوه لشد أَزْره،
وليثبّت فؤاده ،ويذكّر المؤمنين فيزدادوا إيمانا.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ }
ثم يختتم الحق ـ سبحانه ـ سورة هود بقوله الكريم { :وَللّهِ غَ ْيبُ ال ّ
()1582 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمّا
جعُ الَْأمْرُ كُلّهُ فَاعْ ُب ْد ُه وَ َتوَ ّكلْ عَلَيْ ِه َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ
ت وَالْأَ ْرضِ وَإِلَيْهِ يُرْ َ
سمَاوَا ِ
وَلِلّهِ غَ ْيبُ ال ّ
َت ْعمَلُونَ ()123
أي :أن ما جاء من ذكر حكيم هو أمر غائب عنكم ،يخبركم به ال ـ سبحانه ـ من خلل ما
يُنزله على رسوله صلى ال عليه وسلم.
وقد شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يحفظ هذا ال ّذكْر الحكيم ،ثقة منه ـ سبحانه ـ أنه إذا أخبرنا في
القرآن بخبر لم يجيء أوانه ،فَلْنفهم أنه قد أخبر بما له من أزلية علم بالكون وما يجري فيه ،وبما
له من قدرة مطلقة تتحكم فيما يؤول إليه أمر المُختار من الكائنات ـ مؤمنهم وكافرهم ـ فإذا
حدثنا القرآن بشيء مما يغيب عن النسان ،فلنعلم أنه إخبار بصدق مطلق.
وهناك الكثير مما يغيب عن النسان ،وهناك حجاب بين وسائل إدراك النسان وبين بعض
المُدْركات ،ومرة يكون الحجاب حجابَ زمنٍ ،فإذا أخبر ال ـ تعالى ـ عن أمر لم نشهده من
غلَ في الزمن ،ولم يقرأه النبي صلى ال عليه وسلم في كتاب ولم يسمعه من معلّم؛ فهذا
قديم قد َأوْ َ
كَشْف لحجاب الماضي.
ولذلك فبعض سور القرآن الكريم يسميها العلماء " ماكُنات القرآن " مثل قوله الحقَ {:ومَا كُنتَ
صمُونَ }[آل عمران.]44 :
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْيَ َم َومَا كُ ْنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يَخْ َت ِ
لَدَ ْيهِمْ إِذْ يُ ْلقُون َأقْ َ
وغير ذلك من اليات التي تبدأ بقوله الحق { :مَا كُ ْنتَ }.
وقد كان هناك أناس في ذلك الماضي يدركون ما صار غيبا عن الرسول ومَنْ معه؛ لكن الحق ـ
سبحانه ـ أظهر هذا الغيب للرسول الذي لم يجلس إلى مُعلّم بشهادة أعدائه ،وكذلك كشف الحق
ـ سبحانه ـ لرسوله حجاب الزمان وحجاب المكان.
ومَنْ ينكشف له حجاب الزمان وحجاب المكان؛ إنما ينكشف له حجاب المستقبل أيضا ،والذي
كشف هذا هو الحق ـ سبحانه ـ الذي قدّر مجيء هذا العالم ،وما سوف يحدث فيه إلى أن تقوم
الساعة.
وقد طمر الحق ـ سبحانه ـ في القرآن أمورا لو كُشف عنها في زمن َبعْثة الرسول؛ لكان
الحديث عنها فوق مستوى العقول والدراك؛ وتحدث ـ سبحانه ـ عن وقائع مستقبلية بالنسبة
للمعاصرين لرسول ال صلى عليه وسلم؛ لم يكن أحد يتوقعها.
وكانت هناك معركة بين أرقى حضارتين معاصرتين للسلم؛ حضارة فارس وحضارة الروم،
وكانت الحضارتان تتنازعان السيطرة وتوسيع مناطق النفوذ .وهَ َز َمتْ فارس ـ التي ل تؤمن بإله
ـ امبراطورية الروم التي تعتنق المسيحية ،ول تؤمن برسالة محمد الخاتمة.
لذلك حزن رسول ال صلى ال عليه وسلم لهزيمة الذين يؤمنون بإله في السماء؛ فَيُسرّي ال ـ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه ـ المر على رسوله ،ويُنزِل الحق ـ سبحانه ـ قرآنا يُتلَى على مَرّ العصور وكل
الزمان؛ يحمل نبوءة انتصار الروم بعد هزيمتهم من الفرس.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولم يقل " :إليه يَرْجع المر كله " ،لنه سبحانه ضبط كل مخلوق على قدر.
ول المثل العلى :كما تضبط أنت المنبه على ميقات معين ،وكما يضبط المقاتل القنبلة لتنفجر في
توقيت معين ،والكون كله مُرتّب على هذا الترتيب.
وال ـ سبحانه ـ القائل:
{ إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ ِإذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس.]82 :
فكل شيء إما يرجع إلى ال في التوقيت الذي شاءه ال.
أو :أن المر هو كل ما يتعلق بكائن حي؛ لن الحق ـ سبحانه ـ قد خلق في الكون أشياء وترك
ملكيتها له ـ سبحانه ـ والحق ـ سبحانه ـ ل ينتفع بها ،أما النسان فينتفع بها ،وإن كان ل
يقربها ول يملكها ،مثل :الشمس التي ترسل أشعتها ،ويستفيد النسان بضوئها وحرارتها ،وهي ل
خصّه ال
تدخل في ملكية النسان؛ لنها من أساسيات الحياة؛ لذلك لم يجعل للنسان الذي َ
بخاصية الختيار حق ملكيتها أو القتراب منها؛ حتى ل يعبث بها.
وكذلك كل أساسيات الحياة جعلها الحق ـ سبحانه ـ في سلطته وحده ،ولم يَ ْأمَنْ أحدا من خلقه
عليها ،مثل الرض بعناصرها ،وكذلك الماء والهواء حتى ل يعبث أحد بأنفاس الهواء لحد آخر.
شاء الحق سبحانه أن يجعل الساسيات في يده دون أن يُملّكها لحد؛ رحمةً منه بنا ،ذلك أنه ـ
سبحانه ـ عَِلمَ أن النسان بما تعتريه من أغيار قد يسيء استخدام تلك الساسيات.
وسَخّر ال هذه الساسيات لخدمة كل المخلوقات ،وسخّر بعض المخلوقات ليسُوسها النسان،
وبعض المخلوقات الخر لم يستطع النسان تسخيره ،وحتى قوة النسان نفسه؛ شاء الحق ـ
ضعْف ،والفقير قد يصبح غنيا.
سبحانه ـ أن يجعلها أغيارا؛ فالقوي يسير إلى ال ّ
وهكذا يَثْبت لنا أن كل ما نملك موهوب لنا من ال ـ تعالى وليس هناك ما هو ذاتيّ فِينا ،وما
نملكه اليوم ل يخرج عن الملكية الموقوتة ،فإذا جاء يوم القيامة؛ رجع كل ما نملك ل ـ سبحانه
وتعالى.
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه:
{ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
ولذلك أيضا تشهد الجوارح على النسان؛ لنها تخرج عن التسخير الذي كانت عليه في الدنيا.
وإذا كان الحق ـ سبحانه ـ يقول هنا:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ { [هود.]123 :
} وَللّهِ غَ ْيبُ ال ّ
حتَ
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ َومَا بَيْ َن ُهمَا َومَا َت ْ
فهو ـ سبحانه ـ يقول في آية أخرىَ {:لهُ مَا فِي ال ّ
الثّرَىا }[طه.]6 :
وكأن الحق ـ سبحانه ـ ينبه البشر منذ نزول القرآن إلى أهمية ما تحت الثرى من كنوز يمتنّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال ـ تعالى ـ بها على عباده أنه يملكها.
ونحن نعيش الن باستخراج المكنوز الذي تحت الثرى.
وحين يقول الحق ـ سبحانه هنا ـ في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ } :وَإِلَيْهِ يُ ْرجَعُ
لمْرُ كُلّهُ { [هود.]123 :
اَ
ففي ذلك تنبيه لكل إنسان ،ليعمل مُسْتهدفا النجاة حين ل يكون لنفسه على نفسه سبيل يوم القيامة.
وليعلم كل إنسان أن كل ما يستمتع به هو من فيوضات الحق العلى الذي أعطى النسان قدرة
من باطن قوته ـ سبحانه ـ وأعطاه غِنًى من باطن غِنَاه ـ سبحانه ـ وأعطاه حكمة من باطن
حكمته ـ سبحانه ـ وأعطاه قبضا وبسطا من باطن قدرته ـ سبحانه ـ وكذلك أعطى لعبيده من
كل صفة بعضا من فَيْضها ،ثم تظل الفيوضات للحق ـ سبحانه وتعالى.
وحين يشاء فهو يسلب كل الفيوضات ويعود المر إليه ،لن المر كله له سبحانه.
حدّثتَ في القرآن بأمر تغيب عنك مقدماتُه ،فاعلمْ أن الذي أنزل هذا الكتاب ل يعزب عن
فإنْ ُ
علمه مثقال ذرة في السماوات ول في الرض.
ولذلك كان الرسول صلى ال عليه وسلم على ثقة أن الحق ـ سبحانه ـ حين أمره أن يتوعد
أعداء الدين فهو يُطمئنه أن المرجع في كل المور إليه ـ سبحانه.
واطمأن الرسول صلى ال عليه وسلم والذين معه أن أعداء الدين إنْ لم يُجا َزوْا في الدنيا ،فغدا
ترجع المور كلها إلى ال ،وإن كان الحق قد مَلّكهم أشياء؛ فسيسلُبهم هذه الملكية في الخرة ،وإنْ
ن يكفروا ويعصوا؛ فهذا الختيار
ن يؤمنوا ويطيعوا ،أو أ ْ
كان قد أعطاهم الخِيَار في الدنيا؛ خِيَار أ ْ
سيزول عنهم في الخرة ،وكل مالك لمُلْك يصير مُلْكه بعده إلى ال.
وما دام المرُ كذلك فلنعبد ال وحده ـ سبحانه ـ لنه صاحبُ المر فيما مضى؛ وله المر الن؛
وله المر فيما يأتي.
وهو ـ سبحانه ـ الذي شاء ،فجعل للنسان ثلثةَ أزمان :زمان سَبقَ وجود آدم؛ وزمان من بعد
آدم إلى وجود أيّ منا؛ ثم زمان مستقبل إلى ما ل نهاية؛ وبذلك يكون لكل منا زمان ماضٍ؛
وزمان حاضر وزمان مستقبل ،وكل منا يدور في فلك الحداث.
ومن المنطقي بعد أن تستمتع بوجودك في الحياة؛ وتنضج عقليا أن تتساءل عن ماضيك ،وتاريخ
الجنس البشري.
وأنت ـ في هذه الحالة ـ تكون رَهْنا بثقة المحدّث :هل يقول الصدق أم يقول الكذب؟ خُصوصا
ن تقول لنفسك :ل يمكن أن يُحدّثني عن ذلك إل
إذا كان الحديث عن تاريخ ما قبل آدم ،ول بد أ ْ
مَنْ خلقني.
وساعة يُبّل ُغكَ رسول ال صلى ال عليه وسلم عن بداية الخلق قائلً " :كان ال ،ولم يكُنْ شيء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غيره ".
ومعنى ذلك أن الصادق الوحيد الذي يمكن أن نقبل منه كلما عمّا فاتَ قبل آدم هو ال ـ سبحانه
وتعالى.
وإنْ سألتَ :لماذا ُوجِدتُ في زمني هذا ،ولم أوجد في زمن آخر؟ هنا ستقول لنفسك إنْ كنت
مؤمنا " :إن مشيئة وإرادة مَنْ أوجدني هي التي رجّحتْ وجودي في هذا الزمن عن أي زمن آخر
".
ول بد أن تسأل نفسك :وما المطلوب مني؟
وستجد أن المطلوب منك هو حركة الحياة؛ لن تلك الحركة هي الفاصل بين الحياة والموت،
ن الَ ْرضِ وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا }[هود.]61 :
والحق يقولُ {:هوَ أَنشََأكُمْ مّ َ
فقد أعطاك الحق ـ سبحانه ـ العقل لتفكر ،وأعطاك الطاقة لتفعل ،وسخّر لك الكون بالمطمور
فيه من الرزق؛ لتستخرجه وتتعيش منه.
وهكذا يتضح لك أن كل شيء يحتاج منك أن تتحرك ،وأنت في حركتك تحتاج لطاقة تأخذها من
العلى منك وتعطي للدنى منك؛ لذلك أنت تأخذ طاقة من العلى منك ،وتُعطي للدنى منك.
وأنت تعلم أن قمة المطلوب منك أن تُصلي بين يدي ال خمس مرات كل يوم؛ لتشحن طاقتك
وتخرج للحياة بعد أن تُجدّد ولءك لمن خلقك وخلق الكوان كلها ،وإنْ أحسنتَ الوقوف بين يدي
ال سيأتي مستقبلك مبنيا على هذا الحسان.
والحق ـ سبحانه ـ يعطينا مثلً لهاتين الحركتين ،فيقول:
س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه َوذَرُواْ الْبَيْعَ }[الجمعة:
ج ُمعَةِ فَا ْ
لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا نُو ِديَ لِلصّ َ
.]9
هذه حركة يأخذ فيها النسان طاقة من العلى ،فالسعي إلى ذكر ال وترك البيع من أجل ذلك
يعطي النسان طاقة إيمانية ،يظهر أثرها في الحركة الثانية من حركات النسان.
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه ـ بعد هذا:
ضلِ اللّ ِه وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيرا ّلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ
ض وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ
لةُ فَان َتشِرُواْ فِي الَ ْر ِ
{ فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ
}[الجمعة.]10 :
ولذلك يقول الحق ـ سبحانه ـ في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
عمّا َت ْعمَلُونَ { [هود.]123 :
} فَاعْ ُب ْد ُه وَ َتوَ ّكلْ عَلَيْ ِه َومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ
أي :أطِع ال في أمره؛ لنه ـ سبحانه ـ العلى منك ،بأن تؤدي المطلوب العبادي من :صلة،
وزكاة ،وصيام ،وحج إنِ استطعتَ لذلك سبيلً ،لتأخذ من المدد العلى ما يعينك في حركتك الثانية
التي تتحركها في الكون.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن العجيب أن حركتك في الكون الدنى تُعينك على حركتك لستمداد الطاقة من مُكوّن الكون
ـ سبحانه.
فأنت حين تصلي تحتاج ِلسَتْر عورتك بثوب ،وحتى تأتي بالثوب ل بد لك من أن تعتمد على
حركة الفلح في الزراعة ،وحركة العامل في النَسْج ،وحركة التاجر في البيع ،وحركتك في عملك
الذي يتيح لك أجرا تشتري منه الثوب.
وبذلك تكون قد أخذتَ كل علوم الحياة؛ لكي تذهب للصلة لتأخذ المدد من المدد العلى.
وهكذا تجد أنك في حركة دائرة؛ تأخذ المدد من العلى لتعطي الكون الدنى ،وتأخذ من الدنى ما
يتيح لك الوقوف بين يدي صاحب المدد العلى.
وبهذا يثبت لك أن الحركة في الحياة الحاضرة لكل إنسان بالنسبة لعمره في الحياة ،هي استقبال
من المدد العلى ،وانفعال مع المدد الدنى ،وكل منهما يعين على الخر؛ لذلك فعليك أن تعبد ال
بأن تنظّم حركة حياتك على ضوء منهجه ـ سبحانه.
واعلم أنه ستصادفك المصاعب فإن صادفتك فتوكل على ال ،وتلك فائدة من فوائد استمرار ولئك
ل الذي تأخذ منه المدد.
ولذلك " كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلة ".
ومعنى " حزبة " أي خرج عن أسبابه ،لذلك فهو يذهب إلى المسبب العلى ،فإنْ عبدتَ ال
وتوكلتَ عليه؛ فهو يعينك؛ لنه ـ سبحانه ل يغفل عما نعمل.
وهذه الية تدلّك على السعادة في الحاضر والمستقبل؛ لنك إن كنت ترعى ال فسبحانه يكتب لك
الحسنة بعشرة أمثالها ،وقد يضاعف عن ذلك ،وتُكتب السيئة بمثلها.
وبذلك تكون هذه الية قد استوعبت وانتظمت حال النسان :قبل حياته ،وحاضر حياته ،ومستقبل
حياته إلى أن تقوم الساعة.
يقول الحق ـ سبحانه:
{ ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ }[النفال.]24 :
فدعوة ال بالطاعة ،ودعوة الرسول بالسلوك السّويّ يعطي للمؤمن حياة الحياة ،وهي حياة تعيش
في معية ال.
()1583 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد تعرضنا من قبل لفواتح السور؛ من أول سورة البقرة ،وسورة آل عمران ،وقلنا :إن فواتح
بعض من سور القرآن تبدأ بحروف مُقطّعة؛ ننطقها ونحن نقرؤها بأسماء الحروف ،ل بمسميات
الحروف.
فإن لكل حرف اسما ومُسمّى ،واسم الحرف يعرفه الخاصة الذين يعرفون القراءة والكتابة ،أما
العامة الذين ل يعرفون القراءة أو الكتابة؛ فهم يتكلمون بمسميات الحروف ،ول يعرفون أسماءها.
فإن المي إذا سُئل أن يتهجى أيّ كلمة ينطقها ،وأن يفصل حروفها نطقا؛ لما عرف ،وسبب ذلك
أنه لم يتعلم القراءة والكتابة ،أما المتعلم فهو يعرف أسماء الحروف ومُسمّياتها.
ونحن نعلم أن القرآن قد نزل مسموعا ،ولذلك أقول :إياك أن تقرأ كتاب ال إل أن تكون قد سمعته
أولً؛ فإنك إذا قرأته قبل أن تسمعه فسيستوي عندك حين تقرأ في أول سورة البقرة {:الم }[البقرة:
.]1
مثلما تقول في أول سورة الشرح {:أََلمْ }[الشرح.]1 :
أما حين تسمع القرآن فأنت تقرأ أول سورة البقرة كما سمعها رسول ال صلى ال عليه وسلم من
جبريل ـ عليه السلم ـ " ألف لم ميم " ،وتقرأ أول سورة الشرح " ألم ".
وأقول ذلك لن القرآن ـ كما نعلم ـ ليس كأي كتاب تُقبِل عليه لتقرأه من غير سماع ،ل .بل هو
كتاب تقرؤه بعد أن تسمعه وتصحح قراءتك على قارئ؛ لتعرف كيف تنطق كل َقوْل كريم ،ثم من
ت على كيفية القراءة؛ لن كل حرف في الكتاب الكريم موضوع
بعد ذلك لك أن تقرأ بعد أن تعرف َ
بميزان وبقدر.
ونحن نعلم أيضا أن آيات القرآن منها آياتٌ ُمحْكمات وأُخَر مُتَشابهات .واليات المُحْكماتُ تضم
الحكام التي عليك أن تفعلها لِتُثاب عليها ،وإنْ لم تفعلها تُعاقب ،وكل ما في اليات المُحْكمات
وَاضح.
أما اليات المُتَشابهات إنما جاءت متشابهة لختلف الدراك من إنسان لخر ،ومن مرحلة عُمرية
لخرى ،ومن مجتمع لخر ،والدراكات لها وسائل يتشابه فيها الناس ،مثل :العين ،والذن،
والنف ،واللسان ،واليد.
ووسائل الدراك هذه؛ لها قوانين تحكمها:
فعيْنُك يحكمها قانون إبصارك ،الذي يمتد إلى أن تلتقي خطوط الشعة عند بؤرة تمتنع رؤيتُك
عندها؛ ولذلك تصغُر الشياء تدريجيا كلما ابتعدت عنها إلى أن تتلشى من حدود رؤيتك.
وصوتُك له قانون؛ تحكمه ذبذبات الهواء التي تصل إلى أدوات السمع داخل أذنك.
شمّ وردة موجودة في بلد بعيدة.
وكذلك الشّمّ له حدود؛ لنك ل تستطيع َ
وكذلك العقل البشري له حدود يُدرك بها ،وقد علم ال كيف يدرك النسان المور ،فلم يمنع تأمل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وردة جميلة ،لكنه أمر بغضّ البصر عند رؤية أي امرأة.
وهكذا يُحدّد لكَ الحق الحلل الذي تراه ،ويُحدّد لك الحرام الذي يجب أن تمتنع عن رؤيته.
وكذلك في العقل؛ قد يفهم أمرا وقد ل يفهم أمرا آخر ،وعدم َفهْمك لذلك المر هو َلوْن من الفهم
ت كيف؟
أيضا ،وإنْ تساءل َ
انظر إلى موقف تلميذ في العدادية؛ وجاء له أستاذه بتمرين هندسي مما يدرسه طلبة الجامعة؛
هنا سيقول التلميذ الذكي لستاذه :نحن لم نأخذ السس اللزمة لحلّ مثل هذا التمرين الهندسي،
هذا القول يعني أن التلميذ قد فهم حدوده.
وهكذا يعلمنا ال الدب في استخدام وسائل الدراك؛ فهناك أمر لك أن تفهمه؛ وهناك أمر تسمعه
من ربك وتطيعه ،وليس لك أن تفهمه قبل تنفيذه؛ لنه فوق مستوى إدراكك.
ودائما أقول هذا المثل ـ ول المثل العلى ـ إنك حين تنزل في فندق كبير ،تجد أن لكل غرفة
مفتاحا خاصا بها ،ل يفتح أي غرفة أخرى ،وفي كل َدوْر من أدوار الفندق يوجد مفتاح يصلح
لفتْح كل الدوار ،ول يفهم هذا المر إل المتخصص في تصميم مثل تلك المفاتيح.
فما بالنا بكتاب ال تعالى ،وهو الكتاب الجامع في تصميم مثل تلك المفاتيح.
فما بالنا بكتاب ال ـ تعالى ـ وهو الكتاب الجامع الذي يقول فيه الحق ـ تبارك وتعالى {:مِنْهُ
ب وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا الّذِينَ في قُلُو ِبهِمْ زَ ْيغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا َتشَابَهَ مِنْهُ
ح َكمَاتٌ هُنّ ُأمّ ا ْلكِتَا ِ
آيَاتٌ مّ ْ
ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَ ِة وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِهِ َومَا َيعَْلمُ تَ ْأوِيلَهُ ِإلّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ َيقُولُونَ آمَنّا بِهِ ُكلّ مّنْ
عِندِ رَبّنَا َومَا َي ّذكّرُ ِإلّ ُأوْلُو ْا الَلْبَابِ }[آل عمران.]7 :
إذن :فهذا المتشابه يعتبره أهل الزيغ فرصة لتحقيق مَأْربهم ،وهو إبطال الدين بأيّ وسيلة وبأي
طريقة ،ويحاولون ممارسة التكبر على كتاب ال.
ولهؤلء نقول :لقد أراد ال أن يكون بعضٌ من سور الكتاب الكريم مُبْتدئةً بحروف تنطق بأسمائها
ل بمُسمّياتها.
وقد أرادها الحق ـ سبحانه ـ كذلك ليختبر العقول؛ فكما أطلق ـ سبحانه ـ للعقل البشري
التفكير في أمور كثيرة؛ فهناك بعض من المور يخيب فيها التفكير ،فل يستطيع العقل إدراك
الشياء التي تفوق حدود عقله.
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ يصنع للنسان ابتلءات في وسائل إدراكه؛ وجعل لكل وسيلة إدراك
حدودا ،وشاء أن يأتي بالمتشابه ليختبر النسان ،ويرى :ماذا يفعل المؤمن؟
وقوله الحق ـ سبحانهَ {:ومَا َيعَْلمُ تَ ْأوِيلَهُ ِإلّ اللّهُ وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ[} ..آل عمران.]7 :
قد ُيفْهم منه أنه عطف؛ بمعنى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله؛ وبالتالي سيُعلّمون الناس ما
ينتهون إليه من علم بالتأويل .ولكن تأويل الراسخين في العلم هو قولهمُ {:كلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا[} ...آل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمران.]7 :
إذن :فنهاية تأويلهم :هو من عند ربنا ،وقد آمنا به.
وجاء لنا قوله صلى ال عليه وسلم لِيَحُل لنا إشكال المُتَشابَه:
" ما تشابه منه فآمنوا به ".
لن المتشابه من ابتلءات اليمان.
والمثل الذي أضربه هنا هو أمره صلى ال عليه وسلم لنا أن نستلم الحجر السود وأن نُقبّله ،وأن
نَرْجُم الحجر الذي يمثل إبليس ،وكلهما حجر ،لكننا نمتثل باليمان لما أمرنا به صلى ال عليه
وسلم.
ت عقلك،
حكْم عقلك ،وأردتَ أن تعرف الحكمة وراء كل أمر ،لَعب ْد َ
وأنت لو أقبلتَ على كل أمر ب ُ
ح ْكمِه هو ـ سبحانه.
والحق ـ سبحانه ـ يريد أن تُقبِل على المور ِب ُ
وأنت إن قلتَ لواحد :إن الخمر تهري الكبد .ووضعت على كبده جهاز الموجات فوق الصوتية
الذي يكشف صورة الكبد ،ثم ناولتَ الرجل كأس خمر؛ فرأى ما يفعله كأس الخمر في الكبد،
ورَاعَه ذلك؛ فقال :وال لن أشربها أبدا.
هل هو يفعل ذلك لنه مؤمن؟ أم أنه ربط سلوكه بالتجربة؟
لقد ربط سلوكه بالتجربة ،وهو يختلف عن المؤمن الذي نفّذ تعاليم السماء فامتنع عن الخمر لن
ال أمر بذلك ،فل يمكن أن نؤجل تعاليم السماء إلى أن تظهر لنا الحكمة منها.
إذن :فعِلّة المُتَشابه؛ اليمان به .وقد يكون للمُتَشابه حكمة؛ لكِنّا لن نُؤجّل اليمان حتى نعرف
الحكمة.
وأقول دائما :يجب أن يعامل النسانُ إيمانَه بربه معاملته لطبيبه ،فالمريض يذهب إلى طبيبه
ليعرض عليه شكواه من مرض يؤلمه؛ ليصفَ الطبيب له الدواء ،كذلك عمل عقلك؛ عليه أن
ينتهي عند عتبة إيمانك بال.
ن يقول :إن العقل كالمطيّة ،يُوصّلك إلى باب السلطان ،لكنه ل
ونجد من أقوال أهل المعرفة بال مَ ْ
يدخل معك.
إذن :فالذي يناقش في عِلَل الشياء هو مَنْ يرغب في الحديث مع مُسَاوٍ له في الحكمة ،وهل يوجد
مُسَاوٍ ل؟
طبعا ل ،لذلك خُذْ افتتاحيات السور التي جاءت بالحروف المقطعة كما جاءت ،واختلفنا على
معانيها يؤكد على أنها كَنْز ل ينفذ من العطاء إلى أن تُحل إنْ ـ شاء ال ـ من ال.
ومن العجيب أن آيات القرآن كلها مبنيةٌ على ال َوصْل ،ففي آخر سورة هود نجد قول الحق ـ
عمّا َت ْعمَلُونَ }[هود.]123 :
سبحانهَ {:ومَا رَ ّبكَ ِبغَا ِفلٍ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكان من المفترض أن نقف عليها فننطق كلمة " تعملون " ساكنة النون ،لكنها موصولة بـ " بسم
ال الرحمن الرحيم "؛ لذلك جاءت النون مفتوحة.
وأيضا ما دامت اليات مبنية على الوصل ،كان من المفروض أن ننطق بدء سورة يوسف " ألفٌ
لمٌ رَاءٌ " لكن الرسول صلى ال عليه وسلم علّمنَا أن نقرأها " ألفْ لمْ راءْ " وننطقها ساكنة.
وهذا دليل على أنها كلمة مبنية على الوقف ،ودليل على أن ل ـ سبحانه ـ حكمة في هذا وفي
ذاك.
ونحن نعلم أن الرسول صلى ال عليه وسلم كان يراجع القرآن مرة كل رمضان مع جبريل ـ
عليه السلم ـ وراجعه مرتين في رمضان الذي سبق وفاته صلى ال عليه وسلم.
وهكذا وصلنا القرآن كما أنزله الحق ـ سبحانه ـ على رسوله الكريم صلى ال عليه وسلم.
وهنا يقول الحق } :الر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ { [يوسف.]1 :
و " تلك " إشارة لما َبعْدَ (الر) ،وهي آيات الكتاب.
أي :خذوا منها أن آيات القرآن مُكوّنة من مثل هذه الحروف ،وهذا َفهْم البعض لمعنى } :الر{ ...
[يوسف ]1 :لكنه ليس كل الفهم.
مثل :صانع الثياب الذي يضع في واجهة المحل بعضا من الخيوط التي تم نَسْج القماش منها؛
ليدلنا على ِدقّة الصنعة.
فكأنّ ال ـ سبحانه ـ يُبيّن لنا أن } الر[ { ...يوسف ]1 :أسماء لحروف هي من أسماء الحروف
التي نتكلم بها ،والقرآن تكوّنت ألفاظه من مثل تلك الحروف ،ولكن آيات القرآن معجزة ،ل
يستطيع البشر ـ ولو عاونهم الجن ـ أن يأتوا بمثله.
إذن :فالسّمو ليس من ناحية الخامة التي تُكوّن الكلم ،ولكن المعجزة أن المتكلم هو الحق ـ
سبحانه ـ فل بد أن يكون كلمه مُعجزا؛ وإن كان مُكوّنا من نفس الحروف التي نستخدمها نحن
البشر.
وهناك معنى آخر :فهذا رسول ال صلى ال عليه وسلم ينطق أسماء الحروف " أِلفْ لم رَاء " ،
وهو صلى ال عليه وسلم المي بشهادة المعاصرين له بما فيهم خصومه ،رغم أن القادر على
نُطْق أسماء الحروف ل ُبدّ أن يكون مُتعلّما ،ذلك أن المي ينطق مُسمّيات الحروف ول يعرف
أسماءها ،وفي هذا النطق شهادة بأن مَنْ علّمه ذلك هو ربه العلى.
ويقول الحق ـ سبحانه } :الر تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ ا ْلمُبِينِ { [يوسف.]1 :
كلمة " الكتاب " عندما تُطلق فمعناها ينصرف إلى القرآن الكريم.
ونجد كلمة " المبين " ،أي :الذي يُبيّن كل شيء تحتاجه حركة النسانِ الخليف ِة في الرض ،فإن
بانَ لك شيء وظننتَ أن القرآن لم يتعرّض له ،فل بد أن تبحث عن مادة أو آية تلفتك إلى ما يبين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لك ما غابَ عنك.
ل إلى
ويُروى عن المام محمد عبده أنه قابل أحد المستشرقين في باريس؛ ووجّه المستشرق سؤا ً
المام فقال:
شيْءٍ[} ...النعام ]38 :فَدعْنِي
مادامتْ هناك آية في القرآن تقول {:مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
ب القمح؟
أسألك :كم رغيفا ينتجه أرد ّ
فقال المام للمستشرق :انتظر .واستدعى المام خبازا ،وسأله :كم رغيفا يمكن أن نصنعه من
أردب القمح؟ فأجاب الخباز على السؤال.
هنا قال المستشرق :لقد طلبتُ منك إجابة من القرآن ،ل من الخباز .فردّ المامُ :إذا كان القرآن قد
شيْءٍ[} ...النعام ]38 :فالقرآن قال أيضا {:فَاسْأَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن
قال {:مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ }[النحل.]43 :
لقد فَطِن المام محمد عبده إلى أن العقل البشري أضيق من أن يسع كل المعلومات التي تتطلبها
الحياة؛ لذلك شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يوزّع المواهب بين البشر؛ ليصبح كل متفوق في مجال
ما ،هو من أهل الذكر في مجاله.
ونحن ـ على سبيل المثال ـ عندما نتعرض لمسألة ميراث؛ فنحن نلجأ إلى مَنْ تخصص في
المواريث ،ليدلنا على دقة توزيع أنصبة هذا الميراث.
وحين يؤدي المسلم من العامة فريضة الحج ،فيكفيه أن يعلم أن الحج فريضة؛ ويبحث عند بَدْء
الحج عمّنْ يُعلّمه خُطوات الحج كما أدّاها صلى ال عليه وسلم.
وهذا سؤال لهل الذكر ،مثلما نستدعي مهندسا ليصمم لنا بيتا حين نشرع في بناء بيت ،بعد أن
نمتلك المكانات اللزمة لذلك.
وهكذا نرى أن علوم الحياة وحركتها أوسع من أن يتسع لها رأس؛ ولذلك وزّع ال أسباب فضله
على عباده ،ليتكاملوا تكاملَ الحتياج ،ل تكامل التفضّل ،ويصير كل منهم مُلْتحما بالخرين غَصبْا
عنه.
وبعد ذلك يقول الحق ـ سبحانه } :إِنّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيّا.{ ...
()1584 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمِينُ }[الشعراء.]193 :
حاَ
وبالنسبة للقرآن نجد الحق ـ سبحانه ـ يقول {:نَ َزلَ ِبهِ الرّو ُ
فنسب النزول مرة لجبريل كحامل للقرآن ليبلغ به رسول ال صلى ال عليه وسلم .ومرة يقول{:
نُ ّزلَ[} ...محمد ،]2 :والنزول في هذه الحالة منسوب ل وجبريل والملئكة.
أما قول الحق ـ سبحانه {:أُنْ ِزلَ[} ...البقرة ،]91 :فهو القول الذي يعني أن القرآن قد تعدى كونه
َمكْنونا في اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود ببعث رسول ال صلى ال صلى ال عليه
وسلم.
هذا هو معنى النزال للقرآن جمل ًة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ،ثم نزل من بعد
ذلك نجوما متفرقة؛ ليعالج كل المسائل التي تعرّض لها المسلمون.
وهكذا يؤول المر إلى أن القرآن نزل أو نزل به الروح المين.
والحق ـ سبحانه ـ يقول {:وَبِا ْلحَقّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقّ نَ َزلَ[} ..السراء ]105 :أي :أن الحق ـ
سبحانه ـ أنزله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ،ثم أنزله مفرقا ليعالج الحداث ويباشر
مهمته في الوجود الواقعي.
وفي هذه الية يقول ـ سبحانه:
{ إِنّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِيّا[ } ...يوسف.]2 :
وفي الية السابقة قال {:تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ[} ...يوسف.]1 :
فمرّة َيصِفه بأنه قرآن بمعنى المقروء ،ومرّة َيصِفه بأنه كتاب؛ لنه مسطور ،وهذه من معجزات
التسمية.
جمِع ليكتب؛ كان كاتب القرآن ل يكتب إل ما يجده مكتوبا ،ويشهد
ونحن نعلم أن القرآن حين ُ
عليه اثنان من الحافظين.
ونحن نعلم أن الصدور قد تختلف بالهواء ،أما السطور فمُثْبتة ل لَبْسَ فيها.
وهو قرآن عربي؛ لن الرسول صلى ال عليه وسلم سيجاهر بالدعوة في أمة عربية ،وكان لبد
من وجود معجزة تدل على صدق بلغه عن ال ،وأن تكون ِممّا نبغ فيه العرب؛ لن المعجزة
مشروطة بالتحدي ،ول يمكن أن يتحداهم في أمر ل ريادة لهم فيه ول لهم به صلة؛ حتى ل يقولن
أحد :نحن لم نتعلم هذا؛ ولو تعلمناه لجئنا بأفضل منه.
وكان العرب أهل بيان وأدب ونبوغ في الفصاحة والشعر ،وكانوا يجتمعون في السواق ،وتتفاخر
كل قبيلة بشعرائها وخطبائها المُفوّهين ،وكانت المباريات الدائية ُتقَام ،وكانت التحديات تجرى في
هذا المجال ،ويُنصَب لها الحكام.
أي :أن الدّرْبَة على اللغة كانت صناعة متواترة ومتواردة ،محكوم عليها من الناس في السواق،
فهم أمة بيان وبلغة وفصاحة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك شاء الحق ـ سبحانه ـ أن يكون القرآن معجزة من جنس ما نبغ فيه العرب ،وهم أول قوم
نزل فيهم القرآن ،وحين يؤمن هؤلء لن يكون التحدي بفصاحة اللفاظ ونسق الكلم ،بل
بالمبادىء التي تطغى على مبادىء الفرس والروم.
وهي مبادىء قد نزلت في أمة مبتدّية ليس لها قانون يجمعها ،ول وطن يضمهم يكون الولء له،
بل كل قبيلة لها قانون ،وكلهم َبدْو يرحلون من مكان إلى مكان.
علِم أهل فارس والروم أن تلك المة المُبتدّية قد امتلكتْ ما يبني حضَارة
وحين نزل فيهم القرآن َ
ليس لها مثل من قَبْل ،رغم أن النبي أ ِميّ وأن المة التي نزل فيها القرآن كانت أمية.
وفارس والروم يعلمون أن الرسول الذي نزل في تلك المة تحدّاهم بما نبغُوا فيه ،وما استطاع
واحد منهم أن يقوم أمام التحدي ،ومن هنا شعروا أنهم أمام تحد حضاري من نوع آخر لم
يعرفوه.
ويشاء الحق ـ سبحانه ـ أن ينزل القرآن عربيا؛ لن الحق لم يكن ليرسل رسولً إل بلسان
قومه ،فهو القائلَ {:ومَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ ِإلّ بِلِسَانِ َقوْمِهِ لِيُبَيّنَ َلهُمْ[} ...إبراهيم.]4 :
سلَ محمد صلى ال عليه وسلم بالقرآن ،الذي تميّز عن سائر كتب الرسل الذين سبقوه؛ بأنه
وأُر ِ
كتاب ومعجزة في آنٍ واحد ،بينما كانت معجزات الرسل السابقين عليه صلى ال عليه وسلم
مُنْفصلةً عن كُتب الحكام التي أُنزَِلتْ إليهم.
ويظلّ القرآن معجزة تحمل منهجا إلى أنْ تقومَ الساعة ،ومادام قد آمنَ به الوائل وانساحوا في
العالم ،فتحقق بذلك ما وعد به ال أن يكون هذا الكتابُ شاملً ،يجذب كل مَنْ لم يؤمن به إلى
النبهار بما فيه من أحكام.
ولذلك حين يبحثون عن أسباب انتشار السلم في تلك المدة الوجيزة ،يجدون أن السلم قد انتشر
شدُوهِين بما فيه من ُنظُمٍ تُخلّصهم من متاعبهم.
ل بقوة مَنْ آمنوا به؛ بل بقوة مَنْ انجذبوا إليه مَ ْ
ففي القرآن قوانين تُسعِد النسانَ حقا ،وفيه من الستنباءات بما سوف يحدث في الكون؛ ما يجعل
المؤمنين به يذكرون بالخشوع أن الكتاب الذي أنزله ال على رسولهم لم يفرط في شيء.
وإذا قال قائل من المستشرقين :كيف تقولون :إن القرآن قد نزل بلسان عربي مبين؛ رغم وجود
ألفاظ أجنبية مثل كلمة " آمين " التي تُؤمّنُون بها على دعاء المام؛ كما توجد ألفاظ رومية،
وأخرى فارسية؟
وهؤلء المستشرقون لم يلتفتوا إلى أن العربي استقبل ألفاظا مختلفة من أمم متعددة نتيجة اختلطه
بتلك المم ،ثم دارتْ هذه اللفاظ على لسانه ،وصارت تلك اللفاظ عربية ،ونحن في عصورنا
الحديثة نقوم بتعريب اللفاظ ،وندخل في لغتنا أيّ لفظ نستعمله ويدور على ألسنتنا ،ما ُدمْنا نفهم
المقصود به.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويُذيّل الحق ـ سبحانه ـ الية الكريمة بقوله:
} ّلعَّل ُكمْ َت ْعقِلُونَ { [يوسف.]2 :
ليستنهض همة العقل ،ليفكر في المر ،والمُنْصف بالحق ُيهِمه أن يستقبل الناس ما يعرضه عليهم
بالعقل ،عكس المدلس الذي يهمه أن يستر العقل جانبا؛ لينفُذَ من وراء العقل.
وفي حياتنا اليومية حين ينبهك التاجر لسلعة ما ،ويستعرض معك مَتَانتها ومحاسنها؛ فهو يفعل
ذلك كدليل على أنه واثق من جودة بضاعته.
ك المر
أما لو كانت الصّنْعة غير جيدة ،فهو لن يدعوك للتفكير بعقلك؛ لنك حين تتدبر بعقل َ
تكتشف المُدلس وغير المُدلس؛ لذلك فهو يدلس عليك ،ويُعمّي عليك ،ول يدع لك فرصة للتفكير.
ويقول الحق ـ سبحانه ـ من بعد ذلكَ } :نحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ.{ ...
()1585 /
حين يتحدث الحق ـ سبحانه ـ عن فعل من أفعاله؛ ويأتي بضمير الجمع؛ فسبب ذلك أن كل فعل
من أفعاله يتطلب وجو َد صفات متعددة؛ يتطلب :علما؛ حكمة؛ قدرة؛ إمكانات.
ومَنْ غيره ـ سبحانه ـ له كل الصفات التي تفعل ما تشاء و ْقتَ أن تشاء؟
ل أحد سواه قادر على ذلك؛ لنه ـ سبحانه ـ وحده صاحب الصفات التي تقوم بكل مطلوب في
الحياة ومُقدّر.
لكن حين يتكلم ـ سبحانه ـ عن الذات؛ فهو يؤكد التوحيد فل تأتي بصيغة الجمع ،يقول تعالى{:
لةَ لِ ِذكْرِي }[طه.]14 :
إِنّنِي أَنَا اللّهُ ل إِلَـاهَ إِل أَنَاْ فَاعْ ُبدْنِي وََأقِمِ الصّ َ
وهنا يتكلم ـ سبحانه ـ بأسلوب يعبر عن أفعال ل َيقْدر عليها غيره؛ بالدقة التي شاءها هو ـ
سبحانه ـ فيقول:
صصِ[ } ...يوسف.]3 :
{ َنحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ أَحْسَنَ ا ْلقَ َ
وحدد ـ سبحانه ـ أنه هو الذي يقصّ ،وإذا وُجِد فعل ل؛ فنحن نأخذ الفعل بذاته وخصوصه؛ ول
نحاول أن نشتق منه اسما نطلقه على ال؛ إل إذا كان الفعل له صفة من صفاته التي عَِلمْناها في
أسمائه الحسنى؛ لنه الذات القدس.
وفي كل ما يتعلق به ذاتا وصفاتٍ وأفعالً إنما نلتزم الدب؛ لننا ل نعرف شيئا عن ذات ال إل
ما أخبرنا ال عن نفسه ،لذلك ل يصح أن نقول عن ال أنه قصّاص ،بل نأخذ الفعل كما أخبرنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
به ،ول نشتق منه اسما ل؛ لنه لم يصف نفسه في أسمائه الحسنى بذلك.
والواجب أن ما أطلقه ـ سبحانه ـ اسما نأخذه اسما ،وما أطلقه فعلً نأخذه فعلً.
وهنا يقول ـ سبحانه:
صصِ[ } ....يوسف.]3 :
{ َنحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ أَحْسَنَ ا ْلقَ َ
ونعلم أن كلمة " قص " تعني التباع ،وقال بعض العلماء :إن القصة تُسمّى كذلك لن كل كلمة
تتبع كلمة ،ومأخوذة من َقصّ الثر ،وهو تتبع أثر السائر على الرض ،حتى يعرف النسان
مصير مَنْ يتتبعه ول ينحرف بعيدا عن التجاه الذي سار فيه مَنْ يبحث عنه.
شعُرُونَ }
ب وَهُ ْم لَ يَ ْ
واقرأ قول الحق ـ سبحانه ـَ {:وقَاَلتْ لُخْتِهِ ُقصّيهِ فَ َبصُ َرتْ بِهِ عَن جُ ُن ٍ
[القصص.]11 :
و{ ُقصّيهِ[} ...القصص ]11 :أي :تتبعي أثره.
إذن :فال َقصّ ليس هو الكلمة التي تتبع كلمة ،إنما ال َقصّ هو تتبّع ما حدث بالفعل.
ويعطينا الحق سبحانه مثلً من قصة موسى عليه السلم مع فتاه {:قَالَ أَرَأَ ْيتَ ِإذْ َأوَيْنَآ إِلَى
الصّخْ َرةِ فَإِنّي نَسِيتُ ا ْلحُوتَ َومَآ أَنْسَانِيهُ ِإلّ الشّ ْيطَانُ أَنْ َأ ْذكُ َرهُ وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْ َبحْرِ عَجَبا * قَالَ
ذَِلكَ مَا كُنّا نَبْغِ فَارْتَدّا عَلَىا آثَارِ ِهمَا َقصَصا }[الكهف63 :ـ ،]64أي :تَابَعا الخطوات.
وهكذا نعلم أن القص هو تتبّع ما حدث بالفعل ،فتكون كل كلمة مُصوّرة لواقع ،ل لَبْسَ فيه أو
خيال؛ ول تزيّد ،وليس كما يحدث في القصص الفنيّ الحديث؛ حيث يضيف القصّاص لقطاتِ
خيالية من أجل الحَبْكة الفنية والثارة وجَذْب النتباه.
ضعُه مختلف تماما ،فكلّ قَصص القرآن إنما يتتبع ما حدث فعلً؛ لنأخذ منها
أما قصص القرآن فو ْ
العبرة؛ لن القصة نوع من التاريخ.
والقصة في القرآن مرةً تكون للحدث ،ومرّة تكون لتثبيت فؤاد الرسول صلى ال عليه وسلم ،فلم
تَ ْأتِ قصة رسول في القرآن كاملة ،إل قصة يوسف ـ عليه السلم.
أما بقية الرسل ف َقصَصهم جاءت لقطات في مناسبات لتثبيت فؤاد الرسول محمد صلى ال عليه
وسلم ،فتأتي لقطة من حياة رسول ،ولقطة من حياة رسول آخر ،وهكذا.
ول يقولن أحد :إن القرآن لم يستطع أن يأتي بقصة كاملة مستوفية؛ فقد شاء الحق ـ سبحانه ـ
أن يأتي بقصة يوسف من أولها إلى آخرها ،مُسْتوفية ،ففيها الحدث الذي دارتْ حوله أشخاصٌ،
وفيها شخصٌ دارتْ حوله الحداث.
عيْ القصة،
فقصة يوسف ـ عليه السلم ـ في القرآن ل تتميز بالحَبْكة فقط؛ بل جمعتْ نَو َ
بالحدث الذي تدور حوله الشخصيات ،وبالشخص الذي تدور حوله الحداث.
جاءتْ قصة يوسف بيوسف ،وما مَرّ عليه من أحداث؛ بَ ْدءً من الرّؤيا ،ومرورا بحقد الخوة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكيدهم ،ثم محاولة الغواية له من امرأة العزيز ،ثم السجن ،ثم القدرة على تأويل الحلم ،ثم تولّي
السلطة ،ولقاء الخوة والحسان إليهم ،وأخيرا لقاء الب من جديد.
إذن :فقول الحق ـ سبحانه:
صصِ[ { ...يوسف.]3 :
} َنحْنُ َن ُقصّ عَلَ ْيكَ أَحْسَنَ ا ْلقَ َ
يبيّن لنا أن الحُسْن أتى لها من أن الكتب السابقة تحدثت عن قصة يوسف ،لكن أحبار اليهود حين
قرأوا القصة كما جاءتْ بالقرآن ترك بعضهم كتابه ،واعتمد على القرآن في روايتها ،فالقصة
أحداثها واحدة ،إل صياغة الداء؛ وتلمّسات المواجيد النفسية؛ وإبراز المواقف المطْويّة في النفس
البشرية؛ وتحقيق الرّؤى الغيبية ُكلّ ذلك جاء في حَبْكة ذات أداء بياني ُمعْجز جعلها أحسنَ
ال َقصَص.
أو :هي أحسن القصص بما اشتملتْ عليه من عِبَر متعددة ،عِبَر في الطفولة في مواجهة
الشيخوخة ،والحقد الحاسد بين الخوة ،والتمرد ،وإلقائه في الجبّ والكيد له ،ووضعه سجينا بظلم،
وموقف يوسف عليه السلم من الفتراء الكاذب ،والعتزاز بالحق حتى تمّ له النصر والتمكين.
وكيف ألقى ال على يوسف ـ عليه السلم ـ محبّة منه؛ ليجعل كل مَنْ يلتقي به يحب خدمته.
وكيف صانَ يوسف إرثَ النبوة ،بما فيها من سماحة وقدرة على العفو عند المقدرة؛ فعفَا عن
حمِينَ }[يوسف:
ل لَ تَثْرِيبَ عَلَ ْيكُمُ الْ َيوْمَ َي ْغفِرُ اللّهُ َلكُ ْم وَ ُهوَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ
إخوته بما روتْه السورة {:قَا َ
.]92
وقالها سيد البشر محمد صلى ال عليه وسلم لهله يوم فتح مكة " :اذهبوا فأنتم الطلقاء ".
وهكذا تمتليء سورة يوسف ِبعِبَر متناهية ،يتجلّى بعضٌ منها في قضية دخوله السجنَ مظلوما ،ثم
يأتيه العفو والحكم؛ لذلك فهي أحسنُ القَصص؛ إما لنها جمعتْ حادثة ومَنْ دار حولها من
أشخاص ،أو جاء بالشخص وما دار حوله من أحداث.
ن القصص في أنها أ ّدتْ المُتّحد والمتفق عليه في كل الكتب السابقة ،وجاء على لسان
أو :أنها أحس ُ
ض الموضوع بأسلوب جذّاب مُسْتمِيل
محمد المي ،الذي ل خبرة له بتلك الكتب؛ لكن جاء عَ ْر ُ
ُمقْنع ُممْتع.
أو :أنها أحسن القصص؛ لن سورة يوسف هي السورة التي شملت لقطاتٍ متعددةٍ تساير :العمر
الزمني؛ والعمر العقلي؛ والعمر العاطفي للنسان في كل أطواره؛ ضعيفا؛ مغلوبا على أمره؛
وقويا مسيطرا ،مُمكّنا من كل شيء.
بينما نجد أنباء الرسل السابقين جاءت كلقطات مُوزّعة كآيات ضمن سُور أخرى؛ وكل آية جاءت
في موقعها المناسب لها.
إذن :فالحُسْن البالغ قد جاء من أسلوب القرآن المعجز الذي ل يستطيع واحد من البشر أن يأتي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بمثله.
ن وَإِن كُنتَ
صصِ ِبمَآ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ هَـاذَا ا ْلقُرْآ َ
يقول الحق سبحانه } :نَحْنُ َنقُصّ عَلَ ْيكَ َأحْسَنَ ا ْل َق َ
مِن قَبْلِهِ َلمِنَ ا ْلغَافِلِينَ { [يوسف.]3 :
والمقصود بالغفلة هنا أنه صلى ال عليه وسلم كان ُأمّيا ،ولم يعرف عنه أح ٌد قبل نزول القرآن أنه
خطيب أو شاعر ،وكل ما عُرِف عنه فقط هو الصفات الخُلقية العالية من صدق وأمانة؛ وهي
صفات مطلوبة في المُبلّغ عن ال؛ فما دام لم يكذب من قبل على بشر فكيف يكذب وهو يُبلّغ عن
السماء رسالتها لهل الرض؟
إن الكذب أمر مُسْتبعد تماما في رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل البعثة وبعدها.
والمثال على تصديق الغير لرسول ال هو تصديق أبي بكر رضي ال عنه له حين أبلغه رسول
ال صلى ال عليه وسلم أن الوحي قد نزل عليه ،لم َيقُلْ له أكثر من أنه رسول من عند ال ،فقال
أبو بكر ـ رضي ال عنه ـ :صد ْقتَ.
وحين حدثتْ رحلة السراء؛ وكذّبها البعض متسائلين :كيف نضرب إليها أكباد البل شهرا ويقول
محمد إنه قطعها في ليلة؟ فسألهم أبو بكر :أقال ذلك؟ قالوا :نعم .فقال أبو بكر :ما دام قد قال فقد
صدق.
وهكذا نجد أن حيثية الصّدْق قبل الرسالة هي التي دَّلتْ على صدقه حين أبلغ بما نزل عليه من
وحي.
مثال ذلك :تصديق خديجة رضي ال عنها وأرضاها له؛ حين أبلغها بنزول الوحي ،فقالت له" :
صلُ الرّحِم ،وتحمل ال َكلّ ،وتُكسِب ال َمعْدُوم ،و َتقْري الضّيف ،وتعين
وال ل يخزيك ال أبدا ،إنك ل َت ِ
على نوائب الحق ".
وكان في صدق بصيرتها ،وعميق حساسية فطرتها أسبابٌ تؤيد تصديقها له صلى ال عليه وسلم
في نبوته.
وحين وقعت بعض المور التي ل تتفق مع منطق المقدمات والنتائج ،والسباب والمسببات؛ كانت
بعض العقول المعاصرة لرسول ال تقف متسائلة :كيف؟ فيوضح لهم أبو بكر " :انتبهوا إنه رسول
ال ".
مثال هذا :ما حدث في صلح الحديبية ،حين يقول عمر بن الخطاب ـ رضي ال عنه ـ متسائلً
ـ ويكاد أن يكون رافضا لشروط هذا الصلح ـ :ألسْنا على الحق؟ عَلم نعطي الدّنية في ديننا؟
ويرد عليه أبو بكر ـ رضي ال عنه ـ :استمسك ِبغَرْزِه يا عمر ،إنه رسول ال.
أي :انتبه واعلم أنك تتكلم مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وليس في ذلك انصياعٌ أعمى؛ بل
هي طاعة عن بصيرة مؤمنة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه يقول هنا:
} وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ َلمِنَ ا ْلغَافِلِينَ { [يوسف.]3 :
والغافل :هو الذي ل يعلم ـ ل عن جهل ،أو قصور عقل ـ ولكن لن ما غفل عنه هو أمر ل
يشغل باله.
أو :أن يكون المقصود بقوله:
} َلمِنَ ا ْلغَافِلِينَ { [يوسف.]3 :
أي :أنك يا محمد لم تكن ممّنْ يعرفون قصة يوسف؛ لنك لم تتعلم القراءة فتقرأها من كتاب ،ولم
تجلس إلى مُعلّم يروي لك تلك القصة ،ولم تجمع بعضا من أطراف القصة من هنا أو هناك.
بل أنت لم تَتَلقّ الوحي بها إل بعد أن قال بعض من أهل الكتاب لبعض من أهل مكة :اسألوه عن
أبناء يعقوب وأخوة يوسف؛ لماذا خرجوا من الشام وذهبوا إلى مصر؟
وكان ضَرْبا من العجاز أن ينزل إليك يا رسول ال هذا البيان العالي بكل تفاصيل القصة ،كدليل
عمليّ على أن مُعلّم محمدٍ صلى ال عليه وسلم هو ال ،وأنه سبحانه هو مَنْ أَوحى بها إليه.
والوَحْي ـ كما نعلم ـ هو العلم بخفاء ،وسبحانه يوحي للملئكة فيقول {:إِذْ يُوحِي رَ ّبكَ إِلَى
ا ْلمَل ِئكَةِ أَنّي َم َعكُمْ فَثَبّتُواْ الّذِينَ آمَنُواْ[} ...النفال.]12 :
وسبحانه يوحي إلى مَنْ يصطفي من البشر إلى صفوتهم؛ مصداقا لقوله سبحانه {:وَإِذْ َأوْحَ ْيتُ إِلَى
ش َهدْ بِأَنّنَا مُسِْلمُونَ }[المائدة.]111 :
حوَارِيّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُواْ آمَنّا وَا ْ
الْ َ
ويقذف الحق سبحانه باللهام وحيا ل يستطيع النسان َدفْعا له ،مثل الوحي لم موسى بأن تلقي
طفلها الرضيع موسى في اليَمّ {:إِذْ َأوْحَيْنَآ إِلَىا ُأ ّمكَ مَا يُوحَىا * أَنِ ا ْق ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَا ْق ِذفِيهِ فِي
حلِ يَ ْأخُ ْذهُ عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّهُ وَأَلْقَ ْيتُ عَلَ ْيكَ مَحَبّةً مّنّي وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }
الْيَمّ فَلُْي ْلقِهِ الْيَمّ بِالسّا ِ
[طه.]39-38 :
ويوحي سبحانه إلى الرض وهي الجماد ،مثل قوله الحق {:بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة.]5 :
خذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتا َومِنَ
حلِ أَنِ اتّ ِ
وأوحى سبحانه إلى النحل ،فقال الحق {:وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ
الشّجَ ِر َو ِممّا َيعْ ِرشُونَ * ثُمّ كُلِي مِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ فَاسُْلكِي سُ ُبلَ رَ ّبكِ ذُلُلً }[النحل.]69-68 :
والحق سبحانه يوحي لمن شاء بما شاء ،فالكل؛ جماد ونبات وحيوان وإنسان؛ من خَلْقه ،وهو
سبحانه يخاطبهم ِبسِرّ خلقه لهم ،واختلف وسائل استيعابهم لذلك.
سفُ لَبِيهِ.{ ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :إِذْ قَالَ يُو ُ
()1586 /
جدِينَ ()4
س وَا ْلقَمَرَ رَأَيْ ُتهُمْ لِي سَا ِ
شمْ َ
عشَرَ َك ْوكَبًا وَال ّ
سفُ لِأَبِيهِ يَا أَ َبتِ إِنّي رَأَ ْيتُ َأحَدَ َ
إِذْ قَالَ يُو ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا تبدأ قصة يوسف ،حين يقول لبيه يعقوب عليهما السلم " يا أبت " ،وأصل الكلمة " يا أبي
" ،ونجد في اللغة العربية كلمات " أبي " و " أبتِ " و " أبتَاهُ " و " أَبَة " وكلها تؤدي معنى البوة،
وإن كان لكل منها مَلْحظ لغوي.
ويستمر يوسف في قوله:
س وَا ْل َقمَرَ رَأَيْ ُتهُمْ لِي سَاجِدِينَ } [يوسف.]4 :
شمْ َ
{ ياأَبتِ إِنّي رَأَ ْيتُ َأحَدَ عَشَرَ َكوْكَبا وَال ّ
وكلنا رأينا الشمس والقمر؛ ُكلّ في وقت ظهوره؛ لكن حلُم يوسف يُبيّن أنه رآهما معا ،وكلنا رأينا
حصْرَ لها ،فكيف يرى يوسف أحد عشر كوكبا فقط؟
الكواكب متناثرة في السماء آلفا ل َ
ل ُبدّ أنهم اتصفوا بصفات خاصة ميّزتهم عن غيرهم من الكواكب الخرى؛ وأنه قام بعدّهِم.
ورؤيا يوسف عليه السلم تبيّن أنه رآهم شمسا وقمرا وأحد عشر كوكبا؛ ثم رآهم بعد ذلك
ساجدين.
وهذا يعني أنه رآهم أولً بصفاتهم التي نرى بها الشمس والقمر والنجوم بدون سجود؛ ثم رآهم
وهم ساجدون له؛ بملمح الخضوع لمر من ال ،ولذلك تكررت كلمة " رأيت " وهو ليس تكرارا،
بل ليضاح المر.
جمْع المذكر السالم إل
جدِينَ } [يوسف ]4 :وهي جمع مذكر سالم؛ ول يُجمع َ
ونجد أن كلمة { :سَا ِ
إذا كان المفرد عاقلً ،والعقل يتميز بقدرة الختيار بين البدائل؛ والعاقل المؤمن هو مَنْ يجعل
سمَى ما في الخضوع للدين هو السجود ل.
اختياراته في الدنيا في إطار منهج الدين ،وأ ْ
ومَنْ سجدوا ليوسف إنما سجدوا بأمر من الَ ،فهُم إذن يعقلون أمر الحق سبحانه وتعالى.
حقّتْ }
ش ّقتْ * وََأذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ
سمَآءُ ان َ
مثلهم في ذلك مَ َثلْ ما جاء في قول الحق سبحانه {:إِذَا ال ّ
[النشقاق ]2-1 :هذه السماء تعقل أمر ربها الذي بناها.
سمَآءِ َف ْو َقهُمْ كَ ْيفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيّنّاهَا َومَا َلهَا مِن
وقال عنها أنها بل فُرُوجٍَ {:أفََلمْ يَنظُرُواْ إِلَى ال ّ
حقّتْ }
فُرُوجٍ }[ق ]6 :وهي أيضا تسمع أمر ربها ،مصداقا لقوله سبحانه {:وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ
[النشقاق.]2 :
أي :أنها امتلكت حاسة السمع؛ لن " أذنت " من الذن؛ وكأنها بمجرد سماعها لمر ال؛ تنفعل
وتنشق.
وهكذا نجد أن كل عَالَم من عوالم الكون ُأمَم مثل أمة البشر ،ويتفاهم النسان مع غيره من البشر
ممّن يشتركون معه في اللغة ،وقد يتفاهم مع البشر أمثاله ممن ل يعرف لغتهم بالشارة ،أو من
خلل مُترجم ،أو من خلل تعلّم اللغة نفسها.
ولكن النسان ل يفهم لغة الجماد ،أو لغة النبات ،أو لغة الحيوان؛ إل إذا أنعم ال على عبد بأن
يفهم عن الجماد ،أو أن يفهم الجماد عنه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمثل :هو تسبيح الجبال مع داود ،ويُشكّل تسبيحه مع تسبيحها " جُوقة " من النسجام ُم َكوّن من
إنسان مُسبّح؛ هو أعلى الكائنات ،والمُردّد للتسبيح هي الجبال ،وهي من الجماد أدنى الكائنات.
ونحن نعلم أن كل الكائنات تُسبّح ،لكننا ل نفقه تسبيحها ،ولكن الحق سبحانه يختار من عباده مَنْ
يُعلّمه مَنْطِق الكائنات الخرى ،مثلما قال سبحانه عن سليمانَ {:ووَرِثَ سُلَ ْيمَانُ دَاوُو َد َوقَالَ ياأَ ّيهَا
النّاسُ عُّلمْنَا مَنطِقَ الطّيْرِ[} ..النمل ]16 :وهكذا عَِلمْنا أن للطير منطقا .وعلّم الحقّ سبحانه
علَىا وَادِ ال ّن ْملِ قَاَلتْ َنمْلَةٌ ياأَ ّيهَا ال ّن ْملُ
سليمان لغة النمل؛ لننا نقرأ قول الحق {:حَتّىا ِإذَآ أَ َتوْا َ
شعُرُونَ * فَتَ َبسّ َم ضَاحِكا مّن َقوِْلهَا َوقَالَ َربّ
سلَ ْيمَانُ وَجُنُو ُد ُه وَهُ ْم لَ يَ ْ
طمَ ّنكُمْ ُ
حِا ْدخُلُواْ مَسَاكِ َنكُ ْم لَ يَ ْ
ع َملَ صَالِحا تَ ْرضَا ُه وَأَ ْدخِلْنِي
ي وَأَنْ أَ ْ
ي وَعَلَىا وَالِ َد ّ
شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َعمْتَ عََل ّ
َأوْزِعْنِي أَنْ أَ ْ
حمَ ِتكَ فِي عِبَا ِدكَ الصّاِلحِينَ }[النمل.]19-18 :
بِرَ ْ
إذن :فل ُكلّ ُأمّة من الكائنات لغة ،وهي تفهم عن خالقها ،أو مَنْ أراد له ال سبحانه وتعالى أن يفهم
عنها ،وبهذا نعلم أن الشمس والقمر والنجوم حين سجدتْ بأمر ربها ليوسف في رؤياه؛ إنما فهمتْ
عن أمر ربها.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :قَالَ يابُ َنيّ.{ ...
()1587 /
وحين يُورِد القرآن خطاب أب لبن ل نجد قوله { يابُ َنيّ } وهو خطابُ تحنينٍ ،ويدل على القرب
من القلب ،و " بُني " تصغير " ابن ".
أما حين يأتي القرآن بحديث أب عن ابنه فهو يقول " ابني " مثل قول الحق سبحانه عن نوح
يتحدث عن ابنه الذي اختار الكفر على اليمان {:إِنّ ابْنِي مِنْ أَ ْهلِي[} ...هود.]45 :
وكلمة " يا بني " بما فيها من حنان وعطف؛ ستفيدنا كثيرا فيما سوف يأتي من مواقف يوسف؛
ومواقف أبيه منه.
وقول يعقوب ليوسف " يا بني " ُيفْهم منه أن يوسف عليه السلم ما زال صغيرا ،فيعقوب هو
الصل ،ويوسف هو الفرع ،والصل دائما يمتلئ بالحنان على الفرع ،وفي نفس الوقت نجد أيّ
أب يقول :مَنْ يأكل لقمتي عليه أن يسمع كلمتي.
وقول الب :يا بني ،يفهم منه أن البن ما زال صغيرا ،ليست له ذاتية منفصلة عن الب ليقرر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بها ما هو المناسب ،وما هو غير المناسب.
وحين يفزع يوسف مما يُزعِجه أو يُسيء إليه؛ أو أي أمر ُم ْعضَل؛ فهو يلجأ إلى مَنْ يحبه؛ وهو
الب؛ لن الب هو ـ القدر في نظر البن -على مواجهة المور الصعبة.
وحين روى يوسف عليه السلم الرؤيا لبيه؛ قال يعقوب عليه السلم:
خوَ ِتكَ } [يوسف.]5 :
صصْ ُرؤْيَاكَ عَلَىا إِ ْ
ي لَ َتقْ ُ
{ قَالَ يابُ َن ّ
ونفهم من كلمة " رؤيا " أنها رؤيا منامية؛ لن الشمس والقمر والنجوم ل يسجدون لحد ،وهذا ما
يوضح لنا دقة اللغة العربية ،فكلمة واحدة هي " رأى " قد يختلف المعنى لها باختلف ما رُؤيَ؛
فرؤيتك وأنت يقظانُ يُقال عنها " رؤية "؛ ورؤيتك وأنت نائم يُقال عنها " رؤيا ".
والرؤية مصدر مُتفق عليه من الجميع :فأنت ترى ما يراه غيرك؛ وأما " الرؤيا " فهي تأتي للنائم.
وهكذا نجد اللتقاء في " رأى " والختلف في الحالة؛ هل هي حالة النوم أو حالة اليقظة .وفي
العراب كلهما مؤنث؛ لن علمة التأنيث إما " :تاء " ،أو " ألف ممدودة " ،أو " ألف مقصورة
".
وأخذت الرؤية الحقيقية التي تحدث في اليقظة " التاء " وهي عمدة التأنيث؛ أما الرؤيا المنامية فقد
أخذت ألف التأنيث.
ول يقدح في كلمة " رؤيا " أنها منامية إل آية واحدة في القرآن حيث تحدث الحق سبحانه عن
جعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ ِإلّ فِتْنَةً لّلنّاسِ }
لحظة أن عُرِجَ به صلى ال عليه وسلم؛ فقالَ {:ومَا َ
[السراء.]60 :
ولكن من يقولون " :إنها رؤيا منامية " لم يفقهوا المعنى وراء هذا القول؛ فالمعنى هو :إن ما حدث
شيء عجيب ل يحدث إل في الحلم ،ولكنه حدث في الواقع؛ بدليل أنه قال عنها :أنها " فتنة
للناس ".
فالرسول صلى ال عليه وسلم لو كان قد قال إنها رؤيا منامية لما كذّبه أحد فيما قال :لكنه أعلن
أنها رؤيا حقيقية؛ لذلك عَبّر عنها القرآن بأنها فتنة للناس.
وهنا يقول يعقوب عليه السلم:
خوَ ِتكَ[ { ..يوسف.]5 :
صصْ ُرؤْيَاكَ عَلَىا إِ ْ
ي لَ َتقْ ُ
} قَالَ يابُ َن ّ
لن يعقوب عليه السلم كأب مأمونٌ على ابنه يوسف؛ أما إخوة يوسف فهم غير مأمونين عليه،
وحين يقصّ يوسف رؤياه على أبيه ،فهو سينظر إلى الصالح ليوسف ويدلّه عليه.
أما إن قصّ الرؤيا على إخوته؛ فقد تجعلهم الغيار البشرية يحسدون أخاهم ،وقد كان.
وإن تساءل أحد :ولماذا يحسدونه على رؤيا منامية ،رأى فيها الشمس والقمر وأحدَ عش َر كوكبا
يسجدون له؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نقول :ل ُبدّ أن يعقوب عليه السلم قد عَلِم تأويل الرّؤيا :وأنها نبوءة لحداث سوف تقع؛ ول ُبدّ
أن يعقوب عليه السلم قد علم أيضا قدرة إخوة يوسف على تأويل تلك الرؤيا ،ولو قالها يوسف
لهم لَفهِموا المقصود منها ،ول بُدّ حينئذ أن يكيدوا له كيدا يُصيبه بمكروه.
فهم قد أصابهم الضيق من يوسف وهو ما زال طفلً ،فما باله بضيقهم إنْ عَلِموا مثل هذه الرؤيا
التي سيجد له فيها الب والم مع الخوة.
ول يعني ذلك أن نعتبر إخوة يوسف من الشرار؛ فهم السباط؛ وما يصيبهم من ضيق بسبب عُلُو
عاطفة الب تجاه يوسف هو من الغيار التي تصيب البشر ،فهم ليسوا أشرارا بالسّليقة؛ لن
الشرير بالسّليقة تتصاعد لديه حوادثُ السوء ،أما الخيّر فتتنزّل عنده حوادث السوء.
والمثال على ذلك :أنك قد تجد الشرير يرغب في أن يصفع إنسانا آخر صفعة على الخَدّ؛ ولكنه
بعد قليل يفكر في تصعيد العدوان على ذلك النسان ،فيفكر أن يصفعه صفعتين بدلً من صفعة
واحدة؛ ثم يرى أن الصفعتين ل تكفيان؛ فيرغب أن يُزيد العدوان بأن يصوّب عليه مسدسا؛ وهكذا
يُصعّد الشرير تفكيره الجرامي.
أما الخَيّر فهو قد يفكر في ضرب إنسان أساء إليه " علقة "؛ ولكنه يُقلّل من التفكير في َردّ
عمّنْ أساء
ل ويعفو َ
العتداء بأن يكتفي بالتفكير في ضربة صفعتين بدلً من " العلقة " ،ثم يهدأ قلي ً
إليه.
وإخوة يوسف ـ وهم السباط ـ بدءوا في التفكير بانتقام كبير من يوسف ،فقالوا لبعضهم {:اقْتُلُواْ
سفَ[} ...يوسف.]9 :
يُو ُ
ثم هبطوا عن هذه الدرجة ال ُمؤْلمة من تعبيرهم عن الغيرة من زيادةِ محبة أبيهم ليوسف ،فقالوا{:
جهُ أَبِيكُمْ }[يوسف.]9 :
خلُ َلكُ ْم وَ ْ
َأوِ اطْ َرحُوهُ أَرْضا َي ْ
جبّ لعل أن يلتقطه بعض
وحينما أرادوا أن يطرحوه أرضا ترددوا؛ واستبدلوا ذلك بإلقائه في ال ُ
جبّ يَلْ َتقِطْهُ َب ْعضُ السّيّا َرةِ} ...
السيّارة .فقالوا {:وَأَ ْلقُوهُ فِي غَيَا َبتِ الْ ُ
[يوسف.]10 :
وهذا يدل على أنهم تنزّلوا عن النتقام الشديد بسبب الغيرة؛ بل إنهم فكروا في نجاته.
وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
خوَ ِتكَ فَ َيكِيدُواْ َلكَ كَيْدا[ { ...يوسف.]5 :
صصْ ُرؤْيَاكَ عَلَىا ِإ ْ
} لَ َت ْق ُ
ن ل تقوى على مُجَابهته ،ول يكيد إل الضعيف؛ لن القوي يقدر على
والكيد :احتيال مستور لمَ ْ
المواجهة.
ولذلك ُيقَال :إن كيد النساء عظيم؛ لن ضعفهن أعظم.
ويُذيّل الحق سبحانه الية الكريمة بقوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ع ُدوّ مّبِينٌ { [يوسف.]5 :
} إِنّ الشّ ْيطَانَ لِلِنْسَانِ َ
وهذه العداوة معروفة لنا تماما؛ لنه خرج من الجنة ملعونا مطرودا؛ عكس آدم الذي قَبِل ال
توبته؛ وقد أقسم الشيطان بعزة ال لَ ُي ْغوِينّ ال ُكلّ ،واستثنى عبادَ الِ المخلصين.
ولذلك يقول صلى ال عليه وسلم " :لقد أعانني ال على شيطاني فأسلم ".
ويصف الحق سبحانه عداوة الشيطان للنسان أنها عداوةٌ مُبينة .أي :محيطة .وحين نقرأ القرآن
نجد إحاطة الشيطان للنسان فيها يقظة {:ثُ ّم لتِيَ ّنهُمْ مّن بَيْنِ أَيْدِيهِ ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِمْ وَعَنْ أَ ْيمَا ِنهِ ْم وَعَن
شمَآئِِلهِمْ[} ...العراف ]17 :ولم يأت ِذكْر للمجيء من الفوقية أو من التحتية؛ لن مَنْ يحيا في
َ
عبودية تَحتية؛ وعبادية فوقية؛ ل يأتيه الشيطان أبدا.
ونلحظ أن الحق سبحانه جاء بقول يعقوب عليه السلم مخاطبا يوسف عليه السلم في هذه الية:
} فَ َيكِيدُواْ َلكَ كَيْدا { [يوسف ،]5 :ولم يقل :فيكيدوك ،وهذا من َنضْح نبوة يعقوب عليه السلم على
لسانه؛ لن هناك فارقا بين العبارتين ،فقول " :يكيدوك " يعني أن الشرّ المستور الذي يدبرونه
ضدك سوف يصيبك بأذى .أما } فَ َيكِيدُواْ َلكَ[ { ...يوسف ]5 :فتعني أن كيدهم الذي أرادوا به
إلحاق الشر بك سيكون لحسابك ،ويأتي بالخير لك.
سفَ[} ...يوسف ]76 :أي:
ولذلك نجد قوله الحق في موقع آخر بنفس السورة {:كَذاِلكَ كِدْنَا لِيُو ُ
كدنا لصالحه.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :وكَذاِلكَ يَجْتَبِيكَ رَ ّبكَ.{ ...
()1588 /
أي :كما آنسَك ال بهذه الرؤيا ال ُمفْرحة المُنْبِئة بأنه سيكون لك شأن كبير بالنسبة لخوتك وبالنسبة
لبيك ،فلسوف يجتبيك ربك؛ ل بأن يحفظك فقط؛ ولكن بأن يجعل كيدهم سببا لصالحك ،ويُعلّمك
من تأويل الحاديث ما يجعل أصحابَ الجاهِ والنفوذ يلتفتون إليك.
ومعنى تأويل الشيء أي معرفة ما يؤول إليه الشيء ،ونعلم أن الرّؤى تأتي كطلسم ،ولها شَفرة
رمزية ل يقوم بِحلّها إل مَنْ وهبه ال قدرة على ذلك؛ فهي ليست عِلْما له قواعد وأصول؛ لنها
إلهامات من ال سبحانه وتعالى.
ج ْدبُ ،ويعُمّ المنطقة كلها ،وتصبح
وبعد ذلك تصير يا يوسف على خزائن الرض؛ حين يُوجد ال َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عزيز مصر.
ويتابع الحق سبحانه:
{ وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكَ[ } ...يوسف.]6 :
فكل ما َتمَتّع به يوسف هو من نعم الدنيا ،وتاج نعمة الدنيا أن ال اجتباه رسولً.
أو أن { :وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكَ[ } ...يوسف.]6 :
بمعنى إل تسلب منك النعمة أبدا؛ ففي حياة يوسف منصبٌ مهم ،هو منصب عزيز مصر،
والمناصب من الغيار التي يمكن أن تنزع.
أو أن { :وَيُتِمّ ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْيكَ[ } ...يوسف.]6 :
بأن يصل نعيم دنياك بنعيم أُخْراك.
ويتابع الحق سبحانه:
حكِيمٌ } [يوسف:
{ وَعَلَىا آلِ َي ْعقُوبَ َكمَآ أَ َت ّمهَآ عَلَىا أَ َبوَ ْيكَ مِن قَ ْبلُ إِبْرَاهِي َم وَِإسْحَاقَ إِنّ رَ ّبكَ عَلِيمٌ َ
.]6
يُذكّر الحق سبحانه يوسف عليه السلم بأن كيد إخوته له ل يجب أن يُحوّله إلى عداوة؛ لن النّعم
حفَدة يعقوب ،وسينالهم بعضٌ من عِزّ يوسف
ل يعقوب؛ هم وأبناؤهم َ
ستتم أيضا على هؤلء فهم آ ُ
وجاهه وماله ،كما أتمّها من قبل على إبراهيم الجد الول ليوسف باتخاذه خليل ل ،وأتمّ سبحانه
نعمته على إسحق بالنبوة.
وهو سبحانه أعلمُ بمَنْ يستحق حمْل الرسالة ،وهو الحكيم الذي ل يترك شيئا للعبث؛ فهو المُقدّر
لكل أمر بحيث يكون مُوافِقا للصواب.
سفَ.} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكّ { :لقَدْ كَانَ فِي يُو ُ
()1589 /
أي :أن يوسف صار ظَرْفا للحداث ،لن " في " تدل على الظرفية ،ومعنى الظرفية أن هناك شيئا
يُظْرف فيه شيء آخر ،فكأن يوسف صار ظَرْفا ستدور حوله الحداث بالشخاص المشاركين
فيها.
و " يوسف " اسم أعجمي؛ لذلك فهو " ممنوع من الصرف " أي :ممنوع من التنوين فل نقول :في
يوسفٍ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خوَتِهِ آيَاتٌ لّلسّائِلِينَ } [يوسف]7 :
ف وَإِ ْ
س َ
و { يُو ُ
جبّ وأُنقِذ ليتربى في أرقى
وهذا يعني أن ما حدث إنما يُلفِت لقدرة ال سبحانه؛ فقد أُل ِقيَ في ال ُ
بيوت مصر.
ونعلم أن كلمة آية تطلق على المر العجيب الملفت للنظر ،وهي تَرِد بالقرآن بثلثة معانٍ:
آية كونية :مثل الشمس والقمر والليل والنهار ،تلك اليات الكونية رصيد للنظر في اليمان
بواجب الوجود وهو ال سبحانه؛ فساعة ترى الكون منتظما بتلك الدقة المتناهية؛ ل بُدًّ أن تفكر
في ضرورة وجود خالق لهذا الكون.
واليات العجيبة الثانية هي المعجزات الخارقة للنواميس التي يأتي بها الرسل؛ لتدل على صدق
بلغهم عن ال ،مثل النار التي صارت بَرْدا وسلما على إبراهيم ،ومثل الماء الذي انفلق وصار
كالطور العظيم أمام عصا موسى.
وهناك المعنى الثالث لكلمة آية ،والمقصود بها آيات القرآن الكريم.
وفي قول الحق سبحانه:
خوَتِهِ آيَاتٌ لّلسّائِلِينَ } [يوسف.]7 :
ف وَإِ ْ
س َ
{ ّلقَدْ كَانَ فِي يُو ُ
نستشف العبرة من كل ما حدث ليوسف الذي كَادَ له إخوته ليتخلصوا منه؛ لكن كَيْدهم انقلب
لصالح يوسف.
وفي كل ذلك سَلْوى لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لتثبيت فؤاده؛ فل ُيعِير بالً لضطهاد قومه
له ،وتآمرهم عليه ،ورغبتهم في َنفْيه إلى الشام ،ومحاولتهم قَتْله ،ومحاولتهم مُقاطعته ،وقد صاروا
من بعد ذلك يعيشون في ظلل كَنفِه.
ن معك،
إذن :فل تيأس يا محمد؛ لن ال ناصرك بإذنه وقدرته ،ول تستبطئ نصر ال ،أنت ومَ ْ
كما جاء في القرآن {.أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَن َتدْخُلُواْ ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُم مّ َثلُ الّذِينَ خََلوْاْ مِن قَبِْلكُم مّسّ ْتهُمُ
الْبَأْسَآ ُء وَالضّرّآ ُء وَزُلْزِلُواْ حَتّىا َيقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ مَتَىا َنصْرُ اللّهِ أَل إِنّ َنصْرَ اللّهِ
قَرِيبٌ }[البقرة.]214 :
ويبين لنا الحق سبحانه ما حدث ليوسف بعد القهر الذي أصابه من إخوته ،ويمر الوقت إلى أن
تتحقق رؤيا الخير التي رآها يوسف عليه السلم.
ويُقال :إن رؤيا يوسف تحققت في فترة زمنية تتراوح بين أربعين سنة وثمانين عاما.
ولذلك نجد ُرؤْيَا الخير يطول َأمَدُ تصديقها؛ و ُرؤْيَا الشر تكون سريعة؛ لن من رحمة ال أن
يجعل رؤيا الشر يقع واقعا وينتهي ،لنها لو ظّلتْ دون وقوع لمد طويل؛ لوقع النسان فريسةَ
تخيّل الشر ب ُكلّ صوره.
والشر ل يأتي إل على صورة واحدة ،ولكن الخير له صور متعددة؛ فيجعلك ال مُتخيلً لما سوف
يأتيك من الخير بألوان وتآويل شتى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِمْ
والمثل لدعوة الشر هو دعوة موسى على آل فرعون؛ حين قال {:رَبّنَا ا ْ
ب الَلِيمَ }[يونس.]88 :
وَاشْ ُددْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ
ويقول الحق سبحانه:
خوَتِهِ آيَاتٌ لّلسّائِلِينَ { [يوسف ]7 :فكل يوم من أيام تلك القصة هناك آية
ف وَإِ ْ
س َ
} ّلقَدْ كَانَ فِي يُو ُ
وتُجمع آيات.
وهناك قراءة أخرى " :لقد كان في يوسف وإخوته آية للسائلين " أي :أن كل القصة بكل تفاصيلها
وأحداثها آية عجيبة.
جعَلْنَا
جمْع الكثر من آية في آية واحدة ،مثلما قال {:وَ َ
والحق سبحانه أعطانا في القرآن مثلً على َ
ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَةً }[المؤمنون ]50 :مع أن كلً منهما آية منفردة.
ولك أن تنظر إلى قصة يوسف كلها على أنها آية عجيبة تشمل كل اللقطات ،أو تنظر إلى كل
لقطة على أنها آية بمفردها.
ويقول الحق سبحانه في آخر هذه الية أن القصة } :آيَاتٌ لّلسّائِلِينَ { [يوسف.]7 :
والسائلون هنا إما من المشركين الذين حرّضهم اليهود على أنْ يسألوا رسول ال صلى ال عليه
حيُ
وسلم عن مسألة يوسف ،وإما من المسلمين الذين يطلبون العِبَر من المم السابقة ،وجاء الوَ ْ
لينزل على الرسول الميّ بتلك السورة بالداء الرفيع ال ُمعْجِز الذي ل َي ْقوَى عليه بشر.
وأنت حين تقرأ السورة؛ قد تأخذ من الوقت عشرين دقيقة ،هاتْ أنت أيّ إنسان ليتكلم ثُلث ساعة،
ويظل حافظا لما قاله؛ لن تجد أحدا يفعل ذلك؛ لكن الحق سبحانه قال لرسوله صلى ال عليه
وسلم {:سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى.]6 :
ولذلك نجد الرسول صلى ال عليه وسلم يحفظ ما أُنزل إليه من ربه ،ويُمليه على صحابته ويصلي
بهم؛ ويقرأ في الصلة ما أُنزِل عليه ،ورغم أن في القرآن آياتٍ متشابهات؛ إل أنه صلى ال عليه
وسلم لم يخطئ مرة أثناء قراءته للقرآن.
لمُورِ }[لقمان.]17 :
والمثلة كثيرة منها قوله الحق {:وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَ ْز ِم ا ُ
لمُورِ }[الشورى ]43 :وكذلك قول الحق سبحانه {:إِنّ
ومرة أخرى يقول {:إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْمِ ا ُ
ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ }[الحجر.]45 :
وفي موقع آخر يقول الحق {:إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ َنعِيمٍ }[الطور.]17 :
فكيف يتأتّى لبشر أمي أن يتذكر كل ذلك ،لول أن الذي أنزل عليه الوحي قد شاء له ذلك.
سفُ.{ ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :إِذْ قَالُواْ لَيُو ُ
()1590 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عصْبَةٌ إِنّ أَبَانَا َلفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ()8
حبّ إِلَى أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ ُ
ف وَأَخُوهُ َأ َ
س ُ
إِذْ قَالُوا لَيُو ُ
ول ُبدّ لنا هنا أن ننظر إلى الخوة بنوعياتها؛ فقد تكون الخوة من ناحية البوين معا؛ وقد تكون
من ناحية الب دون الم ،أو من ناحية الم دون الب ،وكان عدد أبناء يعقوب عليه السلم اثنا
عشر :سبعة من واحدة؛ وأربعة من اثنتين :زلفى وبلهه؛ واثنين من راحيل هما :يوسف ،وأخوه
بنيامين.
وتبدأ الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
حبّ إِلَىا أَبِينَا مِنّا[ } ..يوسف.]8 :
سفُ وَأَخُوهُ أَ َ
{ ذْ قَالُواْ لَيُو ُ
وحرف اللم الذي سبق اسم يوسف جاء للتوكيد ،وكأنهم قالوا :وال إن أبانا يحب يوسف وأخاه
أكثر من حُبّه لنا .والتوكيد ل يأتي إل بصدد إنكار.
وهذا يدل على أنهم مختلفون في أمر يوسف عليه السلم؛ فأحدهم يريد أن ينتقم من يوسف ،وآخر
يقترح تخفيف المسألة بإلقائه في الجب؛ ثم انتهوا إلى أن يوسف أحبّ إلى أبيهم منهم.
وفي قولهم َلمْحة من إنصاف؛ فقد أثبتوا حب أبيهم لهم؛ ولكن قولهم به بعضٌ من غفلة البشر؛
حبّ أبيهم ليوسف وأخيه.
لنهم كان يجب أن يلتمسوا سبب زيادة ُ
س بضرورة أن يَجتمع
صغَارا وماتت أمهما؛ ولم َي ُعدْ لهم إل الب الذي أح ّ
فيوسف وأخوه كانوا ِ
ن الم؛ ولنهما صغارٌ نجد الب يحنُو عليهما بما أودعه ال في قلبه
فيه تجاههما حنانُ الب وحنا ُ
من قدرة على الرعاية.
وهذا أمر ل دَخْل ليعقوب فيه؛ بل هي مسألة إلهية أودعها ال في القلوب بدون اختيار؛ ويُودعها
سبحانه حتى في قلوب الحيوانات.
وقد شاء سبحانه أن يجعل الحنان على قدر الحاجة؛ فالقطة ـ على سبيل المثال ـ إن اقتربَ أحد
من صغارها المولودين حديثا؛ تهجم على هذا الذي اقترب من صغارها.
ولذلك نجد العربي القديم قد أجاب على مَنْ سأله " أي أبنائك أحب إليك؟ " فقال " :الصغير حتى
يكبر؛ والغائب حتى يعود ،والمريض حتى يشفى ".
وهذه مسألة نراها في حياتنا اليومية ،فنجد امرأة لها ولدان ،واحد أكرمه ال بسعة الرزق ويقوم
بكل أمورها واحتياجاتها؛ والخر يعيش على الكفاف أو على مساعدة أخيه له؛ ونجد قلبها دائما
مع الضعيف.
ولذلك نقول :إن الحب مسألة عاطفية ل تخضع إلى التقنين؛ ول تكليف بها؛ وحينما يتعرض
القرآن لها فالحق سبحانه يوضح :أن الحب والبغض انفعالت طبيعية؛ فأح ِببْ مَنْ شئتَ وأب ِغضْ
ن أبغضت.
مَنْ شئتَ؛ ولكن إياك أن تظلم الناس لمن أحببت؛ أو تظلم مَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدِلُواْ ُهوَ َأقْ َربُ لِل ّتقْوَىا }
اقرأ قول الحق سبحانهَ {:ولَ يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ عَلَى َألّ َتعْدِلُواْ ا ْ
[المائدة.]8 :
فأحبب مَنْ شئتَ ،وأبغض مَنْ شئتَ ،ولكن ل تظلم بسبب الحب أو البغض.
وقد يقول قائل :ولكن الرسول صلى ال عليه وسلم قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تسرب إليهم.
عصْبَةٌ { [يوسف.]8 :
ومن العجيب أن يقولوا بعد ذلك } :وَنَحْنُ ُ
والعصبة من عدد عشرة فما فوق؛ والعصبة أيضا هم المُتكاتفون المُتعصّبون لبعضهم البعض؛
وهم الذين يقومون بالمصالح ويقضون الحاجات؛ وقد تقاعد أبوهم؛ وترك لهم إدارة أعمال العائلة.
خصّنا أبونا بالحب " ولم يلتفتوا إلى
وقالوا " :ما ُدمْنَا نقوم بمصالح العائلة ،فكان من الواجب أن َي ُ
عصْبة ،وهذا ما جعل الب يحبهم ،لكنه أعطى مَنْ ليسوا عصبة مزيدا من الرعاية ،ولكنهم
أنهم ُ
سدروا في غَيّهم ،ووصلوا إلى نتيجة غير منطقية وهي قولهم:
للٍ مّبِينٍ { [يوسف.]8 :
} إِنّ أَبَانَا َلفِي ضَ َ
وهذا القول هو نتيجة ل تنسجم مع المقدمات ،فيوسف وأخوه طفلن ماتت أمهما ،ول بُدّ أن
يعطف عليهم الب؛ وحبّه لهما لم يمنع حبه للبناء الكبار القادرين على العتماد على أنفسهم.
وحين يقولون:
للٍ مّبِينٍ { [يوسف]8 :
} إِنّ أَبَانَا َلفِي ضَ َ
قد يفهم بعض الناس كلمة " ضلل " هنا بالمعنى الواسع لها.
نقول :ل؛ لن هناك ضللً مقصودا ،وهو أن يعرف طريق الحق ويذهب إلى الباطل ،وهذا
ضلل مذموم.
وهناك ضلل غير مقصود ،مثل :ضلل رجل يمشي فيسلك طرقا ل يعرفها فيضل عن مقصده؛
حدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الُخْرَىا} ...
ضلّ إِ ْ
ومثل مَنْ ينسى شيئا من الحق .وسبحانه القائل {:أَن َت ِ
[البقرة.]282 :
ك ضَآلّ َفهَدَىا }[الضحى.]7 :
ج َد َ
وسبحانه القائل أيضا {:وَوَ َ
إذن :فالضلل المذموم هو أن تعرف طريق الحق ،وتذهب إلى الضلل.
حبّ أبيهم ليوسف وأخيه؛ ووصلوا إلى نتيجة ضارّة؛ لن
وهكذا أخطأ إخوة يوسف في تقدير أمر ُ
حصُوا المقدمات تمحيصا دقيقا َلمَا
المقدمات التي أقاموا عليها تلك النتيجة كانت باطلة؛ ولو أنهم مَ ّ
وصلوا إلى النتيجة الخاطئة التي قالوها:
للٍ مّبِينٍ { [يوسف.]8 :
} إِنّ أَبَانَا َلفِي ضَ َ
سفَ.{ ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما جاء على ألسنة إخوة يوسف } :اقْتُلُواْ يُو ُ
()1591 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والقتل هو قمة ما فكّروا فيه من شرّ؛ ولنهم من السباط هبط الشر إلى مرتبة أقل؛ فقالواَ { :أوِ
اطْ َرحُوهُ أَرْضا } [يوسف.]9 :
خلُ َلكُ ْم َوجْهُ
فكأنهم خافوا من إثم القتل؛ وظنوا بذلك أنهم سينفردون بحبّ أبيهم؛ لنهم قالوا { :يَ ْ
أَبِيكُمْ } [يوسف.]9 :
والوجه هو الذي تتم به المواجهة والبتسام والحنان ،وهو ما تظهر عليه النفعالت.
جهُ أَبِيكُمْ } [يوسف ،]9 :هو أل يوجد عائق بينكم وبين أبيهم.
خلُ َلكُ ْم وَ ْ
والمقصود بـَ { :ي ْ
وقولهم { :وَ َتكُونُواْ مِن َبعْ ِدهِ َقوْما صَالِحِينَ } [يوسف ،]9 :أي :أنهم يُقدّرون الصلح؛ ويعرفون أن
الذي فكّروا فيه غيرُ مقبول بموازين الصلح؛ ولذلك قالوا :إنهم سيتوبون من بعد ذلك.
ولكن :ما الذي أدراهم أنهم سوف يعيشون إلى أن يتوبوا؟ وهم بقولهم هذا َنسُوا أن أمر ال َموْت قد
أبهم حتى ل يرتكب أح ٌد المعاصيَ والكبائرَ.
أو :أن يكون المقصود بـَ { :قوْما صَالِحِينَ } [يوسف ،]9 :هو أن يكونوا صالحين لحركة الحياة،
ولعدم تنغيص علقتهم بأبيهم؛ فحين يخلُو لهم وجهه؛ سيرتاحون إلى أن أباهم سيعدل بينهم،
ويهبُهم كل حبه فيرتاحون.
أو أن يكون المقصود بـَ { :قوْما صَالِحِينَ } [يوسف ،]9 :أن تلك المسألة التي تشغل بالهم وتأخذ
جزءا من تفكيرهم إذا ما وجدوا لها حلً؛ فسيرتاح بالهم فينصلح حالهم لدارة شئون دنياهم.
وهكذا نفهم أن سعيهم إلى الصلح :منوط بمراداتهم في الحياة ،بحسب مفهومهم للصلح والحياة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :قَالَ قَآ ِئلٌ مّ ْنهُمْ.} ...
()1592 /
جبّ يَلْ َتقِطْهُ َب ْعضُ السّيّا َرةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ()10
ف وَأَ ْلقُوهُ فِي غَيَابَةِ ا ْل ُ
س َ
قَالَ قَا ِئلٌ مِ ْنهُمْ لَا َتقْتُلُوا يُو ُ
وهكذا نرى التخفيف في الشر حين يرفض واحد منهم مبدأ القتل ،واستبدله بالخفاء بإلقائه في
جبّ.
ال ُ
ولم يحدد الحق سبحانه لنا اسم القائل حتى يعصمهم جميعا من سوء الظن بهم.
والجب هو البئر غير المطوي؛ ونحن نعلم أن الناس حين تحفر بئرا ،فمياه البئر تتدفق طوال
الوقت؛ وقد يأتي الردم فيسُدّ البئر؛ ولذلك يبنون حول ُفوّهة البئر بعضا من الطوب لحمايته من
الرّدْم؛ ويسمون مثل هذا البئر " بئر مطوي " ،وهكذا تظل المياه في البئر في حالة استطراق.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جبّ } [يوسف ،]10 :أي :المنطقة المخفية في البئر؛ وعادة ما تكون فوق
وكلمة { :غَيَا َبتِ ا ْل ُ
الماء؛ وما فيها يكون غائبا عن العيون.
ولسائل أن يقول :وكيف يتأتّى إلقاؤه في مكان مَخْفيّ مع قول أحد الخوة { :يَلْ َتقِطْهُ َب ْعضُ السّيّا َرةِ
} [يوسف.]10 :
ونقول :إن في مثل هذا القول تنزيلً لدرجة الشر التي كانت مُتوقّدة في اقتراح بعضهم بقتل
يوسف؛ وفي هذا القتراح تخفيض لمسألة القتل أو الطّرْح أرضا.
حتْ فيه عاطفة الخوة؛ وقال:
وبعد ذلك عاد القائل لحالته العادية ،وصَ َ
{ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف ،]10 :أي :أنه توقع عدم رفضهم لقتراحه.
ت تصفية هذه المسألة؛ فلم يقف صاحب هذا الرأي بالعنف
وهكذا يشرح لنا الحق سبحانه كيف ت ّم ْ
ضد اقتراح إخوته بقتل يوسف أو طَرْحه في الرض؛ بل أخذ يستدرجهم ليستلّ منهم ثورة
الغضب؛ فلم َيقُلْ لهم " ل تقتلوه " ،ولكنه قال " :ل تقتلوا يوسف ".
طقِه للسم تحنين لهم.
وفي ُن ْ
ويضيف:
طهُ َب ْعضُ السّيّا َرةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } [يوسف.]10 :
جبّ يَلْ َتقِ ْ
{ وَأَ ْلقُوهُ فِي غَيَا َبتِ ا ْل ُ
وكأنه يأمل في أن يتراجعوا عن مخططهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :قَالُواْ يَاأَبَانَا.} ...
()1593 /
وبعد أن وافقوا أخاهم الذي خفّف من مسألة القتل ،ووصل بها إلى مسألة اللقاء في الجب؛ بدأوا
ك لَ تَ ْأمَنّا
التنفيذ ،فقال واحد منهم مُوجّها الكلم لبيه ،وفي حضور الخوة { :قَالُواْ يَاأَبَانَا مَا َل َ
سفَ وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف.]11 :
عَلَىا يُو ُ
وساعة تسمع قول جماعة؛ فاعلم أن واحدا منهم هو الذي قال ،وأمّنَ الباقون على كلمه؛ إِما
سُكوتا أو بالشارة.
ولكي يتضح ذلك اقرأ قول الحق سبحانه عن دعاء موسى عليه السلم على فرعون وكان معه
هارون.
لهُ زِينَ ًة وََأ ْموَالً فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا
عوْنَ َومَ َ
قال موسى عليه السلمَ {:وقَالَ مُوسَىا رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ
رَبّنَا لِ ُيضِلّواْ عَن سَبِيِلكَ رَبّنَا ا ْ
ب الَلِيمَ }[يونس.]88:
ا ْلعَذَا َ
عوَ ُت ُكمَا[} ...يونس.]89 :
ورد الحق سبحانه على دعاء موسى {:قَالَ قَدْ أُجِي َبتْ دّ ْ
والذي دعا هو موسى ،والذين أمّنَ على الدعوة هو هارون عليه السلم.
وهكذا نفهم أن الذي قال:
ف وَإِنّا َلهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف.]11 :
س َ
{ يَاأَبَانَا مَا َلكَ لَ تَ ْأمَنّا عَلَىا يُو ُ
تلك الكلمات التي وردتْ في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،هو واحد من إخوة يوسف،
وأمّن بقية الخوة على كلمه.
سفَ وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف ،]11 :يدل أنه كانت هناك
ك لَ تَ ْأمَنّا عَلَىا يُو ُ
وقولهم { :مَا َل َ
محاولت سابقة منهم في ذلك ،ولم يوافقهم الب.
وقولهم { :وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } [يوسف.]11 :
يعني أنهم سوف ينتبهون له ،ولن يحدث له ضرر أو شرّ؛ وسيعطونه كل اهتمام فل داعي أن
يخاف عليه الب.
ويستمر عَرْض ما جاء على لسان إخوة يوسف { :أَرْسِلْهُ َمعَنَا غَدا.} ...
()1594 /
ولنهم كانوا يخرجون للرعي والعمل؛ لذلك كان يجب أن يأتوا بعِلّة ليأذن لهم أبوهم بخروج
يوسف معهم ،ويوسف في أوان الطفولة؛ واللعب بالنسبة له أمر مُحبّب ومسموح به؛ لنه ما زال
تحت سن التكليف ،واللعب هو الشغل المباح لقصد انشراح النفس.
ويُفضّل الشرع أن يكون اللعب في مجال قد يطلبه الجدّ مستقبلً؛ كأن يتعلمَ الطفلُ السباحةَ ،أو
شغُل ل يُلهِي عن
المصارعة ،أو إصابة الهدف؛ وهي الرماية وهكذا نفهم معنى اللعب :إنه ُ
واجب ،أما اللهو فهو ش ُغلُ يُلهِي عن واجب.
وهناك بعضٌ من اللعاب يمارسها الناس؛ ويجلسون معا؛ ثم يُؤذّن المؤذن؛ ويأخذهم الحديث؛ ول
يلتفون إلى إقامة الصلة في ميعادها؛ وهكذا يأخذهم اللهو عن الضرورة؛ أما لو التفتوا إلى إقامة
الصلةَ :لصَار المر مجرد تسلية ل ضرر منها.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :قَالَ إِنّي لَ َيحْزُنُنِي.} ..
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1595 /
وكلم الب هنا ل ُبدّ أن يغيظهم فهو دليل المحبة الفائقة إلى الدرجة التي يخاف فيها من فِراق
يوسف لِقلّة صبره عنه ،وشدة رعايته له؛ ثم جاء لهم بالحكاية الخرى ،وهي:
{ وََأخَافُ أَن يَ ْأكُلَهُ الذّ ْئبُ وَأَنْ ُتمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [يوسف ]13:وقال بعض الناس :لقد علّمهم يعقوب
الكذبة؛ ولول ذلك ما عرفوا أن يكذبوها.
ونلحظ أن يعقوب جعل للخوة َلحْظا؛ فلم يقل " :أخاف أن يأكله الذئب وأنتم قاعدون " بل قال:
{ وََأخَافُ أَن يَ ْأكُلَهُ الذّ ْئبُ وَأَنْ ُتمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } [يوسف.]13:
وهذا ليُربّي فيهم مواجيد الخوة التي تفترض ألّ يتصرفوا مع أخيهم بشرّ؛ ول أن يتصرف
غيرهم معه بشرّ إل إذا غفلوا عن أخيهم.
ونلحظ في ردّهم عجزَهم عن أنْ يردوا على قوله:
{ قَالَ إِنّي لَيَحْزُنُنِي أَن َتذْهَبُواْ بِهِ[ } ..يوسف.]13 :
فهذا الحب من يعقوب ليوسف هو الذي دفعهم إلى الحقد على يوسف ،ورَدّوا فقط على خوفه من
أنْ يأكله الذئب ،وجاء القرآن بما قالوه { :قَالُواْ لَئِنْ َأكَلَهُ.} ...
()1596 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا