Professional Documents
Culture Documents
عقْبَى الدّارِ
س وَسَ َيعْلَمُ ا ْل ُكفّارُ ِلمَنْ ُ
سبُ ُكلّ َنفْ ٍ
جمِيعًا َيعْلَمُ مَا َتكْ ِ
َوقَدْ َمكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ فَلِلّهِ ا ْل َمكْرُ َ
()42
وهنا يخبر الحق سبحانه رسوله ،وأيّ سامع لهذا البلغ يستقرئ موكب الرسالت السابقة؛ وسيجد
أن ُكلّ أمة أُرسِل لها رسول مكرتْ به وكادتْ له كي تبطل دعواه ،ولم ينفع أيّ أمة أي مكر
مَكرتْه أو أيّ كَيْدٍ كَادَتْهُ ،ف ُكلّ الرسالت قد انتصرتْ.
فسبحانه القائل {:كَ َتبَ اللّ ُه لَغْلِبَنّ أَنَ ْا وَرُسُلِي[} ...المجادلة]21 :
وهو القائل {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َل ُهمُ
ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات]173-171 :
حكْما فبالقرآن؛ وهو الذي حفظ هذا القرآن؛ فلن تأتي أيّ قضية كونية
والحق سبحانه حين يُورِد ُ
لتنسخ الحكم القرآني.
ت مواكب الرسل كلها تجد هذه القضية واضحة تماما؛ كما أثبتها الحق سبحانه في
وأنت إذا استقرأ َ
القرآن المحفوظ؛ وما حفظه سبحانه إل لوثوقه بأن الكونيات ل يمكن أن تتجاوزه.
وبالفعل فقد مكرتْ ُكلّ أمة برسولها؛ ولكن الحق سبحانه له المكر جميعا؛ و َمكْر ال خَيْرٌ للبشرية
من َمكْر كل تلك المم؛ و َمكْره سبحانه هو الغالب ،وإذا كان ذلك قد حدث مع الرسل السابقين
سلٌ إلى الناس جميعا ،ول تعقيبَ يأتي
ف لنك مُرْ َ
عليك يا رسول ال؛ فالمر معك لبُدّ أنْ يختل َ
من بعدك.
ل تلك المور كانت تطمئنه صلى ال عليه وسلم؛ فلبُدّ من انتصاره وانتصار دعوته؛ فسبحانه
وكُ ّ
جلّ وعلَ قادر على أنْ يُحبِط كل ذلك.
محيط بأيّ َمكْر يمكره أيّ كائن؛ وهو َ
عقْبَى الدّارِ }
س وَسَ َيعْلَمُ ا ْلكُفّارُ ِلمَنْ ُ
سبُ ُكلّ َنفْ ٍ
ويتابع سبحانه في نفس اليةَ ...{ :يعْلَمُ مَا َت ْك ِ
[الرعد]42 :
والحق سبحانه يعلم ما يخفي عن العين في أعماق الكائنات؛ خَيْر هو أو شَرّّ ،ويحمي مَنْ شاءَ
من عباده من َمكْر الماكرين ،ويُنزِل العقاب على أصحاب ال َمكْر السيء بالرسل والمؤمنين.
ولَسوفَ يعلم الكافرين أن مصيرهم جهنم ،وبئس الدار التي يدخلونها في اليوم الخر؛ َفضْلً عن
ُنصْرة رسوله صلى ال عليه وسلم في الدنيا وخِزْيهم فيها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا يكونوا قد أخذوا الخِزْي كجزاءٍ لهم في الدنيا؛ ويزدادون عِلْما بواقع العذاب الذي سَيلقَوْنَهٌ
في الدار الخرة.
ويُنهي الحق سبحانه سورة الرعد بهذه الية:
{ وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ} ...
()1736 /
شهِيدًا بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم َومَنْ عِنْ َدهُ عِ ْلمُ ا ْلكِتَابِ ()43
ستَ مُرْسَلًا ُقلْ َكفَى بِاللّهِ َ
وَيَقُولُ الّذِينَ َكفَرُوا َل ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صدق عبدي فيما بلغ عنّي ".
وإرادة المعجزة ليست في المعنى الجزئي؛ بل في المعنى الكُليّ لها .والمثل في المعجزات البارزة
واضح؛ فهاهي النار التي أَ ْل َقوْا فيها إبراهيم عليه السلم ،ولو كان ال َقصْد هو نجاته من النار؛
لكانت هناك ألفُ طريقة ووسيلة لذلك؛ كأنْ تُمطِر الدنيا؛ أو ل يستطيعون إلقاء القبض عليه.
ولكن الحق سبحانه يوضح لهم من بعد أن أمسكوا به ،ومن بعد أن كبّلوه بالقيود ،ومن بعد أن
ألقوْه في النار؛ ويأتي أمره بأن تكون النار بردا وسلما عليه فل تحرقه {:قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا
وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء]69 :
وهكذا غيّر الحق سبحانه الناموس وخَرَقه؛ وذلك كي يتضح لهم صِدْق إبراهيم فيما يبلغ عن ال؛
فقد خرَق له الحق سبحانه النواميس دليلَ صحة بلغه.
وإذا كان الحق سبحانه قد قال هنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها { :وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ
شهِيدا بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ[ } ...الرعد]43 :
ستَ مُرْسَلً ُقلْ َكفَىا بِاللّهِ َ
لَ ْ
وشهادة الحق سبحانه لرسوله بصدق البلغ عنه؛ تتمثل في أنه صلى ال عليه وسلم قد نشأ بينهم،
وأمضى أربعين عاما قبل أن ينطق حرفا يحمل بلغه أو خطبة أو قصيدة ،ول يمكن أن تتأخرَ
عبقرياتُ النبوغ إلى الربعين.
وشاء الحق سبحانه أن يجري القرآن على لسان رسوله في هذا العمر ليبلغ محمد صلى ال عليه
حدّ ذاته شهادة من ال.
وسلم الناسَ جميعا به ،وهذا في َ
ويضيف سبحانه هناَ ...} :ومَنْ عِن َدهُ عِلْمُ ا ْلكِتَابِ { [الرعد]43 :
والمقصود بالكتاب هنا القرآن؛ ومَنْ يقرأ القرآن بإمعان يستطيع أن يرى العجاز فيه؛ ومَنْ يتدبر
ما فيه من َمعَانٍ ويتفحّص أسلوبه؛ يجده شهادة لرسول ال صلى ال عليه وسلم.
أو يكون المقصود بقوله الحقَ ...} :ومَنْ عِن َدهُ عِ ْلمُ ا ْلكِتَابِ { [الرعد]43 :
أي :هؤلء الذين يعلمون خبر َمقْدِم رسول ال صلى ال عليه وسلم من التوراة والنجيل؛ لن
نعت رسول ال صلى ال عليه وسلم وصفته مذكورة في تلك الكتب السابقة على القرآن؛ لدرجة "
أن عبد ال بن سلم ،وقد كان من أحبار اليهود قال " :لقد عرفت محمدا حين رأيته كمعرفتي
لبني ومعرفتي ِلمُحمد أشد ".
ت إلى
ولذلك ذهب إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال له :يا رسول ال إن نفسي مال ْ
السلم ،ولكن اليهود قوم ُب َهتٌ ،فإذا أعلنتُ إسلمي؛ سيسبّونني ،ويلعنوني ،ويلصقون بي أوصافا
ليست فيّ .وأريد أنْ تسألهم عنّي أولً .فأرسل لهم رسول ال يدعو صناديدهم وكبار القوم فيهم؛
وتوهموا أن محمدا قد يلين ويعدل عن دعوته؛ فجاءوا وقال لهم صلى ال عليه وسلم " :ما تقولون
في ابن سلم؟ " فأخذوا يكيلون له المديح؛ وقالوا فيه أحسن الكلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا قال ابن سلم " :الن أمامكم ،أشهد أن ل إله إل ال ،وأن محمدا رسول ال " ،فأخذوا
يسبّون ابن سلم؛ فقال ابن سلم لرسول ال صلى ال عليه وسلم :ألم َأ ُقلْ إن يهود قوم بهت "
؟ ونعلم أن الذين كانوا يفرحون من أهل الكتاب بما ينزله الحق سبحانه على رسول ال صلى ال
عليه وسلم من وحي هم أربعون شخصا من نصارى نجران؛ واثنان وثلثون من الحبشة؛ وثمانية
من اليمن.
ونعلم أن الذين أنكروا دعوة رسول ال صلى ال عليه وسلم كانوا ينهوْنَ بعضهم البعض عن
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
سماع القرآن؛ وينقل القرآن عنهم ذلك حين قالوا... {:لَ َت ْ
َتغْلِبُونَ }[فصلت]26 :
وهذا يعني أنهم كانوا متأكدين من أن سماع القرآن يُؤثّر في النفس بيقظة الفطرة التي تهفو إلى
اليمان به.
أما مَنْ عندهم عِلْم بالكتب السابقة على رسول ال صلى ال عليه وسلم فهم يعلمون خبر بعثته
وأوصافه من كتبهم.
يقول الحق سبحانه {:الّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ َيعْ ِرفُونَهُ َكمَا َيعْ ِرفُونَ أَبْنَا َءهُمْ[} ...البقرة]146 :
ويقول أيضا... {:فََلمّا جَآ َءهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ فََلعْنَةُ اللّهِ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة]89 :
()1737 /
حمِيدِ (
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ لِ ُتخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَ ّب ِهمْ إِلَى صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ
)1
هكذا يستهل الحق سبحانه هذه السورة بالحروف المقطعة " ألف " " لم " " راء " ،وسبق أن قلنا:
إنها حروف توقيفية بلّغها رسول ال لنا كما سمعها من جبريل عليه السلم.
إل أن المُلحَظ أن هذه الحروف التوقيفية المُقطَعة لم تَ ْأتِ وحدها في هذه السورة كآية منفصلة؛
مثل قوله في أول سورة ق:
{ ق }[ق.]1 :
وهي آية بمفردها ،وكما جاء في غير ذلك من السور بحروف مقطعة وأثبتها كآيات .وهنا تأتي
الحروف التوقيفية المقطعة كجزء من الية.
ويقول الحق سبحانه:
{ الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ[ } ...إبراهيم.]1 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كلمة " كتاب " إذا أطلقت انصرف معناها إلى القرآن؛ فهو يُسمّى كتابا؛ ويُسمّى قرآنا ،ويُسمّى
تنزيل ،وله أسماء كثيرة.
وكلمة " كتاب " تدل على أنه مكتوب ،وكلمة " قرآن " تدل على أنه مقروء ،وهذان السمان هما
ال ُعمْدة في أسماء القرآن؛ لنه كتاب مكتوب ومقروء.
فكان الصحابي الذي يجمع القرآن ل يكتب آية إل إذا وجدها مكتوبة ،ووجدها َمقْروءة عن اثنين
من الصحابة؛ فالقرآن كتاب يملك الدليل على كتابته من عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم؛
وهو َمقْروء كما تدلّ كملة " قرآن ".
وقوله الحق:
{ أَنزَلْنَاهُ إِلَ ْيكَ[ } ...إبراهيم.]1 :
يدلّ على أنه جاء من عُُلوّ.
شيْءٍ وَهُدًى
ويقول الحق سبحانه في موقع آخر عن القرآن {:وَنَزّلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ تِبْيَانا ّل ُكلّ َ
حمَ ًة وَبُشْرَىا لِ ْل ُمسِْلمِينَ }[النحل.]89 :
وَرَ ْ
ويقول في موقع آخر {:وَبِا ْلحَقّ أَنْزَلْنَا ُه وَبِا ْلحَقّ نَ َزلَ[} ...السراء.]105 :
ومرة يسند النزول إلى مَنْ جاء به؛ ومرة ينسب النزول إلى الكائن الذي أرسله الحق بالقرآن إلى
محمد صلى ال عليه وسلم ،وهو جبريل عليه السلم.
فقوله { :أَنزَلْنَاهُ[ } ...إبراهيم ]1 :للتعدي من منطقة اللوح المحفوظ ليباشر مهمته في الوجود،
وعلّيّة إنزال القرآن إليك يا محمد هي:
{ لِ ُتخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ[ } ..إبراهيم.]1 :
ونلحظ هنا أن القرآن نزل للناس كافّة ،ولم َي ُقلِ الحقّ سبحانه ما قاله للرسُل السابقين على رسول
ال؛ حيث كانت رسالة أيّ منهم مُحدّدة بقوم مُعيّنين ،مثل قوله تعالى {:وَإِلَىا عَادٍ َأخَاهُمْ
هُودا[} ...العراف.]65 :
شعَيْبا[} ...العراف.]85 :
وقوله الحق {:وَإِلَىا مَدْيَنَ أَخَا ُهمْ ُ
وكذلك قوله سبحانه لموسى {:وَرَسُولً إِلَىا بَنِي إِسْرَائِيلَ[} ...آل عمران.]49 :
وهكذا كان ُكلّ رسول إنما يبعثه ال إلى ُبقْعة خاصة ،وإلى أُنَاسٍ بعينهم ،وفي زمن خاصّ ،إل
محمدا صلى ال عليه وسلم؛ فقد بعثه ال إلى الناس كَافّة.
والمثل أمامنا حين حكم صلى ال عليه وسلم بالحق بين مسلم ويهودي؛ وأنصف اليهودي :لن
الحق كان معه؛ والحق عند رسول ال صلى ال عليه وسلم أعزّ عليه ِممّنْ ينتسب إلى السلم.
وهكذا نرى أن قوله الحق:
{ لِ ُتخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[ { ..إبراهيم.]1 :
دليل على عمومية الرسالة ،ويُعزّزها قوله:
جمِيعا }[العراف.]158 :
{ إِنّي رَسُولُ اللّهِ إِلَ ْيكُمْ َ
سلٌ للعرب فقط.
ن قالوا إنه مُرْ َ
وبذلك تبطل حُجّة مَ ْ
ونجد هنا اصطفاءين لرسول ال صلى ال عليه وسلم.
الصْطفاء الول :أن الحق سبحانه قد اختاره رسولً؛ فمجرد الختيار لتلك المهمة :فهذه منزلة
عالية.
والصْطفاء الثاني :أنه رسولٌ للناس كَافّة؛ وهذه منزلة عالية أخرى؛ لنها تستوعب المكان
والزمان ،واللسنة والقوام.
ثم يأتي العجاز في قوله:
} لِ ُتخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ[ { ...إبراهيم.]1 :
ولم َي ُقلْ من الظلمات إلى النوار ،وشاء أنْ يأتي بالظلمات كجمْع؛ وأنْ يأتي بالنور كالمفرد ،لن
ظلْمة هناك.
ظلْمة هنا و ُ
النور واحد ل يتعدد؛ أما الظلمات فمتعددة بتعدّد الهواء؛ ُ
وهكذا يشاء الحق سبحانه أن يُجلي المعاني بالمُحسّات التي يدركها الجميع ،فل شك أن الظّلْمة
تستر الشياء التي قد يصطدم بها النسان فيمتنع عن السير مطمئنا؛ لنه إنِ اصطدم بشيء فقد
يُحطّم الشيء أو يُحطّمه هذا الشيء؛ وهكذا تمنع الظّلْمة النسان من أن يهتدي إلى ما يريد.
أما النور فهو يوضح الشياء ،ويستطيع النسان أن يُميّز بين الطرق ويتجنب الضار ويتجه إلى
النافع؛ ويكون على بصيرة من الهداية؛ ذلك هو المر الحِسيّ؛ و ُكلّ من النور والظلمة أمرٌ حِسي.
وهكذا يُجلّي ال لنا المعاني ،والحياة ل تحتاج فقط إلى ما يُجلي المظاهر المادية بالنور؛ بل تحتاج
أيضا إلى نور يُجلي المظاهر المعنوية؛ من حقد وحسد ،وخوف وأمن ،واطمئنان ،وأمانة ووفاء؛
وغير ذلك.
فالحياة كلها فيها الشيء وما يقابله؛ لذلك ل بُدّ أن تُجْلَي المعاني أيضا .والنور الذي جاء به رسول
س والمعنى في آن واحد؛ لنتجنب الشياء التي تطمسها الظّلْمة؛
ال صلى ال عليه وسلم يُجلي الحِ ّ
ولنسير على بينة من المعاني ،فل نصطدم بالعقبات.
ولذلك يُفسّر لنا الحق سبحانه المر المعنوي ،فيقول:
حمِيدِ[ { ...إبراهيم.]1 :
} إِلَىا صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ
وهذا هو الصراط المستقيم الذي يُخرجنا إليه محمد صلى ال عليه وسلم من الظلمات إلى نوره.
ويريد الحق سبحانه أنْ يُجلي لنا الطريق إلى هذا الصراط ،لنه قد يكون مُتعبا للبعض؛ فيريد
سبحانه أن يجمع لنا بين أمرين؛ طريق متضح واضح َيصِل فيه النسان إلى الغاية بِيُسْر؛ وطريق
آخر غير واضح ل تتجلى فيه الشياء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجاء بالظلمات والنور ليوضح لنا هذا المعنى؛ حيث يكون الطريق المستقيم هو أقصر وسيلة
جوّة من الحياة الدنيا والخرة؛ ويكون طريق الظلمات هو الطريق غير المن.
للغاية المَر ُ
وينسب الحق سبحانه الطريق الذي يُخرِجنا إليه الرسول صلى ال عليه وسلم:
حمِيدِ { [إبراهيم.]1 :
} إِلَىا صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ
والعزيز هو الذي َيغْلِب ول ُيغْلَب .والحميد هو مَنْ ثبتت له صفة الحمد من الغير ،وإنْ لَم يصدر
حمْدٌ من الغير؛ فهو حميد في ذاته ،ويجب أن يُحمد رغم أنك إن حمدتَه أو لم تحمده فهو حميد.
َ
ول المَثلُ العلى ،وسبحانه مُنَزّه عن كل مثيل أو شبيه؛ نجد في حياتنا الدنيا مَنْ يُقال عنه إنه
حميد الخصال؛ وإنْ لم يوجد مَنْ يمدحه؛ لكنه في ُكلّ ما يصدر عنه يراعي أن يكون محمودا.
ولكن البشر يكون المحمود منهم حَدثا؛ أما المحمود من الحق فهو ُمطْلق ،ول تكون الذاتُ محمودة
أو حميدة إل إذا كان لها من الصفات ما يجعلها أهلً للنعام الذي يجب على النسان أن يحمده.
ن يوجد لستقباله ،وتحب أن تحمد
والفطرة السليمة في النسان تستقبل هذا الكون ال ُمعَدّ من قَبْل أ ْ
حمْده ل يضيف شيئا ِلمَنْ أعدّ هذا الكون
حمْد النسان أو عدم َ
مَنْ صنع هذا الكون ،رغم أن َ
وخلقه؛ فهو محمود في ذاته.
وإن حمدته فهذا لمصلحتك؛ وفي هذا هداية إلى صراط العزيز الذي ل ُيغْلب ،والحميد الذي
يستحق الحمد؛ وإنْ لم يوجد حامد له؛ لن صفاته سبحانه أزلية.
فال خالق قبل أن يخلق الخلق؛ وهو الرازق قبل أن ُيخْلق المرزوق ،وهو ُمعِز قبل أن يوجد مَنْ
ن يوجد مَنْ يحمده؛ توّاب قبل أن يوجد مَنْ يتوب عليه.
ُيعِزه؛ محمود قبل أ ْ
فهو سبحانه بالصفة يفعل؛ أما النسان فل يفعل إل إذا فعل الصفة ،فأنت ل تعرف أن فلنا كريم؛
إل لنك تراه يعطي عن جُودٍ وسَخاء ،أما ال فهو الكريم من قبل أن يوجد مَنْ يُكرمه.
سمَاوَاتِ.{ ...
ويقول سبحانه من بعد ذلك } :اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي ال ّ
()1738 /
سمَاوَاتِ َومَا فِي الْأَ ْرضِ وَوَ ْيلٌ لِ ْلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ()2
اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ض َووَيْلٌ لّ ْلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [إبراهيم.]2 :
ت َومَا فِي الَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
{ اللّهِ الّذِي لَهُ مَا فِي ال ّ
وستنطق كلمة " ال " غير مُرقّقة عكسَ إنْ قرأتَها موصولة ،حيث يجب أن تنطقها مُرقّقة.
وتقتضي الصول في الكتاب أن يوجد السم العلَم على الذات أولً ،ثم تأتي الصفة من بعده،
فتقول " :لقيت فلنا الشاعر أو الكاتب أو العالم " ،لكن المر هنا جاء على غير هذا النّسَق{:
حمِيدِ }[إبراهيم.]1 :
صِرَاطِ ا ْلعَزِيزِ الْ َ
حمِيدِ } ثم جاء بلفظ الجللة ،وهو العلَم على واجب الوجود " ال " ،وقد حدث
أي :قدّم { ا ْلعَزِيزِ الْ َ
ذلك لن العلَمَ يدل على مُسمّاه بصرف النظر عن الصفات؛ ثم توجد الصفات له.
وهناك من العلماء مَنْ قال :إنه مُشْتق بمعنى أن " ال " تعني المعبود بحقّ؛ وصفة العزيز الحميد
حيثية لنْ يُعبدَ سبحانه بحقّ.
ومن العلماء من قال :إن كلمة " ال " هي علَم ،وليست اسما مُشْتقا؛ فَلَهُ الملكية المطلقة:
ت َومَا فِي الَ ْرضِ } [إبراهيم.]2 :
سمَاوَا ِ
{ الّذِي لَهُ مَا فِي ال ّ
ل يقع في هذا المُلْك إل ما شاء هو ،فَمنْ آمن به أنصف نفسه وحياته وآخرته ،أما مَنْ لم يؤمن به
فَلَه المقابل ،وهو قوله الحق:
شدِيدٍ } [إبراهيم.]2 :
{ َووَ ْيلٌ لّ ْلكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ َ
وهذا الوَيْل ليس في الخرة فقط ،بل في الدنيا أيضا؛ لن النسان يدفعها بها؛ هنا يستطيع المؤمن
أن يذكر أن له ربا فوق السباب؛ويرتاح إلى معونة الحق سبحانه له ،وهكذا يشعر أن له رصيدا
جسَام.
في الدنيا يعتمد عليه في مواجهة الحداث ال ِ
أما غير المؤمن فليس أمامه سوى اليأس؛ ولذلك نجد انتشار النتحار بين غير المؤمنين؛ لن
هناك أحداثا فوق أسبابهم ،ول يستطيعون دفعها ،وليس لهم إيمان بربّ يرجعون إليه.
ولذلك حين أقرأ للمفسرين مَنْ يشرح كلمة " الويل " بأنها عذابُ الخرة؛ فأجد نفسي قائلً :بل
والوَيْل يكون في الدنيا أيضا؛ لن الكثير من أحداث الحياة يكون فوق أسباب النسان؛ فلو لم
يؤمن النسان بال لَفزِع من فَرْط اليأس.
ن يقولوا يا رب ،وهم بذلك يعلنون صرخة الفطرة
ولذلك نجد بعضهم حين ل يجدون َمفَرّا إل أ ْ
الولى التي قاوموها باللحاد وعدم اليمان؛ وهذا الويل له امتداد بلون أشد في الخرة.
ويصف الحق سبحانه هؤلء الذين ل يؤمنون ،فيقول { :الّذِينَ َيسْتَحِبّونَ ا ْلحَيَاوةَ الدّنْيَا} ...
()1739 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا نجد مادة الحاء والباء؛ حب؛ ومن عجائبها أن الفعل يكون رباعيا؛ فنقول " أحبّ فلن "
ونقول ِلمَنْ يحبه " محبوب " وهذا يعني أن هناك تلقيا بين الثنين؛ أما في حالة عدم التلقي
حبّ ".
حبّ ُيحِب فهو حَابّ مُ ِ
فيقال " َ
ظ في مَجيء السين والتاء ،وهما علمة على الطلب .على هذا
والفرق بين أحبّ واستحبّ؛ ملحو ٌ
ف بالمر الطبيعي ،بل تكلّف الحب وأوغلَ فيه.
فاستحبّ تعني أنَ مَنْ يحب لم يك َت ِ
والمثل على ذلك نجده في الحياة اليومية؛ فنرى مَنْ ينجرف إلى شيء من النحراف؛ ولكنه ل
يُحِب أن يكون مُحِبا لهذا النحراف في نفس الوقت؛ ويفعل النحراف وهو كَا ِرهٌ له ،وقد يضرب
نفسه ويلومها لنها تنجرف إلى هذا النحراف.
حبّ لهذا النغماس ويتحدث
ونجد آخر ينحرف؛ لنه يحب هذا النحراف وينغمس فيه؛ وهو مُ ِ
بهذا النحراف؛ ويُحب في نفسه أنه أحب تلك المعصية؛ لنها تُحقّق له شهوة عاجلة؛ هذا هو مَنِ
حدّه الطبيعي.
" استحبّ " لنه ازاد الحب عن َ
حبّ الدنيا؛ لكنها تتحدث أنْ تستحِبّها على
وحين تُدقّق في الية الكريمة تجد أنها ل تمنعك من ُ
الخرة ،فهذا هو المر المذموم؛ أما إذا أحببت الدنيا لنها تُعينك على تكاليف دينك وجعلْتَها
مزرعة للخرة؛ فهذا أمر مطلوب؛ لنك تفعل فيها ما يجعلك تسعد في آخرتك؛ فهذا طَلَب للدنيا
من أجل الخرة.
ولذلك تجد قوله الحق في سورة " المؤمنون " {.وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون.]4 :
فهو ل يؤدي الزكاة فقط؛ بل يعمل لِيأتيَ لنفسه ولعياله بالقُوتِ؛ ويبذل الجهد ليكون لديه فائضٌ
يؤدي منه الزكاة؛ ولذلك فهو ل يعمل َقدْر حاجته فقط بل على قَدْر طاقته ليحقق ما يمكن أنْ
يُعطِيه ِلمَنْ ل يقدر على العمل.
ولذلك لم َيقُل الحق سبحانه:
" والذين هم للزكاة مؤدون " بل قال:
{ وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون.]4 :
وهنا ل نجد هؤلء الذين يستحبّون الحياة من أجل أنْ يجعلوها مزرعة للخرة؛ بل هم يستحِبّون
الحياة:
{ وَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ[ } ...إبراهيم.]3 :
حبّ الدنيا على الخرة فقط ،ولم يكتفُوا بالسّيْر في طريق الشهوات والملذّات
أي :أنهم لم يكتفوا ب ُ
وتخريب ذواتهم ،بل تما َدوْا في الغي وصَدّوا غيرهم عن سبيل ال.
عوَجا} ...
ونجد الحق سبحانه يقول في موقع آخرِ {:لمَ َتصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَ ْبغُو َنهَا ِ
[آل عمران.]99 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كأنهم ضَلّوا في ذواتهم؛ ولم يكتفوا بذلك ،بل يحاولون إضلل غيرهم ويصدونهم عن الهداية.
ثم تأتي مرحلة جديدة:
عوَجا[ } ...إبراهيم.]3 :
{ وَيَ ْبغُو َنهَا ِ
أي :يبغون شريعة ال ُمعْوجة لتحقق لهم نزواتهم .وهكذا نجد ثلث مراتب للضلل ،استحباب
الحياة الدنيا على الخرة؛ والصّد عن سبيل ال؛ وتشويه المنهج كي ُيكّرهوا الناس فيه.
ويصف الحق سبحانه هؤلء:
{ ُأوْلَـا ِئكَ فِي ضَلَلٍ َبعِيدٍ } [إبراهيم.]3 :
أي :أن أصحاب المرتبة في الضلل هم مَن استحبّوا الحياة الدنيا على الخرة ،والذين توغّلوا في
الضلل أكثرَ فهم الذين يصدون عن سبيل ال؛ أما الذين توغلّوا أكثر فأكثر َفهُم الذين يُشوّهون في
منهج ال لتنفير الناس منه ،أو ليحقق لهم نزواتهم ،وهكذا ساروا إلى أبعد منطقة في الضلل.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ { :ومَآ أَ ْرسَلْنَا مِن رّسُولٍ ِإلّ ِبلِسَانِ.} ...
()1740 /
ونعلم أن الرسول صلى ال عليه وسلم مُبلّغ عن ال منهجه؛ ومُؤيّد بمعجزة تثبت صدقة فيما بلغ
لمَنْ أُرسِل إليهم .وقد حدّث الحق سبحانه من قبل عمّا حدث للمم السابقةَ على أمة محمد صلى
ال عليه وسلم؛ فقد كان كل رسول يتكلم بلغة قومه.
وهناك فرق بين قوم الدعوة وهم أمة رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ وقوم الستقبال؛ وهم المم
السابقة على أمة محمد صلى ال عليه وسلم.
فالمم السابقة لم تكن مُطَالبةَ بأن تُبلّغ دعوة الرّسل الذين نزلوا فيهم ،أما أمة محمد صلى ال عليه
وسلم ف ُمطَالبة بذلك ،لن الحق سبحانه أرسل رسوله صلى ال عليه وسلم ،وأبلغنا في القرآن أن
من آياته سبحانه أن جعل الناس على ألسنة مختلفة.
ن من المعقول أن يرسل رسولً يتكلم كل اللغات ،فنزل صلى ال عليه وسلم في أمة
ولم يُك ْ
حبّ اليمان؛ صار عليهم أن ينساحوا بالدعوة؛ لينقلوا
العرب؛ وحين استقبلوه وأُشرِ َبتْ قلوبهم ُ
معنى القرآن حجة بعد أن استقبلوه معجزة.
حجّة لنه يسوسُ حركة الحياة؛ وحركاتُ الحياة ل تختلف في الناس أجمعين ،كما أن ُكلّ
والقرآن ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حضارة تأخذ من الخرى مُنجزاتِها العلمية ،وتُترجمها إلى لسانها الذي تنطق به.
وترجمة المعاني من لسان إلى آخر مسألة معروفة في ُكلّ حضارات العالم؛ لن المسألة في
جوهرها مسألة معانٍ؛ والمعاني ل تختلف من أمة إلى أخرى.
والقرآن معانٍ ومنهج يصلح لكل البشر؛ ونزل العربية؛ لن موهبة المة العربية هي النبوغ في
اللغة والكلم؛ وهكذا صار على تلك المة مهمة الستقبال لمنهج ال كمعجزة بلغية؛ وإرساله
إلى بقية المجتمعات.
ولذلك تستطيع أن تَعقِد مقارنة بين البلد التي فُتحت بالسيف والقتال؛ والبلد التي فُتِحتَ بالسّلْم
ورؤية القدوة المسلَمة الصالحة؛ ستجد أن الذين نشروا السلم في كثير من أصقاع الرض قد
اعتمدوا على القدوة الصالحة.
خصَال الحميدة ،وبتطبيق منهج الدين في تعاملهم مع غيرهم ،ولذلك أقبل
ستجد أنهم نُقلوا الدين بال ِ
الناس على دين ال.
وهكذا نجد أن منهج السلم قد حمل معجزة من المعاني ،بجانب كونه معجزةً في اللغة التي نزل
بها ،وهي لغة العرب.
ونحن نجد أقواما ل تستطيع أن تقرأ حرفا عربيا إل في المصحف ،ذلك أنهم تعلّموا القراءة في
المصحف ،واعتمدوا على َفهْم المعاني الموجودة فيه عَبْر الترجمات التي قام بها مُسلِمون أحبّوا
القرآن ،ونقلُوه إلى اللغات الخرى.
ولذلك نجد قول الحق سبحانه {:وََلقَدْ َيسّرْنَا ا ْلقُرْآنَ لِل ّذكْرِ َف َهلْ مِن مّ ّدكِرٍ }[القمر.]17 :
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه قد يسّر أُمّ القرآن بلسان العرب أولً ،ثم يسرّه بأن جعل من تلك
المة التي نزل عليها القرآن أمة نَشرْ البلغ عنه سبحانه ،ذلك أن الرسالت تُريد تبليغا؛ والتبليغ
وسيلتُه الولى هي الكلم؛ ووسيلته الثانية الستقبالية هي الذن ،فل بُدّ من الكلم أولً ،ثم ل بُدّ
من أُذن تعرف مدلولتِ اللفاظ لتسمعَ هذا الكلم ،ولِتُطبّقه سلوكا.
كما أننا نعلم أن مَنْ يسمع المتكلم ل ُب ّد وأن يكون واعيا وعارفا بمعاني اللفاظ؛ فما تسمعه الُذن
يحكيه اللسان.
وعرفْنَا أن اللغة بِنْت السماع ،و ُكلّ فرد إنما يتكلم باللغة التي سمعها في بيئته؛ وإذا تتبعتَ سلسلة
تعلّم كل الكلم ستجد نفسك أمام الجِذْر الصلي الذي تعلّم منه البشر الكلم؛ وهو آدم عليه السلم.
سمَآءَ كُّلهَا[} ...البقرة.]31 :
وقد قال سبحانه {:وَعَلّمَ ءَا َد َم الَ ْ
ونعلم أن اللغة بدأت توقيفية حين علّمها ال لدم ،ثم تكلّمها آدم فسمعتْها بيئته؛ فصارتْ وضعية
من بعد ذلك ،واختلفت اللغة من مجتمع إلى آخر.
وهنا قال الحق سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} َومَآ أَرْسَلْنَا مِن رّسُولٍ ِإلّ بِِلسَانِ َق ْومِهِ[ { ...إبراهيم.]4 :
وجاء بعد ذلك مباشرة بالتعليل:
} لِيُبَيّنَ َلهُمْ[ { ...إبراهيم.]4 :
جلّ وعلَ السبب في إرسال كل رسول بلسان قومه ،وهناك آية يقول فيها سبحانه{:
وهكذا أوضح َ
جمِينَ * َفقَرََأهُ عَلَ ْيهِم مّا كَانُوا ِبهِ ُم ْؤمِنِينَ }[الشعراء.]199-198 :
علَىا َب ْعضِ الَعْ َ
وََلوْ نَزّلْنَاهُ َ
ي وَعَرَبِيّ ُقلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ
ج ِم ّ
جمِيّا ّلقَالُواْ َل ْولَ ُفصَّلتْ آيَاتُهُ ءَاعْ َ
عَجعَلْنَاهُ قُرْآنا أ ْ
وقال أيضا {:وََلوْ َ
عمًى[} ...فصلت.]44 :
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ
شفَآ ٌء وَالّذِي َ
هُدًى وَ ِ
فهناك مَنْ يستقبل القرآن كدليل هداية ويُنقّي نفسه من الكَدَر ،وهناك مَنْ يستقبل القرآن فيكون
عليه عمى وعلى سمعه غِشَاوة وخوف وعدم ارتياح ،ذلك أنه كافر.
والسبب -كما نعلم -أن حدوث الحادث مِن آمرِ به يحتاج إلى فاعل وإلى قابل للفعل.
وسبق أن ضربتُ مثلً بمَنْ يشرب الشاي؛ فينفخ فيه ليُبرده قليلً؛ ونفس هذا النسان حين يخرج
في صباح شتوى فهو ينفخ في يديه لِيُدفئهما ،وهكذا ينفخ مرة ليبرد شيئا؛ وينفخ أخرى مُستدعيا
الدفء.
والمسألة ليستْ في أمر النفخ؛ ولكن في استقبال الشاي للهواء الخارج من َفمِك ،الشاي أكثر
حرارة من حرارة الجسم فيبرد بالنفخ ،بينما اليد في الشتاء تكون أكثر برودة من الجسم؛ فتستقبل
النفخ لها برفع درجة حرارتها لتتساوى مع حرارة الجسم.
وهكذا تجد أن القرآن واحدٌ؛ لكن المؤمن يسمعه فيفرح به ،والكافر يسمعه فيتعب ويرهق منه.
وسبحانه يقولَ {:ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ
آنِفا[} ...محمد.]16 :
وهكذا نجد مَنْ يستقبل القرآن ،ول ينصاع إلى معانيه؛ ونجد مَن يستمع إلى القرآن فيخشع قلبه
وينفعل بالستجابة ِلمَا يوُصي به الحق سبحانه.
إذن :عرفنا الن أن اللغة بدأتْ توقيفية وانتهتْ اصطلحية؛ فقد أخذنا من ال ما علّمه لدم من
حسْب القوم المرسلين
أسماء؛ وتغيّرت اللسن من جماعة إلى أخرى ،وهكذا اختلفتْ ألسنة الرّسُل َ
إليهم.
وكل رسول يُبيّن للقوم منهجَ ال؛ فإذا بيّن هذا المنهج ،استقبله البعض باليمان بما جاء به
والهداية ،واستقبله البعضُ الخر بال ُكفْر والضّلل.
فالذي هداه ال استشرف قلبُه إلى هذا المنهج؛ وأخرج من قلبه أيّ عقيدة أخرى ،وبحثَ فيما جاء
به الرسول ،ومل قلبه بالمنهج الذي ارتاح له فهما وطمأنينة.
وهو عكس مَنْ تسكن قلبه قضية مخالفة ،ويُصرّ عليها ،ل عن قناعة ،ولكن عن عدم قدرة على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التمحيص والدراسةَ والستشراف .وكان عليه أنْ يُخرِج القضية ال ُمضِلة من قلبه ،وأن يبحث
ويقارن ويستشف ويُحسِن التدبر؛ ثم يُدخل إلى قلبه القضية الكثر قبولً ،ولكنه ل يفعل ،عكس مَنْ
هداه ال.
ول يقولن أحد " ما دام قد أضلنا ال فلم يعذبنا؟ " ولكن ليعلم كل إنسان أن المشيئة لقابلية اليمان
موجودة ،ولكنه لم يَسْتدعها إلى قلبه.
والحق سبحانه يقول {:وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ هُدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ[} ...محمد.]17 :
سقِينَ }[البقرة.]26 :
ضلّ بِهِ ِإلّ ا ْلفَا ِ
ويقولَ {:ومَا ُي ِ
أي :أن الفسق قد صدر منهم ،لنهم ملوا أفئدتهم بقضايا باطلة؛ فجاءت قضايا الحق فلم تجد
مدخلً.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول سبحانه:
حكِيمُ { [إبراهيم.]4 :
ضلّ اللّهُ مَن يَشَآ ُء وَ َيهْدِي مَن َيشَآ ُء وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
} فَ ُي ِ
فمَنْ يُقبِل على الضلل يزيده ال ضللً؛ فلن يزيد إيمانُه مُْ ْلكَ ال شيئا ،ومَنْ يؤمن فهو يضمن
لنفسه سلمة الحياة وما بعد الموت؛ وهو في الحياة عنصر خَيْرٍ؛ وهو من بعد الموت يجد الحياة
مع ِنعَم المُنعِم سبحانه العزيز الذي ل ُيغَلب؛ والحكيم الذي قَدّر لكلّ أمر ما يشاء.
ويقول سبحانه من بعد ذلك } :وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىا بِآيَاتِنَآ.{ ...
()1741 /
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ َأخْرِجْ َق ْو َمكَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّو ِر وَ َذكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنّ فِي ذَِلكَ
شكُورٍ ()5
لَآَيَاتٍ ِل ُكلّ صَبّارٍ َ
واليات التي أرسلها ال مع -موسى عليه السلم -والمعجزات التي حدثت معه وبيّنها وأظهرها
لقومه كثيرة ،ورسولنا صلى ال عليه وسلم نزل ومعه معجزة واحدة وهي القرآن ،أما بقية
المعجزات الحسية التي حدثتْ مع رسول ال؛ فهي قد جاءت لتثبيت فؤاد المؤمنين برسالته ،ولم
يَبْقَ لها أثر من بعد ذلك إل الذكرى النافعة التي يأتنس بها الصالحون من عباد ال.
وكثرة المعجزات التي جاءت مع موسى -عليه السلم -تبين أن القوم الذين أُرسل لهم قوم لَجج
عدّد العلماء المعجزات التي جاءت مع موسى وجدها بعضٌ من العلماء تسع آيات؛
وجدل ،وحين َ
ووجدها غيرهم ثلث عشرة معجزة؛ ووجدها بعضٌ ثالث أربع عشرة.
وفي التحقيق لمعرفة تلك اليات علينا أن نُفرّق بين اليات التي صدرت بالنسبة لفرعون؛ واليات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التي جاءتْ لبني إسرائيل .فالعصا التي انقلبت حيّة تسعى ،واليد التي تُضيء هي لفرعون ،وعدّد
القرآن اليات التي جاءت مع موسى لفرعون بتسع آيات ،يقول الحق سبحانه {:فِي تِسْعِ آيَاتٍ
عوْنَ َوقَ ْومِهِ[} ...النمل.]12 :
إِلَىا فِرْ َ
ولم يكن موسى يطلب من فرعون أن يؤمن؛ فهو لم يُرْسَل لهدايته؛ ولكنه جاء ليُفحمه وليأخذ بني
سلُ إليهم ،واليات هي :العصا َووَضْع اليد في الجيب لتخرج بيضاء ،و َنقْص النفس
إسرائيل المُرْ َ
والثمرات؛ والطوفان والجراد وال ُقمّل والضفادع والدم ،هذه هي اليات التسع الخاصة بفرعون.
أما بقية اليات التي جاء بها موسى -عليه السلم -لبني إسرائيل فهي كثيرة مثل {:وَإِذ نَ َتقْنَا
الْجَ َبلَ َف ْو َقهُمْ كَأَنّهُ ظُلّةٌ[} ...العراف.]171 :
وأيضا {:وَظَلّلْنَا عَلَ ْي ُكمُ ا ْل َغمَامَ[} ...البقرة.]57 :
ن وَالسّ ْلوَىا[} ...البقرة.]57 :
وكذلك قوله الحق {:وَأَنزَلْنَا عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَ ّ
ولذلك أجمل الحق سبحانه اليات التي جاءت مع موسى لقومه:
{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مُوسَىا بِآيَاتِنَآ أَنْ َأخْرِجْ َق ْو َمكَ مِنَ الظُّلمَاتِ إِلَى النّورِ وَ َذكّرْهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ} ...
[إبراهيم.]5 :
أي :أَعِدْ إلى ُبؤْرة شعورهم ما كان في الحاشية؛ وأنْ يستدعوا من الذاكرة أيام ال ،والمراد ما
حدث في تلك اليام ،مثلما نقول نحن " يوم بدر " أو " يوم ذي قار " أو " السادس من أكتوبر " أو
" العاشر من رمضان ".
وهنا في القول الكريم إما أن يكون التذكير بتلك اليام الخاصة بالوقائع التي حدثتْ للقوام
السابقين عليهم كقوم نوح وعاد وثمود ،ذلك أن الحق سبحانه قد أعلمهم بقصص القوام السابقة
عليهم؛ وما حدث من كل قوم تجاه الرسول المُرْسل إليه من ال.
أو أن يكون التذكير باليام التي أنعم ال فيها على بني إسرائيل بنعمه ،أو ابتلهم فيها بما يُؤلِمهم؛
ذلك أن الحق سبحانه قال:
شكُورٍ } [إبراهيم.]5 :
ل صَبّارٍ َ
ك ليَاتٍ ّل ُك ّ
{ وَ َذكّرْ ُهمْ بِأَيّامِ اللّهِ إِنّ فِي ذاِل َ
والصبّار هو مَنْ يُكثِر الصبر على الحداث؛ وهي كلمة تُوحيِ بأن هناك أحداثا مؤلمة وقَعتْ،
وتحتاج إلى الصبر عليها ،كما تُوحِي كلمة " شكور " بحوادث منعمة تستحق الشكر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا يُقبِل المؤمن على تحمّل مَشَاقّ اليمان؛ لنه يثق في أن الحق سبحانه ل ُيضِيع أجْر مؤمنٍ؛
ول ُب ّد لموكب اليمان أنْ ينتصر؛ ولذلك فالمؤمن يصبر على المحن ،ويشكر على ال ّنعَم.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :وَِإذْ قَالَ مُوسَىا ِل َق ْومِهِ ا ْذكُرُواْ.{ ...
()1742 /
وهكذا نجد الحق سبحانه وقد جاء بنموذج من أيام معاناتهم من جبروت فرعون ،وكيف خلّصهم
سبحانه من هذا الجبروت ،وكان فرعون يُسلّط عليهم أقسى ألوان العذاب ،ف " سام " الشيء أي:
طلبه؛ و " سام سوء العذاب " أي :طلب العذاب السيء.
قد ذَبّح فرعون أبناءهم الذكور ،ولم يُذبّح الناث لتصبح النساء بل عائل ويستبيحهُنّ ،وفي هذا
ِنكَاية شديدة.
ووقف بعض المستشرقين عند هذه الية ،وقالوا :لقد تعرض القرآن من قبل لهذه الية في سورة
عوْنَ َيسُومُو َنكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيذَبّحُونَ أَبْنَآ َء ُك ْم وَيَسْتَحْيُونَ
البقرة؛ حين قال {:وَإِذْ َنجّيْنَاكُم مّنْ آلِ فِرْ َ
نِسَآ َء ُك ْم َوفِي ذَِلكُمْ بَلءٌ مّن رّ ّب ُكمْ عَظِيمٌ }[البقرة.]49 :
فهل هذه الية في سورة إبراهيم هي البليغة ،أم الية التي في سورة البقرة؛ خصوصا وأن الفرق
بينهما هو مجيء " الواو " كحرف عطف على ذبح البناء باستباحة النساء؟
وأضاف هذا المستشرق :ولسوف أتنازل عن النظر إلى ما جاء في سورة العراف حين قال
القرآن {:وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ ا ْلعَذَابِ ُيقَتّلُونَ أَبْنَآ َءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآ َءكُمْ
َوفِي ذاِلكُمْ بَلءٌ مّن رّ ّب ُكمْ عَظِيمٌ }[العراف.]141 :
وبطبيعة الحال ،فهذا المستشرق لم يأخذ َفهْم القرآن عن مَلَكةٍ عربية ،ذلك أنه لو كان قد امتلك
هذه القدرة على الفَهْم؛ لَعرفَ أن الكلم لم يصدر في اليات عن مصدر واحد ،بل صدر عن
مصدرين.
ففي آية سورة البقرة كان المصدر المتكلم هو ال سبحانه ولذلك قالَ {:نجّيْنَاكُم[} ...البقرة.]49 :
ولكن المصدر المتكلم في سورة إبراهيم هو موسى عليه السلم؛ لم َي ًقُلْ أنه هو الذي أنجاهم بل
يُعدّد النعم التي مَنّ ال بها عليهم؛ ويمتنّ بها عليهم .وعِلّة ذلك أن العظيم حين يمتنّ على غيره ل
يمتنّ إل بالعظائم ،أما دون العظيم فقد يمتنّ بما دون ذلك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأسوق هذا المَثل لمزيد من اليضاح ل للتشبيه؛ فسبحانه مُنزّه عن التشبيه ،وأقولَ :هبْ أن إنسانا
غنيا له أخ رقيق الحال ،وقد يُمد الغنيّ أخاه الفقير بأشياء كثيرة ،وقد يعتني بأولده؛ ويقوم
برعايته ورعاية أولده رعاية كاملة .ويأتي ابن الفقير ليقول لبن الغني :لماذا ل تسألون عنا؟
فيقول ابن الغني :ألم يَ ْأتِ أبي لك بهذا القلم وتلك البذلة ،بالضافة إلى الشقة التي تسكنون فيها؟
ن يقول :أنا أسأل عنكم ،بدليل أنّي أحضرت لكم الشقة التي تسكنون
ولكن العَ ّم الغنيّ يكتفي بأ ْ
فيها .إذن :فالكبير حقا هو الذي يذكر المور الكبيرة ،أما القل فهو من يُعدّد الشياء.
وهنا يصف الحق سبحانه سوْم العذاب وذَبْح البناء بالبلء العظيم في قوله تعالى:
عظِيمٌ } [إبراهيم.]6 :
{ ذاِلكُمْ بَلءٌ مّن رّ ّبكُمْ َ
وهكذا نرى مظهرية الخير التي مَنّ ال بها عليهم ،وهي النجاء من ذبح البناء واستباحة النساء؛
وكان ذلك نوعا من مظهرية الشر .وهذا ابتلء صعب.
وسبق أنْ أوضحنا أنّ البلء يكون بالخير أو بالشر ،فقد قال سبحانه {:وَنَبْلُوكُم بِالشّ ّر وَا ْلخَيْرِ فِتْنَةً
جعُونَ }[النبياء.]35 :
وَإِلَيْنَا تُرْ َ
لهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَهُ
فل الخير دليلُ تكريم ،ول الشرّ دليلُ إهانة؛ فهو القائل {:فََأمّا الِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَ َ
لهُ َفقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْز َقهُ فَ َيقُولُ رَبّي أَهَانَنِ }[الفجر-15 :
وَ َن ّعمَهُ فَيَقُولُ رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّآ ِإذَا مَا ابْتَ َ
.]16
فالبتلء في الصل هو المتحان؛ إما أنْ تنجحَ فيه أو ترسبَ؛ ولذلك فهو غَيْر مذموم إل بالنتيجة
التي َيؤُول إليها.
شكَرْتُمْ.} ...
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكُمْ لَئِن َ
()1743 /
ونلحظ أن الية تبدأ بكلمة " تأذّن " وكل المادة اللف والذال والنون مأخوذة من الذن .والذن آلة
السماع ،والذان إعلم ،وآذنهم أي أعلمهم.
وتأذن أي :اعلم بتوكيد .وهكذا يكون معنى الية :أني أعلِمكم بتوكيد من ربكم أنكم إنْ شكرتم
ليزيدنكم من نعمه وعطائه؛ لن الشكر دليلُ ارتباط بالواهب؛ وأنكم سلختم أنفسكم من العتزاز
بما أوتيتم ،وعلمتم أنه هو وحده الوهاب.
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق6 :ـ .]7
ن الِنسَانَ لَيَ ْ
والحق سبحانه هو مَنْ قال {:كَلّ إِ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولو كان النسان مربوطا بالحق سبحانه؛ لما فصل الحقّ عن نعمه؛ ولظل ذاكرا للحق الذي وهبه
النّعمَ.
ولذلك أقول دائما :إياك أن تشغلك النعمة عن المُنِعم؛ لن النعمة موهوبة لك؛ وليستْ ذاتية فيك.
وتأتي المقابلة من بعد ذلك مباشرة؛ فيقول:
عذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم.]7 :
{ وَلَئِن َكفَرْتُمْ إِنّ َ
وهنا يثور سؤال :هل الذي ل يشكر نعم ال يكون كافرا؟
وهنا علينا أن نعلم أن هناك فارقا بين الكفر والكفران ،ولكن لفظ الكفر جاء هنا ليغلظ من معنى
عدم الشكر ،ولم يأت بكلمة كُفْران وجاء بقوله:
عذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم.]7 :
{ وَلَئِن َكفَرْتُمْ إِنّ َ
ل َومَن كَفَرَ
والمثل في ذلك قول الحق سبحانه {:وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِي ً
فَإِنّ ال غَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ }[آل عمران.]97 :
حكْمين:
ومَنْ لم يحج فهو عَاصٍ؛ وكأن ال يريد أن يُصعّب عدم القيام بالحج .أو :أن الية تريد ُ
الحكم الول :اليمان بفرضية الحج؛ والثاني :القيام بالحج فعلً.
ذلك أن الحق سبحانه قد قال {:وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَ ْيتِ مَنِ اسْ َتطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً[} ...آل عمران:
.]97
حكْم صحيح واجب يؤمن به ولكنه ل يُنفّذه؛ قد يدخل في المعصية؛ لنه
فَمنْ يؤمن بأن هذا ُ
ج ولم يفعل .أما مَنْ يكفر بالحج نفسه وينكر القضية كلها؛ فهو كافر والعياذ بال.
يستطيع أن يحُ ّ
شدِيدٌ }
شكَرْتُ ْم لَزِيدَ ّنكُمْ وَلَئِن َكفَرْتُمْ إِنّ عَذَابِي لَ َ
وهنا يقول الحق سبحانه {:وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكُمْ لَئِن َ
[إبراهيم.]7 :
وهكذا جاء الكفر مقابل الشكر ،ول بُدّ من عذاب للكفر؛ وعذابُ ال ل ُبدّ أن يكون شديدا؛ لن
العذاب يتناسب بقدرة المعذب ،ول أقدرَ من ال ،ونعوذ به سبحانه من عذابه ،فهو أمر ل يُطاَق
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ { :وقَالَ مُوسَى إِن َت ْكفُرُواْ أَنتُمْ.} ...
()1744 /
حمِيدٌ ()8
جمِيعًا فَإِنّ اللّهَ َلغَنِيّ َ
َوقَالَ مُوسَى إِنْ َت ْكفُرُوا أَنْ ُت ْم َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ َ
وقد قال موسى ذلك كي ل يظنّ ظَانّ من قومه أن ال في حاجة إلى شكرهم؛ وأنه سيعاقبهم
ن كفروا بشكره؛ فأراد أنْ ينسخَ هذا الظنّ من أذهان مَنْ يسمعونه.
بالعذاب إ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأوضح لهم أن الحق سبحانه لن يزيده إيمانكم شيئا؛ ولن يضيف هذا اليمانُ منهم ومعهم أهل
الرض كلهم ِلمُلْكه شيئا؛ لن مُلْك ال إنما أبرزه سبحانه بصفات الكمال فيه ،وهو ناشيء عن
كمال موجود.
ح وَعَا ٍد وَ َثمُودَ.} ...
ولذلك يأتي قوله الحق { :أَلَمْ يَأْ ِت ُكمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبِْلكُمْ َقوْمِ نُو ٍ
()1745 /
ح وَعَا ٍد وَ َثمُو َد وَالّذِينَ مِنْ َبعْدِ ِهمْ لَا َيعَْل ُمهُمْ إِلّا اللّهُ جَاءَ ْتهُمْ
أَلَمْ يَأْ ِت ُكمْ نَبَأُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلكُمْ َقوْمِ نُو ٍ
شكّ ِممّا تَدْعُونَنَا
سلْتُمْ بِهِ وَإِنّا َلفِي َ
رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَ َردّوا أَيْدِ َيهُمْ فِي َأ ْفوَا ِه ِه ْم َوقَالُوا إِنّا كَفَرْنَا ِبمَا أُرْ ِ
إِلَيْهِ مُرِيبٍ ()9
وهذه الية الكريمة أعطتْنا تفسيرا لقوله سبحانه {:وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر.]24 :
ك َومِ ْنهُمْ مّن لّمْ َن ْقصُصْ
صصْنَا عَلَ ْي َ
وكذلك قوله سبحانه {:وَلَقَدْ أَ ْرسَلْنَا رُسُلً مّن قَبِْلكَ مِ ْنهُم مّن َق َ
عَلَ ْيكَ[} ...غافر.]78 :
ونعلم أن الحق سبحانه قد أوحى لموسى -عليه السلم -أن يُبلغ قومه بقصص بعض من
النبياء السابقين عليه .وهذا واضح في قوله الحق:
ح وَعَا ٍد وَ َثمُودَ[ } ...إبراهيم.]9 :
{ أََلمْ يَأْ ِتكُمْ نَبَأُ الّذِينَ مِن قَبِْل ُكمْ َقوْمِ نُو ٍ
ويقول سبحانه عن القوم الذين جاءوا من بعد ذلك:
{ وَالّذِينَ مِن َبعْدِ ِه ْم لَ َيعَْل ُمهُمْ ِإلّ اللّهُ جَآءَ ْتهُمْ رُسُُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ[ } ...إبراهيم.]9 :
أي :أن الرسل قد حملوا منهج ال ،وكذلك المعجزات الدالة على صدقهم ِلمَنْ جاءوا من بعد ذلك.
والبينات إما أن تكون المعجزات الدالة على صدقهم؛ أو :هي اليات المُشْتملة على الحكام
الواضحة التي تُنظّم حركة حياتهم لُِتسْعدهم.
ولكن هل قَبَِلتْ تلك القوامُ تلك البيناتِ؟
ل ،لن الحق سبحانه يقول عنهم:
{ فَ َردّواْ أَيْدِ َيهُمْ فِي َأ ْفوَا ِههِمْ َوقَالُواْ إِنّا َكفَرْنَا ِبمَآ أُرْسِلْ ُتمْ بِهِ[ } ...إبراهيم.]9 :
عضّوا على اليدي
ن وضعوا أيديهم على أفواههم ،وإما أنهم َ
وهكذا نرى أن الكافرين هم مَ ْ
بالنواجذ لنهم لم ُيطِيقوا تطبيق منهج ال؛ ولم يستطيعوا التحكّم في أنفسهم.
أو :أنهم رَدّوا أيديهم إلى أفواههم بمعنى أن قالوا للرسل " :هس " ،أصمتوا ول تتكلموا بما جِئْتم
به من بلغ .أو :أن بعضهم قال للرسل " ل فائدة من كلمكم في هؤلء ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والثراء في القرآن يتحمّل كل هذه المعاني؛ والية تتسِق فيها كل تلك المعاني؛ فالعبارة الواحدة في
القرآن تكون شاملة لخيرات تناسب كمالت ال ،وستظل كمالت القرآن موجودة يظهر بعضها
لنا؛ وقد ل ندرك البعض الخر إلى أن يُعلِمنا بها ال يوم القيامة.
ويأتي قولهم:
سلْتُمْ بِهِ[ } ...إبراهيم.]9 :
{ إِنّا كَفَرْنَا ِبمَآ أُرْ ِ
ليكشف لنا غباءهمَ ،فهُمْ يعترفون بأن هؤلء رسل من السماء ،وفي نفس الوقت يُنكِرون المنهج،
ويُعلنون هذا النكار ،يكشف لنا ذلك قوله تعالى:
شكّ ّممّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } [إبراهيم.]9 :
{ وَإِنّا َلفِي َ
أي :أنهم أعلنوا رأيهم في المنهج ،وقالوا :إنهم مُحيّرون ويشكّون في هذا المنهج.
شكّ فَاطِرِ.} ...
ويأتي القرآن بردّ الرسل في قول الحق سبحانه { :قَاَلتْ ُرسُُلهُمْ َأفِي اللّهِ َ
()1746 /
ت وَالْأَ ْرضِ َيدْعُوكُمْ لِ َي ْغفِرَ َلكُمْ مِنْ ذُنُو ِبكُمْ وَيُؤَخّ َر ُكمْ إِلَى
سمَاوَا ِ
شكّ فَاطِرِ ال ّ
قَاَلتْ رُسُُلهُمْ َأفِي اللّهِ َ
عمّا كَانَ َيعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ
سمّى قَالُوا إِنْ أَنْ ُتمْ إِلّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ َتصُدّونَا َ
جلٍ مُ َ
أَ َ
()10
ن توجه إليه
شكّ[ } ...إبراهيم ]10 :هو لوْن من الخطاب الذي ل يترك لمَ ْ
وقولهَ { :أفِي اللّهِ َ
ت واثقا من أن مَنْ تُوجّه إليه
الكلم أنْ يُجيب إل كما تريد أنت .وأنت ل تفعل ذلك إل إذا كُ ْن َ
الكلم سيجيب -إنِ استحضرَ الحق في ذهنه -كما تريد أنت.
ولذلك لم يَ ْأتِ الخطاب هنا بقوله " ل شك في ال " وبذلك يكون الكلم خبريا ،وقد يقول واحد :إن
هذا الكلم كاذب ،ولكن على الرغم من أن المستمعين من الكفار ،إل أنه يأتي بالقضية في شكل
تساؤل يستأمنهم على أنهم سوف يُديرون الكلم في رؤوسهم ،وسيعثرون على الجابة التي ل
ن ينكرونها؛ وهي " ليس في ال شك ".
يمكن أ ْ
وهكذا نجد أن القائل قد سكتَ عن إعلنهم الكف َر أولً؛ وجاء لهم بالتساؤل الذي سيجيبون عليه "
ليس في ال شك " ،ويأتي لهم بالدليل الذي ل يحتمل أيّ شكّ ،وهو قوله الحق:
ت وَالَرْضِ[ } ...إبراهيم.]10 :
سمَاوَا ِ
{ فَاطِرِ ال ّ
سمَاوَاتِ
والفاطر هو الذي خلق خَلْقا على غير مثال سابق ،مثلها مثل قوله الحق {:بَدِيعُ ال ّ
وَالَرْضِ[} ...البقرة.]117 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فل أحدَ قادرٌ على أن يخلقَ مثل السماوات والرض؛ وهي مخلوقة على غير مثال سابق.
وسبحانه هو مَنْ شاء أن يكون النسان سيدا لكل الكائنات المخلوقة ،وأن تكون تلك الكائنات
مُسخّرة لخدمته.
وقد يتخيل النسان أن خَلْقه أكبر من خَلْق السماوات والرض؛ لذلك يُنبّهه الحق سبحانه {:لَخَ ْلقُ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ[} ...غافر.]57 :
ال ّ
ولو نظرت إلى الشمس وسألتَ نفسك؛ كم من الجيال قد استمتعوا بدفْئها واستفادوا منها؛ فمن
المؤكّد أنك لن تعرف عدد الجيال؛ لن الشمس مخلوقة من قَبْل خَلْق البشر ،وكل إنسان يستمتع
بالشمس ويستفيد منها عدد سنوات حياته ،ثم يذهب إلى الموت.
ونجد المفسر الجليل الفخر الرازي يضرب المَثل الذي ل يمكن أن يُنكِره أحد ،ويدلّ على الفطرة
في اليمان ،ويُوضّح أن الحق سبحانه لم يُمهل النسان إلى أنْ ينضجَ عقله ليشعر بضرورة
اليمان ،ويضرب المثل بطفل صغير تسلّل ،وضرب شقيقه؛ هنا ل ُبدّ أن يلتفتَ الشقيق ليكتشف
مَنِ الذي ضربه؛ لن النسان من البداية يعلم أنْ ل شيءَ يحدث إل وله فاعل.
و َهبْ أن طفلً جاء ليجد شقيقه جالسا على كرسي ،وهو يريد أن يجلس على نفس الكرسي؛ هنا
سيقوم الطفل بشدّ وجَذْب أخيه من على الكرسي ليجلس هو ،وكأنه اكتشف بالفطرة أن اثنين ل
يمكن أن يستوعبهما حَيّز واحد.
وهكذا يتوصل النسان بالفطرة إلى معرفة أن هناك خالقا أوحد .وهكذا نجد قوله الحق:
ت وَالَرْضِ[ } ...إبراهيم.]10 :
سمَاوَا ِ
{ فَاطِرِ ال ّ
هو الية الكونية الواسعة.
ويأتي من بعد ذلك بالقول:
{ َيدْعُوكُمْ لِ َي ْغفِرَ َل ُكمْ مّن ذُنُو ِبكُمْ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} لِ َي ْغفِرَ َلكُمْ مّن ذُنُو ِبكُمْ[ { ...إبراهيم.]10 :
هو غفران الكبائر :ذلك أن صغائر الذنوب إنما يغفرها أداء الفرائض والعبادات؛ فنحن نعلم أن
الرسول صلى ال عليه وسلم قال " :الصلوات الخمس ،والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم
ُتغْشَ الكبائر ".
ويتابع سبحانه:
جلٍ مّسَـمّـى[ { ...إبراهيم.]10 :
} وَ ُيؤَخّ َركُمْ إِلَى أَ َ
وكلنا نعرف أن الجل هو الزمن المضروب والمُقرر للحدثِ .وإن شاء الحق سبحانه البادة فنجد
سفْنَا بِ ِه وَبِدَا ِرهِ الَرْضَ }[القصص.]81 :
ما يدل عليه قوله الحقَ {:فخَ َ
كما فعل مع قارون.
جلٍ مّسَـمّـى[ { ...إبراهيم ]10 :مقصود به يوم القيامة.
أو :أن قوله } :إِلَى َأ َ
ولكن الكفار أهل َلدَد وعناد ،لذلك نجد قولهم:
عمّا كَانَ َيعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا ِبسُلْطَانٍ مّبِينٍ
} قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ ِإلّ بَشَرٌ مّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن َتصُدّونَا َ
{ [إبراهيم.]10 :
وهكذا يعلن أهل الكفر لرسلهم أنهم يُفضّلون أن يكونوا أهل تقليد للباء ،ولو أنهم فكّروا َلعِلموا أن
التقليد لو شاع في المجتمعات لَما ارتقى أحدٌ عن آبائه وأجداده ،فالعالم يتطور من تمرّد جيل على
جيل سابق ،فلماذا ُيصِرّ هؤلء الكافرون على أن يحتفظوا بتقليد الباء والجداد؟
وإذا كان البناء يتطورون في كل شيء ،فلماذا يحتفظ هؤلء الكفار بتقليد الباء في العقائد؟
ول يكتفي أهل الكُفْر بذلك ،بل يطلبون أن يأتيَ لهم الرسل بسلطان مبين ،والسلطان يُطلق مرّة
على القهر على الفعل ،ويكون الفاعل المقهور كارها للفعل.
ومرّة يطلق على الحجة التي تُقنع بالفعل ،ويكون الفاعل مُحِبا لما َيقْدُم عليه ،والدين ل يمكن أن
ينتشر قهرا؛ بل ل بُدّ أن يُقبل النسان على الدين بقلبه ،وذلك ل يأتي قهرا.
لذلك نجد القول الحق {:لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّشْدُ مِنَ ا ْل َغيّ[} ...البقرة.]256 :
وما دام الرّشدْ قد ظهر فالكراه ل مجالَ له؛ لن الذي ُيكْره على شيء ل يمكن له أن يعتنق ما
يُكره عليه.
وإذا ما دخل النسان الدين فعليه أن يلتزَم بما يُكلّف به الدين؛ ولذلك فالنسان ل يمكن أن يدخل
إلى الدين ُمكْرها ،بل ،ل بُدّ أن يدخله على بصيرة.
سُلهُمْ إِن نّحْنُ
ويأتي الحق سبحانه بعد ذلك بما قاله الرسل ردا على َقوْل أهل الكفر } :قَاَلتْ َلهُمْ رُ ُ
ِإلّ بَشَرٌ.{ ...
()1747 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علَى مَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ َومَا كَانَ لَنَا أَنْ
قَاَلتْ َلهُمْ رُسُُل ُهمْ إِنْ َنحْنُ إِلّا بَشَرٌ مِثُْلكُ ْم وََلكِنّ اللّهَ َيمُنّ َ
سلْطَانٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّ ِه وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َو ّكلِ ا ْل ُمؤْمِنُونَ ()11
نَأْتِ َيكُمْ بِ ُ
وهكذا أوضح الرسل لقوامهم :نحن بشر مثلكم ،والسلطان الذي نملكه هو المعجزة التي اختص
بها الحق سبحانه ُكلّ رسول ،والحق سبحانه هو الذي يتفضّل على عباده؛ فيختار منهم الرسول
المناسب لكل قوم؛ ويرسل معه المعجزة الدالة على تلك الرسالة؛ ويقوم الرسول بتبليغ كل ما يأمر
به ال.
وكل رسول إنما يفعل ذلك ويُقبِل عليه بكل الثقة في أن الحق سبحانه لن يخذله وسينصره؛
فسبحانه هو القائل {:وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173 :
ويخبرنا سبحانه بطمأنة الرسول ومَنْ معه لحظةَ أن تزلزلهم جِسَام الحداث؛ وتبلغ قلوبهم
الحناجر ،ويتساءلون {:مَتَىا َنصْرُ اللّهِ[} ...البقرة.]214 :
فتأتي أخبار نَصرْ الحق سبحانه لرسله السابقين لطمأنه المؤمنين ،ونجد الحق سبحانه هنا يقول:
{ وَعلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ } [إبراهيم.]11 :
هكذا أعلن كل رسول ِلمَنْ آمن به من قومه ،فعلَى ال وحده يتوكّل المؤمنون ،ويُفوّضون كل
أمورهم إليه وحده؛ صَبْرا على معاندة الكافرين ،وثِقةً في أنه سبحانه ينصر مَنْ أبلغوا رسالته
ومنهجه ،وينصر معهم مَنْ آمنوا بالمنهج والرسالة.
وينقل لنا الحق سبحانه بقية ما قاله الرسل لقوامهمَ { :ومَا لَنَآ َألّ نَ َت َو ّكلَ عَلَى اللّهِ.} ...
()1748 /
َومَا لَنَا أَلّا نَ َت َو ّكلَ عَلَى اللّ ِه َوقَدْ َهدَانَا سُبُلَنَا وَلَ َنصْبِرَنّ عَلَى مَا َآذَيْ ُتمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَ َت َوكّلِ
ا ْلمُ َت َوكّلُونَ ()12
ونلحظ أن الحق سبحانه قد وصف المُتوكّلين في نهاية الية السابقة بأنهم المؤمنون؛ وهنا يَصفُهم
في نهاية هذه الية بأنهم المتوكّلون؛ لن صفة اليمان تدخل في صفة التوكل ضِمنْا.
ونعلم أن هناك فارقا بين التوكل والتواكل؛ فالتوكل يعني أن تستنفد أسباب ال ال َممْدودة؛ لن
التوكل عمل القلوب؛ بعد أن تُؤدّي الجوارحُ ما عليها من عمل وأخْذ بالسباب؛ فالجوارح تعمل
والقلوب هي التي تتوكل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويأتي لنا الحق سبحانه ببقية الحوار بين الذين كفروا من أهل القوام السابقة وبين رسلهم ،فيقول:
{ َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُواْ لِرُسُِلهِمْ.} ...
()1749 /
َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِ ُرسُِلهِمْ لَ ُنخْرِجَ ّنكُمْ مِنْ أَ ْرضِنَا َأوْ لَ َتعُودُنّ فِي مِلّتِنَا فََأوْحَى إِلَ ْي ِهمْ رَ ّبهُمْ لَ ُنهِْلكَنّ
الظّاِلمِينَ ()13
()1750 /
ف وَعِيدِ ()14
سكِنَ ّنكُمُ الْأَ ْرضَ مِنْ َبعْ ِدهِمْ ذَِلكَ ِلمَنْ خَافَ َمقَامِي وَخَا َ
وَلَنُ ْ
وهنا يؤكد الحق سبحانه أن مَنْ يثبت على اليمان ،ويخاف َمقَام الحق سبحانه ،ويخشى يوم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العَرْض على الحق ويوم الحساب؛ ولم ينكص عن منهج دعوة الحق؛ سيُورثه الحق سبحانه أرض
ضهُمْ وَدِيَارَهُ ْم وََأ ْموَاَلهُ ْم وَأَرْضا لّمْ
ن كفر بال؛ فتلك سنة ال؛ لنه سبحانه قال {:وََأوْرَ َثكُمْ أَ ْر َ
مَ ْ
تَطَئُوهَا[} ..الحزاب.]27 :
ونعلم أن مَنْ يخاف ال ويخشاه ويؤمن أنه قائم على ُكلّ نفس؛ فسبحانه يجزي مَنْ يعيش حياته في
ضوْء اليمان بأن يُورِثه أرضَ مَنْ كفر ،وقد قال الحق سبحانه لرسوله {:وََأوْرَثْنَا ا ْل َقوْمَ الّذِينَ
َ
ض َو َمغَارِ َبهَا الّتِي بَا َركْنَا فِيهَا[} ..العراف.]137 :
ضعَفُونَ مَشَارِقَ الَرْ ِ
كَانُواْ ُيسْ َت ْ
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَاسْ َتفْتَحُواْ.} ...
()1751 /
و " استفتح " تعني طلب الفتح ،وهناك فتح ،واستفتح .وكلمة " فتح " تدل على أن شيئا ُمغْلقا ينفتح،
ومرّة يكون المقصود بالكلمة أمرا حسيا؛ وأحيانا يكون المر معنويا ،ومرة ثالثة يكون الفتح
حكْم.
بمعنى الفصْل وال ُ
جدُواْ ِبضَاعَ َتهُمْ رُ ّدتْ
عهُ ْم وَ َ
والمثل على المر الحِسيّ قول الحق سبحانه {:وََلمّا فَتَحُواْ مَتَا َ
إِلَ ْيهِمْ[} ...يوسف.]65 :
ومرّة يكون الفَتْح معنويا؛ وبمعنى سابقة الخير والعلم ،كقول الحق سبحانه {:وَإِذَا خَلَ َب ْعضُهُمْ
علَ ْيكُمْ[} ...البقرة.]76 :
حدّثُو َنهُم ِبمَا فَتَحَ اللّهُ َ
إِلَىا َب ْعضٍ قَالُواْ أَتُ َ
سلَ لَهُ
سكْ فَلَ مُرْ ِ
سكَ َلهَا َومَا ُيمْ ِ
حمَةٍ فَلَ ُممْ ِ
وكذلك قول الحق سبحانه {:مّا َيفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّ ْ
مِن َبعْ ِدهِ[} ...فاطر.]2 :
أما المَثل على الفَتْح بمعنى ال َفصْل في المر ،فالمثل هو قول الحق سبحانه:
ق وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلفَاتِحِينَ }[العراف]89 :
{ رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َق ْومِنَا بِا ْلحَ ّ
وهكذا نجد للفتْح معاني متعددة ،وكلها تدور حول المغاليق هي ٌت َفضّ ،ويُطلَق الفتح آخر المر
على النصر ،والمثل هو قول الحق سبحانه {:إِذَا جَآءَ َنصْرُ اللّ ِه وَا ْلفَتْحُ }[النصر.]1 :
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وَاسْ َتفْتَحُو ْا وَخَابَ ُكلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ } [إبراهيم.]15 :
وهم طلبوا الفتح بمعنى طلبوا النصر ،وكانت تلك خيبةً من الكفار؛ َف ُهمْ طلبوا الفتح أي النصر؛
وهم قد فعلوا ذلك مظنّة أن عندهم ما ينصرهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكيف ينصرهم ال وهم كافرون؟
لذلك يُخيّب ال ظنهم ويحكم عليهم بمصير كل مَنْ عاش جبارا في الرض ،متكبرا عن عبادة
ربه.
ويقول سبحانه:
{ وَخَابَ ُكلّ جَبّارٍ عَنِيدٍ } [إبراهيم.]15 :
والجبار هو مَنْ يقهر الناس على ما يريده؛ والمقصود هنا هم المُتكبّرون عن عبادة الحق سبحانه
وتعالى ،ويعاندون في مسألة اليمان به سبحانه.
وماذا ينتظرهم من بعد ذلك؟
جهَنّمُ.} ...
يقول الحق سبحانه { :مّن وَرَآئِهِ َ
()1752 /
صدِيدٍ ()16
سقَى مِنْ مَا ٍء َ
جهَنّ ُم وَيُ ْ
ن وَرَائِهِ َ
مِ ْ
أي :من خلف الجبار المُتعنّت بالكفر جهنمُ ،وما فيها من عذاب .وفي العامية نسمع مَنْ يتوعد
آخر ويقول له " وراك ...وراك " ويعني بذلك أنه سيُوقع به أذىً لم يَأتِ أوانه َبعْد.
وكلمة " وراء " في اللغة لها استخدامات متعددة؛ فمرّة تأتي بمعنى " َبعْد " والمثل في قوله تعالى
عن امرأة إبراهيم عليه السلم:
سحَاقَ َيعْقُوبَ }[هود.]71 :
ق َومِن وَرَآءِ إِ ْ
ح َكتْ فَبَشّرْنَاهَا بِِإسْحَا َ
{ وَامْرَأَتُهُ قَآ ِئ َمةٌ َفضَ ِ
أي :جاء يعقوب من بعد إسحق.
ج ِهمْ حَا ِفظُونَ * ِإلّ
ومرّة تُطلق " وراء " بمعنى " غير " مثل قول الحق سبحانه {:وَالّذِينَ ُهمْ ِلفُرُو ِ
جهِمْ َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّن ُهمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * َفمَنِ ابْ َتغَىا وَرَآءَ ذاِلكَ فَُأوْلَـائِكَ ُهمُ
عَلَىا أَ ْزوَا ِ
ا ْلعَادُونَ }[المؤمنون.]7-5 :
وهنا يقول الحق سبحانهك
جهَنّمُ[ } ...إبراهيم.]16 :
{ مّن وَرَآ ِئهِ َ
ونعلم أن جهنم ستأتي مستقبلً ،أي :أنها أمامه ،ولكنها تنتظره؛ وتلحقه.
ويتابع الحق سبحانه:
سقَىا مِن مّآ ٍء صَدِيدٍ } [إبراهيم.]16 :
{ وَيُ ْ
والصديد هو الماء الرقيق الذي يخرج من الجُرْح ،وهو القَيْح الذي يسيل من أجساد أهل النار حين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تُشْوى جلودهم.
ولنا أن نتصورَ حجم اللم حين يحتاج أحدهم أن يشرب؛ فيُقدّم له الصديد الناتج من حَرْق جلده
وجُلُود أمثاله .والصديد أمر يُتأ ّففُ من رؤيته؛ فما باَلُنا وهو يشربه ،والعياذ بال.
ع ُه َولَ َيكَادُ
ويقول الحق سبحانه متابعا ِلمَا ينتظر الواحد من هؤلء حين يشرب الصديد { :يَتَجَرّ ُ
يُسِيغُهُ.} ...
()1753 /
ويتجرعه أي :يأخذه جَرْعة جَرْعة ،ومن فرط مرارته ل تكون له سيولة تُستسَاغ؛ فيكاد يقف في
الحَلْق؛ والنسان ل يأخذ الشيء جَرْعة جَرْعة إل إذا كان ل يقدر على استمرار الجرعة؛ ولكن
هذا المشروب من الصديد ل يكاد يستسيغه مَنْ يتجرعه .ويقال :استساغ الشيء .أي :ابتلعه
بسهولة.
وقوله سبحانه:
{ َولَ َيكَادُ يُسِي ُغهُ[ } ...إبراهيم.]17 :
أي :ل يكاد يبلعه بسهولة فط ْعمُه وشكله غير مقبولين.
ويتابع سبحانه:
{ وَيَأْتِيهِ ا ْل َموْتُ مِن ُكلّ َمكَانٍ َومَا ُهوَ ِبمَ ّيتٍ[ } ...إبراهيم.]17 :
أي :ينظر حوله فيجد الموت يحيط به من كل اتجاه ،لكنه ل يموت ،ويُفاجأ بأن العذاب يحيط به
من كل اتجاه مُصدّقا لقول الحق سبحانه:
{ َومِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [إبراهيم.]17 :
هكذا يتعذب الجبار المتعنت في أمر اليمان .وإذا قِسْنَا العذاب الغليظ بأهونِ عذاب يلقَاهُ إنسان من
النار لوجدنا أنه عَذابٌ فوق الحتمال؛ فها هو صلى ال عليه وسلم يقول " :إن أهون أهل النار
خمَص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه ".
عذابا يوم القيامة لَرجلٌ يُوضعَ في أ ْ
فمَا بالُنَا بالعذاب الغليظ ،وقانا ال وإياكم شرّه؟
ويقول سبحانه من بعد ذلك قضية كونية { :مّ َثلُ الّذِينَ َكفَرُواْ.} ...
()1754 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صفٍ لَا َيقْدِرُونَ ِممّا كَسَبُوا
عمَاُلهُمْ كَ َرمَادٍ اشْتَ ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َيوْمٍ عَا ِ
مَ َثلُ الّذِينَ َكفَرُوا بِرَ ّب ِهمْ أَ ْ
شيْءٍ ذَِلكَ ُهوَ الضّلَالُ الْ َبعِيدُ ()18
عَلَى َ
وقد يأتي في أذهان البعض ما يُشوّه عقائد اليمان ،فيقول :كيف يدخل فلنُ النار وهو مَنْ أهدى
البشريةَ تلك المخترعات الهائلة التي غيّرت مسارات الحضارة ،وأسعدتْ الناس؟ كيف يُعذّب ال
هؤلء الذين بذلوا الجهد ليطوروا من العلوم والفنون ،أيعذبهم لمجرد أنهم كفار؟
وأقول :نعم ،يعذبهم ال على الرغم من أنه سبحانه ل يضيع عنده أَجْرُ مَنْ أحسنَ عملً؛ وهو قادر
على أنْ يَجزيهم في الدنيا بما ينالونه من مجد وشهرة وثروة؛ وهم قد عملوا من أجل ذلك.
عمِلوا لهم؛ ذلك أنهم عملوا ولم
وانطبق عليه قوله " :عملتَ لِيُقال وقد قِيل " وأخذوا أجورهم مما َ
يكُنْ في بالهم ال.
وهكذا يصور القرآن مسألة الجزاء ،فالواحد من هؤلء الكفار إذا كان يَلْقى العذاب الغليظ على
الكفر؛ فالحق ل يغمطه أجر ما فعل من خير؛ فينال ذلك في الدنيا ويستمتع بإطلق اسمه على
اختراعه أو اكتشافه.
ونعلم جميعا قوله صلى ال عليه وسلم " :مَنْ كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها
فهجرته إلى ما هاجر إليه " أما في الخرة فالعذاب جزاؤه؛ لنه عاش كافرا بال.
وهذه العمال التي صنعوها في الدنيا ،وظنّوا أنها أعمالٌ إنسانية وأعمال بِرّ تأتي يوم القيامة
وهي رماد تهبّ عليه الريح الشديدة في يوم عاصف لتذره بعيدا:
ف لّ َيقْدِرُونَ ِممّا كَسَبُواْ
ص ٍ
عمَاُل ُهمْ كَ َرمَادٍ اشْ َت ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َيوْمٍ عَا ِ
{ مّ َثلُ الّذِينَ َكفَرُواْ بِرَ ّبهِمْ أَ ْ
للُ الْ َبعِيدُ } [إبراهيم.]18 :
شيْءٍ ذاِلكَ ُهوَ الضّ َ
عَلَىا َ
ولن تكون لديهم عندئذ فرصة لستئناف الحياة ليستفيدوا من التجربة؛ بل أمامهم وحولهم العذاب؛
ع َملُ صَالِحا[} ...المؤمنون99 :ـ .]100
جعُونِ * َلعَلّي أَ ْ
لسان حال كل منهم يقولَ {:ربّ ارْ ِ
لكنه لو رُدّ إلى الحياة َلعَاد إلى ما ُنهِي عنهِ ،مصْداقا لقول الحق سبحانه {:وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي
لَجِدَنّ خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف.]36 :
وهذا الكفر هو الضلل البعيد الذي جعل كل أعمالهم التي ظنّوا أنها صالحة؛ مجر َد أعمال
مُحْبطة؛ فضلّوا بالكفر عن الطريق المُوصّل إلى خير الخرة.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ.} ...
()1755 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِ ْبكُمْ وَيَأْتِ ِبخَلْقٍ جَدِيدٍ ()19
ت وَالْأَ ْرضَ بِالْ َ
سمَاوَا ِ
أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ خََلقَ ال ّ
وسبحانه يُعلمنا هنا أنه خلق السماوات والرض بميزان الحقّ؛ فل تأتي السماء وتنطبق على
سمَآءَ أَن َتقَعَ عَلَى الَ ْرضِ ِإلّ بِِإذْنِهِ[} ...الحج.]65 :
سكُ ال ّ
الرض ،فسبحانه القائل {:وَ ُيمْ ِ
وأنت كلما سِ ْرتَ وجدتَ الشمس من فوقك ،وهي مرفوعة بنظام هندسيّ دقيق.
وهكذا أراد الحق سبحانه أن يُؤكّد قضية كونية مُحسّة مشهودة؛ وبدأ بقوله:
{ أََلمْ تَرَ[ } ...إبراهيم.]19 :
رغم أنه ل يوجد مع العَيْن أيْن؛ ذلك أن الشمس واضحة أمام ُكلّ البشر ،وهكذا نجد أن معنى
{ أََلمْ تَرَ } هنا تكون بمعنى " ألم تعلم ".
حقّ أصدق مما تُعلِمنا به
وجاء سبحانه بـ { أََلمْ تَرَ } هنا ليدلّنا على أن ما يُعلمنا ال به من َ
العين؛ فإذَا قال سبحانه { :أََلمْ تَرَ } فاعلم أنه علم موثوق به.
وحين يلفتنا الحق سبحانه هنا إلى رؤية السماوات والرض؛ فكان ل بُدّ لنا أن نعلم أنها لم َتكُنْ
لِتُوجَد إل بخَلْق ال لها؛ وهو الذي أخبرنا أنها من خَلْقه؛ ولم يدّعَها أح ٌد لنفسه؛ وبذلك تثبت له
ن يقولَ آخر أنه خلقها؛ ولم َي ُقلْ لنا أحدٌ ذلك أبدا.
قضية خَلْقها إلى أ ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ[} ...غافر.]57 :
وسبق أن قال سبحانهَ {:لخَلْقُ ال ّ
والبشر كما نعلم ل يعيش فرد منهم مِثْلما تعيش السماء؛ فالفرد يموت ويُولَد غيره؛ و ُكلّ البشر
يأتون ويذهبون ،والشمس باقية ،وكذلك الرض.
ومن عجيب الخَلْق الرحماني أن ال خلق ُكلّ ذلك تسخيرا لمر النسان؛ فل يشذّ كائن من تلك
المُسخرات عن أمر النسان .وما طُلِب منك أيّها النسان تكليفا مُخيّر فيه إنْ شئتَ آمنت ،وإنْ
ت عصيتَ.
ش ْئتَ كَفرتَ؛ وإنْ شئتَ أطعتَ ،وإن شئ َ
ولكن المخلوق المُسخّر لخدمتك ليست له هذه المشيئة .وهو سبحانه الحق القائل {:إِنّا عَ َرضْنَا
حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ
شفَقْنَ مِ ْنهَا وَ َ
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
اَ
جهُولً }[الحزاب.]72 :
ظَلُوما َ
وقد أعلمنا هذا القولُ الكريم بأن الرحمانية سبقتْ لنا نحن البشر من قبل خَلْقنا ،وأقدمتنا رحمانية
ال على وجود مُهيّأ لنا.
ومن العجيب أن الكونَ المخلوق لنا استبقاءً لحياتنا واستبقاءً لنوعنا يتركز في أشياء ل دَخْل لنا
فيها ،ول تتغير أبدا؛ وهي الشياء العليا كالشمس والقمر والرض.
وهناك أشياء أخرى يكون التغيير فيها على نوعين :قسم يتغير ويأتي بدلً منه شيء جديد،
كالنبات الذي يذهب ويصير حصيدا ،وكذلك الحيوانات التي نأكلها أو التي تموت.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهناك خَلْق يتغير مع إبقاء عناصره ،وإنْ تغيّرتْ مادته ،كالجمادات التي نراها -الجبال
والرض وعناصرها -ونكتشف منها ُكلّ يوم جديدا.
إذن :فالمخلوقات التي استقبلتْ الوجود النساني نوعان :نوع ل دَخْل للغيار فيها؛ ونوع آخر فيه
َدخْل للغيار مع بقاء مادتها وهي الجمادات؛ ونوع تتغير أنواعه وأجناسه.
صفَتان.
ُكلّ هذه الشياء تدلّنا على أن الحقّ سبحانه وتعالى له ِ
صفة القدرة والقهر؛ وهو سبحانه يقهر ما يشاء على ما يشاء؛ ول يتغير.
وصفة الختيار التي أوجدها في النسان.
وأثبتت صفة القدرة التي سخّر بها سبحانه الشياء لخدمة النسان ُمطْلق سلطانه سبحانه على ُكلّ
ما خلق؛ فل شيءَ يخرج عن مراده أبدا.
وأراد سبحانه بصفة الختيار التي وهبها للنسان أنْ يأتيه عبده النسان محبا متبعا لتكاليفه
حبّ ل؛ ويُثبِت له
اليمانية ،فالذي يطيع ال وهو قادر على أنْ يعصيه إنما يدلّ بذلك على أنه مُ ِ
صفة المحبوبية.
وهنا يقول الحق سبحانه:
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ بِالْحقّ[ { ...إبراهيم.]19 :
} أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ خَلَقَ ال ّ
ولنا أن نلحظ أن كلمة " بالحق " وردتْ في مواقع كثيرة من القرآن الكريم.
ض َومَا بَيْ َن ُهمَآ
ت وَالَرْ َ
سمَاوَا ِ
وعلى سبيل المثال ،نجد في القرآن الكريم قوله تعالىَ {:ومَا خََلقْنَا ال ّ
حقّ[} ...الحجر.]85 :
ِإلّ بِالْ َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا لَعِبِينَ }[الدخان.]38 :
وقوله تعالىَ {:ومَا خََلقْنَا ال ّ
وهذا يدل على أن السماوات والرض مخلوقة على هيئة ثابتة ،وقد جعل ذلك مدارسَ الفلسفة
ن يكفرَ .وانقسم مَنْ
ن يؤمن؛ واستقبال مَنْ يريد أ ْ
تستقبل تلك القضية استقبالين؛ استقبالَ مَنْ يريد أ ْ
أرادوا الكفر إلى فريقين.
الفريق الول :أخذ من ثبات قوانين الشمس والقمر والرض دليلً على أنه ليوجد خالق لهذا
الكون ،وقالوا :لو أن هناك خالقا له لغيّر من هيئة السماوات والرض ،ولكن كُل من تلك الكواكب
تدير نفسها بآلية ذاتية مُحْكمة.
والفريق الثاني ِممّن أرادوا الكفر قال :إن الشذوذ في الكون ووجود خَلَل وعيوب خَلقية في بعض
من المخلوقات والنواع؛ دليلٌ على أنه ل يوجد إله .فكيف يخلق إلهٌ مخلوقا أعمى؛ وآخر أعرجَ؛
وثالثا بعين واحدة؟
وهكذا أخذ هذا الفريق من أهل الكفر وجود الشذوذ في الكون كدليل على عدم وجود إله.
ومن العجيب أن الفريق الذي أراد التغيير في هيئة السماوات والرض؛ أراد ذلك كدليل على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجود خالق ،والفريق الذي رأى أن هناك شذوذا في بعض المخلوقات أخذ ثبات الخَلْق على هيئة
واحدة كدليل على وجود إله.
كل ذلك يدّلنا على أن الفريقين قد أخذاَ من قضيتين متعارضتين دليلً على الكفر ،ولم يتفق
الفريقان على قضية واحدة ،وهذا يوضح التناقض بينهما.
ولو أمعن كل من الفريقين النظر لَعلم كلّ منهما أن اليمان ضرورة أساسية لِفهْم هذا الكون على
ثباتَ ما فيه؛ وعلى وجود بعضٍ من الشذوذ فيَه.
فأنت يا مَنْ تنتظر ثباتا في الكوان خُذْ ثبات آلية الحركة في السماوات والرض والشمس والقمر
دليلً على اليمان بوجود خالق إله قادر.
وأنت يا مَنْ تأخذ التغيّر في الخلق دليلً على وجود خالق؛ فها أنت ترى اختلف بعض
المخلوقات ما يجعلك تعثر على عدم التماثل في المخلوقات دليلً على وجود إله خالق له طلقة
القدرة.
وأوضح الحق سبحانه لنا أنه لم يخلق السماوات والرض لعبة؛ بل خلقهما بالحق ،وهناك فارق
بين اللعبة والحق ،فاللعبة قد يتوصل إليها مَنْ يعبث بشيء؛ فتخرج له صُدْفة يستخدمها هو أو
غيره كَلُعبة.
عمّا يُشْ ِركُونَ }[النحل.]3 :
حقّ َتعَالَىا َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ بِالْ َ
يقول الحق {:خَلَقَ ال ّ
أما الخلق بالحق؛ فهذا يعني أن مَنْ يخلقها إنما يفعل ذلك بموازين دقيقة مُحْكمة؛ ويصنعها على
نظام ثابت له قضية تحكمه من الحكمة والحق.
وما دام الكون العلى ثابتا؛ فإن الحق سبحانه هو الذي خلق السماوات والرض ،وما ُد ْمتَ تريد
ثباتا في حركتك الختيارية؛ فخُذ المنهج الذي أنزله ال بالحق؛ فتثبت قضاياك كما ثبتت القضايا
العليا؛ وأنت حين تخرج عن منهج الحق تجد فسادا.
ل يوجد فساد في المجتمع من أيّ َلوْنٍ فابحث عن حكم ال الذي ضَيّعه النسان في
وإذا أردتَ أ ّ
مخالفة منهجه تجد أن ضياعه هو السبب في وجود الفساد؛ واقرأ قوله الحق في سورة الرحمن{:
جمُ
حسْبَانٍ * وَالنّ ْ
شمْسُ وَالْ َقمَرُ بِ ُ
ق الِنسَانَ * عَّلمَهُ البَيَانَ * ال ّ
حمَـانُ * عَلّمَ ا ْلقُرْآنَ * خََل َ
الرّ ْ
ط َغوْاْ فِي ا ْلمِيزَانِ * وََأقِيمُواْ ا ْلوَزْنَ
سمَآءَ َر َف َعهَا َو َوضَعَ ا ْلمِيزَانَ * َألّ َت ْ
جدَانِ * وَال ّ
وَالشّجَرُ يَسْ ُ
خسِرُواْ ا ْلمِيزَانَ }[الرحمن.]9-1 :
ط َولَ تُ ْ
بِا ْلقِسْ ِ
وهكذا أنت ترى الشمس -على سبيل المثال -منضبطة في شروقها وغروبها وكُسُوفها؛ وكذلك
القمر في سُطوعه أو مَحاقه أو خسوفه.
وكما رفع الحق سبحانه السماء ووضع الميزان؛ فعليكم أنْ تَزِنوا ُكلّ أمر بالميزان الصحيح
لتنصلح أموركم ،فإن اعتدال الموازين المادية والمعنوية والقيمية هي استقرار لحركة الحياة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خلْق جديد:
أما إنْ ظللتُم على ال ِعوَج فاعلموا أنه سبحانه قادر على أن يُذهِبكم وأن يأتي ب َ
جدِيدٍ { [إبراهيم.]19 :
} إِن يَشَأْ يُ ْذهِ ْبكُ ْم وَيَ ْأتِ بِخَ ْلقٍ َ
إن منطوق الن ومفهومها ليس مراده سبحانه؛ لن ال خلق الخَلْق ،ووهبهم الختيار لِيُقبِل الخلق
على ال ،رغم أنه سبحانه قد ملّكهم ألّ يُقبِلوا عليه.
ل َومَن
خُعوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ َفمِنكُم مّن يَبْ َ
وفي موقع آخر يقول سبحانه {:هَا أَن ُتمْ هَـا ُؤلَءِ تُدْ َ
ي وَأَنتُمُ ا ْل ُفقَرَآ ُء وَإِن تَ َتوَّلوْاْ يَسْتَ ْب ِدلْ َقوْما غَيْ َركُمْ ثُ ّم لَ َيكُونُواْ
س ِه وَاللّهُ ا ْلغَ ِن ّ
خلُ عَن ّنفْ ِ
خلْ فَإِ ّنمَا يَبْ َ
يَبْ َ
َأمْثَاَلكُم }[محمد.]38 :
ويقول في قضية إنكار اليهود لطريقة ميلد المسيح عيسى بن مريم {:وََلمّا ضُ ِربَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلً
صمُونَ *
خ ِ
إِذَا َق ْو ُمكَ مِنْهُ َيصِدّونَ * َوقَالُواْ أَآِلهَتُنَا خَيْرٌ َأمْ ُهوَ مَا ضَرَبُوهُ َلكَ ِإلّ جَ َدلً َبلْ ُهمْ َقوْمٌ َ
جعَلْنَا مِن ُكمْ مّلَ ِئكَةً فِي الَ ْرضِ
جعَلْنَاهُ مَثَلً لّبَنِي إِسْرَائِيلَ * وََلوْ نَشَآءُ لَ َ
إِنْ ُهوَ ِإلّ عَبْدٌ أَ ْن َعمْنَا عَلَ ْي ِه وَ َ
يَخُْلفُونَ }[الزخرف.]60-57 :
إذن :فطلقة قدرة ال التي خلقته بل أبٍ ،يمكن أن تفعل تلك القدرة المطلقة ما تشاء ،فل شيء
يتأبّى على مرادات الحق ول على قدراته.
ق وَا ْل َمغَا ِربِ إِنّا َلقَادِرُونَ * عَلَىا أَن نّبَ ّدلَ خَيْرا
ويقول في موقع آخر {:فَلَ ُأ ْقسِمُ بِ َربّ ا ْلمَشَا ِر ِ
مّ ْنهُ ْم َومَا نَحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ }[المعارج.]41-40 :
فل أحد يسبق إرادة ال أو مشيئته.
ويقول الحق سبحانه مؤكدا أن قدرته على المجيء بخلق جديد ليست مسألة مستحيلةَ } :ومَا
ذاِلكَ.{ ...
()1756 /
والشيء العزيز هو الشيء ال ُممْتِنع .وال سبحانه ل ُيغْلَب .وقد بيّن لنا في جزئيات الحياة أنه
يذهب بنبات ويأتي بنبات آخر ،ويذهب بحيوان ويأتي بحيوان آخر؛ وكذلك يذهب بالجماعة من
البشر ويأتي بغيرهم.
جمِيعا.} ...
ويقول سبحانه بعد ذلك { :وَبَرَزُواْ للّهِ َ
()1757 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضعَفَاءُ لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُوا إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا َف َهلْ أَنْتُمْ ُمغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذَابِ
جمِيعًا َفقَالَ ال ّ
وَبَرَزُوا لِلّهِ َ
سوَاءٌ عَلَيْنَا َأجَزِعْنَا أَ ْم صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ()21
شيْءٍ قَالُوا َلوْ هَدَانَا اللّهُ َل َهدَيْنَاكُمْ َ
اللّهِ مِنْ َ
والبروز أن يظهر شيء كان خفيا .ويُال " رجل بارز " أي :مرموق وقَيْد البصار ،ول تُفتَح
الدنيا إل عليه ،ويُقال " امرأة بارزة " أي :امرأة تختلط بالرجال وغير مُستترة.
ويقول سبحانه {:وَتَرَى الَ ْرضَ بَارِ َزةً[} ..الكهف.]47 :
أي :سيرى ُكلّ منا ُكلّ الرض في اليوم الخر وهي مكتملة؛ ل جزء منها فقط كما يحدث في
حدِيدٌ }[ق:
غطَآ َءكَ فَ َبصَ ُركَ الْ َيوْمَ َ
شفْنَا عَنكَ ِ
حياتنا الدنيوية؛ ذلك أن الحق سبحانه قد قال لناَ {:فكَ َ
.]22
ويُقال أيضا " فرس بارز " وهو ما يطلق على الحصان الذي يفوز عند التسابق مع غيره؛ ول
يستطيع فرس آخر أنْ يسبقه؛ لذلك فهو فرس تراه العين أثناء السباق بوضوح.
ونعلم أن الخ ْيلَ في لحظات السباق تثير أثناء تسابقها غبارا -أي :ترابا يُضبّب المرئيات -فل
يرى أحد تفاصيل الموقع الذي تجري فيه الخيول؛ أما إذا ظهر فرس يسبق الجميع فل خيول
أخرى قريبة منه تثير غبارا يمنع رؤيته بارزا واضحا.
وهنا يقول الحق سبحانه:
جمِيعا[ } ..إبراهيم.]21 :
{ وَبَرَزُواْ للّهِ َ
ولقائل أن يسأل :وهل كانت هناك أشياء خافية عنه سبحانه ثم برزت؟
ونقول :إنه سبحانه مُنزّه أن َتخْفي عنه خافية في الرض أو السماء أو الكون كله ،ولكن المقصود
هنا أنهم يبرزون عند أنفسهم ،ويرون وجودهم واضحا أمام الحق سبحانه.
خفُونَ مِنَ اللّ ِه وَ ُهوَ َم َعهُمْ إِذْ يُبَيّتُونَ مَا لَ يَ ْرضَىا
س وَلَ يَسْ َت ْ
خفُونَ مِنَ النّا ِ
وهم مِنْ قَبْل كانوا {:يَسْ َت ْ
ل َوكَانَ اللّهُ ِبمَا َي ْعمَلُونَ مُحِيطا }[النساء.]108 :
مِنَ ا ْل َقوْ ِ
وكانوا قد ظَنّوا أنهم قادرون على أن يخفوا عن ربهم ما كانوا يفعلون؛ ويُبيّتون ويمكرون؛
حكْم كل الخَلْق.
حكْمهم في ذلك ُ
ونجدهم يوم القيامة مفضوحين أمام خالقهم؛ ُ
أو :برز كل واحد منهم أمام نفسه ،ورأى نفسه أمام ال.
ونعلم أنه سبحانه قد خلق الخَلْق على لونين؛ لون مقهور فيه النسان ،ول إرادةَ له :وَلوْنٍ مُخيّر
فيه النسان ،ونسبة ما منع فيه النسان الختيار قليل ،إذا ما قيس بما ليس له في اختيار.
وقد شاء الحق سبحانه ذلك؛ لنه علم أزلً أن النسان الذي تعوّد على أنْ يتمرّد على ال؛ فهو
يُوضّح له :أنت قد أَِل ْفتَ التمرد و َقوْل " ل " ،وقد تُجاهِر بالكفر ،وتحارب من أجله ،وتريد أن
تخرج عن مرادات الحق؛ فَإنْ كنت صادقا في أن هذا الخروج ذاتيّ فيك؛ فتمرّد على القهريات
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التي تنتابك.
ويعلم النسان بالتجربة أنه غَيْرُ قادر على ذلك؛ فل الفقيرَ يستطيع أن يثريَ دون مشيئة ال؛
والمريض ل يستطيع أن يشفي دون مشيئة ال؛ والضعيف ل يستطيع أن يقوى ضد إرادة ال.
وكل هذا يدل على أن ملكية ال لك ل تزال بالقهر فيك؛ وسيأتي يوم يسلب منك الختيار.
{ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
ل تكوينك لحظتها أمام نفسك ،وتجد الحق سبحانه أمامك .وأنت إما أن تكون بارزا
وأنت تبرز ب ُك ّ
بكل تكويناتك أمام نفسك لحظة وقوفك أمام خالقك ،أو يكون المقصود بقوله الحق وقوف كل
الخَلْق أمامه بارزين ،سواء أكانوا تابعين أو متبوعين.
ولحظتها سنجد قوله الحق مُطبقا.
ضعَفَاءُ لِلّذِينَ اسْ َتكْبَرُواْ إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا[ { ..إبراهيم.]21 :
} َفقَالَ ال ّ
وهكذا نرى أن هناك حوارا بين اثنين من البشر؛ نوع مستكبر ،وهم القادة السادة الذين يُلقون
أوامرهم؛ لِيُنفّذها الضّعاف ،ثم يُفاجأ الضعاف التابعون أن رؤوسهم تساوتْ في اليوم الخر مع
هؤلء القوياءالجبابرة؛ ويروْنَ ما ينتظرهم جميعا من عذاب؛ فيسأل الضعاف أهلَ الجبروت:
شيْءٍ { [إبراهيم.]21 :
عذَابِ اللّهِ مِن َ
} َف َهلْ أَنتُمْ ّمغْنُونَ عَنّا مِنْ َ
وهؤلء المستكبرون سبق لهم أن استكبروا على هؤلء الضّعاف بما لهم من قوة وسيادة ،أو
استكبروا على الرسل إيمانا كما أوضح الحق سبحانه في موقع آخر من القرآنَ {:وقَالُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
وفي هذا القول استكبارٌ على اليمان ،وكأنهم يُعدّلون على ال -والعياذ بال -مشيئته وواسع
علمه الذي يختار به الرسل.
أو :أنهم قد استكبروا على أنفسهم فلم يؤمنوا؛ أو :أنهم قد استكبروا على التباع بما لهم من جاه
ونفوذ فلم يقدر التباع على مخالفتهم؛ لذلك يقول لهم التباع لحظة تساوي الرؤوس:
شيْءٍ { [إبراهيم.]21 :
عذَابِ اللّهِ مِن َ
} َف َهلْ أَنتُمْ ّمغْنُونَ عَنّا مِنْ َ
وهذا تقريع وخِزْي وفضيحة للتابع.
طعْنَا سَادَتَنَا
ونعلم أن الحق سبحانه قال في موقع آخر من القرآن على لسان التابعين {:رَبّنَآ إِنّآ أَ َ
ب وَا ْلعَ ْنهُمْ َلعْنا كَبِيرا }[الحزاب-67 :
ض ْعفَيْنِ مِنَ ا ْلعَذَا ِ
َوكُبَرَآءَنَا فََأضَلّونَا السّبِيلْ * رَبّنَآ آ ِتهِ ْم ِ
.]68
وقد عرض الحق سبحانه هذه المسألة علينا لنتعلم من البداية كيف يكون ميزان التبعية؟ وإياك أن
تتبع في أمر إل إذا اقتنعتَ أنه يأتي .لك بخير ،وأنه يدفع عنك الشر ،ولينتبه كل منا جيدا ول
يعطي زمام قيادة حركة الحياة إل عن بينة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وليتذكر كل منا قوله الحقَ {:كمَ َثلِ الشّ ْيطَانِ ِإذْ قَالَ لِلِنسَانِ ا ْكفُرْ فََلمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مّنكَ إِنّي
أَخَافُ اللّهَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الحشر.]16 :
فحين يأتيك أمر مخالف لمنهج ال؛ عليك أن ُتعْلي منهج ال فوق كل أمر .وقد أوضح لنا الحق
سبحانه ذلك كي ننتَبه جيدا فل نُلْقي على شر؛ وهل يستطيع أن يدرأَ عنا الشر ،وأن يُنجِينا من
الصابة بمكروه؟
فليكُنْ ُكلّ مِنّا على بينة من أمره ،وقد قال الحق سبحانه في سورة الرحمن {:فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا
ُتكَذّبَانِ }[الرحمن.]16 :
واللء هي النعم؛ ومن أَرْقى النعم هي تلك القيم التي أوضحها لنا الحق سبحانه لنسير على ُهدَاها
في الحياة الدنيا كي ل نُقبِل على الحياة بجهالة؛ بل بتوضيح وتبيان لكل شيء.
وهكذا يجب أن يتصرف التابع مع المتبوع كي ل يقف في موقف الخزي المشترك بين الثنين في
يوم الحساب؛ حيث يقول التابعون للمتبوعين:
شيْءٍ[ { ..إبراهيم.]21 :
} إِنّا كُنّا َلكُمْ تَ َبعًا َف َهلْ أَنتُمْ ّمغْنُونَ عَنّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن َ
وهذا ال َقوْل القرآني يتكلم به ربّ العالمين؛ و ُكلّ حرف فيه لهدف ومعنى.
وقوله:
شيْءٍ[ { ...إبراهيم.]21 :
عذَابِ اللّهِ مِن َ
} مِنْ َ
يعني أنهم لن يقدروا أنْ يُخفّفوا ولو جزءا بسيطا من عذاب ال ،وكأنهم يُسهّلونها عليهم ،فيطلبون
منهم أن يتحمّلوا؛ أو أنْ يُخففوا عنهم ولو جزءا بسيطا من العذاب.
والم َثلُ على ذلك حين يطلب إنسان من آخر جنيها؛ فيقول له :ليس معي غيره ،فيردّ الطالب :إذنْ
أعطني بعضا منه ،وكأنه يطلب ولو رُبْعه أو عشرة قروش منه.
هكذا قال الذين اتبعوا لمن اتبعوهم؛ فماذا يكون الرد من هؤلء الذين تأ ّبوْا على ال إيمانا به؛ ها
هم يردّون على مَنْ سألوهم أنْ يُخفّفوا ولو جزءا قليلً من العذاب:
علَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَ ْم صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مّحِيصٍ { [إبراهيم.]21 :
سوَآءٌ َ
} قَالُواْ َلوْ َهدَانَا اللّهُ َلهَدَيْنَاكُمْ َ
وهكذا يتكشّف كذبهم؛ فهم يدّعُون أن معنى الهداية هو أنْ يه َبهُم الُ اليمان؛ مُتنَاسين أن معنى
الهداية هو الدللة المُوصّلة إلى الغاية.
ولنَا في قول الحق سبحانه ما يُوضّح المعنى {:وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَا َدهُمْ هُدًى[} ...محمد.]17 :
ن كفر فكيف يهديه ال،
فمَنْ يُقبِل على اليمان بصدر مُنشرح يجد ُكلّ سُبل الخير أمامه؛ أما مَ ْ
ب العمى على الهُدى؟ لن يجد بطبيعة الحال أيّة هداية.
وهو قد استح ّ
حقّ؛
ويقول الكافرون ذلك ِلمَن اتبعوهم في يوم الحشر؛ ذلك أنهم يروْنَ رَأْي العين أن الجنةَ َ
حقّ ،والحساب حَقّ؛ لذلك يعترفون أمام مَنِ اتبعوهم في الدنيا بأن الحقّ سبحانه لو أخذ
والنار َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بيدهم في الحياة الدنيا إلى اليمان َلقْدناكم إلى هذا اليمان؛ وهم في ذلك أصحاب رأي مغلوط.
وذلك قولهم:
} َلوْ َهدَانَا اللّهُ َلهَدَيْنَاكُمْ[ { ...إبراهيم.]21 :
ونعلم أن النسان إذا ما وقع في مأزق أقوى من قدراته :ول فجْوة فيه للنجاة؛ فهو يستقبل هذا
المأزق بأحد استقبالين؛ الستقبال الول :أن يجزعَ ويتضرعَ؛ والستقبال الثاني :أنْ يصمدَ
ويصبرَ.
وهنا نجد الكافرين يقولون:
سوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ َأ ْم صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مّحِيصٍ { [إبراهيم.]21 :
} َ
أي :أنهم سواء جَزِعوا وتضرّعوا أو صبروا وصمدوا فلن يُنجيهم ال ِممّا هم فيه؛ فل َمهْرب ول
مَنْجي.
و " حاص " في المكان أي :ذهب إلى هنا أو هناك ،ول يجد راحة؛ ونجد في تعبيرنا العاميّ ما
يُصوّر ذلك وهو قولنا " فلن حايص " أي :ل يجد مكانا يرتاح فيه.
ولذلك يقال " :نَ َبتْ بهم الرض "؛ أي :أن ُكلّ مكان في الرض يرفضهم؛ ويشرح الحق سبحانه
هذه القضية فيقول:
()1758 /
ق َووَعَدْ ُتكُمْ فََأخَْلفْ ُتكُمْ َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مِنْ
حّعدَ الْ َ
ضيَ الَْأمْرُ إِنّ اللّ َه وَعَ َدكُ ْم وَ ْ
َوقَالَ الشّيْطَانُ َلمّا ُق ِ
خكُ ْم َومَا أَنْ ُتمْ
س ُكمْ مَا أَنَا ِب ُمصْرِ ِ
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَ ْنفُ َ
سُ ْلطَانٍ إِلّا أَنْ دَ َ
خيّ إِنّي َكفَ ْرتُ ِبمَا أَشْ َركْ ُتمُونِ مِنْ قَ ْبلُ إِنّ الظّاِلمِينَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ()22
ِب ُمصْرِ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا نجد تصعيدا للحوار؛ فبعد أنْ كان من المتبوعين والتابعين؛ نجد هذا الرتقاء في الحوار
ليكون بين الشيطان وبين البشر .ونلحظ أن الحق سبحانه هنا بالحال الذي يدور فيه الحوار وهو
ي أمر ،ول فرصة للتراجع
ش في أ ّ
انقضاء المر؛ حيث يقرّر ال َوضْع النهائي لكل شيء؛ ول نقا َ
عما حدثَ.
وقضاءُ المر يعني أن يذهب كل إنسان إلى مصيره ،فمَنْ كان من أهل الجنة دخلها؛ ومَنْ كان
حدّها النهائي الذي ل تتغير من بعده.
من أهل النار دخلها؛ فقد وصلتْ المور الى َ
ويفضح الشيطان نفسه فيقول:
ق َووَعَدّتكُمْ فَأَخَْلفْ ُتكُمْ } [إبراهيم.]22 :
{ إِنّ اللّ َه وَعَ َد ُك ْم وَعْدَ ا ْلحَ ّ
حقّ ،لنه وَعْد ِممّنْ يملك؛ أما وَعْد الشيطان فقد اختلف؛ لنه وعْد بما ل يملكَ؛ هو
ووَعْد ال َ
وَعْد كاذب؛ لن الحق سبحانه هو المر الثابت الذي ل يتغير.
وحين َتعِد أنت -النسان -إنسانا آخر بخير قادم؛ فهل تضمن أنْ تُواتيك ظَروفك على أن تُحقّق
له هذا المر؟
ولذلك يوصينا الحق سبحانه أن نقول " إن شاء ال " وبذلك نردّ الوَعْد ل؛ فهو وحده الذي يمكنه
أنْ َيعِ َد ويُنفّذ ما يعِد به.
وعلى الواحد منا أنْ يحميَ نفسه من الكذب ،وأن يقول " إن شاء ال " فإنْ لم تستطع أنْ تحققَ ما
وعدت به تكون قد حميتَ نفسك من أنْ تُلِقي اتهاما بالكذب.
ونجد الشيطان وهو يقول في الخرة:
{ َووَعَدّتكُمْ فََأخَْلفْ ُتكُمْ[ } ...إبراهيم.]22 :
ذلك أن وَعْده باطل؛ والباطل لَجلْج ،وحين تحكم به الن تُثبت لك الوقائع عكسه ،وتجعلك ل
تصدق ما حكمتَ به.
جفَآءً
ولذلك نجد الحق سبحانه يوضح لنا المسافة بين الحق والباطل فيقول {:فََأمّا الزّ َبدُ فَيَذْ َهبُ ُ
لمْثَالَ }[الرعد.]17 :
وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
وهكذا يحاول الشيطان أن يُبرّيء نفسه رغم عِلْمه أنه قد وعد ،وهو ل يملك إنفاذ ما وعد به؛
ولذلك يحاول أن يلصق التهمة ِبمَنْ اتبعوه مثله مثل أولئك الذين قالواَ {:لوْ هَدَانَا اللّهُ َل َهدَيْنَاكُمْ} ...
[إبراهيم.]21 :
فيقول الشيطان من بعد ذلك:
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي } [إبراهيم.]22 :
{ َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
والسلطان -كما نعلم -إما سلطانَ َقهْر أو سلطانَ إقناع .وسلطان ال َقهْر يعني أن يملك أحدٌ من
ن يفعلَ ما يكره ،بينما يكون كارها للفعل.
القوة ما يقهر به غيره على أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما سلطان الحجة فهو أن يملك منطقا يجعلك تعمل وفق ما يطلبه منك وتحب ما تفعل ،وهكذا
يعترف الشيطان للبشر يوم الحشر العظم؛ ويقول :أريد أنْ أناقشكم؛ هل كان لي سلطان َقهْريّ
أقهركم به؟ هل كان لي سلطان إقناع أقعنكم به على اتباع طريقي؟
لم يكن لي في دنياكم هذه ول تلك ،فل تتهموني ول تجعلوني " شماعة " تُعلّقون عليّ أخطاءكم؛
فقد غويتُ من قبلكم وخالفتُ أمر ربي؛ ولم يكن لي عليكم سلطان سوى أن دعوتُكم فاستجبتم لي.
وكل ما كان لي عندكم أنّي ح ّر ْكتُ فيكم نوازع أنفسكم ،وتحرّكت نوازع أنفسكم من بعد ذلك
لِتُقبِلوا على المعصية.
إذن :فالشيطان إما أنْ يُحرّك نوازع النفس؛ أو يترك النفس تتحرك بنوازعها إلى المعصية؛ وهي
كافية لذلك.
وسبق أنْ أوضحتُ كيف ُتعْرف المعصية ،إن كانت من الشيطان تسويلً استقلليا أو تسويلً تبعيا؛
ن وقفتْ النفس عند معصية بعينها؛ وكلما أبعدها النسان ُتلِح عليه؛ فهذا هو ما تريده النفس من
فإ ْ
النسان حيث تطلب معصية بعَينها.
أما نَزْغ الشيطان فهو أن ينتقل الشيطان من معصية إلى أخرى محاولً غواية النسان؛ إنْ وجده
رافضا لمعصية ما؛ انتقل بالغواية إلى غيرها؛ لن الشيطان يريد النسان عاصيا على أيّ َلوْن؛
ن يعصي فقط؛ لذلك يحاول أن يدخل النسان من نقطة ضعفه؛ فإنْ وحده قويا في ناحية
فالمهم أ ْ
اتجه إلى أخرى.
ويعلن الشيطان أنه ليس المَلُوم على ذلك:
سكُمْ...
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُ َ
} َومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
{ [إبراهيم.]22 :
فالملُوم هنا هو مَنْ أقبل على المعصية؛ ل مَنْ أغوى بها.
ويستمرالحق سبحانه في َفضْح ما يقوله الشيطان لمَنْ أغواهم في اليوم الخر:
خيّ[ { ....إبراهيم.]22 :
خكُ ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ
} مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
هذا هو َقوْل الشيطان الذي سبق وأنْ تعالى على آدم لحظة أنْ طلب منه الحق سبحانه أن يسجدَ له
مع الملئكة؛ ولكن الموقف هنا هو التساوي بين الذين أغواهم وبينه؛ فهو يعلن أنه لن ينفعهم وهم
لن ينفعونه.
وال ُمصْرِخ من مادة الصّراخ من صرخ ،وهو َرفْع الصوت بغرض أن يسمعه غيره؛ ول يطلب
مَنْ يصرخ شيئا آخر غير المعونة فلو أن أحدا عثر على كنز تحت قدميه فلن يصرخ؛ بل يلتفّت
حوله ليرى :هل هناك مَنْ رآه أم ل؟
أما إنْ هاجمه أسد فل ُبدّ أن يصرخ طالبا النجاة ،وهكذا يكون الصراخ له مَأْرب طَلبِ المعونة؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا ل يتأتّى إل ممّنْ يخاف من ِمفُزِع.
و " مُصرِخ " يدل على الفعل " أصرخ " ،وهو فعل دخلت عليه ما يُسمّى في اللغة " همزة
الزالة " .والمثل هو كلمة " معجم " أي :الذي يدلّك على معنى للفظ لُيُزيلَ إبهامه؛ فيقال " أعجم
الكتاب " أي :أزال إبهامه ،وهذه الهمزة التي دخلتْ تُوضّح إزالة ال ُعجْمة عن الكلمة.
والمثل أيضا على هذه الهمزة؛ هو كلمة " عتب " أي :لمه ،وحين تدخل عليها الهمزة تصبح "
أعتب " أي :أزال ما به عَتَب.
ونجد في دعائه صلى ال عليه وسلم قوله الشريف " :لك العُتْبى حتى ترضى ".
ب تعتب عليّ في أيّ شيء؛ فأنا أدعوك أن تُزيل هذا العتب.
أي :إذا كُنتَ يا ر ّ
وهكذا نجد أن الزالة تأتي مرة بإضافة الهمزة؛ ومرة تأتي بالتضعيف؛ مثل قولنا " مرّض الطبيب
مريضه " أي :أزال عنه -بإذن من ال -مرضه.
إذنُ " :مصْرخ " هو مَنْ يُزيل صراخ آخر؛ فكأن هناك مَن استغاث؛ فجاءه مَنْ يُغيثه .وهكذا يلعن
الشيطان في اليوم الخر أنه ومَنْ أغواهم في مأزق؛ وأنه غَيْر قادر على إزالة سبب هذا المأزق؛
ول ُهمْ بقادرين على إزالة سبب مأزقه؛ ولن يُغيث أحدهما الخر.
ويضيف:
} إِنّي َكفَ ْرتُ ِبمَآ َأشْ َركْ ُتمُونِ مِن قَ ْبلُ[ { ...إبراهيم.]22 :
فأنتم أشركتموني مع ال في الطاعة؛ حين استسلمتُم لغوايتي؛ ولم تكونوا من عباد ال المخُلْصين
الذين أقسمتُ أنا بعزة ال ألّ أُغويهم؛ وكل منكم نفذ ما أغويته به؛ فناديتكم واستجببتُم؛ وناداكم ال
فعصيتُم أو كفرتم .وصِرْتم مِثْلي ،فقد سبق لي أن أمرني ال وعصيتُ.
ن كفر وعصى:
ويقول الحق سبحانه ما يجيء على لسان الشيطان لمَ ْ
} إِنّ الظّاِلمِينَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ { [إبراهيم.]22 :
وهذه قضية عامة ،قضية الكفر في القمة ،فكمَا أطعتُم الشيطان وجعلتموه شريكا ل؛ فها هو
الشيطان يُخبركم بتقدير هذا الموقف؛ بأنه شِرْك بال؛ وهو يعلن الكفر بهذا؛ لن يوم الحشر قد
جاء؛ وتحقق فيه قول ال له {:فَإِ ّنكَ مِنَ ا ْلمُنظَرِينَ * إِلَىا َيوْمِ ا ْل َو ْقتِ ا ْل َمعْلُومِ }[الحجر.]38-37 :
س ويُوسِوس وينزغ؛ أما في ذلك
وكان الشيطان من قبل اليوم المعلوم -وهو اليوم الخر -يند ّ
اليوم فقد برز كل شيء من إنس وجن وكل الكائنات أمام الواحد القهار ،ولم َيعُدْ هناك ما َيخْفى
عن العين.
وهذا ما خدعوا به أنفسهم ،وظنّوا أنهم قادرون على أن يُخفوا ما فعلوه عن أعْيُن ال؛ ولذلك نجد
الحديث القدسي يقول:
" يا بني آدم ،إنْ كنتم تعتقدون أَنّي ل أراكم ،فالخَلل في إيمانكم ،وإن كنتم تعتقدون أَنّي أراكم فَلِم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلْتموني أهونَ الناظرين إليكم ".
َ
وأنت في حياتك اليومية ل تجد مَنْ يسرق من آخر وجها لوجه :ول أحد يحرق بيت أحدٍ أمام
عينيه؛ فإنْ كنتم يا معشر البشر ل تفعلون ذلك مع بعضكم البعض؛ فكيف تفعلون ذلك مع خالقكم؛
فتعصونه.
وإنْ شككتُم أنه ل يراكم فالخلل في إيمانكم؛ وإنْ كنتم تعتقدون أنه يراكم فل تجعلوه أهونَ
الناظرين إليكم ،لنه لو نظر إليك إنسان فأنت ل تجرؤ على أن تصنع له ما يكرهه.
ولذلك يقول الشيطان معترفا ومُقِرا بأن الظالمين لهم عذاب أليم ،والظلم في القمة هو الشرك
عظِيمٌ }[لقمان.]13 :
بال {:إِنّ الشّ ْركَ لَظُ ْلمٌ َ
وحين نقرأ ذلك إما أنْ نأخذه على أنه إقرار من الشيطان؛ أو نفهمه على أن الشيطان قد قال:
} إِنّي َكفَ ْرتُ ِبمَآ َأشْ َركْ ُتمُونِ مِن قَ ْبلُ.
()1759 /
عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَ ّبهِمْ
خلَ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
وَأُدْ ِ
تَحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ()23
وهنا جاء الفعل ،ويمكن نسبته إلى ثلث وجهاتٍ .ولكل جهة مَلْحظ؛ فمرّة يُسنَد الفعل ل سبحانه،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومرّة يُنسب الفعل للملئكة الذين يتلقوْن المر من ال بإدخال المؤمنين الجنة؛ ومرّة للمؤمنين
الذين يدخلون الجنة بإذن ال.
فال أدخلهم إذْنا؛ والملئكة المُوكّلون فتحوا أبواب الجنة لهم؛ والمؤمنون دخلوا بالفعل.
وهكذا يكون ل ُكلّ مَلْحظ.
وهناك قراءة أخرى للية توضح ذلك:
خلُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجنة " والمتكلم هنا هو ال .ونلحظ أن ال قال هنا:
" وأُدْ ِ
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ جَنّاتٍ[ } ...إبراهيم.]23 :
خلَ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
{ وَأُ ْد ِ
لكي تضم كلمة " أدخل " أنه سبحانه أذن بدخولهم؛ لنه قال في نفس الية:
{ بِِإذْنِ رَ ّبهِمْ } [إبراهيم.]23 :
وأن الملئكة المُكلّفين بذلك فتحوا لهم أبوابها .والمؤمنون دخلوها كل ذلك بإذن ال.
ونلحظ أن ُكلّ الكلم هنا عن الجنات؛ فما هي الجنات؟
ونقول :إن الجنة في أصل اللغة هي السّتْر ،ومنها الجنون أي :سَتْر العقل ،والمادة هي :الجيم
والنون ،والجنة تستر مَنْ فيها بما فيها من أشجار كثيرة بحيث مَنْ يمشي فيها ل يظهر؛ لن
أشجارها تستره.
أو :أن مَنْ يدخلها يجلس فيها ول يراه أحد؛ لن كل خير فيها ل يُلجئه أن يخرج منها.
ح ُدكُمْ أَن َتكُونَ َلهُ جَنّةٌ
وتُطلق الجنات على ما في الدنيا أيضا؛ والحق سبحانه هو القائل {:أَ َيوَدّ أَ َ
ل وَأَعْنَابٍ[} ...البقرة.]266 :
مّن نّخِي ٍ
ولنا أن نعرف أن الجنةَ غَيْر المساكن التي في الجنة؛ لن الحق سبحانه يقولَ {:ومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي
جَنّاتِ عَدْنٍ[} ...التوبة.]72 :
والجنة -ول المثَل العلى -هي الحديقة الواسعة؛ وهذا التساع مُوزّع على كل مَرْأى عَيْن.
والنسان -بعجائب تكوينه ُ -يحِب أن يتخصص في مكان مرة؛ ويحب أن ينتشر في مكان مرة
أخرى؛ فيستأجر شقة أو يبني لنفسه بيتا مستقلً " فيلل " وفي البيت أو الفيلل يحب النسان أن
تكون له حجرة خاصة ل يدخلها غيره.
والنسان يُقيّم الشياء على هذا الساس؛ فينظر مَنْ يرغب في شراء قطعة أرض ليبني عليها بيتا؛
أهي تُطلّ على حارة أم على شارع؟ وهل سيستطيع أنْ يعلوَ بالبناء إلى عدة أدوار أم ل؟ وهل
سيخصص قطعة من الرض كحديقة أم ل؟
فإنْ كانت الرض ُتطِل على الفضاء ،فحساب المتر ليس بالثمن المدفوع فيه؛ ولكن بقيمة ما يتيحه
من اتساع أُفق وفضاء من مزارع أو على البحر مثلً ،حيث لن يتطفلَ عليك أحدٌ في هذا المكان.
والجنات بهذا الشكل التقريبي؛ هي أماكن مُتسعة ،وكل مَنْ يدخلها له فيها مساكن طيبة ،تلك
الجنات تجري من تحتها النهار .ومَنْ يدخلونها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ خَالِدِينَ فِيهَا بِِإذْنِ رَ ّبهِمْ[ } ...إبراهيم.]23 :
ذلك أن النسان يحب التنعّم؛ ولكن كل تنعّم في الدنيا هناك ما يُنغّصه ،وهل يدوم أم ل يدوم؟ وكل
مِنّا رأى أناسا عاشت في نعيم؛ ثم نُزِع منها بحكم الغيار؛ أو تركوه بحكم الموت.
أما جنة ال ونعيمها فالمر مختلف؛ ذلك أن النعيم هناك ل يفوتُك ول تفوته؛ لنه على َقدْر
إمكانات ربّك.
ونلحظ أن قول الحق سبحانه:
} خَالِدِينَ فِيهَا[ { ..إبراهيم.]23 :
يُوضّح أن الخلودَ في الجنة دائمٌ بإذن من ال.
ويتابع سبحانه:
لمٌ { [إبراهيم.]23 :
} َتحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَ َ
والتحية هو ما يواجه به النسان أخاه إثباتا لسروره بلقائه؛ ولذلك تأتي التحية على مقدار السرور؛
فمرّة تكون التحية بمجرد َرفْع اليد دون ُمصَافحة؛ وقد ل تكفي بذلك في حالة ازدياد المعزّة التي
لصاحبك عندك؛ فتصافحه؛ وقد تأخذه في أحضانك ،وهكذا ترتقي في التحية ،وهي إعلن السرور
باللقاء.
وتحية الجنة هي السلم لن السلم أمنُ كل إنسان؛ سلمٌ مع نفسك؛ فل تُكدّرها بحديث النفس
الذي يندم على ما فات؛ أو الحُلْم بعمل قادم ،فالسلم في الجنة لن تجد فيه مُنغّصاتٍ من الماضي
أو الحاضر أو المستقبل؛ وتنسجم مع كل ما حولك في الكون؛ الجماد؛ النبات؛ البشر؛ الملئكة.
ولذلك قال الحق سبحانه تذييلً لهذه الية:
لمٌ { [إبراهيم.]23 :
} َتحِيّ ُتهُمْ فِيهَا سَ َ
وهذه أفضلُ نعمة ،وهي الحياة في سل ٍم وأمْن ،وبعد ذلك تدخُل الملئكة عليهم مصداقا لقول الحق
عقْبَىا الدّارِ }
سبحانه {:وَالمَلَ ِئكَةُ َيدْخُلُونَ عَلَ ْيهِمْ مّن ُكلّ بَابٍ * سَلَمٌ عَلَ ْيكُم ِبمَا صَبَرْتُمْ فَ ِنعْمَ ُ
[الرعد.]24-23 :
ثم يُلقّون السلم العلى من ال؛ وهو القائل {:سَلَمٌ َقوْلً مّن ّربّ رّحِيمٍ }[يس.]58 :
وبعد أن شرح الحق سبحانه أحوال أهل القُرْب والسعادة ،وأهل ال ُبعْد والشقاء ،أراد عز وجل أن
يضرب لنا مثلً يوضح فيه الفارق بين منهج السعداء الذين عاشوا بمنهج ال ،ومنهج الشقياء
الذين اتبعوا مناهج شتى غير منهج ال ،فقال سبحانه } :أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً كَِل َمةً طَيّ َبةً
سمَآءِ * ُتؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ بِِإذْنِ رَ ّبهَا.{ ...
عهَا فِي ال ّ
ت َوفَرْ ُ
كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ َأصُْلهَا ثَا ِب ٌ
()1760 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاءِ (ُ )24تؤْتِي
عهَا فِي ال ّ
شجَ َرةٍ طَيّبَةٍ َأصُْلهَا ثَا ِبتٌ َوفَرْ ُ
أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ ضَ َربَ اللّهُ مَثَلًا كَِلمَةً طَيّ َبةً كَ َ
ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَ ّبهَا وَ َيضْرِبُ اللّهُ الَْأمْثَالَ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ ()25
والمَثَل هو الشيء الذي يوضح بالجلي الخفي .وأنت تقول لصديق لك :هل رأيت فلنا؟ فيقول لك:
خفِي عن مُخَيلة صديقك بمَنْ
ل لم أراه؛ فتقول له :إنه يُشبه صديقنا علن .وهكذا توضح أنت مَنْ َ
هو واضح في مُخَيلته.
والحق -سبحانه وتعالى -يضرب لنا المثال بالمور المُحسّة ،كي ينقل المعاني إلى أذهاننا؛
لن النسان له إ ْلفٌ بالمحُسّ؛ وإدراكات حواسه تعطيه أمورا حسية أولً ،ثم تحقق له المعاني بعد
ذلك.
ويقول الحق سبحانه {:إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ...البقرة.]26 :
وقد قال الكافرون :أيضرب الحق مثلً ببعوضة؟ ذلك أنهم لم يعرفوا أن البعوضة لها حياة ،وفيها
حركة كأيّ كائن؛ وتركيبها التشريحي يتشابه مع التركيب التشريحي لكل الحياء في التفاصيل؛
ويؤدي كل الوظائف الحيوية المطلوبة منه.
ول أحدَ غير الدارسين لعلم الحشرات يمكن أن يعرف كيف تتنفس ،أو كيف تهضم طعامها؛ ول
كيفية وجود جهاز دمويّ فيها؛ أو مكان الغُدد الخاصة بها؛ وهي حشرة دقيقة الصنع.
وهو سبحانه ضرب المثال الكثيرة لِيُوضّح المر الخفيّ بأمر جَليّ .ومن بعد ذلك ينتشر المثَل
بين الناس .ونقول :إن كلمة " ضرب " مثلها مثل " ضرب العملة " ،وكان الناس قديما يأتون
عمْلة
بقطع من الفضة أو الذهب ويُشكّلونها بقدْر وشَكلْ مُحدّد لِتدُل على قيمة ما ،وتصير بذلك ُ
متداولة ،و ُيقَال وش َكلْ -أيضا " -ضُرِب في مصر " أي :اعتمد وصار أمرا واقعا .وكذلك المثل
حين ينتشر ويصبح أمرا واقعا.
والمثل الذي يضربه الحق سبحانه هنا هو الكلمة الطيبة؛ ولها أربع خصائص:
شجَرةٍ طَيّبَةٍ[ } ...إبراهيم.]24 :
{ كَ َ
أي :تعطيك طِيبا تستريح له نفسُك؛ إما منظرا أو رائحة أو ثمارا؛ أو كُل ذلك مجتمعا؛ فقوله:
شجَرةٍ طَيّبَةٍ[ } ..إبراهيم.]24 :
{ كَ َ
يُوحي بأن ُكلّ الحواس تجد فيها ما يُريحها؛ وكلمة " طيبة " مأخوذة من الطّيب في جميع وسائل
الحساس.
فالخاصة الولى ،أنها شجرة طيبة ،أما الخاصية الثانية فهي أن أصلها ثابت ،كإيمان المؤمن
المحب ،والثالثة أن فروعها في السماء ،وهذا دليل أيضا على ثبات الصل وطيب منبتها.
أما الخاصية الرابعة فهي أن تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ،أي :فيها عطاء المدد المدد الذي ل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعرف الحد ول العدد ،وهي تدل على صفات المؤمنين المحبين.
وبما أنها شجرة طيبة؛ فهي كائن نباتيّ ل ُبدّ لها من أن تتغذّى لتحفظ مُقوّمات حياتها .ومُقوّمات
حياة النبات توجد في الرض ،فإنْ كانت الشجرة مُخَ ْلخَلة وغير ثابتة فهي لن تستطيع أن تأخذ
غذاءها.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن تلك الشجرة:
سمَآءِ[ } ...إبراهيم.]24 :
عهَا فِي ال ّ
ت َوفَرْ ُ
{ َأصُْلهَا ثَا ِب ٌ
وكلنا نظن أن الشجرة تأخذ غذاءها من الجذور فقط؛ ولكن الحقيقة العلمية تؤكد أن الشجرة تأخذ
خمسة بالمائة من غذائها عَبْر الجذور؛ والباقي تأخذه من الهواء ،وكلما كان الهواء نظيفا فالشجرة
تنمو بأقصى ما فيها من طاقة حتى تكاد أن تبلغ فروعها السماء.
أما إنْ كانت البيئة غيرَ نظيفة ومُلوّثة؛ فالهواء يكون غيرَ نظيف بما ل يسمح للشجرة أن تنمو
المناسب؛ فتمُرّ الغيار غير المناسبة على الشجرة ،فل تستخلص منها الغذاء المناسب ،ول تنمو
النمو المناسب.
اللهم إل إذا نزل عليها المطر فيغسل أوراقها.
إذن :فقول الحق سبحانه:
} َأصُْلهَا ثَا ِبتٌ[ { ...إبراهيم.]24 :
يعني :أنها تأخذ من الرض.
وقوله:
سمَآءِ[ { ..إبراهيم.]24 :
عهَا فِي ال ّ
} َوفَرْ ُ
يُبيّن أنها تأخذ من أعلى.
ويتابع سبحانه:
} ُتؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ[ { ...إبراهيم.]25 :
والُكُل هو ما ُيؤْكل ويُتمتّع به ،ولكنّا ل نأخذ المعنى هنا على ما ُي ْؤكَل بالفم فقط؛ ذلك أن هناك
أشجارا ونباتات طيبة؛ لن مزاجَ الكون العام يتطلبها؛ فالظل مثلً يُستفاد منه؛ وكذلك هناك
أشجار يتفاعل وجودها مع الثير؛ ويأخذ منها رائحة طيبة.
والمثل في ذلك :الطفل البدويّ الذي شاهد نخيل جيرانه مثمرا بالبلح ،ولكن النخلة التي يملكونها
غير مثمرة ،وتساءل :لماذا؟ وذهب ليقطعها ،فلحقه والده ومنعه من ذلك ،وقال له :إن نخلتنا هي
الذكر الذي يُنتج اللقاح اللزم لبقية النخيل كي تثمر.
ولذلك فأنا ل أوافق المفسرين الذين ذهبوا إلى تفسير قوله الحق:
شجَرةٍ طَيّبَةٍ[ { ...إبراهيم.]24 :
} كَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بأنها مثل شجرة التفاح وغيرها من الشجار المثمرة؛ ذلك أن كل شجرة حتى ولو كانت شجرة
حَنْظل فهي طيبة بفائدتها التي أودعها الحق إياها؛ فشجرة الحنظل نأخذ منها دواءً -قد يكون
طعْم -لكنه يشفي بعضا من المراض بإذن ال.
مرير ال ّ
ذلك أن كل ما هو موصوف بشجرة له مهمة طيّبة في هذا الكون .وقَوْل الحق سبحانه:
} ُتؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ[ { ...إبراهيم.]25 :
يدلّنا على أن هناك قدرا مشتركا بين الشجر كله؛ مثمرا بما نراه من فاكهة أو غير ذلك.
خضْرة إنما تُ َنقّي الجو بما تأخذ منه من ثاني أوكسيد الكربون،
وقد نبهنا العِلْم الحديث إلى أن كل ُ
وبما تضيف لنا من أوكسجين؛ وتستمر الخضرة في ذلك نهاراص؛ وتقلب مهمتها بإرسال ثاني
ل وامتصاص الوكسجين ،وكأنها مُبَرْمجة على َفهْم أن النهار يقتضي الحركة.
أوكسيد الكربون لي ً
ويحتاج الكائن الحي فيه إلى المزيد من وقود الحركة وهو الوكسجين؛ والنسان أثناء الحركة
يستهلك كمية كبيرة من الوكسجين؛ ونجد مَنْ يصعد سُلّما ينهج لن رئتيه تحاولن امتصاص
خضْرة إنما
أكبر قَدْر من الوكسجين ليؤكسد الدم ،وينتج الطاقة اللزمة للصعود .وهكذا نجد كل ُ
تقوم بوظائف محددة لها سلفا من قِبلَ الخالق العلى.
ولذلك اختلف العلماء عند تفسير:
} ُتؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ[ { ..إبراهيم.]25 :
ن قال :إن " الحين " يُطلْق على اللحظة؛ مثل قول الحق سبحانه {:فََل ْولَ إِذَا بََل َغتِ الْحُ ْلقُومَ
فمنهم مَ ْ
* وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ }[الواقعة.]84-83 :
وقال مُفسّر آخر :إن " الحين " يُقصد به الصباح والمساء ،والحق سبحانه هو القائل {:فَسُ ْبحَانَ اللّهِ
حِينَ ُت ْمسُونَ َوحِينَ ُتصْبِحُونَ }[الروم.]17 :
وأقول :فلننتبه إلى أن " الحين " هو الوقت الذي يحين فيه المقدور؛ فإذا كان الحين هو لحظ َة بلوغ
الرّوح إلى الحُلْقوم؛ فهذه اللحظة هي المراد بـ " الحين " هنا ،وإذا كان المقصود بها زمنا أطول
من ذلك؛ صباحا أو مساء؛ فهذا الزمن ينسحب عليه معنى الحين.
والحق سبحانه هو القائل {:وَالصّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآ ِء والضّرّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ[} ...البقرة.]177 :
والبأس يعني الحرب؛ ومُدة الحرب قد تطول .وكذلك يقول الحق سبحانه {:وََلكُمْ فِي الَ ْرضِ
مُسْ َتقَ ّر َومَتَاعٌ إِلَىا حِينٍ }[العراف.]24 :
وهكذا يكون معنى " الحين " هنا هو الجل غير المُسمّى الذي يمتد إلى أن تتبدّل الرضُ غيرَ
الرض والسماء غير السماء .إذن :فل يوجد توقيت مُحدد المدة يمكن أن نُحدد به معنى " حين ".
ويذيل الحق سبحانه الية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها بقوله:
لمْثَالَ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ { [إبراهيم.]25 :
} وَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وضَرْب المثل معناه إيقاع شيء صغير ليدل على شيء كبير؛ أو بشيء جليّ ليدل على شيء
خفيّ؛ لِيُقرّب المعنويات إلى وسائل الدراكات الولى ،وهي ُمدْركات الحِسّ من سمع وبصر
وبقية وسائل الدراك.
س إلى المعلومات
وحين تأتي المعاني التي تناسب الطموح العقلي؛ فالنسان يتجاوز مرحلة الحِ ّ
المعنوية؛ فيقربها الحق سبحانه بأن يضرب لنا المثال التي توصل لنا المعنى المطلوب إيصاله.
ل بالبعوضة وما فوقها .والبعض من
والحق سبحانه ل يستحي -كما قال -أنْ يضربَ مث ً
المستشرقين يقول :ولماذا لم َي ُقلْ " وما تحتها "؟
ن يقول ذلك :أنت لم تفهم اللغة العربية؛ لذلك لم تستقبل القرآن بالمَلَكة العربية؛ ذلك أن
ونقول ِلمَ ْ
المَثل يُضرَب بالشيء الدقيق؛ وما فوق الدقيق هو الدقّ.
والحق سبحانه يضرب لنا المَثل للحياة الدنيا ،وهي الحياة التي من لَدُن خَلْق ال للنسان؛ ذلك أنه
كانت هناك أجناسٌ قبل النسان ،وهو سبحانه هنا يُوضّح لنا بالمثَل ما يخص الحياة من لحظة
خَلْق آدم إلى أنْ تقومَ الساعة ،وهو يطويها -تلك الحياة الطويلة العريضة التي تستغرق أعمال
أجيالٍ -ويعطيها لنا في صورة مَ َثلٍ موجز ،فيقول لنا {:وَاضْ ِربْ َلهُم مّ َثلَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ
شيْءٍ
ح َوكَانَ اللّهُ عَلَىا ُكلّ َ
ت الَ ْرضِ فََأصْبَحَ هَشِيما َتذْرُوهُ الرّيا ُ
سمَاءِ فَاخْتََلطَ بِهِ نَبَا ُ
أَنْزَلْنَاهُ مِنَ ال ّ
ّمقْتَدِرا }[الكهف.]45 :
وهكذا يطوي الحق سبحانه الحياة كلها في هذا المثل من ماء ينزل ونبات ينمو لينضج ثم تذروه
الرياح.
عَلمُواْ أَ ّنمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا َل ِعبٌ وََلهْ ٌو وَزِينَ ٌة وَ َتفَاخُرٌ بَيْ َنكُ ْم وَ َتكَاثُرٌ فِي
وأيضا يقول الحق سبحانه {:ا ْ
جبَ ا ْل ُكفّارَ نَبَاُتهُ ثُمّ َيهِيجُ فَتَرَاهُ ُمصْفَرّا ثُمّ َيكُونُ حُطَاما} ..
عَل وَالَ ْولَدِ َكمَ َثلِ غَ ْيثٍ أَ ْ
لمْوَا ِ
اَ
[الحديد.]20 :
وهكذا يطوي الحق سبحانه الحياة الدنيا بطُولها وعَرْضها في هذا المَثل البسيط لنرى ما يُوضّح لنا
المعاني الخفية في صورة مُحسّة بحيث يستطيع العقل الفطري أن يُدرِك ما يريده ال منها.
ونعلم أن المُحسّات تدرك أولً بعض الشياء؛ ثم ترتقي إلى مرتبة التخيّل؛ ثم يأتي التوهّم؛
فمراحل الدراك للشياء الخفية هي الحِس أولً؛ ثم التخيل ثانيا؛ ثم التوهم ثالثا.
ن كانت مُكوّنة من مادة وأشياء
والتخيّل هو أن تجمع صورة كلية ليس لها وجود في الخارج؛ وإ ْ
موجودة في هذا الخارج .والمَثل على ذلك هو قول الشاعر الذي أراد أنْ يصف الوَشْم على يد
ك تكوّن من
حبيبته ،فقال:خوض كأنّ بَنانَها في َنقْش ِه الوَشْم المُزردسَمكٌ من البِلّور في شَ َب ٍ
جدِوحين تبحث في الصورة الكلية لتلك البيات من الشعر؛ لن تجدها موجودة في الواقع؛
زَبر َ
ولكن الشاعر أوجدها من مُكوّنات و ُمفْردات موجودة في الواقع؛ فالسمك موجود
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعروف؛والبِلّور موجود ومعروف؛ وكذلك الشّبك والزبرجد ،وقام الشاعر بنسج تلك الصورة
غير الموجودة من أشياء موجودة بالفعل ،وهذا هو الخيال الذي يُقرّب المعنى.
والتوهمّ يختلف عن الخيال؛ فإذا كان التخيّل هو تكوين صورة غير موجودة في الواقع من
مفردات موجودة في هذا الواقع؛ فالتوهّم هو صورة غير موجودة في الواقع ،ومُكوّن من مفردات
غير موجودة في الواقع.
س وَتَلَ ّذ الَعْيُنُ[} ...الزخرف.]71 :
والحق سبحانه يقول لنا عن الجنةَ {:وفِيهَا مَا تَشْ َتهِي ِه الَ ْنفُ ُ
ويشرح الرسول صلى ال عليه وسلم ذلك بمذكرة تفسيرية ،فيقول " :فيها مَا ل عَيْنٌ رأتْ ،ول
خطَر على قَلْب بشر ".
أذن سمعتْ ،ول َ
والعَيْن وسيلة إدراك وحسّ؛ وكذلك الذن ،أما ما ل يخطر على القلب فهو ليشرحه الخيال أوَ
الوَهْم.
وهكذا نعلم لماذا يضرب ال لنا المثال؛ لِيُوجِز لنا ما يشرح ويُوضّح بأشياء قريبة من الفهم
البشري.
وأنت حين تريد أن تكتب لصديق؛ فقد تُمسك الورقة والقلم وتُدبّج رسالة طويلة؛ ولكن إنْ كنتَ
تملك وقتك فستحاول أن تُركّز كل المعاني في كلمات قليلة.
وكلنا يذكر ما كتبه سعد زغلول زعيم ثورة 1919المصرية لواحد من أصدقائه بعد أن سطّر له
رسالة في خمس صفحات؛ وأنهاها " :إني أعتذر عن الطالة في الخطاب ،فلم يكُنْ عندي وقت
لليجاز " وذلك لن مَنْ يُوجِز إنما يضع معاني كثيرة في كلمات قليلة.
وحين طلب أحد القادة المسلمين الّنصْرة من خالد بن الوليد؛ وكان القائد الذي يطلب المساعدة
مُحَاصَرا؛ وأرسل لخالد بن الوليد كلمتين اثنتين " إياك أريد " ،وهكذا اختصر القائد المحاصر ما
يرغب إيصاله إلى مَنْ ينجده ،بإيجاز شديد.
طوِيَتْ أتاحَ َلهَا لِسَانَ حَسُودَل ْولَ اشتعالُ النّار فيمَا جَاو َرتْ
والشاعر يقول:إذَا أرادَ ال َنشْرَ َفضِيلَة ُ
مَا كَان ُيعْرَف ط ِيبُ عَ ْرفِ العوُدِ
أي :أنه إذا كانت هناك فضيلة مكتومة نسيها الناس؛ فالحقّ سبحانه يتيح لها لسانَ حاسدٍ حاقد
لِيثُرثر ويُنقّب؛ لتظهر وتنجلي؛ مثلما يُوضَعُ خشب العود -وهو من أَ ْرقَى ألوان البخور -في
عطْره بين الناس.
النار ،فينتشر ِ
وهكذا ضرب الشاعر المَثَل لِيُوضّح أمرا ما للقارئ أو السامع.
ويقول الشاعر ضاربا المَثل أيضا:وإذَا امْرؤٌ مدحَ امْرءا لِنَوالِه وأَطَالَ فِيه فقدْ أطَالَ ِهجَاءَهَُلوْ َلمْ
يُقدّر فيه ُبعْد المُسْتقَى عند الوُرودِ َلمَا أطالَ ِرشَاءَهُوالمقاييس العادية تقول :إن المرء حين يمدح
أحدا لفترة طويلة ،فهذا يعني ال ّرفْعة والمجد للممدوح .ولكن حين يقرأ أح ٌد قول هذا الشاعر قد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يتعجّب ويندهش ،ولكنه يتوقف عند قول الشاعر أن الماء لو كان قريبا في البئر؛ لخرجه
العطشان بدلو مربوط بحبل قصير؛ ولكن إنْ كان الماء على ُبعْد مسافة في البئر فهذا يقتضي
حبلً طويلً لينزل الدلو إلى الماء.
وهذا يعني أن طول المدح إنما يُعبّر عن فظاظة الممدوح الذي ل يستجيب إل بالثناء الطويل؛ ولو
كان الممدوح كريما حقا لكتفى بكلمة أو كلمتين في مدحه.
وهكذا يكون ضَ ْربُ المثل توضيحا وتقريبا للذهن.
وهنا قال الحق سبحانه:
لمْثَالَ لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَتَ َذكّرُونَ { [إبراهيم.]25 :
} وَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
والتذكر معناه أن شيئا كان معلوما بالفطرة؛ ولكن الغفلة طرأتْ؛ فيأتي المَ َثلُ ليُذكّر بالمر
الفطريّ.
وبعد أن ضرب الحق سبحانه المثل بالكلمة الطيبة بيانا لحال أهل القُرْب من ال والود معه واتباع
منهجه ،أراد انْ يذكُ َر لنا المقابل ،وهو حال الشقياء الذين أعرضوا عن ال ،وعن منهجه ،فيقول
سبحانه وتعالىَ } :ومَثلُ كَِلمَةٍ خَبِيثَةٍ َكشَجَ َرةٍ.{ ...
()1761 /
شجَ َرةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُ ّثتْ مِنْ َف ْوقِ الْأَ ْرضِ مَا َلهَا مِنْ قَرَارٍ ()26
َومَثَلُ كَِلمَةٍ خَبِيثَةٍ كَ َ
وحين نقارن الكلمة الخبيثة بالكلمة الطيبة سنكتشف الفارق الشاسع؛ فالكلمة الخبيثة مُجْتثّة من فوق
الرض؛ والجُثّة كما نعلم هي الجسد الذي خرجتْ منه الروح ،ومن بعد أن يصبح جُثة يصير
ِرمّة؛ ثم يتحلّل إلى عناصره الولى.
إذن :فالجتثاث هو استئصالُ الشيء من أصله وقَلْعه من جذوره ،أما المقابل في الشجرة الطيبة
فأصلها ثابت ل تُخلخله ظروف أو أحداث ،والكلمة الخبيثة بل جذور لنها مُجْتثّة؛ وليس لها قَرار
تستقر فيه.
وحين تكلّم المُفسّرون عن الشجرة الطيبة منهم مَنْ قال إنها النخلة لن ُكلّ ما فيها خير؛ فورقها ل
ل وكل ما فيها يُنتفعَ به.
ظّيسقط ،ويبقى دائما كَ ِ
فنحن -على سبيل المثال -نأخذ جذع النخلة ونصنع منه أعمدة في بيوت الرّيف ،وجريد النخل
نصنع منه الكراسي؛ والليف الموجود بين الفرع نأخذه لنصنع منه الحبال؛ والخوص نصنع منه
القُفف.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والذين حاولوا أن يُفسّروا " الشجرة الخبيثة " بأنها شجرة الحَنْظل ،أو شجرة التين ،أو شجرة
الكُرّات؛ لكل هؤلء أقول :لقد خلقها الحق سبحانه لتكون شجرة طيبة في ظروف احتياجنا لها؛
لنك حين تنظر إلى الكون ستجد أن مِزَاجه مُتنوّع؛ ومُقوّمات الحياة ليستْ هي الكل والشرب
فقط؛ بل هناك توازن بيئيّ قد صمّمه الحق تعالى ،وهو العلم مِنّا جميعا بما خلق؛ ولم يخلق إل
طَيّبا.
وكل شيء في الكون له عطاء مستمر يُشع في الجو ،والمَثَل هو تساقط أوراق الشجر التي تُعيد
خصْب مرة أخرى إلى الرض .وكلها أمور يُبديها الحق سبحانه ول يبتديها ،أي :يُظهرها بعد
ال ِ
أنْ كانت موجودة أَزلً ومَخفية عَنّا.
جلّ وعلَ يرفع قوما ويَخفِض قوما؛ وهو القائل عن ذاتهُ {:كلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن:
وهو َ
.]29
وكلّنا نعلم أن اليوم عند منطقة ما يبدأ في توقيت مُعيّن ،وينتهي في توقيت مُعين؛ وتختلف
المناطق الجغرافية وتختلف معها بدايات أيّ يوم من منطقة إلى أخرى؛ فبعد لحظة من بداية يومك
يبدأ يوم آخر في منطقة أخرى؛ وهكذا تتعدد اليام وبدايات النهار والليل عند مختلف البشر
والمجتمعات.
ولذلك فحين نسمع قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :إن ال عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب
مُسيء النهار ،ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ".
فمعنى ذلك أن يَد ال مبسوطة دائما ،ذلك أن الليلَ يبدأ في كل لحظة عند َقوْم ،ويبدأ النهار عند
قوم في نفس اللحظة؛ ويتتابع ميلد الليل والنهار حَسْب دوران الشمس حول الرض.
صفَها
وهكذا ل يجب أن نظلم شجرة الثوم ،أو شجرة الحَنْظل ،أو أي شجرة من مخلوقات ال و َن ِ
بأنها شجرة خبيثة ،فل شيء خبيثٌ من مخلوقات ال.
ونحن حين نجد شابا يقوم بثَنْي قطعة من الحديد قد يحسبه الجاهل أنه يُسيء استخدام الحديد،
خطّاف يشدّ به شيئا يلزمه.
ولكن العاقل يعلم أنه يقوم بِثَنْيها ليصنع منها مَا يفيده؛ ك ُ
وعمدة الكلمة الطيبة هي شهادة " ل إله إل ال ،وأن محمدا رسول ال " ومن هذه الشهادة يتفرّع
عمْدة الكلمة الخبيثة هي الكفر بتلك الشهادة ،وما يتبع الكفر من عناد
كل الخير .ومن هنا نعلم أن ُ
لرسول ال صلى ال عليه وسلم وصَدّ عن سبيل ال؛ ومن تكذيبٍ لمعجزات الرسل؛ وإنكارٍ لمنهج
ال.
ن يقول :ما دام الحق سبحانه قد قال إن هناك شجرةً خبيثة؛ فل ُبدّ أن تُوجَد تلك الشجرة،
ولقائل أ ْ
وأقول :إن ُكلّ ما يضرّ النسان في وقت ما هو خبيث؛ فالسكر مثلً يكون خبيثا بالنسبة لمريض
بالسكر؛ وكل كائن فيه حسناتٌ مفيدة؛ وله جانب ضَارّ في حالت معينة؛ وعلى النسان المختار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن يُميّز ما يضرّه وما ينفعه.
ونلحظ هنا في َوصْف الكلمة الخبيثة بأنها كالشجرة الخبيثة؛ أن الحق سبحانه لم َي ُقلْ إن تلك
الشجرة الخبيثة لها فَرْع في السماء؛ ذلك أنها مُجْتثة من الرض؛ مُخْلخلة الجذور؛ فل سَند لها من
الرض؛ ول مددَ لها من السماء.
ولذلك َيصِفها الحق سبحانه:
} مَا َلهَا مِن قَرَارٍ { [إبراهيم.]26 :
أي :ما لها من ثبات أو قيام ،وكذلك ال ُكفْر بال؛ ومَنْ يكفر ل يصعد له عمل طيّب ،فل أساسَ
يصعد به العمل أو القول الطيب .ولهذا وصفت الشجرة الخبيثة بصفات ثلث ،أولها :أنها شجرة
خبيثة وثانيها :أنها عديمة الصل بغير ثبات ،وثالثها :ما لها من قرار لعدم ثبات الصل.
ثم يبين ال جل عله متحدثا عن حصاد الحالتين ،فالولى :أمن وأمان في الدنيا والخرة .والحالة
الثانية :ظلم بضلل ،وقلق بضنك ،وفي الخرة لهم عذاب أليم.
ويقول سبحانه وتعالى } :يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ.{ ...
()1762 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهم قد آمنوا بوجوده وبقدرته ،وبأن له طلقة مشيئة يُثبّتهم بها مهما كانت جسامة الحداث؛ ذلك
طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ }[الرعد:
أن المؤمن يعلم عن يقين أن الحق سبحانه قد قال وصدقَ {:ألَ بِ ِذكْرِ اللّهِ تَ ْ
.]28
وما دام المؤمن قد ثبت قلبه باليمان وبالقول الثابت؛ فهو ل يتعرّض لزيغ القلب؛ ول يتزعزع
عن الحق.
والتثبيت يختلف في أعراف الناس باختلف المُثبّت؛ فحين يُخلْخَل عمود في جدار البيت؛ فصاحب
البيت يأتي بالمهندس الذي يقوم بعمل دعائمَ لتثبيت هذا العمود؛ ويتبادل الناسُ العجابَ بقدرات
هذا المهندس ،ويتحاكى الناس بقدرات هذا المهندس على التثبيت للعمدة التي كادتْ أنْ تنهار،
وهذا ما يحدث في عُرْف البشر؛ فما بَالُنا بما يمكن أنْ يفعله خالق البشر؟
وقوله الحق:
{ يُثَ ّبتُ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ[ } ..إبراهيم.]27 :
يرّدك إلى المُثبّت الذي لَنْ يطرأ على تثبيته أدنى خَلَل .وكلمة " التثبيت " دَلّتْنَا على أن النسان
ابنُ أغيارٍ؛ وقد تحدثُ له أشياء غَيْر مطابقة لما يريده في الحياة؛ لذلك فالمؤمن يجب ألّ َيخُور؛
لن له ربا ل تدركه البصار ،وهو يدرك البصار.
وسبحانه يُثبّت الذين آمنوا:
{ بِا ْل َق ْولِ الثّا ِبتِ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا[ } ...إبراهيم.]27 :
حقّ الذي ل يتغيّر؛ وهذا ال َقوْلِ مُوجّه للمؤمنين الذين يواجههم َقوْم
والقول الثابت؛ لنه من ال َ
ن يكونوا على غير منهج ال.
أشرار اختاروا أ ْ
وهذا القول يوضح للمؤمنين ضرورة أن يهدأوا؛ وأنْ يجعلوا أنفسهم في معيّة ال دائما ،وأنْ
يعلموا أنّ الظالمَ لو عَلِم ما أعدّه ال للمظلوم من ثواب وحُسْن جزاء َلضَنّ الظالم بظُلْمه على
المظلوم ولَقَال :ولماذا أجعل ال في جانبه؟
والذين اضْطهِدوافي دينهم؛ وقام الكفار بتعذيبهم؛ لم ُيفْتَنوا في الدين؛ فكلما قَسا عليهم الكفار ضَرْبا
وتعذيبا كلما تذكروا حنانَ الحقّ فتحمّلوا ما يذيقهم الكافرون من عذاب.
وحُسْن الجزاء قد يكون في الدنيا التي يُثبّت فيها المؤمن بمشيئة ال؛ وهي بنت الغيار وبنت
السباب؛ فأنت في الدنيا تحوز على أيّ شيء بأن تتعبَ من أجل أنْ تحصلَ عليه ،وتكِدّ لتتعلم؛
وتعثر على وظيفة أو مهنة؛ ثم تتزوج لِتُكوّن أُسْرة؛ وتخدُم غيرك؛ ويخدُمك غيرك ،وتزاول كل
أسبابك بغيرك؛ فأنت تأكل مما تطبخ زوجتك ،أو أمك أو مَنْ تستخدمه ليؤدي لك هذا العمل.
باختصار كلما ارتقيتَ؛ فأنت ترتقي بأثر مجهود ما .و ُكلّ متعة تحصل عليها إنما هي نتيجة
لمجهود جَادّ منك؛ وأنت تحاول دائما أن تُقلّل المجهود والسباب لتزيد من متعتك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فَما باُلكَ بالخرة التي ل تكليفَ ول أسبابَ فيها؛ وكل ما فيها قد جهّزه الحق تعالى مقدّما
ن كنتَ مؤمنا فالحق سبحانه يُجازيك بجنة
ن كفر وعصى ،وإ ْ
للنسان؛ ثوابا إنْ آمنَ ،وعذابا إ ْ
عَرْضها السماوات والرض؛ فيها ُكلّ ما تشتهي النفس.
وإذا كان الحق سبحانه يُثبّت الذين آمنوا في الدنيا بالقول الثابت الحق فتثبيتُه لهم في الخرة هو
حياةٌ بدون أسباب.
ونجده سبحانه لم َي ُقلْ هنا :الحياة الخرة ،بل قال:
} فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا َوفِي الخِ َرةِ[ { ...إبراهيم.]27 :
ذلك أن الرتقاءات الطّموحية في الحياة تكون مناسبة للمجهود المبذول فيها ،ولكن المرَ في
الخرة يختلف تماما؛ لن الحق سبحانه هو الذي يُجازي على َقدْر طلقة مشيئته ،وهو يُثبّتهم
حسْن ما فعلوا من خير في سبيل ال.
بداية من سؤال القبر ونهايةَ إلى أن يَلْقوا الثواب على ُ
وما دام الحق سبحانه قد ذكر هنا التثبيتَ في الحياة الدنيا والخرة؛ فل ُبدّ أن يأتي بالمقابل،
ويقول:
ن وَ َي ْفعَلُ اللّهُ مَا يَشَآءُ { [إبراهيم.]27 :
ضلّ اللّهُ الظّاِلمِي َ
} وَ ُي ِ
وسبحانه يُضلّ الظالم لنه اختار أنْ يظلم؛ وهو سبحانه قد جعل للنسان حَقّ الختيار ،فَمنَ اختار
ق وجعل الكون مُسخرا لهم؛ وأعطى
أن يظلمَ؛ ل بُدّ له من عقاب .وإذا كان سبحانه قد خلق الخَ ْل َ
المؤمن والكافر من عطاء الربوبية؛ فإن اختار الكاف ُر كفره؛ فهو لن يُنفّذ تكاليف اللوهية التي
أنزلها ال منهجا لهداية الناس.
س إلى الكفر فالحق سبحانه يختم على قلبه؛ فل
والكافر إنما يظلم نفسه؛ ذلك أنه ما دام قد أنِ َ
يخرج من القلب الكفر ،ول يدخل إليه اليمان؛ وهو َربّ العالمين يفعل ما يشاء.
وإذا كان الحق سبحانه يعطي كل إنسان ما يريد؛ وما دام الكافر يطلب أن يكون كافرا؛ فسبحانه
يمدّ له في أسباب الكفر ليأخذه من بعد ذلك بها؛ كما يمدّ ال للمؤمنين ُكلّ أسباب اليمان ِمصْداقا
ك َومَا كَانَ عَطَآءُ رَ ّبكَ مَحْظُورا }
لقوله الحق {:كُلّ ّنمِدّ هَـاؤُل ِء وَهَـاؤُلءِ مِنْ عَطَآءِ رَ ّب َ
[السراء.]20 :
وهكذا تكون طلقة قدرة الحق سبحانه وهو يفعل ما يشاء ،ذلك أنه ل يوجد إله غيره.
والحق سبحانه قد أكرمنا بالعبودية له وحده ،ذلك أننا رأينا جميعا وشاهدنا أثر عبودية النسان
للنسان؛ حين يأخذ السيد خَيْر العبد؛ وقد ذاقتْ البشرية الكثير من وَيْلتها ،ولكن العبودية ل
تختلف تماما حيث يأخذ العبد خَيْر السيد؛ ويُغدِق السيد إحسانه على عباده.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :أَلَمْ تَرَ ِإلَى الّذِينَ بَدّلُواْ.{ ....
()1763 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حلّوا َق ْو َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ ()28
أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ َبدّلُوا ِن ْعمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وظرف زمان؛ فإذا أحل ْلتَ حدثا محلّ حَدث؛ فهذا يخصّ ظرف الزمان ،وحين تحل شيئا مكان
شيء آخر ،فهذا أمر يخصّ ظرف المكان.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ وََأحَلّواْ َقوْ َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ } [إبراهيم.]28 :
وهذا يعني ظرف مكان .ولقائل أن يقول :وكيف يأخذون أهلهم وقومهم ليحلوهم إلى دار َبوَار؟
ونقول :لقد حدث ذلك نتيجة أنهم قد غَشّوهم وخدعوهم ،ولم يستعمل هؤلء الهل عقولهم؛ ولم
يلتفتوا إلى أنّ قادتهم وأُولي المر منهم يسلكون السلوك السيء وعليهم ألّ يقلدوهم؛ فَجرّوا عليهم
الفتن واحدة تِلْو أخرى ،وترين الفتن على القلوب.
ولهذا أراد الحق سبحانه لمة محمد صلى ال عليه وسلم أن تكون بها مناعات من الفتن؛ فتحثّ
النفس اللوامة المؤمن؛ فيكثر الحسنات ليبطل السيئات ،وإذا ما تحولت النفس اللوّامة إلى نفس
أمّارة بالسوء وجدتْ في المجتمع المسلم مَنْ يزجرها.
وبهذا تصبح أمة محمد صلى ال عليه وسلم محصّنة ضد الفتن التي تُذهِب اليمان.
ف وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ} ...
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُو ِ
ويقول الحق سبحانه {:كُنْ ُتمْ خَيْرَ ُأمّةٍ أُخْ ِر َ
[آل عمران.]110 :
ويُذكّرنا الحق سبحانه بأن الرسولَ سيكون شهيدا علينا ،ونحن سنكون شهداء على الناس ،وهكذا
ضمن الحق سبحانه أن يعلم ُكلّ واحد من أمة محمد جزئية من العلم ليكون امتدادا لرسالة رسول
ال صلى ال عليه وسلم.
ومِثْلما شهد الرسول أنه قد بلّغ الرسالة؛ سيكون على كل واحد من أمةَ محمد صلى ال عليه وسلم
أنْ يشهدَ بأنه قد بلّغ ما علم من رسالة محمد صلى ال عليه وسلم.
ت الغفلة الولى؛ حيث حدثتْ الغفلة من الُسْوة؛ فزاحمتهم الشهوات
وكُلّ منا يعلم كيف حدث ْ
وارتكبوا السيئاتِ ،فحين غفلت النفس ارتكبتْ المعصية؛ وحين رأى الناسُ مَنْ يرتكب المعصية
قلّدوه.
ن وقع في الغفلةوزْه ووزْر مَنِ اتبعه بالُسْوة السيئة؛ فصار ضَالً في ذاته؛ ثم
وهكذا حمل مَ ْ
تحمّل وِزْر مَنْ أضله أيضا.
ل قومه دار البوار.
ن فعل ذلك هو مَنْ أح ّ
وهكذا صار مَ ْ
والبوار يعني الهلك؛ ذلك أن الكبار من هؤلء القوم حين تصرّفوا وسلكُوا بما يخالف المنهج
ن اتبعوهم الهلك.
أورثوا مَ ِ
ونحن في الريف َنصِفُ الرض التي ل تصلح للزراعة بأنها الرض البُور؛ وكذلك َيقُال " ُقمْنا
بتبوير الرض " أي :أهلكنا ما فيها من زرع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين نقرأ قول الحق:
} وََأحَلّواْ َقوْ َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ { [إبراهيم.]28 :
ن يرتكبون هذا الفعل الشائن؛ فمَنْ ُيهِلك قومه ل بُد أن
نجد في كلمة " قومهم " ما يُوحي بالخِسّة ِلمَ ْ
ن يقومون معهم؛ وكان من
ش وخديعة؛ فالقوم هم مَ ْ
يكونَ خسيسا؛ ول بُد أن يكون محترف غِ ّ
اللئق أن تضرب على يد مَنْ يصيبهم بشرّ أو يغشّهم أو يخدعهم.
جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا وَبِئْسَ.{ ...
ويشرح الحق سبحانه دار البوار هذه ،فيقولَ } :
()1764 /
وإذا قِسْنا جهنم بالمقرات؛ فلن نجد مَنْ يرغب في أن تكون جهنم هي مقرّه؛ لن النسان يحب أن
يستقر في المكان الذي يجد فيه راحة؛ ولو لم يجد في هذا المكان راحة؛ فهو يتركه.
وجهنم التي َيصْلوْنها لن تكون المقرّ الذي يجدون فيه أدنى راحة؛ لن العذاب مُقيم بها؛ ولذلك
يصفها الحق سبحانه بأنها:
{ وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ } [إبراهيم.]29 :
فكأنهم ممسوكون بكلليب فل يستطيعون منها فكاكا .وهي تقولَ {:هلْ مِن مّزِيدٍ }[ق.]30:
وكأنهم قد عَشِقوا النار فعشقتهم النار ،ولو كانت لديهم قدرة على أنْ يفرّوا منها لَفعلوا ،لكنهم
مربوطون بها وهي مربوطة بهم؛ وهي بئس القرار؛ لن أحدا لن يخرج منها إل أنْ يشاء ال.
جعَلُواْ للّهِ أَندَادا لّ ُيضِلّواْ.} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ { :و َ
()1765 /
جعَلُوا لِلّهِ أَ ْندَادًا لِ ُيضِلّوا عَنْ سَبِيلِهِ ُقلْ َتمَ ّتعُوا فَإِنّ َمصِي َركُمْ إِلَى النّارِ ()30
وَ َ
والنّد هو :المِثْل والمُشَابه .وهم قد اتخذوا ل شركاء؛ وأيّ شريك اتخذوه لم َي ُقلْ لهم عن النعم التي
أسبغها عليهم ولم يُنزِل لهم منهجا .وهؤلء الشركاء كانوا أصناما ،أو أشجارا ،أو الشمس ،أو
القمر ،أو النجوم ،ولم َي ُقلْ كائن من هؤلء :ماذا أعطى من نعم ليعبدوه؟
ونعلم أن العبادة تقتضي أمرا وتقتضي نهيا ،ولم يُنزِل أيّ من هؤلء الشركاء منهجا كي يتبعه مَنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعبدونهم؛ ول ثوابَ على العبادة؛ ول عقَاب على عدم العبادة.
ولذلك نجد أن مِثْل هؤلء إنما اتجهوا إلى عبادة هؤلء الشركاء؛ لنهم لم يأتوا بمنهج يلتزمون به.
ولذلك نجد الدجالين الذين يدّعُون أنهم رأوا النبي صلى ال عليه وسلم ويتصرفون مع مَنْ
يُصدّقونهم من التباع ،وكأنهم كائنات أرقى من النبي صلى ال عليه وسلم -والعياذ بال منهم .-
ومن العجيب أننا نجد بعضا من المثقفين وهم يتبعون هؤلء الدجالين .وقد يبتعد عنه بسطاء
الناس؛ ذلك أن النفس الفطرية تحب أن تعيش على فطرة اليمان؛ أما مَنْ يأتي ليُخفّف من أحكام
الدين؛ فيهواه بعض ِممّنْ يتلمسون ال ِفكَاك من المنهج.
وبذلك يجعل هؤلء التباع مَنْ يخفف عنهم المنهج نِدا ل -والعياذ بال -ويضلون بذلك عن
اليمان.
والحق سبحانه يقول هنا:
جعَلُواْ للّهِ أَندَادا لّ ُيضِلّواْ عَن سَبِيلِهِ[ } ..إبراهيم.]30 :
{ وَ َ
أي :لِ ُيضِلوا غيرهم عن سبيل ال.
وهناك قراءة أخرى لنفس الية " لِيَضلوا عن سبيل ال " ،وأنت ساعةَ تسمع حدثا يوجد ليجيء
ت بفعل
حدث كنتيجة له ،فأنت تأتي بـ " لم التعليل " كقولك " ذاكر الطالب لينجح " هنا أنت لم تَ ْأ ِ
ونقيضه .وهل كانوا يضلون أنفسهم؟
ل ،بل كانوا يتصوّرون أنهم على هُدىً واستقامة ،وهذه تُسمّى " لم العاقبة " وهي تعني أنه قد
يحدث بعد الفعل ِفعْل آخر كان واردا .وهذه تُسمّى " لم تعليلة ".
ولكن قد يأتي ِفعْل بعد الفعل ولم يكن صاحبُ الفعل يريده؛ كما فعل فرعون حين التَقط موسى
عليه السلم من الماء ليكون ابنا له؛ ولكن شاء الحق سبحانه أن يجعله عدوا.
وساعة التقاط فرعون لموسى لم يكن فرعون يريد أن يكبر موسى ليصبح عدوا له؛ ولكنها مشيئة
ال التي أرادتْ ذلك لتخطئة مَنْ ظنّ نفسه قادرا على التحكّم في الحداث ،بداية من ادعاء
اللوهية ،ومرورا بذبح الطفال الذكور ،ثم يأتي التقاطه لموسى ليكون قُرّة عينٍ له؛ فينشأ موسى
ويكبر ليكون عدوا له!!
ويتابع الحق سبحانه:
{ ُقلْ َتمَ ّتعُواْ فَإِنّ َمصِي َركُمْ إِلَى النّارِ } [إبراهيم.]30 :
وهذا أمر من ال لمحمد أن يقول لهم :تمتعوا .وهذا أمر من ال .والعبادة أمر من ال ،فهل إن
تمتعوا يكونون قد أطاعوا ال؟
وهنا نقول :إن هذا أمر تهكميّ ،ذلك أن الحق سبحانه قال من بعد ذلك:
{ فَإِنّ َمصِي َركُمْ ِإلَى النّارِ } [إبراهيم.]30 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعلى هذا نجد أن المر إما أنْ يُراد به إنفاذ طلب ،وإما أنْ يُراد به الصّد عن الطلب بأسلوب
تهكميّ.
ونجد في قول المام علي -كرم ال وجهه -قولً يشرح لنا هذا " :ل شرّ في شر بعده الجنة،
ول خير في خير بعده النار ".
فَمنْ يقول :إن التكاليف صعبة؛ عليه أن يتذكّر أن بعدها الجنة ،ومَنْ يرى المعاصي والكفر أمرا
هينا ،عليه أن يعرف أن بعد ذلك مصيره إلى النار؛ فل تعزل المقدمات عن السباب ،ول تعزل
السبب عن المُسبّب أو المقدمة عن النتائج.
فالب الذي يجد ابنه يُلحِق المذاكرة في الليل والنهار ليبني مستقبله قد يشفق عليه ،ويسحب
الكتاب من يده ،ويأمره أن يستريح كل ل يقع في المرض؛ فيصبح كالمُنْ َبتّ؛ ل أرضا قطع ،ول
ظهْرا أبقى ،ولكن الولد يرغب في مواصلة الجهد ليصلَ إلى مكانة مُشرّفة.
وهنا نجد أن كلً من الب والبن قد نظروا إلى الخير من زوايا مختلفة؛ ولذلك قد يكون اختلف
النظر إلى الحداث وسيلة للتقاءات الخير في الحداث.
وهم حين يسمعون قول الحق سبحانه:
} ُقلْ َتمَ ّتعُواْ فَإِنّ َمصِي َركُمْ إِلَى النّارِ { [إبراهيم.]30 :
قد يستبطئون الحداث؛ ويقول الواحد منهم إلى أن يأتي هذا المصير :قد نجد حلً له.
ونقول :فليتذكر ُكلّ إنسان أن المر المُعلّق على غير ميعاد مُحدّد؛ قد يأتي فجأة؛ َفمَنْ يعيش في
معصية إلى عمر التسعين؛ هل يظن أنه سيفِرّ من النار.
إنه وَا ِهمٌ يخدع نفسه ،ذلك أن إبهام ال ليمعاد الموت هو أعنفُ بيانٍ عنه .وما دام المصير إلى
النار فل مُتْعة في تلك الحياة.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :قُل ّلعِبَا ِديَ الّذِينَ آمَنُواْ.{ ...
()1766 /
ُقلْ ِلعِبَا ِديَ الّذِينَ َآمَنُوا ُيقِيمُوا الصّلَا َة وَيُ ْنفِقُوا ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَ ْبلِ أَنْ يَأْ ِتيَ َيوْمٌ لَا بَ ْيعٌ
فِي ِه وَلَا خِلَالٌ ()31
و { ُقلْ } من ال لرسول ال صلى ال عليه وسلم .وهل معنى هذا أن العباد الذين سيسمعون هذا
المر سيقومون إلى الصلة؛ لقد سمعه بعضهم ولم َيقُم إلى الصلة.
إذن :مَنْ يُطع المر هو مَنْ حقّق شَرْط اليمان ،وعلينا أن ننظر إلى ُمكْتنفات كلمة " عبادي "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فعباد ال هم الذين آمنوا ،وحين يؤمنون فهم سيُعبّرون عن هذا اليمان بالطاعة .وهكذا نفهم معنى
اللفاظ لتستقيم معانيها في أساليبها.
وكل خَلْق ال عبيد له؛ ذلك أن هناك أمورا قد أرادها ال قد طريقة خَلْقهم ،ل قدرةَ لهم على
مخالفتها؛ فهو سبحانه قد قهرهم في أشياء؛ وخيّرهم في أشياء.
ولذلك أقول دائما للمُتمرّدين على اليمان بال؛ لقد أَِلفْتم التمرّد على ال؛ ولم يَ ْأبَ طَبْع واحد منكم
على رفض التمرّد ،فإنْ كنتم صادقين مع أنفسكم عليكم أنْ تتمردوا على التنفس؛ فهو أمر ل
إرادي ،أو تمردوا -إن استطعتُم -على المرض وميعاد الموت ،ولن تستطيعوا ذلك أبدا.
ولكنهم أِلفُوا التمرّد على ما يمكنهم الختيار فيه .ونسُوا أن ال يريد منهم أن يلتزموا بمنهجه؛ فإن
اختار المؤمن أن يتبع منهجَ ال صار من " عباد ال " ،وإنْ لم يخضع للمنهج فيما له فيه اختيار
فهو من العبيد المقهورين على اتباع أوامر ال القهرية فقط.
وأنت حين تستقرئ كلمة " عباد " وكلمة " عبيد " في القرآن ستجد قول الحق سبحانه {:وَعِبَادُ
حمَـانِ الّذِينَ َيمْشُونَ عَلَىا الَ ْرضِ َهوْنا وَإِذَا خَاطَ َبهُمُ الجَا ِهلُونَ قَالُواْ سَلَما }[الفرقان.]63 :
الرّ ْ
وتتعدد هنا صفات العباد الذين اختاروا اتباع منهج ال ،وستجد كلمة العبيد وهي مُلْتصقة بمَنْ
حقّ
يتمردون على منهج ال؛ ولن تجد َوصْفا لهم بأنهم " عباد " إل في آية واحدة؛ حين يخاطب ال َ
جلّ وعل الذين أضلوا الناس؛ فيقول لهم {:أَأَنتُمْ َأضْلَلْ ُتمْ عِبَادِي َهؤُلَءِ َأمْ ُه ْم ضَلّوا السّبِيلَ }
َ
[الفرقان.]17 :
ونلحظ أن زمن هذا الخطاب هو في اليوم الخر؛ حيث ل يوجد لحد مُرْتاد مع ال؛ وحيث يسلب
الحق سبحانه كل حق الختيار من كل الكائنات المختارة.
وهكذا ل يمكن لحد أن يطعنَ في أن كلمة " عباد " إنما تستخدم في َوصْف الذين اختاروا عبادة
سلّموا ِزمَام اختيارهم ل ،وأطاعوه في أوامره
ال واللتزام بمنهجه في الحياة الدنيا؛ ذلك أنهم قد َ
ونواهيه.
ونلحظ أن قول الحق سبحانه:
لةَ وَيُ ْن ِفقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلنِيَةً[ } ..إبراهيم.]31 :
{ قُل ّلعِبَا ِديَ الّذِينَ آمَنُواْ ُيقِيمُواْ الصّ َ
هو أمر صادر من الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم ،وأن المؤمنين في انتظار هذا المر
لِيُنفّذوه فورا ،ذلك أن المؤمن يحب أن يُنفّذ كل أمر يأتيه من ال.
وما ُد َمتْ قد أبلغتهم يا محمد هذا المر فسيُنفّذونه على الفور؛ وقد جاء قوله (يقيموا) محذوفا منه
لم المر ،تأكيدا على أنهم سيصعدون لتنفيذ المر فوْر سماعه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والزكاة تعني أن تُخرِج بعضا من ثمرة الزمن ،وبعضا من أثر الحركة في الوقت.
ونجد الكسالى عن الصلة يقولون " :إن العمل يأخذ كل الوقت والواحد منّا يحاول أن يجزع
الصلوات إلى آخرالنهار ،ويُؤدّيها جميعها قَضاءً " .وهم ل يلتفتون إلى أن ُكلّ فرض حين يُؤدّي
في ميعاده لن يأخذ الوقت الذي يتصورون أنه وقت كبير.
وظاهر المر أن الصلة تُقلّل من ثمرة العمل ،لكن الحقيقة أنها تُعطي شحنة وطاقة تحفِز النفس
على المزيد من إتقان العمل؛ وكيف ُيقِبل المصلى على العملَ بنفس راضية؛ ذلك أنه بالصلة قد
وقف في حضرة مَنْ خلقه ،ومَنْ رزقه ،ومَنْ كفله.
ولذلك يخرج منها هادئا مُطمئنا مُنتبها راضيا؛ وذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول" :
أرحنا بها يا بلل ".
والصلة في كل فرض؛ لن تأخذ أكثر من ربع الساعة بالوضوء ،وإذا نسبت وقت الصلوات كلها
إلى وقت العمل ستجد أنها تأخذ نسبة بسيطة وتعطي بأكثر ِممّا أخذت.
وكذلك الزكاة قدتأخذ منك بعضا من ثمرة الوقت لتعطيه إلى غير القادر ،ولكنها تمنحك أمانا
اجتماعيا فوق ما تتخيّل.
جمَاع القيم
ولذلك تجد الصلة مُرتبطة بالزكاة في آيات القرآن ببعضهما ،وإقامة الصلة هي ِ
جمَاع قيام الحركات العضلية كلها.
كلها؛ وإيتاء الزكاة ِ
وتعالج الصلة شيئا ،وتعالج الزكاة شيئا آخر؛ وكلهما ُتصِلح مكونات ماهية النسان؛ الروح
ومقوماتها ،والجسد ومقوماته.
جعَِلتْ قُرة عيني في الصلة ".
ولذلك قال صلى ال عليه وسلم " :و ُ
وحين تنظر إلى الصلة والزكاة تجد مصالح الحياة مجتمعة وتتفرع منهما؛ ذلك أن مصالح الحياة
قد جمعها صلى ال عليه وسلم في الركان الخمس للدين ،وهي شهادة أن ل إله إل ال وأن محمدا
رسول ال ،وإقامة الصلة ،وإيتاء الزكاة ،وصوم رمضان ،وحِجّ البيت ِلمَنِ استطاع إليه سبيل.
وعرفنا من قَبْل كيف أخذت الصلة كُل هذه الركان مجتمعة؛ ففيها شهادة أن ل إله إل ال ،وفيها
صوْم عن كل ما يلتزم به وأنت صائم؛ وأنت تتوجه خللها
تضحية وتزكية ببعض الوقت؛ وفيها َ
إلى قبلة بيت ال الحرام.
وهكذا نرى كيف ترتبط حركة الحياة والقيم ال ُمصْلِحة لها بالصلة والزكاة.
ويأمرنا الحق سبحانه في هذه الية الكريمة بأن ننفق سرا وعلنية ،وهكذا يشيع الحق النفاق في
أمرين متقابلين؛ فالنفاق سِرا ل يقع النسان فريسة المُبَاهاة؛ والنفاق عَلنا كي يعطي غيره من
القادرين أُسْوة حسنة ،ولكي تمنع الخرين من أنْ يتحدثوا عنك بلهجة فيها الحسد والغَيْرة مما أفاء
ال عليك من خير.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك أقول :اجعل الصدقة التطوعية سِرا ،واجعلها كما قال النبي صلى ال عليه وسلم " :ل تعلم
شمالك ما أعطتْ يمينك ".
واجعل الزكاة علنية حتى يعلمَ الناس أنك تُؤدي ما عليك من حقوق ال وتكون بالنسبة لهم أُسْوة
فعلية ،وعِظَة عملية ،واجعلوا من أركان السلم عِظَة سلُوكية ،فنحن نرى بعضَا من القرى
والمدن ل يحجّ منها أحد ،لن القادرين فيها قد أَ ّدوْا فريضة الحج.
ونجد أن القادر الذي يبني مسجدا؛ يعطي القادر غيره أُسْوة ليبني مسجدا آخر ،وما أنْ يأتيَ
رمضان حتى يصومَ القادرون عليه؛ ويعطوا أُسْوة لصغارهم ،وتمنع الستخذاء أمام الغير ،وهكذا
نعلن كل تكاليف السلم بوضوح أمام المجتمعات كلها.
ويقول الحق سبحانه:
لةَ وَيُ ْن ِفقُواْ ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلنِيَةً مّن قَ ْبلِ أَن يَأْ ِتيَ َيوْ ٌم لّ
} قُل ّلعِبَا ِديَ الّذِينَ آمَنُواْ ُيقِيمُواْ الصّ َ
للٌ { [إبراهيم.]31 :
بَيْعٌ فِيهِ وَلَ خِ َ
ومن هنا نعلم أن هناك أعمالً يمكن أن تؤجلها ،إل الغايات التي ل توجد فيها أعواض؛ فعليك أن
تنتهز الفرصة وتُنفّذها على الفور؛ ذلك أن اليوم الخر لن يكون فيه بَيْع أو شراء ،ولن يستطيع
أحد فيه أن يُزكّي أو يُصلّي؛ فليست هناك صداقة أو شفاعة تُغنيك عمّا كان يجب أن تقوم به في
الحياة الدنيا.
والشفاعة فقط هي ما أذن له الرحمن بها ،ولذلك يأتي المر هنا بسرعة القيام بالصلة وإيتاء
الزكاة والنفاق سِرا وعلنية من قبل أن يأتيَ اليوم الذي ل بَيْع فيه ول خِلَل.
والبيع -كما نعلم -هو ُمعَارضة متقابلة؛ فهناك مَنْ يدفع الثمن؛ وهناك مَنْ يأخذ السلعة.
والخِلَل هو المُخالّة؛ أي :الصديق الوفيّ الذي تلزمه ويلزمك.
جهْده خليلين ذَابَا َلوْعةً
شوْقُ َ
والشعر يُبيّن معنى كلمة " خليل " حين يقولَ:لمّا التقيْنَا قرّب ال ّ
خلِيلهِ تَس ّربَ أثناءَ العِنَاقِ وغَابَاوهذا يوضح أن المُخالة تعني أن يتخلل
وعِتاَباكأنّ خليلً في خِلَل َ
ُكلّ منهما الخر.
وفي الخرة لن تستطيع أن تشتري جنة أو تفتدي نفسك من النار؛ ول مُخالّة هناك بحيث يفيض
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ
عليك صديق من حسناته .والحق سبحانه هو القائل {:الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف.]67 :
وبعض السطحيين يريدون أنْ يأخذوا على القرآن أنه أثبت الخُلّة ونفاها؛ فهو القائل:
للٌ { [إبراهيم.]31 :
} لّ بَيْعٌ فِي ِه َولَ خِ َ
وهو القائلَ {:ولَ خُلّةٌ[} ...البقرة.]254 :
ثم أثبت الخُلّة للمتقين؛ الذين ل يُزيّن أحدهما للخر معصية.
وهؤلء السطحيون ل يُحسِنون تدبّر القرآن؛ ذلك أن الخُلّة المَنْفية -أو الخِلَل المنفية -في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اليات هي الخِلل التي تحضّ على المعاصي؛ وهذه هي الخِلَل السيئة.
ونعلم أن البيع في الحياة الدنيا يكون مقابلةَ سلعة بثمن؛ أما المُخالّة ففيها تكرّم ممّنْ يقدمها؛ وهو
أمرٌ ظاهريّ؛ لن في باطنه مُقايضة؛ فإذا قدّم لك أحدٌ جميلً فهذا يقتضي أنْ تردّ له الجميل؛ أما
التكرّم المجرّد فهو الذي يكون بغير سابق أو لحق.
وبعد أن بيّن لنا الحق سبحانه السعداء وبيّنَ الشقياء ،وضرب المَثل بالكلمة الطيبة ،وضرب المثَل
بالكلمة الخبيثة ،يأتي من بعد ذلك بما يهيج في المؤمن فرحةً في نفسه؛ لنه آمن بال الذي صنع
سمَاوَاتِ
كل تلك النعم ،ويذكر نعما ل يشترك فيها مع ال أحد أبدا ،فيقول } :اللّهُ الّذِي خََلقَ ال ّ
وَالَرْضَ.{ ...
()1767 /
سخّرَ
سمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ ِبهِ مِنَ ال ّثمَرَاتِ رِ ْزقًا َلكُ ْم وَ َ
ض وَأَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ
اللّهُ الّذِي خَلَقَ ال ّ
َلكُمُ ا ْلفُ ْلكَ لِ َتجْ ِريَ فِي الْ َبحْرِ بَِأمْ ِر ِه وَسَخّرَ َلكُمُ الْأَ ْنهَارَ ()32
سمَاوَاتِ
خلْقُ ال ّ
والسماء والرض -كما نعلم -هما ظَ ْرفَا الحياة لنا كلنا ،وقد قال الحق سبحانه {:لَ َ
وَالَرْضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ[} ...غافر.]57 :
فإذا كان ال هو الذي خلق السماوات والرض؛ فهذا َل ْفتٌ لنا على الجمال؛ لنه لم َيقُلْ لنا ما قاله
عمَد؛ وليس فيها فُطور ،ولم يذكر هنا أنه خلق
في مواضع أخرى من القرآن الكريم بأنها من غير َ
في الرض رواسي كي ل تميد بنا الرض ،ولم يذكر كيف قَدّر في الرض أقواتها ،واكتفى هنا
بلمحة عن خَلق السماوات والرض.
وحين يتكلم سبحانه هنا عن خَلْق السماوات يأتي بشيء لم يدّعه أحد على كثرة ال ُمدّعين من
خصْم ،وبذلك كشفَ لهم حقيقة عدم إيمانهم؛ وجعلهم
الملحدة؛ وذلك لتكون ألزم في الحجِة لل َ
يروْنَ أنهم كفروا نتيجة لَددٍ غير خاضع لمنطق؛ وهو كفر بل أسباب.
حكْما ل يوجد ل معارض ول منازع ،فهذا يعني أن الحكم قد سلَم له سبحانه .ولم
وحين يحكم ال ُ
يجترئ أحد من الكافرين على ما قاله ال؛ وكأن الكافر منهم قد أدار المر في رأسه ،وعلم أن
أحدا لم يَدّع لنفسه خَلْق السماوات والرض؛ ول يجد مفرّا من التسليم بأن ال هو الذي خلق
السماوات والرض.
وقول الحق سبحانه هنا:
ت وَالَرْضَ[ } ...إبراهيم.]32 :
سمَاوَا ِ
{ اللّهُ الّذِي خََلقَ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُوضّح لنا أن كلمة " ال " هنا؛ لنها مَناطُ الصعوبة في التكليف؛ فالتكليف يقف أمام الشهوات؛
وقد تغضبون من التكليف؛ ولكنه يحميكم من بعضكم البعض ،ويكفل لكم المان والحياة الطيبة.
ولم يَ ْأتِ الحق سبحانه بكلمة " رب " هنا لنها مناطُ العطاء الذي شاءه للبشر ،مؤمنهم وكافرهم.
وكلمة " ال " تعني المعبود الذي يُنِزل الوامر والنواهي؛ وتعني أن هناك مشقات؛ ولذلك ذكر لهم
أنه خلق السماوات والرض ،وأنزل من السماء ماء.
ونحن حين نسمع كلمة " السماء " نفهم أنها السماء المقابلة للرض؛ ولكن التحقيق يؤكد أن السماء
هي ُكلّ ما علك فأظلّك.
والمطر كما نعلم إنما ينزل من الغَيْم والسحاب .والحق سبحانه هو القائل {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُ ْزجِي
جعَُلهُ ُركَاما فَتَرَى ا ْلوَدْقَ َيخْرُجُ مِنْ خِلَلِهِ }[النور.]43 :
سحَابا ثُمّ ُيؤَّلفُ بَيْنَهُ ُثمّ يَ ْ
َ
وقد عرفنا بالعلم التجريبي أن الطائرة -على سبيل المثال -تطير من فوق السحاب ،وعلى ذلك
فالمطر ل ينزل من السماء؛ بل ينزل ممّا يعلونا من غَيْم وسحاب.
أو :أنك حين تنسب النزول من السماء؛ فهذا يوضح لنا أن كل أمورنا تأتي من أعلى؛ ولذلك نجد
الحديد الذي تحتضنه الجبال وينضج في داخلها؛ يقول فيه الحق سبحانه {:وَأَنزَلْنَا ا ْلحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ
شَدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ[} ...الحديد.]25 :
وهكذا نجد أنه إما أن يكون قد نزل كعناصر مع المطر؛ أو لن المر بتكوينه قد نزل من السماء.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يتحدث الحق سبحانه عن خَلْق السماوات والرض؛
وكيف أنزل الماء من السماء:
} فََأخْرَجَ بِهِ مِنَ ال ّثمَرَاتِ رِزْقا ّل ُكمْ[ { ...إبراهيم.]32 :
والثمرات هي نتاج ما تعطيه الرض من نباتات قد تأكل بعضا منها؛ وقد ل تأكل البعض الخر؛
فنحن نأكل العنب مثلً ،ولكنا ل نأكل فروع شجرة العنب ،وكذلك نأكل البرتقال؛ ولكنا ل نأكل
أوراق وفروع شجرة البرتقال.
ويتابع سبحانه:
سخّرَ َلكُمُ ا ْلفُ ْلكَ لِ َتجْ ِريَ فِي الْبَحْرِ بَِأمْ ِرهِ[ { ...إبراهيم.]32 :
} وَ َ
والتسخير معناه َقهْر الشيء ليكون في خدمة شيء آخر .وتسخير الفُلْك قد يثير في الذهن سؤالً:
كيف يُسخّر ال الفلك ،والنسان هو الذي يصنعها؟
ولكن لماذا ل يسأل صاحب السؤال نفسه :ومن أين نأتي بالخشاب التي تصنع منها اللواح التي
نصنع منها الفُلْك؟ ثم مَنِ الذي جعل الماء سائلً؛ لتطفو فوقه السفينة؟ ومَنِ الذي سيّر الرياح لتدفع
السفينة؟
كل ذلك من بديع صنُعْ ال سبحانه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة " الفلك " تأتي مرة ويُراد بها الشيء الواحد؛ وتأتي مرة ويُراد بها أشياء؛ فهي تصلح أن
تكون مفردا أو جمعا.
والمثل هو قول الحق سبحانه {:وَا ْلفُلْكِ الّتِي َتجْرِي فِي الْ َبحْرِ ِبمَا يَنفَعُ النّاسَ[} ...البقرة.]164 :
وكذلك قال في قصة نوح عليه السلم {:وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا[} ...هود.]37 :
جمْعا؛ وإذا عاد عليها بالتذكير تكون
وبعض العلماء يقولون :إذا عاد ضمير التأنيث عليه؛ تكون َ
مفردا.
ولكنّي أقول :إن هذا القول غَيْر غالب؛ فسبحانه قد قال عن سفينة نوح وهي مفرد {:تَجْرِي
بِأَعْيُنِنَا[} ..القمر.]14 :
ولم َيقُل " :يجري بأعيننا " ،وهكذا ل يكون التأنيث دليلً على الجمع.
ويتابع سبحانه:
سخّرَ َلكُ ُم الَ ْنهَارَ[ { ...إبراهيم.]32 :
} وَ َ
ونفهم بطبيعة الحال أن النهر عّذْب الماء؛ والبحر ماؤه مالح .وسبحانه قد سخّر لنا كل شيء
عمْقا يسمح في بعض الحيان بمسير الفلك؛
عذْب الماء ،وجعل له ُ
بأمره ،فهو الذي خلقَ النهار ّ
وأحيانا أخرى ل يسمح العمق بذلك.
وجعل البحر عميقَ القاع لِتمرُق فيه السفن ،وكل ذلك مُسخّر بأمره ،وهو القائل سبحانه {:إِن يَشَأْ
ظهْ ِرهِ[} ...الشورى.]33 :
سكِنِ الرّيحَ فَ َيظْلَلْنَ َروَاكِدَ عَلَىا َ
يُ ْ
أي :أنه سبحانه قد يشاء أن تقف الرياحُ ساكنة؛ فتركد السفن في البحار والنهار.
ومن عجائب إنباءات القرآن أن الحق سبحانه حينما تكلم عن الريح التي تُسيّر الفلك والسفن؛ قال
الشكليون والسطحيون " لم نعد نُسيّر السفن بالرياح بل نُسيّرها بالطاقة ".
حكُمْ[} ...النفال.]46 :
ونقول :فلنقرأ قوله الحقَ {:ولَ تَنَازَعُواْ فَ َتفْشَلُو ْا وَتَذْ َهبَ رِي ُ
حكُمْ { تعني :قوتكم وطاقتكم؛ فالمراد بالريح القوة المطلقة؛ سواء جاءت من هواء ،أو من
و } رِي ُ
بخار ،أو من ماء.
وهذه الية -التي نحن بصدد خواطرنا عنها -نزلت بعد أن أعلمنا الحق سبحانه بقصة السعداء
من المؤمنين؛ والشقياء الكافرين؛ فكانت تلك الية بمثابة التكريم للمؤمنين الذين قدروا نعمة ال
هذه؛ فلمّا علموا بها آمنوا به سبحانه.
وكرمتهم هذه الية لصفاء فطرتهم التي لم تُضبّب ،وتكريم للعقل الذي فكّر في الكون ،ونظر فيه
نظرة اعتبار وتدبّر ليستنتج من ظواهر الكون أن هناك إلها خالقا حكيما.
وفي الية تقريع للكافر الذي استقبل هذه النعم ،ولم يسمع من أحد أنه خلقها له؛ ولم يخلقها لنفسه،
ومع ذلك يكابر ويعاند ويكفر بربّ هذه النعم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأول تلك النعم خَلْق السماوات والرض؛ ثم إذا نظرتَ لبقية النعم فستجدها قد جاءتْ بعد خَلْق
السماوات والرض؛ وشيء من تلك النعم مُتّصل بالسماء؛ مثل السحاب ،وشيء متصل بالرض
مثل الثمرات التي تخرجها.
إذن :فالستقامة السلوبية موجودة بين النعمة الولى وبين النعمة الثانية.
ثم قال بعد ذلك:
سخّرَ َلكُمُ ا ْلفُ ْلكَ لِ َتجْ ِريَ فِي الْبَحْرِ بَِأمْ ِرهِ[ { ...إبراهيم.]32 :
} وَ َ
فما هي المناسبة التي جعلتْ هذا المر يأتي بعد هذين المرين؟ لن الفُلْك طريقها هو البحار
ومسارها في الماء.
وقد قال الحق سبحانه أنه خلق السماوات والرض .ومدلول الرض ينصرف على اليابسة كما
ينصرف على المائية ،ومن العجيب أن المائية على سطح الكرة الرضية تساوي ثلثة أميال
اليابسة؛ و ُرقْعة الماء بذلك تكون أوسعَ من رقعة التراب في الرض.
وما دام الحق سبحانه قد قال إنه أخرج من الرض ثمرا هي رِزْق لنا ،فل ُبدّ من وجود علقة ما
بين ذلك وتلك ،فإذا كانت البحار تأخذ ثلثة أرباع المساحة من الرض؛ فل ُبدّ أن يكون فيها
للنسان شيء.
وقد شرح الحق سبحانه ذلك في آيات أخرى؛ وأوضح أنه سخّر البحر لنأكل منه لحما طريا؛
وتلك مُقوّمات حياة ،ونستخرج منه حلية نلبسها؛ وذلك من تَرِف الحياة.
ونرى الفلك مواخر فيه لنبتغي من فضله سبحانه.
وبذلك يكون هناك خيرات أخرى غير السمك والحلي؛ ولكنها جاءت بالجمال ل بالتفصيل؛ فربما
ن يفهموا ويعرفوا كل ما في البحار من
لم يكُنِ الناس قادرين في عصر نزول القرآن على أ ْ
خيرات؛ ول تزال البحاثُ العلمية تكشف لنا المزيدَ من خيرات البحار.
وحين نتأمل الن خيرات البحار نتعجب من جمال المخلوقات التي فيه.
إذن :فقوله {:لِتَبْ َتغُواْ مِن َفضْلِهِ[} ...السراء.]66 :
هو َقوْل إجمالي يُلخّص وجود أشياء أخرى غير السماك وغير الزينة من اللؤلؤ والمرجان
وغيرها ،ونحن حين نرى مخلوقاتِ أعماق البحار نتعجّب من ذلك الخَلْق أكثر مما نتعجّب من
الخَلْق الذي على اليابسة ،ومن خَلْق ما في السماء.
وهكذا يكون قوله الحق {:لِتَبْ َتغُواْ مِن َفضِْلهِ[} ...السراء.]66 :
من آيات الجمال التي تُفصلّها آيات الكون؛ فبعضٌ من اليات القرآنية تُفسرها اليات الكونية،
ذلك أن الحق سبحانه لو أوضح كل التفاصيل َلمَا صدّق الناس -على عهد نزول القرآن -ذلك.
حمِيرَ
ل وَالْ ِبغَالَ وَالْ َ
وعلى سبيل المثال حين تكلّم سبحانه عن وسائل المواصلت؛ قال {:وَالْخَ ْي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لِتَ ْركَبُوهَا وَزِينَ ًة وَيَخُْلقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[النحل.]8 :
وقوله تعالى {:وَيَخْلُقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[النحل.]8 :
أدخل ُكلّ ما اخترعنا نحن البشر من وسائل المواصلت؛ حتى النقل بالزرار كالفاكس وغير
ذلك.
وحينما يتكلم سبحانه عن البحار؛ إنما يُوضّح لنا ما يُكمِل الكلم عن الرض.
سخّرَ َلكُمُ ا ْلفُ ْلكَ لِ َتجْ ِريَ فِي الْبَحْرِ بَِأمْ ِرهِ[ { ...إبراهيم.]32 :
} وَ َ
ولو َفطِن الناس لقالوا عن السفن " جمال البحار "؛ ما داموا قد قالوا عن الجمل إنه " سفينة
الصحراء "؛ ولكنهم أخذوا بالمجهول لهم بالمعلوم لديهم.
ت المركب من اللواح ،ذلك أنك صنعتَ
وإياك أن تقول :أنا الذي صنعتُ الشراع؛ وأنا الذي صنع ُ
كل ذلك بقواك المخلوقة لك من ال ،وبالفكر الموهوب لك من ال؛ ومن المادة الموهوبة لك من
ال ،فكلّها أشياء جاءتْ بأمر من ال.
وهنا يقول سبحانه:
سخّرَ َلكُ ُم الَ ْنهَارَ { [إبراهيم.]32 :
} وَ َ
عذْبا.
عذْبا ليروي الشجار التي تُنِتج الثمار .والشجار عادة تحتاج ماء َ
والنهر ماؤه عادة يكون َ
وهكذا شاء ال أن يكون ماء البحار والمحيطات مخزنا ضخما للمياه؛ يحتل ثلثة أرباع مساحة
الكرة الرضية ،وهي مساحة شاشعة تتيح فُرْصة لعمليات البَخْر؛ التي تُحوّل الماء بواسطة
الحرارة إلى بخار يصعد إلى أعلى ويصير سحابا؛ فيُسقط السحابُ منه الشجار التي تحتاجه،
وتنتج لنا الثمار التي نحتاجها ،وكأن الملح التي توجد في مياه البحار تكون لِحفْظها وصيانتها
من العطب.
ونعلم أن معظم مياه النهار تكون من المطار ،وهكذا تكون دورة الماء في الكون؛ مياه في البحر
تسطع عليها الشمس لِتُبخّرها؛ لتصير سحابا؛ ومن بعد ذلك تسقط مطرا يُغذي النهار؛ ويصب
الزائد مرة أخرى في البحار.
شمْسَ.{ ...
ويتابع سبحانه } :وَسَخّر َل ُكمُ ال ّ
()1768 /
والشمس آية نهارية؛ والقمر آية ليلية ،والماء له علقة بالشمس والتي تُبخّره من مياه البحار؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونروي به أيضا الرض التي تنتج لنا الثمار؛ أما البحار فحساب ُكلّ ما يجري فيها يتم حسب
التقويم القمري.
وهل كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يعلم كل ذلك وهو النبي المي؟
طبعا لم يكن ليعلم ،بل أنزل الحق سبحانه عليه القرآن؛ يضمّ حقائق الكون كلها.
وقول الحق سبحانه عن الشمس والقمر " دائبين " من الدّأب ،والدّؤوب هو مرور الشيء في عمل
جهْدا مُنظّما رتيبا لتحصيل مواده
رتيب ،ونقول " فلن دَءُوب على المذاكرة " أي :أنه يبذل َ
الدراسية ،ول يبُدد وقته.
وكذلك الشمس والقمر اللذان أقام الحق سبحانه لهما نظاما دقيقا.
وعلى سبيل المثال نحن نحسب اليوم بأوله من الليل ثم النهار؛ ونقسم اليوم إلى أربع وعشرين
س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ[} ...الرحمن.]5 :
شمْ ُ
ساعة؛ ولذلك قال الحق سبحانه {:ال ّ
س وَا ْلقَمَرَ حُسْبَانا[} ...النعام ]96 :أي :أنك أيها النسان ستجعل من ظهور
شمْ َ
وقال أيضا {:وَال ّ
واختفاء أيّ منهما حسابا.
ب بهما الزمن ،فل اصطدامَ
وقد جعلهما الحق سبحانه على دقة في الحركة تُيسّر علينا أن نحس َ
ل منهما فَلَك خاص وحركة محسوبة بدقة فل يصطدمان .ول يُشْبِهان بطبيعة الحال
بينهما ،ولك ّ
الساعات التي نستخدمها وتحتاج إلى ضبط.
عمْق اليمان بالخالق العلى.
وكلما ارتقينا في صناعة نجد اختراعاتنا فيها تُقرّبنا من ُ
وفي نفس الية يقول الحق سبحانه:
سخّرَ َلكُمُ الْلّ ْيلَ وَال ّنهَارَ } [إبراهيم.]33 :
{ وَ َ
وبما أن الشمس آية نهارية؛ والقمر آية ليلية ،والنهار يسبق الليل في الوجود بالنسبة لنا .كان
ُمقْتضى الكلم أن يقول :سخر لكم النهار والليل.
ولكن الحق سبحانه أراد أن يُعلمنا أن القمر وهو الية الليلية؛ ويسطع في الليل؛ والليل مخلوق
للسكون؛ لكن هذا السكون ليس سببا لوجود النسان على الرض؛ بل السبب هو أن يتحرك
النسان ويستعمر الرض ويكِدّ ويكدح فيها.
ضوْءَه منها؛ ثم جاء بخبر الليل وخبر النهار ،فكأن
لذلك جعل استهلل الشمس أولً والقمر يستمد َ
ال قد اكتنفَ هذه الية بنوريْن.
النور الول :من الشمس .والنور الثاني :من القمر ،كي يعلَم النسانُ أن حياته مُغلفة تغليفا يتيح
له الحركة على الرض ،فل تظننّ أيها النسانُ أن الصل هو النوم! ذلك أنه سبحانه قد خلق
النوم لترتاح؛ ثم تصحو لتكدح.
ونلحظ أن كلمة " التسخير " تأتي للشياء الجوهرية ،وتأتي للمُسخّرات أيضا ،فالحيوان مُسخّر لنا،
وكذلك النبات والسماء مُسخّرة بما فيها لنا ،أما الليل والنهار فهما نتيجتان لجواهر؛ هما الشمس
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والقمر؛ والليل والنهار مُسبّبان عن شيئين مُباشرين هما :الشمس والقمر.
والتسخير -كما نعلم -هو منع الختيار .وإذا ما سَخّر الحق سبحانه شيئا فلنعلم أنه مُنضبط ول
يتأتّى فيه اختلل ،ولكن الكائن غير المُسخّر هو الذي يتأتى فيه الختلل؛ ذلك أنه قد يسير على
جَادّة الصواب ،أو قد يُخطيء.
وفي مسألة التسخير والختيار َتعِب الفلسفة في دراستها؛ وذهبت المذاهب الفلسفية -وخصوصا
في ألمانيا -إلى مذهبين اثنين ظاهرهما التعارض؛ ولكنهما يسيرانِ إلى غايةٍ واحدة وهي تبرير
اللحاد.
وكان من المقبول أن يكونَ مذهبٌ يُبرر اللحاد ،وأنْ يبررَ الخرُ اليمانَ ،ولكن شاء فلسفة
المذهبين أنْ يُبرروا اللحاد.
وقال فلسفة أحد المذهبين :أنتم تقولون إن الكون تُديره قوة قادرة حكيمة؛ وأن ُكلّ ما فيه منضبط
بتصرفات محسوبة ودقيقة.
ولكن الواقع يقول :إن هناك بعضا من المخالفات التي نراها في الكائنات ،والمثل هو تلك
الشذوذات التي في النسان -على سبيل المثال -فهناك القصير أكثر من اللزم؛ وهناك الطويل
أكثر من اللزم؛ وهناك مَنْ يولد بعين واحدة؛ وهناك مَنْ يولد بذراع عاجز؛ ولو أن القوة التي
تدير الكون حكيمة َلمَا ظهرتْ أمثال تلك الشذوذات.
ونرد على صاحب تلك النظرية قائلين :وإذا لم يكُنْ هناك إله ،أتستطيع أن تقول نال الحكمة من
وراء وجود تلك الشذوذات؟ فأنت تدفع الحكمة عن الخالق الذي نؤمن به؛ فهل تستطيع أنت إثباتَ
الحكمة لغيره؟ طبعا لن يستطيع أنْ يردّ عليك؛ لن كلمه مردود.
ثم نأتي للمدرسة المقابلة التي تقول :إن النظام الموجود بالكون يدل على أنه ل يوجد له خالق؛
فهو نظام ثابت آليّ؛ ول يوجد إله قادر على أن يقلب آلية هذا الكون.
وهكذا كانت هاتان المدرستان مختلفتين؛ ومتعارضتين؛ ولكنهما يؤديان إلى اللحاد.
ونرد على المدرستين قائلين :يا من تأخذ ثبات النظام دليلً على وجود إله؛ فهذا الثبات موجود في
الكون العلى .ويا من تأخذ الشذوذ دليلً على وجود خالق؛ فهو موجود في الكائنات الدنى؛ ولو
حدث الشذوذ في الكائنات العلى لَفسدت السماوات والرض.
وقد شاء الحق سبحانه أن يوجد الشذوذ لوجه في الفراد؛ فواحد يكون شاذا؛ والباقي الغالب يكون
سليما.
وهكذا يكون الشذوذ في الفراد غيرَ مانع لقضية وجود خالق أعلى ،وإذا أردت ثبات النظام فانظر
إلى الكون العلى؛ كي تعلم أنه ل يوجد للنسان مَدْخل في هذا المر.
وهكذا نجد أن الحق سبحانه قد سخّر لنا الليل والنهار؛ وهما من العراض الناتجة عن تسخير
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشمس والقمر؛ وكلً من الشمس والقمر دائبين ،يمشي كل منهما في حركته مشيا ل تنقطع فيه
رتابة العادة .ونضبط أوقاتنا على هذا النظام الرتيب الدقيق ،فنحدد -على سبيل المثال -أوائل
الفصول ومواسم الزراعة؛ ومواقيت الصلة.
وإذا نظرتَ إلى أيّ اختلل قد ينشأ من بعض الظواهر؛ فاعلم أن ذلك قد نشأ من تدخّل النسان
ف في الرض؛ والمثال هو مشكلة ُثقْب طبقة الوزون الموجودة في الغلف
المُخْتار المُسْتخل َ
الجوي ،والتي قد نشأت من تجاربنا التي نلهث فيها من أجل تحسين حياتنا على الرض.
ولكننا ننظر إلى التجربة بأفْق محدود ،ونفصل النظرة الجزئية عن النظرة الكلية المطلوب منا أنْ
ننظرَ بها لكُل ما يحيط بنا في الكون؛ فنتسبب بهذا اللهْث في التجارب في إفساد الكثير من أسرار
حياتنا على الرض؛ حتى بِتْنَا نشكو من اضطراب الجو بَرْدا وصقيعا؛ وحرا فوق الحتمال.
وذلك بتدخّل النسان المختار فيما ل يجب أنْ يتدخلَ فيه إل بعد أن يدرسَ كل جوانبه .واقرأ إن
ظهَرَ ا ْلفَسَادُ فِي الْبَ ّر وَالْ َبحْرِ ِبمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي النّاسِ[} ...الروم.]41 :
شئت قول الحق سبحانهَ {:
ولذلك لبُدّ من دراسة المُقدّمات والنتائج جيدا قبل أن نُضخّم من تجاربنا التي قد تضر البشر؛
ولذلك أيضا أقول :إن علينا أن ندرس الثار الجانبية لكل اختراع علمي كي نحميَ البشر من
سيئات تلك الثار الجانبية.
ولنتذكر قول الحق سبحانهَ {:ولَ َتقْفُ مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ[} ...السراء.]36 :
شكِلت تتعلق بالجو والصحة هو نتيجة تدخّلنا بغير علم مكتمل؛ وهذا
ولعل ما نعيش فيه من مُ ْ
يؤكد لنا حكمة الخالق العلى؛ ذلك أننا لمّا خرجنا بالمُخْترعات العلمية وانبهرنا بفائدتها السطحية؛
ظننا أن في ذلك مكسبا كبيرا؛ ولكنه كان وبالً في بعض الحيان نتيجة الثار الجانبية.
ولذلك لم َيقُلِ الحق سبحانه " :بما اكتسبت أيدي الناس " بل قالِ {:بمَا كَسَ َبتْ أَيْدِي النّاسِ} ...
[الروم.]41 :
وفي الية نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه:
ل وَال ّنهَارَ { [إبراهيم.]33 :
سخّرَ َلكُمُ الْلّ ْي َ
ن وَ َ
س وَا ْل َقمَرَ دَآئِبَي َ
شمْ َ
سخّر َلكُمُ ال ّ
} وَ َ
وهكذا نعلم أن تعاقب ظهور الشمس والقمر؛ يُسبّب تعاقبَ مجيء الليل والنهار.
ول يعني ظهور الشمس وسطوعها أن القمر غير موجود؛ فهو موجود ،ولكن ضوء الشمس
المُبهِر يمنعك من أنْ تراه ،ولكن هناك أوقات يمكنك أن ترى فيها الشمس والقمر معا.
ج َعلَ
أما الليل والنهار فهما يتتابعان كل منهما خَلْف الخر .والحق سبحانه هو القائل {:وَ ُهوَ الّذِي َ
ل وَال ّنهَارَ خِ ْلفَةً[} ...الفرقان.]62 :
اللّ ْي َ
أي :أنهما ل يأتيان معا أبدا؛ فالليل في بلد ما يقابله نهار في بلد آخر.
عقِب الخر؛ وقد جعل الحق سبحانه ذلك من
ل منهما يأتي َ
وهكذا أثبتَ لنا الدأبَ في الحركة؛ ف ُك ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أول لحظة في الخَلْق؛ وكانا لحظة الوجود خِلفْة ،كل منهما يأتي من بعد الخر؛ فكأن الكون حين
خلقه ال؛ وجعل الشمس في مواجهة الرض ،صار الجزء المواجه للشمس نهارا؛ والجزء غير
المواجه لها صار ليلً.
ثم دارت الرض؛ ليأتي الجزء الذي كان غير مُواجِه للشمس؛ في مواجهتها؛ فصار ليلً ،وذهب
الجزء الذي كان في مواجهتها ،ليكون مكان الجزء الخر فصار ليلً ،وهكذا شاء سبحانه أن
يكون كل منهما خَلْف الخر.
حصْر بعضٍ من نعمة الكلية علينا نحن العباد ،سماء ،وأرض ،وماء
وهكذا تكلم الحق سبحانه عن َ
ينزل ،وثمرات تنبت من الرض ،وكذلك سخّر لنا الشمس والقمر ،والليل والنهار ،وهذا ما يُسمّى
تعديد لبعض النعم.
ونجد واحدا من الصالحين يقول عن نعم ال " أَعد منها ول أعددها " .فكأن ال ينبهنا إلى أصول
النظام الكوني العلى ،ثم فتح المجالِ لِنعَمٍ أخرى لن يستطيع أحد أنْ يُحصِيها.
لذلك يقول سبحانه من بعد ذلك } :وَآتَاكُم مّن ُكلّ مَا سَأَلْ ُتمُوهُ.{ ...
()1769 /
نعم ،أعطانا الحق سبحانه مما نسأل وقبل أن نسأل ،وأعدّ الكون لنَا من قبل أنْ نوجد .إذن:
فسبحانه قد أعطانا من قبل أنْ نسألَ؛ وسبقت النعمة وجود آدم عليه السلم ،واستقبل الكونُ آدم،
وهو ُم َعدّ لستقباله.
وإذا نظرتَ للفرد مِنّا ستجد أن ِنعَم ال عليه قد سبقتْ من قبل أن نعرف كيف نسأله ،والمثل هو
الجنين في بطن أمه.
وهنا قال الحق سبحانه:
{ وَآتَاكُم مّن ُكلّ مَا سَأَلْ ُتمُوهُ[ } ...إبراهيم.]34 :
يعني :أنه قد أعطاك ما تسأله وما لم تسأله ،نطقت به أو لم تنطق ،ولو بحديث النفس أو خواطر
خافية ،وأنك قد تقترح وتطلب شيئا فهو يعطيه لك.
وقد يسأل البعض من باب الرغبة في التحدي -ول المثل العلى -نجد بعض البشر ِممّنْ أفاء
ال عليهم بجزيل نعمه؛ ويقول الواحد منهمُ :قلْ لي ماذا تطلب؟
وقد حدث معي ذلك ونحن في ضيافة واحد ِممّنْ أكرمهم ال بكريم عطائه ،وكنا في رحلة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صحراوية بالمملكة العربية السعودية ،وقال لي :أطلب أي شيء وستجده بإذن ال حاضرا.
وفكرتُ في أن أطلب ما ل يمكن أن يوج َد معه ،وقلت :أريد خيطا وإبرة ،فما كان ردّه إل " وهل
تريدها فتلة بيضاء أم حمراء؟ ".
وإذا كان هذا يحدث من البشر؛ فما بالُنَا بقدرة ال على العطاء؟ ومن حكمة ال سبحانه أنه قال:
{ وَآتَاكُم مّن ُكلّ مَا سَأَلْ ُتمُوهُ[ } ...إبراهيم.]34 :
ذلك أن وراء كل عطاءٍ حكمةً ،ووراء كل مَنْع حكمة أيضا ،فالمنع من ال عين العطاء ،فالحقّ
ع الِنْسَانُ بِالشّرّ
سبحانه مُنزّه عن أن يكون مُوظّفا عندك ،كما أن الحق سبحانه قد قال {:وَيَ ْد ُ
دُعَآ َءهُ بِالْخَيْرِ[} ...السراء.]11 :
ولذلك قال:
{ وَآتَاكُم مّن ُكلّ مَا سَأَلْ ُتمُوهُ[ } ...إبراهيم.]34 :
أي :بعض ِممّا سألتموه ،ذلك أن هناك أسئلة حمقاء ل يُجيبكم ال عليها؛ مثل قول أي امرأة
يعاندها ابنها " يسقيني نارك " هذه السيدة؛ لو أذاقها ال نارَ افتقاد ابنها؛ ماذا سوف تفعل.
إذن :فمِنْ عظمته سبحانه أنْ أعطانا ما هو مُطابِق للحكمة؛ ومنَع عنّا غَيْر المطابق لحكمته
سبحانه ،فالعطاء نعمة ،والمَنْع نعمة أيضا ،ولو نظر ُكلّ منا لعطاء السّلْب؛ لَوجد فيه نعما كثيرة.
ويقول سبحانه {:سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلَ تَسْ َتعْجِلُونِ }[النبياء.]37 :
لذلك فل يقولن أحدٌ " :قد دعوتُ ربي ولم يَستجِب لي " وعلى النسان أن يتذكّر َقوْل الحق
عجُولً }[السراء.]11 :
ع الِنْسَانُ بِالشّرّ دُعَآ َءهُ بِالْخَيْرِ َوكَانَ الِنْسَانُ َ
سبحانه {:وَيَ ْد ُ
فهو سبحانه مَنْ يملك حكمة العطاء وحكمة المنع .ول أحدَ مِنّا يستطيع أنْ يعُدّ ِنعَم ال .والعَدّ -
جمْع أو جزئيات ُكلّ .ويعلم أهل العلم بالمنطق -ونسميهم
حصْرٌ لمفردات َ
كما نعلم -هو َ
المَنَاطِقة -أن هناك " كُليّ " يقابله " جُزئيّ ،وهناك " كُل " يقابله " جزء.
والمَثل على " الكُليّ " النسان؛ حيث إننا جميعا مُكونّين من عناصر متشابهة؛ ومفرد البشر يختلف
باختلف السماء؛ أما ما يُسمّى " كل " فالمثَل عليه هو الكُرسي ،وهو ُمكّون من مواد مختلفة
كالخشب والمسامير والغِرَاء ،ول يمكن أن نطلق على الخشب فقط كلمة كرسي؛ وكذلك ل
نستطيع أن نُسمّي " المسامير " بأنها كراسي.
وعلى هذا نكون قد عرفنا أن حقيقة الكُلّي أن مفرداته متطابقة؛ وإن اختلفت أسماؤها ،لكن حقيقة
ال ُكلّ أن مفرداته غير متشابهة ،وتختلف في حقيقتها.
وإذا أردتَ أنْ تُحصِي الكُليّ فأنت تنطق أسماء الفراد كأن تقول :محمد وأحمد وعلي؛ وهذا ما
يُسمى عدا ،وهكذا نفهم أن العَدّ هو إحصاءُ جزئيات الكلي ،أو إحصاء أجزاء ال ُكلّ.
س ّموْا العَدّ إحصاءً؛ لنهم كانوا يعدّون الشياء قديما بالحصَى؛ وأُطلِقت كلمة
ونعلم أنهم قد َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحصاء على مُطْلق العَدّ حسابا للصل ،وعرف عدد أجزاء الكلي أو الكل.
وكان النسان في العصور القديمة َيعُد -على سبيل المثال -إلى رقم " مائة " ،ثم يحسب كل
عشْر حصوات عرف أن العدد قد صار ألفا ،ومن هنا جاءت
مائة بحصاة واحدة؛ فإذا تجمّع لديه َ
كلمة الحصاء ،وفي كثير من أمور عصرنا المتقدم؛ ما زِلْنا نُسمّي بعض الشياء بمُسمّيات
قديمة؛ فنحسب قوة السيارة بقوة الحصان.
وأنت إذا نظرتَ إلى قول الحق سبحانه:
حصُوهَا[ { ...إبراهيم.]34 :
} وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ لَ ُت ْ
ستجد الكثير من المعاني ،ولكن مَنْ يحاولون التصيّد للقرآن يقولون :إن هذا أمر غَيْر دقيق؛ فما
دام قد حدث العَدّ؛ فكيف ليتم الحصاء؟ وهؤلء ينسوْنَ أن المقصود هنا ليس العدّ في ذاته؛ ولكن
المقصود هو إرادة العدّ.
ولو وُجِدت الرادة فليس هناك قدرة على استيعاب نعم ال ،ومن هنا ل نرى تعارضا في آيات
عدّ أمر إل إذا كان غالبُ الظن أنك قادرٌ على
ال ،وإنما هو نسق متكامل ،فأنت ل تُقبل على َ
العَدّ ،وذلك إذا كان في إمكان البشر ،ولكن نعم ال فوق طاقة مقدور البشر.
والمثَل أيضا على مسألة إرادة الفعل يمكن أن نجده في قوله الحق {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ُقمْتُمْ
إِلَى الصّلةِ فاغْسِلُو ْا وُجُو َهكُمْ[} ...المائدة.]6 :
ونحن ل نغسل وجوهنا لحظة أن نقوم بالصلة؛ ولكننا نغسلها ونستكمل خطوات الوضوء حين
يُؤذّن المؤذن ونمتلك إرادة الصلة ،فكأن القول هنا يعني :إذا أردتُم القيام إلى الصلة فافعلوا كذا
وكذا.
ونعلم أن ِذكْر الشيء بسببه كأنه هو؛ ولذلك يُقال :إذا كان الذان قد أذّن في المسجد؛ وأنت خارج
من منزلك بقصد الصلة؛ فل تجري لتلحق بالمام وتُدرك الصلة؛ لنك في صلة من لحظة أنْ
ن تفعلَ حركة تتناقض مع الصلة ،وادخل المسجد
توضأْتَ وخرجتَ من بيتك للصلة؛ وإياك أ ْ
بسكينة ووقار لتؤدي الصلة مع المام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحصاء " وله أقسام جامعية متخصصة.
وعلى الرغم من التقدم وصناعة الحاسب اللي " الكمبيوتر " لم يستطع أحدٌ ولم يُقبِل أحدٌ على
إحصاء ِنعَم ال في الكون ،ذلك أن العدّ والحصاء يقتضي كُليّا له أفراد ،أو كُلً له أجزاء.
ن فصّ ْلتَ فيها ستجدها
وأنت إنْ نظرتَ إلى أيّ نعمة من نعم ال؛ قد تظنها نعمة واحدة؛ ولكنك إ ْ
ِنعَما مُتعدّدة وشتّى ،وهكذا ل يوجد تناقض في قوله الحق:
حصُوهَا[ { ..إبراهيم.]34 :
} وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ لَ ُت ْ
وأنت إنْ أخذتَ نعمة المياه ستجدها ِنعَما متعددة؛ فهي مُكونّة من عناصر ،كل عنصر فيها نعمة؛
وإن أَخذتَ نعمة الرض ستجد فيها ِنعَما كثيرة مطمورة ،وهكذا تكون كل نعمة من ال مطمور
حصَى.
فيها نِع َم متعددة ،ول تُ ْ
وحين تنظر في قول الحق سبحانه:
حصُوهَا[ { ..إبراهيم.]34 :
} وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ لَ ُت ْ
تجد ثلثة عناصر؛ هي المُنعِم؛ والنعمة التي حكَم الحق سبحانه أنك لن تحصيها ،وأن خَلْقه لَم
يضعوا أنوفهم في أنْ يعدّوا تلك النعمة ،فهي ل تحصى لنها ليست مظنّة الحصاء؛ ول يقبل
عاقلٌ أن يحصيها.
والعنصر الثالث هو المُ ْنعَم عليه ،وهو النسان الذي قد يعجز عن إحصاء نعم رئيسه من البشر
عليه -فما بالك بنعم ال التي ل تحصى ،وكمالته التي ل تُحدّ ،وعطائه الذي ل ينفد؟ ول المثل
العلى ،فهو المنزّه عن المثل.
ثم يأتي قول الحق سبحانه:
} إِنّ النْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ { [إبراهيم.]34 :
وهنا في سورة إبراهيم نجد قوله الحق مبينا ظلم النسان لنفسه وكفره بالنعمة ،وفي كفره للنعمة
كفر بالمنعم يقول سبحانه وتعالى {:أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ َبدّلُواْ ِن ْعمَةَ اللّهِ ُكفْرا وَأَحَلّواْ َق ْو َمهُمْ دَارَ الْ َبوَارِ
جهَنّمَ َيصَْلوْ َنهَا وَبِئْسَ ا ْلقَرَارُ }[إبراهيم.]29-28 :
* َ
وهؤلء هم مَنِ ارتكبوا مظالم بالنسبة لعقيدة الوحدانية واليمان بال ،والنسان هو المُ ْنعَم عليه؛
وما كان يصحّ أن يرى كل تلك النعم ثم يكفر بها ،وكان من العدل أن يعطي الحق لصاحبه ،ولكن
بعضا من البشر بدّلوا نعمة ال كفرا؛ وهكذا صاروا ِممّنْ يُطلَق على كل منهم أنه ظلوم في
الحكم؛ وأنه كفّار؛ لجحوده بالنعمة ونكرانه عطاء الخالق للمخلوق.
والظلم كما نعرف هو أن تنقل الحق من صاحبه إلى غير صاحبه؛ وإنْ لم تؤمن بال تكون قد
ت تؤمن بشركاء؛ فأنت تنقل بذلك حقا من ال إلى غيره وهذا
ن كن َ
أخذتَ حق الله في الوجود ،وإ ْ
ظلم القمة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س وَا ْل َقمَرَ وَالْنّجُومُ
شمْ َ
ل وَالْ ّنهَا َر وَال ّ
وانظر إلى قول الحق سبحانه في سورة النحل {:وَسَخّرَ َل ُكمُ اللّ ْي َ
مُسَخّرَاتٌ بَِأمْ ِرهِ إِنّ فِي ذَِلكَ ليَاتٍ ّل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ * َومَا ذَرَأَ َلكُمْ فِي الَ ْرضِ ُمخْتَلِفا أَ ْلوَانُهُ إِنّ فِي
سخّرَ الْبَحْرَ لِتَ ْأكُلُواْ مِ ْنهُ لَحْما طَرِيّا وَتَسْ َتخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً
ك ليَةً ّل َقوْمٍ َي ّذكّرُونَ * وَ ُهوَ الّذِي َ
ذَِل َ
سيَ
شكُرُونَ * وَأَ ْلقَىا فِي الَ ْرضِ َروَا ِ
تَلْبَسُو َنهَا وَتَرَى ا ْلفُ ْلكَ َموَاخِرَ فِي ِه وَلِتَبْ َتغُواْ مِن َفضْلِهِ وََلعَّلكُمْ تَ ْ
أَن َتمِيدَ ِب ُك ْم وَأَ ْنهَارا وَسُبُلً ّلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ * وَعَلمَاتٍ وَبِالنّجْمِ هُمْ َيهْ َتدُونَ * َأ َفمَن يَخُْلقُ َكمَن لّ
حصُوهَآ إِنّ اللّهَ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }[النحل.]18-12 :
يَخُْلقُ َأفَل تَ َذكّرُونَ * وَإِن َتعُدّواْ ِن ْعمَةَ اللّ ِه لَ ُت ْ
فهل هناك إرادة أو قدرة تستطيع أن تحصي عطاءات ال التي فوق العَدّ والحدّ؟ ففي اليات
السابقة وغيرها إعجاز وعجز ،وما دام هناك عجز فالكمال عنده ل يتناهى.
إن بعضا ِممّنْ يستدركون على القرآن يقولون :كيف يقول القرآن مرة:
حصُوهَا إِنّ النْسَانَ َلظَلُومٌ َكفّارٌ { [إبراهيم.]34 :
} وَإِن َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ لَ ُت ْ
ثم يقول في آية أخرى:
حصُوهَآ إِنّ اللّهَ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }[النحل.]18 :
{ وَإِن َتعُدّواْ ِن ْعمَةَ اللّ ِه لَ ُت ْ
عمِ َيتْ بصيرتكم عن معرفة
ونردّ على هؤلء :أنتم لم تنظروا إلى السياق الذي جاء في كل آية ،و َ
أن سياقَ الية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ قد جاء فيها ِذكْر النّعم وذكر الجحود
والكفران بالنعم؛ وهذا ناشىء عن ظُلْم النسان لنفسه بالظّلْم العظيم.
سعَتْنا ،ولم يمنع
وفي آية أخرى سورة النحل جاء بِذكْر النعم ،ورغم ظُلْمنا إل أن رحمته سبحانه وَ ِ
عنّا ما أسبغه علينا من نعم ،وكأنه سبحانه يُوضّح لنا :إياكم أنْ تستحُوا أنْ تسألوني شيئا؛ وإنْ
كنتم قد ظلمتُم وكفرتُم في أشياء ،فظُلْمكم يقابله غفران منّى ،وكافريتكم يقابلها منى رحمة ،وهكذا
ل يوجد تعارضٌ بين اليتين؛ بل كُل تذييل لكل آية مناسبٌ لها ،ففي الية الولى يعاملنا ال
بعدله ،وفي الية الثانية يعاملنا ال بفضله.
ونلحظ أن الحق سبحانه قد قال هنا:
} إِنّ النْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ { [إبراهيم]34 :
ونعلم أن هناك أناسا قد آمنوا بال وبنعمه ،ويشكرون ال عليها ،فكيف َيصِف الحق سبحانه
النسان بأنه ظَلوم كفّار؟
ونقول :إن كلمة " إنسان " إذا أُطلِقتْ من غير استثناء فهي تنصرف إلى الخُسْران والحياة بل
منهج؛ ودون التفات للتفكير في الكون.
ن الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ }[العصر-1 :
والحق سبحانه حين أراد أن يُوضّح لنا ذلك قال {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
.]2
حقّ
صوْاْ بِالْ َ
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ وَ َتوَا َ
ولذلك جاء سبحانه بالستثناء بعدها ،فقالِ {:إلّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ
صوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر.]3 :
وَ َتوَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َعلْ.{ ...
ويقول سبحانه من بعد ذلك } :وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ
()1770 /
ج َعلْ َهذَا الْبَلَدَ َآمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَ ِنيّ أَنْ َنعْبُدَ الَْأصْنَامَ ()35
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ َربّ ا ْ
وحين يقول سبحانه (إذ) أي " اذكر " ويقول من بعد ذلك على لسان إبراهيم ( َربّ) ولم َي ُقلْ " يا
ال " ذلك أن إبراهيم كان يرفع دعاءه للخالق المربّي ،لذلك قال " ربّي " ولم َيقُل " يا ال " لن
عطا َء ال تكليفٌ ،وأمام التكليف هناك تخيير في أن تفعل ول تفعل ،مثل قوله سبحانه {:وََأقِيمُواْ
لةَ[} ...البقرة.]43 :
الصّ َ
أما عطاء الربوبية فهو ما يقيم حياة المُصلّين وغير المُصلّين.
ولم تَ ْأتِ مسألة إبراهيم هنا َقفْزا؛ ولكِنّا نعلم أن القرآن قد نزل ،وأول مَنْ سيسمعه هُم السادة من
قريش؛ الذين تمتّعوا بالمهابَة والسيادة على الجزيرة العربية؛ ول يجرؤ أحد على التعرّض لقوافلها
في ِرحْلَ َتيْ الشتاء والصيف؛ لليمن والشام؛ وهم قد أخذوا المهابة من البيت الحرام.
ولذلك تكلّم الحق سبحانه عن النعمة العامة لكل كائن موجود تنتظر أُذنه نداءالسلم؛ وبعد ذلك
يتكلم الحق سبحانه عن النعم التي تخصّهم؛ لذلك قال:
ج َعلْ هَـاذَا الْبََلدَ آمِنا[ } ...إبراهيم.]35 :
{ َربّ ا ْ
وقد وردتْ هذه الجملة في سورة البقرة بأسلوب آخر ،وهو قول الحق سبحانه {:وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
ج َعلْ هَـاذَا بَلَدا آمِنا[} ...البقرة.]126 :
َربّ ا ْ
والفرق بين " البلد " و " بلدا " يحتاج مِنّا أن نشرحه ،فـ " بلدا " تعني أن المكان كان َقفْرا؛ ودعا
إبراهيم أن يصبحَ هذا المكانُ بلدا آمنا أي :أن يجد مَن يقيمون فيه ،يُجدّدون حاجاتهم ومتُطلباتهم؛
وتكون وسائل الرزق فيه مُيسّرة ،ودعاؤه أيضا شمل طلب المن ،أي :أل يوجد به ما يُهدّد
طمأنينة الناس على يومهم العاديّ ووسائل رزقهم.
وأجاب الحق سبحانه دعاء إبراهيم فصار المكان بلدا؛ وجعله سبحانه آمنا أمانا عاما؛ لن النسان
في أيّ ُبقْعة من بقاع الرض ل يتخذ مكانا يجلس فيه ويقيم ويتوطّن إل إذا ضمن لنفسه أسباب
المن من مُقوّمات حياة ومن عدم تفزيعه تفزيعا قويا ،وهذا المن ملطوب لكل إنسان في أيّ
أرض.
وقد دعا إبراهيم عليه السلم هذا الدعاء وقت أنْ نزلَ هذا المكان ،وكان واديا غير ذي زرع؛ ول
مُقوّمات للحياة فيه؛ فكان دعاؤه هذا الذي جاء ِذكْره في سورة البقرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما هنا فقد صار المكان بلدا؛ وكان الدعاء بالمن لثاني مرة؛ هي دعوة لمن خاص؛ ففي غير
هذا المكان يمكن أن تُقطع شجرة؛ أو يصْطاد صَيْد؛ ولكن في هذا المكان هناك َأمْنٌ خاصّ جدا؛
أمنٌ للنبات ول ُكلّ شيء يوجد فيه؛ فحتى الحيوان ل ُيصَاد فيه؛ وحتى فاعل الجريمة ل ُيمَسّ.
وهكذا اختلف الدعاء الول بالمن عن الدعاء الثاني؛ فالدعاء الول :هو دعاء بالمن العام؛
والدعاء الثاني :هو دعاء بالمن الخاص؛ ذلك أن كل بلد يوجد قد يتحقق فيه المن العام؛ ولكن
بلد البيت الحرام يتمتع بأمنٍ يشمل كل الكائنات.
ويقول بعض من السطحيين :ما دام الحق قد جعل البيت حَرَما آمنا؛ فلماذا حدث ما حدث من
سنوات من اعتداء على الناس في الحرم؟
ونقول :وهل كان أمْن الحرم أمرا " كونيا " ،أم تكليفا شرعيا؟ إنه تكليف شرعي عُرْضة أنْ
يُطاع ،وعُرضة أن يُعصي.
وقوله سبحانهَ {:ومَن َدخَلَهُ كَانَ آمِنا[} ...آل عمران.]97 :
يعني أن عليكم أيّها المُتبّعون لدين ال أنْ تُؤمّنوا مَنْ يدخل الحرم أنهم في أمن وأمان ،وهناك
فارق بين المر التكليفيّ والمر الكونيّ.
ويقول سبحانه على لسان إبراهيم:
لصْنَامَ { [إبراهيم.]35 :
} وَاجْنُبْنِي وَبَ ِنيّ أَن ّنعْبُ َد ا َ
حيّ الذي أدخل عبادة
وهو َقوْل يحمل التنبؤ بما حدث في البيت الحرام على يد عمرو ابن ُل َ
الصنام إلى الكعبة ،وهو َقوْل يحمل تنبؤا من إبراهيم عليه السلم.
ولقائل أنْ يسألَ :وكيف يدعو إبراهيم بذلك ،وهو النبي المعصوم؟ كيف يطلب من الحق أن يُجنّبه
عبادة الصنام؟
وأقول :وهل العصمة تمنع النسان أن يدعوَ ربه بدوام ما هو عليه؟ إننا نتلقى على سبيل المثال
المر التكليفي منه سبحانه {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّ ِه وَرَسُولِهِ[} ...النساء.]136 :
وهو أَمرْ بالمداومة.
والحق سبحانه قد قال على لسان رسوله شعيب -عليه السلم {:-قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبا إِنْ
عُدْنَا فِي مِلّ ِتكُمْ َب ْعدَ إِذْ َنجّانَا اللّهُ مِ ْنهَا َومَا َيكُونُ لَنَآ أَن ّنعُودَ فِيهَآ ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ رَبّنَا} ...
[العراف.]89 :
وفي هذا القول ضراعة إلى المُنعِم علينا بنعمة اليما؛ وفي هذا القول الكريم أيضا إيضاحٌ لطلقة
قدرة الحق سبحانه.
لصْنَامَ }[إبراهيم.]35 :
ونلحظ أن الحق سبحانه قد قال هنا {:وَاجْنُبْنِي وَبَنِيّ أَن ّنعْبُدَ ا َ
خصّها بعضٌ
حجَرِ فقد والتي َ
والصنم غير الوثن ،فالمُشكّل بشكل إنسان هو الصنم؛ أما قطعة ال َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من أهل الجاهلية بالعبادة فهو الوثن.
وهناك مَنْ أراد أنْ يخرج بِنَا من هذا المأزِق؛ فقال :إن الكفر نوعان .شرك جَلي؛ وشرك خفيّ.
والشرك الجليّ أن يعبدَ النسانُ أي كائن غير ال؛ والشرك الخفيّ أن يُقدّس النسانُ الوسائطَ بينه
وبين ال ،ويعطيها فوق ما تستحق ،وينسب لها بعضا من قدرات ال.
ودعاء إبراهيم عليه السلم أن يُجنّبه وبنيه أنْ يعبدوا الصنا َم يقتضي مِنّا أن نفهم معنى كلمة
أبناء؛ ذلك أن إبراهيم قصد بالدعاء بنية الذين َيصِلُون إلى مرتبة الرسالة والنبوة مثله؛ ذلك أننا
نعلم أن بعضا من بنية قد عبدوا الصنام والوثان.
ومعنى كلمة " أبناء " أوضحه سبحانه في مواطن أخرى .ونبدأ من قوله {:وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبّهُ
ِبكَِلمَاتٍ فَأَ َت ّمهُنّ[} ...البقرة {.]124 :إِنّي جَاعُِلكَ لِلنّاسِ ِإمَاما[} ..البقرة.]124 :
أي :أن حيثية المامة هي أداء إبراهيم عليه السلم لكل مهمة بتمامها وب ِدقّة وأمانة ،وإذا كان هذا
هو دستورَ ال في الخَلْق؛ فل ُبدّ لنا أن نتخلّقَ بأخلق ال.
وعلينا أل نختار أيّ إنسان لية مهمة ليكون إمامها ،إل أنْ كان ُكفْء لها ويُحسِن القيام بها.
ولنتذكر قوله صلى ال عليه وسلم:
" إذا ضُ ّي َعتِ المانةُ فانتظِر الساعة " قال السائل له عن موعد قيام الساعة :وكيف إضاعتها؟ قال:
" إذا وُسّد المر إلى غير أهله فانتظر الساعة ".
ذلك أن إسناد أيّ أمر لغير أهله إنما هو إفساد في الوجود ،لن الصل في إسناد أيّ أمر لي
إنسان أن يكون بهدف أن يقو َم بالمر كما يجب ،فإذا كان الختيار سيئا؛ فسيكون هذا النسان
أُسْوة في السوء؛ وتنتقل منه عدوى عدم التقان إلى غيره؛ ويتفشّى السوء في المجتمع ،أما إذا
تولى المر مَنْ هو أَ ْهلٌ له فالموقف يختلف تماما ،فوضع النسان في مكانه اللئق ،تعتدل به
موازين العدل ،وفي اعتدال الميزان استقرار للزمان والمكان والنسان.
والمَثلُ على ذلك :أن الولد الذين تر ّبوْا في السعودية؛ ورأَوْا أن يد السارق تُقطع؛ لم نجد منهم
مَنْ يسرق؛ لنهم تر ّبوْا على أن السارق تُقطع يده ،وفهموا أن الحق سبحانه لحظة أنْ يضعَ عقوبة
قاسية؛ فليس هذا إذْنٌ بأن تقع الجريمة؛ بل ألّ تقعَ الجريمة.
وحين يتساءل مَنْ يدّعُون التحضرّ :كيف يقول القرآن {:لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ[} ...البقرة.]256 :
وحين تجدون مَنْ يخرج عن الدين تقبضون عليه ،وينادي البعض بإعدامه؟
ولهؤلء أقول :وهل هذا المر يُحسب على السلم أم لصالح السلم؟
إنه لصالح السلم ،ذلك أن مِثْل هذا الحرص على كرامة الدين يُهيّب الناس أنْ يدخلوا الدين إل
بعد القناع المؤدي لليقين ،واليقين هو الوصول إلى الدين الحقّ مصحوبا بدليل.
حقّ[} ...فصلت:
سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َل ُهمْ أَنّهُ الْ َ
ق َوفِي أَنفُ ِ
يقول الحق سبحانه {:سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]53
بهذا نعلم أن دخول السلم سيُكلّفه حياته لو أراد أنْ يخرجَ منه ،لنه خرج من اليقين الذي دخله
بالدليل.
وحين دعا إبراهيم -عليه السلم -ربه:
لصْنَامَ { [إبراهيم.]35 :
ج َعلْ هَـاذَا الْبََلدَ آمِنا وَاجْنُبْنِي وَبَ ِنيّ أَن ّنعْبُ َد ا َ
} َربّ ا ْ
كان قد نجح في اختبار ال له ،ونجح في أداء ما أُسنِد إليه تماما؛ وشاء له الحق سبحانه أن يكون
إماما ،واستشرف إبراهيم عليه السلم أن تكون المامة في ذريته؛ فقالَ {:ومِن ذُرّيّتِي[} ...البقرة:
.]124
ع ْهدِي الظّاِلمِينَ }[البقرة.]124 :
فجاءه الجواب من الحق سبحانه {:لَ يَنَالُ َ
وهكذا أوضح الحق سبحانه أن بُنوه النبياء ليست بنوة لَحْم ودم؛ بل بُنُوة اتباع واقتداء ،وكلنا نعلم
علْمٌ[} ...هود.]46 :
أن الحق سبحانه قد قال لنوح عن ابنه {:فَلَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ َلكَ بِهِ ِ
ونعلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد قال عن سلمان الذي كان فارسيا " :سلمان منا آل
البيت ".
وفي هذا تأكيد على أن ب ُنوّة النبياء هي ب ُنوّة اتباعٍ واقتداء.
ويستكمل الحق سبحانه دعاء إبراهيم عليه السلم؛ فنجد وَعْي خليل الرحمن بما تفعله عبادة
الصنامَ } :ربّ إِ ّنهُنّ َأضْلَلْنَ كَثِيرا.{ ...
()1771 /
ونعلم أن الصنام بذاتها ل ُتضِل أحدا؛ ذلك أنها ل تتكلم ول تتحدث إلى أحد؛ ولكن القائمين عليها
بدعْوى أن لتلك الصنام ألوهية؛ ول تكليفَ يصدر منها ،هم الذين يضلِون الناس ويتركونهم كما
حلّ شعورهم ".
يقول المثل العامي " على َ
ويرحب بهذا الضلل كل مَنْ يكره أن يتبع تعاليم الخالق الواحد الحد.
ويتابع سبحانه ما جاء على لسان إبراهيم عليه السلم من بعد الدعاء:
غفُورٌ رّحِيمٌ } [إبراهيم.]36 :
عصَانِي فَإِ ّنكَ َ
{ َفمَن تَ ِبعَنِي فَإِنّهُ مِنّي َومَنْ َ
وهذه تعقيباتٌ في مسألة الغُفران والرحمة بعد العصيان؛ فمرّة يعقُبها الحق سبحانه {:ا ْلعَزِيزُ
حكِيمُ }[المائدة.]118 :
الْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومرّة يعقبها {:ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }[الزمر.]53 :
ذلك أن الجرائم تختلف درجاتها ،فهناك جريمة الخيانة العُظْمى أو جريمة ال ِقمّة؛ مثل مَنْ يدّعي
أنه إلهٌ؛ أو مَنْ يقول عنه أتباعه أنه إله دون أنْ يقولَ لهم هو ذلك.
وقد قال عيسى -عليه السلم -بسؤال الحق له {:أَأَنتَ قُلتَ لِلنّاسِ اتّخِذُونِي وَُأمّيَ إِلَـاهَيْنِ مِن
دُونِ اللّهِ[} ...المائدة.]116 :
سكَ
فيأتي َقوْل عيسى عليه السلم {:إِن كُنتُ قُلْتُهُ َفقَدْ عَِلمْتَهُ َتعْلَمُ مَا فِي َنفْسِي َولَ أَعْلَمُ مَا فِي َنفْ ِ
إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة.]116 :
حكِيمُ }
ويتابع عيسى عليه السلم القَوْل {:إِن ُتعَذّ ْب ُهمْ فَإِ ّنهُمْ عِبَا ُدكَ وَإِن َتغْفِرْ َلهُمْ فَإِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
[المائدة.]118 :
وهكذا تأتي العزّة والمغفرة بعد ِذكْر العذاب؛ فهناك مواقف تُناسِبها العِزّة والحكمة؛ ومواقف
تناسبها المغفرة والرحمة ،ول أحدَ بقادرٍ على أنْ يردّ ل َأمْ َر مغفرةٍ أو رحمةٍ؛ لنه عزيزٌ وحكيمٌ.
وقوله الحق:
{ َربّ إِ ّنهُنّ َأضْلَلْنَ كَثِيرا مّنَ النّاسِ[ } ...إبراهيم.]36 :
يعكس صفات مناسبة للمُقدّمات الصدرية في الية ،وتؤكد لنا أن القرآن من حكيم خبير ،وأن ال
هو الذي أوحى إلى عبده القرآن {:سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى.]6 :
فما الذي يجعله يقول في الية {:ا ْل َغفُورُ الرّحِيمُ }[الزمر.]53 :
حكِيمُ }[المائدة.]118 :
وفي آية أخرى {:ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ
مع أن السياق المعنويّ قد يُوحي من الظاهر بعكس ذلك؟
حصَى {:إِنّ النْسَانَ
وما الذي يجعله سبحانه يقول في آية بعد أن يُذكّرنا أن ِنعَم ال ل ُت َع ّد ول ُت ْ
لَظَلُومٌ كَفّارٌ }[إبراهيم.]34 :
ويقول في آية أخرى بعد أنْ يُذكّرنا بِنعَمِ ال بنفس اللفظ {:إِنّ اللّهَ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ }[النحل.]18 :
وكذلك قوله {:كَلّ إِ ّنهَا َت ْذكِ َرةٌ * َفمَن شَآءَ َذكَ َرهُ }[عبس.]12-11 :
خذَ إِلَىا رَبّهِ سَبِيلً }[النسان.]29 :
ثم قوله في آية أخرى {:إِنّ هَـا ِذهِ تَ ْذكِ َرةٌ َفمَن شَآءَ اتّ َ
كل ذلك يعطينا حكمة التنزيل ،فإن كل آية لها حكمة ،وتنزيلها يحمل أسرار المراد.
وكُلّ ذلك يأتي تصديقا لقوله الحق {:سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى.]6 :
لن الحق سبحانه وتعالى شاء أنْ يُنزِل القرآن على رسوله ،ويضمن أنه سيحفظه؛ ولن ينسى
موقع أن مكان آيةٍ من اليات أبدا ،ذلك أن الذي قال:
{ سَ ُنقْرِئُكَ فَلَ تَنسَىا }العلى]6 :
هو الحق الخالق القادر.
سكَنتُ مِن ذُرّيّتِي.} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما قاله إبراهيم عليه السلم { :رّبّنَآ إِنّي أَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1772 /
ونفهم من التعبير في هذه الية أن المكانَ ل يصلح للزرع؛ ذلك أنه أرض صَخْرية؛ وليست
أرضا يمكن استصلحها؛ و َقوْل إبراهيم -عليه السلم :-
{ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ } [إبراهيم.]37 :
أي :ل أملَ في زراعتها بمجهود إنساني ،وليس أمام تواجد الرزق في هذا المكان إل العطاء
حثٍ من إبراهيم عليه السلم؛ ولكن بتكليف إلهيّ ،فسبحانه
الرباني .ولم يكُنْ اختيار المكان نتيجة بَ ْ
هو الذي أمر بإقامة القواعد من البيت المحرم ،وهو مكان من اختيار ال ،وليس من اختيار
إبراهيم عليه السلم.
وحين يقول إبراهيم عليه السلم:
{ عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ[ } ..إبراهيم.]37 :
فهذا يعني حيثية الرّضا بالتكليف ،وما دام هذا أمرا تكليفيا يجب أنْ يُنفّذ بعشق؛ فهو يأخذ ثوابين
ب التكليف؛ وثواب القيام بالتكليف.
ح ّ
اثنين؛ ثواب ُ
ولنا المثل في حكاية الرجل الذي قابله الصمعي عند البيت الحرام ،وكان يقول " :اللهم ،إنّي قد
عصيتُك ،ولكني أحب مَنْ يطيعك ،فاجعلها قُرْبة لي " .فقال الصمعي ما يعني أن ال ل بُدّ أن
يغفر لهذا الرجل ِلحُسْن مسألته ،ذلك أنه رجل قد فرح بحب التكليف ولو لم َيقُمْ به هو؛ بل يقوم به
غيره وهذا يُسعده.
فالتكليف عندما يقوم به أيّ إنسان؛ فذلك أمر في صالح كل البشر ،وكلنا نقول حين نُصلي ونقرأ
الفاتحة {:إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ }[الفاتحة.]5 :
أي :أن كُلً مِنّا يحشر نفسه في زمرة العابدين؛ لعل ال يتقبّل من واحد فندخل كلنا في الصفقة؛
ولذلك أقول ِلمَنْ يرتكب معصية :عليك أل تغضب ،لن هناك مَنْ يطيع ال؛ بل افرح به؛ لن
حبّ
فرحَك بالمطيع ل؛ دليلٌ على أنك تحبّ التكليف ،رغم أنك ل تقدر على نفسك ،وفي هذا ال ُ
كرامة لك.
وقد قال إبراهيم -عليه السلم -عن الوادي الذي أمره الحق سبحانه أن يقيم فيه القواعد للبيت
الحرام أنه وادٍ غير ذي زَرْع ،وقد جاء هو إلى هذا المكان لُينفّذ تكليف الحق سبحانه له؛ لدرجة
أن زوجته هاجر عندما علمت أن الستقرار في هذا المكان هو بتكليف من ال قالت " :إذنْ لن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يضيعنا ".
ويُقدّم إبراهيم عليه السلم حيثيات القامة في هذا المكان ،وأسباب إقامته للقواعد كما أراد ال،
فيقول:
ج َعلْ َأفْ ِئ َدةً مّنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ[ } ...إبراهيم.]37 :
{ فَا ْ
أي :أن مجيء الناس إلى هذا المكان لن يكون شهوة سياحة؛ ولكن إقامة عبادة؛ فما دام المكان قد
أُقيم فيه بيت ل باختيار ال؛ فل ُبدّ أن يُعبدَ فيه سبحانه.
وهكذا تتضح تماما حيثيات َأخْذ المر بالوجود في مكان ليس فيه من أسباب الحياة ول مُقوّماتها
شيء؛ ولكن الحق سبحانه قد أمر بذلك؛ فل ُبدّ للمقيم للصلة من إقامة حياة؛ والمُقوّم الول للحياة
هو المَأْكل والمَشْرب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثمرات الفصول الربعة قادمة من كل البلد؛ نتيجة أن كل البيئات تُصدّر بعضا من إنتاجها إلى
مكة.
وفي عصرنا الحالي نجد ثمرات النموّ الحضاري والعقول المُفكّرة وهي معروضة في سوق مكة
أو جدة؛ بل تجد ثمرات التخطيط والمكانات وقد ت ّمتْ ترجمتُها إلى واقع ملموس في كل َأوْجُه
الحياة هناك.
وقديما عندما كُنّا نؤدي فريضة الحج؛ كُنّا نأخذ معنا إبرة الخيط؛ ومِلْح الطعام؛ ومن بعد أن
توحّدتْ غالبية أرض الجزيرة تحت حكم آل سعود واكتشاف البترول؛ صِرْنا نذهب إلى هناك،
ونأتي بكماليات الحياة.
ولنلحظ َقوْل الحق سبحانه:
ج َعلْ َأفْ ِئ َدةً مّنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ[ { ...إبراهيم.]37 :
} فَا ْ
ن تهوي قلوبهم إلى المكان هم قطعةٌ من أفئدة الناس ،وقال ب َعضٌ من
فكلمة " من " تُوضّح أن مَ ْ
العارفين بال :لو أن النصّ قد جاء " فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم " لوجدنا أبناء الديانات
الخرى قد دخلت أيضا في الحجيج ،ومن رحمة ال سبحانه أن جاء النص:
ج َعلْ َأفْ ِئ َدةً مّنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ[ { ...إبراهيم.]37 :
} فَا ْ
فاقتصر الحجيج على المسلمين.
ويقول سبحانه من بعد ذلك مُستْكمِلً ما جاء على لسان إبراهيم عليه السلم } :رَبّنَآ إِ ّنكَ َتعَْلمُ مَا
خفِي.{ ...
نُ ْ
()1773 /
سمَاءِ ()38
ض وَلَا فِي ال ّ
شيْءٍ فِي الْأَ ْر ِ
خفَى عَلَى اللّهِ مِنْ َ
ن َومَا يَ ْ
خفِي َومَا ُنعْلِ ُ
رَبّنَا إِ ّنكَ َتعْلَمُ مَا ُن ْ
وبعد أن اطمأن إبراهيم -عليه السلم -أن لهذا البلد أمنا عاما وأمنا خاصا ،واطمأن على
مُقوّمات الحياة؛ وأن كل شيء من عند ال ،بعد كل ذلك عاودته المسألة التي كانت تشغله ،وهي
مسألة تَرْكه لهاجر وإسماعيل في هذا المكان.
وبعض المُفسّرين قالوا :إن الضمير بالجمع في قوله تعالى:
خفِي َومَا ُنعْلِنُ[ } ...إبراهيم.]38 :
{ َتعَْلمُ مَا نُ ْ
حبّ لهاجر وإسماعيل ،وما يُعلِنه من الجفاء الذي يُظهِره لهما أمام سارة،
مقصود به ما ُيكِنّه من ال ُ
وكأن المعاني النفسية عاودتْه لحظةَ أنْ بدأ في سلم الوداع لهاجر وابنه إسماعيل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صعْبا؛ ذلك أنها قد وُجدت في مكان ليس فيه
ونقول :لقد كانت هاجر هي الخرى تعيش موقفا َ
زَرْع ول ماء ،وكأنها كتمتْ نوازعها البشرية طوال تلك الفترة وصبرتْ.
ولحظة أنْ جاء إبراهيم لِيُودّعها؛ قالت له :أين تتركنا؟ وهل تتركنا مِنْ رأيك أم من أمر ربَك؟
فقال لها إبراهيم عليه السلم :بل هو من أَمر ال .فقالت :إذن لن يضيعنا.
وتأكدت هاجر من أن ما قالتْه قد تحقّق؛ ولن يُضيّعهما ال ،وحين يعطش وحيدها تجري بين
الصفا والمروة بَحْثا عن مياه؛ ولكنها ترى تفجّر الماء تحت قَ َد َميْ ابنها في المكان الذي تركته
فيه؛ ويبدأ بئر زمزم في عطاء البشر منذ ذلك التاريخ مياهه التي ل تنضب.
وهكذا يتحقق قول إبراهيم -عليه السلم -في أن ال يعلم ما نُسِرّ وما نُعلِن؛ ذلك أن كل ُمعْلَن
ل يكون إل بعد أن كل َمخْفيا ،وعلى الرغم منَ أن ال غَ ْيبٌ إل أن صِلَته ل تقتصر على الغيب؛
بل تشمل العالم الظاهر والباطن؛ وكل مظروف في السماء أو الرض معلومٌ ل؛ لن ما تعتبره
أنت غيبا في ذهنك هو معلوم ل من قبل أن يتحرك ذهنك إليه.
خفَى }[طه.]7 :
جهَرْ بِا ْلقَ ْولِ فَإِنّهُ َيعْلَمُ السّ ّر وََأ ْ
ولذلك يقول سبحانه في موقع آخر {:وَإِن َت ْ
فإذا كان السّر هو ما أسررْت به لغيرك؛ وخرج منك لنك استأمنتَ الغير على ألّ يقوله ،أو كان
السر ما أخفيتَه أنت في نفسك؛ فال هو العَالِم به في الحالتين.
ويقول القرآن {:وَإِذْ َأسَرّ النّ ِبيّ إِلَىا َب ْعضِ أَ ْزوَاجِهِ حَدِيثا[} ..التحريم.]3 :
أي :أن السّرّ كان عند رسول ال صلى ال عليه وسلم وانتقل إلى بعضٍ من أزواجه .والَخْفى هو
ما قبل أنْ تبوحَ بالسرّ؛ وكتمته ولم تَبُحْ به.
ن يكونَ سرِا.
وسبحانه يعلم هذا السر وما تخفيه .أي :السر الذي لم َتقًُلْه لحد ،بل ويعلمه قبل أ ْ
حمْدُ للّهِ الّذِي وَ َهبَ
حمْدا له سبحانه { :الْ َ
ويقول سبحانه ما قاله إبراهيم -عليه السلم -ضراعةَ و َ
لِي.} ...
()1774 /
ط بل مقبال منك .وكل الذرية هِبَة ،لو لم تكُنْ هبة لكانت رتيبة بين
والوَهْب هو عطاء من ُم ْع ٍ
الزوجين؛ وأينما يوجد زوجان توجد .ولذلك قال الَ {:ي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ ال ّذكُورَ
عقِيما إِنّهُ عَلِيمٌ َقدِيرٌ }[الشورى.]50-49 :
ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ
* َأوْ يُ َزوّ ُ
والدليل على أن الذرية هِبَة هو ما شاءه سبحانه مع زكريا عليه السلم؛ وقد طلب من ال سبحانه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أن يرزقه بغلم يرثه ،على الرغم من أنه قد بلغَ من الكِبَر عِتيا وزوجه عاقر؛ وقد تعجّب زكريا
من ذلك؛ لنه أنجب بقوة ،وفي هذا المعنى يقول الحق سبحانه {:كَذاِلكَ قَالَ رَ ّبكَ ُهوَ عََليّ هَيّنٌ
ل وَلَمْ َتكُ شَيْئا }[مريم.]9 :
َوقَدْ خََلقْ ُتكَ مِن قَ ْب ُ
وهذا يعني ألّ يدخل زكريا في السباب والمُسبّبات والقوانين.
وقد سمّى الحق سبحانه الذرية هِبةً؛ لذلك يجب أن نشكرَ ال لن الذي يقبل هبة ال في إنجاب
الناث برضا يرزقه ال بشباب يتزوجون البنات؛ ويصبحون أطوعَ له من أبنائه ،رغم أنه لم َيشْقَ
في تربيتهم.
وكل منّا يرى ذلك في ُمحِِيطة ،فمَنْ أنجب الولد الذكور يظل يرقب :هل يتزوج ابنه بمَنْ تخطفه
وتجعله أطوعَ لغيره منه.
وإنْ وهب لك الذكور فعلى العين والرأس أيضا ،وعليك أنْ تطلبَ من ال أن يكون ابنك من
الذرية الصالحة ،وإنْ وهبكَ ُذكْرنا وإناثا فلكَ أن تشكره ،وتطلب من ال أن يُعينك على تربيتهم.
وعلى مَنْ جعله الحق سبحانه عقيما أن يشكرَ ربه؛ لن ال ُعقْم أيضا هبةٌ منه سبحانه؛ فقد رأينا
البن الذي يقتل أباه وأمه ،ورأينا البنت التي تجحد أباها وأمها.
وإنْ قَبِل العاقر هبةَ ال في ذلك؛ وأعلن لنفسه ولمَنْ حوله هذا القبول؛ فالحق سبحانه وتعالى
يجعل نظرة الناس كلهم له نظرة أبناء لب ،ويجعل كل مَنْ يراه من شباب يقول له " :أتريد شيئا
يا عم فلن؟ " ويخدمه الجميع بمحبة صافية.
وإبراهيم -عليه السلم -قد قال للحق سبحانه:
حمْدُ للّهِ الّذِي وَ َهبَ لِي عَلَى ا ْلكِبَرِ[ } ...إبراهيم.]39 :
{ ا ْل َ
والشكر على الهبة -كما عرفنا -يُشكّل عطاءَ الذرية في الشباب ،أو في الشيخوخة.
وأهل التفسير يقولون في:
{ عَلَى ا ْلكِبَرِ[ } ...إبراهيم.]39 :
أنه يشكر الحق سبحانه على وَهْبه إسماعيل وإسحق مع أنه كبير .ولماذا يستعمل الحق سبحانه
(على) وهي من ثلثة حروف؛ بدلً من " مع " ولم َيقُل " الحمد ل الذي وهب لي مع الكِبَر
إسماعيل وإسحاق ".
ضعْف ،ولكن إرادة ال أقوى من الضعف؛ ولو قال " مع
وأقول :إن (على) تفيد الستعلء ،فالكِبَر َ
الكبر " فالمعيّة هنا ل تقتضي قوة ،أما قوله:
{ وَ َهبَ لِي عَلَى ا ْلكِبَرِ[ } ...إبراهيم.]39 :
فيجعل قدرة ال في العطاء فوق الشيخوخة.
سكَنتُ
وحين يقول إبراهيم عليه السلم ذلك؛ فهو يشكر ال على استجابته لما قاله من قبل {:إِنّي أَ ْ
مِن ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ }[إبراهيم.]37 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أنه دعا أن تكونَ له ذرية.
ويُذيّل الحق سبحانه الية بقول إبراهيم:
سمِيعُ الدّعَآءِ } [إبراهيم.]39 :
{ إِنّ رَبّي َل َ
جعَلْنِي.} ...
ويقول سبحانه من بعد ذلكَ { :ربّ ا ْ
()1775 /
جعَلْنِي ُمقِيمَ الصّلَا ِة َومِنْ ذُرّيّتِي رَبّنَا وَتَقَ ّبلْ دُعَاءِ ()40
َربّ ا ْ
وكأن إبراهيم عليه السلم حين دعا بأمر إقامة الصلة فهذه قضية تخصّ منهج ال ،وهو يسأل ال
ن يقبلَ ،ذلك أن الطلبات الخرى قد طلبها ببشريته؛ وقد يكون ما طلبه شرا أو خيرا؛ ولكن
أْ
الطلب بأن يجعله مُقيما للصلة هو وذريته هو طََلبٌ بالخير.
غفِرْ لِي
ويتتابع الدعاء في قول الحق سبحانه على لسان إبراهيم عليه السلم { :رَبّنَا ا ْ
وَِلوَالِ َديّ.} ...
()1776 /
حسَابُ ()41
ي وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ َيوْمَ َيقُومُ الْ ِ
غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ
رَبّنَا ا ْ
ونعلم أن طلب ال ُغفْران من المعصوم إيذانٌ بطلقة قدرة ال في الكون ،ذلك أن اختيار الحق
سبحانه للرسول ـ أيّ رسول ـ ل يُعفى الرسول المختار من الحذَر وطلب المغفرة ،وها هو
سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :إني استغفر ال في اليوم والليلة مائة مرة ".
وطلب المغفرة من ال إن لم َيكُنْ لذنب ـ كما في حال الرّسل المعصومين ـ فهو من الدب مع
ال؛ لن الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ يستحق منّا فوق ما كلّفنا به ،فإذا لم نقدر على المندوبات
ن يغفرَ لنا.
وعلى التطوّعات؛ فَلْندعُ الحق سبحانه أ ْ
ن يغفرَ له؛ ولذلك يُقال " :حسنات البرار سيئات
ومِنّا مَنْ ل يقدر على الفرائض؛ فليْدعُ ال أ ْ
المقربين ".
ك َومَا تَأَخّرَ وَيُتِمّ
والحق سبحانه يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم {:لّ َي ْغفِرَ َلكَ اللّهُ مَا َتقَدّمَ مِن ذَن ِب َ
ك صِرَاطا مّسْ َتقِيما }[الفتح.]2 :
ك وَ َيهْدِ َي َ
ِن ْعمَتَهُ عَلَ ْي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جلّ جللُ ذاته -يستحق أن يُعبَد بفوق ما كَلّف به؛ فإذا اقتصرنا
ولذلك أقول دائما؛ إن الحق َ -
شكْر؛ وما بالنا إذا كان مثل هذا الحال هو
على أداء ما كَلّف به سبحانه؛ فكأننا لم نُؤ ّد كامل ال ّ
شكْرا وطلبا
سلوك الرّسل ،خصوصا وأن الحق سبحانه قد زادهم عن خَلْقه اصطفاءً؛ أفل يزيدنه ُ
للمغفرة؟
ونلحظ أن طلب المغفرة هنا قد شمل الوالدين والمؤمنين:
ي وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ َيوْمَ َيقُومُ الْحِسَابُ } [إبراهيم.]41 :
غفِرْ لِي وَِلوَالِ َد ّ
{ رَبّنَا ا ْ
والنسان كما نعلم له وجود أصليّ من آدم عليه السلم؛ وله وجود مباشر من أبويْه ،وما دام
النسان قد جاء إلى الدنيا بسبب من والديْه ،وصار مؤمنا فهو يدعو لهما بالمغفرة ،أو :أن الُسْوة
كانت منهما؛ لذلك يدعو لهما بالمغفرة.
صحْبة له وقُدْوة ،وتواصى معهم وتواصوا معه
والنسان يدعو للمؤمنين بالمغفرة؛ لنهم كانوا ُ
بالحق والصبر ،وكأن إبراهيم -عليه السلم -صاحب الدعاء يدعو للمؤمنين من ذريته؛ وتلك
دعوة وشفاعة منه لمَنْ آمن؛ ويرجو الحقّ سبحانه أنْ يتقبلها.
عمّا َي ْعمَلُ.} ...
حسَبَنّ اللّهَ غَافِلً َ
ويقول الحق سبحانه بعد ذلكَ { :ولَ تَ ْ
()1777 /
وبعد أن ذكر الحق سبحانه وأوضح النّعم العامة على الكون ،والنعم الخاصة التي أنعم بها سبحانه
ن وقف ضد رسول ال صلى ال عليه وسلم موقف العَنَت،
على مَنْ توطّنوا مكة ،ومن نسلهم مَ ْ
بعد ذلك جاء الحق سبحانه بهذه الية تعزيةً وتسرية عن رسول ال صلى ال عليه وسلم:
عمّا َي ْع َملُ الظّاِلمُونَ[ } ..إبراهيم.]42 :
حسَبَنّ اللّهَ غَافِلً َ
{ َولَ تَ ْ
وأرضية التصوير التي سبقتْها تشتمل بداية التكوين لهذا المكان الذي وُجدوا به ،وكيفية مَجِيء
النعم إلى مَنْ توطنوا هذا المكان؛ حيث تجيء إليهم الثمرات ،ونعمة ال َمهَابة لهم حيث يعصف
صفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل.]5 :
جعََلهُمْ َك َع ْ
سبحانه بمَنْ يُعاديهم كأبرهة ومَنْ معهَ {.ف َ
ل ِفهِمْ ِرحْلَةَ الشّتَآ ِء وَالصّ ْيفِ *
لفِ قُرَيْشٍ* إِي َ
حيث يقول سبحانه من بعد هذه الية مباشرة {:لِي َ
خوْفٍ }[قريش.]4-1 :
ع وَآمَ َنهُم مّنْ َ
ط َع َمهُم مّن جُو ٍ
فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي َأ ْ
ورغم ذلك وقفوا من دعوة رسول ال صلى ال عليه وسلم موقف النكار والتعنّت والتصدّي
جحُود ،وحاولوا الستعانة بكل خُصوم السلم؛ ليحاربوا هذا الدين؛ ولذلك يوضح الحق
وال ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانه هنا تسريةً عن الرسول الكريم.
عمّا َي ْع َملُ الظّاِلمُونَ[ } ...إبراهيم.]42 :
حسَبَنّ اللّهَ غَافِلً َ
{ َولَ تَ ْ
لماذا؟ وتأتي الجابة في النصف الثاني من الية:
خصُ فِي ِه الَ ْبصَارُ } [إبراهيم.]42 :
شَ{ إِ ّنمَا ُي َؤخّرُهُمْ لِ َي ْومٍ تَ ْ
وقوله الحق:
حسَبَنّ[ } ...إبراهيم.]42 :
{ َولَ تَ ْ
حسِب هنا ليست من الحساب والعدّ ،ولكنها من " حسب " " يحسب "؛ وقوله الحق
أي :ل تظننّ؛ فَ َ
سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن َيقُولُواْ آمَنّا وَهُ ْم لَ ُيفْتَنُونَ }[العنكبوت.]2 :
حِالذي يوضح هذه المسألة {:أَ َ
أي :أَظَنّ الناس .فحسِب يحسَب ليستْ -إذن -من العَدّ؛ ولكن من الظنّ .والحُسْبان نسبة كلمية
غير مَجْزوم بها؛ ولكنها راجحة.
سهْو عن أمر لعدم اليقظة أو النتباه ،وطبعا وبداه ًة فهذا
والغفلة التي ينفيها سبحانه عنه؛ هي ال ّ
َأمْ ٌر ل يكون منه سبحانه ،فهو القيّوم الذي ل تأخذه سِنَة ول نوم.
وهنا يخاطب الحق سبحانه رسوله والمؤمنين معه تبعا؛ فحين يخاطب الحق سبحانه رسوله صلى
ال عليه وسلم فهو يخاطب في نفس الوقت كلّ مَنْ آمن به.
ولكن ،أكانَ الرسول يظنّ ال غافلً؟
ن فعلً؛ ويطلب ال منه
ل ،ولنلحظْ أن ال حين يُوجّه بشيء فقد يحمل التوجيه أمرا يُنفّذه النسا ُ
الستدامة على هذا الفعل.
والمَثلُ :حين تقول لواحد ل يشرب الخمر " ل تشرب الخمر " وهو ل يشرب الخمر؛ فأنت تطالبه
لمْر ،أو
بقولك هذا أنْ يستم ّر في عدم شُرْب الخمر ،أي :استمِرَ على ما أنت عليه ،فعلً في ا َ
امتناعا في النهي.
وهل يمكن أن تأتي الغفلة ل؟
وأقول :حين ترى صف ًة توجد في البشر؛ ول توجد في الحق سبحانه فعليك أنْ تُفسّر المر
بالكمالت التي ل.
والذي يفعل ظلما سيتلقى عقابا عليه ،وحين يتأخر العقاب يتساءل الذين رََأوْا ِفعْل الظّلم فهم
يتهامسون :تُرَى هل تَمّ نسيان الظلم الذي ارتكبه فلن؟ هل هناك غفلة في المر؟
وهم في تساؤلتهم هذه يريدون أن يعلنوا موقفهم من مرتكب الذنب؛ وضرورة عقابه ،وعلى ذلك
نفهم كلمة:
} غَافِلً { [إبراهيم.]42 :
في هذه الية بمعنى " مُؤجّل العقوبة ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولمن يتساءلون عليهم أنْ يتذكّروا قول الحق سبحانه {:وَُأمْلِي َلهُمْ إِنّ كَيْدِي مَتِينٌ }[العراف:
.]183
وعلى ذلك فليست هناك غفلة؛ ولكن هناك تأجيل للعقوبة لهؤلء الظالمين؛ ذلك أن الظلم يعني َأخْذ
حقّ من صاحبه وإعطاءه للغير؛ أو َأخْذه للنفس.
وإذا كان الظلم في أمر عقديّ فهو الشرك؛ وهو الجريمة العظمى ،وإنْ ظلمتَ في أمر كبيرة من
ت في صغيرة فهو الظلم.
الكبائر فهذا هو الفِسْق ،وإنْ ظلم َ
ولذلك نجد الحق -سبحانه وتعالى -يُورِد كل حكم يناسب الثلثة مواقف؛ فيقول عن الذي
حكُم ِبمَآ أَن َزلَ اللّهُ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلكَافِرُونَ }[المائدة.]44 :
تغاضى عن تجريم الشركَ {:ومَن لّمْ َي ْ
سقُونَ }[المائدة:
حكُم ِبمَآ أَن َزلَ اللّهُ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلفَا ِ
ويقول عن تجريم كبيرة من الكبائرَ {:ومَن لّمْ َي ْ
.]47
حكُم ِبمَآ أن َزلَ اللّهُ
ويقول عمّنْ يتغاضى عن تجريم صغيرة بما يناسبها من أحكام الدينَ {:ومَن لّمْ َي ْ
فَُأوْلَـا ِئكَ ُهمُ الظّاِلمُونَ }[المائدة.]45 :
وإذا وُجِد محكوم عليه ،وهو واحد -بأحكام متعددة فالحكم مُتوقّف على ما حكم به.
وحين ننظر في مسألة الظلم هذه نجد أن الظالم يقتضي مظلوما ،فإنْ كان الظّلْم -والعياذ بال -
هو ظُلم القمة وهو الشرك بال ،فهذا الظلم ينقسم -عند العلماء -إلى ثلثة أنواع:
النوع الول :وهو إنكار وجود ال وألوهيته دون أن ينسبها لحد آخر؛ وهذا هو اللحاد ،وهو
ظُلْم في واجب وجوديته سبحانه.
والنوع الثاني :هو العتراف بألوهية ال ,وإشراك آخرين معه في اللوهية ،وهذا الشرك ظُلْم
للحق في ذاتية وواحدية تفرّده.
والنوع الثالث :هو القول بأن ال مُكوّن من أجزاء؛ وهذا ظُلْم ل في أحدية ذاته.
ويقول بعض العارفين :أن أول حقّ في الوجود هو وجوده سبحانه.
جمْعٌ
ق الكوْنِ منه استمدّتفَل هُو َ
حقّ في الوُجُو ِد وُجُوده و ُكلّ حُقو ِ
ومنهم الشاعر الذي قال:وأوّل َ
ك ولَ ُهوَ في الَجْزاءِ يَا حُسْن مِلّتيوالظلم الذي ورد في الية التي نحن بصدد
كمَا قال مُشْر ٌ
خواطرنا عنها ،و ظلم القمة؛ ظُلْم في العقيدة اللهية ،ومعه ظلم آخر هو ظلم الرسول صلى ال
صغَرٍ
عليه وسلم .ويُلخّص الشاعر ظُلْمهم للرسول صلى ال عليه وسلم فيقول:لَقّبتمُوه َأمِينا في ِ
سمّوا الرسول من قبل الرسالة بالمين؛ وبعد الرسالة نزعوا
َومَا المينُ على َقوْل ِبمُتّهمِوهم قد َ
منه هذا الوصف ،وكانوا َيصِفونه قبل الرسالة بالصادق ،ولم يقولوا عنه مرة قبل الرسالة إنه
ساحر ،ولم يتهموه من قبل الرسالة بالجنون.
فكيف كانت له أوصاف الصّدق والنطق بالحق؛ والتحدث عن رجاحة قدرته في الحكم؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كيف كانت له تلك الصفات قبل الرسالة؛ وتنزعونها منه من بعد الرسالة؟
إن هذا هو ظلم سلْب الكمال ،فقد كان للرسول صلى ال عليه وسلم كما قبل أن يُرسلً؛ فظلمتموه
بعد الرسالة وأنكرتم عليه هذا الكمال؛ وهو ظُلْم مُ ْزدَوج.
فقد سبق أن اعترفتم له من قبل الرسالة بالمانة؛ ولكن من بعد الرسالة أنكرتُم أمانته ،وكان
صادقا من قبل الرسالة؛ وقلتم إنه غَيْر صادق بعدها.
ولم تكن له صفة َنقْص قبل الرسالة؛ فجئتم أنتم له بصفة نقص؛ كقولكم :ساحر؛ كاهن؛ مجنون،
ظلْم للرسول صلى ال عليه وسلم.
وفي هذا ُ
وهذا أيضا ظُلْم للمجتمع الذي تعيشون فيه ،لن مَنْ يريد استمرار الستبداد بكلمة الكفر ،ويريد أن
يستمرّ في السيادة والستغلل والتحكّم في الغير؛ ف ُكلّ ذلك ظُلْم للمجتمع؛ وفوق ذلك ظُلْم للنفس؛
ظلّ
ن يفعل ذلك قد يأخذ متعة بسيطة؛ ويحرم نفسه من متعة كبيرة؛ هي متعة الحياة في ِ
لن مَ ْ
سهُمْ َيظِْلمُونَ }[النحل:
منهج ال ،وينطبق عليه قول الحق الرحمنَ {:ومَا ظََلمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ
.]118
وفوق ظُلْم النفس وظُلْم المجتمع هناك ظُلْم يمارسه هذا النوع من البشر ضد الكون كُلّه فيما دون
النسان؛ من جماد وحيوان ونبات؛ ذلك أن النسانَ حين ل يكون على منهج خالقه؛ والكون كله
مُسخّر لمنهج الخالق؛ فلن يرعى النسانُ ذلك في تعامله مع الكون ،وسبحانه القائل {:وَإِن مّن
حمْ ِدهِ[} ...السراء.]44 :
شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ ِب َ
َ
حين يُسبّح كل ما في الكون يشذّ عن ذلك إنسانٌ ل يتبع منهج ال؛ فالكون كله يكرهه ،وبذلك يظلم
النسان نفسه ويظلم الكون أيضا.
وهكذا عرفنا ظُلْم القمة في إنكار اللوهية؛ أو الشرك به سبحانه ،أو توهّم أنه من أجزاء ،وظُلْم
نزع الكمال عن الرسول؛ وهو الواسطة التي جاءت بخبر اليمان؛ وظُلْم الكون كله؛ لن الكون
بكل أجناسه مُسبّح ل.
وقول الحق سبحانه:
عمّا َي ْع َملُ الظّاِلمُونَ[ { ..إبراهيم.]42 :
حسَبَنّ اللّهَ غَافِلً َ
} َولَ تَ ْ
نجد فيه كلمة " يعمل " .ونعلم أن هناك فَرْقا بين " عمل " و " فعل " ،والفعل هو أحداث كل
الجوارح ،ما عدا اللسان الذي يقال عن حدثه " القول ".
فكل الجوارح يأخذ الحادث منها اسما؛ وحدث اللسان يأخذ اسما بمفرده ،ذلك أن الذي يكب الناس
على مناخرهم في النار إنما هو حصائد ألسنتهم ،والفعل والقول يجمعهما كلمة " عمل ".
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول الحق سبحانه " يعمل " ،ذلك أن المشركين
الذين استقبلوا القرآن كانوا يُ ْرجِفون بالسلم وبالرسول صلى ال عليه وسلم بالكلم؛ وكل الفعال
التي قاموا بها نشأتْ عن طريق تحريض بالكلم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتأتي هذه الية الكريمة التي يُؤكّد فيها سبحانه أنه يُمكّن لهم الذنوب ليُمكّن لهم العقوبة أيضا؛
ويأتي قوله:
خصُ فِي ِه الَ ْبصَارُ { [إبراهيم.]42 :
شَ} إِ ّنمَا ُي َؤخّرُهُمْ لِ َي ْومٍ تَ ْ
ونعلم أنه قد حدثتْ لهم بعضٌ من الظواهر التي تؤكد قُرْب انتصار رسول ال صلى ال عليه
وسلم؛ َفقُتل صناديدهم وبعض من سادتهم في بدر؛ وأُسِر كبراؤهم ،وهكذا شاء سبحانه أنْ يأتيَ
بالوعد أو الوعيد؛ جاء بالمر الذي يدخل فيه ُكلّ السامعين ،وهو عذابُ الخرة؛ إنْ ظَلّوا على
الشرك ومقاومة الرسالة.
خصُ فِي ِه الَ ْبصَارُ { [إبراهيم.]42 :
شَو } :تَ ْ
يعني :تفتح بصورة ل يتقلّب بها َيمْنة أو يَسْرة من َهوْل ما يرى؛ وقد يكون عدم تقلّب البصر من
فَرْط جمال ما يرى ،والذي يُفرّق بينهما سِيَال خاص بخَلْق ال فقط؛ وهو سبحانه الذي يخلقه.
فحين ترى إنسانا مذعورا من فَرْط الخوف؛ فسِحْنته تتشكّل بشكل هذا الخوف ،أما مَنْ نظر إلى
شيء جميل وشَخصتْ عيناه له ،يصبح لملمحه انسجامُ ارتواء النظر إلى الجمال؛ ولذلك يقول
جمَالُ الذي أهْواهُ قَيْد نَاظِريّ فَلْيتَ لِشَيءٍ غي ِرهِ يتحوّلِويمكننا أن نفرق بين الخائف وبين
الشاعرَ :
المستمتع بملمح الوجه المنبسطة أو المذعورة.
ونعلم أن البصر ابن للمرائي؛ فساعة تتعدّد المرائي؛ فالبصر يتنقّل بينها؛ ولذلك فالشخص المُبصر
مُشتّت المرائي دائما؛ ويتنقل ِذهْنه من هنا إلى هناك.
أما مَنْ أنعم ال عليهم بنعمة حَجْز أبصارهم -المكفوفين -فل تشغله المرائي؛ ولذلك نجدهم
أحرصَ الناس على العِلْم؛ فأذهانهم غير مشغولة بأيّ شيء آخر ،و ُبؤْرة شعور كل منهم تستقبل
عن طريق الذن ما يثبت فيها.
ولذلك يقال عنهم " صناديق العلم " إنْ أرادوا أنْ يعلموا؛ فل أحدَ من الذين يتعلمون منهم يكون
فارغا أبدا؛ مثَلة مِثل الصندوق الذي ل يفرغ.
ول أحد يتحكم في العاطفة الناشئة عن الغرائز إل ال؛ فأنت ل تقول لنفسك " أغضب " أو "
حكَ وَأَ ْبكَىا }[النجم.]43 :
ضَأضحك "؛ لنه هو سبحانه الذي يملك ذلك ،وهو القائل {:وَأَنّهُ ُهوَ َأ ْ
ل لحد بها.
والضحك والبكاء مسائل قَسْرية ل دخ َ
غتِ الَبْصَارُ[} ...الحزاب.]10 :
ونجد الحق سبحانه يقول في موقع آخر من القرآن {:وَإِذْ زَا َ
فمرّة تشخص البصار ،ويستولي الرعب على أصحابها فل يتحولون عن المشهد المُرْعِب ،ومرّة
تزوغ البصار لعله يبحث لنفسه عن مَنْفذ أو َمهْربٍ فل يجد.
سهِمْ...
طعِينَ ُمقْ ِنعِي ُرءُو ِ
ويكمل الحق سبحانه صورة هؤلء الذين تزوغ أبصارهم ،فيقولُ } :مهْ ِ
{.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1778 /
وال ُمهْطع هو مَنْ يظهر من فَرْط تسرّعه وكأن رقبته قد طالتْ ،لن ال ُمهْطع هو مَنْ فيه طُول،
وكأن الجزاء بالعذاب يجذب المَجْزيّ ليقربه ،فَيُدفَع في شدة وجفوة إلى العذاب ،يقول الحق
جهَنّمَ دَعّا }[الطور.]13 :
سبحانهُ {:يدَعّونَ إِلَىا نَارِ َ
وكأن هناك مَنْ يدفعهم َدفْعا إلى مصيرهم ال ُمؤْلم .وهم:
سهِمْ[ } ...إبراهيم.]43 :
{ ُمقْ ِنعِي ُرءُو ِ
أي :رافعين رءوسهم من فَرْط الدهشة لِهوْل العذاب الذي ينتظرهم.
للً َف ِهىَ ِإلَى الَ ْذقَانِ َفهُم
جعَلْنَا فِي أَعْنا ِقهِمْ أَغْ َ
وفي موقع آخر يُصوّرهم الحق سبحانه {:إِنّا َ
ّمقْمَحُونَ }[يس.]8 :
وهكذا تكون صورتهم مُفْزعة من فَرْط المهانة؛ فبصَ ُر الواحد منهم شَاخِص إلى العذاب مُنجذب
إليه بسرعة ل يتحكّم فيها؛ ورأسه مرفوعة من فَرْط ال َهوْل؛ و ُم ْقمَح بالغلل.
ول يستطيع الواحد منهم أن تجفل جفونه ،وكأنها مفتوحةٌ رَغْما عنه؛ وفؤاده هواء بمعنى :أنْ ل
شيءَ قادرٌ على أن يدخله.
ونحن نلحظُ ذلك حين نضع زجاجة فارغة في قلب الماء؛ فتخرج فقاقيع الهواء مقابلَ دخولِ الماء
من فُوهتها.
ونعلم أن قَلْب المؤمن يكون ممتلئا باليمان؛ أما الكافر المُلْحد فهو في مثل تلك اللحظة يستعرض
تاريخه مع ال ومع الدين؛ فل يجد فيها شيئا يُطمئِن ،وهكذا يكتشف أن فؤاده خَالٍ فارغ؛ ل
يطمئن به إلى ما يُواجه به لحظة الحساب.
ونجد بعضا ِممّنْ شاهدوا لحظات احتضار غيرهم يقولون عن احتضار المؤمن " كان مُشرِق
الوجه متللئ الملمح " .أما ما يقولونه عن لحظة احتضار الكافر؛ فهم يحكُونَ عن بشاعة
ملمحه في تلك اللحظة.
والسبب في هذا أن النسان في مثل هذه اللحظات يستعرض تاريخه مع ال ،ويرى شريط عمله
ن قضي حياته وهو يُرضِى ال؛ ل ُبدّ أن يشعر بالراحة ،ومَنْ قضى حياته وهو كافر
كله؛ فمَ ْ
مُلْحد فل بُدّ أن يشعرَ بالمصير المُرْعب الذي ينتظره.
ولذلك يقول الحق سبحانه {:وُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ نّاضِ َرةٌ * إلَىا رَ ّبهَا نَاظِ َرةٌ * َووُجُوهٌ َي ْومَئِذٍ بَاسِ َرةٌ *
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تَظُنّ أَن ُيفْ َعلَ ِبهَا فَاقِ َرةٌ }[القيامة.]25-22 :
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَأَنذِرِ النّاسَ َيوْمَ يَأْتِيهِمُ ا ْلعَذَابُ.} ...
()1779 /
ك وَنَتّبِعِ
عوَ َت َ
جبْ دَ ْ
جلٍ قَرِيبٍ نُ ِ
وَأَنْذِرِ النّاسَ َيوْمَ يَأْتِيهِمُ ا ْل َعذَابُ فَيَقُولُ الّذِينَ ظََلمُوا رَبّنَا أَخّرْنَا إِلَى َأ َ
سمْتُمْ مِنْ قَ ْبلُ مَا َل ُكمْ مِنْ َزوَالٍ ()44
سلَ َأوَلَمْ َتكُونُوا َأقْ َ
الرّ ُ
وهذا خطاب من الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم أن يُنذِرهم بضرورة الستعداد ليوم
القيامة ،وأنه قادمٌ ل محالةَ.
وكلمة " يوم " هي ظَرْف زمان ،وظرف الزمان ل بُدّ له من حَدثٍ يقع فيه ،ويوم القيامة ليس
محلّ إنذار أو تبشير؛ لن النذار أو البشارة ل ُبدّ أنْ يكونا في وقت التكليف في الحياة الدنيا.
وهكذا يكون المُنْذر به هو تخويفهم ِممّا يحدث لهم في هذا اليوم ،فما سوف يحدث لهم هو العذاب؛
وكأنه قنبلة موقوتة ما إنْ يأتي يوم القيامة حتى تنفجر في وجوههم.
ظلْم القمة في العقيدة ،وظُلْم الرسالة بمقاومتها؛ وظلم الكون المُسبّح ل:
وهنا يقول أهل ُ
سلَ[ } ...إبراهيم.]44 :
ك وَنَتّبِعِ الرّ ُ
عوَ َت َ
جبْ دَ ْ
جلٍ قَرِيبٍ نّ ِ
{ رَبّنَآ أَخّرْنَآ إِلَىا َأ َ
وهم يطلبون تأجيل العذاب ِل ُمهْلة بسيطة ،يُثبتون فيها أنهم سيُجيبون الدعوة ويطيعون الرسول،
وهم يطلبون بذلك تأجيل قيامتهم.
فيكون الجواب من الحق سبحانه:
سمْ ُتمْ مّن قَ ْبلُ مَا َلكُمْ مّن َزوَالٍ } [إبراهيم.]44 :
{ َأوََلمْ َتكُونُواْ َأقْ َ
سمُواْ
ن يموت؛ وقد قال الحق سبحانه ما قلتم {:وََأقْ َ
فأنتم قد سبق وأنْ أقسمتُم بأن ال ل يبعث مَ ْ
جهْدَ أَ ْيمَا ِنهِمْ لَ يَ ْب َعثُ اللّهُ مَن َيمُوتُ[} ...النحل.]38 :
بِاللّهِ َ
وساعة ترى كلمة " بلى " بعد نَدْب ،فهذا يعني تكذيب ما جاء قبلها ،وهم في الية التي نحن
بصدد خواطرنا عنها ظَنّوا أنهم لن يُبعثُوا ،وظنّوا أنهم بعد الموت سيصيرون ترابا؛ وهم الذين
ت وَنَحْيَا َومَا نَحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ }[المؤمنون.]37 :
قالوا {:إِنْ ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُو ُ
وهكذا أكّدوا لنفسهم أنه ل َبعْث من َبعْد الحياة ،ومن بعد البعث سنسمع من كل فرد فيهم{:
يالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابا }[النبأ.]40 :
أو :أنهم ظَنّوا أن الذين أنعَم ال عليهم في الدنيا؛ لن يحرمهم في الخرة ،كما أورد الحق سبحانه
حفَفْنَا ُهمَا
حدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَ َ
جعَلْنَا لَ َ
جلَيْنِ َ
هذا المَثل ،في قوله تعالى {:وَاضْ ِربْ لهُمْ مّثَلً رّ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظلِم مّنْهُ شَيْئا َوفَجّرْنَا خِلَل ُهمَا َنهَرا *
جعَلْنَا بَيْ َن ُهمَا زَرْعا * كِلْتَا الْجَنّتَيْنِ آ َتتْ ُأكَُلهَا وَلَمْ تَ ْ
ل وَ َ
خٍبِنَ ْ
خلَ جَنّتَ ُه وَ ُهوَ ظَاِلمٌ
ل وَأَعَزّ َنفَرا * وَدَ َ
َوكَانَ َلهُ َثمَرٌ َفقَالَ ِلصَاحِبِ ِه وَ ُهوَ يُحَاوِ ُرهُ أَنَا َأكْثَرُ مِنكَ مَا ً
جدَنّ
لّ َنفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا * َومَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَةً وَلَئِن رّدِدتّ إِلَىا رَبّي لَ ِ
خَيْرا مّ ْنهَا مُ ْنقَلَبا }[الكهف.]36-32 :
والذي يقول ذلك َفهِم أنه سوف يموت؛ لكنه توهّم أن جنته تلك ستظل على ما هي عليه ،وأنكر
قيام الساعة ،وقال " :حتى لو قامت الساعة ،ورُدِدتُ إلى ال فسأجد أفضل من جنتي تلك ".
وهو يدعي ذلك وهو لم يُقدّم إيمانا بال ليجده في الخرة ،فهو إذن ِممّنْ أنكروا الزوال أي البعث
من جديد ،ووقع في دائرة مَنْ لم يُصدّقوا البعث ،وسبق أنْ قال الحق سبحانه ما أورده على
ألسنتهم:
{ أَِإذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }[السجدة.]10 :
والذين أنكروا البعث يُورِد الحق سبحانه لنا حوارا بينه وبينهم ،فيقول سبحانه وتعالى {:قَالُواْ رَبّنَآ
ن وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَ َرفْنَا بِذُنُوبِنَا َف َهلْ إِلَىا خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ }[غافر.]11 :
َأمَتّنَا اثْنَتَيْ ِ
حكْمُ للّهِ
عيَ اللّ ُه وَحْ َدهُ كَـفَرْتُ ْم وَإِن يُشْ َركْ ِبهِ ُت ْؤمِنُواْ فَا ْل ُ
فيرد الحق سبحانه عليهم {:ذَِلكُم بِأَنّهُ ِإذَا دُ ِ
ا ْلعَلِـيّ ا ْلكَبِيرِ }[غافر.]12 :
جعْنَا
س ِمعْنَا فَارْ ِ
وفي موقع آخر من القرآن نجد حوارا واستجداءً منهم ل؛ يقولون {:رَبّنَآ أَ ْبصَرْنَا وَ َ
َن ْع َملْ صَالِحا[} ...السجدة.]12 :
ويأتي َردّ الحق سبحانه عليهمَ {:فذُوقُواْ ِبمَا نَسِي ُتمْ ِلقَآءَ َي ْو ِمكُمْ هَـاذَآ إِنّا َنسِينَاكُمْ[} ...السجدة.]14 :
ع َملُ صَالِحا فِيمَا تَ َر ْكتُ }
جعُونِ * َلعَلّي أَ ْ
وفي موقع ثالث يقول الواحد منهم عند الموتَ {:ربّ ا ْر ِ
[المؤمنون.]100-99 :
فيأتي ردّ الحق سبحانه {:كَلّ إِ ّنهَا كَِلمَةٌ ُهوَ قَآئُِلهَا[} ...المؤمنون.]100 :
وبعد دخولهم النار يقولون {:رَبّنَآ أَخْ ِرجْنَا مِ ْنهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنّا ظَاِلمُونَ }[المؤمنون.]107 :
فيقول الحق سبحانه {:قَالَ اخْسَئُواْ فِيهَا َولَ ُتكَّلمُونِ }[المؤمنون.]108 :
ل صَالِحا غَيْرَ الّذِي كُـنّا
وفي موضع آخر يقولون عند اصطراخهم في النار {:رَبّنَآ َأخْرِجْنَا َن ْعمَ ْ
َن ْع َملُ[} ...فاطر.]37 :
فيأتي الرد من الحق سبحانهَ {:أوَلَمْ ُن َعمّ ْركُمْ مّا يَتَ َذكّرُ فِيهِ مَن َت َذكّ َر وَجَآ َء ُكمُ النّذِيرُ فَذُوقُواْ َفمَا
لِلظّاِلمِينَ مِن ّنصِيرٍ }[فاطر.]37 :
سوْا أنهم
ونلحظ أنهم في كل آيات التوسّل ل كي يعودوا إلى الحياة الدنيا يقولون (ربنا) ،وتنا َ
مأخوذون إلى العذاب بمخالفات اللوهية؛ ذلك أن الربوبية عطاؤها كان لكم في الدنيا ،ولم
ينقصكم الحق سبحانه شيئا على الرغم من كفركم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هكذا يكون حال هؤلء الذين أقسموا أن الحق سبحانه لن يبعثهم ،وأنكروا يوم القيامة ،وأنه ل
زوال لهم .أي :ل َبعْث ول نشور.
سكَنتُمْ فِي مَسَـاكِنِ الّذِينَ.{ ...
ويتابع الحق سبحانه القول الكريم } :وَ َ
()1780 /
والسكون هو الطمئنان إلى الشيء من عدم الزعاج ،ونعلم أن المرأة في الزواج تعتبر سكنا،
والبيت سكن ،وهنا يتكلم الحق سبحانه عن مساكن الذين ظلموا أنفسهم ،أي :أنكم لم تتعِظُوا
بالسوابق التي ما كان يجب أن تغيبَ عنكم ،فأنتم تمرون في رحلت الصيف والشتاء على مدائن
صالح ،وترون آثار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والشرك ،وتمرون على الحقاف؛ وترون ماذا
ق بقوم عاد.
حا َ
ل أولئك نالوا العقاب من ال ،سواء بالريح الصرصر العاتية ،أو :أنه سبحانه قد أرسل عليهم
وكُ ّ
حاصبا من السماء ،أو :أنزل عليهم الصيحة؛ أو :أغرقهم كآل فرعون ،وأخذ كل قوم من هؤلء
بذنبه.
وصدق ال وَعْده في عذاب الدنيا؛ فلماذا لم تأخذوا عِبْرة من ذلك؛ وأنه سبحانه وتعالى صادق
حين تحدّث عن عذاب الخرة؟
وهنا قال الحق سبحانه:
سهُمْ[ } ...إبراهيم.]45 :
سكَن ُتمْ فِي َمسَـاكِنِ الّذِينَ ظََلمُواْ أَنفُ َ
{ وَ َ
وفي آية أخرى يقول سبحانه {:وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ّمصْبِحِينَ * وَبِالْلّ ْيلِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[الصافات:
.]138-137
أي :أنكم تمرّون على تلك الماكن التي أقامها بعضٌ ِممّنْ سبقُوكم وظلمُوا أنفسهم بالكفر؛ وأنزل
الحق سبحانه عليهم العقَاب؛ ولذلك يقول في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
لمْثَالَ } [إبراهيم.]45 :
{ وَتَبَيّنَ َلكُمْ كَ ْيفَ َفعَلْنَا ِبهِمْ َوضَرَبْنَا َل ُك ُم ا َ
نعم؛ فحين تمشي في أرض قوم عاد ،وترى حضارتهم التي قال عنها الحق سبحانه {:إِرَمَ ذَاتِ
ا ْل ِعمَادِ * الّتِي َلمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ }[الفجر.]8-7 :
وهي حضارة لم نكشف آثارها بعد؛ وما زالت في المطمورات وكل مطمور في الرض بفعل من
غضب السماء؛ تضع السماءُ ميعادَ كشف له ليتعظَ أهلُ الرض؛ ويحدث هذا الكشف كلما زاد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اللحاد واستشرى.
قد حدث أن اكتشفنا حضارة ثمود ،وكذلك حضارة الفراعنة؛ وهي الحضارة التي سبقتْ كل
الحضارات في العلوم والتكنولوجيا ،ورغم ذلك لم يعرف أصحاب تلك الحضارة أن يصونوها من
الندثار الذي شاءه ال.
وما زال الناس يتساءلون :لماذا لم يترك المصريون القدماء خبرتهم الحضارية مكتوبة ومُسجّلة
في خطوات يمكن أن تفهمها البشرية من بعد ذلك؟
لمْثَالَ }
سهُ ْم وَتَبَيّنَ َلكُمْ كَ ْيفَ َفعَلْنَا ِبهِ ْم َوضَرَبْنَا َلكُ ُم ا َ
سكَن ُتمْ فِي َمسَـاكِنِ الّذِينَ ظََلمُواْ أَنفُ َ
{ وَ َ
[إبراهيم.]45 :
حتْ أمام الذين عاصروا
أي :أن الحق سبحانه يوضح هنا أن مشيئته في إنزال العقاب قد َوضْ َ
رسالة محمد صلى ال عليه وسلم في مساكن القوام التي سبقتهم؛ وكفروا برسالت الرسل،
وسبق أن ضرب لهم الحق سبحانه المثال بهؤلء القوم وبما حدث لهم .والمَثلُ إنما يضربه ال
لِيُقرّب بالشيء الحسي ما يُقرّب إلى الذهانِ الشي َء المعنوي.
ويستمر قوله الحق من بعد ذلكَ { :وقَدْ َمكَرُواْ َمكْرَ ُه ْم وَعِندَ.} ...
()1781 /
َوقَدْ َمكَرُوا َمكْرَ ُه ْم وَعِنْدَ اللّهِ َمكْرُهُ ْم وَإِنْ كَانَ َمكْرُ ُهمْ لِتَزُولَ مِ ْنهُ الْجِبَالُ ()46
والمكْر -كما نعلم -هو تبييت الكَيْد في خفاء مستورٍ ،ومأخوذ من الشجرة المكمورة؛ أي:
الشجرة التي تُداري نفسها .ونحن نرى في البساتين الكبيرة شجرةً في حجم الصْبع؛ وهي مجدولةٌ
على شجرة أخرى كبيرة .ول تستطيع أن تتعرف على ورقة منها ،أو أن تنسب تلك الورقة إلى
مكان خروجها ،ومن أيّ فرع في الشجرة المُلتْفة إل إذا نزعتها من حول الشجرة التي تلتفّ من
حولها.
ومَنْ يُبيّت إنما يشهد على نفسه بالجُبْن والضعف وعدم القدرة على المواجهة ،قد يصلح أن تُبيّت
مُسَاوٍ لك؛ أما أنْ تُبّيت على الحي القيوم الذي ل تخفى عليه خافية في الرض ول في السماء؛
فتلك هي الخيبة بعينها.
ولذلك يقول الحق سبحانه في مواجهة ذلك {:وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل عمران.]54 :
وقال عن َمكْر هؤلءَ {:ولَ يَحِيقُ ا ْل َمكْرُ السّيّىءُ ِإلّ بَِأهْلِهِ }[فاطر.]43 :
شيْءٌ[} ...الشورى.]11 :
ونعلم أننا حين ننسب صِفةً ل فنحن نأخذها في إطار {:لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وعادة ما ننسب كل فعل من ال للخير ،كقوله سبحانه {:وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ }[النبياء{.]89 :
وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل عمران.]54 :
وقوله هناَ {:وقَدْ َمكَرُواْ َمكْرَهُمْ[} ....إبراهيم.]46 :
أي :قاموا بالتبييت المناسب لحيلتهم ولتفكيرهم ولقوتهم؛ فإذا ما قابل الحق سبحانه ذلك؛ فلسوف
يقابله بما يناسب قوته وقدرته المطلقة ،وهو سبحانه قد علم أزلً بما سوف يمكرونه ،وتركهم في
َمكْرهم.
ن بقوة المُرْسَل وأتباعه ،وهم يقابلون خصوما هُم حيثية وجود
فانتصارات الرسالت مرهو ٌ
الرسالة؛ ذلك أنهم قد ملوا الرض بالفساد ،ويريدون الحفاظ على الفساد الذي يحفظ لهم السلطة؛
والدين الجديد سي ُدكّ سيادتهم ويُزلزلها؛ لذلك ل بُ ّد ألّ يدخروا وُسْعا في محاولة الكَيْد واليقاع
بالرسول للقضاء على الرسالة.
وقد حاولوا ذلك بالمواجهة وقت أنْ كان السلم في بدايته؛ فأخذوا الضعاف الذين أسلموا ،وبدءوا
في تعذيبهم؛ ولم يرجع واحد من هؤلء عن الدين.
وحاولوا بالحرب؛ فنصر ال الذين آمنوا ،ولم يَيْق لهم إل ال َمكْر ،وسبحانه القائل {:وَإِذْ َي ْمكُرُ ِبكَ
الّذِينَ َكفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ َأوْ َيقْتُلُوكَ َأوْ يُخْ ِرجُوكَ وَ َي ْمكُرُونَ وَ َي ْمكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال:
.]30
وحاولوا أن يفسدوا خليّة اليمان الولى ،وهي محمد بن عبد ال صلى ال عليه وسلم ،وظنّوا أنهم
إنْ نجحوا في ذلك؛ فسوف تنفضّ الرسالة .فحاولوا أن يشتروه بالمال؛ فلم يُفلحوا.
وحاولوا أن يشتروه بالسيادة والمُلْك فلم ينجحوا ،وقال قولته المشهورة " :وال لو وضعوا الشمس
في يميني ،والقمر في يساري على أن أترك هذا المر حتى يُظهره ال ،أو أهلك فيه ،ما تركته ".
ثم قرروا أن يقتلوه وأن يُوزّعوا دمه بين القبائل ،وأخذوا من كل قبيلة شابا ليضربوا محمدا صلى
ال عليه وسلم بالسيوف ضَرْبة رجلٍ واحد ولكنه صلى ال عليه وسلم يهاجر في تلك الليلة،
وهكذا لم ينجح تبييتهم:
{ َوقَدْ َمكَرُواْ َمكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ َمكْرُهُمْ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للعرب ،فلو كان مكرهم شديدا تزول به الجبال ،فلن يُفلِحوا معك يا رسول ال ،ولن يُزَحزِحوك
عن هدفك ومهتمك.
خشْيَةِ اللّهِ
والحق سبحانه يقولَ {:لوْ أَنزَلْنَا هَـاذَا ا ْلقُرْآنَ عَلَىا جَ َبلٍ لّرَأَيْ َتهُ خَاشِعا مّ َتصَدّعا مّنْ َ
لمْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ }[الحشر.]21 :
وَتِ ْلكَ ا َ
وإذا كان مكرهم يبلغ من الشدة ما تزول به الجبال؛ فاعلم أن ال أشدّ بَأْسا.
ويُقدّم سبحانه من بعد ذلك حيَثْية عدم فاعلية َمكْرهم ،فيقول } :فَلَ َتحْسَبَنّ اللّهَ ُمخِْلفَ{ ...
()1782 /
ف وَعْ ِدهِ رُسَُلهُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْ ِتقَامٍ ()47
حسَبَنّ اللّهَ مُخِْل َ
فَلَا تَ ْ
ولو كان لمكرهم مفعولٌ أو فائدة َلمَا قال الحق سبحانه أن وعده لرسله لن ُيخْلفَ ،ولكن مكرَهم
فاسدٌ من أوله وبل مفعول ،وسبحانه هو القائل {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َل ُهمُ
ا ْلمَنصُورُونَ * وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173-171 :
إذن :فوَعْد ال لرُسله ل يمكن أن ُيخْلفَ.
الوعود في القرآن كثيرة؛ فهناك وَعْد الشيطان لوليائه ،مصداقا لقول الحق سبحانه:
حشَآ ِء وَاللّهُ َيعِ ُدكُم ّم ْغفِ َرةً مّنْ ُه َو َفضْلً[} ...البقرة]168 :
{ الشّيْطَانُ َي ِع ُدكُمُ ا ْل َفقْرَ وَيَ ْأمُ ُركُم بِا ْلفَ ْ
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ لَيَسْ َتخِْلفَ ّنهُمْ فِي
وهناك وَعْد من ال للمؤمنين {:وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ مِ ْنكُ ْم وَ َ
الَ ْرضِ[} ...النور.]55 :
فإذا كان الحق سبحانه ل يُخلِف وَعْده لتباع الرسول؛ أيُخلِف وَعْده للرسول؟
طبعا ل؛ لن الوعد على إطلقه من ال؛ مُوفّى؛ فكيف إذا كان للرسل وللمؤمنين؟ يقول الحق
شهَادُ }[غافر]51 :
سبحانه وتعالى {:إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َيوْمَ َيقُو ُم الَ ْ
والنصر يقتضي هزيمة المقابل ،ويحتاج النصر لصفة تناسبه؛ والصفة المناسبة هي صدوره من
عزيز ل يُغلب؛ والهزيمة لمن كفروا تحتاج إلى صفة؛ والصفة المناسبة هي تحقّق الهزيمة بأمر
مُنتقِم جبّار.
ل الَ ْرضُ.} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ { :ي ْومَ تُبَ ّد ُ
()1783 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت وَبَرَزُوا لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْلقَهّارِ ()48
س َموَا ُ
َيوْمَ تُبَ ّدلُ الْأَ ْرضُ غَيْرَ الْأَ ْرضِ وَال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ } [إبراهيم.]48 :
وليس هناك إله آخر سيقول له " اتركهم من أجل خاطري ".
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا
عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ َيحْسَبُهُ ال ّ
وفي آية أخرى يقول عن هؤلء {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
جدَ اللّهَ عِن َدهُ[} ...النور.]39 :
إِذَا جَآ َءهُ َلمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا وَوَ َ
أي :أنه ُيفَاجأ بمثل هذا الموقف الذي لم يستعِد له.
وقوله:
{ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ } [إبراهيم.]48 :
أي :القادر على َقهْر المخلوق على غير مُرَاده.
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :وَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ.} ....
()1784 /
صفَادِ ()49
وَتَرَى ا ْلمُجْ ِرمِينَ َي ْومَئِذٍ ُمقَرّنِينَ فِي الَْأ ْ
والمجرم هو مَن ارتكب ذنبا ،وهو هنا مَنِ ارتكب ذنب ال ِقمّة .وهو الكفر بال ،ومن بعده َمَنِ
ن " وهو
ارتكب الذنوب اليت دون الكفر ،وتراهم جميعا مجموعين بعضهم مع بعض في " قر ٍ
الحبل أو الَيْد الذي يُقيّدون.
والصفاد جمع صَفَد ،وهو القيد الذي يوضع في الرّجلْ؛ وهو مِثْل الخُلْخال؛ وهناك مَنْ يُقيّدون
في الصفاد أي :من أرجلهم ،وهناك مَنْ يقيد بالغلل .أي :أنْ توضع أيديهم في سلسل ،وتُعلّق
تلك السلسل في رقابهم أيضا.
وكلّ أصحاب جريمة مُعيّنة يجمعهم رباط واحد ،ذلك أن أهل كل جريمة تجمعهم أثناء الحياة الدنيا
-في الغالب -مودّة وتعاطف ،أما هنا فسنجدهم متنافرين ،وعلى عداء ،ويلعن كل منهم الخر؛
وكل منهم يناكف الخر ويضايقه ،ويعلن ضِيقة منه ،مصداقا لقول الحق سبحانه {:الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف.]67 :
َب ْع ُ
وكأن كلً منهم يُعذّب الخر من قبل أنْ يذوقوا جميعا العذاب الكبير.
حتَ َأ ْقدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ
جعَ ْل ُهمَا تَ ْ
ن وَالِنسِ نَ ْ
ولذلك نجدهم يقولون {:رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ ا ْلجِ ّ
سفَلِينَ }[فصلت.]29 :
الَ ْ
ب وَا ْلعَ ْنهُمْ
ض ْعفَيْنِ مِنَ ا ْلعَذَا ِ
طعْنَا سَادَتَنَا َوكُبَرَآءَنَا فََأضَلّونَا السّبِيلْ * رَبّنَآ آ ِتهِ ْم ِ
ويقولون {:رَبّنَآ إِنّآ َأ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َلعْنا كَبِيرا }[الحزاب.]68-67 :
ويستكمل الحق سبحانه صورة هؤلء المُذْنبين :فيقول { :سَرَابِيُلهُم مّن َقطِرَانٍ.} ....
()1785 /
و " السرابيل " جمع " سِرْبال " وهو ما يلي الجسد ،وهو ما نسميه في عصرنا " قميص " .وإذا
كان السّرْبال من قطران؛ فهو أسود لذع نتن الرائحة سريع الشتعال؛ وتلك صفات القطران،
وهو شيء يسيل من بعض أشجار البادية وتلك صفاته ،وهم يستخدمونه لعلج الجمال من
الجرب.
وعادة يضرب الحق سبحانه المثل من الصورة القريبة إلى الذّهن من التي يراها العربي في بيئته.
ويقول عنهم الحق سبحانه أيضا:
{ وَ َتغْشَىا وُجُو َههُمُ النّارُ } [إبراهيم.]50 :
والنسان إذا ما تعرّض لمر يصيبه بالعطب ،فأوّل ما يحاول الحفاظ عليه هو وجهه ،ذلك أن
الوجه هو أشرف شيء في النسان ،فما بالنا حين تغشى وجوه الكفرةِ النارُ؟ إن مجرد تخيّل ذلك
أمر مؤلم.
جهِهِ سُوءَ ا ْلعَذَابِ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ[} ...الزمر.]24 :
وسبحانه يقول في آية اخرىَ {:أ َفمَن يَ ّتقِي ِب َو ْ
وكأن الواحد منهم من فَرْط شدة العذاب يحاول أن يدفَع هذا العذاب بوجهه ،وهكذا نجد أحاسيسَ
شتّى لهذا العذاب؛ وهو مُؤلِم أشدّ اللم.
سحَبُونَ فِي النّارِ عَلَىا وُجُو ِههِمْ[} ...القمر.]48 :
ويقول سبحانه في موقع آخرَ {:يوْمَ يُ ْ
وهكذا نجد أن الوجه قد جاء في أكثر من صورة؛ من صور هذا العذاب.
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :لِ َيجْ ِزيَ اللّهُ ُكلّ َنفْسٍ.} ...
()1786 /
لِيَجْ ِزيَ اللّهُ ُكلّ َنفْسٍ مَا كَسَ َبتْ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ ()51
والجزاء أمر طبيعي في الوجود ،وحتى الذين ل يؤمنون بإله؛ ويديرون حركة حياتهم بتقنينات من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عندهم قد وضعوا لنفسهم قوانين جزاء تحدد كل جريمة والعقاب المناسب لها.
وبطبيعة الحال ل يكون أمرا غريبا أن يضع خالق الكون نظاما للجزاء ثوابا وعقابا ،ولو لم َيضَعْ
الحق سبحانه نظاما للجزاء بالثواب والعقاب؛ لَنالَ كل مُفسدِ ُبغْيته من فساده؛ ولحسّ أهل القيم
خدِعُوا في هذه الحياة.
أنهم قد ُ
عمّنْ قال {:لَ ظُ ْلمَ الْ َيوْمَ[} ...غافر:
وما دام الجزاء أمرا طبيعيا؛ فل ظُلْم فيه إذن؛ لنه صادر َ
.]17
ول يجازي الحق سبحانه الجزاء العنيف إل على الجريمة العنيفة:
وقوله سبحانه:
{ لِ َيجْ ِزيَ اللّهُ ُكلّ َنفْسٍ مّا كَسَ َبتْ[ } ...إبراهيم.]51 :
يعني أن المؤمن أو الكافر سَيلْقي جزاء ما فعل؛ إنْ ثوابا أو عقابا.
والكسب -كما نعلم -هو أن تأخذ زائدا عن الصل ،فأنت حين تحرم نفسك من شيء في الدنيا؛
ستأخذ جزاء هو الثواب وما يزيد عن الصل.
ومَنْ كسب سيئة سيأخذ عقابا عليها ،و ُيقَال " كسب السيئة " ول يقال " اكتسبها " ذلك أن ارتكابه
للسيئة صار دُرْبة سلوكية؛ ويفرح بارتكابها ،ول ُبدّ إذن من الجزاء؛ والجزاء يحتاج حسابا،
والحساب يحتاج ميزانا.
وقد يقول المؤمن :إنّي أُصدّق ربي ،ولن يظلم ربّي أحدا .ونقول :إن المقصود بالميزان هو إقامة
شةٍ رّاضِيَةٍ }[القارعة-6 :
الحجة؛ ولذلك نجده سبحانه يقول {:فََأمّا مَن َثقَُلتْ َموَازِينُهُ * َف ُهوَ فِي عِي َ
.]7
خ ّفتْ َموَازِينُهُ * فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ }[القارعة.]9-8 :
ويقول أيضا {:وََأمّا مَنْ َ
خفّت " .أما مَنْ تساوت ِكفّتا
ونجد القسمة العقلية في الميزان واضحة فهي مرة " َثقُلَت " ومرة " َ
ميزانه؛ َففَسرت حالته سورة العراف التي قال فيها الحق سبحانه {:وَعَلَى الَعْرَافِ رِجَالٌ
َيعْ ِرفُونَ كُلّ ِبسِيمَاهُمْ[} ...العراف.]46 :
وما دام الحق سبحانه سيحاسب كل َنفْس بما كسبتْ؛ فقد يظنّ البعض أن ذلك سيستغرق وقتا؛
ولذلك يتابع سبحانه:
{ إِنّ اللّهَ سَرِيعُ ا ْلحِسَابِ } [إبراهيم.]51 :
خلْق من َلدُن آدم إلى أنْ تقومَ الساعة بسرعة تناسب قدرته
ليبين لنا أنه سبحانه سُيحاسِب كل ال َ
المطلقة.
وحين سأل الناسُ المام -عليا -كرّم ال وجهه :-كيف سيحاسب ال الخلق كلهم دفعة واحدة؟
أجاب الجابة الدّالة الشافية ،وقال " :كما يرزقهم جميعا ".
س وَلِيُنذَرُواْ.} ....
لغٌ لّلنّا ِ
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :هَـاذَا بَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1787 /
س وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِ َيعَْلمُوا أَ ّنمَا ُهوَ إَِل ٌه وَاحِدٌ وَلِيَ ّذكّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ()52
هَذَا بَلَاغٌ لِلنّا ِ
وهذه الية هي مِسْك الختام لسورة إبراهيم ،ذلك أنها ركّ َزتْ الدعوة؛ بلغا صدر عن ال ليبلغه
لرسوله الذي أُيّد بالمعجزة؛ لِيح ِملَ منهج الحياة للنسان الخليفة في الرض.
وإذا ما صدرتْ قوانينُ حركة الحياة للنسان الخليفة في الرض المخلوق ل ،وجب ألّ يتزيّد
عليها أحدٌ بإكمال ول بإتمام؛ لن الذي خلق هو الذي شرّع ،وهذه مسألة يجب أن تكون على ِذكْر
من بَالِ كل إنسان مُكلّف.
وحين تقرأ هذا ال َقوْل الحكيم:
لغٌ لّلنّاسِ[ } ...إبراهيم.]52 :
{ هَـاذَا بَ َ
تجد أنه يحمل إشارة إلى القرآن كله؛ ذلك أن حدود البلغ هو كل شيء نزل من عند ال.
وقول الحق سبحانه:
لغٌ لّلنّاسِ[ } ...إبراهيم.]52 :
{ هَـاذَا بَ َ
قد أعطانا ما يعطيه النص القانوني الحديث ،ذلك أن النصّ القانوني الحديث يوضح أنه ل عقوبةَ
إل بنصّ يُجرّم الفعل ،ول ُبدّ من إعلن النصّ لكافّة الناس؛ ولذلك تُنشَر القوانين في الجريدة
الرسمية للدولة ،كي ل يقولَ أحد :أنا أجهل صدور القانون.
وكلنا يعلم أن الحق سبحانه قد قالَ {:ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً }[السراء.]15 :
فمهمة الرسول -إذنْ -هي البلغ عن ال لمنهج الحياة الذي يصون حركة الحياة.
غ وَعَلَيْنَا ا ْلحِسَابُ }[الرعد.]40 :
لُويقول سبحانه عن مهمة الرسول {:فَإِ ّنمَا عَلَ ْيكَ الْبَ َ
شوْنَ أَحَدا ِإلّ اللّهَ[} ...الحزاب:
شوْنَ ُه وَلَ َيخْ َ
خَلتِ اللّ ِه وَيَ ْ
ويقول سبحانه {:الّذِينَ يُبَّلغُونَ رِسَا َ
.]39
ويقول الحق سبحانه على لسان الرسولَ {:لقَدْ أَبَْلغْ ُتكُمْ ِرسَالَتِ رَبّي[} ...العراف.]93 :
ويقول أيضا {:أَبَْلغْ ُتكُمْ مّآ أُ ْرسِ ْلتُ ِبهِ إِلَ ْيكُمْ[} ...هود.]57 :
حجّة لقائلِ هذا
ب وقْتَ التكليف .ل ُ
حجّة لقائل :إني ُأخِ ْذتُ بذنب لم أعرف أنه ذن ٌ
وهكذا ل توجد ُ
القول؛ لن الحق سبحانه يقول في نفس الية:
{ وَلِيُنذَرُواْ ِبهِ[ } ..إبراهيم.]52 :
والنذار :تخويف بشرّ سوف يقع من قبل زمنه ،ليوضح لك بشاعة المخالفة ،وكذلك التبشير هو
تنبيه لخير قادم لم يَأتِ أوانه كي تستعدّ لستقباله.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقَوْل الحق سبحانه:
لغٌ لّلنّاسِ[ } ...إبراهيم.]52 :
{ هَـاذَا بَ َ
يتضمن البشارة أيضا؛ ولكنه يرتكز ويؤكد من بعد ذلك في قوله:
{ وَلِيُنذَرُواْ ِبهِ[ } ...إبراهيم.]52 :
لن الخيبة ستقع على مرتكب الذنوب.
وأقول :إن النذار هنا هو نعمة؛ لنه يُذكّر النسان فل يُقدِم على ارتكاب الذنب أو المعصية،
ل ومعروفا.
فساعةَ تُقدم للنسان مغبة العمل السيء؛ فكأنك تُقدم إليه نعمة ،وتُسدي إليه جمي ً
ويتابع سبحانه:
حدٌ[ } ..إبراهيم.]52 :
{ وَلِ َيعَْلمُواْ أَ ّنمَا ُهوَ إِلَـا ٌه وَا ِ
وهذه هي القضية العقدية الولى ،والتي تأتي في ِقمّة كل القضايا؛ فهو إله واحد نصدر جميعا عن
أمره؛ لن المر الهام في هذه الحياة أن تتضافر حركة الحياء وتتساند؛ ل أن تتعاند .ول يرتقي
بنيان ،ما إذا كنتَ أنت تبني يوما ليأتي غيرك فيهدم ما بنيتَ.
ومهمة حركة الحياة أن نُؤدّي مهمتنا كخلفاء ل في الرض؛ بأن تتعاضدَ مواهبنا ،ل أن
تتعارضَ ،فيتحرك المجتمع النساني كله في اتجاه واحد؛ لنه من إله واحد وأمر واحد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك أقول دائما :إياك أن تخلط بين المعلومة التي تُقال لك :وبين سلوك مَنْ قالها لك ،ولنسمع
خلّ العُودَ للحطَبِوهكذا يتحمل
الشاعر الذي قال:خُذْ عِلْمي ولَ تركَنْ إلى عَملِي وَأجْنِ الثمارَ و َ
المسلم مسئولية البلغِ بما يعرف من أحكام الدين لمن ل عِلْمَ لهم بها؛ لتظل الرسالة موصولة،
جتْ لِلنّاسِ تَ ْأمُرُونَ بِا ْل َمعْرُوفِ وَتَ ْن َهوْنَ عَنِ
وكلنا نعلم أن الحق سبحانه قد قال {:كُنْ ُتمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ
ا ْلمُ ْنكَرِ[} ...آل عمران.]110 :
أي :أنكم يا أمة محمد ،قد أخذتم مهمة النبياء.
ولن البلغ قد جاء من ال على الرسول صلى ال عليه وسلم ،والرسول أمين في تبليغه؛ لذلك ل
يمكن أنْ يصدرَ عن الواحد الحكيم أوامر متضاربة ،ولكن التضارب إنما ينشأ من اختلف الخر؛
أو من عدم حكمة المر ،ولْنُدقّق جيدا في قول الحق سبحانه:
حدٌ[ { ...إبراهيم.]52 :
} وَلِ َيعَْلمُواْ أَ ّنمَا ُهوَ إِلَـا ٌه وَا ِ
فكلمة " واحد " جاءت لتمنع مجرّد تصوّر الشراكة؛ فل أحدَ مثله ،وهو أحدٌ غير مُركّب من
أجزاء؛ فليس له أجهزة تشبه أجهزة البشر مثلً؛ فلو كان له أجهزة لَكانَ في ذاته يحتاجُ لبعاضه،
ح ول يمكن تخيّله مع ال سبحانه وتعالى.
وهذا ل يصِ ّ
وتلك هي القضية الساسية التي يعيها أولو اللباب الذين يستقبلون هذا البلغ .وأولو اللباب هي
جمع ،ومفرد " ألباب " هو " ُلبّ " ،وُلبّ الشيء هو حقيقة جوهره؛ لن القشرةَ توجد لتحفظَ هذا
اللّب ،والمحفوظ دائما هو أنفَسُ من الشيء الذي يُغلّفه لِيحفظه.
وهكذا يكون أولو اللباب هم البشر الذين يستقبلون القضية اليمانية بعقولهم؛ ويُحرّكون عقولهم
ليتذكروها دائما؛ ذلك أن مشاغل الحياة ومُتعتها وشهواتها قد َتصْرِف النسان عن المنهج؛ ولذلك
قال الحق سبحانه هنا:
} وَلِيَ ّذكّرَ ُأوْلُو ْا الَلْبَابِ { [إبراهيم.]52 :
أي :يتذكر أصحاب العقول أن ال واحدٌ أحد؛ فل إلهَ إل هو؛ ولذلك شهد سبحانه لنفسه قبل أنْ
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ[} ...آل عمران.]18 :
يشهدَ له أيّ كائن آخر ،وقالَ {:
وهذه شهادةُ الذات للذاتِ ،ويُضيف سبحانه {:وَا ْلمَلَئِكَ ُة وَُأوْلُواْ ا ْلعِلْمِ }[آل عمران.]18 :
وشهادة الملئكة هي شهادة المُواجهة التي عايشوها ،وشهادة أُولي اللبابِ هي شهادة الستدلل.
وشهد الحق سبحانه أيضا لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم أنه رسول :وكذلك شهد الرسول
لنفسه ،فهو يقول مثلنا جميعا " :أشهد أل إله إل ال ،وأشهد أن محمدا رسول ال ".
وهكذا فعَلى أُولي اللباب مهمة .أنْ يتذكّروا ويُذكّروا بأنه إله واحد أحدٌ.
()1788 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الر تِ ْلكَ آَيَاتُ ا ْلكِتَابِ َوقُرْآَنٍ مُبِينٍ ()1
السورة التي نبدأ خواطرنا عنها هي سورة الحجر تبدأ بالكلم عن جامع البلغ ،ومنهج لحياة
الحياة وهو القرآن الكريم الذي قد جاء بالخبر اليقين في قضية اللوهية الواحدة ،والتي ذكرنا في
آخر السورة السابقة بأن أُولِي اللباب يستقبلونها بتعقولهم.
ويقول الحق سبحانه في مُسْتهل السورة:
ب َوقُرْآنٍ مّبِينٍ } [الحجر]1 :
{ الرَ تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَا ِ
حتْ بالحروف التوفيقية؛ والتي قلنا :إن جبريل عليه السلم نزل وقرأها
والسورة كما نرى قد افْتُتِ َ
هكذا؛ وحفظها رسول ال صلى ال عليه وسلم وأبلغها لنا هكذا؛ وهي نزلتْ أوّل ما نزلت على
قوم برعوا في اللغة؛ وهم أهل فصاحة وبيان ،ولم نجد منهم مَنْ يستنكرها.
وهي حروف مُقطّعة تنطَق بأسماء الحروف ل مُسمّياتها ،ونعلم أن لكل حرف اسما ،وله مسمى؛
فحين نقول أو نكتب كلمة " كتب "؛ فنحن نضع حروفا هي الكاف والباء والتاء بجانب بعضها
البعض ،لتكون الكلمة كما ننطقها أو نقرؤها.
ويقال عن ذلك إنها مُسمّيات الحروف ،أما أسماء الحروف؛ فهي " كاف " و " باء " و " تاء " .ول
يعرف أسماء الحروف إل المُتعلّم؛ ولذلك حين تريد أن تختبر واحدا في القراءة والكتابة تقول له:
َتهَجّ حروف الكلمة التي تكتبها ،فإن نطق أسماءَ الحروف؛ عرفنا أنه يُجيد القراءة والكتابة.
وهذا القرآن ـ كما نعلم ـ نزل مُعجِزا للعرب الذين نبغوا في اللغة ،وكانوا يقيمون لها أسواقا؛
مثل المعارض التي نقيمها نحن لصناعاتنا المتقدمة.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن تأتي معجزة القرآن من نفس الجنس الذي نبغوا فيه ،فلو كانت
المعجزة من جنسٍ غير ما نبغوا فيه ولم يَألفوه َلقَالوا :لو تعلمنا هذا المر لَصنعْنَا ما يفوقه.
وجاءتهم معجزة القرآن من نفس الجنس الذي نبغُوا فيه؛ وباللغة العربية وبنفس ال ُمفْردات المُكوّنة
من الحروف التي تُكوّنون منها كلماتكم ،والذي جعل القرآن ُمعْجِزا أن المُتكلّم به خالق وليس
مخلوقا .وفي " الر " نفس الخامات التي تصنعون منها ُلغَتكم.
وهذا بعض ما أمكن أن يلتقطه العلماء من فواتح السور .علينا أن نعلم أن ل في كلماته أسرارا؛
ب وَأُخَرُ مُتَشَا ِبهَاتٌ فََأمّا
ح َكمَاتٌ هُنّ ُأمّ ا ْلكِتَا ِ
فهو سبحانهُ {:هوَ الّذِي أَن َزلَ عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ مِ ْنهُ آيَاتٌ مّ ْ
ن في قُلُو ِبهِمْ زَيْغٌ فَيَتّ ِبعُونَ مَا َتشَابَهَ مِنْهُ ابْ ِتغَاءَ ا ْلفِتْنَ ِة وَابْ ِتغَاءَ تَ ْأوِيلِ ِه َومَا َيعْلَمُ تَ ْأوِيَلهُ ِإلّ اللّهُ
الّذِي َ
وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ َيقُولُونَ آمَنّا بِهِ ُكلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا[} ...آل عمران]7 :
أي :أن القرآن به آيات مُحْكمات ،هي آيات الحكام التي يترتب عليها الثواب والعقاب ،أما اليات
المتشابهات فهي مثل تلك اليات التي تبدأ بها فواتح بعض السور؛ ومَنْ في قلوبهم زَيْغ يتساءلون:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ما معناها؟
وهم يقولون ذلك ل بَحْثا عن معنى؛ ولكن رغبةً للفتنة.
ولهؤلء نقول :أتريدون أنْ تفهموا كل شيء بعقولكم؟ إن العقل ليس إل وسيلةَ إدراك؛ مِثْله مِثْل
العين ،ومِثْل الذن.
ن كنتَ
ن وحدودا ،فإ ْ
فهل ترى عيناك كل ما يمكن أن يُرَى؟ طبعا ل؛ لن للرؤية بالعين قواني َ
بعيدا بمسافة كبيرة عن الشيء فلن تراه؛ ذلك أن العين ل ترى أبعد من حدود الفق.
وكل إنسان يختلف ُأفْقه حسب قوة بصره؛ فهناك مَنْ أنعم ال عليه ببصر قوي وحادّ؛ وهناك مَنْ
هو ضعيفُ البصرِ؛ ويحتاج إلى نظارة طبية تساعده على ِدقّة البصار.
فإذا كانت للعين ـ وهي وسيلة إدراك المرائي ـ حدود ،وإذا كانت للذن ،وهي وسيلة إدراك
الصوات بحد المسافة الموجية للصوت؛ فلبُدّ أن تكون هناك حدود للعقل ،فهناك ما يمكن أن
تفهمه؛ وهناك مَا ل يمكن أن تفهمه.
والرسول صلى ال عليه وسلم قال عن آيات القرآن " :ما عرفتم منه فاعملوا به ،وما تشابه منه
فآمنوا به ".
وذلك حفاظا على مواقيت ومواعيد ميلد أيّ سِرّ من السرار المكنونة في القرآن الكريم ،فلو أن
القرآن قد أعطى كل أسراره في أول قَرْن نزل فيه؛ فكيف يستقبل القرونَ الخرى بدون سِرّ
جديد؟
إذن :فكٌلّما ارتقى العقل البشري؛ كلما َأذِن ال بكشف سِرّ من أسرار القرآن .ول أحد بقادر على
أن يجادل في آيات الحكام.
ويقول الحق سبحانه عن اليات المتشابهةَ {:ومَا َيعَْلمُ تَ ْأوِيلَهُ ِإلّ اللّ ُه وَالرّاسِخُونَ فِي ا ْلعِلْمِ َيقُولُونَ
آمَنّا بِهِ ُكلّ مّنْ عِندِ رَبّنَا[} ...آل عمران]7 :
وهناك مَنْ يقرأ هذه الية كالتي " :وما يعلم تأويله إل ال والراسخون في العلم مـ " وتناسى مَنْ
يقرأ تلك القراءة أن مُنْتهى الرسوخ في العلم أن تؤمن بتلك اليات كما هي.
ب َوقُرْآنٍ مّبِينٍ { [االحجر]1 :
والحق سبحانه يقول } :الرَ تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَا ِ
و(تلك) إشارة لما سبق وِلمَا هو قادم من الكتاب ،و(آيات) جمع " آية " .وهي :الشيء العجيب
ن تكونَ كونية كالليل والنهار والشمس والقمر لتثبت الوجود
الذي يُلْتفت إليه .واليات إما أ ّ
ن تكونَ اليات ال ُمعْجزة الدالة على صِدْق البلغ عن ال وهي معجزات الرسل،
العلى ،وإما أ ْ
وإما أن تكونَ آيات القرآن التي تحمل المنهج للناس كافّة.
ويضيف الحق سبحانه...} :قُرْآنٍ مّبِينٍ { [االحجر]1 :
فهل الكتاب هو شيء غير القرآن؟ ونقول :إن الكتاب إذا أُطلِق؛ فهو ينصرف إلى كل ما نزل من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال على الرسل؛ كصحف إبراهيم ،وزبور داود ،وتوراة موسى ،وإنجيل عيسى؛ وكل تلك كتب،
ولذلك يسمونهم " أهل الكتاب ".
أما إذا جاءت كلمة " الكتاب " مُعرّفة باللف واللم؛ فل ينصرف إل للقرآن ،لنه نزل كتابا
خاتما ،ومُهيْمنا على الكتب الخرى.
وبعد ذلك جاء بالوصف الخاص وهو (قرآن) ،وبذلك يكون قد عطف خاصا على عامّ ،فالكتاب
هو القرآن ،ودلّ بهذا على أنه سيكتب كتابا ،وكان مكتوبا من قبل في اللوح المحفوظ.
وإن قيل :إن الكتب السابقة قد كُتِبت أيضا؛ فالردّ هو أن تلك الكتب قد كُتِبت بعد أن نزلتْ بفترة
طويلة ،ولم تُكتب مِثْل القرآن ساعة التلقّي من جبريل عليه السلم ،فالقرآن يتميز بأنه قد كُتب في
نفس زمن نُزوله ،ولم يُترك لقرون كبقية الكتب ثم بُدئ في كتابته.
والقرآن يُوصف بأنه مُبِين في ذاته وبين لغيره؛ وهو أيضا مُحيط بكل شيء.
شيْءٍ[} ...النعام]38 :
وسبحانه القائل {:مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن َ
وأيّ أمر يحتاج لحكم؛ فإما أن تجده مُفصّلً في القرآن ،أو نسأل فيه أهل الذكر ،مصداقا لقول
الحق سبحانه... {:فَاسْئَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنتُ ْم لَ َتعَْلمُونَ }[النبياء]7 :
ويقول سبحانه من بعد ذلك } :رّ َبمَا َيوَدّ الّذِينَ َكفَرُواْ{ ...
()1789 /
و " ُربّ " حرف يستعمل للتقليل ،ويُستعمل أيضا للتكثير على حَسْب ما يأتي من بعده ،وهو حَ ْرفٌ
الصل فيه أن يدخلَ على المفرد .ونحن نقول " ُربّ أخٍ لك لم تلدْه أمك " وذلك للتقليل ،مثلما
نقول " ربما ينجح الكسول ".
ولكن لو قُلْنا " ربما ينجح الذكي " فهذا للتكثير ،وفي هذا استعمال للشيء في نقيضه ،إيقاظا للعقل
كي ينتبه.
وهنا جاء الحق سبحانه:
بـ " رُب " ومعها حرف " ما " ومن بعدهما فعل .ومن العيب أن تقول :إن " ما " هنا زائدة؛ ذلك
أن المتكلم هو ربّ كل العباد.
وهنا يقول الحق سبحانه { :رّ َبمَا َيوَدّ الّذِينَ َكفَرُواْ َلوْ كَانُواْ مُسِْلمِينَ } [الحجر]2 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهل سيأتي وقت يتمنى فيه أهل الكفر أنْ يُسلموا؟ إن " يودّ " تعني " يحب " و " يميل " و " يتمنى
" ،وكل شيء تميل إليه وتتمناه يسمى " طلب ".
ويقال في اللغة :إن طلبت أمرا يمكن أن يتحقق ،ويمكن ألّ يتحقق؛ فإنْ قُ ْلتَ " :يا ليت الشبابَ
يعود يوما " فهذا طَلبٌ ل يمكن أن يتحققَ؛ لذلك يُقال إنه " تمني " .وإنْ قلت " لعلّي أزور فلنا "
فهذا يُسمّى رجاء؛ لنه من الممكن أن تزور فلنا .وقد تقول " :كم عندك؟ " بهدف أن تعرف
الصورة الذهنية لمَنْ يجلس إليه مَنْ تسأله هذا السؤال ،وهذا يُسمّى استفهاما.
ت ما يمكن أن يُنَال فهو
وهكذا إنْ كنت قد طلبتَ عزيزا ل يُنال فهو تمنّ؛ وإن كنت قد طلب َ
الترجي ،وإن كنتَ قد طلبتَ صورته ل حقيقته فهو استفهام ،ولكن إنْ طلبت حقيقة الشيء؛ فأنت
تطلبه كي ل تفعل الفعل.
سِلمِينَ } [الحجر]2 :
والطلب هنا في هذه الية؛ يقول { :رّ َبمَا َيوَدّ الّذِينَ َكفَرُواْ َلوْ كَانُواْ مُ ْ
فهل يتأتّى هذا الطلب؟
ن وقعتْ لهم أحداثٌ تنزع منهم العناد؛
وَلنر متى يودّون ذلك .إن ذلك التمنّي سوف يحدث إ ْ
فيأخذون المسائل بالمقاييس الحقيقية.
سهُمْ ظُلْما وَعُُلوّا[} ...النمل]14 :
جحَدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
والحق سبحانه هو القائل {:وَ َ
وقد حدث لهم حين وقعت غزوة بدر ،ونال منهم المسلمون الغنائم أنْ قالوا :يا ليتنا كنا مسلمين،
وأخذنا تلك الغنائم.
أي :أن هذا التمنّي قد حدث في الدنيا ،ولسوف يحدث هذا عند موت أحدهم.
ل صَالِحا فِيمَا
ع َم ُ
جعُونِ * َلعَلّي أَ ْ
يقول الحق سبحانه {:حَتّىا ِإذَا جَآءَ َأحَدَ ُهمُ ا ْل َم ْوتُ قَالَ َربّ ارْ ِ
تَ َر ْكتُ[} ...المؤمنون]100 :
ويعلق الحق سبحانه على هذا القول {:كَلّ إِ ّنهَا كَِلمَةٌ ُهوَ قَآئُِلهَا[} ...المؤمنون]100 :
وسيتمنون أيضا أن يكونوا مسلمين ،مصداقا لقول الحق سبحانه {:وََلوْ تَرَىا ِإذِ ا ْلمُجْ ِرمُونَ نَاكِسُواْ
جعْنَا َن ْع َملْ صَالِحا إِنّا مُوقِنُونَ }
س ِمعْنَا فَا ْر ِ
سهِمْ عِندَ رَ ّبهِمْ رَبّنَآ أَ ْبصَرْنَا وَ َ
رُءُو ِ
[السجدة]12 :
إذن :فسيأتي وقت يتمنّى فيه الكفار أن يكونوا مسلمين ،إذَا مَا عاينوا شيئا ينزع منهم جحودهم
وعنادهم ،ويقول لهم :إن الحياة التي كنتم تتمسّكون بها فانية؛ ولكنكم تطلبون أن تكونوا مسلمين
وقت أنْ زال التكليف ،وقد فات الوان.
ويكفي المسلمين فَخْرا أن كانوا على دين ال ،واستمسكوا بالتكليف ،ويكفيكم عارا أنْ خَسِرْتم هذا
الخسران المبين ،وتتحسروا على أنكم لم تكونوا مسلمين.
وفي اليوم الخر يُعذّب الحق سبحانه العصاة من المسلمين الذين لم يتوبوا من ذنوبهم ،ولم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يستغفروا الحق سبحانه ،أو ممّنْ لم يغفر لهم سبحانه وتعالى ذنوبهم؛ لعدم إخلص النية وحُسْن
الطوية عند الستغفار ،ويدخل في ذلك أهل النفاق مصداقا لقوله تعالى {:اسْ َت ْغفِرْ َلهُمْ َأ ْو لَ تَسْ َت ْغفِرْ
َلهُمْ إِن َتسْ َت ْغفِرْ َل ُهمْ[} ...التوبة]80 :
صوْا وينظر لهم الكفار قائلين:
ع َ
فيدخلون النار ليأخذوا قدرا من العذاب على قدر ما َ
ما أغنتْ عنكم ل إله إل ال شيئا ،فأنتم معنا في النار.
ويطلع الحق سبحانه على ذلك فيغار على كل مَنْ قال ل إله إل ال؛ فيقول :أخرجوهم وطهّروهم
وعُودوا بهم إلى الجنة ،وحينئذ يقول الكافرون :يا ليتنا كنا مسلمين ،لنخرج من النار ،ونلحق بأهل
الجنة.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :ذَرْ ُهمْ يَ ْأكُلُواْ وَيَ َتمَتّعُواْ{ ...
()1790 /
و(ذرهم) أمْر بأن يدعَهم ويتركهم .وسبحانه قال مرة (ذرهم) ،ومرة قال {:وَذَرْنِي وَا ْل ُمكَذّبِينَ ُأوْلِي
ال ّن ْعمَةِ[} ...المزمل]11 :
أي :اتركهم لي ،فأنا الذي أعاقبهم ،وأنا الذي أعلم أجلَ المهال ،وأجل العقوبة.
ك وَآِلهَ َتكَ} ...
ويستعمل من " ذَرْهم " فعل مضارع هو " َيذَر " ،وقد قال الحق سبحانه {:وَيَذَ َر َ
[العراف]127 :
ولم يستعمل منها في اللغة ِفعْل ماضٍ ،إل فيما ُروِى من حديث رسول ال صلى ال عليه وسلم "
ذروا اليمن ما ذروكم " ،أي :اتركوهم ما تركوكم.
ويشارك في هذا الفعل فعل آخر هو " َدعْ " بمعنى " اترك " .وقيل :أهملت العرب ماضي " يدع "
ك َومَا قَلَىا }[الضحى]3 :
عكَ رَ ّب َ
و " يذر " إل في قراء ٍة في قول الحق سبحانه {:مَا وَدّ َ
وهنا يقول الحق سبحانه { :ذَ ْرهُمْ يَ ْأكُلُو ْا وَيَ َتمَ ّتعُواْ[ } ...الحجر]3 :
ونحن أيضا نأكل ،وهناك فرْق بين الكل كوقود للحركة وبين الكل كلذّة وتمتّع ،والحيوانات تأكل
لتأخذ الطاقة بدليل أنها حين تشبع؛ ل يستطيع أحد أنْ يُجبرها على أكل عود برسيم زائد.
أما النسان فبعد أن يأكل ويغسل يديه؛ ثم يرى صِنْفا جديدا من الطعام فهو يمدّ يده ليأكلَ منه؛
ذلك أن النسان يأكل شهو ًة ومتعةً ،بجانب أنه يأكل كوقود للحركة.
والفرق بيننا وبينهم أننا نأكل لتتكوّن عندنا الطاقة ،فإنْ جاءت اللذة مع الطعام فأهلً بها؛ ذلك أننا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في بعض الحيان نأكل ونتلذذ ،لكن الطعام ل يمري علينا؛ بل يُتعِبنا؛ فنطلب ال ُم ْهضِمات من مياه
غازية وأدوية.
ولذلك نجد رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه ".
أي :أنه صلى ال عليه وسلم ينهانا عن أن نأكل بالشهوة واللذة فقط.
ولنلحظ الفارق بين طعام الدنيا وطعام الجنة في الخرة؛ فهناك سوف نأكل الطعام الذي نستلذّ به
و َيمْري علينا؛ بينما نحن نُضطر في الدنيا ـ في بعض الحيان ـ أن نأكلَ الطعام بدون مِلْح
ومسلوقا كي يحفظ لنا الصحة؛ ول يُتعِبنا؛ وهو أكل مَرِىء وليس طعاما هنيئا ،ولكن طعام الخرة
هَنِى ٌء ومَرِىءٌ.
وعلى ذلك نفهم قول الحق سبحانه { :ذَرْهُمْ يَ ْأكُلُو ْا وَيَ َتمَ ّتعُواْ[ } ...الحجر]3 :
أي :أن يأكلوا أكْلً مقصودا لذات اللذّة فقط.
ل َملُ[ } ...الحجر]3 :
ويقول الحق سبحانه متابعا { :وَيُ ْل ِههِ ُم ا َ
أي :أن يَنصبوا لنفسهم غايات سعيدة؛ تُلهِيهم عن وسيلة ينتفعون بها؛ ولذلك يقول المثل العربي:
" المل بدون عمل تلصّص " فما ُدمْت تأمل أملً؛ فل ُبدّ أن تخدمه بالعمل لتحققه.
ولكن المثل على المل الخادع هو ما جاء به الحق سبحانه على لسان مَنْ غَرّتْه النعمة ،فقال {:مَآ
أَظُنّ أَن تَبِيدَ هَـا ِذهِ أَبَدا * َومَآ أَظُنّ السّاعَةَ قَا ِئمَةً[} ...الكهف35 :ـ ]36
ولكن الساعة ستقوم رَغْما عن أَنْف المال الكاذبة ،والسراب المخادع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خضْرتها .ثم
وكذلك نجد مَنْ يقول عن البلد المُمطرة :إنها بلد ل ينقطع ماؤها ،لذلك ل تنقطع ُ
ف ل تعرف له سببا ،وفي كل ذلك تنبيهٌ للبشر كي ل يقعوا أسْرى للغرور.
يصيب تلك البلد جفا ٌ
ويقول سبحانه من بعد ذلك ضاربا لهم المثلَ } :ومَآ أَهَْلكْنَا مِن قَرْ َيةٍ{ ...
()1791 /
أي :أنه سبحانه ل يأمر بهلك أيّ قرية إل في الجل المكتوب لها .ويجعلها من المُثل التي يراها
مَنْ يأتي بعدها لعله يتعظ ويتعرّف على حقيقة اليمان.
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ
وقد قال الحق سبحانهَ {:وضَرَبَ اللّهُ مَثَلً قَرْيَةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ
خوْفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }[النحل]112 :
َمكَانٍ َفكَفَ َرتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
والمثل القريب من الذاكرة " لبنان " التي عاشت إلى ما قبل الخمسينات كبلد ل تجد فيه فندقا لئقا،
ثم ازدهرتْ وانتعشتْ في الستينات والسبعينات؛ واستشرى فيها الفساد؛ فقال أهل المعرفة بال" :
لبُدّ أن يصيبها ما يصيب القرى الكافرة بأنعُمِ ال ".
ضكُمْ بَ ْأسَ
وقد حدث ذلك وقامت فيها الحرب الهلية ،وانطبق عليها قول الحق سبحانه {:وَيُذِيقَ َب ْع َ
َب ْعضٍ[} ...النعام]65 :
وهذا ما يحدث في الدنيا ،وهي مُقدّمات تُؤكّد صدْق ما سوف يحدث في الخرة.
وسبحان القائل {:وَإِن مّن قَرْيَةٍ ِإلّ َنحْنُ ُمهِْلكُوهَا قَ ْبلَ َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ َأوْ ُمعَذّبُوهَا عَذَابا شَدِيدا كَانَ ذالِك
سطُورا }[السراء]58 :
فِي ا ْلكِتَابِ مَ ْ
وبطبيعة الحال؛ فهذا ما يحدث ليّ قرية ظالم أهلُها؛ لن الحق سبحانه ل يظلم مِثْقال ذرة.
وأذكر أن تفسير النسفي قد صُودِر في عصر سابق؛ لن صاحب التفسير قال عند تفسيره لهذه
الية " :حدثني فلن عن فلن أن البلد الفلني سيحصل فيه كذا؛ والبلد الخر سوف يحدث فيه كذا
إلى أن جاء إلى مصر وقال بالنص :ويدخل مصر رجل من جهينة ،فويْل لهلها ،ووَيْل لهل
سوريا ،ووَيْل لهل ال ّرمْلة ،ووَيْل لهل فلسطين ،ول يدخل بيت المقدس ".
ومادام الحق سبحانه قد قال... {:كَانَ ذالِك فِي ا ْلكِتَابِ َمسْطُورا }[السراء]58 :
فهو يُعلّم بعضا من خلقه بعضا من أسراره ،فل مانعَ من أن نرى بعضا من تلك السرار على
ألسنتهم .وحين ذاعت تلك الحكاية ،وقالوها للرئيس الذي كان موجودا ،وقالوا له :أنت من جهينة
وهم يقصدونك .صُودِر تفسير النسفي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فقد ترك الحق سبحانه لنا في الدنيا مثلً يؤكد صِدْقه فيما يحكيه عن الوعيد لبعض القرى
حتى نُصدّق ما يمكن أن يكون بعد يوم القيامة .وحين يقول الحق سبحانهَ { :ومَآ َأهَْلكْنَا مِن قَرْيَةٍ
ل وََلهَا كِتَابٌ ّمعْلُومٌ } [الحجر]4 :
ِإ ّ
فليس لحد أن يقول " :إن ذلك لم يحدث للبلد الفلني " لن ُكلّ َأمْر له أجَل.
جَلهَا َومَا َيسْتَأْخِرُونَ }
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :مّا َتسْبِقُ مِنْ ُأمّةٍ أَ َ
()1792 /
أي :أنه سبحانه قد جعل لكل أمة أجلً ،وغاية ،فإذا ما انتهى الجل المعلوم جاءتْ نهايتها؛ فل
كائنَ يتقدّم على أجله ،ول أحدَ يتأخر عن موعد نهايته.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ { :وقَالُواْ ياأَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ} ...
()1793 /
َوقَالُوا يَا أَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ إِ ّنكَ َل َمجْنُونٌ ()6
وهم هنا يسخرون من الرسول ومن القرآن؛ ذلك أنهم لو كانوا يؤمنون بالقرآن وبالرسول؛ َلمَا
وصفوه صلى ال عليه وسلم بالجنون .والذين قالوا ذلك هم أربعة من كبار الكفار :عبد ال بن
أبي أمية ،والنضر بن الحارث ،ونوفل بن خويلد ،والوليد بن المغيرة .وقيل عن ابن عباس :إنهم
الوليد بن المغيرة المخزومي؛ وحبيب بن عمرو الثقفي .وقيل عن مجاهد :إنهم عتبة بن ربيعة،
وكنانة بن عبد ياليل.
والظاهر من قولهم هو التناقض الواضح؛ َف ُهمْ ـ شاءوا أم أ َبوْا ـ يعترفون بالقرآن بأنه " ِذكْر " ،
وال ّذكْر في اللغة له عدة َمعَانٍ ،منها الشرف ،وقد أُطلِق على القرآن ،كما قال الحق سبحانه {:وَإِنّهُ
س ْوفَ ُتسْأَلُونَ }[الزخرف]44 :
ك وَ َ
ك وَِل َق ْومِ َ
لَ ِذكْرٌ ّل َ
وسبق لهم أن تلمّسُوا في هذا القرآن هناتٍ؛ فلم يجدوا ،فكيف َيصِفون مَنْ نُزّل عليه هذا القرآن
بالجنون؛ وهم الذين شهدوا له من قَبْل بالصدق والمانة.
عظِيمٍ }
خلُقٍ َ
وقد شاء الحق سبحانه أن يُنصِف رسوله صلى ال عليه وسلم فقال {:وَإِ ّنكَ َلعَلَىا ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[القلم]4 :
وهم في اتهامهم للرسول صلى ال عليه وسلم لم يلتفتوا إلى أنهم قد خاطبوه بقولهم( :يا أيها)،
وهو خطاب يتطابق مع نفس الخطاب الذي يخاطبه به ال؛ وهكذا أجرى الحق سبحانه على
ألسنتهم توقيرا واحتراما للرسول صلى ال عليه وسلم دون أنْ يشعروا ،وذلك من مشيئته سبحانه
حين يُنطِق أهل العناد بالحق دون أن يشعروا.
فقد قال الحق سبحانه عن المنافقين أنهم قالوا {:لَ تُن ِفقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّىا
يَنفَضّواْ[} ...المنافقون]7 :
أي :ل تنفقوا على مَنْ عند النبي صلى ال عليه وسلم ،حتى يجوعوا ،فينفضوا من حوله .وهم
يقولون عنه " رسول ال " ،فهل آمنوا بذلك؟ أم أن هذا من غلبة الحق؟
ويتابع سبحانه ما جاء على ألسنتهمّ { :لوْ مَا تَأْتِينَا بِا ْلمَل ِئكَةِ} ...
()1794 /
َلوْ مَا تَأْتِينَا بِا ْلمَلَا ِئكَةِ إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ ()7
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يمكن أن يكون أُسْوة وقدوة للبشر؛ لنه من جنس آخر غير البشر.
ولو نزل عليهم ملك كما زعموا ،وقال لهم :افعل ول تفعل ،واستقيموا واستغفروا ،وسبّحوه ُبكْرة
وأصيل ،لردّوا عليه قائلين أنت مَلكَ ينطبق عليك قول الحق... {:لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَ ُهمْ
وَيَ ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم]6 :
وأنت ل تصلح أُسْوة لنا .ثم كيف تتكلمون مع ملَك وهو من طبيعة مختلفة ،ولن يستطيع البشر أن
يرتفعوا إلى مُسْتواه ليأخذوا منه ،وهو لن يستطيع أن ينزلَ إلى مستوى البشرية ليأخذوا منه؛
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يرسل الرسول من جنس البشر.
وهكذا أبطل الحق سبحانه حُجّتهم في عدم اليمان بالرسول؛ لنه لم ي ْأتِ من جنس الملئكة؛
حجّتهم في طلبهم أن ينزل مع الرسول ملئكة؛ لِيُؤيّدوه في صِدْق بلغه عن ال.
وأبطل ُ
ولذلك يقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :مَا نُنَ ّزلُ ا ْلمَل ِئكَةَ ِإلّ بِالحَقّ} ...
()1795 /
مَا نُنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَةَ إِلّا بِا ْلحَقّ َومَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ ()8
وهكذا يُعلّمنا الحق سبحانه أنه ل يُنزّل الملئكة إل بمشيئة حكمته سبحانه ،ولو نزل الملَك ـ كما
طلبوا ـ لمساعدة رسول ال صلى ال عليه وسلم في البلغ عن ال ،فالملَك إما أن يكون على
هيئة البشر؛ فلن يستطيعوا تمييز المَلَك من البشر ،وإما أن يكون على هيئة الملك ،فل يستطيع
البشر أنْ يروْه؛ وإلّ هلكوا.
ذلك أن البشر ل تستطيع تحمّل التواصل مع القوة التي أودعها ال في الملئكة.
لمْرُ ُث ّم لَ يُنظَرُونَ }[النعام]8 :
ضيَ ا َ
والحق سبحانه هو القائل... {:وََلوْ أَنزَلْنَا مَلَكا ّلقُ ِ
ولو جعله الحق سبحانه في هيئة البشر وتواصلوا معه للتبس عليهم المر ،ولَظنّوا أن الملَك بشرٌ
مثلهم.
علَ ْيهِم مّا يَلْبِسُونَ }[النعام:
ل وَلَلَبَسْنَا َ
جعَلْنَاهُ رَجُ ً
جعَلْنَاهُ مَلَكا لّ َ
وفي هذا يقول الحق سبحانه {:وََلوْ َ
]9
لم يُنزِل الحق سبحانه الملئكة؛ لنه لم يَشَأْ أن ُيهِلكهم ورسولُ ال فيهم ،فالحق سبحانه قد قال{:
َومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َب ُه ْم وَأَنتَ فِي ِه ْم َومَا كَانَ اللّهُ ُمعَذّ َب ُه ْم وَهُمْ َيسْ َتغْفِرُونَ }[النفال ]33 :وقد آمن
معظمهم ودخلوا في دين ال من بعد ذلك واستغفروا لذنوبهم ،وكان ال غفورا رحيما؛ لن السلم
جبّ ما قبله.
يُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين ننظر إلى صَدْر الية نجد أنه سبحانه قال { :مَا نُنَ ّزلُ ا ْلمَل ِئكَةَ ِإلّ بِالحَقّ[ } ...الحجر]8 :
فلو نزلت الملئكة لكان عذابا لهم ،فالحق سبحانه إذا أعطى قوما آية طلبوها ،فإما أن يؤمنوا،
سلَ بِاليَاتِ ِإلّ أَن َك ّذبَ ِبهَا
وإما أن يهلكهم ،ولذلك يقول الحق سبحانهَ {:ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
لوّلُونَ[} ...السراء]59 :
اَ
فالحق سبحانه لم يُجبهم إلى اليات والمعجزات التي طلبوها؛ لن السابقين لهم ،كذّبوا بها قبل
ذلك ،وهم يريدون أن يُكذّبوا أيضا ،فحتى لو نزلت الية فسيكذبونها ،وحين يكذبون في آية
مقترحة من عندهم ،فل ُبدّ أن نهلكهم .أما لو كذبوا في آية مُنزّلة من عند ال فإن ال يمهلهم.
إذن :فلو نزلنا الملئكة كما يريدون فسننزلهم بالحق ،والحق هو أن نهلكهم إذا كذّبوا.
ويذيل الحق سبحانه الية بقولهَ ...{ :ومَا كَانُواْ إِذا مّنظَرِينَ } [الحجر]8 :
جلُ المشركين قد حانَ ليُنزل ال لهم الملئكة لهلكهم ،كما سبق وأهلك المم
أي :ما كان أ َ
السابقة التي طلبتْ اليات ،فنزلت لهم كما طلبوها ،وَلمّا لم يُصدّقوا ويؤمنوا أهلكهم ال.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :إِنّا نَحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْرَ} ...
()1796 /
والقرآن قد جاء بعد كُتب متعددة ،وكان كل كتاب منها يحمل منهج ال؛ إل أن أيّ كتاب منها لم
َيكُنْ معجزة؛ بل كانت ال ُمعْجزة تنزل مع أيّ رسول سبق سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم،
وعادة ما تكون المعجزة من صنف ما نبغ فيه القوم الذين نزل فيهم.
وما دام المنهج مفصولً عن المعجزة؛ فقد طلب الحق سبحانه من الحاملين لكتب المنهج تلك أنْ
يحافظوا عليها ،وكان هذا تكليفا من الحق سبحانه لهم .والتكليف ـ كما نعلم ـ عُرْضة أنْ ُيطَاع،
وعُرْضة أنْ يُعصى ،ولم يلتزم أحد من القوام السابقة بحفظ الكُتب المنزّلة إليهم.
حكُمُ ِبهَا النّبِيّونَ الّذِينَ
ونجد الحق ـ سبحانه وتعالى ـ يقول {:إِنّآ أَنزَلْنَا ال ّتوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ َي ْ
حفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ[} ...المائدة]44 :
ن وَالَحْبَارُ ِبمَا اسْ ُت ْ
أَسَْلمُواْ لِلّذِينَ هَادُو ْا وَالرّبّانِيّو َ
أي :أن الحق ـ سبحانه وتعالى ـ قد كلّفهم وطلب منهم أنْ يحفظوا كتبهم التي تحمل منهجه؛
عصَوا أمر الحق سبحانه وتكليفه
وهذا التكليف عُرْضة أنْ يطاع ،وعُرْضة أنْ يُعصى؛ وهم قد َ
بالحفظ؛ ذلك أنهم حرّفوا وبدلوا وحذفوا من تلك الكتب الكثير.
ق وَهُمْ َيعَْلمُونَ }[البقرة]146 :
حّوقال الحق سبحانه عنهم... {:وَإِنّ فَرِيقا مّ ْنهُمْ لَ َيكْ ُتمُونَ الْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بل وأضافوا من عندهم كلما وقالوا :هو من عند ال؛ لذلك قال فيهم الحق سبحانهَ {:فوَيْلٌ لّلّذِينَ
َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَ ْيدِيهِمْ ثُمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِ ْندِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً َفوَيْلٌ ّلهُمْ ّممّا كَتَ َبتْ
أَيْدِيهِمْ وَوَ ْيلٌ ّلهُمْ ّممّا َيكْسِبُونَ }[البقرة]79 :
وهكذا ارتكبوا ذنوب الكذب وعدم المانة ،ولم يحفظوا الكتب الحاملة لمنهج ال كما أنزلها ال
على أنبيائه ورُسله السابقين على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
ولذلك لم يَشَأ الحق سبحانه أن يترك مهمة حفظ القرآن كتكليف منه للبشر؛ لن التكليف عُرْضة
أن يطاع وعُرْضة أنْ يُعصى ،فضلً عن أن القرآن يتميز عن الكتب السابقة في أنه يحمل
المنهج ،وهو المعجزة الدالة على صِدْق بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم في نفس الوقت.
ولذلك قال الحق سبحانه { :إِنّا َنحْنُ نَزّلْنَا ال ّذكْرَ وَإِنّا لَهُ َلحَافِظُونَ } [الحجر]9 :
وال ّذكْر إذا أُطلِق انصرف المعنى إلى القرآن؛ وهو الكتاب الذي يحمل المنهج؛ وسبحانه قد شاء
حفْظه؛ لنه المعجزة الدائمة الدالة على صدق بلغ رسوله صلى ال عليه وسلم.
ِ
وكان الصحابة يكتبون القرآن َفوْرَ أن ينزل على رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ووجدنا في
عصرنا من هم غير مؤمنين بالقرآن؛ ولكنهم يتفنّنون في وسائل حفْظه؛ فهناك مَنْ طبع المصحف
في صفحة واحدة؛ وسخّر لذلك مواهب أُناسٍ غير مؤمنين بالقرآن.
وحدث مثل ذلك حين تَمّ تسجيل المصحف بوسائل التسجيل المعاصرة .وفي ألمانيا ـ على سبيل
حفْظ كل ما يتعلق بكل آية من القرآن في مكان مُعيّن مُحدّد.
المثال ـ توجد مكتبة يتم ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القرآن توقيفيّ؛ نقرؤه ونطبعه كما نزل ".
وقامت ضَجّة؛ وحسمها العلماء بأن أيّ زيادة ـ حتى ولو كانت في توقير رسول ال صلى ال
عليه وسلم ومحبته ـ ل تجوز في القرآن ،لن علينا أن نحفظ القرآن كما لقّنه جبريل لمحمد
صلى ال عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ{ ...
()1797 /
وهنا يُسلّى الحق سبحانه رسوله الكريم ،ويوضح له أن ما حدث له من إنكار ليس بِدعا ،بل حدث
له من إنكار ليس بدعا ،بل حدث مثله مع غيره من الرسل سواء من إنكار أو تجاهل أو سخرية.
وإذا كنت أنت سيد الرسل وخاتم النبياء؛ فلبُدّ أن تكون مشقتك على قَدْر مهمتك ،ولبُدّ أن يكون
تعبُك على َقدْر جسامة الرسالة الخاتمة.
و { شِ َيعِ[ } ...الحجر]10 :
تعني الجماعة الذين اجتمعوا على مذهب واحد؛ سواء كان ضللً أم حقا .والمثَل على مَنِ
س ُكمْ شِيَعا[} ...النعام]65 :
اجتمعوا على باطل هو قوله الحقَ {:أوْ يَلْبِ َ
والمثَل على مَنْ اجتمعوا على الحق قوله سبحانه {:وَإِنّ مِن شِيعَ ِت ِه لِبْرَاهِيمَ }[الصافات]83 :
وهكذا تكون كلمة (شِيع) تعني الجماعة التي اجتمعت على الحق أو الباطل.
لوّلِينَ } [الحجر]10 :
وقول الحق سبحانه { :وََلقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ فِي شِ َي ِع ا َ
يعني أنك لن تكون أقلّ من الرّسل السابقين عليك ،بل قد تكون رحلتك في الرسالة شاقّة بما
يناسب مهمتك ،ويناسب إمامتك للرسل وختامك للنبياء.
ويُكمِل سبحانه ما حدث للرسل السابقين على رسالة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فيقول:
{ َومَا يَأْتِيهِم مّن رّسُولٍ} ...
()1798 /
َومَا يَأْتِي ِهمْ مِنْ رَسُولٍ إِلّا كَانُوا بِهِ َيسْ َتهْزِئُونَ ()11
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونجد كلمة...{ :يَسْ َتهْزِئُونَ } [الحجر]11 :
ونجد أن الحق سبحانه قد أوضح هذا الستهزاء حين قالوا... {:ياأَ ّيهَا الّذِي نُ ّزلَ عَلَيْهِ ال ّذكْرُ إِ ّنكَ
َلمَجْنُونٌ }[الحجر]6 :
وكأن الحق سبحانه يُوضّح له أن الستهزاء قد يزيد ،وذلك دليلٌ على أنك قد بلغتَ منهم مَبْلغ
الكَيْد ،ولو كان كيدُك قليلً لخفّفوا كَيْدهم؛ ولكنك جئتَ بأمر قاس عليهم ،وهدمت لهم مذاهبهم،
وهدمت حتى سيادتهم وكذلك سطوتهم ،ولم يجدوا غير الستهزاء ليقاوموك به.
ومعنى ذلك أنهم عجزوا عن مقاومة منهجك؛ ويحاولون بالستهزاء أن يحققوا لك الخور
لتضعف؛ معتمدين في ذلك على أن كل إنسان يحب أن يكون كريما في قومه ومعززا مكرما.
وهنا يريد الحق سبحانه من رسوله أن يُوطّن نفسه على أنه سيُستهزأ به وسيُحارب؛ وس ُي ْؤذَى؛
لن المهمة صعبة وشاقّة ،وكلما اشتدت معاندتك وإيذاؤك ،فاعلم أن هذه من حيثيات ضرورة
مهمتك.
ولذلك نجد الرسول صلى ال عليه وسلم قبل أن يتأكد من مهمته؛ أخذته زوْجه خديجة بنت خويلد
ـ رضي ال عنها ـ عند ورقة بن نوفل؛ وعرف ورقة أنه سَيُؤذَى ،وقال ورقة لرسول ال
صلى ال عليه وسلم :ليتني أكون حيا حين يُخرِجك قومك .فتساءل الرسول صلى ال عليه وسلم:
جيّ هُم؟ قال ورقة :نعم ،لم يأت رجل بمثل ما جئتَ به إل عُودِي ،وإن يدركني يومك
أمُخ ِر ِ
أنصرك نصرا مؤزرا.
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يصحب نزول الرسالة أن يُحصّنه ضد ما سيحصل له ،ليكون عنده
المناعة التي تقابل الحداث؛ فمادام سيصير رسولً ،فليعلم أن الطريق مَحْفوف باليذاء ،وبذلك ل
يُفاجأ بوجود مَنْ يؤذيه.
ن وبها يستعد لمواجهة الحياة في مكان به وباء يحتاج
ونحن نعلم أن المناعة تكون موجودة عند مَ ْ
إلى َمصْل مضاد من هذا الوباء؛ لِيقيَ نفسه منه ،وهذا ما يحدث في الماديات ،وكذلك الحال في
المعنويات.
ولهذا يُوضّح سبحانه هذا المر لرسوله صلى ال عليه وسلم ،ولتزداد ثقته في الحق الذي بعثه به
ربّه ،ويشتدّ في المحافظة على تنفيذ منهجه.
والستهزاء ـ كما نعلم ـ َلوْنٌ من الحرب السلبية؛ فهم لم يستطيعوا مواجهة ما جاء به رسول
ال صلى ال عليه وسلم بالجد ،ول أنْ يردّوا منهجه الراقي؛ لذلك لجئوا إلى السّخْرية من رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،ولم تنفعهم سخريتهم في النّيْل من الرسول ،أو النّيْل من السلم وفي
هذا المعنى ،يقول لنا الحق سبحانه عن مصير الذين يسخرون من الرسول صلى ال عليه وسلم:
{ َكذَِلكَ نَسُْلكُهُ فِي قُلُوبِ} ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1799 /
و " سلك الشيء " أي :أدخله ،كما نُدخِل الخيط في ثقب البرة.
سقَرَ * قَالُواْ لَمْ َنكُ مِنَ ا ْل ُمصَلّينَ }[المدثر]43-42 :
والحق سبحانه يقول {:مَا سََل َككُمْ فِي َ
أي :ما أدخلكم في النار؛ فتأتي إجابتهمَ {:لمْ َنكُ مِنَ ا ْل ُمصَلّينَ }[المدثر]43 :
وهنا يقول الحق سبحانه { :كَذَِلكَ َنسُْلكُهُ فِي قُلُوبِ ا ْل ُمجْ ِرمِينَ } [الحجر]12 :
أي :كما سلكنا الكفر والتكذيب والستهزاء في قلوب شيع الولين ،كذلك نُدخِله في قلوب
المجرمين.
يعني :مشركي مكّة ،لنهم أدخلوا أنفسهم في دائرة الشرك التي دعتهم إلى هذا الفعل ،فنالوا جزاءَ
ما فعلوا مثل ما سبق من أقوام مثلهم؛ وقد يجد من تلك القلوب تصديقا يكذبونه بألسنتهم ،مثلما قال
سهُمْ[} ...النمل]14 :
حدُواْ ِبهَا وَاسْتَ ْيقَنَ ْتهَآ أَنفُ ُ
الحق سبحانه {:وَجَ َ
فهم أمة بلغة ولغةٍ وبيانٍ؛ وقد أثّر فيهم القرآن بحلوته وطلوته؛ ولكنه العناد ،وها هو واحد
منهم يقول:
" إن له لحلوة ،وإن عليه لطلوة ،وإن أعله َلمُثمِر ،وإن أسفله لمغدق ".
لقد قال ذلك كافر بالرسول والرسالة.
ونعلم أن الذين استمعوا إلى القرآن نوعان؛ والحق سبحانه هو القائل عن أحدهماَ {:ومِ ْنهُمْ مّن
يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا إِذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ طَ َبعَ
علَىا قُلُو ِبهِمْ وَاتّ َبعُواْ أَ ْهوَآءَ ُهمْ }[محمد]16 :
اللّهُ َ
أي :أن قوله ل يعجبهم وما يتلوه عليهم ل يستحق السماع ،فقال الحق سبحانه ردا عليهمُ ... {:قلْ
عمًى }[فصلت]44 :
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ
شفَآ ٌء وَالّذِي َ
ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ
وهي مسألة ـ كما أقول دائما ـ تتعلق بالقابل الذي يستقبل الحدث؛ إما أنْ يُصفّي قلبه ليستقبل
ن يكون قلبه والعياذ بال ـ ُممْتلِئا بالكفر ،فل يستقبل شيئا من كتاب الحق.
القرآن؛ وإما أ ْ
وقد حدث أن ادخل الحق سبحانه كتبه السماوية في قلوب القوام السابقة على رسول ال ،ولكنهم
لفساد ضمائرهم وظُلْمة عقولهم؛ سخروا من تلك الكتب ،ولم يؤمنوا بها.
و َيصِف الحق سبحانه هؤلء المجرمين بقوله { :لَ ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َوقَدْ خََلتْ} ...
()1800 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خَلتْ سُنّةُ الَْأوّلِينَ ()13
لَا ُي ْؤمِنُونَ ِب ِه َوقَدْ َ
وهكذا يوضح الحق سبحانه أن قلوب الكفرة ل تلين باليمان؛ ول تُحسِن استقبال القرآن ،ذلك أن
قلوبهم ُممْتلئة بالكفر ،تماما كما حدث من القوام السابقة ،فتلك سُنة مَنْ سبقوهم إلى الكفر.
والسّنة هي الطريقة التي تأتي عليها قضايا النتائج للمُقدّمات وهي أولً وأخيرا قضايا واحدة.
ومرة نجد الحق سبحانه يقول {:سُنّةَ اللّهِ فِي الّذِينَ خََلوْاْ مِن قَ ْبلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنّةِ اللّهِ تَ ْبدِيلً }
[الحزاب]62 :
ونعلم أن الضافة تختلف حَسْب ما يقتضيه التعبير .فـ (سنة الولين) تعني المور الكونية التي
قدرها ال لعباده .و(سنة ال) تعني سُنّة منسوبة ل ،ومن سنن الحق سبحانه أن يُهلك المُكذّبين
للرسل إنْ طلبوا آية فجاءتهم ،ثم واصلوا الكفر.
سمَاءِ} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وََلوْ فَتَحْنَا عَلَ ْيهِم بَابا مّنَ ال ّ
()1801 /
وهم قد طلبوا أن ينزل إليهم مََلكٌ من السماء؛ لذلك نجد الحق سبحانه هنا يأتيهم بدليل أقوى ِممّا
طلبوا ،ذلك أن نزول مَلَك من السماء هو أسهل بكثير من أن يُن ِزلَ من السماء سُلّما يصعدون
عليه ،وفي هذا ارتقاء في الدليل؛ لكنهم يرتقون أيضا في الكفر ،وقالوا :إن حدث ذلك فَلَسوفَ
يكون من فعل السحر.
ولو كان محمد صلى ال عليه وسلم ساحرا لَسحرهم ،وجعلهم جميعا مؤمنين ،وعلى الرغم من أن
مثْل هذا المر كان يجب أن يكون بديهيا بالنسبة لهم ،لكنهم يتمادوْنَ في الكفر ،ويقولون :إنه لو
نزّل سُلّما من السماء وصعدوا عليه؛ لَكانَ ذلك بفعل السحر؛ ولكانَ رسول ال هو الذي سحرهم؛
وأعمى أبصارهم ،ولَجعلهم يتوهمون ذلك.
وكأن معنى هذا القول الكريم :لو ارتقينا في مطلبهم ،وأنزلنا لهم سُلّما يصعدون به إلى أعلى؛
ليقولوا :إن الحق هو الذي بعث محمدا بالرسالة ،بدلً من أن ينزل إليهم ملك حسب مطلبهم؛ َلمَا
آمنوا بل لقالوا :إن هذا من فعل سحر قام به محمد ضدهم .وهكذا يرتقون في العناد والجحود.
ولبُدّ أن نلحظ أن الحق سبحانه قد جاء هنا بكلمة { :فَظَلّواْ[ } ...الحجر]14 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولم يقل " وكانوا " ،ذلك أن " كان " تُستخدمِ ِلمُطلْق الزمن ،و " ظل " للعمل نهارا ،و " أمسى "
للعمل ليلً ،أي :أن كل كلمة لها َوقْت مكتوب ،والمقصود من " ظَلّوا " هنا أن الحق سبحانه لن
ينزل لهم السّلّم الذي يعرجُون عليه إل في منتصف النهار ،ولكنهم أصرّوا على الكفر.
لذلك قال سبحانه...{ :فَظَلّواْ فِيهِ َيعْ ُرجُونَ } [الحجر]14 :
أي :لن نأخذهم بالليل ،حتى ل يقولوا إن الدنيا كانت مظلمة ولم نر شيئا ،ولكنه سيكون في وضح
النهار .أي :أن ال حتى لو فتح بابا في السماء يصعدون منه إلى المل العلى في وضح النهار
لكذّبوا.
سمَاءِ} ...
جعَلْنَا فِي ال ّ
وبعد ذلك ينقلنا الحق سبحانه إلى الكون لِيُرينَا عجيبَ آياته ،فيقول { :وََلقَدْ َ
()1802 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عظِيمٌ }[الواقعة]76-75 :
النجوم ،وقال {:فَلَ ُأ ْقسِمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَسَمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ َ
وهناك مَنْ يقول :إن لكل إنسان نجما يُولَد معه ويموت معه؛ لذلك ُيقَال " هوى نجم فلن " ،
ونحن ل نجزم بصِحة أو عدم صِحّة مثل هذه المور؛ لنه لم تثبُت علميا ،والحق سبحانه أعلم
بأسراره ،وقد يُعلمها لبعضٍ من خَلْقه.
سمَاءِ
جعَلْنَا فِي ال ّ
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نجد قول الحق سبحانه { :وَلَقَدْ َ
بُرُوجا[ } ...الحجر]16 :
جعْل لتأثيرها في الجو ،أو لنها
أي :أن هناك تأكيدا لوجود تلك البروج في السماء ،وليس هذا ال َ
علمات نهتدي بها ،فضلً عن تأثيرها على الحرارة والرطوبة والنباتات ،ولكنها فوق كل ذلك
تؤدي مُهمة جمالية كبيرة ،وهي أن تكون زينة لكل مَنْ ينظر إليها.
لذلك قال الحق سبحانه { :وَزَيّنّاهَا لِلنّاظِرِينَ } [الحجر]16 :
ذلك أن الشيء قد يكون نافعا؛ لكن ليس له قيمة جمالية؛ وشاء الحق سبحانه أن يجعل للنجوم قيمة
جمالية ،ذلك أنه قد خلق النسان ،ويعلم أن لنفسه مَلكاتٍ مُتعددة ،و ُكلّ مَلَكةٍ لها غذاء.
فغذاءُ العين المنظر الجميل؛ والذن غذاؤها الصوت الجميل ،والنف غذاؤه الرائحة الطيبة؛
واللسان يعجبه المذاق الطيب ،واليد يعجبها المَ ْلمَس الناعم؛ وهذا ما نعرفه من غذاء المَلَكات
للحواس الخمس التي نعرفها.
وهناك مَلَكات أخرى في النفس النسانية؛ تحتاج كل منها إلى غذاء معين ،وقد يُسبّب أخذ مَلَكة
من مَلَكات النفس لكثر المطلوب لها من غذاء أن َتفْسد تلك المَلَكة؛ وكذلك قد يُسبّب الحرمان
لِملَكة ما فسادا تكوينيا في النفس البشرية.
والنسان المتوازن هو مَنْ يُغذّي مَلَكاته بشكل مُتوازن ،ويظهر المرض النفسي في بعض الحيان
نتيج ًة لنقص غذاء مَلَكة ما من المَلَكات النفسية ،ويتطلب علجُ هذا المرض رحلةً من البحث عن
المَلَكة الجائعة في النفس البشرية.
وهكذا نجد في النفس النسانية مَلَكة لرؤية الزينة ،وكيف تستميل الزينة النفس البشرية؟ ونجد
المثَل الواضح على ذلك هو وجود مهندسي ديكور يقومون بتوزيع الضاءة في البيوت بأشكال
فنية مختلفة.
ولذلك يقول الحق سبحانه عن أبراج النجوم...} :وَزَيّنّاهَا لِلنّاظِرِينَ { [الحجر]16 :
حمِيرَ لِتَ ْركَبُوهَا
ل وَالْ ِبغَالَ وَا ْل َ
ونجده سبحانه يقول عن بعض ِنعَمه التي أنعم بها علينا {:وَالْخَ ْي َ
وَزِينَةً[} ...النحل]8 :
وهكذا يمتنّ علينا الحق سبحانه بجمال ما خلق وسخّره لنا ،ول يتوقف المر عند ذلك ،بل هي في
ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ ِإلَىا بَلَدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ بِشِقّ الَنفُسِ إِنّ رَ ّب ُكمْ
خدمة النسان في أمور أخرى {:وَ َت ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ }[النحل]7 :
جمَالٌ
وهو سبحانه وتعالى الذي جعل تلك الدواب لها منظر جميل؛ فهو سبحانه القائل {:وََلكُمْ فِيهَا َ
ن وَحِينَ تَسْ َرحُونَ }[النحل]6 :
حِينَ تُرِيحُو َ
وهو سبحانه لم يخلق النعم لنستخدمها فقط في أغراضها المتاحة؛ ولكن بعضا منها يروي
أحاسيس الجمال التي خلقها فينا سبحانه .وكلما تأثرنا بالجمال وجدنا الجميل ،وفي توحيده تفريد
لجلله.
حفِظْنَاهَا مِن ُكلّ شَ ْيطَانٍ{ ...
ويقول سبحانه عن السماء والبروج } :وَ َ
()1803 /
ونعلم أن الشياطين كانوا يسترقون السمع لبعض من منهج ال الذي نزل على الرسل السابقين
لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ وكانوا يحاولون أن يُضيفوا لها من عندهم ما يُفسِد معناها ،وما
أنْ جاء رسول ال صلى ال عليه وسلم حتى منع كل هذا بأمر من الحق سبحانه ،ويقول جل
عُلَه {:وَإِنّ الشّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى َأوْلِيَآ ِئهِمْ لِ ُيجَادِلُوكُمْ[} ...النعام]121 :
ولذلك نجد الشياطين تقول ما ذكره الحق سبحانه على ألسنتهم في كتابه العزيز {:وَأَنّا َل َمسْنَا
سمْعِ َفمَن يَسْ َتمِعِ النَ َيجِدْ
شهُبا * وَأَنّا كُنّا َن ْقعُدُ مِ ْنهَا َمقَاعِدَ لِل ّ
سمَآءَ َفوَجَدْنَاهَا مُلِ َئتْ حَرَسا شَدِيدا وَ ُ
ال ّ
شهَابا ّرصَدا * وَأَنّا لَ نَدْرِي َأشَرّ أُرِيدَ ِبمَن فِي الَ ْرضِ أَمْ أَرَادَ ِبهِمْ رَ ّبهُمْ رَشَدا }[الجن-8 :
لَهُ ِ
]10
وهكذا علمنا أنهم كانوا يسترقون السمع؛ ويأخذون ِبضْعا من كلمات المنهج ويزيدون عليها؛ فتبدو
حفِظْنَاهَا مِن ُكلّ شَيْطَانٍ
بها حقيقة واحدة وألف كذبة .وشاء الحق سبحانه أن ُيكّذب ذلك؛ فقالَ { :و َ
رّجِيمٍ } [الحجر]17 :
والشيطان كما نعلم هو عاصي الجن.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكِ { :إلّ مَنِ اسْتَرَقَ} ...
()1804 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكلمة { :اسْتَرَقَ[ } ...الحجر]18 :
تُحدّد المعنى بدقة ،فهناك مَنْ سرق؛ وهناك مَنْ استرق؛ فالذي سرق هو مَنْ دخل بيتا على سبيل
المثال ،وأخذ يُعبّئ ما فيه في حقائب ،ونزل من المنزل على راحته لينقلها حيث يريد.
ن يوجد في
لكن إنْ كان هناك أحد في المنزل؛ فاللص يتحرك في استخفاء؛ خوفا من أن يضبطه مَ ْ
المنزل ليحفظه؛ وهكذا يكون معنى " استرقَ " الحصول على السرقة مقرونة بالخوف.
وقد كان العاصون من الجِنّ قبل رسول ال صلى ال عليه وسلم يسترقون السمع للمنهج المُنزّل
على الرّسُل السابقين لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ واختلف المر بعد رسالته الكريمة؛ حيث
شاء الحق سبحانه أنْ يحرسَ السماء؛ وما أنْ يقترب منها شيطان حتى يتبعه شهاب ثاقب.
جذْوة تشبه قطعة الفحم المشتعلة؛ ويخرج منه
والشهاب هو النار المرتفعة؛ وهو عبارة عن َ
اللهب .وهو ما يُسمّى بالشهاب.
سمُوم " .وإنْ كان الدخان مُلْتويا ،ويخرج منه
أما إذا كان اللهب بل ذؤابة من دخان؛ فهذا اسمه " ال ّ
اللهب ،ويموج في الجو فيُسمى " مارج " حيث قال الحق سبحانه... {:مِن مّارِجٍ مّن نّارٍ }
[الرحمن]15 " :
سمُوم ومارج من نار.
وهكذا نجد السماء محروسة بالشهب وال ّ
ويقول سبحان من بعد ذلك { :وَالَرْضَ مَ َددْنَاهَا وَأَ ْلقَيْنَا} ...
()1805 /
وحين نسمع كلمة الرض فنحن نتعرف على المقصود منها ،ذلك أنه ليس مع العين أَيْن .والمّدّ
هو المتداد الطبيعي ِلمَا نسير عليه من أيّ مكان في الرض.
وهذه هي اللفتة التي يلفتنا لها الحق سبحانه؛ فلو كانت الرض مُربعة؛ أو مستطيلة؛ أو مُثلثة؛
لوجدنا لها نهاية وحَافّة ،لكِنّا حين نسير في الرض نجدها ُممْتدة ،ولذلك فهي لبُد وأن تكون
مُدوّرة.
وهم يستدلون في العلم التجريبي على أن الرض كُروية بأن النسان إذا ما سار في خط مستقيم؛
فلسوف يعود إلى النقطة التي بدأ منها ،ذلك أن مُنْحنى الرض مصنوعٌ بدقة شديدة قد ل تدرك
العين مقدارَ النحناء فيه ويبدو مستقيما.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سيَ[ } ...الحجر]19 :
وحين يقول الحق سبحانه { :وَأَ ْلقَيْنَا فِيهَا َروَا ِ
يعني أشياء تثبتها .ولقائل أنْ يتساءل :مادامت الرض مخلوقةً على هيئة الثبات فهل كانت تحتاج
إلى مثبتات؟
ونقول :لبد أن الحق سبحانه قد خلقها مُتحركة وعُرْضة لنْ تضطربَ؛ فخلق لها المُثقّلت،
وهكذا نكون قد أخذنا من هذه الية حقيقتين؛ التكوير والدوران.
وهناك آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه {:وَتَرَى الْجِبَالَ َتحْسَ ُبهَا جَامِ َد ًة وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ السّحَابِ...
}[النمل]88 :
ونفهم من هذا القول الكريم أن حركة الجبال ليست ذاتيةً بل تابعة لحركة الرض؛ كما يتحرك
الحساب تبعا لحركة الرياح.
وشاء سبحانه أن يجعل الجبال رواسي مُثّبتات للرض كي ل تميدَ بنا؛ فل تميل َيمْنة أو يَسْرة
أثناء حركتها.
شيْءٍ ّموْزُونٍ } [الحجر]19 :
ويقول الحق سبحانه...{ :وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن ُكلّ َ
وأنبت سبحانه من الرض ُكلّ شيء موزون بدقّة تناسب الجو والبيئة ،ويضم العناصر اللزمة
لستمرار الحياة.
جعَلْنَا َل ُكمْ فِيهَا َمعَايِشَ} ...
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :وَ َ
()1806 /
في هذا القول يمتنّ علينا سبحانه بأنه جعل لنا في الرض وسائل للعيش؛ ولم يك َتفِ بذلك ،بل
جعل فيها رزقَ ما نطعمه نحن من الكائنات التي تخدمنا؛ ومن نبات وحيوان ،ووقود ،وما يلهمنا
إياه لنطور حياتنا من أساليب الزراعة والصناعة؛ وفوق ذلك أعطانا الذرية التي َتقَرّ بها العين،
وكل ذلك خاضع لمشيئته وتصرّفه.
شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا} ...
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :وَإِن مّن َ
()1807 /
شيْءٍ إِلّا عِ ْندَنَا خَزَائِنُ ُه َومَا نُنَزّلُهُ إِلّا ِبقَدَرٍ َمعْلُومٍ ()21
وَإِنْ مِنْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ[ } ...الحجر]21 :
وقوله الحق { :وَإِن مّن َ
أي :أنه ل يوجد جنس من الجناس إل وله خزائنُ عند ال سبحانه ،فالشيء الذي قد تعتبره تافها
له خزائن؛ وكذلك الشيء النفيس ،وهو سبحانه يُنزِل كل شيء بقدَرٍ؛ حتى الكتشافات العلمية
يُنزِلها بقدَرٍ.
وحين نحتاج إلى أيّ شيء مخزون في أسرار الكون؛ فنحن نُعمِل عقولنا الممنوحة لنا من ال
لنكتشف هذا الشيء .والمثل هو الوقود وكُنا قديما نستخدم خشب الشجار والحطب.
شجَرَ َتهَآ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنشِئُونَ }[الواقعة:
وسبحانه هو القائلَ {:أفَرَأَيْتُمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَن ُتمْ أَنشَأْ ُتمْ َ
]72-71
واتسعت احتياجات البشر فاكتشفوا الفحم الذي كان أصله نباتا مطمورا أو حيوانا مطمورا في
الرض؛ ثم اكتُشِف البترول ،وهكذا.
أي :أنه سبحانه لن يُنشِئ فيها جديدا ،بل أعدّ سبحانه كل شيء في الرض ،وقدّر فيها القوات
من قبل أنْ ينزِل آدم عليه السلم إلى الرض من جنة التدريبِ لِيعمُرَ الرض ،ويكون خليفة ل
فيها ،هو وذريته كلها إلى أن تقومَ الساعة.
فإذا شكوْنَا من شيء فهذا مَرْجعه إلى التكاسل وعدم حُسْن استثمار ما خلقه ال لنا وقدّره من
أرزاقنا في الرض .ونرى التعاسة في كوكب الرض رغم التقدّم العلمي والتّقني؛ ذلك أننا
نستخدم ما كنزه الحق سبحانه ليكون مجال سعادة لنا في الحروب والتنافر.
ولو أن ما يُصرف على الحروب؛ تم توجيهه إلى تنمية المجتمعات المختلفة لَعاشَ الجميع في
وفرة حقيقية .ولكن سوء التنظيم وسوء التوزيع الذي نقوم به نحن البشر هو المُسبّب الول لتعاسة
النسان في الرض؛ ذلك أنه سبحانه قد جعل الرض كلها للنام ،فمن يجد ضيقا في موقع ما من
الرض فليتجه إلى موقع آخر.
ولكن العوامل السياسية وغير ذلك من الخلفات بين الناس تجعل في أماكن في الرض؛ رجالً
شيْءٍ ِإلّ
بل عمل؛ وتجعل في أماكن أخرى ثروة بل استثمار؛ ونتجاهل قوله سبحانه { :وَإِن مّن َ
عِندَنَا خَزَائِنُهُ[ } ...الحجر]21 :
فلكل شيء في الرض خزائن؛ والخزينة هي المكان الذي ُتدّخر فيه الشياء النفيسة ،والكون كله
مخلوق على هيئة أن الحق سبحانه قدّر في الرض أقواتا لكل الكائنات من َلدُن آدم إلى أن تقومَ
الساعة.
فإنْ حدث تضييق في الرزق فاعلموا أن حقا من حقوق ال قد ضُيّع ،إما لنكم أهملتم استصلحَ
الرض وإحياء مواتها بقدر ما يزيد تعداد السكان في الرض ،وإما أنكم قد كنزتُم ما أخذتُم من
الرض ،وضننتُم ِبمَا اكتنزتموه على سواكم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإنْ رأيتَ فقيرا مُضيّعا فاعلم أن هناك غنيا قد ضَنّ عليه بما أفاض ال على الغني من رزق،
وإنْ رأيت عاجزا عن إدراك أسباب حياته فاعلم أن واحدا آخر قد ضَنّ عليه بقُوتِه.
وإنْ رأيت جاهلً فاعلم أن عالما قد ضَنّ عليه بعلمه .وإنْ رأيت أخْرقَ فاعلم أن حكيما قد ضَنّ
عليه بحكمته؛ ف ُكلّ شيء مخزون في الحياة؛ حتى تسلم حركة الحياة؛ سلمةً تؤدي إلى التسانُد
والتعاضُد؛ ل إلى التعانُد والتضارب.
ونعلم أنه سبحانه قد أَعدّ لنا الكون بكُل ما فيه قبل أنْ يخلقنا؛ ولم يُكلّفنا قبل البلوغ؛ ذلك أنه عَلِم
ألً أن التكليف يُحدّد اختيار النسان لكثير من الشياء التي تتعلق بكل ملَكاتِ النفس؛ قُوتا ومَشْربا
ومَلْبسا ومسكنا وضَبْطا للهواء ،كي ل ننساقَ في إرضاء الغرائز على حساب القِيمَ.
وشاء سبحانه ألّ يكون التكليف إل بعد البلوغ؛ حتى يستوفي ملكاتُ النفس القوةَ والقتدارَ ،ويكون
طمَر له الحق
قادرا على إنجاب مثيل له ،ولكي يكون هذا التكليف حُجّة على النسان ،هذا الذي َ
سبحانه كل شيء إمّا في الرض؛ أو كان طمرا في النوع ،أو في الجنس.
ل شيء في الكون موزون ،إما أن يكون جِنْسا ،أو َنوْعا ،أو أفرادا؛ والميزان الذي توجد به كل
وكُ ّ
تلك العطاءات؛ إنما شاء به الحق سبحانه أن يهبَ الرب للكل؛ وليوافق الكثرة؛ وليعيش النسان
في حضْن اليمان .وهكذا يكون عطاء ال لنا عطاءَ ربوبيةٍ ،وعطاءَ ألوهيةٍ ،والذكيّ حقا هو مَنْ
يأخذ العطاءين معا لتستقيم حياته.
سكْتُمْ خَشْ َي َة الِنْفَاقِ َوكَانَ
ح َمةِ رَبّي إِذا لمْ َ
والحق سبحانه هو القائل {:قُل ّلوْ أَنْتُمْ َتمِْلكُونَ خَزَآئِنَ رَ ْ
النْسَانُ قَتُورا }[السراء]100 :
وذلك ليوضح لنا الحق سبحانه أن النسان يظنّ أن ذاتيته هي الصل ،وأن نفعيته هي الصل،
س ِه ْم وََلوْ كَانَ ِب ِهمْ
وحتى في قضايا الدين؛ قد يتبع العبد قوله الحق {:وَ ُيؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُ ِ
خصَاصَةٌ[} ...الحشر]9 :
َ
ومَنْ يفعل ذلك إنما يفعل في ظاهر المر أنه ُيؤْثِر الغيرَ على نفسه؛ ولكن الواقع الحقيقي أنه
يطمع فيما أعدّه ال له من حُسْن جزاء في الدنيا وفي الخرة.
ن يقول :أنا ُأحِب اليمان؛ لن فيه
إذن :فَأصْل العملية الدينية أيضا هو الذات؛ ولذلك نجد مَ ْ
حبّ الْخَيْرِ َلشَدِيدٌ }[العاديات]8 :
الخيرية ،يقول الحق سبحانه {:وَإِنّهُ ِل ُ
وفيه أنانية ذكية تتيح لصاحبها أَخْذ الثواب على كل عمل يقوم به لغيره ،وهذا لون من النانية
الذكية النافعة؛ لنها انانية باقية ،ولها عائد إيماني.
ونعلم أن الحق سبحانه لو شاء لجعل الناس كلهم أثرياء؛ ولم يجعل يدا عليا ويدا سفلي ،لكنه
سبحانه لم يشأ ذلك؛ ليجعل النسان ابْنَ أغيار؛ ويعدل فيه ميزان اليمان ،ولِي ُدكّ غرور الذات
على الذات ،وليتعلم النسان أن غروره على ربّه لن ينال من ال شيئا ،ولن يأتي للنسان بأي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيء.
وكل مظاهر القوة في النسان ليست من عند النسان ،وليست ذاتية فيه ،بل هي موهوبة له من
ال؛ وهكذا شاء الحق سبحانه أنْ يُهذّب الناس لِيُحسِنوا التعامل مع بعضهم البعض.
ولذلك أوضح سبحانه أن عنده خزائنَ كل شيء ،ولو شاء للقى ما فيها عليهم مرة واحدة؛ ولكنه
لم يُرد ذلك ليؤكد للنسان أنه ابْنُ أغيارٍ؛ ولِيلفتَهم إلى ُمعْطي كل النعم.
كما أن رتابة النعمة قد تُنسِي النسانَ حلوة الستمتاع بها ،وعلى سبيل المثال أنت ل تجد إنسانا
يتذكّر عَيْنه إل إذا آلمتْه؛ وبذلك يتذكر نعمة البصر ،بل وقد يكون َفقْد النعمة هو المُلفِت للنعمة،
وذلك لكي ل ينسي أحد أنه سبحانه هو المُنعِم.
ويقول سبحانه من بعد ذلك } :وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ{ ...
()1808 /
والرسال هو ال ّدفْع للشيء من حَيّز إلى حَيّز آخر ،وحين يقول سبحانه إنه أرسل الرياح؛ نجد أنها
ل مكان إلى ُكلّ مكان؛ فهي مُرْسَلة من هنا إلى هناك ،ومن هناك إلى هنا.
مُرْسلَة من ُك ّ
وهكذا يكون كل مكان؛ هو موقع لرسال الرياح؛ وكل مكان هو موقع لستقبالهم؛ ولذلك نجد
لصِيبتْ البشرية بالكثير من
الرياح وهي تسير في َدوْرة مستمرة؛ ولو سكنتْ لمَا تحرّك الهواء ،و ُ
الرض؛ ذلك أن الرياح تُجدّد الهواء ،وتُنظّف المكنة من الرّكود الذي يُمكِن أن تصيرَ إليه.
ونعلم أن القرآن حين يتكلم عن الرياح بصيغة الجمع فهو حديث عن خير ،والمثل هو قول الحق
حمَتِهِ[} ...العراف]57 :
سلُ الرّيَاحَ ُبشْرا بَيْنَ يَ َديْ َر ْ
سبحانه {:وَ ُهوَ الّذِي يُرْ ِ
أما إذا أُفرد وجاء بكلمة " ريح " فهي للعذاب ،مثل قوله {:وََأمَا عَادٌ فَُأهِْلكُواْ بِرِيحٍ صَ ْرصَرٍ
عَاتِيَةٍ }[الحاقة]6 :
وهنا يقول الحق سبحانه { :وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ[ } ...الحجر]22 :
ولواقح جمع لقحة ،وتُطلَق في اللغة مرّة على الناقة التي في بطنها جنين؛ ومرة تُطلَق على
اللقح الذي يلقح الغير ليصير فيه جنين؛ لن الحق سبحانه شاء أن يتكاثر كل ما في الكون؛
وجعل من ُكلّ زوجين اثنين؛ إما يتكاثر أو تتولد منه الطاقة؛ كالسالب والموجب في الكهرباء.
وهو القائل سبحانه {:سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا[} ...يس]36 :
سهِ ْم َو ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس]22 :
ض َومِنْ أَنفُ ِ
عدّد لنا فقالِ ... {:ممّا تُن ِبتُ الَرْ ُ
ثم َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جمّيز؛ التي ل يعلم الشخص الذي لم يدرس علم
وهناك أشياء ل يُدركها النسان مثل شجرة ال ُ
النبات كيف تتكاثر لتنبت وتُثمِر ،ويعلم العالِم أن هناك شجرةَ جُميز تلعب دور النثى ،وشجرةً
أخرى تلعب دور ال ّذكَر.
وكذلك شجرة التوت؛ وهناك شجرة ل تُعرَف فيه النثى من الذّكر؛ لنه مكمور توجد به الُنثى
وال ّذكَر ،وقد ل تعرف أنت ذلك؛ لن الحق سبحانه جعل اللّقاحةَ خفيفةً للغاية؛ لتحملَها الريحُ من
مكان إلى مكان.
ونحن لم نَرَ كيف يتم لقاح شجرة الزيتون؛ أو شجرة المانجو ،أو شجرة الجوافة ،وذلك لنأخذ من
ذلك عبرةً على ِدقّة صَنْعته سبحانه.
والمثَل الذي أضربه دائما هو المياه التي تسقط على جبلٍ ما؛ وبعد أيام قليلة تجد الجبل وقد امتل
بالحشائش الخضراء؛ ومعنى هذا أن الجبل كانت توجد به بذور تلك الحشائش التي انتظرتْ الماء
لِتُنبت.
وتعرّف العلماء على أن الذكورة بعد أن تنضج في النبات فهي تنكشف وتنتظر الرياح والجو
المناسب والبيئة المناسبة لتنقلها من مكان إلى مكان.
ولهذا نجد بعضا من الجبال وهي خضراء بعد هبوب الرياح وسقوط المطر؛ ذلك أن حبوب اللقاح
انتقلت بالرياح ،وجاء المطر لتجد النباتات فرص ًة للنمو.
ح نقلتْ للنصف الخضر حبوبَ
جدْب؛ لن الريا َ
وقد تجد جبلً من الجبال نصفه أخضر ونصفه َ
اللقاح ،ولم تنقل الحبوب للنصف الثاني من الجبل؛ ولذلك نجد الحق سبحانه قد جعل للرياح دورةً
تنتقل بها من مكان لمكان ،وتدور فيها بكل الماكن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1809 /
وفي ظاهر المر كان من ال ُم ْمكِن أن يقول الحق " :إنّا نُميت ونُحيي "؛ لنه سبحانه يخاطبنا ونحن
أحياء ،ولكن الحق سبحانه أراد بهذا القول أن يلفتنا أن ننظر إلى الموت الول ،وهو العدم
المَحْض الذي أنشأنا منه ،وهو سبحانه القائلَ {:وكُنْتُمْ َأ ْموَاتا فََأحْيَاكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ثُمّ يُحْيِيكُمْ ثُمّ إِلَ ْيهِ
جعُونَ }[البقرة]28 :
تُرْ َ
والكلم في تفصيل الموت يجب أن نُفرّق فيه بين العدم المَحْض والعدم بعد وجود؛ فالعدم ال َمحْض
هو ما كان قبل أن نُخلَق؛ ثم أوجدنا ال لنكون أحياء؛ ثم يميتنا من بعد ذلك ،ثم يبعثنا من بعد ذلك
للحساب.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يكون الكلم عن الموت الذي يحدث بعد أن يهبَنا
الُ الحياةُ ،ثم نقضي ما كتبه لنا من أجَل.
ثم يُذيّل الحق سبحانه الية بقوله...{ :وَنَحْنُ ا ْلوَارِثُونَ } [الحجر]23 :
وهذا القول يعني أن هناك تركة كبيرة؛ وهي هذا الكون الذي خلقه سبحانه ليستخلفنا فيه .ونحن لم
ضفْ شيئا لهذا الكون الذي خلقه ال؛ لنك إنْ نظرتَ إلى كمية المياه أو الغذاء التي في الكون،
ُن ِ
وكُل مقومات الحياة َلمَا وجدتَ شيئا يزيد أو ينقص؛ فالماء تشربه لِيرو ِيكَ ،ثم يخرج عرقا وبولً؛
ومن بعد الموت يتحلّل الجسم ليتبخرَ منه الماء ،وهذا يجري على كل الكائنات.
وحين يتناول الحق سبحانه في هذه الية َأمْر الموت والحياة وعودة الكون في النهاية إلى مُنْشئِه
سبحانه؛ فهو يُحدّثنا عن أمرين يعتوران حياة كل موجود؛ هما الحياة والموت ،وكلهما يجري
على ُكلّ الكائنات؛ ف ُكلّ شيء له مدة يَحْياها ،وأجل يقضيه.
وكل شيء يبدأ مهمة في الحياة فهو يُولّد؛ وكل شيء يُنهِي مهمته في الحياة ـ بحسب ما قدره ال
له ـ فهو يموت؛ وإنْ كنا نحن البشر بحدود إدراكنا ل نعي ذلك.
جهَهُ[} ...القصص]88 :
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
وهو سبحانه القائلُ {:كلّ َ
إذن :ف ُكلّ شيء يُطلَق عليه " شيء " مصيره إلى هلك؛ ومعنى ذلك أنه كان حيا؛ ودليلنا على أنه
حيّ عَن بَيّنَةٍ[} ...النفال]42 :
كان حيا هو قول الحق {:لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّنَةٍ وَيَحْيَىا مَنْ َ
وهكذا نعلم أن كل ما له مهمة في الحياة له حياة تناسبه؛ و َفوْر أن تنتهي المهمة فهو يهلك
ويموت ،والحق سبحانه وتعالى يرث كل شيء بعد أن يهلك كل مَنْ له حياة ،وهو سبحانه القائل{:
جعُونَ }[مريم]40 :
ض َومَنْ عَلَ ْيهَا وَإِلَيْنَا يُرْ َ
إِنّا نَحْنُ نَ ِرثُ الَ ْر َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهو بذلك يرث التارك والمتروك؛ وهو الخالق لكل شيء .ويختلف ميراث الحق سبحانه عن
ميراث الخَلْق؛ بأن المخلوق حين يرث آخر؛ فهو يُودِعه التراب أولً ،ثم يرث ما ترك؛ أما الحق
سبحانه فهو يرث الثنين معا ،المخلوق وما ترك.
ولذلك نحن نرى مَنْ يعز عليهم ميت؛ قد يُمسِكون بالخشبة التي تحمل الجثة ،ويرفضون من فَرْط
المحبة أن تخرج من منزله؛ ولو تركناه لهم لمدة أسبوع ورمّت الجثة؛ سيتوسّلون ِلمَنْ يحمل
الجثث أن يحملَه لِيُوارِيه التراب ،ثم يبدأون في مناقشة ما يرثونه من الفقيد.
وهم بذلك يَرِثون المتروك بعد أن أودعوا التارك للتراب ،وإذا كان التارك من الذين أحسنوا
اليمان والعمل فيدخل حياة جديدة هي أرغد بالتأكيد من حياته الدنيا؛ ولَسوفَ يأكل ويشرب دون
أن يتعبَ ،وكل ما تمر على ذهنه رغبة فهي تتحقّق له ،فهو في ضيافة المُنعِم العلى.
ويقول سبحانه من بعد ذلك } :وََلقَدْ عَِلمْنَا ا ْلمُسْ َتقْ ِدمِينَ{ ...
()1810 /
وَلَقَدْ عَِلمْنَا ا ْلمُسْ َتقْ ِدمِينَ مِ ْنكُ ْم وََلقَدْ عَِلمْنَا ا ْلمُسْتَ ْأخِرِينَ ()24
والمُستقدم هو مَنْ تقدّم بالحياة والموت؛ وهم مَنْ قبلنا من بشر وُأمَم .والمُسْتأخِر هو مَنْ سيأتي من
بعدنا .وسبحانه يعَلمُنَا بحكم أنه علم من قَبْل كلّ مستأخر؛ أي :أنه عَلِم بنا من قبل أنْ نُوجد؛ ويعلم
بنا من َبعْد أن نرحلَ؛ فعِلْمه كامل وأزليّ؛ وفائدة هذا العلم أنه سيترتب عليه الجزاء؛ فنحن حين
أخذنا الحياة والرزق لم نُفلت بهما بعيدا؛ بل نجد ال قد عَلم أزلً بما فعل كل مِنّا.
وهناك مَنْ يقول إن هناك معنًى آخر؛ بأن الحق سبحانه يكتب مَنْ يسرع إلى الصلة ويتقدم إليها
َفوْر أن يسمع النداء لها ،ويعلم مَنْ يتأخر عن القيام بأداء الصلة ،ذلك أن تأثير كلمة " ال اكبر "
فيها من اليقظة والنتباه ما يُذكّرنا بأن ال أكبر من ُكلّ ما يشغلك.
ونعلم أن من إعجازات الذان أنه جعل النداء باسم " ال أكبر "؛ ولم َي ُقلْ :ال كبير؛ وذلك احتراما
لما يشغلنا في الدنيا من موضوعات قد نراها كبيرة؛ ذلك أن الدنيا ل يجب أن ُتهَان؛ لنها ال َمعْبر
إلى الجزاء القادم في الخرة.
ولذلك أقول دائما :إن الدنيا أهم من أن تُنسَى؛ وفي نفس الوقت هي أتفه من أنْ تكون غاية ،فأنت
ن تعول؛ وليُعينك هذا القوتُ على العبادة.
في الدنيا تضرب في الرض وتسعى ِلقُوتِك وقُوتِ مَ ْ
جهْد في سبيل
ن ي ُوفّقه فيها ،وأن يبذلَ كل َ
لذلك فل يحتقر أحد الدنيا؛ بل ليشكر ال ويدعوه أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نجاحه في عمله؛ فالعمل الطيب ينال عليه العبدُ حُسْن الجزاء؛ و َفوْر أن يسمعَ المؤمن " ال أكبر
"؛ فعليه أن يتج َه إلى مَنْ هو أكبر فعلً ،وهو الحق سبحانه ،وأن يؤدي الصلة .هذا هو المعنى
المُستقى من المستقدِم للصلة والمُسْتأخِر عنها.
وهناك من العلماء مَنْ رأى ملحظَ شتّى في الية الكريمة فمعناها قد يكون عاما يشمل الزمن
كله؛ وقد تكون بمعنى خاص كمعنى المستقدم للصلة والمستأخِر عنها.
وقد يكون المعنى أشدّ خصوصية من ذلك؛ فنحن حين نُصلّي نقف صفوفا ،ويقف الرجال أولً؛ ثم
الطفال؛ ثم النساء؛ ومن الرجال مَنْ يتقدّم الصفوف كَيْل تقع عيونه على امرأة؛ ومنهم مَنْ قد
يتحايل ويقف في الصفوف الخيرة ليرى النساء؛ فأوضح الحق سبحانه أن مثل هذه المور ل
تفوت عليه ،فهو العالم بالسرار وأخفى منها.
أو :أن يكون المعنى هو المُستقدمين إلى الجهاد في سبيل ال أو المتأخرين عن الجهاد في سبيله.
خلَ له بهذه المسألة.
ومَنْ يموت حَتْف أنفه ـ أي :على فراشه ل دَ ْ
أما إنْ دعا داعي الجهاد ،ويُقدّم نفسه للحرب ويُقاتل وينال الشهادة ،فالحق ـ سبحانه وتعالى ـ
يعلم مَنْ تقدّم إلى لقائه محبةً وجهادا لِرفعة شأن الدين.
حبّ
وقد يكون في ظاهر المر وفي عيون غيره ِممّنْ يكرهون الحياة؛ ولكنه في حقيقة المر مُ ِ
للحياة بأكثر ِممّنْ يدّعون حُبّها؛ لنه امتلك اليقين اليماني بأن خالقَ الدنيا يستحق أن ينالَ الجهاد
في سبيل القِيم التي أرادها منهاجا ينعدل به ميزان الكون؛ وإن استشهد فقد وعده سبحانه الخُلْد في
الجنة ونعيمها.
" ونجد أبا بكر الصديق ـ رضي ال عنه ـ وهو يقول لرسول ال صلى ال عليه وسلم :ا ْدعُ لي
يا رسول ال أن أستشهد؛ فيردّ عليه النبي الكريم " :متعنا بنفسك يا أبا بكر ".
وعلى ذلك ل يكون المستأخر هنا محلّ َلوْم؛ لن اليمان يحتاج ِلمَنْ يصونه ويُثبّته؛ كما يحتاج
إلى مَنْ يؤكد أن اليمان بال أعزّ من الحياة نفسها؛ وهو المُتقدّم للقتال ،وينال الشهادةَ في سبيل
ال.
ويقول سبحانه من بعد ذلك } :وَإِنّ رَ ّبكَ ُهوَ َيحْشُرُ ُهمْ{ ...
()1811 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن المُتولّي تربيتك يا محمد لن يترك مَنْ خاصموك وعاندوك ،وأهانوك وآذ ْوكَ دون عقاب.
وكلمةَ { :يحْشُرُ ُهمْ } [الحجر]25 :
تكفي كدليل على أن ال يقفُ لهم بالمرصاد ،فهم قد أنكروا البعث؛ ولم يجرؤ أحدهم أن يُنكِر
الموت ،وإذا كان الحق سبحانه قد سبق وعبّر عن البعث بقوله الحق {:ثُمّ إِ ّنكُمْ َبعْدَ ذاِلكَ َلمَيّتُونَ *
ثُمّ إِ ّن ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تُ ْبعَثُونَ }[المؤمنون]16-15 :
فهم كانوا قد غفلوا عن العداد ِلمَا بعد الموت ،وكأنهم يشكّون في أنه قادم ،وجاء لهم بخبر
الموت كأمر حتميّ ،وسبقتْه (هو) لتؤكد أنه سوف يحدث ،فالحشر منسوب ل سبحانه ،وهو قادر
عليه ،كما قدر على الحياء من عدم ،فل وَجْهَ للشك أو النكار.
ثم جاء لهم بخبر البعث الذي يشكّون فيه؛ وهو أمر سبق وأنْ ساق عليه سبحانه الدلة الواضحة.
حشُرُهُمْ[ } ...الحجر]25 :
ولذلك جاء بالخبر المصحوب بضمير الفصل { :يَ ْ
وسبحانه يُجرِي المور كلها بحكمة واقتدار ،فهو العليم بما تتطلبه الحكمة عِلْما يحيط بكل الزوايا
والجهات.
خَلقْنَا الِنسَانَ} ...
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :وََلقَدْ َ
()1812 /
وسبحانه يتكلّم هنا عن خَلْق النسان من بعد أن تكلم عن خَلْق الكون وما أعدّه له فيه ،وليستقبل
الكون الخليفةَ ل؛ فيوضح أنه قد خلقه من الصّلصال ،وهو الطين اليابس.
وجاء سبحانه بخبر الخَلْق في هذه السورة التي تضمنت خبر َم ّد الرض؛ ومَجِيء الرياح ،وكيفية
إنزال الماء من السماء؛ وكيف َقدّر في الرض الرزق ،وجعل في الرض رواسي ،وجعل ُكلّ
شيء موزونا.
وهو سبحانه قد استهلّ السورة بقوله... {:تِ ْلكَ آيَاتُ ا ْلكِتَابِ َوقُرْآنٍ مّبِينٍ }[الحجر]1 :
أي :أنه افتتح السورة بالكلم عن حارس القِيم للحركة النسانية؛ ثم تكلّم عن المادة التي منها
الحياة؛ وبذلك شمل الحديثُ الكلم عن المُقوّم الساسي للقيم وهو القرآن ،والكلم عن مُقوّم المادة؛
وكان ذلك أمرا طبيعيا؛ ودَلّ ْلتُ عليه سابقا بحديثي عن مُصمّم أي جهاز من الجهزة الحديثة؛
حيث يحدد أولً الغرض منه؛ ثم يضع جدولً وبرنامجا لصيانة كل جهاز من تلك الجهزة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهكذا كان خَلْق ال للنسان الذي شاء له سبحانه أن يكون خليفته في الرض ،ووضع له مُقوّمات
مادة ومُقوّمات قِيم؛ وجاء بالحديث عن مُقوّمات القِيَم أولً؛ لنها ستمدّ حياة النسان لتكون حياة ل
تنتهي ،وهي الحياة في الدنيا والخرة.
وهذا القول يُوضّح لنا أن آدم ليس هو أول من استعمر الرض؛ بل كان هناك خَلْق من قَبْل آدم،
فإذا حدّثنا علماء الجيولوجيا والحفريات عن أن هناك ما يدل على وجود بعض من الكائنات
المطمورة تثبت أنه كانت هناك حياة منذ خمسين ألف قرن من الزمان.
فنحن نقول له :إن قولك صحيح.
وحين يسمع البعض َقوْل هؤلء العلماء يقولون :ل ُبدّ أن تلك الحيوانات كانت موجودة في زمن
عمَر الرض،
آدم عليه السلم ،وهؤلء يتجاهلون أن الحق سبحانه لم َيقُلْ لنا أن آدم هو أول مَنْ َ
بل شاء سبحانه أن يخلقنا ويعطينا مهمة الستخلف في الرض.
والحق سبحانه هو القائل {:إِن َيشَأْ يُذْهِ ْبكُـمْ وَيَأْتِ ِبخَلْقٍ جَدِيدٍ * َومَا ذَِلكَ عَلَى اللّهِ ِبعَزِيزٍ }[فاطر:
]17-16
خلْق غيرنا أمر وارد ،وكذلك الخَلْق من قبلنا أم ٌر وارد.
أي :أن َ
ونعلم أن خَلْق آدم قد أخذ لقطات متعددة في القرآن الكريم؛ تُؤدّي في مجموعها إلى القصة بكل
أحداثها وأركانها ،ولم يكُنْ ذلك تكرارا في القرآن الكريم ،ولكن جاء القرآن بكل َلقْطة في الموقع
المناسب لها؛ ذلك أنه ليس كتاب تاريخ للبشر؛ بل كتاب قِيَم ومنهج ،ويريد أن يُؤسّس في البشر
القيم التي تحميهم وتصونهم من أيّ انحراف ،ويريد أن يُر ّبيَ فيهم المهابة.
وقد تناول الحق سبحانه كيفية خَلْق النسان في الكثير من سُور القرآن :البقرة؛ العراف؛ الحجر؛
السراء؛ الكهف؛ وسورة ص.
قال سبحانه ـ على سبيل المثال ـ في سورة البقرة:
س ِفكُ ال ّدمَآءَ
ج َعلُ فِيهَا مَن ُيفْسِدُ فِيهَا وَيَ ْ
علٌ فِي الَ ْرضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَ ْ
{ وَإِذْ قَالَ رَ ّبكَ ِل ْلمَلَ ِئكَةِ إِنّي جَا ِ
ك وَ ُنقَدّسُ َلكَ قَالَ إِنّي أَعْلَمُ مَا لَ َتعَْلمُونَ }[البقرة]30 :
حمْ ِد َ
وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِ َ
وجاء هذا القول من ال للملئكة ساعةَ خَلْق ال لدم ،من قبل أن تبدأ مسألة نزول آدم للرض.
وقد أخذتْ مسألة خَلْق النسان جدلً طويلً من الذين يريدون أن يستدركوا على القرآن متسائلين:
كيف يقول مرة :إن النسان مخلوق من ماء؛ ومرة من طين؛ ومرة من صلصال كالفخار؟
ونقول :إن ذلك كله حديث عن مراحل الخَلْق ،وهو سبحانه أعلم بمَنْ خلق ،كما خلق السماوات
سمَاوَاتِ
شهَدّتهُمْ خَلْقَ ال ّ
والرض ،ولم يُشهِد الحق أحدا من الخلق كيف خلق المخلوقات {:مّآ َأ ْ
عضُدا }[الكهف]51 :
سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
ض َولَ خَلْقَ أَ ْنفُ ِ
وَالَرْ ِ
ومن رحمته سبحانه أنه ترك في مُحسّات الحياة وماديتها ما يُثبِت صِدْقه في غيبيّاته؛ فإذا قال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مرّة :إنه خلق كل شيء من الماء؛ فهو صادق فيما قال؛ لن الماء يُكوّن أغلبَ الجسد البشري
على سبيل المثال.
وإذا أوضح أنه خلق النسان من طين ،فالتراب إذا اختلط بالماء صار طينا ،وإذا مرّ على الطين
جدِينَ }[الحجر:
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي َفقَعُواْ لَهُ سَا ِ
سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ
ت صار صلصالً ،وإذا قال {:فَإِذَا َ
وق ٌ
]29
وكُلّ هذا من المور الغيبية؛ التي يشرحها لنا نقضُها في الواقع المادي الملموس ،فحين يحدث
الموت ـ وهو َنقْض الحياة ـ نجد الروح هي أول ما يخرج من الجسم؛ وكانت هي آخر ما دخل
الجسم أثناء الخَلْق.
ومن بعد ذلك تبدأ الحيوية في الرحيل عن الجثمان؛ فيتحول الجثمان إلى ما يشبه الصّلْصال؛ ثم
يتبخّر الماء من الجثمان؛ ليصير من بعد ذلك ترابا.
وهكذا نشهد في الموت ـ نقض الحياة ـ كيفية بَدْء مراحل الخَلْق وهي معكوسة؛ فالماء أولً ثم
التراب؛ ثم الطين؛ ثم الصلصال الذي يشبه الحمأ المسنون؛ ثم َنفْخ الروح.
وقد صدق الحق سبحانه حين أوضح لنا في النقيض المادي ،ما أبلغنا عنه في العالم الغيب.
وعلى ذلك ـ أيضا ـ نجد أن الذين يضعون التكهنات بأن الشمس خُِل َقتْ قبل الرض؛ وكانت
الرض جزءا من الشمس ثم انفصلت عنها؛ على هؤلء أن يعلموا أن ما يقولونه هو أمر لم
يشاهدوه ،وهي أمور ل يمكن أن يدرسها أحد في معمل تجريبي؛ وقد قال القرآن عن أهل هذا
عضُدا }
خذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّ ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ
شهَدّتهُمْ خَلْقَ ال ّ
اللغو {:مّآ أَ ْ
[الكهف]51 :
وهم قد أعانوا على تأكيد إعجازية القرآن الذي أسماهُم المُضلّين؛ لنهم يغوون الناس عن الحق
إلى الباطل.
خَلقْنَاهُ مِن قَ ْبلُ{ ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :وَا ْلجَآنّ َ
()1813 /
سمُومِ ()27
وَالْجَانّ خََلقْنَاهُ مِنْ قَ ْبلُ مِنْ نَارِ ال ّ
سمُوم) هي اللهب الذي ل دُخانَ له ،ويُسمّونه " السّموم " لنه يتلصّص في
ونعلم أن كلمة (ال ّ
الدخول إلى مسَامّ النسان.
وهكذا نرى أن للعنصر تأثيرا في مُقوّمات حياة الكائنات ،فالمخلوق من طين له صفات الطينية،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمخلوق من نارٍ له صفات النارية؛ ولذلك كان قانون الجن أخفّ وأشدّ من قانون النس.
ث لَ تَ َروْ َنهُمْ[} ...العراف]27 :
والحق سبحانه يقول {:إِنّهُ يَرَاكُمْ ُهوَ َوقَبِيلُهُ مِنْ حَ ْي ُ
وهكذا نعلم أن قانون خَلْق الجن من عنصر النار التي ل لهبَ لها يوضح لنا أن له قدرات تختلف
عن قدرات النسان.
ذلك أن مهمته في الحياة تختلف عن مهمة النسان ،ول تصنع له خيريةً أو أفضلية ،لن المهام
حين تتعدد في الشياء؛ تمنع المقارنة بين الكائنات.
والمَثلُ على ذلك هو غلبة مَنْ عنده عِلْم بالكتاب على عفريت الجن؛ حين سأل سليمان عليه السلم
شهَا قَ ْبلَ أَن يَأْتُونِي ُمسِْلمِينَ }[النمل:
عمّن يأتيه بعرش بلقيس {:قَالَ ياأَ ّيهَا ا ْلمَلُ أَ ّيكُمْ يَأْتِينِي ِبعَرْ ِ
]38
وقال عفريت من الجن :إنه قادر على أن يأتي بالعرش قبل أن يقومَ سليمان من مُقَامه ،ولكن مَنْ
عنده عِلْم بالكتاب قال :إنه قادر أنْ يأتيَ بعرش بلقيس قبل أن يرتدّ طَرْف سليمان؛ وهكذا غلب
مَنْ عنده علم بالكتاب قدرة عفريت الجن.
عفْرِيتٌ مّن الْجِنّ أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن
وقد قصّ علينا الحق سبحانه هذا في كتابه الكريم ،فقال {:قَالَ ِ
َتقُومَ مِن ّمقَا ِمكَ وَإِنّي عَلَ ْيهِ َلقَ ِويّ َأمِينٌ * قَالَ الّذِي عِن َدهُ عِ ْلمٌ مّنَ ا ْلكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ ِبهِ قَ ْبلَ أَن يَرْتَدّ
ضلِ رَبّي[} ...النمل]40-39 :
إِلَ ْيكَ طَ ْر ُفكَ فََلمّا رَآهُ مُسْ َتقِرّا عِن َدهُ قَالَ هَـاذَا مِن َف ْ
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَِإذْ قَالَ رَ ّبكَ لِ ْلمَل ِئكَةِ إِنّي خَاِلقٌ} ...
()1814 /
وعرفنا في مواقع متفرقة من خواطرنا كيف نفهم هذه الية .ونعلم أن البشر في زماننا حين
يريدون صُنْع تمثال ماَ ،فهُم َيخْلِطون التراب بالماء ليصير طينا؛ ثم يتركونه إلى أنْ يختمرَ،
ل ملمح مَنْ يُريد أن يصنع له تمثالً.
ويصيرَ كالصّ ْلصَال ،ومن بعد ذلك يُشكل المَثّا ُ
عكْس النسان المخلوق بيد ال ،والذي يملك بفعل
والتماثيل تكون على هيئة واحدة ،ول قدرةَ لهاَ ،
النفْخ فيه من روح ال مَا لَ يملكه أيّ كائن صنعتْه مهارة النسان؛ ذلك أن إعجازَ وطلقةَ قدرةِ
الخالق ل يمكن أن تستوي مع قدرة المخلوق المحدودة.
وهناك حديث يقول فيه صلى ال عليه وسلم " :خلق ال عز وجل آدم على صورته ،ستون ذراعا
".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
واختلف العلماء في مرجع الضمير في هذا الحديث؛ أيعود إلى صورة آدم؟ أم يعود إلى آدم؟
فمن العلماء من قال :إن الضمير يعود إلى آدم؛ بمعنى أن ال لم يخلقه طفل ،ثم كبر؛ بل خلقه
على الصورة الناضجة؛ وتلفّت آدم فوجد نفسه على تلك الصورة الناضجة؛ وأنه لم يكُنْ موجودا
من قبل ذلك بساعة؛ لذلك تلفّت إلى المُوجِد له.
والذين قالوا :إن الحق سبحانه خلق النسان على صورته ،وأن الضمير يعود إلى ال؛ فذلك لن
الحق قد جعل النسان خليفة له في الرض؛ وأعطاه من قدرته قدرةً؛ ومن عِلْمه علما؛ ومن
حكمته حكمة ،ومن قاهريته قهرا.
ولذلك يقول صلى ال عليه وسلم " :تخلقوا بأخلق ال ".
فخلق آدم داخلٌ في كينونته .يقول الحق {:إِنّ مَ َثلَ عِيسَىا عِندَ اللّهِ َكمَ َثلِ ءَا َدمَ خََلقَهُ مِن تُرَابٍ ُثمّ
قَالَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[آل عمران]59 :
وأمام الكينونة ينتفي التعليل ،ولم يبق إل اليمان بالخالق.
ختُ فِيهِ} ...
سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :فَإِذَا َ
()1815 /
جدِينَ ()29
ختُ فِيهِ مِنْ رُوحِي َفقَعُوا لَهُ سَا ِ
سوّيْتُ ُه وَنَفَ ْ
فَإِذَا َ
جعْل الشيء صالحا للمهمة التي تُرَاد له .وشاء سبحانه أن يُس ّويَ النسان في
والتسوية تعني َ
صورة تسمح لنفخ الروح فيه .والنفخ من روح ال ل يعني أن النفخ قد تَمّ بدفع الحياة عن طريق
الهواء في فَمِ آدم ،ولكن المر تمثيلٌ لنتشار الروح في جميع أجزاء الجسد.
وقد اختلف العلماء في تعريف الروح ،وأرى أنه من السلم عدم الخوض في ذلك المر؛ لن
الحق سبحانه هو القائل {:وَيَسْأَلُو َنكَ عَنِ الرّوحِ ُقلِ الرّوحُ مِنْ َأمْرِ رَبّي َومَآ أُوتِيتُم مّنَ ا ْلعِلْمِ ِإلّ
قَلِيلً }[السراء]85 :
جدَ ا ْلمَل ِئكَةُ} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ { :فسَ َ
()1816 /
ج َمعُونَ ()30
جدَ ا ْلمَلَا ِئكَةُ كُّل ُهمْ أَ ْ
فَسَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد سجدوا جميعا في حركة واحدة؛ ذلك أنه ل اختيارَ لهم في تنفيذ ما يُؤمرون به ،فمن َبعْد أن
جدُو ْا لَدَمََ[} ...طه]116 :
خلق الُ آدمَ جاء تكريم الحق سبحانه له بقوله للملئكة {:اسْ ُ
وسجدت الملئكة التي كلّفها ال برعاية وتدبير هذا المخلوق الجديد ،وهم المُدبّرات أمرا والحفظة،
ومَنْ لهم علقة بهذا المخلوق الجديد.
وقوله الحقَ ... {:ف َقعُواْ َلهُ سَاجِدِينَ }[الحجر]29 :
يعني أن عملية السجود قد حدثت بصورة مباشرة وحاسمة وسريعة ،وكان سجودهم هو طاعة
للمر العلى؛ ل طاعة لدم.
ج َمعُونَ } [الحجر]30 :
سجَدَ ا ْلمَل ِئكَةُ كُّلهُمْ أَ ْ
وقول الحق سبحانه { :فَ َ
يعني الملئكة العلى من البشر ،ذلك أن هناك ملئكةً أعلى منهم؛ وهم الملئكة ال ُمهِيمون
المتفرّغون للتسبيح فقط.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكِ { :إلّ إِبْلِيسَ أَبَىا أَن} ...
()1817 /
وهكذا جاء الحديث هنا عن إبليس؛ بالستثناء وبالعقاب الذي نزل عليه؛ فكأن المرَ قد شَمله ،وقد
أخذتْ هذه المسألة جدلً طويلً بين العلماء.
وكان من الواجب أن يحكمَ هذا الجدلَ أمران:
المر الول :أن النصّ سيد الحكام.
والمر الثاني :أن شيئا ل نصّ فيه؛ فنحن نأخذه بالقياس واللتزام .وإذا تعارض نصّ مع التزام؛
فنحن نُؤول اللتزام إلى ما يُؤول النص.
وإذا كان إبليس قد عُوقِب؛ فذلك لنه استثنى من السجود امتناعا وإباءً واستكبارا؛ فهل هذا يعني
أن إبليس من الملئكة؟
جدُواْ ِإلّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ َففَسَقَ
ل .ذلك أن هناك نصا صريحا يقول في الحق سبحانهَ {:فسَ َ
عَنْ َأمْرِ رَبّهِ[} ...الكهف]50 :
وهكذا حسم الحق سبحانه المر بأن إبليس ليس من الملئكة؛ بل هو من الجنّ؛ والجن جنس
مختار كالنس؛ يمكن أن يُطيع ،ويمكن أن يَعصِي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حضْرة للملئكة؛ ومعنى هذا أنه كان
سمِع المر بالسجود؛ فمعنى ذلك أنه كان في نفس ال َ
وكونه َ
من قبل ذلك قد التزم التزاما يرفعه إلى مستوى الحضور مع الملئكة؛ ذلك أنه ُمخْتار يستطيع أن
يطيع ،ويملك أن يعصي ،ولكن التزامه الذي اختاره جعله في صفوف الملئكة.
وقالت كتب الثر :إنهم كانوا يُسمّونه طاووس الملئكة مختالً بطاعته ،وهو الذي وهبه ال
الختيار ،لنه قدر على نفسه وحمل نفسه على طاعة ربه ،لذلك كان مجلسه مع الملئكة تكريما
له؛ لنه يجلس مع الطهار ،لكنه ليس مَلكا.
وبعض العلماء صَنّفوه بمُسْتوًى أعلى من الملئكة؛ والبعض الخر صَنّفه بأنه أقلّ من الملئكة؛
لنه من الجنّ؛ ولكن المر المُتفق عليه أنه لم يكُنْ ملكا بنصّ القرآن ،وسواء أكان أعلى أم
أَدْنى ،فقد كان عليه اللتزام بما يصدر من الحق سبحانه.
ونجد الحق سبحانه وهو يعرض هذه المسألة ،يقول مرة (أبىَ) ،ومرة (استكبر) ،ومرة يجمع بين
الباء والستكبار.
والباء يعني أنه يرفض أن ينفذ المر بدون تعال .والستكبار هو التأبّي بالكيفية ،وهنا كانت
ل لعملية الباء والستكبار ،وكيف ردّ أمر الحق أورده سبحانه مرة بقول إبليس{:
العقوبة تعلي ً
حمَإٍ مّسْنُونٍ }[الحجر]33 :
سجُدَ لِ َبشَرٍ خََلقْتَهُ مِن صَ ْلصَالٍ مّنْ َ
...لَمْ َأكُن لَ ْ
وقوله {:قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خََلقْتَنِي مِن نّا ٍر وَخََلقْتَهُ مِن طِينٍ }[ص]76 :
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك { :قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا َلكَ َألّ َتكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ }
()1818 /
جدِينَ ()32
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا َلكَ أَلّا َتكُونَ مَعَ السّا ِ
وتقول " ما لك؟ " في الشيء العجيب الذي تريد أن تعرف كيف وقع ،وكأن هذا تساؤلٌ عن أمر
مخالف ِلمَا اختاره إبليس؛ الذي وهبه ال خاصية الختيار ،وقد اختار أن يكون على الطاعة.
ولنلحظ أن المتكلم هنا هو ال؛ وهو الذي يعلم أنه خلق إبليس بخاصية الختيار؛ فله أن يطيعَ ،وله
ن يعصيَ .وهو سبحانه هنا يُوضّح ما علمه أزلً عن إبليس؛ وشاء سبحانه إبراز هذا ليكون حجة
أْ
على إبليس يوم القيامة.
سجُدَ لِ َبشَرٍ} ...
ويتابع سبحانه { :قَالَ َلمْ َأكُن لَ ْ
()1819 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَإٍ مَسْنُونٍ ()33
ن صَ ْلصَالٍ مِنْ َ
جدَ لِبَشَرٍ خََلقْتَهُ مِ ْ
قَالَ لَمْ َأكُنْ لَِأسْ ُ
ن والصلصال أقلّ
وهكذا أفصح إبليس عما ُيكِنّه من َفهْم خاطئ لطبيعة العناصر؛ فقد توهّم أن الطي َ
مرتبة من النار التي خلقه منها ال .وامتناع إبليس عن السجود ـ إذن ـ امتناع مُعلّل؛ وكأن
إبليس قد َفهِم أن عنصر المخلوقية هو الذي يعطي التمايز؛ وتجاهل أن المر هو إرادة المُعنصِر
الذي يُرتّب المراتب بحكمته ،وليس على هَوى أحدٍ من المخلوقات.
ثم من قال :إن النارَ أفضلُ من الطين؟ ونحن نعلم أنه ل يُقال في شيء إنه أفضل من الخر إل
ي منهما له
إذا استوتْ المصلحة فيهما؛ والنار لها جهة استخدام ،والطين له استخدام مختلف؛ وأ ّ
مهمة تختلف عن مهمة الخر.
ومن توجيه ال في فضائل الخَلْق أن مَنْ يطلي الشياء بالذهب ل يختلف عنده سبحانه عن الذي
يعجن الطين ليصنعَ منه الفخار ،فل يفضلُ أحدهما الخرَ إل بإتقان مهمته.
وهكذا أفصح إبليس أن الذي زَيّن له عدم المتثال لمر السجود هو قناعته بأن هناك عنصرا
افضل من عنصر.
ويأتي المر بالعقاب من الحق سبحانه؛ فيقول تعالى { :قَالَ فَاخْرُجْ مِ ْنهَا} ...
()1820 /
وهكذا صدر المر بطرْدِ إبليس من حضرة ال بالمل العلى؛ وصدر العقاب بأنه مطرود من كل
خَيْر ،وَأصْل المسألة أنها الرّجْم بالحجارة.
وقد حدث ذلك لردّه أمر ال سبحانه ،واستكباره ،ولقناعته أن النار التي خُلِق منها أفضلُ من
الطين الذي خُلِق منه آدم ،ولم يلتفت إلى أن لكل مخلوق مُهمة ،وكل كائن يؤدي ُمهِمته هو مُساوٍ
للخر.
وقد شاء الحق سبحانه ذلك ليزاول كل كائن السباب التي وُجِد من أجلها؛ فآدم قد خلقه ال ليجعله
خليفة في الرض؛ ذلك أنه سبحانه يباشر المر في السّببيات بواسطة ما خلق.
فالنار ـ على سبيل المثال ـ تتسبّب في إنضاج الطعام؛ لنه سبحانه هو الذي شاء ذلك ،وجعلها
سببا في إنضاج الطعام .ومزاولة الحق سبحانه لشياء كثيرة في المُسبّبات معناه أن المخلوقات
تُؤدّي المهامّ التي أرادها سبحانه لها في الوجود.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمؤمن الحق هو مَنْ يرى في السباب التي في الكون؛ أنها عطاء من ال ،وأن يده َممْدودة له
بتلك السباب.
وبعد أن طرد الحق سبحانه إبليس من حضرته سيُقرر سبحانه الحكم الذي أصدره عليه في قوله:
{ وَإِنّ عَلَ ْيكَ الّلعْنَةَ} ...
()1821 /
وفي هذا القول ما يؤكد أن الجن أيضا يموتون؛ ولهم آجَال مثلنا ،وفي هذا الحكم بالطرد تأكيدٌ
على أنه سبحانه لن يُوفّقه إلى توبة ،ول يعفو عنه في النهاية.
ولكن إبليس يحاول اللتفاف؛ فيأتي ما جاء على لسانه { :قَالَ َربّ فَأَنظِرْنِي} ...
()1822 /
()1823 /
ولحظةَ أنْ يسمعَ إبليسُ ذلك يظن أنه قد أفلتَ من الموت؛ إذ ل َم ْوتَ بعد البعث ،ويتوهم أن
دعوته قد أُجيبت ،وكأنه قد أفلتَ بغروره الذي ظَنّ به أن يتسع له الوقت ليأخذ الثأر من بني آدم؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فعدم سجوده لدم هو الذي وضعه في هذا الموقف العصيب.
ولو كان إبليس يملك ذرة من وَعْي َلعِلم أن الستكبار والتوهم بأن عنصر النار افضل من الطين
هما السبب وراء ما حاق به من الطرد.
ولكن تأتي من بعد ذلك مباشرة الية التي تتضمن عدم إفلته من الموت؛ فيقول سبحانه { :إِلَىا
َيوْمِ ا ْل َو ْقتِ} ...
()1824 /
أي :أن إبليس سيذوق الموت أيضا؛ لن كل المخلوقات ستذوق الموت من قبل أن تقوم القيامة،
ت َومَن فِي الَ ْرضِ ِإلّ مَن شَآءَ
سمَاوَا ِ
صعِقَ مَن فِي ال ّ
مصداقا لقوله الحق {:وَ ُنفِخَ فِي الصّورِ َف َ
اللّهُ[} ...الزمر]68 :
وكذلك قولهُ {:كلّ مَنْ عَلَ ْيهَا فَانٍ }[الرحمن]26 :
وهكذا لم يُفلتْ إبليس من الموت.
ولقائل أنْ يسألَ :كيف كلّمه ال؟
ونقول :لم يُكلّمه ال تشريفا أو تكريما؛ بل غلّظ له العقاب ،كما أن للحق سبحانه ملئكة يمكنهم أن
يُبلّغوا ما شاء لمَنْ شاء.
غوَيْتَنِي لُزَيّنَنّ} ...
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :قَالَ َربّ ِبمَآ أَ ْ
()1825 /
ج َمعِينَ ()39
غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
ض وَلَأُ ْ
غوَيْتَنِي لَأُزَيّنَنّ َلهُمْ فِي الْأَ ْر ِ
قَالَ َربّ ِبمَا أَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويتابع إبليس { :لُزَيّنَنّ َلهُمْ فِي الَ ْرضِ[ } ...الحجر]39 :
وفي هذا إيضاح أن ُكلّ وسوسة للشيطان تقتصر فقط على الحياة المترفة .وفي الشياء التي تُدمّر
العافية ،كمَنْ يشرب الخمر ،أو يتناول المخدرات ،أو يتجه إلى كل ما يُغضب ال بالنحراف.
ل يكفيه الضرورات؛ فهو يَأْمن على نفسه من النحراف .ونقول أيضا
خٍولذلك نجد أن مَنْ يحيا بد ْ
لمَنْ يحاولون أن يضبطوا موازينهم المالية :إن الستقامة ل تُكلّف؛ ولن تتجه بك إلى النحراف.
وتزيين الشيطان لن يكون في المور الحلل؛ لن كل الضرورات لم يُحرّمها الحق سبحانه؛ بل
يكون التزيين دائما في غير الضرورات ،ولذلك فالستقامة عملية اقتصادية ،تُوفّر على النسان
مشقة التكلفة العالية من ألوان النحراف.
ولذلك نجد المسرفين على أنفسهم يحسدون مَنْ هم على الستقامة ،ويحاولون أَخْذهم إلى طريق
النحراف؛ لن كل منحرف إنما يلوم نفسه متسائلً :لماذا أخيب وحدي؛ ول يخيب معي مثل هذا
المستقيم؟ وتمتلئ نفسه بالحتقار لنفسه.
حمْق رده على ال ،ولكنه ينتبه إلى مكانته ومكانة ربه؛ أيدخل في معركة
وكذلك كان إبليس في ُ
مع ال ،أم مع أبناء آدم الذي خلقه سبحانه كخليفة ليعمر الرض؟
لقد حدّد إبليس موقعه من الصراع ،فقال... {:فَأَنظِرْنِي إِلَىا َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ }[الحجر]36 :
ج َمعِينَ }
غوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
وهذا يعني أن مجالَ معركته مع الخَلْق ل مع الخالق؛ لذلك قال...{ :وَلُ ْ
[الحجر]39 :
وكلمة (أجمعين) تفيد الحاطةَ لكل الفراد ،وهذا فوق قدرته بعد أنْ عرف ُمقَامه من نفسه ومن
ربه ،فقال ما جاء به الحق سبحانه في الية التاليةِ { :إلّ عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ} ...
()1826 /
فهؤلء العباد الذين خلّصتهم لنفسك يا ربّ؛ فلن أقدر عليهم؛ لنك أخذتهم من طريق الغواية؛
لنهم أحسنوا اليمان ،وقد وصلوا إلى مرتبة من الخلص التعبّدي درج ًة يصعب بها على
الشيطان غوايتهم.
ويقول أهل المعرفة والشراق " :أنت تصل بطاعة ال إلى كرامة ال ".
ولو شاء ال أن يكون جميع خَلْقه مهديين ما استطاع أحد أنْ يُضلّهم ،ولكن عِزّة ال عن خَلْقه هي
التي أفسحت المجالَ للغواء ،ولذلك نجد إبليس ُيقِرّ بعجزه عن غواية مَنْ أخلصوا ل العبادة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونجد رد الحق سبحانه على إبليس واضحا ل لَبْس فيه ،ول قبول ِلمَا قد يظنّه إبليس مجاملةً منه
ل ،فيقول سبحانه في الية التالية { :قَالَ هَذَا صِرَاطٌ} ...
()1827 /
وهكذا أوضح الحق سبحانه أن صراطه المستقيم هو الذي يقود العباد إلى الطاعة؛ فليس في المر
تفضّل من إبليس الذي سبق له أنْ حدّد المواقع والتجاهات التي سيأتي منها لغواية البشر ،حيث
قال الحق سبحانه ما جاء على لسان إبليسُ {:ث ّم لتِيَ ّنهُمْ مّن بَيْنِ أَ ْيدِيهِ ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ أَ ْيمَا ِنهِمْ
جدُ َأكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ }[العراف]17 :
شمَآئِِلهِ ْم َولَ تَ ِ
وَعَن َ
في ذلك القول حدّد إبليس جهات الغواية التي يأتي منها وترك " الفَوْق " و " التّحْت " ،لذلك نقول:
إن العبد إذا استحضر دائما عُُلوّ عِزّة الربوبية ،و ُذلّ العبودية؛ فالشيطان ل يدخل له أبدا.
علَ ْيهِمْ} ...
ويواصل الحق سبحانه قوله المبلغ عنه لنا { :إِنّ عِبَادِي لَيْسَ َلكَ َ
()1828 /
إِنّ عِبَادِي لَ ْيسَ َلكَ عَلَ ْيهِمْ سُلْطَانٌ إِلّا مَنِ اتّ َب َعكَ مِنَ ا ْلغَاوِينَ ()42
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سلطانَ إقناع ليجعلنا نفعل ما ينزغ به إلينا.
جهَنّمَ َل َموْعِدُهُمْ} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك ما يُؤكّد أن جزاء الغاوين قَاسٍ أليم { :وَإِنّ َ
()1829 /
ج َمعِينَ ()43
جهَنّمَ َل َموْعِدُهُمْ َأ ْ
وَإِنّ َ
ولن المصير لهؤلء هو جهنم؛ فعلى العبد الذكيّ أن يستحضرَ هذا الجزاء وقتَ الختيار للفعل؛
كي ل يرتكب حماقةَ الفعل الذي يُزيّنه له الشيطان ،أو ُتلِح عليه به نفسه .ولو أن المُسرِف على
نفسه استحضر العقوبة لحظةَ ارتكاب المعصية لَماَ أقدم عليها ،ولكن المُسْرف على نفسه ل يقرِن
المعصية بالعقوبة؛ لنه يغفل النتائج عن المقدمات.
ولذلك أقول دائماَ :هبْ أن إنسانا قد استولتْ عليه شراسة الغريزة الجنسية ،وعرف عنه الناس
ذلك ،وأعدّوا له مَا يشاء من رغبات ،وأحضروا له أجملَ النساء؛ وسهّلوا له المكان المناسب
للمعصية بما فيه من طعام وشراب.
وقالوا :هذا كله ذلك ،شَرْط أن تعرف أيضا ماذا ينتظرك .وأضاءوا له من بعد ذلك قَبْوا في
المنزل؛ به فرن مشتعل .ويقولون له :بعد أنْ َتفْرُغ من لَذّتِك ستدخل في هذا الفرن المشتعل .ماذا
سيصنع هذا النسان؟
لبُدّ أنه سيرفض القدام على المعصية التي تقودهم إلى الجحيم.
وهكذا نعلم أن مَنْ يرتكب المعاصي إنما يستبطِئ العقوبة ،والذكيّ حقا هو مَنْ يُصدّق حديث النبي
صلى ال عليه وسلم الذي يقول فيه " الموت القيامة ،فمن مات فقد قامت قيامته " .ول أحدَ يعلم
متى يموت.
ويُبيّن الحق سبحانه من بعد ذلك مراتبَ الجحيم ،فيقولَ { :لهَا سَ ْب َعةُ أَ ْبوَابٍ ِل ُكلّ بَابٍ} ...
()1830 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن يلعبون الميسر يكونون معا.
سيكونون معا؛ ومَ ْ
طتْ بينهم في الدنيا معصيةٌ ما؛ وجمعهم في الدنيا
ولكُلّ باب من أبواب جهنم جماعة تدخل منه رب َ
وَل ٌء ما ،وتكوّنتْ من بينهم صداقاتٌ في الدنيا ،واشتركوا بالمخالطة؛ ولذلك فعليهم الشتراك في
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ
العقوبة والنكال .وهكذا يتحقق قول الحق سبحانه {:الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف]67 :
سقَر ،ورابع
حطَمة؛ وثالث إلى َ
وفي الجحيم أماكن تَأويهم؛ فقِسْم يذهب إلى اللظى؛ وآخر إلى ال ُ
إلى السّعير ،وخامس إلى الهاوية.
وكل جُزْء له قِسْم مُعيّن به؛ وفي كل قسم دَركَات ،لن الجنة درجات ،والنار دركات تنزل إلى
أسفل.
حسْرة؛ ويعطي المؤمن
ويأتي الحق سبحانه بالمقابل؛ لن ِذكْر المقابل كما نعلم يُعطي الكافر َ
بشارةً بأنه لم يكُنْ من العاصين ،ويقول { :إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي} ...
()1831 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولعل هناك عيونا ومناب َع ل يعلمها إل الحق سبحانه.
ويقول الحق سبحانه { :ا ْدخُلُوهَا} ...
()1832 /
وهنا يدعوهم الحق سبحانه بالدخول إلى الجنة في سلم المن والطمئنان .ونحن نعلم أن سلمَ
الدنيا والطمئنان فيها مُختلِف عن سلم الجنة؛ فسلمُ الدنيا يعكره خوف افتقاد النعمة ،أو أن
يفوت النسانُ تلك النعمة بالموت .ونعلم أن كل نعيم في الدنيا إلى زوال.
أما نعيم الخرة فهو نعيم مقيم.
ويتابع سبحانه ما ينتظر أهل الجنة { :وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ} ...
()1833 /
وهكذا يُخرِج الحق سبحانه من صدورهم أيّ حقد وعداوة .ويرون أخلء الدنيا في المعاصي وهم
ُممْتلئون بال ِغلّ ،بينما هم قد طهّرهم الحق سبحانه من كل ما كان يكرهه في الخرة ،ويحيا كل
منهم مع أزواج مُطهّرة .ويجمعهم الحق بل تنافس ،ول يشعر أيّ منهم بحسد لغيره.
وال ِغلّ كما نعلم هو الحقد الذي يسكُن النفوس ،ونعلم أن البعض من المسلمين قد تختلف وُجهات
نظرهم في الحياة ،ولكنهم على إيمان بال ورسوله صلى ال عليه وسلم.
والمثل أن عليا كرم ال وجهه وأرضاه دخل موقعه الجمل ،وكان في المعسكر المقابل طلحةُ
والزبير رضي ال عنهما؛ وكلهما مُبشّر بالجنة ،وكان لكل جانب دليل يُغلّبه.
" ولحظةَ أنْ قامت المعركة جاء وَجْه علي ـ كرّم ال وجهه ـ في وَجْه الزبير؛ فيقول علي
رضي ال عنه :تذكر قول رسول ال صلى ال عليه وسلم وأنتما تمرّان عليّ ،سلّم النبي وق ْلتَ
أنت :ل يفارق ابنَ أبي طالب زَ ْهوُه ،فنظر إليك رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال لك " :إنك
تقاتل عليا وأنتَ ظالم له " .فرمى الزبير بالسلح ،وانتهى من الحرب.
ودخل طلحة بن عبيد ال على عليّ ـ كرم ال وجهه ـ؛ فقال عليّ رضوان ال عليه :يجعل لي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال ولبيك في هذه الية نصيبا " فقال أحد الجالسين :إن ال أعدل من أنْ يجمعَ بينك وبين طلحة
في الجنة .فقال عليّ :وفيما نزل إذنْ قوله الحق:
غلّ } [الحجر.]47 :
{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مّنْ ِ
حقْدية في النفوس يكون عميقا ،وأن خَلْعها في
وكلمة " نزعنا " تدل على أن تغلغل العمليات ال ِ
اليوم الخر يكون خَلْعا من الجذور ،وينظر المؤمن إلى المؤمن مثله؛ والذي عاداه في الدنيا
نظرتُه إلى مُحسِن له؛ لنه بالعداوة والمنافسة جعله يخاف أن يقع عَيْب منه.
ذلك أن المؤمن في الخرة يذكر ُمعْطيات الشياء ،ويجعلهم الحق سبحانه إخوانا؛ فَ ُربّ أخٍ لك لم
تَلِدْه أمّك ،والحق سبحانه هو القائل في موقع آخر {:وَا ْذكُرُواْ ِن ْع َمتَ اللّهِ عَلَ ْيكُمْ إِذْ كُنْ ُتمْ أَعْدَآءً فَأَّلفَ
حفْ َرةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَ َذكُمْ مّ ْنهَا }[آل عمران:
شفَا ُ
علَىا َ
خوَانا َوكُنْتُمْ َ
بَيْنَ قُلُو ِبكُمْ فََأصْبَحْ ُتمْ بِ ِن ْعمَتِهِ إِ ْ
.]103
وقد يكون لك أخ ل تكرهه ول تحقد عليه؛ ولكنك ل تُجالسه ول تُسامره؛ لن الخوة أنواع .وقد
تكون أخوة طيبة ممتلئة بالحترام لكن أيا منكما ل يسعى إلى الخر ،ويجمعكم الحق سبحانه في
الخرة على سُرُر متقابلين.
وسأل سائل :وماذا لو كانت منزلة أحدهما في الجنة أعلى من منزلة الخر؟ ونقول :إن فَضل
الحق المطلق يرفع منزلة الَدْنى إلى منزلة العلى ،وهما يتزاوران.
وهكذا يختلف حال الخرة عن حال الدنيا ،فالنسان في الدنيا يعيش ما قال عنه الحق سبحانه{:
لقِيهِ }[النشقاق.]6 :
ياأَ ّيهَا الِنسَانُ إِ ّنكَ كَادِحٌ إِلَىا رَ ّبكَ كَدْحا َفمُ َ
سهُمْ
ولكن الحال في الخرة يختلف ،وينطبق عليه قول الحق سبحانه في الية التالية { :لَ َي َم ّ
فِيهَا.} ...
()1834 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْل ُمفْلِحُونَ }[البقرة.]5-4 :
وشاء الحق سبحانه أن يأتي بلفظ ال ُمفْلِح كصفة للمؤمن في الجنة ،لن المؤمن قد حرثَ الدنيا
صبَ قامته ،ونعلم أن َنصْب القَامَة يدلّ
بالعمل الصالح وبذل جهده ليقي َم منهج ال في الرض ،ون َ
ن يعمل قد أصابه التعب ،وذلك في الحياة الدنيا.
على أن مَ ْ
أما في الجنة ،فيقول الحق:
ب َومَا هُمْ مّ ْنهَا ِب ُمخْرَجِينَ } [الحجر.]48 :
سهُمْ فِيهَا َنصَ ٌ
{ لَ َيمَ ّ
أي :ل يصيبهم فيها تعب ،ول يُخْرَجون من الجنة ،ذلك أنهم قد نَالُوا فيها الخلود.
وهكذا تكلّم سبحانه عن الغَاوين ،وقد كانوا أخلّء في الدنيا يمرحُون فيها بالمعاصي؛ وهم مَنْ
ينتظرهم عقابُ الجحيم .وتكلّم عن العباد المُخلصين الذين سيدخلون الجنة؛ ومنهم مَنِ اختلفتْ
ُرؤَاه في الدنيا ،ولم يربط بينهم تآلفٌ أو محبّة؛ لكنهم يدخلون الجنة ،وتتصافَى قلوبهم من أيّ
خلف قد سبق في الدنيا.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :نَبّىءْ عِبَادِي.} ...
()1835 /
والخطاب هنا لرسول ال صلى ال عليه وسلم .والنباء هو الخبار بأمر له خطورته وعظمته؛
ول يقال (نبيء) في خبر بسيط .وسبق أن قال الحق سبحانه عن هذا النبأ {:عَمّ يَ َتسَآءَلُونَ * عَنِ
النّبَإِ ا ْل َعظِيمِ }[النبأ.]2-1 :
عظِيمٌ * أَنتُمْ عَ ْنهُ ُمعْ ِرضُونَ }[ص.]68-67 :
وقال سبحانه أيضا عن النبأُ {:قلْ ُهوَ نَبَأٌ َ
ونفهم من القول الكريم أنه الخبار بنبأ الخرة ما سوف يحدثُ فيها ،وهنا يأتي سبحانه بخبر
غفْرانه ورحمته الذي يختصّ به عباده المخلصين المُتقِين الذين يدخلون الجنة ،ويتمتّعون بخيْراتها
ُ
خالدين فيها.
ولقائل أنْ يسأل :أليستْ المغفرة تقتضي ذَنْبا؟
ونقول :إن الحق سبحانه خلقنا ويعلم أن للنفس هواجسَ؛ ول يمكن أنْ تسلمَ النفس من بعض
الخطاء والذنوب والوسوسة؛ بدليل أنه سبحانه قد حَرّم الكثير من الفعال على المسلم؛ حمايةً
للفرد وحمايةً للمجتمع أيضا ،ليعيش المجتمع في الستقرار المن.
فقد حرّم الحق سبحانه على المسلم السرقة والزّنَا وشُرْب الخمر ،وغيرها من المُوبِقات والخطايا،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والهواجس التي تقوده إلى الفساد في الرض ،وما دام قد حرّم كل ذلك فهذا يعني أنها سوف
تقع ،ونزل منهجه سبحانه مُحرّما ومُجَرّما لمن يفعل ذلك ،كما يُلزم كل المؤمنين به بضرورة
تجنّب هذه الخطايا.
وهنا يُوضّح سبحانه أن مَنْ يغفل من المؤمنين ويرتكب معصية ثم يتوب عنها ،عليه ألّ يُؤرّق
نفسه بتلك الغفلت؛ فسبحانه رءوفٌ رحيم.
شعْرا أو
ونحن حين نقرأ العربية التي قد شرّف الُ أهلَها بنزول القرآن بها ،نجد أقسامَ الكلم إما ِ
نَثْرا ،والشعر له وَزْن وقافية ،وله َنغَم وموسيقى ،أما النثر فليس له تلك الصّفات ،بل قد يكون
مَسْجوعا أو غَيْرَ مسجوع.
وإنْ تكلمتَ بكلم نثريّ وجِ ْئتَ في وسطه ببيت من الشعر ،فالذي يسمعك يُمكِنه أن يلحظ هذا
الفارقَ بين الشعر والنثر .ولكن القرآن كلمُ ربّ قادر؛ لذلك أنت تجد هذه الية التي نحن بصدد
خواطرنا عنها وتقرؤها وكأنها بَ ْيتٌ من الشعر فهي موزونة مُقفّاة:
" نَبّيء عِبَادِي أَنّي أنَا الغفورُ الرّحيمُ "
ووزنها من َبحْر المُجْتث ولكنها تأتي وَسْط آيات من قبلها ومن بعدها فل تشعر بالفارق ،ول
تشعر أنك انتقلتَ من نثرٍ إلى شعٍر ،ومن شعر إلى نثر؛ لن تضامن المعاني مع جمال السلوب
يعطينا جلل التأثير المعجز ،وتلك من أسرار عظمة القرآن.
عذَابِي.} ...
ثم يقول الحق سبحانه فيما يخص الكافرين أهل الغواية { :وَأَنّ َ
()1836 /
وهكذا يكتمل النبأ بالمغفرة ِلمَن آمنوا؛ والعذاب ِلمَنْ كفروا ،وكانوا من أهل الغواية .ونلحظ أنه
سبحانه لم يُشدّد في تأكيد العذاب ،ذلك أن رحمته سبقتْ غضبه ،مصداقا لقوله صلى ال عليه
وسلم " :إن ال تعالى خلق الرحمة يوم خلقها مائةَ رحمة ،فأمسك عنده تسعا وتسعين رحمة،
وأرسل في خَلقْه كلّهم رحم ًة واحدةً ،فلو يعلم الكافر بكل الذي عند ال من الرحمة لم ييئس من
الجنة؛ ولو يعلم المسلم بكل الذي عند ال من العذاب؛ لم يأمن من النار ".
ونلحظ أن اليتين السابقتين يشرحهما َقوْل الحق سبحانه {:وَإِنّ رَ ّبكَ لَذُو َم ْغفِ َرةٍ لّلنّاسِ عَلَىا ظُ ْل ِمهِمْ
وَإِنّ رَ ّبكَ لَشَدِيدُ ا ْل ِعقَابِ }[الرعد.]6 :
ولذلك نرى أن اليتين قد نبّهتا إلى َمقَامي الرجاء والخوف ،وعلى المؤمن أنْ يجم َع بينهما ،وألّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُؤجّل العمل الصالح وتكاليف اليمان ،وأن يستغفر من المعاصي؛ لن ال سبحانه وتعالى يعامل
الناس بالفضل لمن أخلص النية وأحسن الطوية .لذلك يقول الحديث " :لمّا قضى ال الخَلْق كتب
في كتابه فهو عنده فوق العرش :إن رحمتي سبقت غضبي ".
ثم ينقلنا الحق سبحانه من بعد الحديث عن الصفات الجللية والجمالية في الغفران والرحمة
والنتقام إلي مسألة حسّية واقعية تُوضّح كل تلك الصفات ،فيتكلم عن إبراهيم ـ عليه السلم ـ
ويعطيه ال ُبشْرى ،ثم ينتقل لبن أخيه لوط فيعطيه النجاة ،ويُنزِل بأهله العقاب.
يقول الحق سبحانه { :وَنَبّ ْئهُمْ عَن.} ..
()1837 /
وكلمة (ضيف) تدلّ على المائل لغيره لقِ َرىً أو استئناس ،ويُسمونه " المُنْضوي " لنه ينضوي إلى
غيره لطلب القِرَى ،ولطلب المن .ومن معاني المُنْضوي أنه مالَ ناحية الضّوْء.
وكان الكرماء من العرب من أهل السماحة؛ ل تقتصر سماحتهم على مَنْ يطرقون بابهم ،ولكنهم
يُعلِنون عن أنفسهم بالنار ليراها مَنْ يسير في الطريق ليهتدي إليهم.
وكلنا قرأنا ما قال حاتم الطائي للعبد الذي يخدمهَ:أ ْوقِد النارَ فإنّ الل ْيلَ لَيْل قُرّ والريحُ يَا غُلمُ ريحُ
صِرّ إنْ جلبت لنَا ضَيْفا فأنت حُر وهكذا نعرف أصلَ كلمة انضوى .أي :تَبِع الضوء.
وكلمة (ضيف) لفظ ُمفْرد يُطلَق على المفرد والمُثنّى والجمع ،إناثا أو ذكورا ،فيُقال :جاءني ضيف
فأكرمته ،ويقال :جاءني ضيف فأكرمتها ،ويقال :جاءني ضيف فأكرمتهما ،وجاءني ضيف
فأكرمتهم ،وجاءني ضيف فأكرمتهُنّ.
وكلّ ذلك لن كلمة " ضيف " قامت مقام المصدر .ولكن هناك من أهل العربية مَنْ يجمعون "
ضيف " على " أضياف "؛ ويجمعون " ضيف " على " ضيوف " ،أو يجمعون " ضيف " على "
ضِيفان ".
جمْع؛ فمعناه أن فردا قد جاء ومعه غيره ،وإذا جاءت
ولننتبه إلى أن الضيفَ إذا أُطلِق على َ
جماعة ،ثم تبع ْتهَا جماعة أخرى نقول :وجاءت ضيف أخرى.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نعلم أنهم ليسوا ضيفا من الية التي تليها؛ التي قال
فيها الحق سبحانه { :إِذْ دَخَلُواْ عَلَ ْيهِ.} ...
()1838 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إِذْ دَخَلُوا عَلَ ْيهِ َفقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنّا مِ ْنكُ ْم وَجِلُونَ ()52
ونلحظ أن كلمة (سلما) جاءت هنا بالنّصبْ ،ومعناها نُسلّم سلما ،وتعني سلما متجددا .ولكنه
في آية أخرى يقولِ {:إذْ َدخَلُواْ عَلَيْهِ َفقَالُواْ سَلَما قَالَ سَلَمٌ َقوْمٌ مّنكَرُونَ }[الذاريات.]25 :
ونعلم أن القرآن يأتي بالقصة عَبْر لقطات ُموّزعة بين اليات؛ فإذا جمعتَها رس َمتْ لك ملمح
القصة كاملة.
ولذلك نجد الحق سبحانه هنا ل يذكر أن إبراهيم قد رَدّ سلمهم؛ وأيضا لم يذكر تقديمه للعجل
المَشْويّ لهم؛ لنه ذكر ذلك في موقع آخر من القرآن.
إذن :فمِنْ تلك الية نعلم أن إبراهيم عليه السلم قد ردّ السلم ،وجاء هذا السلم مرفوعا ،فلماذا
جاء السلم في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها منصوبا؟
أي :قالوا هم { :سَلما } [الحجر.]52 :
لمٌ َقوْمٌ مّنكَرُونَ }[الذاريات.]25 :
وكان ل ُبدّ من رَدّ ،وهو ما جاءتْ به الية الثانية {:قَالَ سَ َ
والسلم الذي صدر من الملئكة لبراهيم هو سلم مُتجدّد؛ بينما السلم الذي صدر منه جاء في
صيغة جملة اسمية مُثْبتة؛ ويدلّ على الثبوت.
إذا َردّ إبراهيم عليه السلم أقوى من سلم الملئكة؛ لنه يُوضّح أن أخلق المنهج أنْ ير ّد المؤمنُ
ن منها؛ ل أنْ يردّها فقط ،فجاء َردّه يحمل سلما استمراريا ،بينما سلمُهم كان سلما
التحيةَ بأحس َ
تجدديا ،والفرق بين سلم إبراهيم عليه السلم وسلم الملئكة :أن سلم الملئكة يتحدد بمقتضى
الحال ،أما سلم إبراهيم فهو منهج لدعوته ودعوة الرسل.
ويأتي من بعد ذلك كلم إبراهيم عليه السلم:
{ قَالَ إِنّا مِ ْنكُمْ وَجِلُونَ } [الحجر.]52 :
جسَ مِ ْنهُمْ خِيفَةً }[هود.]70 :
وجاء في آية أخرى أنه {:وََأوْ َ
وفي موقع آخر من القرآن يقولَ {:قوْمٌ مّنكَرُونَ }[الذاريات.]25 :
فلماذا أوجسَ منهم خِيفةَ؟ ولماذا قال لهم :إنهم قومْ مُ ْنكَرون؟ ولماذا قال:
{ إِنّا مِ ْنكُ ْم وَجِلُونَ } [الحجر.]52:
لقد جاءوا له دون أن يتعرّف عليهم ،وقدّم لهم الطعام فرأى أيديهم ل تصل إليه ول تقربه كما قال
خفْ إِنّا أُ ْرسِلْنَا إِلَىا
صلُ إِلَيْهِ َنكِرَ ُه ْم وََأوْجَسَ مِ ْنهُمْ خِيفَةً قَالُو ْا لَ تَ َ
سبحانه {:فََلمّا رَأَى أَيْدِ َيهُ ْم لَ َت ِ
َقوْمِ لُوطٍ }[هود.]70 :
ذلك أن إبراهيم عليه السلم يعلم أنه إذا قَدِم ضَيْفا وقُدّم إليه الطعام ،ورفض أن يأكل فعلَى المرء
ل يتوقع منه الخير؛ وأن ينتظر المكاره.
أّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحين عَلِم أنهم قد أرسلوا إلى قوم لوط؛ وطمأنوه بالخبر الطيب الذي أرسلهم به ال اطمأنتْ
جلْ.} ..
نفسه؛ وفي ذلك تأتي الية القادمة { :قَالُواْ لَ َتوْ َ
()1839 /
هكذا طمأنت الملئكة إبراهيم عليه السلم ،و َهدَّأتْ من َروْعه ،وأزالتْ مخاوفه ،وقد حملوا له
البشارة بأن الحق سبحانه سيرزقه بغلم سيصير إلي مرتبة أن يكون كثير العِلْم.
ويستقبل إبراهيم عليه السلم الخبر بطريقة تحمل من الندهاش الكثيرَ ،فيقول ما ذكره الحق
سبحانه { :قَالَ أَ َبشّرْ ُتمُونِي.} ..
()1840 /
قَالَ أَبَشّرْ ُتمُونِي عَلَى أَنْ مَسّ ِنيَ ا ْلكِبَرُ فَ ِبمَ تُبَشّرُونَ ()54
ونعلم أن الحق -سبحانه وتعالى -يخلق الخَلْق على أنحاء مُتعدّدة؛ حتى يعلمَ المخلوق أن خَلْقه
ل ضرورة أن يكونَ بطريقة محددة؛ بل طلقة القدرة أن يأتي المخلوق كما يشاء ال.
والشائع أن يُولَد الولد من أبٍ وأم؛ ذكر وأنثى .أو بدون المرين معا مثل آدم عليه السلم ،ثُمّ
خلق حواء من ذكر فقط ،وكما خلق عيسى من أم فقط ،وخلق محمدا صلى ال عليه وسلم من
ذك ٍر وأنثى.
وفي الية التي نحن بصددها نجد إبراهيم عليه السلم يتعجب كيف يُبشّرونه بغلم ،وهو على هذه
الدرجة من الكِبَر ،في قوله تعالى:
{ عَلَىا أَن مّسّ ِنيَ ا ْلكِبَرُ } [الحجر.]54 :
يعني أن " على " هنا جاءت بمعنى " مع " أي :أنه يعيش مع الكِبَر؛ ويرى أنه من الصعب أنْ
يجتمعَ الكِبَر مع القدرة على الِنجاب.
وأقول دائما :إن كلمة (على) لها عطاءاتٌ واسعة في القرآن الكريم ،فهي تترك مرة ويأتي الحق
خلِ }[طه.]71 :
جذُوعِ النّ ْ
لصَلّبَ ّنكُمْ فِي ُ
سبحانه بغيرها لتؤدي معنًى مُعينا؛ مثل قوله تعالىَ {:و ُ
والصّلْب إنما يكون على جذوع النخل؛ ولكن الحق سبحانه جاء بـ (في) بدلً من (على) ليدلّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على أن الصّ ْلبَ سيكون عنيفا ،بحيث تتدخل اليدي والرجُل ال َمصْلوبة في جذوع النخل.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ أَ َبشّرْ ُتمُونِي عَلَىا أَن مّسّ ِنيَ ا ْلكِبَرُ } [الحجر.]54 :
أي :أَتُبشّرونني بالغلم العليم مع أنّي كبير في العمر؛ والمفهوم أن الكِبَر والتقدّم في العمر ل
يتأتّى معه القدرة على النجاب.
وهكذا تأتي " على " بمعنى " مع " .أي :كيف تُبشّرونني بالغلم مع أنّي كبير في العمر ،وقد قال
حمْدُ للّهِ الّذِي
قولته هذه مُؤمِنا بقدرة ال؛ فإبراهيم أيضا هو الذي أورد الحق سبحانه َقوْلً له {:ا ْل َ
سمِيعُ الدّعَآءِ }[إبراهيم.]39 :
سحَاقَ إِنّ رَبّي لَ َ
سمَاعِيلَ وَإِ ْ
وَ َهبَ لِي عَلَى ا ْلكِبَرِ ِإ ْ
وكأن الكِبَر ل يتناسب مع النجاب ،ويأتي رَدّ الملئكة على إبراهيم خليل الرحمن { :قَالُواْ
بَشّرْنَاكَ }.
()1841 /
وكأن الملئكة تقول له :لسنا نحن الذين صنعنا ذلك ،ولكِنّا نُبلغك ببشارة شاءها ال لك؛ فل تكُنْ
من اليائسين.
ونفس القصة تكررتْ من بعد إبراهيم مع ذكريا -عليه السلم -في إنجابه ليحيى ،حين دعا
جعَلْهُ َربّ َرضِيّا }[مريم.]6 :
زكريا رَبّه أن يهبَه غلما {:يَرِثُنِي وَيَ ِرثُ مِنْ آلِ َيعْقُوبَ وَا ْ
ل ٌم َوكَا َنتِ امْرَأَتِي عَاقِرا
وجاءته البشارة بيحيى ،وقد قال زكريا لربه {:قَالَ َربّ أَنّىا َيكُونُ لِي غُ َ
َوقَدْ بََل ْغتُ مِنَ ا ْلكِبَرِ عِتِيّا }[مريم.]8 :
وإن شئت أن تعرفَ سِرّ عطاءات السلوب القرآني فاقرأ َقوْل الحق سبحانه ردا على زكريا{:
فَاسْتَجَبْنَا لَ ُه َووَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىا وََأصْلَحْنَا َلهُ َزوْجَهُ }[النبياء.]90 :
ولم َي ُقلِ الحق سبحانه أصلحناكم أنتم الثنين؛ وفي ذلك إشارة إلي أن العطبَ كان في الزوجة؛ وقد
أثبت العلم من بعد ذلك أن قدرة الرجل على الخصاب ل يُحدّدها عمر ،ولكن قدرةَ المرأة على
أن تحمل مُحدّدة بعمر مُعين.
ثم إذا تأملنا قوله الحقَ {:ووَهَبْنَا }[النبياء.]90 :
نجد أنها تُثبِت طلقةَ قدرة ال سبحانه فيما وَهَب؛ وفي إصلح مَا فسد؛ فسبحانه ل ُيعْوزِه شيء؛
جلّ شأنه على الوَهْب؛ وقادر على أن يُهيئَ السباب ليتحققَ ما يَهبه.
قادر َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا تقول الملئكة لبراهيم:
حقّ } [الحجر ]55 :أي :أنهم ليسوا المسئولين عن البشارة ،بل عن صدق البشارة؛
{ َبشّرْنَاكَ بِالْ َ
ولذلك قالوا له من بعد ذلك:
{ فَلَ َتكُن مّنَ ا ْلقَانِطِينَ } [الحجر.]55 :
ل َومَن َيقْنَطُ.} ..
ويأتي الحق سبحانه بما رَدّ به إبراهيم عليه السلم { :قَا َ
()1842 /
وهنا يعلن إبراهيم -عليه السلم -أنه لم يقنط من رحمة ربه؛ ولكنه التعجب من طلقة التعجب
من طلقة القدرة التي توحي بالوحدانية القادرة ،ل لذات وقوع الحَدث؛ ولكن لكيفية الوقوع ،ففي
كيفية الوقوع إعجاب فيه تأمل ،ذلك أن إبراهيم -عليه السلم -يعلم عِلْم اليقين طلقة قدرة ال؛
فقد سبق أن قال له {:أَرِنِي كَ ْيفَ ُتحْيِـي ا ْل َموْتَىا[} ..البقرة.]260 :
ولنلحظ أنه لم يسأله " أتحيي الموتى " ،بل كان سؤاله عن الكيفية التي ُيحْيى بها ال ال َموْتى؛
ولذلك لسأله الحق سبحانهَ {:أوَلَمْ ُت ْؤمِن[} ...البقرة.]260 :
طمَئِنّ قَلْبِي }[البقرة.]260 :
وكان َردّ إبراهيم -عليه السلم {:-بَلَىا وَلَـكِن لّيَ ْ
وحدثتْ تجربة عندما أُمر إبراهيم بأن يأخذ أربعة من الطير ثم يقطعهن ويلقي على كل جبل
جزءا ،ثم يدعوهن فيأتينه سعيا ،لذلك فلم يكُنْ إبراهيم قانطا من رحمة ربه ،بل كان متسائلً عن
الكيفية التي يُجرِي ال بها رحمته.
ولم تكن تلك المحادثة بين إبراهيم والملئكة فقط ،بل اشتركت فيه َزوْجه سارة؛ إذ أن الحق
شيْءٌ
عجُو ٌز وَهَـاذَا َبعْلِي شَيْخا إِنّ هَـاذَا لَ َ
سبحانه قد قال في سورة هود {:يَاوَيْلَتَىا أَأَلِ ُد وَأَنَاْ َ
حمِيدٌ مّجِيدٌ }[هود:
حمَةُ اللّ ِه وَبَ َركَاتُهُ عَلَ ْيكُمْ أَ ْهلَ الْبَ ْيتِ إِنّهُ َ
عَجِيبٌ * قَالُواْ أَ َت ْعجَبِينَ مِنْ َأمْرِ اللّهِ رَ ْ
.]73-72
وهكذا نجد أن القرآن يُكمِل بعضُه بعضا؛ وكل َلقْطة تأتي في موقعها؛ وحين نجمع اللقطات تكتمل
لنا القصة.
وهنا في سورة الحجر نجد سؤالً من إبراهيم -عليه السلم -للملئكة التي حملتْ له بُشْرى
النجاب عن المُهمّة الساسية لمجيئهم ،الذي تسبّب في أن يتوجّس منهم خِيفةً؛ فقد نظر إليهم،
ك واحد.
وشعر أنهم قد جاءوا بأمر آخر غير البشارةَ بالغلم؛ لن البشارةَ يكفي فيها مََل ٌ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما هؤلء فهم كثيرون على تلك ال ُمهِمة ،فيقول سبحانه هذا السؤال الذي سأله إبراهيم -عليه
السلم { :-قَالَ َفمَا خَطْ ُبكُمْ.} ...
()1843 /
أي :ما هو المر العظيم الذي جِئْتم من أجله؛ لن الخَطْب هو الحَدث الجَلل الذي ينتاب النسان؟
سمّي خَطْبا لنه يشغل بال الناس جميعا فيتخاطبون به ،وكلما التقتْ جماعة من البشر بجماعة
وُ
أخرى َفهُمْ يتحدثون في هذا المر.
سمّيتْ رغبة الزواج بين رجل وامرأة وَتَقدّمه لهلها طَلبا لِيَدها " خِطْبة "؛ لنه أمر جَللَ
ولذلك ُ
وهَامّ؛ ذلك أن أحدا لو نظر إلى المرأة؛ ورآه واحدٌ من أهلها لَثَار من الغَيْرة؛ ولكن ما أن يدقّ
البابَ طالبا يدَها ،فالمر يختلف؛ لن أهلها يستقبلون مَنْ يتقدّم للزواج الستقبالَ الحسن؛ ويقال" :
جدعَ الحللُ أ ْنفَ الغَيْرة ".
وهنا قال إبراهيم عليه السلم للملئكة :ما خَطْبكم أيها المُرْسلون؟ أي :ليّ أمر جََللٍ أتيتُم؟
ويأتي الجواب من الملئكة في قول الحق سبحانه { :قَالُواْ إِنّآ.} ...
()1844 /
ونعلم أن كلمة " القوم " مأخوذةٌ من القيام ،وهُم القوم الذين يقومون للحداث؛ ويُقصد بهم الرجال،
دون النساء لن النساء ل َي ُقمْنَ للحداث؛ والحق سبحانه هو الذي يُفصّل هذا المر في قوله {:لَ
سخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ عَسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ ِنسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىا أَن َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ }
يَ ْ
[الحجرات.]11 :
فلو أن كلمة " القوم " تُطلَق على النساء؛ لَوصفَ بها الحق سبحانه النساء أيضا؛ وذلك كي نعلم أن
الرجال فقط هم الذين يقومون للحداث؛ ولنعلم أن للمرأة منزلتها في رعاية أسرتها؛ فل تقوم إل
بما يخصّ هذا البيت.
وهنا أخبرتْ الملئكة إبراهيم عليه السلم أنهم مُرْسَلون إلى قوم مُجرمين؛ وهم قوم لوط الذين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أرهقوا لوطا بالتكذيب وبالمعاصي التي أدمنوها.
ولكن الحق سبحانه يستثني آل لوط من جريمة قوم لوط ،فقد كانت أغلبية قوم لوط من الفاسدين،
فيقول سبحانهِ { :إلّ آلَ لُوطٍ.} ..
()1845 /
ج َمعِينَ ()59
إِلّا َآلَ لُوطٍ إِنّا َلمُنَجّو ُهمْ أَ ْ
()1846 /
ونعلم في اللغة أنه إذا توالتْ استثناءات على مُستثنى منه؛ نأخذ المُسْتثنى الول من المُسْتثنى منه،
والمستثنى الثاني نأخذه من المستثنى الول ،والمستثنى الثالث نأخذه من المستثنى الثاني.
والمثل أن يقول لك من تدينه " لك عشرة جنيهات إل أربعة " أي :أنه أقرّ بأن لك ستة جنيهات؛
ولكنك تنظر إليه لعلّه يتذكر كم سدّد إليك؟ فيقول " :لك إل درهما " وهكذا يكون قد أقرّ بسبعة
دراهم كَدَيْن؛ بعد أنْ كان قد أقرّ بستة؛ ذلك أنه قال " :لك عشرة جنيهات إل أربعة " ،ثم أضاف:
" إل درهما ".
سدّدها لك جنيها آخر؛ وبذلك يكون ما
وهكذا يكون قد استثنى من الربعة الجنيهات التي قال إنه َ
سدده من دين ثلث جنيهات ،وبقي عنده سبعة جنيهات.
والحق سبحانه هنا يستثني امرأة لوط من الذين استثناهم من قبل للنجاة ،وهم آل لوط ،والملئكة
التي تقوم ذلك لم تُقدّر المر بإهلك امرأة لوط؛ بل هي تُنفّذ التقدير العلى؛ فسبحانه هو مَنْ قدّر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأمر:
{ إِ ّنهَا َلمِنَ ا ْلغَابِرِينَ } [الحجر.]60 :
ن تقررتْ نجاتهم
والغابر هنا بمعنى داخل؛ أو هو من أسماء الضداد؛ وهي لن تنجو؛ لن مَ ْ
سيتركون القرية؛ وسيهلك مَنْ يبقى فيها ،وامرأة لُوط من الباقين في العذاب والستثناء من النفي
إثبات؛ ومن الثبات نفي ،فاستثناء امرأة لوط من الناجين يلحقها بالهالكين.
وتنتقل السورة من إبراهيم إلى لوط -عليه السلم -فيقول الحق سبحانه { :فََلمّا جَآءَ آلَ
لُوطٍ.} ..
()1847 /
فََلمّا جَاءَ َآلَ لُوطٍ ا ْلمُرْسَلُونَ ( )61قَالَ إِ ّنكُمْ َقوْمٌ مُ ْنكَرُونَ ()62
وهكذا قال لوط عليه السلم للملئكة عندما وصلوا إليه ،فقد كان مشهدهم غايةً في الجمال؛ ويعلم
أن قومه ُيعَانُون من الغلمانية ،ويحترفون الفاحشة الشاذة؛ لذلك نجد الحق سبحانه يقول عن
معاملته للملئكة في موقع آخر من القرآن {:سِيءَ ِبهِ ْم َوضَاقَ ِبهِمْ ذَرْعا }[هود.]77 :
ذلك أن لوطا عَلِم أن قومه سيطمعون في هؤلء المُرْد ،لذلك ما أنْ جاءوه حتى أعلن لهم أنه غَيْر
مرغوب فيهم؛ ولم يرحب بهم ،ذلك أنهم قد دخلوا عليه في صورة شبان تضيء ملمحهم بالحُسْن
الشديد؛ مما قد يُسبّب غواية لقومه.
كما أنهم قد دخلوا عليه ،وليس على ملمحهم أيّ أثر للسفر؛ كما أنهم ليسوا من أهل المنطقة التي
يعيش فيها؛ لذلك أنكرهم.
ويقول سبحانه ما جاء على لسان الملئكة لحظةَ أن طمأنوا لوطا كشفوا له عن مهمتهم { :قَالُواْ َبلْ
جِئْنَاكَ.} ...
()1848 /
وهكذا أعلنوا للوط سبب قدومهم إليه؛ كي يُنزِلوا العقابَ بالقوم الذين أرهقوه ،وكانوا يشكّون في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خذَ عزيز ُمقْتدر ،وفي هذا َتسْرية عنه.
قدرة الحق سبحانه أنْ يأخذهم أَ ْ
حقّ.} ...
ثم يُؤكّدون ذلك بما أورده الحق سبحانه على ألسنتهم { :وَآتَيْنَاكَ بِالْ َ
()1849 /
أي :جِئْنا لك بأمر عذابهم الصادر من الحقّ سبحانه؛ فل مجالَ للشكّ أو المتراء ،ونحن صادقون
فيما نُبلّغك به.
ويقولون له من بعد ذلك { :فََأسْرِ بِأَهِْلكَ.} ...
()1850 /
ل وَاتّبِعْ َأدْبَارَهُ ْم وَلَا يَلْ َت ِفتْ مِ ْنكُمْ َأحَ ٌد وَا ْمضُوا حَ ْيثُ ُت ْؤمَرُونَ ()65
طعٍ مِنَ اللّ ْي ِ
فَأَسْرِ بِأَهِْلكَ ِبقِ ْ
أي :سِرْ أنت وأهلك في جزء من الليل .ومرة ُيقَال " سرى " ،ومرة يُقال " أسرى "؛ ويلتقيان في
المعنى .ولكن " أسرى " تأتي في موقع آخر من القرآن ،وتكون مُتعدّية مثل قول الحق {:سُبْحَانَ
الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً }[السراء.]1 :
وقولهم هنا (أسر بأهلك) هو تعبير مُهذّب عن صُحْبة النساء والبناء .ونجد في ريفنا المصري
ن ل يتكلم أبدا في حديثه عن المرأة أو البنات؛ فيقول الواحد منهم " قال الولد كذا " ،فكأن اسم
مَ ْ
المرأة مبنيّ على السّتْر دائما ،وكذلك نجد كثيرا من الحكام تكون المرأة مَطْمورة في حكم الرجل
إل في المر المُتعلّق بها.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ فََأسْرِ بِأَهِْلكَ ِبقِطْعٍ مّنَ الّيلِ[ } ...الحجر.]65 :
وكلمة " قطع " هي اسم جمع ،والمقصود هو أن يخرج لوطٌ بأهله في جُزْء من الليل ،أو من آخر
الليل ،فهذا هو منهج النجاء الذي أخبر به الملئكة لوطا ،ليتبعه هو وأهله والمؤمنون به،
وأوصوه أن يتبعَ أدبار قومه بقولهم:
{ وَاتّبِعْ أَدْبَارَ ُهمْ[ } ...الحجر.]65 :
حثّ لهم على السّرعة.
أي :أن يكون في المُؤخّرة ،وفي ذلك َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكان من طبيعة العرب أنهم إذا كانوا في مكان ويرحلون منه؛ فكل منهم يحمل رَحْلَه على ناقته؛
وأهله فيها ـ فوق الناقة ـ ويبتدئون السير ،ويتخلف رئيس القوم ،واسمه " مُعقّب " كي يرقُب إنْ
كان أحد من القوم قد تخلّف أو تعثّر أو ترك شيئا من متاعه ،ويُسمّون هذا الشخص " مُعقّب ".
وهنا تأمر الملئكة لوطا أن يكون مُعقّبا لهله والمؤمنين به؛ لِيحثّهم على السير بسرعة؛ ثم لِينفذ
أمرا آخرَ يأمره به الحق سبحانه:
{ َولَ يَلْ َتفِتْ مِنكُمْ َأحَدٌ[ } ...الحجر.]65 :
وتنفيذ المر بعدم اللتفات يقتضي أن يكون لوط في مُؤخّرة القوم؛ ذلك أن اللتفاتَ يأخذ َوقْتا،
ويُقلّل من سرعة مَنْ يلتفت؛ كما أن اللتفاتَ إلى موقع انتمائهم من الرض قد يُثير الحنين إلى
مواقع التّذكار وأرض المَنْشأ ،وكل ذلك قد يُعطّل حركة القوم جميعهم؛ لذلك جاء المر اللهي:
{ وَا ْمضُواْ حَ ْيثُ ُت ْؤمَرُونَ } [الحجر.]65 :
أو :أن الحق سبحانه يريد ألّ يلتفت أحدٌ خَلْفه حتى ل يشهدَ العذاب ،أو مقدمة العذاب الذي يقع
على القوم ،فتأخذه بهم شفقة.
خ ْذكُمْ ِب ِهمَا رَ ْأفَةٌ فِي
ونحن نعلم قول الحق سبحانه في إقامة أيّ حدّ من الحدود التي أنزلها {:وَلَ تَأْ ُ
دِينِ اللّهِ }[النور.]2 :
فلو أن أحدا قد التفتَ إلى العذاب ،أو مُقدّمة العذاب؛ فقد يحِنّ إليهم ،أو يعطف عليهم رغم أن
عذابهم بسبب ذنب كبير ،فقد ارتكبوا جريمة كبيرة؛ ونعلم أن بشاعة الجريمة تبهت؛ وقد يبقى في
النفس عِظَم أَلَمِ العقوبة لحظة توقيعِها على المُجرم.
ن يوجد ،ولو التفزيع الذي هو مقدمة
أو :أن الحق سبحانه يريد أن يعجل بالقوم الناجين قبل أ ْ
تعذيب القوم الذين كفروا من َهوْل هذا العذاب القادم.
وهكذا كان المر بالسراء بالقوم الذين قرر الحق سبحانه نجاتهم ،والكيفية هي أن يكون الخروج
في جزء من الليل ،وأنْ يتبعَ لوطٌ أدبارهم ،وأل يلتفتَ أحد من الناجين خَلْفه؛ ليمضي هؤلء
الناجون حيث يأمرهم الحق سبحانه .وقيل :إن الجهة هي الشام.
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانهَ { :و َقضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَِلكَ.} ...
()1851 /
َو َقضَيْنَا إِلَ ْيهِ ذَِلكَ الَْأمْرَ أَنّ دَابِرَ َهؤُلَاءِ َمقْطُوعٌ ُمصْبِحِينَ ()66
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أوحينا .وسبحانه تكلّم من قَبْل عن النجاء للمؤمنين من آل لوط؛ ثم تكلّم عن عذاب الكافرين
المنحرفين؛ والمر الذي قضى به الحق سبحانه أنْ يُبيدَ هؤلء المنحرفين .وقَطْع الدّابر هو الخَلْع
من الجذور.
طعَ دَابِرُ ا ْلقَوْمِ الّذِينَ ظََلمُواْ }[النعام.]45 :
ولذلك يقول القرآن {:فَقُ ِ
وهكذا نفهم أن َقطْع الدابر هو أنْ يأخذَهم الحق سبحانه أَخْذ عزيز مقتدر فل يُبقِى منهم أحدا.
وموعد ذلك هو الصباح ،فبعد أنْ خرج لوط ومَنْ معه بجزء من الليل وتمّتْ نجاتهم يأتي المر
بإهلك المنحرفين في الصباح.
والَخْذ بالصّبح هو مبدأ من مبادئ الحروب؛ ويُقال :إن أغلب الحروب تبدأ عند أول خيط من
خيوط الشمس.
والحق سبحانه يقول {:فَِإذَا نَ َزلَ بِسَاحَ ِتهِمْ فَسَآ َء صَبَاحُ ا ْلمُنْذَرِينَ }[الصافات.]177 :
وهكذا شاء الحق سبحانه أنْ يأخذَهم وهُمْ في استرخاء؛ ول يملكون قُدْرة على المقاومة.
وقَوْل الحق سبحانه هنا:
{ أَنّ دَابِرَ َهؤُلءِ َمقْطُوعٌ ّمصْ ِبحِينَ } [الحجر.]66 :
خذَ ْتهُمُ الصّ ْيحَةُ مُشْ ِرقِينَ }[الحجر.]73 :
ل يتناقض مع قوله عنهم في موقع آخر {:فَأَ َ
فكأن بَدْء الصيحة كان صُبْحا ،ونهايتهم كانت في الشروق .وهكذا رسم الحق سبحانه الصورة
واضحة أمام لُوطٍ من قبل أنْ يبدأ التنفيذ؛ فهكذا أخبرتْ الملئكة لوطا بما سوف يجري.
ويعود الحق سبحانه بعد ذلك إلى قوم لوط الذين ل يعرفون ما سوف يحدث لهم ،فيقول سبحانه{ :
وَجَآءَ َأ ْهلُ ا ْلمَدِينَةِ.} ...
()1852 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهم مَنْ ينطبق عليهم قوله الحق {:كَانُواْ لَ يَتَنَا َهوْنَ عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }
[المائدة.]79 :
وكان لوط يعلم هذا المر فيهم ،ويعلم ما سوف يَحيق بهم؛ وأراد أنْ يجعل بينهم وبين ِفعْل
الفاحشة مع الملئكة سَدّا؛ فهم في ضيافته وفي جواره ،والتقاليد تقتضي أنْ يأخذَ الضيف كرامة
المُضيف ،وأيّ إهانة تلحق بالضيف هي إهانة للمُضيف ،فيقول الحق سبحانه ما جاء على لسان
لوط { :قَالَ إِنّ َهؤُلءِ.} ..
()1853 /
والفضيحة هي هَتْك المساتير التي يستحيي منها النسان ،فالنسان قد يفعل أشياءَ يستحي أنْ
يعملها عنه غيره .والحق ـ سبحانه وتعالى ـ حين يطلب منا أن نتخلّق بخُلُقه؛ جعل من ُكلّ
صفات الجمال والجلل نصيبا يعطيه لخَلْقه.
ولكن هناك بعضا من صفاته يذكرها ول يأتي بمقابل لها؛ فهو قد قال مثلً " الضّا ّر " ومقابلها "
النافع " وقال " الباسط " ومقابلها " القابض " وقال " ال ُمعِ ّز " ومقابلها " المُ ِذلّ " .ومن أسمائه "
الستار " ولم يَ ْأتِ بالمقابل وهو " الفاضح "؛ لماذا لم يَ ْأتِ بهذا المقابل؟
لنه سبحانه شاء أنْ يحميَ الكون؛ لكي يستمتع ُكلّ فَرْد بحسنات المُسيء ،لنك لو علمتَ سيئاته
قد تبصُق عليه؛ لذلك شاء الحق سبحانه أن يستر المُسيء ،ويُظهِر حسناته فقط.
وقد قال لوط لقومه بعد أن نهاهم عن القتراب الشائن من ضيوفه { :وَاتّقُواْ اللّهَ.} ...
()1854 /
أي :ضَعوا بينكم وبين عقاب الحق لكم وقاية؛ ول تكونوا سببا في إحساسي بالخِزي والعار أمام
ضيوفي بسبب ما تَرغبُون فيه من الفاحشة.
والتقاء من الوقاية ،والوقاية هي الحتراس والبعد من الشر ،لذلك يقول الحق سبحانه {:ياأَ ّيهَا
حجَا َرةُ }[التحريم.]6 :
س وَالْ ِ
سكُ ْم وَأَهْلِيكُمْ نَارا َوقُودُهَا النّا ُ
الّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :اجعلوا بينكم وبين النار وقاية ،واحترسوا من أن تقعوا فيها ،بالبتعاد عن المحظورات ،فإن
ِفعْل المحذور طريق إلى النار ،والبتعاد عنه وقاية منها ،ومن عجيب أمر هذه التقوى أنك تجد
الحق سبحانه وتعالى يقول في القرآن الكريم ـ والقرآن كله كلم ال.
يقول {:وَا ّتقُواْ اللّهَ }[البقرة.]194 :
ويقول {:وَاتّقُواْ النّارَ }[آل عمران.]131 :
كيف نأخذ سلوكا واحدا تجاه الحق سبحانه وتعالى وتجاه النار التي سيعذب فيها الكافرون؟
والمعنى :ل تفعلوا ما يغضب ال حتى ل تُعذّبوا في النار ،فكأنك قد جعلت بينك وبين النار وقاية
ت بالمقدورات ،وابتعدت عن المحذورات ،فقد
بأن تركت المعاصي ،وإن فعلتَ المأمورات ،ورضي َ
اتقيت ال.
ولكنهم لم يستجيبوا له ،بدليل أنهم تَما َدوْا في غِيّهم وقالوا ما أورده الحق سبحانه { :قَالُواْ َأوَ لَمْ
نَ ْن َهكَ.} ...
()1855 /
أي :أَلَمْ نُحذّرك من قَبْل من ضيافة الشبان الذين يتمّيزون بالحُسْن ،ولنك ُق ْمتَ باستضافة هؤلء
ن نفعلَ معهم ما نحب من الفاحشة ،وكانوا يتعرّضون لكل غريب بالسوء.
الشبان؛ فل ُبدّ لنا من أ ْ
وحاول لوط أن ينهاهم قَدْر استطاعته؛ ولكنهم رفضوا أنْ ُيجِير ضيوفه من عدوانهم الفاحش،
وطلبوا منه أن يتركهم وشأنهم ،ليفسدوا في الكون كما يشاءون ،فل تتكلم ول تعترض على شيء
مما نفعل ،وهذه لغة أهل الضلل والفساد.
وحاول لوط عليه السلم أنْ يُثنيهم عن ذلك بأن قال لهم ،ما جاء به الحق سبحانه { :قَالَ َهؤُلءِ
بَنَاتِي.} ...
()1856 /
أي :أنكم إنْ كُنتم مُصرّين على ارتكاب الفاحشة؛ فلماذا ل تتزوجون من بناتي؟ ولقد حاول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
البعضُ أن يقولوا :إنه عرض بناته عليهم ليرتكبوا معهن الفاحشة؛ وحاشا ال أن يصدر مثل هذا
الفعل عن رسول ،بل هو قد عرض عليهم أن يتزوجوا النساء.
ثم إن لوطا كانت له ابنتان اثنتان ،وهو قد قال:
{ َهؤُلءِ بَنَاتِي[ } ..الحجر.]71 :
أي :أنه تحدث عن جمع كثير؛ ذلك أن ابنتيه ل تصلحان إل للزواج من اثنين من هذا الجمع
الكثيف من رجال تلك المدينة ،ونعلم أن بنات كل القوم الذين يوجد فيهم رسول يُعتبرْنَ من بناته.
ولذلك يقول الحق سبحانه ما يُوضّح ذلك في آية أخرى {.أَتَأْتُونَ ال ّذكْرَانَ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ * وَتَذَرُونَ
جكُمْ َبلْ أَنتُمْ َقوْمٌ عَادُونَ }[الشعراء.]166-165 :
مَا خََلقَ َلكُمْ رَ ّب ُكمْ مّنْ أَ ْزوَا ِ
أي :أن لوطا أراد أنْ يردّ هؤلء الشواذ إلى دائرة الصواب ،والفعل الطيب .وذيّل كلمه:
{ إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [الحجر.]71 :
ليوحي لهم بالشكّ في أنهم سيُهينون ضيوفه بهذا السلوب ال َممْجوج والمرفوض.
ويقول سبحانه من بعد ذلكَ { :ل َعمْ ُركَ إِ ّنهُمْ.} ...
()1857 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خلقه ،لكنه أمرنا ألّ نُقسِم إلّ به؛ لننا نجل حقائق الشياء ُمكْتملةً.
وقد أقسم سبحانه بكل شيء في الوجود ،إل أنه لم يُقسِم أبدا بأيّ إنسان إل بمحمد صلى ال عليه
وسلم؛ فقال هنا:
سكْرة يعمهون.
{ َل َعمْ ُركَ } [الحجر ]72 :بحياتك يا محمد إنهم في َ
والسكرة هي التخديرة العقلية التي تحدث لمن يختلّ إدراكهم بفعل عقيدة فاسدة ،أو عادة شاذة ،أو
بتناول مادة تثير الضطراب في الوعي.
و { َي ْع َمهُونَ[ } ..الحجر.]72 :
أي :يضطربون باختيارهم.
ويأتي العقاب؛ فيقول الحق سبحانه { :فََأخَذَ ْت ُهمُ الصّيْحَةُ.} ...
()1858 /
وسبق أنْ أخبرنا سبحانه أنه سيقطع دابرهم وهم مصبحون ،وهنا يخبرنا أن الصيحة أخذتهم وهم
مُشْرقون ،ونحن نرى هذه اليام بعضا من اللعاب كلعبة " الكاراتيه " تصدر صيحة من اللعب
خصْمه لِيُزيد من رُعبْه.
في مواجهة َ
كما نرى في تدريبات الصاعقة العسكرية؛ نوعا من الصرخات ،هدفها أنْ يُدخِل المقاتل الرّعْب
في قلب عدوه.
خصْم يبدأ بصيحة تُفقِده توازنه الفكري؛ ولذلك قال الحق سبحانه في
وكل ما يتطلب إرهاب ال َ
ح َدةً َفكَانُواْ َكهَشِيمِ ا ْل ُمحْتَظِرِ }[القمر.]31 :
موقع آخر {:إِنّآ أَ ْرسَلْنَا عَلَ ْيهِ ْم صَ ْيحَ ًة وَا ِ
ومرّة يُسمّيها الحق سبحانه بالطاغية؛ فيقول {:فََأمّا َثمُودُ فَُأهِْلكُواْ بِالطّاغِيَةِ }[الحاقة.]5 :
جعَلْنَا عَالِ َيهَا.} ...
ويقول سبحانه من بعد ذلكَ { :ف َ
()1859 /
جعَلْنَا عَالِ َيهَا سَافَِلهَا وََأمْطَرْنَا عَلَ ْيهِمْ حِجَا َرةً مِنْ سِجّيلٍ ()74
فَ َ
وما دام عاليها قد صار أسفلها ،فهذا َلوْنٌ من النتقام المُنظّم المُوجّه؛ ولو لم يكن انتقاما مُنظّما؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لنقلب بعضُ ما في تلك المدينة على الجانب اليمن أو اليسر.
ن يفعلَ ما شاء كما
ولكن شاء الحق سبحانه أن يأتي لنا بصورة ما حدث ،لِيدلَنا على قدرته على أ ْ
يشاء .وأمطرهم الحق سبحانه بحجارة من سجيل؛ كتلك التي أمطر بها مَنْ هاجموا الكعبة في عام
ميلد رسول ال صلى ال عليه وسلم.
سمّي " سجيلً ".
وهي حجارة صُ ِن َعتْ من طين ل يعلم كُ ْنهَه إل ال سبحانه ،والطين إذا تحجّر ُ
سلَ عَلَ ْيهِمْ حِجَا َرةً مّن
والحق سبحانه هو القائل عن نفس هذا الموقف في سورة الذاريات {:لِنُرْ ِ
طِينٍ }[الذاريات.]33 :
وقد أرسل الحق سبحانه تلك الحجارة عليهم لِيُبيدهم ،فل يُبقِي منهم أحدا.
ك ليَاتٍ.} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :إِنّ فِي ذَِل َ
()1860 /
سمِينَ ()75
إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ لِ ْلمُ َتوَ ّ
وهكذا كان العذاب الذي أنزله الحق سبحانه بقوم لوط آية واضحة للمُتوسّمين .والمُتوسّم هو الذي
س ْمتُ في فلن كذا " أي :أخذ من الظاهر
يُدرك حقائق المَسْتور بمكْشُوف المظهور .ويُقال " تو ّ
حقيقة الباطن.
ولذلك يقول الحق سبحانه {:سِيمَا ُهمْ فِي وُجُو ِههِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ }[الفتح.]29 :
أي :ساعةَ تراهم ترى أن الملمح ُت َوضّح ما في العماق من إيمان.
ويقول سبحانه أيضاَ {:تعْ ِر ُفهُم ِبسِيمَاهُ ْم لَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافا }[البقرة.]273 :
وهكذا نعرف أن المُتوسّم هو صاحب الفَراسة التي تكشف مكنون العماق .وها هو صلى ال
عليه وسلم يقول " :اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور ال ".
وتحمل الذاكرة العربية حكاية العرابي الذي فقد جمله ،فذهب إلى قيم الناحية ـ أي :عمدة
المكان ـ وقال له " :ضاع جملي ،وأخشى أن يكون قد سرقه أحد " .وبينما هو يُحدّث القيّم جاء
واحد ،وقال له :أجملك أعور؟ أجاب صاحب الجمل :نعم ،وقال له :أجملك أبتَر؟ أي :ل ذَيْل له،
أجاب صاحب الجمل :نعم .فسأل الرجل سؤال ثالثا :أجملك أشول؟ أي :يعرج قليلً عندما يسير؛
جمَلِي.
فأجاب الرجل :نعم ،وال هو َ
وأراد قيّم الحي أن يعلم كيف عرف الرجل الذي حضر كل هذه العلمات التي في الجمل ،فسأله:
وما أدراك بكل تلك العلمات؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قال الرجل :لقد رأيتُه في الطريق ،وعرفتُ أنه أعورُ ،ذلك أنه كان يأكل العُشبْ الجاف من جهة،
ول يلتفت إلى العُشْب الخضر في الجهة الخرى ،ولو كان يرى بعينيه الثنتين لرأى العُشْب
الخضر.
وعرفت أنه أبتر مقطوع الذيل نتيجة أن َبعْره لم يتبعثر مثل غيره من الجمال التي لها ذَيْل غير
مقطوع.
عمْقا في الرض من أثر ساقه اليسرى .وهكذا
وعرفت أنه أشول؛ لن أثر ساقه اليمنى أكثر ُ
شرحت الذاكرة العربية معنى كلمة " المتوسم ".
ثم يُبيّن الحق سبحانه مكان مدينة قوم لوط ،فيقول من بعد ذلك { :وَإِ ّنهَا لَ ِبسَبِيلٍ.} ...
()1861 /
أي :أنها على طريق ثابت تمرّون عليه إنْ ذهبتُم ناحية هذا المكان ،وفي آية أخرى يقول
سبحانه {:وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْي ِهمْ ّمصْبِحِينَ }[الصافات.]137 :
فهذه المدينة إذنْ في طريق ثابت؛ لن تُضيّعه عوامل ال ّتعْرية أو الغيار ،ولن تضيعه تلك العوامل
حكَم التكوين ومُحكمَ التثبيت .وهو ما يُسمّى " سدوم ".
إل إذا شاء الحق سبحانه له أن يكون ُم ْ
ك ليَةً.} ...
ومن بعد ذلك يقول الحق سبحانه { :إِنّ فِي ذَِل َ
()1862 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شعَيب .وهم أصحاب
وينقلنا الحق سبحانه من بعد ذلك َنقْلة أخرى؛ إلى أهل َمدْين ،وهم قوم ُ
صحَابُ.} ...
اليكة ،يقول سبحانه { :وَإِن كَانَ َأ ْ
()1863 /
و " الَيْك " هو الشجر المُلْتف الكثير الغصان .ونعلم أن شعيبا ـ عليه السلم ـ قد ُبعِث لهل
مدين وأصحاب اليكة ،وهي مكان قريب من مدين ،وكان أهل مدين قد ظلموا أنفسهم بالشرك.
شعَيْبا }[العراف.]85 :
وقد قال الحق سبحانه {:وَإِلَىا َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ
شعَ ْيبٌ َألَ تَ ّتقُونَ }
ب الَ ْيكَةِ ا ْلمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ َل ُهمْ ُ
وقال عن أصحاب اليكة {:كَ ّذبَ َأصْحَا ُ
[الشعراء.]177-176 :
وهكذا نعلم أن شعيبا قد ُبعِث لُمتين مُتجاورتين.
ويقول سبحانه عن هاتين الُمتين { :فَان َت َقمْنَا مِ ْنهُمْ.} ...
()1864 /
ويُقال :إن ما كان يفصل بين مدين وأصحاب اليكة هو هذا الشجر المُلْتف الكثيف القريب من
البحر .ولذلك نجد هنا الدليل على أن شعيبا عليه السلم قد ُبعِث إلى أُمتين هو قوله الحق:
{ وَإِ ّن ُهمَا[ } ..الحجر.]79 :
وقد انتقم ال من الُمتين الظالمتين؛ َمدْين وأصحاب اليكة.
ويقول الحق سبحانه:
{ وَإِ ّن ُهمَا لَبِِإمَامٍ مّبِينٍ } [الحجر.]79 :
والمام هو ما يُؤتَم به في الرأي والفتيا ،أو في الحركات والسّكنات؛ أو :في الطريق المُوصّل إلى
ل على الماكن أو الغايات التي نريد أن نصل إليها ،ذلك أنه يعلم
الغايات ،ويُسمّى " إمام " لنه يد ّ
كل جزئية من هذا الطريق.
وفيما يبدو أن أصحاب الَيْكة قد تَما َدوْا في الظّلْم والكفر ،وإذا كان سبحانه قد أخذ أهل َمدْين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظلّ؛ ثم
بالصيحة والرجفة؛ فقد أخذ أصحاب اليكة بأن سلط عليهم الحَرّ سبعة أيام ل يُظِلهم منه ِ
أرسل سحابة وتم ّنوْا أن تُمطر ،وأمطرتْ نارا فأكلتهم ،كما قالت كتب الثر.
عظِيمٍ }
عذَابُ َي ْومِ الظّلّةِ إِنّهُ كَانَ عَذَابَ َيوْمٍ َ
وهذا هو العذاب الذي قال فيه الحق سبحانه {:فََأخَ َذهُمْ َ
[الشعراء.]189 :
وهكذا تكون تلك العِبَر بمثابة المام الذي يقود إلى التبصّر بعواقب الظلم والشرك.
وينقلنا الحق سبحانه إلى خبر قوم آخرين ،فيقول تعالى { :وَلَقَدْ َك ّذبَ.} ..
()1865 /
سلِينَ ()80
حجْرِ ا ْلمُرْ َ
وَلَقَدْ كَ ّذبَ َأصْحَابُ الْ ِ
حجْر هم قوم صالح ،وكانت المنطقة التي يقيمون فيها كلها من الحجارة؛ ول يزال
وأصحاب ال ِ
ُمقَامهم معروفا في المسافة بين خيبر وتبوك .وقال فيهم الحق سبحانه {:أَتَبْنُونَ ِب ُكلّ رِيعٍ آ َيةً
َتعْبَثُونَ * وَتَتّخِذُونَ َمصَانِعَ َلعَّلكُمْ َتخْلُدُونَ }[الشعراء.]129-128 :
وهم قد كذّبوا نبيهم " صالح " وكان تكذيبهم له يتضمن تكذيب كل الرسل ،ذلك أن الرسل
يتواردون على وحدانية ال ،ويتفقون في الحكام العامة الشاملة ،ول يختلف النبياء إل في
الجزئيات المناسبة لكل بيئة من البيئات التي يعيشون فيها.
فبيئة :تعبد الصنام ،فيُثبِت لهم نبيّهم أن الصنام ل تستحق أن تُعبد.
وبيئة أخرى :تُطفّف الكيْل والميزان؛ فيأتي رسولهم بما ينهاهم عن ذلك.
وبيئة ثالثة :ترتكب الفواحش فيُحذّرهم نبيهم من تلك الفواحش.
وهكذا اختلف الرسل في الجزئيات المناسبة لكل بيئة؛ لكنهم لم يختلفوا في المنهج الكُليّ الخاص
بالتوحيد والمنهج ،وقد قال الحق سبحانه عن قوم صالح أنهم كذّبوا المُرْسلين؛ بمعنى أنهم كذّبوا
صالحا فيما جاء به من دعوة التوحيد التي جاء بها كل الرسل.
ويقول الحق سبحانه عنهم من بعد ذلك { :وَآتَيْنَا ُهمْ آيَاتِنَا.} ...
()1866 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا يُوجِز الحق -سبحانه وتعالى -ما أرسل به نبيهم صالح من آيات تدعوهم إلى التوحيد
بال ،وصِدْق بلغ صالح عليه السلم الذي تمثّل في الناقة ،التي حذّرهم صالحَ أنْ يقربوها بسوء
كَيْل يأخذهم العذاب الليم.
لكنهم كذّبوا وأعرضوا عنه ،ولم يلتفتوا إلى اليات التي خلقها الحق سبحانه في الكون من ليل
ن واللوان بين البشر.
ونهار ،وشمس وقمر ،واختلف اللْسُ ِ
ونعلم أن اليات تأتي دائما بمعنى ال ُمعْجزات الدّالة على صدْق الرسول ،أو :آيات الكون ،أو:
آيات المنهج المُبلّغ عن ال ،تكون آية الرسول من هؤلء من نوع ما نبَغ فيه القوم المُرْسَل إليهم؛
لكنهم ل يستطيعون أن يأتوا بمثلها.
وعادةً ما تثير هذه الية خاصيّة التحدّي الموجودة في النسان ،ولكن أحدا من قوم الرسل ـ أيّ
رسول ـ ل يُفلِح في أن يأتي بمثل آية الرسول المرسل إليهم.
ويقول الحق سبحانه عن قوم صالح:
{ وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا َفكَانُواْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضِينَ } [الحجر.]81 :
أي :تكبّروا وأعرضوا عن المنهج الذي جاءهم به صَالح ،والعراض هو أنْ تُعطِي الشيء
عَرْضك بأن تبتعدَ عنه ول تُقبِل عليه ،ولو أنك أقبلتَ عليه لَوجدتَ فيه الخير لك.
وأنت حين تُقبِل على آيات ال ستجد أنها تدعوك للتفكّر ،فتؤمن أن لها خالقا فتلتزم بتعاليم المنهج
الذي جاء به الرسول.
وأنت حين تُفكّر في الحكمة من الطاعة ستجد أنها تُريحك من قلق العتماد على أحد غير خالقك،
لكن لو أخذتَ المسائل بسطحية؛ فلن تنتهي إلى اليمان.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ
ولذلك نجده سبحانه يقول في موقع آخر من القرآن الكريمَ {:وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي ال ّ
َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَ ُهمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف.]105 :
وفي هذا تكليفٌ للمؤمن ـ كُل مؤمن ـ أن يُمعِنَ النظر في آيات الكون لعلّه يستنبط منها ما يفيد
غيره.
وأنت لو نظرتَ إلى كل ال ُمخْترعات التي في الكون لوجدتّها نتيجةً للقبال عليها من قِبَل عالم
أراد أنْ يكتشفَ فيها ما يُريح غيره به.
عصْر من الطاقة واختراع المُعدات التي تعمل بتلك
والمثل في اكتشاف ُقوّة البخار التي بدأ بها َ
الطاقة ،وحرّك بها القطار والسفينة؛ مثلما سبقها إنسان آخر واخترع العجلة لِيُسهّل على البشر
حمْل الثقال.
َ
وإذا كان هذا في أمر ال َكوْنيّات؛ فأنت أيضا إذا تأملتَ آيات الحكام في " افعل " و " ل تفعل "
ستجدها تفيدُك في حياتك ومستقبلك ،والمثَل على ذلك هو الزكاة؛ فأنت تدفع جزءً يسيرا من عائد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عملك لغيرك ِممّنْ ل َي ْقوَى على العمل ،وستجد أن غيرك يعطيك إنْ حدث لك احتياج؛ ذلك أنك
من الغيار.
ويتابع الحق سبحانه قوله عن قوم صالحَ { :وكَانُواْ يَنْحِتُونَ.} ..
()1867 /
وهنا يمتنّ عليهم بأن منحهم حضارةً ،ووهبهم مهارة البناء والتقدّم في العمارة؛ وأخذوا في بناء
بيوتهم في الحجار ،ومن الحجار التي كانت توجد بالوادي الذي يقيمون فيه ،وقطعوا تلك
الحجار بطريقة تُتيح لهم بناء البيوت والقُصور المنة من أغيار التقلّبات الجوية وغيرها.
ونعلم أن مَنْ يعيش في خَيْمة يعاني من قِلّة المن؛ أما مَنْ يبني بيته من الطوب اللّبن؛ فهو اكثر
أمْنا ِممّنْ في الخيمة ،وإنْ كان أقلّ أمانا من الذي يبني بيته من السمنت المُسلّح ،وهكذا يكون أَمنْ
النفس البشرية في سكنها واستقرارها من قوة الشيء الذي يحيطه.
وإذا كان قوم صالح قد أقاموا بيوتهم من الحجارة فهي بالتأكيد اكثر َأمْنا من غيرهم ،ونجد نبيهم
جعََل ُكمْ خَُلفَآءَ مِن َب ْعدِ
صالحا ،وقد قال لهم ما أورده الحق سبحانه في كتابه الكريم {:وَا ْذكُرُواْ ِإذْ َ
سهُوِلهَا ُقصُورا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتا فَا ْذكُرُواْ آلءَ اللّ ِه َولَ
عَا ٍد وَ َبوَّأكُمْ فِي الَ ْرضِ تَتّخِذُونَ مِن ُ
َتعْ َثوْا فِي الَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ }[العراف.]74 :
ط َغوْا و َب َغوْا وأنكروا ما جاء به صالح -عليه السلم -فما كان من الحق سبحانه إل أنْ
ولكنهم َ
أرسلَ عليهم صيحةً تأخذهم.
وقال الحق سبحانه { :فََأخَذَ ْتهُمُ الصّيْحَةُ.} ....
()1868 /
وهم إذا كانوا قد اتخذوا من جبليّة الموقع َأمْنا لهم؛ فقد جاءت الصيحة من الحق سبحانه لِتدكّ فوق
رؤوسهم ما صنعوا ،وقد قال الحق سبحانه عنهم من قبل في سورة هود {:وَأَخَذَ الّذِينَ ظََلمُواْ
الصّيْحَةُ فََأصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَا ِثمِينَ }[هود.]67 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جفَةُ فََأصْبَحُواْ فِي دَا ِرهِمْ جَا ِثمِينَ }[العراف.]78 :
وقال سبحانه عنهم أيضا {:فََأخَذَ ْتهُمُ الرّ ْ
والرّجْفة هي الزلزلة ،والصّيْحة هي بعض من توابع الزلزلة ،ذلك أن الزلزلة تُحدِث تموجا في
الهواء يؤدي إلى حدوث أصوات قوية تعصف بمَنْ يسمعها.
وهم حسب َقوْل الحق سبحانه قد تمتّعوا ثلثة أيام قبل أنْ تأخذهم الصّيْحة َكوَعْد نبيهم صالح ـ
ك وَعْدٌ غَيْرُ َمكْذُوبٍ }[هود.]65 :
عليه السلم ـ لهمَ {:فقَالَ َتمَ ّتعُواْ فِي دَا ِركُمْ ثَلَثَةَ أَيّامٍ ذاِل َ
ويقول الحق سبحانه عن حالهم بعد أنْ أخذتهم الصّيْحةَ { :فمَآ أَغْنَىا.} ...
()1869 /
وهكذا لم تنفعهم الحصون في حمايتهم من قدَر ال ،ونعلم أن قدر ال أو عقابه ل يمكن أنْ يمنعه
مان ٌع مهما كان؛ فهو القائل {:أَيْ َنمَا َتكُونُواْ ُيدْرِككّمُ ا ْل َم ْوتُ وََلوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مّشَيّ َدةٍ }[النساء.]78 :
وهكذا ل يمكن أن يحميَ النسانُ نفسَه مما َقدّره ال له ،أو ِممّا يشاء الحق أن يُنزِله على النسان
كعقاب.
ج ِعهِمْ }[آل عمران:
وسبحانه القائل {:قُل ّلوْ كُنتُمْ فِي بُيُو ِتكُمْ لَبَرَزَ الّذِينَ كُ ِتبَ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقَتْلُ إِلَىا َمضَا ِ
.]154
ح ِمهِم حصونهم من العذاب الذي قدّره سبحانه.
وهكذا خَرّوا جميعا في قاع الهلك ،ولم َت ْ
سمَاوَاتِ.} ..
وبعد ذلك ينقلنا الحق سبحانه إلى اليات الكونية؛ فيقولَ { :ومَا خََلقْنَا ال ّ
()1870 /
جمِيلَ ()85
صفْحَ الْ َ
صفَحِ ال ّ
ق وَإِنّ السّاعَةَ لَآَتِ َيةٌ فَا ْ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ َومَا بَيْ َن ُهمَا إِلّا بِا ْلحَ ّ
َومَا خََلقْنَا ال ّ
والحقّ هو الشيء الثابت الذي ل َتعْتوره الغيار ،والمثَل هو نظام المجرّات وحركة الشمس
والقمر؛ تجدها مُنْضبِطة؛ ذلك أن النسان ل يتدخّل فيها ،وليس للنسان -صاحب الغيار -معه
أيّ اختيار.
ولذلك نجد أن الفسادَ ل ينشأ في الكون من النواميس العُلْيا ،ولكن من المور التي يتدخّل فيها
ن يتوقفَ النسانُ عن الحركة في الرض؛ ولكن عليه أنْ يرعى منهج
النسان ،وليس معنى ذلك أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمّا نهى عنه وأنْ يطيعَ ما أمره به.
ال ،ويمتنع َ
وأنت لو ط ّبقْتَ أوامر الحق سبحانه في " افعل " و " ل تفعل " لستقامتْ الدنيا في المور التي لكَ
َدخْل فيها كانتظام المور التي ليس لك َدخْل فيها.
شمْسُ
ق الِنسَانَ * عَّلمَهُ البَيَانَ * ال ّ
حمَـانُ * عَلّمَ ا ْلقُرْآنَ * خََل َ
واقرأ إنْ شِ ْئتَ َقوْله الحق {:الرّ ْ
ط َغوْاْ فِي
سمَآءَ َر َف َعهَا َووَضَعَ ا ْلمِيزَانَ * َألّ تَ ْ
سجُدَانِ * وَال ّ
وَا ْلقَمَرُ ِبحُسْبَانٍ * وَالنّجْ ُم وَالشّجَرُ يَ ْ
ا ْلمِيزَانِ }[الرحمن.]8-1 :
فإن كنتم تريدون أن تنتظمَ أموركم في الحياة الدنيا؛ فل تط َغوْا في ميزان أيّ شيء.
وهنا يُذكّرنا الحق سبحانه ألّ نقعَ في خطأ الوهم بأننا سنأخذ ِنعَم الدنيا دون ضابط أو رابط؛
فالحساب قادم ل محالة ،ولذلك قال الحق سبحانه {:فَِإمّا نَذْهَبَنّ ِبكَ فَإِنّا مِ ْنهُم مّن َت ِقمُونَ * َأوْ نُرِيَ ّنكَ
الّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنّا عَلَ ْي ِهمْ ّمقْتَدِرُونَ }[الزخرف.]42-41 :
أي :مَا قدّره ال سيقع دون أنْ َيصُدّه شيء مهما كان ،وإمّا ترى ذلك في حياتك ،أو تراه لحظة
ال َبعْث.
ن كفروا وظلموا وكذّبوا الرسل ،وعاثوا في الرض ُمفْسدين .وأهلكهم
والدليل هو ما حاق بمَ ْ
الحق سبحانه بعذابه تطهيرا للرض مِنْ فسادهم ،هذا جزاؤهم في الدنيا ،وهناك جزاء آخر في
اليوم الخر.
وفي هذا القول تَسلْية لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،فهو حين ُيعْلِمه ال ما حاقَ بالمم السابقة
التي كذّبت الرسل؛ هانتْ عليه المتاعب والمشاقّ التي عاناها من قومه ،وليس ُهلَ عليه من بعد ذلك
أن يتذرّع بالصبر الجميل ،حتى يأتي وَعْدُه سبحانه ،وليس عليك يا محمد أنْ تُحمّل نفسك ما لَ
تطيق.
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :إِنّ رَ ّبكَ ُهوَ.} ....
()1871 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لن يتركهم.
والرب ـ كما نعلم ـ هو مَنْ يتولّى تربية الشي إلي ما يعطيه مناط الكمال ،ول يقتصر ذلك على
الدنيا فقط ،ولكنه ينطبق على الدنيا والخرة.
وقوله { :ا ْلخَلّقُ } [الحجر.]86 :
مبالغة في الخَلْق ،وهي امتداد صفة الخَلْق في كل ما يمكن أنْ يخلق ،لنه سبحانه هو الذي أعدّ
كل مادة يكون منها أيّ خَلْق ،وأعدّ العقل الذي يُفكّر في أيّ خلق ،وأعدّ الطاقة التي تفعل ،وأعدّ
التفاعل بين الطاقة والمادة والعقل المُخطّط لذلك.
ن وُجِد خلق من البشر؛ فهو
وما يفعله النسان المخلوق هو التوليف بين ما خلقه ال من مواد ،وإ ْ
وحده سبحانه الذي يهب إنسانا ما أفكارا لينفذها ،ثم يأتي مَنْ هو أذكى منه لِيُطوّرها.
ولذلك قال الحق سبحانهَ {:وفَوْقَ ُكلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ }[يوسف.]76 :
وهكذا رأينا كل المخترعات البشرية تتطوّر؛ والمثَل على ذلك هو آلة الحياكة التي صارت تعمل
الن آليا بعد أن كانت المرأة تجلس عليها لِتك ّد في ضَبْطها ،وكذلك غسّالة الملبس ،وغسالة
الطباق والسيارات والطائرات.
ونلحظ أن كل ما خلقه ال يمكن أن يُستفاد من عادمه مثل َروَث البهائم؛ الذي يُستخدم كسماد ،أما
ل فهو يُلوّث الجو .وشاشة التلفزيون تُصدِر من الشعاعات مَا يضر العين ،وتَمّ
عادم السيارات مث ً
حثُ ذلك لتلفي الثار الجانبية في مثل تلك الدوات التي يسهل النسان بها حياتها.
بْ
أما ما يخلقه ال فل توجد له آثار جانبية؛ فسبحانه ليس صاحب عِلْم ُمكْتسب أو ممنوح؛ بل العلم
صفة ذاتية فيه.
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :وََلقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعا.} ...
()1872 /
وهنا يمتنّ الحق سبحانه على رسوله صلى ال عليه وسلم بأنه يكفيه أنْ أنزلَ عليه القرآن الكتاب
المعجزة ،والمنهج الذي ل يأتيه الباطل من بين يديه ول من خَلْفه .فالقرآن يض ّم كمالتِ الحق
التي ل تنتهي؛ فإذا كان سبحانه قد أعطاك ذلك ،فهو أيضا يتحمّل عنك ُكلّ ما يُؤلِمك.
ق صَدْ ُركَ ِبمَا َيقُولُونَ }[الحجر.]97 :
والحق سبحانه هو القائل {:وََلقَدْ َنعْلَمُ أَ ّنكَ َيضِي ُ
ويقول له الحق أيضا {:قَدْ َنعْلَمُ إِنّهُ لَ َيحْزُ ُنكَ الّذِي َيقُولُونَ }[النعام.]33 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأزاح الحق سبحانه عنه هموم اتهامهم له بأنه ساحر أو مجنون؛ وقال له سبحانه {:فَإِ ّنهُ ْم لَ
جحَدُونَ }[النعام.]33 :
ُيكَذّبُو َنكَ وَلَـاكِنّ الظّاِلمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَ ْ
ويكشف له سبحانه :إنهم يؤمنون أنك يا محمد صادق ،ولكنهم يتظاهرون بتكذيبك.
ويتمثّل امتنانُ الحق سبحانه على رسوله أنه أنزل عليه السّبْع المثاني ،واتفق العلماء على أن كلمة
" المثاني " تعني فاتحة الكتاب ،فل يُثنّى في الصلة إل فاتحة الكتاب.
ضوْء مقاييسه
ونجده سبحانه َيصِف القرآنَ بالعظيم؛ وهو سبحانه يحكم بعظمة القرآن على َ
المُطْلقة؛ وهي مقاييس العظمة عنده سبحانه.
والمثَل الخر على ذلك وَصفْه سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم {:وَإِ ّنكَ َلعَلَىا خُلُقٍ عَظِيمٍ }
[القلم.]4 :
حكْم بالمقاييس العُلْيا للعظمة ،وهكذا يصبح ُكلّ متاع الدنيا أقلّ ِممّا وهبه الحق سبحانه
وهذا ُ
طىَ غيره؛ فقد وهبه سبحانه لرسوله
لرسوله صلى ال عليه وسلم ،فل ينظرَنّ أحدٌ إلى ما أُع ِ
صلى ال عليه وسلم.
ونلحظ أن الحق سبحانه قد عطف القرآن على السّبْع المثاني ،وهو عَطْف عام على خَاصّ؛ كما
سطَىا }[البقرة.]238 :
لةِ ا ْلوُ ْ
ت والصّ َ
قال الحق سبحانه {:حَافِظُواْ عَلَى الصَّلوَا ِ
ونفهم من هذا القول أن الصلة تضمّ الصلة الوُسْطى أيضا ،وكذلك مثل قول الحق ما جاء على
خلَ بَيْ ِتيَ ُم ْؤمِنا وَلِ ْل ُم ْؤمِنِينَ
ي وَِلمَن دَ َ
غفِرْ لِي وَلِوَاِل َد ّ
لسان رسوله صلى ال عليه وسلمّ {:ربّ ا ْ
وَا ْل ُمؤْمِنَاتِ }[نوح.]28 :
عطْف عام على خاص ،وعَطْف خاص على عام.
وهكذا نرى َ
أو :أنْ نقولَ :إن كلمة " قرآن " تُطلَق على الكتاب الكريم المُنزّل على رسول ال صلى ال عليه
وسلم من أول آية في القرآن إلى آخر آية فيه ،ويُطلق أيضا على الية الواحدة من القرآن؛ فقول
الحق سبحانه {:مُدْهَآمّتَانِ }[الرحمن.]64:
هي آية من القرآن؛ وتُسمّى أيضا قرآنا.
شهُودا }[السراء.]78 :
ونجده سبحانه يقول {:إِنّ قُرْآنَ ا ْلفَجْرِ كَانَ مَ ْ
ونحن في الفجر ل نقرأ كل القرآن ،بل بعضا منه ،ولكن ما نقرؤه يُسمّى قرآنا ،وكذلك يقول
حجَابا مّسْتُورا }
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ ِ
ك وَبَيْنَ الّذِي َ
جعَلْنَا بَيْ َن َ
الحق سبحانه {:وَإِذَا قَرَ ْأتَ ا ْلقُرآنَ َ
[السراء.]45 :
وهو ل يقرأ ُكلّ القرآن بل بعضه ،إذن :فكلّ آية من القرآن قرآن.
وقد أعطى الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم السّبْع المثاني والقرآن العظيم ،وتلك هي ِقمّة
العطايا؛ فلله عطاءاتٌ متعددة؛ عطاءات تشمل الكافر والمؤمن ،وتشمل الطائع والعاصي،
وعطاءات خاصة بمَنْ آمن به؛ وتلك عطاءات اللوهية لمَنْ سمع كلم ربّه في " افعل " و " ل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تفعل ".
وسبحانه يمتد عطاؤه من الخَلْق إلى شَرْبة الماء ،إلى وجبة الطعام ،وإلى الملبس ،وإلى المَسْكن،
عمْر ،ويسمو العطاء عند النسان بسُمو عمر العطاء ،فكل عطاء يمت ّد عمره يكون
وكل عطاء له ُ
هو العطاء السعيد.
فإذا كان عطاء الربوبية يتعلّق ب ُمعْطيات المادة وقوام الحياة؛ فإن عطاءات القرآن تشمل الدنيا
والخرة؛ وإذا كان ما يُنغّص أيّ عطاء في الدنيا أن النسانَ يُفارقه بالموت ،أو أن يذوي هذا
العطاء في ذاته؛ فعطاء القرآن ل ينفد في الدنيا والخرة.
ونعلم أن الخرة ل نهايةَ لها على عكس الدنيا التي ل يطول عمرك فيها بعمرها ،بل بالجل
المُحدّد لك فيها.
وإذا كانت عطاءاتُ القرآن تحرس القيم التي تهبُك عطاءات الحياة التي ل تفنَى وهي الحياة
الخرة؛ فهذا هو َأسْمى عطاء ،وإياك أن تتطلعَ إلى نعمة موقوتة عند أحد منهم من ِنعَم الدنيا
عطِي خيرا منه؛ فقد حقر ما عَظّم ال.
الفانية؛ لن مَنْ أُعطِي القرآن وظنّ أن غيره قد أُ ْ
وما دام الحق سبحانه قد أعطاك هذا العطاء العظيم ،فيترتب عليه قوله } :لَ َتمُدّنّ عَيْنَ ْيكَ.{ ...
()1873 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقول الحق سبحانه:
{ أَ ْزوَاجا مّ ْنهُمْ[ } ...الحجر.]88 :
جمْع َزوْج ،وسبق أنْ أوضحنا أن كلمة " زوج " هي مفرد ،والذكَر والنثى حين يتلقيان
هي َ
يصبح اسمهما زوجين ،والحق سبحانه هو القائل {:سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا }[يس.]36 :
والزواج كلّها تعني الفرد ،ومعه الفرد من كل صنف من الصناف .المراد بكلمة أزواج هنا أن
المخالفين لرسول ال صلى ال عليه وسلم كانوا شِلَلً شِللً؛ ضال ومضل؛ وضال آخر معه
ُمضِل.
ولحظة الحساب سيقول كل منهم {:قَالَ قَآ ِئلٌ مّ ْنهُمْ إِنّي كَانَ لِي قَرِينٌ }[الصافات.]51 :
وهكذا كانت كلمة " أزواج " تدل على أصناف متعددة من الذين يقفون معاندين لرسول ال صلى
ال عليه وسلم ومُنكِرين لمنهجه.
عمّنْ أغوتْهم الشياطين ،ويحشرهم الحق سبحانه مع
وفي موقع آخر من القرآن يكشف سبحانه َ
ن الِنْسِ }[النعام:
جمِيعا يَا َمعْشَرَ ا ْلجِنّ قَدِ اسْ َتكْثَرْتُمْ مّ َ
حشُرُهُمْ َ
الشياطين في نار جهنم {:وَ َيوْمَ يِ ْ
.]128
أي :يا معشرَ الجنّ قد استطعتُم أنْ تُوحوا لكثير من النس بالغواية والمعصية ،ليكونوا أولياءكم،
وهكذا نجد أن كل جماعة تتفق على شيء نُسمّيهم أزواجا.
وهنا يُوضّح الحق سبحانه :إياكَ أنْ َت ُمدّ عينيك إلى ما متّعنا به أزواجا منهم ،لننا أعطيناك أعلى
عطاءٍ ،وهو معجزة القرآن حارس القيم ،والذي يضمّ ال ّنهْج القويم.
ويتابع سبحانه:
{ َولَ تَحْزَنْ عَلَ ْي ِهمْ } [الحجر.]88 :
ويُقال :حزنت منه ،وحَزِنت عليه ،وحَزِنت له؛ فمَنْ ناله ما يُحزن ،ولم َيصْدُر عنك هذا السبب
في حزنه؛ فأنت تقول له " حَزِنت لك ".
وآخر ارتكب ِفعْلً يُسِيء إلى نفسه؛ فأنت تحزن عليه .ورسول ال صلى ال عليه وسلم حَزِن
ن يتمتعوا بالنعمة التي يتمتع هو بها.
ن يؤمنوا ،وأ ْ
حبّ أ ْ
عليهم؛ فقد كان ُي ِ
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول عن رسوله صلى ال عليه وسلم:
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتّمْ حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ }
{ َلقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
[التوبة.]128 :
ص ُعبَ على نفسه أنْ ينَال قومه مشقةٌ؛ فالرحمة والرأفة مصدرها
فمِنْ رأفته صلى ال عليه وسلم َ
ما وهبه ال إياه من َفهْم لقيمة نعمة اليمان.
علَىا آثَارِ ِهمْ إِن لّمْ
سكَ َ
وفي آية أخرى يقول سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم {:فََلعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدِيثِ َأسَفا }[الكهف.]6 :
ُي ْؤمِنُواْ ِبهَـاذَا الْ َ
أي :أنه لن ينقصَ منك شيء في حالة عدم إيمانهم ،ولن يزيدك إيمانهم أجرا؛ ذلك أن عليك البلغَ
فقط؛ فلماذا تحزن على عدم إيمانهم؟
وقول الحق سبحانه هنا:
} َولَ تَحْزَنْ عَلَ ْي ِهمْ { [الحجر.]88 :
دليل على أن رسول ال صل ال عليه وسلم كان حريصا على أن يُؤمِن قومه ،محبةً فيهم،
وليتعرّفوا على حلوة اليمان بال .وكان صلى ال عليه وسلم يتألم ويحز في نفسه عدم إيمانهم،
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ
خعٌ ّنفْ َ
لدرجة أن الحق سبحانه قال له في آية أخرىَ {:لعَّلكَ بَا ِ
ضعِينَ }[الشعراء.]4-3 :
سمَآءِ آ َيةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ
نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
وهنا يُوضّح الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم أن إيمانهم ليس أمرا صعبا عليه سبحانه؛
ذلك أنه قادر أنْ ينزّل آية من السماء تجعلهم خاضعين؛ مؤمنين؛ لكنه سبحانه يحب أن يأتيه خَ ْلقُه
محبةً ،وأن يُحسِنوا استخدام ما وهبهم من خاصية الختيار.
عمَل قلوب ،وسبحانه ل يريد قوالب ،وإنما يريد
فسبحانه ل يقهر أحدا على اليمان به؛ فاليمان َ
قلوبا خاشعة ،ولو شاء سبحانه من خَلْقه أنْ يأتوه طواعية؛ فالقهر من القاهر يُثبِت له القدرة ،ولكن
أنْ يأتيَ الخَلْق إلى خالقهم طواعية؛ فهذا يُثبت له المحبوبية.
والحق سبحانه يريد أن يكون اليمان نابعا من محبوبية العابد للمعبود؛ ولذلك يقول الحق سبحانه
لرسوله صلى ال عليه وسلم:
} َولَ تَحْزَنْ عَلَ ْي ِهمْ[ { ...الحجر.]88 :
ثم يُوجّه له المر بأنْ يُوجّه طاقة الحنان والمودّة التي في قلبه إلى مَنْ يستحقها ،وهم المؤمنون
برسالته صلى ال عليه وسلم؛ وعليه أنْ يخفضَ جناحه للمؤمنين.
ف ُكلّ حركة من النسان هي نزوع يتحرّك من بعد وُجدْان ،والوُجْدان يُولّد طاقة داخلية تُهيئ
للنزوع وتدفع إليه ،فإن حزن الرسول صلى ال عليه وسلم لعدم إيمان صناديد قريش برسالته؛
فهذا الحُزْن إنما يخصم ويأخذ من طاقته؛ فيأتيه المر من الحق سبحانه أن يُوفّر طاقته ،وأنْ
يُوجّهها لمَنْ آمن به؛ وأن يخ ِفضَ جناحه لهم.
خفْض الجناح هو التواضُع؛ ذلك أن الجناحَ هو الجانب ،فحين يأتيك إنسانٌ تريد أنْ تتكبّر عليه؛
وَ
فهو يقول " فلن َلوَى عنّي جانبه ".
وهكذا يأمر الحق سبحانه رسوله أن يتواضع مع المؤمنين؛ وأنْ يتوجه إليهم ل باستقامة قالبه ،بل
أن ينزل هذا القالب قليلً
حكَ.
خ ِفضْ جَنَا َ
وكلمة } :وَا ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خفْض جناح الطائر ،فالطائر يرفع جناحه عند الطيران ،ولكن ما
[ { ..الحجر ]88 :مأخوذة من َ
أنْ يلمسَ هذا الطائر فَرْخَه الصغير حتى يَخفِض جناحه له ليضمه إليه.
إذن :فالطاقة التي كنتَ تُوجّهها يا رسول ال إلى مَنْ ل يستحق؛ عليك أنْ تُوجّهها ِلمَنْ يستحقها،
فيكفيك أن تُبلّغ الناس جميعا برسالتك؛ ومَنْ يؤمن منهم هو مَنْ يستحق طاقةَ حنانِك ورحمتك.
خفْض الجناح ِلمَنْ آمن برسالتك ل يورثه كِبْرا عليك؛ بل يزيده أدبا معك.
وَ
وقد جاء في الثر " :إذا عَزّ أخوك َفهُنْه " أي :أنك إذا رأيتَ أخاك في وضع يعِزّ عليكَ ،فهُنْ له
أنت.
جعْـ
ل وقُلْنا ال َقوْمُ إخْوا ُنعَسَى اليامُ أنْ يَ ْر ِ
ومن قبل السلم قال الشاعر العربي:صَفَحْنَا عَنْ بَنِي ذُ ْه ٍ
ـنَ َقوْما كَالذِي كَانُوافَلمّا صَرّح الشّر فََأمْسَى وَ ْهوَ عُرْيَا ُن َمشَيْنَا مِشْيَةَ الل ْيثِ غَدا والل ْيثُ
طعْنٍ َكفَمِ الزّقّ غَدَا والزّق مَل ُن َوفِي الشّرّ َنجَاة حِيـ
خضِيعٌ وإقرا ُنوَ َ
غضْبَان ِبضَرْبٍ فِيهِ َتوْهِينٌ وتَ ْ
َ
ن لَ يُنجِيكَ إحسَا ُنوَبعضُ الحلمِ عِنْدَ الجَهـ ـلِ ِللْذلةِ إذْعَانُونجد القرآن حينما يطبع خلق
ـي َ
المؤمن بال وبالمنهج؛ ل يطبعه بطابع واحد يتعامل به مع كل الناس ،بل يجعل طَبْعه الخُلقي
مطابقا لموقف الناس منه ،فيقول {:أَ ِذلّةٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ }[المائدة.]54 :
حمَآءُ بَيْ َن ُهمْ }[الفتح.]29 :
ويقول أيضا في وصف المؤمنينَ {:أشِدّآءُ عَلَى ا ْل ُكفّارِ ُر َ
وهكذا لم يطبع المؤمن على الشدة والعزة ،بل جعله يتفاعل مع المواقف؛ فالموقف الذي يحتاج إلى
ن فهو يلين فيه.
الشدة فهو يشتد فيه؛ والموقف الذي يحتاج إلى لِي ٍ
والحكمة الشاعرة تقول:وَ َوضْعُ النّدى في مَوضْعِ السّيف بالعلي مضر َكوَضْـعِ السّـ ْيفِ فِي
َموْضـعِ النّـدَىويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ } :و ُقلْ إِنّي.{ ...
()1874 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ض من الكفار
آتاه السبع المثاني والقرآن العظيم؛ ولذلك يوصيه ألّ تطمح نفسه إلى ما أوتي بع ٌ
من جاه ومال ،فالقرآن عزّ الدنيا والخرة.
ويوصيه كذلك بأل يحزنَ عليهم نتيجة انصرافهم عن دعوته ،فليس عليه إل البلغ ،وأن يتواضعَ
صلى ال عليه وسلم للمؤمنين ليزداد ارتباطهم به ،فهم خير من كل الكافرين برسالته صلى ال
عليه وسلم .ثم يُوصيه الحق سبحانه أن يُبلغ الجميع أنه نذير وبشير ،يوضح ما جاء في القرآن
من خير ي ُعمّ على المؤمنين ،وعقاب ينزل على الكافرين.
وقد قال صلى ال عليه وسلم " :إنما مثَلي ومثَل ما بعثني الُ به كم َثلِ رجلٍ أتى قوما فقال :يا
قوم ،إني رأيتُ الجيشَ بعينيّ ،وإني أنا النذير العُرْيان ،فالنجاء النجاء ،فأطاعه طائفة من قومه
جوْا ،وكذّبت طائفة منهم ،فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش،
فَأدْلجوا فانطلقوا على مهلهِم فَن َ
فأهلكهم واجتاحهم ،فذلك مثَل مَنْ أطاعني فاتّبع ما جِ ْئتُ به ،ومثَل مَنْ عصاني وكذّب بما جئتُ به
من الحقّ ".
ويقول سبحانه من بعد ذلكَ { :كمَآ أَنْزَلْنَا.} ...
()1875 /
سمِينَ ()90
َكمَا أَنْزَلْنَا عَلَى ا ْل ُمقْتَ ِ
ونعلم أنه سبحانه قد أنزل كتابه على رسوله صلى ال عليه وسلم ،واستقبله الناس استقباليْنِ :فمنهم
س ِمعُواْ مَآ
مَنِ استمع إلى القرآن فتبصّر قول الحق وآمن ،وفي هؤلء قال الحق سبحانه {:وَإِذَا َ
أُن ِزلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَى أَعْيُ َنهُمْ َتفِيضُ مِنَ ال ّدمْعِ ِممّا عَ َرفُواْ مِنَ ا ْلحَقّ َيقُولُونَ رَبّنَآ آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشّا ِهدِينَ }[المائدة.]83 :
والصنف الخر استمع إلى القرآن ،فكانت قلوبهم كالحجارة ،وفيهم قال الحق سبحانهَ {:ومِ ْنهُمْ مّن
يَسْ َتمِعُ إِلَ ْيكَ حَتّىا إِذَا خَ َرجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ لِلّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا ُأوْلَـا ِئكَ الّذِينَ طَ َبعَ
علَىا قُلُو ِبهِمْ وَاتّ َبعُواْ أَ ْهوَآءَ ُهمْ }[محمد.]16 :
اللّهُ َ
ذلك أن قلوبهم ُممْتلئة بالكفر؛ وقد دخلوا ومعهم حكم مُسْبق ،فلم يقيموا ميزانَ العدل ليقيسوا به
فائدة ما يسمعون.
ولذلك أوضح الحق سبحانه لرسوله صلى ال عليه وسلم أل يحزن ،فالمسألة لها سوابق مع غيرك
من الرسل؛ فقد نزل كل رسول بكتاب يحمل المنهج ،ولكن الناس استقبلوا تلك الكتب كاستقبال
قومك ِلمَا نزل إليك بين كافر ومؤمن ،واختلفوا في أمور الكُتب المنزّلة إلى رسلهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن اتهموك بأنك ساحرٌ ،أو أن
وكان انقسامهم كانقسام قومك حول الكتاب المُنزّل إليك ،فل تحزنْ إ ِ
ما نزل إليك كتابُ شعر ،أو أنك تمارس الكهانة؛ أو فقدوا القدرة على الحكم عليك واتهموك
بالجنون.
وهكذا قَسّموا القرآن المُنزّل من ال سبحانه إلى أقسام هي :السّحْر ،والكهانة ،والشعر ،والجنون،
كما فعل من قبلهم أقوام أخرى:
سلَ إِلَ ْيكُمْ َلمَجْنُونٌ }[الشعراء.]27 :
ن قال ،وأثبته القرآن عليهم {:إِنّ رَسُوَلكُمُ الّذِي أُ ْر ِ
فمنهم مَ ْ
وهكذا تعلم يا رسول ال أنك لست بِدْعا من الرسل ،ذلك أن الرسل ل يأتون أقوامهم إل وقد طَمّ
الفساد والبلء ،ول يوجد فساد إل بانتفاع واحد بالفساد بينما يضرّ بالخرين.
وإذا ما جاء رسول ليصلح هذا الفساد ي ُهبّ أهل الستفادة من الفساد ليقاوموه ويضعوا أمامه
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ }
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
العراقيل؛ مثلما حدث معك يا رسول ال حين قال بعضهم {:لَ َت ْ
[فصلت.]26 :
ومثل هذا القول إنما يدلّ على أنهم لو صَفّوا نفوسهم ،واستمعوا للقرآن لهتدوا؛ لذلك يقول لهم
سادتهم {:وَا ْل َغوْاْ فِيهِ َلعَّلكُمْ َتغْلِبُونَ }[فصلت.]26 :
شوّشوا عليه.
أيَ :
وهكذا فالقتسام الذي استقبل به الكفار القرآن سبق وأنْ حدث مع الرسل الذين سبقوك.
جعَلُواْ.} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :الّذِينَ َ
()1876 /
عضِينَ ()91
جعَلُوا ا ْلقُرْآَنَ ِ
الّذِينَ َ
وكلمة (عضين) تعني القطع؛ فيُقال للجزار حين يذبح الشاة أو العجل أنه قد جعله عِضين .أي:
فصَل ُكلّ ذراع عن الخر ،وكذلك قطع الفخذ؛ أي :أنه جعل الذبيحة ِقطَعا قِطَعا بعد أنْ كانت
أعضاء مُتصلة.
وكذلك كان القرآن حينما نزل كيانا واحدا؛ فأراد بعض من الكفار أن يُقطّعوه إلى أجزاء.
والمقصود هنا هم جماعة من اليهود وجماعة من النصارى الذين كانوا على عهد رسول ال صلى
ال عليه وسلم وأرادوا أنْ يُقطّعوا القرآن كما فعلوا مع الكتابين اللذين نزل على موسى ،وهما
التوراة؛ والنجيل الذي جاء به عيسى.
وقد قال الحق سبحانه فيهما {:وَنَسُواْ حَظّا ّممّا ُذكِرُواْ ِبهِ }[المائدة.]13 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :أن بعضا من اليهود قد َنسُوا بعضا من التوراة ،وكذلك نسى البعض من أتباع عيسى بعضا
من النجيل الذي نزل عليه.
وإنْ وجدنا لهم العذر في النسيان؛ فماذا عن الذي كتموه من تلك الكتب؟ وماذا عن الذي بدّلوه
وحرّفوه من كلمات تلك الكتب؟ وماذا عن الذي أضافوه عليه ،ولم ينزل من عند ال؟ وقد فضح
سبحانه كل ذلك في القرآن.
أو :أن اليهود استقبلوا القرآن استقبالَ مَنْ يُصدّق بعضه ِممّا ل يتعبهم ،وكذّبوه في البعض الذي
يتعبهم ،فقد كذّبوا مثلً أن كتابهم قد بشّرهم بمحمد عليه الصلة والسلم.
وهكذا نرى كيف حاولوا أن يجعلوا القرآن عِضين ،أي :قطعا مفصولة عن بعضها البعض ،وقد
حاولوا ذلك بعد أن تبيّن لهم أن القرآن مُؤثّر وفاعل.
وشاء الحق سبحانه للقرآن أن يحمل النذارة والبشارة؛ فالرسول نذير بالقرآن المبين الواضح ِلمَنِ
اقتسموا المر بالنسبة لمحمد -عليه الصلة والسلم -فقِسْم منهم تفرّغ للستهزاء بمحمد ومَنْ
آمنوا معه؛ وجماعة أخرى قسّمتْ أعضاءها ليجلسوا على أبواب مكة أثناء موسم الحج،
ويستقبلون القادمين للحج من البلد المختلفة ليحذروهم من الستماع لمحمد عليه الصلة والسلم.
شعْر؛
ن وصف الرسولَ صلى ال عليه وسم بالجنون؛ ومنهم مَنْ وصف القرآن بأنه ِ
ومن هؤلء مَ ْ
ومنهم مَنْ وصفَ الرسول بأنه ساحر.
ثم يقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ { :فوَرَ ّبكَ لَنَسْأَلَ ّن ُهمْ.} ...
()1877 /
ج َمعِينَ ()92
َفوَرَ ّبكَ لَ َنسْأَلَ ّنهُمْ َأ ْ
وهنا يُقسِم الحق سبحانه بصفة الربوبية التي تعهدتْ رسوله بالتربية والرعاية ليكون أهلً للرسالة
أنه لن يُسلِمه لحد ،وهو سبحانه مَنْ قال {:وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه.]39 :
أي :أن كل رسول هو مصنوع ومَحْميّ بإرادته سبحانه؛ وتلك عناية الحماية للمنهجية الخاصة،
خلْقه جميعا؛ والرسل إنما
وعناية المصطفين الذين يحملونَ رسالته إلى الخَلْق؛ فقد رزق سبحانه َ
يأتون لمهمة تبليغ المنهج الذي يُدير حركة الحياة؛ لذلك ل ُبدّ أن يُوفّر لهم الحق سبحانه عناية من
نوع خاص.
وقَوْل الحق سبحانه هنا:
ج َمعِينَ } [الحجر.]92 :
{ َفوَرَ ّبكَ لَنَسْأَلَ ّن ُهمْ أَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُبيّن لنا أنه سيسألهم سبحانه عن أدقّ التفاصيل؛ ومجرد توجيه السؤال إليهم فيه َلوْن من العذاب.
ويحاول البعض ِممّنْ يريدون أنْ يعثروا على تعارض في القرآن أن يقولوا :كيف يقولَ ال مرة{:
س َولَ جَآنّ }[الرحمن.]39 :
فَ َي ْومَئِ ٍذ لّ ُيسَْألُ عَن ذَن ِبهِ إِن ٌ
ويقول في اكثر من موقع بالقرآن أنه سيسأل هؤلء المُكذّبين؛ فكيف يُثبِت السؤالَ مرة ،وينفيه
مرة أخرى؟
ونقول لهؤلء :أنتم تستقبلون القرآن بسطحية شديدة ،فهذا الذي تقولون إنه تعارض إنما هو مجرد
ظاهر من المر ،وليس تعارضا في حقيقة المر.
ونحن نعلم أن السؤال ـ أيّ سؤال ـ له ُمهِمتان ،ال ُمهِمة الولى :أن تعلم ما تجهل .والمهمة
الثانية :لتقرّ بما تعلم.
ل فهو ينفي أن أحدا سيُخبره بما ل يعلم سبحانه؛ وحين يثبت
والحق سبحانه حين ينفي سؤا ً
السؤال؛ فهذا يعني أنه سيسألهم سؤالَ القرار.
وهكذا نعلم أن القرآن إذا أثبت حدثا مرة ونفَاهُ مرة أخرى ،فاعلم أن الجهة مُنفكّة ،أي :أن جهة
ل منهما لها معنًى مختلف.
النفي غَيْر جهة الثبات ،وكُ ّ
وقوله هنا:
ج َمعِينَ } [الحجر.]92 :
{ َفوَرَ ّبكَ لَنَسْأَلَ ّن ُهمْ أَ ْ
عمّا
عمّا عملوا .ثم يقول الحق سبحانهَ { :
ضلْ ،والتابع والمتبوع سَيُسألون َ
يعني أن الضّال وال ُم ِ
كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }.
()1878 /
والعمل كما نعلم هو اتجاه جارحة إلى مُتعلّقها؛ فجارحةُ العين مُتعلّقها أنْ ترى؛ وجارحةُ اللسان
مُتعلّقها أن تتكلم ،وجارحةُ اليد إما أنْ تُربّت ،وإما أنَ تبطشَ.
وهكذا ف ُكلّ ما تصنعه ملكَاتُ الدراك في النفس البشرية نُسمّيه عملً .وسبق أن علمنا أن العمل
ينقسم إلى قول وفعل.
عمّا َت ْعمَلُونَ }[البقرة.]74 :
ويقول الحق سبحانهَ {:ومَا اللّهُ ِبغَا ِفلٍ َ
أي :تذكّروا أن ال سبحانه وتعالى ل يغيب عنه شيء ،وأن كل ما تعملونه يعلمه ،وأنكم ملقونه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يوم القيامة ومحتاجون إلى رحمته ومغفرته.
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :فَاصْ َدعْ ِبمَا ُت ْؤمَرُ.} ...
()1879 /
فَاصْ َدعْ ِبمَا ُت ْؤمَرُ وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلمُشْ ِركِينَ ()94
أي :افرغ ِلمُهمتك؛ فالصّدع تصنع شقا في متماسك ،كما نشق زجاجا بالمشرط الخاص بذلك ،أو
ونحن نصنع شقا في حائط .والرسول صلى ال عليه وسلم قد جاء لِيشقّ الكفر ويهدم الفساد القوي
المتماسك الذي َيقْوي بقوة صناديد قريش.
ق في أيّ شيء من الممكن أنْ يلتئ َم إل
وقد شاع ذلك المصطلح " الصدع " في الزجاج؛ لن أيّ ش ّ
في الزجاج؛ لنه يصعب أن يجمع النسان الفتافيت والقطع الصغيرة التي تنتج من صدعه ،وقد
جاء اليمان ليصدع بنيان الكفر والفساد المتماسك.
وقول الحق سبحانه:
{ وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلمُشْ ِركِينَ } [الحجر.]94 :
أي :أَعْطِهم عرض كتفيك ،ول تسأل عنهم؛ َفهُم لن يُسلِموا لك ،ذلك أنهم مستفيدون من الفساد
الذي جِ ْئتَ أنت لتهدمه ،ولكنهم سيأتون لك تباعا بعد أن تتثبت دعوتُك ،وتصل قلوبهم إلى تيقّن أن
ما جئتَ به هو الحق.
والمثَل هو إسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص؛ فقد قال " :لقد استقر المر لمحمد ،ولم َتعُدْ
معارضتنا له تفيد أحدا " ،ودخلَ السلم.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :إِنّا َكفَيْنَاكَ.} ...
()1880 /
فبعد أنْ قال له {:وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[الحجر.]94 :
وبعد أن ثبت لكل مَنْ عاش تلك الفترة أن كل مُستهزيء بمحمد صلى ال عليه وسلم قد ناله عقاب
من السماء .فها هو ذا الوليد بن المغيرة الذي يتبختّر في ثيابه؛ فيسير على قطعة من الحديد،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فيأ َنفُ أن ينحنيَ لِيُخلّص ثوبه الذي اشتبك بقطعة الحديد؛ فتُجرح قدمه وتُصاب بالغرغرينا
ن يموتَ.
ويقطعونها له ،ثم تنتشر الغرغرينا في ُكلّ جسده إلي أ ْ
وها هو الثاني السود بن عبد يغوث يُصاب بمرض في عينيه؛ ويُصاب بالعمَى ،وكذلك الحارث
بن الطلطلة ،والعاصي بن وائل.
وكل مستهزيء برسول ال صلى ال عليه وسلم قد ناله عقابٌ ما ،ومَنْ لم ُتصِبْه عاهة أو آفة
صرعتْه سيوف المسلمين في بدر ،لدرجة أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد حدد المواقع التي
سيلْقى فيها كل واحد من صناديد قريش حَتْفه؛ فقال :هنا مصرع فلن ،وهناك مصرع فلن.
وقد أوضح صلى ال عليه وسلم تلك المواقع من قبل أن تبدأ المعركة ،ونعلم أن الحرب تتطلب
كَرا وفَرا ،ولكن ما تنبأ به رسول ال صلى ال عليه وسلم قد حدث بالضبط.
جعَلُونَ مَعَ اللّهِ.} ...
ويُحدّد الحق سبحانه نوعية هؤلء المستهزئين بقوله { :الّذِينَ َي ْ
()1881 /
أي :أن هؤلء المشركين الذين َيهْزءون بك لهم عذابهم؛ ذلك أنهم أشركوا بال سبحانه ،وحين
يقول الحق سبحانه:
سوْفَ َيعَْلمُونَ } [الحجر.]96 :
{ َف َ
ففي هذا القول استيعاب لكل الزمنة ،أي :سيعلمون الن ومن بعد الن ،فكلمة " سوف " تتسع
لكل المراحل ،فالحق سبحانه لم يأخذهم جميعا في مرحلة واحدة ،بل أخذهم على فترات.
فحين يأخذ المُتطرّف في اليذاء؛ قد يرتدع مَنْ يُؤذِي ،ويتراجع عن الستمرار في اليذاء ،وقد
شدّته على رسول ال صلى ال عليه وسلم تصبح تلك
يتحوّل بعضهم إلى اليمان؛ فمَنْ كانت ِ
الشدة في جانب الرسول صلى ال عليه وسلم.
ل واضح في عكرمة بن أبي جهل؛ ُيصَاب في موقعة اليرموك؛ فيضع رأسه على فَخذِ
وها هو الم َث ُ
خالد بن الوليد ويسأله :يا خالد ،أهذه ميتة تُرضِي عني رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ فيرد
خالد " :نعم " .فيُسلِم الروح مُطْمئنا.
وهؤلء المستهزئون؛ قد أشركوا بال؛ فلم تنفعهم اللهة التي أشركوها مع ال شيئا ،وحين يتأكد
لهم ذلك؛ َفهُمْ يتأكدون من صدق رسول ال صلى ال عليه وسلم فيما أبلغ عن الحق سبحانه.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وََلقَدْ َنعَْلمُ أَ ّنكَ.} ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1882 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهنا نجد أن الحق سبحانه يشرح عملية الصعود وكأن فيها مجاهدةً ومكابدةً ،وهذا يخالف المسألة
ت إلى أعلى وجدتَ الهواء اكثرَ نقاءً.
المعروفة بأنك إذا صعد َ
وقد ثبت أن النسان كلما صعد إلى أعلى في الفضاء فلن يجد هواء.
ويدلّ الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسم على علج لمسألة ضيق الصدر حين يُحزنه أو
ح ْمدِ رَ ّبكَ.} ..
يؤلمه مُكذّب ،أو مُسْتهزيء؛ فيقول سبحانه { :فَسَبّحْ بِ َ
()1883 /
وهكذا يمكن أن ُتذْهب عنك أيّ ضيق ،أن تسبح ال .وإذا ما جافاكَ البِشْر أو ضايقك الخَلْق؛ فاعلم
أنك قادر على الُنْس بال عن طريق التسبيح؛ ولن تجد أرحم منه سبحانه ،وأنت حين تُسبّح ربك
فأنت تُنزّهه عن ُكلّ شيء وتحمده ،لتعيش في كَنَف رحمته.
ولذلك نجده سبحانه يقول في موقع آخر {:فََل ْولَ أَنّهُ كَانَ مِنَ ا ْل ُمسَبّحِينَ * َللَ ِبثَ فِي َبطْنِهِ إِلَىا َيوْمِ
يُ ْبعَثُونَ }[الصافات.]144-143 :
ولذلك إذا ضاق صدرك في السباب فاذهب إلى المُسبّب.
ونحن دائما نقرن التسبيح بالحمد ،فالتنزيه يكون عن النقائص في الذات أو في الصفات أو في
الفعال ،وسبحانه كاملٌ في ذاته وصفاته وأفعاله ،فذاتُه ل تُشْبِه أيّ ذات ،وصفاته أزلية ُمطْلقة،
أما صفات الخَلْق فهي موهبة منه وحادثة.
جلّ وعَل يقول في مسألة التسبيح{:
وأفعال الحق ل حاكمَ لها إل مشيئته سبحانه ،ولذلك نجده َ
سُ ْبحَانَ الّذِي خَلَق الَزْوَاجَ كُّلهَا[} ..يس.]36 :
وهو القائلَ {:فسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ ُتمْسُونَ وَحِينَ ُتصْبِحُونَ }(الروم.]17 :
وكُلّ من المساء والصباح آية منه سبحانه؛ فحين تغيب الشمس ،فهذا إذْنٌ بالراحة ،وحين تصبح
الشمس فهذا إِذْنٌ بالنطلق إلى العمل ،وتسبيح المخلوق للخالق هو المر الذي ل يشارك الَ فيه
أحدٌ من خَلْقه أبدا.
فكأن سَلْوى المؤمن حين تضيق به أسباب الحياة أنْ يفزَع إلى ربه من قسوة الخَلْق؛ ليجد الراحة
النفسية؛ لنه يَأْوي إلى ُركْن شديد.
ونجد بعضا من العارفين بال وهم يشرحون هذه القضية ليوجدوا عند النفس اليمانية عزاءً عن
جفْوة الخَلْق لهم؛ فيقولون " :إذا أوحشك من خَلْقه فاعلم أنه يريد أن يُؤنسك به ".
َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأنت حين تُسبّح ال فأنت ُتقِرّ بأن ذاته ليستْ كذاتِك ،وصفاته ليست كصفاتك ،وأفعاله ليست
عجْز وأغيار؛ أما
كأفعالك؛ وكل ذلك لصالحك أنت؛ فقدرتك وقدرة غيرك من البشر هي قدرة َ
قدرته سبحانه فهي ذاتية فيه ومُطْلقة وأَزلية ،وهو الذي يأتيك بكُل النّعم.
ن يكونَ مثلك ،والحمد ل
ولهذا فعليك أنْ تصحبَ التنزيه بالحمد ،فأنت تحمد ربك لنه مُنزّه عن أ ْ
واجب في كل وقت؛ فسبحانه الذي خلق المواهب كلها لِتخ ُدمَك ،وحين ترى صاحب موهبة
وتغبطه عليها ،وتحمد ال أنه سبحانه قد وهبه تلك الموهبة؛ فخيْرُ تلك النعمة يصِل إليك.
وحين تُسبّح بحمد ال؛ فسبحانه ل يُخلِف وَعْده لك بكل الخير؛ َفكُلّنا قد نُخلِف الوعد رغما عَنّا،
حتَ ال وحمدته.
لننا أغيار؛ أما سبحانه فل يُخلِف وعده أبدا؛ ولذلك تغمرك النعمة كلما سبّ ْ
ج ْد امتثالً لمره تعالى:
وزِدْ خضوعا للمُ ْنعِم ،فاس ُ
{ َوكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ } [الحجر.]98 :
فالسجود هو المَظْهر الواسع للخضوع ،ووجه النسان ـ كما نعلم ـ هو ما تظهر به الوجاهة؛
وبه تَ ْلقَى الناس؛ وهو أول ما تدفع عنه أيّ شيء يُلوّثه أو ينال من رضاك عنه.
ومَنْ يسجد بأرقى ما فيه؛ فهذا خضوع يُعطي عِزّة ،ومَنْ يخضع ل شكرا له على نعمه فسبحانه
يعطيه من العزة ما يكفيه كل َأوْجُه السجود ،وكُلّنا نذكر َقوْل الشاعر:وَالسّجـود الذِي تَـجتـوِيه
فِـيهِ مِـن أُلـوفِ السّـجـودِ نَـجـاةٌوالسجود هو قمة الخضوع للحق سبحانه .والنسان يكره
لفظ العبودية؛ لن تاريخ البشرية حمل كثيرا من المظالم نتيجة عبودية البشر للبشر .وهذا النوع
من العبودية يعطي ـ كما نعلم ـ خَيْر العبد للسيد؛ ولكن العبوديةَ ل تعطي خَيْره سبحانه للعباد،
وفي ذلك ِقمّة التكريم للنسان.
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :وَاعْبُدْ رَ ّبكَ.} ...
()1884 /
ونعرف أن العبادة هي إطاعة العابد لوامر المعبود إيجابا أو سَلْبا ،وتطبيق " افعل " و " ل تفعل "
،وكثيرٌ من الناس يظنون أن العبادة هي المور الظاهرية في الركان الخمسة من شهادة أن ل
إله إل ال ،وإقامة الصلة؛ وإيتاء الزكاة؛ وصوم رمضان؛ وحِجّ البيت ِلمَن استطاع إليه سبيلً.
ونقول :ل ،فهذه هي الُسس التي تقوم عليها العبادة .أي :أنها البِنْية التي تقوم عليها بقية العبادة،
وهكذا تصبح العبادة هي ،كُل ما ل يقوم الواجب إل به فهو واجب ،أي :أن حركة الحياة كلها ـ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حتى كَنْس الشوارع ،وإماطة الذى عن الطريق ـ هي عبادة ،كل ما يُقصد به َنفْع الناس عبادة،
كي ل يصبح المسلمون عالة على غيرهم.
وفي إقامة الركان إظهارٌ لقوة المسلمين ،حين يُظهِرون كامل الولء ل بإقامة الصلة خمس
مرات في اليوم الواحد ،فيترك المسلم عمله َفوْر أنْ يسمع النداء بـ " ال أكبر " فيخرج المسلم
من صراعات الحياة ،ويعلن الولء للخالق المنعم.
وحين يصوم المسلم شهرا في السنة؛ فهو يُعلِن الولء للخالق الكرم ،ويصوم عن أشياء كثيرة
كانت مُبَاحة؛ وأوّل ما يأتي موعد المساك من قَبْل صلة الفجر بقليل؛ فهو يمتنع فورا.
وهذا المتثال لوامر الحق سبحانه يُذكّرك بنعمه عليك؛ فأنت في يومك العادي ل تقرب
المُحرّمات التي أخذتْ وقتا أثناء بدايات الدين إلى أن امتنع عنها المسلمون ،فل أحدَ من المسلمين
يُفكّر في شُرْب الخمر؛ ول أحدَ منهم يُفكّر في لعب المَيْسِر ،وانطبعتْ تلك المور؛ وصارتْ عادة
سلوكية في إلْف ورتَابة عند غالبية المسلمين ِممّنْ يُنفّذون شريعة ال ،ويُطبّقون " افعل " و " ل
تفعل ".
وعندما يأتي الصوم فأنت تمتنع عن أشياء هي حلل لك طوال العالم ،وتقضي أي نهار في
رمضان ونفسُك تستشرف سماع أذان المغرب لِتُفطر.
وهكذا تمتثل للمر بالمتناع والمساك والمر بالفطار ،وذلك لِي ُعوّدك على الكثير من الطاعات
التي تصير عند المؤمنين عادةً؛ وسبحانه يريد أنْ يُديم عليك لذّة التكليف العبادي.
وبعْضٌ من الناس يذهبون مذاهب الخطأ عندما يفسرون بأهوائهم قوله الحق:
{ وَاعْبُدْ رَ ّبكَ حَتّىا يَأْتِ َيكَ الْ َيقِينُ } [الحجر.]99 :
ويقول الواحد من هؤلء مخادعا الغير " لقد وصلت إلى مرتبة اليقين " ،ويمتنع عن أداء
الفروض من صلة وصوم وزكاة وحِجّ إلى بيت ال الحرام رغم استطاعته ،ويدّعِي أن التكليف
قد سقط عنه؛ لن اليقين قد وصله.
ظلّ
ونقول لمن يدّعي ذلك :أَتُخادع ال ورسوله؟ وكُلّنا يعلم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم َ
يُؤدّي الفرائض حتى آخر يوم في حياته .وكُلّنا يعلم أن اليقين المُتفق عليه والمُتيقن من كل البشر،
ول خلفَ عليه أبدا هو الموت.
أما اليقين بالغيبيات فهو من خُصوصيات المؤمن؛ فما أنْ بلغه أمرها من القرآن فقد صَدّقها ،ولم
يسأل كيف يتأتّى أمرُها .والم َثلُ الواضح هو أبو بكر الصديق حينما كانوا يُحدّثونه بالمر الغريب
من رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فكان يقول " مادام قد قال فقد صدق ".
ك في كل شيء غيبيّ أو حتى ماديّ ما لم يكن محسوسا لديه،
أما الكافر ـ والعياذ بال ـ فهو يش ّ
ولكن ما أنْ يأتيه الموت حتى يعلمَ أنه اليقين الوحيد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك نجد عمر بن عبد العزيز يقول " :ما رأيت يقينا أشبه بالشكّ من يقين الناس بالموت ".
وكلنا نتيقن أننا سوف نموت؛ لكِنّا نُزحزِح مسألة اليقين هذه بعيدا عَنّا رَغْم أنها واقعةٌ ل محالةَ.
فإذا ما جاء الموت ،نقول :ها هي اللحظة التي ل ينفع فيها شيء إل عمل النسان إنْ كان مؤمنا
مُؤدّيا لحقوق ال.
ولذلك أقول دائما :إن اليقين هو تصديق المر تصديقا مؤكدا ،بحيث ل يطفو إلى الذهن لِيُناقش
من جديد ،بعد أن تكون قد علمته من مصادر تثق بصدق ما تَبلغك به.
أما عَيْن اليقين؛ فهي التي ترى الحدث فتتيقّنه ،أو هو أمر حقيقيّ يدخل إلى قلبك فَتُصدقه ،وهكذا
يكون لليقين مراحل :أمر تُصدّقه تَصديقا جازما فل يطفو إلى الذهن لِيُناقَش من جديد ،وله
مصادر عِلْم ِممّنْ تثق بصدقه ،أو :إجماع من أناس ل يجتمعون على الكذب أبدا؛ وهذا هو " علم
اليقين "؛ فإنْ رأيتَ المر بعينيك فهذا هو حق اليقين.
والمؤمن يُرتّب تصديقه وتيقّنه على ما بلغه من رسول ال صلى ال عليه وسلم.
وها هو المام عليّ ـ كرّم ال وجهه وأرضاه ـ يقول " :ولو أن الحجاب قد انكشف عن المور
التي حدثنا بها رسول ال غيبا ما ازددتُ يقينا ".
" وها هو سيدنا حارثة ـ رضي ال عنه ـ يقول " :كأنّي أنظر إلى أهل الجنة في الجنة يُنعّمون،
وإلى أهل النار في النار يُعذّبون ،فيقول له رسول ال صلى ال عليه وسلم " :عرفت فالزم ".
وذلك هو اليقين كما آمنَ به صحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم.
()1885 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اليمان؛ وإما أنْ يرى ذلك بعينيه أو إنْ قبض الحق أجلَه فسيراها في الخرة.
وعن حال الرسول صلى ال عليه وسلم قال سبحانه {:إِنّا َكفَيْنَاكَ ا ْلمُسْ َتهْزِئِينَ }[الحجر.]95 :
وأنذر الحق سبحانه أهل الشرك بأنهم في جهنم في اليوم الخر ،وهنا يقول سبحانه:
{ أَتَىا َأمْرُ اللّهِ } [النحل.]1 :
شقّ
وهذا إيضاحٌ بمرحلة من مراحل الخبار بما يُنذِرون به ،كما قال مرة {:اقْتَرَ َبتِ السّاعَ ُة وَان َ
ا ْل َقمَرُ }[القمر.]1 :
أي :اقتربتْ ساعة القيامة التي يكون من بعدها حسابُ الخرة والعذاب ِلمَنْ كفر ،والجنة ِلمَنْ آمنَ
وعمِل صالحا ،فاقترابُ الساعة غَيْر مُخيف في ذاته ،بل مُخيف ِلمَا فيه من الحساب والعقاب.
سمِعوا قول الحق سبحانه {:اقْتَرَ َبتِ السّاعَةُ }[القمر.]1 :
وقيل :إن أهلَ الكُفْر لحظة أنْ َ
قالوا " :فلننتظر قليلً؛ فقد يكون ما يُبلّغ به محمد صحيحا " وبعد أن انتظروا بعضا من الوقت،
ولم تَ ْأتِ الساعة كما بَشّر الرسول الكريم صلى ال عليه وسلم قالوا :انتظرنا ولم تَ ْأتِ الساعة،
فنزل قول الحق سبحانه {:اقْتَ َربَ لِلنّاسِ حِسَا ُبهُمْ }[النبياء.]1 :
وهذا حديث عن المر الذي سيحدث فوْرَ قيام الساعةَ ،فهَادنُوا وانتظروا قليلً ،ثم قالوا :أيْنَ
الحساب إذن؟ فنزل قوله تعالى:
{ أَتَىا َأمْرُ اللّهِ[ } ..النحل.]1 :
سمِع ال ُكلّ ذلك فَزِعوا؛ بمن فيهم من المسلمين؛ وجاء السعاف في قوله من بعد ذلك:
وساعة َ
{ فَلَ َتسْ َتعْجِلُوهُ[ } ...النحل.]1 :
أي :أن المر الذي يُعلنه محمد صلى ال عليه وسلم ل يعلم ميعادَه إل ال سبحانه؛ واطمأنّ
المسلمون.
وكُلّ حدث من الحداث ـ كما نعلم ـ يحتاج ُكلّ منها لظرفيْن؛ ظ ْرفِ زمانٍ؛ وظ ْرفِ مكان.
والفعال التي تدلّ على هذه الظروف إما ِفعْل مَاض؛ فظ ْرفُه كان قبل أن نتكلَم ،وفعلٌ مضارع.
حلّ ،إل إنْ كان مقرونا بـ " س " أو بـ " سوف ".
أي :أنه َ
ن كان مقرونا بـ " س " أو في المستقبل غير المحدد
أي :أن الفعل سيقع في مستقبل قريب إ ْ
والبعيد إن كان مسبوقا بـ " سوف " ،وهكذا تكون الفعال ماضيا ،وحاضرا ،ومستقبلً.
وكلمة (أتى) تدلّ على أن الذي يُخبرك به ـ وهو ال سبحانه ـ إنما يُخبِرك بشيء قد حدث قبل
الكلم ،وهو يُخبِر به ،والبشر قد يتكلّمون عن أشيا َء وقعتْ؛ ويُخبِرون بها بعضَهم البعض.
ولكن المتكلّم هنا هو الحقّ سبحانه؛ وهو حين يتكلّم بالقرآن فهو سبحانه ل ينقص عِلْمه أبدا ،وهو
علم أَزَليّ ،وهو قادر على أن يأتيَ المستقبل َوفْق ما قال ،وقد أع ّد توقيت ومكان كُل شيء من
قبل أنْ يخلقَ؛ وهو سبحانه خالق من قبل أن يخلق أي شيء؛ فالخَلْق صفة ذاتية فيه؛ وهو مُنزّه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في كل شيء؛ ولذلك قال:
} أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ َتسْ َتعْجِلُوهُ سُ ْبحَانَهُ { [النحل.]1 :
أي :أنه العليمُ بزمن وقوع ُكلّ حدَث ،وقد ثبت التسبيح له ذاتا من قَبْل أن يوجد الخَلْق؛ فهو
ل وَال ّنهَا َر لَ َيفْتُرُونَ }[النبياء.]20 :
القائل {:يُسَبّحُونَ الّي َ
ثم خلق السماوات وخلق الرض وغيرهما.
أي :أنه مُسبّح به من قَبْل خَلْق السماوات والرض ،وهو القائل سبحانه {:سَبّحَ لِلّهِ مَا فِي
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ }[الحشر.]1 :
ال ّ
ت َومَا
سمَاوَا ِ
ولكن هل انتهى التسبيح؟ ل ،بل التسبيح مُستمِرّ أبدا ،فهو القائلُ {:يسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ
فِي الَ ْرضِ }[الجمعة.]1 :
إذن :فقد ثبتتْ له " السّ ْبحَانية " في ذاته ،ثم وجد الملئكة يُسبّحون الليلَ والنها َر ول يفترُون ،ثم
خلق السماء والرض ،فسبّح ما فيهما وما بينهما؛ وجاء خَلْقه يُسبّحون أيضا ـ فيا مَنْ آمنتَ بال
إلها سَبّح كما سَبّحَ ُكلّ الكون.
ولقائل أنْ يسألَ :وما علقة " سبحانه وتعالى " بما يُشرِكون؟ ونعلم أنهم أشركوا بال آله ًة ل
تُكلّفهم بتكليف تعبّدي ،ولم تُنزِل منهجا؛ بل تُحلّل لهم ُكلّ مُحرّم ،وتنهاهم عن بعضٍ من الحلل،
وتخلوْا بذلك عن اتباع ما جاء به الرّسل مُبلّغين عن ال من تكليف يحمل مشقّة اليمان.
وهؤلء هم مَنْ سيلقوْنَ ال ،وتسألهم الملئكة :أين هم الشركاء الذين عبدتموهم مع ال؟ ولن يدفَع
عنهم أحدٌ َهوْلَ ما يلقونه من العذاب.
وهكذا تع ّرفْنا على أن تنزيه ال سبحانه وتعالى ذاتا وصفاتا وأفعالً هو أمر ثابتٌ له قَبْل أنْ يُوجَد
شيء ،وأمرٌ قد ثبت له بعد الملئكة ،وثبتَ له بعد وجود السماوات والرض .وهو أمر طلب ال
من العبد المُخيّر أن يفعله؛ وانقسم العبادُ قسمين ،قِسْم آمن وسبّح ،وقِسْم له يُسبّح فتعالى عنهم
الحق سبحانه لنهم ُمشْركون.
ويقول سبحانه من بعد ذلك } :يُنَ ّزلُ ا ْلمَل ِئكَةَ.{ ...
()1886 /
يُنَ ّزلُ ا ْلمَلَا ِئكَةَ بِالرّوحِ مِنْ َأمْ ِرهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِدهِ أَنْ أَ ْنذِرُوا أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا أَنَا فَا ّتقُونِ ()2
وساعة نقرأ قوله { يُنَ ّزلُ } فالكلمة تُوحِي وتُوضّح أن هناك عُلوا يمكن أن ين ِزلَ منه شيء على
حبّ أنْ أضربه هنا لوضحَ هذا المر هو َقوْل الحق سبحانهُ {:قلْ َتعَاَلوْاْ أَ ْتلُ
أسفل .والمَثلُ الذي أُ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مَا حَرّمَ رَ ّبكُمْ }[النعام.]151 :
أي :أقبلوا لتسمعوا مِنّي التكليفَ الذي نزل لكم ِممّنْ هو أعلى منكم ،ول تظلّوا في حضيض
الرض وتشريعاتها ،بل تَساموا وخُذوا المر ِممّنْ ل هَوى لَه في أموركم ،وهو الحق العلى.
أما مَنْ ينزلون َفهُم الملئكة ،ونعلم أن الملئكة خَلْق غيبيّ آمنّا به؛ لن ال سبحانه قد أخبرنا
بوجودهم .وكُلّ ما غاب عن الذّهْن ودليله السماع ِممّنْ تثق بصدقه ،وقد أبلغنا صلى ال عليه
وسلم ما نزلَ به القرآن وأنبأنا بوجود الملئكة ،وأن الحق سبحانه قد خلقهم؛ ورغم أننا ل نراهم
إل أننا نُصدّق ما جاء به البلغ عن الحق من الصادق الصّدُوق محمد صلى ال عليه وسلم.
وحين يقول الحق سبحانه:
{ يُنَ ّزلُ ا ْلمَل ِئكَةَ بِالْرّوحِ مِنْ َأمْ ِرهِ عَلَىا مَن َيشَآءُ مِنْ عِبَا ِدهِ } [النحل.]2 :
فنحن نعلم أنه ل يمكن أنْ ينزلَ شيءٌ من أعلى إلى الدْنى إل بواسطة المُقربات .وقد اختار الحق
سبحانه ملكا من الملئكة لِيُبلّغ رُسُله بالوحي من ال ،والملئكة كما أخبرنا الحق سبحانه {:عِبَادٌ
ل وَهُمْ بَِأمْ ِرهِ َي ْعمَلُونَ }[النبياء.]27-26 :
ّمكْ َرمُونَ * لَ يَسْ ِبقُونَهُ بِا ْل َقوْ ِ
ويقول في آية أخرى {:لّ َي ْعصُونَ اللّهَ مَآ َأمَرَهُمْ وَيَ ْفعَلُونَ مَا ُي ْؤمَرُونَ }[التحريم.]6 :
ب إلى
وهم من نور ،ول تصيبهم الغيار ،ول شهوةَ لهم فل يتناكحون ول يتناسلون؛ وهم أقر ُ
صفَاء .وهم مَنْ يُمكِنهم التلقّي من العلى ويبلغون الَدْنى.
ال ّ
لمِينُ }[الشعراء.]193 :
حاَ
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول عن القرآن {:نَ َزلَ ِبهِ الرّو ُ
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ يُنَ ّزلُ ا ْلمَل ِئكَةَ } [النحل.]2 :
ل َومِنَ
طفِي مِنَ ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُ ً
صَوالية الجمالية التي تشرح ذلك هو َق ْولُ الحق سبحانه {:اللّهُ َي ْ
سمِيعٌ َبصِيرٌ }[الحج.]75 :
النّاسِ إِنّ اللّهَ َ
أي :أنه سبحانه يختار ملئكة قادرين على التلقّي منه لِ ُيعْطوا المصطفين من الناس؛ لِيُبلّغ هؤلء
ال ُمصْطفين عن ال لبقية الناس.
لدْنى طاقة ليتحمّل ما تتنزّل به المور العُلْوية مباشرة
ذلك أن العُلْويات العالية ل يملك الكائن ا َ
من الحق سبحانه.
وسبق أنْ شبّهتْ ذلك بالمُحوّل الذي نستخدمه في الكهرباء لينقل من الطاقة العالية إلى الَدْنى من
المصابيح " ،وكُلّنا يعلم ما حدث للرسول صلى ال عليه وسلم حين تلقّى الوحي عبر جبريل عليه
السلم " فَضمّني حتى بلغ مِنّي الجهد " وتفصد جبينه الطاهر عرقا ،وعاد إلى بيته ليقول "
زملوني زملوني " و " دثروني دثروني ".
ذلك أن طاقة عُلْوية نزلت على طاقة بشرية ،على الرغم من أن طاقة رسول ال هي طاقة
ُمصْطفاة .ثم يألف الرسول الوحي وتخفّ عنه مِثْل تلك العباء ،وينزل عليه قوله الحق:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظهْ َركَ * وَ َر َفعْنَا َلكَ ِذكْ َركَ * فَإِنّ
ك وِزْ َركَ * الّذِي أَنقَضَ َ
{ أََلمْ نَشْرَحْ َلكَ صَدْ َركَ * َو َوضَعْنَا عَن َ
مَعَ ا ْلعُسْرِ ُيسْرا * إِنّ َمعَ ا ْلعُسْرِ ُيسْرا }[الشرح.]6-1 :
ثم يفتر الوحي لبعض من الوقت لدرجة أن النبي صلى ال عليه وسلم يشتاق إليه ،فلماذا اشتاق
للوحي وهو مَنْ قال " دثّروني دثّروني "؟
ن يتعوّد محمد صلى ال عليه وسلم على متاعب نُزول المَلَك؛ فتزولُ
لقد كان فُتور الوحي بسبب أ ْ
متاعب اللتقاء وتبقى حلوة ما يبلغ به.
وقال بعض من الغبياء " :إن ربّ محمد قد قله ".
س ْوفَ ُي ْعطِيكَ
ن الُولَىا * وَلَ َ
ك َومَا قَلَىا * وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ ّلكَ مِ َ
عكَ رَ ّب َ
فينزل قوله سبحانه {:مَا وَدّ َ
رَ ّبكَ فَتَ ْرضَىا }[الضحى.]5-3 :
ن متعددة ،فهي مرّة الروح التي بها الحياة في المادة ليحدث
وكلمة الروح وردتْ في القرآن بمعَا ٍ
جدِينَ }[الحجر.]29 :
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي َفقَعُواْ لَهُ سَا ِ
سوّيْتُ ُه وَنَفَ ْ
بها الحسّ والحركة {:فَإِذَا َ
ث للمؤمن والكافر ،وهناك رُوح ُأخْرى تعطي حياةً أعلى من الحياة
وهذا النفْخ في المادة يحد ُ
الموقوتة {:وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت.]64 :
إذن :فالملئكة تنزل بالبلغ عن ال بما فيه حياة أَرْقى من الحياة التي نعيش بها ونتحرّك على
الرض .وهكذا تكون هناك رُوحان ل روحٌ واحدة؛ رُوح للحِسّ والحركة؛ وروح تُعطي القِيم
التي تقودنا إلى حياة أخرى أَرْقى من الحياة التي نحياها؛ حياةٌ ل فناءَ فيها.
ولذلك يُسمّى الحق سبحانه القرآن روحا؛ فيقولَ {:وكَذَِلكَ َأ ْوحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا مَا كُنتَ
ب َولَ الِيمَانُ }[الشورى.]52 :
تَدْرِي مَا ا ْلكِتَا ُ
لمِينُ * عَلَىا
ويُسمّى الحق سبحانه المَلكَ الذي ينزل بالقرآن روحا ،فيقول {:نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ ا َ
قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ }[الشعراء.]194-193 :
ويشرح الحق سبحانه أن القرآن روحٌ تعطينا حياةً أَرْقى ،فيقول {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْ َتجِيبُواْ للّهِ
وَلِلرّسُولِ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ }[النفال.]24 :
خوْف أن تفقد النعمة أو تذهب عنك
ت فيها ول َ
أي :يدخل بكم إلى الحياة البدية التي ل موْ َ
النعمةُ.
وهنا يُبلّغنا سبحانه أن القرآن ينزل مع الملئكة:
} يُنَ ّزلُ ا ْلمَل ِئكَةَ بِالْرّوحِ مِنْ َأمْ ِرهِ { [النحل.]2 :
أي :تنزيلً صادرا بأمره سبحانه ،ويقول الحق سبحانه في موقع آخر {:لَهُ ُم َعقّبَاتٌ مّن بَيْنِ َيدَيْهِ
حفَظُونَهُ مِنْ َأمْرِ اللّهِ }[الرعد.]11 :
َومِنْ خَ ْلفِهِ يَ ْ
والسّطْحيون ل يلتفتون إلى أنّ معنى {:مِنْ َأمْرِ اللّهِ }[الرعد.]11 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هنا تعني أنهم يحفظُونه بأمر من ال.
والمر هنا في الية ـ التي نحن بصدد خواطرنا عنها ـ هو ما جاء في الية الولى منها {:أَتَىا
َأمْرُ اللّهِ فَلَ تَسْ َتعْجِلُوهُ }[النحل.]1 :
وهذا المر هو نتيجة ِلمَا يشاؤه ال من حياة للناس على الرض ،ونعلم أن الحق سبحانه له أوامر
شيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن
مُتعدّدة يجمعها إبراز المعدوم إلى الوجود؛ فهو سبحانه القائل {:إِ ّنمَا َقوْلُنَا ِل َ
ّنقُولَ لَهُ كُنْ فَ َيكُونُ }
[النحل.]40 :
ن فيكون ،وإذا أراد منهجا؛ فهو يُنزله ،وإذا أراد حسابا
فإذا شاء أمرا جزئيا فهو يقول له :كُ ْ
وعقابا وساعةً؛ فهو القائل } أَتَىا َأمْرُ اللّهِ { وهكذا نفهم أن معنى } َأمْرُ اللّهِ { هو } كُنْ فَ َيكُونُ
{ أي :إخراج المعدوم إلى حَيّز الوجود؛ سواء أكان معدوما جزئيا ،أو معدوما كليا ،أو معدوما
أزليا.
وكُلّ ذلك اسمه أمر ،ولحظةَ أنْ يأمرَ ال؛ فنحن نَ ِثقُ أن مأمور ال يبرز؛ ولذلك قال سبحانه {:إِذَا
حقّتْ }[النشقاق.]2-1 :
ش ّقتْ * وََأذِ َنتْ لِرَ ّبهَا وَ ُ
سمَآءُ ان َ
ال ّ
أي :أنها لم تسمع المر فقط؛ بل نفّذتْه َفوْر صدوره؛ دون أَدْنى ذرة من تخلّف ،فأمْر ال يُنفّذ َفوْر
صدوره من الحق سبحانه ،أما َأمْر البشر فهو عُ ْرضَة لنْ يُطَاع ،وعُ ْرضَة لنْ يُعصَى.
وسبحانه يُنزّل الملئكة بالرّوح على مَنْ يشاء لِيُنذِروا؛ ولم يَ ْأتِ الحق سبحانه بالبشارة هنا؛ لن
الحديث مُوجّه للكفار في قوله {:أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ تَسْ َت ْعجِلُوهُ[} ...النحل.]1 :
ونزّه ذاته قائلً:
عمّا ُيشْ ِركُونَ { [النحل.]1 :
} سُبْحَانَهُ وَ َتعَالَىا َ
أو :أن الحق يُنبّه رسوله ،إنْ دخلتَ عليهم فُفسّر لهم مُ ْبهَم ما ل يعرفون .وهم ل يعرفون كيفية
ن يصطفي.
الصطفاء .وهو الحق العلم بمَ ْ
علَمُ
ومشيئته الصطفاء والجتباء والختيار إنما ت ِت ّم بمواصفات الحق سبحانه؛ فهو القائل {:اللّهُ أَ ْ
ج َعلُ ِرسَالَتَهُ[} ...النعام.]124 :
حَ ْيثُ َي ْ
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف:
علَىا رَ ُ
وعُلِم أن الكافرين قد قالواَ {:ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ َ
.]31
ح َمتَ رَ ّبكَ }[الزخرف.]32 :
سمُونَ َر ْ
وقال الحق سبحانه في َردّه عليهم {:أَ ُهمْ َيقْ ِ
فإذا كان الحق سبحانه قد َقسّم بين الخَلْق أرزاقهم في معيشتهم المادية؛ وإذا كان سبحانه قد رفع
بعضهم فوق َبعْض درجات؛ وهو مَنْ يجعل المرفوع مخفوضا؛ ويجعل المخفوضَ مرفوعا ،فكيف
يأتي هؤلء في المور القِيَميّة المُتعلّقة بالروح وبالمنهج ،ويحاولون التعديل على ال؛ ويقولون "
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نريد فلنا ول نريد فلنا "؟
ت لهؤلء أمر الوحي ،فعليك أنْ تُبلّغهم كلمة
أو :أن الحق سبحانه يوضّح لرسوله :بعد أنْ شرح َ
ال:
} لَ إِلَـاهَ ِإلّ أَنَاْ فَا ّتقُونِ { [النحل.]2 :
وما دام ل يوجد إلهٌ آخر فعلى الرسول أن يُسْدِي لهم النصيحة؛ بأن يقصروا على أنفسهم حَيْرة
البحث عن إله ،ويُوضّح لهم أنْ ل إله إل هو؛ وعليهم أنْ يتقوه.
ت ورفضتْ ُكفْر
خلْق ،وهو الحق الذي منع الكائنات التي تعجب ْ
وفي هذا حنان من الحق على ال َ
َب ْعضٍ من البشر بال؛ وطلبتْ أن تنتقمَ من النسان ،وقال لهم " :لو خلقتموهم لرحمتموهم ،دَعُوني
وخَلْقي؛ إنْ تابوا إليّ فأنا حبيبُهم؛ وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
وقَوْل الحق سبحانه:
} أَنْ أَنْذِرُواْ أَنّهُ لَ إِلَـاهَ ِإلّ أَنَاْ فَا ّتقُونِ { [النحل.]2 :
هو جماعُ عقائدِ السماء للرض؛ وجماعُ التعبّداتِ التي طلبها ال من خَلْقه لِيُنظّم لهم حركة الحياة
مُتساند ًة ل مُتعاندةً.
فكأن:
} أَنْ أَنْذِرُواْ أَنّهُ لَ إِلَـاهَ ِإلّ أَنَاْ فَا ّتقُونِ { [النحل.]2 :
هي تفسيرٌ ِلمَا أنزله ال على الملئكة من الرّوح التي قُلْنا من قبل :إنها الروح الثانية التي َيجِيء
بها الوَحْي؛ وتح ِملُ منهجَ ال ليضمن لِ ْلمُعتنِق حياة ل يزول نَعيمها ول المُتنعّم بها؛ وهي غَيْر
الروح الولى التي إذا نفخها الحق في النسان ،فالحياة تدبّ فيه حركةً وحِسا ولكنها إلي الفناء.
وكأن الحق سبحانه من رحمته بخَلْقه أن أنزلَ لهم المنهج الذي يهديهم الحياة الباقية بدلً من أنْ
يظلّوا َأسْرى الحياة الفانية وحدها.
ومن رحمته أيضا أن حذرهم من المصير السيئ الذي ينتظر مَنْ يكفر به؛ ومثل هذا التحذير ل
يصدر إل مِنْ مُحبّ؛ فسبحانه ُيحِب خَلْقه ،ويُحِب منهم أنْ يكونوا إليه مخلصين مؤمنين ،ويحب
لهم أنْ ينعموا في آخرة ل أسبابَ فيها؛ لنهم سيعيشون فيها بكلمة " كُنْ " من المُسبّب.
فإذا قال لهم } أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ أَنَاْ[ { ..النحل ]2 :فهو يُوضّح أنه ل إله غيره ،فل تشركوا بي
شيئا ،ول تكذبوا الرسل وعليكم بتطبيق منهجي الذي يُنظّم حياتكم وأُجازي عليه في الخرة.
وإياكم أنْ تغترّوا بأنّي خلقتُ السباب مُسخرة لكم؛ فأنا أستطيع أن أقبض هذه السباب؛ فقد أردتُ
الحياة بلءً واختبارا؛ وفي الخرة ل سُلْطان للسباب أبداّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }
[غافر.]16 :
وظاهر المر أن المُلْك ل في الخرة ،والحقيقة أن المُلْك ل دائما في الدنيا وفي الخرة؛ ولكنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شاء أنْ يجعلَ السباب ـ المخلوقة بمشيئته ـ تستجيب للنسان؛ فإياك أنْ تظنّ أنك أصبحتَ
ن يوجدَ نظامٌ يحكم
قادرا؛ فأنت في الحياة تملك أشياء ،ويملكك مَلِك أو حاكم مثلك؛ فسُنّة الكون أ ْ
الجميع.
ولكن الخرة يختلف المر فيها؛ فل مُ ْلكَ لحدٍ غير ال ،بل إن العضاء نفسها ل تسير بإرادة
حكْمَ لك عليها
أصحابها بل بإرادة الحق ،تلك العضاء التي كانت تخضع لمشيئتك في الدنيا؛ ل ُ
في الخرة ،بل ستكون شاهدة عليك.
فإن كان ال قد أعطاك القدرة على تحريك العضاء في الدنيا ،فإنْ وجّهتها إلى مأمور ال؛ فأنت
من عباده ،وإنْ لم تُوجهها إلى مطلوب ال ،فأنت من عبيده.
وبعد ذلك يُقدّم لك سبحانه الحيثية التي تُعزّز أمره بعبادته وحده ،وأنْ ل إله غيره؛ فإنه لم يطلب
أن نعبده إل بعد أنْ خلق لنا السماوات والرض؛ وكل الكون ال ُمعَد لستقبال النسان بالحق؛ أي
بالشيء الثابت؛ والقانون الذي ليس في اختيار أحد سواه سبحانه.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ.{ ...
ويقول سبحانه } :خَلَقَ ال ّ
()1887 /
عمّا يشركون معه من آلهة ،فل أحدَ قد ساعده في خَلْق الكون وإعداده؛ فكيف
أي :تنزّه سبحانه َ
تجعلون أنتم معه آلهة غيره؟ وسبحان مُنزّه عن أنْ يكون معه آلهة أخرى ،وسبحانه قد خلق لنَا
من قبل أن يخلقنا؛ خلق السماوات والرض وقدّر الرزاق ،ولو نظرتَ إلى خَلْقك أنت لوجدت
سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات.]21 :
العَالَم الكبير قد انطوى فيك؛ وهو القائلَ {:وفِي أَنفُ ِ
وأنت مخلوق من ماذا؟
ها هو الحق سبحانه يقول { :خَلَقَ الِنْسَانَ.} ....
()1888 /
والنطفة التي نجيء منها ،وهي الحيوان المَنَويّ الذي يتزاوج مع البويضة الموجودة في رَحم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طفَةً مّن مّ ِنيّ
سدًى * أَلَمْ َيكُ نُ ْ
سبُ الِنسَانُ أَن يُتْ َركَ ُ
حَالمرأة فتنتج العلقة ،وسبحانه القائل {:أَيَ ْ
ج َعلَ مِنْهُ ال ّزوْجَيْنِ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا }[القيامة.]39-36 :
سوّىا * فَ َ
ُيمْنَىا * ثُمّ كَانَ عََلقَةً َفخَلَقَ فَ َ
بل إن القَذْفة الواحدة من الرجل قد يوجد فيها من النسال ما يكفي خَلْق المليين؛ ول يمكن للعين
المُجرّدة أنْ ترى الحيوان المنويّ الواحد نظرا لِدقّته المتناهية.
وهذه الدقّة المُتناهية ل يمكن أنْ تُرى إل بالمجاهر ال ُمكّبرة ،ومطمور في هذا الحيوان المنويّ كُل
الخصائص التي تتحد مع الخصائص المَطْمورة في بُويْضة المرأة ليتكوّن النسان.
وقد صدق العقاد ـ يرحمه ال ـ حين قال " :إن نصف كستبان الخياطة لو مُلِيء بالحيوانات
المنوية َلوُلِد منه أنسال تتساوى مع تعداد البشر كلهم ".
ن المنويّ القوي؛ لِيُؤكّد لنا أن ل بقا ّء إل
وقد شاء الحق سبحانه أل ينفُذَ إلى البويضة إل الحيوا ُ
للصلح ،فإنْ كان الحيوان المنويّ يحمل الصفات الوراثية لميلد أنثى جاء المولد أنثى؛ وإنْ كان
يحمل الصفات الوراثية لميلد ال ّذكَر جاء المولود ذكرا.
وأنت ترى مِثْل ذلك في النبات؛ فأوّل حبّة قمح كانت مثل آدم كأول إنسان بالطريقة التي نعرفها؛
وفي تلك الحبّة الولى أوجد الحق سبحانه مضمون كل حبوب القمح من بعد ذلك ،وإلى أنْ تقومَ
الساعة ،وتلك عظمةُ الحق سبحانه في الخَلْق.
وقد أوضح لنا الحق سبحانه في اكثر من موضع بالقرآن الكريم مراحل خَلْق النسان؛ فهو {:مّن
مّآءٍ ّمهِينٍ }[السجدة.]8 :
وهو من نطفة ،ومن علقة ،ثم مضغة مُخلّقة وغير مُخلّقة.
والحيوان المنويّ المُسمّى " نُطْفة " هو الذي يحمل خصائص النوثة أو الذكورة كما أثبت العلم
الحديث ،وليس للمرأة شَأْنٌ بهذا التحديد ،وكأن في ذلك إشارةً إلى مهمة المرأة كسكَنٍ؛ لن
البُويْضة تتلقّى الحيوان المنويّ وتحتضنه؛ ليكتمل النمو إلي أنْ يصير كائنا بشريا {:فَتَبَا َركَ اللّهُ
حسَنُ الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون.]14 :
أَ ْ
طفَةً مّن مّ ِنيّ ُيمْنَىا * ثُمّ
سدًى * أََلمْ َيكُ نُ ْ
ب الِنسَانُ أَن يُتْ َركَ ُ
س ُ
وهو الحق سبحانه القائل {:أَ َيحْ َ
كَانَ عََلقَةً }[القيامة.]38-36 :
والعلقة جاء اسمها من مهمتها ،حيث تتعلق بجدار الرّحمِ كما أثبت العِلْم المعاصر ،يقول سبحانه{:
ضغَةً }[المؤمنون.]14 :
فَخََلقْنَا ا ْلعََلقَةَ ُم ْ
والمُضغْة هي الشيء ال َم ْمضُوغ؛ ثم َيصِف سبحانه المضغة بأنها {:مّخَّلقَ ٍة وَغَيْرِ مُخَّلقَةٍ }[الحج:
.]5
ولقائل أن يتساءل :نحن نفهم أن ال ُمضْغة المُخلّقة فيها ما يمكن أن يصير عينا أو ذراعا؛ ولكن
ماذا عن غير المُخلّقة؟
ونقول :إنها رصيد احتياطيّ لصيانة الجسم ،فإذا كنتَ أيها المخلوق حين تقوم ببناء بَيْت فأنت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تشتري بعضا من الشياء الزائدة من الدوات الصحية ـ على سبيل المثال ـ تحسّبا لما قد يطرأ
من أحداث تحتاج فيها إلى قطع غيار؛ فما بالنا بالحق الذي خلق النسان؟
لقد جعل ال تلك ال ُمضْغة غير المُخلّقة رصيدا لصيانة ،أو تجديدا لما قد يطرأ على النسان من
ظروف؛ وتكون زائدة في الجسم وكأنها مخزنٌ لقطع الغيار.
والمثل هو الجروح التي تصيب النسان ،ثم يتركها ليعالجها الجسمُ بنفسه ،نجدها تلتئم دون أنْ
تتركَ نَدْبة أو علمة ،ذلك أنه قد َتمّ علجها من الصيدلية الداخلية التي أودعها الحق سبحانه في
الجسم نفسه.
والمفاجأة هي أن هذا النسانَ المخلوق ل:
خصِيمٌ مّبِينٌ { [النحل.]4 :
} فَِإذَا ُهوَ َ
ويتمرّد على خالقه ،بل وينكر بعضٌ من الخَلْق أن هناك إلها؛ متجاهلين أنهم بقوة ال فيهم
يتجادلون .والخصيم هو الذي يُجادل ويُنكِر الحقائق؛ فإذا حُدّث بشيء غيبي ،يحاول أنْ يدحضَ
معقوليته.
خصِيمٌ مّبِينٌ }[يس:
طفَةٍ فَإِذَا ُهوَ َ
ويقول سبحانه في سورة يسَ {:أوَلَمْ يَ َر الِنسَانُ أَنّا خََلقْنَاهُ مِن نّ ْ
.]77
خصْما لمساويك؛ ولكن من غير المقبول أن تكون خصيما ِلمَنْ
وقد يكون من المقبول أن تكون َ
خلقك فسوّاكَ َفعَدلك ،وفي أيّ صورة ما شاء َركّبك.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :وَالَ ْنعَامَ خََل َقهَا َل ُكمْ.{ ....
()1889 /
وال ّدفْءُ هو الحرارة للمبرود ،تماما مثلما نعطي المحرور برودة ،وهذا ما يفعله تكييف الهواء في
المنازل الحديثة .نجد الحق سبحانه هنا قد تكلّم عن الدفء ولم يتكلم عن البرد ،ذلك أن المقابل
ج َعلَ َلكُمْ سَرَابِيلَ َتقِيكُمُ الْحَرّ[} ...النحل.]81 :
معلوم ،وهو في آية أخرى يقول {:وَ َ
وهذا ما يحدث عندما نسير في الشمس الحارة؛ فنضع مِظلة فوق رؤوسنا لتقينا حرارة الشمس
الزاعقة الشديدة .ونحن في الشتاء نلبس قلنسوة أي :نلفّ شيئا حول رؤوسنا ،وهكذا نعلم أن
اللباس يفعل الشيء ومقابله ،بشرط أن يختار النسانُ اللباسَ المناسب للجوّ المناسب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي النعام منافع كثيرة؛ فنحن نشرب لبنها ،ونصنع منه الجُبْن والسمن؛ ونج ّز الصوف لنغزل
وننسج منه ملبس صوفية ،وتحمل الثقال ،ونستفيد من ذريتها؛ وكذلك نأكل لحومها.
ونحن نعلم أن النعام قد جاء تفصيلها في موقع آخر حين قال الحق سبحانهَ {:ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ} ...
[النعام.]143 :
وهي الضّأن وال َمعْز والبل والبقر.
شعْرة
شعْر ،ومَنْ يلحظ شعر ال َمعْز يجد كل َ
ونعلم أن ال ّدفْءَ يأتي من الصّوف والوَبَر وال ّ
بمفردها؛ لكن الوبر الذي نجزه من الجمل يكون مُلبدا؛ وهذا دليل على ِدقّة فَتْلته ،أما الصوف فكل
شعرة منه أنبوبة أسطوانية قَلْبُها فارغ.
جمَالٌ.} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وََلكُمْ فِيهَا َ
()1890 /
وهنا نجد أن الحق سبحانه قد أعطانا الترف أيضا بجانب الضروريات ،فال ّدفْء والمنافع والكل
ضروريات للحياة ،أما الجَمال فهو من تَرَف الحياة ،والجمال هو ما تراه العين ،فيتحقق السرور
في النفس .وال ّدفْء والمنافع والكل هي أمور خاصة ِلمَنْ يملك النعام؛ أما الجمال فمشاع عَامّ
للناس ،فحين ترى حصانا جميلً؛ أو البقرة المَزْهُوة بالصحة؛ فأنت ترى نعمة ال التي خلقها
لِتسُرّ الناظر إليها.
ونلحظ هذا الجمال في لحظات سروح البهائم ولحظات رواحها .ونقول في الريف " سرحت
البهائم " أي :خرجتْ من الحظائر لترعى وتأكل .ونلحظ أن الحق سبحانه قد قدّم الرّواح أي
العودة إلى الحظائر عن السّروح؛ لن البهائم حين تعود إلى حظائرها بعد أنْ ترعى تكون بطونُها
ممتلئ ًة وضُروعها رابِية حافلة باللبن؛ فيسعد مَنْ يراها حتى قبل أنْ يطعمَ من ألبانها.
ومَنْ يخرج ببهائمه في الصباح من بيته ،ويصحبها من زرائبها إلى الحقل ،يجد جمالً مع هيبة
ومنعة مع أصوات تحقق للرجل المالك الهيبة ،ومَنْ ل يملك يمكن أنْ يشاهد جمال تلك النعام.
ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ ِإلَىا.} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَ َت ْ
()1891 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شقّ الْأَ ْنفُسِ إِنّ رَ ّب ُكمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ()7
ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَى بَلَدٍ َلمْ َتكُونُوا بَاِلغِيهِ إِلّا بِ ِ
وَتَ ْ
ونعلم أن النسانَ في حياته بين أمرين؛ إما ظَاعن أي :مسافر .وإما مقيم .وفي حالة المقيم،
فالنعامُ تُحقّق له ال ّدفْء والطعام والمَلْبس .وعاد ًة ما يكتفي متوسطُ الحال بأنْ يستقرّ في مكان
إقامته وكذلك الفقير.
أما ال ُمقْتدر الغنيّ؛ فأنت تجده يوما في القاهرة ،وآخر في السكندرية ،أو طنطا ،وقد يسافر إلى
الخارج ،وكلّ ذلك ميسور في زمن المواصلت الحديثة .وقديما كانت وسائل المواصلت شاقة،
ول يقدر على السفر إل مَنْ كانت لديه إبل صحيحة أو خيول قوية ،أما مَنْ لم يكن يملك إل حمارا
أعجف فهو ل يفكر إل في المسافات القصيرة.
سهُمْ} ...
سفَارِنَا وَظََلمُواْ أَنفُ َ
عدْ بَيْنَ أَ ْ
ولذلك نجد القرآن حين تكلم عن أهل سبأ يقولَ {:فقَالُواْ رَبّنَا بَا ِ
[سبأ.]19 :
وهم قد قالوا ذلك اعتزازا بما يملكونه من خَيْل ووسائل سفر من دوابّ سليمة وقوية ،تُهيّئ السفر
المريح الذي ينمّ عن العِ ّز والقوة والثراء.
وقوله الحق:
ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ[ } ...النحل.]7 :
{ وَتَ ْ
يعني وضع ما يَثْقل على ما يُ َثقّل؛ ولذلك فنحن ل نجد إنسانا يحمل دابته؛ بل نجد مَنْ يحمل أثقاله
حمْل أوزانٍ ل يقدر عليها.
على الدابة ليُخفّف عن نفسه َ
ونعلم أن الوزن يتبع الكثافة؛ كما أن الحجمَ يتبع المساحة؛ فحين تنظر إلى كيلوجرام من القطن،
فأنت تجد حجم كيلوجرام القطن أكبرُ من حجم الحديد؛ لن كثافة الحديد مطمورة فيه ،أما نفاشات
القطن فهي التي تجعله يحتاج حيزا اكبر من المساحة.
ويتابع الحق سبحانه قوله في الية الكريمة:
ق الَنفُسِ[ } ...النحل.]7 :
ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَىا بََلدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ ِبشِ ّ
{ وَتَ ْ
ومَنْ يفتش في أساليب القرآن من المستشرقين قد يقول " :إن عَجُزَ الية غَيْر متفق مع صَدْرها ".
ونقول لمثل صاحب هذا القول :أنت لم تفطن إلى المِنّة التي يمتنّ بها ال على خَلْقه ،فهم لم
يكونوا بالغين لهذا البلد دون أثقالَ إل بمشقّة؛ فما بالنا ب ِثقَل المشقة حين تكون معهم أثقال من
بضائع ومتاع؟
إنها نعمة كبيرة أنْ يجدوا ما يحملون عليه أثقالهم وأنفسهم ليصلوا إلي حيث يريدون.
وكلمة { ِبشِقّ } [النحل] مصدرها شَق وهو الصّدْع بين شيئين؛ ويعني عَزْل متصلين؛ وسبحانه
هو القائل {:فَاصْ َدعْ ِبمَا ُت ْؤمَرُ }[الحجر .]94 :وهناك " شَق " وهو الجهد ،و " شقّة " .والنسان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كما نعلم هو بين ثلث حالت :إمّا نائم؛ لذلك ل يحتاج إلى طاقة كبيرة تحفظ له حياته؛ وأيضا
وهو مُتيقّظ فأجهزته ل تحتاج إلى طاقة كبيرة؛ بل تحتاج إلى طاقة مُتوسّطة لتعملَ؛ أما إنْ كان
يحمل أشياءَ ثقيلة فالنسان يحتاج إلى طاقة أكبر لتعمل أجهزته.
ك وَلَـاكِن َب ُع َدتْ عَلَ ْيهِمُ
سفَرا قَاصِدا لّتّ َبعُو َ
وكذلك نجد الحق سبحانه يقولَ {:لوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا وَ َ
شقّةُ }
ال ّ
[التوبة.]42 :
والمعنىّ هنا بالشّقة هي المسافة التي يشقّ قطعُها ،ويُنهي الحق سبحانه الية الكريمة بقوله:
} إِنّ رَ ّبكُمْ لَ َرؤُوفٌ رّحِيمٌ { [النحل.]7 :
والصفتان هنا هما الرأفة والرحمة ،وكل منهما مناسب ِلمَا جاء بالية؛ فالربّ هو المُتولّي التربية
والمَدَد ،وأيّ رحلة لها َم ْقصِد ،وأيّ رحلة هي للستثمار ،أو العتبار ،أو للثنين معا.
فإذا كانت رحلةَ استثمار فدابّتُك يجب أن تكون قويةً لتحمل ما معك من أثقال ،وتحمل عليها ما
سوف تعود به من بضائع.
وإنْ كانت الرحلةُ للعتبار فأنت تزيل بهذا السفر ألم عدم المعرفة والرغبة في الوصول إلى
المكان الذي قصدته.
وهكذا تجد الرأفةَ مناسبةً لقضاء النفع وتحقيق الحاجة وإزالة اللم .وكلمة رحيم مناسبة لمنع اللم
بتحقيق الوصول إلى الغاية.
ف بعضٌ من العلماء عند َم ْقصِد الرحلة؛ كأن تكون مسافرا للتجار أو أن تكونَ مسافرا
وتو ّق َ
للعتبار .ولكن هذا سفرٌ بالختيار؛ وهناك سفر اضطراري؛ كالسفر الضروري إلى الحج مرة
في العمرة.
حمْل الثقيل ،وبذلك تتحقق رأفته؛ وهو رحيم لنه حقّق لكم أُمنية السفر.
والحق سبحانه يزيل ألم ال َ
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك } :وَا ْلخَ ْيلَ وَالْ ِبغَالَ.{ ...
()1892 /
وبعد أن ذكر لنا الحق سبحانه النعام التي نأخذ منها المأكولت ،يذكر لنا في هذه الية النعام
التي نستخدمها للتنقل أو للزينة؛ ول نأكل لحومها وهي الخَيْل وال ِبغَال والحمير؛ ويُذكّرنا بأنها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للركوب والمنفعة مع الزينة؛ ذلك أن الناس تتزيّن بما تَرْكب؛ تماما كما يفخر أبناءُ عصرِنا
بالتزيّن بالسيارات الفارهة.
ونَسَقُ الية يدلّ على تفاوت الناس في المراتب؛ فكلّ مرتبة من الناس لها ما يناسبها لِتركبه؛
ل يركبون البغال ،ومَنْ ل يملك ما يكفي لشراء
فالخَيْل للسادة والفِرْسان والغنياء؛ ومَنْ هم أق ّ
الحصان أو البغل؛ فيمكنه أنْ يشتريَ لنفسه حمارا.
وقد يملك إنسانٌ الثلثة ركائب ،وقد يملك آخرُ اثنتين منها؛ وقد يملك ثالثٌ رُكوبة واحدة ،وهناك
ي نوع.
ن ل يملك من المال ما يُمكِنه أنْ يستأجرَ ولو رُكوبة من أ ّ
مَ ْ
وشاء الحق سبحانه أن يقسم للناس أرزاق كل واحد منهم قِلّةً أو كثرةً ،وإل لو تساوى الناس في
الرزق ،فمَنِ الذي يقوم بالعمال التي نُسمّيها نحن ـ بالخطأ ـ أعمالً دُونية ،مَنْ يكنس
الشوارع ،ومَنْ يحمل الطّوب للبناء ،ومَنْ يقف بالشّحْم وسط ورش إصلح السيارات؟
ت مثل تلك العمال،
وكما نرى فكلّ تلك العمال ضرورية ،ولول رغبةُ الناس في الرزق َلمَا حََل ْ
وراقتْ في عُيون مَنْ يُمارِسونها ،ذلك أنها َتقِيهم شَرّ السّؤال.
ن يأكلوا؛
ن يعمل في تلك العمال له بطنٌ تريد أنْ تمتليءَ بالطعام ،وأولد يريدون أ ْ
ولول أن مَ ْ
ت إلى أفقر إنسان في الكون لوجدتَ في حياته فترة
َلمَا ذهب إلي مشقّات تلك العمال .ولو نظر َ
حقّق فيها بعضا من أحلمه.
وقد نجد إنسانا يكِدّ عَشْرة سنين؛ ويرتاح بقية عمره؛ ونجد مَنْ يكِدّ عشرين عاما فيُرِيح نفسه
وأولده من بعده ،وهناك مَنْ يتعب ثلثين عاما ،فيُريح أولده وأحفاده من بعده .والمهم هو قيمة
ما يُتقِنه ،وأن يرضَى بقدر ال فيه ،فيعطيه ال ما دام قد قَبِل قدره فيه.
ت إلى مَنْ فاء ال عليهم بالغِنَى والتّرف ستجدهم في بداية حياتهم قد كَدّوا و َتعِبوا
وأنت إنْ نظر َ
و َرضُوا بقدر ال فيهم ،ولم يحقدوا على أحد ،نجده سبحانه يهديهم طمأنينةَ وراحةَ بالٍ.
وشاء سبحانه أنْ يُنوّع في مُسْتويات حياة البشر كَيْل يستنكفَ أحدٌ من خدمة أحد ما دام يحتاج
خدماته.
ونجد النصّ التعبيري في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها هو خَيْل و ِبغَال وحمير؛ وقد جعل
الحق سبحانه البغال في الوسط؛ لنها ليست جنسا بل تأتي من جنسين مختلفين.
ويُنبّهنا الحق سبحانه في آخر الية إلى أن ذلك ليس نهاية المَطَاف؛ بل هناك ما هو أكثر ،فقال:
خلُقُ مَا لَ َتعَْلمُونَ } [النحل.]8 :
{ وَيَ ْ
وجعل الحق سبحانه البُراق خادما لسيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وجعل بساط الريح
خادما لسليمان عليه السلم ،وإذا كانت مثل تلك ال ُمعْجزات قد حدثتْ لنبياء؛ فقد هدى البشر إلى
أنْ يبتكروا من وسائل المواصلت الكثير من عربات تجرّها الجِيَاد إلى سيارات وقطارات
وطائرات.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن يقتني الخيْل ويُربّيها ويُروّضها
وما زال العلم يُطوّر من تلك الوسائل ،ورغم ذلك فهناك مَ ْ
ويجريّها لجمال منظرها.
ل من المواصلت التي كانت تحمل عنّا الثقال؛ وتلك المُخْترعات التي هدانا
وإذا كانت تلك الوسائ ُ
ال إياها؛ فما بالُنَا بالمواصلت في الخرة؟ ل بد أن هناك وسائلَ تناسب في رفاهيتها ما في
الخرة من متاعٍ غير موجود في الدنيا؛ ولذلك يقول في الية التالية } :وَعَلَىا اللّهِ َقصْدُ.{ ...
()1893 /
ج َمعِينَ ()9
وَعَلَى اللّهِ َقصْدُ السّبِيلِ َومِنْهَا جَائِ ٌر وََلوْ شَاءَ َلهَدَاكُمْ َأ ْ
والسبيل هو الطريق؛ وال َقصْد هو الغاية ،وهو مصدر يأخذون منه القول (طريق قاصد) أي:
طريق ل دورانَ فيه ول التفاف .والحق سبحانه يريد لنا أنْ نصلَ إلى الغاية بأقلّ مجهود.
ونحن في لغتنا العاميّة نسأل جندي المرور " هل هذا الطريق ماشي؟ " رغم أن الطريق ل يمشي،
بل أنت الذي تسير فيه ،ولكنك تقصد أن يكون الطريق مُوصّلً إلى الغاية .وأنت حين تُعجِزك
السباب تقول " خلّيها على ال " أي :أنك ترجع بما تعجزك أسبابه إلى المُسبّب العلى.
وهكذا يريد المؤمن الوصول إلى َقصْده ،وهو عبادة ال وُصولً إلى الغاية ،وهي الجنة ،جزاءً
حسْن العمل في الدنيا.
على اليمان و ُ
ت وتعرّجات؛ لن الماء هو الذي حفر طريقه؛
وأنت حين تقارن مَجْرى نهر النيل تجد فيه التفافا ٍ
بينما تنظر إلى الريّاح التوفيقي مثلً فتجده مستقيما؛ ذلك أن البشر هم الذين حفروه إلى َمقْصد
معين .وحين يكون َقصْد السبيل على ال؛ فال ل هَوى له ول صاحبَ ،ول ولدَ له ،ول يحابي
أحدا ،وكلّ الخَلْق بالنسبة له سواء؛ ولذلك فهو حين يضع طريقا فهو يضعُه مستقيما ل عِوجَ فيه؛
وهو الحق سبحانه القائل {:ا ْهدِنَا الصّرَاطَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }[الفاتحة.]6 :
أي :الطريق الذي ل التواءَ فيه ليّ غَرَض ،بل الغرض منه هو الغاية بأيسرَ طريق.
وقول الحق سبحانه هنا:
{ وَعَلَىا اللّهِ َقصْدُ السّبِيلِ[ } ...النحل.]9 :
ج َمعِينَ * ِإلّ
يجعلنا نعود بالذاكرة إلى ما قاله الشيطان في حواره مع ال قال {:فَ ِبعِزّ ِتكَ لُغْوِيَ ّنهُمْ َأ ْ
عِبَا َدكَ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ }[ص.]83-82 :
وردّ الحق سبحانه {:قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عََليّ مُسْ َتقِيمٌ }[الحجر.]41 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق أيضا هو القائل {:إِنّ عَلَيْنَا لَ ْل ُهدَىا }[الليل.]12 :
جدَينِ }
أي :أنه حين خلق النسان أوضح له طريق الهداية ،وكذلك يقول سبحانه {:وَ َهدَيْنَاهُ النّ ْ
[البلد.]10 :
أي :أن الحق سبحانه أوضح للنسان طُرق الحق من الباطل ،وهكذا يكون قوله هنا:
{ وَعَلَىا اللّهِ َقصْدُ السّبِيلِ } [النحل.]9 :
يدلّ على أن الطريق المرسوم غايتُه موضوعة من ال سبحانه ،والطريق إلى تلك الغاية موزونٌ
من الحق الذي ل هَوى له ،والخَلْق كلهم سواء أمامه.
وهكذا ..فعلى المُفكّرين ألّ يُرهِقوا أنفسهم بمحاولة َوضْع تقنين من عندهم لحركة الحياة ،لن
عجْز المفكرين عن وضع قوانين تنظيم
واجدَ الحياة قد وضع لها قانون صيانتها ،وليس أدلّ على َ
حياة البشر إل أنهم يُغيّرون من القوانين كل فَتْرة ،أما قانون ال فخالد باقٍ أبدا ،ول استدراكَ
عليه.
ولذلك فمِنَ المُرِيح للبشر أنْ يسيروا على منهج ال والذي قال فيه الحق سبحانه حكما عليهم أنْ
يُطبّقوه؛ وما تركه ال لنا نجتهد فيه نحن.
وقوله الحق:
{ وَعَلَىا اللّهِ َقصْدُ السّبِيلِ[ } ...النحل.]9 :
أي :أنه هو الذي جعل سبيلَ اليمان قاصدا للغاية التي وضعها سبحانه ،ذلك أن من السّبل ما هو
جائر؛ ولذلك قال:
{ َومِ ْنهَا جَآئِرٌ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المحبوبية التي هي مراد الحق من خَلْق الختيار ،لكن لو شاء أنْ يُث ِبتَ لنفسه طلقة ال َقهْر لخَلقَ
البشر مقهورين على الطاعة كما سخّر الكائنات الخرى.
والحق سبحانه يريد قلوبا ل قوالب؛ ولذلك يقول في آخر الية:
ج َمعِينَ { [النحل.]9 :
} وََلوْ شَآءَ َلهَدَاكُمْ أَ ْ
حمْ ِد ِه وَلَـاكِن لّ َت ْف َقهُونَ
شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ ِب َ
وكل أجناس الوجود كما نعلم تسجد ل {:وَإِن مّن َ
حهُمْ }[السراء.]44 :
تَسْبِي َ
ض وَالطّيْ ُر صَآفّاتٍ ُكلّ َقدْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
وفي آية أخرى يقول {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُسَبّحُ َلهُ مَن فِي ال ّ
عَلِ َم صَلَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ }[النور.]41 :
إذن :لو شاء الحق سبحانه لهدى الثقلين أي :النس والجن ،كما هدى ُكلّ الكائنات الخرى ،ولكنه
يريد قلوبا ل قوالبَ.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكُ } :هوَ الّذِي أَنْ َزلَ.{ ...
()1894 /
سمَاءِ مَاءً َلكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ َومِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ()10
ُهوَ الّذِي أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
وقوله:
سمَاءِ مَآءً[ } ...النحل.]10 :
{ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
يبدو قولً بسيطا؛ ولكن إنْ نظرنا إلى المعامل التي تُقطّر المياه وتُخلّصها من الشوائب لَعِلمْنَا قَدْر
العمل المبذول لنزول الماء الصافي من المطر.
والسماء ـ كما نعلم ـ هي كل ما يعلونا ،ونحن نرى السحاب الذي يجيء نتيجة تبخير الشمس
للمياه من المحيطات والبحار ،فيتكوّن البخار الذي يتصاعد ،ثم يتكثّف ليصيرَ مطرا من بعد ذلك؛
وينزل المطر على الرض.
ونعلم أن الكرة الرضية مُكوّنة من محيطات وبحار تُغطّي ثلثة أرباع مساحتها ،بينما تبلغ
مساحة اليابسة رُبْع الكرة الرضية؛ فكأنه جعل ثلثة أرباع مساحة الكرة الرضية لخدمة رُبْع
الكرة الرضية.
ومن العجيب أن المطر يسقط في مواقع قد ل تنتفع به ،مثل هضاب الحبشة التي تسقط عليها
المطار وتصحب من تلك الهضاب مادة الطمي لِتُكوّن نهر النيل لنستفيد نحن منه.
جعَُلهُ ُركَاما فَتَرَى ا ْلوَدْقَ
ونجد الحق سبحانه يقول {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يُ ْزجِي سَحَابا ثُمّ ُيؤَّلفُ بَيْنَهُ ُثمّ يَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَ ُيصِيبُ بِهِ مَن يَشَآ ُء وَ َيصْ ِرفُهُ عَن مّن
يَخْرُجُ مِنْ خِلَلِ ِه وَيُنَ ّزلُ مِنَ ال ّ
يَشَآءُ }[النور.]43 :
سمَاءِ مَآءً ّلكُم مّنْهُ شَرَابٌ َومِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ }
وهنا يقول الحق سبحانهُ {:هوَ الّذِي أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ
[النحل.]10 :
ولول عملية ال َبخْر وإعادة تكثيف البخار بعد أن يصير سحابا؛ َلمَا استطاع النسانُ أنْ يشربَ
الماء المالح الموجود في البحار ،ومن حكمة الحق سبحانه أن جعل مياه البحار والمحيطات
مالحةً؛ فالمِلْح يحفظ المياه من الفساد.
وبعد أن تُبخّر الشمسُ المياه لتصير سحابا ،ويسقط المطر يشرب النسانُ هذا الماء الذي يُغذّي
النهار والبار ،وكذلك ينبت الماء الزرع الذي نأكل منه.
وكلمة { شَجَرٌ } تدلّ على النبات الذي يلتفّ مع بعضه .ومنها كلمة " مشاجرة " والتي تعني
التداخل من الذين يتشاجرون معا.
والشجر أنواع؛ فيه مغروس بمالك وهو مِلْك ِلمَنْ يغرسه ويُشرِف على إنباته ،وفي ما يخرج من
الرض دون أنْ يزرعه أحد وهو مِلْكية مشاعة ،وعادة ما نترك فيه الدّواب لترعى ،فتأكل منه
دون أنْ يردّها أحد.
وهنا يقول الحق سبحانه:
{ فِيهِ تُسِيمُونَ } [النحل.]10 :
من سَام الدابة التي تَرْعى في المِلْك العام ،وساعة ترعى الدابة في المِلْك العام فهي تترك آثارها
ض التي يوجد بها نبات ول يقربها حيوان بأنها " روضة
سمّون الر َ
من مَسَارب وعلمات .ويُ َ
ن يقطف منها شيء.
أنُف " بمعنى أن أحدا لم يَأتِ إِليها أو يَقربها؛ كأنها أنفت أ ْ
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :يُن ِبتُ َل ُكمْ بِهِ.} ....
()1895 /
وهكذا يُعلِمنا ال أن النبات ل ينبت وحده ،بل يحتاج إلى مَنْ يُنبِته ،وهنا يَخصّ الحق سبحانه
ألوانا من الزراعة التي لها أَثَر في الحياة ،ويذكر الزيتون والنخيل والعناب وغيرها من كل
الثمرات.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والزيتون ـ كما نعلم ـ يحتوي على مواد ُدهْنية؛ والعنب يحتوي على مواد سُكرية ،وكذلك
النخيل الذي يعطي البلح وهو يحتوي على مواد سُكرية ،وغذاء النسان يأتي من النشويات
والبروتينات.
وما ذكره الحق سبحانه أولً عن النعام ،وما ذكره عن النباتات يُوضّح أنه قد أعطى النسان
خَلقْنَا
لمِينِ * َلقَدْ َ
ن وَالزّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَـاذَا الْبََل ِد ا َ
مُكوّنات الغذاء؛ فهو القائل {:وَالتّي ِ
الِنسَانَ فِي أَحْسَنِ َتقْوِيمٍ }[التين.]4-1 :
أي :أنه جعل للنسان في قُوته البروتينات والدّهنيات والنشويات والفيتامينات التي تصون حياته.
وحين يرغب الطباء في تغذية إنسان أثناء المرض؛ فهم ُيذِيبون العناصر التي يحتاجها للغذاء في
حقْن ،ولكنهم يخافون من طول التغذية بهذه الطريقة؛ لن
السوائل التي يُقطّرونها في أوردته بال َ
المعاء قد تنكمش.
ومَنْ يقومون بتغذية البهائم يعلمون أن التغذية تتكّون من نوعين؛ غذاء يمل البطن؛ وغذاء يمدّ
بالعناصر اللزمة ،فالتبن مثل يمل البطن ،ويمدّها باللياف التي تساعد على حركة المعاء ،ولكن
الكُسْب يُغذّي ويضمن السّمنة وال َوفْرة في اللحم.
وحين يقول الحق سبحانه:
ب َومِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ } [النحل.]11 :
ل وَالَعْنَا َ
ن وَالنّخِي َ
ع وَالزّيْتُو َ
{ يُن ِبتُ َلكُمْ بِهِ الزّ ْر َ
ضوْء َقوْل الحق سبحانه {:أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ }
فعليك أنْ تستقبلَ هذا القول في َ
[الواقعة.]64 :
ذلك أنك تحرثُ الرض فقط ،أما الذي يزرع فهو الحق سبحانه؛ وأنت قد حرثتَ بالحديد الذي
ت أنت منهما المحراث
أودعه ال في الرض فاستخرجْتَه أنت؛ وبالخشب الذي أنبته ال؛ وصنع َ
الذي تحرث به في الرض المخلوقة ل ،والطاقة التي حرثتَ بها ممنوحة لك من ال.
ثم يُذكّرك ال بأن ُكلّ الثمرات هي من عطائه ،فيعطف العام على الخاص؛ ويقول:
{ َومِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ } [النحل.]11 :
أي :أن ما تأخذه هو جزء من كل الثمرات؛ ذلك أن الثمرات كثيرة ،وهي أكثر من أن ُتعَد.
ويُذيّل الحق سبحانه الية الكريمة بقوله:
ك ليَةً ّل َقوْمٍ يَ َتفَكّرُونَ } [النحل.]11 :
{ إِنّ فِي ذَِل َ
أي :على النسان أنْ يُع ِملَ فكره في ُمعْطيات الكون ،ثم يبحث عن موقفه من تلك ال ُمعْطيات،
ن يفعَل.
ويُحدّد َوضْعه ليجد نفسه غير فاعل؛ وهو قابل ل ْ
وشاء الحق سبحانه أن يُذكّرنا أن التفكّر ليس مهمةَ إنسان واحد بل مهمة الجميع ،وكأن الحق
ن يقولها لغيره.
سبحانه يريد لنا أنْ تتسانَد أفكارنا؛ َفمْن عنده َلقْطة فكرية تؤدي إلى ال ل بُدّ أ ْ
ونجد في القرآن آيات تنتهي بالتذكّر والتفكّر وبالتدبّر وبالتفقّه ،وكُلّ منها تؤدي إلى العلم اليقيني؛
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن مهمتك أنْ
فحين يقول " يتذكرون " فالمعنى أنه سبق اللمام بها؛ ولكن النسيان محاها؛ فكأن مِ ْ
تتذكّر.
أما كلمة " يتفكرون " فهي أُ ّم كل تلك المعاني؛ لنك حين تشغل فكرك تحتاج إلى أمرين ،أنْ تنظرَ
إلى ُمعْطيات ظواهرها ومُعْطيات أدبارها.
ولذلك يقول الحق سبحانهَ {:أفَلَ يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ }[النساء.]82 :
وهذا يعني ألّ تأخذ الواجهة فقط ،بل عليك أنْ تنظرَ إلى المعطيات الخلفية كي تفهم ،وحين تفهم
تكون قد عرفتَ ،فالمهمة مُكوّنة من أربع مراحل؛ تفكّر ،فتدبّر ،فتفقّه؛ فمعرفة وعِلْم.
سخّرَ َلكُمُ الّيلَ.} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَ َ
()1896 /
ونعلم أن الليل والنهار آيتان واضحتان؛ والليل يناسبه القمر ،والنهار تناسبه الشمس ،وهم جميعا
متعلقون بفعل واحد ،وهم نسق واحد ،والتسخير يعني َقهْر مخلوق لمخلوق؛ لِيُؤدّي ُكلّ مهمته.
وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر؛ ُكلّ له مهمة ،فالليل ُمهِمته الراحة.
سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ
ج َعلَ َلكُمُ الّيلَ وَال ّنهَارَ لِتَ ْ
حمَتِهِ َ
قال الحق سبحانهَ {:ومِن رّ ْ
شكُرُونَ }[القصص.]73 :
تَ ْ
والنهار له مهمة أنْ تكدحَ في الرض لتبتغي رِزْقا من ال و َفضْلً ،والشمس جعلها مصدرا للطاقة
وال ّدفْء ،وهي تعطيك دون أنْ تسألَ ،ول تستطيع هي أيضا أن تمتنعَ عن عطاء قَدّره ال.
وهي ليست مِلْكا لحد غير ال؛ بل هي من نظام الكون الذي لم يجعل الحق سبحانه لحد قدرةً
عليه ،حتى ل يتحكّم أحدٌ في أحدٍ ،وكذلك القمر جعل له الحق مهمة أخرى.
وإياك أنْ تتوهَم أن هناك مهمة تعارض مهمة أخرى ،بل هي مهام متكاملة .والحق سبحانه هو
سعْ َيكُمْ لَشَتّىا }
جلّىا * َومَا خَلَقَ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا * إِنّ َ
القائل {:وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ ِإذَا تَ َ
[الليل.]4-1 :
أي :أن الليل والنهار وإنْ تقابل فليسَا متعارضين؛ كما أن الذكر والنثى يتقابلن ل لتتعارض
مهمة كل منهما بل لتتكامل.
ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ
ويضرب الحق سبحانه المثل لِيُوضّح لنا هذا التكامل فيقولُ {:قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِن َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكُنُونَ فِيهِ أَفلَ تُ ْبصِرُونَ }[القصص.]72 :
سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَ ْيلٍ َت ْ
وأيّ إنسان إنْ سهر يومين متتابعين ل يستطيع أنْ يقاومَ النوم؛ وإن أدّى مهمة في هذين اليومين؛
جعَلْنَا ال ّنهَارَ
جعَلْنَا الّيلَ لِبَاسا * َو َ
فقد يحتاج لراحة من بعد ذلك تمتدّ أسبوعا؛ ولذلك قال الَ {:و َ
َمعَاشا }[النبأ.]11-10 :
والنسان إذا ما صلّى العشاء وذهب إلى فراشه سيستيقظ حَتْما قبل الفجر وهو في ِقمّة النشاط؛
ن قضى ليلً مريحا في سُبَاتٍ عميق؛ ل قلقَ فيه.
بعد أ ْ
ولكن النسان في بلدنا استورد من الغرب حثالة الحضارة من أجهزة تجعله يقضي الليل ساهرا،
ليتابع التليفزيون أو أفلم الفيديو أو القنوات الفضائية ،فيقوم في الصباح مُنْهكا ،رغم أن أهل تلك
البلد التي قدّمتْ تلك المخترعات؛ نجدهم وهم يستخدمون تلك المخترعات يضعونها في موضعها
الصحيح ،وفي وقتها المناسب؛ لذلك نجدهم ينامون مُبكّرين ،ليستيقظوا في الفجر بهمّة ونشاط.
ويبدأ الحق سبحانه جملة جديدة تقول:
سخّرَاتٌ بَِأمْ ِرهِ[ } ..النحل.]12 :
{ وَالْنّجُومُ مُ َ
خصّها الحق سبحانه بجملة جديدة على الرغم
نلحظ أنه لم يَ ْأتِ بالنجوم معطوفةً على ما قبلها ،بل َ
من أنها أقلّ الجرام ،وقد ل نتبيّنها لكثرتها وتعدّد مواقعها ولكِنّا نجد الحق يُقسِم بها فهو القائل{:
فَلَ ُأقْسِمُ ِب َموَاقِعِ النّجُومِ * وَإِنّهُ َلقَسَمٌ ّلوْ َتعَْلمُونَ عَظِيمٌ }[الواقعة.]76-75 :
فكلّ نجم من تلك النجوم البعيدة له مُهمة ،وإذا كنتَ أنت في حياتك اليومية حين ينطفيء النور
تذهب لترى :ماذا حدث في صندوق الكباس الذي في منزلك؛ ولكنك ل تعرف كيف تأتيك
الكهرباء إلى منزلك ،وكيف تقدّم العلم ليصنعَ لك المصباح الكهربائي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونعلم أن اليات هي المورُ العجيبة التي يجب ألّ يمرّ عليها النسان مرا مُعرِضا؛ بل عليه أنْ
يتأملَها ،ففي هذا التأمل فائدة له؛ ويمكنه أنْ يستنبطَ منها المجاهيل التي تُنعّم البشر وتُسعِدهم.
وكلمة } َي ْعقِلُونَ { تعني إعمالَ العقل ،ونعلم أن للعقل تركيبةً خاصة؛ وهو يستنبط من المُحسّات
المورَ المعنوية ،وبهذا يأخذ من الملوم نتيجةً كانت مجهولةً بالنسبة له؛ فيَسعد بها ويُسعد بها مَنْ
حوله ،ثم يجعل من هذا المجهول مقدمةً يصل بها إلى نتيجة جديدة.
وهكذا يستنبط النسان من أسرار الكون ما شاء له ال أنْ يستنبطَ ويكتشف من أسرار الكون.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ } :ومَا ذَرَأَ َلكُمْ فِي.{ ....
()1897 /
َومَا ذَرَأَ َلكُمْ فِي الْأَ ْرضِ ُمخْتَِلفًا َأ ْلوَانُهُ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَ َيةً ِل َقوْمٍ يَ ّذكّرُونَ ()13
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمْرٌ مّخْ َتِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ
ض وَ ُ
مَآءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ َثمَرَاتٍ مّخْتَلِفا أَ ْلوَا ُنهَا َومِنَ ا ْلجِبَالِ جُ َددٌ بِي ٌ
خشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ إِنّ اللّهَ
ب وَالَ ْنعَامِ مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ كَذَِلكَ إِ ّنمَا يَ ْ
س وَال ّدوَآ ّ
* َومِنَ النّا ِ
غفُورٌ }[فاطر.]28-27 :
عَزِيزٌ َ
وأنت تمشي بين الجبال ،فتجدها من ألوان مختلفة؛ وعلى الجبل الواحد تجد خطوطا تفصل بين
طبقاتٍ مُتعدّدة ،وهكذا تختلف اللوان بين الجمادات وبعضها ،وبين النباتات وبعضها البعض،
وبين البشر أيضا.
خشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ[} ...فاطر.]28 :
وإذا ما قال الحق سبحانه {:إِ ّنمَا يَ ْ
فلَنا أن نعرفَ أن العلماء هنا مقصودٌ بهم ُكلّ عالم يقف على قضية كونية مَرْكوزة في الكون أو
نزلتْ من المُكوّن مباشرة.
ولم يقصد الحق سبحانه بهذا القول علماء الدين فقط ،فالمقصود هو كل عالم يبحث بحثا ليستنبط
به معلوما من مجهول ،ويُجلّي أسرار ال في خلقه .وقد أراد صلى ال عليه وسلم أن يفرق فَرْقا
واضحا في هذا المر ،كي ل يتدخل علماء الدين في البحث العلميّ التجريبيّ الذي يفيد الناس،
ووجد صلى ال عليه وسلم الناس تُؤبّر النخيل؛ بمعنى أنهم يأتون بطَلْع الذّكورة؛ ويُلقّحون النخيل
التي تتصف بالنوثة ،وقال :لو لم تفعلوا لثمرتْ.
ولما لم تثمر النخيل ،قَبِل رسول ال صلى ال عليه وسلم المر؛ وأمر بإصلحه وقال القولة
الفصل " أنتم أعلم بشئون دنياكم ".
أي :أنتم أعلم بالمور التجريبية المعملية ،ونلحظ أن الذي حجز الحضارة والتطوّر عن أوربا
لقرون طويلة؛ هو محاولة رجال الدين أنْ يحجُروا على البحث العلمي؛ ويتهموا ُكلّ عالم تجريبيّ
بالكفر.
حلْ دون بَحْث أي آية من آيات ال في الكون ،ومن حنان ال
ويتميز السلم بأنه الدين الذي لم َي ُ
سمَاوَاتِ
أنْ يُوضّح لخَلْقه أهمية البحث في أسرار الكون ،فهو القائلَ {:وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي ال ّ
وَالَرْضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف.]105 :
أي :عليك أيّها المؤمن ألّ تُعرِض عن أيّ آية من آيات ال التي في الكون؛ بل على المؤمن أنْ
يُع ِملَ عقله و ِفكْره بالتأمّل ليستفيد منها في اعتقاده وحياته .يقول الحق {:سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَاقِ
سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ ا ْلحَقّ[} ..فصلت.]53 :
َوفِي أَنفُ ِ
أما المور التي يتعلّق بها حساب الخرة؛ فهي من اختصاص العلماء الفقهاء.
ويذيل الحق سبحانه الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها:
ك ليَةً ّل َقوْمٍ يَ ّذكّرُونَ { [النحل.]13 :
} إِنّ فِي ذَِل َ
سخّرَ.{ ...
وبعد ذلك يعود الحق سبحانه إلى التسخير ،فيقول } :وَ ُهوَ الّذِي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1898 /
حمًا طَرِيّا وَتَسْ َتخْرِجُوا مِنْهُ حِلْ َيةً تَلْبَسُو َنهَا وَتَرَى ا ْلفُ ْلكَ َموَاخِرَ
سخّرَ الْ َبحْرَ لِتَ ْأكُلُوا مِنْهُ َل ْ
وَ ُهوَ الّذِي َ
شكُرُونَ ()14
فِي ِه وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ تَ ْ
والتسخير كما علمنا من قَبْل هو إيجاد الكائن لمهمة ل يستطيع الكائن أنْ يتخلّف عنها ،ول اختيارَ
له في أنْ يؤدّيها أو ل يُؤدّيها .ونعلم أن الكون كله مُسخّر للنسان قبل أنْ يُوجدَ؛ ثم خلق ال
النسان مُخْتارا.
وقد يظن البعض أن الكائنات المُسخّرة ليس لها اختيار ،وهذا خطأ؛ لن تلك الكائنات لها اختيار
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
حَسمتْه في بداية وجودها ،ولنقرأْ قوله الحق {:إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
شفَقْنَ مِ ْنهَا[} ...الحزاب.]72 :
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
وهكذا نفهم أن الحق سبحانه خيّر خلقه بين التسخير وبين الختيار ،إل أن الكائنات التي هي ما
دون النسان أخذتْ اختيارها مرّة واحدة؛ لذلك ل يجب أنْ يُقال :إن الحق سبحانه هو الذي
ت وقت الداء ،ولم تقدر فقط وقت التحمل
قهرها ،بل هي التي اختارتْ من أول المر؛ لنها قدر ْ
كما فعل النسان ،وكأنها قالت لنفسها :فلخرج من باب الجَمال؛ قبل أن ينفتحَ أمامي باب ظلم
النفس.
جهُولً }[الحزاب.]72 :
ونجد الحق سبحانه يصف النسان {:إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
فقد ظلم النسانُ نفسَه حين اختار أنْ يحملَ المانة؛ لنه قدر وقت التحمّل ولم يقدر وقت الداء.
جهُول لنه لم يعرف كيف يُفرّق بين الداء والتحمّل ،بينما منعت الكائنات الخرى نفسها من
وهو َ
أن تتحمّل مسئولية المانة ،فلم تظلم نفسها بذلك.
وهكذا نصل إلى تأكيد معنى التسخير وتوضيحه بشكل دقيق ،ونعرف أنه إيجاد الكائن لمهمة ل
يملك أن يتخلّف عنها؛ أما الختيار فهو إيجاد الكائن ِل ُمهِمة له أنْ يُؤدّيها أو يتخلّف عنها.
وأوضحنا أن المُسخّرات كان لها أنْ تختارَ من البداية ،فاختارتْ أن تُسخّر وألّ تتحملَ المانة،
بينما أخذ النسان المهمةَ ،واعتمد على عقله و ِفكْره ،وقَبِل أن يُرتّب أمور حياته على ضوء ذلك.
ومع ذلك أعطاه ال بعضا من التسخير كي يجعل الكون كله فيه بعض من التسخير وبعض من
الختيار؛ ولذلك نجد بعضا من الحداث تجري على النسان ول اختيارَ له فيها؛ كان يمرضَ أو
تقع له حادثة أو يُفلس.
ولذلك أقول :إن الكافر مُغفّل لختياره؛ لنه ينكر وجود ال ويتمرّد على اليمان ،رغم أنه ل يقدر
أن يصُدّ عن نفسه المرض أو الموت.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وفي الية التي نحن بصددها الن يقول الحق سبحانه:
{ وَ ُهوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ } [النحل.]14 :
فهذا يعني أنه هو الذي خلق البحر ،لنه هو الذي خلق السماوات والرض؛ وجعل اليابسة ربع
مساحة الرض؛ بينما البحار والمحيطات تحتل ثلثة أرباع مساحة الرض.
أي :أنه يُحدّثنا هنا عن ثلثة أرباع الرض ،وأوجد البحار والمحيطات على هيئة نستطيع أن
نأخ َذ منها بعضا من الطعام فيقول:
{ لِتَ ْأكُلُواْ مِنْهُ لَحْما طَرِيّا وَتَسْتَخْ ِرجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْ َبسُو َنهَا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ع ْذبٌ فُرَاتٌ سَآئِغٌ شَرَاُب ُه وَهَـاذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ
وقوله الحق عن ذلكَ {:ومَا يَسْ َتوِي الْبَحْرَانِ هَـاذَا َ
َومِن ُكلّ تَ ْأكُلُونَ لَحْما طَرِيّا وَتَسْ َتخْرِجُونَ حِلْ َيةً تَلْبَسُو َنهَا[} ...فاطر.]12 :
ويسمّونهم الثنين على التغليب في قوله الحق {:مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْ َتقِيَانِ }[الرحمن.]19 :
والمقصود هنا الماء العَذْب والماء المالح ،وكيف يختلطان ،ولكن الماء العَذْب يتسرّب إلى بطن
الرض ،وأنت لو حفرتَ في قاع البحر لوجدتَ ماء عَذْبا ،فالحق سبحانه هو الذي شاء ذلك وبيّنه
سمَآءِ مَآءً فَسََلكَهُ يَنَابِيعَ فِي الَ ْرضِ }[الزمر.]21 :
في قوله {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ
وهنا يقول سبحانه:
} وَ ُهوَ الّذِي سَخّرَ الْبَحْرَ لِتَ ْأكُلُواْ مِ ْنهُ لَحْما طَرِيّا[ { ...النحل.]14 :
واللحم إذا أُطلِق يكون المقصود به اللحم المأخوذ من النعام ،أما إذا قُيّد بـ " لحم طري "
فالمقصود هو السمك ،وهذه مسألة من إعجازية التعبير القرآني؛ لن السمك الصالح للكل يكون
طَرّيا دائما.
ونجد مَنْ يشتري السمك وهو يَثْني السمكة ،فإنْ كانت طريّة فتلك علمةٌ على أنها صالح ٌة للكل،
وإنْ كانت ل تنثني فهذا يعني أنها فاسدة ،وأنت إنْ أخرجتَ سمكة من البحر تجد لحمها طَرّيا؛
فإنْ ألقيتَها في الماء فهي تعود إلى السباحة والحركة تحت الماء؛ أما إن كانت ميتة فهي تنتفخ
وتطفو.
لذلك " نهى النبي صلى ال عليه وسلم عن أكل السمك الطّافي لنه المَيْتة " ،وتقييد اللحم هنا بأنه
ل يأكل
طريّ كي يخرجَ عن اللحم العادي وهو َلحْم النعام؛ ولذلك نجد العلماء يقولون :مَنْ حلفَ أ ّ
لَحْما؛ ثم أكل سمكا فهو ل يحنث؛ لن العُرْف جرى على أن اللحم هو لَحْم النعام.
ويقول الحق سبحانه في نفس الية عن تسخير البحر:
} وَتَسْ َتخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُو َنهَا[ { ...النحل.]14 :
وهكذا نجد أن هذه المسألة تأخذ جهدا؛ لنها رفاهية؛ أما السمك فقال عنه مباشرة:
} لِتَ ْأكُلُواْ مِنْهُ لَحْما طَرِيّا[ { ...النحل.]14 :
ن تتعبَ
والكْل أمر ضروري لذلك تكفّله ال وأعطى التسهيلت في صَيْده ،أما الزينة فلكَ أ ْ
س في
لتستخرجه ،فهو تَ َرفٌ .وضروريات الحياة َمجْزولة؛ أما تَرَف الحياة فيقتضي منك أنْ تغط َ
الماء وتتعبَ من أجله.
ن يرتقيَ في معيشته؛ فَلْيُكثِر من دخله ببذل عرقه؛ ل أنْ يُترِف
وفي هذا إشارة إلى أن مَنْ يريد أ ْ
معيشته من عرق غيره.
ويقول سبحانه:
} َتسْتَخْ ِرجُواْ مِنْهُ حِلْ َيةً تَلْبَسُو َنهَا[ { ...النحل.]14 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحِلْية كما نعلم تلبسها المرأة .والمَلْحظ الدنى هنا أن زينةَ المرأة هي من أجلْ الرجل؛ فكأن
الرجلَ هو الذي يستمتع بتلك الزينة ،وكأنه هو الذي يتزّين .أو :أن هذه المُسْتخرجات من البحر
ليست مُحرّمة على الرجال مِثْل الذهب والحرير؛ فالذهب والحرير َنقْد؛ أما اللؤلؤ فليس َنقْدا.
واللبس هو الغالب الشائع ،وقد يصِحّ أنْ تُصنعَ من تلك الحلية عَصا أو أي شيء مما تستخدمه.
ويتابع سبحانه في نفس الية:
} وَتَرَى ا ْلفُ ْلكَ َموَاخِرَ فِيهِ { [النحل.]14 :
ولم تكُن هناك بواخر كبيرة كالتي في عصرنا هذا بل فُلُك صغيرة .ونعلم أن نوحا عليه السلم
سخِر منه قومه؛ ولو كان ما يصنعه أمرا عاديا َلمَا سَخِروا منه.
هو أول مَنْ صنع الفُلْك ،و َ
حمَلْنَاهُ
وبطبيعة الحال لم َيكُنْ هناك مسامير لذلك ربطها بالحبال؛ ولذلك قال الحق سبحانه عنه {:وَ َ
ح وَ ُدسُرٍ }[القمر.]13 :
عَلَىا ذَاتِ أَ ْلوَا ٍ
وكان جَرْي مركب نوح بإرادة ال ،ولم يكُنْ العلْم قد تقدّم ليصنع البشر المراكب الضخمة التي
جوَارِ ا ْلمُنشَئَاتُ فِي الْ َبحْرِ كَالَعْلَمِ }[الرحمن.]24 :
تنبّأ بها القرآن في قوله الحق {:وَلَهُ ا ْل َ
ونحن حين نقرؤها الن نتعجّب من قدرة القرآن على التنبؤ بما اخترعه البشر؛ فالقرآن عالم بما
جدّ؛ ل بقهريات القتدار فقط؛ بل باختيارات البشر أيضا.
يَ ِ
وقوله الحق:
} وَتَرَى ا ْلفُ ْلكَ َموَاخِرَ فِيهِ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()1899 /
سيَ أَنْ َتمِيدَ ِبكُ ْم وَأَ ْنهَارًا وَسُبُلًا َلعَّلكُمْ َتهْتَدُونَ ()15
وَأَ ْلقَى فِي الْأَ ْرضِ َروَا ِ
وهكذا يدلّنا الحق سبحانه على أن الرض قد خُلِقت على مراحل ،ويشرح ذلك قوله سبحانهُ {:قلْ
ج َعلَ فِيهَا
جعَلُونَ َلهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَتَ ْ
أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خَلَ َ
سوَآءً لّلسّآئِلِينَ }[فصلت.]10-9 :
سيَ مِن َف ْوقِهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ
َروَا ِ
وهكذا عَلِمنا أن جِرْم الرض العام قد خُلِق أولً؛ وهو مخلوق على هيئة الحركة؛ ولن الحركة
هي التي تأتي بالمَيدان ـ التأرجّح يمينا وشمالً ـ وعدم استقرار الجِرْم على َوضْع ،لذلك شاء
سبحانه أن يخلق في الرض الرواسي لتجعلها تبدو ثابتة غير مُقلقة والرّاسي هو الذي يَثبت.
ولو كانت الرض مخلوقة على هيئة الستقرار لما خلق ال الجبال ،ولكنه خلقَ الرض على هيئة
الحركة ،ومنع أنْ تميدَ بخَلْق الجبال ليجعلَ الجبال رواسيَ للرض.
وفي آية أخرى يقول سبحانه {:وَتَرَى ا ْلجِبَالَ َتحْسَ ُبهَا جَامِ َد ًة وَ ِهيَ َتمُرّ مَرّ السّحَابِ }[النمل.]88 :
وكلمة { وَأَ ْلقَىا } تدلّ على أن الجبال شيء متماسك ُوضِع ليستقر.
ثم يعطف سبحانه على الجبال:
{ وَأَ ْنهَارا وَسُبُلً } [النحل.]15 :
ولم يَ ْأتِ الحق سبحانه فعل يناسب النهار ،ومن العجيب أن السلوب يجمع جمادا في الجبال،
وسيولة في النهار ،وسبلً أي طرقا ،و ُكلّ ذلك:
{ ّلعَّل ُكمْ َتهْتَدُونَ } [النحل.]15 :
جعْل كلّه لعلنا نهتدي.
أي :أن ال َ
ونعلم أن العرب كانوا يهتدوا بالجبال ،ويجعلون منها علمات ،والمثَل هو جبل " هرشا " الذي
يقول فيه الشاعر:خُذُوا َبطْن هرشا أو َقفَاهَا فإنّهُ كِلَ جَانِبي هرشا َلهُنّ طَريقُوأيضا جبل التوباد
كان يُعتبر علمة.
وكذلك َقوْل الحق سبحانه {:وَنَادَيْنَاهُ مِن جَا ِنبِ الطّو ِر الَ ْيمَنِ }[مريم.]52 :
وهكذا نجد من ضمن فوائد الجبال أنها علماتٌ نهتدي بها إلى الطرق وإلى الماكن ،وتلك من
المهام الجانبية للجبال.
أو:
{ ّلعَّل ُكمْ َتهْتَدُونَ } [النحل.]15 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
باتعاظكم بالشياء المخلوقة لكم ،كي تهتدوا ِلمَنْ أوجدها لكم.
ت وَبِالنّجْمِ.} ...
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَعَلمَا ٍ
()1900 /
أي :أن ما تقدم من خَلْق ال هو علمات تدلّ على ضرورة أنْ تروا المنافع التي أودعها ال فيما
خلق لكم؛ وتهتدوا إلى اليمان بإله مُوجِد لهذه الشياء لصالحكم.
وما سبق من علمات مَقرّه الرض ،سواء الجبال أو النهار أو السّبل؛ وأضاف الحق سبحانه لها
في هذه الية علمة توجد في السماء ،وهي النجوم.
ونعلم أن كلّ مَنْ يسير في البحر إنما يهتدي بالنجم .وتكلم عنها الحق سبحانه هنا كتسخير
مُخْتص؛ ولم يُدخِلها في التسخيرات المتعددة؛ ولن نجما يقود لنجم آخر ،وهناك نجوم لم يصلنا
ضوؤها بعد ،وننتفع بآثارها من خلل غيرها.
ونعلم أن قريشا كانت لها رحلتان في العام :رحلة الشتاء ،ورحلة الصيف .وكانت تسلك سبلً
متعددة ،فتهتدي بالنجوم في طريقها ،ولذلك ل بد أن يكون عندها خبرة بمواقع النجوم.
ويقول الحق سبحانه:
{ وَبِالنّجْمِ ُهمْ َيهْتَدُونَ } [النحل.]16 :
قد فضّل الحق هذا السلوب من بين ثلثة أساليب يمكن أنْ تُؤدي المعنى؛ هي " :يهتدون بالنجم "
و " بالنجم يهتدون " والثالث :هو الذي استخدمه الحق فقال:
{ وَبِالنّجْمِ ُهمْ َيهْتَدُونَ } [النحل.]16 :
وذلك تأكيد على خبرة قريش بمواقع النجوم؛ لنها تسافر كل عام رحلتين ،ولم يكن هناك آخرون
يملكون تلك الخبرة.
والضمير " هم " جاء ليعطي خصوصيتين؛ الولى :أنهم يهتدون بالنجم ل بغيره؛ والثانية :أن
قريشا تهتدي بالنجم ،بينما غيرُها من القبائل ل تستطيع أن تهتدي به.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلكَ { :أ َفمَن َيخُْلقُ َكمَن لّ.} ...
()1901 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َأ َفمَنْ يَخُْلقُ َكمَنْ لَا َيخْلُقُ َأفَلَا تَ َذكّرُونَ ()17
ونعلم أن الكلم الذي يلقيه المتكلم للسامع يأخذ صورا متعددة؛ فمرّة يأخذ صورة الخبر ،كأن
يقول :مَنْ ل يخلق ليس كَمنْ يخلق .وهذا كلم خبريّ ،يصح أنْ تُصدّقه ،ويصحّ ألّ تُصدّقه.
أما إذا أراد المتكلم أن يأتي منك أن التصديق ،ويجعلك تنطق به؛ فهو يأتي لك بصيغة سؤال ،ل
تستطيع إل أنْ تجيبَ عليه بالتأكيد ِلمَا يرغبه المتكلّم.
ونعلم أن قريشا كانت تعبد الصنام؛ وجعلوها آلهة؛ وهي لم تكلمهم ،ولم تُنزِل منهجا ،وقالوا ما
أورده الحق سبحانه على ألسنتهم {:مَا َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى }[الزمر.]3 :
فلماذا إذن ل يعبدون ال مباشرة دون وساطة؟ ولماذا ل يرفعون عن أنفسهم مشقة العبادة،
ويتجهون إلى ال مباشرة؟
ثم لنسأل :ما هي العبادة؟
نعلم أن العبادة تعني الطاعة في " افعل " و " ل تفعل " التي تصدر من المعبود .وبطبيعة الحال ل
توجد أوامر أو تكاليف من الصنام ِلمَنْ يعبدونها ،فهي معبودات بل منهج ،وبل جزاء ِلمَن
خالف ،وبل ثواب ِلمَنْ أطاع ،وبالتالي ل تصلح تلك الصنام للعبادة.
ولنناقش المسألة من زاوية أخرى ،لقد أوضح الحق سبحانه أنه هو الذي خلق السماوات
والرض ،والليل والنهار ،والشمس والقمر ،وسخر كل الكائنات لخدمة النسان الذي أوكل إليه
مهمة خلفته في الرض.
ل تلك المور ل يدعيها أحد غير ال ،بل إنك إنْ سألتَ الكفار والمشركين عمّن خلقهم ليقولن
وك ّ
ال.
قال الحق سبحانه {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ }[الزخرف.]87 :
ذلك أن عملية اليجاد والخَلْق ل يجرؤ أحدٌ أنْ يدّعيَها إنْ لم يكُنْ هو الذي أبدعها ،وحين تسألهم:
مَنْ خلق السماوات والرض لقالوا :إنه ال.
وقد أبلغهم محمد صلى ال عليه وسلم أن ال هو الذي خلق السماوات والرض ،وأن منهجه
لدارة الكون يبدأ من عبادته سبحانه.
وما دام قد ادّعى الحق سبحانه ذلكن ولم يوجد مَنْ ينازعه؛ فالدعوة تثبُت له إلى أنْ يوجد
معارض ،ولم يوجد هذا ال ُمعَارض أبدا.
وهنا في الية التي نحن بصدد خواطرنا عنها؛ لم َيقُل الحق سبحانه " أتجعلون مَنْ ل يخلق مِثْل
من يخلق " .بل قال:
{ َأ َفمَن َيخْلُقُ َكمَن لّ َيخْلُقُ َأفَل َت َذكّرُونَ } [النحل.]17 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ووراء ذلك حكمة؛ فهؤلء الذين نزل إليهم الحديث تعاملوا مع الصنام وكأنها ال؛ وتوهّموا أن
ال مخلوق مثل تلك الصنام؛ ولذلك جاء القول الذي يناسب هذا التصوّر.
والحق سبحانه يريد أنْ يبطل هذا التصوّر من الساس؛ فأوضح أن مَنْ تعبدونهم هم أصنام من
حسْب تصوّركم وقدراتكم.
الحجارة وهي مادة ولها صورة ،وأنتم صنعتموها على َ
وفي هذه الحالة يكون المعبود أقلّ درجة من العابد وأدنى منه؛ فضلً عن أن تلك الصنام ل تملك
ِلمَنْ يعبدها ضرا ول نفعا.
سكُم ضُرّ؟
ثم :لماذا تدعون ال إنْ م ّ
إن النسان يدعو ال في موقف الضر؛ لنه لحظتها ل يجرؤ على خداع نفسه ،أما اللهة التي
س ِمعُواْ مَا اسْتَجَابُواْ
س َمعُواْ دُعَآ َء ُك ْم وََلوْ َ
صنعوها وعبدوها فهي ل تسمع الدعاء {:إِن تَدْعُو ُه ْم لَ يَ ْ
َلكُ ْم وَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُونَ ِبشِ ْركِـكُ ْم وَلَ يُنَبّ ُئكَ مِ ْثلُ خَبِيرٍ }[فاطر.]14 :
فكيف إذن تساوون بين مَنْ ل يخلق ،ومن يخلق؟ إن عليكم أنْ تتذكّروا ،وأنْ تتفكّروا ،وأن ُت ْعمِلوا
عقولكم فيما ينفعكم.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَإِن َت ُعدّواْ ِن ْعمَةَ.} ...
()1902 /
وهذه الية سبقتْ في سورة إبراهيم؛ فقال الحق سبحانه هناك {:وَآتَاكُم مّن ُكلّ مَا سَأَلْ ُتمُوهُ وَإِن
حصُوهَا إِنّ النْسَانَ لَظَلُومٌ كَفّارٌ }[إبراهيم.]34 :
َتعُدّواْ ِن ْع َمتَ اللّ ِه لَ تُ ْ
حقّها ،وجحدوا
وكان الحديث في مجال مَنْ لم يعطوا اللوهية الخالقة ،والربوبية الموجدة ،وال ُممِدّة َ
كل ذلك .ونفس الموقف هنا حديث عن نفس القوم ،فيُوضّح الحق سبحانه:
أنتم لو استعرضتم نِعمَ ال فلن تحصوها ،ذلك أن المعدود دائما يكون مكرر الفراد؛ ولكن النعمة
الواحدة في نظرك تشتمل على ِنعَم ل تُحصَى ول ُتعَد؛ فما بالك بالنّعم مجتمعة؟
أو :أن الحق سبحانه ل يمتنّ إل بشيء واحد ،هو أنه قد جاء لكم بنعمة ،وتلك النعمة أفرادها كثير
جدا.
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
{ إِنّ اللّهَ َل َغفُورٌ رّحِيمٌ } [النحل.]18 :
أي :أنكم رغم ُكفْركم سيزيدكم من النعم ،ويعطيكم من مناط الرحمة ،فمنكم الظلم ،ومن ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الغفران ،ومنكم الكفر ومن ال الرحمة.
وكأنّ تذييل الية هنا يرتبط بتذييل الية التي في سورة إبراهيم حيث قال هناك {:إِنّ النْسَانَ
لَظَلُومٌ كَفّارٌ }[إبراهيم.]34 :
فهو سبحانه غفور لجحدكم و ُنكْرانكم لجميل ال ،وهو رحيم ،فيوالي عليكم ال ّنعَم رغم أنكم ظالمون
وكافرون.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا ُتسِرّونَ.} ..
()1903 /
والسّر ـ كما نعلم ـ هو ما حبْسته في نفسك ،أو ما أسر ْرتَ به لغيرك ،وطلبتَ منه ألّ يُعلِمه
خفَى }[طه.]7 :
لحد .والحق سبحانه يعلم السّر ،بل يعلم ما هو َأخْفى فهو القائلَ {:يعَْلمُ السّرّ وَأَ ْ
أي :أنه يعلم ما نُسِره في أنفسنا ،ويعلم أيضا ما يمكن أن يكون سِرا قبل أن ُنسِرّه في أنفسنا ،وهو
سبحانه ل يعلم السّر فقط؛ بل يعلم العَلَن أيضا.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن.} ..
()1904 /
وَالّذِينَ َيدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا يَخُْلقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخَْلقُونَ ()20
أي :أنهم ل يستطيعون أنْ يخلقوا شيئا؛ بل هم يُخْلقون ،والصنام كما قُلْنا هي أدنى ِممّنْ
ن يكونَ المعبود أَدْنى من العابد؟ وذلك تسفيهٌ لعبادتهم.
يخلقونها ،فكيف يستوي أ ْ
ولذلك يقول الحق سبحانه على لسان سيدنا إبراهيم عليه السلم لحظةَ أنْ حطّم الصنام ،وسأله
أهله :مَنْ فعل ذلك بآلهتنا؟ وأجاب {:قَالَ َبلْ َفعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا }[النبياء.]63 :
فقالوا له :إن الكبير مجرّد صنم ،وأنت تعلم أنه ل يقدر على شيء.
ونجد القرآن يقول لمثال هؤلء {:أَ َتعْ ُبدُونَ مَا تَ ْنحِتُونَ }[الصافات.]95 :
فهذه اللهة ـ إذن ـ ل تخلق بل تُخلق ،ولكن ال هو خالق كل شيء ،وسبحانه القائل {:ياأَ ّيهَا
س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُواْ َلهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن َيخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَ ُه وَإِن
النّا ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضعُفَ الطّاِلبُ وَا ْل َمطْلُوبُ }[الحج.]73 :
يَسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ َيسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ َ
ويذكر الحق سبحانه من بعد ذلك أوصاف تلك الصنامَ { :أمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ.} ...
()1905 /
س ول حركة ،وقوله:
ح ّ
وهم بالفعل أموات؛ لنهم بل ِ
{ غَيْرُ أَحْيَآءٍ[ } ..النحل.]21 :
تفيد أنه لم تكُنْ لهم حياة من قَبْل ،ولم تثبت لهم الحياة في دورة من دورات الماضي أو الحاضر
أو المستقبل.
وهكذا تكتمل أوصاف تلك الصنام ،فهم ل يخلقون شيئا ،بل هم مخلوقون بواسطة مَنْ نحتُوهم،
وتلك الصنام والوثان لن تكون لها حياة في الخرة ،بل ستكون َوقُودا للنار.
جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْبُدُونَ }[الصافات.]22 :
والحق سبحانه هو القائل {:احْشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُو ْا وَأَ ْزوَا َ
وبطبيعة الحال لن تشعرَ تلك الحجارةُ ببعْث مَنْ عبدوها.
ويُصفّي الحق سبحانه من بعد ذلك المسألة العقدية ،فيقول { :إِل ُهكُمْ إِل ٌه وَاحِدٌ.} ...
()1906 /
إَِل ُهكُمْ إَِل ٌه وَاحِدٌ فَالّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالْآَخِ َرةِ قُلُو ُبهُمْ مُ ْنكِ َرةٌ وَ ُهمْ مُسْ َتكْبِرُونَ ()22
وقَوْله الحق:
{ إِل ُهكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ[ } ...النحل.]22 :
ن يكونَ هناك أفراد غيره مثله ،وقد يتصوّر البعض أنها تُساوي كلمة " أحد " .وأقول :إن
تمنع أ ْ
كلمة " أحد " هي منع أن يكونَ له أجزاء؛ فهو مُنزّه عن ال ّتكْرار أو التجزيء.
طمْأن ٌة للمؤمنين بأنهم قد وصلوا إلى ِقمّة الفهم والعتقاد بأن ال واحد.
وفي هذا القول َ
غصْبا ،وبهذا القول يكشف
أو :هو يُوضّح للكافرين أن ال واحدٌ رغم أنوفكم ،وستعودون إليه َ
الحق سبحانه عن الفطرة الموجودة في النفس البشرية التي شهدتْ في عالم الذّرّ أن ال واحد ل
حقّ.
شريك له ،وأن القيامة والبعث َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولكن الذين ل يؤمنون بال وبالخرة هم مَنْ ستروا عن أنفسهم فطرتهم ،فكلمة الكفر كما سبق أنْ
قلنا هي ستر يقتضي مستورا ،والكفر يستر إيمانَ الفطرة الولى.
والذين يُنكرون الخرة إنما َيحْرِمون أنفسهم من تصوّر ما سوف يحدث حَتْما؛ وهو الحساب الذي
سيجازي بالثواب والحسنات على الفعال الطيبة ،ولعل سيئاتهم تكون قليلة؛ فيجبُرها الحق سبحانه
لهم وينالون الجنة.
والمُسْرفون على أنفسهم؛ يأملون أن تكون قضيةُ الدين كاذبة ،لنهم يريدون أن يبتعدوا عن تصوّر
ن ألّ يوجدَ حساب.
الحساب ،ويتم ّنوْ َ
و َيصِفُهم الحق سبحانه:
{ قُلُو ُبهُم مّنكِ َر ٌة وَهُم مّسْ َتكْبِرُونَ } [النحل.]22 :
أي :أنهم ل يكتفُون بإنكار الخرة فقط؛ بل يتعاظمون بدون وجه للعظمة.
ن يملكَ مُقوّمات الكِبر ،ذلك أن " الكبير " يجب أن
و " استكبر " أي :نصّب من نفسه كبيرا دون أ ْ
يستندَ ِلمُقوّمات الكِبَر؛ ويضمن لنفسه أنْ تظلّ تلك المُقوّمات ذاتيةً فيه.
ولكِنّا نحن البشر أبناءُ أغيارٍ؛ لذلك ل يصِحّ لنا أنْ نتكَبّر؛ فالواحد مِنّا قد يمرض ،أو تزول عنه
أعراض الثروة أو الجاه ،فصفات وكمالت الكبر ليست ذاتية في أيّ مِنّا؛ وقد تُسلب ممّنْ فاء ال
عليه بها؛ ولذلك يصبح من اللئق أن يتواضعَ ُكلّ مِنّا ،وأنْ يستحضرَ ربّه ،وأنْ يتضاءلَ أمام
خالقه.
فالحق سبحانه وحده هو صاحب الحق في التكبّر؛ وهو سبحانه الذي تبلغ صفاته ومُقوّماته منتهى
الكمال ،وهي ل تزول عنه أبدا.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :لَ جَرَمَ أَنّ اللّهَ.} ...
()1907 /
حقّ ثابت ،فـ " ل " نافية ،و " جرم "
وساعة نرى { لَ جَرَمَ } فمعناها أنّ ما يأتي بعدها هو َ
مأخوذة من " الجريمة " ،وهي كَسْر شيء ُم ْؤمَن به لسلمة المجموع .وحين نقول " ل جرم "
حقّ ثابت.
أي :أن ما بعدها َ
وما بعد { لَ جَرَمَ } هنا هو :أن ال يعلم ما يُسِرون وما يُعلِنون.
وكُلّ آيات القرآن التي ورد فيها قوله الحق { لَ جَرَمَ } تُؤدّي هذا المعنى ،مثل قوله الحق {:لَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جَ َرمَ أَنّ َلهُمُ الْنّا َر وَأَ ّنهُمْ ّمفْرَطُونَ }[النحل.]62 :
وكذلك قوله الحق {:لَ جَرَمَ أَ ّن ُهمْ فِي الخِ َرةِ هُمُ الْخَاسِرونَ }[النحل.]109 :
وقد قال بعض العلماء :إن قوله الحق { لَ جَ َرمَ } يحمل معنى " ل بُدّ " ،وهذا يعني أن قوله
ن َومَا ُيعْلِنُونَ[ } ...النحل..]23 :
الحق { :لَ جَرَمَ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ
ل ُبدّ أن يعلم ال ما يُسِرون وما يُعلِنون ،ول مناصَ من أن الذين كفروا هم الخاسرون .وقد حَّللَ
العلماء اللفظ لِيصِلوا إلى أدقّ أسراره.
ل العمال.
جهْر فقط ،بل على السّر أيضا؛ ذلك أنه سيحاسبهم على ُك ّ
وعِلْم ال ل ينطبق على ال َ
ويُنهِي الحق سبحانه الية بقوله:
حبّ ا ْلمُسْ َتكْبِرِينَ } [النحل.]23 :
{ إِنّ ُه لَ يُ ِ
وإذا سألنا :وما علقةُ عِلْم ال بالعقوبة؟ ونقول :ألم يقولوا في أنفسهمَ {:ل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ..
}[المجادلة.]8 :
وإذا ما نزل قول الحق سبحانه لِيُخبرهم بما قالوه في أنفسهم؛ فهذا دليل على أن مَنْ يُبلِغهم صادقٌ
في البلغ عن ال ،ورغم ذلك فقد استكبروا؛ وتأ ّبوْا وعاندوا ،وأخذتهم العزة بالثم ،وأرادوا
بالستكبار الهرب من اللتزام بالمنهج الذي جاءهم به الرسول صلى ال عليه وسلم.
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :وَِإذَا قِيلَ َلهُمْ.} ...
()1908 /
وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ مَاذَا أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ قَالُوا َأسَاطِيرُ الَْأوّلِينَ ()24
وقوله الحق:
{ مّاذَآ أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ[ } ...النحل.]24 :
يُوضّح الستدراك الذي أجراه ال على لسان المُتكلّم؛ ليعرفوا أن لهم ربا .ولو لم يكونوا مؤمنين
بِ َربّ ،لعلنوا ذلك ،ولكنهم من غفلتهم اعترضوا على النزال ،ولم يعترضوا على أن لهم ربا.
وهذا دليل على إيمانهم بربّ خالق؛ ولكنهم يعترضون على محمد صلى ال عليه وسلم وما أُنزِل
إليه من ال.
و:
لوّلِينَ } [النحل.]24 :
{ قَالُواْ َأسَاطِي ُر ا َ
والساطير :هي الكاذيب ،ولو كانوا صادقين مع أنفسهم َلمَا أقرّوا باللوهية ،ورفضوا أيضا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القول المُنْزل إليهم.
لوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا َف ِهيَ ُتمْلَىا عَلَ ْيهِ ُبكْ َر ًة وََأصِيلً }[الفرقان.]5 :
ومنهم من قالَ {:وقَالُواْ َأسَاطِي ُر ا َ
ولكن هناك جانب آخر كان له موقف مختلف سيأتي تبيانه من بعد ذلك ،وهم الجانب ال ُمضَادّ
لهؤلء؛ حيث يقول الحق سبحانهَ {:وقِيلَ لِلّذِينَ ا ّت َقوْاْ مَاذَا أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ قَالُواْ خَيْرا لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي
ها ِذهِ الْدّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الخِ َرةِ خَيْرٌ }[النحل.]30 :
ووراء ذلك قصة تُوضّح جوانب الخلف بين فريق مؤمن ،وفريق كافر.
فحين دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم قومه وعشيرته إلى اليمان بال الواحد الذي أنزل عليه
منهجا في كتاب مُعجز ،بدأت أخبار رسول ال صلى ال عليه وسلم تنتشر بين قبائل الجزيرة
العربية كلها ،وأرسلت ُكلّ قبيلة وفدا منها لتتعرف وتستطلع مسألة هذا الرسول.
ولكن ُكفّار قريش أرادوا أن يصدّوا عن سبيل ال؛ فقسّموا أنفسهم على مداخل مكة الربعة ،فإذا
سألهم سائل من وفود القبائل " ماذا قال ربكم الذي أرسل لكم رسولً؟ ".
هنا يرد عليهم قسم الكفار الذي يستقبلهم " :إنه رسول كاذب ،يُحرّف ويُجدّف " .والهدف طبعا أنْ
يصُ ّد الكفار وفود القبائل.
ويخبر الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم بما حدث ،وإذا قيل للواقفين على أبواب مكة من
الوفود التي جاءت تستطلع أخبار للرسول :ماذا أنزل ربّكم؟ يردّون " إنه يُردّد أساطير الولين ".
وهذا الجواب الواحد من الواقفين على أبواب مكة الربعة يدلّ على أنها إجابة مُتفق عليها ،وسبق
العداد لها ،وقد أرادوا بذلك أنْ يَصرِفوا وفود القبائل عن الستماع لرسول ال صلى ال عليه
وسلم فشبّهوا ال ّذكْر المُنزّل من ال بمثل ما كان يرويه لهم ـ على سبيل المثال ـ النضر ابن
الحارث من قصص القدماء التي تتشابه مع قصص عنترة ،وأبي زيد الهللي التي تروي في
قُرَانا .وهذه هي الموقعة الولى في الخذ والرد.
حمِلُواْ َأوْزَارَهُمْ كَامِلَةً.} ...
ويُعقّب الحق سبحانه على قولهم هذا { :لِيَ ْ
()1909 /
حمِلُوا َأوْزَارَ ُهمْ كَامِلَةً َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ()25
لِيَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تلك الجوانب؛ فهي قد تُسرف في الجانب الخلقي؛ والجانب الجتماعي؛ وغير ذلك ،فتأخذ وِزْر
ُكلّ ما تفعل.
ويُوضّح هنا الحق سبحانه أيضا أن تلك النفس التي ترتكب الوزار حين ُتضِل نفسا غيرها فهي
ل تتحمل من أوزار النفس التي أضلّتها إل ما نتجَ عن الضلل؛ فيقول:
{ َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل.]25 :
ذلك أن النفس التي تمّ إضللها قد ترتكب من الوزار في مجالت أخرى ما ل يرتبط بعملية
الضلل.
والحق سبحانه أعدل من أنْ يُحمّل حتى ال ُمضِل أوزارا لم يكُنْ هو السبب فيها؛ ولذلك قال الحق
سبحانه هنا:
{ َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِلْمٍ[ } ...النحل.]25 :
ضلّ يحمل أوزار نفسه ،وكذلك يحمل بعضا من أوزار الذين أضلّهم؛ تلك الوزار
أي :أن ال ُم ِ
الناتجة عن الضلل.
وفي هذا مُطْلق العدالة من الحق سبحانه وتعالى ،فالذين تَمّ إضللهم يرتكبون نوعين من الوزار
والسيئات؛ أوزار وسيئات نتيجة الضلل؛ وتلك يحملها معهم مَنْ أضلوهم.
أما الوزار والسيئات التي ارتكبوها بأنفسهم دون أنْ يدفعهم لذلك مَنْ أضلّوهم؛ فهم يتحمّلون
تَبِعاتها وحدهم ،وبذلك يحمل ُكلّ إنسان أحمال الذنوب التي ارتكبها.
وقد حسم رسول ال صلى ال عليه وسلم ذلك حين قال " :والذي نفس محمد بيده ،ل ينال أحد
خوَار ،أو شاة
منكم منها شيئا إل جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه ،بعير له رُغَاء ،أو بقرة لها ُ
تَ ْيعَر ".
وقِسْ على ذلك من سرق في الطوب والسمنت والحديد وخدع الناس.
وحين يقول الحق سبحانه:
{ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِلْمٍ[ } ...النحل.]25 :
إنما يلفتنا إلى ضرورة ألّ تُلهينا الدنيا عن أهمّ قضية تشغل بال الخليقة ،وهي البحث عن الخالق
خلْق ،وأعدّ الكون لستقبالهم.
الذي أكرم ال َ
وكان يجب على هؤلء الذين سمعوا من كفار قريش أن يبحثوا عن الرسول ،وأن يسمعوا منه؛
ن لَ َيعَْلمُونَ
فهم أُميون لم يسبق أنْ جاءهم رسول؛ وقد قال فيهم الحق سبحانهَ {:ومِ ْنهُمْ ُأمّيّو َ
ي وَإِنْ ُهمْ ِإلّ يَظُنّونَ }[البقرة.]78 :
ا ْلكِتَابَ ِإلّ َأمَا ِن ّ
فإذا ما جاءهم الرسول كان عليهم أنْ يبحثوا ،وأنْ يسمعوا منه ل نقلً عن الكفار؛ ولذلك سيعاقبهم
ال؛ لنهم أهملوا قضية الدين ،ولكن العقوبةَ الشديدة ستكون ِلمَنْ كان عندهم عِلْم بالكتاب.
والحق سبحانه هو القائلَ {:فوَ ْيلٌ لّلّذِينَ َيكْتُبُونَ ا ْلكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ُثمّ َيقُولُونَ هَـاذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لِيَشْتَرُواْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً[} ..البقرة.]79 :
و َيصِف الحق سبحانه مَنْ يحملون أوزارهم وبعضا من أوزار مَنْ أضلوهم:
{ َألَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [النحل.]25 :
أي :ساء ما يحملون من آثام؛ فهم َلمْ يكتفوا بأوزارهم ،بل صَدّوا عن سبيل ال ،ومنعُوا الغير أنْ
يستمعَ إلى قضية اليمان.
ومن نتيجة ذلك أنْ يبيح مَنْ لم يسمع لنفسه بعضا ِممّا حرم ال؛ فيتحمل مَنْ صدّهم عن السبيل
وِزْر هذا الضلل.
ولذلك نجد رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :شَرّكم مَنْ باع دينه ِبدُنْياه ،وشَرّ منه مَنْ باع
دينه بِدُنْيا غيره ".
فمَنْ باع الدين ليتمتع قليلً؛ يستحق العقاب؛ أما مَنْ باع دينه ليتمتعَ غيرُه فهو الذي سيجد العقاب
الشدّ من ال.
ويقول سبحانه من بعد ذلك { :قَدْ َمكَرَ الّذِينَ.} ...
()1910 /
ويأتي الحق سبحانه هنا بسيرة الولين والسّنن التي أجراها سبحانه عليهم ،ليسلي رسوله صلى ال
عليه وسلم؛ ويُوضّح له أن ما حدث معه ليس بدْعا؛ بل سبق أنْ حدث مع مَنْ سبق من الرسل.
ويُبلغه أنه لم يبعث أيّ رسول إل بعد َتعُمّ ال َبلْوى ويَطم الفساد ،ويفقد البشر المناعة اليمانية،
ن يؤمنون ويعملون الصالحات ،ويتواصون بالحقّ وبالصبر.
نتيجة افتقاد مَ ْ
والمَثلُ الواضح على ذلك ما حدث لبني إسرائيل؛ الذين قال فيهم الحق سبحانه {:كَانُو ْا لَ يَتَنَا َهوْنَ
عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ }[المائدة.]79 :
فانصبّ عليهم العذاب من ال ،وهذا مصير ُكلّ أمة ل تتناهى عن المنكر الظاهر أمامها.
ويقول سبحانه هنا:
{ َقدْ َمكَرَ الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ[ } ...النحل.]26 :
والمكر تبييت خفيّ يُبيّته الماكر بما يستر عن ال َم ْمكُور به .ولكن حين يمكر أحد بالرسل؛ فهو
يمكر بمَنْ يُؤيّده ال العالم العليم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإذا ما أعلم الُ رسولَه بالمكر؛ فهو يُلغِي كل أثر لهذا التبييت؛ فقد علمه مَنْ يقدر على إبطاله.
سلِي }[المجادلة.]21 :
والحق سبحانه هو القائل {:كَ َتبَ اللّ ُه لَغْلِبَنّ أَنَ ْا وَرُ ُ
وهو القائل {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ }[الصافات-171 :
.]172
وطبّق الحق سبحانه ذلك على رسوله صلى ال عليه وسلم؛ حين مكر به كفار قريش وجمعوا
شباب القبائل ليقتلوه؛ فأغشاهم ال ولم يبصروا خروجه للهجرة ولم ينتصر عليه معسكر الكفر
بأيّ وسيلة؛ ل باعتداءات اللسان ،ول باعتداءات الجوارح.
وهؤلء الذين يمكرون بالرسل لم يتركهم الحق سبحانه دون عقاب:
{ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَا َنهُمْ مّنَ ا ْل َقوَاعِدِ[ } ...النحل.]26 :
أي :أنهم إنْ جعلوا مكرهم كالبناية العالية؛ فالحقّ سبحانه يتركهم لحساس المن المُزيف ،ويحفر
لهم مِنْ تحتهم ،فيخِرّ عليهم السقف الذي من فوقهم .وهكذا يضرب ال المثَل المعنوي بأمرٍ مَحَسّ.
وقوله الحق:
سقْفُ مِن َف ْو ِقهِمْ[ } ...النحل.]26 :
{ َفخَرّ عَلَ ْيهِمُ ال ّ
يُوضّح أنهم موجودون داخل هذا البيت ،وأن الفوقية هنا للسقف ،وهي فوقية شاءها ال ليأتيهم:
شعُرُونَ } [النحل.]26 :
ث لَ يَ ْ
{ ا ْل َعذَابُ مِنْ حَ ْي ُ
حيّ
خفَى عن ال َ
وهكذا يأتي عذاب ال َبغْتة؛ ذلك أنهم قد بيّتوا ،وظنوا أن هذا التبييت بخفاء يَ ْ
القيوم.
ولَ ْيتَ الم َر يقتصر على ذلك؛ ل بل يُعذّبهم ال في الخرة أيضاُ { :ثمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ.} ...
()1911 /
ثُمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ يُخْزِيهِ ْم وَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْتُمْ ُتشَاقّونَ فِيهِمْ قَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِ ْلمَ إِنّ ا ْلخِ ْزيَ
علَى ا ْلكَافِرِينَ ()27
الْ َيوْ َم وَالسّوءَ َ
وهكذا يكون العذاب في الدنيا وفي الخرة ،ويَلْقوْن الخِزْي يوم القيامة .والخِزْي هو الهوان
والمَذلّة ،وهو أقوى من الضرب واليذاء؛ ول يتجلّد أمامه أحدٌ؛ فالخِزْي قشعريرة َتغْشَى البدن؛
فل يُفلت منها مَنْ تصيبه.
وإنْ كان النسان قادرا على أنْ يكتمَ اليلم؛ فالخِزْي معنى نفسي ،والمعاني النفسية تنضح على
البشرة؛ ول يقدر أحد أنْ يكتم أثرها؛ لنه يقتل خميرة الستكبار التي عاش بها الذي بيّت ومكر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويُوضّح الحق سبحانه هذا المعنى في قوله عن القرية التي كان يأتيها الرزق من عند ال ثم
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ
كفرت بأنعم ال؛ فيقول {:وَضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْ َيةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ
خوْفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }[النحل.]112 :
َمكَانٍ َفكَفَ َرتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
أي :كأن الجسد كله قد سار مُمتلِكا لحاسة التذوق ،وكأن الجوع قد أصبح لباسا؛ يعاني منه
صاحبه؛ فيجوع بقفاه ،ويجوع بوجهه ،ويجوع بذراعه وجلده وخطواته ،وبكل ما فيه.
وساعة يحدث هذا الخِزي فكُلّ خليا الستكبار تنتهي ،خصوصا أمام مَنْ كان يدّعي عليهم
النسان أن عظمته وتجبّره وغروره باقٍٍ ،وله ما يسنده.
ويتابع سبحانه متحديا:
{ أَيْنَ شُ َركَآ ِئيَ الّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقّونَ فِيهِمْ } [النحل .]27 :أي :أين الشركاء الذين كنتم تعبدونهم؛
شقّة أخرى ،وكلمة { تُشَاقّونَ } مأخوذة من " الشق "
شقّة ،وجعلتم من المؤمنين ُ
فجعلتم من أنفسكم ُ
شقّ الخشب " والمقصود هنا أنْ جعلتم المؤمنين ،ومَنْ مع الرسول في
ويقال " :شَقّ الجدار أو َ
شقّة تُعادونها ،وأخذتُم جانب الباطل ،وتركتُم جانب الحق.
ُ
وهنا يقول مَنْ آتاهم ال العلم:
{ قَالَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ إِنّ الْخِ ْزيَ الْ َيوْ َم وَا ْلسّوءَ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ } [النحل.]27 :
ن مكروا برسول ال صلى ال عليه
وكأن هذا المر سيصير مشهدا بمحضر الحق سبحانه بين مَ ْ
وسلم ،وسيحضره الذين أتاهم ال العلم.
والعلم ـ كما نعلم ـ يأتي من ال مباشرة؛ ثم يُنقَل إلى الملئكة؛ ثم يُنقَل من الملئكة إلى الرّسل،
ثم يُنقل من الرّسُل إلى الُمم التي كّلفَ الحق سبحانه رسله أنْ يُبلّغوهم منهجه.
وكَما شهدتْ الدنيا سقوط المناهج التي اتبعوها من أهوائهم ،وسقوط مَنْ عبدوهم من دون ال
سيشهد اليوم الخر الخِزْي والسوء وهو يحيط بهم ،وقد يكون الخِزْي من َهوْل الموقف العظيم،
ويحمي ال مَنْ آمنوا به بالطمئنان.
ونعلم أن الرسول صلى ال عليه وسلم قد قال " :أل هل بلغت ،اللهم فأشهد ".
وكما بلّغَ رسولُ ال أمته واستجابتْ له؛ فقد طلب منهم أيضا أن يكونوا امتدادا لرسالته ،وأَنْ
يُبلّغوها للناس ،ذلك أن الحق سبحانه قد منع الرسالت من بعد رسالة محمد عليه الصلة والسلم.
وصار عن مسئولية المة المحمدية أنْ تُبلّغ كل مَنْ لم تبلغه رسالة الرسول صلى ال عليه وسلم.
وقد قال صلى ال عليه وسلمَ " :نضّر ال امرءا سمع مقالتي فوعاها ،وأدّاها إلى مَنْ لم يسمعها،
فَ ُربّ مُبلّغ َأوْعَى مِن سامع ".
شهِيدا *
شهِي ٍد وَجِئْنَا ِبكَ عَلَىا هَـاؤُلءِ َ
والحق سبحانه هو القائلَ {:فكَ ْيفَ إِذَا جِئْنَا مِن ُكلّ ُأمّةٍ بِ َ
سوّىا ِب ِه ُم الَ ْرضُ[} ...النساء.]42-41 :
صوُاْ الرّسُولَ َلوْ ُت َ
ع َ
َي ْومَئِذٍ َيوَدّ الّذِينَ َكفَرُو ْا وَ َ
أي :يتمنوْنَ أنْ يصيروا تُرَابا ،كما قال تعالى في موقع آخر {:إِنّآ أَنذَرْنَا ُكمْ عَذَابا قَرِيبا َيوْمَ يَنظُرُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْلمَرْءُ مَا َق ّد َمتْ َيدَا ُه وَيَقُولُ ا ْلكَافِرُ يالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابا }[النبأ.]40 :
ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك { :الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ.} ...
()1912 /
سهِمْ فَأَ ْلقَوُا السّلَمَ مَا كُنّا َن ْع َملُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا كُنْتُمْ
الّذِينَ تَ َت َوفّا ُهمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ
َت ْعمَلُونَ ()28
يقول تعالى:
سهِمْ[ } ...النحل.]28 :
{ الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ ظَاِلمِي أَ ْنفُ ِ
أي :تتوفّاهم في حالة َكوْنهم ظالمين لنفسهم ،وفي آية أخرى قال الحق تبارك وتعالىَ {:ومَا
سهُمْ يَظِْلمُونَ }[النحل.]118 :
ظََلمْنَا ُه ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ
حظّ نفسه ولصالحها ..فكيف يظلم هو نفسه ،وهذا يسمونه
ومعلوم أن النسان قد يظلم غيره ل َ
الظلم الحمق حين تظلم نفسك التي بين جنبيك ..ولكن كيف ذلك؟
نعرف أن العدو إذا كان من الخارج فس ْهلٌ التصدي له ،بخلف إذا جاءك من نفسك التي بين
صعْب التصدّي له ،والتخلّص منه.
جَنْبَيْك ،فهذا عدو خطير َ
حقّه ،إذن :ماذا كان لنفسك عليك حتى
وهنا نطرح سؤالً :ما الظلم؟ الظلم أنْ تمن َع صاحب حَقّ َ
حقّها؟
يقال :إنك ظلمتها بمنعها َ
ل تأكل؟ وحين تعطش َألَ تشرب؟ وحين تُرْهق من العمل َألَ تنام؟
نقول :حين تجوع ،أ َ
إذن :أنت تعطي نفسك مطلوباتها التي تُريحها وتسارع إليها ،وكذلك إذا ِن ْمتَ وحاولوا إيقاظك
ل في العمل
للعمل فلم تستيقظ ،أو حاولوا إيقاظك للصلة فتكاسلت ،وفي النهاية كانت النتيجة فش ً
أو خسارة في التجارة ..الخ.
إذن :هذه خسارة مُجمعة ،والخاسر هو النفس ،وبهذا فقد ظلم النسانُ نفسه بما فاتها من منافع في
الدنيا ،وقِسْ على ذلك أمور الخرة.
وانظر هنا إلى جُزْئيات الدنيا حينما تكتمل لك ،هل هي نهاية كل شيء ،أم بنهايتها يبتديء شيء؟
بنهايتها يبتديء شيء ،ونسأل :الشيء الذي سوف يبدأ ،هل هو صورة مكررة لما انتهى في
الدنيا؟
ليس كذلك ،لن المنتهي في الدنيا مُنقطع ،وقد أخذت حَظّي منه على َقدْر قدراتي ،وقدراتي لها
إمكانات محدودة ..أما الذي سيبدأ ـ أي في الخرة ـ ليس بمُنْتهٍ بل خالد ل انقطاع له ،وما فيه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من نعيم يأتي على قَدْر إمكانات المنعِم ربك سبحانه وتعالى.
إذن :أنت حينما تُعطِي نفسك متعة في الدنيا الزائلة المنقطعة ،تُفوّت عليها المتعة الباقية في
الخرة ..وهذا مُنتهى الظلم للنفس.
ونعود إلى قوله تعالى:
{ الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ ا ْلمَل ِئكَةُ[ } ...النحل.]28 :
أثبتت هذه الية التوفّي للملئكة ..والتوفّي حقيقة ل تعالى ،كما جاء في قوله {:اللّهُ يَ َت َوفّى
الَنفُسَ[} ...الزمر.]42 :
لكن لما كان الملئكة مأمورين ،فكأن ال تعالى هو الذي يتوفّى النفُسَ رغم أنه سبحانه وتعالى
قال {:اللّهُ يَ َت َوفّى الَنفُسَ }[الزمر.]42 :
جعُونَ }[السجدة.]11 :
وقالُ {:قلْ يَ َت َوفّاكُم مَّلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُو ّكلَ ِبكُمْ ثُمّ إِلَىا رَ ّبكُمْ تُ ْر َ
وقالَ {:ت َوفّتْهُ رُسُلُنَا[} ...النعام.]61 :
ث من ال تعالى مرة ،ومن رئيس الملئكة عزرائيل مرة ،ومن ُمسَاعديه من
إذن :جاء الحَد ُ
الملئكة مرة أخرى ،إذن :المر إما للمزاولة مباشرة ،وإما للواسطة ،وإما للصل المر .وقوله
تعالى:
{ تَ َت َوفّا ُهمُ[ } ...النحل.]28 :
معنى التوفيّ من وفّاه حقّه أي :وفّاه أجله ،ولم ينقص منه شيئا ،كما تقول للرجل َوفّيتُك دَيْنك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا كقوله تعالى في آية أخرىُ {:ثمّ لَمْ َتكُنْ فِتْنَ ُتهُمْ ِإلّ أَن قَالُو ْا وَاللّهِ رَبّنَا مَا كُنّا مُشْ ِركِينَ }[النعام:
.]23
ن ألقَوا السلم ورفعوا الراية البيضاء واستسلموا ،أخذهم موقف العذاب فقالوا
والواقع أنهم بعد أ ْ
محاولين الدفاعَ عن أنفسهم:
} مَا كُنّا َن ْع َملُ مِن سُوءٍ[ { ..النحل.]28 :
وتعجب من كَذِب هؤلء على ال في مثل هذا الموقف ،على مَنْ تكذبون الن؟!
فيرد عليهم الحق سبحانه:
} بَلَىا[ { ..النحل.]28 :
وهي أدا ُة نفي للنفي السابق عليها ،ومعلومٌ أن َنفْي النفي إثبات ،فـ } بَلَىا { تنفي:
} مَا كُنّا َن ْع َملُ مِن سُوءٍ[ { ..النحل.]28 :
إذن :معناها ..ل ..بل عملتم السوء .ثم يقول الحق سبحانه:
} إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ { [النحل.]28 :
سجّله في كتاب سَيُعرض
ومن رحمة ال تعالى أنه لم يك َتفِ بالعلم فقط ،بل دوّن ذلك عليهم و َ
عليهم يوم القيامة ،كما قال تعالىَ {:وكَفَىا بِنَا حَاسِبِينَ }[النبياء.]47 :
وقالَ {:و ُكلّ إِنْسَانٍ َألْ َزمْنَاهُ طَآئِ َرهُ فِي عُ ُنقِ ِه وَنُخْرِجُ لَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ كِتَابا يَ ْلقَاهُ مَنْشُورا * اقْرَأْ كِتَا َبكَ
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا }[السراء.]14-13 :
َكفَىا بِ َنفْ ِ
ويحلو للبعض أنْ ينكر إمكانية تسجيل العمال وكتابتها ..ونقول لهؤلء :تعالوا إلى ما توصل إليه
العقل البشريّ الن من تسجيل الصور والصوات والبصمات وغيرها ..وهذا كله يُسهّل علينا هذه
المسألة عندما نرقي إمكانات العقل البشري إلى المكانات اللهية التي ل حدود لها.
فل وجه ـ إذن ـ لنْ ننكر قدرة الملئكة " رقيب وعتيد " في تسجيل العمال في كتاب يحفظ
جهَنّمَ.{ ...
أعماله ويُحصى عليه كل كبيرة وصغيرة .ثم يقول تعالى } :فَا ْدخُلُواْ أَ ْبوَابَ َ
()1913 /
سبق أنْ قُلْنا في شرح قوله تعالى في وصف جهنمَ {:لهَا سَ ْبعَةُ أَ ْبوَابٍ ِل ُكلّ بَابٍ مّ ْنهُمْ جُزْءٌ ّمقْسُومٌ }
[الحجر.]44 :
أي :أن لكل جماعة من أهل المعصية بابا معلوما ..فبابٌ لهل الربا ..وبابٌ لهل الرّشوة ..وباب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لهل النفاق وهكذا ..ولك أن تتصور ما يُلقيه مَنْ يجمع بين هذه المعاصي!! إنه يدخل هذا الباب
ثم يخرج منه ليدخل بابا آخر ..حقا ما أتعس هؤلء!
وهنا يقول تعالى:
جهَنّمَ } [النحل.]29 :
{ فَادْخُلُواْ أَ ْبوَابَ َ
خصّص له .ثم يقول
فجاءت أيضا بصورة الجمع .إذن :كل واحد منكم يدخل من بابه الذي ُ
سبحانه:
{ فَلَبِئْسَ مَ ْثوَى ا ْلمُ َتكَبّرِينَ } [النحل.]29 :
ن َومَا
والمثوى هو مكان القامة ،وقال تعالى في موضع آخر {:لَ جَرَمَ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا يُسِرّو َ
حبّ ا ْلمُسْ َتكْبِرِينَ }[النحل.]23 :
ُيعْلِنُونَ إِنّ ُه لَ يُ ِ
فتكبّر واستكبر وكل ما جاء على وزن (تفعّل) يدل على أن كِبْرهم هذا غير ذاتيّ؛ لن الذي يتكبر
حقّا يتكّبر بما فيه ذاتيّا ل يسْلُبه منه أحد ،إنما مَنْ يتكبر بشيء ل يملكه فتكبّره غيرُ حقيقيّ،
وسرعان ما يزول ويتصاغر هؤلء بما تكبّروا به في الدنيا ،وبذلك ل يكون لحد أنْ يتكبّر لن
الكبرياءَ الحقيقي ل عزّ وجل.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وقِيلَ لِلّذِينَ ا ّتقَوْاْ.} ...
()1914 /
لوّلِينَ }[النحل:
وقد سبق أنْ تحدثنا عن قوله تعالى {:وَإِذَا قِيلَ َلهُمْ مّاذَآ أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ قَالُواْ َأسَاطِي ُر ا َ
.]24
فهذه مشاهدة ولقطات تُبيّن الموقف الذي انتهى بأنْ أقروا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.
وهذه الياتُ نزلتْ في جماعة كانوا داخلين مكة ..وعلى أبوابها التي يأتي منها أهل البوادي ،وقد
قسّم الكافرون أنفسهم على مداخل مكة ليصدوا الداخلين إليها عن سماع خبر أهل اليمان بالنبي
الجديد.
وكان أهل اليمان من المسلمين يتحيّنون الفرصة ويخرجون على مشارف مكة بحجة رَعْي الغنم
مثلً ليقابلوا هؤلء السائلين ليخبروهم خبر النبي صلى ال عليه وسلم وخبر دعوته.
مما يدلّ على أن الذي يسأل عن شيء ل يكتفي بأول عابر يسأله ،بل يُجدّد السؤال ليقف على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لوّلِينَ }[النحل.]24 :
المتناقضات ..فحين سألوا الكافرين قالوا {:قَالُواْ َأسَاطِي ُر ا َ
فلم يكتفوا بذلك ،بل سألوا أهل اليمان فكان جوابهم:
{ قَالُواْ خَيْرا[ } ...النحل.]30 :
هذا لنفهم أن النسانَ إذا صادف شيئا له وجهتان متضادتان فل يكتفي بوجهة واحدة ،بل يجب أن
يستمع للثانية ،ثم بعد ذلك للعقل أن يختار بين البدائل.
إذن :حينما سأل الداخلون مكة أهل الكفر {:مّاذَآ أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الَوّلِينَ }[النحل.]24 :
وحينما سألوا أهلَ اليمان والتقوى:
{ مَاذَا أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ قَالُواْ خَيْرا } [النحل.]30 :
ونلحظ هنا في { َوقِيلَ لِلّذِينَ ا ّت َقوْاْ[ } ..النحل.]30 :
أن الحق سبحانه لم يوضح لنا مَنْ هم ،ولم يُبيّن هُويّتهم ،وهذا يدلّنا على أنهم كانوا غير قادرين
ضعَافا ل يقدرون على المواجهة.
على المواجهة ،ويُدارون أنفسهم لنهم ما زالوا ِ
وقد تكرر هذا الموقف ـ موقف السؤال إلى أنْ تصل إلى الوجهة الصواب ـ حينما عَتَب الحق
تبارك وتعالى على نبي من أنبيائه هو سيدنا داود ـ عليه السلم ـ في قوله تعالى {:وَ َهلْ أَتَاكَ
صمَانِ َبغَىا
خ ْ
خفْ َ
سوّرُواْ ا ْلمِحْرَابَ * ِإذْ َدخَلُواْ عَلَىا دَاوُودَ َففَ ِزعَ مِ ْنهُمْ قَالُواْ لَ َت َ
خصْمِ إِذْ تَ َ
نَبَأُ ا ْل َ
سوَآءِ الصّرَاطِ * إِنّ َهذَآ أَخِي لَهُ
ط وَا ْهدِنَآ إِلَىا َ
شطِ ْ
حكُمْ بَيْنَنَا بِا ْلحَقّ وَلَ تُ ْ
علَىا َب ْعضٍ فَا ْ
َب ْعضُنَا َ
ج ًة وَلِي َن ْعجَ ٌة وَاحِ َدةٌ َفقَالَ َأ ْكفِلْنِيهَا وَعَزّنِي فِي ا ْلخِطَابِ }[ص.]23-21 :
سعُونَ َنعْ َ
تِسْ ٌع وَتِ ْ
سؤَالِ َنعْجَ ِتكَ إِلَىا ِنعَاجِهِ }[ص.]24 :
فماذا قال داود عليه السلم؟{ قَالَ َلقَدْ ظََل َمكَ بِ ُ
وواضحٌ في حكم داود عليه السلم تأثّره بقوله (له تسع وتسعون) ولنفرض أنه لم يكُنْ عنده شيء،
ألم يظلم أخاه بأخْذ نعجته؟! إذن :تأثر داود بدعوى الخصم ،وأدخل فيه حيثية أخرى ،وهذا خطأ
إجرائي في عَرْض القضية؛ لن (تسع وتسعون) هذه ل َدخْل لها في القضية ..بل هي لستمالة
خصْم غني ومع ذلك فهو طماع ظالم.
القاضي وللتأثير على عواطفه ومنافذه ،ولبيان أن ال َ
وسرعان ما اكتشف داود ـ عليه السلم ـ خطأه في هذه الحكومة ،وأنها كانت فتنة واختبارا من
ال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الخصومة قبل الحكم فيها.
وقوله تعالى:
} َوقِيلَ لِلّذِينَ ا ّتقَوْاْ مَاذَا أَنْ َزلَ رَ ّب ُكمْ قَالُواْ خَيْرا[ { ...النحل.]30 :
ما هو الخير؟ الخير ُكلّ ما تستطيبه النفس بكل مَلكَاتها ..لكن الستطابة قد تكون موقوتة بزمن،
حسْرة وندامة ..إذن :هذا ليس خيرا؛ لنه ل خيرَ في خير بعده النارُ ،وكذلك ل شَ ّر في
ثم تُورث َ
شر بعده الجنة.
إذن :يجب أن نعرف أن الخير يظل خُيْرا دائما في الدنيا ،وكذلك في الخرة ،فلو أخذنا مثلً
متعاطي المخدرات نجده يأخذ متعة وقتية ونشوة زائفة سرعان ما تزول ،ثم سرعان ما ينقلب هذا
الخير في نظره إلى شر عاجل في الدنيا وآجل في الخرة.
إذن :انظر إلى عمر الخير في نفسك وكيفيته وعاقبته ..وهذا هو الخير في قوله تعالى:
} قَالُواْ خَيْرا { [النحل.]30 :
إذن :هو خير تستطيبه النفس ،ويظل خيرا في الدنيا ،ويترتب عليه خير في الخرة ،أو هو
موصول بخير الخرة ..ثم فسّره الحق تبارك وتعالى في قوله سبحانه:
} لّلّذِينَ َأحْسَنُواْ فِي ها ِذهِ ا ْلدّنْيَا حَسَنَ ٌة وََلدَارُ الخِ َرةِ خَيْرٌ[ { ...النحل.]30 :
ونفهم من هذه الية أنه على المؤمن ألّ يترك الدنيا وأسبابها ،فربما أخذها منك الكافر وتغلّب
عليك بها ،أو يفتنك في دينك بسببها ،فمَنْ يعبد ال َأوْلى بسرّه في الوجود ،وأسرارُ ال في الوجود
هي للمؤمنين ،ول ينبغي لهم أن يتركوا الخذ بأسباب الدنيا للكافرين.
اجتهد أنت أيها المؤمن في أسباب الدنيا حتى تأمنَ الفتنة من الكافرين في دُنْياك ..ول يخفي ما
نحن فيه الن من حاجتنا لغيرنا ،مما أعطاهم الفرصة ليسيطروا على سياساتنا ومقدراتنا.
لذلك يقول سبحانه:
} لّلّذِينَ َأحْسَنُواْ فِي ها ِذهِ ا ْلدّنْيَا حَسَنَةٌ { [النحل.]30 :
عمِلوا في دنياهم ،وبذلك ينفع
أي :يأخذون حسناتهم ،وتكون لهم اليَدُ العليا بما اجتهدوا ،وبما َ
النسانُ نفسه وينفع غيره ،وكلما اتسعت دائرة النفع منك للناس كانت يدك هي العليا ،وكان ثوابك
وخَيْرك موصولً بخير الخرة.
لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم " :ما من مسلم يغرس غرسا ،أو يزرع زرعا ،فيأكل منه
طير أو إنسان أو بهيمة إل كان له به صدقة ".
ومن هذه الية أيضا يتضح لنا جانب آخر ،هو ثمرة من ثمرات الحسان في الدنيا وهي المن.
.فمَنْ عاش في الدنيا مستقيما لم يقترف ما ُيعَاقب عليه تجدْه آمنا مطمئنا ،حتى إذا داهمه شر أو
مكروه تجده آمنا ل يخاف ،لنه لم يرتكب شيئا يدعو للخوف.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خذْ مثلً اللص تراه دائما مُتوجّسا خائفا ،تدور عَيْنه يمينا وشمالً ،فإذا رأى شرطيا هلع وترقّب
ُ
وراح يقول في نفسه :لعله يقصدني ..أما المستقيم فهو آمن مطمئن.
ومن ثمرات هذا الحسان وهذه الستقامة في الدنيا أن يعيش النسان على قَدْر إمكاناته ول يُرهق
نفسه بما ل يقدر عليه ،وقديما قالوا لحدهم :قد غل اللحم ،فقال :أَرْخِصوه ،قالوا :وكيف لنا ذلك؟
قال :ازهدوا فيه.
ص ما يكونُ إِذَا غَلَول َت ُقلْ:
وقد نظم ذلك الشاع ُر فقال:وَإِذَا غَـلَ شَيءٌ عََليّ تركْتُه فيكونُ أرخ َ
النفس توّاقة إليه راغبة فيه ،فهي كما قال الشاعر:وَالنفْسُ رَاغِبةٌ ِإذَا رغّبْتَها وَإِذَا تُ َردّ إلى قَلِيل
َتقْ َنعُوفي حياتنا العملية ،قد يعود النسان من عمله ولمّا ينضج الطعام ،ولم ُتعَد المائدة وهو جائع،
فيأكل أيّ شيء موجود وتنتهي المشكلة ،ويقوم هذا محل هذا ،وتقنعُ النفسُ بما نالتْه.
عسْر
ولكي يعيش النسان على َقدْر إمكاناته ل بُدّ له أنْ يوازن بين دَخْله ونفقاته ،فمَنْ كان عنده ُ
في دَخْله ،أو ضاقت عليه منافذ الرزق ل بُدّ له من عُسْر في مصروفه ،ول بُدّ له أنْ يُضيّق على
النفس شهواتها ،وبذلك يعيش مستورا ميسورا ،راضي النفس ،قرير العين.
والبعض في مثل هذه المواقف يلجأ إلى الستقراض للنفاق على شهوات نفسه ،وربما اقترض ما
سلْ نفسك
يتمتع به شهرا ،ويعيش في ذلة دَهْرا؛ لذا من الحكمة إذن قبل أن تسأل الناس القرض َ
أولً ،واطلب منها أن تصبر عليك ،وأن تُنظرك إلى ساعة اليُسْر ،ول تُلجئك إلى مذلّة السؤال..
ن منعك ُلمْ نفسك التي تأ ّبتْ عليك أولً.
وقبل أن تلوم مَ ْ
شهَواتِ
وما أبدع شاعِرنا الذي صاغ هذه القيم في قوله:إذَا ُر ْمتَ أنْ تستقرضَ المالَ مُنفِقا على َ
سكَ النفاقَ من كَنْز صَبْرِها عل ْيكَ وإنظارا إلى سَاعةِ اليُسْ ِرفَإِنْ فع ْلتَ
سلْ نف َ
النفسِ فِي َزمَنِ العُسْرفَ َ
سعُ العُذْرثم يقول الحق سبحانه:
ت فكُل مَنُوع بعدها وَا ِ
كنتَ الغني ،وإنْ أ َب ْ
} وَلَدَارُ الخِ َرةِ خَيْرٌ { [النحل.]30 :
والخير في الخرة من ال ،والنعيم فيها على قَدْر المنعِم تبارك وتعالى ،دون تعب ول كَ ّد ول
عمل.
ومعلوم أن كلمة } :قَالُواْ خَيْرا[ { ...النحل.]30 :
التي فسّرها الحق تبارك وتعالى بقوله:
} لّلّذِينَ َأحْسَنُواْ فِي ها ِذهِ ا ْلدّنْيَا حَسَنَةٌ[ { ..النحل.]30 :
تقابلها كلمة " شر " ،هذا الشر هو ما جاء في قول الكافرين {:مّاذَآ أَنْ َزلَ رَ ّبكُمْ قَالُواْ َأسَاطِيرُ
لوّلِينَ }[النحل.]24 :
اَ
فهؤلء قالوا خيرا ،وأولئك قالوا شرا.
ولكن إذا قيل :ذلك خير من ذلك ،فقد توفر الخير في الثنين ،إل أن أحدهما زاد في الخيرية عن
الخر ،وهذا معنى قوله صلى ال عليه وسلم " :المؤمن القوي خير وأحب إلى ال من المؤمن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الضعيف ،وفي كل خير ".
لذلك لما قال:
} لّلّذِينَ َأحْسَنُواْ فِي ها ِذهِ ا ْلدّنْيَا حَسَنَةٌ { [النحل.]30 :
قال } :وَلَدَا ُر الخِ َرةِ خَيْرٌ { [النحل.]30 :
أي :خير من حسنة الدنيا ،فحسنة الدنيا خير ،وأخير منها حسنة الخرة.
ويُنهي الحق سبحانه الية بقوله:
} وَلَ ِنعْمَ دَارُ ا ْلمُ ّتقِينَ { [النحل.]30 :
أي :دار الخرة.
ثم أراد الحق تبارك وتعالى أن يعطينا صورة موجزة عن دار المتقين كأنها برقية ،فقال
سبحانه } :جَنّاتُ عَدْنٍ َيدْخُلُو َنهَا.{ ...
()1915 /
جَنّاتُ عَدْنٍ يَ ْدخُلُو َنهَا َتجْرِي مِنْ تَحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ َلهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ َكذَِلكَ يَجْزِي اللّهُ ا ْلمُ ّتقِينَ ()31
والجنات :تعني البساتين التي بها الشجار والزهار والثمار والخضرة ،مما ل عَيْن رأتْ ،ول
أذُن سمعت ،ول خطر على قلب بشر ..ليس هذا وفقط ..هذه الجنة العمومية التي يراها كل مَنْ
يدخلها ..بل هناك لكل واحد قصر خاص به ،بدليل قوله تعالى {:وَيُ ْدخِ ْلكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا
عدْنٍ ذَِلكَ ا ْل َفوْزُ ا ْلعَظِيمُ }[الصف.]12 :
الَ ْنهَارُ َومَسَاكِنَ طَيّبَةً فِي جَنّاتِ َ
إذن :هنا قَدْر مشترك للجميع:
{ جَنّاتُ عَدْنٍ َيدْخُلُو َنهَا تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ } [النحل.]31 :
عدْنٍ[ } ...النحل.]31 :
ومعنى قوله تعالى { :جَنّاتُ َ
أي :جنات إقامة دائمة؛ لن فيها كل ما يحتاجه النسان ،فل حاجه له إلى غيرهاَ ..هبْ أنك
ل ـ فقصارى المر أنْ تتنزّه به بعض
دخ ْلتَ أعظم حدائق وبساتين العالم ـ هايد بارك مث ً
الوقت ،ثم يعتريك التعب ويصيبك المَلل والرهاق فتطلب الراحة من هذه النزهة ..أما الجنة فهي
جنة عدن ،تحب أن تقيم فيها إقامة دائمة.
ويصف الحق سبحانه هذه الجنات فيقول:
{ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ } [النحل.]31 :
وفي آية أخرى يقول سبحانهَ {:تجْرِي تَحْ َتهَا الَ ْنهَارُ }[التوبة.]100 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى " تجري تحتها " أي :أنها تجري تحتها ،وربما تأتي من مكان آخر ..وقد يقول هنا قائل:
يمكن أن يُمنع عنك جريان هذه النهار؛ لذلك جاءت الية:
{ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ } [النحل.]31 :
أي :ذاتية في الجنة ل يمنعها عنك مانع.
ثم يقول تعالى:
{ َل ُهمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ[ } ..النحل.]31 :
والمشيئة هنا ليست بإرادة الدنيا ومشيئتها ،وإنما مشيئة بالمزاج الخصب الذي يتناسب مع الخرة
ونعيمها ..فمثلً :إذا دخلتَ على إنسان رقيق الحال فَلَك مشيئة على قدر حالته ،وإذا دخلتَ على
أحد العظماء أو الثرياء كانت َلكَ مشيئة أعلى ..وهكذا.
إذن :المشيئات النفسية تختلف باختلف المشَاء منه ،فإذا كان المشَاء منه هو ال الذي ل يُعجزه
شيء تكون مشيئتُك مُطلقة ،فالمشيئة في الية ليستْ كمشيئة الدنيا؛ لن مشيئة الدنيا تتحدّد ببيئة
الدنيا ..أما مشيئة الخرة فهي المشيئة المتفتحة المتصاعدة المرتقية كما تترقى المشيئات عند
حسْب مراتبهم ومراكزهم.
البشر في البشر َ
ويُرْوى أنه لما أُسِ َرتْ بنت أحد ملوك فارس عند رجل ،وأرادوا شراءها منه وعرضوا عليه ما
يريد ،فقال :أريد فيها ألف دينار ،فأعطوه اللف دينار وأخذوها منه ..فقال له أحدهم :إنها ابنةُ
الملك ،ولو كنت طلبتَ منه كذا وكذا لم يبخل عليك فقال :وال لو علمتُ أن وراء اللف عددا
لَطلبْته ..فقد طلب قصارى ما وصل إليه علمه.
لذلك لما أراد النبي صلى ال عليه وسلم أن يشرح لنا هذا النص القرآني:
{ َل ُهمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ[ } ...النحل.]31 :
ن وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }[الزخرف.]71 :
وكذلك قوله تعالىَ {:وفِيهَا مَا َتشْ َتهِي ِه الَ ْنفُسُ وَتَلَ ّذ الَعْيُ ُ
قال " :فيها ما ل عَيْن رأت ،ول أذن سمعتْ ،ول خطر على قَلْب بشر ".
إذن :تحديد الطار للية بقدر ما هم فيه عند ربهم.
{ َكذَِلكَ يَجْزِي اللّهُ ا ْلمُ ّتقِينَ } [النحل.]31 :
أي :هكذا الجزاء الذي يستحقونه بما قدموا في الدنيا ،وبما ح َرمَوا منه أنفسهم من مُتَع حرام ..وقد
جاء الن وقْتُ الجزاء ،وهو جزاءٌ أطول وأَدْوم؛ لذلك قال الحق تبارك وتعالى في آية أخرى{:
كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَا ِبمَآ أَسَْلفْتُمْ فِي الَيّامِ الْخَالِ َيةِ }[الحاقة.]24 :
ثم يقول الحق تبارك وتعالى { :الّذِينَ تَ َت َوفّاهُمُ.} ...
()1916 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الّذِينَ تَ َت َوفّا ُهمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ طَيّبِينَ َيقُولُونَ سَلَامٌ عَلَ ْيكُمُ ا ْدخُلُوا الْجَنّةَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ()32
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َيقُولُونَ سَلمٌ عَلَ ْي ُكمُ } [النحل.]32 :
أي :حينما تتوفّاهم الملئكة يقولون لهم سلم؛ لنكم خرجتم من الدنيا بسلم ،وستُقبِلون على
الخرة بسلم ،إذن :سلم الطيبين سل ٌم موصول من الدنيا إلى الخرة ،سلمٌ مُترتّب على سلمة
دينكم في الدنيا ،وسلمة إقبالكم على ال ،دون خوف في الخرة.
وهنا سلم آخر جاء في قول الحق تبارك وتعالى {:وَسِيقَ الّذِينَ ا ّت َقوْاْ رَ ّبهُمْ إِلَى اّلجَنّةِ ُزمَرا حَتّىا
حتْ أَ ْبوَا ُبهَا َوقَالَ َلهُمْ خَزَنَ ُتهَا سَلَمٌ عَلَ ْيكُـمْ طِبْ ُتمْ فَا ْدخُلُوهَا خَاِلدِينَ }
إِذَا جَآءُوهَا َوفُتِ َ
[الزمر.]73 :
ثم يأتي السلم العلى عليهم من ال تبارك وتعالى؛ لن كل هذه السلمات لهؤلء الطيبين مأخوذة
من السلم العلى {:سَلَمٌ َق ْولً مّن ّربّ رّحِيمٍ }[يس.]58 :
وهل هناك افضل وأطيب من هذا السلم الذي جاء من الحق تبارك وتعالى مباشرة.
وتعجب هنا من سلم أهل العراف على المؤمنين الطيبين وهم في الجنة ،ونحن نعرف أن أهل
حجِزا على العراف ،وهو مكان بين الجنة والنار،
العراف هم قوم تساوتْ حسناتهم وسيئاتهم ف ُ
والقسمة الطبيعية تقتضي أن للميزان كفتين ذكرهما الحق تبارك وتعالى في قوله {:فََأمّا مَن َثقَُلتْ
خفّتْ َموَازِينُهُ * فَُأمّهُ هَاوِيَةٌ }[القارعة.]9-6 :
َموَازِينُهُ * َف ُهوَ فِي عِيشَةٍ رّاضِيَةٍ * وََأمّا مَنْ َ
هاتان حالتان للميزان ،فأين حالة التساوي بين الكفتين؟ جاءت في قوله تعالى {:وَعَلَى الَعْرَافِ
رِجَالٌ َيعْ ِرفُونَ كُلّ بِسِيمَاهُمْ }[العراف.]46 :
أي :يعرفون أهل الجنة وأهل النار {:وَنَا َدوْاْ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ أَن سَلَمٌ عَلَ ْيكُمْ َلمْ يَ ْدخُلُوهَا وَهُمْ
ط َمعُونَ }[العراف.]46 :
يَ ْ
ووجه العجب هنا أن أهل العراف في مأزق وشدّة وانشغال بما هم فيه من شدة الموقف ،ومع
ذلك نراهم يفرحون بأهل الجنة الطيبين ،ويُبادرونهم بالسلم.
إذن :لهل الجنة سلمٌ من الملئكة عند الوفاة ،وسلم عندما يدخلون الجنة ،وسلم أعلى من ال
تبارك وتعالى ،وسلم حتى من أهل العراف المنشغلين بحالهم.
} ادْخُلُواْ ا ْلجَنّةَ ِبمَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ { [النحل.]32 :
أي :لنكم دفعتم الثمن؛ والثمن هو عملكم الصالح في الدنيا ،واتباعكم لمنهج الحق تبارك وتعالى.
وقد يرى البعض تعارضا بين هذه الية وبين الحديث الشريف " :لن يدخل أحدٌ منكم الجنة بعمله،
قالوا :ول أنت يا رسول ال؟ قال :ول أنا إل أن يتغمدني ال برحمته ".
والحقيقة أنه ل يوجد تعارضٌ بينهما ،ولكن كيف نُوفّق بين الية والحديث؟
ال تعالى يُوحي لرسوله صلى ال عليه وسلم الحديث كما يُوحي له الية ،فكلهما يصدر عن
حدّ قوله تعالىَ {:ومَا َن َقمُواْ ِإلّ أَنْ أَغْنَا ُهمُ اللّ ُه وَرَسُولُهُ مِن
مِشْكاة واحدة ومصدر واحد ..على َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َفضْلِهِ[} ...التوبة.]74 :
فالحَدثُ هنا واحد ،فلم ُيغْنِهم ال بما يناسبه والرسول بما يناسبه ،بل هو غناء واحد وحَدث واحد،
وكذلك ليس ثمة تعارضٌ بين الية والحديث ..كيف؟
صغَره،
الحق تبارك وتعالى كلّف النسان بعد سِنّ الرّشْد والعقل ،وأخذ يُوالي عليه النعم منذ ِ
وحينما كلّفه كلّفه بشيء يعود على النسان بالنفع والخير ،ول يعود على ال منه شيء ،ثم بعد
ذلك يُجازيه على هذا التكليف بالجنة.
إذن :التكليف كله لمصلحة العبد في الدنيا والخرة .إذن :تشريع الجزاء من ال في الخرة هو
ض الفضل من ال ،ولو أطاع العبدُ رَبّه الطاعة المطلوبة منه في الفعال الختيارية التكليفية
ح ُ
مَ ْ
ل من ال ومنّة.
لما َوفّى ِنعَم ال عليه ،وبذلك يكون الجزاء في الجنة َفضْ ً
()1917 /
َهلْ يَنْظُرُونَ إِلّا أَنْ تَأْتِ َيهُمُ ا ْلمَلَا ِئكَةُ َأوْ يَأْ ِتيَ َأمْرُ رَ ّبكَ َكذَِلكَ َف َعلَ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِ ْم َومَا ظََل َمهُمُ اللّهُ
سهُمْ يَظِْلمُونَ ()33
وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ
بعد أن عرضتْ اليات جزاء المتقين الذين قالوا خيرا ،عادتْ لهؤلء الذين قالوا { أَسَاطِيرُ
لوّلِينَ } الذين يُصادمون الدعوة إلى ال ،ويقفون منها موقف العداء والكَيْد والتربّص واليذاء.
اَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا استفهام من الحق تبارك وتعالى لهؤلء :ماذا تنتظرون؟! بعدما فعلتم بأمر الدعوة وما
صَدْدتُم الناس عنها ،ماذا تنتظرون؟ أتنتظرون أنْ تَ َروْا بأعينكم ،ليس أمامكم إل أمران :سيَحُلّن
بكم ل محالة:
ن تؤمنوا،
إما أنْ تأتيكم الملئكة فتتوفاكم ،أو يأتي أمرُ ربّك ،وهو يوم القيامة ول ينجيكم منها إل أ ْ
أم أنكم تنتظرون خيْرا؟! فلن يأتيكم خير أبدا ..كما قال تعالى في آيات أخرى {:أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ
تَسْ َتعْجِلُوهُ }[النحل.]1 :
وقال {:اقْتَرَ َبتِ السّاعَةُ }[القمر.]1 :
حسَا ُبهُمْ }[النبياء.]1 :
وقال {:اقْتَ َربَ لِلنّاسِ ِ
إذن :إنما ينتظرون أحداثا تأتي لهم بشَرّ :تأتيهم الملئكة لقبْض أرواحهم في حالة هم بها ظالمون
لنفسهم ،ثم يُلْقون السّلَم رَغْما عنهم ،أو :تأتيهم الطامة الكبرى وهي القيامة.
ثم يقول الحق سبحانه:
{ َكذَِلكَ َف َعلَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ } [النحل.]33 :
أي :ممّن كذّب الرسل قبلهم ..يعني هذه مسألة معروفة عنهم من قبل:
ظَل َمهُمُ اللّهُ } [النحل.]33 :
{ َومَا َ
أي :وما ظلمهم ال حين قدّر أنْ يُجازيهم بكذا وكذا ،وليس المراد هنا ظلمهم بالعذاب؛ لن العذاب
حلّ بهم بعد.
لم ي ُ
ظِلمُونَ } [النحل.]33 :
سهُمْ يَ ْ
{ وَلـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ
وهذا ما نُسمّيه بالظلم الحمق؛ لن ظلم الغير قد يعود على الظالم بنوع من النفع ،أما ظُلْم النفس
فل يعود عليها بشيء؛ وذلك لنهم أسرفوا على أنفسهم في الدنيا فيما يخالف منهج ال ،وبذلك
َفوّتوا على أنفسهم نعيم الدنيا ونعيم الخرة ،وهذا هو ظلمهم لنفسهم.
عمِلُواْ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :فََأصَا َبهُمْ سَيّئَاتُ مَا َ
()1918 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذه تُسمّى المشاكلة ،أي :أن هذه من جنس هذه.
عمِلُواْ } العمل هو مُزَاولة أيّ جارحة من النسان لمهمتها ،ف ُكلّ جارحة لها
وقوله تعالى { :مَا َ
مهمة .الرّجْل واليد والعَيْن والُذن ..الخ .فاللسان مهمته أن يقول ،وبقية الجوارح مهمتها أنْ
تفعل .إذن :فاللسان وحده أخذ النصف ،وباقي الجوارح أخذتْ النصف الخر؛ ذلك لن حصائد
اللسنة عليها المعوّل الساسي.
فكلمة الشهادة :ل إله إل ال ل بُدّ من النطق بها لنعرف أنه مؤمن ،ثم يأتي َدوْر الفعل ليُساند هذا
القول؛ لذا قال تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِلمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ * كَبُرَ َمقْتا عِندَ اللّهِ أَن َتقُولُواْ مَا
لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف.]3-2 :
وبالقول تبلُغ المناهج للذان ..فكيف تعمل الجوارح دون منهج؟ ولذلك فقد جعل الحق تبارك
وتعالى للذن َوضْعا خاصا بين باقي الحواس ،فهي أول جارحة في النسان تؤدي عملها ،وهي
الجارحة التي ل تنقضي مهمتها أبدا ..كل الجوارح ل تعمل مثلً أثناء النوم إل الذن ،وبها يتم
الستدعاء والستيقاظ من النوم.
وإذا استقرأت آيات القرآن الكريم ،ونظرت في آيات الخلق ترى الحق تبارك وتعالى يقول {:وَاللّهُ
شكُرُونَ }
لفْئِ َدةَ َلعَّلكُمْ تَ ْ
سمْعَ وَالَ ْبصَا َر وَا َ
ج َعلَ َل ُكمُ الْ ّ
جكُم مّن ُبطُونِ ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ شَيْئا وَ َ
أَخْ َر َ
[النحل.]78 :
س ْم ُعهُمْ وَأَ ْبصَارُهُ ْم وَجُلُودُهُم} ..
شهِدَ عَلَ ْيهِمْ َ
ثم هي آلة الشهادة يوم القيامة {:حَتّىا ِإذَا مَا جَآءُوهَا َ
[فصلت.]20 :
ولذلك يقول الحق سبحانهَ {:فضَرَبْنَا عَلَىا آذَا ِنهِمْ فِي ا ْل َك ْهفِ سِنِينَ عَدَدا }[الكهف.]11 :
ومعنى :ضربنا على آذانهم ،أي :عطلنا الذن التي ل تعطل حتى يطمئن نومهم ويستطيعوا
الستقرار في كهفهم ،فلو لم يجعل ال تعالى في تكوينهم الخارجي شيئا معينا لما استقر لهم نوم
طوال 309أعوام.
ويقول الحق تعالى:
{ وَحَاقَ ِبهِم مّا كَانُواْ ِبهِ يَسْ َتهْزِئُونَ } [النحل.]34 :
بماذا استهزأ الكافرون؟ استهزأوا بالبعث والحساب وما ينتظرهم من العذاب ،فقالوا كما حكى
لوّلُونَ }[الصافات.]17-16 :
القرآن {:أَِإذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ * َأوَ آبَآؤُنَا ا َ
جدِيدٍ }[السجدة.]10 :
وقالوا {:أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الَ ْرضِ أَإِنّا َلفِي خَ ْلقٍ َ
ثم بلغ بهم الستهزاء أن تعجّلوا العذاب فقالوا {:فَأْتِنَا ِبمَا َت ِعدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ }[العراف:
.]70
ع ْمتَ عَلَيْنَا كِسَفا }[السراء.]92 :
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
وقالواَ {:أوْ تُ ْ
وهل يطلب أحد من عدوه أن يُنزِل به العذاب إل إذا كان مستهزئا؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقال لهم الحق تبارك وتعالى :إنكم لن تقدروا على هذا العذاب الذي تستهزئون به .فقال:
{ وَحَاقَ ِبهِم[ } ...النحل.]34 :
أي :أحاط ونزل بهم ،فل يستطيعون منه فرارا ،ول يجدون معه منفذا للفكاك ،كما في قوله
تعالى {:وَاللّهُ مِن وَرَآ ِئهِمْ مّحِيطٌ }[البروج.]20 :
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وقَالَ الّذِينَ أَشْ َركُواْ.} ...
()1919 /
ي الفعل نصا في مطلوبه ل يُذكر المتعلق به ..فلم َي ُقلْ :أشركوا بال ..لن
نلحظ أنه ساعة أنْ يأت َ
ذلك معلوم ،والشراك معناه الشراك بال ،لذلك قال تعالى هنا:
{ َوقَالَ الّذِينَ أَشْ َركُواْ[ } ...النحل.]35 :
ثم يورد الحق سبحانه قولهم:
شيْءٍ } [النحل:
ن وَل آبَاؤُنَا وَلَ حَ ّرمْنَا مِن دُونِهِ مِن َ
شيْءٍ نّحْ ُ
{ َلوْ شَآءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن َ
.]35
إنهم هنا يدافعون عن أنفسهم ،وهذه هي الشفاعة التي يُعلّق عليها الكفار خطاياهم ـ شماعة أن ال
كتب علينا وقضى بكذا وكذا.
فيقول المسرف على نفسه :ربّنا هو الذي أراد لي كذا ،وهو الذي يهدي ،وهو الذي يُضل ،وهو
الذي جعلني ارتكب الذنوب ،إلى آخر هذه المقولت الفارغة من الحق ـ والنهاية؛ فلماذا يعذبني
إذن؟
وتعالوا نناقش صاحب هذه المقولت ،لن عنده تناقضا عقليا ،والقضية غير واضحة أمامه..
ولكي نزيل عنه هذا الغموض نقول له :ولماذا لم تقُل :إذا كان ال قد أراد لي الطاعة وكتبها
عليّ ،فلماذا يثيبني عليها ..هكذا المقابل ..فلماذا قُلْت بالولى ولم ت ُقلْ بالثانية؟!
واضح أن الولى تجرّ عليك الشر والعذاب ،فوقفتْ في عقلك ..أما الثانية فتجرّ عليك الخير ،لذلك
تغاضيت عن ِذكْرها.
ونقول له :هل أنت حينما تعمل أعمالك ..هل كلها خير؟ أم هل كلها شَرّ؟ َأمَا منها ما هو خير،
ومنها ما هو شر؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والجابة هنا واضحة .إذن :ل أنت مطبوع على الخير دائما ،ول أنت مطبوع على الشرّ دائما،
لذلك فأنت صالح للخير ،كما أنت صالح للشر.
إذن :هناك فَرْق بين أن يخلقك صالحا للفعل وضِدّه ،وبين أنْ يخلقك مقصورا على الفعل ل ضده،
ولما خلقك صالحا للخير وصالحا للشر أوضح لك منهجه وبيّنَ لك الجزاء ،فقال :اعمل الخير..
والجزاء كذا ،واعمل الشر ..والجزاء كذا ..وهذا هو المنهج.
ن يقولَ :إن ال كتبه عليّ ..وهذا عجيب ،وكأنّي به قد اطّلع على
ويحلو للمسرف على نفسه أ ْ
اللوح المحفوظ ونظر فيه ،فوجد أن ال كتب عليه أن يشرب الخمر مثلً فراحَ فشربها؛ لن ال
كتبها عليه.
ولو أن المر هكذا لكنتَ طائعا بشُرْبك هذا ،لكن المر خلف ما تتصور ،فأنت ل تعرف أنها
ن تفعلَ ،فهل اطلعتَ على اللوح
ن فعلتَ ،والفعل منك مسبوق بالعزم على أ ْ
كُتِبت عليك إل بعد أ ْ
المحفوظ كي تعرف ما كتبه ال عليك؟
وانتبه هنا واعلم أن ال تعالى كتب أزلً؛ لنه علم أنك تفعل أجلً ،وعِلْم ال ُمطْلق ل حدودَ له.
ل ـ ول المثل العلى ـ الوالد الذي يلحظ ولده في دراسته ،فيجده مُهملً غير مُجدّ
ونضرب مث ً
فيتوقع فشله في المتحان.
.هل دخل الوالد مع ولده وجعله يكتب خطأ؟ ل ..بل توقّع له الفشل لعلمه بحال ولده ،وعدم
استحقاقه للنجاح.
إذن :كتب ال مُسبْقا وأزلً؛ لنه يعلم ما يفعله العبد أصلً ..وقد أعطانا الحق تبارك وتعالى
صورة أخرى لهذا المنهج حينما وجّه المؤمنين إلى الكعبة بعد أنْ كانت وجْهتهم إلى بيت المقدس،
ج َهكَ شَطْرَ ا ْل َمسْجِدِ
سمَآءِ فَلَ ُنوَلّيَ ّنكَ قِبْلَةً تَ ْرضَاهَا َف َولّ وَ ْ
ج ِهكَ فِي ال ّ
ب وَ ْ
فقال تعالى {:قَدْ نَرَىا َتقَّل َ
جوِ َهكُمْ شَطْ َرهُ }[البقرة.]144 :
الْحَرَا ِم وَحَ ْيثُ مَا كُنْتُمْ َفوَلّو ْا وُ ُ
س َفهَآءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلّ ُهمْ عَن قِبْلَ ِتهِمُ الّتِي كَانُواْ
ثم أخبر نبيه صلى ال عليه وسلم بقوله {:سَ َيقُولُ ال ّ
عَلَ ْيهَا }[البقرة.]142 :
جاء الفعل هكذا في المستقبل :سيقول ..إنهم لم يقولوا َبعْد هذا القول ،وهذا قرآن يُتلَى على مسامع
الجميع غير خافٍ على أحد من هؤلء السفهاء ،فلو كان عند هؤلء عقل لَسكتُوا ولم يُبادروا بهذه
المقولة ،ويُفوّتوا الفرصة بذلك على محمد صلى ال عليه وسلم وعلى صِدْق القرآن الكريم.
كان باستطاعتهم أن يسكتوا ويُوجّهوا للقرآن تهمة الكذب ،ولكن شيئا من ذلك لم يحدث.
وبذلك ت ّمتْ إرادة ال وأمره حتى على الكافرين الذين يبحثون عن مناقضة في القرآن الكريم.
وهذه اليةَ } :وقَالَ الّذِينَ أَشْ َركُواْ { [النحل.]35 :
تشرح وتُفسّر قول ال تعالى {:سَ َيقُولُ الّذِينَ أَشْ َركُواْ َلوْ شَآءَ اللّهُ مَآ َأشْ َركْنَا وَلَ آبَاؤُنَا َولَ حَ ّرمْنَا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شيْءٍ }[النعام.]148 :
مِن َ
فهنا } سَ َيقُولُ { وفي الية الخرى } قَالَ {؛ لنعلم أنه ل يستطيع أحد معارضة َقوْل ال تعالى ،أو
تغيير حكمه.
ثم يقول تعالى:
ن وَل آبَاؤُنَا[ { ...النحل.]35 :
} نّحْ ُ
لماذا لم يتحدث هؤلء عن أنفسهم فقط؟ ما الحكمة في دفاعهم عن آبائهم هنا؟ الحكمة أنهم
سيحتاجون لهذه القضية فيما بعد وسوف يجعلونها حُجّة حينما يقولون {:إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا ُأمّةٍ
وَإِنّا عَلَىا آثَارِهِم ّمهْتَدُونَ }[الزخرف .]22 :إذن :ل حُجّة لهؤلء الذين يُعلّقون إسرافهم على
أنفسهم على شماعة القدر ،وأن ال تعالى كتب عليهم المعصية؛ لننا نرى حتى من المسلمين مَنْ
يتكلم بهذا الكلم ،ويميل إلى هذه الباطيل ،ومنهم مَنْ تأخذه الجَرْأة على ال عز وجل فيُشبّه هذه
القضية بقول الشاعر:أَ ْلقَاهُ في اليَمّ مَكتُوفا َوقَالَ لَهُ إيّاكَ إيّاكَ أنْ تبتلّ بالماءِوما يفعل هذا إل ظالم!!
جهّال والكافرين ،وأيضا هناك مَنْ يقول :إن النسان هو الذي خلق
تعالى ال وتنزّه عن َقوْل ال ُ
الفعل ،ويعارضهم آخرون يقولون :ل بل رَبّنا هو الذي يخلق ال ِفعْل.
نقول لهم جميعا :افهموا ،ليس هناك في الحقيقة خلفٌ ..ونسأل :ما هو الفعل؟ الفعل توجيه
ل قوة
جارحة لحدثٍ ،فأنت حينما تُوجّه جارحة لحدثٍ ،ما الذي فعلته أنت؟ هل أعطيتَ لليد مث ً
ج َهتْ حركتها؟
الحركة بذاتها؟ أم أن إرادتك هي التي و ّ
والجارحة مخلوقة ل تعالى ،وكذلك الرادة التي حكمتْ على الجارحة مخلوقة ل أيضا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولذلك لما حدثت ضجة في الحرم المكي منذ سنوات ،وحدث فيه إطلق للنار وترويع للمنين،
قال بعضهم :كيف يحدث هذا وقد قال تعالىَ {:ومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا }[آل عمران.]97 :
وها هو الحال قَتْل وإزعاج للمنين فيه؟!
والحقيقة أن هؤلء خلطوا بين مراد كوني ومراد شرعي ،فالمقصود باليةَ :فمْن دخله فأمّنوه.
أي :اجعلوه آمنا ،فهذا مطلَب من ال تبارك وتعالى ،وهو مراد شرعي قد يحدث وقد ل يحدث..
أما المراد الكوني فهو الذي يحدث فعلً .وبذلك يكون ما حدث في الحرم مرادا كونيا ،وليس
مرادا شرعيا.
ثم يقول تعالى على لسانهم:
شيْءٍ[ { ...النحل.]35 :
} َولَ حَ ّرمْنَا مِن دُونِهِ مِن َ
ج َعلَ اللّهُ مِن َبحِي َر ٍة َولَ سَآئِبَ ٍة َولَ َوصِيلَةٍ وَلَ حَامٍ
وقد ورد توضيح هذه الية في قوله تعالى {:مَا َ
ب وََأكْثَرُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ }[المائدة.]103 :
وَلَـاكِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ َيفْتَرُونَ عَلَىا اللّهِ ا ْلكَ ِذ َ
ثم يقول تعالى مقررا:
} كَذاِلكَ َف َعلَ الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ[ { ...النحل ]35 :أي :هذه سُنّة السابقين المعاندين.
سلِ ِإلّ الْبَلغُ ا ْلمُبِينُ { [النحل.]35 :
} َف َهلْ عَلَى الرّ ُ
البلغ هو ما بين عباد ال وبين ال ،وهو بلغ الرسل ،والمراد به المنهج " افعل أو ل تفعل ".
ول يقول ال لك ذلك إل وأنت قادر على ال ِفعْل وقادر على التّرْك.
لذلك نرى الحق تبارك وتعالى يرفع التكليف عن المكْره فل يتعلق به حكم؛ لنه في حالة الكراه
ل هؤلء ل يتعلق
قد يفعل ما ل يريده ول يُحبه ،وكذلك المجنون والصغير الذي لم يبلغ التعقلُ ،ك ّ
بهم حكْم ..لماذا؟ لن ال تعالى يريد أن يضمن السلمة للة الترجيح في الختيار ..وهي العقل.
وحينما يكون النسان محلّ تكليف عليه أنْ يجعلَ الفيصل في:
سلِ ِإلّ الْبَلغُ ا ْلمُبِينُ { [النحل.]35 :
} َف َهلْ عَلَى الرّ ُ
بلغ المنهج بافعل ول تفعل؛ لذلك استنكر القرآن الكريم على هؤلء الذين جاءوا بقول من عند
جعَلُواْ ا ْلمَلَ ِئكَةَ
حقّ هؤلء {:وَ َ
أنفسهم دون رصيد من المبلّغ صلى ال عليه وسلم ،فقال تعالى في َ
شهَادَ ُت ُه ْم وَيُسْأَلُونَ * َوقَالُواْ َلوْ شَآءَ
شهِدُواْ خَ ْل َقهُمْ سَ ُتكْ َتبُ َ
حمَـانِ إِنَاثا أَ َ
الّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرّ ْ
حمَـانُ مَا عَ َبدْنَاهُمْ[} ...الزخرف.]20-19 :
الرّ ْ
سكُونَ }[الزخرف.]21 :
فأنكر عليهم سبحانه ذلك ،وسألهم {:أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابا مّن قَبْلِهِ َفهُم ِبهِ مُسْ َتمْ ِ
وخاطبهم سبحانه في آية أخرى {:أَمْ َل ُكمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْ ُرسُونَ }[القلم.]37 :
وكلمة } الْبَلغُ ا ْلمُبِينُ { أي :ل بُدّ أن يُبَلّغ المكَلّف ،فإنْ حصل تقصير في ألّ يُبَلّغ المكلّف يُنسَب
التقصير إلى أهل الدين الحق ،المنتسبين إليه ،والمُنَاط بهم تبليغ هذا المنهج لمنْ لَمْ يصلْه .وقد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حثّ على تبليغ دين ال لمن لم يصِلْه الدين.
وردت الحاديث الكثيرة في ال َ
كما قال صلى ال عليه وسلم " :بّلغُوا عَنّي ولو آية " وقوله صلى ال عليه وسلمَ " :نضّر ال
امرءا سمع مقالتي فوعَاهَا ثم أدّاها إلى من لم يسمعها ،ف ُربّ مُبلّغٍ َأوْعَى من سامع ".
قال تعالى } :وَلَقَدْ َبعَثْنَا.{ ..
()1920 /
وَلَقَدْ َبعَثْنَا فِي ُكلّ ُأمّةٍ َرسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللّ َه وَاجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ َفمِ ْنهُمْ مَنْ هَدَى اللّ ُه َومِ ْنهُمْ مَنْ
ح ّقتْ عَلَيْهِ الضّلَاَلةُ فَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَانْظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ ()36
َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للمنهج ،أو عدم رعاية المبلّغ للمنهج فتنطمس المناهج ،ومن هنا يبعثها ال من جديد ،فمسألة
الرسالت ل تأتي هكذا فجأة فجماعة من الجماعات ،بل هي موجودة منذ أول الخلق.
ث لمنهج إلهي ،كان يجب أنْ يظلّ على ذكر من الناس ،يتناقله البناء عن
فالرسالت إذن َب ْع ٌ
الباء ،إل أن الغفلة قد تصيب المبلّغ فل يُبلّغ ،وقد تصيب المبلّغ فل يلتزم بالبلغ؛ لذلك يجدد ال
الرسل.
وقد وردت آياتٌ كثيرة في هذا المعنى ،مثل قوله تعالى {:وَإِن مّنْ ُأمّةٍ ِإلّ خَلَ فِيهَا نَذِيرٌ }[فاطر:
.]24
وقوله {:ذاِلكَ أَن لّمْ َيكُنْ رّ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا بِظُ ْل ٍم وَأَهُْلهَا غَافِلُونَ }[النعام.]131 :
وقولهَ {:ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً }[السراء.]15 :
لذلك نرى غير المؤمنين بمنهج السماء يَضعُون لنفسهم القوانين التي تُنظّم حياتهم ،أليس لديهم
ص إل
قانون يُحدّد الجرائم ويُعاقب عليها؟ فل عقوبة إل بتجريم ،ول تجريمَ إل بنصّ ،ول ن ّ
بإبلغ.
ومن هنا تأتي أهمية َوضْع القوانين ونشرها في الصحف والجرائد العامة ليعلمها الجميع ،فل
ن نعاقبَ إنسانا على جريمة هو ل يعلم أنها جريمة ،فل بُدّ من إبلغه بها أولً ،ليعلم أن
يصح أ ْ
هذا العمل عقوبته كذا وكذا ،ومن هنا تُقام عليه الحُجة.
وهنا أيضا نلحظ أنه قد يتعاصر الرسولن ،ألم يكُنْ إبراهيم ولوط متعاصريْن؟ ألم يكُنْ شعيب
وموسى متعاصريْن؟ فما عِلّة ذلك؟
نقول :لن العالمَ كان قديما على هيئة النعزال ،ف ُكلّ جماعة منعزلة في مكانها عن الخرى لعدم
وجود وسائل للمواصلت ،فكانت كل جماعة في أرض ل تدري بالخرى ،ول تعلم عنها شيئا.
ومن هنا كان ل ُكلّ جماعة بيئتُها الخاصة بما فيها من عادات وتقاليد ومُنكَرات تناسبها ،فهؤلء
يعبدون الصنام ،وهؤلء يُطفّفون الكيل والميزان ،وهؤلء يأتون الذكْران دون النساء.
إذن :لكل بيئة جريمة تناسبها ،ول بُدّ أن نرسل الرسل لمعالجة هذه الجرائمُ ،كلّ في بلد على حِدَة.
لكن رسالة محمد صلى ال عليه وسلم كانت على موعد مع التقاءات المكنة مع وجود وسائل
المواصلت ،لدرجة أن المعصية تحدث مثلً في أمريكا فنعلم بها في نفس اليوم ..إذن :أصبحتْ
الجواء والبيئات واحدة ،ومن هنا كان منطقيا أن يُرْسلَ صلى ال عليه وسلم للناس كافة،
وللزمنة كافة.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الشمولية بقولهَ {:ومَآ أَ ْرسَلْنَاكَ ِإلّ كَآفّةً لّلنّاسِ َبشِيرا وَنَذِيرا} ..
[سبأ.]28 :
أي :للجميع لم يترك أحدا ،كما يقول الخياط :كف ْفتُ القماش أي :جمعتُ بعضه على بعض ،حتى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل يذهبَ منه شيءٌ.
ثم يقول الحق سبحانه:
} أَنِ اعْبُدُواْ اللّ َه وَاجْتَنِبُواْ ا ْلطّاغُوتَ[ { ...النحل.]36 :
هذه هي مهمة الرسل:
} أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ[ { ...النحل.]36 :
والعبادة معناها التزامٌ بأمر فيُفعل ،ويُنهي عن أمر فل يُفعل؛ لذلك إذا جاء مَنْ يدّعي اللوهية
وليس معه منهج نقول له :كيف نعبدك؟ وما المنهج الذي جِ ْئتَ به؟ بماذا تأمرنا؟ عن أي شيءٍ
تنهانا؟
فهنا َأمْر بالعبادة و َنهْي عن الطاغوت ،وهذا يُسمّونه تَحْلِية وتَخْلِيةً :التحلية في أنْ تعبدَ ال،
والتخلية في أنْ تبتعدَ عن الشيطان.
وعلى هذين العنصرين تُبنَى قضية اليمان حيث َنفْي في " :أشهد أن ل إله " ..وإثبات في " إل
ال " ،وكأن الناطق بالشهادة ينفي التعدّد ،ويُثبت الواحدانية ل تعالى ،وبهذا تكون قد خلّ ْيتَ نفسك
حلّ ْيتَ نفسك بالوحدانية.
عن الشرك ،و َ
ولذلك سيكون الجزاء عليها في الخرة من جنس هذه التحلية والتخلية؛ ولذلك نجد في قول الحق
تبارك وتعالىَ {:فمَن ُزحْزِحَ عَنِ النّارِ[} ...آل عمران.]185 :
خلَ الْجَنّةَ[} ..آل عمران.]185 :
أي :خُلّي عن العذاب {.وَأُ ْد ِ
أي :حُلّي بالنعيم.
وقوله سبحانه:
} وَاجْتَنِبُواْ الْطّاغُوتَ { [النحل.]36 :
أي :ابتعدوا عن الطاغوت ..فيكون المقابل لها :تقرّبوا إلى ال و } ا ْلطّاغُوتَ { فيها مبالغة تدل
على مَنْ وصل الذّرْوة في الطغيان وزادَ فيه ..وفَرْق بين الحدث المجرّد مثل طغى ،وبين المبالغة
طغْيانا على باطل أعلى.
فيه مثل (طاغوت) ،وهو الذي يَزيده الخضوعُ لباطله ُ
ومثال ذلك :شاب تمرّد على مجتمعه ،وأخذ يسرع الشيء التافه القليل ،فوجد الناس يتقرّبون إليه
ويُداهنونه اتقاء شره ،فإذا به يترقّى في باطله فيشتري لنفسه سلحا يعتدي به على الرواح،
ويسرق الغالي من الموال ،ويصل إلى الذروة في الظلم والعتداء ،ولو أخذ الناس على يده منذ
أول حادثة لما وصل إلى هذه الحال.
ومن هنا وجدنا الديات تتحملها العاقلة وتقوم بها عن الفاعل الجاني ،ذلك لما وقع عليها من
مسئولية تَرْك هذا الجاني ،وعدم الخذ على يده و َكفّه عن الذى.
ونلحظ في هذا اللفظ (الطاغوت) أنه لما جم َع كلّ مبالغة في الفعل نجده يتأبّى على المطاوعة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكأنه طاغوت في لفظه ومعناه ،فنراه يدخل على المفرد والمثنى والجمع ،وعلى المذكر
والمؤنث ،فنقول :رجل طاغوت ،وامرأة طاغوت ،ورجلن طاغوت ،وامرأتان طاغوت ،ورجال
طاغوت ،ونساء طاغوت ،وكأنه طغى بلفظه على جميع الصَّيغ.
خفّ َق ْومَهُ
إذن :الطاغوت هو الذي إذا ما خضع الناس ِلظُلمه ازداد ظلما .ومنه قوله تعالى {:فَاسْ َت َ
فَأَطَاعُوهُ[} ...الزخرف.]54 :
فقد وصل به الحال إلى أن ادعى اللوهية ،وقال {:مَا عَِل ْمتُ َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْرِي[} ...القصص:
.]38
ل يهتموا بشأنه ،وأن
ويُحكَى في قصص المتنبّئين أن أحد الخلفاء جاءه خبر مُ ّدعٍ للنبوة ،فأمرهم أ ّ
يتركوه ،ول يعطوا لمره بالً لعله ينتهي ،ثم بعد فترة ظهر آخر يدّعي النبوة ،فجاءوا بالول
ليرى رأيه في النبي الجديد :ما رأيك في هذا الذي يدعي النبوة؟! أيّكم النبي؟ فقال :إنه كذاب فإني
لم أرسل أحدا!! ظن أنهم صدقوه في ادعائه النبوة ،فتجاوز هذا إلى ادعاء اللوهية ،وهكذا
الطاغوت.
وقد وردت هذه الكلمة } الْطّاغُوتَ { في القرآن ثماني مرات ،منها ستة تصلح للتذكير والتأنيث،
ت للمؤنث في قوله تعالى {:وَالّذِينَ اجْتَنَبُواْ الطّاغُوتَ أَن َيعْبُدُوهَا[} ..الزمر.]17 :
ومرة ورد ْ
ت َوقَدْ ُأمِرُواْ أَن َي ْكفُرُواْ
ومرة وردتْ للمذكر في قوله تعالى {:يُرِيدُونَ أَن يَتَحَا َكمُواْ إِلَى الطّاغُو ِ
بِهِ[} ...النساء.]60 :
وفي اللغة كلمات يستوي فيها المذكر والمؤنث ،مثل َقوْل الحق تبارك وتعالى {:وَإِن يَ َروْاْ ُكلّ آيَةٍ
خذُوهُ سَبِيلً[} ...العراف.]146 :
ش ِد لَ يَتّ ِ
لّ ُي ْؤمِنُواْ ِبهَا وَإِن يَ َروْاْ سَبِيلَ الرّ ْ
وقولهُ {:قلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي[} ...يوسف.]108 :
فكلمة " سبيل " جاءت مرّة للمذكّر ،ومرّة للمؤنث.
ثم يقول تعالى:
ح ّقتْ عَلَيْهِ الضّللَةُ[ { ...النحل.]36 :
} َفمِ ْنهُم مّنْ هَدَى اللّ ُه َومِ ْنهُمْ مّنْ َ
حجّة يقول من خللها :إن الهداية بيد ال ،وليس لنا َدخْل
وقد أخذت بعضهم هذه الية على أنها ُ
في أننا غير مهتدين ..إلى آخر هذه المقولت.
نقول :تعالوا نقرأ القرآن ..يقول تعالى {:وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَاهُمْ فَاسْ َتحَبّواْ ا ْل َعمَىا عَلَى ا ْلهُدَىا }
[فصلت.]17 :
ولو كانت الهداية بالمعنى الذي تقصدون َلمَا استحبّوا العَمى وفضّلوه ،لكن " هديناهم " هنا بمعنى:
حقّ الختيار ،وهم صالحون لهذه ولهذه ،والدللة تأتي للمؤمن
دَلَلْناهم وأرشدناهم فقط ،ولهم َ
وللكافر ،دلّ ال الجميع ،فالذي أقبل على ال بإيمان به زاده هُدًى وآتاه تقواه ،كما قال تعالى{:
وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَا َدهُمْ ُهدًى وَآتَا ُهمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد.]17 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن هذا ما يراه البعض تناقضا بين قوله تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هكذا كانت الولى منه مُجرّد دللة ،أما الثانية فهي المعونة ،فلمّا ص ّدقْته في الدللة أعانَك على
المدلول ..هكذا َأمْرُ الرسل في الدللة على الحق ،وكيفية قبول الناس لها.
ن تتصور الحال لو قُ ْلتَ لرجل المرور هذا :يبدو أنك ل تعرف الطريق ..فسيقول لك :إذن
ولك أ ْ
اتجه كما تُحِب وسِرْ كما تريد.
وكلمة " الضللة " مبالغة من الضلل وكأنها ضلل كبير ،ففيها تضخي ٌم للفعل ،ومنها قوله
حمَـانُ َمدّا[} ...مريم.]75 :
تعالىُ {:قلْ مَن كَانَ فِي الضّلَلَةِ فَلْ َيمْدُدْ َلهُ الرّ ْ
ثم يُقيم لنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ الدليلَ على َبعْثة الرسل في المم السابقة لنتأكد من إخباره
س انقسموا أقساما بين مُكذّب ومُصدّق ،قال تعالى:
تعالى ،وأن النا َ
} َفسِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَانظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ ا ْل ُمكَذّبِينَ { [النحل.]36 :
فهناك شواهد وأدلة تدل على أن هنا كان ناس ،وكانت لهم حضارة اندكتْ واندثرتْ ،كما قال
تعالى في آية أخرى {:وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ّمصْبِحِينَ }[الصافات.]137 :
فأمر ال تعالى بالسياحة في الرض للنظر والعتبار بالمم السابقة ،مثل :عاد وثمود وقوم صالح
وقوم لوط وغيرهم.
والحق تبارك وتعالى يقول هنا:
} َفسِيرُواْ فِي الَ ْرضِ[ { ...النحل.]36 :
وهل نحن نسير في الرض ،أم على الرض؟
نحن نسير على الرض ..وكذلك كان ف ْهمُنا للية الكريمة ،لكن المتكلم بالقرآن هو ربّنا تبارك
وتعالى ،وعطاؤه سبحانه سيظل إلى أنْ تقومَ الساعة ،ومع الزمن تتكشف لنا الحقائق ويُثبت العلم
صِدْق القرآن وإعجازه.
فمنذ أعوام كنا نظنّ أن الرض هي هذه اليابسة التي نعيش عليها ،ثم أثبت لنا العلم أن الهواء
المحيط بالرض (الغلف الجوي) هو إكسير الحياة على الرض ،وبدون ل تقوم عليها حياة،
فالغلف الجوي جزء من الرض.
وبذلك نحن نسير في الرض ،كما نطق بذلك الحق ـ تبارك وتعالى ـ في كتابه العزيز.
ونقف أمام مَلْحظ آخر في هذه الية {:فَسِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَانظُرُواْ[} ...آل عمران.]137 :
وفي آية أخرى يقولُ {:قلْ سِيرُواْ فِي الَرْضِ ُثمّ انْظُرُواْ[} ...النعام.]11 :
ليس هذا مجرد تفنّن في العبارة ،بل لكل منهما مدلول خاص ،فالعطف بالفاء يفيد الترتيب مع
التعقيب.
أي :يأتي النظر بعد السّيْر مباشرة ..أما في العطف بثُم فإنها تفيد الترتيب مع التراخي .أي:
مرور وقت بين الحدثَيْن ،وذلك كقوله تعالى {:ثُمّ َأمَاتَهُ فََأقْبَ َرهُ * ثُمّ إِذَا شَآءَ أَنشَ َرهُ }[عبس.]22 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقول الحق سبحانه:
} فَانظُرُواْ[ { ...النحل.]36 :
فكأن الغرض من السّيْر العتبار والتعاظ ،ول ُبدّ ـ إذن ـ من وجود بقايا وأطلل تدلّ على
هؤلء السابقين المكذبين ،أصحاب الحضارات التي أصبحتْ أثرا بعد عَيْنٍ.
وها نحن الن نفخر بما لدينا من أبنية حجرية مثل الهرامات مثلً ،حيث يفِد إليها السّياح من
شتى دول العالم المتقدم؛ لِيَروْا ما عليها هذه الحضارة القديمة من تطوّر وتقدّم يُعجزهم ويُحيّرهم،
ولم يستطيعوا َفكّ طلسِمه حتى الن.
ومع ذلك لم يترك الفراعنة ما يدل على كيفية بناء الهرامات ،أو ما يدل على كيفية تحنيط
الموتى؛ مما يدل على أن هؤلء القوم أخذوا أَخذْة قوية اندثرتْ معها هذه المراجع وهذه
سمَعُ َل ُهمْ ِركْزا }[مريم.]98 :
حدٍ َأوْ تَ ْ
المعلومات ،كما قال تعالىَ {:هلْ تُحِسّ مِ ْنهُمْ مّنْ أَ َ
وقد ذكر لنا القرآن من قصص هؤلء السابقين الكثير كما في قوله تعالىَ {:ألَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ
لدِ }[الفجر.]8-6 :
ِبعَادٍ * إِ َرمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي لَمْ ُيخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِ َ
لدِ *
ط َغوْاْ فِي الْبِ َ
لوْتَادِ * الّذِينَ َ
وقال {:وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْعَوْنَ ذِى ا َ
س ْوطَ عَذَابٍ }[الفجر.]13-9 :
صبّ عَلَ ْيهِمْ رَ ّبكَ َ
فََأكْثَرُواْ فِيهَا ا ْلفَسَادَ * َف َ
هذا ما حدث للمكذّبين في الماضي ،وإياكم أنْ تظنّوا أن الذي يأتي بعد ذلك بمنجىً عن هذا
المصير ..كل {:إِنّ رَ ّبكَ لَبِا ْلمِ ْرصَادِ }[الفجر.]14 :
ثم يقول الحق سبحانه } :إِن تَحْ ِرصْ عَلَىا.{ ...
()1921 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا