Professional Documents
Culture Documents
ُقلْ فَأْتُوا ِبكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُهوَ َأهْدَى مِ ْن ُهمَا أَتّ ِبعْهُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ ()49
معنى { ُقلْ[ } ...القصص ]49 :أي :في الردّ عليهم { فَأْتُواْ ِبكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللّهِ ُهوَ أَ ْهدَىا
مِ ْن ُهمَآ[ } ...القصص ]49 :أي :أهدى من التوراة التي جاء بها موسى ،وأهدى من القرآن الذي
جاء به محمد ما دام أنهما لم يُعجباكم { أَتّ ِبعْهُ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ } [القصص ]49 :يعني :لو جئتمُ به
لتبعته.
وهذا يعني منهجين :منهج حقّ جاء به محمد ،ومنهج باطل يُصرون هم عليه ،وهذا التحدي من
سيدنا رسول ال للكفار يعني أنه ل يوجد كتاب أهدى مما جاء به ،ل عند القوم ،ول عند مَنْ
سيأتي من بعدهم ،وحين يُقر لهم رسول ال بإمكانية وجود كتاب أَهْدى من كتابه يطمعهم في
طلبه ،فإذا طلبوه لم يجدوا كتابا أهدى منه ،فيعرفوا هم الحقيقة التي لم ينطق بها رسول ال ،وهل
يستطيع بشر أن يضع للناس منهجا أهدى من منهج ال؟
إذن :يقول لهم { :إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ } [القصص ]49 :وهو يعلم أنهم غير صادقين ،لن ال تعالى
جعل محمدا صلى ال عليه وسلم خاتَم الرسل ،فلن يأتي رُسُل بعده ،بحيث يأتي الرسول
فتستدركوا عليه فيأتي آخر بكتاب جديد ،وأنتم لن تستطيعوا أنْ تأتوا بكتاب من عند أنفسكم؛ لن
كل مُقنّن سيأتي الذي يخدم مذهبه ،ويُرضي هواه.
لذلك نقول :ينبغي في المقنّن ويُشترط فيه:
أولً :أن يكون على علم واسع ،بحيث ل يُسْتدرك عليه فيما بعد ،وهذه ل تتوفر في أحد من
البشر ،بدليل أن القوانين التي ُوضِعت في الماضي لم َت ُعدْ صالحة الن ينادي الناس كثيرا
بتعديلها ،حيث طرأتْ عليهم مسائل جديدة غابتْ عن ذِهْن المشرّع الول ،فلما ج ّدتْ هذه المسائل
أتعبت البشر بالتجربة ،فَطالبوا بتعديلها.
ثانيا :يشترط في المشرّع ألّ يكون له هوى فيما يُشرّع للناس ،ونحن نرى الرأسماليين
والشيوعيين ،وغيرهم ُكلّ يشرع بما يخدم مذهبه وطريقته في الحياة؛ لذلك يجب ألّ يُسند التشريع
للناس لحد منهم؛ لنه ل يخلو من هوى.
ثالثا :يُشتَرط فيه ألّ يكون منتفعا بشيء مما يشرع.
وإذا اقتضت مسائل الحياة وتنظيماتها أنْ نُقنّن لها ،فل يُقنّن لنا من البشر إل أصحاب العقل
ن يوجد عندهم نضج التقنين أيّ
الناضج والفكر المستقيم ،بحيث يتوفر لهم ُنضْج التقنين ،لكن إلى أ ْ
منهج يسيرون عليه؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن لول مُقنّن؟ الذي قنّن
فإنْ حدثتْ فجوة في التشريع عاش الناس بل قانون ،وإلّ فما الذي قنّ َ
لول مُقنّن هو الذي خلق أول مَن خُلق.
ثم يقول الحق سبحانه { :فَإِن لّمْ َيسْتَجِيبُواْ َلكَ فَاعْلَمْ أَ ّنمَا.} ...
()3229 /
وهذا يعني أن ال تعالى لم يطاوعهم إلى ما أرادوا ،فلم يَأْتِهم بكتاب آخر ،لكن كيف كان سيأتيهم
هذا الكتاب؟ يجيب الحق -تبارك وتعالى -على هذا السؤال بقوله تعالىَ {:ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا
عظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ
ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
إذن :الكلم عندهم ليس في الكتاب ،إنما فيمن أُنزِل عليه الكتاب ،وهذا معنى { :فَاعْلَمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ
أَ ْهوَآ َءهُمْ[ } ...القصص.]50 :
ضلّ[ } ...القصص ]50 :يعني ل أضل { ِممّنِ اتّبَعَ َهوَاهُ ِبغَيْرِ هُدًى مّنَ
ثم يقول سبحانهَ { :ومَنْ َأ َ
اللّهِ[ } ...القصص ]50 :أي :أتبع هوى نفسه ،أما إنْ وافق هواه هوى المشرّع ،فهذا أمر محمود
أوضحه رسول ال في الحديث الشريف " :ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به ".
فنحن في هذه الحالة ل نتبع الهوى إنما نتبع الشرع؛ لذلك يقول أحد الصالحين الذين أفنوا عمرهم
في الطاعة والعبادة :اللهم إنّي أخشى ألّ تثيبني على طاعتي؛ لنك أمرتنا أنْ نحارب شهوات
أنفسنا ،وقد أصبحت أحب الطاعة حتى صارت شهوة عندي.
وأضلّ الضلل أن يتبع النسان هواه؛ لن الهواء متضاربة في الخَلْق تضارب الغايات ،لذلك
المتقابلت في الحداث موجودة في الكون.
وقد عبّر المتنبي عن هذا التضارب ،فقال:أَرَى كُلّنَا يَبْغي الحياةَ لنفسهِ حَرِيصا عَليها مُسْتهاما بها
حبّ الشجاع النفسَ أَور َدهُ الحَربَافنحن جميعا نحب الحياة
صبّافحبّ الجبانِ النفس أور َدهُ التقى و ُ
ونحرص عليها ،لكن تختلف وسائلنا ،فالجبان لحبه الحياة يهرب من الحرب ،والشجاع يُلقي بنفسه
حبّ للحياة ،لكنه محب لحياة أخرى أبقى ،هي حياة الشهيد.
في معمعتها مع أنه مُ ِ
وآخر يقول:كُلّ مَنْ في الوُجودِ يطلبُ صَيْدا غير أنّ الشباك مُختِلفَاتفالرجل الذي يتصدق بما معه
سهِ ْم وََلوْ كَانَ
رغم حاجته إليه ،لكنه رأى مَنْ هو أحوج منه ،وفيه قال تعالى {:وَ ُيؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُ ِ
خصَاصَةٌ[} ...الحشر.]9 :
ِبهِمْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نقول :هذا آثر الفقير على نفسه ،لكنه من ناحية أخرى يبغي الجر ويطمع في عَشْرة أمثال ما
أنفق ،بل يطمع في الجنة ،إذن :المسألة فيها نفعية ،فالدين عند المحققين أنانية ،لكنها أنانية رفيعة
راقية ،ليست أنانية حمقاء ،الدين يرتقي بصاحبه ،ويجعله إيجابيا نافعا للخرين ،ول عليه بعد ذلك
أن يطلب النفع لنفسه.
فالشرع حين يقول لك :ل تسرق .وحين يأمرك بغضّ بصرك ،وغير ذلك من أوامر الشرع ،فإنما
يُقيّد حريتك وأنت واحد ،لكن يُقيّد من أجلك حريات الخرين جميعا ،فقد أعطاك أكثر مما أخذ
منك ،فإذا نظرت إلى ما أخذ منك باتباعك للمنهج اللهي فل تَنْسَ ما أعطاك.
لذلك حين " نتأمل النبي صلى ال عليه وسلم وهو يعالج داءات النفوس حينما أتاه شاب من
ضعْفه أمام النساء ،وقلة صبره على هذه الشهوة ،حتى قال له:
العراب الذين آمنوا ،يشتكي إليه َ
يا رسول ال ائذن لي في الزنا ،ومع ذلك لم ينهره رسول ال صلى ال عليه وسلم ،بل علم أنه
أمام مريض يحتاج إلى مَنْ يعالجه ،ويستل من نفسه هذه الثورة الجامحة ،خاصة وقد صارح
رسول ال بما يعاني فكان صادقا مع نفسه لم يدلس عليها.
لذلك أدناه رسول ال ،وقال له :يا أخا العرب ،أتحب ذلك لمك؟ أتحب ذلك لزوجتك؟ أتحب ذلك
جعِ ْلتُ فِداك.
لختك؟ أتحب ذلك لبنتك؟ والشاب في كل هذا يقول :ل يا رسول ال ُ
عندها قال صلى ال عليه وسلم " :كذلك الناس يا أخا العرب ل يحبون ذلك لمهاتهم ول
لزوجاتهم ول لخواتهم ول لبناتهم ".
فانصرف الشاب وهو يقول :وال ما شيء أبغض إليّ من الزنا بعدما سمعتُ من رسول ال،
ت قول رسول ال في أمي ،وزوجتي ،وأختي ،وابنتي.
وكلما َه ّمتْ بي شهوة ذكر ُ
فالذي يُجرّيء الناس على المعصية والولوع بها عدم استحضار العقوبة وعدم النظر في العواقب،
وكذلك يزهدون في الطاعة لعدم استحضار الثواب عليها.
ن يقضي
وسبق أن قلنا لطلب الجامعة :هَبُوا أن فتى عنده شَرَه جنسي ،فهو شرهٌ منطلق يريد أ ْ
شهوته في الحرام ،ونريد له أن يتوب فقلنا له :سنوفر لك كل ما تريد على أنْ تُلقي بنفسك في هذا
(الفرن) بعد أن تُنهي ليلتك كما تحب ،ماذا يصنع؟
ثم يقول تعالى } :إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ { [القصص ]50 :وفي مواضع أخرى {:لَ َي ْهدِي
سقِينَ }[المائدة {،]108 :لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة ،]264 :وكلها دّلتْ على أن ال
ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ
ل يصنع عدم الهداية والتقوى -وإلّ فقد هدى ال الجميع هداية الدللة والرشاد فلم يأخذ بها
هؤلء فحُرِموا هداية اليمان.
ثم يقول الحق سبحانه } :وََلقَ ْد َوصّلْنَا َلهُمُ.{ ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3230 /
كلمة { وَصّلْنَا[ } ..القصص ]51 :تُشعر بأشياء ،انفصل بعضها عن بعض ،ونريد أنْ نُوصّلها،
فقوله تعالى { وَلَقَ ْد َوصّلْنَا َلهُمُ ا ْلقَ ْولَ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ } [القصص ]51 :أي :وصّلنا لهم الرسالت،
فكلما انقضى عهد رسول وكفر الناس أتاهم ال برسالة أخرى ليظلّ الخَلْق مُتصلِين بهدي الخالق
وبمنهجه ،أو :أن المر خاصّ برسول ال صلى ال عليه وسلم ،والمعنى وصّلنا له اليات ،فكلما
نزل عليه نجم من القرآن وصّلنا بنجم آخر حسب الحداث.
لذلك كانت هذه المسألة من الشبهات التي أثارها خصوم رسول ال ،حين قالوا كما حكى عنهم
ح َدةً[} ...الفرقان ]32 :فردّ عليهم القرآن
جمَْل ًة وَا ِ
القرآن{ َوقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ ا ْلقُرْآنُ ُ
ليبين لهم حكمة نزوله مُنجّما {:كَذَِلكَ[} ...الفرقان ]32 :أي :أنزلناه كذلك مُنجّما{ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َدكَ
وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلً }[الفرقان.]32 :
فلو نزل القرآن جملة واحدة لكان التثبيت لرسول ال مرة واحدة ،وهو محتاج إلى تثبيت مستمر
مع الحداث التي سيتعرّض لها ،فيوصل ال له اليات ليظل على َذكْر من سماع كلم ربه كلما
اشتدتْ به الحداث ،فيأتيه النجم من القرآن لَيُسلّيه ،ويُسرّي عنه ما يلقي من خصومه.
س ُهلَ عليهم
وحكمة أخرى في قوله {:وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلً }[الفرقان ]32 :فكلما نزل ِقسْط من القرآن َ
حفظه وترتيبه والعمل به ،كما أن المؤمنين المأمورين بهذا المنهج ستستجد عليهم قضايا ،وسوف
يسألون فيها رسول ال ،فكيف سيكون الجواب عليها إنْ نزل القرآن جملة واحدة.
ل ُبدّ أن يتأخر الجواب إلى أنْ يطرأ السؤال؛ لذلك يقول تعالى {:وَلَ يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ ِإلّ جِئْنَاكَ
حسَنَ َتفْسِيرا }[الفرقان.]33 :
ق وَأَ ْ
حّبِالْ َ
وقد ورد الفعل يسألونك في القرآن عدة مرات في سور شتى ،فكيف تتأتى لنا الجابة لو جاء
القرآن كما تقولون جملة واحدة ،ثم سبحان ال هل اطقتموه مُنجمّا حتى تطلبوه جملة واحدة؟
ثم تختم الية بحكمة أخرىَ { :لعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ } [القصص ]51 :فكلما نزل نجم من القرآن ذكّرهم
بما غفلوا عنه من منهج ال.
ثم يقول الحق سبحانه { :الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ.} ...
()3231 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الّذِينَ آَتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ ُهمْ بِهِ ُي ْؤمِنُونَ ()52
كأن الحق -تبارك وتعالى -يقول لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم :سأجعل خصومك من أهل
الكتاب هم الذين يشهدون بصِدْقك؛ لنهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم ،وما جاء في كتابك ذُكرَ
في كتبهم وذكِرت صورتك وأوصافك عندهم.
لذلك تجد آيات كثيرة من كتاب ال تُعوّل على أهل الكتاب في معرفة الحق الذي جاء به القرآن،
علْمُ
شهِيدا بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم َومَنْ عِن َدهُ ِ
ستَ مُرْسَلً ُقلْ كَفَىا بِاللّهِ َ
يقول تعالى {:وَيَقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ َل ْ
ا ْلكِتَابِ }[الرعد.]43 :
فهم أيضا شهداء على صدق رسول ال بما عندهم من الكتب السابقة فاسألوهم.
ف الُولَىا
ح ِ
ويقول تعالىَ {:بلْ ُتؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * وَالخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَىا * إِنّ هَـاذَا َلفِي الصّ ُ
حفِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا }[العلى.]19-16 :
* صُ ُ
شعِينَ
ويقول سبحانه {:وَإِنّ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلمَن ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َومَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيكُمْ َومَآ أُن ِزلَ إِلَ ْي ِهمْ خَا ِ
للّهِ[} ...آل عمران.]199 :
وإل ،فلماذا أسلم عبد ال بن سلم وغيره من علماء اليهود؟
ن يؤمنوا برسالة محمد صلى ال عليه
إذن :أهل الكتاب الصادقون مع أنفسهم ومع كتبهم ل بُدّ أ ْ
وسلم ،أما الذين لم يؤمنوا فحجبتهم السلطة الزمنية والحرص على السيادة التي كانت لهم قبل
السلم ،سيادةً في العلم ،وفي الحرب ،وفي الثروة.
وكان من هؤلء عبد ال بن أُ َبيّ ،وكان أهل المدينة يستعدون لتنصيبه مَلِكا عليهم ،فلما هاجر
سيدنارسول ال إليها أفسد عليهم ما يريدون ،ونزع منهم هذه السيادة ،والسلطة الزمنية حينما
تتدخل تعني أن يشترك هوى الناس فيستخدمون مرادات ال لخدمة أهوائهم ،ل لخدمة مرادات
ال.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَِإذَا يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ.} ...
()3232 /
وَإِذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ قَالُوا َآمَنّا بِهِ إِنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَبّنَا إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسِْلمِينَ ()53
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عند ال ،وأنهم لم يزدادوا بسماع آياته إيمانا ،فهم كانوا من قبله مسلمين ،فقد آمنوا أولً بكتبهم،
وآمنوا كذلك بالقرآن.
()3233 /
أُولَ ِئكَ ُيؤْتَوْنَ َأجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ ِبمَا صَبَرُوا وَيَدْ َرءُونَ بِا ْلحَسَ َنةِ السّيّ َئ َة َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْن ِفقُونَ ()54
الحق -سبحانه وتعالى -يريد أنْ يُعلّمنا أن الذي يريد دينا حقا ل بُدّ أن ينظر إلى دين يأتي بعده
بمعجزة ،لنه إذا كان قد آمن حين يجيء بعد عيسى رسول ،فوجب عليه أنْ يبحث في الدين
الجديد ،وأنْ ينظر أدلة تبرر له إيمانه بهذا الدين.
هذا إذا كان الدين الول لم يتبدّل ،فإذا كان الدين الول قد تبدّل ،فالمسألة واضحة؛ لن التبديل
جدُونَهُ َمكْتُوبا عِندَ ُهمْ فِي
ل ّميّ الّذِي يَ ِ
ياُ
يُحدث فجوة عند مَنْ يريد دينا{ الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِب ّ
ال ّتوْرَاةِ[} ...العراف.]157 :
آمنوا به؛ لنهم وجدوا َنعْته ،ووجدوا العقائد التي ل تتغير موجودة في كتابه ،وهو أُميّ لم يعرف
شيئا من هذا ،فأخذوا من أميته دليلً على صِدْقه.
فقوله تعالىُ { :أوْلَـا ِئكَ[ } ...القصص ]54 :أي :أهل الكتاب الذين يؤمنون بالقرآن وهم خاشعون
ل ،والذين سبق وصفهم { ُأوْلَـا ِئكَ ُيؤْتُونَ َأجْرَهُم مّرّتَيْنِ ِبمَا صَبَرُواْ[ } ...القصص ]54 :أجر
ليمانهم برسلهم ،وأجر ليمانهم بمحمد صلى ال عليه وسلم.
لذلك جاء في الحديث الشريف " :ثلثة ُيؤْ َتوْن أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه مثل
آمن بي ،وعبد مملوك أدى حق ال وأدى حق أوليائه ،ورجل عنده َأمَة -جارية -فأدّبها فأحسن
تأديبها ،فأعتقها بعد ذلك ،ثم تزوجها ".
وهؤلء الذين آمنوا برسلهم ،ثم آمنوا برسول ال استحقوا هذه المنزلة ،ونالوا هذين الجرين لنهم
تعرضوا لليذاء ممّنْ لم يؤمن في اليمان الول ،ثم تعرّضوا لليذاء في اليمان الثاني ،فصبروا
على اليذاءين ،وهذه هي حيثية { ُيؤْتُونَ أَجْرَهُم مّرّتَيْنِ ِبمَا صَبَرُواْ[ } ...القصص.]54 :
وكما أن ال تعالى يُؤتِي أهلَ الكتاب الذين آمنوا بمحمد أجرهم مرتين ،كذلك يُؤتي بعض
المسلمين أجرهم مرتين ،ومنهم -كما بيّن سيدنا رسول ال " :عبد مملوك أدى حق ال ،وأدّى
حق أوليائه ،ورجل عنده َأمَةٌ." ...
ول يُحرم هذا الجر الدين الذي باشر السلم ،وأتى قبله ،وهو المسيحية ،فلهم ذلك أيضا؛ لذلك
ط وَأَنزَلْنَا
سِب وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِ ْ
ت وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَا َ
يقول تعالىَ {:لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ[} ...الحديد ]25 :وأهم هذه المنافع{ وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ
حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ
الْ َ
وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ[} ...الحديد ]25 :وذكر الحديد ،لن منه سيصنع سلح الحرب.
ل ال َوحْي َأوْ
إذن :أنزل ال القرآن لمهمة ،وأنزل الحديد لمهمة أخرى؛ لذلك يقول الشاعرَ :فمَا ُهوَ إ ّ
ي كلّ مائٍلفَهَذا َدوَاءُ الدّاء من ُكلّ عَا ِقلٍ وذَاك َدوَاءُ الدّاءِ من ُكلّ
ع ْ
حدّ مُرْهَف يُقيم ظباه َأخْد َ
َ
جاهلولي أنا شخصيا ذكريات ومواقف مع هذه الية { ُأوْلَـا ِئكَ ُيؤْتُونَ َأجْرَهُم مّرّتَيْنِ ِبمَا
صَبَرُواْ[ } ...القصص ]54 :وقد كنا في بلد بها بعض من إخواننا المسيحيين ،وكان من بينهم
رجل ذو عقل وفكر ،كان دائما يُواسي المسلمين ،ويحضر مآتمهم ويستمع للقرآن ،وكانت تعلَق
بذهنه بعض اليات ،فجاءني مرة يقول :سمعت المقريء يقرأ:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المسلم بالسرقة ،وغفلوا عن الثر السيء لو قلبوا الحقائق ،وأدانوا اليهودي.
فالية وإنْ أدانت المسلم ،إل أنها رفعتْ شأن السلم في نظر الجميع :المسلم واليهودي وكل من
عاصر هذه القصة بل وكل من قرأ هذه الية ،ولو انحاز رسول ال وتعصّب للمسلم لهتزتْ
صورة السلم في نظر الجميع .ولو حدث هذا ماذا سيكون موقف اليهود الذين يراودهم السلم،
وقد أسلموا فعلً بعد ما حدث؟
وما أشبهَ هذه المسألة بشاهد الزور الذي يسقط أول ما يسقط من نظر صاحبه الذي شهد لصالحه،
ن جعلك موضعا للنقيصة فقد سقطت من نظره ،وإنْ أعَنْتَه على أمره ،فشاهد الزور
حتى قالوا :مَ ْ
يرتفع رأسُك على الخصم بشهادته ،وتطأ قدمُك على كرامته.
حسَنَةِ السّيّئَةَ[ { ...القصص ]54 :هذه أيضا من خصالهم أن يدفعوا
وقوله تعالى } :وَيَدْ َرؤُنَ بِالْ َ
غفَرَ إِنّ َذِلكَ َلمِنْ عَزْمِ
السيئة بالحسنة ،فمن صفاتهم العفو والصفح كما قال تعالى {:وََلمَن صَبَرَ وَ َ
لمُورِ }[الشورىَ } ]43 :و ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُنفِقُونَ { [القصص ]54 :النفقة الواجبة على نفسه وعلى
اُ
آله ،والنفقة الواجبة للفقراء وهي الزكاة ،ثم نفقة المروءات للمساكين وأهل الخصاصة.
()3234 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
} [القصص.]55 :
وهؤلء مرّوا باللغو مرورَ الكرام ،وأعرضوا عنه ،فلم يلتفتوا إليه ،وزادوا على ذلك أنهم لم
لمٌ عَلَ ْيكُ ْم لَ نَبْ َتغِي الْجَاهِلِينَ }
عمَاُلكُمْ سَ َ
عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ
يسكتوا على اللغو إنما قالوا { :لَنَآ أَ ْ
[القصص ]55 :لنا أعمالنا الخيّرة التي يجب أنْ نُقبل عليها ،ولكم أعمالكم الباطلة التي ينبغي أنْ
تُترك ،فكلّ مِنّا له شَأْن يشغله.
{ سَلَمٌ عَلَ ْيكُمْ[ } ..القصص ]55 :والسلم إما سلم تحية كما هو شائع بيننا ،وإما سلم للمتاركة
كما لو دخلتَ مع صاحبك في جدل ،فلما رأيتَ أنه سيطول وربما تعدّ ْيتَ عليه فتقول له تاركا:
سلم عليكم .تعني :إنني ليس لديّ ما أقوله لمفارقتك إل هذه الكلمة.
ومن ذلك ما دار بين الخليل إبراهيم -عليه وعلى نبينا الصلة والسلم -وبين عمّه ،فبعد أنْ
لمٌ عَلَ ْيكَ سََأسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي[} ...مريم.]47 :
ناقشه ولم يَصل معه إلى نتيجة قال له {:سَ َ
ثم يقول الحق سبحانه { :إِ ّنكَ لَ َت ْهدِي مَنْ أَحْبَ ْبتَ.} ...
()3235 /
ت وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ َيشَا ُء وَ ُهوَ أَعَْلمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ ()56
إِ ّنكَ لَا َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْب َ
هذا خطاب لسيدنا رسول ال ،خاصّ بدعوته لعمه أبي طالب الذي ظلّ على دين قومه ،ولكنه كان
يحمي رسول ال حماية عصبية قربى وأهل ،ل محبة في السلم ،ول تعالى حكمة في أنْ يظلّ
أبو طالب على الكفر؛ لنه بذلك كسب قريشا ونال احترامهم ،حيث أعجبهم عدم إيمانه بمحمد
وعدم مجاملته له ،وأعجبهم أن يظل على دين الباء ،فاحترموا حمايته لبن أخيه ،وهذا منع عن
رسول ال إيذاءهم ،وحمى الدعوة من كثير من العتداءات عليها.
لذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسلم حريصا على أنْ يردّ له هذا الجميل ،وردّ رسول ال
للجميل ل يكون بعرَض من الدنيا ،إنما بشيء باقٍ خالد ،فلما حضرت أبا طالب الوفاة قال له
رسول ال صلى ال عليه وسلم " يا عمُ ،قلْ ل إله إل ال كلمة أشفع لك بها عند ال يوم القيامة "
فقال :يا ابن أخي ،لول أن قريشا تُعيّرني بهذه الواقعة ،ويقولون ما آمن إل جزعا من الموت
لقررت عينك بها.
لكن يُروى أنه بعدما انتقل أبو طالب ،جاء العباس إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال له :يا
ن يقولها قالها قبل أن يموت وأنا أشهد بها.
محمد ،إن الكلمة التي طلبتَ من عمّك أ ْ
ونلحظ هنا دقة الداء من العباس ،حيث لم يقُلْ :إن هذه الكلمة ل إله إل ال ،بل سماها (الكلمة)
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لماذا؟ لنه لم يكن قد أسلم بعد.
ك لَ َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْبتَ[ } ...القصص ]56 :وقلنا :إنها تأتي
وسبق أنْ تكلّمنا في معنى الهداية { إِ ّن َ
بأحد معنيين :بمعنى الرشاد والدللة ،وبمعنى المعونة لمن يؤمن بالدللة ،ومن ذلك قوله تعالى{:
وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَا َدهُمْ ُهدًى وَآتَا ُهمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد ]17 :أي :سمعوا الدللة وأطاعوها ،فزادهم ال
هداية أخرى ،هي هداية اليمان والمعونة.
يقول تعالى في هذه المسألة {:وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ }[فصلت ]17 :يعني :دللناهم{ فَاسْ َتحَبّواْ ا ْل َعمَىا
عَلَى ا ْلهُدَىا }[فصلت]17 :؛ لذلك حُرموا هداية المعونة.
ك لَ َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْبتَ[ } ...القصص ]56 :هي
إذن :الهداية المنفية عن سيدنا رسول ال { إِ ّن َ
هداية المعونة والتوفيق لليمان؛ لنه صلى ال عليه وسلم هدى الجميع هداية الدالة والرشاد،
وكان مما قال {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َهلْ َأدُلّكمْ عَلَىا ِتجَا َرةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الصف.]10 :
فهداية الدللة صدرت أولً عن ال تعالى ،ثم بالبلغ من رسوله صلى ال عليه وسلم ثانيا.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وقَالُواْ إِن نّتّ ِبعِ ا ْلهُدَىا َم َعكَ.} ...
()3236 /
طفْ مِنْ أَ ْرضِنَا َأوَلَمْ ُن َمكّنْ َلهُمْ حَ َرمًا َآمِنًا ُيجْبَى إِلَيْهِ َثمَرَاتُ ُكلّ
َوقَالُوا إِنْ نَتّبِعِ ا ْلهُدَى َم َعكَ نُ َتخَ ّ
شيْءٍ رِ ْزقًا مِنْ َلدُنّا وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا َيعَْلمُونَ ()57
َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يضيرك هذا إنْ كنتَ من أهل الخرة حيث ستذهب إلى خير بَاقٍ دائم ،خير يناسب قدرة المنعم
سبحانه.
أما إنْ ظلّوا على كفرهم ،فمتاع قليل في الدنيا الفانية ،ول نصيبَ لهم في الخرة الباقية .إذن:
فأيّ الطريق أهدى؟ إن المقارنة العقلية ترجح طريق الهدى واتباع الحق الذي جاء به رسول ال،
هذه واحدة.
ثم مَنْ قال إنكم إن اتبعتم الهدى مع رسول ال تُتخطّفوا وتُضطهدوا؟ لذلك يرد ال عليهمُ :قلْ لهم
يا محمد :كذبتم ،فلن يتخطفكم أحد بسبب إسلمكم { َأوَلَمْ ُن َمكّن ّلهُمْ حَرَما آمِنا يُجْبَىا إِلَ ْيهِ َثمَرَاتُ
شيْءٍ رّزْقا مّن لّدُنّا وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ } [القصص.]57 :
ُكلّ َ
فقد أنعم ال عليكم وأنتم كافرون مشركون به ،تعبدون الصنام في جاهلية ،ومكّن لكم حياة آمنة
في رحاب بيته الحرام ،ووفّر لكم رَغَد العيش وأنتم بوادٍ غير ذي زرع حيث يُجْبي إليه الثمرات
من كل مكان ،فالذي صنع معكم هذا الصنيع أيترككم ويتخلى عنكم بعد أنْ آمنتم به ،واهتديتم إلى
الحق؟ كيف يكون منكم هذا القياس؟
ومعنىُ { :ن َمكّن ّلهُمْ[ } ...القصص ]57 :نجعلهم مكينين فيه ،كما في قوله تعالىَ {:وكَذاِلكَ َمكّنّا
سفَ فِي الَ ْرضِ[} ...يوسف ]21 :والتمكين يدل على الثبات؛ لن ظرف المكان ثابت على
لِيُو ُ
خلف ظرف الزمان.
وقال { :حَرَما آمِنا[ } ..القصص ]57 :مع أن المن لمن في المكان ،لكن أراد سبحانه أن يُؤمّن
نفس المكان ،فيكون كل ما فيه آمنا ،حتى القاتل ل يُقتصّ منه في الحرم ،والحيوان ل يُثار فيه
ول ُيصَاد ،والنبات ل يُعضد حتى الحجر في هذا المكان آمن ،ألَ تراهم يرجمون حجرا في رمي
الجمرات في حين يُكرّمون الحجر السود ويُقبّلونه.
وحينما نتأمل الحرم منذ أيام الخليل إبراهيم -عليه السلم -نجد أن له خطة ،وأن الحق سبحانه
سكَنتُ مِن ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ
يُعدّه ليكون حرما آمنا ،فلما جاءه إبراهيم قال {:رّبّنَآ إِنّي أَ ْ
عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْل ُمحَرّمِ[} ...إبراهيم.]37 :
هذا يعني أن المكان ليس به من مقومات الحياة إل الهواء ،لن نفي الزرع يعني عدم وجود الماء؛
لذلك اعترضت السيدة هاجر على هذا المكان القفر ،فلما علمتْ أنه اختيار ال لهم قالت :إذن لن
يضيعنا.
وقد رأتْ بنفسها أن ال لم يُضيّعهم ،فلما احتاجت الماء لترضع وليدها وسعتْ في طلبه بين الصفا
سعْيها ،ولو أنها وجدته لكان سعيها
والمروة سبعة أشواط على َقدْر ما أطاقتْ لم تجد الماء في َ
سببا إنما أراد ال أنْ يُصدّقها في كلمتها ،وأن يثبت لها أنه سبحانه لن يُضيّعهم من غير أسباب
لتتأكد أن كلمتها حق ،ثم شاءتْ قدرة ال أن يخرج الماء من تحت قدم الوليد ،وهو يضرب بقدمه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرض ،ويبكي من شدة الجوع والعطش ،وانبجستْ زمزم.
ولما أسكن إبراهيم أهله في هذا المكان المقْفر أراده لهم سكنا دائما ،ل مجرد استراحة من عناء
ج َعلْ َأفْئِ َدةً مّنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِ ْم وَارْ ُز ْقهُمْ مّنَ ال ّثمَرَاتِ...
لةَ فَا ْ
السفر؛ لذلك قال {:رَبّنَا لِ ُيقِيمُواْ الصّ َ
}[إبراهيم.]37 :
وكأنه -عليه السلم -يريد أن يطمئن على إقامة أهله في هذا المكان ،وأن يكون البيت مُصلّى
ل ،ل تنقطع فيه الصلة ،وهذا هو الفرق بين بيت ال باختيار ال وبيت ال باخيتار عباد ال.
فالبيت الذي نبنيه ل تعالى قد يُغلق حتى في أوقات الفروض ،أما بيت ال الذي اتخذه لنفسه فل
ي وقت من ليل أو نهار ،ول ينقطع منه الطواف إل لصلة
يخلو من الطواف والصلة في أ ّ
مكتوبة ،فإذا قُضيتْ الصلة رأيتهم يُهرعون إلى الطواف.
وقد رأيت الحرم في إحدى السنوات وقد دهمه سيل جارف حتى مل ساحته ،ودخل الماء الكعبة
وغطّى الحجر السود ،فكان الناس يطوفون سباحة ،ورأينا أناسا يغطسون عند الحجر ليُقبّلوه،
وكأن الحق -سبحانه وتعالى -يريد أن يظلّ الطواف حول بيته ل ينقطع على أيّ حال.
كذلك نفهم من قوله تعالىَ {:ت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ[} ...إبراهيم.]37 :
من الفعل َهوَى يهوي ،يعني :سقط؛ لن الذي يسقط ل إرادةَ له في عدم السقوط ،كذلك مَنْ يأتي
بيت ال أو يجلب إليه الخيرات يجد دافعا يدفعه كأنه ل إرادة له.
نل
كما نفهم منها معنى آخر ،فكل تكاليف الحق سبحانه ربما تكاسل الناس في أدائها ،فمنّا مَ ْ
يصلي أو ل يُزكّي .إل الحج حيث قال ال فيه {:وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالً[} ...الحج:
]27فمجرد أن تؤذن يأتوك.
لذلك نجد من غير القادرين على نفقات الحج من يجوع ويُمسك على أهله ليوفّر تكاليف الحج،
فهو -إذن -الفريضة الوحيدة التي يتهافت عليها مَنْ لم تطلب منه.
ج َعلْ هَـاذَا
ونلحظ أن إبراهيم -عليه السلم -دعا بالمن للحرم مرتين :مرة في قولهَ {:ربّ ا ْ
بَلَدا آمِنا[} ...البقرة ]126 :يعني :اجعل هذا المكان بلدا آمنا ،كأيّ بلد آمن ل تُقام إل في مكان
ُي َؤمّنون فيه كل مُقوّمات الحياة ،فأيّ بلد ل تُبنى حتى من الكافر إل إذا كان آمنا فيها ،فالطلب
الول أنْ يتحول هذا المكان الخالي إلى بلد آمن ،كما يأمن كل بلد حين ينشأ ،وهذا أمن عام.
ج َعلْ هَـاذَا الْ َبلَدَ آمِنا[} ...إبراهيم ]35 :بعد أن أصبحتْ مكة بلدا آمنا
ثم يدعو مرة أخرى{ َربّ ا ْ
يطلب لها مزيدا من المن ،وهذا أمن خاص ،حيث جعلها بلدا حراما ،يأمن فيها النسان والحيوان
والنبات ،بل والجماد.
وقد وقف البعض عند قوله تعالى:
{ َومَن َدخَلَهُ كَانَ آمِنا[} ...آل عمران.]97 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقالوا :أين هذا المن ،وقد حدث في الحرم العتداء والقتل وترويع المنين ،كما حدث في أيام
القرامطة لما دخلوا الحرم ،وقتلوا الناس فيه ،وأخذوا الحجر ،وفي العصر الحديث نعرف حكاية
جهيمان ،وما حدث فيها من قَتْل في الحرم.
وهذه اليةَ {:ومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا[} ...آل عمران ]97 :جملة خبرية غرضها المر والحثّ ،كأنه
تعالى قال :أمّنوا من دخل الحرم .وهذه ليست قضية كونية ،إنما قضية شرعية ،وفرْق بين
القضيتين :الكونية ل ُبدّ أن تحدث ،أما الشرعية فأمر ينفذه البعض ،ويخرج عليه البعض ،فمَنْ
أطاع المر الشرعي ل وأراد أنْ يجعل أمر ال صادقا يُؤمّن أهل الحرم ،ومَنْ أراد أنْ يكذّب ربه
يهيج الناس ويروعهم فيه.
ن وَالْخَبِيثُونَ
ومن اليات التي كثيرا ما يُسأل عنها في هذا الصدد قوله تعالى {:الْخَبِيثَاتُ لِ ْلخَبِيثِي َ
ن وَالطّيّبُونَ ِللْطّيّبَاتِ[} ...النور ]26 :يقولون :كثيرا ما يتزوج خبيث من
ت وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِي َ
لِلْخَبِيثَا ِ
طيبة ،أو طيبة من خبيث ،فالواقع ل يتفق مع الية .نقول أيضا هنا :هذه قضية شرعية تحمل
أمرا قد يُطاع وقد ُي ْعصَى ،وليست قضية كونية ل بُدّ أنْ تأتي كما أخبر ال تعالى بها ،ول يتخلّف
مدلولها.
فالمعنى في الية :إن زوجتُم فزوّجوا الخبيث للخبيثة ،والطيب للطيبة؛ ليتحقق التكافؤ بين
الزوجين ويحدث بينهما الوفاق ،حتى إنْ عيّر الخبيث زوجته كانت مثله تستطيع أنْ تردّ عليه ،ل
بُدّ من وجود التكافؤ حتى في (القباحة) ،وإل فكيف تفعل الطيبة مع الخبيث ،أو الخبيث مع
الطيبة؟
إذن :فالية وأمثالها قضية شرعية في صيغة الخبر ،وإنْ كانت تعني المر ،كما تقول عن الميت:
رحمه ال بصيغة الماضي ،وأنت ل تدري رحمه ال ،أو لم يرحمه ،إذن :ل ُبدّ أن المعنى دعاء:
فليرحمه ال ،قلتها أنت بصيغة الماضي ،رجاء أن تكون له الرحمة.
نعود إلى قوله تعالىَ } :أوَلَمْ ُن َمكّن ّل ُهمْ حَرَما آمِنا[ { ...القصص ]57 :ونلحظ هذا التمكين وهذا
المن من قصة الفيل ،حيث جاء أبرهة ليهدم الكعبة ،ويتقدّم الجيش فيل ضخم يقال له محمود،
فلما قالوا في أذنه (أب ُركْ محمود وارجع راشدا) يعني :انفد بجلدك (فإنك ببلد ال الحرام) فبرك
الفيل واستجاب.
ثم جاءت معركة الطير البابيل ،ترميهم بحجارة من سجيل ،فجعلهم كعصف مأكول .هذا كله من
المن الذي جعله ال لقريش فجعلهم كعصف مأكول .هذا كله من المن الذي جعله ال لقريش
سكان حرمه؛ لتظل الكعبة مسكونة بهم ،وما داموا هم سكان الحرم والناس تأتيهم من كل النحاء
للحج كل عام ،فسوف يظل لهم المن بين القبائل ،ول يجرؤ أحد على العتداء عليهم ،أو
التعرّض لقوافلهم في رحلة الشتاء والصيف ،وأيّ أمن ،وأيّ مهابة بعد هذا؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل ِفهِمْ رِحَْلةَ
ومع الحجيج يُجلب الطعام وتُجلب الرزاق ،وصدق ال العظيم {:لِيلَفِ قُرَيْشٍ * إِي َ
خ ْوفٍ }
ط َع َمهُم مّن جُوعٍ وَآمَ َنهُم مّنْ َ
الشّتَآ ِء وَالصّيْفِ * فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي أَ ْ
[قريش.]4-1 :
وكيف بعد هذا المن والمان يخاف مَنْ يؤمن بمحمد أنْ يُتخطّف من أرضه؟ إنها مقولة ل مدلولَ
لها.
()3237 /
كلمة { َوكَمْ[ } ..القصص ]58 :كم هنا خبرية تفيد الكثرة ،كأنك تركتَ الجواب ليدل بنفسه على
الكثرة ،كما تقول لمن ينكر جميلك ،ول تريد أنْ تُعدد أياديك عليه :كم أحسنتُ إليك ،يعني :أنا لن
أُعدّد ،وسوف أرضى بما تقوله أنت لنك واثق أن الجابة سوف تكون في صالحك ،وعندها ل
يملك إل أن يقول :نعم هي كثيرة .فكم هنا تعني الكثرة ،وينطق بها المخاطب لتكون حجة عليه.
ومعنى { :مِن قَرْ َيةٍ[ } ...القصص ]58 :من للعموم أي :من بداية ما يُقال له قرية { َبطِ َرتْ
شكْر المُنعم على نعمه ،أي :أنه سبحانه لم يرد ذكره
َمعِيشَ َتهَا } [القصص ]58 :البطر :أن تنسى ُ
على بالك وأنت تتقّلبَ في نِعمه ،أو يكون البطر باستخدام النعمة في معصية المنعم عز وجل.
ومن البطر أن يتعالى المرء على النعمة ،أو يستقلها ويراها أقلّ من مستواه ،كالولد الذي تأتي له
أمه مثلً بطبق العدس فيتبرّم به ،وربما ل يأكل ،فتقول الم كما نقول في العامية؛ أنت (بتتبطر)
على نعمة ربنا؟ كلمة في لغتنا العامية لكن لها أصل في الفصحى.
إذن :من البطر أنْ تتجبّر ،أو تتكبر ،أو تتعالى على نعمة ال ،فل ترضي بها ،وتطلب أعلى منها.
سكَن مّن َبعْدِ ِهمْ ِإلّ
ومعنى { َمعِيشَ َتهَا } [القصص ]58 :أي :أسباب معيشتها { فَتِ ْلكَ َمسَاكِ ُنهُمْ لَمْ تُ ْ
ل َوكُنّا َنحْنُ ا ْلوَارِثِينَ } [القصص ]58 :فما داموا قد بطروا نعمة ال فل بُدّ أن يسلبها من
قَلِي ً
أيديهم ،وإنْ سُلبتْ نِعم ال من بلد هلكوا ،أو رحلوا عنها { ِإلّ قَلِيلً } [القصص ]58 :هم الذين
يقيمون بعد هلك ديارهم.
{ َوكُنّا نَحْنُ ا ْلوَارِثِينَ } [القصص ]58 :نرثهم لنهم لم يتركوا مَنْ يرثهم ،وإذا تُرِك مكان بل
خليفة يرثه آل ميراثه إلى ال تعالى.
وفي آية أخرى يعالج الحق سبحانه هذه القضية بصورة أوسع ،يقول تعالىَ {:وضَرَبَ اللّهُ مَثَلً
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَ َرتْ بِأَ ْن ُعمِ اللّهِ[} ...النحل]112 :
قَرْيَةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ
خوْفِ[} ...النحل.]112 :
يعني :بطرت بنعمه تعالى{ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ
ومعنى الكفر بال :سَتْر وجود ال ،والسّتْر يقتضي مستورا ،فكأن الصل أن ال تعالى موجود،
لكن الكافر يستر هذا الوجود ،وهكذا يكون الكفر نفسه دليلً على اليمان ،فاليمان هو الصل
والكفر طارئ عليه.
ومثال ذلك قولنا :إن الباطل جُنْدي من جنود الحق ،فحين يستشري الباطل يذوق الناس مرارته،
ويكتوون بناره ،فيعودون إلى الحق وإلى الصواب ،ويطلبون فيه المخرج حين تعضّهم الحداث.
وكذلك نقول بنفس المنطق :اللم أول جنود الشفاء؛ لذلك نجد أن أخطر المراض هو المرض
الذي يتلصص على المريض دون أنْ يُشعره بأيّ ألم ،فل يدرى به إل وقد استفحل أمره ،وتفاقم
خطره وعزّ علجه ،لذلك نسميه -والعياذ بال -المرض الخبيث.
ففي قوله تعالىَ {:ف َكفَرَتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ[} ...النحل.]112 :
دليل على وجود النعم ،ومع ذلك كفروا بها أي :ستروها ،إما بعدم البحث في أسبابها ،والتكاسل
عن استخراجها ،أو ستروها عن المستحق لها وضنّوا لها على العاجز الذي ل يستطيع الكسب؛
لذلك يسلبهم ال هذه النعم ويحرمهم منها رغم قدرتهم.
وهناك أشياء لو ظلت موجودة لعطتْ رتابة ،ربما فهموا منها أن هذه الشياء إنما تأتيهم تلقائيا
بطبيعة الشياء ،وحين يسلب ال منهم نعمه ويطقع هذه الرتابة ،فإنما ليفهموا أن الرتابة في
التكليفات تُضعِف الحكمة من التكليف ،كيف؟
نقول :الحق -تبارك وتعالى -حرّم علينا أشياء وأحلّ لنا أشياء ،فمثلً حرّم ال علينا الخمر حتى
أصبحنا ل نشربها ول حتى تخطر ببالنا ،فأصبحت عادة رتيبة عندنا ،وال تعالى يريد أنْ يُديم
على النسان تكليف العبادة ،حتى ل يعتادها فيفعلها بالعادة ،فيكسر هذه العادة مثلً في صوم
رمضان.
ويُحرّم عليك ما كان حللً لك طوال العام ،وقد اعت ْدتَ عليه ،فيأتي رمضان وتكليف الصيام
ليُحرّم عليك الطعام الذي كنت تأكله بالمس ،ذلك لتظل حرارة العبادة موجودةً تُشوّق العبد إليها،
وتُعوّده النضباط في أداء التكاليف.
خ ْوفِ[} ...النحل ]112 :والجوع
ع وَالْ َ
ثم يذكر العقاب على الكفر بنعمة ال{ فََأذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُو ِ
له مظهران :أنْ تطلبه البطن في أول المر ،فإنْ زاد الجوع ض ُع َفتْ الجوارح ،وتألمتْ العضاء
كلها ،وذاقتْ ألم الجوع ،وال تعالى يريد أنْ يُرينا إحاطة هذا اللم ،فشبّهه باللباس الذي يحيط
بالجسم كله ،ويلفّه من كل نواحيه.
وهذه سُنّة ال في القُرى الظالمة ،كما قال سبحانهَ } :ومَا كَانَ رَ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا.{ ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3238 /
حلّ العذاب
إذن :ل بُدّ أن ُنعْلِم بالمنهج ،ويأتي رسول يقول :افعل كذا ،ول تفعل كذا ،حتى إذا َ
بالكافرين يكون بالعدْل ،وبعد إلزامهم الحجة ،ل أنْ نترك الناس يذنبون ،ثم نقول لهم :هذا حرام.
وسبق أنْ قُلْنا ما قاله القانون :ل عقوبة إل بتجريم ،ول تجريم إل بنصّ ،ول نصّ بإعلم .وما
كان ال ليهلك قرية ظلما ،إنما عقوبةً لهم على ما فعلوا.
والقرية لها تسلسل فنقول( :نَجْع) وهو المكان الذي تسكنه أسرة واحدة ،و ( َكفْر) لعدة أسر ،ثم
(قرية) ثم (أم القرى) وهي الحضر أو العاصمة ،وقد نزل القرآن في أمة مُتبدية ،تعيش على
الترحال ،وتقيم في الخيام تتنقل بها بين منابت الكل ،فقالوا (أم القرى) للمكان الذي تجد به القرى،
وتتوفر فيه من مقومات الحياة ما ل يوجد في النجوع والكفور والقرى الصغيرة ،كما يعيش الن
أهل الريف على قضاء حوائجهم من (البندر) ،كأنّ أُمّ القرى لها حنان ،يشمل صغار البلد حولها.
شيْءٍ َفمَتَاعُ الْحَيَاةِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ومَآ أُوتِيتُم مّن َ
()3239 /
شيْءٍ َفمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَ ُتهَا َومَا عِ ْندَ اللّهِ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى َأفَلَا َت ْعقِلُونَ ()60
َومَا أُوتِي ُتمْ مِنْ َ
شيْءٍ[ } ...القصص ]60 :من أيّ شيء من مُقوّمات الحياة ،ومن كمالياتها { َفمَتَاعُ
معنى { :مّن َ
الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَ ُتهَا[ } ...القصص ]60 :فمهما بلغ هذا من السّمو ،فإنه متاع عمره قليل ،كما قال
سبحانهُ {:قلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ }[النساء.]77 :
لذلك طلبنا منكم ألّ تنشغلوا بهذا المتاع ،وألّ تجعلوه غايةً ،لن بقاءك فيها مظنون ،ومتاعك فيها
على قَدْر نشاطك وحركتك.
وسبق أنْ قلنا :إن آفة النعيم في الدنيا إما أن يتركك أو تتركه ،وأن عمرك في الدنيا ليس هو عمر
الدنيا ،إنما مدة بقائك أنت فيها ،ومهما بلغتَ من الدنيا فل بُدّ من الموت.
جلّ -على حياة أخرى باقية مُتيقّنة ل يفارقك نعيمها ول تفارقه.
لذلك يدلّنا ربنا -عَزّ و َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َومَا عِندَ اللّهِ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَىا َأفَلَ َت ْعقِلُونَ } [القصص.]60 :
{ خَيْرٌ[ } ...القصص ]60 :لن النعيم فيها ليس على قَدْر نشاطك ،إنما على قَدْر ال وعطائه
وكرمه { ،وَأَ ْبقَىا[ } ..القصص ]60 :لنه دائم ل ينقطع ،فلو قارن العاقل بين متاع الدنيا ومتاع
الخرة لختار الخرة.
لذلك ،فإن الصحابي الذي حدّثه رسول ال صلى ال عليه وسلم عن أجر الشهيد ،وتيقّن أنه ليس
بينه وبين الجنة إل أنْ يُقتل في سبيل ال ،وكان في يده تمرات يأكلها فألقاها ،ورأى أن مدة شغله
بمضغها طويلة؛ لنها تحول بينه وبين هذه الغاية ،ألقاها وأسرع إلى الجهاد لينال الشهادة .لماذا؟
لنه أجرى مقارنة بين متاع الدنيا ومتاع الخرة.
والحق -سبحانه وتعالى -حين يُجري هذه المقارنة بين الكفار وبين المؤمنين يقولُ {:قلْ َهلْ
تَرَ ّبصُونَ بِنَآ ِإلّ ِإحْدَى ا ْلحُسْنَيَيْنِ[} ...التوبة ]52 :إما أن ننتصر عليكم ونُذلكم ،ونأخذ خيراتكم،
وإما ننال الشهادة فنذهب إلى خير مما تركنا{ وَ َنحْنُ نَتَرَ ّبصُ ِبكُمْ أَن ُيصِي َبكُمُ اللّهُ ِبعَذَابٍ مّنْ عِن ِدهِ
َأوْ بِأَيْدِينَا[} ...التوبة.]52 :
إذن :ل تتربصون بنا إل خيرا ،ول نتربّص بكم إل شرا.
وفي موضع آخر قال سبحانهَ {:بلْ ُتؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * وَالخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَىا }[العلى- 16 :
]17لذلك ذيّل الية هنا بقوله تعالىَ { :أفَلَ َتعْقِلُونَ } [القصص ]60 :لن العقل لو قارن بين الدنيا
والخرة ل ُبدّ أنْ يختار الخرة.
لقِيهِ َكمَن مّ ّتعْنَاهُ.} ....
حسَنا َف ُهوَ َ
عدْنَاهُ وَعْدا َ
ثم يقول الحق سبحانهَ { :أ َفمَن وَ َ
()3240 /
حضَرِينَ
ن وَعَدْنَا ُه وَعْدًا حَسَنًا َف ُهوَ لَاقِيهِ َكمَنْ مَ ّتعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ ُهوَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مِنَ ا ْلمُ ْ
َأ َفمَ ْ
()61
تُعد هذه الية شرحا وتأكيدا لما قبلها ،والوعد :بشارة بخير ،وإذا بشّرك مُساوٍ لك بخير أتى خيره
على قدر إمكاناته ،وربما حالت السباب دون الوفاء بوعده ،فإنْ كان الوعد من ال جاء الوفاء
على قدر إمكاناته تعالى في العطاء ،ثم إنّ وعده تعالى ل يتخلف{ َومَنْ َأ ْوفَىا ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ} ...
[التوبة.]111 :
لقِيهِ[ } ...القصص ]61 :أي :حتما { ثُمّ ُهوَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مِنَ
حسَنا َف ُهوَ َ
لذلك قال { وَعْدا َ
حضَرِينَ } [القصص ]61 :أي :للعذاب.
ا ْلمُ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حضَرِينَ } [القصص ]61 :ل تستعمل في القرآن إل للعذاب ،وربما الذي وضع
وهذه الكلمة { ا ْل ُم ْ
كلمة (مُحضر) قصد هذا المعنى؛ لن المحضر ل يأتي أبدا بخير.
حضَرُونَ }[الصافات.]158 :
ويقول تعالى في موضع آخر {:وََلقَدْ عَِل َمتِ الجِنّةُ إِ ّنهُمْ َلمُ ْ
حضَرِينَ }[الصافات ]57 :ثم يقول سبحانه مُؤكّدا هذا
وقال تعالى {:وََل ْولَ ِن ْعمَةُ رَبّي َلكُنتُ مِنَ ا ْلمُ ْ
الحضار يوم القيامة حتى ل يظن الكافر أن بإمكانه الهرب { :وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ.} ...
()3241 /
عمُونَ ()62
وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْ ُتمْ تَزْ ُ
والسؤال هنا للذين أشركوا ،ل لمن أُشرك بهم ،وكلمة { وَ َيوْمَ[ } ...القصص ]62 :منصوبة على
الظرفية ،ل ُبدّ أن نُقدّر لها فعلً يناسبها ،فالتقدير :واذكر يوم يناديهم ،والمر لرسول ال صلى
ال عليه وسلم ،لكن لمن يذكره رسول ال؟ يذكره للكافرين بهذا اليوم يوم القيامة.
والية تعطينا لقطة من لقطات هذا اليوم الذي هو يوم الواقعة التي ل واقعةَ بعدها ،ويوم الحاقّة
خ الذان التي انصرفتْ عنها في
ح عنها ،ويوم الصّاخة أي :التي تص ّ
أي الثابتة التي ل تَ َزحْزُ َ
الدنيا ،ويوم الطامة التي تطمّ ،ويوم الدين ،أي :الذي ينفع فيه الدين.
والحق سبحانه يذكر هذه اللقطة لمرين:
الول :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم عُودي وأُوذِي وهزِيء به وسُخِر منه ،واجتمعت عليه
كل وسائل النكالَ من خصومة فبيّتوا به بمكر ،وصنعوا له سحرا ..إلخ.
وحين تجد دعوة تُقابَل بهذه الشراسة ،فاعلم أنها ما قُوبلت هذه المقابلة إل لنها ستهدم فسادا ينتفع
به قوم ترهبهم كلمة الصلح؛ لنها تصيبهم في مصالحهم وفي شهواتهم وفي جاههم وعنجهيتهم
وطغيانهم ،فطبيعي أن يقفوا في وجهها.
لذلك نجد كثيرا من الغربيين يعرفون عظمة السلم من شراسة عداوة خصومه ،يقولون :لو لم
يكُنْ هذا الدين ضد فسادهم ما ائتمروا عليه ،ولو كان أمرا هيّنا لتركوه للزمن يمحوه ،لكنهم أيقنوا
أنه الحق الذي سيُذهِب باطلهم ،ويقضي على طغيانهم.
فالحق سبحانه يأمر رسوله صلى ال عليه وسلم أنْ يذكر ذلك اليوم يذكره لنفسه ،ويذكره لقومه
ليعتبروا ،فربما إذا سمعوا ما في هذا اليوم من القسوة والخزي والنكال ربما راجعوا أنفسهم فتابوا
إلى ال.
إذن :ليس حظ ال تعالى من هذا العمل أنْ يُرهبهم إنما ليحذرهم ،لئل يقع منهم الكفر الذي يُوقِفهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا الموقف ،كما تُبشّع لولدك عاقبة الهمال ،وتُحذّره من الرسوب لينفر من أسبابه ،ويبحث عن
أسباب النجاح.
يقول تعالى { :وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ[ } ...القصص ]62 :وقد ناداهم في الدنيا :يا أيها الناس ،يا بني آدم
ن يصمّوا آذانهم عنه؛
فصمّوا آذانهم ،وأعرضوا عن نداء ال ،واليوم يناديهم ندا ًء ل يملكون أ ْ
لنه{ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْلقَهّارِ }[غافر ]16 :فكأن الحق يُذكّرهم بهذا اليوم ،لعلهم
يرعوون ،ولعلهم يرجعون.
المر الثاني :أن الية جاءت تسلية لسيدنا رسول ال يقول له ربه :ل تيأس مما يصنعون معك،
ول يحزنك كيدهم وعنادهم؛ لنني سأصنع بهم كيت وكيت .وأنت تستطيع أن تدرك سِرّ هذا
اليعاز النفسي في نفس المضطهد وفي نفس المظلوم حين يشكو لك ولدك أن أخاه ضربه أو أهانه
فتقول أنت لتُرضيه :انتظر سوف أفعل به كذا وكذا ،فترى الولد ينبهر بهذه العقوبة المسموعة
ويسعد بها ،وكذلك حين يسمع رسول ال العقوبة التي تنال أعداءه على ما حدث منهم يسعد بها،
وتُسرّي عن نفسه ما يلقي.
()3242 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّ عَلَيْنَا َق ْولُ رَبّنَآ إِنّا لَذَآ ِئقُونَ }[الصافات.]31 :
موضع آخر {:فَ َ
طقُونَ }[النمل.]85 :
وقال الحق سبحانه وتعالىَ {:و َوقَعَ ا ْل َق ْولُ عَلَيهِم ِبمَا ظََلمُواْ َفهُ ْم لَ يَن ِ
لكن ،ما هو القول الذي وقع وثبت لهم وحَقّ عليهم؟ القول :أن كلّ واحد له مكان عندي في الجنة
على فَرْض أنكم جميعا آمنتم ،وكل واحد له مكان في النار على فَرْض أنكم جميعا كفرتم.
غوَيْنَا[ } ...القصص ]63 :سبحان
غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ
غوَيْنَآ أَ ْ
وماذا قالوا؟ قالوا { :رَبّنَا هَـاؤُلءِ الّذِينَ أَ ْ
ال الن تقولون ربنا وتعترفون بربوبيته تعالى ،كما قال تعالى في شأن فرعون {:آلنَ َوقَدْ
سدِينَ }[يونس.]91 :
ل َوكُنتَ مِنَ ا ْلمُفْ ِ
عصَ ْيتَ قَ ْب ُ
َ
الن تعترفون بعد أنْ سُلِب منكم الختيار ،ولم تعُد لكم إرادة حتى على جوارحكم وأبعاضكم،
في ُدكَ التي كنت تبطش بها ،و ِرجْلك التي كنت تسعى بها ولسانك ..كلها خرجت عن إرادتك
شهَدُ عَلَ ْيهِمْ أَ ْلسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ
ط ْوعٌ لمر ال{ َيوْمَ تَ ْ
طوْع أمرك؛ لنها الن َ
وَ
َي ْعمَلُونَ }[النور.]24 :
غوَيْنَا} ...
غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ
غوَيْنَآ[ } ...القصص ]63 :أي :المشركين { أَ ْ
ومعنى { هَـاؤُلءِ الّذِينَ أَ ْ
خسْران سواء ،وإل فأهل
[القصص ]63 :أي :لنكون سواء ،هذه عِلّة غوايتهم ،أن يكونوا في ال ُ
الباطل يسعون جاهدين لليقاع بأهل الحق ليشاركوهم باطلهم ،وليكونوا أمثالهم.
وهذه المسألة تعطينا السيال النفسي لكل منحرف حين يرى ملتزما مستقيما ،ل يشاركه فساده
وانحرافه ،فيعزّ عليه أنْ يكون في الهاوية وحده ،ولماذا يمتاز عنه الخرون؟ واقرأ قوله تعالى{:
سوَآءً[} ...النساء.]89 :
وَدّواْ َلوْ َتكْفُرُونَ َكمَا كَفَرُواْ فَ َتكُونُونَ َ
أل ترى أهل الباطل والفساد والفجور يهزءُون من أهل الحق ويسخرون منهم ،ليُزهدوهم في
الخير والصلح ،وليغروهم بما هم فيه ،حتى أصبح النسان الملتزم بدينه وشرع ربه ل يسلَم من
حكُونَ * وَِإذَا مَرّواْ ِبهِمْ
ضَألسنتهم ،كما يقول تعالى {:إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َي ْ
يَ َتغَامَزُونَ }[المطففين.]30 - 29 :
وليت المر ينتهي عند ال َغمْز واللمز ،إنما يتمادى هؤلء ،فيجعلون من سخريتهم بأهل اليمان
والطاعة مادةً للمسامرة والتسلية{ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهِْلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ }[المطففين ]31 :يعني:
فرحين مسرورين بما نالوه من أهل الطاعة ،مما يدلّ على أنهم جميعا تُسعِدهم هذه المسألة
وتُرضي شيئا في نفوسهم المريضة الحاقدة.
لكن المؤمن من طبيعته يحب أنْ يُكرم ،وأنْ ينأى بنفسه عن مجاراة هؤلء ،لذلك يتولّى ربه -
عز وجل -الدفاع عنه يقول له :ل تحزن فسوف نقتصّ لك ،ونسخر منهم ،ونجعلهم أضحوكة
حكُونَ * عَلَى الَرَآ ِئكِ
في يوم بَاقٍ ل ينتهي فيه عذابهم {:فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْلكُفّارِ َيضْ َ
يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[المطففين.]36-34 :
وكأن الحق -تبارك وتعالى -يسترضي عباده المؤمنين :أيعجبكم ما آلوا إليه؟ أقَدرْنا أن
نجازيهم على ما اقترفوه في حقكم؟ نعم يا رب ،فسخرية الكفار من أهل اليمان في دار الباطل
الفانية انقلبت سخرية منهم في دار الحق الباقية ،وهي سخرية دائمة ل نهاية لها.
غوَيْنَا[ { ...القصص ]63 :يعني :حتى نكون سواء ،ل يكون أحدنا أحسن
غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ
إذن } :أَ ْ
من الخر ،ومن هذا المنطلق أغوى إبليس آدمَ ،لنه لما طغى وطُرد من رحمة ال ،ومن
الصفائية التي كان ينعمَ بها مع الملئكة .أراد أنْ يأخذ آدم بل وذريته إلى هذا المصير ،فقد حَزّ
في نفسه أن يلقي هذا المصير وحده ،في حين ينعَم آدم وذريته برحمة ال ورضوانه.
لذلك نجد إبليس -لعنه ال -ل يكتفي بأن تُغوي ذريته ذريةَ آدم ،إنما يطلب من ال أنْ يُنظره
إلى يوم البعث ليباشر بنفسه هذه الغواية ،فهو (المعلم) الكبير ،وكأنه يحذر أن إمكانات ذريته في
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }
ل ْقعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ
الغواية قد ل ترضيه؛ لذلك يتولى بنفسه هذه المهمة فيقولَ {:
[العراف.]16 :
والبعض يفهم قوله تعالى {:قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ * قَالَ إِ ّنكَ مِنَ المُنظَرِينَ }[العراف:
]15-14أن ال تعالى أجاب إبليس إلى ما طلب ،لكن{ إِ ّنكَ مِنَ المُنظَرِينَ }[العراف ]15 :ليست
إجابةً ،إنما تقرير لشيء حادث بالفعل قبل أن يطلب ،فالمعنى أن سؤالك ليس له معنى؛ لنك من
المنظرين فعلً ،لماذا؟ قالوا :لن ال تعالى يريد أنْ يظلّ إبليس الذي أغوى آدم وأخرجه من
الجنة باقيا أمام ذريته ليُذكّرهم دائما :هذا الذي أغوى أباكم آدم.
غوَيْنَا[ { ...القصص ]63 :لنا وقفة مع }
غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ
غوَيْنَآ أَ ْ
وقولهم } :رَبّنَا هَـاؤُلءِ الّذِينَ أَ ْ
هَـاؤُلءِ { [القصص ]63 :وهي اسم إشارة للجمع بنوعيه ،تقول :هؤلء الرجال ،وهؤلء النساء،
وهي عبارة عن :الهاء للتنبيه ،وأولء اسم إشارة ،وكذلك في هذا ،هذه ،هذان ،هاتان ،فالهاء فيها
للتنبيه لتنبيه السامع أنك ستتكلم ليعطيك سمعه ،ويهتم بما تقول ،فل يفوته من كلمك شيء.
هذا حين تخاطب مثلك لنه يحتاج إلى تنبيه ،أما إذا خاطبت ربك -عز وجل -فمن سوء الدب
أنْ تستخدم في خطابه أداة التنبيه ،كما استخدمها المشركون ،فما داموا قد قالوا } رَبّنَا...
{ [القصص ]63 :فليس من الدب أن يقولوا } هَـاؤُلءِ[ { ...القصص ]63 :أيُنبّهون ال عز
وجل؟
لذلك نلحظ هذا الدب في خطاب نبي ال موسى -عليه السلم -فيما حكاه عنه القرآنَ {:ومَآ
أَعْجََلكَ عَن قَو ِمكَ يامُوسَىا * قَالَ هُمْ ُأوْلءِ عَلَىا أَثَرِي وَعَجِ ْلتُ إِلَ ْيكَ َربّ لِتَ ْرضَىا }[طه]84 :
جلّ.
فقال (أولء) بدون هاء التنبيه تأدّبا مع ربه عَزّ و َ
ونلحظ أنك ل تجد خطابا من الكفار إل باستخدام هؤلء {:رَبّنَا هَـاؤُلءِ َأضَلّونَا[} ...العراف:
{]38رَبّنَا هَـاؤُلءِ شُ َركَآؤُنَا }[النحل ]86 :أما المؤمن فل يليق به أبدا أن يُنبّه ال تعالى ،بل ول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تصدر من مؤمن لمؤمن لنه دائما منتبه.
ثم يقولون } :تَبَرّأْنَآ إِلَ ْيكَ مَا كَانُواْ إِيّانَا َيعْ ُبدُونَ { [القصص ]63 :الن ينكُصون كما قالوا من قبل }
رَبّنَا[ { ...القصص ]63 :يقولون الن } تَبَرّأْنَآ إِلَ ْيكَ[ { ..القصص ]63 :لكن هيهات تنفعهم هذه
البراءة ،لقد انتهى وقتها ،ومضى زمن التكليف والختيار ،والن وقت الحساب وسَلبْ الرادة
عصَ ْيتَ قَ ْبلُ َوكُنتَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ }
ن َوقَدْ َ
والختيار ،وما أشبههم بفرعون حين قال ال له {:آل َ
[يونس.]91 :
وقولهم } :مَا كَانُواْ إِيّانَا َيعْبُدُونَ { [القصص ]63 :يقول الشركاء :ما كان معنا قوة قهر نحملكم بها
على عبادتنا ،ول قوة سلطان أو حجة نقنعكم بها ،إنما كنتم في انتظار إشارة منا ،كما قال كبيرهم
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ
إبليسَ {:ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
سكُمْ[} ...إبراهيم.]22 :
أَنفُ َ
إذن :فهؤلء المشركون كانوا يعبدون أنفسهم وذواتهم؛ لن الشركاء كانوا أصناما أو غيرها،
وليس لهم منهج يتكلّمون به ،ويدْعُون الناس إلى عبادتهم به ،وإل فماذا قالت الصنام أو الشمس
أو النجوم لمن عبدها؟ ِبمَ أمرتهم ،وعمّ نهتْهم؟
إذن :هو إله بل منهج وبل تكليف ،وهذا ما يريده المشركون؛ لن الذي يُتعب الناس في قضية
اليمان باللوهية ما تقتضيه من تكاليف ،وما تفرضه من أمرأو نهي يحول بين النفس البشرية
وما تشتهي ،ويُوقفها عند حدود ل تتعداها.
إذن } :مَا كَانُواْ إِيّانَا َيعْبُدُونَ { [القصص ]63 :بل يعبدون ذواتهم ،ويعبدون شهواتهم ورغباتهم،
وما أسهل أن يعبد النسان آلهة ل تلزمه بشيء ،فيسير في حياته على هواه ،وهذه هي التي
جتْ لعبادة هذه اللهة.
رو َ
لذلك فإن الحق سبحانه يريد أنْ يلزم النسان حجة أن نفسه هي الوسيلة الولى لشهواته ،وإل فلو
أن المسألة كلها وسوسة شيطان ،فمَن أغوى إبليس بالعصيان أولً على حَدّ َقوْل الشاعر:إبليسُ لما
سهُ؟ إذن :فهي كبرياء النفس ورغباتها ،وليس للشيطان إل أنْ يُلوّح لها فتقع؛
سوَ َ
عَصى مَنْ كان و ْ
لذلك جاء في الحديث الشريف " :إذا أقبل رمضان فُتحت أبواب الجنة ،وغُلّقت أبواب النار،
وسُلْسلت الشياطين ".
وما دامت الشياطين سُلسلت ،فليس لها حركة مع النس؛ لن ال تعالى يعلم منّا أنّا نُعلّق كل
صفّدت وسُلْسِلت ،فمَنْ أغواكم
معاصينا على الشيطان ،فكأنه سبحانه يقول :ها هي الشياطين ُ
وزيّن لكم حال سَلْسلتها؟ إذن :هي نفسك التي تَوسوس لك؛ لذلك نقول :كل معصية تقع في
رمضان ليس للشيطان فيها نصيب ،إنما هي شهوة النفس.
وسبق أنْ بيّنا كيف نُفرّق بين المعصية متى تكون من الشيطان؟ ومتى تكون شهوة نفس؟ إنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كانت المعصية تُوقفك عندها ل تتزحزح عنها إلى غيرها ،فاعلم أنها من نفسك ،أما إنْ ع ّزتْ
عليك معصية ففكّ ْرتَ في غيرها ،فهي من الشيطان؛ لنه والعياذ بال يريدك عاصيا على أي
وجه ،وبأيّ طريقة فينقلك إلى معصية أخرى يستطيع أنْ يُوقِعك فيها ،على خلف شهوة النفس،
فهي تريد شيئا بذاته ل تريد غيره.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وقِيلَ ادْعُواْ شُ َركَآ َءكُمْ.{ ...
()3243 /
عوْهُمْ فََلمْ يَسْ َتجِيبُوا َلهُ ْم وَرََأوُا ا ْلعَذَابَ َلوْ أَ ّنهُمْ كَانُوا َيهْ َتدُونَ ()64
َوقِيلَ ادْعُوا شُ َركَا َءكُمْ َفدَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أو :أنهم لما رأوا العذاب حقيقة في الخرة تمنّوا لو أنهم كانوا مهتدين.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ.} ...
()3244 /
وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ مَاذَا أَجَبْ ُتمُ ا ْلمُرْسَلِينَ (َ )65ف َعمِ َيتْ عَلَ ْي ِهمُ الْأَنْبَاءُ َي ْومَئِذٍ َف ُهمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ ()66
قال هنا أيضا { يُنَادِيهِمْ[ } ...القصص ]65 :فما الغرض من كل هذه النداءات؟ إنها للتقريع
وللسخرية منهم ،وممّنْ عبدوهم واتبعوهم من دون ال ،ومضمون النداء { :مَاذَآ َأجَبْتُمُ ا ْلمُرْسَلِينَ }
[القصص ]65 :والجابة :موافقة المطلوب من الطالب ،فماذا كانت إجابتكم لهم بعد أن آمنتم بإله،
أأخذتُم بما جاءوا به من أحكام؟ أعلمتم منهم علما يقينيا حقا؟
وهذا الستفهام للتعجيز؛ لنهم إنْ حاولوا الجابة فلن يجدوا إجابة فيخزون ويخجلون؛ لذلك يقول
بعدها { َف َعمِ َيتْ عَلَ ْي ِه ُم الَنبَـآءُ[ } ...القصص ]66 :أي :خفِ َيتْ عليهم الحجج والعذار وعموا
عنها فلم يروْهَا { َفهُ ْم لَ يَتَسَآءَلُونَ } [القصص ]66 :ل يملكون إل السكوت كما قالوا :جواب ما
حمِيما }[المعارج.]10 :
حمِيمٌ َ
يكره السكوت ،وكما قال سبحانهَ {:ولَ يَسَْألُ َ
وهؤلء ل يتساءلون؛ لنهم في الجهل سواء ،وفي الضلل شركاء ،وكل منهم مشغول بنفسه{ َيوْمَ
َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }
[عبس.]37-34 :
وكما سُئِل المشركون { :مَاذَآ أَجَبْ ُتمُ ا ْلمُرْسَلِينَ } [القصص ]65 :في موضع آخر يسأل الرسل{:
سلَ فَ َيقُولُ مَاذَآ أُجِبْ ُتمْ[} ...المائدة ]109 :أي :فيما علمتم من العلم ،وأوله :علم
ج َمعُ اللّهُ الرّ ُ
َيوْمَ يَ ْ
اليقين العلى ،وثانيها :علم الحكام ،فبماذا أجابكم الناس؟
وتأمل هنا أدب الرسل ومدى فهمهم في مقام الجواب ل ،وهم يعلمون تماما بماذا أجاب أقوامهم،
وأن منهم مَنْ آمن بهم ،وتفانى في خدمة دعوتهم وضحّى واستشهد ،ومنهم مَنْ كفر وعاند ،ومع
ذلك يقولون {:قَالُواْ لَ عِ ْلمَ لَنَآ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة.]109 :
فكيف يقولون {:لَ عِ ْلمَ لَنَآ[} ..المائدة ]109 :وهم يعلمون؟ قالوا :لنهم غير واثقين أن مَنْ آمن
آمن عن عقيدة أم ل ،فهم يأخذون بظواهر الناس ،أما بواطنهم فل يعلمها إل ال ،كأنهم يقولون:
أنت يا ربنا تسأل عن إجابة الحق ل عن إجابة النفاق ،وإجابة الحق نحن ل نعرفها ،وأنت
سبحانك علّم الغيوب.
إذن :جعلوا الحق -تبارك وتعالى -هو السّلْطة التشريعية ،والسلطة القضائية ،والسلطة التنفيذية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في محكمة العدل اللهي التي سيُعلن فيها على رؤوس الشهاد{ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ[} ...غافر.]16 :
والسؤال عند العرب يُطلق ،إما للمعرفة حيث تسأل لتعرف ،كما يسأل التلميذ أستاذه ،أو يكون
السؤال للقرار بما تعرف ،كما يسأل الستاذ تلميذه ليقرّ على نفسه ،ومن ذلك قوله تعالى{:
س َولَ جَآنّ }[الرحمن ]39 :أي :سؤالَ علم؛ لننا نعلم.
فَ َي ْومَئِ ٍذ لّ ُيسَْألُ عَن ذَن ِبهِ إِن ٌ
ن كان كلمي
وقوله تعالىَ {:وقِفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ }[الصافات ]24 :أي :سؤال إقرار منهم ،وإ ْ
يوم القيامة حجة ،لنه ل مردّ له ،لكن مع ذلك نسألهم ليقروا هم ،وليشهدوا على أنفسهم.
والحق -تبارك وتعالى -يدلّك على أنه تعالى يُبشّع مظاهر يوم القيامة على الكافرين ،ل لنه
كاره لهم ،بل يريدهم أنْ يستحضروا هذه الصورة البشعة لعلّهم يرعوون ويتوبون؛ لذلك يفتح لهم
باب التوبة لنه رب ورحيم.
طعِم
لذلك جاء في الحديث القدسي " :قالت الرض :يا رب إئذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد َ
طعِم خيرك ومنع
خيرك ومنع شكرك .وقالت الجبال :يا رب إئذن لي أنْ أخِرّ على ابن آدم فقد َ
شكرك .فقال تعالى :دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم ،دعوهم فإنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم،
وأنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
أعالجهم بالترغيب مرة ،وبالترهيب أخرى ،أشوّقهم إلى الجنة ،وأخوّفهم من النار ،وأفتح باب
التوبة ،وفتْح باب التوبة ليس رحمة من ال للتائب فقط ،ولكن رحمة لكل مَنْ يشقى بعصيان غير
التائب.
ولو أغلق باب التوبة في وجه العاصي ليئس وتحول إلى (فاقد) يشقى به المجتمع طوال حياته،
إذن :ففتْح باب التوبة رحمة بالتائب ،ورحمة بمجتمعه ،بل وبالنسانية كلها ،رحمة بالعاصي
وبمَنِ اكتوى بنار المعصية.
()3245 /
ل صَالِحا} ...
عمِ َ
ن وَ َ
لماذا استخدم هنا (عسى) الدالة على الرجاء بعد أنْ قال { مَن تَابَ وَآمَ َ
[القصص ]67 :ولم يقل :يكون من المفلحين فيقطع لهم بالفلح؟
قالوا :لنه ربما تاب ،لكن عسى أن يستمر على توبته ليستديم الفلح أو نقول أن (عسى) من ال
تدل على التحقيق ،وسبق أنْ قُلْنا :إن الرجاءات على درجات :فالرجاء في المتكلم أقوى من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الرجاء في الغائب ،فإنْ كان الرجاء في ال فهو أقوى الرجاءات كلها.
عسَىا أَن يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ َمقَاما
لذلك يقول سبحانه في خطابه لنبيه محمد صلى ال عليه وسلمَ {:
حمُودا }[السراء ]79 :فأيّ رجاء أقوى من الرجاء في ال؟
مّ ْ
إذن( :عسى) رجاء حين تصدر ممن ل يملك إنفاذ المرجو ،وتحقيق حين تصدر ممّنْ يملك إنفاذ
المرجو ،وهو الحق سبحانه وتعالى.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَرَ ّبكَ َيخْلُقُ مَا َيشَآ ُء وَيَخْتَارُ.} ...
()3246 /
كنا ننتظر أنْ يُخبرنا السياق بما سيقع على المشركين من العذاب ،لكن تأتي الية { وَرَ ّبكَ َيخْلُقُ
مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ[ } ...القصص ]68 :وكأن الحق سبحانه يقول :أنا الذي أعرف أين المصلحة،
وأعرف كيف أُريحكم من شرّهم ،فدعوني أخلق ما أشاء ،وأختار ما أشاء ،فأنا الرب المتعهد
للمربي بالتربية التي تُوصله إلى المهمة منه.
والمربّي قسمان :إما مؤمن وإما كافر ،ول بُدّ أنْ يشقى المؤمن بفعل الكافر ،وأنْ يمتد هذا الشقاء
ن بقي الكافر على كفره؛ لذلك شَرعتُ له التوبة ،وقَبِ ْلتُ منه الرجوع ،وهذا أول ما يريح
إْ
المؤمنين.
ومعنى { :مَا كَانَ َل ُهمُ الْخِيَ َرةُ[ } ...القصص ]68 :يعني :ل خيارَ لكم ،فدعوني لختار لكم ،ثم
نفّذوا ما أختاره أنا.
خلُقُ مَا َيشَآ ُء وَيَخْتَارُ[ } ...القصص ]68 :قيلت للردّ على قولهمَ {:لوْلَ
أو :أن هذه الية { وَرَ ّبكَ يَ ْ
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف .]31 :يقصدون الوليد بن المغيرة أو
نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي
ح َمتَ رَ ّبكَ نَحْنُ َق َ
سمُونَ رَ ْ
عروة بن مسعود الثقفي ،فردّ ال عليهم {:أَ ُهمْ َيقْ ِ
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ[} ...الزخرف.]32 :
الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
فكيف يطمعون في أنْ يختاروا هم وسائل الرحمة ،ونحن الذين قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة
الدنيا ،فجعلنا هذا غنيا ،وهذا فقيرا ،وهذا قويا ،وهذا ضعيفا ،فمسائل الدنيا أنا متمكن منهم فيها،
فهل يريدون أنْ يتحكموا في مسائل الخرة وفي رحمة ال يوجّهونها حسب اختيارهم؟!!
{ مَا كَانَ َل ُهمُ الْخِيَ َرةُ[ } ..القصص ]68 :أي :الختيار في مثل هذه المسائل.
ويجوز { مَا كَانَ َل ُهمُ الْخِيَ َرةُ[ } ...القصص ]68 :أي :المؤمنون ما كان لهم أنْ يعترضوا على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قبول توبة ال على المشركين الذين آذوهم ،يقولون :لماذا تقبل منهم التوبة وقد فعلوا بنا كذا وكذا،
وقد كنا نود أن نراهم يتقلبون في العذاب؟
والحق تبارك وتعالى يختار ما يشاء ،ويفعل ما يريد ،وحين يقبل التوبة من المشرك ل يرحمه
وحده ،ولكن يرحمكم أنتم أيضا حين يُريحكم من شرّه.
عمّا ُيشْ ِركُونَ } [القصص ]68 :أي :تعالى ال وتنزّه عما يريدون
وقوله { :سُ ْبحَانَ اللّ ِه وَ َتعَالَىا َ
من أنْ يُنزِلوا الحق سبحانه على مرادات أصحاب الهواء من البشر ،ولو أن الحق سبحانه نزل
على مرادات أصحاب الهواء من البشر -وأهواؤهم مختلفة -لفسدتْ حياتهم جميعا.
أل ترى أن البشر مختلفون جميعا في الرغبات والهواء ،بل وفي مسائل الحياة كلها ،فترى
ن واحدة ،وفي مركز اجتماعي واحد ،فإذا توجّهوا لشراء سلعة مثلً اختار كل
الجماعة منهم في س ّ
منهم نوعا ولونا مختلفا عن الخر.
()3247 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خفَىا }[العلى.]7-6 :
َومَا َي ْ
ل وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ }[النبياء ]110 :فقدّم العلم بالجهر على
جهْرَ مِنَ ا ْلقَ ْو ِ
وقال سبحانه {:إِنّهُ َيعَْلمُ ا ْل َ
العلم بالسرّ ،ول يقدم الجهر إل إذا كان له ملحظية خفاء عن السر ،وهذه الملحظية غفل عنها
السطحيون ،فأخطأوا في فهم الية.
فأنت مثلً لو أسررتَ في نفسك شيئا ،فربما ظهر في سقطات لسانك أو على ملمح وجهك،
وربما خانك التعبير فدلّ على ما أسررتْه ،ألم يقل الحق سبحانه وتعالى {:وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ فِي لَحْنِ
ا ْل َقوْلِ[} ...محمد.]30 :
إذن :هناك قرائن وعلمات نعرف بها السر ،أما الجهر وهو من الجماعة ليس جهرا واحدا؛ لنه
ل وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ }[النبياء ]110 :فالمعنى :ويعلم ما
جهْرَ مِنَ ا ْل َقوْ ِ
مقابل بالجمع {:إِنّهُ َيعْلَمُ ا ْل َ
تجهرون وما تكتمون.
ولك أن تتابع مظاهرة لجمع غفير من الناس ،يهتف كل منهم هتافا ،أتستطيع أن تميز بين هذه
الهتافات ،وأنْ تُرجع كلً منها إلى صاحبها؟ هذا هو اللغز في الجهر والملحظ الذي فاتهم تدبّره،
لذلك امتن ال علينا بعلمه للجهر من القول الذي ل نعلمه نحن مهما أوتينا من آلت فَرْز
الصوات وتمييزها.
لذلك يقولون :ل تستطيع أنْ تُحدّد جريمة في جمهور من الناس؛ لن الصوات والفعال مختلطة،
يستتر كلّ منها في الخر كما يقولون :الفرد بالجمع ُي ْعصَم.
ويقولون :الجماهير ببغائية ،كما قال شوقي في مصرع كليوباترا ،لما انهزموا في يوم (أكتيوما)
وأشاعوا أنهم انتصروا ،لكن هذه الحيلة ل تنطلي على العقلء من القوم ،فيقول أحدهم للخر عن
غوغائية الجماهير:
ش ْعبَ دُيُونُ كَ ْيفَ يُوحُون إل ْي ِهمَل الجوّ هتافا بِحيَاتيْ قَاتل ْيهِأثّر البهتانُ فيه وَانْطلى الزّور
اسْمع ال ّ
عليْهيَا لَهُ مِنْ ببغاء عقلُه في أُذُنَيْهإذنَ :فعِلْم الجهر هنا مَيْزة تستحق أنْ يمتنّ ال بها ،كما يمتنّ
سبحانه بعلم السر.
وقال سبحانه } وَرَ ّبكَ َيعْلَمُ[ { ...القصص ]69 :ليُطمئن رسول ال؛ لنه سبحانه ربه ،والمتولي
ن كنتَ ل تعرف
لتربيته والعناية به ،يقول له :ل تحزن مما يقولون ،فأنا أعلم سِرّهم وجهرهم ،فإ ْ
ما يقولون فأنا أعرفه ،وسوف أخبرك به ،ألم يقل سبحانه لنبيه صلى ال عليه وسلم {:وَ َيقُولُونَ فِي
سهِمْ َل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ[} ...المجادلة.]8 :
أَنفُ ِ
فأخبره ربه بما يدور حتى في النفوس ،كأنه سبحانه يقول لرسوله :إياك أن تظن أنني سأؤاخذهم
بما عرفتَ من أفعالهم فحسب ،بل بما ل تعلم مما فعلوه ،ليطمئن رسول ال أنه سبحانه يُحصي
عليهم كل شيء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول الحق سبحانه } :وَ ُهوَ اللّهُ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ.{ ...
()3248 /
جعُونَ ()70
حكْ ُم وَإِلَيْهِ تُرْ َ
حمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِ َر ِة وَلَهُ ا ْل ُ
وَ ُهوَ اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ لَهُ ا ْل َ
ال :هو المعبود بحقّ ،وله صفات الكمال كلها ،وهو سبحانه { ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ[ } ...القصص:
]70وما دام هو وحده سبحانه ،فل أحد يفتن عليه ،أو يستدرك عليه بشيء ،وسبق أن قال لهم:
هاتوا شركاءكم لنفصل في مسألة العبادة علنية و (نفاصل) من صاحب هذه السلعة :أي يوم
القيامة.
ومعنى { :الُولَىا[ } ...القصص ]70 :أي :الخَلْق الذي خلقه ال ،والكون الذي أعدّه لستقبال
خليفته في الرض :الشمس والقمر والنجوم والشجر والجبال والماء والهواء والرض ،فقبل أنْ
يأتي النسان أعدّ ال الكونَ لستقباله.
لذلك حينما يتكلم الحق سبحانه عن آدم ل يقول :إنه أول الخَلْق ،إنما أول بني آدم ،فقد سبقه في
الخلق عوالم كثيرة؛ لذلك يقول تعالىَ {:هلْ أَتَىا عَلَى الِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ لَمْ َيكُن شَيْئا مّ ْذكُورا
}[النسان ]1 :أي :لم يكن له وجود.
وإعداد الكون لستقبال النسان جميل يستوجب الحمد والثناء ،فقد خلق ال لك الكون كله ،ثم
جعلك تنتفع به مع عدم قدرتك عليه أو وصولك إليه ،فالشمس تخدمك ،وأنت ل تقدر عليها ول
تملكها ،وهي تعمل لك دون صيانة منك ،ودون أن تحتاج قطعة غيار ،وكذلك الكون كله يسير في
خدمتك وقضاء مصالحك ،وهذا كله يستحق الحمد.
وبعد أنْ خلقك ال في كون أُعِدّ لخدمتك تركك ترتع فيه ،ذرة في ظهر أبيك ،ونطفة في بطن أمك
إلى أنْ تخرج للوجود ،فيضمك حضنها ،ول يكلفك إل حين تبلغ مبلغ الرجال وسِنّ الرشد،
ومنحك العقل والنضج لتصبح قادرا على إنجاب مثلك ،وهذه علمة النضج النهائي في تكوينك
كالثمرة ل تخرج مثلها إل بعد ُنضْجها واستوائها.
لذلك نجد في حكمة ال تعالى ألّ يعطي الثمرة حلوتها إل بعد ُنضْج بذرتها ،بحيث حين تزرعها
بعد أكْلها تنبت مثلها ،ولو أُكلت قبل ُنضْجها لما أنبتت بذرتها ،ول نُقرض هذا النوع؛ لذلك ترى
الثمرة الناضجة إذا لم تقطفها سقطت لك على الرض لتقول لك :أنا جاهزة.
لذلك نلحظ عندنا في الريف شجرة التوت أو شجرة المشمس مثلً يسقط الثمر الناضج على
الرض ،ثم ينبت نباتا جديدا ،يحفظ النوع ،ولو سقطت الثمار غير ناضجة لما أنبتت.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك النسان ل ينجب مثله إل بعد ُنضْجه ،وعندها يُكلّفه ال ويسأله ويحاسبه .إذن :على
النسان أنْ يسترجع فضل ال عليه حتى قبل أنْ يستدعيه إلى الوجود ،وأنْ يثق أن الذي يُكلّفه
الن ويأمره وينهاه هو ربّه وخالقه ومُربّيه ،ولن يكلّفه إل بما يُصلحه ،فعليه أنْ يسمع ،وأنْ يطيع.
وقوله تعالى { :وَالخِ َرةِ[ } ...القصص ]70 :يعني :له الحمد في القيامة ،كما قال سبحانه {:وَآخِرُ
حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[يونس ]10 :فيحمد ال في الخرة؛ لنه كان يمتعني في الدنيا
عوَا ُهمْ أَنِ ا ْل َ
دَ ْ
إلى أمد ،ويمتعني في الدنيا على َقدْر إمكاناتي ،أما في الخرة فيعطيني بل أمد ،وعلى َقدْر
ن نقول :الحمد ل ،وهكذا اجتمع ل تعالى
إمكاناته هو سبحانه ،فحين نرى هذا النعيم ل نملك إل أ ْ
الحمد في الولى ،والحمد في الخرة.
()3249 /
ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمُ اللّ ْيلَ سَ ْر َمدًا إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبضِيَاءٍ َأفَلَا
ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ َ
ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ سَ ْرمَدًا إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ
س َمعُونَ (ُ )71قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ َ
تَ ْ
سكُنُونَ فِيهِ َأفَلَا تُ ْبصِرُونَ ()72
بِلَ ْيلٍ تَ ْ
يُعدّد الحق -تبارك وتعالى -نعمه على عبيده في شيئين يتعلقان بحركة الحياة وسكونها،
فالحركة تأتي بالخير للناس ،والسكون يأتي بالراحة للمتعَب من الحركة ،والنسان بطبيعته ل
يستطيع أن يعطي ويتعب إل بعد راحة ،والذي يتحدّى هذه الطبيعة فيسهر الليل ويعمل بالنهار ل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بُدّ أنْ ينقطع ،وأن تُنهَك قواه فل يستمر.
سعْ َيكُمْ
لذلك يقول تعالى {:وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ إِذَا تَجَلّىا * َومَا خَلَقَ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا * إِنّ َ
لَشَتّىا }[الليل.]4-1 :
فكلّ من الليل والنهار له مهمة ،وكذلك الرجل والمرأة ،فإياكم أنْ تخلطوا هذه المهام ،وإل فسدت
الحياة وأتعبتكم الحداث ،فقبل الكهرباء ودخول (التليفزيون والفيديو) المنازل كان يومنا يبدأ في
نشاط مع صلة الفجر ،لننا كنا ننام بعد صلة العشاء ،أما الن فالحال كما ترى ،كنا نستقبل
يومنا بحركة سليمة نشطة؛ لننا نستقبل الليل بسكون سليم وهدوء تام.
والحق سبحانه في معرض تعداد نعمه علينا يقول { أَرَأَيْ ُتمْ[ } ...القصص ]71 :يعني :أخبروني
ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمُ الْلّ ْيلَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ[ } ...القصص ]71 :يعني :طوال
ماذا تفعلون { إِن َ
حياتكم { مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبضِيَآءٍ[ } ...القصص ]71 :والسرمد :الدائم المستمر.
وقال { ِبضِيَآءٍ[ } ...القصص ]71 :ولم يقل بنور؛ لن النور قد يأتي من النجوم ،وقد يأتي من
القمر ،أمّا الضياء وهو نور وأشعة وحرارة ،فل يأتي إل من الشمس.
س ضِيَآ ًء وَا ْلقَمَرَ نُورا[} ...يونس.]5 :
شمْ َ
ج َعلَ ال ّ
لذلك يقول سبحانهُ {:هوَ الّذِي َ
وقال { :مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبضِيَآءٍ[ } ...القصص ]71 :ولم ي ُقلْ :مَنْ يأتيكم بضياء ليلفت
نظرنا إلى أن هذه المسألة ل يقدر عليها إل إله ،ول إله إل ال ،وفي الضياء تبصرون الشياء،
وتسيرون على هُدىً ،فتؤدون حركات حياتكم دون اصطدام أو اضطراب ،وبالضياء أعايش
الشياء في سلمة لي ولها ،وإلّ لو سرْنا في الظلم لتحطمنا أو حطّمنا ما حولنا؛ لنك حين تسير
في الظلم إمّا أنْ تحطم ما هو أقل منك ،أو يحطمك ما هو أقوى منك.
وكما يكون الضياء في الماديات يكون كذلك له دور في المعنويات ،وضياء المعنويات القيم التي
ن هو أضعف منك ،أو أنْ يُحطمك الوقى منك؛
تحكم حركة الحياة وتعدلها ،وتحميك أنْ تُحطّم مَ ْ
جكُمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى
لذلك كان منطقيا أن يقول تعالىُ {:هوَ الّذِي ُيصَلّي عَلَ ْيكُ ْم َومَلَ ِئكَتُهُ لِ ُيخْرِ َ
النّورِ[} ....الحزاب.]43 :
والمراد :من ظلمات المعاني إلى نور القيم ،ل ظلمات المادة لنني ل أستغني عنه لراحتي ،فله
مهمة عندي ل تقلّ عن مهمة النور لذلك يقول تعالى في وصفه لنوره عز وجل{ نّورٌ عَلَىا
نُورٍ[} ...النور.]35 :
نور مادي تُبصرون به الشياء من حولكم ،فل تتخبطون بها ،فتسلَم حركتكم ،وهذا النور المادي
يشترك فيه المؤمن والكافر ،وينتفع به المطيع والعاصي ،فلم يضِنّ به على أحد من خَلْقه ،أما
النور المعنوي نور الهداية ونور اليقين والقيم ،فهذا يرسله ال على ي َديْ رسُله ،فإذا أخذ المؤمن
النورين انتفع بهما في الدنيا ،وامتد نفعه بهما إلى يوم القيامة؛ لذلك قال بعدها:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لمْثَالَ لِلنّاسِ[} ...النور.]35 :
{ َي ْهدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن يَشَآ ُء وَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
س َمعُونَ[ { ...القصص:
ولن الية الكريمة بدأت ب ُقلْ ،فمن المناسب أنْ تختم بقوله تعالىَ } :أفَلَ تَ ْ
]71يعني :اسمعوا ما أقول لكم وتدبروه.
ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ الْلّ ْيلَ
ثم يمتنّ ال تعالى بالية المقابلة لليل ،وهي آية النهارُ } :قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِن َ
سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ[ { ...القصص ]72 :يعني :دائم ل نهاية له } مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ
سكُنُونَ فِيهِ أَفلَ تُ ْبصِرُونَ { [القصص.]72 :
بِلَ ْيلٍ تَ ْ
تلحظ أن هاتين اليتين على َنسَق واحد ،لكن تذييلهما مختلف ،مما يدلّ على بلغة وإعجاز
س َمعُونَ { [القصص ]71 :وفي آية النهار
ل معنىً ما يناسبه ،ففي آية الليل قال } َأفَلَ َت ْ
القرآن ،فلك ّ
قال } :أَفلَ تُ ْبصِرُونَ { [القصص ]72 :ذلك لن العين ل عملَ لها في الليل إنما للذن ،فأنت
تسمع دون أنْ ترى ،وبالذن يتمّ الستدعاء.
أما في النهار وفي وجود الضوء ،فالعمل للعين حيث تبصر ،فهو إذن ختام حكيم لليات يضع
المعنى فيما يناسبه.
ج َعلَ َلكُمُ.{ ...
حمَتِهِ َ
ثم يُجمل ال تعالى هاتين اليتين في قوله سبحانهَ } :ومِن رّ ْ
()3250 /
شكُرُونَ ()73
سكُنُوا فِي ِه وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ َت ْ
ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ
ج َعلَ َل ُكمُ اللّ ْي َ
حمَتِهِ َ
َومِنْ َر ْ
ن فصّل ال تعالى القولَ في الليل والنهار كلّ على حدة جمعهما؛ لنهما معا مظهر من
بعد أ ْ
مظاهر رحمة ال ،وفي الية ملمح بلغي يسمونه " اللف والنشر " ،فبعد أن جمع ال تعالى الليل
سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضِْلهِ[ } ..القصص ]73 :ثقة منه تعالى
والنهار أخبر عنهما بقوله { :لِ َت ْ
سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن
ل منهما إلى ما يناسبه ،فالليل يقابل { لِ َت ْ
بفطْنة السامع ،وأنه سيردّ ك ً
َفضْلِهِ[ } ...القصص ،]73 :والنهار يقابل { وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ[ } ...القصص.]73 :
جمْع المحكوم عليه معا في جانب والحكم في جانب آخر ،والنشرْ :ر ّد كلّ حكم إلى
فاللفّ أيَ :
صاحبه.
ض وبَاكٍ شَاكِرٌ وغَفُورفجمعتْ
جفْني واللسَانُ وخَالِقي رَا ٍ
وضربنا لذلك مثلً بقول التيمورية:قَلْبي و َ
المحكوم عليه في الشطر الول والحكم في الشطر الثاني ،وعليك أنْ تعيد كلّ حكم إلى صاحبه.
والليل والنهار آيتان متكاملتان ،وبهما تنتظم حركة الحياة؛ لنك إنْ لم ترتح ل تقوى على العمل؛
ختْ وأُجه َدتْ ،وهذا
لن لك طاقة ،وفي جسمك مُولّدات للطاقة ،فساعةَ تتعب تجد أن أعضاءك ترا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إنذار لك ،تُنبّهك جوارحك لم َتعُدْ صالحا للحركة ،ول بُدّ لك من الراحة لتستعيد نشاطك من جديد.
والراحة تكون بقدر التعب ،فربما ترتاح حين تقف مثلً في حالة السير ،فإنْ لم يُ ِرحْك الوقوف
تجلس أو تضطجع ،فإنْ زاد التعب غلبك النوم ،وهو الرّدْع الذاتي الذي يكبح جماح صاحبه إنْ
تمرد على الطبيعة التي خلقها ال فيه.
ومن عجب أن البعض يخرج عن هذه الطبيعة ،فيأخذ مُنشّطات حتى ل يغلبه النوم ،ويأخذ
مُهدّئات لينام ،ولو أسلم نفسه لطبيعتها ،فنام حينما يحضره النوم ،وعمل حينما يجد في نفسه
نشاطا للعمل لراحَ نفسه من كثير من المتاعب.
لذلك يقولون :النوم ضيف إنْ طلبك أراحك ،وإنْ طلبته أعْنتك ،وحتى الن ،ومع تقدّم العلوم لم
يصلوا إلى سرّ النوم ،وكيف يأخذ النسان في هدوء ولُطْف دون أنْ يشعر ماهيتهَ ،وأتحدى أن
يعرف أحد منا كيف ينام.
لذلك جعل ال النوم آية من آياته تعالى ،مثل الليل والنهار والشمس والقمر ،فقال سبحانهَ {:ومِنْ
ل وَال ّنهَارِ[} ...الروم.]23 :
آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالْلّ ْي ِ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ.} ...
()3251 /
عمُونَ ()74
وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْ ُتمْ تَزْ ُ
تقدمت المناداة قبل ذلك مرتين ومع ذلك ل يوجد تكرار لهذا المعنى؛ لن كلّ نداء منها له
مقصوده الخاص ،فالنداء في الولى خاص بمَنْ أشركوهم مع ال وما قالوه أمام ال تعالى {:رَبّنَا
غوَيْنَا[} ...القصص.]63 :
غوَيْنَا ُهمْ َكمَا َ
غوَيْنَآ أَ ْ
هَـاؤُلءِ الّذِينَ أَ ْ
أما الثانية ،فالنداء فيها للمشركين{ مَاذَآ أَجَبْ ُتمُ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص.]65 :
أما هنا ،فيهتم النداء بمسألة الشهادة عليهم .إذن :فكلمة (أين) و (شركائي) و (الذين كنتم تزعمون)
قَدْر مشترك بين اليات الثلثة ،لكن المطلوب في كل قَدْر غير المطلوب في القَدْر الخر ،فليس
في المر تكرار ،إنما توكيد في الكل.
شهِيدا َفقُلْنَا.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :وَنَزَعْنَا مِن ُكلّ ُأمّةٍ َ
()3252 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حقّ لِلّ ِه َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ (
شهِيدًا َفقُلْنَا هَاتُوا بُ ْرهَا َنكُمْ َفعَِلمُوا أَنّ الْ َ
وَنَزَعْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َ
)75
أي :أخرجنا من كل أمة نبيّها ،وأحضرناه ليكون شاهدا عليها { َفقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَا َنكُمْ[ } ..القصص:
]75أرونا شركاءكم الذين اتخذتموهم من دون ال ،أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات ،فقد
اتخذتموهم من دون ال ،أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات ،فقد ضلّوا عنهم ،وهربوا منهم.
{ َف َعمِ َيتْ عَلَ ْيهِ ُم الَنبَـآءُ َي ْومَئِذٍ َفهُمْ لَ يَ َتسَآءَلُونَ }[القصص.]66 :
شهِيدا} ...
إذن :غاب شركاؤكم ،وغاب شهودكم ،لكن شهودنا موجودون { وَنَزَعْنَا مِن ُكلّ ُأمّةٍ َ
[القصص ]75 :يشهد أنه بلّغهم منهج ال فإنْ قُلْتم :لقد أغوانا الشيطان وأغوانا المضلون من
النس ،نردّ عليكم بأننا ما تركناكم لغوائهم ،فيكون لكم عذر ،إنما أرسلنا إليكم رسلً لهدايتكم،
وقد بلّغكم الرسل.
شهِيدٍ وَجِئْنَا ِبكَ عَلَىا هَـاؤُلءِ
وفي موضع آخر يقول تعالىَ {:فكَ ْيفَ ِإذَا جِئْنَا مِن ُكلّ ُأمّةٍ بِ َ
شهِيدا }[النساء.]41 :
َ
ت في البلغ ،وأنك اضطهدت منهم،
فماذا يكون موقفهم يوم تشهد أنت عليهم بأنك بلّغت ،وأعذر َ
وأوذيت ،وقد ضلّ عنهم شركاؤهم ،ولم يجدوا مَنْ يشهد لهم أو يدافع عنهم؟ عندها تسقط أعذارهم
وتكون المحكمة قد (تنوّرت).
ثم يقول تعالىَ { :فقُلْنَا هَاتُواْ بُ ْرهَا َنكُمْ[ } ...القصص ]75 :أي :قولوا :إن رسلنا لم يُبلّغوكم
منهجنا ،وهاتوا حجة تدفع عنكم ،فلما تحيّروا وأُسقط في أيديهم حيث غاب شهداهم وحضر
الشهداء عليهم { َفعَِلمُواْ أَنّ ا ْلحَقّ لِلّهِ[ } ...القصص.]75 :
جدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َبهُ[} ...النور.]39 :
وفوجئوا كما قال تعالى عنهمَ {:ووَ َ
عمِلُواْ حَاضِرا[} ...الكهف.]49 :
جدُواْ مَا َ
وقالَ {:ووَ َ
فوجئوا بما لم يُصدّقوا به ولم يؤمنوا به ،لكن ما وجه هذه المفاجأة ،وقد أخبرناهم بها في الدنيا
وأعطيناهم مناعة كان من الواجب أنْ يأخذوا بها ،وأنْ يستعدوا لهذا الموقف ،فالعاقل حين تُحذره
من وعورة الطريق الذي سيسلكه وما فيه من مخاطر وأهوال حين يحتاط لنفسه أنْ يكون ناصحه
ث الجسَادُ قُ ْلتُ إليكُماإن صَحّ
ح ّد قول الشاعر:زَعَم المنجّ ُم والطبيبُ كلهٌما ل تُب َع ُ
كاذبا ،على َ
ستُ بخاسِ ِر أ ْو صَحّ َقوْلي فالخسَار عليكُماوما عليك إنْ حملتَ بندقية في هذا الطريق
قول ُكمَا فل ْ
المخوف ،ثم لم تجد شيئا يخيفك؟ إذن :أنتم إنْ لم تخسروا فلن تكسبوا شيئا ،ونحن إنْ لم نكسب لن
نخسر.
ضلّ عَ ْن ُهمْ[ } ...القصص ]75 :أي :غاب { مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [القصص ]75 :من
وقولهَ { :و َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ادّعاه الشركاء.
بعد أن أعطانا الحق -تبارك وتعالى -لقطة من لقطات يوم القيامة ،والقيامة ل تخيف إل مَنْ
يؤمن بها ،أما مَنْ ل يؤمن بالخرة والقيامة فل بُدّ له من رادع آخر؛ لن الحق سبحانه يريد أنْ
يحمي صلح الكون وحركة الحياة.
ولو اقتصر الجزاء على القيامة لعربد غير المؤمنين واستشرى فسادهم ،ولَشقي الناس بهم ،وال
تعالى يريد أنْ يحمي حركة الحياة من المفسدين من غير المؤمنين بالخرة ،فيجعل لهم عذابا في
الدنيا قبل عذاب الخرة.
يقول تعالى {:وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ عَذَابا دُونَ ذَِلكَ[} ...الطور ]47 :يعني :قبل عذاب الخرة.
فالذي يقع للكفار في الدنيا َردْع لكل ظالم يحاول أنْ يعتدي ،وأنْ يقف في وجه الحق؛ لذلك يعطينا
ربنا -عز وجل -صورة لهذا العذاب الدنيوي للمفسدين في الرض ،فيقول سبحانه { :إِنّ
قَارُونَ كَانَ مِن َقوْمِ مُوسَىا فَ َبغَىا عَلَ ْي ِهمْ.} ...
()3253 /
إِنّ قَارُونَ كَانَ مِنْ َقوْمِ مُوسَى فَ َبغَى عَلَ ْيهِ ْم َوآَتَيْنَاهُ مِنَ ا ْلكُنُوزِ مَا إِنّ َمفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِا ْل ُعصْبَةِ أُولِي
حبّ ا ْلفَرِحِينَ ()76
ا ْل ُقوّةِ ِإذْ قَالَ لَهُ َق ْومُهُ لَا َتفْرَحْ إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ
فلم يتكلم عن قارون وجزائه في الخرة ،إنما يجعله مثَلً وعِبرة واضحة في الدنيا لكل مَنْ لم
يؤمن بيوم القيامة لعلّه يرتدع.
والنبي صلى ال عليه وسلم اضطهده كفار قريش ،ووقفوا في وجه دعوته ،وآذوْا صحابته ،حتى
أصبحوا غير قادرين على حماية أنفسهم ،ومع ذلك ينزل القرآن على رسول ال يقول {:سَ ُيهْ َزمُ
جمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر.]45 :
الْ َ
فيتعجب عمر رضي ال عنه :أيّ جمع هذا؟ فنحن غير قادرين على حماية أنفسنا ،فلما وقعتْ بدر
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر.]45 :
وانهزم الكفار وقُتِلوا .قال عمر :نعم صدق ال{ سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
لذلك يقولون :ل يموت ظالم في الدنيا حتى ينتقم ال منه ،ولم يَرَ الناس فيه ما يدل على انتقام ال
منه تعجّبوا وقال أحدهم :ل ُبدّ أن ال انتقم منه دون أن نشعر ،فإنْ أفلتَ من عذاب الدنيا ،فوراء
هذه الدار أخرى يعاقب فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ،وعَدْل ال -عز وجل -يقتضي
هذه المحاسبة.
ن ل يؤمن بالخرة ليخاف من عذاب ال،
والحق -تبارك وتعالى -يجعل من قارون عبر ًة لكل مَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويحذر عقابه ،والعبرة هنا بمَنْ؟ بقارون رأس من رؤوس القوم ،وأغنى أغنيائهم ،والفتوة فيهم،
فحين يأخذه ال يكون في أَخَذه عبرة لمن دونه.
وحدّثونا أن صديقا لنا كان يعمل بجمرك السكندرية ،فتجمّع عليه بعض زملئه من الفتوات الذين
يريدون فَ ْرضَ سيطرتهم على الخرين ،فما كان منه إل أنْ أخذ كبيرهم ،فألقاه في الرض،
وعندها تفرّق الخرون وانصرفوا عنه.
ومن هذا المنطلق أخذ ال تعالى قارون ،وهو الفتوة ،ورمز الغِنى والجاه بين قومه ،فقال تعالى{ :
إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن َقوْمِ مُوسَىا[ } ...القصص ]76 :إذن :حينما نتأمل حياة موسى عليه السلم
نجده قد مُنِي بصناديد الكفر ،فقد واجه فرعون الذي ادّعى اللوهية ،وواجه هامان ،ثم موسى
السامري الذي خانه في قومه في غيبته ،فدعاهم إلى عبادة العجل.
ومُني من قومه بقارون ،ومعنى :من قومه ،إما لنه كان من رحمه من بني إسرائيل ،أو من قومه
يعني :الذين يعيشون معه .والقرآن لم يتعرض لهذه المسألة بأكثر من هذا ،لكن المفسرين يقولون:
إنه ابن عمه .فهو :قارون بن يصهر بن قاهث بن لوي ابن يعقوب وموسى هو ابن عمران بن
قاهث بن لوي بن يعقوب.
وللمؤرخين كلم في العداوة بين موسى وقارون ،قالوا :حينما سأل موسى عليه السلم ربه أنْ
سؤَْلكَ يامُوسَىا }[طه ]36 :وليست هذه
يشدّ عضده بأخيه هارون ،أجابه سبحانه{ قَالَ َقدْ أُوتِيتَ ُ
أول مرة بل{ وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً ُأخْرَىا }[طه ]37 :وأرسل ال معه أخاه هارون؛ لنه أفصح
من موسى لسانا ،وجعلهما شريكين في الرسالة ،وخاطبهما معا{ اذْهَبَآ[} ...طه ]43 :ليؤكد أنّ
الرسالة ليست من باطن موسى.
وإنْ رأيت الخطاب في القرآن لموسى بمفرده ،فاعلم أن هارون مُلحَظ فيه ،ومن ذلك لما دعا
لهُ زِي َن ًة وََأ ْموَالً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا
ن َومَ َ
عوْ َ
موسى على قوم فرعون ،فقال {:رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ
شدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَابَ
طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَا ْ
لِ ُيضِلّواْ عَن سَبِيِلكَ رَبّنَا ا ْ
الَلِيمَ }[يونس.]88 :
عوَ ُت ُكمَا[} ...يونس ]89 :وهذا دليل
فالذي دعا موسى ،ومع ذلك لما أجابه ربه قالَ {:قدْ أُجِي َبتْ دّ ْ
على أن هارون لم يكن رسولً من باطن موسى ،إنما من الحق سبحانه ،وأيضا دليل على أن
المؤمّن على الدعاء كالداعي ،فكان موسى يدعو وهارون يقول :آمين.
ولما ذهب موسى لميقات ربه قال لخيه{ اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي[} ...العراف ]142 :وفي غيبة
موسى حدثتْ مسألة العجل ،وغضب موسى من أخيه هارون ،فلما هدأتْ بينهما المور حدث
تخصيص في رسالة كل منهما ،فأعطى هارون (الحبورة) والحَبْر :هو العالم الذي ُيعَد مرجعا،
كما أُعطِي (القربان) أي :التقرب إلى ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صفْر اليدين ،وامتاز عنه أولد عمومته
وعندها غضب قارون؛ لنه خرج من هذه المسألة َ
بالرسالة والمنزلة ،رغم ما كان عنده من أموال كثيرة.
ثم إن موسى -عليه السلم -طلب من قارون زكاة ماله ،دينار في كل ألف دينار ،ودرهم في
كل ألف درهم ،فرفض قارون وامتنع ،بل وأّلبَ الناس ضد موسى -عليه السلم.
طسْتا بالذهب ،على أن
ثم دبّر له فضيحة؛ ليصرف الناس عنه ،حيث أغرى امرأة بغيا فأعطاها ِ
تدّعي على موسى وتتهمه ،فجاء موسى عليه السلم ليخطب في الناس ،ويُبيّن لهم الحكام فقال:
مَنْ يسرق نقطع يده ،ومَنْ يزني نجلده إن كان غير محصن ،ونرجمه إنْ كان محصنا ،فقام له
ن كنتُ أنا.
قارون وقال :فإن كنتَ أنت يا موسى؟ فقال :وإ ْ
وهنا قامت المرأة البغيّ وقالت :هو راودني عن نفسي ،فقال لها :والذي فلق البحر لَتقُولِنّ الصدق
فارتعدتْ المرأة ،واعترفت بما دبّره قارون ،فانفضح أمره وبدأت العداوة بينه وبين موسى عليه
السلم.
وبدأ قارون في ال َبغْي والطغيان حتى أخذه ال ،وقال في حقه هذه اليات } :إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن
علَ ْيهِمْ[ { ...القصص.]76 :
َقوْمِ مُوسَىا فَ َبغَىا َ
والبغي :تجاوز الحدّ في الظلم ،خاصة وقد كان عنده من المال ما يُعينه على الظلم ،وما يُسخّر به
الناس لخدمة أهدافه ،وكأنه يمثل مركز قوة بين قومه ،والبغي إما بالستيلء على حقوق الغير ،أو
باحتقارهم وازدرائهم ،وإما بالبطر.
ثم يذكر حيثية هذا البغي } :وَآتَيْنَاهُ مِنَ ا ْلكُنُوزِ مَآ إِنّ َمفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِا ْل ُعصْبَةِ ُأوْلِي ا ْلقُ ّوةِ..
{ [القصص.]76 :
كلمة (مفاتح) كما في قوله تعالى {:وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ[} ...النعام.]59 :
ولو قلنا :مفاتح جمع ،فما مفردها؟ ل ت ُقلْ مفتاح؛ لن مفتاح جمعها مفاتيح ،أما مفاتح ،فمفردها
(مَفْتح) وهي آلة الفتح كالمفتاح ،وهي على وزن (مبرد) فالمعنى :أن مفاتيح خزائنه لو حملتْها
حمْل ،أو ناء بالحمل ،إذا ثقُل عليه،
عصبة تنوء بها ،وهذه كناية عن كثرة أمواله ،نقول :ناء به ال ِ
ونحن ل نميز الخفيف من الثقيل بالعين أو اللمس أو الشم إنما ل ُبدّ من حملة للحساس بوزنه.
وقلنا :إن هذه الحاسة هي حاسة ال َعضَل ،فالحملْ الثقيل يُجهد العضلة ،فتشعر بالثقل ،على خلف
على حملتَ شيئا خفيفا ل تكاد تشعر بوزنه لخفْته ،ولو حاولتَ أنْ تجمع أوزانا في حيز ضيق
كحقيبة (هاندباج) فإن الثقل يفضحك؛ لنك تنوء به.
وال ُعصْبة :هم القوم الذين يتعصّبون لمبدأ من المبادئ بدون هَوىً بينهم ،ومنه قول إخوة يوسف{:
عصْبَةٌ[} ...يوسف.]8 :
حبّ إِلَىا أَبِينَا مِنّا وَ َنحْنُ ُ
سفُ وَأَخُوهُ أَ َ
لَيُو ُ
ل كانوا قوةً متعصبين بعضهم لبعض
إنها كلمة حق خرجت من أفواههم دون قصد منهم؛ لنهم فع ً
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في مواجهة يوسف وأخيه ،وكانا صغيرين ل قو َة لهما ول شوكة ،وكانوا جميعا من أم واحدة،
ويوسف وأخوه من أم أخرى ،فطبيعي أن يميل قلب يعقوب عليه السلم مع الضعيف.
حدَ عَشَرَ َك ْوكَبا} ..
وقالوا :العصبة من الثلثة إلى العشرة ،وقد حددهم القرآن بقوله {:إِنّي رَأَ ْيتُ أَ َ
شمْسَ وَالْ َقمَرَ[} ..يوسف ]4 :أي :أباه وأمه .فمن هاتين
[يوسف ]4 :وهم أخوته ومنهم بنيامين{ وَال ّ
اليتين نستطيع تحديد العصبة.
حلّ المام علي -رضي ال عنه -
وبهذا التفكير الذي يقوم على ضم اليات بعضها إلى بعض َ
مسألة تُعدّ معضلة عند البعض ،حيث جاءه مَنْ يقول له :تزوجت امرأة وولدتْ بعد ستة أشهر،
ومعلوم أن المرأة تلد لتسعة أشهر ،فل بُدّ أنها حملت قبل أنْ تتزوج.
فقال المام علي :أقل الحمل ستة أشهر ،فقال السائل :ومن أين تأخذها يا أبا الحسن؟ قال :نأخذها
شهْرا[} ....الحقاف ]15 :وفي آية أخرى قال سبحانه{:
من قوله تعالىَ {:و ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ[} ...البقرة.]233 :
ضعْنَ َأوْلَدَهُنّ َ
وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
يعني :أربعة وعشرين شهرا ،وبطرح الربعة والعشرين شهرا من الثلثين يكون الناتج ستة
أشهر ،هي أقل مدة للحمل .وهكذا تتكاتف آيات القرآن ،ويكمل بعضها بعضا ،ومن الخطأ أن
نأخذ كل آية على حدة ،ونفصلها عن غيرها في ذات الموضوع.
حبّ ا ْلفَرِحِينَ[ { ...القصص ]76 :والنهي
ثم يقول سبحانهِ } :إذْ قَالَ لَهُ َق ْومُ ُه لَ َتفْرَحْ إِنّ اللّ َه لَ ُي ِ
هنا عن الفرح المحظور ،فالفرح :انبساط النفس لمر يسرّ النسان ،وفَرْق بين أمر يسرّك؛ لنه
يُمتعك ،وأمر يسرّك لنه ينفعك ،فالمتعة غير المنفعة.
فمثلً ،مريض السكر قد يأكل المواد السكرية لنها تُحدِث له متعة ،مع أنها مضرة بالنسبة له،
إذن :فالفرح ينبغي أن يكون بالشيء النافع ،لن ال تعالى لم يجعل المتعة إل في النافع.
فحينما يقولون له } لَ َتفْرَحْ[ { ..القصص ]76 :أي :فرح المتعة ،وإنما الفرح بالشيء النافع ،ولو
لم تكن فيه متعة كالذي يتناول الدواء المر الذي يعود عليه بالشفاء ،لذلك يقول تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى مَغبّة الشياء وعواقبها ،فشارب الخمر يشربها لما لها من متعة مؤقتة ،لكن يتبعها ضرر بالغ،
ونسمع الن مَنْ يقول عن الرقص مثلً؛ إنه فن جميل وفن رَاقٍ؛ لنه يجد فيه متعة ما ،لكن شرط
الفن الجميل الراقي أن يظل جميلً ،لكن أنْ ينقلب بعد ذلك إلى قُبْح ويُورِث قبحا ،كما يحدث في
الرقص ،فل ُيعَدّ جميلً.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ.{ ...
()3254 /
ك وَلَا تَبْغِ
حسَنَ اللّهُ إِلَ ْي َ
وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللّهُ الدّارَ الْآَخِ َرةَ وَلَا تَ ْنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا وََأحْسِنْ َكمَا أَ ْ
حبّ ا ْل ُمفْسِدِينَ ()77
ا ْلفَسَادَ فِي الْأَ ْرضِ إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ
معنى { وَابْتَغِ[ } ...القصص ]77 :أي :اطلب { فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ[ } ...القصص ]77 :بما أنعم عليك
من الرزق { الدّارَ الخِ َرةَ[ } ...القصص ]77 :لنك إن ابتغيت برزق ال لك الحياة الدنيا ،فسوف
َيفْنى معك في الدنيا ،لكن إنْ نقلتَهُ للخرة لبقيتَ عليه نعيما دائما ل يزول.
وحين تحب نعيم الدنيا وتحتضنه وتتشبث به ،فاعلم أن دنياك لن تمهلك ،فإما أنْ تفوت هذا النعيمَ
حوْزتك ،فانقله إلى
بالموت ،أو يفوتك هو حين تفتقر .إذن :إن كنت عاشقا ومُحبا للمال ولبقائه في َ
الدار الباقية ،ليظل في حضنك دائما نعيما باقيا ل يفارقك ،فسارع إذن واجعله يسبقك إلى الخرة.
" وفي الحديث الشريف لما سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم أم المؤمنين عائشة عن الشاة التي
ت إل
ت إل كتفها ،فقال صلى ال عليه وسلم " :بل بقي ْ
أُهد َيتْ له قالت بعد أن تصدقت بها :ذهب ْ
كتفها ".
ويقول صلى ال عليه وسلم " :ليس لك من مالك إل ما أكلتَ فافنيتَ ،أو لبستَ فأبليتَ ،أو تصد ْقتَ
فأبقيْتَ ".
لذلك كان أولو العزم حين يدخل على أحدهم سائل يسأله ،يقول له :مرحبا بمَنْ جاء يحمل زادي
إلى الخرة بغير أجرة.
والمام علي -رضي ال عنه -جاءه رجل يسأله :أأنا من أهل الدنيا ،أم من أهل الخرة؟ فقال:
جواب هذا السؤال ليس عندي ،بل عندك أنت ،وأنت الحكم في هذه المسألة .فإنْ دخل عليك مَنْ
ن كنتَ تبشّ لمن يعطي ،فأنت من
تعودت أنه يعطيك ،ودخل عليك مَنْ تعودت أنْ يأخذ منك ،فإ ْ
أهل الدنيا ،وإنْ كنتَ تبشّ لمَنْ يسألك ويأخذ منك ،فأنت من أهل الخرة ،لن النسان يحب من
ن كنتَ محبا للخرة فيسعدك مَنْ
ن كنتَ محبا للدنيا فيسعدك مَنْ يعطيك ،وإ ْ
يعمر له ما يحب ،فإ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يأخذ منك.
وإذا كان ربنا -عز وجل -يوصينا بأن نبتغي الخرة ،فهذا ل يعني أن نترك الدنيا { :وَلَ تَنسَ
َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا[ } ...القصص ]77 :لكن هذه الية يأخذها البعض دليلً على النغماس في الدنيا
ومتعها.
وحين نتأمل { َولَ تَنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا[ } ...القصص ]77 :نفهم أن العاقل كان يجب عليه أنْ
ينظر إلى الدنيا على أنها ل تستحق الهتمام ،لكن ربه لفته إليها ليأخذ بشيء منها تقتضيه حركة
حياته .فالمعنى :كان ينبغي علىّ أنْ أنساها فذكّرني ال بها.
ولهل المعرفة في هذه المسألة مَلْمح دقيق :يقولون :نصيبك من الشيء ما ينالك منه ،ل عن
مفارقة إنما عن ملزمة ودوام ،وعلى هذا فنصيبك من الدنيا هو الحسنة التي تبقى لك ،وتظل
صبّ في نصيبك من الخرة،
معك ،وتصحبك بعد الدنيا إلى الخرة ،فكأن نصيبك من الدنيا ي ُ
فتخدم دنياك آخرتك.
أو :يكون المعنى موجها للبخيل الممسك على نفسه ،فيُذكّره ربه } َولَ تَنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا{ ...
[القصص ]77 :يعني :خُ ْذ منها القَدْر الذي يعينك على أمر الخرة ،لذلك قالوا عن الدنيا :هي أهم
من أن تُنْسى -لنها الوسيلة إلى الخرة -وأتفه من أن تكون غاية؛ لن بعدها غاية أخرى
وأبقى وأدوم.
حسَنَ اللّهُ إِلَ ْيكَ[ { ..القصص ]77 :الحق سبحانه يريد أنْ يتخلّق
حسِن َكمَآ أَ ْ
ثم يقول سبحانه } :وَأَ ْ
خَلْقه بخُلُقه ،كما جاء في الثر " تخلقوا بأخلق ال ".
فكما أحسن ال إليك أحسِنْ إلى الناس ،وكما تحب أنْ يغفر ال لك ،اغفر لغيرك إساءته } َألَ
تُحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ َلكُمْ[ { ...النور.]22 :
وما دام ربك يعطيك ،فعليك أنْ تعطي دون مخالفة الفقر؛ لن ال تعالى هو الذي استدعاك
للوجود؛ لذلك تكفّل بنفقتك وتربيتك ورعايتك .لذلك حين ترى العاجز عن الكسب -وقد جعله
ربه على هذه الحال لحكمة -حين يمد يده إليك ،فاعلم أنه يمدّها ل ،وأنك مناول عن ال تعالى.
ونلحظ هذا المعنى في قوله تعالى {:مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا[} ..الحديد.]11 :
فسمّى الصدقة قرضا ل ،لماذا؟ لن هذا العبد عبدي ،مسئول مني أن أرزقه ،وقد ابتليتُه لحكمة
عندي -حتى ل يظنّ أحد أن المسألة ذاتية فيه ،فيعتبر به غيره -فمَنْ إذن يقرضني لسُدّ حاجة
أخيكم؟
وقال تعالىُ {:يقْ ِرضُ اللّهَ[} ...الحديد ]11 :مع أنه سبحانه الواهب؛ لنه أراد أن يحترم ملكيتك،
سعْيك ..كما لو أراد والد أنْ يُجري لحد أبنائه عملية جراحية مثلً وهو
وأن يحترم انتفاعك ،و َ
فقير وإخوته أغنياء ،فيقول لولده :اقرضوني من أموالكم لجري الجراحة لخيكم ،وسوف أردّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليكم هذا القرض.
" وفي الحديث الشريف أن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة -
رضوان ال عليها -فوجدها تجلو درهما فسألها :ماذا تصنعين به "؟ قالت :أجلوه ،قالِ " :لمَ "؟
قالت :لني نويت أن أتصدق به ،وأعلم أنه يقع في يد ال قبل أن يقع في يد الفقير ".
إذن :فالمال مال ال ،وأنت مناول عن ال تعالى.
وقد وقف بعض المستشرقين عند هذه المسألة؛ لنهم يقرأون اليات والحاديث مجرد قراءة
سطحية غير واعية ،فيتوهمون أنها متضاربة .فقالوا هنا :ال تعالى يقول {:مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ
عفَهُ لَهُ[} ...الحديد.]11 :
اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَا ِ
حسَنَةِ فََلهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا[} ...النعام ]160 :وفي الحديث
وقال في موضع آخر {:مَن جَآءَ بِالْ َ
الشريف " :مكتوب على باب الجنة :الصدقة بعشر أمثالها ،والقرض بثمانية عشر ".
فظاهر الحديث يختلف مع الية الكريمة -هذا في نظرهم -لنهم ل يملكون المَلَكة العربية في
استقبال البيان القرآني .وبتأمل اليات والحاديث نجد اتفاقهما على أن الحسنة أو الصدقة بعشر
أمثالها ،فالخلف -ظاهرا -في قوله تعالى:
عفَهُ لَهُ[} ...الحديد ]11 :وقول النبي صلى ال عليه وسلم " :والقرض بثمانية عشر ".
{ فَ ُيضَا ِ
وليس بينهما اختلف ،فساعة تصدّق النسان بدرهم مثلً أعطاه ال عشرة منها بدرهم الذي
تصدّق به ،فكأنه أعطاه تسعة ،فحين ُتضَاعف التسعة ،تصبح ثمانية عشرة.
حبّ ا ْل ُمفْسِدِينَ { [القصص ]77 :والفساد
ثم يقول سبحانهَ } :ولَ تَبْغِ ا ْلفَسَادَ فِي الَ ْرضِ إِنّ اللّ َه لَ يُ ِ
يأتي من الخروج عن منهج ال ،فإنْ غيّرت فيه فقد أفسدتَ ،فالفساد كما يكون في المادة يكون في
حهَا[} ...العراف:
سدُواْ فِي الَ ْرضِ َبعْدَ ِإصْلَ ِ
المنهج ،وفي المعنويات ،يقول سبحانهَ {:ولَ ُتفْ ِ
.]56
فالحق سبحانه خلق كل شيء على هيئة الصلح لسعاد خلقه ،فل تعمد إليه أنت فتفسده ،ومن هذا
الصلح المنهج ،بل المنهج وهو قوام الحياة المعنوية َ -أوْلَى من قِوام الحياة المادية.
حسْنا فل أقلّ من أنْ تدعه كما هو
إذن :فلتكُنْ مؤدبا مع الكون من حولك ،فإذا لم تستطع أنْ تزيده ُ
دون أنْ تفسده ،وضربنا لذلك مثلً ببئر الماء قد تعمد إليه فتطمسه ،وقد تبني حوله سورا يحميه.
هذه مسائل خمْس توجّه بها قوم قارون لنصحه بها ،منها المر ،ومنها النهي ،ول ُبدّ أنهم وجدوا
حبّ
منه ما يناقضها ،ل ُبدّ أنهم وجدوه بَطِرا أَشِرا مغرورا بماله ،فقالوا له {:لَ َتفْرَحْ إِنّ اللّ َه لَ يُ ِ
ا ْلفَرِحِينَ }[القصص.]76 :
ووجدوه قد نسي نصيبه من الدنيا فَلم يتزود منها للخرة ،فقالوا له } َولَ تَنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا...
حسَنَ
حسِن َكمَآ أَ ْ
{ [القصص ،]77 :ووجدوه يضنّ على نفسه فل ينفق في الخير ،فقالوا له } :وَأَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ع ّد نعمتك إلى الغير ،كما تعدّت نعمة ال إليك ..وهكذا ما
اللّهُ إِلَ ْيكَ[ { ...القصص ]77 :يعنيَ :
أمروه أمرا ،ول نه ْوهُ نهيا إل وهو مخالف له ،وإل َلمَا أمروه وَلمَا نه ْوهُ.
ثم يقول قارون ردا على هذه المسائل الخمس التي توجّه بها قومه إليه } :قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا
عِلْمٍ.{ ...
()3255 /
قَالَ إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِ ْندِي َأوَلَمْ َيعْلَمْ أَنّ اللّهَ قَدْ أَ ْهَلكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ ا ْلقُرُونِ مَنْ ُهوَ أَشَدّ مِنْهُ ُق ّوةً
ج ْمعًا وَلَا يُسَْألُ عَنْ ذُنُو ِبهِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ ()78
وََأكْثَرُ َ
لكن ما وجه هذا الردّ { إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ عِندِي[ } ...القصص ]78 :على المطلوبات الخمسة
التي طلبوها منه؟ كأنه يقول لهم :ل دخلَ لكم هذه المور؛ لن الذي أعطاني المال علم أنني أ ْهلٌ
ستُ في حاجة لنصيحتكم.
له ،وأنني استحقه؛ لذلك ائتمنني عليه ،ول ْ
أو يكون المعنى { إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي } [القصص ]78 :يعني :بمجهودي ومزاولة
العمال التي ُتغِل علىّ هذا المال ،وكان قارون مشهورا بحُسْن الصوت في قراءة التوراة ،وكان
حافظا لها .وكان حسن الصورة ،وعلى درجة عالية بمعرفة أحكام التوراة.
فعجيب أن يكون عنده كل هذا العلم ويقول { إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ عِندِي[ } ...القصص ]78 :ول
يعلم أن ال قد أهلك من قبله قرونا كانوا أشدّ منه قوة ،وأكثر منه مالً وعددا.
جمْعا[ } ...القصص:
{ َأوََلمْ َيعْلَمْ أَنّ اللّهَ َقدْ أَهَْلكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ا ْلقُرُونِ مَنْ ُهوَ َأشَدّ مِنْهُ ُق ّوةً وََأكْثَرُ َ
]78فكيف فاتتْه هذه المسألة مع عِلْمه بالتوراة؟
ومعنى { َأوََلمْ َيعْلَمْ[ } ...القصص ]78 :أي :من ضمن ما علم { مِنَ ا ْلقُرُونِ[ } ...القصص]78 :
جمْعا[ } ..القصص]78 :
أناس كانوا أكثر منه مالً ،وقد أخذهم ال وهم أمم ل أفراد ،وكلمة { َ
عصْبة.
يجوز أن تكون مصدرا يعني :جمع المال ،أو :اسم للجماعة أي :له ُ
وبعد ذلك قال سبحانهَ { :ولَ ُيسَْألُ عَن ذُنُو ِبهِمُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ } [القصص ]78 :وعلمة أنهم ل
يُسألون أن ال تعالى يأخذهم دون إنذار يأخذهم على غِرّة ،فلن يقول لقارون :أنت فعلت كذا وكذا،
وسأفعل بك كذا وكذا ،وأخسف بك وبدارك الرض ،فأفعالك معلومة لك ،والحيثيات السابقة كفيلة
بأنْ يُفاجئك العذاب.
وهكذا يتوقع أنْ يأتيه الخَسْف والعذاب في أيّ وقت ،إذن :لن نسألهم ،ولن نُجري معهم تحقيقا
كتحقيق النيابة أو (البوليس) ،حيث ل فائدة من سؤالهم ،وليس لهم عندنا إل العقاب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبعد هذا كله وبعد أنْ نصحه قومه ما يزال قارون متغطرسا َبطِرا لم يَرْعَو ولم يرتدع ،بل ظل
فَرِِحا باغيا مفسدا ،ويحكي عنه القرآن { :فَخَرَجَ عَلَىا َق ْومِهِ.} ...
()3256 /
فَخَرَجَ عَلَى َق ْومِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا يَا لَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنّهُ َلذُو
حظّ عَظِيمٍ ()79
َ
قلنا :إن قارون كان بطبيعة الحال غنيا وجيها ،حَسَن الصوت والصورة ،كثير العدد ،كثير المال،
فكيف لو أضفت إلى هذا كله أن يخرج في زينته وفي موكب عظيم ،وفي أبهة { َفخَرَجَ عَلَىا
َق ْومِهِ فِي زِينَ ِتهِ[ } ...القصص.]79 :
وللعلماء كلم كثير في هذه الزينة التي خرج فيها قارون ،فقد كان فيها ألف جارية من صفاتهن
كذا وكذا ،وألف فرس ..إلخ ،حتى أن الناس انبهروا به وبزينته ،بل وانقسموا بسببه قسمين:
جماعة فُتِنوا به ،وأخذهم بريق النعمة والزينة والزهو وترف الحياة ،ومدّوا أعينهم إلى ما هو فيه
من متعة الدنيا.
وفي هؤلء يقول تعالى { :قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا يالَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ قَارُونُ إِنّهُ َلذُو
حظّ عَظِيمٍ } [القصص ]79 :وقد خاطب الحق -تبارك وتعالى -نبيه محمدا صلى ال عليه
َ
وسلم بقولهَ {:ولَ َتمُدّنّ عَيْنَ ْيكَ إِلَىا مَا مَ ّتعْنَا ِبهِ أَ ْزوَاجا مّ ْنهُمْ زَهْ َرةَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا[} ...طه.]131 :
والمعنى :ل تنظر إلى ما في يد غيرك ،واحترم قدر ال في خَلْق ال ،واعلم أنك إنْ فرحت
بالنعمة عند غيرك أتاك خيرها يطرق بابك وخدمتْك كأنها عندك ،وإنْ كرهتها وحسدته عليها
تأبّت عليك ،وحُرمْت نفعها؛ لن النعمة أعشق لصاحبها من عشقه لها ،فكيف تأتيه وهو كاره لها
عند غيره؟
لذلك من صفات المؤمن أن يحب الخير عند أخيه كما يحبه لنفسه ،وحين ل تحب النعمة عند
غيرك ،فما أذنبه هو؟ فكأنك تعترض على قدر ال فيه ،وما ُد ْمتَ قد تأبيت واعترضت على قدر
المنعم ،فل بُدّ أن يحرمك منها.
ضكُمْ عَلَىا َب ْعضٍ[} ...النساء:
لذلك يقول سبحانه في موضع آخرَ {:ولَ تَ َتمَ ّنوْاْ مَا َفضّلَ اللّهُ بِهِ َب ْع َ
.]32
لن لكل منكم مهمة ودورا في الحياة ،ولكل منكم مواهبه وميزاته التي يمتاز بها عن الخرين،
ول ُبدّ أن يكون فيك خصال أحسن ممن تحسده ،لكنك غافل عنها غير متنبه لها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسبق أن قلنا :إن الحق سبحانه قد وزّع أسباب َفضْله على خَلْقه؛ لننا جميعا أمام ال سواء ،وهو
سبحانه لم يتخذ صاحبة ول ولدا؛ لذلك قلنا :إن مجموع مواهب كل فرد تساوي مجموع مواهب
الخر ،فقد تزيد أنت عني في خصلة ،وأزيد عنك في أخرى ،فهذا يمتاز بالذكاء ،وهذا بالصحة،
وهذا بالعلم ،وهذا بالحِلْم ..إلخ.
لن حركة الحياة تتطلب كل هذه المكانيات ،فبها تتكامل الحياة ،وليس من الممكن أن تتوفر كل
هذه المزايا لشخص واحد يقوم بكل العمال ،بل إنْ تمي ْزتَ في عملك ،وأتقنتَ مهمتك فلك الشكر.
ومن العجيب ألّ تنتفع أنت بنبوغك ،في حين ينتفع به غيرك ،ومن ذلك قولهم مثلً (باب النجار
مخلع) ،فلماذا ل يصنع بابا لنفسه ،وهو نجار؟ قالوا :لنه الباب الوحيد الذي ل يتقاضى عليه
أجرا.
إذن :حينما تجد غيرك مُتفوّقا في شيء فل تحقد عليه؛ لن تفوقه سيعود عليك ،وضربنا لذلك
مثلً بشيء بسيط؛ حين تمسك المقصّ بيدك اليمنى لتقصّ أظافر اليد اليسرى تجد أن اليد اليمنى -
لنها مرنة سهلة الحركة -تقصّ أظافر اليسرى بدقة ،أما حين تقصّ اليسرى أظافر اليمنى فإنها
ل تعطيك نفس المهارة التي كانت لليمنى .إذن :فحُسْن اليمنى تعدّى للُيسْرى ونفعها.
وهكذا إذا رأيتَ أخاك قد تفوّق في شيء أو أحسن في صُنْعه فاحمد ال؛ لن حُسْنه وتفوقه سيعود
عليك ،وقد ل يعود عليه هو ،فل تحسده ،ول تحقد عليه ،بل ا ْدعُ له بالمزيد؛ لنك ستنتفع به في
يوم من اليام.
لكن ماذا قال أهل الدنيا الذين ُبهِروا بزينة قارون؟ قالوا } :يالَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ قَارُونُ إِنّهُ لَذُو
حظّ عَظِيمٍ[ { ..القصص ]79 :يعني :كما نقول نحن (حظه بمب)؛ لن هؤلء ل يعنيهم إل أمر
َ
الدنيا ومُتعها وزُخْرفها ،أما أهل العلم وأهل المعرفة فلهم ر ْأيٌ مخالف ،ونظرة أبعد للمور؛ لذلك
رَدّوا عليهمَ } :وقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ.{ ...
()3257 /
فما كان الحق -تبارك وتعالى -ليترك أهل الدنيا وأهل الباطل يُشكّكون الناس في قَدَر ال،
ويتمردون على قسمته حتى الكفر والزندقة ،وال سبحانه ل ُيخِلي الناس من أهل الحق الذين
علْقما لم يخلْ من أَهْل الحقيقة جيلوما دام أن
ج َعلَ الحقِيقةَ َ
يُعدّلون ميزان حركة الحياة:إنّ الذي َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال تعالى قال في الجماعة الولى {:قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا[} ...القصص ]79 :فهم ل
يروْنَ غيرها ،ول يطمحون لبعد منها ،وقال في الخرىَ { :وقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِ ْلمَ} ...
[القصص ]80 :فهذا يعني :أن أهل الدنيا (سطحيون) ،لم يكن عندهم علم ينفعهم ،لذلك وقعوا في
هذا المأزق الذي نجا منه أهل العلم ،حينما أجروا مقارنة بين الطمع في الدنيا والطمع في الخرة.
كما قلنا سابقا :إن عمر الدنيا بالنسبة لك :ل ت ُقلْ من آدم إلى قيام الساعة؛ فعمرك أنت فيها عمر
ن يفنى .إذن :العاقل مَنْ يختار الباقية على الفانية ،لذلك أهل الدنيا قالوا{ يالَ ْيتَ لَنَا
موقوت ،ل ُبدّ أ ْ
مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ قَارُونُ[} ...القصص.]79 :
أما أهل العلم والمعرفة فردّوا عليهم { :وَيَْلكُمْ[ } ...القصص ]80 :أي :الويل لكم بسبب هذا
التفكير السطحي ،وتمنّي ما عند قارون الويل والهلك لكم بما حسدتُم الناس ،وبما حقدتُم عليهم,
وباعتراضكم على أقدار ال في خَلْقه.
س لَ َيعَْلمُونَ
فأنتم تستحقون الهلك بهذا؛ لذلك قال ال عنهم في موضع آخر {:وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
* َيعَْلمُونَ ظَاهِرا مّنَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا[} ...الروم.]7-6 :
يعني :ل يعرفون حقيقة الشياء ،ولو عرفوا ما قالوا هذا الكلم ،وما تم ّنوْا هذه المنية.
ثم يلفت أهل العلم والمعرفة أنظار أهل الدنيا ،ويُوجّهونهم الوجهة الصحيحةَ { :ثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ
ع ِملَ صَالِحا[ } ...القصص ]80 :أي :ثواب ال خير من الدنيا ،ومما عند قارون،
ن وَ َ
ّلمَنْ آمَ َ
وكيف تتمنون ما عنده ،وقد شجبتم تصرفاته ،ونهيتموه عنها ،ولم ترضوَهْا؟
ومعنىَ { :ولَ يَُلقّاهَآ ِإلّ الصّابِرُونَ } [القصص ]80 :أي :يُلقّي اليمان والعمل الصالح والهداية،
ليُقبِلَ على عمل الخرة ،ويُفضلها عن الدنيا ،أي :يُلقّى قضية العلم بالحقائق ،ول تخدعه ظواهر
الشياء .هذه ل يجدها ول يُوفّق إليها إل الصابرون ،كما قال سبحانه في آية أخرىَ {:ومَا يَُلقّاهَا
حظّ عَظِيمٍ }[فصلت.]35 :
ن صَبَرُو ْا َومَا يَُلقّاهَآ ِإلّ ذُو َ
ِإلّ الّذِي َ
والصبر :احتمال ما يؤذي في الظاهر ،لكنه يُنعَم في الباطن .وله مراحل ،فال تعالى كلّفنا
بطاعات فيها أوامر ،وكلّفنا أنْ نبتعد عن معاصٍ ،وفيها نواهٍ ،وأنزل علينا أقدارا قد ل تستطيبها
نفوسنا ،فهذه مراحل ثلث.
شعِينَ
فالطاعات ثقيلة وشاقة على النفس؛ لذلك يقول تعالى عن الصلة {:وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى الْخَا ِ
}[البقرة ]45 :فهناك دَواع شتّى تصرفك عن الصلة ،وتحاول أنْ تُقعدك عنها ،فتجد عند قيامك
للصلة كسلً وتثاقلً.
واقرأ قوله تعالى عن الصلة مخاطبا نبيه صلى ال عليه وسلم:
علَ ْيهَا[} ...طه ]132 :وهذا دليل على أنها صعبة وشاقّة على
لةِ وَاصْطَبِرْ َ
{ وَ ْأمُرْ أَهَْلكَ بِالصّ َ
ت عليها ،وألفتها النفس صارتْ أحبّ الشياء إليك ،وأخفّها على نفسك ،بل
النفس ،لكن إذا تعود ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقرّة عَيْن لك.
والنبي صلى ال عليه وسلم يُعلّمنا هذا الدرس في قوله لمؤذنه بلل " :أرحنا بها يا بلل " ل
أرحنا منها تلك المقالة التي يقولها لسان حالنا الن.
ويقول أيضا صلى ال عليه وسلم " :وجُعلَت قرة عيني في الصلة " وخصّ الصلة بالذات من
بين سائر العبادات؛ لنها تتكرر في اليوم خمس مرات ،فهي ملزمة للمؤمن يعايشها على مدى
يومه وليلته بخلف الركان الخرى ،فمنها ما هو مرة واحدة في العام ،أو مرة واحدة في العمر
كله.
هذا هو النوع الول من الصبر ،وهو الصبر على مشقة الطاعة.
الثاني :الصبر عن شهوة المعصية ،ول تنْسَ أنه أول صبر تصادفه في حياتك أنْ تصبر على
شهَواتِ النفْسِ في َزمَن
ض المال مُنفقا عَلَى َ
نفسك؛ لذلك يقول الشاعر:إذَا ُر ْمتَ أنْ تُسْتقِر َ
ن فعلتْ كنتَ الغنيّ وإنْ
سكَ النفاقَ من كَنْز صَبْرها عل ْيكَ وإنْظَارا إلى سَاعةِ ال ُيسْرفإ ْ
العُسْ ِرفَسَل نف َ
أبتْ فكل مَنُوع بعدها واسِع العُذْرفبدل أن تقترض لقضاء شهوة نفس عاجلة ،فأوْلَى بك أن تصبر
إلى أن تجد سعة وتيسيرا ،فصبرك على نفسك أهون من صبر الناس عليك ،وإنْ تس ْعكَ نفسك،
ن منعك.
فل عُذْر لحد بعد ذلك إ ْ
الثالث :صَبر على القدار المؤلمة التي ل تفطن أنت إلى الحكمة منها ،فالقدار ما دامتْ من
حكيم ،ومُجريها عليك ربّ ،إذن ل بُدّ أن لها حكمة فيك ،فخُذ القضية القدرية مُجريها عليك ،فهو
سبحانه ربك ،وليس عدوك ،وأنت عبده وصنعته ،ألم تقرأ قول الرسول في الحديث الشريف" :
الخلق كلهم عيال ال ،فأحبّهم إليه أرأفهم بعياله ".
إذن :حين تجري عليك القدار المؤلمة ،فيكفيك للصبر عليها أنْ تعلم أنها حكمة ال ،ويكفيك أن
مُجريها عليك ربك ،فإنْ جاءت القدار المؤلمة بسبب تقصيرك ،فل تلومنّ إل نفسك ،كالطالب
الذي يُهمل دروسه ويتكاسل ،فيفشل في المتحان ،فالفشل نتيجة إهماله وتكاسله.
أما الذي يذاكر ويجدّ ويُبكّر إلى المتحان ُمسْتبشرا فتصدمه سيارة مثلً في الطريق ،تمنعه من
أداء امتحانه ،فهذا هو القدر المؤلم الذي له حكمة ،وربما داخله شيء من الغرور ،وعوّل على
مذاكرته ،ونسي توفيق ال له ،فأراد ال أنْ يُلقّنه هذا الدرس ليعلمه أن المر في النهاية بيد ال
عوْنٌ مِنَ ال
وبمعونته ،وأنه الخاسر إنْ لم تصادفه هذه المعونة ،على حَدّ قول الشاعر:إذَا لم يكُنْ َ
للفتَى فََأ ّولُ مَا يَجْني عليْهِ اجتهادُهُفعليك إذن أنْ تنظر إنْ كانت المصيبة نتيجة لما قدمت ،فل
ن كنتَ قد أخذت بالسباب ،واستوفيتَ ما طُلب منك ،ثم أصابتْك المصيبة،
تلومنّ إل نفسك ،فإ ْ
فاعلم أن ل فيها حكمة ،وعليك أنْ تحترم حكمة ال وقدره في خَلْقه.
وباعتبار آخر ،يمكن أن نقسم المصائب إلى قسمين :قسم لك فيه غريم ،كأن يعتدي عليك غيرك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بضرب أو قتل أو نحوه ،وقسم ليس لك فيه غريم كالموت والمرض مثلً.
وقد أعطانا الحق -سبحانه وتعالى -حكما في كل منهما ،ففي النوع الول حيث ل غريمَ لك،
لمُورِ
يقول تعالى على لسان لقمان وهو يوصي ولده {:وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَ ْز ِم ا ُ
}[لقمان.]17 :
غفَرَ[} ...الشورى ]43 :فما دام قد ذكر المغفرة ودعاك
ويقول فيما لك فيه غريم {:وََلمَن صَبَ َر وَ َ
إليها ،فل بُدّ أن أمامك غريما ،ينبغي أنْ تصبر عليه ،وأن تغفر له ،والغريم يهيجني إلى المعصية
وإلى النتقام ،فكلما رأيته أتميّز غيظا ،فالصبر في هذه الحالة أشد ويحتاج إلى عزيمة قوية.
لمُورِ }[الشورى ]43 :ولم يقل كما في
غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم ا ُ
لذلك قال سبحانه {:وََلمَن صَبَ َر وَ َ
لمُورِ }[لقمان ]17 :إنما بصيغة التأكيد باللم (َلمِنْ).
الولى {:إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ ا ُ
ظمِينَ
ويُعلّمنا ربنا -تبارك وتعالى -كيف نعالج غَيْظ النفوس أمام الغريم ،فيقول سبحانه {:وَا ْلكَا ِ
حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ }[آل عمران.]134 :
س وَاللّهُ ُي ِ
ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ
ا ْلغَيْ َ
هذه مراحل ثلث ،تتدرج بك حسب ما عندك من استعداد للخير وقدرة على التسامح ،فأولها :أن
تكظم غيظك ،وهذا يعني أن الغيظ موجود ،لكنك تكتمه في نفسك ،فإن ارتقيتَ عفوتَ بأن تُخرج
الغيظ وال ِغلّ من نفسك ،كأن شيئا لم يحدث ،فإن ارتقيتَ إلى المرتبة العلى أحسنتَ؛ لن ال
تعالى يحب المحسنين ،والحسان أن تقدم الخير وتبادر به مَنْ أساء إليك ،فتجعله ردا على
إساءته.
ن يعمل بها؛
ول شكّ أن هذه المراحل تحتاج إلى مجاهدة ،فهي قاسية على النفس ،وقلما تجد مَ ْ
لذلك ما جعلها ال على وجه اللزام ،إنما ندب إليها وحثّ عليها ،فإنْ أخذتَ بأْولَها فل شيء
عليك؛ لن ال تعالى أباح لك أن ترد الساءة بمثلها ،فإنْ كظمتَ غيظك فأنت على خير ،وإن
حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ }[آل
اخترتَ لنفسك الرقي في طاعة ربك ،فنِعمْ الرجل أنت ،ويكفيك{ وَاللّهُ يُ ِ
عمران.]134 :
ويكفيك أن المسيء بإساءته إليك جعل ال في جانبك ،فهو مع إساءته إليك يستحق مكافأة منك،
كما قال أحد العارفين :أل أُحسن لمن جعل ال في جانبي؟
وضربنا لذلك مثلً بالوالد حين يجد أن أحد الولد اعتدى على الخر ،فيميل ناحية ال ُمعْتَدى عليه
ويتودّد إليه ،ويحاول إرضاءه ،حتى إن المعتدي ليغتاظ ويندم على أنه أساء إلى أخيه ،كذلك الحق
-تبارك وتعالى -إن اعتدى بعض خَلْقه على بعض يحتضن المظلوم ،وينصره على مَنْ ظَلمَه.
سفْنَا بِ ِه وَبِدَا ِرهِ الَرْضَ.{ ...
ثم يُفاجأ قارون بالعقاب الذي يستحقهَ } :فخَ َ
()3258 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سفْنَا بِهِ وَبِدَا ِرهِ الْأَ ْرضَ َفمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِ َئةٍ يَ ْنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُنْ َتصِرِينَ (
فَخَ َ
)81
والخسف :أن تنشقّ الرض فتبتلع ما عليها ،كالذي يقول (يا أرض انشقي وابلعيني) ،والخسف
كان به وبداره التي فيها كنوزه وخزائنه وما يملك { َفمَا كَانَ لَهُ مِن فِ َئةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ...
} [القصص ،]81 :فما نفعه مال ،ول دافع عنه أهل { َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُن َتصِرِينَ } [القصص]81 :
عصْبة تحميه ،ول استطاع هو حماية نفسه ،فمَنْ يدفع عذاب ال إن حلّ،
أي :بذاته .فلم تكُنْ له ُ
ومَنْ يمنعه ونقذه إنْ خُسِفت به الرض؟!
وهنا ينبغي أن نتساءل :كيف الن حال مَنْ اغتروا به ،وفُتِنوا بماله وزينته؟
يقول الحق سبحانه { :وََأصْبَحَ الّذِينَ َتمَ ّنوْاْ َمكَانَهُ.} ...
()3259 /
لقد كانوا بالمس يقولون{ يالَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ قَارُونُ[} ...القصص ،]79 :لكن اليوم وبعد أن
عاينوا ما حاق به من عذاب ال وبأسه الذي ل يُردّ عن القوم الكافرين -اليوم يثوبون إلى
سطُ الرّ ْزقَ ِلمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَ َيقْدِرُ[ } ...القصص.]82 :
رُشْدهم ويقولون { :وَ ْيكَأَنّ اللّهَ يَبْ ُ
ف وهيهات ،وتدل على الندم والتحسّر على ما حدث منك ،فهي تنديد
كلما ( َوىْ) اسم فعل مثلُ :أ ّ
وتَخْطيءٌ للفعل ،وقد تُقال ( َويْ) للتعجب .فقولهم (وي) ندما ما كان منهم من تمني النعمة التي
تنعّم بها قارون وتخطيئَا لنفسهم ،بعد أنْ شاهدوا الخَسْف التي تنعّم بها قارون وتخطيئا لنفسهم،
بعد أنْ شاهدوا الخَسْف به وبداره ،وهم يندمون الن ويُخطّئون أنفسهم؛ لن ال تعالى في رزقه
حكمة وقدرا.
{ يَ ْبسُطُ الرّ ْزقَ ِلمَن َيشَآءُ مِنْ عِبَا ِدهِ وَيَقْدِرُ[ } ...القصص ]82 :أي :يقبض ويُضيق ،وليس بسْط
الرزق دليل كرامة ،ول تضييقه دليلَ إهانة ،بدليل أن ال يبسط الرزق لقارون ،ثم أخذه أخْذ عزيز
مقتدر.
لهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَهُ
وقد تعرضتْ سورة الفجر لهذه المسألة في قوله تعالى {:فََأمّا الِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَ َ
لهُ َفقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْز َقهُ فَ َيقُولُ رَبّي أَهَانَنِ }[الفجر-15 :
وَ َن ّعمَهُ فَيَقُولُ رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّآ ِإذَا مَا ابْتَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.]16
فالول اعتبر الرزق الواسع دليل الكرامة ،والخر اعتبر التضييق دليلَ إهانة ،فردّ الحق سبحانه
عليهما ليُصحح هذه النظرة فقال {:كَلّ[} ...الفجر ]17 :يعني :أنتما خاطئان ،فل سعةَ الرزق دليلُ
كرامة ،ول تضييقه دليلُ إهانة ،وإل فكيف يكون إيتاء المال دليلَ كرامة ،وأنا أعطي بعض الناس
سكِينِ *
طعَامِ ا ْلمِ ْ
المال ،فل يُؤدّون حقّ ال فيه؟{ كَلّ بَل لّ ُتكْ ِرمُونَ الْيَتِيمَ * َولَ تَحَآضّونَ عَلَىا َ
جمّا }[الفجر.]20-17 :
وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ َأكْلً ّلمّا * وَ ُتحِبّونَ ا ْلمَالَ حُبّا َ
ي كرامة في مال يكون وبالً على صاحبه ،وابتلء ل يُوفّق فيه ،فلو سُلب هذا المال من
إذن :فأ ّ
صاحبه لكان خيرا له ،فما أشبهَ هذا المال بالسلح في يد الذي ل يُحسِن استعماله ،فربما قتل نفسه
به.
وقوله تعالى { :وَ ْيكَأَنّ ُه لَ ُيفْلِحُ ا ْلكَافِرُونَ } [القصص ]82 :تعجّب من أنه ل يفلح الكافرون عند ال
تعالى.
وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه بقضية عامة ليفصل في هذه المسألة { :تِ ْلكَ الدّارُ الخِ َرةُ.} ...
()3260 /
لنه ل يصح أنْ يعلو النسان على بني جنسه ،ول على بيئته إل بشيء ذاتي فيه ،فل يصح أنْ
يعلوَ بقوته؛ لنه قد يمرض ،فيصير إلى الضعف ،ول بماله لنه قد يُسلب منه.
إذن :إياك أن تعلو على غيرك بشيء موهوب لك ،إنْ أردتَ فبشيء ذاتي فيك ،وليس فيك شيء
ذاتي ،فلست أفضلَ من أحد حتى تعلو عليه ،كما أن الدنيا أغيار ،وربما انتقل ما عندك إليهم ،فهل
يسرّك إنْ صار غيرك غنيا أو قويا أنْ يتعالى عليك؟
ثم أنت ل تستطيع العلو إل بالعتماد على قوة أعلى منك تسندك ،وجرّب بنفسك وحاول أن تقفز
إلى أعلى كلعب السيرك ،ثم أمسك نفسك في هذا العلو ،وطبعا لن تستطيع ،لماذا؟ لنه ل ذاتية
لك في العُلو.
حفِظُ الخرين؛ فإنْ حصل لك العكس شمتوا
وما دام المر كذلك ،فإياك أنْ تعلو؛ لنك بعلوّك ُت ْ
فيك ،وأيضا لن النسان ل يعلو في بيئة ول في مكان إل إذا رأى كل مَنْ حوله دونه ،وحين
خلْقه.
ترى أن كل الناس دونك فأنت لم تتنبه إلى أسرار فَضلْ ال في َ
خلْقه،
ولو تأملت لوجدتَ في كل منهم خصلة ليست عندك ،ولو قدّرت أن الناس جميعا عيالُ ال و َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وليس منا مَنْ بينه وبين ال نسب أو قرابة ونحن جميعا عنده تعالى سواء ،وقد وزّع المواهب
بيننا جميعا بالتساوي ،وبالتالي ل يمتاز أحد على أحد ،فلم التعالي إذن؟ ولِمَ الكبر؟
وأيضا الذي يتعالى ل يتعالى إل في غفلة منه عن ملحظة كبرياء ربه ،وإل فالذي يستحضر
عظمة ربه وكبرياءه ل بُدّ له أنْ يتواضع ،وأنْ يتضاءل أمام كبريائه تعالى ،وأنْ يستحي أن يتكبر
على خَلْقه.
والنبي صلى ال عليه وسلم يُعلّمنا كيف نحترم الخرين؟ وكيف نتواضع لهم؟ فلما دخل عليه
الصحابي الجليل عدي بن حاتم قام عن كرامة مجلسه له ،يعني :إن كانْ جالسا على (وسادة مثلً)
يقوم عنها ،ويعطيها لصاحبه ليجلس هو عليها.
وهكذا يحرص رسول ال صلى ال عليه وسلم على المساواة في المجلس؛ لذلك قال عدي بن حاتم
لرسول ال صلى ال عليه وسلم :أشهد أنك ل تريد عُلُوا في الرض ،وأشهد أل إله إل ال ،وأن
محمدا رسول ال ،وأسلم.
وعجيب ما نراه مثلً في مساجدنا ،وهي بيوت ال وَأوْلَى الماكن بهذه المساواة ،فتراهم إذا دخل
أحد أصحاب النفوذ يفرشون له مُصلّى ليصلي عليها ،مع أن المسجد مفروش ،وعلى أعلى
مستوى من النظافة ،فلماذا هذا التمييز؟
ومع ذلك نجد منهم مَنْ يزيح هذه المصلّى جانبا ،ويصلي كما يصلي بقية الناس ،وأظن أن الذي
يقبل أنْ تُوضع له هذه المصلى أظنه يبتغي علوا في الرض.
والحق سبحانه يريد للنسان أن يعيش سوىّ الحركة في أسوياء لتظل القلوب متآلفة ،ل يداخلها
ت القلوب من الضّغن وَسِع الناسَ جميعا رغيفُ عيشٍ واحد.
ضغن ،وإذا خَل ْ
ثم يقول سبحانه { :وَا ْلعَاقِبَةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ } [القصص ]83 :أي :العاقبة الخيّرة ،والعاقبة الحسنة في
النعيم المقيم الدائم للمتقين.
ثم يقول الحق سبحانه { :مَن جَآءَ بِالْحَسَ َنةِ فَلَهُ خَيْرٌ.} ...
()3261 /
قلنا :إن كلمة (خيرٍ) تُطلق ويُراد بها ما يقابل الشر ،كما في قوله تعالىَ {:فمَن َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ
خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـ َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة.]8-7 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتُطلق ويُراد بها الحسن في الخير ،تقول :هذا خير من هذا ،فكلهما فيه خير ،ومنه قول رسول
ال صلى ال عليه وسلم " :المؤمن القوي خير وأحبّ إلى ال من المؤمن الضعيف ،وفي ُكلّ خير
ن الَخْيرِفجاء
س وابْ ُ
" فهي بمعنى التفضيل ،أي :أخير منها ،ومن ذلك قول الشاعر:زَ ْيدٌ خِيارُ النّا ِ
بصيغة التفضيل على الصل ،وتقول :هذا حَسَن ،وذلك أحسن.
فالمعنى هنا { :مَن جَآءَ بِا ْلحَسَنَةِ فََلهُ خَيْرٌ مّ ْنهَا[ } ...القصص ]84 :أي :خير يجيئه من طريقها،
أو إذا عمل خيرا أعطاه ال أخير منه وأحسَن ،والمراد أن الحسنة بعشر أمثالها.
والحق سبحانه يعطينا صورة توضيحية لهذه المسألة ،فيقول سبحانه {:مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ
فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبَُلةٍ مّئَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَاعِفُ ِلمَن َيشَآ ُء وَاللّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة.]261 :
فقوله تعالى { :مَن جَآءَ بِالْحَسَ َنةِ[ } ...القصص ]84 :قضية عقدية ،تثبت وتُقرّر الثواب للمطيع،
حسَنَةِ[ } ...القصص ]84 :أي :أتى بها حدثا لم يكُنْ
والعقاب للعاصي ،ومعنى { مَن جَآءَ بِالْ َ
موجودا ،فحين تفعل أنت الحسنة فقد أوجدتَها بما خلق ال فيك من قدرة على الطاعة وطاقة لفعل
الخير.
أو المعنى :جاء بالحسنة إلى ال أخيرا لينال ثوابها ،ول مانع أن تتجمع له هذه المجيئات كلها
ليُقبل بها على ال ،فيجازيه بها في الخرة.
لكن ،هل ثواب الحسنة مقصور فقط على الخرة ،أم أن الدين بقضاياه جاء لسعادة الدنيا وسعادة
الخرة؟ فما دام الدين لسعادة الدارين فللحسنة أثر أيضا في الدنيا ،لكن مجموعها يكون لك في
الخرة.
وهذه الية جاءت بعد الحديث عن قارون ،وبعد أن نصحه قومه ،وجاء في نصحهم {:وََأحْسِن َكمَآ
حسَنَ اللّهُ إِلَ ْيكَ[} ...القصص ]77 :إذن :فطلبهم أن يُحسن كما أحسن ال إليه جاء في مجال ذكر
أَ ْ
الحسنة ،والحسنة أهي الشيء الذي يستطيبه النسان؟ ل ،لن النسان قد يستطيب الشيء ثم يجلب
عليه المضرة ،وقد يكره الشيء ول يستطيبه ،ويأتي له بالنفع.
فمن إذن الذي يحدد الحسنة والسيئة؟ ما دام الناس مختلفين في هذه المسألة ،فل يحددها إل ال
تعالى ،الذي خلق الناس ،ويعلم ما يُصلحهم ،وهو سبحانه الذي يعلم خصائص الشياء ،ويعلم ما
يترتب عليها من آثار ،أما النسان فقد خلقه ال صالحا للخير ،وصالحا للشر ،يعمل الحسن،
ويعمل القبيح ،وربما اختلطت عليه المسائل.
لذلك يقولون في تعريف الحسنة :هي ما حسّنه الشرع ،ل ما حسّنْتها أنت ،فنحن مثلً نستسيغ
بعض الطعمة ،ونجد فيها متعة ولذة ،مع أنها مُضرة ،في حين نأنف مثلً من أكل الطعام
المسلوق ،مع أنه أفيد وأنفع؛ لذلك يقول تعالى في صفة الطعام:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َفكُلُوهُ هَنِيئا مّرِيئا[} ...النساء ]4 :لن الطعام قد يكون هنيئا تجد له متعة ،لكنه غير مريء
ويُسبّب لك المتاعب بعد ذلك.
الحق سبحانه يقول هنا } :مَن جَآءَ بِا ْلحَسَ َنةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّ ْنهَا[ { ...القصص ]84 :فالحسنة خير ،لكن،
الثواب عليها خيرٌ منها أي :أخير؛ لنه عطاء دائم باقٍ ل ينقطع ،أو خير يأتيك بسببها .كما يقول
أصحاب اللغاز واللعب بالكلمات :محمد خير من ربه ،والمعنى :خير يصلنا من ال ،ول داعي
لمثل هذه اللغاز طالما تحتمل معنى غير مقبول.
ثم يقول سبحانهَ } :ومَن جَآءَ بِالسّيّ َئةِ[ { ...القصص ]84 :لم يقُل الحق سبحانه :فله أشر منها،
قياسا على الحسنة فنضاعف السيئة كما ضاعفنا الحسنة ،وهذه المسألة مظهر من مظاهر رحمة
ال بخَلْقه ،هذه الرحمة التي تتعدّى حتى إلى ال ُعصَاة من خَلْقه.
عمِلُواْ السّيّئَاتِ ِإلّ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { [القصص ]84 :أي :على َقدْرها
لذلك قال } فَلَ يُجْزَى الّذِينَ َ
دون زيادة.
عبَ أَتْرَابا
ق وَأَعْنَابا * َو َكوَا ِ
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى في سورة (عم) {:إِنّ لِ ْلمُ ّتقِينَ َمفَازا * حَدَآ ِئ َ
س َمعُونَ فِيهَا َلغْوا َولَ كِذّابا * جَزَآءً مّن رّ ّبكَ عَطَآءً حِسَابا }[النبأ.]36-31 :
* َوكَأْسا ِدهَاقا * لّ يَ ْ
فحسبانا هنا ل تعني أن الجزاء بحساب على قدر العمل ،إنما تعني كافيهم في كل ناحية من
نواحي الخير ،ومنه قولنا :حسبي ال يعني :كافيني.
وفي المقابل يقول سبحانه في السيئة {:جَزَآ ًء ِوفَاقا }[النبأ ]26 :أي :على قدرها موافقا لها.
إذن :فربنا -عز وجل -يعاملنا بالفضل ل بالعدل؛ ليغري الناس بفعل الحسنة ،وأنت حين تفعل
الحسنة فأنت واحد تُقدّم حسنتك إلى كل الناس ،وفي المقابل يعود عليك أثر حسنات الجماهير
كلها ،فينالك من كل واحد منهم حسنة ،وكأنه (أوكازيون) حسنات يعود عليك أنت.
ثم يقول الحق سبحانه لنبيه } :إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ.{ ...
()3262 /
إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآَنَ لَرَا ّدكَ إِلَى َمعَادٍ ُقلْ رَبّي أَعَْلمُ مَنْ جَاءَ بِا ْلهُدَى َومَنْ ُهوَ فِي ضَلَالٍ
مُبِينٍ ()85
معنى فرض :ألزم وأوجب وحتّم .وأصل الفَرْض الحزّ والقطع ،كما تقطع شيئا بالسكين مثلً
تُسمّى فرضا؛ لنها خرجتْ عن طبيعة تكوينها ،كذلك القرآن يُخرج النفس عن طبيعة ُمشْتهاها،
ويقطع عليها مشيئتها ،ويردّها إلى مشيئة ال؛ لذلك يقول سبحانه في أول سورة النور {:سُو َرةٌ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أَنزَلْنَاهَا َوفَ َرضْنَاهَا[} ...النور.]1 :
يعني :حتّمناها وألزمنا بها ،واللزام يعني ردّ النفس إلى ما يريده خالقها منها ،بصرْف النظر عما
تشتهيه هي ،فقد يأمرها بما تكره ،وينهاها عما تحب .إذن :يقطع سيال النفس؛ لنها عادة ما تكون
أمّارة بالسوء ،تنظر إلى العاجل ،ول تهتم بالجل ول تعمل له حسابا.
فالقرآن منهج ال بافعل ول تفعل ،هو الذي يكبح جماح النفس ،ويُحدّد لها مجال مشيئتها؛ لن
الخالق -عز وجل -خلق النفس ،وجعل مشيئتها صالحة لعمل الخير ،ولعمل الشر.
وسبق أن تكلمنا عن الفرق بين عباد وعبيد وقلنا :إن الخَلْق جميعا عبيد ال ،المؤمن منهم
والكافر ،وإنْ تأبّى الكافر على ال في اليمان ،فهو مقهور له تعالى في مسائل أخرى ،كالمرض
والموت وغيره ،ثم أعطانا ال تعالى مجالً للختيار ،ليثيب من يُثيب بحق ،يُعذّب بحق.
والعاقل حينما يرى أنه مقهور ل في قدريات ل يستطيع منها فكاكا ،وليس له فيها تصرف،
ن يكون مُسيّرا في كل شيء،
فيتنازل عن مراده ،وعن اختياره لمراد ربه واختيار ربه ،ويرضى أ ْ
وهنا يتحولون من عبيد إلى عباد.
فالعباد إذن هم الذين يخرجون عن اختياراتهم الممنوحة لهم من ال إلى مراد ال في الحكم ،وبهذا
المنطق يكون الجميع في الخرة عبادا؛ لنه ل اختيار لهم ،ويستوي في ذلك المؤمن والكافر ،يوم
يقول سبحانهّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
سمّي إنزال القرآن فَرْضا لما في القرآن من تكاليف ،وهي عادةً ما تكون شاقة على النفسَ ،ألَ
وُ
شعِينَ }[البقرة.]45 :
ترى قوله تعالى عن الصلة ،وهي أم العبادات {:وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى ا ْلخَا ِ
فل يعرف منزلتها ومكانتها إل خاشع؛ لذلك كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول لبلل " :أرحنا
جعَِلتْ قرة عيني في الصلة " ؛ لنه أحبها وعشقها ،حتى صارت قُرّة
بها يا بلل " ويقول " :و ُ
عينه ،ومُنْتهى راحته.
إذن :أول ما يفرض التكليف ل بُدّ أن يكون شاقا؛ لذلك يحتاج إلى صلة إيمان وجَلَد يقين ،بحيث
تثق في أن العمل الشاق عليك الن سيجلب لك الخير والسعادة الباقية الدائمة في الخرة.
ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ[} ....البقرة ]216 :فل شكّ أنه مكروه
ويقول تعالى عن القتال {:كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ
للنفس ،لكن إن استحضرت الجزاء ،وعرفتَ أنه :إما النصر ،وإما الشهادة ،فإنه يحلو لك حتى
تعشقه ،وتبادر أنت إليه ،كالصحابي في بدر بعد أن سمع ما للشهيد من الجر وكان في فمه تمرة
يمضغها فقال " :أليس بيني وبين الجنة إل أنْ أقاتل فأُقتل "؟ ثم ألقى التمرة وأسرع إلى ساحة
القتال.
لذلك الحق سبحانه يُضخم الجزاءات في نفس المؤمن؛ ليقبل على العمل بحب وشهوة .ومن هنا
يقول بعض العارفين الذين عشقوا الخير حتى أصبح شهو َة نفْس عندهم :أخشى ألّ يُثيبني ال على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الطاعة ،لماذا؟ يقول :لنني أصحبتُ أشتهيها ،أي :كما يشتهي أهل المعصية المعصية.
وحين يصل اليمان بصاحبه إلى درجة أنه يعشق الطاعة ،فقد أصبح ربانيا يثق فيما عند ال من
الجزاء.
" وكان النبي صلى ال عليه وسلم يقوم الليل حتى تور َمتْ قدماه ،فلما سألتْه السيدة عائشة :ألم
يغفر لك ربك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال " :أفل أكون عبدا شكورا "؟ "
ومعنى } :لَرَآ ّدكَ إِلَىا َمعَادٍ[ { ...القصص ]85 :يعني :يجازيك أفضل الجزاء ،ونزلتْ هذه الية
لما اضطهد أهلُ مكة رسولَ ال وآذوْه ،حتى اضطروه للذهاب إلى الطائف ليبحث فيها عن
نصير ،لكنهم لم يكونوا أقلّ قسوة من أهل مكة ،فعزّ على رسول ال النصير فيها ،وعاد منكسرا
حزينا لم يجد مَنْ يدخل في جواره ،إلى أن أجاره مطعم بن عدي.
وتأمل حين يكون رسول ال بجللة قدره ل يجد مَنْ يناصره ،أو يُدخله في جواره ،أما الصحابة
فلم تكُنْ لهم شوكة بعد ،ول قوة لحماية رسول ال ،وفي هذه الفترة لقوا المشاق في سبيل الدعوة،
شعْب أبي طالب ،وفرضوا عليهم المقاطعة التامة حتى عزلوهم عن الناس،
فحاصرهم الكفار في ِ
ومنعوا عنهم الطعام والشراب ،والبيع والشراء ،حتى الزواج ،وحتى اضطروا إلى أكل المخلّفات
وأوراق الشجر.
لذلك أمرهم ال بالهجرة ،والهجرة تكون إلى دار أمن ،أو إلى دار اليمان ،إلى دار أمن كالهجرة
إلى الحبشة حيث قال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم مُبيّنا حيثية الهجرة إليها " :إن فيها ملكا
ل يُظلم عنده أحد " يعني :النجاشي ملك الحبشة ،وفعلً صدق فيه قول رسول ال ،فلما أرسلتْ
قريش في إثرهم مَنْ يكلم النجاشي في طلبهم وإعادتهم إلى مكة ،رفض أن يسلمهم ،وأن يُمكّن
قريشا منهم ،مع أن هدايا قريش كانت عظيمة ،والغراء كان كبيرا.
وهذا يدل على عظمة رسول ال ،وعلى فكره الواسع ،وعلى دراسة الخريطة من حوله ،ومعرفة
مَنْ يصلح لهجرة صحابته إليه ،فاختياره ملك الحبشة ل يأتي إل إما بإلهام من ال ،أو بذكاء كبير،
وهو رجل أمي في أمة أمية ،ولو لم يذهب وفد قريش في طلب المهاجرين ما ظهر لنا الدليل على
صدق مقولة رسول ال.
ونتيجة " ل يظلم عنده أحد " فقد شرّفه ال بالسلم فأسلم ووكّله رسول ال في أن يُزوّجه من
السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان ،وكانت رضي ال عنها من المهاجرين الوائل إلى الحبشة مع
زوجها الذي تنصّر هناك ،وبقيتْ هي على دينها وتمسكتْ بعقيدتها.
وفي هذا دليل أولً :على مدى ما كان يلقيه المؤمنون من إيذاء الكافرين ،ثانيا :دليل على الطاعة
الواعية للزوج ،فقد آثرت الخروج مع زوجها ل عِشْقا له ،ول هياما به ،إنما فرارا معه بدينها؛
لذلك لما تنصّر لم تتردد في تركه؛ لذلك طلبها رسول ال لنفسه ،ثم لما مات النجاشي صلى عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
رسول ال وترحّم عليه .هذه هي هجرة اليمان إلى دار المن.
ثم كانت الهجرة بعد ذلك إلى دار اليمان ،إلى المدينة ،بعد بيعة العقبة الولى والثانية ،وبعد أن
وجد رسول ال أنصارا يتحملون معه أعباء الدعوة ،وقد ضرب النصار في المدينة أروع مَثَل
في التضحية التي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.
ذلك أن الرجل أغير ما يكون على زوجته ،فل يضِنّ على غيره بما يملك ،فتعطيني سيارتك
أركبها ،أو بيتك أسكن فيه ،أو ثوبك ألبسه ،وأتقمّش به ،أما الزوجة فتظل مصونة ل يجرؤ أحد
على النظر إليها.
لكن كان للنصار في هذه المسألة نظرة أخرى حين أشركوا إخوانهم المهاجرين في كل شيء
حتى في زوجاتهم ،فقد راعوا فيهم خروجهم من أهلهم وبلدهم ،وراعوا غربتهم وما لهم من إرْبة
وحاجة النساء.
فكان الواحد منهم يقول لخيه :انظر إلى زوجاتي ،فأيتهنّ أعجبتك أُطلّقها ،وتتزوجها أنت ،هذه
تضحية ل نجد لها مثيلً في تاريخ الناس حتى عند الكفرة.
خفْية في حين خرج عمر مثلً
ثم ُأمِر رسول ال صلى ال عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة ،فخرج ُ
جهرا وعلنية ،حتى إنه وقف ينادي في أهل مكة بأعلى صوته يتحدى أهلها عند خروجه :مَنْ
أراد أنْ تثكله أمه ،أو ييُتم ولده ،أو تُرمّل زوجته فليلْقني خلف هذا الوادي.
خفْية ،وهذه المسألة يقف عندها البعض أو َتخْفي عليه الحكمة منها،
أما رسول ال فقد خرج ُ
فرسول ال صلى ال عليه وسلم كان دائما أُسْوة للضعيف ،أما القوي فل يحتاج إلى حماية أحد،
ول عليه إنْ خرج علنية؛ لذلك ل يستحي أحد أن يتخفى كما تخفى رسول ال.
خفْية التحدي ،فقد خرج من بين فتيانهم
خفْية لكنها ُ
ثم إنك حين تتأمل :نعم خرج رسول ال ُ
المتربصين به ،وعفّر وجوههم بالتراب ،وهو يقول " :شاهت الوجوه ".
ومع ذلك لم يمنعه تأييد ال له أنْ يأخذ بأسباب النجاة ،فخالف الطريق؛ لن كفار مكة كانوا
يعرفون أن وجهته المدينة لما عقد بيعة العقبة مع النصار؛ لذلك ترصدوا له على طريقها،
جعْلً لمن يأتيهم به صلى ال عليه وسلم.
وأرسلوا العيون للبحث عنه ،وجعلوا ُ
والمتأمل في حادث الهجرة يجد أنها خطة محكمة تراعي كل جوانب الموقف ،كأن ال تعالى يريد
ل نهمل السباب ،وألّ نتصادم مع الواقع ما
أنْ يُعلّمنا في شخص رسول ال صلى ال عليه وسلم أ ّ
ُدمْنا قادرين على ذلك.
فلما خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكة وهي بلده ،وأحب البلد إلى قلبه قال " :اللهم
إنك أخرجتني من أحب البلد إليّ ،فأسكنّي أحب البلد إليك ".
لذلك إنْ كانت مكةُ محبوبةً لرسول ال ،فالمدينة محبوبة ل؛ لذلك بعد أن خرج رسول ال من مكة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقارب المدينة حَنّ قلبه إلى مكة ،فطمأنه ربه بهذه الية } :إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لَرَآ ّدكَ
إِلَىا َمعَادٍ[ { ...القصص.]85 :
فالذي فرض عليك مشقة التكاليف ،وحمّلك مشاق الدعوة والقناع بها ،وتنفيذ أحكامها ،هو الذي
سيردّك إلى بلدك ردّ نصر ،وردّ فتح ،وما أشبهَ ردّ رسول ال إلى بلده بردّ موسى عليه السلم
إلى أمه في قوله تعالى لم موسى {:إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْيكِ[} ...القصص ]7 :ليس رَدّا عاديا ،إنما{
وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص.]7 :
إذن :سيُردّ إليك ولدك ،لكن سيُرد رسولً منتصرا .وكما صدق ال في ردّ موسى يصدق في ردّ
محمد.
ومعنى } َمعَادٍ[ { ...القصص ]85 :ليس هو الموعد كما يظن البعض ،إنما يراد به المكان الذي
تعود إليه بعد أن تفارقه ،فالمعنى :سنردّك إلى المكان الذي تحِنّ إليه ،ويتعلق به قلبك.
أو نردك إلى (معاد) أي :إلينا ،كما قال تعالى {:فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا
جعُونَ }[غافر ]77 :ول مانع من إرادة المعنيين معا.
يُرْ َ
للٍ مّبِينٍ { [القصص]85 :
ثم يقول سبحانه } :قُل رّبّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِا ْل ُهدَىا َومَنْ ُهوَ فِي ضَ َ
الحق تبارك وتعالى يعلّم رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم الجدل العفيف ،ل الجدل العنيف،
يُعلّمه كيف يردّ على ما قالوا عن الذي يؤمن به (صبأ فلن) يعني :خرج عن دين آبائه وهم
يعتقدون أنه الحق ،فكأن الذي يؤمن في نظرهم خرج من الحق إلى الباطل.
حسَنُ} ...
إذن :فهذه عقول تحتاج إلى سياسة وجدل ،كما قال سبحانه {:وَجَا ِد ْلهُم بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
[النحل]125 :؛ لن الجدل العنيف يزيد خصمك عنادا ولجاجة ،أما الجدل العنيف فيستميل القلوب
ويعطفها نحوك؛ لذلك يرد رسول ال بقوله } :قُل رّبّي أَعَْلمُ مَن جَآءَ بِا ْلهُدَىا َومَنْ ُهوَ فِي ضَلَلٍ
مّبِينٍ { [القصص ]85 :أي :جاء بالهدى من عند ال وهو النبي صلى ال عليه وسلمَ } :ومَنْ ُهوَ
للٍ مّبِينٍ { [القصص.]85 :
فِي ضَ َ
ثم يعطي الحق -تبارك وتعالى -لنبيه صلى ال عليه وسلم دليلً من واقع حياته؛ ليطمئن على
أنه مُؤيّد من ربه ،وأنه سبحانه سيفي له بما وعد ،ولن يتخلى عنه ،وكيف يختاره للرسالة ،ثم
يتخلى عنه؟
()3263 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعني :إذا كنت تتعجب ،أو تستبعد أنْ نردّك إلى بلدك؛ لن الكفار يقفون لك بالمرصاد ،حتى
أصبحت ل تُصدّق أنْ تعود إليها ،فانظر إلى أصل الرسالة معك :هل كنت تفكر أو يتسامى
ن في بالك ،ومع ذلك أعطاك ال إياه واختارك له،
طموحك إلى أنْ تكون رسولً؟ إنه أمر لم يكُ ْ
فالذي أعطاك الرسالة ولم تكُنْ في بالك كيف يحرمك من أمر أنت تحبه وتشتاق إليه؟
صدْق{ لَرَآ ّدكَ إِلَىا َمعَادٍ[} ...القصص ]85 :وفي
إذن :تقوم هذه الية مقامَ الدليل والبرهان على ِ
موضع آخر يؤكد الحق سبحانه هذا المعنى ،فيقول سبحانهَ {:وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا
جعَلْنَاهُ نُورا ّنهْدِي بِهِ مَن نّشَآء[} ...الشورى]52 :
ن وَلَـاكِن َ
ل الِيمَا ُ
مَا كُنتَ َتدْرِي مَا ا ْلكِتَابُ وَ َ
فالذي أعطاك الرسالة ل يعجز أن يحقق لك ما تريد.
حمَةً مّن رّ ّبكَ[ } ...القصص ]86 :هذا استثناء يسمونه استثناء منقطعا.
وقوله تعالىِ { :إلّ رَ ْ
والمعنى :ما كنت ترجو أن يُلْقى إليك الكتاب إنما ألقيناه ،وما ألقيناه إليك إل رحمة لك من ربك.
وما دام هؤلء الكفار عاندوك وأخرجوك ،فإياك أنْ تلين لهم { فَلَ َتكُونَنّ ظَهيرا لّ ْلكَافِرِينَ }
[القصص ]86 :أي :معينا لهم مساندا ،وكانوا قد اقترحوا على رسول ال أن يعبد آلهتهم سنة،
ويعبدون إلهه سنة ،فحذره ال أنْ يُعينهم على ضللهم ،أو يجاريه في باطلهم ،لذلك كان النبي
صلى ال عليه وسلم ل يناصر ظالما أو مجرما ،حتى إن كان من أتباعه.
حكُمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ
وسبق أن ذكرنا في تأويل قوله تعالى {:إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِ َت ْ
خصِيما }[النساء ]105 :قصة اليهودي زيد بن السمين لما جاءه المسلم
اللّ ُه َولَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ َ
طعْمة بن أبيريق ،وأودع عنده دِرْعا له ،وكان هذا الدرع مسروقا من آخر اسمه قتادة بن
ُ
النعمانَ ،فلما افتقده قتادة بحث عنه حتى وجده في بيت اليهودي ،وكان السارق قد وضعه في
كيس للدقيق ،فدلّ أثر الدقيق على مكان الدرع فاتهموا اليهودي بالسرقة ،ولما عرفوا حقيقة
الموقف أشفقوا أن ينتصر اليهودي على المسلم ،خاصة وهم حديثو عهد بالسلم ،حريصون على
ألّ تُشوه صورته.
لذلك شرحوا لرسول ال هذه المسألة ،لعله يجد لها مخرجا ،فأدار رسول ال المسألة في رأسه قبل
حكُمَ بَيْنَ
حكْما؛ وعندها نزل الوحي على رسول ال {:إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِتَ ْ
أنْ يأخذ فيها ُ
النّاسِ[} ...النساء ]105 :أي :جميع الناس ،المؤمن والكافر{ ِبمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ
غفُورا
خصِيما }[النساء ]105 :أي :تخاصم من أجلهم ولصالحهم{ وَاسْ َتغْفِرِ اللّهَ إِنّ اللّهَ كَانَ َ
َ
رّحِيما }[النساء ]106 :أي :مما خطر ببالك في هذه المسألة.
وفي بعض اليات نجد في ظاهرها قسوة على رسول ال وشدة مثل {:وََلوْ َت َقوّلَ عَلَيْنَا َب ْعضَ
طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ }
لقَاوِيلِ * لَخَذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ * ُثمّ َلقَ َ
اَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[الحاقة.]46-44 :
وكل ما يكون في القرآن من هذا القبيل ل يُقصد به سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ،إنما
الحق سبحانه يريد أن يعطي للمة نموذجا يلفت أنظارهم ،وكأنه تعالى يقول لنا :انتبهوا فإذا كان
الخطاب لرسول ال بهذه الطريقة ،فكيف يكون الخطاب لكم؟
كأن يكون عندك خادم يعبث بالشياء حوله ،فتُوجّه الكلم أنت إلى ولدك :وال لو عبثتَ بشيء
لفعلنّ بك كذا وكذا ،فتوجّه الزجر إلى الولد ،وأنت تقصد الخادم ،على حَدّ المثل القائل (إياك
أعني واسمعي يا جارة).
ي صَاحبِ البشَارةِفكُنْ لَبيبا وا ْفهَم
لذلك يقول بعض العارفين:مَا كان في القُرآن مِنْ نِذَارةٍ إلى النب ّ
الشَارةَ إيّاك أعني واسْمعِي يَا جَارةيعني :اسمعوا يا أمة محمد ،كيف أخاطبه ،وأُوجّه إليه النذارة،
مع أنه البشير.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ولَ َيصُدّ ّنكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ َبعْدَ.{ ...
()3264 /
صدّ ّنكَ[ } ...القصص ]87 :أي :ل يصرفنك ول يمنعنّك المشركون { عَنْ
قوله تعالىَ { :ولَ َي ُ
آيَاتِ اللّهِ[ } ...القصص ]87 :أي :قراءتها وتبليغها للناس ،وقولهَ { :ولَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }
[القصص ]87 :هذا أيضا داخل في (إياك أعني واسمعي يا جارة) لن رسول ال أبعد ما يكون
عن الشرك ،وليس مظنة له.
()3265 /
جعُونَ ()88
حكْ ُم وَإِلَيْهِ تُرْ َ
جهَهُ لَهُ ا ْل ُ
شيْءٍ هَاِلكٌ إِلّا وَ ْ
وَلَا تَ ْدعُ مَعَ اللّهِ إَِلهًا َآخَرَ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ ُكلّ َ
قوله تعالىَ { :ولَ َت ْدعُ مَعَ اللّهِ إِلَـاها آخَرَ[ } ...القصص ]88 :كسابقتها؛ لن رسول ال صلى
ال عليه وسلم ليس مظنة أن يدعو مع ال إلها آخر { لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ[ } ...القصص ]88 :أي :ل
معبودَ بحق إل هو.
ولو كان معه سبحانه وتعالى آلهة أخرى لواجهوهُ {:قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س َعوْا إليه لينازعوه اللوهية ،أو ليتقرّبوا إليه.
إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء ]42 :أيَ :
جهَهُ[ } ...القصص ]88 :الوجه في عُرْفنا ما به المواجهة في النسان،
ل وَ ْ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ
{ ُكلّ َ
وكل شيء يصف به الحق سبحانه نفسه علينا أنْ نصفه سبحانه به ،بنا ًء على وصفه في إطار
شيْءٌ[} ...الشورى.]11 :
قوله سبحانه{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
فالحق سبحانه له وجه ،لكن ليس ككل الوجوه ،وهكذا في كل الصفات التي يشترك فيها الحق
سبحانه مع الخَلْق ،وأنت آمنتَ بوجود ال ،وأن وجوده ذاتي ،ليس كوجودك أنت.
شيْءٍ[ } ...القصص ]88 :كلمة شيء يقولون :إنها جنس الجناس يعني :أي موجود
وقولهُ { :كلّ َ
طرأ عليه الوجود يسمى (شيء) مهما كان تافها ضئيلً .وقد تكلم العلماء في أيطلق على ال تعالى
أنه شيء لنه موجود؟
قالوا :ننظر في أصل الكلمة (شيء) من شاء شيئا ،فالشيء شاءه غيره ،فأوجده؛ لذلك ل يقال ل
تعالى شيء؛ لنه سبحانه ما شاءه أحد ،بل هو سبحانه موجود بذاته.
حمْ ِدهِ[} ....السراء:
شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ ِب َ
وفي آية أخرى يقول تعالى في عمومية الشيء {:وَإِن مّن َ
]44يعني :كل ما يُقال له شيء موجود سبق وجوده عدم ،إل يسبح بحمد ال ،البعض قال :هو
تسبيح دللة على موجدها ،وليس تسبيح مقالة حقيقية ،لكن قوله سبحانه{ وَلَـاكِن لّ َت ْفقَهُونَ
حهُمْ[} ...السراء ]44 :يدل على أنه تسبيح حقيقي ،فكل شيء يُسبّح بلغته وبما يناسبه.
تَسْبِي َ
وقد أثبت ال تعالى منطقا للطير وتسبيحا للجبال ،ولو فهمتَ لغة هذه الشياء لمكنك أنْ تعرف
تسبيحها ،لكن كيف نطمع في معرفة لغات الحجر والشجر ،ونحن ل نفهم لغات بعضنا ،فإذا لم
تكن تعرف مثلً النجليزية ،أتعرف ماذا يقول المتحدث بها لو سبّح بها ال وهو بشر مثلك يتكلّم
بنفس طريقتك وبنفس الصوات؟
لذلك يقولون في معجزاته صلى ال عليه وسلم :سبّح الحصى في يده ،والصواب أن نقول :سمع
رسول ال تسبيح الحصى في يده ،وإلّ فالحصى يُسبّح في يد رسول ال ،ويُسبّح في يد أبي جهل.
ومن ذلك أيضا حنين الجذع لرسول ال صلى ال عليه وسلم .ثم ألم يقل الحق سبحانه {:وََأوْحَىا
حلِ[} ...النحل.]68 :
رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ
ألم َي ُقلْ عن الرض {:بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة]5 :؟ ألم يُثبت للنملة كلما؟ ألم يكلم الهدهد
سليمان عليه السلم ،وفهم منه سليمان؟
علِ َم صَلَتَهُ
إذن :لكل جنس من المخلوقات لغته التي يفهمها أفراده عن بعض{ ُكلّ قَدْ َ
حهُ[} ...النور ]41 :وإنْ شاء ال أطلع بعض خَلْقه على هذه اللغات ،وأفهمه إياها.
وَتَسْبِي َ
ومعنى } :هَاِلكٌ[ { ...القصص ]88 :البعض يظن أن الهلك خاصّ بما فيه روح كالنسان
حيّ عَن بَيّ َنةٍ} ...
والحيوان ،لكن لو وقفنا عند قوله تعالى {:لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[النفال.]42 :
إذن :فالهلك يقابله الحياة ،فكل شيء يهلك كانت له حياة تناسبه ،وإنْ كنا ل نفهم إل حياتنا نحن،
والتي تذهب بخروج الروح.
جهَهُ[ { ...القصص ]88 :أي :إل ذاته تعالى ،ولم ي ُقلْ :إل هو؛ لنه تعالى ليس
ل وَ ْ
ومعنىِ } :إ ّ
شيئا ،وللوجه هنا معنى آخر ،كما نقول :فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجه ال يعني :فعلت وال في بالي،
فالمعنى :كل شيء هالك ،إل ما كان لوجه ال ،فل يهلك أبدا؛ لنه يبقى لك وتنال خيره في الدنيا
وثوابه في الخرة.
جعُونَ { [القصص ]88 :أي :له الحكم في الخرة يوم يقول{:
ح ْك ُم وَإِلَيْهِ تُ ْر َ
ثم يقول سبحانهَ } :لهُ الْ ُ
ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ[} ...غافر ]16 :لكن لماذا خصّ الملك يوم القيامة ،وهو سبحانه له الملْك الدائم
في الدنيا وفي الخرة؟ قالوا :لن هناك مُلْكا في الدنيا ،يُملّكه لخَلْقه ،كما قال سبحانه في النمرود{:
أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ[} ...البقرة ]258 :وقال سبحانهُ {:تؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ
تَشَآءُ[} ...آل عمران.]26 :
إذن :فالملْك مُلْك ال ،وهو سبحانه الذي يُملّك خَلْقه في الدنيا دنيا السباب ،لكن في الخرة تُنزع
الملكية من أيّ أحد إل ل وحده .حتى إرادة النسان على جوارحه تُسلَب منه ،فتشهد عليه بما كان
منه في الدنيا.
وإنْ أردتَ أن تعرف الن صِدْق هذه المسألة فانظر إلى المور القدرية التي تجري عليك،
كالمرَض وكالموت وغيرها ،هل تستطيع أن تتأبى عليها؟
جعُونَ { [القصص ]88 :أي :للحساب في الخرة؛ لن ال تعالى لم
ثم يقول سبحانه } :وَإِلَيْهِ تُ ْر َ
يخلقنا عَبثا ،ولن يتركنا هملً ،بل ل بد من الرجوع إليه ليحاسب كلً منكم على ما قدّم ،وما ُدمْتم
قد عرفتم ذلك ،فعليكم أن تحترموا المرجع إلى ال ،وتنظروا ماذا طلب منكم.
والمتتبع لهذا الفعل في القرآن يجد أنه جاء مرة مبنيا للمجهول (تُرجعون) وهو للكافر الذي تأبّى
على ال ،فنقول له :ستُرجع إلى ال ،وتٌقذف في النار غَصبا عنك ،ورَغْما عن أنفك ،فإنْ تأبّ ْيتَ
على ال في الدنيا ،فلن تتأبّى عليه في الخرة ،ويأتي مبنيا للمعلوم (ترجعون) وهو للمؤمن الذي
يشتاق لثواب الخرة فيتهافت بنفسه ويُقبل عليه.
()3266 /
الم ()1
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبق أنْ تكلمنا كثيرا عن الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن ،كلما تكررت هذه الظاهرة
نتكلم عن مجالت الذهان في فهمها ،وما دام الحق سبحانه يُكررها فعلينا أيضا أن نُكرّر الحديث
عنها ،ولماذا ينثر ال هذه الظاهرة في سور القرآن؟ لتظل دائما على البال.
ي في كل آياته وسوره على ال َوصْل ،ل على الوقف ،اقرأ{:
وقلنا :إن القرآن الكريم مبن ّ
>مُدْهَآمّتَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * فِي ِهمَا عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
[الرحمن.]67-64 :
فلم يقل{ فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ }[الرحمن ]65 :ويقف ،إنما وصل {:فِي ِهمَا عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ }
[الرحمن ]66 :لن القرآن موصول ،ل فصلَ أبدا بين آياته؛ لذلك ليس في القرآن من وقف
واجب ،إنما لك أن تقف لضيق النفَس ،لكن حينما تعيد تعيد بالوصل.
وكذلك القرآن مبنيّ على الوَصْل في السور ،فحين تنتهي سورة ل تنتهي على سكون ،فلم َيقُلْ -
سمِ ال الرّحْمنِ الرّحيم) ليبدأ
جعُونَ ب ْ
سبحانه وتعالى -وإليه ترجعونْ بسكون النون ،إنما (تُرْ َ
سورة أخرى موصولة.
فهذه إذن سمة عامة في آيات القرآن وسُوره إل في الحروف المقطّعة في أوائل السور ،فهي مبنية
على الوقف ألفْ لمْ ميمْ هكذا بالسكون ولم يقل :ألفٌ لمٌ ميمٌ على ال َوصْل ،لماذا؟ لنها حروف
مُقطّعة ،قد يظنها البعض كلمة واحدة ،ففصَل بينها بالوقف.
لذلك يقول صلى ال عليه وسلم " :ل أقول الم حرف .ولكن ألف حرف ،ولم حرف ،وميم حرف
" وليؤكد هذا المعنى جعلها على الوقف ،كل حرف على حدة.
وتكلمنا على هذه الحروف وقلنا :إنها خامات القرآن ،فمن مثل هذه الحروف يُنسج كلم ال،
ل ل تعطي أحدهم قطنا ،والخر
وقلنا :إنك إنْ أردتَ أن تُميّز مهارة النسْج عند بعض العمال مث ً
صوفا ،والخر حريرا مثلً؛ لنك ل تستطيع التمييز بينهم ،لن الخامات مختلفة ،فالحرير بطبيعته
سيكون أنعم وأرقّ .فإنْ أردتَ معرفة المهارة فوحّد المادة الخام عند الجميع.
فكأن الحق -تبارك وتعالى -يقول لنا :إن القرآن ُمعْجز ،بدليل أنكم تملكون نفس حروفه ،ومع
ذلك عجزتُمْ عن معارضته ،فقد استخدم القرآن نفس حروفكم ،ونفس كلماتكم وألفاظكم ،وجاء بها
في صورة بليغة ،عَزّ عليكم التيان بمثلها.
إذن :اختلف أسلوب القرآن ،لن ال تعالى هو الذي يتكلم .فمعنى (ألم) هذه نفس حروفكم فأتوا
بمثلها.
أو( :ألم) تحمل معنى من المعاني؛ لن ألف لم ميم أسماء حروف ،وأسماء الحروف ل يعرفها
ي يقول (كتب) لكن ل يعرف أسماء حروفها ،وتقول للولد الصغير في المدرسة:
إل المتعلم ،فالُم ّ
تهجّ كتب فيقول لك (كاف فتحة كَ) و (تاء فتحة تَ) و (باء فتحة بَ).
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :ل يعرف أسماء الحروف إل المتعلم ،وسيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم كان أميا ،فمن
أين نطق بأسماء الحروف الم ،طه ،يس ،ق.
ي في
..إلخ .إذن :ل ُبدّ أن ربه علّمه ولقّنه هذه الحروف ،ومن هنا جاءت أهمية التلقين والتلق ّ
ك صَدْ َركَ }[الشرح]1 :
تعلّم القرآن ،وإل فكيف يُفرّق المتعلم بين (الم) هنا وبين{ أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ
فينطق الولى على الوقْف ،والخرى على ال َوصْل ،ينطق الولى بأسماء الحروف ،والثانية
بمُسمّياتها؟
وتحمل (الم) أيضا معنى التنبيه للسامع ،فالقرآن نزل بأسلوب العرب ولغتهم ،فل ُبدّ أن تتوفر له
خصائص العربية والعربية الراقية ،فلو قرأنا مثلً في الشعر الجاهلي نجد عمرو بن كلثوم
صحْنِك فَاصْبِحينَا ولَ تُبقِي خمور الندرينانسأل :ماذا أفادت (َألَ) هنا ،والمعنى
يقولَ:ألَ هُبّي ب َ
يصح بدونها؟ (أل) لها معنى عند العربي؛ لنها تنبهه إنْ كان غافلً حتى ل يفوته شيء من كلم
مُحدّثه ،حينما ُيفَاجأ به ،كما تنادي أنت الن مَنْ ل تعرفه فتقول( :اسمع يا )...كأنك تقول له :تنبه
لنني سأكلمك.
والتنبيه جاء في اللغة من أن المتكلم يتكلّم برغبته في أي وقت ،أما السامع فقد يكون غافلً غير
مُنتبه ،أو ليس عند استعداد لنْ يسمعَ ،فيحتاج لمن يُنبّهه ليفهم ما يُقال له ،إنما لو فاجأتَه بالمراد،
فربما فاته منه شيء قبل أنْ يتنبه لك.
وكذلك في (الم) حروف للتنبيه ،على أنه سيأتي كلم نفيس اسمعه جيدا ،إياك أنْ يضيع منك
حرف واحد منه .كما يصح أنْ يكون لهذه الحروف معانٍ أخرى ،يفهمها غيرنا ممّنْ فتح ال
عليهم .فهي -إذن -معين ل ينضب ،يأخذ منه ُكلّ على قَدْره.
سبَ النّاسُ أَن.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :أَحَ ِ
()3267 /
سبَ النّاسُ أَنْ يُتْ َركُوا أَنْ َيقُولُوا َآمَنّا وَهُمْ لَا ُيفْتَنُونَ ()2
حِأَ َ
الفعل (حسِب) بالكسر في الماضي ،وبالفتح في المضارع (يحسَب) يعني :ظن .أما (حسَب)
والمضارع (يحسِب) بالكسر أي :عَدّ.
سبَ النّاسُ[ } ...العنكبوت ]2 :أي :ظنوا .والهمزة للستفهام ،وهي تفيد نفي هذه
حِفالمعنى { :أَ َ
الظن وإنكاره ،لنهم حَسِبوا وظنوا أنْ يتركهم ال دون فتنة وتمحيص واختبار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحق سبحانه يريد أن يحمل أولوا العزم رسالة السلم؛ لن السلم ل يتصدّى لحمل دعوته إل
أقويا ُء اليمان الذين يقدرون على حمل مشاق الدعوة وأمانة تبليغها.
ن يؤمنوا؛
ت كفار مكة أ ْ
واليمان ليس كلمة تُقال ،إنما مسئولية كبرى ،هذه المسئولية هي التي منع ْ
لنهم يعلمون أن كلمة ل إله إل ال ليست مجرد كلمة وإل َلقَالوها ،إنما هي منهج حياة له
متطلبات .إنها تعني :ل ُمطَاعَ إل ال ،ول معبود بحقّ إل ال ،وهم ل يريدون هذه المسألة لتظل
لهم مكانتهم وسلطتهم الزمنية.
سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن َيقُولُواْ آمَنّا[ } ...العنكبوت ]2 :فاليمان
لذلك يقول سبحانه هنا { :أَحَ ِ
ليس َق ْولً فحسب؛ لن القول قد يكون صِدْقا ،وقد يكون كذبا ،فل ُبدّ بعد القول من الختبار
وتمحيص اليمان { وَهُ ْم لَ ُيفْتَنُونَ } [العنكبوت ]2 :فإنْ صبر على البتلءات وعلى المحن فهو
صادق اليمان.
ويؤكد سبحانه هذا المعنى في آية أخرىَ {:ومِنَ النّاسِ مَن َيعْبُدُ اللّهَ عَلَىا حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ
جهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا وَالَخِ َرةَ[} ...الحج.]11 :
طمَأَنّ ِب ِه وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ا ْنقَلَبَ عَلَىا وَ ْ
ا ْ
وقد محّص ال السابقين الولين من المؤمنين بآيات وخوارق تخالف الناموس الكوني ،فكان
صدْق الرسول الذي جاء بها ،أما المتردد المتحيّر فيُكذّب بها ،ويراها
المؤمن يُصدّق بها ،ويؤمن ب ِ
غير معقولة.
" ومن ذلك ما كان من الصّدّيق أبي بكر في حادثة السراء والمعراج ،فلمّا حدّثوه بما قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم قال " :إنْ كان قال فقد صدق " في حين ارتد البعض وكذّبوا ،وكأن الحق
-تبارك وتعالى -يريد من هذه الخوارق ،التي يقف أمامها العقل -أنْ يُميّز بين الناس ليحمل
أمر الدعوة أشداءُ اليمان والعقيدة ،ومَنْ لديهم يقين بصِدْق الرسول في البلغ عن ربه.
وسبق أنْ بيّنا غباء مَنْ َكذّب بحادثة السراء والمعراج من كفار مكة الذين قالوا لرسول ال:
أتدّعي أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد البل شهرا؟ وأنهم غفلوا أو
تغافلوا عن نص الية {:سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ[} ...السراء ]1 :فلم يقل محمد :إني سريت
بنفسي إنما ُأسْري بي.
وقلنا للرد عليهم :لو جاءك رجل يقول لك :لقد صعدتُ بولدي الرضيع قمة إفرست مثلً ،أتقول
له :كيف يصعد الرضيع قمة إفرست؟
وسبق أنْ تكلّمنا في قضية ينبغي أن تظل في أذهانكم جميعا ،وهي أن كل فعل يأخذ نصيبه من
الزمن على قَدْر قوة فاعله ،فالوزن الذي ينقله الطفل الصغير في عدة مرات تحمله أنت في يد
واحدة.
فالزمن يتناسب مع القوة تناسبا عكسيا فكلما زادت القوة قلّ الزمن ،فالذي يذهب مثلً إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السكندرية على حمار غير الذي يذهب في سيارة أو على مَتْن طائرة .وهكذا.
إذن :قِسْ على قدر قوة الفاعل ،فإنْ كان السراء بقوة ال تعالى ،وهي قوة القوى فل زمن ،وهذه
مسألة يقف عندها العقل ،ول يقبلها إل باليمان.
إذن :فالحق سبحانه يُمحّصكم ويبتليكم؛ لنه يريدكم لمهمة عظيمة ،ل يصلح لها إل الصنديد القوي
في إيمانه ويقينه.
لمَوَالِ
ف وَالْجُوعِ وَنَ ْقصٍ مّنَ ا َ
خ ْو ِ
شيْءٍ مّنَ الْ َ
لذلك يقول سبحانه في أكثر من موضع {:وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ ِب َ
س وَال ّثمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ }[البقرة.]155 :
وَالَنفُ ِ
ن وَنَبُْلوَاْ َأخْبَا َركُمْ }[محمد.]31 :
وقال {:وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ حَتّىا َنعْلَمَ ا ْلمُجَا ِهدِينَ مِنكُ ْم وَالصّابِرِي َ
وقال {:أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَ ْدخُلُواْ الْجَنّ َة وََلمّا َيعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَا َهدُواْ مِنكُمْ[} ...آل عمران.]142 :
فهذه البتلءات كالمتحان الذي نُجريه للتلميذ لنعرف مقدرة كل منهم ،والمهمة التي يصلح للقيام
جعَِلتْ البتلءات إل
بها ،ومعلوم أن البتلءات ل ُتذَمّ لذاتها ،إنما لنتائجها المترتبة عليها ،فما ُ
لمعرفة النتائج ،وتمييز الصلح للمهمة التي نُدِب إليها.
ومعنى } ُيفْتَنُونَ { [العنكبوت ]2 :يُخْتبرون .مأخوذة من فتنة الذهب ،حين نصهره في النار؛
لنُخِرج ما فيه من خَبَث ،ونُصفّي معدنه الصلح ،فيما يناسب مهمته.
سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ
ومن ذلك ما ضربه ال لنا مثلً للحق وللباطل في قوله تعالى {:أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْ َيةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَ َبدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَ َيذْ َهبُ ُ
ق وَالْبَا ِ
َيضْ ِربُ اللّهُ ا ْلحَ ّ
لمْثَالَ }[الرعد.]17 :
َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ
فالفتنة ما كانت إل لنعرف الصادق من ال َقوْلة اليمانية والكاذب فيها :الصادق سيصبر ويتحمل،
والكاذب سينكر ويتردد.
ثم يقول الحق سبحانه } :وََلقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ.{ ...
()3268 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ وََلقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ[ } ...العنكبوت ]3 :فانظر مثلً إلى ابتلء بني إسرائيل مع فرعون،
ن صَ َدقُواْ
إذن فابتلؤكم أهونِ وأخفّ ،وفيه رحمة من ال بكم وأنتم أيسر منهم { فَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِي َ
وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلكَاذِبِينَ } [العنكبوت.]3 :
ولك أن تقول :ألم يكُن ال تعالى يعلم حقيقتهم قبل أنْ يبتليهم؟ بلى ،يعلم سبحانه حقيقةَ عباده،
وليس الهدف من اختبارهم العلم بحقيقتهم ،إنما الهدف أنْ يُقر العبد بما عُلِم عنه.
ومثال ذلك -ول المثل العلى -حينما نقول للمدرس مثلً :اعْطنا نتيجة هؤلء التلميذ ،فليس
في الوقت سعة للمتحان فيقول من واقع خبرته بهم :هذا ناجح ،وهذا راسب ،وهذا الول ،وهذا
كذا .عندها يقوم الراسب ويقول :لو اختبرتني لكنت ناجحا ،ولو اختبره معلّمه لرسب فعلً .إذن:
فربنا -عز وجل -يختبر عباده ليُقر كل منهم بما عُلم عنه.
ن صَ َدقُو ْا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلكَاذِبِينَ } [العنكبوت ]3 :عِلْم ظهور وإقرار من صاحب
{ فَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِي َ
الشأن نفسه ،بحيث ل يستطيع إنكارا ،حيث سيشهد هو على نفسه حين تشهد عليه جوارحه.
()3269 /
ح ُكمُونَ ()4
سبَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ أَنْ يَسْ ِبقُونَا سَاءَ مَا َي ْ
أَمْ حَ ِ
سبَ[ } ...العنكبوت ]4 :أي :ظن الذين يعملون السيئات { أَن َيسْ ِبقُونَا} ...
حِهنا أيضا { َ
[العنكبوت ]4 :أي :يُفلتوا من عقابنا ،تقول :سبق فلن فلنا يعني :أفلت منه وهو يطارده،
ن كانوا يعتقدون ذلك أو يظنونه،
فالمعنى أنهم لن يستطيعوا الفلت من العذاب أو الهرب منه ،وإ ْ
فبئس هذا الظن.
ح ُكمُونَ } [العنكبوت ]4 :أي :قَبُح حكمهم وبَطُل ،وحين نحكم على ظنهم وعلى حكمهم
{ سَآءَ مَا َي ْ
بالبطلن فإنما نثبت قضيتنا ،وهي أنهم لن ُيفْلِتوا من عقابنا.
ثم يقول الحق سبحانه { :مَن كَانَ يَ ْرجُو ِلقَآءَ اللّهِ فَإِنّ.} ...
()3270 /
معنى { يَرْجُو ِلقَآءَ اللّهِ[ } ...العنكبوت ]5 :يعني :يؤمن به وينتظره ويعمل من أجله ،يؤمن بأن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال الذي خلقه وأعدّ له هذا الكون ليحيا حياته الطيبة ،وأنه سبحانه بعد ذلك سيُعيده ويحاسبه؛ لذلك
شكْرا له على ما وهب ،فليعبده خوفا منه أنْ يناله بسوء في الخرة.
إنْ لم يعبده ويطعْه ُ
وأهل المعرفة يروْنَ فرقا بين مَنْ يرجو الثواب ويرجو رحمة ال ،ومن يرجو لقاء ال لذات
خوْفِ نَارٍ
اللقاء ،ل خوفا من نار ،ول طمعا في جنة؛ لذلك تقول رابعة العدوية:كُلّهم َيعْبدُونَ مِنْ َ
ظوْا ب ُقصُورٍ ويَشْربُوا سَلْسبِيللَيْسَ لي بالجنَانِ
سكُنُوا الجِنانَ فيح َ
حظّا جَزِيلًَأوْ بِأَنْ يَ ْ
ويروْنَ النجاةَ َ
حبّ لذاتك ،ل خوفا من نارك ،ول
حظّ أنَا ل أبتغي بحِبي بَديلَأي :أحبك يا رب ،لنك ُت َ
والنّارِ َ
ن كنتَ تعلم أني أحبك طمعا في جنتك فاحرمني منها،
طمعا في جنتك ،وهي أيضا القائلة :اللهم إ ْ
وإنْ كنتَ تعلم أنّي أعبدك خوفا من نارك فاحرقني بها.
ل صَالِحا وَلَ يُشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ
عمَ ً
ويقول تعالى في سورة الكهفَ {:فمَن كَانَ يَرْجُواْ ِلقَآءَ رَبّهِ فَلْ َي ْعمَلْ َ
رَبّهِ َأحَدَا }[الكهف ]110 :ولو كانت الجنة لن لقاء ال أعظم ،وهو الذي يُرْجى لذاته.
جلَ اللّ ِه لتٍ[ } ...العنكبوت ]5 :فأكّده
والحق سبحانه يؤكد هذه المسألة بأكثر من مؤكد { :فَإِنّ َأ َ
شيْءٍ هَاِلكٌ }
بإن واللم وصيغة اسم الفاعل الدالة على تحقّق الفعل ،كما قال سبحانهُ {:كلّ َ
[القصص ]88 :ولم يقل :سيهلك ،وقوله سبحانه مخاطبا نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم {:إِ ّنكَ
مَ ّيتٌ وَإِ ّنهُمْ مّيّتُونَ }[الزمر.]30 :
ن يؤول أمره وإن طال عمره إلى
يخاطبهم بهذه الصيغة وهم ما يزالون أحياءً؛ لن الميّت :مَ ْ
ن مات فعلً فيُسمّى (مَيْت).
الموت ،أما مَ ْ
وأنت حينما تحكم على شيء مستقبل تقول :يأتي أو سيأتي ،وتقول لمن تتوعده :سأفعل بك كذا
ت وتكلمتَ بشيء ل تملك عنصرا من عناصره ،فل تضمن مثلً أنْ تعيش لغد،
وكذا ،فأنت جازف َ
ت ل تضمن أن يعيش هو ،وإنْ عاش ربما يتغير فكرك ناحيته ،أو فقدتَ القدرة على
وإنْ عش َ
تنفيذ ما تكلمت به كأنْ يصيبك مرض أو يِلُم بك حدث.
لكن حينما يتكلم مَنْ يملك ازمّة المور كلها ،ويعلم سبحانه أنه لن يفلت أحد منه ،فحين يحكم،
فليس للزمن اعتبار في فعله ،لذلك لم يقل سبحانه :إن أجل ال سيأتي ،بل { لتٍ[ } ...العنكبوت:
]5على وجه التحقيق.
جلُوهُ[} ...النحل:
وسبق أنْ ذكرنا في هذا الصدد قوله تعالى عن القيامة {:أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ تَسْ َتعْ ِ
]1وقد وقف السطحيون أمام هذه الية يقولون :وهل يستجعل النسان إل ما لم يَ ْأتِ َبعْد؟ لنهم ل
يفهمون مراد ال ،وليست لديهم مَلَكة العربية ،فال تعالى يحكم على المستقبل ،وكأنه ماضٍ أي
مُحقّق؛ لنه تعالى ل يمنعه عن مراده مانع ،ول يحول دونه حائل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ [العنكبوت.]5 :
والجلن مختلفان بالنسبة للحضور الحياتي للنسان ،فالجل الول يُنهي الحياة الدنيا ،والجل
الخر يُعيد الحياة في الخرة للقاء ال عز وجل ،إذن :فالجلن مرتبطان.
والحق -سبحانه وتعالى -حينما يعرض لنا قضية غيبية يُؤنِسنا فيها بشيء حسيّ معلوم لنا،
حتى يستطيع العقل أن ينفذ من الحَسيّ إلى الغيبي غير المشاهد .وأنت ترى أن أعمار بني آدم من
هذه الحياة تتفاوت :فواحد تغيض به الرحام ،فل يخرج للحياة ،وواحد يتنفس زفيرا واحدا
ويموت ..إلخ.
وفي كل لحظة من لحظات الزمن نعاين الموت ،مَنْ يموت بعد نفَس واحد ،ومَنْ يموت بعد المائة
عام .إذن :فل رتابة في انقضاء الجل ،ل في سِنّ ول في سبب :فهذا يموت بالمرض ،وهذا
بالغرق ،وهذا يموت على فراشه.
سقْما شَديد الَثَرفَ ُربّ عليلٍ تراهُ اسْتفاقَ
س الممات وإنْ كانَ ُ
سقْم كأ َ
لذلك يقول الشاعر:فَل تحسَب ال ّ
سقِيمُ فََلمْ يذْهبوتجد السبب
و ُربّ سَليمٍ تَرَاهُ احتُضرْوقال آخرَ :وقَدْ ذَهَب الممتِلي صح ًة وصَحّ ال ّ
الجامع في الوباءات التي تعتري الناس ،فيموت واحد ويعيش آخر ،فليس في الموت رتابة ،والحق
ع ًة وَلَ
جلٌ فَإِذَا جَآءَ َأجَُلهُ ْم لَ َيسْتَأْخِرُونَ سَا َ
-سبحانه وتعالى -حينما يقول {:وَِلكُلّ ُأمّةٍ َأ َ
يَسْ َتقْ ِدمُونَ }[العراف ]34 :نجد واقع الحياة يؤكد هذا ،فل وحدةَ في عمر ،ول وحدةَ في سبب.
والصدق في الجل الول المشاهد لنا يدعونا إلى تصديق الجل الخر ،وأن أجل ال لت،
فالجل الذي أنهى الحياة بالختلف هو الذي يأتي بالحياة بالتفاق ،فبنفخة واحدة سنقوم جميعا
أحياءً للحساب ،فإن اختلفنا في الولى فسوف نتفق في الخرة؛ لن الرواح عند ال من لَدُنْ آدم
عليه السلم وحتى تقوم الساعة ،وبنفخة واحدة يقوم الجميع.
وسبق أن قُلْنا :إن الزمان ثلثة :حاضر نشهده ،وماضٍ غائب عنا ل نعرف ما كان فيه،
ومستقبل ل نعرف ما يكون فيه .والحق سبحانه يعطي لنا في الوجود المشاهد دليلَ الصدق في
غير المشاهد ،فنحن مثلً ل نعرف كيف خلقنا الخَلْق الول إل من خلل ما أخبرنا ال به أن
أَصلْ النسان تراب اختلط بالماء حتى صار طينا ،ثم حمأ مسنونا ،ثم صلصالً كالفخار ..إلخ.
ثم جعل نسل النسان من نطفة تتحول إلى علقة ،ثم إلى مضغة ،ثم إلى عظام ،ثم ُتكْسى العظام
لحما .وإنْ كان العلم الحديث أرانا النطفة والعلقة والمضغة ،وأرانا كيف يتكوّن الجنين ،فيبقى
الخَلْق الول من تراب غيبا ل يعلمه أحد.
شهَدّتهُمْ
ول تُصدّق من يقول :إني أعلمه؛ لن ال تعالى حذرنا من هؤلء المضلين في قوله {:مّآ أَ ْ
عضُدا }
سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
ض َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ
ت وَالَرْ ِ
سمَاوَا ِ
خَ ْلقَ ال ّ
[الكهف.]51 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فل علمَ لهم بخَلْق النسان ،ول علمَ لهم بخَلْق ظواهر الكون ،فل تسمع لهم ،وخُ ْذ معلوماتك من
كتاب ربك الذي خلق سبحانه ،ويقوم وجود المضلين الذين يقولون :إن الرض قطعة من الشمس
انفصلتْ عنها ،أو أن النسان أصله قرد -يقوم وجودهم ،وتقوم نظرياتهم دليلً على صدق الحق
سبحانه فيما أخبر.
وإل ،فكيف نُصدّق نظرية ترقّي القرد إلى النسان؟ ولماذا ترقّى قرد (دارون) ولم تترقّ باقي
القرود؟
جدِينَ }
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي فَ َقعُواْ لَهُ سَا ِ
سوّيْتُ ُه وَنَفَ ْ
وإذا كان المؤمن مُصدّقا بقوله تعالى {:فَإِذَا َ
ن ل يؤمن ول يُصدّق؟ لذلك
[الحجر ]29 :لنه آمن بال ،وآمن بما جاء به رسول ال ،فكيف بمَ ْ
ن كنتَ ل
يُؤنِس الحق سبحانه هذه العقول المستشرفة لمعرفة حقائق الشياء يُؤنِسها بما تشاهد :فإ ْ
تُصدّق مسألة الخَلْق فأنت بل شكّ تشاهد مسألة الموت وتعاينه كل يوم ،والموت َن ْقضٌ للحياة،
ونَقْض الشيء يأتي عكْس بنائه.
والخالق -عز وجل -أخبر أن الروح هي آخر شيء في بناء النسان ،لذلك هي أول شيء
يُنقَض فيه عند الموت ،إذن :مشهدك في كيف تموت ،يؤكد لك صِدْق ال في كيف جئت؟
وأجل الخرة أمر ل بُدّ منه ليُثاب المطيع و ُيعَاقب العاصيَ ،ألَ ترى إلى النظم الجتماعية حتى
عند غير المؤمنين تأخذ بهذا المبدأ لستقامة حركة الحياة؟ فما بالك بمنهج ال تعالى في خَلْقه،
أيترك الظالم والمجرم يُفلِت من العقاب في الخرة بعد أنْ أفلت من عقاب الدنيا؟
وكنا نردّ بهذا المنطق على الشيوعيين :لقد عاقبتُم مَنْ طالته أيديكم من المجرمين ،فكيف بمَنْ
ماتوا ولم تعاقبوهم ،أليستِ الخرةُ تحلّ لكم هذا المأزق؟
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ { [العنكبوت ]5 :أل ترى أنه تعالى لو قال :العليم
ثم تُختمَ الية بقوله تعالى } :وَ ُهوَ ال ّ
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ
فقط لشملَ المسموع أيضا؛ لن العلم يحيط بكل المدركات؟ فلماذا قال } ال ّ
{ [العنكبوت]5 :؟
قالوا :لن اللغة العربية حينما تكلمتْ عن العمل والفعل والقول قسّمت الجوارح أقساما :فاللسان له
القول ،وبقية الجوارح لها الفعل ،وهما جميعا عمل ،فالقول عمل اللسان ،والفعل عمل بقية
الجوارح ،فكأن اللسان أخذ شطر العمل ،وبقية الجوارح أخذت الشطر الخر.
وباللسان معرفة إيمانك ،حين تقول :ل إله إل ال محمد رسول ال ،وهي أشرف ما يعمل
خلْقه ،إذن :فأفعال الجوارح الشرعية ناشئة من اللسان ومن
النسان ،وبه بلغ الرسول عن ال ل َ
السماع؛ لذلك جعل القول وهو عمل اللسان شطر العمل كله.
ولهمية القول قال تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف ]2 :فكل فعل
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ {
ناشيء عن انصياع لقول أو سماع لقول؛ لذلك ختم سبحانه هذه الية بقوله } :وَ ُهوَ ال ّ
[العنكبوت.]5 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3271 /
َومَنْ جَا َهدَ فَإِ ّنمَا يُجَا ِهدُ لِ َنفْسِهِ إِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ ()6
وكلمة { جَاهَدَ[ } ...العنكبوت ]6 :تناسب النجاح في البتلء ،والجهاد :بذْل الجهد في إنفاذ
المراد ،ومنه اجتهد فلن في كذا يعني :عمل أقصى ما في وُسْعه من الجدّ والجتهاد في أن
يستنبط الحكم.
والجهاد له مجالن :مجال في النفس يجاهدها ليقْوَى بمجاهدة نفسه على مجاهدة عدوه.
وجاهد :مفاعلة ،كأن الشيء الذي تريده صعب ،يحتاج إلى جهد منك ومحاولة ،والمفاعلة تكون
من الجانبين :منك ومن الشيء الذي يقابلك ،وأول ميادين الجهاد النفس البشرية؛ لن ربك خلق
فيك غرائز وعواطف لمهمة تؤديها ،ثم يأتي منهج السماء ليكبح هذه الغرائز ويُرقّيها ،حتى ل
تنطق معها إلى ما ل يُباح.
فحب الستطلع مثلً غريزة محمودة في البحث العلمي والكتشافات النافعة ،أمّا إنْ تحوّل إلى
تجسّس وتتبع لعورات الناس فهو حرام؛ الكل والشرب غريزة لتقتات به ،وتتولد عندك القدرة
على العمل ،فإنْ تحوّل إلى نهم وشراهة فقد خرجت بالغريزة عن مرادها والهدف منها.
وعجيب أمر الناس في تناول الطعام ،فالسيارة مثلً ل نعطيها خليطا من الوقود ،إنما هو نوع
واحد ،أما النسان فل تكفيه عدة أصناف ،كل منها لها تفاعل في الجسم ،حينما تتجمع هذه
التفاعلت تضر أكثر مما تنفع.
حدّ العتدال ،عملً بالثر " :نحن قوم ل
إذن :هذه الغرائز تحتاج منك إلى مجاهدة؛ لتظل في َ
نأكل حتى نجوع ،وإذا أكلنا ل نشبع ،ول نشرب حتى نظمأ ،وإذا شربنا ل نقنع ".
ولو عملنا بهذا الحديث لَقضيْنا على القنبلة الذرية للقتصاد في بلدنا ،وكم تحلو لك اللقمة بعد
ت ل تمل
الجوع مهما كانت بسيطة وغير مكلّفة؛ لذلك يقولون :نعم الدام الجوع ،ثم إذا أكل َ
المعدة ،ودع كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :فثلث لطعامه ،وثلث لشرابه ،وثلث لنفَسه
".
وبهذا المنهج الغذائي الحكيم نضمن بنية سليمة وعافية ل يخالطها مرض.
ن تقف بها عند مهمتك .ومثل الغرائز العواطف من حب
فالغرائز خلقها ال فيك لمهمة ،فعليك أ ْ
ن تقفَ بها عند حدود العاطفة ل تتعداها إلى
وكُرْه وشفقه وحُزْن ..إلخ ،وهذه ليس لها قانون إل أ ْ
النزوع ،فأحبب مَنْ شئتَ وأبغض مَنْ شئتَ ،لكن ل تتع ّد ول تُرتّب على العاطفة حكما.
وقد ذكرنا لهذه المسألة مثالً بسيدنا عمر -رضي ال عنه -وكان له أخٌ اسمه زيد قُتل ،ثم أسلم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قاتله ،فكان عمر كلما رآه يقول له :ا ْزوِ عني وجهك -يعني :أنا ل أحبك -فيقول :أو عدم حبك
لي يمنعني حقا من حقوقي؟ قال :ل ،قال :إنما يبكي على الحب النساء .يعني :الحب والكره
مسائل يهتم بها النساء ،والمهم العمل ،وما يترتب على هذه العواطف.
ومن المجاهدة مجاهدة مَنْ سُلّط عليك من جبار أو نحوه ،تجاهده وتصبر على إيذائه ،فحبّك للحق
ن وَنَبُْلوَاْ أَخْبَا َركُمْ
يجعلك تصبر عليه ،يقول تعالى {:وَلَنَبُْلوَنّكُمْ حَتّىا َنعْلَمَ ا ْلمُجَا ِهدِينَ مِنكُ ْم وَالصّابِرِي َ
}[محمد.]31 :
كل هذه بلءات تحتاج إلى مجاهدة ،فإنْ كان لك غريم فإنْ قدرت أن تدفع أذاه بالتي هي أحسن
فافعل ،وإنْ أردت أنْ تعاقب فعاقب بالمثل ،وهذه مسألة صعبة؛ لنك ل تستطيع تقدير المثلية أو
ضبطها ،بحيث ل تتعدى ،فمثلً لو ضربك خصمك ضربة ،أتستطيع أنْ تردّ عليه بمثلها دون
زيادة؟
إذن :فل تُدخل نفسك في هذه المتاهة ،وَأوْلَى بك أنْ تأخذ بقوله تعالى{ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ[} ...آل
عمران ]134 :وتنتهي المسألة.
فإذا كانت المصيبة ل غريمَ لك فيها ،كالمرض والموت وغيرهما من القدريات التي يُجريها ال
عليك ،فقُلْ إن ربي أراد بي خيرا ،فبها تُكفّر الذنوب والسيئات وبها أنال أجر الصابرين ،وربما
أنني غفلت عن ربي أو غرّتني النعمة ،فابتلني ال ليلفتني إليه ويُذكّرني به.
ومن المجاهدة مجاهدة النفس في تلقّي المنهج بافعل ول تفعل ،والتكليف عاد ًة ما يكون شاقا على
ن تنقلَ مدلول افعل في ل تفعل ،أو تنقل مدلول ل تفعل في
النفس يحتاج إلى مجاهدة ،وإياك أ ْ
افعل .وحين تستقصي (افعل ول تفعل) في منهج ال تجده يأخذ نسبة سبعة بالمائة من حركاتك في
الحياة ،والباقي مباحات ،لك الحرية تفعلها أو تتركها.
وقد يتعرض النسان المستقيم للستهزاء والسخرية حتى ِممّن هو على دينه ،لن المنحرف دائما
يشعر بنقص فيتضاءل ويصغَر أمام نفسه ،ويحاول أن يجر الخرين إلى نفس مستواه حتى
ص ضالّ؛ لذلك تراه يسخر منك
يتساوى الجميع ،وإل فكيف تكون أنت مهتديا مستقيما وهو عا ٍ
ويُهوّن من شأنك ،لماذا؟ ليُزهّدك في الطاعة ،فتصير مثله.
حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِب ِهمْ
واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى {:إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َيضْ َ
يَ َتغَامَزُونَ * وَِإذَا انقَلَبُواْ ِإلَىا أَهِْلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْ ُهمْ قَالُواْ إِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ
حكُونَ * عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ
أُرْسِلُواْ عَلَ ْيهِمْ حَا ِفظِينَ * فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َيضْ َ
ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َيفْعَلُونَ }[المطففين.]36-29 :
ول شكّ أن مثل هذا يحتاج منك إلى صبر على أذاه ،ومجاهدة للنفس حتى ل تقع في الفخّ الذي
ينصبه لك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد تأتيك الوسوسة من الشيطان فيُزيّن لك الشر ،ويُحبّب إليك المعصية ،وعندها تذكر قول ال
س ُهمَا لِيُرِ َي ُهمَا
تعالى {:يَابَنِي ءَا َد َم لَ َيفْتِنَنّكُمُ الشّ ْيطَانُ َكمَآ أَخْرَجَ أَ َبوَ ْيكُمْ مّنَ الْجَنّةِ يَن ِزعُ عَ ْن ُهمَا لِبَا َ
سوْءَا ِت ِهمَآ[} ...العراف.]27 :
َ
فعليك -إذن -أن تتذكّر العداوة الولى بين أبيك آدم وبين الشيطان لتكون منه على حذر ،وسبق
أن أوضحنا كيف نفرق بين المعصية التي تأتي من النفس ،والتي تأتي من وسوسة الشيطان،
فالنفس تقف بك عند معصية بعينها ل تريد غيرها ،أما الشيطان فإنْ تأبيتَ عليه في ناحية نقلك
إلى أخرى ،المهم عنده أنْ يُوقِعك على أي حال.
إذن :أعداؤك كثيرون ،يحتاجون منك إلى قوة إراد َة وإلى مجاهدة.
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }
جلَ اللّ ِه لتٍ وَ ُهوَ ال ّ
ومجيء هذه الية التي تذكر الجهاد بعد قوله تعالى{ فَإِنّ أَ َ
[العنكبوت ]5 :يطلب من النسان الذي يعتقد أن أجلَ ال بلقاء الخرة أتٍ ،وذلك أمر ل شكّ فيه
-يطلب منه أنْ يستعدّ لهذا اللقاء.
وقال تعالى } :فَإِ ّنمَا ُيجَاهِدُ لِ َنفْسِهِ إِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ { [العنكبوت ]6 :لن النسان طرأ
على كون مُهيأ لستقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائه وهوائه ،فكل ما في الكون خادم
سعْيك وفكرك لترف حياتك أنت ،فحين تفعل الخير فلن
لك ،ولن تزيد أنت في مُلْك ال شيئا ،وكل َ
يستفيدَ منه إل أنت وربك غني عن عطائك.
فإنْ جاهدتَ فإنما تجاهد لنفسك ،كما لو امتنّ عليك خادمك بالخدمة فتقول له :بل خدمتَ نفسك
ت وعرقتُ لوفر لك
وخدمتَ عيالك حينما خدمتَ لتوفر لك ولهم أسباب العيش ،وأنا الذي تعب ُ
المال الذي تأخذه.
وكذلك الحق سبحانه يقول لنا } َومَن جَاهَدَ فَإِ ّنمَا ُيجَاهِدُ لِ َنفْسِهِ[ { ...العنكبوت]6 :أي :حينما يطبق
ع ِملَ صَالِحا
المنهج ويسير على هُداه ،والحق سبحانه يؤكد هذه القضية في آيات عديدة{ مّنْ َ
فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَآءَ َفعَلَ ْيهَا َومَا رَ ّبكَ ِبظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت.]46 :
سكُ ْم وَإِنْ َأسَأْتُمْ فََلهَا[} ...السراء.]7 :
حسَنْتُمْ َأحْسَنْتُمْ لَنْفُ ِ
ويقول الحق سبحانه {:إِنْ أَ ْ
ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ[} ...البقرة.]286 :
ويقول سبحانهَ {:لهَا مَا كَسَ َب ْ
إذن :المسألة منك وإليك ،ول دخلَ لنا فيها إل حرْصنا على صلح الخَلْق وسلمتهم ،كصاحب
الصّنْعة الذي يريد لصنعته أن تكون على خير وجه وأكمله ،لذلك أفيضُ عليه من قدراتي قدرة،
ومن علمي علما ،ومن بَسْطي َبسْطا ،ومن جبروتي جبروتا ،وأعطيه من صفاتي.
لذلك قال بعض العارفين " :تخلقوا بأخلق ال ".
لن العون في وهب الصفات ومجال الصفات في الفعل ليس في أنْ أفعل لك ،إنما في أنْ أُعينك
حمْل متاعه ،ماذا يفعل؟ يحمله عنه ،أي:
لتفعل أنت ،فالواحد منا حينما يرى عاجزا ل يستطيع َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُعدّي إليه أثر قوته ،إنما يظل العاجز عاجزا والضعيف ضعيفا كلما أراد شيئا احتاج لمن يقوم له
به.
أما الحق -سبحانه وتعالى -فيفيض عليك من قوته ،ويهبُ لك من قدرته وغِنَاه لتفعل أنت
بنفسك؛ لذلك مَنْ يتخلق بأخلق ال يقول :ل تعْطَ الفقير سمكة ،إنما علّمه كيف يصطاد ،حتى ل
يحتاج لك في كل الوقات ،أ ِفضْ عليه ما يُديم له النتفاع به.
إذن :الحق سبحانه ي َهبُ القادرين القدرةَ ،وي َهبُ الغنياء الغِنَي ،والعلماء العلمَ والحكماءَ الحكمةَ.
وهذه من مظاهر عظمته تعالى ألّ يُعدّي أثر الصفة إلى عباده ،إنما يُعدّي بعض الصفة إليهم،
لتكون ذاتية فيهم.
بل ويعطي سبحانه ما هو أكثر من ذلك ،يعطيك الرادة التي تفعل بها لمجرد أن تفكر في الفعل،
بال ماذا تفعل لكي تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل حينما تريد أنْ تحمل شيئا أو تحرك عضوا من
أعضائك؟ هل أمرتك أمرا؟ هل قلت لها افعلي كذا وكذا؟
حين تنظر إلى (البلدوزر) مثلً أو (الونش) كيف يتحرك ،وكيف أن لكل حركة فيه زرا يحركها
وعمليات آلية معقدة ،تأمل في نفسك حين تريد أن تقوم مثلً بمجرد أن تفكر في القيام ،تجد نفسك
قائما ،مرادك أنت في العضاء أن تفعل وتنفعل لك.
إذن ،حينما يقول لك ربك {:إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ ِإذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس ]82 :فصدّقه؛
لنك شاهدتها في نفسك وفي أعضائك ،فما بالك بربك -عز وجل -أيعجز أن يفعل ما تفعله
أنت؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ أنْ تنام أو تبطش بيدك؟
ل شيء غير الرادة في داخلك؛ لن ربك خلع عليك من قدرته ،وأعطاك شيئا من قوله (كُنْ)
وقدرة من قدرته ،لكن لم يشأ أنْ يجعلها ذاتية فيك حتى ل تغترّ بها.
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق:
ن الِنسَانَ لَ َي ْ
لذلك إنْ أراد سبحانه سَلبَها منك لقوله تعالى {:كَلّ إِ ّ
طوْع إرادتك،
شلّ ويأبى عليك بعد أنْ كان َ
]7-6فتأتي لتحرك ذراعك مثلً فل يطاوعك ،لقد ُ
ذلك لتعلم أنه هِبَة من ال ،إنْ شاء أخذها فهي ليست ذاتية فيك.
فالمجاهدة تشمل ميادين عديدة ،مجاهدة الغرائز والعواطف ،ومجاهدة مشقة المنهج في افعل ول
تفعل ،ومجاهدة شياطين النس والجن ،ومجاهدة خصوم السلم الذين يريدون أنْ يُطفئوا نور ال.
وروى البخاري " أن خباب بن الرتّ دخل على سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا
رسول ال ،إننا في شدة ،ألَ تستنصر لنا؟ َألَ تدعو لنا؟ فقال صلى ال عليه وسلم :إنه كان الرجل
شطُ لحمه عن
فيمن قبلكم تُحفر له الحفرة ،فيُوضع فيها ،ثم يُؤتَى بالمنشار ف ُيقَ ّد نصفين ،ثم يُم َ
عظمه بأمشاط الحديد ،فل يصرفه ذلك عن دين ال ".
ثم يطمئنه رسول ال على أن هذه الفترة -فترة البتلء -لن تطول ،فيقول " :وال لَيتِمنّ ال هذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ل يخشى إل ال والذئبَ على غنمه ".
والنبي صلى ال عليه وسلم وهو خاتم النبيين " ،يدخل عليه سيدنا أبو سعيد الخدري فيجد رسول
ال صلى ال عليه وسلم يشتكي حرارة الحمى ،فوضع يده على اللحاف الذي يلتحف به سيدنا
رسول ال ،فيُحِسّ حرارته من تحت اللحاف ،فقال له :يا رسول ال ،إنها لشديدة عليك؟ فقال
صلى ال عليه وسلم " :يا أبا سعيد ،إنه يُضعّف لنا البلء كما يُضعّف لنا الجزاء ".
ذلك ليثبت أن البلء ل يكون فقط من العداء ،إنما قد يكون من ال تعالى ،لماذا؟ لن ال يباهي
ملئكته بخَلْقه الطائعين المخبتين الصابرين ،فيقولون :كيف ل يحبونك ويقبلون على طاعتك ،وقد
أنعمتَ عليهم بكذا وكذا ،ويذكرون حيثيات هذه الطاعة ،فيقول تعالى :وأسلب كل ذلك منهم
ويحبونني ،أي :يحبونني لذاتي.
ثم تختم هذه الية بقوله تعالى } :إِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ { [العنكبوت ]6 :لن ميادين الجهاد
هذه ل يعود منها شيء إلى ال تعالى ،ول تزيد في مُلكه شيئا ،إنما يستفيد منها العبد؛ لنه سبحانه
الغني عن طاعة الطائعين وعبادة المتعبدين ،ليس غنيا عنهم وفقط ،إنما هو سبحانه الذي يُغنيهم
ويُفيض عليهم من فَضلْه ومن غِناه.
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
()3272 /
عمِلُوا الصّالِحَاتِ لَ ُن َكفّرَنّ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِت ِه ْم وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ أَحْسَنَ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ ()7
وَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
يذكر لنا -سبحانه وتعالى -النتائج { وَالّذِينَ آمَنُواْ[ } ...العنكبوت ]7 :أي :بال ربا ،له كل
صفات الكمال المطلق ،وله طلقة القدرة ،وله طلقة الرادة ،وهو المهيمن ،وهو الحاكم ..إلخ.
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ[ } ...العنكبوت ]7 :لن العمل الصالح نتيجة لليمان ،وثمرة من ثمراته،
ثم { وَ َ
حسْن فيه فل يتغير ،فقد أقبلت على عالم خلقه ال لك
والصالح :هو الشيء يظلّ على طريقة ال ُ
على هيئة الصلح فل تفسده ،وهذا أضعف اليمان أنْ تُبقِي الصالح على صلحه ،فإن أردتَ
الرتقاء ،ف ِزدْه صلحا.
يقول تعالى {:وَإِذَا قِيلَ َلهُ ْم لَ ُتفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ قَالُواْ إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ }[البقرة.]11 :
فقد أعدّ ال لنا الرض صالحة بكل نواميسها وقوانينهاَ ،ألَ ترى المناطق التي ل ينزل بها المطر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُعوّضها ال عنه بالمياه الجوفية في باطن الرض ،فماء المطر الزائد يسلكه ال ينابيع في
الرض ،ويجعله مخزونا لوقت الحاجة إليه ،وتخزين الماء العذب في باطن الرض حتى ل
غوْرا َفمَن يَأْتِي ُكمْ ِبمَآءٍ ّمعِينٍ }[الملك:
تُبخّره الشمس ،يقول تعالىُ {:قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ َأصْبَحَ مَآؤُكُمْ َ
.]30
وضربنا مثلً لترك الصالح على صلحه ببئر الماء الذي يشرب منه أهل الصحراء ،فقد نرمي
فيه القاذورات التي تُفسد ماءه ،وقد نرى مَنْ يُهيل فيه التراب فيطمسه ،وهذا كله من إفساد
الصالح ،وربما يأتي مَنْ يبني حوله سورا يحميه ،أو يجعل عليه آلة َرفْع ترفع الماء وتُريح الناس
الذين يردونه ،فإذا لم تكُنْ من هؤلء فل أقلّ من أن تدعه على حاله.
فالصالح إذن :كل عمل وفكر يزيد صلحَ المجتمع في حركات الحياة كلها ،وإياك أن تقول إن
هناك عملً أشرف من عمل ،فكل عمل مهما رأيته هيّنا -ما دام يؤدي خدمة للمجتمع ،ويُقدّم
الخير للناس فهو عمل شريف ،فقيمة العمال هي قيمة العامل الذي يُحسنِها وينفع الناس بها،
يعني :ليس هناك عمل أفضل من عمل ،إنما هنَاك عامل أفضل من عامل؛ لذلك يقولون :قيمة كل
امريء مَا يُحسِنه.
وسبق أن ضربتُ لذلك مثلً ،وما أزال أضربه ،مع أنه من أُنَاس غير مسلمين :كان نقيب العمال
في فرنسا يطالب بحقوق العمال ويدافع عنهم ويُوفّر لهم المزايا ،فلما تولى الوزارة قالوا له:
أعطنا الن الحقوق التي كنتَ تطالب بها لنا ،وربما كان يطالب لعماله بما تضيق به إمكانات
وميزانيات الوزارة ،أما الن فقد أصبح هو وزيرا ،وفي إحدى المرات تطاول عليه أحد العمال
وقال :ل تنْسَ أنك كنت في يوم من اليام ماسحَ أحذية ،فقال :نعم ،لكنني كنت أتقنها.
ثم يذكر الحق سبحانه جزاء اليمان والعمل الصالح { :لَ ُن َكفّرَنّ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِت ِهمْ[ } ...العنكبوت]7 :
وهنا تتجلى العظمة اللهية ،حيث بدأ بتكفير السيئات وقدّمها على إعطاء الحسنات.
لن التخلية قبل التحلية ،والقاعدة تقول :إن دَرْءَ المفسدة مُقدّم على جَلْب المصلحة ،ف َهبْ أن واحدا
يريد أنْ يرميك مثلً بحجر ،وآخر يريد أنْ يرمي لك تفاحة ،فأيهما تستقبل أولً؟ ل شكّ أنك
ستدفع أذى الحجر عن نفسك أولً.
والخالق -عز وجل -يعلم طبيعة عباده وما يحدث منهم من غفلة وانصراف عن المنهج يُوقِعهم
في المعصية ،وما دام أن الشرع يُعرّف لنا الجرائم ويُقنّن العقوبة عليها ،فهذا إذنٌ منه بأنها
ستحدث.
لذلك يقول تعالى لعباده :اطمئنوا ،فسوف أطهركم من هذه الذنوب أولً قبل أنْ أعطيكم الحسنات،
ذلك لن النسان بطبعه أميل إلى السيئة منه إلى الحسنة ،فيقول سبحانه } :لَ ُن َكفّرَنّ عَ ْنهُمْ
سَيّئَا ِتهِمْ[ { ...العنكبوت.]7 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل صَالِحا
عمَ ً
عمِلَ َ
ن وَ َ
ب وَآمَ َ
بل وأكثر من ذلك ،ففي آية أخرى يقول سبحانهِ {:إلّ مَن تَا َ
غفُورا رّحِيما }[الفرقان ]70 :فأيّ كرم بعد أنْ يُبدّل
حسَنَاتٍ َوكَانَ اللّهُ َ
فَُأوْلَـا ِئكَ يُ َب ّدلُ اللّهُ سَيّئَا ِتهِمْ َ
ال السيئة حسنةً ،فل يقف المر عند مجرد تكفيرها ،فكأنه (أوكازيون) للمغفرة ،ما عليك إل أنْ
تغتنمه.
حسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ[} ...هود ]114 :وفي الحديث
وفي موضع آخر يقول سبحانه {:إِنّ الْ َ
الشريف .." :وأتبع السيئة الحسنةَ تمحها ".
حسَنَ الّذِي كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { [العنكبوت ]7 :قلنا :إن
ثم يذكر سبحانه الحسنة بعد ذلك } :وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ أَ ْ
ن يعطي الفقير يقترض له من إخوانه الغنياء{ مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ
الحق سبحانه إذا أراد أ ْ
قَرْضا حَسَنا[} ...البقرة.]245 :
مع أنه سبحانه واهب كل النعم يحترم ملكية عباده ،ويحترم مجهوداتهم وعرقهم ،فاحترم العمل
واحترم ثمرة العمل ،كما يعامل الوالد أولده ،فيأخذ من الغني لمساعدة الفقير على أنْ يعيد إليه
ماله حين مَيْسرة ،فكما أنك ل ترجع في هبتك ،كذلك ربّك -عز وجل -ل يرجع في هبته.
وأذكر ونحن في أمريكا سألنا أحد المستشرقين يقول :هناك تعارض بين قول القرآن {:مَن جَآءَ
حسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا[} ...النعام ]160 :وبين قول النبي صلى ال عليه وسلم " :مكتوب على
بِالْ َ
باب الجنة :الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر ".
فشاء ال أن يلهم بكلمتين للردّ عليه ،حتى ل يكون للكافرين على المؤمنين سبيل .فقلت للمترجم:
نعم الحسنة بعشر أمثالها حين تتصدّق ،لكن في القرض مثلً لو تصدّق بدولر فهو عند ال بعشرة
دولرات ،لكن يعود عليك دولرك مرة أخرى ،فكأن لك تسعة دولرات ،فحين تضاعف تصير
ثمانية عشر.
وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه إلى الدائرة الولى في تكوين المجتمع ،وهي دائرة السرة المكوّنة
من :الب ،والم ،والولد ،فأراد سبحانه أن يُصلح اللبنة الولى ليصلح المجتمع كله ،فقال تبارك
حسْنا.{ ...
وتعالى } :وَ َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ ُ
()3273 /
ج ُعكُمْ
ط ْع ُهمَا إَِليّ مَرْ ِ
َووَصّيْنَا الْإِنْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ فَلَا تُ ِ
فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ ()8
الوالدان يخدمان البن حتى يكبر ،ويصير هو إلى القوة في حين يصيران هما إلى الضعف ،وإلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل وكيف أن البناء يتركون الباء دون
الحاجة لمن يخدمهما ،وحين ننظر في حال الغربيين مث ً
رعاية ،وربما أودعوهم دار المسنين في حالة برّهم بهم ،وفي الغالب يتركونهم دون حتى السؤال
عنهم؛ لذلك تتجلى لنا عظمة السلم وحكمة منهج ال في مجتمع المسلمين.
لذلك قال أحد الحكماء :الزواج المبكر خير طريقة -ل لنجاب طفل -إنما النجاب أب لك
يعولك في طفولة شيخوختك .لذلك أراد الحق سبحانه أن يبني السرة على لبنات سليمة ،تضمن
حسْنا[ } ...العنكبوت ،]8 :وفي
سلمة المجتمع المؤمن ،فقال سبحانهَ { :ووَصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ ُ
حسَانا[} ...الحقاف.]15 :
موضع آخر قال سبحانه في نفس الوصية{ وَ َوصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ إِ ْ
حسْن ذاته ،كما
ن تعملَ لهم ال ُ
وفَرْق بين المعنيين { :حُسْنا[ } ...العنكبوت ]8 :أي :أوصيك بأ ْ
حسَانا[} ...الحقاف ]15 :فوصية
عدْل ،فوصّى بالحسْن ذاته .أما في{ إِ ْ
تقول :فلن عادل ،وفلن َ
بالحسان إليهما.
حسْن ذاته ،ووصّى هناك بالحسان؟
لكن ،لماذا وصّى هنا بال ُ
قالوا :وصّى بالحسن ذاته في الية التي تذكر اللدد اليماني ،حيث قال { :وَإِن جَاهَدَاكَ لُِتشْ ِركَ بِي
ط ْع ُهمَآ[ } ...العنكبوت ]8 :والكفر يستوجب العداوة والقطيعة ،ويدعو إلى
مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ فَلَ ُت ِ
الخصومة ،فأكّد على ضرورة تقديم الحسن إليهما؛ ل مجرد الحسان؛ لن المر يحتاج إلى قوة
تكليف.
أما حين ل يكون منهما كفر ،فيكفي في برّهما الحسان إليهما؛ لذلك يقول سبحانهَ {:وصَاحِ ْب ُهمَا
فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا[} ...لقمان.]15 :
والحق سبحانه حين يُوصي بالوالدين ،وهما السبب المباشر في الوجود إنما ليجعلهما وسيلة
إيضاح لصل الوجود ،فكما أوصاك بسبب وجودك المباشر وهما الوالدان ،فكذلك ومن باب َأوْلى
يوصيك بمَنْ وهب لك أصل هذا الوجود.
فكأن الحق سبحانه يُؤنِس عباده بهذه الوصية ،ويلفت أنظارهم إلى ما يجب عليهم نحو واهب
الوجود الصلي وما يستحقه من العبادة ومن الطاعة؛ لنه سبحانه الخالق الحقيقي ،أما الوالدان
فهما وجود سببي.
هذا إيناس باليمان ،بيّنه تعالى في قوله {:وَاعْبُدُواْ اللّ َه وَلَ تُشْ ِركُواْ ِبهِ شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا} ...
[النساء ]36 :لنهما سبب الوجود الجزئي ،وال تعالى سبب الوجود الكلي.
وهذا أيضا من المواضع التي وقف عندها المستشرقون ،يبغُونَ فيها َمطْعنا ،ويظنون بها تعارضا
بين آيات القرآن في قوله تعالىَ {:وصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا[} ...لقمان ]15 :وفي موضع
جدُ َقوْما ُي ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ ُيوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وََلوْ كَانُواْ آبَآ َءهُمْ} ...
آخر {:لّ تَ ِ
[المجادلة.]22 :
وهذا التعارض ل يوجد إل في عقول هؤلء؛ لنهم ل يفهمون لغة القرآن ،ول يفرقون بين الودّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمعروف :الودّ مَيْل القلب ،وينشأ عن هذا الميل ِفعْل الخير ،فيمن تميل إليه ،أمّا المعروف
فتصنعه مع مَنْ تحب ومَنْ ل تحب ،فهو استبقاء حياة.
()3274 /
فقدّم اليمان ،لنه الصل ،ثم العمل الصالح ،وكأن الدخول في الصالحين مسألة كبيرة ،وهي
كذلك ،ويكفي أنها مُتَمنى حتى النبياء أنفسهم.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ومِنَ النّاسِ مَن ِيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ.} ...
()3275 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ج َعلَ فِتْ َنةَ النّاسِ َكعَذَابِ اللّ ِه وَلَئِنْ جَاءَ َنصْرٌ مِنْ
َومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ َآمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُو ِذيَ فِي اللّهِ َ
علَمَ ِبمَا فِي صُدُورِ ا ْلعَاَلمِينَ ()10
رَ ّبكَ لَ َيقُولُنّ إِنّا كُنّا َم َعكُمْ َأوَلَيْسَ اللّهُ بِأَ ْ
قوله تعالىَ { :ومِنَ النّاسِ مَن ِيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ[ } ...العنكبوت ]10 :دليل على القول باللسان ،وعدم
الصبر على البتلء ،فالقول هنا ل يؤيده العمل ،ولمثل هؤلء يقول تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ
َتقُولُونَ مَا لَ َتفْعَلُونَ }[الصف.]2 :
شهَدُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنكَ
ويقول تعالى في صفات المنافقين {:إِذَا جَآ َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُواْ َن ْ
شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ }[المنافقون ]1 :فال تعالى ل يُكذّبهم في أن محمدا رسول
لَرَسُولُ ُه وَاللّهُ يَ ْ
ال ،إنما في شهادتهم أنه رسول ال؛ لن الشهادة ل ُبدّ لها أنْ يواطئ القلب اللسان ،وهذه ل تتوفر
لهم.
ومعنى { :فَِإذَآ أُو ِذيَ فِي اللّهِ[ } ...العنكبوت ]10 :أي :بسبب اليمان بال ،فلم يفعل شيئا يؤذى
ج َعلَ فِتْ َنةَ النّاسِ َكعَذَابِ اللّهِ[ } ...العنكبوت ]10 :فتنة الناس أي :تعذيبهم
من أجله ،إل أنه آمن { َ
له علىإيمانه كعذاب ال.
ن كفر ،وهذا غباء في المساواة بين
إذن :خاف عذاب الناس وسّواه بعذاب ال الذي يحيق به إ ْ
قل
العذابين؛ لن عذاب الناس سينتهي ولو بموت المؤذي المعذّب ،أما عذاب ال في الخرة فبا ٍ
ينتهي ،والناس تُعذّب بمقدار طاقتها ،وال سبحانه يُعذب بمقدار طاقته تعالى وقدرته ،إذن :فالقياس
هنا قياس خاطئ.
وإنْ كانت هذه الية قد نزلت في عياش بن أبي ربيعة ،فالقاعدة الصولية تقول :إن العبرة بعموم
اللفظ ل بخصوص السبب ،وكان عياش بن أبي ربيعة أخا عمرو بن هشام (أبو جهل) والحارث
بن هشام من الم التي هي أسماء.
فلما أنْ أسلم عياش ثم هاجر إلى المدينة فحزنت أمه أسماء ،وقالت :ل يظلني سقف ،ول أطعم
طعاما ،ول أشرب شرابا ،ول أغتسل حتى يعود عياش إلى دين آبائه ،وظلت على هذه الحال
التي وصفتْ ثلثة أيام حتى عضّها الجوع ،فرجعت.
وكان ولداها الحارث وأبو جهل قد انطلقا إلى المدينة ليُقنعا عياشا بالعودة لسترضاء أمه ،وظل
يُغريانه ويُرقّقان قلبه عليها ،فوافق عياش على الذهاب إلى أمه ،لكن رفض الردة عن السلم،
فلما خرج الثلثة من المدينة قاصدين مكة أوثقوه في الطريق ،وضربه أبو جهل مائة جلدة،
والحارث مائة جلدة.
لكن كان أبو جهل أرأف به من الحارث؛ لذلك أقسم عياش بال لئن أدركه يوما ليقتلنه حتى إنْ
كان خارجا من الحرم ،وبعد أن استرضى عياش أمه عاد إلى المدينة ،فقابل أخاه الحارث عند
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قباء ،ولم يكن يعلم أنه قد أسلم فعاجله ،ونفّذ ما توعده به فقتله ،ووصل خبره إلى رسول ال صلى
ال عليه وسلم ونزلت اليةَ {:ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ أَن َيقْتُلَ ُم ْؤمِنا ِإلّ خَطَئا[} ...النساء.]92 :
ج َعلَ فِتْنَةَ النّاسِ َكعَذَابِ اللّهِ} ...
ونزلتَ { :ومِنَ النّاسِ مَن ِيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ أُو ِذيَ فِي اللّهِ َ
[العنكبوت ]10 :أي :أراد أنْ يفرّ من عذاب الناس فكفر ،ولم يُرد أن يفرّ من عذاب ال ويؤمن.
وقوله تعالى { :وَلَئِنْ جَآءَ َنصْرٌ مّن رّ ّبكَ لَ َيقُولُنّ إِنّا كُنّا َم َعكُمْ[ } ...العنكبوت ]10 :أي :اجعلوا لنا
سهما في المغنم { َأوَ لَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ ِبمَا فِي صُدُورِ ا ْلعَاَلمِينَ } [العنكبوت ]10 :فال سبحانه يعلم
ما يدور في صدورهم وما يتمنونه لنا؛ ولذلك يقول سبحانه عنهمَ {:لوْ خَرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ ِإلّ
خَبَالً[} ...التوبة.]47 :
ثم يقول الحق سبحانه { :وَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِينَ.} ...
()3276 /
وَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِينَ َآمَنُوا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ ()11
نعم ،الحق سبحانه يعلم حال عباده حتى قبل أنْ يخلقوا ،ويعلم ماذا سيحدث لهم ،إنما هناك فَرْق
بين علم مُسْبق على الحدث ،وعِلْم بعد أنْ يقع الحدث نفسه؛ لنه سبحانه لو قال :سأفعل بهم كذا
وكذا؛ لني أعلم ما يحدث منهم لقالوا :ل وال ما كان سيحدث منا شيء؛ لذلك يتركهم حتى يحدث
منهم الفعل.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ.} ...
()3277 /
وهذا َلوْن من ألوان اليذاء أن يقول الذين كفروا للذين آمنوا { اتّ ِبعُواْ سَبِيلَنَا[ } ...العنكبوت]12 :
أي :ما نحن عليه من دين الباء والجداد ،وما نحن عليه من عبادة الصنام والوثان ،فنحن نعبد
ف لها ول مطلوبات ،وأنتم تعبدون إلها له منهج ،وله مطلوبات بافعل كذا ول تفعل
آلهة ل تكالي َ
كذا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خطَايَاكُمْ[ } ..العنكبوت:
ح ِملْ َ
فالمعنى { :اتّ ِبعُواْ سَبِيلَنَا[ } ..العنكبوت ]12 :خُذوا الحكم منا { وَلْنَ ْ
]12يعني :اعملوا على مسئوليتنا ،وإنْ كانت عليكم خطايا سنحملها عنكم ،وانظر هنا إلى غباء
الكافر فقد آمن هو نفسه أن هذه خطيئة ،ومع ذلك يتعرّض لحملها ،لكن كيف يحملها؟ وكيف
يكون هو المسئول عنها أمام ال -عز وجل -حين يحاسبني ربي عليها ويعاتبني على اتباعي
له؟ وهل للكافر شفاعة أو قوة يدافع عنها عني في الخرة؟
شيْءٍ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ } [العنكبوت]12 :
لذلك يقول تعالى بعدهاَ { :ومَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَا ُهمْ مّن َ
ويؤكد لنا سبحانه كذبهم أيضا في قوله تعالى {:إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ وَرََأوُاْ
ا ْلعَذَابَ[} ...البقرة.]166 :
حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ
جعَ ْل ُهمَا َت ْ
ن وَالِنسِ َن ْ
ويقول التابعون {:رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ الْجِ ّ
سفَلِينَ }[فصلت.]29 :
الَ ْ
فالمودة التي كانت بينهم في الدنيا تحولتْ إلى عداوة؛ لنهم اجتمعوا في الدنيا على الضلل،
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف:
فتفرقوا في الخرة ،كما قال سبحانه {:الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
]67فالمتقي ساعة يرى المتقي في الخرة يشكره ،ويعترف له بالجميل؛ لنه أخذ على يديه في
الدنيا ،ومنعه من أسباب الهلك ،فيحبه ويثني عليه ،وربما اعتبره عدوه في الدنيا ،أما أهل
الضلل فيلعن بعضهم بعضا ،ويتبرأ بعضهم من بعض.
خطَايَاكُمْ[ } ..العنكبوت ،]12 :كما هو بيّن في قولهم{
ح ِملْ َ
إذن :فغباء الكفار بيّن في قولهم { :وَلْنَ ْ
سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }
حجَا َرةً مّنَ ال ّ
حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا ِ
الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ
[النفال.]32 :
وكما هو بيّن في قولهم {:لَ تُن ِفقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ[} ...المنافقون ]7 :فهم يعرفون أنه
رسول ال ،ومع ذلك يمنعون الناس من النفاق على الفقراء الذين عنده ،إنه غباء حتى في
المواجهة.
()3278 /
حمِلُواْ َأوْزَارَهُمْ كَامِلَةً َي ْومَ ا ْلقِيَامَ ِة َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ َألَ
وفي موضع آخر {:لِ َي ْ
سَآءَ مَا يَزِرُونَ }[النحل .]25 :فالثقال هي الوزار ،فسيحملون أثقالً على أثقالهم ،وأوزارا على
أوزارهم ،فالثقال الولى بسبب ضللهم ،والثقال الخرى بسبب إضللهم للغير { وَلَيُسْأَلُنّ َيوْمَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [العنكبوت ]13 :والفتراء :تعمّد الكذب.
ا ْلقِيَامَةِ َ
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن المقدمات في عمومها ،أراد أن يتكلّم عنها في خصوص
الرسالت ،فقال سبحانه:
{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحا.} ...
()3279 /
يقول العلماء :إن نوحا -عليه السلم -هو أول رسل ال إلى البشر ،أما مَنْ سبقه مثل آدم
وإدريس عليهما السلم ،فكانوا أنبياء أوحي ال إليهم بشرع يعملون به ،فيكونون نموذجا إيمانيا،
وقدوة سلوك طيب ،يُقلّدهم مَنْ رآهم ،لكن ل ُيعَدّ كافرا مَنْ لم يقتَدِ بهم ،أما إن اقتدى بهم ثم نكث
عن سبيلهم فهو كافر.
لذلك نُفرّق بين النبي والرسول ،بأن النبي أُوحي إليه بشرع يعمل به ولم ُيؤْمر بتبليغه ،أما
سلْنَا مِن
الرسول فقد أُوحي إليه بشرع وأُمرِ بتبليغه فكلّ منهما مرسل ،لذلك يقول تعالىَ {:ومَآ أَرْ َ
قَبِْلكَ مِن رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ[} ...الحج.]52 :
إذن :فالنبي أيضا مُرسَل ،لكنه مُرسَل لذاته.
لكن لماذا كان هذا قبل نوح بالذات؟ قالوا :لن الرقعة النسانية كانت ضيقة قبل نوح ،وكان الناس
حديثي عهد ،لم تنتشر بينهم النحرافات ،فلما اتسعت الرقعة ،وتداخلت أمور الحياة احتاجت
الخليقة لنْ يرسل ال إليهم الرسل.
والحق سبحانه يأتي بهذه اللقطة الموجزة من قصة نوح -عليه السلم -مع أن له سورة مفردة،
وله لقطات كثيرة منثورة في الكتاب العزيز ،لكن هذه اللقطة تأتي لنا بالبداية والنهاية فقط وكأنها
برقية (تلغرافية) في مسألة نوح:
{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحا إِلَىا َق ْومِهِ[ } ...العنكبوت.]14 :
إذن :الرسول جاء من القوم ،وهذا يعني أنهم يعرفونه قبل أن يكون رسولً ،ويُجرّبون سلوكه
وحركته في الحياة ،ويعرفون خُلقه ،ويعرفون كل تصرفاته ،فليس الرسول بعيدا عنهم أو مجهولً
لهم.
لذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما جهر بالدعوة آمن به الذين يعرفونه عن قُرْب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دون أنْ يسألوه عن معجزة تؤيده ،بل بمجرد أنْ قال أنا رسول ال آمنوا به وصدّقوه واتبعوه.
فسيدنا أبو بكر ،هل سمع من رسول ال قبل أن يؤمن به؟ ل ،إنما بمجرد أن قالوا له :إن صاحبك
تنبأ قال :آمنت به ،لماذا؟ لنه يعرف له سوابق يبني عليها إيمانه بصاحبه ،فما كان محمد ليكون
صاحب خُلق عظيم مع الناس ،ثم يكذب على ال.
إذن :ففي َكوْن الرسول من قومه إيناسٌ للخَلْق؛ لذلك لما قالوا :ل نؤمن إل إذا جاءنا الرسول ملكا
ردّ عليهم :أأنتم ملئكة حتى ينزل عليكم مَلَك؟
سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء:
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ
{ قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ ُم ْ
.]95
ولو فُرض أننا أرسلناه مَلَكا أهم يروْن الملئكة؟ ل يروْنَها ،فكيف إذن يُبلّغ الملَك الناس؟ ل بُدّ أنْ
يأتيهم في صورة بشر ،ولو أتاهم في صورة بشر لقالوا نريد ملَكا.
خ ْمسِينَ عَاما[ } ...العنكبوت ]14 :هذا العدد من
وقوله عز وجل { :فَلَ ِبثَ فِيهِمْ َأ ْلفَ سَنَةٍ ِإلّ َ
الممكن أن يؤدى لمعانٍ كثيرة ،فلم ي ُقلْ :فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما.
وفي العداد في القرآن أسرار كثيرة ،واقرأ مثلًَ {:ووَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلَثِينَ لَيَْل ًة وَأَ ْت َممْنَاهَا ِبعَشْرٍ
فَتَمّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْ َبعِينَ لَيْلَةً[} ...العراف.]142 :
وفي آية سورة البقرة قال الحق سبحانه {:وَإِ ْذ وَاعَدْنَا مُوسَىا أَرْ َبعِينَ لَيَْلةً[} ...البقرة.]51 :
ففي سورة البقرة إجمال ،وفي آية العراف تفصيل .والحكمة في هذا أن موسى عليه السلم ما
إن ذهب لميقات ربه حتى عبد قومه العجل في مدة الثلثين ليلة.
ولم يشأ ال أن يترك موسى ليعود لقومه بعد الثلثين ليلة ،بل أتمها بعشر آخر ،حتى ل يعود
موسى ويرى ما فعله قومه ،فكأن العشْرَ زادتْ على الثلثين ليلة ،ليعطيك الصورة الخيرة
الموجودة في سورة البقرة.
خمْسِينَ عَاما[ { ...العنكبوت]14 :
فالمسألة في منتهى الدقة ،ولو لم ي ْأتِ بالستثناء في قولهِ } :إلّ َ
عدّ البشر ،أما في حساب الحق سبحانه
فربما يظن السامع أن المسألة تقريبية ،لكن التقريب في َ
فهو منتهى الدقة ،كما لو سُئلت مثلً عن الساعة ،فتقول :الساعة العاشرة إل دقيقة ونصفا ،يعني:
منتهى ما في استطاعتك من حساب الوقت.
فإن قلت :فلماذا هذه اللقطة السريعة من قصة نوح عليه السلم؟ نقول :هي لتسلية رسول ال
صلى ال عليه وسلم؛ لن قومه وقفوا منه موقف العداء والمكابرة والتكذيب ،وآذوْا أصحابه،
وضيّقوا الخِنَاق على دعوته ،وقد طالتْ هذه المسألة حتى أخذت ثلث عشرة سنة من عمر
الدعوة ،فسلّه ربه :اصبر يا محمد ،فقد صبر زميل لك في الدعوة ألف سنة إل خمسين عاما،
يعني مدة المشقة التي تحملتها مازالت بسيطة هيّنة ،وقد تحمّل أولو العزم من الرسل أكثر من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذلك.
خمْسِينَ عَاما[ { ...العنكبوت:
ونلحظ هنا } أَ ْلفَ سَنَةٍ[ { ...العنكبوت ]14 :ثم استثنى منها } ِإلّ َ
]14ولم ي ُقلْ خمسين سنة ،فاستثنى العوام من السنين ،ليدلّك على أن السنة تعني أيّ عام ،ويُرفَع
الخلف؛ لن البعض يقول :إن السنة هي التي تبدأ من أول المحرم إلى آخر ذي الحجة ،في حين
أن السنة ليس من الضروري أنْ تبدأ بالمحرم وتنتهي بذي الحجة ،إنما تبدأ في أي وقت وتنتهي
في مثله بعد عام كامل.
فحين نقول :فلن عمره مثلً عشرون سنة ،أي :من يوم مولده إلى مثله عشرين مرة ،وكذلك
العام .إذن :السنة والعام والحجة ،كلها سواء أردتَ الحساب بالسنة الشمسية ،أو القمرية ،أو
غيرها كما تحب.
ومعلوم أن التوقيتات عندنا توقيتات هللية بالشهر العربي؛ لن الشمس ل يُعرف من حركتها إل
اليوم ،إنما ل نعرف منها الشهر ،الشهر نعرفه بحركة القمر حين يُولَد الهلل ،وبالشهر نحسب
السنة التي هي أثنا عشر شهرا قمريا وتزيد أحد عشر يوما في السنة الشمسية.
وكأن الحق سبحانه أراد أنْ ُيعْلمنا أن السنة هي العام ،ل فَرْق بينهما ،ول داعي للجاج في هذه
المسألة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه السلم -بالسفينة التي قال ال عنها في سورة هودَ {:وقَالَ ا ْركَبُواْ فِيهَا ِبسْمِ اللّهِ مَجْرياهَا
َومُرْسَاهَا[} ...هود.]41 :
وقد أمره ال بصناعة السفينة {:وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا َولَ ُتخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُواْ إِ ّنهُمْ
ّمغْ َرقُونَ }[هود ]37 :فكان نوح -عليه السلم -على علم بعاقبة المكذّبين الظالمين من قومه،
واحتفظ بها في نفسه ،وهو يصنع السفينة كما أمره ربه.
لكن ،أكانت السفينة شيئا معروفا لهؤلء القوم ،ولها مثال سابق لديهم؟ ل ،لم يكونوا يعرفون
السفن ،بدليل أنهم تعجّبوا من فعْل نوح ،وسخروا منه وهو يصنعها{ َوكُّلمَا مَرّ عَلَ ْيهِ مَلٌ مّن َق ْومِهِ
سخَرُواْ مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنكُمْ َكمَا
سخِرُواْ مِ ْنهُ[} ...هود ]38 :فكان يردّ عليهم في نفسه {:إِن تَ ْ
َ
سخَرُونَ }[هود ]38 :فهو يعلم عاقبتهم وما يُبيّته ال لهم.
تَ ْ
والحق سبحانه يعطينا هذه اللقطة من قصة نوح -عليه السلم -لكي نجول في كل اللقطات،
ونستحضر مواطن العبرة فيها ،وفي قصة نوح مسائل كثيرة نستفيدها ،فقد كان القوم يعبدون
الصنام :ودا ،وسواعا ،ويغوث ،ويعوق ،ونسرا ،ومنها نعلم أن ودادة النبياء ودادة قيم ومنهج،
وودادة أعمال واقتداء ،وأن أنسابهم أنساب تقوى وورع.
فنبوّة نوح لم تمنع ولده الضالّ من الغرق ،حتى بعد أنْ دعا الَ {:ربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنّ
حقّ} ...
وَعْ َدكَ الْ َ
ع َملٌ غَيْرُ
[هود ]45 :فيعطيه ال الحكم في هذه المسألة ،ويُصحّح له {:إِنّهُ لَ ْيسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ
صَالِحٍ[} ...هود.]46 :
وليس معنى ذلك أن أمه أتتْ به من الحرام والعياذ بال؛ لن ال تعالى ما كان ليُدلّس على نبي
من أنبيائه ،إنما هي كانت من الخائنين ،وخيانتها أنها كانت تفشي أسراره لخصومه ،وتخبرهم
خبره؛ لذلك يقول تعالى عنها في سورة التحريم {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُوحٍ
وَامْرََأتَ لُوطٍ[} ...التحريم.]10 :
ع َملٌ غَيْرُ
ويُبيّن الحق سبحانه العلة في قوله } :إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَ ْهِلكَ[ { ...هود ]46 :بقوله } :إِنّهُ َ
صَالِحٍ[ { ...هود ]46 :حتى ل تذهب بنا الظنون في زوجة نبي ال ،فالعلة أنه عمل غير صالح،
وبنوة النبياء بُنوّة عمل ،ل بُنوّة نَسَب.
سفِينَةِ.{ ....
ثم يقول الحق سبحانه } :فأَ ْنجَيْنا ُه وَأصْحَابَ ال ّ
()3280 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سفِينَةِ[ } ...العنكبوت ]15 :هم الذين يركبون معه
أي :فأنجينا نوحا عليه السلم { وَأصْحَابَ ال ّ
فيها ،فهم أصحابها ،وقد صُنعت من أجلهم ،لم يصنعها نوح لذاته ،إنما صنعها لقومه الذين تعجّبوا
من صناعته لها وسَخروا منه واستهزأوا به ،فهم أصحابها في الحقيقة ،مَنْ آمن منهم ركب فيها،
ومَنْ كفر أبى وأعرض ،فكانت نهايته الغرق.
ونفهم من هذه القضية أن الحق سبحانه حينما يطلب من المؤمن شيئا يعطيه لمَنْ ل يجد ذلك
ت تفضلً عليه ،فلما صنع
الشيء ،سواء كان عِلْما أو مالً أو قدرة..إلخ افهم أنها حق له ،وليس ْ
سفِينَةِ[ } ...العنكبوت ]15 :فهي حقّ لهم،
نوح السفينة جعلها ال من حق القوم فقال { وَأصْحَابَ ال ّ
فليس المراد منها أن يصنعها مثلً ،ويُؤجرها لهم ،ل بل هو يصنعها من أجلهم.
وكذلك قوله تعالى {:وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ ّمعْلُومٌ }[المعارج ]24 :وقد ورد هذا الحق في المال
مرتين في القرآن الكريم ،مرة{ حَقّ ّمعْلُومٌ }[المعارج ،]24 :ومرة أخرى{ حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }
[الذاريات ]19 :دون أن يحدد مقداره ،ودون أنْ يُوصف بالمعلومية.
وقد سمّاهما ال حقا ،فالمعلوم هو الزكاة الواجبة في مقام اليمان ،وغير المعلوم هي الصدقة؛
لنها ل تخضع لمقدار معين ،بل هي حَسْب أريحية المؤمن وحُبه للطاعات ،ودخوله في مقام
الحسان الذي قال ال فيه {:إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَا ُهمْ رَ ّبهُمْ إِ ّن ُهمْ كَانُواْ قَ ْبلَ
حقّ
جعُونَ * وَبِالَسْحَارِ هُمْ َيسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ َ
ذَِلكَ ُمحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ
حبّ
عشْق التكليف و ُ
ل وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات]19-15 :وهذه الزيادة في العبادات دليل على ِ
لّلسّآ ِئ ِ
ل مما يستحق سبحانه من العبادة؛ لذلك يقول العلماء:
الطاعة والثقة بأن ال تعالى ما كلّفنا إل بأق ّ
ن فعلتَ صار في حقك فرضا
إياك أنْ تنتقل إلى هذا المقام وتُلزِم به نفسك ،أو تجعله نَذْرا؛ لنك إ ْ
ل تستطيع أنْ تُنقِص منه.
ن تعوّدت على منهج وألزمت نفسك به ثم تراجعت ،فكأنك
إنما جعله لنشاطك ومقدرتك؛ لنك إ ْ
تقول كلمة ل ينبغي أنْ تُقال ،فكأنك -والعياذ بال -جربت ُودّك ل فلم تجده -والعياذ بال -
ل وُدّ فتركته.
أه َ
سفِينَةِ[ } ...العنكبوت ]15 :يدلنا على أنها صُ ِن َعتْ بأمر ال من
إذن :فقوله سبحانه { وَأصْحَابَ ال ّ
أجلهم ،وبفراغ نوح من صناعتها كانت حقا لهم ،ل مِلْكا له عليه السلم.
سفِينَةِ[ } ...العنكبوت ]15 :وقد حمل فيها نوح -عليه السلم -من
لكن كيف نفهم { وَأصْحَابَ ال ّ
صحْبة؛ لنهما مملوكان لصحاب
ُكلّ زوجين اثنين؟ قالوا :الزوجان من غير البشر ليس لهما ُ
الصّحْبة.
جعَلْنَاهَآ آ َيةً لّ ْلعَاَلمِينَ } [العنكبوت ]15:أي :أمرا عجيبا لم يسبق له مثيل في
وقوله سبحانهَ { :و َ
حياة الناس ،فقد صنعها نوح -عليه السلم -بوحي من ربه على غير مثال سابق ،فوجه َكوْنها
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آية أن ال تعالى أعلمه وعلّمه صناعتها؛ لن لها مهمة إيمانية عنده ،فبها نجاة المؤمنين وغَرَق
الكافرين ،وهذه الية { لّ ْلعَاَلمِينَ } [العنكبوت ]15 :جميعا.
ثم يذكر الحق سبحانه إبراهيم عليه السلم ،فيقول { :وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ اعْبُدُواْ.} ...
()3281 /
وَإِبْرَاهِيمَ ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ اعْ ُبدُوا اللّهَ وَاتّقُوهُ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ ()16
الواو هنا لعطف الجمل ،فالية -معطوفة على{ وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحا[} ...العنكبوت ]14 :إذن :فنوح
وإبراهيم واقعتان مفعولً به للفعل أرسلنا ،وللسائل أنْ يسأل :لماذا لم تُنوّن إبراهيم كما ُنوّنت
نوح؟ لم تُنوّن كلمة إبراهيم؛ لنها اسم ممنوع من الصرف -أي من التنوين -لنه اسم أعجمي.
ونلحظ في هذه المسألة أن جميع أسماء النبياء أسماء أعجمية تُمنع من الصرف ،ما عدا السماء
التي تبدأ بهذه الحروف (صن شمله) وهي على الترتيب :صالح ،نوح ،شعيب ،محمد ،لوط ،هود.
فهذه السماء مصروفة مُنوّنة ،عليهم جميعا الصلة والسلم.
والمعنى { :وَإِبْرَاهِيمَ[ } ...العنكبوت ]16 :يعني :واذكر إبراهيم { ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ
وَاتّقُوهُ[ } ...العنكبوت ]16 :وقلنا :العبادة أنْ يطيع العابدُ المعبو َد في أوامره ونواهيه ،إذن :لو
جاء مَنْ يدّعي اللوهية ،وليس له أمر نؤديه ،أو نهي نمتنع عنه فل يصلح إلها.
لذلك كذب الذين قالوا {:مَا َنعْ ُبدُهُمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى[} ...الزمر ]3 :لنهم ما عبدوا
الصنام إل لنها ليست لها أوامر ول نواه ،فألوهيتهم (منظرية) بل تكليف ،فأول الدلة على
بطلن عبادة هذه اللهة المدّعاة أنها آلهة بل منهج.
ثم عطف المر { وَا ّتقُوهُ[ } ...العنكبوت ]16 :على { اعْبُدُواْ[ } ...العنكبوت ]16 :والتقوى من
معانيها أنْ تطيع الوامر ،وتجتنب النواهي ،فهي مرادفة للعبادة ،لكن إنْ عطفت على العبادة
فتعني :نفّذوا المر لتتقوا غضب ال ،اجعلوا بينكم وبين صفات الجلل وقاية.
وسبق أنْ قلنا :إن ل تعالى صفات جلل :كالقهار ،الجبار ،المنتقم ،المذلّ ..إلخ .وصفات جمال:
كالغفار ،الرحمن ،الرحيم ،التواب ،وبالتقوى تنال متعلقات صفات الجمال ،وتمنع نفسك وتحميها
من متعلقات صفات الجلل.
وقوله تعالى { :ذاِل ُكمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ } [العنكبوت ]16 :ذلكم ،أي ما تقدّم من المر
بالعبادة والتقوى خير لكم ،فإنْ لم تعلموا هذه القضية فل خيرَ في علمكم ،كما قال تعالى {:وَلَـاكِنّ
س لَ َيعَْلمُونَ * َيعَْلمُونَ ظَاهِرا مّنَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا[} ...الروم.]7-6 :
َأكْثَرَ النّا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالعلم الحقيقي هو العلم بقضايا الخرة ،العلم بالحكام وبالمنهج الذي يعطيك الخير الحقيقي طويل
المد على خلف علم الدنيا فإنْ نلتَ منه خيرا ،فهو خير موقوت بعمرك فيها.
وسبق أنْ قُلْنا :إن العلم هو إدراك قضية كونية تستطيع أن تدلل عليها ،وهذا يشمل كل معلومة في
الحياة .أي :العلم المادي التجريبي وآثار هذا العلم في الدنيا ،أما العلم السامي العلى فأنْ تعلم
المراد من ال لك ،وهذا للخرة.
سمَآءِ مَآءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ َثمَرَاتٍ مّخْتَلِفا
واقرأ في ذلك مثلً قوله تعالى {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أن َزلَ مِنَ ال ّ
س وَال ّدوَآبّ
حمْرٌ مّخْتَِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّا ِ
ض وَ ُ
جدَدٌ بِي ٌ
أَ ْلوَا ُنهَا َومِنَ ا ْلجِبَالِ ُ
غفُورٌ }
وَالَنْعَامِ ُمخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ كَذَِلكَ إِ ّنمَا َيخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ
[فاطر.]28-27 :
فذكر سبحانه علم النبات والجماد و{ َومِنَ النّاسِ[} ..فاطر ]28 :أي :علم النسانيات{
وَال ّدوَآبّ[} ...فاطر ]28 :علم الحيوان ،وهكذا جمع كل النواع والجناس ،ثم قال سبحانه {:إِ ّنمَا
خشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ[} ...فاطر ]28 :مع أنه سبحانه لم يذكر هنا أيّ حكم شرعي.
يَ ْ
إذن :المراد هنا العلماء الذين يستنبطون قضية يقينية في الوجود ،كهذه الكتشافات التي تخدم
حركة الحياة ،وتدلّ الناس على قدرة ال ،وبديع صُنْعه تعالى ،وتُذكّرهم به سبحانه.
وتأمل في نفسك مثلً َوضْع القصبة الهوائية بجوار البلعوم ،وكيف أنك لو شرقت بنصف حبة أرز
ل تستريح إل بإخراجها ،وتأملَ ،وضْع اللهاة وكيف تعمل تلقائيا دون َقصْد منك أو تحكم فيها.
تأمل الهداب في القصبة الهوائية ،وكيف أنها تتحرك لعلى تُخرج ما يدخل من الطعام لو اختلّ
توازن اللهاة ،فلم تُحكِم سدّ القصبة الهوائية أثناءَ البلع.
تأمل حين تكون جالسا مطمئنا ل يقلقك شيء ،ثم في لحظة تجد نفسك محتاجا لدورة المياه ،ماذا
حدث؟ ذلك لن في مجرى المعاء ما يشبه (السقاطة) التي تُخرج الفضلت بقدر ،فإذا زادتْ عما
يمكن لك تحمله ،فل ُبدّ من قضاء الحاجة والتخلص من هذه الفضلت الزائدة.
تأمل النف وما فيه من شعيرات في مدخل الهواء ومُخَاط بالداخل ،وأنها جُعلت هكذا لحكمة،
فالشعيرات تحجز ما يعلَق بالهواء من الغبار ،ثم يلتقط المخاط الغبارَ الدقيق الذي ل يعلق
بالشعيرات ليدخل الهواء الرئتين نقيا صافيا ،تأمل الذن من الخارج وما فيها من تعاريج مختلفة
التجاهات ،لتصدّ الهواء ،وتمنعه من مواجهة فتحة الذن.
ل إلى معرفتها إل باستنباط العلماء لها،
حصْر ،ول سبي َ
واليات في جسم النسان كثيرة وفوق ال َ
وكشفهم عنها ،وهذا من نشاطات الذهن البشري ،أما العلم الذي يخرج عن نطاق الذّهْن البشري
فهو نازل من أعلى ،وهو قانون الصيانة الذي جعله الخالق سبحانه لحماية الخَلْق ،فالذي يأخذ
بالعلم الدنيوي التجريبي فقط يُحرَم من الخير الباقي؛ لن قصارى ما يعطيك علم المادة في البشر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أنْ يُرفه حياتك المادية ،أمّا علم الخرة فيُرفّه حياتك الدنيا ويبقى لك في الخرة.
إذن :فقوله تعالى } :ذاِلكُمْ خَيْرٌ ّلكُمْ[ { ...العنكبوت ]16 :أي :قانون الصيانة الرباني بافعل كذا
ول تفعل كذا ،وإياك أنْ تنقل مدلول (افعل) في (ل تفعل) أو مدلول (ل تفعل) في (افعل) ،وقد
شبّهنا هذا القانون (بالكتالوج) الذي يجعله الصانع لحماية الصنعة المادية لتؤدي مهمتها على أكمل
وجه ،كذلك منهج ال بالنسبة للخَلْق ،فإنْ لم تعلموا هذه القضية فلن ينفعكم علم بعد ذلك.
يقول سبحانه {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ َلهُ فِي حَرْثِ ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا
َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى.]20 :
إذن :فالخير الباقي هو الخير في الخرة.
ثم يقول الحق سبحانه } :إِ ّنمَا َتعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ َأوْثَانا.{ ...
()3282 /
إِ ّنمَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا وَتَخُْلقُونَ ِإ ْفكًا إِنّ الّذِينَ َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا َيمِْلكُونَ َل ُكمْ رِ ْزقًا
جعُونَ ()17
شكُرُوا َلهُ إِلَيْهِ تُرْ َ
فَابْ َتغُوا عِ ْندَ اللّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَا ْ
قوله تعالى { :إِ ّنمَا َتعْبُدُونَ[ } ...العنكبوت ]17 :أي :على حَدّ زعمهم ،وعلى حَدّ قولهم {:مَا
َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى[} ...الزمر ،]3 :وإل فل عبادة لهذه اللهة ،حيث ل أمر عندهم
ول نهي ول منهج ،فعبادتهم إذن باطلة.
ن ضُيّق عليهم الخِنَاق قالوا {:مَا َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ
وهم يعبدون الوثان من دون ال فإ ْ
زُ ْلفَى[} ...الزمر ]3 :فهم بذلك مشركون ،ومن لم َيقُلْ بهذا القول فهو كافر.
والوثن :ما ُنصِب للتقديس من حجر ،أيا كان نوعه :حجر جيري ،أو جرانيت ،أو مرمر .أو كان
من معدن :ذهب أو فضة أو نحاس ..إلخ أو من خشب ،وقد كان البعض منهم يصنعه من
حكَى هذا على سبيل التعجّب سيدنا عمر رضي ال عنه.
(العجوة) ،فإنْ جاع أكله ،وقد َ
وبأيّ عقل أو منطق أنْ تذهب إلى الجبل وتستحسن منه حجرا فتنحته على صورة معينة ،ثم
تتخذه إلها تعبده من دون ال ،وهو صَنْعة يدك ،وإنْ أطاحتْ به الريح أقمتَه ،وإنْ كسرته ُرحْت
ي عقل يمكن أن يقبل هذا العمل؟
تُصلح ما تكسّر منه وتُرمّمه ،فأ ّ
لذلك يخاطبهم القرآن {:قَالَ أَ َتعْبُدُونَ مَا تَ ْنحِتُونَ }[الصافات ]95 :وكلما تقدّم العالم تلشتْ منه هذه
الظاهرة؛ لنها مسألة لم َتعُدْ تناسب العقل بأية حال.
ومعنى { وَ َتخُْلقُونَ ِإفْكا[ } ...العنكبوت ]17 :أي :توجدون ،واليجاد يكون من عدم ،فهم يًُوجدون
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من عدم ،لكن أيُوجدون صِدْقا؟ أم يُوجدون كذبا؟ إنهم يُوجدون { ِإفْكا[ } ...العنكبوت ]17 :والِفك
تعمّد الكذب الذي يقلب الحقائق ،ومن ذلك قوله سبحانه {:وَا ْل ُمؤْتَ ِفكَةَ أَ ْهوَىا }[النجم ]53 :أي:
القرى التي كفأها ال على نفسها.
وسبق أن أوضحنا أن الحقيقة هي القضية الصادقة التي توافق الواقع ،فلو قُلْت مثلً :محمد كريم،
فل بُدّ أن هناك شخصا اسمه محمد وله صفة الكرم ،فإنِ اختلف الواقع فلم يوجد محمد أو وُجِد
ولم تتوفر له صفة الكرم ،فالقضية كاذبة لنها مخالفة للواقع ،هذا هو الفك.
حسَنُ
فالحق سبحانه ل يعيب عليهم الخَلْق؛ لنه أثبت للعباد خَلْقا ،فقال سبحانه {:فَتَبَا َركَ اللّهُ أَ ْ
الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون.]14 :
والفَرْق أنك تخلق من موجود ،أما الحق سبحانه فيخلق من العدم ،فأنت تُوجِد الثوب من القطن
مثلً ،وكوبَ الزجاج من الرمل ،والمحراث من الحديد ..إلخ فأوجدت معدوما عن موجود سابق،
أما الخالق سبحانه فأوجد معدوما عن ل موجود.
وسبق أنْ أوضحنا أن صَنْعة البشر تجمد على حالها ،فالسكين مثلً يظل سكينا فل يكبر ،حتى
يصير ساطورا مثلً ،والكوب ل يلد لنا أكوابا أخرى .لكن خِلْقة ال سبحانه لها صفة النمو والحياة
والتكاثر ..إلخ؛ لذلك أنصفك ال فوصفك بأنك خالق ،لكن هو سبحانه أحسن الخالقين.
إذن :الحق سبحانه ل يعيب على هؤلء أنهم يخلقون ،إنما يعيب عليهم أنْ يخلقوا إفْكا وكذبا.
ثم يقول سبحانه } :إِنّ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّ ِه لَ َيمِْلكُونَ َلكُمْ رِزْقا فَابْ َتغُواْ عِندَ اللّهِ الرّ ْزقَ{ ...
[العنكبوت ]17 :في موضع آخر بيّن لهم الحق سبحانه أنهم يعبدون آلهة ل تضر ول تنفع ،وهنا
يذكر مسألة مهمة هي استبقاء الحياة للنسان بالقُوت الذي نسميه الرزق ،فهذه اللهة التي تعبدونها
من دون ال ل تملك لكم رزقا ،ولو امتنع عنكم المطر وأجدبت الرض لمتُم من الجوع.
إذن :كان عليكم أنْ تتأملوا :من أين تأتي مقومات حياتكم ،ومَنْ صاحب الفضل فيها ،فتتوجّهون
إليه بالعبادة والطاعة ،كما نقول في المثل (اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي) إنما أُطعمك وتسمع
لغيري؟!!
والرزق هو الشّغل الشاغل عند الناس ،ففي أول المر كلنا يجتهد لنأكل ونشرب ونعيش ،فلما
تتحسّن المور نرغب للمستقبل ،فالموظف مثلً يدخر لشهر ،والزارع يدخل للعام كله.
ومن أعاجيب هذه المسألة أنك تجد النسان والفأر والنمل هم الوحيدون بين مخلوقات ال التي
تدخر للمستقبل ،أما بقية الحيوانات فتأخذ حاجتها من الطعام فقط ،وتترك الباقي دون أنْ تهتمّ بهذه
المسألة ،أو تُشغَل برزق غد أبدا ،ل يأكل أكثر من طاقته ،ول يدخر شيئا لغده.
لذلك يُذكّر ال عباده بمسألة الرزق لهميتها في حياتهم ،ومن عجيب أمر الرزق أنه أع َرفُ
بمكانك وعنوانك ،منك بمكانة وعنوانه ،فإنْ قُسِم لك الرزق جاءك بطرق عليك الباب ،وإنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حُرمت منه أعياك طلبه.
ومن أوضح المثلة على أن الرزق مقسوم مقدّر من ال لكل منا أن المرأة حين تحمل يمتنع عنها
الحيض الذي كان يأتيها بشكل دوريّ قبل الحمل ،فأين ذهب هذا الدم؟ هذا الدم هو رزق الجنين
في بطن أمه ل يأخذه ول يستفيد به غيره حتى الم.
فإنْ قُدّر الجنين تحول هذا الدم إلى غذاء له خاصة ،فإنْ لم يُقدّر للم أنْ تحمل نزل منها هذا الدم
على صورة كريهة ،ل بُدّ من التخلص منه؛ لنه ضار بالم إنْ بقي ل بُدّ من نزوله ،لنه ليس
رزقها هي ،بل رزق ولدها في أحشائها ،ولو لم يكُنْ هذا الدم رِزْقا للجنين لكانت الم تضعف
كلما تكرّرت لها عملية نزول الدم بهذه الصورة الدورية .إذن :لكل منا رِزْق ل يأخذه غيره.
ضمِن له ويترك ما طُلِب منه.
لذلك يقول أحد الصالحين :عجبتُ لبن آدم يسعى فيما ُ
فربك قد ضمن لك رزقك فانظر إلى ما طُلِب منك ،واشغل نفسك بمراد ال فيك؛ لذلك نتعجب من
هؤلء المتسولين الذين كنا نراهم مثلً في مواسم الحج ،وشرّهم مَنْ يعرضون عاهاتهم وعاهات
أبنائهم على الناس يتسولون بها ،وكأنهم يشتكون الخالق للخَلْق ،ويتبرّمون بقضاء ال ،وال تعالى
ل يحب أن يشكوه عبده لخلقه.
والنبي صلى ال عليه وسلم يقول " :إذا بليتم فاستتروا "
ووال لو ستر أصحاب البلء بلءهم ،وقعدوا في بيوتهم لَساقَ ال إليهم أرزاقهم إلى أبوابهم.
إذن :الرزق مضمون من ال؛ لذلك يمتنّ به على عباده وينفيه عن هذه اللهة الباطلة } لَ َيمِْلكُونَ
شكُرُواْ َلهُ
َلكُمْ رِزْقا فَابْ َتغُواْ عِندَ اللّهِ الرّ ْزقَ[ { ...العنكبوت ]17 :ثم يقول سبحانه } :وَاعْبُدُوهُ وَا ْ
جعُونَ { [العنكبوت ]17 :فإنْ لم تعبدوه لنه يرزقكم ويطعمكم ،فاعبدوه لن مرجعكم إليه
إِلَيْهِ تُ ْر َ
ووقوفكم بين يديه.
وكان يكفي أن نعمه عليكم مُقدّمة على تكليفه لكم ،لقد تركك تربع في نعمه دون أنْ يُكلّفك شيئا،
ن بلغتَ سِنّ الرشد ،وهي سِنّ الّنضْج والبلوغ والقدرة على إنجاب مثلك ،ثم بعد ذلك تقابل
إلى أ ْ
شكْرا له سبحانه على ما قدّمه لك لكانت
تكليفه لك بالجحود؟ إن عبادة ال وطاعته لو لم تكن إل ُ
واجبة عليك.
شكُرُواْ[ { ...العنكبوت ]17 :لن ربكم عز وجل يريد أن يزيدكم ،فجعل الشكر
وقوله تعالى } :وَا ْ
شكَرْ ُت ْم لَزِيدَ ّنكُمْ[} ...إبراهيم ]7 :فربّك ينتظر
على النعمة مفتاحا لهذه الزيادة ،فقال سبحانه {:لَئِن َ
منك كلمة الشكر ،مجرد أن تستقبل النعمة بقولك الحمد ل فقد وجبت لك الزيادة.
حتى أن بعض العارفين يرى أن الحمد ل يكون على ِنعَم ال التي ل ُتعَ ّد ول تُحصى فحسب ،إنما
يكون الحمد ل على أنه ل إله إل ال ،وإل لو كان هناك إله آخر لَحِرْنا بينهما أيهما نتبع،
فالوحدانية من أعظم نعم الواحد سبحانه التي تستوجب الشكر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد أعطانا الحق سبحانه مثلً لهذه المسألة بقوله سبحانه {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ
مُتَشَاكِسُونَ[} ...الزمر ]29 :يعني :مملوك لشركاء مختلفين ،وليتهم متفقون{ وَرَجُلً سَلَما
جلٍ[} ...الزمر ]29 :أي :مِلْك لسيد واحد{ َهلْ َيسْ َتوِيَانِ مَثَلً[} ...الزمر ]29 :فكذلك الموحّد
لّرَ ُ
لِلّه ،والمشرك به.
ولذلك يقول بعض الصالحين في قوله تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَا ُكمْ} ...
[البقرة ]172 :فاللص الذي يأكل من الحرام يأكل رزقه ،فهو رزقه لكنه من الحرام ،ولو صبر
على السرقة لكله من الحلل ولسَاقه ال إليه.
فالمعنى أن ال خلقكم ورزقكم ،ول يعني هذا أنْ تُفلِتوا منه ،فإنْ لم تُراعوا الجميل السابق فخافوا
مما هو آتٍ.
()3283 /
قوله تعالى { :وَإِن ُتكَذّبُواْ[ } ...العنكبوت ]18 :أي :ما قلنا لكم وما جاءكم به رسولنا؛ لن
تصديقه سيُدخلكم مدخل التكليف ،ويحملكم مشقة المنهج ،وسيُضيّق عليكم منطقة الختيار ،والحق
سبحانه قد شرّفك حين أعطاك حرية الختيار ،في حين أن الكون كله ل اختيارَ له؛ لنه تنازل
عن اختياره لختيار ربه.
ش َفقْنَ
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَ ْ
ت وَالَرْ ِ
سمَاوَا ِ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
كما قال سبحانه {:إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
جهُولً }[الحزاب.]72 :
حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
مِ ْنهَا وَ َ
ح ْم ِدهِ[} ...السراء:
شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ
فالكون كله مسخر يؤدي مهمته ،كما يقول سبحانه {:وَإِن مّن َ
.]44
شمْسُ وَالْ َقمَرُ
سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ وَال ّ
سجُدُ َلهُ مَن فِي ال ّ
وقال سبحانه {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ
علَيْهِ ا ْلعَذَابُ[} ...الحج]18 :
وَالنّجُو ُم وَا ْلجِبَالُ وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآبّ َوكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ َوكَثِيرٌ حَقّ َ
فالقاعدة عامة ،ل استثناء فيها ،إل عند النسان ،فمنهم الطائع ومنهم العاصي.
فالمعنى { :وَإِن ُتكَذّبُواْ[ } ...العنكبوت ]18 :فلستم بدعا في التكذيب { َفقَدْ كَ ّذبَ ُأ َممٌ مّن قَبِْلكُمْ} ...
[العنكبوت ]18 :لكن يجب عليكم أن تتنبهوا إلى ما صنع بالمم المكذّبة ،وكيف كانت عاقبتهم،
فاحذروا أنْ يُصيبكم ما أصابهم ،هذه هي المسألة التي ينبغي عليكم التنبّه لها.
وهنا وقف بعض المتمحكين يقول :كيف يقول القرآن في خطاب قوم إبراهيم { وَإِن ُتكَذّبُواْ َفقَدْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كَ ّذبَ ُأمَمٌ مّن قَبِْل ُكمْ[ } ...العنكبوت ]18 :مع أنه لم يسبقهم إل أمة واحدة هي أمة نوح عليه
السلم؟ يظنون أنهم وجدوا مأخذا على القرآن.
ونقول :نعم ،كانت أمة نوح هي أمة الرسالة المقصودة باليمان ،لكن جاء قبلها آدم وشيث
وإدريس ،وكانوا جميعا في أمم سابقة على إبراهيم ،أو نقول :لن مدة بقاء نوح في قومه طالت
حتى أخذت ألف سنة من عمر الزمان ،وهذه الفترة تشمل قُرَابة العشرة أجيال ،والجيل -كما
قالوا -مائة سنة ،كل منها أمة بذاتها.
لغُ ا ْلمُبِينُ } [العنكبوت ]18 :فمهمته مجرد البلغ.
ثم يقول تعالىَ { :ومَا عَلَى الرّسُولِ ِإلّ الْبَ َ
ن يؤمن ،ويكفر مَنْ يكفر ،الرسول لن نعطيه مكافأة أو عمولة على كل مَنْ يؤمن به،
يؤمن به مَ ْ
فإياكم أنْ تظنوا أنكم بكفركم تُقلّلون من مكافأة النبي -خاصة وقد كانوا كارهين له -فالمعنى:
عليّ البلغ فحسب ،وقد بلّغت فسآخذ جزائي وأجري من ربي ،فأنتم ل تكيدونني بكفركم ،بل
تكيدون أنفسكم.
ن تفلّت من يده واحد من أمته
لذلك كان نبينا محمد صلى ال عليه وسلم يحزن أشد الحزن ،ويألم إ ْ
فكفر ،حتى خاطبه ربه {:لّيْسَ عَلَ ْيكَ ُهدَا ُه ْم وَلَـاكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَن َيشَآءُ[} ...البقرة.]272 :
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }[الشعراء.]3 :
خعٌ ّنفْ َ
وخاطبه بقولهَ {:لعَّلكَ بَا ِ
عكَ رَ ّبكَ َومَا قَلَىا
وحين نزل عليه صلى ال عليه وسلم {:وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ إِذَا سَجَىا * مَا َودّ َ
سوْفَ ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَىا }[الضحى ]5-1 :انتهز النبي
ن الُولَىا * وََل َ
* وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ ّلكَ مِ َ
هذه الفرصة ودعا ربه :إذن ل أرضى وواحد من أمتي في النار؛ ذلك لنه صلى ال عليه وسلم
سكُمْ عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ
مُحبّ لمته ،حريص عليهم ،رؤوف رحيم بهمَ {:لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة.]128 :
ووصف الحق سبحانه البلغ بأنه مبين ،أي :واضح ظاهر؛ لن من البلغ ما يكون مجرد عرض
للمسألة دون تأكيد وإظهار للحجة التي تؤيد البلغ.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :أوَلَمْ يَ َروْاْ كَ ْيفَ يُ ْب ِدئُ اللّهُ الْخَ ْلقَ.} ...
()3284 /
خلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ ()19
َأوَلَمْ يَ َروْا كَ ْيفَ يُبْ ِدئُ اللّهُ الْ َ
الخطاب هنا مُوجّه إلى أمة محمد صلى ال عليه وسلم :هؤلء الذين كذبوا من قبل ،وأنتم الذين
تكذبون الن ،فأين عقولكم؟ لو استعملتم عقولكم في تأمل الكون الذي تعيشون فيه ،والذي طرأتُم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدّ لكم بكل مُقوّمات حياتكم.
عليه ،وقد أُ ِ
{ َأوََلمْ يَ َروْاْ كَ ْيفَ يُ ْب ِدئُ اللّهُ الْخَ ْلقَ[ } ...العنكبوت ]19 :ويرى هنا بمعنى يعلم ،كما في قوله
تعالى {:أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل ]1 :أي :ألم تعلم؛ لن رسول ال لم يَرَ
حادثة الفيل ،وعدل عن (تعلم) إلى (ترى) ليلفت أنظارنا إلى أن إخبار ال تعالى لرسوله صلى ال
عليه وسلم أوثق له من رؤيته بعينه.
ومن ذلك قول الصّدّيق أبي بكر لما سمع بحادث السراء والمعراج قال " :إنْ كان قال فقد صدق
".
والهمزة في { َأوَلَمْ يَ َروْاْ[ } ...العنكبوت ]19 :استفهام للتقرير ،كما تقول لولدك :ألم تَرَ إلى فلن
الذي أهمل دروسه ،تريد أنْ تنكر عليه أنْ يُهمل هو أيضا ،فتقرره بعاقبة الهمال ،وتدعه ينطقه
بلسانه ،فيقول لك :الذي أهمل دروسه رَسَب.
وكما تقول لمَنْ أنكر جميلك :ألم أُحسِن إليك بكذا وكذا ،ف ُيقِر بها هو بدل أنْ تعددها له أنت ،فهذا
أبلغ في العتراف.
فساعة يأتي بعده الهمزة َنفْي يسمونه استفهاما إنكاريا ،تنكر ما هم عليه ،وتريد أن تقررهم بما
يقابله .والنفي بعد النكار نفي للنفي ،ونفي النفي إثبات.
فالمعنى :أيكذبون ولم يَ َروْا ما حدث للمم المكذّبة من قبل؟ أيكذبون ولم يَروْا آيات ال ،وقدرته
شائعة في الوجود كله؟ لقد كان عليهم أن ينظروا نظرة اعتبار ليعلموا مَنْ خلق هذا الخَلْق ،وإنك
ن يقولوا :ال ،كما حكى
لو سألتهم :مَنْ خلق هذا الكون ل يجدون جوابا ،ول يملكون إل أ ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ[} ...لقمان.]25 :
القرآن {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ ال ّ
لكن ،كيف ُيقِرّون بهذه الحقيقة ويعترفون بها ،مع أنهم كافرون بال؟ قالوا :لنها مسألة أظهر مَن
أنْ ينكرها منكر ،فكل صاحب صنعة مهما كانت ضئيلة يفخر بها وينسبها إلى نفسه ،بل وينسب
عدّ بهذه الدقة وبهذه العظمة ،ولم يدعه أحد لنفسه؟
إلى نفسه ما لم يصنع ،فما بالك ب َكوْنِ أُ ِ
والدعْوى تثبت لصاحبها ما لم َيقُمْ لها معارض.
لذلك قلنا :إن الحق سبحانه قبل أن يقول ل إله إل أنا ،وقبل أن يطلبها منا شهد بها لنفسه تعالى{:
شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ[} ...آل عمران]18 :؛ لن هذه الشهادة هي التي ستجعله يقول
َ
ن يؤمن بأنه إله ما قالها.
ن فيكون ،ولو لم يكُ ْ
للشيء :كُ ْ
والحق سبحانه يقولَ { :أوَلَمْ يَ َروْاْ كَ ْيفَ يُ ْب ِدئُ اللّهُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ[ } ...العنكبوت ]19 :كيف ونحن
لم نَر العادة ،فضلً عن رؤيتنا للبدء؟
قالوا :نرى البدء والعادة في مظاهر الوجود من حولنا ،فنراها في الزرع مثلً ،وكيف أن ال
حبّ أو البذور التي تعيد
تعالى يُحيي الرض بالنبات ،ثم يأتي وقت الحصاد فيحصد ويتناثر منه ال َ
الدورة من جديد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ط َفتْ تبخّر منها الماء ،فج ّفتْ
والوردة تجد فيها رطوبة ونضارة وألوانا بديعة ورائحة زكية ،فإذا قُ ِ
وتفتتت ،وذهبت رائحتها في الجو ،ثم تخلفها وردة أخرى جديدة ،وهكذا.
انظر مثلً إلى دورة الماء في الكون :هل زادتْ كمية الماء التي خلقها ال في الكون حين أعدّه
لحياة النسان منذ خلق آدم وحواء؟ الماء هو هو حتى الن ،مع ما حدث من زيادة في عدد
السكان؛ لن عناصر الكون هي هي منذ خلقها ال ،لكن لها دورة تسير فيها بين بَدْء وإعادة.
جعَلُونَ َلهُ أَندَادا
واقرأ إن شئت قوله تعالىُ {:قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َتكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الَرْضَ فِي َي ْومَيْنِ وَ َت ْ
سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا[} ...فصلت-9 :
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
.]10
فكأن قوت العالم من الزرع وغيره ُمعَدّ من بَدْء الخليقة ،وإلى أنْ تقوم الساعة ل يزيد ،لكنه يدور
في دورة طبيعية.
ثم يقول سبحانه } :إِنّ ذاِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ { [العنكبوت ]19 :أيهما :الخَلْق أم العادة؟ أما الخلق
فقد أقرّوا به ،ول جدالَ فيه ،إذن :فالكلم عن العادة ،وهل الذي خلق من عدم يعجز عن إعادة
ما خلق؟ الخَلْق الول من عدم ،أما العادة فمن موجود ،فأيهما أهون في عُرْفكم وحسب منطقكم؟
لذلك يقول سبحانه {:وَ ُهوَ الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ[} ...الروم ]27 :مع أن
حقّه :هذا هيّن ،وهذا أهون؛ لكنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا.
الحق سبحانه ل يُقال في َ
ثم يخاطب الحق سبحانه محمدا صلى ال عليه وسلمُ } :قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَانظُرُواْ.{ ...
()3285 /
شيْءٍ
شئُ النّشَْأةَ الْآَخِ َرةَ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ
ُقلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ َبدَأَ ا ْلخَلْقَ ُثمّ اللّهُ يُنْ ِ
قَدِيرٌ ()20
السير :النتقال من مكان إلى مكان ،لكن نحن نسير في الرض أم على الرض؟ الحقيقة أننا كما
قال سبحانه { ُقلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ[ } ...العنكبوت ]20 :أي :نسير فيها؛ لن الغلف الجوي
المحيط بالرض من الرض ،فبدونه ل تستقيم الحياة عليها ،إذن :حين تسير تسير في الرض
فهي تحتك ،وغلفها الجوي فوقك ،فكأنك بداخلها.
والعلة في السير { فَانظُرُواْ كَ ْيفَ بَدَأَ الْخَ ْلقَ[ } ...العنكبوت ]20 :وفي آية أخرى{ ُثمّ ا ْنظُرُواْ} ..
[النعام]11 :؛ لن السير من أرض لخرى له دافعان :إما للسياحة والتأمل والعتبار ،وإما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن ضاق رزقك في بلدك .فقولهُ { :قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَانظُرُواْ} ...
للتجارة والستثمار ،إ ْ
[العنكبوت ]20 :أي :نظر اعتبار وتأمل.
أما في{ ثُمّ انْظُرُواْ[} ..النعام ]11 :فثم تفيد العطف والتراخي ،كأنه سبحانه يقول لنا :سيروا في
الرض للستثمار ،ثم انظروا نظرة التأمل والعتبار ،ول مانع من الجمع بين الغرضين.
وتذكرون أن الحق سبحانه قال في السورة السابقة (القصص) {:إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ
لَرَآ ّدكَ إِلَىا َمعَادٍ[} ...القصص ]85 :والمراد بذلك الهجرة ،وفي هذه السورة تأتي {:ياعِبَا ِديَ
سعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ }[العنكبوت.]56 :
الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ أَ ْرضِي وَا ِ
والمعنى :إن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر ،أو :إنْ لم تكُنْ اليات الظاهرة لك
كافية لتشبع عندك الرغبة في العتبار والتأمل فسِ ْر في الرض ،فسوف تجد فيها كثيرا من
اليات والعِبَر في اختلف الجناس والبيئات والثمار والجواء ..إلخ.
سعَةً فَ ُتهَاجِرُواْ فِيهَا[} ...النساء.]97 :
لذلك يقول سبحانه {:أََلمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ
فالرض كلها ل ل حدو َد فيها ،ول فواصلَ بينها ،فلما قسّمها الناس وجعلوا لها حدودا تمنع
ص ُعبَ على الناس التنقل للسياحة أو لطلب الرزق إنْ
الحركة فيها حدثت كثير من الشكالت ،و َ
ضاق بأحد رزقه.
خصْبة التي إنْ زُرِعت س ّدتْ حاجة
وها هي السودان بجوارنا بها مساحات شاسعة من الراضي ال ِ
العالم العربي كله ،أنستطيع الذهاب لزراعتها؟ ساعتها سيقولون :جاءوا ليستعمرونا.
لذلك لما أتيح لي التحدث في هيئة المم قلت :إنه ل يمكن أنْ تُحلّ قضايا العالم الراهنة إل إذا
طبّقنا مبدأ الخالق -عز وجل -وعُدْنا إلى منهجه الذي وضعه لتنظيم حياتنا ،وكيف نضع بيننا
ض َعهَا لِلَنَامِ }[الرحمن.]10 :
هذه الحدود الحديدية والسلك الشائكة ،وربنا يقول {:وَالَ ْرضَ وَ َ
فالرض كلّ الرض للنام كل النام ،ويوم نحقق هذا المبدأ فلن يضيق الرزق بأحد ،لنه إنْ
ضاقَ بك هنا طلبته هناك؛ لذلك أكثر الشكوى في عالم اليوم إمّا من أرض بل رجال ،أو من
رجال بل أرض ،فلماذا ل ُنحِدث التكامل الذي أراده ال في كونه؟
إذن :فالسير هنا مترتب عليه العتبار { كَ ْيفَ َبدَأَ ا ْلخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِىءُ النّشَْأةَ الخِ َرةَ} ...
[العنكبوت ]20 :وما ُدمْنا قد آمنا بأن ال تعالى هو الخالق بداية ،فإعادة الخَلْق أهون ،كما قال
خلْق الخر؟ لذلك يؤكد الخالق سبحانه
لوّلِ[} ...ق ]15 :فيشكّوا في ال َ
قاَ
سبحانهَ {:أ َفعَيِينَا بِا ْلخَ ْل ِ
هذه القدرة بقوله:
شيْءٍ َقدِيرٌ } [العنكبوت.]20 :
{ إِنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ
ثم يقول الحق سبحانهُ { :ي َع ّذبُ مَن يَشَآءُ.} ...
()3286 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ َيشَا ُء وَإِلَيْهِ ُتقْلَبُونَ ()21
لماذا بدأ الحق سبحانه هنا بذكر العذاب؟ في حين قدّم المغفرة في آية أخرىَ {:ي ْغفِرُ ِلمَن َيشَآءُ
وَ ُيعَ ّذبُ مَن َيشَآءُ[} ...المائدة.]18 :
قالوا :لن الكلم هنا عن المكذّبين المعرضين وعن الكافرين ،فناسب أنْ يبدأ معهم بذكر العذاب {
ُيعَ ّذبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن َيشَآءُ[ } ...العنكبوت ]21 :فإنْ قُلْت :فلماذا يذكر الرحمة مع الكافرين
بعد أنْ هدّدهم بالعذاب؟ نقول :لنه رب يهدد عباده أولً بالعذاب ليرتدعوا وليؤمنوا ،ثم يُلوّح لهم
برحمته سبحانه ليُرغّبهم في طاعته ويلفتهم إلى اليمان به.
وقد صَحّ في الحديث القدسي " :رحمتي سبقت غضبي " ففي الوقت الذي يُهدّد فيه بالعذاب يُلوّح
لعباده حتى الكافرين بأن رحمته تعالى سبقتْ غضبه.
وقوله سبحانه { :وَإِلَ ْيهِ ُتقْلَبُونَ } [العنكبوت ]21 :أي :تُرجعون ،وجاء بصيغة تقلبون الدالة على
ال َغصْب والنقياد عُنْوة ليقول لهم :مهما بلغ بكم الطغيان والجبروت والتعالي بنعم ال ،فل بُدّ لكم
من الرجوع إليه ،والمثول بين يديْه ،فتذكّروا هذه المسألة جيدا ،حيث ل مهربَ لكم منها؛ لذلك
ن يقول بعدهاَ { :ومَآ أَن ُتمْ ِب ُمعْجِزِينَ فِي الَ ْرضِ.} ...
كان مناسبا أ ْ
()3287 /
(معجزين) :جمع معجز ،وهو الذي يُعجز غيره ،تقول :أعجزتُ فلنا يعني :جعلته عاجزا،
والمعنى أنكم لن تفلتوا من ال ،ولن تتأ ّبوْا عليه ،حين يريدكم للوقوف بين يديه ،بل تأتون
صاغرين.
ونلحظ هنا أن الحق سبحانه قالَ { :ومَآ أَنتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ[ } ...العنكبوت ]22 :ولم يقل مثلً :لن
ي الفعل غير نفي الوصف ،فحين تقول مثلً :أنت ل تخيط لي ثوبا،
تعجزوني حين أطلبكم؛ لن نف َ
فهذا يعني أنه يستطيع أنْ يخيط لك ثوبا لكنه ل يريد ،فالقدرة موجودة لكن ينقصها الرضا بمزاولة
الفعل ،إنما حين تقول :أنت لستَ بخائط فقد نفيتَ عنه أصل المسألة.
لذلك لم ي ْنفِ عنهم الفعل حتى ل نتوهم إمكانية حدوثه منهم ،فالهرب والفلت من لقاء ال في
الخرة أمر غير وارد على الذّهْن أصلً ،إنما نفي عنهم بالوصف من أساسه { َومَآ أَنتُمْ ِب ُم ْعجِزِينَ
سمَآءِ[ } ...العنكبوت.]22 :
ض َولَ فِي ال ّ
فِي الَ ْر ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ي َولَ َنصِيرٍ } [العنكبوت ]22 :حتى ل يقول
ثم يقول سبحانهَ { :ومَا َلكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَِل ّ
قائل :إنْ كانوا هم غير معجزين ،فقد يكون وراءهم مَنْ يعجز ال ،أو وراءهم مَنْ يشفع لهم ،أو
يدافع عنهم ،فنفى هذه أيضا لنه سبحانه ل يُعجزه أحد ،ول يُعجزه شيء.
لذلك يخاطبهم بقوله {:مَا َلكُ ْم لَ تَنَاصَرُونَ }[الصافات ]25 :أين الفتوات القوياء ينصرونكم؟
فنفى عنهم الولي ،ونفى عنهم النصير؛ لن هناك فَرْقا بينهما :الوليّ هو الذي يقرب منك بمودة
حبّ ،وهذا يستطيع أنْ ينصرك لكن بالحُسْنى وبالسياسة ،ويشفع لك إن احتجتَ إلى شفاعته ،أمّا
وُ
النصير فهو الذي ينصرك بالقوة و (الفتونة).
وهكذا نفى عنهم القدرة على العجاز ،ونفى عنهم الولي والنصير ،لكن ذكر { مّن دُونِ اللّهِ} ...
ي ونصير من ال تعالى ،فإنْ أرادوا الولي
[العنكبوت ]22 :يعني :من الممكن أن يكون لهم ول ّ
الحق والنصير الحق فليؤمنوا بي ،فأنا وليّهم وأنا نصيرهم.
وكأنه سبحانه يقول لهم :إنْ تُبْتم ورجعتم عما كنتم فيه من الكفر واعتذرتم عما كان منكم ،فأنا
وليّكم وأنا نصيركم.
وفي موضع آخر قالَ {:ومَا َلكُمْ مّن نّاصِرِينَ }[العنكبوت ]25 :ولم يقل من دون ال؛ لن الموقف
في الخرة ،والخرة ل توبةَ فيها ول اعتذار ول رجوع ،فقوله { مّن دُونِ اللّهِ[ } ...العنكبوت:
]22ل تكون إل في الدنيا.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَالّذِينَ َكفَرُواْ بِآيَاتِ.} ...
()3288 /
فإنْ أصرّ الكافر على ُكفْره وعبادته للصنام التي ل تنفع ول تضر ،ولم ُتجْدِ معه موعظة ول
تذكير فل ملجأ له ول منفذ له إلى رحمة ال؛ لنه عبد أولياء ل ينفعونه بشيء وكفر بي ،فليس له
مَنْ يحميه مني ،ول مَنْ ينصره من الصنام التي عبدها ،فليس له إل اليأس.
واليأس :قَطْع الرجاء من المر ،وقد قطع رجاء الكافرين؛ لنهم عبدوا ما ل ينفع ول يضر،
وكفروا بمَنْ بيده النفع ،وبيده الضّر.
وقلنا :إن المراد بآيات ال إما اليات الكونية التي تُثبت قدرة ال ،وتلفت إلى حكمة الخالق -عز
وجل -كالليل والنهار والشمس والقمر ،أو آيات المعجزات التي تصاحب الرسل؛ ليؤيدهم ال بها
ويُظهِر صِدْقهم في البلغ عن ال؛ فكفروا بآيات القرآن الحاملة للحكام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد كفر هؤلء بكل هذه اليات ،فلم يُصدّقوا منها شيئا ،وما داموا قد كفروا بهذه اليات ،وكفروا
أيضا بلقاء ال في الخرة؛ فرحمة ال بعيدة عنهم ،وهم يائسون منها.
لذلك كانت عاقبتهم { وَُأوْلَـا ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [العنكبوت ]23 :ثم يقول الحق سبحانهَ { :فمَا
جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن.} ...
كَانَ َ
()3289 /
جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ َأوْ حَ ّرقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ
َفمَا كَانَ َ
ُي ْؤمِنُونَ ()24
كنا ننتظر منهم جوابا منطقيا ،بعد أنْ دعاهم إلى عبادة ال وحده ل شريك له ،وبيّن لهم بطلن
عبادة آلهتهم ،وأنها ل تضر ول تنفع ،كان عليهم أن يجادلوه ،وأن يدافعوا عن آلهتهم ،وأن
يُظهِروا حجتهم في عبادتهم.
جوَابَ َقوْمِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ اقُْتلُوهُ َأوْ حَ ّرقُوهُ} ...
إنما يأتي جوابهم دالً على إفلسهم { َفمَا كَانَ َ
[العنكبوت ]24 :أهذا جواب على ما قيل لكم؟ إنه مجرد هروب من المواجهة ،وإفلس في الحجة،
إنه جواب مَنْ لم يجد جوابا ،وليس لديه إل التهديد والتلويح بالقوة وبالبطش ،فهذه لغة مَنْ ل حجة
عنده.
لكن ،لماذا سمّاه القرآن جوابا؟ قالوا :لنهم لو لم يتكلموا بهذا الكلم لقيل عنهم أنهم لم يلتفتوا إلى
كلم نبيهم ولم يأبهوا به ،وأن كلمه ل وزنَ له ،ول يُرَد عليه ،فإنْ كان كلمهم ل ُيعَد جوابا فهو
في صورة الجواب ،وإنْ كان جوابا فاسدا.
وقولهم { :اقْتُلُوهُ[ } ...العنكبوت ]24 :نعلم أن القتل هو هدم البنية هدما يتبعه خروج الروح لنها
ل تجد بنية سليمة تسكنها ،أما الموت فتخرج الروح أولً ،ثم تهدم البنية حين تتحلل في التراب،
إذن :فهما سواء في أنهما هلك.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي تضيء ،فالكهرباء ل توجد في اللمبة ،إنما في
شيء خارج عنها ،لكن يظهر أثر الكهرباء في اللمبة إنْ كانت سليمة صالحة لستقبال التيار ،فإنْ
كسرتها فل تجد فيها أثرا للكهرباء ول تضيء ،وقد تمنع عنها الكهرباء وهي سليمة.
ثم قالوا { َأوْ حَ ّرقُوهُ[ } ...العنكبوت ]24 :وهل التحريق بعد القتل ُيعَد ارتقاءً في العقوبة؟ ل شكّ
أن القتل أبلغ من التحريق ،فقد يُحرق شخص ،وتتم نجدته وإسعافه فل يموت ،فالقتل تأكيد
للموت ،أمّا التحريق فل يعني بالضرورة الموت ،فلماذا لم يقولوا فقد اقتلوه وتنتهي المسألة ،أو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يُصعدوا العقوبة فيقولوا :حرّقوه أو اقتلوه؟
إنهم بدأوا بأقصى ما عندهم من عقوبة لشدة حَنَقهم عليه فقالوا { اقْتُلُوهُ[ } ...العنكبوت ]24 :ثم
تراءى لهم رأي آخر :ولماذا ل نحرقه بالنار ،فربما يعود ويرجع عن دعوته حينما يجد ألم
التحريق ،وهذا ُيعَد كسبا لهم ،وتُحسَب الجولة لصالحهم.
لكن مَن الذي قال { اقْتُلُوهُ[ } ...العنكبوت]24 :؟ من المر بالقتل ،ومَنِ المأمور؟ لقد اتفقوا جميعا
جوَابَ َق ْومِهِ[ } ...العنكبوت:
على قتله ،فالمر والمأمور سواء ،وهذا واضح من اليةَ { :فمَا كَانَ َ
]24فالقوم جميعا تواطئوا على هذه المسألة .أو أن المر هم رؤساء القوم وكبارهم الذين يأتمر
الناس بأمرهم ،أما التنفيذ فمهمة التباع.
ونحن نرى ثورة الجمهور وانفعاله حينما تقع جريمة مثلً ،فالكل يغضب ويقول :اقتلوه ،اسجنون،
فكلهم قائل ،وكلهم مقول له.
ثم يقول سبحانه { فَأَ ْنجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ.
[ { ..العنكبوت ]24 :وهنا يعترض الفلسفة :كيف والنار من طبيعتها الحراق؟ كيف يتخلف هذا
القانون؟ لكن كيف معجزة إنْ لم ت ْأتِ على هذه الصورة؟
إن الحق سبحانه خلق الخَلْق وجعل فيه نواميس تفعل فعلها وتؤدي مهمتها تلقائيا ،فالرض مثلً
حبّ ،ثم ترويها ،الناموس أن تنبت ،وحتى ل يظن ظانّ أن الكون إنما
حينما تحرثها ،وتلقي فيها ال َ
يسير على َوفْق هذه النواميس ،ل َوفْقَ قدرة ال نجد أنه سبحانه يخرق هذه النواميس ليثبت لنا
قيوميته على خَلْقه وطلقة قدرته فيه.
لذلك إن لم يكُنْ لك رزق في حرثك هذا ،فل ينبت النبات ،أو ينبت ثم تصيبه آفة أو إعصار
فيُهلكه قبل استوائه .إذن :فالمسألة قيومية ل تعالى وليست (ميكانيكا).
وقد خرق ال نواميس الكون لموسى -عليه السلم -حينما ضرب البحر ،فصار كل فِرْق
طوْد العظيم ،وتحولت سيولة الماء إلى جبل صلب .وخرق نواميس الكون لبراهيم حينما قال
كال ّ
للنار {:قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء.]69 :
وخرق النواميس ليثبت العجاز ،وليثبت أن يد ال تعالى ل تزال مسيطرة على مُلْكه سبحانه ،ل
أنه خلق النواميس وتركها تعمل في الكون دون تدخّل منه سبحانه كما يقول الفلسفة ،فالحق
سبحانه خلق النواميس لتفعل ،ولكن قيوميته تعالى وقدرته تُعطّل النواميس.
ك ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [العنكبوت ]24 :ونذكر في قصة السفينة
} فَأَ ْنجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ إِنّ فِي ذاِل َ
جعَلْنَاهَآ آيَةً لّ ْلعَاَلمِينَ }[العنكبوت ]15 :آية وهنا قال } ليَاتٍ...
أن ال تعالى قال عنها {:وَ َ
{ [العنكبوت ]24 :وهناك قال{ لّ ْلعَاَلمِينَ }[العنكبوت ]15 :وهنا قالّ } :ل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [العنكبوت:
]24فالختلف إذن بين السياقين في أمرين:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قال في السفينة{ آ َيةً[} ...العنكبوت ]15 :لن العجيب في أمر السفينة ليس في صناعتها ،فمَنَ
رآها يمكن أنْ يصنع مثلها ،إنما الية فيها أن ال تعالى أعلمه بها قبل الحاجة إليها ،ثم منع عنها
الزوابع والعاصير أن تلعب بها وتُغرق ركابها.
أمّا في مسألة الحراق فعجائب كثيرة وآيات شتى ،فكان من الممكن ألّ يمكنهم ال منه ،وكان من
الممكن بعد أن أمسكوا به وألقوه في النار أنْ يُنزل ال مطرا يطفيء نارهم وينجو إبراهيم ،أو
يسخر له من القوم أهل رأفة ورحمة ينقذونه من اللقاء في النار.
لكن لم يحدث شيء من هذا ،حيث أمكنهم ال منه حتى ألقوه في النار وهي مشتعلة ،وهو مُوثق
بالحبال ،ومع ذلك لم ُتصِبه النار بسوء ،وظهرتْ اليات بينات واضحات أمام أعين الجميع.
ستْ ونجا ركابها ظّلتْ
المر الخر :قال هناك{ لّ ْلعَاَلمِينَ }[العنكبوت ]15 :لن السفينة حينما ر َ
باقية في مكانها يراها الناس جميعا ويتأملونها ،فقد كان لها أثر باقٍ قائم ُمشَاهد.
أمّا في مسألة إبراهيم -عليه السلم -فقال } ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [العنكبوت ]24 :لن نجاة إبراهيم -
عليه السلم -كانت عبرة لمن شاهدها فقط ،ونحن نؤمن بها لن ال أخبرنا بها ،ونحن مؤمنون
بال ،فهي آيات للمؤمنين بال ل للعالمين.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وقَالَ إِ ّنمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ َأوْثَانا.{ ...
()3290 /
ضكُمْ بِ َب ْعضٍ
َوقَالَ إِ ّنمَا اتّخَذْ ُتمْ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا َموَ ّدةَ بَيْ ِنكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ُثمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ
ضكُمْ َب ْعضًا َومَ ْأوَاكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ()25
وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ
المعنى :إنْ كنتم لم تؤمنوا باليات الكونية الدالة على قدرة ال ،ولم تؤمنوا بالمعجزة التي
ن تؤمنوا بأنه ل يقدر على ذلك إل ال ،فلماذا
رأيتموها حين نجاني ربي من النار ،وكان عليكم أ ْ
إصراركم على الكفر؟
فل بُدّ أنكم كفرتم بال وعبدتم الصنام ،ل لنكم مقتنعون بعبادتها ،ول لنها تستحق العبادة ،إنما
عبدتموها { ّموَ ّدةَ بَيْ ِنكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا[ } ...العنكبوت ]25 :يعني :نفاقا ينافق به بعضكم بعضا
ومجاملة؛ لنكم رأيتم رؤوس القوم فيكم يعبدونها فقلّدتموهم دون اقتناع منكم بما تعبدون ،أو مودةً
لبائكم الولين ،وسَيْرا على نهجهم ،كما حكى القرآن {:إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَىا
آثَارِهِم ّمقْتَدُونَ }[الزخرف.]23 :
حسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ[} ...المائدة.]104 :
وفي آية أخرى{ قَالُواْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن هذه المودة وهذه المجاملة وهذا النفاق عمرها (الحياة الدنيا) فحسب ،وفي الخرة ستتقطع
ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ[} ...الزخرف ]67 :يعني :ستنقلب هذه
بينكم هذه المودات {:الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ
المودة وهذه المجاملة إلى عداوة ،بل وإلى معركة حكاها القرآن {:رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ
حتَ َأقْدَامِنَا[} ...فصلت.]29 :
جعَ ْل ُهمَا َت ْ
الْجِنّ وَالِنسِ َن ْ
ط َعتْ ِبهِ ُم الَسْبَابُ }[البقرة.]166 :
وقال {:إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ وَرَأَوُاْ ا ْل َعذَابَ وَتَقَ ّ
ضكُمْ َبعْضا َومَ ْأوَاكُمُ
ض وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ
ضكُمْ بِ َب ْع ٍ
ويقرر هنا أيضا هذه الحقيقة { :ثُمّ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ
ت كانت تقتضي أنْ
النّا ُر َومَا َلكُمْ مّن نّاصِرِينَ } [العنكبوت ]25 :ذلك لن المقدمات التي سبق ْ
يؤمنوا ،فما كان منهم إل الصرار على الكفر.
وفي الوقت الذي تنقلب فيه مودة الكافرين عداوة تنقلب عداوة المؤمنين الذين تعاونوا على الطاعة
ب ومودة ،فيقول المؤمن لخيه الذي جَرّه إلى الطاعة وحمله عليها -على كُرْه منه وضيق
ح ّ
إلى ُ
-جزاك ال خيرا لقد أنقذتني.
ول ينتهي المر عند هذه العقوبة التي يُوقعونها بأنفسهم من التبرؤ واللعن ،بل ينصرفون إلى
عقوبة أشدّ { َومَ ْأوَاكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مّن نّاصِرِينَ } [العنكبوت ]25 :ونلحظ هنا أن الحق سبحانه لم
يقُلْ :وما لكم من دون ال؛ لن الكلم في الخرة حيث ل توبةَ لهم ول رجوعَ ،فقد انتفى أن يكون
لهم ولي أو نصير من ال.
كذلك ل ناصرَ لهم من أوليائهم الذين عبدوهم من دون ال حيث يطلبون الّنصْرة من أحجار
وأصنام ،ل تنطق ول تجيب.
وهكذا تنتهي هذه اللقطة السريعة من قصة سيدنا إبراهيم -عليه السلم -وله تاريخ طويل ،وهو
شيخ المرسلين وأبو النبياء ،وإنْ أردتَ أن تحكي قصته لخذتْ منك وقتا طويلً ،ويكفي أن ال
تعالى قال عنه {:إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً[} ...النحل.]120 :
ط َوقَالَ إِنّي ُمهَاجِرٌ.} ....
ثم يقول الحق سبحانه { :فَآمَنَ َلهُ لُو ٌ
()3291 /
حكِيمُ ()26
فََآمَنَ لَهُ لُوطٌ َوقَالَ إِنّي ُمهَاجِرٌ إِلَى رَبّي إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
أي :أن قوم إبراهيم -عليه السلم -ظلوا على كفرهم ،والذي آمن به لوط -عليه السلم -
وكان ابن أخيه ،وكانوا في العراق ،ثم سينتقلون بعد ذلك إلى الشام.
وكلمة { فَآمَنَ َلهُ لُوطٌ[ } ...العنكبوت ]26 :حين نتتبع كلمة آمن في القرآن الكريم نجد أنها تدور
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حول المن والطمأنينة والراحة والهدوء ،لكنها تختلف في المدلولت حسب اختلف موقعها
العرابي ،فهنا { فَآمَنَ لَهُ[ } ...العنكبوت ]26 :وهل يؤمن لوط لبراهيم؟ واليمان كما نقول
يؤمن بال فما دام السياق { فَآمَنَ لَهُ[ } ...العنكبوت ]26 :فل بُد أن المعنى مختلف ،ول يقصد هنا
اليمان بال.
خ ْوفٍ }[قريش ]4 :فالفعل هنا
ومعنى (آمن) هنا كما في قوله تعالى عن قريش {:وَآمَ َنهُم مّنْ َ
مُتعدّ ،فالذي آمن ال ،آمن قريشا من الخوف .وكذلك في قوله تعالىَ {:هلْ آمَ ُنكُمْ عَلَ ْيهِ} ...
[يوسف ]64 :ومعنى { فَآمَنَ لَهُ[ } ...العنكبوت ]26 :أي :صدقه.
ومنه قوله تعالىَ {:ومَآ أَنتَ ِب ُم ْؤمِنٍ لّنَا وََلوْ كُنّا صَا ِدقِينَ }[يوسف ]17 :أي :بمصدّق ،أما آمنت
بال :اعتقدت وجوده بصفات الكمال المطلق فيه سبحانه.
ولوط ل يصدق بإبراهيم ،إل إذا كان مؤمنا بإله أرسله ،فكأنه آمن بال ثم صدّقه فيما جاء به
وقصة لوط عليه السلم لها موضع آخر ُفصّلَت فيه ،إنما جاء ذكره هنا؛ لنه حصيلة الصفقة
الجدلية والجهادية بين إبراهيم وقومه ،فبعد أنْ دعاهم إلى ال ما آمن له إل لوط ابن أخيه.
وأذكر أن الشيخ موسى -رحمه ال عليه -وكان يُدرس لنا التفسير ،وجاءت قصة لوط عليه
السلم فقلت له :لماذا ننسب رذيلة قوم لوط إليه فنقول :لوطي .وما جاء لوط إل ليحارب هذه
الرذيلة ويقضي عليها؟
فقال الشيخ :فماذا نقول عنها إذن؟ قلت :إن اللغة العربية واسعة الشتقاق ،فمثلً عند النسب إلى
عبد الشهل قالوا :أشهلي ،ولعبد العزيز قالوا :عبدزي ،ولبختنصر قالوا :بختي ،والن نقول في
النسب إلى دار العلوم دَرْعمي ...إلخ فلماذا ل نتبع هذه الطريقة؟ فنأخذ القاف المفتوحة ،والواو
الساكنة من قوم ،ونأخذ الطاء من لوط ،ثم ياء النسب فنقول (قوْطي) ونُجنّب نبي ال لوطا عليه
السلم أن ننسب إليه ما ل يليق أن يُنسب إليه.
وقد حضرت احتفالً لتكريم طه حسين ،فكان مما قلته في تكريمه( :لك في العلم مبدأ طَحَسْني)؛
لنه كثيرا ما نجد بين العلماء اسم طه ،واسم حسين.
إذن :فقوله تعالى { فَآمَنَ َلهُ لُوطٌ[ } ...العنكبوت ]26 :جاءت جملة اعتراضية في قصة إبراهيم
عليه السلم؛ لنه المحصلة النهائية لدعوة إبراهيم في قومه؛ لذلك يعود السياق مرة أخرى إلى
إبراهيم { َوقَالَ إِنّي ُمهَاجِرٌ إِلَىا رَبّي[ } ...العنكبوت ]26 :أي :منصرف عن هذا المكان؛ لنه
غير صالح لستتباب الدعوة.
ومادة هجر وما يُشتق منها تدلّ على ترْك شيء إلى شيء آخر ،لكن َهجَرَ تعني أن سبب الهَجْر
منك وبرغبتك ،إنما هاجر فيها مفاعلة مثل شارك وقاتل ،والنبي صلى ال عليه وسلم لم يهجر
مكة ،إنما هاجر منها إلى المدينة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا يعني أنه لم يهاجر برغبته ،إنما آذاه قومه واضطروه للخروج من بلده ،إذن :فلهم َدخْل في
الهجرة ،وهم طرف ثَانٍ فيها.
ن قوْ ٍم وقَدْ َقدَرُوا َألّ تُفارِ َقهُم فالرّاحِلُونَ ُهمُوومن دقة الداء
لذلك يقول المتنبي:إذَا ترحّ ْلتَ عَ ْ
القرآني في هذه المسألة أنْ يسمي نقلة رسول ال من مكة إلى المدينة هجرة من الثلثي ،ول يقول
مهاجرة؛ لنه ساعة يهاجر يكره المكان الذي تركه ،لكن هنا قال في الفعل :هاجر .وفي السم
قال :هجرة ولم يقل مهاجرة.
وسبق أنْ ذكرنا أن هجرة المؤمنين الولى إلى الحبشة كانت هجرة لدار أمن فحسب ،ل دار
اليمان ،لن رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما وجّههم إلى الحبشة بالذات قال " :لن فيها
ملكا ل ُيظْلم عنده أحد ".
وكأنه صلى ال عليه وسلم بُسِطت له خريطة الرض كلها ،فاختار منها هذه البقعة؛ لنه قد تبيّن
له أنها دار أمن لمن آمن من صحابته ،أمّا الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان ،بدليل
ما رأيناه من مواقف النصار مع المهاجرين.
وهنا يقول إبراهيم عليه السلم } :إِنّي ُمهَاجِرٌ إِلَىا رَبّي[ { ...العنكبوت ]26 :فالمكان إذن غير
مقصود له ،إنما وجهة ربي هي المقصودة ،وإل فَلَك أن تقول :كيف تهاجر إلى ربك ،وربك في
كل مكان هنا وهناك؟
ل لمر ربي ومتوجه وجهة هو آمر بها؛ لنه من الممكن أن تنتقل من مكان
فالمعنى :مهاجر امتثا ً
إلى مكان بأمر رئيسك مثلً ،وقد كانت لك رغبة في النتقال إلى هذا المكان فترحب بالموضوع؛
لنه حقق رغبة في نفسك ،فأنت -إذن -ل تذهب لمر صدر لك ،إنما لرغبة عندك.
لذلك جاء في الحديث " :فمن كانت هجرته إلى ال ورسوله فهجرته إلى ال ورسوله ،ومَنْ كانت
هجرته لدنيا يصيبها ،أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
فالمعنى } إِنّي ُمهَاجِرٌ إِلَىا رَبّي[ { ...العنكبوت ]26 :يعني :ليس النتقال على رغبتي وحَسْب
هواي ،إنما حسب الوجهة التي يُوجّهني إليها ربي .وأذكر أنه كان لهذه المسألة واقع في تاريخنا،
وكنا جماعة من سبعين رجلً ،وقد صدر منا أمر ل يناسب رئيسنا ،فأصدر قرارا بنقلنا جميعا
وشتّتنا من أماكننا ،فذهبنا عند التنفيذ نستعطفه عَلّه يرجع في قراره ،لكنه صمم عليه ،وقال :كيف
أكون رئيسا ول أستطيع إنفاذ أمري على المرؤوسين؟
فقال له أحدنا وكان جريئا :سنذهب إلى حيث شئتَ ،لكن اعلموا أنكم لن تذهبوا بنا إلى مكان ليس
فيه ال.
صوْلة ،وفعلً سارت
وكانت هذه كلمة الحق التي ه ّزتْ الرجل ،وأعادت إليه صوابه ،فالحق له َ
المور كما نريد ،وتنازل الرئيس عن قراره.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فمعنىُ } :مهَاجِرٌ إِلَىا رَبّي[ { ...العنكبوت ]26 :أن ربي هو الذي يُوجّهني ،وهو سبحانه في كل
جهُ اللّهِ[} ..البقرة ]115 :وكأن الحق سبحانه
مكان .يؤيد ذلك قوله سبحانه {:فَأَيْ َنمَا ُتوَلّواْ فَثَ ّم وَ ْ
يقول لنا :اعلموا أنني ما وجّهتكم في صلتكم إلى الكعبة إل لؤكد هذا المعنى :لنك تتجه إليها
من أي مكان كنت ،ومن أية جهة فحيثما توجهتَ فهي قبلتُك.
حكِيمُ { [العنكبوت ]26 :اختار الخليل إبراهيم -عليه السلم -من
ثم يقول } :إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
صفات ربه } ا ْلعَزِيزُ { [العنكبوت ]26 :أي :الذي ل يُغلب وهو َيغْلب .وهذه الصفة تناسب ما
كان من محاولة إحراقه ،وكأنه يقول للقوم :أنا ذاهب إلى حضن مَنْ ل ُيغْلب.
حكِيمُ { [العنكبوت ]26 :أي :في تصرفاته ،فل ُبدّ أنه سبحانه سينقلني إلى مكان يناسب
و } ا ْل َ
دعوتي ،وأناس يستحقون هذه الدعوة بما لديهم من آذان صاغية للحق ،وقلوب وأفئدة متشوقة
إليه ،وتنتظر كلمة الحق التي أعرضتم أنتم عنها.
ق وَ َي ْعقُوبَ.{ ...
سحَا َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ووَهَبْنَا َلهُ إِ ْ
()3292 /
جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِتهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْ َرهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الْآَخِ َرةِ
ب وَ َ
سحَاقَ وَ َيعْقُو َ
َووَهَبْنَا لَهُ إِ ْ
َلمِنَ الصّالِحِينَ ()27
وجاء وقت الجزاء لينال إبراهيم -عليه السلم -من ربه جزاء صبره على البتلء ،وثباته على
اليمان ،ألم ي ُقلْ لجبريل لما جاءه يعرض عليه المساعدة وهو في طريقه إلى النار :يا إبراهيم،
ألك حاجة؟ فيقول إبراهيم :أما إليك فل .لذلك يجازيه ربه ،ويخرق له النواميس ،ويواليه بالنعم
واللء ،حتى مدحه سبحانه بقوله {:إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتا لِلّهِ[} ...النحل.]120 :
س ِمعْنَا فَتًى
وكان عليه السلم رجلً خاملً في القوم ،بدليل قولهم عنه لما حَطّم أصنامهم {:قَالُواْ َ
يَ ْذكُرُ ُهمْ ُيقَالُ َلهُ إِبْرَاهِيمُ }[النبياء ]60 :فهو غير مشهور بينهمُ ،م ْهمَل الذكر ،ل يعرفه أحد ،فلما
ن كنت مغمورا
والى ال واله قال :لجعلنك خليل ال وشيخ المرسلين ولُجرينّ ِذكْرك ،بعد أ ْ
على كل لسان ،وها نحن نذكره عليه السلم في التشهد في كل صلة.
صدْقٍ فِي الخِرِينَ }
ن ِ
جعَل لّي لِسَا َ
واقرأ قول إبراهيم في دعائه لربه؛ ليؤكد هذا المعنى {:وَا ْ
[الشعراء ]84 :وكأنه يقول :يا رب إن قومي يستقلونني ،فاجعل لي ِذكْرا عندك.
ومعلوم أن للتناسل والتكاثر نواميسَ ،فلما أنْ أنجبت السيدة هاجر إسماعيل -عليه السلم -
لمَة وتتميز عليها ،لكن كيف السبيل إلى النجاب
غضبت الحرة سارة :كيف تنجب هاجر وهي ا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسِنّها تسعون سنة ،وسِنّ إبراهيم حينئذٍ مائة؟
قانون الطبيعة ونواميس الخَلْق تقول ل إنجاب في هذه السن ،لكن سأخرق لك القانون ،وأجعلك
تُنجب هبة من عندي { َووَهَبْنَا لَهُ ِإسْحَاقَ[ } ...العنكبوت ]27 :ثم { وَ َي ْعقُوبَ[ } ...العنكبوت:
.]27
وفي آية أخرى قال {:وَ َيعْقُوبَ نَافِلَةً[} ...النبياء.]72 :
أي :زيادة ،لنه صبر على ذَبْح إسماعيل ،فقال له ربه :ارفع يدك فقد أديتَ ما عليك ،ونجحت في
المتحان ،فسوف أفديه لك ،بل وأهبك أخا له ،وسأعطيك من ذريته يعقوب.
جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِتهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَابَ[ } ...العنكبوت ]27 :لذلك
وسأجعلهم َفضْلً عن ذلك رسلً { وَ َ
حين نستقريء موكب النبياء نجد جمهرتهم من ذرية إبراهيم عليه السلم كل من جاء بعده من
ذريته.
والذرية المذكورة هنا يُرَاد بها إسحق ويعقوب ،وهما المُوهبَان من سارة ،أمّا إسماعيل فجاء
بالقانون العام الطبيعي الذي يشترك فيه إبراهيم وغيره.
وكأن الحق -سبحانه وتعالى -في هذه المسألة يُدلّل على طلقة القدرة بأسباب تظهر فيها قدرة
المسبّب ،فيقول لبراهيم :إن كان قومك قد كفروا بك ولم يؤمنوا ،فسأه ُبكَ ذرية ليست مؤمنة
مهدية فحسب ،إنما هادية للناس جميعا.
وإذا كانت ذرية إسحق ويعقوب قد أخذتْ أربعة آلف سنة من موكب النبوات ،فقد جاء من ذرية
إسماعيل خاتم النبياء وإمام المتقين محمد صلى ال عليه وسلم ،وستظل رسالته باقية خالدة إلى
يوم القيامة ،فالرسل من ذرية إسحق كانوا متفرقين في المم ،ولهم أزمنة محددة ،أما رسالة محمد
فعامة للزمان وللمكان ،ل مع ّقبَ له برسول بعده إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى } :وَا ْلكِتَابَ[ { ...العنكبوت ]27 :أي :الكتب التي نزلتْ على النبياء من ذريته،
وهي :القرآن والنجيل والتوراة والزبور.
ثم يقول سبحانه } :وَآتَيْنَاهُ َأجْ َرهُ فِي الدّنْيَا[ { ...العنكبوت ]27 :قالوا :إنه كان خامل ال ّذكْر فنبغ
شأنه وعل ذكْره ،وكان فقيرا ،فأغناه ال حتى حدّث المحدّثون عنه في السّيَر أنه كان يملك من
الماشية ما يسأم النسان أنْ يَعدّها ،وكان له من كلب الحراسة اثنا عشر كلبا ..إلخ وهذا أجره
في الدنيا فقط.
} وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّالِحِينَ { [العنكبوت ]27 :يعني :لن نقول له أذهبت طيباتك في حياتك
الدنيا ،بل هو في الخرة من الصالحين ،وهذا مُتمنّى النبياء .إذن :فأجْره في الدنيا لم يُنقص من
أجره في الخرة.
لكن ،لماذا وصف ال نبيه إبراهيم في الخرة بأنه من الصالحين؟ قالوا :لن إبراهيم أُثِر عنه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثلث كلمات يسميها المتصيّدون للخطاء ،ثلث كذبات أو ذنوب :الولى قوله لملك مصر لما
عوْه للخروج معهم لعيدهم :إني سقيم.
سأله عن سارة قال :أختي ،والثانية لما قال لقومه حينما دَ َ
والثالثة قولهَ {:بلْ َفعََلهُ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا[} ...النبياء ]63 :أي :عندما حطّم الصنام.
ويقول هؤلء المتصيدون :إنها أقوال منافية لعصمة النبياء .لكن ما قولكم إنْ كان صاحب المر
والحكم شهد له بالصلح في الخرة؟
ثم إن المتأمل في هذه القوال يجدها من قبيل المعاريض التي قال عنها النبي صلى ال عليه
وسلم " :إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " فقوله عن سارة :إنها أختي ،هي فعلً أخته في
اليمان ،وربما لو قال زوجتي لقتله الملك ليتزوجها هو.
سقِيمٌ[} ...الصافات ]89 :فهو اعتذار عن مشهد كافر ل ينبغي للمؤمن حضوره،
أما قوله{ إِنّي َ
سقْم يكون للبدن ،ويكون للقلب فيحتمل أن يكون قصده سقيم القلب لما يراه من كفر
كما أن ال ّ
القوم.
وقوله{ َبلْ َفعَلَهُ كَبِيرُ ُهمْ هَـاذَا[} ...النبياء ]63 :أراد به إظهار الحجة وإقامة الدليل على بطلن
عبادة الصنام ،فأراد أنْ يُنطقهم هم بما يريد أن يقوله؛ ليقررهم بأنها أصنام ل تضر ول تنفع ول
تتحرك.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَلُوطا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ.{ ...
()3293 /
هنا ينتقل السياق من قصة إبراهيم لقصة ابن أخيه لوط ،ونلحظ أن القرآن في الكلم عن نوح
وإبراهيم ولوط بدأ الحديث بذكره أولً ،وعادة القرآن حينما يتكلم عن الرسل يذكر القوم أولً ،كما
قال تعالى {:وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا[} ...العراف {،]65 :وَإِلَىا َثمُودَ َأخَا ُه ْم صَالِحا} ...
شعَيْبا[} ...العراف.]85 :
[العراف {،]73 :وَإِلَىا مَدْيَنَ َأخَاهُمْ ُ
قالوا :لن قوم نوح ،وقوم إبراهيم ،وقوم لوط لم يكُنْ لهم اسم معروف ،فذكر أنبياءهم أولً ،أمّا
عاد وثمود ومدين فأسماء لناس معروفين ،ولهم قرى معروفة ،فالصل أن القوم هم المقصودون
بالرسالة والهداية؛ لذلك يُذكَرون أولً فهم الصل في الرسالة ،أما الرسول فليستْ الرسالة وظيفة
يجعلها ال لواحد من الناس.
شةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [العنكبوت]28 :
{ وَلُوطا ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ إِ ّن ُكمْ لَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسمى خسيسة قومه فاحشة؛ لذلك قال العلماء في عقوبتها :يصير عليها ما يصير على الفاحشة
حشَةً[} ...النساء ]22 :والزنا
من الجزاء؛ لن الحق سبحانه سمى الزنا فاحشة فقال{ إِنّهُ كَانَ فَا ِ
ن يفعل فِعلْة قوم لوط الرجم.
شُرِع له الرجم ،وكذلك يكون جزاء مَ ْ
وقوله { :مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [العنكبوت ]28 :ل يعني هذا أن أحداُ لم يفعلها
قبلهم ،لكنها إنْ ُفعِلت فهي فردية ،ليست وباءً منتشرا كما في هؤلء.
()3294 /
قوله { :أَئِ ّن ُكمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ[ } ...العنكبوت ]29 :دللة على انحراف الغريزة الجنسية عندهم،
والغريزة الجنسية جعلها ال في النسان لبقاء النوع ،فالحكمة منها التناسل ،والتناسل ل يكون إل
بين ذكر وأنثى ،حيث تستقبل الُنثى الحيوان المنوي الذكَري الذي تحتضنه البويضة النثوية،
وتعلق في جدار الرحم وتكوّن الجنين؛ لذلك سمّي ال تعالى المرأة حَرْثا؛ لنها مكان الستنبات،
وشَرْط في إتيان المرأة أن يكون في مكان الستنبات.
لذلك ،فالجماعة الذين كانوا ينادون بتشريع للمرأة يسمح للرجل بأن يأتيها كيفما يشاء ،احتجوا
بقوله تعالىِ {:نسَآ ُؤكُمْ حَ ْرثٌ ّل ُكمْ فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ أَنّىا شِئْتُمْ[} ...البقرة.]223 :
ونقول لهؤلء :لقد أخطأتم في َفهْم الية ،فالحَرْث هو الزرع المستنبت من الرض ،فمعنى{ أَنّىا
شِئْتُمْ[} ...البقرة ]223 :أي :أنهم حرث ،إذن :فاحتجاجهم باطل ،وبطلنه يأتي من عدم فهمهم
ي وجه من الوجوه شريطة أن يكون في مكان
لمعنى الحرث ،وعليه يكون المعنى ائتوهن على أ ّ
الحَرْث.
ولحكمة ربط الحق سبحانه بقاء النوع بالغريزة الجنسية ،وجعل لها لذة ومتَعة تفوق أيّ لذة أخرى
في الحياة ،فمثلً أنت ترى المنظر الجميل فتُسَرّ به عينك ،وتسمع الصوت ال َعذْب فتسعد به
أذنك ...إلخ فكل منافذ الدراك لديك لها أشياء تمتعها.
لكن بأيّ هذه الحواس ُتدْرَك اللذة الجنسية؟ وأيّ ملكة فيك تُسَ ّر منها؟ كلّ الحواس و ُكلّ الملكات
تستمتع بها؛ لذلك ل يستطيع النسان مقاومتها ،حتى قالوا :إنها اللحظة الوحيدة التي يمكن للنسان
فيها أنْ يغفل عن ربه؛ لذلك أمرنا بعدها بالغتسال.
ولول أن الخالق -عز وجل -ربط مسألة بقاء النوع بهذه اللذة لَزهد فيها كثير من الناس ،لما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لها من تبعات ومسئوليات ومشاكل ،ل بُدّ منها في تربية الولد.
وسبق أن ذكرنا الحكمة القائلة " :جَدَع الحلل أنفَ الغيرة " فالرجل يغَار على ابنته مثلً ،ول يقبل
مجرد نظر الغرباء إليها ،ويثور إذا تعرّض لها أحد ،فإذا جاءه الشاب يطرق بابه ليخطب ابنته
رحّب به ،واستقبله أهل البيت بالزغاريد وعلى الرّحْب والسعة ،فسقوا (الشربات) وأقاموا
الزينات ،فما الفرق بين الحالين؟ في الولى كان دمه يغلي ،والن تنزل كلمات ال في عقد القرآن
على قلبه بَرْدا وسلما.
أما خسيسة قوم لوط { أَئِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ[ } ...العنكبوت ]29 :فهي انحراف عن الطبيعة
السّوية ل بقا َء فيها للنوع ،ومثلها إتيان المرأة في غير مكان الحرث.
طعُونَ السّبِيلَ[ } ...العنكبوت ]29 :أي :تقطعون الطريق على بقاء النوع؛ لن
وقوله تعالى { :وَتَقْ َ
الزنا وإنْ جاء بالولد فإنه ل يُوفر له البقاء الكريم الشريف في المجتمع .فالحق سبحانه جعل لبقاء
النوع طريقا واحدا ،فل تسلك غير هذا الطريق ،ل مع رجل ول مع امرأة.
والسبيل كلمة مطلقة وتعني الطريق ،سواء كان الطريق المادي أي :الشارع الذي نمشي فيه أو:
المعنوي وهو الطريقة التي نسير عليها ،ومنها قوله تعالى:
{ ُقلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي[} ...يوسف ]108 :أي :طريقي ومنهجي؛ لذلك السبيل القيمي سبيل واحد،
حتى ل نتصادم ول نتخاصم في حركة الحياة المعنوية ،أمّا السبيل المادي فمتعدد حتى ل نتزاحم
في حركة الحياة المادية.
والسبيل المادي (الطريق) الذي نسير فيه ُيعَدّ سمة الحضارة في أي أُمة ،ونذكر أن هتلر قبل أن
يدخل الحرب سنة 1939جعل كل همّة في إنشاء شبكة من الطرق؛ لن حركة الحرب غير
العادية تحتاج إلى طرق إضافية أيام الحرب ،ومن ذلك مثلً الطريق الذي يُسمّونه طريق
المعاهدة ،أي معاهدة سنة .1936
إذن :كلما وُجدت حركة زائدة احتاجت إلى طرق إضافية ،وهذه الطرق تتناسب والمكان الذي
تنشأ فيه ،فالطرق في المدن نُسمّيها شوارع وفي الخلء نسميها طرقا تناسب المساحة داخل
المباني ،ومنها تتفرع الحارات ،وهي أقل منها ،ومن الحارة تتفرع العَطْفة ،وهي أقل من الحارة،
وكلما ازدحمتْ البلد لجأ الناس إلى توسيع نظام الحركة لتيسير مصالح الناس.
كما نرى في القاهرة مثلً من أنفاق وكَبَارٍ ،حتى ل تُعاق الحركة ،وحتى نوفر للناس انسيابية
فيها.
والنفاق أنسب للجمال في المدن ،والكبارى أجمل في الفضاء ،حيث ترى مع ارتفاع الكباري آفاقا
أوسع ومناظر أجمل ،أما إنْ حدث عكس ذلك فأُنشئت الكبارى داخل الشوارع فإنها تُقلّل من جمال
المكان وتُحوّل الشارع إلى أشبه ما يكون بعنابر الورش ،كما أنها تؤذي سكان العمارات المجاورة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لها.
وعلى الدولة أن تراعي هذه المور عند التخطيط ،ألم نقرأ قوله تعالىُ {:ثمّ السّبِيلَ يَسّ َرهُ }[عبس:
]20ل بُدّ أن نُيسّر السبل للسالكين؛ لن معايش الناس وحركتهم تعتمد على الحركة في هذه
الطرق.
طعُونَ السّبِيلَ[ { ...العنكبوت ]29 :فكان من قوم لوط ُقطّاع طرق كالذين
فقوله تعالى } :وَتَقْ َ
يخرجون على الناس في أسفارهم وحركتهم ،فيأخذون أموالهم وينهبون ما معهم ،وإنْ تأبوا عليهم
قتلوهم .وبعد أن قطعوا السبيل على الناس قطعوا السبيل على بقاء النوع.
يقول سبحانه في حقهم } :وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ا ْلمُ ْنكَرَ[ { ...العنكبوت ]29 :فكانوا ل يتورعون عن
ِفعْل القبيح وقوله فيجلسون في الطرقات يستهزئون بالمارة ويؤذونهم كالذين يجلسون الن على
المقاهي ويتسكعون في الطرق ويؤذون خَلْق ال ،ويتجاهرون بالقبيح من القول والفعل ،فل يسْلَم
من إيذائهم أحد.
حقّ الطريق يا
لذلك يعلمنا النبي صلى ال عليه وسلم آداب الطريق " ،فيقول لمن سأله " :وما َ
رسول ال؟ قال:غَضّ البصر ،و َكفّ الذى ،وردّ السلم ".
وقد انتشر بين قوم لوط سوء الخلق ،بحيث ل ينهى بعضهم بعضا ،كما قال سبحانه عن اليهود
أنهم {:كَانُواْ لَ يَتَنَا َهوْنَ عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ[} ...المائدة.]79 :
والنادي :مكان تجمّع القوم ،ومنه قوله تعالى {:فَلْ َي ْدعُ نَادِيَهُ }[العلق ]17 :أي :مكان تجمّع رؤوس
القوم وكبارهم ،كما نرى الن :نادي كذا ،ونادي كذا.
والنادي وهو مكان عام ُيعَدّ المرحلة الخيرة لنضباط السلوك الذي يجب أن يكون في المجتمع،
فأنت مثلً لك حجرة في بيتك خاصة بك ،ولك فيها انضباط خاص بنفسك ،وكذلك في صالة البيت
لك انضباط أوسع ،وفي الشارع لك انضباط أوسع.
والنضباط يتناسب مع الواقع الذي تعيشه ،فحين تكون مثلً بين أناس ل يعرفونك ل يكون
انضباطك بنفس الدرجة التي تحرص عليها بين مَنْ تعرفهم كالموظف في مكتبه ،والطالب في
مدرسته.
إذن :فهؤلء القوم قطعوا السبيل في بقاء النوع ،حيث أتوا غير مَأْتيّ وانحرفوا عن الفطرة
السّوية ،وقطعوا السبيل المادي ،فأخافوا الناس وروّعوهم ونهبوا أموالهم ،وأخذوهم من الطرق
بغرض هذه ال ِفعْلة النكراء ،ثم كانوا يتبجحون بأفعالهم هذه ،ويجاهرون بها في أنديتهم وأماكن
تجمعاتهم.
فبماذا أجابه القوم؟
جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا ِب َعذَابِ اللّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ { [العنكبوت ]29 :أي:
} َفمَا كَانَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من الصادقين في أنك مُبلّغ عن ال ،فنحن من العاصين ،وأَرِنا العذاب الذي تتوعدنا به ،وقولهم }
ائْتِنَا ِبعَذَابِ اللّهِ[ { ...العنكبوت ]29 :مع أن العذاب شيء مؤلم ،ول يطلب أحد إيلم نفسه ،فهذا
دليل على عدم فهمهم لهذا الكلم ،وأنهم غير متأكدين من صدقه ،وإل لو وَثِقوا بصدقه ما طلبوا
العذاب.
جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ أَخْ ِرجُواْ آلَ لُوطٍ مّن
وفي موضع آخر ،حكى القرآن عنهمَ {:فمَا كَانَ َ
طهّرُونَ }[النمل.]56 :
قَرْيَ ِتكُمْ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَتَ َ
إذن :حدث منهم موقفان وجوابان :الول } ائْتِنَا ِب َعذَابِ اللّهِ[ { ...العنكبوت ]29 :فلما لم يُجبهم
إلى هذا الطلب الحمق ،وظل يتابع دعوته لهم ،فلم ييأس منهم لجأوا إلى حيلة أخرى ،فقالوا{
طهْر
طهّرُونَ }[النمل ]56 :لن ال َ
أَخْ ِرجُواْ آلَ لُوطٍ مّن قَرْيَ ِت ُكمْ[} ...النمل ]56 :والعلة{ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَتَ َ
في نظر هؤلء عيب ،والستقامة جريمة ،وهذا دليل على فساد عقولهم ،وفساد قياسهم في الحكم.
ثم يقول الحق سبحانه } :قَالَ َربّ انصُرْنِي.{ ...
()3295 /
وفَرْق بين الفاسد في ذاته والمفسد لغيره ،فيا ليتهم كانوا فاسدين في أنفسهم ،إنما كانوا فاسدين
مفسدين ،يتعدّى فسادهم إلى غيرهم.
()3296 /
سلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنّا ُمهِْلكُو أَ ْهلِ َه ِذهِ ا ْلقَرْيَةِ إِنّ أَهَْلهَا كَانُوا ظَاِلمِينَ ()31
وََلمّا جَا َءتْ رُ ُ
جاء هنا إبراهيم -عليه السلم -في سياق قصة لوط ،كما جاء لوط في سياق قصة إبراهيم.
طفِي مِنَ
ومعنى { ُرسُلُنَآ[ } ...العنكبوت ]31 :أي :من الملئكة؛ لن ال تعالى قال {:اللّهُ َيصْ َ
ل َومِنَ النّاسِ[} ...الحج.]75 :
ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُ ً
وقد جاءت الملئكة لبراهيم بالبشرى ،ولم يذكر مضمون البُشْرى هنا ،وهو البشارة بإسحق
ويعقوب وذرية صالحة منهما ،وجاءته بإنذار بأن ال سيُهلك أهل هذه القرية ،وبالبشرى والنذار
يحدث التوازن؛ لننا نُبشّر إبراهيم بذرية صالحة ُمصْلحة في الكون ،ونهلك أهل القرية الذين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
انحرفوا عن منهج ال.
وتلحظ في الية أنها لم تذكر العلة في البُشْرى فلم تقل لنه كان مؤمنا ومجاهدا وعادلً ،إنما
ذكرت العلة في إهلك أهل القرية { َأهَْلهَا كَانُواْ ظَاِلمِينَ } [العنكبوت ]31 :لماذا؟ لن المتفضّل ل
يمنّ بفضله على أنه عمل بمقابل ،لكن المعذب يبين سبب العذاب.
فماذا كان النفعال الوليّ عند إبراهيم -عليه السلم -ساعةَ سمع ال ُبشْرى والنذار؟ لم يسأل
عن البشرى ،مع أنه كان متلهفا عليها ،إنما شغلته مسألة إهلك القرية ،وفيها ابن أخيه لوط .لذلك
قال { :قَالَ إِنّ فِيهَا لُوطا قَالُواْ.} ...
()3297 /
قَالَ إِنّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ ِبمَنْ فِيهَا لَنُ َنجّيَنّ ُه وَأَهَْلهُ إِلّا امْرَأَ َتهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ ()32
فلم يستشرف إبراهيم للبشرى ،واهتم بمسألة إهلك قرية قوم لوط؛ لن فيها لوطا مما يدلّ على
أن النسان ل يشغله الخير لنفسه عن الشر لغيره ،وهنا ردّ الملئكة { َنحْنُ أَعْلَمُ ِبمَن فِيهَا} ...
[العنكبوت ]32 :فهذه مسألة ل تخفى علينا.
ثم يُطمئنونه على ابن أخيه { لَنُنَجّيَنّهُ وَأَهْلَهُ[ } ...العنكبوت ]32 :وأهله :تشمل كل الهل؛ لذلك
استثنوا منهم { ِإلّ امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ } [العنكبوت.]32 :
والغابرون :جمع غابر ،ولها استعمالن في اللغة :نقول :الزمان الغابر أي الماضي ،وغابر بمعنى
باقٍ أيضا ،فهي إذن تحمل المعنى وضده؛ ذلك لنهم جاءوا لهلك هذه القرية ،وامرأة لوط باقية
لتهلك معهم ،وتذهب مع مَنْ سيذهبون بالهلك ،فهي إذن باقية في العذاب .فجاءت الكلمة { مِنَ
ا ْلغَابِرِينَ } [العنكبوت ]32 :لتؤدي هذين المعنيين.
سلُنَا لُوطا.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلمّآ أَن جَآ َءتْ رُ ُ
()3298 /
شهد إبراهيم هذا الموقف مع لوط ،وعلم سبب حضورهم إليه ،لكن لماذا سيء بهم ،مع أنهم رسل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال ملئكة جاءوه على أحسن صورة؟ قالوا :لن الملَك يأتي على أجمل صورة ،حتى إذا أردنا أن
نمدح شخصا بالجمال نقول :مثل الملك ،ومن ذلك قول النسوة لمرأة العزيز عن يوسف عليه
السلم {:مَا هَـاذَا بَشَرا إِنْ هَـاذَآ ِإلّ مََلكٌ كَرِيمٌ }[يوسف.]31 :
فلما رآهم لوط على هذه الصورة خاف عليهم ،بدل أنْ يفرح بمرآهم الجميل؛ لن قومه قوم سوء
ن ينالوا ضيوفه بسوء؛ لذلك { سِيءَ ِبهِمْ[ } ...العنكبوت ]33 :أي :أصابه
وأهل رذيلة ،ول بُدّ أ ْ
السوء بسببهم { َوضَاقَ ِبهِمْ ذَرْعا[ } ...العنكبوت ]33 :الذرع هو طول الذراعين ،فنقول :فلن
باعُه طويل .يعني :يتناول الشياء بسهولة؛ لن يده طويلة ،فالمعنى :ضاق بهم ذَرْعا .يعني :لم
يتسع جهده لحمايتهم من القوم.
ونلحظ هنا اختلف السياق بين اليتين {:وََلمّا جَآ َءتْ ُرسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ[} ...العنكبوت ]31 :أما في
لوط فقال { :وََلمّآ أَن جَآ َءتْ رُسُلُنَا لُوطا[ } ...العنكبوت ]33 :لنهم تأخروا بعض الشيء عند
إبراهيم عليه السلم.
ف َولَ
خ ْ
فلما أن أصابه السوء بمرآهم ،بدل أنْ يسعد بهم ،وخاف عليهم طمأنوه { َوقَالُو ْا لَ تَ َ
خفْ علينا من
تَحْزَنْ إِنّا مُنَجّوكَ وَأَهَْلكَ ِإلّ امْرَأَ َتكَ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرينَ } [العنكبوت ]33 :ل ت َ
هؤلء الراذل ،فلسنا بشرا ،إنما نحن ملئكة ما جئْنا إل لنريحك منهم ،ونقطع جذور هذه ال ِفعْلة
الخبيثة ،وسوف ننجيك وأهلك من العذاب النازل بهم.
ثم يستثنون من أهله { ِإلّ امْرَأَ َتكَ[ } ...العنكبوت ]33 :فكثيرا ما ضايقته ،وأفشتْ أسراره ،ودّلتْ
القوم على ضيوفه { كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرينَ } [العنكبوت ]33 :الباقين في العذاب.
لكن ،ما الطريقة التي ستقضون بها على هؤلء القوم؟
()3299 /
سقُونَ ()34
سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ
إِنّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَ ْهلِ هَ ِذهِ ا ْلقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ ال ّ
سقُونَ }
الرجز :العذاب ينزل عليهم من السماء ،والحجارة التي يمطرهم ال بها { ِبمَا كَانُواْ َيفْ ُ
[العنكبوت ]34 :أي :بسبب فِسْقهم وخروجهم عن منهج ال.
()3300 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لن هذا العذاب استأصلهم ،وقضى عليهم ،وجعلهم عبرة لكل عاقل متأمل وآية في الكون لكل
عابر بها ،كما قال سبحانه {:وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ّمصْ ِبحِينَ }[الصافات ]137 :إذن :فالعبرة باقية
سدُوم كلما مر الناس بقُراهم.
بأهل َ
لذلك قال ال عنها { آيَةً بَيّنَةً } [العنكبوت ]35 :الية :الشيء العجيب الذي يدعو للتأمل
{ بَيّ َنةً[ } ...العنكبوت ]35 :واضحة كدليل باقٍ ،وظاهر ل يخفى على أحد { ّل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ }
[العنكبوت ]35 :يعني :يبحثون ويتأملون بسبب ما حاق بهذه القرى ،وما نزل بها من عذاب ال.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَإِلَىا َمدْيَنَ أَخَاهُمْ.} ...
()3301 /
شعَيْبًا َفقَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّ َه وَارْجُوا الْ َيوْمَ الْآَخِرَ وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ
وَإِلَى َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ
()36
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وتعلم أنه سبحانه بصفات الكمال أوجدك وأوجد لك الشياء ،فأنت بعبادتك له ل تضيف إليه صفة
جديدة ،فهو إله قبل أن توجد أنت ،وخالق بكامل القدرة قبل أنْ توجد ،وخلق لك الكون قبل أنْ
توجد.
ثم بعد ذلك تعصاه وتكفر به ،فل يحرمك خيره ،ول يمنع عنك نعمه .إذن :فهو سبحانه يستحق
منك العبادة والطاعة؛ لن طاعته تعود عليك أنت بالخير.
لذلك سبق أنْ قُلْنَا إن كلمة (العبودية) كلمة مذمومة تشمئز منها النفس ،إنْ كانت عبودية للبشر؛
لن عبودية البشر للبشر يأخذ فيها السيد خير عبده ،لكن عبودية البشر ل تعالى يأخذ العبد خير
ل وهوان؛ لذلك نرى كل المصلحين يحاربون
سيده ،فالعبودية ل ع ّز وقوة ومنَعة وللبشر ٌذ ّ
العبودية للبشر ،ويدعون العبيد إلى التحرر.
فأوّل شيء أمر به شعيب قومه { اعْبُدُواْ اللّهَ[ } ...العنكبوت ]36 :كذلك قال إبراهيم لقومه{
اعْبُدُواْ اللّ َه وَا ّتقُوهُ[} ...العنكبوت ،]16 :لكن لوطا عليه السلم لم يأمر قومه بعبادة ال ،إنما اهتم
بمسألة الفاحشة التي استشرتْ فيهم ،مع أن كل الرسل جاءوا للمر بعبادة ال.
ونقول في هذه المسألة :لم يأمر لوط قومه بعبادة ال؛ لنه كان من شيعة إبراهيم عليه السلم
ومؤمنا بديانته ،بدليل قوله تعالى {:فَآمَنَ َلهُ لُوطٌ[} ...العنكبوت ]26 :فهو تابع له؛ لذلك ينفذ
التعاليم التي جاء بها إبراهيم ،فلم يأمر بالعبادة لن إبراهيم أمر القوم بها ،لكنه تحمّل مسألة
أخرى ،وخصّه ال بمهمة جديدة ،هي إخراج قومه من ممارسة الفاحشة التي انتشرت بينهم.
وقوله تعالى } :وَارْجُواْ الْ َيوْ َم الَخِرَ[ { ...العنكبوت ]36 :فل بُدّ أن اليوم الخر لم يكُنْ في بالهم،
ولم يحسبوا له حسابا ،كأنهم سيفلتون من ال ،ولن يرجعوا إليه؛ لذلك يُذكّرهم بهذا اليوم ،ويحثّهم
على العمل من أجله.
وكيف ل نعمل حسابا لليوم الخر؟ ونحن في الدنيا نعامل أنفسنا بنفس منطق اليوم الخر؟ فأنت
مثلً تتعب وتشقى في زراعة الرض ،وتتحمل مشاق الحرْث وال َبذْر والسقي ..إلخ طوال العام،
لكن حين تجمع زرعك يوم الحصاد ،ويوم تمل به مخازنك تنسى أيام التعب والمشقة ،وساعتها
يندم الكسول الذي قعد عن العمل والسعي ،يوم الحصاد سترى أن أردب القمح الذي أخذتَه من
المخزن وظننتَ أنه نقص من حسابك قد عاد إليك عشرة أرادبّ ،فأخْذُك لم يقلل إنما زاد.
وكذلك اليوم الخر نفهمه بهذا المنطق ،فنتحمل مشاقّ العبادة والطاعات في الدنيا لننال النعيم
ن تفوته أنت بالموت ،أو
الباقي في الخرة؛ لن نعيم الدنيا مهما كان ،يُنغصه عليك أمران :إما أ ْ
يفوتك هو بالفقر.
لوْلى بك أنْ تزرع للخرة ،وأن تعمل لها ألف
أما في الخرة فل يفوتك نعيمها ول تفوته .إذن :فا َ
عظَم الجزاء ،وإذا استحضرتَ
حساب ،فإنْ كان في العبادة مشقة ،ولليمان تَبعات ،فانظروا إلى ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الثواب على الطاعة هانتْ عليك مشقة الطاعة ،وإذا استفظعت العقاب على المعصية ،زهدتَ فيها
ونأ ْيتَ عنها.
إذن :الذي يجعل النسانَ يتمادى في المعصية أنه ل يستحضر العقاب عليها ،ويزهد في الطاعة؛
لنه ل يستحضر ثوابها.
لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم " :ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ،ول يشرب الخمر
حين يشربها وهو مؤمن " والمعنى :لو استحضر اليمان ما فعل ،إنما غفل عن إيمانه فوقع في
المعصية.
ومَن استحضر ثواب الطاعة وجد لها حلوة في نفسه ،كما قال النبي صلى ال عليه وسلم عن
الصلة " :أرحنا بها يا بلل ".
سدِينَ { [العنكبوت ]36 :العثو :الفساد المستور والفساد يقال
وقولهَ } :ولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْ ِ
للظاهر ،فالمعنى :ل تعثَوا في الرض عثوا ،فالمفعول المطلق بمعنى الفعل ،فقوله تعالىَ } :ولَ
َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ { [العنكبوت ]36 :كما نقول :اجلس قعودا.
والفاء في قولهَ } :فقَالَ يا َقوْمِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ[ { ...العنكبوت ]36 :تدل على أنها تعطف هذا الكلم
على كلم سابق ،والتقدير :وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا فقال :يا قوم إني رسول ال إليكم ،ثم
ذكر المطلوب منهم } يا َقوْمِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ[ { ...العنكبوت ]36 :والجمع بين عبادة ال ورجاء اليوم
الخر يعني :ل تفصلوا العبادة عن غايتها والثواب عليها ،ول تفصلوا المعصية عن عقابها.
()3302 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جفَةُ فََأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَا ِثمِينَ ()37
َفكَذّبُوهُ فَأَخَذَ ْت ُهمُ الرّ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يفهمون بها كلم ال .فالحق سبحانه قال هنا { َفكَذّبُوهُ[ } ...العنكبوت ]37 :لنه أمرهم بعبادة ال
وهو رسول من عند ال فيأمرهم بعبادته؛ لن عبادته تعالى واجبة عليهم ،وما أمرهم إل ليُؤدّوا
الواجب عليهم ،واليوم الخر كائن ل محالة فارجوه ،والفساد في الرض مُحرم.
إذن :فالمعنى يحمل معنى الخبر ،فالمران هنا ،والنهي أمر واجب فكذّبوه لعلّة المرين ،ولعلّة
النهي.
ومعنى{ اعْ ُبدُواْ اللّهَ[} ...العنكبوت ]36 :خصّوه سبحانه بالعبادة ،وهي الطاعة في المر والنتهاء
عن المنهي عنه ،وهذه العبادة مطلوبة من الكل ،وهي شريعة كل النبياء والرسل {:شَ َرعَ َلكُم مّنَ
الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ ِإلَ ْيكَ َومَا َوصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ
ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ[} ...الشورى.]13 :
الدّي َ
إذن :فمسألة العبادة واليمان باليوم الخر من القضايا العامة التي ل تختلف فيها الرسالت ،أما
الشرائع :افعل كذا ،ول تفعل كذا فتختلف من نبي لخر.
ومعنى {:وَارْجُواْ الْ َي ْو َم الَخِرَ[} ..العنكبوت ]36 :أي :اعملوا ما يناسب رجاءكم لليوم الخر،
وأنت لماذا تحب اليوم الخر ،ولماذا ترجوه؟ ل يحبه ول يرجوه إل مَنْ عمل عملً صالحا
سعْيه ،وإل لو كانت الخرى لقال :وخافوا اليوم الخر.
فينتظره لينال جزاء عمله وثواب َ
إذن :الرجاء معناه :اعملوا ما يُؤهّلكم لنْ ترجُوا اليوم الخر ،والنسان ل يرجو إل النافع له.
وهنا لك أنْ تسأل :هل إذا آمن النسان ونفّذ أحكام ربه أمرا ونهيا ،فجزاؤهم في الخرة رجاء
حقّ له؟ المفروض أن يقول للطائعين :ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ،فهي واجبة له
يرجوه أم َ
حقّه ،فكيف يسميه القرآن رجا ًء وهو واقع؟
ومن َ
ضلٌ من ال ،لنه سبحانه خلقنا وخلق لنا ،وأمدّنا بالطاقات والنعم
قالوا :لن جزاءنا في الجنة َف ْ
قبل أنْ يُكلّفنا شيئا ،فحين تعبد ال حقّ العبادة فإنك ل تقضي ثمن جميله عليك ،ول توفيه سبحانه
ما يستحق ،فإذا أثابك في الخرة فبمحْض فَضلْه وكرمه.
ج َمعُونَ }[يونس.]58 :
حمَ ِتهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا يَ ْ
ضلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ
لذلك قال سبحانهُ {:قلْ ِب َف ْ
كما لو أنكَ استخدمت أجيرا بمائة جنيه مثلً في الشهر ،وقبل أن يعمل لك شيئا أعطيته أجره فهل
يطلب منك أجرا آخر؟ فلو جئتَ في آخر الشهر وأعطيته عشرة جنيهات ،فهي َفضْل منك وتكرّم.
لذلك قال{ َولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ }[العنكبوت ]36 :لن الجزاء في الخرة عند التحقيق
والتعقّل محض فَضلْ من ال؛ لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم " :لن يدخل أحد منكم الجنة
بعمله ،قالوا :ول أنت يا رسول ال؟ قال :ول أنا إل أن يتغمّدني ال برحمته ".
سدِينَ }[العنكبوت ]36 :أي :ل تفسدوا فسادا ظاهرا ،أو :ل
والنهي فيَ {:ولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ مُفْ ِ
تعملوا أعمالً هي في ظنكم نافعة وهي ضارة ،تذكرون زمان كان القطن هو المحصول الرئيسي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في مصر ومصدر الدّخلْ ،وكانت تهدده دودة القطن فنقاومه مقاومة يدوية ،إلى أنْ خرج علينا
المريكان بالمبيدات ،واستخدمنا مادة اسمها (دي دي تي) فقضتْ على الدودة في بادئ المر،
وظنّ الفلح أن هذه المشكلة قد حُلّت.
لكن بعد سنوات تعودتْ الدودة على هذه المادة ،وأصبح عندها حصانة ،وكأن (الدي دي تي)
أصبح (كيفا) عندها ،وبدأنا نحن نعاني المرّين من آثار هذه المبيدات في الماء ،وفي التربة ،وفي
الزراعة ،وفي صحة النسان والحيوان .إذن :ينبغي النظر في العواقب قبل البدء في الشيء ،وأنْ
يُقاسَ الضرر والنفع.
كذلك الحال عندما اخترعوا السيارات ،وقالوا :إنها ستريح الناس في أسفارهم وفي حمل أمتعتهم،
وبعد ما توصل العالم إليه من ثورة في وسائل النقل لو قارنا نفعها بضررها لوجدنا أن ضررها
أكبر لما تُسبّبه من تلوث ،ولو عُدْنا إلى الوسائل البدائية ،واستخدمنا الدواب لكان أفضل.
وأذكر عندما جئنا إلى مصر سنة 1938 - 1936وجدنا في الميادين العامة مواقفَ للحمير ،مثل
مواقف السيارات الن ،وكانت هي الوسيلة الوحيدة للنتقال ،ويكفي أن َر َوثَ الحمار يُخصّب
الرض ،أمّا عوادم السيارات فتسبب أخطر المراض وتؤدي للموت.
فماذا بعد أنْ كذّب قومُ شعيب نبيهم؟
كانت سنة ال في النبياء قبل محمد صلى ال عليه وسلم أن يُبلّغ الرسول رسالة ربه ،لكن ل
يُؤمر بحمل السيف ضد الكفار ،إنما إنْ كذّبوا باليات عاقبهم رب العزة سبحانه ،وتُحسم المسألة
بهلك المكذّبين.
وكوْن الحق -تبارك وتعالى -ل يأمر الناسَ بقتال الكفار هذا أمر منطقي ،والدليل رأيناه في
ن يفرض عليهم القتال ،فقالَ {:هلْ عَسَيْتُمْ إِن كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ َألّ
بني إسرائيل لما طلبوا من ال أ ْ
ُتقَاتِلُواْ قَالُو ْا َومَا لَنَآ َألّ ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَدْ ُأخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقِتَالُ
َتوَّلوْاْ ِإلّ قَلِيلً مّ ْنهُمْ[} ..البقرة.]246 :
ولم ُيؤْمر بالقتال لنشر الدعوة إل رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه صلى ال عليه وسلم ومَنْ
آمن معه مأمونون على هذا ،ولنه صلى ال عليه وسلم آخر الرسل والنبياء ،فل بُدّ أن يستوفي
كل الشروط.
جفَةُ فََأصْبَحُواْ فِي دَا ِرهِمْ جَا ِثمِينَ { [العنكبوت ]37 :وهذا عقاب ال؛
ونتيجة التكذيب } فََأخَذَ ْتهُمُ الرّ ْ
لنه كان سبحانه يتولّى المكذّب .وفي (الحجر) وفي (هود) قال (الصيحة) وحتى ل تتهم اليات
بالتضارب نقول :الصيحة :صوت شديد مزعج ،وهذا الصوت ل نسمعه إل بتذبذب الهواء بشدة،
ولو كان تذبذب الهواء بلطف ما سميت صيحة.
إذن :الصيحة تخلخل في الهواء بشدة؛ ل بد أنْ ينتج عنه رجفة أي :هزة شديدة كالتي تهدم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالبيوت والعمارات نتيجة قنبلة مثلً ،فالصيحة وُجدت أولً ،تبعتها الرجفة ،لكن القرآن مرة يذكر
الصل فيقول (الصيحة) ومرة يذكر النتيجة فيقول (الرجفة).
} فََأصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَا ِثمِينَ { [العنكبوت ]37 :قال (فَأصْبَحُوا) ولم ي ُقلْ مثلً :فصاروا ليُحدّد
خصْمك لملقاتك ،فما
َوقْت أخذهم بالصباح ،والعادة أن تكون الغارة وقت الصباح قبل أن يستعد َ
يزال في أعقاب النوم خاملً ،وإلى الن يفضل رجال الحرب والقادة أن تبدأ الحرب في الصباح،
حيث ُيفَاجأ بها العدو.
وقد أصبح هذا الوقت قضية عامةُ ،تعَدّ مخالفتها من قبيل المكْر والخدعة في الحرب ،كما خالفها
قادتنا في حرب أكتوبر ،73حيث فاجأوا عدوهم في وقت الظهيرة ،وقد تمت لهم المفاجأة،
وأخذوا عدوهم على غِرّة؛ لنهم غيّروا الوقت المعتاد ،وهو الصبح.
إذن :على النسان ألّ يتخذ في أموره قضية رتيبة ،بل يُخضِع أموره لما يناسبها.
ومن الطرائف :حرص الرجل على أنْ يوقظ ولده مبكرا ليذهب إلى عمله ،ويقضي مصالحه،
فقال له الوالد :ابن فلن استيقظ مبكرا ،فوجد محفظة بها مائة جنيه ،فقال الولد -وكان كسولً ل
يريد أن يستقيظ مبكرا :هذه المحفظة وقعتْ من واحد استيقظ قبله.
ومعنى } جَا ِثمِينَ { [العنكبوت ]37 :يعني :هامدين بل حراك.
ثم تنتقل بنا اليات إلى لقطات أخرى موجزة من مواكب الرسالت ،وكأنها برقيات } :وَعَادا
وَ َثمُودَاْ َوقَد تّبَيّنَ.{ ...
()3303 /
نلحظ في هذه البرقيات السريعة أنها تذكر المقدمة ،ثم النهاية مباشرة { وَعَادا وَ َثمُودَاْ} ...
[العنكبوت ]38 :هذه المقدمة { َوقَد تّبَيّنَ َلكُم مّن مّسَاكِ ِنهِمْ[ } ...العنكبوت ]38 :هذا موجز لما
نزل بهم ،وكأن الحق سبحانه يقول لنا :لن أحكي لكم ما حاق بهم؛ لنكم تشاهدون ديارهم،
وتمرون عليها ليل نهار{ وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْي ِهمْ ّمصْبِحِينَ * وَبِالّيلِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[الصافات-137 :
.]138
والن مع الثورة العلمية استطاعوا تصوير ما في باطن الرض ،وظهرت كثير من الثار لهذه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القرى عاد وثمود والحقاف ،واقرأ قوله سبحانه وتعالى {:أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ
ا ْل ِعمَادِ }[الفجر.]7-6 :
وطبيعي الن أن نجد آثار السابقين تحت التراب ،ول ُبدّ أن نحفر لنصل إليها؛ لن عوامل التعرية
طمرتها بمرور الزمن ،ولمَ ل والواحد منّا لو غاب عن بيته شهرا يعود فيجد التراب يغطي أسطح
الشياء ،مع أنه أغلق البواب والنوافذ ،ولك أن تحسب نسبة التراب هذه على مدى آلف السنين
في أماكن مكشوفة.
وح َكوْا أن الزوابع والعواصف الرملية في رمال الحقاف مثلً كانت تغطي قافلة بأكملها ،إذن:
كيف ننتظر أن تكون آثار هذه القرى باقية على سطح الرض؟ والن نشاهد في الطرق
الصحراوية مثلً إذا ه ّبتْ عاصفة واحدة فإنها تغطي الطرق بحيث تعوق حركة المرور إلى أنْ
تُزَاح عنها هذه الطبقة من الرمال.
إذن :علينا أن نقول :نعم يا رب رأينا مساكنهم ومررنا بها -ولو من خلل الصور الحديثة التي
عمَاَلهُمْ[ } ...العنكبوت ]38 :يعني :أغواهم بالكفر،
التقطت لهذه القرى { وَزَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ
وأقنعهم أنه السلوب السليم والمثل في حركة الحياة { َفصَدّ ُهمْ عَنِ السّبِيلِ[ } ...العنكبوت]38 :
فما دام قد زيّن لهم سبيل الشيطان فل ُبدّ أنْ يصدّهم عن سبيل اليمان { َوكَانُواْ مُسْتَ ْبصِرِينَ }
[العنكبوت ]38 :يعني :لم نأخذهم على غِرّة.
لن المبدأ الذي اختاره ال تعالى لخلقه{ َومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ َرسُولً }[السراء]15 :
رسولً يُبيّن لهم وينذرهم ،ويحذرهم عاقبة الكفر؛ لذلك لم يأخذهم ال تعالى إل بعد أنْ أرسل إليهم
رسولً فكذّبوه.
ن وََلقَدْ جَآءَ ُهمْ.} ...
عوْنَ وَهَامَا َ
ن َوفِرْ َ
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وقَارُو َ
()3304 /
مازالت اليات تُحدّثنا عن مواكب الرسالت ،لكنها تتكلم عن المكذّبين عادا وثمود ،وهنا
ن وَهَامَانَ[ } ...العنكبوت ]39 :والدليل على قوله سبحانه في الية السابقة{
ن َوفِرْعَوْ َ
{ َوقَارُو َ
َوكَانُواْ مُسْتَ ْبصِرِينَ }[العنكبوت ]38 :قوله تعالى هنا { وََلقَدْ جَآءَ ُهمْ مّوسَىا بِالْبَيّنَاتِ} ...
[العنكبوت ]39 :أي :بالمور الواضحة التي ل تدع مجالً للشك في صدْق الحق سبحانه ،وفي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صِدْق الرسول في البلغ عن ال.
{ فَاسْ َتكْبَرُواْ فِي الَ ْرضِ[ } ...العنكبوت ]39 :استكبر :يعني افتعل الكِبْر ،فلم ي ُقلْ تكبّر ،إنما
استكبر كأنه في ذاته ما كان ينبغي له أنْ يستكبر؛ لن الذي يتكبّر يتكبّر بشيء ذاتي فيه ،إنما
بشيء موهوب؟ لنه قد يسلب منه ،فكيف يتكبّر به؟
لذلك نقول للمتكبّر أنه غفلت عينه عن مَرأْى ربه في آثار خَلْقه ،فلو كان ربه في باله لستحى أنْ
يتكبّر.
صغُر في نفسه ،ولستحى أن يتكبّر ،كما أن المتكبر بقوته
فالنسان لو أنه يلحظ كبرياء ربه َل َ
وعافيته غبي؛ لنه لم ينظر في حال الضعيف الذي يتعالى عليه ،فلربما يفوقه في شيء آخر ،أو
عنده عبقرية في أمر أهم من الفتوة والقوة ،ثم ألم ينظر هذا الفتوة أنها مسألة عرضية ،انتقلتْ إليه
من غيره ،وسوف تنتقل منه إلى غيره.
إذن :فقارون وفرعون وهامان لما جاءهم موسى بآيات ال الواضحات استكبروا في الرض،
وأنفوا أن يتبعوا ل بطبيعتهم وطبيعة وجود ذلك فيهم ،إنما افتعالً لغير حق { َومَا كَانُواْ سَا ِبقِينَ }
[العنكبوت ]39 :فنفى عنهم أن يكونوا سابقين ،كما قال سبحانهَ {:ومَا نَحْنُ ِب َمسْبُوقِينَ }[الواقعة:
.]60
والسبق ل يُمدح ول يُذم في ذاته ،لكن بنتيجته :إلى أيّ شيء سبق؟ كما نسمع الن يقولون :فلن
رجعي ،والرجعية ل ُتذَم في ذاتها ،وربما كان النسان مُسْرفا على نفسه ،ثم رجع إلى منهج ربه،
فنِعمْ هذه الرجعية ،فالسبق ل ُيذَم لذاته ،واقرأ إنْ شئت قوله تعالى {:وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن
رّ ّبكُمْ[} ...آل عمران ]133 :أي :سابقوا.
والمعنى هنا { َومَا كَانُواْ سَا ِبقِينَ } [العنكبوت ]39 :أن هناك مضمارَ سباق ،فمن سبق قالوا:
أحرز َقصَب السبق ،فإنْ كان مضمار السباق هذا في الخرة أيسبقنا أحد ليفلتَ من أخْذنا له؟ إنهم
لن يسبقونا ،ولن يُفلِتوا من قبضتنا ،ولن يُعجِزوا قدرتنا على إدراكهم.
ويقول الحق سبحانهَ { :فكُلّ َأخَذْنَا بِذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا.} ...
()3305 /
سفْنَا ِبهِ
خَح ُة َومِ ْنهُمْ مَنْ َ
خذَتْهُ الصّيْ َ
خذْنَا بِذَنْ ِبهِ َفمِ ْنهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا َومِنْهُمْ مَنْ أَ َ
َفكُلّا أَ َ
سهُمْ َيظِْلمُونَ ()40
ض َومِ ْنهُمْ مَنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ
الْأَ ْر َ
الكلم هنا عن المكذّبين والكافرين الذين سبق ذكرهم :قوم عاد ،وثمود ،ومدين ،وقوم لوط،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقارون ،وفرعون ،وهامان ،فكان من المناسب أنْ يذكر الحق سبحانه تعليقا يشمل ُكلّ هؤلء
لنهم طائفة واحدة .فقالَ { :فكُلّ[ } ...العنكبوت ]40 :أي :كل مَنْ سبق ذكرهم من المكذّبين
فالتنوين في { َفكُلّ[ } ...العنكبوت ]40 :عوض عن كل من تقدّم ذكرهم ،كالتنوين في {:وَأَنتُمْ
عوَض عن جملة{ فََل ْولَ ِإذَا بََل َغتِ الْحُ ْلقُومَ }[الواقعة.]83 :
حِينَ ِئذٍ تَنظُرُونَ }[الواقعة ]84 :فهو ِ
وقوله سبحانهَ { :أخَذْنَا بِذَنبِهِ[ } ...العنكبوت ]40 :والخذ يناسب قوة الخذ وقدرته؛ لذلك يقول
سبحانه عن أخْذه للمكذّبين{ َأخْذَ عِزِيزٍ ّمقْتَدِرٍ }[القمر ]42 :فالعزيز :الذي يغلب ول يُغلب،
والمقتدر أي :القادر على الَخْذ ،بحيث ل يمتنع منه أحد؛ فهو عزيز.
والخذ هنا بسبب الذنوب { ِبذَنبِهِ[ } ...العنكبوت ]40 :ليس ظلما ول جبروتا ول جزافا ،إنما
جزاءً بذنوبهم وعدلً؛ ولذلك يأتي في تذييل الية:
سهُمْ َيظِْلمُونَ } [العنكبوت.]40 :
{ َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َمهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
سلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا} ...
ثم يُفصّل الحق سبحانه وتعالى وسائل َأخْذه لهؤلء المكذبينَ { :فمِ ْنهُم مّن أَرْ َ
[العنكبوت ]40 :الحاصب :هو الحصَى الصّغار ترمي ل لتجرح ،ولكن يُحْمي عليها لتكون وتلسع
حين يرميهم بها الريح ،ولم ي ُقلْ هنا :أرسلنا عليهم نارا مثلً؛ لن النار ربما إنْ أحرقته يموت
وينقطع ألمه ،لكن َرمْيهم بالحجارة المحمية تلسعهم وتُديم آلمهم ،كما نسمعهم يقولون :سأحرقه
لكن على نار باردة؛ ذلك ليطيل أمد إيلمه.
ثم يقول سبحانهَ { :ومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ الصّيْحَةُ[ } ...العنكبوت ]40 :وهو الصوت الشديد الذي
سفْنَا بِهِ الَرْضَ[ } ...العنكبوت ]40 :أي :قارون {
تتزلزل منه الرض ،وهم ثمود { َومِنْهُمْ مّنْ خَ َ
َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا[ } ...العنكبوت ]40 :وهم قوم نوح ،وفرعون.
هذه وسائل أربعة لهلك المكذّبين ،النار في الحصباء ،والهواء في الصيحة ،والتراب في
الخسف ،ثم الماء في الغراق ،ورحم ال الفخر الرازي حين قال في هذه الية أنها جمعت
العناصر التي بها وجود النسان والعناصر الساسية أربعة :الماء والنار والتراب والهواء .وكانوا
يقولون عنها في الماضي العناصر الربعة ،لكن العلم فرّق بعد ذلك بين العنصر والمادة.
فالمادة تتحلّل إلى عناصر ،أمّا العناصر فل يتحلل لقل منه ،فهو عبارة عن ذرات متكررة ل
يأتي منها شيء آخر ،فالهواء مادة يمكن أنْ نُحلّله إلى أكسجين و ...إلخ وكذلك الماء مادة تتكوّن
من عدة عناصر وذرات إلى أن جاء (مندليف) ووضع جدولً للعناصر ،وجعل لكل منهما رقما
أسماها الرقام الذرية ،فهذا العنصر مثلً رقم واحد يعني :يتكون من ذرة واحدة ،وهذا رقم اثنين
ن وصل إلى رقم ،93لكن وجد في وسط هذه الرقام أرقاما
يعني يتكون من ذرتين ..إلخ إلى أ ْ
ناقصة اكتشفها العلماء فيما بعد.
فمثلً ،جاءت مدام كوري ،واكتشفت عنصر الراديوم ،فوجدوا فعلً أن رقمه من الرقام الناقصة
في جدول (مندليف) ،فوضعوه في موضعه ،وهذا يدل على أن الكون مخلوق بعناصر مرتبة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وصلت مع التقدم العلمي الن إلى 105عناصر.
ولما حلّل العلماء عناصر التربة المخصبة التي نأكل منها المزروعات وجدوها 16عنصرا ،تبدأ
بالكجسين كأعلى نسبة ،وتنتهي بالمنجنيز كأقل نسبة ،لنها لم تصل إلى الواحد من اللف .فلما
حلّلوا عناصر جسم النسان وجدوا نفس هذه العناصر الستة عشرة..
وكأن الحق -سبحانه وتعالى -أقام حتى الكفار ليثبتوا الدليل على صِدْقه تعالى في خَلْق النسان
من طين ،لنعلم أن الحق سبحانه حينما يريد أنْ يُظهِر سِرّا من أسرار كونه يأتي ربه ولو على
أيدي الكفار.
وأول مَنْ قال بالعناصر الربعة التي يتكون منها الكون فيلسوف اليونان أرسطو الذي توفي سنة
384قبل الميلد ،وعلى أساس هذه العناصر الربع كانوا يحسبون النجم ،فمثلً عن الزواج
يحسبون نجم الزوج والزوجة حسب هذه العناصر ،فوجدوا نجم الزوج هواءً ،ونجم الزوجة نارا،
فقالوا (هيجعلوها حريقة) ،وفي مرة أخرى وجدوا الزوجة مائية والزوج ترابيا فقالوا (هيعملوها
معجنة).
ومعلوم أن الحق سبحانه لطلقة قدرته وتعالى يجعل عناصر البقاء هي نفسها عناصر الفناء ،وهو
سبحانه القادر على أنْ يُنجي ويُهلك بالشيء الواحد ،كما أهلك فرعون بالماء ،وأنجى موسى -
عليه السلم -بالماء.
كذلك حين نتأمل هذه العناصر الربعة نجدها عناصر تكوين النسان ،حيث خلقه ال من ماء
وتراب فكان طينا ،ثم جفّ بالحرارة حتى صار صلصالً كالفخار ،ثم هو بعد ذلك يتنفس الهواء،
فبنفس هذه العناصر التي كان منها الخَلْق يكون بها الهلك.
والحق -سبحانه وتعالى -يريد من خَلْقه أنْ يُقبلوا على الكون في كل مظاهره وآياته بيقظة
ليستنبطوا ما فيه من مواطن العبر والسرار؛ لذلك نجد أن كل الكتشافات جاءت ،نتيجة ِدقّة
الملحظة لظواهر الكون.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ
ويلفتنا ربنا إلى أهمية العلم التجريبي ،فيقولَ {:وكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي ال ّ
عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف ]105 :فينبغي إذن أن نتأمل فيما نرى وما توصّل النسان
طفْو عند أرشميدس ،وما توصل إلى الكهرباء والجاذبية والبنسلين
إلى عصر البخار وإلى قانون ال ّ
إل بالتأمل الدقيق لظواهر الشياء ،لذلك فالملحظة هي أساس كل علم تجريبي أولً ،ثم التجريب
ثانيا ،ثم إعادة التجريب لتخرج النتيجة العلمية.
والهواء سبب أساسي في حياة النسان ،وبه يحدث التوازن في الكون ،لكن إنْ أراد الحق سبحانه
جعله زوبعة أو إعصارا مدمرا .وسبق أن قلنا :إنك تصبر على الطعام شهرا ،وعلى الماء عشرة
أيام ،لكن ل تصبر على الهواء إل بمقدار شهيق وزفير ،فالهواء إذن أهم سبب من أسباب بقاء
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحياة؛ لذلك نسمعهم يقولون في شدة الكيد( :وال لكتم أنفاسه) لنها السبيل المباشر إلى الموت؛
لذلك فالهواء عامل أساسي في وسائل الهلك المذكورة.
وبالهواء تحفظ الشياء توازنها ،فالجبال العالية والعمارات الشاهقة ما قامت بقوة المسلحات
غتَ جانبا منها من الهواء لنهارتْ في هذا
والخرسانات ،إنما بتوازن الهواء ،بدليل أنك لو فرّ ْ
الجانب فورا.
وبهذه النظرية يحدث الدمار بالقنابل؛ لنها تعتمد على نظرية تفريع الهواء وما يسمونه مفاعل
القبض ومفاعل البسط ،فما قامتْ الشياء من حولك إل لن الهواء يحيط بها من كل جهاتها.
وقلنا :إن القرآن الكريم حينما يحدثنا عن الهواء يحدثنا عنه بدقة الخالق الخبير ،فكل ريح مفردة
جاءت للتدمير والهلك ،وكل ريح بصيغة الجمع للنماء والخير والعمار ،واقرأ إن شئت قوله
تعالى {:وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ[} ...الحجر.]22 :
ح صَ ْرصَرٍ عَاتِ َيةٍ }[الحاقة ]6 :لنها ريح واحدة تهبّ من
وقوله سبحانه {:وََأمَا عَادٌ فَأُهِْلكُواْ بِرِي ٍ
جهة واحدة فتدمر.
سهُمْ يَظِْلمُونَ { [العنكبوت:
ثم تُختم الية بهذه الحقيقةَ } :ومَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
]40لن الخالق -عز وجل -كرّم النسان{ وََلقَدْ كَ ّرمْنَا بَنِي ءَادَمَ[} ...السراء ]70 :كرّمه من
بين جميع المخلوقات بالعقل والختيار ،فإذا نظرتَ في الكون واستقرأتَ أجناس الوجود لوجدتَ
النسان سيد هذا الكون كله.
فالجناس في الكون مرتبة :النسان ودونه مرتبة الحيوان ،ثم النبات ،ثم الجماد ،فالجماد إذا أخذ
ظاهرة من ظواهر َفضْل الحق عليه من النمو يصير نباتا ،وإذا أخذ النبات ظاهرة من ظواهر
فيض الحق على الخَلْق فأعطاه مثلً الحساس يصير حيوانا ،فإذا تجلى عليه الحق سبحانه بفضله
وأعطاه نعمة العقل يصير إنسانا.
لكن هل النبات حين يأخذ خاصية النمو َف ُفضّل عن الجماد يخرج عن الجمادية؟ ل إنما تظل فيه
الجمادية بدليل أنه إذا امتنع عنه النمو يعود جمادا كالحجر ،وكذلك الحيوان أخذ ظاهرة الحسّ
وتميّز بها عن النبات ،لكن تظل فيه النباتية حيث ينمو ويكبر.
والنسان وهو سيد الكون الذي كرّمه ربه بالعقل تظل فيه الجمادية بدليل أثر الجاذبية عليه ،فإذا
ألقى بنفسه من مكان عالٍ ل يستطيع أن يمسك نفسه في الهواء ،وكذلك تظل فيه النباتية
والحيوانية ،ففيه إذن كل خصائص الجناس الخرى دونه ،ويزيد عليهم العقل.
لذلك ل يكلّفه ال إل بعد أنْ ينضج عقله ويبلغ ،وبشرط أن يسلم من العطب في عقله كالجنون
مثلً ،وأن يكون مختارا فالمكره ل تكليفَ عليه؛ لنه غير مختار.
والنسان الذي كرّمه ربه بالعقل والختيار ،وفضّله على كل أجناس الوجود ل يليق به أن يخضع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أو يعبد إل أعلى منه درجة ،أما أنْ يتدنى فيعبد ما هو أقل منه رتبة ،فهذا شيء عجيب ل يليق
به ،فالعابد ل ُبدّ أنْ يكون أدنى درجةً من المعبود ،وأنت بالحكم أعلى درجة مما تحتك من
الحيوان والنبات والجماد ،فكيف تجعله يتصرف فيك ،مع أنه من تصرفاتك أنت حين تُوجِده َنحْتا،
وتقيمه في المكان الذي تريده وإن انكسر تصلحه؟!!
إذن :كرّمك ربك ،وأه ْنتَ نفسك ،ورضيت لها بالدونية ،جعلك سيدا وجعلت نفسك عبدا لحقر
المخلوقات؛ لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي
" يا ابن آدم ،خلقتُك من أجلي ،وخلقتُ الكون كله من أجلك ،فل تشتغل بما هو لك عما أنت له ".
إذنَ } :ومَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُمْ[ { ...العنكبوت ]40 :أي :ل ينبغي ل تعالى أنْ يظلمهم ،فساعةَ
تسمع ما كان لك أنْ تفعل كذا ،فالمعنى أنك تقدر على هذا ،لكن ل يصح منك ،فالحق سبحانه
ينفي الظلم عن نفسه ،ل لنه ل يقدر عليه ،إنما ل ينبغي له أنْ يظلم؛ لن الظلم يعني أن تأخذ
حقّ الغير ،وال سبحانه مالك كل شيء ،فلماذا يظلم إذن.
ومثال ذلك َنفْي انبغاء قول الشعر من رسول ال صلى ال عليه وسلم كما قال سبحانهَ {:ومَا
شعْ َر َومَا يَن َبغِي لَهُ[} ....يس ]69 :فالنبي صلى ال عليه وسلم كان يستطيع أن يقول
عَّلمْنَاهُ ال ّ
شعرا ،فلديه كل أدواته ،لكن ل ينبغي للرسول أن يكون شاعرا؛ لنهم كذابون ،وفي كل واد
يهيمون ،ففَرْق بين انبغاء الشيء ووجوده فعلً.
ويؤكد هذا المعنى قوله تعالىَ {:ومَا رَ ّبكَ بِظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت ]46 :بصيغة المبالغة ظلم ،ولم
يقل ظالم ،لماذا؟ لن ال تعالى إنْ أباح لنفسه سبحانه الظلم ،فسيأتي على َقدْر قوته تعالى ،فل
يقال له ظالم إنما ظلّم -وتعالى ال عن هذا عُلُوا كبيرا.
ولما تكلمنا عن المبالغة وصيغها قلنا :إن المبالغة قد تكون في الحدث ذاته ،كأن تأكل في الوجبة
الواحدة رغيفا ،ويأكل غيرك خمسة مثلً ،أو تكون في تكرار الحدث ،فأنت تأكل ثلث وجبات،
وغيرك يأكل ستا ،فنقول :فلن آكل ،وفلن َأكُول أو أكال ،فالمبالغة نشأتْ إما من تضخيم الحدث
ذاته ،أو من تكراره.
ففي قوله تعالىَ {:ومَا رَ ّبكَ بِظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت ]46 :لم يقل للعبد ،إذن :تعدّد الناس يقتضي
تعدّد الظلم -إن تُصور -فجاء هنا بصيغة المبالغة (ظَلّم).
وهناك قضية لغوية في مسألة المبالغة تقول :إن َنفْي المبالغة ل ينفي الصل ،وإثبات الصل ل
يثبت المبالغة ،فحين نقول مثلً :فلن أكول ،فهو آكل من باب َأوْلَى ،وحين نقول :فلن آكل ،فل
يعني هذا أنه أكول .ف َنفْي المبالغة في{ َومَا رَ ّبكَ ِبظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت ]46 :ل ينفي الصل
(ظالم) ،وحاشا ل تعالى أن يكون ظالما.
سهُمْ َيظِْلمُونَ { [العنكبوت ]40 :وظلمهم لنفسهم جاء من تدنّيهم
وقوله تعالى } :وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإهانتهم لنفسهم بالكفر بعد أنْ كرّمهم ال ،وكان عليهم أنْ يُصعّدوا هذا التكريم ،ل أن يُهينوا
أنفسهم بعبادة الدنى منهم.
وبعد أن حدثتنا اليات عن الكافرين الذين اتخذوا الشركاء مع ال ،وعن المكذّبين للرسل وما كان
من عقابهم ،تعطينا مثلً يُقرّب لنا هذه الحقائق ،فيقول سبحانه } :مَ َثلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ
اللّهِ.{ ...
()3306 /
مَ َثلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْلِيَاءَ َكمَ َثلِ ا ْلعَ ْنكَبُوتِ اتّخَ َذتْ بَيْتًا وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَ ْيتُ
ا ْلعَ ْنكَبُوتِ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ ()41
كلمة (مَ َثلُ) وردت بمشتقاتها في القرآن الكريم مرات عدة ،ومادة الميم والثاء واللم جاءت لتعبر
عن معنى يجب أنْ نعرفه ،فإذا قيل (مِثْل) بسكون الثاء ،فمعناها التشبيه ،لكن تشبيه مفرد بمفرد.
شيْءٌ[} ...الشورى ]11 :وقوله تعالى {:وَجَزَآءُ سَيّ َئةٍ سَيّ َئةٌ
كما في قوله تعالى {:لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ
مّثُْلهَا[} ...الشورى.]40 :
أما (مَثَل ) بالفتح ،فتعني تشبيه قصة أو متعدّد بمتعدّد ،كما في قوله تعالى {:وَاضْ ِربْ َلهُم مّ َثلَ
سمَاءِ[} ...الكهف.]45 :
الْحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ أَنْ َزلْنَاهُ مِنَ ال ّ
فالحق -سبحانه وتعالى -ل يُشبّه شيئا بشيء إنما يُشبه صورة متكاملة بصورة أخرى :فالحياة
الدنيا في وجودها وزهرتها وزخرفها وخضرتها ومتاعها ،ثم انتهائها بعد ذلك إلى زوال مثل
الماء حين ينزل من السماء فيختلط بتربة الرض ،فينبت النبات المزهر الجميل ،والذي سرعان
ما يتحول إلى حطام.
لذلك اعترض بعض المتمحكين على أسلوب القرآن في قول الحق سبحانه وتعالى عن موسى
عليه السلم {:إِنّ مَ َثلَ عِيسَىا عِندَ اللّهِ َكمَ َثلِ ءَادَمَ[} ...آل عمران.]59 :
ووجه اعتراضه أن (مَثَل) جاءت تُشبه مفردا بمفرد ،وهو عيسى بآدم عليهما السلم ،ونحن نقول:
إنها تشبه صورة متكاملة بأخرى ونقول :هذا العتراض ناتج عن عدم فهم المعنى المراد من
الية ،فالحق سبحانه ل يُشبّه عيسى بآدم كأشخاص ،إنما يُشبّه قصة خَلْق آدم بقصة خلق عيسى،
خلِق من غير أب.
فآدم خُلِق من غير أب ،وكذلك عيسى ُ
والمعنى :إنْ كنتم قد عجبتم من أن عيسى خُلِق بدون أب ،فكان ينبغي عليكم أنْ تعجبُوا أكثر من
خَلْق آدم؛ لنه جاء بل أب وبل أم ،وإذا كنتم اتخذتم عيسى إلها؛ لنه جاء بل أب ،فالقياس إذنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقتضي أن تكون الفتنة في آدم ل في عيسى.
والمسألة أن ال تعالى شاء أن يعلن خلْقه عن طلقة قدرته في أنه ل يخلق بشكل مخصوص ،إنما
يخلق كما يشاء سبحانه من أب وأم ،أو من دون أب ،ومن دون أم ،ويخلق من أب فقط ،أو من أم
فقط.
إذن :هذه المسألة ل تخضع للسباب ،إنما لرادة المسبّب سبحانه ،فإذا أراد قال للشيء :كُنْ
فيكون .وقد يجتمع الزوجان ،ويكتب عليهما العقم ،فل ينجبان ،وقد يصلح ال العقيم فتلد ،ويُصلح
العجوز فتنجب -والدلة على ذلك واضحة -إذن :فطلقة القدرة في هذه المسألة تستوعب كل
حدّ.
الصور ،بحيث ل يحدها َ
والحق سبحانه حين يضرب لنا المثال يريد بذلك أنْ يُبيّن لنا الشيء الغامض بشيء واضح،
والمبهم بشيء بيّن ،والمجمل بشيء مُفصّل ،وقد جرى القرآن في ذلك على عادة العرب ،حيث
استخدموا المثال في البيان والتوضيح.
ويُحكَي أن أحدهم ،وكان صاحب سمعة طيبة وسيرة حسنة بين الناس ،فحسده آخر ،وأراد أنْ
يلصق به تهمة تُشوّه صورته ،وتذهب بمكانته بين الناس فاتهمه بالتردد على أرملة حسناء ،وقد
رآه الناس فعلً يذهب إلى بيتها ،فتخرج له امرأة فيعطيها شيئا معه.
ولما تحقق الناس من المسألة وجدوها عجوزا لها أولد صغار وهم فقراء ،وهذا الرجل يعطف
عليهم ويفيض عليهم مما رزقه ال ،فلما عرفوا ذلك عن الرجل عظّموه ،ورفعوا من شأنه ،وزاد
في نظرهم مجدا وفضلً.
وقد أخذ الشاعر هذا المعنى وعبّر عنه قائلً مستخدما المثل:وإذَا أرادَ ال َنشْر َفضِيلةٍ طُو َيتْ أَتاحَ
لَها لِسَانَ حَسُودَلوْل اشْتِعالُ النارِ فيما جاورَتْ مَا كان يعرف طِيب عَ ْرفِ العٌودِوالعود نوع من
البخور ،طيب الرائحة ،ل تنتشر رائحته إل حين يُحرَق.
لتُ[} ...الرعد ]6 :وهي
ومن مشتقاتها أيضا (مَثُلَة) كما في قوله تعالىَ {:وقَدْ خََلتْ مِن قَبِْلهِمُ ا ْلمَثُ َ
العقوبات التي حاقتْ بالمم المكذّبة ،حتى جعلتها عبرةً لغيرها.
ل كما اشتهر حاتم الطائي بالكرم والجود
فإذا اشتهر المثَل انتشر على اللسنة ،وضربه الناس مث ً
حتى صار مضرب المثل فيه ،وقد تشتهر بيننا عبارة موجزة ،فتصير مثلً يضرب في مناسبها
كما نقول للتلميذ الذي يهمل طوال العام ،ثم يجتهد ليلة المتحان (قبل الرماء تمل الكنائن) مع
الحتفاظ بنص المثل في كل مناسبة ،وإن لم يكُنْ هناك رمي ول كنائن.
كما أن المثل يقال كما هو دون تغيير ،سواء أكان للمفرد ،أم المثنى ،أم الجمع المذكر ،أو
للمؤنث .كذلك نقول (ماذا وراءك يا عصامِ) بالكسر؛ لنها قيلت في أصل المثَل لمرأة.
يقول الحق سبحانه } :مَ َثلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ َأوْلِيَآءَ َكمَثَلِ ا ْلعَنكَبُوتِ اتّخَ َذتْ بَيْتا...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ [العنكبوت.]41 :
فهذا مثل في قمة العقيدة ،ضربه ال لنا للتوضيح وللبيان ،ولتقريب المسائل إلى عقولنا ،وإياك أن
تقول للمثل الذي ضربه ال لك :ماذا أراد ال بهذا؟ لن ال تعالى قال {:إِنّ اللّ َه لَ يَسْتَحْى أَن
َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ...البقرة.]26 :
فالبعض يرى أن البعوضة هذه شيء تافه ،فكيف يجعله ال مثلً؟ والتحقيق أن البعوضة خَلْق من
خَلْق ال ،فيها من العجائب والسرار ما يدعوك للتأمل والنظر ،وليست شيئا تافها كما تظن ،بل
يكفيك فَخْرا أنْ تصل إلى سِرّ العظمة فيها.
ففي هذا المخلوق الضئيل كل مُقوّمات الحياة والدراك ،فهل تعرف فيها موضع العقل وموضع
جهازها الدموي ..إلخ وفضلً عن الذباب والناموس وصغار المخلوقات أل ترى الميكروبات التي
ل تراها بعينك المجردة ومع ذلك يصيبك وأنت القوى بما يؤرقك وينغص عليك.
إذن :ل ت ُقلْ لماذا يضرب ال المثال بهذه الشياء لن ال{ إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا
صغَرا؛
صغَر والستدلل .أي :ما دونها ِ
َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ...البقرة ]26 :ما فوقها أي :في ال ّ
لن عظمة الخلق كما تكون بالشيء الكثر ضخامة تكون كذلك بالشيء القلّ حجما الكثر ِدقّة.
لو نظرتَ مثلً إلى ساعة (بج بن) وهي أضخم وأشهر ساعة في العالم ،وعليها يضبط العالم
الوقت لوجدتَها شيئا ضخما من حيث الحجم ليراها القادم من بعيد ،ويستطيع قراءتها ،فدّلتْ على
عظمة الصّنْعة ومهارة المهندسين الذين قاموا ببنائها ،فعظمتها في ضخامتها وفخامتها ،فإذا
نظرتَ إلى نفس الساعة التي جعلوها في فصّ الخاتم لوجدتَ فيها أيضا عظمة ومهارة جاءت من
صغَر الحجم.
ِدقّة الصنعة في ِ
كذلك الراديو أول ما ظهر كان في حجم (النورج) ،والن أصبح صغيرا في حجم الجيب.
ومن مخلوقات ال ما دق؛ لدرجة أنك ل تستطيع إدراكه بحواسك ،والعجيب أن يطلب النسان أنْ
يرى ال جهرة ،وهو ل يستطيع أنْ يرى آثار خَلْقه وصَنْعته .فأنت ل ترى الجن ،ول ترى
الميكروب والجراثيم ،ول ترى حتى روحك التي بين جنبيك والتي بها حياتُك ،ل يرى هذه
الشياء ول يدركها بوسائل الدراك الخرى ،فمن عظمته تعالى أنه يدرك البصار ،ول تدركه
البصار.
خذُواْ مِن دُونِ اللّهِ َأوْلِيَآءَ[ { ...العنكبوت]41 :
نعود إلى المثَل الذي ضربه ال لنا } :مَ َثلُ الّذِينَ اتّ َ
أي :شركاء وشفعاء } َكمَ َثلِ ا ْلعَنكَبُوتِ[ { ...العنكبوت ]41 :هذا المخلوق الضعيف الذي ينسج
خيوطه بهذه الدقة التي نراها ،والذي نسج خيوطه على الغار في هجرة رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،واشترك مع الحمامة في التعمية على الكفار.
} اتّخَ َذتْ بَيْتا[ { ...العنكبوت ]41 :أي :من هذه الخيوط الواهية } وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَ ْيتُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْلعَنكَبُوتِ[ { ...العنكبوت ]41 :فخطأ العنكبوت ليس في اتخاذ البيت ،إنما في اتخاذ هذه الخيوط
الواهية بيتا له وهبّة ريح كافية للطاحة بها ،ويشترط في البيت أن يكون حصينا يحمي صاحبه،
وأن تكون له أبواب ونوافذ وحوائط..إلخ .أما لو اتخذها شبكة لصيد فرائسه لكان أنسب ،وكذلك
الكفار اتخذوا من الصنام آلهة ،ولو اتخذوها دللة على قدرة الحق في الخَلْق لكان أنسب وأَجدْى.
وكما أن بيت العنكبوت تهدمه هَبّة ريح وتُقطعه وأنت مثلً تنظف بيتك ،وربما تقتل العنكبوت
جعَلْنَاهُ
ع َملٍ فَ َ
عمِلُواْ مِنْ َ
نفسه ،فكذلك طبْق الصل يفعل ال بأعمال الكافرينَ {:وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا َ
هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان.]23 :
عمَاُلهُمْ كَ َرمَادٍ اشْ َت ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َيوْمٍ
وكذلك يضرب لهم مثلً آخر {:مّ َثلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَ ّبهِمْ أَ ْ
صفٍ[} ...إبراهيم.]18 :
عَا ِ
ومعنىَ } :لوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ { [العنكبوت ]41 :أي :حقيقة الشياء ،فشبكة العنكبوت ل تصلح بيتا،
ولكن تصلح مصيدةً للحشرات ،وكذلك الصنام والحجار ل تنفع لنْ تكون آلهة تُعبد ،إنما لنْ
تكون دللة على قدرة الخالق -عز وجل -فلو فكّروا فيها وفي أسرار خَلْقها لهتدوا من خللها
لليمان.
فهي -إذن -دليلُ قدرة لو كانوا يعلمون ،فالجبل هذا الصخر الذي تنحتون منه أصنامكم هو أول
خادم لكم ،ولمن هو أَدْنى منكم من الحيوان والنبات ،وسبق أن قلنا :إن الجماد يخدم النبات ،ويخدم
الحيوان ،وهم جميعا في خدمة النسان.
خسّة
إذن :فالجماد خادم الخدامين ،ومع ذلك جعلتموه إلها ،فانظروا إذن إلى هذه النقلة ،وإلى ِ
فكركم ،وسوء طباعكم حيث جعلتم أدنى الشياء وأحقرها أعلى الشياء وأشرفها -أي :في
زعمكم.
فكيف وقد ميّزك ال على كل الجناس؟ لقد كان ينبغي منك أن تبحث عن شيء أعلى منك يناسب
عبادتك له ،وساعتها لن تجد إل ال تتخذه إلها.
بل واقرأ إنْ شِ ْئتَ عن الجماد قوله تعالىُ {:قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ
سيَ
ج َعلَ فِيهَا[} ...فصلت ]10-9 :أي :في الرض{ َروَا ِ
جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
وَتَ ْ
سوَآءً لّلسّآئِلِينَ }[فصلت.]10 :
مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َب َعةِ أَيّامٍ َ
فكأن الجبال الصّماء الراسية هي مخازن القوت للناس على مَرّ الزمان ،فمنها تتفتت الصخور،
ويتكوّن الطمي الذي يحمله إلينا الماء في أيام الفيضانات ،ومنها تتكون الطبقة المخصبة في
السهول والوديان ،فتكون مصدر خصْب ونماء دائم ومتجدد ل ينقطع .وتذكرون أيام الفيضان وما
كَان يحمله نيل مصر إلينا من خير متجدد كل عام ،وكيف أن الماء كان يأتينا أشبه ما يكون
بالطحينة من كثرة ما به من الطمي.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فياليت عُبّاد الصنام الذين نحتوا الصخور أصناما تأملوا هذه اليات الدالة على قدرة الخالق
سبحانه بدل أن يعبدوها من دون ال.
وفي موضع آخر يضرب لنا الحق سبحانه مثلً في قمة العقيدة أيضا فيقول سبحانه {:ضَ َربَ اللّهُ
ح ْمدُ للّهِ َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ
جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً الْ َ
مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُتَشَا ِكسُونَ وَ َرجُلً سَلَما لّ َر ُ
َيعَْلمُونَ }[الزمر.]29 :
ففَرْق بين عبد مملوك لسيد واحد يتلقّى منه وحده المر والنهي ،وبين عبد مملوك لعدة شركاء،
ل أوامر ،ولكلّ منهم
وليتهم متفقون ،لكن{ شُ َركَآءُ مُتَشَاكِسُونَ[} ...الزمر ]29 :مختلفون لك ّ
مطالب ،فكيف إذن يُرضيهم؟ وكيف يقوم بحقوقهم وهم يتجاذبونه؟
فالذي يعبد ال وحده ل شريك له كالعبد لسيد واحد ،والذين يعبدون الصنام كالعبد فيه شركاء
متشاكسون .إذن :فالحق سبحانه يضرب المثال للناس في الحقائق ليُبيّنها لهم بيانا واضحا.
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا.{ ...
()3307 /
حكِيمُ ()42
شيْ ٍء وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ
إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ َ
()3308 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَتِ ْلكَ الَْأمْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ َومَا َي ْعقُِلهَا إِلّا ا ْلعَاِلمُونَ ()43
فمَنْ يسمع المثل من ال تعالى ثم ل يعقله فليس بعالم؛ لذلك ليسوا علماء الذين اعترضوا على
قوله تعالى {:إِنّ اللّ َه لَ يَسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْوقَهَا[} ...البقرة ]26 :حيث
استقلّوا البعوضة ،ورأوها ل تستحق أنْ تُضرب مثلً.
ونقول لهم :أنتم لستم عاقلين ول عالمين بدقة المثل ،واقرأوا {:إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن
يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَهُ[} ....الحج ]73 :بل وأكثر من ذلك {:وَإِن َيسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ
يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ[} ...الحج.]73 :
دَعْك من مسألة الخَلْق ،وتعالَ إلى أبسط شيء في حركة حياتنا إذا وقع الذباب على طعامك ،فأخذ
منه شيئا أتستطيع أن تسترده منه مهما أُوتيتَ من القوة والجبروت؟
إذن :فالذبابة ليست شيئا تافها كما تظنون ،بل واقلّ منها الناموس (والميكروب) وغيره مما ل
يُرَى بالعين المجردة مخلوقات ل ،فيها أسرار تدلّ على قدرته تعالى.
كما قال سبحانه {:إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْرِبَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ...البقرة ]26 :أي:
صغَر ،ولك أن تتأمل البعوضة ،وهي أقلّ حجما من الذباب ،وكيف أن لها خرطوما
ما فوقها في ال ّ
دقيقا ينفذ من الجلد ،ويمتصّ الدم الذي ل تستطيع أنت إخراجه إل بصعوبة( ،والميكروب) الذي
ل تراه بعينك المجردة ومع ذلك يتسلل إلى الجسم فيمرضه ،ويهدّ كيانه ،وربما انتهى به إلى
الموت.
إذن :ففي هذه المخلوقات الحقيرة في نظرك عبر وآيات ،لكن ل يعقلها إل العالمون ،ومعظم هذه
اليات والسرار اكتشفها غير مؤمنين بال ،فكان منهم مَنْ عقلها فآمن ،ومَنْ لم يعقلها فظلّ على
كفره على أنه َأوْلَى الناس باليمان بال؛ لن لديه من العلم ما يكتشف به أسرار الخالق في الخَلْق.
لذلك جاء في الثر " :العالم الحق هو الذي يعلم مَنْ خلقه ،وِلمَ خلقه ".
سمَاوَاتِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :خََلقَ اللّهُ ال ّ
()3309 /
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَقّ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ ()44
خََلقَ اللّهُ ال ّ
ت وَالَرْضَ
سمَاوَا ِ
أراد الحق سبحانه أن يبرهن لنا على طلقة قدرته تعالى ،فقال { :خََلقَ اللّهُ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خلْق :إيجاد المعدوم ،لكن الغرض مخصوص ،ولمهمة يؤديها ،فإنْ
حقّ[ } ...العنكبوت ]44 :وال َ
بِالْ َ
خلقت شيئا هكذا كما اتفق دون هدف منه فل ُيعَد خلقا.
ومسألة الخَلْق هذه هي الوحيدة أقرّ الكفار بها ل تعالى ،فلما سألهم {:وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خََلقَ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ[} ...لقمان ]25 :فلماذا أقرّوا بهذه بالذات؟ ولماذا ألجمتهم؟
ال ّ
هذا ليس عجيبا منهم؛ لننا نشاهد كل مَنْ يأتي بجديد في الكون حريصا على أنْ ينسبه لنفسه،
وعلى أنْ يُبيّن للناس مجهوداته وخبراته ،وأنه اخترع كذا أو اكتشف كذا ،كالذي اكتشف الكهرباء
أو اخترع (التليفون أو التليفزيون).
ما زِلْنا حتى الن نذكر أن قانون الطفو لرشميدس ،وقانون الجاذبية لنيوتن ،والناس تسجل الن
براءات الختراع حتى ل يسرق أحد مجهودات أحد ،ولتحفظ لصحاب التفوق العقلي والعبقري
ثمرة عبقريتهم.
وكذلك كان العرب قديما يذكرون لصاحب الفضل فَضلْه ،حتى إنهم يقولون :فلن أول مَنْ قال
مثلً :أما بعد .وفلن أول من فعل كذا.
إذن :فنحن نعرف الوائل في كل المجالت ،وننسب كل صنعة وكل اختراع واكتشاف إلى
صاحبه ،بل ونُخلّد ذكراه ،ونقيم له تمثالً ..إلخ.
ن فيهما ،أليس
إذن :فما بالك بالخالق العظم سبحانه الذي خلق السماوات والرض وما فيهما ومَ ْ
من حقه أن يعلن عن نفسه؟ أليس من حقه على عباده أن يعترفوا له بالخَلْق؟ خاصة وأن خَلْق
السماوات والرض لم يدّعه أحد لنفسه ،ولم ينازع الحق فيه منازع ،ثم جاءنا رسول من عند ال
ن يوجد
تعالى يخبرنا بهذه الحقيقة ،فلم يوجد معارض لها ،والقضية تثبُت لصاحبها إلى أ ْ
معارض.
وقد مثّلنا لهذه المسألة -ول المثل العلى -بجماعة جلسوا في مجلس ،فلما انفضّ جمعهم وجد
صاحب البيت محفظة نقود لواحد منهم ،فسألهم :لمن هذه المحفظة؟ فقالوا جميعا :ليست لي إل
ك صاحب البيت أنها لمن ادّعاها؟
واحد منهم قال :هي محفظتي ،فهل يش ّ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ[} ...لقمان ]25 :فقالوا (ال)
ولك أنْ تسأل :ما دام الحق سألهم{ مّنْ خََلقَ ال ّ
فلماذا يذكر ال هذه القضية؟ قالوا :الحق -تبارك وتعالى -ل يريد بهذه الية أن يخبرنا أنه
خالق السماوات والرض ،إنما يريد أن يخبرنا أن خَلْق السماوات والرض بالحق ،والحق:
الشيء الثابت الذي ل يتغير مع الحكمة المترتبة على كل شيء في الوجود ،فإذا نظرنا إلى خَلْق
السماوات والرض لوجدناه ثابتا لم يتغير شيء فيه.
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ[} ..غافر.]57 :
لذلك يقول سبحانهَ {:لخَلْقُ ال ّ
فالسماوات والرض خَلْق هائل عظيم ،بحيث لو قارنته بخَلْق النسان لكان خَلْق النسان أهون.
وانظر مثلً في عمر السماوات والرض وفي عمر النسان :أطول أعمار البشر التي نعلمها حتى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الن عمر نوح عليه السلم ،وبعد هذا العمر الذي نراه طويلً انتهى إلى الموت ،فعمر النسان
معلوم يكون سنة واحدة ،أو ألف سنة لكن ل ُب ّد أن يموت.
أما السماوات والرض وما فيها من مخلوقات إنما خُلقت لخدمة النسان ،فالخادم عمره أطول من
المخدوم ،فالشمس مثلً خلقها ال تعالى من مليين السنين ،ومازالت كما هي لم تتغير ،ولم تتخلف
س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ }[الرحمن.]5 :
شمْ ُ
عن مهمتها ،وكذلك القمر {:ال ّ
أي :بحساب دقيق؛ لذلك يقولون :سيحدث كسوف مثلً أو خسوف يوم كذا الساعة كذا ،وفي نفس
الوقت يحدث فعلً كسوف للشمس أو خسوف للقمر مما يدلّ على أنهما خُلِقا بحساب بديع دقيق،
ويكفي أننا نضبط على الشمس مثلً ساعاتنا ،ومع ما عُرِف عن الشمس والقمر ،من كِبَر
حجمهما ،فإنهما يسيران في مسارات وأفلك دون صدام ،كما قال تعالىُ {:كلّ فِي فََلكٍ يَسْ َبحُونَ }
[النبياء.]33 :
هذا كله من معنى خَلْق السماوات والرض بالحق .أي :بنظام ثابت دقيق منضبط ل يتغير ول
يتخلف في ُكلّ مظاهره ،فأنت أيها النسان يمكن أنْ تتغير؛ لن ال جعل لك اختيارا فتستطيع أن
تطيع أو أن تعصي ،تؤمن أو والعياذ بال تكفر ،لكن خَلْق السماوات والرض جاء على هيئة
القهر والتسخير ،وإن كانت مختارة بالقانون العام والختيار الول ،حيث قال تعالى {:إِنّا عَ َرضْنَا
حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ
شفَقْنَ مِ ْنهَا وَ َ
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
اَ
جهُولً }[الحزاب.]72 :
ظَلُوما َ
إذن :خُيّرت فاختارت ألّ تختار ،وخرجت عن مرادها لمراد ربها.
ثم يقول سبحانه } :إِنّ فِي ذاِلكَ ليَةً لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ { [العنكبوت ]44 :لماذا قال (للمؤمنين) مع أنها آية
ت وَالَ ْرضَ[} ...لقمان ]25 :فلماذا
سمَاوَا ِ
للناس جميعا؟ وسبق أنْ خاطب ال الكافرين{ مّنْ خََلقَ ال ّ
خصّ هنا المؤمنين دون الكافرين؟
قالوا :هناك فَرْق بين خَلْق السماوات والرض ،وبين َكوْنها مخلوقة بالحق ،فالجميع يؤمن بأنها
مخلوقة ،لكن المؤمنين فقط هم الذين يعرفون أنها مخلوقة بالحق.
حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ.{ ...
يقول الحق سبحانه } :ا ْتلُ مَا ُأوْ ِ
()3310 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بعد أن ذكر ال تعالى بعض مواكب الرسل في إبراهيم وفي موسى ونوح وصالح وهود ولوط
وفي شعيب ،ثم تكلّم سبحانه عن الذين كذبوا هؤلء الرسل{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ[} ...العنكبوت]40 :
أراد سبحانه أن يُسلّي رسوله صلى ال عليه وسلم بأن ل يزعجه ،ول يرهقه ،أو يتعب نفسه
موقف الكافرين به الذين يصدون عن سبيل ال ،ويقفون من الدعوة موقف العداء.
حيَ ِإلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ[ } ...العنكبوت ]45 :يعنيِ :لمَ تحزن يا محمد
فقال له مُسلّيا { :ا ْتلُ مَا ُأ ْو ِ
ومعك الُنْس كله ،الُنْس الذي ل ينقضي ،وهو كتاب ال ومعجزته التي أنزلها إليك ،فاشتغل به،
فمع كل تلوة له ستجد سكنا إلى ربك.
وإذا كان هؤلء الذين عاصروك لم يؤمنوا به ،ولم يلتفتوا إلى مواطن العجاز فيه فداوم أنت
علّ ال يأتي من هؤلء بذرية تصفو قلوبهم لستقبال إرسال السماء ،فيؤمنون بما
على تلوته َ
جحده هؤلء ،والمر بالتلوة لبقاء المعجزة.
{ ا ْتلُ[ } ...العنكبوت ]45 :اقرأ ول تعجز ول تيأس ،فالقرآن سلوة لنفسك؛ لن الذي يرسل
رسولً من البشر بشيء أو في أمر من المور ،ثم يكذب يرجع إلى مَنْ أرسله ،فما دام قومك قد
كذّبوك ،فارجع إليّ بأن تستمع إلى كتابي الذي أنزلتُه معجزة لك تؤيدك ،وانتظر قوما يأتون
يسمعون منك كلم ال ،فيصادف منهم قلوبا صافية ،فيؤمنون به.
وفَرْق بين الفاعل والقابل ،والقرآن يُوضّح هذه المسألة ،فمن الناس مَنْ إذا سمعوا القرآن تخشع له
قلوبهم ،وتقشعر جلودهم ،ومنهم مَنْ إذا سمعوه قالوا على سبيل الستهزاء{ مَاذَا قَالَ آنِفا} ...
[محمد ]16 :تهوينا من شأن القرآن ،ومن شأن رسول ال.
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْرٌ
شفَآ ٌء وَالّذِي َ
ثم يقرر القرآن هذه الحقيقةُ {:قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ ُهدًى وَ ِ
عمًى[} ...فصلت.]44 :
علَ ْيهِمْ َ
وَ ُهوَ َ
إذن :فالقرآن واحد ،لكن المستقبل للقرآن مختلف ،فالعبرة في صفاء الستقبال لن الرسال واحد،
وهل تتهم الذاعة إنْ كان جهار (الراديو) عندك معطلً ،ل يستقبل إرسالها؟
كذلك مَنْ أراد أن يستقبل إرسال السماء فعليه أنْ ُيعِد الذن الواعية والقلب الصافي غير المشوش
بما يخالف إرسال السماء ،عليك أنْ تُخرِج ما في نفسك أولً من أضداد للقرآن ،ثم تستقبل كلم
ال وتنفعل به.
ن ينفخ في يده وقت البرد بقصد التدفئة ،وبمَنْ ينفخ
وسبق أنْ مثّلْنا لختلف المنفعل للفعل بمَ ْ
بنفَسه في الشاي مثلً ليبرده ،فهذه للحرارة ،وهذه للبرودة ،الفعل واحد ،لكن المنفعل مختلف.
حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ[ } ...العنكبوت ]45 :هذه هي مَيْزة معجزتك يا
فقوله تعالى { :ا ْتلُ مَا ُأوْ ِ
محمد أنك تستطيع أنْ تكرّرها في كل وقت ،وأن تتلوها كما تشاء ،وأن يتلوها بعدك مَنْ سمعها،
وستظل تتردد إلى يوم القيامة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما معجزات الرسل السابقين فكانت خاصة بمَنْ شاهد المعجزة ،فإذا مات مَنْ شهدها فل يعرفها
ل انقلب عصا موسى حية ولم
أحد بعدهم حتى لو كان معاصرا لها ولم يَرَهَا ،فالذين عاصروا مث ً
يشاهدوا هذا الموقف ،ماذا عندهم من هذه المعجزة؟ ل شيء إل أننا نُصدّقها ونؤمن بها؛ لن
القرآن أخبرنا بها.
إذن :فمعجزات السابقين تأتي كلقطة واحدة أشبه ما تكون بعود الكبريت الذي يشتعل مرة واحدة،
رآها مَنْ رآها وتنتهي المسألة ،ولكن القرآن حدثنا بكل معجزات الرسل السابقين فانظر إذن ما
أصاب الرسل جميعا من خيرات سيدنا رسول ال ،وكيف خَلّد القرآن ذكرهم ،وامتدت معجزاتهم
بامتداد معجزته.
فكأن القرآن أسدى الجميل إلى كل الرسل ،وإلى كل المعجزات؛ لذلك قال تعالى عن القرآن{:
ب َو ُمهَ ْيمِنا عَلَ ْيهِ[} ...المائدة.]48 :
حقّ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَا ِ
وَأَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ
لةَ[ { ...العنكبوت ]45 :وملعوم أن ا ْتلُ :التلوة َقوْل من فعل اللسان
ثم يقول سبحانه } :وََأقِمِ الصّ َ
و } وََأقِمِ[ { ...العنكبوت ]45 :من فعل الجوارح ،والنسان له جوارح متعددة اشتهر منها خمس
هي :العين للبصار ،والذن للسمع ،والنف للشم ،واللسان للتذوق ،والنامل للّمس.
فقالوا على سبيل الحتياط :الجوارح الخمسة الظاهرة وقد ظهر فعلً مع تقدّم العلوم اكتشفوا في
النسان حواسّ أخرى ووسائلَ إدراك لم تُعرف من قبل ،كحاسة العضل التي تزن بها ثقل
الشياء ،وإل فبأيّ حاسة من حواسّك الخمسة تعرف الثقل قبل أن ترفع الشيء من على الرض؟
ل إلى
سمْك الشياء بين أناملك ،فحين تذهب مث ً
وكحاسة البَيْن ،والتي بها تستطيع أنْ تُميّز بين ُ
سمَك من
تاجر القمشة ،فتتناول القماش بين أناملك و (تفركه) برفق ،فتستطيع أن تعرف أن هذا َأ ْ
هذا.
ومن عجيب المر في مسألة الجوارح أن يأخذ اللسان شطر الجوارح كلها ،ففعل الحواس الخمسة
يسمى عملً ،والعمل ينقسم :إما قول ،وإما فعل .فكل تحريك لجارحة لتؤدي مهمة يسمى عملً،
لكن عمل اللسان يسمى قولً ،أما من بقية الجوارح فيسمى فعلً.
فأخذ اللسان هذه المكانة؛ لن به النذار من الحق ،وبه التبشير ،وبه البلغ من الرسول؛ لذلك
يقول الحق سبحانه {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف.]2 :
ولم يقل :ما ل تعملون .لن القول يقابله الفعل ،وهُما معا عمل ،والعمل بنية القلب.
لكن ،لماذا اختار الصلة من بين أعمال الجوارح؟ قالوا :لنها قمة العمل كما سماها النبي صلى
ال عليه وسلم " :الصلة عماد الدين " وبها نُفرّق بين المؤمن والكافر .ويبقى السؤال :لماذا أخذتْ
الصلة هذه المكانة من بين أركان السلم؟
ن يقضي على
ونحب أنْ نشير هنا إلى أن خصوم السلم وبعض أهله الذين يخافون من بعثه أ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حصْر السلم في أركانه الخمسة ،فإنْ قُلْت بهذه المقولة ل
طغْيانهم وجبروتهم يريدون َ
سلطتهم و ُ
يتعرضون لك ،وأنت حر في إطار أركان السلم هذه ،لكن إياك أن تقول :إن السلم جاء ليُنظّم
حصْر السلم في أركانه فقط.
حركة الحياة؛ لن حظهم في َ
وما فَهم هؤلء أن الركان ليست هي كل السلم ،إنما هي أسُسه وقواعده التي يقوم عليها بناؤه،
لكنهم يريدون أنْ يعزلوا السلم عن حركة الحياة .فنقول لهم :نعم ،هذه أركان السلم ،أمّا
السلم فيشمل كل شيء في حياتنا ،بداية من قمة العقيدة في قولنا :ل إله إل ال محمد رسول ال
إلى إماطة الذى عن الطريق؛ لن السلم دين يستوعب كل أقضية الحياة ،كيف ل وهو يُعلّمنا
أبسط الشياء في حياتنا.
ألَ تراه يهتم بأحكام قضاء الحاجة ودخول الخلء ،وما يتعلق به من آداب وأحكام؟ َألَ ترى أن
حسْبة المكلّف بمراقبة السواق ،وتنفيذ أحكام منهج ال في الرض إذا رأى جزارا ينفخ
صاحب ال ِ
ذبيحته بفمه يقوم بإعدام هذه الذبيحة؛ لن الهواء المستخدم في نفخها هواء غير صحي ،فهو زفير
مُحمّل بثاني أكسيد الكربون ،وقد يحمل غازات أخرى ضارة ل ُبدّ أنْ تنتقل إلى لحم الذبيحة؟
كما أن من مهمته أن يمر بالحلقين ،ويتفقد مدى نظافتهم وسلمتهم من المراض ،وإذا اشتم من
أحدهم رائحة ثوم أو بصل مثلً أمره بإغلق محله ،وعدم العمل في هذا اليوم حتى ل يتأذى
الناس برائحته.
فأيّ شرع هذا الذي يحافظ على سلمة الناس ومشاعرهم إلى هذا الحدّ؟ إنه دين ال ومنهجه الذي
ل يغادر صغيرة ول كبيرة في حركة الحياة إل ووضع لها أحكاما وآدابا .أمِثْل هذا الشرع يُعزل
عن حركة الحياة ويُقيّد وينحصر في مسائل العبادات وحدها؟
إنك حين تنظر إلى متاعب العالم المتخلف الن -دَعْك من العالم المتقدم -ستجد أن متاعبه
اقتصادية ،ولو تقصيْتَ السباب لوجدتها تعود إلى التخلي عن منهج ال وتعطيل أحكامه ،ووال لو
أنهم أخذوا في أزمتهم القتصادية بقول النبي صلى ال عليه وسلم " :نحن قوم ل نأكل حتى
نجوع ،وإذا أكلنا ل نشبع ".
لو عملوا بهذا وتأدّبوا بأدب رسولهم لخرجوا من هذه الزمة ،وتقلّبوا في رَغَد من العيش ،إنك لو
تحل ْيتَ بهذا الدب في مسألة الطعام والشراب لكفتْك اللقمة واللقمتان ،وأشهى الطعام ما كان بعد
جوع مهما كان بسيطا.
أما الن ،فنرى الناس يلجئون إلى المشهّيات قبل الطعام ،وإلى المهضِمات بعده ،لماذا؟ لنهم
خالفوا هَدْي رسولهم صلى ال عليه وسلم ،فهم يأكلون على شِبَع ،ويأكلون بعد الشّبَع.
والحق -تبارك وتعالى -يقول {:وكُلُو ْا وَاشْرَبُو ْا َولَ تُسْ ِرفُواْ[} ...العراف ]31 :وأُثِر عن
العرب الذين عاشوا في شظف من العيش :نِع ْم الدام الجوع .نعم إنه (الغموس) الحقيقي،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والمشهّي الول.
نعود إلى مكانة الصلة بين العبادات ،ولماذا كانت هي عماد الدين ،ومعنى " :الصلة عماد الدين
" و " بُنِي السلم على خمس "
أن الدين أشياء أخرى ،وهذه هي أُسُسه وقواعده ،وحين نتتبع هذه القواعد نجد أن الركن الول،
وهو أشهد ألّ إله إل ال ،وأن محمدا رسول ال يمكن أن أقولها ولو مرة واحدة ،أما الزكاة فل
تجب مثلً على الفقير فل يزكي ،وكذلك المريض ل يصوم ،والمسافر والحائض ..إلخ ،وكذلك
الحج غير واجب إل على المستطيع.
إذن :ما هو الركن الثابت الذي يلزم كل مسلم ،ول يسقط عنه بحال؟ إنها الصلة؛ لذلك أخذتْ
مساحة كبيرة من الوقت على مدى اليوم والليلة ،وبها يكون إعلن الولء الدائم ل تعالى ،وبها
تفرق بين المؤمن وغير المؤمن ،فإنْ رأيتَ شخصا مثلً ل يصوم أو ل يزكي أو ل يحج ،فلك أنْ
تقول ربما يكون من أصحاب العذار ،ومن غير القادرين ،لكن حين ترى شخصا ل يُصلّي ،وقد
تكرّر منه ذلك فإنك ل ُبدّ شاكّ في إسلمه.
لذلك استحقت الصلة هذه المكانة بين سائر العبادات منذ بدايات التشريع ،أل ترى أن كل فرائض
الدين شُرعت بالوحي إل الصلة ،فقد شُرعت بالخطاب المباشر من ال تعالى لنبيه محمد صلى
ال عليه وسلم في رحلة المعراج.
وسبق أنْ مثّلْنا لذلك ،ول المثل العلى ،برئيس العمل الذي يُصدر أوامره بوسائل مختلفة حَسْب
أهمية المأمور به ،فقد يكتفي بأن (يُؤشر) على ورقة ،وقد يُوصي بها ،أو يطلب الموظف
ن كان المر هاما استدعاه شرطيا إلى مكتبه وكلّفه بما يريد.
المختص فيُحدّثه (بالتليفون) ،فإ ْ
وكان هذا الستدعاء تشريفا لسيدنا رسول ال بقرب المرسل من المرسل ،فأراد الحق -سبحانه
ن يقرب
وتعالى -ألّ يحرم أمه محمد فضل أسبغه على محمد فكأنه قال :مَنْ أراد من عبادي أ ْ
من كما قرب محمد فكان قاب قوسين أو أدنى فليُصلّ.
لةَ[ { ...العنكبوت ]45 :إقامة الشيء :أداؤه على الوجه الكمل الذي يؤدي
ومعنى } وََأقِمِ الصّ َ
غايته ،فالصلة المطلوبة هي الصلة المستوفاة الشروط والتي تقيمها كما يريدها مُشرّعها } إِنّ
لةَ تَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَآءِ وَا ْلمُ ْنكَرِ[ { ...العنكبوت.]45 :
الصّ َ
والصلة إذا استوفتْ شروطها نهتْ صاحبها عن الفحشاء والمنكر ،فإذا رأيتَ صلة ل تنهى
صاحبها عن الفحشاء والمنكر ،فاعلم أنها ناقصة عما أراده ال لقامتها ،وعلى قَدْر النقص تكون
ثمرة الصلة في سلوك صاحبها ،وكأن وقوعك في بعض الفحشاء وفي بعض المنكر ُيعَدّ مؤشرا
دقيقا لمدى إتقانك لصلتك وحرصك على تمامها وإقامتها.
لةَ تَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَآءِ وَا ْلمُ ْنكَرِ[ { ...العنكبوت ]45 :واضح في قول النبي صلى
ومعنى } إِنّ الصّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال عليه وسلم لما قيل له " :يا رسول ال ،إن فلنا يصلي ،لكن صلته ل تنهاه عن الفحشاء
والمنكر ،فقال " :دعوه ،فإن صلته تنهاه " ".
فالمعنى هنا أن المر ليس أمرا كونيا ثابتا ل يتخلف ،بل هو أمر تشريعي عُرْضة لنْ يُطاع،
وعُرْضة لنْ يُعصى ،فلو كان المر كونيا ما جرؤ صاحب صلة عل الفحشاء والمنكر ،ومثال
ل لولدي قبل أن أموت :يا أولدي ،هذا بيت يكرم مَنْ يدخله.
ذلك أن أقول مث ً
كلم على سبيل الخبر ولم أقل :أكرموا مَنْ يدخله ،فالذي يحترم وصيتي منهم يكرم مَنْ يدخل
بيتي من بعدي ،والذي ل يحترم الوصية ل يُكرم مَنْ يدخله .أما لو قلت :أكرموا مَنْ يدخل هذا
البيت فقد ألزمتَ الجميع بالكرام.
وأوضح من هذا قوله تعالى في شأن المسجد الحرامَ {:ومَن َدخَلَهُ كَانَ آمِنا[} ...آل عمران]97 :
فلما حدث أن اقتحمه بعض أصحاب الهواء ،وأطلقوا النار في ساحاته ،وقتلوا فيه المنين قامتْ
ضجة كبيرة تُشكّك في هذه الية :كيف يحدث هذا وال يقول{ َومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنا[} ...آل
عمران ]97 :فأقاموا هذه الحداث دليلً على كذب الية والعياذ بال.
وهذا المسلك منهم يأتي عن عدم فهم لمعنى المر الكوني والمر التشريعي ،فقوله تعالىَ {:ومَن
َدخَلَهُ كَانَ آمِنا[} ...آل عمران]97 :أمر تشريعي قابلٌ لنْ يُطاع ،ولنْ يٌعصي ،كأن الحق -
ن في البيت
سبحانه وتعالى -قال :أمّنُوا مَنْ دخل البيت ،فبعض الناس امتثل للمر ،فأمّن مَ ْ
الحرام ،وبعضهم عصى فروّع الناس ،وقتلهم في ساحته ،ولو كان أمرا كونيا ما تخلّف أبدا كما
لو تتخلف الشمس مثلً يوما من اليام.
لةَ تَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَآ ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ[ { ...العنكبوت ]45 :فالصلة تشريع
وكذلك المر في } إِنّ الصّ َ
ن وَإِيتَآءِ ذِي ا ْلقُرْبَىا
ل وَالحْسَا ِ
من ال ،فإذا كان ال تعالى هو المشرّع ،وقال {:إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْد ِ
وَيَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَر[} ...النحل ]90 :يعني :ل يوجد معها فحشاء ول منكر ،وهذا أيضا
صحيح؛ لنني حين أدخل في الصلة بتكبيرة الحرام فإن هذه التكبيرة تحرم عليّ كل ما كان
ل ل آكل ول أشرب ول أتحرك ،مع أن هذه المسائل كانت
حللً لي قبل الصلة ،ففي الصلة مث ً
ل قبل الصلة؟ إذن :فهو حرام من باب
حللً قبل الصلة ،فما بالك بما كان حراما عليك أص ً
َأوْلَى.
فالصلة بهذا المعنى تمنعك من الفحشاء والمنكر في وقتها؛ لن تكبيرة الحرام (ال أكبر) تعني
أن ال أكبر من كل شيء في الوجود حتى من شهوات النفس ونزواتها ،وإلّ فكيف تقيم نفسك بين
يدي ربك ،ثم تخالف منهجه؟ فالصلة بهذا المعنى تنهى على حقيقتها عن الفحشاء والمنكر.
ومعنى (الفَحْشَاء) كل ما ُيسْتفحش من القوال والفعال (والمنكَر) كل شيء يُنكره الطبع السليم }
وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ[ { ...العنكبوت ]45 :ذكر :مصدر ،والمصدر يُضاف للفاعل مثل :أعجبني
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضَرْب المير لزيد ،ويُضاف للمفعول مثل :أعجبني ض َربْ زيد من المير ،فحين تقول ذكر ال
يصح أن يكون المعنىِ :ذكْر صادر من ال ،أو ِذكْر صادر من العبد ل.
ن قلتَِ :ذكْر صادر من ال ،أي للمصلّي ،فحين يصلي النسان ،ويذكر ال بالكبرياء في قوله
فإ ْ
ال أكبر ويُنزّهه بقول سبحان ال ،ويسجد له سبحانه ويخضع ،فقد فعلتَ إذن ِفعْلً ذكرتَ ال فيه
ِذكْرا بالقول والفعل ،وال تعالى يجازيك بذكرك له بأن يذكرك ،فالذكر ذكر من ال لمن ذكره في
صلته.
ول شكّ أن ذكر ال لك أكبر ،وأعظم من ِذكْرك له سبحانه؛ لنك ذكرتَ ال منذ بلوغك إلى أن
تموت ،أما هو سبحانه فسيعطيك بذكرك له منازل عالية ل نهايةَ لها في يوم ل تموت فيه ول
تنقطع عنك ِنعَمه وآلؤه ،فالمعنى :ولذِكر ال لك بالثواب والرحمة أكبر من ِذكْركَ له بالطاعة.
هذا على معنى أن الذكر صادر من ال للعبد.
المعنى الخر أن يكون الذكْر صادرا من العبد ل ،يعني :ولذكْر ال خارج الصلة أكبر من ِذكْر
ال في الصلة ،كيف؟ قالوا :لنك في الصلة ُتعِد نفسك لها بالوضوء ،وتتهيأ لها لتكون في
حضرة ربك بعد تكبيرة الحرام ،فإذا ما انتهتْ الصلة وخرجتَ منها إلى حركة الحياة ف ِذكْرك ل
وأنت بعيد عن حضرته وأنت مشغول بحركة حياتك أعظم وأكبر من ِذكْرك في الحضرة.
ومثال ذلك -ول تعالى المثل العلى -مَنْ يمدح المير ويُثني عليه في حضرته ،ومَنْ يمدحه
في غيبته ،فأيّهما أحلى ،وأيّهما أبلغ وأصدق في الذكْر؟
ج ُمعَةِ
لةِ مِن َي ْومِ الْ ُ
واقرأ في ذلك قوله تعالى عن صلة الجمعة {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُو ِديَ لِلصّ َ
س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّهِ[} ...الجمعة.]9 :
فَا ْ
لةُ
يعنيِ :ذكْر ال في الصلة ،ول تظنوا أن الذكْر قاصر على الصلة فقد إنما {:فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ
ض وَابْ َتغُواْ مِن َفضْلِ اللّ ِه وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيرا ّلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[الجمعة]10 :
فَانتَشِرُواْ فِي الَرْ ِ
فيجب ألّ يغيب ِذكْر ال عن بالك أبدا؛ لن ِذكْرك لربك خارج الصلة أكبر من ِذكْرك له سبحانه
في الصلة.
و ُروِي عن عطاء بن السائب أن ابن عباس سأل عبد ال بن ربيعة :ما تقول في قوله تعالى} :
حسَن ،والصلة حسن ،وتسبيح ال
وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ[ { ...العنكبوت]45 :؟ فقال :قراءة القرآن َ
حسن ،وتحميده حسن ،وتكبيره حسن ,التهليل له حسن .لكن أحسن من ذلك أن يكون ِذكْر ال عند
طروق المعصية على النسان ،فيذكر ربه ،فيمتنع عن معصيته.
فماذا قال ابن عباس -مع أن هذا القول مخالف لقوله في الية -؟ قال :عجيب وال ،فأعجب
بقول ابن ربيعة ،وبارك فهمه للية ،ولم ينكر عليه اجتهاده؛ لن النسانَ طبيعي أن يذكر ال في
حال الطاعة ،فهو متهيئ للذكْر ،أما أنْ يذكره حال المعصية فيرتدع عنها ،فهذا أقْوى وأبلغ ،وهذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أكبر كما قال سبحانه } وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ[ { ...العنكبوت.]45 :
ظلّ إل ظله -ومنهم :ورجل
لذلك جاء في الحديث الشريف " :سبعة يظلهم ال في ظِلّه ،يوم ل ِ
دَعَتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال :إني أخاف ال "
هذا هو ِذكْر ال الكبر؛ لن الدواعي دواعي معصية ،فيحتاج المر إلى مجاهدة تُحوّل المعصية
إلى طاعة.
أما قول ابن عباس في } وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ[ { ..العنكبوت ]45 :أن ِذكْر ربكم لكم بالثواب والرحمة
أكبر من ِذكْركم له بالطاعة .وحيثيات هذا القول أن ربك -عز وجل -لم يُكلّفك إل بعد سِنّ
البلوغ ،وتركك تربَع في نعمه خمسة عشر عاما دون أنْ يُكلفك ،ثم يُوالي عليك ِنعَمه ،ول يقطع
عنك مدده حتى لو انصرفتَ عن منهجه ،بل حتى لو كفرتَ به ل يقبض عنك يد عطائه ونعمه.
إذن :ف ِذكْر ال لك بالخَلْق من عدم ،والمداد من عُدم ،وموالة ِنعَمه عليك أكبر من ِذكْرك له
بالطاعة ،وقد ذكرك سبحانه قبل أنْ يُكلّفك أَن تذكره .كما أن ذكركم له سبحانه بالطاعة في الدنيا
موقوت ،أما ِذكْره لكم بالثواب والجزاء والرحمة في الخرة فممتد ل ينقطع أبدا.
ثم تختم الية بقوله سبحانه } :وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا َتصْ َنعُونَ { [العنكبوت ]45 :هذه الكلمة نأخذها على
أنها بشارة للمؤمن ،ونذارة للكافر ،كما تقول للتلميذ يوم المتحان :سينجح المجتهد منكم ،فهي
بشارة للمجتهد ،وإنذار للمهِمل ،فالجملة واحدة ،والنسان هو الذي يضع نفسه في أيهما يشاء.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ولَ تُجَادِلُواْ أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ.{ ...
()3311 /
حسَنُ إِلّا الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُ ْم َوقُولُوا َآمَنّا بِالّذِي أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا
وَلَا تُجَادِلُوا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ إِلّا بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
وَأُنْ ِزلَ إِلَ ْي ُك ْم وَإَِلهُنَا وَإَِل ُهكُ ْم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ ()46
الحق -تبارك وتعالى -يُعلّمنا كيف نجادل أهل الكتاب ،وقبل أن نتكلم عن ألوان الجدل في
القرآن الكريم نقول :ما معنى الجدل؟
الجدل :مأخوذ من الجَدْل ،وهو فَتْل الشيء ليشتد بعد أنْ كان لينا كما نفتل حبالنا في الريف،
فالقطن أو الصوف مثلً يكون منتفشا يأخذ حيزا واسعا ،فإذا أردْنا أن نأخذ منه خيطا جمعنا بعض
الشعيرات ليُقوّي بعضها بعضا بلفّها حول بعضها ،وبجَدْل الخيوط نصنع الحبال لتكون أقوى،
وعلى َقدْر الغاية التي يُراد لها الحبل تكون قوته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومن الجدل ُأخِذ الجدال والجدَل والمجادلة ،وفي معناها :الحوار والحجاج والمناظرة ،ومعناه أن
يوجد فريقان لكل منها مذهب يؤيده ويدافع عنه ليفتن الخر أي :ليلفته عن مذهبه إلى مذهبه هو.
حجَاج أو المناظرة فهذا السم يكفي ،لكن إنْ دخل
فإذا كان المقصود هو الحق في الجدال أو ال ِ
الجدال إلى مِراءٍ أو لجاجة ،فليس القصد هو الحق ،إنما أنْ يتغلّب أحد الفريقين على الخر،
طغْيَا ِنهِمْ[} ..المؤمنون.]75 :
والجدل في هذه الحالة له أسماء متعددة ،منها قوله تعالى {:لّلَجّواْ فِي ُ
لكن إذا فَتَلْنا الشيء المنفوش حتى صار ُمضْمرا ،وأخذ من الضمر قوة ،أأنت تجعل في الجدل
خصْمك قويا؟ إنك تحاول أنْ تُقوّي نفسك في مواجهته .قالوا :حين أنهاه عن الباطل وأعطفه ناحية
َ
الحق ،فإنه يقوي يقينه في شيء ينفعه ،وكأنه كان منتفشا آخذا حيّزا أكبر من حجمه بالباطل الذي
كان عليه ،فأنا قوّيته بالحق .وفي العامية نقول (فلن منفوخ على الفاضي) أو نقول (فلن نافش
ريشه) كأنه أخذ حيزا أكبر من حجمه.
لذلك نلحظ أن التغلب في الجدل ل يكون لمجرد الجدل ،إنما تغلّبك لحق ينفع الغير ويُقويه ويردّه
إلى حجمه الطبيعي.
أو :أن الجدل مأخوذ من الجدال وهي الرض ،كأن يطرح القوي الضعيف أرضا في صراع
مثلً.
والجدال يكون بين شخصين ،لكل منهما رأيه الذي يألفه ويحبه ويقتنع به ،فحين تجادله تريد أنْ
تُخرِجه عن رأيه الذي يألف إلى رأيك الذي ل يألفه ولم يعتده ،فأنت تجمع عليه أمرين :أنْ
تُخرجه عما أَلف واعتاد إلى ما لم يألف ،فل يكُنْ ذلك بأسلوب يكرهه حتى ل تجمع عليه شدتين.
فعليك إذن باللين والستمالة برفق؛ لن النصح ثقيل كما قال شوقي رحمه ال :فل تجعله جبلً،
ول ترسله جَ َدلً ،وعادة ما يُظهِر الناصح أنه أفضل من المنصوح .ويقولون :الحقائق مرة،
خصْمك عما أَلِف ،فل تخرجه عما ألف بما يكره ،بل بما
خفّة البيان؛ لنك ُتخِرج َ
فاستعيروا لها ِ
يحب.
والنسان قج يُعبّر عن الحقيقة الواحدة تعبيرا يُكره ،ويُعبّر عنها تعبيرا يُحب وترتاح إليه ،كالملك
الذي رأى في منامه أن كل أسنانه قد سقطتْ ،فطلب مَنْ يُعبّر له ما رأى ،فجاءه المعبّر واستمع
منه ،ثم قال :معنى هذه الرؤيا يا مولي أن أهلك جميعا سيموتون ،فتشاءم من هذا التعبير ولم
يُعجبه ،فأرسلوا إلى آخر فقال :هذا يعني أنك ستكون أطولَ أهل بيتك عُمرا ،فَسُرّ الملك بقوله.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ورجل قُتِل له عزيز فجلس يصرح ويولول ،فدخل عليه صاحبه مُواسيا فقال له الرجل :إن ابني
قُتِل ظلما ،فقال صاحبه :الحمد ل الذي جعل منك المقتول ،ولم يجعل منك القاتل.
خفّة البيان أمر مهم ،وعلى المجادل أن يراعي بيانه ،وأن يتحين الفرصة
إذن :سلمة المنطق و ِ
المناسبة ،فل تجادل خصمك وهو غضبان منك أو وأنت غضبان منه .قالوا :مَرّ رجل فوجد صبيا
يغرق في البحر ،فلم ينتظر حتى يخلع ثيابه ،وألقى بنفسه وأنقذ الصبي ،ثم أخذ يضربه ويلطمه،
والولد يقول :شكرا لك بارك ال فيك ،لماذا؟ لنه قسا عليه بعد أنْ أنقذه ،لكن ما الحال لو وقف
على البَرّ ،وكال له الشتائم وعنّفه ،لماذا ينزل البحر وهو ل يعرف العوم؟ لذلك يقول الحكماء:
آسِ ثم أنصح.
لذلك يُعلّمنا ربنا -عز وجل -أصول الجدل وآدابه؛ لنه يريد أن يُخرِج بهذا الجدل أناسا من
الكفر إلى اليمان ،ومن الجحود إلى اليقين ،وهذا ل يتأتّى إل باللطف واللين ،كما قال سبحانه{:
حسَنُ[} ...النحل.]125 :
ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِظَةِ الْحَسَ َن ِة وَجَا ِد ْلهُم بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ بِا ْل ِ
ويُعلّمنا سبحانه أن للجدل مراتبَ بحسب حالة الخَصم ،فالذي ينكر وجود ال له جدل مخصوص،
والذي يؤمن بوجود ال ويقول :إن معه شريكا .له جدل آخر ،ومَنْ يؤمن بال ويقول سأتبع نبيّ
ولن أتبعك له جدل آخر وبشكل خاص ،والمختلفون معك من أهل مِلّتك لهم جدل يليق بحالهم.
إذن :للجدل مراتب نلحظها في أسلوب القرآن ،فبم جادل الذين ل يؤمنون بوجود إله؟ قالَ {:أمْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ بَل لّ يُوقِنُونَ }[الطور35 :
شيْءٍ َأمْ ُهمُ الْخَاِلقُونَ * َأمْ خََلقُواْ ال ّ
خُِلقُواْ مِنْ غَيْرِ َ
.]36 -
فأتى لهم بمسألة الخَلْق الظاهرة التي لم يدّعها أحد ،ول يجرؤ أحد على إنكارها ،حتى المشركون
والملحدة؛ لن أتفه الشياء في صناعاتهم يعرفون صانعها ،ويُقرّون له بصنعته ،ولو كانت كوبا
من زجاج أو حتى قلم رصاص ،ل ُبدّ أن لكل صنعة صانعا يناسبها.
أليس مَنْ خلق السماوات والرض والشمس والقمر ..إلخ َأوْلَى بأن يعترفوا له سبحانه بالخَلْق؟
وهم أنفسهم مخلوقون ولم يقولوا إنّا خلقنا أنفسنا ،ولم يقولوا خلقنا غيرنا ،فمَنْ خلقهم إذن؟
وقلنا :إن الدّعْوى تثبت لصاحبها ما لم َيقُم لها معارض ،والحق -سبحانه وتعالى -قال علنية،
وعلى لسان رسله ،وفي قرآن يُ ْتلَى إلى يوم القيامة ،وأسمع الجميع :أنا خالق هذا الكون.
فإنْ قال معاندَ :فمَنْ خلق ال؟ نقول :الذي خلقه عليه أن يعلن عن نفسه.
شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لَ ِإلَـاهَ ِإلّ ُهوَ[} ...آل عمران]18 :
والحق سبحانه شهد لنفسه أنه ل إله إل هو{ َ
ولم ي ُقلْ أحد أنا الله .إذن :الذين ينكرون الخالق ل حَقّ لهم .هذا في جدال الملحدة الذين ينكرون
وجود ال.
أما الذين يؤمنون بوجود ال ،لكن يتخذون معه سبحانه شركاء ،فنجادلهم على النحو التالي:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شركاؤكم مع ال غَيْب أم شهادة؟ إنْ قالوا :غَيْب فإن ال تعالى شهد لنفسه بالوحدانية .وقال :أنا
واحد ل شريك لي ،فأين كان شركاؤكم؟
لماذا لم يدافعوا عن ألوهيتهم مع ال؟ إما لنهم ما دروا بهذا العلن ،وإما أنهم دَرَوا وعجزوا
عن المواجهة ،وفي كلتا الحالتين تنفي عنهم صفة اللوهية ،فأيّ إله هذا الذي ل يدري بما يدور
خصْمه؟
حوله ،أو يجبن عن مواجهة َ
فإنْ قالوا :شركاؤنا الصنام والشجار والكواكب وغيرها ،فهذه من صُنْع أيديهم ،فكيف يعبدونها،
ج لها ول تكاليفَ ،وإل فبماذا أمرتهم وعَمّ نهتْهم؟ إذن :عبادتهم لها باطلة.
ثم هي آلهة ل منه َ
ثم نسأل الذين يتخذون مع ال شركاء :أهؤلء الذين تشركونهم مع ال يتواردون على الشياء
بقدرة واحدة ،أم يتناوبون عليها ،كل منهم بقدر على شيء معين؟
ن كانوا يتناوبون على
ن كانوا يزاولون بقدرة واحدة ،فواحد منهم يكفي والباقون ل فائدة منهم ،وإ ْ
إْ
الشياء ،فكلّ منهم قادر على شيء عاجز عن الشيء الخر ،والله ل يكون عاجزا.
وقد رَدّ الحق سبحانه على هؤلء بقوله تعالىُ {:قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ ِإلَىا
صفّوا حساباتهم معه ،وكيف أخذ
ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء ]42 :أي :لَذهبوا إليه إما ليُعنّفوه و ُي َ
المر لنفسه ،وإما ليتوددوا إليه ويعاونوه.
ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ[} ...المؤمنون.]91 :
ق وََلعَلَ َب ْع ُ
وفي موضع آخر {:إِذا لّ َذ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَ َ
وبعد أنْ بينّا جدال الملحدة الذين ينكرون وجود الله وجدال أهل الشرك نجادل أهل الكتاب ،وهم
ألطفُ من سابقيهم؛ لنهم مؤمنون بإله وأنه الخالق ،ومؤمنون بالبلغ عن ال ،ومؤمنون بالكتب
التي نزلت ،والخلف بيننا وبينهم أنهم ل يؤمنون برسالة محمد صلى ال عليه وسلم في حين
نؤمن نحن برسلهم وكتبهم ،وهذه أول مَيزة تميّز بها السلم على الديان الخرى.
ونقول لهؤلء :لقد آمنت برسولك ،وقد سبقه رسل ،فلماذا تنكر أن يأتي رسول بعده؟ ثم هل جاء
الرسول بعد رسولك ليناقضه في أصول الشياء؟ إنهم جميعا متفقون على أصول العقيدة
والخلق ،متفقون على أنهم عباد ل متحابون ،فلماذا تختلفون أنتم؟
فربنا -تبارك وتعالى -يُعلّمنا } َولَ ُتجَادِلُواْ َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ.
[ { ..العنكبوت ]46 :لنهم ليسوا ملحدة ول مشركين ،فهُ ْم مؤمنون بإلهكم وبالرسل وبالكتب،
غاية ما هنالك أنهم ل يؤمنون برسولكم.
لذلك يعترض بعض الناس :كيف يبيح السلم أنْ يتزوج المسلم من كتابية ،ول يبيح للمسلمة أن
تتزوج كتابيا؟ نقول :لن أصل ال ِقوَامة في الزواج للرجل ،والزوج المؤمن حين يتزوج كتابية
مؤمن برسولها ،أما الزوج الكتابي فغير مؤمن برسول المؤمنة ،فالفَرْق بينهما كبير.
ومعنىِ } :إلّ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ[ { ...العنكبوت ]46 :أن في الجدال حسنا وأحسن ،وقد سبق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للٍ مّبِينٍ }[سبأ ]24 :ونوح
الجدال الحسن في قوله تعالى {:وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَىا ُهدًى َأوْ فِي ضَ َ
عليه السلم يتلطف في جدال قومه ،فيقولُ {:قلْ إِنِ افْتَرَيُْتهُ َفعََليّ ِإجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا تُجْ ِرمُونَ
}[هود.]35 :
فينسب الفتراء إلى نفسه ،ويتهم نفسه بالجرام إنِ افترى ،فإنْ لم يكُنْ هو المفتر ،وهو المجرم
َفهُمْ.
عمّا
عمّآ أَجْ َرمْنَا َولَ نُسَْألُ َ
ونبينا محمد صلى ال عليه وسلم يقول في جدال قومه {:قُل لّ ُتسْأَلُونَ َ
حقّ المعاندين
َت ْعمَلُونَ }[سبأ ]25 :فيذكر صلى ال عليه وسلم الجريمة في حقه هو ول يذكرها في َ
المكذّبين ،فأيّ أدب في الدعوة أرفع من هذا الدب؟
إذن :جادل غير المؤمنين بالحسن ،وجادل أهل التكاب بالتي هي أحسن ،لما يمتازون به عن
غيرهم من ميزة اليمان بال .فإنْ تع ّدوْا وظلموا أنفسهم في مسألة القمة اليمانية ،فادعوا أن ل
ولدا أو غيره ،فإِنهم بذلك يدخلون في صفوف سابقيهم من المشركين ،فإنْ كنا مأمورين بأن
نجادلهم بالتي هي أحسن وقالوا بهذا القول ،فعلينا أن نجادلهم بما يقابل الحسن ،نجادلهم إما
بالحسن ،وإما بغير الحسن أي :بالسيف.
لكن ،هل يفرض السيف عقائد؟ السيف ل يأخذ من الناس إل قوالبهم.
أمّا القلوب فل يخضعها إل اليمان ،وال تعالى ل يريد قوالب ،إنما يريد قلوبا.
سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ
واقرأ قوله تعالى في سورة الشعراءَ {:لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ
ضعِينَ }[الشعراء ]4-3 :فإنِ أراد سبحانه َقهْر القوالب
سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ
مّنَ ال ّ
والقلوب على الخضوع ،بحيث ل يستطيع أحد أنْ يتأبّى على اليمان ما وُجد كافر ،وما كفر
الكافر إل لما أعطاه ال من منطقة الختيار؛ فالحق سبحانه يريد منّا قلوبا تحبه سبحانه وتعبده؛
لنه سبحانه يستحق أنْ يُعبد.
إذن :الذين يخرجون عن نطاق الكتابية بتجاوزهم الحدّ ،وقولهم أن عيسى ابن ال ،أو أن ال ثالث
ثلثة ،إنما يدخلون في نطاق الشرك والكفر ،ولن نقول لهؤلء :اتبعوا رسولنا ،وإنما اتبعوا
رسولكم ،والكتاب الذي جاءكم به من عند ال ،وسوف تجدون فيه البشارة بمحمد{ الرّسُولَ النّ ِبيّ
لمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ َمكْتُوبا عِندَهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة وَالِنْجِيلِ[} ...العراف.]157 :
اُ
إذن :فحين تكفر فأنت ل تكفر بمحمد ول بالقرآن ،إنما تكفر أولً بكتابك أنت؛ لذلك يعلمنا الحق
سبحانه:
{ ّلقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَآلُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْ َيمَ[} ...المائدة ]17 :وقال أيضاّ {:لقَدْ َكفَرَ الّذِينَ
قَالُواْ إِنّ اللّهَ ثَاِلثُ ثَلَثَةٍ[} ...المائدة.]73 :
أي :ل تعاملوهم على أنهم كتابيون ،ولما سُئلْنا في الخارج من أبنائنا الذين يرغبون في الزواج
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من أجنبيات ،فكنت أقول للواحد منهم :سَلْها أولً :ماذا تقول في عيسى ،فإنْ قالت هو رسول ال
فتزوجها وأنت مطمئن؛ لنها كتابية ،وإن قالت :ابْن ال ،فعاملها على أنها كافرة ومشركة.
هذا في معنى قوله تعالىِ } :إلّ الّذِينَ ظََلمُواْ مِ ْنهُمْ[ { ...العنكبوت ]46 :ونحن ل نحمل السيف في
وجه هؤلء؛ لن السيف ما جاء إل ليحمي اختيار المختار ،فلي أنْ أعرض ديني ،وأنْ أُعلنه
ن تركوني أعلن عن ديني فهم أحرار ،يؤمنون أو
ن منعوني من هذه فلهم السيف ،وإ ْ
وأشرحه ،فإ ْ
ل يؤمنون.
إنْ آمنوا فأهلً وسهلً ،وإنْ لم يؤمنوا فهم أهل ذمة ،لهم ما لنا وعليهم ما علينا ،ويدفعون الجزية
نظير ما يتمعون به في بلدنا ،وعليهم ما علينا ،وما نُقدّمه لهم من خدمات ،وإل فكيف نفرض
على المؤمنين الزكاة ونترك هؤلء ل يقدمون شيئا؟
لذلك نرى الكثيرين من أعداء السلم يعترضون على مسألة َدفْع الجزية ،ويروْنَ أن السلم
فُرِض بقوة السيف ،وهذا قول يناقض بعضه بعضا ،فما فرضنا عليكم الجزية إل لننا تركناكم
تعيشون معنا على دينكم ،ولو أرغمناكم على السلم ما كان عليكم الجزية.
شدُ مِنَ ا ْل َغيّ[} ...البقرة]256 :
والحق -تبارك وتعالى -يقول {:لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّ ْ
لنني ل أُكرهك على شيء إل إذا كنتَ ضعيف الحجة ،وما دام أن الرشدْ بيّن والغيّ بيّن ،فل
داعي للكراه إذن.
ل يقول لك{ لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ} ...
لكن البعض يفهم هذه الية فهما خاطئا فحين تقول له :صَ ّ
[البقرة ]256 :ونقول له :لم تفهم المراد ،فل إكراه في أصل الدين في أنْ تؤمن أو ل تؤمن ،فأنت
حدّا من
في هذه حُرّ ،أما إذا آمنتَ وأعلنتَ أنه ل إله إل ال محمد رسول ال ،فليس لك أن تكسر َ
حدود السلم ،وفَرْق بين " ل إكراه في الدين " و " ل إكراه في التدين ".
ومن حكمة السلم أن يعلن حكم الردة لمن أراد أنْ يؤمن ،نقول له قف قبل أن تدخل السلم،
اعلم أنك إنْ تراجعت عنه وارتددتَ قتلناك ،وهذا الحكْم يضع العقبة أمام الراغب في السلم حتى
يفكر أولً ،ول يقدم عليه إل على بصيرة وبينة.
وإذا قيل } أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ[ { ...العنكبوت ]46 :أي :الكتاب المنزّل من ال ،وقد علّم ال تعالى
رسوله صلى ال عليه وسلم أنْ يجادل المشركين بقوله {:فَاسْأَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ }
[النحل ]43 :فعلم الرسول أن يرجع إلى أهل الكتاب ،وأنْ يأخذ بشهادتهم ،وفي موضع آخر علّمه
أن يقول لمن امتنع عن اليمان.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال بن سلم :لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لبني ،ومعرفتي لمحمد أشد ،ولم ل يعرفونه وقد
جدُونَهُ َمكْتُوبا عِندَ ُهمْ فِي ال ّتوْرَاةِ
ل ّميّ الّذِي يَ ِ
ياُ
ذُكر في كتبهم باسمه ووصفه {:الرّسُولَ النّ ِب ّ
وَالِنْجِيلِ[} ...العراف.]157 :
ثم ألم يحدث منكم أنكم كنتم تستفتحون به على المشركين في المدينة ،وتقولون :لقد أطلّ زمان
نبي يُبعث في مكة ،فنتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم؟ فلما جاءكم النبي الذي تعرفوه أنكرتموه
علَى الّذِينَ َكفَرُواْ فََلمّا جَآءَ ُهمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ بِهِ} ...
وكفرتم بهَ {:وكَانُواْ مِن قَ ْبلُ َيسْ َتفْتِحُونَ َ
[البقرة.]89 :
كيف يستشهد ال على صدق رسوله بكم وبكتبكم ثم تكذبون؟ قالوا :كذّبوا لما لهم من سلطة زمنية
يخافون عليها ،ورأوا أن السلم سيسلبهم إياها.
وكلمة } بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ[ { ...العنكبوت ]46 :وردت في القرآن ،لكن في غير الجدل في الدين،
حسَنُ فَإِذَا
وردت في كل شيء يُوجب جدلً بين أُناس؛ وذلك في قوله سبحانه {:ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
حمِيمٌ }[فصلت.]34 :
عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
ك وَبَيْنَهُ َ
الّذِي بَيْ َن َ
وقد جاءني رجل يذكر هذه الية ،وما يترتب على الحسان ،يقول :عملتُ بالية فلم أجد الولي
الحميم؟ قلت له :كوْنك تحمل هذا المر في رٍأسك دليل على أنك لم تدفع بالتي هي أحسن؛ لن
ال تعالى ل يقرر قضية قرآنية ،ويُكذّبها واقع الحياة ،فإنْ دفعتَ بالتي هي أحسن بحقّ ل ُبدّ وأنْ
خصْمك كأنه وليّ حميم.
تجد َ
لذلك يقول أحد العارفين:يَا مَنْ ُتضَايِقه ال ِفعَالُ مِنَ التِي وَمنَ الذِي ا ْدفَعْ فديْ ُتكَ بالتي حتّى تَرى فإذَا
الذيوالمعنى :من التي تسيء إليك ،أو الذي يسيء إليك{ ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ[} ...فصلت]34 :
حمِيمٌ }[فصلت.]34 :
حتى ترى{ فَِإذَا الّذِي بَيْ َنكَ وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
وأذكر أنه جاءني شاب يقول :إن عمي مُوسِر ،وأنا فقير ،وهو يتركني ويتمتع بماله غيري ،فقلت
له :بال أتحب النعمة عند عمك؟ فسكت ،قلت له :إذن أنت ل تحبها عنده ،لكن اعلم أن النعمة
حبّ صاحبها لها؛ لذلك ل تذهب إلى كارهها عند صاحبها.
تحب صاحبها أكثر من ُ
فما عليك إل أنْ تثوب إلى الحق ،وأنْ تتخلص مما تجد في قلبك لعمك ،وثِقْ بأن ال هو الرزاق،
وإنْ أردتَ نعمة رأيتها عند أحد فأحببها عنده ،وسوف تأتيك إلى بابك ،لنك حين تكره النعمة عند
غيرك تعترض على قدر ال.
بعد هذا الحوار مع الرجل -وال يشهد -دَقّ جرس الباب ،فإذا به يقول لي :أما دريتَ بما
ي ضَرْبا
حدث؟ قلت :ماذا؟ قال :جاءني عمي قبل الفجر بساعة ،فلما أنْ فتحت له الباب انهال عل ّ
وشَتْما يقول :لماذا تتركني للجانب يأكلون مالي وأنت موجود؟ ثم أعطاني المفاتيح وقال :من
الصباح تباشر عملي بنفسك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فقلت له :لقد أحببتها عند عمك ،فجاءت تطرق بابك.
وقوله سبحانه } ِإلّ الّذِينَ ظََلمُواْ مِ ْنهُمْ[ { ...العنكبوت ]46 :أي :ظلموا أنفسهم بالشرك؛ لن ال
عظِيمٌ }[لقمان ]13 :تظلم نفسك ل تظلم ال؛ لن الظالم يكون أقوى
تعالى قال {:إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ
من المظلوم .وجعل الشرك ظلما عظيما لنه ذنبٌ ل يغفر {:إِنّ اللّ َه لَ َيغْفِرُ أَن ُيشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ
مَا دُونَ ذاِلكَ ِلمَن يَشَآءُ[} ...النساء.]116 :
فالشرك ظلم عظيم عليك نفسك ،أما الذنوب دون الشرك فلها مخرج ،وقد تنفكّ عنها إما التوبة
برحمة ال ومغفرته.
ثم يُعلّمنا الحق -تبارك وتعالى -التي هي أحسن في الردّ على الذين ظلموا منهمَ } :وقُولُواْ آمَنّا
ح ٌد وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ { [العنكبوت.]46 :
بِالّذِي أُن ِزلَ إِلَيْنَا وَأُن ِزلَ إِلَ ْيكُمْ وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـا ُهكُ ْم وَا ِ
يعني :فعل َم الختلف ،ما دام أن الله واحد ،وما دام أن كتابكم يذكر الرسول الذي يأتي بعد
رسولكم ،وقد سبق رسولكم رسل ،فكان يجب عليكم أن تؤمنوا به ،وأنْ تُصدّقوه.
جاءت امرأة تشتكي أن زوجها لم يُوف بما وعدها به ،وقد اشترطتْ عليه قبل الزواج ألّ يذهب
إلى زوجته الولى ،فقُلْت لها :يعني أنت الثانية وقد رضيت به وهو متزوج؟ قالت :نعم ،قلت:
فلماذا رضيتِ به؟ قالت :أعجبني وأعجبته ،قلت :فل مانع إذن أنْ تعجبه أخرى فيتزوجها ،وتقول
ق الولى فيه ،لتحترم الثالثة
له :إياك أنْ تذهب إلى الثانية ،فهل هذا يعجبك؟ إذن :فاحترمي ح ّ
حقك فيه ،فقامت وانصرفت.
حدٌ[ { ...العنكبوت ]46 :لن الكلم هنا للذين ظلموا وقالوا بالتعدد.
وقال } :وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـا ُهكُ ْم وَا ِ
وهنا قال تعالى } وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ { [العنكبوت ]46 :ولم يقل مثلً :ونحن به مؤمنون ،ولماذا؟
ن تؤمن بإله ،أمّا اليمان فليس كلما ،اليمان أن تثق به ،وأنْ تأمنه على
لن اليمان عقيدة قلبية أ ْ
أنْ يُشرّع لك ،وأنْ يُسلم له المر " افعل كذا " " ول تفعل كذا " ،وهناك أناس ليسوا بمؤمنين
بقلوبهم ،ومع ذلك يعملون عمل المسلمين ،إنهم المنافقون.
ل الِيمَانُ فِي
خِت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ َأسَْلمْنَا وََلمّا َيدْ ُ
لذلك يقول تعالى {:قَاَل ِ
قُلُو ِبكُمْ[} ...الحجرات.]14 :
إذن :فَرْق بين إيمان وإسلم ،فقد يتوفر أحدهما دون الخر؛ لذلك قال سبحانه{ وَا ْل َعصْرِ * إِنّ
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ[} ...العصر ]3-1 :فقال هنا } :وَنَحْنُ َلهُ
الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
مُسِْلمُونَ { [العنكبوت ]46 :يعني :مُنفّذين لتعاليم ديننا.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وكَذَِلكَ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ.{ ...
()3312 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جحَدُ
َوكَذَِلكَ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ فَالّذِينَ آَتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ َومِنْ َهؤُلَاءِ مَنْ ُي ْؤمِنُ ِب ِه َومَا يَ ْ
بِآَيَاتِنَا إِلّا ا ْلكَافِرُونَ ()47
قوله تعالى { َوكَذَِلكَ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ[ } ...العنكبوت ]47 :أي :كما أنزلنا كتبا على مَنْ سبقك
أنزلنا إليك كتابا يحمل منهجا ،والكتب السماوية قسمان :قسم يحمل منهج الرسول في (افعل كذا)
و (ل تفعل كذا) ،وذلك شركة في كل الكتب التي أُنزَِلتْ على الرسل ،وكتاب واحد هو القرآن،
هو الذي جاء بالمنهج والمعجزة معا.
فكلّ الرسل قبل محمد صلى ال عليه وسلم كان للواحد منهم كتاب فيه منهج ومعجزة منفصلة عن
المنهج ،فموسى عليه السلم كان كتابه التوراة ،ومعجزته العصا ،وعيسى عليه السلم كان كتابه
النجيل ،ومعجزته إحياء الموتى بإذن ال.
أما رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فكتابه القرآن ومعجزته القرآن ،فانظر كيف التقت المعجزة
بالمنهج لتظل لصيقة به؛ لن زمن رسالة محمد ممتدّ إلى قيام الساعة ،فل ُبدّ أنْ تظل المعجزة
موجودة ليقول الناس محمد رسول ال ،وهذه معجزته.
ل أن نقول :هذا عيسى رسول ال وهذه معجزته؛ لنها ليست باقية ،ولم
في حين ل نستطيع مث ً
نعرفها إل من خلل إخبار القرآن بها ،وهذا يُوضّح لنا َفضْل القرآن على الرسل وعلى معجزاتهم
حيث ثبتها عند كل مَنْ لم يَرهَا ،فكل مَنْ آمن بالقرآن آمن بها.
لكن ،أ ُكلّ رسول يأتي بمعجزة؟ المعجزة ل تأتي إل لمن تحدّاه ،واتهمه بالكذب ،فتأتي المعجزة
لتثبت صِدْقه في البلغ عن ربه؛ لذلك نجد مثلً أن سيدنا شيثا وإدريس وشَعيبا ليست لهم
معجزات.
وأبو بكر -رضي ال عنه -والسيدة خديجة أم المؤمنين هل كانا في حاجة إلى معجزة ليؤمنا
برسول ال؟ أبدا ،فبمجرد أنْ قال :أنا رسول ال آمنوا به ،فما الداعي للمعجزة إذن؟
إذن :تميّز صلى ال عليه وسلم على إخوانه الرسل بأن كتابه هو عَيْن معجزته وسبق أنْ قلنا :إن
الحق -تبارك وتعالى -يجعل المعجزة من جنس ما نبغ فيه القوم ،فلو تحداهم بشيء ل عِلْم لهم
به لقالوا :نحن ل نعلم هذا ،فكيف تتحدّانا به؟ والعرب كانوا أهل فصاحة وبيان ،وكانوا يقيمون
للقوْل أسواقا ومناسبات ،فتحداهم بفصاحة القرآن وبلغته أنْ يأتوا بمثله ،ثم بعشر سُور ،ثم
بسورة واحدة ،فما استطاعوا ،والقرآن كلم من جنس كلمهم ،وبنفس حروفهم وكلماتهم ،إل أن
المتكلم بالقرآن هو ال تعالى؛ لذلك ل يأتي أحد بمثله.
والقرآن أيضا كتاب يهيمن على كل الكتب السابقة عليه ،يُبقي منها ما يشاء من الحكام ،ويُنهِي ما
يشاء .أما العقائد فهي ثابتة ل نسخَ فيها ،وأيضا ل نسخَ في القصص والخبار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والنسْخ ل يتأتى إل في التشريع بالحكام افعل ول تفعل ،ذلك لن التشريع يأتي مناسبا لدواء
البيئات المختلفة.
لذلك كان بعض الرسل يتعاصرون كإبراهيم ولوط ،وموسى وشعيب ،عليهم السلم ،ولكل منهم
رسالته؛ لنه متوجه إلى مكان بعينه ليعالج فيه داءً من الداءات ،في زمن انقطعت فيه سُبُل
اللتقاء بين البيئات المختلفة ،فالجماعة في مكان ربما ل َيدْرون بغيرهم في بيئة مجاورة.
أما محمد صلى ال عليه وسلم فقد جاء -كما يعلم ربه أَ َزلً -على موعد مع التقاء البيئات
وتداخُل الحضارات ،فالحدث يتم في آخر الدنيا ،نعلم به ،بل ،ونشاهده في الت ّو واللحظة ،وكأنه
في بلدنا .إذن :فالداءات ستتحد أيضا ،وما دامت داءات المم المختلفة قد اتحدتْ فيكفي لها
رسول واحد يعالجها ،ويكون رسولً لكل البشر.
ثم يقول سبحانه } :فَالّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ[ { ...العنكبوت ]47 :أي :من قبلك } ُي ْؤمِنُونَ بِهِ...
{ [العنكبوت ]47 :لنه ل سلطة زمنية تعزلهم عن الكتاب الجديد ،فينظرون في أوصاف النبي
الجديد التي وردتْ في كتبهم ثم يطابقونها على أوصاف رسول ال؛ لذلك لما بلغ سلمان الفارسي
أن بمكة نبيا جديدا ،ذهب إلى سيدنا رسول ال ،وأخذ يتأمله وينظر إليه بإمعان ،فوجد فيه
علمتين مما ذكرتْ الكتب السابقة ،وهما أنه صلى ال عليه وسلم يقبل الهدية ،ول يقبل الصدقة،
فراح ينظر هنا وهناك لعله يرى الثالثة ،ففطن إليه رسول ال بما آتاه ال من ِفطْنة النبوة التي
أودعها ال فيه ،وقال :لعلك تريد هذا ،وكشف له عن خاتم النبوة ،وهو العلمة الثالثة.
ومن لباقة سيدنا عبد ال بن سلم ،وقد ذهب إلى سيدنا رسول ال وهو -ابن سلم -على
يهوديته -فقال :يا رسول ال ،إن اليهود قوم ُبهْت -يعني يُكثرون الجدال دون جدوى -وأخشى
إنْ أعلنتُ إسلمي أن يسبوني ،وأن يظلموني ،ويقولوا ِفيّ فُحْشا ،فأريد يا رسول ال إنْ جاءوك
أن تسألهم عني ،فإذا قالوا ما قالوا أعلنت إسلمي ،فلما جاء جماعة من اليهود إلى رسول ال
سألهم :ما تقولون في عبد ال بن سلم؟ قالوا :شيخنا وحَبْرنا وسيدنا ..إلخ فقال عبد ال :أما وقد
قالوا فيّ ما قالوا :يا رسول ال ،فإني أشهد أن ل إله إل ال ،وأنك رسول ال ،فقالوا لتوّهم :بل
أنت شرنا وابن شرنا ،ونالوا منه ،فقال عبد ال :ألم أ ُقلْ لك يا رسول ال أنهم قوم ُبهْت؟
وقوله سبحانه } َومِنْ هَـاؤُلءِ مَن ُي ْؤمِنُ بِهِ[ { ...العنكبوت ]47 :أي :من كفار مكة مَنْ سيأتي
بعد هؤلء ،فيؤمن بالقرآن } َومَا َيجْحَدُ بِآيَاتِنَآ ِإلّ ا ْلكَافِرونَ { [العنكبوت ]47 :الجحد :إنكار
متعمد؛ لن من النكار ما يكون عن جهل مثلً ،والجحد يأتي من أن النّسب إما نفي ،وإما إثبات،
فإنْ قال اللسان نسبة إيجاب ،وفي القلب سَلْب أو قال سلب وفي القلب إيجاب ،فهذا ما نُسمّيه
الجحود.
ل قول ال تعالى:
لذلك يُفرّق القرآن بين صيغة اللفظ ووجدانيات اللفظ في النفس ،واقرأ مث ً
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ش َهدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّهِ[} ..المنافقون ]1 :وهذا منهم كلم طيب وجميل{
{ ِإذَا جَآ َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُواْ نَ ْ
شهَدُ إِنّ
وَاللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنكَ لَرَسُولُهُ[} ...المنافقون ]1 :أي :أنه كلم وافق علم ال ،لكن{ وَاللّهُ َي ْ
ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ }[المنافقون ]1 :فكيف يحكم الحق عليهم بالكذب ،وقد قالوا ما وافق علم ال؟
نقول :كلم ال يحتاج إلى تدبّر لمعناه ،فالحق يحكم عليهم بأنهم كاذبون ،ل في قولهم :إنك لرسول
ال ،فهذه حق ،بل في شهادتهم؛ لنها شهادة باللسان ل يوافقها اعتقاد القلب ،فالمشهود به حق،
لكن الشهادة كذب.
خصّ الكافرين في مسألة الجحود؟ قالوا :لن غيرالكافر عنده يقظة وجدان ،فل يجرؤ
لكن ،لماذا َ
على هذه الكلمة؛ لنه يعلم أن ال تعالى ل يأخذ الناس بذنوبهم الن ،إنما يُؤجّلها لهم ليوم
الحساب ،فهذه المسألة تحجزهم عن الجحود.
()3313 /
قوله { :تَتْلُواْ[ } ...العنكبوت ]48 :أي :تقرأ ،واختار تتلو لنك ل تقرأ إل ما سمعت ،فكأن
قراءتك لما سمعت تجعل قولك تاليا لما سمعتَ ،نقول :يتلوه يعني :يأتي بعده { َولَ َتخُطّهُ
بِ َيمِي ِنكَ[ } ...العنكبوت ]48 :يعني :الكتابة.
وفَرْق بين أنْ تقرأ ،وبين أنْ تكتب ،فقد تقرأ لنك تحفظ ،وتحفظ نتيجة السماع ،كإخواننا الذين
ابتلهم ال بكفّ نظرهم ويقرأون ،إنما يقرأون ما سمعوه؛ لن السمع كما قلنا أول حاسة تؤدي
مهمتها في النسان ،فمن الممكن أن تحفظ ما سمعت ،أما أن تكتبه فهذا شيء آخر.
والكلم هنا لون من ألوان الجدل والقناع لكفار قريش الذين يُكذّبون رسول ال ،ولوْن من ألوان
التسلية لرسول ال ،كأنه يقول سبحانه لرسوله :اطمئن .فتكذيب هؤلء لك افتراء عليك؛ لنك ما
تل ْوتَ قبله كتابا ول كتبته بيمينك ،وهم يعرفون سيرتك فيهم.
عمُرا مّن قَبْلِهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[يونس.]16 :
كما قال سبحانه في موضع آخرَ {:فقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ
أربعون سنة قضاها رسول ال بين قومه قبل البعثة ،ما جرّبوا عليه قراءة ول كتابة ول خطبة،
ول نمّق قصيدة ،فكيف تُكذّبونه الن؟
فإن قالوا :كانت عبقرية عند محمد أجّلها حتى سِنّ الربعين .نقول :العبقرية عادة مَا تأتي في
أواخر العقد الثاني من العمر في السابعة عشرة ،أو الثامنة عشرة ،ومَنْ ضمن لمحمد البقاء حتى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سِنّ الربعين ،وهو يرى مصارع أهله ،جده وأبيه وأمه؟
لو كان عندك شيء من القراءة أو الكتابة لكان لهم عذر ،ولكان في المر شبهة تدعو إلى
لوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا َف ِهيَ ُتمْلَىا عَلَ ْيهِ ُبكْ َر ًة وََأصِيلً }
الرتياب في أمرك ،كما قالواَ {:وقَالُواْ َأسَاطِي ُر ا َ
[الفرقان.]5 :
ج ِميّ
وقالوا {:إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ[} ...النحل ]103 :فردّ القرآن عليهم{ لّسَانُ الّذِي يُ ْلحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْ َ
وَهَـاذَا ِلسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل.]103 :
وقالوا :ساحر .وقالوا :شاعر .وقالوا :مجنون .وكلها افتراءات وأباطيل واهية يسهل الردّ عليها:
فإنْ كان ساحرا ،فلماذا لم يسحركم أنتم أيضا وتنتهي المسألة؟ وإنْ كان شاعرا فهل جرّبتم عليه
أنْ قال شعرا قبل بعثته؟
وإنْ قُلْتم مجنون ،فالجنون َفقْد العقل ،بحيث ل يستطيع النسان أنْ يختار بين البدائل ،فهل جرّبتم
على محمد شيئا من ذلك؟ وكيف يكون المجنون على خُلُق عظيم بشهادتكم أنتم أنه الصادق
المين ،فعنده انضباط في الملَكات وفي التصرفات ،فكيف تتهمونه بالجنون؟
وكلمة { مِن قَبِْلهِ[ } ...العنكبوت ]48 :لها عجائب في كتاب ال منها هذه اليةَ { :ومَا كُنتَ تَتْلُواْ
ب َولَ َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ[ } ...العنكبوت ]48 :فيقول بعض العارفين (من قبله) :أي
مِن قَبْلِهِ مِن كِتَا ٍ
من قبل نزول القرآن عليك ،وهذا القول { قَبْلِهِ[ } ..العنكبوت ]48 :يدل على أنه من الجائز أن
يكون رسول ال صلى ال عليه وسلم قد علم كيف يقرأ وكيف يكتب بعد نزول القرآن عليه ،حتى
ل يكون في أمته من هو أحسن حالً منه في أي شيء ،أو في خصلة من خصال الخير.
ثم تأمل قوله تعالى {:فَِلمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَ ْبلُ[} ...البقرة ]91 :ألَ يدخل في روع رسول ال
أنهم ربما يجترئون عليه فيقتَلوه ،فيتهيب منهم ،أو يدخل في نفوسهم هم ،فيجترئون عليه كما قتلوا
النبياء من قبل؛ لذلك جاءتْ الية لتقرر أن هذا كان في الماضي ،أما الن فلن يحدث شيء من
هذا أبدا ،ولن يُمكّنكم ال من نبيه.
وكلمة } َومَا كُنتَ[ { ...العنكبوت ]48 :تكررت كثيرا في كتاب ال ،ويُسمّونها في الزمن
الماضي ،والحاضر ،والمستقبل.
لمْرَ[} ...القصص.]44 :
كما في قوله تعالىَ {:ومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
وقوله تعالىَ {:ومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي َأ ْهلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا[} ...القصص.]45 :
ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َيكْ ُفلُ مَرْيَمَ[} ...آل عمران.]44 :
وقوله تعالىَ {:ومَا كُنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ ُي ْلقُون َأقْ َ
ب َولَ َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ[ { ...العنكبوت.]48 :
وهناَ } :ومَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَا ٍ
لمّيّ[} ...العراف ]157 :وإياك أن تظن
ياُ
لذلك وصفه ربه -عز وجل -بأنه{ الرّسُولَ النّ ِب ّ
أن المية عَيْب في رسول ال ،فإنْ كانت عيبا في غيره ،فهي فيه شرف؛ لن معنى أمي يعني
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
على فطرته كما ولدتْه أمه ،لم يتعلم شيئا من أحد ،وكذلك رسول ال لم يتعلّم من الخَلْق ،إنما تعلم
من الخالق فعَلتْ مرتبةُ علمه عن الخَلْق.
ومن ذلك المكانة التي أخذها المام علي -رضي ال عنه -في العلم والفتاء حتى قال عنه عمر
رضي ال عنه -مع ما عُرف عن عمر من سداد الرأي حتى إن القرآن لينزلُ موافقا لرأيه،
ومُؤيّدا لقوله -يقول عمر :بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن .لماذا؟
لنه كان صاحب حجة ومنطق وصاحب بلغة ،ألم يراجع الفاروقَ في مسألة المرأة التي ولدتْ
لستة أشهر من زواجها ،وعمر يريد أنْ يقيم عليها الحد؛ لن الشائع أن مدة الحمل تسعة أشهر
فتسرّع البعض وقالوا :إنها سُبق إليها ،لكن يكون للمام على رأي آخر ،فيقول لعمر :لكن ال
ضعْنَ
يقول غير هذا ،فيقول عمر :وما ذاك؟ قال :ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى {:وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ[} ...البقرة ]233 :قال :بلى.
َأ ْولَدَهُنّ َ
شهْرا[} ...الحقاف ]15 :وبطرح العامين من ثلثين شهرا
حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ
قال :ألم يقل {:وَ َ
يكون الباقي ستة أشهر ،فإذا ولدتْ المرأة لستة أشهر ،فهذا أمر طبيعي ل ارتيابَ فيه.
وفي يوم دخل حذيفة على عمر رضي ال عنهما -فسأله عمر :كيف أصبحتَ يا حذيفة؟ فقال
حذيفة :يا أمير المؤمنين ،أصبحت أحب الفتنة ،وأكره الحق ،وأُصلّي بغير وضوء ،ولي في
الرض ما ليس ل في السماء.
فغضب عمر ،وهَمّ أن يضربه بدرة في يده ،وعندها دخل عليّ فوجد عمر ُمغْضبا فقال :مالي
أراك مغضبا يا أمير المؤمنين؟ فقصّ عليه ما كان من أمر حذيفة ،فقال علي:
نعم يا أمير المؤمنين يحب الفتنة؛ لن ال تعالى قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3314 /
{ َبلْ[ } ...العنكبوت ]49 :حرف يفيد الضراب عما قبله ،وتأكيد ما بعده { ُهوَ } أي :القرآن
{ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ[ } ...العنكبوت ]49 :ولم يقل مثلً :في ذاكرتهم؛ لن
الذن تستقبل الكلم وتعرضه على العقل ،فإنْ قبله يستقر في القلب وفي الصدر ،وفيه يتحول إلى
عقيدة وإلى يقين ل يقبل الشكّ ول يتزحزح.
لمِينُ * عَلَىا قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ }[الشعراء:
حاَ
لذلك يقول تعالى عن القرآن {:نَ َزلَ بِهِ الرّو ُ
]194-193فقال {:عَلَىا قَلْ ِبكَ[} ...الشعراء ]194 :أي :مباشرة استقر في قلبه ،ولم ي ُقلْ على
أذنك.
علَيْهِ آيَاتٌ.} ...
ثم يقول الحق سبحانهَ { :وقَالُواْ َل ْولَ أُن ِزلَ َ
()3315 /
َوقَالُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَ ْيهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبّهِ ُقلْ إِ ّنمَا الْآَيَاتُ عِ ْندَ اللّ ِه وَإِ ّنمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ()50
أي :بعد أنْ جاءهم القرآن وبعد أنْ أعجزهم يطلبون آيات أخرى ،وسبق أنْ قلنا :إن الحق سبحانه
كان إذا اقترح القومُ آيةً من رسولهم فأجابهم إلى ما طلبوا ،فإنْ كذبوا بعدها أخذهم أَخْد عزيز
مقتدر.
واقرأ مثلً قوله سبحانه {:وَآتَيْنَا َثمُودَ النّاقَةَ مُ ْبصِ َرةً فَظََلمُواْ ِبهَا[} ...السراء ]59 :فلما كذّبوا
بالية التي طلبوها أهلكهم ال؛ لن المسألة إذن ليست مسألة آيات وإقناع ،إنما هي الصرار على
ن يكفروا أيضا برسول ال.
الكفر،إذن :فطلب النزال لية خاصة باقتراحهم ليس مانعا لهم أ ْ
سلَ بِاليَاتِ[} ...السراء ]59 :أي :التي اقترحوها{ ِإلّ أَن
لذلك يقول سبحانهَ {:ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ
لوّلُونَ[} ...السراء ]59 :وحين تنزل الية ويُكذّبون بها تنزل بهم عقوبة السماء ،لكن
كَ ّذبَ ِبهَا ا َ
الحق -سبحانه وتعالى -قطع العهد لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم ألّ يُعذّب أمته وهو
فيهم ،كما قال سبحانهَ {:ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِ ْم َومَا كَانَ اللّهُ ُمعَذّ َبهُ ْم وَ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ }
[النفال.]33 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهذا هو السبب المانع من أنْ تأتي الية المقترحة ،ثم إن اليات المقترحة آيات كونية تأتي
وتذهب ،كما تشعل عود الثقاب مرة واحدة ،ثم ينطفئ ،رآه مَنْ رآه ،وأصبح خبرا لمن لم يَرَه.
وكلمة { َل ْولَ[ } ...العنكبوت ]50 :تستخدم في لغة العرب استخدامين :إنْ دخلتْ على الجملة
السمية مثل :لول زيد عندك لَزرتُك ،وهي هنا حرف امتناع لوجود ،فقد امتنعتْ الزيارة لوجود
ث على الفعل.
زيد .وإنْ دخلتْ على الجملة الفعلية مثل :لول تذاكر دروسك ،فهي للحضّ وللح ّ
فقولهم { َل ْولَ أُن ِزلَ عَلَ ْيهِ آيَاتٌ مّن رّبّهِ[ } ...العنكبوت ]50 :كان الية التي جاءتهم من عند ال ل
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ
يعترفون بها ،ثم يناقضون أنفسهم حينما يقولونَ {:لوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ
عَظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
إذن :أنتم معترفون بالقرآن ،مقتنعون به ،لكن ما يقف في حلوقكم أن ينزل على محمد من بين
الناس جميعا .ثم نراهم يناقضون أنفسهم في هذه أيضا ،ويعترفون من حيث ل يشعرون بأن
محمدا رسول ال حينما قالوا {:لَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّىا يَنفَضّواْ[} ...المنافقون:
]7فما ُدمْتم تعرفون أنه رسول ال ،فلماذا تُعادونه؟ إذن :فالبديهة الفطرية تكذّبهم ،ينطق الحق
على ألسنتهم على حين غفلة منهم.
ويرد الحق -تبارك وتعالى -عليهمُ { :قلْ إِ ّنمَا اليَاتُ عِندَ اللّهِ[ } ...العنكبوت ]50 :فهي عند
ال ،ليست عندي ،وليست بالطلب حسب أهوائكم { وَإِ ّنمَآ أَنَاْ َنذِيرٌ مّبِينٌ } [العنكبوت ]50 :أي :هذه
خصّهم هنا بالنذار ،لنهم
مهمتي ،واختار النذار مع أنه صلى ال عليه وسلم بشير ونذير ،لكن َ
أهل لِجَاج ،وأهل باطل وجحود ،فيناسبهم كلمة النذار دون البشارة ثم يقول الحق سبحانهَ { :أوََلمْ
َي ْكفِهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ.} ...
()3316 /
والستفهام هنا للتعجّب وللنكار ،يعني :كيف ل يكفيهم القرآن ول يقنعهم وهو أعظم اليات ،وقد
أعجزهم أنْ يأتوا ولو بآية من آياته ،وجاءهم بالكثير من العِبر والعجائب؟ إذن :هم يريدون أنْ
حقّ باحثون عن الهداية لكفاهم من القرآن آية واحدة
يتمحّكوا ،وأل يؤمنوا ،وإل لو أنهم طلب َ
ليؤمنوا به.
وقوله تعالى { :يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ[ } ...العنكبوت ]51 :لن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان ينزل
عليه الوحي بعدة آيات ،وقد يطول إلى رُبْعين أو ثلثة أرباع ،فلما أن يسري عنه يتلو ما نزل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه على صحابته ليكتبوه ،يتلوه كما أُنزِل عليه ،فيكتبه الكتبة ،ويحفظه مَنْ يحفظه منهم ،وكانوا
أمة رواية وأمة حفظ.
ثم يأتي وقت الصلة فيصلي بهم رسول ال بما نزل عليه من اليات ،يُعيدها كما أملها ،وهذه
هبة ربانية منحها لرسوله صلى ال عليه وسلم وخاطبه بقوله {:سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى.]6 :
حفْظا أنْ يُعيد عليك خطبة أو كلمة ألقاها على مدى نصف ساعة
وإل ،فَلَك أن تتحدى أكثر الناس ِ
مثلً ،ثم يعيدها عليك كما قالها في المرة الولى.
حمَةً وَ ِذكْرَىا[ } ...العنكبوت ]51 :لكن لمن { ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }
ثم يقول سبحانه { :إِنّ فِي ذاِلكَ لَرَ ْ
[العنكبوت ]51 :لن القرآن ل يثمر إل فيمن يُحسن استقباله ويؤمن به ،أما غير المؤمنين فهو في
آذانهم َوقْر وهو عليهم عمى ،ل يفقهونه ول يتدبرونه؛ لنهم يستقبلونه ل بصفاء نفس ،وإنما
ب ُبغْض وكراهية استقبال ،فل ينالون نوره ول بركته ول هدايته.
شفَآءٌ} ...
لذلك يقول تعالى في الذين يُحسِنون استقبال كلم الُ {:قلْ ُهوَ ِللّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ
[فصلت.]44 :
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرٌ وَ ُهوَ
أما الذين يجحدونه ول يُحسنون استقباله ،فيقول عنهم {:وَالّذِي َ
عمًى[} ...فصلت.]44 :
عَلَ ْيهِمْ َ
وسبق أنْ قلنا :إن الفعل واحد ،لكن المستقبل مختلف ،ومثّلْنا لذلك بمن ينفخ في يده ليُدفئها في
البرد ،ومَنْ ينفخ في الشاي ليُبرده ،وأنت أيضا تنفخ في الشمعة لتطفئها ،وتنفخ في النار لتشعلها.
حمَةٌ لّ ْل ُمؤْمِنِينَ[} ...السراء:
شفَآ ٌء وَرَ ْ
وفي موضع آخر يقول تعالى {:وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ
،]82ففرْق بين الشفاء والرحمة ،الشفاء يعني :أنه كانت هناك علة ،فبرأت ،لكن الرحمة ألّ
تعاودك العلة ،ول يأتيك الداء مرة أخرى ،فالقرآن نزل ليعالج الداءات النفسية ،يعالجها بالقراءة
ن وقعت في شيء من هذه الداءات فاقرأ ما جاء فيها من القرآن
ويُحصّنك ضدها فل تصيبك ،وإ ْ
فإنها تبرأ بإذن ال ،إذن :الشفاء يعالج الداء إنْ وقع في غفلة من سلوك النفس.
ولو طبقنا قضايا القرآن في نفوسنا لنالتنا هذه الرحمة ،فالنسان بدن وقيم ومعان وأخلق ،هذه
المعاني في النسان يسمونها النفسيات ،فقد يكون سليم البنية والجسم لكنه سقيم النفس؛ لذلك نجد
بين تخصصات الطب الطب النفسي ،وكل مريض ل يجدون لمرضه سببا عضويا يُشخّصونه
على أنه مرض نفسي ،وحين تسأل الطبيب النفسي تجد أن كل ما عنده عقاقير تهديء المريض أو
تهده فينام حتى ل يفكر في شيء ،وهل هذا هو العلج؟
ولو تأملنا كتاب ربنا لوجدنا فيه العلجيْن :العضوي والنفسي ،فسلمة الجسم في أن ال تعالى
أحلّ لك أشياء ،وحرّم عليك أشياء ،وما عليك إل أنْ تستقيم على منهج ربك فتسلم من داءات
الجسد ،فإنْ كنت من هؤلء الذين يحبون الكل من الحلل لكنهم يبالغون فيه إلى حَدّ التّخمة،
فاقرأ في القرآن:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حبّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ }
سجِ ٍد وكُلُو ْا وَاشْرَبُو ْا وَلَ تُسْ ِرفُواْ إِنّ ُه لَ يُ ِ
{ يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَ َت ُكمْ عِندَ ُكلّ مَ ْ
[العراف.]31 :
ثم تجد في السنة النبوية مُذكّرة تفسيرية لهذه الية " :بحسب ابن آدم لُقيْمات يُقمْنَ صُلْبه " ،فإنْ
كان ول ُبدّ " :فثلث لطعامه ،وثلث لشرابه ،وثلث لنفسه ".
فالصل أن يأكل النسان ليعيش ،ل أن يعيش ليأكل .وبعض السطحيين يقولون :ما معنى " ثلث
لنفَسه " ،وهل النفَس في المعدة؟ والن ،ومع تطور العلوم عرفنا أن تُخمة البطن تضغط على
الحجاب الحاجز وتضيق مجال الرئة فينتج عن ذلك ضيق في التنفس.
أما الناحية النفسية ،فالمرض النفسي ناتج إما عن انقباض الجوارح عن طبيعة تكوينها ،أو
انبساطها عن طبيعة تكوينها ،كالبيضة مثلً لها حجم معين فإنْ ضيّ ْقتَ هذا الحجم أو بسطته
تنكسر.
وهذا أيضا أساس الداء في النفس البشرية؛ لن ملكات النفس ينبغي أنْ تظل في حالة توازن
سوْاْ عَلَىا
واستواء ،وتجد هذا التوازن في منهج ربك -عز وجل -حيث يقول سبحانهّ {:لكَيْلَ تَأْ َ
مَا فَا َتكُ ْم َولَ َتفْرَحُواْ ِبمَآ آتَاكُمْ[} ...الحديد.]23 :
سوْاْ عَلَىا مَا فَا َتكُمْ[} ...الحديد ]23 :النقباض{ َولَ َتفْرَحُواْ ِبمَآ آتَاكُمْ[} ...الحديد:
فمعنىّ {:لكَيْلَ تَ ْأ َ
]23النبساط .وكلهما مذموم منهيّ عنه ،لكن مَن ذا الذي ل يأسى على ما فات ،ول يفرح بما
هو آتٍ؟
لذلك نجد البُلَداء الذين ل تَهزهم الحداث بصحة قوية؛ لنهم ل يهتمون للخطوب ،حتى أن
الشعراء لم َيفُتْهم هذا المعنى ،حيث يقول أحدهمَ :وفِي البَلدةِ مَا في العَ ْزمِ منْ جَلَد إنّ البليد قويّ
النفْسِ عَاتيهافَاسْأل ُأوِلي العَزْم إنْ خارتْ عزائمهمْ عَنِ البَلدةِ َهلْ مَادتْ َروَاسِيهَا؟فالذي تظنه
بلدة هو عزم قويّ في استقبال الحداث والصمود لها.
إذن :الرحمة في منهج ال إنِ التزمنا به نأمن من الدواء ،ماديةَ كانت أم معنوية.
()3317 /
ل َوكَفَرُوا بِاللّهِ
طِض وَالّذِينَ َآمَنُوا بِالْبَا ِ
ت وَالْأَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
شهِيدًا َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ
ُقلْ َكفَى بِاللّهِ بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ َ
أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ()52
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال لي بأنّي بّل ْغتُ ،فشهادتكم عندي ل تنفع ،كما أنه ل ينفعني إيمانكم ،ول يضرني كفركم،
فأجري آخذه من ربي على مجرد البلغ وقد بّل ْغتُ ،وشهد ال لي بذلك.
شهِيدا بَيْنِي
ستَ مُ ْرسَلً ُقلْ َكفَىا بِاللّهِ َ
وفي موضع آخر يقول سبحانه {:وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ َل ْ
وَبَيْ َنكُمْ[} ...الرعد ]43 :أي :أنكم لم تكتفوا باليات ،ولم تؤمنوا بها ،لكني أكتفي برب هذه اليات
شهيدا بيني وبينكم ،إذن :هناك خصومة في البلغ بين محمد صلى ال عليه وسلم وقومه الذين
يُكذّبونه في البلغ عن ربه.
فل بُدّ إذن من َفصْل في هذه الخصومة ،وإذا ما نظرنا إلى قضايا الخَلْق في الخصومات وجدنا
حقّ ل شاهد زور ،ثم يعرض المر على القاضي ليحكم
إمّا أنْ يُقر المتهم ،وإما أن يشهد شاهد َ
بالشهادة أو البينة.
ول ُبدّ في القاضي ألّ يكون صاحب هوى ،ثم يأتي دور تنفيذ الحكم ،وهي السلطة التنفيذية ،وهذه
أيضا ينبغي ألّ يكون لها هوى ،فتنفذ الحكم على حقيقته ،فكأن الخصومات عند البشر تمرّ
بمراحل متعددة ،وقد تتميع الحقائق إذا لم تتوفر الشروط اللزمة لهذه الطراف ،فلو شهد الشاهد
زورا أو مال القاضي أو المنفّذ للحكم ودلّس في التنفيذ لنقلبت المسائل.
أما في حكومة الحق -سبحانه وتعالى -في الخصومة بين محمد وقومه ،فكفى به سبحانه حاكما
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ[ } ...العنكبوت.]52 :
وقاضيا ومُنفّذا ،لماذا؟ لنه سبحانهَ { :يعَْلمُ مَا فِي ال ّ
فل تخفى عليه خافية في الرض ول في السماء ،يعلم السر وأَخْفى ،فأيّ شهادة إذن أعدل من
شهادته؟ وهو سبحانه قاضٍ عادل يحكم بالحق؛ لنه ليس له سبحانه هوىً يميل به إلى الباطل،
وهو سبحانه ل يُبدل في تنفيذ الحكام؛ لنه يُنفّذ حكمه هو سبحانه.
إذن :مَنِ الفائز في حكومة قاضيها الحق -تبارك وتعالى -وأطراف الخصومة فيها محمد
وقومه؟ فاز رسول ال في أن يكون ال هو الشهيد ،وخسر الكافرين حين كفروا به ،ولم ت ْكفِهم
البينة التي جاءتهم في القرآن الكريم.
وعِلْم ال للغيب ليس علجا ومذاكرة ليعلم ،إنما تأتي المور بتوقيت منه قديم أزلً ،والعالم يظهر
على َوفْق ما يراه أزلً؛ لذلك يقول سبحانه {:إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ ِإذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس:
.]82
أي :يقول للشيء ،فكأنه موجود فعلً ينتظر المر من ال بالظهور للناس ،فقوله (كُنْ) للظهور
فقط ،أما مسألة الخَلْق فمنتهية أزلً ،و(الماكيت) موجود ،فالحق سبحانه يعلم غَيْب السماوات
والرض ،أما نحن فل نعلم حتى غَيْب أنفسنا.
خفَى }[طه ]7 :فهل هناك أخفى من السر؟ قالوا :السر ما تُسِرّه في
ويقول سبحانهَ {:يعْلَمُ السّ ّر وَأَ ْ
نفسك ،والخفى منه أنْ يعلمه سبحانه قبل أن يكون في نفسك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد وقف البعض عند قوله تعالىَ {:يعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا َتكْ ُتمُونَ }[النور ]29 :وقوله سبحانهَ {:يعْلَمُ
جهْرَ مِنَ ا ْلقَ ْولِ وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ }[النبياء.]110 :
الْ َ
يقولون :ما وجه امتنان ال بعلم الجهر من القول ،وبعِلْم ما نُبدي ،فهذا شيء غير مستور يعرفه
الجميع؟
ونقول :افهم عن ال مراده ،فالمعنى لم ي ُقلْ سبحانه :أعلم ما تبدي أنت ،ول ما تجهر به أنت ،إنما
ما تبدون كلكم ،وما تجهرون به كلكم ،ولتوضيح هذه المسألة تصوّر مظاهرة من عدة مئات أو
عدة آلف تختلط بينهم الهتافات والصوات وتتداخل الكلمات ،بحيث ل تستطيع أن تميز صوت
هذا من صوت ذاك.
لكن الحق سبحانه يستطيع تمييز هذه الصوات ،وإعادة كل منها إلى صاحبه؛ لذلك نرى في
المظاهرات أن كل إنسان يستطيع أن يقول ما يشاء ،ويهتف بما ل يجرؤ أن يهتف به منفردا؛ لن
جهْر أقوى من
صوته سيختلط مع الصوات ،ويستتر فيها فل يعرف مصدره ،وهكذا يكون علم ال َ
علم الغَيْب.
ن قلت :إن بعض العلماء باكتشافاتهم وبحوثهم توصلوا إلى معرفة أسرار كانت مستترة في
فإ ْ
الكون ،كالكهرباء والذرة وغيرها ،فهُمْ بذلك يعلمون الغيب .نقول :نعم ،علموا شيئا كان مستورا
في الكون ،لكن علموه بمقدمات خلقها ال ويسّرها لهم ،فأخذوا هذه المقدمات وتوصّلوا بها إلى
اكتشافاتهم ،كما يحلّ ولدك مثلً تمرين الهندسة ،فيستعين بالمعطيات.
إذن؛ فهو في حقيقة المر ليس غيبا ،بل هو شيء موجود ،لكن له ميلد ووقت يظهر فيه ،فإنْ
جاء وقته يسّر ال لخَلْقه الوصول إليه ،إما بالبحث واستخدام المقدمات ،فإذا صادف ميلد السر
بحث الخلق يُقال :إنهم أحاطواعِلْما ببعض غيب ال.
شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ[} ...البقرة ]255 :أي :شاء أنْ يُولد ،فإنْ
ويقول تعالىَ {:ولَ يُحِيطُونَ بِ َ
جاء ميلد السر ،ولم يتوصّلوا إليه ببحوثهم ،ولم يقفوا على مقدماته كشفه ال لهم ولو مصادفة،
وقد اكتشفوا كثيرا من أسرار الكون مصادفة.
فالغيب الحقيقي :هو الذي ليس له مقدمات تُوصّل إليه ،ول يعلمه أحد إل ال ،والذي قال ال
ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ َأحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ[} ...الجن]27-26 :
عنه {:عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ ُي ْ
فالرسول -إذن -ل يعلم الغيب ،إنما عُلّم الغيب.
طلِ[ { ...العنكبوت ]52 :أي :بعبادة ما دون ال من الصنام
ثم يقول تعالى } :وَالّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَا ِ
والوثان } َو َكفَرُواْ بِاللّهِ[ { ...العنكبوت ]52 :الخالق واجب الوجود } ُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ
{ [العنكبوت ]52 :لن كفر الخَلْق بالخالق ل يؤثر في ذاته سبحانه ،ول في صفات الكمال فيه،
لنه سبحانه بصفات الكمال خلقهم ،فله سبحانه صفات الكمال ،آمنوا أم كفروا.
ن يكفر ،فالنسان بطبعه حريص على الحياة متمسك بها ،حتى إنه إنْ
لكن فَرْق بين مَنْ يؤمن ومَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أصابه مرض طلب العلج ليصون حياته وهو يخاف الموت ،ويرى مصارع الناس من حوله،
وكيف سبقه أجداده ولم يخلد منهم أحد ،ويرى أن الموت يأتي بل أسباب؛ حتى قيل :والموت من
غير سبب هو السبب.
إذن :فالموت حقيقة ،لكن يشكّ الناس فيها ول يتصورونها لنفسهم لنهم يكرهونها؛ لذلك يقال في
الثر :ما رأيتْ يقينا أشبه بالشكّ من يقين الناس بالموت.
وليقين النسان في الموت نراه يحب البقاء في ولده ،وفي ولد ولده ليبقى ِذكْره أطول فترة ممكنة،
وما دام المر كذلك ،فلماذا ل تؤمن بال فيورثك اليمانُ حياةً خالدة باقية ل نهايةَ لها ،ل تفارقها
ول تفارقك ،وهي حياة الخرة .إذن :فمَن الخاسرون؛ الخاسرون هم الكافرون الذي قصروا
حياتهم على عمرهم في الدنيا.
جلٌ.{ ...
ب وََلوْلَ َأ َ
ثم يقول الحق سبحانه } :وَيَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ
()3318 /
شعُرُونَ ()53
ب وَلَيَأْتِيَ ّنهُمْ َبغْتَ ًة وَ ُهمْ لَا َي ْ
سمّى لَجَاءَهُمُ ا ْلعَذَا ُ
جلٌ مُ َ
ب وََلوْلَا أَ َ
وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ
عجيب أنْ يطلب النسان لنفسه العذاب ،وأن يستعجله إن أبطأ عليه ،إذن :ما طلبه هؤلء إل
لعتقادهم أنه غير واقع بهم ،وإل لو ووَ ِثقُوا من وقوعه ما طلبوه.
سمّى لّجَآءَهُمُ ا ْلعَذَابُ[ } ...العنكبوت ]53 :لن كل شيء عند ال بميقات ،وأجل،
جلٌ مّ َ
{ وََل ْولَ أَ َ
والجل يختلف باختلف أصحابه وهو أجل الناس وأعمارهم ،وهي آجال متفرقة فيهم ،لكن هناك
أجل يجمعهم جميعا ،ويتفقون فيه ،وهو أجل الساعة.
فقوله تعالى {:فَِإذَا جَآءَ َأجَُلهُ ْم لَ يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ }[العراف ]34 :أي :بآجالهم
المتفرقة .أما أجل القيامة فأجل واحد مُسمّى عنده تعالى ،ومن عجيب الفَرْق بن الجلين أن الجال
المتفرقة في الدنيا تنهي حياة ،أمّا أجل الخرة فتبدأ به الحياة.
سمّى لّجَآءَهُمُ ا ْلعَذَابُ[ } ...العنكبوت ]53 :أن المسألة ليست على هواهم
جلٌ مّ َ
والمعنى { وَلَ ْولَ أَ َ
جلٍ[} ...النبياء ]37 :ويقول {:سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي
ورغباتهم؛ لذلك يقول تعالى {:خُلِقَ النْسَانُ مِنْ عَ َ
فَلَ تَسْ َتعْجِلُونِ }[النبياء.]37 :
لذلك " لما عقد النبي صلى ال عليه وسلم صلح الحديبية بينه وبين كفار مكة ،ورضي أنْ يعود
بأصحابه دون أداء فريضة العمرة غضب الصحابة وعلي وعمر ،ولم يعجبهم هذا الصلح ،وكادوا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يخالفون رسول ال غيرةً منهم على دينهم ،حتى أن النبي صلى ال عليه وسلم دخل على أم سلمة
رضي ال عنها وقال " :هلك المسلمون " قالت :ولم يا رسول ال؟ قال " :أمرتهم فلم يمتثلوا "
ق لبيت ال ،وكانوا على مقربة منه
شوْ ٍ
فقالت :يا رسول ال اعذرهم ،فهم مكروبون ،جاءوا على َ
هكذا ،ثم يُمنعون ويُصدّون ،اعذرهم يا رسول ال ،ولكن ا ْمضِ فاصنع ما أمرك ال به ودَعْهم،
ت فعلوا ،وعلموا أن ذلك عزيمة.
فإنْ هم رأ ْوكَ فعل َ
وفعلً ذهب رسول ال ،وتحلّل من عمرته ،ففعل القوم مثله " ،ونجحت مشورة السيدة أم سلمة،
وأنقذت الموقف.
" ثم بيّن ال لهم الحكمة في العودة هذا العام دون قتال ،ففي مكة إخوان لكم آمنوا ،ويكتمون
إيمانهم ،فإنْ دخلتم عليهم مكة فسوف تقتلونهم دون علم بإيمانهم.
وكان عمر -رضي ال عنه -كعادته شديدا في الحق ،فقال :يا رسول ال ،ألسنا على الحق؟
قال :صلى ال عليه وسلم " :بلى " قال :أليسوا على الباطل؟ قال صلى ال عليه وسلم " بلى " قال:
فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر :الزم غَرْزك يا عمر " .يعني قِف عند حدّك وحجّم
نفسك ،ثم قال بعدها ليبرر هذه المعاهدة :ما كان فتح في السلم أعظمَ من فتح الحديبية -ل فتح
مكة.
لماذا؟ لن الحديبية انتزعت من الكفار العترافَ بمحمد ،وقد كانوا معارضين له غير معترفين
بدعوته ،والن يكاتبونه معاهدة ويتفقون معه على رأي ،ثم إنها أعطت رسول ال فرصة للتفرغ
لمرالدعوة ونشرها في ربوع الجزيرة العربية ،لكن في وقتها لم يتسع ظنّ الناس لما بين محمد
وربه ،والعباد عادةً ما يعجلون ،وال -عز وجل -ل يعجل بعجلة العباد حتى تبلغ المور ما
أراد سبحانه.
()3319 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهَنّمَ َل ُمحِيطَةٌ بِا ْلكَافِرِينَ ()54
يَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَابِ وَإِنّ َ
أيُ :قلْ لهم إنْ كنتم تستعجلون العذاب فهو آتٍ ل محالة ،وإنْ كنتم في شوق إليه فجهنم في
انتظاركم ،بل ستمتلئ منكم وتقول :هل من مزيد؟ والعذاب يتناسب وقدرة المعذّب قوة وضعفا،
وإحاطة وشمولً ،فإذا كان المعذّب هو ال -عز وجل -فعذابه ل يُعذّبه أحد من العالمين.
طةٌ بِا ْلكَافِرِينَ } [العنكبوت ]54 :الحاطة أن تشمل الشيء من جميع جهاته،
ومعنى { َل ُمحِي َ
فالجهات أربع :شمال وجنوب وشرق وغرب ،وبين الجهات الصلية جهات فرعية ،وبين الجهات
الفرعية أيضا جهت فرعية ،والحاطة هي التي تشمل كل هذه الجهات.
ومن ذلك قوله تعالى {:إِنّا أَعْ َتدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارا َأحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا[} ...الكهف ]29 :يعني :من كل
جهاتهم.
ومن عجيب أمر النار في الخرة أن النار في الدنيا يمكن أنْ تُعذّب شخصا بنار تحوطه ل
يستطيع أنْ يُفلت منها ،لكن النار بطبيعتها تعلو؛ لن اللهب يتجه إلى أعلى ،أما إنْ كانت تحت
عقْب) السيجارة ،فحين تدوسه تمنع عنه
قدمك فيمكنك أنْ تدوسها بقدمك ،كما تطفئ مثلً ( ُ
الكسوجين ،فتنطفئ النار فيه ،أما في نار الخرة فتأتيهم من كل جهاتهمَ { :يوْمَ َيغْشَا ُهمُ ا ْلعَذَابُ...
}.
()3320 /
وفي موضع آخر يقول سبحانهَ {:لهُمْ مّن َف ْو ِقهِمْ ظَُللٌ مّنَ النّارِ َومِن َتحْ ِتهِمْ ظَُللٌ }[الزمر.]16 :
وهاتان الجهتان ل تأتي منهما النار في الدنيا؛ لن النار تطبيعتها تصعد إلى أعلى ،وإنْ كانت
تحت القدم تنطفيء .إذن :هذا ترقّ في العذاب ،حيث ل يقتصر على الحاطة من جميع جهاته،
إنما يأتيهم أيضا من فوقهم ومن تحتهم.
لكن قد يتجلّد المعذّب للعذاب ،ويتماسك حتى ل تشمت فيه ،وهذا يأتيه عذاب من نوع آخر ،عذاب
يُهينه ويُذلّه ،ويُقال له {:ذُقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان ]49 :لذلك وصف العذاب ،بأنه:
مهين ،وأليم ،وعظيم ،وشديد.
وقوله تعالى { :وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } [العنكبوت ]55 :لم يقل :ذوقوا النار ،إنما ذوقوا ما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عملتم ،كأن العمل نفسه سيكون هو النار التي تحرقهم.
ثم يقول الحق سبحانه { :ياعِبَا ِديَ الّذِينَ.} ...
()3321 /
بعد أنْ تحدّث الحق سبحانه عن الكفار والمكذّبين أراد أنْ يُحدِث توازنا في السياق ،فحدّثنا هنا
عن المؤمنين ليكون أنكَى للكافرين ،حين تردف الحديث عنهم ،وعما يقع لهم من العذاب بما
ن المر
سينال المؤمنين من النعيم ،فتكون لهم حسرة شديدة ،فلو لم يأخذ المؤمنون هذا النعيم لكا َ
أهونَ عليهم.
وقوله تعالى { :ياعِبَا ِديَ[ } ...العنكبوت ]56 :سبق أن قُلْنا :إن الخَلْق جميعا عبيد ال ،وعبيد ال
قسمان :مؤمن وكافر ،وكل منهما جعله ال مختارا :المؤمن وعبيد ال قسمان :مؤمن وكافر ،وكل
منهما جعله ال مختارا :المؤمن تنازل عن اختياره لختيار ربه ،وفضّل مراده سبحانه على مراد
نفسه ،فصار عبدا في كل شيء حتى في الختيار ،فلما فعلوا ذلك استحقوا أن يكونوا عبيدا وعبادا
ل.
أما الكافر فتأبّى على مراد ربه ،واختار الكفر على اليمان ،والمعصية على الطاعة ،ونسي أنه
عبد ال مقهور في أشياء ل يستطيع أن يختار فيها ،وكأن ال يقول له :أنت أيها الكافر تمر ْدتَ
على ربك ،وتأبّ ْيتَ على منهجه في (افعل) و (ل تفعل) ،واعت ْدتَ التمرد على ال .فلماذا ل تتمرد
عليه فيما يُجريه عليك من أقدار ،لماذا ل تتأبّى على المرض أو على الموت؟ إذن :فأنت في
قبضة ربك ل تستطيع النفلت منها.
وعليه ،فالمؤمن والكافر سواء في العبودية ل ،لكن الفرْق في العبادية حيث جاء المؤمن مختارا
راضيا بمراد ال ،وفَرْق بين عبد يُطيعك وأنت تجرّه في سلسلة ،وعبد يخدمك وهو طليق حُرّ.
ن يكفر ،وهذه هي العبودية والعبادية معا.
وهكذا المؤمن جاء إلى اليمان بال مختارا مع إمكانية أ ْ
سعَةٌ[ } ...العنكبوت ]56 :يخاطبهم ربهم هذا الخطاب وهم في الرض
ومعنى { إِنّ أَ ْرضِي وَا ِ
وفي سعتها ،ليلفت أنظارهم أنهم سيضطهدون ويُعذّبون ،وسيقع عليهم إيذاء وإيلم ،فيقول لهم:
إياكم أن َتصِرْفكم هذه القسوة ،إياكم أنْ تتراجعوا عن دعوتكم ،فإذا لم يناسبكم هذا المكان فاذهبوا
إلى مكان آخر فأرضي واسعة فل تُضيّقوها على أنفسكم.
ن أبصرتَ
لذلك يقول سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم " :الرض ل ،والعباد كلهم ل ،فإ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خيرا فا ِقمْ حيث يكون ".
فالذي نعاني منه الن هو هذه الحدود وهذه القيود التي وضعناها في جغرافية أرض ال ،فضيّقنا
على أنفسنا ما وسّعه ال لنا ،فأ ْرضُ ال الواسعة ليست فيها تأشيرات دخول ول جوازات سفر ول
(بلك لست).
لذلك قلنا مرة في المم المتحدة :إنكم إنْ سعيتُم لتطبيق مبدأ واحد من مبادئ القرآن فلن يوجد شر
ضعَهَا لِلَنَامِ }[الرحمن.]10 :
ض َو َ
في الرض ،أل وهو قوله تعالى {:وَالَ ْر َ
والمعنى :الرض كل الرض للنام كل النام ،فإن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر،
وإل فالذي يُتعِب الناس الن أن توجد أرض بل رجال ،أو رجال بل أرض ،وها هي السودان
مثلً بجوارنا ،فيها أجود الراضي ل تجد مَنْ يزرعها ،لماذا؟ للقيود التي وضعناها وضيّقنا بها
على أنفسنا.
وصدق الشاعر حين قال:لَعْم ُركَ مَا ضَا َقتْ بِلدٌ بأهِلْها ولكنّ أخْلق الرجَالِ َتضِيقُثم يقول
سبحانه } فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ { [العنكبوت ]56 :فإنْ أخذنا بمبدأ الهجرة فل ُبدّ أن نعلم أن للهجرة
شروطا أولها :أنْ تهاجر إلى مكان يحفظ عليك إيمانك ول ينقصه ،وانظر قبل أنْ تخرج من بلدك
هل ستتمكن في المهجر من أداء أمور دينك كما أوجبها ال عليك؟ فإنْ كان ذلك فل مانع ،وإل
فل هجرةَ لمكان يُخرِجني من دائرة اليمان ،أو يحول بيني وبين أداء أوامر ديني.
ل وفي يدها شاب
وهل يُرضيك أنْ تعيش لتجمع الموال في بلد الكفر ،وأنْ تدخل عليك ابنتك مث ً
ل تعرف عنه شيئا قد فُرِض عليك فَرْضا ،فقد عرفته على طريقة القوم ،ساعتها لن ينفعك كل ما
جمعت ،ولن يصلح ما جُرِح من كرامتك.
وسبق أن أوضحنا أن الهجرة قد تكون إلى دار َأمْن فقط ،حيث تأمن فيها على دينك ،وتأمن ألّ
يفتنك عنه أحد ،ومن ذلك الهجرة التي أمر بها رسول ال إلى الحبشة ،وهي ليست أ ْرضَ إيمان،
بل أرض َأمْن.
وقد عّلل رسول ال صلى ال عليه وسلم أمره بالهجرة إليها بقوله " :إن فيها مَلِكا ل يُظْلَم عنده
صدْق رسول ال ،وكأنه على علم تام بالبيئة المحيطة به وبأحوال
أحد " وقد تبيّن بعد الهجرة إليها ِ
أهلها.
لذلك لم يأمرهم مثلً بالهجرة أو أطراف الجزيرة العربية؛ لنها كانت خاضعة لقريش بما لها من
سيادة على الكعبة ،فل يستطيع أحد أنْ يحمي مَنْ تطلبه قريش ،حتى الذين هاجروا بدينهم إلى
الحبشة لم يَسْلَموا من قريش ،فقد أرسلتْ إلى النجاشي مَنْ يكلمه في شأنهم ،وحملوا إليه الهدايا
المغرية ليسلمهم المهاجرين من المؤمنين بمحمد ،لكن لم تفلح هذه الحيلة مع الملك العادل الذي
راود اليمانُ قلبه ،فأحب المؤمنين ودافع عنهم ورفض إعادتهم ويقال :إنه آمن بعد ذلك ،ولما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مات صلّى عليه رسول ال.
أما الهجرة إلى المدينة بعد الهجرة إلى الحبشة فكان لدار َأمْن وإيمان معا ،حيث تأمن فيها على
دينك ،وتتمكن فيها من نشره والدعوة إليه ،وتجد بها إخوانا مؤمنين يُواسُونك بأموالهم ،وبكل ما
يملكون ،وقد ضرب النصار في مدينة رسول ال أروع مثل في التاريخ في المواساة،
فالنصاري كان يرى أخاه المهاجر ترك أهله في مكة ،وله إرْبة وحاجة للنساء ،فيُطلّق له إحدى
زوجاته ليتزوجها ،فانظر ماذا فعل اليمان بالنصار.
وفي قوله سبحانه } فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ { [العنكبوت ]56 :أسلوب يُسمّونه أسلوب َقصْر ،مثل قوله
تعالى {:إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ }[الفاتحة.]5 :
ن نقول :نعبدك .و(إياك نعبد) :نعبدك ل تمنع أنْ نعبد غيرك ،أمّا (إيّاك َنعْبد) فتقصر
وفَرْق بين أ ْ
العبادة على ال -عز وجل ، -ول تتجاوزه إلى غيره.
فالمعنى -إذن :إنْ كنت ستهاجر فلتكُن هجرتك ل ،وقد فسّرها النبي صلى ال عليه وسلم في
الحديث الشريفَ " :فمْن كانت هجرته إلى ال ورسوله فهجرته إلى ال ورسوله ،ومَنْ كانت
هجرته لدنيا يصيبها ،أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه ".
ثم يقول الحق سبحانهُ } :كلّ َنفْسٍ ذَآ ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ.{ ...
()3322 /
جعُونَ ()57
ُكلّ َنفْسٍ ذَا ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ ُثمّ إِلَيْنَا تُ ْر َ
يعني :إنْ كنتم ستقولون -وقد قالوا بالفعل -ليس لنا في المدينة دار ول عقار ،وليس لنا فيها
مصادر رزق ،وكيف نترك أولدنا وبيئتنا التي نعيش فيها ،فاعلموا أنكم ول بُدّ مفارقون هذا كله،
فإنْ لم تُفارقوها وأنتم أحياء فسوف تفارقونها بالموت؛ لن { ُكلّ َنفْسٍ ذَآ ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ} ...
[العنكبوت.]57 :
ومَنْ يدريكم لعلكم تعودون إلى بلدكم مرة أخرى ،كما قال ال لرسوله {:إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ
ا ْلقُرْآنَ لَرَآ ّدكَ إِلَىا َمعَادٍ[} ...القصص.]85 :
وعلى فَرْض أنكم لن تعودوا إليها فلن يُضيركم شيء؛ لنكم ل ُب ّد مفارقوها بالموت .وكأن الحق
-تبارك وتعالى -يخفف عنهم ما يلقونه من مفارقة الهل والوطن والمال والولد.
كما أننا نلحظ في قوله سبحانه { ُكلّ َنفْسٍ ذَآ ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ[ } ...العنكبوت ]57 :بعد{ إِنّ أَ ْرضِي
سعَةٌ[} ...العنكبوت ]56 :أن الخواطر التي يمكن أن تطرأ على النفس البشرية حين يُشرّع ال
وَا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سعَةٌ[} ...العنكبوت ]56 :وما تثيره في النفس من حب
أمرا يهيج هذه الخواطر مثل{ إِنّ أَ ْرضِي وَا ِ
الجمع والتملّك يجعل لك مع المر ما يهبّط هذه الخواطر.
{ ُكلّ َنفْسٍ ذَآ ِئقَةُ ا ْل َموْتِ[ } ...العنكبوت ]57 :حتى ل نطمعَ في حطام الدنيا ،ويُلهينا إغراء المال
والهجرة لجمعه ،فالنهاية بعد ذلك كله الموت ،وفقدان كل ما جمعت.
جدَ الْحَرَامَ َبعْدَ
وهذه القضية واضحة في قوله سبحانه {:إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ َنجَسٌ فَلَ َيقْرَبُواْ ا ْلمَسْ ِ
عَا ِمهِمْ هَـاذَا[} ...التوبة.]28 :
فلما أراد ال تعالى أن يُنهي وجود المشركين في البيت الحرام علم سبحانه أن المسلمين سيحسبون
النتيجة المادية لمنع المشركين من دخول الحرم ،وأنها ستؤثر على تجارتهم وأرزاقهم في مواسم
التجارة والحج.
سوْفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ[} ....التوبة ]28 :فساعةَ
خفْتُمْ عَيْلَةً َف َ
لذلك قال بعدها مباشرة {:وَإِنْ ِ
يقرأونها في التشريع يعلمون أن ال اطّلع على ما في نفوسهم ،وجاءهم بالردّ عليه حتى ل يتكلموا
به ،وهذا يعني أن التشريع يأتي ليعالج كل خواطر النفس ،فل ينزعك من شيء تخافه إل ومع
التشريع ما يُذهِب هذه المخاوف.
{ وَالّذِينَ آمَنُواْ.} ...
()3323 /
عمِلُوا الصّالِحَاتِ لَنُ َبوّئَ ّنهُمْ مِنَ ا ْلجَنّةِ غُ َرفًا تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ِنعْمَ
وَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ ()58
حتِ
طةٌ بِا ْلكَافِرِينَ * َيوْمَ َيغْشَاهُمُ ا ْل َعذَابُ مِن َف ْوقِهِمْ َومِن َت ْ
جهَنّمَ َلمُحِي َ
هذه في مقابل {:وَإِنّ َ
أَرْجُِل ِهمْ[} ...العنكبوت ]55-54 :وذكر المقابل لزيادة النكاية بالكافرين ،كما يقول سبحانه {:إِنّ
الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ }[النفطار.]14-13 :
جمْع المتقابلين يزيد من فَرْحة المؤمن ،ويزيد من حَسْرة الكافر.
فَ
ومعنى { لَنُ َبوّئَ ّنهُمْ مّنَ الْجَنّةِ غُ َرفَا[ } ...العنكبوت ]58 :أي :نُنزلهم ونُمكّنهم منها ،كما جاء في
قوله تعالى مخاطبا رسوله صلى ال عليه وسلم {:وَِإذْ غَ َد ْوتَ مِنْ أَهِْلكَ تُ َبوّىءُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َمقَاعِدَ
لِ ْلقِتَالِ[} ...آل عمران ]121 :يعني :تُنزِلهم أماكنهم.
والجنة تُطلق على الرض ذات الخضرة والشجار والزهار في الدنيا ،كما جاء في قوله
ل وَأَعْنَابٍ[} ...البقرة.]266 :
ح ُدكُمْ أَن َتكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ
سبحانه {:أَ َي َودّ أَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله سبحانه {:إِنّا َبَلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ[} ...القلم.]17 :
حدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ[} ...الكهف.]32 :
جعَلْنَا لَ َ
جلَيْنِ َ
وقوله سبحانه {:وَاضْ ِربْ لهُمْ مّثَلً رّ ُ
خصْب والنماء والجمال ،وفيها أسباب القُوت
فإذا كانت جنة الدنيا على هذه الصورة من ال ِ
والترف ،إذا كان ذلك في دنيا السباب التي نراها ،فما بالك بما أعدّه ال لخَلْقه في الخرة؟
ومن عجائب الجنة أنها { تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ[ } ...العنكبوت ]58 :ونحن نعرف أن أنهار
الدنيا تجري خللها عبر الشّطان التي تحجز الماء ،أمّا في الجنة فتجري أنهارها بل شُطآن.
لذلك لما كنا نسافر إلى بلد المدنية والتقدّم ،ونرى زخارف الحياة وترفها كنتُ أقول لمن معي:
عظَة ،فهو ما أعدّه البشر للبشر ،فما بالكم بما أعدّه ربّ البشر للبشر؟
خذوا من هذا النعيم ِ
فإذا رأيتَ نعيما عند أحد فل تحقد عليه ،بل ازْ َددْ به يقينا في ال تعالى ،وأن ما عنده أعظم من
هذاَ .ألَ ترى أن الحق -تبارك وتعالى -حينما يخبرنا عن الجنة يقول {:مّ َثلُ ا ْلجَنّةِ الّتِي وُعِدَ
ا ْلمُ ّتقُونَ[} ...محمد ]15 :فيجعلها مثلً؛ لن ألفاظ اللغة ل تؤدي المعاني التي في الجنة ول
َتصِفها.
لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم " :فيها ما ل عَيْن رأت ،ول أذن سمعتْ ،ول خطر على
قلب بشر " فكل ما جاء فيها ليس وصفا لها إنما مجرد مثَل لها ،ومع ذلك لما أعطانا المثل للجنة
ط ْعمُهُ
ن وَأَ ْنهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَ َتغَيّرْ َ
صَفّى المثل من شوائبه ،فقال {:فِيهَآ أَ ْنهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِ ٍ
صفّى[} ...محمد ]15 :ويكفي أن تعلم أن نعيم
سلٍ ّم َ
ن وَأَ ْنهَارٌ مّنْ عَ َ
خمْرٍ لّ ّذةٍ لّلشّارِبِي َ
وَأَ ْنهَارٌ مّنْ َ
الجنة يأتي مناسبا لقدرة وإمكانيات المنِعم سبحانه.
وقوله سبحانه { خَالِدِينَ فِيهَا[ } ...العنكبوت ]58 :لن النعيم مهما كان واسعا ،ومهما تعددتْ
ألوانه ،فيُنغّصه ويُؤرّق صاحبه أن يزول إما بالموت وإما بالفقر ،أما نعيم الجنة فدائم ل يزول
ول ينقطع ،فل يفوتك ول تفوته ،كما قال سبحانه {:لّ مَقْطُوعَةٍ وَلَ َممْنُوعَةٍ }[الواقعة ]33 :ل
يُكدّرها شيء.
إذن :فالرابح مَنْ آثر الخرة على الدنيا؛ لن نعيم الدنيا مآله إلى زوال ،ول ت ُقلْ :إن عمر الدنيا
كم مليون سنة ،إنما عمرها مدة بقائك أنت فيها ،وإل فماذا تستفيد من عمر غيرك؟
ثم إنك تتمتع في الدنيا على قدر إمكاناتك ومجهوداتك ،فنعيم الدنيا بالسباب ،لكن نعيم الخرة
بالمسبّب سبحانه ،لذلك ترى نعيما صافيا ل يُنغّصه شيء ،فأنت ربما تأكل الكْلة في الدنيا فتسبّب
لك المتاعب والمضايقات ،كالمغص والنتفاخ ،علوة على ما تكرهه أثناء قضاء الحاجة للتخلّص
من فضلت هذه الكلة.
طهِي
أما في الخرة فقد أعدّ ال لك الطعام على َقدْر الحاجة ،بحيث ل تكون له فضلت ،لنه ُ
بكُنْ من ال تعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك سُئِل أحد علماء المسلمين :تقولون :إن الجنة تأكلون فيها ،ول تتغوطون ،فكيف ذلك؟ فقال:
ولم التعجبَ ،ألَ تروْنَ الجنين في بطن أمه يتغذى وينمو ول يتغوط؛ لن ال تعالى يعطيه غذاءه
على قدر حاجته للنمو ،فل يبقى منه فضلت ،ولو تغوّط في مشيمته لمات في بطن أمه.
وقوله تعالىِ } :نعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ { [العنكبوت ]58 :نعم ،نعْم هذا الجر؛ لنك مك ْثتَ إلى سِنّ
التكليف ترْبَع في نعم ال دون أنْ يُكلّفك بشيء ،ثم يعطيك على مدة التكليف أجرا ل ينقطع ،ول
نهاية له ،فأيّ أجر َأسْخى من هذا؟ ويكفي أن الذي يقرّر هذه الحقيقة هو ال ،فهو سبحانه
القائلِ } :نعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ { [العنكبوت.]58 :
ن صَبَرُواْ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :الّذِي َ
()3324 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم ينزف منك في جُرْح أو لدغة بعوضة أو غير ذلك؛ لن هذا ليس من رزقك أنت ،بل رزق
لمخلوق آخر.
إنك تعجب حينما ترى التمساح مثلًعلى ضخامته وخوف الناس منه ،ومع ذلك تراه بعد أنْ يأكل
يخرج إلى اليابسة ،حيث يفتح فمه لصغار الطيور ،فتتولى تنظيف ما بين أسنانه من فضلت
الطعام ،وترى بينهما انسجاما تاما وتعاونا إيجابيا ،فحين يتعرض التمساح مثلً لهجمة الصياد
يُحدِث صوتا معينا يفهمه التمساح فيسرع بالهرب.
شقّه خلق لقّه).
فانظر من أين ينال هذا الطير قوته؟ وأين خبأ ال له رزقه؟ لذلك يقولون (اللي َ
وسبق أن ضربنا مثلً على خصوصية الرزق بالجنين في بطن أمه ،فحينما تحمل الم بالجنين
يتحول الدم إلى غذاء للطفل ،فإنْ لم تحمل نزل هذا الدم ليرمي به دون أنْ تستفيد منه الم ،لماذا؟
لنه رِزْق الجنين ،وليس رزقها هي.
ح ِملُ.} ...
لذلك نجد الية بعدها تقولَ { :وكَأَيّن مّن دَآبّ ٍة لّ َت ْ
()3325 /
يريد سبحانه أن يُطمئن خَلْقه على أرزاقهم ،فيقول { َوكَأَيّن مّن دَآبّةٍ[ } ...العنكبوت ]60 :كأيّ لها
َمعَانٍ متعددة ،مثل كم الخبرية حين تقول لمن ينكر جميلك :كم أحسنتُ إليك؟ يعني :كثيرا جدا،
كذلك في { َوكَأَيّن[ } ...العنكبوت ]60 :أي :كثير كما في{ َوكَأَيّن مّن نّ ِبيّ قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ
َفمَا وَهَنُواْ ِلمَآ َأصَا َبهُمْ[} ...آل عمران.]146 :
والدابة :هي التي تدبّ على الرض ،والمراد كل حيّ ذي حركة ،وقد تقول :فالنمل -مثلً -ل
نسمع له دبّة على الرض أ ُي َعدّ من الدابة؟ نعم فله دبّة على الرض ،لكنك ل تسمعها ،فالذي
خلقها يسمع دبيبها؛ لن الذي يقبل الصغر يقبل الكبر ،لكن ليس عندك أنت آلة السماع.
بدليل أن الذي يعاني من ضعف السمع مثلً ينصحه الطبيب بتركيب سماعة للذن فيسمع ،وكذلك
في النظارة للبصر ،إذن :فكل شيء له أثر مرئي أو مسموع ،لكن المهم في اللة التي تسمع أو
ترى؛ لذلك يقولون إنْ أرادوا المبالغة؛ فلن يسمع دَبّة النملة.
ح ِملُ رِ ْز َقهَا[ } ...العنكبوت ]60 :ليست كلّ الدواب تحمل رزقها،
ومعنى { َوكَأَيّن مّن دَآبّ ٍة لّ َت ْ
فكثير منها ل تحمل رزقا ،ومع ذلك تأكل وتعيش ،ويحتمل أن يكون المعنى :لنها ل تقدر على
حمله ،أو تقدر على حمله ولكنها ل تفعل ،فمثلً القمل والبراغيث التي تكثر مع الهمال في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ضعْفها على دم النسان الفتوة المتجبر،
النظافة الشخصية أتحمل رزقا؟ والناموسة التي تتغذى مع َ
الميكروب الذي يفتك بالنسان ..إلخ هذه أشياء ل تحمل رزقها.
أما الحمار مثلً مع قدرته على الحمل ل يحمل رزقه؛ لذلك تراه إنْ شبع ل يدخر شيئا ،وربما
يدوس الكل الباقي ،أو يبول عليه ،وكذلك كل الحيوانات حتى أنهم يقولون :ل يعرف الدخار من
المخلوقات إل النسان والفأر والنمل.
وقد جعل ال الدخار في هؤلء لحكمة ولبيان طلقة قدرته تعالى ،وأن الدخار عند هذه
المخلوقات ليس قُصورا من الخالق سبحانه في أن يجعل بعض الدوابّ ل تحمل رزقها ،بل يخلق
لها وسائل تعجز أنت عنها.
ولك أن تتأمل قرى النمل وما فيها من عجائب ،فقد لحظ الباحثون في هذا المجال أنك لو تركت
بقايا طعام مثلً تأتي نملة وتحوم حوله ثم تنصرف وترسل إليه عددا من النمل يستطيع حمل هذه
القطعة ،ولو ضاعفت وزن هذه القطعة لتضاعف عدد النمل.
إذن :فهي مملكة في غاية التنظيم والدقة والتخصص ،والعجب من ذلك أنهم لحظوا على النمل
أنها تُخرِج فُتاتا أبيض صغيرا أمام العشاش ،فلما فحصوه وجدوه الزريعة التي تُسبّب النبات
في الحبة حتى ل تنبت ،فتهدم عليهم العُشّ ،فسبحان الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى.
وأعجب من ذلك ،وجدوا النمل يفلق حبة الكسبرة إلى أربعة أقسام ،لن نصف حبة الكسبرة يمكنه
أنْ يَنبت منفردا ،فقسموا النصف.
إذن :فكثير من الدواب ل تحمل رزقها } اللّهُ يَرْ ُز ُقهَا وَإِيّاكُمْ[ { ...العنكبوت ]60 :فذكر الدواب
أولً في مجال الرزق ثم عطف عليها } وَإِيّاكُمْ[ { ...العنكبوت ]60 :فنحن معطوفون في الرزق
على الدواب ،مع أن النسان هو الصل ،وهو المكرّم ،والعالم كله خُلِق من أجله لخدمته ،ومع
ذلك لم ي ُقلْ سبحانه :نحن نرزقكم وإياهم ،لماذا؟ قالوا :لنك تظن أنها ل تستطيع أن تحمل أو تُدبّر
رزقها ،ول تتصرف فيه ،فلفت نظرك إلى أننا سنرزقها قبلك.
وقد وقف المستشرقون الذين يأخذون القرآن بغير الملَكة العربية يعترضون على قوله تعالى {:وَلَ
َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ خَشْ َيةَ ِإمْلقٍ[} ...السراء.]31 :
لقٍ[} ...النعام.]151 :
وقوله سبحانهَ {:ولَ َتقْتُلُواْ َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْ َ
يقولون :أيّهما أبلغ من الخرى ،وإن كانت إحداهما بليغة ،فالخرى غير بليغة.
وهذا العتراض ناتج عن ظنهم أن اليتين بمعنى واحد ،وهما مختلفتان ،فالولى{ َولَ َتقْتُلُواْ
خشْيَةَ ِإمْلقٍ[} ...السراء ]31 :فالفقر هنا غير موجود وهم يخافونه ،أما فيَ {:ولَ َتقْتُلُواْ
َأوْل َدكُمْ َ
َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْلَقٍ[} ...النعام ]151 :فالفقر موجود فعلً .فهما مختلفتان في الصّدْر ،وكذلك
مختلفتان في العَجُز.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ففي الولى قال {:نّحْنُ نَرْ ُز ُقهُ ْم وَإِيّاكُم[} ...السراء ]31 :لن الفقر غير موجود ،وأنت غير
مشغول برزقك ،فبدأ بالولد ،أمّا في الثانية فقال {:نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُ ْم وَإِيّاهُمْ[} ...النعام ]151 :وقدم
الباء؛ لن الفقر موجود ،والنسان مشغول أولً برزق نفسه قبل رزق أولده.
إذن :فلكل آية معنى وانسجام بين صَدْرها وعَجُزها ،المهم أن تتدبر لغة القرآن ،وتفهم عن ال
مراده.
سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ { [العنكبوت ]60 :واختار هنا السميع العليم؛ لن الحق
وقوله سبحانه } :وَ ُهوَ ال ّ
سبحانه له قيّومية على خَلْقه ،فلم يخلقهم ثم يتركهم للنواميس ،إنما خلق الخَلْق وهو سبحانه قائم
عليه بقيوميته تعالى؛ لذلك يقول في بيان عنايته بصنعته{ لَ تَأْخُ ُذهُ سِنَ ٌة َولَ َنوْمٌ[} ...البقرة]255 :
يعني :يا عبادي ناموا ِملْءَ جفونكم؛ لن ربكم ل ينام.
ومناسبة السميع هنا؛ أن الجوع إذا هَزّ إنسانا ربما يصيح صيحة ،أو يُحِدث شيئا يدل على أنه
جائع ،فكأنه يقول :لم أجعلكم كذلك.
سمَاوَاتِ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ ال ّ
()3326 /
يقول تعالى للذين ل تكفيهم آية القرآن التي نزلت على رسول ال ،ويطلبون منه آيات أخرى،
يقول لهم :لقد جعل ال لكم اليات في الكون قبل أنْ يرسل الرسل ،آيات دالة على العجاز في
صغُر؟
السماوات وفي الرض ،فهل منكم مَنْ يستطيع أنْ يخلق شيئا منها مهما َ
إن خلق السماوات والرض معجزة كونية ل تنتهي ،فلماذا تطلبون المزيد من اليات ،وما جعلها
ال إل لبيان صِدْق الرسل في البلغ عن ال ليؤمن الناس بهم.
لذلك يقول سبحانه في الرد عليهم {:هَـاذَا خَ ْلقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خََلقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ[} ...لقمان:
]11فخلْق السماوات والرض والشمس والقمر إعجاز للدنيا كلها ،وخصوصا الكفرة فيها.
ومسألة الخَلْق هذه من الوضوح بحيث ل يستطيع أحد إنكارها -كما سبق أنْ أوضحنا -لذلك
يقولون هنا في إجابة السؤال { لَ َيقُولُنّ اللّهُ[ } ...العنكبوت ]61 :وهذا العتراف منهم يستوجب
من المؤمن أنْ يحمد ال عليه ،فيقول :الحمد ل أن اعترفوا بهذه الحقيقة بأنفسهم ،الحمد ل الذي
أنطقهم بكلمة الحق ،وأظهر الحجة التي تبطل كفرهم.
وقوله تعالى { فَأَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ } [العنكبوت ]61 :أي :كيف بعد هذا العتراف ينصرفون عن ال،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وينصرفون عن الحق؟
سطُ الرّ ْزقَ.} ...
{ اللّهُ يَبْ ُ
()3327 /
{ يَ ْبسُطُ الرّ ْزقَ[ } ...العنكبوت :]62 :يُوسّعه { ،وَ َيقْدِرُ[ } ...العنكبوت ]62 :يعني يضيق ،وآفة
الناس في هذه المسألة أنهم ل يفسرون الرزق إل بالمال ،والرزق في الواقع كل ما ينتفع به
النسان ،فالعلم رزق ،والحلم رزق ،والجبروت رزق ،والستكانة رزق ،وإتقان الصّنْعة رزق..
إلخ.
وال سبحانه يُوسّع الرزق لمَنْ يشاء ،ويُضيّقه على مَنْ يشاء ،فالذي ضُيّق عيه يحتاج لمن بسط
له ،وكذلك يبسط الرزق في شيء ويُضيّقه في شيء آخر ،فهذا بسط له في العقل مثلً ،وضيق
عليه في المال.
فكأن الحق -سبحانه وتعالى -نثر مواهب الملكات بين خَلْقه ،لم يجمعها كلها في واحد ،وسبق
أن أوضحنا أن مجموع الملكات عند الجميع متساوية في النهاية ،فَمنْ بُسِط له في شيء ضُيّق
عليه في آخر؛ ليظل المجتمع مربوطا برباط الحتياج ،ول يستغني الناس بعضهم عن بعض،
وحتى تتكامل المواهب بين الناس ،فتساند ل تتعاند.
إذن :فالحق -سبحانه وتعالى -حين يبسط الرزق لعبد ،و َيقْدره على آخر ،ل يعني هذا أنه يحب
الول ويكره الخر ،ولو نظرتَ إلى كل جوانب الرزق وزوايا العطاء لوجدتها متساوية.
سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َت ُهمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا
ح َمتَ رَ ّبكَ َنحْنُ قَ َ
سمُونَ رَ ْ
وحين نتأمل قوله سبحانه {:أَهُمْ َيقْ ِ
ي بعض مرفوع؟ وأيّ بعض مرفوع
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ[} ...الزخرف ]32 :فأ ّ
وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
عليه؟ الكل مرفوع في جهة اختصاصه ،ومرفوع عليه في غير جهة اختصاصه ،إذن :فالجميع
سواء.
وسبق أنْ ضربنا مثلً لهذه القضية .وقلنا :إن العظيم الذي يسكن القصر يحتاج إلى العامل البسيط
الذي يصلح له دورة المياه ،وينقذه من الرائحة الكريهة التي يتأفف منها ،فيسعى هو إليه ويبحث
عنه ،وربما ذهب إليه في محل عمله وأحضره بسيارته الفارهة ،بل ويرجوه إنْ كان مشغولً.
ففي هذه الحالة ،ترى العامل مرفوعا على الباشا العظيم ،فل يظهر الرفع إل في وقت الحاجة
للمرفوع.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأيضا لو لم يكُنْ بين الناس غني وفقير ،مَنْ سيقضي لنا المصالح في الحقل ،وفي المصنع ،وفي
السوق ..إلخ ل ُبدّ أنْ تُبنى هذه المسائل على الحتياج ،ل على التفضّل .إذن :إنْ أردت أن تقارن
بين الخَلْق فل تحقِرنّ أحدا؛ لنه قد يفضل عليك في موهبة ما ،فتحتاج أنت إليه.
سمَآءِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانه { :وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّن نّ ّزلَ مِنَ ال ّ
()3328 /
وهنا أيضا قالوا { اللّهُ } لن إنزال المطر من السماء وإحياء الرض به بعد موتها آية كونية
واضحة لم يدّعِها أحد ،فهي ثابتة ل تعالى ،ل يُنكرها أحد حتى الكافرون ،فلئن سألتهم هذا السؤال
حمْدُ
{ لَ َيقُولُنّ اللّهُ[ } ...العنكبوت ]63 :لذلك يأمرنا الحق سبحانه بأن نقول بعد هذا القرار { ُقلِ الْ َ
لِلّهِ[ } ...العنكبوت ]63 :الذي أنطقهم بالحق ،وأقام عليهم الحجة { َبلْ َأكْثَرُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ }
[العنكبوت ]63 :لنهم أقرّوا بآيات ال في خَلْق الكون ،ومع ذلك كفروا به.
()3329 /
ب وَإِنّ الدّارَ الَْآخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ ()64
َومَا هَ ِذهِ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا َل ْه ٌو وََلعِ ٌ
حسّه
الحياة :نعرفها بأنها ما يكون في النسان العلى في الوجود من حِسّ وحركة ،فإذا انتهى ِ
وحركته لم َتعُدْ له حياة ،وهذه الحياة موصوفة هنا بأوصاف ثلثة :دنيا ولهو ولعب ،كلمة دنيا
علْيا فساعة تسمع هذا الوصف " الحياة الدنيا " فاعلم أن هذا الوصف ما جاء
تدل على أن مقابلها ُ
إل ليميزها عن حياة أخرى ،تشترك معها في أنها حياة ل إل أنها حياة عليا ،هذه الحياة العُلْيا هي
التي قال عنها ربنا -تبارك وتعالى " -الدار الخرة ".
حسّ والحركة في النسان ،فالواقع عند التقنين أن لكل شيء
وإنْ كنا قد عرّفنا الحياة الدنيا بأنها ال ِ
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ
في الوجود حياةً تُناسب مهمته ،بدليل قوله تعالى حين يُنهي هذه الحياةُ {:كلّ َ
جهَهُ[} ...القصص.]88 :
وَ ْ
فما يُقال له شيء ل بُدّ أنْ يطرأ عليه الهلك ،والهلك تقابله الحياة ،بدليل قوله سبحانه {:لّ َيهِْلكَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حيّ عَن بَيّ َنةٍ[} ...النفال.]42 :
مَنْ هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ
فالحياة ضد الهلك ،إل أنك تعرف الحياة عندك بالحس والحركة ،وكذلك الحياة في كل شيء
بحسبه ،حتى في الجماد حياة نلحظها في أن الجبل يتكون من أصناف كثيرة من الحجارة ،ترتقي
مع الزمن من حجارة إلى أشياء أخرى أعلى من الحجارة وأثمن ،وما دامت يطرأ عليها هذا
التغيير فل بُدّ أن فيها حيا ًة وتفاعلً ل ندركه نحن.
إذن :فكل شيء له حياة ،لكن الفة أننا نريد حياة كالتي فينا نحن ،وأذكر نحن في مراحل التعليم
قالوا لنا :هناك شيء اسمه المغناطيس ،وعملية اسمها الممغنطة ،فحين تُمغنط قطعة من الحديد
تُكسِبها قدرة على جَذْب قطعة أخرى وفي اتجاه معين ،إذن :في الحديد حياة وحركة وتفاعل ،لكن
ليس عندك اللة التي تدرك بها هذه الحركة ،وفيها ذرات داخلية ل تُدرَك بالعين المجردة تم
تعديلها بالمغنطة إلى جهة معينة.
شيْءٍ} ...
طقَ ُكلّ َ
طقَنَا اللّهُ الّذِي أَن َ
شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ
واقرأ قوله تعالىَ {:وقَالُواْ ِلجُلُودِ ِهمْ لِمَ َ
[فصلت ]21 :فللجوارح نفسها حياة ،ولها كلم ومنطق ،لكن ل ندركه نحن؛ لن حياتها ليست
كحياتنا .إنك لو تتبعتَ مثلً طبقا أو كوبا من البلستيك لوجدته تغيّر لونه مع مرور الزمن ،وتغيّر
اللون فيه يدل على وجود حياة وحركة بين ذراته ،ولو لم تكُنْ فيه حياة لكان جامدا مثل الزجاج،
ل يطرأ عليه تغيّر اللون.
والحق -تبارك وتعالى -يصف الدار الخرة بأنها { الْحَ َيوَانُ[ } ..العنكبوت ]64 :وفرْق بين
الحياة والحيوان ،الحياة هي هذه التي نحياها في الدنيا يحياها الفراد ،ويحياها النبات ،ثم تؤول
إلى الموت والفناء ،أمّا الحيوان فيعني الحياة الرقى في الخرة؛ لنها حياة باقية حياة حقيقية.
والحق -سبحانه وتعالى -أعطانا صورة للحياة الدنيا ،الحياة المادية في قوله تعالى عن آدم
ختُ فِيهِ مِن رّوحِي[} ...الحجر ]29 :فمن الطين خَلق آدم ،وسوّاه ونفخ فيه من
سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ
{ فَِإذَا َ
روحه تعالى ،فد ّبتْ فيه الحياة المادية.
لكن هناك حياة أخرى أسمى من هذه يقول ال عنها {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا
دَعَاكُم ِلمَا يُحْيِيكُمْ[} ...النفال ]24 :فكيف يخاطبهم بذلك وهم أحياء؟ ل بُدّ أن المراد حياة أخرى
غير هذه الحياة المادية ،المراد حياة الروح والقيم والمنهج الذي يأتي به رسول ال.
لذلك سمّى المنهج روحا{ َوكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ ِإلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا[} ...الشورى ]52 :وسمّى الملَك
لمِينُ }[الشعراء.]193 :
الذي نزل به روحا {:نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ ا َ
إذن } :وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ[ { ...العنكبوت ]64 :أي :الحياة الحقيقية التي ل تفوتها ول
تفوتك ،ول يفارقك نعيمها ،ول يُنغّصه عليك شيء ،كما أن التنعّم في الدنيا على قَدْر إمكاناتك
وأسبابك ،أمّا في الخرة فالنعيم على قَدْر إمكانات المنعم سبحانه وتعالى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يأتي َوصْف الدنيا بأنها َلهْو ،وَلعِب ،وهما حركتان من حركات جوارح النسان ،لكنها حركة ل
مَقصدَ لها إل الحركة في ذاتها دون هدف منها؛ لذلك نقول لمن يعمل عملً ل فائدة منه " عبث ".
إذن :اللهو واللعب عبث ،لكن يختلفان من ناحية أخرى ،فاللعب حركة ل فائدة منها ،لكنه ل
يصرفك عن واجب يعطي فائدة ،كالولد حين يلعب ،فاللعب ل يصرفه عن شيء إذن :فاللعب لمن
لم يبلغ ،أمّا البالغ المكلف فاللعب في حقّه يسمى َلهْوا ،لنه كُلّف فترك ما كُلّف به إلى ما لم يكلّف
به ،وَلهَا عن الواجب ،ومنهَ :لهْو الحديث.
فقوله تعالى } َومَا هَـا ِذهِ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ْه ٌو وََل ِعبٌ[ { ...العنكبوت ]64 :أي :إنْ جُرّدت عن
الحياة الخرى حياة القيم التي تأتي باتباع المنهاج.
وقولهَ } :لوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ { [العنكبوت ]64 :يُحتمل أن تكون الجملة هنا امتناعية يعني :امتنع
علمهم بها ،أو تكون تمنيا يعني :يا ليتهم يعلمون هذه الحقيقة ،حقيقة الدنيا وحقيقة الخرة؛ لنهم
لو علموها لقبلوا على منهج ربهم لينالوا ُكلّ هذا العطاء الممتدّ ،ولَسلكوا طريق اليمان بدل
طريق الكفر ،فكأن المعنى أنهم لم يعرفوا.
ثم يقول الحق سبحانه } :فَِإذَا َركِبُواْ فِي ا ْلفُ ْلكِ.{ ...
()3330 /
عوُا اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ فََلمّا َنجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ ُيشْ ِركُونَ ()65
فَإِذَا َركِبُوا فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ
ينقلنا السياق هنا من الكلم عن حقيقة كل من الدنيا والخرة إلى الحديث عن الفُلْك ،فما العلقة
بينهما؟
المتكلم هنا هو ال تعالى ،وواضع كل شيء في موضعه ،ول يغيب عنك أنه ل بُدّ أنْ تتدبر كلم
ال لتفهم مراده ،فال ل يريدنا مُقبلين على ظاهر القرآن فحسب ،إنما أنْ نتعمق في فهمه وتأمله،
وننظر في معطياته الحقيقيةَ {:أفَلَ يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ[} ...النساء.]82 :
والعلقة هنا أن الية السابقة جاءتْ لتقرر أن الدنيا دار لهو ولعب ل فائدة منها إذا ما َبعُدت عن
منهج ال ،ولم تحسب حسابا لحياة أخرى هي الحياة الحقيقية وهي الحيوان ،فكان على العاقل أنْ
ن يعمل لها باتباع منهج ال في الدنيا.
يحرص على الخرة ،وأ ْ
إذن :فالدنيا ليست غاية ،بل هي وسيلة ،وأنت أيها الذي أعرضتَ عن منهج ربك جلعتَ الدنيا
غايتك ،والدنيا إنْ كانت هي الغاية فما أتفهها من غاية ،إنما اجعلها وسيلة للخرة ومزرعة لدار
الحيوان .وكذلك الحال في الفُلْك ،فهي وسيلة تُوصّلك إلى هدف ،وإلى غاية ،وليست هي غاية في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدّ ذاتها.
َ
خِلصِينَ لَهُ الدّينَ[ } ...العنبكوت ]65 :والفلك :السفينة ،وتُطلق
عوُاْ اللّهَ مُ ْ
{ فَِإذَا َركِبُواْ فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ
عوُاْ اللّهَ مُخِْلصِينَ
على المفرد وعلى الجمع ،فيقول تعالى {:وَ َيصْنَعُ ا ْلفُ ْلكَ[} ...هود ]38 :وقوله{ دَ َ
لَهُ الدّينَ[} ...يونس ]22 :واضح من السياق أنها ليستْ دعوة الحمد ،كأن يقولوا مثلً{ سُبْحَانَ
الّذِي سَخّرَ لَنَا هَـاذَا َومَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ }[الزخرف ]13 :بل هي دعوة الضطرار بعد أنْ
تعرّضوا لشدة وعطب ل تنجيهم منها أسبابهم ،بدليل قوله تعالى بعدها { :فََلمّا نَجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ ِإذَا
هُمْ يُشْ ِركُونَ } [العنكبوت.]65 :
فهذه تعطينا أنهم ركبوا في السفينة ،فلما تعرّضوا للعطب ،وضاقتْ بهم أسبابهم دعوا ال مخلصين
له الدين.
ك وَجَرَيْنَ ِبهِم بِرِيحٍ طَيّ َب ٍة َوفَرِحُواْ ِبهَا
وفي لقطة أخرى يقول القرآن {:حَتّىا ِإذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْل ِ
عوُاْ اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ
ن وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ أُحِيطَ ِبهِمْ دَ َ
صفٌ وَجَآءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَا ٍ
جَآءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ
الدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ }[يونس.]22 :
فمعنى{ أُحِيطَ ِبهِمْ[} ...يونس ]22 :أي :ل يوجد لهم مفر ول مهرب ول مفزع يفزعون إليه إل
أنْ يتوجهوا إلى ال بدعاءخالص ويقين إيمان في أنهم ل ملجأ لهم إل ال ،وقد كانوا في أول
الرحلة فرحين بمركبهم مسرورين به ،وساعتها لم يكُن ال في بالهم ،إنما لما ضاقت بهم الحيل
عادوا إلى الحق ،فالوقت ل يحتمل المراوغة.
لن النسان عادةً ل يخدع نفسه ،فحتى الكافر حين تضيق به أسباب النجاة يلجأ بالفطرة إلى ال
الحق ،وينسى آلهته ومعبوداته من دون ال؛ لنه ل يسلم نفسه أبدا ،ول يتمادى حينئذ في كذبة
اللهة والصنام.
عوُاْ اللّهَ مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ.
لذلك { :دَ َ
[ { ..العنكبوت ]65 :دعوة خالصة بيقين ثابت في الله الحق ،دعوة ل تشوبها شائبة شرك ،ل
ظاهر ،ول خفي ،فل ينفع في هذا الوقت إل ال المعبود بحقّ.
وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بمثَل من حياتنا الواقعية ،قلنا :إن حلق الصحة كان يقوم بدور
جتْ
الطبيب في القرية ،وله بين الناس نفس مكانة الطبيب في وقت لم يكُنْ هناك أطباء ،فلما خرّ َ
كلية الطب أطباء وانتشروا في القرى كان الحلق أول المهاجمين للطبيب؛ لنه يزاحمه في رزقه،
ويصرف الناس عنه؛ لذلك كان يذم في الطبيب ويُشكّك في خبرته وقدراته.
لكن لما مرض ابنه ،وارتفعت درجة حرارته ،وخاف عليه قال لزوجته :انتظري إلى ظلم الليل
لذهب به إلى الطبيب -يعني :في غفلة الناس.
فالنسان بطبعه ل يخدع نفسه ،ول يسلمها إذا جدّ الجد ،وفيه فطرة إيمانية إذا ما صفيتها في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذات البشرية ل تجد في النهاية إل قوة واحدة هي قوة ال.
حتى الملحدة حين تضيق بهم السباب يقولون :يا رب ،يا ال .يقولونها من تلقاء أنفسهم ،دون
مرور بالعقل الذي أنكروا به وجود ال .وهذا يعني أن الفطرة اليمانية قد تحجبها الغيار البشرية
وتلغيها ،فإذا ما نامت الغيار البشرية وتلشتْ لحدثٍ من الحداث ظهرتْ الفطرة اليمانية على
السطح تلهمك بل شعور.
ش َهدَهُمْ عَلَىا
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ
لذلك نلحظ في قوله سبحانه {:وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
شهِدْنَآ[} ...العراف ]172 :شهدوا لنهم ما يزالون في عالم الذر،
ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ
سهِمْ أََل ْ
أَنفُ ِ
ل تتحكم فيهم الغيار البشرية{ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ
ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ[} ...العراف.]173-172 :
أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ
وال خلق النسان خليفة له في الرض ،وسخر له كل هذا الكون ،فإنْ ظلّ متمسكا بهذا المنهج،
ووقف عند حد الخلفة يفوز ،أما إنْ ظن أنه أصيل في الكون يخيب ويخسر ،لكن ال الذي خلقه
يعلم الغيار فيه وهو خَلْقه وصنعته؛ لذلك وجهه :أنت خليفتي في أرضي ،وعليك أن تنظر إلى
ما طُلِب منك فتؤديه ،وإل فسدت حياتك وتصادمت مع الخرين؛ لنك لست وحدك فيها ،ولكي
تنسجم مع غيرك ل ُبدّ أن تسير َوفْق منهجي ،وفي دائرة قوانين من استخلفك.
ثم يُنبّهه من ناحية أخرى :يقول أنت أيها النسان ،اعلم أن السباب ستستجيب لك ،فإياك أن تظن
أن لك قدرةً عليها ،أو أن لك جاها وعظمة ،فتنسى أنك خليفة؛ لذلك يقول سبحانه {:كَلّ إِنّ
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق ]7 - 6 :احذر حين تتم لك المور وتطاوعك
الِنسَانَ لَيَ ْ
جعَىا }[العلق ]8 :فسوف يقابلك من الحداث ما ل تستطيع أسبابك أنْ
السباب{ إِنّ إِلَىا رَ ّبكَ الرّ ْ
تدفعَها ،ولن تجد مرجعا إل إليّ.
وكيف يطغى النسان وقد أعطاه ال فيضا من فيض كماله ،أعطاه قدرة من قدرته ،وعلما من
علمه.
.إلخ فإذا نظرتَ نظرة بسيطة في فيوضات ال عليك لوجدتها كثيرة ،بال ماذا تفعل إنْ أردتَ أن
تقوم من مكانك ،أو أن تُحرّك يدك أو ِرجْلك؟ ل شيء ،بمجرد أن تريد تنفعل لك أعضاؤك،
وتطاوعك من حيث ل تدري.
وسبق أنْ قارنّا بين حركة النسان وحركة الحفار مثلً ،وكيف أنه يحتاج إلى عمليات مُعقدة ،فكل
حركة منه لها زرّ خاص يؤديها ،فماذا تفعل أنت إنْ أردتَ أنْ تؤدي مثل هذه الحركات؟
إنك بمجرد الرادة ينفعل لك العضو ،وكأن فيك فيضا من قوله تعالى {:إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ ِإذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن
َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس ]82 :فإذا كنتَ أنت تفعل بمجرد أن تريد ،فلماذا ل تصدق هذا في حقّ
ال تبارك وتعالى؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن هذه الحركة وانفعال العضاء لك ليس ذاتيا فيك ،ويستطيع خالقك أنْ يسلبها منك ،فتريد أن
طكَ من صفاته ،ثم يتركك ..فربنا سبحانه
ترفع يدك فل تستطيع ،فأنت تحت قيوميته تعالى ،فلم يُع ِ
يحذرنا :إذا استغنيتَ ستَطغى؛ فتنبّه أن إلى ربك الرّجْعى.
سكَ اللّهُ
سْثم يلفت نظرنا من الن إلى قضية أخرى قبل أنْ نتعرض للمخاطر {:وَإِن َيمْ َ
شفَ َلهُ ِإلّ ُهوَ} ...
ِبضُرّ[} ....يونس ]107 :فل تتعب نفسك ،وتذهب هنا أو هناك؛ لنه{ فَلَ كَا ِ
[يونس.]107 :
هذه نصيحتي لك؛ لنك صنعتي ،وأنا أحب أن تكون صنعتي على أرقى ما تكون من الكمال ،فإذا
مسّك ضر ل تقدر على َدفْعه بأسبابك ،فعليك بباب ربك.
هذه ثلث قضايا أو نصائح نقدمها لك قبل أنْ تحلّ بك الحداث والمصائب :إن استغنيت ستطغى،
وأن إلى ربك الرجعى ،وإذا مسّك ضر ،ول حيلةَ لك في دفعه بأسبابك ،فليس لك إل ال تفزع
إليه ،والله الذي يُنبّهنا إلى المخاطر لنتلفاها إله رحيم.
خفْتم الموت ،ودعوتُم ال
إذن :فأنتم تحبون الحياة ،ولما نزلتْ بكم الحداث والخطوب في السفينة ِ
بالنجاة ،فأنتم حريصون على الحياة الدنيا ،فلماذا ل تؤمنون بال فتنالون حياة أخرى أبْقى وأدوم؟
والطريق إليها باليمان واليقين ،وبمنهج ال في (افعل) و (ل تفعل).
هذه قضية ذكرها القرآن ،أمّا واقع الحياة فقد أكدها ،وجاءت الحداث َوفْق ما قال .القضية {:وَإِذَا
س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ[} ...يونس ]12 :النسان يعني ُمطْلق النسان :المؤمن والكافر{
مَ ّ
َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما[} ...يونس ]12 :يعني :في كل الحوال ،فلما جاءه الخطر وأصابه الضر دعا
ال على أيّ حال كان.
وهذه الحوال تمثل مراحل راحات النفس ،فمثلً حين تسير وأنت تحمل شيئا ،فحين تتعب أولً
حمْل ،ثم تتوقف عن السير لتستريح ،فإنْ كان التعب أشد تقعد ،وإل تَضطجع
تضع عنك هذا ال ِ
على جنبك.
فأنت في وضع الوقوف تحمل ثقل الجسم كله على القدمين فتكون الراحة أقل ،أمّا في حالة القعود
يُوزع ثقل الجسم على الوركين والمقعدة ،وفي الضطجاع يُوزع نصف الجسم على نصفه فتكون
الراحة أكبر ،وفي ضوء هذا نفهم أن ال يستجيب لك حين تدعوه قائما ،أو قاعدا ،أو على جنبك.
وعجيب أمر النسان إذا نجّاه ال مما يخاف وكشف عنه الضر عاد مرة أخرى ظالما لنفسه {:فََلمّا
شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ[} ...يونس.]12 :
كَ َ
ن ضُرّ[} ...الزمر ]8 :أيّ ضر{
س الِنسَا َ
وفي لقطة أخرى يقول تعالى في هذه المسألة {:وَإِذَا مَ ّ
سيَ مَا كَانَ َيدْعُو ِإلَيْهِ مِن قَ ْبلُ[} ...الزمر ]8 :ويا ليته
خوّلَهُ ِن ْعمَةً مّنْهُ نَ ِ
دَعَا رَبّهُ مُنِيبا إِلَيْهِ ُثمّ ِإذَا َ
ج َعلَ لِلّهِ أَندَادا[} ...الزمر ]8 :فقال :الفضل لفلن ،وقد استغثت بفلن،
نسي وسكت إنما{ وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ولجأت إلى فلن.
نلحظ أن الكلم في هذه اليات عن النسان المفرد ،والنسان حين يتضرع إلى ال ل يطلع عليه
أحد ،فالمر بينه وبين ربه ،لكن الحق سبحانه يريد أن يفضح الناس ببعض ،فيقول في موضع
ضلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ[} ...السراء.]67 :
سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ
آخر {:وَإِذَا مَ ّ
فذكر الجماعة ليفضحهم أمام بعض؛ لن النسان يستر على نفسه ،فالحكمة من الجمع هنا أن
رؤية الناس قد تكون مانعة من الشر ،فمثلً في موسم الحج ترى أكابر القوم وأوسطهم وأدناهم
سواسية في الطواف ،ويقف الواحد منهم يبكي عند الملتزم ،وحين يراك صاحب المنصب أو
المركز وهو مَنْ هو في بلده ساعة يعرف أنك رأيته وهو يبكي في هذا الموقف تراه يتواضع لك،
ول يتعالى عليك بعدها.
فالحق سبحانه حين يُحذّرنا من العودة إلى المعصية بعد أنْ يكشف عنا الضر إنما يعطينا المصل
الواقي بصورة تحدث في الواقع ،وكأنه تعالى يقول لنا :خذوا بالكم ،واعلموا أنكم مفضوحون
بكتاب ال فيما تُحدثون من أحداث في حياتكم ،فكل منكم ينبغي أنْ يعلم أنه مراقب من الزل
ومكتوبة عليه خواطره؛ لن معنى القرآن الحق أنه ل يتغير ،وإذا قال ال فيه شيئا فل بُدّ أنْ
يحدث كما أخبر ال به.
()3331 /
واللم في { لِ َي ْكفُرُواْ[ } ...العنكبوت ]66 :ليست لم التعليل؛ لن الكفر لم يكُنْ مقصدا لهم ،وحين
عادوا بعد أن نجاهم ال إنما عادوا إلى أصلهم ،فاللم هنا لم المر كما لو قلت :قم يا زيد وليقم
عمرو ،وعلمة لم المر أن تكون ساكنة ،وهي هنا مكسورة لنها في بداية الكلم ،حيث ل يُبدأ
بساكن ،ولو وضعنا قبلها حرفا لتبيّن سكونها.
ط ّوفُواْ بِالْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ }[الحج.]29 :
ومثالها في قوله تعالى {:وَلْيَ ّ
سعَتِ ِه َومَن قُدِرَ عَلَ ْيهِ رِ ْزقُهُ فَلْيُنفِقْ ِممّآ آتَاهُ اللّهُ[} ...الطلق:
سعَةٍ مّن َ
وقوله سبحانه {:لِيُنفِقْ ذُو َ
.]7
والدليل على أنها لم المر سكون اللم بعدها في قراءة من سكنها ،وفي { وَلِيَ َتمَ ّتعُواْ} ...
سوْفَ يَعَلمُونَ } [العنكبوت ]66 :فرْق في الستقبال بين السين
[العنكبوت ]66 :وقوله سبحانهَ { :ف َ
وسوف ،فلو قال :فسيعلمون لَدّلتْ على التهديد في المستقبل القريب ،وأنه سيحل بهم العذاب في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الدنيا ،أمّا " سوف " فتدلّ على المستقبل البعيد ،فتشمل التهديد في الدنيا وفي الخرة فهي تستغرق
الزمن كله؛ لن المسلمين في باديء المر كانوا مستضعفين ،ل يستطيعون حماية أنفسهم ،وذهبوا
إلى النبي صلى ال عليه وسلم يطلبون منه أن يستنصر ال لهم فلو قال حينئذ في تهديد الكفار "
س ْوفَ يَعَلمُونَ } [العنكبوت:
فسيعلمون " لم تكن مناسبة ،إنما أعطى المد الوسع للتهديد ،فقال { :فَ َ
.]66
لذلك تجد الدقة في أخْذ العهد من النصار للرسول صلى ال عليه وسلم ،ومن الرسول للنصار،
فلما قابلوا رسول ال قالوا :خُذْ لنفسك .قال :تحمونني مما تحمون منه أنفسكم وأعراضكم
وأموالكم.
فقالوا :فما لنا إنْ فعلنا؟ كان من الممكن أن يقول لهم :ستملكون الرض أو ستنشر دعوة ال بكم
وتنتصرون على عدوكم ،لكن هذه الوعود قد يراها بعضهم ،ويموت بعضهم قبل أنْ تتحقق ،فل
ن يموت ،فقال " :لكم
يرى منها شيئا؛ لذلك ذكر لهم جزاءً يستوي فيه الجميع مَنْ يعيش منهم ،ومَ ْ
الجنة ".
وأيضا حين يصرفهم عن دنيا الناس إلى أمر يكون في الدنيا أيضا ،فهي صفقة خاسرة ،إنما أراد
أنْ يصرفهم عن دنيا الناس إلى شيء أعظم مما في دنيا الناس ،وليس هناك أعظم من دنيا الناس
إل الجنة.
والصحابي الذي أخبره النبي صلى ال عليه وسلم بأن الجنة جزاء الشهيد ،وكان يمضغ تمرة في
فمه فقال :يا رسول ال ،أليس بيني وبين الجنة إل أنْ أُقتل في سبيل ال؟ قال :بلى ،فألقى التمرات
وبادر إلى ساحة القتال يستعجل هذا الجزاء.
إذن :فسوف صالحة للزمن المستقبل كله ،أمّا السين فللقريب؛ لذلك يستخدمها القرآن في مسائل
سهِمْ[} ...فصلت.]53 :
ق َوفِي أَنفُ ِ
الدنيا ،كما في قوله تعالى {:سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
وهذه الرؤية ممتدة من زمن رسول ال ،وإلى أنْ تقوم الساعة ،فكل يوم يجدّ في ظواهر الكون
أمور تدل على قدرة ال تعالى ،فمستقبل أسرار ال في كونه ل تنتهي أبدا إل بالسر العظم في
الخرة ،ففي زمن رسول ال قال
{ سَنُرِيهِمْ[} ...فصلت ]53 :وستظل كذلك{ سَنُرِيهِمْ[} ...فصلت ]53 :إلى أنْ تقوم الساعة.
ونلحظ أن المصاحف ما زال في رسمها كلم حتى الن ،فهنا } وَلِيَ َتمَ ّتعُواْ[ { ...العنكبوت]66 :
تجد تحت اللم كسرة ،مع أنها ساكنة ،وهذا يعني أن كتاب ال غالب ،وليس هناك محصٍ له.
عمّا قدّم للسلم خير الجزاء -أعدّ
وأذكر أن سيدنا الشيخ عبد الباقي رضي ال عنه وجزاه ال َ
المعجم المفهرس للفاظ القرآن الكريم وحاول أن يحصي ألفاظه ل سيما لفظ الجللة (ال) الذي
حمْدُ للّهِ َربّ
من أجله أعدّ هذا الكتاب ،ومع ذلك نسي لفظ الجللة في البسملة ،وبدأ من{ الْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْلعَاَلمِينَ }[الفاتحة]2 :؛ لذلك نقص العدد عنده واحدا .وما ذلك إل لن كتاب ال أعظم وأكبر من
أنْ يُحاط به.
جعَلْنَا حَرَما.{ ...
ثم يقول الحق سبحانهَ } :أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا َ
()3332 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبلد هنا نكرة تعني :أيْ بلد لمؤمنين أو لكافرين ،فلما استجاب ال له ،وجعلها بلدا كأيّ بلد تتوفر
ج َعلْ هَـاذَا الْبََلدَ آمِنا[} ...إبراهيم ]35 :أي :هذه التي
له مُقوّمات الحياة دعا مرة أخرىَ {:ربّ ا ْ
صارت بلدا أريد لها مَيْزة على كل البلد ،وأمنا أزيد من أمن أيّ بلد آخر ،أمنا خاصا بها ،ل
المن العام الذي تشترك فيه كل البلد ،لماذا؟ لن فيها بيتك.
لذلك يرى فيها النسان قاتلَ أبيه ،ول يتعرّض له حتى يخرج ،فالجاني مؤمّن إنْ دخل الحرم ،لكن
يُضيق عليه أسباب الحياة حتى يخرج ،حتى ل يجترئ الناس على بيت ال ويفسدون أمنه ،ومن
هذا المن الخاص ألّ يصاد فيه ،ول ُي ْعضَد شجرة ،ول يُروّع ساكنه.
وكأن الحق -سبحانه وتعالى -يقول للمشركين :لماذا ل تؤمنون بهذا الدين الذي جعل لكم بلدا
آمنا ،في حين يُتخطف الناس من حولكم؟ لماذا ل تحترمون وجودكم في هذا المن الذي وهبه ال
لكم.
طفْ مِنْ
خّوعجيب منهم أن يقولوا كما حكى القرآن عنهمَ {:وقَالُواْ إِن نّتّبِعِ ا ْلهُدَىا َم َعكَ نُتَ َ
حمْيناكم أيام كنتم مشركين تعبدون الصنام ،أنترككم بعد أنْ
أَ ْرضِنَآ[} ...القصص ]57 :كيف وقد َ
تؤمنوا مع رسول ال.
وقصة هذا المن أولها في حادثة الفيل ،لما جاء أبرهةُ ليهدم بيت ال ويُحوّل الناس إلى بيت بناه
باليمن ،فردّ ال كيدهم ،وجعلهم كعصف مأكول ،وحين نقرأ هذه السورة على ال َوصْل بما بعدها
تتبين لنا العِلّة من هذا المن ،ومن هذه الحماية ،اقرأ {:أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ *
جعََلهُمْ
سجّيلٍ * فَ َ
حجَا َرةٍ مّن ِ
سلَ عَلَ ْيهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ * تَ ْرمِيهِم بِ ِ
ج َعلْ كَيْدَ ُهمْ فِي َتضْلِيلٍ * وَأَرْ َ
أَلَمْ َي ْ
ل ِفهِمْ رِحْلَةَ الشّتَآءِ وَالصّيْفِ }[قريش:
َك َعصْفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل ]5-1 :لماذا؟{ لِيلَفِ قُرَيْشٍ * إِي َ
.]2-1
فالعلة في أن جعلهم ال كعصف مأكول{ لِيلَفِ قُرَيْشٍ }[قريش ]1 :لن اللم في (ليلَف)
للتعليل ،وهي في بداية كلم فالعلة في أن ال لم يُمكّن العداء من هدم البيت لتظلّ لقريش مهابتها
ومكانتها بين العرب ،ومهابتها مرتبطة بالبيت الذي يقصده الناس من كل مكان.
وهذه المكانة تُؤمّن تجارة قريش في رحلة الشتاء إلى اليمن ،ورحلة الصيف إلى الشام ،ل
يتعرّض لهم أحد بسوء ،وكيف يجتريء أحد عليهم أو يتعرّض لتجارتهم وهم حُماة البيت؟
لفِ قُرَيْشٍ }[قريش ]1 :أن ال أهلك أبرهة وجنوده ولم يُمكّنهم من البيت لتظل
فمعنى{ لِي َ
لقريش ،وليُديم ال عليها أنْ ُيؤْلَفوا وأنْ يُحبّوا من الناس جميعا ،ويواصلوا رحلتهم التجارية
المنة.
خ ْوفٍ }
ع وَآمَ َنهُم مّنْ َ
ط َع َمهُم مّن جُو ٍ
لذلك يقول تعالى بعدها{ فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي أَ ْ
[قريش ]4-3 :فكان من الواجب عليهم أن يعبدوا رب البيت الذي وهبهم هذه النعم ،فما هم فيه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
من أمن وأمان وطعام وشراب ليس بقوتهم ،إنما بجوارهم لبيت ال ،ولبيت ال قداسته عند
العرب ،فل يجرؤ أحد منهم على العتداء على تجارة قريش.
طفْ مِنْ أَ ْرضِنَآ[} ...القصص ]57 :حجة ل عليهم،
فقولهم لرسول الۤ {:إِن نّتّبِعِ ا ْل ُهدَىا َم َعكَ نُ َتخَ ّ
ففي الوقت الذي يُتخطّف الناس فيه من حولهم كانوا هم في أمان ،فهي حجة عليهم.
طفْ مِنْ
خّثم إن الشرط هنا{ إِن نّتّبِعِ ا ْل ُهدَىا َم َعكَ[} ...القصص ]57 :غير مناسب للجواب{ نُتَ َ
أَ ْرضِنَآ[} ...القصص ]57 :فما دمتم قلتم عن الدين الذي جاءكم به محمد أنه هدى -يعني هدى
ن تؤمنوا به لو تأكد لديكم أنه هدى ،وإل فأنتم كاذبون في هذا القول ،ولِمَ
ل -فكان يجب عليكم أ ْ
ل وأنتم تُكذّبون القرآن وتقولون عنه افتراءوكذب وسحر ،والن تقولون عنه هدى ،وهذا تناقض
عجيب.
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف ]31 :ومعنى هذا أن
ألم يقولوا{ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
القرآن ل غبارَ عليه ،لكن آفته أنه نزل على هذا الرجل بالذات.
طلِ ُي ْؤمِنُونَ.
وقوله تعالى } َأفَبِالْبَا ِ
[ { ..العنكبوت ]67 :أي :بالصنام } وَبِ ِنعْمَةِ اللّهِ َي ْكفُرُونَ { [العنكبوت ]67 :قال } وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ
{ [العنكبوت ]67 :ولم يقل مثلً :وبعبادة ال ،أو باليمان بال يكفرون؛ لن إيمانهم لو لم يكُنْ له
ن يؤمنوا به.
سبب إل نِعمَ ال عليهم أنْ يُطعِمهم من جوع ،ويُؤمنهم من خوف لكان واجبا عليهم أ ْ
ن قلتَ ما دام أن
والباطل مقابل الحق ،وهو زَهُوق ل دوامَ له ،فسرعان ما يفسد وينتهي ،فإ ْ
حقّ وباطل؟
الباطل زهوق وسينتهي ،فما الداعي للمعركة بين َ
نقول :لول عضة الباطل للمجتمع لما استشرفَ الناس للحق ينقذهم ،فالباطل نفسه جُنْد من جنود
الحق ،كما أن الكفر جُنْد من جنود اليمان ،فلول الكفر وما يفعله الكافرون بالناس لما اشتاق
الناس لليمان ،الذي يُوفّر لهم المن والطمأنينة والراحة والمساواة.
كما أن معنى َكفَرَ يعني ستر الله الواجب الوجود ،والسّتْر يحتاج إلى مستور ،فما هو المستور
بالكفر؟ المستور بالكفر اليمان ،فكلمة كفر نفسها دليلُ وجود اليمان.
وسبق أن قلنا :إن النسان قد يكره بعض الشياء ،وهي لمصلحته ولحكمة خلقها ال ،ومثّلْنا لذلك
باللم الذي يتوجّع منه النسان ،وهو في الحقيقة تنبيه له واستنهاض ليعلم سبب هذ اللم ويتنبه،
فيدفع المرض عن نفسه ،ويطلب له الدواء.
فاللم بهذا المعنى جُنْد من جنود العافية ،وإلّ فأف َتكُ المراض بالبشر ما ليس له ألم يُنبّه إليه،
فيظل كامنا في الجسم حتى يستفحل أمره ،وتعزّ مداواته؛ لذلك يصفونه بالمرض الخبيث؛ لنه
يتلصّص في الجسم دون أنْ يظهر له أثر يدل عليه.
فالحق -سبحانه وتعالى -خلق اللم لحكمة؛ ليُنبّهك أن في موضع اللم عطبا ،وأن الجارحة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التي تألم غير صالحة لداء مهمتها؛ لذلك يقولون في تعريف العافية :العافية ألّ تشعر باعضائك،
عطَب فآلمتك.
لك أسنان تأكل بها ،لكن ل تدري بها ،وربما ل تتذكر هذه النعمة إل إذا أصابها َ
إذن :حين تعلم جارحتك وتتألم ،فاعلم أنها غير طبيعية ،وأنها ل تؤدي مهمتها كما ينبغي ،فعليك
أنْ تبادر بعلجها.
صوْلة ،فإنما ذلك ليُشعرك بحلوة الحق ،فتستشرف له
وأيضا حين يزدهر الباطل ،وتكون هل َ
وتتمناه .لذلك انتشر السلم في البلد التي فيها أغلبية إسلمية ،ل بالسيف كما يحلو للبعض أن
يقول ،إنما انتشر برؤية الناس لمبادئه وسماحته.
ففي بلد فارس والروم ذاق الناسُ هناك كثيرا من المتاعب من دياناتهم ومن قوانينهم ،فلما سمعوا
عن السلم ومبادئه وسماحة تعاليمه أقبلوا عليه.
فلول أن الباطل عضّهم لما لجأوا لليمان ،فالسلم انتشر انتشارا عظيما في نصف قرن من
الزمان ،ولم يكن هذا نتيجة الندفاع اليماني ليدخل الناس في السلم ،إنما لجذْب الضلل
لليمان ،فكأن السلم مدفوع بأمرين :أهله الحريصون على انتشاره ،وباطل يجذب الناس إليه.
والحق -سبحانه وتعالى -يعطينا مثلً للحق وللباطل في قوله تعالى:
سمَآءِ مَآءً َفسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ فِي النّارِ
{ أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ
جفَآءً وََأمّا مَا
طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ
ق وَالْبَا ِ
حّابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثُْلهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ
لمْثَالَ }[الرعد.]17 :
يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا َ
ش والفُتات الذي يحمله الماء ،فيكون طبقة على سطح الماء ،ثم يزيحه الهواء إلى
فالزبَد :هو الق ّ
الجوانب ،ويظل الماء بعده صافيا ،فالزبَد مثلٌ للباطل؛ لنه يعلو على سطح الماء ،لكن إياك أن
تظن أنه ذو شأن ،أو أن عُلوه سيدوم؛ لنه غثاء ل قيمة له ،وسرعان ما يزول ويبقى الماء
صهْر المعادن ،فحين يصهر الصائغ
النافع ،وكما يتكون الزبَد على سطح الماء كذلك يتكوّن عند َ
مثلً الذهب أو الفضة يخرج المعدن الصيل تاركا على الوجه الخبَث الذي خالطه.
لذلك يقول بعض العارفين :إن ال تعالى ل يترك الحق ،ول ُيسْلِمه أبدا للباطل ،إنما يتركه لحين
ليبلو غيرة الناس عليه ،فإذا لم يغاروا على الحق غار هو سبحانه عليه.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ.{ ...
()3333 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا استفهام يريد منه الحق -سبحانه وتعالى -قضية يُقرها المقابل ،فلم يوردها بصيغة الخبر:
ل أظلم؛ لن الخبر في ذاته يحتمل الصدق أو الكذب ،فجاء بصيغة الستفهام لتنطق أنت بالقضية،
كما تقول لمن ينكر معروفك :مَنْ أعطاك هذا الثوب؟ فل يملك إل أنْ يعترف بفضلك ،لكن إنْ
قلت له إخبارا :أنا أعطيتُك هذا الثوب ،فالخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب ،وربما ينكر فيقول:
ل لم تعطني شيئا.
إذن :إيراد الكلم بأسلوب الستفهام أقوى في تقرير واقع من أسلوب الخبر؛ لن الخبر يأتي من
المتكلم ،أمّا القرار فمن السامع ،وأنت ل تُلِقي بالستفهام إل وأنت واثق أن الجواب سيأتي على
َوفْق ما تريد.
فمعنى { َومَنْ َأظْلَمُ[ } ...العنكبوت ]68 :ل أحد أظلم ،والظلمَ :نقْل الحق من صاحبه إلى غيره،
والظلم قد يكون كبيرا وعظيما ،وهو الظلم في القمة في العقيدة ،كما قال سبحانه {:إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ
عَظِيمٌ }[لقمان.]13 :
وقد يكون الظلم بسيطا هيّنا ،فالذي افترى على ال الكذب ،ل أحدَ أظلم منه؛ لنه لو افترى على
مثله لكان أمره هينا ،لكنه افترى على مَنْ؟ على ال ،فكان ظلمه عظيما ،ومن الحمق أن تفتري
على ال؛ لنه سبحانه أقوى منك يستطيع أن يُدلل ،وأنْ يبرهن على كذبك ،ويستطيع أن يدحرك،
وأن يُوقفك عند حدّك ،فمَنِ اجترأ على هذا النوع من الظلم فإنما ظلم نفسه.
وقلنا :إن الفتراء كذب ،لكنه متعمد؛ لن النسان قد يكذب حين يخبر على مقتضى علمه ،إنما
الواقع خلف ما يعلم ،لذلك عرّف العلماء الصدق والكذب فقالوا :الصدق أنْ يطابق الكلمُ الواقعَ،
والكذب أن يخالف الكلمُ الواقعَ ،فلو قلتُ خبرُا على مقتضى علمي ،ولم أقصد مخالفة الواقع ،فإن
خالف كلمي الواقع فالخبر كاذب ،لكن المخبر ليس بكاذب.
وقوله سبحانهَ { :أوْ َك ّذبَ بِا ْلحَقّ َلمّا جَآ َءهُ[ } ...العنكبوت ]68 :فيا ليته افترى على ال كذبا
ابتداءً ،إنما صعّد كذبه إلى مرحلة أخرى فعمد إلى أمر صِدْق وحقّ فكذّبه ،ثم يقرر جزاء هذا
جهَنّمَ مَ ْثوًى لّ ْلكَافِرِينَ } [العنكبوت ]68 :يعني:
التكذيب بأسلوب الستفهام أيضا { َألَيْسَ فِي َ
أضاقتْ عنهم النار ،فليس بها أمكنة لهؤلء؟ بلى بها أمكنة لهم ،بدليل أنها ستقول وهي تتشوق
لتِ وَ َتقُولُ َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق.]30 :
إليهم حين تسألَ {:هلِ امْتَ َ
وكأن الحق سبحانه يقول :لماذا يفتري هؤلء على ال الكذب؟ ولماذا يُكذّبون الحق؟ اعلموا أن
جهَنّمَ مَ ْثوًى لّ ْلكَافِرِينَ } [العنكبوت]68 :
جهنم ليس بها أماكن لهم؟ فالستفهام في { َألَيْسَ فِي َ
استفهام إنكاري يُنكر أن يظن المكذبون الكافرون أنه ل مكان لهم في جهنم.
فالحق سبحانه في إرادته أزلً أن يخلق الخَلْق من لَدُن آدم -عليه السلم -وإلى أنْ تقوم الساعة،
وأنْ يعطيهم الختيار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ[} ...الكهف ]29 :وقدر أن يؤمنوا جميعا فأعدّ لهم أماكنهم في
الجنة ،وقدر أن يكفروا جميعا فأعدّ لهم أماكنهم في النار.
فإذا كان يوم القيامة يدخل أهل الجنة الجنة ،وأهل النار النارَ ،يورث ال المؤمنين في الجنة أماكن
الكافرين فهيا فيتقاسمونها بينهم ،وكذلك يتقاسم أهل النار أماكن المؤمنين في النار بالرد ،فمَنْ كان
له في النار مكان واحد يصير له مكانان.
جهَنّمَ مَ ْثوًى لّ ْلكَافِرِينَ { [العنكبوت ]68 :يجعل السامع يشاركك
كما أن الستفهام } أَلَ ْيسَ فِي َ
الكلم ،وفيه معنى التقريع والتوبيخ ،كما في قوله تعالى {:إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ
حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا َأهِْلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْهُمْ قَالُواْ
َيضْ َ
حكُونَ *
ضَإِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُ ْرسِلُواْ عَلَ ْيهِمْ حَافِظِينَ * فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َي ْ
عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المطففين.]36-29 :
يلتفت ال إلى المؤمنين الذين اسْتُهزئ بهم في الدنيا :هل قدرنا أنْ نجازي هؤلء الكافرين ،ونردّ
س للمؤمنين وتقريعٌ للكافرين -فيقولون :نعم يا رب ،نعم يا رب،
إليكم حقوقكم -وفي هذا إينا ٌ
نعم يا رب ،فالحق سبحانه يريد أنْ يحرش المؤمنين بهم ،فل يلينون لهم ،ول يعطفون عليهم،
ط َغوْا وتكبّروا ،وعرضت عليهم الحجج والدلة فكذّبوها وأصرّوا على عنادهم ،فبالغوا في
لنهم َ
الظلم.
()3334 /
وَالّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَ َن ْهدِيَ ّنهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ اللّهَ َلمَعَ ا ْلمُحْسِنِينَ ()69
نقول :جَهدَ فلن يجهد أي أتعب نفسه واجتهد :ألح في الجتهاد وجاهد غيره ،فجاهد تدل على
المفاعلة والمشاركة ،وهي ل تتم إل بين طرفيْن ،وفي هذه الصيغة (المفاعلة) نغلب الفاعلية في
أحدهما والمفعولية في الخر ،مع أنهما شركاء في الفعل ،فكلّ منهما فاعل في مرة ،ومفعول في
الخرى ،كأنك تقول :شارك زيدٌ عمرا ،وشارك عمرو زيدا .أو :أن الذي له ضِلع أقوى في
ل والخر مفعولً.
اشركة يكون فاع ً
وبعد أن بيّن الحق سبحانه أن مثوى الكافرين المكذّبين في جهنم وحرّش المؤمنين بهم ،وما داموا
قد ظَلموا هذا الظلم العظيم ل بُدّ أن يوجد تأديب لهم ،هذا التأديب ل لرغامهم على اليمانَ {،فمَن
شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ[} ...الكهف ]29 :إنما التأديب أن نجهر بدعوتنا ،وأن نعلي كلمة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق ،فمن شاء فليؤمن ،ومَنْ شاء فليظل على حاله ،إذن :فالية تبين موقف المؤمنين أمام هؤلء
المكذبين { :فِينَا لَ َنهْدِيَ ّنهُمْ سُبُلَنَا[ } ...العنكبوت.]69 :
معنى (جاهدوا فينا) أي :من أجلنا ولنصرة ديننا ،والخصومات التي نجاهدها في ال كثيرة:
خصمة في مسألة القمة اليمانية ووجود الله الواحد كالملحدة الذين يقولون بعدم وجود إله في
الكون ،وهؤلء لهم جهاد ،وأهل الشرك الذين يقرون بوجود ال لكن يدّعُون أن له شريكا ،وهؤلء
لهم جهاد آخر.
فجهاد الملحدة بالمنطق وبالحجة ليقولوا هم بأنفسهم بوجود إله واحد ،ونقول لهم :هل وٌجِد مَن
ادعى أنه خلق ذاته أو خلق غيره؟ بل تأملوا في أتفه الشياء التي تستخدمونها في حياتكم :هذا
الكوب الزجاجي وهو ترف ليس من ضروريات الحياة هل تقولون :إنه وُجد هكذا دون صانع؟
إذن :كيف وُجِد؟ هل لدينا شجرة مثلً تطرح لنا هذه الكواب؟
إذن :هي صنعة لها صانع ،استخدم العقل الذي منحه ال إياه ،وأعمله في المواد التي جعلها ال
في الكون ،واستنبط منها هذه المادة (الزجاج).
مصباح الكهرباء الذي اخترعه (إديسون) كم أخذ منه من جهد وبحث ودراسة ،ثم يحتاج في
صناعته إلى معامل ومهندسين وصيانة ،ومع ذلك حصاة صغيرة تكسره فينطفيء ،وقد أخذ
(أديسون) كثيرا من الشهرة وخلّدنا ذكراه ،وما زالت البشرية تذكر له فضله.
أفل ينظرون في الشمس التي تنير الدنيا كلها منذ خلقها ال وإلى قيام الساعة دون أنْ تحتاج إلى
صيانة ،أو إلى قطعة غيار؟ وهل يستطيع أحد أن يتناولها ليصلحها؟ وهل تأ ّبتْ الشمس عن
الطلوع في يوم من اليام ،وما تزال تمدكم بالحرارة والشعة والدفء والنور؟
أتعرف مَنْ صنع المصباح ،ول تعرف مَنْ صنع الشمس؟ لقد فكرتم في أتفه الشياء وعرفتم مَنْ
صنعها ،وأرّخْتُم لهم ،وخلدتم ذكراهم ،ألم يكن َأوْلَى بكم التفكّر في عظمة خلق ال واليمان به؟
ثم ُقلْ لي أيها الملحد :إذا غشيك ظلم الليل ،كيف تضيئه؟ قالوا :كل إنسان يضيء ظلم ليله على
حسْب قدرته ،ففي الليل ترى الضاءات مختلفة ،هذا يجلس في ضوء شمعة ،وهذا في ضوء لمبة
َ
جاز ،وهذا في ضوء لمبة كهرباء ،وآخر في ضوء لمبة نيون ،فالضواء في الليل متباينة تدل
على إمكانات أصحابها ،فإذا ما طلعتْ الشمس ،وأضاء المصباح الرباني أطفئت كل هذه
الضواء ،ولم َيعُدْ لها أثر مع مصباح الخالق العظم سبحانه.
أليس في هذا إشارة إلى أنه إذا جاءنا حكم من عند ال ينبغي أنْ نطرح أحكامنا جميعا لنستضيء
بحكم ال؟ أليس في صدق المحسوس دليل على صدق المعنويات؟
وأنت يا مَنْ تدّعي أن ل شريكا في مُلكه :مَنِ الذي قال إن ل شريكا؟ لقد قلتها أنت من عند
نفسك؛ لن ال تعالى حين قال :أنا إله واحد ل شريك لي لم يعارضه أحد ،ولم ي ّدعِ أحد أنه شريك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل.
فهذا دليل على أن الشريك غير موجود ،أو أنه موجود ولم َيدْرِ ،أو درى ولم يقدر على المواجهة،
وفي كلتا الحالتين ل يصلح أن يكون إلها.
ثم على فرض أنه موجود ،ما منهجه؟ بماذا أمرك وعَمّ نهاك؟ ماذا أعدّ لك من النعيم إنْ عبدته؟
ن كفرتَ به؟ إذن :فهذا الله المزعوم إله بل منهج ،فعبادته باطلة.
وماذا أعد لك من العذاب إ ْ
أما هؤلء الذين يؤمنون بدين سماوي ول يؤمنون بالرسول صلى ال عليه وسلم فنقول لهم :يكفي
من جوانب العظمة في شخصية محمد بن عبد ال أنه ل يتعصب لنفسه؛ لن قلبه مع كل مَنْ
ن كفر بمحمد ،إنه يتعصب لربه
يؤمن بال حتى وإنْ كفر به ،محمد يحب كل مَنْ آمن بربه ،وإ ْ
حتى فيمن كذبه.
ثم أنتم يا أصحاب الديانات اليهودية أو المسيحية الذين عاصرتم ظهور السلم فأنكرتموه ،مع أن
دينكم جاء بعد دين ،ورسولكم جاء بعد رسول سابق ،فلماذا لما جاءكم محمد كذّبتموه وكفرتم به؟
لماذا أبْحتم أنْ يأتي عيسى بعد موسى عليهما السلم ،وأنكرتُم أنْ يأتي بعد عيسى محمد؟
إذن :لكل خصومة في دين ال جدل خاص ومنطق للمناقشة نقوم به في ضوء } :وَالّذِينَ جَاهَدُواْ
فِينَا لَ َنهْدِيَ ّنهُمْ سُبُلَنَا[ { ...العنكبوت ]69 :وعليك أن تنظر أولً ما موقع الجهاد الذي تقوم به ،فجهاد
الملحدة بأسلوب ،وجهاد المشركين بأسلوب ،وجهاد أهل الكتاب بأسلوب ،وجهاد المسلم للمسلم
كذلك له منطق إنْ دبّ بينهما الخلف ،مع أن ال تعالى قال {:إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َنهُ ْم َوكَانُواْ شِيَعا
شيْءٍ[} ...النعام.]159 :
ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ
لّ ْ
فساعةَ ترى كلً منهما في طرف ،بحيث ل تستطيع أن تتبع أحدهما ،فاعلم أنهما على باطل؛ لن
السلم شيء واحد سبق أنْ شبّهناه بالماء البيض الصافي الذي لم يخالطه لون ول رائحة ول
طعم ،فإنْ لوّنته الهواء وتحزّب الناس فيه كما يُلوّنون العصائر فقد جانبهم الصواب وأخطأوا
الدين الصحيح.
لن ما جاء فيه حكم صريح من عند ال اتفقنا عليه ،وما تركه ال لجتهادنا فينبغي على ُكلّ منا
أن يحترم اجتهاد الخر ،وأن يقول :رأيي صواب يحتمل الخطأ ،ورأى غيري خطأ يحتمل
الصواب ،وبهذا المنطق تتعايش الراء.
والحق -سبحانه وتعالى -يعطينا المثل على ذلك ،فما أراده سبحانه في المنهج مُحكما يأتي
محكما في قول واحد ل خلف فيه ،وضربنا مثلً لذلك بآية الوضوء {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ُقمْتُمْ
إِلَى الصّلةِ فاغْسِلُو ْا وُجُو َهكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ إِلَى ا ْلمَرَافِقِ[} ...المائدة.]6 :
فلم يحدد الوجه؛ لنه ل خلف في تحديده بين الناس ،إنما حدد اليدي لنها محل خلف .إذن:
فالقضايا التي تُثار بين المسلمين ينبغي أن يكون لها جدل خاص في هذا الطار دون تعصّب ،فما
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جاءك مُحْكما ل مجالَ فيه لرأي التزم به الجميع ،وما تُرِك بل تنصيص ل يحتمل الخلف،
فليذهب كل واحد إلى ما يحتمله النص.
ت بمعنىً فل تحجر على
فالباء في لغتنا مثلً تأتي للتبعيض ،أو للستعانة ،أو لللصاق ،فإنْ أخذ َ
غيرك أنْ يأخذ بمعنى آخر.
فإنِ استعر القتال بين طائفتين من المسلمين ،فيجب أن تكون هناك طائفة معتدلة تتولى أمر
حدَا ُهمَا
الصلح ،كما قال سبحانه {:وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا فَإِن َب َغتْ إِ ْ
عَلَىا الُخْرَىا َفقَاتِلُواْ الّتِي تَ ْبغِي حَتّىا َتفِيءَ إِلَىا َأمْرِ اللّهِ فَإِن فَآ َءتْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا بِا ْلعَ ْدلِ
سطِينَ }[الحجرات.]9 :
حبّ ا ْلمُقْ ِ
وََأقْسِطُواْ إِنّ اللّهَ ُي ِ
نلحظ أن ال تعالى سماهم مؤمنين ،ومعنى ذلك أن اليمان ل يمنع أن نختلف ،وهذا اليمان الذي
ل يمنع أن نختلف هو الذي يُوجب علينا أن يكون منا طائفة معتدلة على الحياد ل تميل هنا أو
هناك ،تقوم بدو ْر الصلح وبدوْر الردع للباغي المعتدي حتى يفييء إلى الجادة وإلى أمر ال.
فإنْ فاءت فل نترك المور تُخيّم عليها ظلل النصر لفريق ،والهزيمة لفريق آخر ،إنما نصلح
ل وشحناء ،فقد تنازل القوي عن كبريائه لما ضربنا على يده،
غّبينهما ،ونزيل ما في النفوس من ِ
وَقوي الضعيف ،بوقوفنا إلى جانبه ،فحدث شيء من التوازن وتعادلتْ ال ِكفّتان ،فليعُدْ الجميع إلى
حظيرة المن والسلم.
بقي لنا أن نتحدث عن جهاد آخر أهم ،هو جهاد النفس البشرية؛ " لن النبي صلى ال عليه وسلم
لما عاد من إحدى الغزوات قال " :رجعنا من الجهاد الصغر إلى الجهاد الكبر " فوصف جهاد
النفس بأنه الجهاد الكبر ،لماذا؟ لنك في ساحة القتال تجاهد عدوا ظاهرا ،يتضح لك عدده
وأساليبه ،أمّا إنْ كان عدوك من نفسك ومن داخلك ،فإنه يعزّ عليك جهاده ،فأنت تحب أنْ تحقق
لنفسك شهواتها ،وأنْ تطاوعها في أهوائها ونزواتها ،وهي في هذا كله تُلِح عليك وتتسرّب من
خللك.
فعليك أنْ تقف في جهاد النفس موقفا تقارن فيه بين شهوات النفس العاجلة وما تُورِثك إياه من
حسرة آجلة باقية ،وما تضيعه عليك من ثواب ربك في جنة فيها من النعيم ،ما ل عَيْن رأتْ ،ول
أذن سمعت ،ول خطر على قلب بشر.
ق معك ،سوابق خير أعدّها لك
ضع ربك ونفسك في هذه المقابلة وتبصّر ،واعلم أن لربك سواب َ
قبل أن توجد ،فالذي أعدّ لك كل هذا الكون ،وجعله لخدمتك ل شكّ مأمون عليك ،وأنت عبده
وصنعته ،وهل رأيت صانعا يعمد إلى صنعته فيحطمها؟
أما إن رأيت النجار مثلً يمسك (بالفارة) وينحت في قطعة الخشب ،فاعلم أنه يُصلحها لداء
مهمتها ،وأذكر قصة الطفل (أيمن) الذي جاء أمه يبكي؛ لن الخادمة تضرب السجادة ،فأخذتْه أمه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأرتْه التراب الذي يتساقط من السجادة في كل ضربة من ضربات الخادمة ،ففهم الطفل على قدر
عقله.
وكذلك الحق سبحانه حين يبتلي خَلْقه ،فإنما يبتليهم ل كَيْدا فيهم ،بل إصلحا لهم .ألم نسمع كثيرا
أما تقول لوحيدها (إلهي أشرب نارك)؟ بال ما حالها لو استجاب ال لها؟ وهي في الحقيقة ل
تكره وحيدها وفلذة كبدها ،إنما تكره فيه الخصلة التي أغضبتها منه.
وكذلك الحق -سبحانه وتعالى -ل يكره عبده ،إنما يكره فيه الخصال السيئة فيريد أنْ يُطهّره
منها بالبلء حتى يعود نقيا كيوم ولدته أمه ،فأحسن أيها النسان ظنك بربك.
إذن :نقول :إن من أعظم الجهاد جهادك لنفسك ،لنها تُلِح عليك أن تُشبع رغباتها ،كما أنها
عُرْضة لغراء الهوى ووسوسة الشيطان الذين يُزيّن لها كل سوء ،ويُحبّب إليها كل منكر.
ل في المعصية
وسبق أنْ بيّنا :كيف نُفرّق بين تزيين الشيطان وتزيين النفس؛ لن النفس مدخ ً
بدليل قول النبي صلى ال عليه وسلم " :إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة ،وغُلّقت أبواب النار،
وصُفّدت الشياطين ".
فلو كانت الذنوب كلها بسبب الشيطان لم نجد من يذنب في رمضان ،إنما هناك كثير من الذنوب
تُرتكب في رمضان ،وهذا يعني أنها من تزيين النفس ،وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يكشف ابن
آدم :ها أنا قد صفّدْت الشياطين ومع ذلك تذنبون.
فإنْ أردتَ أنْ تعرف هل المعصية من النفس أم من الشيطان ،فإن النفس تقف بك عند معصية
بعينها ل تريد سواها ،ول تنتقل بك إلى غيرها ،وتظل تُلح عليك إلى أنْ تُوقِعك فيها ،أما الشيطان
فإنه يريدك عاصيا بأية صورة وعلى أية حال ،فإنْ تأبّ ْيتَ عليه نقلك إلى معصية أخرى.
وعلى العاقل أن يتأمل ،فالمعصية تعطيك لذة عاجلة ومتعة فانية ،ل تليق أبدا بهذا النسان الذي
كرّمه ال ،وجعله خليفة له في الرض ،وسيدا لهذا الكون ،والكون كله بأرضه وسمائه خادم له،
ن يكون الخادم أطول عمرا من المخدوم؟
فهل يُعقل أ ْ
إنك تموت بعد عام أو بعد مائة عام ،في حين أن الشمس التي تخدمك تعمر مليين السنين :إذن:
ل ُبدّ أن لك حياة أخرى أبقى وأدوم من حياة خادمك ،فإنْ كنتَ الن في حياة تُوصَف بأنها دنيا،
فهذا يعني أنها تقابلها حياة أخرى تُوصَف بأنها عليا ،وهي حياتك في الخرة ،حيث ل موتَ فيها
أبدا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كل حركة حياتك في إطار } وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا[ { ...العنكبوت ]69 :يعني :من أجلنا مخلصين
ل ل ينظرون إلى غيره.
والنسان مهما تحرّى الخلص في عمله ،وقصد به وجه ال ل يأمن أن يخالطه شيء من رياء
أو سمعة ،حتى أن المعصوم محمدا صلى ال عليه وسلم ليقول " :اللهم إني استغفرك من كل عمل
أردتُ به وجهك ،فخالطني فيه ما ليس لك ".
ل فما الفَرْق بين المؤمن والكافر،
وهذا معنى (جاهدوا فينا) أن يكون العمل كله ل خالصا ،وإ ّ
وكلهما يعمل ويسعى في الدنيا لكسب لقمة العيش له ولولده ،فهما في السعي سواء ،فما مزية
المؤمن إذن؟
الميزة أن الكافر يعمل على َقدْر حاجته فحسب ،أمّا المؤمن فيعمل على قدر طاقته ،فيأخذ ما يكفيه
ويعود بالفضل على مَنْ ل طاقةَ عنده للعمل ،ففي نيته أن يعمل له وللمحتاج غير القادر.
ونمثل لذلك بالبقال الذي فتح ال عليه ،فباع كثيرا في أول النهار وأخذ كفايته ،ثم أغلق محله فلم
ينظر إلى الذين يعاملونه على الشهر ،ويأخذون حاجتهم لجَل ،ولم ينظر إلى ربة البيت التي
تنتظر عودة زوجها لتشتري ما يلزمها ،فقد نظر إلى حظ نفسه ،ونسي حظ الخرين.
شعُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ عَنِ
واقرأ إنْ شئت قوله تعالىَ {:قدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * الّذِينَ ُهمْ فِي صَلَ ِتهِمْ خَا ِ
الّل ْغوِ ّمعْ ِرضُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون ]4-1 :ولم يقل مُؤدّون إنما :فاعلون
من أجل الزكاة أي :يعملون على قَدْر طاقتهم ،ل على قدْر حاجتهم .فالذين يعملون في إطار }
وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا[ { ...العنكبوت ]69 :ل يغيب ال أبدا عن بالهم.
ولكي نفقه هذه المسألة انظر إلى عمل أو جميل قدّمته لغير وجه ال ترى أن صاحبه أنكره ،بل
ربما ل ينالك منه إل الذمّ ،وساعتها ل تلومنّ إل نفسك ،لنك أخطأت التوجه ،وقد عملت للناس
ن عملتَ لوجه ال ف ِثقْ أن جميلك محفوظ عند ال وعند الناس.
خذْ أجرك منهم ،إنما إ ْ
فُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن كنت أفضل في شيء فأنت مفضول في أشياء كثيرة ،وسبق أن
كبرا ،واستعلء على الخَلْق ،فإ ْ
قلنا :إن ال نثر المواهب بين الخَلْق ليظلوا ملتحمين بحاجة بعضهم إلى بعض.
فقوله تعالى } لَ َنهْدِيَ ّنهُمْ سُبُلَنَا[ { ...العنكبوت ]69 :أي :السبل الموصّلة لنعيم الخرة ،سبل الرتقاء
سعَىا نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِ ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِم[} ...الحديد.]12 :
في اليقين اليماني الذي قال ال عنه {:يَ ْ
ويقول سيدنا عمر بن عبد العزيز :ما قصّر بنا في علم ما جهلناه ،إل تقصيرنا في العمل بما
علمناه فالذي جعلنا ل نعرف أسرار ال أننا قصرنا في العمل بما أمرنا به ،إذن :فلماذا يعطينا
ونحن ل نعمل بما أخذنا من قبل ،لكن حين تعمل بما علمتَ ،فأنت مأمون على منهج ال ،فل
يحرمك المزيد ،كما قال سبحانه {:وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَا َدهُمْ ُهدًى وَآتَا ُهمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد.]17 :
جعَل ّل ُكمْ فُ ْرقَانا[} ...النفال ]29 :والفرقان من
وقوله تعالى {:يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ َي ْ
أسماء القرآن ،فحين تتقي ال على مقتضاه ،وبمدلول منهجه في القرآن ،يمنحك فرقانا آخر ونورا
آخر تبصر به حقائق الشياء ،وتهتدي به إلى الحكم الصحيح ،هذا النور الذي وهبه ال للمام
علي -رضي ال عنه -حينما دخل على عمر بن الخطاب -رضي ال عنه -فوجده يريد أنْ
حدّ على زوجة ولدتْ لستة أشهر ،والشائع أن فترة الحمل تسعة أشهر ،فقال لعمر :لكن ال
يقيم ال َ
قال غير ذلك يا أمير المؤمنين ،قال عمر :وماذا قال يا علي؟
حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَن يُ ِتمّ
ضعْنَ َأ ْولَدَهُنّ َ
قال علي :قال ال تعالى {:وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ
ال ّرضَاعَةَ[} ...البقرة ]233 :يعني :أربعة وعشرون شهرا.
شهْرا[} ...الحقاف ]15 :وبطرح العددين يكون
حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ
وقال في موضع آخر {:وَ َ
الباقي ستة أشهر ،وهي أقل مدة للحمل.
هذا هو الفرقان الذي يمنحه ال للمؤمنين الذين عملوا بما عملوا؛ لذلك كان عمر بن الخطاب وما
أدراك ما عمر؟ عمر الذي كان ينزل الوحي على َوفْق رأيه ،كان يقول :بئس المقام بأرض ليس
فيها أبو الحسن.
ومعلوم أن عليا -رضي ال عنه -تربّى في حجرْ رسول ال ،وشرب من معينه ،فكل معلوماته
صفّين التي دارتْ بين علي ومعاوية كان
إسلمية ،وله في الحق حجة ومنطق .فمثلً في موقعه ِ
عمار بن ياسر في صفوف علي ،فقتله جنود معاوية ،فتذكر الصحابة قول رسول ال لعمار " وَيْح
عمار ،تقتله الفئة الباغية " فعلموا أنها فئة معاوية.
فأخذ الصحابة يتركون صفوف معاوية إلى صفوف علي ،فأسرع عمرو بن العاص وكان في
شتْ فاشيةٌ في الجيش ،إنْ هي استمرت فلن يبقى معنا
جيش معاوية ،فقال له :يا أمير المؤمنين فَ َ
أحد ،قال :وما هي؟ قال :تَ َذكّر الناس قول رسول ال " ويح عمار تقتله الفئة الباغية " قال معاوية:
فأفْشِ فيهم ،إنما قتله مَنْ أخرجه للقتال -أي علي -فلما بلغ عليا هذه المقالة قال بما عنده من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الفرقان والحجة :إذن قولوا له مَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب؟
فمن عمل بما علم أورثه ال علم ما لم يعلم ،ومثّلْنا لذلك قلنا :هب أن لك ولدا متعثرا غير مُوفّق
في حياته العملية ،فنصحك إخوانك بأنْ تعطيه فرصة ،وتجربه ولو بمشروع صغير في حدود
مائة جنيه ،فلما فعلتَ بدّد هذا المبلغ ولم ينتفع به ،أتجرؤ على منحه مبلغا آخر؟ وإنما لو ثمّر هذا
المبلغ ونماه لعطيته أضعافا.
ثم يقول سبحانه } :وَإِنّ اللّهَ َلمَعَ ا ْل ُمحْسِنِينَ { [العنكبوت ]69 :الحسان من النسان أن يعبد ال
كأنه يراه ،فإن لم يكن يراه فإنه يراه ،والحسان في الداء أن تزيد عما فرض ال عليك ،لكن من
جنس من فرض ،فإذا أنت أحسنتَ أحسن ال إليك بأنْ يزيدك إشراقا ،ويزيدك نورانية ،ويُخفّف
عنك أعباء الطاعة ،ويُقبّح في نفسك المعاصي.
لذلك بلغت محبة أحد العارفين للطاعة حتى قال :اللهم إني أخاف ألّ تثيبني على طاعتي؛ لنني
أصبحتُ أشتهيها .يعني :لو لم تكن هناك جنة ول نار لفعلتُ الطاعة؛ لنها أصبحتْ بالنسبة لي
شهوة نفس ،وقد أمرتنا يا ربّ أن نخالف شهوة النفس لذلك أخاف ألّ تثيبني عليها ،ولمثل هذا
نقول.
} وَإِنّ اللّهَ َلمَعَ ا ْل ُمحْسِنِينَ { [العنكبوت.]69 :
كملة (مع) تفيد المعية ،والمعية في أعراف البشر أنْ يلتقي شيء بشيء ،لكن إذا كانت المعية مع
ال فافهم أنها معية أخرى غير التي تعرفها مع زميلك أو صديقك ،خُذْها في إطار{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ
شيْءٌ }[الشورى ]11 :فلك وجود ول وجود ،لكن أوجودك كوجود ال؟ ال يعلم أننا نسجل الن
َ
في مسجد أبي بكر الصديق ،لكن هل علْمنا كعِلْمه تعالى؟ ال يعلم هذا قبل أن ينشأ المسجد ،وقبل
أنْ نُولد نحن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خلْق معايير أخرى،
ففي الخرة يخلقني ال خَلْقا آخر أستطيع أن أراه سبحانه ،حيث سيكون لل َ
ألستَ تأكل وتشرب في الخرة ،ومع ذلك ل تتغوّط في الجنة؟
لذلك لما سأل حاكم الروم أحد علماء المسلمين :كيف تأكلون وتشربون في الجنة ول تتغوطون؟
فقال له :وما العجيب في ذلك؟ ألم تر إلى الطفل في بطن أمه يتغذى وينمو وهو ل يتغوط ،ولو
تغوّط في مشيمته لحترق.
ثم سأله :وتقولون إن نعيم الجنة تأخذون منه ول ينتهي ول ينقص؟ فقالَ :هبْ أن لك مصباحا،
وجاءت الدنيا كلها ،وقبستْ من مصباحك نارا ،أينقص منه شيء؟
فسأله :فأين تذهب الرواح التي كانت فينا بعد أن نموت؟ فقال :تذهب حيث كانت قبل أنْ تسكن
فينا.
هذه مسائل ونماذج للتوفيق والهداية للحق في إطار } :جَاهَدُواْ فِينَا لَ َنهْدِيَ ّن ُهمْ سُبُلَنَا[ { ...العنكبوت:
جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا[} ...النفال.]29 :
]69وهي فَيْض مما قال ال فيه {:إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ َي ْ
()3335 /
الم ()1
{ الـم } [الروم ]1 :سبق أن تكلمنا كثيرا عن الحروف المقطعة في بدايات السور ،ول أريد إعادة
ما قُلْته ،لكن أريد من العلماء أنْ يلتفتوا إلى هذه المسألة لفتة إشراقية تُرينا جميعا ،وتكشف لنا
الحكمة والسرار في هذه الحروف.
حدَة ،مع أن القرآن في
وقلنا :إن هذه الحروف (الم) بنيت على الوقف ،كل حرف منها على ِ
مجملة مبني على الوصل في آياته وفي سوره ،فآخر حرف في السورة موصول بأول حرف في
سمِ الِ الرحْمنِ الرحيمِ)...
حسِنينَ ب ْ
التي تليها -فهنا نقول( :وَإِنّ الَ لَمعَ الم ْ
بل أعجب من هذا ،نجد أن آخر سورة الناس مبنيّ على الوصل بأول الفاتحة ،فنقول ...( :مِنَ
حمَنِ الرّحيم ا ْلحَمدُ ل َربّ العَالمين).
الجِنّةِ والنّاسِ بسْم الِ الر ْ
فالقرآن إذن موصول ،ل انقطاعَ فيه .فلماذا بُنيت الحروف المقطعة في أوائل السور على الوقْف،
لماذا ل نقول :ألفٌ لمٌ ميمٌ؟ قالوا :لن ال تعالى لم يشأ أنْ يجعلها كلمة واحدة ،فجاءت على
القطع ،ويؤنسنا قول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :ل أقول الم حرف ،ولكن ألف حرف ،ولم
حرف ،وميم حرف " فنريد وننتظر من يدركه ال ليكون من المحسنين ،ويدلّنا على ما في هذه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحروف من سِرّ يُوقف عنده ،ول يُوصل بغيره.
قال الحق سبحانه { :غُلِ َبتِ.} ...
()3336 /
كلمة { غُلِ َبتِ[ } ...الروم ] :تدل على وجود معركة غلب فريقٌ ،وغُلب فريق ،فالذي غُلب هنا
الروم ،وكانوا أهل كتاب ومقرهم الشام وعراق العرب ،فالعراق منها قسم ناحية العرب ،وقسم
ناحية فارس ،والروم نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم.
()3337 /
قوله { أَدْنَى[ } ...الروم ]3 :يعني :أقرب لرض العرب ،كما في{ ِإذْ أَنتُمْ بِا ْلعُ ْد َوةِ الدّنْيَا وَهُم
بِا ْلعُ ْد َوةِ ا ْل ُقصْوَىا }[النفال ]42 :فالعُدْوة الدنيا أي :القريبة من المدينة ،وال ُقصْوى البعيدة عنها.
فالمعنى { فِي َأدْنَى الَ ْرضِ[ } ...الروم ]3 :أقرب أرض للجزيرة العربية.
وفي قوله سبحانه { :وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ } [الروم ]3 :بشرى للمسلمين ،فالفرس قوم
كانوا يعبدون النار ،أما الروم فأهل كتاب ،إذن :فالخلف بيننا وبين الفرس في القمة اللهية ،أمّا
ن كانوا ل
الخلف بيننا وبين الروم ففي القمة الرساليةَ ،فهُم أقرب إلينا؛ لنهم يؤمنون بإلهنا ،وإ ْ
يؤمنون برسولنا.
وهذا من عظمة السلم ،فالذي يؤمن بالله أقرب إلى نفوسنا من الذي ل يؤمن بالله؛ لنه على
القل موصول بالسماء؛ لذلك لما غُلِبت الروم فرح كفار قريش وحزن المؤمنون ،وفرح كفار
قريش لن في هزيمة الروم دليلً على أن محمدا وأصحابه سينهزمون كأصحابهم.
وكلمة { غَلَ ِب ِهمْ[ } ...الروم ]3 :مصدر يُضاف للفاعل مرة ،ويُضاف للمفعول مرة أخرى ،تقول
أعجبني ضَ ْربُ المير مذنبا ،فأضفت المصدر للفاعل .وتقول :أعجبني ضَرْب المذنب فأضفتَ
المصدر للمفعول ،وكذلك هنا { غَلَ ِبهِمْ[ } ...الروم ]3 :مصدر أضيف إلى المفعول.
لكن لماذا قال سبحانه { :سَ َيغْلِبُونَ } [الروم ]3 :وجاء بالسين الدالة على الستقبال ،ثم قال بعدها{
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فِي ِبضْعِ سِنِينَ }[الروم ]4 :وهي أيضا دالة على الستقبال؟ قالوا :لن الغلبة ل تأتي فجأة ،إنما ل
بُدّ لها من إعداد طويل وأَخْذ بأسباب النصر ،وتجهيز القوة اللزمة له ،فكأنهم في مدة البضع
سنين يُعدون للنصر ،فكلما أعدوا عُدّة أخذوا جزءاَ من النصر ،فالنصر إذن ل يأتي في بضع
سنين ،إنما من عمل دائم على مدى بضع سنين.
فهتلر مثلً لما انهزم في الحرب العالمية ،وتألّبتْ عليه كل الدول ،جاء في عام 1939وهدد العالم
كله بالحرب ،فهل سقطت عليه القوة التي يهدد بها فجأة؟ ل ،بل ظل عدة سنوات يُعد العدة ويُجهّز
الجيش والسلحة والطرق إلى أنْ توفرتْ له القوة التي يهدد بها.
()3338 /
فِي ِبضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الَْأمْرُ مِنْ قَ ْبلُ َومِنْ َب ْع ُد وَ َيوْمَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ ( )4بِ َنصْرِ اللّهِ يَ ْنصُرُ مَنْ َيشَاءُ
وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ ()5
أثارت فرحة الكفار حفيظة المؤمنين ،إلى أنْ نزلت { وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِب ِهمْ سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ
لمْرُ مِن قَ ْبلُ َومِن َبعْدُ[ } ...الروم ]4-3 :ففرح المؤمنون حتى قال أبو بكر :وال ل
سِنِينَ لِلّ ِه ا َ
يسرّ ال هؤلء ،وسينصر الروم على فارس بعد ثلث سنين.
لن كلمة بضع تعني من الثلثة إلى العشرة ،فأخذها الصّدّيق على أدنى مدلولتها ،لماذا؟ لنه
الصّديق ،والحق -سبحانه وتعالى -ل يُحمّل المؤمنين مشقة الصبر مدة التسع سنين ،وهذه من
الصديقية التي تميز بها أبو بكر رضي ال عنه.
" لذلك قال أبو بكر لُبيّ بن خلف :وال ل يقرّ ال عيونكم -يعني :بما فرحتم به من انتصار
الكفار -وقد أخبرنا ال بذلك في مدة بضع سنين ،فقال أُبيّ :أتراهنني؟ قال :أراهنك على كذا من
القلئص -والقلوص هي الناقة التي تركب -في ثلث سنين عشر قلئص إن انتصرت الروم،
وأعطيك مثلها إن انتصرت فارس.
فلما ذهب أبو بكر إلى رسول ال ،وأخبره بما كان قال " :يا أبا بكر ِزدْه في الخطر ومادّه " ،
يعني ِزدْ في عدد النوق من عشرة إلى مائة وزده في مدة من ثلث سنين إلى تسع ،وفعلً ذهب
الصّديق لبيّ وعرض عليه المر ،فوافق في الرهان على مائة ناقة.
فلما اشتدّ الذى من المشركين ،وخرج الصّدّيق مهاجرا رآه أُبيّ بن خلف فقال :إلى أين أبا
فصيل؟ وكانوا يغمزون الصّدّيق بهذه الكلمة ،فبدل أن يقولوا :يا أبا بكر .وال َبكْر هو الجمل القوي
يقولون :يا أبا فصيل والفصيل هو الجمل الصغير -فقال الصّديق :مهاجر ،فقال :وأين الرهان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الذي بيننا؟ فقال :إن كان لك يكفلني فيه ولدي عبد الرحمن ،فلما جاءت موقعة بدر رأى عبد
الرحمن أُبيا فقال له :إلى أين؟ فقال :إلى بدر ،فقال :وأين الرهان إنْ قت ْلتَ؟ فقال :يعطيك ولدي.
جعْل لعبد الرحمن ،فذهبوا به
وفي بدر أصيب أُبيّ بجرح من رسول ال مات فيه ،وقدّم ولده ال ُ
إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال " :تصدقوا به " ".
وهنا وقفة إعجازية إيمانية عقدية :سبق أنْ تكلمنا عن الغيب وعن المشهد .وقلنا :إن الغيب أنواع:
غيب له مقدمات تُوصّل إليه ،كما تعطي التلميذ تمرينا هندسيا ،وكالسرار الكونية التي يتوصّل
إليها العلماء ويكتشفونها من معطيات الكون ،كالذي اكتشف اللة البخارية ،وأرشميدس لما اكتشف
قانون الجسام الطافية ..إلخ ول يقال لهؤلء :إنهم علموا غيبا ،إنما أخذوا مقدمات موجودة
واستنبطوا منها معدوما.
أمّا الغيب المطلق فهو الذي ليس له مقدمات تُوصّل إليه ،فهو غيب عن كل الناس ،وفيه يقول
ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ َأحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ} ...
تعالى {:عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ ُي ْ
[الجن.]27-26 :
ومن الغيب ما يغيب عنك ،لكن ل يغيب عن غيرك ،كالشيء الذي يُسرق منك ،فهو غيب عنك
عمّنْ سرقه منك.
لنك ل تعرف مكانه ،وليس غيبا َ
وآفة النسان أنه ل يستغل المقدمات للبحث في أسرار الكون ليرتقي في الكونيات ،إنما يستغلها
ن يعلموا
لمعرفة غيب الخرين ،ونقول له :إن كنت تريد أن تعلم غيب الخرين ،فاسمح لهم أ ْ
غيبك وأعتقد أن أحدا ل يرضى ذلك.
خلْق نعمة كبرى ل تعالى؛ لنه سبحانه رب الناس جميعا ،ويريد سبحانه
إذن :سَتْر الغيب عن ال َ
ن علمتَ في إنسان سيئة واحدة تزهدك في كل حسناته،
أن ينتفع خَلْقه بخَلْقه ،أل ترى أنك إ ْ
وتجعلك تكرهه ،وتكره كل حسنة من حسناته ،فستر ال عنك غَيْب الخرين لتنتفع بحسناتهم.
والغيب حجزه ال عنا ،إما بحجاب الزمن الماضي ،أو الزمن المستقبل ،أو بحجاب المكان ،فأنت
ل تعرف أحداث الماضي قبل أنْ تُولد إلى أنْ يأتي مَنْ تثق به ،فيخبرك بما حدث في الماضي،
وكذلك ل تعرف ما سيحدث في المستقبل ،أما حاجز المكان فأنت ل تعرف ما يوجد في مكان
آخر غير مكانك ،وقد يكون الشيء في مكانك ،لكن له مكين فل تطلع عليه.
سهِمْ َل ْولَ ُي َعذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ[} ...المجادلة.]8 :
ومن ذلك قوله تعالى {:وَ َيقُولُونَ فِي أَنفُ ِ
فمَنِ الذي أخبر رسول ال بما في نفوسهم؟ لقد خرق ال له حجاب المكان ،وأخبره بما يدور في
نفوس القوم ،وأخبرهم رسول ال بهَ ،أمَا كان هذا كافيا لن يؤمنوا بال الذي أخرج مكنون
صدورهم؟ إذن :المسألة عندهم عناد ولجاجة وإنكار.
وكذلك ما كان من رسول ال في غزوة مؤتة التي دارتْ على أرض الردن ورسول ال صلى ال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه وسلم بالمدينة -ونعلم أن أهل السيرة ل يطلقون اسم الغزوة إل على التي حضرها رسول
ال ،وكل حدث حربي لم يحضره رسول ال نسميه سرية إل مؤتة هي التي انفردتْ بهذه التسمية،
فلماذا مع أن رسول ال لم يشهدها؟
قالوا :بل شهدها رسول ال وهو بالمدينة ،بما كشف ال له من حجاب المكان وأطلعه على ما
يدور هناك حتى كان يخبر صحابته بما يدور في الحرب كأنه يراها ،فيقول :أخذ الراية فلن
فقُتِل ،فأخذها فلن فقُتِل ،فلما جاءهم الخبر وجدوا المر كما أخبر به سيدنا رسول ال.
كما خَرق له حجاب الماضي ،فأخبره بحوادث في المم السابقة كما في قوله سبحانهَ {:ومَا كُنتَ
لمْرَ[} ...القصصَ {]44 :ومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ تَ ْتلُواْ
بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ
عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا[} ...القصص.]45 :
كما خرق له صلى ال عليه وسلم حجاب المستقبل ،كما في هذه الية التي نحن بصدد الحديث
عنها } :وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ سِنِينَ.
[ { ..الروم ]4-3 :فأروني أيّ قوة (كمبيوتر) في الدنيا تُنبئنا بنتيجة معركة ستحدث بعد ثلث
إلى تسع سنين.
فمحمد صلى ال عليه وسلم ،وهو النبي المي المقيم في جزيرة العرب ول يعرف شيئا عن قوة
الروم أو قوة الفرس -يخبرنا بهذه النتيجة؛ لن الذي يعلم الشياء على َوفْق ما تكون هو الذي
أخبره ،وكون محمد صلى ال عليه وسلم يعلنها ويتحدّى بها في قرآن يُتْلَى إلى يوم القيامة دليل
على تصديقه بمنطق ال له ،وأنه واثق من حدوث ما أخبر به.
سمّي الصّديق صدّيقا ،فحين أخبروه بمقالة رسول ال عن السراء ما كان منه إل أنْ
ولهذه الثقة ُ
قال :إنْ كان قال فقد صدق ورسول ال صلى ال عليه وسلم يخبر بهذه النتيجة ،ويراهن
المشركين عليها ،ويتمسك بها ،وما ذاك إل لثقته في صدق هذا البلغ ،وأنه ل يمكن أبدا أنْ
يتخلف.
ن تفهموا أن انتصار
ل َومِن َبعْدُ[ { ...الروم ]4 :يعني :إياكم أ ْ
لمْرُ مِن قَ ْب ُ
وقوله تعالى } لِلّ ِه ا َ
الفرس على الروم أو انتصار الروم على الفرس خارج عن مرادات ال ،فلله المر من قبل
الغلب ،ول المر من بعد الغلب.
فحين غَلبت الروم ل المر ،وحين انتصرت الفرس ل المر؛ لن الحق سبحانه يهيج أصحاب
الخير بأن يُغلّب أصحاب الشر ،ويُحرّك حميتهم ويُوقظ بأعدائهم مشاعرهم ،ويُنبّههم إلى أن
العداء ل ينبغي أن يكونوا أحسن منهم.
إذن :فنصر المكروه ل على المحبوب ل جاء بتوقيت من ال؛ لذلك إياك أن تحزن حين تجد لك
عدوا ،فالحمق هو الذي يحزن لذلك ،والعاقل هو الذي يرى لعدوه َفضْلً عليه ،فالعدو يُذكّرني
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دائما بأن أكون قويا مستعدا ،يُذكّرني بأن أكون مستقيما حتى ل يجد مني فرصة أو نقيصة .العدو
ضلٌ عليّ ومِنّةٌ
يجعلك تُجنّد كل ملكاتك للخير لتكون أفضل منه؛ لذلك يقول الشاعر:عدايَ َلهٌمْ َف ْ
شكْرٌ على َنفْعهم ليَا َف ُهمْ كدَواءٍ والشّفاء بمُ ّرهِ فَل أَ ْبعَد الرحمنُ عنّي العَادِيَاوهْم بحثُوا
َفعِنْدي لهُم ُ
ت المعَاليَاإذن :ل المر من قبل ومن بعد ،وله الحكمة في
عَنْ زَلّتي فَاجْتنبتُها وهُمْ نافسُوني فاكتس ْب ُ
أنْ ينتصر الباطلَ ،ألَ ترى غزوة أحد ،وكيف هُزِم المسلمون لما خالفوا أمر رسول ال وتركوا
مواقعهم طمعا في مغنم ،انهزموا في أول المر ،مع أن رسول ال معهم؛ لن سنة ال في كونه
تقضي بالهزيمة حين نخالف أمر رسول ال ،وكيف يكون الحال لو انتصر المسلمون مع مخالفتهم
لمر رسولهم؟ لو انتصروا الفقد أمر الرسول مصداقيته ،ولما أطاعوا له أمرا بعد ذلك.
وفي يوم حنين {:وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُتكُمْ[} ...التوبة ]25 :حتى إن أبا بكر نفسه ليقول :لن
نٌغلب اليوم عن قِلّة ،فلما نظروا إلى قوتهم ونسُوا تأييد ال هُزِموا في بداية المر ،ثم يحنّ ال
عليهم ،وتتداركهم رحمته تعالى ،فينصرهم في النهاية.
إذن :فلله المر من قبل ومن بعد ،فإياك أن تظن أن انتصار الباطل جاء غصْبا عن إرادة ال ،أو
خارجا عن مراده ،إنما أراده ال وقصده لحكمة.
ثم يقول سبحانه {:وَ َي ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُمؤْمِنُونَ * بِ َنصْرِ اللّهِ[} ...الروم ]5-4 :أيّ نصر الذي يفرح به
الؤمنون؟ أيفرحون لنتصار الروم على الفرس؟ قالوا :بل الفرح هنا دوائر متشابكة ومتعالية ،فهم
أولً يفرحون لنتصار أهل دين وأهل كتاب على كفار وملحدة ،ويفرحون أن بشرى رسول ال
تحققتْ ،ويفرحون لنهم آمنوا برسول ال ،وصدّقوه قبل أن ينطق بهذه البشرى.
إنهم يفرحون لنهم أصابوا الحق ،فكلما جاءت آية فرح كل منهم بنفسه؛ لنه كان محقا حينما آمن
بالله الواحد الذي يعلم المور على وفق ما ستكون واتبع رسوله صلى ال عليه وسلم .إذن :ل
تقصر هذه الفرحة على شيء واحد ،إنما عَدّها إلى أمور كثيرة متداخلة.
كما أن اليوم الذي انتصر فيه الروم صادف اليوم الذي انتصر فيه المسلمون في بدر.
وقوله تعالى } يَنصُرُ مَن يَشَآءُ[ { ...الروم ]5 :الفرس أو الروم ،ما دام أن له المر من قبل ومن
بعد } وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ { [الروم ]5 :الحق سبحانه وصف نفسه بهاتين الصفتين :العزيز
الرحيم ،مع أن العزيز هو الذي يغلب ول ٌيغْلب ،فقاهريته سبحانه عالية في هذه الصفة -ومع
ذلك أتبعها بصفة الرحمة ليُحِدث في نفس المؤمن هذا التوازن بين صفتي القهر والغلبة وبين صفة
الرحمة.
كما أننا نفهم من صفة العزة هنا أنه ل يحدث شيء إل بمراده تعالى ،فحين ينتصر طرف وينهزم
طرف آخر حتى لو انتصر الباطل ل يتم ذلك إل لمراده تعالى؛ لن ال تعالى ل يُبقي الباطل ول
يُعلي الكفر إل ليظهر الحق ،فحين ُي َعضّ الناس بالباطل ،ويش َقوْن بالكفر يفزعون إلى اليمان
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويتمسكون به.
سفْلَىا َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا[} ...التوبة ]40 :ولم
ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ ال ّ
واقرأ قوله تعالى {:وَ َ
جعْل تحويل شيء إلى شيء ،أما كلمة ال
جعْلً لن ال َ
يقل :وجعل كلمة ال هي العليا؛ لنها ليستْ َ
فهي العليا بداية ودائما ،وإنْ علت كلمة الباطل إلى حين.
عدَ اللّ ِه لَ ُيخِْلفُ اللّهُ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانه } :وَ ْ
()3339 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :ما دام أن القرآن أخبر فل بُدّ أن يتم المر على َوفْق ما أخبر به.
ونلحظ هنا أن كلمة الوعد تعني البشارة بالخير القادم في المستقبل والكلم هنا عن فريقين :فريق
حقّه؟ فالفرح للمؤمن
منتصر يفرح بالنصر ،وفريق منهزم يحزن للهزيمة ،فكيف يستقيم الوعد في َ
غَمّ لغير المؤمن.
ولتوضيح هذه المسألة نذكر أن المستشرقين وقفوا عند قوله تعالى من سورة الرحمن {:خََلقَ
الِنسَانَ مِن صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ * وَخَلَقَ الْجَآنّ مِن مّارِجٍ مّن نّارٍ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }
[الرحمن]16-14 :
شوَاظٌ مّن نّارٍ
علَ ْي ُكمَا ُ
سلُ َ
وقالوا :هذا الكلم معقول بالخلق من نعم ال ،لكن ماذا عن قوله {:يُ ْر َ
وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن ]36-35 :فأيّ نعمة في النار وفي
الشواظ؟
وفات هؤلء أنه من النعمة أن ننبهك إلى الخطر قبل أنْ تقع فيه ،ونحذرك من عاقبة الكفر لتنتهي
عنه كالوالد الذي يقول لولده :إنْ أهملتَ دروسك ستفشل ،وساعتها سأفعل بك كذا وكذا.
إذن :ف ِذكْر النار والعذاب نعمة لكل من خالف منهج الحق ،فلعله حين يسمع النذار يعود
ويرعوي.
س لَ َيعَْلمُونَ } [الروم ]6:نفى عنهم العلم أي :ببواطن المور
وقوله تعالى { :وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
وحقيقتها.
ثم أخبر عنهمَ { :يعَْلمُونَ ظَاهِرا مّنَ الْحَيَاةِ.} ...
()3340 /
َيعَْلمُونَ ظَاهِرًا مِنَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِ َرةِ ُهمْ غَافِلُونَ ()7
إذا رأيت فعلً ُنفِي مرة ،وأُثبت مرة أخرى ،فاعلم أن الجهة منفكة ،فهم ل يعلمون بواطن المور،
إنما يعلمون ظواهرها ،وليتهم يعلمون ظواهر كل شيء ،إنما ظواهر الدنيا فحسب ،ول يعلمون
بواطنها ،فما بالك بالخرة؟
حين تتأمل أمور الدنيا والقوانين الوضعية التي وضعها البشر ،ثم رجعوا عنها بعد حين ،تجد أننا
ل نعلم من الدنيا إل الظاهر ،فمثلً قانون الصلح الزراعي الذي نعمل به منذ عام ،1952وكنا
مُتحمّسين له نُمجّده ول نسمح بالمساس به يناقشونه اليوم ،ويطلبون إعادة النظر فيه ،بل إلغاءه؛
لنه لم َي ُعدْ صالحا للتطبيق في هذا العصر ،روسيا التي تبنتْ النظام الشيوعي ودافعتْ عنه بكل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قوة هي التي نقضتْ هذا النظام وأسقطته.
ما أسقطته أمريكا مثلً ،ولو أسقطته أمريكا لنتقلت إليها قوة الشيوعية وغطرستها؛ لذلك يقولون:
ما اندحرت الشيوعية إنما انتحرت على أيدي أصحابها .ومن الممكن أن ينتحر هؤلء كما
ن يستقيموا ل ،وأن ُيخِلصوا للناس.
انتحرتْ نُظمهم فأوْلَى بهم أ ْ
إذن :ل نعرف من الدنيا إل ظواهر الشياء ،ول نعرف حقيقتها ،كما نشقى الن بسبب المبيدات
الحشرية التي ظننا أنها ستُريحنا وتُوفر علينا الجهد والوقت في المقاومة اليدوية؟
كم يشقى العالم اليوم من استخدام السيارات مثلً من تلوث في البيئة وقتْل للرواح كل يوم ،ولك
أن تقارن بين وسائل المواصلت في الماضي ووسائل المواصلت اليوم ،فإن كان للوسائل
الحديثة نفع عاجل ،فلها ضرر آجل ،ويكفي أن عادم المخلوق ل يصلح الرض ،وعادم المخلوق
للبشر يفسدها ،لماذا؟ لننا نعلم ظواهر الشياء .ولو علم الذي اكتشف السولر مثلً حقيقته لما
استخدمه فيما نستخدمه نحن فيه الن.
هذا عن عِلْمنا بأمور الدنيا ،أمّا الخرة فنحن في غفلة عنها؛ لذلك يقول سيدنا الحسن :أعجب
للرجل يمسك الدينار بأنامله فيعرف وزنه ،و (يرنه) فيعرف زيوفه من جيده ،ول يحسن الصلة.
ت وَلَـاكِنّ اللّهَ َرمَىا[} ...النفال ]17 :فنفى الرمي،
ومن ذلك قوله تعالىَ {:ومَا َرمَ ْيتَ ِإذْ َرمَ ْي َ
وأثبته في آية واحدة؛ لن الجهة منفكة ،فالثبات لشيء ،والنفي لشيء آخر .وسبق أنْ مثّلْنا لذلك
بالتلميذ الذي تجبره على المذاكرة فيفتح الكتاب ويُقلّب صفحاته ويهزّ رأسه ،كأنه يقرأ ،فإذا ما
أخبرته فيما قرأ تجده لم يفهم شيئا ،فتقول له :ذاكرتَ وما ذاكرتَ؛ لنه فعل ِفعْل المذاكرة ،ومع
ذلك هو في الحقيقة لم يذاكر؛ لنه لم يُحصّل شَيئا مما ذاكره.
كذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم رمى حين أخذ حفنة من الحصى ورمى بها ناحية جيش
الكفار ،لكن{ َومَا َرمَ ْيتَ ِإذْ َرمَ ْيتَ[} ...النفال ]17 :هذه الحفنة؛ لن قدرتك البشرية ل توصل
هذه الرمية إلى كل الجيش ،فهذه إذن قدرة ال.
ونلحظ في قوله تعالى:
س لَ َيعَْلمُونَ }[الروم ]6 :أنه استثنى من عدم العلم فئة قليلة ،فلماذا استثنى
{ وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ
هذه الفئة مع أننا نُغيّر الدنيوية والقوانين على الجميع؟ قالوا :لنه حين ُوضِعت هذه القوانين
وشًُرعت هذه النظم كانت هناك فئة ترفضها ول تقرها ،لذلك لم يتهم الكل بعدم العلم.
والظاهر الذي يعلمونه من الحياة الدنيا فيه مُتَع وملذ وشهوات ،البعض يعطي لنفسه فيها الحرية
المطلقة ،وينسي عاقبة ذلك في الخرة ،لذلك فإن أهل الريف يقولون فيمن ل يحسب حسابا
للعواقب( :الديب بلع منجل ،فيقول الخر :ساعة خراه تسمع عواه).
ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َهبِ
ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ
حبّ ال ّ
واقرأ قوله تعالى {:زُيّنَ لِلنّاسِ ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س ّومَ ِة وَالَنْعَامِ وَالْحَ ْرثِ ذاِلكَ مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْ َدهُ حُسْنُ ا ْلمَآبِ }[آل
وَا ْلفِضّ ِة وَا ْلخَ ْيلِ ا ْلمُ َ
عمران.]14 :
فذكر الناس متاع الحياة الدنيا ونسُوا الباقيات الصالحات في الخرة ،والعاقل هو الذي يستطيع أنْ
يُوازن بينهما ،وسبق أنْ قُلْنا عن الدنيا بالنسبة لك:هي مدة بلقائك فيها ،هي عمرك أنت ل عمر
الدنيا كلها ،كما أن عمرك فيها محدود مظنون ل بُدّ أن ينتهي بالموت.
أما الخرة فدار باقية دائمة ،دار نعيم ل ينتهي ،ول يفوتك بحال ،فلماذا تشغلك الفانية عن الباقية؟
لماذا ترضى لنفسك بصفقة خاسرة؟
لذلك لما سُئِل المام علي :أريد أن أعرف أنا من أهل الدنيا أم من أهل الخرة؟ فقال :لم يدع ال
الجواب لي ،إنما الجواب عندك أنت ،فإنْ دخل عليك اثنان :واحد جاء بهدية ،والخر جاء يسألك
عطية ،فإنْ كنت تهشّ لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا ،وإنْ كنت تهشّ لمن يطلب العطية
فأنت من أهل الخرة.
لماذا؟ لن النسان يحب مَنْ يٌعمّر ما يحب ،فإنْ كنتَ تحب الخرة فإنك تحب الدنيا فإنك تحب
مَنْ يعمرها لك؛ لذلك كان أحد الصالحين إنْ جاءه سائل يطرق بابه يهشّ في وجهه ،ويبَشّ
ويقول :مرحبا بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الخرة بغير أجرة.
لكن ،لماذا أعاد الضمير في } وَهُمْ عَنِ الخِ َرةِ ُهمْ غَافِلُونَ { [الروم ]7 :لماذا لم يقل :وهم عن
الخرة غافلون؟
لو قال الحق سبحانه وهم عن الخرة غافلون َلفُهم أن الغفلة مسيطرة عليهم ،وليست هناك أدلة
ن الخِ َرةِ هُمْ غَافِلُونَ { [الروم ]7 :يعني :الغفلة واقعة منهم أنفسهم ،وإلّ
تُوقِظهم ،إنما } وَهُمْ عَ ِ
فالدلة واضحة ،لكن ما جدوى الدلة مع قوم هم غافلون.
سهِمْ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانهَ } :أوَلَمْ يَ َت َفكّرُواْ فِي أَنفُ ِ
()3341 /
سمّى وَإِنّ
جلٍ مُ َ
ق وَأَ َ
حّض َومَا بَيْ َن ُهمَا إِلّا بِالْ َ
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ
سهِمْ مَا خَلَقَ اللّهُ ال ّ
َأوَلَمْ يَ َت َفكّرُوا فِي أَ ْنفُ ِ
كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِِلقَاءِ رَ ّب ِهمْ َلكَافِرُونَ ()8
المعنى :أن يكون ذلك منهم :ل يعلمون إل ظاهرا من الحياة الدنيا ،ويغفلون عن الخرة ،ولم
يتفكروا في أنفسهم ،فيأتي لهم بالدليل مرة في أنفسهم ،ومرة في السماوات والرض.
الدليل في النفس يقول لك :فكّر في نفسك .أي :اجعلها موضوع تفكيرك ،وتأمل ما فيها من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أسرار دالة على قدرة الخالق عز وجل ،فإلى الن ومع ما توصّل إليه العلم ما زال في النسان
أسرار لم تُكشف بعد.
تأمل في مقومات حياتك :الكل والشرب والتنفس ،وكيف أنك تصبر على الطعام حتى شهر،
تتغذى من المخزون في جسمك ،وتصبر على الماء من ثلثة إلى عشرة أيام على مقدار ما في
جسمك من مائية ،لكنك ل تصبر على الهواء إل بمقدار شهيق وزفير.
لذلك من حكمته تعالى حين أمّن للبشر هذه المقوّمات أنْ جعل مدة صبرك على الطعام أطول ،لن
سعْي إليه ،أما الماء فمدة الصبر عليه أقل ،لذلك
طعامك قد يحتكره غيرك ،فتحتاج إلى طلبه وال ّ
جعل الحق سبحانه احتكار الماء قليلً.
أما الهواء الذي ل تصبر عليه إل بمقدار شهيق وزفير ،فمن حكمة ال تعالى ألّ يُملّك لحد أبدا،
وإل لو احتكر الناسُ الهواء لما استقامت الحياة ،فلو منعك صاحب الهواء هواءه لمتّ قبل أنْ
يرضى عنك.
تأمل في نفسك حين تأكل الطعام ،وفيك مدخلن متجاوران :القصبة الهوائية ،وهي مجرى الهواء
للرئتين ،والبلعوم وهو مجرى الطعام للمعدة ،تأمل ما يحدث لك إنْ دخلتْ حبة أرز واحدة في
القصبة الهوائية ،فبل شعور تشرَق بها ،وتظل تقاومها حتى تخرج ،وتأمل حركة لسان المزمار
ل لك فيها ،ول قدرة لك
حين يسد القصبة الهوائية أثناء البلع ،هذه الحركة التلقائية التي ل دخ َ
عليها بذاتك.
تأمل وضع المعدة ،وكيف أن ال جعل لها فتحة يُسمونها فتحة الفؤاد ،هي التي تُغلق المعدة
بإحكام بعد الطعام ،حتى ل تؤذيك رائحته بأنْ تتسرب عصارة المعدة إلى الفم فتؤلمك ،فمن
أصابه خلل في إغلق هذه الفتحة تجد رائحة فمه كريهة يسمونه (أبخر).
كذلك تأمل في عملية إخراج الطعام وكيف تكون طبيعيا مستريحا؟ وفجأت تحتاج إلى الحمام وإلى
قضاء الحاجة ،ماذا حدث؟ والمر كذلك في شربة الماء ،ذلك لن لجسمك طاقة تحمّل في المعاء
وفي المثانة ،ففي لحظة يريد الحمل عن الطاقة ،فتشعر بالحاجة إلى الخراج.
سكُمْ
وهذا مجال ل حصرَ له مهما تقدمتْ العلوم ،ومهما بحثنا في أنفسنا ،ويكفي أن نقرأَ {:وفِي أَنفُ ِ
َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات ]21 :فدعانا ربنا إلى البحث في أنفسنا قبل البحث فيما حولنا من آيات
السماء والرض؛ لن أنظارنا قد تقصر عن رؤية ما في السماوات والرض من آيات ،أما نفسي
فهي أقرب دليل منك وأقوى دليل عليك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مكانة أو منزلة؛ لذلك تصل بالنظر في نفسك إلى الحقيقة.
ح َدةٍ[} ...سبأ]46 :
ظكُمْ ِبوَا ِ
عُلذلك يخاطب القرآن النبي صلى ال عليه وسلم بقولهُ {:قلْ إِ ّنمَآ أَ ِ
ن تفكّرون في صدق هذا الرسول ،وتتهمونه بالكذب والفتراء والسحر ..الخ أريد منكم
يعني :يا مَ ْ
شيئا واحدا{ أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا[} ...سبأ ]46 :أي :مثنى مثنى ،أو منفردين ،كلّ على
شدِيدٍ }[سبأ.]46 :
عذَابٍ َ
حدة{ ُثمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن جِنّةٍ إِنْ ُهوَ ِإلّ نَذِيرٌ ّل ُكمْ بَيْنَ يَ َديْ َ
إذن :الطريق إلى الحقيقة ل يكون بالمجادلة الجماهيرية ،إنما بتأمل النسان مع نفسه ،أو مع مثله،
فمع الجماعة تتحرك في النفس الرغبة في العْلُو والنتصار؛ لذلك حين تناقش العاقل يقول لك
(حسيبك تراجع نفسك) يعني :تفكّر وحدك بحيث ل تُحرج من أحد ،فتكون أقرب للموضوعية
وللوصول إلى الحق.
وبعد أنْ أمرنا ربنا بالتفكّر في أنفسنا يلفتنا إلى التأمل فيما حولنا من السماوات والرض } مّا
سمّى[ { ...الروم.]8 :
جلٍ مّ َ
ق وََأ َ
ض َومَا بَيْ َن ُهمَآ ِإلّ بِا ْلحَ ّ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر َ
خََلقَ اللّهُ ال ّ
وهناك آية أخرى تقدم التفكّر في السماء والرض على التفكّر في النفس ،هي قوله تعالىَ {:لخَلْقُ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ[} ...غافر.]57 :
ال ّ
لماذا؟ لن النسان قد يموت قبل أنْ يُولد ،ويموت بعد عدة سنوات ،أو حتى بعد مئات السنين ،أما
السماوات والرض بما فيهما من أرض وسماء وشمس وقمر ..إلخ فهي كما هي منذ خلقها ال لم
تتغير ،وهي تؤدي مهمتها دون تخلّف ،ودون صيانة ،ودون أعطال ،فهي بحقّ أعظم من خَلْق
الناس وأكبر.
إذن :الية والدلة في أنفسكم وفي السماوات والرض ،لكن أيهما الية القوى؟ قالوا :ما دامت
خلْق الناس فهي القوى ،فإن لم تقنع بها فانظر في نفسك؛ لذلك
السماوات والرض أكبر من َ
يقول العلماء بالمفيد والمستفيد ،المفيد هو ال -عز وجل -فحينما يضرب لي مثلً يضرب لي
طقْه يأتي لي بالقل ،والمستفيد هو الذي ينتقل من القل للكبر.
بالقوى ،فإنْ لم أُ ِ
جوّ
ومعنى } َومَا بَيْ َن ُهمَآ[ { ...الروم ]8 :أي :من الكواكب والفلك والنجوم التي نشاهدها في َ
السماء ،وكانوا في الماضي لما أرادوا أنْ يُقرّبوا أمور الدين لعقول الناس يقولون :الكواكب
السبعة هي السماوات السبع ،ووقع فيها علماء كبار ،لكن الحقيقة أن هذه الكواكب السبعة كلها
سمَآءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ[} ...فصلت.]12 :
دون السماء الدنيا ،واقرأ قول ال تعالى {:وَزَيّنّا ال ّ
فأين السماء من الكواكب التي نشاهدها؟! أتعلم كم ثانية ضوئية بينك وبين الشمس ،أو بينك وبين
القمر؟ بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية ،وبيننا وبين المرأة المسلسلة مائة سنة ضوئية،
وبيننا وبين المجرة مليون سنة ضوئية.
ولك أن تضرب مليون سنة في 365يوما ،وتضرب الناتج في 24ساعة ،وتضرب الناتج في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ستين دقيقة ،ثم في ستين ثانية ،ثم تضرب الناتج من ذلك في 300ألف كيلو ،ثم تأمل الرقم الذي
وصلتَ إليه.
وما أسكتَ القائلين بأن الكواكب السبعة هي السماوات السبع إل أن العلماء اكتشفوا بعدها كوكبا
جديدا حول الشمس ،وبعد سنوات اكتشفوا آخر .كذلك حين صعد رواد الفضاء إلى سطح القمر
أسرع هؤلء (الفاحشة) يقولون :لقد سبق القرآن ،وأخبر بهذا في قوله تعالى {:يا َمعْشَرَ ا ْلجِنّ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ فَانفُذُواْ لَ تَنفُذُونَ ِإلّ بِسُ ْلطَانٍ }
طعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ َأ ْقطَارِ ال ّ
وَالِنسِ إِنِ اسْ َت َ
[الرحمن.]33 :
وقالوا :إن السلطان هو سلطان العلم الذي مكّننا من اعتلء سطح القمر ،وعجيب أن يقول هذا
الكلم علماء كبار ،فأين القمر من السماء؟ القمر ما هو إل ضاحية من ضواحي الرض كمصر
الجديدة بالنسبة للقاهرة ،ثم إنْ كان السلطان هنا هو سلطان العلم ،فماذا تقولون في قوله تعالى
شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ }[الرحمن]35 :
سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ
بعدها {:يُرْ َ
لقد حدث هذا التخبط نتيجة الخلط بين علوم الدين والشريعة ،وبين علوم الكونيات ،وهذه آفة
علماء الدين أنْ يتدخلوا فيما ل علمَ لهم به ،فالكونيات يُؤخَذ منها الدليل على عظمة الصانع
وقدرته سبحانه ،إنما ل يُؤخذ منها حكم شرعي.
ورأينا من هؤلء مَنْ ينكر كروية الرض ،وأنها تدور حول الشمس ،ومنهم مَنْ ظن أن علماء
الكونيات -مع أنهم كفرة -يعلمون الغيب لنهم توصّلوا بحسابات دقيقة لحركة الرض إلى
موعد الخسوف والكسوف ،وجاء الواقع َوفْق ما أخبروا به بالضبط.
وهذه المسألة -كما سبق أنْ قُلْنا -ليست من الغيب المطلق ،بل من الغيب الذي أعطانا ال
المقدمات التي توصل إليه ،وقد توصّل العلماء إليه بالبحث ودراسة معطيات الكون ،ونفهم هذا في
حقّ[} ..فصلت:
س ِهمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َل ُهمْ أَنّهُ الْ َ
ق َوفِي أَنفُ ِ
ضوء قوله تعالى {:سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
.]53
وهذه أيضا من اليات التي تُقدّم فيها أدلة السماوات والرض على أدلة النفس .إذن :فالكونيات
تُبنَى على علوم ودراسات ،ل دخلَ للدين بها ،الدين جاء ليقول لك :افعل كذا ،ول تفعل كذا ،ثم
ترك الكونيات إلى أنْ تتسع العقول لفهمها.
وقوله سبحانهِ } :إلّ بِا ْلحَقّ[ { ..الروم ]8 :لن السماوات والرض وما بينهما من الكواكب
والفلك تسير على نظام ثابت ل يتخلف ،والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير أبدا ،وتأمل
حركة الكواكب والفلك تجد أنها تسير َوفْق نظام دقيق منضبط تماما.
فالشمس لم تتخلف يوما فتقول مثلً :لن أطلع اليوم على هؤلء الناس؛ لنهم ظالمون ،لن لها
قانونا تسير به ،وهي مخلوقة بحق ثابت ل يتغير ،وما دامتْ هذه الكونيات خلقت بحق وبشيء
ثابت فلك أن ترتب عليها حساباتك وتضبط بها وقتك ،وأنت ل تضبط وقتك على ساعة إل إذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كانت هي في ذاتها منضبطة.
()3342 /
َأوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَانُوا َأشَدّ مِ ْنهُمْ ُق ّوةً وَأَثَارُوا
سُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َمهُ ْم وََلكِنْ كَانُوا
عمَرُوهَا وَجَاءَ ْتهُمْ رُ ُ
عمَرُوهَا َأكْثَرَ ِممّا َ
ض وَ َ
الْأَ ْر َ
سهُمْ َيظِْلمُونَ ()9
أَ ْنفُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المعنى :أيكفرون بلقاء ربهم ولم يسيروا في الرض ،فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم -
خذْ فقط أمور الدنيا ،فهي كافية لمن اعتبر بها -فهؤلء لم يسيروا في الدنيا ،ولم ينظروا فيها
ُ
بعين العتبار بمَنْ سبقهم من المم المكذّبة ،ولم يتعظوا بما وقع في الدنيا فضلً عما سيقع في
الخرة.
فإنْ كُنّا صدّقنا ما وقع للمكذّبين في الدنيا وشاهدناه بأعيننا ،فينبغي أن نُصدّق ما أخبر به ال عن
خذْ له وسيلة مما تعلم .إذن :سيروا في الرض،
الخرة؛ لنك إنْ أردتَ أنْ تعلم ما تجهل ف ُ
وانظروا بعين العتبار لمصير الذين كذّبوا ،وماذا فعل ال بهم؟
والسّيْر :قَطْع المسافات من مكان إلى مكان { َأوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الَ ْرضِ[ } ...الروم ]9 :لكن أنسير
في الرض أم على الرض؟ هذا من دقة الداء القرآني ،ومظهر من مظاهر إعجازه ،فالظاهر
أننا نسير على الرض ،لكن التحقيق أننا نسير في الرض؛ لن الذي خلقنا وخلق الرض قال{:
ي وَأَيّاما آمِنِينَ }[سبأ.]18 :
سِيرُواْ فِيهَا لَيَاِل َ
ذلك لن الرض ليست هي مجرد اليابسة التي تحمل الماء ،والتي نعيش عليها ،إنما الرض
تشمل كل ما يحيط بها من الغلف الجوي؛ لنها بدونه ل تصلح للعيش عليها ،إذن :فغلف
الرض من الرض ،فحين نسير ل نسير على الرض إنما في الرض.
والسير في الرض نظر له الدين من ناحيتين :سير ُي َعدّ سياحة للعتبار ،وسيْر ُي َعدّ سياحة
للستثمار ،فالسير للعتبار أن تتأمل اليات في الرض التي تمر بها ،فالجزيرة العربية مثلً
صحراء وجبال يندر فيها الزرع ،فإنْ ذهبتَ إلى أسبانيا مثلً تجدها بلدا خضراء ل تكاد ترى
سطح الرض من كثرة النباتات بها.
وفي كل منها خيرات؛ لن الخالق سبحانه وزّع أسباب الفضل على الكون كله ،وترى أن هذه
الرض الجرداء القاحلة والتي كانت يشقّ على الناس العيش بها لما صبر عليها أهلها أعطاهم ال
خيرها من باطن الرض ،فأصبحت تمد أعظم الدول وأرقاها بالوقود الذي ل يُسْتغنى عنه يوما
واحدا في هذه البلد ،وحينما قطعناه عنهم في عام 1973ضجّوا وكاد البرد يقتلهم.
حين تسير في الرض وتنظر بعين العتبار تجد أنها مثل (البطيخة) ،لو أخذتَ منها قطاعا طوليا
فإنه يتساوى مع باقي القطاعات ،كذلك الرض وزّع ال بها الخيرات على اختلف ألوانها،
فمجموع الخير في كل قطاع من الرض يساوي مجموع الخيرات في القطاعات الخرى.
الجبال التي هجرناها في الماضي وقُلْنا إنها جَدْب وقفر ل حياةَ فيها ،هي الن مخازن للثروات
وللخيرات قد اتجهت إليها النظار لعمارها والستفادة منها ،وانظر مثلً إلى ما يحدث من نهضة
عمرانية في سيناء.
إذن :فالخالق سبحانه وزّع الخيرات على الرض ،كما وزّع المواهب على الخَلْق ليظل الجميع
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مرتبطا بعضه ببعض برباط الحاجة ل يستغني الناس بعضهم عن بعض ،ول البلد بعضها عن
بعض ،وهنا لفتة إيمانية :أن الخلق كلهم عباد ال وصنعته ،والبلد كلها أرض ال وملكه ،وليس
ل ولد ،وليس بينه وبين أحد من عباده قرابة ،فالجميع عنده سواء ،لذلك سبق أن قلنا :ل ينبغي
لك أنْ تحقد على صاحب الخير أو تحسده؛ لن خيره سيعود عليك حتما.
ومعنى } الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ[ { ...الروم ]9 :أي :المم التي كذّ َبتْ الرسل ،وفي آية أخرى يوضح
خذَتْهُ
سبحانه عاقبة هؤلء المكذبينَ {:فكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَ ْرسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ أَ َ
ض َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َمهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ
سفْنَا بِهِ الَرْ َ
الصّيْحَةُ َومِنْهُمْ مّنْ خَ َ
سهُمْ َيظِْلمُونَ }[العنكبوت.]40 :
أَنفُ َ
ويخاطب سبحانه كفار قريش {:وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ّمصْبِحِينَ * وَبِالّيلِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[الصافات:
.]138-137
أي :في أسفاركم ورحلت تجارتكم تروْنَ مدائن صالح وغيرها من القرى التي أصابها العذاب
مازالت شاخصة لكل ذي عينين.
ويقول سبحانه {:أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي َلمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ }
عوْنَ ذِى
[الفجر ]8-6 :وكانوا في رمال الحقاف{ وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْ َ
عذَابٍ }[الفجر:
سوْطَ َ
ط َغوْاْ فِي الْبِلَدِ * فََأكْثَرُواْ فِيهَا ا ْلفَسَادَ * َفصَبّ عَلَ ْيهِمْ رَ ّبكَ َ
لوْتَادِ * الّذِينَ َ
اَ
.]13-9
لقد كان لكل هؤلء حضارات ما زالت حتى الن تبهر أرقى حضارات اليوم ،فيأتون إليها ليتأملوا
ما فيها من أسرار وعجائب ،ومع ذلك لم تستطع هذه الحضارات أنْ تحمي نفسها من الدمار
حلّ بها ،إذن :لكم في هؤلء عِبْرة.
والزوال ،وما استطاعت أنْ تمنع نفسها من عذاب ال حين َ
وكأن الحق سبحانه في قولهَ } :أوََلمْ يَسيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَيَنظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن
قَبِْلهِمْ[ { ...الروم ]9 :يقول لكفار قريش :أنتم يا مشركي قريش أقلّ المم ،ل قوةَ لكم ،ول مال
ول حضارة ول عمارة ،فمن اليسير علينا أن نأخذكم كما أخذنا مَنْ هم أقوى منكم ،إنما سبق أنْ
أخذتم العهد في قوله سبحانهَ {:ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِ ْم َومَا كَانَ اللّهُ ُمعَذّ َبهُ ْم وَ ُهمْ
يَسْ َت ْغفِرُونَ }[النفال.]33 :
عمَرُوهَا[ { ...الروم:
عمَرُوهَآ َأكْثَرَ ِممّا َ
لذلك يقول بعدها } :كَانُواْ َأشَدّ مِ ْنهُمْ ُق ّو ًة وَأَثَارُو ْا الَ ْرضَ وَ َ
]9فالمم المكذّبة التي أخذها ال وجعلها لكم عبرة كانت أقوى منكم ،وأخصب أرضا ،لذلك أثاروا
الرض .أي :حرثوها للزراعة وللعمار ،وأنتم بواد ذي ذرع ،والحرث يُطلَق على الزرع كما
سلَ[} ...البقرة.]205 :
ث وَالنّ ْ
في قوله سبحانه {:وَ ُيهِْلكَ الْحَ ْر َ
ذلك لن الرض ل تنبت النبات الجيد إل إذا أثارها الفلح ،وقلّبها ليتخلل الهواء تربتها ،فتجود
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عليه وتؤدي مهمتها كما ينبغي ،أما إنْ تركتها هامدة متماسكة التربة والذرات ،فإنها تمسك النبات
ول تعطي فرصة للجذور البسيطة لنْ تمتد في التربة ،خاصة في بداية النبات.
وفي موضع آخر يقول -سبحانه وتعالى -عن النباتَ {:أفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ َأمْ
نَحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة.]64-63 :
وفي قصة البقرة مع بني إسرائيل لما تلكئوا في ذبحها وطلبوا أوصافها ،قال لهم الحق سبحانه{:
سقِي ا ْلحَ ْرثَ[} ...البقرة.]71 :
ض َولَ َت ْ
إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ لّ ذَلُولٌ تُثِي ُر الَ ْر َ
سقْيها
يعني :بقرة مُرفهة غير سهلة النقياد ،فل تُستخدم ،ل في حَرْث الرض وإثارتها ،ول في َ
بعد أنْ تُحرَث؛ لذلك تجد أن الفلح الواعي ل بُدّ أن يثير الرض ويُقلّب تربتها قبل الزراعة،
ويتركها فترة ليتخللها الهواء والشمس ،ففي هذا إحياء للتربة وتجديد لنشاطها ،كما يقولون أيضا:
قبل أن تزرع ما تحتاج إليه انزع ما ل تحتاج إليه.
إذن :فهؤلء القوم كانت لهم زروع وثمار تمتعوا بها وجمعوا خيراتها.
عمَرُوهَا[ { ...الروم ]9 :أي :بما يسّر ال لهم من الطاقات والمكانات ،وأعملوا فيها
ومعنى } َ
الموهبة التي جعلها ال فيهم ،فاستخرجوا من الرض خيراتها ،كما قال سبحانهُ {:هوَ أَنشََأكُمْ مّنَ
الَ ْرضِ وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا[} ...هود.]61 :
وإعمار الرض يكون بكل مظهر من مظاهر الرقي والحياة ،إما بالزرع أو الغًرْس ،وإما بالبناء،
ق النهار والمصارف وإقامة الطرق وغير ذلك مما ينفع الناس ،ونُفرّق هنا بين الزرع
وإما بش ّ
والغَرْس :فالزرع ما تزرعه ثم تحصده مرة واحدة كالقمح مثلً ،أما الغرس فما تغرسُه ،ويظل
فترة طويلة يُدر عليك ،فمحصوله مُتجدّد كحدائق الفاكهة ،والزرع يكون ببذْر الحبّ ،أما الغرس
فنبتة سبق إعدادها تُغرس.
ثم يقول سبحانه } :وَجَآءَ ْتهُمْ رُسُُلهُم بِالْبَيّنَاتِ[ { ...الروم ]9 :فبعد أنْ أعطاهم مقوّمات الحياة
وإمكانات المادة وطاقاتها ،وبعد أنْ جَ َنوْا ثمارها لم يتركهم للمادة إنما أعطاهم إمكانات القيم
والدين ،فأرسل لهم الرسل } بِالْبَيّنَاتِ[ { ...الروم ]9 :أي :اليات الواضحات الدالة على صِدْق
الرسول في البلغ عن ربه وهذه التي نسميها المعجزات.
وسبق أنْ ذكرنا أن كلمة اليات تُطلَق على معانٍ ثلثة :آيات كونية دالة على قدرة الصانع
سبحانه كالشمس والقمر ،وآيات تُؤيّد الرسل وتُثبت صِدْقهم في البلغ عن ال وهي المعجزات،
وآيات القرآن التي تحمل الحكام والمنهج ،وكلها أمور واضحة بينة.
ظِلمُونَ { [الروم ]9 :نعم ،ما ظلمهم
سهُمْ يَ ْ
وقوله تعالىَ } :فمَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ
ال؛ لنه سبحانه أمدهم بمقوّمات الحياة وإمكانات المادة ،ثم أمدهم بمقومات الروح والقيم ،فإنْ
حادوا بعد ذلك عن منهجه سبحانه فما ظلموا إل أنفسهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم نقول :كيف يتأتّى الظلم من ال تعالى؟ الظلم يقع نعم من النسان لخيه النسان؛ لنه يحقد
عليه ،ويريد أنْ يتمتع بما في يده ،فالظالم يأخذ حقّ المظلوم الذي ل قدرةَ له على حماية حقه.
فكيف إذن نتصور الظلم من ال -عز وجل -وهو سبحانه مالك كل شيء ،وغني عن كل
شيء؟ إذن :ما ظلمهم ال ،ولكن ظلموا أنفسهم حينما حادوا عن طريق ال ومنهجه.
()3343 /
ثُمّ كَانَ عَاقِ َبةَ الّذِينَ أَسَاءُوا السّوأَى أَنْ كَذّبُوا بِآَيَاتِ اللّ ِه َوكَانُوا ِبهَا يَسْ َتهْزِئُونَ ()10
الساءة ضدها الحسان ،وسبق أن قلنا :إن الحسان :أن تترك الصالح على صلحه ،أو أن تزيده
صلحا ،ومثّلْنا لذلك ببئر الماء الذي يشرب منه الناس ،فواحد يأتي إليه فيردمه أو يُلوث ماءه،
وآخر يبني حوله سياجا يحميه أو يجعل له آلة تُخرج الماء وتُريح الناس ،فهذا أحسن وذاك أساء،
ن تكفّ إساءتك ،وتدع الحال على ما هو عليه.
فإذا لم تكُنْ محسنا فل أقلّ من أ ْ
والحق -سبحانه وتعالى -خلق الكون على هيئة الصلح ،ولو تركناه كما خلقه ربه لَظلّ على
صلحه ،إِذا ل يأتي الفساد إل من تدخّل النسان؛ لذلك يقول سبحانه{ وَإِذَا قِيلَ َل ُه ْم لَ ُتفْسِدُواْ فِي
شعُرُونَ }[البقرة-11 :
سدُونَ وَلَـاكِن لّ يَ ْ
الَ ْرضِ قَالُواْ إِ ّنمَا َنحْنُ ُمصْلِحُونَ * أَل إِ ّنهُمْ هُمُ ا ْل ُمفْ ِ
.]12
وينبغي على النسان أنْ يأخذ من ظواهر الكون ما يفيده ،أذكر أننا حينما سافرنا إلى مكة سنة
1950كنا ننتظر السّقاء الذي يأتي لنا بقربة الماء ،ويأخذ أجرة حملها ،وكنا نضعها في (البزان)
وهو مثل (الزير) عندنا ،فإذا أراد أحدنا أن يتوضأ يأخذ من الماء كوزا واحدا ويقول :نويت نية
الغتراف ،ول يزيد في وضوئه عن هذا الكوز؛ لننا نشتري الماء ،أما الن فالواحد منا ل تكفيه
(صفيحة) لكي يتوضأ من حنفية الماء .وفي ترشيد استعمال الماء ترشيد أيضا للصرف الصحي
وللمياه الجوفية التي تضر بالمباني وبالتربة الزراعية.
لذلك يحذرنا النبي صلى ال عليه وسلم من السراف في استعمال الماء حتى لو كنّا على نهر
جارٍ.
فمعنى الذين أساءوا :أي الذي جاء إلى الصالح فأفسده أو أنشأ إفسادا جديدا ،وطبيعي أن تكون
عاقبته من جنس ِفعْله { عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُواْ السّوءَىا } [الروم ]10 :والسّوأى :مؤنث سيء مثل:
صغْرى ،فهي أفعل تفضيل من السّوء.
حسْنى للمؤنث .وأصغر و ُ
حسن للمذكر ،و ُ
ثم يقول سبحانه { :أَن َكذّبُواْ بِآيَاتِ اللّ ِه َوكَانُواْ ِبهَا يَسْ َتهْزِئُونَ } [الروم ]10 :فالمر لم يقف عند
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدّ التكذيب باليات ،إنما تعدّى التكذيب إلى الستهزاء ،فما فلسفة أهل الستهزاء حينما يستهزئون
َ
بالخرين؟ كثيرا ما نلحظ أن التلميذ الفاشل يستهزيء بالمجتهد ،والمنحرف يستهزيء بالمستقيم،
لماذا؟
لن حظ الفاشل أنْ يزهد المجتهد في اجتهاده ،وحظ المنحرف أن يصير المستقيم منحرفا مثله،
ومن هنا نسمع عبارات السخرية من الخرين كما حكاها القرآن {:إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ
حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَ ْهِلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَِإذَا
الّذِينَ آمَنُواْ َيضْ َ
رََأوْهُمْ قَالُواْ إِنّ هَـاؤُلَءِ َلضَالّونَ }[المطففين.]32-29 :
لكن ل تتعجل ،وانتظر عاقبة ذلك حينما يأخذ هؤلء المؤمنون أماكنهم في الجنة ،ويجلسون على
حكُونَ * عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ
ضَسُرُرها وأرائكها {:فَالْ َي ْومَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َي ْ
ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المطففين.]36-34 :
والخطاب هنا للمؤمنين الذين تحملوا السخرية والستهزاء في الدنيا :أقدرنا أنْ نجازيهم على ما
فعلوه بكم؟
إذن :فلسفة الستهزاء أن النسان لم يقدر على نفسه ليحملها على الفضائل ،فيغيظه كل صاحب
فضيلة ،ويؤلمه أنْ يرى مستقيما ينعم بعزّ الطاعة ،وهو في حمئة المعصية؛ لذلك يسخر منه لعله
ينصرف عما هو فيه من الطاعة والستقامة.
ثم يقول الحق سبحانه { :اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ.} ...
()3344 /
جعُونَ ()11
اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ ُثمّ إِلَ ْيهِ تُرْ َ
هل بدأ ال الخلق بالفعل ،أم مازال يبدأ الخلق؟ السلوب هنا أسلوب ربّ يتكلم ،فهو سبحانه بدأ
الخَلْق أصوله أولً ،وما يزال خالقا سبحانه ،وما دام هو الذي خلق َبدْءا ،فهو الذي يعيد { اللّهُ يَ ْبدَأُ
الْخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ[ } ....الروم.]11 :
وفي أعراف البشر أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه؛ لن البتداء يكون من عدم ،أما العادة فمن
موجود ،لذلك يقول الحق سبحانه {:وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَلْقَ ثُمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ َأ ْهوَنُ عَلَ ْيهِ[} ...الروم:
]27أي :بمقاييسكم وعلى قَدْر َفهْمكم ،لكن في الحقيقة ليس هناك هَيّن وأهون في حقه تعالى؛ لنه
ن فيكون ،لكن يخاطبنا سبحانه على قَدْر عقولنا.
سبحانه ل يفعل بمزاولة الشياء وعلجها ،إنما بكُ ْ
فالحق سبحانه بدأ الخلق وما يزال سبحانه يخلق ،وانظر مثلً إلى الزرع تحصده وتأخذ منه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التقاوي للعام القادم ،وهكذا في دورة مستمرة بين بَدْء وإعادة { اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ} ...
[الروم.]11 :
وسبق أنْ ضربنا مثلً بالوردة الغضّة الطرية بما فيه من جمال في المنظر والرائحة ،فإذا ما
قُطِفتْ ج ّفتْ ،لن المائية التي بها تبخرتْ ،وكذلك رائحتها ولونها انتشر في الثير ،ثم يتفتت
الباقي ويصير ترابا ،فإذا ما زرعت وردة جديدة أخذت من المائية التي تبخرت ومن اللون ومن
الرائحة التي في الجو.
وهكذا تبدأ دورة وتنتهي أخرى؛ لن مُقوّمات الحياة التي خلقها ال هي هي في الكون ،ل تزيد
ول تنقص ،فالماء في الكون كما هو منذ خلقه الَ :هبْ أنك شربت طوال حياتك عشرين طنا من
الماء ،هل تحمل معك هذا الماء الن؟ ل إنما تَمّ إخراجه على هيئة عرق وبول ومخاط وصماخ
أذن ..إلخ ،وهذا كله تبخّر ليبدأ دورة جديدة.
جعُونَ } [الروم ]11 :نلحظ أن الكلم هنا عن الخَلْق { اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ
ثم يقول سبحانهُ { :ثمّ إِلَيْهِ تُ ْر َ
جعُونَ } [الروم:
ثُمّ ُيعِي ُدهُ ثُمّ[ } ...الروم ]11 :لكن انتقل السياق من المفرد إلى الجمع { ثُمّ ِإلَيْهِ تُ ْر َ
]11ولم يقل يرجع أي :الخلْق ،فلماذا؟
قالوا :لن الناس جميعا ل يختلفون في َبدْء الخلق ول في إعادته ،لكن يختلفون في الرجوع إلى
ال ،فهذا مؤمن ،وهذا كافر ،هذا طائع ،وهذا عاصٍ ،وهذا بين بين ،ففي حال الرجوع إلى ال
ستفترق هذه الوحدة إلى طريقين :طريق للسعداء ،وطريق للشقياء ،لذلك لزم صيغة الفراد في
البَدْء وفي العادة ،وانتقل إلى الجمع في الرجوع إلى ال لختلفهم في الرجوع
ثم يقول الحق سبحانه { :وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ.} ...
()3345 /
معنى { يُبْلِسُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ } [الروم ]12 :أي :يسكتون سُكوتَ اليائس الذي ل يجد حجة ،فينقطع ل
يدري ما يقول ول يجد مَنْ يدافع عنه ،حتى قادتهم وكبراؤهم قد سبقوهم إلى العذاب ،فلم يعُدْ لهم
سمّي (إبليس)؛
أمل في النجاة ،كما قال تعالىَ {:يقْ ُدمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ[} ...هود ،]98 :ومن ذلك ُ
لنه يئس من رحمة ال.
شيْءٍ حَتّىا
وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه {:فََلمّا نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ ِبهِ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ مّبْلِسُونَ }[النعام.]44 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي :لما نسوا منهج ال أراد سبحانه أن يعاقبهم في الدنيا ،وحين يعاقبهم ال في الدنيا ل يأخذهم
على حالهم إنما يُرخي لهم العَنان ،ويُزيد لهم في الخيرات ،ويُوسّع عليهم مٌتَع الدنيا وزخارفها،
حتى إذا أخذهم على هذه الحال كان أَخْذه أليما ،وكانت سقطتهم من أعلى.
كما أنك مثلً ل تُوقع عدوك من على الحصيرة ،إنما ترفعه إلى أعلى ليكون النتقام أبلغَ ،أمّا إنْ
أخذهم على حال الضّيق والفقر ،فالمسألة إذن هيّنة ،وما أقرب الفقر من العذاب!
ولنا ملحظ في قوله تعالى{ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ[} ....النعام ]44 :فمادة فتح إنْ أراد الحق سبحانه الفتح
لصالح المفتوح عليه يقول{ إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَتْحا مّبِينا }[الفتح ]1 :وإن أراد الفتح لغير صالحه يقول{
فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ[} ...النعام ]44 :والفرق بيّن بين المعنيين ،لن اللم هنا للملك{ إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَتْحا
مّبِينا }[الفتح ]1 :إنما على{ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ[} ...النعام ]44 :فتعني ضدهم وفي غير صالحهم ،كما
نقول في المحاسبة :له وعليه ،له في المكسب وعليه في الخسارة.
()3346 /
نعم ،لم يجدوا من شركائهم مَنْ يشفع لهم؛ لن الشركاء قد تبرأوا منهم ،كما قال سبحانهِ {:إذْ تَبَرّأَ
ط َعتْ ِبهِمُ الَسْبَابُ }[البقرة.]166 :
ب وَ َتقَ ّ
الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُو ْا وَرََأوُاْ ا ْلعَذَا َ
حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ
جعَ ْل ُهمَا تَ ْ
ن وَالِنسِ َن ْ
وكذلك يقول التابعون {:رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ ا ْلجِ ّ
سفَلِينَ }[فصلت.]29 :
الَ ْ
وما أشبه هذين :التابع والمتبوع بتلميذين فاشلين تعوّدا على اللعب وتضييع الوقت ،وشغَل كل
منهما صاحبه عن دروسه ،وأغواه بالتسكّع في الطرقات ،إلى أنْ داهمهما المتحان وفاجأتهما
الحقيقة المرّة ،فراح كل منهما يلعن الخر ويسبّه ،ويلقي عليه بالمسئولية.
إذن :ساعة الجد تنهار كل هذه الصلت الواهية ،وتتقطع كل الحبال التي تربط أهل الباطل في
الدنيا { َوكَانُواْ ِبشُ َركَآ ِئهِمْ كَافِرِينَ } [الروم ]13 :ولِمَ ل وقد تكشفتْ الحقائق ،وظهر زيفهم وبان
ضللهم؟
ثم يقول الحق سبحانه { :وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ.} ...
()3347 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ َي ْومَئِذٍ يَ َتفَ ّرقُونَ ()14
أي :الذين اجتمعوا في الدنيا على الشر وعلى الضلل يتفرقون يوم القيامة ،ويصيرون أعداءً
وخصوما بعد أنْ كانوا أخلء ،فيمتاز المؤمنون في ناحية والكافرون في ناحية ،حتى العصاة من
المؤمنين الذين لهم رائحة من الطاعة ل يتركهم المؤمنون ،إنما يشفعون لهم ويأخذونهم في
صفوفهم.
والتنوين في { َي ْومَئِذٍ[ } ..الروم ]14 :بدل من جملة { وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ[ } ...الروم ]14 :أي:
يوم تقوم الساعة يتفرقون.
()3348 /
ما دام الخلق سيمتازون يوم القيامة ويتفرقون ،فل ُبدّ أن نرى هذه القسمة :الذين آمنوا والذين
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ[ } ...الروم:
كفروا ،وها هي اليات تُرينا هذا التفصيل { :فََأمّا الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
]15فما جزاؤهم { َفهُمْ فِي َر ْوضَةٍ يُحْبَرُونَ } [الروم ]15 :الروضة :هي المكان المليء بالخضرة
والنهار والشجار والنضارة ،وكانت هذه عادة نادرة عند العرب؛ لنهم أهل صحراء تقلّ في
بلدهم الحدائق والرياض.
لذلك ،فالرياض والبساتين عندهم شيء عظيم ونعمة كبيرة ،ومعنى { يُحْبَرُونَ } [الروم ]15 :من
الحبور ،وهو الفرحة حينما يظهر عليك أثر النعمة ،هذا عن المؤمنين ،فماذا عن الكافرين؟
ثم يقول الحق سبحانه { :وََأمّا الّذِينَ َكفَرُو ْا َوكَذّبُواْ.} ...
()3349 /
حضَرُونَ ()16
وََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآَيَاتِنَا وَِلقَاءِ الَْآخِ َرةِ فَأُولَ ِئكَ فِي ا ْل َعذَابِ مُ ْ
المحضر بالفتح :الذي يحضره غيره ،ول ُتقَال إل في الشر ،وفيها ما يدلّ على الدانة ،وإل
لحضر هو بنفسه ،ونحن نفزع لسماع هذه الكلمة؛ لن المحضر ل يأتيك إل لشر ،كذلك حال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الكفار والمكذّبين يوم القيامة تجرّهم الملئكة ،وتجبرهم ،وتسوقهم للحضور رَغْما عنهم.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :فسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ.} ...
()3350 /
هنا تتجلى عظمة اليمان ،وتتجلى محبة ال تعالى لخَلْقه ،حيث يدعوهم إليه في كل أوقات اليوم
والليلة ،في الصباح وفي المساء ،في العشية والظهيرة.
والحق سبحانه حين يطلب من عباده أن يؤمنوا به ،إنما لحبه لهم ،وحرصه عليهم ليعطيهم،
ويفيض عليهم من آلئه ،وإل فهو سبحانه بصفات الكمال والجلل غنيّ عنهم ،فإيمان المؤمنين ل
يزيد في مُلكه سبحانه شيئا ،كذلك ُكفْر الكافرين ل ينقص من مُلكه سبحانه شيئا.
إذن :المسألة أنه سبحانه يريد أنْ يبرّ صنعته ،ويُكرم خَلْقه وعباده؛ لذلك يستدعيهم إلى حضرته،
وقرّبنا هذه المسألة بمثل -ول تعالى المثل العلى ،-قلنا :إذا أردتَ أنْ تقابل أحد العظماء ،أو
أصحاب المراكز العليا ،فدون هذا اللقاء مشاقّ ل بُدّ أن تتجشمها.
ل ُبدّ أن ُيؤْذَن لك أولً في اللقاء ،ثم يُحدّد لك الزمان والمكان ،بل ومدة اللقاء وموضوعه ،وربما
الكلمات التي ستقولها ،ثم هو الذي يُنهي اللقاء ،ل أنت.
هذا إنْ أردتَ لقاء الخَلْق ،فما بالك بلقاء الخالق عز وجل؟ يكفي أنه سبحانه يستدعيك بنفسه إلى
حضرته ،ويجعل ذلك فرضا وحتما عليك ،ويطلبك قبل أنْ تطلبه ،ويذكرك قبل أن تذكره ،ل مرة
واحدة ،إنما خمس مرات في اليوم والليلة ،فإذا لبّ ْيتَ طلبه أفاض عليك من رحمته ،ومن نعمه،
ومن تجلياته ،وما بالك بصنعة تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم ،أيصيبها عطب؟
ثم يترك لك ربك كل تفاصيل هذه المقابلة ،فتختار أنت الزمان والمكان والموضوع ،فإنْ أردتَ أنْ
تطيل أمد المقابلة ،فإن ربك ل يملّ حتى تمل؛ لذلك فإن أهل المعرفة الذين عرفوا ل تعالى َقدْره،
سبُ نفسِي عِزّا بأنّي عَبْدٌ يَحْ َتفِي بي
حْوعرفوا عطاءه ،وعرفوا عاقبة اللجوء إليه سبحانه يقولونَ :
بلَ مَواعيدَ رَ ّب ُهوَ في ُقدْسِهِ العَ ّز ولكن أنا ألقي كيفما وأين أحبوالعبودية كلمة مكروهة عند البشر؛
لن العبودية للبشر ُذلّ ومهانة ،حيث يأخذ السيد خير عبده ،أمّا العبودية ل فهي قمة العزّ كله،
وفيها يأخذ العبد غير سيده؛ لذلك امتنّ ال تعالى على رسوله صلى ال عليه وسلم بهذه العبودية
في قوله سبحانه {:سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ[} ...السراء.]1 :
وكلمة { فَسُ ْبحَانَ اللّهِ[ } ...الروم ]17 :هي في ذاتها عبادة وتسبيح ل تعني :أُنزّه ال عن أنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يكون مثله شيء؛ لذلك يقول أهل المعرفة :كل ما يخطر ببالك فال غير ذلك؛ لنه سبحانه{ لَ ْيسَ
شيْءٌ[} ...الشورى.]11 :
َكمِثْلِهِ َ
فال سبحانه مُنزّه في ذاته ،مُنزّه في صفاته ،مُنزّه في أفعاله ،فإنْ وجدنا صفة مشتركة بين الخَلْق
شيْءٌ[} ...الشورى.]11 :
والخالق سبحانه نفهمها في إطار{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ
وقلنا :إنك لو استقرأت مادة سبح ومشتقاتها في كتاب ال تجد في أول السراء {:سُ ْبحَانَ الّذِي
أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ} ...
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بيت المقدس ،ثم يصعد إلى السماء ،ويعود في ليلة واحدة.
فبقانون البشر يصعُب عليك َفهْم هذه المسألة ،وهذا ما فعله كفار مكة حيث قالوا :كيف ونحن
نضرب إليها أكباد البل شهرا ،وتدّعي أنك أتيتها في ليلة؟ فقاسوا المسألة والمسافات على قدرتهم
هم ،فاستبعدوا ذلك وكذّبوه.
ولو تأملوا الية{ سُ ْبحَانَ الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ[} ...السراء ]1 :وهم أهل اللغة لَعرفوا أن السراء لم
يكُنْ بقوة محمد ،فلم ي ُقلْ أسريتُ ،ولكن قال " :أُسرِي بي " ،فل دخلَ له في هذه المسألة وقانونه
فيها مُلْغى ،إنما أسرى بقانون مَنْ أسرى به.
إذن :عليك أن تُنزه ال عن قوانينك في الزمان وفي المسافة ،وإنْ أردتَ أن تُقرب هذه المسألة
للعقل ،فالمسافة تحتاج إلى زمن يتناسب مع الوسيلة هذه المسألة للعقل ،فالمسافة تحتاج إلى زمن
يتناسب مع الوسيلة التي ستقطع بها المسافة ،فالذي يسير غير الذي يركب دابةً ،غير الذي يركب
سيارة أو طائرة أو صاروخا وهكذا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاوَاتِ.{ ...
حمْدُ فِي ال ّ
ثم يقول سبحانه } :وَلَهُ الْ َ
()3351 /
ظهِرُونَ ()18
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَعَشِيّا وَحِينَ تُ ْ
حمْدُ فِي ال ّ
وَلَهُ ا ْل َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهذا يعني أن ال تعالى مُسبّح معبود في كل لحظة من لحظات الزمن.
وفي ضوء هذا نفهم قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :إن ال يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء
النهار ،ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل " فالكون ل يخلو في لحظة واحدة من ليل أو نهار،
وهذا يعني أن يد ال سبحانه مبسوطة دائما ل تُقبَضَ {:بلْ يَدَاهُ مَ ْبسُوطَتَانِ[} ...المائدة.]64 :
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ.} ...
ثم يقول الحق سبحانهُ { :يخْرِجُ ا ْل َ
()3352 /
أولً :ما مناسبة الحديث عن البعث ،وإخراج الحيّ من الميت ،وإخراج الميت من الحيّ بعد
الحديث عن تسبيح ال وتحميده؟ قالوا :لنه تكلّم عن المساء والصباح ،وفيهما شبه بالحياة
والموت ،ففي المساء يحلّ الظلم ،ويسكُن الخَلْق وينامون ،فهو وقت للهدوء والستقرار ،والنوم
الذي هو صورة من صور الموت؛ لذلك نسميه الموت الصغر ،وفي الصباح وقت الحركة
جعَلْنَا
جعَلْنَا الّيلَ لِبَاسا * وَ َ
والعمل والسعي على المعاش ،ففيه إذن حياة ،كما يقول سبحانه {:وَ َ
ال ّنهَارَ َمعَاشا }[النبأ.]11-10 :
ويُُمثّل الموت والبعث بالنوم والستيقاظ منه ،كما جاء في بعض المواعظ " :لتموتُن كما تنامون،
ولتُبعثُنّ كما تستيقظون ".
وما ُدمْنا قد شاهدنا الحاليْنِ ،وعايّنا النوم واليقظة ،فلنأخذ منهما دليلً على البعث بعد الموت ،وإنْ
أخبرنا القرآن بذلك ،فعلينا أنْ نُصدّق ،وأنْ نأخذ من المشاهد دليلً على الغَيْب ،وهذا ما جاءتْ به
الية:
حيّ[ } ...الروم.]19 :
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ
{ ُيخْرِجُ ا ْل َ
حدّ عِلْمنا وفَهمنا للمور ،وإل فكُلّ
وقوله تعالى هنا (الحي والميت) أي :في نظرنا نحن وعلى َ
شيء في الوجود له حياة تناسبه ،ول يوجد موت حقيقي إل في الخرة التي قال ال فيهاُ {:كلّ
ج َههُ[} ...القصص.]88 :
شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ وَ ْ
َ
حيّ عَن بَيّنَةٍ} ...
فضدّ الحياة الهلك بدليل قوله تعالى {:لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّنَ ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ
[النفال]42 :
حيّ ،لكنه حي بحياة تناسبه .وأذكر
وما دام كلّ شيء هالكا إل وجهه تعالى ،فكل شيء بالتالي َ
أنهم كانوا يُعلّموننا كيفية عمل المغناطيس وانتقال المغناطيسية من قطعة مُمغنطة إلى قطعة أخرى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالدّلْك في اتجاه واحد ،وفعلً شاهدنا أن قطعة الحديد تكتسب المغناطيسية.
وتستطيع أنْ تجذب إليها قطعة أخرى ،أليس هذا مظهرا من مظاهر الحياة؟ أليست هذه حركة في
الجماد الذي نراه نحن جمادا ل حياةَ فيه ،وهو يؤثر ويتأثر بغيره ،وفيه ذرات تتحرك بنظام ثابت
ولها قانون.
إذن :نقول لكل شيء موجود حياته الخاصة به ،وإنْ كُنّا ل ندركها؛ لننا نفهم أن الحياة في
الحياء فحسب ،إنما هي في كل شيء وكَوْنك ل تفقه حياة هذه الشياء ،فهذه مسألة أخرى.
لذلك سيدنا سليمان -عليه السلم -لما سمع كلم النملة ،وكيف أنها تفهم وتقف ديدبانا لقبيلتها،
وتفهم حركة الجيش وعاقبة الوقوف في طريقه ،فتحذر جماعتها ادخلوا مساكنكم ،وكيف كانت
شعُرُونَ }[النمل ]18 :فهي تعلم
طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَانُ وَجُنُو ُد ُه وَهُ ْم لَ َي ْ
حِواعية ،وعادلة في قولها {.لَ يَ ْ
أن الجيش لو حطّم النمل ،فهذا عن غير مقصد منهم ،وعندها أحسّ سليمان بنعمة ال عليه بأنْ
شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َع ْمتَ عََليّ وَعَلَىا
يعلم ما ل يعلمه غيره من الناس ،فقالَ { :ربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَ ْ
وَالِ َديّ[ } ...النمل.]19 :
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ.
فمعنى { يُخْرِجُ ا ْل َ
[ { ...الروم ]19 :أي :في عُرْفنا نحن ،وعلى قَدْر َفهْمنا للحياة وللموت ،والبعض يقول :يعني
يُخرج البيضة من الدجاجة ،ويُخرج الدجاجة من البيضة ،وهذا الكلم ل يستقيم مع منطق العقل،
وهل كل بيضة بالضرورة تُخرج دجاجة؟ ل بل ل بُدّ أنْ تكون بيضة مُخصّبة .إذن :ل ت ُقلْ
البيضة والدجاجة ،ولكن ُقلْ يُخرج الحي من الميت من كل شيء موجود.
حيّ[ { ...الروم ]19 :وفي موضع آخر يقول تعالى{:
ثم يقول سبحانه } :وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ
حيّ[} ...النعام ]95 :فأتى باسم الفاعل (مُخْرِج) بدلً
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ َومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ الْ َ
يُخْرِجُ الْ َ
من الفعل المضارع.
لذلك وقف عندها المشككون في أسلوب القرآن ،يقولون :إنْ كانت إحداهما بليغة ،فالخرى غير
بليغة ،وهذا منهم نتيجة طبيعية لعدم َفهْمهم للغة القرآن ،وليستْ لديهم الملَكة العربية التي تستقبل
كلم ال.
وهنا نقول :إن الذي يتكلم ربّ يعطي لكل لفظة وزنها ،ويضع كل كلمة في موضعها الذي ل
تُؤدّيه كلمة أخرى.
حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ[ { ...الروم ]19 :هذه في مصلحة مَنْ؟ في مصلحتنا نحن؛
فقوله تعالى } يُخْرِجُ ا ْل َ
لن النسان بطَبْعه يحب الحياة ،وربما استعلى بها ،واغترّ بهذا الستعلء ،كما قال ربنا {:كَلّ إِنّ
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق.]7-6 :
الِنسَانَ لَيَ ْ
لذلك يُذكّره ربه تعالى بالمقابل :فأنا كما أُخرج الحيّ من الميت أُخرِج الميت من الحيّ فانتبه،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وإياك أنْ تَتعالى أو تتكبّر ،وافهم أن الحياة موهوبة لك من ربك يمكن أنْ يسلبها منك في أيّ
لحظة.
وعبّر عن هذا المعنى مرة بالفعل المضارع (يُخرِج) الدالّ على الستمرار والتجدّد ،ومرة باسم
الفاعل (مُخرِج) الدال على ثبوت الصفة وملزمتها للموصوف ،ل مجرد حدث عارض.
شيْءٍ قَدِيرٌ * الّذِي خََلقَ ا ْل َم ْوتَ
لذلك تأمل قول ال تعالى {:تَبَا َركَ الّذِي بِيَ ِدهِ ا ْلمُ ْلكُ وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ
عمَلً[} ...الملك ]2-1 :وفي نظرنا أن الحياة تسبق الموت ،لكن الحق
حسَنُ َ
وَالْحَيَاةَ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّي ُكمْ أَ ْ
سبحانه يريد أن يقتل في النسان صفة الغترار بالحياة ،فجعله يستقبل الحياة بما يناقضها ،فقال{
ت وَالْحَيَاةَ[} ...الملك.]2 :
الّذِي خَلَقَ ا ْل َموْ َ
فقدّم الموت على الحياة ،فقبل أنْ تفكر في الحياة تذكّر الموت حتى ل تغترّ بها ول تَطْغى.
ويتجلى هذا المعنى أيضا في سورة الواقعةَ {:أفَرَأَيْتُمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَن ُتمْ تَخُْلقُونَهُ أَم نَحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ *
ت َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ }[الواقعة.]60-58 :
نَحْنُ َقدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْو َ
يعني :خذوا بالكم ،وافهموا أنني واهب الحياة ،وأستطيع أنْ أسلبها فل تغت ّر بها ول (تتفرعن)،
وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يَ ُدكّ في النسان صفة الكبرياء والتعالي ،فيُحدث هذه المقابلة دائما
بين ِذكْر الحياة في آيات القرآن الكريم.
ثم َألَ ترى أن الخالق سبحانه لم يجعل للموت سببا من أسباب العمر والسنين ،فواحد يموت قبل
أنْ يُولَد ،وواحد يموت بعد يوم أو بعد شهر ،وآخر يموت بعد عدة أعوام ،وآخر بعد مائة عام.
إذن :مسألة ل ضابط لها إل أقدار ال وأجله الذي أجلّه سبحانه ،وفي هذا إشارة للنسان :احذر
فقد تُس ْلبَ منك الحياة التي تنشأ منها غرورك في أيّ لحظة ،ودون أنْ تدري ودن سابق إنذار أو
مقدمات ،فاستقِمْ إذن على منهج ربك ،ول تجتريء على المعصية؛ لنك قد تموت قبل أنْ تتدارك
نفسَك بالتوبة.
لذلك يقولون :إن الحق سبحانه حين أبهم وقت الموت بيّنه بالبهام غايةَ البيان ،كيف؟ قالوا :لنه
سبحانه لو حدّد لك موعد الموت لكنتَ تستعد له قبل أوانه ،إنما حين أبهمه جعلك تستعدّ له كل
لحظة من لحظات حياتك.
ثم يقول سبحانه } :وَيُحْي الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا[ { ...الروم ]19 :وفي موضع آخر {:وَتَرَى الَ ْرضَ
ت وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ }[الحج.]5 :
ت وَرَ َب ْ
هَامِ َدةً فَِإذَآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّز ْ
فالرض كانت ميتة هامدة جامدة جرداء ،ل أثرَ فيها لحياة ،فلما نزل عليها الماء وسقاها المطر
تحركت وأنبتتْ من كل زوج بهيج ،فهي نموذج حيّ مُشَاهد للخَلْق وللحياة.
خضَ ّرةً[} ...الحج]63 :
ح الَ ْرضُ ُم ْ
سمَآءِ مَآءً فَ ُتصْبِ ُ
وفي آية أخرى {:أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ
فهل أخضرتْ الرضُ ساعةَ نزل عليها المطر؟ ل ،إنما بعد فترة ،كأنه سبحانه يقول لك :لحظ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحدث ساعة يوجد ،واستحضر صورته ،فبعد نزول الماء ترى الرض تخضرّ تدريجيا ،وإنْ لم
تبذر فيها شيئا ،ففيها بذور شتّى حملتْها الرياح ،ثم استقرتْ في التربة ولو لسنوات طوال تظل
صالحة للنبات تنتظر الماء لتؤدي مهمتها.
والذي عاش في الصحراء يشاهد هذه الظاهرة ،وقد رأيناها في عرفة بعد أنْ نزل عليها المطر،
وعُدْنا بعد عدة أيام ،فإذا الرض تكتسي باللون الخضر .لذلك إياك أن تظن أن كل زرع زرعه
النسان ،وإلّ فمنْ أين جاءت أول بذرة زرعها النسان .إذن :هناك زراعات ل دخلَ للنسان
بها.
طفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ ا ْلعَاَلمِينَ
طهّ َركِ وَاصْ َ
طفَاكِ َو َ
ولنقرأ قصة مريم عليها السلم {:يامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ
خلْق جميعا ،بأن
}[آل عمران ]42 :فالصطفاء الول لم يقُلْ على مَنْ .فالمعنى :اصطفاكِ على ال َ
طهّركِ وجعلك صالحة تقية قوّامة ...إلخ.
َ
أما الصطفاء الخر فليس على الخَلْق جميعا ،إنما على النساء؛ لنها تفردتْ عن نساء العالمين
بأنْ تلِدَ بغير ذكورة.
والشاهد الذي نريده هنا أن يوسف النجار لما لحظ على مريم علمات الحمل وهو يعلم مَنْ هي
مريم ،وأنها لم تفارق المحراب طوال عمرها ،فلم يرِدْ على ذِهْنه المعنى الثاني ،ويريد أن يستفهم
عمّا يراه ،فسألها بأدب :يا مريم ،أتوجد شجرة بدون بذرة؟ فقالت وقد لقّنها الحق سبحانه :نعم،
َ
الشجرة التي أنبتت أول بذرة.
إذن :الحق سبحانه يمتنّ علينا بالشيء ،ثم يُذكّرنا بقدرته تعالى على سَلْبه ،وعلى نقيضه حتى ل
نغترّ به ،ليس في مسألة الموت والحياة فحسب ،إنما في الزرع وفي الماء وفي النار ،واقرأ قوله
تعالى:
{ َأفَرَأَيْ ُتمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخُْلقُونَهُ أَم َنحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ * َنحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْوتَ َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ
* عَلَىا أَن نّ َب ّدلَ َأمْثَاَلكُ ْم وَنُنشِ َئكُمْ فِي مَا لَ َتعَْلمُونَ * وََلقَدْ عَِلمْ ُتمُ النّشَْأ َة الُولَىا فََل ْولَ َت َذكّرُونَ *
حطَاما فَظَلْ ُتمْ َت َفكّهُونَ *
جعَلْنَاهُ ُ
َأفَرَأَيْتُم مّا َتحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ * َلوْ َنشَآءُ َل َ
إِنّا َل ُمغْ َرمُونَ * َبلْ َنحْنُ مَحْرُومُونَ * َأفَرَأَيْتُمُ ا ْلمَآءَ الّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَن ُتمْ أَنزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ أَمْ
شكُرُونَ * َأفَرَأَيْتُمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَن ُتمْ أَنشَأْ ُتمْ
جعَلْنَاهُ أُجَاجا فََل ْولَ َت ْ
نَحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ * َلوْ َنشَآءُ َ
شجَرَ َتهَآ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنشِئُونَ }[الواقعة.]72-58 :
َ
جعَلْنَاهُ حُطَاما} ...
ونلحظ في الداء القرآني في هذه اليات الدقة في استخدام لم التوكيد في{ لَ َ
[الواقعة ]65 :في الحديث عن الزرع؛ لن للنسان دورا فيه ،حيث يحرث ويغرس ويسقي،
وربما ظَنّ لنفسه قدرة عليه.
جعَلْنَاهُ أُجَاجا[} ...الواقعة ]70 :بدون توكيد،
لكن لما تحدّث عن الماء ذكر في نقضه{ َلوْ َنشَآءُ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لماذا؟ لن الماء ل دخلَ لحد فيه ،ول يدعيه أحد ،فل أنت بخرتَ الماء ،ول أنت أنزلتَ المطر،
جعَلْنَاهُ[} ...الواقعة ]70 :بدون توكيد.
لذلك قالَ {:
أما عند ذكْر النار كنعمة من ِنعَم ال لم يذكر ما ينقضها ،فقال {:أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَ َتهَآ َأمْ نَحْنُ
ا ْلمُنشِئُونَ }[الواقعة ]72 :ولم ي ُقلْ مثلً :لو نشاء لطفأناها ،تُرى لماذا؟ قالوا :لتظل النارُ ماثلة
أمامنا على حال اشتعالها ل تخمد أبدا ،وكأن الحق -سبحانه وتعالى -يُلوّح بها لكل عَاصٍ علّه
يعود إلى الجادّة.
ثم يقول سبحانهَ } :وكَذَِلكَ ُتخْرَجُونَ { [الروم ]19 :كذلك :إشارة إلى ما سبق ِذكْره من إحياء
الرض بعد موتها ،كمثْل ذلك تُخرجون وتُبعثون ،فمَنْ أنكر البعث فلينظر عملية إحياء الرض
الجامدة بالنبات بعد نزول المطر عليها.
()3353 /
َومِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خََل َقكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ إِذَا أَنْ ُتمْ بَشَرٌ تَنْ َتشِرُونَ ()20
الكلم هنا عن بَدْء الخلق ،قال تعالى { َومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خََل َقكُمْ[ } ...الروم ]20 :بصيغة الجمع،
والمراد آدم ثم حواء ،ثم بثّ ال منهما رجالً كثيرا ونساء ،فالعالم اليوم الذي ُيعَدّ بالمليارات حين
تعود به إلى الماضي ل ُبدّ أنْ تعود إلى اثنين هما آدم وحواء ،فلما التقيا نشأ منهما النسل ،لكن
هل نشأ النسل من أبعاض ميتة خرجتْ من آدم ،أم من أبعاض حيّة هي الحيوانات المنوية؟
لو أن الحيوان المنويّ كان ميتا لما حدث النجاب .إذن :جاء أولد آدم من ميكروب أبيهم آدم،
وانتشروا في الرض وأنجبوا ،وكل منهم يحمل ذرة من أبيه الول آدم عليه السلم .وبالتالي فكُلّ
مِنّا فيه ذرة حية من عهد آدم ،وحتى الن لم يطرأ عليها فناء أبدا ،وهذا هو عَالَم الذّرّ الذي شهد
خَلْق ال لدم ،إنها أبعاضنا التي شهدتْ هذا العهد الول بين الخَلْق والخالق سبحانه {:وَإِذْ َأخَذَ
شهِدْنَآ أَن
ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ
رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[العراف.]172 :
إذن :في كل مِنّا الن وحتى قيام الساعة ذرةٌ حيّة من أبيه آدم ،هذه الذرة الحية هي التي شهدتْ
هذا العهد ،وهي التي تمثل الفطرة اليمانية في كل نفس بشرية ،لكن هذه الفطرة قد تُطمس أو
تُغلّف بالغفلة والمعاصي ...إلخ.
والحق -سبحانه وتعالى -أخبرنا أنه يخلق الشياء ويُوجِدها بكُنْ{ إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن
َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس ]82 :إل النسان ،فقد بلغ من تكريمه أنْ سوّاه ربه بيده ،وجعله خليفة له
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في الرض ،وتجلّى عليه بصفات من صِفاته ،فأعطاه من قدرته قدرةً ،ومن عِلْمه عِلْما ،ومن
حكمته حكمة ،ومن غِنَاه غِنىً.
وربنا سبحانه حينما يخلقنا هذا الخَلْق يريد مِنّا أنْ نستعمل هذه الصفات التي وهبها لنا ،كما
يستعملها هو سبحانه ،فال تعالى بقدرته خلق لنا ما ينفعنا ،فعليك أنت بما وهبك ال من القدرة أنْ
تعمل ما ينفع ،وال بحكمته ر ّتبَ الشياء ،فعليك بما لديْك من حكمة أنْ تُرتّب الِشياء ..وهكذا.
ونشير إلى أن القدرة تختلف ،فقدرة تفعل لك ،وقدرة عُلْيا تجعلك تفعل بنفسكَ ،هبْ أنك قابلتَ
حمْل متاعه مثلً ،فتحمله أنت له ،فأنت إذن عدّ ْيتَ إليه أثرَ قوتك ،إنما
ل ضعيفا ل َي ْقوَى على َ
رج ً
ل هو ضعيفا.
ظّ
أما الحق -تبارك وتعالى -فل يُعدّي أثر قوته إلى عبده فحسب ،إنما يُعدّي له القدرة ذاتها،
فيُقوّي الضعيف؛ فيحمل متاعه بنفسه.
إذن :أعظم تكريم للنسان أنْ يقول الخالق سبحانه :إنني خلقتُه بيدي في قوله سبحانه لبليس{:
سجُدَ ِلمَا خََل ْقتُ بِ َي َديّ} ...
قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَن تَ ْ
[ص.]75 :
ن تكون كريما على نفسك كما كرّمك ال ،ولك أنْ تنزل بها
ثم لك أيها النسان بعد هذا التكريم أ ْ
إلى الحضيض ،فنفسك حيث تجعلها أنت.
س َفلَ سَافِلِينَ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ
يقول تعالىَ {:لقَدْ خََلقْنَا الِنسَانَ فِي َأحْسَنِ َت ْقوِيمٍ * ثُمّ رَدَدْنَاهُ أَ ْ
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ[} ...التين ]5-4 :فانظر لنفسك منزلة من المنزلتين.
وَ َ
وكلمة } مّن تُرَابٍ[ { ...الروم ]20 :أي :الصل الذي خُلِق منه آدم ،والتراب مع الماء يصير
ف فهو صلصال كالفخار ،إذن :هذه هي
ج ّ
طينا ،فإنْ تعطّن وتغيّ َرتْ رائحته فهو حمأ مسنون ،فإنْ َ
العناصر التي وردت ومراحل خَلْقِ النسان ،وكلها مُسمّيات للتراب ،وحالت طرأتْ عليه.
فإنْ جاء مَنْ يقول في مسألة الخَلْق بغير هذا فل نُصدّقه؛ لن الذي خلق النسان أخبرنا كيف
خلقه ،أما هؤلء فلم يشهدوا من خَلْق النسان شيئا ،وهم في نظر الدين مُضللون ،يجب الحذر من
أفكارهم؛ لن ال تعالى يقول في شأنهم:
عضُدا }[الكهف.]51 :
{ َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
خضْ العلماء في مسألة الخلق خلق النسان وخلق الشمس والقمر والرض ...الخ .لو
وال لو لم َي ُ
لم نسمع بنظرية داروين أكانت تصدُق هذه الية؟ وإل لقالوا :أين المضللون الذين تكلّم القرآن
عنهم؟ فهم إذن قالوا وطلعوا علينا بنظرياتهم ،يريدون أنْ يُكذّبوا دين ال ،وأنْ يُشكّكوا فيه ،وإذا
بهم يقومون جميعا دليلً على صِدْقه من حيث ل يشعرون.
وعلى شاكلة هؤلء الذين نسمعهم الن ينكرون أحاديث النبي صلى ال عليه وسلم ويُشككون في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صحتها ،هذه في الحقيقة ظاهرة طبيعية جاءت لتثبت صدق رسول ال؛ لنه صلى ال عليه وسلم
لم يغفل هذه المسألة ،إنما أخبر عنها ونبهنا إليها ،وأعطانا المناعة اللزمة -الثلثي الذي نسمع
عنه من رجال الصحة.
يقول صلى ال عليه وسلم " :يوشك رجل من أمتي يتكيء على أريكته يُحدّث بالحديث عني
فيقول :بيننا وبينكم كتاب ال ،فما وجدنا فيه من حلل حللناه ،وما وجدنا فيه من حرام حرمناه،
َألَ وإنّ ما حرم رسول ال مثل ما حرم ال ".
خذُوهُ
لماذا؟ لن ال تعالى أعطاه تفويضا في أنْ يُشرّع لمته ،فقال تعالىَ {:ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَ ُ
َومَا َنهَاكُمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ[} ...الحشر ]7 :فللرسول إيتاء ،وللرسول أمر ونهي يجب أنْ يُطاع
بطاعتنا ل.
وتعالَ لمن ينكر السنة ويقول :علينا بالقرآن -عندما يصلي المغرب مثلً واسأله :كم ركعة
صليتَ المغرب؟ سيقول :ثلث ركعات ،فمن أين علم أن المغرب ثلث ركعات؟ أمن القرآن الذي
يتعصّب له ،أم من السنة التي يُنكرها .إذن :كيف يتعبد على قول رسول ال ثم ينكره؟
إذن :فالحق -سبحانه وتعالى -بيّن مراحل خَلْق النسان من تراب ،صار طينا ،ثم صار حمأ
مسنونا ،ثم صلصالً كالفخار ،ثم نفخ فيه ال من روحه ،ونحن لم نشاهد هذه المسألة ،إنما أخبرنا
بها ،ومن رحمته تعالى بخَلْقه ،ولكي ل تحار عقولهم حينما تبحث هذه العملية يعطينا في الكون
المشَاهد لنا شواهد تُوضّح لنا الغيب الذي لم نشاهده.
ففي أعرافنا أن هَدْم الشيء أو َنقْص البناء يأتي على عكس البناء ،فما بُني أولً ُيهْدَم آخرا ،وما
بُني آخرا يُهدَم أولً ،وأنت لم تشاهد عملية الخَلْق ،لكن شاهدتَ عملية الموت ،والموت َنقْض
للحياة.
ن تتأملَ النسان حينما يموت ،فأول َنقْض لبنيته أنْ تخرج منه الروح ،وكانت آخر شيء في
ولك أ ْ
بنائه ،ثم يتصلّب الجسد ويتجمد ،كما كان في مرحلة الصلصالية ،ثم يتعفّن وتتغير رائحته ،كما
كان في مرحلة الحمأ المسنون ،ثم تمتص الرض ما فيه من مائية ليصير إلى التراب كما بدأه
خالقه من تراب ،إذن :صدق ال تعالى في المشهد حين بيّن لنا الموت ،فصدّقنا ما قاله في الحياة.
خصْب والنماء ،ومخازن للقوت
وكما أن التراب والطين هما أصل النسان فهما أيضا مصدر ال ِ
وهما مُقوّم من مُقوّمات حياتنا :لذلك لما تكلم القرآن عن التراب قال سبحانهُ {:قلْ أَإِ ّن ُكمْ لَ َت ْكفُرُونَ
سيَ مِن
ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ
جعَلُونَ َلهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ
ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَ َت ْ
بِالّذِي خَلَ َ
َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا[} ...فصلت ]10-9 :يعني :في الجبال لنها أقرب مذكور أو في الرض
عموما؛ لن الرواسي في الرض{ َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا[} ...فصلت.]10 :
فالقوت يأتينا من طينة الرض ،ومن التراب الذي يتفتت من الجبال مُكوّنا الطمي أو الغرْيَن الذي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يحمله إلينا ماء المطر ،فالرض هي أمنا الحقيقية ،منها خُِلقْنا ،ومنها مُقوّمات حياتنا.
وعجيب أن نرى من العلماء غير المؤمنين مَنْ يثبت صدْق القرآن في مسألة خَلْق النسان من
طين حين حلّلوا عناصر الرض فوجدوها ستة عشر عنصرا هي نفسها التي وجدوها في جسم
النسان ،وكأن الحق سبحانه يُجنّد مَنْ يثبت صِدْق آياته ولو من الكفار.
حقّ} ...
سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ الْ َ
ق َوفِي أَنفُ ِ
وصدق ال العظيم حين قال {:سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ
[فصلت .]53 :وفي القرآن آيات تدلّ على معادلت لو بحثها (الكمبيوتر) الن ل ُبدّ أن نؤمن بأن
هذا الكلم من عند ال وأنه صِدْق.
ل ل تفهمها؛ وكذلك هو ل
تأمل ظاهرة اللغة ،وكيف نتكلم ونتفاهم ،فأنت إذا لم تتعلم النجليزية مث ً
يفهم العربية .لماذا؟ ل ن اللغة وليدة المحاكاة ،فما تسمعه الذن يحكيه اللسان ،وهي ظاهرة
اجتماعية ،فلو عاش النسان وحده لما احتاج للغة؛ لنه سيفعل ما يطرأ على باله وفقط.
أمّا حين يعيش في جماعة فل ُبدّ له أن يتفاهم معهم ،يأخذ منهم ويأخذون منه ،يسمع منهم
ويسمعون منه ،حتى الخرس ل بُدّ له من لغة يتفاهم بها مع مَنْ حوله ،ويستخدم فعلً لغة
الشارة ،وقد أقدره ال على فهمها.
وال سبحانه يُبقي للنسان المتكلم دللت الشارة في النفس الناطقة ،فمثلً لو اضطررت للكلم
ل ويفهم عنك ويفعل ما تريد.
وفي فمك طعام ،فإنك تشير لولدك أو لخادمك مث ً
إذن :فينا نحن السوياء بقايا خَرس نستعمله ،حينما ل يسعفنا النطق إذن :التفاهم أمر ضروري،
واللغة وليدة المحاكاة؛ لذلك نقول للولد الصغير :ل تخرج إلى الشارع ،لماذا؟ حتى ل تسمع أذنه
كلما قبيحا فيحكيه هو.
إذن :كيف تعلمتُ اللغة؟ تعلمتها من أبي ومن المحيط بي ،وتعلمها أبي من أبيه ،ومن المحيطين
به ،وهكذا .ولك أن تسلسل هذه المسألة كما سلسلنا التكاثر في النسان ،وسوف نعود بالتالي إلى
سمَآءَ
أبينا آدم عليه السلم ،وعندها نقول :ومَنْ علّم آدم اللغة؟ يردّ علينا القرآن {:وَعَلّمَ ءَا َد َم الَ ْ
كُّلهَا[} ...البقرة ]31 :هذا كلم منطقي استقرائي يدلّ دللة قاطعة على صِدْق آيات القرآن.
وقوله سبحانهُ } :ثمّ إِذَآ أَن ُتمْ بَشَرٌ تَن َتشِرُونَ { [الروم ]20 :ثم :أي بعد أنْ خلقنا ال من تراب تكاثر
الخَلْق وتزايدوا بسرعة؛ لن السياق استعمل هنا (إذا) الفجائية الدالة على الفجأة ،والتي يُمثّلون لها
بقولهم :خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب ،يعني :فاجأني ،فالمعنى أنكم تتزايدون وتنتشرون في الرض
سكُمْ.{ ...
بسرعة ،ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ خَلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
()3354 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمَةً إِنّ فِي ذَِلكَ
ج َعلَ بَيْ َن ُكمْ َموَ ّد ًة وَرَ ْ
سكُنُوا إِلَ ْيهَا َو َ
سكُمْ أَ ْزوَاجًا لِ َت ْ
َومِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خََلقَ َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ
لَآَيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ ()21
قلنا :إن الية هي الشيء العجيب الذي يقف عنده العقل مندهشا دهشةً تُورِث إعجابا ،وإعجابا
سكُمْ أَ ْزوَاجا} ...
يُورث يقينا بحكمة الخالق .من هذه اليات العجيبة الباهرة { أَنْ خََلقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
[الروم ]21 :يعني :من جنسكم ونوعكم.
فلم يشأ سبحانه أنْ يحدث التكاثر مثلً بين النسان وبقرة ،ل إنما إنسان مع إنسان ،يختلف معه
فقط في النوع ،هذا ذكر وهذه أنثى ،والختلف في النوع اختلف تكامل ،ل اختلف تعاند
وتصادم ،فالمرأة للرقة والليونة والحنان ،والرجل للقوة والخشونة ،فهي تفرح بقوته ورجولته،
وهو يفرح بنعومتها وأنوثتها ،فيحدث التكامل الذي أراده ال وقصده للتكاثر في بني النسان.
وعجيب أنْ يرى البعض أن الذكورة نقيض النوثة ،ويثيرون بينهما الخلف المفتعل الذي ل
معنى له ،فالذكورة والنوثة ضرورتان متكاملتان كتكامل الليل والنهار ،وهما آيتان يستقبلهما
الناس جميعا ،هل نُجري مقارنة بين الليل والنهار ،وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعا ،هل نُجري
مقارنة بين الليل والنهار ..أيهما أفضل؟ لذلك تأمل دقة الداء القرآني حينما جمع بين الليل
والنهار ،وبين الذكر والنثى ،وتدبّر هذا المعنى الدقيق {:وَالْلّ ْيلِ إِذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ إِذَا تَجَلّىا *
ل منكما مهمته ،كما
سعْ َيكُمْ لَشَتّىا }[الليل ]4-1 :أي :مختلف ،فل ُك ّ
َومَا خَلَقَ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا * إِنّ َ
سعْيكما ينشأ التكامل العلى.
أن الليل للراحة ،والسكون والنهار للسعي والعمل ،وبتكامل َ
فل داعي إذن لنْ أطلب المساواة بالمرأة ،ول أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل ،لقد صُدعت
رءوسنا من هؤلء المنادين بهذه المساواة المزعومة ،والتي ل معنى لها بعد قوله تعالى{ إِنّ
ل منكما مهمته ،كما أن الليل للراحة ،والسكون والنهار
سعْ َيكُمْ َلشَتّىا }[الليل ]4 :أي :مختلف ،فل ُك ّ
َ
سعْيكما ينشأ التكامل العلى.
للسعي والعمل ،وبتكامل َ
فل داعي إذن لنْ أطلب المساواة بالمرأة ،ول أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل ،لقد صُدعت
رءوسنا من هؤلء المنادين بهذه المساواة المزعومة ،والتي ل معنى لها بعد قوله تعالى {:إِنّ
سعْ َيكُمْ َلشَتّىا }[الليل.]4 :
َ
وعجيب أن نسمع من يقول -من الرجال -ينبغي للمرأة أن تحتل مكان الرجل ،وأنْ تؤدي ما
يؤديه ،ونقول :ل نستطيع أن تُحمّل المرأة مهمة الرجل إل إذا حمّ ْلتَ الرجل مهمة المرأة ،فيحمل
كما تحمل ،ويلد كما تلد ،ويُرضِع كما تُرضِع ،فدعونا من شعارات (البلطجية) الذين يهرفون بما
ل يعرفون.
س ُكمْ[} ...التوبة ]128 :أي :من جنسكم
ومثل هذا قوله تعالىَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وبشريتكم ،فهو نفس لها كل طاقات البشر ،ليكون لكم أسوة ،ولو جاء الرسول مَلَكا لما تحققتْ فيه
سكُمْ[} ...التوبة]128 :
السوة ،وَلقُلْتم هذا ملَك ،ونحن ل نقدر على ما يقدر هو عليه .أو{ مّنْ أَنفُ ِ
يعني :من العرب ومن قريش.
سكُمْ[} ...التوبة ]128 :يعني :خَلْق حواء من ضلع آدم ،فهي من أنفسنا
والبعض يرى أن{ مّنْ أَنفُ ِ
يعني :قطعة منا ،لكن الكلم هنا
سكُمْ[} ...التوبة ]128 :مخاطب به الذكر والنثى معا ،كما أن الزواج تُطلق عليهما
{ مّنْ أَنفُ ِ
أيضا ،على الرجل وعلى المرأة ،والبعض يفهم أن الزوج يعني اثنين ،لكن الزوج مفرد معه مثله؛
ج َعلَ فِيهَا َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ[} ...الرعد.]3 :
لذلك يقول تعالىَ {:ومِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َ
وفي الماضي كنا نعتقد أن نوع الجنين إنما يتحدد من ماء الرجل وماء المرأة ،لكن القرآن يقول
طفَةً مّن مّ ِنيّ ُيمْنَىا }[القيامة ]37 :فماء المرأة ل دخلَ له في نوع الجنين،
غير ذلك {:أَلَمْ َيكُ ُن ْ
ذكرا كان أم أنثى ،الذكورة والنوثة يحددها ماء الرجل.
سكُمْ أَ ْزوَاجا[ { ...الروم]21 :
وهذا ما أثبته العلم الحديث ،وعلى هذا نقول } خَلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
يعني :من ذكور الزواج ،خلق منك ميكروبا هو (الكس أو الكس واي) كما اصطلح عليه العلم
الحديث ،وهو يعني الذكورة والنوثة.
وسبق أنْ ذكرنا في هذه المسألة قصة أبي حمزة الرجل العربي الذي تزوج على امرأته؛ لنها ل
تنجب البنين ،وهجرها لهذا السبب فقالت بما لديها من سليقة عربية ،وقَوْلُها دليل على علم العرب
غضْبان َألّ نَلدَ البَنينَاتَال
حمْز َة ل يأْتينَا َ
قديما بهذه الحقيقة التي أثبتها العلم مؤخرا ،قالت:مَا لبي َ
مَا ذَلكَ في أَيْدينَا ونحن كال ْرضِ لِزَارِعينانُعطي َلهُمْ مثْل الذي أُعْطينَا والحق سبحانه بهذا يريد أن
يقول :إنني أريد خليفة متكاثرا ليعمر هذه الرض الواسعة ،فإذا رأيتَ مكانا قد ضاق بأهله فاعلم
أن هناك مكانا آخر خاليا ،فالمسألة سوء توزيع لخَلْق ال على أرض ال.
لذلك يقولون :إن سبب الزمات أن يوجد رجال بل أرض ،وأرض بل رجال ،وضربنا مثلً لذلك
عتْ لكفَت العالم العربي كله ،في حين
بأرض السودان الخصبة التي ل تجد مَنْ يزرعها ،ولو زُرِ َ
نعيش نحن في الوادي والدلتا حتى ضاقتْ بنا ،فإنْ فكرت في الهجرة إلى هذه الماكن الخالية
واجهتْك مشاكل الحدود التي قيدوا الناس بها ،وما أنزل ال بها من سلطان.
ذلك لما أُتيح لنا الحديث في المم المتحدة قلت لهم :آية واحدة في كتاب ال لو عملتم بها َلحَّلتْ
ض َعهَا لِلَنَامِ }[الرحمن]10 :
لكم المشاكل القتصادية في العالم كله ،يقول تعالى {:وَالَ ْرضَ َو َ
فالرض كل الرض للنام ،كل النام على الطلق.
سعَةً فَ ُتهَاجِرُواْ فِيهَا[} ...النساء]97 :
واقرأ قوله تعالى في هذه المسألة {:أََلمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّهِ وَا ِ
إذن :ل تعارض منهج ال وقدره في أحكامه ،ثم تشكو الفساد والضيق والزمات ،إنك لو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
استقرأتَ ظواهر الكون لما وجدتَ فسادا أبدا إل فيما تتناوله يد النسان على غير القانون والمنهج
الذي وضعه خالق هذا الكون سبحانه ،أما ما ل تتناوله يد النسان فتراه منضبطا ل يختل ول
يتخلف.
إذن :المشاكل والزمات إنما تنشأ حينما نسير في كون ال على غير هدى ال وبغير منهجه؛ لذلك
ن يقول :العيشة ضَنْك ،فل يقفز إلى ذهنك عند سماع هذه الكلمة إل مشكلة الفقر ،لكن
تسمع مَ ْ
الضنك أوسع من ذلك بكثير ،فقد يوجد الغِنَى والترف ورَغَد العيش ،وترى الناس مع ذلك في
ضنك شديد.
فانظر مثلً إلى السويد ،وهي من أغنى دول العالم ،ومع ذلك يكثر بها الجنون والشذوذ والعقد
النفسية ،ويكثر بها النتحار نتيجة الضيق الذي يعانونه ،مع أنهم أغنى وأعلى في مستوى دخل
الفرد.
فالمسألة -إذن -ليست حالة اقتصادية ،إنما مسألة منهج ل تعالى غير مُطلّق وغير معمول به،
عمَىا }[طه:
ش ًة ضَنكا وَنَحْشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ أَ ْ
وصدق الَ {:ومَنْ أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِي َ
.]124
عشْنا بمنهج ال لوجدنا لذة العيش ولو مع الفقر.
لذلك لو ِ
سكُنُواْ إِلَ ْيهَا[ { ...الروم ]21 :هذه هي العلة الصيلة في الزواج ،أي :يسكن
وقوله تعالى } :لّتَ ْ
الزوجان أحدهما للخر ،والسكن ل يكون إل عن حركة ،كذلك فالرجل طوال يومه في حركة
العمل والسعي على المعاش يكدح ويتعب ،فيريد آخر النهار أن يسكن إلى مَنْ يريحه ويواسيه،
سكَن والحنان والعطف والرقة ،وفي هذا السكَن يرتاح ويستعيد
فل يجد غير زوجته عندها ال ّ
نشاطه للعمل في غد.
لكن تصور إنْ عاد الرجل مُتْعبا فلم يجد هذا السكن ،بل وجد زوجته ومحلّ سكنه وراحته تزيده
سكَن هنا ،وأن تؤدي مهمتها لتستقيم
صفْوه .إذن :ينبغي للمرأة أنْ تعلم معنى ال ّ
تعبا ،وتكدّر عليه َ
أمور الحياة.
حمَةً[ { ...الروم ]21 :المودة هي
ج َعلَ بَيْ َنكُم ّموَ ّدةً وَرَ ْ
سكَن إنما } َو َ
ثم إن المر ل يقتصر على ال ّ
الحب المتبادل في (مشوار) الحياة وشراكتها ،فهو يكدح ويُوفر لوازم العيش ،وهي تكدح لتدبر
سعْ َيكُمْ َلشَتّىا }[الليل ]4 :هذا في إطار من الحب
أمور البيت وتربية الولد؛ لن ال يقول{ إِنّ َ
والحنان المتبادل.
أما الرحمة فتأتي في مؤخرة هذه الصفات :سكن ومودة ورحمة ،ذلك لن البشر عامة أبناء
أغيار ،وكثيرا ما تتغير أحوالهم ،فالقوي قد يصير إلى الضعف ،والغني قد يصير إلى فقر،
والمرأة الجميلة تُغيّرها اليام أو يهدّها المرض ...إلخ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك يلفت القرآن أنظارنا إلى أن هذه المرحلة التي ربما فقدتم فيها السكن ،وفقدتُم المودة ،فإن
الرحمة تسعكما ،فليرحم الزوج زوجته إنْ َقصُرت إمكاناتها للقيام بواجبها ،ولترحم الزوجة
زوجها إنْ أقعده المرض أو أصابه الفقر ..إلخ.
وكثير من كبار السن من الذين يتقون ال ويراعون هذه التعاليم يعيشون حياتهم الزوجية على هذا
المبدأ مبدأ الرحمة ،لذلك حينما يًلمّحون للمرأة التي أقعد المرض زوجها تقول( :أنا آكله لحم
وأرميه عظم؟)
هذه هي المرأة ذات الدين التي تعيدنا إلى حديث رسول ال في اختيار الزوجة " :تُنكح المرأة
لربع :لمالها ،ولحسبها ،ولجمالها -وهذه كلها أغيار -ولدينها ،فاظفر بذات الدين تربت يداك "
فأنت وهي أبناء أغيار ،ل يثبت أحد منكما على حاله ،فيجب أنْ تردا إلى شيء ثابت ومنهج
محايد ل هوى له ،يميل به إلى أحدكما ،منهج أنتما فيه سواء ،ولن تجدوا ذلك إل في دين ال.
لذلك يحذرنا النبي صلى ال عليه وسلم " :إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخُلقه فزوّجوه ،أل تفعلوا
تكُنْ فتنة في الرض وفساد كبير ".
وإياك حين تكبر زوجتك أن تقول إنها لم تعد تمل نظري ،أو كذا وكذا ،لن الزوجة ما جعلها ال
إل سكنا لك وأنثى ووعاءً ،فإذا هاجتْ غرائزك بطبيعتها تجد مصرفا ،كما قال النبي صلى ال
عليه وسلم " :إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته -أي :تعجبه وتحرّك في نفسه نوازع -فلي ْأتِ أهله،
فإنْ ال ُبضْع واحد ".
وكلما طبّق الزوجان المقاييس الدينية ،وتحلّيا بآداب الدين وجد كل منهما في الخر ما يعجبه ،فإنْ
ذهب الجمال الظاهري مع الزمن فسيبقى جمال الروح ووقارها ،سيبقى في المرأة جمال الطبع
والسلوك ،وكلما تذكرتَ إخلصها لك وتفانيها في خدمتك وحِرْصها على معاشك ورعايتها لحرمة
بيتك كلّما تمسكْت بها ،وازددتَ حبا لها.
وكذلك الحال بالنسبة للزوجة ،فلكل مرحلة من العمر جاذبيتها وجمالها الذي يُعوّضنا ما فات.
ولما كان من طبيعة المرأة أنْ يظهر عليها علمات الكِبَر أكثر من الرجل؛ لذلك كان على الرجل
صفَته كيت وكيت،
أنْ يراعي هذه المسألة ،فلما سأل أحدهم الحسن :لقد تقدم رجل يخطب ابنتي و ِ
ل مؤمنا ،إنْ أحبها أكرمها ،وإنْ كرهها لم يظلمها.
قال :ل تنكِحها إل رج ً
ثم يقول سبحانه } :إِنّ فِي َذِلكَ ليَاتٍ ّل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ { [الروم ]21 :يتفكرون في هذه المسائل وفي
هذه المراحل التي تمرّ بالحياة الزوجية ،وكيف أن ال تعالى جعل لنا الزواج من أنفسنا ،وليستْ
سكَن والحب والمودة ،ثم في مرحلة الكِبَر على
من جنس آخر ،وكيف بنى هذه العلقة على ال ّ
الرحمة التي يجب أنْ يتعايش بها الزوجان طيلة حياتهما معا.
سمَاوَاتِ.{ ...
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()3355 /
ض وَاخْ ِتلَافُ أَ ْلسِنَ ِتكُ ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ لِ ْلعَاِلمِينَ ()22
سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ
َومِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ ال ّ
في خلق السماوات والرض آيات أظهرها لنا كما قال في موضع آخر إنها تقوم على غير عمد{:
عمَدٍ تَ َروْ َنهَا[} ...لقمان.]10 :
سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ
خََلقَ ال ّ
فالسماء التي تروْنها على امتداد الفق تقوم بغير أعمدة ،ولكم أنْ تسيروا في الرض ،وأنْ تبحثوا
عمَدٍ تَ َروْ َنهَا[} ...لقمان ]10 :يعني :هي موجودة لكن ل
عن هذه العُمد فلن تروْا شيئا .أو{ ِبغَيْرِ َ
ترونها.
عمُد تحمله من أسفل ،أو قوة تمسكه من أعلى؛
والمنطق يقتضي أن الشيء العالي ل بُدّ له إما من ُ
لذلك ينبغي أنْ نجمع بين اليات لتكتمل لدينا هذه الصورة ،فالحق سبحانه يقول في موضع آخر{:
ت وَالَرْضَ أَن تَزُولَ[} ...فاطر.]41 :
سمَاوَا ِ
سكُ ال ّ
إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ
إذن :ليست للسماء أعمدة ،إنما يمسكها خالقها -عز وجل -من أعلى ،فل تقع على الرض إل
بإذنه ،ول تتعجب من هذه المسألة ،فقد أعطانا ال تعالى مثالً مُشاهدا في قوله سبحانهَ {:ألَمْ يَ َروْاْ
س ُكهُنّ ِإلّ اللّهُ[} ...النحل.]79 :
سمَآءِ مَا ُيمْ ِ
جوّ ال ّ
إِلَىا الطّيْرِ مُسَخّرَاتٍ فِي َ
فإنْ قُلْت :يمسكها في جو السماء حركة الجناحين ورفرفتها التي تحدث مقاومة للهواء ،فترتفع به،
وتمسك نفسها في الجو ،نقول :وتُمسك أيضا في جو السماء بدون حركة الجناحين ،واقرأ إنْ شئتَ
قوله تعالىَ {:أوَلَمْ يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ َف ْو َقهُ ْم صَافّاتٍ وَ َيقْ ِبضْنَ[} ...الملك.]19 :
فترى الطير في السماء مادّا جناحيه ثابتا بدون حركة ،ومع ذلك ل يقع على الرض ول يُمسكه
جوّ السماء إذن إل قدرة ال.
في َ
ت وَالَ ْرضِ
سمَاوَا ِ
إذن :خُذْ مما تشاهد دليلً على صدْق ما ل تشاهد؛ لذلك يقول سبحانه {:لَخَ ْلقُ ال ّ
َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ[} ...غافر ]57 :مع أنها خُلِقت لخدمة النسان.
فمع أنك أيها النسان مظهر من مظاهر قدرة ال ،وفيك انطوى العالم الكبر ،إل أن عمرك
محدود ل ُي َعدّ شيئا إذا قِيسَ بعمر الرض والسماء والشمس والقمر ..الخ.
لفُ َألْسِنَ ِتكُ ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ[ } ...الروم:
ثم يعود السياق هنا إلى آية من آيات ال في النسان { :وَاخْتِ َ
]22اللسان يُطلَق على اللغة كما قال تعالى{ بِِلسَانٍ عَرَ ِبيّ مّبِينٍ }[الشعراء ]195 :وقال {:لّسَانُ
ي وَهَـاذَا ِلسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل.]103 :
ج ِم ّ
الّذِي يُ ْلحِدُونَ إِلَ ْيهِ أَعْ َ
ويًُطلَق أيضا على هذه الجارحة المعروفة ،وإنما أُطِلق اللسان على اللغة؛ لن أغلبها يعتمد على
اللسان وعلى النطق ،مع أن اللسان يُمثّل جزءا بسيطا في عملية النطق ،حيث يشترك معه في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النطق الفم والسنان والشفتان والحبال الصوتية ..إلخ ،لكن اللسان هو العمدة في هذه العملية.
إذن :فاختلف اللسنة يعني اختلف اللغات.
وسبق أنْ قُلْنا :إن اللغة ظاهرة اجتماعية يكتسبها النسان من البيئة المحيطة به ،وحين نسلسلها ل
بُدّ أنْ نصلَ بها إلى أبينا آدم عليه السلم ،وقلنا :إن ال تعالى هو الذي علّمه اللغة حين علّمه
السماء كلها ،ثم يتخذ آدم وذريته من بعده هذه السماء ليتفاهموا بها ،وليضيفوا إليها أسماء
جديدة.
لذلك نرى أولدنا مثلً حينما نريد أنْ نُعلّمهم ونُرقّيهم نُعلّمهم أولً أسماء الشياء قبل أنْ يتعلموا
الفعال؛ لن السم أظهرَ ،ألَ ترى أن ال ِفعْل والحدث يدل عليه باسم ،فكلمة ( ِفعْل) هي ذاتها اسم.
لكن ،كيف ينشأ اختلف اللغات؟ لو تأملنا مثلً اللغة العربية نجدها لغة واحدةً ،لكن بيئاتها متعددة:
هذا مصري ،وهذا سوداني ،وهذا سوري ،مغربي ،عراقي ..الخ نشترك جميعا في لغة واحدة،
لكن لكل بيئة لهجة خاصة قد ل تُفهَم في البيئة الخرى ،أما إذا تحدّثنا جميعا باللغة العربية لغة
القرآن تفاهم الجميع بها.
أما اختلف اللغات فينشأ عن انعزال البيئات بعضها عن بعض ،هذا النعزال يؤدي إلى وجود
لغة جديدة ،فمثلً النجليزية والفرنسية واللمانية و ..إلخ ترجع جميعها إلى أصل واحد هو اللغة
اللتينية ،فلما انعزلتْ البيئات أرادتْ كل منها أن يكون لها استقللية ذاتية بلغة خاصة بها مستقلة
بألفاظها وقواعدها.
لفُ أَ ْلسِنَ ِتكُمْ[ { ...الروم ]22 :يعني :اختلف ما ينشأ عن اللسان وغيره من آلت
أو } وَاخْتِ َ
الكلم من أصوات مختلفة ،كما نرى الن في آخر صيحات علم الصوات أنْ يجدوا للصوت
بصمة تختلف من شخص لخر كبصمة الصابع ،بل بصمة الصوت أوضح دللة من بصمة اليد.
ورأينا لذلك خزائن ُتضْبط على بصمة صوت صاحبها ،فساعة يُصدر لها صوتا تفتح له.
ومن العجيب والمدهش في مجال الصوت أن المصوّتات كثيرة منها :الجماد كحفيف الشجر
وخرير الماء ،ومنها :الحيوان ،نقول :نقيق الضفادع وصهيل الخيل ،ونهيق الحمار ،و ُثغَاء الشاة،
ورُغَاء البل ..الخ لكن بال أسألك :لو سمعت صوت حمار ينهق ،أتستطيع أن تقول هذا حمار
فلن؟ ل ،لن كل الصوات من ُكلّ الجناس خل النسان صوتها واحد ل يميزه شيء.
أما في النسان ،فل ُكلّ منّا صوته المميز في نبرته وحدّته واستعلئه أو استفاله ،أو في رقته أو في
تضخيمه ..الخ .فلماذا إذن تميّز صوت النسان بهذه الميزة عن باقي الصوات؟
قالوا :لن الجماد والحيوان ليس لهما مسئوليات ينبغي أنْ تُضبط وأنْ تُحدّد كما للنسان ،وإل
كيف نُميز المجرم حين يرتكب جريمته ونحن ل نعرف اسمه ،ول نعرف شيئا من أوصافه؟
وحتى لو عرفنا أوصافه فإنها ل تدلّنا عليه دللة قاطعة تُحدّد المسئولية ويترتب عليها الجزاء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقال سبحانه بعدها } وَأَ ْلوَا ِنكُمْ[ { ...الروم ]22 :فاختلف اللسنة واللوان ليحدث هذا التميّز بين
الناس ،ولن النسان هو المسئول خلق ال فيه اختلفَ اللسنة واللوان؛ لنستدل عليه بشكله:
بطوله أو ِقصَره أو ملبسة ...إلخ.
وفي ذلك ما يضبط سلوك النسان ويُقوّمه حين يعلم أنه لن يفلت ب ِفعْلته ،ول بُدّ أنْ يدل عليه شيء
من هذه المميزات.
لذلك نرى رجال البحث الجنائي ينظمون خطة للبحث عن المجرم قد تطول ،لماذا؟ لنهم يريدون
أنْ يُضيّقوا دائرة البحث فيُخرجون منها مَنْ ل تنطبق عليه مواصفاتهم ،وما يزالون يُضيّقون
الدائرة حتى يصلوا للجاني.
شعُوبا َوقَبَآئِلَ
جعَلْنَا ُكمْ ُ
والحق -تبارك وتعالى -يقول {:ياأَ ّيهَا النّاسُ إِنّا خََلقْنَاكُم مّن َذكَ ٍر وَأُنْثَىا وَ َ
لِ َتعَا َرفُواْ[} ....الحجرات.]13 :
فالتميّز والتعارف أمر ضروري لستقامة حركة الحياة ،ألَ ترى الرجل يضع لكل ولد من أولده
اسما يُميّزه ،فإن عشق اسم محمد مثلً ،وأحب أن يسمى كل أولده محمدا ل بد أن يميزه ،فهذا
محمد الكبير ،وهذا محمد الصغير ،وهذا الوسط ..إلخ.
إذن :ل بُدّ أن يتميز الخَلْق لنستطيع تحديد المسئوليات.
ثم يقول سبحانه } :لّ ْلعَاَلمِينَ[ { ...الروم ]22 :أي :الذين يبحثون في الشياء ،ول يقفون عند
ظواهرها ،إنما يتغلغلون في بطونها ،ويَسْبرون أغوارها للوصول إلى حقيقتها.
ت وَالَرْضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا
سمَاوَا ِ
لذلك يلوم علينا ربنا عز وجلَ {:وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي ال ّ
ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف ]105 :فل يليق بأصحاب العقول أن يغفلوا عن هذه اليات ،إنما يتأملونها
ليستنبطوا منها ما ينفعهم في مستقبل حياتهم ،كما نرى في المخترعات والكتشافات الحديثة التي
خدمتْ البشرية ،كالذي اخترع عصر البخار ،والذي اخترع العجلة ،والذي اكتشف الكهرباء
والجاذبية والبنسلين ..الخ ،إذن :نمر على آيات ال في الكون بيقظة ،وكل العلوم التجريبية نتيجة
لهذه اليقظة.
والعَالمون :جمع عالم ،وكانت تطلق في الماضي على مَنْ يعرف الحلل والحرام ،لكن هي أوسع
من ذلك ،فالعالم :كل مَنْ يعلم قضية كونية أو شرعية ،ويُسمّى هذا " عالم بالكونيات " وهذا عالم
سمَآءِ مَآءً فََأخْرَجْنَا ِبهِ َثمَرَاتٍ مّخْتَلِفا أَ ْلوَا ُنهَا
بالشرع ،وإنْ شئتَ فاقرأ {:أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أن َزلَ مِنَ ال ّ
ب وَالَ ْنعَامِ
س وَال ّدوَآ ّ
حمْرٌ مّخْتَِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّا ِ
ض وَ ُ
جدَدٌ بِي ٌ
َومِنَ الْجِبَالِ ُ
مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ َكذَِلكَ[} ...فاطر.]28-27 :
فذكر سبحانه النبات ،ثم الجماد ،ثم الناس ،ثم الحيوان.
ثم يقول سبحانه {:إِ ّنمَا َيخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ[} ...فاطر ]28 :على إطلقها فلم يُحدّد أي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
علماء :علماء النبات ،أو الحيوان ،أو الجمادات ،أو علماء الشرع ،إذن :العَالِم كل مَنْ يعلم حقيقة
في الكون وجودية أو شرعية من عند ال.
لكن ،لماذا أطلقوا العالم على العالم بالشرع خاصة؟ قالوا :لنه أول العلوم المفيدة التي عرفوها؛
لذلك رأينا من آداب العلم في السلم ألّ يُدخِل علماء الشرع أنفسهم في الكونيات ،وألّ يُدخل
علماء الكونيات أنفسهم في علوم الشرع.
والذي أحدث الضطراب بين هذه التخصصات أن يقول مثلً علماء الكونيات بأن الرض تدور
ن يقول :هذا مخالف للدين -هكذا عن غير دراسة ،سبحان
حول الشمس ،فيقوم من علماء الدين مَ ْ
ال ،لماذا تُقحِم نفسك فيما ل تعلم؟ وماذا يضيرك كعالم بالشرع أن تكون الرض كرة تدور أو ل
تدور؟ ما الحرام الذي زاد بدوران الرض وما الحلل الذي انتقص؟ كذلك الحال لما صعد
النسان إلى القمر ،اعترض على ذلك بعض رجال الدين.
كذلك نسمع مَنْ ل عِلْم له بالشرع يعترض على بعض مسائل الشرع يقول :هذه ل يقبلها العقل.
إذن :آفة العلم أن يقحم العالم نفسه فيما ل يعلم ،ولو التزم كلّ بما يعلم لرتاح الجميع ،وتركت كل
ساحة لهلها.
وعجيب أن يستشهد رجال الدين على عدم كروية الرض بقوله تعالى {:وَالَ ْرضَ مَدَدْنَاهَا} ...
[الحجر ]19 :ولو تأملوا معنى{ مَ َددْنَاهَا[} ...الحجر ]19 :لما اعترضوا؛ لن معنى مددناها يعني:
كلما سِ ْرتُ في الرض وجدتها ممتدة ل تنتهي حتى تعود إلى النقطة التي بدأت منها ،وهذا يعني
أنها كرة ل نهاية لها ،ولو كانت مُسطحة أو مُثلثة مثلً لكان لها نهاية.
إذن :نقول للعلماء عموما :ل تُدخلوا أنوفكم فيما ل علْم لكم به ،ودَعُوا المجال لصحابه ،عملً
بقوله تعالىَ {:قدْ عَلِمَ ُكلّ أُنَاسٍ مّشْرَ َبهُمْ[} ...البقرة.]60 :
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالّيلِ.{ ...
()3356 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا