Professional Documents
Culture Documents
وهنا يكشف لنا الحق سبحانه محاولتهم لطمأنة أبيهم؛ كي يأذن في خروج يوسف معهم؛ ولهذا
استنكروا أن يأكله الذئب وهم ُمحِيطون به ك ُعصْبة ،وأعلنوا أنه إنْ حدث ذلك فهم سيخسرون
كرامتهم أمام أنفسهم وأمام قومهم ،وهم ل يقبلون على أنفسهم هذا الهوان.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :فََلمّا ذَهَبُواْ بِهِ.} ...
()1597 /
وقوله الحق:
جبّ[ } ...يوسف ]15 :يدلنا على أن تلك المسألة أخذتْ منهم
جعَلُوهُ فِي غَيَا َبتِ ا ْل ُ
ج َمعُواْ أَن َي ْ
{ وََأ ْ
مناقشة ،فيها َأخْذٌ ورَدّ ،إلى أن استقروا عليها.
وألهم الحق سبحانه يوسف عليه السلم بما سوف يفعلونه ،والوحي كما نعلم هو إعلم بخفاء.
وسوف يأتي في القصة أن يوسف عليه السلم بعد أن تولى الوزارة في مصر ودخلوا عليه أمسك
بقدح ونقر عليه بأصابعه ،وقال لهم :اسمعوا ما يقوله القدح؛ إنه يقول :إن لكم أخا وقد فعلتم به
كذا وكذا.
وبعض المفسرين قال :إن الحق سبحانه أوحى له ،ولم يَلْحَظ إخوته هذا الوحي.
ونقول :إن الوَحْي إعلم بخفاء ،ول يمكن أن يشعر به غير المُوحَى إليه ،وعلى ذلك نرى أنهم لم
يعلموا هذا المر إل بعد أن تولى يوسف مقاليد الوزارة في مصر؛ بل إنهم لم يعرفوا أن يوسف
أخوهم؛ لنهم قالوا له لحظتها {:إِن يَسْ ِرقْ َفقَدْ سَ َرقَ أَخٌ لّهُ مِن قَ ْبلُ }[يوسف.]77 :
والمقصود بالوحي في هذه الية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ هو إيناس ال َوحْشة؛ وهو
وارد إلهي ل يرده وارد الشيطان؛ واللهام وارد بالنسبة لمَنْ هم غير أنبياء؛ مثلما أوضحنا المر
الذي حدث مع أم موسى حين أوحى لها ال أن تلقيه في اليم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س وحشته
والوارد اللهي ل يجد له معارضة في النفس البشرية ،وقد أوحى ال ليوسف ما يُؤنِ ُ
جبّ الذي ابتعد فيه عن حنان أبيه وأنسه بأخيه ،ومفارقته لبلده التي درج
حين ألقاه إخوته في ال ُ
فيها وأُنْسه بالبيئة التي اعتاد عليها.
جفْوة لك يا يوسف؛ ولكنه إعداد لك
فكان ل ُبدّ أن تعطيه السماء دليلً على أن ما حدث له ليس َ
لتقابل أمرا أهمّ من الذي كنت فيه؛ وأن غُرمَاءك ـ وهم إخوتك ـ سوف يُضطّرون لدقّ بابك
عوْنك ،ويطلبون منك أقواتهم ،وستعرفهم أنت دون أن يعرفوك.
ذات يوم يطلبون َ
جبّ الذي ألقوْه فيه ،وبقي أن تعالج القصة أمر الخوة مع الب،
هذا من جهة يوسف؛ وجهة ال ُ
فيقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وَجَآءُو أَبَا ُهمْ.} ...
()1598 /
وهنا تتجلى لنا قدرة أداء القرآن أداء دقيقا معبرا عن النفعالت التي توجد في النفس النسانية،
جبّ مع أنهم يعلمون أن أباه يحبه،
فها هم إخوة خدعوا أباهم ومكروا بأخيهم ،وأخذوه وألقوْه في ال ُ
وكان ضنينا أن يأتمنهم عليه ،فكيف يواجهون هذا الب؟
هذا هو النفعال النفسي الذي ل تستطيع فطرة أن تثبته؛ فقالوا :نؤخر اللقاء لبينا إلى العشاء:
حلّ الظلمة ،وهو ستر للنفعالت التي توجد على الوجوه من الضطراب؛ ومن
والعشاء َم َ
مناقضة كذب ألسنتهم؛ لنهم لن يخبروا الب بالواقع الذي حدث؛ بل بحديث مُخْتلق.
خفَى
وقد تخدعهم حركاتهم ،ويفضحهم تلجلجهم ،وتنكشف سيماهم الكاذبة أمام أبيهم؛ فقالوا :الليل أ ْ
للوجه من النهار ،وأستَر للفضائح؛ وحين ندخل على أبينا عِشَاءً؛ فلن تكشفنا انفعالتنا.
وبذلك اختاروا الظرف الزمني الذي يتوارون فيه من أحداثهم:
{ وَجَآءُو أَبَاهُمْ عِشَآءً يَ ْبكُونَ } [يوسف.]16 :
والبكاء انفعال طبيعي غريزي فطريّ؛ ليس للنسان فيه مجال اختيار؛ ومَنْ يريد أن يفتعله فهو
يتباكى ،بأن َيفْرُك عينيه ،أو يأتي ببعض ريقه ويُقرّبه من عينيه ،ول يستر ذلك إل أن يكون
الضوء خافتا؛ لذلك جاءوا أباهم عشاء يُمثّلون البكاء.
والحق سبحانه حينما تكلم عن الخصائص التي أعطاها لذاته ،ولم ُيعْطِها لحد من خلقه؛ أعلمنا أنه
سبحانه هو الذي يميت ويحي ،وهو الذي يُضحك ويُبْكي.
حكَ وَأَ ْبكَىا * وَأَنّهُ ُهوَ َأمَاتَ وََأحْيَا }[النجم.]44-43 :
ضَوالحق سبحانه هو القائل {:وَأَنّهُ ُهوَ َأ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ول يوجد فَرْق بين ضحك أو بكاء إنسان إنجليزي وآخر عربي؛ ول يوجد فرق بين موت أو
ميلد إنسان صيني وآخر عربي أو فرنسي؛ فهذه خصائص مشتركة بين كل البشر.
وإذا ما افتعل النسان الضحك؛ فهو يتضاحك؛ وإذا ما افتعل النسان البكاء فهو يتباكى؛ أي:
يفتعل الضحك أو البكاء .والذي يفضح كل ذلك هو النهار.
والتاريخ يحمل لنا الكثير من الحكايات عن اتخاذ الليل كستار للمواقف؛ والمثل في سيدنا الحسين
رضي ال عنه وأرضاه؛ حين جاءت موقعة كربلء ،ورأى العدو وقد أحاط به؛ ورأى الناس وقد
ع ْوهُ ليبايعوه ،ولم يَ ْبقَ معه إل قلة؛ وعَ ّزتْ عليه نفسه؛ وعَزّ عليه أن يقتل
انفضوا عنه بعد أن دَ َ
هؤلء في معركة غير متكافئة صمم هو على دخولها.
فلما أقبل الليل دعا أصحابه وقال لهم:
" إن كنتم قد استحييتم أن تفروا عني نهارا ،فالليل جاء وقد ستركم ،فمَنْ شاء فليذهب واتركوني ".
يقص الحق سبحانه ما بدر منهم َفوْرَ أنْ دخلوا على أبيهم { :قَالُواْ يَاأَبَانَآ.} ...
()1599 /
كلمةَ { :نسْتَبِقُ } [يوسف ]17 :تعبر عن بيان تفوّق ذات على ذات في حركة ما؛ لنرى من
سيسبق الخر؛ فحين يتسابق اثنان في الجري نرى مَنْ فيهما سبق الخر؛ وهذا هو الستباق.
وقد يكون الستباق في حركة بآلة؛ كان يمسك إنسان ببندقية ويُصوّبها إلى الهدف؛ ويأتي آخر
ويمسك ببندقية أخرى ويحاول أن يصيب الهدف؛ ومَنْ يسبق منهما في إصابة الهدف يكون هو
المتفوق في هذا المجال.
غصْن مَرنٍ،
وقد يكون الستباق في الرمي بالسهام؛ ونحن نعرف شكل السهم؛ فهو عبارة عن ُ
يلتوي دون أن ينكسر؛ ومُثبّت عليه وتر ،ويوضع السهم في منتصف الوتر ،ليشده الرامي فينطلق
السهم إلى الهدف.
وتُقَاسُ دقة إصابة الهدف حسب شدة السهم وقوة الرمي ،ويسمى ذلك " تحديد الهدف ".
أما إذا كان التسابق من ناحية طول المسافة التي يقطعها السهم؛ فهذا لقياس قوة الرامي.
وهكذا نجد الستباق له مجالت متعددة؛ وكل ذلك حلل؛ فهم أسباط وأولد يعقوب ،ول مانع أن
جدّ من أمور؛ فإذا التقى بعدو نفعه
يلعب النسان ُلعْبة ل تُلهِيه عن واجبه؛ وقد تنفعه فيما يَ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التدريب على استخدام السهم أو الرمح أو أداة قتال؛ واللعب الذي ل يَنْهي عن طاعة ،وينفع وقت
الجد هو َلعِب حلل.
وهناك ألعاب قد ل يدرك الناس لها غاية مثل كرة القدم.
وأقول :قد يوجد عَدوّانِ؛ وبينهما قنبلة موقوتة؛ ويحاول كل طرف أن يبعدها عن موقعه ،والقوة
والحكمة تظهر في محاولة كل فريق في إبعاد الكرة عن مرماه.
ولكن ل بد أل يُ ْلهِي لعب الكرة عن واجب؛ فمثلً حين يؤذن المؤذن للصلة ،والوَاجب علينا أل
نهمل الصلة ونواصل اللعب ،وعلى اللعبين أن يُراعُوا عدم ارتداء ملبس تكشف عن
عوراتهم.
وأبناء يعقوب قالوا:
سفَ عِندَ مَتَاعِنَا[ } ...يوسف.]17 :
{ وَتَ َركْنَا يُو ُ
وفي هذا إخلل بشروط التعاقد مع الب الذي أذِنَ بخروج يوسف بعد أن قالوا {:أَرْسِلْهُ َمعَنَا غَدا
يَرْتَ ْع وَيَ ْل َعبْ }[يوسف.]12 :
وقالوا {:وَإِنّا لَهُ لَنَاصِحُونَ }[يوسف.]11 :
وقالوا {:وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ }[يوسف.]12 :
فهل أخذتموه معكم ليرتع ويلعب ،ويأكل من ثمار الشجار والفاكهة؛ وتحفظونه ،أم ليحفظ لكم
متاعكم وأنتم تستبقون .وهذا أول الكذب الذي كذبوه؛ وهذه أول مخالفة لشرط إذن والده له
بالخروج معكم؛ ولن " المريب يكاد يقول خذوني " نجدهم قد قالوا:
ب َومَآ أَنتَ ِب ُمؤْمِنٍ لّنَا وََلوْ كُنّا صَا ِدقِينَ } [يوسف.]17 :
{ فََأكَلَهُ الذّ ْئ ُ
أو :أنهم قالوا ذلك لنهم يعلمون أن والدهم لن يُصدّقهم مهما قالوا .ونعلم أن " آمن " إما أن تتعدى
خوْفٍ }[قريش.]4 :
إلى المفعول بنفسها مثل " آمنه ال من الجوع " ،أو قوله الحق {:وَآمَ َنهُم مّنْ َ
أو :تجئ بالباء ،ويُقال " آمن به " أي :صدّق واعتقد.
أوُ :يقَال " آمن له " أي :صدّقه فيما يقول.
وهم هنا يتهمون أباهم أنه مُتحَدّ لهم ،حتى ولو كانوا صادقين ،وهم يعلمون أنهم غير صادقين؛
ولكن جاءوا بكلمة الصدق ليداروا كذبهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :وجَآءُو عَلَىا َقمِيصِهِ.} ....
()1600 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كأن قميص يوسف كان معهم .ويُقال :إن يعقوب علّق على مجيء القميص وعليه الدم الكذب بأن
الذئب كان رحيما ،فأكل لحم يوسف ولم يُمزّق قميصه؛ وكأنه قد عرف أن هناك مؤامرة سيكشفها
ال له.
ويصف بعض العلماء قصة يوسف بقصة القميص:
فهنا جاء إخوته بقميصه وعليه دم كذب.
شقّ من دُبُرٍ لحظة أنْ جذبتْه امرأة
وفي أواسط السورة تأتي مسألة قميص يوسف إن كان قد ُ
العزيز لتراوده عن نفسه.
وفي آخر السورة يرسل إخوته بقميصه إلى والده فيرتد بصره.
ولهذا أخذ العلماء والدباء كلمة القميص كرمز لبعض الشياء؛ والمثل هو قول الناس عن الحرب
بين علي رضي ال عنه ومعاوية رضي ال عنه أن معاوية أمسك بقميص عثمان بن عفان طلبا
للثأر من علي ،فقيل " قميص عثمان " رمزا لخفاء الهدف عن العيون ،وكان هدف معاوية أن
يحكم بدلً من علي بن أبي طالب رضي ال عنهم أجمعين.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَجَآءُو عَلَىا َقمِيصِهِ بِ َدمٍ كَ ِذبٍ } [يوسف ،]18 :وكأن القميص كان معهم ،ووضعوا عليه دما
مكذوبا ،لن الدم ل يكذب ،إنما كذب من جاء بدم الشاة ووضعه على القميص.
وشاء الحق سبحانه هنا أن يُعطي الوصف المصدري للمبالغة؛ وكأن الدم نفسه هو الذي كذب؛
مثلما تقول " فلن عادل " ويمكنك أن تصف إنسانا بقولك " فلن عَدْل " أي :كأن العدل تجسّد
فيه ،أو قد تقول " فلن ذو شر " ،فيرد عليك آخر " بل هو الشر بعينه " ،وهذه مبالغة في
الحديث.
وهل كان يمكن أن يُوصف الدم بأنه صادق؟
نقول :نعم ،لو كان الذئب قد أكل يوسف بالفعل؛ وتلوّث قميص يوسف بدم يوسف وتمزق .ولكن
ذلك لم يحدث ،بل إن الكذب يكاد يصرخ في تلك الواقعة ويقول " أنا كذب ".
فلو كان قد أكله الذئب فعلً؛ كان الدم قد نشع من داخل القميص لخارجه؛ ولكنهم جاءوا بدم الشاة
ولطخوا به القميص من الخارج.
ت القميص؟
وبال ،لو أن الذئب قد أكله فعلً ،ألم تكُنْ أنيابه قد م ّز َق ْ
وحين انكشف أمرهم أمام أبيهم؛ أشار أحدهم خفية للباقين وقال لهم همسا :قولوا لبيكم :إن
اللصوص قد خرجوا عليه وقتلوه؛ فسمع يعقوب الهمس فقال :اللصوص أحوَجُ لقميصه من دمه؛
وهذا ما تقوله كتب السير.
وهذا ما يؤكد فراسة يعقوب ،هذه الفراسة التي يتحلى بها أيّ محقق في قضية قتل؛ حين يُقلّب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أسئلته للمتهم وللشهود؛ لن المحقق يعلم أن الكاذب لن يستوحي أقواله من واقع؛ بل يستوحي
أقواله من خيال مضطرب.
ولذلك يقال " :إن كنت كذوبا فكُنْ َذكُورا ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنها مسألة تعزّ على خَلْق ال؛ ولبد أن يفزع فيها النسان إلى ال؛ ولذلك علّمنا صلى ال عليه
وسلم أنه إذا حزبه أمر قام إلى الصلة؛ وحزبه أمر ما يعني :أن مواجهة هذا المر تفوق أسباب
النسان؛ فيلجأ إلى المُس ّببِ العلى؛ ولذلك قال يعقوب عليه السلم:
صفُونَ { [يوسف.]18 :
} وَاللّهُ ا ْلمُسْ َتعَانُ عَلَىا مَا َت ِ
وقوله " :تصفون " يعني :أنكم ل تقولون الحقيقة ،بل تصفون شيئا ل يصادف الواقع ،مثل قوله
تعالى:
()1601 /
علِيمٌ ِبمَا
وَجَا َءتْ سَيّا َرةٌ فَأَ ْرسَلُوا وَارِدَ ُهمْ فَأَدْلَى دَ ْل َوهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَا ٌم وَأَسَرّوهُ ِبضَاعَ ًة وَاللّهُ َ
َي ْعمَلُونَ ()19
ولم َي ُقلِ الحق سبحانه من أين جاء السيارة؟ أو إلى أين كانوا ذاهبين؟
والمقصود بالسيارة هم القوم المحترفون للسير ،مثل مَنْ كانوا يرحلون في رحلة الشتاء والصيف؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بهدف التجارة وجَلْب البضائع.
وكانت السيارة ل تنتقل بكامل أفرادها إلى البئر ،بل يذهب واحد منهم إلى البئر؛ ليأتي لهم بالمياه
ويُسمّى الوارد ،وذهب هذا الوارد إلى البئر ليُحضِر لبقية السيارة الماء وألقى دَلْوه في البئر؛
ويسمى حبل الدلو الرشاء.
وحين نزل الدلو إلى مستوى يوسف عليه السلم تعلق يوسف في الحبل؛ فأحسّ الوارد بثقل ما
حمله الرشاء؛ ونظر إلى أسفل؛ فوجد غلما يتعلق بالدلو فنادى:
لمٌ } [يوسف.]19 :
{ يا ُبشْرَىا هَـاذَا غُ َ
أي :أنه يقول يا بشرى هذا أوانك؛ وكأنه يبشر قومه بشيء طيب؛ فلم يحمل الدلو ماء فقط ،بل
حمل غلما أيضا.
ويقول الحق سبحانه { :وَأَسَرّوهُ ِبضَاعَةً } [يوسف.]19 :
أي :أنهم أخفوْه وعاملوه كأنه بضاعة ،ولم يتركوه يمشي بجانبهم؛ خشية أن يكون عبدا آبقا
ويبحث عنه سيده؛ وهم يريدون بيعه.
ويذيل الحق سبحانه الية بقوله:
{ وَاللّهُ عَلِيمٌ ِبمَا َي ْعمَلُونَ } [يوسف.]19 :
وهذا قول يعود على مَنْ أسرّوه بضاعة؛ وهم الذين عرضوه للبيع .ثم يقول الحق سبحانه:
{ وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ َبخْسٍ.} ...
()1602 /
وَشَ َر ْوهُ بِ َثمَنٍ َبخْسٍ دَرَاهِمَ َمعْدُو َد ٍة َوكَانُوا فِيهِ مِنَ الزّا ِهدِينَ ()20
ونعلم أنهم لم يشتروه بل عثروا عليه؛ ونعلم أن كلمة شراء تدل على البيع أيضا ،أي :أنهم باعوه
بثمن بخس؛ أي :بثمن زهيد ،وكانت العبيد أيامها مُقوّمة بالنقود.
والبخس أي :النقص ،وهو إما في الكم أو في الكَيْف؛ فهو يساوي مثلً مائة درهم وهم باعوه
بعشرين درهما فقط؛ وكان العبد في عُمر يوسف يُقوّم بالنقد؛ وهم باعوه بالبخْس ،وبثمن أقل قيمة
إما َكمّا وإما كَيْفا.
ثم أراد الحق سبحانه أن يوضح المر أكثر فقال:
{ دَرَاهِمَ َمعْدُو َد ٍة َوكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزّا ِهدِينَ } [يوسف ،]20 :والزهد هنا هو حيثية الثمن ال َبخْس؛ فهُم
قد خافوا أن يبحث عنه أبوه أو صاحبه؛ وكأنهم قالوا لنفسهم :أي شيء يأتي من ورائه فهو فائدة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لنا.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :وقَالَ الّذِي اشْتَرَاهُ.} ...
()1603 /
َوقَالَ الّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ ِمصْرَ لِامْرَأَتِهِ َأكْ ِرمِي مَ ْثوَاهُ عَسَى أَنْ يَ ْن َفعَنَا َأوْ نَتّخِ َذ ُه وََلدًا َوكَذَِلكَ َمكّنّا
ث وَاللّهُ غَاِلبٌ عَلَى َأمْ ِر ِه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ
ض وَلِ ُنعَّلمَهُ مِنْ تَ ْأوِيلِ الْأَحَادِي ِ
سفَ فِي الْأَ ْر ِ
لِيُو ُ
()21
علّة؛ فهو قد اشتراه لمرأته ليقوم بخدمتها ،وكانت ل تنجب وتكثر في اللحاح عليه
وكان للشراء ِ
في طلب العلج ،وتقول أغلب السير :إن من اشتراه كان ضعيفا من ناحية رغبته في النساء.
وهذه اللقطة تبين لنا الفساد الذي ينشأ في البيوت التي تتبنى طفلً ،لكنهم ل يحسبون حساب
المسألة حين يبلغ هذا الطفل مبلغ الرجال ،وقد تعوّد أن تحمله ربة البيت وتُقبّله ،وتغدق عليه من
التدليل ما يصعب عليها أن تمتنع عنه؛ ولن الطفل يكبر انسيابيا؛ فقد يقع المحظور وندخل في
متاهة الخطيئة.
ويقول الحق سبحانه:
خ َذ ُه وَلَدا } [يوسف:
لمْرَأَتِهِ َأكْ ِرمِي مَ ْثوَاهُ عَسَىا أَن يَن َفعَنَآ َأوْ نَتّ ِ
{ َوقَالَ الّذِي اشْتَرَاهُ مِن ّمصْرَ ِ
.]21
وهذا يعني أن تعتني بالمكان الذي سيقيم فيه ،وبطبيعة الحال فهذا القول يقتضي أن تعتني بالولد
نفسه؛ على رجاء أن ينتفع به الرجل وزوجته.
ولسائل أن يقول :كيف ينتفع به الرجل؛ وهو عزيز مصر ،وال ُكلّ في خدمته؟
ونقول :إن النفع المقصود هنا هو النفْع الموصول بعاطفة مَنْ ينفع؛ وهو غير نفع الموظفين
العاملين تحت قيادة وإمرة عزيز مصر ،فعندما ينشأ يوسف كابن للرجل و َزوْجه؛ وكإنسان تربّى
حمّلً بالعاطفة التي قال عنها الرجل:
في بيت الرجل؛ هنا ستختلف المسألة ،ويكون النفع مُ َ
{ َأوْ نَتّخِ َذ ُه وَلَدا } [يوسف.]21 :
وقد عَلِمنا من السّيَر أنهما لم يُرزَقا بأولد.
ويقول الحق سبحانه في نفس الية:
ث وَاللّهُ غَاِلبٌ عَلَىا َأمْ ِرهِ وَلَـاكِنّ
ل الَحَادِي ِ
سفَ فِي الَ ْرضِ وَلِ ُنعَّلمَهُ مِن تَ ْأوِي ِ
{ َوكَذاِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ
س لَ َيعَْلمُونَ } [يوسف.]21 :
َأكْثَرَ النّا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد بدأ التمكين في الرض من لحظة دخوله إلى بيت عزيز مصر ليحيا حياة طيبة؛ وليعلمه ال
تأويل الحديث؛ بأن يهبه القدرة على تفسير الرّؤى والحلم؛ وليغلب ال على أمره.
ولو نظر إخوته إلى ما آل إليه يوسف عليه السلم فسيعرفون أن مرادهم قد خاب؛ وأن مراد ال
جبّ ،وهذا شأن الظالمين
قد غلب؛ بإكرام يوسف؛ وهم لو علموا ذلك َلضَنّوا عليه باللقاء في ال ُ
جميعا.
ولذلك نقول :إن الظالم لو عَلِم ما أعدّه ال للمظلوم َلضَنّ عليه بالظلم.
وساعة يقول الحق سبحانه:
{ وَاللّهُ غَاِلبٌ عَلَىا َأمْ ِرهِ[ } ...يوسف.]21 :
فهذا قول نافذ؛ لنه وحده القادر على أن يقول للشيء كُنْ فيكون؛ ول يوجد إله غيره ليرد على
مراده.
ولذلك قلنا قديما :إن ال سبحانه وتعالى قد شهد لنفسه أنه ل إله إل هو؛ وهو يملك الرصيد
المطلق المؤكد بأنه ل إله غيره؛ فهو وحده الذي له المُلْك ،وهو وحده القادر على كل شيء.
ولكن خيبة بعض من الخلق الذين يتوهمون أنهم قادرون على أن يُخطّطوا ويمكروا؛ متناسين أو
ناسين أن فوقهم قَيّوم؛ ل تأخذه سنة ول نوم ،ولو انتبه هؤلء لَعِلمُوا أن ال يُملّك بحق مَنْ يُظلم
فوق إلى ظَلمه.
ورأينا في حياتنا وتاريخنا ظالمين اجتمعوا على ظُلْم الناس؛ وكان مصيرهم أسوأ من الخيال؛
وأشد َهوْلً من مصيرهم لو تحكم فيهم مَنْ ظلموهم.
ش ّدهُ.} ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وََلمّا بََلغَ أَ ُ
()1604 /
حسِنِينَ ()22
ح ْكمًا وَعِ ْلمًا َوكَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
ش ّدهُ آَتَيْنَاهُ ُ
وََلمّا َبلَغَ أَ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكْم،
حكْم هو الفيصل بين قضيتين متعاندتين متعارضتين؛ حق وباطل؛ وما دام قد أعطاه ال ال ُ
وال ُ
فهو قادر على أن يفصل بين الصواب والخطأ.
وقد أعطاه ال العلم الذي يستطيع أن ينقله إلى الغير ،والذي سيكون منه تأويل الرؤى ،وغير ذلك
من العلم الذي سوف يظهر حين يولى على خزانة مصر.
إذن :فهنا بلغ يوسف أشده وحرسه الحق بالحكمة والعلم .ويُذيّل الحق سبحانه هذه الية بقوله:
حسِنِينَ } [يوسف.]22 :
{ َوكَذاِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
حسْن ،والمثل :حين ل يتأبى فقير
وكل إنسان يُحسِن القامة ِلمَا هو فيه؛ يعطيه ال ثمرة هذا ال ُ
على قَدَرِ ال أن جعله فقيرا ،ويحاول أن يُحسن ويُتقِن ما يعمل ،فيوضح ال بحُسْن الجزاء :أنت
خذْ الجزاء الطيب .وهذا حال عظماء الدنيا كلهم.
قبلت قدري ،وأحسنت عملك؛ ف ُ
وهكذا نجد قول الحق سبحانه:
حسِنِينَ } [يوسف.]22 :
{ َوكَذاِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
ل ينطبق على يوسف وحده؛ بل على كل مَنْ يحسن استقبال قَدَرِ ال؛ لنه سبحانه ساعة يأتي
حكْم من الحكام؛ وبعد ذلك يعمّم الحكم؛ فهذا يعني أن هذا الحكم ليس خاصا بل هو عام.
بُ
وإذا كان الحق سبحانه يورد هذا في مناسبة بعينها ،فإنه يقرر بعدها أن كل مُحْسِن يعطيه ال
حكْم والعلم.
ال ُ
وقول الحق سبحانه:
{ وََلمّا بَلَغَ أَشُ ّدهُ[ } ..يوسف.]22 :
يوحي لنا أن يوسف عليه السلم كان قد بلغ مرحلة الفتوة ،وهنا بدأت متاعبه في ال َقصْر ،ففي
طفولته نظرتْ إليه امرأة العزيز كطفل جميل؛ فلم يكُنْ يملك ملمح الرجولة التي تهيج أنوثتها.
أما بعد البلوغ فنجد حالها قد تغيّر ،فقد بدأت تدرك مفاتنه؛ وأخذ خيالها يسرح فيما هو أكثر من
الدراك ،وهو التهاب الوجدان بالعاطفة المشبوبة ،وما بعد الدراك والوجدان يأتي النزوع.
ولو كانت محجوبة عنه؛ لما حدثت الغواية بالدراك والوجدان.
غضّ البصر عن المثيرات الجنسية؛ لنك إنْ لم تغضّ البصر أدرَكتَ ،وإن
وهذا يعطينا عِلّة َ
أدركتَ وجدتَ ،وإن وجدتَ نزعتَ إلى الزواج أو التعفف بالكبْت في النفس ،وتعيش اضطراب
القلق والتوتر ،وإن لم تتعفف عربدتَ في أعراض الناس.
وكذلك أمرنا الحق سبحانه أل تُبدِي النساء زينتهن إل لناس حددهم الحق سبحانه في قوله
ن وَلَ يُبْدِينَ زِينَ َتهُنّ
خمُرِهِنّ عَلَىا جُيُو ِبهِ ّ
ظهَرَ مِ ْنهَا وَلْ َيضْرِبْنَ بِ ُ
تعالى {:وَلَ يُ ْبدِينَ زِينَ َتهُنّ ِإلّ مَا َ
خوَا ِنهِنّ َأوْ
خوَا ِنهِنّ َأوْ بَنِي ِإ ْ
ِإلّ لِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ آبَآ ِئهِنّ َأوْ آبَآءِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ أَبْنَآ ِئهِنّ َأوْ أَبْنَآءِ ُبعُولَ ِتهِنّ َأوْ ِإ ْ
طفْلِ
خوَا ِتهِنّ َأوْ نِسَآ ِئهِنّ َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُنّ َأوِ التّا ِبعِينَ غَيْرِ ُأوْلِي الِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ َأوِ ال ّ
بَنِي أَ َ
عوْرَاتِ النّسَآءِ[} ..النور.]31 :
ظهَرُواْ عَلَىا َ
الّذِينَ لَمْ َي ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :الذي بلغ من العمر والشيخوخة حدا ل يجعله يفكر في الرغبة في النساء.
شدّه نظرةً مختلفة،
وكانت نظرة امرأة العزيز إلى يوسف عليه السلم وهو في فتوته ،بعد أن بلغ أَ ُ
يوضحها ال تعالى في قوله { :وَرَاوَدَتْهُ الّتِي ُهوَ.} ...
()1605 /
حسَنَ
ب َوقَاَلتْ هَ ْيتَ َلكَ قَالَ َمعَاذَ اللّهِ إِنّهُ رَبّي أَ ْ
وَرَاوَدَتْهُ الّتِي ُهوَ فِي بَيْ ِتهَا عَنْ َنفْسِ ِه وَغَّل َقتِ الْأَ ْبوَا َ
مَ ْثوَايَ إِنّهُ لَا ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ ()23
وساعة تسمع " راود " فافهم أن المر فيه منازعة مثل " :فَاعَل " أو " تَفاعل " ومثل " :شارك
محمد عليا " أي :أن عليا شارك محمدا؛ ومحمد شارك عليا؛ فكل منهم مفعول مرة ،وفاعل مرة
أخرى.
والمُرَاودة مطالبةٌ برفق ولين بستر ما تريده ِممّنْ تريده؛ فإنْ كان المر مُسهّلً ،فالمُراودة تنتهي
إلى شيء ما ،وإنْ تأبّى الطرف الثاني بعد أن عرفَ المراد؛ فلن تنتهي المراودة إلى الشيء الذي
كنت تصبو إليه.
وهكذا راودتْ امرأة العزيز يوسف عليه السلم ،أي :طالبته برفق ولين في أسلوب يخدعه
لِيُخرِجه عمّا هو فيه إلى ما تطلبه.
ومن قبْل كان يوسف يخدمها ،وكانت تنظر إليه كطفل ،أما بعد أن بلغ أَشُده فقد اختلف المر،
ولنفرض أنها طالبته أن يُحضر لها شيئا؛ وحين يقدمه لها تقول له " لماذا تقف بعيدا؟ " وتَدعوه
ليجلس إلى جوارها ،وهو لن يستطيع الفكاك؛ لنه في بيتها؛ وهي مُتمكّنة منه؛ فهي سيدة القصر.
وهكذا نجد أن المسألة مجموعة عليه من عدة جهات؛ فهو قد تربّى في بيتها؛ وهي التي تتلطف
وترقّ معه ،و َفهِم هو مرادها.
وهكذا شرح الحق سبحانه المسألة من أولها إلى آخرها بأدب رَاقٍ غير مكشوف ،فقال تعالى:
ت الَ ْبوَابَ[ } ...يوسف.]23 :
س ِه وَغَّلقَ ِ
{ وَرَاوَدَتْهُ الّتِي ُهوَ فِي بَيْ ِتهَا عَن ّنفْ ِ
وكلمة { :وَغَّل َقتِ الَ ْبوَابَ[ } ...يوسف.]23 :
توضح المبالغة في الحدث؛ أو لتكرار الحَدث ،فهي قد أغلقت أكثرَ من باب .ونحن حين نحرك
المزلج لنؤكد غَلْق الباب ،ونحرك المفتاح ،ونديره لتأكيد غَلْق الباب.
غلْق الباب؛ وإذا أضفنا مِزْلجا جديدا نكون قد أكثرنا الغلق لباب واحد؛
فهذه عملية أكبر من َ
صفَ ما فعلنا أننا غلّقنا الباب.
وهكذا يمكن أن َن ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وامرأة العزيز قامت بأكثر من إغلق لكثر من بابَ ،فقُصور العظماء بها أكثر من باب ،وأنت ل
تدخل على العظيم من هؤلء في بيته لتجده في استقبالك بعد أول باب ،بل يجتاز النسان أكثر من
باب لِيَلقى العظيم الذي جاء ليقابله.
يحمل لنا التاريخ قصة ذلك الرجل الذي رفض أن يبايع معاوية في المدينة ،فأمر معاوية
باستدعائه إلى قصر الحكم في دمشق.
هذا القصر الذي سبق أن زاره عمر بن الخطاب؛ ووجد فيه أبهة زائدة بررها له معاوية بحيلة
الريب أنها أُبهة ضرورية لبراز مكانة العرب أمام الدولة الرومانية المجاورة ،فسكتَ عنها
عمر.
وحين استدعى معاوية الرجل ،دخل بصحبة الحرس من باب ،وظن أنه سوف يلقى معاوية َفوْر
الدخول؛ لكن الحرس اصطحبه عبر أكثر من باب؛ فلم ينخلع قلب الرجل ،بل دخل بثبات على
معاوية وضَنّ عليه بمناداته كأمير المؤمنين ،وقال بصوت عال:
" السلم على رسول ال صلى ال عليه وسلم ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهناك في قضية السيدة مريم عليها السلم ،نجدها قد قالت لحظة أن تمثّل لها الملك بشرا سويا{:
حمَـانِ مِنكَ إِن كُنتَ َتقِيّا }[مريم.]18 :
إِنّي أَعُوذُ بِالرّ ْ
فهي استعاذت بمَنْ يقدر على إنقاذها.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} قَالَ َمعَاذَ اللّهِ إِنّهُ رَبّي َأحْسَنَ مَ ْثوَايَ إِنّهُ لَ ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ { [يوسف ،]23 :وأعطانا هذا القول
معنيين اثنين:
الول :أنه لم يوافق على طلبها بعد أن أوضحتْ ما تريد.
جبّ؛
والمعنى الثاني :أنه طلب المعونة من ال ،وهو سبحانه مَنْ أنجاه من كيد إخوته؛ ونجّاه من ال ُ
شدّه .وبعد كل هذا
وهيّأ له أفضل مكان في مصر ،ليحيا فيه ومنحه العلم والحكمة مع بلوغه ل ُ
أيستقبل كل هذا الكرم بالمعصية؟ طبعا ل.
أو :أنه قالَ } :أحْسَنَ مَ ْثوَايَ { [يوسف.]23 :
ليُذكّر امرأة العزيز بأن لها زوجا ،وأن هذا الزوج قد أحسن ليوسف حين قال لهاَ {:أكْ ِرمِي مَ ْثوَاهُ
خ َذ ُه وَلَدا }[يوسف.]21 :
عَسَىا أَن يَن َفعَنَآ َأوْ نَتّ ِ
فالصعوبة ل تأتي فقط من أنها تدعوه لنفسها؛ بل الصعوبة تزداد سوء لن لها زوجا فليست
خالية ،وهذا الزوج قد طلب منها أن تُكرِم يوسف ،وتختار له مكانَ إقامةٍ يليق بابن ،ول يمكن أن
يُستَقبل ذلك بالجحود والخيانة.
وهكذا يصبح قول يوسف } :إِنّهُ رَبّي َأحْسَنَ مَ ْثوَايَ { [يوسف.]23 :
قد يعود على ال سبحانه؛ وقد يعود على عزيز مصر.
وتلك مَيْزة أسلوب القرآن؛ فهو يأتي بعبارة تتسع لكل مناطات الفهم ،فما دام ال هو الذي يُجازي
على الحسان ،وهو مَنْ قال في نفس الموقفَ {:وكَذاِلكَ نَجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ }[يوسف ]22 :فمعنى
ذلك أن مَنْ يسيء يأتي ال بالضد؛ فل يُفلح؛ لن القضيتين متقابلتانَ {:وكَذاِلكَ َنجْزِي ا ْلمُحْسِنِينَ }
[يوسف.]22 :
و } لَ ُيفْلِحُ الظّاِلمُونَ { [يوسف.]23 :
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك } :وََلقَدْ َه ّمتْ ِبهِ.{ ...
()1606 /
وَلَقَدْ َه ّمتْ ِب ِه وَهَمّ ِبهَا َلوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبّهِ كَذَِلكَ لِ َنصْ ِرفَ عَنْهُ السّو َء وَا ْلفَحْشَاءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا
ا ْلمُخَْلصِينَ ()24
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والهَمّ هو حديث النفس بالشيء؛ إما أن يأتيه النسان أو ل يأتيه .ومن رحمة ربنا بخلْقه أن مَنْ هَمّ
بسيئة وحدّثتْه نفسه أن يفعلها؛ ولم يفعلها كُتِبتْ له حسنة.
وقد جاءت العبارة هنا في أمر المراودة التي كانت منها ،والمتناع الذي كان منه ،واقتضى ذلك
المر مفاعلة بين اثنين يصطرعان في شيء.
فأحد الثنين امرأة العزيز يقول ال في حقها:
{ وََلقَدْ َه ّمتْ بِهِ } [يوسف.]24 :
وسبق أن أعلن لنا الحق سبحانه في الية السابقة موقفها حين قالت " :هيت لك " وكذلك بيّن
موقف يوسف عليه السلم حين قال يوسف " معاذ ال ".
وهنا يبين لنا أن نفسه قد حدثته أيضا؛ وتساوى في حديث النفس؛ لكن يوسف حدث له أن رأى
برهان ربه.
ويكون َف ْهمُنا للعبارة :ولول أن رأى برهان ربه َل َهمّ بها؛ لننا نعلم أن " لول " حرف امتناع
لوجود؛ مثلما نقول :لول زيد عندك لتيتك.
ولقائل أن يقول :كيف غابت قضية الشرط في اليجاد والمتناع عن الذين يقولون؛ إن الهم قد
وُجِد منه؟
ولماذا لم َيقُل الحق :لقد ه ّمتْ به ولم يهم بها؛ حتى نخرج من تلك القضية الصعبة؟
ونقول :لو قال الحق ذلك لما أعطانا هذا القولُ اللقطةَ المطلوبة؛ لن امرأة العزيز َه ّمتْ به لن
خصَاه موقف أنها سيدته
عندها نوازع العمل؛ وإنْ لم َي ُقلْ لنا أنه قد َهمّ بها لظننا أنه عِنّين أو َ
ت قواه.
فخار ْ
إذن :لو قال الحق سبحانه :إنه لم َيهِمّ بها؛ لكان المانع من الهَمّ إما أمر طبيعي فيه ،أو أمر
طاريء لنها سيدته فقد يمنعه الحياء عن الهَمّ بها.
شدّه و ُنضْجه؛ ولول أن
ولكن الحق سبحانه يريد أن يوضح لنا أن يوسف كان طبيعيا وهو قد بلغ أ ُ
رأى برهان ربه َلهَمّ بها.
وهكذا لم َيقُمْ يوسف عليه السلم بما يتطلبه ذلك لنقص فيه؛ ول لن الموقف كان مفاجأة ضَ ّي َعتْ
رجولته بغتة؛ مثل ما يحدث لبعض الشباب في ليلة الزفاف ،حين ل يستطيع أن يَقربَ عروسه؛
وتمر أيام إلى أن يستعيد توازنه .ويقرب عروسه.
إذن :لو أن القرآن يريد عدم ال َهمّ على الطلق؛ ومن غير شيءَ ،لقَال :ولقد َه ّمتْ به ولم َيهِم
بها.
ولكن مثل هذا القول هو َن ْفيٌ للحدث بما ل يستلزم العفة والعصمة ،لجواز أن يكون عدم ال َهمّ
راجعا إلى نقص ما؛ وحتى ل يتطرق إلينا تشبيهه ببعض الخدم؛ حيث يستحي الخادم أن ينظر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى البنات الجميلت للسرة التي يعمل عندها؛ ويتجه نظره إلى الخادمة التي تعمل في المنزل
المجاور ،لن للعواطف التقاءات.
طفِ ال بالخلق أنه يُوجِد اللتقاءات التفاعلية في المتساويات ،فل تأتي عاطفة الخادم في
ومن ُل ْ
بعض الحيان ناحية بنات البيت الذي يعمل عنده؛ وقد يطلب من أهل البيت أن يخرج لشراء أي
شيء من خارج المنزل ،لعله يحظى بلقاء عابر من خادمة الجيران.
ويجوز أن الخادم قد فكر في أنه لو َهمّ بواحدة من بنات السرة التي يعمل لديها؛ فقد تطرده
السرة من العمل؛ بينما هو يحيا سعيدا مع تلك السرة.
وهكذا يشاء الحق سبحانه أن يوزع تلك المسائل بنظام وتكافؤات في كثير من الحيان.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها قال الحق سبحانه:
} وََلقَدْ َه ّمتْ بِهِ وَهَمّ ِبهَا َلوْل أَن رّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ { [يوسف.]24 :
إذن :فبرهان ربه سابق على الهَمّ ،فواحد َهمّ ولم يرتكب ما يتطلبه الهمّ؛ لن برهان ربه في قلبه،
وقد عرف يوسف برهان ربه من البداية.
وبذلك تنتهي المسألة ،ولذلك فل داعي أن يدخل الناس في متاهات أنه هَ ّم وجلس بين شعبتيها،
ولم يرتعد إل عندما تمثّل له وجه والده يعقوب ونهاه عن هذا الفعل؛ فأفسقُ الفُسّاق ولو تمثّل له
أبوه وهو في مثل هذا الموقف لصيب بالغماء.
وحين تناقش مَنْ رأى هذا الرأي؛ يردّ بأن هدفه أن يثبت فحولة يوسف؛ لن اله ّم وجد وأنه قد
نازع الهمّ.
ونقول لصاحب هذا الرأي :أتتكلم عن ال ،أم عن الشيطان؟.
أنت لو نظرتَ إلى أبطال القصة تجدهم :امرأة العزيز؛ ويوسف والعزيز نفسه؛ والشاهد على أن
يوسف قد حاول ال ِفكَاك من ذلك الموقف ،ثم النسوة اللتي دَع ْتهُنّ امرأة العزيز ليشاهدوا جماله؛
وال قد كتب له العصمة.
ف ُكلّ هؤلء تضافروا على أن يوسف لم يحدث منه شيء.
وقال يوسف نفسهِ {:هيَ رَاوَدَتْنِي عَن ّنفْسِي }[يوسف ]26 :وامرأة العزيز نفسها قالت مُصدّقة ِلمَا
سهِ فَاسَ َت ْعصَمَ }[يوسف.]32 :
قال {:وََلقَدْ رَاوَدتّهُ عَن ّنفْ ِ
س ِه وَإِنّهُ َلمِنَ الصّا ِدقِينَ * ذاِلكَ لِ َيعَْلمَ أَنّي لَمْ َأخُنْهُ
حصَ ا ْلحَقّ أَنَاْ رَاوَدْتّهُ عَن ّنفْ ِ
حصْ َ
وقالت {:النَ َ
بِا ْلغَ ْيبِ }[يوسف.]52-51 :
طعْنَ أَيْدِ َيهُنّ إِنّ رَبّي ِبكَ ْيدِهِنّ عَلِيمٌ }[يوسف:
س َوةِ اللّتِي قَ ّ
وعن النسوة قال يوسف {:مَا بَالُ النّ ْ
.]50
ن وََأكُن مّنَ ا ْلجَاهِلِينَ }[يوسف.]33 :
صبُ ِإلَ ْيهِ ّ
وقال يوسف لحظتها {:وَِإلّ َتصْ ِرفْ عَنّي كَيْ َدهُنّ َأ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والصّبْوة هي حديث النفس بالشيء؛ وهو ما يثبت قدرة يوسف عليه السلم على الفعل ،وحماه ال
من الصبوة؛ لن الحق سبحانه قد قالَ {:فصَ َرفَ عَنْهُ كَيْ َدهُنّ }[يوسف.]34 :
وانظر إلى لقطة النسوة اللتي تهامسْنَ بالنميمة عن امرأة العزيز وحكايتها مع يوسف ،ألم َيقُلْنَ{:
مَا هَـاذَا َبشَرا إِنْ هَـاذَآ ِإلّ مََلكٌ كَرِيمٌ }[يوسف ،]31 :فحين دخل عليهن اتجهت العيون له،
وللعيون لغات؛ وللنفعال لغات؛ وإل لماذا قال يوسف {:وَِإلّ َتصْ ِرفْ عَنّي كَيْ َدهُنّ }[يوسف.]33 :
وهكذا نعلم أنه قد حدثت مُقدّمات تدل على أن النسوة نَويْنَ له مثل ما َنوَتْه امرأة العزيز؛ وظَننّ
أن امرأة العزيز سوف تطرده؛ فيتلقفنه هُنّ؛ وهذا دَأب البيوت الفاسدة.
وهل هناك أفسد من بيت العزيز نفسه ،بعد أن حكم الشاهد أنها هي التي راودتْ يوسف عن
سفُ أَعْ ِرضْ عَنْ هَـاذَا وَاسْ َت ْغفِرِي ِلذَن ِبكِ إِ ّنكِ كُنتِ
نفسه؛ فيدمدم العزيز على الحكاية ،ويقول {:يُو ُ
مِنَ الْخَاطِئِينَ }[يوسف.]29 :
وكان هدف العزيز أن يحفظ مكانته من القيل والقال.
وحين سأل الشاهد النسوة ،بماذا أَجبْنَ؟
علَيْهِ مِن سُوءٍ }[يوسف.]51 :
يقول الحق سبحانه أن النسوة قُلْنَ {:مَا عَِلمْنَا َ
وقد صرف ال عنه الشيطان الذي يتكفل دائما بالغُواية ،وهو ل يدخل أبدا في معركة مع ال؛
ج َمعِينَ *
غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
ولكنه يدخل مع خَلْق ال؛ لن الحق سبحانه يورد على لسانه {:قَالَ فَ ِبعِزّ ِتكَ لُ ْ
ِإلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْل ُمخَْلصِينَ }[ص.]83-82 :
فالشيطان نفسه ُيقِرّ أن مَنْ يستخلصه ال لنفسه من العباد إنما يعجز ـ هو كشيطان ـ عَن
غوايته ،ول يجرؤ على القتراب منه.
والشاهد الذي من أهل امرأة العزيز ،واستدعاه العزيز ليتعرف على الحقيقة قال {:وَإِنْ كَانَ
ت وَ ُهوَ مِن الصّا ِدقِينَ }[يوسف.]27 :
َقمِيصُهُ قُدّ مِن دُبُرٍ َفكَذَ َب ْ
وبعد كل هذه الدلة فليس من حَقّ أحد أن يتساءل :هل هَمّ يوسف بامرأة العزيز ،أم لم َي ِهمّ؟
وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،يقول الحق سبحانه:
} َلوْل أَن رّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ { [يوسف.]24 :
والبرهان هو الحجة على الحكم .والحق سبحانه هو القائلَ {:ومَا كُنّا ُم َعذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً }
[السراء.]15 :
ن َومُنذِرِينَ لِئَلّ َيكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ َبعْدَ
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه {:رّسُلً مّبَشّرِي َ
سلِ }[النساء.]165 :
الرّ ُ
أي :ل ُبدّ أن يبعث الحقّ رسولً للناس مُؤيدا بمعجزة تجعلهم يُصدّقون المنهج الذي يسيرون
عليه؛ كي يعيشوا حياتهم بانسجام إيماني ،ول يعذبهم ال في الخرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويُذيّل الحق سبحانه الية بقوله:
حشَآءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْل ُمخَْلصِينَ { [يوسف.]24 :
} َكذَِلكَ لِ َنصْ ِرفَ عَ ْنهُ السّو َء وَا ْلفَ ْ
والفحشاء هي الزنا والتيان؛ والسوء هي فكرة ال َهمّ ،وبعض المعتدلين قالوا :إنها بعد أن راودتْه
سعَار لحظة أن سبقها إلى الباب؛ فكّرتْ في أن تقتله؛
عن نفسه؛ وخرجت بالفعل إلى مرحلة ال ّ
وحاول هو أن يدافع عن نفسه وأن يقتلها ،ولو قتلها فلسوف يُجازى كقاتل.
فصرف الحق عنه فكرة القتل؛ وعنى بها هنا قوله الحق " السوء "؛ ولكني اطمئن إلى أن السوء
هو فكرة الهَمّ ،وهي مُقدّمات الفعل.
ويقرر الحق سبحانه أن يوسف عليه السلم من عباده المُخْلصين ،وفي هذا رد على الشيطان؛ لن
الشيطان قالِ {:إلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص.]83 :
وقوله الحق هنا:
} إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا ا ْلمُخَْلصِينَ { [يوسف ]24 :يؤكد إقرار الشيطان أنه لن َيقْرب عباد ال المخلصين.
وهناك " مُخِْلصِين " .و " مُخَْلصِين " والمخلِص هو مَنْ جاهد فكسب طاعة ال ،وَالمُخْلَص هو مَنْ
كسَب فجاهد وأَخلصه ال لنفسه.
وهناك أُناس َيصِلُون بطاعة ال إلى كرامة ال ،وهناك أُناس يكرمهم ال فيطيعون ال ـ ول
المثل العلى ـ مُنزّه عن كل تشبيه ،أنت قد يطرق بابك واحد يسألك من فضل ال عليك؛
فتستضيفه وتُكرمه ،ومرة أخرى قد تمشي في الشارع وتدعو واحدا لتعطيه من فضل ال عليك،
أي :أن هناك مَنْ يطلب فتأذن له ،وهناك مَنْ تطلبه أنت لتعطيه.
وبعد الحديث عن المراودة بما فيها من لين وَأخْذٍ ورَد؛ ينتقل بنا الحق سبحانه إلى ما حدث من
حركة ،فيقول تعالى } :وَاسْتَ َبقَا الْبَابَ.{ ...
()1607 /
وَاسْتَ َبقَا الْبَابَ َوقَ ّدتْ َقمِيصَهُ مِنْ دُبُ ٍر وَأَ ْلفَيَا سَيّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَاَلتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهِْلكَ سُوءًا
عذَابٌ أَلِيمٌ ()25
إِلّا أَنْ ُيسْجَنَ َأوْ َ
وعرفنا أن كلهما حاول الوصول إلى الباب قبل الخر؛ وتسابقا في هذا الستباق ،ونلحظ أن
الحق سبحانه يذكر هنا بابا واحدا؛ وكانت امرأة العزيز قد غّل َقتْ من قبل أكثر من باب.
لكن قول الحق سبحانه:
{ وَأَ ْلفَيَا سَيّدَهَا لَدَا الْبَابِ } [يوسف.]25 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يدلنا على أنها لحقتْ بيوسف عند الباب الخير؛ وهي قد استبقتْ مع يوسف إلى البواب كلها
حتى الباب الخير؛ لنها تريد أن تغلق الباب لتسد أمامه المنفذ الخير ،وهذا الستباق يختلف
باختلف الفاعل فهي تريده عن نفسه ،وهو يريد الفرار من الموقف ،ثم ق ّدتْ قميصه من دُبر.
هذا دليل على أنه قد سبقها إلى الباب؛ فشدّته من قميصه من الخلف ،وتمزّق القميص في يدها،
وقد محّص الشاهد ـ الذي هو من أهلها ـ تلك المسألة ليستنبط من الحداث حقيقة ما حدث.
وقوله تعالى:
{ وَأَ ْلفَيَا سَيّدَهَا لَدَا الْبَابِ } [يوسف.]25 :
أي :حدثت لهما المفاجأة ،وهي ظهور عزيز مصر أمامهما؛ وصار المشهد ثلثيا :امرأة العزيز؛
ويوسف؛ وزوجها.
وهنا ألقت المرأة التهام على يوسف عليه السلم في شكل سؤال تبريري للهروب من تبعية
الطلب ،وإلقاء التهم على يوسف:
{ قَاَلتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بَِأهِْلكَ سُوءًا } [يوسف.]25 :
ثم حددت العقاب:
عذَابٌ أَلِيمٌ } [يوسف.]25 :
{ ِإلّ أَن ُيسْجَنَ َأوْ َ
شهِدَ شَاهِدٌ مّنْ أَهِْلهَآ
ويأتي الحق سبحانه بقول يوسف عليه السلم {:قَالَ ِهيَ رَاوَدَتْنِي عَن ّنفْسِي وَ َ
ت وَ ُهوَ مِنَ الكَاذِبِينَ }[يوسف.]26 :
إِن كَانَ َقمِيصُهُ قُدّ مِن قُ ُبلٍ َفصَ َد َق ْ
وهنا وجد عزيز مصر نفسه بين قوليْنِ مختلفين؛ قولها هي باتهام يوسف؛ وقوله هو باتهامها ،ول
بُدّ أن يأتي بمَن يفصِل بين القولين ،وأن يكون له ِدقّة استقبال و َفهْم الحداث.
ويتابع الحق سبحانه { :قَالَ ِهيَ رَاوَدَتْنِي.} ...
()1608 /
شهِدَ شَا ِهدٌ مِنْ أَهِْلهَا إِنْ كَانَ َقمِيصُهُ ُقدّ مِنْ قُ ُبلٍ َفصَ َد َقتْ وَ ُهوَ مِنَ
قَالَ ِهيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ َنفْسِي وَ َ
ا ْلكَاذِبِينَ ()26
ن متعددة.
وتأتي كلمة " شاهد " في القرآن بمعا ٍ
عذَا َب ُهمَا طَآ ِئفَةٌ مّنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ }
شهَدْ َ
فهي مرّة تكون بمعنى " حضر " ،مثل قول الحق سبحانه {:وَلْيَ ْ
[النور.]2 :
شهِدْنَآ ِإلّ ِبمَا عَِلمْنَا }[يوسف.]81 :
وتأتي مرّة بمعنى " علم " ،مثل قوله سبحانهَ {:ومَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتأتي " شهد " بمعنى " حكم وقضى " أي :رجّح كلما على كلم لستنباط حق في أحد
التجاهين .والشاهد في هذه الحالة وَثّق القرآنُ أن قرابته من ناحية المحكوم عليه ،وهو امرأة
العزيز ،فلو كان من طرف المحكوم له لَ ُر ّدتْ شهادته.
وهكذا صار الموقف رباعيا :امرأة العزيز ،ويوسف ،وعزيز مصر ،والشاهد ،وحملت الية
نصف قول الشاهد:
{ إِن كَانَ َقمِيصُهُ قُدّ مِن قُ ُبلٍ َفصَ َد َقتْ وَ ُهوَ مِنَ الكَاذِبِينَ } [يوسف.]26 :
لن معنى هذا ـ والواقع لم يكن كذلك ـ أن يوسف عليه السلم وهو مَنْ أقبل عليها؛ تدلّى منه
ثوبه على الرض ،فتعثر فيه ،فتمزّق القميص .ويتابع ال قول الشاهد { :وَإِنْ كَانَ َقمِيصُهُ.} ..
()1609 /
أي :أن قميص يوسف عليه السلم إن كان ُقدّ من الخلف؛ فيوسف صادق ،وامرأة العزيز كاذبة.
ونلحظ أن الشاهد هنا قال هذا الرأي قبل أن يشاهد القميص؛ بل وضع في كلماته الساس الذي
سينظر به إلى المر ،وهو إطار دليل الثبات.
وهذا ما تشرحه الية التالية ،فيقول سبحانه { :فََلمّا رَأَى َقمِيصَهُ.} ...
()1610 /
فََلمّا رَأَى َقمِيصَهُ قُدّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنّهُ مِنْ كَيْ ِدكُنّ إِنّ كَيْ َدكُنّ عَظِيمٌ ()28
وقول الحق سبحانه عن الشاهد القاضى { :فََلمّا رَأَى َقمِيصَهُ[ } ...يوسف ،]28 :يدلّ على أنه
رتّب الحكم قبل أن يرى القميص ،وقرر المبدأ أولً في غيبة رؤية القميص ،ثم رآه بعدها ،وهكذا
جعل الحيثية الغائبة هي الحكم في القضية الشاغلة.
لذلك تابع قوله بما يدين امرأة العزيز:
عظِيمٌ } [يوسف.]28 :
{ قَالَ إِنّهُ مِن كَيْ ِدكُنّ إِنّ كَيْ َدكُنّ َ
والكيد كما نعلم هو الحتيال على إيقاع السوء بخفاء ،ويقوم به مَنْ ل يملك القدرة على المواجهة،
وكَيْد المرأة عظيم؛ لن ضعفها أعظم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتعود آيات السورة بعد ذلك إلى موقف عزيز مصر ،فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان
سفُ أَعْ ِرضْ.} ...
الزوج { :يُو ُ
()1611 /
سفُ أَعْ ِرضْ عَنْ هَذَا وَاسْ َتغْفِرِي لِذَنْ ِبكِ إِ ّنكِ كُ ْنتِ مِنَ ا ْلخَاطِئِينَ ()29
يُو ُ
وبهذا القول من الزوج أنهى الحقّ سبحانه هذا الموقف الرّباعي عند هذا الحد ،الذي جعل عزيز
مصر ُيقِرّ أن امرأته قد أخطأت ،ويطلب من يوسف أن يعرض عن هذا المر لِيَكتمه.
وهذا يبين لنا سياسة بعض أهل الجاه مع بيوتهم ،وهو أمر نشاهده في عصرنا أيضا؛ فنجد الرجل
ذا الجاه وهو يتأبّى أن يرى أهله في خطيئة ،ويتأبى أكثر من ذلك فيرفض أن يرى الغيرُ أهله في
مثل هذه القضية ،ويحاول كتمان المر في نفسه؛ فيكفيه ما حدث له من مهانة الموقف ،ول يريد
أن يشمتَ به خصومه أو أعداؤه.
وهنا مَلْحظ يجب أن نتوقف عنده ،وهو قضية اليمان ،وهي ل تزال متغلغلة حتى في المنحرفين
والمتسترين على المنحرفين ،فعزيز مصر يقول ليوسف:
{ أَعْ ِرضْ عَنْ هَـاذَا[ } ...يوسف.]29 :
ويقول لزوجته:
{ وَاسْ َت ْغفِرِي لِذَن ِبكِ إِ ّنكِ كُنتِ مِنَ ا ْلخَاطِئِينَ } [يوسف.]29 :
وهو في قوله هذا ُيقِرّ بأن ذنبا قد وقع؛ وهو لن ُيقِرّ بذلك إل إذا كان قد عرف عن ال منهجا
سماويا ،وهو في موقف لَ يسعه فيه إل أن يطلب منها أن تستغفر ال.
وبعد أن كان المشهد رباعيا :فيه يوسف ،وامرأة العزيز ،والعزيز نفسه ،ثم الشاهد الذي فحص
القضية وحكم فيها ،ينتقل بنا الحق سبحانه إلى موقف أوسع؛ وهو دائرة المجتمع الذي وقعتْ فيه
القضية.
وهذا يدل على أن القصور ل أسرار لها؛ لن لسرار القصور عيونا تتعسس عليها ،وألسنة تتكلم
ن سوف يكشفها مهما
بها؛ حتى ل يظن ظان أنه يستطيع أن يحمي نفسه من الجريمة؛ لن هناك مَ ْ
بلغتْ قدرة صاحبها على التستّر والكتمان.
وقد تلصص البعض من خدم القصر؛ إلى أن صارت الحكاية على ألسنة النسوة.
س َوةٌ.} ..
ويحكي القرآن الموقف قائلًَ { :وقَالَ نِ ْ
()1612 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ش َغ َفهَا حُبّا إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
س َوةٌ فِي ا ْلمَدِي َنةِ امْرََأةُ ا ْلعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ َنفْسِهِ َقدْ َ
َوقَالَ نِ ْ
()30
وكلمة " النسوة " ،وكلمة " نساء " تدلّ على الجماعة ،لكن مفر َد كلّ منهما ساقط في اللغة ،فمفرد
" نسوة " امرأة؛ ومفرد " نساء " أيضا هو " امرأة ".
ومن العجيب أن المفرد ،وهو كلمة " امرأة " له مثنى هو " امرأتان " ،لكن في صيغة الجمع ل
توجد " امراءات " ،وتوجد كلمة نسوة اسم لجماعة الناث ،واحدتها امرأة ،وجمعها نساء.
وقد قالت النسوة { :امْرََأةُ ا ْلعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن ّنفْسِهِ } [يوسف.]30 :
وما قُلْنَه هو الحق؛ لكنهن لم َيقُلْنَ ذلك تعصبا للحق ،أو تعصبا للفضيلة.
وشاء سبحانه أن يدفع هذه المقالة عنهن ،ففضح الهدف المختفي وراء هذا القول في الية التالية
سكّينا
ن وَأَعْتَ َدتْ َلهُنّ مُ ّتكَئا وَآ َتتْ ُكلّ وَاحِ َدةٍ مّ ْنهُنّ ِ
س ِم َعتْ ِب َمكْرِهِنّ أَ ْرسََلتْ إِلَ ْيهِ ّ
حين قال {:فََلمّا َ
ن َوقُلْنَ حَاشَ للّهِ مَا هَـاذَا بَشَرا إِنْ هَـاذَآ ِإلّ
طعْنَ أَ ْيدِ َيهُ ّ
َوقَاَلتِ اخْرُجْ عَلَ ْيهِنّ فََلمّا رَأَيْنَهُ َأكْبَرْنَ ُه َوقَ ّ
مََلكٌ كَرِيمٌ * قَاَلتْ فَذاِلكُنّ الّذِي ُلمْتُنّنِي فِيهِ[} ...يوسف.]32-31 :
والمكر هو سَتْر شيء خلف شيء ،وكأن الحق يُنبّهنا إلى أن قول النسوة لم يكن غضبةً للحق؛ ول
تعصبا للفضيلة ،ولكنه الرغبة للنّكاية بامرأة العزيز ،و َفضْحا للضلل الذي أقامت فيه امرأة
العزيز.
وأردْن ـ أيضا ـ شيئا آخر؛ أن يُنزِلْنَ امرأة العزيز عن كبريائها ،وينشرن فضيحتها ،فَأتيْنَ
بنقيضين؛ ل يمكن أن يتعدى الموقف فيهما إل خسيس المنهج.
فهي امرأة العزيز ،أي :أرفع شخصية نسائية في المجتمع ،قد نزلت عن كبريائها كزوجة لرجل
يُوصَفُ بأنه الغالب الذي ل يُغلب؛ لن كلمة " العزيز " مأخوذة من المعاني الحسية.
فيُقال " :الرض العَزَاز " أي :الرض الصخرية التي يصعب المشي عليها ،ول يقدر أحد أنْ
يطأها؛ ومن هذا المعنى جاءت كلمة " العزيز ".
فكيف بامرأة العزيز حين تصير ُمضْغة في الفواه؛ لنها راودتْ فتاها وخادمها عن نفسه؛ وهو
بالنسبة لها في أدنى منزلة ،وتلك فضيحة مزرية مشينة.
وقالت النسوة أيضا:
ش َغ َفهَا حُبّا } [يوسف]30 :
{ َقدْ َ
والحب منازل؛ وأول هذه المنازل " الهوى " مثل :شقشقة النبات ،ويُقال " :رأى شيئا فهواه ".
وقد ينتهي هذا ال َهوَى بلحظة الرؤية ،فإذا تعلّق النسان بما رأى؛ انتقل من الهوى إلى العَلقة.
وبعد ذلك يأتي الكلف؛ أي :تكلّف أن يصل إلى ما يطلبه من هذه العَلقة .ثم ينتقل بعد ذلك إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مرتبة فيها التقاء وهي العشق ،ويحدث فيها تبادل للمشاعر ،ويعلن كل طرف كَلَفه؛ ولذلك يسمونه
" عاشق ومعشوق ".
ثم ينتقل إلى مرحلة اسمها " التدليه "؛ أي :يكاد أن يفقد عقله .ثم يصير الجسم إلى هُزَال ويقال "
تبلت الفؤاد " أي :تاه النسان في المر.
ثم تأتي بعد ذلك مرحلة الهُيَام ،أي :يهيم النسان على وجهه؛ فل يعرف له هدفا ،فإن تبع ذلك
جرم صار اسمه " جوى ".
تلك هي مراحل الحب التي تمر بالقلب ،والقلب ـ كما نعلم ـ هو الجهاز الصنوبري ،ويسمونه
َمقَرّ العقائد المنتهية ،والتي بحثها النسان واعتقدها بالفعل.
فالنسان منا يدرك الشياء بحواسه الظاهرة ،يرى ويشُمّ ويسمع ويذوق ويلمس ،فإذا أدرك بعضا
من المور؛ فهو يعرضها على العقل ليوازن بينها؛ ويختار الكثر قبولً منه ،وبعد ذلك تذهب تلك
المور المقبولة إلى القلب؛ لتستقر عقيدة فيه ل يحيد عنها.
أما المسائل العقلية؛ فقد تأتي مسائل أخرى تزحزحها؛ ولذلك يُقال للمور التي استقرت في القلب
" عقائد " ،أي :شيء معقود ل ينحل أبدا.
وما يصل إلى هذه المرتبة يظهر أثره في إخضاع سلوك حركة الحياة عليه ،وإذا ما استقر المبدأ
في نفس النسان؛ فهو يجعل كل حركته في ظل هذا المبدأ الذي اعتقده.
وهكذا نعرف :كيف تمرّ العقيدة بعدّة مراحل قبل أن تستقر في النفس ،فالدراك يحدث أولً؛ ثم
التعقّل ثانيا؛ وبعد ذلك يعتقد النسان المر ،ويصبح كل سلوك من بعد ذلك ِوفْقا لما اعتقده
النسان.
ش َغ َفهَا حُبّا[ { ..يوسف.]30 :
وكلمةَ } :
تعني أن المشاعر انتقلتْ من إدراكها إلى عقلها إلى قلبها ،والشغاف هو الغِشَاء الرقيق الذي يستر
القلب؛ أي :أن الحب تمكّن تماما من قلبها.
وقولهن:
للٍ مّبِينٍ { [يوسف.]30 :
} إِنّا لَنَرَاهَا فِي ضَ َ
هو قول حَقّ أُريد به باطل.
س ِم َعتْ ِب َمكْرِهِنّ.{ ...
ولذلك يقول الحق سبحانه بعد ذلك ما يفضح َم ْقصِدهن } :فََلمّا َ
()1613 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكّينًا َوقَالَتِ اخْرُجْ
ل وَاحِ َدةٍ مِ ْنهُنّ ِ
ن وَأَعْتَ َدتْ َلهُنّ مُ ّتكًَأ وَآَ َتتْ ُك ّ
س ِم َعتْ ِب َمكْرِهِنّ أَرْسََلتْ إِلَ ْيهِ ّ
فََلمّا َ
ن َوقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا ِإلّا مََلكٌ كَرِيمٌ ()31
طعْنَ أَيْدِ َيهُ ّ
عَلَ ْيهِنّ فََلمّا رَأَيْنَهُ َأكْبَرْ َن ُه َوقَ ّ
ولسائل أن يقول :وكيف انتقل َلهُنّ الكلم عن الذي حدث بينها وبين يوسف؟
ل ُبدّ أن هناك مرحلة بين ما حدث في القصر؛ وكان أبطاله أربعة هم :العزيز ،وامرأته،
ن نقل الكلم إلى خارج القصر؛ إنسان له علقتان؛ علقة
ويوسف ،والشاهد ،ول بد أن يكون مَ ْ
بالقصر فسمع ورأى وأدرك؛ ونقل ما علم إلى مَنْ له به علقة خارج القصر.
وبحث العلماء عن علقة النسوة اللتي ثرثرن بالمر ،وقال العلماء :هُنّ خمسة نساء :امرأة
الساقي ،وامرأة الخباز ،وامرأة الحاجب ،وامرأة صاحب الدواب (أي :سائس الخيل) ،وامرأة
السجان.
وهؤلء النسوة َيعِشْنَ داخل بيوتهن؛ فمَنِ الذي نقل َلهُنّ أسرار القصر؟
ل ُبدّ أن أحدا من أزواجهن قد أراد أن يُسلّي أهله ،فنقل خبر امرأة العزيز مع يوسف عليه
السلم؛ ثم نقلتْ زوجته الخبر إلى غيرها من النسوة.
وحين وصل إلى امرأة العزيز الخبر؛ وكيف يمكرن بها؛ أرسلت إليهن:
سكّينا[ } ..يوسف.]31 :
ل وَاحِ َدةٍ مّ ْنهُنّ ِ
{ وَأَعْتَ َدتْ َلهُنّ مُ ّتكَئا وَآ َتتْ ُك ّ
والمتكأ هو الشيء الذي يستند إليه النسان حتى ل يطول به مََللٌ من كيفية جِلْسته ،والمقصود
بالقول هو أن الجلسة سيطول وقتها ،وقد خططتْ لتكشف َوقْعَ رؤية يوسف عليهن ،فقدّمتْ لكل
منهن سكينا؛ وهو ما يوحي بأن هناك طعاما سوف يؤكل.
ويتابع الحق سبحانه:
{ َوقَاَلتِ اخْرُجْ عَلَ ْيهِنّ فََلمّا رَأَيْنَهُ َأكْبَرْنَهُ[ } ...يوسف.]31 :
ويُقال :أكب ْرتَ الشيء ،كأنك قد تخيّلته قبل أن تراه على حقيقته؛ وقد يكون خيالك قد رسم له
صورة جميلة ،إل أنك حين ترى الشيء واقعا؛ تكبر المرائي عن التخيّل.
والمثل أن إنسانا قد يُحدّثك بخير عن آخر؛ ولكنك حين ترى هذا الخر تُفاجأ بأنه أفضل مما
سمعتَ عنه.
جعْفرِ بنِ حبيبٍ أصدقَ القيمحتّى التقيْنَا فَل والِ
والشاعر يقول:كَا َدتْ مُسَاءلةُ ال ّركْبانِ تُخبِرني عن َ
سمِعتْ أُذني بأطيبَ ِممّا قَدْ رأى َبصَرِيويقولون في المقابل :سماعك بالمعيدي خير من أن
مَا َ
تراه .أي :يا ليتك قد ظللتَ تسمع عنه دون أن تراه؛ لن رؤيتك له ستُنقِص من قدر ما سمعت.
وهُنّ حين آذيْنَ امرأة العزيز بتداول خبر مُراودتها له عن نفسه ،تخيّلْنَ له صورةً ما من الحُسْن،
لكنهُنّ حين رأَيْ َن ُه فاقتْ حقيقته المرئية كل صورة تخيّلْنَها عنه؛ فحدث لهُنّ انبهار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأول مراحل النبهار هي الذهول الذي يجعل الشيء الذي طرأ عليك يذهلك عما تكون بصدده؛
فإن كان في يدك شيء قد يقع منك.
ت كلٌ منهن يدها بالسكين التي أعطتها لها امرأة العزيز لتقطيع الفاكهة ،أو الطعام المُقدّم
وقد قطع ْ
َلهُنّ.
وقال الحق سبحانه في ذلك:
طعْنَ أَ ْيدِ َيهُنّ } [يوسف.]31 :
{ فََلمّا رَأَيْ َنهُ َأكْبَرْنَ ُه َوقَ ّ
وهل هناك تصوير يوضح ما حدث َلهُنّ من ذهول أدقّ من هذا القول؟
ويتابع سبحانه:
{ َوقُلْنَ حَاشَ للّهِ مَا هَـاذَا َبشَرا إِنْ هَـاذَآ ِإلّ مََلكٌ كَرِيمٌ } [يوسف.]31 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للطرف الخر؛ وهذه مسألة لها من السرار ما ل نعرفه نحن؛ لنه سبحانه الذي يكتب القبول؛
ويُظهِر في المرأة جمالً قد يجذب رجلً ول يجذب رجلً آخر ،ونفسَ المسألة تحدث في نفسية
المرأة.
إذن :فحين رأت النسوة يوسف عليه السلم؛ قُلْنَ:
} مَا هَـاذَا بَشَرا إِنْ هَـاذَآ ِإلّ مََلكٌ كَرِيمٌ { [يوسف.]31 :
وهذا يعني أن يوسف هو الصورة العليا في الجمال التي ل يوجد لها مثيل في البشر.
وبعد ذلك يقول الحق سبحانه ما جاء على لسان امرأة العزيز ردا عليهن } :قَاَلتْ فَذاِلكُنّ.{ ....
()1614 /
قَاَلتْ فَذَِلكُنّ الّذِي ُلمْتُنّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ َنفْسِهِ فَاسْ َت ْعصَ َم وَلَئِنْ لَمْ َيفْ َعلْ مَا َآمُ ُرهُ لَ ُيسْجَنَنّ
وَلَ َيكُونَنْ مِنَ الصّاغِرِينَ ()32
وكأنها وجدت الفرصة لتثبت لنفسها العذر في مراودتها له ،فيوسف باعترافهن قد بلغ من الجمال
ما ل يوجد مثله في البشر.
وقولها { :فَذاِلكُنّ } [يوسف ،]32 :مُكوّن من " ذا " إشارة ليوسف ،و " ذِلكُنّ " خطاب للنسوة،
والشارة تختلف عن الخطاب.
وهنا موقف أسلوبي؛ لن الكلم حين يُنطق به ،أو حين يُكتب لِ ُيقْرأ؛ له ألوان متعددة ،فمرة يكون
نثرا ل يجمعه وزن أو قافية؛ وقد يكون نثرا مسجوعا أو مُرْسَلً ،ومرة يكون الكلم شعرا
محكوما بوزن وقافية.
والمثل على النثر المسجوع هو قول الحق سبحانه {:وَالطّورِ * َوكِتَابٍ مّسْطُورٍ * فِي َرقّ مّنْشُورٍ
* وَالْبَ ْيتِ ا ْل َم ْعمُورِ }[الطور.]4-1 :
س ُموّ
وهذا نثر مسجوع بل تكلّف ،وأنت إذا سمعت أو قرأت كلما؛ فأذنك تأخذ منه على قدر ُ
أسلوبه ،لكنك إن انتقلت من أسلوب إلى أسلوب ،فأذنك تلتقط الفارق بين السلوبين.
والمثل نجده في الرسالة التي كتبها ابن زيدون مُسْتعطفا ابن جهور " :هذا العَتْب محمودٌ عواقبه،
وهذه ال َغمْرة نَبْوة ثم تنجلي ،ولن يريبني من سيدي إنْ أبطأ سببه أو تأخر ،غير ضنين ضناه،
فأبطأ الدّلء قَبْضا أملؤها ،وأثقلُ السحابِ مشيا أعقلها ،ومع اليوم غد .ولكل أجل كتاب ،له الحمد
على اهتباله ،ول عَتْب عليه في اغتفاله.فإنْ َيكُن الفعلُ الذي سَاء واحدا فَأفْعالُه اللتي سَرَرْنَ
أُلوفُوهكذا تشعر انتقال ابن زيدون من النثر إلى الشعر ،ولكنك وأنت تقرأ القرآن ،تنتقل من النثر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المُرْسل إلى النثر المسجوع إلى النظم الشعري على وزن بحور الشعر ،فل تكاد تفرق في
السلوب بين شعر أو نثر.
والمثل نجده في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
{ فَذاِلكُنّ الّذِي ُلمْتُنّنِي } [يوسف.]32 :
فهي موزونه من بحر البسيط ،ولكنك ل تشعر أنك انتقلت من نثر إلى شعر.
وكذلك قوله الحق {:وَاللّهُ َيهْدِي مَن َيشَآءُ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ }[النور.]46 :
وأيضا قوله الحق {:نَبّىءْ عِبَادِي أَنّي أَنَا ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }[الحجر.]49 :
وتأتي تلك اليات في مواقع قد يكون ما قبلها نثرا ،مما يدلّ على أن النغم الذي قاله ال نَظْما أو
ل واحدا.
شعرا أو نثرا ل نشاز فيه ،ويكاد أن يكون سَيْ ً
وهذا ل يتأتّى إل من كلم الحق تبارك وتعالى ،وأنت لن تشعر بهذا المر لو لم يُن ّبهْك أحد ِلمَا
في بعض اليات من وزن شعري.
ستْ أُذنك بهذا النتقال؛ ونفس
أما كلم البشر؛ فأنت إنْ قرأتَ الموزون؛ ثم انتقلت إلى المنثور؛ أح ّ
المسألة تشعر بها حين تقرأ المنثور ،ثم تنتقل إلى الموزون؛ وستشعر أذنك بهذا النتقال.
{ قَاَلتْ فَذاِلكُنّ الّذِي ُلمْتُنّنِي فِي ِه وََلقَدْ رَاوَدتّهُ عَن ّنفْسِهِ فَاسَ َت ْعصَمَ } [يوسف.]32 :
قالت ذلك بجراءة مَنْ رأت تأثير رؤيتهن ليوسف ،وأعلنت أنه " استعصم " ،وهذا يعني أنه قد
تكلّف المشقة في حجز نفسه عن الفعل ،وهو قول يثبت أن رجولة يوسف غير ناقصة ،فقد جاهد
نفسه لِيكبتَها عن الفعل.
()1615 /
ن وََأكُنْ مِنَ
صبُ إِلَ ْيهِ ّ
حبّ إَِليّ ِممّا يَدْعُونَنِي إِلَيْ ِه وَإِلّا َتصْ ِرفْ عَنّي كَ ْيدَهُنّ َأ ْ
قَالَ َربّ السّجْنُ أَ َ
الْجَاهِلِينَ ()33
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولسائل أن يقول :ولماذا جاء قول يوسف بالجمع ،وقال:
حبّ إَِليّ ِممّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ } [يوسف.]33 :
{ السّجْنُ أَ َ
سجَنَنّ }[يوسف.]32 :
على الرغم من أن امرأة العزيز هي التي قالت {:وَلَئِن لّمْ َي ْف َعلْ مَآ آمُ ُرهُ لَيُ ْ
ونقول :ل بُدّ أن يوسف عليه السلم قد رأى منهن إشاراتٍ أو غمزات تُوحي له بألّ يُعرض نفسه
لتلك الورطة التي ستؤدي به إلى السجن؛ لذلك أدخل يوسف عليه السلم في قوله المفرد ـ امرأة
غمْزا أو إشارة أن
العزيز ـ في جمع النسوة اللتي جمعتُهنّ امرأة العزيز ،وهُنّ اللتي طلبْنَ منه َ
يُخرج نفسه من هذا الموقف.
ولعل أكثر من واحدة منهن قد نظرت إليه في محاولة لستمالته ،وللعيون والنفعالت وقَسَمات
الوجه تعبير أبلغ من تعبير العبارات ،وقد تكون إشارات عُيونهن قد دَّلتْ يوسف على المراد الذي
تطلبه كل واحدة منهن ،وفي مثل هذه الجتماعات تلعب لغة العيون دورا هاما.
وها هو ذا أبو دلمة الشاعر وقد جلس في مجلس الخليفة ،وكان أبو دلمة مشهورا بقدرة كبيرة
على الهجاء .وأراد الخليفة أن يداعبه فقال له :عزمتُ عليك إل هجوتَ واحدا منا.
ودارت عيون في المجلس ،وأشار له كل مَنْ حضر المجلس خُفيةً بأنه سيُجزل له العطاء إن ابتعد
أبو دلمة عن هجائه؛ ولن أبا دلمة معروفٌ بالطمع ،وخشي أن يضيع منه أيّ شيء من
العطايا؛ لذلك قام بهجاء نفسه؛ وقال:أل أبـلغْ لدَيْك أباَ دلمة فليسَ منَ الكِرا ِم ولَ كرامهإذَا لَبِسَ
ال ِعمَامةَ كان قِردا وخِنْزِيرا إذا خـلَع ال ِعمَامهوهكذا خرج من قسم المير؛ وكسب العطايا التي
وعده بها من حضروا المجلس.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد يوسف عليه السلم قد جمع امرأة العزيز مع
النسوة؛ فقال:
حبّ إَِليّ ِممّا َيدْعُونَنِي إِلَ ْيهِ } [يوسف.]33 :
{ َربّ السّجْنُ َأ َ
أي :أن السجن أفضل لديه من أن يوافق امرأة العزيز على فعل الفحشاء ،أو يوافق النسوة على
دعوتهن له أن يُحرّر نفسه من السجن بأن يستجيب لها ،ثم يخرج إليهن من القصر من بعد ذلك.
ولكن يوسف عليه السلم دعا ربه ،فقال:
ن وََأكُن مّنَ ا ْلجَاهِلِينَ } [يوسف.]33 :
صبُ ِإلَ ْيهِ ّ
{ وَِإلّ َتصْ ِرفْ عَنّي كَيْ َدهُنّ َأ ْ
ولسائل أن يقول :ولماذا لم َيقُلْ يوسف " يا إلهي " وهو يعلم أن مناط التكليف في اللوهية بـ "
افعل " و " ل تفعل "؟
جلّ وعل مَنْ ربّاه
نقول :أراد يوسف أن يدعو ربه باسم الربوبية اعترافا بفضله سبحانه؛ لنه هو َ
وتعهّده؛ وهو هنا يدعوه باسم الربوبية ألّ يتخلى عنه في هذا الموقف.
فيوسف عليه السلم يعرف أنه من البشر؛ وإنْ لم يصرف ال عنه كيدهُنّ؛ لستجاب لغوايتهن،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولصبح من الجاهلين الذين ل يلتفون إلى عواقب المور.
وعلى الرغم من أن السجن أمر كريه؛ إل أنه قد فضّله على معصية خالقه ،ولنه لجأ إلى المُربّي
الول .لتأتي الستجابة منه سبحانه.
يقول الحق { :فَاسْتَجَابَ َلهُ.} ...
()1616 /
وهكذا تفضّل عليه ال الذي خلقه وتولّى تربيته وحمايته ،فصرف عنه كيدهُنّ؛ الذي تمثل في
دَعْوتِهنّ له أن يستسلم ِلمَا دَعتْه إليه امرأة العزيز ،ثم غُوايتهن له بالتلميح دون التصريح.
سفَ عَن ّنفْسِهِ
خطْ ُبكُنّ إِذْ رَاوَدتّنّ يُو ُ
تلك الغواية التي تمثلت في قول الملك من بعد ذلك {:قَالَ مَا َ
علَيْهِ مِن سُوءٍ[} ...يوسف.]51 :
قُلْنَ حَاشَ للّهِ مَا عَِلمْنَا َ
جلّ وعَل له ُمطْلق السمع ومُطْلق العلم ،ول يخفى عليه
وهكذا أنجاه ال من َمكْر النسوة؛ وهو َ
شيء ،ويستجيب لهل الصدق في الدعاء .ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ { :ثمّ بَدَا َلهُمْ.} ...
()1617 /
وبعد أن ظهرتْ العلمات الشاهدة على براءة يوسف عليه السلم أمام العزيز وأهل مشورته،
وانكشف لهم انحرافُ امرأة العزيز وإصرارها على أن تُوقِع بيوسف في الفعل الفاضح معها،
دون خجل أو خوف من الفضيحة.
صلٌ
لذلك رأى العزيز وأهل مشورته أن يُوضَع يوسف عليه السلم في السجن؛ ليكون في ذلك َف ْ
بينه وبينها؛ حتى تهدأ ضجة الفضيحة؛ وليظهر للناس أنه مسئول عن كل هذا السوء الذي ظهر
في بيت العزيز.
كما أن كلمة { :لَيَسْجُنُنّهُ } [يوسف.]35 :
فيها نوع من استبقاء الحب الذي ُيكِنّه العزيز ليوسف ،فهو لم يأمر بقتله أو نفيه بعيدا؛ بل احتفظ
به بعيدا عن الزوجة ال ُمصِرّة على الخيانة ،وعن المجتمع الذي يَلُوكُ تلك الوقائع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والسجن ـ كما نعلم ـ هو حَبْس المسجون لتقييد حركته في الوجود؛ وهو إجراء يتخذه القاضي
أو الحاكم كعقوبة يُراد بها إذلل المسجون ،أو وقاية المجتمع من شرّه.
ونعلم أن النسان ل يجتريء على الحكام إل حين يظن أو يعلم أن له قدرة؛ وله غلبة؛ فيعلن له
القاضي أو الحاكم نهاية تلك الغلبة والقدرة ،ويأمر بدخوله إلى السجن ويحرس تقييد حريته
سجّان؛ وقد يتعرض للضرب أو الهانة.
َ
هذا هو السجن المتعارف عليه في العصور القديمة والحديثة ،حين تعزل المسجون عن المجتمع،
وقد يعطف عليه بعض من أبناء المجتمع ،ويزوره بعضٌ من أقاربه؛ ومعهم المأكولت؛
والمطلوبات.
ولكن هناك سجن ديني أسسه رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ حين عزل المجتمع اليماني عن
السجين ،وقد أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم أل يُكلّم أحد الثلثة الذين تخلفوا عن الخروج
معه للقتال بحجج واهية؛ بل وتسامى هذا العزل إلى أن صار عَ ْزلً عن الهل ،إلى أن أمر صلى
ال عليه وسلم بإنهاء هذا العزل بعد أن تحقق الغرض منه.
وماذا عن حال يوسف في السجن؟
خلَ َمعَهُ السّجْنَ.} ....
يقول الحق سبحانه { :وَدَ َ
()1618 /
ح ِملُ َفوْقَ
خمْرًا َوقَالَ الَْآخَرُ إِنّي أَرَانِي أَ ْ
عصِرُ َ
خلَ َمعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ َأحَ ُد ُهمَا إِنّي أَرَانِي أَ ْ
وَدَ َ
رَأْسِي خُبْزًا تَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَ ْأوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْل ُمحْسِنِينَ ()36
المعية التي دخل فيها اثنان من الفتية معه السجن هي معية ذات ،وقِيلَ :إنهما الخبّاز والساقي،
وقيل :إن سبب دخولهما هو رغبة بِطَانة عزيز مصر في التشويش على ما حدث من فضيحة
كبرى؛ هي فَضيحة مراودة امرأة العزيز ليوسف؛ ورفض يوسف لذلك.
وكان التشويش هو إذاعة خبر مؤامرة على العزيز؛ وأن الساقي والخباز قد تم ضبطهما بمحاولة
وضع السّمّ للعزيز.
وبعد فترة من حياة الثنين مع يوسف داخل السجن ،وبعد معايشة يومية له تكشّف لهما سلوك
يوسف كواحد من المحسنين.
وحدث أن رأى كل منهما حُلْما ،فقررا أن يطلبا منه تأويل هذين الحُلْمين ،والسجين غالبا ما يكون
كثير الوساوس ،وغير آمن على غَدِه؛ ولذلك اتجها إليه في المر الذي ُيهِمهم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ح ِملُ َفوْقَ رَأْسِي خُبْزا تَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ
خمْرا َوقَالَ الخَرُ إِنّي أَرَانِي َأ ْ
عصِرُ َ
{ قَالَ َأحَدُ ُهمَآ إِنّي أَرَانِي أَ ْ
حسِنِينَ } [يوسف.]36 :
مِنْهُ نَبّئْنَا بِتَ ْأوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُ ْ
ومن سياق الكلم نعرف أننا أمام حُلْمين؛ فواحد منهما رأى في منامه أنه يعصر خمرا ،ورأى
حدَة ـ
الثاني أنه يحمل خُبْزا فوق رأسه تأكل منه الطير ،واتجه كلهما ـ أو ُكلّ منهما على ِ
يطلبان ـ تأويل الرؤيتين المناميتيْنِ ،أو أنهما قد طلبا نبأ تَأويل هذا المر الذي رأياه.
وحيثية لجوئهما إليه هو قولهما:
{ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُحْسِنِينَ } [يوسف.]36 :
وهذا يدل على أن الحسان أمر معلوم لكل البشر ،حتى أصحاب النفوس المنحرفة ،فل أحد يمكن
س الحسان في ذهن مَنْ يصدر هذا الحكم.
أن يحكم على آخر أنه محسن إل إذا وافق عملُه مقايي َ
فكل نفس تعرف السوء ،وكل نفس تعرف الحسان ،ولكن الناس ينظرون إلى الحسان وإلى
السوء بذاتية أنفسهم ،ولكنهم لو نظروا إلى مجموع حركة المتحركين في الكون ،ونظروا إلى أيّ
أمر يتعلق بالغير كما يتعلق بهم؛ لَعرفوا أن الحسان قَدْر مشترك بين الجميع.
ونجد اللص ـ على سبيل المثال ـ ل يسيئه أن يسرق أحدا ،لكن يسيئه لو أن أحدا قام بسرقته،
وهكذا نرى الحسان وقد انتفض في أعماقه حين يتوجه السوء إليه ،ويعرف حينئذ مقام الحسان،
ولكنه حين يمارس السرقة؛ ويكون السوء متوجها منه إلى الغير؛ فهو يغفل عن مقام الحسان.
ت أن تعرف مقام الحسان في مقاييس الفضائل والخلق؛ فافهم المر بالنسبة لك
إذن :إنْ أَرد َ
سلْبا.
إيجابا و َ
والمثال الذي أضربه دائما هو :قبل أن َتمُدّ عينيك إلى محارم غيرك ،وتعتبر أن هذا ليس سوءً،
هنا عليك أن تعرف مقياسه من الحُسْن إن نقلتَ المر إلى الصورة العكسية؛ حين تتجه عيون
الغير إلى محارمك.
هنا ستجد الميزان ـ ميزانك للمور ـ وقد اعتدل.
وإذا أردتَ اعتدال الميزان في كل فعل؛ فانظر إلى الفعل يقع منك على غيرك؛ وانظر إلى الفعل
يقع من الغير عليك؛ وانظر إلى الراجح في نفسك من المرين ستجد قب الميزان منضبطا.
وأقول دائما :إن الحق سبحانه حين حرّم عليك أن تسرق غيرك ،لم يُضيّق حريتك؛ بل ضيّق
حرية المليين كي ل يسرقوك ،وهذا مكسب لك.
إذن :فالذي يعرف مقام الحسان؛ ل ينسب الفعل الصادر منه على الغير؛ والفعل الصادر من
الغير عليه؛ بل ينظر إليهما معا؛ فما استقبحه من الغير عليه؛ فليستقبحه منه على الغير.
وقد حكم السجينان على يوسف أنه من المحسنين ،وعَلِم يوسف عليه السلم من حكمهما عليه أن
مقاييس الحسان موجودة عندهما؛ ولذلك نظر إلى المر الذي جاءاه من أجله ،واستغل هذه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المسألة؛ ل لقضاء حاجتهما منه؛ ولكن لقضاء حاجته منهما.
فقد رأى فيهما شبهة اليمان بالحسان؛ واليمان بالمحسنين ،فلماذا ل ينتهز الفرصة فيأخذ حاجته
منهما؛ قبل أن يعطيهما حاجتهما منه؟
ل منكما قد رأى
وكأنه قال لهما :ماذا رأيتُما من إحساني؟ هل رأيتم حُسْن معاملتي لكم؟ أم أن ك ً
دقة اختياري للحَسَن من القول؟ وأنتما قد ل تعرفان أن عندي ـ بفضل ال ـ ما هو أكثر ،وهو
ل لَ يَأْتِي ُكمَا.{ ...
ما يقوله الحق سبحانه بعد ذلك في الية التالية } :قَا َ
()1619 /
طعَامٌ تُرْ َزقَا ِنهِ إِلّا نَبّأْ ُت ُكمَا بِتَ ْأوِيلِهِ قَ ْبلَ أَنْ يَأْتِ َي ُكمَا ذَِل ُكمَا ِممّا عَّلمَنِي رَبّي إِنّي تَ َر ْكتُ مِلّةَ
قَالَ لَا يَأْتِي ُكمَا َ
َقوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَهُمْ بِالْآَخِ َرةِ هُمْ كَافِرُونَ ()37
وبذلك أوضح لهما أنهما ل يريان منه إل الظاهر من السلوك ،ولكن هناك أمور مخفية ،وكأنه
يُنمي فيهما شعورهما بمنزلته وبإحسانه وبقدرته على أن يخبرهما بأوصاف ونوع أيّ طعام
يُرزَقانِه قبل أن يأتي هذا الطعام.
وهذه ليست خصوصية في يوسف أو من عِنْدياته ،ولكنها من علم تلقّاه عن ال ،وهو أمر يُعلّمه
ال لعباده المحسنين؛ فيكشف ال لهم بعضا من السرار.
وهما ـ السجينان ـ يستطيعان أن يكونا مثله إنْ أحسنا اليمان بال .ولذلك يتابع الحق سبحانه:
{ ذاِل ُكمَا ِممّا عَّلمَنِي رَبّي إِنّي تَ َر ْكتُ مِلّةَ َقوْ ٍم لّ ُي ْؤمِنُونَ بِاللّ ِه وَهُمْ بِالخِ َرةِ هُمْ كَافِرُونَ } [يوسف:
.]37
وكأنه بذلك يهديهما إلى الطريق الذي يجعلهما من المحسنين الذين يعطيهم ال بعضا من هِبَات
الخير ،فيعلمون أشياء تَخْفى على غيرهم.
وهذا يدلّنا على أن المؤمن إذا رأى في إنسان ما مَخِيلَة خير فَلْينمي هذه المخيلة فيه ليصل إلى
خير أكبر؛ وبذلك ل يحتجز الخصوصية لنفسه حتى ل يقطع السوة الحسنة؛ ولكي يُطمِع العباد
في تجليات ال عليهم وإشراقاته.
ولذلك أوضح يوسف عليه السلم للسجينين أنه ترك مِلّة قوم ل يؤمنون بال بما يليق اليمان به
سبحانه ،ول يؤمنون بالبعث والحساب ثوابا بالجنة ،أو عقابا في النار.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلم { :وَاتّ َبعْتُ مِلّةَ.} ...
()1620 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضلِ
شيْءٍ ذَِلكَ مِنْ َف ْ
ق وَ َيعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْ ِركَ بِاللّهِ مِنْ َ
وَاتّ َبعْتُ مِلّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِي َم وَإِسْحَا َ
شكُرُونَ ()38
س وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َي ْ
علَيْنَا وَعَلَى النّا ِ
اللّهِ َ
وبذلك أوضح يوسف عليه السلم أنه ترك مِلّة القوم الذين ل يعبدون ال حَقّ عبادته ،ول يؤمنون
بالخرة ،واتبع ملة آبائه إبراهيم ثم إسحق ثم يعقوب ،وهم مَنْ أرسلهم ال لهداية الخلق إلى
التوحيد ،وإلى اليمان بالخرة ثوابا بالجنة وعذابا بالنار.
وذلك من فضل ال بإنزاله المنهج الهادي ،وفضله سبحانه قد شمل آباء يوسف بشرف التبليغ عنه
سبحانه؛ ولذلك ما كان ِلمَنْ يعرف ذلك أنْ يشرك بال ،فالشرك بال يعني اللجوء إلى آلهة متعددة.
ضهُمْ عَلَىا
ق وََلعَلَ َب ْع ُ
يقول الحق سبحانهَ {:ومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذا لّ َذ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَ َ
صفُونَ }[المؤمنون.]91 :
عمّا َي ِ
َب ْعضٍ سُبْحَانَ اللّهِ َ
فلو أن هناك آلهة غير ال سبحانه لصنع كلّ إله شيئا ل يقدر على صُنْعه الله الخر؛ ولصبح
المر صراعا بين آلهة متنافرة.
ومن فضل ال ـ هكذا أوضح يوسف عليه السلم ـ أن أنزل منهجه على النبياء؛ ومنهم آباؤه
إبراهيم وإسحق ويعقوب؛ لِيُبلغوا منهجه إلى خَلْقه ،وهم لم يحبسوا هذا الفضل القادم من ال ،بل
أبلغوه للناس.
شكُرُونَ } [يوسف.]38 :
س لَ َي ْ
{ وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
شكُرُونَ } [يوسف ]38 :اعلم أن المر الذي أنت بصدده هو في
وساعة تقرأ أو تسمع كلمة { :لَ يَ ْ
شكْر إل على النعمة.
مقاييس العقل والفطرة السليمة يستحق الشكر ،ول ُ
ولو َفطِنَ الناس لَشكروا النبياء والرسل على المنهج الذي بلّغوه عن ال؛ لنه يهديهم إلى حُسْن
إدارة الدنيا ،وفوق ذلك يهديهم إلى الجنة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما واصله يوسف من حديثه للسجينين { :ياصَاحِ َبيِ السّجْنِ.} ....
()1621 /
يَا صَاحِ َبيِ السّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُ َتفَ ّرقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ ا ْلوَاحِدُ ا ْل َقهّارُ ()39
وكلمة " صاحب " معناها ملزم؛ والجامع بين يوسف والسجينين هو السجن ،ونحن نقول " فلن
صاحب الدراسة " أو " صاحب حج " ،الشيء الذي يربط بين اثنين أو أكثر ،إما أن تنسبه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للمكان ،أو تنسبه إلى الظرف الذي جمع بين تلك المجموعة من الصحبة.
وطرح يوسف السؤال:
حدُ ا ْل َقهّارُ } [يوسف ]39 :وحين تطرح سؤالً عبر مقابل لك،
{ ءَأَرْبَابٌ مّتّفَ ّرقُونَ خَيْرٌ َأمِ اللّهُ ا ْلوَا ِ
فأنت تعلم مُقدّما أنه يفهم أن أربابا متفرقون ليسوا خيرا من إله واحد ،وكأن يوسف قد وَثِق من أن
إجابتهما لن تكون إل بقولهم " بل عبادة إله واحد خير ".
وهو لم يكُنْ ليسأل إلّ إذا عرف أنهما سيُديرانِ كل الجوبة؛ فل يجدان جوابا إل الجواب الذي
أراده.
فهما قد عبدا آلهة متعددة؛ وكان المفروض في مقاييس الشياء أن تُغنِيكم تلك اللهة عن اللجوء
لمن يعبد الله الواحد.
إذن :في ُقوَى البشر نجد التعدد يُثْرِي ويُضخّم العمل ،لكن في اللوهية نجد الشرك يُضعِف
العمل.
ولذلك نجد الصوفي يقول :اعمل لوجه واحد يكفيك كل الوجه .ولذلك قال يوسف عليه السلم
لصاحبي السجن:
{ ءَأَرْبَابٌ مّتّفَ ّرقُونَ خَيْرٌ[ } ...يوسف.]39 :
ولو كان تفرّقهم تفرّقَ ذواتٍ لكانوا بل كمال يستحقون من أجله العبادة ،ولو كان تفرّقهم تفرّقَ
تَكرار لما كان لهذا التكرار لزوم ،ولو كان تفرّقهم تفرّق اختصاصات ،فهذا يعني أن لكل منهم
ط ضعف؛ وتفرّقهم هذا دليل نقص.
نقط َة قوة ونقا َ
ولذلك رحمنا الحق نحن المؤمنين به لنعبد إلها واحدا ،فقال {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ
حمْدُ للّهِ َبلْ َأكْثَرُهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ }[الزمر.]29 :
جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً ا ْل َ
سلَما لّرَ ُ
ن وَرَجُلً َ
مُتَشَاكِسُو َ
وقد حاول يوسف عليه السلم أن يهديهم إلى عباد الله الواحد ،وقال لهم من بعد ذلك ما جاء به
الحق سبحانه { :مَا َتعْبُدُونَ مِن دُونِهِ.} ...
()1622 /
ونلحظ أن يوسف ـ عليه السلم ـ لم يتكلم حتى الن مع السجينين عن مطلوبهما منه ،وهو
تأويل الرّؤيَتَيْنِ ،وهو لو تكلم في المطلوب منه أولً؛ لنصرف ِذهْن وانتباه ُكلّ من السجينين إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قضاء حاجتهما منه؛ ولن يلتفتا بعد ذلك إلى ما يدعو إليه؛ ولن الذي يدعو إليه هو المر البْقى،
وهو المر العام الذي يتعلق بكل حركة من حركات الحياة.
وبذلك كان يوسف عليه السلم يؤثر السجينين؛ فقد أراد أن يلفتهما إلى المر الجوهري قبل أن
يتحدث عن الجزئية الصغيرة التي يسألنِ فيها؛ وأراد أن يُصحّح نصرة الثنين إلى المنهج العام
الذي يدير به النسان كل تفاصيل الحياة وجزئياتها؛ وفي هذا إيثار ل أثرة.
وهنا قال الحق سبحانه على لسان يوسف عليه السلم:
سمّيْ ُتمُوهَآ أَنتُ ْم وَآبَآ ُؤكُمْ[ } ...يوسف.]40 :
سمَآءً َ
{ مَا َتعْ ُبدُونَ مِن دُونِهِ ِإلّ أَ ْ
أي :أن ما تعبدونه من آلهة مُتعدّدة هو مُجرّد عبادة لسماء بل معنى ول وجود؛ أسماء ورثتموها
عن آبائكم أو أنشأتموها أنتم ،فكفرتُمْ بإنشاء أسماء للهة غير موجودة ،كما كفر آباؤكم ُكفْر نسيان
التكليف أو إنكار التكليف.
وتُوضع السماء عادةً للدللة على المُسمّى؛ فإذا نطقنا السم تجيء صورة المسمى إلى الذّهْن؛
ولذلك نسمي المولود بعد ولدته باسم يُميّزه عن بقية إخوته؛ بحيث إذا أُطلِق السم انصرف إلى
الذات المشخصة.
وإذا أُطلق اسم واحد على متعددين؛ فل بد أن يوضح واضع السم ما يميز كل ذات عن الخرى.
والمَثل من الريف المصري؛ حين يتفاءل أب باسم " محمد "؛ فيسمّي كل أولده بهذا السم ،ولكنه
يُميّز بينهم بأن يقول " :محمد الكبير " و " محمد الوسط " و " محمد الصغير ".
أما إذا وُضِع اسم لمُسمّى غير موجود؛ فهذا أمر غير مقبول أو معقول ،وهم قد وضعوا أسماء
للهة غير موجودة؛ فصارت هناك أسماء على غير مُسمّى.
ويأتي هؤلء يوم القيامة؛ لِيُسألوا لحظة الحسابُ {:ثمّ قِيلَ َلهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْ ِركُونَ * مِن دُونِ اللّهِ
ضلّ اللّهُ ا ْلكَافِرِينَ }[غافر.]74-73 :
قَـالُواْ ضَـلّواْ عَنّا بَل لّمْ َنكُنْ نّدْعُواْ مِن قَ ْبلُ شَيْئا َكذَِلكَ ُي ِ
وهكذا يعترف هؤلء بأنه لم َتكُنْ هناك آلهة؛ بل كان هنا أسماء بل مُسمّيات.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا:
سمّيْ ُتمُوهَآ أَنتُ ْم وَآبَآ ُؤكُمْ } [يوسف .]40 :وكأن يوسف يتساءل:
سمَآءً َ
{ مَا َتعْ ُبدُونَ مِن دُونِهِ ِإلّ أَ ْ
ءَإذا كانت لكم حاجة تطلبونها من السماء ،هل ستسألون السم الذي ل مُسمّى له؟
وهل يسعفكم السم بدون مُسمّى؟
ويوسف عليه السلم يعلم أن المعبود ل يمكن أن يكون اسما بل مُسمّى ،وهو يعلم أن المعبود
الحق له اسم يبلغه لرسله ،ويُنزِل معهم المنهج الذي يوجز في " افعل " و " ل تفعل ".
وهم قد سموا أسماء ل مُسمّى لها ،ول يستطيع غير الموجود أن يُنزِل منهجا ،أو يُجيب مضطرا.
ولذلك يتابع القرآن ما جاء على لسان يوسف عليه السلم في َوصْف تلك السماء التي بل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مُسمّيات ،فيقول:
سلْطَانٍ { [يوسف:
سمّيْ ُتمُوهَآ أَنتُ ْم وَآبَآ ُؤكُمْ مّآ أَن َزلَ اللّهُ ِبهَا مِن ُ
سمَآءً َ
} مَا َتعْ ُبدُونَ مِن دُونِهِ ِإلّ أَ ْ
.]40
أي :ما أنزل ال بها من حجة.
وتتابع الية الكريمة ما جاء على لسان يوسف:
حكْمُ ِإلّ للّهِ َأمَرَ َألّ َتعْبُدُواْ ِإلّ إِيّاهُ[ { ...يوسف.]40 :
} إِنِ الْ ُ
أي :إنني ـ والكلم ليوسف ـ إن قلتُ شيئا فلنّي ناقلٌ للحكم عن ال ،ل عن ذاتي؛ ول من
عندي؛ ول عن هواي؛ لنه هو سبحانه الذي أمر أل تعبدوا إل إياه ،أي :ل تطيعوا أمرا أو نهيا
إل ما أنزله ال في منهجه الهادي للحق والخير.
ويُذيّل الحق سبحانه الية الكريمة:
س لَ َيعَْلمُونَ { [يوسف.]40 :
} ذاِلكَ الدّينُ ا ْلقَيّ ُم وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
أي :أن هذا هو الدين المستقيم دون سواه ،ولكن أكثر الناس ل يعلمون ،بمعنى :أن الرسل قد
بلّغتهم بالمنهج ،ولكنهم لم يُوظّفوا هذا العلم في أعمالهم.
ثم بدأ يوسف عليه السلم في تأويل المطلوب لهما.
يقول الحق سبحانه } :ياصَاحِ َبيِ السّجْنِ.{ ...
()1623 /
ضيَ
خمْرًا وََأمّا الَْآخَرُ فَ ُيصَْلبُ فَتَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِنْ رَ ْأسِهِ ُق ِ
سقِي رَبّهُ َ
يَا صَاحِ َبيِ السّجْنِ َأمّا َأحَ ُد ُكمَا فَيَ ْ
الَْأمْرُ الّذِي فِيهِ تَسْ َتفْتِيَانِ ()41
وهكذا رجع يوسف عليه السلم إلى مطلب السجينين ،وفسّر رؤيا مَنْ يسقي الخمر بأنه سيخرج
من السجن ويعود ليسقي سيده ،وأما الخر فلسوف يُصَلبُ وتأكل الطير من رأسه ،لن رمزية
الرؤيا تقول :إن الطير سيأكل من رأسه؛ وهذا يعني أن رأسه ستكون طعاما للطير.
شفْرة
وتأويل الرؤيا علم يقذفه ال في قلوب مَنْ علّمهم تأويل الحاديث ،وهي قدرة على َفكّ َ
الحُلْم ،ويعطيها ال لمَنْ يشاء من عباده.
خمْرا }[يوسف.]36 :
عصِرُ َ
وقد قال يوسف لمَنْ قال {:إِنّي أَرَانِي أَ ْ
أنه سوف ينال العفو ما أظهرته الرؤيا التي قالها ،وأما الخر فسيأكل من رأسه الطير .أي:
سيُصلب كما أوحتْ بذلك رموز الرّؤيا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونلحظ أن يوسف عليه السلم قد انشغل بالحكم الذي أوضحته الرؤييان عن الثنين صاحبي
الرؤييين.
وهذا دليل على أن القاضي يجب أن يكون ذهنه مُنصبّا على الحكم؛ ل على المحكوم عليه ،فقد
سمع يوسف منهما؛ وهو ل يعرف مَنْ سينال البراءة ،ومَنْ الذي سوف يُعاقب.
فنزع يوسف ذاته من المر ،ولم يسمح لنفسه بدخول الهوى إلى قلبه؛ لن الهوى يُلوّن الحكم ،ول
أحد بقادر على أن يسيطر على عاطفته ،ول بد للقاضي لحظة أن يصدر حكما أن يتجرد تماما
من الهوى والذاتيات.
ويُعلّمنا الحق سبحانه ذلك حين أنزل لنا في قرآنه قصة سيدنا داود عليه السلم {:وَ َهلْ أَتَاكَ نَبَأُ
صمَانِ َبغَىا
خ ْ
خفْ َ
علَىا دَاوُودَ َففَزِعَ مِ ْنهُمْ قَالُو ْا لَ َت َ
خلُواْ َ
سوّرُواْ ا ْل ِمحْرَابَ * إِذْ دَ َ
صمِ إِذْ َت َ
خ ْ
الْ َ
سوَآءِ الصّرَاطِ * إِنّ َهذَآ أَخِي لَهُ
ط وَا ْهدِنَآ إِلَىا َ
شطِ ْ
حكُمْ بَيْنَنَا بِا ْلحَقّ وَلَ تُ ْ
علَىا َب ْعضٍ فَا ْ
َب ْعضُنَا َ
سؤَالِ
ظَل َمكَ ِب ُ
ج ًة وَلِي َن ْعجَ ٌة وَاحِ َدةٌ َفقَالَ َأ ْكفِلْنِيهَا وَعَزّنِي فِي ا ْلخِطَابِ * قَالَ َلقَدْ َ
سعُونَ َنعْ َ
تِسْ ٌع وَتِ ْ
عمِلُواْ
علَىا َب ْعضٍ ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
ضهُمْ َ
َنعْجَ ِتكَ إِلَىا ِنعَاجِ ِه وَإِنّ كَثِيرا مّنَ ا ْلخُلَطَآءِ لَيَ ْبغِي َب ْع ُ
ت َوقَلِيلٌ مّا هُ ْم َوظَنّ دَاوُودُ أَ ّنمَا فَتَنّاهُ فَاسْ َت ْغفَرَ رَبّ ُه َوخَرّ رَاكِعا وَأَنَابَ }[ص.]24-21 :
الصّالِحَا ِ
وكان من ذكر عدد ِنعَاج أخيه أنه إنما أراد أن يستميل داود عليه السلم لِصفّه؛ وكان يريد أن
يُصوّر الظلم الذي وقع عليه ،وحكم داود بأن مَنْ أخذ النعجة ليضمها لنعاجه هو الذي ظلم؛ وشعر
داود أنه لم يُوفّق في الحكم؛ لنه ذكر في حيثية الحكم نعاج الذي أراد أن يأخذ نعجة أخيه.
فالخذ وحده كان هو المبرر عند داود لدانة الذي أراد الستيلء على ما ليس من حقه؛ ولذلك
اعتبر أن هذا المر كله فتنة لم يُوفّق فيها ،واستغفر ال بالركوع والتوبة.
وقد كان يوسف عليه السلم حكيما حين قال تأويل الرّؤيا متجردا من الذاتية ،وأنهى التأويل
بالقول:
لمْرُ الّذِي فِيهِ َتسْ َتفْتِيَانِ } [يوسف.]41 :
ياَ
ضَ{ ُق ِ
أي :أنه ل مجال للرجوع أو العدول عن حدوث ذلك الذي وصل إليه من تأويل؛ فقد جاء التأويل
وفقا لما علّمه ال له.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يتوارثه اكبر البناء ،ووضعته تحت ملبس يوسف.
وكان العُرفُ الجاري أنه إذا سرق أحد شيئا وتَمّ ضبطه؛ تحول من حرّ إلى عبد ،وحين كاد
يعقوب أن يخرج مع ابنه يوسف عائدا إلى بيته؛ أعلنت العمة فقدان الشيء الذي أعطاه لها والدها
إسحق؛ وفتشوا يوسف فوجدوا الشيء المفقود.
فقالت عمته :وال إنه لَسَلْم ـ أي عبد ـ وكان العرف أن مَنْ يسرق شيئا يتحول إلى عبد عند
صاحب الشيء.
وهكذا بقي يوسف مع عمته محروما من أبيه لفترة ،ولم يستطع الب استرداده إل بعد أن ماتت
العمّة.
جبّ ،ومن بعدها محاولة امرأة العزيز ِلغُوايته ،ورغم تيقّن العزيز من براءته
ثم جاءت حادثة ال ُ
إل أنه أُودِع السجن؛ ويقول الرواة:
حسْن السمت،
" إن يوسف عليه السلم قد عُرف في السجن بالجود ،والمانة ،وصدق الحديث ،و ُ
وكثرة العبادة ،ومعرفة التعبير ـ أي تأويل الرؤيا ـ والحسان إلى أهل السجن.
ولما دخل هذان الفَتيانِ معه السجن؛ تآلفا به وأحبّاه حُبّا شديدا وقال له :وال لقد أحببناك حبا
زائدا .قال :بارك ال فيكما؛ إنه ما من أحد أحبّني إل دخل عليّ من محبته ضررٌ ،أحبتني عمّتي
فدخل الضرر بسببها ،وأحبّني أبي فأوذيتُ بسببه ،وأحبّتني امرأة العزيز فكذلك.
أي :أنه دخل السجن وصار معهما دون ذنب جَنَاه.
قال السجينان :إنا ل نستطيع غير ذلك ".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك ما قاله يوسف لمن ظَنّ أنه سينجو من السجنَ } :وقَالَ لِلّذِي ظَنّ...
{.
()1624 /
َوقَالَ لِلّذِي ظَنّ أَنّهُ نَاجٍ مِ ْن ُهمَا ا ْذكُرْنِي عِنْدَ رَ ّبكَ فَأَ ْنسَاهُ الشّ ْيطَانُ ِذكْرَ رَبّهِ فَلَ ِبثَ فِي السّجْنِ ِبضْعَ
سِنِينَ ()42
والمقصود هنا هو السجين الذي رأى حُلْما يعصر فيه العنب ،فهو الذي فسر له يوسف رؤياه بأنه
سينجو؛ ويواصل مهمته في صناعة الخمر لسيده.
وقوله سبحانه:
{ َوقَالَ لِلّذِي ظَنّ[ } ..يوسف.]42 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعني أن المر بالنجاة لم يتيقن بعد ،ولم يصبح علما.
وقد أوصاه يوسف عليه السلم:
{ ا ْذكُرْنِي عِندَ رَ ّبكَ[ } ...يوسف.]42 :
والذكر هو حضور شيء بالبال؛ وكان له بالبال صِلَة استقبال ،مثل أي قضية عرفتَها من قبل ثم
تركتَها ،ونسي َتهَا لفترة ،ثم تذكرتَها من جديد.
وهكذا نعلم أن للنسان استقبالت للدراكات ،وهي ل تظل في ُبؤْرة الشعور كل الوقت؛ لن
الذهن ل يستطيع أن يكون مشغولً إل بشيء واحد ،فإن جاء شيء آخر فهو يزحزح المر الول
إلى حافة الشعور ،ليستقر المر الجديد في بؤرة الشعور.
والمثل الذي أضربه دائما هو إلقاء حجر في الماء ،فيصنع الحجر دوائر تكبر ويتتابع اتساع
أقطارها ،وهكذا بؤرة الشعور ،حين تستقبل أمرا أو خاطرا جديدا.
فالخاطر الجديد يُبعد كل الخواطر الخرى من المركز إلى الحاشية ،ثم يأتي ما يُذكّرك بما في
حاشية الشعور؛ ليعود لك الخاطر أو المر الذي كنت قد نسيتَه وتتذكره بكل تفاصيله؛ لن ذاكرة
النسان تعمل على مُسْتويين؛ فهي تحفظ المعلومات؛ وتسترجع المعلومات أيضا.
وقد قال يوسف لمن ظن أنه نَاجٍ:
{ ا ْذكُرْنِي عِندَ رَ ّبكَ[ } ..يوسف.]42 :
أي :اذكر ما وجدته عندي من خير أمام سيدك.
وقال بعض المفسرين :إن يوسف عليه السلم حين نطق هذا القول؛ شاء له ال أن يمكث في
السجن بضع سنين؛ فما كان ينبغي له كرسول أن يُوسّط الغير في مسألة ِذكْره بالخير عند سيد
ذلك السجين.
فيوسف كرسول إنما يتلقى عن ال بواسطة الوحي؛ وهو قد قال لذلك السجين وزميله {:لَ يَأْتِي ُكمَا
طعَامٌ تُرْ َزقَانِهِ ِإلّ نَبّأْ ُت ُكمَا بِتَ ْأوِيلِهِ قَ ْبلَ أَن يَأْتِ َي ُكمَا ذاِل ُكمَا ِممّا عَّلمَنِي رَبّي }[يوسف.]37 :
َ
وهذا يعني أنه يستقبل عن ال مباشرة ،وكان عليه أن يظل موصولً بالمصدر الذي يفيض عليه.
ويتابع الحق سبحانه:
{ فَأَ ْنسَاهُ الشّ ْيطَانُ ِذكْرَ رَبّهِ فَلَ ِبثَ فِي السّجْنِ ِبضْعَ سِنِينَ } [يوسف.]42 :
ونسيان ذكر ال فيه نوع من العقوبة ،أو يحمل شيئا من التأديب ليوسف ،وهكذا نرى أن الشيطان
نفسه إنما ُيعِين الحق على مُرَاداته من خَلْقه.
وهذا ما يشرح لنا بقاء يوسف في السجن بضع سنين؛ ونعرف أن ال ِبضْع من السنين يعني من
عشْر سنوات ،وبعض العلماء حَدّده بسبع سنين.
ثلث سنوات إلى َ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :وقَالَ ا ْلمَِلكُ.} ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1625 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهو أن يكون هناك شيء مكتوم في النفس ،ونُؤدّيه ،ونُظهِره بالعبارة.
ومنه " العَبْرة " ،وهو الدّمعْة التي تسقط من العين تعبيرا عن مشاعر ما؛ سواء كانت مشاعر
حُزْن أو فرح ،والمادة كلها تدور حول تعريف مجهول بمعلوم.
وهكذا يفعل مُفسّر ال ّرؤْيا حين يَعبُر ـ من خلل رموزها ـ من الخيال إلى الحقيقة.
ولم يعرف المل الذين حول المَلِك تفسيرا للرّؤيا التي رآها في منامه.
ضغَاثُ.} ...
ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم { :قَالُواْ َأ ْ
()1626 /
()1627 /
َوقَالَ الّذِي نَجَا مِ ْن ُهمَا وَا ّدكَرَ َبعْدَ ُأمّةٍ أَنَا أُنَبّ ُئ ُكمْ بِتَ ْأوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ()45
وكان الذي نجا من السجينين يسمع مقالة الملك وردّ المل؛ فاسترجع بذاكرته ما مَرّ عليه في
السجن ،وكيف رأى الرّؤيا ،وكيف قام يوسف بتأويلها.
وقوله { :وَا ّدكَرَ َبعْدَ ُأمّةٍ[ } ..يوسف.]45 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعني :أنه أجهد عقله وذهْنه؛ وافتعل التذكّر لن فترة ل بأس بها من الزمن قد مَ ّرتْ ،وكلمة " أمة
" تعني فترة من الزمن؛ كما في قول الحق تبارك وتعالى {:وَلَئِنْ َأخّرْنَا عَ ْنهُمُ ا ْلعَذَابَ إِلَىا ُأمّةٍ
سهُ َألَ َيوْمَ يَأْتِيهِمْ لَ ْيسَ َمصْرُوفا عَ ْنهُ ْم َوحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْزِءُونَ }
ّمعْدُو َدةٍ لّ َيقُولُنّ مَا َيحْبِ ُ
[هود.]8 :
و " المة " قد يُراد بها الجماعة من الناس ،ويُراد بها أيضا الرجل الجامع لكل صفات الخير ،كما
قال الحق سبحانه في وصف إبراهيم عليه السلم {:إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتا لِلّهِ حَنِيفا وََلمْ َيكُ مِنَ
ا ْلمُشْ ِركِينَ }[النحل.]120 :
أي :أن كل خصال الخير مجموعة في إبراهيم عليه وعلى نبينا السلم ،وبعد أن افتعل ساقي
الملك واجتهد ليتذكر ما حدث له منذ فترة هي بضع سنين؛ أيام أنْ كان سجينا ورأى رُؤيا منامية
أوّلَها له يوسف ،قال الساقي للمل وللملك عن تلك الرؤيا:
{ أَنَاْ أُنَبّ ُئكُمْ بِتَ ْأوِيلِهِ فَأَ ْرسِلُونِ } [يوسف.]45 :
وبذلك استأذن ليذهب إلى مَنْ يُؤوّل له رُؤيا الملك.
وقوله { :فَأَرْسِلُونِ } [يوسف.]45 :
يعني أن التأويل ليس من عنده؛ بل هو يعرف مَنْ يستطيع تأويل الرّؤى.
ونلحظ أن القرآن لم يحمل على لسان هذا الرجل :إلى من سوف يذهب؛ لن ذلك معلوم بالنسبة له
ولنا ،نحن الذين نقرأ السورة.
وانتقل القرآن من طلب الرسال إلى لقاء يوسف عليه السلم؛ فيقول الحق سبحانه ما جاء على
سفُ أَ ّيهَا.} ...
لسان ساقي الملك { :يُو ُ
()1628 /
خضْ ٍر وَأُخَرَ
ف وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ ُ
سمَانٍ يَ ْأكُُلهُنّ سَبْعٌ عِجَا ٌ
سفُ أَ ّيهَا الصّدّيقُ َأفْتِنَا فِي سَبْعِ َبقَرَاتٍ ِ
يُو ُ
يَابِسَاتٍ َلعَلّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ َلعَّلهُمْ َيعَْلمُونَ ()46
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأما صدق الفعال فهو ألّ تُجرّب عليه كلما ،ثم يأتي فعله مخالفا لهذا الكلم؛ وهذا هو مَنْ نطلق
عليه " صِدّيق ".
ونحن نعلم أن حركات النسان في الحياة تنقسم قسمين؛ إما قول وإما فعل؛ والقول أداته اللسان،
والفعل أداته كل الجوارح.
إذن :فهناك قول ،وهناك فعل؛ وكلهما عمل؛ فالقول عمل؛ والرؤية بالعين عمل؛ والسمع بالذن
عمل ،والمسّ باليد عمل.
لكن القول اختصّ باللسان ،وأخذتْ بقية الجوارح الفعل؛ لن الفعل هو الوسيلة العلمية بين
متكلم وبين مخاطب ،وأخذ شق الفعل.
وهكذا نعلم أن الفعل قسمان :إما قول؛ وإما فعل.
والصّدّيق هو الذي يصدُق في قوله ،بأن تطابق النسبة الكلمية الواقع ،وصادق في فعله بألّ يقول
ما ل يفعل.
ولذلك قال الحق سبحانه {:كَبُرَ َمقْتا عِندَ اللّهِ أَن َتقُولُواْ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف.]3 :
ونعلم أن ساقي الملك كانت له مع يوسف تجربتان:
التجربة الولى :تجربة ُمعَايشته في السجن هو وزميله الخباز ،وقولهما له {:إِنّا نَرَاكَ مِنَ
حسِنِينَ }[يوسف.]36 :
ا ْلمُ ْ
خلَ َمعَهُ السّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ
وكان قولهما هذا هو حيثية سؤالهم له أن يُؤوّل لهما الرؤييين {:وَدَ َ
ح ِملُ َفوْقَ رَ ْأسِي خُبْزا تَ ْأ ُكلُ الطّيْرُ مِنْهُ
خمْرا َوقَالَ الخَرُ إِنّي أَرَانِي أَ ْ
عصِرُ َ
حدُ ُهمَآ إِنّي أَرَانِي أَ ْ
أَ َ
نَبّئْنَا بِتَ ْأوِيلِهِ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُحْسِنِينَ }[يوسف.]36 :
والتجربة الثانية :هي مجيء واقع حركة الحياة بعد ذلك مطابقا لتأويله للرؤييين .ولذلك يقول له
هنا:
خضْ ٍر وَُأخَرَ
لتٍ ُ
عجَافٌ وَسَ ْبعِ سُنبُ َ
سمَانٍ يَ ْأكُُلهُنّ سَبْعٌ ِ
سفُ أَ ّيهَا الصّدّيقُ َأفْتِنَا فِي سَ ْبعِ َبقَرَاتٍ ِ
{ يُو ُ
يَابِسَاتٍ ّلعَلّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ َلعَّلهُمْ َيعَْلمُونَ } [يوسف.]46 :
خضْر،
سمَان؛ يأكلهن سبعُ بقرات شديد الهُزَال ،وسبع سُنْبلت ُ
أي :أفتِنَا في رُؤيا سبع بقرات ِ
وسبع أُخر يابسات ،لَعلّي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون.
وقولهَ { :أفْتِنَا } [يوسف.]46 :
يوضح أنه ل يسأل عن رؤيا تخصّه؛ بل هي تخص رائيا لم يُحدده ،وإنْ كنا قد عرفنا أنها رُؤيا
الملك.
جعُ إِلَى النّاسِ } [يوسف.]46 :
وقولهّ { :لعَلّي أَرْ ِ
هو تحرّز واحتياط في قضية ل يجزم بها؛ وهو احتياط في واقع قدر ال مع النسان ،والسائل قد
أخذ أسلوب الحتياط؛ ليخرجه من أن يكون كاذبا ،فهو يعلم أن أمر عودته ليس في يده؛ ولذلك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُعلمنا ال:
علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَا ْذكُر رّ ّبكَ إِذَا َنسِيتَ َوقُلْ عَسَىا أَن
{ َولَ َتقْولَنّ ِلشَاْىءٍ إِنّي فَا ِ
لقْ َربَ مِنْ هَـاذَا رَشَدا }[الكهف23 :ـ .]24
َيهْدِيَنِ رَبّي َ
وساعة تقول " :إن شاء ال " تكون قد أخرجتَ نفسك من دائرة الكذب؛ وما ُد ْمتَ قد ذكرتَ ال
فهو سبحانه قادر على أن يَهديك إلى الختيار المناسب في كل أمر تواجه فيه الختيار.
فكأن ال يُعلّم عباده أن يحافظوا على أنفسهم ،بأن يكونوا صادقين في أقوالهم وأفعالهم؛ لنك مهما
صغُر
ي فعل مهما َ
ي فعل؛ فأ ّ
خططتَ فأنت تخطط بعقل موهوب لك من ال؛ وحين تُقدِم على أ ّ
يحتاج إلى عوامل متعددة وكثيرَة ،ل تملك منها شيئا؛ لذلك فعليك أنْ تر ّد كلّ شيء إلى مَنْ يملكه.
وهنا قال الساقي:
} ّلعَلّي أَ ْرجِعُ إِلَى النّاسِ { [يوسف.]46 :
وبذلك يُعلّمنا الحق سبحانه الحتياط.
وأضاف الحق سبحانه على لسان الرجل:
} َلعَّل ُهمْ َيعَْلمُونَ { [يوسف.]46 :
وكأن الرجل قد عرف أنه حين يأخذ التأويل من يوسف عليه السلم؛ ويعود به إلى الناس؛ فهو ل
يعلم كيف يستقبلون هذا التأويل؟
أيستقبلونه بالقبول ،أم بالمُحاجّة فيه؟ أو يستقبلون التأويل بتصديق ،ويعلمون قَدْرك ومنزلتك يا
يوسف؛ فيُخلّصوك مما أنت فيه من بلء السجن.
وقوله تعالىّ } :لعَلّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ[ { ....يوسف.]46 :
قد يدفع سائلً أن يقول :مَنِ الذي كلّف الساقي بالذّهاب إلى يوسف؛ أهو الملك أم الحاشية؟
ونقول :لقد نسبها الساقي إلى الكل؛ للحتياط الدائي.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :قَالَ تَزْرَعُونَ.{ ...
()1629 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كسل.
حصَدتّمْ َفذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ ِإلّ قَلِيلً ّممّا تَ ْأكُلُونَ } [يوسف.]47 :
ويتابعَ { :فمَا َ
ن تأكلوا القليل منه ،وتتركوا بقيته محفوظا في
أي :ما تحصدونه نتيجة الزرع بجِدّ واجتهاد؛ فلكم أ ْ
سنَابله.
والحفظ في السنابل يُعلّمنا قَدْر القرآن ،وقدرة مَنْ أنزل القرآن سبحانه ،وما آتاه ال جل عله
ليوسف عليه السلم من علم في كل نواحي الحياة ،من اقتصاد ومقومات التخزين ،وغير ذلك من
عطاءات ال ،فقد أثبت العلم الحديث أن القمح إذا خُزّن في سنابله؛ فتلك حماية ووقاية له من
السوس.
وبعض العلماء قال في تفسير هذه الية؛ إن المقصود هو تخزين القمح في سنابله وعيدانه.
وأقول :إن المقصود هو تَرْك القمح في سنابله فقط؛ لن العيدان هي طعام الحيوانات.
ونحن نعلم أن حبة القمح لها وعاءان؛ وعاء يحميها؛ وهو ينفصل عن القمحة أثناء عملية " الدّرْس
"؛ ثم يطير أثناء عملية " التذرية " مُنفصِلً عن حبوب القمح.
ولحبة القمح وعاء ملزم لها ،وهو القشرة التي تنفصل عن الحبة حين نطحن القمح ،ونسميها "
الردة " وهي نوعان " :ردة خشنة " و " ردة ناعمة ".
ومن عادة البعض أن يَفصِلوا الدقيق النقي عن " الردة " ،وهؤلء يتجاهلون ـ أو ل يعرفون ـ
الحقيقة العلمية التي أكدت أن تناول الخبز المصنوع من الدقيق البيض الخالي من " الردة "
يصيب المعدة بالتلبّك.
فهذه القشرة الملزمة لحبة القمح ليست لحماية الحبة فقط؛ بل تحتوي على قيمة غذائية كبيرة.
وكان أغنياء الريف في مصر يقومون بتنقية الدقيق المطحون من " الردة " ويسمّونه " الدقيقة
ن وضعت ملعقة منه في فمك؛ تشعر بالتلَبّك؛ أما إذا وضعت ملعقة من الدقيق
العلمة "؛ الذي إ ْ
الطبيعي الممتزج بما تحتويه الحبة من " ردة "؛ فلن تشعر بهذا التلبّك.
ف وَالرّيْحَانُ }[الرحمن.]12 :
ص ِ
حبّ ذُو ا ْل َع ْ
ويمتنّ ال على عباده بذلك في قوله الحق {:وَالْ َ
طحْن القمح ،مع الحفاظ على ما فيه من قشر
وقد اهتدى علماء هذا العصر إلى القيمة الفاعلة في َ
القمح ،وثبت لهم أن مَنْ يتناول الخبز المصنوع من الدقيق النقي للغاية؛ يعاني من ارتباك غذائي
يُلجِئه إلى تناول خبز مصنوع من قِشْر القمح فقط ،وهو ما يسمى " الخبز السّن "؛ ليعوض في
غذائه ما فقده من قيمة غذائية.
وهنا يقول الحق سبحانه:
حصَدتّمْ َفذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ ِإلّ قَلِيلً ّممّا تَ ْأكُلُونَ } [يوسف.]47 :
{ َفمَا َ
وهكذا أخبر يوسف الساقي الذي جاء يطلب منه تأويل ُرؤْيا الملك؛ بما يجب أن يفعلوه تحسّبا
خضْرة والعطاء ،فل يأكلوا ِملْء
للسنوات السبع العجاف التي تلي السبع سنوات المزدهرة بال ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
البطون؛ بل يتناولوا من القمح على قَدْر الكفاف:
{ ِإلّ قَلِيلً ّممّا تَ ْأكُلُونَ } [يوسف.]47 :
حلْم الملك { :ثُمّ يَأْتِي
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلم من بقية التأويل ل ُ
مِن.} ...
()1630 /
حصِنُونَ ()48
ثُمّ يَأْتِي مِنْ َبعْدِ ذَِلكَ سَ ْبعٌ شِدَادٌ يَ ْأكُلْنَ مَا َق ّدمْتُمْ َلهُنّ إِلّا قَلِيلًا ِممّا ُت ْ
وهكذا أوضح يوسف عليه السلم ما سوف يحدث في مصر من جَدْب يستمر سبع سنوات عجاف
بعد سبع سنوات من الزرع الذي يتطلب ِهمّة ل تفتر.
وقوله سبحانه في وصف السبع " سنوات " بأنها:
{ شِدَادٌ[ } ..يوسف.]48 :
جدْب فيها سوف يُجهِد الناس؛ فإنْ لم تكُنْ هناك حصيلة َتمّ تخزينها من محصول السبع
يعني :أن ال َ
السنوات السابقة ،فقد تحدُث المجاعة ،وليعصم الناسُ بطونهم في السنوات السبع الولى ،وليأكلوا
جدْب.
على قَدْر الضرورة؛ ليضمنوا مواجهة سنوات ال َ
ونحن نعلم أن النسان يستبقي حياته بالتنفس والطعام والشراب؛ والطعام إنما َيمْري على النسان،
ويعطيه قوة يواجه بها الحياة.
ولكن أغلب طعامنا ل نهدف منه القوة فقط؛ بل نبغي منه المتعة أيضا ،ولو كان النسان يبغي سَدّ
غائلة الجوع فقط ،لكتفى بالطعام المسلوق ،أو بالخبز والدام فقط ،لكننا نأكل للستمتاع.
ويتكلم الحق سبحانه عن ذلك فيقولَ {:فكُلُوهُ هَنِيئا مّرِيئا }[النساء.]4 :
أي :بدون أن يضرك ،ودون أن يُلجِئك هذا الطعام إلى ال ُم ْهضِمات من العقاقير.
وهذا هو المقصود من قول الحق سبحانه {:هَنِيئا[} ...النساء ،]4 :أما المقصود بقوله {:مّرِيئا }
[النساء.]4 :
فهو الطعام الذي يفيد ويمدّ الجسم بالطاقة فقط؛ وقد ل يُستساغ طعمه.
وهنا قال الحق سبحانه:
حصِنُونَ } [يوسف.]48 :
{ ُثمّ يَأْتِي مِن َبعْدِ ذاِلكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَ ْأكُلْنَ مَا قَ ّدمْتُمْ َلهُنّ ِإلّ قَلِيلً ّممّا ُت ْ
وبطبيعة الحال نفهم أن السنوات ليست هي التي تأكل؛ بل البشر الذين يعيشون في تلك السنوات
هم الذين يأكلون.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونحن نفهم ذلك؛ لننا نعلم أن أي حدث يحتاج لزمان ولمكان؛ ومرة يُنسب الحَدث للزمان؛ ومرة
يُنسب الحَدث للمكان.
والمثال على نسبة الحَدث للمكان هو قول الحق سبحانه {:وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَاّلعِيْرَ} ...
[يوسف.]82 :
وطبعا نفهم أن المقصود هو سؤال أهل القرية التي كانوا فيها ،وأصحاب القوافل التي كانت معهم.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ نجد الحدث منسوبا للزمان؛ وهم سيأكلون مما
أحصنوا إل قليلً؛ لنهم بعد أن يأكلوا ل بد لهم من الحتفاظ بكمية من الحبوب والبُذُور
لستخدامها كتقاوي في العام التالي لسبع سنوات موصوفة بالجدب.
وقوله تعالى:
حصِنُونَ } [يوسف.]48 :
{ ّممّا ُت ْ
نجده من مادة " حصن " وتفيد المتناع؛ ويقال " :أقاموا في داخل الحصن " أي :أنهم إنْ هاجمهم
العداء؛ يمتنعون عليهم؛ ول يستطيعون الوصول إليهم.
حصَنَاتُ مِنَ النّسَآءِ[} ...النساء.]24 :
ويقول الحق سبحانه {:وَا ْل ُم ْ
أي :ال ُممْتنعات عن عملية الفجور؛ وهُنّ الحرائر.
جهَا }[النبياء.]91 :
حصَنَتْ فَ ْر َ
وأيضا يقول الحق سبحانه {:وَالّتِي َأ ْ
عفّتها ،وهي السيدة مريم البتول عليها السلم ،وهكذا نجد مادة " حصَن "
أي :التي أحكمتْ صيانة ِ
تفيد المتناع.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكُ { :ثمّ يَأْتِي مِن َبعْدِ.} ...
()1631 /
ونلحظ أن هذا المر الذي تحدث عنه يوسف عليه السلم خارج عن تأويل الرّؤيا؛ لن ما احتوته
خضْر وأُخَر يابسات.
سمَانٍ؛ وسبع سُنبلت ُ
رُؤيا الملك هو سبع بقرات عجاف يأكلن سبع بقرات ِ
وأنهى يوسف عليه السلم تأويل الرّؤيا ،وبعد ذلك جاء بحكم العقل على المور؛ حيث يعود
خصْب العادي ليعطيهم مثلما كان يعطيهم من قبل ذلك.
ال ِ
غثْ فلنا " أي :أَعِنْ فلنا :لنه في حاجة
غوْث "؛ لننا نقول " أ ِ
وهذا يمكن أن يطلق عليه " َ
للعون ،والغيث ينزل من السماء لِيُنهِي الجَدْب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقولهُ { :يغَاثُ النّاسُ[ } ...يوسف.]49 :
أي :يُعانون بما يأتيهم من فضل ال بالضروري من قوت يمسك عليهم الحياة.
ويُذيّل الحق سبحانه الية بقولهَ { :وفِيهِ َي ْعصِرُونَ } [يوسف.]49 :
عصْره من حبوب أو ثمار؛ مثل :السمسم ،والزيتون ،والعنب ،والقصب ،أو البلح،
أي :ما يمكن َ
وأنت لن تعصر تلك الحبوب أو الثمار إل إذا كان عندك ما يفيض عن قوت ذاتك وقوت من
تعول.
وهكذا أوضح لنا الحق سبحانه أنهم سوف يُر َزقُونَ بخير يفيض عن الغاثة؛ ولهم أن يدخروه،
وما سبق في آيات الرؤيا وتأويلها هو حوار بين يوسف الصديق ـ عليه السلم ـ وبين ساقي
الملك.
ولحظنا كيف انتقل القرآن من لقطة عجز الحاشية عن الفتاء في أمر الرؤيا ،وتقديم الساقي طلبا
لن يرسلوه كي يُحضِر لهم تأويل الرؤيا ،ثم جاء مباشرة بالحوار بين يوسف والساقي.
هنا ينتقل القرآن إلى ما حدث ،بعد أن عَلِم الملك بتأويل الرّؤيا ،فيقول سبحانهَ { :وقَالَ
ا ْلمَِلكُ.} ...
()1632 /
طعْنَ
س َوةِ اللّاتِي قَ ّ
جعْ إِلَى رَ ّبكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّ ْ
َوقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي بِهِ فََلمّا جَا َءهُ الرّسُولُ قَالَ ارْ ِ
أَيْدِ َيهُنّ إِنّ رَبّي ِبكَيْ ِدهِنّ عَلِيمٌ ()50
ومعنى ذلك أن الساقي ذهب إلى مجلس الملك مباشرة ،ونقل له تأويل الرّؤيا ،وأصرّ الملك أنْ
يأتوا له بهذا الرجل؛ فقد اقتنع بأنه يجب الستفادة منه؛ وعاد الساقي ليُخرِج يوسف من السجن
الذي هو فيه.
لكنه فُوجِيء برفض يوسف للخروج من السجن ،وقوله لمن جاء يصحبه إلى مجلس الملك:
طعْنَ أَيْدِ َيهُنّ إِنّ رَبّي ِبكَيْ ِدهِنّ عَلِيمٌ } [يوسف:
س َوةِ اللّتِي َق ّ
{ ا ْرجِعْ إِلَىا رَ ّبكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النّ ْ
.]50
وهكذا حرص يوسف على ألّ يستجيب لمَنْ جاء يُخلّصه من عذاب السجن الذي هو فيه؛ إل إذا
برئتْ ساحته براءةً يعرفها الملك؛ فقد يكون من المحتمل أنهم ستروها عن أذن الملك.
طعْنَ
وأراد يوسف عليه السلم بذلك أن يُحقق المَلِك في ذلك المر مع هؤلء النسوة اللتي َق ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عوْنَهُ إلى الفحشاء.
أيديهن؛ ودَ َ
واكتفى يوسف بالشارة إلى ذلك بقوله:
{ إِنّ رَبّي ِبكَ ْيدِهِنّ عَلِيمٌ } [يوسف.]50 :
ويُخفي هذا القول في طيّاته ما قالته النسوة من قبل ليوسف بضرورة طاعة امرأة العزيز في
طلبها للفحشاء.
وهكذا نجد القصص القرآني وهو يعطينا العِبْرة التي تخدمنا في واقع الحياة؛ فليست تلك القصص
للتسلية ،بل هي للعبرة التي تخدمنا في قضايا الحياة.
وبراءة ساحة أي إنسان هو أمر ُمهِمٌ؛ كي تزول أيّ ريبة من النسان قبل أن يُسند إليه أي عمل.
وهكذا طلب يوسف عليه السلم إبراء ساحته ،حتى ل َيقُولَنّ قائل في وشاية أو إشاعة " همزا أو
َلمْزا " :أليس هذا يوسف صاحب الحكاية مع امرأة العزيز ،وهو مَنْ راودته عن نفسه؟
وها هو رسولنا صلى ال عليه وسلم يقول " :عجبت لصبر أخي يوسف وكرمه ـ وال يغفر له
ـ حيث أُرْسِل إليه ليُستفتى في الرؤيا ،وإن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج ،وعجبت من صبره
وكرمه ـ وال يغفر له ـ أُتِي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره ،ولو كنت أنا لبادرت الباب،
ولكنه أحب أن يكون له العذر ".
وشاء نبينا صلى ال عليه وسلم أن يُوضّح لنا مكانة يوسف من الصبر وعزة النفس والنزاهة
والكرامة فقال صلى ال عليه وسلم " :إن الكريم ،ابن الكريم ،ابن الكريم ،ابن الكريم يوسف بن
يعقوب بن إسحق بن إبراهيم .قال ـ لو لبثتُ في السجن ما لبثَ ،ثم جاءني الرسول أجبتُ ثم قرأ
س َوةِ اللّتِي
جعْ إِلَىا رَ ّبكَ فَاسْأَ ْلهُ مَا بَالُ النّ ْ
صلى ال عليه وسلم { :-فََلمّا جَآ َءهُ الرّسُولُ قَالَ ارْ ِ
طعْنَ أَ ْيدِ َيهُنّ[ } ..يوسف." ]50 :
قَ ّ
وهكذا بيّنَ لنا الرسول صلى ال عليه وسلم مكانة يوسف من الصبر والنزاهة ،وخشيته أن يخرج
من السجن فَيُشَار إليه :هذا مَنْ راود امرأة سيده.
وفي قول الرسول صلى ال عليه وسلم إشارة إلى مبالغة يوسف في ذلك المر ،وكان من الحوط
أن يخرج من السجن ،ثم يعمل على كشف براءته.
ومعنى ذلك أن الكريم ل يستغل المواقف استغللً أحمق ،بل يأخذ كل موقف بقدْره ويُرتّب له؛
وكان يوسف واثقا من براءته ،ولكنه أراد ألّ يكون الملك آخر مَنْ يعلم.
وصدق رسولنا صلى ال عليه وسلم حين قالَ " :دعْ ما يَرِيبُك إلى ما ل يَرِيبك ،فإن الصدقَ
طُمأنينة ،وإن الكذبَ ريبة ".
ل يقف المؤمن موقفَ الرّيبة؛ لن بعض
وكان صلى ال عليه وسلم يرى أن اليمان بال يقتضي أ ّ
الناس حين يَ َروْنَ نَابِها ،قد تثير الغيرةُ من نباهته البعضَ؛ فيتقوّلون عليه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل تقف موقف الرّيبة ،والمر الذي تأتيك منه الرّيبة؛ عليك أن
لذلك فعليك أن تحتاطَ لنفسك؛ بأ ّ
تبتعد عنه.
ولنا في رسول ال صلى ال عليه وسلم أسوة حسنة " ،فقد جاءته َزوْجه صفية بن حُيي تزوره
وهو معتكف في العشر الواخر من رمضان ،فتحدثت عنده ساعة من العشاء ،ثم قامتْ تنقلب ـ
أي :تعود إلى حجرتها ـ فقام معها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،حتى إذا بلغت باب المسجد
الذي عند مسكن أم سلمة زوج رسول ال صلى ال صلى ال عليه وسلم ،م ّر بهما رجلن من
النصار فسلّما على رسول ال صلى ال عليه وسلم ثم نفذا ،فقال لهما رسول ال صلى ال عليه
وسلم " :على رِسْلكما ،إنما هي صفية بنت حُيي .قال :سبحان ال يا رسول ال ،وكبر عليهما ما
قال .قال :إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم ،وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما ".
وهنا في الموقف الذي نتناوله بالخواطر ،نجد الملك وهو يستدعي النسوة اللتي قطّعن أيديهن،
خطْ ُبكُنّ.{ ...
ورَاودْنَ يوسف عن نفسه ،وهو ما يذكره الحق سبحانه } :قَالَ مَا َ
()1633 /
عتْ هي النسوة
ونعلم أن المُرَاودة الولى ليوسف كانت من امرأة العزيز؛ واستعصم يوسف ،ثم دَ َ
طعْنَ أيديهن حين فُوجئْنَ بجمال يوسف عليه السلم ،وصدرت منهن إشارات،
إلى مجلسها؛ وق ّ
ودعوات إثارة وانفعال.
ن وََأكُن مّنَ
صبُ إِلَ ْيهِ ّ
قال عنها يوسف ما أورد الحق سبحانه {:وَإِلّ َتصْ ِرفْ عَنّي كَ ْيدَهُنّ َأ ْ
الْجَاهِلِينَ }[يوسف.]33 :
واستدعاهن الملك ،وسألهن { :مَا خَطْ ُبكُنّ } [يوسف.]51 :
خطْب :هو الحَ َدثْ الجَلَل ،فهو حدث غير عادي يتكلم به الناس؛ فهو ليس حديثا بينهم وبين
وال َ
أنفسهم؛ بل يتكلمون عنه بحديث يصل إلى درجة تهتز لها المدينة؛ لن مثل هذا الحادث قد وقع.
سلُونَ *
خطْ ُبكُمْ أَ ّيهَا ا ْلمُرْ َ
ولذلك نجد إبراهيم عليه السلم ،وقد قال لجماعة من الملئكة {:قَالَ َفمَا َ
قَالُواْ إِنّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىا َقوْمٍ مّجْ ِرمِينَ }[الذاريات.]32-31 :
أي :أن الملئكة طمأنتْ إبراهيم عليه السلم؛ فهي في مهمة لعقاب قوم مجرمين.
عجْلً من الذهب الذي
وموسى عليه السلم حين عاد إلى قومه ،ووجد السامري قد صنع لهم ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خطْ ُبكَ ياسَامِ ِريّ }[طه.]95 :
أخذوه من قوم فرعون نجده يقول للسامري {:قَالَ َفمَا َ
وقَوْل الملك هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
سفَ عَن ّنفْسِهِ } [يوسف.]51 :
{ قَالَ مَا خَطْ ُبكُنّ ِإذْ رَاوَدتّنّ يُو ُ
يدلّ على أنه قد سمع الحكاية بتفاصيلها فاهتزّ لها؛ واعتبرها خَطْبا؛ مما يوضح لنا أن القيم هي
القيم في كل زمان أو مكان.
وبدأ النسوة الكلم ،فقُلْنَ:
{ حَاشَ للّهِ مَا عَِلمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ } [يوسف.]51 :
ولم يذكُرْنَ مسألة مُرَاودتهِنّ له ،وكان المر المهم هو إبراء ساحة يوسف عند المَلِك.
وقولهن { :حَاشَ للّهِ[ } ...يوسف ]51 :أي :نُنزّه يوسف عن هذا ،وتنزيهُنَا ليوسف أمْرٌ من ال.
وهنا تدخلتْ امرأة العزيز:
حقّ[ } ...يوسف.]51 :
حصَ الْ َ
صَح ْ
{ قَاَلتِ امْرََأتُ ا ْلعَزِيزِ النَ َ
حصّة الحق من
أي :أنها أق ّرتْ بأنه لم َيعُدْ هناك مجال للستر ،ووضح الحقّ بعد خفاء ،وظهرتْ ِ
حصّة الباطل ،ول ُبدّ من العتراف بما حدث:
ِ
س ِه وَإِنّهُ َلمِنَ الصّا ِدقِينَ } [يوسف.]51 :
{ أَنَاْ رَاوَدْتّهُ عَن ّنفْ ِ
وواصلت امرأة العزيز العتراف في الية التالية { :ذاِلكَ لِ َيعَْلمَ.} ..
()1634 /
قالت ذلك حتى تُعلِنَ براءة يوسف عليه السلم ،وأنها لم تنتهز فرصة غيابه في السجن وتنتقم
جبْ لمُراودتها له ،ولم تنسج له أثناء غيابه المؤامرات ،والدسائس ،والمكائد.
منه؛ لنه لم يست ِ
وهذا يدلّنا على أن شِ ّرةَ النسان قد تتوهج لغرض خاص ،وحين يهدأ الغرض ويذهب ،يعود
النسان إلى توازنه الكمالي في نفسه ،وقد يجعل من الزّلة الولى في خاطره وسيلة إلى الحسان
فيما ليس له فيه ضعف ،كي تستر الحسنةُ السيئة ،مصداقا لقول الحق سبحانه {:إِنّ ا ْلحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ ذاِلكَ ِذكْرَىا لِلذّاكِرِينَ }[هود.]114 :
ولو أن إنسانا عمل سيئة وفضحه آخر عليها؛ فالفاضح لتلك السيئة إنما يحرم المجتمع من حسنات
صاحب السيئة.
ولذلك أقول :استروا سيئات المسيء؛ لنها قد تلهمه أن يقدم من الخير ما يمحو به سيئاته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك قالوا :إذا استقرأتَ تاريخ الناس ،أصحاب النفس القوية في الخلق والقيم؛ قد تجد لهم من
سقَطات؛ ويحاولون أن يعملوا الحسنات كي تُذهِب عنهم السيئات؛ لن بالَ الواحد
الضعف هنات و َ
منهم مشغولٌ بضعفه الذي يُلهِبه؛ فيندفع لفعل الخيرات.
وبعد أن اعترفتْ امرأة العزيز بما فعلت؛ قالت:
{ وَأَنّ اللّ َه لَ َيهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ } [يوسف.]52 :
أي :أنها أق ّرتْ بأنه سبحانه وتعالى ل يُنفِذ كيد الخائنين ،ول يُوصّله إلى غايته.
وتواصل امرأة العزيز فتقولَ { :ومَآ أُبَرّىءُ َنفْسِي.} ...
()1635 /
هذا القول من تمام كلم امرأة العزيز؛ وكأنها توضح سبب حضورها لهذا المجلس؛ فهي لم
تحضر لتبرىء نفسها:
{ إِنّ ال ّنفْسَ لَمّا َرةٌ[ } ...يوسف.]53 :
ومجيء قول الحق سبحانه المؤكّد أن النفس على إطلقها أمّارة بالسوء؛ يجعلنا نقول :إن يوسف
أيضا نفس بشرية.
وقد قال بعض العلماء :إن هذا القول من كلم يوسف ،كردّ عليها حين قالت {:أَنَاْ رَاوَدْتّهُ عَن
ّنفْسِ ِه وَإِنّهُ َلمِنَ الصّا ِدقِينَ * ذاِلكَ لِ َيعْلَمَ أَنّي لَمْ أَخُ ْنهُ بِا ْلغَ ْيبِ وَأَنّ اللّ َه لَ َيهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ }
[يوسف.]52-51 :
وكان من المناسب أن يرد يوسف عليه السلم بالقول:
لمّا َرةٌ بِالسّوءِ ِإلّ مَا َرحِمَ رَبّي } [يوسف.]53 :
س َ
{ َومَآ أُبَرّىءُ َنفْسِي إِنّ ال ّنفْ َ
ويمكن أن يُنسب هذا القول إلى يوسف كََلوْنٍ من الحرص على ألّ يلمسه غرور اليمان ،فهو
كرسول من ال يعلم أن ال سبحانه هو الذي صرف كيدهُنّ عنه.
وهذا َلوْن من رحمة ال به؛ فهو كبشر مُجرّد عن العصمة والمنهج من الممكن أن تحدث له
الغواية؛ لكن الحق سبحانه عصمه من الزّلَل.
ومن ُلطْف ال أن قال عن النفس :إنها أمّارة بالسوء؛ وفي هذا توضيح كافٍ لطبيعة عمل النفس؛
فهي ليستْ آمرةً بالسوء ،بمعنى أنها تأمر النسان لتقع منه المعصية مرة واحدة وينتهي المر.
ل ،بل انتبه أيها النسان إلى حقيقة عمل النفس ،فهي دائما أمّارة بالسوء ،وأنت تعلم أن التكليفات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللهية كلها إمّا أوامر أو َنوَاهٍ ،وقد تستقبِل الوامر كتكليف يشقّ على نفسك ،وأنت تعلم أن
النواهي تمنعك من أفعال قد تكون مرغوبة لك ،لنها في ظاهرها ممتعة ،وتلبي نداء غرائز
النسان.
ح ّفتْ النار بالشهوات ".
حفّتْ الجنة بالمكاره ،و ُ
ولذلك يقول المصطفى صلى ال عليه وسلمُ " :
أي :أن المعاصي قد تُغريك ،ولكن العاقل هو من يملك زمام نفسه ،ويُقدّر العواقب البعيدة ،ول
ينظر إلى اللذة العارضة الوقتية؛ إل إذا نظر معها إلى الغاية التي توصله إليها تلك اللذة؛ لن شيئا
قد تستلِذّ به لحظة قد تَشْقى به زمنا طويلً.
ولذلك قلنا :إن الذي يُسرف على نفسه غافل عن ثواب الطاعة وعن عذاب العقوبة ،ولو استحضر
الثواب على الطاعة ،والعذاب على المعصية؛ لمتنع عن السراف على نفسه.
ولذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم " :ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ،ول يسرق
السارق حين يسرق وهو مؤمن ،ول يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ".
إذن :فلحظة ارتكاب المعصية نجد النسان وهو يستر إيمانه؛ ول يضع في باله أنه قد يموت قبل
أن يتوبَ عن معصيته ،أو قبل أن يُكفّر عنها.
ويخطيء النسان في حساب عمره؛ لن أحدا ل يعلم ميعاد أجله؛ أو الوقت الذي يفصل بينه وبين
جلّ ـ له على المعاصي.
حساب الموْلَى ـ عَزّ و َ
وكل مِنّا مُطَالب بأن يضع في حُسْبانه حديث الرسول صلى ال عليه وسلم " :الموت القيامة ،فمَنْ
مات فقد قامت قيامته ".
ولنا أسوة طيبة في عثمان بن عفان ـ رضي ال عنه ـ وهو الخليفة الثالث لرسول ال صلى ال
عليه وسلم ،الذي كان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتلّ لحيته ،فسُئِل عن ذلك؛ وقيل له :تذكر
الجنة والنار فل تبكي ،وتبكي إذا وقفتَ على قبر؟ فقال :سمعت رسول ال صلى ال عليه وسلم
يقول " :إن القبر أول منازل الخرة ،فإنْ نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه ،وإن لم يَنْجُ منه ،فما
بعده أشد ".
لذلك فل يستبعد أحد ميعاد لقائه بالموت.
غفُورٌ رّحِيمٌ { [يوسف.]53 :
وتستمر اليةِ } :إلّ مَا َرحِمَ رَبّي إِنّ رَبّي َ
ونعلم أن هناك ما يشفي من الداء ،وهناك ما يُحصّن النسان ،ويعطيه مناعة أن يصيبه الداء،
والحق سبحانه غفور ،بمعنى أنه يغفر الذنوب ،ويمحوها ،والحق سبحانه رحيم ،بمعنى أنه يمنح
النسان مناعة ،فل يصيبه الداء ،فل يقع في زلة أخرى.
حمَةٌ لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ }[السراء.]82 :
شفَآ ٌء وَرَ ْ
والحق سبحانه هو القائل {:وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
فساعةَ تسمع القرآن فهو يشفيك من الداء الذي تعاني منه نفسيا ويُقويّ قدرتك على مقاومة الداء؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويُفجّر طاقات الشفاء الكامنة في أعماقك .وهو رحمة لك حين تتخذه منهجا ،وتُطبّقه في حياتك؛
ن واحد.
طبّ علجيّ وطبّ وقائيّ في آ ٍ
فيمنحك مناعة تحميك من المرض ،فهو ِ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ } :وقَالَ ا ْلمَِلكُ.{ ...
()1636 /
َوقَالَ ا ْلمَِلكُ ائْتُونِي بِهِ َأسْتَخِْلصْهُ لِ َنفْسِي فََلمّا كَّلمَهُ قَالَ إِ ّنكَ الْ َيوْمَ لَدَيْنَا َمكِينٌ َأمِينٌ ()54
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالمحكومين ،وإذا كان هو ال ُم َمكّن من عند الحاكم؛ فهو أيضا أمين مع المحكومين.
والمشكلة في مجتمعاتنا المعاصرة إنما تحدث عندما يُرجّح الحاكمُ من يراهم أهلَ الثقة على أهل
الخبرة والمانة ،فتختل موازين العدل.
وعلى الحاكم الذكيّ أن يختار الذين يتمتعون بالمرين معا :أمانة على المحكوم؛ وثقة عند الحاكم.
وبهذا تعتدل الحياة على منهج ال.
وحين سمع يوسف عليه السلم هذا الكلم من الحاكم:
{ إِ ّنكَ الْ َيوْمَ لَدَيْنَا َمكِينٌ َأمِينٌ } [يوسف.]54 :
قرر أن يطلب منه شيئا يتعلق بتعبيره ل ُرؤْياه ،التي سبق أن أوّلها يوسف {:قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ
حصَدتّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُِلهِ ِإلّ قَلِيلً ّممّا تَ ْأكُلُونَ * ُثمّ يَأْتِي مِن َبعْدِ ذاِلكَ سَبْعٌ شِدَادٌ
سِنِينَ دَأَبا َفمَا َ
س َوفِيهِ
حصِنُونَ * ثُمّ يَأْتِي مِن َبعْدِ ذاِلكَ عَامٌ فِيهِ ُيغَاثُ النّا ُ
يَ ْأكُلْنَ مَا قَ ّدمْتُمْ َلهُنّ ِإلّ قَلِيلً ّممّا ُت ْ
َي ْعصِرُونَ }[يوسف.]49-47 :
حسْن تدبير وحزم وعِلْم.
وهذه عملية اقتصادية تحتاج إلى تخطيط وتطبيق ومتابعة و ُ
لذلك كان مطلب يوسف عليه السلم فيه تأكيد على أن الواقع القادم سيأتي وفقا لتأويله للرؤيا،
جعَلْنِي.} ...
فتقول اليات { :قَالَ ا ْ
()1637 /
وهذا القول تأكيد لثقة يوسف أن القادم في هذا البلد يحتاج لحكمة إدارة ،ل تبعثر ما سوف يأتي
في سنين الخصب؛ لتضمن الطمئنان في سنين الشدة ،وتلك مهمة تتطلب الحفظ والعلم.
وقد تقدم ما يثبت أن هاتين الصفتين يتحلّى بهما يوسف عليه السلم.
وقد يقول قائل :أليس في قول يوسف شبهة طلب الولية؟ والقاعدة تقول :إن طالب الولية ل
يولّى.
فيوسف عليه السلم لم يطلب ولية ،وإنما طلب الصلح ليتخذ من إصلحه سبيلً لدعوته
وتحقيقا لرسالته ،حيث أنه كان آمرا فيستجاب ،ولم يكن مأمورا لليجاب حيث أنه كان واثقا
باليمان ومؤمنا بوثوق.
وقد تأتي ظروف ل تحتمل التجربة مع الناس ،فمن يثق بنفسه أنه قادر على القيام بالمهمة فله أن
يعرض نفسه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومثال ذلك :لنفترض أن قوما قد ركبوا سفينة؛ ثم هاجتْ الرياح وه ّبتْ العاصفة؛ وتعقّدت المور؛
وارتبك القبطان ،وجاءه مَنْ يخبره أنه قادر على أن يحل له هذا المر ،ويُحسن إدارة قيادة
المركب ،وسبق للقبطان أن علم عنه ذلك.
هنا يجب على القبطان أن يسمح لهذا الخبير بقيادة السفينة؛ وبعد أن ينتهي الموقف؛ على القبطان
أن يُوجّه الشكر لهذا الخبير؛ ويعود لقيادة السفينة.
إذن :فمن حقّ النسان أن يطلب الولية إذا تعيّن عليه ذلك ،بأن يرى أمرا يتعرض له غير ذي
خبرة يُفسد هذا المر ،وهو يعلم َوجْه الصلح فيه .وهنا يكون التدخل فرض عين من أجل إنقاذ
المجتمع.
وفي مثل هذه الحالة نجد مَنْ طلب الولية وهو يملك شجاعتين:
الشجاعة الولى :أنه طلب الولية لنفسه؛ لثقته في إنجاح المهمة.
والشجاعة الثانية :إنه حجب من ليس له خبرة أن يتولى منصبا ل يعلم إدارته ،وبهذا يصير
الباطل متصرفا.
وبذلك يُظهر َوجْه الحق؛ ويُزيل سيطرة الباطل.
ولذلك نجد يوسف عليه السلم يقول للملك:
حفِيظٌ عَلِيمٌ } [يوسف.]55 :
ن الَ ْرضِ إِنّي َ
جعَلْنِي عَلَىا خَزَآئِ ِ
{اْ
والخزائن يوجد فيها ما يُمكّن المسيطر عليها من قيادة القتصاد.
وقالوا :إن يوسف طلب من الملك أن يجعله على خزائن الرض ،لوضع سياسة اقتصادية
حفْظا وعِلْما.
يواجهون بها سبع سنين من الجَدْب ،وتلك مسألة تتطلب حكمة و ِ
ن ل يملك
وكان يوسف عليه السلم يأخذ من كل راغبٍ في المَيْرة الثمان من ذهب وفضة ،ومَ ْ
ذهبا وفضة كان يُحضر الجواهر من الحجار الكريمة؛ أو يأتي بالدواب ليأخذ مقابلها طعاما.
خذْ هذا الولد
ومَنْ ل يملك كان يُحضر بعضا من أبنائه للسترقاق ،أي :يقول َربّ السرة الفقيرةُ :
ليكون عبدا لقاء أن آخذ طعاما لبقية أفراد السرة.
جدْب ليشُد كل إنسان الحزام على
وكان يوسف عليه السلم يُحسِن إدارة المر في سنوات ال َ
البطن ،فل يأكل الواحد في سبعة أمعاء بل يأكل في مِعىً واحد ،كما يقول رسولنا صلى ال عليه
وسلم في الحديث الشريف:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين سُئِل :ولماذا أخذتَ منهم ما ُد ْمتَ قد قررت أن تردّ لهم ما أخذته؟
أجاب :كي يأخذ كل إنسان في أقلّ الحدود التي تكفيه في سنوات الجدب.
ومثل هذا يحدث عندنا حين نجد البعض ،وهو يشتري الخبز المُدعّم ليُطعِم به الماشية ،وحين
يرتفع ثمن الخبز نجد كل إنسان يشتري في حدود ما معه من نقود ،ويحرص على ألّ يُلقِي مما
اشترى شيئا.
وكانت قدرة الدولة أيام الجفاف محدودة؛ لذلك وجب على كل فرد أن يعمل لنفسه.
ونحن نرى ذلك المر ،وهو يتكرر في حياتنا؛ فحين ل يجد أحد ثمن اللحم فقد ل تهفو نفسه إلى
اللحم ،وقد يعلن في كبرياء " :إن معدتي لم َتعُدْ تتحمل اللحم ".
وقد يعلن الفقير حُبّه للسمك الصغير؛ لن لحمه طيّب ،عكس السمك الكبير الذي يكون لحمه "
مِتفّلً " ،أو يعلن إعجابه بالفجل الطازج ،لنه لذيذ الطعم.
وقديما في بدايات العمر كنا حين ندخل إلى المنزل ،ونحن نعيش بعيدا عن بيوت الهل في
سنوات الدراسة ،ول نجد إل قرصا واحدا من " الطعمية " ،كنا نقسم هذا القرص ليكفي آخر لقمة
في الرغيف ،أما إذا دخلنا ووجدنا خمسة أقراص من الطعمية ،فكان الواحد منا يأكل نصف
قرص من الطعمية مع لقمة واحدة.
وهكذا يتحمل كل واحد على قَدْر حركته وقدرته.
والشاعر يقول:والنفسُ راغبةٌ إذَا رغّبتَها وإذَا تُ َردّ إلى قَليلٍ َتقْنَعُويقول الحق سبحانه بعد ذلك} :
َوكَذاِلكَ َمكّنّا.{ ...
()1638 /
وهكذا كان تمكين ال ليوسف عليه السلم في الرض ،بحيث أدار شئون مصر بصورة حازمة؛
عادلة؛ فلما جاء الجدب؛ لم يَأ ِتهَا وحدها؛ بل عَمّ البلد التي حولها.
بدليل أن هناك أُنَاسا من بلد أخرى لجئوا يطلبون رزقهم منها؛ والمثل :إخوة يوسف الذين جاءوا
من الشام يطلبون طعاما لهم ولمن ينتظرهم في بلدهم ،فهذا دليل على أن ُرقْعة الشدة كانت
شاسعة.
وقول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سفَ فِي الَ ْرضِ يَتَ َبوّأُ مِ ْنهَا حَ ْيثُ َيشَآءُ } [يوسف.]56 :
{ َوكَذاِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ
نفهم منه أنه جعل لنفسه بيتا في أكثر من مكان؛ ول َيظُنّن ظَانّ أن هذا َلوْنٌ من اتساع أماكن
التّرَف.
لكن :لماذا ل ننظر إليها بعيون تكشف حقيقة رجال الدارة في بعض البلد؛ فما أنْ يعلموا بوجود
بيت للحاكم في منطقة ما؛ وقد يزوره؛ فهم يعتنون بكل المنطقة التي يقع فيها هذا البيت.
وهذا ما نراه في حياتنا المعاصرة ،فحين يزور الحاكم منطقة ما َفهُمْ يُعيدون َرصْف الشوارع؛
ويصلحون المرافق؛ وقد يُحضِرون ُأصَص الزرع ليُجمّلوا المكان.
فما بَالُك إنْ عَلِموا بوجود بيت للحاكم في مكان ما؟ ل ُبدّ أنهم سَيُوالون العناية بكل التفاصيل
المتعلقة بالمرافق في هذا الموقع.
إذن :فقول الحق سبحانه هنا عن يوسف عليه السلم:
{ يَتَ َبوّأُ مِ ْنهَا حَ ْيثُ َيشَآءُ[ } ..يوسف.]56 :
يعني :شُيوع العناية بالخدمات لكل الذين يسكنون في هذا البلد؛ فل تأخذ المر على أنه تَرَف
وشَرَف ،بل خُذْ هذا القول على أنه تكليف سينتفع به المُحيطون ،سواء كانوا مقصودين به أو غير
مقصودين.
وتلك لقطة توضح أن التبّوء حيث يشاء ليس رحمةً به فقط؛ ولكنه رحمةٌ بالناس أيضا.
ولذلك يقول الحق سبحانه في نفس الية:
حمَتِنَا مَن َنشَآءُ } [يوسف.]56 :
{ ُنصِيبُ بِرَ ْ
َفمَنْ كان يحيا بل مياه صالحة للشرب ستصله المياه النقية؛ ومَنْ كان يشقى من أجل أن يعيش في
مكان مُريح ستتحول المنطقة التي يسكن فيها إلى مكان مُريح به كل مُستلزمات العصر الذي يحيا
فيه.
فيوسف المُمكّن في الرض له مسكن مجاور له؛ وسيجد العناية من قِبَل الجهاز الداري حيثما
ذهب ،وتغمر العناية الجميع ،رحمة من ال له ،وللناس من حوله.
ويُنهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله:
{ َولَ ُنضِيعُ أَجْرَ ا ْلمُحْسِنِينَ } [يوسف.]56 :
والمُحْسِن هو الذي يصنع شيئا فوق ما طُلب منه.
وهنا سنجد الحسان يُنسب ليوسف؛ لنه حين أقام لنفسه بيتا في أكثر من مكان؛ فقد أحسن إلى
أهل المكنة التي له فيها بيوت؛ بارتفاع مستوى الخدمة في المرافق وغيرها.
وسبحانه يجازي المحسنين بكمال وتمام الجر ،وقد كافأ يوسف عليه السلم بالتمكين مع محبة من
تولّى أمرهم.
ويتابع الحق سبحانهَ { :ولَجْرُ الخِ َرةِ.} ..
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1639 /
ويوضح ـ هنا ـ سبحانه أنه ل يجزي المحسنين في الدنيا فقط؛ ولكن يجازيهم بخير أبقى في
الخرة .وكلمة " خير " تستعمل استعمالين:
الول :هو أن شيئا خير من شيء آخر؛ أي :أنهما شركاء في الخير ،وهو المعنى المقصود هنا،
ب إلى ال من المؤمن
والمثال :هو قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :المؤمن القويّ خير وأح ّ
الضعيف ،وفي ُكلّ خير .احرص على ما ينفعك ،واستعِنْ بال ول تعجز ،وإنْ أصابك شيء فل
َتقُلْ :لو أنّي فعلتُ كذا وكذا ،ولكن ُقلْ :قدّر ال وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان ".
والستعمال الثاني لكلمة " خير " :هو خير مقابله شرّ ،والمثال :هو قول الحق تبارك وتعالى{:
َفمَن َي ْعمَلْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـ َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة ،]8-7 :والحق
سبحانه يريد أن يعتدل ميزان حركة الحياة ،لن يعتدل ميزان حركة الحياة بأن نقول للنسان على
إطلقه :سوف تأخذ أجر عملك الطيب في الخرة؛ لن المؤمن وحده هو الذي سيصدق ذلك.
أما الكافر فقد يظلم ويسفك الدماء ،ويسرق ويستشري الفساد في الرض.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل الجزاءَ نوعين :جزاء في الدنيا لمَنْ يُحسِن ،سواء أكان مؤمنا
أو كافرا؛ وجزاءً في الخر يختصّ به الحقّ سبحانه المؤمنين به.
والحق سبحانه يقول هنا:
{ َولَجْرُ الخِ َرةِ خَيْرٌ لّلّذِينَ آمَنُو ْا َوكَانُواْ يَ ّتقُونَ } [يوسف.]57 :
أي :أنه أكثر خيرا من جزاء الدنيا؛ لن جزاء الخرة يدوم أبدا ،على عكس خير الدنيا الذي قد
حكْم أن الدنيا موقوتة بالنسبة لك بعمرك فيها؛ ولكن الخرة لها الدّيْمومة التي
تفوتُه أو يفوتُك ،ب ُ
شاءها ال سبحانه.
خ َوةُ.} ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك عن إخوة يوسف { :وَجَآءَ ِإ ْ
()1640 /
سفَ َفدَخَلُوا عَلَ ْيهِ َفعَ َر َفهُ ْم وَهُمْ لَهُ مُ ْنكِرُونَ ()58
خ َوةُ يُو ُ
وَجَاءَ ِإ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جبّ صغيرا؛ ومرّتْ رحلته في الحياة بعد أن
وقد عرفهم يوسف؛ لكنهم لم يعرفوه ،فقد أل َق ْوهُ في ال ُ
عثر عليه بعض السيّارة؛ وباعوه لعزيز مصر ،لتمر به الحداث المتتابعة بما فيها من ُنضْج
جسدي وحُسْن فائق ،ومُراودة من امرأة العزيز ،ثم سنوات السجن السبع.
ولكل حدث من تلك الحداث أثر على ملمح النسان؛ فضلً عن أنهم جاءوه وهو في منصبه
العالي ،بما يفرضه عليه من وجاهة في الهيئة والملبس.
أما هو فقد عرفهم؛ لنه قد تركهم وهم كبار ،وقد تحددت ملمحهم ،ونعلم أن النسان حين يمر
عقْد من الزمان؛ فهذا الزمن قد يزيد من تحديد ملمحه ،إذا ما كانَ كبيرا ناضجا ،لكنه ل
عليه ِ
يغيرها مثلما يُغيّر الزمنُ ملمح الطفل حين يكبر ويصل إلى النضج.
والذي دفعهم إلى المجيء هو القحط الذي لم يُؤثّر على مصر وحدها؛ بل أثّر أيضا على المناطق
المجاورة لها.
وذاع أمر يوسف عليه السلم الذي اختزن القوات تحسّبا لذلك القحط؛ وقد أرسلهم أبوهم ليطلبوا
جبّ.
منه الَميْرة والطعام ،ولم يتخيّلوا بأي حال أن يكون مَنْ أمامهم هو أخوهم الذي ألقوْه في ال ُ
جهّزَهُم.} ....
ويقول الحق سبحانه { :وََلمّا َ
()1641 /
جهَازِ ِهمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ َل ُكمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَ َروْنَ أَنّي أُوفِي ا ْلكَ ْيلَ وَأَنَا خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ (
جهّزَهُمْ بِ َ
وََلمّا َ
)59
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعهم أخوهم سيأخذون كَيْل بعير فَوق ما أخذوه هذه المرّة.
وهم قد قالوا لبيهم هذا القول ،حينما سألوه عن إرسال أخيهم معهم لمصاحبتهم في الرحلة حسب
طلب يوسف عليه السلم؛ لذلك تقول الية {:وَنَ ْزدَادُ كَ ْيلَ َبعِيرٍ }[يوسف.]65 :
وقوله:
{ وَأَنَاْ خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ } [يوسف.]59 :
يعني :أنه يرحب بالضيوف؛ وقد لمسوا ذلك بحُسْن المكان الذي نزلوا فيه .بما فيه من راحة
وطيب الستقبال ،ووجود كل ما يحتاجه الضيف في إقامته.
وكلمة " مُنْزِل " في ظاهر المر أنها ضدّ ُمعْلِي ،وحقيقة المعنى هو :مُنزِل مِنَ الذي ينزل بالمكان
الموجود به كل مطلوبات حياته.
غفُورٍ رّحِيمٍ }[فصلت.]32 :
والحق سبحانه يقول عن الجنة {:نُ ُزلً مّنْ َ
أي :أنه سبحانه قد أعدّ الجنة بما يفوق خيال البشر؛ وبمُطْلق صفات المغفرة والرحمة ،وإذا كان
جلّ هو الذي يعدّ؛ فل ُبدّ أن يكون ما أعدّه فوق خيال البشر.
ال َموْلى عَزّ و َ
وقلت لخواني الذين بُهروا بفندق رَاقٍ في سان فرانسيسكو :إن النسان حين يرى أمرا طيبا ،أو
شيئا رَاقِيا ،أو جميلً عند إنسان آخر سيستقبلها بواحد من استقبالين :تظهر نَفسه فيه؛ فإن كان
حقُودا فسينظر للشياء بكراهية وبحقد ،وإنْ كان مؤمنا يفرح ويقول:
َ
هذه النعمة التي أراها تزيد من عِشْقي في الجنة؛ لن تلك النعمة التي أراها قد صنعها بشر لبشر؛
فماذا عن صُنْع ال للجنة؟ وهو مَنْ خلق الكون كله بما فيه من بشر؟
ودائما أقول :ما رأيتُ نعيما عند أحد إل ازداد إيماني ،بأن الذي أراه من نعمة قد أعدّه البشر
للبشر؛ فما بالنا بما أعدّه خالق البشر للمؤمنين من البشر؟
حقْد إلى النعمة عند الغير؛ فهو يحرم نفسه من صَبابة النعمة عند الغير؛ لن
أما مَنْ ينظر نظرةَ ِ
النعمة لها صَبابة عند صاحبها ،وتتعلق به ،وإن فرحتَ بالنعمة عند إنسان؛ ف ِثقْ أن النعمة
ستطرق بابك ،وإن كرهتها عند غيرك؛ كرهتْ النعمة أن تأتي إليك.
فإنْ أردتَ الخير الذي عند غيرك؛ عليك أن تحب النعمة التي عند هذا الغير؛ لتسعى النعمة إليك؛
دون أن تتكلف عبء إدارة هذه النعمة أو صيانتها؛ لنها ستأتي إليك بقدرة الحق سبحانه.
وقَوْل يوسف عليه السلم في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
} وَأَنَاْ خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ { [يوسف.]59 :
هو إخبار منه يؤكد ما استقبلهم به من عدل ،وتوفية للكيل ،وحُسْن الضيافة ،ول شك أنهم حين
يُحضِرون أخاهم سيجدون نفس الستقبال.
ويواصل الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف } :فَإِن لّمْ تَأْتُونِي.{ ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1642 /
فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَ ْيلَ َل ُكمْ عِنْدِي وَلَا َتقْرَبُونِ ()60
ويوسف يعلم مُقدّما صعوبة أن يأمنهم أبوهم على أخيهم؛ لذلك وجّه إليهم هذا النذار:
{ فَإِن لّمْ تَأْتُونِي ِبهِ فَلَ كَ ْيلَ َلكُمْ عِندِي[ } ..يوسف.]60 :
قال لهم ذلك ،وهو يعلم أن ال َمعَاد َمعَادُ قَحْط وجَدْب ومجاعة.
وأضاف يوسف:
{ َولَ َتقْرَبُونِ } [يوسف.]60 :
أي :ل تأتوا ناحية هذا البلد الذي أحكمه؛ ولذلك سنجدهم يقولون لبيهم من بعد ذلك {:اأَبَانَا مُنِعَ
ل وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ }[يوسف.]63 :
سلْ َمعَنَآ أَخَانَا َنكْ َت ْ
مِنّا ا ْلكَ ْيلُ فَأَرْ ِ
وتل ّقوْا النذار من يوسف ،وقالوا ما أورده القرآن هنا { :قَالُواْ سَنُرَاوِدُ.} ....
()1643 /
وقولهم:
{ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ[ } ...يوسف.]61 :
يعني :أن المر ليس سهلً؛ وهم يعرفون ماذا فعلوا من قبل مع يوسف ،والمُرَاودة تعني أخْذ
وردّ ،وتحتاج إلى احتيال؛ وسبق المعنى في قوله الحق سبحانه {:وَرَاوَدَ ْتهُ الّتِي ُهوَ فِي بَيْ ِتهَا عَن
ّنفْسِهِ[} ...يوسف.]23 :
وأكدوا قولهم:
{ وَإِنّا َلفَاعِلُونَ } [يوسف.]61 :
أي :أنهم سيبذلون ُكلّ جهودهم؛ كي يقبل والدهم إرسالَ أخيهم معهم ،وهم يعلمون أن هذا مطلبٌ
صعْب المَنال ،عسير التحقيق.
َ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :وقَالَ ِلفِتْيَانِهِ.} ...
()1644 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعُونَ ()62
جعَلُوا ِبضَاعَ َتهُمْ فِي ِرحَاِلهِمْ َلعَّلهُمْ َيعْ ِرفُو َنهَا ِإذَا ا ْنقَلَبُوا إِلَى أَهِْلهِمْ َلعَّل ُهمْ يَرْ ِ
َوقَالَ ِلفِتْيَانِهِ ا ْ
أي :أن يوسف عليه السلم أمر مساعديه أنْ يُعيدوا البضائع التي أحضرها هؤلء معهم ليقايضوا
بها ما أخذوه من قمح وطعام ،وكان على مساعدي يوسف عليه السلم أن يُنفّذوا أمره بوضع هذه
البضائع بشكل مُسْتتر في الرّحال التي أَ َتوْا عليها ،وفي هذا تشجيع لهم كي يعودوا مرة أخرى.
جعُوا.} ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :فََلمّا َر َ
()1645 /
وكان قولهم هذا هو أول خبر قالوه لبيهم ،فور عودتهم ومعهم المَيْرة ،وكأنهم أرادوا أن يُوضّحوا
للب أنهم مُنِعوا مستقبلً من أنْ يذهبوا إلى مصر ،ما لم يكن معهم أخوهم.
ح َكوْا لبيهم قصتهم مع عزيز مصر ،وإن وافق الب على إرسال أخيهم " بنيامين " معهم؛
وَ
فلسوف يكتالون ،ولسوف يحفظون أخاهم الصغير.
عمّا حدث ليوسف من قبل.
وهم في قولهم هذا يحاولون أن يُبعِدوا رِيب َة الب َ
وهنا يأتي الحق سبحانه بما قاله أبوهم يعقوب عليه السلم { :قَالَ َهلْ آمَ ُن ُكمْ.} ....
()1646 /
حمِينَ ()64
قَالَ َهلْ َآمَ ُنكُمْ عَلَ ْيهِ إِلّا َكمَا َأمِنْ ُتكُمْ عَلَى َأخِيهِ مِنْ قَ ْبلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَ ُهوَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ
وهنا يُذكّرهم أبوهم بأنهم لم يُقدّموا من قبل ما يُطمئِنه على ذلك؛ فقد أضاعوا أخاهم يوسف
وقالوا :إن الذئب قد أكله.
حمِينَ } [يوسف.]64 :
حمُ الرّا ِ
وأضاف { :فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظا وَ ُهوَ أَرْ َ
وهو َقوْل نتنسّم فيه أنه قد وافق على ذهاب بنيامين معهم ،وأنه يدعو الحق ليحفظ ابنه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبدأ أبناء يعقوب في فتح متاعهم بعد الرحلة ،وبعد الحوار مع أبيهم.
عهُمْ.} ....
ويقول الحق سبحانه { :وََلمّا فَ َتحُواْ مَتَا َ
()1647 /
جدُوا ِبضَاعَ َتهُمْ رُ ّدتْ إِلَ ْيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَ ْبغِي هَ ِذهِ ِبضَاعَتُنَا ُر ّدتْ ِإلَيْنَا
عهُ ْم وَ َ
وََلمّا فَ َتحُوا مَتَا َ
حفَظُ َأخَانَا وَنَزْدَادُ كَ ْيلَ َبعِيرٍ ذَِلكَ كَ ْيلٌ يَسِيرٌ ()65
وَ َنمِيرُ َأهْلَنَا وَنَ ْ
وهكذا اكتشفوا أن بضائعهم التي حملوها معم في رحلتهم إلى مصر ليقايضوا بها ويدفعوها ثمنا
ِلمَا أرادوا الحصول عليه من طعام ومَيْرة قد رُ ّدتْ إليهم؛ وأعلنوا لبيهم أنهم ل يرغبون أكثر من
ذلك؛ فهم قد حصلوا على المَيْرة التي يتغ ّذوْنَ بها هم وأهاليهم.
ول ُبدّ أن يصحبوا أخاهم في المرة القادمة ،ولسوف يحفظونه ،ولسوف يعودون ومعهم كيْل زائد
فوق بعير ،وهذا أمر هَيّن على عزيز مصر.
ولكن والدهم يعقوب عليه السلم قال ما أورده الحق سبحانه هنا { :قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ.} ...
()1648 /
قَالَ لَنْ أُرْسَِلهُ َم َعكُمْ حَتّى ُتؤْتُونِ َموْثِقًا مِنَ اللّهِ لَتَأْتُنّنِي ِبهِ إِلّا أَنْ ُيحَاطَ ِبكُمْ فََلمّا آَ َت ْوهُ َموْ ِثقَهُمْ قَالَ اللّهُ
عَلَى مَا َنقُولُ َوكِيلٌ ()66
ونلحظ هنا ِرقّة قلب يعقوب وقُرْب موافقته على إرسال ابنه " بنيامين " معهم إلى مصر ،هذه
حمِينَ }[يوسف.]64 :
ال ّرقّة التي َب َدتْ من قبل في قوله {:فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظا وَ ُهوَ أَرْحَمُ الرّا ِ
وطلب منهم أن يحلفوا بيمين مُوثقة أن يعودوا من رحلتهم إلى مصر ،ومعهم أخوهم " بنيامين "
حطْ بهم أمر خارج عن الرادة البشرية ،كأن يحاصرهم أعداء
إذا ما ذهب معهم؛ ما لم يُ ِ
يُضيّعونهم ويُضيّعون بنيامين معهم؛ وهذا من احتياط النبوة؛ لذلك قال:
{ ِإلّ أَن ُيحَاطَ ِبكُمْ[ } ...يوسف.]66 :
طوْا أباهم اليمين والعهد على َردّ بنيامين ،وليكون ال شهيدا
وأقسم أبناء يعقوب على ذلك ،وأع َ
عليهم.
قال يعقوب:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل َوكِيلٌ } [يوسف.]66 :
{ اللّهُ عَلَىا مَا َنقُو ُ
أي :أنه سبحانه مُطلع ورقيب ،فإن خُنْتم فسبحانه المنتقم.
ويُوصِي يعقوب أولده السباطَ { :وقَالَ يابَ ِنيّ.} ....
()1649 /
شيْءٍ
ح ٍد وَا ْدخُلُوا مِنْ أَ ْبوَابٍ مُ َتفَ ّرقَ ٍة َومَا أُغْنِي عَ ْن ُكمْ مِنَ اللّهِ مِنْ َ
ب وَا ِ
َوقَالَ يَا بَ ِنيّ لَا َتدْخُلُوا مِنْ بَا ٍ
ت وَعَلَيْهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ ()67
حكْمُ إِلّا ِللّهِ عَلَيْهِ َت َوكّلْ ُ
إِنِ ا ْل ُ
وقد قال يعقوب عليه السلم ذلك الكلم في المرة الثانية لذهابهم إلى مصر ،بعد أن عَلِم بحُسْن
حظْوة عند عزيز
استقبال يوسف لهم ،وأن بضاعتهم رُ ّدتْ إليهم ،وعلم بذلك أنهم صاروا أصحاب َ
مصر.
وساعةَ ترى إنسانا له شأن؛ فترقب أن يُعادى ،لذلك توجّس يعقوب خِيفة أن يُدبّر لهم أحد مكيدة؛
لنهم أغراب.
ومن هنا أمرهم أن يدخلوا مصر من أبواب متفرقة ،وكانت المدن قديما لها أبواب؛ تُفتح وتقفل في
مواعيد محددة ،وحين يدخلون فُرادى فلن ينتبه أحد أنهم جماعة.
وقد خاف يعقوب على أبنائه من الحسد ،ونعلم أن الحسد موجود.
وقد علّمنا سبحانه أن نستعيد به سبحانه من الحسد؛ لنه سبحانه قد عَلِم أزلً أن الحسد أمر فوق
سقٍ إِذَا
طاقة َدفْع البشر له ،وهو القائلُ {:قلْ أَعُوذُ بِ َربّ ا ْلفَلَقِ * مِن شَرّ مَا خَلَقَ * َومِن شَرّ غَا ِ
َوقَبَ * َومِن شَرّ ال ّنفّاثَاتِ فِي ا ْل ُعقَدِ * َومِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }[الفلق.]5-1 :
وفي أمر الحسد أنت ل تستطيع أن تستعيذ بواحد ُمسَاوٍ لك؛ لن الحسد يأتي من مجهول غير
مُدْرَك ،فالشعاع الخارج من العين قد يتأجج بالحقد على كل ذي نعمة ،وإذا كان عصرنا ،وهو
عصر الرتقاءات المادية قد توصّل إلى استخدام الشعاع في تفتيت الشياء.
إذن :فمن الممكن أن يكون الحسدُ مثل تلك الشعاعات؛ والتي قد يجعلها ال في عيون بعض
خلقه ،وتكون النظرة مثل السهم النافذ ،أو الرصاصة الفتاكة.
والحق سبحانه هو القائلَ {:ومَا َيعْلَمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ }[المدثر.]31 :
وإنْ قال قائل :ولماذا يُعطي الحق سبحانه بعضا من خلقه تلك الخواص؟
أقول :إنه سبحانه يعطي من المكانات لبعض من خلقه ،فيستخدمونها في غير موضعها ،وكلّ
إنسان بشكل ما عنده إمكانية النظرة ،ولكن الحقد هو الذي يولد الشرارة ال ُمؤْذية ،ويمكنك أن تنظر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دون حسد إنْ قُ ْلتَ :ما شاء ال ل حول ول قوة إل بال ،اللهم بارك.
بذلك ل تتحقق الثارة اللزمة لتأجّج الشرارة المؤذية ،ويمكنك أن تستعيذ بال خالق البشر وخالق
السرار ،وتقرأ قول الحق سبحانهُ {:قلْ أَعُوذُ بِ َربّ ا ْلفَلَقِ * مِن شَرّ مَا خََلقَ * َومِن شَرّ غَاسِقٍ ِإذَا
َوقَبَ * َومِن شَرّ ال ّنفّاثَاتِ فِي ا ْل ُعقَدِ * َومِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ }[الفلق.]5-1 :
وأن تقول كلمات رسول ال صلى ال عليه وسلم حين كان يُعوّذ الحسن والحسين رضي ال
عنهما ،ويقول " :أعيذكما بكلمات ال التامة من كل شيطان وهامة ،ومن كل عين لمّة ".
وقال صلى ال عليه وسلم " :كان أبوكما ـ إبراهيم ـ يُعوّذ بها إسماعيل وإسحاق عليهم السلم
".
كما " أنه صلى ال عليه وسلم " :كان إذا حَزَ َبهُ أمر قام وصلى "
،لن معنى حَزْب أمر للرسول صلى ال عليه وسلم ،أو لواحد من اتباع الرسول صلى ال عليه
وسلم أن هذا المر يخرج عن قدرة البشر.
وهنا على النسان أن يأوي إلى المُسبّب ،فهو الركن الشديد ،بعد أن أخذتَ أنت بالسباب الممدودة
لك من يد ال ،وبذلك يكون ذهابك إلى الحق هو ذهاب المُضطر؛ ل ذهاب الكسول عن الخذ
بالسباب.
شفُ السّوءَ }[النمل.]62 :
والحق سبحانه يقولَ {:أمّن ُيجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ ِإذَا دَعَا ُه وَ َيكْ ِ
والمضطر هو من استنفد كل أسبابه ،ولم َي ْدعُ ربه إل بعد أن أخذ بكل السباب الممدودة ،فل
تطلب من ذات ال قبل أن تأخذ ما قدمه لك بيده سبحانه من أسباب.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ نجد يعقوب عليه السلم وقد أوصى أبناءه ألّ
يدخلوا مصر من باب واحد؛ بل من أبواب متفرقة خشية الحسد ،وتنبهت قضية اليمان بما
يقتضيه من تسلم لمشيئة ال ،فقال:
شيْءٍ[ { ..يوسف.]67 :
} َومَآ أُغْنِي عَنكُمْ مّنَ اللّهِ مِن َ
أي :لست أُغْني عنكم بحذري هذا من قدر ال ،فهو مجرد حرص ،أما النفع من ذلك الحرص
والتدبير فهو من أمر ال ،ولذلك قال:
ت وَعَلَيْهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْلمُ َت َوكّلُونَ { [يوسف.]67 :
حكْمُ ِإلّ للّهِ عَلَ ْيهِ َت َوكّلْ ُ
} إِنِ الْ ُ
فكل الخَلْق أمرهم راجع إلى ال ،وعليه يعتمد يعقوب ،وعليه يعتمد كل مؤمن.
ونفّذَ أبنا ُء يعقوب ما أمرهم به أبوهم ،يقول سبحانه } :وََلمّا دَخَلُواْ.{ ...
()1650 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ إِلّا حَاجَةً فِي َنفْسِ َيعْقُوبَ
وََلمّا دَخَلُوا مِنْ حَ ْيثُ َأمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ ُيغْنِي عَ ْنهُمْ مِنَ اللّهِ مِنْ َ
َقضَاهَا وَإِنّهُ َلذُو عِ ْلمٍ ِلمَا عَّلمْنَا ُه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ ()68
أي :ما كان دخولهم من حيث أمرهم أبوهم يردّ عنهم أمرا أراده سبحانه ،فل شيء يردّ قضاء ال،
ولعل أباهم قد أراد أنْ يردّ عنهم حسد الحاسدين ،أو :أن يُدسّ لهم أو يتشككوا فيهم ،ولكن أي
شيء لن يمنع قضاء ال.
ولذلك قال سبحانه:
{ ِإلّ حَاجَةً فِي َنفْسِ َي ْعقُوبَ َقضَاهَا[ } ...يوسف ]68 :ويعقوب يعلم أن أيّ شيء لن يردّ قدر ال،
وسبحانه لم ُي ْعطِ الحتياطات الولئية ليمنع الناس بها قدرَ ال.
ويقول سبحانه هنا عن يعقوب:
{ وَإِنّهُ لَذُو عِلْمٍ ّلمَا عَّلمْنَاهُ[ } ...يوسف.]68 :
أي :أنه يعرف موقع المُسبّب وموقع السباب ،ويعلم أن الخذ بالسباب ل ينافي التوكل على ال؛
لنه سبحانه قد خلق السباب رحمةً بعباده:
س لَ َيعَْلمُونَ } [يوسف.]68 :
{ وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
أي :يعزلون السباب عن المُسبّب ،وهذا ما يُتعِب الدنيا.
ويقول سبحانه بعد ذلك { :وََلمّا َدخَلُواْ.} ...
()1651 /
سفَ َآوَى إِلَ ْيهِ أَخَاهُ قَالَ إِنّي أَنَا َأخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ ِبمَا كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()69
وََلمّا دَخَلُوا عَلَى يُو ُ
أي :أنهم حين دخلوا على يوسف أحسن استقبالهم؛ وأكرم وفادتهم؛ بعد أن َو ّفوْا بوعدهم معه،
وأحضروا أخاهم وشقيقه بنيامين معهم ،وكان يوسف عليه السلم مُشْتاقا لشقيقه بنيامين.
وقد عرفنا من قبل أنه الشقيق الوحيد ليوسف؛ فهما من أم واحدة؛ أما بقية الخوة فهم من أمهات
أخريات.
وقول الحق سبحانه عن يوسف:
{ آوَى ِإلَيْهِ َأخَاهُ } [يوسف.]69 :
يدلّ على أن يوسف كان مُتشوّقا لرؤية شقيقه.
وقوله:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ قَالَ إِنّي أَنَاْ َأخُوكَ فَلَ تَبْتَ ِئسْ ِبمَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ } [يوسف.]69 :
يوضح لنا أن إخوة يوسف قد استفردوا لفترة ببنيامين ،ولم يُحْسِنوا معاملته ،وحاول يوسف أن
يُسرّي عن أخيه ،وأن يُزيل عنه الكَدَر بسبب ما كان إخوته يفعلونه.
جهّزَهُمْ.} ...
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :فََلمّا َ
()1652 /
حلِ أَخِيهِ ثُمّ َأذّنَ ُمؤَذّنٌ أَيّ ُتهَا ا ْلعِيرُ إِ ّن ُكمْ لَسَا ِرقُونَ ()70
سقَايَةَ فِي َر ْ
ج َعلَ ال ّ
جهَازِ ِهمْ َ
جهّزَ ُهمْ بِ َ
فََلمّا َ
جهّزهم
أي :أن يوسف عليه السلم قد قام بصرف المَيْرة لهم ،كما سبق أن وعدهم ،وكما سبق أن َ
في المرّة السابقة؛ وأراد أن يُبِقي أخاه معه في مصر؛ ولكن كيف يأخذه من إخوته لِيُبقِيه معه؛ وقد
أخذ أبوهم ميثاقا عليهم ألّ يضيعوه ،وأل يُفرّطوا فيه ،كما فعلوا مع أخيه من قبل؟
إذن :ل بُدّ من حيلة يستطيع بها أن يستبقي بها أخاه معه ،وقد جَنّد ال له فيها إخوته الذين كانوا
ُيعَادونه ،وكانوا يحقدون عليه وعلى أخيه.
صوَاع الملك ،التي يشرب فيها الملك ،وتُستخدم كمكيال ،وجعلها في َرحْل
وجاءت هنا حكاية ُ
أخيه.
وكلمة " السقاية " تُطلق إطلقات متعددة من مادة " سقى " أي " :السين " و " القاف " و " الياء " ،
فتُطلق على إسقاء الناس والحجيج الماء.
جدِ الْحَرَامِ َكمَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ }
عمَا َرةَ ا ْلمَسْ ِ
ج وَ ِ
سقَايَةَ ا ْلحَا ّ
جعَلْتُمْ ِ
والقرآن الكريم يقول {:أَ َ
[التوبة.]19 :
فكان معنى السقاية أيضا هو المكان الذي يُوضَع فيه الماء ليشرب منه الناس.
أو :تُطلق " السقاية " على اللة التي يُخرج بها الماء للشاربين.
وهنا تُطلق كلمة " السقاية " على الناء الذي كان يشرب به الملك ،ويُستخدم كمكيال ،وهذا دليلٌ
على َنفَاسة ال َمكِيل.
وتُطلق أيضا كلمة " صواع " على مثل هذه الداة التي يُشرب منها ،أو يُرفع بها الماء من المكان
إلى فَمِ الشارب؛ وأيضا ُيكَال بها؛ ومفردها " صاع ".
ويقول الحق سبحانه هنا عن حيلة يوسف لستبقاء أخيه معه:
حلِ َأخِيهِ } [يوسف.]70 :
سقَايَةَ فِي رَ ْ
ج َعلَ ال ّ
{ َ
أي :أمر بعضا من أعوانه أن َيضَعوا " السقاية " في رَحْل أخيه ،و " الرّحْل " :هو ما يوضع على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
البعير ،وفيه متاع المسافر كله .وبعد أن ركب إخوة يوسف جِمالهم استعدادا للعودة إلى الشام؛
وقعت المفاجأة لهم؛ والتي يقول عنها الحق سبحانه:
{ ُثمّ أَذّنَ ُمؤَذّنٌ أَيّ ُتهَا ا ْلعِيرُ إِ ّنكُمْ َلسَا ِرقُونَ } [يوسف.]70 :
أي :يا أصحاب تلك العير أنتم سارقون .والسرقة فعل قبيح حينما يتر ّتبُ عليها جزاء يُوقّع على
السارق ،والمسروق هو شيء ثمين.
وفيما يبدو أن هذه الحيلة ت ّمتْ بموافقة من " بنيامين " ليمكث مع أخيه يوسف حتى يحضر أبواه
إلى مصر.
ولسائل أن يقول :وكيف َرضِى بنيامين بذلك ،وهو أمر يُزِيد من حُزْن يعقوب؟ وكيف يتهم يوسف
إخوته بسرقة لم يرتكبوها؟
أقول :انظروا إلى ِدقّة القرآن ،ولنُحْسِنَ الفهم عنه؛ لنرى أن حزن يعقوب على َفقْد يوسف قد
غلبه؛ فلَن يُؤثّر فيه كثيرا َفقْد بنيامين.
ودليل ذلك أن يعقوب عليه السلم حين عاد أبناؤه وأخبروه بحكاية السرقة؛ واستبقاء بنيامين في
سفَ }[يوسف.]84 :
علَى يُو ُ
سفَىا َ
مصر قال {:يَاأَ َ
ولم يذكر يعقوب بنيامين.
وأما عن اتهامهم بالسرقة؛ فالية هنا ل تُحدّد ماذا سرقوا بالضبط ،وهم في نظر يوسف قد سَرَقوه
جبّ.
من أبيه ،وألقوْه في ال ُ
وهنا يأتي الحق سبحانه بموقف إخوة يوسف عليه السلم { :قَالُواْ وََأقْبَلُواْ عَلَ ْيهِمْ مّاذَا َت ْفقِدُونَ.} ..
()1653 /
()1654 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن الذين أعلنوهم بالسرقة قالوا لهم :لقد ضاعت سقاية الملك؛ ويُقَال لها " صواع " ،ومَنْ
حمْل بعير؛ فلعل صُواع الملك قد
سيُخرجها من المكان المختفية به سوف ينال مكافأة قدرها وَزْن ِ
حمْل أحدكم دون قصد.
خُبئت في ِ
وأكد رئيس المنادين أنه الضامن لمن يُخرج صواع الملك ،ويحضرها دون تفتيش أن ينال
حمْل بعير من المَيْرة والغذاء.
جائزته ،وهي ِ
وهنا قال إخوة يوسف عليه السلم { :قَالُواْ تَاللّهِ.} ...
()1655 /
وقولهم { تَاللّهِ } هو قسم ،وعادةً تدخل " التاء " على لفظ الجللة عند القَسَم المقصود به التعجّب،
أي :أن إخوة يوسف أقسموا مُندهشين لتهامهم بأنهم لم يسرقوا؛ وأن ال ُكلّ قد علم عنهم أنهم لم
يأتوا بغرض الفساد بسرقة أو غير ذلك ،لم يسبق أن اتهمهم أحد بمثل هذا التهام.
وهنا يأتي الحق سبحانه بما جاء على ألسنة مَنْ أعلنوا عن وجود سرقة ،وأن المسروق هو
صوَاع الملك.
ُ
ويقول الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم { :قَالُواْ َفمَا جَزَآ ُؤهُ.} ....
()1656 /
وهذا سؤال من مُسَاعدي يوسف لخوة يوسف عن العقوبة المقررة في شريعتهم لمن يسرق؟
وماذا نفعل بمن نجد في رَحْله صُواع الملك؛ وثبت كذبكم بأنكم لم تسرقوه؟
وكان المعروف أن مَنْ يُضبط بسرقة في شريعة آل يعقوب أن يُسترقّ أو يظل في خدمة مَنْ
سرقهم ،كما فعلت عمة يوسف التي أحبته وعاش معها بعد وفاة أمه؛ وحين أراد والده أن يسترده
أخ َفتْ في ثياب يوسف شيئا عزيزا ورثته عن أبيها إسحاق ،وبذلك استبقتْ يوسف معها ،ولم
يأخذه أبوه إل بعد أن ماتت عمّته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكان هدف يوسف عليه السلم إذن أن يستبقي أخاه معه؛ وهو قد علم من قبل هذا الحكم ،وهكذا
تركهم يوسف عليه السلم يحكمون بأنفسهم الحكم الذي َيصْبُو إليه ،وهو بقاء أخيه معه.
ويُورِد الحق سبحانه قولهم { :قَالُواْ جَزَآ ُؤهُ.} ...
()1657 /
جدَ فِي َرحْلِهِ َف ُهوَ جَزَا ُؤهُ َكذَِلكَ نَجْزِي الظّاِلمِينَ ()75
ن وُ ِ
قَالُوا جَزَا ُؤهُ مَ ْ
()1658 /
وكان الهدف من البَدْء بتفتيش أوعيتهم؛ وهم عشرة؛ قبل وعاء شقيقه ،كي ينفي احتمال ظنّهم بأنه
طلب منهم أن يأتوا بأخيهم معهم ليدبر هو هذا المر ،وفتش وعاء شقيقه من بعد ذلك؛ ليستخرج
صوَاع الملك؛ وليُطبّق عليه قانون شريعة آل يعقوب؛ فيستبقي شقيقه معه .وهذا دليل على
منه ُ
الذكاء الحكيم.
وهكذا جعل الحق سبحانه الكيد مُحْكما لصالح يوسف ،وهو الحق القائل:
سفَ } [يوسف.]76 :
{ كَذاِلكَ كِدْنَا لِيُو ُ
أي :كان الكيد لصالحه.
ويتابع سبحانه:
{ مَا كَانَ لِيَ ْأخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ا ْلمَِلكِ ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ } [يوسف.]76 :
أي :ما كان يوسف ليأخذ أخاه في دين الملك الذي يحكم مصر؛ لول فتوى الخوة بأن شريعتهم
تحكم بذلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويتابع سبحانه:
{ نَ ْرفَعُ دَ َرجَاتٍ مّن نّشَآ ُء َو َفوْقَ ُكلّ ذِي عِ ْلمٍ عَلِيمٌ } [يوسف.]76 :
وهكذا رفع ال من شأن يوسف ،وكَادَ له ،وحقّق له أمله ،وهو يستحق كل ذلك؛ ورفعه سبحانه
درجاتٍ عالية من العلم والحكمة.
ولم يكُنْ الكيد بسبب أن يُنزِل بشقيقه عذابا أو ضياعا ،بل نريد ليوسف ولخيه ال ّرفْعة ،فكأن كثيرا
من المصائب تحدث للناس ،وهم ل يَدْرون ما في المحنة من المِنَح.
ي أمر صعب يقع عليه من غير رأي منه؛ ل ُبدّ وأن يشعر أن فيه من
وعلى المؤمن أن يعلم أن أ ّ
ال نفعا للنسان.
وإخوة يوسف سبق أنْ كَادوا له ،فماذا كانت نتيجة كَيْدهم؟
لقد شاء الحق سبحانه أن يجعل الكيد كله لصالح يوسف ،وجعله سبحانه ذَا علم ،فقال:
{ َو َفوْقَ ُكلّ ذِي عِ ْلمٍ عَلِيمٌ } [يوسف.]76 :
و(ذي علم) أي :صاحب علم .وكلهما مُنْفِصل ،أي :هناك " صاحب " ،وهناك " علم " ،
والصاحب يوجد أولً؛ وبعد ذلك يطرأ عليه العلم؛ فيصير صاحبَ عِلْم ،ولكن فوقه:
{ عَلِيمٌ } [يوسف.]76 :
أي :أن العلم ذاتيّ فيه ،وهو الحق سبحانه وتعالى.
فماذا كان موقف أخوة يوسف؟
بطبيعة الحال لبد أنهم قد ُبهِتوا ،أول تصرف منهم كان ل بُدّ أن ينصرف إلى الخ الذي وُجدت
السقاية في رَحْله؛ وأخذوا يُوبّخونه؛ لنه أحرجهم وفضحهم ،وبحثوا عن أسباب عندهم للحفيظة
عليه؛ ل للرفق به.
عصْبَةٌ }
حبّ إِلَىا أَبِينَا مِنّا وَنَحْنُ ُ
ف وَأَخُوهُ َأ َ
س ُ
وموقفهم المُسْبق منه معروف في قولهم {:لَيُو ُ
[يوسف.]8 :
وهم يعلمون أن يوسف وأخاه من امرأة أخرى هي " راحيل " ،ولو كان شقيقا لهم لَتلّطفوا به.
وأوضح لهم :إن مَنْ جعل البضاعة في رِحَالي هو مَنْ جعل البضاعة في رِحَالكم.
وهنا قال أحد الخوة :تال ،يا أبناء راحيل ،ما أكثر ما نزل علينا من البلء منكم ،فَ َردّ بنيامين:
بنو راحيل نزل عليهم من البلء منكم فوق ما نزل عليكم من البلء منهم.
ويورد الحق سبحانه هنا قولهم { :قَالُواْ إِن َيسْرِقْ.} ...
()1659 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سفُ فِي َنفْسِ ِه وَلَمْ يُ ْبدِهَا َلهُمْ قَالَ أَنْ ُتمْ شَرّ َمكَانًا
قَالُوا إِنْ يَسْ ِرقْ َفقَدْ سَ َرقَ أَخٌ َلهُ مِنْ قَ ْبلُ فََأسَرّهَا يُو ُ
صفُونَ ()77
وَاللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا َت ِ
عوْا أن داء السرقة في بنيامين قد سبقه إليه شقيق له من قبل ،وقالوا ذلك في مجال تبرئة
وهكذا ادّ َ
حتْ ملمح العداوة منهم تجاه يوسف وأخيه.
أنفسهم ،وهكذا َوضُ َ
وقولهم:
{ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَ ْبلُ[ } ..يوسف.]77 :
يُسمّى في اللغة قضية شرطية .ومعنى القضية الشرطية؛ أن حدثا يقع بسبب حَدَث وقع قبله،
فهناك حَدَث يحدث وحده ،وهناك حَدَث يحدث بشرط أن يحدث قبله حدث آخر.
مثال هذا هو قولك لتلميذ :إنْ تذاكر دروسك تنجحْ ،وهنا حَدَثان ،المذاكرة والنجاح ،فكأن حدوثَ
النجاح الشرط فيه حدوث المذاكرة ،ول ُبدّ أن يحدث الشرط أولً؛ ثم يحدث الحدث الثاني ،وهو
هنا قولهم:
{ َفقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَ ْبلُ } [يوسف .]77 :كتعليل لسرقة بنيامين.
سلٌ مّن قَبِْلكَ }[آل عمران.]184 :
والمثل من القرآن أيضا {:فَإِن كَذّبُوكَ َفقَدْ كُ ّذبَ رُ ُ
فكأن ال يوضح للرسول صلى ال عليه وسلم :إنْ كذّبوك الن فيما تنقل لهم من أخبار السماء؛
فل تحزن ول تبتئس؛ فهذا التكذيب ظاهرة عَانَى منها كل الرسل السابقين لك؛ لنهم يجيئون بما
يُنكره المرسل إليهم أولً ،فل بد أن يكذبوا ،وهكذا يستقيم الشرط ،لن الحق سبحانه هنا قد عدل
بالشيء عن سببه ،فكان جواب الشرط بعد الزمان الذي حدث فيه الشرط.
وهنا قال الحق سبحانه:
{ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لّهُ مِن قَ ْبلُ[ } ..يوسف.]77 :
أي :ل تعجب يا عزيز مصر؛ لن هذه خصلة في أولد راحيل ،قالوا ذلك وهم يجهلون أنهم
يتحدثون إلى يوسف ابن راحيل!!
وكل حدث يحدث للمَلَكات المستقيمة؛ ل ُبدّ أن يُخرج تلك المَلَكات عن وضعها ،ونرى ذلك لحظة
أن يتفوّه واحد بكلمة تُخرج إنسانا مستقيما عن حاله وتُنغّصه ،ويدرك بها النسان المستقيم ما
يؤلمه؛ وينفعل انفعالً يجعله ينزع للردّ.
ولذلك يوصينا صلى ال عليه وسلم " :إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس؛ فإن ذهب عنه
الغضب؛ وإل فليضطجع ".
كي يساعد نفسه على َكظْم ضيقه وغضبه ،ولِيُسرّب جزءا من الطاقة التي تشحنه بالنفعال.
ولكن يوسف عليه السلم لم ينزع إلى الرد ،لذلك قال الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سهِ[ } ...يوسف.]77 :
سفُ فِي َنفْ ِ
{ فََأسَرّهَا يُو ُ
وكان يستطيع أن يقول لهم ما حدث له من عمّته التي اتهمته بالباطل أنه سرق؛ لتحتفظ به في
حضانتها من فَرْط حُبّها له ،لكن يوسف عليه السلم أراد أن يظل مجهولً بالنسبة لهم ،لتأخذ
المور مجراها:
س ِه وَلَمْ يُبْ ِدهَا َلهُمْ[ } ..يوسف.]77 :
سفُ فِي َنفْ ِ
{ فََأسَرّهَا يُو ُ
حدث ذلك رغم أن قولهم قد أثّر فيه ،ولكن قال رأيه فيهم لنفسه:
صفُونَ } [يوسف.]77 :
{ أَنْ ُتمْ شَرّ ّمكَانا وَاللّهُ أَعْلَمْ ِبمَا َت ِ
ل للعب؛ ثم ألقيتموني في الجب؛ وتركتم أبي بل موانسة.
لنكم أنتم مَنْ أخذتموني طف ً
()1660 /
حسِنِينَ ()78
قَالُوا يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ إِنّ َلهُ أَبًا شَ ْيخًا كَبِيرًا َفخُذْ َأحَدَنَا َمكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" ،وإنْ أردتَ الكِبَرَ في المقام تقول " :كَبُرَ يَكبُر ".
والحق سبحانه يقول {:كَبُ َرتْ كَِلمَةً َتخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ إِن َيقُولُونَ ِإلّ كَذِبا }[الكهف.]5 :
والكِبَر واحد من معاني العظمة ،أما الكِبَرُ في السّنّ فهو مختلف؛ وهنا قالوا:
{ إِنّ لَهُ أَبا شَيْخا كَبِيرا[ } ...يوسف.]78 :
قد تكون ترقيقا بالعزة ،أو ترقيقا بالضعف.
أي :إن له أبا شيخا كبيرا عظيما في قومه؛ وحين يُبلغه أن ابنه قد احتُجز من أجل سرقة ،فهذا
أمر مؤلم؛ ولك أن تُقدّر ذلك وأنت عزيز مصر؛ ونرجو أن تحفظ للب شرفه ومَجْده وعظمته،
واسْتُرْ ذلك المر من أجل خاطر ومكانة والده.
أو :أن يكون قولهم مقصودا به ،أن الب شيخ مُهدّم ،ل يحتمل الصدمة ،وخصوصا أن له ابنا قد
ُفقِد.
ثم يعرضون عَرْضا آخر ،فيقولون:
حسِنِينَ } [يوسف.]78:
{ َفخُذْ َأحَدَنَا َمكَانَهُ إِنّا نَرَاكَ مِنَ ا ْلمُ ْ
أي :أنهم سألوه أن يُتمّمَ إحسانه عليهم ،فقد أحسن استقبالهم؛ وسبق أن أنزلهم منزلً كريما،
وأعطاهم المَيْرة ،ولم يأخذ بضائعهم ثمنا لها.
ومَنْ يفعل ذلك؛ ل يضِنّ عليهم بأن يستجيب لرجائهم ،بأن يأخذ واحدا منهم بدلً من أخيهم
الصغير.
كل هذه ترقيقات منهم لقلبه ،ولكن القاعدة هي ألّ يُؤاخذ بالذنب إل صاحبه؛ ولذلك لم َي ُفتْ هذا
المر على يوسف ،فجاء الحق سبحانه بما يوضح ذلك { :قَالَ َمعَاذَ اللّهِ.} ...
()1661 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عوَضا عن الجملة كلها.
ويحدث ذلك حين تبلغ الرّوح الحلقوم ،وجاء " التنوين " ِ
وهكذا أراد يوسف أن يُذكّرهم أنه ل يحِقّ له أن يأخذ أخا منهم بدلً من بنيامين؛ لنه هو مَنْ وُجِد
صوَاع الملك؛ ول يصح له أن يظلم أحدا ،أو يأخذ أحدا بجريرة أحد آخر.
في متاعه ُ
وهنا علم أبناء يعقوب أن المسألة ل يُ َبتّ فيها بسهولة؛ لنها تتعلق بأمر خطير.
ويصور الحق سبحانه حالتهم هذه فيقول { :فََلمّا اسْتَيَْأسُواْ مِ ْنهُ.} ..
()1662 /
ويقال " :يئس " أي :قطع المل من الشيء ،وهم لم يقطعوا المل فقط ،بل استيأسوا ،وهو أمر
فوق اليأس.
فهم قد أخذوا يُرقّقون كل ألوان المُرقّقات؛ ول فائدة؛ وكلما أوردوا مُرقّقا؛ يجدون الباب أمامهم
مُوصَدا.
وكأنهم بذلك يُِلحّون على اليأس أن يأتيهم؛ لن الظروف المحيطة والجو المحيط ل يحمل أي
بارقة أملٍ ،وكلما تبدو بارق ُة أملٍ ويطلبونها يجدون الطريق مُوصَدا؛ فكأنهم يطلبون اليأس من أن
يأذن يوسف بسفر أخيهم بنيامين معهم في رحلة العودة إلى أبيهم.
وهنا { :خََلصُواْ نَجِيّا[ } ..يوسف.]80 :
أي :أنهم انفردوا عنه ،وعن أعين الحاضرين؛ العزيز يوسف ،ومَنْ حوله من ال ُمعَاونِين له،
وأخيهم موضع الخلف ،وانفردوا بأنفسهم.
والنفراد هو المناجاة؛ والمناجاة مَسرّة؛ والمَسرّة ل تكون إل في أمر ل تحب لغيرك أن يطلع
عليه.
ونلحظ أن { :خََلصُواْ[ } ...يوسف ]80 :هي جمع ،وَ { :نجِيّا } [يوسف ]80 :مفرد ،وهذا من
ن ل يملكون مَلَكةً عربية :كيف يأتي القرآن بمفرد بعد الجمع؟
ضمن المواقع التي يتساءل فيها مَ ْ
ونقول دائما :لو أنهم امتلكوا اللغة كمَلكَة لَعرفوا أن ذلك جائز جدا .ومثال هذا هو قول الحق
ظهِيرٌ }[التحريم.]4 :
سبحانه {:وَا ْلمَلَ ِئكَةُ َب ْعدَ ذَِلكَ َ
وهم ل يفهمون أن اللغة فيها ألفاظ يستوي فيها المفرد والجمع ،كأن الملئكة يجمعون قوة كل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واحد منهم لتكون قوة واحدة.
لقْ َدمُونَ
ومثال آخر :هو قول إبراهيم خليل الرحمن {:قَالَ َأفَرَأَيْتُمْ مّا كُنْ ُتمْ َتعْبُدُونَ * أَن ُت ْم وَآبَآ ُؤكُ ُم ا َ
ع ُدوّ لِي ِإلّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الشعراء.]77-75 :
* فَإِ ّنهُمْ َ
أي :أن إبراهيم عليه السلم جمع اللهة المتعددة التي يعبدونها وجعلها عدوا واحدا له.
وكذلك يمكن أن نفعل مع كلمة " صديق " ،وكذلك كلمة " عَدْل " فحين ينظر القضاء في أمر
قضية ما؛ فالقاضي ل يُصدِر الحكم وحده؛ بل ُيصِدره بعد التشاور مع المُستَشارين؛ ويصدر
الحكم من الثلثة :رئيس المحكمة ،وعضو اليمين ،وعضو اليسار وكلهما بدرجة مستشار.
ل " .ول يقال :إن كل مستشار أو قاض له عدل.
ويُقَال " :حكم القضاة عَ ْد ً
وكذلكَ { :نجِيّا } [يوسف ]80 :في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،فهم حين استيأسوا من
يوسف انفردوا بأنفسهم ليتناجوا.
وعادة يكون الرأي الول للخ الكبر ،الذي عادة ما يكون له من الخبرة والحكمة ما يتيح له أن
يُبدِي الرأي الصواب.
وهنا يقول الحق سبحانه:
سفَ فَلَنْ
{ قَالَ كَبِيرُ ُهمْ أَلَمْ َتعَْلمُواْ أَنّ أَبَا ُكمْ قَدْ َأخَذَ عَلَ ْيكُمْ ّموْثِقا مّنَ اللّ ِه َومِن قَ ْبلُ مَا فَرّطتُمْ فِي يُو ُ
حكُمَ اللّهُ لِي وَ ُهوَ خَيْرُ ا ْلحَا ِكمِينَ } [يوسف.]80 :
ح الَ ْرضَ حَتّىا يَأْذَنَ لِي أَبِي َأوْ َي ْ
أَبْرَ َ
وقد يكون كبيرهم هو أكبرهم عمرا؛ أو هو رئيس الرحلة ،وحين رآهم قد قَبِلوا فكرة العودة دون
ن يغفلوا عن أن أباهم قد أخذ
أخيهم الذي احتجزه عزيز مصر؛ قال لهم رأيه الذي حذرهم فيه أ ْ
منهم موثقا من ال إل أنْ ُيحَاط بهم؛ كما يجب أل ينسوا أن لهم سابقة حين أخذوا يوسف
وضيّعوه.
وبناءً على ذلك استقر قراره ألّ يبرحَ المكان ،ولن يعود إلى أبيه إل إنْ أذِنَ له بذلك؛ أو أن يحكمَ
ال له بأن يُسلّمه عزيزُ مصر أخاه ،أو أن يموت هنا في نفس البلد.
وهذا القول في ظاهره دفاع عن النفس؛ وخجل من أن يعود إلى أبيه بدون بنيامين؛ ولذلك ترك
أخوته يتحملّون تلك المواجهة مع الب.
وتبدو هذه المسألة أكثر قسوة على الب؛ لنه فقد في الرحلة الولى يوسف ،وفي الرحلة الثانية
يفقد ابنه بنيامين ،وكذلك البن الكبير الذي يرأس الرحلة.
وفي هذا تصعيد للقسوة على الب ،وكان المفروض أن تدور ُمدَاولَة بين الخوة في تلك المُنَاجاة،
ولكن الخ الكبير أو رئيس الرحلة حسم المر.
جعُواْ إِلَىا أَبِي ُكمْ.{ ...
وحين سألوه :ماذا نفعل يا كبيرنا؟ جاء قوله الذي أوردته الية التالية } :ارْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1663 /
ش ِهدْنَا إِلّا ِبمَا عَِلمْنَا َومَا كُنّا لِ ْلغَ ْيبِ حَا ِفظِينَ (
ق َومَا َ
جعُوا إِلَى أَبِيكُمْ َفقُولُوا يَا أَبَانَا إِنّ ابْ َنكَ سَرَ َ
ارْ ِ
)81
وهكذا أمر الخ الكبر أو رئيس الرحلة إخوته أن يرجعوا إلى أبيهم ،ويقولوا له ما حدث
صوَاع
بالضبط ،فقد اتّهم ابنه بالسرقة ،ونحن ل نقول هذا الكلم إل بعد أن وجد فِتيان العزيز ُ
الملك في َرحْلِه ،ول نعلم هل دَسّها أحد له؟ وهل هي حِيلة ومكيدة؟
ونحن ل نقول لك يا أبانا إل ما وصل إلينا من معلومات ،وقد أخذه العزيز طبقا لشريعتنا ،ونحن
بخبرتنا بأخينا ل نشهد عليه بالسرقة ،إل أن ثبوتَ وجود صُواع الملك في رَحْله هو السبب في
كل ذلك.
ويعلم الخ الكبر أن يعقوب عليه السلم قد يُكذّب أولده؛ لن هناك سوابقَ لهم؛ لذلك أوصاهم
الخ الكبر أو رئيس الرحلة أن يقولوا لبيهم ـ إنْ َكذّبهم ـ ما جاء به الحق على ألسنتهم:
{ وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ.} ...
()1664 /
وَاسَْألِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَا ْلعِيرَ الّتِي َأقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ ()82
ن كنتَ تشك في أقوالنا؛ يمكنك أن تطلب أدلة أخرى من المكان الذي كنا فيه؛
أي :أنك يا أبانا إ ْ
لن هذا الموضوع قد أحدث ضجّة وحدث أمام جمع كبير من الناس ،والقوافل التي كانت معنا
شهدتْ الواقعة؛ فقد أذّن مُؤذّن بالحادث ،وتَمّ تفتيش العِير علنا.
فإذا أردتَ أن تتأكد من صدق أقوالنا ،فاسأل العِير التي كانت تسير معنا في الطريق ،وهم
يعرفون هذه القضية كما نعرفها ،أو اسأل أهل القرية التي جئنا منها.
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه أورد كلم أخوة يوسف لبيهم يعقوب:
{ وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا[ } ..يوسف.]82 :
ونحن نعلم أن كل حَ َدثٍ من الحداث ل ُبدّ له من فاعل ،ومن مفعول يقع عليه ،ومن مكان يقع
فيه ،ومن زمان يقع فيه؛ ومن سبب يُوجِبه ،ومن قوة تنهض به.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي بعض الحالت نجد أن المكان هو المر الظاهر والقوي في الحدث ،فننسبه إليه ،فيُقال:
{ وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ } [يوسف.]82 :
والمراد بطبيعة الحال أن يَسأل أهل القرية ،أو :أن المسألة كانت واضحة تماما لدرجة أن الجماد
يعرف تفاصيلها ،أو :أنك نبيّ ويوحي لك ال فَسَ ْلهُ أن يجعل الرض تخبرك بما وقع عليها.
وكذلك قولهم:
{ وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَاّلعِيْرَ } [يوسف.]82 :
ونعلم أن العير هي المَطايا؛ سواء أكانت نِياقا أو كانت من الجمال أو الحمير أو ال ِبغَال التي تحمل
البضائع.
وحين ُيقَال:
{ وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا وَاّلعِيْرَ[ } ...يوسف.]82 :
أي :أن العير كان لها في المر شيء فوق المُلَبسات كلها.
ومثال هذا ما كان في موقعة بدر؛ فقد خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم ليلقَى العير القادمة
من الشام وهي مُحمّلة بالبضائع؛ ليصادرها إيفاء ما استولى عليه الكافرون من أموال المهاجرين
التي كانت بمكة ،ولم يكن مع هذه العير إل قليل من الحرس والرعاة.
ولكن حين تكلم عن المقاتلين الذين َقدِموا من مكة؛ وصفهم بالنفير ،أي :الجماعة الذين نفروا
لمواجهة معسكر اليمان.
حدَث يأخذ المر البارز فيه.
إذن :فكل َ
وهنا يورد الحق سبحانه ما جاء على ألسنة إخوة يوسف حينما عادوا ليلقَوْا أباهم ،وليس معهم
أخوهم بنيامين؛ وكذلك تَخَلّف أخيهم الكبير أو رئيس الرحلة.
يقول الحق سبحانه { :وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا[ } ...يوسف.]82 :
ويجوز أن تفتيشهم قد تَمّ في مكان بعيد قليلً عن ال ُعمْران؛ وفحص جنود أو مساعدو يوسف
أمتعتهم التي عثروا فيها على صواع الملك.
وسُمى المكان " قرية " ،مثلما نفعل نحن حاليا حين نخصص مكانا للجمارك؛ نفحص فيه البضائع
الخارجة أو الداخلة إلى البلد ،فقولهم:
{ وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا[ } ...يوسف.]82 :
أي :اسأل أهل الموقع الذي حدث فيه التفتيش.
وكذلك قولهم } :وَاّلعِيْرَ الّتِي َأقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ { [يوسف.]82 :
ن كانوا معنا ،وجِئْنا بصحبتهم من أصحاب القوافل الخرى.
أي :اسأل مَ ْ
وكرر قولهم:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ { [يوسف.]82 :
لنهم علموا سابق كذبهم من قبل ذلك؛ لذلك أرادوا هنا أن يُثبتوا صدقهم؛ وحين يسأل أبوهم
يعقوب؛ سيجد أنهم صادقون فعلً ،وهم لم يطلبوا شهادة الغير إل لنهم واثقون من صدقهم هذه
المرة.
وجاء الحق سبحانه بهذه الجملة السمية:
} وَإِنّا َلصَا ِدقُونَ { [يوسف.]82 :
شكّ فيهم من قبل ،حين جاءوا بدم كذبٍ ،وادّعوا أنه قميص يوسف،
لنهم قد فهموا أن والدهم قد َ
وأن الذئب قد أكله.
سوَّلتْ.{ ...
ويأتي الحق سبحانه بما جاء على لسان يعقوب } :قَالَ َبلْ َ
()1665 /
حكِيمُ (
جمِيعًا إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْل َ
عسَى اللّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي ِبهِمْ َ
جمِيلٌ َ
سكُمْ َأمْرًا َفصَبْرٌ َ
سوَّلتْ َل ُكمْ أَ ْنفُ ُ
قَالَ َبلْ َ
)83
المور التي تخالف الضمير؛ ويُستحى منها؛ ويُخشى مَغبّتها؛ هي أمور تستعصي على النفس؛
وتحتاج النفس إلى علج حتى تبرزها ،وتحتاج إلى مَنْ يُيسّر لها ،ما أن تُقدِم على فعل المر
سوّل ".
المستهجن ،وهذا ما يُقال لهَ " :
وقول الحق سبحانه على لسان يعقوب:
سكُمْ َأمْرا[ } ...يوسف.]83 :
سوَّلتْ َلكُمْ أَنفُ ُ
{ َبلْ َ
أي :يسّرتْ لكم أنفسكم أمرا يصعب أن تقبله النفوس المستقيمة ،وسبق أن قال يعقوب لحظةَ أنْ
ل وَاللّهُ
جمِي ٌ
سكُمْ َأمْرا َفصَبْرٌ َ
سوَّلتْ َلكُمْ أَنفُ ُ
جاءوا له بقميص يوسف وعليه الدم الكاذبَ {:بلْ َ
صفُونَ }[يوسف.]18 :
ا ْلمُسْ َتعَانُ عَلَىا مَا َت ِ
وهنا طلب يعقوب عليه السلم العون مما يدل على أن ما قالوه ،وكذلك أحداث القصة لن تقف
عند هذا الحّدّ ،بل ستأتي من بعد ما قالوه أحداث تتطلب تجنيد قوى الصبر في النفس ،وتتطلب
معونة ال.
ويختلف المر هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ما جاء بعد الحديث عن تسويل
النفس ،واستلهام الصبر من الَ ،فهِبَات الفرج قد اقتربتْ ،فقال:
جمِيعا[ } ...يوسف.]83 :
عسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي ِبهِمْ َ
{ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في هذه الية طلب المل الذي يوحي بالفرج ،وقد كان.
وبعض من الذين تأخذهم الغفلة يتساءلون:
لماذا قال يعقوب:
جمِيعا[ } ..يوسف.]83 :
عسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي ِبهِمْ َ
{ َ
والغائب عنه هما يوسف وأخوه؟
ونقول :ولماذا تنسوْنَ كبير الخوة الذي رفض أن يبرحَ مصر ،إل بعد أن يأذن له يعقوب ،أو
يفرج عنه ال؟
لقد غاب عن يعقوب ثلثة من أولده :يوسف وبنيامين وشمعون؛ لذلك قال:
جمِيعا[ } ..يوسف.]83 :
عسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي ِبهِمْ َ
{ َ
ولم َي ُقلْ :يأتيني بهما.
ويُذيّل الحق سبحانه الية الكريمة بقوله:
حكِيمُ } [يوسف.]83 :
{ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ
فال سبحانه يعلم أين هم؛ لنه العليم بكل شيء ،وهو سبحانه حكيم فيما يُجريه علينا من
تصرّفات.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وَ َتوَلّىا عَ ْنهُمْ.} ...
()1666 /
وأعرض يعقوب عليه السلم عنهم؛ فما جاءوا به هو خبر أحزنه ،وخَلَ بنفسه؛ لنه ببشريته
تحسّر على يوسف ،فقد كانت قاعدة المصائب هي افتقاده يوسفَ.
وساعةَ تسمع نداءً لشيء محزن ،مثل " :وا حُزْناه " أو " وا أسفاه " أو " وا مُصيبتاه "؛ فهذا يعني
أن النفس تضيق بالحداث وتقول " يا همّ ،هذا أوانك ،فاحضر " .أو أنه قال:
سفَ[ } ...يوسف.]84 :
سفَىا عَلَى يُو ُ
{ يَاَأ َ
لن أخاه بنيامين كان أشبهَ الناس به؛ فكان حُزْنه على يوسف طاقة من الهَمّ نزلتْ به ،وتبعتها
طاقة هَمّ أخرى ،وهي افتقاد بنيامين.
وقول الحق سبحانه:
ضتْ عَيْنَاهُ } [يوسف.]84 :
{ وَابْ َي ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن دموع يعقوب كثُرتْ حتى بَدا الجزء السود في العين وكأنه أبيض .أو :ابيضتْ عيناه من
فَرْط حُزنه ،الذي ل يبثّه لحد ويكظمه.
وهو قد يكظم غيظه من كل ما حدث ،أما النفعالت فل أحد بقادر على أن يتحكم فيها " .ونجد
رسولنا صلى ال عليه وسلم يبكي؛ وتذرف عيناه حُزْنا على موت ابنه إبراهيم ،فقال له عبد
الرحمن بن عوف ـ رضي ال عنه ـ :أتبكي؟ أو لم تكن نه ْيتَ عن البكاء؟ قال " :ل ،ولكن
نهيتُ عن صوتين أحْمقيْنِ فاجرين :صوت عند مصيبة ،خمش وجوه ،وشق جيوب ،ورنة شيطان
".
وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن العين تدمع ،والقلب يحزن ،ول نقول إل ما يُرضي
ربنا ،وإنّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ".
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه ل يريد من النسان أن يكون جلمودا أو يكون صخرا ل ينفعل
للحداث ،بل يريده مُنفعلً للحداث؛ لن هذا َلوْنٌ يجب أن يكون في إنسانيته ،وهذه عاطفة يريد
ال أن يُبقيها ،وعلى المؤمن أن يُعلِيها.
فسبحانه هو الذي خلق العاطفة ،والغريزة في النسان ،ولو أراد ال النسانَ بل عاطفة أو غريزة
لَفعلَ ما شاء ،لكنه أراد العاطفة والغريزة في النسان لمهمة.
ولحظة أن تخرج العاطفة أو الغريزة عن مُهمتها ،يقول لك المنهج :ل .لن مهمة المنهج أن
يُهذّب لك النفعال.
حبّ النسان للستمتاع بالطعام ،يقول له المنهجُ :كلْ ما يفيدك ول
والمثل الذي أضربه هنا هو ُ
َتكُنْ شَرِها.
والمثل الخر :غريزة حب الستطلع ،يقول لك المنهج :اعرف ما يفيدك؛ ول تستخدم هذه
الغريزة في التجسّس على الناس.
وغريزة الجنس أرادها ال لبقاء النوع ،ولتأتي بالولد والذرية ،لكن ل تستعملها كانطلقات
وحشية .وهكذا يحرس المنهجُ الغرائ َز والعواطفَ لتبقى في إطار مهمتها.
والعاطفة ـ على سبيل المثال ـ هي التي تجعل الب يَحنُو على ابنه الصغير ويرعاه ،وعلى ذلك
فالمؤمن عليه أن ُيعْلِي غرائزه وعواطفه.
وقول الحق سبحانه عن يعقوب:
{ َف ُهوَ كَظِيمٌ } [يوسف.]84 :
أي :أنه أخذ النزوع على قَدْره .وكلمة " كظيم " مأخوذة من " كظمت القربة " أي :أحكمنا غَلْق
فوهة القِرْبة ،بما يمنع تسرّب الماء منها.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :قَالُواْ تَال.} ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1667 /
ولقائل أن يسأل :ومَنِ الذين قالوا ليعقوب ذلك ،وقد ذكرت الية السابقة أنه تولّى عنهم؟
نقول :لقد عاش يعقوب مع أبنائه وأحفاده ،و ُيقَال في الثر :إن يعقوب دخل عليه بعض الناس،
فقالوا له " تال انهشمت يا يعقوب ،ولم تبلغ سِنّ أبيك إسحاق ".
والمعنى :أنك صِرْت عجوزا عاجزا ،مهشما .قال :إنما هشّمني يوسف .فعتب عليه ال في هذه
ال َقوْلة ،وأوضح له :أتشكو ربك لخلقه؟ فرفع يده وقال :خطيئة أخطأتها يا رب فاغفرها لي .قال:
غفرتُها لك.
وقد نبّهه بعض أبنائه أو أحفاده فقالوا:
سفَ حَتّىا َتكُونَ حَرَضا َأوْ َتكُونَ مِنَ ا ْلهَاِلكِينَ } [يوسف.]85 :
{ تَال َتفْ َتؤُاْ تَ ْذكُرُ يُو ُ
أي :ل تزال تذكر يوسف وما حدث له ،حتى تُشرف على الهلك .و " الحَرَض " كما نعلم هو
المُشْرِف على الهلك ،أو يهلك بالفعل.
شكُواْ.} ...
وجاء الرد من يعقوب عليه السلم ،وأورده الحق سبحانه { :قَالَ إِ ّنمَآ َأ ْ
()1668 /
شكُو بَثّي َوحُزْنِي إِلَى اللّ ِه وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ ()86
قَالَ إِ ّنمَا أَ ْ
وشكاية المر إلى ال َلوْن من العبادة ل ،وال َبثّ :هي المصيبة التي ل قُدرة لحد على كتمانها؛
فينشرها ،وإذا أصاب العلى الدنى بما يراه الدنى سوءً ،يتفرع الدنى إلى نوعين :نوع يتودد
إلى القوى ،ويتعطفه ويلين له ،ويستغفره ويستميحه ،ونوع آخر يتأبى على المُبْتَلى .ويتمرد،
ولسان حاله يقول " :فليفعل ما يريد ".
والحق تبارك وتعالى يقول في كتابه {:فََلوْل إِذْ جَآ َءهُمْ بَأْسُنَا َتضَرّعُواْ }[النعام.]43 :
س ونتضرع إلى ال؛ يكون البأس قد غسلنا من الذنوب ونسيان ال ّذكْر؛ وأعادنا إلى
فساعة يأتي الب ْأ ُ
ال الذي لن يزيل البأس إل هو.
أما الذي يتمرد ويستعلي على الحداث ،فويل له من ذلك التمرد .والحق سبحانه حين يصيب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنسانا بمصيبة ،فهو يلطف ِبمَنْ يدعوه.
ل يعقوب ما علّمنا إياه رسولنا صلى ال عليه وسلم {:الّذِينَ ِإذَآ
وتساءَل بعضهم :ولماذا لم َيقُ ْ
جعُونَ }[البقرة.]156 :
َأصَابَ ْتهُم ّمصِيبَةٌ قَالُواْ إِنّا للّ ِه وَإِنّـآ إِلَيْهِ رَا ِ
ونقول :إن هذا من النعم التي اختصّ بها الحق سبحانه أمةَ محمد صلى ال عليه وسلم؛ وحين
دخل بعضهم على عليّ بن أبي طالب ـ كرّم ال وجهه وأرضاه ـ وكان يعاني من وَعْكة ،وكان
يتأوه ،فقالوا له :يا أبا الحسن أتتوجّع؟ قال :أنا ل أشجع على ال.
وهنا في الية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ يعلن يعقوب عليه السلم أنه ل يشكو حُزْنه
و َهمّه إل إلى ال ،فهو القادر على كشف الضّرّ؛ لن يعقوب عليه السلم يعلم من ال ما ل يعلم
أبناؤه أو أحفاده.
فقد كان يشعر بوجدانه ،وبما كان لديه من شكوك لحظة إبلغهم له بحكاية الذئب المكذوبة أن
يوسف ما زال حيا ،وأن الرّؤيا التي حكى يوسف عنها لبيه ،سوف يأذن الحق بتحقيقها.
ويذكر الحق سبحانه ما جاء على لسان يعقوب فيقول { :يابَ ِنىّ ا ْذهَبُواْ.} ...
()1669 /
ف وَأَخِي ِه وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ َروْحِ اللّهِ إِنّهُ لَا يَيْ َئسُ مِنْ َروْحِ اللّهِ إِلّا
س َ
يَا بَ ِنيّ اذْهَبُوا فَ َتحَسّسُوا مِنْ يُو ُ
ا ْل َقوْمُ ا ْلكَافِرُونَ ()87
ونلحظ أن الذين غابوا هم ثلثة :يوسف ،وبنيامين ،والخ الكبر الذي أصرّ على ألّ يبرح مصر
ن أبوه ،أو يأتي فرج من ال.
إل بعد أن يأذ َ
وهنا في هذه الية جاء ِذكْر يوسف وأخيه ،ولم يَ ْأتِ ِذكْر الخ الكبير أو رئيس الرحلة .ونقول :إن
يوسف وأخاه هما المعسكر الضعيف الذي عانى من مناهضة بقية الخوة ،وهما قد فارقا الب
صغارا ،أما الخ الكبر فيستطيع أن يحتال ،وأن يعود في الوقت الذي يريد.
وقول يعقوب:
ف وَأَخِيهِ[ } ..يوسف.]87 :
س َ
حسّسُواْ مِن يُو ُ
{ اذْهَبُواْ فَتَ َ
نجد فيه كلمة (تحسسوا) ،وهي من الحسّ ،والحسّ يُجمع على " حواس " ،والحواس هي منافذ
إدراك المعلومات للنفس البشرية ،فالمعلومات تنشأ عندنا من المور المُحسّة ،وتدركها حواسنا
لتصير قضايا عقلية.
وهكذا نعلم أن الحواس هي قنواتُ المعرفة ،وهي غير مقصورة على الحواس الخمس الظاهرة؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بل اكتشف العلماء أن هناك حواسّ أخرى غير ظاهرة ،وسبق أن تعرضنا لهذا المر في مراتٍ
كثيرة سابقة.
وقوله:
ف وَأَخِيهِ[ } ..يوسف.]87 :
س َ
{ فَ َتحَسّسُواْ مِن يُو ُ
يعني أعملوا حواسكم ،بكل ما فيها من طاقة ،كي تصلوا إلى الحقيقة.
صتْ ويرى ويشُمّ رائحة الخبار والتحرّكات
ونعلم أن كلمة " الجاسوس " قد أُطِلقَتْ على مَنْ يتن ّ
عند معسكر العداء؛ ويقال له " عين " أيضا.
وفي عُرْفنا العام نقول لمن يحترف التقاط الخبار " شَمْ شِمْ لنا على حكاية المر الفلني ".
وتابع يعقوب القول:
{ َولَ تَيْأَسُواْ مِن ّروْحِ اللّهِ إِنّ ُه لَ يَيْأَسُ مِن ّروْحِ اللّهِ ِإلّ ا ْلقَوْمُ ا ْلكَافِرُونَ } [يوسف.]87 :
أي :إياكم أن تقولوا أننا ذهبنا وتعبنا وتحايلنا؛ ولم نجد حلً ،لن ال موجود ،ول يزال ل رحمة.
والثر يقول " :ل كَ ْربَ وأنت َربّ ".
وما َيعِزّ عليك بقانونك الجأ فيه إلى ال.
وقد علّمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم " أنه كلما حَزَبه أمر قام وصلى ".
وبهذا لجأ إلى ربّ السباب ،وسبحانه فوق كل السباب ،وجَرّبوا ذلك في أيّ أمر يُعضِلكم ،ولن
ينتهي الواحد منكم إلى نهاية الصلة إل ويجد حَلّ ِلمَا أعضلَه.
وكلمة " َروْح " نجدها تُنطَق على طريقتين " َروْح " و " رُوح " ،و " ال ّروْح " هي الرائحة التي
تهبّ على النسان فيستروح بها ،مثلما يجلس إنسان في يوم قَيْظ؛ ثم تهبّ نسمة رقيقة ينتعش بها.
ن َوجَ ّنتُ َنعِيمٍ }[الواقعة.]89 :
ح وَرَيْحَا ٌ
والحق سبحانه يقول {:فَ َروْ ٌ
ونأخذ لهذه الروح مثلً من المُحسّات حين يشتد القيظ ،ونجلس في بستان ،وتهبّ نسمة هواء؛
فيتعطر الجو بما في البستان من زهور.
والرّوح هي التي ينفخها الحقّ سبحانه في الجماد فيتحرك.
ويأتي هنا يعقوب عليه السلم بالقضية والمبدأ الذي يسير عليه كل مؤمن ،فيقول:
} إِنّ ُه لَ يَيْأَسُ مِن ّروْحِ اللّهِ ِإلّ ا ْلقَوْمُ ا ْلكَافِرُونَ { [يوسف.]87 :
لن الذي ليس له َربّ هو مَنْ ييأس ،ولذلك نجد نسبة المنتحرين بين الملحدة كبيرة ،لكن المؤمن
ل يفعل ذلك؛ لنه يعلم أن له ربا يساعد عباده.
وما دام المؤمن قد أخذ بالسباب؛ فسبحانه يَهبُه ممّا فوق السباب.
ب َومَن يَ َت َوكّلْ عَلَى
س ُ
جعَل لّهُ مَخْرَجا * وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ حَ ْيثُ لَ َيحْتَ ِ
وسبحانه يقولَ {:ومَن يَتّقِ اللّهَ َي ْ
شيْءٍ َقدْرا }[الطلق.]3-2 :
ج َعلَ اللّهُ ِل ُكلّ َ
اللّهِ َف ُهوَ حَسْبُهُ إِنّ اللّهَ بَاِلغُ َأمْ ِرهِ قَدْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه مسألة تحدث لمن يتقي ال .أتحدى أن يوجد مؤمن ليس في حياته مثل هذه المور ،ما دام
يأخذ بالسباب ويتقي ال ،وسوف يجد في لحظة من لحظات الكرب أن الفرج قد جاء من حيث ل
يحتسب؛ لن ال هو الرصيد النهائي للمؤمن.
و َهبْ أنك سائر في الطريق ،وفي جيبك جنيه واحد ،وليس عندك غيره وضاع منك؛ هل تحزن؟
نعم سوف تحزن ،ولكن إن كان في بيتك عشرة جنيهات فحزنك يكون خفيفا لضياع الجنيه ،ولو
كان رصيدك في البنك ألف من الجنيهات ،فلن تحزن على الجنيه الذي ضاع.
جهْد في الخذ بالسباب؛ سيجد الحل والفرج من أيّ كرب ِممّا هو فوق
ومَنْ له َربّ ،يبذل ال َ
السباب.
ولماذا ييأس النسان؟
إن المُلحِد هو الذي ييأس؛ لنه ل يؤمن بإله ،ولو كان يؤمن بإله ،وهذا الله ل يعلم بما فيه هذا
الكافر من كَرْب ،أو هو إله يعلم ول يساعد مَنْ يعبده؛ إما عجزا أو بُخْلً ،فهو في كل هذه
الحالت ليس إلها ،ول يستحق أن يُؤمَن به.
أما المؤمن الحق فهو يعلم أنه يعبد إلها قادرا ،يعطي بالسباب ،وبما فوق السباب؛ وهو حين
يمنع؛ فهذا المَنْع هو عَيْنُ العطاء؛ لنه قد يأخذ ما يضره ول ينفعه.
وينقلنا الحق سبحانه إلى َنقْلة أخرى؛ وهي لحظة أنْ دخلوا على يوسف عليه السلم في مقرّه
بمصر؛ ونقرأ قوله الحق } :فََلمّا َدخَلُواْ.{ ...
()1670 /
فََلمّا َدخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّ ّر وَجِئْنَا بِ ِبضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فََأ ْوفِ لَنَا ا ْلكَ ْيلَ
وَ َتصَدّقْ عَلَيْنَا إِنّ اللّهَ َيجْزِي ا ْلمُ َتصَ ّدقِينَ ()88
ولم يذكر الحق سبحانه اسم مَنْ دخلوا عليه ،لنه بطل القصة ،والضمير في " عليه " ل ُبدّ أن
يعود إلى معلوم ،ونادوه بالتفخيم قائلين:
{ ياأَ ّيهَا ا ْلعَزِيزُ مَسّنَا وَأَهْلَنَا الضّرّ } [يوسف.]88 :
أي :أن الجوع صَيّرنا إلى هُزَال ،وبدأوا بترقيق قلب مَنْ يسمعهم؛ بعد تفخيمهم له؛ فهو العلى
وهُم الدنى.
ويستمر قولهم:
ل وَ َتصَدّقْ عَلَيْنَآ إِنّ اللّهَ َيجْزِي ا ْلمُ َتصَ ّدقِينَ } [يوسف.]88 :
{ وَجِئْنَا بِ ِبضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ فََأ ْوفِ لَنَا ا ْلكَ ْي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونعلم أنهم قد جاءوا ليتحسسوا أمر يوسف وأخيه ،وقد اختاروا مَدْخل الترقيق والتفخيم كََلوْن من
ال َمكْر ،فالتفخيم بندائه بلقب العزيز؛ أي :المالك المُتمكّن؛ ويعني هذا النداء أن ما سوف يطلبونه
منه هو أمر في متناول سلطته.
والترقيق بشكوى الحال من جوع صار بهم إلى هُزال ،وأعلنوا قدومهم ومعهم بضاعة مزجاة،
أي :بضاعة تُستخدم كأثمان ِلمَا سوف يأخذونه من سِلَع.
وكلمة { :مّزْجَاةٍ } [يوسف.]88 :
أي :مدفوعة من الذي يشتري أو يبيع.
جعَلُهُ ُركَاما }[النور.]43 :
والحق سبحانه يقولَ {:ألَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُ ْزجِي سَحَابا ثُمّ ُيؤَّلفُ بَيْنَهُ ُثمّ يَ ْ
وكلمة " يزجي " بمعنى :يدفع.
إذن :فما معنى قول الحق سبحانه:
{ بِ ِبضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ } [يوسف.]88 :
ولكي تعرف المعنى بإحساسك؛ جَرّب هذا المر في نفسك ،وراقب كيف تدفع ثمن أيّ شيء
تشتريه؛ فإنْ كان معك نقود قديمة ونقود جديدة؛ ستجد أنك تدفع قيمة ما تشتريه من النقود القديمة؛
وسوف تجد نفسك مرتاحا لحتفاظك بالنقود الجديدة لنفسك.
وقد يقول لك مَنْ تشتري منه " :خذ هذه الورقة النقدية القديمة التي تدفعها لي ،واستبدلها لي
بورقة جديدة ".
فما دامت النقود سوف تُدفع؛ فأنت تريد أن تتخلص من النقود القديمة؛ وتفعل ذلك وأنت مُرتاح،
وبذلك يمكننا أن نفهم معنى:
{ بِ ِبضَاعَةٍ مّزْجَاةٍ } [يوسف.]88 :
على أنها ِبضَاعة رديئة.
فكأن الضّرّ الذي أصابهم جعلهم عاجزين عن دفع الثمان للمَيْرة التي سوف يأخذونها ،مثل
الثمان السابقة التي تميزت بالجودة.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على ألسنتهم:
ل وَ َتصَدّقْ عَلَيْنَآ إِنّ اللّهَ َيجْزِي ا ْلمُ َتصَ ّدقِينَ } [يوسف.]88 :
{ فََأ ْوفِ لَنَا ا ْلكَ ْي َ
أي :أنهم يرجونه أن يُوفّي لهم الكيل ول ينقصه؛ إنْ كان ما جاءوا به من أثمان ل يُوفى ما
تساويه المَيْرة ،وطالبوه أن يعتبر تلك ال ّت ْوفِية في الكَيْل صدقة.
وبذلك رَدّوه إلى ثمن أعلى مما حملوه من أثمان ،وفوق قدرة البشر على ال ّدفْع؛ لن الصدقة إنما
يُثيب عليها الحق سبحانه وتعالى.
ولقائل أن يسأل :أليسوا أبناء نبوة ،ول تجوز عليهم الصدقة؟
نقول :إن عدم جواز الصدقة هو أمر اختصّ به الحق سبحانه آل محمد صلى ال عليه وسلم ،وهو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أمر خاص بأمة محمد صلى ال عليه وسلم ،فقد قال صلى ال عليه وسلم " :إن الصدقة ل تنبغي
لل محمد ،إنما هي أوساخ الناس ".
وانظر إلى ما فعلته الترقيقات التي قالوها؛ نظر إليهم يوسف عليه السلم وتبسم ،ولما تبسّم
ظهرت ثناياه ،وهي ثنايا مميزة عن ثنايا جميع مَنْ رأوه.
وجاء الحق سبحانه بما قاله { :قَالَ َهلْ عَِلمْتُمْ.} ...
()1671 /
ومجيء هذا القول في صيغة السؤال؛ يدفعهم إلى التأمل والتدقيق؛ لمعرفة شخصية المُتحدّث.
ثم يأتي التلطّف الجميل منه حين يضيف:
سفَ وََأخِيهِ ِإذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ } [يوسف.]89 :
{ مّا َفعَلْتُم بِيُو ُ
وفي هذا القول ما يلتمس لهم به العُذْر بالجهل ،ولم يتحدث إليهم بعِزّة الكبرياء ،وغرور المكانة
التي وصل إليها ،وهدفه أن يخفف عَنهم صَدْمة المفاجأة ،فذكر لهم أنهم فعلوا ذلك أيام جهلهم.
وهذا مثلما يكون أحدهم قد أخطأ في حقّك قديما بسلوك غير مقبول ،ولكن اليام أزالتْ مرارتك
من سلوكه ،فتُذكّره بما فعله قديما وأنت تقول له :إن فعلك هذا قد صدر منك أيام طَيْشك ،لكنك
الن قد وصلت إلى درجة التعقّل و َفهْم المور.
وقول يوسف عليه السلم لهم هذا المر بهذه الصيغة من التلطّف ،إنما يعبر أيضا عن تأثّره
بشكواهم ،ثم تبسّمه لهم ،وظهور ثناياه دفعهم إلى تذكّره ،ودار بينهم وبينه الحوار الذي جاء في
سفُ.} ...
ك لَنتَ يُو ُ
الية التالية { :قَالُواْ أَءِ ّن َ
()1672 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجاء قولهم بأسلوب الستفهام التقريريّ الذي أكّدوه بـ " إنْ " و " اللم " ،وقد قالوا ذلك بلهجة
مُمتلئة بالفرح والتعجّب بنجاحهم في التحسّس الذي أوصاهم به أبوهم.
فرد عليهم:
سفُ وَهَـاذَا أَخِي } [يوسف.]90 :
{ أَنَاْ يُو ُ
وبطبيعة الحال هم يعرفون أخَ يوسف " بنيامين " ،وجاء ذكْر يوسف له هنا دليلً على أن بنيامين
قد دخل معه في النعمة ،وأن الحق سبحانه قد أعزّ الثنين.
شكْر يوسف ل على نعمته في قوله:
ويجيء ُ
ق وَ َيِصْبِرْ فَإِنّ اللّ َه لَ ُيضِيعُ َأجْرَ ا ْل ُمحْسِنِينَ } [يوسف.]90 :
{ َقدْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَآ إِنّهُ مَن يَتّ ِ
وجاء يوسف بهذا القول الذي يعرض القضية العامة التي تنفعهم كإخوة له ،وتنفع أيّ سامع لها
وكل مَنْ يتلوها ،وقد قالها يوسف عليه السلم بعد بيّنة من واقع أحداث م ّرتْ به بَدْءً من الرّؤيا
إلى هذا الموقف.
فهو كلم عليه دليل من واقع ُمعَاش ،فقد مَنّ ال على يوسف وأخيه مما ابْتُلِيا به واجتمعا من بعد
الفُرْقة ،وعَلّل يوسف ذلك بالقول:
{ إِنّهُ مَن يَتّقِ } [يوسف.]90 :
أي :مَنْ يجعل بينه وبين معصية ال وقاية ،ويخشى صفات الجلل ،ويتبع منهجه سبحانه ،ويصبر
على ما أصابه ،ول تفتُر ِهمّته عن عبادة ال طاعة ،ويتجنب كل المعاصي مهما زُيّ َنتْ له.
فسبحانه وتعالى ل يُضيع أجر المحسنين الذين يتقونه ،وصاروا بتقواهم مُستحقّين لرحمته،
وإحسانه في الدنيا والخرة.
ويأتي قول الحق سبحانه بعد ذلك ليحمل لنا ما قاله أخوة يوسف في هذا الموقف { :قَالُواْ
تَاللّهِ.} ...
()1673 /
قَالُوا تَاللّهِ َلقَدْ آَثَ َركَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنّا لَخَاطِئِينَ ()91
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا صدّق إخوة يوسف على ما قاله يوسف ،واعترفوا بخطيئتهم ،حين حاولوا أن يكونوا
مُقرّبين مثله عند أبيهم ،ولكنك يا يوسف وصلت إلى أن تصير مُقربا مُقدّما عند ربّ أبينا وربّ
العالمين.
والشأن والحال التي كنا فيها تؤكد أننا كنا خاطئين ،ول بُدّ أن ننتبه إلى الفَرْق بين " خاطئين " و "
مخطئين ".
والعزيز قد قال لزوجته {:وَاسْ َت ْغفِرِي ِلذَن ِبكِ إِ ّنكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }[يوسف.]29 :
ولم َي ُقلْ لها " كنت من المخطئين " فالمادة واحدة هي " :الخاء " و " الطاء " و " الهمزة " ،ولكن
المعنى يختلف ،فالخاطئ هو مَنْ يعلم منطقة الصواب ويتعدّاها ،أما المّخْطئ فهو مَنْ لم يذهب إلى
الصواب؛ لنه ل يعرف مكانه أو طريقه إليه.
ل لَ
ويقول الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف عليه السلم لخوته بعد أن أقرّوا بالخطأ { :قَا َ
تَثْرِيبَ.} ...
()1674 /
حمِينَ ()92
قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَ ْيكُمُ الْ َيوْمَ َي ْغفِرُ اللّهُ َلكُ ْم وَ ُهوَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ
والتثريب هو اللوم العنيف ،وهو مأخوذ من الثّرْب؛ فحين يذبحون ذبيحة ،ويُخرِجون أمعاءها
يجدون حول المعاء دُهْنا كثيفا؛ هذا الدّهْن يُسمّى ثَرْب.
أما إن كانت هزيلة ،ولم تتغذّ جيدا ،فأمعاؤها تخرج وقد ذاب من عليه هذا الثّرْب.
والتثريب يعني :أن اللوم العنيف قد أذابَ الشحم من لحمه ،وجعل دمه ينزّ ،ويكاد أن يصل
بالنسان إلى أن ينزل به ويسلّه.
وفي الحديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم أنه قال " :إذا زنت َأمَةُ أحدكم فتبيّن زناها
فليجلدها الحدّ ،ول يُثرّب عليها ،ثم إن زنت فليجلدها الحد ،ول يُثرّب عليها ،ثم إنْ زنت الثالثة
فتبيّن زِنَاها فَلي ِبعْها ،ولو بحبل من شعر ".
أي :ل يقولن لها :يا مَنْ فعلت كذا وكذا ،بل فليعاقبها بالعقاب الذي أنزله ال لمثل هذه الجريمة؛
فإن لم ترتدع عن الفعل فَلْي ِبعْها ،وهكذا نفهم أن التثريب أو اللوم العنيف قد يُولّد العِناد.
وقال يوسف عليه السلم:
حمِينَ } [يوسف.]92 :
{ الْ َي ْومَ َي ْغفِرُ اللّهُ َلكُ ْم وَ ُهوَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ
ولقائل أن يتساءل :ولماذا قال يوسف ذلك؛ وقد يكونون قد استغفروا ال من قبل؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونقول :إن دعوة يوسف بالمغفرة لهم جاءت في حدود معرفته ولتصفية النفوس مما شابها بهذا
اللقاء.
وقوله:
حمِينَ } [يوسف.]92 :
{ وَ ُهوَ أَ ْرحَمُ الرّا ِ
هو َفهْمٌ لحقيقة أن أيّ رحمة في العالم ،أو من أي أحد إنما هي مُستمدّة من رحمته سبحانه.
عفَا عنهم؛ وال
وقد قال يوسف ذلك وهو واثق من إجابة دعوته ،لنه قد غفر لهم خطأهم القديم و َ
َأوْلَى منه بالعفو عنهم.
ثم يعود الحديث بينه وبينهم إلى والدهم ،فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسف لخوته،
وهو الذي عَلِم ما حدث لبيه بعد فراقه له { :اذْهَبُواْ ِب َقمِيصِي.} ...
()1675 /
ج َمعِينَ ()93
جهِ أَبِي يَ ْأتِ َبصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهِْلكُمْ أَ ْ
اذْهَبُوا ِب َقمِيصِي َهذَا فَأَ ْلقُوهُ عَلَى وَ ْ
وكان يوسف عليه السلم ،قد عَلِم أن أباه يربط عينيه من الحزن ،وكاد أن يفقد بصره ،فأمر
أخوته أن يذهبوا بقميصه الذي كان يلبسه إلى أبيه.
ح الَ ْرضَ حَتّىا
وتقول كتب السّير أن أخاه الكبر الذي رفض أن يبرح مصر ،وقال {:فَلَنْ أَبْرَ َ
ح ُكمَ اللّهُ لِي وَ ُهوَ خَيْرُ الْحَا ِكمِينَ }[يوسف.]80 :
يَأْذَنَ لِي أَبِي َأوْ يَ ْ
قد قال ليوسف:
ت القميص بدم كذب إلى أبي ،فدعْني احمل هذا القميص لبي،
" يا أيها العزيز إنني أنا الذي حمل ُ
كي تمحو هذه تلك ".
وقال يوسف عن فعل القميص مع الب:
{ فَأَ ْلقُوهُ عَلَىا وَجْهِ أَبِي يَ ْأتِ َبصِيرا } [يوسف.]93 :
ونلحظ أنه لم َي ُقلْ " :وجه أبيكم ".
وفي قوله:
جهِ أَبِي } [يوسف.]93 :
{ وَ ْ
إشارة إلى الحنان البوي الذي فقدوه منذ أن غاب يوسف ،فغرق والده في الحزن.
و { يَ ْأتِ َبصِيرا } [يوسف ]93 :أي :يرتدّ إليه بصره ،أو يراه أمامه سليما.
ويضيف يوسف:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َمعِينَ } [يوسف.]93 :
{ وَأْتُونِي بَِأهِْلكُمْ َأ ْ
هذا تعبير قُرآني دقيق ،أن يُحضروا معهم كل مَنْ َي ُمتّ بصلة قرابة لهم أو يعمل معهم ،ولم َيقُلْ
يوسف " بآلكم " حتى ل يأتوا بالعيان فقط.
ونلحظ أنه لم يذكر والده في أمر يوسف لخوته أن يأتوه بكل مَنْ ي ُمتّ لهم بصلة قُرْبى؛ لن في
جلّ أباه عن ذلك.
مثل هذا المر ـ من موقع عزيز مصر ـ إجبارا للب على المجيء ،وهو ُي ِ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :وََلمّا َفصََلتِ.} ...
()1676 /
و " فصلت " تدل على شيء كان مُلْتصقا بشيء آخر وانفصل عنه ،و َفصِلت العِيرُ .أي :خرجتْ
من المدينة وتجاوزتْها؛ لتسير في رحلتها ،والمقصود خروج القافلة من حدود مصر قاصدةً مكان
يعقوب عليه السلم.
وهنا قال يعقوب لمن كانوا حاضرين معه من الحفاد وأبناء البناء:
سفَ } [يوسف.]94 :
جدُ رِيحَ يُو ُ
{ إِنّي لَ ِ
والمعروف أن القميص الذي أرسله مع أخيه الكبر يحمل رائحة يوسف ،لكن الذين حول يعقوب
من أقربائه لم يُصدّقوا قوله ،فأضاف:
{ َل ْولَ أَن ُتفَنّدُونِ } [يوسف.]94 :
أي :لول اتهامكم لي بالخَرف ،لن التفنيد هو الخرف.
ومن العجيب أننا في أيامنا هذه نجد العلم وقد أثبت أن صُو َر المرائي والصوات ،توجد لها آثار
في الجو ،رغم ما يُخيّل للنسان أنها تلشتْ.
ويحاول العلم بوسائل من الشعة أن يكشف صورة أيّ جماعة كانت تجلس في مكان ما ،ثم
رحلتْ عنه منذ ساعة أو ساعتين ،ممّا يدلّ على أن الصور لها نضح من شعاع وظلل يظل
بالمكان لفترة قبل أن يضيع.
وكذلك الصوات؛ فالعلماء يحاولون استرداد أصوات مَنْ رحلوا؛ ويقولون :ل شيءَ يضيع في
الكون ،بل كل ما وُجِد فيه محفوظ بشكل أو بآخر.
شمّ الريح من على مسافات بعيدة ،ويميز الن
والرائحة أيضا ل تضيع ،بدليل أن الكلب ي ُ
المخدرات من رائحتها؛ ولذلك تنتشر الكلب المدرّبة في المطارات وعلى الحدود؛ لتكشف أيّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
محاولة لتهريب المخدرات.
وإذا كان الحيوان المخلوق بقدرة ال قادرا على التقاط الرائحة من بين آلف الروائح ،وإذا كان
العلم الموهوب من ال للبشر؛ يبحث الن في كيفية استحضار الصورة واسترداد الصوت من
الفضاء المحيط بالنسان؛ فعلينا أن ندرك أن العِيرَ عندما خرجتْ من أسوار المدينة؛ وأخذتْ
شمّ رائحة
طريقها إلى الموقع الذي يعيش فيه يعقوب عليه السلم؛ استطاع يعقوبُ بقدرة ال أن يَ ُ
يوسف؛ تلك التي يحملها قميصه القادم مع القافلة.
ولسائل أن يقول :ولماذا ارتبط تنسّم يعقوب لرائحة يوسف بخروج العِير من مصر ،وتواجدها
على الطريق إلى موطن يعقوب؟
نقول :لن العِيرَ لحظة تواجدها في المدينة تكون رائحة قميص يوسف مُخْتلطة بغيرها من
الروائح؛ فهناك الكثير من الروائح الخرى داخل أي مدينة ،ويصعب نفاذ رائحة بعينها لتغلب
على كل الروائح؛ ويختلف المر في الخلء؛ حيث يمكن أن تمشي هَبّة الرائحة دون أن يعترضها
شيء.
وبذلك نؤمن أن كل شيء في الكون محفوظ ول يضيع؛ مصداقا لقوله تعالى {:وَإِنّ عَلَ ْيكُمْ لَحَافِظِينَ
* كِرَاما كَاتِبِينَ }[النفطار.]11-10 :
وكل ما يصدر منك مُسجّل عليك؛ ولذلك يأتيك كتابك يوم القيامة لتقرأه ،وتكون على نفسك
حسيبا.
ن بقِي من أهل يعقوب معه على قوله بأنه يجد رِيحَ يوسف { :قَالُواْ تَاللّهِ.} ...
ويردّ مَ ْ
()1677 /
وكأنهم قد مَلّوا حديثه عن يوسف؛ وأعرضوا عن كلمه قائلين له :إلى متى ستظل على ضللك،
وهم ل يعنُون الضلل بمعنى الخروج عن المنهج ،ولكنهم يعنُونَ الضلل بمعنى الجزئيات التي
ل علقة لها بالتديّن من محبة شديدة ليوسف ،وتعلّق به ،والتمنّي لعودته ،وكثرة الحديث عنه،
وتوقّع لقائه ،وهم الذين ظَنّوا أن يوسف قد مات.
ويأتي البشير ليعقوب ،يقول الحق سبحانه { :فََلمّآ أَن جَآءَ الْ َبشِيرُ.} ..
()1678 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج ِههِ فَارْتَدّ َبصِيرًا قَالَ أََلمْ َأ ُقلْ َلكُمْ إِنّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لَا َتعَْلمُونَ (
فََلمّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَ ْلقَاهُ عَلَى وَ ْ
)96
وحين حضر البشير ،وهو كما تقول الروايات كبير الخوة؛ ويُقال أيضا :إنه يهوذا؛ وهو مَنْ
حلّ من السماء لمشكلة بقاء بنيامين في
رفض أن يغادر مصر إل بعد أن يأذن له والده ،أو يأتي َ
مصر ،بعد اتهام أعوان العزيز له بالسرقة ،طبقا لما أراده يوسف ليستبقي شقيقه معه.
ولما جاء هذا البشير ومعه قميص يوسف؛ فألقاه على وجه الب تنفيذا لمر يوسف عليه السلم.
وبذلك زال سبب بكاء يعقوب ،وفَرِح يعقوب فرحا شديدا؛ لنه في أيام حزنه على يوسف،
وابيضاض عينيه من كثرة البكاء حدّثه قلبه باللهام من ال أن يوسف ما زال حيا؛ وكان البكاء
عليه من بعد ذلك هو بكاء من فَرْط الشوق لرؤية ابنه.
وكذلك قد يكون يوسف قد علم بالوحي من ال أن إلقاء القميص على وجه أبيه يردّ إليه بصره،
بإذن من الحق سبحانه وتعالى ،فضلً عن أن الفرح له آثار نفسية تنعكس على الحالة الصحية،
وهكذا تجّلتْ انتصارات الحقّ والنبوة.
وقال يعقوب عليه السلم:
{ أََلمْ َأ ُقلْ ّلكُمْ إِنّي أَعَْلمُ مِنَ اللّهِ مَا لَ َتعَْلمُونَ } [يوسف.]96 :
ولم َي ُقلْ ذلك إذللً لهم ،بل ليعطي الثقة والتوثيق لخبار كل نبي ،وأن الواقع قد أيّد الكلم الذي
ف وَأَخِي ِه َولَ تَيَْأسُواْ مِن ّروْحِ اللّهِ إِنّ ُه لَ يَيْأَسُ مِن ّروْحِ
س َ
قاله لهم {:يابَ ِنيّ ا ْذهَبُواْ فَ َتحَسّسُواْ مِن يُو ُ
اللّهِ ِإلّ ا ْل َقوْمُ ا ْلكَافِرُونَ }[يوسف.]87 :
فإذا جاءكم خبر من معصوم؛ إياكم أن تقفوا بعقولكم فيه؛ لن العقول تأخذ مُدْركات الشياء على
قَدْرها ،وهناك أشياء فوق ُمدْركات العقول.
وحين يُحدّثكم معصوم عن ما فوق ُمدْركات عقولكم إياكم أن تُكذّبوه؛ سواء فهمتم ما حدّثكم عنه،
عمّا فوق مُدْركات العقول.
أو لم تستوعبوا حديثه َ
وهنا يقرّ أخوة يوسف بذنوبهم فيقول الحق سبحانه { :قَالُواْ ياأَبَانَا اسْ َت ْغفِرْ.} ...
()1679 /
قَالُوا يَا أَبَانَا اسْ َت ْغفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ ()97
وهم هنا ُيقِرّون بالذنب ،ويُحدّثون والدهم بنداء البوة كي يستغفر لهم ما ارتكبوه من ذنوب كثيرة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقد آ َذوْا أباهم وجعلوه حزينا ،ول يسقط مثل هذا الذنب إل بأن ُيقِرّ به مَنْ فعله ،ونلحظ أنهم قالوا:
{ إِنّا كُنّا خَاطِئِينَ } [يوسف]97 :
أي :أنهم كانوا يعلمون الصواب ،ولم يفعلوه.
سوْفَ َأسْ َتغْفِرُ َلكُمْ رَبّي} ...
ويأتي الحق سبحانه بما قاله يعقوب { :قَالَ َ
()1680 /
س ْوفَ َأسْ َتغْفِرُ َلكُمْ رَبّي إِنّهُ ُهوَ ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ ()98
قَالَ َ
حمِينَ }
ونلحظ أن يوسف قد قال لهم من قبل {:لَ تَثْرِيبَ عَلَ ْيكُمُ الْ َيوْمَ َي ْغفِرُ اللّهُ َل ُك ْم وَ ُهوَ أَرْحَمُ الرّا ِ
[يوسف]92 :
س ْوفَ أَسْ َت ْغفِرُ َلكُمْ رَبّي} ...
لكن والدهم هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقولَ { :
[يوسف]98 :
ولم يقل " :سأستغفر لكم ربي " ،وهذا يدل على أن الكبار يحتاجون لوقت أكبر من وقت الشباب؛
لذلك أجّل يعقوب الستغفار لما بعد.
والشيخ اللوسي في تفسيره يقول " :إنما كان ذلك لن مطلوبات البر من الخ لخوته غير
مطلوبات البر من ابن لبيه؛ لن الخ ليس له نفس حق الب؛ لذلك يكون غضب الب أشدّ من
غضب الخ ".
ثم إن ذنوبهم هنا هي من الذنوب الكبيرة التي مرّ عليها وعلى تأثيرها على الب زمن طويل.
ويقال :إن يعقوب عليه السلم قد أخّر الستغفار لهم إلى السّحَر ،لن الدعاء فيه مُستجَاب.
وينقلنا الحق سبحانه من بعد ذلك إلى لحظة اللقاء بين يوسف عليه السلم وأهله كلهم ،بعد أن
انتقلوا إلى حيث يعيش يوسف ،فيقول سبحانه:
سفَ} ...
{ فََلمّا دَخَلُواْ عَلَىا يُو ُ
()1681 /
سفَ َآوَى إِلَ ْيهِ أَ َبوَيْ ِه َوقَالَ ا ْدخُلُوا ِمصْرَ إِنْ شَاءَ اللّهُ َآمِنِينَ ()99
فََلمّا َدخَلُوا عَلَى يُو ُ
ونعلم أن الجَدّ إسحق لم يكُنْ موجودا ،وكانوا يُغلّبون جهة البوة على جهة المومة ،ودخلت معهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخالة؛ لن الم كانت غير موجودة.
ويبدو أن يوسف قد استقبلهم عند دخولهم إلى مصر استقبال العظماء ،فاستقبلهم خارج البلد مرة
ليريحهم من عناء السفر ويستقبلهم وجهاء البلد وأعيانهم؛ وهذا هو الدخول الول الذي آوى فيه
أبويْه.
خلُواْ ِمصْرَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ } [يوسف:
ثم دخل بهم الدخول الثاني إلى البلد بدليل أنه قال...{ :ادْ ُ
]99
ففي الية دخولن.
وقول الحق سبحانه { :آوَىا إِلَ ْيهِ أَ َبوَيْهِ[ } ...يوسف]99 :
يدل على حرارة اللقاء لمغتربين يجمعهم حنان ،فالب كان يشتاق لرؤية ابنه ،ولبُدّ أنه قد سمع
من أخوته عن مكانته ومنزلته ،والبن كان مُتشوّقا للقاء أبيه.
وانفعالت اللقاء عادة تُترك لعواطف البشر ،ول تقنينَ لها ،فهي انفعالت خاصة تكون مزيجا من
الود ،ومن المحبة ،ومن الحترام ،ومن غير ذلك.
فهناك مَنْ تلقاه وتكتفي بأن تسلم عليه ُمصَافحة ،وآخر تلتقي به ويغلبُك شوقك فتحتضنه ،وتقول
ما شِئتَ من ألفاظ الترحيب.
كل تلك النفعالت بل تقنين عباديّ ،بدليل أن يوسف عليه السلم آوى إليه أبويه ،وأخذهما في
حضنه.
" والمثل من حياة رسولنا صلى ال عليه وسلم في سياق غزوة بدر حيث كان يستعرض المقاتلين،
وكان في يده صلى ال عليه وسلم قدح يعدل به الصفوف ،فمَرّ بسواد بن غزية من بني عدي بن
النجار ،وهو مستنصل عن الصف ـ أي خارج عنه ،مما جعل الصف على غير استواء ـ فطعن
رسول ال صلى ال عليه وسلم في بطنه بالقدح وقال له " :اسْ َتوِ يا سواد ".
فقال سواد :أوجعتني ،وقد بعثك ال بالحق والعدل فأقدني.
فكشف رسول ال صلى ال عليه وسلم عن بطنه وقال صلى ال عليه وسلم " :استقد " .فاعتنقه
سَواد وقَبّل بطنه.
فقال صلى ال عليه وسلم " :ما حملك على هذا يا سواد؟ ".
قال :يا رسولَ ال ،قد حضر ما ترى ـ يقصد الحرب ـ فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسّ
جِلْدي جلدك .فدعا له رسول ال صلى ال عليه وسلم بالخير ".
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْشِ} ...
()1682 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعََلهَا رَبّي
سجّدًا َوقَالَ يَا أَ َبتِ هَذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِنْ قَ ْبلُ قَدْ َ
ش وَخَرّوا َلهُ ُ
وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْ ِ
حقّا َوقَدْ َأحْسَنَ بِي إِذْ أَخْ َرجَنِي مِنَ السّجْنِ وَجَاءَ ِبكُمْ مِنَ الْبَ ْدوِ مِنْ َبعْدِ أَنْ نَ َزغَ الشّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ
َ
حكِيمُ ()100
خوَتِي إِنّ رَبّي لَطِيفٌ ِلمَا يَشَاءُ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْل َ
إِ ْ
وقد رفع يوسف أبويه على العرش لنه لم يحب التميّز عنهم؛ وهذا سلوك يدل على المحبة
والتقدير والكرام.
سجّدا ل من أجل جمع
والعرش هو سرير الملك الذي يدير منه الحاكم أمور الحكم .وهم قد خَرّوا ُ
سجّدا ليوسف ،بل خَرّوا سُجّدا لمن ُيخَرّ سجودا إليه ،وهو ال.
شمل العائلة ،ولم يخروا ُ
وللذين حاولوا نقاش أمر سجود آل يعقوب ليوسف أقول :هل أنتم أكثر غَيْرةً على ال منه
سبحانه؟
إنه هو سبحانه الذي قال ذلك ،وهو سبحانه الذي أمر الملئكة من قَبْل بالسجود لدم فلماذا تأخذوا
هذا القول على أنه سجود لدم؟
والمؤمن الحق يأخذ مسألة سجود الملئكة لدم؛ على أنه تنفيذ لمر الحق سبحانه لهم بالسجود
لدم ،فآدم خلقه ال من طين ،ونفخ فيه من روحه؛ وأمر الملئكة أن تسجد لدم شكرا ل الذي
خلق هذا الخَلْق.
وكذلك سجود آل يعقوب ليوسف هو شكر ل الذي جمع شملهم ،وهو سبحانه الذي قال هذا القول،
ولم يُجرّم سبحانه هذا الفعل منهم ،بدليل أنهم قَدّموا تحية ليوسف هو قادر أن يردّها بمثلها.
ولم يكن سجودهم له بغرض العبادة؛ لن العبادة هي المور التي تُفعل من الدنى تقربا للعلى،
ول يقابلها المعبود بمثلها؛ فإنْ كانت عبادة لغير ال فال سبحانه يُعاقب عليها؛ وتلك هي المور
المُحرّمة.
أما العبادة ل فهي اتباع أوامره وتجنب نواهيه؛ إذن :فالسجود هنا استجابة لنداء الشكر من الكل
أمام الفراج عن الهم والحزن وسبحانه يُثيب عليها .أما التحية يقدمها العبد ،ويستطيع العبد الخر
أن يردّ بمثلها أو خَيْرٍ منها ،فهذا أمر ل يحرمه ال ،ول دَخْل للعبادة به.
لذلك يجب أن نفطن إلى أن هذه المسألة يجب أن تُحرّر تحريرا منطقيّا يتفق مع معطيات اللغة
ومقتضى الحال ،ولو نظرنا إلى وضع يعقوب عليه السلم ،وما كان فيه من أحزان وموقف
إخوته بين عذاب الضمير على ما فعلوا وما لقوه من متاعب ليقنا أن السجود المراد به شكر من
بيده مقاليد المور بدلً من خلق فجوات بل مبرر وَهُمْ حين سجدوا ليوسف؛ هل فعلوا ذلك بدون
علم ال؟ طبعا ل.
جعََلهَا رَبّي
ومن بعد ذلك نجد قول يوسف لبيهَ { :وقَالَ ياأَ َبتِ هَـاذَا تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِن قَ ْبلُ قَدْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّا[ } ...يوسف]100 :
َ
وقد كانت الرّؤيا هي أول َلقْطة في قصة يوسف عليه السلم حيث قال الحق ما جاء على لسان
جدِينَ }[يوسف]4 :
س وَا ْل َقمَرَ رَأَيْ ُت ُهمْ لِي سَا ِ
شمْ َ
يوسف لبيه... {:إِنّي َرأَ ْيتُ َأحَدَ عَشَرَ َك ْوكَبا وَال ّ
حقّا[ } ...يوسف ]100 :أي:
جعََلهَا رَبّي َ
وقوله في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها { :قَدْ َ
أمرا واقعا ،وقد رآه والد يوسف وأخوته لحظة أنْ سجدوا ليوسف سجودَ الشكر والتحية ل سجود
عبادة ،وقد سجد الخوة الحد عشر والب والخالة التي تقوم مقام الم ،ورؤيا النبياء كما نعلم
لبُدّ أن تصير واقعا.
ولقائل أن يقول :وماذا عن ُرؤْيا إبراهيم عليه السلم التي أمره فيها الحق سبحانه أن يذبح ابنه؛
فقام إلى تنفيذها؛ واستسلم إسماعيل لمر ال ّرؤْيا.
نقول :إن النبياء وحدهم هم الملتزمون شرعا بتنفيذ رؤاهم؛ لن الشيطان ل يُخايلهم؛ فهم
معصومون من مخايلة الشيطان.
أما إنْ جاء إنسان وقال :لقد جاءتني رؤيا تقول لي َنفّذ كذا .نقول له :أنت غير مُلْزم بتنفيذ ما تراه
في منامك من ُرؤَى؛ فليس عليك حكم شرعي يلزمك بذلك؛ فضلً عن أن الشيطان يستطيع أن
يُخايلك.
أما تنفيذ إبراهيم عليه السلم لما رآه في المنام بأن عليه أن يذبح ابنه ،وقيام إبراهيم بمحاولة تنفيذ
ذلك؛ فسببه أنه يعلم بالتزامه الشرعي بتنفيذ الرّؤيا.
عظَم البتلءات التي م ّرتْ على إبراهيم،
وقد جاء لنا الحق سبحانه بهذا الذي حدث ليبين لنا ِ
وكيف حاول أن يتم كل ما توجهه له السماء من أوامر ،وأن ينفذ ذلك بدقّة.
وقال الحق سبحانه مُصوّرا ذلك {:وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ قَالَ إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ
ِإمَاما[} ...البقرة]124 :
وكانت قمة البتلءات هي أن يُنفّذ بيديه عملية ذبح البن؛ ولذلك أؤكد دائما على أن النبياء
وحدهم هم المُلْزمون بتنفيذ رُؤاهم ،أما أي إنسان آخر إنْ جاءته ُرؤْيا تخالف المنهج؛ فعليه أن
يعتبرها من نزغ الشيطان.
ويتابع الحق سبحانه ما جاء على لسان يوسفَ } :وقَدْ َأحْسَنَ بَي ِإذْ أَخْ َرجَنِي مِنَ السّجْنِ...
{ [يوسف]100 :
جسَام التي م ّرتْ به في تَسَلسُلها؛ مثل إلقاء
ولقائل أن يسأل :ولماذا لم يذكر يوسف الحداثَ ال ِ
جبّ؟
أخوته له في ال ُ
نقول :لم يُ ِردْ يوسف أن يذكر ما يُكدّر صَفْو اللقاء بين العائلة من بعد طول فراق .ولكنه جاء بما
مرّ به من بعد ذلك ،من أنه صار عبدا ،وكيف دخل السجن؛ لنه لم يستسلم ِلغُواية امرأة العزيز،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكيف مَنّ ال عليه بإخراجه من السجن ،وما أن خرج من السجن حتى ظهرت النعمة ،ويكفي أنه
صار حاكما.
وقد يقول قائل :إن القصة هنا غير مُنْسجمة مع بعضها ،لن بعضا من المواقف تُذكر؛ وبعضها ل
يُذْكر.
نقول :إن القصة مُنْسجمة تماما ،وهناك فارق بين قصص التاريخ كتاريخ؛ وبين قَصص يوضح
المواقف الهامة في التاريخ.
والمناسبة في هذه الية هي اجتماع الخوة والب والخالة ،ول داعي لذكر ما يُنغّص هذا اللقاء؛
ل لَ تَثْرِيبَ عَلَ ْيكُمُ الْ َي ْومَ َي ْغفِرُ اللّهُ َلكُ ْم وَ ُهوَ أَ ْرحَمُ
خصوصا؛ وأن يوسف قد قال من قبل {:قَا َ
حمِينَ }[يوسف]92 :
الرّا ِ
سفَ وَأَخِيهِ ِإذْ
وسبق أن قال لهم بلطف من يلتمس لهم العذر بالجهلَ ... {:هلْ عَِلمْتُمْ مّا َفعَلْتُم بِيُو ُ
أَنتُمْ جَاهِلُونَ }[يوسف]89 :
وهو هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يذكر إحسان الحق سبحانه له فيقول } :هَـاذَا
حقّا.
جعََلهَا رَبّي َ
تَ ْأوِيلُ ُرؤْيَايَ مِن قَ ْبلُ قَدْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن هذه العِيشَة الجَافِيهومن حَالبِ الشاة في موض ٍع ومن مُوقِد النارِ في نَاحِيه ُمغَنّيكُمو معبدٌ
ط َهتِ المَاشِيهفابن جريج
والغَريق وقَيْنتنا الضبع العَاوِيههُمْ يأكلونَ فُنونَ الطهاةِ ونحن نأكل ما َ
يشكو السّأَم من حياة البادية ،حيث ل يرى إل المناظر ال ُمعَادة من حَ ْلبٍ لشاة ،أو إشعال نار ،ول
يسمع كأهل الحضر صوت المُغنّين المشهورين في ذلك الزمن؛ بل يسمع صوت الضّبَاع العاوية،
طهْيهِ الطّهاة؛ بل يأكل اللبن وهو ما تقدمه لهم الماشية.
ول يأكل مثل أهل الحضر ما قام بِ َ
وتر ّد ليلى المتعصّبة للبادية:قد اعتسفتْ هِ ْندُ يا ابنَ جرَيج وكانت على َمهْدِها قَاسيه َفمَا البِيِد إلّ
دِيَارُ الكِرَام ومنزِلةُ ال ّذمَ ِم الوَاقِيهلها قِبْلةُ الشمسِ عند البُزُوغِ وللحضر القبلة الثانيهونحنُ الرّياحِين
شقُ والحَاضِراتُ َي ُقمْنَ مـن العِـشق في
ِملْء الفضاءِ وهُنّ الرّياحِينُ في آنِيهويَقْتُلنا العِ ْ
غَامِيهوقولها " اعتسفت " يعني " ظلمت " ،أي :أن هندا ظلمت البيد يا ابن جريج ،ثم جاءت
بميزات البدو؛ فأوضحت أن بنات البادية كالرياحين المزروعة في الفضاء الواسع ،عكس بنات
حضَر التي تشبه الواحدة منهن الريحانة المزروعة في أُصص الزرع ،أو أي آنية أخرى.
ال َ
ثم تأتي إلى القيم؛ فتفخر أن بنت البادية يقتلها العِشْق ،ول تنال ممّنْ تعشق شيئا؛ فتنس ّل وتموت،
أما بنت الحضر؛ فصحتها تأتي على الحب.
وهنا في الية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ يشكر يوسف ما مَنّ به ال عليه ،وعلى أهله
الذين جاء بهم سبحانه من البادية ،ليعيشوا في مصر ذات الحضارة الواسعة؛ وبذلك يكون قد
ضخّم الفرق بين ما كانوا يعيشون فيه من شَظَف العيش إلى حياة اللين والدّعة.
خوَتِي...
ثم يلمس ما كان من إخوته تجاهه فيقول } :مِن َبعْدِ أَن نّزغَ الشّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ ِإ ْ
{ [يوسف]100 :
صوّره على أنه " نَزْغ ".
وهذا مَسّ لطيف لما حدث ،وقد نسبه يوسف للشيطان؛ و َ
أي :أنه لم يكن أمرا مستقرا على درجة واحدة من السوء .أي :أن ما فعله الشيطان هو مجرد
وَخْزة تُنبّه إلى الشيء الضار فيندفع له النسان ،وهي مأخوذة من ال ِمهْماز الذي يُروّض به مدرب
الخيل أيّ حصان ،فهو ينغزه بال ِمهْماز نزغة خفيفة ،فيستمع وينفذ ما أمره به ،فال ّنغْز تنبيه لمهمة،
طعْن.
ويختلف عن ال ّ
والحق سبحانه ينبهنا إلى ما يفعله الشيطان؛ فيقول لنا {:وَإِماّ يَنَزَغَ ّنكَ مِنَ الشّيْطَانِ نَ ْزغٌ فَاسْ َت ِعذْ
بِاللّهِ[} ...العراف]200 :
وكُلّ منا يعلم أن الشيطان عدوّ له عداوة مُسبقة ،وحين تستعيذ بال من الشيطان ،فأنت تكتسب
حصَانه من الشيطان.
َ
سهُمْ طَا ِئفٌ مّنَ الشّ ْيطَانِ تَ َذكّرُواْ فَِإذَا هُم مّ ْبصِرُونَ }[العراف]201 :
وسبحانه القائل... {:إِذَا مَ ّ
أي :أن النسان حين يتذكر العداوة بينه وبين الشيطان؛ فعليه أن يشحن نفسه بالمناعة اليمانية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضد هذا النّزْغ.
حكِيمُ
ويُذيّل الحق سبحانه الية الكريمة بقول يوسف...} :إِنّ رَبّي لَطِيفٌ ّلمَا يَشَآءُ إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْل َ
{ [يوسف]100 :
فسبحانه هو المدير الذي ل تَخْفى عليه خافية أبدا ،وكلمة " لُطْف " ضد كلمة " كثافة " فاللطيف
هو الذي له جِرْم دقيق ،والشيء كلما َلطُف عَ ُنفَ؛ لنه ل توجد عوائق تمنعه.
ول شيء يعوق ال أبدا ،وهو العليم بموقع وموضع كل شيء ،فهو يجمع بين اللطف والخبرة،
فلُطْفه ل يقف أمامه أي شيء ،ول يوجد ما هو مستور عنه ،ول يقوم أمام مراده شيء ،وسبحانه
حدَث بمراد دقيق ،ول
خبير بمواضع الشياء ،وعلْمه سبحانه مُطْلق ،وهو حكيم يُجرِي كل َ
يضيف إليه أحد أيّ شيء ،فهو صاحب الكمال المطلق.
ويذكر الحق سبحانه بعد ذلك مناجاة يوسف ل سبحانه:
} َربّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ ا ْلمُ ْلكِ{ ...
()1683 /
ت وَلِيّي فِي
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ أَ ْن َ
ك وَعَّلمْتَنِي مِنْ تَ ْأوِيلِ الَْأحَادِيثِ فَاطِرَ ال ّ
َربّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ ا ْلمُ ْل ِ
حقْنِي بِالصّالِحِينَ ()101
الدّنْيَا وَالَْآخِ َرةِ َت َوفّنِي مُسِْلمًا وَأَ ْل ِ
ونعلم أن الربوبية تعني الخَلْق من عدم ،والمداد من عدم؛ والقاتة لستبقاء الحياة ،والتزاوج
لستباق النسل ،وتسير كل هذه العمليات في تناسق كبير.
فالحق سبحانه أوجد من عدم ،واستبقى الحياة الذاتية بالقوت ،واستبقى الحياة النوعية بما أباح من
تزاوج وتكاثر.
وكل مخلوق له حَظّ في عطاء الربوبية ،مؤمنا كان أم كافرا ،وكل مخلوقات الكون مُسخّرة لكل
الخلق ،فسبحانه هو الذي استدعى الخَلْق إلى الوجود؛ ولذلك تكفل بما يحقق لهم الحياة.
ويختص الحق سبحانه عباده المؤمنين بعطاء آخر بالضافة لعطاء الربوبية؛ وهو عطاء اللوهية
المتمثل في المنهج.
يقول يوسف عليه السلم مناجيا ربهَ { :ربّ َقدْ آتَيْتَنِي مِنَ ا ْلمُ ْلكِ[ } ...يوسف]101 :
أي :أنه سبحانه هو الذي أعطاه تلك السيادة ،وهذا النفوذ والسلطان؛ فل أحد يملك َقهْرا عن ال،
وحتى الظالم ل يملك قهرا عن ال؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في آية أخرى من القرآنُ {:قلِ الّل ُهمّ
مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن َتشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ َتشَآ ُء وَ ُتعِزّ مَن تَشَآ ُء وَتُ ِذلّ مَن تَشَآءُ بِ َي ِدكَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ قَدِيرٌ }[آل عمران]26 :
الْخَيْرُ إِ ّنكَ عَلَىا ُكلّ َ
ن يملك؛ ولكن نَزْع المُلْك هو الذي يقاومه المنزوع منه.
وإتيان المُلْك ل توجد فيه مقاومة ممّ ْ
والحق سبحانه هو أيضا الذي ُيعِز مَنْ يشاء ،وهو الذي يُذل مَنْ يشاء.
وحين تتغلغل هذه الية في نفس المؤمن؛ فهو يُوقِن أنه ل مفرّ من القدر ،وأن إيتاء المُلْك خير،
وأن نزع الملك خير ،وأن العزاز خير والذلل خير؛ كي ل يطغى النسان ،ول يتكبر ،ول
يُعدّل في إيمان غيره.
وكان بعض الناس يقولون :لبد أن تُقدر محذوفا في الية.
وهم قد قالوا ذلك بدعوى الظن أن هناك خيرين في الية وشَرّيْن محذوفين.
وأقول :ل ،إن ما تظنه أيها النسان أنه شر إنما هو خير يريده ال؛ فكل ما يُجريه ال خير.
وقول يوسف عليه السلم { :آتَيْتَنِي مِنَ ا ْلمُ ْلكِ[ } ...يوسف]101 :
يقتضي أن نفهم معنى " المُلْك "؛ ومعنى " المِلْك " ،ولنا أن نعرف أن كل إنسان له شيء يملكه؛
مثل ملبسه أو قلمه أو أثاث بيته ،ومثل ذلك من أشياء ،وهذا ما يُسمّى " :المِلْك " .أما " المُلْك "
فهو أن تملك مَنْ يملك.
وقد ملّك ال بعضا من خَلْقه لخلقه ،ملّكهم أولً ما في حوزتهم ،وملّكهم غيرهم ،وسبحانه ينزع
المُلْك من واحد ويهبه لخر ،كي ل تصبح المسألة رَتَابة ذات.
طوْعه
ومثال هذا :هو ما حدث لشاه إيران ،وكان له المُلْك ،وعنده كل أسباب الحضارة ،وفي َ
جيش قوي ،ثم شاء الحق سبحانه أن ينزع منه المُلْك ،فقام غيره بتفكيك المسامير غير المرئية
التي كان الشاه يُثبّت بها عرشه؛ فزال عنه المُلْك.
وأنت في هذه الدنيا تملك السيطرة على جوارحك؛ تقول لليد " إضربي فلن " فتضرب يدُك فلنا،
إلى أن يأتي اليوم الخر فل يملك النسان السيطرة على جوارحه؛ لن المُلْك يومها يكون ل
وحده ،فسبحانه القائلّ... {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َي ْومَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْلقَهّارِ }[غافر]16 :
ففي اليوم الخر تنتفي كل الوليات ،وتكون الولية ل وحده.
وبجانب " المُلْك " و " المِلْك "؛ هناك الملكوت ،وهو ما ل تراه بأجهزة الحواس.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[} ...النعام]75 :
وسبحانه يقولَ {:وكَذَِلكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مََلكُوتَ ال ّ
أي :أن الحق سبحانه قد كشف لبراهيم أسرار العالم الخفية من المخلوقات ،وأنت ترى العلماء
وهم يتتبعون أسرار ممالك النباتات والحيوانات؛ فتتعجب من ِدقّة خَلْق ال.
ومَنْ وهبه ال ِدقّة العلم وبصيرة العلماء ،يرى بإشعاعات البصر والعلم عالم الملكوت ،ويستخرج
السرار ،ويستنبط الحقائق.
ويضيف يوسف عليه السلم في مناجاته لربه } :وَعَّلمْتَنِي مِن تَ ْأوِيلِ الَحَادِيثِ[ { ...يوسف:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]101
وهو يعترف بفضل ال عليه حين اختصّه بالقدرة على تأويل الحاديث؛ تلك التي أوّل بها ُرؤْيا
الفتييْنِ اللذين كانا معه في السجن؛ وأوّل رؤيا المِلَك؛ هذا التأويل الذي قاده إلى الحكم ،وليس هذا
غريبا أو عجيبا بالنسبة لقدرة ال سبحانه.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ { ...يوسف]101 :
ويقول يوسف شاكرا ل } :فَاطِرَ ال ّ
ومادام سبحانه هو خالق كل شيء؛ فليس غريبا أن يُعلّمه سبحانه ما شاء ،وكأن إيمان يوسف قد
ق وَ ُهوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ }[الملك]14 :
خلَ َ
وصل به إلى أن يعلم ما قاله الحق سبحانهَ {:ألَ َيعَْلمُ مَنْ َ
ونحن في حياتنا نجد الذي صنع جهازا يستفيد منه غيره؛ يوضح مواصفات استعمال الجهاز أو
سوِيّة التي يؤدي بها
الداة ،حتى ولو كانت نورجا أو مِحْراثا؛ وذلك ليضمن للجهاز الحركة ال ّ
الجهاز عمله.
والواحد منا إن تعطلت منه السيارة يستدعي الميكانيكي الذي ينظر ما فيها؛ فإن كان أمينا ،فهو
يُشخّص ب ِدقّة ما تحتاجه السيارة ،ويُصلِحها ،وإن كان غير أمين ستجده يُفسد الصالح ،ويزيد من
العمال التي ل تحتاجها السيارة.
وهكذا نرى أن كل صانع في مجاله يعلم أسرار صنعته ،فما بالنا بالخالق العظم سبحانه وتعالى؟
إنه خبير عليم بكل شيء.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ { ...يوسف]101 :
ولماذا قال يوسف عن الحق سبحانه } :فَاطِرَ ال ّ
لنه يعلم أن الحق سبحانه قد خلق النسان؛ والنسان له بداية ونهاية ،ل يعلمها أحد غير ال
سبحانه ،فقد يموت النسان وعمره يوم ،أو يموت في بطن أمه ،أو بعد مائة سنة ،وتمر على
النسان الغيار.
أما السماوات والرض فهي مخلوقات ثابتة ،فالشمس ل تحتاج إلى قطعة غيار ،ولم تقع ،وتعطي
الدفء للرض ،وهي مرفوعة عن الرض؛ ل تقع عليها بمشيئة ال.
سمَآءَ أَن َتقَعَ عَلَى الَ ْرضِ ِإلّ بِإِذْ ِنهِ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَ َرءُوفٌ
سكُ ال ّ
والحق سبحانه هو القائل... {:وَ ُيمْ ِ
رّحِيمٌ }
[الحج]65 :
س لَ
س وَلَـاكِنّ َأكْـثَرَ النّا ِ
ت وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّا ِ
سمَاوَا ِ
خلْقُ ال ّ
واسمع قوله الحق {:لَ َ
َيعَْلمُونَ }[غافر]57 :
فالنسان يتغير ويموت؛ أما السماوات والرض فثابتة إلى ما شاء ال.
ت وَلِيّي فِي الدّنُيَا وَالخِ َرةِ[ { ...يوسف:
ويقول يوسف عليه السلم مواصلً المناجاة ل } :أَن َ
]101
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وصحيح أن الحق سبحانه وليّ ليوسف في الدنيا ،وقد نصره وقرّبه وأعانه؛ بدليل كل ما مَرّ به
من عقبات ،ويرجو يوسف ويدعو ألّ يقتصر عطاء ال له في الدنيا الفانية ،وأن يثيبه أيضا في
الباقية ،والخرة.
حقْنِي بِالصّاِلحِينَ
ومادام سبحانه وليّه في الدنيا والخرة؛ فيوسف يدعوهَ ...} :ت َوفّنِي ُمسْلِما وَأَلْ ِ
{ [يوسف]101 :
وقولهَ } :ت َوفّنِي ُمسْلِما[ { ...يوسف]101 :
إنما بسبب أن يكون أهلً لعطاء ال له في الخرة؛ فقد أخذ يوسف عطاء الدنيا واستمتع به ،ومَتّع
به ،ومشى فيه بما يُرضِى ال.
وعند تمنّي يوسف للوفاة وقف العلماء ،وقالوا :ما تمناها أحد إل يوسف.
فالنسان إن كان مُوفّقا في الدنيا ،تجده دائم الطموح ،وتوّاقا إلى المزيد من الخير.
وتحمل لنا ذاكرة التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه قَبِل المارة ،حينما كانوا
يجيئون له بثوب ناعم؛ كان يطلب الكثر منه نعومة ،وإذا جِيءَ له بطعام ليّن؛ كان يطلب الكثر
لُيونة.
وحين صار خليفة؛ كانوا يأتونه بالثوب؛ فيطلب الكثر خشونة وظن مَنْ حوله أنه لم َيعُدْ منطقيا
ق إلى
مع نفسه ،ولم يفهموا أن له نفسا توّاقة إلى الفضل؛ تستشرف العلى دائما ،فحينما تَا َ
المارة جاءتْه؛ وحين تاق إلى الخلفة جاءتْه ،ولم يَ ْبقَ بعدها إل الجنة.
ونجد ميمون بن مهران وكان ملزما له؛ رضي ال عنهما؛ دخل عليه مرة فوجده يسأل ربّه
الموت .فقال :يا أمير المؤمنين ،أتسأل ربك الموت وقد صنع ال على يديك خيرا كثيرا؛ فأحيَ ْيتَ
سُننا وَأ َمتّ بِدعا؛ وبقاؤك خير للمسلمين؟
فقال عمر بن عبد العزيز :أل أكون كالعبد الصالح حينما أتمّ ال عليه نعمته قالَ ...} :ت َوفّنِي مُسْلِما
حقْنِي بِالصّاِلحِينَ { [يوسف]101 :
وَأَلْ ِ
وقولهَ } :ت َوفّنِي ُمسْلِما[ { ...يوسف]101 :
شقّين:
مكونة من ِ
الشق الول :طلب الموت.
والشق الثاني :أن يموت مسلما.
وكُلّنا يُتوفّى دون أن يطلب ،وعلى ذلك يكون الشق الول غير مطلوب في ذاته؛ لنه واقع ل
محالة ،ويصبح المطلوب ـ إذن ـ هو الشق الثاني ،وهو أن يتوفاه ال مسلما؛ ولذلك حين نأتي
إلى القبور نقول :السلم عليكم ديار قوم مؤمنين ،أنتم السابقون ،وإنّا إنْ شاء ال بكم لحقون.
وإنْ قال سائل :ولماذا نقول إن شاء ال بكم لحقون ،رغم أننا سنموت حَتْما؟
نقول :إن قولنا " إن شاء ال " سببه هو رغبتنا أن نلحق بهم كمؤمنين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقْنِي بِالصّالِحِينَ { [يوسف]101 :
وأيضا قد يسأل سائل :لماذا يقول نبي لربه...} :وَأَلْ ِ
وهل هناك صالح يأتي إلى هذا العالم دون أن يهتدي بمنهج نبي مرسل؟
نقول :إن كلمة " الصالحين " تضم النبياء وغيرهم من الذين آمنوا برسالة السماء.
وهكذا انتهت قصة يوسف عليه السلم؛ ولذلك يتجه الحق سبحانه من بعد تلك النهاية إلى المُرَاد
ي منها في
من القصة التي جاءتْ مكتملة في سورة كاملة ،غير بقية َقصَص القرآن التي تتناثر أ ّ
لقطات متفرقة بمواقع مختلفة من القرآن الكريم.
وذلك باستثناء قصة نوح التي جاءت مكتملة أيضا ،لدرجة أن بعض السطحيين قالوا " إن هذا
تكرار للقصة في لقطات مختلفة " ودائما أقول ردا على ذلك :إنه تأسيس للقطات؛ إن اجتمعت
جاءت القصة كاملة.
وشاء الحق سبحانه أن تأتي اللقطات متفرقة؛ لن كل َلقْطة إنما جاءت لمناسبة ما ،وكل القَصَص
القرآني قد جاء لتثبيت فؤاد رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه خلل عمره الرّسالي الذي
جسَام .وكل لحظة كانت تحتاج لتثبيت ،فيُنزِل الحق
استمر ثلثة وعشرين عاما تعرّض لحداث ِ
سبحانه ما يُثبّت به فؤاد رسوله صلى ال عليه وسلم فيوضح له في موقع ما :ل تحزن؛ لن مَنْ
سبقك من الرسل حدث معهم كذا.
بل قد تجد في الواقعة الواحدة لقطتيْن ،مثلما جاء في العداوة بين موسى وفرعون.
ع ُدوّا وَحَزَنا[} ...القصص]8 :
عوْنَ لِ َيكُونَ َلهُمْ َ
طهُ آلُ فِرْ َ
قال الحق سبحانه {:فَالْ َتقَ َ
وهنا تكون العداوة من طرف موسى.
ع ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ لّهُ[} ...طه]39 :
ويقول في نفس المسألة أيضا {:يَ ْأخُ ْذهُ َ
وهنا تكون العداوة من جهتين؛ لن العداوة تتفاعل حين تكون من جهتين ،فل يمكن أن يستمر
عداءٌ من طرف واحد ،وتقوم من أجل هذا العداء معركة ،لكن حين تكون العداوة من جهتين فهذا
يُطيل َأمَد المعركة.
والمثل الثاني هو قول الحق سبحانه في نفس قصة موسى؛ وهي لقطة متقدمة حدثتْ في اليام
الولى من حياة موسى ،وقبل أن تُلقيه أمه في اليَمّ؛ فقد مهّد ال لها المر.
خ ْفتِ عَلَيْهِ فَأَ ْلقِيهِ فِي ال َي ّم َولَ َتخَافِي َولَ تَحْزَنِي[} ...القصص:
يقول الحق سبحانه عن ذلك {:فَِإذَا ِ
]7
حذٌ لِهمّتها قبل الحادث ،وتنبيه لها من قبل أن يقع ،ولحظةَ أن جاء الحادث نفسه أوحى لها
وهذا شَ ْ
خ ْذهُ عَ ُدوّ لّي وَعَ ُدوّ
حلِ يَأْ ُ
الحق سبحانه {:أَنِ اقْ ِذفِيهِ فِي التّابُوتِ فَاقْ ِذفِيهِ فِي الْيَمّ فَلْيُ ْلقِهِ الْ َيمّ بِالسّا ِ
لّهُ[} ...طه]39 :
والذين قالوا :إن قَصص القرآن جاء مُبعثرا ،قد نسوا أن قصة نوح جاءت في موقع واحد،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شمْل العائلة.
وجاءت سورة يوسف مَحْبوكة من أول الرؤيا إلى تولي المُلْك ،وجمع َ
ونزلت القصة في سورة واحدة بعد أن سألوا عنها؛ وهم يعلمون أن محمدا صلى ال عليه وسلم لم
يجلس إلى مُعلّم ،ولم يقرأ في كتاب ،وتاريخه معروف بالنسبة لهم ،وحين يأتي لهم مُوضّحا أن
عوْا أنه يسمع لقطة من هنا؛ ولقطة من هناك .حين سألوه
الحق سبحانه قد أنزل عليه ،فكذّبوه؛ وادّ َ
أن يأتي بقصة يوسف جاء بها كاملة؛ من أولها إلى آخرها.
ويقول الحق سبحانه في نهاية القصة:
} ذَِلكَ مِنْ أَنْبَآءِ ا ْلغَ ْيبِ{ ...
()1684 /
و " ذلك " إشارة إلى هذه القصة ،والخطاب مُوجّه إلى محمد صلى ال عليه وسلم أي :أنك يا
حبّ ِإلَىا أَبِينَا مِنّا[} ...يوسف]8 :
ف وَأَخُوهُ َأ َ
س ُ
محمد لم َتكُنْ معهم حين قالوا {:لَيُو ُ
فالحق سبحانه أخبرك بأنباء لم تكن حاضرا لحداثها ،والغيب ـ كما عَلِمنا من قبل ـ هو ما
غاب عنك ،ولم َي ِغبْ عن غيرك ،وهو غيب نسبيّ؛ وهناك الغيب المُطْلق ،وهو الذي يغيب عنك
وعن أمثالك من البشر.
والغيب كما نعلم له ثلثة حواجز:
الول :هو حاجز الزمن الماضي الذي لم تشهده؛ أو حاجز الزمن المستقبل الذي لم يَ ْأتِ َبعْد.
والثاني :هو حاجز المكان.
والثالث :هو حاجز الحاضر ،بمعنى أن هناك أشياء تحدثُ في مكان أنت ل توجد فيه ،فل تعرف
من أحداثه شيئا .و { نُوحِيهِ إِلَ ْيكَ[ } ...يوسف]102 :
أي نُعلِمك به بطَ ْرفٍ خَفيّ ،حين اجتمعوا ليتفقوا ،إما أن يقتلوا يوسف ،أو يُلْقوه في غيابة الجب.
وكشف لك الحق سبحانه حجاب الماضي في أمر لم يُعلمه لرسول ال؛ ولم يشهد صلى ال عليه
وسلم ما دار بين الخوة مباشرة ،أو سماعا من مُعلّم ،ولم يقرأ عنه؛ لنه صلى ال عليه وسلم
ُأ ِميّ لم يتعلم القراءة أو الكتابة.
خطّهُ
وسبحانه يقول عن رسوله صلى ال عليه وسلمَ {:ومَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ َولَ تَ ُ
بِ َيمِي ِنكَ إِذا لّرْتَابَ ا ْلمُبْطِلُونَ }[العنكبوت]48 :
وهم بشهادتهم يعلمون كل حركة لرسول ال صلى ال عليه وسلم قبل أن يُبعث؛ إقامة وتِرْحالً
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والتقاءً بأيّ أحد.
فلو عَلموا أنه قرأ كتابا لكانت لهم حُجّة ،وحتى المر الذي غابتْ عنهم ِفطْنتهم فيه؛ وقالوا {:إِ ّنمَا
ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ[} ...النحل]103 :
ج ِميّ وَهَـاذَا لِسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل:
عَحدُونَ إِلَيْهِ أَ ْ
فرد عليهم الحق سبحانه... {:لّسَانُ الّذِي يُلْ ِ
]103
وأبطل الحق سبحانه هذه الحجة ،وقد َقصّ الحق سبحانه على رسوله الكثير من أنباء الغيب،
وسبق أن قلنا الكثير عن " :ما كُنّات القرآن " ،مثل قوله تعالىَ ... {:ومَا كُنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ يُ ْلقُون
صمُونَ }[آل عمران]44 :
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َي ْك ُفلُ مَرْيَ َم َومَا كُ ْنتَ َلدَ ْيهِمْ ِإذْ يَخْ َت ِ
َأقْ َ
لمْرَ َومَا كنتَ مِنَ الشّاهِدِينَ }
وقوله الحقَ {:ومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
[القصص]44 :
فكأن مصدر علم الرسول بكل ذلك هو من إخبار ال له.
وقد استقبل أهل الكهف ما طلبوا أن يعرفوه من قصة يوسف باللدد والجحود ـ وهم قد طلبوا
مطلبهم هذا بتأسيس من اليهود ـ وهو صلى ال عليه وسلم جاء لهم بقصة يوسف في مكان
واحد ،ودفعة واحدة ،وفي سورة واحدة ،ل في لقطات متعددة منثورة كأغلب قصص القرآن.
وقد جاء لهم بها كاملة؛ لنهم لم يطلبوا جزئية منها؛ وإنما سألوه عن القصة بتمامها ،وتوقعوا أن
يعزف عن ذلك ،لكنه لم يعزف ،بل جاء لهم بما طلبوه.
وكان يجب أن يلتفتوا إلى أن ال هو الذي أرسله ،وهو الذي علّمه؛ وهو الذي أنبأه ،لكنهم لم
يؤمنوا ،وعَزّ ذلك على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأوضح له سبحانه :ل تبتئس ول تيأس{:
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }[الشعراء]3 :
َلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
سكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ َأسَفا }[الكهف]6 :
ويقول له سبحانه {:فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
فأنت يا رسول ال عليك البلغ فقط ،ويذكر الحق ذلك لِيُسلّي رسوله صلى ال عليه وسلم حين
سهُمْ ظُلْما
رأى لدد الكافرين؛ بعد أن جاء لهم بما طلبوه ،ثم جحدوهَ {:وجَحَدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
وَعُُلوّا[} ...النمل]14 :
وهم قد جحدوا ما جاء به رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنهم حرصوا على السلطة الزمنية
فقط ،وكان من الواجب أن يؤمنوا بما جاءهم به ،لكن العناد هو الذي وقف بينهم وبين حقيقة
اليقين وحقيقة اليمان.
وأنت ل تستطيع أن تواجه ال ُمعَاند بحجة أو بمنطق ،فهم يريدون أن يظل الضعفاء عبيدا ،وأن
خلْق بجبروتهم ،والدين سيُسوّي بين الناس جميعا ،وهم يكرهون تلك
يكونوا مسيطرين على ال َ
المسألة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بقضية كونية ،فيقول:
} َومَآ َأكْثَرُ النّاسِ{ ...
()1685 /
فأنت يا محمد لن تجعل كل الناس مؤمنين؛ ولو حرصت على ذلك ،وكان صلى ال عليه وسلم
شديد الحرص على أن يؤمن قومه ،فهو منهم.
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ
ويقول فيه الحق سبحانهَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة]128 :
لكنهم جحدوا ما جاءهم به؛ وقد أحزنه ذلك المر .وفي الحرص نجد آية خاصة باليهود؛ هؤلء
الذين دفعوا أهل مكة أن يسألوا الرسول صلى ال عليه وسلم عن قصة يوسف؛ يقول الحق
علَىا حَيَاةٍ[} ...البقرة]96 :
سبحانه {:وَلَ َتجِدَ ّنهُمْ أَحْ َرصَ النّاسِ َ
وكان على أهل مكة أن يؤمنوا مادام قد ثبت لهم بالبينات أنه رسول من ال.
صتَ ِب ُمؤْمِنِينَ } [يوسف]103 :
س وََلوْ حَ َر ْ
وجاء قول الحقَ { :ومَآ َأكْثَرُ النّا ِ
جاء ذلك القولُ تسليةً من الحق سبحانه لرسوله ،وليؤكد له أن ذلك ليس حال أهل مكة فقط ،ولكن
هذه هي طبيعة معظم الناس .لماذا؟
لن أغلبهم ل يُحسن قياس ما يعطيه له منهج ال في الدنيا والخرة ،والنسان حين يُقبل على
منهج ال ،يقيس القبال على هذا المنهج بما يُعطِيه له في الخرة؛ فلسوف يعلم أنه مهما أعطى
لنفسه من مُتَع الدنيا ف ُعمْره فيها َم ْوقُوت بالقَدْر الذي قدّره له ال ،والحياة يمكن أن تنتهي عند أية
لحظة.
والحق سبحانه حين خبأ عن الناس أعمارهم في الدنيا ،لم َيكُنْ هذا الخفاء إبهاما كما يظن
البعض ،وهذا البهام هو في حقيقته عَيْن البيان ،فإشاعة حدوث الموت في أي زمن يجعل النسان
في حالة ترقّب.
حدّ
ولذلك فميتات الفُجَاءة لها حكمة أن يعرف كل إنسان أن الموت ل سببِ له ،بل هو سبب في َ
ذاته؛ سواء كان الموت في حادثة أو بسبب مرض أو فجأة ،فالنسان يتمتع في الدنيا على حسب
عمره المحدد الموقوت عند ال ،أما في الخرة فإنه يتمتع على قدر إمدادات الخالق سبحانه.
والنسان المؤمن يقيس استمتاعه في الخرة بقدرة ال على العطاء ،وبإمكانات الحق ل إمكانات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الخَلْق.
و َهبْ أن إنسانا معزولً عن أمر الخرة ،أي :أنه كافر بالخرة وأخذها على أساس الدنيا فقط،
نقول له :انظر إلى ما يُطلب منك نهيا؛ وما يُطلب منك أمرا ،ول تجعله لذاتك فقط ،بل اجعله
للمقابل لك من المليين غيرك.
سوف تجد أن نواهي المنهج إن منعتْك عن شر تفعله بغيرك؛ فقد منعتْ الغير أن يفعل بك الشر،
في هذا مصلحة لك بالمقاييس المادية التي ل دَخْل للدين بها.
ويجب أن نأخذ هذه المسألة في إطار قضية هي " دَرْء المفسدة مُقدّم على جَلْب المصلحة ".
و َهبْ أن إنسانا مُحبا لك أمسك بتفاحة وأراد أن يقذفها لك ،بينما يوجد آخر كاره لك ،ويحاول أن
يقذفك في نفس اللحظة بحجر ،وأطلق الثنان ما في أيديهما تجاهك ،هنا يجب أن تردّ الحجر قبل
أن تلتقط التفاحة ،وهكذا يكون دَرْء المفسدة مُقدّما على جَلْب المصلحة.
وعلى النسان أن يقيس ذلك في كل أمر من المور؛ لن كثيرا من أدوات الحضارات أو
ابتكارات المدنية أو المخترعات العلمية قد تعطينا بعضا من النفع ،ولكن يثبت أن لها ـ من بعد
ذلك ـ الكثير من الضرر.
مثال هذا :هو اختراع مادة " د .د .ت " التي قتلت بعض الحشرات ،وقتلت معها الكثير من
الطيور المفيدة.
ولذلك يقول الحق سبحانهَ {:ولَ َت ْقفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِلْمٌ[} ...السراء]36 :
وعليك أن تدرس أيّ مُخْتَرع قبل استعماله؛ لترى نفعه وضرره قبل أن تستعمله.
وقد رأينا مَنْ يُدخِلون الكهرباء إلى بيوتهم ،يحاولون أن يرفعوا موقع " فِيَش " الكهرباء عن
مستوى تناول الطفال؛ كي ل يضيع طفل أصابعه في تلك الفتحات فتصعقهم الكهرباء ،ووجدنا
صمّموا أجهزة تفصل الكهرباء آليا إنْ لمستْها َيدُ بشر.
بعضا من المهندسين قد َ
جلْب المنفعة ،وعلينا أن نحتاط لمثل هذه المور.
وهذا هو دَرْء المفسدة المُقدّم على َ
صتَ
س وََلوْ حَ َر ْ
وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد الحق سبحانه يقولَ } :ومَآ َأكْثَرُ النّا ِ
ِب ُم ْؤمِنِينَ { [يوسف]103 :
وهل قولهَ } :أكْثَرُ النّاسِ[ { ...يوسف]103 :
نسبة للذين ل يؤمنون ،يعني أن المؤمنين قلة؟
نقول :ل؛ لن " أكثر " قد يقابله " أقل " ،وقد يقابله " الكثير ".
س وَا ْل َقمَرُ
شمْ ُ
ض وَال ّ
ت َومَن فِي الَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
جدُ لَهُ مَن فِي ال ّ
ويقول الحق سبحانهَ {:ألَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َيسْ ُ
علَيْهِ ا ْلعَذَابُ[} ...الحج]18 :
وَالنّجُو ُم وَا ْلجِبَالُ وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآبّ َوكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ َوكَثِيرٌ حَقّ َ
وهكذا نجد أن كلمة " كثير " قد يقابلها أيضا كلمة " كثير ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد أوضح الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم أنه لو حرص ما استطاع أن يجعل أكثر
الناس مؤمنين ،والحِرْص هو تعلّق النفس وتعبئة مجهود للحتفاظ بشيء نرى أنه يجلب لنا نفعا
أو يذهب بضُرّ ،وهو استمساك يتطلب جهدا.
ولذلك يوضح له الحق سبحانه :أنت لن تهدي مَنْ تحرص على هدايته.
ضلّ[} ...النحل]37 :
ويقول سبحانه {:إِن َتحْ ِرصْ عَلَىا هُدَاهُمْ فَإِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي مَن ُي ِ
ومن هذه الية نستفيد أن كل رسول عليه أن يوطن نفسه على أن الناس سيعقدون مقارناتٍ بين
البدائل النفعية؛ وسيقعون في أخطاء اختيار غير الملئم لفائدتهم على المدى الطويل؛ فوطّنْ نفسك
يا محمد على ذلك.
وإذا كنتَ يا رسول ال قد حملتَ الرسالة وتسألهم اليمان لفائدتهم ،فأنت تفعل ذلك دون أجر؛
رغم أنهم لو فَطِنوا إلى المر لكان يجب أن يقدروا أجرا لمن يهديهم سواء السبيل ،لن الجر
ُيعْطَى لمن يقدم لك منفعة.
والنسان حريص على أن يدفع الجر لمن يُعينه على منفعة؛ والمنفعة إما أن تكون موقوتة بزمن
دنيوي ينتهي ،وإما أن تكون منفعة ممتدة إلى ما ل نهاية؛ راحة في الدنيا وسعادة في الخرة.
ويأتي القرآن بقول الرسل {:لّ أَسْأَُل ُكمْ عَلَيْهِ َأجْرا[} ...النعام]90 :
ولم َي ُقلْ ذلك اثنان هما :إبراهيم عليه السلم ،وموسى عليه السلم.
وكان العقل يقول :كان يجب على الناس لو أنها تُقدّر التقدير السليم؛ أن تدفع أجرا للرسول الذي
يُفسّر لهم أحوال الكون ،ويُطمئنهم على مصيرهم بعد الموت ،ويشرح لهم منهج الحق ،ويكون لهم
أُسْوة حسنة.
ونحن نجد في عالمنا المعاصر أن السرة تدفع الكثير للمدرس الخصوصي الذي يُلقّن البن مبادئ
القراءة والكتابة ،فما بالنا بمَنْ يضيء البصر والبصيرة بالهداية؟
ومقتضى المر أن الرسول صلى ال عليه وسلم يقدم نفعا أبديا لمن يتبعه ،لكنه لم يطلب أجرا.
ويقول الحق سبحانه:
} َومَا تَسْأَُل ُهمْ عَلَيْهِ مِنْ َأجْرٍ{ ...
()1686 /
َومَا َتسْأَُلهُمْ عَلَ ْيهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ ُهوَ إِلّا ِذكْرٌ لِ ْلعَاَلمِينَ ()104
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي هذا القول الكريم ما يوضح أن النبي صلى ال عليه وسلم ل يسأل قومه أجرا على هدايته
لهم؛ لن أجره على ال وحده.
والحق سبحانه هو القائل {:أَمْ تَسْأَُلهُمْ أَجْرا َفهُم مّن ّمغْرَمٍ مّ ْثقَلُونَ }[الطور]40 :
والحق سبحانه يقول على لسان رسوله في موقع آخرُ {:قلْ مَا سَأَلْ ُتكُم مّن أَجْرٍ َف ُهوَ َلكُمْ إِنْ أَجْ ِريَ
ِإلّ عَلَى اللّهِ[} ...سبأ]47 :
وهو هنا يُعلِي الجر ،فبدلً من أن يأخذ الجر من محدود القدرة على ال ّدفْع ،فهو يطلبها من الذي
ل ُتحَدّ قدرته في إعطاء الجر؛ فكأن العمل الذي يقوم به ل يمكن أن يُجَازى عليه إل من ال؛
لن العمل الذي يؤديه بمنهج ال ومن ال ،فل يمكن إل أن يكون الجر عليه من أحد غير ال.
ولذلك يقول سبحانه...{ :إِنْ ُهوَ ِإلّ ِذكْرٌ لّ ْلعَاَلمِينَ } [يوسف]104 :
طلَق إطلقات متعددة ،ومادة " ذال " و " كاف " و " راء " مأخوذة من الذاكرة .وعرفنا
والذكر يُ ْ
من قبل أن النسان له آلت استقبال هي الحواس النسانية ،وتنتقل المعلومات أو الخبرات منها
إلى العمليات العقلية ،وتم ّر تلك المعلومات ببؤرة الشعور ،لِتُحفظ لفترة في هذه البؤرة ،ثم تنتقل
إلى حاشية الشعور ،إلى أن تستدعيها الحداث ،فتعود مرة أخرى إلى ُبؤْرة الشعور.
ولذلك أنت تقول حين تتذكر معلومة قديمة " لقد تذكرتها "؛ كأن المعلومة كانت موجودة في مكان
ما في نفسك؛ لكنها لم َتكُنْ في بؤرة الشعور .وحين جاءت عملية الستدعاء ،فهي تنتقل من
حاشية الشعور إلى ُبؤْرة الشعور.
والتذكّر هو :استدعاء المعلومة من حاشية الشعور إلى بؤرة الشعور.
والحق سبحانه يقول {:وَ َذكّ ْرهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ[} ...إبراهيم]5 :
أي :ذكّرهم بما مَرّ عليهم من أحداث أجراها ال؛ وهي غير موجودة الن في ُبؤْرة شعورهم.
سمّي القرآن ذكرا؛ لنه يُذكّر كل مؤمن به بال الذي تفضّل علينا بالمنهج الذي تسير به حياتنا
وُ
إلى خير الدنيا والخرة.
فالذكر ـ إذن ـ يكون للعاقل معونة له ،وهو من ضمن رحمة ال بالخَلْق ،فلم يترك الخلقَ
منشغلين بالنعمة عن مَنْ أنعمها عليهم ،فهذا الكون منظم بِدقّة بديعة ،وفي كل مُقوّمات حياة
البشر.
ومن فضل ال عليهم أنه أرسل الرسل مُذكّرين لهم بهذا العطاء الرباني.
وكلمة " ذكر " تدل على أن الفطرة في النسان كان يجب أن تظل واعية ذاكرة ل ،وقد قَدّر ال
غفلة الحداث ،فجعل لهم الذكر كله في القرآن الكريم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
سمَاوَاتِ} ...
{ َوكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1687 /
ت وَالْأَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ ()105
سمَاوَا ِ
َوكَأَيّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى الشيء العجيب أنه هو الخارج عن المألوف ،ول يُنسَى.
وقد نثر الحق سبحانه في الكون آياتٍ عجيبة ،ولكل منثور في الكون حكمة .وتنقسم معنى اليات
إلى ثلث:
الول :هو اليات الكونية التي تحدثنا عنها ،وهي عجائب؛ وهي حُجّة للمتأمل أن يؤمن بال الذي
أوجدها؛ وهي تلفِتُك إلى أن مَنْ خلقها لبُدّ أن تكون له منتهى الحكمة ومنتهى الدّقة ،وهذه اليات
تلفتنا إلى صدق توحيد ال والعقيدة فيه.
وقد نثر الحق سبحانه هذه اليات في الكون.
وحينما أعلن ال بواسطة رسله أنه سبحانه الذي خلقها ،ولم َي ُقلْ أحد غيره " :أنا الذي خلقت "
فهذه المسألة ـ مسألة الخلق ـ تثبُت له سبحانه ،فهو الخالق وما سواه مخلوق ،وهذه اليات قد
خُلِقت من أجل هدف وغاية.
وفي سورة الروم نجد آيات تجمع أغلب آيات الكون؛ فيقول الحق سبحانه {:فَسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ
ظهِرُونَ * ُيخْرِجُ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَعَشِيّا وَحِينَ تُ ْ
حمْدُ فِي ال ّ
ن وَحِينَ ُتصْبِحُونَ * وَلَهُ الْ َ
ُتمْسُو َ
ي وَيُحْي الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا َوكَذَِلكَ تُخْ َرجُونَ * َومِنْ آيَاتِهِ
حّت وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّي ِ
الْ َ
سكُنُواْ
سكُمْ أَ ْزوَاجا لّتَ ْ
خَلقَكُمْ مّن تُرَابٍ ُثمّ إِذَآ أَن ُتمْ بَشَرٌ تَن َتشِرُونَ * َومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
أَنْ َ
سمَاوَاتِ
ك ليَاتٍ ّلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ * َومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ال ّ
حمَةً إِنّ فِي ذَِل َ
ج َعلَ بَيْ َنكُم ّموَ ّد ًة وَرَ ْ
إِلَ ْيهَا وَ َ
ك ليَاتٍ لّ ْلعَاَلمِينَ * َومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالّيلِ وَال ّنهَارِ
لفُ أَلْسِنَ ِت ُك ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ إِنّ فِي ذاِل َ
ض وَاخْتِ َ
وَالَرْ ِ
طمَعا
خوْفا َو َ
س َمعُونَ * َومِنْ آيَا ِتهِ يُرِيكُمُ الْبَ ْرقَ َ
ك ليَاتٍ ّلقَوْمٍ َي ْ
وَابْ ِتغَآ ُؤكُمْ مّن َفضْلِهِ إِنّ فِي ذَِل َ
ك ليَاتٍ ّل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ * َومِنْ آيَاتِهِ
سمَآءِ مَآءً فَ ُيحْيِي بِ ِه الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا إِنّ فِي ذَِل َ
وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ
ن الَ ْرضِ إِذَآ أَنتُمْ َتخْرُجُونَ }[الروم-17 :
ع َوةً مّ َ
سمَآءُ وَالَ ْرضُ بَِأمْ ِرهِ ثُمّ ِإذَا دَعَا ُكمْ دَ ْ
أَن َتقُومَ ال ّ
]25
كل هذه آيات تنبه النسان الموجود في الكون أنه يتمتع فيه طبقا لنواميس عليا؛ فيها سِرّ بقاء
حياته؛ فيجب أن ينتبه إلى مَنْ أوجدها.
وبعد أن ينتبه إلى وجود واحد أعلى؛ كان عليه أن يسأل :ماذا يريد منه هذا الخالق العلى؟
هذه اليات تفرض علينا عقليا أن يوجد مَنْ يبلغنا مطلوبَ الواجد العلى ،وحينما يأتي رسول
يقول لنا :إن مَنْ تبحثون عنه اسمه ال؛ وهو قد بعثني لبلغكم بمطلوبه منكم أن تعبدوه؛ فتتبعوا
أوامره وتتجنبوا نواهيه.
والنوع الثاني من اليات هي آيات إعجازية ،والمراد منها تثبيت دعوة الرسل ،فكان ولبُدّ أن
يأتي كل رسول ومعه آية؛ لتثبت صِدْق بلغه عن ال؛ لن كل رسول هو من البشر ،ولبد له
من آية تخرق النواميس ،وهي المعجزات التي جاءت مع الرسل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكْمية ،وهي النوع الثالث ،وهي الفواصل التي تحمل جُملً ،فيها أحكام القرآن
وهناك آيات ُ
الكريم؛ وهو المنهج الخاتم.
حكْما من أحكام الدين إل ويمسّ منطقيا حاجة من حاجات
وهي آياتٌ عجيبة أيضا؛ لنك ل تجد ُ
ن كفروا سيُضطرون إلى كثير من القضايا التي كانوا ينكرونها ،ولكن
النفس النسانية ،والبشر وإ ْ
حلّ إل بها.
حلّ للمشكلت التي يواجهونها ،ول تُ َ
ل َ
والمثل الواضح هو الطلق ،وهم قد عَابُوا مجيء السلم به؛ وقالوا :إن مثل هذا الحل للعلقة
بين الرجل والمرأة قد يحمل الكثير من القسوة على السرة ،لكنهم لجأوا إليه بعد أن عضّتهم
أحداث الحياة ،وهكذا اهتدى العقل البشري إلى حكم كان يناقضه.
وكذلك أمر الربا الذي يحاولون الن َوضْع نظام ليتحللوا من الربا كله ،ويقولون :ل شيء يمنع
العقل البشري من التوصّل إلى ما يفيد.
وهكذا نجد اليات الكونية هي عجائب بكل المقاييس ،واليات المصاحبة للرسل هي معجزات
خَرَقتْ النواميس ،وآياتُ القرآن بما فيها من أحكام َتقِي النسان من الداء قبل أن يقع ،وتُجبرهم
معضلت الحياة أن يعودوا إلى أحكام القرآن ليأخذوا بها.
وهم يُعرضون عن كل اليات ،يُعرضون عن آيات الكون التي إنْ َدقّقوا فيها لَثبتَ لهم وجود إله
خالق؛ ولخذوا عطاءً من عطاءات ال ليسري تربية وتنمية ،وكل الكتشافات الحديثة إنما جاءت
نتيجةً لملحظاتِ ظاهر ٍة ما في الكون.
وسبق أن ضربتُ المثل بالرجل الذي جلس ليطهو في قِدرْ؛ ثم رأى غطاء القِدْر يعلو؛ ففكّر
وتساءل :لماذا يعلو غطاء القدر؟ ولم يُعرِض الرجل عن تأمّل ذلك ،واستنباط حقيقة تحوّل الماء
إلى بخار؛ واستطاع عن طريق ذلك أن يكتشف أن الماء حين يتبخر يتمدد؛ ويحتاج إلى حَيّزٍ اكبر
من الحَيّز الذي كان فيه قبل التمدد.
سمّى
وكان هذا التأمّل وراء اكتشاف طاقة البخار التي عملتْ بها البواخر والقطارات ،وبدأ عصر ُ
ط ْفوَ طبقٍ على سطح الماء وتأمّل تلك الظاهرة ،ووضع قاعدة
" عصر البخار " .وهذا الذي رأى َ
باسمه ،وهي " قاعدة أرشميدس ".
وهكذا نجد أن أي إنسان يتأمل الكون بِ ِدقّة سيجد في ظواهره ما يفيد في الدنيا؛ كما استفاد العالم
من تأملت أرشميدس وغيره؛ ممّنْ قدّموا تأملتهم كملحظات ،تتبعها العلماء ليصلوا إلى
اختراعات تفيد البشرية.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه ل يضِنّ على الكافر بما يفيد العالم مادام يتأمل ظواهر الكون،
ويستنبط منها ما يفيد البشرية.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا[ { ...يوسف]105 :
إذن فقوله تعالىَ } :وكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنْ أردتها وسيلة لليمان بإله؛ فهي تقودك إلى اليمان؛ وإنْ أردتها لفائدة الدنيا فالحقّ لم يبخل
على كافر بأن يُعطَيه نتيجة ما يبذل من جهد.
فكل المطلوب ألّ تمُرّ على آيات ال وأنت مُعرِض عنها؛ بل على النسان أن يُقبِل إقبال الدارس،
إما لتنتهي إلى قضية إيمانية تُثرِي حياتك؛ وتعطيك حياة ل نهايةَ لها ،وهي حياة الخرة ،أو تُسعِد
حياتك وحياة غيرك ،بأن تبتكر أشياء تفيدك ،وتفيد البشرية.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} َومَا ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُهُمْ بِاللّهِ{ ...
()1688 /
َومَا ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُ ُهمْ بِاللّهِ إِلّا وَهُمْ مُشْ ِركُونَ ()106
وهكذا نرى المصافي التي يمر بها البشر ليصلوا إلى اليمان.
صتَ ِب ُم ْؤمِنِينَ }[يوسف]103 :
س وََلوْ حَ َر ْ
المصفى الول :قوله تعالىَ {:ومَآ َأكْثَرُ النّا ِ
أي :أن الكثير من الناس لن َيصِلوا إلى اليمان ،حتى ولو حرص الرسول صلى ال عليه وسلم
أن يكونوا مؤمنين.
وقلنا :إن مقابل " كثير " قد يكون " قليل " ،وقد يكون " كثير " ،وبعض المؤمنين قد يشوب
إيمانهم شبهةٌ من الشرك ،صحيح أنهم مؤمنون بالله الواحد ،ولكن إيمانهم ليس يقينيا ،بل إيمان
متذبذب ،ويُشرِكون به غيره.
ل وَهُمْ مّشْ ِركُونَ } [يوسف]106 :
والمصفى الثاني :قوله تعالىَ { :ومَا ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُهُمْ بِاللّهِ ِإ ّ
ومثال هذا :كفار قريش الذين قال فيهم الحق سبحانه {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ} ...
[الزخرف]87 :
ت وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ[} ...لقمان]25 :
سمَاوَا ِ
ويقول فيهم أيضا {:وَلَئِن سَأَلْ َت ُهمْ مّنْ خََلقَ ال ّ
ورغم قولهم هذا إل أنهم جعلوا شفعاء لهم عند ال ،وقالوا :إن الملئكة بنات ال ،وهكذا جعلوا ل
شركاء .ومعهم كل مَنْ ادعى أن ل ابنا من أهل الكتاب.
وأيضا مع هؤلء يوجد بعض من المسلمين الذي يخصّون قوما أقوياء بالخضوع لهم خضوعا ل
يمكن أن يُسمّى في العرف مودة؛ لنه تَقرّب ممتلئ بالذلة؛ لنهم يعتقدون أن لهم تأثيرا في النفع
والضر؛ وفي هذا لون من الشرك.
ويأتي الواحد من هؤلء ليقول ِلمَنْ يتقرب منه :أرجو أن تقضي لي المر الفلني .ويرد صاحب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النفوذ :اعتمد على ال ،وإن شاء ال سيقضي ال لك حاجتك.
لكن صاحب الطلب يتمادى في الذّلة ،ليقول :وأنا اعتمد عليك أيضا ،لتقضي لي هذه الحاجة.
أو يرد صاحب النفوذ ويقول :أنا سوف افعل لك الشيء الفلني؛ والباقي على ال.
وحين أسمع ذلك فأنا أتساءل :وماذا عن الذي ليس باقيا ،أليس على ال أيضا؟
حكَما في أشياء تمنّاها أصحابها؛ َف ُقضِيتْ؛ ثم تبين أن فيها شرا ،وهناك أشياء تمناها
وينثر ال ِ
أصحابها؛ فلم ُتقْضَ؛ ثم تبين أن عدم قضائها كان فيه الخير كل الخير.
ن الُمورَ تَجْرِي بِمقَادِيروربما منعك هذا فكرهته،
نجد الثر يقول:وَاطلبُوا الشياءَ بِع ّز ِة النفُسِ فَإِ ّ
وكان المنع لك خيرا من قضائه لك ،فإن المنع عَيْن العطاء ،ولذلك فعلى النسان أن يعرف دائما
أن ال هو الفاعل ،وهو المسبب ،وأن السبب شيء آخر.
ج أو نعتمر نسعى بين الصفا والمروة لنتذكر ما فعلتْه سيدتنا هاجر التي
ودائما أذكّر بأننا حين نح ّ
س َعتْ بين الصفا والمروة؛ لتطلب الماء لوليدها بعد استنفدت أسبابها؛ ثم وجدت الماء تحت ِرجْل
َ
وليدها إسماعيل.
فقد أخذتْ هي بالسباب ،فجاء لها رب السباب بما سألت عنه .ولم يأت لها الحق سبحانه بالماء
في جهة الصفا أو المروة؛ ليثبت لها القضية الولى التي سألت عنها إبراهيم عليه السلم حين
أنزلها في هذا المكان.
فقد قالت له :ءأنزلتنا هنا برأيك؟ أم أن ال أمرك بهذا؟ قال :نعم أمرني رَبّي .قالت :إذن ل
يضيعنا.
س َعتْ هي بحثا عن الماء أخذا بالسباب ،وعثرتْ على الماء بقدرة المسبّب العلى.
وقد َ
ل وَهُمْ مّشْ ِركُونَ { [يوسف]106 :
وقول الحق سبحانهَ } :ومَا ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُ ُهمْ بِاللّهِ ِإ ّ
يتطلب منا أن نعرف كيف يتسرّب الشرك إلى اليمان ،ولنا أن نتساءل :مادام يوجد اليمان؛ فمن
أين تأتي لحظة الشرك؟
خِلصِينَ لَهُ الدّينَ فََلمّا
عوُاْ اللّهَ مُ ْ
ويشرح الحق سبحانه لنا ذلك حين يقول {:فَِإذَا َركِبُواْ فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ
س ْوفَ يَعَلمُونَ }[العنكبوت-65 :
نَجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ ِإذَا ُهمْ يُشْ ِركُونَ * لِ َي ْكفُرُواْ ِبمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَ َتمَ ّتعُواْ فَ َ
]66
هم إذن قد آمنوا وهم في الفُلْك ،وأخذوا يدعُون ال حين واجهتهم أزمة في البحر؛ لكنهم ما أن
وصلوا إلى الشاطئ حتى ظهر بينهم الشرك.
حين يسألهم السائل :ماذا حدث؟
سوْا أن ال هو الذي أنقذهم
فيجيبون :أنهم كانوا قد أخذوا حذرهم ،واستعدوا بقوارب النجاة .ونَ َ
جعَلُواْ للّهِ أَندَادا لّ ُيضِلّواْ عَن سَبِيلِهِ ُقلْ َتمَ ّتعُواْ فَإِنّ َمصِي َركُمْ
فانطبق عليهم قول الحق سبحانه {:وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إِلَى النّارِ }[إبراهيم]30 :
سهّل لك ال قضاء تلك الحاجة؛
وفي حياتنا اليومية قد تذهب لتقضي حاجة لنسان؛ وبعد أن يُ َ
تلتفت فل تجده ،ول يفكر في أن يُوجّه لك كلمة الشكر.
وحين تلقاه يقول لك :كل ما طلبته منك وجدته مقضيا ،لقد كّل ْمتُ فلنا فقضاها.
وهو يقول لك ذلك ليُبعد عنك ما أسبغه ال عليك من فضل قضائك لحاجته؛ وذلك لنه لحظة أن
طلب منك مساعدته في قضاء تلك الحاجة تذلّل وخضع ،وبعد أن تنقضي يتصرف كفرعون
ويتناسى.
ول ينزعه من فرعنته إل رؤياك؛ لنه يعلم أنك صاحب جميل عليه ،بل قد يريد بك الشر؛ رغم
أنك أنت مَنْ أحسنتَ إليه ،لماذا؟ لن هذه هي طبيعة النسان.
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق]7-6 :
ن الِنسَانَ لَ َي ْ
يقول تعالى {:كَلّ إِ ّ
ولذلك يقول في المثل " :اتّقِ شَرّ من أحسنت إليه ".
وأنت تتقي شره ،بأن تحذر أن تمُنّ عليه بالحسان؛ كي ل تنمي فيه غريزة الكره لك.
والناصح يحتسب أيّ مساعدة منه لغيره عند ال؛ فيأخذ جزاءه من خالقه لحظة أداء فعل الخير،
ول ينتظر شيئا ممّنْ فعل الخير له؛ لنك ل تعلم ماذا فكّر لحظة أن أدّ ْيتَ له الخدمة ،فحين يجد
ترحيبَ الناس بك في الجهة التي تُؤدّي له الخدمة فيها؛ قد يتساءل :لماذا يحترمونك أكثر منه؟
وهو يسأل هذا السؤال لنفسه على الرغم من أنك مُتواجِد معه في هذا المكان لتخدمه.
ولذلك يقول العامة هذا المثل " :اعمل الخير وارْمه في البحر "؛ لن ال هو الذي يجازيك وليس
ت معروفا لحد.
البشر؛ فاجعل كل عملك مُوجّها ل ،وانْسَ أنك فع ْل َ
والمعروف المنكُور هو أجْدى أنواع المعروف عليك؛ لن الذي يُجازِي عليه هو ال؛ وهو سبحانه
مَنْ سيناولك أجره وثوابه بيده؛ ولذلك عليك أن تنسى مَنْ أحسنتَ إليه؛ كي يُعوّضك ال بالخير
على ما فعلت.
ويُقال في الثر :إن موسى عليه السلم قال :يا ربّ ،إني أسألك ألّ يُقال فيّ ما ليس فيّ .فأوضح
له ال :يا موسى لم أصنعها لنفسي؛ فكيف أصنعها لك.
ن ضُرّ
ويعرض الحق سبحانه هذه المسألة في القرآن بشكل آخر فيقول سبحانه {:وَإِذَا مَسّ الِنسَا َ
ضلّ
ج َعلَ لِلّهِ أَندَادا لّ ُي ِ
ل وَ َ
سيَ مَا كَانَ َيدْعُو ِإلَيْهِ مِن قَ ْب ُ
خوّلَهُ ِن ْعمَةً مّنْهُ نَ ِ
دَعَا رَبّهُ مُنِيبا إِلَيْهِ ُثمّ ِإذَا َ
صحَابِ النّارِ }[الزمر]8 :
عَن سَبِيِلهِ ُقلْ َتمَتّعْ ِب ُكفْرِكَ قَلِيلً إِ ّنكَ مِنْ َأ ْ
والنسان لحظةَ أن يمسّه الضّر؛ فهو يدعو الربوبية المتكفّلة بمصالحه :يا ربّ أنت الذي خلقتني،
وأنت المتكفّل بتربيتي؛ وأنا أتوكل عليك في مصالحي ،فأنقذني ممّا أنا فيه.
ومثل هذا النسان كمثل الرّبان الذي ينقذه ال بأعجوبة من العاصفة؛ لكنه بعد النجاة يحاول أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ينسب نجاة السفينة من الغرق لنفسه.
سوْا المُنعِم المُسبّب في كل شيء ،وإياكم أن ُتفْتنوا
ولذلك أقول دائما :احذروا أيها المؤمنون أن تن َ
بالسباب؛ فتغفلوا عن المُسبّب؛ وهو سبحانه ُمعْطي السباب.
وأقول ذلك حتى ل تقعوا في ظلم أنفسكم بالشرك بال؛ فسبحانه القائل {:الّذِينَ آمَنُو ْا وَلَمْ َيلْبِسُواْ
ن وَهُمْ ّمهْتَدُونَ }[النعام]82 :
لمْ ُ
إِيمَا َنهُمْ ِبظُلْمٍ ُأوْلَـا ِئكَ َلهُ ُم ا َ
والظلم ـ كما نعلم ـ هو أن تُعطِي الحق لغيره صاحبه؛ فكيف يَجْرؤ أحد على أن يتجاهل َفضْل
ال عليه؟ فيقع في الشرك الخفي ،والظلم الكبر هو الشرك.
عظِيمٌ }[لقمان]13 :
وسبحانه القائل... {:إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} َأفََأمِنُواْ أَن تَأْتِ َي ُهمْ غَاشِيَةٌ{ ...
()1689 /
شعُرُونَ ()107
َأفََأمِنُوا أَنْ تَأْتِ َيهُمْ غَاشِ َيةٌ مِنْ عَذَابِ اللّهِ َأوْ تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْ َت ًة وَهُمْ لَا َي ْ
ألم يحسب هؤلء حساب انتقام ال منهم بعذاب الدنيا الذي َيعُمّ؛ لن الغاشية هي العقاب الذي َيعُمّ
ويُغطّي الجميع؛ أم أنهم استبطئوا الموت ،واستبطئوا القيامة وعذابها؛ رغم أن الموت مُعلّق على
رقاب الجميع ،ول أحد يعلم ميعاد موته.
فالرسول صلى ال عليه وسلم يقول " :من مات قامت قيامته ".
فما الذي يُبطئهم عن اليمان بال والخلص التوحيدي ل ،بدون أنْ يمسّهم شرك؛ قبل أن تقوم
قيامتهم بغتةً؛ أي :بدون جرس تمهيدي.
ن سبقونا إلى الموت ل يطول عليهم الحساس بالزمن إلى أن تقومَ قيامة ُكلّ الخَلْق؛
ونعلم أن مَ ْ
لن الزمن ل يطول إل على مُتتبع أحداثه.
والنائم مثلً ل يعرف َكمْ ساعةً قد نام؛ لن وَعْيَه مفقود فل يعرف الزمن ،والذي يوضح لنا أن
عشِيّةً َأوْ
الذين سبقونا ل يشعرون بمرور الزمن هو قوله الحق {:كَأَ ّنهُمْ َيوْمَ يَ َروْ َنهَا لَمْ َيلْبَثُواْ ِإلّ َ
ضُحَاهَا }[النازعات]46 :
ويأتي قول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{ ُقلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي أَدْعُو} ...
()1690 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ُقلْ هَ ِذهِ سَبِيلِي َأدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى َبصِي َرةٍ أَنَا َومَنِ اتّ َبعَنِي وَسُبْحَانَ اللّ ِه َومَا أَنَا مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ (
)108
أي :قل يا محمد هذا هو منهجي .والسبيل كما نعلم هو الطريق ،وقوله الحق { :هَـا ِذهِ سَبِيلِي} ...
[يوسف]108 :
يدل على أن كلمة السبيل تأتي مرة مُؤنّثة ،كما في هذه الية ،وتأتي مرة مُذكّرة؛ كما في قوله
ل وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ ا ْل َغيّ يَتّخِذُوهُ سَبِيلً[} ...العراف:
الحق {:وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّشْ ِد لَ يَتّخِذُوهُ سَبِي ً
]146
وأعْلِنْ يا محمد أن هذه الدعوة التي جِ ْئتَ بها هي لليمان بال الواحد؛ وسبحانه ل ينتفع بالمنهج
الذي نزل عليك لِيُطبّقه العباد ،بل فيه صلح حياتهم ،وسبحانه هو ال؛ فهو الول قبل كل شيء
بل بداية ،والباقي بعد كل موجود بل نهاية؛ ومع خَلْق الخَلْق الذين آمنوا هو ال؛ وإن كفروا
جميعا هو ال ،والمسألة التكليفية بالمنهج عائدة إليكم أنتم ،فمَنْ شاء فَلْيؤمن ،ومَنْ شاء فَلْيكفر.
ح ّقتْ }[النشقاق]2-1 :
ش ّقتْ * وَأَذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ
سمَآءُ ان َ
ولنقرأ قول الحقِ {:إذَا ال ّ
فهي تنشقّ َفوْرَ سماعها لمر ال ،وتأتي لحظة الحساب.
وقوله الحقُ { :قلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىا اللّهِ عَلَىا َبصِي َرةٍ[ } ...يوسف]108 :
أي :أدعو بالطريق المُوصّل إلى ال إيمانا به وتَقبّلً لمنهجه ،وطلبا لما عنده من جزاء الخرة؛
وأنا على بصيرة مما أدعو إليه.
والبصر ـ كما نعلم ـ للمُحسّات ،والبصيرة للمعنويات.
والبصر الحسيّ ل يُؤدّي نفس عمل البصيرة؛ لن البصيرة هي يقينٌ مصحوب بنور يُقنِع النفس
ن المور الظاهرة مُلجئة إلى القناع.
البشرية ،وإنْ لم َتكُ ْ
ستْ هي هذا المر بعقلها
ومثال هذا :أم موسى حين أوحى ال لها أن تقذف ابنها في اليَمّ ،ولو قا َ
لما قَبِلَتْه ،لكنها بالبصيرة قَبِلَتْه؛ لنه وارد من ال ل مُعانِدَ له من النفس البشرية.
فالبصيرة إذن :هي يقين ونور مبني على برهان من القلب؛ فيطيعه العبد طاعة بتفويض ،ويُقال:
إن اليمان طاعة بصيرة.
ويمكن أن نقرأ قوله الحقُ { :قلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىا اللّهِ عَلَىا َبصِي َرةٍ[ } ...يوسف]108 :
وهنا جملة كاملة؛ ونقرأ بعدها { :أَنَ ْا َومَنِ اتّ َبعَنِي[ } ...يوسف]108 :
أو نقرأها كاملةُ { :قلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَىا اللّهِ عَلَىا َبصِي َرةٍ أَنَ ْا َومَنِ اتّ َبعَنِي وَسُبْحَانَ اللّ ِه َومَآ
أَنَاْ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [يوسف]108 :
وقول الحق { :وَسُبْحَانَ اللّهِ[ } ...يوسف]108 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أنه سبحانه مُنزّه تنزيها مطلقا في الذات ،فل ذاتَ تُشبِهه؛ فذاته ليست محصورة في القالب
المادي مثلك ،والمنفوخة فيه الروح ،وسبحانه مُنزّه تنزيها مُطْلقا في الفعال ،فل فعلَ يشبه فِعله؛
خذْ ذلك في نطاق {:لَيْسَ
وكذلك صفاته ليست كصفات البشر ،فحين تعلم أن ال يسمع ويرى ،ف ُ
شيْءٌ[} ...الشورى]11 :
َكمِثْلِهِ َ
وكذلك وجوده سبحانه ليس كوجودك؛ لن وجوده وجود واجد أزليّ ،وأنت حَ َدثٌ طارئ على
الكون الذي خلقه سبحانه.
ولذلك قاس بعض الناس رحلة السراء والمعراج على قدرة رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ ولم
ينتبهوا إلى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :لقد أُسري بي ".
ل ْقصَى
سجِ ِد ا َ
سجِدِ الْحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَ ْ
ونزل قول الحق سبحانه {:سُبْحَانَ الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً مّنَ ا ْلمَ ْ
سمِيعُ ال َبصِيرُ }[السراء]1 :
حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
الّذِي بَا َركْنَا َ
وهكذا تعلم أن الفعل لم يكن بقوة محمد صلى ال عليه وسلم؛ ولكن بقوة من خلق الكون كله،
القادر على كل شيء ،والذي ل يمكن لمؤمن حق أن يشرك به ،أمام هذا البرهان .ويقول الحق
سبحانه من بعد ذلك:
{ َومَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ ِإلّ ِرجَالً} ...
()1691 /
َومَا أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ إِلّا ِرجَالًا نُوحِي إِلَ ْيهِمْ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلقُرَى َأفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ
كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم وَلَدَارُ الْآَخِ َرةِ خَيْرٌ لِلّذِينَ ا ّت َقوْا َأفَلَا َتعْقِلُونَ ()109
وينتقل الحق سبحانه هنا إلى الرسل الذين سبقوا محمدا صلى ال عليه وسلم؛ فالحق سبحانه
يقولَ {:ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ َبشَرا رّسُولً }[السراء:
]94
أي :أنهم كانوا يطلبون رسولً من غير البشر ،وتلك مسألة لم تحدث من قبل ،ولو كانت قد حدثتْ
من قَبْل؛ لقالوا " :ولماذا فعلها ال مع غيرنا؟ ".
ولذلك أراد سبحانه أن يَ ُردّ لهم عقولهم؛ فقال تعالى {:قُل َلوْ كَانَ فِي الَرْضِ مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ
سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء]95 :
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
مُ ْ
والملئكة بطبيعتها ل تستطيع أن تحيا على الرض ،كما أنها ل تصلح لنْ تكون ُقدْوة أو ُأسْوة
سلوكية للبشر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالحق سبحانه يقول عن الملئكة... {:لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَهُ ْم وَ َي ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم:
]6
حسّ من البشر؛ ولو
والملك ل يصلح أن يكون أُسْوة للنسان؛ لن المَلَك مخلوق غيبيّ غير مُ َ
أراده ال رسولً لَجسّده بشرا؛ ولو جعله بشرا لبقيتْ الشبهةُ قائم ًة كما هي.
أو :أن الية جاءت لِتسُدّ على الناس ذرائع انفتحت بعد ذلك على الناس في حروب الرّدة حين
عتْ سجاح أنها نبية مُرْسَلة.
ادّ َ
لذلك جاء الحق سبحانه من البداية بالقولَ { :ومَآ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ ِإلّ رِجَالً نّوحِي إِلَ ْيهِمْ مّنْ أَ ْهلِ
ا ْلقُرَىا[ } ...يوسف]109 :
ليوضح لنا أن المرأة ل تكون رسولً منه سبحانه؛ لن مهمة الرسول أن يلتحم بالعالم التحامَ
بلغٍ ،والمرأة مطلوب منها أن تكون سكنا.
ي في أي وقت من الوقات؛ والمرأة يسقط
كما أن الرسول يُفترض فيه ألّ يسقط عنه تكليف تعبد ّ
عنها التكليف التعبدي أثناء الطمث ،ومهمة الرسول تقتضي أن يكون ُمسْتوفي الداء التكليفي في
ي وقتٍ.
أ ّ
ثم كيف يطلبون ذلك ولَمْ تَ ْأتِ في مهام الرسل من قبل ذلك إل رجالً ،ولم يسأل الحق أيّا منهم،
ي واحد من الرسل السابقين ليتولى مهمته؛ بل تلقّى التكليف من ال دون اختيار
ولم يستأذن من أ ّ
منه ،ويتلقى ما يؤمر أن يبلغه للناس ،ويكون المر بواسطة الوحي.
والوحي كما نعلم إعلم بخفاء ،ول ينصرف على إطلقه إل للبلغ عن ال .ولم يوجد رسول
مُفوّض ليبلغ ما يحب أو يُشرّع؛ لكن كل رسول مُكلّف بأن ينقل ما يُبَلغ به ،إل محمد صلى ال
خذُوهُ
عليه وسلم ،فقد فوّضه الحق سبحانه في أن يُشرّع ،ونزل في القرآن {:مَآ آتَا ُكمُ الرّسُولُ فَ ُ
َومَا َنهَاكُمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ[} ...الحشر]7 :
ويقول الحق سبحانه عن هؤلء الرسل السابقين أنهم { :مّنْ أَ ْهلِ ا ْلقُرَىا[ } ...يوسف]109 :
والقرية كانت تأخذ نفس مكانة المدينة في عالمنا المعاصر .وأنت حين تزور أهل المدينة تجد
عندهم الخير عكس أهل البادية ،فالبدويّ من هؤلء قد ل يجد ما يُقدّمه لك ،فقد يكون ضرع
جفّ؛ أو ل يجد ما يذبحه لك من الغنام.
الماشية قد َ
والفارق بين أهل القرية وأهل البادية أن أهل القرية لهم توطّن؛ ويملكون قدرة التعايش مع الغير،
وترتبط مصالحهم ببعضهم البعض ،وت ِرقّ حاشية كل منهم للخر ،وتتسع مداركهم بمعارف
متعددة ،وليس فيهم غِلْظة أهل البادية.
فالبدويّ من هؤلء ل يملك إل الرّحْل على ظهر جَمله؛ ويطلب مساقط المياه ،وأماكن الكل لما
يرعاه من أغنام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ب تناولٍ وتعاملٍ؛ ولذلك لم يَ ْأتِ رسول من البدو كي ل
وهكذا تكون في أهل القرى ِرقّة وعِلْم وأد ُ
تكون معلوماته قاصرة ،ويكون جافا ،به غِلْظة ق ْولٍ وسلوك.
والرسول يُفترض فيه أن يستقبل كل مَنْ يلتقي به بالرّفق واللّين وحُسْن المعاشرة؛ لذلك يكون من
أهل القرى غالبا؛ لنهم ليسوا قُسَاة؛ وليسوا على جهل بأمور التعايش الجتماعي.
ويتابع الحق سبحانهَ } :أفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ...
{ [يوسف]109 :
أي :أنهم إنْ كانوا غير مؤمنين بآخرة يعودون إليها؛ ول يعلمون متى يعودون؛ فليأخذوا الدنيا
ِمقْياسا؛ وَلْينظروا في ُرقْعة الرض؛ وينظروا ماذا حدث للمُكذّبين بالرسل ،إنهم سيجدون أن
الهلك والعذاب قد حاقا بكل مُكذّب.
ولو أنهم ساروا في الرض ونظروا نظرة اعتبار ،لرأوا قُرَى مَنْ نحتوا بيوتهم في الجبال وقد
سوْط العذاب على قوم عاد وآل فرعون ،فإن
صبّ َ
عصف بها الحق سبحانه ،ولَرأوْا أن الحق قد َ
خفْ من الخرة؛ فعليك بالخوف من عذاب الدنيا.
لم َت َ
وقول الحق سبحانهَ } :أفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ...
{ [يوسف]109 :
وهذا القول هو من لَفتاتِ الكونيات في القرآن ،فقديما كنا ل نعرف أن هناك غلفا جويا يحيط
بالرض ،ولم َنكُنْ نعرف أن هذا الغلف الجوي به الكسوجين الذي نحتاجه للتنفس.
ولم َنكُنْ نعرف أن هذا الغلف الجوي من ضمن تمام الرض ،وأنك حين تسير على اليابسة،
فالغلف الجوي يكون فوقك؛ وبذلك فأنت تسير في الرض؛ لن ما فوقك من غلف جوي هو
من مُلْحقات الرض.
والسَيْر في الرض هو للسياحة فيها ،والسياحة في الرض نوعان :سياحة اعتبار ،وسياحة
استثمار.
ويُعبّر الحق سبحانه عن سياحة العتبار بقولهَ {:أوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَيَنظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِ َبةُ
الّذِينَ مِن قَبِْل ِهمْ[} ...الروم]9 :
ويعبر سبحانه عن سياحة الستثمار بقولهُ {:قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَانظُرُواْ كَ ْيفَ َبدَأَ ا ْلخَلْقَ ثُمّ اللّهُ
يُنشِىءُ النّشَْأةَ الخِ َرةَ[} ...العنكبوت]20 :
إذن :فالسياحة العتبار هي التي تَلْفتك لقدرة ال سبحانه ،وسياحة الستثمار هي من عمارة
جدْ فِي الَ ْرضِ مُرَاغَما كَثِيرا
الرض ،يقول الحق سبحانهَ {:ومَن ُيهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَ ِ
سعَةً[} ...النساء]100 :
وَ َ
وأنت ُمكّلف بهذه المهمة ،بل إن ضاق عليك مكان في الرض فابحث عن مكان آخر ،بحسب
سعَةً فَ ُتهَاجِرُواْ فِيهَا} ...
قول الحق سبحانه {:أََلمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّهِ وَا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[النساء]97 :
ط ألّ يُلهِيك الستثمار عن العتبار.
ولك أن تستثمر كما تريد ،شر َ
ويتابع الحق سبحانه } :كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ[ { ...يوسف]109 :
ويا لَ ْيتَ المر قد اقتصر على النكال الذي حدث لهم في الدنيا؛ بل هناك َنكَالٌ أش ّد وَطْأة في
انتظارهم في الخرة.
يقول الحق سبحانه...} :وَلَدَارُ الخِ َرةِ خَيْرٌ لّلّذِينَ ا ّتقَواْ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ { [يوسف]109 :
وحديث الحق سبحانه عن مصير الذين َكذّبوا؛ يَظهر لنا كمقابل لما ينتظر المؤمنين ،ولم تذكر
الية مصير هؤلء المُكذّبين بالتعبير المباشر ،ويُسمّون ذلك في اللغة بالحتباك.
صهَا مِنْ أَطْرَا ِفهَا[} ...الرعد ]41 :وكل يوم
مثل ذلك قوله الحقَ {:أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا نَأْتِي الَ ْرضَ نَنقُ ُ
تنقص أرض الكفر ،وتزيد رقعة اليمان.
وهكذا يأتي العقاب من جانب ال ،ونأخذ المقابل له في الدنيا؛ ومرة يأتي بالثواب المقيم للمؤمنين،
ونأخذ المقابل في الخرة.
ولقائل أن يقول :ولماذا لم َي ُقلِ الحق سبحانه أنه سوف يأتي لهم بما هو أشد شرا من عذاب الدنيا
في اليوم الخر؟
وأقول :إن السياق العقلي السطحي الذي ليس من ال؛ هو الذي يمكن أن يُذكّرهم بأن عذاب
الخرة هو أشدّ شرا من عذاب الدنيا.
ولكن الحق سبحانه ل يقول ذلك؛ بل عَدل عن هذا إلى المقابل في المؤمنين؛ فقال...} :وَلَدَارُ
الخِ َرةِ خَيْرٌ لّلّذِينَ ا ّتقَواْ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ { [يوسف]109 :
فإذا جاء في الدنيا بالعذاب للكافرين؛ ثم جاء في الخرة بالثواب لِلمُتقين؛ أخذ من هذا المقابل أن
غير المؤمنين سيكون لهم حسابٌ عسير ،وقد حذف من هنا ما يدل عليه هناك؛ كي نعرف كيف
يُحْبَك النظم القرآني.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
سلُ{ ...
} حَتّىا إِذَا اسْتَيْأَسَ الرّ ُ
()1692 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة { :حَتّىا } [يوسف]110 :
تدل على أن هناك غاية ،ومادامتْ هناك غاية فلبُدّ أن بداية ما قد سبقتْها ،ونقول " :أكلتُ السمكة
حتى رأسها " .أي :أن البداية كانت َأكْل السمكة ،والنهاية هي رأسها.
سلُ[ } ...يوسف]110 :
والبداية التي تسبق { :اسْتَيَْأسَ الرّ ُ
هي قوله الحقَ {:ومَآ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ ِإلّ رِجَالً نّوحِي إِلَ ْيهِمْ[} ...يوسف]109 :
ضمِنوا النصر ،ولكن النصر أبطأ؛ فاستيأس الرسل ،وكان
ومادام الحقّ سبحانه قد أرسلهم؛ فهم قد َ
هذا البطاء مقصودا من الحق سبحانه؛ لنه يريد أن يُحمّل المؤمنين مهمة هداية حركة الحياة في
الرض إلى أن تقوم الساعة ،فيجب أل يضطلع بها إل المُخْتَبر اختبارا دقيقا.
ولبُدّ أن يمر الرسول ـ الُسْوة لمَنْ معه ـ ومن يتبعه من بعد بمحن كثيرة ،ومَنْ صبر على
المِحَن وخرج منها ناجحا؛ فهو َأ ْهلٌ لن يحمل المهمة.
خَلوْاْ مِن قَبِْلكُم مّسّ ْتهُمُ
وهو الحق سبحانه القائل {:أَمْ حَسِبْ ُتمْ أَن َتدْخُلُواْ ا ْلجَنّ َة وََلمّا يَأْ ِتكُم مّ َثلُ الّذِينَ َ
الْبَأْسَآ ُء وَالضّرّآ ُء وَزُلْزِلُواْ حَتّىا َيقُولَ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ َمعَهُ مَتَىا َنصْرُ اللّهِ[} ...البقرة:
]214
إذن :لبُدّ من اختبار يُمحّص .ونحن في حركة حياتنا نُؤهّل التلميذ دراسيا؛ ليتقدم إلى شهادة إتمام
الدراسة البتدائية ،ثم نُؤهّله لِنَيْل شهادة إتمام الدراسة العدادية؛ ثم نؤهله لنيل شهادة إتمام
الدراسة الثانوية ،ثم يلتحق بالجامعة ،ويتم اختباره سنويا إلى أن يتخرج من الجامعة.
جهْد.
وإنْ أراد استكمال دراسته لنيل الماجستير والدكتوراه ،فهو يبذل المزيد من ال َ
وكل تلك الرحلة من أجل أن يذهب لتوليّ مسئولية العمل الذي يُسند إليه وهو جدير بها ،فما بَالُنا
بعملية َبعْث رسول إلى قوم ما؟
لبُدّ إذن من تمحيصه هو ومَنْ يتبعونه ،وكي ل يبقى على العهد إل المُوقِن تمام اليقين بأن ما
يفوته من خير الدنيا؛ سيجد خيرا افضل منه عند ال في الخرة.
ولقائل أن يقول :وهل من المعقول أن يستيئس الرسل؟
ل معنى " استيأس "؛ وهناك فرق بين " يأس " و " استيأس " ،فـ " يأس " تعني
نقول :فَلنفهم أو ً
قطع المل من شيء .و " استيأس " تعني :أنه يُلِحّ على قَطع المل.
أي :أن المل لم ينقطع بعد .ومَنْ قطع المل هو مَنْ ليس له منفذ إلى الرجاء ،ول ينقطع أمل
إنسان إل إنْ كان مؤمنا بأسبابه المعزولة عن مُسبّبه العلى.
صلْ به إلى نتيجة ،فالمؤمن بال
لكن إذا كان ال قد أعطى له السباب ،ثم انتهت السباب ،ولم َت ِ
هو مَنْ يقول :أنا ل تُهمّني السباب؛ لن معي المُسبّب.
ولذلك يقول الحق سبحانه... {:وَلَ تَيْأَسُواْ مِن ّروْحِ اللّهِ إِنّهُ لَ يَيْأَسُ مِن ّروْحِ اللّهِ ِإلّ ا ْل َقوْمُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْلكَافِرُونَ }
[يوسف]87 :
ولذلك نجد أن أعلى نسبة انتحار إنما تُوجَد بين الملحدة الكافرين؛ لنهم ل يملكون رصيدا
إيمانيا ،يجعلهم يؤمنون أن لهم ربا فوق كل السباب؛ وقادر على أن يَخْرِق النواميس.
أما المؤمن فهو يأوي إلى ُركْن شديد ،هو قدرة الحق سبحانه مُسبّب كل السباب ،والقادر على أن
يَخْرِق السباب.
ولماذا يستيئس الرسل؟
لن حرصهم على تعجّل النصر دفع البعض منهم أن يسأل مثلما سأل المؤمنون {:مَتَىا َنصْرُ
اللّهِ[} ...البقرة]214 :
فضلً عن ظَنّهم أنهم كُذّبوا ،والحق سبحانه يقول هناَ } :وظَنّواْ أَ ّنهُمْ قَدْ ُكذِبُواْ[ { ...يوسف]110 :
ومادة " الكاف " ،و " الذال " و " الباء " منها " كَ َذبَ " ،و " كُ ِذبَ عليه " و " كُذّب " .والكذب هو
القول المخالف للواقع ،والعاقل هو من يُورِد كلمه على ِذهْنه قبل أن ينطق به.
أما فاقد الرشد الذي ل يمتلك القدرة على التدبّر؛ فينطق الكلم على عَواهِنه؛ ول يمرر الكلم على
ذهنه؛ ولذلك يقال عنه " مخرف ".
وقد سبق لنا أن شرحنا الصدق ،وقلنا :إنه تطابق النسبة الكلمية مع الواقع ،والكذب هو ألّ
تتطابق النسبة الكلمية مع الواقع.
ومَنْ يقول كلما يعلم أنه ل يطابق الواقع؛ يقال عنه :إنه مُتعمّد الكذب ،ومَنْ يقول كلما بغالبية
الظن أنه ل يطابق الواقع ،ونقله عن غيره؛ فهو يكذب دون أن يُحسب كَذبه افتراءً ،والنسان
الذي يتوخّى الدّقة ينقل الكلم منسوبا إلى مَنْ قاله له؛ فيقول " أخبرني فلن " فل ُيعَدّ كاذبا.
ولذلك أقول دائما :يجب أن يُفرّق العلماء بين كذب ال ُمفْتين ،وكذب الخبر؛ وكذب ال ُمخْبر .فالخبر
ن تعمّد الكذب ،أما الناقل للخبر مادام قد نسبه إلى مَنْ قاله ،فموقفه مختلف.
الكاذب مسئول عنه مَ ْ
وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد لها قراءتين؛ قراءة هي " :وظنوا أنهم قد كُذبوا "
أي :حدّثهم غيرهم كَذِبا؛ وقراءة ثانية هي " :وظنوا أنهم قد كُذّبوا " وهي تعني :أنهم قد ظنّوا أن
ما قيل لهم من كلم عن النصر هو كذب.
ولقائل أن يسأل :كيف يظن الرسل ذلك؟
وأقول :إن الرسول حين يطلب من قومه اليمان؛ يعلم أن ما يُؤكّد صدق رسالته هو مجيء
النصر؛ وتمرّ عليه بعض من الخواطر خوفا أن يقول المقاتلون الذين معه " :لقد كذب علينا "؛
لن الظن إخبار بالراجح.
ول يخطر على بال الرسل أن ال سبحانه وتعالى ـ معاذ ال ـ قد كَذَبهم وعده ،ولكنهم ظَنّوا أن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النصر سيأتيهم بسرعة؛ وأخذوا بطء مجيء النصر دليلً على أن النصر لن يأتي.
أو :أنهم خافوا أن يُكذّبهم الغير.
ولذلك نجد الحق سبحانه ُيعْلِم رسله أن النصر سيأتي في الموعد الذي يحدده سبحانه ،ول يعرفه
جلُ بعجلة العبادة حتى تبلغ المور ما أراد.
أحد ،فسبحانه ل َيعْ َ
ويقول سبحانه } :وَظَنّواْ أَ ّن ُهمْ قَدْ ُكذِبُواْ جَآ َءهُمْ َنصْرُنَا[ { ...يوسف]110 :
وهكذا يأتي النصر بعد الزلزلة الشديدة؛ فيكون َوقْعه كوقع الماء على ذي الغُلّة الصّادي ،ولنا أن
شوْق العطشان لكوب الماء.
نتخيل َ
وأيضا فإن إبطاء النصر يعطي غرورا للكافرين يجعلهم يتمادون في الغرور ،وحين يأتي النصر
تتضاعف فرحة المؤمنين بالرسول ،وأيضا يتضاعف غَمّ الكافرين به.
ومجيء النصر للمؤمنين يقتضي وقوع هزيمة للكافرين؛ لن تلك هي مشيئة ال الذي يقع بَأْسه
وعذابه على الكافرين به.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
لوْلِي الَلْبَابِ{ ...
صهِمْ عِبْ َر ٌة ُ
ص ِ
} َلقَدْ كَانَ فِي َق َ
()1693 /
ونلحظ أن هذه الية جاءت في سورة يوسف؛ أي :إنْ أردتَ قصة يوسف وإخوته؛ ففي السورة
عظَتها ،أو المهم في كل قصص النبياء.
كل القصة بمَراميها وأهدافها و ِ
سلِ مَا نُثَ ّبتُ ِبهِ ُفؤَا َدكَ[} ...هود]120 :
يقول الحق سبحانهَ {:وكُـلّ ّن ُقصّ عَلَ ْيكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرّ ُ
ونعلم أن معنى القَصَص مأخوذ من َقصّ الثر؛ وتتبّعه بل زيادة أو نقصان.
صهِمْ عِبْ َر ٌة لُوْلِي الَلْبَابِ[ } ...يوسف]111 :
ص ِ
ويقول الحق سبحانه هناَ { :لقَدْ كَانَ فِي َق َ
وفي أول السورة قال الحق... {:إِن كُن ُتمْ لِل ّرؤْيَا َتعْبُرُونَ }[يوسف]43 :
ونعرف أن مادة " العين " و " الباء " و " الراء " تفيد التعدية من جَليّ إلى خَفيّ.
والعِبْرة في هذه القصة ـ قصة يوسف ـ وكذلك قصص القرآن كلها؛ نأخذ منها عِبْرة من الجَليّ
فيها إلى الخَفيّ الذي نواجهه؛ فل نفعل المور السيئة؛ ونُقدِم على المور الطيبة.
وحين نقبل على العمل الطيّب الذي جاء في أيّ قصة قرآنية؛ وحين نبتعد عن العمل السيئ الذي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جاء خَبرُه في القصة القرآنية؛ بذلك نكون قد أحسنّا الفهم عن تلك القصص.
وعلى سبيل المثال :نحن نجد الظالم في القصَص القرآني؛ وفي قصة يوسف تحديدا؛ وهو ينتكس،
فيأخذ الواحد مِنّا العبرة ،ويبني حياته على ألّ يظلم أحدا .وحين يرى النسان منا المظلو َم وهو
ينتصر؛فهو ل يحزن إنْ تعرّض لظلم؛ لنه أخذ العبرة لما ينتصر؛ فهو ل يحزن إن تعرض
لظلم؛ لنه أخذ العبرة لما ينتظره من نصر بإذن ال.
ونحن نقول " :عبر النهر " أي :انتقل من شاطئ إلى شاطئ.
وكذلك قولنا " تعبر ال ّرؤْيا " أي :تؤوّلها؛ لن ال ّرؤْيا تأتي رمزية؛ وتعبرها أي :تشرحها وتنقلها
من خفيّ إلى جليّ؛ وإيضاح المطلوب منها.
و َنصِفُ ال ّدمْعة بأنها " عَبْرة "؛ والحزن المدفون في النفس البشرية تدل عليه ال ّدمْعة.
لوْلِي الَلْبَابِ[ } ...يوسف]111 :
صهِمْ عِبْ َر ٌة ُ
وهنا قال الحق سبحانهَ { :لقَدْ كَانَ فِي َقصَ ِ
والعِبْرة قد تمرّ ،ولكن ل يلتفت إليها إل العاقل الذي يُمحّص الشياء ،أما الذي يمرّ عليها مُرور
الكرام؛ فهو ل يستفيد منها.
و " أولو اللباب " هم أصحاب العقول الراجحة ،و " اللباب " جمع " ُلبّ " .واللب :هو جوهر
سمّي العقل " لُبّا " لنه ينثرُ القشور بعيدا،
الشيء المطلوب؛ والقَِشْر موجود لصيانة الّلبّ ،و ُ
ويعطينا جوهر الشياء وخيرها.
حدِيثا ُيفْتَرَىا وَلَـاكِن َتصْدِيقَ الّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ[ } ...يوسف]111 :
ويتابع الحق سبحانه { :مَا كَانَ َ
أي :أن ما جاء على لسانك يا محمد وأنزله الحق وَحْيا عليك ليس حديث كَذبٍ مُتعمّد؛ بل هو
الحق الذي يطابق الكتب التي سبقتْه.
ويُقال " :بين يديك " أي :سبقك؛ فإذا كنت تسير في طابور؛ َفمَنْ أمامك يُقال له " بين يديك " ،
ومَنْ وراءك يُقال له " مَنْ خلفك ".
والقرآن قد جاء ليصدق الكتب التي سبقتْه؛ وليست هي التي تُصدّق عليه؛ لنه الكتاب المهيمن،
والحق سبحانه هو القائل {:وَأَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَابِ َو ُمهَ ْيمِنا
عَلَيْهِ[} ...المائدة]48 :
شيْءٍ...
ويضيف الحق سبحانه في نفس الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :وَ َتفْصِيلَ ُكلّ َ
{ [يوسف]111 :
حكْمها في
فالقرآن يُصدّق الكتب السابقة ،ويُفصّل كل شيء؛ أي :يعطي كل جزئية من المر ُ
حكْم بما يناسب أيّ أمر من
جزئية مناسبة لها .فهو ليس كلما مُجْملً ،بل يجري تفصيل كل ُ
أمور البشر.
وفي أعرافنا اليومية نقول " :فلن قام بشراء بذلة تفصيل " .أي :أن مقاساتها مناسبة له تماما؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومُحْكمة عليه حين يرتديها.
ن يقول :إنه ل يوجد إله على الطلق ،ويقابله مَنْ
وفي المور العقدية نجد ـ والعياذ بال ـ مَ ْ
يقول :إن اللهة مُتعددة؛ لن كل الكائنات الموجودة في الكون من الصعب أن يخلقها إله واحد؛
فهناك إله للسماء ،وإله للرض؛ وإله للنبات؛ وإله للحيوان.
ونقول لهم :كيف يوجد إله يقدر على شيء ،ويعجز عن شيء آخر؟
وإنْ قال هؤلء " :إن تلك اللهة تتكاتف مع بعضها ".
نرد عليهم :ليست تلك هي اللوهية أبدا ،ولذلك نجد الحق سبحانه وتعالى يقول {:ضَرَبَ اللّهُ مَثَلً
ح ْمدُ للّهِ َبلْ َأكْثَ ُرهُ ْم لَ َيعَْلمُونَ
جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً الْ َ
رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُ َتشَاكِسُونَ وَرَجُلً سَلَما لّ َر ُ
}[الزمر]29 :
وحين يكون الشركاء مختلفين؛ فحال هذا العبد المملوك لهم يعيش في ضَنْك وعذاب؛ أما الرجل
المملوك لرجل واحد فحاله يختلف؛ لنه يأتمر بأمر واحد؛ لذلك يحيا مرتاحا.
ونجد الحق سبحانه يقول عن اللهة المتعددة {:مَا اتّخَذَ اللّهُ مِن وََل ٍد َومَا كَانَ َمعَهُ مِنْ إِلَـهٍ إِذا
عمّا َيصِفُونَ }[المؤمنون]91 :
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ سُ ْبحَانَ اللّهِ َ
ق وََلعَلَ َب ْع ُ
لّذَ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَ َ
أما مَنْ يقول بأنه ل يوجد إله في الكون ،فنقول له :وهل يُعقل أن كل هذا الكون الدقيق ال ُمحْكم بل
صانع.
صلَ هذا المر ليؤكد أنه ل يوجد سوى إله واحد في الكون ،ونجد
ولذلك شاء الحق سبحانه أن ُيفَ ّ
حكْم من مجال إلى آخر.
حكْما مناسبا لها؛ فل ينتقل ُ
القرآن يُفصّل لنا الحكام؛ ويُنزِل لكل مسألة ُ
وكذلك تفصيل اليات ،فهناك المُحْكم والمُتَشابه؛ والمَثَل هو قول الحق سبحانه {.وَيُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ[} ...آل عمران]114 :
ويقول في موقع آخر {:وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن رّ ّبكُمْ[} ...آل عمران]133 :
جاء مرة بقول " إلى " ،ومرة بقول " في "؛ لن كلً منها مناسبة ومُفصّلة حَسْب موقعها.
فالمُسَارعة إلى المغفرة تعني أن مَنْ يسارع إليها موجود خارجها ،وهي الغاية التي سيصل إليها،
أما مَنْ يسارع في الخيرات؛ فهو يحيا في الخير الن ،ونطلب منه أن يزيد في الخير.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه يقول {:كِتَابٌ ُفصَّلتْ آيَاتُهُ[} ...فصلت]3 :
أي :أن كل جزئية فيه مناسبة للمر الذي نزلتْ في مناسبته.
خشْيَةَ ِإمْلقٍ نّحْنُ نَرْ ُز ُق ُه ْم وَإِيّاكُم[} ...السراء:
ومثال هذا هو قوله سبحانهَ {:ولَ َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ َ
]31
لقٍ نّحْنُ نَرْ ُز ُق ُك ْم وَإِيّاهُمْ[} ...النعام]151 :
وقوله الحقَ {:ولَ َتقْتُلُواْ َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْ َ
وكل آية تناسب موقعها ،ومعناها مُتّسق في داخلها ،وتَ ّم تفصيلها بما يناسب ما جاءت له ،فقوله{:
وَلَ َتقْتُلُواْ َأوْلَ َد ُكمْ مّنْ إمْلَقٍ[} ...النعام]151 :
يعني أن الفقر موجود ،والنسان مُنْشغل برزقه عن رزق ابنه.
أما قوله {:خَشْيَةَ ِإمْلقٍ[} ...السراء]31 :
خوْف أن يأتي إلى النسان؛ وهو خوف من أمر لم يَطْرأ بعد.
أي :أن الفقر غير موجود ،وهناك َ
وهكذا نجد في القرآن تفصيلً لكل شيء تحتاجونه في أمر دنياكم وآخرتكم ،وهو تفصيل لكل
شيْءٍ[} ...النمل]23 :
شيء ليس عندك؛ وقد قال الهدهد عن ملكة سبأ بلقيس {:وَأُوتِ َيتْ مِن ُكلّ َ
وليس معنى هذا أنها أوتيت من كل شيء في هذه الدنيا ،بل هي قد أُوتيَت من كل شيء تملكه ،أو
يُمكِن أن تملكه في الدنيا.
شيْءٍ[ { ...يوسف]111 :
وقول الحق سبحانه } :وَ َتفْصِيلَ ُكلّ َ
ل يعني أن نسأل مثلً " :كم رغيفا في كيلة القمح؟ ".
وقد حدث أن سأل واحد المام محمد عبده هذا السؤال؛ فجاء بخباز ،وسأله هذا السؤال؛ فأجاب
الخباز؛ فقال السائل :ولكنك لم تَ ْأتِ بالجابة من القرآن؟ فقال المام محمد عبده :لماذا ل تذكر
قوله الحق... {:فَاسْأَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ }[النحل]43 :
وهكذا نعلم أنه سبحانه لم يُفرّط في الكتاب من شيء.
حمَةً ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ
شيْ ٍء وَ ُهدًى وَرَ ْ
ويُذيّل الحق سبحانه الية الكريمة بقوله...} :وَتَ ْفصِيلَ ُكلّ َ
{ [يوسف]111 :
ونعلم أن الهُدى هو الطريق المُؤدي إلى الخير ،وهذا الطريق المؤدي إلى الخير ينقسم إلى
قسمين:
القسم الول :الوقاية من الشر لمن لم يقع فيه.
والقسم الثاني :علج لمَنْ وقع في المعصية.
وإليك المثالَ :هبْ أن أُناسا يعلمون الشر؛ فنردهم عنه ونشفيهم منه؛ لنه مرض ،وهو رحمة
ل يقعوا في المرض بداية.
بمعنى أ ّ
إذن :فهناك ملحظتان يشيران إلى القسمين:
الملحظة الولى :أن المنهج القرآني قد نزل وقايةً لمن لم يقع في المعصية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والملحظة الثانية :أن المنهج يتضمن العلج ِلمَنْ وقع في المعصية.
حمَةً
ويُحدّد الحق سبحانه مَنْ يستفيدون من المنهج القرآني وقاية وعلجا ،فيقول...} :وَهُدًى وَرَ ْ
ّلقَوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [يوسف]111 :
أي :هؤلء الذين يؤمنون بإله واحد خلقهم وخلق الكون ،ووضع للبشر قوانين صيانة حياتهم ،ومن
المنطقيّ أن يسمع المؤمن كلمه ويُنفذه؛ لنه وضع المنهج الذي يمكنك أن تعود إليه في كل ما
يصون حياتك ،فإنْ كنت مؤمنا بال؛ فُخُذ الهدى ،وخُذ الرحمة.
ونسأل ال أن نُعطَي هذا كله.
()1694 /
وقد سبق لنا أن تكلمنا طويلً في خواطرنا عن الحروف التي تبدأ بها بعض من سور القرآن
الكريم :مثل قوله الحق {:الم }[ البقرة]1 :
وقوله { :المر[ } ...الرعد]1 :
ومثل قوله {:المص }[العراف]1 :
وغير ذلك من الحروف التوقيفية التي جاءتْ في أول بعض من فَواتِح السّور.
ولكن الذي أُحب أن أؤكد عليه هنا هو أن آيات القرآن كلها مَبْنية على ال َوصْل؛ ل على ال َوقْف؛
شكُولة؛ لنها َم ْوصُولة بما بعدها.
ولذلك تجدها مَ ْ
وكان من المفروض ـ لو ط ّبقْنَا هذه القاعدة ـ أن نقرأ " المر " فننطقها " :ألفٌ " " لمٌ " " ميمٌ " "
راءٌ " ،ولكن شاء الحق سبحانه هنا أن تأتي هذه الحروف في أول سورة الرعد مَبْنية على
الوقف ،فنقول " :ألفْ " " لمْ " " ميمْ " " راءْ ".
وهكذا قرأها جبريل عليه السلم على محمد بن عبد ال صلى ال عليه وسلم؛ وهكذا نقرأها نحن.
ويتابع سبحانه { :تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ[ } ...الرعد]1 :
أي :أن السورة القادمة إليك هي من آيات الكتاب الكريم ـ القرآن ـ وهي إضافة إلى ما سبق
وأُنْزِل إليك ،فالكتاب كله يشمل من أول{ بسم ال الرّحْمانِ الرّحِيـمِ }[الفاتحة]1 :
في أول القرآن ،إلى نهاية سورة الناس.
ونعلم أن الضافة تأتي على ثلث َمعَانٍ؛ فمرّة تأتي الضافة بمعنى " من " مثل قولنا " أردب قمح
" والمقصود :أردب من القمح.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومرة تأتي الضافة بمعنى " في " مثل قولنا " :مذاكرة المنزل " والمقصود :مذاكرة في المنزل.
شكْليْنِ.
ومرة ثالثة تأتي الضافة بمعنى " اللم " وهي تتخذ َ
إمّا أن تكون تعبيرا عن ملكية ،كقولنا " مالُ زيدٍ لزيد ".
والشكل الثاني أن تكون اللم للختصاص كقولنا " لجام الفرس " أي :أن اللجام يخص الفرس؛
فليس معقولً أن يملك الفرس لِجَاما.
إذن :فقول الحق سبحانه هنا { :تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ[ } ...الرعد]1 :
يعني تلك آياتٌ من القرآن؛ لن كلمة " الكتاب " إذا أُطلِقتْ؛ فهي تنصرف إلى القرآن الكريم.
والمثل هو القول " فلنٌ الرجل " أي :أنه رجل حقا؛ وكأن سُلوكه هو ِمعْيار الرجولة ،وكأن
خصَال الرجولة في غيره ليست ُمكْتملة كاكتمالها فيه ،أو كقولك " فلن الشاعر " أي :أنه شاعر
ِ
مُتميّز للغاية.
وهكذا نعلم أن كلمة " الكتاب " إذا أُطْلِقتْ ينصرف في العقائد إلى القرآن الكريم ،وكلمة الكتاب إذا
أُطِلقت في النحو انصرفتْ إلى كتاب سيبويه الذي يضم قواعد النحو.
ويتابع سبحانه في وصف القرآن الكريم...{ :وَالّذِي أُن ِزلَ إِلَ ْيكَ مِن رّ ّبكَ ا ْلحَقّ وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ
لَ ُي ْؤمِنُونَ } [ الرعد]1 :
ونعلم أن مراد الذي يخالف الحق هو أن يكسب شيئا من وراء تلك المخالفة.
()1695 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شمْسَ وَالْ َقمَرَ ُكلّ
سخّرَ ال ّ
ش وَ َ
ع َمدٍ تَ َروْ َنهَا ُثمّ اسْ َتوَى عَلَى ا ْلعَرْ ِ
سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ
اللّهُ الّذِي َرفَعَ ال ّ
صلُ الْآَيَاتِ َلعَّلكُمْ بِِلقَاءِ رَ ّبكُمْ تُوقِنُونَ ()2
سمّى ُيدَبّرُ الَْأمْرَ ُي َف ّ
جلٍ مُ َ
يَجْرِي لَِأ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعرفنا من قَبْل أن أسماء ال؛ إما أن تكون أسماءَ ذات؛ وإما أن تكون أسماءَ صفات؛ فإنْ كان
السم ل مقابل له فهو اسمُ ذاتٍ؛ مثل " :العزيز ".
أما إنْ كان السم صفةَ الصفة والفعل ،مثل " ال ُمعِز " فلبُدّ أن له مقابلً ،وهو هنا " المُ ِذلّ ".
ولو كان يقدر أنْ ُيعِزّ فقط؛ ول يقدر أن ُي ِذلّ لما صار إلها ،ولو كان يضر فقط ،ول ينفع أحدا َلمَا
استطاع أن يكون إلها ،ولو كان يقدر أنْ يَبسُطَ ،ول يقدر أن يقبض لما استطاع أنْ يكون إلها.
وكل هذه صفات لها ُمقَابِلها؛ ويظهر فعْلُها في الغير؛ فسبحانه ـ على سبيل المثال ـ عزي ٌز في
ذاته؛ ومُعِ ّز لغيره ،ومُ ِذلّ لغيره.
وكلمة " ال " هي السم الجامع لكل صفات الكمال ،وهناك أسماء أخرى علّمها ال لبعض من
خلقه ،وهناك أسماء ثالثة سنعرفها إنْ شاء ال حين نلقاهُ {:وجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * ِإلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ
}[القيامة]23-22 :
ونلحظُ أن الحق سبحانه بدأ هذه الية بالحديث عن العالم العُلْوي أولً؛ ولم يتحدث عن الرض؛
سمَاوَاتِ[ { ...الرعد]2 :
فقال } :اللّهُ الّذِي َرفَعَ ال ّ
وكلمة " رفع " إذا استعملتَها استعمالً بشريا؛ تدلّ أن شيئا كان في َوضْع ثم رفعتَه عن موضعه
إلى أعلى؛ مثل قول الحق سبحانه {:وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْشِ[} ...يوسف]100 :
فقد كان أَبَوا يوسف في موضع أقلّ؛ ثم رفعهما يوسف إلى موضع أعلى مما كَانَا فيه ،فهل كانت
السماء موضوعة في موضع أقلّ؛ ثم رفعها ال؟ ل ،بل خلقها ال مرفوعة.
ورَحِم ال شيخنا عبد الجليل عيسى الذي قال " :لو قلت :سبحان ال الذي كبّر الفيل؛ فهل كان
الفيل صغيرا ثم كبّره ال؛ أم خلقه كبيرا؟ لقد خلقه ال كبيرا .وإنْ قلت :سبحان ال الذي صغّر
صغّرها ال؟ ل بل خلقها ال صغيرة ".
البعوضة؛ فهل كانت كبيرة ثم َ
ع َمدٍ[ { ...الرعد]2 :
سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ
وحين يقول سبحانه } :اللّهُ الّذِي َرفَعَ ال ّ
فهذا يعني أنه خلقها مرفوعة ،وفي العُرْف البشري نعرف أن مُقْتضى َرفْع أيّ شيء أَنْ تُوجَد من
تحته أعمدة ترفعه.
ولكن خلقَ ال يختلف؛ فنحن نرى السماء مرفوعة على امتداد الفق؛ ويظهر لنا أن السماء تنطبق
على الرض؛ ولكنها ل تنطبق بالفعل.
ولم نجد إنسانا يسير في أيّ اتجاه ويصطدم بأعمدة أو بعمود واحد يُظَنّ أنه من أعمدة َرفْع
السماء؛ وهي مَرْئية هكذا؛ فهل هناك أعمدة غير مَرْئية؛ أم ل توجد أعمدة أصلً؟.
وقد يكون وراء هذا ال ّرفْع أمر آخر؛ فقد قلنا :إن الشيء إذا رُفع؛ فذلك بسبب وجود ما يُمسكه أو
سمَآءَ أَن َتقَعَ عَلَى الَ ْرضِ ِإلّ بِإِذْنِهِ
سكُ ال ّ
ما يَحْمله؛ وسبحانه يقول في أمر رفع السماء... {:وَ ُيمْ ِ
إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَ َرءُوفٌ رّحِيمٌ }[الحج]65 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمَد ،وقوله الحق( :يمسك) يعني أنه سبحانه قد
فإذا كانت َممْسُوكة من أعلى؛ فهي ل تحتاج إلى َ
وضع لها قوانينها الخاصة التي لم نعرفها َبعْدُ.
وقد قام العلماء المعاصرون بمَسْح الرض والفضاء بواسطة القمار الصناعية وغيرها ،ولم
عمَدا ترفع السماوات أو ُتمْسِكها.
يجدوا َ
عمَدٍ؛ لكنهم حتى الن؛ مازالوا يعتمدون
س ُقفَ بغير َ
والمهندسون يتبا َروْنَ في عصرنا لِيرفعوا ال ْ
على الحوائط الحاملة.
وهكذا نعلم أنه سبحانه إمّا أنه حمل السماء على أعمدة أدقّ وألطفَ من أن تراها أعيننا؛ ولذلك
نراها بغير أعمدة ،أو أنها مرفوعة بل أعمدة على الطلق.
عمَاد " وقد جاءتْ هذه الية بمثابة
عمَد " اسم جمع ـ ل جمع ـ ومفردها " عمود " أو " ِ
و" َ
ت وَالَ ْرضِ
سمَاوَا ِ
التفسير ِلمَا أُجمِل في قول الحق سبحانه في سورة يوسفَ {:وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي ال ّ
َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف]105 :
ع َمدٍ تَ َروْ َنهَا[ { ...الرعد]2 :
سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ
وجاء سبحانه هنا بالتفصيل؛ فأوضح لنا أنهَ } :رفَعَ ال ّ
حكْم قانون إبصاركم .ول تعجب من أنْ يوجد مخلوق ل تراه؛ لن العينَ
أي :ل ترونها أنتم بِ ُ
وسيلة من وسائل الدراك ،ولها قانون خاص؛ فهي ترى أشياء ول ترى أشياء أخرى.
صغُر تدريجيا إلى أن
هذا بدليل أنك إذا نظرتَ إلى إنسان طوله مِتْران يتحرك مُبْتعدا عنك؛ تجد َي ْ
يتلشى من مجال رؤيتك؛ لكنه ل يتلشى بالفعل.
وهذا معناه أن قانون إبصارك مَحْكوم بقانون؛ له مدىً مُحدّد.
وهناك قوانين أخرى مثل :قانون السمع؛ وقانون الجاذبية؛ وقانون الكهرباء؛ وكلها ظواهر نستفيد
بآثارها ،ولكِنّا ل نراها ،فل تعجب من أن يوجد شيء ل تدركه؛ لن ُقوَى إدراكك لها قوانين
خاصة.
ويشاء الحق سبحانه أن يُدلّل على صدق ذلك بأن يجعل ما يكتشفه العلماء في الكون من أشياء
وقُوىً لم تكُنْ معروفة من قبل؛ ولكننا كنا نستفيد منها دون أن ندري؛ مما يدلّ على أن إدراك
النسان غَيْرَ قادر على إدراك كل شيء.
عمَد نراها؛ قد يعني وجود أعمدة مصنوعة
وذلك يوضح لنا أن رؤيتنا للسماء مرفوعة بغير َ
عمَدٍ على الطلق.
بطريقة غير معروفة لنا؛ أو هي مرفوعة بغير َ
عمَدٍ تَ َروْ َنهَا[ { ...الرعد]2 :
وقول الحق سبحانهِ } :بغَيْرِ َ
هو كلم خبري ،والمثل من حياتنا حين تقول لبنك " :أنا خارج إلى العمل؛ وذاكر أنت دروسك "
،وبذلك تكون قد أوضحت له " :ذاكر دروسك " وهذا كلم خبريّ؛ لكن المراد به إنشائيّ.
وإبراز الكلم النشائي في مَقَام الكلم الخبري له مَلْحظ ،مثلما تقول " :فلن مات رحمه ال "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقولك " رحمه ال " كلم خبريّ؛ فأنت تخبر أن ال قد رحمه.
على الرغم من أنك ل تدري :هل رحمه ال أم ل؛ ولكنك قلت ذلك تفاؤلً أن تكون الرحمةُ واقعة
به ،وكان من الممكن أن تقول " :مات فلن يا ربي ارحمه " ،وأنت بذلك تطلب له الرحمة.
عمَدٍ تَ َروْ َنهَا.
كذلك قول الحق سبحانهِ } :بغَيْرِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد نَثَر الحقّ سبحانه أدلة وجوده ،وأدلة قدرته ،وأدلة حكمته وأدلة صَنْعته في الكون؛ ثم أعطاك
سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ} ...
أيها النسان الدلة في نفسك أيضا؛ وهو القائل سبحانهَ {:وفِي أَنفُ ِ
[الذاريات]21 :
وانظر إلى نفسك تجد العلماء وهم يكتشفون في كل يوم شيئا جديدا وسِرّا عجيبا ،سواء في
التشريح أو علم وظائف العضاء.
وسوف تعجب من أمر نفسك ،وأنت ترى تلك الكتشافات التي كانت العقول السابقة تعجز عن
إدراكها ،وقد يُدرَك بعضها الن ،ويُدرَك بعضها لحقا.
وإدراكُ البعض للمجهول في الماضي يُؤذِن بأنك سوف تدرك في المستقبل أشياء جديدة.
سهِمْ حَتّىا
وإن نظرت خارج نفسك ستجد قول الحق سبحانه {:سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَاقِ َوفِي أَنفُ ِ
يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ ا ْلحَقّ[} ...فصلت ]53 :ومعنى{ سَنُرِي ِهمْ[} ...فصلت ]53 :أن الرؤية ل تنتهي؛ لن
" السين " تعني الستقبال ،ومَنْ نزل فيهم القرآن قرءوها هكذا ،ونحن نقرؤها هكذا ،وستظل هناك
آيات جديدة وعطاء جديد من ال سبحانه إلى أن تقوم الساعة.
س لَ
س وَلَـاكِنّ َأكْـثَرَ النّا ِ
خلْقِ النّا ِ
ت وَالَرْضِ َأكْـبَرُ مِنْ َ
سمَاوَا ِ
وسبحانه القائل {:لَخَ ْلقُ ال ّ
َيعَْلمُونَ }[غافر]57 :
وأنت حين تفكر في خَلْق السماوات والرض ستجده مسألة غايةً في الضخامة؛ ويكفيك أن تتحيّر
في مسألة خَلْقك وتكوينك؛ وأنت مجرد فرد محدود بحيّز ،ولك عمر محدود ببداية ونهاية ،فما
جدَت من قَبْلك ،وستستمر من بعدك إلى أن تنشقّ بأمر ال،
بَِالُك بخَلْق السماوات والرض التي وُ ِ
وتتكسر لحظتها النجوم.
ولبُدّ أن خَلْق السماوات والرض أكبر من خلق الناس ،فالسماوات والرض تشمل الكون كله.
وحين تُحدّث عنها إياك أن تخلط فيها بوهمك؛ أو بتخمينك؛ لن هذه مسألة ل تُدرك في المعامل،
ول تستطيع أن تُجرِي تحليلت لمعرفة كيفية خَلْق السماوات والرض.
ن تكتفي بمعرفة ما يطلبه منك مَنْ خلقها؛ وماذا قال عنها ،وتذكر قول الحق
ولذلك عليك أ ْ
سبحانهَ {:ولَ َتقْفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِ ْلمٌ [} ...السراء]36 :
وقد حجز الحق سبحانه عن العقول المتطفلة أمرين؛ فل داعي أن تُرهِق نفسك فيهما:
المر الول :هو كيفية خَلْق النسان؛ وهل كان قردا في البداية ثم تطوّر؟ تلك مسألة ل تخصّك،
فل تتدخل فيها بافتراضات تؤدي بك إلى الضلل.
والمر الثاني :هو مسألة خَلْق السماوات والرض فتقول :إن الرض كانت جزءا من الشمس،
ومثل هذا الكلم ل يستند إلى وقائع.
س ِهمْ[} ...الكهف:
ض وَلَ خَلْقَ أَ ْنفُ ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
شهَدّتهُمْ خَلْقَ ال ّ
وتذكر قول الحق سبحانه {:مّآ َأ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
]51
ولو كان الحق سبحانه قد أراد أن تعلم شيئا عن تفاصيل هذين المرين لشهد خلقهما لبعض من
حلّ أنت هذا الّلغْز
البشر ،لكنه سبحانه نفى هذا الشهاد؛ لذلك ستظل هذه المسألة ُلغْزا للبد؛ ولن َت ُ
أبدا؛ بل يحلّه لك البلغ عن الحقّ الذي خلق.
وقد أوضح لك أنه قد خلقك من طين ،ونفخَ فيك من روحه ،فاسمع منه كيفية خَلْقك وخَلْق الكون
كله.
ويدل العجاز البياني في القرآن على أن بعضا ِممّنْ يملكون الطموح العقلي أرادوا أن يأخذوا من
القرآن أدلة على صِحّة تلك النظريات التي افترضها بعض من العلماء عن خَلْق النسان وخَلْق
الرض ،فيبلغنا الحق سبحانه مقدّما ألّ نصدقهم.
خذَ ا ْل ُمضِلّينَ
سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّ ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ
شهَدّتهُمْ خَلْقَ ال ّ
ويقول لنا {:مّآ أَ ْ
عضُدا }[الكهف]51 :
َ
وال ُمضِلّ هو مَنْ ُيضِلّك في المعلومات ،هكذا أثبت لنا الحق سبحانه أن هناك مُضلّين سيأتون
ليقولوا كلما افتراضيا ل أساسَ له من الصّحة.
صصْ عليه ،ليعرف كيفية خَلْق الشمس أو الرض ،ومَنْ يدعي
وأوضح لنا سبحانه أن أحدا لم يتل ّ
معرفة ذلك فهو من المُضلّين؛ لنهم َقفَوْا ما ليس لهم به علم.
ومادام الحق سبحانه قد قال ذلك ،فنحن نُصدّق ما قال.
وقد أثبتت التحليلت صِدْق ما قاله سبحانه عن خَلْق النسان ،فسبحانه قد خلق الكون أولً ،ثم
خلق السيد لهذا الكون وهو النسان ،وكل الكون مُسخّر للنسان ويخدم هذا الخليفة في الرض،
وكل ما في الكون يسير بنظام وانتظام.
والمُتمرد الوحيد في الكون هو النسان ،فيأتي الحقّ سبحانه إلى هذا المتمرّد؛ ليجعل الية فيه؛
وليثبت صِدْق الغيب في الرض.
سوّاه ال ،ونفخ فيه من
وأوضح سبحانه أنه خلق آدم من الطين؛ والنسان من نسل آدم الذي َ
حفَظة؛ أنْ تسجدَ للنسان.
روحه ،وبعد ذلك أمر الملئكة؛ من المُدبّرات أمرا ومن ال َ
وهذا السجود هو إعلن الطاعة لمر ال بخدمة النسان .هذا الذي بدأت حكاية خَلْقه من تراب،
حمَأً مَسْنونا؛ ثم يجفّ الحَمأ ليصير
ثم خُلط التراب بالماء؛ ليصير طينا؛ ثم تُ ِركَ قليلً ليصير َ
صَلْصالً كالفخّار؛ ثم ينفخ فيه الحق بالروح.
فإذا ما انتهى الجل؛ فأول ما يُنقض هو خروج الروح؛ ثم يتصلّب الجثمان ،وبعد أن يُوارَى
التراب يصير الجثمان ِرمّة؛ ثم يتسرّب الماء الموجود في الجثة إلى الرض ،وتبقى العظام إلى
أن تتحول هي الخرى إلى تراب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا يتحقق َن ْقضُ كل بناء؛ فما يُبني في نهاية أيّ بناء هو ما يُنقض أولً ،وهكذا يتأكد لنا صدق
الحق سبحانه حين نرى صدق المقابل فيما أخبرنا به سبحانه عن كيفية الخلق.
وعندما يُخبِرنا الحق سبحانه أن كيفية خَلْق السماوات والرض ليست في مُتَناولنا؛ فقد أعطانا من
قبل الدليل على صِدْق ما جاء به ،فيما أخبرنا به عن أنفسنا.
عمَدٍ...
سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ
وفي الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه } :اللّهُ الّذِي َرفَعَ ال ّ
{ [الرعد]2 :
سمَاوَاتٍ فِي
وكلمة " السماوات " في اللغة جمع ،وفي آية أخرى ،يقول سبحانهَ {:ف َقضَاهُنّ سَبْعَ َ
سمَآءٍ َأمْرَهَا[} ...فصلت]12 :
َي ْومَيْنِ وََأوْحَىا فِي ُكلّ َ
وقديما كانوا يقولون :إن المقصود بالسبع سماوات هو الكواكب السبعة :الشمس ،والقمر،
وعطارد ،والزهرة ،والمريخ ،والمشترى.
وشاء سبحانه أن يُكذّب هذا القول وأصحابُه أحياء؛ فرأى علماء الفلك كواكبَ أخرى مثل :نبتون
وبلوتو؛ وكان في ذلك َلفْتة سماوية ِلمَنْ قالوا :إن المقصود بالسماوات السبع هو الكواكب السبعة.
حسْن نية وبرغبة في رَبْط القرآن بالعلم؛ لكنهم نَسُوا أن يُدقّقوا الفهم ِلمَا في
وقد قالوا هذا القول ب ُ
كتاب ال ،فسبحانه قد أوضح أن الشمس والقمر والكواكب زينة السماء الدنيا ،فما بالُنَا بطبيعة
وزينة بقية السماوات؟
ويتابع سبحانه } :ثُمّ اسْ َتوَىا عَلَى ا ْلعَرْشِ[ { ...الرعد]2 :
وهذه قضية هي أهمّ قضية كلمية ناقشها علماء الكلم؛ قضية الستواء والعرش ،وحتى نفهم أيّ
ق على معانيها ،ثم نبحثها جملة واحدة ،لكن أن نجلس لنتجادل
قضية لبُدّ أن نُحلّل ألفاظها لنتف َ
ونحن غير مُتوارِدين ومتفقين على َفهْم واحد؛ فهذا أمرٌ ل يليق.
ولننظر الن معنى " الستواء " ومعنى " العرش " ،ونحن حين نستقرئ كلمة " استوى " في
القرآن نجدها قد وردتْ في آيات متعددة.
ش ّدهُ وَاسْ َتوَىا
وجاءت مرّة واحدة بمعنى الستواء أي :النضج ،في قول الحق سبحانه {:وََلمّا بََلغَ أَ ُ
حكْما وَعِلْما[} ...القصص]14 :
آتَيْنَاهُ ُ
أي :أنه قد بلغ ُنضْجه الكماليّ ،ويستطيع أن يكون رجلً صالحا لممارسة ما يُبقِي نوعه ،وإنْ
تزوج فسلوف يُنجِب مثله؛ وهذا استواء لمخلوق هو النسان.
لفُقِ الَعْلَىا }[النجم]7-6 :
ومرة أخرى يقول القرآن {:ذُو مِ ّرةٍ فَاسْ َتوَىا * وَ ُهوَ بِا ُ
والمعنى هنا هو :صعد؛ والمقصود هو صعود محمد وجبريل عليهما السلم إلى الفق العلى.
سمَاوَاتٍ[} ...البقرة]29 :
سوّاهُنّ سَبْعَ َ
سمَآءِ فَ َ
وهناك قوله الحقُ {:ثمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ
أي :أنه سبحانه قد استوى إلى السماء؛ وإياك أن تظن أن استواءه سبحانه إلى السماء مساو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لستواء البشر؛ لننا قلنا من قبل :إن كل شيء بالنسبة ل إنما نأخذه في إطار {:لَيْسَ َكمِثْلِهِ
شيْءٌ[} ...الشورى]11 :
َ
وبذلك يكون استواؤه سبحانه إلى السماء هو استواء يليق بذاته ،والستواء المطلق شيء مختلف
عن الستواء على العرش.
وهكذا نجد استواءً لغير ال من إنسان؛ وهناك استواء لغير ال من إنسان ومن ملك؛ وهناك
استواء من ال إلى غير العرش .وبجانب ذلك هناك استواء على العرش.
وقد وردَ الستواء على العرش في سبعة مواقع بالقرآن؛ في :سورة العراف؛ وسورة يوسف؛
والرعد ،وطه ،والفرقان ،والسجدة ،والحديد.
وورد ذكر العرش في القرآن بالنسبة ل واحدا وعشرين مرّة ،وورد بالنسبة لبلقيس أربع مرات؛
عظِيمٌ }[النمل]23 :
فهو القائل سبحانه... {:وََلهَا عَرْشٌ َ
شهَا[} ...النمل]38 :
وقال {:أَ ّيكُمْ يَأْتِينِي ِبعَرْ ِ
شهَا[} ...النمل]41 :
ثم قالَ {:نكّرُواْ َلهَا عَ ْر َ
شكِ[} ...النمل]41 :
وقال {:أَ َهكَذَا عَ ْر ُ
وبالنسبة ليوسف قال سبحانه {:وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْشِ[} ...يوسف]100 :
وإيّاك أن تأخذ الستواء بالنسبة ل على أن معناه " الّنضْج "؛ لن الّنضْجَ إشعا ٌر بكمالٍ سَبقه
َنقْصٌ.
ولذلك نجد العلماء المُدقّقين قد عَِلمُوا أن ِذكْر استواء ال على العرش قد ورد في سبعة مواضع
بالقرآن الكريم وقالوا:وَ ِذكْرُ اسْتواءِ الِ فِي كَِلمَاتِه عَلى العَرْشِ في سَبْعِ َموَاضِع فَاعْ ُد ِد َففِي سُو َرةِ
العْرَافِ ُثمّةَ يُونُسَ َوفِي الرّعْدِ مع طَه فَلِ ْلعَدّ َأكّ ِد َوفِي سُو َر ِة الفُْرقَانِ ُثمّة سَجْدة كَذَا في الحدِيدِ
طعّا ِنوَهي اسْتقرّ
حصَّلتْ لِلْفارسِ ال ّ
افْهمْهُ َفهْم مُؤيّدِوقالوا في المعنى:فََلهُمْ مَقالتٌ عَل ْيهَا أَرْبعة قَدْ ُ
حمَى
صعَد الذِي ُهوَ رَابِعٌ بِتمَامِ أمْرٍ مِنْ ِ
ل وَكذِلكَ ار َتفَع مَا فِيهِ مِنْ ُنكْرا ِن َوكَذاكَ َق ْد َ
وقَدْ عَ َ
الرّحمَانِوالصعود إلى العرش هو حركة انتقال من وضع إلى وضع لم َيكُنْ فيه.
وهكذا نجد أن المعاني التي تتمشّى مع الستواء في عُرْفنا البشري ل تتناسب مع كمال ال.
واختلف العلماء :قال واحد منهم " :سآخذ اللفظ كما قاله ال ".
شيْءٌ[} ...الشورى]11 :
ونردّ على هذا بسؤال :وهل يمكنك أن ُتغَ ّيبَ {:لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
طبعا ،ل أحدَ يستطيع ذلك ،وعليك أن تأخذ كل َف ْهمٍ لشيء يخصّ الذات العَلية في إطار:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من المور.
وهناك آيات متعددة تبدأ بقول الحق سبحانه {:يَسَْألُو َنكَ[} ...البقرة]189 :
وكان السؤال واردا بالنسبة لهم؛ لكنهم بملكتهم العربية الفطرية قد َفهِموا الستواء كشيء يناسب
ال ،فلم يسألوا عنه.
وجاء السؤال من المتأخرين الذين تمحّكوا ،فقال واحد :سآخذ اللفاظ بمعناها؛ فإن قال :إن له
صعودا؛ فهو يصعد ،وإنْ قال :إن له استواء فهو يستوي.
وِلمَنْ قال ذلك نردّ عليه :إن ما تقوله صالحٌ للغيار ،ول يليق أن تقول ذلك عن الذي يُغيّر ول
يتغيّر .وإذا سألتَ عن معنى كلمة " استواء " فهو " استتب له المر " .وهل كان المر غير
مستتب له سبحانه؟
ونقول :نحن نعلم أن ل سبحانه وتعالى صفات متعددة ،وهذه الصفات كانت موجودة قبل أن يخلق
خلْق والكون؛ فسبحانه موصوفٌ أنه خالق قبل أنْ يخلق الخَلْق ،و ُمعِزّ قبل أن يخلق مَنْ
ال ال َ
ت الكمال المُطْلق.
يُعزّه ،ومُ ِذلّ قبل أنْ يخلق مَنْ يُذِلّه ،وله سبحانه صفا ُ
وبهذه الصفات خلق الخلق ،يقول الحق... {:رَبّنَا الّذِي أَعْطَىا ُكلّ شَيءٍ خَ ْلقَهُ ثُمّ هَدَىا }[طه]50 :
وكذا نؤمن بأن صفة الخَلْق كانت في ذاته قبل أن يخلق خَلْقه ،وحين خلق سبحانه السماوات
والرض أبرز الصفة التي كانت موجودة فيه وليس لها مُتعلّق؛ فأوجد هو سبحانه المُتعلّق ،وهكذا
استتبّ له المر سبحانه.
إذن :إذا ُذكِر استواءُ ال ،فهذا يعني تمامَ المُرَاد له ،فصار للصفات التي كانت فيه ،وليس لها
مُتعلّق أو َمقْدُور؛ مُتعلّق ومَقْدور.
عظِيمٌ }[النمل:
ج َدتْ هذه الصفة في البشر مثل بلقيس التي وصفها سبحانه... {:وَلَهَا عَرْشٌ َ
وإذا وُ ِ
]23
فهي تختلف عن صِفَة ال؛ لنها لم تجلس على العرش إل بعد أن خلقها ال ،ول يستتب المر
لملك أو ملكة إل بمتاعب ومعارك ،وقد ينشغل هذا الشخص في معارك وحروب ،ثم يستتبّ له
المر.
وهكذا يختلف استواءُ ال عن استواءِ خَلْق ال ،وإذا ذُكر استواء ال على العرش؛ فنحن نُنزّه ال
شيْءٌ[} ...الشورى]11 :
عن كل استواء يناسب البشر ،ونقول {:لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
واستواؤه هو تمام المر له ،لن أمره صادر ،وعند تحقيق أمره في توقيته المراد له يكون تمام
المر ،وتمام المر استواؤه ،أما كلمة " العرش " فنحن نجدها في القرآن بالنسبة ل.
ح ِملُ عَرْشَ رَ ّبكَ[} ...الحاقة]17 :
إما ُمضَافا لسم ظاهر {:وَيَ ْ
علَى ا ْلمَآءِ[} ...هود]7 :
وإما ُمضَافا للضمير المخاطب أو الغائبَ {:وكَانَ عَرْشُهُ َ
صفُونَ }[النبياء]7 :
عمّا َي ِ
وإما مضافا للتنسيب... {:فَسُبْحَانَ اللّهِ َربّ ا ْلعَرْشِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س وَا ْلقَمَرَ.
شمْ َ
سخّرَ ال ّ
ويقول الحق سبحانه في نفس الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْلمِيزَانِ }[الرحمن]8 :
فلسوف تكون أعمالنا مُطابِقة لمنهج ال ،وسنجد في أعمالنا ما يَسرّنا مثل سرورنا حين نجد
الفلك منتظمة بدقة وحساب.
إذن :فالفساد ل يأتي إل من الختيار غير المُرْتجي لمنهج مَنْ خلق فينا الختيار ،وإن كنت تريد
أن تكون مختارا؛ فعليك أن تلتزم بمنهج مَنْ خيّرك.
ولذلك نجد الصالحين من خَلْق ال قد ساروا على منهج ربهم؛ والتزموا باختيار مراد ربهم فيما
لهم فيه اختيار؛ فصاروا وكأنهم مُسخّرون لمُرَادات ال.
وهؤلء يسمّونهم " العباد " ل " العبيد "؛ فكل مملوك ل من العبيد؛ آمن به أو كفر؛ أطاع أو
حمَـانِ الّذِينَ
عصى؛ أما العباد َفهُمْ مَنْ جعلوا مرادات ال هي اختيارهم ،يقول تعالى {:وَعِبَادُ الرّ ْ
َيمْشُونَ عَلَىا الَ ْرضِ َهوْنا وَِإذَا خَاطَ َبهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلَما }[الفرقان]63 :
هؤلء هم مَنِ اتجهوا بالختيار إلى ما يختاره لهم ال.
ونجد الحق سبحانه يقول في الملئكة {:عِبَادٌ ّمكْ َرمُونَ * لَ َيسْ ِبقُونَهُ بِا ْل َق ْولِ وَ ُهمْ بَِأمْ ِرهِ َي ْعمَلُونَ }
[النبياء]27-26 :
وإذا ما التزم العبد بمنهج ربه في حال الختيار؛ فهو ل يتساوى مع الملئكة فقط ،بل قد يسمو
عنهم؛ لنهم َمقْهورون بالتسخير؛ بينما تتمتع أنت بالختيار؛ وآث ْرتَ منهج ربك.
س وَا ْل َقمَرَ ُكلّ
شمْ َ
ويقول الحق سبحانه هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها {:وَسَخّرَ ال ّ
سمّى[} ...لقمان]29 :
جلٍ مّ َ
يَجْرِي إِلَىا َأ َ
ولحظةَ تجد التنوين مثل " كلّ " فهذه يعني كُلّ من السابق .أي :الشمس والقمر .أما الجَرْي إلى
جلٍ مُسمّى؛ فيقتضي مِنّا أن نفهم معنى الجَرْي؛ وهو تقليل الزمن عن المسافة.
أَ َ
صلَ في ساعة زمن ،وقد تجري لتقطع
فحين تريد الوصول إلى مكان مُعيّن فقد تمشي ال ُهوَيْنا؛ لِ َت ِ
نفس المسافة في نصف ساعة؛ والجَرْي بطبيعة الحال ملحوظ ِممّن يراك.
لكن :هل يرى أحدنا الشمس وهي تجري؟
ل ،لنها تجري في ذاتها؛ ويُسمّى هذا النوع من الجري " جري انسيابي " .أي :ل تدركه بالعين
المجردة ،وهناك ما يُسمّى " انتقال قفزي " ،وهناك ما يُسمّى " انتقال انسيابي ".
وانظر إلى عقارب الساعة؛ ستجد عقربَ الثّواني أسرعَ من عقرب الدقائق الذي يبدو ساكنا رغم
أنه يتحرك؛ وأنت ترى حركة عقرب الثواني؛ لنها تتم َقفْزا؛ بينما ل ترى حركة عقرب الدقائق؛
لنه يتحرك تِبَعا لدورة هادئة من التروس داخل الساعة؛ وكل جزئية في حركة التّرْس الخاص
بعقرب الدقائق تتأثر بحركة تُرْس عقرب الثّواني؛ والحركة القفزية لعقرب الثواني تتحول إلى
حركة انسيابية في عقرب الدقائق.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحركة كل من العقربين تتحول إلى حركة أكثر انسيابية في عقرب الساعات ،وهذا يعني أن كل
جزئية من الزمن فيها جزئية من الحركة.
وحتى في النمو بالنسبة للنسان أو الحيوان أو النبات ،تجد عملية النمو غير ظاهرة لك؛ لن
الكائن الذي ينمو إنما ينمو بقدر بسيط غير ملحوظ ،وهذا القدر البسيط شائع في اليوم كله.
وإن أردتَ أن تعرف هذه المسألة أكثر ،انظر إلى الظل ،وأنت ترى الظل واضحا ساعةَ سطوع
الشمس ،ثم ينحسر الظل بانحسار الشمس.
جعَلَهُ سَاكِنا }[الفرقان]45 :
ل وََلوْ شَآءَ َل َ
ظّواقرأ قول الحق سبحانه {:أََلمْ تَرَ إِلَىا رَ ّبكَ كَ ْيفَ مَدّ ال ّ
أي :أن الظل متحرك وغير ثابت ،وكل جزئية من الزمن تؤثر في حركة الشمس ،فيتأثر بها
الظل.
وهكذا يجب أن نُفرّق بين الحركة القفزية والحركة النسيابية ،وحين تقدمنا في العلم نجدهم
يقولون :سنزيد من الحركة النسيابية عن الحركات القفزية ".
سمّـى[ { ...الرعد]2 :
جلٍ مّ َ
س وَا ْل َقمَرَ ُكلّ َيجْرِي لَ َ
شمْ َ
وهنا يقول الحق سبحانه } :وَسَخّرَ ال ّ
والجل هو المدة المحدودة للشيء؛ وهي محدودة زمنا إنْ أردنا ظرف الزمان؛ أو محدودة
بالمسافة إن أردنا المكان.
والمقصود هنا بالجل؛ إما الجل النهائي لوجود الشمس والقمر؛ ثم إذا انشقتْ السماء ُكوّرتْ
الشمس ،وانكدرت النجوم.
أو :أن المقصود هنا بالجل هو للتعبير عن عملها اليومي.
وقد عرفنا أن هناك مطالع متعددة للشمس ،وعلى الرغم من أن المشرق له جهة عامة واحدة؛ لكن
المطالع مختلفة ،بدليل أن قدماء المصريين أقاموا في بعض المعابد طاقاتٍ وفتحاتٍ في البناء.
فتطلع الشمس ُكلّ يوم من أحد هذه الطاقات؛ فكل يوم توجد لها منزلة مختلفة عن اليوم السابق،
وتظل تقطعها ،ثم تعود مرة أخرى ،وتفعل ذلك إلى أجل مُسمّى أي يوميا.
حمَل؛ والجَدي؛ والثور؛ والسد؛ والسنبلة؛ والقوس؛
ونُسمّي نحن تلك المنازل " البروج " كبرج ال َ
والحوت؛ ونحن نرصد هذه البراج كوسيلة لمعرفة أحوال الطقس من حرارة ،وبرودة ،ومطر،
وغير ذلك ،ذلك أن ُكلّ برج له زمن ،ويمكن تعريف أحوال الجو خلل هذا الزمن بدقة.
ولكن بعضا من تصرفات النسان تفسد عملية التحديد الدقيق في الكون ،مثلما يشعل البعض
الحرائق في الغابات؛ فتحرق النار الكسوجين الذي يحتاجه البشر والحيوانات للتنفس ،ويحاول
الغلف الجوي أن يتوازن ،فيشُدّ كميات من الهواء من منطقة أخرى ،فيختلّ ميزان الطقس ليام.
وكذلك يفسد الجو من التجارب الذرية التي تُجريها الدول أعضاء النادي الذري؛ تلك التجارب
التي تقوم بتفريغ الهواء ،فتجعل الطقس غَيْرَ مُسْتقر وغير منضبط؛ وهذا ما يفسد استخدامنا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للبراج كوسيلة لمعرفة تقلّبات الطقس.
جوْزةَ السّرطَانِ ورعى الليث سنبل
وقد أوجز الشاعر تلك البراج في قوله:حَملَ الثورُ َ
جدْي دَلْو وحُوت مَا عَرفْنَا مِنْ أُمةِ السّرْيَانِويتابع الحق سبحانه في نفس الية
الميزان َعقْرب ال َقوْس َ
صلُ اليَاتِ َلعَّلكُمْ بِِلقَآءِ رَ ّب ُكمْ تُوقِنُونَ { [الرعد:
لمْرَ ُي َف ّ
التي نحن بصدد خواطرنا عنها...} :يُدَبّرُ ا َ
]2
عمَدٍ ،واستوائه على العرش،
وسبحانه قد أوضح من أول الية مسألة َرفْع السماوات بغير َ
وتسخير الشمس والقمر ،وكيف يجري ُكلّ شيء لجل مُسمّى.
وكُلّ ذلك يتطلب تدبيرا للمر بعد أن أبرز القدرة؛ ثم يصون ذلك كله ،فكما َقدّر فخلق ،فهو يُدبّر
بقيوميته ،فهو القائم على كل شيء ،وسبحانه كل يوم هو في شَأْن.
وأقول هذا المثل لوضح ـ ل لُشبّه فسبحانه مُنَزّه عن التشبيه ـ ونحن نقول :فلن فكّر أولً ثم
دبّر ،والتفكير هو العملية التي تبحث فيها عن الشيء لخراج المطلوب منه؛ كأن تأتي بقليل من
حبوب القمح لتفركه بيدك لتخرج القمحة من قشرته.
هذا هو التفكير الذي يطلب منك أن تبحث وتُنقّب إلى أن تصل إلى ُلبّ الشياء.
والتدبّر يقتضي ألّ تقتنع بما هداك إليه فكرك في نفس اللحظة ،ولكن أن تُمحّص المر لترى ماذا
سينتج عن تنفيذ ما وصل إليه فكرك؟
طبٍ بعد قليل.
فربما ما فكرتَ فيه يُسعِفك ويُعينك في لحظ ِتكَ الحالية؛ لكنه سيأتي لك ب َع َ
والمَ َثلُ الذي أضربه على مثل هذه الحالة دائما هو اختراع المُبيدات الحشرية؛ ولم َيفْطِنوا إلى أن
هذه المبيدات ل تقتل الحشرات الضارة وحدها ،بل تُسمّم الطيور التي كانت تفيد الفلح.
ووصل المر إلى حَدّ تحريم استخدام هذه المبيدات؛ وجاء هذا التحريم ممن تفاخروا من قَبْل على
كل شعوب الرض باختراعهم لتلك المبيدات ،فقد فَطِنوا إلى أنّ ما جاءهم من خَير عن طريق
تلك المبيدات هو أقلّ بكثير من الضّرّ الذي وقع بسببها.
وهذا يعني أنهم لم يتدبروا اختراعهم لتلك المبيدات؛ فقاموا بتصنيعها لفائدة عاجلة ،دون أن يتلفتوا
إلى الخطورة الجلة ،وكان لبُدّ لهم أن يتدبروا المر ،لن التدبّر معناه النظر في دُبُر الشياء.
والحق سبحانه هو القائلَ {:أفَلَ يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ أَمْ عَلَىا قُلُوبٍ َأ ْقفَاُلهَآ }[محمد]24 :
أي :ل تنظر إلى واجهة الية فقط ،بل انظر في أعماقها ،ولذلك يقول لنا سيدنا عبد ال بن مسعود
رضي ال عنهَ " :ثوّروا القرآن ".
أي :استخرجوا منه الكنوز بالتدبّر؛ لن التدبر يحمي من حماقة التفكير ،والمثل البسيط المتكرر
في بيوتنا هو أننا نغسل أفواهنا بعد تناول الطعام ونتمضمض ِممّا َبقِي في الفم من بقايا.
ونجد من بين هذه البقايا بعضا من " الفتافيت الصلبة بعض الشيء " ،ثم نغسل حوض المياه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بتيار متدفق من ماء الصنبور ،ونُفَاجأ بعد فترة من الزمن بانسداد ماسورة الصرف الخاصة
بالحوض؛ وحين يفتح السباك ماسورة الصرف هذه يجدها مليئة برواسب من بقايا الطعمة.
وأنت حين تمضمضتَ لم تلتفت إل لنظافة الفَمِ من البقايا ،ولم تتدبر أمر تلك البقايا ،ولو أنك
تدبرتَ ذلك َلقُ ْمتَ بتركيب ماسورة صرف للحوض أكبر من الماسورة التقليدية الضيقة؛ ولَجع ْلتَ
صندوق الطرد الخاص بالحوض أكبر من الحجم المعتاد والمُجهّز لصرف المياه فقط.
وهكذا نرى أن الفكر يحثّك على أن تبحث عن مطلوب لك؛ ولكن عليك أن تنظر وتُدقّق :هل
يحقق لك ما يقترحه عليك فكرك؛ ما يفيدك أم ما يضرك؟
هذا هو التدبّر ،وهو ما نُسمّيه صيانة الشياء.
صلُ اليَاتِ َلعَّلكُمْ بِِلقَآءِ رَ ّب ُكمْ تُوقِنُونَ { [الرعد]2 :
ويتابع الحق سبحانه في نفس اليةُ ...} :ي َف ّ
حكْما مناسبا له .ودائما أقول لمن يسألني عن فتوى؛ ويُلِحّ
وتفصيل اليات يعني أنه جعل لكل أمر ُ
أن تتوافق الفتوى مع مراده " :نحن ل نُفصّل الفتوى من أجل هواك؛ لن ما عندي هي فتاوى
جاهزة؛ وعليك أن تضبط مقاسك أنت على الفتوى ،ل أن نُفصّل لك الفتوى على هواك ".
أقول ذلك؛ لن المسألة ليست حياة تنتهي إلى العَدَم ،ولكن هناك حياة أخرى تُحاسب فيها على كل
جعَلْنَاهُ هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان:
ع َملٍ َف َ
عمِلُواْ مِنْ َ
تصرّف ،فالحق سبحانه هو القائلَ {:وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا َ
]23
ف لّ َيقْدِرُونَ ِممّا
ص ٍ
جلّ وعل {:كَ َرمَادٍ اشْ َت ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َيوْمٍ عَا ِ
وهو القائل سبحانه أيضا َ
شيْءٍ[} ...إبراهيم]18 :
كَسَبُواْ عَلَىا َ
ولذلك فعليك أن تُقبِل على كل عمل وأنت مُوقِن بأن هذا العمل ل ينتهي بتركك للحياة الدنيا ،ولكن
لكل عمل آثاره في حياة باقية ،وإذا كانت الدنيا تحمل لك راحة موقوتة أو تعبا موقوتا ،فالراحة
في الخرة باقية أبدا؛ والتعب فيها غير َموْقوت.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} وَ ُهوَ الّذِي مَ ّد الَ ْرضَ{ ...
()1696 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويتابع الحق سبحانه سَرْد آياته الكونية في هذه الية { :مَ ّد الَ ْرضَ[ } ...الرعد]3 :
سطَ تابع
يعني أنها موجودة أمامك و ُممْتدة ،وبعض الناس يفهمون المَدّ بمعنى البسط ،ونقول :إن البَ ْ
للمَدّ.
ولذلك وقف بعض العلماء وقالوا :ومن قال إن الرض كُرَويّة؟
إن الحق سبحانه قال :إنها مبسوطة ،وهو سبحانه الذي قال :إنه قد مَ ّد الرض.
وقلتُ لهؤلء العلماء :فَلْنفهم كلمة المَ ّد أولً ،وَلنْفهَمْ أيضا كلمة " الرض " وهي التي تقف عليها
ل إلى القُطْب الشمالي ،وجنوبا إلى القُطْب
أنت وغيرك ،وتعيش عليها الكائنات ،وتمتد شما ً
ي موقع فهي َممْدودة شرقا وغربا.
الجنوبي ،أيّا ما كُنْت في أ ّ
ومعنىَ { :م ّد الَ ْرضَ[ } ...الرعد]3 :
تعني أنك إنْ وقفتَ في مكان وتقدمتَ منه؛ تجد الرض ممدودة أمامك؛ ول توجد حَافّة تنتهي لها،
ولو أنها كانت مبسوطة لَكانَ لها نهاية ،ولكانت على شكل مُثلّث أو مُربع أو مستطيل؛ ولكانَ لها
حافة؛ ولوجدنا مَنْ يسير إلى تلك الحافة ،هو يقول " :لقد وصلتُ لحافة الرض؛ وأمامي الفراغ "
ولم يحدث أنْ قال ذلك واحد من البشر.
وإذا ما سار إنسان على خط الستواء مثلً؛ فسيظل ماشيا على اليابسة أو راكبا لمركب تقطع به
البحر أو المحيط ليصل إلى نفس النقطة التي بدأ منها سَيْره.
وهكذا نجد الرض ممدودة غير محدودة ،ول يكون ذلك إل إذا كانت الرض مُكوّرة ،بحيث إذا
مشيت مُتتبّعا أيّ خط من خطوط العرض أو خطوط الطول لنتهتْ إلى النقطة التي بدأت منها
سَيْركَ.
وكان هذا هو الدليل الذي يقدمه العلماء على كروية الرض؛ قبل أن يخترعوا فكرة التصوير من
خارج الغلف الجوي.
ونأخذ من قول الحق سبحانه { :وَ ُهوَ الّذِي َم ّد الَ ْرضَ[ } ...الرعد]3 :
معنى آخر هو ضرورة أن ينظر النسانُ في هذا المتداد؛ ومَنْ تضيق به الحياة في مكان يُمكنه
أن يرحلَ إلى مكان آخر ،فأرضُ ال واسعة ،والحق سبحانه هو القائل {:أَلَمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّهِ
سعَةً فَ ُتهَاجِرُواْ فِيهَا[} ...النساء]97 :
وَا ِ
ونعلم أن فساد العالم في زمننا إنما نشأ من فساد السياسات وزيادة الضطرابات ،وذلك واحد من
نتائج تعوق مَدّ الرض فساعة يحاول إنسان أن يترك حدود موطنه؛ يجد الحراسات والعوائق عند
ض َعهَا لِلَنَامِ }[الرحمن:
ض َو َ
حدود البلد المجاورة ،وتناسَى الجميع َقوْل الحق سبحانه {:وَالَرْ َ
]10
فسبحانه قد سَخّر الرض وأخضعها للنام كل النام ،وإذا لم يتحقق هذا المبدأ القرآني؛ سيظل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العالم في صراع؛ وستظلّ بعض من البلد في حاجة للبشر وبعض من البلد في ضِيق من
الرزق؛ لزيادة السكان عن إمكانات الرض التي يعيشون عليها.
وستظل هناك أرض بل رجال؛ ورجال بل أرض ،نتيجة للحواجز المصطنعة بين البلد.
وحتى تُحل هذه القضية ـ كما قلنا في المم المتحدة ـ لبد من تطبيق المبدأ القرآني:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد شاء الحق سبحانه أن يجعل بطن الرض سائلً ،رحمةً بنا؛ ذلك أننا حين نبني بيوتا؛ أو
نقتطع أحجارا من الجبال؛ أو نستخدم مُكوّنات الجبال في أي غرض؛ إنما ننقل بعضا من مُكوّنات
الرض من موقع إلى آخر.
وحين ينتقل ثقل من مكان على سطح الرض إلى مكان آخر؛ فالسائل الذي في باطن الرض
خفّ من فوقها الثقل ليتحقق التوازن ،ولو
ينتقل من المنطقة التي زاد عليها الثقل إلى المنطقة التي َ
لم يحدث ذلك لَتسَاقطتْ العمارات الشاهقة التي نراها أثناء دوران الرض.
والمَ َثلُ الذي يُوضّح ذلك أنك لو وضعتَ قطعة من العجين على سطح بطيخة أو كرة ،وجعلت
البطيخة أو الكرة في حالة دوران لَطردتْ الكرة أو البطيخة قطعة العجين من على سطحها.
وقد شرح العلماء في " علم الحركة " ذلك فقالوا :إن كل شيء مستدير يتحرك؛ إنما تنشأ عن
حركته عملية اسمها الطرد الذاتي؛ لن قطعة العجين أو أيّ شيء نضعه على شيء مستدير
يتحرك تكون له كثافة وثقل على المنطقة التي يوجد فيها ،ويصل هذا الثقل إلى المركز ،ولكي
تستمر الحركة الدائرية متوازنة لبد أن يطرد الشيء المستدير ما فوقه من ُثقْل زائد.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل ِنصْفي الكرة الرضية من أي موقع تتخيله ،متساويا في الوزن
مع النصف الخر ،ومهما أخذتَ من مواد ونقلتَها من موقع إلى آخر ،فالوزن يتعادل نتيجة لحركة
السوائل التي في بطن الرض.
وهذا يدلّ على عظمة الخالق الذي خلق بتدبير دقيق ،ويكفي أن ننظر إلى عظمة الحق الذي لم
يجعل الجبال رواسيَ ليمنع الرض من أنْ تميدَ بنا ،بل جعل في الجبال والصحاري ما استنجدنا
به حين ضاقت الرض بنا؛ فذهبنا إلى الجبال؛ لنستخرج منها المواد الخام؛ ونُصدّرها؛ ثم نشتري
بثمنها القمح.
ونرى من حولنا الصحاري حيث كان المقيمون فيها يلهثون قديما من العطش ،ول يجدون شجرة
يستظلون بها؛ فيُفجّر فيها الحق آبار البترول.
وهكذا نرى أن كل قطاع من الرض فيه خير مُسَا ٍو لي قطاع آخر من الرض ،وجعل ال لكل
أمر زمنا يمكن للبشر أن يستفيدوا من هذا المر في ذلك الزمن.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في الجبالُ {:قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َتكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الَرْضَ فِي َي ْومَيْنِ
سيَ مِن َف ْوقِهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
وَتَ ْ
سوَآءً لّلسّآئِلِينَ }[فصلت]10-9 :
َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ
أي :أنه سبحانه بارك في الجبال ، ،وهي جزء من الرض ،وشاء أن يُقدّر القواتَ في الجبال
والرض؛ ويكفي أن نعلم أن المطر حين يتساقط من السماء على الجبال؛ فيحمل المطر بعضا من
طمْي من على أسطُح تلك الجبال ،فتتجدد خُصوبة الرض.
ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولو كانت الجبال هشة لذابت الجبال من عدد قليل من مرات سقوط المطر ،ولذابت القشرة
الخصبة التي تغذي النبات حين نزرعه في الرض.
ولكنه سبحانه شاء أنْ تمُرّ الظروف الجوية باختلفها وتنوّعها في تتابع يُوفّر من الحرارة
والرطوبة ما يجعل الرض تتشقق؛ فيصير سطح الجبال الصّلْبة َهشّا لينزل مع المطر؛ ولِيُغذّي
الرض بالخُصوبة من أجل أن يستمر استبقاء الحياة بإنتاج ما نحتاجه من نباتات مزروعة.
ي وَأَ ْنهَارا[ { ...الرعد]3 :
سَج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
ونلحظ قوله سبحانه في نفس الية } :وَ َ
وهنا يجمع الحق بين الرواسي وهي الثوابت ،وبين النهار وهي التي تحمل الماء السائل ،وهذا
جمْعٌ بين الضداد.
َ
والنهر يُطلق على ما يحمل المياه العَذْبة؛ أما البحر فهو المُكوّن من الماء المالح ،وأنت إذا
استعرضت أنهار الدنيا كلها؛ ستجد أن مجاريها تصبّ في البحار ،وهذا دليل على أن منسوب
النهر أعلى دائما من منسوب البحر ،ولو كان المر بالعكس؛ َلطَغى ماء البحر على مياه النهر،
وَلمَا استطعنا أن نشرب أو نزرع.
ب في
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل الماء العذب هو العلى؛ لن له مهمة يُؤدّيها قبل أن يصُ ّ
خ لّ يَ ْبغِيَانِ }[الرحمن]20 :
البحر .أقول ذلك حتى نعلم الحكمة في قول الحق سبحانه {:بَيْ َن ُهمَا بَرْزَ ٌ
ومن العجيب أن البرزخ الذي يفصل بين النهر والبحر يكون انسيابيا ،يتدرج نزول مياه النهر في
مياه البحر بما يُحقّق سهولة في هذا النتقال ،ومن العجيب أيضا أنك إنْ حفرتَ عند شاطئ البحر
قد تعثر على الماء العذب.
ولذلك حين نزور العريش نجد شاطئا باسم شاطئ النخيل؛ ونحن نعلم أن النخيل يحتاج إلى الماء
العَذْب ،وكأن الحق سبحانه قد جعل في هذا النخيل خاصية استخلص الماء العَذْب من هذا المكان
الذي يوجد على البحر؛ وقد تكون له جداول عذبة.
سمَآءِ مَآءً فَسََلكَهُ يَنَابِيعَ فِي الَرْضِ[} ...الزمر]21 :
فسبحانه القائل {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ
ونحن في الريف نجد من يحفر بئرا ويكون ماؤه عَذْبا؛ وآخر يحفر بئرا ويكون ماؤه مالحا .وهذا
دليل على أن الماء في بطن الرض غير مختلط ،بل لكل ماء مسارب تختلف باختلف نوعية
المياه.
ويُرتّب الحق سبحانه في نفس الية مجيء الثمرات كنتيجة على وجود الثابت ـ الجبال ـ
كمصدر للغِرْيَن وخصوبة الرض ،وعلى وجود النهار التي تحمل الماء اللزم للري ،وهكذا
يكون مجيء الثمرات أمرا طبيعيا.
والثمرة كما نعلم هي الغاية من أي زرع.
ج َعلَ فِيهَا َزوْجَيْنِ
وفي نفس الية يواصل الحق ذكر عطائه ،فيقول سبحانهَ } :ومِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اثْنَيْنِ[ { ...الرعد]3 :
ويستعمل البعض كلمة " زوج " ويراد به شيئان كقولنا " زوج أحذية " مع أن التعبير الدقيق
يقتضي أن نقول " زوجان من الحذية " كتوصيف لفردة حذاء ُيمْنى وفردة حذاء يسرى؛ لن كلمة
" زوج " مرد ،وتستخدم في الشيء الذي له مثْل؛ ولذلك نجد العدد الفردي والعدد الزوجي؛ والعدد
الزوجي ُمفْرد له مثيل؛ وفي النسان هو الذكر والنثى.
شيْءٍ خََلقْنَا َزوْجَيْنِ }[الذاريات]49 :
وسبحانه القائلَ {:ومِن ُكلّ َ
ويخطئ الناس أيضا في فهم كلمة التوأم ،ويظنون أنها تعني الثنين اللذين يولدان معا ،ولكن
المعنى الدقيق للتوأم وهو الفرد الذي يُولَد مع آخر ،ويقال لثنين معا " التوأمان ".
ي وَأَ ْنهَارا َومِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ
سَج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
وهنا يقول الحق سبحانه } :وَ ُهوَ الّذِي َم ّد الَ ْرضَ وَ َ
ج َعلَ فِيهَا َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ[ { ...الرعد]3 :
َ
ولم يخلق الحق سبحانه أيّ شيء إل وشاء له أن يتكاثر ،مصداقا لقول الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالقمر؛ فيدخل الشهر بليله ل بنهاره ،ونحن نعلم أن رمضان يأتينا بأول ليلة فيه.
وقد أوضح الحق سبحانه لهم على قَدْر معارفهم ،ثم ثبت لنا أن الليل والنهار قد وُجِدا في وقت
واحد بعد أن وضحتْ لنا أن صورة الرض كروية ،وأنه سبحانه قد خلقها كذلك ،فما واجه
الشمس كان نهارا؛ وما غابتْ عنه الشمس كان ليلً ،ويخلف كل منهما الخر.
ن واحد.
وهكذا وضّح لنا أنهما موجودان في آ ٍ
ك ليَاتٍ ّلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ { [الرعد]3 :
ويُذيّل الحق سبحانه الية الكريمة بقوله...} :إِنّ فِي ذاِل َ
أي :أن على النسان مسئولية التفكّر فيما يراه من حوله ليصل إلى ُلبّ الحقائق.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
} َوفِي الَ ْرضِ ِقطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ{ ...
()1697 /
سقَى ِبمَاءٍ
ن وَغَيْ ُر صِ ْنوَانٍ ُي ْ
ل صِ ْنوَا ٌ
ب وَزَ ْرعٌ وَنَخِي ٌ
ت وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْنَا ٍ
َوفِي الْأَ ْرضِ ِقطَعٌ مُتَجَاوِرَا ٌ
ضهَا عَلَى َب ْعضٍ فِي الُْأ ُكلِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ ()4
ضلُ َب ْع َ
وَاحِدٍ وَنُ َف ّ
هذه الية جاءت بشيء من التفصيل لقول الحق سبحانه في أواخر سورة يوسفَ {:وكَأَيّن مّن آيَةٍ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف]105 :
فِي ال ّ
عمَدٍ تَ َروْ َنهَا[} ...الرعد]2 :
سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ
وتلك آية تنضم إلى قوله تعالىَ {:رفَعَ ال ّ
صلُ اليَاتِ[} ...الرعد]2 :
لمْرَ ُي َف ّ
وتنضم إلى {:يُدَبّرُ ا َ
سيَ وَأَ ْنهَارا َومِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
ض وَ َ
وتنضم إلى قوله سبحانه {:وَ ُهوَ الّذِي مَ ّد الَ ْر َ
ج َعلَ فِيهَا َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ُي ْغشِي الّيلَ ال ّنهَارَ[} ...الرعد]3 :
َ
وحين نتأمل قول الحق سبحانهَ { :وفِي الَ ْرضِ ِقطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ[ } ...الرعد]4 :
نجد أننا ل نستطيع أن نعرفها بأنها التي يعيش عليها أمثالنا؛ تلك هي الرض ،ولو أردنا تعريفها
لبهمناها ،فهي أوضح من أن ُتعَرّف.
ل أول ما تدلّ على " كل " ينقسم إلى أجزاء ،وهذا ال ُكلّ هو جنس جامع للكلية؛
وكلمة " قِطَع " تد ّ
وفيه خصوصية تمييز قطع عن قطع.
وأنت تسمع كلم العلماء عن وجود مناطق من الرض تُسمّى حزام القمح ،ومناطق أخرى تُسمّى
حزام الموز؛ ومناطق حارة؛ وأخرى باردة.
طعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ[ } ...الرعد]4 :
وقول الحق سبحانه { :قِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هو قول يدل على العجاز؛ فعلى الرغم من أنها متجاورات إل أن كلً منها تناسب الطقس الذي
توجد فيه؛ فزراعة الذرة تحتاج مناخا مُعينا؛ وكذلك زراعة الموز.
وهكذا تجد كل منطقة مناسبة لما تنتجه ،فالرض ليست عجينة واحدة استطراقية ،ل بل هي تربة
مناسبة للجو الذي توجد به.
ومن العجيب أن فيها السرار التي يحتاجها النسان؛ هذا السيد الذي تخدمه كل الكائنات ،فليست
الرض سائلة في التماثل؛ بل تختلف بما يناسب الظروف ،فهناك قطعة سبخة ل تنبت؛ وأخرى
خصبة تنبت.
بل وتختلف الخصوبة من موقع إلى آخر؛ ومن قطعة إلى أخرى؛ فثمرة الجوافة من شجرة معينة
في منطقة معينة تختلف عن ثمرة الجوافة من شجرة في منطقة أخرى؛ والقمح في منطقة معينة
يختلف عن القمح في منطقة أخرى؛ ويقال لك " إنه قمح فلن ".
سقَى بماء واحد.
ويحدث ذلك رغم أن الرض تُ ْ
ويقول العلماء البعيدون عن منطق السماء " :إن السبب في الختلف هو عملية الختيار
والنتخاب " .وكأنهم ل يعرفون أن الختيار يتطلب مُخْتارا ،وأن يكون له عقل يُفكّر به ليختار،
وكذلك النتخاب فهل ال ُبذَيْرات تملك عقلً تُفكّر به وتختار؟ طبعا ل.
ويقولون :إن النبات يتغذّى بالخاصية الشعرية ،ونعلم أن النابيب الشعرية التي نراها في المعامل
تكون من الزجاج الرفيع؛ وإذا وضعناها في حوض ماء ،فالماء يرتفع فيها على مستوى الناء.
وإنْ ص ّدقْنا العلماء في ذلك ،فُكيف نصدّقهم في أن شجرة ما تأخذ ماءً من الشجرة الخرى؛ وتنتج
طعْم؟
كل منهما نفس الثمار؛ لكن ثمار شجرة تختلف عن الخرى في ال ّ
ونقول :إن كل شجرة تأخذ من الرض ما ينفعها؛ ولذلك تختلف النباتات ،ويحدث كل ذلك بقدرة
الذي َقدّر فهدى.
وهكذا نرى الرض قطعا متجاورات؛ منها ما يصلح لزراعة تختلف عن زراعة الرض
الخرى.
وقد يقول بعض من الملحدة :إن هذا الختلف بسبب الطبيعة والبيئة.
وهؤلء يتجاهلون أن الطبيعة في مجموعها هي الشمس التي تعطي الضوء والحرارة والشعاع،
والقمر أيضا يعكس بعضا مَنْ الضوء ،والنجوم تهدي من يسير في الفَلَة ،وتيارات الهواء تتناوب
ولها مسارات ومواعيد.
خصْبة تنتج ،وأرض سبخة ل تنتج ،وأرض حمراء؛ وأخرى سوداء،
ورغم كل ذلك فهناك أرض ِ
وثالثة رملية ،وكلها متجاورة.
لبد إذن من وجود فاعل مختار يأمر هذه أمرا مختلفا عن تلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل صِ ْنوَانٌ وَغَيْرُ صِ ْنوَانٍ...
ع وَنَخِي ٌ
ويتابع الحق سبحانه في نفس الية } :وَجَنّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْ ٌ
{ [الرعد]4 :
ت أولً؛ فتحدث عن الفاكهة؛ ثم تحدث عن الزرع الذي منه
وجاء الحق سبحانه هنا بالمُرفّها ِ
القُوت الساسي ،ونحن في حياتنا نفعل ذلك؛ فحين تدخل على مائدة أحد الكبار؛ تجد الفاكهة مُعدّة
على أطباق بجانب المائدة الرئيسية التي يُقدّم عليها الطعام.
ويأتي الحق سبحانه بعد العناب والزّرْع الذي منه القُوت الضروري بالنخيل ،وهو الذي ينتج
غذاء ،وقد يكون التمر الذي ينتجه تَرَفا يتناوله النسان بعد تناول الطعام الضروري.
وقول الحق سبحانه } :صِ ْنوَانٌ وَغَيْرُ صِ ْنوَانٍ[ { ...الرعد]4 :
يتطلب مِنّا أن نعرف ما الصنوان؟ ونجد الرسول صلى ال عليه وسلم يقول " :العم صنو أبيك "
أي :أن الصّنْو هو المِثْل.
ل واحدا
وبهذا يكون معنى الصّنْوان هو المِثْلن .ونرى ذلك واضحا في النخيل؛ فنرى أحيانا أص ً
تخرج منه نخلتان؛ أو ثلث نخلت؛ وأحيانا يخرج من الصل الواحد أربع أو خمس نخلت.
ويُطلق لقب " الصنوان " على الصل الواحد الذي يتفرع إلى نخلتين أو أكثر؛ فكلمة " صنوان "
تصلح للمثنى وللجمع ،ولكنها في حالة المثنى تعامل في العراب كالمثنى؛ فيقال " أثمرتْ صنوان
" و " رأيت صنوين " أما في حالة الجمع فيقال " رأيت صنوانا " و " مر ْرتُ بصنوان " .والمفرد
طبعا هو " صِنْو ".
ع وَنَخِيلٌ
ويقول سبحانه هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :وَجَنّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْ ٌ
لكُلِ[ { ...الرعد]4 :
ضهَا عَلَىا َب ْعضٍ فِي ا ُ
ضلُ َب ْع َ
ح ٍد وَ ُنفَ ّ
سقَىا ِبمَآ ٍء وَا ِ
صِ ْنوَانٌ وَغَيْ ُر صِ ْنوَانٍ يُ ْ
ومن العجيب أن كل شجرة تأخذ عَبْر جذورها كمية من الماء والغذاء اللزم لنتاج ثمارٍ ذات
طعْم مختلف.
شكل و َ
وهذا ما جعلنا نقول من قَبْل :إن افتراضات العلماء المتخصصين في علوم النبات عن أن النباتات
تتغذّى بخاصية النابيب الشعرية هو افتراض غير دقيق.
فلو كان المر كذلك لخذت النابيب الشعرية الخاصية بنبات المواد التي أخذتها النابيب الشعرية
الخاصة بنبات آخر.
والمر ليس كذلك ،فكل نبات يأخذ من الرض ما يخصه فقط ،ويترك ما عدا ذلك.
ذلك أن الثمار لكل نبات تختلف ول تتشابه؛ بل إن الشجرة الواحدة تختلف ثمارها من واحدة إلى
أخرى.
مثال هذا :هو شجرة المانجو أو النخلة المثمرة ،ويمكنك أن تلحظ نفسك ،وسترى أنك تنتقي من
ثمار المانجو القادمة من شجرة واحدة ما يعجبك ،وترفض غيرها من الثمار ،وسترى أنك تنتقي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من ثمار البلح القادم من نخلة واحدة ما يروقُ لك؛ وترفض بعضا من ثمار نفس النخلة.
ن كنتَ تحب الدخار
وحين تذهب لشراء الفاكهة؛ فأنت تشتري حسب موقفك في الدخار؛ فإ ْ
فسوف تشتري الفاكهة التي من الدرجة الثانية؛ وإذا كنت تحب أن تستمتع بالطيب من تلك الفاكهة
فسوف تشتري من الفاكهة المتميزة.
وأتحدى أنْ يقف واحد أمام قفص للفاكهة ،وينتقي الثمار غير الجميلة الشكل وال ّروْنق ،بل يحاول
كل إنسان أن يأخذ الجميل والطيب من تلك الفاكهة ،وحين يدفع ثمن ما اشترى سنجده يدفع النقود
الورقية القديمة التي تُوجد في جيبه ،وسيحتفظ لنفسه بالنقود الجديدة.
وهذا الموقف يغلب على مواقف أي إنسان ،فهو مُقبِل دائما على َرفْض أخذ السيئ؛ وخائف دائما
حسَن.
من التفريط في ال َ
خشْيَ َة الِ ْنفَاقِ} ...
سكْتُمْ َ
حمَةِ رَبّي إِذا لمْ َ
والحق سبحانه يقول {:قُل ّلوْ أَنْ ُتمْ َتمِْلكُونَ خَزَآئِنَ َر ْ
[السراء]100 :
طعْم من نوع إلى نوع؛ كذلك تجد اختلفا في
وأنت ل تجد في الثمار تشابها ،بل اختلفا في ال ّ
طريقة تناولها؛ فل أحد مِنّا يأكل البلحة بكاملها ،بل نأكل ثمرة البلحة بعد أن نُخرِج منها النواة؛
ونأكل ثمرة التين بأكملها ،ونخرج ما في قلب حَبّة المشمش من بذرة جامدة ،ثم نأكل المشمشة من
بعد ذلك.
فكل ثمرة لها نظام خاص؛ وليست مسألة ميكانيكية في عطاء ال لثمار متشابهة؛ بل هناك
ق التفاصيل؛ لدرجة أنك حين تتناول قِطْفا من العنب تجد
اختلف ،ويمتد هذا الختلف إلى أد ّ
اختلفا لبعض من حبّات العنب عن غيرها.
لكُل فقط ،بل نُفضّل في الصنف
ونحن ل نُفضّل بعضا من الفاكهة على البعض الخر في ا ُ
الواحد بعضا من ثماره عن البعض الخر.
ل ُكلِ[ { ...الرعد]4 :
ضهَا عَلَىا َب ْعضٍ فِي ا ُ
وحين تقرأ } :وَ ُن َفضّلُ َب ْع َ
فاعلم أنه ل يوجد شيء أو أمر مُفضّل على إطلقه ،وأمر آخر مفضول على إطلقه ،فما ُدمْنَا
ل منهما مُفضّل في ناحية ،ومفضول عليه في
نُفضّل بعضه على البعض الخر؛ فهذا يعني أن ك ً
ناحية أخرى.
والمثل الواضح أمامنا جميعا أننا حين نجلس إلى مائدة عليها ديك رومي قد تجد يدك تتجه إلى
طبق " المخلل " قبل أن تمتدّ يدك إلى الديك الرومي؛ لن " نفسك " قد طلبتْه أولً ،فل َتقُلْ :إن
هناك شيئا مفضولً عليه طوال الوقت ،أو شيئا مفضلً كل الوقت.
وكذلك الناس؛ إياك أن تظن أن هناك إنسانا فاضلً على إطلقه؛ وآخر مفضولً على إطلقه؛ بل
هناك إنسان فاضل في ناحية ومفضول عليه في ناحية أخرى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمَثَل :هو صاحب السيارة الفارهة؛ ثم ينفجر إطار سيارته؛ فيتمنى أن يرزقه ال بمَنْ يمرّ عليه
ليقوم بتغيير إطار السيارة؛ فيمرّ عليه هذا النسان صاحب الملبس غير النظيفة بما عليها من
شحوم؛ فيكون هذا النسان أفضل منه في قدرته على َفكّ الطار المنفجر بالطار السليم
الحتياطي.
وهكذا نشر ال الفضل على الناس ليحتاج بعضهم لبعض؛ ولذلك أقول :حين تجد نفسك فاضلً في
ناحية إياك أنْ تقعَ في الغرور؛ واسأل نفسك :ما الذي َيفْضُل عليك فيه غيرك؟
عسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ نِسَآءٌ مّن نّسَآءٍ
سخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ َ
وتذكر قول الحق سبحانه {:لَ يَ ْ
عَسَىا أَن َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ[} ...الحجرات]11 :
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يُوزّع الفضل بين الناس ،ليحتاج كل منهم الخر ،وليتكامل المجتمع.
وكذلك وَزّع سبحانه الفضل في الطعمة والفواكه والثمار ،وانظر إلى نفسك لحظة أنْ تُقدّم لك
أصناف متعددة من الفاكهة؛ فقد تأخذ ثمرة من الجميز قبل أن تأخذ ثمرة من التفاح؛ فساعة طلبتْ
نفسك ثمرة الجميز صارت في تقدير الموازين والتبادل هي الفضل ،وكل إنسان يمكن أن يجد
ذلك فيما يَخصّه أو يُحبه.
شيْءٍ عِن َدهُ ِب ِمقْدَارٍ }[الرعد]8 :
والحق سبحانه هو القائلَ ... {:وكُلّ َ
ولذلك نجد النسان وهو يُلوّن ويتفنّن في صناعة الطعام ،ويختلف إقبال الفراد على الطعمة
المُنوّعة ،وقد تجد اثنين يُقبِلن على لحم الدجاج؛ لكن أحدهما يُفضّل لحم الصدر؛ والخر ُي َفضّل
لحم " الوَرِك " ،وتجد ثالثا يُفضّل لحم الحمام؛ وتجد رابعا يفضل تناول السمك.
بل إنك تجد اختلفا في طريقة تناول مَنْ يحبون السمك؛ فمنهم مَنْ يحب أكل رأس السمكة ،ومنهم
مَنْ يحب لحم السمكة نفسها ،ول أحد يملك معرفة السبب في اختلف المزجة في النجذاب إلى
اللوان المختلفة من الطعمة.
وحين تتأمل تلك المسألة قد يأتي إلى خاطرك قول الحق سبحانه {:كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّهِ[} ...البقرة:
]28
خفَى سبب على ال
خفِي سببه ،فهل يَ ْ
والسؤال هنا من ال للتعجّب؛ والتعجّب عادة يكون من شيء َ
ليتعجب؟
طبعا ل ،فسبحانه مُنّزه عن ذلك ،وسبحانه يعلم سبب كفر الكافرين؛ لكنه ينكر عليهم أسباب
الكفر.
سبّ أباك؟ "
والم َثلُ من حياتنا ـ ول المَ َثلُ العلى ـ فأنت تجد نفسك وأنت تنطق بكلمة " كيف ت ُ
لنسان يوجه كلمات جارحة لوالده؛ فتتعجب لتنكر ما فعله هذا النسان.
وكذلك القول :كيف تكفرون بال؟ لن الكفر شيء ل يتأتى من عاقل .وكان لنا شيخ هو فضيلة
العالم أحمد الطويل؛ وكان يحدثنا عن شيخ له حين كان يقرأ قول الحق سبحانه {:كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بِاللّهِ[} ...البقرة]28 :
كان يقول :إن الخطاب هنا عام لكل إنسان؛ لن الحق بعدها يأتي بالقضية العامة:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فعمليات العقل هي الستقبال الدراكي والبحث فيه لستخلص الحقائق والنتائج ،وأن يتدبر
النسان كل أمر كي يتجنب ما فيه من ضرر.
والمثل :هو ما توصّل إليه بعضٌ من العلماء من اكتشاف لدوية يستخدمونها لفترة ما ،ثم يعلنون
عن الستغناء عنها؛ لن آثارها الجانبية ضارة جدا؛ وهذا يعني أنهم لم يتدبروا المر جيدا؛
طوْا خطوات إلى ما ليس لهم به كامل العلم.
وخَ َ
ك ليَاتٍ ّلقَوْمٍ َي ْعقِلُونَ { [الرعد]4 :
وقول الحق سبحانه...} :إِنّ فِي ذاِل َ
نلحظ فيه توجيها بالتعاون بين العقول ،لتبحث في آيات َربّ العقول؛ فل يأخذ أحد قرارا بعقله
فقط؛ بل يسمع أيّ مِنّا لرأي عقل ثانٍ وعقل ثالث ورابع؛ ليستطيع النسان تدبّر ما يمكن أنْ يقع؛
ولتتكاتف العقول في استنباط الحقائق النافعة التي ل يتأتّى منها ضرر فيما بعد؛ لن من استبد
برأيه هلك ،ومن شاور الرجال شاركهم في عقولهم.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
جبٌ َقوُْلهُمْ{ ...
جبْ َف َع َ
} وَإِن َت ْع َ
()1698 /
جدِيدٍ أُولَ ِئكَ الّذِينَ َكفَرُوا بِرَ ّبهِمْ وَأُولَ ِئكَ الْأَغْلَالُ
جبٌ َقوُْلهُمْ أَئِذَا كُنّا تُرَابًا أَئِنّا َلفِي خَ ْلقٍ َ
جبْ َفعَ َ
وَإِنْ َتعْ َ
صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَاِلدُونَ ()5
فِي أَعْنَا ِق ِه ْم وَأُولَ ِئكَ َأ ْ
والعجب هو أن تُبدي دهشة من شيء ل تعرف سببه ،وهذا التعجب ل يتأتّى من ال؛ لنه سبحانه
يعلم كل شيء ،فإذا صدر عجب من ال مثل قوله الحق {:كَ ْيفَ َتكْفُرُونَ بِاللّهِ[} ...البقرة]28 :
فمعنى هذا أنه سبحانه يُنكِر أن يكفر النسان مع قيام الدلة على اليمان؛ لكن بعضا من الناس ـ
رغم ذلك ـ يكفر بال.
جبْ[ } ...الرعد]5 :
وقول الحق سبحانه { :وَإِن َتعْ َ
هو خطاب مُوجّه لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكان رسول ال صلى ال عليه وسلم يتعجّب
من أنهم كانوا يُسمّونه قبل أن يبعثه ال رسولً بالصادق المين؛ وبعد ما جاءت الرسالة قالوا :إنه
ساحر كذاب.
فكيف يكون صادقا أمينا ببشريته وذاتيته؛ ثم إذا أمدّه الحق سبحانه بالمَدَد الرّسَالي تتهمونه
بالكذب؟ ألم َيكُنْ من الجدر أنْ تقولوا إنه صار أكثر صِدْقا؟ وهل من ال ُممْكن أن يكون صادقا
عندكم ،ثم يكذب على ال؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والتعجّب أيضا من أنهم أنكروا البعث من بعد الموت ،رغم أنه سبحانه أوضح الدلة على ذلك؛
ولكن المؤمنين وحدهم هم الذين استقبلوا أمر ال َبحْث بالتصديق؛ بمجرد أن أبلغهم به رسول ال
مُبلّغا عن ربّه.
صبَ الدلة
ونجد الحقّ سبحانه وتعالى قد احترم ُفضُول العقل البشري ،فأوضح سبحانه ذلك و َن َ
عليه؛ وأبلغنا أنه لم يعجز عن الخَلْق الول؛ لذلك لن يعجز عن البعث.
فقد جاء بنا سبحانه من عدم ،وفي البعث سيأتي بنا من موجود ،ومن الغباء إذنْ أن يتشكّك أحد
في البعث ،والمُسْرِف على نفسه إنما يُنكِر البعث؛ لنه ل يقدر على ضبْط النفس؛ ويظن أنه
بإنكار البعث لن يَ ْلقَى المصير السود الذي سيلقاه في الخرة.
ولذلك تجد المسرفين على أنفسهم يحاولون التشكيك في البعث ويأتي الحق سبحانه بتشكيكهم هذا
ت وَنَحْيَا َومَا ُيهِْلكُنَآ ِإلّ الدّهْرُ} ...
في َقوْل الحق سبحانهَ {:وقَالُواْ مَا ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُو ُ
[الجاثية]24 :
ولو أن الواحد منهم وضع مسألة ال َبعْث في يقينه لنصرف عن شهواته ،بينما هو يريد أن ينطلق
بالشهوات؛ ولذلك نجدهم يقولون {:أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ[} ...السجدة]10 :
وهم يقصدون بذلك أنهم بعد الموت سيصيرون ترابا ،ويعودون إلى الرض كعناصر وتراب
تَذْروه الرياح ،فكيف سيأتي بهم ال للبعث ،ويُنشئهم من جديد؟
سيَ خَ ْلقَهُ قَالَ مَن يُحيِي ا ْلعِظَا َم وَ ِهيَ َرمِيمٌ * ُقلْ يُحْيِيهَا الّذِي
ويقول سبحانهَ {:وضَ َربَ لَنَا مَثَلً وَنَ ِ
أَنشَأَهَآ َأوّلَ مَ ّر ٍة وَ ُهوَ ِب ُكلّ خَ ْلقٍ عَلِيمٌ }[يس]79-78 :
ومن الكافرين مَنْ قال :سنصير ترابا ،ثم نختلط بالتربة ،ويتم زراعة هذه التربة ،فتمتزج
عناصرنا بما تنبته الرض من فواكه وخُضر وأشجار؛ ثم يأكل طفل من الثمرة التي تغ ّذتْ
بعناصرنا؛ فيصير بعضٌ مِنّا في مكونات هذا الطفل؛ والقياس يُوضّح أننا سوف نتناثر؛ فكيف
يأتي بنا ال؟
كل ذلك بطبيعة الحال من وسوسة الشيطان ووحيه {:وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ} ...
[النعام]121 :
وأقول :لنفترض أن إنسانا قد مرض؛ وأصابه هُزَال ،وفقد ثلثين كيلوجراما من وزنه ،وما نزل
من هذا الوزن لبُدّ أنه قد ذهب إلى الرض كعناصر اختلطتْ بها ،ثم جاء طبيب قام بتشخيص
الداء وكتب الدواء ،وشاء ال لهذا المريض الشفاء واستردّ وزنه ،وعاد مرة أخرى لحالته
الطبيعية؛ فهل الثلثين كيلو جراما التي استردّها هي هي نفس الكمية بنوعيتها وخصوصيتها التي
سبق أنْ فقدها؟ طبعا ل.
وهكذا نفهم أن التكوين هو تكوين نسبيّ للعناصر ،كذا من الحديد؛ كذا من الصوديوم؛ كذا من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المغنسيوم؛ وهكذا.
إذن :فالجزاء في اليوم الخر عملية عقلية لزمة ،يقول الحق {:كَ ْيفَ َت ْكفُرُونَ بِاللّ ِه َوكُنْتُمْ َأ ْموَاتا
جعُونَ }[البقرة]28 :
فَأَحْيَاكُمْ ثُمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ ثُمّ إِلَيْهِ تُ ْر َ
مادام هناك أمر؛ وهناك نهي؛ وهناك نهي؛ وهناك منهج واضح يُبيّن كل شيء .وإنْ كنت تعجبُ
يا محمد من الكفار وما يثيرونه من أقضية ،فََلكَ أنْ تعجب لنها أمور تستحق العجب.
والحق سبحانه حين يخاطب الخَلْق فهو يخاطبهم إمّا في أمر يشكّون فيه ،أو في أمر ل يشكّ فيه
أحد.
شكّ هو فيه؛ فأنت
والمَثَل من حياتنا ـ ول المَ َثلُ العلى ـ حين تخاطب أنت واحدا في أمر يَ ُ
تحاول أن تؤكد هذا المر بكل الطرق ،وهكذا وجدنا بعضا من الناس ينكرون البعث والحساب؛
ووجدنا الحق سبحانه وتعالى يُذكّرهم به عبر رسوله ويؤكده لهم.
وأيضا خاطبهم الحق سبحانه فيما لم يَشكّوا فيه؛ وهو الموت؛ وقالُ {:كلّ َنفْسٍ ذَآ ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ} ...
[آل عمران]185 :
ويقول الرسول صلى ال عليه وسلم " :ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين الناس بالموت ".
فالموت يقين ،ولكن ل أحد يحاول التفكير في أنه قادم ،وسبحانه يقولُ {:ثمّ إِ ّنكُمْ َب ْعدَ ذاِلكَ َلمَيّتُونَ }
[المؤمنون]15 :
وهذا تأكيد لمر يُجمع الناس على أنه واقع ،لكنهم لغفلتهم عنه بَ َدوْا كالمنكرين له ،لذلك خاطبهم
خطابَ المنكرين ،ثم قال بعد ذلك {:ثُمّ إِ ّنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تُ ْبعَثُونَ }[المؤمنون]16 :
ولم َيقُل " :ولتبعثون " لن البعث مسألة ل تحتاج إلى تأكيد ،وعدم التأكيد هنا آكد من التأكيد ،لن
أمر الموت واضح جدا رغم الغفلة عنه ،أما البعث فهو واقع ل محالة بحيث ل يحتاج إلى تأكيد.
والمثل من حياتنا ـ ول المثل العلى ـ يذهب النسان إلى الطبيب؛ فيقول له الطبيب بعد
الكشف عليه " اذهب فلن أكتب لك دواء " .وهذا القول يعني أن هذا النسان في تمام الصحة؛
وكأن كتابة الدواء يحمل شبهة أن هناك مرضا.
وكذلك الحق سبحانه يخاطب الخَلْق في الشيء الذي ينكرونه وعليه دليل واضح؛ فيأتي خطابه لهم
بل تأكيد؛ وهو يوضح بتلك الطريقة أنهم على غير حق في النكار ،أما الشيء الذي يتأكدون منه
وهم غافلون عنه؛ فهو يؤكده لهم؛ كي ل يغفلوا عنه.
وكذلك في القَسَم؛ فنجده سبحانه قد أقسم بالتين والزيتون؛ وأقسم بالقرآن الحكيم؛ وأقسم بغير ذلك،
حلّ ِبهَـاذَا الْبََلدِ * َووَالِ ٍد َومَا وَلَدَ }
ونجده في مواقع أخرى يقول {:لَ ُأقْسِمُ ِبهَـاذَا الْبََلدِ * وَأَنتَ ِ
[البلد]3-1 :
والعجيب أنه يأتي بجواب القسم ،فيقولَ {:لقَدْ خََلقْنَا الِنسَانَ فِي كَبَدٍ }[البلد]4 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد يقول قائل :كيف يقول {:لَ ُأ ْقسِمُ[} ...البلد]1 :
ثم يأتي بجواب القسم؟
وأقول :لقد جاء هنا بقوله {:لَ ُأ ْقسِمُ[} ...البلد]1 :
وكأنه يُوضّح ألّ حقّ لكم في النكار؛ ولذلك ما كان يصحّ أنْ أقسم لكم ،ولو كنت ُمقْسِما؛ لقسمتُ
بكذا وكذا وكذا.
جبٌ َقوُْلهُمْ أَإِذَا كُنّا تُرَابا
جبْ َف َع َ
وسبحانه يقول في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :وَإِن َت ْع َ
جدِيدٍ[ { ...الرعد]5 :
أَإِنّا َلفِي خَلْقٍ َ
جلّ وعل يُذكّرهم بما كان يجب ألّ ينسوه؛ فقد خلقهم من تراب؛ وخلق التراب من عدم،
وهو َ
جدِيدٍ }[ق]15 :
وهو القائلَ {:أ َفعَيِينَا بِا ْلخَلْقِ الَ ّولِ َبلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مّنْ خَ ْلقٍ َ
إذن :فسبحانه يتعجب من أمر هؤلء؛ ويزيد من العجب أنهم كذّبوا محمدا صلى ال عليه وسلم
بعد أن جرّبوا فيه الصدق ،ولمسوا منه المانة؛ وقالوا عنه ذلك من قبل أن يُبعث؛ وفوق ذلك
أنكروا البعث مع قيام الدليل عليه.
ويصفهم الحق سبحانهُ } :أوْلَـا ِئكَ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَ ّبهِمْ[ { ...الرعد]5 :
أي :أن هؤلء المكذبين لك يا محمد والمنكرين للبعث لم يكفروا فقط بال الذي أوجب التكليف
العبادي؛ بل هم يكفرون بالربوبية التي تعطي المؤمن والكافر؛ والطائع والعاصي ،وتأتمر بأمرها
السباب لتستجيب لي مجتهد يتبع قوانين الجتهاد ،فيأخذ من عطاءات الربوبية؛ وهي عطاءات
التشريف التي تضمن الرزق ،بينما عطاءات اللوهية؛ هي تكليفات بالطاعة للوامر التعبدية؛
الممثلة في " افعل " و " ل تفعل " .وسبحانه ل يكلف النسان إل بعد أن يبلغ النسان درجة
النضج التي تؤهله؛ لن ينجب مثيلً له؛ وقد ترك الحق سبحانه كل إنسان يرتع في خير النعم التي
أسبغها سبحانه على البشر ،وكان على النسان أن يسعى إلى اليمان فور أن تصله الدعوة من
الرسول المبلغ عن ال؛ هذا الرسول المشهود له بالصدق والمانة .ولذلك نجد الحق سبحانه وهو
يصف المنكرين لليمانُ } :أوْلَـا ِئكَ الّذِينَ َكفَرُواْ بِرَ ّب ِهمْ[ { ...الرعد]5 :
صحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ { [الرعد]5 :
للُ فِي أَعْنَا ِقهِ ْم وَُأوْلَـا ِئكَ َأ ْ
ويضيف...} :وَُأوْلَ ِئكَ الَغْ َ
طوْق الحديد الذي له طرف في كل يد لِيُقيدها؛ وطرف مُعلّق في الرقبة لِيُقلل من
وال ّغلّ :هو َ
مساحة حركة اليدين ،ولمزيد من الذلل.
وهم أصحاب النار؛ وكلمة " صاحب " تُطلق على مَنْ تعرفه معرفةً تروق كيانك وذاتك؛ فهناك
مَنْ تصاحبه؛ وهناك من تصادقه؛ وهناك من تؤاخيه؛ وهناك من تعرفه معرفة سطحية ،ول تقيم
علقة عميقة معه.
إن المعرفة مراتب ،والصحبة تآلف وتجاذب بين اثنين؛ ومَنْ يصاحب النار فهو مَنْ تعشقه النار،
ل تقول النار لربها يوم القيامةَ ... {:هلْ مِن
ويعشق هو النار ،ويجب كل منهما ملزمة الخر أ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مّزِيدٍ }[ق]30 :
ل إلى العاصي.
ن يص َ
أي :أن العذاب نفسه يكون مَشُوقا أ ْ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} وَيَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِالسّيّئَةِ قَ ْبلَ ا ْلحَسَنَةِ{ ...
()1699 /
والستعجال أن تطلب الشيء قبل زمنه ،وتقصير الزمن عن الغاية ،فأنت حين تريد غاية ما؛
فأنت تحتاج لزمن يختلف من غاية لخرى ،وحين تتعجل غايةً ،فأنت تريد أنْ تصل إليها قبل
زمنها.
وكل اختيار للتعجّل أو الستبطاء له مميزاته وعيوبه ،فهل الستعجال هنا لمصلحة أمر مطلوب؟
إنهم هنا يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ،وهذا دليل على اختلل وخُلْف موازين تفكيرهم ،وقد سبق
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن
لهم أن قالواَ {:وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا[} ...السراء:
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
ل وَعِ َنبٍ فَتُفَجّرَ الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ تُ ْ
نّخِي ٍ
]92-90
وهكذا نجد هؤلء الكافرين وهم يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ،كما استعجلوا أنْ تنزل عليهم
الحجارة ،وهم ل يعرفون أنْ كل عذاب له مدة ،وله ميعاد موقوت .ولم يفكروا في أنْ يقولوا" :
اللهم إنْ كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ".
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَا َرةً مّنَ ال ّ
بل إنهم قالوا... {:الّل ُهمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ
ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }[النفال]32 :
وهكذا أوضح لنا الحق سبحانه ما وصلوا إليه من خَلل في نفوسهم وفسادها؛ ذلك أن مقاييسهم
انتهت إلى الكفر ،وليس أدلّ على فساد المقاييس إل استعجالهم للسيئة قبل الحسنة؛ لن العاقل حين
يُخيّر بين أمرين؛ فهو يستعجل الحسنة؛ لنها تنفع ،ويستبعد السيئة.
ومادامت نفوس هؤلء الكافرين فاسدة؛ ومادامت مقاييسهم ُمخْتلة ،فلبد أن السبب في ذلك هو
الكفر.
حمْق الختيار في البدائل؛
إذن :فاستعجال السيئة قبل الحسنة بالنسبة للشخص أو للجماعة؛ دليلُ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فلو أنهم أرادوا الستعجال الحقيقي للنافع لهم؛ لستعجلوا الحسنة ولم يستعجلوا السيئة.
لتُ} ...
حسَنَ ِة َوقَدْ خََلتْ مِن قَبِْلهِمُ ا ْلمَثُ َ
وهنا يقول الحق سبحانه { :وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِالسّيّ َئةِ قَ ْبلَ الْ َ
[الرعد]6 :
فلماذا يستعجلون العذاب؟ ألم ينظروا ما الذي حاق بالذين كذّبوا الرسل من قبلهم؟
وحين يقول الرسول :احذروا أن يصيبكم عذاب ،أو احذروا أنْ كذا وكذا؛ فهل في ذلك كذب؟
ولماذا لم ينظروا للعِبَر التي حدثتْ عَبْر التاريخ للقوام التي كذبتْ الرسل من قبلهم؟
و " المَثُلت " جمع " مُثْلة "؛ وفي قول آخر " مَثُلَة " .والحق سبحانه يقول لنا {:وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ
ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ[} ...النحل]126 :
ويقول أيضا {:وَجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثُْلهَا[} ...الشورى]40 :
وهكذا تكون " مَثُلت " من المثل؛ أي :أن تكون العقوبة ُممَاثلة للفعل.
لتُ[ } ...الرعد]6 :
وقول الحق سبحانهَ { :وقَدْ خََلتْ مِن قَبِْلهِمُ ا ْلمَثُ َ
يعني :أنه سبحانه سبق وأنزل العذاب بالمثيل لهم من المم السابقة التي كذبتْ الرسل؛ إما بالبادة
إن كان ميئوسا من إيمانهم ،وإما بالقهر والنصر عليهم.
ويتابع سبحانه في نفس الية { :وَإِنّ رَ ّبكَ َلذُو َمغْفِ َرةٍ لّلنّاسِ عَلَىا ظُ ْل ِمهِمْ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فل يجب أنْ يحشر أحد أنفه في هذا المر.
ونلحظ هنا قول الحق سبحانه } :عَلَىا ظُ ْل ِمهِمْ[ { ...الرعد]6 :
وفي هذا القول يجد بعض العلماء أن ال قد استعمل حرفا بدلً من حرف آخر؛ فجاءت " على "
بدلً من " مع ".
ونلحظ أن " على " هي ثلثة حروف؛ و " مع " مكونة من حرفين؛ فلماذا حذف الحق سبحانه
ف وأتى بـ " على "؟ لبد أن وراء ذلك غاية.
الخ ّ
أقول :جاء الحق سبحانه بـ " على " في قوله } :وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َم ْغفِ َرةٍ لّلنّاسِ عَلَىا ظُ ْل ِمهِمْ...
{ [الرعد]6 :
ليؤكد لنا أن ظلم الناس كان يقتضي العقوبة؛ ولكن رحمته سبحانه تسيطر على العقوبة.
وهكذا أدت كلمة " على " معنى " مع " ،وأضافت لنا أن الحق سبحانه هو المسيطر على العقوبة؛
طغَى على ظلم العباد.
وأن رحمة ال تَ ْ
طعَامَ عَلَىا حُبّهِ[} ...النسان]8 :
ط ِعمُونَ ال ّ
ومِثْل ذلك قوله سبحانه {:وَ ُي ْ
حبّ الطعام.
جمّا؛ لكن إرادة الحفاوة والكرم تَطْغى على ُ
أي :أنهم ُيحِبون الطعام حَبّا َ
ولكن ل يجب أن يظن الناس أن رحمة ال تطغى على عقابه دائما؛ فلو ظن البعض من
المجترئين هذا الظن؛ وتوهموا أنها قضية عامة؛ لَفسد الكون؛ ولذلك يُنِهي الحق سبحانه الية
شدِيدُ ا ْل ِعقَابِ { [الرعد]6 :
الكريمة بقوله...} :وَإِنّ رَ ّبكَ لَ َ
أي :أنه سبحانه قادر على العقاب العظيم ،وهكذا جمعت الية بين الرجاء والتخويف.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
} وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ{ ...
()1700 /
وَيَقُولُ الّذِينَ َكفَرُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَ ْيهِ آَ َيةٌ مِنْ رَبّهِ إِ ّنمَا أَ ْنتَ مُ ْنذِ ٌر وَِلكُلّ َقوْمٍ هَادٍ ()7
ونحن نعلم أن " لول " إنْ دخلت على جملة اسمية تكون حرف امتناع لوجود؛ مثل قولك " لول
زيد عندك لَزُرْتك " ،أي :أن الذي يمنعك من زيارة فلن هو وجود زيد.
ت " لول " على جملة فعلية؛ فالناطق بها يحب أنْ يحدث ما بعدها؛ مثل قولك " لول
ولو دخل ْ
حضّا على أنْ يحدث ما
عطفتَ على فلن " أو " لول صفحتَ عن ولدك " ،أي :أن في ذلك َ
بعدها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وظاهر كلم الكفار في هذه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها أنهم يطلبون آية لتأييد صدق
الرسول صلى ال عليه وسلم في البيان الذي يحمله من الحق لهم ،وكأنهم بهذا القول يُنكِرون
المعجزة التي جاء بها صلى ال عليه وسلم وهي القرآن الكريم ،رغم أنهم أمةَ بلغة وأدب وبيان،
وأداء لُغوي رائع؛ وأقاموا أسواقا للدب ،وخصصوا الجوائز للنبوغ الدبي؛ وعلّقوا القصائد على
جدران الكعبة ،وتفاخرت القبائل بمَنْ أنجبتهم من الشعراء ورجال الخطابة.
فلما نزل القرآن من جنس نبوغكم؛ وتفوّق على بلغتكم؛ ولم تستطيعوا أن تأتوا بآية مثل آياته؛
كيف لم تعتبروه معجزة؛ وتطالبون بمعجزة أخرى كمعجزة موسى عليه السلم؛ أو كمعجزة
عيسى عليه السلم؟
لقد كان عليكم أن تفخروا بالمعجزة الكاملة التي تحمل المنهج إلى قيام الساعة.
حمْق جعلهم يطلبون معجزة غير القرآن ،ولم يلتفتوا إلى المعجزات الخرى التي صاحبتْ
ولكن ال ُ
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،لم يلتفتوا إلى أن الماء قد نبع من أصابعه صلى ال عليه وسلم؛
ن بصوت مسموع
والطعام القليل أشبع القوم وفاض منه ،والغمامة قد ظللته ،وجذع النخلة قد أَ ّ
عندما نقل رسول ال منبره؛ بعد أنْ كان صلى ال عليه وسلم يخطب من فوق الجذع.
عذْر في ذلك؛ لنهم لم يَرَوا تلك المعجزات الحِسّية؛ بحكم أنهم كافرون؛
وقد يكونون أصحاب ُ
واقتصرت ُرؤْياهم على مَنْ آمنوا برسالته صلى ال عليه وسلم.
وهكذا نعلم أن الرسول صلى ال عليه وسلم لم يُحرم من المعجزات الكونية؛ تلك التي تحدث مرة
واحدة وتنتهي؛ وهي حُجّة على مَنْ يراها؛ وقد جاءتْ لتثبت إيمان القِلّة المضطهدة؛ فحين يروْنَ
الماء مُتفجِرا بين أصابعه ،وَهُمْ مَزلْزلون بالضطهاد؛ هنا يزداد تمسّكهم بالرسول صلى ال عليه
وسلم.
ولكن الكافرين لم يَ َروْا تلك المعجزات .وكان عليهم الكتفاء بالمعجزة التي قال عنها رسول ال
صلى ال عليه وسلم " :القرآن كافيني ".
والقرآن معجزة من جنس ما نبغتُم فيه أيها العرب ،ومحمّد رسول من أنفسكم ،لم يَ ْأتِ من قبيلة
غير قبيلتكم ،ولسانه من لسانكم ،وتعلمون أنه لم يجلس إلى معلم؛ ول عِلُمِ عنه أنه خطب فيكم من
قبل ،ولم َيقْرِض الشعر ،ولم يُعرف عنه أنه خطيب من خطباء العرب.
ولذلك جاء الحق سبحانه بالقول على لسانه {:قُل ّلوْ شَآءَ اللّهُ مَا تََلوْتُهُ عَلَ ْي ُك ْم َولَ َأدْرَاكُمْ ِبهِ َفقَدْ
عمُرا مّن قَبْلِهِ َأفَلَ َتعْقِلُونَ }[يونس]16 :
لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
شعْرِ؛ وكان يجب أن تؤمنوا أنه
شتُ بينكم ولم أتكلّم بالبلغة؛ ولم أنافس في أسواق ال ّ
أي :أنني عِ ْ
قول من َلدُنْ حكيم عليم.
ن قال " :لقد كان يكتم موهبته وقام بتأجيلها ".
ولكن منهم مَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهؤلء نقول لهم :هل يمكن أن يعيش طفل يتيم الب وهو في بطن أمه؛ ثم يتيم الم وهو صغير،
جدّه وهو أيضا صغير ،ورأى تساقط الكبار من حوله بل نظام في التساقط؛ فقد ماتوا
ويموت َ
دون مرض أو سبب ظاهر؛ أكان مثل هذا النسان يأمنُ على نفسه أن يعيش إلى عمر الربعين
ليعلن عن موهبته؟
ثم من قال :إن العبقرية تنتظر إلى الربعين لتظهر؟ وكلنا يعلم أن العبقريات تظهر في أواخر
العقد الثاني وأوائل العقد الثالث.
ورغم عدم اعترافكم بمعجزة القرآن؛ هاهو الحق سبحانه يُجري على ألسنتكم ما أخفيتموه في
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ
قلوبكم؛ ويُظهره الناس في مُحكم كتابهَ {:وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
عَظِيمٍ }[الزخرف]31 :
وهكذا اعترفتُم بعظمة القرآن؛ وحاولتُم أن تغالطوا في قيمة المنزل عليه القرآن.
ويقول سبحانه هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها } :وَيَقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ َلوْل أُن ِزلَ عَلَيْهِ
آيَةٌ مّن رّبّهِ[ { ...الرعد]7 :
فلماذا إذنْ قُلْتم واعترفتم أنّ له ربا؟ أمَا كان يجب أن تعترفوا برسالته وتُعلنون إيمانكم به
وبالرسالة ،وقد سبق أنْ قالوا :إن ربّ محمد قد قَلَه.
وهذا القول يعني أنهم اعترفوا بأن له ربا؛ فلماذا اعترفوا به في الهَجْر وأنكروه في ال َوصْل.
وإذا كانوا يطلبون منك معجزة غير القرآن فاعلم يا محمد أن ربك هو الذي يرسل المعجزات؛
وهو الذي يُحدّد المعجزة بكل رسول حسب ما نبغ فيه القوم المُرْسَل إليهم الرسول ،وأنت يا محمد
مُنْذر فقط؛ أي مُحذّر...} :إِ ّنمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَِلكُلّ َقوْمٍ هَادٍ { [الرعد]7 :
فكل قوم لهم هَادٍ ،يهديهم باليات التي تناسب القوم؛ فبنو إسرائيل كانوا مُتفوّقين في السحر؛ لذلك
جاءت معجزة موسى من َلوْنِ ما نبغوا فيه؛ وقوم عيسى كانوا مُتفوقين في الطب؛ لذلك كانت
معجزة عيسى من نوع ما نبغوا فيه.
وهكذا نرى أن لكل قوم هاديا ،ومعه معجزة تناسب قومه؛ ولذلك َردّ ال عليهم الرد ال ُمفْحم حين
ل وَعِ َنبٍ
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ
قالواَ {:وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
ع ْمتَ عَلَيْنَا ِكسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ وَا ْلمَلئِكَةِ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ ُت ْ
سمَآ ِء وَلَن ّن ْؤمِنَ لِ ُرقِ ّيكَ حَتّى تُنَ ّزلَ عَلَيْنَا كِتَابا
قَبِيلً * َأوْ َيكُونَ َلكَ بَ ْيتٌ مّن ُزخْ ُرفٍ َأوْ تَ ْرقَىا فِي ال ّ
ّنقْرَ ُؤهُ} ...
[السراء]93-90 :
فيقول الحق سبحانه... {:قُلْ سُ ْبحَانَ رَبّي َهلْ كُنتُ ِإلّ َبشَرا رّسُولً * َومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ
جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ َبشَرا رّسُولً * قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء]95-93 :
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
مُ ْ
لوّلُونَ[} ...السراء:
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن َك ّذبَ ِبهَا ا َ
ويأتي الرد من الحق سبحانهَ {:ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
]59
أي :أن قوما قبلكم طلبوا ما أرادوا من اليات؛ وأرسلها لهم ال؛ ومع ذلك كفروا؛ لن الكفر يخلع
صمّم على الكفر.
ثوب العِنَاد على الكافر؛ لن الكافر ُم َ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
ح ِملُ{ ...
} اللّهُ َيعْلَمُ مَا تَ ْ
()1701 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهناك مَنْ يولد بعد ستة شهور من الحمل أو بعد سبعة شهور أو ثمانية شهور؛ وقد يمتد الميلد
لسنتين عند أبي حنيفة؛ وإلى أربع سنوات عند الشافعي؛ أو لخمس سنين عند المام مالك ،ذلك أن
مدة الحمل قد تنقص أو تزيد.
ويُقال :إن الضحاك وُلِد لسنتين في بطن أمه ،وهرم بن حيان وُلِد لربع سنين؛ وظل أهل أمه
طمْث الشهري طوال تلك المدة؛ ثم ولدتْ صاحبنا؛ ولذلك سموه "
يلحظون كِبَر بطنها؛ واختفاء ال ّ
هرم " أي :شاب وهو في بطنها.
وهكذا نفهم معنى " تغيض " َنقْصا أو زيادة؛ سواء في الخِلْقة أو للمدة الزمنية.
شيْءٍ عِن َدهُ ِب ِمقْدَارٍ } [الرعد]8 :
ويقول الحق سبحانهَ ...{ :و ُكلّ َ
والمقدار هو الكمية أو الكيف؛ زمانا أو مكانا ،أو مواهب ومؤهلت.
وقد عَدّد الحق سبحانه مفاتيح الغيب الخمس حين قال {:إِنّ اللّهَ عِن َدهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزّلُ ا ْلغَ ْيثَ
وَ َيعْلَمُ مَا فِي الَرْحَامِ[} ...لقمان]34 :
وقد حاول البعض أن يقيموا إشكالً هنا ،ونسبوه إلى الحضارة والتقدم العلمي ،وهذا التقدم يتطرق
إليه الحتمال ،وكل شيء يتطرق إليه الحتمال يبطل به الستدلل ،وذلك بمعرفة نوعية الجنين
سوْا أن العلم لم يعرف أهو طويل أم قصير؟ ذكي أم غبي؟
قبل الميلد ،أهو ذكر أم أنثى؟ وتنا َ
شقي أم سعيد؟ وهذا ما أعجز الطباء والباحثين إلى اليوم وما بعد اليوم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حساب.
وما أنْ يأتي هذا القول مُحرّكا لتلك الحقيقة اليمانية من حافة الشعور إلى ُبؤْرة الشعور؛ حتى
يدعو زكريا ربه في نفس المكان ليرزقه بالولد؛ فيبشره الحق بالولد.
وحين يتذكر زكريا أنه قد بلغ من الكبر عتيا ،وأن امرأته عاقر؛ فيُذكّره الحق سبحانه بأن عطاء
ل وَلَمْ َتكُ شَيْئا }
ن َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْب ُ
الولد أمر هَيّن عليه سبحانه {:قَالَ كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ هَيّ ٌ
[مريم]9 :
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
شهَا َدةِ{ ...
ب وَال ّ
} عَاِلمُ ا ْلغَ ْي ِ
()1702 /
ومَنْ ُكلّ شيء عنده بمقدار؛ ل يغيب عنه شيء أبدا ،وما يحدث ليّ إنسان في المستقبل بعد أن
يُولَد هو غيب؛ لكن المُطّلع عليه وحده هو ال.
صغّرا يعلمه ال أولً؛ وإن اطلع عليه النسان في أواخر العمر؛ لوجده
وكأن هناك " نموذجا " ُم َ
مطابقا ِلمَا أراده وعلمه ال أولً؛ فل شيء يتأبّى عليه سبحانه؛ ف ُكلّ شيء عنده بمقدار.
خفِي من حجاب الماضي أو المستقبل ،و ُكلّ ما غاب عن
وهو عالم الغيب والشهادة؛ يعلمُ ما َ
النسان ،ويعلم ـ من باب َأوْلَى ـ المشهودَ من النسان ،فلم يقتصر علمه على الغيب ،وترك
شهَا َدةِ ا ْلكَبِيرُ
المشهود بغير علم منه؛ ل بل هو يعلم الغيب ويعلم المشهود { :عَاِلمُ ا ْلغَ ْيبِ وَال ّ
ا ْلمُ َتعَالِ } [الرعد]9 :
والكبير اسم من أسماء ال الحسنى؛ وهناك مَنْ تساءل :ولماذا ل يوجد " الكبر " ضمن أسماء ال
الحسنى؛ ويوجد فقط قولنا " ال اكبر " في شعائر الصلة؟
وأقول :لن مقابل الكبير الصغير ،وكل شيء بالنسبة لمُوجِده هو صغير .ونحن نقول في أذان
الصلة " ال اكبر "؛ لنه يُخرِجك من عملك الذي أوكله إليك ،وهو عمارة الكون؛ لتستعين به
خلل عبادتك له وتطبيق منهجه ،فيمدّك بالقوة التي تمارس بها إنتاج ما تحتاجه في حياتك من
مأكل ،ومَلْبس ،وسَتْر عورة.
ل العمال مطلوبة حتى لقامة العبادة ،فإياك أن تقول :إن ال كبير والباقي صغير ،لن
إذن :فك ّ
الباقي فيه من المور ما هو كبير من منظور أنها نعم من المنعم الكبر؛ ولكن ال أكبرُ مِنّا؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونقولها حين يُطلَب منا أن نخرج من أعمالنا لنستعين بعبادته سبحانه.
ونعلم أن العمل مطلوب لعمارة الكون ،ومطلوب حتى لقامة العبادة ،ولن توجد لك قوة لتعبد ربك
لو لم يُقوّك ربّك على عبادته؛ فهو الذي يستبقي لك قُوتَك بالطعام والشراب ،ولن تطعم أو تشرب؛
لو لم تح ُرثْ وتبذر وتصنع ،وكل ذلك يتيح لك قوة لِتُصلي وتُزكي وتحُج؛ وكل ما ل يتم الواجب
إل به فهو واجب.
وسبق أنْ قُلت :إن الحق سبحانه حينما نادانا لصلة الجمعة قال {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا نُو ِديَ
س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّ ِه وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَِلكُمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ }[الجمعة:
ج ُمعَةِ فَا ْ
لةِ مِن َيوْمِ ا ْل ُ
لِلصّ َ
]9
وهكذا يُخرِجنا الحق سبحانه من أعمالنا إلى الصلة الموقوتة؛ ثم يأتي قول الحق سبحانه {:فَِإذَا
ضلِ اللّ ِه وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيرا ّلعَّلكُمْ ُتفِْلحُونَ }
لةُ فَانتَشِرُواْ فِي الَ ْرضِ وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ
ُقضِ َيتِ الصّ َ
[الجمعة]10 :
وهكذا أخرجنا سبحانه من العمل ،وهو أمر كبير إلى ما هو أكبر؛ وهو أداء الصلة.
وقول الحق سبحانه في وصف نفسه (المتعال) يعني أنه المُنزّه ذاتا وصفاتا وأفعالً؛ فل ذات
كذاته؛ ول صفة كصفاته ،ول فعل كفعله ،وكل ما له سبحانه يليق به وحده ،ول يتشابه أبدا مع
غيره.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
سوَآءٌ مّ ْنكُمْ مّنْ أَسَرّ ا ْل َق ْولَ} ...
{ َ
()1703 /
وساعة تسمع كلمة " سواء " فالمقصود بها عدد ل يقل عن اثنين ،فنقول " سواء زيد وعمرو " أو
" سواء زيد وعمر وبكر وخالد ".
والمقصود هنا أنه مادام الحق سبحانه عالم الغيب والشهادة؛ فأي سر يوجد لبد أن يعلمه سبحانه،
ت َومَا فِي الَ ْرضِ َومَا
سمَاوَا ِ
حمَـانُ عَلَى ا ْلعَرْشِ اسْ َتوَىا * لَهُ مَا فِي ال ّ
وهو سبحانه القائل {:الرّ ْ
خفَى }[طه]7-5 :
جهَرْ بِا ْل َق ْولِ فَإِنّهُ َيعْلَمُ السّ ّر وَأَ ْ
حتَ الثّرَىا * وَإِن تَ ْ
بَيْ َن ُهمَا َومَا َت ْ
خفَى هو ما َبقِى عندك ،وإنْ كان
وهل السر هو ما ائتمنتَ عليه غيرك؟ إذا كان السر هو ذلك؛ فال ْ
السر بمعنى ما يوجد عندك ولم َتقُلْه لحد؛ فسبحانه يعلمه قبل أن يكون سرا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خفٍ بِالّيلِ وَسَا ِربٌ بِال ّنهَارِ } [الرعد]10 :
ويتابع سبحانهُ ...{ :هوَ مُسْ َت ْ
وهكذا جمع الحق سبحانه هنا كل أنواع العمل؛ فالعمل كما نعلم هو شغل الجوارح بمتعلقاتها؛
فعمل اللسان أن يقول وأن يذوق ،وعمل اليدي أن تفعل ،وعمل الذن أن تسمع ،وعمل القلب هو
النية ،والعمل كما نعلم يكون مرّة َقوْلً ،ومرّة يكون ِفعْلً.
وهكذا نجد " القول " وقد أخذ مساحة نصف " العمل " ،لن البلغ عن ال قول ،وعمل الجوارح
خاضعِ ِل َمقُول القول من الحق سبحانه وتعالى.
ولذلك أوضح لنا الحق سبحانه أن العمل هو ُكلّ فعل متعلق بالجوارح؛ وأخذ القول شِقا بمفرده؛
وأخذتْ أفعال الجوارح الشّقّ الخر؛ لن عمل بقية الجوارح يدخل في إطار ما سمع من منهج
ال.
سوَآءٌ مّ ْنكُمْ مّنْ أَسَرّ
ولذلك تجمع الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها كل العمل من قَوْل وفعلَ { :
خفٍ بِالّيلِ وَسَا ِربٌ بِال ّنهَارِ } [الرعد]10 :
جهَرَ بِهِ َومَنْ ُهوَ مُسْ َت ْ
ل َومَنْ َ
ا ْل َقوْ َ
ومَنْ يستخفي بالليل لبد أنه يُدبّر أمرا؛ كأن يريد أن يتسمّع ما وراء كل حركة؛ أو ينظر ما يمكن
أنْ يشاهده ،وكذلك مَنْ يبرز ويظهر في النهار فال عالم به.
وكان على الكفار أن ينتبهوا لمر عجيب كانوا يُسِرّونه في أنفسهم؛ لحظة أنْ حكى ال؛ فقال{:
سهِمْ َلوْلَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ[} ...المجادلة]8 :
وَيَقُولُونَ فِي أَنفُ ِ
خفَي؟
فكيف عَِلمَ ال ذلك لول أنه يعلم السّرّ وأ ْ
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{ َلهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ يَدَ ْيهِ} ...
()1704 /
حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ إِنّ اللّهَ لَا ُيغَيّرُ مَا ِب َقوْمٍ حَتّى ُيغَيّرُوا مَا
لَهُ ُم َعقّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ يَ ْ
ن وَالٍ ()11
سهِ ْم وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ ِب َقوْمٍ سُوءًا فَلَا مَ َردّ لَ ُه َومَا َلهُمْ مِنْ دُونِهِ مِ ْ
بِأَ ْنفُ ِ
وكلمة (له) تفيد النفعية ،فإذا قلت " لك كذا " فهي عكس أن نقول " عليك كذا " .وحين يقول
سبحانه { :لَهُ ُم َعقّبَاتٌ[ } ...الرعد]11 :
فكأنّ المُعقّبات لصالح النسان .و " مُعقّبات " جمع مؤنث ،والمفرد " مُعقّبة " ،أي :أن للحق
حفْظه ليلً ونهارا من الشياء التي ل يمكن
سبحانه وتعالى ملئكة يتناوبون على حراسة النسان و ِ
الحتراز منها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمَ َثلُ هو تلك الحصاءات التي خرجت عن البشر الذين تلدغهم الثعابين ،فقد ثبت أنها ل تلدغهم
وهم نائمون؛ بل في أثناء صَحْوتهم؛ أي :ساع َة يكونون في ستْر النوم فهناك ما يحفظهم؛ أما في
غفْلة فتلدغه الفعى.
اليقظة فقد يتصرّف النسان بطَيْشٍ و َ
ونحن نقول في أمثالنا الشعبية " :العين عليها حارس "؛ ونلحظ كثيرا من الحداث التي تبدو لنا
غريبة كأنْ يسقط طفل من نافذة دور علوي؛ فل ُيصَاب بسوء؛ لن الحق سبحانه شاء أن تحفظه
حفَظة أن يحفظوا النسان من ُكلّ سوء.
الملئكة المُعقّبات من السّوء؛ لن مهمة ال َ
وهكذا نرى أن الحق سبحانه قد أعدّ للنسان الكونَ قبل أن يخلقه ليستخلفه فيه؛ أعدّ السماوات
وأع ّد الرض؛ وسَخّر الشمس والقمر؛ وأخرج الثمراتِ؛ وجعل الليل َيغْشَى النهارَ.
وكُلّ ذلك أعدّه سبحانه للخليفة قبل أن يوجد الخليفة؛ وهو سبحانه قَيّوم على هذا الخليفة؛ فيصونه
أيضا بعد الخَلْق ،ول يَدَعُه لمقومات نفسه ليدافع عنها فيما ل يستطيع الدفاع عنها ،ويُكلّف ال
الملئكة المُعقّبات بذلك.
وقد ينصرف معنى المُعقّبات إلى الملئكة الذين يتعقّبون أفعال النسان وكتابة حسناته وكتابة
حفْظه وكتابة أعماله ،فإن كتبوا له الحسنات فهذا لصالحه.
سيئاته ،ويمكن أن يقوما بالعملين معا؛ ِ
ولقائل أن يقول :ولكنهم سيكتبون السيئات؛ وهذه على النسان وليست له.
وأقول :ل؛ و َيحْسُن أن نفهم جيدا عن المُشرّع العلى؛ ونعلم أن النسان إذا ما عرف أن السيئة
س ُتحْسب عليه وتُحْصى؛ وتُكتب؛ يمسك كتابه ليقرأه؛ فلسوف يبتعد عن فعل السيئات.
وهكذا يكون المر في مصلحته ،مَثَلُه مَ َثلُ الطالب الذي يرى المراقب في لجنة المتحان ،فل
حقّه في الحصول على التقدير الصحيح؛ بدلً من أن يِغُشّ غيره ،فيأخذ فرصة
يكرهه؛ لنه يحمي َ
أكبر منه في التقدير والنجاح؛ فضلً عن أن كل الطلبة يعلمون أن وجود المراقب ال َيقِظ هو دافعٌ
لهم لِل ُمذَاكرة.
ولذلك أقول دائما :إياك أنْ تكره أن يكون لك أعداء؛ لن الذي َيغُرّ النسانَ في سلوكه هو نفاقُ
أصحابه له ،أما عدوك فهو يفتح عينيه عليك طوال الوقت؛ ولذلك فأنت تحذر أن تقع في الخطأ.
وفي هذا المعنى يقول الشاعر:عِدَاي َلهُمْ َفضْل عليّ فتعدّى لهم شكر على نفعهم ليافَهم كَالدّواءِ
حمَانُ عنّي العَادِيَاهُمْ بَحثُوا عَنْ زَلّتي فاجتْنبْ ُتهَا فَأصْبَحتُ ِممّا ذله
شفَاءِ ِلمُزْمنٍ فَل أبعدَ الر ْ
وال ّ
العربُ خَاليَا
إذن :فكتابة الحسنات والسيئات هي مسألةٌ لصالح النسان؛ وحين يتَعاقبُونَ على النسان؛ فكأنهم
يصنعون َدوْريّاتٍ لحماية الفرد؛ ولذلك نجد رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :يتعاقبون فيكم
ملئكة بالليل وملئكة بالنهار ،ويجتمعون في صلة الصبح وصلة العصر؛ فيصعد إليه الذين
باتوا فيكم ،فيسألهم ـ وهو أعلم بكم ـ :كيف تركتُم عبادي؟ فيقولون :أتيناهم وهُ ْم يصلون،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتركناهم وهُمْ يُصلّون ".
وكأن الملئكة دوريات.
شهُودا }[السراء]78 :
ويقول الحق سبحانه... {:إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ مَ ْ
أي :أن ملئكة الليل يشهدون؛ ومعهم ملئكة النهار.
وحديث رسول ال صلى ال عليه وسلم ملحوظ فيه الوقت الزمني للحركة النسانية؛ َف ُكلّ حركات
النسان وعمله يكون من الصبح إلى العصر ،ثم يرتاح النسان غالبا من بعد ذلك؛ ثم ينام.
والمُعقّبات َيكُنّ من بين يدي النسان ومن خلفه؛ و (من بين يديه) من أجل الرصد ،ولذلك وجدنا
أبا بكر الصديق ـ رضي ال عنه ـ أثناء الهجرة النبوية كان يسير بعض الوقت أمام النبي صلى
ال عليه وسلم؛ وكان يسير البعض الخر خلف النبي صلى ال عليه وسلم.
كان أبو بكر ـ رضي ال عنه ـ يتقدم ليرقب :هل هناك مَنْ يرصد الرسول أم ل؟ ثم يتراجع
ن يتتبعهما؟ وهكذا حرص أبو بكر على أنْ
إلى الخلف ليمسح كل المكان بنظره ليرقب :أهناك مَ ْ
يحمي الرسول صلى ال عليه وسلم من الرّصد أو التربّص.
حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ[ { ...الرعد]11 :
ويقول الحق سبحانه } :لَهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ
والسطحيّ يقول :إن تلك الملئكة يحفظون النسان من المر المراد به من ال.
ونقول :إن ال لم يُنزِل الملئكة ليعارضوا قَدَره؛ وهذا الحفظ ل يكون من ذات النسان لنفسه ،أو
من الملئكة ضد َقدَر ال؛ والمعنى هنا ينصرف إلى أن الملئكة إنما يحفظون النسان بأمر ال.
ولذلك نجد في القرآن قول الحق سبحانهّ {:ممّا خَطِيئَا ِتهِمْ أُغْ ِرقُواْ[} ...نوح]25 :
أي :بسبب خطيئتهم أغرقوا ،فإياك أنْ تظن أنّ الملئكة يحفظون النسان من قَدَر ال؛ لننا نعلم
أن الحق سبحانه إذا أراد أمرا فل رَادّ له.
سهِمْ[ { ...الرعد]11 :
ويتابع سبحانه } :إِنّ اللّهَ لَ ُيغَيّرُ مَا ِب َقوْمٍ حَتّىا ُيغَيّرُواْ مَا بِأَ ْنفُ ِ
وهو سبحانه الذي خلق الكون الواسع بكل أجناسه؛ جمادا ونباتا وحيوانا وأفلكا وأملكا؛ وجعل
كل ذلك مُسخّرا للنسان؛ ثم يحفظ الحق سبحانه النسان ويصونه بقيوميته.
وقد يقول قائل :ولماذا إذن تحدث البتلءات لبعض من الناس؛ رغم أنه سبحانه قد قال إنه
يحفظهم؟
ونقول :إن تلك البتلءات إنما تجري إذا ما غَيّر البشر من منهج ال؛ لن الصيانة تُقوّم ما قام
بالمنهج.
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ
واقرءوا َقوْل الحق سبحانهَ {:وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْيَةً كَا َنتْ آمِ َنةً مّ ْ
خوْفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }
َمكَانٍ َفكَفَ َرتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
[النحل]112 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا نعلم أن الصيانة للنسان والحفظ له والمداد له من قبل أن يُولَد؛ ُكلّ ذلك لن يرجع عنه ال
مادام النسان يمشي على صراط مستقيم؛ لكن إذا ما حَادَ النسان عن الصراط المستقيم؛ فيلفته ال
ببعض من العِبَر والعظات ليعود إلى الصراط المستقيم.
والتغيير الذي يُجرِيه ال على البشر حتى يُغيّروا ما بأنفسهم؛ يشمل المدادات الفرعية؛ أما
المدادات الصلية فل يمنعها عنهم مثل الشمس والقمر والنجوم والهواء؛ ولم يمنع الرض أن
تُخرِج لهم المياه.
ويصيبهم في الشياء التي من الممكن أن يسير الكون في انتظامه رغم حدوثها؛ كالمصيبة في
المال أو المصيبة في النفس؛ ويظل الكون على مسيرته المنتظمة.
ولهذا نجد أحد الفلسفة وقد قال " :إن ال ل يتغير من أجلكم؛ ولكن يجب أن تتغيروا أنتم من أجل
ال ".
شقَىا }[طه]123 :
ل َولَ َي ْ
ضّوسبق أن قال الحق سبحانهَ ... {:فمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلَ َي ِ
ش ًة ضَنكا[} ...طه]124 :
وهو القائل سبحانهَ {:ومَنْ أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِي َ
وأنت ترى في عالمنا المعاصر مجتمعاتٍ مُتْرَفة؛ نستورد منهم أدوات الحضارة المعاصرة؛ لكنهم
يعيشون في الضّنْك النفسي البالغ؛ وهذا ما يُثبت أن الثراءَ المادي بالنقود أو أدوات الحضارة؛ ل
يُحقّق للنسان التوازن النفسي أو السعادة؛ وينطبق عليهم ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه
ظهْرُ مَا الح ْملُ إلّ مَا وَعَاهُ الصّدْرفقد يكون الثراء المادي في ظَنّ
ال:ليسَ الح ْملَ مَا َأطَاقَ ال ّ
البعض هو الحُلْم؛ فيجنح النسان إلى الطريق غير السّوي بما فيه من عُمولت؛ وعدم أمانة؛
ورغم النقود التي قد يكتنزها هذا النسان ،إل أن المراض النفسية أو المراض العضوية تف ِتكُ
به.
وهكذا نجد الحق سبحانه وهو يُغيّر ول يتغيّر؛ فهو المُغيّر ل المُتغيّر.
سهِمْ[ { ...الرعد]11 :
وقول الحق سبحانه } :إِنّ اللّ َه لَ ُيغَيّرُ مَا ِبقَوْمٍ حَتّىا ُيغَيّرُواْ مَا بِأَ ْنفُ ِ
يُوضّح لنا أن أعمال الجوارح ناشئةٌ من نَبْعِ نفس تُحرّك الجوارح؛ وحين تصلح النفس؛ تصبح
الجوارح مستقيمة؛ وحين تفسد النفس تصير الجوارح غير مستقيمة.
فالحق سبحانه وتعالى أخضع كل الجوارح ِلمُرادَات النفس ،فلو كانت النفسُ مخالف ًة لمنهج ال؛
فاللسان خاضع لها؛ ول ينطق رغم إرادته بالتوحيد؛ لن النفسَ التي تديره مخالفةٌ لليمان.
عوْا أنهم أبناءُ ال؛ وسبحانه مُن ّزهٌ عن
والمَثَل :هم هؤلء الذين نسبوا الرسل الذين اختارهم ال؛ فادّ َ
ذلك؛ أما إذا كانت النفس مؤمن ًة فهي تأمرُ اللسان أن يقول كلمة التوحيد؛ ويسعد هو بذلك؛ لكنه
في الحالتين ل يعصي النفس التي سَخّره لها ال.
وهكذا تكون الجوارح مُنفعِلَة لرادة صاحبها ،ول تنحلّ الرادة البشرية عن الجوارح إل حين
يشاء ال ذلك في اليوم الخر ،وفي الموقف الحق.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولحظتَها لن يستطيع أحد أنْ يسيطر على جوارحه؛ لن المُلْك يومئذ للواحد القهار؛ وسقطتْ ولية
الفَرْد على جوارحه؛ وتشهد هذه الجوارح على صاحبها بما فعلتْه َو ْقتَ أنْ كانت مقهورة لرادته.
()1705 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
البرق فنحن نخاف من الصواعق؛ لن الصواعقَ عادة تأتي بعد البَرْق؛ أو تأتي السحابات
ال ُممْطِرة.
طمَع من الظاهرة الواحدة .أو :أنْ يكون الخوف لقوم؛ والرجاء والطمع
خوْف وال ّ
وهكذا يأتي ال َ
لقوم آخرين.
والمثل الذي أضربه لذلك دائما هو قول أحد المقاتلين العرب وصف سيفه بأنه " فَتْح لحبابه،
وحَ ْتفٌ لعدائه ".
والمثل الخر الذي أضربه ما رواه لنا أمير بلدة اسمها " الشريعة " وهي تقع بين الطائف ومكة؛
وقد حدثنا أمير الشريعة عام 1953عن امرأة صالحة تحفظ القرآن؛ اسمها " آمنة ".
حلّ إقامته؛ وكان أحدُ َزوْجَي
هذه المرأة كان لها بنتان؛ تزوّجتا؛ وأخذ ُكلّ َزوْجٍ زوجته إلى مَ َ
البنتين يعمل في الزراعة؛ والخر يعمل بصناعة " الشّرُك " .وقالت آمنة لزوجها :ألَ تذهب
ن لقي في رحلته هي ابنته
لمعرفة أحوال البنتين؟ فذهب الرجل لمعرفة أحوال البنتين ،فكان أول مَ ْ
المتزوجة ِممّنْ يحرث ويبذر ،فقال لها :كيف حالك وحال زوجك وحال الدنيا معك أنت وزوجك؟
قالت :يا أَبتِ ،أنا معه على خير ،وهو معي على خير ،وأما حال الدنيا؛ فَا ْدعُ لنا ال أنْ يُنزِل
المطر؛ لننا حرثنا الرض وبذرْنَا البذور؛ وفي انتظار َريّ السماء.
فرفع الب يديه إلى السماء وقال :اللهم إنّي أسألك الغَيْث لها.
وذهب إلى الخرى؛ وقال لها :ما حالك؟ وما حال زوجك؟ فقالت :خير ،وأرجوك يا أبي أن تدعوَ
لنا ال أنْ يمنع المطر؛ لننا قد صنعنا الشّرَاك من الطين؛ ولو أمطرتْ لَفسدتِ الشّرُك ،فَدَعا لها.
وعاد إلى امرأته التي سألته عن حال البنتين؛ فبدا عليه الضيق وقال :هي سَنة سيئة على واحدة
منهما ،وروى لها حال البنتين؛ وأضاف :ستكون سنة مُرْهِقة لواحدة منهما.
فقالت له آمنة :لو صبرت؛ َلقُ ْلتُ لك :إن ما تقوله قد ل يتحقق؛ وسبحانه قادر على ذلك.
قال لها :ونعم بال ،قولي لي كيف؟ فقال آمنة :ألم تقرأ قول ال {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُ ْزجِي سَحَابا ثُمّ
سمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَ َردٍ
جعَلُهُ ُركَاما فَتَرَى ا ْلوَ ْدقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ وَيُنَزّلُ مِنَ ال ّ
ُيؤَّلفُ بَيْ َنهُ ثُمّ َي ْ
فَ ُيصِيبُ ِبهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْ ِرفُهُ عَن مّن يَشَآءُ[} ...النور]43 :
فسجد الرجل ل شكرا أن رزقه بزوج تُعينه على أمر دينه ،ودعا :اللهم اصْرِف عن صاحب
الشّراكِ المطر؛ وأ ِفضْ بالمطر على صاحب الحَرْث .وقد كان.
خوْفا
وهذا المثل يوضح جيدا معنى الخوف والطمع عند رؤية الرعدُ { :هوَ الّذِي يُرِيكُمُ الْبَ ْرقَ َ
طمَعا[ } ...الرعد]12 :
وَ َ
إما من النفس الواحدة بأن يخافَ النسانُ من الصواعق ،ويطمع في نزول المطر ،أو من
متقابلين؛ واحد ينفعه هذا؛ وواحد يضره هذا.
ويضيف الحق سبحانه...{ :وَيُنْشِىءُ السّحَابَ ال ّثقَالَ } [الرعد]12 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونحن نعلم أن السحاب هو الغَيْم المُتَراكم؛ ويكون ثقيلً حين يكون ُمعَبئا؛ وهو عكس السحاب
الخفيف الذي يبدو كَنُ َتفِ القطن.
ويُقال عند العرب " :ل تستبطئ الخَيْل؛ لن أبطأَ الدلء فَيْضا أملؤها ،وأثقلَ السحابِ مَشْيا َأحْفُلهَا
".
فحين تنزل الدّلْو في البئر؛ وترفعه؛ فالدّلْو المَلن هو الذي يُرهقك حين تشدّه من البئر؛ أما الدلو
الفارغ فهو خفيفٌ لحظة جَذْبه خارج البئر؛ وكذلك السحاب ال ّثقَال تكون بطيئة ِلمَا تحمله من ماء.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
حمْ ِدهِ} ...
{ وَيُسَبّحُ الرّعْدُ ِب َ
()1706 /
وسبق أن جاء الحق سبحانه بذكر البرق وهو ضوئيّ؛ وهنا يأتي بالرعد وهو صوتيّ ،ونحن
نعرف أن سرعة الضوء أسرع من سرعة الصوت؛ ولذلك جاء بالبرق أولً ،ثم جاء بالرعد من
بعد ذلك.
وحين يسمع أحدُ العام ِة واحدا ل يعجبه كلمه؛ يقول له " سمعت الرعد "؛ أي :يطلب له أنْ يسمع
الصوت المزعج الذي يُتعِب مَنْ يسمعه .ولنا أن ننتبه أن المُزْعِجات في الكون إذا ما ذكرت
مُسَبّحة لربها فل تنزعج منها أبدا ،ول تظن أنها نغمة نَشّازٌ في الكون ،بل هي نغمة تمتزج ببقية
أنغام الكون.
ونحن نفهم أن التسبيح للعاقل القادر على الكلم ،ولكن هذا عند النسان؛ لن الذي خلق الكائنات
كلها علّمها كيف تتفاهم ،مثلما عَلّم النسان كيف يتفاهم مع بني جنسه؛ وكذلك عَلّم كل جنس لغته.
طمَ ّنكُمْ
وكلنا نقرأ في القرآن ماذا قالت النملة حين رأتْ جنودَ سليمان {:ادْخُلُواْ مَسَاكِ َنكُمْ لَ َيحْ ِ
شعُرُونَ }[النمل]18 :
ن وَجُنُو ُد ُه وَ ُه ْم لَ يَ ْ
سُلَ ْيمَا ُ
وقد سمعها سليمان عليه السلم؛ لن ال علّمه مَنْطِق تلك اللغات ،ونحن نعلم أن الحق سبحانه عَلّم
طقَ الطّيْرِ[} ...النمل]16 :
سليمان منطق الطير ،قال تعالى {:عُّلمْنَا مَن ِ
شفْرة
ألم يتخاطب سليمان عليه السلم مع الهدهد وتكلّم معه؟ بعد أن َفكّ سليمان بتعليم ال له َ
حطْ بِ ِه َوجِئْ ُتكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ َيقِينٍ * إِنّي
حديث الهدهد؛ وقال الهدهد لسليمانَ {:أحَطتُ ِبمَا َلمْ تُ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْ ٍء وََلهَا عَ ْرشٌ عَظِيمٌ }[النمل]23-22 :
وَجَدتّ امْرََأةً َتمِْل ُكهُ ْم وَأُوتِ َيتْ مِن ُكلّ َ
سمِعه
ن يفيض ال عليه من أسرار خَلْقه يُ ْ
إذن :ف ُكلّ شيء له لغة يتفاهم بها لقضاء مصالحه ،ومَ ْ
هذه اللغات ،وقد فاض الحقّ سبحانه على سليمان بذلك ،ففهم لغةَ الطير وتكلّم بها مع الهدهد؛
جعُونَ }[النمل]28 :
وقال له {:اذْهَب ّبكِتَابِي هَـاذَا فَأَ ْلقِهْ إِلَ ْيهِمْ ثُمّ َت َولّ عَ ْنهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَ ْر ِ
وهكذا عرفنا بقصة سليمان وبلقيس؛ وكيف فَهم سليمان مَنْطِق الطير وتكلّم بها مع الهدهد؟ وهكذا
عَلِمنا كيف يتعلّم النسان لغاتٍ متعددةً؛ فحين يذهب إنسان إلى مجتمع آخر ويبقى به مُدّة؛ فهو
يتعلم لغة ذلك المجتمع ،ويمكن للنسان أن يتعلم أكثر من لغة.
وقد عرض الحق سبحانه مسألة وجود لغاتٍ للكائنات في قصة النملة وقصة الهدهد مع سليمان؛
وهما من المرتبة التالية للبشر ،ويعرض الحق سبحانه أيضا قضية وجود لغة لكل كائن من
ن وَالطّيْ َر َوكُنّا فَاعِلِينَ }[النبياء]79 :
سخّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبّحْ َ
مخلوقاته في قوله... {:وَ َ
وكأن الجبال تفهم تسبيح داود وتُردّده من خلفه.
ي وَالِشْرَاقِ * وَالطّيْرَ مَحْشُو َرةً
شّسخّرْنَا الجِبَالَ َمعَهُ يُسَبّحْنَ بِا ْلعَ ِ
أيضا يقول الحق سبحانه {:إِنّا َ
ُكلّ لّهُ َأوّابٌ }[ص]19-18 :
طوْعا َأوْ كَرْها} ...
وكذلك يخاطب ال الرض والسماء ،فيقولَ {:فقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا َ
[ فصلت]11 :
فيمتثلن لمره... {:قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }
[فصلت]11 :
صوْتا يختلف من
وهكذا نعلم أن لكل جنس لغةً يتفاهم بها ،ونحن نلحظ أن لكل نوع من الحيوانات َ
ن يضعوا لها ُمعْجما.
نوع إلى آخر ،ويدرس العلماء الن لُغةَ السماك ،ويحاولون أ ْ
شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ
ن وَإِن مّن َ
ض َومَن فِيهِ ّ
سمَاوَاتُ السّ ْب ُع وَالَرْ ُ
إذن :فساعة تسمع {:تُسَبّحُ لَهُ ال ّ
حمْ ِدهِ[} ...السراء]44 :
بِ َ
فافهم أن ما من كائن إل وله لغة ،وهو يُسبّح بها الخالق الكرم.
حهُمْ[} ...السراء]44 :
ثم يقول تعالى {:وَلَـاكِن لّ َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ
مثلما ل يفقه جاهل بالنجليزية لغة النجليز.
وقال البعض :إن المُرَاد هنا هو تسبيح الدللة على الخالق؛ وقد حكم سبحانه بأننا ل نستطيع َفهْم
تسبيح الدللة.
ولكني أقول :إن العلم المعاصر قد توصّل إلى دراسة لغات الكائنات وأثبتها؛ وعلى ذلك يكون
التسبيح من الكائنات بالنطق والتفاهم بين مُتكلّم وسامع ،بل ولتلك الكائنات عواطف أيضا.
ونحن نرى العلماء في عصرنا يدرسون عواطف الشجر تجاه مَنْ يسقيه من البشر ،وهنا تجربة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تتحدث عن قياس العلماء لذبذبة النبات أثناء رَيّه بواسطة مُزارِع مسئول عنه؛ ثم مات للرجل؛
فقاسوا ذبذبة تلك النباتات؛ فوجدوها ذبذبة مضطربة؛ وكأن تلك النباتات قد حزنتْ على مَنْ كان
يعتني بها؛ وهكذا توصّل العلماء إلى معرفة أن النباتات لها عواطف.
وقد بين لنا الحق سبحانه أن الجمادات لها أيضا عواطف؛ بدليل قوله عن قوم فرعونَ {:فمَا َب َكتْ
سمَآ ُء وَالَ ْرضُ[} ...الدخان]29 :
عَلَ ْيهِمُ ال ّ
فالسماء والرض قد استراحتا لذهاب هؤلء الشرار عن الرض ،فالسماوات والرض ملتزمتان
مع الكون التزاما ل تخرج به عن مُرادات ال ،وحين يأتي كافر ليصنع بكفره نشازا مع الكون؛
فهي تفرح عند اختفائه ول تحزن عليه.
ومادامت السماء والرض ل تبكيان على الكافر عند رحيله؛ فلبد أنها تفرحان عند هذا الرحيل؛
ولبد أنهما تبكيان عند رحيل المؤمن.
ولذلك نجد َقوْل المام علي كرم ال وجهه :إذا مات ابن آدم بكى عليه موضعان؛ موضع في
السماء ،وموضع في الرض؛ وأما موضعه في الرض فَموضِع ُمصَلّه؛ وأما موضعه في السماء
فَمصَعدُ عمله ".
حمْ ِدهِ[ { ...الرعد]13 :
وهكذا نجد أن معنى قول الحق سبحانه } :وَيُسَبّحُ الرّعْدُ ِب َ
أي :يُنزّه الرعد ويُمجّد اسم الحق ـ تبارك وتعالى ـ تسبيحا مصحوبا بالحمد.
ونحن حين نُنزّه ذات ال عن أن تكون مثل بقية الذوات ،وحين ننزه ِفعْل ال عن أن يكون كأفعال
غيره سبحانه ،وحين ننزه صفات ال عن أن تكون كالصفات ،فلبد أن يكون ذلك مصحوبا
بالحمد له سبحانه؛ لنه مُنزّه عن كل تلك الغيار ،وعلينا أنْ ُنسَرّ من أنه مُنزّه.
حمْ ِد ِه وَا ْلمَلَ ِئكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ[ { ...الرعد]13 :
ويقول تعالى } :وَيُسَبّحُ الرّعْدُ ِب َ
ولقائل أنْ يتساءل :كيف تخاف الملئكة من ال؟ وهم الذين قال فيهم الحق سبحانه... {:لّ
َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَهُمْ وَيَ ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم]6 :
وأقول :إن الملئكة يخافون ال خِيفة المَهابة ،وخيفة الجلل.
ونحن نرى في حياتنا مَنْ يحب رئيسه أو قائده؛ فيكون خوفه َمهَابة؛ فما بالنا بالحق سبحانه
وتعالى الذي تُحبه ملئكته وتَهاب جلله وكماله ،صحيح أن الملئكة مقهورون ،لكنهم يخافون
ربّهم من فوقهم.
وساعة تسمع الملئكةُ الرعدَ فهم ل يخافون على أنفسهم؛ ولكنهم يخافون على الناس؛ لنهم حفظة
عليهم؛ فالملئكة تعي مهمتها كحفظة على البشر؛ وتخشى أن يربكهم أيّ أمر؛ وهم يستغفرون
ِلمَنْ في الرض.
حمْ ِد ِه وَا ْلمَلَ ِئكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ[ { ...الرعد]13 :
إذن :فقوله } :وَيُسَبّحُ الرّعْدُ ِب َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُبيّن لنا أن الملئكة تخاف على البشر من الرعد؛ َفهُمْ مُكلّفون بحمايتهم ،مع خوفهم من ال مهابة
وإجللً.
ويقول رسول ال صلى ال عليه وسلم في الحديث الشريف " :ما من يوم يصبح العباد فيه إل
ملكان ينزلن فيقول أحدهما :ال أعط منفقا خلفا .ويقول الخر :اللهم أعط ممسكا تلفا ".
وقد يظُنّ ظَانّ أن هذه دعوة ضد ال ُممْسِك؛ ولكني أقول :لماذا ل تأخذها على أنها دعوة خَيْر؟
فالمُنفِق قد أخذ ثوابا على ما أدّى من حسنات؛ أما ال ُممْسِك فحين يبتليه ال بتلفِ بعضٍ من ماله؛
ويصبر على ذلك؛ فهو يأخذ جزاء الصبر.
صوَاعِقَ فَ ُيصِيبُ ِبهَا مَن يَشَآ ُء وَ ُهمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ
سلُ ال ّ
ويتابع سبحانه في نفس الية...} :وَيُرْ ِ
وَ ُهوَ شَدِيدُ ا ْلمِحَالِ { [الرعد]13 :
ح َدثٍ أليم في الكون لينتبه هؤلء الناس من غفلتهم؛ وها هو ذا رسول ال صلى
ولبُدّ من وجود َ
ال عليه وسلم؛ وقد جاءه اثنان من المعاندين الكبار أربد بن ربيعة؛ أخو لبيد بن ربيعة ،وعامر
طفَيْل؛ لِيُجادله بهدف التلكّؤ والبحث عن َهفْوة فيما يقوله أو عَجْزٍ في معرفته ،والمثل ما قاله
بن ال ّ
مجادلون مثلهم ،وأورده القرآن الكريم... {:أَإِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما َأإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }[المؤمنون:
]82
وكذلك استعجال بعض من المجادلين للعذاب.
وجاء هذان الثنان وقال لرسول ال صلى ال عليه وسلم :هل ربنا مصنوع من الحديد أم من
النحاس؟ وهما قد قال ذلك لنهما من عَبَدة الصنام المصنوعة من الحجارة ،والقوى من الحجارة
هو الحديد أو النحاس؛ فدعا رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ فنزلت صاعقة؛ فأحرقتهما.
وإرسال الصواعق هنا آية قرآنية ،ولبد وأن تأتي آية كونية تصدقها؛ وقد حدثت تلك الية
الكونية.
ويقول الحق سبحانه } :وَهُمْ ُيجَادِلُونَ فِي اللّهِ[ { ...الرعد]13 :
والجدال في ال أنواع متعددة؛ جدال في ذاته؛ وجدال في صفاته ،أو جدال في الحسنة والسيئة،
وقد جادلوا أيضا في إنزال آية مادية عليه؛ لنهم لم يكتفوا بالقرآن كآية؛ على الرغم من أن
القرآن آية معجزة ومن جنس ما برعوا فيه ،وهو اللغة.
عقْل لِيُسبح؛ والملئكة ل تكليفَ لها؛ فكيف
وقد جادلوا أيضا في الرعد؛ وقالوا :إن الرعد ليس له َ
تُسبّح؟
ولكن الحق سبحانه قال :إنه قادر على أن يُرسِل الصواعق ويصيب بها مَنْ يشاء؛ فيأتي بالخير
ِلمَنْ يشاء؛ ويصيب بالضر مَنْ يشاء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هل لديكم الوقت لكل تلك ال ُممَاراة بقصد الجَدَل والعناد المذموم؟
حسُن استخدامه وقد يُسَاء استخدامه؛ والحق سبحانه قال لناَ {:ولَ ُتجَادِلُواْ
فالجدل في حَدّ ذاته قد يَ ْ
أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ[} ...العنكبوت]46 :
جهَا وَتَشْ َتكِي إِلَى اللّهِ[} ...المجادلة]1 :
سمِعَ اللّهُ َق ْولَ الّتِي تُجَادُِلكَ فِي َزوْ ِ
وقال أيضاَ {:قدْ َ
وهذا جَ َدلٌ المراد منه الوصول إلى الحق.
شدِيدُ ا ْلمِحَالِ { [الرعد]13 :
ويُذيّل ال آية سورة الرعد بقوله...} :وَ ُهوَ َ
ويقال " :محل فلن بفلن " أي :كَادَ له كيدا خفيا ومكر به ،والمحَال هو الكَيْد والتدبير الخفيّ،
خصْم علنية ،فيبُيّتون له
ومَنْ يلجأون إليه من البشر هُم الضّعاف الذين يعجزون عن مواجهة ال َ
بإخفاء وسائل اليلم.
وهذا يحدث بين البشر وبعضهم البعض؛ لن البشر ل يعلمون الغيب؛ لكن حين يكيد ال؛ فل أحدَ
بقادر على كَيْده ،وهو القائل سبحانه {:إِ ّنهُمْ َيكِيدُونَ كَيْدا * وََأكِيدُ كَيْدا * َف َم ّهلِ ا ْلكَافِرِينَ َأ ْمهِ ْلهُمْ
ُروَيْدا }[الطارق]17-15 :
ن وَ َي ْمكُرُ اللّهُ
لن كيد ال ل غالب له؛ وهو كَيْد غير مفضوح لحد ،ولذلك قال تعالى... {:وَ َي ْمكُرُو َ
وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال]30 :
هُمْ أرادوا أن يُبيّتوا لرسوله صلى ال عليه وسلم؛ وأرادوا قَتْله؛ وجاءوا بشاب من كل قبيلة
ليمسك سيفا كي يتوزع َدمُه بين القبائل ،وترصدوا له المرصاد؛ ولكن رسول ال صلى ال عليه
غشَيْنَاهُمْ َف ُه ْم لَ يُ ْبصِرُونَ }[يس]9 :
وسلم كانت تصاحبه العناية فخرج عليهم ملهما قوله تعالى {:فَأ ْ
وبذلك أوضح لهم أنهم لن يستطيعوا َدفْع دعوة السلم؛ ل ُمجَابهة ومُجَاهرة؛ ول كَيْدا وتبييتا؛
حتى ولو استعنتُم بالجنّ؛ فالنسان قد يمكر ويواجه ،وحين يفشل قد يحاول الستعانة بقوة من
جنس آخر له سلطان كسلطان الجن ،وحتى ذلك لم يفلح معه صلى ال عليه وسلم؛ فقد حاولوا
بالسحر؛ فكشف ال له بالرؤيا موقع َوضْع السحر.
وذهب بعض من صحابته ليستخرجوا السّحر من الموقع الذي حدده رسول ال لهم.
وهكذا أوضح لهم الحق سبحانه أن كل ما يفعلونه لن يَحِيق برسوله صلى ال عليه وسلم؛
فسبحانه {:غَاِلبٌ عَلَىا َأمْ ِرهِ[} ...يوسف]21 :
ض ومَنْ عليها ،وهو شديد المحال.
وهكذا كان الحق سبحانه ومازال وسيظل إلى أنْ يرِث الر َ
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
ق وَالّذِينَ يَدْعُونَ{ ...
ع َوةُ ا ْلحَ ّ
} َلهُ دَ ْ
()1707 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سطِ َكفّيْهِ إِلَى ا ْلمَاءِ لِيَبُْلغَ فَاهُ
شيْءٍ إِلّا كَبَا ِ
ق وَالّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا َيسْتَجِيبُونَ َلهُمْ ِب َ
حّع َوةُ الْ َ
لَهُ دَ ْ
َومَا ُهوَ بِبَاِلغِ ِه َومَا دُعَاءُ ا ْلكَافِرِينَ إِلّا فِي ضَلَالٍ ()14
ن تؤمن بإله واحد وهي دعوة حق ،والذين من دونه يدعون لله غير حق.
وسبحانه قد دعانا إلى أ ْ
والضمير هنا قد يعود إلى ال فكأن ال قد دعا خَلْقه إلى كلمة الحق وهي " ل إله إل ال " ،وهو
شهِد بها أولو العلم شهادة
سبحانه قد شهد بأنه ل إله إل هو؛ وشهدتْ الملئكة شهادةَ المشْهد ،و َ
الستدلل؛ تلك هي دعوة الحق.
أو " له " أي :للنسان الذي يدعو إلى الحق ،وحين يدعو النسان فهذا يدلّ على أن أمرا قد خرج
عن نطاق أسبابه؛ لذلك يدعو مَنْ يعينه على هذا المر.
والدعاء َلوْنٌ من الطلب ،إل أن الطلب يختلف باختلف الطالب والمطلوب منه؛ فإنْ كان الطالبُ
أدنى من المطلوب منه ل يُقال له فعل أمر؛ كقولك " اغفر لي يا رب " وهذا ل يقال له فعل أمر؛
بل يقال له دعاء.
وهكذا نرى أنه إن كان فعل المر من الدنى للعلى؛ ل نسميه ِفعْل أمر بل نسميه دعاءً،
والطالب الذكيّ هو مَنْ يلحظ أثناء العراب إنْ كان المطلوب هو من الدْنى إلى العلى؛ فهو ل
يقول " ِفعْل أمر " بل يقول " فعل دعاء " مثل قول العبد ل :يا رب اغفر لي ،وإن كان المطلوب
من مُسَاوٍ؛ فهو يقول " التماس " .وإنْ كان المطلوب قد صدر من العلى للدنى فهو " فعل أمر ".
وحين يدعو النسان ربه؛ فهذا يعني أن أسبابَ العبد قد نفِدتْ؛ وهو يلجأ إلى مَنْ يعلو الكون
ويملك كل السباب ،ولذلك ف ُكلّ مِنّا يدعو ال؛ لنه سبحانه القادر على إنفاذ مطلوب العباد؛ ول
ُيعْجِزه شيء.
ولكنْ إنْ دعوتَ مَنْ ل يستطيع؛ فهو دعوةٌ ل تنفع العبد ،وهم كانوا يدعُونَ الصنام؛ والصنام ل
تضرّ ول تنفع؛ فالصنم مِنْ هؤلء ل يقدر على نفسه أو لنفسه؛ فقد كان من الحجر.
وبطبيعة الحال فالدعاء لمثل تلك الصنام ل تحقق شيئا؛ لنها ل تقدر على أي شيء.
وهكذا يتأكد لنا أن دعوة الحقّ هي أن تدعوَ القادر؛ أما الذين يدعون المعبودات الباطلة فإنها
ع َوةُ ا ْلحَقّ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن
تخيب من يدعوها في مقصده ،ولذلك يقول الحق سبحانه هنا { :لَهُ دَ ْ
شيْءٍ[ } ...الرعد]14 :
دُونِ ِه لَ يَسْ َتجِيبُونَ َلهُم ِب َ
لنهم ل يملكون شيئا فالصنم من هؤلء ل يسمع فكيف يستجيب؟
شيْءٍ ِإلّ
ثم يضرب الحق سبحانه المَثَل بشيء مُحَسّ؛ نفعله كلنا؛ فيقول { :لَ َيسْتَجِيبُونَ َلهُم بِ َ
كَبَاسِطِ كَفّيْهِ ِإلَى ا ْلمَآءِ لِيَبْلُغَ فَا ُه َومَا ُهوَ بِبَاِلغِهِ[ } ...الرعد]14 :
فالعطشان ما أنْ يرى ماءً حتى َي ُمدّ يده إليه ليغترف منه؛ لكن يده ل تصل إلى الماء؛ هذا هو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحال مَنْ يدعو غير ال؛ فقد سأل غير القادر على إنفاذ مطلبه ،وهكذا يكون دعاء غير ال؛ وهو
دعاء في ضلل وفي غير متاهة.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ} ...
جدُ مَن فِي ال ّ
{ وَللّهِ يَسْ ُ
()1708 /
والسجود كما نعرفه حركة من حركات الصلة ،والصلة هي َوقْفة العبد بين يدي ربه بعد ندائه
له ،والصلة أقوال وأفعال مُبْتدأة بالتكبير ومُخْتتمة بالسلم؛ بفرائض وسنن ومستحبات
مخصوصة.
والسجود هو الحركة التي تُبرِز كاملَ الخضوع ل؛ فالسجود َوضْع لعلى ما في النسان في
مُسْتوى الدنى وهو قَدَم النسان؛ ونجد العامة و ُهمْ يقولون " :ل ترفع رأسك عليّ " أي :ل تتعالى
عليّ ،لن َرفْع الرأس معناه التعالي ،وتخفيضها بالركوع أو السجود هو إظهارٌ للخضوع ،فإذا قال
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ } ...الرعد]15 :
جدُ مَن فِي ال ّ
ال { :وَللّهِ يَسْ ُ
عليك أن تفهم أن هذا ما يحدث فعلً؛ وإنْ لم يتسع ِذهْنك إلى َفهْم السجود كما يحدث منك؛ فليتسع
ظنّك على أنه مُنْتهى الخضوع والذّلة ل المر.
وأنت تعلم أن الكون كله مُسخّر بأمر ال ولمر ال ،والكون خاضع له سبحانه؛ فإن استجاب
النسان لمر ال باليمان به فهذا خير .وإنْ لم يستجب النسان ـ مثلما يفعل الكافر ـ فعليه
سُوء عمله.
ولو استقصيتَ المسألة بدقّة ال َفهْم؛ لوجدتَ أن الكافر إنما يتمرد بإرادته المُسَيطرة على جوارحه؛
لكن بقية أبعاضه مُسخرة؛ وكلها تؤدي عملها بتسخير ال لها ،وكلها تُنفّذ الوامر الصادرة من ال
لها؛ وهكذا يكون الكافر مُتمردا ببعضه ومُسخّرا ببعضه الخر ،فحين يُمرِضه ال؛ أيستطيع أنْ
يعصي؟
طبعا ل .وحين يشاء ال أن يُوقِف قلبه أيقدر أن يجعل قلبه يخالف مشيئة ال؟ طبعا ل.
إذن :فالذي يتعوّد على التمرد على ال في العبادة؛ وله دُرْبة على هذا التمرد؛ عليه أن يُجرّب
التمرد على مرادات ال فيما ل اختيار له فيه؛ وسيقابل العجز عن ذلك.
وعليه أنْ يعرف أنه لم يتمرد بالكفر إل بما أوسع ال له من اختيار؛ بدليل أن تسعة وتسعين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالمائة من قُدراته محكوم بالقهر؛ وواحد بالمائة من قدراته متروك للختيار ،وهكذا يتأكد
التسخير.
وخضوع الكافر في أغلب الحيان؛ وتمرّده في البعض الخر؛ هو مُنْتهى العظمة ل؛ فهو ل
يجرؤ على التمرد بما أراده ال مُسخّرا منه.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ } ...الرعد]15 :
جدُ مَن فِي ال ّ
ولقائل أن يقول :ولماذا قال ال هنا { :وَللّهِ َيسْ ُ
ولم ي ُقلْ " :ما في السماوات وما في الرض "؟
وأقول :مادام في المر هنا سجود؛ فهو دليل على ِقمّة العقل؛ وسبحانه قد جعل السجود هنا دليلً
على أنّ كافة الكائنات تعقل حقيقة اللوهية؛ وتعبد الحق سبحانه.
طوْعا َوكَرْها[ } ...الرعد]15 :
ت وَالَرْضِ َ
سمَاوَا ِ
سجُدُ مَن فِي ال ّ
وهو هنا يقول { :وَللّهِ يَ ْ
سخّر؛ أو حتى أبعاض
وهنا يُعلمنا الحق سبحانه أن كل الكائنات ترضخ ل سجودا؛ سواء المُ َ
الكافر التي يستخدمها بإرادته في الكفر بال؛ هذه البعاض تسجد ل.
()1709 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
و " قل " هي أمر للرسول أنْ يقول للكافرين ،وهناك في آيات أخرى يقول سبحانه {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم
مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ }[الزخرف]87 :
ولقائل أن يسأل :لماذا جاء الحق سبحانه هنا بالجابة؛ ولم يتركْها لتأتي منهم؟
ونقول :إن مجيء الجابة من الحق هنا عن الذي خلق السماوات والرض أقوى ِممّا لو جاءت
الجابة منهم.
والمثل من حياتنا؛ ول المَثَل العلى؛ قد تقول لبنك الصغير المُتَشاحِن مع أخيه الكبير :مَنِ الذي
جاء لك بالحُلّة الجديدة؟ فيرتبك خجلً؛ لنه يعلم أن مَنْ جاء له بالحلة الجديدة هو أخوه الكبر
الذي تشاحن معه؛ فتقول أنت :جاء لك بها أخوك الكبر الذي تشاحنتَ معه.
وهنا لحظة أن يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم لهم ما أمره ال أن يقولُ { :قلْ مَن ّربّ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ } ...الرعد]16 :
ال ّ
فسوف يرتكبون؛ فيؤكد لهم بعد ذلك ما أمره ال أن يقولُ { :قلِ اللّهُ[ } ...الرعد]16 :
خذْتُمْ مّن دُونِهِ
ويتتابع أمر ال لرسوله صلى ال عليه وسلم ،فيقول له الحق سبحانهُ { :قلْ َأفَاتّ َ
ل ضَرّا[ } ...الرعد]16 :
سهِمْ َنفْعا وَ َ
َأوْلِيَآ َء لَ َيمِْلكُونَ لَ ْنفُ ِ
وهكذا يكشف لهم الرسول ببلغ الحق سبحانه مدى جهلهم؛ وهم مَنْ سبق لهم العتراف بأن ال
هو خالق السماوات والرض؛ ولم يجرؤ واحد منهم على أن ينسب خَلْق السماوات والرض
للصنام.
وهنا يوضح لهم الرسول صلى ال عليه وسلم ما أمر الحقّ سبحانه بإيضاحه :لقد خلق ال
السماوات والرض أفبعد ذلك تتخذون من دونه أولياء ل يملكون لنفسهم نفعا؛ ول ضرا؟ بدليل
أن الصنم من هؤلء ل يقدر لهم على شيء.
جعَلُواْ
عمَىا وَالْ َبصِيرُ َأمْ َهلْ تَسْ َتوِي الظُّلمَاتُ وَالنّورُ أَمْ َ
ويتابع الحق سبحانهُ { :قلْ َهلْ يَسْ َتوِي الَ ْ
للّهِ شُ َركَآءَ[ } ...الرعد]16 :
وبطبيعة الحال ل يمكن أن يستوي العمى بالمبصر.
وساعة ترى " َأمْ " اعلم أنها ضَرْب انتقالي ،وهكذا يستنكر الحق ما فعلوه بالستفهام عنه؛ لنه
خلْقُ عَلَ ْي ِهمْ[ } ...الرعد]16 :
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ خََلقُواْ كَخَ ْلقِهِ فَتَشَا َبهَ الْ َ
شيء مُنْكر فعلًَ { :أمْ َ
أي :لو كان هؤلء الشركاء قد خلقوا شيئا مثل خَلْق ال؛ َلكَان لهم أنْ يعقدوا مقارنة بين خَلْق ال
وخَلْق هؤلء الشركاء؛ ولكن هؤلء الشركاء الذين جعلوا مشاركين ل في اللوهية ل َيقْدرون
على خَلْق شيء؛ فكيف يختارونهم شركاء ل؟
شيْ ٍء وَ ُهوَ ا ْلوَاحِدُ ا ْل َقهّارُ } [الرعد]16 :
ويأتي المر من الحق سبحانهُ ...{ :قلِ اللّهُ خَالِقُ ُكلّ َ
خُلقُواْ
وفي آية أخرى يُقدّم الحق سبحانه تفسيرا لتلك الية {:إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَهُ[} ...الحج]73 :
خلْق،
فهؤلء الشركاء لم يخلقوا شيئا ،ولن يستطيع أحد الدعاء بأن هؤلء الشركاء عندهم نية ال َ
ولكن مجيء " لن " هنا يُؤكد أنهم حتى بتنبيههم لتلك المسألة؛ فَلَسوف يعجزون عنها؛ لن َنفْي
المستقبل يستدعي التحدّي؛ رغم أنهم آلهة متعددة؛ ولو اجتمعوا فلن يخلقوا شيئا.
ض ُعفَ الطّاِلبُ
يستمر التحدي في قوله سبحانه... {:وَإِن َيسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْ ُه َ
وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج]73 :
أي :لو أخذ الذباب بساقه الرفيعة شيئا ِممّا يملكون َلمَا استطاعوا أن يستخلصوه منه.
وهكذا يتضح أن الحق سبحانه وحده هو الخالق ل ُكلّ شيء؛ وتلزم عبادته وحده ل شريكَ له؛ وهو
جلّ وعَل المتفرّد بالربوبية واللوهية؛ وهو القهار المتكبر؛ والغالب على أمره أبدا ،فكيف يكون
َ
مَنْ دونه مساويا له؟
لذلك ل شريك له أبدا.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
سمَآءِ مَآءً{ ...
} أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
()1710 /
سمَاءِ مَاءً فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَ َبدًا رَابِيًا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ
أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
جفَا ًء وََأمّا مَا يَ ْنفَعُ
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ
ق وَالْبَا ِ
حّابْ ِتغَاءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثُْلهُ كَذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الْأَ ْرضِ َكذَِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الَْأمْثَالَ ()17
وهو سبحانه يُنزِل الماء من جهة العُلو وهو السماء ،ونعلم أن الماء يتبخّر من البحار والنهار
والرض التي تتفجّر فيها العيون ليتجمع كسحاب؛ ثم يتراكم السحاب بعضُه على بعض؛ ويمرّ
بمنطقة باردة فيتساقط المطر.
سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَ ِرهَا[ } ...الرعد]17 :
ويقول الحق سبحانه { :أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
والوادي هو المُنْخفض بين الجبلين؛ وساعةَ ينزل المطر على الجبال فهو يسيل على الودية؛ وكل
وَادٍ يستوعب من المياه على اتساعه.
ولنا أن نلحظ أن حكمة ال شاءتْ ذلك كَيْل يتحول الماء إلى طوفان ،فلو زاد الماء في تلك
الودية لَغرقتْ نتيجة ذلك القرى ،ولَخرِبت الزراعات ،وتهدمتْ البيوت.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمَثَل على ذلك هو فيضان النيل حين كان يأتي مناسبا في الكمية لحجم المَجْرى؛ وكان مثل هذا
القَدْر من الفيضان هو الذي يُسعد أهل مصر؛ أما إذا زاد فهو يُمثّل خطرا يَدْهَم القرى ويخربها.
وهكذا نجد أن من رحمة الحق سبحانه أن الماء يسيل من السماء مطرا على قدر اتساع الودية؛
اللهم إل إذا شاء غير ذلك.
ن يضرب مثلً على ما ينفع الناس؛ لذلك جاء بجزئية نزول الماء على
والحق سبحانه هنا يريد أ ْ
قَدْر اتساع الودية.
ومَنْ رأى مشهد نزول المطر على هذا القَدْر يمكنه أنْ يلحظ أن نزول السّيْل إنما يكنس كل القَشّ
والقاذورات؛ فتصنع تلك الزوائد رَغْوةً على سطح الماء الذي يجري في النهر ،ثم يندفع الماء إلى
سمَآءِ
المَجْرى؛ لِيُزيح تلك الرّغاوى جانبا؛ ليسير الماء من بعد ذلك صَافِيا َرقْراقا { .أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِ َيةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا[ } ...الرعد]17 :
وهذا المَثَل يدركه أهل البادية؛ لنها صحراء وجبال ووديان؛ فماذا عن مَ َثلٍ يناسب أهل الحضر؟
علَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ
ويأتي الحق سبحانه بهذا المثل المناسب لهم؛ فيقولَ { :و ِممّا يُوقِدُونَ َ
مَتَاعٍ زَ َبدٌ مّثْلُهُ[ } ...الرعد]17 :
وأنت حين تذهب إلى موقع عمل الحداد أو صائغ الذهب والفضة؛ تجده يُوقِد النار ليتحول المعدن
إلى سائل َمصْهور؛ ويطفو فوق هذا السائل الزّبَد وهو الشياء التي دخلت إلى المعدن ،وليست
منه في الصل؛ ويبقى المعدن صافيا من بعد ذلك.
والصّانع يضع الذهب في النار لِيُخلّصه من الشوائب؛ ثم يضيف إليه من المواد ما يُقوّي صلبته؛
أو ينقله من حالة النقاء إلى درجة أقل نقاءً ،وحالة النقاء في الذهب هي ما نطلق عليه " عيار 24
" ،والقل درجة هو الذهب من " عيار ، " 21والقل من ذلك هو الذهب من " عيار ." 18
والذهب الخالص النقاء يكون ليّنا؛ لذلك يُضيفون إليه ما يزيد من صلبته ،ويصنع الصائغ من هذا
الذهب الحُلي.
وهذا هو المَ َثلُ المناسب لهل الحضر؛ حين يصنعون الحلي ،وهم أيضا يصنعون أدواتٍ أخرى
يستعملونها ويستعملها مثلهم أهل البادية كالسيوف مثلً ،وهي لبُدّ أن تكون من الحديد الصّلْب؛
ذلك أن كل أداة تصنع منه لها ما يناسبها من الصّلبة؛ فإنْ أراد الحدّاد أن يصنع سيفا فلبد أنْ
يختار له من الحديد نوعيةً تتناسب مع وظائف السيف.
والزّبَد في الماء النازل من السماء إنما يأتي إليه نتيجة مرور المطر أثناء نزوله على سطح
الجبال؛ فضلً عن غسيل َمجْرى النهر الذي ينزل فيه؛ وعادة ما يتراكم هذا الزّبَد على الحَوافّ؛
ليبقى الماء صافيا من بعد ذلك.
وحين تنظر إلى النيل ـ مثلً ـ فأنت تجد الشوائب ،وقد ترسبتْ على جانبي النهر وحَوافّه،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك حين تنظر إلى مياه البحر؛ فأنت تجد ما تلقيه المركب ،وهو طافٍ فوق المواج؛ لِتُلقيه
المواج على الشاطئ.
وهكذا ضرب ال المَثَل لهل البدو ولهل الحضر بما يفيدهم في حياتهم؛ سواء حلية يلبسونها ،أو
أداة يقاتلون بها ،أو أداة أخرى يستخدمونها في َأ ْوجُه أعمالهم الحياتية؛ وهم في كل ذلك يلجئون
إلى تصفية المعادن التي يصنعون منها تلك الحلي أو الدوات الحياتية ليستخلصوا المعادن من
الخَبَث أو الزّبَد.
جفَآ ًء وََأمّا مَا
طلَ فََأمّا الزّ َبدُ فَيَ ْذ َهبُ ُ
ق وَالْبَا ِ
حّوكذلك يفعل الحق سبحانه } :كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ[ { ...الرعد]17 :
وحين يضرب ال الحقّ والباطل؛ فهو يستخلص ما يفيد الناس؛ ويُذهب ما يضرّهم ،وقوله} :
جفَآءً[ { ...الرعد]17 :
فَيَذْ َهبُ ُ
جفَا فلنا " أي :أبعده عنه.
جفْوة؛ ويُقال " :فلن َ
جفَاء " يعني " مَطْرودا "؛ من ال َ
أي :يبعده؛ فـ " ُ
لمْثَالَ { [الرعد]17 :
ويُذيّل الحق سبحانه الية الكريمة بقوله...} :كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
وشاء سبحانه أن يُبيّن لنا بالمور الحِسّية؛ ما يساوي المور المعنوية؛ كي يعلمَ النسانُ أن الظّ ْلمَ
طمِس الحق ،فهو إلى َزوَال؛ مثله مثل الزّبد.
حين يستشري و َيعْلو و َي ْ
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
} لِلّذِينَ اسْ َتجَابُواْ لِرَ ّبهِمُ الْحُسْنَىا{ ...
()1711 /
والذين يستجيبون للرب الذي خلق من عَدَم ،وأوجد لهم مُقومّات الحياة واستبقاء النوع بالزواج
والتكاثر؛ فإذا دعاهم لشيء فليعلموا أن ما يطلبه منهم مُتمّم لصالحهم؛ الذي بدأه بإيجاد كل شيء
لهم من البداية.
وهؤلء الذين يستجيبون لهم الحُسْنى؛ فسبحانه جعل الدنيا مزرعة للخرة ،وأنت في الدنيا َم ْوكُول
لقدرتك على الَخْذ بالسباب؛ ولكنك في الخرة َم ْوكُول إلى المُسبّب.
ففي الدنيا أنت تبذُر وتحرُث وتروي وتحصد ،وقد تختلف حياتك شَظفا وتَرفا بقدرتك على
السباب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت ل واتبعتَ منهجه؛ فأنت تنتقل إلى حياة أخرى؛ تحيا فيها مع المسبب؛ ل السباب؛
فإذا استج ْب َ
فإذا خطر ببالك الشيء َتجِ ْد ُه أمامك؛ لنك في الحياة الخرى ل يكِلك ال إلى السباب ،بل أنت
َم ْوكُول لذات ال ،والموكول إلى الذّاتِ بَاقٍ ببقاء الذات.
حمَةٍ مّ ْنهُ} ...
خُلهُمْ فِي رَ ْ
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول {:فََأمّا الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَاعْ َتصَمُواْ بِهِ َفسَيُدْ ِ
[النساء]175 :
وبعض المُفسّرين يقولون " إنها الجنة " وأقول :هذا تفسير مقبول؛ لن الجنة من رحمة ال؛ ولكن
الجنة باقية بإبقاء ال لها؛ ولكن رحمة ال باقية ببقاء ال.
وهنا يقول الحق سبحانه { :لِلّذِينَ اسْ َتجَابُواْ لِرَ ّبهِمُ ا ْلحُسْنَىا[ } ...الرعد]18 :
ويقول تعالى في آية أخرى {:لّلّذِينَ َأحْسَنُواْ ا ْلحُسْنَىا وَزِيَا َدةٌ[} ...يونس]26 :
والحسنى هي المر الحسن؛ وسبحانه خلق لك في الدنيا السباب التي تكدح فيها؛ ولكنك في
الخرة تحيا بكل ما تتمنى دون كدح ،وهذا هو الحسن.
و َهبْ أن الدنيا ارتقتْ؛ والذين يسافرون إلى الدول المُتقدمة؛ وينزلون في الفنادق الفاخرة؛ يُقال
لهم اضغط على هذا الزر تنزل لك القهوة؛ والزّر الخر ينزل لك الشاي.
وكل شيء يمكن أن تحصل عليه َفوْر أن تطلبه من المطعم حيث يُعدّه لك آخرون؛ ولكن مهما
ارتقتْ الدنيا فلن تصل إلى أنْ يأتي لك ما يمرّ على خاطرك َفوْر أنْ تتمناه؛ وهذا لن يحدث إل
في الخرة.
حسْنى "؛ وفي المذكر ُيقَال " حسن
وكلمة " الحسنى " مُؤنّثة وأفعل تفضيل؛ ويُقَال " حسنة و ُ
وأحسن " .والمقابل لمن لم يستجيبوا معروف.
جمِيعا َومِثْلَهُ َمعَهُ
والحق سبحانه يقول هنا { :وَالّذِينَ َلمْ يَسْ َتجِيبُواْ لَهُ َلوْ أَنّ َلهُمْ مّا فِي الَ ْرضِ َ
لفْتَ َدوْاْ بِهِ[ } ...الرعد]18 :
َ
أي :يقول خذوا ما أملك كله واعتقوني ،لكن ل يُستجاب له.
جهَنّمُ وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ } [الرعد]18 :
حسَابِ َومَأْوَا ُهمْ َ
ويقول الحق سبحانهُ...{ :أوْلَـا ِئكَ َلهُمْ سُوءُ الْ ِ
لن الحساب يترتب عليه مرة خَيْر؛ ويترتب عليه مرة أخرى شَرّ؛ وجاء الحق سبحانه بكلمة:
{ وَبِئْسَ ا ْل ِمهَادُ } [الرعد]18 :
هنا؛ لن الواحد من هؤلء والعياذ بال لن يستطيع أن يتصرف لحظة َوضْعه في النار ،كما ل
يستطيع الطفل الوليد أن يتصرف في ِمهَاده؛ ومن المؤكد أن النار بِئْس المهاد.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك:
{ َأ َفمَن َيعَْلمُ أَ ّنمَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيكَ} ...
()1712 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمَى إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ()19
حقّ َكمَنْ ُهوَ أَ ْ
َأ َفمَنْ َيعْلَمُ أَ ّنمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْيكَ مِنْ رَ ّبكَ الْ َ
والمؤمن هو مَنْ يعلم أن القرآن الحامل للمنهج هو الذي أنزله سبحانه على رسوله؛ ول يمكن
عمَىا[ } ...الرعد]19 :
مقارنته بالكافر وهو الموصوف هنا من الحق سبحانهَ { :كمَنْ ُهوَ أَ ْ
وجاء هنا بـ " علم " و " عمى "؛ لن اليات الدالة على القدرة من المرئيات.
ويقول الحق سبحانه...{ :إِ ّنمَا يَ َت َذكّرُ ُأوْلُواْ الَلْبَابِ } [الرعد]19 :
أي :أصحاب العقول القادرة على التدبّر والتفكّر والتمييز.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك عن أولي اللباب:
{ الّذِينَ يُوفُونَ ِب َع ْهدِ اللّهِ} ...
()1713 /
والواحد من أولي اللباب ساعة آمن بال؛ فهو يعلم أنه قد تعاهد مع ال عهدا بألّ يعبد غيره؛ وألّ
يخضع لغيره؛ وألّ يتقرّب لغيره؛ وألّ ينظر أو ينتظر من غيره؛ وهذا هو العهد الول اليماني.
ويتفرّع من هذا العهد العقدي الول ُكلّ عهد يُقطع سواء بالنسبة ل ،أو بالنسبة لخَلْق ال؛ لن
الناشئ من عهد ال مثله مثل عهد ال؛ فإذا كنتَ قد آمنتَ بال؛ فأنت تؤمن بالمنهج الذي أنزله
على رسوله؛ وإذا أوفيتَ بالمنهج؛ تكون قد أوفيت بالعهد الول.
ولذلك نجد كل التكليفات المهمة البارزة القوية في حياة المؤمنين نجد الحق سبحانه يأتي بها في
علَ ْيكُمُ الصّيَامُ[} ...البقرة]183 :
صيغة البناء؛ فيما يسمى " البناء للمجهول "؛ مثل قوله {:كُ ِتبَ َ
وقوله {:كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْل ِقصَاصُ فِي ا ْلقَتْلَى[} ...البقرة]178 :
وقوله {:كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ[} ...البقرة]216 :
وكُلّ التكليفات تأتي مَسْبوقة بكلمة " كُتِب " والذي كتب هو ال؛ وسبحانه لم يُكلّف إل من آمن به؛
فساعةَ إعلن إيمانك بال؛ هي ساعة تعاقدك مع ال على أن تُنفّذ ما يُكلّفك به.
ن تؤمن أو ل تؤمن؛ لكنك لحظةَ إيمانك بال تدخل إلى اللتزام بما يُكلّفك به،
وأنت حُرّ في أ ْ
وتكون قد دخلت في كتابة التعاقد اليماني بينك وبين ال.
ولذلك قال الحق سبحانه " كُتِب " ولم َي ُقلْ " :كت ْبتُ "؛ لن العهد بينك وبين ال يقتضي أن تدخلَ
أنت شريكا فيه ،وهو سبحانه لم يُكلّف إل مَنْ آمن به.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسبحانه هنا يقول { :الّذِينَ يُوفُونَ ِب َعهْدِ اللّ ِه َولَ يَن ُقضُونَ ا ْلمِيثَاقَ } [الرعد]20 :
أي :أن العهد اليماني مُوثّق بما أخذْتَه على نفسك من التزام.
صفَ هؤلء بقوله:
ويواصل سبحانه َو ْ
{ وَالّذِينَ َيصِلُونَ مَآ َأمَرَ اللّهُ} ...
()1714 /
حسَابِ ()21
شوْنَ رَ ّبهُ ْم وَ َيخَافُونَ سُوءَ الْ ِ
صلَ وَيَخْ َ
وَالّذِينَ َيصِلُونَ مَا َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَنْ يُو َ
سبٌ .والمؤمن
وأوّل ما أمر به ال أَنْ يُوصَل هو صِلَة الرّحم؛ أي :أن تَصل ما يربطك بهم َن َ
ل المؤمنين في صِلَة الرّحم؛ لن كل المؤمنين رَحِم مُتداخِل؛
الحقّ إذا سَ ْلسَل النساب؛ فسيدخل ُك ّ
عشْرة من المؤمنين َتصِلهم بحكم الرّحِم؛ وكل مؤمن يَصل عشرة مثلك ،انظر إلى
فإذا كان لك َ
تداخل الدوائر وانتظامها؛ ستجد أن كل المؤمنين يدخلون فيها.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في الحديث القدسي " :أنا الرحمن؛ خلقت الرحم ،واشتققت لها اسما
من اسمي؛ فمن وصلها وصلته؛ ومن قطعها قطعته ".
وقد رَو ْيتُ من قَبْل قصةً عن معاوية رضي ال عنه؛ فقد جاء حاجبه ليعلن له أن رجلً بالباب
يقول :إنه أخوك يا أمير المؤمنين.
ولبد أن حاجبَ معاوية كان يعلم أن معاوية بن أبي سفيان ل إخوةَ له ،لكنه لم يَشَأْ أنْ يتدخّل فيما
يقوله الرجل؛ وقال معاوية لحاجبه :ألَ تعرف إخوتي؟ فقال الحاجب :هكذا يقول الرجل .فأذِنَ
معاويةُ للرجل بالدخول؛ وسأله :أي إخوتي أنت؟ أجاب الرجل :أخوك في آدم .قال معاويةَ :رحِم
مقطوعة؛ وال لكون أ ّولَ من يَصلها.
والتقى الفضيل بن عياض بجماعة لهم عنده حاجة؛ وقال لهم :من أين أنتم؟ قالوا :من خُراسان.
قال :اتقوا ال ،وكونوا من حيث شِئْتم.
ل الهل أولً؛ ثم القارب؛ ثم الدوائر البعد فالبعد؛ ثم الجار ،وكُلّ ذلك
وقد أمرنا سبحانه أن َنصِ َ
لنه سبحانه يريد اللتحام بين الخلق؛ ليستطرق النافع لغير النافع ،والقادر لغير القادر ،فهناك
ن وصلْتَه وصلَك ال.
جارك وقريبك الفقير إ ْ
ولذلك يأمر الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم ومِنْ خلله يأمر كل مؤمن برسالته {:قُل لّ
أَسْأَُلكُمْ عَلَيْهِ َأجْرا ِإلّ ا ْل َموَ ّدةَ فِي ا ْلقُرْبَىا[} ...الشورى]23 :
وقال بعض مَنْ سمعوا هذه الية :قُرْباك أنت في قُرْباك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقال البعض الخر :ل ،القربى تكون في الرسول صلى ال عليه وسلم؛ لن القرآن قال في محمد
سهِمْ[} ...الحزاب]6 :
صلى ال عليه وسلم {:النّ ِبيّ َأوْلَىا بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْ أَ ْنفُ ِ
وهكذا تكون قرابة الرسول أولى لكل مؤمن من قرابته الخاصة.
شوْنَ رَ ّبهُ ْم وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ }
خَيستمر قول الحق سبحانه في وصف أُولِي اللباب...{ :وَيَ ْ
[الرعد]21 :
والخشية تكون من الذي يمكن أن يُصيب بمكروه؛ ولذلك جعل الحق هنا الخشية منه سبحانه؛ أي:
أنهم يخافون ال مالكهم وخالقهم ومُربّيهم؛ خوف إجلل وتعظيم.
خ ْفتُ المرض ،ففيه
خ ْفتُ زيدا ،وتقولِ :
وجعل سبحانه المخاف من سوء العذاب؛ وأنت تقولِ :
شيء تخافه؛ وشيء ُي َوقِع عليك ما تخافه.
وأولو اللباب يخافون سُوء حساب الحق سبحانه لهم؛ فيدعهم هذا الخوف على أَنْ َيصِلوا ما أمر
به سبحانه أنْ يُوصَل ،وأنْ يبتعدوا عن أي شيء يغضبه.
ونحن نعلم أن سوء الحساب يكون بالمناقشة واستيفاء العبد لكل حقوقه؛ فسبحانه مُنزّه عن ظلم
أحد ،ولكن مَنْ يُناقش الحسابَ فهو مَنْ يَلْقى العذاب؛ ونعوذ بال من ذلك ،فل أحد بقادر على أن
يتحمل عذابَ الحق له.
ويواصل الحق سبحانه َوصْف أُولي اللباب فيقول:
ن صَبَرُواْ ابْ ِتغَا َء وَجْهِ رَ ّب ِهمْ} ...
{ وَالّذِي َ
()1715 /
جهِ رَ ّبهِ ْم وََأقَامُوا الصّلَا َة وَأَ ْنفَقُوا ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ سِرّا وَعَلَانِيَ ًة وَيَدْرَءُونَ
ن صَبَرُوا ابْ ِتغَا َء وَ ْ
وَالّذِي َ
عقْبَى الدّارِ ()22
حسَنَةِ السّيّئَةَ أُولَ ِئكَ َلهُمْ ُ
بِالْ َ
ونجد هذه الية معطوفة على ما سبقها من صفات أولي اللباب الذين يتذكّرون ويعرفون مَواطن
الحق بعقولهم اهتداءً بالدليل؛ الذين يُوفون بالعهد اليماني بمجرد إيمانهم بال في كُلّيات العقيدة
الوحدانية ،ومُقْتضيات التشريع الذي تأتي به تلك العقيدة.
سهُمْ
ولذلك جعلها سبحانه صفقة أوضحها في قوله تعالى {:إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَنفُ َ
حقّا[} ...التوبة]111 :
ن وَعْدا عَلَ ْيهِ َ
ن وَيُقْتَلُو َ
وََأمْوَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ اّلجَنّةَ ُيقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَ َيقْتُلُو َ
وهي صفقة إيجاب وقَبُول ،والعهد إيجاب وقبول؛ وهو ميثاق مُؤكّد بالدلة الفِطْرية أولً ،والدلة
العقلية ثانيا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن صبروا ابتغاءَ وجه ربهم ،والصبر هو تحمّل متاعب تطرأ على النفس
وهُمْ في هذه الية مَ ْ
النسانية لتخريجها عن وقار استقامتها ونعيمها وسعادتها ،وكل ما يُخرِج النفس النسانية عن
صياغة النسجام في النفس يحتاج صبرا.
والصبر يحتاج صابرا هو النسان المؤمن ،ويحتاج َمصْبورا عليه؛ وال َمصْبور عليه في الحداث
قد يكون في ذات النفس؛ كأنْ يصبر النسان على مشقّة التكليف الذي يقول " افعل " و " ل تفعل
".
فالتكليف يأمرك بت ْركِ ما تحب ،وأنْ تنفذ بعض ما يصعب عليك ،وأن تمتثل بالبتعاد عما ينهاك
ق التكليف.
عنه ،و ُكلّ هذا يقتضي ُمجَاهدة من النفس ،والصبر الذاتي على مشَا ّ
شعِينَ }[البقرة]45 :
ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصلة مثلً... {:وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى ا ْلخَا ِ
وهذا صَبْر الذّات على الذات .ولكن هناك صَبْر آخر؛ صبر منك على شيء يقع من غيرك؛
ويُخرِجك هذا الشيء عن استقامة نفسك وسعادتها.
وهو ينقسم إلى قسمين :قسم تجد فيه غريما لك؛ وقسم ل تجد فيه غريما لك.
فالمرض الذي يُخرِج النسان عن حَيّز الستقامة الصّحية ويُسبّب لك اللم؛ ليس لك فيه غريم؛
لكنك تجد الغريم حين يعتدي عليك إنسانٌ بالضرب مثلً؛ ويكون هذا الذي يعتدي عليك هو الغريم
لك.
وكل صبر له طاقة إيمانية تحتمله؛ فالذي َيقْدر على شيء ليس فيه غريم؛ يكون صَبْره معقولً
بعض الشيء؛ لنه ل يوجد له غريم يهيج مشاعره.
أما صبر النسان على أَلم أوقعه به مَنْ يراه أمامه؛ فهذا يحتاج إلى قوة ضَبْط كبيرة؛ كي ل يهيج
النسان ويُفكّر في النتقام.
ولذلك تجد الحق يفصل بين المرين؛ يفصل بين شيء أصابك ول تجد لك غريما فيه ،وشيء
أصابك ولك من مثلك غريمٌ فيه.
ويقول سبحانه عن الصبر ليس لك غريم فيه... {:وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ
لمُورِ }[لقمان]17 :
اُ
ويقول عن الصبر الذي لك فيه غريم ،ويحتاج إلى َكظْم الغيظ ،وضبط الغضب {:وََلمَن صَبَرَ
لمُورِ }[الشورى]43 :
وَغَفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم ا ُ
وحينما يريد الحق سبحانه منك أن تصبر؛ فهو ل يطلب ذلك منك وحدك؛ ولكن يطلب من
المقابلين لك جميعا أنْ يصبروا على إيذائك لهم؛ فكأنه طلب منك أنْ تصبر على اليذاء الواقع من
الغير عليك؛ وأنت فرد واحد.
وطلب من الغير أيضا أنْ يصبر على إيذائك ،وهذا هو قمة التأمين الجتماعي لحياة النفس
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النسانية ،فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تصبر على من آذاك؛ فقد طلب مَنْ الناس جميعا أن
يصبروا على آذاك لهم.
فإذا بدرتْ منك بادرة من الغيار؛ وتخطئ في حق إنسان آخر وتؤلمه؛ فإن لك رصيدا من صبر
الخرين عليك؛ لن الحق سبحانه طلب من المقابل لك أن يصبر عليك وأنْ يعفو.
وإذا كان لك غريم؛ فالصبر يحتاج منك إلى ثلث مراحل :أن تصبر صبرا أوليا بأن تكظم في
نفسك؛ ولكن الغيظ يبقى ،وإن منعت الحركة النّزوعية من التعبير عن هذا الغيظ؛ فلم تضرب ولم
ظمِينَ ا ْلغَيْظَ[} ...آل عمران]134 :
سبّ؛ ويسمى ذلك {:ا ْلكَا ِ
تَ ُ
حكِم ربطها انسكب منها
والكَظْم مأخوذ من عملية رَبْط القِرْبة التي نحمل فيها الماء؛ فإنْ لم ُن ْ
الماء؛ ويُقال " كظم القربة " أي :أحكم ربطها.
ثم يأتي الحق سبحانه بالمرحلة الثانية بعد كظم الغيظ فيقول {:وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ[} ...آل عمران:
]134
وهنا تظهر المسألة الَرْقى ،وهي إخراج الغيظ من الصدر؛ ثم التسامي في مرتبة الصّديقين؛ فل
ينظر إلى مَنْ كظم غيظه عنه أولً؛ بل يعفو عنه ،ول ينظر له بعداء ،بل بنظرة إيمانية.
والنظرة اليمانية هي أن مَنْ آذاك إنما يعتدي على حَقّ ال فيك؛ وبذلك جعل ال في صَفّك
وجانبك؛ وهكذا تجد أن مَنْ ظلمك وأساء إليك قد جعلك في معية ال وحمايته؛ وعليك أن تُحسِن
له.
والصبر له دوافع؛ فهناك من يصبر كي يُقال عنه :إنه يملك الجَلَد والصبر؛ وليبين أنه فوق
الحداث؛ وهذا صبر ليس ابتغاء لوجه ال؛ بل صبر كيل يَشْمت فيه أعداؤه.
وصبر لنه قد توصل بعقله أن جزعه لن ينفعه ،ولو كان حصيفا لَصبر لوجه ال ،لن الصبر
لوجه ال يخفف من َقدَر ال.
ومَنْ يصبر لوجه ال إنما يعلم أن ل حكمة أعلى من الموضوع الذي صبر عليه؛ ولو خُيّر بين ما
كان يجب أن يقع وبين ما وقع؛ لختار الذي وقع.
والذي يصبر لوجه ال إنما ينظر الحكمة في َموْرد القضاء الذي وقع عليه ،ويقول :أحم ُدكَ ربي
ح ْمدَ الرضى بحكمك لليقين بحكمتك.
على كل قضائك وجميل قَدَرتك؛ َ
فمَنْ يصبر على الفاقة؛ ويقول لنفسك " :اصبري إلى أن يفرجها ال " ول يسأل أحدا؛ سيجد الفرج
قد أتى له من ال.
شهَواتِ النفْسِ في َزمَنِ
ج المالَ مُنْفقا عَلى َ
انظر إلى الشاعر وهو يقول:إذَا ُر ْمتَ أنْ تستخرِ َ
سكَ النفاقَ مِنْ كَن ِز صَبْرِها عل ْيكَ وإنذارا إلى سَاعةِ ال ُيسْ ِرفَإنْ فع ْلتَ كنتَ الغنيّ وإنْ
سلْ نف َ
العُسْ ِرفَ َ
أب ْيتَ فَكلّ مُنوّع بعدَها وَاسِعُ العُذْرِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل لتنفقه على شهوات النفس ،ورفضتَ تلك المُرَاودة ،وطلبت
أي :إنْ راودتْك نفسك لتقترض ما ً
ن فعلتَ ذلك كنت الغنيّ ،لنك قدرتَ على
من نفسك أنْ تعطيك من كَنْز الصبر الذي تملكه؛ وإ ْ
نفسك.
والذي يلفت إلى الحَدَث وحده يتعب؛ والذي يلتفت إلى الحدث مقرونا بواقعه من ربه؛ ويقول" :
خصّ
لبد أن هناك حكمة من ال وراء ذلك " فهو الذي يصبر ابتغاء وجهه ال .ويريد ال أنْ ي ُ
مَنْ يصبر ابتغاء وجهه بمنزلة عالية؛ لنه يعلم أن ال له حكمة فيما يُجريه من أقدار.
لةَ وَأَ ْن َفقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلَنِيَةً...
ويتابع سبحانه َوصْف أُولي اللباب } :وََأقَامُواْ الصّ َ
{ [الرعد]22 :
وسبق أن قلنا في الصلة أقوالً كثيرة؛ وأن مَنْ يؤديها على مطلوبها؛ فهو مَنْ يعلم أنها جَلْوة بين
العبد وربه ،ويكون العبد في ضيافة ربه.
وحين ُتعْرَض الصّنْعة على صانعها خمس مرات في اليوم فلبد أنْ تنال الصّنْعة رعاية وعناية
ن صمّمها وخلقها ،وكما أن ال غَ ْيبٌ عنك؛ فكذلك أسباب شفائك من الكروب يكون غيبا عنك.
مَ ْ
وقد علّمنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك " فكان إذا حزبه أمر قام إلى الصلة " .ومن
ي وقت
عظمة اليمان أن ال هو الذي يدعوك إلى الصلة؛ وهو سبحانه ل يمنع عنك القُرْب في أ ّ
تشاء؛ وأنت الذي تُحدّد متى تقف بين يديه في أي وقت بعد أن تُلبّي دعوته بالفروض؛ لتؤدي ما
تحب من النوافل؛ ول يُنهِي سبحانه المقابلة معك كما يفعل عظماء الدنيا؛ بل تُنهِي أنت اللقاء و َقتَ
أنْ تريد.
ولقد تأدّب رسول ال صلى ال عليه وسلم بأدب ربه؛ وتخلّق بالخلُق السامي؛ فكان إذا وضع أحد
يده في يد الرسول صلى ال عليه وسلم؛ فهو ل ينزع يده من يد مَنْ يُسلّم عليه؛ إل أنْ يكون هو
النازع.
وقول الحق سبحانه } :وَأَ ْنفَقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ[ { ...الرعد]22 :
ن وصلتَ إلى أن تحتاج من
يعني :أنك ل يجب أن تنظر إلى ما يؤخذ منك ،ولكن انظر إلى أنك إ ْ
الغير سيؤخذ لك ،وهذا هو التأمين الفعال ،ومَنْ يخاف أن يترك عيالً دون قدرة ،ولو كان هذا
النسان يحيا في مجتمع إيماني ،لوجد قول الحق مُطبّقا {:وَلْ َيخْشَ الّذِينَ َلوْ تَ َركُواْ مِنْ خَ ْل ِفهِمْ ذُرّيّةً
ضعَافا خَافُواْ عَلَ ْيهِمْ فَلْيَ ّتقُواّ اللّ َه وَلْ َيقُولُواْ َق ْولً سَدِيدا }[النساء]9 :
ِ
وبذلك ل يشعر اليتيم باليُتْم؛ ول يخاف أحد على عياله ،ول يسخط أحد على َقدَر ال فيه.
وسبحانه يضع الميزان القتصادي حين يطلب منا النفاق ،والنفاق يكون من مال زائد؛ أو مال
بلغ النصاب ،ولذلك فعليك أنْ تتحرك حركة نافعة للحياة ،ويستفيد منها الغير ،كي يكون لك مال
سعَ غيرك.
تُنفِق منه ،وعلى حركتك أن تَس َعكَ وت َ
وهناك مَنْ ينفق ِممّا رزقه ال بأن يأخذ لنفسه ما يكفيها ،وينفق الباقي لوجه ال؛ لنه يضمن أن له
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلها قادرا على أن يرزقه ،والمضمون عند ال أكثر مما في يده.
" وها هو رسول ال صلى ال عليه وسلم يسأل أبا بكر فيما ناله من غنائم ويقول له :ماذا صنعتَ
بها يا أبا بكر؟ فيقول أبو بكر الصديق رضي ال عنه وأرضاه :تص ّد ْقتُ بها كلها .فيقول الرسول:
وماذا أبقيت؟ يقول أبو بكر :أبقيت ال ورسوله.
وسأل رسول ال عمر بن الخطاب رضي ال عنه :وماذا فعلتَ يا عمر؟ فيقول ابن الخطاب:
تصد ْقتُ بنصفها ول عندي نصفها.
وكأنه يقول للرسول " :إن كان هناك مصرف تريدني أن أصرف فيه النصف الباقي ل عندي؛
فلسوف أفعل ".
ن يصرف ِممّا رزقه ال؛ بكل ما رزقه سبحانه ،وهو أبو بكر الصديق؛ ونجد مَنْ
وهكذا رأينا مَ ْ
ينفق ِممّا رزقه ال ومستعد لن ينفق الباقي إن رأى رسول ال مصرفا يتطلب النفاق.
ونجد من توجيهات السلم أن مَنْ يراعى يتيما؛ فليستعفف فل يأخذ شيئا من مال اليتيم إنْ كان
الوليّ على اليتيم له مال؛ وإن كان الولي فقيرا فليأكل بالمعروف.
ولقائل أنْ يسأل :ولماذا نأتي بالفقير لتكون له ولية على مال اليتيم؟
وأقول :كي ل يحرم المجتمع من خبرة قادرة على الرعاية؛ فيأتي الفقير صاحب الخبرة؛ وليأْكل
بالمعروف.
ونلحظ أن الحق سبحانه قال {:وَارْ ُزقُو ُهمْ فِيهَا[} ...النساء]5 :
ولم َي ُقلْ " ارزقوهم منها " أي :خُذوا الرزق من المَطْمور فيها يملكون بالحركة في هذا المال.
وهكذا نفهم كيف يُنفق النسان المؤمن ِممّا رزقه ال؛ فهناك مَنْ ينفق كل ما عنده؛ لنه واثق من
رصيده عند ربه ،وهناك مَنْ ينفق البعض مما رزقه ال؛ وقد تأخذه الريحية والكرم فيعطي كل
مَنْ يسأله ،وقد ينفق كل ما عنده؛ مثل مَنْ يجلس في جُرْن القمح ويريد أن يُزكّي يوم الحصاد؛
فيعطي كل مَنْ يسأله؛ إلى أن يفرغ ما عنده.
حبّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ }
حصَا ِد ِه َولَ تُسْ ِرفُواْ إِنّ ُه لَ ُي ِ
حقّهُ َيوْمَ َ
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول... {:وَآتُواْ َ
[النعام]141 :
لةَ وَأَنْ َفقُواْ ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ
وهنا نجد الحق سبحانه يصف هؤلء المُ ْنفِقين في سبيله } :وََأقَامُواْ الصّ َ
سِرّا وَعَلَنِيَةً[ { ...الرعد]22 :
والسر هو الصّدقة المندوبة ،أما النفاق في العلنية؛ فهي الصّدقة الواضحة؛ لن الناس قد تراك
غنيا أو يُشَاع عنك ذلك ،ول يرونك وأنت تُخرِج الزكاة ،فتنالك ألسنتهم بالسوء؛ وحين يَ َروْنكَ
وأنت تنفق وتتصدّق؛ فهم يعرفون أنك تؤدي حقّ ال ،وتشجعهم أنت بأن يُنفِقوا مما رزقهم ال.
وصدقة السّر وصدقة العَلَن أمرها متروك لتقدير النسان؛ فهناك مَنْ يعطي الصدقة للدولة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لتتصرف فيها هي؛ ويعطي من بعد ذلك للفقراء سرا؛ وهذا إنفاق في العَلَن وفي السر؛ وجاء
الحق بالسر والعلنية؛ لنه ل يريد أنْ يحجب الخير عن أيّ أحد بأي سبب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأقول لمن يقول ذلك :لقد ظننتَ أنك قد دفعتَ بالتي هي أحسن ،لكنك في واقع الحال كنت
تتربص بما يحدث منك تجاه مَنْ دخلتَ معه في عداوة ،ولم تُخلص في الدفع بالتي هي أحسن،
وأخذت تُجرّب اختبار قول ال؛ فذهبتْ منك طاقة الخلص فيما تفعل؛ وظل الخر العدو على
عداوته.
لكنك لو دفعتَ بالتي هي احسن ستجد أن الية القرآنية فيها كل الصّدْق؛ لن ال ل يقول قضية
قرآنية ثم تأتي ظاهرة كونية تُكذّب القرآن.
ولذلك يقول الشاعر:يَا مَنْ تُضايِقه ال ِفعَالُ مِنَ التي ومِنَ الذي دفع فِدْيتك بالتي حتّى نَرى فإذَا
الذِيأي :يا مَنْ تضايقه أفعال الذي بينك وبين عداوة؛ عليك أن تُحسن ال ّدفْع التي هي أحسن ،حتى
ك وَبَيْنَهُ
ترى أن العداوة التي كانت بينك وبين ما ذكره الحق سبحانه في قوله... {:فَإِذَا الّذِي بَيْ َن َ
حمِيمٌ }[فصلت]34 :
عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
عقْبَىا الدّارِ { [الرعد]22 :
ويتابع الحق سبحانهُ...} :أوْلَـا ِئكَ َل ُهمْ ُ
أي :أن المتقدمين أولي اللباب الذين اجتمعت لهم تلك الصفات التِسعة؛ بدايةً من أنهم يُوفُون بعهد
ال؛ ول ينقضون الميثاق؛ و َيصِلون ما أمر ال أنْ يُوصَل ويخشوْن ربهم؛ ويخافون سُوء
الحساب؛ وصبروا ابتغاء وجه ربهم؛ وأقاموا الصلة؛ وأنفقوا مما رزقهم ال سرا وعلنية؛
عقْبى الدار.
ويَدْرءون بالحسنة السيئةَ ،هؤلء هم الذين لهم ُ
عقِب ،وعقب هو ما يعقب الشيء ،ونقول في
وعُقْبى مأخوذة من العقب؛ فالقدم له مقدم وله َ
أفراحنا " والعافية عندكم في المسرات " أي :أننا نتمنى أن تتحقق لكم مَسرّة مثل التي عندنا،
وتكون عقب المَسرّة التي فرحنا نحن بها.
وهكذا تكون العقبى هي الشيء الذي يعقب غيره ،والذي يعقب الدار الدنيا هي الدار الخرة.
ولذلك يقول الحق سبحانه في الية التالية مُوضّحا العاقبة لهؤلء:
} جَنّاتُ عَدْنٍ َيدْخُلُو َنهَا َومَنْ صَلَحَ مِنْ{ ...
()1716 /
جهِ ْم وَذُرّيّا ِت ِه ْم وَا ْلمَلَا ِئكَةُ يَ ْدخُلُونَ عَلَ ْيهِمْ مِنْ ُكلّ
ن صَلَحَ مِنْ آَبَا ِئ ِه ْم وَأَ ْزوَا ِ
جَنّاتُ عَدْنٍ يَ ْدخُلُو َنهَا َومَ ْ
بَابٍ ()23
إذن :فالدار الخرة التي تعقب الدنيا بالنسبة لولِي اللباب هي جنات عَدْن .و " ال َعدْن " هو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القامة الدائمة؛ وجنات عدن هي جنات القامة الدائمة ،لن الدنيا ليست دار إقامة.
وكل نعيم في الدنيا إما أن تفوته بالموت أو يفوتك بأغيار الحياة .أما جنات عَدْن فهي دار إقامة
دائمة؛ بما أن " عدن " تعني مرافقة دائمة للجنات.
والجنات معناها كما نفهم هي البساتين التي فيها أشجار وفيها ثمار؛ وكل ما تشتهي النفس ،مع
ملحظة أن هذه الجنّات ليست هي المساكن؛ بل في تلك الجنات مسكن بدليل قول الحق سبحانه{:
َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ[} ...التوبة]72 :
فالجنات هي الحدائق؛ وفيها مساكن ،ونحن في حياتنا الدنيا نجد الفيلت في وسط الحدائق ،فما
بالنا بما َيعِد به ال من طيب المساكن وسط الجنات؟
لبد أن ينطبق عليه وصف الرسول صلى ال عليه وسلم للجنة في الحديث القدسي عن رب العزة
سبحانه:
" أعددت لعبادي الصالحين ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر ".
جهِمْ
ن صَلَحَ مِنْ آبَا ِئ ِه ْم وَأَ ْزوَا ِ
وهكذا بيّن ال سبحانه عقبى الدار؛ فهي { :جَنّاتُ عَدْنٍ يَ ْدخُلُو َنهَا َومَ ْ
وَذُرّيّا ِتهِمْ[ } ...الرعد]23 :
وآباء جمع " أب " أي :يدخلها مع أولي اللباب مَنْ كان صالحا من الباء مُتبعا لمنهج ال.
وإنْ سأل سائل :وأين المهات؟
أقول :نحن ساعة نثني المتماثلين نُغلّب الذّكر دائما ،ولذلك فآباؤهم تعني الب والم ،ألَمْ يقُلِ الحق
سبحانه في سورة يوسف {:وَ َرفَعَ أَ َبوَيْهِ عَلَى ا ْلعَرْشِ[} ...يوسف]100 :
وهؤلء هم الذين يدخلون الجنة من أُولِي الَلْباب الذين استو َفوْا الشروط التسعة التي تحدّثنا عنها؛
فهل استوفى الباء والزواج والبناء الشروط التسعة؟
ونقول :إن الحقّ سبحانه وتعالى يعامل خَلْقه في الدنيا بمقتضى العواطف الموجودة في الذّرية؛
فالواحد مِنّا يُحِب أولده وأزواجه وآباءه؛ ومادام يحبهم وقد صلحوا ُكلّ حَسْب طاقته؛ فالحق
سبحانه يُلحقهم به.
حقْنَا ِبهِمْ
ولذلك تأتي آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه {:وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُتهُم بِإِيمَانٍ أَلْ َ
سبَ رَهَينٌ }[الطور]21 :
شيْءٍ ُكلّ امْرِىءٍ ِبمَا كَ َ
عمَِلهِم مّن َ
ذُرّيّ َتهُمْ َومَآ أَلَتْنَاهُمْ مّنْ َ
وهنا يمسك القرآن القضية العقلية في اللحاق بمعنى أنْ تُلحِق ناقصا بكامل ،فلو كان مُساويا له
حقّه؛ وقد اشترط الحق سبحانه شرطا واحدا في إلحاق
سمّي إلحاقا ،فكل إنسان يأخذ َ
في العمل ما ُ
الذرية بالباء ،أو إلحاق الباء بالذرية في الجنة ،وهو اليمان فقط.
عمَِلهِم مّن
وأوضح لنا هنا أن الباء قد تميّزوا بعمل إيماني بدليل قوله تعالىَ {:ومَآ أَلَتْنَا ُهمْ مّنْ َ
شيْءٍ[} ...الطور]21 :
َ
فلم يأخذ سبحانه عمل الب الذي عمل؛ البن الذي لم يعمل ،ومزج الثنين ،ليأخذ المتوسط ،ل،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وذلك كي ل يظلم مَنْ عمل من الباء أو البناء.
ثم إن ذلك لو حدث؛ لما اعتُبِِر تواجدُ الباء مع البناء في الجنة إلحاقا؛ لن اللحاق يقتضي أن
ن عمل؛ ثم يتكرم سبحانه من بعد ذلك بعملية اللحاق؛ بشرط واحد هو أن يكون
ق كل مَ ْ
حّيبقى َ
الشخص المُلْحق مؤمنا.
وهكذا نفهم قول الحق سبحانه {:وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَاتّ َبعَ ْتهُمْ ذُرّيّ ُتهُم بِإِيمَانٍ[} ...الطور]21 :
أي :أن الذرية مؤمنة؛ والزواج مؤمنون؛ والهل مؤمنون؛ والبوين مؤمنان ،ولكن الذي يلحق
به هو مَنْ يُكرِمه ال بهذا اللحاق كي يُدخِل الفرح على قَلْب المؤمن حين يرى أولده معه في
الجنة ماداموا مؤمنين؛ وهذه قمة في العدالة ،لماذا؟
والمَثل الذي أضربه على ذلكَ :هبْ أن أبا قد حرص على أنْ يطعَم أهله من حلل؛ فقد يعيش
أولده في ضيق وشَظَف؛ بينما نجد أبناء المنحرف يعيشون في ُبحْبُوحَة من العيش؛ وهكذا يتنعّم
أبناء المنحرف الذي يأكل ويطعم أولده من حرام؛ بينما يعاني أبناء المين الذي قد يعتبره البعض
مُتزمتا؛ لنه يَرْعى حق ال ،ويرفض أكل الحرام.
ومادام أولده الذين يأكلون من حلل قد يُعانون معه من عدم التنعّم؛ فالحق سبحانه يلحقهم في
الجنة بنعيم يعيشه الب؛ ل يفوتهم فيه شيء؛ ول يفوته شيء.
وبذلك تسعد الذرية؛ لنها جاءت من صُلْب رجل مؤمن قضى حياته على جَادة الصواب؛ رغم أن
بعض الناس قد اتهمتْه في الدنيا بأنه مُتزمّت.
ن يقول :ألَ يوجد تناقض بين هذا اللحاق وبين قول الحق سبحانه {:لّ َيجْزِي وَالِدٌ عَن
ولقائل أ ْ
وَلَ ِد ِه َولَ َموْلُودٌ ُهوَ جَازٍ عَن وَالِ ِدهِ شَيْئا[} ...لقمان]33 :
ن تصل
وأقول :ل يوجد تناقض؛ لننا نصلي على الميت صلة شرّعها المُشرّع؛ وفائدتها أ ْ
الرحمة للميت المؤمن؛ واليمان من عمله.
ولذلك يضيف له الحقّ سبحانه فوق رصيد اليمان ما يشاؤه هو سبحانه من الرحمة بصلة
ج ِهمْ
الجنازة التي أقامها المسلمون عليه } :جَنّاتُ عَدْنٍ َيدْخُلُو َنهَا َومَنْ صَلَحَ مِنْ آبَا ِئهِ ْم وَأَ ْزوَا ِ
وَذُرّيّا ِتهِ ْم وَالمَلَ ِئكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَ ْيهِمْ مّن ُكلّ بَابٍ { [الرعد]23 :
وكلمة " زوج " تعني المرأة التي يتزوجها الرجل؛ وتعني الرجل الذي تتزوجه المرأة ،ونحن
نخطئ خطأ شائعا حين نقول " زوجة "؛ بل الصحيح أن نقول " زوج " عن المرأة المنسوبة لرجل
بعلقة الزواج.
وسبحانه يقول {:وَأَ ْزوَاجُهُ ُأ ّمهَا ُتهُمْ[} ...الحزاب]6 :
ن هي مكان ينتظم كل شيء؛ ولهذا المكان أبواب متعددة؛ هي أبواب
عدْ ٍ
وهكذا نعلم أن جنات َ
الطاعات التي َأ ّدتْ إلى خير الجَزَاءات؛ فباب الصلة يدخله أُناس؛ وباب الزكاة يدخله أُناس؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وباب الصبر يدخله أُناس؛ وهكذا تتعدد البواب؛ وهي إمّا أبواب الطاعات أو أبواب الجزاءات
التي تدخل منها الطيبات {:كُّلمَا رُ ِزقُواْ مِ ْنهَا مِن َثمَ َرةٍ رّزْقا قَالُواْ هَـاذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِن قَ ْبلُ} ...
[البقرة]25 :
فالبابُ يكون مفتوحا؛ تأتي منه الفاكهة وال ّثمَرات والخيرات على اختلف ألوانها؛ فم ّرةً تأتي ثمار
المانجو من باب؛ وبعد ذلك تأتي ثمار التفاح.
وتلك البواب كما قلت هي إمّا للجزاءات؛ أو هي أبواب الطاعات التي أدّت إلى الجزاءات،
وتدخل عليهم الملئكة من ُكلّ باب؛ فماذا تقول الملئكة؟
يقول الملئكة لهل الجنة:
} سَلَمٌ عَلَ ْيكُم ِبمَا صَبَرْتُمْ{ ...
()1717 /
والسلم يعني الطمئنان والرضا الذي ل تأتي بعده الغيار؛ لن السلم في الدنيا قد تُعكّر َأمْنه
أغيارُ الحياة؛ فأنتم أيها المؤمنون الذين دخلتم الجنة بريئون من الغيار.
وقال صلى ال عليه وسلم عن لحظات ما بعد الحساب " :الجنة أبدا ،أو النار أبدا ".
ولذلك يقول سبحانه عن خيرات الجنة {:لّ َمقْطُوعَ ٍة َولَ َممْنُوعَةٍ }[الواقعة]33 :
والملئكة كما نعلم نوعان:
الملئكة المهيمون الذين يشغلهم ذكر ال تعالى عن أيّ شيء ول يدرون بِنَا؛ ول يعلمون قصة
الخَلْق؛ وليس لهم شَأنٌ ب ُكلّ ما يجري؛ فليس في بالهم إل ال وهم الملئكة العَالُون؛ الذين جاء
ذكرهم في قصة السجود لدم حين سأل الحق سبحانه الشيطان {:أَسْ َتكْبَ ْرتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }
[ص]75 :
ل مهمتهم ذكر ال
أي :أن العالين هنا هم مَنْ لم يشملهم َأمْرُ السجود ،وليس لهم علقة بالخلق ،و ُك ّ
فقط.
أما النوع الثاني فهم الملئكة المُدبّرات أمرا ،ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد استدعى آدم إلى
الوجود هو وذريته ،وأعدّ له كل شيء في الوجود قبل أن يجئ؛ الرض مخلوقة والسماء
مرفوعة؛ والجبال الرّواسي بما فيها من قُوتٍ؛ والشمس والقمر والنجوم والمياه والسحاب.
والملئكة المُدبّرات هم مَنْ لهم علقة بالنسان الخليفة ،وهم مَنْ قال لهم الحق سبحانه {:اسْجُدُواْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لَدَمَ[} ...البقرة]34 :
وهم الذين يتوّلوْن أمر النسان تنفيذا لوامر الحق سبحانه لهم ،ومنهم الحفظة الذين قال فيهم الحق
حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ[} ...الرعد]11 :
سبحانهَ {:لهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ َيدَيْ ِه َومِنْ خَ ْلفِهِ َي ْ
أي :أن المر صادر من ال سبحانه ،وهم َبعْد أنْ يفرغوا من مهمتهم كحفظة من رقيب وعتيد
على كل إنسان ،ولن يوجد ما يكتبونه من بعد الحساب وتقرير الجزاء؛ وهنا سيدخل هؤلء
الملئكة على أهل الجنة ليحملوا ألطاف ال والهدايا؛ فهم مَنُوط بهم النسان الخليفة.
وسبحانه حين يُورِد كلمة في القرآن بموقعها البياني العرابي؛ فهي تُؤدّي المعنى الذي أراده
سبحانه .والمَثَل هو كلمة " سلم "؛ فضيف إبراهيم من الملئكة {:قَالُواْ سَلَما قَالَ سَلَمٌ[} ...هود:
]69
وكان القياس يقتضي أن يقول هو " سلما " ،ولكنها قضية إيمانية ،لذلك قال {:سَلَمٌ[} ...هود:
]69
ت منصوبا؛ بل جاء مرفوعا؛ لن السلم للملئكة أمرٌ ثابت لهم؛ وبذلك حَيّاهم
فالسلم هنا يَ ْأ ِ
إبراهيم بتحية هي احسن من التحية التي حَيّوه بها.
فنحن نُسلّم سلما؛ وهو يعني أن نتمنى حدوث الفعل ،ولكن إبراهيم عليه السلم فَطِنَ إلى أن
السلم أمرٌ ثابت لهم.
وهكذا الحال هنا حين تدخل الملئكة على العباد المكرمين بدخول الجنةَ ،ف ُهمْ يقولون { :سَلَمٌ} ...
[الرعد ]24 :وهي مرفوعة إعرابيا؛ لن السلم أمر ثابت مُستِقر في الجنة ،وهم قالوا ذلك؛ لنهم
يعلمون أن السلم أمر ثابت هناك؛ ل يتغير بتغيّر الغيار؛ كما في أمر الدنيا.
والسلم في الجنة لهؤلء بسبب صبرهم ،كما قال الحق سبحانه على ألسنة الملئكة } :سَلَمٌ عَلَ ْيكُم
ِبمَا صَبَرْتُمْ[ ]...الرعد]24 :
وجاء الصبر في صيغة الماضي ،وهي صيغة صادقة؛ فهم قد صبروا في الدنيا؛ وانتهى زمن
الصبر بانتهاء التكليف.
وهم هنا في دار جزاء؛ ولذلك يأتي التعبير بالماضي في موقعه؛ لنهم قد صبروا في دار التكليف
على مشقّات التكليف؛ صبروا على اليذاء؛ وعلى القدار التي أجراها الحقّ سبحانه عليهم.
وهكذا يكون قول الحق سبحانه } :سَلَمٌ عَلَ ْيكُم ِبمَا صَبَرْتُمْ[ ]...الرعد]24 :
في موقعه تماما.
ن توفّرت فيهم التسع صفات ،وهم في الدنيا {:وَالّذِينَ صَبَرُواْ ابْ ِتغَاءَ وَجْهِ
وكذلك قوله الحق عمّ ْ
رَ ّبهِمْ[} ...الرعد]22 :
وجاء بالصبر هنا في الزمن الماضي؛ رغم أنهم مازالوا في دار التكليف؛ والذي جعل هذا المعنى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مُتّسعا هو مَجِىء كل ما أمر به ال بصيغة المضارع؛ مثل قوله تعالى {:الّذِينَ يُوفُونَ ِب َعهْدِ اللّهِ...
}[الرعد]20 :
وهذه مسألة تحتاج إلى تجديد دائم؛ وقولهَ ... {:ولَ يَن ُقضُونَ ا ْلمِيثَاقَ }[الرعد]20 :
صلَ[} ...الرعد]21 :
وقوله {:وَالّذِينَ َيصِلُونَ مَآ َأمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُو َ
شوْنَ[} ...الرعد {،]21 :وَيَخَافُونَ[} ...الرعد]21 :
و{ وَيَخْ َ
هكذا نرى كل تلك الفعال تأتي في صيغة المضارع ،ثم تختلف الصيغة إلى الماضي في قوله{:
ن صَبَرُواْ[} ...الرعد]22 :
وَالّذِي َ
والمتأمل لكل ذلك يعلم أن كل تلك المور تقتضي الصبر؛ وكأن الصبر يسبق كل هذه الشياء،
وهو القاسم المشترك في كل عهد من العهود السابقة.
وقد عبر الحق سبحانه ـ لجل هذه اللفْتة ـ بالماضي حين جاء حديث الملئكة لهم وهم في
الجنة.
وهكذا تقع كلمة الصبر في موقعها؛ لن الملئكة تخاطبهم بهذا القول وهم في دار البقاء؛ ولن
المتكلم هو ال؛ فهو يُوضّح لنا جمال ما يعيش فيه هؤلء المؤمنون في الدار الخرة.
عقْبَىا الدّارِ { [الرعد]24 :
ويُذيّل الحق سبحانه الية الكريمة بقوله...} :فَ ِنعْمَ ُ
عقْبى " تعني المر الذي يجيء في ال َعقِب ،وحين يعرض سبحانه القضية اليمانية
وعلمنا أن " ُ
وصفات المؤمنين المعايشين للقيم اليمانية؛ فذلك بهدف أن تستشرفَ النفس أن تكون منهم ،ولبُدّ
أن تنفِرَ النفس من الجانب المقابل لهم.
ن الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ }[النفطار]13 :
والمثل هو قول الحق سبحانه {:إِ ّ
ويأتي بمقابلها بعدها {:وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ }[النفطار]14 :
وساعة تقارن بأنهم لو لم يكونوا أبرارا؛ َلكَانوا في جحيم؛ هنا نعرف قَدْر نعمة توجيه الحق لهم،
ليكونوا من أهل اليمان.
وهكذا نجد أنفسنا أمام أمرين :سلب مَضرّة؛ وجَلْب منفعة ،ولذلك يقول الحق سبحانه أيضا عن
النار {:وَإِن مّنكُمْ ِإلّ وَا ِردُهَا كَانَ عَلَىا رَ ّبكَ حَتْما مّ ْقضِيّا }[مريم]71 :
أي :كلنا سنرى النار.
ويقول سبحانه {:ثُمّ لَتَ َروُ ّنهَا عَيْنَ الْ َيقِينِ }[التكاثر]7 :
وذلك لكي يعرف كل مسلم ماذا صنعتْ به نعمة اليمان؛ قبل أن يدخل الجنة ،وبذلك يعلم أن ال
سلب منه مَضرّة؛ وأنعم عليه بمنفعة ،سلب منه ما يُشقِى؛ وأعطاه ما يُفيد.
خلَ الْجَنّةَ َفقَدْ فَازَ[} ...آل عمران]185 :
ولذلك يقول الحق سبحانهَ {:فمَن زُحْزِحَ عَنِ النّا ِر وَأُ ْد ِ
وإذا كان الحق سبحانه قد وصف أُولي اللباب بالوصاف المذكورة من قبل؛ فهو يُبيّن لنا أيضا
خيبة المقابلين لهم؛ فيقول سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عهْدَ اللّهِ{ ...
} وَالّذِينَ يَنقُضُونَ َ
()1718 /
ولقائل أنْ يسأل :وهل آمن هؤلء وكان بينهم وبين ال عهد ونقضوه؟
ونقول :يصح أنهم قد آمنوا ثم كفروا ،أو :أن الكلم هنا ينصرف إلى عهد ال الزلي.
ستُ
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َت ُه ْم وَأَ ْ
خذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
يقول سبحانه {:وَِإذْ أَ َ
بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا[} ...العراف]172 :
ن ينقضون عهد ال من بعد ميثاقه وتأكيده باليات الكونية التي تدل على
وهنا يوضح سبحانه أن مَ ْ
صلَ[ } ...الرعد]25 :
طعُونَ مَآ َأمَرَ اللّهُ ِبهِ أَن يُو َ
وجود الخالق الواحد { :وَ َيقْ َ
والمقابل لهم هم أُولو اللباب الذين كانوا َيصِلون ما أمر سبحانه أن يُوصل ـ وهؤلء الكفرة
نقضة العهد { :وَ ُيفْسِدُونَ فِي الَ ْرضِ[ } ...الرعد]25 :
ولم يَ ْأتِ الحق سبحانه بالمقابل ل ُكلّ عمل أدّاه أولو اللباب؛ فلم َيقُل " :ول يخشون ربهم "؛ لنهم
ل يؤمنون بإله؛ ولم َيقُلْ " :ل يخافون سوء الحساب " لنهم ل يؤمنون بالبعث.
وهكذا يتضح لنا أن كل شيء في القرآن جاء ِبقَدرٍ ،وفي تمام موقعه.
ونحن نعلم أن الفساد في الرض هو إخراجُ الصّالح عن صلحه ،فأنت قد أقبلتَ على الكون،
وهو ُم َعدّ لستقبالك بكل مُقوّمات الحياة من مأكل ومَشْرب وتنفس؛ وغير ذلك من الرزق،
واستبقاء النوع بأن أحلّ لنا سبحانه أن نتزاوج ذكرا وأنثى.
والفساد في الكون أن تأتي إلى صالح في ذاته فتفسده؛ ونقول دائما :إن كنت ل تعرف كيف تزيد
الصالح صلحا؛ فاتركه على حاله؛ واسمع قول الحق سبحانهَ {:ولَ َت ْقفُ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ عِلْمٌ} ...
[السراء]36 :
فل تنظر في أيّ أمر إلى الخير العاجل منه؛ بل انظر إلى ما يؤول إليه المر من بعد ذلك؛ أيضرّ
أم ينفع؟
لن الضّرّ الجل قد يتلصص ويتسلل ببطء وأنَاة؛ فل تستطيع له َدفْعا من بعد ذلك.
ويقول الحق سبحانه في آخر الية التي نحن بصدد خواطرنا عنهاُ...{ :أوْلَـا ِئكَ َلهُمُ الّلعْنَ ُة وََلهُمْ
سُوءُ الدّارِ } [الرعد]25 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونلحظ أن التعبير هنا جاء باللم ِممّا يدل على أن اللعنة عشقتهم عِشْق المال للملوك...{ :وََلهُمْ
سُوءُ الدّارِ } [الرعد]25 :
أي :عذابها ،وهي النار والعياذ بال.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
سطُ الرّ ْزقَ} ...
{ اللّهُ يَبْ ُ
()1719 /
اللّهُ يَ ْبسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ َيشَا ُء وَ َيقْدِ ُر َوفَرِحُوا بِا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َومَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الَْآخِ َرةِ إِلّا مَتَاعٌ ()26
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سعَتِ ِه َومَن قُدِرَ عَلَ ْيهِ
سعَةٍ مّن َ
أو :يقدر بمعنى يُضيّق على إطلقها ،يقول سبحانه {:لِيُنفِقْ ذُو َ
ج َعلُ اللّهُ َب ْعدَ عُسْرٍ ُيسْرا }[الطلق]7 :
رِ ْزقُهُ فَلْيُنفِقْ ِممّآ آتَاهُ اللّ ُه لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإلّ مَآ آتَاهَا سَيَ ْ
ولن ال قد آتاه فهذا يعني أنه بَسَط له بقدره.
ويتابع سبحانهَ { :وفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدّنْيَا[ } ...الرعد]26 :
وطبعا سيفرح بها مَنْ كان رزقه واسعا؛ والمؤمن هو مَنْ ينظر إلى الرزق ويقول :هو زينة
الحياة الدنيا؛ ولكن ما عند ال خَيْر وأبقى.
عظِيمٍ }[الزخرف:
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
أما أهل الكفر فقد قالواَ... {:لوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
]31
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َت ُهمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا
ح َمتَ رَ ّبكَ َنحْنُ قَ َ
سمُونَ رَ ْ
ويردّ الحق سبحانه عليهم {:أَهُمْ َيقْ ِ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ[} ...الزخرف]32 :
وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
وساعةَ تبحث في تحديد هذا البعض المبسوط له الرزق؛ والبعض المُقدّر عليه في الرزق؛ لن تجد
ثباتا في هذا المر؛ لن الغيار قد تأخذ من الغنيّ فتجعله فقيرا؛ وقد تنتقل الثروة من الغنيّ إلى
الفقير.
وسبحانه قد ضمن أسبابا عُلْيا في الرزق؛ لكل من المؤمن والكافر؛ والطائع والعاصي؛ وكلنا قد
ن قصّر واحد؛ فليس لهذا المَرْء من سبب سوى أنه
دخل الحياة ليأخذ بيده من عطاء الربوبية؛ فإ ْ
لم يأخذ بأسباب الربوبية وينتفع بها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َمعُونَ }[يونس]58 :
فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا يَ ْ
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يأتي بفرحهم؛ وبسبب هذا الفرح وهو الحياة الدنيا؛
أي :أنه سبب تافه للفرح ،لنها قد تُؤخذ منهم وقد يُؤخَذون منها ،ولكن الفرح بالخرة مختلف،
وهو الفرح الحق.
ج َمعُونَ }[يونس]58 :
ولذلك يقول فيه الحق سبحانه... {:فَبِ َذِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا َي ْ
ويقيس الحق سبحانه أمامنا فرح الحياة الدنيا بالخرة ،فيقول...} :وَمَا ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا فِي الخِ َرةِ ِإلّ
مَتَاعٌ { [الرعد]26 :
ومتاع الرجل هو ما يعده إعدادا يُنفِقه في سفر قصير ،كالحقيقة الصغيرة التي تضع فيها بعضا
من الملبس والدوات التي تخصّك لسفر قصير.
ن يصل إلى
والعاقل هو مَنْ ينظر إلى أقصى ما يمكن أنْ يفعله النسان في الحياة؛ فقد يتعلم إلى أ ْ
سعْي؛ ثم أخيرا يموت.
أرْقى درجات العلم؛ ويسعى في الرض ما وَسِعه ال ّ
والمؤمن هو مَن يَصل عمل دُنْياه بالخرة؛ ليصلَ إلى النعيم الحقيقي ،والمؤمن هو مَنْ يبذل الجهد
صلَ نفسه برحمة ال؛ لنها باقية ببقاء ال ،ولن المؤمن الحق يعلم أن كل غاية لها َبعْد؛ ل
لِي ِ
تعتبر غاية.
حقّة هي :إمّا الجنة أبدا ،أو النار
ولذلك فالدنيا في حَدّ ذاتها ل تصلح غاي ًة للمؤمن ،ولكن الغاية ال َ
أبدا.
يقول الحق سبحانه بعد ذلك:
} وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ َل ْولَ{ ...
()1720 /
ونعلم أن " لول " إذا دخلت على جملة اسمية فلها َوضْع يختلف عنه َوضْعها إذا دخلتْ على جملة
فعلية ،فحين نقول " :لول زيد عندك لَزُرْ ُتكَ " يعني امتناع حدوث شيء لوجود شيء آخر .وحين
نقول :لول تُذاكِر دروسك .فهذا يعني حضا على الفعل.
شهَدَآءِ فَُأوْلَـا ِئكَ عِندَ اللّهِ هُمُ
شهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِال ّ
والحق سبحانه يقولّ {:ل ْولَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْ َبعَةِ ُ
ا ْلكَاذِبُونَ }[النور]13 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والجملة التي دخلت عليها " لول " في هذه الية هي جملة فعلية ،وكأن الحق سبحانه يحضّنا هنا
على أن نلتفتَ إلى الية الكبرى التي نزلت عليه صلى ال عليه وسلم ،وهي القرآن.
وقد تساءل الكافرون ـ كَذِبا ـ عن مجيء آية؛ وكان تساؤلهم بعد مجيء القرآن ،وهذا كذب
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ
واقع؛ يناقضون به أنفسهم؛ فقد قالواَ {:وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
عَظِيمٍ }[الزخرف]31 :
وهم بذلك قد اعترفوا أن القرآن بلغ حَدّ العجاز وتمنّوْا لو أنه نزل على واحد من عظماء
القريتين ـ مكة أو الطائف.
وهم مَنْ قالوا أيضاَ {:وقَالُواْ ياأَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ إِ ّنكَ َلمَجْنُونٌ }[الحجر]6 :
ثم يعودون هنا لينكروا العتراف بالقرآن كمعجزة ،على الرغم من أنه قد جاء من جنس ما نبغوا
فيه ،فهم يتذوقون الدب ،ويتذوقون البيان ،ويتذوقون الفصاحة؛ ويقيمون السواق ليعرضوا
إنتاجهم في البلغة والقصائد ،فهم أمة تط َربُ فيها الذن لما ينطقه اللسان.
ولكنهم هنا يطلبون آية كونية كالتي نزلت على الرسل السابقين عليهم السلم ،ونَسُوا أن الية
الكونية عمرها َمقْصور على وقت حدوثها؛ ومَنْ رآها هو مَنْ يصدقها ،أو يصدقها مَنْ يُخبره بها
مصدر موثوق به.
ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم هو المبعوث لتنظيم حركة الحياة في دنيا الناس إلى أنْ تقوم
الساعة؛ ولو أنه قد جاء بآية كونية؛ لخذتْ زمانها فقط.
ولذلك شاء الحق سبحانه أنْ يأتي بآية معجزة باقية إلى أنْ تقومَ الساعةُ ،فضلً عن أنه صلى ال
عليه وسلم قد جاءتْ له معجزات حِسيّة؛ كتفجّر الماء من بين أصابعه؛ وحفنة الطعام التي أشبعتْ
جيشا؛ وأظلّتْه السحابة؛ وحَنّ جِذْع الشجرة حنينا إليه ليقف من فوقه خطيبا وجاءه الضّبّ مسلما.
حجّة على مَنْ رآها ،وكذلك معجزات الرّسل السابقين ،ولول أنّ رواها
كل تلك آيات كونية هي ُ
لنا القرآن َلمَا آمنّا بها ،وكانت اليات الكونية التي جاءت مع الرسل هي مجرد إثبات ِلمَنْ عاشوا
في أزمان الرسل السابقين على أن هؤلء الرسل مُبلّغون عن ال.
وقد شرح الحق سبحانه هذا المر بالنسبة لرسول ال صلى ال عليه وسلم حين قالَ {:ومَا مَ َنعَنَآ
لوّلُونَ[} ...السراء]59 :
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن كَ ّذبَ ِبهَا ا َ
أَن نّرْ ِ
أي :أن الرسل السابقين الذين نزلوا في أقوامهم وصحبتْهم الياتُ الكونية قابلوا أيضا المُكذّبين
بتلك اليات ،وقوم رسول ال صلى ال عليه وسلم قالوا أيضا:
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِ َنبٍ
{ َوقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
ع ْمتَ عَلَيْنَا ِكسَفا َأوْ تَأْ ِتيَ بِاللّهِ وَا ْلمَلئِكَةِ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ ُت ْ
قَبِيلً }[السراء]92-90 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويقول الحق سبحانه في موقع آخر {:وََلوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ إِلَ ْيهِمُ ا ْلمَل ِئكَ َة َوكَّل َمهُمُ ا ْل َموْتَىا َوحَشَرْنَا عَلَ ْيهِمْ
شيْءٍ قُبُلً مّا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ[} ...النعام]111 :
ُكلّ َ
وهكذا يُبيّن لنا الحق سبحانه أنهم غارقون في العِنَاد ولن يؤمنوا ،وأن أقوالهم تلك هي مجرد حُجَج
يتلكأون بها.
وهم هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقولونَ } :ل ْولَ أُن ِزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ...
{ [الرعد]27 :
وهكذا نجد أنهم يعترفون أن له ربا؛ على الرغم من أنهم قد اتهموه من قبل أنه ساحر ،وأنه ـ
والعياذ بال ـ كاذب ،وحين فَتَر عنه الوحي قالوا " :إن ربّ محمد قد قَلَه ".
س ْوفَ
ن الُولَىا * وَلَ َ
ك َومَا قَلَىا * وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ ّلكَ مِ َ
عكَ رَ ّب َ
وأنزل الحق سبحانه الوحي {:مَا وَدّ َ
ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَىا }[الضحى]5-3 :
أي :أن الوَحْي سوف يستمر ،وهكذا فضح ال َكذِبهم على مَرّ سنوات الرسالة المحمدية.
حسّية الكونية؛ وكلمة آية كما عرفنا من قبل هي :إما آية كونية
وهم هنا يتعنتون في طَلبِ الية ال ِ
تُلفِت إلى وجود الخالق.
أو :آية من القرآن فيها تفصيلٌ للحكام؛ وليستْ تلك هي الية التي كانوا يطلبونها.
أو :آية معجزة تدلّ على صِدقْ الرسالة.
وكأنّ طلبَ اليات إنما جاء لنهم لم يقتنعوا بآية القرآن؛ وهذا دليل غبائهم في استقبال أدلّة اليقين
بصدق الرسول صلى ال عليه وسلم؛ لن القرآن جاء معجزةً ،وجاء منهجا.
والمعجزة ـ كما أوضحنا ـ إنما تأتي من جنس ما نبغ فيه القوم ،ول يأتي سبحانه بمعجزة لقوم
لم ُيحْسِنوا شيئا مثلها ولم ينبغُوا فيه.
فالذين كانوا يمارسون السّحْر جاءتْ المعجزة مع الرسول المرْسَل إليهم من نفس النوع ،والذين
كانوا يعرفون الطبّ ،جاء لهم رسول ،ومعه معجزة مما نبغُوا فيه.
وقد جاءت معجزة رسول ال صلى ال عليه وسلم من جنس ما نبغُوا فيه؛ فضلً عن أن القرآن
معجزة ومنهج في آنٍ واحد ،بخلف معجزة التوقيت والتقيد في زمن.
ومع ذلك ،فإن كفار مكة تعنتُوا ،ولم يكتفُوا بالقرآن معجزةً وآيات تدلّهم إلى سواء السبيل؛ بل
اقترحوا هم الية حسب أهوائهم؛ ولذلك نجدهم قد ضَلّوا.
ضلّ مَن َيشَآ ُء وَ َيهْدِي إِلَ ْيهِ مَنْ أَنَابَ { [الرعد:
ونجد الحق سبحانه يقول بعد ذلكُ ...} :قلْ إِنّ اللّهَ ُي ِ
]27
وهنا نقف َوقْفة؛ لن البعض يحاول أن يُسقِط عن النسان مسئولية التكليف؛ ويدّعي أن ال هو
الذي يمنع هداية هؤلء الكافرين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونقول :إننا إن استقرأنا آياتِ القرآن؛ سنجد َقوْل الحق سبحانه... {:وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }
[البقرة]264 :
ونجد قول الحق سبحانه... {:إِنّ اللّهَ لَ َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ }[المائدة]51 :
سقِينَ }[المائدة]108 :
ويقول سبحانه أيضا... {:وَاللّ ُه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
ومن كل ذلك نفهم أن العمل السابق منهم هو الذي يجعله سبحانه ل يهديهم ،لن النسان مادام قد
حكْم أعلى ،ويؤمن بمصدر الحكم؛ فمن أنزل هذا الحكم يُعطِي للنسان معونة ،لكن مَنْ
جاء له ُ
حكْم العلى فسبحانه يتركه بل معونة.
يكذب بمصدر ال ُ
أما مَنْ يرجع إلى ال؛ فسبحانه يهديه ويدلّه ويعينه بكل المَدَد.
ويواصل الحق ما يمنحه سبحانه من اطمئنان لمن يُنيب إليه ،فيقول:
طمَئِنّ{ ...
} الّذِينَ آمَنُو ْا وَتَ ْ
()1721 /
ن القلب واستقراره وأُنْسُه إلى عقيدة ل تطفو إلى العقل ليناقشها من جديد.
ومعنى الطمئنان سكو ُ
ونعلم أن النسانَ له حواسّ إدراكية يستقبل بها المُحسّات؛ وله عقل يأخذ هذه الشياء ويهضمها؛
بعد إدراكها؛ ويفحصها جيدا ،ويتلمس مدى صِدْقها أو كَذِبها؛ ويستخرج من كل ذلك قضية
واضحة يُبقِيها في قلبه لتصبح عقيدة ،لنها وصلت إلى مرحلة الوجدان المحب لختيار المحبوب.
وهكذا تمرّ العقيدة بعدة مراحلَ؛ فهي أولً إدراك حِسّي؛ ثم مرحلة التفكّر العقلي؛ ثم مرحلة
الستجلء للحقيقة؛ ثم الستقرار في القلب لتصبح عقيدة.
طمَئِنّ قُلُو ُبهُمْ[ } ...الرعد]28 :
ولذلك يقول سبحانه { :وَتَ ْ
فاطمئنان القلب هو النتيجة لليمان بالعقيدة؛ وقد يمرّ على القلب بعضٌ من الغيار التي تزلزل
اليمان ،ونقول لمن تمرّ به تلك الهواجس من الغيار :أنت لم ُتعْطِ الربوبية حقها؛ لنك أنت
الملوم في أي شيء يَنَاُلكَ.
فلو أحسنتَ استقبال القدر فيما يمرّ بك من أحداث ،لَعِل ْمتَ تقصيرك فيما لك فيه دَخْل بأيّ حادث
وقع عليك نتيجة لعملك ،أما مَا وقع عليك ول دَخْل لك فيه؛ فهذا من أمر القَدَر الذي أراده الحقّ
لك لحكمة قد ل تعلمها ،وهي خير لك.
إذن :استقبال القدر إن كان من خارج النفس فهو لك ،وإن كان من داخل النفس فهو عليك .ولو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ُق ْمتَ بإحصاء ما ينفعك من وقوع القدر عليك لَوجدتّه أكثرَ بكثير مما سَلَبه منك .والمَثَل هو
الشاب الذي استذكر دروسه واستعدّ للمتحان؛ لكن مرضا داهمه قبل المتحان ومنعه من أدائه.
هذا الشاب فعلَ ما عليه؛ وشاءَ ال أن ينزل عليه هذا القدر لحكمة ما؛ كأنْ يمنع عنه حسَد
جيرانه؛ أو حسدَ مَنْ يكرهون أًمه أو أباه ،أو يحميه من الغرور والفتنة في أنه مُعتمِد على
السباب ل على المُسبّب .أو تأخير مرادك أمام مطلوب ال يكون خيرا.
وهكذا َفعَلى النسان المؤمن أن يكون موصولً بالمُسبّب العلى ،وأنْ يتوكل عليه سبحانه وحده،
ل قلبي،
وأن يعلم أنْ التوكل على ال يعني أن تعمل الجوارح ،وأنْ تتوكّل القلوب؛ لن التوكل عم ٌ
وليس عملَ القوالب.
ولينتبه ُكلّ مِنّا إلى أن ال قد يُغيب السباب كي ل نغتر بها ،وبذلك يعتدل إيمانك به؛ ويعتدل
إيمان غيرك.
وقد ترى شابا ذكيا قادرا على الستيعاب ،ولكنه ل ينال المجموع المناسب للكلية التي كان
يرغبها؛ فيسجد ل شكرا؛ مُتقبّلً قضاء ال وقَدَره؛ فَيُوفّقه ال إلى كلية أخرى وينبغ فيها؛ ليكون
أحدَ البارزين في المجال الجديد.
ولهذا يقول الحق سبحانه {:وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ وَعَسَىا أَن تُحِبّواْ شَيْئا وَ ُهوَ
شَرّ ّل ُك ْم وَاللّهُ َيعْلَمُ وَأَنْتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ }[البقرة]216 :
ن يقبل قَدر ال فيه ،ويذكر أن له ربا فوق كل السباب؛ فالطمئنان يغمرُ قلبه
وهكذا نجد أن مَ ْ
ث م ْهمَا كان.
أمام أيّ ح َد ٍ
وهكذا يطمئن القلب بذكر ال؛ وتهون ُكلّ السباب؛ لن السباب إنْ عجزتْ؛ فلن يعجز المُسبّب.
وقد جاء الحق سبحانه بهذه الية في مَعرِض حديثه عن التشكيك الذي يُثيره الكافرون ،وحين
يسمع المسلمون هذا التشكيك؛ فقد توجد بعض الخواطر والتساؤلت :لماذا لم يَ ْأتِ لنا رسول ال
حسّية مثل الرّسُل السابقين لتنفضّ هذه المشكلة ،وينتهي هذا العناد؟
صلى ال عليه وسلم بمعجزة ِ
ولكن تلك الخواطر ل تنزع من المؤمنين إيمانهم؛ ولذلك يُنزِل الحق سبحانه قوله الذي يُطمئِن} :
طمَئِنّ قُلُو ُبهُمْ بِ ِذكْرِ اللّهِ[ { ...الرعد]28 :
الّذِينَ آمَنُواْ وَتَ ْ
وال ّذكْر في اللغة جاء ِل َمعَانٍ شتّى؛ فمرّة يُطلق الذّكر ،ويُرَاد به الكتاب أي :القرآن {:إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا
ال ّذكْ َر وَإِنّا َلهُ لَحَا ِفظُونَ }[الحجر]9 :
ويأتي الذكر مرّة ،ويُرَاد به الصّيت والشهرة والنباهة ،يقول تعالى {:وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ ّلكَ وَلِ َق ْو ِمكَ
سوْفَ تُسَْألُونَ }[الزخرف]44 :
وَ َ
أي :أنه شَ َرفٌ عظيم لك في التاريخ ،وكذلك لقومك أنْ تأتي المعجزة القرآنية من جنس لغتهم التي
يتكلمون بها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد يطلق الذكر على العتبار؛ والحق سبحانه يقول... {:وَلَـاكِن مّ ّتعْ َتهُ ْم وَآبَآءَهُمْ حَتّىا نَسُواْ
ال ّذكْ َر َوكَانُواْ َقوْما بُورا }[الفرقان]18 :
أي :نسوا العِبَر التي وقعتْ للمم التي عاشتْ من قبلهم؛ فنصَر ال الدينَ رغم عناد هؤلء.
وقد يطلق الذكر على ُكلّ ما يبعثه الحق سبحانه على لسان أيّ رسول... {:فَاسْأَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن
كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ }[النحل]43 :
وقد يُطلق ال ّذكْر على العطاء الخيّر من ال.
ويُطْلق ال ّذكْر على تذكر ال دائما؛ وهو سبحانه القائل {:فَا ْذكُرُونِي أَ ْذكُ ْركُمْ[} ...البقرة]152 :
أي :اذكروني بالطاعة أذك ْركُم بالخير والتجليّات ،فإذا كان ال ّذكْر بهذه المعاني؛ فنحن نجد
ي منها ،فالذكر بمعنى القرآن يُورثِ الطمئنان.
الطمئنان في أ ّ
ويقول الحق سبحانه {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ْذكُرُواْ اللّهَ ِذكْرا كَثِيرا * وَسَبّحُوهُ ُبكْ َر ًة وََأصِيلً * ُهوَ
جكُمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر َوكَانَ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرحِيما }[الحزاب:
الّذِي ُيصَلّي عَلَ ْيكُ ْم َومَلَ ِئكَتُهُ لِ ُيخْرِ َ
41ـ ]43
ف ُكلّ آية تأتي من القرآن كانت تُطمئِنُ الرسول صلى ال عليه وسلم أنه صادقُ البلغِ عن ال؛ فقد
كان المسلمون قلة مُضطهدة ،ول يقدرون على حماية أنفسهم ،ول على حماية َذوِيهم.
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر]45 :
ويقول الحق سبحانه في هذا الظرف {:سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
ويتساءل عمر رضي ال عنه :أيّ جمع هذا ،ونحن ل نستطيع الدفاع عن أنفسنا؛ وقد هاجر
بعضنا إلى الحبشة خوفا من الضطهاد؟
ولكن رسول ال صلى ال عليه وسلم يسير إلى بدر ،ويُحدّد أماكن مصارع كبار رموز الكفر من
صناديد قريش؛ ويقول " :هذا مصرع فلن ،وهذا مصرع فلن "؛ بل ويأتي بالكيفية التي يقع بها
سمُهُ عَلَى الْخُ ْرطُومِ }[القلم]16 :
القتل على صناديد قريش؛ ويتلو قول الحق سبحانه {:سَ َن ِ
وبعد ذلك يأتون برأْس الرجل الذي قال عنه رسول ال ذلك؛ فيجدون الضربة قد جاءت على أنفه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعني :أن القلوب تطمئن بالقرآن وما فيه من أخبار صادقة تمام الصدق ،لتؤكد أن محمدا صلى
ال عليه وسلم مُبلّغ عن ربّه؛ وأن القرآن ليس من عند محمد صلى ال عليه وسلم بل هو من عند
ال.
وهكذا استقبل المؤمنون محمدا صلى ال عليه وسلم وصَدّقوا ما جاء به؛ فها هي خديجة ـ رضي
ال عنها وأرضاها ـ لم تكُنْ قد سمعت القرآن؛ وما أنْ أخبرها رسول ال صلى ال عليه وسلم
صلُ الرّحِم ،وتحمل ال َكلّ ،وتَكسِب المعدوم،
بمخاوفه من أنّ ما يأتيه قد يكون جنا ،فقالت " :إنك ل َت ِ
وتَقْري الضّيْف ،وتُعينَ على نوائب الحق ،والِ ما يخزَيك ال أبدا ".
وهاهو أبو بكر ـ رضي ال عنه وأرضاه ـ يصدق أن محمدا رسول من الَ ،فوْرَ أن يخبره
بذلك.
سمَاتا؛ وقد صاغ ال لرسوله أخلقا ،تجعل مَنْ حوله
وهكذا نجده صلى ال عليه وسلم قد امتلك ِ
يُصدّقون ُكلّ ما يقول َفوْر أنْ ينطق.
ونلحظ أن الذين آمنوا برسالته صلى ال عليه وسلم؛ لم يؤمنوا لن القرآن أخذهم؛ ولكنهم آمنوا
لن محمدا صلى ال عليه وسلم ل يمكن أن َيكْذِبهم القول ،وسيرته قبل البعثة معجزة في حَدّ
ذاتها ،وهي التي أ ّدتْ إلى تصديق الوّلين لرسول ال صلى ال عليه وسلم.
أما الكفار فقد أخذهم القرآن؛ واستمال قلوبهم ،وتمنّوا لو نزل على واحد آخر غير محمد صلى ال
عليه وسلم.
وحين يرى المؤمنون أن القرآن يُخبرهم بالمواقف التي يعيشونها ،ول يعرفون لها تفسيرا؛
ويخبرهم أيضا بالحداث التي سوف تقع ،ثم يجدون المستقبل وقد جاء بها ِوفْقا لما جاء بالقرآن،
هنا يتأكد لهم أن القرآنَ ليس من عند محمد ،بل هو من عند َربّ محمد صلى ال عليه وسلم.
طمْئِنا
ولذلك فحين يُثير الكفار خزعبلتهم للتشكيك في محمد صلى ال عليه وسلم يأتي القرآن مُ َ
للمؤمنين؛ فل تؤثر فيهم خزعبلت الكفار.
والمؤمن يذكر ال بالخيرات؛ ويعتبر من كل ما يمرّ به ،وبكل ما جاء بكتاب ال؛ وحين يقرأ
ن صِ ْدقٍ.
القرآن فقلبه يطمئِنّ بذكر ال؛ لنه قد آمن إيما َ
وقد لمس المؤمنون أن أخبار النبي التي يقولها لهم قد تع ّدتْ محيطهم البيئيّ المحدود إلى العالم
الواسع بجناحَيْه الشرقي في فارس ،والغربي في الروم.
وقد أعلن لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ـ على سبيل المثال ـ خبر انتصار الروم على
ض وَهُم مّن َبعْدِ
الفرس ،حين أنزل الحق سبحانه قوله {:الـم * غُلِ َبتِ الرّومُ * فِي َأدْنَى الَرْ ِ
غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ سِنِينَ[} ..الروم]4-1 :
فأروني أيّ عبقرية في العالم تستطيع أن تتحكم في نتيجة معركة بين قوتين تصطرعان وتقتتلن؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خمْس إلى
وبعد ذلك يحدد مِنَ الذي سينتصر ،ومنِ الذي سَيُهزم بعد فترة من الزمن تتراوح من َ
تِسَع سنوات؟
وأيضا تأتي الحداث العالمية التي ل يعلم عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم شيئا ،وتوافق ما
جاء بالقرآن.
وكُلّ ذلك يجعل المؤمنين بالقرآن في حالة اطمئنان إلى أن هذا القرآن صادق ،وأنه من عند ال،
طمَئِنّ
طمَئِنّ قُلُو ُبهُمْ بِ ِذكْرِ اللّهِ َألَ بِ ِذكْرِ اللّهِ َت ْ
ويُصدّق هذا قول الحق سبحانه } :الّذِينَ آمَنُواْ وَتَ ْ
ا ْلقُلُوبُ { [الرعد]28 :
ونعلم أن الكون قد استقبل النسان الول ـ وهو آدم عليه السلم ـ استقبالً ،وقد هُيّئ له فيه ُكلّ
شيء من مُقوّمات الحياة؛ وصار النسانُ يعيش في أسباب ال ،تلك السباب ال َممْدودة من يَدِ ال؛
جهْد.
فنأخذ بها وتترقّى حياتنا ِبقَدْر ما نبذل من َ
صلَ إلى أرْقى حياة؛ إنْ كان عملُنا صالحا وحَسُنَ إيماننا بال؛ فبعد أنْ كُنّا
وما أنْ نموتَ حتى ن ِ
نعيش في الدنيا بأسباب ال الممدودة؛ فنحن نعيش في الخرة بالمُسبّب في جنته التي أعدّها
للمتقين.
طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ { [الرعد]28 :
وقول الحق سبحانهَ...} :ألَ ِب ِذكْرِ اللّهِ تَ ْ
يعني :أن الطمئنان مُستْوعِب لكل القلوب؛ فكل إنسان له زاوية يضطرب فيها قلبه؛ وما أنْ يذكر
ال حتى يجِدَ الطمئنان ويتثبتَ قلبه.
طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ
وقد حاول المستشرقون أن يقيموا ضَجّة حول قوله تعالىَ...} :ألَ ِب ِذكْرِ اللّهِ َت ْ
{ [الرعد]28 :
وتساءلوا :كيف يقول القرآن هنا أن ال ّذكْر يُطمئِن القلب؛ ويقول في آية أخرى {:إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ
الّذِينَ إِذَا ُذكِرَ اللّ ُه َوجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ[} ...النفال]2 :
فأيّ المعنيَيْنِ هو المراد؟
ولو أن المستشرقين قد استقبلوا القرآن بالمَلَكة العربية الصحيحة لَعلِموا الفارق بينَ...} :ألَ ِب ِذكْرِ
طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ { [الرعد]28 :
اللّهِ َت ْ
وبين قول الحق سبحانه {:إِ ّنمَا ا ْل ُم ْؤمِنُونَ الّذِينَ ِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ[} ...النفال]2 :
جلٍ.
غفْلة عن ال؛ هنا ينتبه النسان بِو َ
فكأنه إذا ُذكِر ال أمام الناس؛ وكان النسان في َ
أو :أن الحق سبحانه يخاطب الخَلْق جميعا بما فيهم من غرائز وعواطف ومواجيد؛ فل يوجد
إنسان كامل؛ ولكُلّ إنسان هفوة إل مَنْ عصم ال.
عفْو ال وتوبته ومغفرته
وحين يتذكر النسانُ إسرافه من جهة سيئة؛ فهو َيوْجَل؛ وحين يتذكر َ
يطمئن.
ويقول سبحانه بعد ذلك:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمِلُواْ{ ...
} الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
()1722 /
طعْما ومزاجا
وطُوبَى من الشيء الطيّب؛ أي :سيُلقُونَ شيئا طيبا في ُكلّ مظاهره :شكلً وَلوْنا و َ
وشهوة ،ف ُكلّ ما يشتهيه الواحد منهم سيجده طيبا؛ وكأن المر الطيب موجودا لهم.
وقول الحق سبحانه { :وَحُسْنُ مَآبٍ } [الرعد]29 :
حسْنُ مرجعهم إلى مَنْ خلقهم أولً ،وأعاشهم بالسباب؛ ثم أخذهم ليعيشوا بالمُسبّب العلى؛
أيُ :
وبإمكانية " كُنْ فيكون ".
ويريد الحق سبحانه من بعد ذلك أنْ يُوضّح لرسوله صلى ال عليه وسلم أنه رسول من الرّسُل؛
وكان كل رسول إلى أيّ أمة يصحب معه معجزة من صِنْف ما نبغ فيه قومه.
وقد أرسل الحق سبحانه محمدا صلى ال عليه وسلم ومعه المعجزة التي تناسب قومه؛ َفهُمْ قد
نبغوا في البلغة والبيان وصناعة الكلم ،و َقوْل القصائد الطويلة وأشهرها المُعلّقات السبع؛ ولهم
أسواقٌ أدبية مثل :سوق عكاظ ،وسوق ذي المجاز.
ولذلك جاءت معجزته صلى ال عليه وسلم من جنس ما نبغُوا فيه؛ كي تأتيهم الحُجّة والتعجيز.
ولو كانت المعجزة في مجال لم ينبغوا فيه؛ لقالوا " :لم نعالج أمرا مثل هذا من قبل؛ ولو كُنّا قد
عالجناه لَنبغْنَا فيه ".
وهكذا يتضح لنا أن إرسالَ الرسولِ بمعجزة في مجال نبغَ فيه قومه هو َنوْعٌ من إثبات التحدّي
وإظهار تفوّق المعجزة التي جاء بها الرسول.
وهكذا نرى أن إرسال محمد صلى ال عليه وسلم بالقرآن ـ وإنْ لم يُقنِع الكفار ـ إنما كان
مُطَابقا لمنطق الوحي من السماء للرسالت كلها.
ولذلك يقول الحق سبحانه هنا:
{ َكذَِلكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي ُأمّةٍ َقدْ خََلتْ} ...
()1723 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَنِ
ك وَهُمْ َي ْكفُرُونَ بِالرّ ْ
سلْنَاكَ فِي ُأمّةٍ قَدْ خََلتْ مِنْ قَبِْلهَا ُأمَمٌ لِتَتُْلوَ عَلَ ْيهِمُ الّذِي َأوْحَيْنَا إِلَ ْي َ
كَذَِلكَ أَرْ َ
ُقلْ ُهوَ رَبّي لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ عَلَيْهِ َت َوكّ ْلتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ()30
فكما أرسلك ال إلى أمتك؛ فقد سبق أنْ أرسل سبحانه رُسُلً إلى المم التي سبقتْ؛ ولم يُرسِل مع
ل واحدٌ أن المعجزة التي جاءتْ مع الرسول
أيّ منهم معجزة تناقض ما نبغَ فيه قومُه؛ َكيْ ل يقو َ
تتناولُ ضَرْبا لم يَأْلفوه؛ ولو كانوا قد أَلِفوه َلمَا تفوّق عليهم الرسول.
وقول الحق { :كَذَِلكَ[ } ...الرعد ]30 :يعني :كهذا الرسال السابق للرسل جاء َبعْ ُثكَ إلى أمتِك،
كتلك المم السابقة.
حقّ قَدْره وهو " الرحمن " فلم َي ُقلْ :وهم
ويأتي الحق سبحانه هنا بالسم الذي كان يجب أن َيقْدروه َ
حمَـانِ[ } ...الرعد]30 :
يكفرون بال بل قال { :وَهُمْ َي ْكفُرُونَ بِالرّ ْ
فهم يعيشون ـ رغم كُفْرهم ـ في رزق من ال الرحمن ،وكُل ما حولهم وما يُقيتهم وما
يَسْتمتعون به من ِنعَم عطاءاتٌ من ال.
وهم ل يقومون بأداء أيّ من تكاليف ال؛ فكان من اللياقة أن يذكروا َفضْل ال عليهم؛ وأنْ يؤمنوا
به؛ لن مطلوب اللوهية هو القيام بالعبادة.
وهو سبحانه هنا يأتي باسمه " الرحمان "؛ والذي يفيد التطوع بالخير؛ وكان من الواجب أن
ل أو قوة.
ح ْو ٌ
يقدرُوا هذا الخيْر الذي قدّمه لهم سبحانه ،دون أن يكون لهم َ
وكان يجب أن يعتبروا ويعلنوا أنهم يتجهون إليه سبحانه بالعبادة؛ وأنْ يُنفّذوا التكليف العباديّ.
ت المفاوضات بين المسلمين وكفار قريش الذين منعوا رسول ال صلى ال
وفي صُلْح الحديبية دار ْ
عليه وسلم من دخول مكة ،ولكنهم قَبِلوا التعاهد معه ،فكان ذلك اعترافا منهم بمحمد صلى ال
عليه وسلم وصَحْبه الذين صاروا قوة تُعاهِدُ؛ تأخذ وتعطي.
ولذلك نجد سيدنا أبا بكر ـ رضي ال عنه ـ يقول " :ما كان في السلم نصرٌ أعظم من َنصْر
الحديبية ".
فقد بدأتْ قريش في الحديبية العترافَ برسول ال وأمة السلم؛ وأخذوا ُهدْنة طويلة تمكّن
خللها محمد صلى ال عليه وسلم وصحابته من أنْ يغزُوا القبائل التي تعيش حول قريش؛ حيث
كانت تذهب سَرِية ومعها مُبشّر بدين ال؛ فتُسلِم القبائل قبيلة من َبعْد قبيلة.
وهكذا كانت الحديبية هي أعظم نصْر في السلم؛ فقد سكنتْ قريش؛ وتفرّغ رسول ال صلى ال
عليه وسلم ومَنْ معه لدعوة القبائل المحيطة بها للسلم.
ولكن الناس لم يتسع ظنّهم لما بين محمد وربّه .والعباد دائما َيعْجلون ،وال ل َيعْجل بعَجلةِ العباد
حتّى تبل َغ المورُ ما أراد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" وحين جاءت لحظة التعاقد بين رسول ال صلى ال عليه وسلم وبين قريش في الحُديْبية ،وبدأ
عليّ بن أبي طالب في كتابة صيغة المعاهدة ،كتب " هذا ما صَالح عليه محمد رسول ال "
فاعترض سهيل بن عمرو وقال :لو شهدتُ أنك رسول ال لم أقاتلك ،ولكن اكتب " :هذا ما صالح
عليه محمد بن عبد ال وسهيل بن عمرو ".
وأصر صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم على أن تُكتب صفة محمد كرسول ،لكن النبي
صلى ال عليه وسلم قال " :وال إني لرسول ال وإن كذبتموني .اكتب محمد بن عبد ال ".
ولكن عليا ـ كرّم ال وجهه ـ ُيصِرّ على أن يكتب صفة محمد كرسول من ال؛ فيُنطق الحق
سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم ليقول لعليّ " :ستسام مثلها فتقبل
" .ولما تولّى عليّ ـ كرم ال وجهه ـ بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي ال عنهم أجمعين،
عقْد معاهدة؛ وكتب الكاتب " هذا ما
وقامت المعركة بين علي ومعاوية؛ ثم اتفق الطرفان على َ
قاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " فقال عمرو بن العاص مندوب معاوية " :اكتب
اسمه واسم أبيه ،هو أميركم وليس أميرنا ".
وهنا تذكّر علي ـ كرم ال وجهه ـ ما قاله سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم " :سَتُسَام مثلها
فتقبّل " وقَبِلها فقال " :امْحُ أمير المؤمنين ،واكتب هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب " ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَـانِ ُقلْ ُهوَ رَبّي.
وقول الحق سبحانه } :وَهُمْ َي ْكفُرُونَ بِالرّ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أنني ل آخذ أوامري من أحد غيره ومرجعي إليه.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
} وََلوْ أَنّ قُرْآنا سُيّ َرتْ بِهِ ا ْلجِبَالُ{ ...
()1724 /
جمِيعًا َأفََلمْ
ط َعتْ ِبهِ الْأَ ْرضُ َأوْ كُلّمَ ِبهِ ا ْل َموْتَى َبلْ لِلّهِ الَْأمْرُ َ
وََلوْ أَنّ قُرْآَنًا سُيّ َرتْ ِبهِ الْجِبَالُ َأوْ ُق ّ
جمِيعًا وَلَا يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا ُتصِي ُبهُمْ ِبمَا صَ َنعُوا
يَيْئَسِ الّذِينَ َآمَنُوا أَنْ َلوْ يَشَاءُ اللّهُ َلهَدَى النّاسَ َ
ي وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّهَ لَا ُيخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ ()31
حلّ قَرِيبًا مِنْ دَارِ ِهمْ حَتّى يَأْ ِت َ
قَارِعَةٌ َأوْ َت ُ
و (لو) حَرْف شَرْط يلزم لها جوابُ شَرْطٍ ،وقد ترك الحق سبحانه جواب الشّرْط هنا اعتمادا على
يقظة ال ُمسْتمع .وإنْ كان مثل هذا القول ناقصا حين ننطق نحن به ،فهو ليس كذلك حين يأتي من
َقوْل ال سبحانه؛ فهو كامل فيمن تكلّم ،وقد تركها ليقظة المُسْتمِع للقرآن الذي يبتدر المعاني،
ويتذكّر مع هذه الية قوله الحق {:وََلوْ نَزّلْنَا عَلَ ْيكَ كِتَابا فِي قِ ْرطَاسٍ فََلمَسُوهُ بِأَيْدِي ِهمْ َلقَالَ الّذِينَ
سحْرٌ مّبِينٌ }[النعام]7 :
َكفَرُواْ إِنْ هَـاذَآ ِإلّ ِ
شيْءٍ
وكذلك قول الحق سبحانه {:وََلوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ إِلَ ْي ِهمُ ا ْلمَل ِئكَ َة َوكَّل َمهُمُ ا ْل َموْتَىا وَحَشَرْنَا عَلَ ْي ِهمْ ُكلّ َ
جهَلُونَ }[النعام]111 :
قُبُلً مّا كَانُواْ لِ ُي ْؤمِنُواْ ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُهمْ يَ ْ
إذن :من كل نظائر تلك الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نأخذ جواب الشرط المناسب لها من
ط َعتْ به الرض ،أو كُلّمَ به ال ُموْتى
تلك اليات؛ فيكون المعنى :لو أن قُرْآنا سُيّرتْ به الجبال ،أو قُ ّ
َلمَا آمنوا.
ويُ ْروَى أن بعضا من مُشْرِكي قريش مثل :أبي جهل وعبد ال ابن أبي أمية جَلَسَا خلف الكعبة
وأرسل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ وقال له عبد ال :إن سَرّك أن نتبعك فَسَيّر لنا جبال
مكة بالقرآن ،فأذهبها عَنّا حتى تنفسح ،فإنها أرض ضيّقة ،واجعل لنا فيها عيونا وأنهارا ،حتى
نغرس ونزرع ،فلستَ ـ كما زع ْمتَ ـ بأهْونَ على ربّك من داود حين سخّر له الجبال تسير
معه ،وسَخّر لنا الرّيح فنركبها إلى الشام نقضي عليها مَيْرتنا وحوائجنا ،ثم نرجع من يومنا ،فقد
جدّك ،أو
صبَ َ
ستَ بأهونَ على ربّك من سليمان ،وأحْيي لنا َق َ
سخّ َرتْ الريحُ لسليمانَ بن داود ،ول ْ
مَنْ شئتَ أنت من موتانا نسأله ،أحقّ ما تقول أنت أم باطل؟ فإن عيسى كان يُحيي ال ُموْتَى ،ولستَ
بأهونَ على ال منه ،فأنزل الحق سبحانه هذه الية وما قبلها للرد عليهم.
وكانت تلك كلها مسائل يتل ّككُونَ بها ليبتعدوا عن اليمان؛ فالرسول صلى ال عليه وسلم قد جاء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمِل منهج السماء إلى أنْ تقومَ الساعة.
بمعجزة من جِنْس ما نَ ِبغُوا فيه؛ وجاء القرآن يَ ْ
وقد طلبوا أنْ تبتعد جبال مكة ليكونَ الوادي فسيحا؛ ليزرعوا ويحصدوا؛ وطلبوا تقطيع الرض،
حفْر جداول من المياه ،وقد قال الكافرون {:لَن ّن ْؤمِنَ
أيَ :فصْل بقعة عن بقعة؛ وكان هذا يحدث ِب َ
ن الَ ْرضِ يَنْبُوعا }[السراء]90 :
َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِ َ
والمراد من تقطيع الرض ـ حسب مطلوبهم ـ أن تقصُرَ المسافة بين مكان وآخر ،بحيث
يستطيع السائر أنْ يستريح كل فَتْرة؛ فالمسافر يترك في كل خطوة من خطواته أرضا؛ ويصل إلى
أرض أخرى ،و ُكلّ يقطع الرض على حَسْب قدرته ووسيلة المواصلت التي يستخدمها.
فالمُتْرَف يريد أن يكون المسافة كبيرة بين قطعة الرض والخرى؛ لنه يملك الجِيَاد التي يمكن
أن يقطع بها المسافة بسهولة ،أما مَنْ ليس لديه مطية؛ فهو يحب أن تكون المسافات قريبة
ليستطيع أنْ يستريح.
ونلحظ أن ذلك في زماننا المعاصر ،فحين زادَ الترف صارتْ السيارات تقطَع المسافة من القاهرة
عكْس ما كان يحدث قديما حين كانت السيارات تحتاج إلى راحة
إلى السكندرية دون توقّف؛ َ
ومعها المسافرون بها ،فيتوقفون في مُنتصَفِ الطريق.
سفَارِنَا َوظََلمُواْ
ومثل ذلك قد حدث في مملكة سبأ ،يقول الحق سبحانهَ {:فقَالُواْ رَبّنَا بَاعِدْ بَيْنَ َأ ْ
سهُمْ[} ...سبأ]19 :
أَنفُ َ
أي :اجعل المسافة بين مكان وآخر بعيدة ،كي يتمتع المُسافِر القادرُ بالمناظر الطيبة.
ولحظنا أيضا تمادي المشركين من قريش في طلب المعجزات الخارقة؛ بأنْ طلبوا إحياء ال َموْتى
في قول الحق سبحانهَ } :أوْ كُلّمَ ِبهِ ا ْل َموْتَىا[ { ...الرعد]31 :
حقّ ما جاء به
وبعضهم طلب إحياء قصي بن كلب الجد الكبر لرسول ال ولقريش؛ ليسألوه :أ َ
محمد؟ ولكن القرآن لم يَ ْأتِ لِمثْل تلك المور؛ وحتى لو كان قد جاء بها َلمَا آمنوا.
ومهمة القرآن تتركز في أنه منهج خَا َتمٌ صالح لكل عصر؛ وتلك معجزته.
جمِيعا[ { ...الرعد]31 :
لمْرُ َ
ويقول سبحانه } :بَل للّ ِه ا َ
وكلمة " أمر " تدلّ على أنه شيء واحد ،وكلمة " جميعا " تدل على مُتعدّد ،وهكذا نجد أن تعدّد
الرسالت وال ُمعْجِزات إنما يدلّ على أن ُكلّ من أمر تلك الرسالت إنما صدرَ عن الحق سبحانه؛
وهو الذي اختار كلّ ُمعْجزة لتناسب القومَ الذين ينزل فيهم الرسول.
جمِيعا[ { ...الرعد]31 :
ويتابع سبحانهَ } :أفَلَمْ يَيْأَسِ الّذِينَ آمَنُواْ أَن ّلوْ يَشَآءُ اللّهُ َل َهدَى النّاسَ َ
وكلمة " ييأس " ُيقَال إنها هنا بمعنى " يعلم "؛ فهي لغة بلهجة قريش ،أي :ألم يعلم الذين آمنوا أن
هؤلء الكفار لم يهتدوا؛ لن ال لم يَشَأ هدايتهم.
خفّ الجهد عن الفئة المسلمة؛ فل
وكان المؤمنون يودّون أن يؤمنَ صناديدُ قريش كي َي ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يضطهدونهم ،ول يضايقونهم في أرزاقهم ول في عيالهم.
ويوضح الحق سبحانه هنا أن تلك المسألةَ ليست مُرتبطة برغبة المؤمن من هؤلء؛ بل اليمان
مسألة تتطلب أنْ يُخرِج النسان ما في قلبه من عقيدة ،وينظر إلى القضايا بتجرّد ،وما يقتنع به
يُدخِله في قلبه.
وبذلك يمتلئ الوعَاء العقديّ بما يُفيد؛ كي ل تدخل في قلبك عقيدة ،ول تأتي عقيدة أخرى تطردُ
ج ْوفِهِ} ...
جلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي َ
ج َعلَ اللّهُ لِرَ ُ
عمّا تعتقد ،يقول تعالى {:مّا َ
العقيدة ،أو تُزيغ قلبك َ
[الحزاب]4 :
فالوعاء القلبي كالوعاء الماديّ تماما؛ ل يقبل أنْ يتداخل فيه جِ ْرمَان أبدا ،فإنْ دخل جِرْم على
جِرْم؛ إنْ كان أقوى فهو يطرد من القلب الَدْنى منه.
والم َثلُ على ذلك :لنفترض أن عندنا إناءً ممتلئا عن آخره؛ ويحاول واحدٌ منا أنْ يضعَ فيه كُرةً
صغيرة من الحديد؛ هنا سيجد أن الماءَ يفيضُ من حَوافّ الناء بما يُوازِي حجم كرة الحديد ،وهذا
ما يحدث في الناء الماديّ ،وكذلك الحال في الناء ال َعقَديّ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ
سكُمْ عَزِيزٌ َ
وهذا يُفسر قول الحق سبحانهَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة]128 :
ولهذا يريد صلى ال عليه وسلم أن تكونوا مؤمنين؛ لذلك يدعوكم أن تقوموا ل؛ ل لِجَاهِ أحد
غيره؛ لن جاه أيّ كائن سيزول َم ْهمَا كان هذا الواحد ،ول تقولن لنفسك :إن العبيد سيتساوون
معك.
بل قُمْ ل إما مثنى أي أن تكون قائما ومعك آخر؛ أو يقوم غيرك اثنين اثنين ليناقش كل منكم مع
من يجلس معه؛ ول يتحيز أحد منكم لِفكْر مُسْبق بل يُوجّه فكره كله متجردا ل.
وليتساءل كل واحد :محمد هذا ،صفته كذا وكذا ،وقد فعل كذا ،والقرآن الذي جاء به يقول كذا،
وسيجد الواحد منكم نفسه وقد اهتدى للحق بينه وبين نفسه ،وبينه وبين مَنْ جلس معه ليناقشه
فيستعرضان معه تاريخ محمد صلى ال عليه وسلم وما جاء به.
وحين يتناقش اثنان لن يخاف أيّ منهما أن يهزمه الخر ،لكن لو انضمّ إليهما ثالثٌ؛ فكل واحد
يريد أن يعتز برأيه؛ ويرفض أن يقبل رَأْي إنسان غيره ،ويخشى أن يُعتبر مهزوما في المناقشة؛
ويرفض لنفسه احتمال أنْ يستصغره أحد.
ولذلك قال الحق سبحانه {:مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن جِنّةٍ[} ...سبأ]46 :
و " الجِنّة " هي اختلل العقل؛ أي :أن مَنْ به جِنّة إنما يتصرف ويسلُك بأعمال ل يرتضيها العقل.
ويقرن الحق سبحانه بين العقل وبين الخُلُق ،فيقول {:وَإِ ّنكَ َلعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ }[القلم]4 :
ويُقَال :فلن على خُلق .أي :يملك من الصفات ما يجعله على الجَادّة من الفضائل؛ مثل الصّدْق
والمانة؛ وهذه صفاتٌ يَنْظِمها في مواقفها ال ِفكْر العقليّ؛ وهو الذي يُميّز لنا أيّ المواقف تحتاج
إلى شِدّة؛ أو لِينٍ؛ أو حكمة ،وكلّ هذه أمور يُرتّبها العقل.
والخُلُق الرفيع ل يصدر عن مجنون؛ لنه ل يعرف كيف يختار بين البدائل؛ لذلك ل نحاسبه
نحن؛ ول يحاسبه ال أيضا.
وحين يأمرهم الحق سبحانه أن يبحثوا :هل محمد يعاني من جِنّة؟ فالحق سبحانه يعلم مُقدّما أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم بشهادتهم يتمتّع بكمال الخلق؛ بدليل أن أه ّم ما كانوا يملكونه كانوا
يستأمنون عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وبدليل أنه صلى ال عليه وسلم حينما دخل عليهم وكانوا مختلفين في أمر بناء الكعبة؛ ارتضوه
حكَما.
َ
ولذلك يقول سبحانه {:ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا َيسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِب َمجْنُونٍ }[القلم]2-1 :
وهكذا رأينا أن هؤلء الكفار ما كانوا ليؤمنوا؛ ولم َيكُنِ الُ لِيهدِيَهم؛ لنهم كانوا ل يملكون أَدْنى
استعداد للهداية؛ وكأنهم أدمنُوا الكفر والعياذ بال؛ وقد طبع ال على قلوبهم فزادهم كفرا؛ فما في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تلك القلوب من كفر ل يخرج منها؛ وما بخارجها ل يدخل فيها.
وقد ظَنّ بعض من المسلمين أن ُكفْر هؤلء قد يُشقِي المؤمنين بزيادة العَنتِ من الكافرين ضدهم؛
لذلك يوضح الحق سبحانه لهل اليمان أن َنصْره قريب ،فيقول سبحانهَ ...} :ولَ يَزَالُ الّذِينَ
ي وَعْدُ اللّهِ إِنّ اللّ َه لَ يُخِْلفُ
حلّ قَرِيبا مّن دَارِ ِهمْ حَتّىا يَأْ ِت َ
َكفَرُواْ ُتصِي ُبهُم ِبمَا صَ َنعُواْ قَارِعَةٌ َأوْ تَ ُ
ا ْلمِيعَادَ { [الرعد]31 :
أي :اطمئنوا يا أهل اليمان؛ فلن يظلّ حال أهل الكفر على ما هو عليه؛ بل ستصيبهم الكوارث
وهم في أماكنهم ،وسيشاهدون بأعينهم كيف ينتشر اليمان في المواقع التي يسودونها؛ وتتسع
ق في
رقعةُ أرض اليمان ،وتضيق رقعة أهل الكفر؛ ثم يأتي َنصْر ال وقد جاء َنصْر ال ولم يَ ْب َ
الجزيرة العربية إل مَنْ يقول " :ل إله إل ال ،محمد رسول ال ".
وهكذا تنبأتْ الية بمجيء المل بعد اليأس ،كي ل يظلّ اليأس مُسَيْطرا على حركة المسلمين
وعلى نفوسهم ،واستجاب الحق سبحانه لدعوته صلى ال عليه وسلم حين دعاه قائلً " :اللهم
اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف ".
وقُتِل صناديدُهم واحدا وراء الخر؛ ولكن عنادهم استمر؛ وبلغ العناد حَدّ أن ابن َتيْ رسول ال
صلى ال عليه وسلم كانتا مُتزوّجتيْنِ من ابنيْ أبي َل َهبٍ؛ فلما أعلن النبي صلى ال عليه وسلم
رسالته؛ قال أبو لهب وزوجته :لبد أن يُطلّق أبناؤنا بنات محمد؛ فلما طلّق أوّلهما بنت رسول ال
صلى ال عليه وسلم دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلً:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على هادئ ساكن ،ومنها نأخذ قَرْع الباب ،وهناك فَرْق بين " َنقْر البابِ " و " قَرْع الباب ".
حلّ قَرِيبا مّن دَارِهِمْ[ { ...الرعد]31 :
وقَوْل الحق سبحانهَ } :أوْ تَ ُ
يُوضّحه أمْر صُلْح الحديبية الذي جاء بشارةً للمسلمين؛ فقد صار كفار قريش يفاوضون رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،وكان النبي صلى ال عليه وسلم يبعث بالسرايا إلى المناطق المحيطة بمكة؛
فتأتي القبائل أفواجا وهي تعلن إسلمها؛ ويبلغ ذلك قريشا بأن السلم يواصل َزحْفه؛ ثم تأتيهم
القارعة بأن يدخل الرسول صلى ال عليه وسلم مكة؛ ويتحقق وعد ال بأن يدخلوا هم أيضا إلى
حظيرة السلم.
ي وَعْدُ اللّهِ[ { ...الرعد]31 :
أو :أن يكون المقصود بـ } :حَتّىا يَأْ ِت َ
حلّ عليهم ما يستحقونه من عذاب.
هو مجيء يوم القيامة الذي يحمل وَعْد ال بأن ي ُ
وفي هذا القول تطمين ِلمَنْ قال الحق سبحانه في أول هذه اليةَ } :أفَلَمْ يَيَْأسِ[ { ...الرعد]31 :
ذلك أن ال ل يُخلِف وعده ،وهو القائل في تذييل هذه الية...} :إِنّ اللّ َه لَ يُخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ { [الرعد:
]31
ونعلم أن كلمة " وَعْد " عادة تأتي في الخير ،أما كلمة " وعيد " فيه فتأتي غالبا في الشر.
والشاعر يقول:وَإنّي إذَا َأوْعدْتُه َأوْ وْعدْتُه َلمُنجِزٌ مِيعَادِي ومُخِلفٌ َموْعِديفاليعاد دائما يكون ِبشَرّ؛
والوَعْد يعني الخير ،إل أن بعض العرب يستعمل الثنين .أو نستطيع أن نقول :إن المسألة بتعبير
حوْل ديارهم ،وفي
المؤمنين؛ أن ال سينصر المؤمنين بالقارعة التي تصيب أهل الكفر؛ أو تأتي َ
ذلك وَعْد يُصبّر به سبحانه المؤمنين؛ وهو في نفس الوقت وعيدٌ بالنسبة للكافرين.
وقوله سبحانه...} :إِنّ اللّ َه لَ يُخِْلفُ ا ْلمِيعَادَ { [الرعد]31 :
هو قضية قرآنية ستتحقق حَتْما؛ في كل عصر وأوان ،إذا ما أخذ المسلمون بأسباب اليمان؛ وهي
كقضية تختلف عن وَعْد أو وَعِيد البشر؛ لن النسان قد َيعِد أو يتوعّد؛ لكن أغيار الحياة ُتصِيبه؛
فتُعطل قدرته على إنفاذ الوَعْد أو الوعيد.
أما حين َي ِع ُد ال فالمر يختلف؛ لن وَعْده هو وَعْد مُطْلق؛ وهذا هو معنى...} :إِنّ اللّ َه لَ يُخِْلفُ
ا ْلمِيعَادَ { [الرعد]31 :
يقول الحق سبحانه بعد ذلك:
سلٍ مّن{ ...
} وََلقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ بِ ُر ُ
()1725 /
عقَابِ ()32
سلٍ مِنْ قَبِْلكَ فََأمْلَ ْيتُ لِلّذِينَ َكفَرُوا ثُمّ َأخَذْ ُتهُمْ َفكَيْفَ كَانَ ِ
وَلَقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ بِرُ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طلِب من الغير أنْ يهزأ بشخص
ويقال " هَزَأ بفلن " أي :سخر منه ،أما " اسْتُهزِئ بفلن " أيُ :
معين ،وهذا عليه إثمه وإثم مَنْ أوعز له بالسخرية من هذا الشخص.
سلٍ مّن قَبِْلكَ[ } ...الرعد]32 :
وقول الحق سبحانه { :وََلقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ بِرُ ُ
حكَم بين أبي
أي :لستَ بِدعا يا محمد في أن يقف بعض الكافرين منك هذا الموقف .والم َثلُ هو ال َ
العاص أبو مروان الذي كان يُقلّد مشية النبي صلى ال عليه وسلم؛ وكان رسول ال يمشي كأنما
يتحدّر من صبب؛ وكان بصره دائما في الرض.
" ولم يكن الناس ُمعْتادين على تلك المِشْية الخاشعة؛ فقد كانوا يسيرون بغرور مستعرضين
مناكبهم.
ح َكمُ رسول ال رآه صلى ال عليه وسلم بنور البصيرة ،فقال له صلى ال عليه وسلم:
وحين قَلّد ال َ
" كُنْ على هذا " ،فصارت مِشْيته عاهة ،بينما كانت مِشْية رسول ال تطامنا إلى ربه ،وتواضعا
منه صلى ال عليه وسلم.
حكَم إلى الطائف؛ وراح يَرْعى الغنم هناك ،ولم َيعْفُ النبي
ونفَى رسول ال صلى ال عليه وسلم ال َ
صلى ال عليه وسلم عنه؛ وكذلك أبو بكر في خلفته؛ ول عمر بن الخطاب؛ ولكن الذي عفا عنه
هو عثمان بن عفان ،وكان قريبا له.
وشهد عثمان بن عفان وقال " :وال لقد استأذنتُ رسول ال فيه فقال لي :إن استطعت أن تعفوَ
ع َف ْوتُ عنه ".
عفُ ،وحين وَلِيتُ أمرَ المسلمين َ
عنه فَا ْ
وحدث من بعد ذلك أن تولّى عبد الملك بن مروان أمر المسلمين؛ وكان لبنه الوليد خَيْل تتنافس
مع خيل أولد يزيد بن معاوية؛ واحتال أولد يزيد بالغش ،ووضعوا ما يُعرقِل خَيْل الوليد.
وحدث خلف بين الفريقين فشتم الوليدُ أبناء يزيد؛ فذهب أولد يزيد إلى عبد الملك يشكُون له
ولده؛ وكان الذي يشكو ل يتقن نُطْق العربية دون أخطأ؛ فقال له عبد الملك :مَا َلكَ ل تقيم لسانك
من اللحْن؟ فردّ الذي يشكو ساخرا " :وال لقد أعجبتْنِي فصاحةُ الوليد " .ويعني :أن حال لسان ابن
عبد الملك ل يختلف عن حال لسان مَنْ يشكو؛ فكلهما ل ينطق ِبسَلسَة ،ويكثر اللحْنَ في النّطْق
بالعربية.
فقال عبد الملك :أَتُعيّرني بعبد ال ابني الذي ل يُتقِن العربية دون َلحْن؟ إن أخاه خالدا ل يلحن.
ت في العِير ول في ال ّنفِير.
وتبع ذلك بقوله :اس ُكتْ يا هذا ،فلس َ
وهذا مَ َثلٌ نقوله حاليا ،وقد جاء إلينا عَبْر قريش؛ حيث كانت السلطةُ فيها ذات َمصْدرين؛ مصدر
العِير؛ أي :التجارة التي تأتي من القوافل عَبْر الشام وقائدها أبو سفيان؛ وال ّنفِير؛ وهم ال َقوْم الذين
َنفَرُوا لِنجْد ِة أبي سفيان في موقعة بدر؛ وكان يقودهم عتبة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقال ابن يزيد :ومَنْ َأوْلَى بالعِير وال ّنفِير منّي؟ ويعني أنه حفيدُ أبي سفيان من ناحية الب؛ وحفيدُ
عُتْبة من ناحية الم.
شوَيْهات وغُنَيْمات وذكرت الطائف لكنتَ على حق؛ ورَحِم ال عثمان الذي
وأضاف :لكن لو قُلْت ُ
عفَا عن جَدّك ،وأرجعه من المَنْفى.
ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قال لرسوله صلى ال عليه وسلم {:إِنّا َكفَيْنَاكَ ا ْلمُسْ َتهْزِئِينَ }[الحجر:
]95
وكان أيّ إنسان يسخر من رسول ال صلى ال عليه وسلم يَ ْلقَى عقابا إلهيا.
سلٍ مّن قَبِْلكَ فََأمْلَ ْيتُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ ثُمّ أَخَذْ ُت ُهمْ َفكَ ْيفَ
وهنا يقول الحق سبحانه } :وََلقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ بِرُ ُ
عقَابِ { [الرعد]32 :
كَانَ ِ
فأنت يا رسول ال لستَ بِدْعا في الرسالة ،ولك أسوة في الرسالة ،والحق سبحانه َيعِ ُدكَ هنا في
حكَم كتابه } :فََأمْلَ ْيتُ لِلّذِينَ َكفَرُواْ[ { ...الرعد]32 :
مُ ْ
أي :أمهلتُ الذين كفروا ،والملء بمعنى المهال ليس معناه تَرْك العقوبة على الذّنْب ،وإنما تأخير
العقوبة لذنب قادم ،والمَثَل هو أن تترك مخطئا ارتكبَ َهفْوة؛ إلى أنْ يرتكب َهفْوة ثانية؛ ثم ثالثة،
ثم تُنْزِل به العقاب من حيثُ ل يتوقع.
وإذا كان هذا ما يحدث في عالم البشر؛ فما بَالُنا بقوة الحق سبحانه اللمتناهية ،وهو القائل{:
ث لَ َيعَْلمُونَ }[العراف]182 :
ج ُهمْ مّنْ حَ ْي ُ
سَنَسْ َتدْرِ ُ
سهِمْ إِ ّنمَا ُنمْلِي َل ُهمْ لِيَزْدَادُواْ إِ ْثمَا
حسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ أَ ّنمَا ُنمْلِي َلهُمْ خَيْ ٌر لَنْفُ ِ
ويقول تعالىَ {:ولَ يَ ْ
وََلهْمُ عَذَابٌ ّمهِينٌ }[آل عمران]178 :
تماما مِثْلما نجد مَنْ يصنع فَخّا لعدوه.
سلٍ مّن قَبِْلكَ فََأمْلَ ْيتُ لِلّذِينَ كَفَرُواْ ثُمّ أَخَذْ ُت ُهمْ َفكَ ْيفَ
وهنا يقول الحق سبحانه } :وََلقَدِ اسْ ُتهْ ِزئَ بِرُ ُ
عقَابِ { [الرعد]32 :
كَانَ ِ
عقَابِ { [الرعد]32 :
وكلمةَ ...} :فكَ ْيفَ كَانَ ِ
توضح أنه كان عقابا صارما؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في موقع آخر {:إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ
حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَ ْهِلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ *
مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َيضْ َ
وَإِذَا رََأوْ ُهمْ قَالُواْ إِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُ ْرسِلُواْ عَلَ ْيهِمْ حَافِظِينَ * فَالْ َي ْومَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ
علَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ ا ْلكُفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المطففين29 :ـ
حكُونَ * َ
ضَا ْل ُكفّارِ َي ْ
]36
إذن :فلسوْفَ يَ ْلقَى الذين استهزءوا بالرسل العقاب الشديد.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
} َأ َفمَنْ ُهوَ قَآ ِئمٌ عَلَىا ُكلّ َنفْسٍ{ ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1726 /
ولقائل أنْ يتساءل :أَلَمْ يكُنْ من الواجب ما دام قد قالَ { :أ َفمَنْ ُهوَ قَآ ِئمٌ عَلَىا ُكلّ َنفْسٍ ِبمَا
كَسَ َبتْ[ } ...الرعد]33 :
أن يأتي بالمقابل ،ويقول :كمَنْ ليس قائما على كل نفس بما كسبت؟
ولمثل هذا السائل نقول :إنها عظمة القرآن الذي يترك للعقل ما يمكن أن يستنبطه؛ فيأتي بأشياء
تتطلّب التفكير والستنباط ،كي يتنبّه النسان أنه يستقبل كلم َربّ حكيم؛ وعليه أن يبحث فيه.
ولذلك يقول سيدنا عبد ال بن مسعودَ " :ثوّروا القرآن " أي :أثيروه ،كي تكتشفوا ما فيه من
كنوز.
خفَى عليه خافية.
ونحن نعلم أن كلمة " قائم على المر " تعني أنه هو الذي يُدِيره ويُدبّره ،ول تَ ْ
وجاء الحق سبحانه هنا بصيغة القيام؛ كي نعلم أن الحق سبحانه ل يدير المر من حالة قعود؛ بل
يديره وهو قائم عليه ،فكل أمر هو واضح عنده غير خَفيّ.
وهو سبحانه قائم على كل نفس بما كسبتْ إن خيرا فخيْر؛ وإنْ شرا فشرّ ،ولكنكم أيها الكافرون
المشركون ل تملكون لنفسكم ضرا ول َنفْعا؛ فهل يمكن لعاقل أنْ يساوي بين الذي يقوم على أمر
كل نفس ،بغيره ِممّن ليس كذلك؟
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ[ } ...الرعد]33 :
ولكن هناك مَنْ قال فيهم الحق سبحانه في نفس الية { :وَ َ
أي :جعلوا للقائم على أمر ُكلّ نفس شركاء ل يقدر الواحد فيهم على أمر َنفْسه؛ وبالتالي ل يقدر
على أمر غيره؛ بل قد ُيصَابُ الصّنم من هؤلء بشَرْخ؛ فيأتي مَنْ يعبدونه ليقوموا على أمره
صارخين بأن إلههم قدْ انشرخَ؛ ويحتاج إلى مسمارين لتثبيته ،فكيف يُسوّونَ ذلك الصنم بال الذي
ل يحدّه شيء ول يحُدّ قدرته شيء؟
جعَلُواْ للّهِ شُ َركَآءَ[ } ...الرعد]33 :
وقَوْل الحق سبحانه { :وَ َ
دليل على النص المحذوف " :كمن هو غير قائم على كل نفس " ،فسبحانه ليس كهذه الصنام
العاجزة؛ لنه سبحانه قائم على كل نفس؛ نفسك ونفس غيرك ونفس كل إنسان عاش أو سيعيش.
سمّوهُمْ أَمْ تُنَبّئُونَهُ ِبمَا لَ َيعَْلمُ فِي الَ ْرضِ أَم بِظَاهِرٍ مّنَ
ولذلك يقول سبحانه بعدهاُ { :قلْ َ
ا ْل َقوْلِ[ } ...الرعد]33 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله أن يقول للكافرين بال :قُولوا أسماء مَنْ تعبدونهم من غير ال؛
س ّموْا الصنام بأسماء كاللّت والعُزّى وهُبَل؛ وهي
وهي أحجار ،والحجار ل أسماءَ لها؛ وهم قد َ
حيّ،
س ّموْهَا لُنسِبت لعمرو بن لُ َ
ضفْ لتلك الصنام شيئا ،فهي ل تقدر على شيء؛ ولو َ
أسماء لم ُت ِ
س ّموْها ساعة أنْ نحتُوها.
الذي أوجدهم؛ وهُمْ َ
والله الحق ل يسميه أحد ،بل يُسمّي هو نفسه ،ولكن بما أن المسألة َكذِب في كَذِب ،لذلك يسألهم
رسول ال صلى ال عليه وسلم عن أسماء تلك اللهة.
ويقول لهم :هل تنبئون أنتم ال خالق كل الكون بما ل يعلم في كونه الذي أوجده من عدم؟
سبحانه يعلم كل ما خلق؛ وأنتم ل تعبدون إل أصناما ينطبق عليها أنها من ظاهر القول؛ أي :قول
ل معنى له؛ لنهم أطلقوا أسماء على أشياء ل باطنَ لها ول قدرة تستطيعها ،وهم اكت َفوْا بالظاهر
والمُسمّى غير موجود.
ويقول الحق سبحانهَ } :بلْ زُيّنَ لِلّذِينَ َكفَرُواْ َمكْرُهُ ْم َوصُدّواْ عَنِ السّبِيلِ[ { ...الرعد]33 :
أي :أنهم ظنوا أنهم يمكرون على ال ،ويقولون إن تلك الصنام آلهة ،وهي ليست كذلك.
ثم يقول سبحانهَ ...} :ومَن ُيضِْللِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ هَادٍ { [الرعد]33 :
أي :أن العذاب الذي يَلْقوْنَه في الحياة الدنيا هو لصيانة حركة المجتمع من الفساد ،ولبد أنْ يقعَ
لهم عذابٌ في الحياة الدنيا؛ ولن مَنْ يؤجّل عذابه للخرة؛ لبد أن يرى في نفسه آية العذاب قبل
أن يَلْقى عذابه في الخرة.
إذن :فعذاب الدنيا هو لحماية حركة الحياة؛ ولذلك نجد القوانين وهي ُتسَنّ لِتُطبق على المنحرف؛
ومَنْ يرتكب الجُرْم يخاف أن تقع عليه العين؛ وإن رآه أحد فهو يبلغ عنه ليلقى عقابه؛ وبذلك
تستقيم حركة الحياة.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في سورة الكهف {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَن ذِي ا ْلقَرْنَيْنِ ُقلْ سَأَتْلُواْ عَلَ ْيكُم مّنْهُ
شيْءٍ سَبَبا * فَأَتْبَعَ سَبَبا * حَتّىا إِذَا َبلَغَ َمغْ ِربَ
ِذكْرا * إِنّا َمكّنّا لَهُ فِي الَ ْرضِ وَآتَيْنَاهُ مِن ُكلّ َ
خذَ
حمِ َئ ٍة َووَجَدَ عِندَهَا َقوْما قُلْنَا ياذَا ا ْلقَرْنَيْنِ ِإمّآ أَن ُتعَ ّذبَ وَِإمّآ أَن تَتّ ِ
س َوجَدَهَا َتغْ ُربُ فِي عَيْنٍ َ
شمْ ِ
ال ّ
عذَابا ّنكْرا }[الكهف]87-83 :
س ْوفَ ُنعَذّبُهُ ثُمّ يُ َردّ إِلَىا رَبّهِ فَ ُي َعذّبُهُ َ
فِيهِمْ حُسْنا * قَالَ َأمّا مَن ظَلَمَ فَ َ
أي :أنه قد أخذ تفويضا بأن يقيم المر في هؤلء الناس ،فأقامه على أساسٍ من الثواب والعقاب؛
فمَنْ أحسنَ فَلَهُ الجزاء الحسن؛ ومَنْ أساء يَلْقى العقاب ،وهكذا نجد عذاب الدنيا ضروريا لسلمة
ن ل يؤمنون بال.
حركة الحياة من َبطْش مَ ْ
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول بعد ذلك:
} ّل ُهمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا{ ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1727 /
ن وَاقٍ ()34
ق َومَا َلهُمْ مِنَ اللّهِ مِ ْ
عذَابٌ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وََلعَذَابُ الْآَخِ َرةِ َأشَ ّ
َلهُمْ َ
ولهؤلء المشركين الذين ل يؤمنون بالخرة عذابٌ في الدنيا بالقتل والَسْر والمصائب والكوارث
التي ل يقدرون عليها ،و َفوْق ذلك لهم عذاب في الخرة أكثر شدةً من عذابِ الدنيا؛ فليس لهم مَنْ
عصْمة.
يحميهم ،أو يُقيم بينهم وبين عذاب ال وقاية أو ِ
وفي المقابل يقول سبحانه بعد ذلك:
{ مّ َثلُ ا ْلجَنّةِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُ ّتقُونَ} ...
()1728 /
والمصدر الساسي الذي وعد المتقين بالجنة هنا هو ال ،وقد بلّغ عنه الرسل ـ عليهم السلم ـ
هذا الوعد ،وتَلهُمُ العلماء المُبلّغون عن الرسل.
وأنت حين تنظر إلى فعل يشيع بين عدد من المصادر ،تستطيع أن تبحث عن المصدر الساسي،
والمَثَل هو قول الحق سبحانه {:اللّهُ يَ َت َوفّى الَنفُسَ حِينَ َموْتِـهَا[} ...الزمر]42 :
ويقول في موقع آخر من القرآنُ {:قلْ يَ َت َوفّاكُم مَّلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُو ّكلَ ِبكُمْ[} ...السجدة]11 :
ك الموْت مسئولية التّوفية
ت إلى مََلكِ الموت ،وقد أخذ مََل َ
وهكذا تكون ال ّتوْفية قد آلتْ إلى ال؛ وآل ْ
من إسناد الحق له تلك المهمة؛ ويكون نسبتها لِمَلكِ الموت هو نوع من إيضاح الطرف الذي يُوكّل
له الحق سبحانه تنفيذ المهمة.
ك الموْت بمباشرة مهمته.
ومرة يأتي الحق سبحانه بالمصدر الصلي الذي يُصدِر المر لِمَل ِ
وهنا في الية الكريمة نجد قول الحق سبحانه { :وُعِدَ ا ْلمُ ّتقُونَ[ } ...الرعد]35 :
وهي مَبْنية ِلمَا لم ُيسَمّ فاعله؛ فالوعد منه سبحانه " .ونعلم أن الرسول صلى ال عليه وسلم َيعِد
خذْ لنفسك،
أيضا ،فها نحن قد جاء إلينا خبر بيعة العقبة؛ حين أخذ البيعة من النصار ،وقالوا لهُ :
فأخذ لنفسه ما أراد ،ثم قالوا له :وماذا نأخذ نحن إنْ أدّيْنَا هذا؟ فقال لهم " :لكم الجنة ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقال صلى ال عليه وسلم ذلك؛ لن العمل الذي فعلوه؛ ل يكفيه أجرا إل الجنة ،ومن المعقول أن
أيّ واحد من الذين حضروا العقبة قد يتعرض للموت من بعد معاهدة رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فلو أنه وعدهم ِبمَا في الدنيا من متاع قد يأخذه البعض فيما بعد؛ فالذي يموت قبل هذا لبُدّ
أن يدرك شيئا ِممّا وعد الرسول مَنْ عاهدوه؛ ولذلك أعطاهم ما ل ينفد ،وهو الوَعْد بالجنة.
والحق سبحانه هنا ـ في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ يقول { :مّ َثلُ الْجَنّةِ[ } ...الرعد:
]35
طبُ بها نحن قد وُضِعتْ ِلمَعان نعرفها؛ وإذا
أي :أنه يضرب لنا المَثَل فقط؛ لن اللفاظ التي نتخا َ
ن ولم تسمعها أُذنٌ ،ولم تخطر على بال بشر؛ فمنَ ال ُم ْمكِن أن
كانت في الجنة أشياء لم تَرَها عَيْ ٌ
نقول إنه ل توجد ألفاظ عندنا تؤدي معنى ما هناك ،فيضرب ال المثال لنا بما نراه من الملذّات؛
ولكن يأخذ منها المُكدّرات والمُعكّرات.
وهكذا نعرف أن هناك فارقا بين " مثل الجنة " وبين " الجنة " ،فالمَثَل يعطيني صورة أسمعها
عن واقع ل أعلمه؛ لن معنى التمثيل أن تُلحِق مجهولً بمعلوم لِتأخذَ منه الحكم.
مثلما تقول لصديق :أتعرف فلنا؛ فيقول لك " :ل " .فتقول له " :إنه يشبه فلنا الذي تعرفه ".
وأنت تفعل ذلك كي تشبه مجهولً بمعلوم؛ لتأتي الصورة في ِذهْن سامعك.
س وَتَلَذّ
ويقول الرسول صلى ال عليه وسلم شرحا لما أجمْله القرآنَ {:وفِيهَا مَا تَشْ َتهِي ِه الَ ْنفُ ُ
الَعْيُنُ[} ...الزخرف]71 :
ويضيف صلى ال عليه وسلم " :فيها مَا لَ عَيْن رأتْ ،ول أُذن سمعتْ ،ول خَطر على قَلْب بشرٍ
".
وحين تُدقّق في هذا القول النبويّ الكريم تجد الترقّي كاملً؛ فقوله " :ما ل أُذن سمعتْ " جاء لنه
يعلم أن ُمدْركَاتِ العيْنِ محدودة بالنسبة ِلمَا تعلمُ الذن؛ لن الذن تسمع ما ل تدركه العين؛ فهي
تسمع ما يراه غيرُك بالضافة إلى ما تراه أنت.
فالذن تسمع القريب وتسمع البعيد وتنقل صوته وتستحضره ثم تميزه ،بخلف العين فهي محدودة
المسافة حسب قوة البصار ،ومع كل فنعيم الجنة فوق كل هذا الفوق.
ثم يأتي الترقّي الكبر في قوله " :ول خطر على قلب بشر " .والخواطر أوسَعُ من قدرة الذن
وقُدْرة العين؛ فالخواطر تتخيّل أشياء قد تكون غيرَ موجودة.
عجْز اللغة عن أنْ تُوجد بها ألفاظ تعبر عن معنى ما هو موجود بالجنة ،ول أحدَ فينا
وهكذا نرى َ
يعلم ما هي الشياء الموجودة بالجنة ،وما دام أحد منا لم يَرَ الجنة؛ وما دام الرسول صلى ال
عليه وسلم قال " :فيها ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر ".
عمّا فيها؛ فهو
عمّا في الجنة ،فإذا أراد ال أنْ يُعبّر َ
عجْز اللغة عن التعبير َ
فلبُدّ أنْ نعلم قَدْر َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُوضّح لنا بالم َثلِ؛ ل بالوصف ،لنه يعلم أن لغتنا تضع اللفاظ ِلمَا هو موجود في حياتنا؛ ول
توجد ألفاظ في لغتنا تُؤدّي معاني ما في الجنة.
ن وَأَ ْنهَارٌ
ولذلك قال لنا الحق سبحانه {:مّ َثلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُ ّتقُونَ فِيهَآ أَ ْنهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِ ٍ
سلٍ ّمصَفّى[} ...محمد]15 :
ن وَأَ ْنهَارٌ مّنْ عَ َ
خمْرٍ لّ ّذةٍ لّلشّارِبِي َ
ط ْعمُ ُه وَأَ ْنهَارٌ مّنْ َ
مّن لّبَنٍ لّمْ يَ َتغَيّرْ َ
ومع أن الحق سبحانه يضرب مثلً ،إل أنه خلّص المَثَل من شوائبه التي نعرفها في الدنيا ،فالمياه
عطِنة.
ن وتكون َ
ت فهي تأسُ ُ
عندما تجري؛ تكون حُلْوة ورائقة وصَافية؛ وإنْ ركد ْ
ولذلك يُوضّح لنا الحق سبحانه أن المياه في الجنة غير آسنة؛ وأنها تكون أنهارا منزوعا من
مياهها ما ُيكّدرها.
طعْمه .واللبن كما نعرف هو غذاء البدو؛ َفهُمْ يحلبون
وكذلك المثل بأنهار من لبن لم يتغير َ
طعْم اللبن؛ ولذلك يضرب لهم المثَل
الماشية ،ويحتفظون بألبانها في قِ َربٍ ِلمُدةٍ طويلة؛ فيتغير َ
طعْمه.
بوجود أنهار من لبن لم يتغير َ
عسَل مُصفّى ،والعسل ـ كما نعرف ـ كان في الصل
وأيضا يضرب المثل بوجود أنهار من َ
يأتي من النحْل الذي كان يسكن الجبال قبل استئناسه؛ و َوضْعه في مناحل في الحدائق.
حلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ ا ْلجِبَالِ بُيُوتا
والحق ـ سبحانه وتعالى ـ هو القائل {:وََأوْحَىا رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ
َومِنَ الشّجَرِ َومِمّا َيعْرِشُونَ }
[النحل]68 :
وحين بحث علماء الحشرات عن تاريخ النحل ،وجدوا أن أقدمَ عسل في العالم هو الذي كان
موجودا في الكهوف الجبليّة؛ ثم يليه في العمر العسل الذي جاء من خليا النحل؛ تلك الخليا التي
أقامها النحل بعد استئناسه؛ ومن بعد ذلك يأتي العسل الذي أقمْنَا نحن له المنَاحل.
وقد ميّزوا العسل القديم عن المتوسط عن الجديد ،بأن أحرقوا بعضا من كل نوع من أنواع
العسل ،فنتج من الحتراق عنصر الكربون؛ ومن هذا العنصر اكتشفوا عمر كل نوع من الثلثة.
ويوضح الحق سبحانه أن بالجنة أنهارا من عَسَل مُصفّى ،وبذلك يُقدّم لنا خَيْر ما كنا نُحِبه من
عسل الدنيا ،ولكن بدون ما يُكدّره.
خمْر تختلف عن خمر الدنيا؛ فهي ل
ويوضّح سبحانه أيضا أن في الجنة أنهارا من خمر ،ولكنها َ
تؤثر على التكوين العضْوي للعقل ،كما أن خمر الدنيا ليس فيها لذةٌ للشاربين؛ لنها من كحول
َيكْوي الفم ويَلْسعه؛ ولذلك تجد مَنْ يشربها وهو يسكْبها في فمه لِتمُرّ بسرعة فل يشعر بلسعها في
فمه ،فتذهب إلى معدته مباشرة فتلهبها.
ويختلف الحال لو كان المشروب هو شراب عصير المانجو أو البرتقال أو القصب؛ حيث
تستطيب النفس مذاقَ تلك الفواكه؛ فنجد مَنْ يشربها يتمهّل ليستبقى أثرها في فمه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غ ْولٌ[} ...الصافات]47 :
ويقول الحق سبحانه عن خمر أنهار الجنة {:لَ فِيهَا َ
خمْر أنهار الجنة ُكلّ المُكدّرات التي توجد في خمر الدنيا.
أي :أنه سبحانه ينفي عن َ
إذن :فساعةَ تسمع مثلً عن الجنة؛ فاعلم أنه مَ َثلٌ تقريبيّ؛ لنه ل يمكن أن تأتي الحقيقة ،حيث ل
يوجد لفظ يُعبّر عنها؛ وهي لم توجد عندنا؛ وسبحانه ل يخاطبنا إل بما نعلم من اللغة؛ لذلك يأتي
لنا بالم َثلِ المضروب لنأخذ منه صورة تقريبية.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ،يقول الحق سبحانه } :مّ َثلُ الْجَنّةِ الّتِي وُعِدَ ا ْلمُ ّتقُونَ
تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ[ { ...الرعد]35 :
عصَب حياة العرب أيام نزول القرآن كان هو الماء؛ ألم يطلبوا من الرسول أن يُفجّر لهم
ونعلم أن َ
النهار تفجيرا؟
نجد الحق سبحانه قد جاء بالتعبير القرآني عن أنهار الجنة بصورتين مختلفتين:
أولهما } :تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ[ { ...الرعد]35 :
مثلما قال في الية التي نحن بصَددِ خواطرنا عنها.
ومرّة يقول سبحانه {:تَجْرِي َتحْ َتهَا الَ ْنهَارُ[} ...التوبة]100 :
والفارق بين العبارتين هو استيعاب الكمالية في النص ،بمعنى أنَ } :تجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ{ ...
[الرعد]35 :
تُوضّح أن منابع تلك النهار تأتي من تحت تلك الجنة مباشرة؛ فل َي ِقلّ الماء في تلك النهار أبدا.
ويُقال :إن الفارق بين أنهار الدنيا وأنهار الجنة أن أنهار الدنيا عبارة عن شقوق في الرض لها
شواطئ تحتضنها؛ أما أنهار الخرة فهي تسير على الرض دون شواطئ تحجزها.
ونجد أنهار الخمر تسير أيضا في الرض ،ول تتداخل مع أنهار الماء ،وكذلك أنهار اللبن ،و ُكلّ
ذلك من صَنْعة َربّ حكيم قادر.
أما قولهَ {:تجْرِي تَحْ َتهَا الَ ْنهَارُ[} ...التوبة]100 :
أي :أن منابعها ليست من تحتها مباشرة؛ ولكنها تأتي دون َن ْقصٍ من جهة أنت ل تعلمها؛ وهو
سبحانه قادر على كل شيء.
ويتابع سبحانه ،فيقول عن تلك الجنةُ } :أكُُلهَا دَآئِمٌ[ { ...الرعد]35 :
والكل هو ما يُؤكَل ،وسبحانه القائلُ {:تؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَ ّبهَا[} ...إبراهيم]25 :
وقولهُ } :أكُُلهَا دَآئِمٌ[ { ...الرعد]35 :
أي :ل ينقطع ،ونعلم أن النسان حين يأكل؛ فهو يفعل ذلك بهدف إشباع جُوعه؛ وبعد أن يُشبِع
جُوعَه؛ قد يطلب أن يُرفعَ الطعام من أمامه ،إلى أنْ يجوع ،فيطلب الطعام من جديد.
ومنْ يحبون الطعام في حياتنا الدنيا نرى الواحد منهم وهو يقول " :أشعر ببعض الضيق لني
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شبعتُ " ،فهو في عراك بين نفس تشتهي وبين بطن ل تشبع ،وكأنه كان يريد أنْ يستمر في
تناول الطعام طوال الوقت.
وقول الحق سبحانهُ } :أكُُلهَا دَآئِمٌ[ { ...الرعد]35 :
شغل هذا القول الرومان الذين كانوا أصحاب إمبراطورية عُظْمى زَلْزلها السلم بحضارته
الوليدة ،وأرسل إمبراطورهم مَنْ يطلب من أحد الخلفاء إرسال رجل قادر على شرح قول
الحقُ } :أكُُلهَا دَآ ِئمٌ[ { ...الرعد]35 :
فأرسل لهم أحدَ العلماء؛ وسألوه :يقول قرآنكم إن ُأكُل الجنة دائم؛ ونحن وأنتم تعلمون أن كل شيء
يُؤخذ منه لبُدّ له أن ينقص؛ فكيف يكون ُأكُل الجنةِ دائما؟
ت كل
قال العالم لهم :هاتوا مصباحا .فأحضروا له المصباح وأشعله أمامهم .وقال لكل منهم :فَلي ْأ ِ
منكم بمصباحه .فأحضر كل منهم مصباحه .وقال لهم :فَلْيُشعِل كل منكم مِصبْاحه.
وهنا سألهم :ما الذي أنقصه إشعال مصابيحكم من هذا المصباح؟ قالوا :ل شيء .فقال لهم :هكذا
ضرب ال لنا المثَل بُأكُل الجنة.
وبطبيعة الحال كان يجب أن يلتفتوا إلى أن المصباح يعتمد في اشتعاله على الزيت المخزون فيه،
ويأتيه منه المدد ،أما الجنة فمدَدُها من ال.
وهناك مَنْ قال :هل نتغوّط في الجنة؟ فَردّ عليه واحد من العارفين :ل .فتساءل :وأين تذهب بقايا
ما نأكل من طعام الجنة؟
فقال العارف بال :مثلما تذهب بقايا ما يتغذى عليه الطفل في بطن أمه؛ حيث يحترق هذا الفائض
في َمشِيمة الطفل؛ والطفل في بطن أمه إنما ينمو بشكل مستمر ،مُعتمِدا على غذاء يأتيه من أمه
عَبْر الحَبْل السّريّ.
وكل تلك المور تقريبية تجعلنا نعبر الفجوة بين ما نشهده في حياتنا اليومية ،وبين ما أعدّه ال
للمتقين ،وهو القيّوم على ُكلّ أمْرٍ.
وقد قال الحق سبحانهُ } :أكُُلهَا دَآئِمٌ[ { ...الرعد]35 :
حجْب
يعني :أن الطعام موجود ول ينتهي وكذلك الظل .والظل حَجْب المضيء من مكان؛ أو َ
مكان عن المضيء ،ول أحد يعلم أنه ستوجد هناك شمس أم ل؛ والعقل البشري قاصر عن تخيّل
ذلك؛ فهو من فعل ال ،وهو سبحانه قادر على كل شيء.
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ سَ ُندْخُِل ُهمْ جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ
وهو القائل سبحانه {:وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
طهّ َر ٌة وَنُ ْدخُِلهُمْ ظِـلّ ظَلِيلً }[النساء]57 :
خَاِلدِينَ فِيهَآ أَبَدا ّلهُمْ فِيهَآ أَ ْزوَاجٌ مّ َ
ظلّ ّممْدُودٍ }[الواقعة]30 :
وهو القائل سبحانه {:وَ ِ
عقْبَى ا ْلكَافِرِينَ النّارُ { [الرعد]35 :
عقْبَىا الّذِينَ ا ّتقَو ْا وّ ُ
ويتابع سبحانه...} :تِ ْلكَ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :يا متقي ال؛ وضعتَ بينك وبين صفات جلله وقاية ،ولم تقربْ محارمه واتبعتَ منهجه؛
ستجد أنه سبحانه يُجازِيك بصفات كَماله وجَماله؛ فينزِلك الجنة التي وعدكَ بها.
لذلك إن وجدت مشقّة في التكليف فعليك أن تعلمَ أن جزاء تلك المشقّة هو الجزاء الجميل؛ لنك
ص ّد ْقتَ رسولك صلى ال عليه وسلم حين قال " :حفت الجنة بالمكاره؛ وحفت النار بالشهوات ".
والعاقل ساعةَ يرى تكليفا يحُدّ من حريته؛ فهو يستحضر الجزاء على تلك المشقّة ،وهو أيضا حين
يرى أمرا يبدو في ظاهره شهوة عاجلة؛ فهو يستحضر العقاب على تلك الشهوة العاجلة
فيستبعدها.
وأي من الجزاء الطيب أو العقاب قد يأتي فجأة؛ لن الموتَ ل ميعادَ له؛ ونحن نُصدّق قول
رسولنا صلى ال عليه وسلم " :الموت القيامة ،فمن مات فقد قامت قيامته ".
وهكذا يُضخّم الحق سبحانه من جزاء المؤمن المُتقي فيعشق العمل ،ويتحمل مشاقّ التكليف ليكون
عقْبى العمل الحسن في الدنيا ،فالغاية الحقيقية من كل
َموْصُولً بالجزاء الطيب ،فهذا الجزاء هو ُ
مراحل الوجود هي ألّ يوجد َبعْد للغاية؛ لنها غاية الخلود ل تعرف البعدية.
ومادامت الجنة تضمن الخلود أبدا ،فهي تستحق أن تكون غايةَ المؤمن وعاقبةَ عمله ،والتزامِه
بالتكاليف اليمانية.
تماما كما تكون النار هي عاقبة الكافرين المُكذّبين؛ حيث يروْنَ الخير مصير المؤمنين؛ ويروْنَ
الش ّر مصيرهم؛ فيُجمع عليهم التنغيصُ؛ مرة بوجود الخير عند أهل اليمان؛ ومرة بأن يَ َروْا ما
أُعِدّ لهم من شَرّ.
لذلك قال سبحانه...} :وّعُقْبَى ا ْلكَافِرِينَ النّارُ { [الرعد]35 :
ويقول سبحانه بعد ذلك:
} وَالّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ{ ...
()1729 /
ك َومِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُ ْنكِرُ َب ْعضَهُ ُقلْ إِ ّنمَا ُأمِ ْرتُ أَنْ
وَالّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيفْرَحُونَ ِبمَا أُنْ ِزلَ إِلَ ْي َ
أَعْبُدَ اللّ َه وَلَا أُشْ ِركَ ِبهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مََآبِ ()36
ونعلم أن السلم قد سُبِق بدينين؛ دين النصارى َقوْم عيسى عليه السلم؛ ومن قبله دين اليهود قوم
موسى عليه السلم؛ وكِلَ الدينين له كتاب؛ النجيل كتاب المسيحية؛ والتوراة كتاب اليهودية؛
والقرآن هو كتاب ال المهيمن الخاتم؛ كتاب السلم ،وهناك كتب سماوية أخرى مثل :صحف
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إبراهيم؛ وزبور داود ،وغير ذلك.
وكان على مَنْ نزل عليهم التوراة والنجيل أن يواصلوا اليمان بمَدَدِ السماء ،والخير القادم منها
إلى الرض ،وقد سبق أن أخذ ال من أنبيائهم الميثاق على ذلك ،وقال تعالى {:وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ
ح ْكمَةٍ ثُمّ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ ِب ِه وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ
النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَابٍ وَ ِ
شهَدُو ْا وَأَنَاْ َم َعكُمْ مّنَ الشّاهِدِينَ }[آل عمران:
أََأقْرَرْتُ ْم وََأخَذْتُمْ عَلَىا ذاِل ُكمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ
]81
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه قد شاء أن يستقبل ُكلّ دين سابق الدينَ الذي يليه باليمان به؛ وفي
كل دين سابق لخر كانت النصوص تؤكد ضرورة اليمان بالرسول القادر ،كي ل يحدث اقتراع
بين الديان الناسخة والديان المنسوخة.
فمِنْ صميم مواد أيّ دين سابق أن ينتظر الدين الذي يليه ،وإذا ما جاء الدين الجديد فهو يستقبله
فْرَعا وتكملة ،ول يستقبله كدين يُضادّ الدين السابق.
وإذا كان السلم هو الدين الذي تُختم به مواكب الرّسُل؛ فلبُدّ أن الديان السابقة عليه قد بَشّ َرتْ
به ،وكل مؤمن بالديان السابقة مُوصى بضرورة اليمان به.
ك َومَا َوصّيْنَا بِهِ
ويقول الحق سبحانه {:شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْي َ
ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ[} ...الشورى]13 :
إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ
ويقول الحق سبحانه { :وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيفْرَحُونَ ِبمَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيكَ[ } ...الرعد]36 :
أي :أن أهل التوراة والنجيل يفرحون بما جاء يا محمد من القرآن ،والنسان ل يفرح بشيء إل
سعِده ،ولبُدّ أن تكون هذه الغاية منشورة ومعروفة.
إذا حقّق له غايةً ُت ْ
وهم قد فرحوا بما نزل إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه حقق لهم ما جاء في كتبهم من
نبوءة به.
ومعنى ذلك أن كتبهم قد صدقتْ ،ومَنْ جاء بالرسالة الخاتم صادق ،وكان عليهم أن يكونوا أول
المُبَادرين إلى اليمان به.
ذلك أن الفرحة هي العملية التعبيرية أو النّزوعية من مواجيد الحب ،والنسان إنما يفرح بتحقيق
أمر طيّب كان ينتظره.
ولذلك كان يجب أن يُهروِلوا لليمان بالدين الجديد ،وأنْ يعلنوا اليمان به مثلما فعل كعب
الحبار ،وعبد ال بن سلم ،وسلمان الفارسي الذي جاب أغلب البلد باحثا عن الدين الحق.
وهؤلء هم مجرد أمثلة ِلمَنْ أرادوا أنْ يُعبّروا بالفرحة واستقبال مَ َددِ السماء عَبْر مجيء النبي
الخاتم محمد بن عبد ال صلى ال عليه وسلم ،وأعلنوا البيعة للرسول الجديد كما بشّ َرتْ به الكتب
السماوية السابقة على بعثته ،ثم وقفوا موقف العداء من الذين لم يفرحوا بِمقْدمِ الرسول ،ثم غيّروا
ما جاء في كتبهم السماوية طمعا في السلطة الزمنية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعرف مَنْ آمنوا برسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم أن الذين أنكروا نبوة محمد بن عبد ال
قد دَلّسوا على أنفسهم وعلى غيرهم ،وأتوْا بأشياء لم تكن موجودة في كتبهم المُنزّلة على رسلهم
كادعائهم أن ل أبناء ،وسبحانه مُنزّه عن ذلك.
ك َومِنَ الَحْزَابِ مَن
ولذلك جاء قول الحق سبحانه } :وَالّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ا ْلكِتَابَ َيفْرَحُونَ ِبمَآ أُن ِزلَ إِلَ ْي َ
يُنكِرُ َب ْعضَهُ ُقلْ إِ ّنمَآ ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّ َه وَل أُشْ ِركَ بِهِ ِإلَيْهِ َأدْعُو وَإِلَ ْيهِ مَآبِ { [الرعد]36 :
تلك عدالة من القرآن؛ لن القرآن لم ينكر الكتب السماوية السابقة بأصولها ،لكنه أنكر التحريف
في العقائد ،وأنكر مواقف مَنْ حرّفوا وادّعوْا كذبا أن هناك بنوة ل.
هذا التحريف لم يَ َنلْ من القرآن إنكارا لكل ما جاء بالكتب السابقة على القرآن؛ ولكنه أنكر
التحريف فقط.
وقد أثبتَ القرآن ما ل وما للرسول ،وأنكر التحريف الذي أرادوا به السلطة الزمنية؛ وادعاء
القداسة ،والتجارة بصكوك الغفران وبيع الجنة ،وتلقّي العترافات ،وغير ذلك مما لم ينزل به
كتاب سماوي.
وحين جاء السلم لِيُحرّم ذلك دافعوا عن سلطتهم التي يتاجرون بها في أمور الدين ،وهي ليست
من الدين.
وانظر إلى قول الحق سبحانهُ } :قلْ إِ ّنمَآ ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّ َه وَل ُأشْ ِركَ بِهِ[ { ...الرعد]36 :
وهذا القول دليلٌ على أن هؤلء المُغيّرين في الكتب السماوية أو الذين أنكروا وحدانية ال؛ هؤلء
جاء لهم بالقول ال َفصْل } :إِ ّنمَآ ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْ ُبدَ اللّهَ[ { ...الرعد]36 :
أي :أنه ُيقِر بأن هناك دينا قد اُختِير له من قِبَل مُ َربّ؛ ولم يَختَرْ محمد شيئا أعجبه ليعبده ،ولكنه
كرسول من ال َيشْرُف بالنتماء لما جاءه المر به من السماء ،وهو ل يشرك به أحد.
ونجد الرسول صلى ال عليه وسلم يتعصّب ِلمَا يتعلق بربه؛ وقد يتهاون بما يتعلق بشخصه.
ولذلك وجدنا بعض الملحدة وقد قالوا له :نحن نؤمن بال وبالسماء والوحي وبكل شيءَ ،لكِنّا ل
نؤمن بك أنت ،ولم يغضب رسول ال عليه الصلة والسلم ،ولو كان يُدخِل ذاته أو أنانيته في
المر لَغضِب ،ولكنه لم يغضب.
والدليل على هذا هو أن مواجيده صلى ال عليه وسلم كانت مع الروم المؤمنين بكتاب سماوي
ضد المشركين الذين ل يؤمنون بدين سماوي وهم الفُرْس؛ وحزن صلى ال عليه وسلم حين غُلبت
الروم ،فنزل إليه القول الحق بنبأ النصر القادم في ِبضْع سنين؛ تسليةً له صلى ال عليه وسلم{:
لمْرُ
غلِ َبتِ الرّومُ * فِي أَدْنَى الَ ْرضِ وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِب ِهمْ سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ سِنِينَ لِلّ ِه ا َ
الـم * ُ
مِن قَ ْبلُ َومِن َبعْدُ وَيَ ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * بِ َنصْرِ اللّهِ يَنصُرُ مَن يَشَآ ُء وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[الروم]5-1 :
وهؤلء في قلب رسول ال كانوا أقربَ من غيرهم؛ لنهم يتبعون دينا سماويا؛ وساعة يرى رائحة
صاحب خير يرجحه على صاحب الشر؛ فهو يطلب لهم النصر ويُبشّره ال بخير نصرهم في
ِبضْع سنين ،وهم يحملون رائحة الخير ،رغم أنهم لم يؤمنوا برسول ال صلى ال عليه وسلم.
ومعنىُ } :قلْ إِ ّنمَآ ُأمِ ْرتُ أَنْ أَعْ ُبدَ اللّهَ وَل أُشْ ِركَ ِبهِ[ { ...الرعد]36 :
أي :أنني سأعبد ال وحده ،ولن أعطف على عبادته شيئا؛ ويدعو لعبادته وحده؛ لنه يعلم أنه
سيؤوب إليه ،كما سيؤوب إليه ُكلّ إنسان؛ فل أحدَ ينفِلتُ من ربه وخالقه ،ولبُدّ لكل إنسان أن ُيعِد
عُدّته لهذا المآب.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
حكْما عَرَبِيّا{ ...
} َوكَذاِلكَ أَن َزلْنَاهُ ُ
()1730 /
ن وَِليّ وَلَا
ح ْكمًا عَرَبِيّا وَلَئِنِ اتّ َب ْعتَ أَ ْهوَاءَهُمْ َب ْع َدمَا جَا َءكَ مِنَ ا ْلعِلْمِ مَا َلكَ مِنَ اللّهِ مِ ْ
َوكَذَِلكَ أَنْزَلْنَاهُ ُ
وَاقٍ ()37
والمقصود بـ " كذلك " إشارة إلى إرسال الرسل المُتقدّمين بمعجزات شاءها الحق سبحانه ،ولم
يقترحها أحد.
وقوله { :أَنزَلْنَاهُ[ } ...الرعد]37 :
ساعةَ نسمعه نرى أن هناك مكانة عَلِيّة يُنزِل منها شيئا لمكانة أدْنَى ،ومثل ذلك أمر معروف في
حسّيات ،وهو معروف أيضا في المعنويات.
ال ِ
بل وقد يكون هذا الشيء لم َيصِل إلى السماء؛ ولكنه في الرض ،ومع ذلك يقول فيه الحق
شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ[} ...الحديد]25 :
سبحانه {:وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَ ْأسٌ َ
حكْما
ن كان في الرضَ { :وكَذاِلكَ أَنزَلْنَاهُ ُ
وهو إنزالٌ ،لنه أمر من تدبير السماء ،حتى وإ ْ
عَرَبِيّا[ } ...الرعد]37 :
والحكم هو ال ُمعْنى ،والمقصود بالنزال هنا هو القرآن ،وهو كتاب؛ والكتاب مَبْنى و َمعْنى ،وشاء
الحق سبحانه هنا أن يأتي بوصف المبالغة ليأتي الوصف وكأنه الذات ،أي :أنه أنزل القرآن
حكْما؛ وهذا يعني أن القرآن في حَدّ ذاته حكم.
ُ
عدْل " أي:
وأنت حين تصف قاضيا يحكم تمام العدل؛ ل تقول " قَاضٍ عادلٌ " بل تقول " قََاضٍ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كأن العدل قد تجسم في القاضي؛ وكأن كل تكوينه عدل .والحق سبحانه هنا يوضح أن القرآن هو
حكْما عَرَبِيّا[ } ...الرعد]37 :
الحكم العدل ،ويصفه بأنهُ { :
لن اللسان الذي يخاطب به الرسول القوم الذين يستقبلون بآذانهم ما يقوله لهم لبد أن يكون
س ْوفَ تُسْأَلُونَ }[الزخرف]44 :
ك وَ َ
ك وَِل َق ْومِ َ
عربيا .ولذلك يقول في آية أخرى {.وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ ّل َ
أي :أنه شرفٌ كبير لك ولقومك ،أن نزل القرآن بلغة العرب.
وقد حفظ القرآن لنا اللغة العربية سليمة صافيةً؛ بينما نجد كل لغات العالم قد تشعّبتْ إلى لهجات
أولً ،ثم استقلتْ كل لهجة فصارتْ لغة ،مثل اللغة اللتينية التي خرجتْ منها أغلب لغات أوربا
المعاصر من :إنجليزية وفرنسية وإيطالية ،ووجدنا تلك اللغات تتفرّق إلى لغات استقللية ،وصار
لكل منها قواعد مختلفة.
بل إن اللغة النجليزية على سبيل المثال صارت " إنجليزية ـ إنجليزية " يتكلم بها أهل بريطانيا؛
و " إنجليزية ـ أمريكية " يتكلم بها أهل الوليات المتحدة.
ولو تركنا ـ نحن ـ لغة التخاطب بيننا كمسلمين وعرب إلى لغة التخاطب الدارجة في مختلف
بلدنا؛ فلن يفهم بعضنا البعض ،ومرجع تفاهمنا مع بعضنا البعض ـ حين نتكلم ـ هو اللغة
الفصحى.
جمْعا بين
ودليلنا ما رأينا في مغربنا العربي ،فنجد إنسانا تربّى على اللغة الفرنسية ،أو تكون لغة َ
لهجات متعددة من البربرية والفرنسية وبقايا لغة عربية ،فإذا حدثته باللغة العامية ل يفهم منك
شيئا ،وإن تحدثت معه باللغة العربية استجاب وأجاب؛ لن فطرته تستقبل الفصحى فهما وإدراكا.
وهكذا رأينا كيف صان القرآن الكريم اللغة العربية واللسان العربي.
حكْما عَرَبِيّا.
ومن ضمن معاني قول الحق سبحانهُ { :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذلك أنه سبحانه لو اتبع أهواءهم َلضَاع نظام الكون؛ ألم يقولوا لرسول ال صلى ال عليه وسلم{:
علَيْنَا كِسَفا[} ...السراء]92 :
ع ْمتَ َ
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
َأوْ تُ ْ
ولو استجاب الحق مثلً لهذه الدعوة ،ألم تكن السماء لتفسد؟
إذن :فبعد أن نزل القرآن من السماء حكما وعلما ومنهجا يسهل عليهم فهمه ،لنه بلُغتِهم ،وهم
يحمل كامل المنهج إلى أن تقوم الساعة ،وفيه دليل السعادة في الدنيا والخرة.
لذلك فليس لحد أن يتبع هواه؛ فالهوى ـ كما نعلم ـ يختلف من إنسان لخر ،والخطاب المُوجّه
لرسول ال صلى ال عليه وسلم يتضمن في طيّاته الخطاب لمته صلى ال عليه وسلم.
ومن يفعل ذلك فليس له من دون ال وليّ يؤازره أو ينصره ،أو يقيه عذاب الحق :شقاءً في الدنيا،
وإلقاءً في الجحيم في الخرة.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
} وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا رُسُلً مّن قَبِْلكَ{ ...
()1731 /
جعَلْنَا َلهُمْ أَ ْزوَاجًا وَذُرّيّةً َومَا كَانَ لِ َرسُولٍ أَنْ يَأْ ِتيَ بِآَ َيةٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّهِ
ك وَ َ
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ُرسُلًا مِنْ قَبِْل َ
جلٍ كِتَابٌ ()38
ِل ُكلّ أَ َ
وأنت يا محمد لست ِبدْعا من الرسل في مسألة الزواج والنجاب .وهي تحمل الرد على مَنْ
سوَاقِ[} ...الفرقان]7 :
طعَا َم وَ َيمْشِي فِي الَ ْ
قالوا {:مَالِ هَـاذَا الرّسُولِ يَ ْأ ُكلُ ال ّ
ومنهم مَنْ قال :ما لهذا الرسول يتزوج النساء؟ ألم يكن من اللئق أن يتفرغ لدعوته؟
وهؤلء الذين قالوا ذلك لم يستقرئوا الموكب الرسالي ،لنهم لو فعلوا لوجدوا أن أغلب الرسل قد
تزوّجوا وأنجبوا.
وحين تكون حياة الرسول قريبةً ـ كمثال واضح ـ من حياة الناس الذين أُرسل إليهم؛ ليكون
سوَة تتأتّى بالجنس القابل للمقارنة؛ وحين تكون حياة الرسول كحياة غيره من البشر
أُسْوة لهم؛ فالُ ْ
في إطارها العام؛ كأبٍ وزوجٍ ،فالسوة تكون واضحة للناس.
ونعلم أن هناك مَنْ جاء إلى رسول ال؛ ليطلب الذن بالتفرّغ التامّ للعبادة من :صوم وصلة
وزُهْد عن النساء ،فنهى الرسول صلى ال عليه وسلم عن ذلك وقال في حديث شريف " :إني
لخشاكم ل ،وأتقاكم له ،لكني أصوم وأفطر ،وأصلي وأرقد ،وأتزوج النساء ،فمن رغب عن
سنتي فليس مني ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جلٍ كِتَابٌ } [الرعد:
ويتابع الحق سبحانهَ ...{ :ومَا كَانَ لِ َرسُولٍ أَن يَأْ ِتيَ بِآيَةٍ ِإلّ بِِإذْنِ اللّهِ ِل ُكلّ أَ َ
]38
ن ليّ
أي :ما كان لحد أن يقترح على ال الية التي تأتي مع أيّ رسول من الرسل ،ولم يكُ ْ
رسول حق في اختيار الية المصاحبة له.
وبهذا القول حسم الحق سبحانه قضية طلب المشركين ليات الرسول صلى ال عليه وسلم؛ لن
كل رسول جاء لزمنه ولقومه؛ وكل معجزة كانت من اختيار ال ،وكل رسول يؤدي ما يُكلّفه به
ال؛ وليس للرسول أن يقترح على ال آيةً ما؛ لن الخالق العلى هو العلم بما يصلح في هذه
البيئة على لسان هذا الرسول.
جلٍ كِتَابٌ } [الرعد]38 :
ونأخذ من قوله الحقِ...{ :ل ُكلّ أَ َ
أن لكل رسالة رسولها ،ولكل رسالة مكانها ،ولكل رسالة معجزتها ،فإذا كان المر كذلك فدعوا
محمد صلى ال عليه وسلم وما اختاره ال له؛ في المكان الذي شاءه سبحانه ،وفي الزمان؛ وفي
المعجزة المصاحبة له صلى ال عليه وسلم.
جلٍ كِتَابٌ } [الرعد]38 :
ولكن ،أهناك تغيير بعد أن يقول الحق سبحانهِ...{ :ل ُكلّ أَ َ
نعم هناك تغيير ،وانظروا إلى قول الحق سبحانه من بعد ذلك:
{ َي ْمحُواْ اللّهُ مَا َيشَآءُ} ...
()1732 /
والمَحْو كما نعلم هو الزالة ،والتثبيت أي :أن يُبقِي الحق ما يراه ثابتا.
حكْم في القرآن قد جاء ليث ُبتَ وسيظلّ هكذا أبدَ الدهر؛
وقد فهم بعض الناس ـ خطأ ـ أن كل ُ
ولكن عند التطبيق ظهر أن بعض الحكام يقتضي تغييرها يغيرها ال لحكمة فيها خير البشرية.
ونقول :ل ،لم يحدث ذلك ،ولكن كانت هناك أحكام مَرْحلية؛ ولها مُدّة مُحدّدة؛ ولذلك جاء قول
الحق سبحانه...{ :وَعِن َدهُ أُمّ ا ْلكِتَابِ } [الرعد]39 :
أي :عنده اللوح المحفوظ الذي تحدّدتْ فيه الحكام التي لها ُمدّة مُحدّدة؛ وما أن تنتهي إل وينزل
حكْم آخر مكانها ،وعلى هذا المعنى يمكن أن نقول :إنه لم يوجد َنسْخٌ للحكام ،لن معنى النّسْخ
ُ
ت بوقت
حكْم موقو ٌ
حكْما يتزحزحُ عن زمانه؛ لن كل ُ
حكْما عن زمانه؛ وهنا لم نجد ُ
أن يُزحزِحَ ُ
حكْم جديد.
محدود؛ وما أن ينتهي الوقت حتى يبدأ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أقول ذلك كي أنبّه العلماء إلى ضرورة أنْ يجلسوا معا لدراسة ذلك ،حتى ل يختلف العلماء:
أهناك نَسْخ أم ل ،وأقول :فَلْنُحدد النّسْخ أولً ،لن البعض يظن أن هناك حكما كان يجب أن
حكْم آخر ليحل محله لحكمة تقتضيها مصلحة البشرية والمراد
ينسحب على كل الزمنة ،ثم جاء ُ
ل منها.
حكْما وطرأ عليه ساعة النهاء؛ بل كل الحكام كانت مُقدّرة أَزلً؛ وعلى ذلك
حكْم أنهى ُ
ول يوجد ُ
حكْم سبق
حكْم ،ولكن هناك أحكام ينتهي وقتها الذي قدّره ال لها؛ ويأتي ُ
فل يوجد َنسْخ ليّ ُ
س الخذ به؛ وما دام المر كذلك فل يوجد نسخ.
تقديره أزلً ليواصل النا ُ
سهَا نَ ْأتِ بِخَيْرٍ مّ ْنهَا َأوْ مِثِْلهَا[} ...البقرة:
ولنَنْظُر إلى قول الحق سبحانه {:مَا نَنسَخْ مِنْ آ َيةٍ َأوْ نُن ِ
]106
ويتضح من منطوق الية ومفهومها أن عند نسخ حكم يأتي ال بمثله أو خير منه .إذن :ليس هناك
نسخ وإنما هناك أحكام تؤدي مهمتها في زمن ثم يأتي زمن يحتاج إلى حكم خير منه أو مثله في
الحكم ،ولكنه يوافق المصالح المرسلة مع مراد ال.
ن يقول :مادام سيأتي بخير من الية المنسوخة أو المُنْسَأة فذلك افضل ،ولكن لماذا يأتي
ولقائل أ ْ
بالمِثْل؟
وأقول :لنك إنْ جاءك ما هو خَيْر منها قد تَسْتسِيغه ،ولكن حين ننتقل إلى مِثْل ما جاءْت به الية؛
حكّ اليمان.
فهذا مَ َ
والمثل هو التوجّه في الصلة إلى بيت المقدس في أول الدعوة؛ ثم مَجِيء المر بتحويل القبلة إلى
الكعبة؛ فل مشقّة في ذلك.
ولكن هنا يتم اختبار اللتزام اليماني بالتكليف ،وهنا النصياعُ للحكم الذي يُنزِله ال ،وهو حُكم
مقّدر أ َزلً؛ وفي هذا اختبار لليقين اليمانيّ في إدارة توجيه المُدبّر لهذا السير.
وكذلك في الحج يأتي الرسول صلى ال عليه وسلم لِيُقبّل الحجر السود؛ ثم يرجم الحجر الذي
يرمز لبليس ،ونحن نفعل ذلك أُسْوة برسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكلهما حجر ،ولكِنّنا
نمتثل لمره صلى ال عليه وسلم.
فتقبيل الحجر السود ورجم الحجر الذي يشير إلى رمزية إبليس ،كل هذا استجابة لمر المر.
وحين يقول الحق سبحانهَ } :ي ْمحُواْ اللّهُ مَا َيشَآ ُء وَيُثْ ِبتُ وَعِن َدهُ أُمّ ا ْلكِتَابِ { [الرعد]39 :
فهو يعني أنه سبحانه يُنهِي زمن الحكم السابق الذي ينتهي زمنه في أُمّ الكتاب أي اللوح المحفوظ؛
ثم يأتي الحكم الجديد.
والمثال :هو حكم الخمر؛ وقد عالجها الحق سبحانه أولً بما يتفق مع قدرة المجتمع؛ وكان
المطلوب الول هو تثبيت العقيدة؛ ثم تجيء الحكام من بعد ذلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهناك فرق بين العقيدة ـ وهي الصل ـ وبين الحكام ،وهي تحمل أسلوب اللتزام العقديّ،
وكان الحكم في أمر العقيدة ملزما ومستمرا.
أما الحكام مثل حكم الخمر فقد تدرج في تحريمها بما يتناسب مع إلْف الناس؛ واعتيادهم؛ فقلّل
صحْبة الخمر؛ ثم جاء التحريم والمر بالجتناب ،وعدم القُرْب منها.
الحق سبحانه زمن ُ
والمثل في حياتنا؛ حيث نجد مَنْ يريد أن يمتنع عن التدخين وهو يُوسّع من الفجوة الزمنية بين
سيجارة وأخرى ،إلى أن يقلع عنها بلطف ،وينفيها من حياته تماما.
حسَنا} ...
سكَرا وَرِزْقا َ
ل وَالَعْنَابِ تَتّخِذُونَ مِنْهُ َ
ونجد القرآن يقول في الخمرَ {:ومِن َثمَرَاتِ النّخِي ِ
[النحل]67 :
وهنا يمتنّ ال عليهم بما رزقهم به؛ ولكن أهل ال ّذوْق يلتفتون إلى أنه لم َيصِف الخمر بأنها من
الرزق الحسن؛ ووصف البلح والعنب بأنه رزق حسن؛ لن النسان يتناوله دون أن يفسده.
وهكذا يلتفت أهل الذوق إلى أن الخمر قد يأتي لها حكم من بعد ذلك ،ثم يُنزِل الحق سبحانه عظة
خمْ ِر وَا ْلمَيْسِرِ ُقلْ فِي ِهمَآ إِثْمٌ كَبِي ٌر َومَنَافِعُ لِلنّاسِ وَإِ ْث ُمهُمَآ َأكْبَرُ مِن ّن ْف ِع ِهمَا} ...
تقول {:يَسْأَلُو َنكَ عَنِ ا ْل َ
[البقرة]219 :
وهكذا أوضح الحق سبحانه ميْل الخمر والميسر إلى الثم أكثر من مَيْلهما إلى النفع ،ثم جاء من
سكَارَىا حَتّىا َتعَْلمُواْ مَا َتقُولُونَ[} ...النساء:
ل َة وَأَنْتُمْ ُ
بعد ذلك قوله بحكم مبدئي {:لَ َتقْرَبُواْ الصّ َ
]43
ومعنى ذلك أن تتباعد الفترات بين تناول الخمر ،فل يحتسي أحد الخمر طوال النهار وجزء من
الليل ،وفي ذلك تدريب على البتعاد عن الخمر.
ب وَالَزْلَمُ رِجْسٌ
خمْ ُر وَا ْلمَيْسِ ُر وَالَنصَا ُ
ثم يأتي التحريم الكامل للخمر في قوله تعالى... {:إِ ّنمَا ا ْل َ
ع َملِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[المائدة]90 :
مّنْ َ
وهكذا أخذ الحكم بتحريم الخمر تدرّجه المناسب لعادات الناس ،وتمّ تحريم الخمر بهوادة وعلى
مراحل.
وهكذا نفهم النّسْخ على أنه انتهاء الحكم السابق زمنا وبداية الحكم الجديد ،وهذا يعني أن الحكم
الول لم يكن مُنْسحِبا على كل الزمن ثم أزلناه وجئنا بحكم آخر؛ ولكن توقيت الحكم الول ـ أزلً
ـ قد انتهى؛ وبدأ الحكم الجديد.
وهكذا ل يوجد مجال للختلف على معنى النسخ ،ذلك أن الحق سبحانه أرجع ال َمحْو والثبات
إلى أم الكتاب؛ ففيها يتحدد ميعاد كل حكم وتوقيته؛ وميعاد مجيء الحكم التالي له.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه لم يظهر له فساد ما أنزل من أحكام أو آيات؛ بل هو قدّر كل شيء أزلً في أم
الكتاب ،وجعل لكل حكم ميقاتا وميلدا ونهاية.
ويصح أن يتسع معنى قول الحق سبحانهَ } :ي ْمحُواْ اللّهُ مَا َيشَآ ُء وَيُثْ ِبتُ وَعِن َدهُ أُمّ ا ْلكِتَابِ { [الرعد:
]39
ليشمل نسخ رسالة برسالة أخرى؛ فيكون قد محا شيئا وأثبت شيئا آخر ،وكل شيء فيه تغيير إلى
الخير ويصِحَ فيه المَحْو والثبات ،وهو من عند الرقيب العتيد {:مّا يَ ْلفِظُ مِن َق ْولٍ ِإلّ لَدَيْهِ َرقِيبٌ
عَتِيدٌ }[ق]18 :
ن يتركا المور
أي :أنه القادر على أن يأمر الرقيب العتيد بأن يُثبتا الواجبات والمحرمات ،وأ ْ
المباحة ،وهو القادر على أنْ يمحوَ ما يشاء من الذنوب ،ويُثبت ما يشاء من التوبة.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
} وَإِن مّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُهُمْ{ ...
()1733 /
هذه الية تُحدّد مهمة الرسول صلى ال عليه وسلم في أن يُبلّغ منهج ال ،فمن شاء فليؤمن ومَنْ
شاء فليكفر ،إل أن قول الحق سبحانه في رسوله صلى ال عليه وسلمَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة]128 :
أَنفُ ِ
جعله هذا القول متعلقا بهداية قومه جميعا ،وكان يرجو أن يكون الكل مهتديا؛ ولذلك يقول الحق
سكَ عَلَىا آثَارِهِمْ إِن لّمْ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا ا ْلحَدِيثِ َأسَفا
سبحانه لرسوله في موقع آخر {:فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
}[الكهف]6 :
ت مسئولً عن إيمانهم ،وعليك ألّ تحزن إنْ لم ينضمّوا إلى الموكب اليماني ،و ُكلّ ما
أي :أنك لس َ
عليك أن تدعوهم وتُبلّغهم ضرورة اليمان؛ والحق سبحانه هو الذي سوف يحاسبهم إما في الدنيا
بالمحو والهاب ،أو في الخرة بأن يَ ْل َقوْا عذاب النار.
غ وَعَلَيْنَا
لُوحين يقول الحق سبحانه { :وَإِن مّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َن ِعدُهُمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَ َ
حسَابُ } [الرعد]40 :
الْ ِ
فنحن نعلم أن كل دعوة من دعوات الخير تكبُر يوما بعد يوم؛ ودعوات الشر تبهت يوما بعد يوم.
ومَنْ يدعو إلى الخير ُيحِب ويتشوق أنْ يرى ثمار دعوته وقد أينعتْ ،ولكن المر في بعض
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دعوات الخير قد يحتاج َوقْتا يفوق عمر الداعي.
ولذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم { :وَإِن مّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ
نَ َت َوفّيَ ّنكَ[ } ...الرعد]40 :
أي :اغرس الدعوة ،و َدعْ مَنْ يقطف الثمرة إلى ما بعد ذلك ،وأنت حين تتفرّغ للغَرْس فقط؛ ستجد
الخير والثمار تأتي حين يشاء ال؛ سواء شاء ذلك إبّان حياتك أو من بعد موتك.
وأنت إذا نظرتَ إلى الدعوات التي تستقبلها الحياة تجد أن لكل دعوة أنصارا أو مؤيدين ،وأن
القائمين على تلك الدعوات قد تعجّلوا الثمرة؛ مع أنهم لو تمهّلوا ليقطفها مَنْ يأتي بعدهم لنَجحتْ
تلك الدعوات.
ونحن في الريف نرى الفلح يغرس؛ ومن خلل غَرْسه نعرف مراداته ،هل يعمل لنفسه ،أو
يعمل من أجل من يأتي بعده؟
فَمنْ يغرس قمحا يحصد بسرعة تفوق سرعة مَنْ يغرس نخلة أو شجرة من المانجو ،حيث ل
تثمر النخلة أو شجرة المانجو إل بعد سنين طويلة ،تبلغ سبع سنوات في بعض الحيان ،وهذا
يزرع ليؤدي ِلمَنْ يجئ ما أداه له مَنْ ذهبَ.
ونحن نأكل من َتمْرٍ زَرَعه لنا غيرنا ِممّنْ ذهبوا ،ولكنهم فكّروا فيمَنْ سيأتي من بعدهم ،ومَنْ يفعل
سعَة من الرض فهو
سعَة في الرض التي يزرعها؛ لن مَنْ ل يملك ِ
ذلك لبُدّ وأن يكون عنده ِ
ن يعول وفي نفسه فقط؛ لذلك يزرع على َقدْر ما يمكن أن تعطيه الرض الن.
يفكر فقط فيمَ ْ
سعَة في النفس؛ فهو مَنْ وضع في قلبه مسئولية الهتمام بمَنْ
سعَة من الرض و ِ
أما مَنْ يملك ِ
سيأتون بعده.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أرسل هودا عليه السلم.
يقول الحق سبحانه {:وَإِلَىا عَادٍ َأخَاهُمْ هُودا[} ...العراف]65 :
شعَيْبا[} ...العراف]85 :
وقال عن أهل َمدْين {:وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَا ُهمْ ُ
وقال عن َبعْثة موسى {:وَرَسُولً إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ[} ...آل عمران]49 :
وهكذا حدّد الحق سبحانه زمان ومكان القوم في أيّ رسالة سبقتْ رسالة محمد بن عبد ال صلى
ال عليه وسلم.
لكن المر يختلف حين أرسل سبحانه محمدا صلى ال عليه وسلم رسولً وجعله للناس كَافّة ،فقد
حكّام العالم ـ المعاصرين
علم سبحانه أزلً أن هذا هو الدين الخاتم؛ لذلك أرسل رسول ال إلى ُ
له ـ دعوةً لدخول الدين الخاتم.
وقد ترك الرسول صلى ال عليه وسلم تلك المهمة لمَنْ يخلفونه ،ودعا صلى ال عليه وسلم
الجزيرة العربية تحت لواء " ل إله إل ال ،وأن محمدا رسول ال " بعد أن كانت قبائل متعددة.
كل قبيلة كانت ل تُلزِم نفسها بعبادة إله القبيلة الخرى؛ وكل قبيلة ل تلزم نفسها بتقنين القبيلة
شمْل ،ول استيطانَ لهم إل في بعض القُرَى ،ذلك أن أغلبهم من البَدْو
الخرى ،ولم يجمعهم أبدا َ
الرّحّل؛ كل واحد منهم يحمل بيته ـ الخيمة ـ على ظهر بعيره ،ويمشي بحثا عن الكل والماء
لغنامه وماشيته.
فلم يكن عندهم انتماء وطني؛ فضلً عن القبائل التي كانت تتقاتل فيما بينها في تارات عنيفة،
وامتدت الحرب فيما بين بعض القبائل إلى أربعين عاما في بعض الحيان.
استطاع صلى ال عليه وسلم أن يُوظّف ما كانوا عليه من تدريب وعَتَاد وعُدّة لِ ُنصْرة دين ال؛
فحين إعداده للغزوات أو اختياره للسرايا كان يجد المقاتلين في كامل لياقتهم.
وحين استدعاهم إلى الحرب لم يُجْر لهم تدريبات؛ فقد كان الكل مُدرّبا على القتال.
وهكذا صارتْ القبائل أمة واحدة بعد أن جمعهم محمد رسول ال صلى ال عليه وسلم في وحدة
التكامل العقدي تحت راية السلم ،وهذه المة المية ،قال فيها الحق سبحانهُ {:هوَ الّذِي َب َعثَ فِي
لمّيّينَ َرسُولً مّ ْنهُمْ[} ...الجمعة]2 :
اُ
وكانت هذه المية شرفا لهم كَيْل ُيقََال :إنهم أصحاب قَفْزة حضارية من أمة مُتمدينة .وكانت هذه
المية مُلْفتة ،لن ما جاء في تلك المة من تشريعات وقفتْ أمامه المم الُخرى إلى زماننا هذا
باندهاش وتقدير.
وشاء الحق سبحانه لهذه المة أن تح ِملَ رسالة السماء لكل الرض ،وبعد أن نزل قول الحق
سبحانه {:الْ َيوْمَ َأ ْكمَ ْلتُ َلكُمْ دِي َن ُك ْم وَأَ ْت َممْتُ عَلَ ْيكُمْ ِن ْعمَتِي وَ َرضِيتُ َل ُك ُم الِسْلمَ دِينا[} ...المائدة]3 :
َفهِم بعض الناس أن الرسول صلى ال عليه وسلم ينعِي نفسه لمته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن بعد رحيله صلى ال عليه وسلم إلى الرفيق العلى انساح صحابته بالدين الخاتم في الدنيا
كلها ،وخلل نصف قرن من الزمان صار للسلم جناحان؛ جناح في الشرق ،وجناح في الغرب.
وهزم اكبر إمبراطوريتين متعاصرتين له؛ هما إمبراطورية فارس بحضارتها وإمبراطورية
الروم.
وكانت البلد تتخطّف السل َم كمنهج حياة ،حدث ذلك بعد أن حارب السلمُ المبراطوريتين في
ن واحد ،وأقبل الناس على السلم لِيتحقّقوا من معجزته التي لَمسُوها في خُلُق مَنْ سمِعوا القرآن
آٍ
وحَملوا رسالته؛ ثم في اكتشافهم لعدالة القرآن في إدارة حركة الحياة.
وهكذا اكتشفوا أن معجزة السلم عقلية؛ وأن رسوله صلى ال عليه وسلم هو الرسول الخاتم الذي
حسّية ،وإذا كان القرآن معجزة في اللغة للقوم الذين نزل فيهم رسول ال
لم يَ ْأتِ لهم بمعجزة ِ
صلى ال عليه وسلم؛ فالقرآن ِلمَنْ لم يعرفوا لغة القرآن كان معجزة في العدالة والقيم النابعة منه.
وكان الناس يندفعون إلى السلم بقوة َدفْع من المؤمنين به ،وبقوة جَذْب من غير المؤمنين؛ حين
يروْنَ ألّ فَرْق بين المير وأصغر فَرْد تحت رايته ،وحين يلمسون عدالته ومساواته بين البشر.
ولم يكن السلم معجزة لقومه فقط؛ بل لكل الدنيا ،ويتحقق دائما قول الحق سبحانه {:سَنُرِيهِمْ
حقّ[} ...فصلت]53 :
سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ الْ َ
ق َوفِي أَنفُ ِ
آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
ونجد مُفكّرا كبيرا من الغرب المعاصر يعلن إسلمه ،رغم أنه لم يقرأ القرآن؛ بل نظر فقط في
المبادئ التي قَنّنها السلم ،وكيف تحمل حلولً ِلمَا عجزتْ عنه الحضارات المتعاقبة وأهل
القوانين في كل بلد الرض.
ويعرف أن تلك القوانين قد جاءتْ لرسول ينتمي لمة لم تبرعْ إل في البلغة والدب ،وتضع تلك
القوانين حلولً لمشاكل تعاني منها الدنيا كلها.
ورأينا كيف بحثَ رجل عن أعظم مائة في تاريخ البشرية ،وكيف جعل محمدا صلى ال عليه
وسلم أولهم ،وهذا الباحث لم يقرأ القرآن؛ ولكنه درسَ آثار تطبيق القرآن ،وبعد أنْ يُعجبَ بالمنهج
القرآني نجده يُعجب بالنص القرآني.
والمثل :هو دراسة اللمان لعملية إدراكات الحِسّ؛ وكيف يشعر النسان باللم؟ وكيف يلمس
النسان بِبَشْرته بملْمسٍ ناعم فُيسَرّ منه ،ثم يلمس شيئا خشنا فيتأذى منه.
ط الحساس وموقعه في النسان ،هل هو
واستمر اللمان يدرسون ذلك لسنوات؛ كي يعرفوا منا َ
في المُخّ أم أين؛ إلى أن انتهوْا إلى منَاطَ الحساس في ُكلّ إنسان هو في الجِلْد ،وأنها خليا
مُنبسطة تحت الجِلْد مباشرة؛ بدليل أن البرة حين نغرزها في جسم النسان؛ فهو يتألم فقط في
منطقة دخولها؛ وليس أكثر.
جلُودُهُمْ
جتْ ُ
ولفتَ ذلك نظر أحد العلماء؛ فقال :لقد تحدث القرآن عن ذلك حين قال... {:كُّلمَا َنضِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكِيما }[النساء]56 :
بَدّلْنَا ُهمْ جُلُودا غَيْرَهَا لِ َيذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ إِنّ اللّهَ كَانَ عَزِيزا َ
ومن المثلة المعاصرة في العلوم الجنائية قصة شاب مسلم من سوهاج سافر إلى ألمانيا ليُعد
رسالة الدكتوراه في القانون ،ووجدهم يقفون عند قضية التعسّف في استعمال الحق ،ويعتبرونها
من أهم النجازات القانونية في القرآن العشرين.
فأوضح لهم هذا الشاب أن السلم قد سبقهم في تقدير هذه المسألة ووضع الحكم المناسب فيها من
أربعة عشر قرنا من الزمان.
" " وروى لهم أن رجلً جاء إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم قائلً :إن لفلن عندي في ساحة
بيتي نخلة ،وهو يدخل بيتي كل ساعة بحجة رعاية تلك النخلة؛ مرة بدعوى تأبيرها؛ وأخرى جَنْي
ثمارها .وثالثة بدعوى الطمئنان عليها حتى جعل النخلة شُغله الشاغل.
وشكا الرجل للرسول صلى ال عليه وسلم أنه يتأذى هو وأهل بيته من اقتحام الرجل للحياة
الخاصة له ،فأرسل صلى ال عليه وسلم إلى صاحب النخلة وقال له :أنت بالخيار بين ثلثة
مواقف :إما أن تهبه النخلة ـ وتلك منتهى الريحية ـ،وإما أنْ تبيعها له ،وإما قطعناها ".
وهكذا وضع صلى ال عليه وسلم قواعد للتعامل فيما يسمى " التعسّف في استعمال الحق ".
وفي إنجلترا وجدوا أن القانون التجاري مليء بالثغرات ،ومثال هذا أن التعامل في السوق قد
يتطلب بعضا من المرونة بين التجار؛ فهذا يرسل لذلك طالبا من الخر ألفا من الجنيهات؛ وفلن
يردّ ما أخذه أو يقايضه.
واصطدم الواقع بأن بعض التجار ل يعترفون ببعض الديون التجارية التي عليهم ،وقديما كان إذا
أراد تاجر أن يقترض من زميل له؛ فهو يكتب الدّيْن في كمبيالة أو إيصال أمانة؛ وذلك لتوثيق
الدّيْن.
ولكن المر اليومي في السوق قد يختلف؛ فهذا يحتاج نقودا لمر عاجل ،وزميله يثق في قدرته
على الردّ والتسديد؛ لنه قد يحتاج هو الخر لنقود عاجلة ،ويثق أن مَنْ يقرضه الن ،سيقرضه
فيما بعد؛ ولذلك أنشأوا ما يُسمّى بالدّيْن التجاري ،فيفتحون " دفترا " يُسجّلون في الديون التجارية؛
لتحكم الدفاتر فيما يعجز عن تذكّره الشخاص.
وذهب شاب مسلم لبعثة دراسية هناك؛ وأوضح لهم أن قضية الدّين أخذت اهتمام السلم؛ لدرجة
أن أطول آية في القرآن هي الية التي تحدد التعامل مع الديون؛ وأخذ يترجم لهم قول الحق
سمّى فَاكْتُبُوهُ وَلْ َيكْتُب بّيْ َنكُمْ كَا ِتبٌ بِا ْلعَ ْدلِ
جلٍ مّ َ
سبحانه {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا َتدَايَنتُم ِبدَيْنٍ إِلَىا َأ َ
ق وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّ ُه َولَ يَ ْبخَسْ
وَلَ يَ ْأبَ كَا ِتبٌ أَنْ َيكْ ُتبَ َكمَا عَّل َمهُ اللّهُ فَلْ َيكْ ُتبْ وَلْ ُيمِْللِ الّذِي عَلَ ْيهِ ا ْلحَ ّ
ل وَلِيّهُ بِا ْلعَ ْدلِ
ضعِيفا َأ ْو لَ يَسْ َتطِيعُ أَن ُي ِملّ ُهوَ فَلْ ُيمِْل ْ
سفِيها َأ ْو َ
حقّ َ
مِنْهُ شَيْئا فَإن كَانَ الّذِي عَلَ ْيهِ الْ َ
شهَدَآءِ أَن
ضوْنَ مِنَ ال ّ
جلٌ وَامْرَأَتَانِ ِممّن تَ ْر َ
شهِيدَيْنِ مّن رّجَاِلكُمْ فَإِن لّمْ َيكُونَا َرجُلَيْنِ فَ َر ُ
شهِدُواْ َ
وَاسْتَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صغِيرا
شهَدَآءُ ِإذَا مَا دُعُواْ َولَ تَسَْأمُواْ أَن َتكْتُبُو ُه َ
ضلّ ِإحْدَا ُهمَا فَتُ َذكّرَ ِإحْدَا ُهمَا الُخْرَىا َولَ يَ ْأبَ ال ّ
َت ِ
شهَا َد ِة وَأَدْنَىا َألّ تَرْتَابُواْ ِإلّ أَن َتكُونَ تِجَا َرةً
سطُ عِندَ اللّ ِه وََأقْومُ لِل ّ
جلِهِ َذِلكُمْ َأقْ َ
أَو كَبِيرا إِلَىا أَ َ
شهِدُواْ ِإذَا تَبَا َيعْتُ ْم َولَ ُيضَآرّ كَا ِتبٌ َولَ
حَاضِ َرةً تُدِيرُو َنهَا بَيْ َنكُمْ فَلَيْسَ عَلَ ْيكُمْ جُنَاحٌ َألّ َتكْتُبُوهَا وَأَ ْ
شيْءٍ عَلِيمٌ }[البقرة]282 :
شهِي ٌد وَإِن َت ْفعَلُواْ فَإِنّهُ فُسُوقٌ ِبكُ ْم وَا ّتقُواْ اللّ َه وَ ُيعَّل ُمكُمُ اللّهُ وَاللّهُ ِب ُكلّ َ
َ
وظاهر المر أنه يحمي الدائن ،ولكن الحقيقة أنه يحمي المدين أيضا؛ لن المدين إنْ علم أنّ الدين
مُوثّق؛ فهو سيسعى جاهدا أن يؤديه في موعده ،وأيضا كي ل يأخذ النصّابون فرصة للهرب من
السداد ،وبذلك حمى القرآنُ الدائن والمدين معا كي ل تقف حركة التعامل بين الناس.
ومع هذا فإنه لم يمنع الريحية اليمانية والمروءة أن تسلك طريقها في عالم الود والخاء المؤمن؛
فإنْ كان لك قريب أو إنسان لك به صِلَة ،وأنت تأمنه على ما اقترض منك؛ يقول لك الحق
سبحانه {:فَإِنْ َأمِنَ َب ْعضُكُم َبعْضا فَلْ ُيؤَدّ الّذِي اؤْ ُتمِنَ َأمَانَتَ ُه وَلْيَتّقِ اللّهَ رَبّهُ[} ...البقرة]283 :
وبهذا القول يشعر مَنْ يحمل أمانة من الغير بالخجل؛ فيعمل على َردّها .ثم يضيف الحق سبحانه{:
ِإلّ أَن َتكُونَ ِتجَا َرةً حَاضِ َرةً ُتدِيرُو َنهَا بَيْ َن ُكمْ فَلَيْسَ عَلَ ْي ُكمْ جُنَاحٌ َألّ َتكْتُبُوهَا[} ...البقرة]282 :
وهكذا جاء السلم بقوانين ل يمكن أن تخرج من أمة أُميّة؛ لنها قوانين تسبق العصور ،وهي
قوانين تنبع من دين سماوي خاتم .ولذلك عندما سألوني عن موقف السلم من التقدمية والرجعية،
قلت لهم:
إن القياس خاطئ؛ لنك لن تستطيع أن تقيس ِفكْر بشر بما أنزله َربّ كل البشر ،وإذا كان العالم
بشَرقْه وغَرْبه يهتدي إلى أيّ خير تنتظم به حياته؛ ويجد جذورا لذلك الخير في السلم؛ فهذا دليل
على أن العالم يتجه إلى الوسطية.
وكان المثل في الشيوعية التي قامت ثورتها الدموية في عام 1917؛ وقالوا :إنها مُقدّمة للشيوعية؛
وسقطتْ الشيوعية من بعد أن أصيب المجتمع الروسي بالتيبّس والجمود ،والخوف من أسلوب
حكْم الحزب الشيوعي.
ُ
ونجد الرأسمالية الشرسة ،وهي تُهذّب من شراستها؛ وتعطي العامل حقّه وتُؤمّن عليه ،وهكذا يتجه
العالم إلى الوسطية التي دعا لها السلم.
وقد نزل السلم من قِبَل عالمٍ علي ٍم بكل الهواء وبكل المراحل.
ولذلك نجد الحق سبحانه وهو يُطمئِنُ رسوله صلى ال عليه وسلم إنْ آذاه أحدٌ في المنهج الذي
جاء به؛ لنه صلى ال عليه وسلم لم يكن لِيأبه بمَنْ يحاول أن يُؤذِيَه في شخصه ،وكان صلى ال
عليه وسلم ل يغضب لنفسه؛ ولكن إنْ تعرّض أحد للمنهج فغضبه صلى ال عليه وسلم يظهر
جليا.
ومَنْ وقفوا ضد الدين قابلهم الرسول صلى ال عليه وسلم بالدعوة؛ فمَنْ آمن منهم نال حلوة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اليمان؛ ومن لم يؤمن فقد توالتْ عليه المصائب من كل جانب ،منهم مَنْ رأى النبي صلى ال
عليه وسلم مصارعه.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم {:فَِإمّا نَذْهَبَنّ ِبكَ فَإِنّا مِ ْنهُم مّن َتقِمُونَ *
َأوْ نُرِيَ ّنكَ الّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنّا عَلَ ْي ِهمْ ّمقْتَدِرُونَ }[الزخرف]42-41 :
جلّ وعلَ إما أن يُلحِق رسوله بالرفيق العلى ،وينتقم من الذين وقفوا ضده؛ أو يُريه
أي :أنه َ
عذابهم رَأْى العين.
وكأن هذا القول هو الذي يشرح قوله سبحانه هنا } :وَإِن مّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َن ِعدُهُمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ
لغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ { [الرعد]40 :
فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَ َ
وعذاب الدنيا ـ كما نؤمن ـ َمهْما بلغ فلن يصلَ إلى مرتبة عذاب الخرة.
ويقول سبحانه من بعد ذلك:
صهَا{ ...
} َأوََلمْ يَ َروْاْ أَنّا نَأْتِي الَ ْرضَ نَن ُق ُ
()1734 /
حسَابِ (
ح ْكمِ ِه وَ ُهوَ سَرِيعُ الْ ِ
حكُمُ لَا ُمعَ ّقبَ لِ ُ
صهَا مِنْ َأطْرَا ِفهَا وَاللّهُ َي ْ
َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّا نَأْتِي الْأَ ْرضَ نَ ْن ُق ُ
)41
و { يَ َروْاْ } هنا بمعنى " يعلموا " ،ولم َيقُلْ ذلك؛ لن العلم قد يكون عِلْما بغيب ،ولكن " يروا "
تعني أنهم قد علموا ما جاء بالية عِلْم مشهد ورؤية واضحة ،وليس مع العين أَيْن.
وإذا جاء قول الحق سبحانه ليخبرنا بأمر حدث في الماضي أو سيحدث في المستقبل؛ ووجدنا فيه
فعل الرؤية؛ فهذا يعني أننا يجب أن نؤمن به إيمان مَشْهدٍ ،لن قوله سبحانه أوثق من الرؤية،
وعلمه أوثق من عينيك.
وسبق أن قال الحق سبحانه لرسوله {:أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل]1 :
ونعلم أن النبي صلى ال عليه وسلم قد وُلِد في عام الفيل ،ول يمكن أن يكون قد رأى ما حدث
لصحاب الفيل ،ولكنه صَدّق ما جاء به القول الحق وكأنه رؤيا مَشْهدية.
جعَلَهُ سَاكِنا[} ...الفرقان]45 :
ل وََلوْ شَآءَ َل َ
ظّوقال الحق سبحانه {:أََلمْ تَرَ إِلَىا رَ ّبكَ كَ ْيفَ مَدّ ال ّ
وحين يُعبّر القرآن عن أمر غيبي يأتي بفعل " يرى " مثل قوله الحق {:وََلوْ تَرَىا ِإذِ ا ْلمُجْ ِرمُونَ
سهِمْ عِندَ رَ ّبهِمْ[} ...السجدة]12 :
نَاكِسُواْ رُءُو ِ
وحين يتكلم القرآن عن أمر معاصر يقولَ {:أفَلَ يَ َروْنَ[} ...النبياء]44 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يقول الحق سبحانهَ { :أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا نَأْتِي الَ ْرضَ نَن ُقصُهَا مِنْ َأطْرَا ِفهَا[ } ...الرعد]41 :
وهذا قول للحاضر المعاصر لهم.
وتعريف الرض هنا يجعلها مجهولة ،لننا حين نرغب في أن نُعرّف الرض؛ قد يتجه الفكر إلى
الرض التي نقف عليها؛ وبالمعنى الوسع يتجه الفكر إلى الكرة الرضية التي يعيش عليها كل
البشر.
سبُ الرض إلى بقعة خاصة وقع فيها حَ َدثٌ ما؛ مثل قول الحق سبحانه عن قارون{:
وقد تُن َ
سفْنَا بِهِ وَبِدَا ِر ِه الَ ْرضَ[} ...القصص]81 :
فَخَ َ
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْ َتخِْلفَ ّنهُمْ
ويقول الحق سبحانه عن الرض كلها {:وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِ ْنكُ ْم وَ َ
فِي الَ ْرضِ[} ...النور]55 :
وبطبيعة الحال هم لن يأخذوا كل الرض ،ولكن ستكون لهم السيطرة عليها.
وسبحانه يقول أيضا {:فَذَرُوهَا تَ ْأ ُكلْ فِي أَ ْرضِ اللّهِ[} ...العراف]73 :
وهكذا نفهم أن كلمة " الرض " تطلق على بُقعة لها حَدث خاص ،أما إذا أُطلقتْ؛ فهي تعني كل
ض َعهَا لِلَنَامِ }[الرحمن]10 :
الرض ،مثل قول الحق سبحانه {:وَالَ ْرضَ وَ َ
سكُنُو ْا الَ ْرضَ[} ...السراء]104 :
ومثل قوله تعالى لبني إسرائيلَ {:وقُلْنَا مِن َبعْ ِدهِ لِبَنِي ِإسْرَائِيلَ ا ْ
مع أنه قد قال لهم في آية أخرى {:ا ْدخُلُوا الَ ْرضَ المُقَدّسَةَ[} ...المائدة]21 :
ل يكون لهم
فبعد أنْ حَدّد لهم الرض بموقع معين عاد فأطلق الكلمة ،ليدل على أنه قد شاء أ ّ
حدّده لهم وقالوا {:إِنّا
وَطَن ،وأنْ يظلّوا مُبعْثرين ،ذلك انهم رفضوا دخول الموقع الذي سبق وأنْ َ
لَنْ نّ ْدخَُلهَآ أَبَدا مّا دَامُواْ فِيهَا[} ...المائدة]24 :
طعْنَا ُهمْ فِي الَ ْرضِ ُأمَما[} ...العراف]168 :
ولذلك قال الحق سبحانه في موقع آخرَ {:وقَ ّ
أي :جعلنا كل قطعة بما تحويه من تماسك متفرقة عن القطعة الخرى ،وهذا هو حال اليهود في
العالم؛ حيث يُوجَدُونَ في أحياء خاصة بكل بلد من بلد العالم؛ فلم يذوبوا في مجتمع ما.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمكين حين ينقص بموقعه من معسكر الكفر فهو يُزيد ُرقْعة اليمان؛ إلى أنْ جاء ما قال فيه
الحق سبحانه {:إِذَا جَآءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ * وَرَأَ ْيتَ النّاسَ يَ ْدخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ َأ ْفوَاجا * َفسَبّحْ
حمْدِ رَ ّبكَ وَاسْ َت ْغفِرْهُ إِنّهُ كَانَ َتوّابا }[النصر]3-1 :
بِ َ
وهناك أناس مُخْلِصون لدين ال ،ويحاولون إثبات أن دين ال فيه أشياء تدلّ على المعاني التي لم
شفْ بعد ،فقالوا على سبيل المثال َفوْر صعود النسان إلى القمر :لقد أوضح الحق ذلك حين
تُكت َ
ت وَالَرْضِ فَانفُذُو ْا لَ تَنفُذُونَ
سمَاوَا ِ
طعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ َأ ْقطَارِ ال ّ
ن وَالِنسِ إِنِ اسْ َت َ
قال {:يا َمعْشَرَ ا ْلجِ ّ
ِإلّ بِسُلْطَانٍ }[الرحمن]33 :
وقالوا :إنه سلطان العلم.
شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ }[الرحمن:
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
ولكن ماذا يقولون في قوله بعدها {:يُرْ َ
]35
فهل يعني ذلك أنه أباح الصعود بسلطان العلم كما تقولون؟
ولهؤلء نقول :نحن نشكر لكم محاولة رَبْطكم للظواهر العلمية بما جاء بالقرآن ،ولكن أين القمر
بالنسبة لقطار السماوات والرض؟ إنه يبدو كمكان صغير للغاية بالنسبة لهذا الكون المُتّسع ،فأين
شعْري ،أو بسلسلة الجرام المُسمّاة بالمرأة المُسلْسلَة؟ بل أين هو من
هو من النجم المسمّى بال ّ
المَجَرّات التي تمل الفضاء؟
وحين تنظر أنت إلى النجوم التي تعلوك تجد أن بينك وبينها مائة سنة ضوئية ،ولو كنت تقصد أن
تربط بين سلطان العلم وبين القرآن ،فعليك أنْ تأخذ الحتياط ،لنك لو كنت تنفذُ بسلطان العلم لما
شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ[} ...الرحمن]35 :
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
قال الحق سبحانه بعدها {:يُرْ َ
وإنْ سألتَ :وما فائدة الية التي تحكي عن هذا السلطان؛ فهي قد جاءتْ لن الرسول قد أخبر
صعِد وعُرِج به بسلطان ال.
القوم أنه صعدَ إلى السماء وعُرِج به ،أي :أنه ُ
وهنا يقول الحق سبحانهَ } :أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا نَأْتِي الَ ْرضَ نَن ُقصُهَا مِنْ َأطْرَا ِفهَا[ { ...الرعد]41 :
وكلمة " أطراف " تدلنا على أن لكل شيء طُولً وعَرْضا تتحدد به مساحته؛ وكذلك له ارتفاع
ليتحدد حجمه .ونحن نعرف أن أيّ طول له طرفان ،وإنْ كان الشيء على شكل مساحي تكون
أطرافه بعدد الضلع.
ومادام الحق سبحانه يقول هنا } :مِنْ أَطْرَا ِفهَا[ { ...الرعد]41 :
أي :من كل نقطة من دائرة المحيط تعتبر طرفا .ومعنى ذلك أنه سبحانه قد شاء أنْ تضيق أرض
الكفار ،وأنْ يُوسّع أرض المؤمنين من كل جهة تحيط بمعسكر الكفر ،وهذا القول يدل على أنه
حدّثة ،ولم تكن كذلك من قبل.
عملية مُ ْ
ح ْكمِهِ[ { ...الرعد]41 :
ح ُك ُم لَ ُمعَ ّقبَ لِ ُ
ويتابع سبحانه من بعد ذلك } :وَاللّهُ يَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن الموضوع قد ُبتّ فيه وانتهى أمره ..ونحن في حياتنا اليومية نقول " :هذا الموضوع قد
انتهى؛ لن الرئيس الكبير قد عقّب على الحكم فيه ".
ونحن في القضاء نجد الحكم يصدر من محكمة الدرجة البتدائية ،ثم يأتي الستئناف ليؤيد الحكم
أو يرفضه ،ول يقال :إن الستئناف قد عقّب على الحكم البتدائي؛ بل يُقال :إنه حكم بكذا إما
ن ل يغفل ول تخفى عنه خافية ،ول يمكن أن يُعقّب أحد عليه؟
تأييدا أو َرفْضا؛ فما بالنا بحكم مَ ْ
والمَثلُ في ذلك ما يقوله الحق سبحانه عن سليمان وداود عليهما السلم {:وَدَاوُو َد وَسُلَ ْيمَانَ ِإذْ
ن َوكُلّ آتَيْنَا
ح ْك ِمهِمْ شَا ِهدِينَ * َف َف ّهمْنَاهَا سُلَ ْيمَا َ
شتْ فِيهِ غَنَمُ ا ْلقَوْ ِم َوكُنّا ِل ُ
ح ُكمَانِ فِي الْحَ ْرثِ ِإذْ َنفَ َ
يَ ْ
حكْما وَعِلْما[} ...النبياء]79-78 :
ُ
وأَصلْ الحكاية أن خلفا قد حدث بسبب أغنام يملكها إنسان؛ واقتحمتْ الغنامُ زراعةَ إنسانٍ آخر؛
فتحاكموا إلى داود عليه السلم؛ فقال داود :إن على صاحب الغنام أن يتنازل عنها لصاحب
الرض.
وكان سيدنا سليمان ـ عليه السلم ـ جالسا يسمع أطراف الحديث فقال :ل ،بل على صاحب
الغنام أن يتنازل عن أغنامه لصاحب الرض لفترة من الزمن يأخذ من لبنها ويستثمرها ،وينتفع
بها إلى أن يزرع له صاحب الغنم مثلَ ما أكلتْ الغنام من أرضه.
وقال الحق سبحانهَ {:ف َف ّهمْنَاهَا سُلَ ْيمَانَ[} ...النبياء]79 :
حثٌ عن جوهر
ض في القاضي الول؛ لكنه َب ْ
طعْنَ قا ٍ
وهذا هو الستئناف ،ول يعني الستئناف َ
العدل؛ ولعل القضية إنْ أُعي َدتْ لنفس القاضي الول لَحكَم نفس الحكم الذي حكم به الستئناف بعد
أن يستكشف كل الظروف التي أحاطتْ بها.
حكُمُ[ { ...الرعد]41 :
وهنا يقول الحق سبحانه } :وَاللّهُ َي ْ
ح ْكمِهِ{ ...
حكْما؛ فلن يأتي له استئناف ،وهذا معنى قوله الحق } :لَ ُم َع ّقبَ ِل ُ
ولحظة أن يُصدِر ال ُ
[الرعد]41 :
وكأن هذا القول الحكيم يحمل التنبؤ بما أشار به القضاء بإنشاء الستئناف؛ ول أحد يُعقّب على
حكْم ال؛ لن المُعقّب يفترض فيه أن يكون أيقظَ من المُعقّب عليه؛ وعنده قدرةُ التفاف إلى ما لم
ُ
يلتفت إليه القاضي الول ،ول يوجد قَيّوم إل ال ،ول أحدَ بقادر على أن يعلم كل شيء إل هو
سبحانه.
حكْما يُعاني من المتاعب كي يُنفّذه؛
حكْم هو تنفيذه؛ ففي واقعنا اليومي نجد مِنَ استصدر ُ
وآفة كل ُ
عمّنْ ينفذه ،فهذا يتبع جهة ،وذاك يتبع جهة أخرى.
لن الذي يُصدِر الحكم يختلف َ
سوَاه ،ولذلك
حكْم الصادر من ال؛ إنما يُنفّذ بقوته سبحانه ،ول يوجد قويّ على الطلق ِ
ولكن ال ُ
حسَابِ { [الرعد]41 :
يأتي قول الحق...} :وَ ُهوَ سَرِيعُ الْ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكأن ال يُنبّهنا بهذا القول إلى أن الحكم بالعدل يحتاج إلى سرعة تنفيذ.
ونحن نرى في حياتنا اليومية :كيف يُرْهق مَنْ له حكم بحقّ عادل؛ ولو أننا نُسرِع بتنفيذ الحكام
لَسا َدتْ الطمأنين ُة قلوبَ أفراد المجتمع.
ونحن نجد استشراء العصبيات في الخذ بالثأر إنما يحدث بسبب البطاء في نظر القضايا؛ حيث
يستغرق نظر القضية والحكم فيها سنواتٍ؛ ِممّا يجعل الحقدَ يزداد .لكن لو َتمّ تنفيذ الحكم َفوْرَ
معرفة القاتل ،وفي ظل النفعال بشراسة الجريمة؛ َلمَا ازدادتْ عمليات الثأر ولَهدأَت النفوس.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك:
عقْبَى
سبُ ُكلّ َنفْسٍ وَسَ َيعَْلمُ ا ْل ُكفّارُ ِلمَنْ ُ
جمِيعا َيعَْلمُ مَا َتكْ ِ
} َوقَدْ َمكَرَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ فَِللّهِ ا ْل َمكْرُ َ
الدّارِ {
()1735 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا