You are on page 1of 234

‫تفسير الشعراوي‬

‫ُقلْ فَأْتُوا ِبكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ُهوَ َأهْدَى مِ ْن ُهمَا أَتّ ِبعْهُ إِنْ كُنْ ُت ْم صَا ِدقِينَ (‪)49‬‬

‫معنى { ُقلْ‪[ } ...‬القصص‪ ]49 :‬أي‪ :‬في الردّ عليهم { فَأْتُواْ ِبكِتَابٍ مّنْ عِندِ اللّهِ ُهوَ أَ ْهدَىا‬
‫مِ ْن ُهمَآ‪[ } ...‬القصص‪ ]49 :‬أي‪ :‬أهدى من التوراة التي جاء بها موسى‪ ،‬وأهدى من القرآن الذي‬
‫جاء به محمد ما دام أنهما لم يُعجباكم { أَتّ ِبعْهُ إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ } [القصص‪ ]49 :‬يعني‪ :‬لو جئتمُ به‬
‫لتبعته‪.‬‬
‫وهذا يعني منهجين‪ :‬منهج حقّ جاء به محمد‪ ،‬ومنهج باطل يُصرون هم عليه‪ ،‬وهذا التحدي من‬
‫سيدنا رسول ال للكفار يعني أنه ل يوجد كتاب أهدى مما جاء به‪ ،‬ل عند القوم‪ ،‬ول عند مَنْ‬
‫سيأتي من بعدهم‪ ،‬وحين يُقر لهم رسول ال بإمكانية وجود كتاب أَهْدى من كتابه يطمعهم في‬
‫طلبه‪ ،‬فإذا طلبوه لم يجدوا كتابا أهدى منه‪ ،‬فيعرفوا هم الحقيقة التي لم ينطق بها رسول ال‪ ،‬وهل‬
‫يستطيع بشر أن يضع للناس منهجا أهدى من منهج ال؟‬
‫إذن‪ :‬يقول لهم‪ { :‬إِن كُنتُ ْم صَا ِدقِينَ } [القصص‪ ]49 :‬وهو يعلم أنهم غير صادقين‪ ،‬لن ال تعالى‬
‫جعل محمدا صلى ال عليه وسلم خاتَم الرسل‪ ،‬فلن يأتي رُسُل بعده‪ ،‬بحيث يأتي الرسول‬
‫فتستدركوا عليه فيأتي آخر بكتاب جديد‪ ،‬وأنتم لن تستطيعوا أنْ تأتوا بكتاب من عند أنفسكم؛ لن‬
‫كل مُقنّن سيأتي الذي يخدم مذهبه‪ ،‬ويُرضي هواه‪.‬‬
‫لذلك نقول‪ :‬ينبغي في المقنّن ويُشترط فيه‪:‬‬
‫أولً‪ :‬أن يكون على علم واسع‪ ،‬بحيث ل يُسْتدرك عليه فيما بعد‪ ،‬وهذه ل تتوفر في أحد من‬
‫البشر‪ ،‬بدليل أن القوانين التي ُوضِعت في الماضي لم َت ُعدْ صالحة الن ينادي الناس كثيرا‬
‫بتعديلها‪ ،‬حيث طرأتْ عليهم مسائل جديدة غابتْ عن ذِهْن المشرّع الول‪ ،‬فلما ج ّدتْ هذه المسائل‬
‫أتعبت البشر بالتجربة‪ ،‬فَطالبوا بتعديلها‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬يشترط في المشرّع ألّ يكون له هوى فيما يُشرّع للناس‪ ،‬ونحن نرى الرأسماليين‬
‫والشيوعيين‪ ،‬وغيرهم ُكلّ يشرع بما يخدم مذهبه وطريقته في الحياة؛ لذلك يجب ألّ يُسند التشريع‬
‫للناس لحد منهم؛ لنه ل يخلو من هوى‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬يُشتَرط فيه ألّ يكون منتفعا بشيء مما يشرع‪.‬‬
‫وإذا اقتضت مسائل الحياة وتنظيماتها أنْ نُقنّن لها‪ ،‬فل يُقنّن لنا من البشر إل أصحاب العقل‬
‫ن يوجد عندهم نضج التقنين أيّ‬
‫الناضج والفكر المستقيم‪ ،‬بحيث يتوفر لهم ُنضْج التقنين‪ ،‬لكن إلى أ ْ‬
‫منهج يسيرون عليه؟‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن لول مُقنّن؟ الذي قنّن‬
‫فإنْ حدثتْ فجوة في التشريع عاش الناس بل قانون‪ ،‬وإلّ فما الذي قنّ َ‬
‫لول مُقنّن هو الذي خلق أول مَن خُلق‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَإِن لّمْ َيسْتَجِيبُواْ َلكَ فَاعْلَمْ أَ ّنمَا‪.} ...‬‬

‫(‪)3229 /‬‬

‫ضلّ ِممّنِ اتّبَعَ َهوَاهُ ِبغَيْرِ هُدًى مِنَ اللّهِ إِنّ‬


‫فَإِنْ لَمْ َيسْتَجِيبُوا َلكَ فَاعَْلمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ أَ ْهوَاءَ ُه ْم َومَنْ َأ َ‬
‫اللّهَ لَا َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ (‪)50‬‬

‫وهذا يعني أن ال تعالى لم يطاوعهم إلى ما أرادوا‪ ،‬فلم يَأْتِهم بكتاب آخر‪ ،‬لكن كيف كان سيأتيهم‬
‫هذا الكتاب؟ يجيب الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬على هذا السؤال بقوله تعالى‪َ {:‬ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا‬
‫عظِيمٍ }[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ َ‬
‫ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ‬
‫إذن‪ :‬الكلم عندهم ليس في الكتاب‪ ،‬إنما فيمن أُنزِل عليه الكتاب‪ ،‬وهذا معنى‪ { :‬فَاعْلَمْ أَ ّنمَا يَتّ ِبعُونَ‬
‫أَ ْهوَآ َءهُمْ‪[ } ...‬القصص‪.]50 :‬‬
‫ضلّ‪[ } ...‬القصص‪ ]50 :‬يعني ل أضل { ِممّنِ اتّبَعَ َهوَاهُ ِبغَيْرِ هُدًى مّنَ‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ { :‬ومَنْ َأ َ‬
‫اللّهِ‪[ } ...‬القصص‪ ]50 :‬أي‪ :‬أتبع هوى نفسه‪ ،‬أما إنْ وافق هواه هوى المشرّع‪ ،‬فهذا أمر محمود‬
‫أوضحه رسول ال في الحديث الشريف‪ " :‬ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به "‪.‬‬
‫فنحن في هذه الحالة ل نتبع الهوى إنما نتبع الشرع؛ لذلك يقول أحد الصالحين الذين أفنوا عمرهم‬
‫في الطاعة والعبادة‪ :‬اللهم إنّي أخشى ألّ تثيبني على طاعتي؛ لنك أمرتنا أنْ نحارب شهوات‬
‫أنفسنا‪ ،‬وقد أصبحت أحب الطاعة حتى صارت شهوة عندي‪.‬‬
‫وأضلّ الضلل أن يتبع النسان هواه؛ لن الهواء متضاربة في الخَلْق تضارب الغايات‪ ،‬لذلك‬
‫المتقابلت في الحداث موجودة في الكون‪.‬‬
‫وقد عبّر المتنبي عن هذا التضارب‪ ،‬فقال‪:‬أَرَى كُلّنَا يَبْغي الحياةَ لنفسهِ حَرِيصا عَليها مُسْتهاما بها‬
‫حبّ الشجاع النفسَ أَور َدهُ الحَربَافنحن جميعا نحب الحياة‬
‫صبّافحبّ الجبانِ النفس أور َدهُ التقى و ُ‬
‫ونحرص عليها‪ ،‬لكن تختلف وسائلنا‪ ،‬فالجبان لحبه الحياة يهرب من الحرب‪ ،‬والشجاع يُلقي بنفسه‬
‫حبّ للحياة‪ ،‬لكنه محب لحياة أخرى أبقى‪ ،‬هي حياة الشهيد‪.‬‬
‫في معمعتها مع أنه مُ ِ‬
‫وآخر يقول‪:‬كُلّ مَنْ في الوُجودِ يطلبُ صَيْدا غير أنّ الشباك مُختِلفَاتفالرجل الذي يتصدق بما معه‬
‫سهِ ْم وََلوْ كَانَ‬
‫رغم حاجته إليه‪ ،‬لكنه رأى مَنْ هو أحوج منه‪ ،‬وفيه قال تعالى‪ {:‬وَ ُيؤْثِرُونَ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫خصَاصَةٌ‪[} ...‬الحشر‪.]9 :‬‬
‫ِبهِمْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نقول‪ :‬هذا آثر الفقير على نفسه‪ ،‬لكنه من ناحية أخرى يبغي الجر ويطمع في عَشْرة أمثال ما‬
‫أنفق‪ ،‬بل يطمع في الجنة‪ ،‬إذن‪ :‬المسألة فيها نفعية‪ ،‬فالدين عند المحققين أنانية‪ ،‬لكنها أنانية رفيعة‬
‫راقية‪ ،‬ليست أنانية حمقاء‪ ،‬الدين يرتقي بصاحبه‪ ،‬ويجعله إيجابيا نافعا للخرين‪ ،‬ول عليه بعد ذلك‬
‫أن يطلب النفع لنفسه‪.‬‬
‫فالشرع حين يقول لك‪ :‬ل تسرق‪ .‬وحين يأمرك بغضّ بصرك‪ ،‬وغير ذلك من أوامر الشرع‪ ،‬فإنما‬
‫يُقيّد حريتك وأنت واحد‪ ،‬لكن يُقيّد من أجلك حريات الخرين جميعا‪ ،‬فقد أعطاك أكثر مما أخذ‬
‫منك‪ ،‬فإذا نظرت إلى ما أخذ منك باتباعك للمنهج اللهي فل تَنْسَ ما أعطاك‪.‬‬
‫لذلك حين " نتأمل النبي صلى ال عليه وسلم وهو يعالج داءات النفوس حينما أتاه شاب من‬
‫ضعْفه أمام النساء‪ ،‬وقلة صبره على هذه الشهوة‪ ،‬حتى قال له‪:‬‬
‫العراب الذين آمنوا‪ ،‬يشتكي إليه َ‬
‫يا رسول ال ائذن لي في الزنا‪ ،‬ومع ذلك لم ينهره رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬بل علم أنه‬
‫أمام مريض يحتاج إلى مَنْ يعالجه‪ ،‬ويستل من نفسه هذه الثورة الجامحة‪ ،‬خاصة وقد صارح‬
‫رسول ال بما يعاني فكان صادقا مع نفسه لم يدلس عليها‪.‬‬
‫لذلك أدناه رسول ال‪ ،‬وقال له‪ :‬يا أخا العرب‪ ،‬أتحب ذلك لمك؟ أتحب ذلك لزوجتك؟ أتحب ذلك‬
‫جعِ ْلتُ فِداك‪.‬‬
‫لختك؟ أتحب ذلك لبنتك؟ والشاب في كل هذا يقول‪ :‬ل يا رسول ال ُ‬
‫عندها قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬كذلك الناس يا أخا العرب ل يحبون ذلك لمهاتهم ول‬
‫لزوجاتهم ول لخواتهم ول لبناتهم "‪.‬‬

‫فانصرف الشاب وهو يقول‪ :‬وال ما شيء أبغض إليّ من الزنا بعدما سمعتُ من رسول ال‪،‬‬
‫ت قول رسول ال في أمي‪ ،‬وزوجتي‪ ،‬وأختي‪ ،‬وابنتي‪.‬‬
‫وكلما َه ّمتْ بي شهوة ذكر ُ‬
‫فالذي يُجرّيء الناس على المعصية والولوع بها عدم استحضار العقوبة وعدم النظر في العواقب‪،‬‬
‫وكذلك يزهدون في الطاعة لعدم استحضار الثواب عليها‪.‬‬
‫ن يقضي‬
‫وسبق أن قلنا لطلب الجامعة‪ :‬هَبُوا أن فتى عنده شَرَه جنسي‪ ،‬فهو شرهٌ منطلق يريد أ ْ‬
‫شهوته في الحرام‪ ،‬ونريد له أن يتوب فقلنا له‪ :‬سنوفر لك كل ما تريد على أنْ تُلقي بنفسك في هذا‬
‫(الفرن) بعد أن تُنهي ليلتك كما تحب‪ ،‬ماذا يصنع؟‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ الظّاِلمِينَ { [القصص‪ ]50 :‬وفي مواضع أخرى‪ {:‬لَ َي ْهدِي‬
‫سقِينَ }[المائدة‪ {،]108 :‬لَ َيهْدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة‪ ،]264 :‬وكلها دّلتْ على أن ال‬
‫ا ْل َقوْمَ ا ْلفَا ِ‬
‫ل يصنع عدم الهداية والتقوى ‪ -‬وإلّ فقد هدى ال الجميع هداية الدللة والرشاد فلم يأخذ بها‬
‫هؤلء فحُرِموا هداية اليمان‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََلقَ ْد َوصّلْنَا َلهُمُ‪.{ ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3230 /‬‬

‫وَلَقَدْ وَصّلْنَا َل ُهمُ ا ْل َقوْلَ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ (‪)51‬‬

‫كلمة { وَصّلْنَا‪[ } ..‬القصص‪ ]51 :‬تُشعر بأشياء‪ ،‬انفصل بعضها عن بعض‪ ،‬ونريد أنْ نُوصّلها‪،‬‬
‫فقوله تعالى { وَلَقَ ْد َوصّلْنَا َلهُمُ ا ْلقَ ْولَ َلعَّلهُمْ يَ َت َذكّرُونَ } [القصص‪ ]51 :‬أي‪ :‬وصّلنا لهم الرسالت‪،‬‬
‫فكلما انقضى عهد رسول وكفر الناس أتاهم ال برسالة أخرى ليظلّ الخَلْق مُتصلِين بهدي الخالق‬
‫وبمنهجه‪ ،‬أو‪ :‬أن المر خاصّ برسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والمعنى وصّلنا له اليات‪ ،‬فكلما‬
‫نزل عليه نجم من القرآن وصّلنا بنجم آخر حسب الحداث‪.‬‬
‫لذلك كانت هذه المسألة من الشبهات التي أثارها خصوم رسول ال‪ ،‬حين قالوا كما حكى عنهم‬
‫ح َدةً‪[} ...‬الفرقان‪ ]32 :‬فردّ عليهم القرآن‬
‫جمَْل ًة وَا ِ‬
‫القرآن{ َوقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ َل ْولَ نُ ّزلَ عَلَ ْيهِ ا ْلقُرْآنُ ُ‬
‫ليبين لهم حكمة نزوله مُنجّما‪ {:‬كَذَِلكَ‪[} ...‬الفرقان‪ ]32 :‬أي‪ :‬أنزلناه كذلك مُنجّما{ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َدكَ‬
‫وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلً }[الفرقان‪.]32 :‬‬
‫فلو نزل القرآن جملة واحدة لكان التثبيت لرسول ال مرة واحدة‪ ،‬وهو محتاج إلى تثبيت مستمر‬
‫مع الحداث التي سيتعرّض لها‪ ،‬فيوصل ال له اليات ليظل على َذكْر من سماع كلم ربه كلما‬
‫اشتدتْ به الحداث‪ ،‬فيأتيه النجم من القرآن لَيُسلّيه‪ ،‬ويُسرّي عنه ما يلقي من خصومه‪.‬‬
‫س ُهلَ عليهم‬
‫وحكمة أخرى في قوله‪ {:‬وَرَتّلْنَاهُ تَرْتِيلً }[الفرقان‪ ]32 :‬فكلما نزل ِقسْط من القرآن َ‬
‫حفظه وترتيبه والعمل به‪ ،‬كما أن المؤمنين المأمورين بهذا المنهج ستستجد عليهم قضايا‪ ،‬وسوف‬
‫يسألون فيها رسول ال‪ ،‬فكيف سيكون الجواب عليها إنْ نزل القرآن جملة واحدة‪.‬‬
‫ل ُبدّ أن يتأخر الجواب إلى أنْ يطرأ السؤال؛ لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَلَ يَأْتُو َنكَ ِبمَ َثلٍ ِإلّ جِئْنَاكَ‬
‫حسَنَ َتفْسِيرا }[الفرقان‪.]33 :‬‬
‫ق وَأَ ْ‬
‫حّ‬‫بِالْ َ‬
‫وقد ورد الفعل يسألونك في القرآن عدة مرات في سور شتى‪ ،‬فكيف تتأتى لنا الجابة لو جاء‬
‫القرآن كما تقولون جملة واحدة‪ ،‬ثم سبحان ال هل اطقتموه مُنجمّا حتى تطلبوه جملة واحدة؟‬
‫ثم تختم الية بحكمة أخرى‪َ { :‬لعَّل ُهمْ يَتَ َذكّرُونَ } [القصص‪ ]51 :‬فكلما نزل نجم من القرآن ذكّرهم‬
‫بما غفلوا عنه من منهج ال‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ‪.} ...‬‬

‫(‪)3231 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الّذِينَ آَتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ ُهمْ بِهِ ُي ْؤمِنُونَ (‪)52‬‬

‫كأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يقول لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ :‬سأجعل خصومك من أهل‬
‫الكتاب هم الذين يشهدون بصِدْقك؛ لنهم يعرفونك كما يعرفون أبناءهم‪ ،‬وما جاء في كتابك ذُكرَ‬
‫في كتبهم وذكِرت صورتك وأوصافك عندهم‪.‬‬
‫لذلك تجد آيات كثيرة من كتاب ال تُعوّل على أهل الكتاب في معرفة الحق الذي جاء به القرآن‪،‬‬
‫علْمُ‬
‫شهِيدا بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم َومَنْ عِن َدهُ ِ‬
‫ستَ مُرْسَلً ُقلْ كَفَىا بِاللّهِ َ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وَيَقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ َل ْ‬
‫ا ْلكِتَابِ }[الرعد‪.]43 :‬‬
‫فهم أيضا شهداء على صدق رسول ال بما عندهم من الكتب السابقة فاسألوهم‪.‬‬
‫ف الُولَىا‬
‫ح ِ‬
‫ويقول تعالى‪َ {:‬بلْ ُتؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * وَالخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَىا * إِنّ هَـاذَا َلفِي الصّ ُ‬
‫حفِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا }[العلى‪.]19-16 :‬‬
‫* صُ ُ‬
‫شعِينَ‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬وَإِنّ مِنْ أَ ْهلِ ا ْلكِتَابِ َلمَن ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه َومَآ أُن ِزلَ إِلَ ْيكُمْ َومَآ أُن ِزلَ إِلَ ْي ِهمْ خَا ِ‬
‫للّهِ‪[} ...‬آل عمران‪.]199 :‬‬
‫وإل‪ ،‬فلماذا أسلم عبد ال بن سلم وغيره من علماء اليهود؟‬
‫ن يؤمنوا برسالة محمد صلى ال عليه‬
‫إذن‪ :‬أهل الكتاب الصادقون مع أنفسهم ومع كتبهم ل بُدّ أ ْ‬
‫وسلم‪ ،‬أما الذين لم يؤمنوا فحجبتهم السلطة الزمنية والحرص على السيادة التي كانت لهم قبل‬
‫السلم‪ ،‬سيادةً في العلم‪ ،‬وفي الحرب‪ ،‬وفي الثروة‪.‬‬
‫وكان من هؤلء عبد ال بن أُ َبيّ‪ ،‬وكان أهل المدينة يستعدون لتنصيبه مَلِكا عليهم‪ ،‬فلما هاجر‬
‫سيدنارسول ال إليها أفسد عليهم ما يريدون‪ ،‬ونزع منهم هذه السيادة‪ ،‬والسلطة الزمنية حينما‬
‫تتدخل تعني أن يشترك هوى الناس فيستخدمون مرادات ال لخدمة أهوائهم‪ ،‬ل لخدمة مرادات‬
‫ال‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَِإذَا يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ‪.} ...‬‬

‫(‪)3232 /‬‬

‫وَإِذَا يُتْلَى عَلَ ْيهِمْ قَالُوا َآمَنّا بِهِ إِنّهُ ا ْلحَقّ مِنْ رَبّنَا إِنّا كُنّا مِنْ قَبْلِهِ مُسِْلمِينَ (‪)53‬‬

‫شهِدوا له أنه الحق من‬


‫هؤلء المؤمنون من أهل الكتاب إذا يُتْلَى عليهم القرآن قالوا‪ :‬آمنا به‪ ،‬و َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عند ال‪ ،‬وأنهم لم يزدادوا بسماع آياته إيمانا‪ ،‬فهم كانوا من قبله مسلمين‪ ،‬فقد آمنوا أولً بكتبهم‪،‬‬
‫وآمنوا كذلك بالقرآن‪.‬‬

‫(‪)3233 /‬‬

‫أُولَ ِئكَ ُيؤْتَوْنَ َأجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ ِبمَا صَبَرُوا وَيَدْ َرءُونَ بِا ْلحَسَ َنةِ السّيّ َئ َة َو ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُ ْن ِفقُونَ (‪)54‬‬

‫الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يريد أنْ يُعلّمنا أن الذي يريد دينا حقا ل بُدّ أن ينظر إلى دين يأتي بعده‬
‫بمعجزة‪ ،‬لنه إذا كان قد آمن حين يجيء بعد عيسى رسول‪ ،‬فوجب عليه أنْ يبحث في الدين‬
‫الجديد‪ ،‬وأنْ ينظر أدلة تبرر له إيمانه بهذا الدين‪.‬‬
‫هذا إذا كان الدين الول لم يتبدّل‪ ،‬فإذا كان الدين الول قد تبدّل‪ ،‬فالمسألة واضحة؛ لن التبديل‬
‫جدُونَهُ َمكْتُوبا عِندَ ُهمْ فِي‬
‫ل ّميّ الّذِي يَ ِ‬
‫ياُ‬
‫يُحدث فجوة عند مَنْ يريد دينا{ الّذِينَ يَتّ ِبعُونَ الرّسُولَ النّ ِب ّ‬
‫ال ّتوْرَاةِ‪[} ...‬العراف‪.]157 :‬‬
‫آمنوا به؛ لنهم وجدوا َنعْته‪ ،‬ووجدوا العقائد التي ل تتغير موجودة في كتابه‪ ،‬وهو أُميّ لم يعرف‬
‫شيئا من هذا‪ ،‬فأخذوا من أميته دليلً على صِدْقه‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ُ { :‬أوْلَـا ِئكَ‪[ } ...‬القصص‪ ]54 :‬أي‪ :‬أهل الكتاب الذين يؤمنون بالقرآن وهم خاشعون‬
‫ل‪ ،‬والذين سبق وصفهم { ُأوْلَـا ِئكَ ُيؤْتُونَ َأجْرَهُم مّرّتَيْنِ ِبمَا صَبَرُواْ‪[ } ...‬القصص‪ ]54 :‬أجر‬
‫ليمانهم برسلهم‪ ،‬وأجر ليمانهم بمحمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫لذلك جاء في الحديث الشريف‪ " :‬ثلثة ُيؤْ َتوْن أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه مثل‬
‫آمن بي‪ ،‬وعبد مملوك أدى حق ال وأدى حق أوليائه‪ ،‬ورجل عنده َأمَة ‪ -‬جارية ‪ -‬فأدّبها فأحسن‬
‫تأديبها‪ ،‬فأعتقها بعد ذلك‪ ،‬ثم تزوجها "‪.‬‬
‫وهؤلء الذين آمنوا برسلهم‪ ،‬ثم آمنوا برسول ال استحقوا هذه المنزلة‪ ،‬ونالوا هذين الجرين لنهم‬
‫تعرضوا لليذاء ممّنْ لم يؤمن في اليمان الول‪ ،‬ثم تعرّضوا لليذاء في اليمان الثاني‪ ،‬فصبروا‬
‫على اليذاءين‪ ،‬وهذه هي حيثية { ُيؤْتُونَ أَجْرَهُم مّرّتَيْنِ ِبمَا صَبَرُواْ‪[ } ...‬القصص‪.]54 :‬‬
‫وكما أن ال تعالى يُؤتِي أهلَ الكتاب الذين آمنوا بمحمد أجرهم مرتين‪ ،‬كذلك يُؤتي بعض‬
‫المسلمين أجرهم مرتين‪ ،‬ومنهم ‪ -‬كما بيّن سيدنا رسول ال‪ " :‬عبد مملوك أدى حق ال‪ ،‬وأدّى‬
‫حق أوليائه‪ ،‬ورجل عنده َأمَةٌ‪." ...‬‬
‫ول يُحرم هذا الجر الدين الذي باشر السلم‪ ،‬وأتى قبله‪ ،‬وهو المسيحية‪ ،‬فلهم ذلك أيضا؛ لذلك‬
‫ط وَأَنزَلْنَا‬
‫سِ‬‫ب وَا ْلمِيزَانَ لِ َيقُومَ النّاسُ بِا ْلقِ ْ‬
‫ت وَأَنزَلْنَا َم َعهُمُ ا ْلكِتَا َ‬
‫يقول تعالى‪َ {:‬لقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيّنَا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شدِي ٌد َومَنَافِعُ لِلنّاسِ‪[} ...‬الحديد‪ ]25 :‬وأهم هذه المنافع{ وَلِ َيعْلَمَ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ‬
‫حدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ َ‬
‫الْ َ‬
‫وَرُسُلَهُ بِا ْلغَ ْيبِ‪[} ...‬الحديد‪ ]25 :‬وذكر الحديد‪ ،‬لن منه سيصنع سلح الحرب‪.‬‬
‫ل ال َوحْي َأوْ‬
‫إذن‪ :‬أنزل ال القرآن لمهمة‪ ،‬وأنزل الحديد لمهمة أخرى؛ لذلك يقول الشاعر‪َ :‬فمَا ُهوَ إ ّ‬
‫ي كلّ مائٍلفَهَذا َدوَاءُ الدّاء من ُكلّ عَا ِقلٍ وذَاك َدوَاءُ الدّاءِ من ُكلّ‬
‫ع ْ‬
‫حدّ مُرْهَف يُقيم ظباه َأخْد َ‬
‫َ‬
‫جاهلولي أنا شخصيا ذكريات ومواقف مع هذه الية { ُأوْلَـا ِئكَ ُيؤْتُونَ َأجْرَهُم مّرّتَيْنِ ِبمَا‬
‫صَبَرُواْ‪[ } ...‬القصص‪ ]54 :‬وقد كنا في بلد بها بعض من إخواننا المسيحيين‪ ،‬وكان من بينهم‬
‫رجل ذو عقل وفكر‪ ،‬كان دائما يُواسي المسلمين‪ ،‬ويحضر مآتمهم ويستمع للقرآن‪ ،‬وكانت تعلَق‬
‫بذهنه بعض اليات‪ ،‬فجاءني مرة يقول‪ :‬سمعت المقريء يقرأ‪:‬‬

‫حمَةً لّ ْلعَاَلمِينَ }[النبياء‪.]107 :‬‬


‫{ َومَآ أَرْسَلْنَاكَ ِإلّ َر ْ‬
‫فألسنا من العالمين‪ ،‬قلت له‪ :‬نعم أُرسِل محمد رحمة للعالمين جميعا‪ ،‬فمَنْ آمن به نالته رحمته‪،‬‬
‫ن وتبصّر تجد أنه رحِم‬
‫ومَنْ لم يؤمن به حُرِم منها‪ ،‬ومع ذلك لو نظرتَ في القرآن نظرة إمعا ٍ‬
‫حكُمَ بَيْنَ‬
‫غير المؤمن‪ ،‬قال‪ :‬كيف؟ فقرأتُ له قوله تعالى‪ {:‬إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِتَ ْ‬
‫خصِيما }[النساء‪:‬‬
‫النّاسِ‪[} ...‬النساء‪ ]105 :‬ولم يقل بين المؤمنين{ ِبمَآ أَرَاكَ اللّ ُه َولَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ َ‬
‫‪.]105‬‬
‫فمن رحمة الرسول بغير المؤمنين أنْ يُنصف المظلوم منهم‪ ،‬وأنْ يردّ عليه حقّه‪ ،‬ثم{ وَاسْ َت ْغفِرِ اللّهَ‬
‫غفُورا رّحِيما }[النساء‪ ]106 :‬لن ال ل يحب الخوّان الثيم ولو كان مسلما‪.‬‬
‫إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬
‫ثم ذكرتُ له سبب نزول هذه الية وهي قصة الدرع الذي أودعه اليهودي زيد بن السمين أمانة‬
‫عند طعمة بن أبيرق المسلم‪ ،‬وكان الدرع قد سُرِق من قتادة بن النعمان‪ ،‬فلما افتقده قتادة ذهب‬
‫يبحث عنه‪ ،‬وكان قد وضعه في كيس من الدقيق‪ ،‬فتتبع أثر الدقيق حتى ذهب إلى بيت زيد بن‬
‫طعْمة بن‬
‫السمين اليهودي فاتهمه بسرقته‪ ،‬وأذاع أمره بين الناس‪ ،‬فقصّ اليهودي ما كان من أمر ُ‬
‫أبيرق‪ ،‬وأنه أودع الدرع عنده على سبيل المانة؛ لنه يخشى عليه أنْ يُسرق من بيته‪.‬‬
‫وهنا أحب المسلمون تبرئة صاحبهم؛ لنه حديث عهد بإسلم‪ ،‬وكيف ستكون صورتهم لو شاع‬
‫بين الناس أن أحدهم يسرق‪ ،‬ومالوا إلى إدانة اليهودي‪ ،‬وفعلً عرضوا وجهة نظرهم هذه على‬
‫رسول ال ليرى فيه حلً يُخرجه من هذا المأزق‪ ،‬مع أنهم ل يستبعدون أنْ يسرق ابن أبيرق‪.‬‬
‫وجلس رسول ال يفكر في هذا المر‪ ،‬لكن سرعان ما نزل عليه الوحي‪ ،‬فيقول له‪ :‬هذه المسألة ل‬
‫ح ُكمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ اللّ ُه َولَ َتكُنْ‬
‫حقّ لِتَ ْ‬
‫تحتاج إلى تفكير ول بحث‪ {:‬إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫خصِيما }[النساء‪.]105 :‬‬
‫لّلْخَآئِنِينَ َ‬
‫فأدانت الية ابن أبيرق‪ ،‬ودّلتْ على أن هذه ليست الحادثة الولى في حقّه‪ ،‬ووصفتْه بأنه خوّان‬
‫أي‪ :‬كثير الخيانة وبرّأتْ اليهودي‪ ،‬وصححتْ وجهة نظر المسلمين الذين يخافون من فضيحة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المسلم بالسرقة‪ ،‬وغفلوا عن الثر السيء لو قلبوا الحقائق‪ ،‬وأدانوا اليهودي‪.‬‬
‫فالية وإنْ أدانت المسلم‪ ،‬إل أنها رفعتْ شأن السلم في نظر الجميع‪ :‬المسلم واليهودي وكل من‬
‫عاصر هذه القصة بل وكل من قرأ هذه الية‪ ،‬ولو انحاز رسول ال وتعصّب للمسلم لهتزتْ‬
‫صورة السلم في نظر الجميع‪ .‬ولو حدث هذا ماذا سيكون موقف اليهود الذين يراودهم السلم‪،‬‬
‫وقد أسلموا فعلً بعد ما حدث؟‬
‫وما أشبهَ هذه المسألة بشاهد الزور الذي يسقط أول ما يسقط من نظر صاحبه الذي شهد لصالحه‪،‬‬
‫ن جعلك موضعا للنقيصة فقد سقطت من نظره‪ ،‬وإنْ أعَنْتَه على أمره‪ ،‬فشاهد الزور‬
‫حتى قالوا‪ :‬مَ ْ‬
‫يرتفع رأسُك على الخصم بشهادته‪ ،‬وتطأ قدمُك على كرامته‪.‬‬
‫حسَنَةِ السّيّئَةَ‪[ { ...‬القصص‪ ]54 :‬هذه أيضا من خصالهم أن يدفعوا‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَيَدْ َرؤُنَ بِالْ َ‬
‫غفَرَ إِنّ َذِلكَ َلمِنْ عَزْمِ‬
‫السيئة بالحسنة‪ ،‬فمن صفاتهم العفو والصفح كما قال تعالى‪ {:‬وََلمَن صَبَرَ وَ َ‬
‫لمُورِ }[الشورى‪َ } ]43 :‬و ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُنفِقُونَ { [القصص‪ ]54 :‬النفقة الواجبة على نفسه وعلى‬
‫اُ‬
‫آله‪ ،‬والنفقة الواجبة للفقراء وهي الزكاة‪ ،‬ثم نفقة المروءات للمساكين وأهل الخصاصة‪.‬‬

‫(‪)3234 /‬‬

‫عمَاُل ُكمْ سَلَامٌ عَلَ ْيكُمْ لَا نَبْ َتغِي ا ْلجَاهِلِينَ (‬


‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫س ِمعُوا الّل ْغوَ أَعْ َرضُوا عَنْ ُه َوقَالُوا لَنَا أَ ْ‬
‫وَإِذَا َ‬
‫‪)55‬‬

‫س ِمعُواْ الّل ْغوَ أَعْ َرضُواْ عَنْهُ‪[ } ...‬القصص‪]55 :‬‬


‫هذه صفة أخرى من صفات المؤمنين { وَإِذَا َ‬
‫واللغو‪ :‬هو الكلم الذي ل فائدة منه‪ ،‬فل ينفعك إنْ سمعتَه‪ ،‬ول يضرك عدم سماعه‪ ،‬وينبغي على‬
‫العاقل أنْ يتركه‪ ،‬فهو حقيق أنْ يُترك وأنْ يُلْغى‪.‬‬
‫ولذلك كان من صفات عباد الرحمن‪ {:‬وَإِذَا مَرّواْ بِالّل ْغوِ مَرّوا كِراما }[الفرقان‪ ]72 :‬أي‪ :‬ل‬
‫يلتفتون إليه‪.‬‬
‫وسبب نزول هذه الية‪ :‬لما استقبل رسول ال صلى ال عليه وسلم رُسُل النجاشي وكانوا جماعة‬
‫من القساوسة‪ ،‬فلما جلسوا أسمعهم سورة (يس)‪ ،‬فتأثروا لها حتى ب َكوْا جميعا‪ ،‬ثم آمنوا برسول‬
‫ال‪ ،‬ولما انصرفوا تعرّض لهم أبو جهل ونهرهم وقال‪ :‬خيّبكم ال من َركْب ‪ -‬وهم الجماعة يأتون‬
‫في مهمة ‪ -‬أرسلكم من خلفي ‪ -‬يعني‪ :‬النجاشي ‪ -‬لتعلموا له أخبار الرجل‪ ،‬فسمعتموه فبكيتُم‬
‫ن أعرضوا عنه‪.‬‬
‫وأسلمتُم‪ ،‬وال ما رأينا َركْبا أحمق منكم‪ ،‬فما كان منهم إل أ ْ‬
‫عمَاُل ُكمْ‪....‬‬
‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫س ِمعُواْ الّل ْغوَ أَعْ َرضُواْ عَنْ ُه َوقَالُواْ لَنَآ أَ ْ‬
‫هذا معنى قول الحق سبحانه‪ { :‬وَإِذَا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫} [القصص‪.]55 :‬‬
‫وهؤلء مرّوا باللغو مرورَ الكرام‪ ،‬وأعرضوا عنه‪ ،‬فلم يلتفتوا إليه‪ ،‬وزادوا على ذلك أنهم لم‬
‫لمٌ عَلَ ْيكُ ْم لَ نَبْ َتغِي الْجَاهِلِينَ }‬
‫عمَاُلكُمْ سَ َ‬
‫عمَالُنَا وََلكُمْ أَ ْ‬
‫يسكتوا على اللغو إنما قالوا‪ { :‬لَنَآ أَ ْ‬
‫[القصص‪ ]55 :‬لنا أعمالنا الخيّرة التي يجب أنْ نُقبل عليها‪ ،‬ولكم أعمالكم الباطلة التي ينبغي أنْ‬
‫تُترك‪ ،‬فكلّ مِنّا له شَأْن يشغله‪.‬‬
‫{ سَلَمٌ عَلَ ْيكُمْ‪[ } ..‬القصص‪ ]55 :‬والسلم إما سلم تحية كما هو شائع بيننا‪ ،‬وإما سلم للمتاركة‬
‫كما لو دخلتَ مع صاحبك في جدل‪ ،‬فلما رأيتَ أنه سيطول وربما تعدّ ْيتَ عليه فتقول له تاركا‪:‬‬
‫سلم عليكم‪ .‬تعني‪ :‬إنني ليس لديّ ما أقوله لمفارقتك إل هذه الكلمة‪.‬‬
‫ومن ذلك ما دار بين الخليل إبراهيم ‪ -‬عليه وعلى نبينا الصلة والسلم ‪ -‬وبين عمّه‪ ،‬فبعد أنْ‬
‫لمٌ عَلَ ْيكَ سََأسْ َت ْغفِرُ َلكَ رَبّي‪[} ...‬مريم‪.]47 :‬‬
‫ناقشه ولم يَصل معه إلى نتيجة قال له‪ {:‬سَ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِ ّنكَ لَ َت ْهدِي مَنْ أَحْبَ ْبتَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3235 /‬‬

‫ت وََلكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ َيشَا ُء وَ ُهوَ أَعَْلمُ بِا ْل ُمهْتَدِينَ (‪)56‬‬
‫إِ ّنكَ لَا َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْب َ‬

‫هذا خطاب لسيدنا رسول ال‪ ،‬خاصّ بدعوته لعمه أبي طالب الذي ظلّ على دين قومه‪ ،‬ولكنه كان‬
‫يحمي رسول ال حماية عصبية قربى وأهل‪ ،‬ل محبة في السلم‪ ،‬ول تعالى حكمة في أنْ يظلّ‬
‫أبو طالب على الكفر؛ لنه بذلك كسب قريشا ونال احترامهم‪ ،‬حيث أعجبهم عدم إيمانه بمحمد‬
‫وعدم مجاملته له‪ ،‬وأعجبهم أن يظل على دين الباء‪ ،‬فاحترموا حمايته لبن أخيه‪ ،‬وهذا منع عن‬
‫رسول ال إيذاءهم‪ ،‬وحمى الدعوة من كثير من العتداءات عليها‪.‬‬
‫لذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسلم حريصا على أنْ يردّ له هذا الجميل‪ ،‬وردّ رسول ال‬
‫للجميل ل يكون بعرَض من الدنيا‪ ،‬إنما بشيء باقٍ خالد‪ ،‬فلما حضرت أبا طالب الوفاة قال له‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم " يا عم‪ُ ،‬قلْ ل إله إل ال كلمة أشفع لك بها عند ال يوم القيامة "‬
‫فقال‪ :‬يا ابن أخي‪ ،‬لول أن قريشا تُعيّرني بهذه الواقعة‪ ،‬ويقولون ما آمن إل جزعا من الموت‬
‫لقررت عينك بها‪.‬‬
‫لكن يُروى أنه بعدما انتقل أبو طالب‪ ،‬جاء العباس إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم وقال له‪ :‬يا‬
‫ن يقولها قالها قبل أن يموت وأنا أشهد بها‪.‬‬
‫محمد‪ ،‬إن الكلمة التي طلبتَ من عمّك أ ْ‬
‫ونلحظ هنا دقة الداء من العباس‪ ،‬حيث لم يقُلْ‪ :‬إن هذه الكلمة ل إله إل ال‪ ،‬بل سماها (الكلمة)‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لماذا؟ لنه لم يكن قد أسلم بعد‪.‬‬
‫ك لَ َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْبتَ‪[ } ...‬القصص‪ ]56 :‬وقلنا‪ :‬إنها تأتي‬
‫وسبق أنْ تكلّمنا في معنى الهداية { إِ ّن َ‬
‫بأحد معنيين‪ :‬بمعنى الرشاد والدللة‪ ،‬وبمعنى المعونة لمن يؤمن بالدللة‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪{:‬‬
‫وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَا َدهُمْ ُهدًى وَآتَا ُهمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد‪ ]17 :‬أي‪ :‬سمعوا الدللة وأطاعوها‪ ،‬فزادهم ال‬
‫هداية أخرى‪ ،‬هي هداية اليمان والمعونة‪.‬‬
‫يقول تعالى في هذه المسألة‪ {:‬وََأمّا َثمُودُ َفهَدَيْنَا ُهمْ }[فصلت‪ ]17 :‬يعني‪ :‬دللناهم{ فَاسْ َتحَبّواْ ا ْل َعمَىا‬
‫عَلَى ا ْلهُدَىا }[فصلت‪]17 :‬؛ لذلك حُرموا هداية المعونة‪.‬‬
‫ك لَ َتهْدِي مَنْ َأحْبَ ْبتَ‪[ } ...‬القصص‪ ]56 :‬هي‬
‫إذن‪ :‬الهداية المنفية عن سيدنا رسول ال { إِ ّن َ‬
‫هداية المعونة والتوفيق لليمان؛ لنه صلى ال عليه وسلم هدى الجميع هداية الدالة والرشاد‪،‬‬
‫وكان مما قال‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ َهلْ َأدُلّكمْ عَلَىا ِتجَا َرةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }[الصف‪.]10 :‬‬
‫فهداية الدللة صدرت أولً عن ال تعالى‪ ،‬ثم بالبلغ من رسوله صلى ال عليه وسلم ثانيا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وقَالُواْ إِن نّتّ ِبعِ ا ْلهُدَىا َم َعكَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3236 /‬‬

‫طفْ مِنْ أَ ْرضِنَا َأوَلَمْ ُن َمكّنْ َلهُمْ حَ َرمًا َآمِنًا ُيجْبَى إِلَيْهِ َثمَرَاتُ ُكلّ‬
‫َوقَالُوا إِنْ نَتّبِعِ ا ْلهُدَى َم َعكَ نُ َتخَ ّ‬
‫شيْءٍ رِ ْزقًا مِنْ َلدُنّا وََلكِنّ َأكْثَرَهُمْ لَا َيعَْلمُونَ (‪)57‬‬
‫َ‬

‫طفْ مِنْ أَ ْرضِنَآ‪[ } ...‬القصص‪ ]57 :‬قالها الحارث بن‬


‫وهذه المقولة { إِن نّتّبِعِ ا ْل ُهدَىا َم َعكَ نُ َتخَ ّ‬
‫عثمان بن نوفل بن عبد مناف‪ ،‬فقد ذهب إلى سيدنا رسول ال‪ ،‬وقال‪ :‬إننا نعلم أنك جئتَ بالحق‪،‬‬
‫ولكن نخاف إنْ آمنا بك واتبعنا هواك أنْ نُتخطّف من أرضنا‪ ،‬ول ُبدّ أنه كان يتكلم بلسان قومه‬
‫الذين ائتمروا على هذا القول‪.‬‬
‫والخطْف‪ :‬هو الخْذ بشدة وسرعة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهم يُقرّون للرسول بأنه جاء بالحق‪ ،‬وأنه على الهدى‪ ،‬لكن علة امتناعهم أنْ يتخطفوا‪ ،‬وكان‬
‫ن يقارنوا بعقولهم بين أن يكونوا مع رسول ال على الحق وعلى الهدى ويُتخطّفوا وبين أنْ‬
‫عليهم أ ْ‬
‫يظلّوا على كفرهم‪.‬‬
‫فقصارى ما يصيبهم إنْ اتبعوا رسول ال أن يتخطفهم الناس في أموالهم أو في أنفسهم ‪ -‬على‬
‫فرض أن هذا صحيح ‪ -‬قصارى ما يصيبهم خسارة عَرَض فانٍ من الدنيا لو استمر لك لتمتعتَ‬
‫به مدة بقائك فيها‪ ،‬وهذا الخير الذي سيفوتك من الدنيا محدود على مقتضى قوة البشر‪ ،‬ول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يضيرك هذا إنْ كنتَ من أهل الخرة حيث ستذهب إلى خير بَاقٍ دائم‪ ،‬خير يناسب قدرة المنعم‬
‫سبحانه‪.‬‬
‫أما إنْ ظلّوا على كفرهم‪ ،‬فمتاع قليل في الدنيا الفانية‪ ،‬ول نصيبَ لهم في الخرة الباقية‪ .‬إذن‪:‬‬
‫فأيّ الطريق أهدى؟ إن المقارنة العقلية ترجح طريق الهدى واتباع الحق الذي جاء به رسول ال‪،‬‬
‫هذه واحدة‪.‬‬
‫ثم مَنْ قال إنكم إن اتبعتم الهدى مع رسول ال تُتخطّفوا وتُضطهدوا؟ لذلك يرد ال عليهم‪ُ :‬قلْ لهم‬
‫يا محمد‪ :‬كذبتم‪ ،‬فلن يتخطفكم أحد بسبب إسلمكم { َأوَلَمْ ُن َمكّن ّلهُمْ حَرَما آمِنا يُجْبَىا إِلَ ْيهِ َثمَرَاتُ‬
‫شيْءٍ رّزْقا مّن لّدُنّا وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ ُه ْم لَ َيعَْلمُونَ } [القصص‪.]57 :‬‬
‫ُكلّ َ‬
‫فقد أنعم ال عليكم وأنتم كافرون مشركون به‪ ،‬تعبدون الصنام في جاهلية‪ ،‬ومكّن لكم حياة آمنة‬
‫في رحاب بيته الحرام‪ ،‬ووفّر لكم رَغَد العيش وأنتم بوادٍ غير ذي زرع حيث يُجْبي إليه الثمرات‬
‫من كل مكان‪ ،‬فالذي صنع معكم هذا الصنيع أيترككم ويتخلى عنكم بعد أنْ آمنتم به‪ ،‬واهتديتم إلى‬
‫الحق؟ كيف يكون منكم هذا القياس؟‬
‫ومعنى‪ُ { :‬ن َمكّن ّلهُمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]57 :‬نجعلهم مكينين فيه‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬وكَذاِلكَ َمكّنّا‬
‫سفَ فِي الَ ْرضِ‪[} ...‬يوسف‪ ]21 :‬والتمكين يدل على الثبات؛ لن ظرف المكان ثابت على‬
‫لِيُو ُ‬
‫خلف ظرف الزمان‪.‬‬
‫وقال‪ { :‬حَرَما آمِنا‪[ } ..‬القصص‪ ]57 :‬مع أن المن لمن في المكان‪ ،‬لكن أراد سبحانه أن يُؤمّن‬
‫نفس المكان‪ ،‬فيكون كل ما فيه آمنا‪ ،‬حتى القاتل ل يُقتصّ منه في الحرم‪ ،‬والحيوان ل يُثار فيه‬
‫ول ُيصَاد‪ ،‬والنبات ل يُعضد حتى الحجر في هذا المكان آمن‪ ،‬ألَ تراهم يرجمون حجرا في رمي‬
‫الجمرات في حين يُكرّمون الحجر السود ويُقبّلونه‪.‬‬

‫وحينما نتأمل الحرم منذ أيام الخليل إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬نجد أن له خطة‪ ،‬وأن الحق سبحانه‬
‫سكَنتُ مِن ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ‬
‫يُعدّه ليكون حرما آمنا‪ ،‬فلما جاءه إبراهيم قال‪ {:‬رّبّنَآ إِنّي أَ ْ‬
‫عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْل ُمحَرّمِ‪[} ...‬إبراهيم‪.]37 :‬‬
‫هذا يعني أن المكان ليس به من مقومات الحياة إل الهواء‪ ،‬لن نفي الزرع يعني عدم وجود الماء؛‬
‫لذلك اعترضت السيدة هاجر على هذا المكان القفر‪ ،‬فلما علمتْ أنه اختيار ال لهم قالت‪ :‬إذن لن‬
‫يضيعنا‪.‬‬
‫وقد رأتْ بنفسها أن ال لم يُضيّعهم‪ ،‬فلما احتاجت الماء لترضع وليدها وسعتْ في طلبه بين الصفا‬
‫سعْيها‪ ،‬ولو أنها وجدته لكان سعيها‬
‫والمروة سبعة أشواط على َقدْر ما أطاقتْ لم تجد الماء في َ‬
‫سببا إنما أراد ال أنْ يُصدّقها في كلمتها‪ ،‬وأن يثبت لها أنه سبحانه لن يُضيّعهم من غير أسباب‬
‫لتتأكد أن كلمتها حق‪ ،‬ثم شاءتْ قدرة ال أن يخرج الماء من تحت قدم الوليد‪ ،‬وهو يضرب بقدمه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرض‪ ،‬ويبكي من شدة الجوع والعطش‪ ،‬وانبجستْ زمزم‪.‬‬
‫ولما أسكن إبراهيم أهله في هذا المكان المقْفر أراده لهم سكنا دائما‪ ،‬ل مجرد استراحة من عناء‬
‫ج َعلْ َأفْئِ َدةً مّنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِ ْم وَارْ ُز ْقهُمْ مّنَ ال ّثمَرَاتِ‪...‬‬
‫لةَ فَا ْ‬
‫السفر؛ لذلك قال‪ {:‬رَبّنَا لِ ُيقِيمُواْ الصّ َ‬
‫}[إبراهيم‪.]37 :‬‬
‫وكأنه ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬يريد أن يطمئن على إقامة أهله في هذا المكان‪ ،‬وأن يكون البيت مُصلّى‬
‫ل‪ ،‬ل تنقطع فيه الصلة‪ ،‬وهذا هو الفرق بين بيت ال باختيار ال وبيت ال باخيتار عباد ال‪.‬‬
‫فالبيت الذي نبنيه ل تعالى قد يُغلق حتى في أوقات الفروض‪ ،‬أما بيت ال الذي اتخذه لنفسه فل‬
‫ي وقت من ليل أو نهار‪ ،‬ول ينقطع منه الطواف إل لصلة‬
‫يخلو من الطواف والصلة في أ ّ‬
‫مكتوبة‪ ،‬فإذا قُضيتْ الصلة رأيتهم يُهرعون إلى الطواف‪.‬‬
‫وقد رأيت الحرم في إحدى السنوات وقد دهمه سيل جارف حتى مل ساحته‪ ،‬ودخل الماء الكعبة‬
‫وغطّى الحجر السود‪ ،‬فكان الناس يطوفون سباحة‪ ،‬ورأينا أناسا يغطسون عند الحجر ليُقبّلوه‪،‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يريد أن يظلّ الطواف حول بيته ل ينقطع على أيّ حال‪.‬‬
‫كذلك نفهم من قوله تعالى‪َ {:‬ت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ‪[} ...‬إبراهيم‪.]37 :‬‬
‫من الفعل َهوَى يهوي‪ ،‬يعني‪ :‬سقط؛ لن الذي يسقط ل إرادةَ له في عدم السقوط‪ ،‬كذلك مَنْ يأتي‬
‫بيت ال أو يجلب إليه الخيرات يجد دافعا يدفعه كأنه ل إرادة له‪.‬‬
‫نل‬
‫كما نفهم منها معنى آخر‪ ،‬فكل تكاليف الحق سبحانه ربما تكاسل الناس في أدائها‪ ،‬فمنّا مَ ْ‬
‫يصلي أو ل يُزكّي‪ .‬إل الحج حيث قال ال فيه‪ {:‬وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالً‪[} ...‬الحج‪:‬‬
‫‪ ]27‬فمجرد أن تؤذن يأتوك‪.‬‬
‫لذلك نجد من غير القادرين على نفقات الحج من يجوع ويُمسك على أهله ليوفّر تكاليف الحج‪،‬‬
‫فهو ‪ -‬إذن ‪ -‬الفريضة الوحيدة التي يتهافت عليها مَنْ لم تطلب منه‪.‬‬

‫ج َعلْ هَـاذَا‬
‫ونلحظ أن إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬دعا بالمن للحرم مرتين‪ :‬مرة في قوله‪َ {:‬ربّ ا ْ‬
‫بَلَدا آمِنا‪[} ...‬البقرة‪ ]126 :‬يعني‪ :‬اجعل هذا المكان بلدا آمنا‪ ،‬كأيّ بلد آمن ل تُقام إل في مكان‬
‫ُي َؤمّنون فيه كل مُقوّمات الحياة‪ ،‬فأيّ بلد ل تُبنى حتى من الكافر إل إذا كان آمنا فيها‪ ،‬فالطلب‬
‫الول أنْ يتحول هذا المكان الخالي إلى بلد آمن‪ ،‬كما يأمن كل بلد حين ينشأ‪ ،‬وهذا أمن عام‪.‬‬
‫ج َعلْ هَـاذَا الْ َبلَدَ آمِنا‪[} ...‬إبراهيم‪ ]35 :‬بعد أن أصبحتْ مكة بلدا آمنا‬
‫ثم يدعو مرة أخرى{ َربّ ا ْ‬
‫يطلب لها مزيدا من المن‪ ،‬وهذا أمن خاص‪ ،‬حيث جعلها بلدا حراما‪ ،‬يأمن فيها النسان والحيوان‬
‫والنبات‪ ،‬بل والجماد‪.‬‬
‫وقد وقف البعض عند قوله تعالى‪:‬‬
‫{ َومَن َدخَلَهُ كَانَ آمِنا‪[} ...‬آل عمران‪.]97 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقالوا‪ :‬أين هذا المن‪ ،‬وقد حدث في الحرم العتداء والقتل وترويع المنين‪ ،‬كما حدث في أيام‬
‫القرامطة لما دخلوا الحرم‪ ،‬وقتلوا الناس فيه‪ ،‬وأخذوا الحجر‪ ،‬وفي العصر الحديث نعرف حكاية‬
‫جهيمان‪ ،‬وما حدث فيها من قَتْل في الحرم‪.‬‬
‫وهذه الية‪َ {:‬ومَن دَخََلهُ كَانَ آمِنا‪[} ...‬آل عمران‪ ]97 :‬جملة خبرية غرضها المر والحثّ‪ ،‬كأنه‬
‫تعالى قال‪ :‬أمّنوا من دخل الحرم‪ .‬وهذه ليست قضية كونية‪ ،‬إنما قضية شرعية‪ ،‬وفرْق بين‬
‫القضيتين‪ :‬الكونية ل ُبدّ أن تحدث‪ ،‬أما الشرعية فأمر ينفذه البعض‪ ،‬ويخرج عليه البعض‪ ،‬فمَنْ‬
‫أطاع المر الشرعي ل وأراد أنْ يجعل أمر ال صادقا يُؤمّن أهل الحرم‪ ،‬ومَنْ أراد أنْ يكذّب ربه‬
‫يهيج الناس ويروعهم فيه‪.‬‬
‫ن وَالْخَبِيثُونَ‬
‫ومن اليات التي كثيرا ما يُسأل عنها في هذا الصدد قوله تعالى‪ {:‬الْخَبِيثَاتُ لِ ْلخَبِيثِي َ‬
‫ن وَالطّيّبُونَ ِللْطّيّبَاتِ‪[} ...‬النور‪ ]26 :‬يقولون‪ :‬كثيرا ما يتزوج خبيث من‬
‫ت وَالطّيّبَاتُ لِلطّيّبِي َ‬
‫لِلْخَبِيثَا ِ‬
‫طيبة‪ ،‬أو طيبة من خبيث‪ ،‬فالواقع ل يتفق مع الية‪ .‬نقول أيضا هنا‪ :‬هذه قضية شرعية تحمل‬
‫أمرا قد يُطاع وقد ُي ْعصَى‪ ،‬وليست قضية كونية ل بُدّ أنْ تأتي كما أخبر ال تعالى بها‪ ،‬ول يتخلّف‬
‫مدلولها‪.‬‬
‫فالمعنى في الية‪ :‬إن زوجتُم فزوّجوا الخبيث للخبيثة‪ ،‬والطيب للطيبة؛ ليتحقق التكافؤ بين‬
‫الزوجين ويحدث بينهما الوفاق‪ ،‬حتى إنْ عيّر الخبيث زوجته كانت مثله تستطيع أنْ تردّ عليه‪ ،‬ل‬
‫بُدّ من وجود التكافؤ حتى في (القباحة)‪ ،‬وإل فكيف تفعل الطيبة مع الخبيث‪ ،‬أو الخبيث مع‬
‫الطيبة؟‬
‫إذن‪ :‬فالية وأمثالها قضية شرعية في صيغة الخبر‪ ،‬وإنْ كانت تعني المر‪ ،‬كما تقول عن الميت‪:‬‬
‫رحمه ال بصيغة الماضي‪ ،‬وأنت ل تدري رحمه ال‪ ،‬أو لم يرحمه‪ ،‬إذن‪ :‬ل ُبدّ أن المعنى دعاء‪:‬‬
‫فليرحمه ال‪ ،‬قلتها أنت بصيغة الماضي‪ ،‬رجاء أن تكون له الرحمة‪.‬‬
‫نعود إلى قوله تعالى‪َ } :‬أوَلَمْ ُن َمكّن ّل ُهمْ حَرَما آمِنا‪[ { ...‬القصص‪ ]57 :‬ونلحظ هذا التمكين وهذا‬
‫المن من قصة الفيل‪ ،‬حيث جاء أبرهة ليهدم الكعبة‪ ،‬ويتقدّم الجيش فيل ضخم يقال له محمود‪،‬‬
‫فلما قالوا في أذنه (أب ُركْ محمود وارجع راشدا) يعني‪ :‬انفد بجلدك (فإنك ببلد ال الحرام) فبرك‬
‫الفيل واستجاب‪.‬‬

‫ثم جاءت معركة الطير البابيل‪ ،‬ترميهم بحجارة من سجيل‪ ،‬فجعلهم كعصف مأكول‪ .‬هذا كله من‬
‫المن الذي جعله ال لقريش فجعلهم كعصف مأكول‪ .‬هذا كله من المن الذي جعله ال لقريش‬
‫سكان حرمه؛ لتظل الكعبة مسكونة بهم‪ ،‬وما داموا هم سكان الحرم والناس تأتيهم من كل النحاء‬
‫للحج كل عام‪ ،‬فسوف يظل لهم المن بين القبائل‪ ،‬ول يجرؤ أحد على العتداء عليهم‪ ،‬أو‬
‫التعرّض لقوافلهم في رحلة الشتاء والصيف‪ ،‬وأيّ أمن‪ ،‬وأيّ مهابة بعد هذا؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل ِفهِمْ رِحَْلةَ‬
‫ومع الحجيج يُجلب الطعام وتُجلب الرزاق‪ ،‬وصدق ال العظيم‪ {:‬لِيلَفِ قُرَيْشٍ * إِي َ‬
‫خ ْوفٍ }‬
‫ط َع َمهُم مّن جُوعٍ وَآمَ َنهُم مّنْ َ‬
‫الشّتَآ ِء وَالصّيْفِ * فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي أَ ْ‬
‫[قريش‪.]4-1 :‬‬
‫وكيف بعد هذا المن والمان يخاف مَنْ يؤمن بمحمد أنْ يُتخطّف من أرضه؟ إنها مقولة ل مدلولَ‬
‫لها‪.‬‬

‫(‪)3237 /‬‬

‫سكَنْ مِنْ َب ْعدِهِمْ إِلّا قَلِيلًا َوكُنّا نَحْنُ ا ْلوَارِثِينَ‬


‫َوكَمْ أَهَْلكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِ َرتْ َمعِيشَ َتهَا فَتِ ْلكَ مَسَاكِ ُنهُمْ َلمْ تُ ْ‬
‫(‪)58‬‬

‫كلمة { َوكَمْ‪[ } ..‬القصص‪ ]58 :‬كم هنا خبرية تفيد الكثرة‪ ،‬كأنك تركتَ الجواب ليدل بنفسه على‬
‫الكثرة‪ ،‬كما تقول لمن ينكر جميلك‪ ،‬ول تريد أنْ تُعدد أياديك عليه‪ :‬كم أحسنتُ إليك‪ ،‬يعني‪ :‬أنا لن‬
‫أُعدّد‪ ،‬وسوف أرضى بما تقوله أنت لنك واثق أن الجابة سوف تكون في صالحك‪ ،‬وعندها ل‬
‫يملك إل أن يقول‪ :‬نعم هي كثيرة‪ .‬فكم هنا تعني الكثرة‪ ،‬وينطق بها المخاطب لتكون حجة عليه‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬مِن قَرْ َيةٍ‪[ } ...‬القصص‪ ]58 :‬من للعموم أي‪ :‬من بداية ما يُقال له قرية { َبطِ َرتْ‬
‫شكْر المُنعم على نعمه‪ ،‬أي‪ :‬أنه سبحانه لم يرد ذكره‬
‫َمعِيشَ َتهَا } [القصص‪ ]58 :‬البطر‪ :‬أن تنسى ُ‬
‫على بالك وأنت تتقّلبَ في نِعمه‪ ،‬أو يكون البطر باستخدام النعمة في معصية المنعم عز وجل‪.‬‬
‫ومن البطر أن يتعالى المرء على النعمة‪ ،‬أو يستقلها ويراها أقلّ من مستواه‪ ،‬كالولد الذي تأتي له‬
‫أمه مثلً بطبق العدس فيتبرّم به‪ ،‬وربما ل يأكل‪ ،‬فتقول الم كما نقول في العامية؛ أنت (بتتبطر)‬
‫على نعمة ربنا؟ كلمة في لغتنا العامية لكن لها أصل في الفصحى‪.‬‬
‫إذن‪ :‬من البطر أنْ تتجبّر‪ ،‬أو تتكبر‪ ،‬أو تتعالى على نعمة ال‪ ،‬فل ترضي بها‪ ،‬وتطلب أعلى منها‪.‬‬
‫سكَن مّن َبعْدِ ِهمْ ِإلّ‬
‫ومعنى { َمعِيشَ َتهَا } [القصص‪ ]58 :‬أي‪ :‬أسباب معيشتها { فَتِ ْلكَ َمسَاكِ ُنهُمْ لَمْ تُ ْ‬
‫ل َوكُنّا َنحْنُ ا ْلوَارِثِينَ } [القصص‪ ]58 :‬فما داموا قد بطروا نعمة ال فل بُدّ أن يسلبها من‬
‫قَلِي ً‬
‫أيديهم‪ ،‬وإنْ سُلبتْ نِعم ال من بلد هلكوا‪ ،‬أو رحلوا عنها { ِإلّ قَلِيلً } [القصص‪ ]58 :‬هم الذين‬
‫يقيمون بعد هلك ديارهم‪.‬‬
‫{ َوكُنّا نَحْنُ ا ْلوَارِثِينَ } [القصص‪ ]58 :‬نرثهم لنهم لم يتركوا مَنْ يرثهم‪ ،‬وإذا تُرِك مكان بل‬
‫خليفة يرثه آل ميراثه إلى ال تعالى‪.‬‬
‫وفي آية أخرى يعالج الحق سبحانه هذه القضية بصورة أوسع‪ ،‬يقول تعالى‪َ {:‬وضَرَبَ اللّهُ مَثَلً‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَ َرتْ بِأَ ْن ُعمِ اللّهِ‪[} ...‬النحل‪]112 :‬‬
‫قَرْيَةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ‬
‫خوْفِ‪[} ...‬النحل‪.]112 :‬‬
‫يعني‪ :‬بطرت بنعمه تعالى{ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ ا ْلجُوعِ وَا ْل َ‬
‫ومعنى الكفر بال‪ :‬سَتْر وجود ال‪ ،‬والسّتْر يقتضي مستورا‪ ،‬فكأن الصل أن ال تعالى موجود‪،‬‬
‫لكن الكافر يستر هذا الوجود‪ ،‬وهكذا يكون الكفر نفسه دليلً على اليمان‪ ،‬فاليمان هو الصل‬
‫والكفر طارئ عليه‪.‬‬
‫ومثال ذلك قولنا‪ :‬إن الباطل جُنْدي من جنود الحق‪ ،‬فحين يستشري الباطل يذوق الناس مرارته‪،‬‬
‫ويكتوون بناره‪ ،‬فيعودون إلى الحق وإلى الصواب‪ ،‬ويطلبون فيه المخرج حين تعضّهم الحداث‪.‬‬
‫وكذلك نقول بنفس المنطق‪ :‬اللم أول جنود الشفاء؛ لذلك نجد أن أخطر المراض هو المرض‬
‫الذي يتلصص على المريض دون أنْ يُشعره بأيّ ألم‪ ،‬فل يدرى به إل وقد استفحل أمره‪ ،‬وتفاقم‬
‫خطره وعزّ علجه‪ ،‬لذلك نسميه ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬المرض الخبيث‪.‬‬

‫ففي قوله تعالى‪َ {:‬ف َكفَرَتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ‪[} ...‬النحل‪.]112 :‬‬
‫دليل على وجود النعم‪ ،‬ومع ذلك كفروا بها أي‪ :‬ستروها‪ ،‬إما بعدم البحث في أسبابها‪ ،‬والتكاسل‬
‫عن استخراجها‪ ،‬أو ستروها عن المستحق لها وضنّوا لها على العاجز الذي ل يستطيع الكسب؛‬
‫لذلك يسلبهم ال هذه النعم ويحرمهم منها رغم قدرتهم‪.‬‬
‫وهناك أشياء لو ظلت موجودة لعطتْ رتابة‪ ،‬ربما فهموا منها أن هذه الشياء إنما تأتيهم تلقائيا‬
‫بطبيعة الشياء‪ ،‬وحين يسلب ال منهم نعمه ويطقع هذه الرتابة‪ ،‬فإنما ليفهموا أن الرتابة في‬
‫التكليفات تُضعِف الحكمة من التكليف‪ ،‬كيف؟‬
‫نقول‪ :‬الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬حرّم علينا أشياء وأحلّ لنا أشياء‪ ،‬فمثلً حرّم ال علينا الخمر حتى‬
‫أصبحنا ل نشربها ول حتى تخطر ببالنا‪ ،‬فأصبحت عادة رتيبة عندنا‪ ،‬وال تعالى يريد أنْ يُديم‬
‫على النسان تكليف العبادة‪ ،‬حتى ل يعتادها فيفعلها بالعادة‪ ،‬فيكسر هذه العادة مثلً في صوم‬
‫رمضان‪.‬‬
‫ويُحرّم عليك ما كان حللً لك طوال العام‪ ،‬وقد اعت ْدتَ عليه‪ ،‬فيأتي رمضان وتكليف الصيام‬
‫ليُحرّم عليك الطعام الذي كنت تأكله بالمس‪ ،‬ذلك لتظل حرارة العبادة موجودةً تُشوّق العبد إليها‪،‬‬
‫وتُعوّده النضباط في أداء التكاليف‪.‬‬
‫خ ْوفِ‪[} ...‬النحل‪ ]112 :‬والجوع‬
‫ع وَالْ َ‬
‫ثم يذكر العقاب على الكفر بنعمة ال{ فََأذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُو ِ‬
‫له مظهران‪ :‬أنْ تطلبه البطن في أول المر‪ ،‬فإنْ زاد الجوع ض ُع َفتْ الجوارح‪ ،‬وتألمتْ العضاء‬
‫كلها‪ ،‬وذاقتْ ألم الجوع‪ ،‬وال تعالى يريد أنْ يُرينا إحاطة هذا اللم‪ ،‬فشبّهه باللباس الذي يحيط‬
‫بالجسم كله‪ ،‬ويلفّه من كل نواحيه‪.‬‬
‫وهذه سُنّة ال في القُرى الظالمة‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ } :‬ومَا كَانَ رَ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَىا‪.{ ...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3238 /‬‬

‫علَ ْيهِمْ آَيَاتِنَا َومَا كُنّا ُمهِْلكِي ا ْلقُرَى إِلّا‬


‫َومَا كَانَ رَ ّبكَ ُمهِْلكَ ا ْلقُرَى حَتّى يَ ْب َعثَ فِي ُأ ّمهَا َرسُولًا يَتْلُو َ‬
‫وَأَهُْلهَا ظَاِلمُونَ (‪)59‬‬

‫حلّ العذاب‬
‫إذن‪ :‬ل بُدّ أن ُنعْلِم بالمنهج‪ ،‬ويأتي رسول يقول‪ :‬افعل كذا‪ ،‬ول تفعل كذا‪ ،‬حتى إذا َ‬
‫بالكافرين يكون بالعدْل‪ ،‬وبعد إلزامهم الحجة‪ ،‬ل أنْ نترك الناس يذنبون‪ ،‬ثم نقول لهم‪ :‬هذا حرام‪.‬‬
‫وسبق أنْ قُلْنا ما قاله القانون‪ :‬ل عقوبة إل بتجريم‪ ،‬ول تجريم إل بنصّ‪ ،‬ول نصّ بإعلم‪ .‬وما‬
‫كان ال ليهلك قرية ظلما‪ ،‬إنما عقوبةً لهم على ما فعلوا‪.‬‬
‫والقرية لها تسلسل فنقول‪( :‬نَجْع) وهو المكان الذي تسكنه أسرة واحدة‪ ،‬و ( َكفْر) لعدة أسر‪ ،‬ثم‬
‫(قرية) ثم (أم القرى) وهي الحضر أو العاصمة‪ ،‬وقد نزل القرآن في أمة مُتبدية‪ ،‬تعيش على‬
‫الترحال‪ ،‬وتقيم في الخيام تتنقل بها بين منابت الكل‪ ،‬فقالوا (أم القرى) للمكان الذي تجد به القرى‪،‬‬
‫وتتوفر فيه من مقومات الحياة ما ل يوجد في النجوع والكفور والقرى الصغيرة‪ ،‬كما يعيش الن‬
‫أهل الريف على قضاء حوائجهم من (البندر)‪ ،‬كأنّ أُمّ القرى لها حنان‪ ،‬يشمل صغار البلد حولها‪.‬‬
‫شيْءٍ َفمَتَاعُ الْحَيَاةِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومَآ أُوتِيتُم مّن َ‬

‫(‪)3239 /‬‬

‫شيْءٍ َفمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَ ُتهَا َومَا عِ ْندَ اللّهِ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَى َأفَلَا َت ْعقِلُونَ (‪)60‬‬
‫َومَا أُوتِي ُتمْ مِنْ َ‬

‫شيْءٍ‪[ } ...‬القصص‪ ]60 :‬من أيّ شيء من مُقوّمات الحياة‪ ،‬ومن كمالياتها { َفمَتَاعُ‬
‫معنى‪ { :‬مّن َ‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَزِينَ ُتهَا‪[ } ...‬القصص‪ ]60 :‬فمهما بلغ هذا من السّمو‪ ،‬فإنه متاع عمره قليل‪ ،‬كما قال‬
‫سبحانه‪ُ {:‬قلْ مَتَاعُ الدّنْيَا قَلِيلٌ }[النساء‪.]77 :‬‬
‫لذلك طلبنا منكم ألّ تنشغلوا بهذا المتاع‪ ،‬وألّ تجعلوه غايةً‪ ،‬لن بقاءك فيها مظنون‪ ،‬ومتاعك فيها‬
‫على قَدْر نشاطك وحركتك‪.‬‬
‫وسبق أنْ قلنا‪ :‬إن آفة النعيم في الدنيا إما أن يتركك أو تتركه‪ ،‬وأن عمرك في الدنيا ليس هو عمر‬
‫الدنيا‪ ،‬إنما مدة بقائك أنت فيها‪ ،‬ومهما بلغتَ من الدنيا فل بُدّ من الموت‪.‬‬
‫جلّ ‪ -‬على حياة أخرى باقية مُتيقّنة ل يفارقك نعيمها ول تفارقه‪.‬‬
‫لذلك يدلّنا ربنا ‪ -‬عَزّ و َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ َومَا عِندَ اللّهِ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَىا َأفَلَ َت ْعقِلُونَ } [القصص‪.]60 :‬‬
‫{ خَيْرٌ‪[ } ...‬القصص‪ ]60 :‬لن النعيم فيها ليس على قَدْر نشاطك‪ ،‬إنما على قَدْر ال وعطائه‬
‫وكرمه‪ { ،‬وَأَ ْبقَىا‪[ } ..‬القصص‪ ]60 :‬لنه دائم ل ينقطع‪ ،‬فلو قارن العاقل بين متاع الدنيا ومتاع‬
‫الخرة لختار الخرة‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن الصحابي الذي حدّثه رسول ال صلى ال عليه وسلم عن أجر الشهيد‪ ،‬وتيقّن أنه ليس‬
‫بينه وبين الجنة إل أنْ يُقتل في سبيل ال‪ ،‬وكان في يده تمرات يأكلها فألقاها‪ ،‬ورأى أن مدة شغله‬
‫بمضغها طويلة؛ لنها تحول بينه وبين هذه الغاية‪ ،‬ألقاها وأسرع إلى الجهاد لينال الشهادة‪ .‬لماذا؟‬
‫لنه أجرى مقارنة بين متاع الدنيا ومتاع الخرة‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حين يُجري هذه المقارنة بين الكفار وبين المؤمنين يقول‪ُ {:‬قلْ َهلْ‬
‫تَرَ ّبصُونَ بِنَآ ِإلّ ِإحْدَى ا ْلحُسْنَيَيْنِ‪[} ...‬التوبة‪ ]52 :‬إما أن ننتصر عليكم ونُذلكم‪ ،‬ونأخذ خيراتكم‪،‬‬
‫وإما ننال الشهادة فنذهب إلى خير مما تركنا{ وَ َنحْنُ نَتَرَ ّبصُ ِبكُمْ أَن ُيصِي َبكُمُ اللّهُ ِبعَذَابٍ مّنْ عِن ِدهِ‬
‫َأوْ بِأَيْدِينَا‪[} ...‬التوبة‪.]52 :‬‬
‫إذن‪ :‬ل تتربصون بنا إل خيرا‪ ،‬ول نتربّص بكم إل شرا‪.‬‬
‫وفي موضع آخر قال سبحانه‪َ {:‬بلْ ُتؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدّنْيَا * وَالخِ َرةُ خَيْ ٌر وَأَ ْبقَىا }[العلى‪- 16 :‬‬
‫‪ ]17‬لذلك ذيّل الية هنا بقوله تعالى‪َ { :‬أفَلَ َتعْقِلُونَ } [القصص‪ ]60 :‬لن العقل لو قارن بين الدنيا‬
‫والخرة ل ُبدّ أنْ يختار الخرة‪.‬‬
‫لقِيهِ َكمَن مّ ّتعْنَاهُ‪.} ....‬‬
‫حسَنا َف ُهوَ َ‬
‫عدْنَاهُ وَعْدا َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬أ َفمَن وَ َ‬

‫(‪)3240 /‬‬

‫حضَرِينَ‬
‫ن وَعَدْنَا ُه وَعْدًا حَسَنًا َف ُهوَ لَاقِيهِ َكمَنْ مَ ّتعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ ُهوَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مِنَ ا ْلمُ ْ‬
‫َأ َفمَ ْ‬
‫(‪)61‬‬

‫تُعد هذه الية شرحا وتأكيدا لما قبلها‪ ،‬والوعد‪ :‬بشارة بخير‪ ،‬وإذا بشّرك مُساوٍ لك بخير أتى خيره‬
‫على قدر إمكاناته‪ ،‬وربما حالت السباب دون الوفاء بوعده‪ ،‬فإنْ كان الوعد من ال جاء الوفاء‬
‫على قدر إمكاناته تعالى في العطاء‪ ،‬ثم إنّ وعده تعالى ل يتخلف{ َومَنْ َأ ْوفَىا ِب َعهْ ِدهِ مِنَ اللّهِ‪} ...‬‬
‫[التوبة‪.]111 :‬‬
‫لقِيهِ‪[ } ...‬القصص‪ ]61 :‬أي‪ :‬حتما { ثُمّ ُهوَ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ مِنَ‬
‫حسَنا َف ُهوَ َ‬
‫لذلك قال { وَعْدا َ‬
‫حضَرِينَ } [القصص‪ ]61 :‬أي‪ :‬للعذاب‪.‬‬
‫ا ْلمُ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حضَرِينَ } [القصص‪ ]61 :‬ل تستعمل في القرآن إل للعذاب‪ ،‬وربما الذي وضع‬
‫وهذه الكلمة { ا ْل ُم ْ‬
‫كلمة (مُحضر) قصد هذا المعنى؛ لن المحضر ل يأتي أبدا بخير‪.‬‬
‫حضَرُونَ }[الصافات‪.]158 :‬‬
‫ويقول تعالى في موضع آخر‪ {:‬وََلقَدْ عَِل َمتِ الجِنّةُ إِ ّنهُمْ َلمُ ْ‬
‫حضَرِينَ }[الصافات‪ ]57 :‬ثم يقول سبحانه مُؤكّدا هذا‬
‫وقال تعالى‪ {:‬وََل ْولَ ِن ْعمَةُ رَبّي َلكُنتُ مِنَ ا ْلمُ ْ‬
‫الحضار يوم القيامة حتى ل يظن الكافر أن بإمكانه الهرب‪ { :‬وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3241 /‬‬

‫عمُونَ (‪)62‬‬
‫وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْ ُتمْ تَزْ ُ‬

‫والسؤال هنا للذين أشركوا‪ ،‬ل لمن أُشرك بهم‪ ،‬وكلمة { وَ َيوْمَ‪[ } ...‬القصص‪ ]62 :‬منصوبة على‬
‫الظرفية‪ ،‬ل ُبدّ أن نُقدّر لها فعلً يناسبها‪ ،‬فالتقدير‪ :‬واذكر يوم يناديهم‪ ،‬والمر لرسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬لكن لمن يذكره رسول ال؟ يذكره للكافرين بهذا اليوم يوم القيامة‪.‬‬
‫والية تعطينا لقطة من لقطات هذا اليوم الذي هو يوم الواقعة التي ل واقعةَ بعدها‪ ،‬ويوم الحاقّة‬
‫خ الذان التي انصرفتْ عنها في‬
‫ح عنها‪ ،‬ويوم الصّاخة أي‪ :‬التي تص ّ‬
‫أي الثابتة التي ل تَ َزحْزُ َ‬
‫الدنيا‪ ،‬ويوم الطامة التي تطمّ‪ ،‬ويوم الدين‪ ،‬أي‪ :‬الذي ينفع فيه الدين‪.‬‬
‫والحق سبحانه يذكر هذه اللقطة لمرين‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم عُودي وأُوذِي وهزِيء به وسُخِر منه‪ ،‬واجتمعت عليه‬
‫كل وسائل النكالَ من خصومة فبيّتوا به بمكر‪ ،‬وصنعوا له سحرا‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وحين تجد دعوة تُقابَل بهذه الشراسة‪ ،‬فاعلم أنها ما قُوبلت هذه المقابلة إل لنها ستهدم فسادا ينتفع‬
‫به قوم ترهبهم كلمة الصلح؛ لنها تصيبهم في مصالحهم وفي شهواتهم وفي جاههم وعنجهيتهم‬
‫وطغيانهم‪ ،‬فطبيعي أن يقفوا في وجهها‪.‬‬
‫لذلك نجد كثيرا من الغربيين يعرفون عظمة السلم من شراسة عداوة خصومه‪ ،‬يقولون‪ :‬لو لم‬
‫يكُنْ هذا الدين ضد فسادهم ما ائتمروا عليه‪ ،‬ولو كان أمرا هيّنا لتركوه للزمن يمحوه‪ ،‬لكنهم أيقنوا‬
‫أنه الحق الذي سيُذهِب باطلهم‪ ،‬ويقضي على طغيانهم‪.‬‬
‫فالحق سبحانه يأمر رسوله صلى ال عليه وسلم أنْ يذكر ذلك اليوم يذكره لنفسه‪ ،‬ويذكره لقومه‬
‫ليعتبروا‪ ،‬فربما إذا سمعوا ما في هذا اليوم من القسوة والخزي والنكال ربما راجعوا أنفسهم فتابوا‬
‫إلى ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ليس حظ ال تعالى من هذا العمل أنْ يُرهبهم إنما ليحذرهم‪ ،‬لئل يقع منهم الكفر الذي يُوقِفهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا الموقف‪ ،‬كما تُبشّع لولدك عاقبة الهمال‪ ،‬وتُحذّره من الرسوب لينفر من أسبابه‪ ،‬ويبحث عن‬
‫أسباب النجاح‪.‬‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]62 :‬وقد ناداهم في الدنيا‪ :‬يا أيها الناس‪ ،‬يا بني آدم‬
‫ن يصمّوا آذانهم عنه؛‬
‫فصمّوا آذانهم‪ ،‬وأعرضوا عن نداء ال‪ ،‬واليوم يناديهم ندا ًء ل يملكون أ ْ‬
‫لنه{ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْلقَهّارِ }[غافر‪ ]16 :‬فكأن الحق يُذكّرهم بهذا اليوم‪ ،‬لعلهم‬
‫يرعوون‪ ،‬ولعلهم يرجعون‪.‬‬
‫المر الثاني‪ :‬أن الية جاءت تسلية لسيدنا رسول ال يقول له ربه‪ :‬ل تيأس مما يصنعون معك‪،‬‬
‫ول يحزنك كيدهم وعنادهم؛ لنني سأصنع بهم كيت وكيت‪ .‬وأنت تستطيع أن تدرك سِرّ هذا‬
‫اليعاز النفسي في نفس المضطهد وفي نفس المظلوم حين يشكو لك ولدك أن أخاه ضربه أو أهانه‬
‫فتقول أنت لتُرضيه‪ :‬انتظر سوف أفعل به كذا وكذا‪ ،‬فترى الولد ينبهر بهذه العقوبة المسموعة‬
‫ويسعد بها‪ ،‬وكذلك حين يسمع رسول ال العقوبة التي تنال أعداءه على ما حدث منهم يسعد بها‪،‬‬
‫وتُسرّي عن نفسه ما يلقي‪.‬‬

‫عمُونَ { [القصص‪ ]62 :‬فلم ي ُقلْ شركائي ويسكت‪،‬‬


‫ومضمون النداء } أَيْنَ شُ َركَآ ِئيَ الّذِينَ كُن ُتمْ تَزْ ُ‬
‫عمُونَ { [القصص‪ ]62 :‬لنه سبحانه واحد ل شريك له‪ ،‬وهؤلء‬
‫إنما وصفهم } الّذِينَ كُن ُتمْ تَزْ ُ‬
‫شركاء في زعمهم فقط‪ ،‬والزعم كما يقولون‪ :‬مطية الكذب؛ لذلك لن يجدوا جوابا لهذا السؤال }‬
‫عمُونَ { [القصص‪.]62 :‬‬
‫أَيْنَ شُ َركَآ ِئيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْ ُ‬
‫ضعْفين‪ ،‬لكنهم لم‬
‫ولو كان أمامهم شركاء لقالوا‪ :‬ها هم الذين أضلّونا‪ ،‬فأ ِذقْهم يا رب العذاب ِ‬
‫يجيبوا فهذا دليل على أنهم غَير موجودين‪ ،‬لقد وقف هؤلء المشركين حائرين‪ ،‬ل يدرون جوابا‬
‫كما قال تعالى‪َ {:‬ف َعمِ َيتْ عَلَ ْيهِ ُم الَنبَـآءُ‪[} ...‬القصص‪.]66 :‬‬
‫حقّ عَلَ ْيهِمُ ا ْلقَ ْولُ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬قَالَ الّذِينَ َ‬

‫(‪)3242 /‬‬

‫غوَيْنَا تَبَرّأْنَا إِلَ ْيكَ مَا كَانُوا إِيّانَا‬


‫غوَيْنَا ُهمْ َكمَا َ‬
‫غوَيْنَا أَ ْ‬
‫قَالَ الّذِينَ حَقّ عَلَ ْي ِهمُ ا ْل َقوْلُ رَبّنَا َهؤُلَاءِ الّذِينَ أَ ْ‬
‫َيعْبُدُونَ (‪)63‬‬

‫حقّ عَلَ ْيهِمُ‪[ } ...‬القصص‪]63 :‬‬


‫والكلم هنا للشركاء الذين أضلوا المشركين وأغَووْهم‪ ،‬ومعنى { َ‬
‫أي‪ :‬ثبت ووقع‪ ،‬فهو أمر ل محالة منه‪ ،‬ولم يعد هناك مجال لزحزحته عنهم‪ ،‬كما قال سبحانه في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حقّ عَلَيْنَا َق ْولُ رَبّنَآ إِنّا لَذَآ ِئقُونَ }[الصافات‪.]31 :‬‬
‫موضع آخر‪ {:‬فَ َ‬
‫طقُونَ }[النمل‪.]85 :‬‬
‫وقال الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬و َوقَعَ ا ْل َق ْولُ عَلَيهِم ِبمَا ظََلمُواْ َفهُ ْم لَ يَن ِ‬
‫لكن‪ ،‬ما هو القول الذي وقع وثبت لهم وحَقّ عليهم؟ القول‪ :‬أن كلّ واحد له مكان عندي في الجنة‬
‫على فَرْض أنكم جميعا آمنتم‪ ،‬وكل واحد له مكان في النار على فَرْض أنكم جميعا كفرتم‪.‬‬
‫غوَيْنَا‪[ } ...‬القصص‪ ]63 :‬سبحان‬
‫غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ‬
‫غوَيْنَآ أَ ْ‬
‫وماذا قالوا؟ قالوا‪ { :‬رَبّنَا هَـاؤُلءِ الّذِينَ أَ ْ‬
‫ال الن تقولون ربنا وتعترفون بربوبيته تعالى‪ ،‬كما قال تعالى في شأن فرعون‪ {:‬آلنَ َوقَدْ‬
‫سدِينَ }[يونس‪.]91 :‬‬
‫ل َوكُنتَ مِنَ ا ْلمُفْ ِ‬
‫عصَ ْيتَ قَ ْب ُ‬
‫َ‬
‫الن تعترفون بعد أنْ سُلِب منكم الختيار‪ ،‬ولم تعُد لكم إرادة حتى على جوارحكم وأبعاضكم‪،‬‬
‫في ُدكَ التي كنت تبطش بها‪ ،‬و ِرجْلك التي كنت تسعى بها ولسانك‪ ..‬كلها خرجت عن إرادتك‬
‫شهَدُ عَلَ ْيهِمْ أَ ْلسِنَ ُتهُ ْم وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُُلهُمْ ِبمَا كَانُواْ‬
‫ط ْوعٌ لمر ال{ َيوْمَ تَ ْ‬
‫طوْع أمرك؛ لنها الن َ‬
‫وَ‬
‫َي ْعمَلُونَ }[النور‪.]24 :‬‬
‫غوَيْنَا‪} ...‬‬
‫غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ‬
‫غوَيْنَآ‪[ } ...‬القصص‪ ]63 :‬أي‪ :‬المشركين { أَ ْ‬
‫ومعنى { هَـاؤُلءِ الّذِينَ أَ ْ‬
‫خسْران سواء‪ ،‬وإل فأهل‬
‫[القصص‪ ]63 :‬أي‪ :‬لنكون سواء‪ ،‬هذه عِلّة غوايتهم‪ ،‬أن يكونوا في ال ُ‬
‫الباطل يسعون جاهدين لليقاع بأهل الحق ليشاركوهم باطلهم‪ ،‬وليكونوا أمثالهم‪.‬‬
‫وهذه المسألة تعطينا السيال النفسي لكل منحرف حين يرى ملتزما مستقيما‪ ،‬ل يشاركه فساده‬
‫وانحرافه‪ ،‬فيعزّ عليه أنْ يكون في الهاوية وحده‪ ،‬ولماذا يمتاز عنه الخرون؟ واقرأ قوله تعالى‪{:‬‬
‫سوَآءً‪[} ...‬النساء‪.]89 :‬‬
‫وَدّواْ َلوْ َتكْفُرُونَ َكمَا كَفَرُواْ فَ َتكُونُونَ َ‬
‫أل ترى أهل الباطل والفساد والفجور يهزءُون من أهل الحق ويسخرون منهم‪ ،‬ليُزهدوهم في‬
‫الخير والصلح‪ ،‬وليغروهم بما هم فيه‪ ،‬حتى أصبح النسان الملتزم بدينه وشرع ربه ل يسلَم من‬
‫حكُونَ * وَِإذَا مَرّواْ ِبهِمْ‬
‫ضَ‬‫ألسنتهم‪ ،‬كما يقول تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َي ْ‬
‫يَ َتغَامَزُونَ }[المطففين‪.]30 - 29 :‬‬
‫وليت المر ينتهي عند ال َغمْز واللمز‪ ،‬إنما يتمادى هؤلء‪ ،‬فيجعلون من سخريتهم بأهل اليمان‬
‫والطاعة مادةً للمسامرة والتسلية{ وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَهِْلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ }[المطففين‪ ]31 :‬يعني‪:‬‬
‫فرحين مسرورين بما نالوه من أهل الطاعة‪ ،‬مما يدلّ على أنهم جميعا تُسعِدهم هذه المسألة‬
‫وتُرضي شيئا في نفوسهم المريضة الحاقدة‪.‬‬
‫لكن المؤمن من طبيعته يحب أنْ يُكرم‪ ،‬وأنْ ينأى بنفسه عن مجاراة هؤلء‪ ،‬لذلك يتولّى ربه ‪-‬‬
‫عز وجل ‪ -‬الدفاع عنه يقول له‪ :‬ل تحزن فسوف نقتصّ لك‪ ،‬ونسخر منهم‪ ،‬ونجعلهم أضحوكة‬
‫حكُونَ * عَلَى الَرَآ ِئكِ‬
‫في يوم بَاقٍ ل ينتهي فيه عذابهم‪ {:‬فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْلكُفّارِ َيضْ َ‬
‫يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[المطففين‪.]36-34 :‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يسترضي عباده المؤمنين‪ :‬أيعجبكم ما آلوا إليه؟ أقَدرْنا أن‬
‫نجازيهم على ما اقترفوه في حقكم؟ نعم يا رب‪ ،‬فسخرية الكفار من أهل اليمان في دار الباطل‬
‫الفانية انقلبت سخرية منهم في دار الحق الباقية‪ ،‬وهي سخرية دائمة ل نهاية لها‪.‬‬
‫غوَيْنَا‪[ { ...‬القصص‪ ]63 :‬يعني‪ :‬حتى نكون سواء‪ ،‬ل يكون أحدنا أحسن‬
‫غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ‬
‫إذن‪ } :‬أَ ْ‬
‫من الخر‪ ،‬ومن هذا المنطلق أغوى إبليس آدمَ‪ ،‬لنه لما طغى وطُرد من رحمة ال‪ ،‬ومن‬
‫الصفائية التي كان ينعمَ بها مع الملئكة‪ .‬أراد أنْ يأخذ آدم بل وذريته إلى هذا المصير‪ ،‬فقد حَزّ‬
‫في نفسه أن يلقي هذا المصير وحده‪ ،‬في حين ينعَم آدم وذريته برحمة ال ورضوانه‪.‬‬
‫لذلك نجد إبليس ‪ -‬لعنه ال ‪ -‬ل يكتفي بأن تُغوي ذريته ذريةَ آدم‪ ،‬إنما يطلب من ال أنْ يُنظره‬
‫إلى يوم البعث ليباشر بنفسه هذه الغواية‪ ،‬فهو (المعلم) الكبير‪ ،‬وكأنه يحذر أن إمكانات ذريته في‬
‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ }‬
‫ل ْقعُدَنّ َلهُ ْم صِرَا َ‬
‫الغواية قد ل ترضيه؛ لذلك يتولى بنفسه هذه المهمة فيقول‪َ {:‬‬
‫[العراف‪.]16 :‬‬
‫والبعض يفهم قوله تعالى‪ {:‬قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى َيوْمِ يُ ْبعَثُونَ * قَالَ إِ ّنكَ مِنَ المُنظَرِينَ }[العراف‪:‬‬
‫‪ ]15-14‬أن ال تعالى أجاب إبليس إلى ما طلب‪ ،‬لكن{ إِ ّنكَ مِنَ المُنظَرِينَ }[العراف‪ ]15 :‬ليست‬
‫إجابةً‪ ،‬إنما تقرير لشيء حادث بالفعل قبل أن يطلب‪ ،‬فالمعنى أن سؤالك ليس له معنى؛ لنك من‬
‫المنظرين فعلً‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬لن ال تعالى يريد أنْ يظلّ إبليس الذي أغوى آدم وأخرجه من‬
‫الجنة باقيا أمام ذريته ليُذكّرهم دائما‪ :‬هذا الذي أغوى أباكم آدم‪.‬‬
‫غوَيْنَا‪[ { ...‬القصص‪ ]63 :‬لنا وقفة مع }‬
‫غوَيْنَاهُمْ َكمَا َ‬
‫غوَيْنَآ أَ ْ‬
‫وقولهم‪ } :‬رَبّنَا هَـاؤُلءِ الّذِينَ أَ ْ‬
‫هَـاؤُلءِ { [القصص‪ ]63 :‬وهي اسم إشارة للجمع بنوعيه‪ ،‬تقول‪ :‬هؤلء الرجال‪ ،‬وهؤلء النساء‪،‬‬
‫وهي عبارة عن‪ :‬الهاء للتنبيه‪ ،‬وأولء اسم إشارة‪ ،‬وكذلك في هذا‪ ،‬هذه‪ ،‬هذان‪ ،‬هاتان‪ ،‬فالهاء فيها‬
‫للتنبيه لتنبيه السامع أنك ستتكلم ليعطيك سمعه‪ ،‬ويهتم بما تقول‪ ،‬فل يفوته من كلمك شيء‪.‬‬
‫هذا حين تخاطب مثلك لنه يحتاج إلى تنبيه‪ ،‬أما إذا خاطبت ربك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فمن سوء الدب‬
‫أنْ تستخدم في خطابه أداة التنبيه‪ ،‬كما استخدمها المشركون‪ ،‬فما داموا قد قالوا } رَبّنَا‪...‬‬
‫{ [القصص‪ ]63 :‬فليس من الدب أن يقولوا } هَـاؤُلءِ‪[ { ...‬القصص‪ ]63 :‬أيُنبّهون ال عز‬
‫وجل؟‬
‫لذلك نلحظ هذا الدب في خطاب نبي ال موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬فيما حكاه عنه القرآن‪َ {:‬ومَآ‬
‫أَعْجََلكَ عَن قَو ِمكَ يامُوسَىا * قَالَ هُمْ ُأوْلءِ عَلَىا أَثَرِي وَعَجِ ْلتُ إِلَ ْيكَ َربّ لِتَ ْرضَىا }[طه‪]84 :‬‬
‫جلّ‪.‬‬
‫فقال (أولء) بدون هاء التنبيه تأدّبا مع ربه عَزّ و َ‬
‫ونلحظ أنك ل تجد خطابا من الكفار إل باستخدام هؤلء‪ {:‬رَبّنَا هَـاؤُلءِ َأضَلّونَا‪[} ...‬العراف‪:‬‬
‫‪ {]38‬رَبّنَا هَـاؤُلءِ شُ َركَآؤُنَا }[النحل‪ ]86 :‬أما المؤمن فل يليق به أبدا أن يُنبّه ال تعالى‪ ،‬بل ول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تصدر من مؤمن لمؤمن لنه دائما منتبه‪.‬‬

‫ثم يقولون‪ } :‬تَبَرّأْنَآ إِلَ ْيكَ مَا كَانُواْ إِيّانَا َيعْ ُبدُونَ { [القصص‪ ]63 :‬الن ينكُصون كما قالوا من قبل }‬
‫رَبّنَا‪[ { ...‬القصص‪ ]63 :‬يقولون الن } تَبَرّأْنَآ إِلَ ْيكَ‪[ { ..‬القصص‪ ]63 :‬لكن هيهات تنفعهم هذه‬
‫البراءة‪ ،‬لقد انتهى وقتها‪ ،‬ومضى زمن التكليف والختيار‪ ،‬والن وقت الحساب وسَلبْ الرادة‬
‫عصَ ْيتَ قَ ْبلُ َوكُنتَ مِنَ ا ْل ُمفْسِدِينَ }‬
‫ن َوقَدْ َ‬
‫والختيار‪ ،‬وما أشبههم بفرعون حين قال ال له‪ {:‬آل َ‬
‫[يونس‪.]91 :‬‬
‫وقولهم‪ } :‬مَا كَانُواْ إِيّانَا َيعْبُدُونَ { [القصص‪ ]63 :‬يقول الشركاء‪ :‬ما كان معنا قوة قهر نحملكم بها‬
‫على عبادتنا‪ ،‬ول قوة سلطان أو حجة نقنعكم بها‪ ،‬إنما كنتم في انتظار إشارة منا‪ ،‬كما قال كبيرهم‬
‫عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي فَلَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ‬
‫إبليس‪َ {:‬ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُلْطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ‬
‫سكُمْ‪[} ...‬إبراهيم‪.]22 :‬‬
‫أَنفُ َ‬
‫إذن‪ :‬فهؤلء المشركون كانوا يعبدون أنفسهم وذواتهم؛ لن الشركاء كانوا أصناما أو غيرها‪،‬‬
‫وليس لهم منهج يتكلّمون به‪ ،‬ويدْعُون الناس إلى عبادتهم به‪ ،‬وإل فماذا قالت الصنام أو الشمس‬
‫أو النجوم لمن عبدها؟ ِبمَ أمرتهم‪ ،‬وعمّ نهتْهم؟‬
‫إذن‪ :‬هو إله بل منهج وبل تكليف‪ ،‬وهذا ما يريده المشركون؛ لن الذي يُتعب الناس في قضية‬
‫اليمان باللوهية ما تقتضيه من تكاليف‪ ،‬وما تفرضه من أمرأو نهي يحول بين النفس البشرية‬
‫وما تشتهي‪ ،‬ويُوقفها عند حدود ل تتعداها‪.‬‬
‫إذن‪ } :‬مَا كَانُواْ إِيّانَا َيعْبُدُونَ { [القصص‪ ]63 :‬بل يعبدون ذواتهم‪ ،‬ويعبدون شهواتهم ورغباتهم‪،‬‬
‫وما أسهل أن يعبد النسان آلهة ل تلزمه بشيء‪ ،‬فيسير في حياته على هواه‪ ،‬وهذه هي التي‬
‫جتْ لعبادة هذه اللهة‪.‬‬
‫رو َ‬
‫لذلك فإن الحق سبحانه يريد أنْ يلزم النسان حجة أن نفسه هي الوسيلة الولى لشهواته‪ ،‬وإل فلو‬
‫أن المسألة كلها وسوسة شيطان‪ ،‬فمَن أغوى إبليس بالعصيان أولً على حَدّ َقوْل الشاعر‪:‬إبليسُ لما‬
‫سهُ؟ إذن‪ :‬فهي كبرياء النفس ورغباتها‪ ،‬وليس للشيطان إل أنْ يُلوّح لها فتقع؛‬
‫سوَ َ‬
‫عَصى مَنْ كان و ْ‬
‫لذلك جاء في الحديث الشريف‪ " :‬إذا أقبل رمضان فُتحت أبواب الجنة‪ ،‬وغُلّقت أبواب النار‪،‬‬
‫وسُلْسلت الشياطين "‪.‬‬
‫وما دامت الشياطين سُلسلت‪ ،‬فليس لها حركة مع النس؛ لن ال تعالى يعلم منّا أنّا نُعلّق كل‬
‫صفّدت وسُلْسِلت‪ ،‬فمَنْ أغواكم‬
‫معاصينا على الشيطان‪ ،‬فكأنه سبحانه يقول‪ :‬ها هي الشياطين ُ‬
‫وزيّن لكم حال سَلْسلتها؟ إذن‪ :‬هي نفسك التي تَوسوس لك؛ لذلك نقول‪ :‬كل معصية تقع في‬
‫رمضان ليس للشيطان فيها نصيب‪ ،‬إنما هي شهوة النفس‪.‬‬
‫وسبق أنْ بيّنا كيف نُفرّق بين المعصية متى تكون من الشيطان؟ ومتى تكون شهوة نفس؟ إنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كانت المعصية تُوقفك عندها ل تتزحزح عنها إلى غيرها‪ ،‬فاعلم أنها من نفسك‪ ،‬أما إنْ ع ّزتْ‬
‫عليك معصية ففكّ ْرتَ في غيرها‪ ،‬فهي من الشيطان؛ لنه والعياذ بال يريدك عاصيا على أي‬
‫وجه‪ ،‬وبأيّ طريقة فينقلك إلى معصية أخرى يستطيع أنْ يُوقِعك فيها‪ ،‬على خلف شهوة النفس‪،‬‬
‫فهي تريد شيئا بذاته ل تريد غيره‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬وقِيلَ ادْعُواْ شُ َركَآ َءكُمْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3243 /‬‬

‫عوْهُمْ فََلمْ يَسْ َتجِيبُوا َلهُ ْم وَرََأوُا ا ْلعَذَابَ َلوْ أَ ّنهُمْ كَانُوا َيهْ َتدُونَ (‪)64‬‬
‫َوقِيلَ ادْعُوا شُ َركَا َءكُمْ َفدَ َ‬

‫عمُونَ }[القصص‪ ]62 :‬أي‪ :‬في زعمكم؛ لنه سبحانه‬


‫وسبق أن ناداهم{ أَيْنَ شُ َركَآ ِئيَ الّذِينَ كُن ُتمْ تَزْ ُ‬
‫عوْهُمْ فَلَمْ َيسْتَجِيبُواْ َلهُ ْم وَرََأوُاْ ا ْل َعذَابَ َلوْ أَ ّن ُهمْ‬
‫ليس له شركاء‪ ،‬وهنا يقول لهم { ادْعُواْ شُ َركَآ َء ُكمْ فَدَ َ‬
‫كَانُواْ َيهْ َتدُونَ } [القصص‪ ]64 :‬ولم ي ُقلْ شركائي‪ ،‬مع أنهم اتخذوهم شركاء ل‪.‬‬
‫فمعنى { شُ َركَآ َءكُمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]64 :‬أفي دعوى اللوهية؟ ل‪ ،‬لنهم تابعون لهم‪ ،‬إذن‪ :‬فما‬
‫معنى { شُ َركَآ َءكُمْ‪[ } ...‬القصص‪]64 :‬؟ قالوا‪ :‬الضافة تأتي بمعَانٍ ثلثة‪ :‬إما بمعنى (من) مثل‪:‬‬
‫أردب قمح أي‪ :‬من قمح‪ ،‬أو بمعنى (في) مثل‪ :‬مكرالليل أي‪ :‬مكر في الليل‪ ،‬أو‪ :‬بمعنى (لم)‬
‫الملكية مثل‪ :‬قلم زيد أي‪ :‬قلم لزيد‪.‬‬
‫فالمعنى هنا { شُ َركَآ َءكُمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]64 :‬أي‪ :‬من جنسكم أو فيكم يعني‪ :‬ل يتميز عنكم بشيء‪،‬‬
‫والله ل ُبدّ أن يكون من جنس أعلى‪ ،‬فإنْ كان من جنسكم‪ ،‬فهو ُمسَاوٍ لكم‪ ،‬ل يصلح أن تتخذوه‬
‫إلها‪.‬‬
‫ومعنى { ادْعُواْ شُ َركَآ َء ُكمْ‪[ } ..‬القصص‪ ]64 :‬يعني‪ :‬نادوهم لينصروكم‪ ،‬ويشفعوا لكم‪ ،‬كما قلتم‪{:‬‬
‫ش َفعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ }[يونس‪.]18 :‬‬
‫هَـاؤُلءِ ُ‬
‫وقلتم‪ {:‬مَا َنعْ ُبدُهُمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى }[الزمر‪.]3 :‬‬
‫إذن‪ :‬فنادوهم ليُقربوكم من ال‪ ،‬وليشفعوا لكم‪ ،‬والذي يقوم بهذه المهمة ل بُدّ أنْ يكون له منزلة‬
‫عند ال يضمنها‪ ،‬وهل يضمن هؤلء الشركاء منزلة عند ال؟ كيف وهم ل يضمنونها لنفسهم؟‬
‫عوْهُمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]64 :‬يا شركاءنا‪ ،‬يا مَنْ قُلْتم لنا كذا وكذا أدركونا { فََلمْ يَسْ َتجِيبُواْ َلهُمْ‪...‬‬
‫{ َفدَ َ‬
‫} [القصص‪ ]64 :‬لنهم مشغولون بأنفسهم { وَرَأَوُاْ ا ْل َعذَابَ َلوْ أَ ّنهُمْ كَانُواْ َيهْتَدُونَ } [القصص‪]64 :‬‬
‫يعني‪ :‬لو كانوا يهتدون بهَدْي ال‪ ،‬و َهدْي رسوله‪ ،‬ويروْن العذاب الذي أنذرهم به حقيقة وواقعا ل‬
‫يتخلفون عنه َلمَا حدث لهم هذا‪ ،‬ولما واجهوا هذه العاقبة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أو‪ :‬أنهم لما رأوا العذاب حقيقة في الخرة تمنّوا لو أنهم كانوا مهتدين‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ‪.} ...‬‬

‫(‪)3244 /‬‬

‫وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ مَاذَا أَجَبْ ُتمُ ا ْلمُرْسَلِينَ (‪َ )65‬ف َعمِ َيتْ عَلَ ْي ِهمُ الْأَنْبَاءُ َي ْومَئِذٍ َف ُهمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (‪)66‬‬

‫قال هنا أيضا { يُنَادِيهِمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]65 :‬فما الغرض من كل هذه النداءات؟ إنها للتقريع‬
‫وللسخرية منهم‪ ،‬وممّنْ عبدوهم واتبعوهم من دون ال‪ ،‬ومضمون النداء‪ { :‬مَاذَآ َأجَبْتُمُ ا ْلمُرْسَلِينَ }‬
‫[القصص‪ ]65 :‬والجابة‪ :‬موافقة المطلوب من الطالب‪ ،‬فماذا كانت إجابتكم لهم بعد أن آمنتم بإله‪،‬‬
‫أأخذتُم بما جاءوا به من أحكام؟ أعلمتم منهم علما يقينيا حقا؟‬
‫وهذا الستفهام للتعجيز؛ لنهم إنْ حاولوا الجابة فلن يجدوا إجابة فيخزون ويخجلون؛ لذلك يقول‬
‫بعدها { َف َعمِ َيتْ عَلَ ْي ِه ُم الَنبَـآءُ‪[ } ...‬القصص‪ ]66 :‬أي‪ :‬خفِ َيتْ عليهم الحجج والعذار وعموا‬
‫عنها فلم يروْهَا { َفهُ ْم لَ يَتَسَآءَلُونَ } [القصص‪ ]66 :‬ل يملكون إل السكوت كما قالوا‪ :‬جواب ما‬
‫حمِيما }[المعارج‪.]10 :‬‬
‫حمِيمٌ َ‬
‫يكره السكوت‪ ،‬وكما قال سبحانه‪َ {:‬ولَ يَسَْألُ َ‬
‫وهؤلء ل يتساءلون؛ لنهم في الجهل سواء‪ ،‬وفي الضلل شركاء‪ ،‬وكل منهم مشغول بنفسه{ َيوْمَ‬
‫َيفِرّ ا ْلمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَُأمّ ِه وَأَبِيهِ * َوصَاحِبَتِ ِه وَبَنِيهِ * ِل ُكلّ امْرِىءٍ مّ ْنهُمْ َي ْومَئِذٍ شَأْنٌ ُيغْنِيهِ }‬
‫[عبس‪.]37-34 :‬‬
‫وكما سُئِل المشركون‪ { :‬مَاذَآ أَجَبْ ُتمُ ا ْلمُرْسَلِينَ } [القصص‪ ]65 :‬في موضع آخر يسأل الرسل‪{:‬‬
‫سلَ فَ َيقُولُ مَاذَآ أُجِبْ ُتمْ‪[} ...‬المائدة‪ ]109 :‬أي‪ :‬فيما علمتم من العلم‪ ،‬وأوله‪ :‬علم‬
‫ج َمعُ اللّهُ الرّ ُ‬
‫َيوْمَ يَ ْ‬
‫اليقين العلى‪ ،‬وثانيها‪ :‬علم الحكام‪ ،‬فبماذا أجابكم الناس؟‬
‫وتأمل هنا أدب الرسل ومدى فهمهم في مقام الجواب ل‪ ،‬وهم يعلمون تماما بماذا أجاب أقوامهم‪،‬‬
‫وأن منهم مَنْ آمن بهم‪ ،‬وتفانى في خدمة دعوتهم وضحّى واستشهد‪ ،‬ومنهم مَنْ كفر وعاند‪ ،‬ومع‬
‫ذلك يقولون‪ {:‬قَالُواْ لَ عِ ْلمَ لَنَآ إِ ّنكَ أَنتَ عَلّمُ ا ْلغُيُوبِ }[المائدة‪.]109 :‬‬
‫فكيف يقولون‪ {:‬لَ عِ ْلمَ لَنَآ‪[} ..‬المائدة‪ ]109 :‬وهم يعلمون؟ قالوا‪ :‬لنهم غير واثقين أن مَنْ آمن‬
‫آمن عن عقيدة أم ل‪ ،‬فهم يأخذون بظواهر الناس‪ ،‬أما بواطنهم فل يعلمها إل ال‪ ،‬كأنهم يقولون‪:‬‬
‫أنت يا ربنا تسأل عن إجابة الحق ل عن إجابة النفاق‪ ،‬وإجابة الحق نحن ل نعرفها‪ ،‬وأنت‬
‫سبحانك علّم الغيوب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬جعلوا الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬هو السّلْطة التشريعية‪ ،‬والسلطة القضائية‪ ،‬والسلطة التنفيذية‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في محكمة العدل اللهي التي سيُعلن فيها على رؤوس الشهاد{ ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ‪[} ...‬غافر‪.]16 :‬‬
‫والسؤال عند العرب يُطلق‪ ،‬إما للمعرفة حيث تسأل لتعرف‪ ،‬كما يسأل التلميذ أستاذه‪ ،‬أو يكون‬
‫السؤال للقرار بما تعرف‪ ،‬كما يسأل الستاذ تلميذه ليقرّ على نفسه‪ ،‬ومن ذلك قوله تعالى‪{:‬‬
‫س َولَ جَآنّ }[الرحمن‪ ]39 :‬أي‪ :‬سؤالَ علم؛ لننا نعلم‪.‬‬
‫فَ َي ْومَئِ ٍذ لّ ُيسَْألُ عَن ذَن ِبهِ إِن ٌ‬
‫ن كان كلمي‬
‫وقوله تعالى‪َ {:‬وقِفُوهُمْ إِ ّنهُمْ مّسْئُولُونَ }[الصافات‪ ]24 :‬أي‪ :‬سؤال إقرار منهم‪ ،‬وإ ْ‬
‫يوم القيامة حجة‪ ،‬لنه ل مردّ له‪ ،‬لكن مع ذلك نسألهم ليقروا هم‪ ،‬وليشهدوا على أنفسهم‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يدلّك على أنه تعالى يُبشّع مظاهر يوم القيامة على الكافرين‪ ،‬ل لنه‬
‫كاره لهم‪ ،‬بل يريدهم أنْ يستحضروا هذه الصورة البشعة لعلّهم يرعوون ويتوبون؛ لذلك يفتح لهم‬
‫باب التوبة لنه رب ورحيم‪.‬‬

‫طعِم‬
‫لذلك جاء في الحديث القدسي‪ " :‬قالت الرض‪ :‬يا رب إئذن لي أنْ أخسف بابن آدم فقد َ‬
‫طعِم خيرك ومنع‬
‫خيرك ومنع شكرك‪ .‬وقالت الجبال‪ :‬يا رب إئذن لي أنْ أخِرّ على ابن آدم فقد َ‬
‫شكرك‪ .‬فقال تعالى‪ :‬دعوني وخلقي لو خلقتموهم لرحمتموهم‪ ،‬دعوهم فإنْ تابوا إليّ فأنا حبيبهم‪،‬‬
‫وأنْ لم يتوبوا فأنا طبيبهم "‪.‬‬
‫أعالجهم بالترغيب مرة‪ ،‬وبالترهيب أخرى‪ ،‬أشوّقهم إلى الجنة‪ ،‬وأخوّفهم من النار‪ ،‬وأفتح باب‬
‫التوبة‪ ،‬وفتْح باب التوبة ليس رحمة من ال للتائب فقط‪ ،‬ولكن رحمة لكل مَنْ يشقى بعصيان غير‬
‫التائب‪.‬‬
‫ولو أغلق باب التوبة في وجه العاصي ليئس وتحول إلى (فاقد) يشقى به المجتمع طوال حياته‪،‬‬
‫إذن‪ :‬ففتْح باب التوبة رحمة بالتائب‪ ،‬ورحمة بمجتمعه‪ ،‬بل وبالنسانية كلها‪ ،‬رحمة بالعاصي‬
‫وبمَنِ اكتوى بنار المعصية‪.‬‬

‫(‪)3245 /‬‬

‫ل صَالِحًا َفعَسَى أَنْ َيكُونَ مِنَ ا ْل ُمفْلِحِينَ (‪)67‬‬


‫عمِ َ‬
‫فََأمّا مَنْ تَابَ َو َآمَنَ وَ َ‬

‫ل صَالِحا‪} ...‬‬
‫عمِ َ‬
‫ن وَ َ‬
‫لماذا استخدم هنا (عسى) الدالة على الرجاء بعد أنْ قال { مَن تَابَ وَآمَ َ‬
‫[القصص‪ ]67 :‬ولم يقل‪ :‬يكون من المفلحين فيقطع لهم بالفلح؟‬
‫قالوا‪ :‬لنه ربما تاب‪ ،‬لكن عسى أن يستمر على توبته ليستديم الفلح أو نقول أن (عسى) من ال‬
‫تدل على التحقيق‪ ،‬وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن الرجاءات على درجات‪ :‬فالرجاء في المتكلم أقوى من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الرجاء في الغائب‪ ،‬فإنْ كان الرجاء في ال فهو أقوى الرجاءات كلها‪.‬‬
‫عسَىا أَن يَ ْبعَ َثكَ رَ ّبكَ َمقَاما‬
‫لذلك يقول سبحانه في خطابه لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬‬
‫حمُودا }[السراء‪ ]79 :‬فأيّ رجاء أقوى من الرجاء في ال؟‬
‫مّ ْ‬
‫إذن‪( :‬عسى) رجاء حين تصدر ممن ل يملك إنفاذ المرجو‪ ،‬وتحقيق حين تصدر ممّنْ يملك إنفاذ‬
‫المرجو‪ ،‬وهو الحق سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَرَ ّبكَ َيخْلُقُ مَا َيشَآ ُء وَيَخْتَارُ‪.} ...‬‬

‫(‪)3246 /‬‬

‫عمّا يُشْ ِركُونَ (‪)68‬‬


‫وَرَ ّبكَ َيخْلُقُ مَا يَشَا ُء وَ َيخْتَارُ مَا كَانَ َلهُمُ ا ْلخِيَ َرةُ سُ ْبحَانَ اللّ ِه وَ َتعَالَى َ‬

‫كنا ننتظر أنْ يُخبرنا السياق بما سيقع على المشركين من العذاب‪ ،‬لكن تأتي الية { وَرَ ّبكَ َيخْلُقُ‬
‫مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ‪[ } ...‬القصص‪ ]68 :‬وكأن الحق سبحانه يقول‪ :‬أنا الذي أعرف أين المصلحة‪،‬‬
‫وأعرف كيف أُريحكم من شرّهم‪ ،‬فدعوني أخلق ما أشاء‪ ،‬وأختار ما أشاء‪ ،‬فأنا الرب المتعهد‬
‫للمربي بالتربية التي تُوصله إلى المهمة منه‪.‬‬
‫والمربّي قسمان‪ :‬إما مؤمن وإما كافر‪ ،‬ول بُدّ أنْ يشقى المؤمن بفعل الكافر‪ ،‬وأنْ يمتد هذا الشقاء‬
‫ن بقي الكافر على كفره؛ لذلك شَرعتُ له التوبة‪ ،‬وقَبِ ْلتُ منه الرجوع‪ ،‬وهذا أول ما يريح‬
‫إْ‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬مَا كَانَ َل ُهمُ الْخِيَ َرةُ‪[ } ...‬القصص‪ ]68 :‬يعني‪ :‬ل خيارَ لكم‪ ،‬فدعوني لختار لكم‪ ،‬ثم‬
‫نفّذوا ما أختاره أنا‪.‬‬
‫خلُقُ مَا َيشَآ ُء وَيَخْتَارُ‪[ } ...‬القصص‪ ]68 :‬قيلت للردّ على قولهم‪َ {:‬لوْلَ‬
‫أو‪ :‬أن هذه الية { وَرَ ّبكَ يَ ْ‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف‪ .]31 :‬يقصدون الوليد بن المغيرة أو‬
‫نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ‬
‫سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َتهُمْ فِي‬
‫ح َمتَ رَ ّبكَ نَحْنُ َق َ‬
‫سمُونَ رَ ْ‬
‫عروة بن مسعود الثقفي‪ ،‬فردّ ال عليهم‪ {:‬أَ ُهمْ َيقْ ِ‬
‫ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَ َرجَاتٍ‪[} ...‬الزخرف‪.]32 :‬‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَ َر َفعْنَا َب ْع َ‬
‫فكيف يطمعون في أنْ يختاروا هم وسائل الرحمة‪ ،‬ونحن الذين قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة‬
‫الدنيا‪ ،‬فجعلنا هذا غنيا‪ ،‬وهذا فقيرا‪ ،‬وهذا قويا‪ ،‬وهذا ضعيفا‪ ،‬فمسائل الدنيا أنا متمكن منهم فيها‪،‬‬
‫فهل يريدون أنْ يتحكموا في مسائل الخرة وفي رحمة ال يوجّهونها حسب اختيارهم؟!!‬
‫{ مَا كَانَ َل ُهمُ الْخِيَ َرةُ‪[ } ..‬القصص‪ ]68 :‬أي‪ :‬الختيار في مثل هذه المسائل‪.‬‬
‫ويجوز { مَا كَانَ َل ُهمُ الْخِيَ َرةُ‪[ } ...‬القصص‪ ]68 :‬أي‪ :‬المؤمنون ما كان لهم أنْ يعترضوا على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قبول توبة ال على المشركين الذين آذوهم‪ ،‬يقولون‪ :‬لماذا تقبل منهم التوبة وقد فعلوا بنا كذا وكذا‪،‬‬
‫وقد كنا نود أن نراهم يتقلبون في العذاب؟‬
‫والحق تبارك وتعالى يختار ما يشاء‪ ،‬ويفعل ما يريد‪ ،‬وحين يقبل التوبة من المشرك ل يرحمه‬
‫وحده‪ ،‬ولكن يرحمكم أنتم أيضا حين يُريحكم من شرّه‪.‬‬
‫عمّا ُيشْ ِركُونَ } [القصص‪ ]68 :‬أي‪ :‬تعالى ال وتنزّه عما يريدون‬
‫وقوله‪ { :‬سُ ْبحَانَ اللّ ِه وَ َتعَالَىا َ‬
‫من أنْ يُنزِلوا الحق سبحانه على مرادات أصحاب الهواء من البشر‪ ،‬ولو أن الحق سبحانه نزل‬
‫على مرادات أصحاب الهواء من البشر ‪ -‬وأهواؤهم مختلفة ‪ -‬لفسدتْ حياتهم جميعا‪.‬‬
‫أل ترى أن البشر مختلفون جميعا في الرغبات والهواء‪ ،‬بل وفي مسائل الحياة كلها‪ ،‬فترى‬
‫ن واحدة‪ ،‬وفي مركز اجتماعي واحد‪ ،‬فإذا توجّهوا لشراء سلعة مثلً اختار كل‬
‫الجماعة منهم في س ّ‬
‫منهم نوعا ولونا مختلفا عن الخر‪.‬‬

‫(‪)3247 /‬‬

‫ن صُدُورُهُمْ َومَا ُيعْلِنُونَ (‪)69‬‬


‫وَرَ ّبكَ َيعَْلمُ مَا ُتكِ ّ‬

‫خفَى }[طه‪ ]7 :‬والسر‪ :‬ما تركته في نفسك محبوسا‪،‬‬


‫ما تُكنّ صدورهم أي‪ :‬السر{ َيعَْلمُ السّرّ وَأَ ْ‬
‫وأسررْتَه عن الخَلْق ل يعرفه إل أنت‪ ،‬أو السر‪ :‬ما أسررت به إلى الغير‪ ،‬وساعتها لن يبقى سِرا‪،‬‬
‫وإذا ضاق صدرك بأمرك‪ ،‬فصدر غيرك أضيق‪.‬‬
‫وإذا كان الحق سبحانه يمتنّ علينا بأن علمه واسع يعلم السر‪ ،‬فهو يعلم الجهر من باب َأوْلَى؛ لن‬
‫الجهر يشترك فيه جميع الناس ويعرفونه‪ .‬أما الخفى من السر‪ ،‬فلنه سبحانه يعلم ما تُسِره في‬
‫نفسك قبل أنْ يوجد في صدرك‪ ،‬وهو وحده الذي يعلم الشياء قبل أن توجد‪.‬‬
‫ولك أن تسأل‪ :‬إذا كان من صفاته تعالى أنه يعلم السر وما هو أخفى من السر‪ ،‬فماذا عن الجهر‬
‫وهو شيء معلوم للجميع؟ وهذه المسألة استوقفتْ بعض المستشرقين وأتباعهم من المسلمين‬
‫(المنحلين) الذين يجارونهم‪.‬‬
‫وحين نستقرئ آيات القرآن نجد أن ال تعالى سوّى في علمه تعالى بين السر والجهر‪ ،‬فقال‬
‫جهَرَ ِبهِ‪[} ...‬الرعد‪.]10 :‬‬
‫سوَآءٌ مّ ْنكُمْ مّنْ أَسَرّ ا ْل َق ْولَ َومَنْ َ‬
‫سبحانه‪َ {:‬‬
‫جهَرُواْ بِهِ‪[} ...‬الملك‪.]13 :‬‬
‫وقال سبحانه‪ {:‬وَأَسِرّواْ َقوَْلكُمْ َأوِ ا ْ‬
‫ن صُدُورُهُمْ َومَا ُيعْلِنُونَ } [القصص‪ ]69 :‬وفي هذه اليات‬
‫والية التي معنا‪ { :‬وَرَ ّبكَ َيعَْلمُ مَا ُتكِ ّ‬
‫جهْرَ‬
‫قدّم السر على الجهر‪ ،‬أما في قوله تعالى‪ {:‬سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا * ِإلّ مَا شَآءَ اللّهُ إِنّهُ َيعْلَمُ الْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خفَىا }[العلى‪.]7-6 :‬‬
‫َومَا َي ْ‬
‫ل وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ }[النبياء‪ ]110 :‬فقدّم العلم بالجهر على‬
‫جهْرَ مِنَ ا ْلقَ ْو ِ‬
‫وقال سبحانه‪ {:‬إِنّهُ َيعَْلمُ ا ْل َ‬
‫العلم بالسرّ‪ ،‬ول يقدم الجهر إل إذا كان له ملحظية خفاء عن السر‪ ،‬وهذه الملحظية غفل عنها‬
‫السطحيون‪ ،‬فأخطأوا في فهم الية‪.‬‬
‫فأنت مثلً لو أسررتَ في نفسك شيئا‪ ،‬فربما ظهر في سقطات لسانك أو على ملمح وجهك‪،‬‬
‫وربما خانك التعبير فدلّ على ما أسررتْه‪ ،‬ألم يقل الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَلَ َتعْ ِرفَ ّنهُمْ فِي لَحْنِ‬
‫ا ْل َقوْلِ‪[} ...‬محمد‪.]30 :‬‬
‫إذن‪ :‬هناك قرائن وعلمات نعرف بها السر‪ ،‬أما الجهر وهو من الجماعة ليس جهرا واحدا؛ لنه‬
‫ل وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ }[النبياء‪ ]110 :‬فالمعنى‪ :‬ويعلم ما‬
‫جهْرَ مِنَ ا ْل َقوْ ِ‬
‫مقابل بالجمع‪ {:‬إِنّهُ َيعْلَمُ ا ْل َ‬
‫تجهرون وما تكتمون‪.‬‬
‫ولك أن تتابع مظاهرة لجمع غفير من الناس‪ ،‬يهتف كل منهم هتافا‪ ،‬أتستطيع أن تميز بين هذه‬
‫الهتافات‪ ،‬وأنْ تُرجع كلً منها إلى صاحبها؟ هذا هو اللغز في الجهر والملحظ الذي فاتهم تدبّره‪،‬‬
‫لذلك امتن ال علينا بعلمه للجهر من القول الذي ل نعلمه نحن مهما أوتينا من آلت فَرْز‬
‫الصوات وتمييزها‪.‬‬
‫لذلك يقولون‪ :‬ل تستطيع أنْ تُحدّد جريمة في جمهور من الناس؛ لن الصوات والفعال مختلطة‪،‬‬
‫يستتر كلّ منها في الخر كما يقولون‪ :‬الفرد بالجمع ُي ْعصَم‪.‬‬
‫ويقولون‪ :‬الجماهير ببغائية‪ ،‬كما قال شوقي في مصرع كليوباترا‪ ،‬لما انهزموا في يوم (أكتيوما)‬
‫وأشاعوا أنهم انتصروا‪ ،‬لكن هذه الحيلة ل تنطلي على العقلء من القوم‪ ،‬فيقول أحدهم للخر عن‬
‫غوغائية الجماهير‪:‬‬

‫ش ْعبَ دُيُونُ كَ ْيفَ يُوحُون إل ْي ِهمَل الجوّ هتافا بِحيَاتيْ قَاتل ْيهِأثّر البهتانُ فيه وَانْطلى الزّور‬
‫اسْمع ال ّ‬
‫عليْهيَا لَهُ مِنْ ببغاء عقلُه في أُذُنَيْهإذن‪َ :‬فعِلْم الجهر هنا مَيْزة تستحق أنْ يمتنّ ال بها‪ ،‬كما يمتنّ‬
‫سبحانه بعلم السر‪.‬‬
‫وقال سبحانه } وَرَ ّبكَ َيعْلَمُ‪[ { ...‬القصص‪ ]69 :‬ليُطمئن رسول ال؛ لنه سبحانه ربه‪ ،‬والمتولي‬
‫ن كنتَ ل تعرف‬
‫لتربيته والعناية به‪ ،‬يقول له‪ :‬ل تحزن مما يقولون‪ ،‬فأنا أعلم سِرّهم وجهرهم‪ ،‬فإ ْ‬
‫ما يقولون فأنا أعرفه‪ ،‬وسوف أخبرك به‪ ،‬ألم يقل سبحانه لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ {:‬وَ َيقُولُونَ فِي‬
‫سهِمْ َل ْولَ ُيعَذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ‪[} ...‬المجادلة‪.]8 :‬‬
‫أَنفُ ِ‬
‫فأخبره ربه بما يدور حتى في النفوس‪ ،‬كأنه سبحانه يقول لرسوله‪ :‬إياك أن تظن أنني سأؤاخذهم‬
‫بما عرفتَ من أفعالهم فحسب‪ ،‬بل بما ل تعلم مما فعلوه‪ ،‬ليطمئن رسول ال أنه سبحانه يُحصي‬
‫عليهم كل شيء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَ ُهوَ اللّهُ ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3248 /‬‬

‫جعُونَ (‪)70‬‬
‫حكْ ُم وَإِلَيْهِ تُرْ َ‬
‫حمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآَخِ َر ِة وَلَهُ ا ْل ُ‬
‫وَ ُهوَ اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا ُهوَ لَهُ ا ْل َ‬

‫ال‪ :‬هو المعبود بحقّ‪ ،‬وله صفات الكمال كلها‪ ،‬وهو سبحانه { ل إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ‪[ } ...‬القصص‪:‬‬
‫‪ ]70‬وما دام هو وحده سبحانه‪ ،‬فل أحد يفتن عليه‪ ،‬أو يستدرك عليه بشيء‪ ،‬وسبق أن قال لهم‪:‬‬
‫هاتوا شركاءكم لنفصل في مسألة العبادة علنية و (نفاصل) من صاحب هذه السلعة‪ :‬أي يوم‬
‫القيامة‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬الُولَىا‪[ } ...‬القصص‪ ]70 :‬أي‪ :‬الخَلْق الذي خلقه ال‪ ،‬والكون الذي أعدّه لستقبال‬
‫خليفته في الرض‪ :‬الشمس والقمر والنجوم والشجر والجبال والماء والهواء والرض‪ ،‬فقبل أنْ‬
‫يأتي النسان أعدّ ال الكونَ لستقباله‪.‬‬
‫لذلك حينما يتكلم الحق سبحانه عن آدم ل يقول‪ :‬إنه أول الخَلْق‪ ،‬إنما أول بني آدم‪ ،‬فقد سبقه في‬
‫الخلق عوالم كثيرة؛ لذلك يقول تعالى‪َ {:‬هلْ أَتَىا عَلَى الِنسَانِ حِينٌ مّنَ الدّهْرِ لَمْ َيكُن شَيْئا مّ ْذكُورا‬
‫}[النسان‪ ]1 :‬أي‪ :‬لم يكن له وجود‪.‬‬
‫وإعداد الكون لستقبال النسان جميل يستوجب الحمد والثناء‪ ،‬فقد خلق ال لك الكون كله‪ ،‬ثم‬
‫جعلك تنتفع به مع عدم قدرتك عليه أو وصولك إليه‪ ،‬فالشمس تخدمك‪ ،‬وأنت ل تقدر عليها ول‬
‫تملكها‪ ،‬وهي تعمل لك دون صيانة منك‪ ،‬ودون أن تحتاج قطعة غيار‪ ،‬وكذلك الكون كله يسير في‬
‫خدمتك وقضاء مصالحك‪ ،‬وهذا كله يستحق الحمد‪.‬‬
‫وبعد أنْ خلقك ال في كون أُعِدّ لخدمتك تركك ترتع فيه‪ ،‬ذرة في ظهر أبيك‪ ،‬ونطفة في بطن أمك‬
‫إلى أنْ تخرج للوجود‪ ،‬فيضمك حضنها‪ ،‬ول يكلفك إل حين تبلغ مبلغ الرجال وسِنّ الرشد‪،‬‬
‫ومنحك العقل والنضج لتصبح قادرا على إنجاب مثلك‪ ،‬وهذه علمة النضج النهائي في تكوينك‬
‫كالثمرة ل تخرج مثلها إل بعد ُنضْجها واستوائها‪.‬‬
‫لذلك نجد في حكمة ال تعالى ألّ يعطي الثمرة حلوتها إل بعد ُنضْج بذرتها‪ ،‬بحيث حين تزرعها‬
‫بعد أكْلها تنبت مثلها‪ ،‬ولو أُكلت قبل ُنضْجها لما أنبتت بذرتها‪ ،‬ول نُقرض هذا النوع؛ لذلك ترى‬
‫الثمرة الناضجة إذا لم تقطفها سقطت لك على الرض لتقول لك‪ :‬أنا جاهزة‪.‬‬
‫لذلك نلحظ عندنا في الريف شجرة التوت أو شجرة المشمس مثلً يسقط الثمر الناضج على‬
‫الرض‪ ،‬ثم ينبت نباتا جديدا‪ ،‬يحفظ النوع‪ ،‬ولو سقطت الثمار غير ناضجة لما أنبتت‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكذلك النسان ل ينجب مثله إل بعد ُنضْجه‪ ،‬وعندها يُكلّفه ال ويسأله ويحاسبه‪ .‬إذن‪ :‬على‬
‫النسان أنْ يسترجع فضل ال عليه حتى قبل أنْ يستدعيه إلى الوجود‪ ،‬وأنْ يثق أن الذي يُكلّفه‬
‫الن ويأمره وينهاه هو ربّه وخالقه ومُربّيه‪ ،‬ولن يكلّفه إل بما يُصلحه‪ ،‬فعليه أنْ يسمع‪ ،‬وأنْ يطيع‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَالخِ َرةِ‪[ } ...‬القصص‪ ]70 :‬يعني‪ :‬له الحمد في القيامة‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَآخِرُ‬
‫حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[يونس‪ ]10 :‬فيحمد ال في الخرة؛ لنه كان يمتعني في الدنيا‬
‫عوَا ُهمْ أَنِ ا ْل َ‬
‫دَ ْ‬
‫إلى أمد‪ ،‬ويمتعني في الدنيا على َقدْر إمكاناتي‪ ،‬أما في الخرة فيعطيني بل أمد‪ ،‬وعلى َقدْر‬
‫ن نقول‪ :‬الحمد ل‪ ،‬وهكذا اجتمع ل تعالى‬
‫إمكاناته هو سبحانه‪ ،‬فحين نرى هذا النعيم ل نملك إل أ ْ‬
‫الحمد في الولى‪ ،‬والحمد في الخرة‪.‬‬

‫جعُونَ { [القصص‪ ]70 :‬لن الخرة ما كانت إل للحكم‬


‫حكْ ُم وَإِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَلَهُ ا ْل ُ‬
‫وللفصل في الخصومات‪ ،‬حيث يعرف كلّ ما له وما عليه‪ ،‬فل تظن أن الذين آذوْك وظلموك‬
‫س ُيفِلِتون من قبضتنا‪.‬‬
‫جعُونَ { [القصص‪ ]70 :‬أي‪ :‬للحساب‪ ،‬وفي قراءة (تَرْجعون) لنهم سيرجعون إلينا‬
‫} وَإِلَيْهِ تُرْ َ‬
‫ويأتوننا بأنفسهم‪ ،‬كأنهم مضبوطون على ذلك‪ ،‬كالمنبه تضبطه على الزمن‪ ،‬كذلك هم إذا جاء‬
‫موعدهم جاءونا من تلقاء أنفسهم‪ ،‬دون أن يسوقهم أحد‪.‬‬
‫جعُونَ { [القصص‪ ]70 :‬إياكم أن تظنوا أنكم بإمكانكم أن تتأ ّبوْا علينا‪ ،‬كما تأبّيتُم‬
‫وعلى قراءة } تُ ْر َ‬
‫على رسُلنا في الدنيا؛ لن الداعي في الدنيا كان يأخذكم بالرفق واللين‪ ،‬أما داعي الخرة فيجمعكم‬
‫جهَنّمَ دَعّا }[الطور‪.]13 :‬‬
‫قَسْرا ورَغْما عنكم‪ ،‬ول تستطيعون منه فكاكا{ َيوْمَ يُدَعّونَ إِلَىا نَارِ َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِن َ‬

‫(‪)3249 /‬‬

‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمُ اللّ ْيلَ سَ ْر َمدًا إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبضِيَاءٍ َأفَلَا‬
‫ُقلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ َ‬
‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ ال ّنهَارَ سَ ْرمَدًا إِلَى َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ‬
‫س َمعُونَ (‪ُ )71‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ َ‬
‫تَ ْ‬
‫سكُنُونَ فِيهِ َأفَلَا تُ ْبصِرُونَ (‪)72‬‬
‫بِلَ ْيلٍ تَ ْ‬

‫يُعدّد الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬نعمه على عبيده في شيئين يتعلقان بحركة الحياة وسكونها‪،‬‬
‫فالحركة تأتي بالخير للناس‪ ،‬والسكون يأتي بالراحة للمتعَب من الحركة‪ ،‬والنسان بطبيعته ل‬
‫يستطيع أن يعطي ويتعب إل بعد راحة‪ ،‬والذي يتحدّى هذه الطبيعة فيسهر الليل ويعمل بالنهار ل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بُدّ أنْ ينقطع‪ ،‬وأن تُنهَك قواه فل يستمر‪.‬‬
‫سعْ َيكُمْ‬
‫لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَالْلّ ْيلِ ِإذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ إِذَا تَجَلّىا * َومَا خَلَقَ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا * إِنّ َ‬
‫لَشَتّىا }[الليل‪.]4-1 :‬‬
‫فكلّ من الليل والنهار له مهمة‪ ،‬وكذلك الرجل والمرأة‪ ،‬فإياكم أنْ تخلطوا هذه المهام‪ ،‬وإل فسدت‬
‫الحياة وأتعبتكم الحداث‪ ،‬فقبل الكهرباء ودخول (التليفزيون والفيديو) المنازل كان يومنا يبدأ في‬
‫نشاط مع صلة الفجر‪ ،‬لننا كنا ننام بعد صلة العشاء‪ ،‬أما الن فالحال كما ترى‪ ،‬كنا نستقبل‬
‫يومنا بحركة سليمة نشطة؛ لننا نستقبل الليل بسكون سليم وهدوء تام‪.‬‬
‫والحق سبحانه في معرض تعداد نعمه علينا يقول { أَرَأَيْ ُتمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]71 :‬يعني‪ :‬أخبروني‬
‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْي ُكمُ الْلّ ْيلَ سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ‪[ } ...‬القصص‪ ]71 :‬يعني‪ :‬طوال‬
‫ماذا تفعلون { إِن َ‬
‫حياتكم { مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبضِيَآءٍ‪[ } ...‬القصص‪ ]71 :‬والسرمد‪ :‬الدائم المستمر‪.‬‬
‫وقال { ِبضِيَآءٍ‪[ } ...‬القصص‪ ]71 :‬ولم يقل بنور؛ لن النور قد يأتي من النجوم‪ ،‬وقد يأتي من‬
‫القمر‪ ،‬أمّا الضياء وهو نور وأشعة وحرارة‪ ،‬فل يأتي إل من الشمس‪.‬‬
‫س ضِيَآ ًء وَا ْلقَمَرَ نُورا‪[} ...‬يونس‪.]5 :‬‬
‫شمْ َ‬
‫ج َعلَ ال ّ‬
‫لذلك يقول سبحانه‪ُ {:‬هوَ الّذِي َ‬
‫وقال‪ { :‬مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ ِبضِيَآءٍ‪[ } ...‬القصص‪ ]71 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬مَنْ يأتيكم بضياء ليلفت‬
‫نظرنا إلى أن هذه المسألة ل يقدر عليها إل إله‪ ،‬ول إله إل ال‪ ،‬وفي الضياء تبصرون الشياء‪،‬‬
‫وتسيرون على هُدىً‪ ،‬فتؤدون حركات حياتكم دون اصطدام أو اضطراب‪ ،‬وبالضياء أعايش‬
‫الشياء في سلمة لي ولها‪ ،‬وإلّ لو سرْنا في الظلم لتحطمنا أو حطّمنا ما حولنا؛ لنك حين تسير‬
‫في الظلم إمّا أنْ تحطم ما هو أقل منك‪ ،‬أو يحطمك ما هو أقوى منك‪.‬‬
‫وكما يكون الضياء في الماديات يكون كذلك له دور في المعنويات‪ ،‬وضياء المعنويات القيم التي‬
‫ن هو أضعف منك‪ ،‬أو أنْ يُحطمك الوقى منك؛‬
‫تحكم حركة الحياة وتعدلها‪ ،‬وتحميك أنْ تُحطّم مَ ْ‬
‫جكُمْ مّنَ الظُّلمَاتِ إِلَى‬
‫لذلك كان منطقيا أن يقول تعالى‪ُ {:‬هوَ الّذِي ُيصَلّي عَلَ ْيكُ ْم َومَلَ ِئكَتُهُ لِ ُيخْرِ َ‬
‫النّورِ‪[} ....‬الحزاب‪.]43 :‬‬
‫والمراد‪ :‬من ظلمات المعاني إلى نور القيم‪ ،‬ل ظلمات المادة لنني ل أستغني عنه لراحتي‪ ،‬فله‬
‫مهمة عندي ل تقلّ عن مهمة النور لذلك يقول تعالى في وصفه لنوره عز وجل{ نّورٌ عَلَىا‬
‫نُورٍ‪[} ...‬النور‪.]35 :‬‬
‫نور مادي تُبصرون به الشياء من حولكم‪ ،‬فل تتخبطون بها‪ ،‬فتسلَم حركتكم‪ ،‬وهذا النور المادي‬
‫يشترك فيه المؤمن والكافر‪ ،‬وينتفع به المطيع والعاصي‪ ،‬فلم يضِنّ به على أحد من خَلْقه‪ ،‬أما‬
‫النور المعنوي نور الهداية ونور اليقين والقيم‪ ،‬فهذا يرسله ال على ي َديْ رسُله‪ ،‬فإذا أخذ المؤمن‬
‫النورين انتفع بهما في الدنيا‪ ،‬وامتد نفعه بهما إلى يوم القيامة؛ لذلك قال بعدها‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لمْثَالَ لِلنّاسِ‪[} ...‬النور‪.]35 :‬‬
‫{ َي ْهدِي اللّهُ لِنُو ِرهِ مَن يَشَآ ُء وَ َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ‬
‫س َمعُونَ‪[ { ...‬القصص‪:‬‬
‫ولن الية الكريمة بدأت ب ُقلْ‪ ،‬فمن المناسب أنْ تختم بقوله تعالى‪َ } :‬أفَلَ تَ ْ‬
‫‪ ]71‬يعني‪ :‬اسمعوا ما أقول لكم وتدبروه‪.‬‬
‫ج َعلَ اللّهُ عَلَ ْيكُمُ الْلّ ْيلَ‬
‫ثم يمتنّ ال تعالى بالية المقابلة لليل‪ ،‬وهي آية النهار‪ُ } :‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِن َ‬
‫سَ ْرمَدا إِلَىا َيوْمِ ا ْلقِيَامَةِ‪[ { ...‬القصص‪ ]72 :‬يعني‪ :‬دائم ل نهاية له } مَنْ إِلَـاهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ‬
‫سكُنُونَ فِيهِ أَفلَ تُ ْبصِرُونَ { [القصص‪.]72 :‬‬
‫بِلَ ْيلٍ تَ ْ‬
‫تلحظ أن هاتين اليتين على َنسَق واحد‪ ،‬لكن تذييلهما مختلف‪ ،‬مما يدلّ على بلغة وإعجاز‬
‫س َمعُونَ { [القصص‪ ]71 :‬وفي آية النهار‬
‫ل معنىً ما يناسبه‪ ،‬ففي آية الليل قال } َأفَلَ َت ْ‬
‫القرآن‪ ،‬فلك ّ‬
‫قال‪ } :‬أَفلَ تُ ْبصِرُونَ { [القصص‪ ]72 :‬ذلك لن العين ل عملَ لها في الليل إنما للذن‪ ،‬فأنت‬
‫تسمع دون أنْ ترى‪ ،‬وبالذن يتمّ الستدعاء‪.‬‬
‫أما في النهار وفي وجود الضوء‪ ،‬فالعمل للعين حيث تبصر‪ ،‬فهو إذن ختام حكيم لليات يضع‬
‫المعنى فيما يناسبه‪.‬‬
‫ج َعلَ َلكُمُ‪.{ ...‬‬
‫حمَتِهِ َ‬
‫ثم يُجمل ال تعالى هاتين اليتين في قوله سبحانه‪َ } :‬ومِن رّ ْ‬

‫(‪)3250 /‬‬

‫شكُرُونَ (‪)73‬‬
‫سكُنُوا فِي ِه وَلِتَبْ َتغُوا مِنْ َفضْلِ ِه وََلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫ل وَال ّنهَارَ لِتَ ْ‬
‫ج َعلَ َل ُكمُ اللّ ْي َ‬
‫حمَتِهِ َ‬
‫َومِنْ َر ْ‬

‫ن فصّل ال تعالى القولَ في الليل والنهار كلّ على حدة جمعهما؛ لنهما معا مظهر من‬
‫بعد أ ْ‬
‫مظاهر رحمة ال‪ ،‬وفي الية ملمح بلغي يسمونه " اللف والنشر " ‪ ،‬فبعد أن جمع ال تعالى الليل‬
‫سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضِْلهِ‪[ } ..‬القصص‪ ]73 :‬ثقة منه تعالى‬
‫والنهار أخبر عنهما بقوله‪ { :‬لِ َت ْ‬
‫سكُنُواْ فِي ِه وَلِتَب َتغُواْ مِن‬
‫ل منهما إلى ما يناسبه‪ ،‬فالليل يقابل { لِ َت ْ‬
‫بفطْنة السامع‪ ،‬وأنه سيردّ ك ً‬
‫َفضْلِهِ‪[ } ...‬القصص‪ ،]73 :‬والنهار يقابل { وَلِتَب َتغُواْ مِن َفضْلِهِ‪[ } ...‬القصص‪.]73 :‬‬
‫جمْع المحكوم عليه معا في جانب والحكم في جانب آخر‪ ،‬والنشرْ‪ :‬ر ّد كلّ حكم إلى‬
‫فاللفّ أي‪َ :‬‬
‫صاحبه‪.‬‬
‫ض وبَاكٍ شَاكِرٌ وغَفُورفجمعتْ‬
‫جفْني واللسَانُ وخَالِقي رَا ٍ‬
‫وضربنا لذلك مثلً بقول التيمورية‪:‬قَلْبي و َ‬
‫المحكوم عليه في الشطر الول والحكم في الشطر الثاني‪ ،‬وعليك أنْ تعيد كلّ حكم إلى صاحبه‪.‬‬
‫والليل والنهار آيتان متكاملتان‪ ،‬وبهما تنتظم حركة الحياة؛ لنك إنْ لم ترتح ل تقوى على العمل؛‬
‫ختْ وأُجه َدتْ‪ ،‬وهذا‬
‫لن لك طاقة‪ ،‬وفي جسمك مُولّدات للطاقة‪ ،‬فساعةَ تتعب تجد أن أعضاءك ترا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إنذار لك‪ ،‬تُنبّهك جوارحك لم َتعُدْ صالحا للحركة‪ ،‬ول بُدّ لك من الراحة لتستعيد نشاطك من جديد‪.‬‬
‫والراحة تكون بقدر التعب‪ ،‬فربما ترتاح حين تقف مثلً في حالة السير‪ ،‬فإنْ لم يُ ِرحْك الوقوف‬
‫تجلس أو تضطجع‪ ،‬فإنْ زاد التعب غلبك النوم‪ ،‬وهو الرّدْع الذاتي الذي يكبح جماح صاحبه إنْ‬
‫تمرد على الطبيعة التي خلقها ال فيه‪.‬‬
‫ومن عجب أن البعض يخرج عن هذه الطبيعة‪ ،‬فيأخذ مُنشّطات حتى ل يغلبه النوم‪ ،‬ويأخذ‬
‫مُهدّئات لينام‪ ،‬ولو أسلم نفسه لطبيعتها‪ ،‬فنام حينما يحضره النوم‪ ،‬وعمل حينما يجد في نفسه‬
‫نشاطا للعمل لراحَ نفسه من كثير من المتاعب‪.‬‬
‫لذلك يقولون‪ :‬النوم ضيف إنْ طلبك أراحك‪ ،‬وإنْ طلبته أعْنتك‪ ،‬وحتى الن‪ ،‬ومع تقدّم العلوم لم‬
‫يصلوا إلى سرّ النوم‪ ،‬وكيف يأخذ النسان في هدوء ولُطْف دون أنْ يشعر ماهيتهَ‪ ،‬وأتحدى أن‬
‫يعرف أحد منا كيف ينام‪.‬‬
‫لذلك جعل ال النوم آية من آياته تعالى‪ ،‬مثل الليل والنهار والشمس والقمر‪ ،‬فقال سبحانه‪َ {:‬ومِنْ‬
‫ل وَال ّنهَارِ‪[} ...‬الروم‪.]23 :‬‬
‫آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالْلّ ْي ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ‪.} ...‬‬

‫(‪)3251 /‬‬

‫عمُونَ (‪)74‬‬
‫وَ َيوْمَ يُنَادِيهِمْ فَ َيقُولُ أَيْنَ شُ َركَا ِئيَ الّذِينَ كُنْ ُتمْ تَزْ ُ‬

‫تقدمت المناداة قبل ذلك مرتين ومع ذلك ل يوجد تكرار لهذا المعنى؛ لن كلّ نداء منها له‬
‫مقصوده الخاص‪ ،‬فالنداء في الولى خاص بمَنْ أشركوهم مع ال وما قالوه أمام ال تعالى‪ {:‬رَبّنَا‬
‫غوَيْنَا‪[} ...‬القصص‪.]63 :‬‬
‫غوَيْنَا ُهمْ َكمَا َ‬
‫غوَيْنَآ أَ ْ‬
‫هَـاؤُلءِ الّذِينَ أَ ْ‬
‫أما الثانية‪ ،‬فالنداء فيها للمشركين{ مَاذَآ أَجَبْ ُتمُ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص‪.]65 :‬‬
‫أما هنا‪ ،‬فيهتم النداء بمسألة الشهادة عليهم‪ .‬إذن‪ :‬فكلمة (أين) و (شركائي) و (الذين كنتم تزعمون)‬
‫قَدْر مشترك بين اليات الثلثة‪ ،‬لكن المطلوب في كل قَدْر غير المطلوب في القَدْر الخر‪ ،‬فليس‬
‫في المر تكرار‪ ،‬إنما توكيد في الكل‪.‬‬
‫شهِيدا َفقُلْنَا‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَنَزَعْنَا مِن ُكلّ ُأمّةٍ َ‬

‫(‪)3252 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حقّ لِلّ ِه َوضَلّ عَ ْنهُمْ مَا كَانُوا َيفْتَرُونَ (‬
‫شهِيدًا َفقُلْنَا هَاتُوا بُ ْرهَا َنكُمْ َفعَِلمُوا أَنّ الْ َ‬
‫وَنَزَعْنَا مِنْ ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫‪)75‬‬

‫أي‪ :‬أخرجنا من كل أمة نبيّها‪ ،‬وأحضرناه ليكون شاهدا عليها { َفقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَا َنكُمْ‪[ } ..‬القصص‪:‬‬
‫‪ ]75‬أرونا شركاءكم الذين اتخذتموهم من دون ال‪ ،‬أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات‪ ،‬فقد‬
‫اتخذتموهم من دون ال‪ ،‬أين هم ليدافعوا عنكم؟ لكن هيهات‪ ،‬فقد ضلّوا عنهم‪ ،‬وهربوا منهم‪.‬‬
‫{ َف َعمِ َيتْ عَلَ ْيهِ ُم الَنبَـآءُ َي ْومَئِذٍ َفهُمْ لَ يَ َتسَآءَلُونَ }[القصص‪.]66 :‬‬
‫شهِيدا‪} ...‬‬
‫إذن‪ :‬غاب شركاؤكم‪ ،‬وغاب شهودكم‪ ،‬لكن شهودنا موجودون { وَنَزَعْنَا مِن ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫[القصص‪ ]75 :‬يشهد أنه بلّغهم منهج ال فإنْ قُلْتم‪ :‬لقد أغوانا الشيطان وأغوانا المضلون من‬
‫النس‪ ،‬نردّ عليكم بأننا ما تركناكم لغوائهم‪ ،‬فيكون لكم عذر‪ ،‬إنما أرسلنا إليكم رسلً لهدايتكم‪،‬‬
‫وقد بلّغكم الرسل‪.‬‬
‫شهِيدٍ وَجِئْنَا ِبكَ عَلَىا هَـاؤُلءِ‬
‫وفي موضع آخر يقول تعالى‪َ {:‬فكَ ْيفَ ِإذَا جِئْنَا مِن ُكلّ ُأمّةٍ بِ َ‬
‫شهِيدا }[النساء‪.]41 :‬‬
‫َ‬
‫ت في البلغ‪ ،‬وأنك اضطهدت منهم‪،‬‬
‫فماذا يكون موقفهم يوم تشهد أنت عليهم بأنك بلّغت‪ ،‬وأعذر َ‬
‫وأوذيت‪ ،‬وقد ضلّ عنهم شركاؤهم‪ ،‬ولم يجدوا مَنْ يشهد لهم أو يدافع عنهم؟ عندها تسقط أعذارهم‬
‫وتكون المحكمة قد (تنوّرت)‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬فقُلْنَا هَاتُواْ بُ ْرهَا َنكُمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]75 :‬أي‪ :‬قولوا‪ :‬إن رسلنا لم يُبلّغوكم‬
‫منهجنا‪ ،‬وهاتوا حجة تدفع عنكم‪ ،‬فلما تحيّروا وأُسقط في أيديهم حيث غاب شهداهم وحضر‬
‫الشهداء عليهم { َفعَِلمُواْ أَنّ ا ْلحَقّ لِلّهِ‪[ } ...‬القصص‪.]75 :‬‬
‫جدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َبهُ‪[} ...‬النور‪.]39 :‬‬
‫وفوجئوا كما قال تعالى عنهم‪َ {:‬ووَ َ‬
‫عمِلُواْ حَاضِرا‪[} ...‬الكهف‪.]49 :‬‬
‫جدُواْ مَا َ‬
‫وقال‪َ {:‬ووَ َ‬
‫فوجئوا بما لم يُصدّقوا به ولم يؤمنوا به‪ ،‬لكن ما وجه هذه المفاجأة‪ ،‬وقد أخبرناهم بها في الدنيا‬
‫وأعطيناهم مناعة كان من الواجب أنْ يأخذوا بها‪ ،‬وأنْ يستعدوا لهذا الموقف‪ ،‬فالعاقل حين تُحذره‬
‫من وعورة الطريق الذي سيسلكه وما فيه من مخاطر وأهوال حين يحتاط لنفسه أنْ يكون ناصحه‬
‫ث الجسَادُ قُ ْلتُ إليكُماإن صَحّ‬
‫ح ّد قول الشاعر‪:‬زَعَم المنجّ ُم والطبيبُ كلهٌما ل تُب َع ُ‬
‫كاذبا‪ ،‬على َ‬
‫ستُ بخاسِ ِر أ ْو صَحّ َقوْلي فالخسَار عليكُماوما عليك إنْ حملتَ بندقية في هذا الطريق‬
‫قول ُكمَا فل ْ‬
‫المخوف‪ ،‬ثم لم تجد شيئا يخيفك؟ إذن‪ :‬أنتم إنْ لم تخسروا فلن تكسبوا شيئا‪ ،‬ونحن إنْ لم نكسب لن‬
‫نخسر‪.‬‬
‫ضلّ عَ ْن ُهمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]75 :‬أي‪ :‬غاب { مّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [القصص‪ ]75 :‬من‬
‫وقوله‪َ { :‬و َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ادّعاه الشركاء‪.‬‬
‫بعد أن أعطانا الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬لقطة من لقطات يوم القيامة‪ ،‬والقيامة ل تخيف إل مَنْ‬
‫يؤمن بها‪ ،‬أما مَنْ ل يؤمن بالخرة والقيامة فل بُدّ له من رادع آخر؛ لن الحق سبحانه يريد أنْ‬
‫يحمي صلح الكون وحركة الحياة‪.‬‬
‫ولو اقتصر الجزاء على القيامة لعربد غير المؤمنين واستشرى فسادهم‪ ،‬ولَشقي الناس بهم‪ ،‬وال‬
‫تعالى يريد أنْ يحمي حركة الحياة من المفسدين من غير المؤمنين بالخرة‪ ،‬فيجعل لهم عذابا في‬
‫الدنيا قبل عذاب الخرة‪.‬‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وَإِنّ لِلّذِينَ ظََلمُواْ عَذَابا دُونَ ذَِلكَ‪[} ...‬الطور‪ ]47 :‬يعني‪ :‬قبل عذاب الخرة‪.‬‬
‫فالذي يقع للكفار في الدنيا َردْع لكل ظالم يحاول أنْ يعتدي‪ ،‬وأنْ يقف في وجه الحق؛ لذلك يعطينا‬
‫ربنا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬صورة لهذا العذاب الدنيوي للمفسدين في الرض‪ ،‬فيقول سبحانه‪ { :‬إِنّ‬
‫قَارُونَ كَانَ مِن َقوْمِ مُوسَىا فَ َبغَىا عَلَ ْي ِهمْ‪.} ...‬‬

‫(‪)3253 /‬‬

‫إِنّ قَارُونَ كَانَ مِنْ َقوْمِ مُوسَى فَ َبغَى عَلَ ْيهِ ْم َوآَتَيْنَاهُ مِنَ ا ْلكُنُوزِ مَا إِنّ َمفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِا ْل ُعصْبَةِ أُولِي‬
‫حبّ ا ْلفَرِحِينَ (‪)76‬‬
‫ا ْل ُقوّةِ ِإذْ قَالَ لَهُ َق ْومُهُ لَا َتفْرَحْ إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ‬

‫فلم يتكلم عن قارون وجزائه في الخرة‪ ،‬إنما يجعله مثَلً وعِبرة واضحة في الدنيا لكل مَنْ لم‬
‫يؤمن بيوم القيامة لعلّه يرتدع‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم اضطهده كفار قريش‪ ،‬ووقفوا في وجه دعوته‪ ،‬وآذوْا صحابته‪ ،‬حتى‬
‫أصبحوا غير قادرين على حماية أنفسهم‪ ،‬ومع ذلك ينزل القرآن على رسول ال يقول‪ {:‬سَ ُيهْ َزمُ‬
‫جمْعُ وَيُوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪.]45 :‬‬
‫الْ َ‬
‫فيتعجب عمر رضي ال عنه‪ :‬أيّ جمع هذا؟ فنحن غير قادرين على حماية أنفسنا‪ ،‬فلما وقعتْ بدر‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪.]45 :‬‬
‫وانهزم الكفار وقُتِلوا‪ .‬قال عمر‪ :‬نعم صدق ال{ سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ‬
‫لذلك يقولون‪ :‬ل يموت ظالم في الدنيا حتى ينتقم ال منه‪ ،‬ولم يَرَ الناس فيه ما يدل على انتقام ال‬
‫منه تعجّبوا وقال أحدهم‪ :‬ل ُبدّ أن ال انتقم منه دون أن نشعر‪ ،‬فإنْ أفلتَ من عذاب الدنيا‪ ،‬فوراء‬
‫هذه الدار أخرى يعاقب فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته‪ ،‬وعَدْل ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يقتضي‬
‫هذه المحاسبة‪.‬‬
‫ن ل يؤمن بالخرة ليخاف من عذاب ال‪،‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يجعل من قارون عبر ًة لكل مَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويحذر عقابه‪ ،‬والعبرة هنا بمَنْ؟ بقارون رأس من رؤوس القوم‪ ،‬وأغنى أغنيائهم‪ ،‬والفتوة فيهم‪،‬‬
‫فحين يأخذه ال يكون في أَخَذه عبرة لمن دونه‪.‬‬
‫وحدّثونا أن صديقا لنا كان يعمل بجمرك السكندرية‪ ،‬فتجمّع عليه بعض زملئه من الفتوات الذين‬
‫يريدون فَ ْرضَ سيطرتهم على الخرين‪ ،‬فما كان منه إل أنْ أخذ كبيرهم‪ ،‬فألقاه في الرض‪،‬‬
‫وعندها تفرّق الخرون وانصرفوا عنه‪.‬‬
‫ومن هذا المنطلق أخذ ال تعالى قارون‪ ،‬وهو الفتوة‪ ،‬ورمز الغِنى والجاه بين قومه‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬‬
‫إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن َقوْمِ مُوسَىا‪[ } ...‬القصص‪ ]76 :‬إذن‪ :‬حينما نتأمل حياة موسى عليه السلم‬
‫نجده قد مُنِي بصناديد الكفر‪ ،‬فقد واجه فرعون الذي ادّعى اللوهية‪ ،‬وواجه هامان‪ ،‬ثم موسى‬
‫السامري الذي خانه في قومه في غيبته‪ ،‬فدعاهم إلى عبادة العجل‪.‬‬
‫ومُني من قومه بقارون‪ ،‬ومعنى‪ :‬من قومه‪ ،‬إما لنه كان من رحمه من بني إسرائيل‪ ،‬أو من قومه‬
‫يعني‪ :‬الذين يعيشون معه‪ .‬والقرآن لم يتعرض لهذه المسألة بأكثر من هذا‪ ،‬لكن المفسرين يقولون‪:‬‬
‫إنه ابن عمه‪ .‬فهو‪ :‬قارون بن يصهر بن قاهث بن لوي ابن يعقوب وموسى هو ابن عمران بن‬
‫قاهث بن لوي بن يعقوب‪.‬‬
‫وللمؤرخين كلم في العداوة بين موسى وقارون‪ ،‬قالوا‪ :‬حينما سأل موسى عليه السلم ربه أنْ‬
‫سؤَْلكَ يامُوسَىا }[طه‪ ]36 :‬وليست هذه‬
‫يشدّ عضده بأخيه هارون‪ ،‬أجابه سبحانه{ قَالَ َقدْ أُوتِيتَ ُ‬
‫أول مرة بل{ وََلقَدْ مَنَنّا عَلَ ْيكَ مَ ّرةً ُأخْرَىا }[طه‪ ]37 :‬وأرسل ال معه أخاه هارون؛ لنه أفصح‬
‫من موسى لسانا‪ ،‬وجعلهما شريكين في الرسالة‪ ،‬وخاطبهما معا{ اذْهَبَآ‪[} ...‬طه‪ ]43 :‬ليؤكد أنّ‬
‫الرسالة ليست من باطن موسى‪.‬‬

‫وإنْ رأيت الخطاب في القرآن لموسى بمفرده‪ ،‬فاعلم أن هارون مُلحَظ فيه‪ ،‬ومن ذلك لما دعا‬
‫لهُ زِي َن ًة وََأ ْموَالً فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا رَبّنَا‬
‫ن َومَ َ‬
‫عوْ َ‬
‫موسى على قوم فرعون‪ ،‬فقال‪ {:‬رَبّنَآ إِ ّنكَ آتَ ْيتَ فِرْ َ‬
‫شدُدْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَابَ‬
‫طمِسْ عَلَىا َأ ْموَاِلهِ ْم وَا ْ‬
‫لِ ُيضِلّواْ عَن سَبِيِلكَ رَبّنَا ا ْ‬
‫الَلِيمَ }[يونس‪.]88 :‬‬
‫عوَ ُت ُكمَا‪[} ...‬يونس‪ ]89 :‬وهذا دليل‬
‫فالذي دعا موسى‪ ،‬ومع ذلك لما أجابه ربه قال‪َ {:‬قدْ أُجِي َبتْ دّ ْ‬
‫على أن هارون لم يكن رسولً من باطن موسى‪ ،‬إنما من الحق سبحانه‪ ،‬وأيضا دليل على أن‬
‫المؤمّن على الدعاء كالداعي‪ ،‬فكان موسى يدعو وهارون يقول‪ :‬آمين‪.‬‬
‫ولما ذهب موسى لميقات ربه قال لخيه{ اخُْلفْنِي فِي َق ْومِي‪[} ...‬العراف‪ ]142 :‬وفي غيبة‬
‫موسى حدثتْ مسألة العجل‪ ،‬وغضب موسى من أخيه هارون‪ ،‬فلما هدأتْ بينهما المور حدث‬
‫تخصيص في رسالة كل منهما‪ ،‬فأعطى هارون (الحبورة) والحَبْر‪ :‬هو العالم الذي ُيعَد مرجعا‪،‬‬
‫كما أُعطِي (القربان) أي‪ :‬التقرب إلى ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صفْر اليدين‪ ،‬وامتاز عنه أولد عمومته‬
‫وعندها غضب قارون؛ لنه خرج من هذه المسألة َ‬
‫بالرسالة والمنزلة‪ ،‬رغم ما كان عنده من أموال كثيرة‪.‬‬
‫ثم إن موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬طلب من قارون زكاة ماله‪ ،‬دينار في كل ألف دينار‪ ،‬ودرهم في‬
‫كل ألف درهم‪ ،‬فرفض قارون وامتنع‪ ،‬بل وأّلبَ الناس ضد موسى ‪ -‬عليه السلم‪.‬‬
‫طسْتا بالذهب‪ ،‬على أن‬
‫ثم دبّر له فضيحة؛ ليصرف الناس عنه‪ ،‬حيث أغرى امرأة بغيا فأعطاها ِ‬
‫تدّعي على موسى وتتهمه‪ ،‬فجاء موسى عليه السلم ليخطب في الناس‪ ،‬ويُبيّن لهم الحكام فقال‪:‬‬
‫مَنْ يسرق نقطع يده‪ ،‬ومَنْ يزني نجلده إن كان غير محصن‪ ،‬ونرجمه إنْ كان محصنا‪ ،‬فقام له‬
‫ن كنتُ أنا‪.‬‬
‫قارون وقال‪ :‬فإن كنتَ أنت يا موسى؟ فقال‪ :‬وإ ْ‬
‫وهنا قامت المرأة البغيّ وقالت‪ :‬هو راودني عن نفسي‪ ،‬فقال لها‪ :‬والذي فلق البحر لَتقُولِنّ الصدق‬
‫فارتعدتْ المرأة‪ ،‬واعترفت بما دبّره قارون‪ ،‬فانفضح أمره وبدأت العداوة بينه وبين موسى عليه‬
‫السلم‪.‬‬
‫وبدأ قارون في ال َبغْي والطغيان حتى أخذه ال‪ ،‬وقال في حقه هذه اليات‪ } :‬إِنّ قَارُونَ كَانَ مِن‬
‫علَ ْيهِمْ‪[ { ...‬القصص‪.]76 :‬‬
‫َقوْمِ مُوسَىا فَ َبغَىا َ‬
‫والبغي‪ :‬تجاوز الحدّ في الظلم‪ ،‬خاصة وقد كان عنده من المال ما يُعينه على الظلم‪ ،‬وما يُسخّر به‬
‫الناس لخدمة أهدافه‪ ،‬وكأنه يمثل مركز قوة بين قومه‪ ،‬والبغي إما بالستيلء على حقوق الغير‪ ،‬أو‬
‫باحتقارهم وازدرائهم‪ ،‬وإما بالبطر‪.‬‬
‫ثم يذكر حيثية هذا البغي‪ } :‬وَآتَيْنَاهُ مِنَ ا ْلكُنُوزِ مَآ إِنّ َمفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِا ْل ُعصْبَةِ ُأوْلِي ا ْلقُ ّوةِ‪..‬‬
‫{ [القصص‪.]76 :‬‬
‫كلمة (مفاتح) كما في قوله تعالى‪ {:‬وَعِن َدهُ َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْيبِ‪[} ...‬النعام‪.]59 :‬‬
‫ولو قلنا‪ :‬مفاتح جمع‪ ،‬فما مفردها؟ ل ت ُقلْ مفتاح؛ لن مفتاح جمعها مفاتيح‪ ،‬أما مفاتح‪ ،‬فمفردها‬
‫(مَفْتح) وهي آلة الفتح كالمفتاح‪ ،‬وهي على وزن (مبرد) فالمعنى‪ :‬أن مفاتيح خزائنه لو حملتْها‬
‫حمْل‪ ،‬أو ناء بالحمل‪ ،‬إذا ثقُل عليه‪،‬‬
‫عصبة تنوء بها‪ ،‬وهذه كناية عن كثرة أمواله‪ ،‬نقول‪ :‬ناء به ال ِ‬
‫ونحن ل نميز الخفيف من الثقيل بالعين أو اللمس أو الشم إنما ل ُبدّ من حملة للحساس بوزنه‪.‬‬

‫وقلنا‪ :‬إن هذه الحاسة هي حاسة ال َعضَل‪ ،‬فالحملْ الثقيل يُجهد العضلة‪ ،‬فتشعر بالثقل‪ ،‬على خلف‬
‫على حملتَ شيئا خفيفا ل تكاد تشعر بوزنه لخفْته‪ ،‬ولو حاولتَ أنْ تجمع أوزانا في حيز ضيق‬
‫كحقيبة (هاندباج) فإن الثقل يفضحك؛ لنك تنوء به‪.‬‬
‫وال ُعصْبة‪ :‬هم القوم الذين يتعصّبون لمبدأ من المبادئ بدون هَوىً بينهم‪ ،‬ومنه قول إخوة يوسف‪{:‬‬
‫عصْبَةٌ‪[} ...‬يوسف‪.]8 :‬‬
‫حبّ إِلَىا أَبِينَا مِنّا وَ َنحْنُ ُ‬
‫سفُ وَأَخُوهُ أَ َ‬
‫لَيُو ُ‬
‫ل كانوا قوةً متعصبين بعضهم لبعض‬
‫إنها كلمة حق خرجت من أفواههم دون قصد منهم؛ لنهم فع ً‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في مواجهة يوسف وأخيه‪ ،‬وكانا صغيرين ل قو َة لهما ول شوكة‪ ،‬وكانوا جميعا من أم واحدة‪،‬‬
‫ويوسف وأخوه من أم أخرى‪ ،‬فطبيعي أن يميل قلب يعقوب عليه السلم مع الضعيف‪.‬‬
‫حدَ عَشَرَ َك ْوكَبا‪} ..‬‬
‫وقالوا‪ :‬العصبة من الثلثة إلى العشرة‪ ،‬وقد حددهم القرآن بقوله‪ {:‬إِنّي رَأَ ْيتُ أَ َ‬
‫شمْسَ وَالْ َقمَرَ‪[} ..‬يوسف‪ ]4 :‬أي‪ :‬أباه وأمه‪ .‬فمن هاتين‬
‫[يوسف‪ ]4 :‬وهم أخوته ومنهم بنيامين{ وَال ّ‬
‫اليتين نستطيع تحديد العصبة‪.‬‬
‫حلّ المام علي ‪ -‬رضي ال عنه ‪-‬‬
‫وبهذا التفكير الذي يقوم على ضم اليات بعضها إلى بعض َ‬
‫مسألة تُعدّ معضلة عند البعض‪ ،‬حيث جاءه مَنْ يقول له‪ :‬تزوجت امرأة وولدتْ بعد ستة أشهر‪،‬‬
‫ومعلوم أن المرأة تلد لتسعة أشهر‪ ،‬فل بُدّ أنها حملت قبل أنْ تتزوج‪.‬‬
‫فقال المام علي‪ :‬أقل الحمل ستة أشهر‪ ،‬فقال السائل‪ :‬ومن أين تأخذها يا أبا الحسن؟ قال‪ :‬نأخذها‬
‫شهْرا‪[} ....‬الحقاف‪ ]15 :‬وفي آية أخرى قال سبحانه‪{:‬‬
‫من قوله تعالى‪َ {:‬و ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ‬
‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‪[} ...‬البقرة‪.]233 :‬‬
‫ضعْنَ َأوْلَدَهُنّ َ‬
‫وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫يعني‪ :‬أربعة وعشرين شهرا‪ ،‬وبطرح الربعة والعشرين شهرا من الثلثين يكون الناتج ستة‬
‫أشهر‪ ،‬هي أقل مدة للحمل‪ .‬وهكذا تتكاتف آيات القرآن‪ ،‬ويكمل بعضها بعضا‪ ،‬ومن الخطأ أن‬
‫نأخذ كل آية على حدة‪ ،‬ونفصلها عن غيرها في ذات الموضوع‪.‬‬
‫حبّ ا ْلفَرِحِينَ‪[ { ...‬القصص‪ ]76 :‬والنهي‬
‫ثم يقول سبحانه‪ِ } :‬إذْ قَالَ لَهُ َق ْومُ ُه لَ َتفْرَحْ إِنّ اللّ َه لَ ُي ِ‬
‫هنا عن الفرح المحظور‪ ،‬فالفرح‪ :‬انبساط النفس لمر يسرّ النسان‪ ،‬وفَرْق بين أمر يسرّك؛ لنه‬
‫يُمتعك‪ ،‬وأمر يسرّك لنه ينفعك‪ ،‬فالمتعة غير المنفعة‪.‬‬
‫فمثلً‪ ،‬مريض السكر قد يأكل المواد السكرية لنها تُحدِث له متعة‪ ،‬مع أنها مضرة بالنسبة له‪،‬‬
‫إذن‪ :‬فالفرح ينبغي أن يكون بالشيء النافع‪ ،‬لن ال تعالى لم يجعل المتعة إل في النافع‪.‬‬
‫فحينما يقولون له } لَ َتفْرَحْ‪[ { ..‬القصص‪ ]76 :‬أي‪ :‬فرح المتعة‪ ،‬وإنما الفرح بالشيء النافع‪ ،‬ولو‬
‫لم تكن فيه متعة كالذي يتناول الدواء المر الذي يعود عليه بالشفاء‪ ،‬لذلك يقول تعالى‪:‬‬

‫حمَتِهِ فَ ِبذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ‪[} ...‬يونس‪.]58 :‬‬


‫{ ُقلْ ِب َفضْلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ‬
‫ويقول تعالى‪ {:‬وَ َي ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * بِ َنصْرِ اللّهِ‪[} ...‬الروم‪ ]5-4 :‬فسماه ال فرحا؛ لنه فرح‬
‫بشيء نافع؛ لن انتصار الدعوة يعني أن مبدءك الذي آمنتَ به‪ ،‬وحاربت من أجله سيسيطر‬
‫وسيعود عليك وعلى العالم بالنفع‪.‬‬
‫لفَ َرسُولِ اللّهِ‪} ...‬‬
‫ومن فرح المتعة المحظور ما حكاه القرآن‪ {:‬فَرِحَ ا ْلمُخَّلفُونَ ِبمَ ْقعَدِ ِهمْ خِ َ‬
‫[التوبة‪ ]81 :‬هذا هو فرح المتعة؛ لنهم كارهون لرسول ال‪ ،‬رافضون للخروج معه‪ ،‬ويسرّهم‬
‫قعودهم‪ ،‬وتركه يخرج للقتال وحده‪.‬‬
‫حبّ ا ْلفَرِحِينَ { [القصص‪ ]76 :‬أي‪ :‬فرح المتعة الذي ل ينظر‬
‫فقوله تعالى‪ } :‬لَ َتفْرَحْ إِنّ اللّ َه لَ يُ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إلى مَغبّة الشياء وعواقبها‪ ،‬فشارب الخمر يشربها لما لها من متعة مؤقتة‪ ،‬لكن يتبعها ضرر بالغ‪،‬‬
‫ونسمع الن مَنْ يقول عن الرقص مثلً؛ إنه فن جميل وفن رَاقٍ؛ لنه يجد فيه متعة ما‪ ،‬لكن شرط‬
‫الفن الجميل الراقي أن يظل جميلً‪ ،‬لكن أنْ ينقلب بعد ذلك إلى قُبْح ويُورِث قبحا‪ ،‬كما يحدث في‬
‫الرقص‪ ،‬فل ُيعَدّ جميلً‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَابْتَغِ فِيمَآ آتَاكَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3254 /‬‬

‫ك وَلَا تَبْغِ‬
‫حسَنَ اللّهُ إِلَ ْي َ‬
‫وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللّهُ الدّارَ الْآَخِ َرةَ وَلَا تَ ْنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا وََأحْسِنْ َكمَا أَ ْ‬
‫حبّ ا ْل ُمفْسِدِينَ (‪)77‬‬
‫ا ْلفَسَادَ فِي الْأَ ْرضِ إِنّ اللّهَ لَا ُي ِ‬

‫معنى { وَابْتَغِ‪[ } ...‬القصص‪ ]77 :‬أي‪ :‬اطلب { فِيمَآ آتَاكَ اللّهُ‪[ } ...‬القصص‪ ]77 :‬بما أنعم عليك‬
‫من الرزق { الدّارَ الخِ َرةَ‪[ } ...‬القصص‪ ]77 :‬لنك إن ابتغيت برزق ال لك الحياة الدنيا‪ ،‬فسوف‬
‫َيفْنى معك في الدنيا‪ ،‬لكن إنْ نقلتَهُ للخرة لبقيتَ عليه نعيما دائما ل يزول‪.‬‬
‫وحين تحب نعيم الدنيا وتحتضنه وتتشبث به‪ ،‬فاعلم أن دنياك لن تمهلك‪ ،‬فإما أنْ تفوت هذا النعيمَ‬
‫حوْزتك‪ ،‬فانقله إلى‬
‫بالموت‪ ،‬أو يفوتك هو حين تفتقر‪ .‬إذن‪ :‬إن كنت عاشقا ومُحبا للمال ولبقائه في َ‬
‫الدار الباقية‪ ،‬ليظل في حضنك دائما نعيما باقيا ل يفارقك‪ ،‬فسارع إذن واجعله يسبقك إلى الخرة‪.‬‬
‫" وفي الحديث الشريف لما سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم أم المؤمنين عائشة عن الشاة التي‬
‫ت إل‬
‫ت إل كتفها‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬بل بقي ْ‬
‫أُهد َيتْ له قالت بعد أن تصدقت بها‪ :‬ذهب ْ‬
‫كتفها "‪.‬‬
‫ويقول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ليس لك من مالك إل ما أكلتَ فافنيتَ‪ ،‬أو لبستَ فأبليتَ‪ ،‬أو تصد ْقتَ‬
‫فأبقيْتَ "‪.‬‬
‫لذلك كان أولو العزم حين يدخل على أحدهم سائل يسأله‪ ،‬يقول له‪ :‬مرحبا بمَنْ جاء يحمل زادي‬
‫إلى الخرة بغير أجرة‪.‬‬
‫والمام علي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬جاءه رجل يسأله‪ :‬أأنا من أهل الدنيا‪ ،‬أم من أهل الخرة؟ فقال‪:‬‬
‫جواب هذا السؤال ليس عندي‪ ،‬بل عندك أنت‪ ،‬وأنت الحكم في هذه المسألة‪ .‬فإنْ دخل عليك مَنْ‬
‫ن كنتَ تبشّ لمن يعطي‪ ،‬فأنت من‬
‫تعودت أنه يعطيك‪ ،‬ودخل عليك مَنْ تعودت أنْ يأخذ منك‪ ،‬فإ ْ‬
‫أهل الدنيا‪ ،‬وإنْ كنتَ تبشّ لمَنْ يسألك ويأخذ منك‪ ،‬فأنت من أهل الخرة‪ ،‬لن النسان يحب من‬
‫ن كنتَ محبا للخرة فيسعدك مَنْ‬
‫ن كنتَ محبا للدنيا فيسعدك مَنْ يعطيك‪ ،‬وإ ْ‬
‫يعمر له ما يحب‪ ،‬فإ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يأخذ منك‪.‬‬
‫وإذا كان ربنا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يوصينا بأن نبتغي الخرة‪ ،‬فهذا ل يعني أن نترك الدنيا‪ { :‬وَلَ تَنسَ‬
‫َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا‪[ } ...‬القصص‪ ]77 :‬لكن هذه الية يأخذها البعض دليلً على النغماس في الدنيا‬
‫ومتعها‪.‬‬
‫وحين نتأمل { َولَ تَنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا‪[ } ...‬القصص‪ ]77 :‬نفهم أن العاقل كان يجب عليه أنْ‬
‫ينظر إلى الدنيا على أنها ل تستحق الهتمام‪ ،‬لكن ربه لفته إليها ليأخذ بشيء منها تقتضيه حركة‬
‫حياته‪ .‬فالمعنى‪ :‬كان ينبغي علىّ أنْ أنساها فذكّرني ال بها‪.‬‬
‫ولهل المعرفة في هذه المسألة مَلْمح دقيق‪ :‬يقولون‪ :‬نصيبك من الشيء ما ينالك منه‪ ،‬ل عن‬
‫مفارقة إنما عن ملزمة ودوام‪ ،‬وعلى هذا فنصيبك من الدنيا هو الحسنة التي تبقى لك‪ ،‬وتظل‬
‫صبّ في نصيبك من الخرة‪،‬‬
‫معك‪ ،‬وتصحبك بعد الدنيا إلى الخرة‪ ،‬فكأن نصيبك من الدنيا ي ُ‬
‫فتخدم دنياك آخرتك‪.‬‬

‫أو‪ :‬يكون المعنى موجها للبخيل الممسك على نفسه‪ ،‬فيُذكّره ربه } َولَ تَنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا‪{ ...‬‬
‫[القصص‪ ]77 :‬يعني‪ :‬خُ ْذ منها القَدْر الذي يعينك على أمر الخرة‪ ،‬لذلك قالوا عن الدنيا‪ :‬هي أهم‬
‫من أن تُنْسى ‪ -‬لنها الوسيلة إلى الخرة ‪ -‬وأتفه من أن تكون غاية؛ لن بعدها غاية أخرى‬
‫وأبقى وأدوم‪.‬‬
‫حسَنَ اللّهُ إِلَ ْيكَ‪[ { ..‬القصص‪ ]77 :‬الحق سبحانه يريد أنْ يتخلّق‬
‫حسِن َكمَآ أَ ْ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَأَ ْ‬
‫خَلْقه بخُلُقه‪ ،‬كما جاء في الثر " تخلقوا بأخلق ال "‪.‬‬
‫فكما أحسن ال إليك أحسِنْ إلى الناس‪ ،‬وكما تحب أنْ يغفر ال لك‪ ،‬اغفر لغيرك إساءته } َألَ‬
‫تُحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ َلكُمْ‪[ { ...‬النور‪.]22 :‬‬
‫وما دام ربك يعطيك‪ ،‬فعليك أنْ تعطي دون مخالفة الفقر؛ لن ال تعالى هو الذي استدعاك‬
‫للوجود؛ لذلك تكفّل بنفقتك وتربيتك ورعايتك‪ .‬لذلك حين ترى العاجز عن الكسب ‪ -‬وقد جعله‬
‫ربه على هذه الحال لحكمة ‪ -‬حين يمد يده إليك‪ ،‬فاعلم أنه يمدّها ل‪ ،‬وأنك مناول عن ال تعالى‪.‬‬
‫ونلحظ هذا المعنى في قوله تعالى‪ {:‬مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا‪[} ..‬الحديد‪.]11 :‬‬
‫فسمّى الصدقة قرضا ل‪ ،‬لماذا؟ لن هذا العبد عبدي‪ ،‬مسئول مني أن أرزقه‪ ،‬وقد ابتليتُه لحكمة‬
‫عندي ‪ -‬حتى ل يظنّ أحد أن المسألة ذاتية فيه‪ ،‬فيعتبر به غيره ‪ -‬فمَنْ إذن يقرضني لسُدّ حاجة‬
‫أخيكم؟‬
‫وقال تعالى‪ُ {:‬يقْ ِرضُ اللّهَ‪[} ...‬الحديد‪ ]11 :‬مع أنه سبحانه الواهب؛ لنه أراد أن يحترم ملكيتك‪،‬‬
‫سعْيك‪ ..‬كما لو أراد والد أنْ يُجري لحد أبنائه عملية جراحية مثلً وهو‬
‫وأن يحترم انتفاعك‪ ،‬و َ‬
‫فقير وإخوته أغنياء‪ ،‬فيقول لولده‪ :‬اقرضوني من أموالكم لجري الجراحة لخيكم‪ ،‬وسوف أردّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليكم هذا القرض‪.‬‬
‫" وفي الحديث الشريف أن سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم دخل على ابنته فاطمة ‪-‬‬
‫رضوان ال عليها ‪ -‬فوجدها تجلو درهما فسألها‪ :‬ماذا تصنعين به "؟ قالت‪ :‬أجلوه‪ ،‬قال‪ِ " :‬لمَ "؟‬
‫قالت‪ :‬لني نويت أن أتصدق به‪ ،‬وأعلم أنه يقع في يد ال قبل أن يقع في يد الفقير "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمال مال ال‪ ،‬وأنت مناول عن ال تعالى‪.‬‬
‫وقد وقف بعض المستشرقين عند هذه المسألة؛ لنهم يقرأون اليات والحاديث مجرد قراءة‬
‫سطحية غير واعية‪ ،‬فيتوهمون أنها متضاربة‪ .‬فقالوا هنا‪ :‬ال تعالى يقول‪ {:‬مّن ذَا الّذِي ُيقْرِضُ‬
‫عفَهُ لَهُ‪[} ...‬الحديد‪.]11 :‬‬
‫اللّهَ قَرْضا حَسَنا فَ ُيضَا ِ‬
‫حسَنَةِ فََلهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا‪[} ...‬النعام‪ ]160 :‬وفي الحديث‬
‫وقال في موضع آخر‪ {:‬مَن جَآءَ بِالْ َ‬
‫الشريف‪ " :‬مكتوب على باب الجنة‪ :‬الصدقة بعشر أمثالها‪ ،‬والقرض بثمانية عشر "‪.‬‬
‫فظاهر الحديث يختلف مع الية الكريمة ‪ -‬هذا في نظرهم ‪ -‬لنهم ل يملكون المَلَكة العربية في‬
‫استقبال البيان القرآني‪ .‬وبتأمل اليات والحاديث نجد اتفاقهما على أن الحسنة أو الصدقة بعشر‬
‫أمثالها‪ ،‬فالخلف ‪ -‬ظاهرا ‪ -‬في قوله تعالى‪:‬‬

‫عفَهُ لَهُ‪[} ...‬الحديد‪ ]11 :‬وقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬والقرض بثمانية عشر "‪.‬‬
‫{ فَ ُيضَا ِ‬
‫وليس بينهما اختلف‪ ،‬فساعة تصدّق النسان بدرهم مثلً أعطاه ال عشرة منها بدرهم الذي‬
‫تصدّق به‪ ،‬فكأنه أعطاه تسعة‪ ،‬فحين ُتضَاعف التسعة‪ ،‬تصبح ثمانية عشرة‪.‬‬
‫حبّ ا ْل ُمفْسِدِينَ { [القصص‪ ]77 :‬والفساد‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬ولَ تَبْغِ ا ْلفَسَادَ فِي الَ ْرضِ إِنّ اللّ َه لَ يُ ِ‬
‫يأتي من الخروج عن منهج ال‪ ،‬فإنْ غيّرت فيه فقد أفسدتَ‪ ،‬فالفساد كما يكون في المادة يكون في‬
‫حهَا‪[} ...‬العراف‪:‬‬
‫سدُواْ فِي الَ ْرضِ َبعْدَ ِإصْلَ ِ‬
‫المنهج‪ ،‬وفي المعنويات‪ ،‬يقول سبحانه‪َ {:‬ولَ ُتفْ ِ‬
‫‪.]56‬‬
‫فالحق سبحانه خلق كل شيء على هيئة الصلح لسعاد خلقه‪ ،‬فل تعمد إليه أنت فتفسده‪ ،‬ومن هذا‬
‫الصلح المنهج‪ ،‬بل المنهج وهو قوام الحياة المعنوية ‪َ -‬أوْلَى من قِوام الحياة المادية‪.‬‬
‫حسْنا فل أقلّ من أنْ تدعه كما هو‬
‫إذن‪ :‬فلتكُنْ مؤدبا مع الكون من حولك‪ ،‬فإذا لم تستطع أنْ تزيده ُ‬
‫دون أنْ تفسده‪ ،‬وضربنا لذلك مثلً ببئر الماء قد تعمد إليه فتطمسه‪ ،‬وقد تبني حوله سورا يحميه‪.‬‬
‫هذه مسائل خمْس توجّه بها قوم قارون لنصحه بها‪ ،‬منها المر‪ ،‬ومنها النهي‪ ،‬ول ُبدّ أنهم وجدوا‬
‫حبّ‬
‫منه ما يناقضها‪ ،‬ل ُبدّ أنهم وجدوه بَطِرا أَشِرا مغرورا بماله‪ ،‬فقالوا له‪ {:‬لَ َتفْرَحْ إِنّ اللّ َه لَ يُ ِ‬
‫ا ْلفَرِحِينَ }[القصص‪.]76 :‬‬
‫ووجدوه قد نسي نصيبه من الدنيا فَلم يتزود منها للخرة‪ ،‬فقالوا له } َولَ تَنسَ َنصِي َبكَ مِنَ الدّنْيَا‪...‬‬
‫حسَنَ‬
‫حسِن َكمَآ أَ ْ‬
‫{ [القصص‪ ،]77 :‬ووجدوه يضنّ على نفسه فل ينفق في الخير‪ ،‬فقالوا له‪ } :‬وَأَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ع ّد نعمتك إلى الغير‪ ،‬كما تعدّت نعمة ال إليك‪ ..‬وهكذا ما‬
‫اللّهُ إِلَ ْيكَ‪[ { ...‬القصص‪ ]77 :‬يعني‪َ :‬‬
‫أمروه أمرا‪ ،‬ول نه ْوهُ نهيا إل وهو مخالف له‪ ،‬وإل َلمَا أمروه وَلمَا نه ْوهُ‪.‬‬
‫ثم يقول قارون ردا على هذه المسائل الخمس التي توجّه بها قومه إليه‪ } :‬قَالَ إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا‬
‫عِلْمٍ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3255 /‬‬

‫قَالَ إِ ّنمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِ ْندِي َأوَلَمْ َيعْلَمْ أَنّ اللّهَ قَدْ أَ ْهَلكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ ا ْلقُرُونِ مَنْ ُهوَ أَشَدّ مِنْهُ ُق ّوةً‬
‫ج ْمعًا وَلَا يُسَْألُ عَنْ ذُنُو ِبهِمُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ (‪)78‬‬
‫وََأكْثَرُ َ‬

‫لكن ما وجه هذا الردّ { إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ عِندِي‪[ } ...‬القصص‪ ]78 :‬على المطلوبات الخمسة‬
‫التي طلبوها منه؟ كأنه يقول لهم‪ :‬ل دخلَ لكم هذه المور؛ لن الذي أعطاني المال علم أنني أ ْهلٌ‬
‫ستُ في حاجة لنصيحتكم‪.‬‬
‫له‪ ،‬وأنني استحقه؛ لذلك ائتمنني عليه‪ ،‬ول ْ‬
‫أو يكون المعنى { إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي } [القصص‪ ]78 :‬يعني‪ :‬بمجهودي ومزاولة‬
‫العمال التي ُتغِل علىّ هذا المال‪ ،‬وكان قارون مشهورا بحُسْن الصوت في قراءة التوراة‪ ،‬وكان‬
‫حافظا لها‪ .‬وكان حسن الصورة‪ ،‬وعلى درجة عالية بمعرفة أحكام التوراة‪.‬‬
‫فعجيب أن يكون عنده كل هذا العلم ويقول { إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِ ْلمٍ عِندِي‪[ } ...‬القصص‪ ]78 :‬ول‬
‫يعلم أن ال قد أهلك من قبله قرونا كانوا أشدّ منه قوة‪ ،‬وأكثر منه مالً وعددا‪.‬‬
‫جمْعا‪[ } ...‬القصص‪:‬‬
‫{ َأوََلمْ َيعْلَمْ أَنّ اللّهَ َقدْ أَهَْلكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ ا ْلقُرُونِ مَنْ ُهوَ َأشَدّ مِنْهُ ُق ّوةً وََأكْثَرُ َ‬
‫‪ ]78‬فكيف فاتتْه هذه المسألة مع عِلْمه بالتوراة؟‬
‫ومعنى { َأوََلمْ َيعْلَمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]78 :‬أي‪ :‬من ضمن ما علم { مِنَ ا ْلقُرُونِ‪[ } ...‬القصص‪]78 :‬‬
‫جمْعا‪[ } ..‬القصص‪]78 :‬‬
‫أناس كانوا أكثر منه مالً‪ ،‬وقد أخذهم ال وهم أمم ل أفراد‪ ،‬وكلمة { َ‬
‫عصْبة‪.‬‬
‫يجوز أن تكون مصدرا يعني‪ :‬جمع المال‪ ،‬أو‪ :‬اسم للجماعة أي‪ :‬له ُ‬
‫وبعد ذلك قال سبحانه‪َ { :‬ولَ ُيسَْألُ عَن ذُنُو ِبهِمُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ } [القصص‪ ]78 :‬وعلمة أنهم ل‬
‫يُسألون أن ال تعالى يأخذهم دون إنذار يأخذهم على غِرّة‪ ،‬فلن يقول لقارون‪ :‬أنت فعلت كذا وكذا‪،‬‬
‫وسأفعل بك كذا وكذا‪ ،‬وأخسف بك وبدارك الرض‪ ،‬فأفعالك معلومة لك‪ ،‬والحيثيات السابقة كفيلة‬
‫بأنْ يُفاجئك العذاب‪.‬‬
‫وهكذا يتوقع أنْ يأتيه الخَسْف والعذاب في أيّ وقت‪ ،‬إذن‪ :‬لن نسألهم‪ ،‬ولن نُجري معهم تحقيقا‬
‫كتحقيق النيابة أو (البوليس)‪ ،‬حيث ل فائدة من سؤالهم‪ ،‬وليس لهم عندنا إل العقاب‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبعد هذا كله وبعد أنْ نصحه قومه ما يزال قارون متغطرسا َبطِرا لم يَرْعَو ولم يرتدع‪ ،‬بل ظل‬
‫فَرِِحا باغيا مفسدا‪ ،‬ويحكي عنه القرآن‪ { :‬فَخَرَجَ عَلَىا َق ْومِهِ‪.} ...‬‬

‫(‪)3256 /‬‬

‫فَخَرَجَ عَلَى َق ْومِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا يَا لَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنّهُ َلذُو‬
‫حظّ عَظِيمٍ (‪)79‬‬
‫َ‬

‫قلنا‪ :‬إن قارون كان بطبيعة الحال غنيا وجيها‪ ،‬حَسَن الصوت والصورة‪ ،‬كثير العدد‪ ،‬كثير المال‪،‬‬
‫فكيف لو أضفت إلى هذا كله أن يخرج في زينته وفي موكب عظيم‪ ،‬وفي أبهة { َفخَرَجَ عَلَىا‬
‫َق ْومِهِ فِي زِينَ ِتهِ‪[ } ...‬القصص‪.]79 :‬‬
‫وللعلماء كلم كثير في هذه الزينة التي خرج فيها قارون‪ ،‬فقد كان فيها ألف جارية من صفاتهن‬
‫كذا وكذا‪ ،‬وألف فرس‪ ..‬إلخ‪ ،‬حتى أن الناس انبهروا به وبزينته‪ ،‬بل وانقسموا بسببه قسمين‪:‬‬
‫جماعة فُتِنوا به‪ ،‬وأخذهم بريق النعمة والزينة والزهو وترف الحياة‪ ،‬ومدّوا أعينهم إلى ما هو فيه‬
‫من متعة الدنيا‪.‬‬
‫وفي هؤلء يقول تعالى‪ { :‬قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا يالَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ قَارُونُ إِنّهُ َلذُو‬
‫حظّ عَظِيمٍ } [القصص‪ ]79 :‬وقد خاطب الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬نبيه محمدا صلى ال عليه‬
‫َ‬
‫وسلم بقوله‪َ {:‬ولَ َتمُدّنّ عَيْنَ ْيكَ إِلَىا مَا مَ ّتعْنَا ِبهِ أَ ْزوَاجا مّ ْنهُمْ زَهْ َرةَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا‪[} ...‬طه‪.]131 :‬‬
‫والمعنى‪ :‬ل تنظر إلى ما في يد غيرك‪ ،‬واحترم قدر ال في خَلْق ال‪ ،‬واعلم أنك إنْ فرحت‬
‫بالنعمة عند غيرك أتاك خيرها يطرق بابك وخدمتْك كأنها عندك‪ ،‬وإنْ كرهتها وحسدته عليها‬
‫تأبّت عليك‪ ،‬وحُرمْت نفعها؛ لن النعمة أعشق لصاحبها من عشقه لها‪ ،‬فكيف تأتيه وهو كاره لها‬
‫عند غيره؟‬
‫لذلك من صفات المؤمن أن يحب الخير عند أخيه كما يحبه لنفسه‪ ،‬وحين ل تحب النعمة عند‬
‫غيرك‪ ،‬فما أذنبه هو؟ فكأنك تعترض على قدر ال فيه‪ ،‬وما ُد ْمتَ قد تأبيت واعترضت على قدر‬
‫المنعم‪ ،‬فل بُدّ أن يحرمك منها‪.‬‬
‫ضكُمْ عَلَىا َب ْعضٍ‪[} ...‬النساء‪:‬‬
‫لذلك يقول سبحانه في موضع آخر‪َ {:‬ولَ تَ َتمَ ّنوْاْ مَا َفضّلَ اللّهُ بِهِ َب ْع َ‬
‫‪.]32‬‬
‫لن لكل منكم مهمة ودورا في الحياة‪ ،‬ولكل منكم مواهبه وميزاته التي يمتاز بها عن الخرين‪،‬‬
‫ول ُبدّ أن يكون فيك خصال أحسن ممن تحسده‪ ،‬لكنك غافل عنها غير متنبه لها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسبق أن قلنا‪ :‬إن الحق سبحانه قد وزّع أسباب َفضْله على خَلْقه؛ لننا جميعا أمام ال سواء‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه لم يتخذ صاحبة ول ولدا؛ لذلك قلنا‪ :‬إن مجموع مواهب كل فرد تساوي مجموع مواهب‬
‫الخر‪ ،‬فقد تزيد أنت عني في خصلة‪ ،‬وأزيد عنك في أخرى‪ ،‬فهذا يمتاز بالذكاء‪ ،‬وهذا بالصحة‪،‬‬
‫وهذا بالعلم‪ ،‬وهذا بالحِلْم‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫لن حركة الحياة تتطلب كل هذه المكانيات‪ ،‬فبها تتكامل الحياة‪ ،‬وليس من الممكن أن تتوفر كل‬
‫هذه المزايا لشخص واحد يقوم بكل العمال‪ ،‬بل إنْ تمي ْزتَ في عملك‪ ،‬وأتقنتَ مهمتك فلك الشكر‪.‬‬
‫ومن العجيب ألّ تنتفع أنت بنبوغك‪ ،‬في حين ينتفع به غيرك‪ ،‬ومن ذلك قولهم مثلً (باب النجار‬
‫مخلع)‪ ،‬فلماذا ل يصنع بابا لنفسه‪ ،‬وهو نجار؟ قالوا‪ :‬لنه الباب الوحيد الذي ل يتقاضى عليه‬
‫أجرا‪.‬‬

‫إذن‪ :‬حينما تجد غيرك مُتفوّقا في شيء فل تحقد عليه؛ لن تفوقه سيعود عليك‪ ،‬وضربنا لذلك‬
‫مثلً بشيء بسيط؛ حين تمسك المقصّ بيدك اليمنى لتقصّ أظافر اليد اليسرى تجد أن اليد اليمنى ‪-‬‬
‫لنها مرنة سهلة الحركة ‪ -‬تقصّ أظافر اليسرى بدقة‪ ،‬أما حين تقصّ اليسرى أظافر اليمنى فإنها‬
‫ل تعطيك نفس المهارة التي كانت لليمنى‪ .‬إذن‪ :‬فحُسْن اليمنى تعدّى للُيسْرى ونفعها‪.‬‬
‫وهكذا إذا رأيتَ أخاك قد تفوّق في شيء أو أحسن في صُنْعه فاحمد ال؛ لن حُسْنه وتفوقه سيعود‬
‫عليك‪ ،‬وقد ل يعود عليه هو‪ ،‬فل تحسده‪ ،‬ول تحقد عليه‪ ،‬بل ا ْدعُ له بالمزيد؛ لنك ستنتفع به في‬
‫يوم من اليام‪.‬‬
‫لكن ماذا قال أهل الدنيا الذين ُبهِروا بزينة قارون؟ قالوا‪ } :‬يالَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ قَارُونُ إِنّهُ لَذُو‬
‫حظّ عَظِيمٍ‪[ { ..‬القصص‪ ]79 :‬يعني‪ :‬كما نقول نحن (حظه بمب)؛ لن هؤلء ل يعنيهم إل أمر‬
‫َ‬
‫الدنيا ومُتعها وزُخْرفها‪ ،‬أما أهل العلم وأهل المعرفة فلهم ر ْأيٌ مخالف‪ ،‬ونظرة أبعد للمور؛ لذلك‬
‫رَدّوا عليهم‪َ } :‬وقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3257 /‬‬

‫ع ِملَ صَاِلحًا وَلَا يَُلقّاهَا إِلّا الصّابِرُونَ (‪)80‬‬


‫ن وَ َ‬
‫َوقَالَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْ َم وَيَْلكُمْ َثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ ِلمَنْ َآمَ َ‬

‫فما كان الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬ليترك أهل الدنيا وأهل الباطل يُشكّكون الناس في قَدَر ال‪،‬‬
‫ويتمردون على قسمته حتى الكفر والزندقة‪ ،‬وال سبحانه ل ُيخِلي الناس من أهل الحق الذين‬
‫علْقما لم يخلْ من أَهْل الحقيقة جيلوما دام أن‬
‫ج َعلَ الحقِيقةَ َ‬
‫يُعدّلون ميزان حركة الحياة‪:‬إنّ الذي َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال تعالى قال في الجماعة الولى‪ {:‬قَالَ الّذِينَ يُرِيدُونَ ا ْلحَيَاةَ الدّنْيَا‪[} ...‬القصص‪ ]79 :‬فهم ل‬
‫يروْنَ غيرها‪ ،‬ول يطمحون لبعد منها‪ ،‬وقال في الخرى‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِ ْلمَ‪} ...‬‬
‫[القصص‪ ]80 :‬فهذا يعني‪ :‬أن أهل الدنيا (سطحيون)‪ ،‬لم يكن عندهم علم ينفعهم‪ ،‬لذلك وقعوا في‬
‫هذا المأزق الذي نجا منه أهل العلم‪ ،‬حينما أجروا مقارنة بين الطمع في الدنيا والطمع في الخرة‪.‬‬
‫كما قلنا سابقا‪ :‬إن عمر الدنيا بالنسبة لك‪ :‬ل ت ُقلْ من آدم إلى قيام الساعة؛ فعمرك أنت فيها عمر‬
‫ن يفنى‪ .‬إذن‪ :‬العاقل مَنْ يختار الباقية على الفانية‪ ،‬لذلك أهل الدنيا قالوا{ يالَ ْيتَ لَنَا‬
‫موقوت‪ ،‬ل ُبدّ أ ْ‬
‫مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ قَارُونُ‪[} ...‬القصص‪.]79 :‬‬
‫أما أهل العلم والمعرفة فردّوا عليهم‪ { :‬وَيَْلكُمْ‪[ } ...‬القصص‪ ]80 :‬أي‪ :‬الويل لكم بسبب هذا‬
‫التفكير السطحي‪ ،‬وتمنّي ما عند قارون الويل والهلك لكم بما حسدتُم الناس‪ ،‬وبما حقدتُم عليهم‪,‬‬
‫وباعتراضكم على أقدار ال في خَلْقه‪.‬‬
‫س لَ َيعَْلمُونَ‬
‫فأنتم تستحقون الهلك بهذا؛ لذلك قال ال عنهم في موضع آخر‪ {:‬وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫* َيعَْلمُونَ ظَاهِرا مّنَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا‪[} ...‬الروم‪.]7-6 :‬‬
‫يعني‪ :‬ل يعرفون حقيقة الشياء‪ ،‬ولو عرفوا ما قالوا هذا الكلم‪ ،‬وما تم ّنوْا هذه المنية‪.‬‬
‫ثم يلفت أهل العلم والمعرفة أنظار أهل الدنيا‪ ،‬ويُوجّهونهم الوجهة الصحيحة‪َ { :‬ثوَابُ اللّهِ خَيْرٌ‬
‫ع ِملَ صَالِحا‪[ } ...‬القصص‪ ]80 :‬أي‪ :‬ثواب ال خير من الدنيا‪ ،‬ومما عند قارون‪،‬‬
‫ن وَ َ‬
‫ّلمَنْ آمَ َ‬
‫وكيف تتمنون ما عنده‪ ،‬وقد شجبتم تصرفاته‪ ،‬ونهيتموه عنها‪ ،‬ولم ترضوَهْا؟‬
‫ومعنى‪َ { :‬ولَ يَُلقّاهَآ ِإلّ الصّابِرُونَ } [القصص‪ ]80 :‬أي‪ :‬يُلقّي اليمان والعمل الصالح والهداية‪،‬‬
‫ليُقبِلَ على عمل الخرة‪ ،‬ويُفضلها عن الدنيا‪ ،‬أي‪ :‬يُلقّى قضية العلم بالحقائق‪ ،‬ول تخدعه ظواهر‬
‫الشياء‪ .‬هذه ل يجدها ول يُوفّق إليها إل الصابرون‪ ،‬كما قال سبحانه في آية أخرى‪َ {:‬ومَا يَُلقّاهَا‬
‫حظّ عَظِيمٍ }[فصلت‪.]35 :‬‬
‫ن صَبَرُو ْا َومَا يَُلقّاهَآ ِإلّ ذُو َ‬
‫ِإلّ الّذِي َ‬
‫والصبر‪ :‬احتمال ما يؤذي في الظاهر‪ ،‬لكنه يُنعَم في الباطن‪ .‬وله مراحل‪ ،‬فال تعالى كلّفنا‬
‫بطاعات فيها أوامر‪ ،‬وكلّفنا أنْ نبتعد عن معاصٍ‪ ،‬وفيها نواهٍ‪ ،‬وأنزل علينا أقدارا قد ل تستطيبها‬
‫نفوسنا‪ ،‬فهذه مراحل ثلث‪.‬‬
‫شعِينَ‬
‫فالطاعات ثقيلة وشاقة على النفس؛ لذلك يقول تعالى عن الصلة‪ {:‬وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى الْخَا ِ‬
‫}[البقرة‪ ]45 :‬فهناك دَواع شتّى تصرفك عن الصلة‪ ،‬وتحاول أنْ تُقعدك عنها‪ ،‬فتجد عند قيامك‬
‫للصلة كسلً وتثاقلً‪.‬‬
‫واقرأ قوله تعالى عن الصلة مخاطبا نبيه صلى ال عليه وسلم‪:‬‬

‫علَ ْيهَا‪[} ...‬طه‪ ]132 :‬وهذا دليل على أنها صعبة وشاقّة على‬
‫لةِ وَاصْطَبِرْ َ‬
‫{ وَ ْأمُرْ أَهَْلكَ بِالصّ َ‬
‫ت عليها‪ ،‬وألفتها النفس صارتْ أحبّ الشياء إليك‪ ،‬وأخفّها على نفسك‪ ،‬بل‬
‫النفس‪ ،‬لكن إذا تعود ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقرّة عَيْن لك‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يُعلّمنا هذا الدرس في قوله لمؤذنه بلل‪ " :‬أرحنا بها يا بلل " ل‬
‫أرحنا منها تلك المقالة التي يقولها لسان حالنا الن‪.‬‬
‫ويقول أيضا صلى ال عليه وسلم‪ " :‬وجُعلَت قرة عيني في الصلة " وخصّ الصلة بالذات من‬
‫بين سائر العبادات؛ لنها تتكرر في اليوم خمس مرات‪ ،‬فهي ملزمة للمؤمن يعايشها على مدى‬
‫يومه وليلته بخلف الركان الخرى‪ ،‬فمنها ما هو مرة واحدة في العام‪ ،‬أو مرة واحدة في العمر‬
‫كله‪.‬‬
‫هذا هو النوع الول من الصبر‪ ،‬وهو الصبر على مشقة الطاعة‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الصبر عن شهوة المعصية‪ ،‬ول تنْسَ أنه أول صبر تصادفه في حياتك أنْ تصبر على‬
‫شهَواتِ النفْسِ في َزمَن‬
‫ض المال مُنفقا عَلَى َ‬
‫نفسك؛ لذلك يقول الشاعر‪:‬إذَا ُر ْمتَ أنْ تُسْتقِر َ‬
‫ن فعلتْ كنتَ الغنيّ وإنْ‬
‫سكَ النفاقَ من كَنْز صَبْرها عل ْيكَ وإنْظَارا إلى سَاعةِ ال ُيسْرفإ ْ‬
‫العُسْ ِرفَسَل نف َ‬
‫أبتْ فكل مَنُوع بعدها واسِع العُذْرفبدل أن تقترض لقضاء شهوة نفس عاجلة‪ ،‬فأوْلَى بك أن تصبر‬
‫إلى أن تجد سعة وتيسيرا‪ ،‬فصبرك على نفسك أهون من صبر الناس عليك‪ ،‬وإنْ تس ْعكَ نفسك‪،‬‬
‫ن منعك‪.‬‬
‫فل عُذْر لحد بعد ذلك إ ْ‬
‫الثالث‪ :‬صَبر على القدار المؤلمة التي ل تفطن أنت إلى الحكمة منها‪ ،‬فالقدار ما دامتْ من‬
‫حكيم‪ ،‬ومُجريها عليك ربّ‪ ،‬إذن ل بُدّ أن لها حكمة فيك‪ ،‬فخُذ القضية القدرية مُجريها عليك‪ ،‬فهو‬
‫سبحانه ربك‪ ،‬وليس عدوك‪ ،‬وأنت عبده وصنعته‪ ،‬ألم تقرأ قول الرسول في الحديث الشريف‪" :‬‬
‫الخلق كلهم عيال ال‪ ،‬فأحبّهم إليه أرأفهم بعياله "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬حين تجري عليك القدار المؤلمة‪ ،‬فيكفيك للصبر عليها أنْ تعلم أنها حكمة ال‪ ،‬ويكفيك أن‬
‫مُجريها عليك ربك‪ ،‬فإنْ جاءت القدار المؤلمة بسبب تقصيرك‪ ،‬فل تلومنّ إل نفسك‪ ،‬كالطالب‬
‫الذي يُهمل دروسه ويتكاسل‪ ،‬فيفشل في المتحان‪ ،‬فالفشل نتيجة إهماله وتكاسله‪.‬‬
‫أما الذي يذاكر ويجدّ ويُبكّر إلى المتحان ُمسْتبشرا فتصدمه سيارة مثلً في الطريق‪ ،‬تمنعه من‬
‫أداء امتحانه‪ ،‬فهذا هو القدر المؤلم الذي له حكمة‪ ،‬وربما داخله شيء من الغرور‪ ،‬وعوّل على‬
‫مذاكرته‪ ،‬ونسي توفيق ال له‪ ،‬فأراد ال أنْ يُلقّنه هذا الدرس ليعلمه أن المر في النهاية بيد ال‬
‫عوْنٌ مِنَ ال‬
‫وبمعونته‪ ،‬وأنه الخاسر إنْ لم تصادفه هذه المعونة‪ ،‬على حَدّ قول الشاعر‪:‬إذَا لم يكُنْ َ‬
‫للفتَى فََأ ّولُ مَا يَجْني عليْهِ اجتهادُهُفعليك إذن أنْ تنظر إنْ كانت المصيبة نتيجة لما قدمت‪ ،‬فل‬
‫ن كنتَ قد أخذت بالسباب‪ ،‬واستوفيتَ ما طُلب منك‪ ،‬ثم أصابتْك المصيبة‪،‬‬
‫تلومنّ إل نفسك‪ ،‬فإ ْ‬
‫فاعلم أن ل فيها حكمة‪ ،‬وعليك أنْ تحترم حكمة ال وقدره في خَلْقه‪.‬‬

‫وباعتبار آخر‪ ،‬يمكن أن نقسم المصائب إلى قسمين‪ :‬قسم لك فيه غريم‪ ،‬كأن يعتدي عليك غيرك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بضرب أو قتل أو نحوه‪ ،‬وقسم ليس لك فيه غريم كالموت والمرض مثلً‪.‬‬
‫وقد أعطانا الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حكما في كل منهما‪ ،‬ففي النوع الول حيث ل غريمَ لك‪،‬‬
‫لمُورِ‬
‫يقول تعالى على لسان لقمان وهو يوصي ولده‪ {:‬وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَ ْز ِم ا ُ‬
‫}[لقمان‪.]17 :‬‬
‫غفَرَ‪[} ...‬الشورى‪ ]43 :‬فما دام قد ذكر المغفرة ودعاك‬
‫ويقول فيما لك فيه غريم‪ {:‬وََلمَن صَبَ َر وَ َ‬
‫إليها‪ ،‬فل بُدّ أن أمامك غريما‪ ،‬ينبغي أنْ تصبر عليه‪ ،‬وأن تغفر له‪ ،‬والغريم يهيجني إلى المعصية‬
‫وإلى النتقام‪ ،‬فكلما رأيته أتميّز غيظا‪ ،‬فالصبر في هذه الحالة أشد ويحتاج إلى عزيمة قوية‪.‬‬
‫لمُورِ }[الشورى‪ ]43 :‬ولم يقل كما في‬
‫غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم ا ُ‬
‫لذلك قال سبحانه‪ {:‬وََلمَن صَبَ َر وَ َ‬
‫لمُورِ }[لقمان‪ ]17 :‬إنما بصيغة التأكيد باللم (َلمِنْ)‪.‬‬
‫الولى‪ {:‬إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ ا ُ‬
‫ظمِينَ‬
‫ويُعلّمنا ربنا ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬كيف نعالج غَيْظ النفوس أمام الغريم‪ ،‬فيقول سبحانه‪ {:‬وَا ْلكَا ِ‬
‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ }[آل عمران‪.]134 :‬‬
‫س وَاللّهُ ُي ِ‬
‫ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ‬
‫ا ْلغَيْ َ‬
‫هذه مراحل ثلث‪ ،‬تتدرج بك حسب ما عندك من استعداد للخير وقدرة على التسامح‪ ،‬فأولها‪ :‬أن‬
‫تكظم غيظك‪ ،‬وهذا يعني أن الغيظ موجود‪ ،‬لكنك تكتمه في نفسك‪ ،‬فإن ارتقيتَ عفوتَ بأن تُخرج‬
‫الغيظ وال ِغلّ من نفسك‪ ،‬كأن شيئا لم يحدث‪ ،‬فإن ارتقيتَ إلى المرتبة العلى أحسنتَ؛ لن ال‬
‫تعالى يحب المحسنين‪ ،‬والحسان أن تقدم الخير وتبادر به مَنْ أساء إليك‪ ،‬فتجعله ردا على‬
‫إساءته‪.‬‬
‫ن يعمل بها؛‬
‫ول شكّ أن هذه المراحل تحتاج إلى مجاهدة‪ ،‬فهي قاسية على النفس‪ ،‬وقلما تجد مَ ْ‬
‫لذلك ما جعلها ال على وجه اللزام‪ ،‬إنما ندب إليها وحثّ عليها‪ ،‬فإنْ أخذتَ بأْولَها فل شيء‬
‫عليك؛ لن ال تعالى أباح لك أن ترد الساءة بمثلها‪ ،‬فإنْ كظمتَ غيظك فأنت على خير‪ ،‬وإن‬
‫حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ }[آل‬
‫اخترتَ لنفسك الرقي في طاعة ربك‪ ،‬فنِعمْ الرجل أنت‪ ،‬ويكفيك{ وَاللّهُ يُ ِ‬
‫عمران‪.]134 :‬‬
‫ويكفيك أن المسيء بإساءته إليك جعل ال في جانبك‪ ،‬فهو مع إساءته إليك يستحق مكافأة منك‪،‬‬
‫كما قال أحد العارفين‪ :‬أل أُحسن لمن جعل ال في جانبي؟‬
‫وضربنا لذلك مثلً بالوالد حين يجد أن أحد الولد اعتدى على الخر‪ ،‬فيميل ناحية ال ُمعْتَدى عليه‬
‫ويتودّد إليه‪ ،‬ويحاول إرضاءه‪ ،‬حتى إن المعتدي ليغتاظ ويندم على أنه أساء إلى أخيه‪ ،‬كذلك الحق‬
‫‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬إن اعتدى بعض خَلْقه على بعض يحتضن المظلوم‪ ،‬وينصره على مَنْ ظَلمَه‪.‬‬
‫سفْنَا بِ ِه وَبِدَا ِرهِ الَرْضَ‪.{ ...‬‬
‫ثم يُفاجأ قارون بالعقاب الذي يستحقه‪َ } :‬فخَ َ‬

‫(‪)3258 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سفْنَا بِهِ وَبِدَا ِرهِ الْأَ ْرضَ َفمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِ َئةٍ يَ ْنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللّ ِه َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُنْ َتصِرِينَ (‬
‫فَخَ َ‬
‫‪)81‬‬

‫والخسف‪ :‬أن تنشقّ الرض فتبتلع ما عليها‪ ،‬كالذي يقول (يا أرض انشقي وابلعيني)‪ ،‬والخسف‬
‫كان به وبداره التي فيها كنوزه وخزائنه وما يملك { َفمَا كَانَ لَهُ مِن فِ َئةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ‪...‬‬
‫} [القصص‪ ،]81 :‬فما نفعه مال‪ ،‬ول دافع عنه أهل { َومَا كَانَ مِنَ ا ْلمُن َتصِرِينَ } [القصص‪]81 :‬‬
‫عصْبة تحميه‪ ،‬ول استطاع هو حماية نفسه‪ ،‬فمَنْ يدفع عذاب ال إن حلّ‪،‬‬
‫أي‪ :‬بذاته‪ .‬فلم تكُنْ له ُ‬
‫ومَنْ يمنعه ونقذه إنْ خُسِفت به الرض؟!‬
‫وهنا ينبغي أن نتساءل‪ :‬كيف الن حال مَنْ اغتروا به‪ ،‬وفُتِنوا بماله وزينته؟‬
‫يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََأصْبَحَ الّذِينَ َتمَ ّنوْاْ َمكَانَهُ‪.} ...‬‬

‫(‪)3259 /‬‬

‫سطُ الرّزْقَ ِلمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَ َيقْدِرُ َلوْلَا‬


‫وََأصْبَحَ الّذِينَ َتمَ ّنوْا َمكَانَهُ بِالَْأمْسِ َيقُولُونَ وَ ْيكَأَنّ اللّهَ يَبْ ُ‬
‫سفَ بِنَا وَ ْيكَأَنّهُ لَا ُيفْلِحُ ا ْلكَافِرُونَ (‪)82‬‬
‫أَنْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنَا َلخَ َ‬

‫لقد كانوا بالمس يقولون{ يالَ ْيتَ لَنَا مِ ْثلَ مَآ أُو ِتيَ قَارُونُ‪[} ...‬القصص‪ ،]79 :‬لكن اليوم وبعد أن‬
‫عاينوا ما حاق به من عذاب ال وبأسه الذي ل يُردّ عن القوم الكافرين ‪ -‬اليوم يثوبون إلى‬
‫سطُ الرّ ْزقَ ِلمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَ َيقْدِرُ‪[ } ...‬القصص‪.]82 :‬‬
‫رُشْدهم ويقولون‪ { :‬وَ ْيكَأَنّ اللّهَ يَبْ ُ‬
‫ف وهيهات‪ ،‬وتدل على الندم والتحسّر على ما حدث منك‪ ،‬فهي تنديد‬
‫كلما ( َوىْ) اسم فعل مثل‪ُ :‬أ ّ‬
‫وتَخْطيءٌ للفعل‪ ،‬وقد تُقال ( َويْ) للتعجب‪ .‬فقولهم (وي) ندما ما كان منهم من تمني النعمة التي‬
‫تنعّم بها قارون وتخطيئَا لنفسهم‪ ،‬بعد أنْ شاهدوا الخَسْف التي تنعّم بها قارون وتخطيئا لنفسهم‪،‬‬
‫بعد أنْ شاهدوا الخَسْف به وبداره‪ ،‬وهم يندمون الن ويُخطّئون أنفسهم؛ لن ال تعالى في رزقه‬
‫حكمة وقدرا‪.‬‬
‫{ يَ ْبسُطُ الرّ ْزقَ ِلمَن َيشَآءُ مِنْ عِبَا ِدهِ وَيَقْدِرُ‪[ } ...‬القصص‪ ]82 :‬أي‪ :‬يقبض ويُضيق‪ ،‬وليس بسْط‬
‫الرزق دليل كرامة‪ ،‬ول تضييقه دليلَ إهانة‪ ،‬بدليل أن ال يبسط الرزق لقارون‪ ،‬ثم أخذه أخْذ عزيز‬
‫مقتدر‪.‬‬
‫لهُ رَبّهُ فََأكْ َرمَهُ‬
‫وقد تعرضتْ سورة الفجر لهذه المسألة في قوله تعالى‪ {:‬فََأمّا الِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَ َ‬
‫لهُ َفقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْز َقهُ فَ َيقُولُ رَبّي أَهَانَنِ }[الفجر‪-15 :‬‬
‫وَ َن ّعمَهُ فَيَقُولُ رَبّي َأكْ َرمَنِ * وََأمّآ ِإذَا مَا ابْتَ َ‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.]16‬‬
‫فالول اعتبر الرزق الواسع دليل الكرامة‪ ،‬والخر اعتبر التضييق دليلَ إهانة‪ ،‬فردّ الحق سبحانه‬
‫عليهما ليُصحح هذه النظرة فقال‪ {:‬كَلّ‪[} ...‬الفجر‪ ]17 :‬يعني‪ :‬أنتما خاطئان‪ ،‬فل سعةَ الرزق دليلُ‬
‫كرامة‪ ،‬ول تضييقه دليلُ إهانة‪ ،‬وإل فكيف يكون إيتاء المال دليلَ كرامة‪ ،‬وأنا أعطي بعض الناس‬
‫سكِينِ *‬
‫طعَامِ ا ْلمِ ْ‬
‫المال‪ ،‬فل يُؤدّون حقّ ال فيه؟{ كَلّ بَل لّ ُتكْ ِرمُونَ الْيَتِيمَ * َولَ تَحَآضّونَ عَلَىا َ‬
‫جمّا }[الفجر‪.]20-17 :‬‬
‫وَتَ ْأكُلُونَ التّرَاثَ َأكْلً ّلمّا * وَ ُتحِبّونَ ا ْلمَالَ حُبّا َ‬
‫ي كرامة في مال يكون وبالً على صاحبه‪ ،‬وابتلء ل يُوفّق فيه‪ ،‬فلو سُلب هذا المال من‬
‫إذن‪ :‬فأ ّ‬
‫صاحبه لكان خيرا له‪ ،‬فما أشبهَ هذا المال بالسلح في يد الذي ل يُحسِن استعماله‪ ،‬فربما قتل نفسه‬
‫به‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَ ْيكَأَنّ ُه لَ ُيفْلِحُ ا ْلكَافِرُونَ } [القصص‪ ]82 :‬تعجّب من أنه ل يفلح الكافرون عند ال‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وبعد ذلك يأتي الحق سبحانه بقضية عامة ليفصل في هذه المسألة‪ { :‬تِ ْلكَ الدّارُ الخِ َرةُ‪.} ...‬‬

‫(‪)3260 /‬‬

‫ض وَلَا فَسَادًا وَا ْلعَاقِبَةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ (‪)83‬‬


‫جعَُلهَا لِلّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُُلوّا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫تِ ْلكَ الدّارُ الْآَخِ َرةُ َن ْ‬

‫لنه ل يصح أنْ يعلو النسان على بني جنسه‪ ،‬ول على بيئته إل بشيء ذاتي فيه‪ ،‬فل يصح أنْ‬
‫يعلوَ بقوته؛ لنه قد يمرض‪ ،‬فيصير إلى الضعف‪ ،‬ول بماله لنه قد يُسلب منه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إياك أن تعلو على غيرك بشيء موهوب لك‪ ،‬إنْ أردتَ فبشيء ذاتي فيك‪ ،‬وليس فيك شيء‬
‫ذاتي‪ ،‬فلست أفضلَ من أحد حتى تعلو عليه‪ ،‬كما أن الدنيا أغيار‪ ،‬وربما انتقل ما عندك إليهم‪ ،‬فهل‬
‫يسرّك إنْ صار غيرك غنيا أو قويا أنْ يتعالى عليك؟‬
‫ثم أنت ل تستطيع العلو إل بالعتماد على قوة أعلى منك تسندك‪ ،‬وجرّب بنفسك وحاول أن تقفز‬
‫إلى أعلى كلعب السيرك‪ ،‬ثم أمسك نفسك في هذا العلو‪ ،‬وطبعا لن تستطيع‪ ،‬لماذا؟ لنه ل ذاتية‬
‫لك في العُلو‪.‬‬
‫حفِظُ الخرين؛ فإنْ حصل لك العكس شمتوا‬
‫وما دام المر كذلك‪ ،‬فإياك أنْ تعلو؛ لنك بعلوّك ُت ْ‬
‫فيك‪ ،‬وأيضا لن النسان ل يعلو في بيئة ول في مكان إل إذا رأى كل مَنْ حوله دونه‪ ،‬وحين‬
‫خلْقه‪.‬‬
‫ترى أن كل الناس دونك فأنت لم تتنبه إلى أسرار فَضلْ ال في َ‬
‫خلْقه‪،‬‬
‫ولو تأملت لوجدتَ في كل منهم خصلة ليست عندك‪ ،‬ولو قدّرت أن الناس جميعا عيالُ ال و َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وليس منا مَنْ بينه وبين ال نسب أو قرابة ونحن جميعا عنده تعالى سواء‪ ،‬وقد وزّع المواهب‬
‫بيننا جميعا بالتساوي‪ ،‬وبالتالي ل يمتاز أحد على أحد‪ ،‬فلم التعالي إذن؟ ولِمَ الكبر؟‬
‫وأيضا الذي يتعالى ل يتعالى إل في غفلة منه عن ملحظة كبرياء ربه‪ ،‬وإل فالذي يستحضر‬
‫عظمة ربه وكبرياءه ل بُدّ له أنْ يتواضع‪ ،‬وأنْ يتضاءل أمام كبريائه تعالى‪ ،‬وأنْ يستحي أن يتكبر‬
‫على خَلْقه‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يُعلّمنا كيف نحترم الخرين؟ وكيف نتواضع لهم؟ فلما دخل عليه‬
‫الصحابي الجليل عدي بن حاتم قام عن كرامة مجلسه له‪ ،‬يعني‪ :‬إن كانْ جالسا على (وسادة مثلً)‬
‫يقوم عنها‪ ،‬ويعطيها لصاحبه ليجلس هو عليها‪.‬‬
‫وهكذا يحرص رسول ال صلى ال عليه وسلم على المساواة في المجلس؛ لذلك قال عدي بن حاتم‬
‫لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أشهد أنك ل تريد عُلُوا في الرض‪ ،‬وأشهد أل إله إل ال‪ ،‬وأن‬
‫محمدا رسول ال‪ ،‬وأسلم‪.‬‬
‫وعجيب ما نراه مثلً في مساجدنا‪ ،‬وهي بيوت ال وَأوْلَى الماكن بهذه المساواة‪ ،‬فتراهم إذا دخل‬
‫أحد أصحاب النفوذ يفرشون له مُصلّى ليصلي عليها‪ ،‬مع أن المسجد مفروش‪ ،‬وعلى أعلى‬
‫مستوى من النظافة‪ ،‬فلماذا هذا التمييز؟‬
‫ومع ذلك نجد منهم مَنْ يزيح هذه المصلّى جانبا‪ ،‬ويصلي كما يصلي بقية الناس‪ ،‬وأظن أن الذي‬
‫يقبل أنْ تُوضع له هذه المصلى أظنه يبتغي علوا في الرض‪.‬‬
‫والحق سبحانه يريد للنسان أن يعيش سوىّ الحركة في أسوياء لتظل القلوب متآلفة‪ ،‬ل يداخلها‬
‫ت القلوب من الضّغن وَسِع الناسَ جميعا رغيفُ عيشٍ واحد‪.‬‬
‫ضغن‪ ،‬وإذا خَل ْ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَا ْلعَاقِبَةُ لِ ْلمُ ّتقِينَ } [القصص‪ ]83 :‬أي‪ :‬العاقبة الخيّرة‪ ،‬والعاقبة الحسنة في‬
‫النعيم المقيم الدائم للمتقين‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬مَن جَآءَ بِالْحَسَ َنةِ فَلَهُ خَيْرٌ‪.} ...‬‬

‫(‪)3261 /‬‬

‫عمِلُوا السّيّئَاتِ إِلّا مَا كَانُوا‬


‫حسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِ ْنهَا َومَنْ جَاءَ بِالسّيّ َئةِ فَلَا يُجْزَى الّذِينَ َ‬
‫مَنْ جَاءَ بِالْ َ‬
‫َي ْعمَلُونَ (‪)84‬‬

‫قلنا‪ :‬إن كلمة (خيرٍ) تُطلق ويُراد بها ما يقابل الشر‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬فمَن َي ْع َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ‬
‫خَيْرا يَ َرهُ * َومَن َيعْـ َملْ مِ ْثقَالَ ذَ ّرةٍ شَرّا يَ َرهُ }[الزلزلة‪.]8-7 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتُطلق ويُراد بها الحسن في الخير‪ ،‬تقول‪ :‬هذا خير من هذا‪ ،‬فكلهما فيه خير‪ ،‬ومنه قول رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬المؤمن القوي خير وأحبّ إلى ال من المؤمن الضعيف‪ ،‬وفي ُكلّ خير‬
‫ن الَخْيرِفجاء‬
‫س وابْ ُ‬
‫" فهي بمعنى التفضيل‪ ،‬أي‪ :‬أخير منها‪ ،‬ومن ذلك قول الشاعر‪:‬زَ ْيدٌ خِيارُ النّا ِ‬
‫بصيغة التفضيل على الصل‪ ،‬وتقول‪ :‬هذا حَسَن‪ ،‬وذلك أحسن‪.‬‬
‫فالمعنى هنا‪ { :‬مَن جَآءَ بِا ْلحَسَنَةِ فََلهُ خَيْرٌ مّ ْنهَا‪[ } ...‬القصص‪ ]84 :‬أي‪ :‬خير يجيئه من طريقها‪،‬‬
‫أو إذا عمل خيرا أعطاه ال أخير منه وأحسَن‪ ،‬والمراد أن الحسنة بعشر أمثالها‪.‬‬
‫والحق سبحانه يعطينا صورة توضيحية لهذه المسألة‪ ،‬فيقول سبحانه‪ {:‬مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ‬
‫فِي سَبِيلِ اللّهِ َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَبْعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبَُلةٍ مّئَةُ حَبّ ٍة وَاللّهُ ُيضَاعِفُ ِلمَن َيشَآ ُء وَاللّهُ‬
‫وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[البقرة‪.]261 :‬‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬مَن جَآءَ بِالْحَسَ َنةِ‪[ } ...‬القصص‪ ]84 :‬قضية عقدية‪ ،‬تثبت وتُقرّر الثواب للمطيع‪،‬‬
‫حسَنَةِ‪[ } ...‬القصص‪ ]84 :‬أي‪ :‬أتى بها حدثا لم يكُنْ‬
‫والعقاب للعاصي‪ ،‬ومعنى { مَن جَآءَ بِالْ َ‬
‫موجودا‪ ،‬فحين تفعل أنت الحسنة فقد أوجدتَها بما خلق ال فيك من قدرة على الطاعة وطاقة لفعل‬
‫الخير‪.‬‬
‫أو المعنى‪ :‬جاء بالحسنة إلى ال أخيرا لينال ثوابها‪ ،‬ول مانع أن تتجمع له هذه المجيئات كلها‬
‫ليُقبل بها على ال‪ ،‬فيجازيه بها في الخرة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬هل ثواب الحسنة مقصور فقط على الخرة‪ ،‬أم أن الدين بقضاياه جاء لسعادة الدنيا وسعادة‬
‫الخرة؟ فما دام الدين لسعادة الدارين فللحسنة أثر أيضا في الدنيا‪ ،‬لكن مجموعها يكون لك في‬
‫الخرة‪.‬‬
‫وهذه الية جاءت بعد الحديث عن قارون‪ ،‬وبعد أن نصحه قومه‪ ،‬وجاء في نصحهم‪ {:‬وََأحْسِن َكمَآ‬
‫حسَنَ اللّهُ إِلَ ْيكَ‪[} ...‬القصص‪ ]77 :‬إذن‪ :‬فطلبهم أن يُحسن كما أحسن ال إليه جاء في مجال ذكر‬
‫أَ ْ‬
‫الحسنة‪ ،‬والحسنة أهي الشيء الذي يستطيبه النسان؟ ل‪ ،‬لن النسان قد يستطيب الشيء ثم يجلب‬
‫عليه المضرة‪ ،‬وقد يكره الشيء ول يستطيبه‪ ،‬ويأتي له بالنفع‪.‬‬
‫فمن إذن الذي يحدد الحسنة والسيئة؟ ما دام الناس مختلفين في هذه المسألة‪ ،‬فل يحددها إل ال‬
‫تعالى‪ ،‬الذي خلق الناس‪ ،‬ويعلم ما يُصلحهم‪ ،‬وهو سبحانه الذي يعلم خصائص الشياء‪ ،‬ويعلم ما‬
‫يترتب عليها من آثار‪ ،‬أما النسان فقد خلقه ال صالحا للخير‪ ،‬وصالحا للشر‪ ،‬يعمل الحسن‪،‬‬
‫ويعمل القبيح‪ ،‬وربما اختلطت عليه المسائل‪.‬‬
‫لذلك يقولون في تعريف الحسنة‪ :‬هي ما حسّنه الشرع‪ ،‬ل ما حسّنْتها أنت‪ ،‬فنحن مثلً نستسيغ‬
‫بعض الطعمة‪ ،‬ونجد فيها متعة ولذة‪ ،‬مع أنها مُضرة‪ ،‬في حين نأنف مثلً من أكل الطعام‬
‫المسلوق‪ ،‬مع أنه أفيد وأنفع؛ لذلك يقول تعالى في صفة الطعام‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ َفكُلُوهُ هَنِيئا مّرِيئا‪[} ...‬النساء‪ ]4 :‬لن الطعام قد يكون هنيئا تجد له متعة‪ ،‬لكنه غير مريء‬
‫ويُسبّب لك المتاعب بعد ذلك‪.‬‬
‫الحق سبحانه يقول هنا‪ } :‬مَن جَآءَ بِا ْلحَسَ َنةِ فَلَهُ خَيْرٌ مّ ْنهَا‪[ { ...‬القصص‪ ]84 :‬فالحسنة خير‪ ،‬لكن‪،‬‬
‫الثواب عليها خيرٌ منها أي‪ :‬أخير؛ لنه عطاء دائم باقٍ ل ينقطع‪ ،‬أو خير يأتيك بسببها‪ .‬كما يقول‬
‫أصحاب اللغاز واللعب بالكلمات‪ :‬محمد خير من ربه‪ ،‬والمعنى‪ :‬خير يصلنا من ال‪ ،‬ول داعي‬
‫لمثل هذه اللغاز طالما تحتمل معنى غير مقبول‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬ومَن جَآءَ بِالسّيّ َئةِ‪[ { ...‬القصص‪ ]84 :‬لم يقُل الحق سبحانه‪ :‬فله أشر منها‪،‬‬
‫قياسا على الحسنة فنضاعف السيئة كما ضاعفنا الحسنة‪ ،‬وهذه المسألة مظهر من مظاهر رحمة‬
‫ال بخَلْقه‪ ،‬هذه الرحمة التي تتعدّى حتى إلى ال ُعصَاة من خَلْقه‪.‬‬
‫عمِلُواْ السّيّئَاتِ ِإلّ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { [القصص‪ ]84 :‬أي‪ :‬على َقدْرها‬
‫لذلك قال } فَلَ يُجْزَى الّذِينَ َ‬
‫دون زيادة‪.‬‬
‫عبَ أَتْرَابا‬
‫ق وَأَعْنَابا * َو َكوَا ِ‬
‫واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى في سورة (عم)‪ {:‬إِنّ لِ ْلمُ ّتقِينَ َمفَازا * حَدَآ ِئ َ‬
‫س َمعُونَ فِيهَا َلغْوا َولَ كِذّابا * جَزَآءً مّن رّ ّبكَ عَطَآءً حِسَابا }[النبأ‪.]36-31 :‬‬
‫* َوكَأْسا ِدهَاقا * لّ يَ ْ‬
‫فحسبانا هنا ل تعني أن الجزاء بحساب على قدر العمل‪ ،‬إنما تعني كافيهم في كل ناحية من‬
‫نواحي الخير‪ ،‬ومنه قولنا‪ :‬حسبي ال يعني‪ :‬كافيني‪.‬‬
‫وفي المقابل يقول سبحانه في السيئة‪ {:‬جَزَآ ًء ِوفَاقا }[النبأ‪ ]26 :‬أي‪ :‬على قدرها موافقا لها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فربنا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يعاملنا بالفضل ل بالعدل؛ ليغري الناس بفعل الحسنة‪ ،‬وأنت حين تفعل‬
‫الحسنة فأنت واحد تُقدّم حسنتك إلى كل الناس‪ ،‬وفي المقابل يعود عليك أثر حسنات الجماهير‬
‫كلها‪ ،‬فينالك من كل واحد منهم حسنة‪ ،‬وكأنه (أوكازيون) حسنات يعود عليك أنت‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه لنبيه‪ } :‬إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3262 /‬‬

‫إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآَنَ لَرَا ّدكَ إِلَى َمعَادٍ ُقلْ رَبّي أَعَْلمُ مَنْ جَاءَ بِا ْلهُدَى َومَنْ ُهوَ فِي ضَلَالٍ‬
‫مُبِينٍ (‪)85‬‬

‫معنى فرض‪ :‬ألزم وأوجب وحتّم‪ .‬وأصل الفَرْض الحزّ والقطع‪ ،‬كما تقطع شيئا بالسكين مثلً‬
‫تُسمّى فرضا؛ لنها خرجتْ عن طبيعة تكوينها‪ ،‬كذلك القرآن يُخرج النفس عن طبيعة ُمشْتهاها‪،‬‬
‫ويقطع عليها مشيئتها‪ ،‬ويردّها إلى مشيئة ال؛ لذلك يقول سبحانه في أول سورة النور‪ {:‬سُو َرةٌ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أَنزَلْنَاهَا َوفَ َرضْنَاهَا‪[} ...‬النور‪.]1 :‬‬
‫يعني‪ :‬حتّمناها وألزمنا بها‪ ،‬واللزام يعني ردّ النفس إلى ما يريده خالقها منها‪ ،‬بصرْف النظر عما‬
‫تشتهيه هي‪ ،‬فقد يأمرها بما تكره‪ ،‬وينهاها عما تحب‪ .‬إذن‪ :‬يقطع سيال النفس؛ لنها عادة ما تكون‬
‫أمّارة بالسوء‪ ،‬تنظر إلى العاجل‪ ،‬ول تهتم بالجل ول تعمل له حسابا‪.‬‬
‫فالقرآن منهج ال بافعل ول تفعل‪ ،‬هو الذي يكبح جماح النفس‪ ،‬ويُحدّد لها مجال مشيئتها؛ لن‬
‫الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬خلق النفس‪ ،‬وجعل مشيئتها صالحة لعمل الخير‪ ،‬ولعمل الشر‪.‬‬
‫وسبق أن تكلمنا عن الفرق بين عباد وعبيد وقلنا‪ :‬إن الخَلْق جميعا عبيد ال‪ ،‬المؤمن منهم‬
‫والكافر‪ ،‬وإنْ تأبّى الكافر على ال في اليمان‪ ،‬فهو مقهور له تعالى في مسائل أخرى‪ ،‬كالمرض‬
‫والموت وغيره‪ ،‬ثم أعطانا ال تعالى مجالً للختيار‪ ،‬ليثيب من يُثيب بحق‪ ،‬يُعذّب بحق‪.‬‬
‫والعاقل حينما يرى أنه مقهور ل في قدريات ل يستطيع منها فكاكا‪ ،‬وليس له فيها تصرف‪،‬‬
‫ن يكون مُسيّرا في كل شيء‪،‬‬
‫فيتنازل عن مراده‪ ،‬وعن اختياره لمراد ربه واختيار ربه‪ ،‬ويرضى أ ْ‬
‫وهنا يتحولون من عبيد إلى عباد‪.‬‬
‫فالعباد إذن هم الذين يخرجون عن اختياراتهم الممنوحة لهم من ال إلى مراد ال في الحكم‪ ،‬وبهذا‬
‫المنطق يكون الجميع في الخرة عبادا؛ لنه ل اختيار لهم‪ ،‬ويستوي في ذلك المؤمن والكافر‪ ،‬يوم‬
‫يقول سبحانه‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر‪.]16 :‬‬
‫سمّي إنزال القرآن فَرْضا لما في القرآن من تكاليف‪ ،‬وهي عادةً ما تكون شاقة على النفس‪َ ،‬ألَ‬
‫وُ‬
‫شعِينَ }[البقرة‪.]45 :‬‬
‫ترى قوله تعالى عن الصلة‪ ،‬وهي أم العبادات‪ {:‬وَإِ ّنهَا َلكَبِي َرةٌ ِإلّ عَلَى ا ْلخَا ِ‬
‫فل يعرف منزلتها ومكانتها إل خاشع؛ لذلك كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول لبلل‪ " :‬أرحنا‬
‫جعَِلتْ قرة عيني في الصلة " ؛ لنه أحبها وعشقها‪ ،‬حتى صارت قُرّة‬
‫بها يا بلل " ويقول‪ " :‬و ُ‬
‫عينه‪ ،‬ومُنْتهى راحته‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أول ما يفرض التكليف ل بُدّ أن يكون شاقا؛ لذلك يحتاج إلى صلة إيمان وجَلَد يقين‪ ،‬بحيث‬
‫تثق في أن العمل الشاق عليك الن سيجلب لك الخير والسعادة الباقية الدائمة في الخرة‪.‬‬
‫ل وَ ُهوَ كُ ْرهٌ ّل ُكمْ‪[} ....‬البقرة‪ ]216 :‬فل شكّ أنه مكروه‬
‫ويقول تعالى عن القتال‪ {:‬كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَا ُ‬
‫للنفس‪ ،‬لكن إن استحضرت الجزاء‪ ،‬وعرفتَ أنه‪ :‬إما النصر‪ ،‬وإما الشهادة‪ ،‬فإنه يحلو لك حتى‬
‫تعشقه‪ ،‬وتبادر أنت إليه‪ ،‬كالصحابي في بدر بعد أن سمع ما للشهيد من الجر وكان في فمه تمرة‬
‫يمضغها فقال‪ " :‬أليس بيني وبين الجنة إل أنْ أقاتل فأُقتل "؟ ثم ألقى التمرة وأسرع إلى ساحة‬
‫القتال‪.‬‬

‫لذلك الحق سبحانه يُضخم الجزاءات في نفس المؤمن؛ ليقبل على العمل بحب وشهوة‪ .‬ومن هنا‬
‫يقول بعض العارفين الذين عشقوا الخير حتى أصبح شهو َة نفْس عندهم‪ :‬أخشى ألّ يُثيبني ال على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الطاعة‪ ،‬لماذا؟ يقول‪ :‬لنني أصحبتُ أشتهيها‪ ،‬أي‪ :‬كما يشتهي أهل المعصية المعصية‪.‬‬
‫وحين يصل اليمان بصاحبه إلى درجة أنه يعشق الطاعة‪ ،‬فقد أصبح ربانيا يثق فيما عند ال من‬
‫الجزاء‪.‬‬
‫" وكان النبي صلى ال عليه وسلم يقوم الليل حتى تور َمتْ قدماه‪ ،‬فلما سألتْه السيدة عائشة‪ :‬ألم‬
‫يغفر لك ربك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال‪ " :‬أفل أكون عبدا شكورا "؟ "‬
‫ومعنى‪ } :‬لَرَآ ّدكَ إِلَىا َمعَادٍ‪[ { ...‬القصص‪ ]85 :‬يعني‪ :‬يجازيك أفضل الجزاء‪ ،‬ونزلتْ هذه الية‬
‫لما اضطهد أهلُ مكة رسولَ ال وآذوْه‪ ،‬حتى اضطروه للذهاب إلى الطائف ليبحث فيها عن‬
‫نصير‪ ،‬لكنهم لم يكونوا أقلّ قسوة من أهل مكة‪ ،‬فعزّ على رسول ال النصير فيها‪ ،‬وعاد منكسرا‬
‫حزينا لم يجد مَنْ يدخل في جواره‪ ،‬إلى أن أجاره مطعم بن عدي‪.‬‬
‫وتأمل حين يكون رسول ال بجللة قدره ل يجد مَنْ يناصره‪ ،‬أو يُدخله في جواره‪ ،‬أما الصحابة‬
‫فلم تكُنْ لهم شوكة بعد‪ ،‬ول قوة لحماية رسول ال‪ ،‬وفي هذه الفترة لقوا المشاق في سبيل الدعوة‪،‬‬
‫شعْب أبي طالب‪ ،‬وفرضوا عليهم المقاطعة التامة حتى عزلوهم عن الناس‪،‬‬
‫فحاصرهم الكفار في ِ‬
‫ومنعوا عنهم الطعام والشراب‪ ،‬والبيع والشراء‪ ،‬حتى الزواج‪ ،‬وحتى اضطروا إلى أكل المخلّفات‬
‫وأوراق الشجر‪.‬‬
‫لذلك أمرهم ال بالهجرة‪ ،‬والهجرة تكون إلى دار أمن‪ ،‬أو إلى دار اليمان‪ ،‬إلى دار أمن كالهجرة‬
‫إلى الحبشة حيث قال لهم رسول ال صلى ال عليه وسلم مُبيّنا حيثية الهجرة إليها‪ " :‬إن فيها ملكا‬
‫ل يُظلم عنده أحد " يعني‪ :‬النجاشي ملك الحبشة‪ ،‬وفعلً صدق فيه قول رسول ال‪ ،‬فلما أرسلتْ‬
‫قريش في إثرهم مَنْ يكلم النجاشي في طلبهم وإعادتهم إلى مكة‪ ،‬رفض أن يسلمهم‪ ،‬وأن يُمكّن‬
‫قريشا منهم‪ ،‬مع أن هدايا قريش كانت عظيمة‪ ،‬والغراء كان كبيرا‪.‬‬
‫وهذا يدل على عظمة رسول ال‪ ،‬وعلى فكره الواسع‪ ،‬وعلى دراسة الخريطة من حوله‪ ،‬ومعرفة‬
‫مَنْ يصلح لهجرة صحابته إليه‪ ،‬فاختياره ملك الحبشة ل يأتي إل إما بإلهام من ال‪ ،‬أو بذكاء كبير‪،‬‬
‫وهو رجل أمي في أمة أمية‪ ،‬ولو لم يذهب وفد قريش في طلب المهاجرين ما ظهر لنا الدليل على‬
‫صدق مقولة رسول ال‪.‬‬
‫ونتيجة " ل يظلم عنده أحد " فقد شرّفه ال بالسلم فأسلم ووكّله رسول ال في أن يُزوّجه من‬
‫السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان‪ ،‬وكانت رضي ال عنها من المهاجرين الوائل إلى الحبشة مع‬
‫زوجها الذي تنصّر هناك‪ ،‬وبقيتْ هي على دينها وتمسكتْ بعقيدتها‪.‬‬

‫وفي هذا دليل أولً‪ :‬على مدى ما كان يلقيه المؤمنون من إيذاء الكافرين‪ ،‬ثانيا‪ :‬دليل على الطاعة‬
‫الواعية للزوج‪ ،‬فقد آثرت الخروج مع زوجها ل عِشْقا له‪ ،‬ول هياما به‪ ،‬إنما فرارا معه بدينها؛‬
‫لذلك لما تنصّر لم تتردد في تركه؛ لذلك طلبها رسول ال لنفسه‪ ،‬ثم لما مات النجاشي صلى عليه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫رسول ال وترحّم عليه‪ .‬هذه هي هجرة اليمان إلى دار المن‪.‬‬
‫ثم كانت الهجرة بعد ذلك إلى دار اليمان‪ ،‬إلى المدينة‪ ،‬بعد بيعة العقبة الولى والثانية‪ ،‬وبعد أن‬
‫وجد رسول ال أنصارا يتحملون معه أعباء الدعوة‪ ،‬وقد ضرب النصار في المدينة أروع مَثَل‬
‫في التضحية التي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية‪.‬‬
‫ذلك أن الرجل أغير ما يكون على زوجته‪ ،‬فل يضِنّ على غيره بما يملك‪ ،‬فتعطيني سيارتك‬
‫أركبها‪ ،‬أو بيتك أسكن فيه‪ ،‬أو ثوبك ألبسه‪ ،‬وأتقمّش به‪ ،‬أما الزوجة فتظل مصونة ل يجرؤ أحد‬
‫على النظر إليها‪.‬‬
‫لكن كان للنصار في هذه المسألة نظرة أخرى حين أشركوا إخوانهم المهاجرين في كل شيء‬
‫حتى في زوجاتهم‪ ،‬فقد راعوا فيهم خروجهم من أهلهم وبلدهم‪ ،‬وراعوا غربتهم وما لهم من إرْبة‬
‫وحاجة النساء‪.‬‬
‫فكان الواحد منهم يقول لخيه‪ :‬انظر إلى زوجاتي‪ ،‬فأيتهنّ أعجبتك أُطلّقها‪ ،‬وتتزوجها أنت‪ ،‬هذه‬
‫تضحية ل نجد لها مثيلً في تاريخ الناس حتى عند الكفرة‪.‬‬
‫خفْية في حين خرج عمر مثلً‬
‫ثم ُأمِر رسول ال صلى ال عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة‪ ،‬فخرج ُ‬
‫جهرا وعلنية‪ ،‬حتى إنه وقف ينادي في أهل مكة بأعلى صوته يتحدى أهلها عند خروجه‪ :‬مَنْ‬
‫أراد أنْ تثكله أمه‪ ،‬أو ييُتم ولده‪ ،‬أو تُرمّل زوجته فليلْقني خلف هذا الوادي‪.‬‬
‫خفْية‪ ،‬وهذه المسألة يقف عندها البعض أو َتخْفي عليه الحكمة منها‪،‬‬
‫أما رسول ال فقد خرج ُ‬
‫فرسول ال صلى ال عليه وسلم كان دائما أُسْوة للضعيف‪ ،‬أما القوي فل يحتاج إلى حماية أحد‪،‬‬
‫ول عليه إنْ خرج علنية؛ لذلك ل يستحي أحد أن يتخفى كما تخفى رسول ال‪.‬‬
‫خفْية التحدي‪ ،‬فقد خرج من بين فتيانهم‬
‫خفْية لكنها ُ‬
‫ثم إنك حين تتأمل‪ :‬نعم خرج رسول ال ُ‬
‫المتربصين به‪ ،‬وعفّر وجوههم بالتراب‪ ،‬وهو يقول‪ " :‬شاهت الوجوه "‪.‬‬
‫ومع ذلك لم يمنعه تأييد ال له أنْ يأخذ بأسباب النجاة‪ ،‬فخالف الطريق؛ لن كفار مكة كانوا‬
‫يعرفون أن وجهته المدينة لما عقد بيعة العقبة مع النصار؛ لذلك ترصدوا له على طريقها‪،‬‬
‫جعْلً لمن يأتيهم به صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫وأرسلوا العيون للبحث عنه‪ ،‬وجعلوا ُ‬
‫والمتأمل في حادث الهجرة يجد أنها خطة محكمة تراعي كل جوانب الموقف‪ ،‬كأن ال تعالى يريد‬
‫ل نهمل السباب‪ ،‬وألّ نتصادم مع الواقع ما‬
‫أنْ يُعلّمنا في شخص رسول ال صلى ال عليه وسلم أ ّ‬
‫ُدمْنا قادرين على ذلك‪.‬‬

‫فلما خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم من مكة وهي بلده‪ ،‬وأحب البلد إلى قلبه قال‪ " :‬اللهم‬
‫إنك أخرجتني من أحب البلد إليّ‪ ،‬فأسكنّي أحب البلد إليك "‪.‬‬
‫لذلك إنْ كانت مكةُ محبوبةً لرسول ال‪ ،‬فالمدينة محبوبة ل؛ لذلك بعد أن خرج رسول ال من مكة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقارب المدينة حَنّ قلبه إلى مكة‪ ،‬فطمأنه ربه بهذه الية‪ } :‬إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ لَرَآ ّدكَ‬
‫إِلَىا َمعَادٍ‪[ { ...‬القصص‪.]85 :‬‬
‫فالذي فرض عليك مشقة التكاليف‪ ،‬وحمّلك مشاق الدعوة والقناع بها‪ ،‬وتنفيذ أحكامها‪ ،‬هو الذي‬
‫سيردّك إلى بلدك ردّ نصر‪ ،‬وردّ فتح‪ ،‬وما أشبهَ ردّ رسول ال إلى بلده بردّ موسى عليه السلم‬
‫إلى أمه في قوله تعالى لم موسى‪ {:‬إِنّا رَآدّوهُ إِلَ ْيكِ‪[} ...‬القصص‪ ]7 :‬ليس رَدّا عاديا‪ ،‬إنما{‬
‫وَجَاعِلُوهُ مِنَ ا ْلمُرْسَلِينَ }[القصص‪.]7 :‬‬
‫إذن‪ :‬سيُردّ إليك ولدك‪ ،‬لكن سيُرد رسولً منتصرا‪ .‬وكما صدق ال في ردّ موسى يصدق في ردّ‬
‫محمد‪.‬‬
‫ومعنى } َمعَادٍ‪[ { ...‬القصص‪ ]85 :‬ليس هو الموعد كما يظن البعض‪ ،‬إنما يراد به المكان الذي‬
‫تعود إليه بعد أن تفارقه‪ ،‬فالمعنى‪ :‬سنردّك إلى المكان الذي تحِنّ إليه‪ ،‬ويتعلق به قلبك‪.‬‬
‫أو نردك إلى (معاد) أي‪ :‬إلينا‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا‬
‫جعُونَ }[غافر‪ ]77 :‬ول مانع من إرادة المعنيين معا‪.‬‬
‫يُرْ َ‬
‫للٍ مّبِينٍ { [القصص‪]85 :‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬قُل رّبّي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بِا ْل ُهدَىا َومَنْ ُهوَ فِي ضَ َ‬
‫الحق تبارك وتعالى يعلّم رسوله محمدا صلى ال عليه وسلم الجدل العفيف‪ ،‬ل الجدل العنيف‪،‬‬
‫يُعلّمه كيف يردّ على ما قالوا عن الذي يؤمن به (صبأ فلن) يعني‪ :‬خرج عن دين آبائه وهم‬
‫يعتقدون أنه الحق‪ ،‬فكأن الذي يؤمن في نظرهم خرج من الحق إلى الباطل‪.‬‬
‫حسَنُ‪} ...‬‬
‫إذن‪ :‬فهذه عقول تحتاج إلى سياسة وجدل‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَجَا ِد ْلهُم بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫[النحل‪]125 :‬؛ لن الجدل العنيف يزيد خصمك عنادا ولجاجة‪ ،‬أما الجدل العنيف فيستميل القلوب‬
‫ويعطفها نحوك؛ لذلك يرد رسول ال بقوله‪ } :‬قُل رّبّي أَعَْلمُ مَن جَآءَ بِا ْلهُدَىا َومَنْ ُهوَ فِي ضَلَلٍ‬
‫مّبِينٍ { [القصص‪ ]85 :‬أي‪ :‬جاء بالهدى من عند ال وهو النبي صلى ال عليه وسلم‪َ } :‬ومَنْ ُهوَ‬
‫للٍ مّبِينٍ { [القصص‪.]85 :‬‬
‫فِي ضَ َ‬
‫ثم يعطي الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬لنبيه صلى ال عليه وسلم دليلً من واقع حياته؛ ليطمئن على‬
‫أنه مُؤيّد من ربه‪ ،‬وأنه سبحانه سيفي له بما وعد‪ ،‬ولن يتخلى عنه‪ ،‬وكيف يختاره للرسالة‪ ،‬ثم‬
‫يتخلى عنه؟‬

‫(‪)3263 /‬‬

‫ظهِيرًا لِ ْلكَافِرِينَ (‪)86‬‬


‫حمَةً مِنْ رَ ّبكَ فَلَا َتكُونَنّ َ‬
‫َومَا كُ ْنتَ تَ ْرجُو أَنْ يُ ْلقَى إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابُ إِلّا َر ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يعني‪ :‬إذا كنت تتعجب‪ ،‬أو تستبعد أنْ نردّك إلى بلدك؛ لن الكفار يقفون لك بالمرصاد‪ ،‬حتى‬
‫أصبحت ل تُصدّق أنْ تعود إليها‪ ،‬فانظر إلى أصل الرسالة معك‪ :‬هل كنت تفكر أو يتسامى‬
‫ن في بالك‪ ،‬ومع ذلك أعطاك ال إياه واختارك له‪،‬‬
‫طموحك إلى أنْ تكون رسولً؟ إنه أمر لم يكُ ْ‬
‫فالذي أعطاك الرسالة ولم تكُنْ في بالك كيف يحرمك من أمر أنت تحبه وتشتاق إليه؟‬
‫صدْق{ لَرَآ ّدكَ إِلَىا َمعَادٍ‪[} ...‬القصص‪ ]85 :‬وفي‬
‫إذن‪ :‬تقوم هذه الية مقامَ الدليل والبرهان على ِ‬
‫موضع آخر يؤكد الحق سبحانه هذا المعنى‪ ،‬فيقول سبحانه‪َ {:‬وكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا‬
‫جعَلْنَاهُ نُورا ّنهْدِي بِهِ مَن نّشَآء‪[} ...‬الشورى‪]52 :‬‬
‫ن وَلَـاكِن َ‬
‫ل الِيمَا ُ‬
‫مَا كُنتَ َتدْرِي مَا ا ْلكِتَابُ وَ َ‬
‫فالذي أعطاك الرسالة ل يعجز أن يحقق لك ما تريد‪.‬‬
‫حمَةً مّن رّ ّبكَ‪[ } ...‬القصص‪ ]86 :‬هذا استثناء يسمونه استثناء منقطعا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ِ { :‬إلّ رَ ْ‬
‫والمعنى‪ :‬ما كنت ترجو أن يُلْقى إليك الكتاب إنما ألقيناه‪ ،‬وما ألقيناه إليك إل رحمة لك من ربك‪.‬‬
‫وما دام هؤلء الكفار عاندوك وأخرجوك‪ ،‬فإياك أنْ تلين لهم { فَلَ َتكُونَنّ ظَهيرا لّ ْلكَافِرِينَ }‬
‫[القصص‪ ]86 :‬أي‪ :‬معينا لهم مساندا‪ ،‬وكانوا قد اقترحوا على رسول ال أن يعبد آلهتهم سنة‪،‬‬
‫ويعبدون إلهه سنة‪ ،‬فحذره ال أنْ يُعينهم على ضللهم‪ ،‬أو يجاريه في باطلهم‪ ،‬لذلك كان النبي‬
‫صلى ال عليه وسلم ل يناصر ظالما أو مجرما‪ ،‬حتى إن كان من أتباعه‪.‬‬
‫حكُمَ بَيْنَ النّاسِ ِبمَآ أَرَاكَ‬
‫وسبق أن ذكرنا في تأويل قوله تعالى‪ {:‬إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِ َت ْ‬
‫خصِيما }[النساء‪ ]105 :‬قصة اليهودي زيد بن السمين لما جاءه المسلم‬
‫اللّ ُه َولَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ َ‬
‫طعْمة بن أبيريق‪ ،‬وأودع عنده دِرْعا له‪ ،‬وكان هذا الدرع مسروقا من آخر اسمه قتادة بن‬
‫ُ‬
‫النعمانَ‪ ،‬فلما افتقده قتادة بحث عنه حتى وجده في بيت اليهودي‪ ،‬وكان السارق قد وضعه في‬
‫كيس للدقيق‪ ،‬فدلّ أثر الدقيق على مكان الدرع فاتهموا اليهودي بالسرقة‪ ،‬ولما عرفوا حقيقة‬
‫الموقف أشفقوا أن ينتصر اليهودي على المسلم‪ ،‬خاصة وهم حديثو عهد بالسلم‪ ،‬حريصون على‬
‫ألّ تُشوه صورته‪.‬‬
‫لذلك شرحوا لرسول ال هذه المسألة‪ ،‬لعله يجد لها مخرجا‪ ،‬فأدار رسول ال المسألة في رأسه قبل‬
‫حكُمَ بَيْنَ‬
‫حكْما؛ وعندها نزل الوحي على رسول ال‪ {:‬إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِا ْلحَقّ لِتَ ْ‬
‫أنْ يأخذ فيها ُ‬
‫النّاسِ‪[} ...‬النساء‪ ]105 :‬أي‪ :‬جميع الناس‪ ،‬المؤمن والكافر{ ِبمَآ أَرَاكَ اللّهُ وَلَ َتكُنْ لّ ْلخَآئِنِينَ‬
‫غفُورا‬
‫خصِيما }[النساء‪ ]105 :‬أي‪ :‬تخاصم من أجلهم ولصالحهم{ وَاسْ َتغْفِرِ اللّهَ إِنّ اللّهَ كَانَ َ‬
‫َ‬
‫رّحِيما }[النساء‪ ]106 :‬أي‪ :‬مما خطر ببالك في هذه المسألة‪.‬‬
‫وفي بعض اليات نجد في ظاهرها قسوة على رسول ال وشدة مثل‪ {:‬وََلوْ َت َقوّلَ عَلَيْنَا َب ْعضَ‬
‫طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ }‬
‫لقَاوِيلِ * لَخَذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ * ُثمّ َلقَ َ‬
‫اَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[الحاقة‪.]46-44 :‬‬
‫وكل ما يكون في القرآن من هذا القبيل ل يُقصد به سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إنما‬
‫الحق سبحانه يريد أن يعطي للمة نموذجا يلفت أنظارهم‪ ،‬وكأنه تعالى يقول لنا‪ :‬انتبهوا فإذا كان‬
‫الخطاب لرسول ال بهذه الطريقة‪ ،‬فكيف يكون الخطاب لكم؟‬
‫كأن يكون عندك خادم يعبث بالشياء حوله‪ ،‬فتُوجّه الكلم أنت إلى ولدك‪ :‬وال لو عبثتَ بشيء‬
‫لفعلنّ بك كذا وكذا‪ ،‬فتوجّه الزجر إلى الولد‪ ،‬وأنت تقصد الخادم‪ ،‬على حَدّ المثل القائل (إياك‬
‫أعني واسمعي يا جارة)‪.‬‬
‫ي صَاحبِ البشَارةِفكُنْ لَبيبا وا ْفهَم‬
‫لذلك يقول بعض العارفين‪:‬مَا كان في القُرآن مِنْ نِذَارةٍ إلى النب ّ‬
‫الشَارةَ إيّاك أعني واسْمعِي يَا جَارةيعني‪ :‬اسمعوا يا أمة محمد‪ ،‬كيف أخاطبه‪ ،‬وأُوجّه إليه النذارة‪،‬‬
‫مع أنه البشير‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ولَ َيصُدّ ّنكَ عَنْ آيَاتِ اللّهِ َبعْدَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3264 /‬‬

‫ك وَلَا َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ (‪)87‬‬


‫ك وَا ْدعُ إِلَى رَ ّب َ‬
‫وَلَا َيصُدّ ّنكَ عَنْ آَيَاتِ اللّهِ َبعْدَ ِإذْ أُنْزَِلتْ إِلَ ْي َ‬

‫صدّ ّنكَ‪[ } ...‬القصص‪ ]87 :‬أي‪ :‬ل يصرفنك ول يمنعنّك المشركون { عَنْ‬
‫قوله تعالى‪َ { :‬ولَ َي ُ‬
‫آيَاتِ اللّهِ‪[ } ...‬القصص‪ ]87 :‬أي‪ :‬قراءتها وتبليغها للناس‪ ،‬وقوله‪َ { :‬ولَ َتكُونَنّ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }‬
‫[القصص‪ ]87 :‬هذا أيضا داخل في (إياك أعني واسمعي يا جارة) لن رسول ال أبعد ما يكون‬
‫عن الشرك‪ ،‬وليس مظنة له‪.‬‬

‫(‪)3265 /‬‬

‫جعُونَ (‪)88‬‬
‫حكْ ُم وَإِلَيْهِ تُرْ َ‬
‫جهَهُ لَهُ ا ْل ُ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ إِلّا وَ ْ‬
‫وَلَا تَ ْدعُ مَعَ اللّهِ إَِلهًا َآخَرَ لَا إَِلهَ إِلّا ُهوَ ُكلّ َ‬

‫قوله تعالى‪َ { :‬ولَ َت ْدعُ مَعَ اللّهِ إِلَـاها آخَرَ‪[ } ...‬القصص‪ ]88 :‬كسابقتها؛ لن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ليس مظنة أن يدعو مع ال إلها آخر { لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ‪[ } ...‬القصص‪ ]88 :‬أي‪ :‬ل‬
‫معبودَ بحق إل هو‪.‬‬
‫ولو كان معه سبحانه وتعالى آلهة أخرى لواجهوه‪ُ {:‬قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س َعوْا إليه لينازعوه اللوهية‪ ،‬أو ليتقرّبوا إليه‪.‬‬
‫إِلَىا ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء‪ ]42 :‬أي‪َ :‬‬
‫جهَهُ‪[ } ...‬القصص‪ ]88 :‬الوجه في عُرْفنا ما به المواجهة في النسان‪،‬‬
‫ل وَ ْ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإ ّ‬
‫{ ُكلّ َ‬
‫وكل شيء يصف به الحق سبحانه نفسه علينا أنْ نصفه سبحانه به‪ ،‬بنا ًء على وصفه في إطار‬
‫شيْءٌ‪[} ...‬الشورى‪.]11 :‬‬
‫قوله سبحانه{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫فالحق سبحانه له وجه‪ ،‬لكن ليس ككل الوجوه‪ ،‬وهكذا في كل الصفات التي يشترك فيها الحق‬
‫سبحانه مع الخَلْق‪ ،‬وأنت آمنتَ بوجود ال‪ ،‬وأن وجوده ذاتي‪ ،‬ليس كوجودك أنت‪.‬‬
‫شيْءٍ‪[ } ...‬القصص‪ ]88 :‬كلمة شيء يقولون‪ :‬إنها جنس الجناس يعني‪ :‬أي موجود‬
‫وقوله‪ُ { :‬كلّ َ‬
‫طرأ عليه الوجود يسمى (شيء) مهما كان تافها ضئيلً‪ .‬وقد تكلم العلماء في أيطلق على ال تعالى‬
‫أنه شيء لنه موجود؟‬
‫قالوا‪ :‬ننظر في أصل الكلمة (شيء) من شاء شيئا‪ ،‬فالشيء شاءه غيره‪ ،‬فأوجده؛ لذلك ل يقال ل‬
‫تعالى شيء؛ لنه سبحانه ما شاءه أحد‪ ،‬بل هو سبحانه موجود بذاته‪.‬‬
‫حمْ ِدهِ‪[} ....‬السراء‪:‬‬
‫شيْءٍ ِإلّ يُسَبّحُ ِب َ‬
‫وفي آية أخرى يقول تعالى في عمومية الشيء‪ {:‬وَإِن مّن َ‬
‫‪ ]44‬يعني‪ :‬كل ما يُقال له شيء موجود سبق وجوده عدم‪ ،‬إل يسبح بحمد ال‪ ،‬البعض قال‪ :‬هو‬
‫تسبيح دللة على موجدها‪ ،‬وليس تسبيح مقالة حقيقية‪ ،‬لكن قوله سبحانه{ وَلَـاكِن لّ َت ْفقَهُونَ‬
‫حهُمْ‪[} ...‬السراء‪ ]44 :‬يدل على أنه تسبيح حقيقي‪ ،‬فكل شيء يُسبّح بلغته وبما يناسبه‪.‬‬
‫تَسْبِي َ‬
‫وقد أثبت ال تعالى منطقا للطير وتسبيحا للجبال‪ ،‬ولو فهمتَ لغة هذه الشياء لمكنك أنْ تعرف‬
‫تسبيحها‪ ،‬لكن كيف نطمع في معرفة لغات الحجر والشجر‪ ،‬ونحن ل نفهم لغات بعضنا‪ ،‬فإذا لم‬
‫تكن تعرف مثلً النجليزية‪ ،‬أتعرف ماذا يقول المتحدث بها لو سبّح بها ال وهو بشر مثلك يتكلّم‬
‫بنفس طريقتك وبنفس الصوات؟‬
‫لذلك يقولون في معجزاته صلى ال عليه وسلم‪ :‬سبّح الحصى في يده‪ ،‬والصواب أن نقول‪ :‬سمع‬
‫رسول ال تسبيح الحصى في يده‪ ،‬وإلّ فالحصى يُسبّح في يد رسول ال‪ ،‬ويُسبّح في يد أبي جهل‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضا حنين الجذع لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ .‬ثم ألم يقل الحق سبحانه‪ {:‬وََأوْحَىا‬
‫حلِ‪[} ...‬النحل‪.]68 :‬‬
‫رَ ّبكَ إِلَىا النّ ْ‬
‫ألم َي ُقلْ عن الرض‪ {:‬بِأَنّ رَ ّبكَ َأوْحَىا َلهَا }[الزلزلة‪]5 :‬؟ ألم يُثبت للنملة كلما؟ ألم يكلم الهدهد‬
‫سليمان عليه السلم‪ ،‬وفهم منه سليمان؟‬

‫علِ َم صَلَتَهُ‬
‫إذن‪ :‬لكل جنس من المخلوقات لغته التي يفهمها أفراده عن بعض{ ُكلّ قَدْ َ‬
‫حهُ‪[} ...‬النور‪ ]41 :‬وإنْ شاء ال أطلع بعض خَلْقه على هذه اللغات‪ ،‬وأفهمه إياها‪.‬‬
‫وَتَسْبِي َ‬
‫ومعنى‪ } :‬هَاِلكٌ‪[ { ...‬القصص‪ ]88 :‬البعض يظن أن الهلك خاصّ بما فيه روح كالنسان‬
‫حيّ عَن بَيّ َنةٍ‪} ...‬‬
‫والحيوان‪ ،‬لكن لو وقفنا عند قوله تعالى‪ {:‬لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[النفال‪.]42 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالهلك يقابله الحياة‪ ،‬فكل شيء يهلك كانت له حياة تناسبه‪ ،‬وإنْ كنا ل نفهم إل حياتنا نحن‪،‬‬
‫والتي تذهب بخروج الروح‪.‬‬
‫جهَهُ‪[ { ...‬القصص‪ ]88 :‬أي‪ :‬إل ذاته تعالى‪ ،‬ولم ي ُقلْ‪ :‬إل هو؛ لنه تعالى ليس‬
‫ل وَ ْ‬
‫ومعنى‪ِ } :‬إ ّ‬
‫شيئا‪ ،‬وللوجه هنا معنى آخر‪ ،‬كما نقول‪ :‬فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجه ال يعني‪ :‬فعلت وال في بالي‪،‬‬
‫فالمعنى‪ :‬كل شيء هالك‪ ،‬إل ما كان لوجه ال‪ ،‬فل يهلك أبدا؛ لنه يبقى لك وتنال خيره في الدنيا‬
‫وثوابه في الخرة‪.‬‬
‫جعُونَ { [القصص‪ ]88 :‬أي‪ :‬له الحكم في الخرة يوم يقول‪{:‬‬
‫ح ْك ُم وَإِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬لهُ الْ ُ‬
‫ّلمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ‪[} ...‬غافر‪ ]16 :‬لكن لماذا خصّ الملك يوم القيامة‪ ،‬وهو سبحانه له الملْك الدائم‬
‫في الدنيا وفي الخرة؟ قالوا‪ :‬لن هناك مُلْكا في الدنيا‪ ،‬يُملّكه لخَلْقه‪ ،‬كما قال سبحانه في النمرود‪{:‬‬
‫أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ‪[} ...‬البقرة‪ ]258 :‬وقال سبحانه‪ُ {:‬تؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ‬
‫تَشَآءُ‪[} ...‬آل عمران‪.]26 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالملْك مُلْك ال‪ ،‬وهو سبحانه الذي يُملّك خَلْقه في الدنيا دنيا السباب‪ ،‬لكن في الخرة تُنزع‬
‫الملكية من أيّ أحد إل ل وحده‪ .‬حتى إرادة النسان على جوارحه تُسلَب منه‪ ،‬فتشهد عليه بما كان‬
‫منه في الدنيا‪.‬‬
‫وإنْ أردتَ أن تعرف الن صِدْق هذه المسألة فانظر إلى المور القدرية التي تجري عليك‪،‬‬
‫كالمرَض وكالموت وغيرها‪ ،‬هل تستطيع أن تتأبى عليها؟‬
‫جعُونَ { [القصص‪ ]88 :‬أي‪ :‬للحساب في الخرة؛ لن ال تعالى لم‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَإِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫يخلقنا عَبثا‪ ،‬ولن يتركنا هملً‪ ،‬بل ل بد من الرجوع إليه ليحاسب كلً منكم على ما قدّم‪ ،‬وما ُدمْتم‬
‫قد عرفتم ذلك‪ ،‬فعليكم أن تحترموا المرجع إلى ال‪ ،‬وتنظروا ماذا طلب منكم‪.‬‬
‫والمتتبع لهذا الفعل في القرآن يجد أنه جاء مرة مبنيا للمجهول (تُرجعون) وهو للكافر الذي تأبّى‬
‫على ال‪ ،‬فنقول له‪ :‬ستُرجع إلى ال‪ ،‬وتٌقذف في النار غَصبا عنك‪ ،‬ورَغْما عن أنفك‪ ،‬فإنْ تأبّ ْيتَ‬
‫على ال في الدنيا‪ ،‬فلن تتأبّى عليه في الخرة‪ ،‬ويأتي مبنيا للمعلوم (ترجعون) وهو للمؤمن الذي‬
‫يشتاق لثواب الخرة فيتهافت بنفسه ويُقبل عليه‪.‬‬

‫(‪)3266 /‬‬

‫الم (‪)1‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سبق أنْ تكلمنا كثيرا عن الحروف المقطعة في بدايات سور القرآن‪ ،‬كلما تكررت هذه الظاهرة‬
‫نتكلم عن مجالت الذهان في فهمها‪ ،‬وما دام الحق سبحانه يُكررها فعلينا أيضا أن نُكرّر الحديث‬
‫عنها‪ ،‬ولماذا ينثر ال هذه الظاهرة في سور القرآن؟ لتظل دائما على البال‪.‬‬
‫ي في كل آياته وسوره على ال َوصْل‪ ،‬ل على الوقف‪ ،‬اقرأ‪{:‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن القرآن الكريم مبن ّ‬
‫>مُدْهَآمّتَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ * فِي ِهمَا عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬
‫[الرحمن‪.]67-64 :‬‬
‫فلم يقل{ فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُت َكذّبَانِ }[الرحمن‪ ]65 :‬ويقف‪ ،‬إنما وصل‪ {:‬فِي ِهمَا عَيْنَانِ َنضّاخَتَانِ }‬
‫[الرحمن‪ ]66 :‬لن القرآن موصول‪ ،‬ل فصلَ أبدا بين آياته؛ لذلك ليس في القرآن من وقف‬
‫واجب‪ ،‬إنما لك أن تقف لضيق النفَس‪ ،‬لكن حينما تعيد تعيد بالوصل‪.‬‬
‫وكذلك القرآن مبنيّ على الوَصْل في السور‪ ،‬فحين تنتهي سورة ل تنتهي على سكون‪ ،‬فلم َيقُلْ ‪-‬‬
‫سمِ ال الرّحْمنِ الرّحيم) ليبدأ‬
‫جعُونَ ب ْ‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬وإليه ترجعونْ بسكون النون‪ ،‬إنما (تُرْ َ‬
‫سورة أخرى موصولة‪.‬‬
‫فهذه إذن سمة عامة في آيات القرآن وسُوره إل في الحروف المقطّعة في أوائل السور‪ ،‬فهي مبنية‬
‫على الوقف ألفْ لمْ ميمْ هكذا بالسكون ولم يقل‪ :‬ألفٌ لمٌ ميمٌ على ال َوصْل‪ ،‬لماذا؟ لنها حروف‬
‫مُقطّعة‪ ،‬قد يظنها البعض كلمة واحدة‪ ،‬ففصَل بينها بالوقف‪.‬‬
‫لذلك يقول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل أقول الم حرف‪ .‬ولكن ألف حرف‪ ،‬ولم حرف‪ ،‬وميم حرف‬
‫" وليؤكد هذا المعنى جعلها على الوقف‪ ،‬كل حرف على حدة‪.‬‬
‫وتكلمنا على هذه الحروف وقلنا‪ :‬إنها خامات القرآن‪ ،‬فمن مثل هذه الحروف يُنسج كلم ال‪،‬‬
‫ل ل تعطي أحدهم قطنا‪ ،‬والخر‬
‫وقلنا‪ :‬إنك إنْ أردتَ أن تُميّز مهارة النسْج عند بعض العمال مث ً‬
‫صوفا‪ ،‬والخر حريرا مثلً؛ لنك ل تستطيع التمييز بينهم‪ ،‬لن الخامات مختلفة‪ ،‬فالحرير بطبيعته‬
‫سيكون أنعم وأرقّ‪ .‬فإنْ أردتَ معرفة المهارة فوحّد المادة الخام عند الجميع‪.‬‬
‫فكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يقول لنا‪ :‬إن القرآن ُمعْجز‪ ،‬بدليل أنكم تملكون نفس حروفه‪ ،‬ومع‬
‫ذلك عجزتُمْ عن معارضته‪ ،‬فقد استخدم القرآن نفس حروفكم‪ ،‬ونفس كلماتكم وألفاظكم‪ ،‬وجاء بها‬
‫في صورة بليغة‪ ،‬عَزّ عليكم التيان بمثلها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬اختلف أسلوب القرآن‪ ،‬لن ال تعالى هو الذي يتكلم‪ .‬فمعنى (ألم) هذه نفس حروفكم فأتوا‬
‫بمثلها‪.‬‬
‫أو‪( :‬ألم) تحمل معنى من المعاني؛ لن ألف لم ميم أسماء حروف‪ ،‬وأسماء الحروف ل يعرفها‬
‫ي يقول (كتب) لكن ل يعرف أسماء حروفها‪ ،‬وتقول للولد الصغير في المدرسة‪:‬‬
‫إل المتعلم‪ ،‬فالُم ّ‬
‫تهجّ كتب فيقول لك (كاف فتحة كَ) و (تاء فتحة تَ) و (باء فتحة بَ)‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬ل يعرف أسماء الحروف إل المتعلم‪ ،‬وسيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم كان أميا‪ ،‬فمن‬
‫أين نطق بأسماء الحروف الم‪ ،‬طه‪ ،‬يس‪ ،‬ق‪.‬‬

‫ي في‬
‫‪ ..‬إلخ‪ .‬إذن‪ :‬ل ُبدّ أن ربه علّمه ولقّنه هذه الحروف‪ ،‬ومن هنا جاءت أهمية التلقين والتلق ّ‬
‫ك صَدْ َركَ }[الشرح‪]1 :‬‬
‫تعلّم القرآن‪ ،‬وإل فكيف يُفرّق المتعلم بين (الم) هنا وبين{ أَلَمْ َنشْرَحْ َل َ‬
‫فينطق الولى على الوقْف‪ ،‬والخرى على ال َوصْل‪ ،‬ينطق الولى بأسماء الحروف‪ ،‬والثانية‬
‫بمُسمّياتها؟‬
‫وتحمل (الم) أيضا معنى التنبيه للسامع‪ ،‬فالقرآن نزل بأسلوب العرب ولغتهم‪ ،‬فل ُبدّ أن تتوفر له‬
‫خصائص العربية والعربية الراقية‪ ،‬فلو قرأنا مثلً في الشعر الجاهلي نجد عمرو بن كلثوم‬
‫صحْنِك فَاصْبِحينَا ولَ تُبقِي خمور الندرينانسأل‪ :‬ماذا أفادت (َألَ) هنا‪ ،‬والمعنى‬
‫يقول‪َ:‬ألَ هُبّي ب َ‬
‫يصح بدونها؟ (أل) لها معنى عند العربي؛ لنها تنبهه إنْ كان غافلً حتى ل يفوته شيء من كلم‬
‫مُحدّثه‪ ،‬حينما ُيفَاجأ به‪ ،‬كما تنادي أنت الن مَنْ ل تعرفه فتقول‪( :‬اسمع يا‪ )...‬كأنك تقول له‪ :‬تنبه‬
‫لنني سأكلمك‪.‬‬
‫والتنبيه جاء في اللغة من أن المتكلم يتكلّم برغبته في أي وقت‪ ،‬أما السامع فقد يكون غافلً غير‬
‫مُنتبه‪ ،‬أو ليس عند استعداد لنْ يسمعَ‪ ،‬فيحتاج لمن يُنبّهه ليفهم ما يُقال له‪ ،‬إنما لو فاجأتَه بالمراد‪،‬‬
‫فربما فاته منه شيء قبل أنْ يتنبه لك‪.‬‬
‫وكذلك في (الم) حروف للتنبيه‪ ،‬على أنه سيأتي كلم نفيس اسمعه جيدا‪ ،‬إياك أنْ يضيع منك‬
‫حرف واحد منه‪ .‬كما يصح أنْ يكون لهذه الحروف معانٍ أخرى‪ ،‬يفهمها غيرنا ممّنْ فتح ال‬
‫عليهم‪ .‬فهي ‪ -‬إذن ‪ -‬معين ل ينضب‪ ،‬يأخذ منه ُكلّ على قَدْره‪.‬‬
‫سبَ النّاسُ أَن‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬أَحَ ِ‬

‫(‪)3267 /‬‬

‫سبَ النّاسُ أَنْ يُتْ َركُوا أَنْ َيقُولُوا َآمَنّا وَهُمْ لَا ُيفْتَنُونَ (‪)2‬‬
‫حِ‬‫أَ َ‬

‫الفعل (حسِب) بالكسر في الماضي‪ ،‬وبالفتح في المضارع (يحسَب) يعني‪ :‬ظن‪ .‬أما (حسَب)‬
‫والمضارع (يحسِب) بالكسر أي‪ :‬عَدّ‪.‬‬
‫سبَ النّاسُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]2 :‬أي‪ :‬ظنوا‪ .‬والهمزة للستفهام‪ ،‬وهي تفيد نفي هذه‬
‫حِ‬‫فالمعنى‪ { :‬أَ َ‬
‫الظن وإنكاره‪ ،‬لنهم حَسِبوا وظنوا أنْ يتركهم ال دون فتنة وتمحيص واختبار‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحق سبحانه يريد أن يحمل أولوا العزم رسالة السلم؛ لن السلم ل يتصدّى لحمل دعوته إل‬
‫أقويا ُء اليمان الذين يقدرون على حمل مشاق الدعوة وأمانة تبليغها‪.‬‬
‫ن يؤمنوا؛‬
‫ت كفار مكة أ ْ‬
‫واليمان ليس كلمة تُقال‪ ،‬إنما مسئولية كبرى‪ ،‬هذه المسئولية هي التي منع ْ‬
‫لنهم يعلمون أن كلمة ل إله إل ال ليست مجرد كلمة وإل َلقَالوها‪ ،‬إنما هي منهج حياة له‬
‫متطلبات‪ .‬إنها تعني‪ :‬ل ُمطَاعَ إل ال‪ ،‬ول معبود بحقّ إل ال‪ ،‬وهم ل يريدون هذه المسألة لتظل‬
‫لهم مكانتهم وسلطتهم الزمنية‪.‬‬
‫سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن َيقُولُواْ آمَنّا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]2 :‬فاليمان‬
‫لذلك يقول سبحانه هنا‪ { :‬أَحَ ِ‬
‫ليس َق ْولً فحسب؛ لن القول قد يكون صِدْقا‪ ،‬وقد يكون كذبا‪ ،‬فل ُبدّ بعد القول من الختبار‬
‫وتمحيص اليمان { وَهُ ْم لَ ُيفْتَنُونَ } [العنكبوت‪ ]2 :‬فإنْ صبر على البتلءات وعلى المحن فهو‬
‫صادق اليمان‪.‬‬
‫ويؤكد سبحانه هذا المعنى في آية أخرى‪َ {:‬ومِنَ النّاسِ مَن َيعْبُدُ اللّهَ عَلَىا حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ‬
‫جهِهِ خَسِرَ الدّنْيَا وَالَخِ َرةَ‪[} ...‬الحج‪.]11 :‬‬
‫طمَأَنّ ِب ِه وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ا ْنقَلَبَ عَلَىا وَ ْ‬
‫ا ْ‬
‫وقد محّص ال السابقين الولين من المؤمنين بآيات وخوارق تخالف الناموس الكوني‪ ،‬فكان‬
‫صدْق الرسول الذي جاء بها‪ ،‬أما المتردد المتحيّر فيُكذّب بها‪ ،‬ويراها‬
‫المؤمن يُصدّق بها‪ ،‬ويؤمن ب ِ‬
‫غير معقولة‪.‬‬
‫" ومن ذلك ما كان من الصّدّيق أبي بكر في حادثة السراء والمعراج‪ ،‬فلمّا حدّثوه بما قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم قال‪ " :‬إنْ كان قال فقد صدق " في حين ارتد البعض وكذّبوا‪ ،‬وكأن الحق‬
‫‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يريد من هذه الخوارق‪ ،‬التي يقف أمامها العقل ‪ -‬أنْ يُميّز بين الناس ليحمل‬
‫أمر الدعوة أشداءُ اليمان والعقيدة‪ ،‬ومَنْ لديهم يقين بصِدْق الرسول في البلغ عن ربه‪.‬‬
‫وسبق أنْ بيّنا غباء مَنْ َكذّب بحادثة السراء والمعراج من كفار مكة الذين قالوا لرسول ال‪:‬‬
‫أتدّعي أنك أتيت بيت المقدس في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد البل شهرا؟ وأنهم غفلوا أو‬
‫تغافلوا عن نص الية‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ‪[} ...‬السراء‪ ]1 :‬فلم يقل محمد‪ :‬إني سريت‬
‫بنفسي إنما ُأسْري بي‪.‬‬
‫وقلنا للرد عليهم‪ :‬لو جاءك رجل يقول لك‪ :‬لقد صعدتُ بولدي الرضيع قمة إفرست مثلً‪ ،‬أتقول‬
‫له‪ :‬كيف يصعد الرضيع قمة إفرست؟‬
‫وسبق أنْ تكلّمنا في قضية ينبغي أن تظل في أذهانكم جميعا‪ ،‬وهي أن كل فعل يأخذ نصيبه من‬
‫الزمن على قَدْر قوة فاعله‪ ،‬فالوزن الذي ينقله الطفل الصغير في عدة مرات تحمله أنت في يد‬
‫واحدة‪.‬‬

‫فالزمن يتناسب مع القوة تناسبا عكسيا فكلما زادت القوة قلّ الزمن‪ ،‬فالذي يذهب مثلً إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السكندرية على حمار غير الذي يذهب في سيارة أو على مَتْن طائرة‪ .‬وهكذا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬قِسْ على قدر قوة الفاعل‪ ،‬فإنْ كان السراء بقوة ال تعالى‪ ،‬وهي قوة القوى فل زمن‪ ،‬وهذه‬
‫مسألة يقف عندها العقل‪ ،‬ول يقبلها إل باليمان‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق سبحانه يُمحّصكم ويبتليكم؛ لنه يريدكم لمهمة عظيمة‪ ،‬ل يصلح لها إل الصنديد القوي‬
‫في إيمانه ويقينه‪.‬‬
‫لمَوَالِ‬
‫ف وَالْجُوعِ وَنَ ْقصٍ مّنَ ا َ‬
‫خ ْو ِ‬
‫شيْءٍ مّنَ الْ َ‬
‫لذلك يقول سبحانه في أكثر من موضع‪ {:‬وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ ِب َ‬
‫س وَال ّثمَرَاتِ وَبَشّرِ الصّابِرِينَ }[البقرة‪.]155 :‬‬
‫وَالَنفُ ِ‬
‫ن وَنَبُْلوَاْ َأخْبَا َركُمْ }[محمد‪.]31 :‬‬
‫وقال‪ {:‬وَلَنَبُْلوَ ّنكُمْ حَتّىا َنعْلَمَ ا ْلمُجَا ِهدِينَ مِنكُ ْم وَالصّابِرِي َ‬
‫وقال‪ {:‬أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَ ْدخُلُواْ الْجَنّ َة وََلمّا َيعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَا َهدُواْ مِنكُمْ‪[} ...‬آل عمران‪.]142 :‬‬
‫فهذه البتلءات كالمتحان الذي نُجريه للتلميذ لنعرف مقدرة كل منهم‪ ،‬والمهمة التي يصلح للقيام‬
‫جعَِلتْ البتلءات إل‬
‫بها‪ ،‬ومعلوم أن البتلءات ل ُتذَمّ لذاتها‪ ،‬إنما لنتائجها المترتبة عليها‪ ،‬فما ُ‬
‫لمعرفة النتائج‪ ،‬وتمييز الصلح للمهمة التي نُدِب إليها‪.‬‬
‫ومعنى } ُيفْتَنُونَ { [العنكبوت‪ ]2 :‬يُخْتبرون‪ .‬مأخوذة من فتنة الذهب‪ ،‬حين نصهره في النار؛‬
‫لنُخِرج ما فيه من خَبَث‪ ،‬ونُصفّي معدنه الصلح‪ ،‬فيما يناسب مهمته‪.‬‬
‫سمَآءِ مَآءً فَسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ‬
‫ومن ذلك ما ضربه ال لنا مثلً للحق وللباطل في قوله تعالى‪ {:‬أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْ ِتغَآءَ حِلْ َيةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَ َبدٌ مّثْلُهُ كَذاِلكَ‬
‫جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ‬
‫طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَ َيذْ َهبُ ُ‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫َيضْ ِربُ اللّهُ ا ْلحَ ّ‬
‫لمْثَالَ }[الرعد‪.]17 :‬‬
‫َيضْ ِربُ اللّ ُه ا َ‬
‫فالفتنة ما كانت إل لنعرف الصادق من ال َقوْلة اليمانية والكاذب فيها‪ :‬الصادق سيصبر ويتحمل‪،‬‬
‫والكاذب سينكر ويتردد‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََلقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3268 /‬‬

‫ن صَ َدقُوا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلكَاذِبِينَ (‪)3‬‬


‫وَلَقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِنْ قَبِْل ِهمْ فَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِي َ‬

‫عذّبوا وأوذوا‪ ،‬وضُرِبوا بالسياط‬


‫الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يُسلّي السابقين من أمة محمد الذين ُ‬
‫تحت حَرّ الشمس‪ ،‬و ُوضِعت الحجارة الثقال على بطونهم‪ ،‬والذين جاعوا حتى أكلوا الميتة وأوراق‬
‫الشجرة يُسلّيهم‪ :‬لَسْتم بدعا في هذه البتلءات فاصمدوا لها كما صمد السابقون من المؤمنين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ وََلقَدْ فَتَنّا الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]3 :‬فانظر مثلً إلى ابتلء بني إسرائيل مع فرعون‪،‬‬
‫ن صَ َدقُواْ‬
‫إذن فابتلؤكم أهونِ وأخفّ‪ ،‬وفيه رحمة من ال بكم وأنتم أيسر منهم { فَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِي َ‬
‫وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلكَاذِبِينَ } [العنكبوت‪.]3 :‬‬
‫ولك أن تقول‪ :‬ألم يكُن ال تعالى يعلم حقيقتهم قبل أنْ يبتليهم؟ بلى‪ ،‬يعلم سبحانه حقيقةَ عباده‪،‬‬
‫وليس الهدف من اختبارهم العلم بحقيقتهم‪ ،‬إنما الهدف أنْ يُقر العبد بما عُلِم عنه‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬حينما نقول للمدرس مثلً‪ :‬اعْطنا نتيجة هؤلء التلميذ‪ ،‬فليس‬
‫في الوقت سعة للمتحان فيقول من واقع خبرته بهم‪ :‬هذا ناجح‪ ،‬وهذا راسب‪ ،‬وهذا الول‪ ،‬وهذا‬
‫كذا‪ .‬عندها يقوم الراسب ويقول‪ :‬لو اختبرتني لكنت ناجحا‪ ،‬ولو اختبره معلّمه لرسب فعلً‪ .‬إذن‪:‬‬
‫فربنا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يختبر عباده ليُقر كل منهم بما عُلم عنه‪.‬‬
‫ن صَ َدقُو ْا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلكَاذِبِينَ } [العنكبوت‪ ]3 :‬عِلْم ظهور وإقرار من صاحب‬
‫{ فَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِي َ‬
‫الشأن نفسه‪ ،‬بحيث ل يستطيع إنكارا‪ ،‬حيث سيشهد هو على نفسه حين تشهد عليه جوارحه‪.‬‬

‫(‪)3269 /‬‬

‫ح ُكمُونَ (‪)4‬‬
‫سبَ الّذِينَ َي ْعمَلُونَ السّيّئَاتِ أَنْ يَسْ ِبقُونَا سَاءَ مَا َي ْ‬
‫أَمْ حَ ِ‬

‫سبَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]4 :‬أي‪ :‬ظن الذين يعملون السيئات { أَن َيسْ ِبقُونَا‪} ...‬‬
‫حِ‬‫هنا أيضا { َ‬
‫[العنكبوت‪ ]4 :‬أي‪ :‬يُفلتوا من عقابنا‪ ،‬تقول‪ :‬سبق فلن فلنا يعني‪ :‬أفلت منه وهو يطارده‪،‬‬
‫ن كانوا يعتقدون ذلك أو يظنونه‪،‬‬
‫فالمعنى أنهم لن يستطيعوا الفلت من العذاب أو الهرب منه‪ ،‬وإ ْ‬
‫فبئس هذا الظن‪.‬‬
‫ح ُكمُونَ } [العنكبوت‪ ]4 :‬أي‪ :‬قَبُح حكمهم وبَطُل‪ ،‬وحين نحكم على ظنهم وعلى حكمهم‬
‫{ سَآءَ مَا َي ْ‬
‫بالبطلن فإنما نثبت قضيتنا‪ ،‬وهي أنهم لن ُيفْلِتوا من عقابنا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬مَن كَانَ يَ ْرجُو ِلقَآءَ اللّهِ فَإِنّ‪.} ...‬‬

‫(‪)3270 /‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ (‪)5‬‬


‫ت وَ ُهوَ ال ّ‬
‫جلَ اللّهِ لََآ ٍ‬
‫مَنْ كَانَ يَرْجُو ِلقَاءَ اللّهِ فَإِنّ َأ َ‬

‫معنى { يَرْجُو ِلقَآءَ اللّهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]5 :‬يعني‪ :‬يؤمن به وينتظره ويعمل من أجله‪ ،‬يؤمن بأن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال الذي خلقه وأعدّ له هذا الكون ليحيا حياته الطيبة‪ ،‬وأنه سبحانه بعد ذلك سيُعيده ويحاسبه؛ لذلك‬
‫شكْرا له على ما وهب‪ ،‬فليعبده خوفا منه أنْ يناله بسوء في الخرة‪.‬‬
‫إنْ لم يعبده ويطعْه ُ‬
‫وأهل المعرفة يروْنَ فرقا بين مَنْ يرجو الثواب ويرجو رحمة ال‪ ،‬ومن يرجو لقاء ال لذات‬
‫خوْفِ نَارٍ‬
‫اللقاء‪ ،‬ل خوفا من نار‪ ،‬ول طمعا في جنة؛ لذلك تقول رابعة العدوية‪:‬كُلّهم َيعْبدُونَ مِنْ َ‬
‫ظوْا ب ُقصُورٍ ويَشْربُوا سَلْسبِيللَيْسَ لي بالجنَانِ‬
‫سكُنُوا الجِنانَ فيح َ‬
‫حظّا جَزِيلًَأوْ بِأَنْ يَ ْ‬
‫ويروْنَ النجاةَ َ‬
‫حبّ لذاتك‪ ،‬ل خوفا من نارك‪ ،‬ول‬
‫حظّ أنَا ل أبتغي بحِبي بَديلَأي‪ :‬أحبك يا رب‪ ،‬لنك ُت َ‬
‫والنّارِ َ‬
‫ن كنتَ تعلم أني أحبك طمعا في جنتك فاحرمني منها‪،‬‬
‫طمعا في جنتك‪ ،‬وهي أيضا القائلة‪ :‬اللهم إ ْ‬
‫وإنْ كنتَ تعلم أنّي أعبدك خوفا من نارك فاحرقني بها‪.‬‬
‫ل صَالِحا وَلَ يُشْ ِركْ ِبعِبَا َدةِ‬
‫عمَ ً‬
‫ويقول تعالى في سورة الكهف‪َ {:‬فمَن كَانَ يَرْجُواْ ِلقَآءَ رَبّهِ فَلْ َي ْعمَلْ َ‬
‫رَبّهِ َأحَدَا }[الكهف‪ ]110 :‬ولو كانت الجنة لن لقاء ال أعظم‪ ،‬وهو الذي يُرْجى لذاته‪.‬‬
‫جلَ اللّ ِه لتٍ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]5 :‬فأكّده‬
‫والحق سبحانه يؤكد هذه المسألة بأكثر من مؤكد‪ { :‬فَإِنّ َأ َ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ }‬
‫بإن واللم وصيغة اسم الفاعل الدالة على تحقّق الفعل‪ ،‬كما قال سبحانه‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫[القصص‪ ]88 :‬ولم يقل‪ :‬سيهلك‪ ،‬وقوله سبحانه مخاطبا نبيه محمدا صلى ال عليه وسلم‪ {:‬إِ ّنكَ‬
‫مَ ّيتٌ وَإِ ّنهُمْ مّيّتُونَ }[الزمر‪.]30 :‬‬
‫ن يؤول أمره وإن طال عمره إلى‬
‫يخاطبهم بهذه الصيغة وهم ما يزالون أحياءً؛ لن الميّت‪ :‬مَ ْ‬
‫ن مات فعلً فيُسمّى (مَيْت)‪.‬‬
‫الموت‪ ،‬أما مَ ْ‬
‫وأنت حينما تحكم على شيء مستقبل تقول‪ :‬يأتي أو سيأتي‪ ،‬وتقول لمن تتوعده‪ :‬سأفعل بك كذا‬
‫ت وتكلمتَ بشيء ل تملك عنصرا من عناصره‪ ،‬فل تضمن مثلً أنْ تعيش لغد‪،‬‬
‫وكذا‪ ،‬فأنت جازف َ‬
‫ت ل تضمن أن يعيش هو‪ ،‬وإنْ عاش ربما يتغير فكرك ناحيته‪ ،‬أو فقدتَ القدرة على‬
‫وإنْ عش َ‬
‫تنفيذ ما تكلمت به كأنْ يصيبك مرض أو يِلُم بك حدث‪.‬‬
‫لكن حينما يتكلم مَنْ يملك ازمّة المور كلها‪ ،‬ويعلم سبحانه أنه لن يفلت أحد منه‪ ،‬فحين يحكم‪،‬‬
‫فليس للزمن اعتبار في فعله‪ ،‬لذلك لم يقل سبحانه‪ :‬إن أجل ال سيأتي‪ ،‬بل { لتٍ‪[ } ...‬العنكبوت‪:‬‬
‫‪ ]5‬على وجه التحقيق‪.‬‬
‫جلُوهُ‪[} ...‬النحل‪:‬‬
‫وسبق أنْ ذكرنا في هذا الصدد قوله تعالى عن القيامة‪ {:‬أَتَىا َأمْرُ اللّهِ فَلَ تَسْ َتعْ ِ‬
‫‪ ]1‬وقد وقف السطحيون أمام هذه الية يقولون‪ :‬وهل يستجعل النسان إل ما لم يَ ْأتِ َبعْد؟ لنهم ل‬
‫يفهمون مراد ال‪ ،‬وليست لديهم مَلَكة العربية‪ ،‬فال تعالى يحكم على المستقبل‪ ،‬وكأنه ماضٍ أي‬
‫مُحقّق؛ لنه تعالى ل يمنعه عن مراده مانع‪ ،‬ول يحول دونه حائل‪.‬‬

‫جلٌ فَِإذَا جَآءَ أَجَُل ُه ْم لَ‬


‫ولفظ الجل جاء في القرآن في مواضع كثيرة‪ ،‬منها‪ {:‬وَِل ُكلّ ُأمّةٍ أَ َ‬
‫جلَ اللّ ِه لتٍ‪...‬‬
‫يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ }[العراف‪ ]34 :‬وفي الية التي معنا‪ } :‬فَإِنّ َأ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ [العنكبوت‪.]5 :‬‬
‫والجلن مختلفان بالنسبة للحضور الحياتي للنسان‪ ،‬فالجل الول يُنهي الحياة الدنيا‪ ،‬والجل‬
‫الخر يُعيد الحياة في الخرة للقاء ال عز وجل‪ ،‬إذن‪ :‬فالجلن مرتبطان‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حينما يعرض لنا قضية غيبية يُؤنِسنا فيها بشيء حسيّ معلوم لنا‪،‬‬
‫حتى يستطيع العقل أن ينفذ من الحَسيّ إلى الغيبي غير المشاهد‪ .‬وأنت ترى أن أعمار بني آدم من‬
‫هذه الحياة تتفاوت‪ :‬فواحد تغيض به الرحام‪ ،‬فل يخرج للحياة‪ ،‬وواحد يتنفس زفيرا واحدا‬
‫ويموت‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وفي كل لحظة من لحظات الزمن نعاين الموت‪ ،‬مَنْ يموت بعد نفَس واحد‪ ،‬ومَنْ يموت بعد المائة‬
‫عام‪ .‬إذن‪ :‬فل رتابة في انقضاء الجل‪ ،‬ل في سِنّ ول في سبب‪ :‬فهذا يموت بالمرض‪ ،‬وهذا‬
‫بالغرق‪ ،‬وهذا يموت على فراشه‪.‬‬
‫سقْما شَديد الَثَرفَ ُربّ عليلٍ تراهُ اسْتفاقَ‬
‫س الممات وإنْ كانَ ُ‬
‫سقْم كأ َ‬
‫لذلك يقول الشاعر‪:‬فَل تحسَب ال ّ‬
‫سقِيمُ فََلمْ يذْهبوتجد السبب‬
‫و ُربّ سَليمٍ تَرَاهُ احتُضرْوقال آخر‪َ :‬وقَدْ ذَهَب الممتِلي صح ًة وصَحّ ال ّ‬
‫الجامع في الوباءات التي تعتري الناس‪ ،‬فيموت واحد ويعيش آخر‪ ،‬فليس في الموت رتابة‪ ،‬والحق‬
‫ع ًة وَلَ‬
‫جلٌ فَإِذَا جَآءَ َأجَُلهُ ْم لَ َيسْتَأْخِرُونَ سَا َ‬
‫‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حينما يقول‪ {:‬وَِلكُلّ ُأمّةٍ َأ َ‬
‫يَسْ َتقْ ِدمُونَ }[العراف‪ ]34 :‬نجد واقع الحياة يؤكد هذا‪ ،‬فل وحدةَ في عمر‪ ،‬ول وحدةَ في سبب‪.‬‬
‫والصدق في الجل الول المشاهد لنا يدعونا إلى تصديق الجل الخر‪ ،‬وأن أجل ال لت‪،‬‬
‫فالجل الذي أنهى الحياة بالختلف هو الذي يأتي بالحياة بالتفاق‪ ،‬فبنفخة واحدة سنقوم جميعا‬
‫أحياءً للحساب‪ ،‬فإن اختلفنا في الولى فسوف نتفق في الخرة؛ لن الرواح عند ال من لَدُنْ آدم‬
‫عليه السلم وحتى تقوم الساعة‪ ،‬وبنفخة واحدة يقوم الجميع‪.‬‬
‫وسبق أن قُلْنا‪ :‬إن الزمان ثلثة‪ :‬حاضر نشهده‪ ،‬وماضٍ غائب عنا ل نعرف ما كان فيه‪،‬‬
‫ومستقبل ل نعرف ما يكون فيه‪ .‬والحق سبحانه يعطي لنا في الوجود المشاهد دليلَ الصدق في‬
‫غير المشاهد‪ ،‬فنحن مثلً ل نعرف كيف خلقنا الخَلْق الول إل من خلل ما أخبرنا ال به أن‬
‫أَصلْ النسان تراب اختلط بالماء حتى صار طينا‪ ،‬ثم حمأ مسنونا‪ ،‬ثم صلصالً كالفخار‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫ثم جعل نسل النسان من نطفة تتحول إلى علقة‪ ،‬ثم إلى مضغة‪ ،‬ثم إلى عظام‪ ،‬ثم ُتكْسى العظام‬
‫لحما‪ .‬وإنْ كان العلم الحديث أرانا النطفة والعلقة والمضغة‪ ،‬وأرانا كيف يتكوّن الجنين‪ ،‬فيبقى‬
‫الخَلْق الول من تراب غيبا ل يعلمه أحد‪.‬‬
‫شهَدّتهُمْ‬
‫ول تُصدّق من يقول‪ :‬إني أعلمه؛ لن ال تعالى حذرنا من هؤلء المضلين في قوله‪ {:‬مّآ أَ ْ‬
‫عضُدا }‬
‫سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫ض َولَ خَ ْلقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫ت وَالَرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خَ ْلقَ ال ّ‬

‫[الكهف‪.]51 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فل علمَ لهم بخَلْق النسان‪ ،‬ول علمَ لهم بخَلْق ظواهر الكون‪ ،‬فل تسمع لهم‪ ،‬وخُ ْذ معلوماتك من‬
‫كتاب ربك الذي خلق سبحانه‪ ،‬ويقوم وجود المضلين الذين يقولون‪ :‬إن الرض قطعة من الشمس‬
‫انفصلتْ عنها‪ ،‬أو أن النسان أصله قرد ‪ -‬يقوم وجودهم‪ ،‬وتقوم نظرياتهم دليلً على صدق الحق‬
‫سبحانه فيما أخبر‪.‬‬
‫وإل‪ ،‬فكيف نُصدّق نظرية ترقّي القرد إلى النسان؟ ولماذا ترقّى قرد (دارون) ولم تترقّ باقي‬
‫القرود؟‬
‫جدِينَ }‬
‫ختُ فِيهِ مِن رّوحِي فَ َقعُواْ لَهُ سَا ِ‬
‫سوّيْتُ ُه وَنَفَ ْ‬
‫وإذا كان المؤمن مُصدّقا بقوله تعالى‪ {:‬فَإِذَا َ‬
‫ن ل يؤمن ول يُصدّق؟ لذلك‬
‫[الحجر‪ ]29 :‬لنه آمن بال‪ ،‬وآمن بما جاء به رسول ال‪ ،‬فكيف بمَ ْ‬
‫ن كنتَ ل‬
‫يُؤنِس الحق سبحانه هذه العقول المستشرفة لمعرفة حقائق الشياء يُؤنِسها بما تشاهد‪ :‬فإ ْ‬
‫تُصدّق مسألة الخَلْق فأنت بل شكّ تشاهد مسألة الموت وتعاينه كل يوم‪ ،‬والموت َن ْقضٌ للحياة‪،‬‬
‫ونَقْض الشيء يأتي عكْس بنائه‪.‬‬
‫والخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬أخبر أن الروح هي آخر شيء في بناء النسان‪ ،‬لذلك هي أول شيء‬
‫يُنقَض فيه عند الموت‪ ،‬إذن‪ :‬مشهدك في كيف تموت‪ ،‬يؤكد لك صِدْق ال في كيف جئت؟‬
‫وأجل الخرة أمر ل بُدّ منه ليُثاب المطيع و ُيعَاقب العاصي‪َ ،‬ألَ ترى إلى النظم الجتماعية حتى‬
‫عند غير المؤمنين تأخذ بهذا المبدأ لستقامة حركة الحياة؟ فما بالك بمنهج ال تعالى في خَلْقه‪،‬‬
‫أيترك الظالم والمجرم يُفلِت من العقاب في الخرة بعد أنْ أفلت من عقاب الدنيا؟‬
‫وكنا نردّ بهذا المنطق على الشيوعيين‪ :‬لقد عاقبتُم مَنْ طالته أيديكم من المجرمين‪ ،‬فكيف بمَنْ‬
‫ماتوا ولم تعاقبوهم‪ ،‬أليستِ الخرةُ تحلّ لكم هذا المأزق؟‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ { [العنكبوت‪ ]5 :‬أل ترى أنه تعالى لو قال‪ :‬العليم‬
‫ثم تُختمَ الية بقوله تعالى‪ } :‬وَ ُهوَ ال ّ‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ‬
‫فقط لشملَ المسموع أيضا؛ لن العلم يحيط بكل المدركات؟ فلماذا قال } ال ّ‬
‫{ [العنكبوت‪]5 :‬؟‬
‫قالوا‪ :‬لن اللغة العربية حينما تكلمتْ عن العمل والفعل والقول قسّمت الجوارح أقساما‪ :‬فاللسان له‬
‫القول‪ ،‬وبقية الجوارح لها الفعل‪ ،‬وهما جميعا عمل‪ ،‬فالقول عمل اللسان‪ ،‬والفعل عمل بقية‬
‫الجوارح‪ ،‬فكأن اللسان أخذ شطر العمل‪ ،‬وبقية الجوارح أخذت الشطر الخر‪.‬‬
‫وباللسان معرفة إيمانك‪ ،‬حين تقول‪ :‬ل إله إل ال محمد رسول ال‪ ،‬وهي أشرف ما يعمل‬
‫خلْقه‪ ،‬إذن‪ :‬فأفعال الجوارح الشرعية ناشئة من اللسان ومن‬
‫النسان‪ ،‬وبه بلغ الرسول عن ال ل َ‬
‫السماع؛ لذلك جعل القول وهو عمل اللسان شطر العمل كله‪.‬‬
‫ولهمية القول قال تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف‪ ]2 :‬فكل فعل‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ {‬
‫ناشيء عن انصياع لقول أو سماع لقول؛ لذلك ختم سبحانه هذه الية بقوله‪ } :‬وَ ُهوَ ال ّ‬
‫[العنكبوت‪.]5 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3271 /‬‬

‫َومَنْ جَا َهدَ فَإِ ّنمَا يُجَا ِهدُ لِ َنفْسِهِ إِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)6‬‬

‫وكلمة { جَاهَدَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]6 :‬تناسب النجاح في البتلء‪ ،‬والجهاد‪ :‬بذْل الجهد في إنفاذ‬
‫المراد‪ ،‬ومنه اجتهد فلن في كذا يعني‪ :‬عمل أقصى ما في وُسْعه من الجدّ والجتهاد في أن‬
‫يستنبط الحكم‪.‬‬
‫والجهاد له مجالن‪ :‬مجال في النفس يجاهدها ليقْوَى بمجاهدة نفسه على مجاهدة عدوه‪.‬‬
‫وجاهد‪ :‬مفاعلة‪ ،‬كأن الشيء الذي تريده صعب‪ ،‬يحتاج إلى جهد منك ومحاولة‪ ،‬والمفاعلة تكون‬
‫من الجانبين‪ :‬منك ومن الشيء الذي يقابلك‪ ،‬وأول ميادين الجهاد النفس البشرية؛ لن ربك خلق‬
‫فيك غرائز وعواطف لمهمة تؤديها‪ ،‬ثم يأتي منهج السماء ليكبح هذه الغرائز ويُرقّيها‪ ،‬حتى ل‬
‫تنطق معها إلى ما ل يُباح‪.‬‬
‫فحب الستطلع مثلً غريزة محمودة في البحث العلمي والكتشافات النافعة‪ ،‬أمّا إنْ تحوّل إلى‬
‫تجسّس وتتبع لعورات الناس فهو حرام؛ الكل والشرب غريزة لتقتات به‪ ،‬وتتولد عندك القدرة‬
‫على العمل‪ ،‬فإنْ تحوّل إلى نهم وشراهة فقد خرجت بالغريزة عن مرادها والهدف منها‪.‬‬
‫وعجيب أمر الناس في تناول الطعام‪ ،‬فالسيارة مثلً ل نعطيها خليطا من الوقود‪ ،‬إنما هو نوع‬
‫واحد‪ ،‬أما النسان فل تكفيه عدة أصناف‪ ،‬كل منها لها تفاعل في الجسم‪ ،‬حينما تتجمع هذه‬
‫التفاعلت تضر أكثر مما تنفع‪.‬‬
‫حدّ العتدال‪ ،‬عملً بالثر‪ " :‬نحن قوم ل‬
‫إذن‪ :‬هذه الغرائز تحتاج منك إلى مجاهدة؛ لتظل في َ‬
‫نأكل حتى نجوع‪ ،‬وإذا أكلنا ل نشبع‪ ،‬ول نشرب حتى نظمأ‪ ،‬وإذا شربنا ل نقنع "‪.‬‬
‫ولو عملنا بهذا الحديث لَقضيْنا على القنبلة الذرية للقتصاد في بلدنا‪ ،‬وكم تحلو لك اللقمة بعد‬
‫ت ل تمل‬
‫الجوع مهما كانت بسيطة وغير مكلّفة؛ لذلك يقولون‪ :‬نعم الدام الجوع‪ ،‬ثم إذا أكل َ‬
‫المعدة‪ ،‬ودع كما قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬فثلث لطعامه‪ ،‬وثلث لشرابه‪ ،‬وثلث لنفَسه‬
‫"‪.‬‬
‫وبهذا المنهج الغذائي الحكيم نضمن بنية سليمة وعافية ل يخالطها مرض‪.‬‬
‫ن تقف بها عند مهمتك‪ .‬ومثل الغرائز العواطف من حب‬
‫فالغرائز خلقها ال فيك لمهمة‪ ،‬فعليك أ ْ‬
‫ن تقفَ بها عند حدود العاطفة ل تتعداها إلى‬
‫وكُرْه وشفقه وحُزْن‪ ..‬إلخ‪ ،‬وهذه ليس لها قانون إل أ ْ‬
‫النزوع‪ ،‬فأحبب مَنْ شئتَ وأبغض مَنْ شئتَ‪ ،‬لكن ل تتع ّد ول تُرتّب على العاطفة حكما‪.‬‬
‫وقد ذكرنا لهذه المسألة مثالً بسيدنا عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬وكان له أخٌ اسمه زيد قُتل‪ ،‬ثم أسلم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قاتله‪ ،‬فكان عمر كلما رآه يقول له‪ :‬ا ْزوِ عني وجهك ‪ -‬يعني‪ :‬أنا ل أحبك ‪ -‬فيقول‪ :‬أو عدم حبك‬
‫لي يمنعني حقا من حقوقي؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال‪ :‬إنما يبكي على الحب النساء‪ .‬يعني‪ :‬الحب والكره‬
‫مسائل يهتم بها النساء‪ ،‬والمهم العمل‪ ،‬وما يترتب على هذه العواطف‪.‬‬

‫ومن المجاهدة مجاهدة مَنْ سُلّط عليك من جبار أو نحوه‪ ،‬تجاهده وتصبر على إيذائه‪ ،‬فحبّك للحق‬
‫ن وَنَبُْلوَاْ أَخْبَا َركُمْ‬
‫يجعلك تصبر عليه‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬وَلَنَبُْلوَنّكُمْ حَتّىا َنعْلَمَ ا ْلمُجَا ِهدِينَ مِنكُ ْم وَالصّابِرِي َ‬
‫}[محمد‪.]31 :‬‬
‫كل هذه بلءات تحتاج إلى مجاهدة‪ ،‬فإنْ كان لك غريم فإنْ قدرت أن تدفع أذاه بالتي هي أحسن‬
‫فافعل‪ ،‬وإنْ أردت أنْ تعاقب فعاقب بالمثل‪ ،‬وهذه مسألة صعبة؛ لنك ل تستطيع تقدير المثلية أو‬
‫ضبطها‪ ،‬بحيث ل تتعدى‪ ،‬فمثلً لو ضربك خصمك ضربة‪ ،‬أتستطيع أنْ تردّ عليه بمثلها دون‬
‫زيادة؟‬
‫إذن‪ :‬فل تُدخل نفسك في هذه المتاهة‪ ،‬وَأوْلَى بك أنْ تأخذ بقوله تعالى{ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ‪[} ...‬آل‬
‫عمران‪ ]134 :‬وتنتهي المسألة‪.‬‬
‫فإذا كانت المصيبة ل غريمَ لك فيها‪ ،‬كالمرض والموت وغيرهما من القدريات التي يُجريها ال‬
‫عليك‪ ،‬فقُلْ إن ربي أراد بي خيرا‪ ،‬فبها تُكفّر الذنوب والسيئات وبها أنال أجر الصابرين‪ ،‬وربما‬
‫أنني غفلت عن ربي أو غرّتني النعمة‪ ،‬فابتلني ال ليلفتني إليه ويُذكّرني به‪.‬‬
‫ومن المجاهدة مجاهدة النفس في تلقّي المنهج بافعل ول تفعل‪ ،‬والتكليف عاد ًة ما يكون شاقا على‬
‫ن تنقلَ مدلول افعل في ل تفعل‪ ،‬أو تنقل مدلول ل تفعل في‬
‫النفس يحتاج إلى مجاهدة‪ ،‬وإياك أ ْ‬
‫افعل‪ .‬وحين تستقصي (افعل ول تفعل) في منهج ال تجده يأخذ نسبة سبعة بالمائة من حركاتك في‬
‫الحياة‪ ،‬والباقي مباحات‪ ،‬لك الحرية تفعلها أو تتركها‪.‬‬
‫وقد يتعرض النسان المستقيم للستهزاء والسخرية حتى ِممّن هو على دينه‪ ،‬لن المنحرف دائما‬
‫يشعر بنقص فيتضاءل ويصغَر أمام نفسه‪ ،‬ويحاول أن يجر الخرين إلى نفس مستواه حتى‬
‫ص ضالّ؛ لذلك تراه يسخر منك‬
‫يتساوى الجميع‪ ،‬وإل فكيف تكون أنت مهتديا مستقيما وهو عا ٍ‬
‫ويُهوّن من شأنك‪ ،‬لماذا؟ ليُزهّدك في الطاعة‪ ،‬فتصير مثله‪.‬‬
‫حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِب ِهمْ‬
‫واقرأ إنْ شئتَ قوله تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ َيضْ َ‬
‫يَ َتغَامَزُونَ * وَِإذَا انقَلَبُواْ ِإلَىا أَهِْلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْ ُهمْ قَالُواْ إِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ‬
‫حكُونَ * عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ‬
‫أُرْسِلُواْ عَلَ ْيهِمْ حَا ِفظِينَ * فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َيضْ َ‬
‫ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َيفْعَلُونَ }[المطففين‪.]36-29 :‬‬
‫ول شكّ أن مثل هذا يحتاج منك إلى صبر على أذاه‪ ،‬ومجاهدة للنفس حتى ل تقع في الفخّ الذي‬
‫ينصبه لك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد تأتيك الوسوسة من الشيطان فيُزيّن لك الشر‪ ،‬ويُحبّب إليك المعصية‪ ،‬وعندها تذكر قول ال‬
‫س ُهمَا لِيُرِ َي ُهمَا‬
‫تعالى‪ {:‬يَابَنِي ءَا َد َم لَ َيفْتِنَنّكُمُ الشّ ْيطَانُ َكمَآ أَخْرَجَ أَ َبوَ ْيكُمْ مّنَ الْجَنّةِ يَن ِزعُ عَ ْن ُهمَا لِبَا َ‬
‫سوْءَا ِت ِهمَآ‪[} ...‬العراف‪.]27 :‬‬
‫َ‬
‫فعليك ‪ -‬إذن ‪ -‬أن تتذكّر العداوة الولى بين أبيك آدم وبين الشيطان لتكون منه على حذر‪ ،‬وسبق‬
‫أن أوضحنا كيف نفرق بين المعصية التي تأتي من النفس‪ ،‬والتي تأتي من وسوسة الشيطان‪،‬‬
‫فالنفس تقف بك عند معصية بعينها ل تريد غيرها‪ ،‬أما الشيطان فإنْ تأبيتَ عليه في ناحية نقلك‬
‫إلى أخرى‪ ،‬المهم عنده أنْ يُوقِعك على أي حال‪.‬‬

‫إذن‪ :‬أعداؤك كثيرون‪ ،‬يحتاجون منك إلى قوة إراد َة وإلى مجاهدة‪.‬‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ }‬
‫جلَ اللّ ِه لتٍ وَ ُهوَ ال ّ‬
‫ومجيء هذه الية التي تذكر الجهاد بعد قوله تعالى{ فَإِنّ أَ َ‬
‫[العنكبوت‪ ]5 :‬يطلب من النسان الذي يعتقد أن أجلَ ال بلقاء الخرة أتٍ‪ ،‬وذلك أمر ل شكّ فيه‬
‫‪ -‬يطلب منه أنْ يستعدّ لهذا اللقاء‪.‬‬
‫وقال تعالى‪ } :‬فَإِ ّنمَا ُيجَاهِدُ لِ َنفْسِهِ إِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ { [العنكبوت‪ ]6 :‬لن النسان طرأ‬
‫على كون مُهيأ لستقباله بسمائه وأرضه وشمسه وقمره ومائه وهوائه‪ ،‬فكل ما في الكون خادم‬
‫سعْيك وفكرك لترف حياتك أنت‪ ،‬فحين تفعل الخير فلن‬
‫لك‪ ،‬ولن تزيد أنت في مُلْك ال شيئا‪ ،‬وكل َ‬
‫يستفيدَ منه إل أنت وربك غني عن عطائك‪.‬‬
‫فإنْ جاهدتَ فإنما تجاهد لنفسك‪ ،‬كما لو امتنّ عليك خادمك بالخدمة فتقول له‪ :‬بل خدمتَ نفسك‬
‫ت وعرقتُ لوفر لك‬
‫وخدمتَ عيالك حينما خدمتَ لتوفر لك ولهم أسباب العيش‪ ،‬وأنا الذي تعب ُ‬
‫المال الذي تأخذه‪.‬‬
‫وكذلك الحق سبحانه يقول لنا } َومَن جَاهَدَ فَإِ ّنمَا ُيجَاهِدُ لِ َنفْسِهِ‪[ { ...‬العنكبوت‪]6 :‬أي‪ :‬حينما يطبق‬
‫ع ِملَ صَالِحا‬
‫المنهج ويسير على هُداه‪ ،‬والحق سبحانه يؤكد هذه القضية في آيات عديدة{ مّنْ َ‬
‫فَلِ َنفْسِ ِه َومَنْ أَسَآءَ َفعَلَ ْيهَا َومَا رَ ّبكَ ِبظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت‪.]46 :‬‬
‫سكُ ْم وَإِنْ َأسَأْتُمْ فََلهَا‪[} ...‬السراء‪.]7 :‬‬
‫حسَنْتُمْ َأحْسَنْتُمْ لَنْفُ ِ‬
‫ويقول الحق سبحانه‪ {:‬إِنْ أَ ْ‬
‫ت وَعَلَ ْيهَا مَا اكْتَسَ َبتْ‪[} ...‬البقرة‪.]286 :‬‬
‫ويقول سبحانه‪َ {:‬لهَا مَا كَسَ َب ْ‬
‫إذن‪ :‬المسألة منك وإليك‪ ،‬ول دخلَ لنا فيها إل حرْصنا على صلح الخَلْق وسلمتهم‪ ،‬كصاحب‬
‫الصّنْعة الذي يريد لصنعته أن تكون على خير وجه وأكمله‪ ،‬لذلك أفيضُ عليه من قدراتي قدرة‪،‬‬
‫ومن علمي علما‪ ،‬ومن بَسْطي َبسْطا‪ ،‬ومن جبروتي جبروتا‪ ،‬وأعطيه من صفاتي‪.‬‬
‫لذلك قال بعض العارفين‪ " :‬تخلقوا بأخلق ال "‪.‬‬
‫لن العون في وهب الصفات ومجال الصفات في الفعل ليس في أنْ أفعل لك‪ ،‬إنما في أنْ أُعينك‬
‫حمْل متاعه‪ ،‬ماذا يفعل؟ يحمله عنه‪ ،‬أي‪:‬‬
‫لتفعل أنت‪ ،‬فالواحد منا حينما يرى عاجزا ل يستطيع َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يُعدّي إليه أثر قوته‪ ،‬إنما يظل العاجز عاجزا والضعيف ضعيفا كلما أراد شيئا احتاج لمن يقوم له‬
‫به‪.‬‬
‫أما الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فيفيض عليك من قوته‪ ،‬ويهبُ لك من قدرته وغِنَاه لتفعل أنت‬
‫بنفسك؛ لذلك مَنْ يتخلق بأخلق ال يقول‪ :‬ل تعْطَ الفقير سمكة‪ ،‬إنما علّمه كيف يصطاد‪ ،‬حتى ل‬
‫يحتاج لك في كل الوقات‪ ،‬أ ِفضْ عليه ما يُديم له النتفاع به‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه ي َهبُ القادرين القدرةَ‪ ،‬وي َهبُ الغنياء الغِنَي‪ ،‬والعلماء العلمَ والحكماءَ الحكمةَ‪.‬‬
‫وهذه من مظاهر عظمته تعالى ألّ يُعدّي أثر الصفة إلى عباده‪ ،‬إنما يُعدّي بعض الصفة إليهم‪،‬‬
‫لتكون ذاتية فيهم‪.‬‬
‫بل ويعطي سبحانه ما هو أكثر من ذلك‪ ،‬يعطيك الرادة التي تفعل بها لمجرد أن تفكر في الفعل‪،‬‬
‫بال ماذا تفعل لكي تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل حينما تريد أنْ تحمل شيئا أو تحرك عضوا من‬
‫أعضائك؟ هل أمرتك أمرا؟ هل قلت لها افعلي كذا وكذا؟‬
‫حين تنظر إلى (البلدوزر) مثلً أو (الونش) كيف يتحرك‪ ،‬وكيف أن لكل حركة فيه زرا يحركها‬
‫وعمليات آلية معقدة‪ ،‬تأمل في نفسك حين تريد أن تقوم مثلً بمجرد أن تفكر في القيام‪ ،‬تجد نفسك‬
‫قائما‪ ،‬مرادك أنت في العضاء أن تفعل وتنفعل لك‪.‬‬

‫إذن‪ ،‬حينما يقول لك ربك‪ {:‬إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ ِإذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪ ]82 :‬فصدّقه؛‬
‫لنك شاهدتها في نفسك وفي أعضائك‪ ،‬فما بالك بربك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬أيعجز أن يفعل ما تفعله‬
‫أنت؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ أنْ تنام أو تبطش بيدك؟‬
‫ل شيء غير الرادة في داخلك؛ لن ربك خلع عليك من قدرته‪ ،‬وأعطاك شيئا من قوله (كُنْ)‬
‫وقدرة من قدرته‪ ،‬لكن لم يشأ أنْ يجعلها ذاتية فيك حتى ل تغترّ بها‪.‬‬
‫طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق‪:‬‬
‫ن الِنسَانَ لَ َي ْ‬
‫لذلك إنْ أراد سبحانه سَلبَها منك لقوله تعالى‪ {:‬كَلّ إِ ّ‬
‫طوْع إرادتك‪،‬‬
‫شلّ ويأبى عليك بعد أنْ كان َ‬
‫‪ ]7-6‬فتأتي لتحرك ذراعك مثلً فل يطاوعك‪ ،‬لقد ُ‬
‫ذلك لتعلم أنه هِبَة من ال‪ ،‬إنْ شاء أخذها فهي ليست ذاتية فيك‪.‬‬
‫فالمجاهدة تشمل ميادين عديدة‪ ،‬مجاهدة الغرائز والعواطف‪ ،‬ومجاهدة مشقة المنهج في افعل ول‬
‫تفعل‪ ،‬ومجاهدة شياطين النس والجن‪ ،‬ومجاهدة خصوم السلم الذين يريدون أنْ يُطفئوا نور ال‪.‬‬
‫وروى البخاري " أن خباب بن الرتّ دخل على سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪ :‬يا‬
‫رسول ال‪ ،‬إننا في شدة‪ ،‬ألَ تستنصر لنا؟ َألَ تدعو لنا؟ فقال صلى ال عليه وسلم‪ :‬إنه كان الرجل‬
‫شطُ لحمه عن‬
‫فيمن قبلكم تُحفر له الحفرة‪ ،‬فيُوضع فيها‪ ،‬ثم يُؤتَى بالمنشار ف ُيقَ ّد نصفين‪ ،‬ثم يُم َ‬
‫عظمه بأمشاط الحديد‪ ،‬فل يصرفه ذلك عن دين ال "‪.‬‬
‫ثم يطمئنه رسول ال على أن هذه الفترة ‪ -‬فترة البتلء ‪ -‬لن تطول‪ ،‬فيقول‪ " :‬وال لَيتِمنّ ال هذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ل يخشى إل ال والذئبَ على غنمه "‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم وهو خاتم النبيين‪ " ،‬يدخل عليه سيدنا أبو سعيد الخدري فيجد رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم يشتكي حرارة الحمى‪ ،‬فوضع يده على اللحاف الذي يلتحف به سيدنا‬
‫رسول ال‪ ،‬فيُحِسّ حرارته من تحت اللحاف‪ ،‬فقال له‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إنها لشديدة عليك؟ فقال‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ " :‬يا أبا سعيد‪ ،‬إنه يُضعّف لنا البلء كما يُضعّف لنا الجزاء "‪.‬‬

‫ذلك ليثبت أن البلء ل يكون فقط من العداء‪ ،‬إنما قد يكون من ال تعالى‪ ،‬لماذا؟ لن ال يباهي‬
‫ملئكته بخَلْقه الطائعين المخبتين الصابرين‪ ،‬فيقولون‪ :‬كيف ل يحبونك ويقبلون على طاعتك‪ ،‬وقد‬
‫أنعمتَ عليهم بكذا وكذا‪ ،‬ويذكرون حيثيات هذه الطاعة‪ ،‬فيقول تعالى‪ :‬وأسلب كل ذلك منهم‬
‫ويحبونني‪ ،‬أي‪ :‬يحبونني لذاتي‪.‬‬
‫ثم تختم هذه الية بقوله تعالى‪ } :‬إِنّ اللّهَ َلغَ ِنيّ عَنِ ا ْلعَاَلمِينَ { [العنكبوت‪ ]6 :‬لن ميادين الجهاد‬
‫هذه ل يعود منها شيء إلى ال تعالى‪ ،‬ول تزيد في مُلكه شيئا‪ ،‬إنما يستفيد منها العبد؛ لنه سبحانه‬
‫الغني عن طاعة الطائعين وعبادة المتعبدين‪ ،‬ليس غنيا عنهم وفقط‪ ،‬إنما هو سبحانه الذي يُغنيهم‬
‫ويُفيض عليهم من فَضلْه ومن غِناه‪.‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَالّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬

‫(‪)3272 /‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ لَ ُن َكفّرَنّ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِت ِه ْم وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ أَحْسَنَ الّذِي كَانُوا َي ْعمَلُونَ (‪)7‬‬
‫وَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬

‫يذكر لنا ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬النتائج { وَالّذِينَ آمَنُواْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]7 :‬أي‪ :‬بال ربا‪ ،‬له كل‬
‫صفات الكمال المطلق‪ ،‬وله طلقة القدرة‪ ،‬وله طلقة الرادة‪ ،‬وهو المهيمن‪ ،‬وهو الحاكم‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]7 :‬لن العمل الصالح نتيجة لليمان‪ ،‬وثمرة من ثمراته‪،‬‬
‫ثم { وَ َ‬
‫حسْن فيه فل يتغير‪ ،‬فقد أقبلت على عالم خلقه ال لك‬
‫والصالح‪ :‬هو الشيء يظلّ على طريقة ال ُ‬
‫على هيئة الصلح فل تفسده‪ ،‬وهذا أضعف اليمان أنْ تُبقِي الصالح على صلحه‪ ،‬فإن أردتَ‬
‫الرتقاء‪ ،‬ف ِزدْه صلحا‪.‬‬
‫يقول تعالى‪ {:‬وَإِذَا قِيلَ َلهُ ْم لَ ُتفْسِدُواْ فِي الَ ْرضِ قَالُواْ إِ ّنمَا نَحْنُ ُمصْلِحُونَ }[البقرة‪.]11 :‬‬
‫فقد أعدّ ال لنا الرض صالحة بكل نواميسها وقوانينها‪َ ،‬ألَ ترى المناطق التي ل ينزل بها المطر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يُعوّضها ال عنه بالمياه الجوفية في باطن الرض‪ ،‬فماء المطر الزائد يسلكه ال ينابيع في‬
‫الرض‪ ،‬ويجعله مخزونا لوقت الحاجة إليه‪ ،‬وتخزين الماء العذب في باطن الرض حتى ل‬
‫غوْرا َفمَن يَأْتِي ُكمْ ِبمَآءٍ ّمعِينٍ }[الملك‪:‬‬
‫تُبخّره الشمس‪ ،‬يقول تعالى‪ُ {:‬قلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ َأصْبَحَ مَآؤُكُمْ َ‬
‫‪.]30‬‬
‫وضربنا مثلً لترك الصالح على صلحه ببئر الماء الذي يشرب منه أهل الصحراء‪ ،‬فقد نرمي‬
‫فيه القاذورات التي تُفسد ماءه‪ ،‬وقد نرى مَنْ يُهيل فيه التراب فيطمسه‪ ،‬وهذا كله من إفساد‬
‫الصالح‪ ،‬وربما يأتي مَنْ يبني حوله سورا يحميه‪ ،‬أو يجعل عليه آلة َرفْع ترفع الماء وتُريح الناس‬
‫الذين يردونه‪ ،‬فإذا لم تكُنْ من هؤلء فل أقلّ من أن تدعه على حاله‪.‬‬
‫فالصالح إذن‪ :‬كل عمل وفكر يزيد صلحَ المجتمع في حركات الحياة كلها‪ ،‬وإياك أن تقول إن‬
‫هناك عملً أشرف من عمل‪ ،‬فكل عمل مهما رأيته هيّنا ‪ -‬ما دام يؤدي خدمة للمجتمع‪ ،‬ويُقدّم‬
‫الخير للناس فهو عمل شريف‪ ،‬فقيمة العمال هي قيمة العامل الذي يُحسنِها وينفع الناس بها‪،‬‬
‫يعني‪ :‬ليس هناك عمل أفضل من عمل‪ ،‬إنما هنَاك عامل أفضل من عامل؛ لذلك يقولون‪ :‬قيمة كل‬
‫امريء مَا يُحسِنه‪.‬‬
‫وسبق أن ضربتُ لذلك مثلً‪ ،‬وما أزال أضربه‪ ،‬مع أنه من أُنَاس غير مسلمين‪ :‬كان نقيب العمال‬
‫في فرنسا يطالب بحقوق العمال ويدافع عنهم ويُوفّر لهم المزايا‪ ،‬فلما تولى الوزارة قالوا له‪:‬‬
‫أعطنا الن الحقوق التي كنتَ تطالب بها لنا‪ ،‬وربما كان يطالب لعماله بما تضيق به إمكانات‬
‫وميزانيات الوزارة‪ ،‬أما الن فقد أصبح هو وزيرا‪ ،‬وفي إحدى المرات تطاول عليه أحد العمال‬
‫وقال‪ :‬ل تنْسَ أنك كنت في يوم من اليام ماسحَ أحذية‪ ،‬فقال‪ :‬نعم‪ ،‬لكنني كنت أتقنها‪.‬‬
‫ثم يذكر الحق سبحانه جزاء اليمان والعمل الصالح‪ { :‬لَ ُن َكفّرَنّ عَ ْنهُمْ سَيّئَا ِت ِهمْ‪[ } ...‬العنكبوت‪]7 :‬‬
‫وهنا تتجلى العظمة اللهية‪ ،‬حيث بدأ بتكفير السيئات وقدّمها على إعطاء الحسنات‪.‬‬

‫لن التخلية قبل التحلية‪ ،‬والقاعدة تقول‪ :‬إن دَرْءَ المفسدة مُقدّم على جَلْب المصلحة‪ ،‬ف َهبْ أن واحدا‬
‫يريد أنْ يرميك مثلً بحجر‪ ،‬وآخر يريد أنْ يرمي لك تفاحة‪ ،‬فأيهما تستقبل أولً؟ ل شكّ أنك‬
‫ستدفع أذى الحجر عن نفسك أولً‪.‬‬
‫والخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يعلم طبيعة عباده وما يحدث منهم من غفلة وانصراف عن المنهج يُوقِعهم‬
‫في المعصية‪ ،‬وما دام أن الشرع يُعرّف لنا الجرائم ويُقنّن العقوبة عليها‪ ،‬فهذا إذنٌ منه بأنها‬
‫ستحدث‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى لعباده‪ :‬اطمئنوا‪ ،‬فسوف أطهركم من هذه الذنوب أولً قبل أنْ أعطيكم الحسنات‪،‬‬
‫ذلك لن النسان بطبعه أميل إلى السيئة منه إلى الحسنة‪ ،‬فيقول سبحانه‪ } :‬لَ ُن َكفّرَنّ عَ ْنهُمْ‬
‫سَيّئَا ِتهِمْ‪[ { ...‬العنكبوت‪.]7 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل صَالِحا‬
‫عمَ ً‬
‫عمِلَ َ‬
‫ن وَ َ‬
‫ب وَآمَ َ‬
‫بل وأكثر من ذلك‪ ،‬ففي آية أخرى يقول سبحانه‪ِ {:‬إلّ مَن تَا َ‬
‫غفُورا رّحِيما }[الفرقان‪ ]70 :‬فأيّ كرم بعد أنْ يُبدّل‬
‫حسَنَاتٍ َوكَانَ اللّهُ َ‬
‫فَُأوْلَـا ِئكَ يُ َب ّدلُ اللّهُ سَيّئَا ِتهِمْ َ‬
‫ال السيئة حسنةً‪ ،‬فل يقف المر عند مجرد تكفيرها‪ ،‬فكأنه (أوكازيون) للمغفرة‪ ،‬ما عليك إل أنْ‬
‫تغتنمه‪.‬‬
‫حسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ‪[} ...‬هود‪ ]114 :‬وفي الحديث‬
‫وفي موضع آخر يقول سبحانه‪ {:‬إِنّ الْ َ‬
‫الشريف‪ .." :‬وأتبع السيئة الحسنةَ تمحها "‪.‬‬
‫حسَنَ الّذِي كَانُواْ َي ْعمَلُونَ { [العنكبوت‪ ]7 :‬قلنا‪ :‬إن‬
‫ثم يذكر سبحانه الحسنة بعد ذلك‪ } :‬وَلَنَجْزِيَ ّنهُمْ أَ ْ‬
‫ن يعطي الفقير يقترض له من إخوانه الغنياء{ مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ‬
‫الحق سبحانه إذا أراد أ ْ‬
‫قَرْضا حَسَنا‪[} ...‬البقرة‪.]245 :‬‬
‫مع أنه سبحانه واهب كل النعم يحترم ملكية عباده‪ ،‬ويحترم مجهوداتهم وعرقهم‪ ،‬فاحترم العمل‬
‫واحترم ثمرة العمل‪ ،‬كما يعامل الوالد أولده‪ ،‬فيأخذ من الغني لمساعدة الفقير على أنْ يعيد إليه‬
‫ماله حين مَيْسرة‪ ،‬فكما أنك ل ترجع في هبتك‪ ،‬كذلك ربّك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ل يرجع في هبته‪.‬‬
‫وأذكر ونحن في أمريكا سألنا أحد المستشرقين يقول‪ :‬هناك تعارض بين قول القرآن‪ {:‬مَن جَآءَ‬
‫حسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ َأمْثَاِلهَا‪[} ...‬النعام‪ ]160 :‬وبين قول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬مكتوب على‬
‫بِالْ َ‬
‫باب الجنة‪ :‬الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر "‪.‬‬
‫فشاء ال أن يلهم بكلمتين للردّ عليه‪ ،‬حتى ل يكون للكافرين على المؤمنين سبيل‪ .‬فقلت للمترجم‪:‬‬
‫نعم الحسنة بعشر أمثالها حين تتصدّق‪ ،‬لكن في القرض مثلً لو تصدّق بدولر فهو عند ال بعشرة‬
‫دولرات‪ ،‬لكن يعود عليك دولرك مرة أخرى‪ ،‬فكأن لك تسعة دولرات‪ ،‬فحين تضاعف تصير‬
‫ثمانية عشر‪.‬‬
‫وبعد ذلك ينتقل الحق سبحانه إلى الدائرة الولى في تكوين المجتمع‪ ،‬وهي دائرة السرة المكوّنة‬
‫من‪ :‬الب‪ ،‬والم‪ ،‬والولد‪ ،‬فأراد سبحانه أن يُصلح اللبنة الولى ليصلح المجتمع كله‪ ،‬فقال تبارك‬
‫حسْنا‪.{ ...‬‬
‫وتعالى‪ } :‬وَ َوصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ ُ‬

‫(‪)3273 /‬‬

‫ج ُعكُمْ‬
‫ط ْع ُهمَا إَِليّ مَرْ ِ‬
‫َووَصّيْنَا الْإِنْسَانَ ِبوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ فَلَا تُ ِ‬
‫فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ (‪)8‬‬

‫الوالدان يخدمان البن حتى يكبر‪ ،‬ويصير هو إلى القوة في حين يصيران هما إلى الضعف‪ ،‬وإلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل وكيف أن البناء يتركون الباء دون‬
‫الحاجة لمن يخدمهما‪ ،‬وحين ننظر في حال الغربيين مث ً‬
‫رعاية‪ ،‬وربما أودعوهم دار المسنين في حالة برّهم بهم‪ ،‬وفي الغالب يتركونهم دون حتى السؤال‬
‫عنهم؛ لذلك تتجلى لنا عظمة السلم وحكمة منهج ال في مجتمع المسلمين‪.‬‬
‫لذلك قال أحد الحكماء‪ :‬الزواج المبكر خير طريقة ‪ -‬ل لنجاب طفل ‪ -‬إنما النجاب أب لك‬
‫يعولك في طفولة شيخوختك‪ .‬لذلك أراد الحق سبحانه أن يبني السرة على لبنات سليمة‪ ،‬تضمن‬
‫حسْنا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ،]8 :‬وفي‬
‫سلمة المجتمع المؤمن‪ ،‬فقال سبحانه‪َ { :‬ووَصّيْنَا الِنْسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ ُ‬
‫حسَانا‪[} ...‬الحقاف‪.]15 :‬‬
‫موضع آخر قال سبحانه في نفس الوصية{ وَ َوصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَالِدَ ْيهِ إِ ْ‬
‫حسْن ذاته‪ ،‬كما‬
‫ن تعملَ لهم ال ُ‬
‫وفَرْق بين المعنيين‪ { :‬حُسْنا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]8 :‬أي‪ :‬أوصيك بأ ْ‬
‫حسَانا‪[} ...‬الحقاف‪ ]15 :‬فوصية‬
‫عدْل‪ ،‬فوصّى بالحسْن ذاته‪ .‬أما في{ إِ ْ‬
‫تقول‪ :‬فلن عادل‪ ،‬وفلن َ‬
‫بالحسان إليهما‪.‬‬
‫حسْن ذاته‪ ،‬ووصّى هناك بالحسان؟‬
‫لكن‪ ،‬لماذا وصّى هنا بال ُ‬
‫قالوا‪ :‬وصّى بالحسن ذاته في الية التي تذكر اللدد اليماني‪ ،‬حيث قال‪ { :‬وَإِن جَاهَدَاكَ لُِتشْ ِركَ بِي‬
‫ط ْع ُهمَآ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]8 :‬والكفر يستوجب العداوة والقطيعة‪ ،‬ويدعو إلى‬
‫مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ فَلَ ُت ِ‬
‫الخصومة‪ ،‬فأكّد على ضرورة تقديم الحسن إليهما؛ ل مجرد الحسان؛ لن المر يحتاج إلى قوة‬
‫تكليف‪.‬‬
‫أما حين ل يكون منهما كفر‪ ،‬فيكفي في برّهما الحسان إليهما؛ لذلك يقول سبحانه‪َ {:‬وصَاحِ ْب ُهمَا‬
‫فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا‪[} ...‬لقمان‪.]15 :‬‬
‫والحق سبحانه حين يُوصي بالوالدين‪ ،‬وهما السبب المباشر في الوجود إنما ليجعلهما وسيلة‬
‫إيضاح لصل الوجود‪ ،‬فكما أوصاك بسبب وجودك المباشر وهما الوالدان‪ ،‬فكذلك ومن باب َأوْلى‬
‫يوصيك بمَنْ وهب لك أصل هذا الوجود‪.‬‬
‫فكأن الحق سبحانه يُؤنِس عباده بهذه الوصية‪ ،‬ويلفت أنظارهم إلى ما يجب عليهم نحو واهب‬
‫الوجود الصلي وما يستحقه من العبادة ومن الطاعة؛ لنه سبحانه الخالق الحقيقي‪ ،‬أما الوالدان‬
‫فهما وجود سببي‪.‬‬
‫هذا إيناس باليمان‪ ،‬بيّنه تعالى في قوله‪ {:‬وَاعْبُدُواْ اللّ َه وَلَ تُشْ ِركُواْ ِبهِ شَيْئا وَبِا ْلوَالِدَيْنِ ِإحْسَانا‪} ...‬‬
‫[النساء‪ ]36 :‬لنهما سبب الوجود الجزئي‪ ،‬وال تعالى سبب الوجود الكلي‪.‬‬
‫وهذا أيضا من المواضع التي وقف عندها المستشرقون‪ ،‬يبغُونَ فيها َمطْعنا‪ ،‬ويظنون بها تعارضا‬
‫بين آيات القرآن في قوله تعالى‪َ {:‬وصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا‪[} ...‬لقمان‪ ]15 :‬وفي موضع‬
‫جدُ َقوْما ُي ْؤمِنُونَ بِاللّهِ وَالْ َيوْمِ الخِرِ ُيوَآدّونَ مَنْ حَآدّ اللّ َه وَرَسُولَ ُه وََلوْ كَانُواْ آبَآ َءهُمْ‪} ...‬‬
‫آخر‪ {:‬لّ تَ ِ‬
‫[المجادلة‪.]22 :‬‬
‫وهذا التعارض ل يوجد إل في عقول هؤلء؛ لنهم ل يفهمون لغة القرآن‪ ،‬ول يفرقون بين الودّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمعروف‪ :‬الودّ مَيْل القلب‪ ،‬وينشأ عن هذا الميل ِفعْل الخير‪ ،‬فيمن تميل إليه‪ ،‬أمّا المعروف‬
‫فتصنعه مع مَنْ تحب ومَنْ ل تحب‪ ،‬فهو استبقاء حياة‪.‬‬

‫ج ُعكُمْ فَأُنَبّ ُئكُم‬


‫ط ْع ُهمَآ إَِليّ مَرْ ِ‬
‫وهنا يقول سبحانه‪ } :‬وَإِن جَا َهدَاكَ لِتُشْ ِركَ بِي مَا لَيْسَ َلكَ ِبهِ عِلْمٌ فَلَ تُ ِ‬
‫ِبمَا كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ { [العنكبوت‪ ]8 :‬يعني‪ :‬تذكّر هذا الحكم‪ ،‬فسوف أسألك عنه يوم القيامة‪ ،‬ففي‬
‫ج ُع ُكمْ فَأُنَبّ ُئكُمْ ِبمَا‬
‫موضع آخر{ َوصَاحِ ْب ُهمَا فِي الدّنْيَا َمعْرُوفا وَاتّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إَِليّ ثُمّ إَِليّ مَرْ ِ‬
‫كُنتُمْ َت ْعمَلُونَ }[لقمان‪.]15 :‬‬
‫فكُفْر الوالدين ل يعني السماحَ لك بإهانتهما أو إهمالهما‪ ،‬فاحذر ذلك؛ لنك ستُسأل عنه أمام ال‪:‬‬
‫أصنعتَ معهما المعروف أم ل؟‬
‫وحيثيات الوصية بالوالدين‪ :‬الب والم ذُكرت في الية الخرى‪َ {:‬و َوصّيْنَا الِنسَانَ ِبوَاِلدَيْهِ ِإحْسَانا‬
‫شهْرا‪[} ...‬الحقاف‪ ]15 :‬نلحظ أن‬
‫حمْلُهُ َوفِصَالُهُ ثَلَثُونَ َ‬
‫ضعَتْهُ كُرْها وَ َ‬
‫حمَلَتْهُ ُأمّهُ كُرْها َو َو َ‬
‫َ‬
‫ح ْم ُهمَا َكمَا‬
‫الحيثيات كلها للم‪ ،‬ولم يذكر حيثية واحدة للب إل في قوله تعالى‪َ {:‬وقُل ّربّ ارْ َ‬
‫صغِيرا‪[} ...‬السراء‪ ]24 :‬وهذه تكون في الخرة‪.‬‬
‫رَبّيَانِي َ‬
‫صغَر‪ ،‬والطَفل ليس لديه الوعي الذي‬
‫قالوا‪ِ :‬ذكْر الحيثيات كلها للم؛ لن متاعب الم كانت حال ال ّ‬
‫ن الب‬
‫يعرف به َفضْل أمه وتحمّلها المشاق من أجله‪ ،‬وحين يكبر وتتكوّن لديه الدراكات يجد أ ّ‬
‫هو الذي يقضي له كل ما يحتاج إليه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فحيثيات الب معلومة مشاهدة‪ ،‬أمّا حيثيات الم فتحتاج إلى بيان‪.‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ‪.{ ...‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَالّذِينَ آمَنُواْ وَ َ‬

‫(‪)3274 /‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ لَ ُندْخِلَ ّنهُمْ فِي الصّاِلحِينَ (‪)9‬‬


‫وَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬

‫فقدّم اليمان‪ ،‬لنه الصل‪ ،‬ثم العمل الصالح‪ ،‬وكأن الدخول في الصالحين مسألة كبيرة‪ ،‬وهي‬
‫كذلك‪ ،‬ويكفي أنها مُتَمنى حتى النبياء أنفسهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَن ِيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ‪.} ...‬‬

‫(‪)3275 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ج َعلَ فِتْ َنةَ النّاسِ َكعَذَابِ اللّ ِه وَلَئِنْ جَاءَ َنصْرٌ مِنْ‬
‫َومِنَ النّاسِ مَنْ َيقُولُ َآمَنّا بِاللّهِ فَإِذَا أُو ِذيَ فِي اللّهِ َ‬
‫علَمَ ِبمَا فِي صُدُورِ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)10‬‬
‫رَ ّبكَ لَ َيقُولُنّ إِنّا كُنّا َم َعكُمْ َأوَلَيْسَ اللّهُ بِأَ ْ‬

‫قوله تعالى‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَن ِيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]10 :‬دليل على القول باللسان‪ ،‬وعدم‬
‫الصبر على البتلء‪ ،‬فالقول هنا ل يؤيده العمل‪ ،‬ولمثل هؤلء يقول تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ‬
‫َتقُولُونَ مَا لَ َتفْعَلُونَ }[الصف‪.]2 :‬‬
‫شهَدُ إِ ّنكَ لَ َرسُولُ اللّ ِه وَاللّهُ َيعَْلمُ إِ ّنكَ‬
‫ويقول تعالى في صفات المنافقين‪ {:‬إِذَا جَآ َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُواْ َن ْ‬
‫شهَدُ إِنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ }[المنافقون‪ ]1 :‬فال تعالى ل يُكذّبهم في أن محمدا رسول‬
‫لَرَسُولُ ُه وَاللّهُ يَ ْ‬
‫ال‪ ،‬إنما في شهادتهم أنه رسول ال؛ لن الشهادة ل ُبدّ لها أنْ يواطئ القلب اللسان‪ ،‬وهذه ل تتوفر‬
‫لهم‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬فَِإذَآ أُو ِذيَ فِي اللّهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]10 :‬أي‪ :‬بسبب اليمان بال‪ ،‬فلم يفعل شيئا يؤذى‬
‫ج َعلَ فِتْ َنةَ النّاسِ َكعَذَابِ اللّهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]10 :‬فتنة الناس أي‪ :‬تعذيبهم‬
‫من أجله‪ ،‬إل أنه آمن { َ‬
‫له علىإيمانه كعذاب ال‪.‬‬
‫ن كفر‪ ،‬وهذا غباء في المساواة بين‬
‫إذن‪ :‬خاف عذاب الناس وسّواه بعذاب ال الذي يحيق به إ ْ‬
‫قل‬
‫العذابين؛ لن عذاب الناس سينتهي ولو بموت المؤذي المعذّب‪ ،‬أما عذاب ال في الخرة فبا ٍ‬
‫ينتهي‪ ،‬والناس تُعذّب بمقدار طاقتها‪ ،‬وال سبحانه يُعذب بمقدار طاقته تعالى وقدرته‪ ،‬إذن‪ :‬فالقياس‬
‫هنا قياس خاطئ‪.‬‬
‫وإنْ كانت هذه الية قد نزلت في عياش بن أبي ربيعة‪ ،‬فالقاعدة الصولية تقول‪ :‬إن العبرة بعموم‬
‫اللفظ ل بخصوص السبب‪ ،‬وكان عياش بن أبي ربيعة أخا عمرو بن هشام (أبو جهل) والحارث‬
‫بن هشام من الم التي هي أسماء‪.‬‬
‫فلما أنْ أسلم عياش ثم هاجر إلى المدينة فحزنت أمه أسماء‪ ،‬وقالت‪ :‬ل يظلني سقف‪ ،‬ول أطعم‬
‫طعاما‪ ،‬ول أشرب شرابا‪ ،‬ول أغتسل حتى يعود عياش إلى دين آبائه‪ ،‬وظلت على هذه الحال‬
‫التي وصفتْ ثلثة أيام حتى عضّها الجوع‪ ،‬فرجعت‪.‬‬
‫وكان ولداها الحارث وأبو جهل قد انطلقا إلى المدينة ليُقنعا عياشا بالعودة لسترضاء أمه‪ ،‬وظل‬
‫يُغريانه ويُرقّقان قلبه عليها‪ ،‬فوافق عياش على الذهاب إلى أمه‪ ،‬لكن رفض الردة عن السلم‪،‬‬
‫فلما خرج الثلثة من المدينة قاصدين مكة أوثقوه في الطريق‪ ،‬وضربه أبو جهل مائة جلدة‪،‬‬
‫والحارث مائة جلدة‪.‬‬
‫لكن كان أبو جهل أرأف به من الحارث؛ لذلك أقسم عياش بال لئن أدركه يوما ليقتلنه حتى إنْ‬
‫كان خارجا من الحرم‪ ،‬وبعد أن استرضى عياش أمه عاد إلى المدينة‪ ،‬فقابل أخاه الحارث عند‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قباء‪ ،‬ولم يكن يعلم أنه قد أسلم فعاجله‪ ،‬ونفّذ ما توعده به فقتله‪ ،‬ووصل خبره إلى رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ونزلت الية‪َ {:‬ومَا كَانَ ِل ُم ْؤمِنٍ أَن َيقْتُلَ ُم ْؤمِنا ِإلّ خَطَئا‪[} ...‬النساء‪.]92 :‬‬
‫ج َعلَ فِتْنَةَ النّاسِ َكعَذَابِ اللّهِ‪} ...‬‬
‫ونزلت‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَن ِيقُولُ آمَنّا بِاللّهِ فَإِذَآ أُو ِذيَ فِي اللّهِ َ‬
‫[العنكبوت‪ ]10 :‬أي‪ :‬أراد أنْ يفرّ من عذاب الناس فكفر‪ ،‬ولم يُرد أن يفرّ من عذاب ال ويؤمن‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَلَئِنْ جَآءَ َنصْرٌ مّن رّ ّبكَ لَ َيقُولُنّ إِنّا كُنّا َم َعكُمْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]10 :‬أي‪ :‬اجعلوا لنا‬
‫سهما في المغنم { َأوَ لَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ ِبمَا فِي صُدُورِ ا ْلعَاَلمِينَ } [العنكبوت‪ ]10 :‬فال سبحانه يعلم‬
‫ما يدور في صدورهم وما يتمنونه لنا؛ ولذلك يقول سبحانه عنهم‪َ {:‬لوْ خَرَجُواْ فِيكُم مّا زَادُوكُمْ ِإلّ‬
‫خَبَالً‪[} ...‬التوبة‪.]47 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِينَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3276 /‬‬

‫وَلَ َيعَْلمَنّ اللّهُ الّذِينَ َآمَنُوا وَلَ َيعَْلمَنّ ا ْلمُنَا ِفقِينَ (‪)11‬‬

‫نعم‪ ،‬الحق سبحانه يعلم حال عباده حتى قبل أنْ يخلقوا‪ ،‬ويعلم ماذا سيحدث لهم‪ ،‬إنما هناك فَرْق‬
‫بين علم مُسْبق على الحدث‪ ،‬وعِلْم بعد أنْ يقع الحدث نفسه؛ لنه سبحانه لو قال‪ :‬سأفعل بهم كذا‬
‫وكذا؛ لني أعلم ما يحدث منهم لقالوا‪ :‬ل وال ما كان سيحدث منا شيء؛ لذلك يتركهم حتى يحدث‬
‫منهم الفعل‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وقَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3277 /‬‬

‫خطَايَا ُهمْ مِنْ‬


‫ح ِملْ خَطَايَا ُك ْم َومَا هُمْ ِبحَامِلِينَ مِنْ َ‬
‫َوقَالَ الّذِينَ َكفَرُوا لِلّذِينَ َآمَنُوا اتّ ِبعُوا سَبِيلَنَا وَلْ َن ْ‬
‫شيْءٍ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ (‪)12‬‬
‫َ‬

‫وهذا َلوْن من ألوان اليذاء أن يقول الذين كفروا للذين آمنوا { اتّ ِبعُواْ سَبِيلَنَا‪[ } ...‬العنكبوت‪]12 :‬‬
‫أي‪ :‬ما نحن عليه من دين الباء والجداد‪ ،‬وما نحن عليه من عبادة الصنام والوثان‪ ،‬فنحن نعبد‬
‫ف لها ول مطلوبات‪ ،‬وأنتم تعبدون إلها له منهج‪ ،‬وله مطلوبات بافعل كذا ول تفعل‬
‫آلهة ل تكالي َ‬
‫كذا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خطَايَاكُمْ‪[ } ..‬العنكبوت‪:‬‬
‫ح ِملْ َ‬
‫فالمعنى‪ { :‬اتّ ِبعُواْ سَبِيلَنَا‪[ } ..‬العنكبوت‪ ]12 :‬خُذوا الحكم منا { وَلْنَ ْ‬
‫‪ ]12‬يعني‪ :‬اعملوا على مسئوليتنا‪ ،‬وإنْ كانت عليكم خطايا سنحملها عنكم‪ ،‬وانظر هنا إلى غباء‬
‫الكافر فقد آمن هو نفسه أن هذه خطيئة‪ ،‬ومع ذلك يتعرّض لحملها‪ ،‬لكن كيف يحملها؟ وكيف‬
‫يكون هو المسئول عنها أمام ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬حين يحاسبني ربي عليها ويعاتبني على اتباعي‬
‫له؟ وهل للكافر شفاعة أو قوة يدافع عنها عني في الخرة؟‬
‫شيْءٍ إِ ّنهُمْ َلكَاذِبُونَ } [العنكبوت‪]12 :‬‬
‫لذلك يقول تعالى بعدها‪َ { :‬ومَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَا ُهمْ مّن َ‬
‫ويؤكد لنا سبحانه كذبهم أيضا في قوله تعالى‪ {:‬إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ وَرََأوُاْ‬
‫ا ْلعَذَابَ‪[} ...‬البقرة‪.]166 :‬‬
‫حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ‬
‫جعَ ْل ُهمَا َت ْ‬
‫ن وَالِنسِ َن ْ‬
‫ويقول التابعون‪ {:‬رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ الْجِ ّ‬
‫سفَلِينَ }[فصلت‪.]29 :‬‬
‫الَ ْ‬
‫فالمودة التي كانت بينهم في الدنيا تحولتْ إلى عداوة؛ لنهم اجتمعوا في الدنيا على الضلل‪،‬‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ ِإلّ ا ْلمُ ّتقِينَ }[الزخرف‪:‬‬
‫فتفرقوا في الخرة‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ‬
‫‪ ]67‬فالمتقي ساعة يرى المتقي في الخرة يشكره‪ ،‬ويعترف له بالجميل؛ لنه أخذ على يديه في‬
‫الدنيا‪ ،‬ومنعه من أسباب الهلك‪ ،‬فيحبه ويثني عليه‪ ،‬وربما اعتبره عدوه في الدنيا‪ ،‬أما أهل‬
‫الضلل فيلعن بعضهم بعضا‪ ،‬ويتبرأ بعضهم من بعض‪.‬‬
‫خطَايَاكُمْ‪[ } ..‬العنكبوت‪ ،]12 :‬كما هو بيّن في قولهم{‬
‫ح ِملْ َ‬
‫إذن‪ :‬فغباء الكفار بيّن في قولهم‪ { :‬وَلْنَ ْ‬
‫سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ }‬
‫حجَا َرةً مّنَ ال ّ‬
‫حقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ عَلَيْنَا ِ‬
‫الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ الْ َ‬
‫[النفال‪.]32 :‬‬
‫وكما هو بيّن في قولهم‪ {:‬لَ تُن ِفقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ‪[} ...‬المنافقون‪ ]7 :‬فهم يعرفون أنه‬
‫رسول ال‪ ،‬ومع ذلك يمنعون الناس من النفاق على الفقراء الذين عنده‪ ،‬إنه غباء حتى في‬
‫المواجهة‪.‬‬

‫(‪)3278 /‬‬

‫عمّا كَانُوا َيفْتَرُونَ (‪)13‬‬


‫حمِلُنّ أَ ْثقَاَلهُ ْم وَأَ ْثقَالًا مَعَ أَ ْثقَاِلهِ ْم وَلَيُسْأَلُنّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َ‬
‫وَلَيَ ْ‬

‫حمِلُواْ َأوْزَارَهُمْ كَامِلَةً َي ْومَ ا ْلقِيَامَ ِة َومِنْ َأوْزَارِ الّذِينَ ُيضِلّو َنهُمْ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ َألَ‬
‫وفي موضع آخر‪ {:‬لِ َي ْ‬
‫سَآءَ مَا يَزِرُونَ }[النحل‪ .]25 :‬فالثقال هي الوزار‪ ،‬فسيحملون أثقالً على أثقالهم‪ ،‬وأوزارا على‬
‫أوزارهم‪ ،‬فالثقال الولى بسبب ضللهم‪ ،‬والثقال الخرى بسبب إضللهم للغير { وَلَيُسْأَلُنّ َيوْمَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمّا كَانُواْ َيفْتَرُونَ } [العنكبوت‪ ]13 :‬والفتراء‪ :‬تعمّد الكذب‪.‬‬
‫ا ْلقِيَامَةِ َ‬
‫وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن المقدمات في عمومها‪ ،‬أراد أن يتكلّم عنها في خصوص‬
‫الرسالت‪ ،‬فقال سبحانه‪:‬‬
‫{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحا‪.} ...‬‬

‫(‪)3279 /‬‬

‫خمْسِينَ عَامًا فََأخَ َذهُمُ الطّوفَانُ وَهُمْ ظَاِلمُونَ (‬


‫وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ فَلَ ِبثَ فِيهِمْ أَ ْلفَ سَنَةٍ إِلّا َ‬
‫‪)14‬‬

‫يقول العلماء‪ :‬إن نوحا ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬هو أول رسل ال إلى البشر‪ ،‬أما مَنْ سبقه مثل آدم‬
‫وإدريس عليهما السلم‪ ،‬فكانوا أنبياء أوحي ال إليهم بشرع يعملون به‪ ،‬فيكونون نموذجا إيمانيا‪،‬‬
‫وقدوة سلوك طيب‪ ،‬يُقلّدهم مَنْ رآهم‪ ،‬لكن ل ُيعَدّ كافرا مَنْ لم يقتَدِ بهم‪ ،‬أما إن اقتدى بهم ثم نكث‬
‫عن سبيلهم فهو كافر‪.‬‬
‫لذلك نُفرّق بين النبي والرسول‪ ،‬بأن النبي أُوحي إليه بشرع يعمل به ولم ُيؤْمر بتبليغه‪ ،‬أما‬
‫سلْنَا مِن‬
‫الرسول فقد أُوحي إليه بشرع وأُمرِ بتبليغه فكلّ منهما مرسل‪ ،‬لذلك يقول تعالى‪َ {:‬ومَآ أَرْ َ‬
‫قَبِْلكَ مِن رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ‪[} ...‬الحج‪.]52 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالنبي أيضا مُرسَل‪ ،‬لكنه مُرسَل لذاته‪.‬‬
‫لكن لماذا كان هذا قبل نوح بالذات؟ قالوا‪ :‬لن الرقعة النسانية كانت ضيقة قبل نوح‪ ،‬وكان الناس‬
‫حديثي عهد‪ ،‬لم تنتشر بينهم النحرافات‪ ،‬فلما اتسعت الرقعة‪ ،‬وتداخلت أمور الحياة احتاجت‬
‫الخليقة لنْ يرسل ال إليهم الرسل‪.‬‬
‫والحق سبحانه يأتي بهذه اللقطة الموجزة من قصة نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬مع أن له سورة مفردة‪،‬‬
‫وله لقطات كثيرة منثورة في الكتاب العزيز‪ ،‬لكن هذه اللقطة تأتي لنا بالبداية والنهاية فقط وكأنها‬
‫برقية (تلغرافية) في مسألة نوح‪:‬‬
‫{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحا إِلَىا َق ْومِهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪.]14 :‬‬
‫إذن‪ :‬الرسول جاء من القوم‪ ،‬وهذا يعني أنهم يعرفونه قبل أن يكون رسولً‪ ،‬ويُجرّبون سلوكه‬
‫وحركته في الحياة‪ ،‬ويعرفون خُلقه‪ ،‬ويعرفون كل تصرفاته‪ ،‬فليس الرسول بعيدا عنهم أو مجهولً‬
‫لهم‪.‬‬
‫لذلك كان رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما جهر بالدعوة آمن به الذين يعرفونه عن قُرْب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫دون أنْ يسألوه عن معجزة تؤيده‪ ،‬بل بمجرد أنْ قال أنا رسول ال آمنوا به وصدّقوه واتبعوه‪.‬‬
‫فسيدنا أبو بكر‪ ،‬هل سمع من رسول ال قبل أن يؤمن به؟ ل‪ ،‬إنما بمجرد أن قالوا له‪ :‬إن صاحبك‬
‫تنبأ قال‪ :‬آمنت به‪ ،‬لماذا؟ لنه يعرف له سوابق يبني عليها إيمانه بصاحبه‪ ،‬فما كان محمد ليكون‬
‫صاحب خُلق عظيم مع الناس‪ ،‬ثم يكذب على ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ففي َكوْن الرسول من قومه إيناسٌ للخَلْق؛ لذلك لما قالوا‪ :‬ل نؤمن إل إذا جاءنا الرسول ملكا‬
‫ردّ عليهم‪ :‬أأنتم ملئكة حتى ينزل عليكم مَلَك؟‬
‫سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء‪:‬‬
‫طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا عَلَ ْيهِم مّنَ ال ّ‬
‫{ قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ ُم ْ‬
‫‪.]95‬‬
‫ولو فُرض أننا أرسلناه مَلَكا أهم يروْن الملئكة؟ ل يروْنَها‪ ،‬فكيف إذن يُبلّغ الملَك الناس؟ ل بُدّ أنْ‬
‫يأتيهم في صورة بشر‪ ،‬ولو أتاهم في صورة بشر لقالوا نريد ملَكا‪.‬‬
‫خ ْمسِينَ عَاما‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]14 :‬هذا العدد من‬
‫وقوله عز وجل‪ { :‬فَلَ ِبثَ فِيهِمْ َأ ْلفَ سَنَةٍ ِإلّ َ‬
‫الممكن أن يؤدى لمعانٍ كثيرة‪ ،‬فلم ي ُقلْ‪ :‬فلبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما‪.‬‬

‫وفي العداد في القرآن أسرار كثيرة‪ ،‬واقرأ مثلً‪َ {:‬ووَاعَدْنَا مُوسَىا ثَلَثِينَ لَيَْل ًة وَأَ ْت َممْنَاهَا ِبعَشْرٍ‬
‫فَتَمّ مِيقَاتُ رَبّهِ أَرْ َبعِينَ لَيْلَةً‪[} ...‬العراف‪.]142 :‬‬
‫وفي آية سورة البقرة قال الحق سبحانه‪ {:‬وَإِ ْذ وَاعَدْنَا مُوسَىا أَرْ َبعِينَ لَيَْلةً‪[} ...‬البقرة‪.]51 :‬‬
‫ففي سورة البقرة إجمال‪ ،‬وفي آية العراف تفصيل‪ .‬والحكمة في هذا أن موسى عليه السلم ما‬
‫إن ذهب لميقات ربه حتى عبد قومه العجل في مدة الثلثين ليلة‪.‬‬
‫ولم يشأ ال أن يترك موسى ليعود لقومه بعد الثلثين ليلة‪ ،‬بل أتمها بعشر آخر‪ ،‬حتى ل يعود‬
‫موسى ويرى ما فعله قومه‪ ،‬فكأن العشْرَ زادتْ على الثلثين ليلة‪ ،‬ليعطيك الصورة الخيرة‬
‫الموجودة في سورة البقرة‪.‬‬
‫خمْسِينَ عَاما‪[ { ...‬العنكبوت‪]14 :‬‬
‫فالمسألة في منتهى الدقة‪ ،‬ولو لم ي ْأتِ بالستثناء في قوله‪ِ } :‬إلّ َ‬
‫عدّ البشر‪ ،‬أما في حساب الحق سبحانه‬
‫فربما يظن السامع أن المسألة تقريبية‪ ،‬لكن التقريب في َ‬
‫فهو منتهى الدقة‪ ،‬كما لو سُئلت مثلً عن الساعة‪ ،‬فتقول‪ :‬الساعة العاشرة إل دقيقة ونصفا‪ ،‬يعني‪:‬‬
‫منتهى ما في استطاعتك من حساب الوقت‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬فلماذا هذه اللقطة السريعة من قصة نوح عليه السلم؟ نقول‪ :‬هي لتسلية رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم؛ لن قومه وقفوا منه موقف العداء والمكابرة والتكذيب‪ ،‬وآذوْا أصحابه‪،‬‬
‫وضيّقوا الخِنَاق على دعوته‪ ،‬وقد طالتْ هذه المسألة حتى أخذت ثلث عشرة سنة من عمر‬
‫الدعوة‪ ،‬فسلّه ربه‪ :‬اصبر يا محمد‪ ،‬فقد صبر زميل لك في الدعوة ألف سنة إل خمسين عاما‪،‬‬
‫يعني مدة المشقة التي تحملتها مازالت بسيطة هيّنة‪ ،‬وقد تحمّل أولو العزم من الرسل أكثر من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذلك‪.‬‬
‫خمْسِينَ عَاما‪[ { ...‬العنكبوت‪:‬‬
‫ونلحظ هنا } أَ ْلفَ سَنَةٍ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]14 :‬ثم استثنى منها } ِإلّ َ‬
‫‪ ]14‬ولم ي ُقلْ خمسين سنة‪ ،‬فاستثنى العوام من السنين‪ ،‬ليدلّك على أن السنة تعني أيّ عام‪ ،‬ويُرفَع‬
‫الخلف؛ لن البعض يقول‪ :‬إن السنة هي التي تبدأ من أول المحرم إلى آخر ذي الحجة‪ ،‬في حين‬
‫أن السنة ليس من الضروري أنْ تبدأ بالمحرم وتنتهي بذي الحجة‪ ،‬إنما تبدأ في أي وقت وتنتهي‬
‫في مثله بعد عام كامل‪.‬‬
‫فحين نقول‪ :‬فلن عمره مثلً عشرون سنة‪ ،‬أي‪ :‬من يوم مولده إلى مثله عشرين مرة‪ ،‬وكذلك‬
‫العام‪ .‬إذن‪ :‬السنة والعام والحجة‪ ،‬كلها سواء أردتَ الحساب بالسنة الشمسية‪ ،‬أو القمرية‪ ،‬أو‬
‫غيرها كما تحب‪.‬‬
‫ومعلوم أن التوقيتات عندنا توقيتات هللية بالشهر العربي؛ لن الشمس ل يُعرف من حركتها إل‬
‫اليوم‪ ،‬إنما ل نعرف منها الشهر‪ ،‬الشهر نعرفه بحركة القمر حين يُولَد الهلل‪ ،‬وبالشهر نحسب‬
‫السنة التي هي أثنا عشر شهرا قمريا وتزيد أحد عشر يوما في السنة الشمسية‪.‬‬
‫وكأن الحق سبحانه أراد أنْ ُيعْلمنا أن السنة هي العام‪ ،‬ل فَرْق بينهما‪ ،‬ول داعي للجاج في هذه‬
‫المسألة‪.‬‬

‫ن وَهُمْ ظَاِلمُونَ { [العنكبوت‪]14 :‬‬


‫خذَهُمُ الطّوفَا ُ‬
‫ثم يذكر سبحانه نهاية هؤلء القوم الذين كذّبوا‪ } :‬فَأَ َ‬
‫فالعلة في أخذهم‪ ،‬ل لنهم أعداء‪ ،‬بل لنهم ظالمون لنفسهم بالكفر‪ ،‬وهكذا تنتهي القصة أو اللقطة‬
‫في آية واحدة الغرض منها تسلية النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬إنْ أبطأ َنصْره على الكفار‪.‬‬
‫وكلمة } فََأخَذَ ُهمُ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]14 :‬الخْذ فيه دليل على الشدة وقوة التناول‪ ،‬لكن بعنف أو بغير‬
‫خصْم كان بلطف‪.‬‬
‫عنف؟ إنْ كان الخذ لخصْم فهو أخْذ بعنف وشدة‪ ،‬وإنْ كان لغير َ‬
‫والطوفان‪ :‬أن يزيد الماء عن الحاجة الرتيبة للناس‪ ،‬فبعد أنْ كان وسيلة حياة‪ ،‬ومنه كل شيء حتى‬
‫ن يلفت أنظارنا إلى المتقابلت‬
‫يصبح وسيلة موت وهلك‪ ،‬وكأن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يريد أ ْ‬
‫في الخَلْق حتى ل نظنّ أن الخَلْق يسير برتابة‪.‬‬
‫فسيدنا موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ضرب البحر بالعصا‪ ،‬فتجمّد فيه الماء حتى صار كالجبل‪،‬‬
‫وضرب بها الحجر فانبجس منه الماء‪.‬‬
‫إنها طلقة القدرة التي ل تعتمد على السباب‪ ،‬فالمسبّب هو ال سبحانه يفعل ما يشاء‪ ،‬فليست‬
‫عهْ ٍد في‬
‫الشياء بأسبابها‪ ،‬إنما بمراد المسبّب فيها؛ لذلك يقول أحمد شوقي في قصيدة النيل‪:‬مِنْ أيّ َ‬
‫ي كفّ فِي المدائن ُتغْ ِدقُومِنَ السماءِ نز ْلتَ أم على الجِنَان جداولً تترقرقُإلى أنْ‬
‫ق وبأ ّ‬
‫القُرَى تتدف ُ‬
‫عسْجَدا والرضُ تُغ ِرقُها فيحيَا المغْ َرقُوالمأخوذ هنا هم المكذّبون لنوح ‪-‬‬
‫سكُبه فَيْصبح َ‬
‫يقول‪:‬الماء تَ ْ‬
‫عليه السلم ‪ -‬الذين ظلموا أنفسهم لما كذّبوا رسولهم‪ ،‬ولم يستمعوا للهدى‪ ،‬ثم يُنجّي ال نوحا ‪-‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليه السلم ‪ -‬بالسفينة التي قال ال عنها في سورة هود‪َ {:‬وقَالَ ا ْركَبُواْ فِيهَا ِبسْمِ اللّهِ مَجْرياهَا‬
‫َومُرْسَاهَا‪[} ...‬هود‪.]41 :‬‬
‫وقد أمره ال بصناعة السفينة‪ {:‬وَاصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا َولَ ُتخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُواْ إِ ّنهُمْ‬
‫ّمغْ َرقُونَ }[هود‪ ]37 :‬فكان نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬على علم بعاقبة المكذّبين الظالمين من قومه‪،‬‬
‫واحتفظ بها في نفسه‪ ،‬وهو يصنع السفينة كما أمره ربه‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬أكانت السفينة شيئا معروفا لهؤلء القوم‪ ،‬ولها مثال سابق لديهم؟ ل‪ ،‬لم يكونوا يعرفون‬
‫السفن‪ ،‬بدليل أنهم تعجّبوا من فعْل نوح‪ ،‬وسخروا منه وهو يصنعها{ َوكُّلمَا مَرّ عَلَ ْيهِ مَلٌ مّن َق ْومِهِ‬
‫سخَرُواْ مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنكُمْ َكمَا‬
‫سخِرُواْ مِ ْنهُ‪[} ...‬هود‪ ]38 :‬فكان يردّ عليهم في نفسه‪ {:‬إِن تَ ْ‬
‫َ‬
‫سخَرُونَ }[هود‪ ]38 :‬فهو يعلم عاقبتهم وما يُبيّته ال لهم‪.‬‬
‫تَ ْ‬
‫والحق سبحانه يعطينا هذه اللقطة من قصة نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬لكي نجول في كل اللقطات‪،‬‬
‫ونستحضر مواطن العبرة فيها‪ ،‬وفي قصة نوح مسائل كثيرة نستفيدها‪ ،‬فقد كان القوم يعبدون‬
‫الصنام‪ :‬ودا‪ ،‬وسواعا‪ ،‬ويغوث‪ ،‬ويعوق‪ ،‬ونسرا‪ ،‬ومنها نعلم أن ودادة النبياء ودادة قيم ومنهج‪،‬‬
‫وودادة أعمال واقتداء‪ ،‬وأن أنسابهم أنساب تقوى وورع‪.‬‬
‫فنبوّة نوح لم تمنع ولده الضالّ من الغرق‪ ،‬حتى بعد أنْ دعا ال‪َ {:‬ربّ إِنّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنّ‬
‫حقّ‪} ...‬‬
‫وَعْ َدكَ الْ َ‬

‫ع َملٌ غَيْرُ‬
‫[هود‪ ]45 :‬فيعطيه ال الحكم في هذه المسألة‪ ،‬ويُصحّح له‪ {:‬إِنّهُ لَ ْيسَ مِنْ أَهِْلكَ إِنّهُ َ‬
‫صَالِحٍ‪[} ...‬هود‪.]46 :‬‬
‫وليس معنى ذلك أن أمه أتتْ به من الحرام والعياذ بال؛ لن ال تعالى ما كان ليُدلّس على نبي‬
‫من أنبيائه‪ ،‬إنما هي كانت من الخائنين‪ ،‬وخيانتها أنها كانت تفشي أسراره لخصومه‪ ،‬وتخبرهم‬
‫خبره؛ لذلك يقول تعالى عنها في سورة التحريم‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُوحٍ‬
‫وَامْرََأتَ لُوطٍ‪[} ...‬التحريم‪.]10 :‬‬
‫ع َملٌ غَيْرُ‬
‫ويُبيّن الحق سبحانه العلة في قوله‪ } :‬إِنّهُ لَيْسَ مِنْ أَ ْهِلكَ‪[ { ...‬هود‪ ]46 :‬بقوله‪ } :‬إِنّهُ َ‬
‫صَالِحٍ‪[ { ...‬هود‪ ]46 :‬حتى ل تذهب بنا الظنون في زوجة نبي ال‪ ،‬فالعلة أنه عمل غير صالح‪،‬‬
‫وبنوة النبياء بُنوّة عمل‪ ،‬ل بُنوّة نَسَب‪.‬‬
‫سفِينَةِ‪.{ ....‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فأَ ْنجَيْنا ُه وَأصْحَابَ ال ّ‬

‫(‪)3280 /‬‬

‫جعَلْنَاهَا آَ َيةً لِ ْلعَاَلمِينَ (‪)15‬‬


‫سفِينَةِ وَ َ‬
‫فَأَنْجَيْنَا ُه وََأصْحَابَ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سفِينَةِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]15 :‬هم الذين يركبون معه‬
‫أي‪ :‬فأنجينا نوحا عليه السلم { وَأصْحَابَ ال ّ‬
‫فيها‪ ،‬فهم أصحابها‪ ،‬وقد صُنعت من أجلهم‪ ،‬لم يصنعها نوح لذاته‪ ،‬إنما صنعها لقومه الذين تعجّبوا‬
‫من صناعته لها وسَخروا منه واستهزأوا به‪ ،‬فهم أصحابها في الحقيقة‪ ،‬مَنْ آمن منهم ركب فيها‪،‬‬
‫ومَنْ كفر أبى وأعرض‪ ،‬فكانت نهايته الغرق‪.‬‬
‫ونفهم من هذه القضية أن الحق سبحانه حينما يطلب من المؤمن شيئا يعطيه لمَنْ ل يجد ذلك‬
‫ت تفضلً عليه‪ ،‬فلما صنع‬
‫الشيء‪ ،‬سواء كان عِلْما أو مالً أو قدرة‪..‬إلخ افهم أنها حق له‪ ،‬وليس ْ‬
‫سفِينَةِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]15 :‬فهي حقّ لهم‪،‬‬
‫نوح السفينة جعلها ال من حق القوم فقال { وَأصْحَابَ ال ّ‬
‫فليس المراد منها أن يصنعها مثلً‪ ،‬ويُؤجرها لهم‪ ،‬ل بل هو يصنعها من أجلهم‪.‬‬
‫وكذلك قوله تعالى‪ {:‬وَالّذِينَ فِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ ّمعْلُومٌ }[المعارج‪ ]24 :‬وقد ورد هذا الحق في المال‬
‫مرتين في القرآن الكريم‪ ،‬مرة{ حَقّ ّمعْلُومٌ }[المعارج‪ ،]24 :‬ومرة أخرى{ حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }‬
‫[الذاريات‪ ]19 :‬دون أن يحدد مقداره‪ ،‬ودون أنْ يُوصف بالمعلومية‪.‬‬
‫وقد سمّاهما ال حقا‪ ،‬فالمعلوم هو الزكاة الواجبة في مقام اليمان‪ ،‬وغير المعلوم هي الصدقة؛‬
‫لنها ل تخضع لمقدار معين‪ ،‬بل هي حَسْب أريحية المؤمن وحُبه للطاعات‪ ،‬ودخوله في مقام‬
‫الحسان الذي قال ال فيه‪ {:‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَا ُهمْ رَ ّبهُمْ إِ ّن ُهمْ كَانُواْ قَ ْبلَ‬
‫حقّ‬
‫جعُونَ * وَبِالَسْحَارِ هُمْ َيسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ َ‬
‫ذَِلكَ ُمحْسِنِينَ * كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َيهْ َ‬
‫حبّ‬
‫عشْق التكليف و ُ‬
‫ل وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات‪]19-15 :‬وهذه الزيادة في العبادات دليل على ِ‬
‫لّلسّآ ِئ ِ‬
‫ل مما يستحق سبحانه من العبادة؛ لذلك يقول العلماء‪:‬‬
‫الطاعة والثقة بأن ال تعالى ما كلّفنا إل بأق ّ‬
‫ن فعلتَ صار في حقك فرضا‬
‫إياك أنْ تنتقل إلى هذا المقام وتُلزِم به نفسك‪ ،‬أو تجعله نَذْرا؛ لنك إ ْ‬
‫ل تستطيع أنْ تُنقِص منه‪.‬‬
‫ن تعوّدت على منهج وألزمت نفسك به ثم تراجعت‪ ،‬فكأنك‬
‫إنما جعله لنشاطك ومقدرتك؛ لنك إ ْ‬
‫تقول كلمة ل ينبغي أنْ تُقال‪ ،‬فكأنك ‪ -‬والعياذ بال ‪ -‬جربت ُودّك ل فلم تجده ‪ -‬والعياذ بال ‪-‬‬
‫ل وُدّ فتركته‪.‬‬
‫أه َ‬
‫سفِينَةِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]15 :‬يدلنا على أنها صُ ِن َعتْ بأمر ال من‬
‫إذن‪ :‬فقوله سبحانه { وَأصْحَابَ ال ّ‬
‫أجلهم‪ ،‬وبفراغ نوح من صناعتها كانت حقا لهم‪ ،‬ل مِلْكا له عليه السلم‪.‬‬
‫سفِينَةِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]15 :‬وقد حمل فيها نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬من‬
‫لكن كيف نفهم { وَأصْحَابَ ال ّ‬
‫صحْبة؛ لنهما مملوكان لصحاب‬
‫ُكلّ زوجين اثنين؟ قالوا‪ :‬الزوجان من غير البشر ليس لهما ُ‬
‫الصّحْبة‪.‬‬
‫جعَلْنَاهَآ آ َيةً لّ ْلعَاَلمِينَ } [العنكبوت‪ ]15:‬أي‪ :‬أمرا عجيبا لم يسبق له مثيل في‬
‫وقوله سبحانه‪َ { :‬و َ‬
‫حياة الناس‪ ،‬فقد صنعها نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬بوحي من ربه على غير مثال سابق‪ ،‬فوجه َكوْنها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫آية أن ال تعالى أعلمه وعلّمه صناعتها؛ لن لها مهمة إيمانية عنده‪ ،‬فبها نجاة المؤمنين وغَرَق‬
‫الكافرين‪ ،‬وهذه الية { لّ ْلعَاَلمِينَ } [العنكبوت‪ ]15 :‬جميعا‪.‬‬
‫ثم يذكر الحق سبحانه إبراهيم عليه السلم‪ ،‬فيقول‪ { :‬وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ اعْبُدُواْ‪.} ...‬‬

‫(‪)3281 /‬‬

‫وَإِبْرَاهِيمَ ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ اعْ ُبدُوا اللّهَ وَاتّقُوهُ ذَِلكُمْ خَيْرٌ َلكُمْ إِنْ كُنْتُمْ َتعَْلمُونَ (‪)16‬‬

‫الواو هنا لعطف الجمل‪ ،‬فالية ‪ -‬معطوفة على{ وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحا‪[} ...‬العنكبوت‪ ]14 :‬إذن‪ :‬فنوح‬
‫وإبراهيم واقعتان مفعولً به للفعل أرسلنا‪ ،‬وللسائل أنْ يسأل‪ :‬لماذا لم تُنوّن إبراهيم كما ُنوّنت‬
‫نوح؟ لم تُنوّن كلمة إبراهيم؛ لنها اسم ممنوع من الصرف ‪ -‬أي من التنوين ‪ -‬لنه اسم أعجمي‪.‬‬
‫ونلحظ في هذه المسألة أن جميع أسماء النبياء أسماء أعجمية تُمنع من الصرف‪ ،‬ما عدا السماء‬
‫التي تبدأ بهذه الحروف (صن شمله) وهي على الترتيب‪ :‬صالح‪ ،‬نوح‪ ،‬شعيب‪ ،‬محمد‪ ،‬لوط‪ ،‬هود‪.‬‬
‫فهذه السماء مصروفة مُنوّنة‪ ،‬عليهم جميعا الصلة والسلم‪.‬‬
‫والمعنى‪ { :‬وَإِبْرَاهِيمَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]16 :‬يعني‪ :‬واذكر إبراهيم { ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ‬
‫وَاتّقُوهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]16 :‬وقلنا‪ :‬العبادة أنْ يطيع العابدُ المعبو َد في أوامره ونواهيه‪ ،‬إذن‪ :‬لو‬
‫جاء مَنْ يدّعي اللوهية‪ ،‬وليس له أمر نؤديه‪ ،‬أو نهي نمتنع عنه فل يصلح إلها‪.‬‬
‫لذلك كذب الذين قالوا‪ {:‬مَا َنعْ ُبدُهُمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى‪[} ...‬الزمر‪ ]3 :‬لنهم ما عبدوا‬
‫الصنام إل لنها ليست لها أوامر ول نواه‪ ،‬فألوهيتهم (منظرية) بل تكليف‪ ،‬فأول الدلة على‬
‫بطلن عبادة هذه اللهة المدّعاة أنها آلهة بل منهج‪.‬‬
‫ثم عطف المر { وَا ّتقُوهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]16 :‬على { اعْبُدُواْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]16 :‬والتقوى من‬
‫معانيها أنْ تطيع الوامر‪ ،‬وتجتنب النواهي‪ ،‬فهي مرادفة للعبادة‪ ،‬لكن إنْ عطفت على العبادة‬
‫فتعني‪ :‬نفّذوا المر لتتقوا غضب ال‪ ،‬اجعلوا بينكم وبين صفات الجلل وقاية‪.‬‬
‫وسبق أنْ قلنا‪ :‬إن ل تعالى صفات جلل‪ :‬كالقهار‪ ،‬الجبار‪ ،‬المنتقم‪ ،‬المذلّ‪ ..‬إلخ‪ .‬وصفات جمال‪:‬‬
‫كالغفار‪ ،‬الرحمن‪ ،‬الرحيم‪ ،‬التواب‪ ،‬وبالتقوى تنال متعلقات صفات الجمال‪ ،‬وتمنع نفسك وتحميها‬
‫من متعلقات صفات الجلل‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬ذاِل ُكمْ خَيْرٌ ّل ُكمْ إِن كُنتُمْ َتعَْلمُونَ } [العنكبوت‪ ]16 :‬ذلكم‪ ،‬أي ما تقدّم من المر‬
‫بالعبادة والتقوى خير لكم‪ ،‬فإنْ لم تعلموا هذه القضية فل خيرَ في علمكم‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَلَـاكِنّ‬
‫س لَ َيعَْلمُونَ * َيعَْلمُونَ ظَاهِرا مّنَ الْحَيَاةِ الدّنْيَا‪[} ...‬الروم‪.]7-6 :‬‬
‫َأكْثَرَ النّا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالعلم الحقيقي هو العلم بقضايا الخرة‪ ،‬العلم بالحكام وبالمنهج الذي يعطيك الخير الحقيقي طويل‬
‫المد على خلف علم الدنيا فإنْ نلتَ منه خيرا‪ ،‬فهو خير موقوت بعمرك فيها‪.‬‬
‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن العلم هو إدراك قضية كونية تستطيع أن تدلل عليها‪ ،‬وهذا يشمل كل معلومة في‬
‫الحياة‪ .‬أي‪ :‬العلم المادي التجريبي وآثار هذا العلم في الدنيا‪ ،‬أما العلم السامي العلى فأنْ تعلم‬
‫المراد من ال لك‪ ،‬وهذا للخرة‪.‬‬
‫سمَآءِ مَآءً فَأَخْ َرجْنَا بِهِ َثمَرَاتٍ مّخْتَلِفا‬
‫واقرأ في ذلك مثلً قوله تعالى‪ {:‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أن َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫س وَال ّدوَآبّ‬
‫حمْرٌ مّخْتَِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّا ِ‬
‫ض وَ ُ‬
‫جدَدٌ بِي ٌ‬
‫أَ ْلوَا ُنهَا َومِنَ ا ْلجِبَالِ ُ‬
‫غفُورٌ }‬
‫وَالَنْعَامِ ُمخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ كَذَِلكَ إِ ّنمَا َيخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ َ‬

‫[فاطر‪.]28-27 :‬‬
‫فذكر سبحانه علم النبات والجماد و{ َومِنَ النّاسِ‪[} ..‬فاطر‪ ]28 :‬أي‪ :‬علم النسانيات{‬
‫وَال ّدوَآبّ‪[} ...‬فاطر‪ ]28 :‬علم الحيوان‪ ،‬وهكذا جمع كل النواع والجناس‪ ،‬ثم قال سبحانه‪ {:‬إِ ّنمَا‬
‫خشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ‪[} ...‬فاطر‪ ]28 :‬مع أنه سبحانه لم يذكر هنا أيّ حكم شرعي‪.‬‬
‫يَ ْ‬
‫إذن‪ :‬المراد هنا العلماء الذين يستنبطون قضية يقينية في الوجود‪ ،‬كهذه الكتشافات التي تخدم‬
‫حركة الحياة‪ ،‬وتدلّ الناس على قدرة ال‪ ،‬وبديع صُنْعه تعالى‪ ،‬وتُذكّرهم به سبحانه‪.‬‬
‫وتأمل في نفسك مثلً َوضْع القصبة الهوائية بجوار البلعوم‪ ،‬وكيف أنك لو شرقت بنصف حبة أرز‬
‫ل تستريح إل بإخراجها‪ ،‬وتأمل‪َ ،‬وضْع اللهاة وكيف تعمل تلقائيا دون َقصْد منك أو تحكم فيها‪.‬‬
‫تأمل الهداب في القصبة الهوائية‪ ،‬وكيف أنها تتحرك لعلى تُخرج ما يدخل من الطعام لو اختلّ‬
‫توازن اللهاة‪ ،‬فلم تُحكِم سدّ القصبة الهوائية أثناءَ البلع‪.‬‬
‫تأمل حين تكون جالسا مطمئنا ل يقلقك شيء‪ ،‬ثم في لحظة تجد نفسك محتاجا لدورة المياه‪ ،‬ماذا‬
‫حدث؟ ذلك لن في مجرى المعاء ما يشبه (السقاطة) التي تُخرج الفضلت بقدر‪ ،‬فإذا زادتْ عما‬
‫يمكن لك تحمله‪ ،‬فل ُبدّ من قضاء الحاجة والتخلص من هذه الفضلت الزائدة‪.‬‬
‫تأمل النف وما فيه من شعيرات في مدخل الهواء ومُخَاط بالداخل‪ ،‬وأنها جُعلت هكذا لحكمة‪،‬‬
‫فالشعيرات تحجز ما يعلَق بالهواء من الغبار‪ ،‬ثم يلتقط المخاط الغبارَ الدقيق الذي ل يعلق‬
‫بالشعيرات ليدخل الهواء الرئتين نقيا صافيا‪ ،‬تأمل الذن من الخارج وما فيها من تعاريج مختلفة‬
‫التجاهات‪ ،‬لتصدّ الهواء‪ ،‬وتمنعه من مواجهة فتحة الذن‪.‬‬
‫ل إلى معرفتها إل باستنباط العلماء لها‪،‬‬
‫حصْر‪ ،‬ول سبي َ‬
‫واليات في جسم النسان كثيرة وفوق ال َ‬
‫وكشفهم عنها‪ ،‬وهذا من نشاطات الذهن البشري‪ ،‬أما العلم الذي يخرج عن نطاق الذّهْن البشري‬
‫فهو نازل من أعلى‪ ،‬وهو قانون الصيانة الذي جعله الخالق سبحانه لحماية الخَلْق‪ ،‬فالذي يأخذ‬
‫بالعلم الدنيوي التجريبي فقط يُحرَم من الخير الباقي؛ لن قصارى ما يعطيك علم المادة في البشر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أنْ يُرفه حياتك المادية‪ ،‬أمّا علم الخرة فيُرفّه حياتك الدنيا ويبقى لك في الخرة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقوله تعالى‪ } :‬ذاِلكُمْ خَيْرٌ ّلكُمْ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]16 :‬أي‪ :‬قانون الصيانة الرباني بافعل كذا‬
‫ول تفعل كذا‪ ،‬وإياك أنْ تنقل مدلول (افعل) في (ل تفعل) أو مدلول (ل تفعل) في (افعل)‪ ،‬وقد‬
‫شبّهنا هذا القانون (بالكتالوج) الذي يجعله الصانع لحماية الصنعة المادية لتؤدي مهمتها على أكمل‬
‫وجه‪ ،‬كذلك منهج ال بالنسبة للخَلْق‪ ،‬فإنْ لم تعلموا هذه القضية فلن ينفعكم علم بعد ذلك‪.‬‬
‫يقول سبحانه‪ {:‬مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَزِدْ َلهُ فِي حَرْثِ ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا‬
‫َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى‪.]20 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالخير الباقي هو الخير في الخرة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِ ّنمَا َتعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ َأوْثَانا‪.{ ...‬‬

‫(‪)3282 /‬‬

‫إِ ّنمَا َتعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا وَتَخُْلقُونَ ِإ ْفكًا إِنّ الّذِينَ َتعْ ُبدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَا َيمِْلكُونَ َل ُكمْ رِ ْزقًا‬
‫جعُونَ (‪)17‬‬
‫شكُرُوا َلهُ إِلَيْهِ تُرْ َ‬
‫فَابْ َتغُوا عِ ْندَ اللّهِ الرّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَا ْ‬

‫قوله تعالى‪ { :‬إِ ّنمَا َتعْبُدُونَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]17 :‬أي‪ :‬على حَدّ زعمهم‪ ،‬وعلى حَدّ قولهم‪ {:‬مَا‬
‫َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى‪[} ...‬الزمر‪ ،]3 :‬وإل فل عبادة لهذه اللهة‪ ،‬حيث ل أمر عندهم‬
‫ول نهي ول منهج‪ ،‬فعبادتهم إذن باطلة‪.‬‬
‫ن ضُيّق عليهم الخِنَاق قالوا‪ {:‬مَا َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ‬
‫وهم يعبدون الوثان من دون ال فإ ْ‬
‫زُ ْلفَى‪[} ...‬الزمر‪ ]3 :‬فهم بذلك مشركون‪ ،‬ومن لم َيقُلْ بهذا القول فهو كافر‪.‬‬
‫والوثن‪ :‬ما ُنصِب للتقديس من حجر‪ ،‬أيا كان نوعه‪ :‬حجر جيري‪ ،‬أو جرانيت‪ ،‬أو مرمر‪ .‬أو كان‬
‫من معدن‪ :‬ذهب أو فضة أو نحاس‪ ..‬إلخ أو من خشب‪ ،‬وقد كان البعض منهم يصنعه من‬
‫حكَى هذا على سبيل التعجّب سيدنا عمر رضي ال عنه‪.‬‬
‫(العجوة)‪ ،‬فإنْ جاع أكله‪ ،‬وقد َ‬
‫وبأيّ عقل أو منطق أنْ تذهب إلى الجبل وتستحسن منه حجرا فتنحته على صورة معينة‪ ،‬ثم‬
‫تتخذه إلها تعبده من دون ال‪ ،‬وهو صَنْعة يدك‪ ،‬وإنْ أطاحتْ به الريح أقمتَه‪ ،‬وإنْ كسرته ُرحْت‬
‫ي عقل يمكن أن يقبل هذا العمل؟‬
‫تُصلح ما تكسّر منه وتُرمّمه‪ ،‬فأ ّ‬
‫لذلك يخاطبهم القرآن‪ {:‬قَالَ أَ َتعْبُدُونَ مَا تَ ْنحِتُونَ }[الصافات‪ ]95 :‬وكلما تقدّم العالم تلشتْ منه هذه‬
‫الظاهرة؛ لنها مسألة لم َتعُدْ تناسب العقل بأية حال‪.‬‬
‫ومعنى { وَ َتخُْلقُونَ ِإفْكا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]17 :‬أي‪ :‬توجدون‪ ،‬واليجاد يكون من عدم‪ ،‬فهم يًُوجدون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من عدم‪ ،‬لكن أيُوجدون صِدْقا؟ أم يُوجدون كذبا؟ إنهم يُوجدون { ِإفْكا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]17 :‬والِفك‬
‫تعمّد الكذب الذي يقلب الحقائق‪ ،‬ومن ذلك قوله سبحانه‪ {:‬وَا ْل ُمؤْتَ ِفكَةَ أَ ْهوَىا }[النجم‪ ]53 :‬أي‪:‬‬
‫القرى التي كفأها ال على نفسها‪.‬‬
‫وسبق أن أوضحنا أن الحقيقة هي القضية الصادقة التي توافق الواقع‪ ،‬فلو قُلْت مثلً‪ :‬محمد كريم‪،‬‬
‫فل بُدّ أن هناك شخصا اسمه محمد وله صفة الكرم‪ ،‬فإنِ اختلف الواقع فلم يوجد محمد أو وُجِد‬
‫ولم تتوفر له صفة الكرم‪ ،‬فالقضية كاذبة لنها مخالفة للواقع‪ ،‬هذا هو الفك‪.‬‬
‫حسَنُ‬
‫فالحق سبحانه ل يعيب عليهم الخَلْق؛ لنه أثبت للعباد خَلْقا‪ ،‬فقال سبحانه‪ {:‬فَتَبَا َركَ اللّهُ أَ ْ‬
‫الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون‪.]14 :‬‬
‫والفَرْق أنك تخلق من موجود‪ ،‬أما الحق سبحانه فيخلق من العدم‪ ،‬فأنت تُوجِد الثوب من القطن‬
‫مثلً‪ ،‬وكوبَ الزجاج من الرمل‪ ،‬والمحراث من الحديد‪ ..‬إلخ فأوجدت معدوما عن موجود سابق‪،‬‬
‫أما الخالق سبحانه فأوجد معدوما عن ل موجود‪.‬‬
‫وسبق أنْ أوضحنا أن صَنْعة البشر تجمد على حالها‪ ،‬فالسكين مثلً يظل سكينا فل يكبر‪ ،‬حتى‬
‫يصير ساطورا مثلً‪ ،‬والكوب ل يلد لنا أكوابا أخرى‪ .‬لكن خِلْقة ال سبحانه لها صفة النمو والحياة‬
‫والتكاثر‪ ..‬إلخ؛ لذلك أنصفك ال فوصفك بأنك خالق‪ ،‬لكن هو سبحانه أحسن الخالقين‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه ل يعيب على هؤلء أنهم يخلقون‪ ،‬إنما يعيب عليهم أنْ يخلقوا إفْكا وكذبا‪.‬‬

‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬إِنّ الّذِينَ َتعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّ ِه لَ َيمِْلكُونَ َلكُمْ رِزْقا فَابْ َتغُواْ عِندَ اللّهِ الرّ ْزقَ‪{ ...‬‬
‫[العنكبوت‪ ]17 :‬في موضع آخر بيّن لهم الحق سبحانه أنهم يعبدون آلهة ل تضر ول تنفع‪ ،‬وهنا‬
‫يذكر مسألة مهمة هي استبقاء الحياة للنسان بالقُوت الذي نسميه الرزق‪ ،‬فهذه اللهة التي تعبدونها‬
‫من دون ال ل تملك لكم رزقا‪ ،‬ولو امتنع عنكم المطر وأجدبت الرض لمتُم من الجوع‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كان عليكم أنْ تتأملوا‪ :‬من أين تأتي مقومات حياتكم‪ ،‬ومَنْ صاحب الفضل فيها‪ ،‬فتتوجّهون‬
‫إليه بالعبادة والطاعة‪ ،‬كما نقول في المثل (اللي ياكل لقمتي يسمع كلمتي) إنما أُطعمك وتسمع‬
‫لغيري؟!!‬
‫والرزق هو الشّغل الشاغل عند الناس‪ ،‬ففي أول المر كلنا يجتهد لنأكل ونشرب ونعيش‪ ،‬فلما‬
‫تتحسّن المور نرغب للمستقبل‪ ،‬فالموظف مثلً يدخر لشهر‪ ،‬والزارع يدخل للعام كله‪.‬‬
‫ومن أعاجيب هذه المسألة أنك تجد النسان والفأر والنمل هم الوحيدون بين مخلوقات ال التي‬
‫تدخر للمستقبل‪ ،‬أما بقية الحيوانات فتأخذ حاجتها من الطعام فقط‪ ،‬وتترك الباقي دون أنْ تهتمّ بهذه‬
‫المسألة‪ ،‬أو تُشغَل برزق غد أبدا‪ ،‬ل يأكل أكثر من طاقته‪ ،‬ول يدخر شيئا لغده‪.‬‬
‫لذلك يُذكّر ال عباده بمسألة الرزق لهميتها في حياتهم‪ ،‬ومن عجيب أمر الرزق أنه أع َرفُ‬
‫بمكانك وعنوانك‪ ،‬منك بمكانة وعنوانه‪ ،‬فإنْ قُسِم لك الرزق جاءك بطرق عليك الباب‪ ،‬وإنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حُرمت منه أعياك طلبه‪.‬‬
‫ومن أوضح المثلة على أن الرزق مقسوم مقدّر من ال لكل منا أن المرأة حين تحمل يمتنع عنها‬
‫الحيض الذي كان يأتيها بشكل دوريّ قبل الحمل‪ ،‬فأين ذهب هذا الدم؟ هذا الدم هو رزق الجنين‬
‫في بطن أمه ل يأخذه ول يستفيد به غيره حتى الم‪.‬‬
‫فإنْ قُدّر الجنين تحول هذا الدم إلى غذاء له خاصة‪ ،‬فإنْ لم يُقدّر للم أنْ تحمل نزل منها هذا الدم‬
‫على صورة كريهة‪ ،‬ل بُدّ من التخلص منه؛ لنه ضار بالم إنْ بقي ل بُدّ من نزوله‪ ،‬لنه ليس‬
‫رزقها هي‪ ،‬بل رزق ولدها في أحشائها‪ ،‬ولو لم يكُنْ هذا الدم رِزْقا للجنين لكانت الم تضعف‬
‫كلما تكرّرت لها عملية نزول الدم بهذه الصورة الدورية‪ .‬إذن‪ :‬لكل منا رِزْق ل يأخذه غيره‪.‬‬
‫ضمِن له ويترك ما طُلِب منه‪.‬‬
‫لذلك يقول أحد الصالحين‪ :‬عجبتُ لبن آدم يسعى فيما ُ‬
‫فربك قد ضمن لك رزقك فانظر إلى ما طُلِب منك‪ ،‬واشغل نفسك بمراد ال فيك؛ لذلك نتعجب من‬
‫هؤلء المتسولين الذين كنا نراهم مثلً في مواسم الحج‪ ،‬وشرّهم مَنْ يعرضون عاهاتهم وعاهات‬
‫أبنائهم على الناس يتسولون بها‪ ،‬وكأنهم يشتكون الخالق للخَلْق‪ ،‬ويتبرّمون بقضاء ال‪ ،‬وال تعالى‬
‫ل يحب أن يشكوه عبده لخلقه‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬إذا بليتم فاستتروا "‬

‫ووال لو ستر أصحاب البلء بلءهم‪ ،‬وقعدوا في بيوتهم لَساقَ ال إليهم أرزاقهم إلى أبوابهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الرزق مضمون من ال؛ لذلك يمتنّ به على عباده وينفيه عن هذه اللهة الباطلة } لَ َيمِْلكُونَ‬
‫شكُرُواْ َلهُ‬
‫َلكُمْ رِزْقا فَابْ َتغُواْ عِندَ اللّهِ الرّ ْزقَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]17 :‬ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَاعْبُدُوهُ وَا ْ‬
‫جعُونَ { [العنكبوت‪ ]17 :‬فإنْ لم تعبدوه لنه يرزقكم ويطعمكم‪ ،‬فاعبدوه لن مرجعكم إليه‬
‫إِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫ووقوفكم بين يديه‪.‬‬
‫وكان يكفي أن نعمه عليكم مُقدّمة على تكليفه لكم‪ ،‬لقد تركك تربع في نعمه دون أنْ يُكلّفك شيئا‪،‬‬
‫ن بلغتَ سِنّ الرشد‪ ،‬وهي سِنّ الّنضْج والبلوغ والقدرة على إنجاب مثلك‪ ،‬ثم بعد ذلك تقابل‬
‫إلى أ ْ‬
‫شكْرا له سبحانه على ما قدّمه لك لكانت‬
‫تكليفه لك بالجحود؟ إن عبادة ال وطاعته لو لم تكن إل ُ‬
‫واجبة عليك‪.‬‬
‫شكُرُواْ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]17 :‬لن ربكم عز وجل يريد أن يزيدكم‪ ،‬فجعل الشكر‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَا ْ‬
‫شكَرْ ُت ْم لَزِيدَ ّنكُمْ‪[} ...‬إبراهيم‪ ]7 :‬فربّك ينتظر‬
‫على النعمة مفتاحا لهذه الزيادة‪ ،‬فقال سبحانه‪ {:‬لَئِن َ‬
‫منك كلمة الشكر‪ ،‬مجرد أن تستقبل النعمة بقولك الحمد ل فقد وجبت لك الزيادة‪.‬‬
‫حتى أن بعض العارفين يرى أن الحمد ل يكون على ِنعَم ال التي ل ُتعَ ّد ول تُحصى فحسب‪ ،‬إنما‬
‫يكون الحمد ل على أنه ل إله إل ال‪ ،‬وإل لو كان هناك إله آخر لَحِرْنا بينهما أيهما نتبع‪،‬‬
‫فالوحدانية من أعظم نعم الواحد سبحانه التي تستوجب الشكر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد أعطانا الحق سبحانه مثلً لهذه المسألة بقوله سبحانه‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ‬
‫مُتَشَاكِسُونَ‪[} ...‬الزمر‪ ]29 :‬يعني‪ :‬مملوك لشركاء مختلفين‪ ،‬وليتهم متفقون{ وَرَجُلً سَلَما‬
‫جلٍ‪[} ...‬الزمر‪ ]29 :‬أي‪ :‬مِلْك لسيد واحد{ َهلْ َيسْ َتوِيَانِ مَثَلً‪[} ...‬الزمر‪ ]29 :‬فكذلك الموحّد‬
‫لّرَ ُ‬
‫لِلّه‪ ،‬والمشرك به‪.‬‬
‫ولذلك يقول بعض الصالحين في قوله تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَا ُكمْ‪} ...‬‬
‫[البقرة‪ ]172 :‬فاللص الذي يأكل من الحرام يأكل رزقه‪ ،‬فهو رزقه لكنه من الحرام‪ ،‬ولو صبر‬
‫على السرقة لكله من الحلل ولسَاقه ال إليه‪.‬‬
‫فالمعنى أن ال خلقكم ورزقكم‪ ،‬ول يعني هذا أنْ تُفلِتوا منه‪ ،‬فإنْ لم تُراعوا الجميل السابق فخافوا‬
‫مما هو آتٍ‪.‬‬

‫(‪)3283 /‬‬

‫علَى الرّسُولِ إِلّا الْبَلَاغُ ا ْلمُبِينُ (‪)18‬‬


‫وَإِنْ ُتكَذّبُوا َفقَدْ كَ ّذبَ ُأمَمٌ مِنْ قَبِْل ُك ْم َومَا َ‬

‫قوله تعالى‪ { :‬وَإِن ُتكَذّبُواْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]18 :‬أي‪ :‬ما قلنا لكم وما جاءكم به رسولنا؛ لن‬
‫تصديقه سيُدخلكم مدخل التكليف‪ ،‬ويحملكم مشقة المنهج‪ ،‬وسيُضيّق عليكم منطقة الختيار‪ ،‬والحق‬
‫سبحانه قد شرّفك حين أعطاك حرية الختيار‪ ،‬في حين أن الكون كله ل اختيارَ له؛ لنه تنازل‬
‫عن اختياره لختيار ربه‪.‬‬
‫ش َفقْنَ‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَ ْ‬
‫ت وَالَرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لمَانَةَ عَلَى ال ّ‬
‫كما قال سبحانه‪ {:‬إِنّا عَ َرضْنَا ا َ‬
‫جهُولً }[الحزاب‪.]72 :‬‬
‫حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ‬
‫مِ ْنهَا وَ َ‬
‫ح ْم ِدهِ‪[} ...‬السراء‪:‬‬
‫شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ‬
‫فالكون كله مسخر يؤدي مهمته‪ ،‬كما يقول سبحانه‪ {:‬وَإِن مّن َ‬
‫‪.]44‬‬
‫شمْسُ وَالْ َقمَرُ‬
‫سمَاوَاتِ َومَن فِي الَ ْرضِ وَال ّ‬
‫سجُدُ َلهُ مَن فِي ال ّ‬
‫وقال سبحانه‪ {:‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَ ْ‬
‫علَيْهِ ا ْلعَذَابُ‪[} ...‬الحج‪]18 :‬‬
‫وَالنّجُو ُم وَا ْلجِبَالُ وَالشّجَ ُر وَال ّدوَآبّ َوكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ َوكَثِيرٌ حَقّ َ‬
‫فالقاعدة عامة‪ ،‬ل استثناء فيها‪ ،‬إل عند النسان‪ ،‬فمنهم الطائع ومنهم العاصي‪.‬‬
‫فالمعنى‪ { :‬وَإِن ُتكَذّبُواْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]18 :‬فلستم بدعا في التكذيب { َفقَدْ كَ ّذبَ ُأ َممٌ مّن قَبِْلكُمْ‪} ...‬‬
‫[العنكبوت‪ ]18 :‬لكن يجب عليكم أن تتنبهوا إلى ما صنع بالمم المكذّبة‪ ،‬وكيف كانت عاقبتهم‪،‬‬
‫فاحذروا أنْ يُصيبكم ما أصابهم‪ ،‬هذه هي المسألة التي ينبغي عليكم التنبّه لها‪.‬‬
‫وهنا وقف بعض المتمحكين يقول‪ :‬كيف يقول القرآن في خطاب قوم إبراهيم { وَإِن ُتكَذّبُواْ َفقَدْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كَ ّذبَ ُأمَمٌ مّن قَبِْل ُكمْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]18 :‬مع أنه لم يسبقهم إل أمة واحدة هي أمة نوح عليه‬
‫السلم؟ يظنون أنهم وجدوا مأخذا على القرآن‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬نعم‪ ،‬كانت أمة نوح هي أمة الرسالة المقصودة باليمان‪ ،‬لكن جاء قبلها آدم وشيث‬
‫وإدريس‪ ،‬وكانوا جميعا في أمم سابقة على إبراهيم‪ ،‬أو نقول‪ :‬لن مدة بقاء نوح في قومه طالت‬
‫حتى أخذت ألف سنة من عمر الزمان‪ ،‬وهذه الفترة تشمل قُرَابة العشرة أجيال‪ ،‬والجيل ‪ -‬كما‬
‫قالوا ‪ -‬مائة سنة‪ ،‬كل منها أمة بذاتها‪.‬‬
‫لغُ ا ْلمُبِينُ } [العنكبوت‪ ]18 :‬فمهمته مجرد البلغ‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬ومَا عَلَى الرّسُولِ ِإلّ الْبَ َ‬
‫ن يؤمن‪ ،‬ويكفر مَنْ يكفر‪ ،‬الرسول لن نعطيه مكافأة أو عمولة على كل مَنْ يؤمن به‪،‬‬
‫يؤمن به مَ ْ‬
‫فإياكم أنْ تظنوا أنكم بكفركم تُقلّلون من مكافأة النبي ‪ -‬خاصة وقد كانوا كارهين له ‪ -‬فالمعنى‪:‬‬
‫عليّ البلغ فحسب‪ ،‬وقد بلّغت فسآخذ جزائي وأجري من ربي‪ ،‬فأنتم ل تكيدونني بكفركم‪ ،‬بل‬
‫تكيدون أنفسكم‪.‬‬
‫ن تفلّت من يده واحد من أمته‬
‫لذلك كان نبينا محمد صلى ال عليه وسلم يحزن أشد الحزن‪ ،‬ويألم إ ْ‬
‫فكفر‪ ،‬حتى خاطبه ربه‪ {:‬لّيْسَ عَلَ ْيكَ ُهدَا ُه ْم وَلَـاكِنّ اللّهَ َيهْدِي مَن َيشَآءُ‪[} ...‬البقرة‪.]272 :‬‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ }[الشعراء‪.]3 :‬‬
‫خعٌ ّنفْ َ‬
‫وخاطبه بقوله‪َ {:‬لعَّلكَ بَا ِ‬
‫عكَ رَ ّبكَ َومَا قَلَىا‬
‫وحين نزل عليه صلى ال عليه وسلم‪ {:‬وَالضّحَىا * وَاللّ ْيلِ إِذَا سَجَىا * مَا َودّ َ‬
‫سوْفَ ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَىا }[الضحى‪ ]5-1 :‬انتهز النبي‬
‫ن الُولَىا * وََل َ‬
‫* وَلَلخِ َرةُ خَيْرٌ ّلكَ مِ َ‬
‫هذه الفرصة ودعا ربه‪ :‬إذن ل أرضى وواحد من أمتي في النار؛ ذلك لنه صلى ال عليه وسلم‬
‫سكُمْ عَزِيزٌ عَلَ ْيهِ مَا عَنِتّمْ‬
‫مُحبّ لمته‪ ،‬حريص عليهم‪ ،‬رؤوف رحيم بهم‪َ {:‬لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫حَرِيصٌ عَلَ ْيكُمْ بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ َرءُوفٌ رّحِيمٌ }[التوبة‪.]128 :‬‬
‫ووصف الحق سبحانه البلغ بأنه مبين‪ ،‬أي‪ :‬واضح ظاهر؛ لن من البلغ ما يكون مجرد عرض‬
‫للمسألة دون تأكيد وإظهار للحجة التي تؤيد البلغ‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬أوَلَمْ يَ َروْاْ كَ ْيفَ يُ ْب ِدئُ اللّهُ الْخَ ْلقَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3284 /‬‬

‫خلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ إِنّ ذَِلكَ عَلَى اللّهِ َيسِيرٌ (‪)19‬‬
‫َأوَلَمْ يَ َروْا كَ ْيفَ يُبْ ِدئُ اللّهُ الْ َ‬

‫الخطاب هنا مُوجّه إلى أمة محمد صلى ال عليه وسلم‪ :‬هؤلء الذين كذبوا من قبل‪ ،‬وأنتم الذين‬
‫تكذبون الن‪ ،‬فأين عقولكم؟ لو استعملتم عقولكم في تأمل الكون الذي تعيشون فيه‪ ،‬والذي طرأتُم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عدّ لكم بكل مُقوّمات حياتكم‪.‬‬
‫عليه‪ ،‬وقد أُ ِ‬
‫{ َأوََلمْ يَ َروْاْ كَ ْيفَ يُ ْب ِدئُ اللّهُ الْخَ ْلقَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]19 :‬ويرى هنا بمعنى يعلم‪ ،‬كما في قوله‬
‫تعالى‪ {:‬أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل‪ ]1 :‬أي‪ :‬ألم تعلم؛ لن رسول ال لم يَرَ‬
‫حادثة الفيل‪ ،‬وعدل عن (تعلم) إلى (ترى) ليلفت أنظارنا إلى أن إخبار ال تعالى لرسوله صلى ال‬
‫عليه وسلم أوثق له من رؤيته بعينه‪.‬‬
‫ومن ذلك قول الصّدّيق أبي بكر لما سمع بحادث السراء والمعراج قال‪ " :‬إنْ كان قال فقد صدق‬
‫"‪.‬‬
‫والهمزة في { َأوَلَمْ يَ َروْاْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]19 :‬استفهام للتقرير‪ ،‬كما تقول لولدك‪ :‬ألم تَرَ إلى فلن‬
‫الذي أهمل دروسه‪ ،‬تريد أنْ تنكر عليه أنْ يُهمل هو أيضا‪ ،‬فتقرره بعاقبة الهمال‪ ،‬وتدعه ينطقه‬
‫بلسانه‪ ،‬فيقول لك‪ :‬الذي أهمل دروسه رَسَب‪.‬‬
‫وكما تقول لمَنْ أنكر جميلك‪ :‬ألم أُحسِن إليك بكذا وكذا‪ ،‬ف ُيقِر بها هو بدل أنْ تعددها له أنت‪ ،‬فهذا‬
‫أبلغ في العتراف‪.‬‬
‫فساعة يأتي بعده الهمزة َنفْي يسمونه استفهاما إنكاريا‪ ،‬تنكر ما هم عليه‪ ،‬وتريد أن تقررهم بما‬
‫يقابله‪ .‬والنفي بعد النكار نفي للنفي‪ ،‬ونفي النفي إثبات‪.‬‬
‫فالمعنى‪ :‬أيكذبون ولم يَ َروْا ما حدث للمم المكذّبة من قبل؟ أيكذبون ولم يَروْا آيات ال‪ ،‬وقدرته‬
‫شائعة في الوجود كله؟ لقد كان عليهم أن ينظروا نظرة اعتبار ليعلموا مَنْ خلق هذا الخَلْق‪ ،‬وإنك‬
‫ن يقولوا‪ :‬ال‪ ،‬كما حكى‬
‫لو سألتهم‪ :‬مَنْ خلق هذا الكون ل يجدون جوابا‪ ،‬ول يملكون إل أ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ‪[} ...‬لقمان‪.]25 :‬‬
‫القرآن‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫لكن‪ ،‬كيف ُيقِرّون بهذه الحقيقة ويعترفون بها‪ ،‬مع أنهم كافرون بال؟ قالوا‪ :‬لنها مسألة أظهر مَن‬
‫أنْ ينكرها منكر‪ ،‬فكل صاحب صنعة مهما كانت ضئيلة يفخر بها وينسبها إلى نفسه‪ ،‬بل وينسب‬
‫عدّ بهذه الدقة وبهذه العظمة‪ ،‬ولم يدعه أحد لنفسه؟‬
‫إلى نفسه ما لم يصنع‪ ،‬فما بالك ب َكوْنِ أُ ِ‬
‫والدعْوى تثبت لصاحبها ما لم َيقُمْ لها معارض‪.‬‬
‫لذلك قلنا‪ :‬إن الحق سبحانه قبل أن يقول ل إله إل أنا‪ ،‬وقبل أن يطلبها منا شهد بها لنفسه تعالى‪{:‬‬
‫شهِدَ اللّهُ أَنّ ُه لَ إِلَـاهَ ِإلّ ُهوَ‪[} ...‬آل عمران‪]18 :‬؛ لن هذه الشهادة هي التي ستجعله يقول‬
‫َ‬
‫ن يؤمن بأنه إله ما قالها‪.‬‬
‫ن فيكون‪ ،‬ولو لم يكُ ْ‬
‫للشيء‪ :‬كُ ْ‬
‫والحق سبحانه يقول‪َ { :‬أوَلَمْ يَ َروْاْ كَ ْيفَ يُ ْب ِدئُ اللّهُ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]19 :‬كيف ونحن‬
‫لم نَر العادة‪ ،‬فضلً عن رؤيتنا للبدء؟‬
‫قالوا‪ :‬نرى البدء والعادة في مظاهر الوجود من حولنا‪ ،‬فنراها في الزرع مثلً‪ ،‬وكيف أن ال‬
‫حبّ أو البذور التي تعيد‬
‫تعالى يُحيي الرض بالنبات‪ ،‬ثم يأتي وقت الحصاد فيحصد ويتناثر منه ال َ‬
‫الدورة من جديد‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ط َفتْ تبخّر منها الماء‪ ،‬فج ّفتْ‬
‫والوردة تجد فيها رطوبة ونضارة وألوانا بديعة ورائحة زكية‪ ،‬فإذا قُ ِ‬
‫وتفتتت‪ ،‬وذهبت رائحتها في الجو‪ ،‬ثم تخلفها وردة أخرى جديدة‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫انظر مثلً إلى دورة الماء في الكون‪ :‬هل زادتْ كمية الماء التي خلقها ال في الكون حين أعدّه‬
‫لحياة النسان منذ خلق آدم وحواء؟ الماء هو هو حتى الن‪ ،‬مع ما حدث من زيادة في عدد‬
‫السكان؛ لن عناصر الكون هي هي منذ خلقها ال‪ ،‬لكن لها دورة تسير فيها بين بَدْء وإعادة‪.‬‬
‫جعَلُونَ َلهُ أَندَادا‬
‫واقرأ إن شئت قوله تعالى‪ُ {:‬قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َتكْفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الَرْضَ فِي َي ْومَيْنِ وَ َت ْ‬
‫سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا‪[} ...‬فصلت‪-9 :‬‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫‪.]10‬‬
‫فكأن قوت العالم من الزرع وغيره ُمعَدّ من بَدْء الخليقة‪ ،‬وإلى أنْ تقوم الساعة ل يزيد‪ ،‬لكنه يدور‬
‫في دورة طبيعية‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬إِنّ ذاِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ { [العنكبوت‪ ]19 :‬أيهما‪ :‬الخَلْق أم العادة؟ أما الخلق‬
‫فقد أقرّوا به‪ ،‬ول جدالَ فيه‪ ،‬إذن‪ :‬فالكلم عن العادة‪ ،‬وهل الذي خلق من عدم يعجز عن إعادة‬
‫ما خلق؟ الخَلْق الول من عدم‪ ،‬أما العادة فمن موجود‪ ،‬فأيهما أهون في عُرْفكم وحسب منطقكم؟‬
‫لذلك يقول سبحانه‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي يَ ْب َدؤُاْ الْخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ أَ ْهوَنُ عَلَيْهِ‪[} ...‬الروم‪ ]27 :‬مع أن‬
‫حقّه‪ :‬هذا هيّن‪ ،‬وهذا أهون؛ لكنه سبحانه يخاطبنا بما تفهمه عقولنا‪.‬‬
‫الحق سبحانه ل يُقال في َ‬
‫ثم يخاطب الحق سبحانه محمدا صلى ال عليه وسلم‪ُ } :‬قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَانظُرُواْ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3285 /‬‬

‫شيْءٍ‬
‫شئُ النّشَْأةَ الْآَخِ َرةَ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬
‫ُقلْ سِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَا ْنظُرُوا كَ ْيفَ َبدَأَ ا ْلخَلْقَ ُثمّ اللّهُ يُنْ ِ‬
‫قَدِيرٌ (‪)20‬‬

‫السير‪ :‬النتقال من مكان إلى مكان‪ ،‬لكن نحن نسير في الرض أم على الرض؟ الحقيقة أننا كما‬
‫قال سبحانه { ُقلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]20 :‬أي‪ :‬نسير فيها؛ لن الغلف الجوي‬
‫المحيط بالرض من الرض‪ ،‬فبدونه ل تستقيم الحياة عليها‪ ،‬إذن‪ :‬حين تسير تسير في الرض‬
‫فهي تحتك‪ ،‬وغلفها الجوي فوقك‪ ،‬فكأنك بداخلها‪.‬‬
‫والعلة في السير { فَانظُرُواْ كَ ْيفَ بَدَأَ الْخَ ْلقَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]20 :‬وفي آية أخرى{ ُثمّ ا ْنظُرُواْ‪} ..‬‬
‫[النعام‪]11 :‬؛ لن السير من أرض لخرى له دافعان‪ :‬إما للسياحة والتأمل والعتبار‪ ،‬وإما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن ضاق رزقك في بلدك‪ .‬فقوله‪ُ { :‬قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَانظُرُواْ‪} ...‬‬
‫للتجارة والستثمار‪ ،‬إ ْ‬
‫[العنكبوت‪ ]20 :‬أي‪ :‬نظر اعتبار وتأمل‪.‬‬
‫أما في{ ثُمّ انْظُرُواْ‪[} ..‬النعام‪ ]11 :‬فثم تفيد العطف والتراخي‪ ،‬كأنه سبحانه يقول لنا‪ :‬سيروا في‬
‫الرض للستثمار‪ ،‬ثم انظروا نظرة التأمل والعتبار‪ ،‬ول مانع من الجمع بين الغرضين‪.‬‬
‫وتذكرون أن الحق سبحانه قال في السورة السابقة (القصص)‪ {:‬إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ ا ْلقُرْآنَ‬
‫لَرَآ ّدكَ إِلَىا َمعَادٍ‪[} ...‬القصص‪ ]85 :‬والمراد بذلك الهجرة‪ ،‬وفي هذه السورة تأتي‪ {:‬ياعِبَا ِديَ‬
‫سعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ }[العنكبوت‪.]56 :‬‬
‫الّذِينَ آمَنُواْ إِنّ أَ ْرضِي وَا ِ‬
‫والمعنى‪ :‬إن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر‪ ،‬أو‪ :‬إنْ لم تكُنْ اليات الظاهرة لك‬
‫كافية لتشبع عندك الرغبة في العتبار والتأمل فسِ ْر في الرض‪ ،‬فسوف تجد فيها كثيرا من‬
‫اليات والعِبَر في اختلف الجناس والبيئات والثمار والجواء‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫سعَةً فَ ُتهَاجِرُواْ فِيهَا‪[} ...‬النساء‪.]97 :‬‬
‫لذلك يقول سبحانه‪ {:‬أََلمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّ ِه وَا ِ‬
‫فالرض كلها ل ل حدو َد فيها‪ ،‬ول فواصلَ بينها‪ ،‬فلما قسّمها الناس وجعلوا لها حدودا تمنع‬
‫ص ُعبَ على الناس التنقل للسياحة أو لطلب الرزق إنْ‬
‫الحركة فيها حدثت كثير من الشكالت‪ ،‬و َ‬
‫ضاق بأحد رزقه‪.‬‬
‫خصْبة التي إنْ زُرِعت س ّدتْ حاجة‬
‫وها هي السودان بجوارنا بها مساحات شاسعة من الراضي ال ِ‬
‫العالم العربي كله‪ ،‬أنستطيع الذهاب لزراعتها؟ ساعتها سيقولون‪ :‬جاءوا ليستعمرونا‪.‬‬
‫لذلك لما أتيح لي التحدث في هيئة المم قلت‪ :‬إنه ل يمكن أنْ تُحلّ قضايا العالم الراهنة إل إذا‬
‫طبّقنا مبدأ الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬وعُدْنا إلى منهجه الذي وضعه لتنظيم حياتنا‪ ،‬وكيف نضع بيننا‬
‫ض َعهَا لِلَنَامِ }[الرحمن‪.]10 :‬‬
‫هذه الحدود الحديدية والسلك الشائكة‪ ،‬وربنا يقول‪ {:‬وَالَ ْرضَ وَ َ‬
‫فالرض كلّ الرض للنام كل النام‪ ،‬ويوم نحقق هذا المبدأ فلن يضيق الرزق بأحد‪ ،‬لنه إنْ‬
‫ضاقَ بك هنا طلبته هناك؛ لذلك أكثر الشكوى في عالم اليوم إمّا من أرض بل رجال‪ ،‬أو من‬
‫رجال بل أرض‪ ،‬فلماذا ل ُنحِدث التكامل الذي أراده ال في كونه؟‬
‫إذن‪ :‬فالسير هنا مترتب عليه العتبار { كَ ْيفَ َبدَأَ ا ْلخَلْقَ ثُمّ اللّهُ يُنشِىءُ النّشَْأةَ الخِ َرةَ‪} ...‬‬
‫[العنكبوت‪ ]20 :‬وما ُدمْنا قد آمنا بأن ال تعالى هو الخالق بداية‪ ،‬فإعادة الخَلْق أهون‪ ،‬كما قال‬
‫خلْق الخر؟ لذلك يؤكد الخالق سبحانه‬
‫لوّلِ‪[} ...‬ق‪ ]15 :‬فيشكّوا في ال َ‬
‫قاَ‬
‫سبحانه‪َ {:‬أ َفعَيِينَا بِا ْلخَ ْل ِ‬
‫هذه القدرة بقوله‪:‬‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ } [العنكبوت‪.]20 :‬‬
‫{ إِنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬ي َع ّذبُ مَن يَشَآءُ‪.} ...‬‬

‫(‪)3286 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ُيعَ ّذبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ َيشَا ُء وَإِلَيْهِ ُتقْلَبُونَ (‪)21‬‬

‫لماذا بدأ الحق سبحانه هنا بذكر العذاب؟ في حين قدّم المغفرة في آية أخرى‪َ {:‬ي ْغفِرُ ِلمَن َيشَآءُ‬
‫وَ ُيعَ ّذبُ مَن َيشَآءُ‪[} ...‬المائدة‪.]18 :‬‬
‫قالوا‪ :‬لن الكلم هنا عن المكذّبين المعرضين وعن الكافرين‪ ،‬فناسب أنْ يبدأ معهم بذكر العذاب {‬
‫ُيعَ ّذبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن َيشَآءُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]21 :‬فإنْ قُلْت‪ :‬فلماذا يذكر الرحمة مع الكافرين‬
‫بعد أنْ هدّدهم بالعذاب؟ نقول‪ :‬لنه رب يهدد عباده أولً بالعذاب ليرتدعوا وليؤمنوا‪ ،‬ثم يُلوّح لهم‬
‫برحمته سبحانه ليُرغّبهم في طاعته ويلفتهم إلى اليمان به‪.‬‬
‫وقد صَحّ في الحديث القدسي‪ " :‬رحمتي سبقت غضبي " ففي الوقت الذي يُهدّد فيه بالعذاب يُلوّح‬
‫لعباده حتى الكافرين بأن رحمته تعالى سبقتْ غضبه‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬وَإِلَ ْيهِ ُتقْلَبُونَ } [العنكبوت‪ ]21 :‬أي‪ :‬تُرجعون‪ ،‬وجاء بصيغة تقلبون الدالة على‬
‫ال َغصْب والنقياد عُنْوة ليقول لهم‪ :‬مهما بلغ بكم الطغيان والجبروت والتعالي بنعم ال‪ ،‬فل بُدّ لكم‬
‫من الرجوع إليه‪ ،‬والمثول بين يديْه‪ ،‬فتذكّروا هذه المسألة جيدا‪ ،‬حيث ل مهربَ لكم منها؛ لذلك‬
‫ن يقول بعدها‪َ { :‬ومَآ أَن ُتمْ ِب ُمعْجِزِينَ فِي الَ ْرضِ‪.} ...‬‬
‫كان مناسبا أ ْ‬

‫(‪)3287 /‬‬

‫ن وَِليّ وَلَا َنصِيرٍ (‪)22‬‬


‫سمَاءِ َومَا َل ُكمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِ ْ‬
‫ض وَلَا فِي ال ّ‬
‫َومَا أَنْ ُتمْ ِب ُمعْجِزِينَ فِي الْأَ ْر ِ‬

‫(معجزين)‪ :‬جمع معجز‪ ،‬وهو الذي يُعجز غيره‪ ،‬تقول‪ :‬أعجزتُ فلنا يعني‪ :‬جعلته عاجزا‪،‬‬
‫والمعنى أنكم لن تفلتوا من ال‪ ،‬ولن تتأ ّبوْا عليه‪ ،‬حين يريدكم للوقوف بين يديه‪ ،‬بل تأتون‬
‫صاغرين‪.‬‬
‫ونلحظ هنا أن الحق سبحانه قال‪َ { :‬ومَآ أَنتُمْ ِب ُمعْجِزِينَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]22 :‬ولم يقل مثلً‪ :‬لن‬
‫ي الفعل غير نفي الوصف‪ ،‬فحين تقول مثلً‪ :‬أنت ل تخيط لي ثوبا‪،‬‬
‫تعجزوني حين أطلبكم؛ لن نف َ‬
‫فهذا يعني أنه يستطيع أنْ يخيط لك ثوبا لكنه ل يريد‪ ،‬فالقدرة موجودة لكن ينقصها الرضا بمزاولة‬
‫الفعل‪ ،‬إنما حين تقول‪ :‬أنت لستَ بخائط فقد نفيتَ عنه أصل المسألة‪.‬‬
‫لذلك لم ي ْنفِ عنهم الفعل حتى ل نتوهم إمكانية حدوثه منهم‪ ،‬فالهرب والفلت من لقاء ال في‬
‫الخرة أمر غير وارد على الذّهْن أصلً‪ ،‬إنما نفي عنهم بالوصف من أساسه { َومَآ أَنتُمْ ِب ُم ْعجِزِينَ‬
‫سمَآءِ‪[ } ...‬العنكبوت‪.]22 :‬‬
‫ض َولَ فِي ال ّ‬
‫فِي الَ ْر ِ‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ي َولَ َنصِيرٍ } [العنكبوت‪ ]22 :‬حتى ل يقول‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ { :‬ومَا َلكُمْ مّن دُونِ اللّهِ مِن وَِل ّ‬
‫قائل‪ :‬إنْ كانوا هم غير معجزين‪ ،‬فقد يكون وراءهم مَنْ يعجز ال‪ ،‬أو وراءهم مَنْ يشفع لهم‪ ،‬أو‬
‫يدافع عنهم‪ ،‬فنفى هذه أيضا لنه سبحانه ل يُعجزه أحد‪ ،‬ول يُعجزه شيء‪.‬‬
‫لذلك يخاطبهم بقوله‪ {:‬مَا َلكُ ْم لَ تَنَاصَرُونَ }[الصافات‪ ]25 :‬أين الفتوات القوياء ينصرونكم؟‬
‫فنفى عنهم الولي‪ ،‬ونفى عنهم النصير؛ لن هناك فَرْقا بينهما‪ :‬الوليّ هو الذي يقرب منك بمودة‬
‫حبّ‪ ،‬وهذا يستطيع أنْ ينصرك لكن بالحُسْنى وبالسياسة‪ ،‬ويشفع لك إن احتجتَ إلى شفاعته‪ ،‬أمّا‬
‫وُ‬
‫النصير فهو الذي ينصرك بالقوة و (الفتونة)‪.‬‬
‫وهكذا نفى عنهم القدرة على العجاز‪ ،‬ونفى عنهم الولي والنصير‪ ،‬لكن ذكر { مّن دُونِ اللّهِ‪} ...‬‬
‫ي ونصير من ال تعالى‪ ،‬فإنْ أرادوا الولي‬
‫[العنكبوت‪ ]22 :‬يعني‪ :‬من الممكن أن يكون لهم ول ّ‬
‫الحق والنصير الحق فليؤمنوا بي‪ ،‬فأنا وليّهم وأنا نصيرهم‪.‬‬
‫وكأنه سبحانه يقول لهم‪ :‬إنْ تُبْتم ورجعتم عما كنتم فيه من الكفر واعتذرتم عما كان منكم‪ ،‬فأنا‬
‫وليّكم وأنا نصيركم‪.‬‬
‫وفي موضع آخر قال‪َ {:‬ومَا َلكُمْ مّن نّاصِرِينَ }[العنكبوت‪ ]25 :‬ولم يقل من دون ال؛ لن الموقف‬
‫في الخرة‪ ،‬والخرة ل توبةَ فيها ول اعتذار ول رجوع‪ ،‬فقوله { مّن دُونِ اللّهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪:‬‬
‫‪ ]22‬ل تكون إل في الدنيا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ بِآيَاتِ‪.} ...‬‬

‫(‪)3288 /‬‬

‫حمَتِي وَأُولَ ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (‪)23‬‬


‫وَالّذِينَ َكفَرُوا بِآَيَاتِ اللّ ِه وَِلقَائِهِ أُولَ ِئكَ يَئِسُوا مِنْ رَ ْ‬

‫فإنْ أصرّ الكافر على ُكفْره وعبادته للصنام التي ل تنفع ول تضر‪ ،‬ولم ُتجْدِ معه موعظة ول‬
‫تذكير فل ملجأ له ول منفذ له إلى رحمة ال؛ لنه عبد أولياء ل ينفعونه بشيء وكفر بي‪ ،‬فليس له‬
‫مَنْ يحميه مني‪ ،‬ول مَنْ ينصره من الصنام التي عبدها‪ ،‬فليس له إل اليأس‪.‬‬
‫واليأس‪ :‬قَطْع الرجاء من المر‪ ،‬وقد قطع رجاء الكافرين؛ لنهم عبدوا ما ل ينفع ول يضر‪،‬‬
‫وكفروا بمَنْ بيده النفع‪ ،‬وبيده الضّر‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن المراد بآيات ال إما اليات الكونية التي تُثبت قدرة ال‪ ،‬وتلفت إلى حكمة الخالق ‪ -‬عز‬
‫وجل ‪ -‬كالليل والنهار والشمس والقمر‪ ،‬أو آيات المعجزات التي تصاحب الرسل؛ ليؤيدهم ال بها‬
‫ويُظهِر صِدْقهم في البلغ عن ال؛ فكفروا بآيات القرآن الحاملة للحكام‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد كفر هؤلء بكل هذه اليات‪ ،‬فلم يُصدّقوا منها شيئا‪ ،‬وما داموا قد كفروا بهذه اليات‪ ،‬وكفروا‬
‫أيضا بلقاء ال في الخرة؛ فرحمة ال بعيدة عنهم‪ ،‬وهم يائسون منها‪.‬‬
‫لذلك كانت عاقبتهم { وَُأوْلَـا ِئكَ َل ُهمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [العنكبوت‪ ]23 :‬ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬فمَا‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن‪.} ...‬‬
‫كَانَ َ‬

‫(‪)3289 /‬‬

‫جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ َأوْ حَ ّرقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ ِل َقوْمٍ‬
‫َفمَا كَانَ َ‬
‫ُي ْؤمِنُونَ (‪)24‬‬

‫كنا ننتظر منهم جوابا منطقيا‪ ،‬بعد أنْ دعاهم إلى عبادة ال وحده ل شريك له‪ ،‬وبيّن لهم بطلن‬
‫عبادة آلهتهم‪ ،‬وأنها ل تضر ول تنفع‪ ،‬كان عليهم أن يجادلوه‪ ،‬وأن يدافعوا عن آلهتهم‪ ،‬وأن‬
‫يُظهِروا حجتهم في عبادتهم‪.‬‬
‫جوَابَ َقوْمِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ اقُْتلُوهُ َأوْ حَ ّرقُوهُ‪} ...‬‬
‫إنما يأتي جوابهم دالً على إفلسهم { َفمَا كَانَ َ‬
‫[العنكبوت‪ ]24 :‬أهذا جواب على ما قيل لكم؟ إنه مجرد هروب من المواجهة‪ ،‬وإفلس في الحجة‪،‬‬
‫إنه جواب مَنْ لم يجد جوابا‪ ،‬وليس لديه إل التهديد والتلويح بالقوة وبالبطش‪ ،‬فهذه لغة مَنْ ل حجة‬
‫عنده‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا سمّاه القرآن جوابا؟ قالوا‪ :‬لنهم لو لم يتكلموا بهذا الكلم لقيل عنهم أنهم لم يلتفتوا إلى‬
‫كلم نبيهم ولم يأبهوا به‪ ،‬وأن كلمه ل وزنَ له‪ ،‬ول يُرَد عليه‪ ،‬فإنْ كان كلمهم ل ُيعَد جوابا فهو‬
‫في صورة الجواب‪ ،‬وإنْ كان جوابا فاسدا‪.‬‬
‫وقولهم‪ { :‬اقْتُلُوهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]24 :‬نعلم أن القتل هو هدم البنية هدما يتبعه خروج الروح لنها‬
‫ل تجد بنية سليمة تسكنها‪ ،‬أما الموت فتخرج الروح أولً‪ ،‬ثم تهدم البنية حين تتحلل في التراب‪،‬‬
‫إذن‪ :‬فهما سواء في أنهما هلك‪.‬‬
‫وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي تضيء‪ ،‬فالكهرباء ل توجد في اللمبة‪ ،‬إنما في‬
‫شيء خارج عنها‪ ،‬لكن يظهر أثر الكهرباء في اللمبة إنْ كانت سليمة صالحة لستقبال التيار‪ ،‬فإنْ‬
‫كسرتها فل تجد فيها أثرا للكهرباء ول تضيء‪ ،‬وقد تمنع عنها الكهرباء وهي سليمة‪.‬‬
‫ثم قالوا { َأوْ حَ ّرقُوهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]24 :‬وهل التحريق بعد القتل ُيعَد ارتقاءً في العقوبة؟ ل شكّ‬
‫أن القتل أبلغ من التحريق‪ ،‬فقد يُحرق شخص‪ ،‬وتتم نجدته وإسعافه فل يموت‪ ،‬فالقتل تأكيد‬
‫للموت‪ ،‬أمّا التحريق فل يعني بالضرورة الموت‪ ،‬فلماذا لم يقولوا فقد اقتلوه وتنتهي المسألة‪ ،‬أو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يُصعدوا العقوبة فيقولوا‪ :‬حرّقوه أو اقتلوه؟‬
‫إنهم بدأوا بأقصى ما عندهم من عقوبة لشدة حَنَقهم عليه فقالوا { اقْتُلُوهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]24 :‬ثم‬
‫تراءى لهم رأي آخر‪ :‬ولماذا ل نحرقه بالنار‪ ،‬فربما يعود ويرجع عن دعوته حينما يجد ألم‬
‫التحريق‪ ،‬وهذا ُيعَد كسبا لهم‪ ،‬وتُحسَب الجولة لصالحهم‪.‬‬
‫لكن مَن الذي قال { اقْتُلُوهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪]24 :‬؟ من المر بالقتل‪ ،‬ومَنِ المأمور؟ لقد اتفقوا جميعا‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪:‬‬
‫على قتله‪ ،‬فالمر والمأمور سواء‪ ،‬وهذا واضح من الية‪َ { :‬فمَا كَانَ َ‬
‫‪ ]24‬فالقوم جميعا تواطئوا على هذه المسألة‪ .‬أو أن المر هم رؤساء القوم وكبارهم الذين يأتمر‬
‫الناس بأمرهم‪ ،‬أما التنفيذ فمهمة التباع‪.‬‬
‫ونحن نرى ثورة الجمهور وانفعاله حينما تقع جريمة مثلً‪ ،‬فالكل يغضب ويقول‪ :‬اقتلوه‪ ،‬اسجنون‪،‬‬
‫فكلهم قائل‪ ،‬وكلهم مقول له‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه { فَأَ ْنجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ‪.‬‬

‫‪[ { ..‬العنكبوت‪ ]24 :‬وهنا يعترض الفلسفة‪ :‬كيف والنار من طبيعتها الحراق؟ كيف يتخلف هذا‬
‫القانون؟ لكن كيف معجزة إنْ لم ت ْأتِ على هذه الصورة؟‬
‫إن الحق سبحانه خلق الخَلْق وجعل فيه نواميس تفعل فعلها وتؤدي مهمتها تلقائيا‪ ،‬فالرض مثلً‬
‫حبّ‪ ،‬ثم ترويها‪ ،‬الناموس أن تنبت‪ ،‬وحتى ل يظن ظانّ أن الكون إنما‬
‫حينما تحرثها‪ ،‬وتلقي فيها ال َ‬
‫يسير على َوفْق هذه النواميس‪ ،‬ل َوفْقَ قدرة ال نجد أنه سبحانه يخرق هذه النواميس ليثبت لنا‬
‫قيوميته على خَلْقه وطلقة قدرته فيه‪.‬‬
‫لذلك إن لم يكُنْ لك رزق في حرثك هذا‪ ،‬فل ينبت النبات‪ ،‬أو ينبت ثم تصيبه آفة أو إعصار‬
‫فيُهلكه قبل استوائه‪ .‬إذن‪ :‬فالمسألة قيومية ل تعالى وليست (ميكانيكا)‪.‬‬
‫وقد خرق ال نواميس الكون لموسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬حينما ضرب البحر‪ ،‬فصار كل فِرْق‬
‫طوْد العظيم‪ ،‬وتحولت سيولة الماء إلى جبل صلب‪ .‬وخرق نواميس الكون لبراهيم حينما قال‬
‫كال ّ‬
‫للنار‪ {:‬قُلْنَا يانَارُ كُونِي بَرْدا وَسَلَاما عَلَىا إِبْرَاهِيمَ }[النبياء‪.]69 :‬‬
‫وخرق النواميس ليثبت العجاز‪ ،‬وليثبت أن يد ال تعالى ل تزال مسيطرة على مُلْكه سبحانه‪ ،‬ل‬
‫أنه خلق النواميس وتركها تعمل في الكون دون تدخّل منه سبحانه كما يقول الفلسفة‪ ،‬فالحق‬
‫سبحانه خلق النواميس لتفعل‪ ،‬ولكن قيوميته تعالى وقدرته تُعطّل النواميس‪.‬‬
‫ك ليَاتٍ ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [العنكبوت‪ ]24 :‬ونذكر في قصة السفينة‬
‫} فَأَ ْنجَاهُ اللّهُ مِنَ النّارِ إِنّ فِي ذاِل َ‬
‫جعَلْنَاهَآ آيَةً لّ ْلعَاَلمِينَ }[العنكبوت‪ ]15 :‬آية وهنا قال } ليَاتٍ‪...‬‬
‫أن ال تعالى قال عنها‪ {:‬وَ َ‬
‫{ [العنكبوت‪ ]24 :‬وهناك قال{ لّ ْلعَاَلمِينَ }[العنكبوت‪ ]15 :‬وهنا قال‪ّ } :‬ل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [العنكبوت‪:‬‬
‫‪ ]24‬فالختلف إذن بين السياقين في أمرين‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قال في السفينة{ آ َيةً‪[} ...‬العنكبوت‪ ]15 :‬لن العجيب في أمر السفينة ليس في صناعتها‪ ،‬فمَنَ‬
‫رآها يمكن أنْ يصنع مثلها‪ ،‬إنما الية فيها أن ال تعالى أعلمه بها قبل الحاجة إليها‪ ،‬ثم منع عنها‬
‫الزوابع والعاصير أن تلعب بها وتُغرق ركابها‪.‬‬
‫أمّا في مسألة الحراق فعجائب كثيرة وآيات شتى‪ ،‬فكان من الممكن ألّ يمكنهم ال منه‪ ،‬وكان من‬
‫الممكن بعد أن أمسكوا به وألقوه في النار أنْ يُنزل ال مطرا يطفيء نارهم وينجو إبراهيم‪ ،‬أو‬
‫يسخر له من القوم أهل رأفة ورحمة ينقذونه من اللقاء في النار‪.‬‬
‫لكن لم يحدث شيء من هذا‪ ،‬حيث أمكنهم ال منه حتى ألقوه في النار وهي مشتعلة‪ ،‬وهو مُوثق‬
‫بالحبال‪ ،‬ومع ذلك لم ُتصِبه النار بسوء‪ ،‬وظهرتْ اليات بينات واضحات أمام أعين الجميع‪.‬‬
‫ستْ ونجا ركابها ظّلتْ‬
‫المر الخر‪ :‬قال هناك{ لّ ْلعَاَلمِينَ }[العنكبوت‪ ]15 :‬لن السفينة حينما ر َ‬
‫باقية في مكانها يراها الناس جميعا ويتأملونها‪ ،‬فقد كان لها أثر باقٍ قائم ُمشَاهد‪.‬‬
‫أمّا في مسألة إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬فقال } ّل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ { [العنكبوت‪ ]24 :‬لن نجاة إبراهيم ‪-‬‬
‫عليه السلم ‪ -‬كانت عبرة لمن شاهدها فقط‪ ،‬ونحن نؤمن بها لن ال أخبرنا بها‪ ،‬ونحن مؤمنون‬
‫بال‪ ،‬فهي آيات للمؤمنين بال ل للعالمين‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬وقَالَ إِ ّنمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ َأوْثَانا‪.{ ...‬‬

‫(‪)3290 /‬‬

‫ضكُمْ بِ َب ْعضٍ‬
‫َوقَالَ إِ ّنمَا اتّخَذْ ُتمْ مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْثَانًا َموَ ّدةَ بَيْ ِنكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ُثمّ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ‬
‫ضكُمْ َب ْعضًا َومَ ْأوَاكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (‪)25‬‬
‫وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ‬

‫المعنى‪ :‬إنْ كنتم لم تؤمنوا باليات الكونية الدالة على قدرة ال‪ ،‬ولم تؤمنوا بالمعجزة التي‬
‫ن تؤمنوا بأنه ل يقدر على ذلك إل ال‪ ،‬فلماذا‬
‫رأيتموها حين نجاني ربي من النار‪ ،‬وكان عليكم أ ْ‬
‫إصراركم على الكفر؟‬
‫فل بُدّ أنكم كفرتم بال وعبدتم الصنام‪ ،‬ل لنكم مقتنعون بعبادتها‪ ،‬ول لنها تستحق العبادة‪ ،‬إنما‬
‫عبدتموها { ّموَ ّدةَ بَيْ ِنكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]25 :‬يعني‪ :‬نفاقا ينافق به بعضكم بعضا‬
‫ومجاملة؛ لنكم رأيتم رؤوس القوم فيكم يعبدونها فقلّدتموهم دون اقتناع منكم بما تعبدون‪ ،‬أو مودةً‬
‫لبائكم الولين‪ ،‬وسَيْرا على نهجهم‪ ،‬كما حكى القرآن‪ {:‬إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَىا‬
‫آثَارِهِم ّمقْتَدُونَ }[الزخرف‪.]23 :‬‬
‫حسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ‪[} ...‬المائدة‪.]104 :‬‬
‫وفي آية أخرى{ قَالُواْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكن هذه المودة وهذه المجاملة وهذا النفاق عمرها (الحياة الدنيا) فحسب‪ ،‬وفي الخرة ستتقطع‬
‫ضهُمْ لِ َب ْعضٍ عَ ُدوّ‪[} ...‬الزخرف‪ ]67 :‬يعني‪ :‬ستنقلب هذه‬
‫بينكم هذه المودات‪ {:‬الَخِلّءُ َي ْومَئِذٍ َب ْع ُ‬
‫المودة وهذه المجاملة إلى عداوة‪ ،‬بل وإلى معركة حكاها القرآن‪ {:‬رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ‬
‫حتَ َأقْدَامِنَا‪[} ...‬فصلت‪.]29 :‬‬
‫جعَ ْل ُهمَا َت ْ‬
‫الْجِنّ وَالِنسِ َن ْ‬
‫ط َعتْ ِبهِ ُم الَسْبَابُ }[البقرة‪.]166 :‬‬
‫وقال‪ {:‬إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُواْ وَرَأَوُاْ ا ْل َعذَابَ وَتَقَ ّ‬
‫ضكُمْ َبعْضا َومَ ْأوَاكُمُ‬
‫ض وَيَ ْلعَنُ َب ْع ُ‬
‫ضكُمْ بِ َب ْع ٍ‬
‫ويقرر هنا أيضا هذه الحقيقة‪ { :‬ثُمّ َي ْومَ ا ْلقِيَامَةِ َي ْكفُرُ َب ْع ُ‬
‫ت كانت تقتضي أنْ‬
‫النّا ُر َومَا َلكُمْ مّن نّاصِرِينَ } [العنكبوت‪ ]25 :‬ذلك لن المقدمات التي سبق ْ‬
‫يؤمنوا‪ ،‬فما كان منهم إل الصرار على الكفر‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي تنقلب فيه مودة الكافرين عداوة تنقلب عداوة المؤمنين الذين تعاونوا على الطاعة‬
‫ب ومودة‪ ،‬فيقول المؤمن لخيه الذي جَرّه إلى الطاعة وحمله عليها ‪ -‬على كُرْه منه وضيق‬
‫ح ّ‬
‫إلى ُ‬
‫‪ -‬جزاك ال خيرا لقد أنقذتني‪.‬‬
‫ول ينتهي المر عند هذه العقوبة التي يُوقعونها بأنفسهم من التبرؤ واللعن‪ ،‬بل ينصرفون إلى‬
‫عقوبة أشدّ { َومَ ْأوَاكُمُ النّا ُر َومَا َلكُمْ مّن نّاصِرِينَ } [العنكبوت‪ ]25 :‬ونلحظ هنا أن الحق سبحانه لم‬
‫يقُلْ‪ :‬وما لكم من دون ال؛ لن الكلم في الخرة حيث ل توبةَ لهم ول رجوعَ‪ ،‬فقد انتفى أن يكون‬
‫لهم ولي أو نصير من ال‪.‬‬
‫كذلك ل ناصرَ لهم من أوليائهم الذين عبدوهم من دون ال حيث يطلبون الّنصْرة من أحجار‬
‫وأصنام‪ ،‬ل تنطق ول تجيب‪.‬‬
‫وهكذا تنتهي هذه اللقطة السريعة من قصة سيدنا إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬وله تاريخ طويل‪ ،‬وهو‬
‫شيخ المرسلين وأبو النبياء‪ ،‬وإنْ أردتَ أن تحكي قصته لخذتْ منك وقتا طويلً‪ ،‬ويكفي أن ال‬
‫تعالى قال عنه‪ {:‬إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً‪[} ...‬النحل‪.]120 :‬‬
‫ط َوقَالَ إِنّي ُمهَاجِرٌ‪.} ....‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَآمَنَ َلهُ لُو ٌ‬

‫(‪)3291 /‬‬

‫حكِيمُ (‪)26‬‬
‫فََآمَنَ لَهُ لُوطٌ َوقَالَ إِنّي ُمهَاجِرٌ إِلَى رَبّي إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬

‫أي‪ :‬أن قوم إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ظلوا على كفرهم‪ ،‬والذي آمن به لوط ‪ -‬عليه السلم ‪-‬‬
‫وكان ابن أخيه‪ ،‬وكانوا في العراق‪ ،‬ثم سينتقلون بعد ذلك إلى الشام‪.‬‬
‫وكلمة { فَآمَنَ َلهُ لُوطٌ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]26 :‬حين نتتبع كلمة آمن في القرآن الكريم نجد أنها تدور‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حول المن والطمأنينة والراحة والهدوء‪ ،‬لكنها تختلف في المدلولت حسب اختلف موقعها‬
‫العرابي‪ ،‬فهنا { فَآمَنَ لَهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]26 :‬وهل يؤمن لوط لبراهيم؟ واليمان كما نقول‬
‫يؤمن بال فما دام السياق { فَآمَنَ لَهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]26 :‬فل بُد أن المعنى مختلف‪ ،‬ول يقصد هنا‬
‫اليمان بال‪.‬‬
‫خ ْوفٍ }[قريش‪ ]4 :‬فالفعل هنا‬
‫ومعنى (آمن) هنا كما في قوله تعالى عن قريش‪ {:‬وَآمَ َنهُم مّنْ َ‬
‫مُتعدّ‪ ،‬فالذي آمن ال‪ ،‬آمن قريشا من الخوف‪ .‬وكذلك في قوله تعالى‪َ {:‬هلْ آمَ ُنكُمْ عَلَ ْيهِ‪} ...‬‬
‫[يوسف‪ ]64 :‬ومعنى { فَآمَنَ لَهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]26 :‬أي‪ :‬صدقه‪.‬‬
‫ومنه قوله تعالى‪َ {:‬ومَآ أَنتَ ِب ُم ْؤمِنٍ لّنَا وََلوْ كُنّا صَا ِدقِينَ }[يوسف‪ ]17 :‬أي‪ :‬بمصدّق‪ ،‬أما آمنت‬
‫بال‪ :‬اعتقدت وجوده بصفات الكمال المطلق فيه سبحانه‪.‬‬
‫ولوط ل يصدق بإبراهيم‪ ،‬إل إذا كان مؤمنا بإله أرسله‪ ،‬فكأنه آمن بال ثم صدّقه فيما جاء به‬
‫وقصة لوط عليه السلم لها موضع آخر ُفصّلَت فيه‪ ،‬إنما جاء ذكره هنا؛ لنه حصيلة الصفقة‬
‫الجدلية والجهادية بين إبراهيم وقومه‪ ،‬فبعد أنْ دعاهم إلى ال ما آمن له إل لوط ابن أخيه‪.‬‬
‫وأذكر أن الشيخ موسى ‪ -‬رحمه ال عليه ‪ -‬وكان يُدرس لنا التفسير‪ ،‬وجاءت قصة لوط عليه‬
‫السلم فقلت له‪ :‬لماذا ننسب رذيلة قوم لوط إليه فنقول‪ :‬لوطي‪ .‬وما جاء لوط إل ليحارب هذه‬
‫الرذيلة ويقضي عليها؟‬
‫فقال الشيخ‪ :‬فماذا نقول عنها إذن؟ قلت‪ :‬إن اللغة العربية واسعة الشتقاق‪ ،‬فمثلً عند النسب إلى‬
‫عبد الشهل قالوا‪ :‬أشهلي‪ ،‬ولعبد العزيز قالوا‪ :‬عبدزي‪ ،‬ولبختنصر قالوا‪ :‬بختي‪ ،‬والن نقول في‬
‫النسب إلى دار العلوم دَرْعمي‪ ...‬إلخ فلماذا ل نتبع هذه الطريقة؟ فنأخذ القاف المفتوحة‪ ،‬والواو‬
‫الساكنة من قوم‪ ،‬ونأخذ الطاء من لوط‪ ،‬ثم ياء النسب فنقول (قوْطي) ونُجنّب نبي ال لوطا عليه‬
‫السلم أن ننسب إليه ما ل يليق أن يُنسب إليه‪.‬‬
‫وقد حضرت احتفالً لتكريم طه حسين‪ ،‬فكان مما قلته في تكريمه‪( :‬لك في العلم مبدأ طَحَسْني)؛‬
‫لنه كثيرا ما نجد بين العلماء اسم طه‪ ،‬واسم حسين‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقوله تعالى { فَآمَنَ َلهُ لُوطٌ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]26 :‬جاءت جملة اعتراضية في قصة إبراهيم‬
‫عليه السلم؛ لنه المحصلة النهائية لدعوة إبراهيم في قومه؛ لذلك يعود السياق مرة أخرى إلى‬
‫إبراهيم { َوقَالَ إِنّي ُمهَاجِرٌ إِلَىا رَبّي‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]26 :‬أي‪ :‬منصرف عن هذا المكان؛ لنه‬
‫غير صالح لستتباب الدعوة‪.‬‬
‫ومادة هجر وما يُشتق منها تدلّ على ترْك شيء إلى شيء آخر‪ ،‬لكن َهجَرَ تعني أن سبب الهَجْر‬
‫منك وبرغبتك‪ ،‬إنما هاجر فيها مفاعلة مثل شارك وقاتل‪ ،‬والنبي صلى ال عليه وسلم لم يهجر‬
‫مكة‪ ،‬إنما هاجر منها إلى المدينة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذا يعني أنه لم يهاجر برغبته‪ ،‬إنما آذاه قومه واضطروه للخروج من بلده‪ ،‬إذن‪ :‬فلهم َدخْل في‬
‫الهجرة‪ ،‬وهم طرف ثَانٍ فيها‪.‬‬
‫ن قوْ ٍم وقَدْ َقدَرُوا َألّ تُفارِ َقهُم فالرّاحِلُونَ ُهمُوومن دقة الداء‬
‫لذلك يقول المتنبي‪:‬إذَا ترحّ ْلتَ عَ ْ‬
‫القرآني في هذه المسألة أنْ يسمي نقلة رسول ال من مكة إلى المدينة هجرة من الثلثي‪ ،‬ول يقول‬
‫مهاجرة؛ لنه ساعة يهاجر يكره المكان الذي تركه‪ ،‬لكن هنا قال في الفعل‪ :‬هاجر‪ .‬وفي السم‬
‫قال‪ :‬هجرة ولم يقل مهاجرة‪.‬‬
‫وسبق أنْ ذكرنا أن هجرة المؤمنين الولى إلى الحبشة كانت هجرة لدار أمن فحسب‪ ،‬ل دار‬
‫اليمان‪ ،‬لن رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما وجّههم إلى الحبشة بالذات قال‪ " :‬لن فيها‬
‫ملكا ل ُيظْلم عنده أحد "‪.‬‬
‫وكأنه صلى ال عليه وسلم بُسِطت له خريطة الرض كلها‪ ،‬فاختار منها هذه البقعة؛ لنه قد تبيّن‬
‫له أنها دار أمن لمن آمن من صحابته‪ ،‬أمّا الهجرة إلى المدينة فكانت هجرة إلى دار إيمان‪ ،‬بدليل‬
‫ما رأيناه من مواقف النصار مع المهاجرين‪.‬‬
‫وهنا يقول إبراهيم عليه السلم‪ } :‬إِنّي ُمهَاجِرٌ إِلَىا رَبّي‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]26 :‬فالمكان إذن غير‬
‫مقصود له‪ ،‬إنما وجهة ربي هي المقصودة‪ ،‬وإل فَلَك أن تقول‪ :‬كيف تهاجر إلى ربك‪ ،‬وربك في‬
‫كل مكان هنا وهناك؟‬
‫ل لمر ربي ومتوجه وجهة هو آمر بها؛ لنه من الممكن أن تنتقل من مكان‬
‫فالمعنى‪ :‬مهاجر امتثا ً‬
‫إلى مكان بأمر رئيسك مثلً‪ ،‬وقد كانت لك رغبة في النتقال إلى هذا المكان فترحب بالموضوع؛‬
‫لنه حقق رغبة في نفسك‪ ،‬فأنت ‪ -‬إذن ‪ -‬ل تذهب لمر صدر لك‪ ،‬إنما لرغبة عندك‪.‬‬
‫لذلك جاء في الحديث‪ " :‬فمن كانت هجرته إلى ال ورسوله فهجرته إلى ال ورسوله‪ ،‬ومَنْ كانت‬
‫هجرته لدنيا يصيبها‪ ،‬أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه "‪.‬‬
‫فالمعنى } إِنّي ُمهَاجِرٌ إِلَىا رَبّي‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]26 :‬يعني‪ :‬ليس النتقال على رغبتي وحَسْب‬
‫هواي‪ ،‬إنما حسب الوجهة التي يُوجّهني إليها ربي‪ .‬وأذكر أنه كان لهذه المسألة واقع في تاريخنا‪،‬‬
‫وكنا جماعة من سبعين رجلً‪ ،‬وقد صدر منا أمر ل يناسب رئيسنا‪ ،‬فأصدر قرارا بنقلنا جميعا‬
‫وشتّتنا من أماكننا‪ ،‬فذهبنا عند التنفيذ نستعطفه عَلّه يرجع في قراره‪ ،‬لكنه صمم عليه‪ ،‬وقال‪ :‬كيف‬
‫أكون رئيسا ول أستطيع إنفاذ أمري على المرؤوسين؟‬
‫فقال له أحدنا وكان جريئا‪ :‬سنذهب إلى حيث شئتَ‪ ،‬لكن اعلموا أنكم لن تذهبوا بنا إلى مكان ليس‬
‫فيه ال‪.‬‬
‫صوْلة‪ ،‬وفعلً سارت‬
‫وكانت هذه كلمة الحق التي ه ّزتْ الرجل‪ ،‬وأعادت إليه صوابه‪ ،‬فالحق له َ‬
‫المور كما نريد‪ ،‬وتنازل الرئيس عن قراره‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فمعنى‪ُ } :‬مهَاجِرٌ إِلَىا رَبّي‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]26 :‬أن ربي هو الذي يُوجّهني‪ ،‬وهو سبحانه في كل‬
‫جهُ اللّهِ‪[} ..‬البقرة‪ ]115 :‬وكأن الحق سبحانه‬
‫مكان‪ .‬يؤيد ذلك قوله سبحانه‪ {:‬فَأَيْ َنمَا ُتوَلّواْ فَثَ ّم وَ ْ‬
‫يقول لنا‪ :‬اعلموا أنني ما وجّهتكم في صلتكم إلى الكعبة إل لؤكد هذا المعنى‪ :‬لنك تتجه إليها‬
‫من أي مكان كنت‪ ،‬ومن أية جهة فحيثما توجهتَ فهي قبلتُك‪.‬‬
‫حكِيمُ { [العنكبوت‪ ]26 :‬اختار الخليل إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬من‬
‫ثم يقول‪ } :‬إِنّهُ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫صفات ربه } ا ْلعَزِيزُ { [العنكبوت‪ ]26 :‬أي‪ :‬الذي ل يُغلب وهو َيغْلب‪ .‬وهذه الصفة تناسب ما‬
‫كان من محاولة إحراقه‪ ،‬وكأنه يقول للقوم‪ :‬أنا ذاهب إلى حضن مَنْ ل ُيغْلب‪.‬‬
‫حكِيمُ { [العنكبوت‪ ]26 :‬أي‪ :‬في تصرفاته‪ ،‬فل ُبدّ أنه سبحانه سينقلني إلى مكان يناسب‬
‫و } ا ْل َ‬
‫دعوتي‪ ،‬وأناس يستحقون هذه الدعوة بما لديهم من آذان صاغية للحق‪ ،‬وقلوب وأفئدة متشوقة‬
‫إليه‪ ،‬وتنتظر كلمة الحق التي أعرضتم أنتم عنها‪.‬‬
‫ق وَ َي ْعقُوبَ‪.{ ...‬‬
‫سحَا َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ووَهَبْنَا َلهُ إِ ْ‬

‫(‪)3292 /‬‬

‫جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِتهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَابَ وَآَتَيْنَاهُ أَجْ َرهُ فِي الدّنْيَا وَإِنّهُ فِي الْآَخِ َرةِ‬
‫ب وَ َ‬
‫سحَاقَ وَ َيعْقُو َ‬
‫َووَهَبْنَا لَهُ إِ ْ‬
‫َلمِنَ الصّالِحِينَ (‪)27‬‬

‫وجاء وقت الجزاء لينال إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬من ربه جزاء صبره على البتلء‪ ،‬وثباته على‬
‫اليمان‪ ،‬ألم ي ُقلْ لجبريل لما جاءه يعرض عليه المساعدة وهو في طريقه إلى النار‪ :‬يا إبراهيم‪،‬‬
‫ألك حاجة؟ فيقول إبراهيم‪ :‬أما إليك فل‪ .‬لذلك يجازيه ربه‪ ،‬ويخرق له النواميس‪ ،‬ويواليه بالنعم‬
‫واللء‪ ،‬حتى مدحه سبحانه بقوله‪ {:‬إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتا لِلّهِ‪[} ...‬النحل‪.]120 :‬‬
‫س ِمعْنَا فَتًى‬
‫وكان عليه السلم رجلً خاملً في القوم‪ ،‬بدليل قولهم عنه لما حَطّم أصنامهم‪ {:‬قَالُواْ َ‬
‫يَ ْذكُرُ ُهمْ ُيقَالُ َلهُ إِبْرَاهِيمُ }[النبياء‪ ]60 :‬فهو غير مشهور بينهم‪ُ ،‬م ْهمَل الذكر‪ ،‬ل يعرفه أحد‪ ،‬فلما‬
‫ن كنت مغمورا‬
‫والى ال واله قال‪ :‬لجعلنك خليل ال وشيخ المرسلين ولُجرينّ ِذكْرك‪ ،‬بعد أ ْ‬
‫على كل لسان‪ ،‬وها نحن نذكره عليه السلم في التشهد في كل صلة‪.‬‬
‫صدْقٍ فِي الخِرِينَ }‬
‫ن ِ‬
‫جعَل لّي لِسَا َ‬
‫واقرأ قول إبراهيم في دعائه لربه؛ ليؤكد هذا المعنى‪ {:‬وَا ْ‬
‫[الشعراء‪ ]84 :‬وكأنه يقول‪ :‬يا رب إن قومي يستقلونني‪ ،‬فاجعل لي ِذكْرا عندك‪.‬‬
‫ومعلوم أن للتناسل والتكاثر نواميسَ‪ ،‬فلما أنْ أنجبت السيدة هاجر إسماعيل ‪ -‬عليه السلم ‪-‬‬
‫لمَة وتتميز عليها‪ ،‬لكن كيف السبيل إلى النجاب‬
‫غضبت الحرة سارة‪ :‬كيف تنجب هاجر وهي ا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسِنّها تسعون سنة‪ ،‬وسِنّ إبراهيم حينئذٍ مائة؟‬
‫قانون الطبيعة ونواميس الخَلْق تقول ل إنجاب في هذه السن‪ ،‬لكن سأخرق لك القانون‪ ،‬وأجعلك‬
‫تُنجب هبة من عندي { َووَهَبْنَا لَهُ ِإسْحَاقَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]27 :‬ثم { وَ َي ْعقُوبَ‪[ } ...‬العنكبوت‪:‬‬
‫‪.]27‬‬
‫وفي آية أخرى قال‪ {:‬وَ َيعْقُوبَ نَافِلَةً‪[} ...‬النبياء‪.]72 :‬‬
‫أي‪ :‬زيادة‪ ،‬لنه صبر على ذَبْح إسماعيل‪ ،‬فقال له ربه‪ :‬ارفع يدك فقد أديتَ ما عليك‪ ،‬ونجحت في‬
‫المتحان‪ ،‬فسوف أفديه لك‪ ،‬بل وأهبك أخا له‪ ،‬وسأعطيك من ذريته يعقوب‪.‬‬
‫جعَلْنَا فِي ذُرّيّ ِتهِ النّ ُب ّو َة وَا ْلكِتَابَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]27 :‬لذلك‬
‫وسأجعلهم َفضْلً عن ذلك رسلً { وَ َ‬
‫حين نستقريء موكب النبياء نجد جمهرتهم من ذرية إبراهيم عليه السلم كل من جاء بعده من‬
‫ذريته‪.‬‬
‫والذرية المذكورة هنا يُرَاد بها إسحق ويعقوب‪ ،‬وهما المُوهبَان من سارة‪ ،‬أمّا إسماعيل فجاء‬
‫بالقانون العام الطبيعي الذي يشترك فيه إبراهيم وغيره‪.‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬في هذه المسألة يُدلّل على طلقة القدرة بأسباب تظهر فيها قدرة‬
‫المسبّب‪ ،‬فيقول لبراهيم‪ :‬إن كان قومك قد كفروا بك ولم يؤمنوا‪ ،‬فسأه ُبكَ ذرية ليست مؤمنة‬
‫مهدية فحسب‪ ،‬إنما هادية للناس جميعا‪.‬‬
‫وإذا كانت ذرية إسحق ويعقوب قد أخذتْ أربعة آلف سنة من موكب النبوات‪ ،‬فقد جاء من ذرية‬
‫إسماعيل خاتم النبياء وإمام المتقين محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وستظل رسالته باقية خالدة إلى‬
‫يوم القيامة‪ ،‬فالرسل من ذرية إسحق كانوا متفرقين في المم‪ ،‬ولهم أزمنة محددة‪ ،‬أما رسالة محمد‬
‫فعامة للزمان وللمكان‪ ،‬ل مع ّقبَ له برسول بعده إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ } :‬وَا ْلكِتَابَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]27 :‬أي‪ :‬الكتب التي نزلتْ على النبياء من ذريته‪،‬‬
‫وهي‪ :‬القرآن والنجيل والتوراة والزبور‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَآتَيْنَاهُ َأجْ َرهُ فِي الدّنْيَا‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]27 :‬قالوا‪ :‬إنه كان خامل ال ّذكْر فنبغ‬
‫شأنه وعل ذكْره‪ ،‬وكان فقيرا‪ ،‬فأغناه ال حتى حدّث المحدّثون عنه في السّيَر أنه كان يملك من‬
‫الماشية ما يسأم النسان أنْ يَعدّها‪ ،‬وكان له من كلب الحراسة اثنا عشر كلبا‪ ..‬إلخ وهذا أجره‬
‫في الدنيا فقط‪.‬‬
‫} وَإِنّهُ فِي الخِ َرةِ َلمِنَ الصّالِحِينَ { [العنكبوت‪ ]27 :‬يعني‪ :‬لن نقول له أذهبت طيباتك في حياتك‬
‫الدنيا‪ ،‬بل هو في الخرة من الصالحين‪ ،‬وهذا مُتمنّى النبياء‪ .‬إذن‪ :‬فأجْره في الدنيا لم يُنقص من‬
‫أجره في الخرة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا وصف ال نبيه إبراهيم في الخرة بأنه من الصالحين؟ قالوا‪ :‬لن إبراهيم أُثِر عنه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثلث كلمات يسميها المتصيّدون للخطاء‪ ،‬ثلث كذبات أو ذنوب‪ :‬الولى قوله لملك مصر لما‬
‫عوْه للخروج معهم لعيدهم‪ :‬إني سقيم‪.‬‬
‫سأله عن سارة قال‪ :‬أختي‪ ،‬والثانية لما قال لقومه حينما دَ َ‬
‫والثالثة قوله‪َ {:‬بلْ َفعََلهُ كَبِيرُهُمْ هَـاذَا‪[} ...‬النبياء‪ ]63 :‬أي‪ :‬عندما حطّم الصنام‪.‬‬
‫ويقول هؤلء المتصيدون‪ :‬إنها أقوال منافية لعصمة النبياء‪ .‬لكن ما قولكم إنْ كان صاحب المر‬
‫والحكم شهد له بالصلح في الخرة؟‬
‫ثم إن المتأمل في هذه القوال يجدها من قبيل المعاريض التي قال عنها النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ " :‬إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب " فقوله عن سارة‪ :‬إنها أختي‪ ،‬هي فعلً أخته في‬
‫اليمان‪ ،‬وربما لو قال زوجتي لقتله الملك ليتزوجها هو‪.‬‬
‫سقِيمٌ‪[} ...‬الصافات‪ ]89 :‬فهو اعتذار عن مشهد كافر ل ينبغي للمؤمن حضوره‪،‬‬
‫أما قوله{ إِنّي َ‬
‫سقْم يكون للبدن‪ ،‬ويكون للقلب فيحتمل أن يكون قصده سقيم القلب لما يراه من كفر‬
‫كما أن ال ّ‬
‫القوم‪.‬‬
‫وقوله{ َبلْ َفعَلَهُ كَبِيرُ ُهمْ هَـاذَا‪[} ...‬النبياء‪ ]63 :‬أراد به إظهار الحجة وإقامة الدليل على بطلن‬
‫عبادة الصنام‪ ،‬فأراد أنْ يُنطقهم هم بما يريد أن يقوله؛ ليقررهم بأنها أصنام ل تضر ول تنفع ول‬
‫تتحرك‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَلُوطا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3293 /‬‬

‫حشَةَ مَا سَ َبقَكُمْ ِبهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ ا ْلعَاَلمِينَ (‪)28‬‬


‫وَلُوطًا إِذْ قَالَ ِل َق ْومِهِ إِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ ا ْلفَا ِ‬

‫هنا ينتقل السياق من قصة إبراهيم لقصة ابن أخيه لوط‪ ،‬ونلحظ أن القرآن في الكلم عن نوح‬
‫وإبراهيم ولوط بدأ الحديث بذكره أولً‪ ،‬وعادة القرآن حينما يتكلم عن الرسل يذكر القوم أولً‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى‪ {:‬وَإِلَىا عَادٍ أَخَاهُمْ هُودا‪[} ...‬العراف‪ {،]65 :‬وَإِلَىا َثمُودَ َأخَا ُه ْم صَالِحا‪} ...‬‬
‫شعَيْبا‪[} ...‬العراف‪.]85 :‬‬
‫[العراف‪ {،]73 :‬وَإِلَىا مَدْيَنَ َأخَاهُمْ ُ‬
‫قالوا‪ :‬لن قوم نوح‪ ،‬وقوم إبراهيم‪ ،‬وقوم لوط لم يكُنْ لهم اسم معروف‪ ،‬فذكر أنبياءهم أولً‪ ،‬أمّا‬
‫عاد وثمود ومدين فأسماء لناس معروفين‪ ،‬ولهم قرى معروفة‪ ،‬فالصل أن القوم هم المقصودون‬
‫بالرسالة والهداية؛ لذلك يُذكَرون أولً فهم الصل في الرسالة‪ ،‬أما الرسول فليستْ الرسالة وظيفة‬
‫يجعلها ال لواحد من الناس‪.‬‬
‫شةَ مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [العنكبوت‪]28 :‬‬
‫{ وَلُوطا ِإذْ قَالَ ِل َقوْمِهِ إِ ّن ُكمْ لَتَأْتُونَ ا ْلفَاحِ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسمى خسيسة قومه فاحشة؛ لذلك قال العلماء في عقوبتها‪ :‬يصير عليها ما يصير على الفاحشة‬
‫حشَةً‪[} ...‬النساء‪ ]22 :‬والزنا‬
‫من الجزاء؛ لن الحق سبحانه سمى الزنا فاحشة فقال{ إِنّهُ كَانَ فَا ِ‬
‫ن يفعل فِعلْة قوم لوط الرجم‪.‬‬
‫شُرِع له الرجم‪ ،‬وكذلك يكون جزاء مَ ْ‬
‫وقوله‪ { :‬مَا سَ َب َقكُمْ ِبهَا مِنْ َأحَدٍ مّنَ ا ْلعَاَلمِينَ } [العنكبوت‪ ]28 :‬ل يعني هذا أن أحداُ لم يفعلها‬
‫قبلهم‪ ،‬لكنها إنْ ُفعِلت فهي فردية‪ ،‬ليست وباءً منتشرا كما في هؤلء‪.‬‬

‫(‪)3294 /‬‬

‫جوَابَ َق ْومِهِ إِلّا أَنْ قَالُوا‬


‫ل وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ا ْلمُ ْنكَرَ َفمَا كَانَ َ‬
‫طعُونَ السّبِي َ‬
‫أَئِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ وَتَقْ َ‬
‫ائْتِنَا ِبعَذَابِ اللّهِ إِنْ كُ ْنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ (‪)29‬‬

‫قوله‪ { :‬أَئِ ّن ُكمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]29 :‬دللة على انحراف الغريزة الجنسية عندهم‪،‬‬
‫والغريزة الجنسية جعلها ال في النسان لبقاء النوع‪ ،‬فالحكمة منها التناسل‪ ،‬والتناسل ل يكون إل‬
‫بين ذكر وأنثى‪ ،‬حيث تستقبل الُنثى الحيوان المنوي الذكَري الذي تحتضنه البويضة النثوية‪،‬‬
‫وتعلق في جدار الرحم وتكوّن الجنين؛ لذلك سمّي ال تعالى المرأة حَرْثا؛ لنها مكان الستنبات‪،‬‬
‫وشَرْط في إتيان المرأة أن يكون في مكان الستنبات‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالجماعة الذين كانوا ينادون بتشريع للمرأة يسمح للرجل بأن يأتيها كيفما يشاء‪ ،‬احتجوا‬
‫بقوله تعالى‪ِ {:‬نسَآ ُؤكُمْ حَ ْرثٌ ّل ُكمْ فَأْتُواْ حَرْ َثكُمْ أَنّىا شِئْتُمْ‪[} ...‬البقرة‪.]223 :‬‬
‫ونقول لهؤلء‪ :‬لقد أخطأتم في َفهْم الية‪ ،‬فالحَرْث هو الزرع المستنبت من الرض‪ ،‬فمعنى{ أَنّىا‬
‫شِئْتُمْ‪[} ...‬البقرة‪ ]223 :‬أي‪ :‬أنهم حرث‪ ،‬إذن‪ :‬فاحتجاجهم باطل‪ ،‬وبطلنه يأتي من عدم فهمهم‬
‫ي وجه من الوجوه شريطة أن يكون في مكان‬
‫لمعنى الحرث‪ ،‬وعليه يكون المعنى ائتوهن على أ ّ‬
‫الحَرْث‪.‬‬
‫ولحكمة ربط الحق سبحانه بقاء النوع بالغريزة الجنسية‪ ،‬وجعل لها لذة ومتَعة تفوق أيّ لذة أخرى‬
‫في الحياة‪ ،‬فمثلً أنت ترى المنظر الجميل فتُسَرّ به عينك‪ ،‬وتسمع الصوت ال َعذْب فتسعد به‬
‫أذنك‪ ...‬إلخ فكل منافذ الدراك لديك لها أشياء تمتعها‪.‬‬
‫لكن بأيّ هذه الحواس ُتدْرَك اللذة الجنسية؟ وأيّ ملكة فيك تُسَ ّر منها؟ كلّ الحواس و ُكلّ الملكات‬
‫تستمتع بها؛ لذلك ل يستطيع النسان مقاومتها‪ ،‬حتى قالوا‪ :‬إنها اللحظة الوحيدة التي يمكن للنسان‬
‫فيها أنْ يغفل عن ربه؛ لذلك أمرنا بعدها بالغتسال‪.‬‬
‫ولول أن الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ربط مسألة بقاء النوع بهذه اللذة لَزهد فيها كثير من الناس‪ ،‬لما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لها من تبعات ومسئوليات ومشاكل‪ ،‬ل بُدّ منها في تربية الولد‪.‬‬
‫وسبق أن ذكرنا الحكمة القائلة‪ " :‬جَدَع الحلل أنفَ الغيرة " فالرجل يغَار على ابنته مثلً‪ ،‬ول يقبل‬
‫مجرد نظر الغرباء إليها‪ ،‬ويثور إذا تعرّض لها أحد‪ ،‬فإذا جاءه الشاب يطرق بابه ليخطب ابنته‬
‫رحّب به‪ ،‬واستقبله أهل البيت بالزغاريد وعلى الرّحْب والسعة‪ ،‬فسقوا (الشربات) وأقاموا‬
‫الزينات‪ ،‬فما الفرق بين الحالين؟ في الولى كان دمه يغلي‪ ،‬والن تنزل كلمات ال في عقد القرآن‬
‫على قلبه بَرْدا وسلما‪.‬‬
‫أما خسيسة قوم لوط { أَئِ ّنكُمْ لَتَأْتُونَ الرّجَالَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]29 :‬فهي انحراف عن الطبيعة‬
‫السّوية ل بقا َء فيها للنوع‪ ،‬ومثلها إتيان المرأة في غير مكان الحرث‪.‬‬
‫طعُونَ السّبِيلَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]29 :‬أي‪ :‬تقطعون الطريق على بقاء النوع؛ لن‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَتَقْ َ‬
‫الزنا وإنْ جاء بالولد فإنه ل يُوفر له البقاء الكريم الشريف في المجتمع‪ .‬فالحق سبحانه جعل لبقاء‬
‫النوع طريقا واحدا‪ ،‬فل تسلك غير هذا الطريق‪ ،‬ل مع رجل ول مع امرأة‪.‬‬
‫والسبيل كلمة مطلقة وتعني الطريق‪ ،‬سواء كان الطريق المادي أي‪ :‬الشارع الذي نمشي فيه أو‪:‬‬
‫المعنوي وهو الطريقة التي نسير عليها‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪:‬‬

‫{ ُقلْ هَـا ِذهِ سَبِيلِي‪[} ...‬يوسف‪ ]108 :‬أي‪ :‬طريقي ومنهجي؛ لذلك السبيل القيمي سبيل واحد‪،‬‬
‫حتى ل نتصادم ول نتخاصم في حركة الحياة المعنوية‪ ،‬أمّا السبيل المادي فمتعدد حتى ل نتزاحم‬
‫في حركة الحياة المادية‪.‬‬
‫والسبيل المادي (الطريق) الذي نسير فيه ُيعَدّ سمة الحضارة في أي أُمة‪ ،‬ونذكر أن هتلر قبل أن‬
‫يدخل الحرب سنة ‪ 1939‬جعل كل همّة في إنشاء شبكة من الطرق؛ لن حركة الحرب غير‬
‫العادية تحتاج إلى طرق إضافية أيام الحرب‪ ،‬ومن ذلك مثلً الطريق الذي يُسمّونه طريق‬
‫المعاهدة‪ ،‬أي معاهدة سنة ‪.1936‬‬
‫إذن‪ :‬كلما وُجدت حركة زائدة احتاجت إلى طرق إضافية‪ ،‬وهذه الطرق تتناسب والمكان الذي‬
‫تنشأ فيه‪ ،‬فالطرق في المدن نُسمّيها شوارع وفي الخلء نسميها طرقا تناسب المساحة داخل‬
‫المباني‪ ،‬ومنها تتفرع الحارات‪ ،‬وهي أقل منها‪ ،‬ومن الحارة تتفرع العَطْفة‪ ،‬وهي أقل من الحارة‪،‬‬
‫وكلما ازدحمتْ البلد لجأ الناس إلى توسيع نظام الحركة لتيسير مصالح الناس‪.‬‬
‫كما نرى في القاهرة مثلً من أنفاق وكَبَارٍ‪ ،‬حتى ل تُعاق الحركة‪ ،‬وحتى نوفر للناس انسيابية‬
‫فيها‪.‬‬
‫والنفاق أنسب للجمال في المدن‪ ،‬والكبارى أجمل في الفضاء‪ ،‬حيث ترى مع ارتفاع الكباري آفاقا‬
‫أوسع ومناظر أجمل‪ ،‬أما إنْ حدث عكس ذلك فأُنشئت الكبارى داخل الشوارع فإنها تُقلّل من جمال‬
‫المكان وتُحوّل الشارع إلى أشبه ما يكون بعنابر الورش‪ ،‬كما أنها تؤذي سكان العمارات المجاورة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لها‪.‬‬
‫وعلى الدولة أن تراعي هذه المور عند التخطيط‪ ،‬ألم نقرأ قوله تعالى‪ُ {:‬ثمّ السّبِيلَ يَسّ َرهُ }[عبس‪:‬‬
‫‪ ]20‬ل بُدّ أن نُيسّر السبل للسالكين؛ لن معايش الناس وحركتهم تعتمد على الحركة في هذه‬
‫الطرق‪.‬‬
‫طعُونَ السّبِيلَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]29 :‬فكان من قوم لوط ُقطّاع طرق كالذين‬
‫فقوله تعالى‪ } :‬وَتَقْ َ‬
‫يخرجون على الناس في أسفارهم وحركتهم‪ ،‬فيأخذون أموالهم وينهبون ما معهم‪ ،‬وإنْ تأبوا عليهم‬
‫قتلوهم‪ .‬وبعد أن قطعوا السبيل على الناس قطعوا السبيل على بقاء النوع‪.‬‬
‫يقول سبحانه في حقهم‪ } :‬وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ا ْلمُ ْنكَرَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]29 :‬فكانوا ل يتورعون عن‬
‫ِفعْل القبيح وقوله فيجلسون في الطرقات يستهزئون بالمارة ويؤذونهم كالذين يجلسون الن على‬
‫المقاهي ويتسكعون في الطرق ويؤذون خَلْق ال‪ ،‬ويتجاهرون بالقبيح من القول والفعل‪ ،‬فل يسْلَم‬
‫من إيذائهم أحد‪.‬‬
‫حقّ الطريق يا‬
‫لذلك يعلمنا النبي صلى ال عليه وسلم آداب الطريق‪ " ،‬فيقول لمن سأله‪ " :‬وما َ‬
‫رسول ال؟ قال‪:‬غَضّ البصر‪ ،‬و َكفّ الذى‪ ،‬وردّ السلم "‪.‬‬
‫وقد انتشر بين قوم لوط سوء الخلق‪ ،‬بحيث ل ينهى بعضهم بعضا‪ ،‬كما قال سبحانه عن اليهود‬
‫أنهم‪ {:‬كَانُواْ لَ يَتَنَا َهوْنَ عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ‪[} ...‬المائدة‪.]79 :‬‬
‫والنادي‪ :‬مكان تجمّع القوم‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬فَلْ َي ْدعُ نَادِيَهُ }[العلق‪ ]17 :‬أي‪ :‬مكان تجمّع رؤوس‬
‫القوم وكبارهم‪ ،‬كما نرى الن‪ :‬نادي كذا‪ ،‬ونادي كذا‪.‬‬

‫والنادي وهو مكان عام ُيعَدّ المرحلة الخيرة لنضباط السلوك الذي يجب أن يكون في المجتمع‪،‬‬
‫فأنت مثلً لك حجرة في بيتك خاصة بك‪ ،‬ولك فيها انضباط خاص بنفسك‪ ،‬وكذلك في صالة البيت‬
‫لك انضباط أوسع‪ ،‬وفي الشارع لك انضباط أوسع‪.‬‬
‫والنضباط يتناسب مع الواقع الذي تعيشه‪ ،‬فحين تكون مثلً بين أناس ل يعرفونك ل يكون‬
‫انضباطك بنفس الدرجة التي تحرص عليها بين مَنْ تعرفهم كالموظف في مكتبه‪ ،‬والطالب في‬
‫مدرسته‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهؤلء القوم قطعوا السبيل في بقاء النوع‪ ،‬حيث أتوا غير مَأْتيّ وانحرفوا عن الفطرة‬
‫السّوية‪ ،‬وقطعوا السبيل المادي‪ ،‬فأخافوا الناس وروّعوهم ونهبوا أموالهم‪ ،‬وأخذوهم من الطرق‬
‫بغرض هذه ال ِفعْلة النكراء‪ ،‬ثم كانوا يتبجحون بأفعالهم هذه‪ ،‬ويجاهرون بها في أنديتهم وأماكن‬
‫تجمعاتهم‪.‬‬
‫فبماذا أجابه القوم؟‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا ِب َعذَابِ اللّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ { [العنكبوت‪ ]29 :‬أي‪:‬‬
‫} َفمَا كَانَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من الصادقين في أنك مُبلّغ عن ال‪ ،‬فنحن من العاصين‪ ،‬وأَرِنا العذاب الذي تتوعدنا به‪ ،‬وقولهم }‬
‫ائْتِنَا ِبعَذَابِ اللّهِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]29 :‬مع أن العذاب شيء مؤلم‪ ،‬ول يطلب أحد إيلم نفسه‪ ،‬فهذا‬
‫دليل على عدم فهمهم لهذا الكلم‪ ،‬وأنهم غير متأكدين من صدقه‪ ،‬وإل لو وَثِقوا بصدقه ما طلبوا‬
‫العذاب‪.‬‬
‫جوَابَ َق ْومِهِ ِإلّ أَن قَالُواْ أَخْ ِرجُواْ آلَ لُوطٍ مّن‬
‫وفي موضع آخر‪ ،‬حكى القرآن عنهم‪َ {:‬فمَا كَانَ َ‬
‫طهّرُونَ }[النمل‪.]56 :‬‬
‫قَرْيَ ِتكُمْ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَتَ َ‬
‫إذن‪ :‬حدث منهم موقفان وجوابان‪ :‬الول } ائْتِنَا ِب َعذَابِ اللّهِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]29 :‬فلما لم يُجبهم‬
‫إلى هذا الطلب الحمق‪ ،‬وظل يتابع دعوته لهم‪ ،‬فلم ييأس منهم لجأوا إلى حيلة أخرى‪ ،‬فقالوا{‬
‫طهْر‬
‫طهّرُونَ }[النمل‪ ]56 :‬لن ال َ‬
‫أَخْ ِرجُواْ آلَ لُوطٍ مّن قَرْيَ ِت ُكمْ‪[} ...‬النمل‪ ]56 :‬والعلة{ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَتَ َ‬
‫في نظر هؤلء عيب‪ ،‬والستقامة جريمة‪ ،‬وهذا دليل على فساد عقولهم‪ ،‬وفساد قياسهم في الحكم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬قَالَ َربّ انصُرْنِي‪.{ ...‬‬

‫(‪)3295 /‬‬

‫قَالَ َربّ ا ْنصُرْنِي عَلَى ا ْل َقوْمِ ا ْل ُمفْسِدِينَ (‪)30‬‬

‫وفَرْق بين الفاسد في ذاته والمفسد لغيره‪ ،‬فيا ليتهم كانوا فاسدين في أنفسهم‪ ،‬إنما كانوا فاسدين‬
‫مفسدين‪ ،‬يتعدّى فسادهم إلى غيرهم‪.‬‬

‫(‪)3296 /‬‬

‫سلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنّا ُمهِْلكُو أَ ْهلِ َه ِذهِ ا ْلقَرْيَةِ إِنّ أَهَْلهَا كَانُوا ظَاِلمِينَ (‪)31‬‬
‫وََلمّا جَا َءتْ رُ ُ‬

‫جاء هنا إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬في سياق قصة لوط‪ ،‬كما جاء لوط في سياق قصة إبراهيم‪.‬‬
‫طفِي مِنَ‬
‫ومعنى { ُرسُلُنَآ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]31 :‬أي‪ :‬من الملئكة؛ لن ال تعالى قال‪ {:‬اللّهُ َيصْ َ‬
‫ل َومِنَ النّاسِ‪[} ...‬الحج‪.]75 :‬‬
‫ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُ ً‬
‫وقد جاءت الملئكة لبراهيم بالبشرى‪ ،‬ولم يذكر مضمون البُشْرى هنا‪ ،‬وهو البشارة بإسحق‬
‫ويعقوب وذرية صالحة منهما‪ ،‬وجاءته بإنذار بأن ال سيُهلك أهل هذه القرية‪ ،‬وبالبشرى والنذار‬
‫يحدث التوازن؛ لننا نُبشّر إبراهيم بذرية صالحة ُمصْلحة في الكون‪ ،‬ونهلك أهل القرية الذين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫انحرفوا عن منهج ال‪.‬‬
‫وتلحظ في الية أنها لم تذكر العلة في البُشْرى فلم تقل لنه كان مؤمنا ومجاهدا وعادلً‪ ،‬إنما‬
‫ذكرت العلة في إهلك أهل القرية { َأهَْلهَا كَانُواْ ظَاِلمِينَ } [العنكبوت‪ ]31 :‬لماذا؟ لن المتفضّل ل‬
‫يمنّ بفضله على أنه عمل بمقابل‪ ،‬لكن المعذب يبين سبب العذاب‪.‬‬
‫فماذا كان النفعال الوليّ عند إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬ساعةَ سمع ال ُبشْرى والنذار؟ لم يسأل‬
‫عن البشرى‪ ،‬مع أنه كان متلهفا عليها‪ ،‬إنما شغلته مسألة إهلك القرية‪ ،‬وفيها ابن أخيه لوط‪ .‬لذلك‬
‫قال‪ { :‬قَالَ إِنّ فِيهَا لُوطا قَالُواْ‪.} ...‬‬

‫(‪)3297 /‬‬

‫قَالَ إِنّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ ِبمَنْ فِيهَا لَنُ َنجّيَنّ ُه وَأَهَْلهُ إِلّا امْرَأَ َتهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ (‪)32‬‬

‫فلم يستشرف إبراهيم للبشرى‪ ،‬واهتم بمسألة إهلك قرية قوم لوط؛ لن فيها لوطا مما يدلّ على‬
‫أن النسان ل يشغله الخير لنفسه عن الشر لغيره‪ ،‬وهنا ردّ الملئكة { َنحْنُ أَعْلَمُ ِبمَن فِيهَا‪} ...‬‬
‫[العنكبوت‪ ]32 :‬فهذه مسألة ل تخفى علينا‪.‬‬
‫ثم يُطمئنونه على ابن أخيه { لَنُنَجّيَنّهُ وَأَهْلَهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]32 :‬وأهله‪ :‬تشمل كل الهل؛ لذلك‬
‫استثنوا منهم { ِإلّ امْرَأَتَهُ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ } [العنكبوت‪.]32 :‬‬
‫والغابرون‪ :‬جمع غابر‪ ،‬ولها استعمالن في اللغة‪ :‬نقول‪ :‬الزمان الغابر أي الماضي‪ ،‬وغابر بمعنى‬
‫باقٍ أيضا‪ ،‬فهي إذن تحمل المعنى وضده؛ ذلك لنهم جاءوا لهلك هذه القرية‪ ،‬وامرأة لوط باقية‬
‫لتهلك معهم‪ ،‬وتذهب مع مَنْ سيذهبون بالهلك‪ ،‬فهي إذن باقية في العذاب‪ .‬فجاءت الكلمة { مِنَ‬
‫ا ْلغَابِرِينَ } [العنكبوت‪ ]32 :‬لتؤدي هذين المعنيين‪.‬‬
‫سلُنَا لُوطا‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلمّآ أَن جَآ َءتْ رُ ُ‬

‫(‪)3298 /‬‬

‫خفْ وَلَا َتحْزَنْ إِنّا مُ َنجّوكَ‬


‫وََلمّا أَنْ جَا َءتْ ُرسُلُنَا لُوطًا سِيءَ ِبهِ ْم َوضَاقَ ِب ِهمْ ذَرْعًا َوقَالُوا لَا َت َ‬
‫وَأَهَْلكَ إِلّا امْرَأَ َتكَ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرِينَ (‪)33‬‬

‫شهد إبراهيم هذا الموقف مع لوط‪ ،‬وعلم سبب حضورهم إليه‪ ،‬لكن لماذا سيء بهم‪ ،‬مع أنهم رسل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال ملئكة جاءوه على أحسن صورة؟ قالوا‪ :‬لن الملَك يأتي على أجمل صورة‪ ،‬حتى إذا أردنا أن‬
‫نمدح شخصا بالجمال نقول‪ :‬مثل الملك‪ ،‬ومن ذلك قول النسوة لمرأة العزيز عن يوسف عليه‬
‫السلم‪ {:‬مَا هَـاذَا بَشَرا إِنْ هَـاذَآ ِإلّ مََلكٌ كَرِيمٌ }[يوسف‪.]31 :‬‬
‫فلما رآهم لوط على هذه الصورة خاف عليهم‪ ،‬بدل أنْ يفرح بمرآهم الجميل؛ لن قومه قوم سوء‬
‫ن ينالوا ضيوفه بسوء؛ لذلك { سِيءَ ِبهِمْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]33 :‬أي‪ :‬أصابه‬
‫وأهل رذيلة‪ ،‬ول بُدّ أ ْ‬
‫السوء بسببهم { َوضَاقَ ِبهِمْ ذَرْعا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]33 :‬الذرع هو طول الذراعين‪ ،‬فنقول‪ :‬فلن‬
‫باعُه طويل‪ .‬يعني‪ :‬يتناول الشياء بسهولة؛ لن يده طويلة‪ ،‬فالمعنى‪ :‬ضاق بهم ذَرْعا‪ .‬يعني‪ :‬لم‬
‫يتسع جهده لحمايتهم من القوم‪.‬‬
‫ونلحظ هنا اختلف السياق بين اليتين‪ {:‬وََلمّا جَآ َءتْ ُرسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ‪[} ...‬العنكبوت‪ ]31 :‬أما في‬
‫لوط فقال‪ { :‬وََلمّآ أَن جَآ َءتْ رُسُلُنَا لُوطا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]33 :‬لنهم تأخروا بعض الشيء عند‬
‫إبراهيم عليه السلم‪.‬‬
‫ف َولَ‬
‫خ ْ‬
‫فلما أن أصابه السوء بمرآهم‪ ،‬بدل أنْ يسعد بهم‪ ،‬وخاف عليهم طمأنوه { َوقَالُو ْا لَ تَ َ‬
‫خفْ علينا من‬
‫تَحْزَنْ إِنّا مُنَجّوكَ وَأَهَْلكَ ِإلّ امْرَأَ َتكَ كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرينَ } [العنكبوت‪ ]33 :‬ل ت َ‬
‫هؤلء الراذل‪ ،‬فلسنا بشرا‪ ،‬إنما نحن ملئكة ما جئْنا إل لنريحك منهم‪ ،‬ونقطع جذور هذه ال ِفعْلة‬
‫الخبيثة‪ ،‬وسوف ننجيك وأهلك من العذاب النازل بهم‪.‬‬
‫ثم يستثنون من أهله { ِإلّ امْرَأَ َتكَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]33 :‬فكثيرا ما ضايقته‪ ،‬وأفشتْ أسراره‪ ،‬ودّلتْ‬
‫القوم على ضيوفه { كَا َنتْ مِنَ ا ْلغَابِرينَ } [العنكبوت‪ ]33 :‬الباقين في العذاب‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما الطريقة التي ستقضون بها على هؤلء القوم؟‬

‫(‪)3299 /‬‬

‫سقُونَ (‪)34‬‬
‫سمَاءِ ِبمَا كَانُوا َيفْ ُ‬
‫إِنّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَ ْهلِ هَ ِذهِ ا ْلقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ ال ّ‬

‫سقُونَ }‬
‫الرجز‪ :‬العذاب ينزل عليهم من السماء‪ ،‬والحجارة التي يمطرهم ال بها { ِبمَا كَانُواْ َيفْ ُ‬
‫[العنكبوت‪ ]34 :‬أي‪ :‬بسبب فِسْقهم وخروجهم عن منهج ال‪.‬‬

‫(‪)3300 /‬‬

‫وَلَقَدْ تَ َركْنَا مِ ْنهَا آَيَةً بَيّ َنةً ِل َقوْمٍ َيعْقِلُونَ (‪)35‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لن هذا العذاب استأصلهم‪ ،‬وقضى عليهم‪ ،‬وجعلهم عبرة لكل عاقل متأمل وآية في الكون لكل‬
‫عابر بها‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ّمصْ ِبحِينَ }[الصافات‪ ]137 :‬إذن‪ :‬فالعبرة باقية‬
‫سدُوم كلما مر الناس بقُراهم‪.‬‬
‫بأهل َ‬
‫لذلك قال ال عنها { آيَةً بَيّنَةً } [العنكبوت‪ ]35 :‬الية‪ :‬الشيء العجيب الذي يدعو للتأمل‬
‫{ بَيّ َنةً‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]35 :‬واضحة كدليل باقٍ‪ ،‬وظاهر ل يخفى على أحد { ّل َقوْمٍ َي ْعقِلُونَ }‬
‫[العنكبوت‪ ]35 :‬يعني‪ :‬يبحثون ويتأملون بسبب ما حاق بهذه القرى‪ ،‬وما نزل بها من عذاب ال‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَإِلَىا َمدْيَنَ أَخَاهُمْ‪.} ...‬‬

‫(‪)3301 /‬‬

‫شعَيْبًا َفقَالَ يَا َقوْمِ اعْ ُبدُوا اللّ َه وَارْجُوا الْ َيوْمَ الْآَخِرَ وَلَا َتعْ َثوْا فِي الْأَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ‬
‫وَإِلَى َمدْيَنَ أَخَاهُمْ ُ‬
‫(‪)36‬‬

‫سمّيت باسمه القبيلة؛ لنهم كانوا عادة ما‬


‫مدين‪ :‬اسم من أسماء أولد إبراهيم عليه السلم‪ ،‬و ُ‬
‫يُسمّون القوم باسم أبرز أشخاصها‪ ،‬فانتقل السم من الشخص إلى القبيلة‪ ،‬ثم إلى المكان‪ ،‬بدليل‬
‫قوله تعالى في موضع آخر‪ {:‬وََلمّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ‪[} ...‬القصص‪ ]23 :‬فصارت مدين عَلَما على‬
‫البقعة‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنها من الطور إلى الفرات‪.‬‬
‫هذه برقية موجزة لقصة مدين وأخيهم شعيب‪ ،‬وقد ُذكِرت أيضا في قصة موسى عليه السلم‪.‬‬
‫وقال { أَخَاهُمْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]36 :‬ليدلّك أن ال تعالى حين يصطفي للرسالة يصطفي مَنْ له وُدّ‬
‫بالقوم‪ ،‬ولهم معرفة به وبأخلقه وسيرته‪ ،‬ولهم به تجربة سابقة‪ ،‬فهو عندهم مُصلْح غير ُمفْسِد‪،‬‬
‫حتى إذا ما بلّغهم عن ال صدّقوه‪ ،‬وكانت له مُقدّمات تُيسّر له سبيل الهداية‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬فقَالَ يا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]36:‬كلمة { يا َقوْمِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ :]36 :‬القوم ل‬
‫تُقال إل للرجال؛ لنهم هم الذين يقومون لمهمات المور‪ ،‬ويتحملون المشاق؛ لذلك يقول تعالى‪{:‬‬
‫ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ َيسْخَرْ َقوْمٌ مّن َقوْمٍ عَسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ ِنسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىا أَن‬
‫َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ‪[} ...‬الحجرات‪ ]11 :‬فأطلق القوم‪ ،‬وهم الرجال في مقابل النساء‪.‬‬
‫والعبادة‪ :‬قلنا‪ :‬طاعة المر والنهي { اعْبُدُواْ اللّهَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]36 :‬أطيعوه فيما أمر‪ ،‬وانتهوا‬
‫عما نهى عنه ما ُدمْتم قد آمنتم به إلها خالقا‪ ،‬فل بُدّ أنْ تسمعوا كلمه فيما ينصحكم به من توجيه‬
‫بافعل ول تفعل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وتعلم أنه سبحانه بصفات الكمال أوجدك وأوجد لك الشياء‪ ،‬فأنت بعبادتك له ل تضيف إليه صفة‬
‫جديدة‪ ،‬فهو إله قبل أن توجد أنت‪ ،‬وخالق بكامل القدرة قبل أنْ توجد‪ ،‬وخلق لك الكون قبل أنْ‬
‫توجد‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك تعصاه وتكفر به‪ ،‬فل يحرمك خيره‪ ،‬ول يمنع عنك نعمه‪ .‬إذن‪ :‬فهو سبحانه يستحق‬
‫منك العبادة والطاعة؛ لن طاعته تعود عليك أنت بالخير‪.‬‬
‫لذلك سبق أنْ قُلْنَا إن كلمة (العبودية) كلمة مذمومة تشمئز منها النفس‪ ،‬إنْ كانت عبودية للبشر؛‬
‫لن عبودية البشر للبشر يأخذ فيها السيد خير عبده‪ ،‬لكن عبودية البشر ل تعالى يأخذ العبد خير‬
‫ل وهوان؛ لذلك نرى كل المصلحين يحاربون‬
‫سيده‪ ،‬فالعبودية ل ع ّز وقوة ومنَعة وللبشر ٌذ ّ‬
‫العبودية للبشر‪ ،‬ويدعون العبيد إلى التحرر‪.‬‬
‫فأوّل شيء أمر به شعيب قومه { اعْبُدُواْ اللّهَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]36 :‬كذلك قال إبراهيم لقومه{‬
‫اعْبُدُواْ اللّ َه وَا ّتقُوهُ‪[} ...‬العنكبوت‪ ،]16 :‬لكن لوطا عليه السلم لم يأمر قومه بعبادة ال‪ ،‬إنما اهتم‬
‫بمسألة الفاحشة التي استشرتْ فيهم‪ ،‬مع أن كل الرسل جاءوا للمر بعبادة ال‪.‬‬
‫ونقول في هذه المسألة‪ :‬لم يأمر لوط قومه بعبادة ال؛ لنه كان من شيعة إبراهيم عليه السلم‬
‫ومؤمنا بديانته‪ ،‬بدليل قوله تعالى‪ {:‬فَآمَنَ َلهُ لُوطٌ‪[} ...‬العنكبوت‪ ]26 :‬فهو تابع له؛ لذلك ينفذ‬
‫التعاليم التي جاء بها إبراهيم‪ ،‬فلم يأمر بالعبادة لن إبراهيم أمر القوم بها‪ ،‬لكنه تحمّل مسألة‬
‫أخرى‪ ،‬وخصّه ال بمهمة جديدة‪ ،‬هي إخراج قومه من ممارسة الفاحشة التي انتشرت بينهم‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪ } :‬وَارْجُواْ الْ َيوْ َم الَخِرَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]36 :‬فل بُدّ أن اليوم الخر لم يكُنْ في بالهم‪،‬‬
‫ولم يحسبوا له حسابا‪ ،‬كأنهم سيفلتون من ال‪ ،‬ولن يرجعوا إليه؛ لذلك يُذكّرهم بهذا اليوم‪ ،‬ويحثّهم‬
‫على العمل من أجله‪.‬‬
‫وكيف ل نعمل حسابا لليوم الخر؟ ونحن في الدنيا نعامل أنفسنا بنفس منطق اليوم الخر؟ فأنت‬
‫مثلً تتعب وتشقى في زراعة الرض‪ ،‬وتتحمل مشاق الحرْث وال َبذْر والسقي‪ ..‬إلخ طوال العام‪،‬‬
‫لكن حين تجمع زرعك يوم الحصاد‪ ،‬ويوم تمل به مخازنك تنسى أيام التعب والمشقة‪ ،‬وساعتها‬
‫يندم الكسول الذي قعد عن العمل والسعي‪ ،‬يوم الحصاد سترى أن أردب القمح الذي أخذتَه من‬
‫المخزن وظننتَ أنه نقص من حسابك قد عاد إليك عشرة أرادبّ‪ ،‬فأخْذُك لم يقلل إنما زاد‪.‬‬
‫وكذلك اليوم الخر نفهمه بهذا المنطق‪ ،‬فنتحمل مشاقّ العبادة والطاعات في الدنيا لننال النعيم‬
‫ن تفوته أنت بالموت‪ ،‬أو‬
‫الباقي في الخرة؛ لن نعيم الدنيا مهما كان‪ ،‬يُنغصه عليك أمران‪ :‬إما أ ْ‬
‫يفوتك هو بالفقر‪.‬‬
‫لوْلى بك أنْ تزرع للخرة‪ ،‬وأن تعمل لها ألف‬
‫أما في الخرة فل يفوتك نعيمها ول تفوته‪ .‬إذن‪ :‬فا َ‬
‫عظَم الجزاء‪ ،‬وإذا استحضرتَ‬
‫حساب‪ ،‬فإنْ كان في العبادة مشقة‪ ،‬ولليمان تَبعات‪ ،‬فانظروا إلى ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الثواب على الطاعة هانتْ عليك مشقة الطاعة‪ ،‬وإذا استفظعت العقاب على المعصية‪ ،‬زهدتَ فيها‬
‫ونأ ْيتَ عنها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الذي يجعل النسانَ يتمادى في المعصية أنه ل يستحضر العقاب عليها‪ ،‬ويزهد في الطاعة؛‬
‫لنه ل يستحضر ثوابها‪.‬‬
‫لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‪ ،‬ول يشرب الخمر‬
‫حين يشربها وهو مؤمن " والمعنى‪ :‬لو استحضر اليمان ما فعل‪ ،‬إنما غفل عن إيمانه فوقع في‬
‫المعصية‪.‬‬
‫ومَن استحضر ثواب الطاعة وجد لها حلوة في نفسه‪ ،‬كما قال النبي صلى ال عليه وسلم عن‬
‫الصلة‪ " :‬أرحنا بها يا بلل "‪.‬‬
‫سدِينَ { [العنكبوت‪ ]36 :‬العثو‪ :‬الفساد المستور والفساد يقال‬
‫وقوله‪َ } :‬ولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْ ِ‬
‫للظاهر‪ ،‬فالمعنى‪ :‬ل تعثَوا في الرض عثوا‪ ،‬فالمفعول المطلق بمعنى الفعل‪ ،‬فقوله تعالى‪َ } :‬ولَ‬
‫َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ { [العنكبوت‪ ]36 :‬كما نقول‪ :‬اجلس قعودا‪.‬‬
‫والفاء في قوله‪َ } :‬فقَالَ يا َقوْمِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]36 :‬تدل على أنها تعطف هذا الكلم‬
‫على كلم سابق‪ ،‬والتقدير‪ :‬وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا فقال‪ :‬يا قوم إني رسول ال إليكم‪ ،‬ثم‬
‫ذكر المطلوب منهم } يا َقوْمِ اعْ ُبدُواْ اللّهَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]36 :‬والجمع بين عبادة ال ورجاء اليوم‬
‫الخر يعني‪ :‬ل تفصلوا العبادة عن غايتها والثواب عليها‪ ،‬ول تفصلوا المعصية عن عقابها‪.‬‬

‫سدِينَ { [العنكبوت‪ ]36 :‬فل أقول لكم‪ :‬أصلحوا فل أقلّ من أن‬


‫وقوله‪َ } :‬ولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْ ِ‬
‫تتركوا الصالح على صلحه ل تفسدوه؛ لن الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬أعدّ لنا الكون على هيئة‬
‫الصلح‪ ،‬وعلينا أنْ نُبقيه على صلحه‪.‬‬
‫فالنيل مثلً هبة من هِبَات الخالق‪ ،‬وشُريان للحياة يجري بالماء الزلل‪ ،‬وتذكرون يوم كان‬
‫الفيضان يأتي بالطمي فترى الماء مثل الطحينة تماما‪ ،‬وكذا نمل منه (الزير)‪ ،‬وبعد قليل يترسب‬
‫الطمي آخذا معه كل الشوائب‪ ،‬ويبقى الماء صافيا زللً‪ .‬أما الن فقد أصابه التلوث وفسَد ماؤه‬
‫بما يُلْقى فيه من مُخلّفات‪ ،‬وأصبحنا نحن أول مَنْ يعاني آثار هذا التلوث‪.‬‬
‫لذلك أصبح ساكن المدن مهما توفرت له سُبُل الحضارة ل يرتاح إل إذا خرج من المدينة إلى‬
‫أحضان الطبيعة البكْر التي ظلتْ على طبيعتها كما خلقها ال‪ ،‬ل ضوضاء‪ ،‬ول ملوثات‪ ،‬ول‬
‫كهرباء‪ ،‬ول مدنية‪.‬‬
‫جفَةُ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ف َكذّبُوهُ فََأخَذَ ْتهُمُ الرّ ْ‬

‫(‪)3302 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جفَةُ فََأصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَا ِثمِينَ (‪)37‬‬
‫َفكَذّبُوهُ فَأَخَذَ ْت ُهمُ الرّ ْ‬

‫فلماذا يُكذّب الناس دعوة الخير؟‬


‫قالوا‪ :‬ل يُكذّب دعوة الخير إل المستفيدون من الشر؛ لن الخير سيقطع عليهم الطريق‪ ،‬ويسحب‬
‫منهم مكانتهم وسلطتهم وسيادتهم‪ ،‬فكل الذين عارضوا رسل ال كانوا أكابر القوم ورؤساءهم‪ ،‬وقد‬
‫ألفوا السيادة والعظمة‪ ،‬واعتادوا أن يكون الناس عبيدا لهم‪ ،‬فكيف إذن يُفسِحون الطريق للرسل‬
‫ليأخذوا منهم هذه المكانة؟‬
‫وإل‪ ،‬فلماذا كان عبد ال بن أُ َبيّ يكره رسول ال صلى ال عليه وسلم؟ لنه يوم وصل رسول ال‬
‫إلى المدينة كانوا ُي ِعدّون التاج لعبد ال بن أبي‪ ،‬لينصبوه مَلِكا على المدينة‪ ،‬فلما جاءها رسول ال‬
‫شغلوا بهذا الحدث الكبير‪ ،‬وانصرفوا عن هذه المسألة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ماذا قال شعيب لقومه حتى يُكذّبوه؟ لقد قال لهم أمرين هما‪ {:‬اعْبُدُواْ اللّ َه وَارْجُواْ الْ َيوْمَ الَخِرَ‬
‫}[العنكبوت‪ ]36 :‬ونهي واحد في{ َولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ }[العنكبوت‪ ]36 :‬ومعلوم أن‬
‫المر والنهي قوْل ل يحتمل الصّدْق‪ ،‬ول يحتمل الكذب؛ لنه إنشاء وليس خبرا‪ ،‬لنه ما معنى‬
‫الكذب؟ الكذب أن تقول لشيء وقع أنه لم يقع‪ ،‬أو لشيء لم يقع أنه وقع‪ ،‬وهذا يسمونه خبرا‪.‬‬
‫فإنْ وافق كلمك الواق َع فهو صِدْق‪ ،‬وإنْ خالف الواقع فهو كذب‪ ،‬إذن‪ :‬كيف نحكم على ما لم تقع‬
‫له نسبة أنه صِدْق أو كذب؟ حينما تقول مثلً‪ِ :‬قفْ‪ .‬هل نقول لك إنك كاذب؟ ل‪ ،‬لن واقع النشاء‬
‫ل يأتي إل بعد أنْ تتكلم‪ ،‬لذلك قسّموا الكلم العربي إلى خبر وإنشاء‪.‬‬
‫ولكي نبسط هذه المسألة على المتعلم نقول‪ :‬المتكلم حين يتكلم يأتي بنسبة اسمها نسبة كلمية‪ ،‬قبل‬
‫أن يتكلم بها جالتْ في ذهنه‪ ،‬فقبل أن أقول‪ :‬زيد مجتهد دارتْ في ذهني هذه المسألة‪ ،‬وكان في‬
‫الواقع يوجد شخص اسمه زيد وهو مجتهد فعلً‪.‬‬
‫ن وُجِدت النسبة الواقعية قبل الذهنية‬
‫إذن‪ :‬عندنا نسبة ذهنية‪ ،‬ونسبة كلمية‪ ،‬ونسبة واقعية‪ ،‬فإ ْ‬
‫والكلمية‪ ،‬فالكلم هنا خبر يُوصَف بالصدق أو يُوصَف بالكذب‪.‬‬
‫إذن‪ :‬النسبة الواقعية ل تأتي نتيجة النسبة الكلمية‪ ،‬إنما حين تقول‪ :‬قف فتأتي النسبة الواقعية‬
‫نتيجة النسبة الكلمية‪ ،‬وما دامت النسبة الواقعية تأخرتْ عن الكلمية‪ ،‬فل يُوصَف القول إذن ل‬
‫بصدْق ول بكذب‪.‬‬
‫ونعود إلى قول نبي ال شعيب نجده عبارة عن أمرين‪ {:‬اعْ ُبدُواْ اللّ َه وَا ْرجُواْ الْ َيوْ َم الَخِرَ‪} ...‬‬
‫سدِينَ }[العنكبوت‪ ]36 :‬والمر والنهي من‬
‫[العنكبوت‪ ]36 :‬ونهي واحد‪َ {:‬ولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْ ِ‬
‫النشاء الذي ل يُوصَف بالصّدْق ول بالكذب‪ ،‬فكيف إذن يُكذّبونه؟‬
‫فأول إشكال‪َ { :‬فكَذّبُوهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]37 :‬ومنشأ هذا الشكال عدم وجود المَلكَة العربية التي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يفهمون بها كلم ال‪ .‬فالحق سبحانه قال هنا { َفكَذّبُوهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]37 :‬لنه أمرهم بعبادة ال‬
‫وهو رسول من عند ال فيأمرهم بعبادته؛ لن عبادته تعالى واجبة عليهم‪ ،‬وما أمرهم إل ليُؤدّوا‬
‫الواجب عليهم‪ ،‬واليوم الخر كائن ل محالة فارجوه‪ ،‬والفساد في الرض مُحرم‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فالمعنى يحمل معنى الخبر‪ ،‬فالمران هنا‪ ،‬والنهي أمر واجب فكذّبوه لعلّة المرين‪ ،‬ولعلّة‬
‫النهي‪.‬‬
‫ومعنى{ اعْ ُبدُواْ اللّهَ‪[} ...‬العنكبوت‪ ]36 :‬خصّوه سبحانه بالعبادة‪ ،‬وهي الطاعة في المر والنتهاء‬
‫عن المنهي عنه‪ ،‬وهذه العبادة مطلوبة من الكل‪ ،‬وهي شريعة كل النبياء والرسل‪ {:‬شَ َرعَ َلكُم مّنَ‬
‫الدّينِ مَا َوصّىا بِهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ ِإلَ ْيكَ َومَا َوصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِي َم َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ‬
‫ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ‪[} ...‬الشورى‪.]13 :‬‬
‫الدّي َ‬
‫إذن‪ :‬فمسألة العبادة واليمان باليوم الخر من القضايا العامة التي ل تختلف فيها الرسالت‪ ،‬أما‬
‫الشرائع‪ :‬افعل كذا‪ ،‬ول تفعل كذا فتختلف من نبي لخر‪.‬‬
‫ومعنى‪ {:‬وَارْجُواْ الْ َي ْو َم الَخِرَ‪[} ..‬العنكبوت‪ ]36 :‬أي‪ :‬اعملوا ما يناسب رجاءكم لليوم الخر‪،‬‬
‫وأنت لماذا تحب اليوم الخر‪ ،‬ولماذا ترجوه؟ ل يحبه ول يرجوه إل مَنْ عمل عملً صالحا‬
‫سعْيه‪ ،‬وإل لو كانت الخرى لقال‪ :‬وخافوا اليوم الخر‪.‬‬
‫فينتظره لينال جزاء عمله وثواب َ‬
‫إذن‪ :‬الرجاء معناه‪ :‬اعملوا ما يُؤهّلكم لنْ ترجُوا اليوم الخر‪ ،‬والنسان ل يرجو إل النافع له‪.‬‬
‫وهنا لك أنْ تسأل‪ :‬هل إذا آمن النسان ونفّذ أحكام ربه أمرا ونهيا‪ ،‬فجزاؤهم في الخرة رجاء‬
‫حقّ له؟ المفروض أن يقول للطائعين‪ :‬ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‪ ،‬فهي واجبة له‬
‫يرجوه أم َ‬
‫حقّه‪ ،‬فكيف يسميه القرآن رجا ًء وهو واقع؟‬
‫ومن َ‬
‫ضلٌ من ال‪ ،‬لنه سبحانه خلقنا وخلق لنا‪ ،‬وأمدّنا بالطاقات والنعم‬
‫قالوا‪ :‬لن جزاءنا في الجنة َف ْ‬
‫قبل أنْ يُكلّفنا شيئا‪ ،‬فحين تعبد ال حقّ العبادة فإنك ل تقضي ثمن جميله عليك‪ ،‬ول توفيه سبحانه‬
‫ما يستحق‪ ،‬فإذا أثابك في الخرة فبمحْض فَضلْه وكرمه‪.‬‬
‫ج َمعُونَ }[يونس‪.]58 :‬‬
‫حمَ ِتهِ فَبِذَِلكَ فَلْ َيفْرَحُواْ ُهوَ خَيْرٌ ّممّا يَ ْ‬
‫ضلِ اللّ ِه وَبِرَ ْ‬
‫لذلك قال سبحانه‪ُ {:‬قلْ ِب َف ْ‬
‫كما لو أنكَ استخدمت أجيرا بمائة جنيه مثلً في الشهر‪ ،‬وقبل أن يعمل لك شيئا أعطيته أجره فهل‬
‫يطلب منك أجرا آخر؟ فلو جئتَ في آخر الشهر وأعطيته عشرة جنيهات‪ ،‬فهي َفضْل منك وتكرّم‪.‬‬
‫لذلك قال{ َولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ ُمفْسِدِينَ }[العنكبوت‪ ]36 :‬لن الجزاء في الخرة عند التحقيق‬
‫والتعقّل محض فَضلْ من ال؛ لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬لن يدخل أحد منكم الجنة‬
‫بعمله‪ ،‬قالوا‪ :‬ول أنت يا رسول ال؟ قال‪ :‬ول أنا إل أن يتغمّدني ال برحمته "‪.‬‬
‫سدِينَ }[العنكبوت‪ ]36 :‬أي‪ :‬ل تفسدوا فسادا ظاهرا‪ ،‬أو‪ :‬ل‬
‫والنهي في‪َ {:‬ولَ َتعْ َثوْاْ فِي الَ ْرضِ مُفْ ِ‬
‫تعملوا أعمالً هي في ظنكم نافعة وهي ضارة‪ ،‬تذكرون زمان كان القطن هو المحصول الرئيسي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في مصر ومصدر الدّخلْ‪ ،‬وكانت تهدده دودة القطن فنقاومه مقاومة يدوية‪ ،‬إلى أنْ خرج علينا‬
‫المريكان بالمبيدات‪ ،‬واستخدمنا مادة اسمها (دي دي تي) فقضتْ على الدودة في بادئ المر‪،‬‬
‫وظنّ الفلح أن هذه المشكلة قد حُلّت‪.‬‬

‫لكن بعد سنوات تعودتْ الدودة على هذه المادة‪ ،‬وأصبح عندها حصانة‪ ،‬وكأن (الدي دي تي)‬
‫أصبح (كيفا) عندها‪ ،‬وبدأنا نحن نعاني المرّين من آثار هذه المبيدات في الماء‪ ،‬وفي التربة‪ ،‬وفي‬
‫الزراعة‪ ،‬وفي صحة النسان والحيوان‪ .‬إذن‪ :‬ينبغي النظر في العواقب قبل البدء في الشيء‪ ،‬وأنْ‬
‫يُقاسَ الضرر والنفع‪.‬‬
‫كذلك الحال عندما اخترعوا السيارات‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنها ستريح الناس في أسفارهم وفي حمل أمتعتهم‪،‬‬
‫وبعد ما توصل العالم إليه من ثورة في وسائل النقل لو قارنا نفعها بضررها لوجدنا أن ضررها‬
‫أكبر لما تُسبّبه من تلوث‪ ،‬ولو عُدْنا إلى الوسائل البدائية‪ ،‬واستخدمنا الدواب لكان أفضل‪.‬‬
‫وأذكر عندما جئنا إلى مصر سنة ‪ 1938 - 1936‬وجدنا في الميادين العامة مواقفَ للحمير‪ ،‬مثل‬
‫مواقف السيارات الن‪ ،‬وكانت هي الوسيلة الوحيدة للنتقال‪ ،‬ويكفي أن َر َوثَ الحمار يُخصّب‬
‫الرض‪ ،‬أمّا عوادم السيارات فتسبب أخطر المراض وتؤدي للموت‪.‬‬
‫فماذا بعد أنْ كذّب قومُ شعيب نبيهم؟‬
‫كانت سنة ال في النبياء قبل محمد صلى ال عليه وسلم أن يُبلّغ الرسول رسالة ربه‪ ،‬لكن ل‬
‫يُؤمر بحمل السيف ضد الكفار‪ ،‬إنما إنْ كذّبوا باليات عاقبهم رب العزة سبحانه‪ ،‬وتُحسم المسألة‬
‫بهلك المكذّبين‪.‬‬
‫وكوْن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬ل يأمر الناسَ بقتال الكفار هذا أمر منطقي‪ ،‬والدليل رأيناه في‬
‫ن يفرض عليهم القتال‪ ،‬فقال‪َ {:‬هلْ عَسَيْتُمْ إِن كُ ِتبَ عَلَ ْيكُمُ ا ْلقِتَالُ َألّ‬
‫بني إسرائيل لما طلبوا من ال أ ْ‬
‫ُتقَاتِلُواْ قَالُو ْا َومَا لَنَآ َألّ ُنقَا ِتلَ فِي سَبِيلِ اللّ ِه َوقَدْ ُأخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فََلمّا كُ ِتبَ عَلَ ْي ِهمُ ا ْلقِتَالُ‬
‫َتوَّلوْاْ ِإلّ قَلِيلً مّ ْنهُمْ‪[} ..‬البقرة‪.]246 :‬‬
‫ولم ُيؤْمر بالقتال لنشر الدعوة إل رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه صلى ال عليه وسلم ومَنْ‬
‫آمن معه مأمونون على هذا‪ ،‬ولنه صلى ال عليه وسلم آخر الرسل والنبياء‪ ،‬فل بُدّ أن يستوفي‬
‫كل الشروط‪.‬‬
‫جفَةُ فََأصْبَحُواْ فِي دَا ِرهِمْ جَا ِثمِينَ { [العنكبوت‪ ]37 :‬وهذا عقاب ال؛‬
‫ونتيجة التكذيب } فََأخَذَ ْتهُمُ الرّ ْ‬
‫لنه كان سبحانه يتولّى المكذّب‪ .‬وفي (الحجر) وفي (هود) قال (الصيحة) وحتى ل تتهم اليات‬
‫بالتضارب نقول‪ :‬الصيحة‪ :‬صوت شديد مزعج‪ ،‬وهذا الصوت ل نسمعه إل بتذبذب الهواء بشدة‪،‬‬
‫ولو كان تذبذب الهواء بلطف ما سميت صيحة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الصيحة تخلخل في الهواء بشدة؛ ل بد أنْ ينتج عنه رجفة أي‪ :‬هزة شديدة كالتي تهدم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالبيوت والعمارات نتيجة قنبلة مثلً‪ ،‬فالصيحة وُجدت أولً‪ ،‬تبعتها الرجفة‪ ،‬لكن القرآن مرة يذكر‬
‫الصل فيقول (الصيحة) ومرة يذكر النتيجة فيقول (الرجفة)‪.‬‬
‫} فََأصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَا ِثمِينَ { [العنكبوت‪ ]37 :‬قال (فَأصْبَحُوا) ولم ي ُقلْ مثلً‪ :‬فصاروا ليُحدّد‬
‫خصْمك لملقاتك‪ ،‬فما‬
‫َوقْت أخذهم بالصباح‪ ،‬والعادة أن تكون الغارة وقت الصباح قبل أن يستعد َ‬
‫يزال في أعقاب النوم خاملً‪ ،‬وإلى الن يفضل رجال الحرب والقادة أن تبدأ الحرب في الصباح‪،‬‬
‫حيث ُيفَاجأ بها العدو‪.‬‬

‫وقد أصبح هذا الوقت قضية عامة‪ُ ،‬تعَدّ مخالفتها من قبيل المكْر والخدعة في الحرب‪ ،‬كما خالفها‬
‫قادتنا في حرب أكتوبر ‪ ،73‬حيث فاجأوا عدوهم في وقت الظهيرة‪ ،‬وقد تمت لهم المفاجأة‪،‬‬
‫وأخذوا عدوهم على غِرّة؛ لنهم غيّروا الوقت المعتاد‪ ،‬وهو الصبح‪.‬‬
‫إذن‪ :‬على النسان ألّ يتخذ في أموره قضية رتيبة‪ ،‬بل يُخضِع أموره لما يناسبها‪.‬‬
‫ومن الطرائف‪ :‬حرص الرجل على أنْ يوقظ ولده مبكرا ليذهب إلى عمله‪ ،‬ويقضي مصالحه‪،‬‬
‫فقال له الوالد‪ :‬ابن فلن استيقظ مبكرا‪ ،‬فوجد محفظة بها مائة جنيه‪ ،‬فقال الولد ‪ -‬وكان كسولً ل‬
‫يريد أن يستقيظ مبكرا‪ :‬هذه المحفظة وقعتْ من واحد استيقظ قبله‪.‬‬
‫ومعنى } جَا ِثمِينَ { [العنكبوت‪ ]37 :‬يعني‪ :‬هامدين بل حراك‪.‬‬
‫ثم تنتقل بنا اليات إلى لقطات أخرى موجزة من مواكب الرسالت‪ ،‬وكأنها برقيات‪ } :‬وَعَادا‬
‫وَ َثمُودَاْ َوقَد تّبَيّنَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3303 /‬‬

‫عمَاَلهُمْ َفصَدّ ُهمْ عَنِ السّبِيلِ َوكَانُوا‬


‫وَعَادًا وَ َثمُو َد َوقَدْ تَبَيّنَ َلكُمْ مِنْ مَسَاكِ ِنهِ ْم وَزَيّنَ َلهُمُ الشّيْطَانُ أَ ْ‬
‫مُسْتَ ْبصِرِينَ (‪)38‬‬

‫نلحظ في هذه البرقيات السريعة أنها تذكر المقدمة‪ ،‬ثم النهاية مباشرة { وَعَادا وَ َثمُودَاْ‪} ...‬‬
‫[العنكبوت‪ ]38 :‬هذه المقدمة { َوقَد تّبَيّنَ َلكُم مّن مّسَاكِ ِنهِمْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]38 :‬هذا موجز لما‬
‫نزل بهم‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يقول لنا‪ :‬لن أحكي لكم ما حاق بهم؛ لنكم تشاهدون ديارهم‪،‬‬
‫وتمرون عليها ليل نهار{ وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْي ِهمْ ّمصْبِحِينَ * وَبِالّيلِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[الصافات‪-137 :‬‬
‫‪.]138‬‬
‫والن مع الثورة العلمية استطاعوا تصوير ما في باطن الرض‪ ،‬وظهرت كثير من الثار لهذه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫القرى عاد وثمود والحقاف‪ ،‬واقرأ قوله سبحانه وتعالى‪ {:‬أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ‬
‫ا ْل ِعمَادِ }[الفجر‪.]7-6 :‬‬
‫وطبيعي الن أن نجد آثار السابقين تحت التراب‪ ،‬ول ُبدّ أن نحفر لنصل إليها؛ لن عوامل التعرية‬
‫طمرتها بمرور الزمن‪ ،‬ولمَ ل والواحد منّا لو غاب عن بيته شهرا يعود فيجد التراب يغطي أسطح‬
‫الشياء‪ ،‬مع أنه أغلق البواب والنوافذ‪ ،‬ولك أن تحسب نسبة التراب هذه على مدى آلف السنين‬
‫في أماكن مكشوفة‪.‬‬
‫وح َكوْا أن الزوابع والعواصف الرملية في رمال الحقاف مثلً كانت تغطي قافلة بأكملها‪ ،‬إذن‪:‬‬
‫كيف ننتظر أن تكون آثار هذه القرى باقية على سطح الرض؟ والن نشاهد في الطرق‬
‫الصحراوية مثلً إذا ه ّبتْ عاصفة واحدة فإنها تغطي الطرق بحيث تعوق حركة المرور إلى أنْ‬
‫تُزَاح عنها هذه الطبقة من الرمال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬علينا أن نقول‪ :‬نعم يا رب رأينا مساكنهم ومررنا بها ‪ -‬ولو من خلل الصور الحديثة التي‬
‫عمَاَلهُمْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]38 :‬يعني‪ :‬أغواهم بالكفر‪،‬‬
‫التقطت لهذه القرى { وَزَيّنَ َل ُهمُ الشّ ْيطَانُ أَ ْ‬
‫وأقنعهم أنه السلوب السليم والمثل في حركة الحياة { َفصَدّ ُهمْ عَنِ السّبِيلِ‪[ } ...‬العنكبوت‪]38 :‬‬
‫فما دام قد زيّن لهم سبيل الشيطان فل ُبدّ أنْ يصدّهم عن سبيل اليمان { َوكَانُواْ مُسْتَ ْبصِرِينَ }‬
‫[العنكبوت‪ ]38 :‬يعني‪ :‬لم نأخذهم على غِرّة‪.‬‬
‫لن المبدأ الذي اختاره ال تعالى لخلقه{ َومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ َرسُولً }[السراء‪]15 :‬‬
‫رسولً يُبيّن لهم وينذرهم‪ ،‬ويحذرهم عاقبة الكفر؛ لذلك لم يأخذهم ال تعالى إل بعد أنْ أرسل إليهم‬
‫رسولً فكذّبوه‪.‬‬
‫ن وََلقَدْ جَآءَ ُهمْ‪.} ...‬‬
‫عوْنَ وَهَامَا َ‬
‫ن َوفِرْ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وقَارُو َ‬

‫(‪)3304 /‬‬

‫ض َومَا كَانُوا سَا ِبقِينَ (‬


‫عوْنَ وَهَامَانَ وََلقَدْ جَاءَ ُهمْ مُوسَى بِالْبَيّنَاتِ فَاسْ َتكْبَرُوا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫ن َوفِرْ َ‬
‫َوقَارُو َ‬
‫‪)39‬‬

‫مازالت اليات تُحدّثنا عن مواكب الرسالت‪ ،‬لكنها تتكلم عن المكذّبين عادا وثمود‪ ،‬وهنا‬
‫ن وَهَامَانَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]39 :‬والدليل على قوله سبحانه في الية السابقة{‬
‫ن َوفِرْعَوْ َ‬
‫{ َوقَارُو َ‬
‫َوكَانُواْ مُسْتَ ْبصِرِينَ }[العنكبوت‪ ]38 :‬قوله تعالى هنا { وََلقَدْ جَآءَ ُهمْ مّوسَىا بِالْبَيّنَاتِ‪} ...‬‬
‫[العنكبوت‪ ]39 :‬أي‪ :‬بالمور الواضحة التي ل تدع مجالً للشك في صدْق الحق سبحانه‪ ،‬وفي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صِدْق الرسول في البلغ عن ال‪.‬‬
‫{ فَاسْ َتكْبَرُواْ فِي الَ ْرضِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]39 :‬استكبر‪ :‬يعني افتعل الكِبْر‪ ،‬فلم ي ُقلْ تكبّر‪ ،‬إنما‬
‫استكبر كأنه في ذاته ما كان ينبغي له أنْ يستكبر؛ لن الذي يتكبّر يتكبّر بشيء ذاتي فيه‪ ،‬إنما‬
‫بشيء موهوب؟ لنه قد يسلب منه‪ ،‬فكيف يتكبّر به؟‬
‫لذلك نقول للمتكبّر أنه غفلت عينه عن مَرأْى ربه في آثار خَلْقه‪ ،‬فلو كان ربه في باله لستحى أنْ‬
‫يتكبّر‪.‬‬
‫صغُر في نفسه‪ ،‬ولستحى أن يتكبّر‪ ،‬كما أن المتكبر بقوته‬
‫فالنسان لو أنه يلحظ كبرياء ربه َل َ‬
‫وعافيته غبي؛ لنه لم ينظر في حال الضعيف الذي يتعالى عليه‪ ،‬فلربما يفوقه في شيء آخر‪ ،‬أو‬
‫عنده عبقرية في أمر أهم من الفتوة والقوة‪ ،‬ثم ألم ينظر هذا الفتوة أنها مسألة عرضية‪ ،‬انتقلتْ إليه‬
‫من غيره‪ ،‬وسوف تنتقل منه إلى غيره‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فقارون وفرعون وهامان لما جاءهم موسى بآيات ال الواضحات استكبروا في الرض‪،‬‬
‫وأنفوا أن يتبعوا ل بطبيعتهم وطبيعة وجود ذلك فيهم‪ ،‬إنما افتعالً لغير حق { َومَا كَانُواْ سَا ِبقِينَ }‬
‫[العنكبوت‪ ]39 :‬فنفى عنهم أن يكونوا سابقين‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬ومَا نَحْنُ ِب َمسْبُوقِينَ }[الواقعة‪:‬‬
‫‪.]60‬‬
‫والسبق ل يُمدح ول يُذم في ذاته‪ ،‬لكن بنتيجته‪ :‬إلى أيّ شيء سبق؟ كما نسمع الن يقولون‪ :‬فلن‬
‫رجعي‪ ،‬والرجعية ل ُتذَم في ذاتها‪ ،‬وربما كان النسان مُسْرفا على نفسه‪ ،‬ثم رجع إلى منهج ربه‪،‬‬
‫فنِعمْ هذه الرجعية‪ ،‬فالسبق ل ُيذَم لذاته‪ ،‬واقرأ إنْ شئت قوله تعالى‪ {:‬وَسَارِعُواْ إِلَىا َم ْغفِ َرةٍ مّن‬
‫رّ ّبكُمْ‪[} ...‬آل عمران‪ ]133 :‬أي‪ :‬سابقوا‪.‬‬
‫والمعنى هنا { َومَا كَانُواْ سَا ِبقِينَ } [العنكبوت‪ ]39 :‬أن هناك مضمارَ سباق‪ ،‬فمن سبق قالوا‪:‬‬
‫أحرز َقصَب السبق‪ ،‬فإنْ كان مضمار السباق هذا في الخرة أيسبقنا أحد ليفلتَ من أخْذنا له؟ إنهم‬
‫لن يسبقونا‪ ،‬ولن يُفلِتوا من قبضتنا‪ ،‬ولن يُعجِزوا قدرتنا على إدراكهم‪.‬‬
‫ويقول الحق سبحانه‪َ { :‬فكُلّ َأخَذْنَا بِذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَرْسَلْنَا‪.} ...‬‬

‫(‪)3305 /‬‬

‫سفْنَا ِبهِ‬
‫خَ‬‫ح ُة َومِ ْنهُمْ مَنْ َ‬
‫خذَتْهُ الصّيْ َ‬
‫خذْنَا بِذَنْ ِبهِ َفمِ ْنهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا َومِنْهُمْ مَنْ أَ َ‬
‫َفكُلّا أَ َ‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ (‪)40‬‬
‫ض َومِ ْنهُمْ مَنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وََلكِنْ كَانُوا أَ ْنفُ َ‬
‫الْأَ ْر َ‬

‫الكلم هنا عن المكذّبين والكافرين الذين سبق ذكرهم‪ :‬قوم عاد‪ ،‬وثمود‪ ،‬ومدين‪ ،‬وقوم لوط‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقارون‪ ،‬وفرعون‪ ،‬وهامان‪ ،‬فكان من المناسب أنْ يذكر الحق سبحانه تعليقا يشمل ُكلّ هؤلء‬
‫لنهم طائفة واحدة‪ .‬فقال‪َ { :‬فكُلّ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]40 :‬أي‪ :‬كل مَنْ سبق ذكرهم من المكذّبين‬
‫فالتنوين في { َفكُلّ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]40 :‬عوض عن كل من تقدّم ذكرهم‪ ،‬كالتنوين في‪ {:‬وَأَنتُمْ‬
‫عوَض عن جملة{ فََل ْولَ ِإذَا بََل َغتِ الْحُ ْلقُومَ }[الواقعة‪.]83 :‬‬
‫حِينَ ِئذٍ تَنظُرُونَ }[الواقعة‪ ]84 :‬فهو ِ‬
‫وقوله سبحانه‪َ { :‬أخَذْنَا بِذَنبِهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]40 :‬والخذ يناسب قوة الخذ وقدرته؛ لذلك يقول‬
‫سبحانه عن أخْذه للمكذّبين{ َأخْذَ عِزِيزٍ ّمقْتَدِرٍ }[القمر‪ ]42 :‬فالعزيز‪ :‬الذي يغلب ول يُغلب‪،‬‬
‫والمقتدر أي‪ :‬القادر على الَخْذ‪ ،‬بحيث ل يمتنع منه أحد؛ فهو عزيز‪.‬‬
‫والخذ هنا بسبب الذنوب { ِبذَنبِهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]40 :‬ليس ظلما ول جبروتا ول جزافا‪ ،‬إنما‬
‫جزاءً بذنوبهم وعدلً؛ ولذلك يأتي في تذييل الية‪:‬‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ } [العنكبوت‪.]40 :‬‬
‫{ َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َمهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬
‫سلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا‪} ...‬‬
‫ثم يُفصّل الحق سبحانه وتعالى وسائل َأخْذه لهؤلء المكذبين‪َ { :‬فمِ ْنهُم مّن أَرْ َ‬
‫[العنكبوت‪ ]40 :‬الحاصب‪ :‬هو الحصَى الصّغار ترمي ل لتجرح‪ ،‬ولكن يُحْمي عليها لتكون وتلسع‬
‫حين يرميهم بها الريح‪ ،‬ولم ي ُقلْ هنا‪ :‬أرسلنا عليهم نارا مثلً؛ لن النار ربما إنْ أحرقته يموت‬
‫وينقطع ألمه‪ ،‬لكن َرمْيهم بالحجارة المحمية تلسعهم وتُديم آلمهم‪ ،‬كما نسمعهم يقولون‪ :‬سأحرقه‬
‫لكن على نار باردة؛ ذلك ليطيل أمد إيلمه‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ { :‬ومِ ْنهُمْ مّنْ َأخَذَتْهُ الصّيْحَةُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]40 :‬وهو الصوت الشديد الذي‬
‫سفْنَا بِهِ الَرْضَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]40 :‬أي‪ :‬قارون {‬
‫تتزلزل منه الرض‪ ،‬وهم ثمود { َومِنْهُمْ مّنْ خَ َ‬
‫َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]40 :‬وهم قوم نوح‪ ،‬وفرعون‪.‬‬
‫هذه وسائل أربعة لهلك المكذّبين‪ ،‬النار في الحصباء‪ ،‬والهواء في الصيحة‪ ،‬والتراب في‬
‫الخسف‪ ،‬ثم الماء في الغراق‪ ،‬ورحم ال الفخر الرازي حين قال في هذه الية أنها جمعت‬
‫العناصر التي بها وجود النسان والعناصر الساسية أربعة‪ :‬الماء والنار والتراب والهواء‪ .‬وكانوا‬
‫يقولون عنها في الماضي العناصر الربعة‪ ،‬لكن العلم فرّق بعد ذلك بين العنصر والمادة‪.‬‬
‫فالمادة تتحلّل إلى عناصر‪ ،‬أمّا العناصر فل يتحلل لقل منه‪ ،‬فهو عبارة عن ذرات متكررة ل‬
‫يأتي منها شيء آخر‪ ،‬فالهواء مادة يمكن أنْ نُحلّله إلى أكسجين و‪ ...‬إلخ وكذلك الماء مادة تتكوّن‬
‫من عدة عناصر وذرات إلى أن جاء (مندليف) ووضع جدولً للعناصر‪ ،‬وجعل لكل منهما رقما‬
‫أسماها الرقام الذرية‪ ،‬فهذا العنصر مثلً رقم واحد يعني‪ :‬يتكون من ذرة واحدة‪ ،‬وهذا رقم اثنين‬
‫ن وصل إلى رقم ‪ ،93‬لكن وجد في وسط هذه الرقام أرقاما‬
‫يعني يتكون من ذرتين‪ ..‬إلخ إلى أ ْ‬
‫ناقصة اكتشفها العلماء فيما بعد‪.‬‬
‫فمثلً‪ ،‬جاءت مدام كوري‪ ،‬واكتشفت عنصر الراديوم‪ ،‬فوجدوا فعلً أن رقمه من الرقام الناقصة‬
‫في جدول (مندليف)‪ ،‬فوضعوه في موضعه‪ ،‬وهذا يدل على أن الكون مخلوق بعناصر مرتبة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وصلت مع التقدم العلمي الن إلى ‪ 105‬عناصر‪.‬‬

‫ولما حلّل العلماء عناصر التربة المخصبة التي نأكل منها المزروعات وجدوها ‪ 16‬عنصرا‪ ،‬تبدأ‬
‫بالكجسين كأعلى نسبة‪ ،‬وتنتهي بالمنجنيز كأقل نسبة‪ ،‬لنها لم تصل إلى الواحد من اللف‪ .‬فلما‬
‫حلّلوا عناصر جسم النسان وجدوا نفس هذه العناصر الستة عشرة‪..‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أقام حتى الكفار ليثبتوا الدليل على صِدْقه تعالى في خَلْق النسان‬
‫من طين‪ ،‬لنعلم أن الحق سبحانه حينما يريد أنْ يُظهِر سِرّا من أسرار كونه يأتي ربه ولو على‬
‫أيدي الكفار‪.‬‬
‫وأول مَنْ قال بالعناصر الربعة التي يتكون منها الكون فيلسوف اليونان أرسطو الذي توفي سنة‬
‫‪ 384‬قبل الميلد‪ ،‬وعلى أساس هذه العناصر الربع كانوا يحسبون النجم‪ ،‬فمثلً عن الزواج‬
‫يحسبون نجم الزوج والزوجة حسب هذه العناصر‪ ،‬فوجدوا نجم الزوج هواءً‪ ،‬ونجم الزوجة نارا‪،‬‬
‫فقالوا (هيجعلوها حريقة)‪ ،‬وفي مرة أخرى وجدوا الزوجة مائية والزوج ترابيا فقالوا (هيعملوها‬
‫معجنة)‪.‬‬
‫ومعلوم أن الحق سبحانه لطلقة قدرته وتعالى يجعل عناصر البقاء هي نفسها عناصر الفناء‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه القادر على أنْ يُنجي ويُهلك بالشيء الواحد‪ ،‬كما أهلك فرعون بالماء‪ ،‬وأنجى موسى ‪-‬‬
‫عليه السلم ‪ -‬بالماء‪.‬‬
‫كذلك حين نتأمل هذه العناصر الربعة نجدها عناصر تكوين النسان‪ ،‬حيث خلقه ال من ماء‬
‫وتراب فكان طينا‪ ،‬ثم جفّ بالحرارة حتى صار صلصالً كالفخار‪ ،‬ثم هو بعد ذلك يتنفس الهواء‪،‬‬
‫فبنفس هذه العناصر التي كان منها الخَلْق يكون بها الهلك‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يريد من خَلْقه أنْ يُقبلوا على الكون في كل مظاهره وآياته بيقظة‬
‫ليستنبطوا ما فيه من مواطن العبر والسرار؛ لذلك نجد أن كل الكتشافات جاءت‪ ،‬نتيجة ِدقّة‬
‫الملحظة لظواهر الكون‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َيمُرّونَ‬
‫ويلفتنا ربنا إلى أهمية العلم التجريبي‪ ،‬فيقول‪َ {:‬وكَأَيّن مّن آ َيةٍ فِي ال ّ‬
‫عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪ ]105 :‬فينبغي إذن أن نتأمل فيما نرى وما توصّل النسان‬
‫طفْو عند أرشميدس‪ ،‬وما توصل إلى الكهرباء والجاذبية والبنسلين‬
‫إلى عصر البخار وإلى قانون ال ّ‬
‫إل بالتأمل الدقيق لظواهر الشياء‪ ،‬لذلك فالملحظة هي أساس كل علم تجريبي أولً‪ ،‬ثم التجريب‬
‫ثانيا‪ ،‬ثم إعادة التجريب لتخرج النتيجة العلمية‪.‬‬
‫والهواء سبب أساسي في حياة النسان‪ ،‬وبه يحدث التوازن في الكون‪ ،‬لكن إنْ أراد الحق سبحانه‬
‫جعله زوبعة أو إعصارا مدمرا‪ .‬وسبق أن قلنا‪ :‬إنك تصبر على الطعام شهرا‪ ،‬وعلى الماء عشرة‬
‫أيام‪ ،‬لكن ل تصبر على الهواء إل بمقدار شهيق وزفير‪ ،‬فالهواء إذن أهم سبب من أسباب بقاء‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحياة؛ لذلك نسمعهم يقولون في شدة الكيد‪( :‬وال لكتم أنفاسه) لنها السبيل المباشر إلى الموت؛‬
‫لذلك فالهواء عامل أساسي في وسائل الهلك المذكورة‪.‬‬

‫وبالهواء تحفظ الشياء توازنها‪ ،‬فالجبال العالية والعمارات الشاهقة ما قامت بقوة المسلحات‬
‫غتَ جانبا منها من الهواء لنهارتْ في هذا‬
‫والخرسانات‪ ،‬إنما بتوازن الهواء‪ ،‬بدليل أنك لو فرّ ْ‬
‫الجانب فورا‪.‬‬
‫وبهذه النظرية يحدث الدمار بالقنابل؛ لنها تعتمد على نظرية تفريع الهواء وما يسمونه مفاعل‬
‫القبض ومفاعل البسط‪ ،‬فما قامتْ الشياء من حولك إل لن الهواء يحيط بها من كل جهاتها‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن القرآن الكريم حينما يحدثنا عن الهواء يحدثنا عنه بدقة الخالق الخبير‪ ،‬فكل ريح مفردة‬
‫جاءت للتدمير والهلك‪ ،‬وكل ريح بصيغة الجمع للنماء والخير والعمار‪ ،‬واقرأ إن شئت قوله‬
‫تعالى‪ {:‬وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ‪[} ...‬الحجر‪.]22 :‬‬
‫ح صَ ْرصَرٍ عَاتِ َيةٍ }[الحاقة‪ ]6 :‬لنها ريح واحدة تهبّ من‬
‫وقوله سبحانه‪ {:‬وََأمَا عَادٌ فَأُهِْلكُواْ بِرِي ٍ‬
‫جهة واحدة فتدمر‪.‬‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ { [العنكبوت‪:‬‬
‫ثم تُختم الية بهذه الحقيقة‪َ } :‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬
‫‪ ]40‬لن الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬كرّم النسان{ وََلقَدْ كَ ّرمْنَا بَنِي ءَادَمَ‪[} ...‬السراء‪ ]70 :‬كرّمه من‬
‫بين جميع المخلوقات بالعقل والختيار‪ ،‬فإذا نظرتَ في الكون واستقرأتَ أجناس الوجود لوجدتَ‬
‫النسان سيد هذا الكون كله‪.‬‬
‫فالجناس في الكون مرتبة‪ :‬النسان ودونه مرتبة الحيوان‪ ،‬ثم النبات‪ ،‬ثم الجماد‪ ،‬فالجماد إذا أخذ‬
‫ظاهرة من ظواهر َفضْل الحق عليه من النمو يصير نباتا‪ ،‬وإذا أخذ النبات ظاهرة من ظواهر‬
‫فيض الحق على الخَلْق فأعطاه مثلً الحساس يصير حيوانا‪ ،‬فإذا تجلى عليه الحق سبحانه بفضله‬
‫وأعطاه نعمة العقل يصير إنسانا‪.‬‬
‫لكن هل النبات حين يأخذ خاصية النمو َف ُفضّل عن الجماد يخرج عن الجمادية؟ ل إنما تظل فيه‬
‫الجمادية بدليل أنه إذا امتنع عنه النمو يعود جمادا كالحجر‪ ،‬وكذلك الحيوان أخذ ظاهرة الحسّ‬
‫وتميّز بها عن النبات‪ ،‬لكن تظل فيه النباتية حيث ينمو ويكبر‪.‬‬
‫والنسان وهو سيد الكون الذي كرّمه ربه بالعقل تظل فيه الجمادية بدليل أثر الجاذبية عليه‪ ،‬فإذا‬
‫ألقى بنفسه من مكان عالٍ ل يستطيع أن يمسك نفسه في الهواء‪ ،‬وكذلك تظل فيه النباتية‬
‫والحيوانية‪ ،‬ففيه إذن كل خصائص الجناس الخرى دونه‪ ،‬ويزيد عليهم العقل‪.‬‬
‫لذلك ل يكلّفه ال إل بعد أنْ ينضج عقله ويبلغ‪ ،‬وبشرط أن يسلم من العطب في عقله كالجنون‬
‫مثلً‪ ،‬وأن يكون مختارا فالمكره ل تكليفَ عليه؛ لنه غير مختار‪.‬‬
‫والنسان الذي كرّمه ربه بالعقل والختيار‪ ،‬وفضّله على كل أجناس الوجود ل يليق به أن يخضع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أو يعبد إل أعلى منه درجة‪ ،‬أما أنْ يتدنى فيعبد ما هو أقل منه رتبة‪ ،‬فهذا شيء عجيب ل يليق‬
‫به‪ ،‬فالعابد ل ُبدّ أنْ يكون أدنى درجةً من المعبود‪ ،‬وأنت بالحكم أعلى درجة مما تحتك من‬
‫الحيوان والنبات والجماد‪ ،‬فكيف تجعله يتصرف فيك‪ ،‬مع أنه من تصرفاتك أنت حين تُوجِده َنحْتا‪،‬‬
‫وتقيمه في المكان الذي تريده وإن انكسر تصلحه؟!!‬
‫إذن‪ :‬كرّمك ربك‪ ،‬وأه ْنتَ نفسك‪ ،‬ورضيت لها بالدونية‪ ،‬جعلك سيدا وجعلت نفسك عبدا لحقر‬
‫المخلوقات؛ لذلك يقول تعالى في الحديث القدسي‬

‫" يا ابن آدم‪ ،‬خلقتُك من أجلي‪ ،‬وخلقتُ الكون كله من أجلك‪ ،‬فل تشتغل بما هو لك عما أنت له "‪.‬‬
‫إذن‪َ } :‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُمْ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]40 :‬أي‪ :‬ل ينبغي ل تعالى أنْ يظلمهم‪ ،‬فساعةَ‬
‫تسمع ما كان لك أنْ تفعل كذا‪ ،‬فالمعنى أنك تقدر على هذا‪ ،‬لكن ل يصح منك‪ ،‬فالحق سبحانه‬
‫ينفي الظلم عن نفسه‪ ،‬ل لنه ل يقدر عليه‪ ،‬إنما ل ينبغي له أنْ يظلم؛ لن الظلم يعني أن تأخذ‬
‫حقّ الغير‪ ،‬وال سبحانه مالك كل شيء‪ ،‬فلماذا يظلم إذن‪.‬‬
‫ومثال ذلك َنفْي انبغاء قول الشعر من رسول ال صلى ال عليه وسلم كما قال سبحانه‪َ {:‬ومَا‬
‫شعْ َر َومَا يَن َبغِي لَهُ‪[} ....‬يس‪ ]69 :‬فالنبي صلى ال عليه وسلم كان يستطيع أن يقول‬
‫عَّلمْنَاهُ ال ّ‬
‫شعرا‪ ،‬فلديه كل أدواته‪ ،‬لكن ل ينبغي للرسول أن يكون شاعرا؛ لنهم كذابون‪ ،‬وفي كل واد‬
‫يهيمون‪ ،‬ففَرْق بين انبغاء الشيء ووجوده فعلً‪.‬‬
‫ويؤكد هذا المعنى قوله تعالى‪َ {:‬ومَا رَ ّبكَ بِظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت‪ ]46 :‬بصيغة المبالغة ظلم‪ ،‬ولم‬
‫يقل ظالم‪ ،‬لماذا؟ لن ال تعالى إنْ أباح لنفسه سبحانه الظلم‪ ،‬فسيأتي على َقدْر قوته تعالى‪ ،‬فل‬
‫يقال له ظالم إنما ظلّم ‪ -‬وتعالى ال عن هذا عُلُوا كبيرا‪.‬‬
‫ولما تكلمنا عن المبالغة وصيغها قلنا‪ :‬إن المبالغة قد تكون في الحدث ذاته‪ ،‬كأن تأكل في الوجبة‬
‫الواحدة رغيفا‪ ،‬ويأكل غيرك خمسة مثلً‪ ،‬أو تكون في تكرار الحدث‪ ،‬فأنت تأكل ثلث وجبات‪،‬‬
‫وغيرك يأكل ستا‪ ،‬فنقول‪ :‬فلن آكل‪ ،‬وفلن َأكُول أو أكال‪ ،‬فالمبالغة نشأتْ إما من تضخيم الحدث‬
‫ذاته‪ ،‬أو من تكراره‪.‬‬
‫ففي قوله تعالى‪َ {:‬ومَا رَ ّبكَ بِظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت‪ ]46 :‬لم يقل للعبد‪ ،‬إذن‪ :‬تعدّد الناس يقتضي‬
‫تعدّد الظلم ‪ -‬إن تُصور ‪ -‬فجاء هنا بصيغة المبالغة (ظَلّم)‪.‬‬
‫وهناك قضية لغوية في مسألة المبالغة تقول‪ :‬إن َنفْي المبالغة ل ينفي الصل‪ ،‬وإثبات الصل ل‬
‫يثبت المبالغة‪ ،‬فحين نقول مثلً‪ :‬فلن أكول‪ ،‬فهو آكل من باب َأوْلَى‪ ،‬وحين نقول‪ :‬فلن آكل‪ ،‬فل‬
‫يعني هذا أنه أكول‪ .‬ف َنفْي المبالغة في{ َومَا رَ ّبكَ ِبظَلّمٍ لّ ْلعَبِيدِ }[فصلت‪ ]46 :‬ل ينفي الصل‬
‫(ظالم)‪ ،‬وحاشا ل تعالى أن يكون ظالما‪.‬‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ { [العنكبوت‪ ]40 :‬وظلمهم لنفسهم جاء من تدنّيهم‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإهانتهم لنفسهم بالكفر بعد أنْ كرّمهم ال‪ ،‬وكان عليهم أنْ يُصعّدوا هذا التكريم‪ ،‬ل أن يُهينوا‬
‫أنفسهم بعبادة الدنى منهم‪.‬‬
‫وبعد أن حدثتنا اليات عن الكافرين الذين اتخذوا الشركاء مع ال‪ ،‬وعن المكذّبين للرسل وما كان‬
‫من عقابهم‪ ،‬تعطينا مثلً يُقرّب لنا هذه الحقائق‪ ،‬فيقول سبحانه‪ } :‬مَ َثلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ‬
‫اللّهِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3306 /‬‬

‫مَ َثلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ َأوْلِيَاءَ َكمَ َثلِ ا ْلعَ ْنكَبُوتِ اتّخَ َذتْ بَيْتًا وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَ ْيتُ‬
‫ا ْلعَ ْنكَبُوتِ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ (‪)41‬‬

‫كلمة (مَ َثلُ) وردت بمشتقاتها في القرآن الكريم مرات عدة‪ ،‬ومادة الميم والثاء واللم جاءت لتعبر‬
‫عن معنى يجب أنْ نعرفه‪ ،‬فإذا قيل (مِثْل) بسكون الثاء‪ ،‬فمعناها التشبيه‪ ،‬لكن تشبيه مفرد بمفرد‪.‬‬
‫شيْءٌ‪[} ...‬الشورى‪ ]11 :‬وقوله تعالى‪ {:‬وَجَزَآءُ سَيّ َئةٍ سَيّ َئةٌ‬
‫كما في قوله تعالى‪ {:‬لَ ْيسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫مّثُْلهَا‪[} ...‬الشورى‪.]40 :‬‬
‫أما (مَثَل ) بالفتح‪ ،‬فتعني تشبيه قصة أو متعدّد بمتعدّد‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَاضْ ِربْ َلهُم مّ َثلَ‬
‫سمَاءِ‪[} ...‬الكهف‪.]45 :‬‬
‫الْحَيَاةِ الدّنْيَا َكمَآءٍ أَنْ َزلْنَاهُ مِنَ ال ّ‬
‫فالحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ل يُشبّه شيئا بشيء إنما يُشبه صورة متكاملة بصورة أخرى‪ :‬فالحياة‬
‫الدنيا في وجودها وزهرتها وزخرفها وخضرتها ومتاعها‪ ،‬ثم انتهائها بعد ذلك إلى زوال مثل‬
‫الماء حين ينزل من السماء فيختلط بتربة الرض‪ ،‬فينبت النبات المزهر الجميل‪ ،‬والذي سرعان‬
‫ما يتحول إلى حطام‪.‬‬
‫لذلك اعترض بعض المتمحكين على أسلوب القرآن في قول الحق سبحانه وتعالى عن موسى‬
‫عليه السلم‪ {:‬إِنّ مَ َثلَ عِيسَىا عِندَ اللّهِ َكمَ َثلِ ءَادَمَ‪[} ...‬آل عمران‪.]59 :‬‬
‫ووجه اعتراضه أن (مَثَل) جاءت تُشبه مفردا بمفرد‪ ،‬وهو عيسى بآدم عليهما السلم‪ ،‬ونحن نقول‪:‬‬
‫إنها تشبه صورة متكاملة بأخرى ونقول‪ :‬هذا العتراض ناتج عن عدم فهم المعنى المراد من‬
‫الية‪ ،‬فالحق سبحانه ل يُشبّه عيسى بآدم كأشخاص‪ ،‬إنما يُشبّه قصة خَلْق آدم بقصة خلق عيسى‪،‬‬
‫خلِق من غير أب‪.‬‬
‫فآدم خُلِق من غير أب‪ ،‬وكذلك عيسى ُ‬
‫والمعنى‪ :‬إنْ كنتم قد عجبتم من أن عيسى خُلِق بدون أب‪ ،‬فكان ينبغي عليكم أنْ تعجبُوا أكثر من‬
‫خَلْق آدم؛ لنه جاء بل أب وبل أم‪ ،‬وإذا كنتم اتخذتم عيسى إلها؛ لنه جاء بل أب‪ ،‬فالقياس إذنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يقتضي أن تكون الفتنة في آدم ل في عيسى‪.‬‬
‫والمسألة أن ال تعالى شاء أن يعلن خلْقه عن طلقة قدرته في أنه ل يخلق بشكل مخصوص‪ ،‬إنما‬
‫يخلق كما يشاء سبحانه من أب وأم‪ ،‬أو من دون أب‪ ،‬ومن دون أم‪ ،‬ويخلق من أب فقط‪ ،‬أو من أم‬
‫فقط‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هذه المسألة ل تخضع للسباب‪ ،‬إنما لرادة المسبّب سبحانه‪ ،‬فإذا أراد قال للشيء‪ :‬كُنْ‬
‫فيكون‪ .‬وقد يجتمع الزوجان‪ ،‬ويكتب عليهما العقم‪ ،‬فل ينجبان‪ ،‬وقد يصلح ال العقيم فتلد‪ ،‬ويُصلح‬
‫العجوز فتنجب ‪ -‬والدلة على ذلك واضحة ‪ -‬إذن‪ :‬فطلقة القدرة في هذه المسألة تستوعب كل‬
‫حدّ‪.‬‬
‫الصور‪ ،‬بحيث ل يحدها َ‬
‫والحق سبحانه حين يضرب لنا المثال يريد بذلك أنْ يُبيّن لنا الشيء الغامض بشيء واضح‪،‬‬
‫والمبهم بشيء بيّن‪ ،‬والمجمل بشيء مُفصّل‪ ،‬وقد جرى القرآن في ذلك على عادة العرب‪ ،‬حيث‬
‫استخدموا المثال في البيان والتوضيح‪.‬‬
‫ويُحكَي أن أحدهم‪ ،‬وكان صاحب سمعة طيبة وسيرة حسنة بين الناس‪ ،‬فحسده آخر‪ ،‬وأراد أنْ‬
‫يلصق به تهمة تُشوّه صورته‪ ،‬وتذهب بمكانته بين الناس فاتهمه بالتردد على أرملة حسناء‪ ،‬وقد‬
‫رآه الناس فعلً يذهب إلى بيتها‪ ،‬فتخرج له امرأة فيعطيها شيئا معه‪.‬‬

‫ولما تحقق الناس من المسألة وجدوها عجوزا لها أولد صغار وهم فقراء‪ ،‬وهذا الرجل يعطف‬
‫عليهم ويفيض عليهم مما رزقه ال‪ ،‬فلما عرفوا ذلك عن الرجل عظّموه‪ ،‬ورفعوا من شأنه‪ ،‬وزاد‬
‫في نظرهم مجدا وفضلً‪.‬‬
‫وقد أخذ الشاعر هذا المعنى وعبّر عنه قائلً مستخدما المثل‪:‬وإذَا أرادَ ال َنشْر َفضِيلةٍ طُو َيتْ أَتاحَ‬
‫لَها لِسَانَ حَسُودَلوْل اشْتِعالُ النارِ فيما جاورَتْ مَا كان يعرف طِيب عَ ْرفِ العٌودِوالعود نوع من‬
‫البخور‪ ،‬طيب الرائحة‪ ،‬ل تنتشر رائحته إل حين يُحرَق‪.‬‬
‫لتُ‪[} ...‬الرعد‪ ]6 :‬وهي‬
‫ومن مشتقاتها أيضا (مَثُلَة) كما في قوله تعالى‪َ {:‬وقَدْ خََلتْ مِن قَبِْلهِمُ ا ْلمَثُ َ‬
‫العقوبات التي حاقتْ بالمم المكذّبة‪ ،‬حتى جعلتها عبرةً لغيرها‪.‬‬
‫ل كما اشتهر حاتم الطائي بالكرم والجود‬
‫فإذا اشتهر المثَل انتشر على اللسنة‪ ،‬وضربه الناس مث ً‬
‫حتى صار مضرب المثل فيه‪ ،‬وقد تشتهر بيننا عبارة موجزة‪ ،‬فتصير مثلً يضرب في مناسبها‬
‫كما نقول للتلميذ الذي يهمل طوال العام‪ ،‬ثم يجتهد ليلة المتحان (قبل الرماء تمل الكنائن) مع‬
‫الحتفاظ بنص المثل في كل مناسبة‪ ،‬وإن لم يكُنْ هناك رمي ول كنائن‪.‬‬
‫كما أن المثل يقال كما هو دون تغيير‪ ،‬سواء أكان للمفرد‪ ،‬أم المثنى‪ ،‬أم الجمع المذكر‪ ،‬أو‬
‫للمؤنث‪ .‬كذلك نقول (ماذا وراءك يا عصامِ) بالكسر؛ لنها قيلت في أصل المثَل لمرأة‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪ } :‬مَ َثلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ َأوْلِيَآءَ َكمَثَلِ ا ْلعَنكَبُوتِ اتّخَ َذتْ بَيْتا‪...‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ [العنكبوت‪.]41 :‬‬
‫فهذا مثل في قمة العقيدة‪ ،‬ضربه ال لنا للتوضيح وللبيان‪ ،‬ولتقريب المسائل إلى عقولنا‪ ،‬وإياك أن‬
‫تقول للمثل الذي ضربه ال لك‪ :‬ماذا أراد ال بهذا؟ لن ال تعالى قال‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ يَسْتَحْى أَن‬
‫َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا‪[} ...‬البقرة‪.]26 :‬‬
‫فالبعض يرى أن البعوضة هذه شيء تافه‪ ،‬فكيف يجعله ال مثلً؟ والتحقيق أن البعوضة خَلْق من‬
‫خَلْق ال‪ ،‬فيها من العجائب والسرار ما يدعوك للتأمل والنظر‪ ،‬وليست شيئا تافها كما تظن‪ ،‬بل‬
‫يكفيك فَخْرا أنْ تصل إلى سِرّ العظمة فيها‪.‬‬
‫ففي هذا المخلوق الضئيل كل مُقوّمات الحياة والدراك‪ ،‬فهل تعرف فيها موضع العقل وموضع‬
‫جهازها الدموي‪ ..‬إلخ وفضلً عن الذباب والناموس وصغار المخلوقات أل ترى الميكروبات التي‬
‫ل تراها بعينك المجردة ومع ذلك يصيبك وأنت القوى بما يؤرقك وينغص عليك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل ت ُقلْ لماذا يضرب ال المثال بهذه الشياء لن ال{ إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا‬
‫صغَرا؛‬
‫صغَر والستدلل‪ .‬أي‪ :‬ما دونها ِ‬
‫َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا‪[} ...‬البقرة‪ ]26 :‬ما فوقها أي‪ :‬في ال ّ‬
‫لن عظمة الخلق كما تكون بالشيء الكثر ضخامة تكون كذلك بالشيء القلّ حجما الكثر ِدقّة‪.‬‬
‫لو نظرتَ مثلً إلى ساعة (بج بن) وهي أضخم وأشهر ساعة في العالم‪ ،‬وعليها يضبط العالم‬
‫الوقت لوجدتَها شيئا ضخما من حيث الحجم ليراها القادم من بعيد‪ ،‬ويستطيع قراءتها‪ ،‬فدّلتْ على‬
‫عظمة الصّنْعة ومهارة المهندسين الذين قاموا ببنائها‪ ،‬فعظمتها في ضخامتها وفخامتها‪ ،‬فإذا‬
‫نظرتَ إلى نفس الساعة التي جعلوها في فصّ الخاتم لوجدتَ فيها أيضا عظمة ومهارة جاءت من‬
‫صغَر الحجم‪.‬‬
‫ِدقّة الصنعة في ِ‬

‫كذلك الراديو أول ما ظهر كان في حجم (النورج)‪ ،‬والن أصبح صغيرا في حجم الجيب‪.‬‬
‫ومن مخلوقات ال ما دق؛ لدرجة أنك ل تستطيع إدراكه بحواسك‪ ،‬والعجيب أن يطلب النسان أنْ‬
‫يرى ال جهرة‪ ،‬وهو ل يستطيع أنْ يرى آثار خَلْقه وصَنْعته‪ .‬فأنت ل ترى الجن‪ ،‬ول ترى‬
‫الميكروب والجراثيم‪ ،‬ول ترى حتى روحك التي بين جنبيك والتي بها حياتُك‪ ،‬ل يرى هذه‬
‫الشياء ول يدركها بوسائل الدراك الخرى‪ ،‬فمن عظمته تعالى أنه يدرك البصار‪ ،‬ول تدركه‬
‫البصار‪.‬‬
‫خذُواْ مِن دُونِ اللّهِ َأوْلِيَآءَ‪[ { ...‬العنكبوت‪]41 :‬‬
‫نعود إلى المثَل الذي ضربه ال لنا‪ } :‬مَ َثلُ الّذِينَ اتّ َ‬
‫أي‪ :‬شركاء وشفعاء } َكمَ َثلِ ا ْلعَنكَبُوتِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]41 :‬هذا المخلوق الضعيف الذي ينسج‬
‫خيوطه بهذه الدقة التي نراها‪ ،‬والذي نسج خيوطه على الغار في هجرة رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬واشترك مع الحمامة في التعمية على الكفار‪.‬‬
‫} اتّخَ َذتْ بَيْتا‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]41 :‬أي‪ :‬من هذه الخيوط الواهية } وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَ ْيتُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ا ْلعَنكَبُوتِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]41 :‬فخطأ العنكبوت ليس في اتخاذ البيت‪ ،‬إنما في اتخاذ هذه الخيوط‬
‫الواهية بيتا له وهبّة ريح كافية للطاحة بها‪ ،‬ويشترط في البيت أن يكون حصينا يحمي صاحبه‪،‬‬
‫وأن تكون له أبواب ونوافذ وحوائط‪..‬إلخ‪ .‬أما لو اتخذها شبكة لصيد فرائسه لكان أنسب‪ ،‬وكذلك‬
‫الكفار اتخذوا من الصنام آلهة‪ ،‬ولو اتخذوها دللة على قدرة الحق في الخَلْق لكان أنسب وأَجدْى‪.‬‬
‫وكما أن بيت العنكبوت تهدمه هَبّة ريح وتُقطعه وأنت مثلً تنظف بيتك‪ ،‬وربما تقتل العنكبوت‬
‫جعَلْنَاهُ‬
‫ع َملٍ فَ َ‬
‫عمِلُواْ مِنْ َ‬
‫نفسه‪ ،‬فكذلك طبْق الصل يفعل ال بأعمال الكافرين‪َ {:‬وقَ ِدمْنَآ إِلَىا مَا َ‬
‫هَبَآءً مّنثُورا }[الفرقان‪.]23 :‬‬
‫عمَاُلهُمْ كَ َرمَادٍ اشْ َت ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َيوْمٍ‬
‫وكذلك يضرب لهم مثلً آخر‪ {:‬مّ َثلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَ ّبهِمْ أَ ْ‬
‫صفٍ‪[} ...‬إبراهيم‪.]18 :‬‬
‫عَا ِ‬
‫ومعنى‪َ } :‬لوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ { [العنكبوت‪ ]41 :‬أي‪ :‬حقيقة الشياء‪ ،‬فشبكة العنكبوت ل تصلح بيتا‪،‬‬
‫ولكن تصلح مصيدةً للحشرات‪ ،‬وكذلك الصنام والحجار ل تنفع لنْ تكون آلهة تُعبد‪ ،‬إنما لنْ‬
‫تكون دللة على قدرة الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فلو فكّروا فيها وفي أسرار خَلْقها لهتدوا من خللها‬
‫لليمان‪.‬‬
‫فهي ‪ -‬إذن ‪ -‬دليلُ قدرة لو كانوا يعلمون‪ ،‬فالجبل هذا الصخر الذي تنحتون منه أصنامكم هو أول‬
‫خادم لكم‪ ،‬ولمن هو أَدْنى منكم من الحيوان والنبات‪ ،‬وسبق أن قلنا‪ :‬إن الجماد يخدم النبات‪ ،‬ويخدم‬
‫الحيوان‪ ،‬وهم جميعا في خدمة النسان‪.‬‬

‫خسّة‬
‫إذن‪ :‬فالجماد خادم الخدامين‪ ،‬ومع ذلك جعلتموه إلها‪ ،‬فانظروا إذن إلى هذه النقلة‪ ،‬وإلى ِ‬
‫فكركم‪ ،‬وسوء طباعكم حيث جعلتم أدنى الشياء وأحقرها أعلى الشياء وأشرفها ‪ -‬أي‪ :‬في‬
‫زعمكم‪.‬‬
‫فكيف وقد ميّزك ال على كل الجناس؟ لقد كان ينبغي منك أن تبحث عن شيء أعلى منك يناسب‬
‫عبادتك له‪ ،‬وساعتها لن تجد إل ال تتخذه إلها‪.‬‬
‫بل واقرأ إنْ شِ ْئتَ عن الجماد قوله تعالى‪ُ {:‬قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خَلَقَ الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ‬
‫سيَ‬
‫ج َعلَ فِيهَا‪[} ...‬فصلت‪ ]10-9 :‬أي‪ :‬في الرض{ َروَا ِ‬
‫جعَلُونَ لَهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫وَتَ ْ‬
‫سوَآءً لّلسّآئِلِينَ }[فصلت‪.]10 :‬‬
‫مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َب َعةِ أَيّامٍ َ‬
‫فكأن الجبال الصّماء الراسية هي مخازن القوت للناس على مَرّ الزمان‪ ،‬فمنها تتفتت الصخور‪،‬‬
‫ويتكوّن الطمي الذي يحمله إلينا الماء في أيام الفيضانات‪ ،‬ومنها تتكون الطبقة المخصبة في‬
‫السهول والوديان‪ ،‬فتكون مصدر خصْب ونماء دائم ومتجدد ل ينقطع‪ .‬وتذكرون أيام الفيضان وما‬
‫كَان يحمله نيل مصر إلينا من خير متجدد كل عام‪ ،‬وكيف أن الماء كان يأتينا أشبه ما يكون‬
‫بالطحينة من كثرة ما به من الطمي‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فياليت عُبّاد الصنام الذين نحتوا الصخور أصناما تأملوا هذه اليات الدالة على قدرة الخالق‬
‫سبحانه بدل أن يعبدوها من دون ال‪.‬‬
‫وفي موضع آخر يضرب لنا الحق سبحانه مثلً في قمة العقيدة أيضا فيقول سبحانه‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ‬
‫ح ْمدُ للّهِ َبلْ َأكْثَرُ ُه ْم لَ‬
‫جلٍ َهلْ يَسْ َتوِيَانِ مَثَلً الْ َ‬
‫مَثَلً رّجُلً فِيهِ شُ َركَآءُ مُتَشَا ِكسُونَ وَ َرجُلً سَلَما لّ َر ُ‬
‫َيعَْلمُونَ }[الزمر‪.]29 :‬‬
‫ففَرْق بين عبد مملوك لسيد واحد يتلقّى منه وحده المر والنهي‪ ،‬وبين عبد مملوك لعدة شركاء‪،‬‬
‫ل أوامر‪ ،‬ولكلّ منهم‬
‫وليتهم متفقون‪ ،‬لكن{ شُ َركَآءُ مُتَشَاكِسُونَ‪[} ...‬الزمر‪ ]29 :‬مختلفون لك ّ‬
‫مطالب‪ ،‬فكيف إذن يُرضيهم؟ وكيف يقوم بحقوقهم وهم يتجاذبونه؟‬
‫فالذي يعبد ال وحده ل شريك له كالعبد لسيد واحد‪ ،‬والذين يعبدون الصنام كالعبد فيه شركاء‬
‫متشاكسون‪ .‬إذن‪ :‬فالحق سبحانه يضرب المثال للناس في الحقائق ليُبيّنها لهم بيانا واضحا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا‪.{ ...‬‬

‫(‪)3307 /‬‬

‫حكِيمُ (‪)42‬‬
‫شيْ ٍء وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الْ َ‬
‫إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ َ‬

‫شيْءٍ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]42 :‬لنهم حين ضُيّق‬


‫يقول سبحانه‪ { :‬إِنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن َ‬
‫عليهم الخناق قالوا‪ :‬نحن ل نعبد الصنام‪ ،‬إنما نعبد الكواكب التي تُسيّر هذه الصنام أو الملئكة‪،‬‬
‫شيْءٍ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]42 :‬للتقليل‪ ،‬كأنّ ما يدعونه من دونه ل ُيعَد شيئا‪ ،‬أو‬
‫فردّ ال عليهم‪ { :‬مِن َ‬
‫هو أتفه من أن يكون شيئا‪ ،‬أو يعلم سبحانه ما يدعون من دونه من أي شيء‪.‬‬
‫أو أن يعلم سبحانه ما يدعون من دونه من أي شيء‪.‬‬
‫أو أن (شيء) من قولنا‪ :‬شاء يشاء شيئا‪ ،‬فالشيء ما يُراد من الغير أنْ يفعله‪ ،‬والذي شاء هو ال‬
‫تعالى‪ ،‬وكأنهم يعبدون الشيء ويتركون خالقه‪ ،‬وهو الحقّ بالعبادة سبحانه‪ ،‬فماذا جرى لكم؟!‬
‫تعبدون المخلوق وتتركون الخالق‪ ،‬وبعد أن كرمكم ال تهينون أنفسكم‪ ،‬وترضون لها الدون‪ ،‬حيث‬
‫تعبدون ما هو أقلّ منكم مرتبةَ في الخَلْق‪ ،‬والصنام جمادات‪ ،‬وهي أدنى أجناس الوجود‪.‬‬
‫حكِيمُ } [العنكبوت‪ ]42 :‬العزيز الذي َيغْلب‪ ،‬ول يُغلب‪ ،‬وهو‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ ا ْل َ‬
‫الحكيم في ُكلّ ما قضى وأمر‪.‬‬
‫لمْثَالُ َنضْرِ ُبهَا‪.} ...‬‬
‫كاَ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَتِ ْل َ‬

‫(‪)3308 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَتِ ْلكَ الَْأمْثَالُ َنضْرِ ُبهَا لِلنّاسِ َومَا َي ْعقُِلهَا إِلّا ا ْلعَاِلمُونَ (‪)43‬‬

‫فمَنْ يسمع المثل من ال تعالى ثم ل يعقله فليس بعالم؛ لذلك ليسوا علماء الذين اعترضوا على‬
‫قوله تعالى‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ يَسْتَحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْوقَهَا‪[} ...‬البقرة‪ ]26 :‬حيث‬
‫استقلّوا البعوضة‪ ،‬ورأوها ل تستحق أنْ تُضرب مثلً‪.‬‬
‫ونقول لهم‪ :‬أنتم لستم عاقلين ول عالمين بدقة المثل‪ ،‬واقرأوا‪ {:‬إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن‬
‫يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَهُ‪[} ....‬الحج‪ ]73 :‬بل وأكثر من ذلك‪ {:‬وَإِن َيسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ‬
‫يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ‪[} ...‬الحج‪.]73 :‬‬
‫دَعْك من مسألة الخَلْق‪ ،‬وتعالَ إلى أبسط شيء في حركة حياتنا إذا وقع الذباب على طعامك‪ ،‬فأخذ‬
‫منه شيئا أتستطيع أن تسترده منه مهما أُوتيتَ من القوة والجبروت؟‬
‫إذن‪ :‬فالذبابة ليست شيئا تافها كما تظنون‪ ،‬بل واقلّ منها الناموس (والميكروب) وغيره مما ل‬
‫يُرَى بالعين المجردة مخلوقات ل‪ ،‬فيها أسرار تدلّ على قدرته تعالى‪.‬‬
‫كما قال سبحانه‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْرِبَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا‪[} ...‬البقرة‪ ]26 :‬أي‪:‬‬
‫صغَر‪ ،‬ولك أن تتأمل البعوضة‪ ،‬وهي أقلّ حجما من الذباب‪ ،‬وكيف أن لها خرطوما‬
‫ما فوقها في ال ّ‬
‫دقيقا ينفذ من الجلد‪ ،‬ويمتصّ الدم الذي ل تستطيع أنت إخراجه إل بصعوبة‪( ،‬والميكروب) الذي‬
‫ل تراه بعينك المجردة ومع ذلك يتسلل إلى الجسم فيمرضه‪ ،‬ويهدّ كيانه‪ ،‬وربما انتهى به إلى‬
‫الموت‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ففي هذه المخلوقات الحقيرة في نظرك عبر وآيات‪ ،‬لكن ل يعقلها إل العالمون‪ ،‬ومعظم هذه‬
‫اليات والسرار اكتشفها غير مؤمنين بال‪ ،‬فكان منهم مَنْ عقلها فآمن‪ ،‬ومَنْ لم يعقلها فظلّ على‬
‫كفره على أنه َأوْلَى الناس باليمان بال؛ لن لديه من العلم ما يكتشف به أسرار الخالق في الخَلْق‪.‬‬
‫لذلك جاء في الثر‪ " :‬العالم الحق هو الذي يعلم مَنْ خلقه‪ ،‬وِلمَ خلقه "‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬خََلقَ اللّهُ ال ّ‬

‫(‪)3309 /‬‬

‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ بِا ْلحَقّ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَةً لِ ْل ُم ْؤمِنِينَ (‪)44‬‬
‫خََلقَ اللّهُ ال ّ‬

‫ت وَالَرْضَ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫أراد الحق سبحانه أن يبرهن لنا على طلقة قدرته تعالى‪ ،‬فقال‪ { :‬خََلقَ اللّهُ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خلْق‪ :‬إيجاد المعدوم‪ ،‬لكن الغرض مخصوص‪ ،‬ولمهمة يؤديها‪ ،‬فإنْ‬
‫حقّ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]44 :‬وال َ‬
‫بِالْ َ‬
‫خلقت شيئا هكذا كما اتفق دون هدف منه فل ُيعَد خلقا‪.‬‬
‫ومسألة الخَلْق هذه هي الوحيدة أقرّ الكفار بها ل تعالى‪ ،‬فلما سألهم‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خََلقَ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ‪[} ...‬لقمان‪ ]25 :‬فلماذا أقرّوا بهذه بالذات؟ ولماذا ألجمتهم؟‬
‫ال ّ‬
‫هذا ليس عجيبا منهم؛ لننا نشاهد كل مَنْ يأتي بجديد في الكون حريصا على أنْ ينسبه لنفسه‪،‬‬
‫وعلى أنْ يُبيّن للناس مجهوداته وخبراته‪ ،‬وأنه اخترع كذا أو اكتشف كذا‪ ،‬كالذي اكتشف الكهرباء‬
‫أو اخترع (التليفون أو التليفزيون)‪.‬‬
‫ما زِلْنا حتى الن نذكر أن قانون الطفو لرشميدس‪ ،‬وقانون الجاذبية لنيوتن‪ ،‬والناس تسجل الن‬
‫براءات الختراع حتى ل يسرق أحد مجهودات أحد‪ ،‬ولتحفظ لصحاب التفوق العقلي والعبقري‬
‫ثمرة عبقريتهم‪.‬‬
‫وكذلك كان العرب قديما يذكرون لصاحب الفضل فَضلْه‪ ،‬حتى إنهم يقولون‪ :‬فلن أول مَنْ قال‬
‫مثلً‪ :‬أما بعد‪ .‬وفلن أول من فعل كذا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فنحن نعرف الوائل في كل المجالت‪ ،‬وننسب كل صنعة وكل اختراع واكتشاف إلى‬
‫صاحبه‪ ،‬بل ونُخلّد ذكراه‪ ،‬ونقيم له تمثالً‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫ن فيهما‪ ،‬أليس‬
‫إذن‪ :‬فما بالك بالخالق العظم سبحانه الذي خلق السماوات والرض وما فيهما ومَ ْ‬
‫من حقه أن يعلن عن نفسه؟ أليس من حقه على عباده أن يعترفوا له بالخَلْق؟ خاصة وأن خَلْق‬
‫السماوات والرض لم يدّعه أحد لنفسه‪ ،‬ولم ينازع الحق فيه منازع‪ ،‬ثم جاءنا رسول من عند ال‬
‫ن يوجد‬
‫تعالى يخبرنا بهذه الحقيقة‪ ،‬فلم يوجد معارض لها‪ ،‬والقضية تثبُت لصاحبها إلى أ ْ‬
‫معارض‪.‬‬
‫وقد مثّلنا لهذه المسألة ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬بجماعة جلسوا في مجلس‪ ،‬فلما انفضّ جمعهم وجد‬
‫صاحب البيت محفظة نقود لواحد منهم‪ ،‬فسألهم‪ :‬لمن هذه المحفظة؟ فقالوا جميعا‪ :‬ليست لي إل‬
‫ك صاحب البيت أنها لمن ادّعاها؟‬
‫واحد منهم قال‪ :‬هي محفظتي‪ ،‬فهل يش ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ‪[} ...‬لقمان‪ ]25 :‬فقالوا (ال)‬
‫ولك أنْ تسأل‪ :‬ما دام الحق سألهم{ مّنْ خََلقَ ال ّ‬
‫فلماذا يذكر ال هذه القضية؟ قالوا‪ :‬الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬ل يريد بهذه الية أن يخبرنا أنه‬
‫خالق السماوات والرض‪ ،‬إنما يريد أن يخبرنا أن خَلْق السماوات والرض بالحق‪ ،‬والحق‪:‬‬
‫الشيء الثابت الذي ل يتغير مع الحكمة المترتبة على كل شيء في الوجود‪ ،‬فإذا نظرنا إلى خَلْق‬
‫السماوات والرض لوجدناه ثابتا لم يتغير شيء فيه‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَلْقِ النّاسِ‪[} ..‬غافر‪.]57 :‬‬
‫لذلك يقول سبحانه‪َ {:‬لخَلْقُ ال ّ‬
‫فالسماوات والرض خَلْق هائل عظيم‪ ،‬بحيث لو قارنته بخَلْق النسان لكان خَلْق النسان أهون‪.‬‬
‫وانظر مثلً في عمر السماوات والرض وفي عمر النسان‪ :‬أطول أعمار البشر التي نعلمها حتى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الن عمر نوح عليه السلم‪ ،‬وبعد هذا العمر الذي نراه طويلً انتهى إلى الموت‪ ،‬فعمر النسان‬
‫معلوم يكون سنة واحدة‪ ،‬أو ألف سنة لكن ل ُب ّد أن يموت‪.‬‬

‫أما السماوات والرض وما فيها من مخلوقات إنما خُلقت لخدمة النسان‪ ،‬فالخادم عمره أطول من‬
‫المخدوم‪ ،‬فالشمس مثلً خلقها ال تعالى من مليين السنين‪ ،‬ومازالت كما هي لم تتغير‪ ،‬ولم تتخلف‬
‫س وَا ْل َقمَرُ ِبحُسْبَانٍ }[الرحمن‪.]5 :‬‬
‫شمْ ُ‬
‫عن مهمتها‪ ،‬وكذلك القمر‪ {:‬ال ّ‬
‫أي‪ :‬بحساب دقيق؛ لذلك يقولون‪ :‬سيحدث كسوف مثلً أو خسوف يوم كذا الساعة كذا‪ ،‬وفي نفس‬
‫الوقت يحدث فعلً كسوف للشمس أو خسوف للقمر مما يدلّ على أنهما خُلِقا بحساب بديع دقيق‪،‬‬
‫ويكفي أننا نضبط على الشمس مثلً ساعاتنا‪ ،‬ومع ما عُرِف عن الشمس والقمر‪ ،‬من كِبَر‬
‫حجمهما‪ ،‬فإنهما يسيران في مسارات وأفلك دون صدام‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ {:‬كلّ فِي فََلكٍ يَسْ َبحُونَ }‬
‫[النبياء‪.]33 :‬‬
‫هذا كله من معنى خَلْق السماوات والرض بالحق‪ .‬أي‪ :‬بنظام ثابت دقيق منضبط ل يتغير ول‬
‫يتخلف في ُكلّ مظاهره‪ ،‬فأنت أيها النسان يمكن أنْ تتغير؛ لن ال جعل لك اختيارا فتستطيع أن‬
‫تطيع أو أن تعصي‪ ،‬تؤمن أو والعياذ بال تكفر‪ ،‬لكن خَلْق السماوات والرض جاء على هيئة‬
‫القهر والتسخير‪ ،‬وإن كانت مختارة بالقانون العام والختيار الول‪ ،‬حيث قال تعالى‪ {:‬إِنّا عَ َرضْنَا‬
‫حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ‬
‫شفَقْنَ مِ ْنهَا وَ َ‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫لمَانَةَ عَلَى ال ّ‬
‫اَ‬
‫جهُولً }[الحزاب‪.]72 :‬‬
‫ظَلُوما َ‬
‫إذن‪ :‬خُيّرت فاختارت ألّ تختار‪ ،‬وخرجت عن مرادها لمراد ربها‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬إِنّ فِي ذاِلكَ ليَةً لّ ْل ُم ْؤمِنِينَ { [العنكبوت‪ ]44 :‬لماذا قال (للمؤمنين) مع أنها آية‬
‫ت وَالَ ْرضَ‪[} ...‬لقمان‪ ]25 :‬فلماذا‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫للناس جميعا؟ وسبق أنْ خاطب ال الكافرين{ مّنْ خََلقَ ال ّ‬
‫خصّ هنا المؤمنين دون الكافرين؟‬
‫قالوا‪ :‬هناك فَرْق بين خَلْق السماوات والرض‪ ،‬وبين َكوْنها مخلوقة بالحق‪ ،‬فالجميع يؤمن بأنها‬
‫مخلوقة‪ ،‬لكن المؤمنين فقط هم الذين يعرفون أنها مخلوقة بالحق‪.‬‬
‫حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ‪.{ ...‬‬
‫يقول الحق سبحانه‪ } :‬ا ْتلُ مَا ُأوْ ِ‬

‫(‪)3310 /‬‬

‫حشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَ ِر وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ‬


‫حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ وََأقِمِ الصّلَاةَ إِنّ الصّلَاةَ تَ ْنهَى عَنِ ا ْلفَ ْ‬
‫ا ْتلُ مَا أُو ِ‬
‫وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا َتصْ َنعُونَ (‪)45‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بعد أن ذكر ال تعالى بعض مواكب الرسل في إبراهيم وفي موسى ونوح وصالح وهود ولوط‬
‫وفي شعيب‪ ،‬ثم تكلّم سبحانه عن الذين كذبوا هؤلء الرسل{ َفكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ‪[} ...‬العنكبوت‪]40 :‬‬
‫أراد سبحانه أن يُسلّي رسوله صلى ال عليه وسلم بأن ل يزعجه‪ ،‬ول يرهقه‪ ،‬أو يتعب نفسه‬
‫موقف الكافرين به الذين يصدون عن سبيل ال‪ ،‬ويقفون من الدعوة موقف العداء‪.‬‬
‫حيَ ِإلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]45 :‬يعني‪ِ :‬لمَ تحزن يا محمد‬
‫فقال له مُسلّيا‪ { :‬ا ْتلُ مَا ُأ ْو ِ‬
‫ومعك الُنْس كله‪ ،‬الُنْس الذي ل ينقضي‪ ،‬وهو كتاب ال ومعجزته التي أنزلها إليك‪ ،‬فاشتغل به‪،‬‬
‫فمع كل تلوة له ستجد سكنا إلى ربك‪.‬‬
‫وإذا كان هؤلء الذين عاصروك لم يؤمنوا به‪ ،‬ولم يلتفتوا إلى مواطن العجاز فيه فداوم أنت‬
‫علّ ال يأتي من هؤلء بذرية تصفو قلوبهم لستقبال إرسال السماء‪ ،‬فيؤمنون بما‬
‫على تلوته َ‬
‫جحده هؤلء‪ ،‬والمر بالتلوة لبقاء المعجزة‪.‬‬
‫{ ا ْتلُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]45 :‬اقرأ ول تعجز ول تيأس‪ ،‬فالقرآن سلوة لنفسك؛ لن الذي يرسل‬
‫رسولً من البشر بشيء أو في أمر من المور‪ ،‬ثم يكذب يرجع إلى مَنْ أرسله‪ ،‬فما دام قومك قد‬
‫كذّبوك‪ ،‬فارجع إليّ بأن تستمع إلى كتابي الذي أنزلتُه معجزة لك تؤيدك‪ ،‬وانتظر قوما يأتون‬
‫يسمعون منك كلم ال‪ ،‬فيصادف منهم قلوبا صافية‪ ،‬فيؤمنون به‪.‬‬
‫وفَرْق بين الفاعل والقابل‪ ،‬والقرآن يُوضّح هذه المسألة‪ ،‬فمن الناس مَنْ إذا سمعوا القرآن تخشع له‬
‫قلوبهم‪ ،‬وتقشعر جلودهم‪ ،‬ومنهم مَنْ إذا سمعوه قالوا على سبيل الستهزاء{ مَاذَا قَالَ آنِفا‪} ...‬‬
‫[محمد‪ ]16 :‬تهوينا من شأن القرآن‪ ،‬ومن شأن رسول ال‪.‬‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِنهِ ْم َوقْرٌ‬
‫شفَآ ٌء وَالّذِي َ‬
‫ثم يقرر القرآن هذه الحقيقة‪ُ {:‬قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ ُهدًى وَ ِ‬
‫عمًى‪[} ...‬فصلت‪.]44 :‬‬
‫علَ ْيهِمْ َ‬
‫وَ ُهوَ َ‬
‫إذن‪ :‬فالقرآن واحد‪ ،‬لكن المستقبل للقرآن مختلف‪ ،‬فالعبرة في صفاء الستقبال لن الرسال واحد‪،‬‬
‫وهل تتهم الذاعة إنْ كان جهار (الراديو) عندك معطلً‪ ،‬ل يستقبل إرسالها؟‬
‫كذلك مَنْ أراد أن يستقبل إرسال السماء فعليه أنْ ُيعِد الذن الواعية والقلب الصافي غير المشوش‬
‫بما يخالف إرسال السماء‪ ،‬عليك أنْ تُخرِج ما في نفسك أولً من أضداد للقرآن‪ ،‬ثم تستقبل كلم‬
‫ال وتنفعل به‪.‬‬
‫ن ينفخ في يده وقت البرد بقصد التدفئة‪ ،‬وبمَنْ ينفخ‬
‫وسبق أنْ مثّلْنا لختلف المنفعل للفعل بمَ ْ‬
‫بنفَسه في الشاي مثلً ليبرده‪ ،‬فهذه للحرارة‪ ،‬وهذه للبرودة‪ ،‬الفعل واحد‪ ،‬لكن المنفعل مختلف‪.‬‬
‫حيَ إِلَ ْيكَ مِنَ ا ْلكِتَابِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]45 :‬هذه هي مَيْزة معجزتك يا‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬ا ْتلُ مَا ُأوْ ِ‬
‫محمد أنك تستطيع أنْ تكرّرها في كل وقت‪ ،‬وأن تتلوها كما تشاء‪ ،‬وأن يتلوها بعدك مَنْ سمعها‪،‬‬
‫وستظل تتردد إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أما معجزات الرسل السابقين فكانت خاصة بمَنْ شاهد المعجزة‪ ،‬فإذا مات مَنْ شهدها فل يعرفها‬
‫ل انقلب عصا موسى حية ولم‬
‫أحد بعدهم حتى لو كان معاصرا لها ولم يَرَهَا‪ ،‬فالذين عاصروا مث ً‬
‫يشاهدوا هذا الموقف‪ ،‬ماذا عندهم من هذه المعجزة؟ ل شيء إل أننا نُصدّقها ونؤمن بها؛ لن‬
‫القرآن أخبرنا بها‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فمعجزات السابقين تأتي كلقطة واحدة أشبه ما تكون بعود الكبريت الذي يشتعل مرة واحدة‪،‬‬
‫رآها مَنْ رآها وتنتهي المسألة‪ ،‬ولكن القرآن حدثنا بكل معجزات الرسل السابقين فانظر إذن ما‬
‫أصاب الرسل جميعا من خيرات سيدنا رسول ال‪ ،‬وكيف خَلّد القرآن ذكرهم‪ ،‬وامتدت معجزاتهم‬
‫بامتداد معجزته‪.‬‬
‫فكأن القرآن أسدى الجميل إلى كل الرسل‪ ،‬وإلى كل المعجزات؛ لذلك قال تعالى عن القرآن‪{:‬‬
‫ب َو ُمهَ ْيمِنا عَلَ ْيهِ‪[} ...‬المائدة‪.]48 :‬‬
‫حقّ ُمصَدّقا ّلمَا بَيْنَ َيدَيْهِ مِنَ ا ْلكِتَا ِ‬
‫وَأَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ بِالْ َ‬
‫لةَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]45 :‬وملعوم أن ا ْتلُ‪ :‬التلوة َقوْل من فعل اللسان‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وََأقِمِ الصّ َ‬
‫و } وََأقِمِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]45 :‬من فعل الجوارح‪ ،‬والنسان له جوارح متعددة اشتهر منها خمس‬
‫هي‪ :‬العين للبصار‪ ،‬والذن للسمع‪ ،‬والنف للشم‪ ،‬واللسان للتذوق‪ ،‬والنامل للّمس‪.‬‬
‫فقالوا على سبيل الحتياط‪ :‬الجوارح الخمسة الظاهرة وقد ظهر فعلً مع تقدّم العلوم اكتشفوا في‬
‫النسان حواسّ أخرى ووسائلَ إدراك لم تُعرف من قبل‪ ،‬كحاسة العضل التي تزن بها ثقل‬
‫الشياء‪ ،‬وإل فبأيّ حاسة من حواسّك الخمسة تعرف الثقل قبل أن ترفع الشيء من على الرض؟‬
‫ل إلى‬
‫سمْك الشياء بين أناملك‪ ،‬فحين تذهب مث ً‬
‫وكحاسة البَيْن‪ ،‬والتي بها تستطيع أنْ تُميّز بين ُ‬
‫سمَك من‬
‫تاجر القمشة‪ ،‬فتتناول القماش بين أناملك و (تفركه) برفق‪ ،‬فتستطيع أن تعرف أن هذا َأ ْ‬
‫هذا‪.‬‬
‫ومن عجيب المر في مسألة الجوارح أن يأخذ اللسان شطر الجوارح كلها‪ ،‬ففعل الحواس الخمسة‬
‫يسمى عملً‪ ،‬والعمل ينقسم‪ :‬إما قول‪ ،‬وإما فعل‪ .‬فكل تحريك لجارحة لتؤدي مهمة يسمى عملً‪،‬‬
‫لكن عمل اللسان يسمى قولً‪ ،‬أما من بقية الجوارح فيسمى فعلً‪.‬‬
‫فأخذ اللسان هذه المكانة؛ لن به النذار من الحق‪ ،‬وبه التبشير‪ ،‬وبه البلغ من الرسول؛ لذلك‬
‫يقول الحق سبحانه‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف‪.]2 :‬‬
‫ولم يقل‪ :‬ما ل تعملون‪ .‬لن القول يقابله الفعل‪ ،‬وهُما معا عمل‪ ،‬والعمل بنية القلب‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا اختار الصلة من بين أعمال الجوارح؟ قالوا‪ :‬لنها قمة العمل كما سماها النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ " :‬الصلة عماد الدين " وبها نُفرّق بين المؤمن والكافر‪ .‬ويبقى السؤال‪ :‬لماذا أخذتْ‬
‫الصلة هذه المكانة من بين أركان السلم؟‬
‫ن يقضي على‬
‫ونحب أنْ نشير هنا إلى أن خصوم السلم وبعض أهله الذين يخافون من بعثه أ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حصْر السلم في أركانه الخمسة‪ ،‬فإنْ قُلْت بهذه المقولة ل‬
‫طغْيانهم وجبروتهم يريدون َ‬
‫سلطتهم و ُ‬
‫يتعرضون لك‪ ،‬وأنت حر في إطار أركان السلم هذه‪ ،‬لكن إياك أن تقول‪ :‬إن السلم جاء ليُنظّم‬
‫حصْر السلم في أركانه فقط‪.‬‬
‫حركة الحياة؛ لن حظهم في َ‬

‫وما فَهم هؤلء أن الركان ليست هي كل السلم‪ ،‬إنما هي أسُسه وقواعده التي يقوم عليها بناؤه‪،‬‬
‫لكنهم يريدون أنْ يعزلوا السلم عن حركة الحياة‪ .‬فنقول لهم‪ :‬نعم‪ ،‬هذه أركان السلم‪ ،‬أمّا‬
‫السلم فيشمل كل شيء في حياتنا‪ ،‬بداية من قمة العقيدة في قولنا‪ :‬ل إله إل ال محمد رسول ال‬
‫إلى إماطة الذى عن الطريق؛ لن السلم دين يستوعب كل أقضية الحياة‪ ،‬كيف ل وهو يُعلّمنا‬
‫أبسط الشياء في حياتنا‪.‬‬
‫ألَ تراه يهتم بأحكام قضاء الحاجة ودخول الخلء‪ ،‬وما يتعلق به من آداب وأحكام؟ َألَ ترى أن‬
‫حسْبة المكلّف بمراقبة السواق‪ ،‬وتنفيذ أحكام منهج ال في الرض إذا رأى جزارا ينفخ‬
‫صاحب ال ِ‬
‫ذبيحته بفمه يقوم بإعدام هذه الذبيحة؛ لن الهواء المستخدم في نفخها هواء غير صحي‪ ،‬فهو زفير‬
‫مُحمّل بثاني أكسيد الكربون‪ ،‬وقد يحمل غازات أخرى ضارة ل ُبدّ أنْ تنتقل إلى لحم الذبيحة؟‬
‫كما أن من مهمته أن يمر بالحلقين‪ ،‬ويتفقد مدى نظافتهم وسلمتهم من المراض‪ ،‬وإذا اشتم من‬
‫أحدهم رائحة ثوم أو بصل مثلً أمره بإغلق محله‪ ،‬وعدم العمل في هذا اليوم حتى ل يتأذى‬
‫الناس برائحته‪.‬‬
‫فأيّ شرع هذا الذي يحافظ على سلمة الناس ومشاعرهم إلى هذا الحدّ؟ إنه دين ال ومنهجه الذي‬
‫ل يغادر صغيرة ول كبيرة في حركة الحياة إل ووضع لها أحكاما وآدابا‪ .‬أمِثْل هذا الشرع يُعزل‬
‫عن حركة الحياة ويُقيّد وينحصر في مسائل العبادات وحدها؟‬
‫إنك حين تنظر إلى متاعب العالم المتخلف الن ‪ -‬دَعْك من العالم المتقدم ‪ -‬ستجد أن متاعبه‬
‫اقتصادية‪ ،‬ولو تقصيْتَ السباب لوجدتها تعود إلى التخلي عن منهج ال وتعطيل أحكامه‪ ،‬ووال لو‬
‫أنهم أخذوا في أزمتهم القتصادية بقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬نحن قوم ل نأكل حتى‬
‫نجوع‪ ،‬وإذا أكلنا ل نشبع "‪.‬‬
‫لو عملوا بهذا وتأدّبوا بأدب رسولهم لخرجوا من هذه الزمة‪ ،‬وتقلّبوا في رَغَد من العيش‪ ،‬إنك لو‬
‫تحل ْيتَ بهذا الدب في مسألة الطعام والشراب لكفتْك اللقمة واللقمتان‪ ،‬وأشهى الطعام ما كان بعد‬
‫جوع مهما كان بسيطا‪.‬‬
‫أما الن‪ ،‬فنرى الناس يلجئون إلى المشهّيات قبل الطعام‪ ،‬وإلى المهضِمات بعده‪ ،‬لماذا؟ لنهم‬
‫خالفوا هَدْي رسولهم صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فهم يأكلون على شِبَع‪ ،‬ويأكلون بعد الشّبَع‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يقول‪ {:‬وكُلُو ْا وَاشْرَبُو ْا َولَ تُسْ ِرفُواْ‪[} ...‬العراف‪ ]31 :‬وأُثِر عن‬
‫العرب الذين عاشوا في شظف من العيش‪ :‬نِع ْم الدام الجوع‪ .‬نعم إنه (الغموس) الحقيقي‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والمشهّي الول‪.‬‬
‫نعود إلى مكانة الصلة بين العبادات‪ ،‬ولماذا كانت هي عماد الدين‪ ،‬ومعنى‪ " :‬الصلة عماد الدين‬
‫" و " بُنِي السلم على خمس "‬

‫أن الدين أشياء أخرى‪ ،‬وهذه هي أُسُسه وقواعده‪ ،‬وحين نتتبع هذه القواعد نجد أن الركن الول‪،‬‬
‫وهو أشهد ألّ إله إل ال‪ ،‬وأن محمدا رسول ال يمكن أن أقولها ولو مرة واحدة‪ ،‬أما الزكاة فل‬
‫تجب مثلً على الفقير فل يزكي‪ ،‬وكذلك المريض ل يصوم‪ ،‬والمسافر والحائض‪ ..‬إلخ‪ ،‬وكذلك‬
‫الحج غير واجب إل على المستطيع‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ما هو الركن الثابت الذي يلزم كل مسلم‪ ،‬ول يسقط عنه بحال؟ إنها الصلة؛ لذلك أخذتْ‬
‫مساحة كبيرة من الوقت على مدى اليوم والليلة‪ ،‬وبها يكون إعلن الولء الدائم ل تعالى‪ ،‬وبها‬
‫تفرق بين المؤمن وغير المؤمن‪ ،‬فإنْ رأيتَ شخصا مثلً ل يصوم أو ل يزكي أو ل يحج‪ ،‬فلك أنْ‬
‫تقول ربما يكون من أصحاب العذار‪ ،‬ومن غير القادرين‪ ،‬لكن حين ترى شخصا ل يُصلّي‪ ،‬وقد‬
‫تكرّر منه ذلك فإنك ل ُبدّ شاكّ في إسلمه‪.‬‬
‫لذلك استحقت الصلة هذه المكانة بين سائر العبادات منذ بدايات التشريع‪ ،‬أل ترى أن كل فرائض‬
‫الدين شُرعت بالوحي إل الصلة‪ ،‬فقد شُرعت بالخطاب المباشر من ال تعالى لنبيه محمد صلى‬
‫ال عليه وسلم في رحلة المعراج‪.‬‬
‫وسبق أنْ مثّلْنا لذلك‪ ،‬ول المثل العلى‪ ،‬برئيس العمل الذي يُصدر أوامره بوسائل مختلفة حَسْب‬
‫أهمية المأمور به‪ ،‬فقد يكتفي بأن (يُؤشر) على ورقة‪ ،‬وقد يُوصي بها‪ ،‬أو يطلب الموظف‬
‫ن كان المر هاما استدعاه شرطيا إلى مكتبه وكلّفه بما يريد‪.‬‬
‫المختص فيُحدّثه (بالتليفون)‪ ،‬فإ ْ‬
‫وكان هذا الستدعاء تشريفا لسيدنا رسول ال بقرب المرسل من المرسل‪ ،‬فأراد الحق ‪ -‬سبحانه‬
‫ن يقرب‬
‫وتعالى ‪ -‬ألّ يحرم أمه محمد فضل أسبغه على محمد فكأنه قال‪ :‬مَنْ أراد من عبادي أ ْ‬
‫من كما قرب محمد فكان قاب قوسين أو أدنى فليُصلّ‪.‬‬
‫لةَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]45 :‬إقامة الشيء‪ :‬أداؤه على الوجه الكمل الذي يؤدي‬
‫ومعنى } وََأقِمِ الصّ َ‬
‫غايته‪ ،‬فالصلة المطلوبة هي الصلة المستوفاة الشروط والتي تقيمها كما يريدها مُشرّعها } إِنّ‬
‫لةَ تَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَآءِ وَا ْلمُ ْنكَرِ‪[ { ...‬العنكبوت‪.]45 :‬‬
‫الصّ َ‬
‫والصلة إذا استوفتْ شروطها نهتْ صاحبها عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬فإذا رأيتَ صلة ل تنهى‬
‫صاحبها عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬فاعلم أنها ناقصة عما أراده ال لقامتها‪ ،‬وعلى قَدْر النقص تكون‬
‫ثمرة الصلة في سلوك صاحبها‪ ،‬وكأن وقوعك في بعض الفحشاء وفي بعض المنكر ُيعَدّ مؤشرا‬
‫دقيقا لمدى إتقانك لصلتك وحرصك على تمامها وإقامتها‪.‬‬
‫لةَ تَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَآءِ وَا ْلمُ ْنكَرِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]45 :‬واضح في قول النبي صلى‬
‫ومعنى } إِنّ الصّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال عليه وسلم لما قيل له‪ " :‬يا رسول ال‪ ،‬إن فلنا يصلي‪ ،‬لكن صلته ل تنهاه عن الفحشاء‬
‫والمنكر‪ ،‬فقال‪ " :‬دعوه‪ ،‬فإن صلته تنهاه " "‪.‬‬
‫فالمعنى هنا أن المر ليس أمرا كونيا ثابتا ل يتخلف‪ ،‬بل هو أمر تشريعي عُرْضة لنْ يُطاع‪،‬‬
‫وعُرْضة لنْ يُعصى‪ ،‬فلو كان المر كونيا ما جرؤ صاحب صلة عل الفحشاء والمنكر‪ ،‬ومثال‬
‫ل لولدي قبل أن أموت‪ :‬يا أولدي‪ ،‬هذا بيت يكرم مَنْ يدخله‪.‬‬
‫ذلك أن أقول مث ً‬

‫كلم على سبيل الخبر ولم أقل‪ :‬أكرموا مَنْ يدخله‪ ،‬فالذي يحترم وصيتي منهم يكرم مَنْ يدخل‬
‫بيتي من بعدي‪ ،‬والذي ل يحترم الوصية ل يُكرم مَنْ يدخله‪ .‬أما لو قلت‪ :‬أكرموا مَنْ يدخل هذا‬
‫البيت فقد ألزمتَ الجميع بالكرام‪.‬‬
‫وأوضح من هذا قوله تعالى في شأن المسجد الحرام‪َ {:‬ومَن َدخَلَهُ كَانَ آمِنا‪[} ...‬آل عمران‪]97 :‬‬
‫فلما حدث أن اقتحمه بعض أصحاب الهواء‪ ،‬وأطلقوا النار في ساحاته‪ ،‬وقتلوا فيه المنين قامتْ‬
‫ضجة كبيرة تُشكّك في هذه الية‪ :‬كيف يحدث هذا وال يقول{ َومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنا‪[} ...‬آل‬
‫عمران‪ ]97 :‬فأقاموا هذه الحداث دليلً على كذب الية والعياذ بال‪.‬‬
‫وهذا المسلك منهم يأتي عن عدم فهم لمعنى المر الكوني والمر التشريعي‪ ،‬فقوله تعالى‪َ {:‬ومَن‬
‫َدخَلَهُ كَانَ آمِنا‪[} ...‬آل عمران‪]97 :‬أمر تشريعي قابلٌ لنْ يُطاع‪ ،‬ولنْ يٌعصي‪ ،‬كأن الحق ‪-‬‬
‫ن في البيت‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬قال‪ :‬أمّنُوا مَنْ دخل البيت‪ ،‬فبعض الناس امتثل للمر‪ ،‬فأمّن مَ ْ‬
‫الحرام‪ ،‬وبعضهم عصى فروّع الناس‪ ،‬وقتلهم في ساحته‪ ،‬ولو كان أمرا كونيا ما تخلّف أبدا كما‬
‫لو تتخلف الشمس مثلً يوما من اليام‪.‬‬
‫لةَ تَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَآ ِء وَا ْلمُ ْنكَرِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]45 :‬فالصلة تشريع‬
‫وكذلك المر في } إِنّ الصّ َ‬
‫ن وَإِيتَآءِ ذِي ا ْلقُرْبَىا‬
‫ل وَالحْسَا ِ‬
‫من ال‪ ،‬فإذا كان ال تعالى هو المشرّع‪ ،‬وقال‪ {:‬إِنّ اللّهَ يَ ْأمُرُ بِا ْلعَ ْد ِ‬
‫وَيَ ْنهَىا عَنِ ا ْلفَحْشَا ِء وَا ْلمُ ْنكَر‪[} ...‬النحل‪ ]90 :‬يعني‪ :‬ل يوجد معها فحشاء ول منكر‪ ،‬وهذا أيضا‬
‫صحيح؛ لنني حين أدخل في الصلة بتكبيرة الحرام فإن هذه التكبيرة تحرم عليّ كل ما كان‬
‫ل ل آكل ول أشرب ول أتحرك‪ ،‬مع أن هذه المسائل كانت‬
‫حللً لي قبل الصلة‪ ،‬ففي الصلة مث ً‬
‫ل قبل الصلة؟ إذن‪ :‬فهو حرام من باب‬
‫حللً قبل الصلة‪ ،‬فما بالك بما كان حراما عليك أص ً‬
‫َأوْلَى‪.‬‬
‫فالصلة بهذا المعنى تمنعك من الفحشاء والمنكر في وقتها؛ لن تكبيرة الحرام (ال أكبر) تعني‬
‫أن ال أكبر من كل شيء في الوجود حتى من شهوات النفس ونزواتها‪ ،‬وإلّ فكيف تقيم نفسك بين‬
‫يدي ربك‪ ،‬ثم تخالف منهجه؟ فالصلة بهذا المعنى تنهى على حقيقتها عن الفحشاء والمنكر‪.‬‬
‫ومعنى (الفَحْشَاء) كل ما ُيسْتفحش من القوال والفعال (والمنكَر) كل شيء يُنكره الطبع السليم }‬
‫وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]45 :‬ذكر‪ :‬مصدر‪ ،‬والمصدر يُضاف للفاعل مثل‪ :‬أعجبني‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضَرْب المير لزيد‪ ،‬ويُضاف للمفعول مثل‪ :‬أعجبني ض َربْ زيد من المير‪ ،‬فحين تقول ذكر ال‬
‫يصح أن يكون المعنى‪ِ :‬ذكْر صادر من ال‪ ،‬أو ِذكْر صادر من العبد ل‪.‬‬
‫ن قلتَ‪ِ :‬ذكْر صادر من ال‪ ،‬أي للمصلّي‪ ،‬فحين يصلي النسان‪ ،‬ويذكر ال بالكبرياء في قوله‬
‫فإ ْ‬
‫ال أكبر ويُنزّهه بقول سبحان ال‪ ،‬ويسجد له سبحانه ويخضع‪ ،‬فقد فعلتَ إذن ِفعْلً ذكرتَ ال فيه‬
‫ِذكْرا بالقول والفعل‪ ،‬وال تعالى يجازيك بذكرك له بأن يذكرك‪ ،‬فالذكر ذكر من ال لمن ذكره في‬
‫صلته‪.‬‬

‫ول شكّ أن ذكر ال لك أكبر‪ ،‬وأعظم من ِذكْرك له سبحانه؛ لنك ذكرتَ ال منذ بلوغك إلى أن‬
‫تموت‪ ،‬أما هو سبحانه فسيعطيك بذكرك له منازل عالية ل نهايةَ لها في يوم ل تموت فيه ول‬
‫تنقطع عنك ِنعَمه وآلؤه‪ ،‬فالمعنى‪ :‬ولذِكر ال لك بالثواب والرحمة أكبر من ِذكْركَ له بالطاعة‪.‬‬
‫هذا على معنى أن الذكر صادر من ال للعبد‪.‬‬
‫المعنى الخر أن يكون الذكْر صادرا من العبد ل‪ ،‬يعني‪ :‬ولذكْر ال خارج الصلة أكبر من ِذكْر‬
‫ال في الصلة‪ ،‬كيف؟ قالوا‪ :‬لنك في الصلة ُتعِد نفسك لها بالوضوء‪ ،‬وتتهيأ لها لتكون في‬
‫حضرة ربك بعد تكبيرة الحرام‪ ،‬فإذا ما انتهتْ الصلة وخرجتَ منها إلى حركة الحياة ف ِذكْرك ل‬
‫وأنت بعيد عن حضرته وأنت مشغول بحركة حياتك أعظم وأكبر من ِذكْرك في الحضرة‪.‬‬
‫ومثال ذلك ‪ -‬ول تعالى المثل العلى ‪ -‬مَنْ يمدح المير ويُثني عليه في حضرته‪ ،‬ومَنْ يمدحه‬
‫في غيبته‪ ،‬فأيّهما أحلى‪ ،‬وأيّهما أبلغ وأصدق في الذكْر؟‬
‫ج ُمعَةِ‬
‫لةِ مِن َي ْومِ الْ ُ‬
‫واقرأ في ذلك قوله تعالى عن صلة الجمعة‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُو ِديَ لِلصّ َ‬
‫س َعوْاْ إِلَىا ِذكْرِ اللّهِ‪[} ...‬الجمعة‪.]9 :‬‬
‫فَا ْ‬
‫لةُ‬
‫يعني‪ِ :‬ذكْر ال في الصلة‪ ،‬ول تظنوا أن الذكْر قاصر على الصلة فقد إنما‪ {:‬فَإِذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ‬
‫ض وَابْ َتغُواْ مِن َفضْلِ اللّ ِه وَا ْذكُرُواْ اللّهَ كَثِيرا ّلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ }[الجمعة‪]10 :‬‬
‫فَانتَشِرُواْ فِي الَرْ ِ‬
‫فيجب ألّ يغيب ِذكْر ال عن بالك أبدا؛ لن ِذكْرك لربك خارج الصلة أكبر من ِذكْرك له سبحانه‬
‫في الصلة‪.‬‬
‫و ُروِي عن عطاء بن السائب أن ابن عباس سأل عبد ال بن ربيعة‪ :‬ما تقول في قوله تعالى‪} :‬‬
‫حسَن‪ ،‬والصلة حسن‪ ،‬وتسبيح ال‬
‫وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ‪[ { ...‬العنكبوت‪]45 :‬؟ فقال‪ :‬قراءة القرآن َ‬
‫حسن‪ ،‬وتحميده حسن‪ ،‬وتكبيره حسن‪ ,‬التهليل له حسن‪ .‬لكن أحسن من ذلك أن يكون ِذكْر ال عند‬
‫طروق المعصية على النسان‪ ،‬فيذكر ربه‪ ،‬فيمتنع عن معصيته‪.‬‬
‫فماذا قال ابن عباس ‪ -‬مع أن هذا القول مخالف لقوله في الية ‪-‬؟ قال‪ :‬عجيب وال‪ ،‬فأعجب‬
‫بقول ابن ربيعة‪ ،‬وبارك فهمه للية‪ ،‬ولم ينكر عليه اجتهاده؛ لن النسانَ طبيعي أن يذكر ال في‬
‫حال الطاعة‪ ،‬فهو متهيئ للذكْر‪ ،‬أما أنْ يذكره حال المعصية فيرتدع عنها‪ ،‬فهذا أقْوى وأبلغ‪ ،‬وهذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أكبر كما قال سبحانه } وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ‪[ { ...‬العنكبوت‪.]45 :‬‬
‫ظلّ إل ظله ‪ -‬ومنهم‪ :‬ورجل‬
‫لذلك جاء في الحديث الشريف‪ " :‬سبعة يظلهم ال في ظِلّه‪ ،‬يوم ل ِ‬
‫دَعَتْه امرأة ذات منصب وجمال فقال‪ :‬إني أخاف ال "‬

‫هذا هو ِذكْر ال الكبر؛ لن الدواعي دواعي معصية‪ ،‬فيحتاج المر إلى مجاهدة تُحوّل المعصية‬
‫إلى طاعة‪.‬‬
‫أما قول ابن عباس في } وَلَ ِذكْرُ اللّهِ َأكْبَرُ‪[ { ..‬العنكبوت‪ ]45 :‬أن ِذكْر ربكم لكم بالثواب والرحمة‬
‫أكبر من ِذكْركم له بالطاعة‪ .‬وحيثيات هذا القول أن ربك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬لم يُكلّفك إل بعد سِنّ‬
‫البلوغ‪ ،‬وتركك تربَع في نعمه خمسة عشر عاما دون أنْ يُكلفك‪ ،‬ثم يُوالي عليك ِنعَمه‪ ،‬ول يقطع‬
‫عنك مدده حتى لو انصرفتَ عن منهجه‪ ،‬بل حتى لو كفرتَ به ل يقبض عنك يد عطائه ونعمه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ف ِذكْر ال لك بالخَلْق من عدم‪ ،‬والمداد من عُدم‪ ،‬وموالة ِنعَمه عليك أكبر من ِذكْرك له‬
‫بالطاعة‪ ،‬وقد ذكرك سبحانه قبل أنْ يُكلّفك أَن تذكره‪ .‬كما أن ذكركم له سبحانه بالطاعة في الدنيا‬
‫موقوت‪ ،‬أما ِذكْره لكم بالثواب والجزاء والرحمة في الخرة فممتد ل ينقطع أبدا‪.‬‬
‫ثم تختم الية بقوله سبحانه‪ } :‬وَاللّهُ َيعْلَمُ مَا َتصْ َنعُونَ { [العنكبوت‪ ]45 :‬هذه الكلمة نأخذها على‬
‫أنها بشارة للمؤمن‪ ،‬ونذارة للكافر‪ ،‬كما تقول للتلميذ يوم المتحان‪ :‬سينجح المجتهد منكم‪ ،‬فهي‬
‫بشارة للمجتهد‪ ،‬وإنذار للمهِمل‪ ،‬فالجملة واحدة‪ ،‬والنسان هو الذي يضع نفسه في أيهما يشاء‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ولَ تُجَادِلُواْ أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3311 /‬‬

‫حسَنُ إِلّا الّذِينَ ظََلمُوا مِ ْنهُ ْم َوقُولُوا َآمَنّا بِالّذِي أُنْ ِزلَ إِلَيْنَا‬
‫وَلَا تُجَادِلُوا أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ إِلّا بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫وَأُنْ ِزلَ إِلَ ْي ُك ْم وَإَِلهُنَا وَإَِل ُهكُ ْم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسِْلمُونَ (‪)46‬‬

‫الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يُعلّمنا كيف نجادل أهل الكتاب‪ ،‬وقبل أن نتكلم عن ألوان الجدل في‬
‫القرآن الكريم نقول‪ :‬ما معنى الجدل؟‬
‫الجدل‪ :‬مأخوذ من الجَدْل‪ ،‬وهو فَتْل الشيء ليشتد بعد أنْ كان لينا كما نفتل حبالنا في الريف‪،‬‬
‫فالقطن أو الصوف مثلً يكون منتفشا يأخذ حيزا واسعا‪ ،‬فإذا أردْنا أن نأخذ منه خيطا جمعنا بعض‬
‫الشعيرات ليُقوّي بعضها بعضا بلفّها حول بعضها‪ ،‬وبجَدْل الخيوط نصنع الحبال لتكون أقوى‪،‬‬
‫وعلى َقدْر الغاية التي يُراد لها الحبل تكون قوته‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومن الجدل ُأخِذ الجدال والجدَل والمجادلة‪ ،‬وفي معناها‪ :‬الحوار والحجاج والمناظرة‪ ،‬ومعناه أن‬
‫يوجد فريقان لكل منها مذهب يؤيده ويدافع عنه ليفتن الخر أي‪ :‬ليلفته عن مذهبه إلى مذهبه هو‪.‬‬
‫حجَاج أو المناظرة فهذا السم يكفي‪ ،‬لكن إنْ دخل‬
‫فإذا كان المقصود هو الحق في الجدال أو ال ِ‬
‫الجدال إلى مِراءٍ أو لجاجة‪ ،‬فليس القصد هو الحق‪ ،‬إنما أنْ يتغلّب أحد الفريقين على الخر‪،‬‬
‫طغْيَا ِنهِمْ‪[} ..‬المؤمنون‪.]75 :‬‬
‫والجدل في هذه الحالة له أسماء متعددة‪ ،‬منها قوله تعالى‪ {:‬لّلَجّواْ فِي ُ‬
‫لكن إذا فَتَلْنا الشيء المنفوش حتى صار ُمضْمرا‪ ،‬وأخذ من الضمر قوة‪ ،‬أأنت تجعل في الجدل‬
‫خصْمك قويا؟ إنك تحاول أنْ تُقوّي نفسك في مواجهته‪ .‬قالوا‪ :‬حين أنهاه عن الباطل وأعطفه ناحية‬
‫َ‬
‫الحق‪ ،‬فإنه يقوي يقينه في شيء ينفعه‪ ،‬وكأنه كان منتفشا آخذا حيّزا أكبر من حجمه بالباطل الذي‬
‫كان عليه‪ ،‬فأنا قوّيته بالحق‪ .‬وفي العامية نقول (فلن منفوخ على الفاضي) أو نقول (فلن نافش‬
‫ريشه) كأنه أخذ حيزا أكبر من حجمه‪.‬‬
‫لذلك نلحظ أن التغلب في الجدل ل يكون لمجرد الجدل‪ ،‬إنما تغلّبك لحق ينفع الغير ويُقويه ويردّه‬
‫إلى حجمه الطبيعي‪.‬‬
‫أو‪ :‬أن الجدل مأخوذ من الجدال وهي الرض‪ ،‬كأن يطرح القوي الضعيف أرضا في صراع‬
‫مثلً‪.‬‬
‫والجدال يكون بين شخصين‪ ،‬لكل منهما رأيه الذي يألفه ويحبه ويقتنع به‪ ،‬فحين تجادله تريد أنْ‬
‫تُخرِجه عن رأيه الذي يألف إلى رأيك الذي ل يألفه ولم يعتده‪ ،‬فأنت تجمع عليه أمرين‪ :‬أنْ‬
‫تُخرجه عما أَلف واعتاد إلى ما لم يألف‪ ،‬فل يكُنْ ذلك بأسلوب يكرهه حتى ل تجمع عليه شدتين‪.‬‬
‫فعليك إذن باللين والستمالة برفق؛ لن النصح ثقيل كما قال شوقي رحمه ال‪ :‬فل تجعله جبلً‪،‬‬
‫ول ترسله جَ َدلً‪ ،‬وعادة ما يُظهِر الناصح أنه أفضل من المنصوح‪ .‬ويقولون‪ :‬الحقائق مرة‪،‬‬
‫خصْمك عما أَلِف‪ ،‬فل تخرجه عما ألف بما يكره‪ ،‬بل بما‬
‫خفّة البيان؛ لنك ُتخِرج َ‬
‫فاستعيروا لها ِ‬
‫يحب‪.‬‬
‫والنسان قج يُعبّر عن الحقيقة الواحدة تعبيرا يُكره‪ ،‬ويُعبّر عنها تعبيرا يُحب وترتاح إليه‪ ،‬كالملك‬
‫الذي رأى في منامه أن كل أسنانه قد سقطتْ‪ ،‬فطلب مَنْ يُعبّر له ما رأى‪ ،‬فجاءه المعبّر واستمع‬
‫منه‪ ،‬ثم قال‪ :‬معنى هذه الرؤيا يا مولي أن أهلك جميعا سيموتون‪ ،‬فتشاءم من هذا التعبير ولم‬
‫يُعجبه‪ ،‬فأرسلوا إلى آخر فقال‪ :‬هذا يعني أنك ستكون أطولَ أهل بيتك عُمرا‪ ،‬فَسُرّ الملك بقوله‪.‬‬

‫فهنا المعنى واحد‪ ،‬لكن أسلوب العرض مختلف‪.‬‬


‫ودخل رجل على آخر‪ ،‬فوجده يبكي فقال‪ :‬ما يُبكيك؟ قال‪ :‬أخ ْذتُ ظلما‪ ،‬فتعجب وقال‪ :‬فكيف بك‬
‫إذا أُخِ ْذتَ عدلً؟ أكنت تضحك‪ .‬والمعنى أن مَنْ أُخذ ظلما ل ينبغي له أن يحزن؛ لنه لم يفعل‬
‫شيئا يشينه‪ ،‬والَوْلَى بالبكاء من أُخذ عدلً وبحقّ‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ورجل قُتِل له عزيز فجلس يصرح ويولول‪ ،‬فدخل عليه صاحبه مُواسيا فقال له الرجل‪ :‬إن ابني‬
‫قُتِل ظلما‪ ،‬فقال صاحبه‪ :‬الحمد ل الذي جعل منك المقتول‪ ،‬ولم يجعل منك القاتل‪.‬‬
‫خفّة البيان أمر مهم‪ ،‬وعلى المجادل أن يراعي بيانه‪ ،‬وأن يتحين الفرصة‬
‫إذن‪ :‬سلمة المنطق و ِ‬
‫المناسبة‪ ،‬فل تجادل خصمك وهو غضبان منك أو وأنت غضبان منه‪ .‬قالوا‪ :‬مَرّ رجل فوجد صبيا‬
‫يغرق في البحر‪ ،‬فلم ينتظر حتى يخلع ثيابه‪ ،‬وألقى بنفسه وأنقذ الصبي‪ ،‬ثم أخذ يضربه ويلطمه‪،‬‬
‫والولد يقول‪ :‬شكرا لك بارك ال فيك‪ ،‬لماذا؟ لنه قسا عليه بعد أنْ أنقذه‪ ،‬لكن ما الحال لو وقف‬
‫على البَرّ‪ ،‬وكال له الشتائم وعنّفه‪ ،‬لماذا ينزل البحر وهو ل يعرف العوم؟ لذلك يقول الحكماء‪:‬‬
‫آسِ ثم أنصح‪.‬‬
‫لذلك يُعلّمنا ربنا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬أصول الجدل وآدابه؛ لنه يريد أن يُخرِج بهذا الجدل أناسا من‬
‫الكفر إلى اليمان‪ ،‬ومن الجحود إلى اليقين‪ ،‬وهذا ل يتأتّى إل باللطف واللين‪ ،‬كما قال سبحانه‪{:‬‬
‫حسَنُ‪[} ...‬النحل‪.]125 :‬‬
‫ح ْكمَ ِة وَا ْل َموْعِظَةِ الْحَسَ َن ِة وَجَا ِد ْلهُم بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫ا ْدعُ إِلَىا سَبِيلِ رَ ّبكَ بِا ْل ِ‬
‫ويُعلّمنا سبحانه أن للجدل مراتبَ بحسب حالة الخَصم‪ ،‬فالذي ينكر وجود ال له جدل مخصوص‪،‬‬
‫والذي يؤمن بوجود ال ويقول‪ :‬إن معه شريكا‪ .‬له جدل آخر‪ ،‬ومَنْ يؤمن بال ويقول سأتبع نبيّ‬
‫ولن أتبعك له جدل آخر وبشكل خاص‪ ،‬والمختلفون معك من أهل مِلّتك لهم جدل يليق بحالهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬للجدل مراتب نلحظها في أسلوب القرآن‪ ،‬فبم جادل الذين ل يؤمنون بوجود إله؟ قال‪َ {:‬أمْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ بَل لّ يُوقِنُونَ }[الطور‪35 :‬‬
‫شيْءٍ َأمْ ُهمُ الْخَاِلقُونَ * َأمْ خََلقُواْ ال ّ‬
‫خُِلقُواْ مِنْ غَيْرِ َ‬
‫‪.]36 -‬‬
‫فأتى لهم بمسألة الخَلْق الظاهرة التي لم يدّعها أحد‪ ،‬ول يجرؤ أحد على إنكارها‪ ،‬حتى المشركون‬
‫والملحدة؛ لن أتفه الشياء في صناعاتهم يعرفون صانعها‪ ،‬ويُقرّون له بصنعته‪ ،‬ولو كانت كوبا‬
‫من زجاج أو حتى قلم رصاص‪ ،‬ل ُبدّ أن لكل صنعة صانعا يناسبها‪.‬‬
‫أليس مَنْ خلق السماوات والرض والشمس والقمر‪ ..‬إلخ َأوْلَى بأن يعترفوا له سبحانه بالخَلْق؟‬
‫وهم أنفسهم مخلوقون ولم يقولوا إنّا خلقنا أنفسنا‪ ،‬ولم يقولوا خلقنا غيرنا‪ ،‬فمَنْ خلقهم إذن؟‬
‫وقلنا‪ :‬إن الدّعْوى تثبت لصاحبها ما لم َيقُم لها معارض‪ ،‬والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬قال علنية‪،‬‬
‫وعلى لسان رسله‪ ،‬وفي قرآن يُ ْتلَى إلى يوم القيامة‪ ،‬وأسمع الجميع‪ :‬أنا خالق هذا الكون‪.‬‬

‫فإنْ قال معاند‪َ :‬فمَنْ خلق ال؟ نقول‪ :‬الذي خلقه عليه أن يعلن عن نفسه‪.‬‬
‫شهِدَ اللّهُ أَنّهُ لَ ِإلَـاهَ ِإلّ ُهوَ‪[} ...‬آل عمران‪]18 :‬‬
‫والحق سبحانه شهد لنفسه أنه ل إله إل هو{ َ‬
‫ولم ي ُقلْ أحد أنا الله‪ .‬إذن‪ :‬الذين ينكرون الخالق ل حَقّ لهم‪ .‬هذا في جدال الملحدة الذين ينكرون‬
‫وجود ال‪.‬‬
‫أما الذين يؤمنون بوجود ال‪ ،‬لكن يتخذون معه سبحانه شركاء‪ ،‬فنجادلهم على النحو التالي‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شركاؤكم مع ال غَيْب أم شهادة؟ إنْ قالوا‪ :‬غَيْب فإن ال تعالى شهد لنفسه بالوحدانية‪ .‬وقال‪ :‬أنا‬
‫واحد ل شريك لي‪ ،‬فأين كان شركاؤكم؟‬
‫لماذا لم يدافعوا عن ألوهيتهم مع ال؟ إما لنهم ما دروا بهذا العلن‪ ،‬وإما أنهم دَرَوا وعجزوا‬
‫عن المواجهة‪ ،‬وفي كلتا الحالتين تنفي عنهم صفة اللوهية‪ ،‬فأيّ إله هذا الذي ل يدري بما يدور‬
‫خصْمه؟‬
‫حوله‪ ،‬أو يجبن عن مواجهة َ‬
‫فإنْ قالوا‪ :‬شركاؤنا الصنام والشجار والكواكب وغيرها‪ ،‬فهذه من صُنْع أيديهم‪ ،‬فكيف يعبدونها‪،‬‬
‫ج لها ول تكاليفَ‪ ،‬وإل فبماذا أمرتهم وعَمّ نهتْهم؟ إذن‪ :‬عبادتهم لها باطلة‪.‬‬
‫ثم هي آلهة ل منه َ‬
‫ثم نسأل الذين يتخذون مع ال شركاء‪ :‬أهؤلء الذين تشركونهم مع ال يتواردون على الشياء‬
‫بقدرة واحدة‪ ،‬أم يتناوبون عليها‪ ،‬كل منهم بقدر على شيء معين؟‬
‫ن كانوا يتناوبون على‬
‫ن كانوا يزاولون بقدرة واحدة‪ ،‬فواحد منهم يكفي والباقون ل فائدة منهم‪ ،‬وإ ْ‬
‫إْ‬
‫الشياء‪ ،‬فكلّ منهم قادر على شيء عاجز عن الشيء الخر‪ ،‬والله ل يكون عاجزا‪.‬‬
‫وقد رَدّ الحق سبحانه على هؤلء بقوله تعالى‪ُ {:‬قلْ ّلوْ كَانَ َمعَهُ آِلهَةٌ َكمَا َيقُولُونَ إِذا لّبْ َت َغوْاْ ِإلَىا‬
‫صفّوا حساباتهم معه‪ ،‬وكيف أخذ‬
‫ذِي ا ْلعَرْشِ سَبِيلً }[السراء‪ ]42 :‬أي‪ :‬لَذهبوا إليه إما ليُعنّفوه و ُي َ‬
‫المر لنفسه‪ ،‬وإما ليتوددوا إليه ويعاونوه‪.‬‬
‫ضهُمْ عَلَىا َب ْعضٍ‪[} ...‬المؤمنون‪.]91 :‬‬
‫ق وََلعَلَ َب ْع ُ‬
‫وفي موضع آخر‪ {:‬إِذا لّ َذ َهبَ ُكلّ إِلَـاهٍ ِبمَا خَلَ َ‬
‫وبعد أنْ بينّا جدال الملحدة الذين ينكرون وجود الله وجدال أهل الشرك نجادل أهل الكتاب‪ ،‬وهم‬
‫ألطفُ من سابقيهم؛ لنهم مؤمنون بإله وأنه الخالق‪ ،‬ومؤمنون بالبلغ عن ال‪ ،‬ومؤمنون بالكتب‬
‫التي نزلت‪ ،‬والخلف بيننا وبينهم أنهم ل يؤمنون برسالة محمد صلى ال عليه وسلم في حين‬
‫نؤمن نحن برسلهم وكتبهم‪ ،‬وهذه أول مَيزة تميّز بها السلم على الديان الخرى‪.‬‬
‫ونقول لهؤلء‪ :‬لقد آمنت برسولك‪ ،‬وقد سبقه رسل‪ ،‬فلماذا تنكر أن يأتي رسول بعده؟ ثم هل جاء‬
‫الرسول بعد رسولك ليناقضه في أصول الشياء؟ إنهم جميعا متفقون على أصول العقيدة‬
‫والخلق‪ ،‬متفقون على أنهم عباد ل متحابون‪ ،‬فلماذا تختلفون أنتم؟‬
‫فربنا ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يُعلّمنا } َولَ ُتجَادِلُواْ َأ ْهلَ ا ْلكِتَابِ ِإلّ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ‪.‬‬

‫‪[ { ..‬العنكبوت‪ ]46 :‬لنهم ليسوا ملحدة ول مشركين‪ ،‬فهُ ْم مؤمنون بإلهكم وبالرسل وبالكتب‪،‬‬
‫غاية ما هنالك أنهم ل يؤمنون برسولكم‪.‬‬
‫لذلك يعترض بعض الناس‪ :‬كيف يبيح السلم أنْ يتزوج المسلم من كتابية‪ ،‬ول يبيح للمسلمة أن‬
‫تتزوج كتابيا؟ نقول‪ :‬لن أصل ال ِقوَامة في الزواج للرجل‪ ،‬والزوج المؤمن حين يتزوج كتابية‬
‫مؤمن برسولها‪ ،‬أما الزوج الكتابي فغير مؤمن برسول المؤمنة‪ ،‬فالفَرْق بينهما كبير‪.‬‬
‫ومعنى‪ِ } :‬إلّ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]46 :‬أن في الجدال حسنا وأحسن‪ ،‬وقد سبق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للٍ مّبِينٍ }[سبأ‪ ]24 :‬ونوح‬
‫الجدال الحسن في قوله تعالى‪ {:‬وَإِنّآ َأوْ إِيّاكُمْ َلعَلَىا ُهدًى َأوْ فِي ضَ َ‬
‫عليه السلم يتلطف في جدال قومه‪ ،‬فيقول‪ُ {:‬قلْ إِنِ افْتَرَيُْتهُ َفعََليّ ِإجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ ّممّا تُجْ ِرمُونَ‬
‫}[هود‪.]35 :‬‬
‫فينسب الفتراء إلى نفسه‪ ،‬ويتهم نفسه بالجرام إنِ افترى‪ ،‬فإنْ لم يكُنْ هو المفتر‪ ،‬وهو المجرم‬
‫َفهُمْ‪.‬‬
‫عمّا‬
‫عمّآ أَجْ َرمْنَا َولَ نُسَْألُ َ‬
‫ونبينا محمد صلى ال عليه وسلم يقول في جدال قومه‪ {:‬قُل لّ ُتسْأَلُونَ َ‬
‫حقّ المعاندين‬
‫َت ْعمَلُونَ }[سبأ‪ ]25 :‬فيذكر صلى ال عليه وسلم الجريمة في حقه هو ول يذكرها في َ‬
‫المكذّبين‪ ،‬فأيّ أدب في الدعوة أرفع من هذا الدب؟‬
‫إذن‪ :‬جادل غير المؤمنين بالحسن‪ ،‬وجادل أهل التكاب بالتي هي أحسن‪ ،‬لما يمتازون به عن‬
‫غيرهم من ميزة اليمان بال‪ .‬فإنْ تع ّدوْا وظلموا أنفسهم في مسألة القمة اليمانية‪ ،‬فادعوا أن ل‬
‫ولدا أو غيره‪ ،‬فإِنهم بذلك يدخلون في صفوف سابقيهم من المشركين‪ ،‬فإنْ كنا مأمورين بأن‬
‫نجادلهم بالتي هي أحسن وقالوا بهذا القول‪ ،‬فعلينا أن نجادلهم بما يقابل الحسن‪ ،‬نجادلهم إما‬
‫بالحسن‪ ،‬وإما بغير الحسن أي‪ :‬بالسيف‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬هل يفرض السيف عقائد؟ السيف ل يأخذ من الناس إل قوالبهم‪.‬‬
‫أمّا القلوب فل يخضعها إل اليمان‪ ،‬وال تعالى ل يريد قوالب‪ ،‬إنما يريد قلوبا‪.‬‬
‫سكَ َألّ َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْيهِمْ‬
‫واقرأ قوله تعالى في سورة الشعراء‪َ {:‬لعَّلكَ بَاخِعٌ ّنفْ َ‬
‫ضعِينَ }[الشعراء‪ ]4-3 :‬فإنِ أراد سبحانه َقهْر القوالب‬
‫سمَآءِ آيَةً َفظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ‬
‫مّنَ ال ّ‬
‫والقلوب على الخضوع‪ ،‬بحيث ل يستطيع أحد أنْ يتأبّى على اليمان ما وُجد كافر‪ ،‬وما كفر‬
‫الكافر إل لما أعطاه ال من منطقة الختيار؛ فالحق سبحانه يريد منّا قلوبا تحبه سبحانه وتعبده؛‬
‫لنه سبحانه يستحق أنْ يُعبد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الذين يخرجون عن نطاق الكتابية بتجاوزهم الحدّ‪ ،‬وقولهم أن عيسى ابن ال‪ ،‬أو أن ال ثالث‬
‫ثلثة‪ ،‬إنما يدخلون في نطاق الشرك والكفر‪ ،‬ولن نقول لهؤلء‪ :‬اتبعوا رسولنا‪ ،‬وإنما اتبعوا‬
‫رسولكم‪ ،‬والكتاب الذي جاءكم به من عند ال‪ ،‬وسوف تجدون فيه البشارة بمحمد{ الرّسُولَ النّ ِبيّ‬
‫لمّيّ الّذِي يَجِدُونَهُ َمكْتُوبا عِندَهُمْ فِي ال ّتوْرَا ِة وَالِنْجِيلِ‪[} ...‬العراف‪.]157 :‬‬
‫اُ‬
‫إذن‪ :‬فحين تكفر فأنت ل تكفر بمحمد ول بالقرآن‪ ،‬إنما تكفر أولً بكتابك أنت؛ لذلك يعلمنا الحق‬
‫سبحانه‪:‬‬

‫{ ّلقَدْ َكفَرَ الّذِينَ قَآلُواْ إِنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلمَسِيحُ ابْنُ مَرْ َيمَ‪[} ...‬المائدة‪ ]17 :‬وقال أيضا‪ّ {:‬لقَدْ َكفَرَ الّذِينَ‬
‫قَالُواْ إِنّ اللّهَ ثَاِلثُ ثَلَثَةٍ‪[} ...‬المائدة‪.]73 :‬‬
‫أي‪ :‬ل تعاملوهم على أنهم كتابيون‪ ،‬ولما سُئلْنا في الخارج من أبنائنا الذين يرغبون في الزواج‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من أجنبيات‪ ،‬فكنت أقول للواحد منهم‪ :‬سَلْها أولً‪ :‬ماذا تقول في عيسى‪ ،‬فإنْ قالت هو رسول ال‬
‫فتزوجها وأنت مطمئن؛ لنها كتابية‪ ،‬وإن قالت‪ :‬ابْن ال‪ ،‬فعاملها على أنها كافرة ومشركة‪.‬‬
‫هذا في معنى قوله تعالى‪ِ } :‬إلّ الّذِينَ ظََلمُواْ مِ ْنهُمْ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]46 :‬ونحن ل نحمل السيف في‬
‫وجه هؤلء؛ لن السيف ما جاء إل ليحمي اختيار المختار‪ ،‬فلي أنْ أعرض ديني‪ ،‬وأنْ أُعلنه‬
‫ن تركوني أعلن عن ديني فهم أحرار‪ ،‬يؤمنون أو‬
‫ن منعوني من هذه فلهم السيف‪ ،‬وإ ْ‬
‫وأشرحه‪ ،‬فإ ْ‬
‫ل يؤمنون‪.‬‬
‫إنْ آمنوا فأهلً وسهلً‪ ،‬وإنْ لم يؤمنوا فهم أهل ذمة‪ ،‬لهم ما لنا وعليهم ما علينا‪ ،‬ويدفعون الجزية‬
‫نظير ما يتمعون به في بلدنا‪ ،‬وعليهم ما علينا‪ ،‬وما نُقدّمه لهم من خدمات‪ ،‬وإل فكيف نفرض‬
‫على المؤمنين الزكاة ونترك هؤلء ل يقدمون شيئا؟‬
‫لذلك نرى الكثيرين من أعداء السلم يعترضون على مسألة َدفْع الجزية‪ ،‬ويروْنَ أن السلم‬
‫فُرِض بقوة السيف‪ ،‬وهذا قول يناقض بعضه بعضا‪ ،‬فما فرضنا عليكم الجزية إل لننا تركناكم‬
‫تعيشون معنا على دينكم‪ ،‬ولو أرغمناكم على السلم ما كان عليكم الجزية‪.‬‬
‫شدُ مِنَ ا ْل َغيّ‪[} ...‬البقرة‪]256 :‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يقول‪ {:‬لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ قَد تّبَيّنَ الرّ ْ‬
‫لنني ل أُكرهك على شيء إل إذا كنتَ ضعيف الحجة‪ ،‬وما دام أن الرشدْ بيّن والغيّ بيّن‪ ،‬فل‬
‫داعي للكراه إذن‪.‬‬
‫ل يقول لك{ لَ ِإكْرَاهَ فِي الدّينِ‪} ...‬‬
‫لكن البعض يفهم هذه الية فهما خاطئا فحين تقول له‪ :‬صَ ّ‬
‫[البقرة‪ ]256 :‬ونقول له‪ :‬لم تفهم المراد‪ ،‬فل إكراه في أصل الدين في أنْ تؤمن أو ل تؤمن‪ ،‬فأنت‬
‫حدّا من‬
‫في هذه حُرّ‪ ،‬أما إذا آمنتَ وأعلنتَ أنه ل إله إل ال محمد رسول ال‪ ،‬فليس لك أن تكسر َ‬
‫حدود السلم‪ ،‬وفَرْق بين " ل إكراه في الدين " و " ل إكراه في التدين "‪.‬‬
‫ومن حكمة السلم أن يعلن حكم الردة لمن أراد أنْ يؤمن‪ ،‬نقول له قف قبل أن تدخل السلم‪،‬‬
‫اعلم أنك إنْ تراجعت عنه وارتددتَ قتلناك‪ ،‬وهذا الحكْم يضع العقبة أمام الراغب في السلم حتى‬
‫يفكر أولً‪ ،‬ول يقدم عليه إل على بصيرة وبينة‪.‬‬
‫وإذا قيل } أَ ْهلَ ا ْلكِتَابِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]46 :‬أي‪ :‬الكتاب المنزّل من ال‪ ،‬وقد علّم ال تعالى‬
‫رسوله صلى ال عليه وسلم أنْ يجادل المشركين بقوله‪ {:‬فَاسْأَلُواْ أَ ْهلَ ال ّذكْرِ إِن كُنْتُم لَ َتعَْلمُونَ }‬
‫[النحل‪ ]43 :‬فعلم الرسول أن يرجع إلى أهل الكتاب‪ ،‬وأنْ يأخذ بشهادتهم‪ ،‬وفي موضع آخر علّمه‬
‫أن يقول لمن امتنع عن اليمان‪.‬‬

‫شهِيدا بَيْنِي وَبَيْ َنكُ ْم َومَنْ عِن َدهُ عِ ْلمُ ا ْلكِتَابِ }‬


‫ستَ مُرْسَلً ُقلْ َكفَىا بِاللّهِ َ‬
‫{ وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ لَ ْ‬
‫[الرعد‪.]43 :‬‬
‫إذن‪ :‬فرسولنا يستشهد بكم‪ ،‬لما عندكم من البينات الواضحة والدلئل على صدقه‪ .‬حتى قال عبد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال بن سلم‪ :‬لقد عرفته حين رأيته كمعرفتي لبني‪ ،‬ومعرفتي لمحمد أشد‪ ،‬ولم ل يعرفونه وقد‬
‫جدُونَهُ َمكْتُوبا عِندَ ُهمْ فِي ال ّتوْرَاةِ‬
‫ل ّميّ الّذِي يَ ِ‬
‫ياُ‬
‫ذُكر في كتبهم باسمه ووصفه‪ {:‬الرّسُولَ النّ ِب ّ‬
‫وَالِنْجِيلِ‪[} ...‬العراف‪.]157 :‬‬
‫ثم ألم يحدث منكم أنكم كنتم تستفتحون به على المشركين في المدينة‪ ،‬وتقولون‪ :‬لقد أطلّ زمان‬
‫نبي يُبعث في مكة‪ ،‬فنتبعه ونقتلكم به قَتْل عاد وإرم؟ فلما جاءكم النبي الذي تعرفوه أنكرتموه‬
‫علَى الّذِينَ َكفَرُواْ فََلمّا جَآءَ ُهمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ بِهِ‪} ...‬‬
‫وكفرتم به‪َ {:‬وكَانُواْ مِن قَ ْبلُ َيسْ َتفْتِحُونَ َ‬
‫[البقرة‪.]89 :‬‬
‫كيف يستشهد ال على صدق رسوله بكم وبكتبكم ثم تكذبون؟ قالوا‪ :‬كذّبوا لما لهم من سلطة زمنية‬
‫يخافون عليها‪ ،‬ورأوا أن السلم سيسلبهم إياها‪.‬‬
‫وكلمة } بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]46 :‬وردت في القرآن‪ ،‬لكن في غير الجدل في الدين‪،‬‬
‫حسَنُ فَإِذَا‬
‫وردت في كل شيء يُوجب جدلً بين أُناس؛ وذلك في قوله سبحانه‪ {:‬ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫حمِيمٌ }[فصلت‪.]34 :‬‬
‫عدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫ك وَبَيْنَهُ َ‬
‫الّذِي بَيْ َن َ‬
‫وقد جاءني رجل يذكر هذه الية‪ ،‬وما يترتب على الحسان‪ ،‬يقول‪ :‬عملتُ بالية فلم أجد الولي‬
‫الحميم؟ قلت له‪ :‬كوْنك تحمل هذا المر في رٍأسك دليل على أنك لم تدفع بالتي هي أحسن؛ لن‬
‫ال تعالى ل يقرر قضية قرآنية‪ ،‬ويُكذّبها واقع الحياة‪ ،‬فإنْ دفعتَ بالتي هي أحسن بحقّ ل ُبدّ وأنْ‬
‫خصْمك كأنه وليّ حميم‪.‬‬
‫تجد َ‬
‫لذلك يقول أحد العارفين‪:‬يَا مَنْ ُتضَايِقه ال ِفعَالُ مِنَ التِي وَمنَ الذِي ا ْدفَعْ فديْ ُتكَ بالتي حتّى تَرى فإذَا‬
‫الذيوالمعنى‪ :‬من التي تسيء إليك‪ ،‬أو الذي يسيء إليك{ ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ‪[} ...‬فصلت‪]34 :‬‬
‫حمِيمٌ }[فصلت‪.]34 :‬‬
‫حتى ترى{ فَِإذَا الّذِي بَيْ َنكَ وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫وأذكر أنه جاءني شاب يقول‪ :‬إن عمي مُوسِر‪ ،‬وأنا فقير‪ ،‬وهو يتركني ويتمتع بماله غيري‪ ،‬فقلت‬
‫له‪ :‬بال أتحب النعمة عند عمك؟ فسكت‪ ،‬قلت له‪ :‬إذن أنت ل تحبها عنده‪ ،‬لكن اعلم أن النعمة‬
‫حبّ صاحبها لها؛ لذلك ل تذهب إلى كارهها عند صاحبها‪.‬‬
‫تحب صاحبها أكثر من ُ‬
‫فما عليك إل أنْ تثوب إلى الحق‪ ،‬وأنْ تتخلص مما تجد في قلبك لعمك‪ ،‬وثِقْ بأن ال هو الرزاق‪،‬‬
‫وإنْ أردتَ نعمة رأيتها عند أحد فأحببها عنده‪ ،‬وسوف تأتيك إلى بابك‪ ،‬لنك حين تكره النعمة عند‬
‫غيرك تعترض على قدر ال‪.‬‬
‫بعد هذا الحوار مع الرجل ‪ -‬وال يشهد ‪ -‬دَقّ جرس الباب‪ ،‬فإذا به يقول لي‪ :‬أما دريتَ بما‬
‫ي ضَرْبا‬
‫حدث؟ قلت‪ :‬ماذا؟ قال‪ :‬جاءني عمي قبل الفجر بساعة‪ ،‬فلما أنْ فتحت له الباب انهال عل ّ‬
‫وشَتْما يقول‪ :‬لماذا تتركني للجانب يأكلون مالي وأنت موجود؟ ثم أعطاني المفاتيح وقال‪ :‬من‬
‫الصباح تباشر عملي بنفسك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فقلت له‪ :‬لقد أحببتها عند عمك‪ ،‬فجاءت تطرق بابك‪.‬‬
‫وقوله سبحانه } ِإلّ الّذِينَ ظََلمُواْ مِ ْنهُمْ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]46 :‬أي‪ :‬ظلموا أنفسهم بالشرك؛ لن ال‬
‫عظِيمٌ }[لقمان‪ ]13 :‬تظلم نفسك ل تظلم ال؛ لن الظالم يكون أقوى‬
‫تعالى قال‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ‬
‫من المظلوم‪ .‬وجعل الشرك ظلما عظيما لنه ذنبٌ ل يغفر‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ َيغْفِرُ أَن ُيشْ َركَ بِ ِه وَ َي ْغفِرُ‬
‫مَا دُونَ ذاِلكَ ِلمَن يَشَآءُ‪[} ...‬النساء‪.]116 :‬‬
‫فالشرك ظلم عظيم عليك نفسك‪ ،‬أما الذنوب دون الشرك فلها مخرج‪ ،‬وقد تنفكّ عنها إما التوبة‬
‫برحمة ال ومغفرته‪.‬‬
‫ثم يُعلّمنا الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬التي هي أحسن في الردّ على الذين ظلموا منهم‪َ } :‬وقُولُواْ آمَنّا‬
‫ح ٌد وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ { [العنكبوت‪.]46 :‬‬
‫بِالّذِي أُن ِزلَ إِلَيْنَا وَأُن ِزلَ إِلَ ْيكُمْ وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـا ُهكُ ْم وَا ِ‬
‫يعني‪ :‬فعل َم الختلف‪ ،‬ما دام أن الله واحد‪ ،‬وما دام أن كتابكم يذكر الرسول الذي يأتي بعد‬
‫رسولكم‪ ،‬وقد سبق رسولكم رسل‪ ،‬فكان يجب عليكم أن تؤمنوا به‪ ،‬وأنْ تُصدّقوه‪.‬‬
‫جاءت امرأة تشتكي أن زوجها لم يُوف بما وعدها به‪ ،‬وقد اشترطتْ عليه قبل الزواج ألّ يذهب‬
‫إلى زوجته الولى‪ ،‬فقُلْت لها‪ :‬يعني أنت الثانية وقد رضيت به وهو متزوج؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫فلماذا رضيتِ به؟ قالت‪ :‬أعجبني وأعجبته‪ ،‬قلت‪ :‬فل مانع إذن أنْ تعجبه أخرى فيتزوجها‪ ،‬وتقول‬
‫ق الولى فيه‪ ،‬لتحترم الثالثة‬
‫له‪ :‬إياك أنْ تذهب إلى الثانية‪ ،‬فهل هذا يعجبك؟ إذن‪ :‬فاحترمي ح ّ‬
‫حقك فيه‪ ،‬فقامت وانصرفت‪.‬‬
‫حدٌ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]46 :‬لن الكلم هنا للذين ظلموا وقالوا بالتعدد‪.‬‬
‫وقال‪ } :‬وَإِلَـاهُنَا وَإِلَـا ُهكُ ْم وَا ِ‬
‫وهنا قال تعالى } وَنَحْنُ َلهُ مُسِْلمُونَ { [العنكبوت‪ ]46 :‬ولم يقل مثلً‪ :‬ونحن به مؤمنون‪ ،‬ولماذا؟‬
‫ن تؤمن بإله‪ ،‬أمّا اليمان فليس كلما‪ ،‬اليمان أن تثق به‪ ،‬وأنْ تأمنه على‬
‫لن اليمان عقيدة قلبية أ ْ‬
‫أنْ يُشرّع لك‪ ،‬وأنْ يُسلم له المر " افعل كذا " " ول تفعل كذا " ‪ ،‬وهناك أناس ليسوا بمؤمنين‬
‫بقلوبهم‪ ،‬ومع ذلك يعملون عمل المسلمين‪ ،‬إنهم المنافقون‪.‬‬
‫ل الِيمَانُ فِي‬
‫خِ‬‫ت الَعْرَابُ آمَنّا قُل لّمْ ُت ْؤمِنُو ْا وَلَـاكِن قُولُواْ َأسَْلمْنَا وََلمّا َيدْ ُ‬
‫لذلك يقول تعالى‪ {:‬قَاَل ِ‬
‫قُلُو ِبكُمْ‪[} ...‬الحجرات‪.]14 :‬‬
‫إذن‪ :‬فَرْق بين إيمان وإسلم‪ ،‬فقد يتوفر أحدهما دون الخر؛ لذلك قال سبحانه{ وَا ْل َعصْرِ * إِنّ‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ‪[} ...‬العصر‪ ]3-1 :‬فقال هنا‪ } :‬وَنَحْنُ َلهُ‬
‫الِنسَانَ َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫مُسِْلمُونَ { [العنكبوت‪ ]46 :‬يعني‪ :‬مُنفّذين لتعاليم ديننا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬وكَذَِلكَ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3312 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جحَدُ‬
‫َوكَذَِلكَ أَنْزَلْنَا إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ فَالّذِينَ آَتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ ُي ْؤمِنُونَ بِهِ َومِنْ َهؤُلَاءِ مَنْ ُي ْؤمِنُ ِب ِه َومَا يَ ْ‬
‫بِآَيَاتِنَا إِلّا ا ْلكَافِرُونَ (‪)47‬‬

‫قوله تعالى { َوكَذَِلكَ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]47 :‬أي‪ :‬كما أنزلنا كتبا على مَنْ سبقك‬
‫أنزلنا إليك كتابا يحمل منهجا‪ ،‬والكتب السماوية قسمان‪ :‬قسم يحمل منهج الرسول في (افعل كذا)‬
‫و (ل تفعل كذا)‪ ،‬وذلك شركة في كل الكتب التي أُنزَِلتْ على الرسل‪ ،‬وكتاب واحد هو القرآن‪،‬‬
‫هو الذي جاء بالمنهج والمعجزة معا‪.‬‬
‫فكلّ الرسل قبل محمد صلى ال عليه وسلم كان للواحد منهم كتاب فيه منهج ومعجزة منفصلة عن‬
‫المنهج‪ ،‬فموسى عليه السلم كان كتابه التوراة‪ ،‬ومعجزته العصا‪ ،‬وعيسى عليه السلم كان كتابه‬
‫النجيل‪ ،‬ومعجزته إحياء الموتى بإذن ال‪.‬‬
‫أما رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فكتابه القرآن ومعجزته القرآن‪ ،‬فانظر كيف التقت المعجزة‬
‫بالمنهج لتظل لصيقة به؛ لن زمن رسالة محمد ممتدّ إلى قيام الساعة‪ ،‬فل ُبدّ أنْ تظل المعجزة‬
‫موجودة ليقول الناس محمد رسول ال‪ ،‬وهذه معجزته‪.‬‬
‫ل أن نقول‪ :‬هذا عيسى رسول ال وهذه معجزته؛ لنها ليست باقية‪ ،‬ولم‬
‫في حين ل نستطيع مث ً‬
‫نعرفها إل من خلل إخبار القرآن بها‪ ،‬وهذا يُوضّح لنا َفضْل القرآن على الرسل وعلى معجزاتهم‬
‫حيث ثبتها عند كل مَنْ لم يَرهَا‪ ،‬فكل مَنْ آمن بالقرآن آمن بها‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬أ ُكلّ رسول يأتي بمعجزة؟ المعجزة ل تأتي إل لمن تحدّاه‪ ،‬واتهمه بالكذب‪ ،‬فتأتي المعجزة‬
‫لتثبت صِدْقه في البلغ عن ربه؛ لذلك نجد مثلً أن سيدنا شيثا وإدريس وشَعيبا ليست لهم‬
‫معجزات‪.‬‬
‫وأبو بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬والسيدة خديجة أم المؤمنين هل كانا في حاجة إلى معجزة ليؤمنا‬
‫برسول ال؟ أبدا‪ ،‬فبمجرد أنْ قال‪ :‬أنا رسول ال آمنوا به‪ ،‬فما الداعي للمعجزة إذن؟‬
‫إذن‪ :‬تميّز صلى ال عليه وسلم على إخوانه الرسل بأن كتابه هو عَيْن معجزته وسبق أنْ قلنا‪ :‬إن‬
‫الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يجعل المعجزة من جنس ما نبغ فيه القوم‪ ،‬فلو تحداهم بشيء ل عِلْم لهم‬
‫به لقالوا‪ :‬نحن ل نعلم هذا‪ ،‬فكيف تتحدّانا به؟ والعرب كانوا أهل فصاحة وبيان‪ ،‬وكانوا يقيمون‬
‫للقوْل أسواقا ومناسبات‪ ،‬فتحداهم بفصاحة القرآن وبلغته أنْ يأتوا بمثله‪ ،‬ثم بعشر سُور‪ ،‬ثم‬
‫بسورة واحدة‪ ،‬فما استطاعوا‪ ،‬والقرآن كلم من جنس كلمهم‪ ،‬وبنفس حروفهم وكلماتهم‪ ،‬إل أن‬
‫المتكلم بالقرآن هو ال تعالى؛ لذلك ل يأتي أحد بمثله‪.‬‬
‫والقرآن أيضا كتاب يهيمن على كل الكتب السابقة عليه‪ ،‬يُبقي منها ما يشاء من الحكام‪ ،‬ويُنهِي ما‬
‫يشاء‪ .‬أما العقائد فهي ثابتة ل نسخَ فيها‪ ،‬وأيضا ل نسخَ في القصص والخبار‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والنسْخ ل يتأتى إل في التشريع بالحكام افعل ول تفعل‪ ،‬ذلك لن التشريع يأتي مناسبا لدواء‬
‫البيئات المختلفة‪.‬‬
‫لذلك كان بعض الرسل يتعاصرون كإبراهيم ولوط‪ ،‬وموسى وشعيب‪ ،‬عليهم السلم‪ ،‬ولكل منهم‬
‫رسالته؛ لنه متوجه إلى مكان بعينه ليعالج فيه داءً من الداءات‪ ،‬في زمن انقطعت فيه سُبُل‬
‫اللتقاء بين البيئات المختلفة‪ ،‬فالجماعة في مكان ربما ل َيدْرون بغيرهم في بيئة مجاورة‪.‬‬

‫أما محمد صلى ال عليه وسلم فقد جاء ‪ -‬كما يعلم ربه أَ َزلً ‪ -‬على موعد مع التقاء البيئات‬
‫وتداخُل الحضارات‪ ،‬فالحدث يتم في آخر الدنيا‪ ،‬نعلم به‪ ،‬بل‪ ،‬ونشاهده في الت ّو واللحظة‪ ،‬وكأنه‬
‫في بلدنا‪ .‬إذن‪ :‬فالداءات ستتحد أيضا‪ ،‬وما دامت داءات المم المختلفة قد اتحدتْ فيكفي لها‬
‫رسول واحد يعالجها‪ ،‬ويكون رسولً لكل البشر‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬فَالّذِينَ آتَيْنَا ُهمُ ا ْلكِتَابَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]47 :‬أي‪ :‬من قبلك } ُي ْؤمِنُونَ بِهِ‪...‬‬
‫{ [العنكبوت‪ ]47 :‬لنه ل سلطة زمنية تعزلهم عن الكتاب الجديد‪ ،‬فينظرون في أوصاف النبي‬
‫الجديد التي وردتْ في كتبهم ثم يطابقونها على أوصاف رسول ال؛ لذلك لما بلغ سلمان الفارسي‬
‫أن بمكة نبيا جديدا‪ ،‬ذهب إلى سيدنا رسول ال‪ ،‬وأخذ يتأمله وينظر إليه بإمعان‪ ،‬فوجد فيه‬
‫علمتين مما ذكرتْ الكتب السابقة‪ ،‬وهما أنه صلى ال عليه وسلم يقبل الهدية‪ ،‬ول يقبل الصدقة‪،‬‬
‫فراح ينظر هنا وهناك لعله يرى الثالثة‪ ،‬ففطن إليه رسول ال بما آتاه ال من ِفطْنة النبوة التي‬
‫أودعها ال فيه‪ ،‬وقال‪ :‬لعلك تريد هذا‪ ،‬وكشف له عن خاتم النبوة‪ ،‬وهو العلمة الثالثة‪.‬‬
‫ومن لباقة سيدنا عبد ال بن سلم‪ ،‬وقد ذهب إلى سيدنا رسول ال وهو ‪ -‬ابن سلم ‪ -‬على‬
‫يهوديته ‪ -‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إن اليهود قوم ُبهْت ‪ -‬يعني يُكثرون الجدال دون جدوى ‪ -‬وأخشى‬
‫إنْ أعلنتُ إسلمي أن يسبوني‪ ،‬وأن يظلموني‪ ،‬ويقولوا ِفيّ فُحْشا‪ ،‬فأريد يا رسول ال إنْ جاءوك‬
‫أن تسألهم عني‪ ،‬فإذا قالوا ما قالوا أعلنت إسلمي‪ ،‬فلما جاء جماعة من اليهود إلى رسول ال‬
‫سألهم‪ :‬ما تقولون في عبد ال بن سلم؟ قالوا‪ :‬شيخنا وحَبْرنا وسيدنا‪ ..‬إلخ فقال عبد ال‪ :‬أما وقد‬
‫قالوا فيّ ما قالوا‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬فإني أشهد أن ل إله إل ال‪ ،‬وأنك رسول ال‪ ،‬فقالوا لتوّهم‪ :‬بل‬
‫أنت شرنا وابن شرنا‪ ،‬ونالوا منه‪ ،‬فقال عبد ال‪ :‬ألم أ ُقلْ لك يا رسول ال أنهم قوم ُبهْت؟‬
‫وقوله سبحانه } َومِنْ هَـاؤُلءِ مَن ُي ْؤمِنُ بِهِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]47 :‬أي‪ :‬من كفار مكة مَنْ سيأتي‬
‫بعد هؤلء‪ ،‬فيؤمن بالقرآن } َومَا َيجْحَدُ بِآيَاتِنَآ ِإلّ ا ْلكَافِرونَ { [العنكبوت‪ ]47 :‬الجحد‪ :‬إنكار‬
‫متعمد؛ لن من النكار ما يكون عن جهل مثلً‪ ،‬والجحد يأتي من أن النّسب إما نفي‪ ،‬وإما إثبات‪،‬‬
‫فإنْ قال اللسان نسبة إيجاب‪ ،‬وفي القلب سَلْب أو قال سلب وفي القلب إيجاب‪ ،‬فهذا ما نُسمّيه‬
‫الجحود‪.‬‬
‫ل قول ال تعالى‪:‬‬
‫لذلك يُفرّق القرآن بين صيغة اللفظ ووجدانيات اللفظ في النفس‪ ،‬واقرأ مث ً‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ش َهدُ إِ ّنكَ لَرَسُولُ اللّهِ‪[} ..‬المنافقون‪ ]1 :‬وهذا منهم كلم طيب وجميل{‬
‫{ ِإذَا جَآ َءكَ ا ْلمُنَا ِفقُونَ قَالُواْ نَ ْ‬
‫شهَدُ إِنّ‬
‫وَاللّهُ َيعْلَمُ إِ ّنكَ لَرَسُولُهُ‪[} ...‬المنافقون‪ ]1 :‬أي‪ :‬أنه كلم وافق علم ال‪ ،‬لكن{ وَاللّهُ َي ْ‬
‫ا ْلمُنَا ِفقِينَ َلكَاذِبُونَ }[المنافقون‪ ]1 :‬فكيف يحكم الحق عليهم بالكذب‪ ،‬وقد قالوا ما وافق علم ال؟‬
‫نقول‪ :‬كلم ال يحتاج إلى تدبّر لمعناه‪ ،‬فالحق يحكم عليهم بأنهم كاذبون‪ ،‬ل في قولهم‪ :‬إنك لرسول‬
‫ال‪ ،‬فهذه حق‪ ،‬بل في شهادتهم؛ لنها شهادة باللسان ل يوافقها اعتقاد القلب‪ ،‬فالمشهود به حق‪،‬‬
‫لكن الشهادة كذب‪.‬‬
‫خصّ الكافرين في مسألة الجحود؟ قالوا‪ :‬لن غيرالكافر عنده يقظة وجدان‪ ،‬فل يجرؤ‬
‫لكن‪ ،‬لماذا َ‬
‫على هذه الكلمة؛ لنه يعلم أن ال تعالى ل يأخذ الناس بذنوبهم الن‪ ،‬إنما يُؤجّلها لهم ليوم‬
‫الحساب‪ ،‬فهذه المسألة تحجزهم عن الجحود‪.‬‬

‫(‪)3313 /‬‬

‫ب وَلَا َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ ِإذًا لَارْتَابَ ا ْلمُ ْبطِلُونَ (‪)48‬‬


‫َومَا كُ ْنتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَا ٍ‬

‫قوله‪ { :‬تَتْلُواْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]48 :‬أي‪ :‬تقرأ‪ ،‬واختار تتلو لنك ل تقرأ إل ما سمعت‪ ،‬فكأن‬
‫قراءتك لما سمعت تجعل قولك تاليا لما سمعتَ‪ ،‬نقول‪ :‬يتلوه يعني‪ :‬يأتي بعده { َولَ َتخُطّهُ‬
‫بِ َيمِي ِنكَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]48 :‬يعني‪ :‬الكتابة‪.‬‬
‫وفَرْق بين أنْ تقرأ‪ ،‬وبين أنْ تكتب‪ ،‬فقد تقرأ لنك تحفظ‪ ،‬وتحفظ نتيجة السماع‪ ،‬كإخواننا الذين‬
‫ابتلهم ال بكفّ نظرهم ويقرأون‪ ،‬إنما يقرأون ما سمعوه؛ لن السمع كما قلنا أول حاسة تؤدي‬
‫مهمتها في النسان‪ ،‬فمن الممكن أن تحفظ ما سمعت‪ ،‬أما أن تكتبه فهذا شيء آخر‪.‬‬
‫والكلم هنا لون من ألوان الجدل والقناع لكفار قريش الذين يُكذّبون رسول ال‪ ،‬ولوْن من ألوان‬
‫التسلية لرسول ال‪ ،‬كأنه يقول سبحانه لرسوله‪ :‬اطمئن‪ .‬فتكذيب هؤلء لك افتراء عليك؛ لنك ما‬
‫تل ْوتَ قبله كتابا ول كتبته بيمينك‪ ،‬وهم يعرفون سيرتك فيهم‪.‬‬
‫عمُرا مّن قَبْلِهِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[يونس‪.]16 :‬‬
‫كما قال سبحانه في موضع آخر‪َ {:‬فقَدْ لَبِ ْثتُ فِيكُمْ ُ‬
‫أربعون سنة قضاها رسول ال بين قومه قبل البعثة‪ ،‬ما جرّبوا عليه قراءة ول كتابة ول خطبة‪،‬‬
‫ول نمّق قصيدة‪ ،‬فكيف تُكذّبونه الن؟‬
‫فإن قالوا‪ :‬كانت عبقرية عند محمد أجّلها حتى سِنّ الربعين‪ .‬نقول‪ :‬العبقرية عادة مَا تأتي في‬
‫أواخر العقد الثاني من العمر في السابعة عشرة‪ ،‬أو الثامنة عشرة‪ ،‬ومَنْ ضمن لمحمد البقاء حتى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سِنّ الربعين‪ ،‬وهو يرى مصارع أهله‪ ،‬جده وأبيه وأمه؟‬
‫لو كان عندك شيء من القراءة أو الكتابة لكان لهم عذر‪ ،‬ولكان في المر شبهة تدعو إلى‬
‫لوّلِينَ اكْتَتَ َبهَا َف ِهيَ ُتمْلَىا عَلَ ْيهِ ُبكْ َر ًة وََأصِيلً }‬
‫الرتياب في أمرك‪ ،‬كما قالوا‪َ {:‬وقَالُواْ َأسَاطِي ُر ا َ‬
‫[الفرقان‪.]5 :‬‬
‫ج ِميّ‬
‫وقالوا‪ {:‬إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ‪[} ...‬النحل‪ ]103 :‬فردّ القرآن عليهم{ لّسَانُ الّذِي يُ ْلحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْ َ‬
‫وَهَـاذَا ِلسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل‪.]103 :‬‬
‫وقالوا‪ :‬ساحر‪ .‬وقالوا‪ :‬شاعر‪ .‬وقالوا‪ :‬مجنون‪ .‬وكلها افتراءات وأباطيل واهية يسهل الردّ عليها‪:‬‬
‫فإنْ كان ساحرا‪ ،‬فلماذا لم يسحركم أنتم أيضا وتنتهي المسألة؟ وإنْ كان شاعرا فهل جرّبتم عليه‬
‫أنْ قال شعرا قبل بعثته؟‬
‫وإنْ قُلْتم مجنون‪ ،‬فالجنون َفقْد العقل‪ ،‬بحيث ل يستطيع النسان أنْ يختار بين البدائل‪ ،‬فهل جرّبتم‬
‫على محمد شيئا من ذلك؟ وكيف يكون المجنون على خُلُق عظيم بشهادتكم أنتم أنه الصادق‬
‫المين‪ ،‬فعنده انضباط في الملَكات وفي التصرفات‪ ،‬فكيف تتهمونه بالجنون؟‬
‫وكلمة { مِن قَبِْلهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]48 :‬لها عجائب في كتاب ال منها هذه الية‪َ { :‬ومَا كُنتَ تَتْلُواْ‬
‫ب َولَ َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]48 :‬فيقول بعض العارفين (من قبله)‪ :‬أي‬
‫مِن قَبْلِهِ مِن كِتَا ٍ‬
‫من قبل نزول القرآن عليك‪ ،‬وهذا القول { قَبْلِهِ‪[ } ..‬العنكبوت‪ ]48 :‬يدل على أنه من الجائز أن‬
‫يكون رسول ال صلى ال عليه وسلم قد علم كيف يقرأ وكيف يكتب بعد نزول القرآن عليه‪ ،‬حتى‬
‫ل يكون في أمته من هو أحسن حالً منه في أي شيء‪ ،‬أو في خصلة من خصال الخير‪.‬‬

‫ثم تأمل قوله تعالى‪ {:‬فَِلمَ َتقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ اللّهِ مِن قَ ْبلُ‪[} ...‬البقرة‪ ]91 :‬ألَ يدخل في روع رسول ال‬
‫أنهم ربما يجترئون عليه فيقتَلوه‪ ،‬فيتهيب منهم‪ ،‬أو يدخل في نفوسهم هم‪ ،‬فيجترئون عليه كما قتلوا‬
‫النبياء من قبل؛ لذلك جاءتْ الية لتقرر أن هذا كان في الماضي‪ ،‬أما الن فلن يحدث شيء من‬
‫هذا أبدا‪ ،‬ولن يُمكّنكم ال من نبيه‪.‬‬
‫وكلمة } َومَا كُنتَ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]48 :‬تكررت كثيرا في كتاب ال‪ ،‬ويُسمّونها في الزمن‬
‫الماضي‪ ،‬والحاضر‪ ،‬والمستقبل‪.‬‬
‫لمْرَ‪[} ...‬القصص‪.]44 :‬‬
‫كما في قوله تعالى‪َ {:‬ومَا كُنتَ بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ‬
‫وقوله تعالى‪َ {:‬ومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي َأ ْهلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا‪[} ...‬القصص‪.]45 :‬‬
‫ل َمهُمْ أَ ّيهُمْ َيكْ ُفلُ مَرْيَمَ‪[} ...‬آل عمران‪.]44 :‬‬
‫وقوله تعالى‪َ {:‬ومَا كُنتَ لَدَ ْي ِهمْ إِذْ ُي ْلقُون َأقْ َ‬
‫ب َولَ َتخُطّهُ بِ َيمِي ِنكَ‪[ { ...‬العنكبوت‪.]48 :‬‬
‫وهنا‪َ } :‬ومَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَا ٍ‬
‫لمّيّ‪[} ...‬العراف‪ ]157 :‬وإياك أن تظن‬
‫ياُ‬
‫لذلك وصفه ربه ‪ -‬عز وجل ‪ -‬بأنه{ الرّسُولَ النّ ِب ّ‬
‫أن المية عَيْب في رسول ال‪ ،‬فإنْ كانت عيبا في غيره‪ ،‬فهي فيه شرف؛ لن معنى أمي يعني‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫على فطرته كما ولدتْه أمه‪ ،‬لم يتعلم شيئا من أحد‪ ،‬وكذلك رسول ال لم يتعلّم من الخَلْق‪ ،‬إنما تعلم‬
‫من الخالق فعَلتْ مرتبةُ علمه عن الخَلْق‪.‬‬
‫ومن ذلك المكانة التي أخذها المام علي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬في العلم والفتاء حتى قال عنه عمر‬
‫رضي ال عنه ‪ -‬مع ما عُرف عن عمر من سداد الرأي حتى إن القرآن لينزلُ موافقا لرأيه‪،‬‬
‫ومُؤيّدا لقوله ‪ -‬يقول عمر‪ :‬بئس المقام بأرض ليس فيها أبو الحسن‪ .‬لماذا؟‬
‫لنه كان صاحب حجة ومنطق وصاحب بلغة‪ ،‬ألم يراجع الفاروقَ في مسألة المرأة التي ولدتْ‬
‫لستة أشهر من زواجها‪ ،‬وعمر يريد أنْ يقيم عليها الحد؛ لن الشائع أن مدة الحمل تسعة أشهر‬
‫فتسرّع البعض وقالوا‪ :‬إنها سُبق إليها‪ ،‬لكن يكون للمام على رأي آخر‪ ،‬فيقول لعمر‪ :‬لكن ال‬
‫ضعْنَ‬
‫يقول غير هذا‪ ،‬فيقول عمر‪ :‬وما ذاك؟ قال‪ :‬ألم يقُل الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ‪[} ...‬البقرة‪ ]233 :‬قال‪ :‬بلى‪.‬‬
‫َأ ْولَدَهُنّ َ‬
‫شهْرا‪[} ...‬الحقاف‪ ]15 :‬وبطرح العامين من ثلثين شهرا‬
‫حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ‬
‫قال‪ :‬ألم يقل‪ {:‬وَ َ‬
‫يكون الباقي ستة أشهر‪ ،‬فإذا ولدتْ المرأة لستة أشهر‪ ،‬فهذا أمر طبيعي ل ارتيابَ فيه‪.‬‬
‫وفي يوم دخل حذيفة على عمر رضي ال عنهما ‪ -‬فسأله عمر‪ :‬كيف أصبحتَ يا حذيفة؟ فقال‬
‫حذيفة‪ :‬يا أمير المؤمنين‪ ،‬أصبحت أحب الفتنة‪ ،‬وأكره الحق‪ ،‬وأُصلّي بغير وضوء‪ ،‬ولي في‬
‫الرض ما ليس ل في السماء‪.‬‬
‫فغضب عمر‪ ،‬وهَمّ أن يضربه بدرة في يده‪ ،‬وعندها دخل عليّ فوجد عمر ُمغْضبا فقال‪ :‬مالي‬
‫أراك مغضبا يا أمير المؤمنين؟ فقصّ عليه ما كان من أمر حذيفة‪ ،‬فقال علي‪:‬‬
‫نعم يا أمير المؤمنين يحب الفتنة؛ لن ال تعالى قال‪:‬‬

‫{ إِ ّنمَآ َأ ْموَاُلكُمْ وَأَ ْولَ ُدكُمْ فِتْ َنةٌ‪[} ...‬التغابن‪.]15 :‬‬


‫ويكره الحق أي‪ :‬الموت فهو حقّ لكنا نكرهه‪ ،‬ويُصلّي على النبي بغير وضوء‪ ،‬وله في الرض‬
‫ولد وزوجة‪ ،‬وليس ذلك ل في السماء‪ .‬فقال عمر قولته المشهورة‪ :‬بئس المقام بأرض ليس فيها‬
‫أبو الحسن‪.‬‬
‫فلماذا تميّز عليّ بهذه الميزة من العِلْم والفقه والحجة؟ لنه تربّى في حِجرْ النبوة فاستقى من‬
‫نَبْعها‪ ،‬وترعرع في أحضان العلوم السلمية منذ نعومة أظافره‪ ،‬ولم يعرف شيئا من معلومات‬
‫الجاهلية‪ ،‬فلما تتفاعل عنده العلوم السلمية ل تَلِد إل حقا‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه } إِذا‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]48 :‬يعني‪ :‬لو حصل منك قراءة أو كتابة } لّرْتَابَ‬
‫عذْر ووجهة نظر في الرتياب‪ ،‬والرتياب ل يعني‬
‫ا ْلمُبْطِلُونَ { [العنكبوت‪ ]48 :‬أي‪َ :‬لكَان لهم ُ‬
‫مجرد الشك‪ ،‬إنما شك باتهام أي‪ :‬يتهمون رسول ال بأنه كان على عِلْم بالقراءة والكتابة؛ لذلك‬
‫وصفهم بأنهم مبطلون في اتهامهم له صلى ال عليه وسلم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3314 /‬‬

‫حدُ بِآَيَاتِنَا إِلّا الظّاِلمُونَ (‪)49‬‬


‫صدُورِ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْ َم َومَا َيجْ َ‬
‫َبلْ ُهوَ آَيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي ُ‬

‫{ َبلْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]49 :‬حرف يفيد الضراب عما قبله‪ ،‬وتأكيد ما بعده { ُهوَ } أي‪ :‬القرآن‬
‫{ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ فِي صُدُورِ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]49 :‬ولم يقل مثلً‪ :‬في ذاكرتهم؛ لن‬
‫الذن تستقبل الكلم وتعرضه على العقل‪ ،‬فإنْ قبله يستقر في القلب وفي الصدر‪ ،‬وفيه يتحول إلى‬
‫عقيدة وإلى يقين ل يقبل الشكّ ول يتزحزح‪.‬‬
‫لمِينُ * عَلَىا قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ }[الشعراء‪:‬‬
‫حاَ‬
‫لذلك يقول تعالى عن القرآن‪ {:‬نَ َزلَ بِهِ الرّو ُ‬
‫‪ ]194-193‬فقال‪ {:‬عَلَىا قَلْ ِبكَ‪[} ...‬الشعراء‪ ]194 :‬أي‪ :‬مباشرة استقر في قلبه‪ ،‬ولم ي ُقلْ على‬
‫أذنك‪.‬‬
‫علَيْهِ آيَاتٌ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬وقَالُواْ َل ْولَ أُن ِزلَ َ‬

‫(‪)3315 /‬‬

‫َوقَالُوا َلوْلَا أُنْ ِزلَ عَلَ ْيهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبّهِ ُقلْ إِ ّنمَا الْآَيَاتُ عِ ْندَ اللّ ِه وَإِ ّنمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (‪)50‬‬

‫أي‪ :‬بعد أنْ جاءهم القرآن وبعد أنْ أعجزهم يطلبون آيات أخرى‪ ،‬وسبق أنْ قلنا‪ :‬إن الحق سبحانه‬
‫كان إذا اقترح القومُ آيةً من رسولهم فأجابهم إلى ما طلبوا‪ ،‬فإنْ كذبوا بعدها أخذهم أَخْد عزيز‬
‫مقتدر‪.‬‬
‫واقرأ مثلً قوله سبحانه‪ {:‬وَآتَيْنَا َثمُودَ النّاقَةَ مُ ْبصِ َرةً فَظََلمُواْ ِبهَا‪[} ...‬السراء‪ ]59 :‬فلما كذّبوا‬
‫بالية التي طلبوها أهلكهم ال؛ لن المسألة إذن ليست مسألة آيات وإقناع‪ ،‬إنما هي الصرار على‬
‫ن يكفروا أيضا برسول ال‪.‬‬
‫الكفر‪،‬إذن‪ :‬فطلب النزال لية خاصة باقتراحهم ليس مانعا لهم أ ْ‬
‫سلَ بِاليَاتِ‪[} ...‬السراء‪ ]59 :‬أي‪ :‬التي اقترحوها{ ِإلّ أَن‬
‫لذلك يقول سبحانه‪َ {:‬ومَا مَ َنعَنَآ أَن نّرْ ِ‬
‫لوّلُونَ‪[} ...‬السراء‪ ]59 :‬وحين تنزل الية ويُكذّبون بها تنزل بهم عقوبة السماء‪ ،‬لكن‬
‫كَ ّذبَ ِبهَا ا َ‬
‫الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬قطع العهد لرسوله محمد صلى ال عليه وسلم ألّ يُعذّب أمته وهو‬
‫فيهم‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِ ْم َومَا كَانَ اللّهُ ُمعَذّ َبهُ ْم وَ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ }‬
‫[النفال‪.]33 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهذا هو السبب المانع من أنْ تأتي الية المقترحة‪ ،‬ثم إن اليات المقترحة آيات كونية تأتي‬
‫وتذهب‪ ،‬كما تشعل عود الثقاب مرة واحدة‪ ،‬ثم ينطفئ‪ ،‬رآه مَنْ رآه‪ ،‬وأصبح خبرا لمن لم يَرَه‪.‬‬
‫وكلمة { َل ْولَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]50 :‬تستخدم في لغة العرب استخدامين‪ :‬إنْ دخلتْ على الجملة‬
‫السمية مثل‪ :‬لول زيد عندك لَزرتُك‪ ،‬وهي هنا حرف امتناع لوجود‪ ،‬فقد امتنعتْ الزيارة لوجود‬
‫ث على الفعل‪.‬‬
‫زيد‪ .‬وإنْ دخلتْ على الجملة الفعلية مثل‪ :‬لول تذاكر دروسك‪ ،‬فهي للحضّ وللح ّ‬
‫فقولهم { َل ْولَ أُن ِزلَ عَلَ ْيهِ آيَاتٌ مّن رّبّهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]50 :‬كان الية التي جاءتهم من عند ال ل‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ‬
‫يعترفون بها‪ ،‬ثم يناقضون أنفسهم حينما يقولون‪َ {:‬لوْلَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا رَ ُ‬
‫عَظِيمٍ }[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫إذن‪ :‬أنتم معترفون بالقرآن‪ ،‬مقتنعون به‪ ،‬لكن ما يقف في حلوقكم أن ينزل على محمد من بين‬
‫الناس جميعا‪ .‬ثم نراهم يناقضون أنفسهم في هذه أيضا‪ ،‬ويعترفون من حيث ل يشعرون بأن‬
‫محمدا رسول ال حينما قالوا‪ {:‬لَ تُنفِقُواْ عَلَىا مَنْ عِندَ رَسُولِ اللّهِ حَتّىا يَنفَضّواْ‪[} ...‬المنافقون‪:‬‬
‫‪ ]7‬فما ُدمْتم تعرفون أنه رسول ال‪ ،‬فلماذا تُعادونه؟ إذن‪ :‬فالبديهة الفطرية تكذّبهم‪ ،‬ينطق الحق‬
‫على ألسنتهم على حين غفلة منهم‪.‬‬
‫ويرد الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬عليهم‪ُ { :‬قلْ إِ ّنمَا اليَاتُ عِندَ اللّهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]50 :‬فهي عند‬
‫ال‪ ،‬ليست عندي‪ ،‬وليست بالطلب حسب أهوائكم { وَإِ ّنمَآ أَنَاْ َنذِيرٌ مّبِينٌ } [العنكبوت‪ ]50 :‬أي‪ :‬هذه‬
‫خصّهم هنا بالنذار‪ ،‬لنهم‬
‫مهمتي‪ ،‬واختار النذار مع أنه صلى ال عليه وسلم بشير ونذير‪ ،‬لكن َ‬
‫أهل لِجَاج‪ ،‬وأهل باطل وجحود‪ ،‬فيناسبهم كلمة النذار دون البشارة ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬أوََلمْ‬
‫َي ْكفِهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3316 /‬‬

‫حمَ ًة وَ ِذكْرَى ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ (‪)51‬‬


‫علَ ْيكَ ا ْلكِتَابَ يُتْلَى عَلَ ْي ِهمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَ َر ْ‬
‫َأوَلَمْ َي ْك ِفهِمْ أَنّا أَنْزَلْنَا َ‬

‫والستفهام هنا للتعجّب وللنكار‪ ،‬يعني‪ :‬كيف ل يكفيهم القرآن ول يقنعهم وهو أعظم اليات‪ ،‬وقد‬
‫أعجزهم أنْ يأتوا ولو بآية من آياته‪ ،‬وجاءهم بالكثير من العِبر والعجائب؟ إذن‪ :‬هم يريدون أنْ‬
‫حقّ باحثون عن الهداية لكفاهم من القرآن آية واحدة‬
‫يتمحّكوا‪ ،‬وأل يؤمنوا‪ ،‬وإل لو أنهم طلب َ‬
‫ليؤمنوا به‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬يُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]51 :‬لن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان ينزل‬
‫عليه الوحي بعدة آيات‪ ،‬وقد يطول إلى رُبْعين أو ثلثة أرباع‪ ،‬فلما أن يسري عنه يتلو ما نزل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليه على صحابته ليكتبوه‪ ،‬يتلوه كما أُنزِل عليه‪ ،‬فيكتبه الكتبة‪ ،‬ويحفظه مَنْ يحفظه منهم‪ ،‬وكانوا‬
‫أمة رواية وأمة حفظ‪.‬‬
‫ثم يأتي وقت الصلة فيصلي بهم رسول ال بما نزل عليه من اليات‪ ،‬يُعيدها كما أملها‪ ،‬وهذه‬
‫هبة ربانية منحها لرسوله صلى ال عليه وسلم وخاطبه بقوله‪ {:‬سَ ُنقْرِ ُئكَ فَلَ تَنسَىا }[العلى‪.]6 :‬‬
‫حفْظا أنْ يُعيد عليك خطبة أو كلمة ألقاها على مدى نصف ساعة‬
‫وإل‪ ،‬فَلَك أن تتحدى أكثر الناس ِ‬
‫مثلً‪ ،‬ثم يعيدها عليك كما قالها في المرة الولى‪.‬‬
‫حمَةً وَ ِذكْرَىا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]51 :‬لكن لمن { ِل َقوْمٍ ُي ْؤمِنُونَ }‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬إِنّ فِي ذاِلكَ لَرَ ْ‬
‫[العنكبوت‪ ]51 :‬لن القرآن ل يثمر إل فيمن يُحسن استقباله ويؤمن به‪ ،‬أما غير المؤمنين فهو في‬
‫آذانهم َوقْر وهو عليهم عمى‪ ،‬ل يفقهونه ول يتدبرونه؛ لنهم يستقبلونه ل بصفاء نفس‪ ،‬وإنما‬
‫ب ُبغْض وكراهية استقبال‪ ،‬فل ينالون نوره ول بركته ول هدايته‪.‬‬
‫شفَآءٌ‪} ...‬‬
‫لذلك يقول تعالى في الذين يُحسِنون استقبال كلم ال‪ُ {:‬قلْ ُهوَ ِللّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ‬
‫[فصلت‪.]44 :‬‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ فِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرٌ وَ ُهوَ‬
‫أما الذين يجحدونه ول يُحسنون استقباله‪ ،‬فيقول عنهم‪ {:‬وَالّذِي َ‬
‫عمًى‪[} ...‬فصلت‪.]44 :‬‬
‫عَلَ ْيهِمْ َ‬
‫وسبق أنْ قلنا‪ :‬إن الفعل واحد‪ ،‬لكن المستقبل مختلف‪ ،‬ومثّلْنا لذلك بمن ينفخ في يده ليُدفئها في‬
‫البرد‪ ،‬ومَنْ ينفخ في الشاي ليُبرده‪ ،‬وأنت أيضا تنفخ في الشمعة لتطفئها‪ ،‬وتنفخ في النار لتشعلها‪.‬‬
‫حمَةٌ لّ ْل ُمؤْمِنِينَ‪[} ...‬السراء‪:‬‬
‫شفَآ ٌء وَرَ ْ‬
‫وفي موضع آخر يقول تعالى‪ {:‬وَنُنَ ّزلُ مِنَ ا ْلقُرْآنِ مَا ُهوَ ِ‬
‫‪ ،]82‬ففرْق بين الشفاء والرحمة‪ ،‬الشفاء يعني‪ :‬أنه كانت هناك علة‪ ،‬فبرأت‪ ،‬لكن الرحمة ألّ‬
‫تعاودك العلة‪ ،‬ول يأتيك الداء مرة أخرى‪ ،‬فالقرآن نزل ليعالج الداءات النفسية‪ ،‬يعالجها بالقراءة‬
‫ن وقعت في شيء من هذه الداءات فاقرأ ما جاء فيها من القرآن‬
‫ويُحصّنك ضدها فل تصيبك‪ ،‬وإ ْ‬
‫فإنها تبرأ بإذن ال‪ ،‬إذن‪ :‬الشفاء يعالج الداء إنْ وقع في غفلة من سلوك النفس‪.‬‬
‫ولو طبقنا قضايا القرآن في نفوسنا لنالتنا هذه الرحمة‪ ،‬فالنسان بدن وقيم ومعان وأخلق‪ ،‬هذه‬
‫المعاني في النسان يسمونها النفسيات‪ ،‬فقد يكون سليم البنية والجسم لكنه سقيم النفس؛ لذلك نجد‬
‫بين تخصصات الطب الطب النفسي‪ ،‬وكل مريض ل يجدون لمرضه سببا عضويا يُشخّصونه‬
‫على أنه مرض نفسي‪ ،‬وحين تسأل الطبيب النفسي تجد أن كل ما عنده عقاقير تهديء المريض أو‬
‫تهده فينام حتى ل يفكر في شيء‪ ،‬وهل هذا هو العلج؟‬
‫ولو تأملنا كتاب ربنا لوجدنا فيه العلجيْن‪ :‬العضوي والنفسي‪ ،‬فسلمة الجسم في أن ال تعالى‬
‫أحلّ لك أشياء‪ ،‬وحرّم عليك أشياء‪ ،‬وما عليك إل أنْ تستقيم على منهج ربك فتسلم من داءات‬
‫الجسد‪ ،‬فإنْ كنت من هؤلء الذين يحبون الكل من الحلل لكنهم يبالغون فيه إلى حَدّ التّخمة‪،‬‬
‫فاقرأ في القرآن‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حبّ ا ْلمُسْ ِرفِينَ }‬
‫سجِ ٍد وكُلُو ْا وَاشْرَبُو ْا وَلَ تُسْ ِرفُواْ إِنّ ُه لَ يُ ِ‬
‫{ يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَ َت ُكمْ عِندَ ُكلّ مَ ْ‬
‫[العراف‪.]31 :‬‬
‫ثم تجد في السنة النبوية مُذكّرة تفسيرية لهذه الية‪ " :‬بحسب ابن آدم لُقيْمات يُقمْنَ صُلْبه " ‪ ،‬فإنْ‬
‫كان ول ُبدّ‪ " :‬فثلث لطعامه‪ ،‬وثلث لشرابه‪ ،‬وثلث لنفسه "‪.‬‬
‫فالصل أن يأكل النسان ليعيش‪ ،‬ل أن يعيش ليأكل‪ .‬وبعض السطحيين يقولون‪ :‬ما معنى " ثلث‬
‫لنفَسه " ‪ ،‬وهل النفَس في المعدة؟ والن‪ ،‬ومع تطور العلوم عرفنا أن تُخمة البطن تضغط على‬
‫الحجاب الحاجز وتضيق مجال الرئة فينتج عن ذلك ضيق في التنفس‪.‬‬
‫أما الناحية النفسية‪ ،‬فالمرض النفسي ناتج إما عن انقباض الجوارح عن طبيعة تكوينها‪ ،‬أو‬
‫انبساطها عن طبيعة تكوينها‪ ،‬كالبيضة مثلً لها حجم معين فإنْ ضيّ ْقتَ هذا الحجم أو بسطته‬
‫تنكسر‪.‬‬
‫وهذا أيضا أساس الداء في النفس البشرية؛ لن ملكات النفس ينبغي أنْ تظل في حالة توازن‬
‫سوْاْ عَلَىا‬
‫واستواء‪ ،‬وتجد هذا التوازن في منهج ربك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬حيث يقول سبحانه‪ّ {:‬لكَيْلَ تَأْ َ‬
‫مَا فَا َتكُ ْم َولَ َتفْرَحُواْ ِبمَآ آتَاكُمْ‪[} ...‬الحديد‪.]23 :‬‬
‫سوْاْ عَلَىا مَا فَا َتكُمْ‪[} ...‬الحديد‪ ]23 :‬النقباض{ َولَ َتفْرَحُواْ ِبمَآ آتَاكُمْ‪[} ...‬الحديد‪:‬‬
‫فمعنى‪ّ {:‬لكَيْلَ تَ ْأ َ‬
‫‪ ]23‬النبساط‪ .‬وكلهما مذموم منهيّ عنه‪ ،‬لكن مَن ذا الذي ل يأسى على ما فات‪ ،‬ول يفرح بما‬
‫هو آتٍ؟‬
‫لذلك نجد البُلَداء الذين ل تَهزهم الحداث بصحة قوية؛ لنهم ل يهتمون للخطوب‪ ،‬حتى أن‬
‫الشعراء لم َيفُتْهم هذا المعنى‪ ،‬حيث يقول أحدهم‪َ :‬وفِي البَلدةِ مَا في العَ ْزمِ منْ جَلَد إنّ البليد قويّ‬
‫النفْسِ عَاتيهافَاسْأل ُأوِلي العَزْم إنْ خارتْ عزائمهمْ عَنِ البَلدةِ َهلْ مَادتْ َروَاسِيهَا؟فالذي تظنه‬
‫بلدة هو عزم قويّ في استقبال الحداث والصمود لها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الرحمة في منهج ال إنِ التزمنا به نأمن من الدواء‪ ،‬ماديةَ كانت أم معنوية‪.‬‬

‫(‪)3317 /‬‬

‫ل َوكَفَرُوا بِاللّهِ‬
‫طِ‬‫ض وَالّذِينَ َآمَنُوا بِالْبَا ِ‬
‫ت وَالْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫شهِيدًا َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫ُقلْ َكفَى بِاللّهِ بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ َ‬
‫أُولَ ِئكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (‪)52‬‬

‫شهِيدا‪[ } ..‬العنكبوت‪ ]52 :‬أي‪ :‬حسبي أن يشهد‬


‫( ُقلْ) أي‪ :‬للمنكرين لك { َكفَىا بِاللّهِ بَيْنِي وَبَيْ َنكُمْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال لي بأنّي بّل ْغتُ‪ ،‬فشهادتكم عندي ل تنفع‪ ،‬كما أنه ل ينفعني إيمانكم‪ ،‬ول يضرني كفركم‪،‬‬
‫فأجري آخذه من ربي على مجرد البلغ وقد بّل ْغتُ‪ ،‬وشهد ال لي بذلك‪.‬‬
‫شهِيدا بَيْنِي‬
‫ستَ مُ ْرسَلً ُقلْ َكفَىا بِاللّهِ َ‬
‫وفي موضع آخر يقول سبحانه‪ {:‬وَ َيقُولُ الّذِينَ َكفَرُواْ َل ْ‬
‫وَبَيْ َنكُمْ‪[} ...‬الرعد‪ ]43 :‬أي‪ :‬أنكم لم تكتفوا باليات‪ ،‬ولم تؤمنوا بها‪ ،‬لكني أكتفي برب هذه اليات‬
‫شهيدا بيني وبينكم‪ ،‬إذن‪ :‬هناك خصومة في البلغ بين محمد صلى ال عليه وسلم وقومه الذين‬
‫يُكذّبونه في البلغ عن ربه‪.‬‬
‫فل بُدّ إذن من َفصْل في هذه الخصومة‪ ،‬وإذا ما نظرنا إلى قضايا الخَلْق في الخصومات وجدنا‬
‫حقّ ل شاهد زور‪ ،‬ثم يعرض المر على القاضي ليحكم‬
‫إمّا أنْ يُقر المتهم‪ ،‬وإما أن يشهد شاهد َ‬
‫بالشهادة أو البينة‪.‬‬
‫ول ُبدّ في القاضي ألّ يكون صاحب هوى‪ ،‬ثم يأتي دور تنفيذ الحكم‪ ،‬وهي السلطة التنفيذية‪ ،‬وهذه‬
‫أيضا ينبغي ألّ يكون لها هوى‪ ،‬فتنفذ الحكم على حقيقته‪ ،‬فكأن الخصومات عند البشر تمرّ‬
‫بمراحل متعددة‪ ،‬وقد تتميع الحقائق إذا لم تتوفر الشروط اللزمة لهذه الطراف‪ ،‬فلو شهد الشاهد‬
‫زورا أو مال القاضي أو المنفّذ للحكم ودلّس في التنفيذ لنقلبت المسائل‪.‬‬
‫أما في حكومة الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬في الخصومة بين محمد وقومه‪ ،‬فكفى به سبحانه حاكما‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‪[ } ...‬العنكبوت‪.]52 :‬‬
‫وقاضيا ومُنفّذا‪ ،‬لماذا؟ لنه سبحانه‪َ { :‬يعَْلمُ مَا فِي ال ّ‬
‫فل تخفى عليه خافية في الرض ول في السماء‪ ،‬يعلم السر وأَخْفى‪ ،‬فأيّ شهادة إذن أعدل من‬
‫شهادته؟ وهو سبحانه قاضٍ عادل يحكم بالحق؛ لنه ليس له سبحانه هوىً يميل به إلى الباطل‪،‬‬
‫وهو سبحانه ل يُبدل في تنفيذ الحكام؛ لنه يُنفّذ حكمه هو سبحانه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬مَنِ الفائز في حكومة قاضيها الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬وأطراف الخصومة فيها محمد‬
‫وقومه؟ فاز رسول ال في أن يكون ال هو الشهيد‪ ،‬وخسر الكافرين حين كفروا به‪ ،‬ولم ت ْكفِهم‬
‫البينة التي جاءتهم في القرآن الكريم‪.‬‬
‫وعِلْم ال للغيب ليس علجا ومذاكرة ليعلم‪ ،‬إنما تأتي المور بتوقيت منه قديم أزلً‪ ،‬والعالم يظهر‬
‫على َوفْق ما يراه أزلً؛ لذلك يقول سبحانه‪ {:‬إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ ِإذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪:‬‬
‫‪.]82‬‬
‫أي‪ :‬يقول للشيء‪ ،‬فكأنه موجود فعلً ينتظر المر من ال بالظهور للناس‪ ،‬فقوله (كُنْ) للظهور‬
‫فقط‪ ،‬أما مسألة الخَلْق فمنتهية أزلً‪ ،‬و(الماكيت) موجود‪ ،‬فالحق سبحانه يعلم غَيْب السماوات‬
‫والرض‪ ،‬أما نحن فل نعلم حتى غَيْب أنفسنا‪.‬‬
‫خفَى }[طه‪ ]7 :‬فهل هناك أخفى من السر؟ قالوا‪ :‬السر ما تُسِرّه في‬
‫ويقول سبحانه‪َ {:‬يعْلَمُ السّ ّر وَأَ ْ‬
‫نفسك‪ ،‬والخفى منه أنْ يعلمه سبحانه قبل أن يكون في نفسك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد وقف البعض عند قوله تعالى‪َ {:‬يعْلَمُ مَا تُ ْبدُونَ َومَا َتكْ ُتمُونَ }[النور‪ ]29 :‬وقوله سبحانه‪َ {:‬يعْلَمُ‬
‫جهْرَ مِنَ ا ْلقَ ْولِ وَ َيعْلَمُ مَا َتكْ ُتمُونَ }[النبياء‪.]110 :‬‬
‫الْ َ‬
‫يقولون‪ :‬ما وجه امتنان ال بعلم الجهر من القول‪ ،‬وبعِلْم ما نُبدي‪ ،‬فهذا شيء غير مستور يعرفه‬
‫الجميع؟‬
‫ونقول‪ :‬افهم عن ال مراده‪ ،‬فالمعنى لم ي ُقلْ سبحانه‪ :‬أعلم ما تبدي أنت‪ ،‬ول ما تجهر به أنت‪ ،‬إنما‬
‫ما تبدون كلكم‪ ،‬وما تجهرون به كلكم‪ ،‬ولتوضيح هذه المسألة تصوّر مظاهرة من عدة مئات أو‬
‫عدة آلف تختلط بينهم الهتافات والصوات وتتداخل الكلمات‪ ،‬بحيث ل تستطيع أن تميز صوت‬
‫هذا من صوت ذاك‪.‬‬
‫لكن الحق سبحانه يستطيع تمييز هذه الصوات‪ ،‬وإعادة كل منها إلى صاحبه؛ لذلك نرى في‬
‫المظاهرات أن كل إنسان يستطيع أن يقول ما يشاء‪ ،‬ويهتف بما ل يجرؤ أن يهتف به منفردا؛ لن‬
‫جهْر أقوى من‬
‫صوته سيختلط مع الصوات‪ ،‬ويستتر فيها فل يعرف مصدره‪ ،‬وهكذا يكون علم ال َ‬
‫علم الغَيْب‪.‬‬
‫ن قلت‪ :‬إن بعض العلماء باكتشافاتهم وبحوثهم توصلوا إلى معرفة أسرار كانت مستترة في‬
‫فإ ْ‬
‫الكون‪ ،‬كالكهرباء والذرة وغيرها‪ ،‬فهُمْ بذلك يعلمون الغيب‪ .‬نقول‪ :‬نعم‪ ،‬علموا شيئا كان مستورا‬
‫في الكون‪ ،‬لكن علموه بمقدمات خلقها ال ويسّرها لهم‪ ،‬فأخذوا هذه المقدمات وتوصّلوا بها إلى‬
‫اكتشافاتهم‪ ،‬كما يحلّ ولدك مثلً تمرين الهندسة‪ ،‬فيستعين بالمعطيات‪.‬‬
‫إذن؛ فهو في حقيقة المر ليس غيبا‪ ،‬بل هو شيء موجود‪ ،‬لكن له ميلد ووقت يظهر فيه‪ ،‬فإنْ‬
‫جاء وقته يسّر ال لخَلْقه الوصول إليه‪ ،‬إما بالبحث واستخدام المقدمات‪ ،‬فإذا صادف ميلد السر‬
‫بحث الخلق يُقال‪ :‬إنهم أحاطواعِلْما ببعض غيب ال‪.‬‬
‫شيْءٍ مّنْ عِ ْلمِهِ ِإلّ ِبمَا شَآءَ‪[} ...‬البقرة‪ ]255 :‬أي‪ :‬شاء أنْ يُولد‪ ،‬فإنْ‬
‫ويقول تعالى‪َ {:‬ولَ يُحِيطُونَ بِ َ‬
‫جاء ميلد السر‪ ،‬ولم يتوصّلوا إليه ببحوثهم‪ ،‬ولم يقفوا على مقدماته كشفه ال لهم ولو مصادفة‪،‬‬
‫وقد اكتشفوا كثيرا من أسرار الكون مصادفة‪.‬‬
‫فالغيب الحقيقي‪ :‬هو الذي ليس له مقدمات تُوصّل إليه‪ ،‬ول يعلمه أحد إل ال‪ ،‬والذي قال ال‬
‫ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ َأحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ‪[} ...‬الجن‪]27-26 :‬‬
‫عنه‪ {:‬عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ ُي ْ‬
‫فالرسول ‪ -‬إذن ‪ -‬ل يعلم الغيب‪ ،‬إنما عُلّم الغيب‪.‬‬
‫طلِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]52 :‬أي‪ :‬بعبادة ما دون ال من الصنام‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَالّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَا ِ‬
‫والوثان } َو َكفَرُواْ بِاللّهِ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]52 :‬الخالق واجب الوجود } ُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلخَاسِرُونَ‬
‫{ [العنكبوت‪ ]52 :‬لن كفر الخَلْق بالخالق ل يؤثر في ذاته سبحانه‪ ،‬ول في صفات الكمال فيه‪،‬‬
‫لنه سبحانه بصفات الكمال خلقهم‪ ،‬فله سبحانه صفات الكمال‪ ،‬آمنوا أم كفروا‪.‬‬
‫ن يكفر‪ ،‬فالنسان بطبعه حريص على الحياة متمسك بها‪ ،‬حتى إنه إنْ‬
‫لكن فَرْق بين مَنْ يؤمن ومَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أصابه مرض طلب العلج ليصون حياته وهو يخاف الموت‪ ،‬ويرى مصارع الناس من حوله‪،‬‬
‫وكيف سبقه أجداده ولم يخلد منهم أحد‪ ،‬ويرى أن الموت يأتي بل أسباب؛ حتى قيل‪ :‬والموت من‬
‫غير سبب هو السبب‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فالموت حقيقة‪ ،‬لكن يشكّ الناس فيها ول يتصورونها لنفسهم لنهم يكرهونها؛ لذلك يقال في‬
‫الثر‪ :‬ما رأيتْ يقينا أشبه بالشكّ من يقين الناس بالموت‪.‬‬
‫وليقين النسان في الموت نراه يحب البقاء في ولده‪ ،‬وفي ولد ولده ليبقى ِذكْره أطول فترة ممكنة‪،‬‬
‫وما دام المر كذلك‪ ،‬فلماذا ل تؤمن بال فيورثك اليمانُ حياةً خالدة باقية ل نهايةَ لها‪ ،‬ل تفارقها‬
‫ول تفارقك‪ ،‬وهي حياة الخرة‪ .‬إذن‪ :‬فمَن الخاسرون؛ الخاسرون هم الكافرون الذي قصروا‬
‫حياتهم على عمرهم في الدنيا‪.‬‬
‫جلٌ‪.{ ...‬‬
‫ب وََلوْلَ َأ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَيَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ‬

‫(‪)3318 /‬‬

‫شعُرُونَ (‪)53‬‬
‫ب وَلَيَأْتِيَ ّنهُمْ َبغْتَ ًة وَ ُهمْ لَا َي ْ‬
‫سمّى لَجَاءَهُمُ ا ْلعَذَا ُ‬
‫جلٌ مُ َ‬
‫ب وََلوْلَا أَ َ‬
‫وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ‬

‫عجيب أنْ يطلب النسان لنفسه العذاب‪ ،‬وأن يستعجله إن أبطأ عليه‪ ،‬إذن‪ :‬ما طلبه هؤلء إل‬
‫لعتقادهم أنه غير واقع بهم‪ ،‬وإل لو ووَ ِثقُوا من وقوعه ما طلبوه‪.‬‬
‫سمّى لّجَآءَهُمُ ا ْلعَذَابُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]53 :‬لن كل شيء عند ال بميقات‪ ،‬وأجل‪،‬‬
‫جلٌ مّ َ‬
‫{ وََل ْولَ أَ َ‬
‫والجل يختلف باختلف أصحابه وهو أجل الناس وأعمارهم‪ ،‬وهي آجال متفرقة فيهم‪ ،‬لكن هناك‬
‫أجل يجمعهم جميعا‪ ،‬ويتفقون فيه‪ ،‬وهو أجل الساعة‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ {:‬فَِإذَا جَآءَ َأجَُلهُ ْم لَ يَسْتَ ْأخِرُونَ سَاعَ ًة َولَ يَسْ َتقْ ِدمُونَ }[العراف‪ ]34 :‬أي‪ :‬بآجالهم‬
‫المتفرقة‪ .‬أما أجل القيامة فأجل واحد مُسمّى عنده تعالى‪ ،‬ومن عجيب الفَرْق بن الجلين أن الجال‬
‫المتفرقة في الدنيا تنهي حياة‪ ،‬أمّا أجل الخرة فتبدأ به الحياة‪.‬‬
‫سمّى لّجَآءَهُمُ ا ْلعَذَابُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]53 :‬أن المسألة ليست على هواهم‬
‫جلٌ مّ َ‬
‫والمعنى { وَلَ ْولَ أَ َ‬
‫جلٍ‪[} ...‬النبياء‪ ]37 :‬ويقول‪ {:‬سَُأوْرِيكُمْ آيَاتِي‬
‫ورغباتهم؛ لذلك يقول تعالى‪ {:‬خُلِقَ النْسَانُ مِنْ عَ َ‬
‫فَلَ تَسْ َتعْجِلُونِ }[النبياء‪.]37 :‬‬
‫لذلك " لما عقد النبي صلى ال عليه وسلم صلح الحديبية بينه وبين كفار مكة‪ ،‬ورضي أنْ يعود‬
‫بأصحابه دون أداء فريضة العمرة غضب الصحابة وعلي وعمر‪ ،‬ولم يعجبهم هذا الصلح‪ ،‬وكادوا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يخالفون رسول ال غيرةً منهم على دينهم‪ ،‬حتى أن النبي صلى ال عليه وسلم دخل على أم سلمة‬
‫رضي ال عنها وقال‪ " :‬هلك المسلمون " قالت‪ :‬ولم يا رسول ال؟ قال‪ " :‬أمرتهم فلم يمتثلوا "‬
‫ق لبيت ال‪ ،‬وكانوا على مقربة منه‬
‫شوْ ٍ‬
‫فقالت‪ :‬يا رسول ال اعذرهم‪ ،‬فهم مكروبون‪ ،‬جاءوا على َ‬
‫هكذا‪ ،‬ثم يُمنعون ويُصدّون‪ ،‬اعذرهم يا رسول ال‪ ،‬ولكن ا ْمضِ فاصنع ما أمرك ال به ودَعْهم‪،‬‬
‫ت فعلوا‪ ،‬وعلموا أن ذلك عزيمة‪.‬‬
‫فإنْ هم رأ ْوكَ فعل َ‬
‫وفعلً ذهب رسول ال‪ ،‬وتحلّل من عمرته‪ ،‬ففعل القوم مثله " ‪ ،‬ونجحت مشورة السيدة أم سلمة‪،‬‬
‫وأنقذت الموقف‪.‬‬
‫" ثم بيّن ال لهم الحكمة في العودة هذا العام دون قتال‪ ،‬ففي مكة إخوان لكم آمنوا‪ ،‬ويكتمون‬
‫إيمانهم‪ ،‬فإنْ دخلتم عليهم مكة فسوف تقتلونهم دون علم بإيمانهم‪.‬‬
‫وكان عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬كعادته شديدا في الحق‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬ألسنا على الحق؟‬
‫قال‪ :‬صلى ال عليه وسلم‪ " :‬بلى " قال‪ :‬أليسوا على الباطل؟ قال صلى ال عليه وسلم " بلى " قال‪:‬‬
‫فَلِمَ نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر‪ :‬الزم غَرْزك يا عمر " ‪ .‬يعني قِف عند حدّك وحجّم‬
‫نفسك‪ ،‬ثم قال بعدها ليبرر هذه المعاهدة‪ :‬ما كان فتح في السلم أعظمَ من فتح الحديبية ‪ -‬ل فتح‬
‫مكة‪.‬‬
‫لماذا؟ لن الحديبية انتزعت من الكفار العترافَ بمحمد‪ ،‬وقد كانوا معارضين له غير معترفين‬
‫بدعوته‪ ،‬والن يكاتبونه معاهدة ويتفقون معه على رأي‪ ،‬ثم إنها أعطت رسول ال فرصة للتفرغ‬
‫لمرالدعوة ونشرها في ربوع الجزيرة العربية‪ ،‬لكن في وقتها لم يتسع ظنّ الناس لما بين محمد‬
‫وربه‪ ،‬والعباد عادةً ما يعجلون‪ ،‬وال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ل يعجل بعجلة العباد حتى تبلغ المور ما‬
‫أراد سبحانه‪.‬‬

‫شعُرُونَ { [العنبكوت‪ ]53 :‬يعني‪ :‬فجأة‪ ،‬وليس حسب‬


‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَلَيَأْتِيَ ّنهُمْ َبغْتَ ًة وَهُ ْم لَ َي ْ‬
‫شعُرُونَ { [العنكبوت‪ ]53 :‬ل يشعرون ساعتها أم ل يشعرون الن أنها حق‪،‬‬
‫رغبتهم } وَهُ ْم لَ يَ ْ‬
‫وأنها واقعة لجل مسمى؟‬
‫المراد ل يشعرون الن أنها آتية‪ ،‬وأن لها أجلً مُسمى‪ ،‬وسوف تباغتهم بأهوالها‪ ،‬فكان عليهم أن‬
‫يعلموا هذه من الن‪ ،‬وأن يؤمنوا بها‪ .‬إذن‪ :‬فليس المراد أنهم ل يشعرون بالبغتة؛ لن شعورهم‬
‫بالبغتة ساعتها ل ينفعهم بشيء‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬يسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَابِ‪.{ ....‬‬

‫(‪)3319 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جهَنّمَ َل ُمحِيطَةٌ بِا ْلكَافِرِينَ (‪)54‬‬
‫يَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَابِ وَإِنّ َ‬

‫أي‪ُ :‬قلْ لهم إنْ كنتم تستعجلون العذاب فهو آتٍ ل محالة‪ ،‬وإنْ كنتم في شوق إليه فجهنم في‬
‫انتظاركم‪ ،‬بل ستمتلئ منكم وتقول‪ :‬هل من مزيد؟ والعذاب يتناسب وقدرة المعذّب قوة وضعفا‪،‬‬
‫وإحاطة وشمولً‪ ،‬فإذا كان المعذّب هو ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فعذابه ل يُعذّبه أحد من العالمين‪.‬‬
‫طةٌ بِا ْلكَافِرِينَ } [العنكبوت‪ ]54 :‬الحاطة أن تشمل الشيء من جميع جهاته‪،‬‬
‫ومعنى { َل ُمحِي َ‬
‫فالجهات أربع‪ :‬شمال وجنوب وشرق وغرب‪ ،‬وبين الجهات الصلية جهات فرعية‪ ،‬وبين الجهات‬
‫الفرعية أيضا جهت فرعية‪ ،‬والحاطة هي التي تشمل كل هذه الجهات‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬إِنّا أَعْ َتدْنَا لِلظّاِلمِينَ نَارا َأحَاطَ ِبهِمْ سُرَا ِد ُقهَا‪[} ...‬الكهف‪ ]29 :‬يعني‪ :‬من كل‬
‫جهاتهم‪.‬‬
‫ومن عجيب أمر النار في الخرة أن النار في الدنيا يمكن أنْ تُعذّب شخصا بنار تحوطه ل‬
‫يستطيع أنْ يُفلت منها‪ ،‬لكن النار بطبيعتها تعلو؛ لن اللهب يتجه إلى أعلى‪ ،‬أما إنْ كانت تحت‬
‫عقْب) السيجارة‪ ،‬فحين تدوسه تمنع عنه‬
‫قدمك فيمكنك أنْ تدوسها بقدمك‪ ،‬كما تطفئ مثلً ( ُ‬
‫الكسوجين‪ ،‬فتنطفئ النار فيه‪ ،‬أما في نار الخرة فتأتيهم من كل جهاتهم‪َ { :‬يوْمَ َيغْشَا ُهمُ ا ْلعَذَابُ‪...‬‬
‫}‪.‬‬

‫(‪)3320 /‬‬

‫حتِ أَ ْرجُِلهِ ْم وَ َيقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ (‪)55‬‬


‫َيوْمَ َيغْشَا ُهمُ ا ْلعَذَابُ مِنْ َف ْو ِقهِ ْم َومِنْ تَ ْ‬

‫وفي موضع آخر يقول سبحانه‪َ {:‬لهُمْ مّن َف ْو ِقهِمْ ظَُللٌ مّنَ النّارِ َومِن َتحْ ِتهِمْ ظَُللٌ }[الزمر‪.]16 :‬‬
‫وهاتان الجهتان ل تأتي منهما النار في الدنيا؛ لن النار تطبيعتها تصعد إلى أعلى‪ ،‬وإنْ كانت‬
‫تحت القدم تنطفيء‪ .‬إذن‪ :‬هذا ترقّ في العذاب‪ ،‬حيث ل يقتصر على الحاطة من جميع جهاته‪،‬‬
‫إنما يأتيهم أيضا من فوقهم ومن تحتهم‪.‬‬
‫لكن قد يتجلّد المعذّب للعذاب‪ ،‬ويتماسك حتى ل تشمت فيه‪ ،‬وهذا يأتيه عذاب من نوع آخر‪ ،‬عذاب‬
‫يُهينه ويُذلّه‪ ،‬ويُقال له‪ {:‬ذُقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان‪ ]49 :‬لذلك وصف العذاب‪ ،‬بأنه‪:‬‬
‫مهين‪ ،‬وأليم‪ ،‬وعظيم‪ ،‬وشديد‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْ ُتمْ َت ْعمَلُونَ } [العنكبوت‪ ]55 :‬لم يقل‪ :‬ذوقوا النار‪ ،‬إنما ذوقوا ما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عملتم‪ ،‬كأن العمل نفسه سيكون هو النار التي تحرقهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬ياعِبَا ِديَ الّذِينَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3321 /‬‬

‫سعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْ ُبدُونِ (‪)56‬‬


‫يَا عِبَا ِديَ الّذِينَ َآمَنُوا إِنّ أَ ْرضِي وَا ِ‬

‫بعد أنْ تحدّث الحق سبحانه عن الكفار والمكذّبين أراد أنْ يُحدِث توازنا في السياق‪ ،‬فحدّثنا هنا‬
‫عن المؤمنين ليكون أنكَى للكافرين‪ ،‬حين تردف الحديث عنهم‪ ،‬وعما يقع لهم من العذاب بما‬
‫ن المر‬
‫سينال المؤمنين من النعيم‪ ،‬فتكون لهم حسرة شديدة‪ ،‬فلو لم يأخذ المؤمنون هذا النعيم لكا َ‬
‫أهونَ عليهم‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬ياعِبَا ِديَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]56 :‬سبق أن قُلْنا‪ :‬إن الخَلْق جميعا عبيد ال‪ ،‬وعبيد ال‬
‫قسمان‪ :‬مؤمن وكافر‪ ،‬وكل منهما جعله ال مختارا‪ :‬المؤمن وعبيد ال قسمان‪ :‬مؤمن وكافر‪ ،‬وكل‬
‫منهما جعله ال مختارا‪ :‬المؤمن تنازل عن اختياره لختيار ربه‪ ،‬وفضّل مراده سبحانه على مراد‬
‫نفسه‪ ،‬فصار عبدا في كل شيء حتى في الختيار‪ ،‬فلما فعلوا ذلك استحقوا أن يكونوا عبيدا وعبادا‬
‫ل‪.‬‬
‫أما الكافر فتأبّى على مراد ربه‪ ،‬واختار الكفر على اليمان‪ ،‬والمعصية على الطاعة‪ ،‬ونسي أنه‬
‫عبد ال مقهور في أشياء ل يستطيع أن يختار فيها‪ ،‬وكأن ال يقول له‪ :‬أنت أيها الكافر تمر ْدتَ‬
‫على ربك‪ ،‬وتأبّ ْيتَ على منهجه في (افعل) و (ل تفعل)‪ ،‬واعت ْدتَ التمرد على ال‪ .‬فلماذا ل تتمرد‬
‫عليه فيما يُجريه عليك من أقدار‪ ،‬لماذا ل تتأبّى على المرض أو على الموت؟ إذن‪ :‬فأنت في‬
‫قبضة ربك ل تستطيع النفلت منها‪.‬‬
‫وعليه‪ ،‬فالمؤمن والكافر سواء في العبودية ل‪ ،‬لكن الفرْق في العبادية حيث جاء المؤمن مختارا‬
‫راضيا بمراد ال‪ ،‬وفَرْق بين عبد يُطيعك وأنت تجرّه في سلسلة‪ ،‬وعبد يخدمك وهو طليق حُرّ‪.‬‬
‫ن يكفر‪ ،‬وهذه هي العبودية والعبادية معا‪.‬‬
‫وهكذا المؤمن جاء إلى اليمان بال مختارا مع إمكانية أ ْ‬
‫سعَةٌ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]56 :‬يخاطبهم ربهم هذا الخطاب وهم في الرض‬
‫ومعنى { إِنّ أَ ْرضِي وَا ِ‬
‫وفي سعتها‪ ،‬ليلفت أنظارهم أنهم سيضطهدون ويُعذّبون‪ ،‬وسيقع عليهم إيذاء وإيلم‪ ،‬فيقول لهم‪:‬‬
‫إياكم أن َتصِرْفكم هذه القسوة‪ ،‬إياكم أنْ تتراجعوا عن دعوتكم‪ ،‬فإذا لم يناسبكم هذا المكان فاذهبوا‬
‫إلى مكان آخر فأرضي واسعة فل تُضيّقوها على أنفسكم‪.‬‬
‫ن أبصرتَ‬
‫لذلك يقول سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬الرض ل‪ ،‬والعباد كلهم ل‪ ،‬فإ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خيرا فا ِقمْ حيث يكون "‪.‬‬
‫فالذي نعاني منه الن هو هذه الحدود وهذه القيود التي وضعناها في جغرافية أرض ال‪ ،‬فضيّقنا‬
‫على أنفسنا ما وسّعه ال لنا‪ ،‬فأ ْرضُ ال الواسعة ليست فيها تأشيرات دخول ول جوازات سفر ول‬
‫(بلك لست)‪.‬‬
‫لذلك قلنا مرة في المم المتحدة‪ :‬إنكم إنْ سعيتُم لتطبيق مبدأ واحد من مبادئ القرآن فلن يوجد شر‬
‫ضعَهَا لِلَنَامِ }[الرحمن‪.]10 :‬‬
‫ض َو َ‬
‫في الرض‪ ،‬أل وهو قوله تعالى‪ {:‬وَالَ ْر َ‬
‫والمعنى‪ :‬الرض كل الرض للنام كل النام‪ ،‬فإن ضاق رزقك في مكان فاطلبه في مكان آخر‪،‬‬
‫وإل فالذي يُتعِب الناس الن أن توجد أرض بل رجال‪ ،‬أو رجال بل أرض‪ ،‬وها هي السودان‬
‫مثلً بجوارنا‪ ،‬فيها أجود الراضي ل تجد مَنْ يزرعها‪ ،‬لماذا؟ للقيود التي وضعناها وضيّقنا بها‬
‫على أنفسنا‪.‬‬

‫وصدق الشاعر حين قال‪:‬لَعْم ُركَ مَا ضَا َقتْ بِلدٌ بأهِلْها ولكنّ أخْلق الرجَالِ َتضِيقُثم يقول‬
‫سبحانه } فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ { [العنكبوت‪ ]56 :‬فإنْ أخذنا بمبدأ الهجرة فل ُبدّ أن نعلم أن للهجرة‬
‫شروطا أولها‪ :‬أنْ تهاجر إلى مكان يحفظ عليك إيمانك ول ينقصه‪ ،‬وانظر قبل أنْ تخرج من بلدك‬
‫هل ستتمكن في المهجر من أداء أمور دينك كما أوجبها ال عليك؟ فإنْ كان ذلك فل مانع‪ ،‬وإل‬
‫فل هجرةَ لمكان يُخرِجني من دائرة اليمان‪ ،‬أو يحول بيني وبين أداء أوامر ديني‪.‬‬
‫ل وفي يدها شاب‬
‫وهل يُرضيك أنْ تعيش لتجمع الموال في بلد الكفر‪ ،‬وأنْ تدخل عليك ابنتك مث ً‬
‫ل تعرف عنه شيئا قد فُرِض عليك فَرْضا‪ ،‬فقد عرفته على طريقة القوم‪ ،‬ساعتها لن ينفعك كل ما‬
‫جمعت‪ ،‬ولن يصلح ما جُرِح من كرامتك‪.‬‬
‫وسبق أن أوضحنا أن الهجرة قد تكون إلى دار َأمْن فقط‪ ،‬حيث تأمن فيها على دينك‪ ،‬وتأمن ألّ‬
‫يفتنك عنه أحد‪ ،‬ومن ذلك الهجرة التي أمر بها رسول ال إلى الحبشة‪ ،‬وهي ليست أ ْرضَ إيمان‪،‬‬
‫بل أرض َأمْن‪.‬‬
‫وقد عّلل رسول ال صلى ال عليه وسلم أمره بالهجرة إليها بقوله‪ " :‬إن فيها مَلِكا ل يُظْلَم عنده‬
‫صدْق رسول ال‪ ،‬وكأنه على علم تام بالبيئة المحيطة به وبأحوال‬
‫أحد " وقد تبيّن بعد الهجرة إليها ِ‬
‫أهلها‪.‬‬
‫لذلك لم يأمرهم مثلً بالهجرة أو أطراف الجزيرة العربية؛ لنها كانت خاضعة لقريش بما لها من‬
‫سيادة على الكعبة‪ ،‬فل يستطيع أحد أنْ يحمي مَنْ تطلبه قريش‪ ،‬حتى الذين هاجروا بدينهم إلى‬
‫الحبشة لم يَسْلَموا من قريش‪ ،‬فقد أرسلتْ إلى النجاشي مَنْ يكلمه في شأنهم‪ ،‬وحملوا إليه الهدايا‬
‫المغرية ليسلمهم المهاجرين من المؤمنين بمحمد‪ ،‬لكن لم تفلح هذه الحيلة مع الملك العادل الذي‬
‫راود اليمانُ قلبه‪ ،‬فأحب المؤمنين ودافع عنهم ورفض إعادتهم ويقال‪ :‬إنه آمن بعد ذلك‪ ،‬ولما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مات صلّى عليه رسول ال‪.‬‬
‫أما الهجرة إلى المدينة بعد الهجرة إلى الحبشة فكان لدار َأمْن وإيمان معا‪ ،‬حيث تأمن فيها على‬
‫دينك‪ ،‬وتتمكن فيها من نشره والدعوة إليه‪ ،‬وتجد بها إخوانا مؤمنين يُواسُونك بأموالهم‪ ،‬وبكل ما‬
‫يملكون‪ ،‬وقد ضرب النصار في مدينة رسول ال أروع مثل في التاريخ في المواساة‪،‬‬
‫فالنصاري كان يرى أخاه المهاجر ترك أهله في مكة‪ ،‬وله إرْبة وحاجة للنساء‪ ،‬فيُطلّق له إحدى‬
‫زوجاته ليتزوجها‪ ،‬فانظر ماذا فعل اليمان بالنصار‪.‬‬
‫وفي قوله سبحانه } فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ { [العنكبوت‪ ]56 :‬أسلوب يُسمّونه أسلوب َقصْر‪ ،‬مثل قوله‬
‫تعالى‪ {:‬إِيّاكَ َنعْبُ ُد وَإِيّاكَ نَسْ َتعِينُ }[الفاتحة‪.]5 :‬‬
‫ن نقول‪ :‬نعبدك‪ .‬و(إياك نعبد)‪ :‬نعبدك ل تمنع أنْ نعبد غيرك‪ ،‬أمّا (إيّاك َنعْبد) فتقصر‬
‫وفَرْق بين أ ْ‬
‫العبادة على ال ‪ -‬عز وجل ‪ ، -‬ول تتجاوزه إلى غيره‪.‬‬
‫فالمعنى ‪ -‬إذن‪ :‬إنْ كنت ستهاجر فلتكُن هجرتك ل‪ ،‬وقد فسّرها النبي صلى ال عليه وسلم في‬
‫الحديث الشريف‪َ " :‬فمْن كانت هجرته إلى ال ورسوله فهجرته إلى ال ورسوله‪ ،‬ومَنْ كانت‬
‫هجرته لدنيا يصيبها‪ ،‬أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه "‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬كلّ َنفْسٍ ذَآ ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3322 /‬‬

‫جعُونَ (‪)57‬‬
‫ُكلّ َنفْسٍ ذَا ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ ُثمّ إِلَيْنَا تُ ْر َ‬

‫يعني‪ :‬إنْ كنتم ستقولون ‪ -‬وقد قالوا بالفعل ‪ -‬ليس لنا في المدينة دار ول عقار‪ ،‬وليس لنا فيها‬
‫مصادر رزق‪ ،‬وكيف نترك أولدنا وبيئتنا التي نعيش فيها‪ ،‬فاعلموا أنكم ول بُدّ مفارقون هذا كله‪،‬‬
‫فإنْ لم تُفارقوها وأنتم أحياء فسوف تفارقونها بالموت؛ لن { ُكلّ َنفْسٍ ذَآ ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ‪} ...‬‬
‫[العنكبوت‪.]57 :‬‬
‫ومَنْ يدريكم لعلكم تعودون إلى بلدكم مرة أخرى‪ ،‬كما قال ال لرسوله‪ {:‬إِنّ الّذِي فَ َرضَ عَلَ ْيكَ‬
‫ا ْلقُرْآنَ لَرَآ ّدكَ إِلَىا َمعَادٍ‪[} ...‬القصص‪.]85 :‬‬
‫وعلى فَرْض أنكم لن تعودوا إليها فلن يُضيركم شيء؛ لنكم ل ُب ّد مفارقوها بالموت‪ .‬وكأن الحق‬
‫‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يخفف عنهم ما يلقونه من مفارقة الهل والوطن والمال والولد‪.‬‬
‫كما أننا نلحظ في قوله سبحانه { ُكلّ َنفْسٍ ذَآ ِئقَةُ ا ْل َم ْوتِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]57 :‬بعد{ إِنّ أَ ْرضِي‬
‫سعَةٌ‪[} ...‬العنكبوت‪ ]56 :‬أن الخواطر التي يمكن أن تطرأ على النفس البشرية حين يُشرّع ال‬
‫وَا ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سعَةٌ‪[} ...‬العنكبوت‪ ]56 :‬وما تثيره في النفس من حب‬
‫أمرا يهيج هذه الخواطر مثل{ إِنّ أَ ْرضِي وَا ِ‬
‫الجمع والتملّك يجعل لك مع المر ما يهبّط هذه الخواطر‪.‬‬
‫{ ُكلّ َنفْسٍ ذَآ ِئقَةُ ا ْل َموْتِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]57 :‬حتى ل نطمعَ في حطام الدنيا‪ ،‬ويُلهينا إغراء المال‬
‫والهجرة لجمعه‪ ،‬فالنهاية بعد ذلك كله الموت‪ ،‬وفقدان كل ما جمعت‪.‬‬
‫جدَ الْحَرَامَ َبعْدَ‬
‫وهذه القضية واضحة في قوله سبحانه‪ {:‬إِ ّنمَا ا ْلمُشْ ِركُونَ َنجَسٌ فَلَ َيقْرَبُواْ ا ْلمَسْ ِ‬
‫عَا ِمهِمْ هَـاذَا‪[} ...‬التوبة‪.]28 :‬‬
‫فلما أراد ال تعالى أن يُنهي وجود المشركين في البيت الحرام علم سبحانه أن المسلمين سيحسبون‬
‫النتيجة المادية لمنع المشركين من دخول الحرم‪ ،‬وأنها ستؤثر على تجارتهم وأرزاقهم في مواسم‬
‫التجارة والحج‪.‬‬
‫سوْفَ ُيغْنِيكُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ‪[} ....‬التوبة‪ ]28 :‬فساعةَ‬
‫خفْتُمْ عَيْلَةً َف َ‬
‫لذلك قال بعدها مباشرة‪ {:‬وَإِنْ ِ‬
‫يقرأونها في التشريع يعلمون أن ال اطّلع على ما في نفوسهم‪ ،‬وجاءهم بالردّ عليه حتى ل يتكلموا‬
‫به‪ ،‬وهذا يعني أن التشريع يأتي ليعالج كل خواطر النفس‪ ،‬فل ينزعك من شيء تخافه إل ومع‬
‫التشريع ما يُذهِب هذه المخاوف‪.‬‬
‫{ وَالّذِينَ آمَنُواْ‪.} ...‬‬

‫(‪)3323 /‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ لَنُ َبوّئَ ّنهُمْ مِنَ ا ْلجَنّةِ غُ َرفًا تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ خَاِلدِينَ فِيهَا ِنعْمَ‬
‫وَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬
‫أَجْرُ ا ْلعَامِلِينَ (‪)58‬‬

‫حتِ‬
‫طةٌ بِا ْلكَافِرِينَ * َيوْمَ َيغْشَاهُمُ ا ْل َعذَابُ مِن َف ْوقِهِمْ َومِن َت ْ‬
‫جهَنّمَ َلمُحِي َ‬
‫هذه في مقابل‪ {:‬وَإِنّ َ‬
‫أَرْجُِل ِهمْ‪[} ...‬العنكبوت‪ ]55-54 :‬وذكر المقابل لزيادة النكاية بالكافرين‪ ،‬كما يقول سبحانه‪ {:‬إِنّ‬
‫الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي جَحِيمٍ }[النفطار‪.]14-13 :‬‬
‫جمْع المتقابلين يزيد من فَرْحة المؤمن‪ ،‬ويزيد من حَسْرة الكافر‪.‬‬
‫فَ‬
‫ومعنى { لَنُ َبوّئَ ّنهُمْ مّنَ الْجَنّةِ غُ َرفَا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]58 :‬أي‪ :‬نُنزلهم ونُمكّنهم منها‪ ،‬كما جاء في‬
‫قوله تعالى مخاطبا رسوله صلى ال عليه وسلم‪ {:‬وَِإذْ غَ َد ْوتَ مِنْ أَهِْلكَ تُ َبوّىءُ ا ْل ُم ْؤمِنِينَ َمقَاعِدَ‬
‫لِ ْلقِتَالِ‪[} ...‬آل عمران‪ ]121 :‬يعني‪ :‬تُنزِلهم أماكنهم‪.‬‬
‫والجنة تُطلق على الرض ذات الخضرة والشجار والزهار في الدنيا‪ ،‬كما جاء في قوله‬
‫ل وَأَعْنَابٍ‪[} ...‬البقرة‪.]266 :‬‬
‫ح ُدكُمْ أَن َتكُونَ لَهُ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ‬
‫سبحانه‪ {:‬أَ َي َودّ أَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله سبحانه‪ {:‬إِنّا َبَلوْنَاهُمْ َكمَا بََلوْنَآ َأصْحَابَ ا ْلجَنّةِ‪[} ...‬القلم‪.]17 :‬‬
‫حدِ ِهمَا جَنّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ‪[} ...‬الكهف‪.]32 :‬‬
‫جعَلْنَا لَ َ‬
‫جلَيْنِ َ‬
‫وقوله سبحانه‪ {:‬وَاضْ ِربْ لهُمْ مّثَلً رّ ُ‬
‫خصْب والنماء والجمال‪ ،‬وفيها أسباب القُوت‬
‫فإذا كانت جنة الدنيا على هذه الصورة من ال ِ‬
‫والترف‪ ،‬إذا كان ذلك في دنيا السباب التي نراها‪ ،‬فما بالك بما أعدّه ال لخَلْقه في الخرة؟‬
‫ومن عجائب الجنة أنها { تَجْرِي مِن َتحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]58 :‬ونحن نعرف أن أنهار‬
‫الدنيا تجري خللها عبر الشّطان التي تحجز الماء‪ ،‬أمّا في الجنة فتجري أنهارها بل شُطآن‪.‬‬
‫لذلك لما كنا نسافر إلى بلد المدنية والتقدّم‪ ،‬ونرى زخارف الحياة وترفها كنتُ أقول لمن معي‪:‬‬
‫عظَة‪ ،‬فهو ما أعدّه البشر للبشر‪ ،‬فما بالكم بما أعدّه ربّ البشر للبشر؟‬
‫خذوا من هذا النعيم ِ‬
‫فإذا رأيتَ نعيما عند أحد فل تحقد عليه‪ ،‬بل ازْ َددْ به يقينا في ال تعالى‪ ،‬وأن ما عنده أعظم من‬
‫هذا‪َ .‬ألَ ترى أن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬حينما يخبرنا عن الجنة يقول‪ {:‬مّ َثلُ ا ْلجَنّةِ الّتِي وُعِدَ‬
‫ا ْلمُ ّتقُونَ‪[} ...‬محمد‪ ]15 :‬فيجعلها مثلً؛ لن ألفاظ اللغة ل تؤدي المعاني التي في الجنة ول‬
‫َتصِفها‪.‬‬
‫لذلك يقول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬فيها ما ل عَيْن رأت‪ ،‬ول أذن سمعتْ‪ ،‬ول خطر على‬
‫قلب بشر " فكل ما جاء فيها ليس وصفا لها إنما مجرد مثَل لها‪ ،‬ومع ذلك لما أعطانا المثل للجنة‬
‫ط ْعمُهُ‬
‫ن وَأَ ْنهَارٌ مّن لّبَنٍ لّمْ يَ َتغَيّرْ َ‬
‫صَفّى المثل من شوائبه‪ ،‬فقال‪ {:‬فِيهَآ أَ ْنهَارٌ مّن مّآءٍ غَيْرِ آسِ ٍ‬
‫صفّى‪[} ...‬محمد‪ ]15 :‬ويكفي أن تعلم أن نعيم‬
‫سلٍ ّم َ‬
‫ن وَأَ ْنهَارٌ مّنْ عَ َ‬
‫خمْرٍ لّ ّذةٍ لّلشّارِبِي َ‬
‫وَأَ ْنهَارٌ مّنْ َ‬
‫الجنة يأتي مناسبا لقدرة وإمكانيات المنِعم سبحانه‪.‬‬
‫وقوله سبحانه { خَالِدِينَ فِيهَا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]58 :‬لن النعيم مهما كان واسعا‪ ،‬ومهما تعددتْ‬
‫ألوانه‪ ،‬فيُنغّصه ويُؤرّق صاحبه أن يزول إما بالموت وإما بالفقر‪ ،‬أما نعيم الجنة فدائم ل يزول‬
‫ول ينقطع‪ ،‬فل يفوتك ول تفوته‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬لّ مَقْطُوعَةٍ وَلَ َممْنُوعَةٍ }[الواقعة‪ ]33 :‬ل‬
‫يُكدّرها شيء‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فالرابح مَنْ آثر الخرة على الدنيا؛ لن نعيم الدنيا مآله إلى زوال‪ ،‬ول ت ُقلْ‪ :‬إن عمر الدنيا‬
‫كم مليون سنة‪ ،‬إنما عمرها مدة بقائك أنت فيها‪ ،‬وإل فماذا تستفيد من عمر غيرك؟‬
‫ثم إنك تتمتع في الدنيا على قدر إمكاناتك ومجهوداتك‪ ،‬فنعيم الدنيا بالسباب‪ ،‬لكن نعيم الخرة‬
‫بالمسبّب سبحانه‪ ،‬لذلك ترى نعيما صافيا ل يُنغّصه شيء‪ ،‬فأنت ربما تأكل الكْلة في الدنيا فتسبّب‬
‫لك المتاعب والمضايقات‪ ،‬كالمغص والنتفاخ‪ ،‬علوة على ما تكرهه أثناء قضاء الحاجة للتخلّص‬
‫من فضلت هذه الكلة‪.‬‬
‫طهِي‬
‫أما في الخرة فقد أعدّ ال لك الطعام على َقدْر الحاجة‪ ،‬بحيث ل تكون له فضلت‪ ،‬لنه ُ‬
‫بكُنْ من ال تعالى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك سُئِل أحد علماء المسلمين‪ :‬تقولون‪ :‬إن الجنة تأكلون فيها‪ ،‬ول تتغوطون‪ ،‬فكيف ذلك؟ فقال‪:‬‬
‫ولم التعجب‪َ ،‬ألَ تروْنَ الجنين في بطن أمه يتغذى وينمو ول يتغوط؛ لن ال تعالى يعطيه غذاءه‬
‫على قدر حاجته للنمو‪ ،‬فل يبقى منه فضلت‪ ،‬ولو تغوّط في مشيمته لمات في بطن أمه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ِ } :‬نعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ { [العنكبوت‪ ]58 :‬نعم‪ ،‬نعْم هذا الجر؛ لنك مك ْثتَ إلى سِنّ‬
‫التكليف ترْبَع في نعم ال دون أنْ يُكلّفك بشيء‪ ،‬ثم يعطيك على مدة التكليف أجرا ل ينقطع‪ ،‬ول‬
‫نهاية له‪ ،‬فأيّ أجر َأسْخى من هذا؟ ويكفي أن الذي يقرّر هذه الحقيقة هو ال‪ ،‬فهو سبحانه‬
‫القائل‪ِ } :‬نعْمَ َأجْرُ ا ْلعَامِلِينَ { [العنكبوت‪.]58 :‬‬
‫ن صَبَرُواْ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬الّذِي َ‬

‫(‪)3324 /‬‬

‫ن صَبَرُوا وَعَلَى رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ (‪)59‬‬


‫الّذِي َ‬

‫ن صَبَرُواْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]59 :‬فل تظن أن العمل ما كان في‬


‫فهذه من صفات العاملين { الّذِي َ‬
‫ن صَبَرُواْ‪} ...‬‬
‫بحبوحة العيش وترَف الحياة‪ ،‬فالعامل الحق هو الذي يصبر‪ ،‬وكلمة { الّذِي َ‬
‫سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن‬
‫[العنكبوت‪ ]59 :‬تدل على أنه سيتعرّض للبتلء‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬أحَ ِ‬
‫َيقُولُواْ آمَنّا وَ ُه ْم لَ ُيفْتَنُونَ }[العنكبوت‪.]2 :‬‬
‫فالذين اضطهدوا وعُذّبوا حتى اضطروا للهجرة بدينهم صبروا‪ ،‬لكن هناك ما هو أكبر من الصبر؛‬
‫خصْمك من الجائز أنْ يصبر عليك‪ ،‬فيحتاج المر إلى المصابرة؛ لذلك قال سبحانه{ اصْبِرُواْ‬
‫لن َ‬
‫َوصَابِرُواْ }[آل عمران‪ ]200 :‬ومعنى‪ :‬صابره‪ .‬يعني‪ :‬تنافس معه في الصبر‪.‬‬
‫والصبر يكون على آفات الحياة لتتحملها‪ ،‬ويكون على مشقة التكاليف‪ ،‬وعلى إغراء المعصية‪،‬‬
‫ل كالضّرس‬
‫يقولون‪ :‬صبر على الطاعة‪ ،‬وصبر عن المعصية‪ ،‬وصدق الشاعر حين قال‪:‬وكُنْ رج ً‬
‫يرسُو مكَانَهُ ل َي ْمضُ َغ لَ َيعْنيه حُلْو ولَ مُرّفالمعنى { الّذِينَ صَبَرُواْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]59 :‬على‬
‫اليذاء { وَعَلَىا رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ } [العنكبوت‪ ]59 :‬أي‪ :‬في الرزق‪ ،‬وكان المهاجرون عند هجرتهم‬
‫يهتمون لمر الرزق يقولون‪ :‬ليس لنا هناك دار ول عقار ول‪ ..‬إلخ‪ .‬فأراد سبانه أنْ يُطمئِن‬
‫قلوبهم على مسألة الرزق‪ ،‬فقال { وَعَلَىا رَ ّبهِمْ يَ َت َوكّلُونَ } [العنكبوت‪.]59 :‬‬
‫فالذي خلقك ل بُدّ أنْ يخلق لك رزقك‪ ،‬ومن عجيب أمر الرزق أن رزقك ليس هو ما تملك إنما ما‬
‫تنتفع به حقيقة‪ ،‬فقد تملك شيئا ويُسرق منك‪ ،‬وقد يُطهى لك الطعام‪ ،‬ول تأكله‪ ،‬بل أدقّ من ذلك قد‬
‫تأكله ول يصل إلى معدتك‪ ،‬وربما يصل إلى المعدة وتقيئه‪ ،‬وأكثر من ذلك قد يتمثل الغذاء إلى دم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم ينزف منك في جُرْح أو لدغة بعوضة أو غير ذلك؛ لن هذا ليس من رزقك أنت‪ ،‬بل رزق‬
‫لمخلوق آخر‪.‬‬
‫إنك تعجب حينما ترى التمساح مثلًعلى ضخامته وخوف الناس منه‪ ،‬ومع ذلك تراه بعد أنْ يأكل‬
‫يخرج إلى اليابسة‪ ،‬حيث يفتح فمه لصغار الطيور‪ ،‬فتتولى تنظيف ما بين أسنانه من فضلت‬
‫الطعام‪ ،‬وترى بينهما انسجاما تاما وتعاونا إيجابيا‪ ،‬فحين يتعرض التمساح مثلً لهجمة الصياد‬
‫يُحدِث صوتا معينا يفهمه التمساح فيسرع بالهرب‪.‬‬
‫شقّه خلق لقّه)‪.‬‬
‫فانظر من أين ينال هذا الطير قوته؟ وأين خبأ ال له رزقه؟ لذلك يقولون (اللي َ‬
‫وسبق أن ضربنا مثلً على خصوصية الرزق بالجنين في بطن أمه‪ ،‬فحينما تحمل الم بالجنين‬
‫يتحول الدم إلى غذاء للطفل‪ ،‬فإنْ لم تحمل نزل هذا الدم ليرمي به دون أنْ تستفيد منه الم‪ ،‬لماذا؟‬
‫لنه رِزْق الجنين‪ ،‬وليس رزقها هي‪.‬‬
‫ح ِملُ‪.} ...‬‬
‫لذلك نجد الية بعدها تقول‪َ { :‬وكَأَيّن مّن دَآبّ ٍة لّ َت ْ‬

‫(‪)3325 /‬‬

‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ (‪)60‬‬


‫ح ِملُ رِ ْز َقهَا اللّهُ يَرْ ُز ُقهَا وَإِيّاكُمْ وَ ُهوَ ال ّ‬
‫َوكَأَيّنْ مِنْ دَابّةٍ لَا تَ ْ‬

‫يريد سبحانه أن يُطمئن خَلْقه على أرزاقهم‪ ،‬فيقول { َوكَأَيّن مّن دَآبّةٍ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]60 :‬كأيّ لها‬
‫َمعَانٍ متعددة‪ ،‬مثل كم الخبرية حين تقول لمن ينكر جميلك‪ :‬كم أحسنتُ إليك؟ يعني‪ :‬كثيرا جدا‪،‬‬
‫كذلك في { َوكَأَيّن‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]60 :‬أي‪ :‬كثير كما في{ َوكَأَيّن مّن نّ ِبيّ قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ‬
‫َفمَا وَهَنُواْ ِلمَآ َأصَا َبهُمْ‪[} ...‬آل عمران‪.]146 :‬‬
‫والدابة‪ :‬هي التي تدبّ على الرض‪ ،‬والمراد كل حيّ ذي حركة‪ ،‬وقد تقول‪ :‬فالنمل ‪ -‬مثلً ‪ -‬ل‬
‫نسمع له دبّة على الرض أ ُي َعدّ من الدابة؟ نعم فله دبّة على الرض‪ ،‬لكنك ل تسمعها‪ ،‬فالذي‬
‫خلقها يسمع دبيبها؛ لن الذي يقبل الصغر يقبل الكبر‪ ،‬لكن ليس عندك أنت آلة السماع‪.‬‬
‫بدليل أن الذي يعاني من ضعف السمع مثلً ينصحه الطبيب بتركيب سماعة للذن فيسمع‪ ،‬وكذلك‬
‫في النظارة للبصر‪ ،‬إذن‪ :‬فكل شيء له أثر مرئي أو مسموع‪ ،‬لكن المهم في اللة التي تسمع أو‬
‫ترى؛ لذلك يقولون إنْ أرادوا المبالغة؛ فلن يسمع دَبّة النملة‪.‬‬
‫ح ِملُ رِ ْز َقهَا‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]60 :‬ليست كلّ الدواب تحمل رزقها‪،‬‬
‫ومعنى { َوكَأَيّن مّن دَآبّ ٍة لّ َت ْ‬
‫فكثير منها ل تحمل رزقا‪ ،‬ومع ذلك تأكل وتعيش‪ ،‬ويحتمل أن يكون المعنى‪ :‬لنها ل تقدر على‬
‫حمله‪ ،‬أو تقدر على حمله ولكنها ل تفعل‪ ،‬فمثلً القمل والبراغيث التي تكثر مع الهمال في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ضعْفها على دم النسان الفتوة المتجبر‪،‬‬
‫النظافة الشخصية أتحمل رزقا؟ والناموسة التي تتغذى مع َ‬
‫الميكروب الذي يفتك بالنسان‪ ..‬إلخ هذه أشياء ل تحمل رزقها‪.‬‬
‫أما الحمار مثلً مع قدرته على الحمل ل يحمل رزقه؛ لذلك تراه إنْ شبع ل يدخر شيئا‪ ،‬وربما‬
‫يدوس الكل الباقي‪ ،‬أو يبول عليه‪ ،‬وكذلك كل الحيوانات حتى أنهم يقولون‪ :‬ل يعرف الدخار من‬
‫المخلوقات إل النسان والفأر والنمل‪.‬‬
‫وقد جعل ال الدخار في هؤلء لحكمة ولبيان طلقة قدرته تعالى‪ ،‬وأن الدخار عند هذه‬
‫المخلوقات ليس قُصورا من الخالق سبحانه في أن يجعل بعض الدوابّ ل تحمل رزقها‪ ،‬بل يخلق‬
‫لها وسائل تعجز أنت عنها‪.‬‬
‫ولك أن تتأمل قرى النمل وما فيها من عجائب‪ ،‬فقد لحظ الباحثون في هذا المجال أنك لو تركت‬
‫بقايا طعام مثلً تأتي نملة وتحوم حوله ثم تنصرف وترسل إليه عددا من النمل يستطيع حمل هذه‬
‫القطعة‪ ،‬ولو ضاعفت وزن هذه القطعة لتضاعف عدد النمل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهي مملكة في غاية التنظيم والدقة والتخصص‪ ،‬والعجب من ذلك أنهم لحظوا على النمل‬
‫أنها تُخرِج فُتاتا أبيض صغيرا أمام العشاش‪ ،‬فلما فحصوه وجدوه الزريعة التي تُسبّب النبات‬
‫في الحبة حتى ل تنبت‪ ،‬فتهدم عليهم العُشّ‪ ،‬فسبحان الذي خلق فسوّى والذي قدّر فهدى‪.‬‬
‫وأعجب من ذلك‪ ،‬وجدوا النمل يفلق حبة الكسبرة إلى أربعة أقسام‪ ،‬لن نصف حبة الكسبرة يمكنه‬
‫أنْ يَنبت منفردا‪ ،‬فقسموا النصف‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فكثير من الدواب ل تحمل رزقها } اللّهُ يَرْ ُز ُقهَا وَإِيّاكُمْ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]60 :‬فذكر الدواب‬
‫أولً في مجال الرزق ثم عطف عليها } وَإِيّاكُمْ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]60 :‬فنحن معطوفون في الرزق‬
‫على الدواب‪ ،‬مع أن النسان هو الصل‪ ،‬وهو المكرّم‪ ،‬والعالم كله خُلِق من أجله لخدمته‪ ،‬ومع‬
‫ذلك لم ي ُقلْ سبحانه‪ :‬نحن نرزقكم وإياهم‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬لنك تظن أنها ل تستطيع أن تحمل أو تُدبّر‬
‫رزقها‪ ،‬ول تتصرف فيه‪ ،‬فلفت نظرك إلى أننا سنرزقها قبلك‪.‬‬
‫وقد وقف المستشرقون الذين يأخذون القرآن بغير الملَكة العربية يعترضون على قوله تعالى‪ {:‬وَلَ‬
‫َتقْتُلُواْ َأوْل َدكُمْ خَشْ َيةَ ِإمْلقٍ‪[} ...‬السراء‪.]31 :‬‬
‫لقٍ‪[} ...‬النعام‪.]151 :‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ {:‬ولَ َتقْتُلُواْ َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْ َ‬
‫يقولون‪ :‬أيّهما أبلغ من الخرى‪ ،‬وإن كانت إحداهما بليغة‪ ،‬فالخرى غير بليغة‪.‬‬
‫وهذا العتراض ناتج عن ظنهم أن اليتين بمعنى واحد‪ ،‬وهما مختلفتان‪ ،‬فالولى{ َولَ َتقْتُلُواْ‬
‫خشْيَةَ ِإمْلقٍ‪[} ...‬السراء‪ ]31 :‬فالفقر هنا غير موجود وهم يخافونه‪ ،‬أما في‪َ {:‬ولَ َتقْتُلُواْ‬
‫َأوْل َدكُمْ َ‬
‫َأ ْولَ َدكُمْ مّنْ إمْلَقٍ‪[} ...‬النعام‪ ]151 :‬فالفقر موجود فعلً‪ .‬فهما مختلفتان في الصّدْر‪ ،‬وكذلك‬
‫مختلفتان في العَجُز‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ففي الولى قال‪ {:‬نّحْنُ نَرْ ُز ُقهُ ْم وَإِيّاكُم‪[} ...‬السراء‪ ]31 :‬لن الفقر غير موجود‪ ،‬وأنت غير‬
‫مشغول برزقك‪ ،‬فبدأ بالولد‪ ،‬أمّا في الثانية فقال‪ {:‬نّحْنُ نَرْ ُز ُقكُ ْم وَإِيّاهُمْ‪[} ...‬النعام‪ ]151 :‬وقدم‬
‫الباء؛ لن الفقر موجود‪ ،‬والنسان مشغول أولً برزق نفسه قبل رزق أولده‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فلكل آية معنى وانسجام بين صَدْرها وعَجُزها‪ ،‬المهم أن تتدبر لغة القرآن‪ ،‬وتفهم عن ال‬
‫مراده‪.‬‬
‫سمِيعُ ا ْلعَلِيمُ { [العنكبوت‪ ]60 :‬واختار هنا السميع العليم؛ لن الحق‬
‫وقوله سبحانه‪ } :‬وَ ُهوَ ال ّ‬
‫سبحانه له قيّومية على خَلْقه‪ ،‬فلم يخلقهم ثم يتركهم للنواميس‪ ،‬إنما خلق الخَلْق وهو سبحانه قائم‬
‫عليه بقيوميته تعالى؛ لذلك يقول في بيان عنايته بصنعته{ لَ تَأْخُ ُذهُ سِنَ ٌة َولَ َنوْمٌ‪[} ...‬البقرة‪]255 :‬‬
‫يعني‪ :‬يا عبادي ناموا ِملْءَ جفونكم؛ لن ربكم ل ينام‪.‬‬
‫ومناسبة السميع هنا؛ أن الجوع إذا هَزّ إنسانا ربما يصيح صيحة‪ ،‬أو يُحِدث شيئا يدل على أنه‬
‫جائع‪ ،‬فكأنه يقول‪ :‬لم أجعلكم كذلك‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ ال ّ‬

‫(‪)3326 /‬‬

‫س وَا ْلقَمَرَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ فَأَنّى ُي ْؤ َفكُونَ (‪)61‬‬


‫شمْ َ‬
‫سخّرَ ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضَ وَ َ‬
‫وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ خََلقَ ال ّ‬

‫يقول تعالى للذين ل تكفيهم آية القرآن التي نزلت على رسول ال‪ ،‬ويطلبون منه آيات أخرى‪،‬‬
‫يقول لهم‪ :‬لقد جعل ال لكم اليات في الكون قبل أنْ يرسل الرسل‪ ،‬آيات دالة على العجاز في‬
‫صغُر؟‬
‫السماوات وفي الرض‪ ،‬فهل منكم مَنْ يستطيع أنْ يخلق شيئا منها مهما َ‬
‫إن خلق السماوات والرض معجزة كونية ل تنتهي‪ ،‬فلماذا تطلبون المزيد من اليات‪ ،‬وما جعلها‬
‫ال إل لبيان صِدْق الرسل في البلغ عن ال ليؤمن الناس بهم‪.‬‬
‫لذلك يقول سبحانه في الرد عليهم‪ {:‬هَـاذَا خَ ْلقُ اللّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خََلقَ الّذِينَ مِن دُونِهِ‪[} ...‬لقمان‪:‬‬
‫‪ ]11‬فخلْق السماوات والرض والشمس والقمر إعجاز للدنيا كلها‪ ،‬وخصوصا الكفرة فيها‪.‬‬
‫ومسألة الخَلْق هذه من الوضوح بحيث ل يستطيع أحد إنكارها ‪ -‬كما سبق أنْ أوضحنا ‪ -‬لذلك‬
‫يقولون هنا في إجابة السؤال { لَ َيقُولُنّ اللّهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]61 :‬وهذا العتراف منهم يستوجب‬
‫من المؤمن أنْ يحمد ال عليه‪ ،‬فيقول‪ :‬الحمد ل أن اعترفوا بهذه الحقيقة بأنفسهم‪ ،‬الحمد ل الذي‬
‫أنطقهم بكلمة الحق‪ ،‬وأظهر الحجة التي تبطل كفرهم‪.‬‬
‫وقوله تعالى { فَأَنّىا ُي ْؤ َفكُونَ } [العنكبوت‪ ]61 :‬أي‪ :‬كيف بعد هذا العتراف ينصرفون عن ال‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وينصرفون عن الحق؟‬
‫سطُ الرّ ْزقَ‪.} ...‬‬
‫{ اللّهُ يَبْ ُ‬

‫(‪)3327 /‬‬

‫شيْءٍ عَلِيمٌ (‪)62‬‬


‫اللّهُ يَ ْبسُطُ الرّزْقَ ِلمَنْ َيشَاءُ مِنْ عِبَا ِد ِه وَيَقْدِرُ لَهُ إِنّ اللّهَ ِب ُكلّ َ‬

‫{ يَ ْبسُطُ الرّ ْزقَ‪[ } ...‬العنكبوت‪ :]62 :‬يُوسّعه‪ { ،‬وَ َيقْدِرُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]62 :‬يعني يضيق‪ ،‬وآفة‬
‫الناس في هذه المسألة أنهم ل يفسرون الرزق إل بالمال‪ ،‬والرزق في الواقع كل ما ينتفع به‬
‫النسان‪ ،‬فالعلم رزق‪ ،‬والحلم رزق‪ ،‬والجبروت رزق‪ ،‬والستكانة رزق‪ ،‬وإتقان الصّنْعة رزق‪..‬‬
‫إلخ‪.‬‬
‫وال سبحانه يُوسّع الرزق لمَنْ يشاء‪ ،‬ويُضيّقه على مَنْ يشاء‪ ،‬فالذي ضُيّق عيه يحتاج لمن بسط‬
‫له‪ ،‬وكذلك يبسط الرزق في شيء ويُضيّقه في شيء آخر‪ ،‬فهذا بسط له في العقل مثلً‪ ،‬وضيق‬
‫عليه في المال‪.‬‬
‫فكأن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬نثر مواهب الملكات بين خَلْقه‪ ،‬لم يجمعها كلها في واحد‪ ،‬وسبق‬
‫أن أوضحنا أن مجموع الملكات عند الجميع متساوية في النهاية‪ ،‬فَمنْ بُسِط له في شيء ضُيّق‬
‫عليه في آخر؛ ليظل المجتمع مربوطا برباط الحتياج‪ ،‬ول يستغني الناس بعضهم عن بعض‪،‬‬
‫وحتى تتكامل المواهب بين الناس‪ ،‬فتساند ل تتعاند‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حين يبسط الرزق لعبد‪ ،‬و َيقْدره على آخر‪ ،‬ل يعني هذا أنه يحب‬
‫الول ويكره الخر‪ ،‬ولو نظرتَ إلى كل جوانب الرزق وزوايا العطاء لوجدتها متساوية‪.‬‬
‫سمْنَا بَيْ َنهُمْ ّمعِيشَ َت ُهمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا‬
‫ح َمتَ رَ ّبكَ َنحْنُ قَ َ‬
‫سمُونَ رَ ْ‬
‫وحين نتأمل قوله سبحانه‪ {:‬أَهُمْ َيقْ ِ‬
‫ي بعض مرفوع؟ وأيّ بعض مرفوع‬
‫ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ‪[} ...‬الزخرف‪ ]32 :‬فأ ّ‬
‫وَ َر َفعْنَا َب ْع َ‬
‫عليه؟ الكل مرفوع في جهة اختصاصه‪ ،‬ومرفوع عليه في غير جهة اختصاصه‪ ،‬إذن‪ :‬فالجميع‬
‫سواء‪.‬‬
‫وسبق أنْ ضربنا مثلً لهذه القضية‪ .‬وقلنا‪ :‬إن العظيم الذي يسكن القصر يحتاج إلى العامل البسيط‬
‫الذي يصلح له دورة المياه‪ ،‬وينقذه من الرائحة الكريهة التي يتأفف منها‪ ،‬فيسعى هو إليه ويبحث‬
‫عنه‪ ،‬وربما ذهب إليه في محل عمله وأحضره بسيارته الفارهة‪ ،‬بل ويرجوه إنْ كان مشغولً‪.‬‬
‫ففي هذه الحالة‪ ،‬ترى العامل مرفوعا على الباشا العظيم‪ ،‬فل يظهر الرفع إل في وقت الحاجة‬
‫للمرفوع‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأيضا لو لم يكُنْ بين الناس غني وفقير‪ ،‬مَنْ سيقضي لنا المصالح في الحقل‪ ،‬وفي المصنع‪ ،‬وفي‬
‫السوق‪ ..‬إلخ ل ُبدّ أنْ تُبنى هذه المسائل على الحتياج‪ ،‬ل على التفضّل‪ .‬إذن‪ :‬إنْ أردت أن تقارن‬
‫بين الخَلْق فل تحقِرنّ أحدا؛ لنه قد يفضل عليك في موهبة ما‪ ،‬فتحتاج أنت إليه‪.‬‬
‫سمَآءِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّن نّ ّزلَ مِنَ ال ّ‬

‫(‪)3328 /‬‬

‫حمْدُ لِلّهِ َبلْ‬


‫سمَاءِ مَاءً فََأحْيَا بِهِ الْأَ ْرضَ مِنْ َبعْدِ َموْ ِتهَا لَ َيقُولُنّ اللّهُ ُقلِ الْ َ‬
‫وَلَئِنْ سَأَلْ َتهُمْ مَنْ نَ ّزلَ مِنَ ال ّ‬
‫َأكْثَرُهُمْ لَا َي ْعقِلُونَ (‪)63‬‬

‫وهنا أيضا قالوا { اللّهُ } لن إنزال المطر من السماء وإحياء الرض به بعد موتها آية كونية‬
‫واضحة لم يدّعِها أحد‪ ،‬فهي ثابتة ل تعالى‪ ،‬ل يُنكرها أحد حتى الكافرون‪ ،‬فلئن سألتهم هذا السؤال‬
‫حمْدُ‬
‫{ لَ َيقُولُنّ اللّهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]63 :‬لذلك يأمرنا الحق سبحانه بأن نقول بعد هذا القرار { ُقلِ الْ َ‬
‫لِلّهِ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]63 :‬الذي أنطقهم بالحق‪ ،‬وأقام عليهم الحجة { َبلْ َأكْثَرُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ }‬
‫[العنكبوت‪ ]63 :‬لنهم أقرّوا بآيات ال في خَلْق الكون‪ ،‬ومع ذلك كفروا به‪.‬‬

‫(‪)3329 /‬‬

‫ب وَإِنّ الدّارَ الَْآخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُوا َيعَْلمُونَ (‪)64‬‬
‫َومَا هَ ِذهِ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا َل ْه ٌو وََلعِ ٌ‬

‫حسّه‬
‫الحياة‪ :‬نعرفها بأنها ما يكون في النسان العلى في الوجود من حِسّ وحركة‪ ،‬فإذا انتهى ِ‬
‫وحركته لم َتعُدْ له حياة‪ ،‬وهذه الحياة موصوفة هنا بأوصاف ثلثة‪ :‬دنيا ولهو ولعب‪ ،‬كلمة دنيا‬
‫علْيا فساعة تسمع هذا الوصف " الحياة الدنيا " فاعلم أن هذا الوصف ما جاء‬
‫تدل على أن مقابلها ُ‬
‫إل ليميزها عن حياة أخرى‪ ،‬تشترك معها في أنها حياة ل إل أنها حياة عليا‪ ،‬هذه الحياة العُلْيا هي‬
‫التي قال عنها ربنا ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ " -‬الدار الخرة "‪.‬‬
‫حسّ والحركة في النسان‪ ،‬فالواقع عند التقنين أن لكل شيء‬
‫وإنْ كنا قد عرّفنا الحياة الدنيا بأنها ال ِ‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ‬
‫في الوجود حياةً تُناسب مهمته‪ ،‬بدليل قوله تعالى حين يُنهي هذه الحياة‪ُ {:‬كلّ َ‬
‫جهَهُ‪[} ...‬القصص‪.]88 :‬‬
‫وَ ْ‬
‫فما يُقال له شيء ل بُدّ أنْ يطرأ عليه الهلك‪ ،‬والهلك تقابله الحياة‪ ،‬بدليل قوله سبحانه‪ {:‬لّ َيهِْلكَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حيّ عَن بَيّ َنةٍ‪[} ...‬النفال‪.]42 :‬‬
‫مَنْ هََلكَ عَن بَيّ َن ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ‬
‫فالحياة ضد الهلك‪ ،‬إل أنك تعرف الحياة عندك بالحس والحركة‪ ،‬وكذلك الحياة في كل شيء‬
‫بحسبه‪ ،‬حتى في الجماد حياة نلحظها في أن الجبل يتكون من أصناف كثيرة من الحجارة‪ ،‬ترتقي‬
‫مع الزمن من حجارة إلى أشياء أخرى أعلى من الحجارة وأثمن‪ ،‬وما دامت يطرأ عليها هذا‬
‫التغيير فل بُدّ أن فيها حيا ًة وتفاعلً ل ندركه نحن‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكل شيء له حياة‪ ،‬لكن الفة أننا نريد حياة كالتي فينا نحن‪ ،‬وأذكر نحن في مراحل التعليم‬
‫قالوا لنا‪ :‬هناك شيء اسمه المغناطيس‪ ،‬وعملية اسمها الممغنطة‪ ،‬فحين تُمغنط قطعة من الحديد‬
‫تُكسِبها قدرة على جَذْب قطعة أخرى وفي اتجاه معين‪ ،‬إذن‪ :‬في الحديد حياة وحركة وتفاعل‪ ،‬لكن‬
‫ليس عندك اللة التي تدرك بها هذه الحركة‪ ،‬وفيها ذرات داخلية ل تُدرَك بالعين المجردة تم‬
‫تعديلها بالمغنطة إلى جهة معينة‪.‬‬
‫شيْءٍ‪} ...‬‬
‫طقَ ُكلّ َ‬
‫طقَنَا اللّهُ الّذِي أَن َ‬
‫شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ‬
‫واقرأ قوله تعالى‪َ {:‬وقَالُواْ ِلجُلُودِ ِهمْ لِمَ َ‬
‫[فصلت‪ ]21 :‬فللجوارح نفسها حياة‪ ،‬ولها كلم ومنطق‪ ،‬لكن ل ندركه نحن؛ لن حياتها ليست‬
‫كحياتنا‪ .‬إنك لو تتبعتَ مثلً طبقا أو كوبا من البلستيك لوجدته تغيّر لونه مع مرور الزمن‪ ،‬وتغيّر‬
‫اللون فيه يدل على وجود حياة وحركة بين ذراته‪ ،‬ولو لم تكُنْ فيه حياة لكان جامدا مثل الزجاج‪،‬‬
‫ل يطرأ عليه تغيّر اللون‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يصف الدار الخرة بأنها { الْحَ َيوَانُ‪[ } ..‬العنكبوت‪ ]64 :‬وفرْق بين‬
‫الحياة والحيوان‪ ،‬الحياة هي هذه التي نحياها في الدنيا يحياها الفراد‪ ،‬ويحياها النبات‪ ،‬ثم تؤول‬
‫إلى الموت والفناء‪ ،‬أمّا الحيوان فيعني الحياة الرقى في الخرة؛ لنها حياة باقية حياة حقيقية‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أعطانا صورة للحياة الدنيا‪ ،‬الحياة المادية في قوله تعالى عن آدم‬

‫ختُ فِيهِ مِن رّوحِي‪[} ...‬الحجر‪ ]29 :‬فمن الطين خَلق آدم‪ ،‬وسوّاه ونفخ فيه من‬
‫سوّيْتُ ُه وَ َنفَ ْ‬
‫{ فَِإذَا َ‬
‫روحه تعالى‪ ،‬فد ّبتْ فيه الحياة المادية‪.‬‬
‫لكن هناك حياة أخرى أسمى من هذه يقول ال عنها‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا‬
‫دَعَاكُم ِلمَا يُحْيِيكُمْ‪[} ...‬النفال‪ ]24 :‬فكيف يخاطبهم بذلك وهم أحياء؟ ل بُدّ أن المراد حياة أخرى‬
‫غير هذه الحياة المادية‪ ،‬المراد حياة الروح والقيم والمنهج الذي يأتي به رسول ال‪.‬‬
‫لذلك سمّى المنهج روحا{ َوكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ ِإلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا‪[} ...‬الشورى‪ ]52 :‬وسمّى الملَك‬
‫لمِينُ }[الشعراء‪.]193 :‬‬
‫الذي نزل به روحا‪ {:‬نَ َزلَ بِهِ الرّوحُ ا َ‬
‫إذن‪ } :‬وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]64 :‬أي‪ :‬الحياة الحقيقية التي ل تفوتها ول‬
‫تفوتك‪ ،‬ول يفارقك نعيمها‪ ،‬ول يُنغّصه عليك شيء‪ ،‬كما أن التنعّم في الدنيا على قَدْر إمكاناتك‬
‫وأسبابك‪ ،‬أمّا في الخرة فالنعيم على قَدْر إمكانات المنعم سبحانه وتعالى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يأتي َوصْف الدنيا بأنها َلهْو‪ ،‬وَلعِب‪ ،‬وهما حركتان من حركات جوارح النسان‪ ،‬لكنها حركة ل‬
‫مَقصدَ لها إل الحركة في ذاتها دون هدف منها؛ لذلك نقول لمن يعمل عملً ل فائدة منه " عبث "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬اللهو واللعب عبث‪ ،‬لكن يختلفان من ناحية أخرى‪ ،‬فاللعب حركة ل فائدة منها‪ ،‬لكنه ل‬
‫يصرفك عن واجب يعطي فائدة‪ ،‬كالولد حين يلعب‪ ،‬فاللعب ل يصرفه عن شيء إذن‪ :‬فاللعب لمن‬
‫لم يبلغ‪ ،‬أمّا البالغ المكلف فاللعب في حقّه يسمى َلهْوا‪ ،‬لنه كُلّف فترك ما كُلّف به إلى ما لم يكلّف‬
‫به‪ ،‬وَلهَا عن الواجب‪ ،‬ومنه‪َ :‬لهْو الحديث‪.‬‬
‫فقوله تعالى } َومَا هَـا ِذهِ ا ْلحَيَاةُ الدّنْيَآ ِإلّ َل ْه ٌو وََل ِعبٌ‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]64 :‬أي‪ :‬إنْ جُرّدت عن‬
‫الحياة الخرى حياة القيم التي تأتي باتباع المنهاج‪.‬‬
‫وقوله‪َ } :‬لوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ { [العنكبوت‪ ]64 :‬يُحتمل أن تكون الجملة هنا امتناعية يعني‪ :‬امتنع‬
‫علمهم بها‪ ،‬أو تكون تمنيا يعني‪ :‬يا ليتهم يعلمون هذه الحقيقة‪ ،‬حقيقة الدنيا وحقيقة الخرة؛ لنهم‬
‫لو علموها لقبلوا على منهج ربهم لينالوا ُكلّ هذا العطاء الممتدّ‪ ،‬ولَسلكوا طريق اليمان بدل‬
‫طريق الكفر‪ ،‬فكأن المعنى أنهم لم يعرفوا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَِإذَا َركِبُواْ فِي ا ْلفُ ْلكِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3330 /‬‬

‫عوُا اللّهَ مُخِْلصِينَ لَهُ الدّينَ فََلمّا َنجّاهُمْ إِلَى الْبَرّ إِذَا هُمْ ُيشْ ِركُونَ (‪)65‬‬
‫فَإِذَا َركِبُوا فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ‬

‫ينقلنا السياق هنا من الكلم عن حقيقة كل من الدنيا والخرة إلى الحديث عن الفُلْك‪ ،‬فما العلقة‬
‫بينهما؟‬
‫المتكلم هنا هو ال تعالى‪ ،‬وواضع كل شيء في موضعه‪ ،‬ول يغيب عنك أنه ل بُدّ أنْ تتدبر كلم‬
‫ال لتفهم مراده‪ ،‬فال ل يريدنا مُقبلين على ظاهر القرآن فحسب‪ ،‬إنما أنْ نتعمق في فهمه وتأمله‪،‬‬
‫وننظر في معطياته الحقيقية‪َ {:‬أفَلَ يَتَدَبّرُونَ ا ْلقُرْآنَ‪[} ...‬النساء‪.]82 :‬‬
‫والعلقة هنا أن الية السابقة جاءتْ لتقرر أن الدنيا دار لهو ولعب ل فائدة منها إذا ما َبعُدت عن‬
‫منهج ال‪ ،‬ولم تحسب حسابا لحياة أخرى هي الحياة الحقيقية وهي الحيوان‪ ،‬فكان على العاقل أنْ‬
‫ن يعمل لها باتباع منهج ال في الدنيا‪.‬‬
‫يحرص على الخرة‪ ،‬وأ ْ‬
‫إذن‪ :‬فالدنيا ليست غاية‪ ،‬بل هي وسيلة‪ ،‬وأنت أيها الذي أعرضتَ عن منهج ربك جلعتَ الدنيا‬
‫غايتك‪ ،‬والدنيا إنْ كانت هي الغاية فما أتفهها من غاية‪ ،‬إنما اجعلها وسيلة للخرة ومزرعة لدار‬
‫الحيوان‪ .‬وكذلك الحال في الفُلْك‪ ،‬فهي وسيلة تُوصّلك إلى هدف‪ ،‬وإلى غاية‪ ،‬وليست هي غاية في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدّ ذاتها‪.‬‬
‫َ‬
‫خِلصِينَ لَهُ الدّينَ‪[ } ...‬العنبكوت‪ ]65 :‬والفلك‪ :‬السفينة‪ ،‬وتُطلق‬
‫عوُاْ اللّهَ مُ ْ‬
‫{ فَِإذَا َركِبُواْ فِي ا ْلفُ ْلكِ دَ َ‬
‫عوُاْ اللّهَ مُخِْلصِينَ‬
‫على المفرد وعلى الجمع‪ ،‬فيقول تعالى‪ {:‬وَ َيصْنَعُ ا ْلفُ ْلكَ‪[} ...‬هود‪ ]38 :‬وقوله{ دَ َ‬
‫لَهُ الدّينَ‪[} ...‬يونس‪ ]22 :‬واضح من السياق أنها ليستْ دعوة الحمد‪ ،‬كأن يقولوا مثلً{ سُبْحَانَ‬
‫الّذِي سَخّرَ لَنَا هَـاذَا َومَا كُنّا لَهُ مُقْرِنِينَ }[الزخرف‪ ]13 :‬بل هي دعوة الضطرار بعد أنْ‬
‫تعرّضوا لشدة وعطب ل تنجيهم منها أسبابهم‪ ،‬بدليل قوله تعالى بعدها‪ { :‬فََلمّا نَجّا ُهمْ إِلَى الْبَرّ ِإذَا‬
‫هُمْ يُشْ ِركُونَ } [العنكبوت‪.]65 :‬‬
‫فهذه تعطينا أنهم ركبوا في السفينة‪ ،‬فلما تعرّضوا للعطب‪ ،‬وضاقتْ بهم أسبابهم دعوا ال مخلصين‬
‫له الدين‪.‬‬
‫ك وَجَرَيْنَ ِبهِم بِرِيحٍ طَيّ َب ٍة َوفَرِحُواْ ِبهَا‬
‫وفي لقطة أخرى يقول القرآن‪ {:‬حَتّىا ِإذَا كُنتُمْ فِي ا ْلفُ ْل ِ‬
‫عوُاْ اللّهَ ُمخِْلصِينَ لَهُ‬
‫ن وَظَنّواْ أَ ّنهُمْ أُحِيطَ ِبهِمْ دَ َ‬
‫صفٌ وَجَآءَهُمُ ا ْل َموْجُ مِن ُكلّ َمكَا ٍ‬
‫جَآءَ ْتهَا رِيحٌ عَا ِ‬
‫الدّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـا ِذهِ لَ َنكُونَنّ مِنَ الشّاكِرِينَ }[يونس‪.]22 :‬‬
‫فمعنى{ أُحِيطَ ِبهِمْ‪[} ...‬يونس‪ ]22 :‬أي‪ :‬ل يوجد لهم مفر ول مهرب ول مفزع يفزعون إليه إل‬
‫أنْ يتوجهوا إلى ال بدعاءخالص ويقين إيمان في أنهم ل ملجأ لهم إل ال‪ ،‬وقد كانوا في أول‬
‫الرحلة فرحين بمركبهم مسرورين به‪ ،‬وساعتها لم يكُن ال في بالهم‪ ،‬إنما لما ضاقت بهم الحيل‬
‫عادوا إلى الحق‪ ،‬فالوقت ل يحتمل المراوغة‪.‬‬
‫لن النسان عادةً ل يخدع نفسه‪ ،‬فحتى الكافر حين تضيق به أسباب النجاة يلجأ بالفطرة إلى ال‬
‫الحق‪ ،‬وينسى آلهته ومعبوداته من دون ال؛ لنه ل يسلم نفسه أبدا‪ ،‬ول يتمادى حينئذ في كذبة‬
‫اللهة والصنام‪.‬‬
‫عوُاْ اللّهَ مُخِْلصِينَ َلهُ الدّينَ‪.‬‬
‫لذلك‪ { :‬دَ َ‬

‫‪[ { ..‬العنكبوت‪ ]65 :‬دعوة خالصة بيقين ثابت في الله الحق‪ ،‬دعوة ل تشوبها شائبة شرك‪ ،‬ل‬
‫ظاهر‪ ،‬ول خفي‪ ،‬فل ينفع في هذا الوقت إل ال المعبود بحقّ‪.‬‬
‫وسبق أنْ أوضحنا هذه المسألة بمثَل من حياتنا الواقعية‪ ،‬قلنا‪ :‬إن حلق الصحة كان يقوم بدور‬
‫جتْ‬
‫الطبيب في القرية‪ ،‬وله بين الناس نفس مكانة الطبيب في وقت لم يكُنْ هناك أطباء‪ ،‬فلما خرّ َ‬
‫كلية الطب أطباء وانتشروا في القرى كان الحلق أول المهاجمين للطبيب؛ لنه يزاحمه في رزقه‪،‬‬
‫ويصرف الناس عنه؛ لذلك كان يذم في الطبيب ويُشكّك في خبرته وقدراته‪.‬‬
‫لكن لما مرض ابنه‪ ،‬وارتفعت درجة حرارته‪ ،‬وخاف عليه قال لزوجته‪ :‬انتظري إلى ظلم الليل‬
‫لذهب به إلى الطبيب ‪ -‬يعني‪ :‬في غفلة الناس‪.‬‬
‫فالنسان بطبعه ل يخدع نفسه‪ ،‬ول يسلمها إذا جدّ الجد‪ ،‬وفيه فطرة إيمانية إذا ما صفيتها في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذات البشرية ل تجد في النهاية إل قوة واحدة هي قوة ال‪.‬‬
‫حتى الملحدة حين تضيق بهم السباب يقولون‪ :‬يا رب‪ ،‬يا ال‪ .‬يقولونها من تلقاء أنفسهم‪ ،‬دون‬
‫مرور بالعقل الذي أنكروا به وجود ال‪ .‬وهذا يعني أن الفطرة اليمانية قد تحجبها الغيار البشرية‬
‫وتلغيها‪ ،‬فإذا ما نامت الغيار البشرية وتلشتْ لحدثٍ من الحداث ظهرتْ الفطرة اليمانية على‬
‫السطح تلهمك بل شعور‪.‬‬
‫ش َهدَهُمْ عَلَىا‬
‫ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ‬
‫لذلك نلحظ في قوله سبحانه‪ {:‬وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ‬
‫شهِدْنَآ‪[} ...‬العراف‪ ]172 :‬شهدوا لنهم ما يزالون في عالم الذر‪،‬‬
‫ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ‬
‫سهِمْ أََل ْ‬
‫أَنفُ ِ‬
‫ل تتحكم فيهم الغيار البشرية{ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ‬
‫ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ‪[} ...‬العراف‪.]173-172 :‬‬
‫أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ‬
‫وال خلق النسان خليفة له في الرض‪ ،‬وسخر له كل هذا الكون‪ ،‬فإنْ ظلّ متمسكا بهذا المنهج‪،‬‬
‫ووقف عند حد الخلفة يفوز‪ ،‬أما إنْ ظن أنه أصيل في الكون يخيب ويخسر‪ ،‬لكن ال الذي خلقه‬
‫يعلم الغيار فيه وهو خَلْقه وصنعته؛ لذلك وجهه‪ :‬أنت خليفتي في أرضي‪ ،‬وعليك أن تنظر إلى‬
‫ما طُلِب منك فتؤديه‪ ،‬وإل فسدت حياتك وتصادمت مع الخرين؛ لنك لست وحدك فيها‪ ،‬ولكي‬
‫تنسجم مع غيرك ل ُبدّ أن تسير َوفْق منهجي‪ ،‬وفي دائرة قوانين من استخلفك‪.‬‬
‫ثم يُنبّهه من ناحية أخرى‪ :‬يقول أنت أيها النسان‪ ،‬اعلم أن السباب ستستجيب لك‪ ،‬فإياك أن تظن‬
‫أن لك قدرةً عليها‪ ،‬أو أن لك جاها وعظمة‪ ،‬فتنسى أنك خليفة؛ لذلك يقول سبحانه‪ {:‬كَلّ إِنّ‬
‫طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق‪ ]7 - 6 :‬احذر حين تتم لك المور وتطاوعك‬
‫الِنسَانَ لَيَ ْ‬
‫جعَىا }[العلق‪ ]8 :‬فسوف يقابلك من الحداث ما ل تستطيع أسبابك أنْ‬
‫السباب{ إِنّ إِلَىا رَ ّبكَ الرّ ْ‬
‫تدفعَها‪ ،‬ولن تجد مرجعا إل إليّ‪.‬‬
‫وكيف يطغى النسان وقد أعطاه ال فيضا من فيض كماله‪ ،‬أعطاه قدرة من قدرته‪ ،‬وعلما من‬
‫علمه‪.‬‬

‫‪ .‬إلخ فإذا نظرتَ نظرة بسيطة في فيوضات ال عليك لوجدتها كثيرة‪ ،‬بال ماذا تفعل إنْ أردتَ أن‬
‫تقوم من مكانك‪ ،‬أو أن تُحرّك يدك أو ِرجْلك؟ ل شيء‪ ،‬بمجرد أن تريد تنفعل لك أعضاؤك‪،‬‬
‫وتطاوعك من حيث ل تدري‪.‬‬
‫وسبق أنْ قارنّا بين حركة النسان وحركة الحفار مثلً‪ ،‬وكيف أنه يحتاج إلى عمليات مُعقدة‪ ،‬فكل‬
‫حركة منه لها زرّ خاص يؤديها‪ ،‬فماذا تفعل أنت إنْ أردتَ أنْ تؤدي مثل هذه الحركات؟‬
‫إنك بمجرد الرادة ينفعل لك العضو‪ ،‬وكأن فيك فيضا من قوله تعالى‪ {:‬إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ ِإذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن‬
‫َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪ ]82 :‬فإذا كنتَ أنت تفعل بمجرد أن تريد‪ ،‬فلماذا ل تصدق هذا في حقّ‬
‫ال تبارك وتعالى؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكن هذه الحركة وانفعال العضاء لك ليس ذاتيا فيك‪ ،‬ويستطيع خالقك أنْ يسلبها منك‪ ،‬فتريد أن‬
‫طكَ من صفاته‪ ،‬ثم يتركك‪ ..‬فربنا سبحانه‬
‫ترفع يدك فل تستطيع‪ ،‬فأنت تحت قيوميته تعالى‪ ،‬فلم يُع ِ‬
‫يحذرنا‪ :‬إذا استغنيتَ ستَطغى؛ فتنبّه أن إلى ربك الرّجْعى‪.‬‬
‫سكَ اللّهُ‬
‫سْ‬‫ثم يلفت نظرنا من الن إلى قضية أخرى قبل أنْ نتعرض للمخاطر‪ {:‬وَإِن َيمْ َ‬
‫شفَ َلهُ ِإلّ ُهوَ‪} ...‬‬
‫ِبضُرّ‪[} ....‬يونس‪ ]107 :‬فل تتعب نفسك‪ ،‬وتذهب هنا أو هناك؛ لنه{ فَلَ كَا ِ‬
‫[يونس‪.]107 :‬‬
‫هذه نصيحتي لك؛ لنك صنعتي‪ ،‬وأنا أحب أن تكون صنعتي على أرقى ما تكون من الكمال‪ ،‬فإذا‬
‫مسّك ضر ل تقدر على َدفْعه بأسبابك‪ ،‬فعليك بباب ربك‪.‬‬
‫هذه ثلث قضايا أو نصائح نقدمها لك قبل أنْ تحلّ بك الحداث والمصائب‪ :‬إن استغنيت ستطغى‪،‬‬
‫وأن إلى ربك الرجعى‪ ،‬وإذا مسّك ضر‪ ،‬ول حيلةَ لك في دفعه بأسبابك‪ ،‬فليس لك إل ال تفزع‬
‫إليه‪ ،‬والله الذي يُنبّهنا إلى المخاطر لنتلفاها إله رحيم‪.‬‬
‫خفْتم الموت‪ ،‬ودعوتُم ال‬
‫إذن‪ :‬فأنتم تحبون الحياة‪ ،‬ولما نزلتْ بكم الحداث والخطوب في السفينة ِ‬
‫بالنجاة‪ ،‬فأنتم حريصون على الحياة الدنيا‪ ،‬فلماذا ل تؤمنون بال فتنالون حياة أخرى أبْقى وأدوم؟‬
‫والطريق إليها باليمان واليقين‪ ،‬وبمنهج ال في (افعل) و (ل تفعل)‪.‬‬
‫هذه قضية ذكرها القرآن‪ ،‬أمّا واقع الحياة فقد أكدها‪ ،‬وجاءت الحداث َوفْق ما قال‪ .‬القضية‪ {:‬وَإِذَا‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ‪[} ...‬يونس‪ ]12 :‬النسان يعني ُمطْلق النسان‪ :‬المؤمن والكافر{‬
‫مَ ّ‬
‫َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما‪[} ...‬يونس‪ ]12 :‬يعني‪ :‬في كل الحوال‪ ،‬فلما جاءه الخطر وأصابه الضر دعا‬
‫ال على أيّ حال كان‪.‬‬
‫وهذه الحوال تمثل مراحل راحات النفس‪ ،‬فمثلً حين تسير وأنت تحمل شيئا‪ ،‬فحين تتعب أولً‬
‫حمْل‪ ،‬ثم تتوقف عن السير لتستريح‪ ،‬فإنْ كان التعب أشد تقعد‪ ،‬وإل تَضطجع‬
‫تضع عنك هذا ال ِ‬
‫على جنبك‪.‬‬
‫فأنت في وضع الوقوف تحمل ثقل الجسم كله على القدمين فتكون الراحة أقل‪ ،‬أمّا في حالة القعود‬
‫يُوزع ثقل الجسم على الوركين والمقعدة‪ ،‬وفي الضطجاع يُوزع نصف الجسم على نصفه فتكون‬
‫الراحة أكبر‪ ،‬وفي ضوء هذا نفهم أن ال يستجيب لك حين تدعوه قائما‪ ،‬أو قاعدا‪ ،‬أو على جنبك‪.‬‬

‫وعجيب أمر النسان إذا نجّاه ال مما يخاف وكشف عنه الضر عاد مرة أخرى ظالما لنفسه‪ {:‬فََلمّا‬
‫شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ‪[} ...‬يونس‪.]12 :‬‬
‫كَ َ‬
‫ن ضُرّ‪[} ...‬الزمر‪ ]8 :‬أيّ ضر{‬
‫س الِنسَا َ‬
‫وفي لقطة أخرى يقول تعالى في هذه المسألة‪ {:‬وَإِذَا مَ ّ‬
‫سيَ مَا كَانَ َيدْعُو ِإلَيْهِ مِن قَ ْبلُ‪[} ...‬الزمر‪ ]8 :‬ويا ليته‬
‫خوّلَهُ ِن ْعمَةً مّنْهُ نَ ِ‬
‫دَعَا رَبّهُ مُنِيبا إِلَيْهِ ُثمّ ِإذَا َ‬
‫ج َعلَ لِلّهِ أَندَادا‪[} ...‬الزمر‪ ]8 :‬فقال‪ :‬الفضل لفلن‪ ،‬وقد استغثت بفلن‪،‬‬
‫نسي وسكت إنما{ وَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ولجأت إلى فلن‪.‬‬
‫نلحظ أن الكلم في هذه اليات عن النسان المفرد‪ ،‬والنسان حين يتضرع إلى ال ل يطلع عليه‬
‫أحد‪ ،‬فالمر بينه وبين ربه‪ ،‬لكن الحق سبحانه يريد أن يفضح الناس ببعض‪ ،‬فيقول في موضع‬
‫ضلّ مَن َتدْعُونَ ِإلّ إِيّاهُ‪[} ...‬السراء‪.]67 :‬‬
‫سكُمُ ا ْلضّرّ فِي الْ َبحْ ِر َ‬
‫آخر‪ {:‬وَإِذَا مَ ّ‬
‫فذكر الجماعة ليفضحهم أمام بعض؛ لن النسان يستر على نفسه‪ ،‬فالحكمة من الجمع هنا أن‬
‫رؤية الناس قد تكون مانعة من الشر‪ ،‬فمثلً في موسم الحج ترى أكابر القوم وأوسطهم وأدناهم‬
‫سواسية في الطواف‪ ،‬ويقف الواحد منهم يبكي عند الملتزم‪ ،‬وحين يراك صاحب المنصب أو‬
‫المركز وهو مَنْ هو في بلده ساعة يعرف أنك رأيته وهو يبكي في هذا الموقف تراه يتواضع لك‪،‬‬
‫ول يتعالى عليك بعدها‪.‬‬
‫فالحق سبحانه حين يُحذّرنا من العودة إلى المعصية بعد أنْ يكشف عنا الضر إنما يعطينا المصل‬
‫الواقي بصورة تحدث في الواقع‪ ،‬وكأنه تعالى يقول لنا‪ :‬خذوا بالكم‪ ،‬واعلموا أنكم مفضوحون‬
‫بكتاب ال فيما تُحدثون من أحداث في حياتكم‪ ،‬فكل منكم ينبغي أنْ يعلم أنه مراقب من الزل‬
‫ومكتوبة عليه خواطره؛ لن معنى القرآن الحق أنه ل يتغير‪ ،‬وإذا قال ال فيه شيئا فل بُدّ أنْ‬
‫يحدث كما أخبر ال به‪.‬‬

‫(‪)3331 /‬‬

‫س ْوفَ َيعَْلمُونَ (‪)66‬‬


‫لِ َي ْكفُرُوا ِبمَا آَتَيْنَاهُ ْم وَلِيَ َتمَ ّتعُوا فَ َ‬

‫واللم في { لِ َي ْكفُرُواْ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]66 :‬ليست لم التعليل؛ لن الكفر لم يكُنْ مقصدا لهم‪ ،‬وحين‬
‫عادوا بعد أن نجاهم ال إنما عادوا إلى أصلهم‪ ،‬فاللم هنا لم المر كما لو قلت‪ :‬قم يا زيد وليقم‬
‫عمرو‪ ،‬وعلمة لم المر أن تكون ساكنة‪ ،‬وهي هنا مكسورة لنها في بداية الكلم‪ ،‬حيث ل يُبدأ‬
‫بساكن‪ ،‬ولو وضعنا قبلها حرفا لتبيّن سكونها‪.‬‬
‫ط ّوفُواْ بِالْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ }[الحج‪.]29 :‬‬
‫ومثالها في قوله تعالى‪ {:‬وَلْيَ ّ‬
‫سعَتِ ِه َومَن قُدِرَ عَلَ ْيهِ رِ ْزقُهُ فَلْيُنفِقْ ِممّآ آتَاهُ اللّهُ‪[} ...‬الطلق‪:‬‬
‫سعَةٍ مّن َ‬
‫وقوله سبحانه‪ {:‬لِيُنفِقْ ذُو َ‬
‫‪.]7‬‬
‫والدليل على أنها لم المر سكون اللم بعدها في قراءة من سكنها‪ ،‬وفي { وَلِيَ َتمَ ّتعُواْ‪} ...‬‬
‫سوْفَ يَعَلمُونَ } [العنكبوت‪ ]66 :‬فرْق في الستقبال بين السين‬
‫[العنكبوت‪ ]66 :‬وقوله سبحانه‪َ { :‬ف َ‬
‫وسوف‪ ،‬فلو قال‪ :‬فسيعلمون لَدّلتْ على التهديد في المستقبل القريب‪ ،‬وأنه سيحل بهم العذاب في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الدنيا‪ ،‬أمّا " سوف " فتدلّ على المستقبل البعيد‪ ،‬فتشمل التهديد في الدنيا وفي الخرة فهي تستغرق‬
‫الزمن كله؛ لن المسلمين في باديء المر كانوا مستضعفين‪ ،‬ل يستطيعون حماية أنفسهم‪ ،‬وذهبوا‬
‫إلى النبي صلى ال عليه وسلم يطلبون منه أن يستنصر ال لهم فلو قال حينئذ في تهديد الكفار "‬
‫س ْوفَ يَعَلمُونَ } [العنكبوت‪:‬‬
‫فسيعلمون " لم تكن مناسبة‪ ،‬إنما أعطى المد الوسع للتهديد‪ ،‬فقال‪ { :‬فَ َ‬
‫‪.]66‬‬
‫لذلك تجد الدقة في أخْذ العهد من النصار للرسول صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومن الرسول للنصار‪،‬‬
‫فلما قابلوا رسول ال قالوا‪ :‬خُذْ لنفسك‪ .‬قال‪ :‬تحمونني مما تحمون منه أنفسكم وأعراضكم‬
‫وأموالكم‪.‬‬
‫فقالوا‪ :‬فما لنا إنْ فعلنا؟ كان من الممكن أن يقول لهم‪ :‬ستملكون الرض أو ستنشر دعوة ال بكم‬
‫وتنتصرون على عدوكم‪ ،‬لكن هذه الوعود قد يراها بعضهم‪ ،‬ويموت بعضهم قبل أنْ تتحقق‪ ،‬فل‬
‫ن يموت‪ ،‬فقال‪ " :‬لكم‬
‫يرى منها شيئا؛ لذلك ذكر لهم جزاءً يستوي فيه الجميع مَنْ يعيش منهم‪ ،‬ومَ ْ‬
‫الجنة "‪.‬‬
‫وأيضا حين يصرفهم عن دنيا الناس إلى أمر يكون في الدنيا أيضا‪ ،‬فهي صفقة خاسرة‪ ،‬إنما أراد‬
‫أنْ يصرفهم عن دنيا الناس إلى شيء أعظم مما في دنيا الناس‪ ،‬وليس هناك أعظم من دنيا الناس‬
‫إل الجنة‪.‬‬
‫والصحابي الذي أخبره النبي صلى ال عليه وسلم بأن الجنة جزاء الشهيد‪ ،‬وكان يمضغ تمرة في‬
‫فمه فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أليس بيني وبين الجنة إل أنْ أُقتل في سبيل ال؟ قال‪ :‬بلى‪ ،‬فألقى التمرات‬
‫وبادر إلى ساحة القتال يستعجل هذا الجزاء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فسوف صالحة للزمن المستقبل كله‪ ،‬أمّا السين فللقريب؛ لذلك يستخدمها القرآن في مسائل‬
‫سهِمْ‪[} ...‬فصلت‪.]53 :‬‬
‫ق َوفِي أَنفُ ِ‬
‫الدنيا‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬
‫وهذه الرؤية ممتدة من زمن رسول ال‪ ،‬وإلى أنْ تقوم الساعة‪ ،‬فكل يوم يجدّ في ظواهر الكون‬
‫أمور تدل على قدرة ال تعالى‪ ،‬فمستقبل أسرار ال في كونه ل تنتهي أبدا إل بالسر العظم في‬
‫الخرة‪ ،‬ففي زمن رسول ال قال‬

‫{ سَنُرِيهِمْ‪[} ...‬فصلت‪ ]53 :‬وستظل كذلك{ سَنُرِيهِمْ‪[} ...‬فصلت‪ ]53 :‬إلى أنْ تقوم الساعة‪.‬‬
‫ونلحظ أن المصاحف ما زال في رسمها كلم حتى الن‪ ،‬فهنا } وَلِيَ َتمَ ّتعُواْ‪[ { ...‬العنكبوت‪]66 :‬‬
‫تجد تحت اللم كسرة‪ ،‬مع أنها ساكنة‪ ،‬وهذا يعني أن كتاب ال غالب‪ ،‬وليس هناك محصٍ له‪.‬‬
‫عمّا قدّم للسلم خير الجزاء ‪ -‬أعدّ‬
‫وأذكر أن سيدنا الشيخ عبد الباقي رضي ال عنه وجزاه ال َ‬
‫المعجم المفهرس للفاظ القرآن الكريم وحاول أن يحصي ألفاظه ل سيما لفظ الجللة (ال) الذي‬
‫حمْدُ للّهِ َربّ‬
‫من أجله أعدّ هذا الكتاب‪ ،‬ومع ذلك نسي لفظ الجللة في البسملة‪ ،‬وبدأ من{ الْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ }[الفاتحة‪]2 :‬؛ لذلك نقص العدد عنده واحدا‪ .‬وما ذلك إل لن كتاب ال أعظم وأكبر من‬
‫أنْ يُحاط به‪.‬‬
‫جعَلْنَا حَرَما‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا َ‬

‫(‪)3332 /‬‬

‫ن وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ َي ْكفُرُونَ (‬


‫طلِ ُي ْؤمِنُو َ‬
‫حوِْلهِمْ َأفَبِالْبَا ِ‬
‫طفُ النّاسُ مِنْ َ‬
‫جعَلْنَا حَ َرمًا َآمِنًا وَيُتَخَ ّ‬
‫َأوَلَمْ يَ َروْا أَنّا َ‬
‫‪)67‬‬

‫علِم‪ ،‬ومنه قولنا في الجدال مثلً أرى في الموضوع‬


‫(رأى) قلنا‪ :‬تأتي بصرية‪ ،‬وتأتي بمعنى َ‬
‫الفلني كذا وكذا‪ ،‬ويقولون‪( :‬وَلِرَأىَ الرؤْيا ا ْنمِ ما ِلعَِلمَا)‪ ،‬وتجد في أساليب القرآن كلما عن‬
‫الرؤيا المخاطب بها غير راء للموضوع‪ ،‬كما في قوله سبحانه مخاطبا النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ {:‬أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ }[الفيل‪.]1 :‬‬
‫ومعلوم أن النبي لم يَرَ ما حدث من أمر الفيل؛ لنه وُلِد في هذا العام فرأى هنا بمعنى علم‪ ،‬لكن‬
‫لماذا عدل عن (ألم تعلم) إلى (ألم تر)؟ قالوا‪ :‬لن المتكلم هنا هو ال تعالى‪ ،‬فكأنه يقول لنبيه‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ :‬إذا أخبرتُك بشيء‪ ،‬فإن إخباري لك به أصدق من رؤيتك‪.‬‬
‫حوِْلهِمْ‪[ } ...‬العنكبوت‪]67 :‬‬
‫طفُ النّاسُ مِنْ َ‬
‫جعَلْنَا حَرَما آمِنا وَيُتَخَ ّ‬
‫يقول سبحانه‪َ { :‬أوَلَمْ يَ َروْاْ أَنّا َ‬
‫فالحرم آمِن رغم ما حدث له من ترويع قبل السلم حين فزّعه أبرهة‪ ،‬وفي العصر الحديث لما‬
‫فزّعه (جهيمان)‪ ،‬وعلى مَ ّر العصور حدثتْ تجاوزات في الحرم تتناقض في ظاهرها مع هذا‬
‫المن‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬كلمة { حَرَما آمِنا‪[ } ....‬العنكبوت‪ ]67 :‬في القرآن بالنسبة للكعبة فيها ثلث إطلقات‪:‬‬
‫فالذين يعيشون فيه وقت نزول هذه اليات يروْنَ أنه حرم آمن‪ ،‬وهذا المن موهوب لهم منذ دعوة‬
‫سيدنا إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪.-‬‬
‫سكَنتُ مِن ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْل ُمحَرّمِ‪[} ....‬إبراهيم‪:‬‬
‫فحين دعا ربه‪ {:‬رّبّنَآ إِنّي أَ ْ‬
‫‪ ]37‬كان مكانا خاليا‪ ،‬ل حياة فيه وغير مسكون‪ ،‬ومعنى ذلك أنه لم تكُنْ به مُقوّمات الحياة‪،‬‬
‫فالنسان ل يبني ول يستقر إل حيث يجد مكانا يأمن فيه على نفسه‪ ،‬ويتوفر له فيه كل مُقوّمات‬
‫حياته‪.‬‬
‫ج َعلْ‬
‫لذلك دعا إبراهيم ربه أنْ يجعل هذا المكان بلدا آمنا يعني يصلح لنْ يكون بلدا‪ ،‬فقال‪َ {:‬ربّ ا ْ‬
‫هَـاذَا َبلَدا آمِنا }[البقرة‪.]126 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبلد هنا نكرة تعني‪ :‬أيْ بلد لمؤمنين أو لكافرين‪ ،‬فلما استجاب ال له‪ ،‬وجعلها بلدا كأيّ بلد تتوفر‬
‫ج َعلْ هَـاذَا الْبََلدَ آمِنا‪[} ...‬إبراهيم‪ ]35 :‬أي‪ :‬هذه التي‬
‫له مُقوّمات الحياة دعا مرة أخرى‪َ {:‬ربّ ا ْ‬
‫صارت بلدا أريد لها مَيْزة على كل البلد‪ ،‬وأمنا أزيد من أمن أيّ بلد آخر‪ ،‬أمنا خاصا بها‪ ،‬ل‬
‫المن العام الذي تشترك فيه كل البلد‪ ،‬لماذا؟ لن فيها بيتك‪.‬‬
‫لذلك يرى فيها النسان قاتلَ أبيه‪ ،‬ول يتعرّض له حتى يخرج‪ ،‬فالجاني مؤمّن إنْ دخل الحرم‪ ،‬لكن‬
‫يُضيق عليه أسباب الحياة حتى يخرج‪ ،‬حتى ل يجترئ الناس على بيت ال ويفسدون أمنه‪ ،‬ومن‬
‫هذا المن الخاص ألّ يصاد فيه‪ ،‬ول ُي ْعضَد شجرة‪ ،‬ول يُروّع ساكنه‪.‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يقول للمشركين‪ :‬لماذا ل تؤمنون بهذا الدين الذي جعل لكم بلدا‬
‫آمنا‪ ،‬في حين يُتخطف الناس من حولكم؟ لماذا ل تحترمون وجودكم في هذا المن الذي وهبه ال‬
‫لكم‪.‬‬

‫طفْ مِنْ‬
‫خّ‬‫وعجيب منهم أن يقولوا كما حكى القرآن عنهم‪َ {:‬وقَالُواْ إِن نّتّبِعِ ا ْلهُدَىا َم َعكَ نُتَ َ‬
‫حمْيناكم أيام كنتم مشركين تعبدون الصنام‪ ،‬أنترككم بعد أنْ‬
‫أَ ْرضِنَآ‪[} ...‬القصص‪ ]57 :‬كيف وقد َ‬
‫تؤمنوا مع رسول ال‪.‬‬
‫وقصة هذا المن أولها في حادثة الفيل‪ ،‬لما جاء أبرهةُ ليهدم بيت ال ويُحوّل الناس إلى بيت بناه‬
‫باليمن‪ ،‬فردّ ال كيدهم‪ ،‬وجعلهم كعصف مأكول‪ ،‬وحين نقرأ هذه السورة على ال َوصْل بما بعدها‬
‫تتبين لنا العِلّة من هذا المن‪ ،‬ومن هذه الحماية‪ ،‬اقرأ‪ {:‬أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ *‬
‫جعََلهُمْ‬
‫سجّيلٍ * فَ َ‬
‫حجَا َرةٍ مّن ِ‬
‫سلَ عَلَ ْيهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ * تَ ْرمِيهِم بِ ِ‬
‫ج َعلْ كَيْدَ ُهمْ فِي َتضْلِيلٍ * وَأَرْ َ‬
‫أَلَمْ َي ْ‬
‫ل ِفهِمْ رِحْلَةَ الشّتَآءِ وَالصّيْفِ }[قريش‪:‬‬
‫َك َعصْفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل‪ ]5-1 :‬لماذا؟{ لِيلَفِ قُرَيْشٍ * إِي َ‬
‫‪.]2-1‬‬
‫فالعلة في أن جعلهم ال كعصف مأكول{ لِيلَفِ قُرَيْشٍ }[قريش‪ ]1 :‬لن اللم في (ليلَف)‬
‫للتعليل‪ ،‬وهي في بداية كلم فالعلة في أن ال لم يُمكّن العداء من هدم البيت لتظلّ لقريش مهابتها‬
‫ومكانتها بين العرب‪ ،‬ومهابتها مرتبطة بالبيت الذي يقصده الناس من كل مكان‪.‬‬
‫وهذه المكانة تُؤمّن تجارة قريش في رحلة الشتاء إلى اليمن‪ ،‬ورحلة الصيف إلى الشام‪ ،‬ل‬
‫يتعرّض لهم أحد بسوء‪ ،‬وكيف يجتريء أحد عليهم أو يتعرّض لتجارتهم وهم حُماة البيت؟‬
‫لفِ قُرَيْشٍ }[قريش‪ ]1 :‬أن ال أهلك أبرهة وجنوده ولم يُمكّنهم من البيت لتظل‬
‫فمعنى{ لِي َ‬
‫لقريش‪ ،‬وليُديم ال عليها أنْ ُيؤْلَفوا وأنْ يُحبّوا من الناس جميعا‪ ،‬ويواصلوا رحلتهم التجارية‬
‫المنة‪.‬‬
‫خ ْوفٍ }‬
‫ع وَآمَ َنهُم مّنْ َ‬
‫ط َع َمهُم مّن جُو ٍ‬
‫لذلك يقول تعالى بعدها{ فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا الْبَ ْيتِ * الّذِي أَ ْ‬
‫[قريش‪ ]4-3 :‬فكان من الواجب عليهم أن يعبدوا رب البيت الذي وهبهم هذه النعم‪ ،‬فما هم فيه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫من أمن وأمان وطعام وشراب ليس بقوتهم‪ ،‬إنما بجوارهم لبيت ال‪ ،‬ولبيت ال قداسته عند‬
‫العرب‪ ،‬فل يجرؤ أحد منهم على العتداء على تجارة قريش‪.‬‬
‫طفْ مِنْ أَ ْرضِنَآ‪[} ...‬القصص‪ ]57 :‬حجة ل عليهم‪،‬‬
‫فقولهم لرسول ال‪ۤ {:‬إِن نّتّبِعِ ا ْل ُهدَىا َم َعكَ نُ َتخَ ّ‬
‫ففي الوقت الذي يُتخطّف الناس فيه من حولهم كانوا هم في أمان‪ ،‬فهي حجة عليهم‪.‬‬
‫طفْ مِنْ‬
‫خّ‬‫ثم إن الشرط هنا{ إِن نّتّبِعِ ا ْل ُهدَىا َم َعكَ‪[} ...‬القصص‪ ]57 :‬غير مناسب للجواب{ نُتَ َ‬
‫أَ ْرضِنَآ‪[} ...‬القصص‪ ]57 :‬فما دمتم قلتم عن الدين الذي جاءكم به محمد أنه هدى ‪ -‬يعني هدى‬
‫ن تؤمنوا به لو تأكد لديكم أنه هدى‪ ،‬وإل فأنتم كاذبون في هذا القول‪ ،‬ولِمَ‬
‫ل ‪ -‬فكان يجب عليكم أ ْ‬
‫ل وأنتم تُكذّبون القرآن وتقولون عنه افتراءوكذب وسحر‪ ،‬والن تقولون عنه هدى‪ ،‬وهذا تناقض‬
‫عجيب‪.‬‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف‪ ]31 :‬ومعنى هذا أن‬
‫ألم يقولوا{ َل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ‬
‫القرآن ل غبارَ عليه‪ ،‬لكن آفته أنه نزل على هذا الرجل بالذات‪.‬‬
‫طلِ ُي ْؤمِنُونَ‪.‬‬
‫وقوله تعالى } َأفَبِالْبَا ِ‬

‫‪[ { ..‬العنكبوت‪ ]67 :‬أي‪ :‬بالصنام } وَبِ ِنعْمَةِ اللّهِ َي ْكفُرُونَ { [العنكبوت‪ ]67 :‬قال } وَبِ ِن ْعمَةِ اللّهِ‬
‫{ [العنكبوت‪ ]67 :‬ولم يقل مثلً‪ :‬وبعبادة ال‪ ،‬أو باليمان بال يكفرون؛ لن إيمانهم لو لم يكُنْ له‬
‫ن يؤمنوا به‪.‬‬
‫سبب إل نِعمَ ال عليهم أنْ يُطعِمهم من جوع‪ ،‬ويُؤمنهم من خوف لكان واجبا عليهم أ ْ‬
‫ن قلتَ ما دام أن‬
‫والباطل مقابل الحق‪ ،‬وهو زَهُوق ل دوامَ له‪ ،‬فسرعان ما يفسد وينتهي‪ ،‬فإ ْ‬
‫حقّ وباطل؟‬
‫الباطل زهوق وسينتهي‪ ،‬فما الداعي للمعركة بين َ‬
‫نقول‪ :‬لول عضة الباطل للمجتمع لما استشرفَ الناس للحق ينقذهم‪ ،‬فالباطل نفسه جُنْد من جنود‬
‫الحق‪ ،‬كما أن الكفر جُنْد من جنود اليمان‪ ،‬فلول الكفر وما يفعله الكافرون بالناس لما اشتاق‬
‫الناس لليمان‪ ،‬الذي يُوفّر لهم المن والطمأنينة والراحة والمساواة‪.‬‬
‫كما أن معنى َكفَرَ يعني ستر الله الواجب الوجود‪ ،‬والسّتْر يحتاج إلى مستور‪ ،‬فما هو المستور‬
‫بالكفر؟ المستور بالكفر اليمان‪ ،‬فكلمة كفر نفسها دليلُ وجود اليمان‪.‬‬
‫وسبق أن قلنا‪ :‬إن النسان قد يكره بعض الشياء‪ ،‬وهي لمصلحته ولحكمة خلقها ال‪ ،‬ومثّلْنا لذلك‬
‫باللم الذي يتوجّع منه النسان‪ ،‬وهو في الحقيقة تنبيه له واستنهاض ليعلم سبب هذ اللم ويتنبه‪،‬‬
‫فيدفع المرض عن نفسه‪ ،‬ويطلب له الدواء‪.‬‬
‫فاللم بهذا المعنى جُنْد من جنود العافية‪ ،‬وإلّ فأف َتكُ المراض بالبشر ما ليس له ألم يُنبّه إليه‪،‬‬
‫فيظل كامنا في الجسم حتى يستفحل أمره‪ ،‬وتعزّ مداواته؛ لذلك يصفونه بالمرض الخبيث؛ لنه‬
‫يتلصّص في الجسم دون أنْ يظهر له أثر يدل عليه‪.‬‬
‫فالحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬خلق اللم لحكمة؛ ليُنبّهك أن في موضع اللم عطبا‪ ،‬وأن الجارحة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التي تألم غير صالحة لداء مهمتها؛ لذلك يقولون في تعريف العافية‪ :‬العافية ألّ تشعر باعضائك‪،‬‬
‫عطَب فآلمتك‪.‬‬
‫لك أسنان تأكل بها‪ ،‬لكن ل تدري بها‪ ،‬وربما ل تتذكر هذه النعمة إل إذا أصابها َ‬
‫إذن‪ :‬حين تعلم جارحتك وتتألم‪ ،‬فاعلم أنها غير طبيعية‪ ،‬وأنها ل تؤدي مهمتها كما ينبغي‪ ،‬فعليك‬
‫أنْ تبادر بعلجها‪.‬‬
‫صوْلة‪ ،‬فإنما ذلك ليُشعرك بحلوة الحق‪ ،‬فتستشرف له‬
‫وأيضا حين يزدهر الباطل‪ ،‬وتكون هل َ‬
‫وتتمناه‪ .‬لذلك انتشر السلم في البلد التي فيها أغلبية إسلمية‪ ،‬ل بالسيف كما يحلو للبعض أن‬
‫يقول‪ ،‬إنما انتشر برؤية الناس لمبادئه وسماحته‪.‬‬
‫ففي بلد فارس والروم ذاق الناسُ هناك كثيرا من المتاعب من دياناتهم ومن قوانينهم‪ ،‬فلما سمعوا‬
‫عن السلم ومبادئه وسماحة تعاليمه أقبلوا عليه‪.‬‬
‫فلول أن الباطل عضّهم لما لجأوا لليمان‪ ،‬فالسلم انتشر انتشارا عظيما في نصف قرن من‬
‫الزمان‪ ،‬ولم يكن هذا نتيجة الندفاع اليماني ليدخل الناس في السلم‪ ،‬إنما لجذْب الضلل‬
‫لليمان‪ ،‬فكأن السلم مدفوع بأمرين‪ :‬أهله الحريصون على انتشاره‪ ،‬وباطل يجذب الناس إليه‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يعطينا مثلً للحق وللباطل في قوله تعالى‪:‬‬

‫سمَآءِ مَآءً َفسَاَلتْ َأوْدِيَةٌ ِبقَدَرِهَا فَاحْ َت َملَ السّ ْيلُ زَبَدا رّابِيا َو ِممّا يُوقِدُونَ عَلَ ْيهِ فِي النّارِ‬
‫{ أَنَ َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫جفَآءً وََأمّا مَا‬
‫طلَ فََأمّا الزّبَدُ فَيَذْ َهبُ ُ‬
‫ق وَالْبَا ِ‬
‫حّ‬‫ابْ ِتغَآءَ حِلْيَةٍ َأوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثُْلهُ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ الْ َ‬
‫لمْثَالَ }[الرعد‪.]17 :‬‬
‫يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ كَذاِلكَ َيضْ ِربُ اللّهُ ا َ‬
‫ش والفُتات الذي يحمله الماء‪ ،‬فيكون طبقة على سطح الماء‪ ،‬ثم يزيحه الهواء إلى‬
‫فالزبَد‪ :‬هو الق ّ‬
‫الجوانب‪ ،‬ويظل الماء بعده صافيا‪ ،‬فالزبَد مثلٌ للباطل؛ لنه يعلو على سطح الماء‪ ،‬لكن إياك أن‬
‫تظن أنه ذو شأن‪ ،‬أو أن عُلوه سيدوم؛ لنه غثاء ل قيمة له‪ ،‬وسرعان ما يزول ويبقى الماء‬
‫صهْر المعادن‪ ،‬فحين يصهر الصائغ‬
‫النافع‪ ،‬وكما يتكون الزبَد على سطح الماء كذلك يتكوّن عند َ‬
‫مثلً الذهب أو الفضة يخرج المعدن الصيل تاركا على الوجه الخبَث الذي خالطه‪.‬‬
‫لذلك يقول بعض العارفين‪ :‬إن ال تعالى ل يترك الحق‪ ،‬ول ُيسْلِمه أبدا للباطل‪ ،‬إنما يتركه لحين‬
‫ليبلو غيرة الناس عليه‪ ،‬فإذا لم يغاروا على الحق غار هو سبحانه عليه‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومَنْ َأظْلَمُ ِممّنْ افْتَرَىا عَلَى اللّهِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3333 /‬‬

‫جهَنّمَ مَ ْثوًى لِ ْلكَافِرِينَ (‪)68‬‬


‫حقّ َلمّا جَا َءهُ أَلَيْسَ فِي َ‬
‫علَى اللّهِ كَذِبًا َأوْ َك ّذبَ بِالْ َ‬
‫َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَى َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا استفهام يريد منه الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬قضية يُقرها المقابل‪ ،‬فلم يوردها بصيغة الخبر‪:‬‬
‫ل أظلم؛ لن الخبر في ذاته يحتمل الصدق أو الكذب‪ ،‬فجاء بصيغة الستفهام لتنطق أنت بالقضية‪،‬‬
‫كما تقول لمن ينكر معروفك‪ :‬مَنْ أعطاك هذا الثوب؟ فل يملك إل أنْ يعترف بفضلك‪ ،‬لكن إنْ‬
‫قلت له إخبارا‪ :‬أنا أعطيتُك هذا الثوب‪ ،‬فالخبر يحتمل الصدق ويحتمل الكذب‪ ،‬وربما ينكر فيقول‪:‬‬
‫ل لم تعطني شيئا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إيراد الكلم بأسلوب الستفهام أقوى في تقرير واقع من أسلوب الخبر؛ لن الخبر يأتي من‬
‫المتكلم‪ ،‬أمّا القرار فمن السامع‪ ،‬وأنت ل تُلِقي بالستفهام إل وأنت واثق أن الجواب سيأتي على‬
‫َوفْق ما تريد‪.‬‬
‫فمعنى { َومَنْ َأظْلَمُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]68 :‬ل أحد أظلم‪ ،‬والظلم‪َ :‬نقْل الحق من صاحبه إلى غيره‪،‬‬
‫والظلم قد يكون كبيرا وعظيما‪ ،‬وهو الظلم في القمة في العقيدة‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ‬
‫عَظِيمٌ }[لقمان‪.]13 :‬‬
‫وقد يكون الظلم بسيطا هيّنا‪ ،‬فالذي افترى على ال الكذب‪ ،‬ل أحدَ أظلم منه؛ لنه لو افترى على‬
‫مثله لكان أمره هينا‪ ،‬لكنه افترى على مَنْ؟ على ال‪ ،‬فكان ظلمه عظيما‪ ،‬ومن الحمق أن تفتري‬
‫على ال؛ لنه سبحانه أقوى منك يستطيع أن يُدلل‪ ،‬وأنْ يبرهن على كذبك‪ ،‬ويستطيع أن يدحرك‪،‬‬
‫وأن يُوقفك عند حدّك‪ ،‬فمَنِ اجترأ على هذا النوع من الظلم فإنما ظلم نفسه‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن الفتراء كذب‪ ،‬لكنه متعمد؛ لن النسان قد يكذب حين يخبر على مقتضى علمه‪ ،‬إنما‬
‫الواقع خلف ما يعلم‪ ،‬لذلك عرّف العلماء الصدق والكذب فقالوا‪ :‬الصدق أنْ يطابق الكلمُ الواقعَ‪،‬‬
‫والكذب أن يخالف الكلمُ الواقعَ‪ ،‬فلو قلتُ خبرُا على مقتضى علمي‪ ،‬ولم أقصد مخالفة الواقع‪ ،‬فإن‬
‫خالف كلمي الواقع فالخبر كاذب‪ ،‬لكن المخبر ليس بكاذب‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ { :‬أوْ َك ّذبَ بِا ْلحَقّ َلمّا جَآ َءهُ‪[ } ...‬العنكبوت‪ ]68 :‬فيا ليته افترى على ال كذبا‬
‫ابتداءً‪ ،‬إنما صعّد كذبه إلى مرحلة أخرى فعمد إلى أمر صِدْق وحقّ فكذّبه‪ ،‬ثم يقرر جزاء هذا‬
‫جهَنّمَ مَ ْثوًى لّ ْلكَافِرِينَ } [العنكبوت‪ ]68 :‬يعني‪:‬‬
‫التكذيب بأسلوب الستفهام أيضا { َألَيْسَ فِي َ‬
‫أضاقتْ عنهم النار‪ ،‬فليس بها أمكنة لهؤلء؟ بلى بها أمكنة لهم‪ ،‬بدليل أنها ستقول وهي تتشوق‬
‫لتِ وَ َتقُولُ َهلْ مِن مّزِيدٍ }[ق‪.]30 :‬‬
‫إليهم حين تسأل‪َ {:‬هلِ امْتَ َ‬
‫وكأن الحق سبحانه يقول‪ :‬لماذا يفتري هؤلء على ال الكذب؟ ولماذا يُكذّبون الحق؟ اعلموا أن‬
‫جهَنّمَ مَ ْثوًى لّ ْلكَافِرِينَ } [العنكبوت‪]68 :‬‬
‫جهنم ليس بها أماكن لهم؟ فالستفهام في { َألَيْسَ فِي َ‬
‫استفهام إنكاري يُنكر أن يظن المكذبون الكافرون أنه ل مكان لهم في جهنم‪.‬‬
‫فالحق سبحانه في إرادته أزلً أن يخلق الخَلْق من لَدُن آدم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬وإلى أنْ تقوم الساعة‪،‬‬
‫وأنْ يعطيهم الختيار‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ َفمَن شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ‪[} ...‬الكهف‪ ]29 :‬وقدر أن يؤمنوا جميعا فأعدّ لهم أماكنهم في‬
‫الجنة‪ ،‬وقدر أن يكفروا جميعا فأعدّ لهم أماكنهم في النار‪.‬‬
‫فإذا كان يوم القيامة يدخل أهل الجنة الجنة‪ ،‬وأهل النار النارَ‪ ،‬يورث ال المؤمنين في الجنة أماكن‬
‫الكافرين فهيا فيتقاسمونها بينهم‪ ،‬وكذلك يتقاسم أهل النار أماكن المؤمنين في النار بالرد‪ ،‬فمَنْ كان‬
‫له في النار مكان واحد يصير له مكانان‪.‬‬
‫جهَنّمَ مَ ْثوًى لّ ْلكَافِرِينَ { [العنكبوت‪ ]68 :‬يجعل السامع يشاركك‬
‫كما أن الستفهام } أَلَ ْيسَ فِي َ‬
‫الكلم‪ ،‬وفيه معنى التقريع والتوبيخ‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ‬
‫حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا َأهِْلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْهُمْ قَالُواْ‬
‫َيضْ َ‬
‫حكُونَ *‬
‫ضَ‬‫إِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُ ْرسِلُواْ عَلَ ْيهِمْ حَافِظِينَ * فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َي ْ‬
‫عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المطففين‪.]36-29 :‬‬
‫يلتفت ال إلى المؤمنين الذين اسْتُهزئ بهم في الدنيا‪ :‬هل قدرنا أنْ نجازي هؤلء الكافرين‪ ،‬ونردّ‬
‫س للمؤمنين وتقريعٌ للكافرين ‪ -‬فيقولون‪ :‬نعم يا رب‪ ،‬نعم يا رب‪،‬‬
‫إليكم حقوقكم ‪ -‬وفي هذا إينا ٌ‬
‫نعم يا رب‪ ،‬فالحق سبحانه يريد أنْ يحرش المؤمنين بهم‪ ،‬فل يلينون لهم‪ ،‬ول يعطفون عليهم‪،‬‬
‫ط َغوْا وتكبّروا‪ ،‬وعرضت عليهم الحجج والدلة فكذّبوها وأصرّوا على عنادهم‪ ،‬فبالغوا في‬
‫لنهم َ‬
‫الظلم‪.‬‬

‫(‪)3334 /‬‬

‫وَالّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَ َن ْهدِيَ ّنهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ اللّهَ َلمَعَ ا ْلمُحْسِنِينَ (‪)69‬‬

‫نقول‪ :‬جَهدَ فلن يجهد أي أتعب نفسه واجتهد‪ :‬ألح في الجتهاد وجاهد غيره‪ ،‬فجاهد تدل على‬
‫المفاعلة والمشاركة‪ ،‬وهي ل تتم إل بين طرفيْن‪ ،‬وفي هذه الصيغة (المفاعلة) نغلب الفاعلية في‬
‫أحدهما والمفعولية في الخر‪ ،‬مع أنهما شركاء في الفعل‪ ،‬فكلّ منهما فاعل في مرة‪ ،‬ومفعول في‬
‫الخرى‪ ،‬كأنك تقول‪ :‬شارك زيدٌ عمرا‪ ،‬وشارك عمرو زيدا‪ .‬أو‪ :‬أن الذي له ضِلع أقوى في‬
‫ل والخر مفعولً‪.‬‬
‫اشركة يكون فاع ً‬
‫وبعد أن بيّن الحق سبحانه أن مثوى الكافرين المكذّبين في جهنم وحرّش المؤمنين بهم‪ ،‬وما داموا‬
‫قد ظَلموا هذا الظلم العظيم ل بُدّ أن يوجد تأديب لهم‪ ،‬هذا التأديب ل لرغامهم على اليمان‪َ {،‬فمَن‬
‫شَآءَ فَلْ ُي ْؤمِن َومَن شَآءَ فَلْ َي ْكفُرْ‪[} ...‬الكهف‪ ]29 :‬إنما التأديب أن نجهر بدعوتنا‪ ،‬وأن نعلي كلمة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحق‪ ،‬فمن شاء فليؤمن‪ ،‬ومَنْ شاء فليظل على حاله‪ ،‬إذن‪ :‬فالية تبين موقف المؤمنين أمام هؤلء‬
‫المكذبين‪ { :‬فِينَا لَ َنهْدِيَ ّنهُمْ سُبُلَنَا‪[ } ...‬العنكبوت‪.]69 :‬‬
‫معنى (جاهدوا فينا) أي‪ :‬من أجلنا ولنصرة ديننا‪ ،‬والخصومات التي نجاهدها في ال كثيرة‪:‬‬
‫خصمة في مسألة القمة اليمانية ووجود الله الواحد كالملحدة الذين يقولون بعدم وجود إله في‬
‫الكون‪ ،‬وهؤلء لهم جهاد‪ ،‬وأهل الشرك الذين يقرون بوجود ال لكن يدّعُون أن له شريكا‪ ،‬وهؤلء‬
‫لهم جهاد آخر‪.‬‬
‫فجهاد الملحدة بالمنطق وبالحجة ليقولوا هم بأنفسهم بوجود إله واحد‪ ،‬ونقول لهم‪ :‬هل وٌجِد مَن‬
‫ادعى أنه خلق ذاته أو خلق غيره؟ بل تأملوا في أتفه الشياء التي تستخدمونها في حياتكم‪ :‬هذا‬
‫الكوب الزجاجي وهو ترف ليس من ضروريات الحياة هل تقولون‪ :‬إنه وُجد هكذا دون صانع؟‬
‫إذن‪ :‬كيف وُجِد؟ هل لدينا شجرة مثلً تطرح لنا هذه الكواب؟‬
‫إذن‪ :‬هي صنعة لها صانع‪ ،‬استخدم العقل الذي منحه ال إياه‪ ،‬وأعمله في المواد التي جعلها ال‬
‫في الكون‪ ،‬واستنبط منها هذه المادة (الزجاج)‪.‬‬
‫مصباح الكهرباء الذي اخترعه (إديسون) كم أخذ منه من جهد وبحث ودراسة‪ ،‬ثم يحتاج في‬
‫صناعته إلى معامل ومهندسين وصيانة‪ ،‬ومع ذلك حصاة صغيرة تكسره فينطفيء‪ ،‬وقد أخذ‬
‫(أديسون) كثيرا من الشهرة وخلّدنا ذكراه‪ ،‬وما زالت البشرية تذكر له فضله‪.‬‬
‫أفل ينظرون في الشمس التي تنير الدنيا كلها منذ خلقها ال وإلى قيام الساعة دون أنْ تحتاج إلى‬
‫صيانة‪ ،‬أو إلى قطعة غيار؟ وهل يستطيع أحد أن يتناولها ليصلحها؟ وهل تأ ّبتْ الشمس عن‬
‫الطلوع في يوم من اليام‪ ،‬وما تزال تمدكم بالحرارة والشعة والدفء والنور؟‬
‫أتعرف مَنْ صنع المصباح‪ ،‬ول تعرف مَنْ صنع الشمس؟ لقد فكرتم في أتفه الشياء وعرفتم مَنْ‬
‫صنعها‪ ،‬وأرّخْتُم لهم‪ ،‬وخلدتم ذكراهم‪ ،‬ألم يكن َأوْلَى بكم التفكّر في عظمة خلق ال واليمان به؟‬
‫ثم ُقلْ لي أيها الملحد‪ :‬إذا غشيك ظلم الليل‪ ،‬كيف تضيئه؟ قالوا‪ :‬كل إنسان يضيء ظلم ليله على‬
‫حسْب قدرته‪ ،‬ففي الليل ترى الضاءات مختلفة‪ ،‬هذا يجلس في ضوء شمعة‪ ،‬وهذا في ضوء لمبة‬
‫َ‬
‫جاز‪ ،‬وهذا في ضوء لمبة كهرباء‪ ،‬وآخر في ضوء لمبة نيون‪ ،‬فالضواء في الليل متباينة تدل‬
‫على إمكانات أصحابها‪ ،‬فإذا ما طلعتْ الشمس‪ ،‬وأضاء المصباح الرباني أطفئت كل هذه‬
‫الضواء‪ ،‬ولم َيعُدْ لها أثر مع مصباح الخالق العظم سبحانه‪.‬‬

‫أليس في هذا إشارة إلى أنه إذا جاءنا حكم من عند ال ينبغي أنْ نطرح أحكامنا جميعا لنستضيء‬
‫بحكم ال؟ أليس في صدق المحسوس دليل على صدق المعنويات؟‬
‫وأنت يا مَنْ تدّعي أن ل شريكا في مُلكه‪ :‬مَنِ الذي قال إن ل شريكا؟ لقد قلتها أنت من عند‬
‫نفسك؛ لن ال تعالى حين قال‪ :‬أنا إله واحد ل شريك لي لم يعارضه أحد‪ ،‬ولم ي ّدعِ أحد أنه شريك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل‪.‬‬
‫فهذا دليل على أن الشريك غير موجود‪ ،‬أو أنه موجود ولم َيدْرِ‪ ،‬أو درى ولم يقدر على المواجهة‪،‬‬
‫وفي كلتا الحالتين ل يصلح أن يكون إلها‪.‬‬
‫ثم على فرض أنه موجود‪ ،‬ما منهجه؟ بماذا أمرك وعَمّ نهاك؟ ماذا أعدّ لك من النعيم إنْ عبدته؟‬
‫ن كفرتَ به؟ إذن‪ :‬فهذا الله المزعوم إله بل منهج‪ ،‬فعبادته باطلة‪.‬‬
‫وماذا أعد لك من العذاب إ ْ‬
‫أما هؤلء الذين يؤمنون بدين سماوي ول يؤمنون بالرسول صلى ال عليه وسلم فنقول لهم‪ :‬يكفي‬
‫من جوانب العظمة في شخصية محمد بن عبد ال أنه ل يتعصب لنفسه؛ لن قلبه مع كل مَنْ‬
‫ن كفر بمحمد‪ ،‬إنه يتعصب لربه‬
‫يؤمن بال حتى وإنْ كفر به‪ ،‬محمد يحب كل مَنْ آمن بربه‪ ،‬وإ ْ‬
‫حتى فيمن كذبه‪.‬‬
‫ثم أنتم يا أصحاب الديانات اليهودية أو المسيحية الذين عاصرتم ظهور السلم فأنكرتموه‪ ،‬مع أن‬
‫دينكم جاء بعد دين‪ ،‬ورسولكم جاء بعد رسول سابق‪ ،‬فلماذا لما جاءكم محمد كذّبتموه وكفرتم به؟‬
‫لماذا أبْحتم أنْ يأتي عيسى بعد موسى عليهما السلم‪ ،‬وأنكرتُم أنْ يأتي بعد عيسى محمد؟‬
‫إذن‪ :‬لكل خصومة في دين ال جدل خاص ومنطق للمناقشة نقوم به في ضوء‪ } :‬وَالّذِينَ جَاهَدُواْ‬
‫فِينَا لَ َنهْدِيَ ّنهُمْ سُبُلَنَا‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]69 :‬وعليك أن تنظر أولً ما موقع الجهاد الذي تقوم به‪ ،‬فجهاد‬
‫الملحدة بأسلوب‪ ،‬وجهاد المشركين بأسلوب‪ ،‬وجهاد أهل الكتاب بأسلوب‪ ،‬وجهاد المسلم للمسلم‬
‫كذلك له منطق إنْ دبّ بينهما الخلف‪ ،‬مع أن ال تعالى قال‪ {:‬إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َنهُ ْم َوكَانُواْ شِيَعا‬
‫شيْءٍ‪[} ...‬النعام‪.]159 :‬‬
‫ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ‬
‫لّ ْ‬
‫فساعةَ ترى كلً منهما في طرف‪ ،‬بحيث ل تستطيع أن تتبع أحدهما‪ ،‬فاعلم أنهما على باطل؛ لن‬
‫السلم شيء واحد سبق أنْ شبّهناه بالماء البيض الصافي الذي لم يخالطه لون ول رائحة ول‬
‫طعم‪ ،‬فإنْ لوّنته الهواء وتحزّب الناس فيه كما يُلوّنون العصائر فقد جانبهم الصواب وأخطأوا‬
‫الدين الصحيح‪.‬‬

‫لن ما جاء فيه حكم صريح من عند ال اتفقنا عليه‪ ،‬وما تركه ال لجتهادنا فينبغي على ُكلّ منا‬
‫أن يحترم اجتهاد الخر‪ ،‬وأن يقول‪ :‬رأيي صواب يحتمل الخطأ‪ ،‬ورأى غيري خطأ يحتمل‬
‫الصواب‪ ،‬وبهذا المنطق تتعايش الراء‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يعطينا المثل على ذلك‪ ،‬فما أراده سبحانه في المنهج مُحكما يأتي‬
‫محكما في قول واحد ل خلف فيه‪ ،‬وضربنا مثلً لذلك بآية الوضوء‪ {:‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ُقمْتُمْ‬
‫إِلَى الصّلةِ فاغْسِلُو ْا وُجُو َهكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ إِلَى ا ْلمَرَافِقِ‪[} ...‬المائدة‪.]6 :‬‬
‫فلم يحدد الوجه؛ لنه ل خلف في تحديده بين الناس‪ ،‬إنما حدد اليدي لنها محل خلف‪ .‬إذن‪:‬‬
‫فالقضايا التي تُثار بين المسلمين ينبغي أن يكون لها جدل خاص في هذا الطار دون تعصّب‪ ،‬فما‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جاءك مُحْكما ل مجالَ فيه لرأي التزم به الجميع‪ ،‬وما تُرِك بل تنصيص ل يحتمل الخلف‪،‬‬
‫فليذهب كل واحد إلى ما يحتمله النص‪.‬‬
‫ت بمعنىً فل تحجر على‬
‫فالباء في لغتنا مثلً تأتي للتبعيض‪ ،‬أو للستعانة‪ ،‬أو لللصاق‪ ،‬فإنْ أخذ َ‬
‫غيرك أنْ يأخذ بمعنى آخر‪.‬‬
‫فإنِ استعر القتال بين طائفتين من المسلمين‪ ،‬فيجب أن تكون هناك طائفة معتدلة تتولى أمر‬
‫حدَا ُهمَا‬
‫الصلح‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَإِن طَآ ِئفَتَانِ مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا فَإِن َب َغتْ إِ ْ‬
‫عَلَىا الُخْرَىا َفقَاتِلُواْ الّتِي تَ ْبغِي حَتّىا َتفِيءَ إِلَىا َأمْرِ اللّهِ فَإِن فَآ َءتْ فََأصْلِحُواْ بَيْ َن ُهمَا بِا ْلعَ ْدلِ‬
‫سطِينَ }[الحجرات‪.]9 :‬‬
‫حبّ ا ْلمُقْ ِ‬
‫وََأقْسِطُواْ إِنّ اللّهَ ُي ِ‬
‫نلحظ أن ال تعالى سماهم مؤمنين‪ ،‬ومعنى ذلك أن اليمان ل يمنع أن نختلف‪ ،‬وهذا اليمان الذي‬
‫ل يمنع أن نختلف هو الذي يُوجب علينا أن يكون منا طائفة معتدلة على الحياد ل تميل هنا أو‬
‫هناك‪ ،‬تقوم بدو ْر الصلح وبدوْر الردع للباغي المعتدي حتى يفييء إلى الجادة وإلى أمر ال‪.‬‬
‫فإنْ فاءت فل نترك المور تُخيّم عليها ظلل النصر لفريق‪ ،‬والهزيمة لفريق آخر‪ ،‬إنما نصلح‬
‫ل وشحناء‪ ،‬فقد تنازل القوي عن كبريائه لما ضربنا على يده‪،‬‬
‫غّ‬‫بينهما‪ ،‬ونزيل ما في النفوس من ِ‬
‫وَقوي الضعيف‪ ،‬بوقوفنا إلى جانبه‪ ،‬فحدث شيء من التوازن وتعادلتْ ال ِكفّتان‪ ،‬فليعُدْ الجميع إلى‬
‫حظيرة المن والسلم‪.‬‬
‫بقي لنا أن نتحدث عن جهاد آخر أهم‪ ،‬هو جهاد النفس البشرية؛ " لن النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫لما عاد من إحدى الغزوات قال‪ " :‬رجعنا من الجهاد الصغر إلى الجهاد الكبر " فوصف جهاد‬
‫النفس بأنه الجهاد الكبر‪ ،‬لماذا؟ لنك في ساحة القتال تجاهد عدوا ظاهرا‪ ،‬يتضح لك عدده‬
‫وأساليبه‪ ،‬أمّا إنْ كان عدوك من نفسك ومن داخلك‪ ،‬فإنه يعزّ عليك جهاده‪ ،‬فأنت تحب أنْ تحقق‬
‫لنفسك شهواتها‪ ،‬وأنْ تطاوعها في أهوائها ونزواتها‪ ،‬وهي في هذا كله تُلِح عليك وتتسرّب من‬
‫خللك‪.‬‬

‫فعليك أنْ تقف في جهاد النفس موقفا تقارن فيه بين شهوات النفس العاجلة وما تُورِثك إياه من‬
‫حسرة آجلة باقية‪ ،‬وما تضيعه عليك من ثواب ربك في جنة فيها من النعيم‪ ،‬ما ل عَيْن رأتْ‪ ،‬ول‬
‫أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫ق معك‪ ،‬سوابق خير أعدّها لك‬
‫ضع ربك ونفسك في هذه المقابلة وتبصّر‪ ،‬واعلم أن لربك سواب َ‬
‫قبل أن توجد‪ ،‬فالذي أعدّ لك كل هذا الكون‪ ،‬وجعله لخدمتك ل شكّ مأمون عليك‪ ،‬وأنت عبده‬
‫وصنعته‪ ،‬وهل رأيت صانعا يعمد إلى صنعته فيحطمها؟‬
‫أما إن رأيت النجار مثلً يمسك (بالفارة) وينحت في قطعة الخشب‪ ،‬فاعلم أنه يُصلحها لداء‬
‫مهمتها‪ ،‬وأذكر قصة الطفل (أيمن) الذي جاء أمه يبكي؛ لن الخادمة تضرب السجادة‪ ،‬فأخذتْه أمه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأرتْه التراب الذي يتساقط من السجادة في كل ضربة من ضربات الخادمة‪ ،‬ففهم الطفل على قدر‬
‫عقله‪.‬‬
‫وكذلك الحق سبحانه حين يبتلي خَلْقه‪ ،‬فإنما يبتليهم ل كَيْدا فيهم‪ ،‬بل إصلحا لهم‪ .‬ألم نسمع كثيرا‬
‫أما تقول لوحيدها (إلهي أشرب نارك)؟ بال ما حالها لو استجاب ال لها؟ وهي في الحقيقة ل‬
‫تكره وحيدها وفلذة كبدها‪ ،‬إنما تكره فيه الخصلة التي أغضبتها منه‪.‬‬
‫وكذلك الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ل يكره عبده‪ ،‬إنما يكره فيه الخصال السيئة فيريد أنْ يُطهّره‬
‫منها بالبلء حتى يعود نقيا كيوم ولدته أمه‪ ،‬فأحسن أيها النسان ظنك بربك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نقول‪ :‬إن من أعظم الجهاد جهادك لنفسك‪ ،‬لنها تُلِح عليك أن تُشبع رغباتها‪ ،‬كما أنها‬
‫عُرْضة لغراء الهوى ووسوسة الشيطان الذين يُزيّن لها كل سوء‪ ،‬ويُحبّب إليها كل منكر‪.‬‬
‫ل في المعصية‬
‫وسبق أنْ بيّنا‪ :‬كيف نُفرّق بين تزيين الشيطان وتزيين النفس؛ لن النفس مدخ ً‬
‫بدليل قول النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة‪ ،‬وغُلّقت أبواب النار‪،‬‬
‫وصُفّدت الشياطين "‪.‬‬
‫فلو كانت الذنوب كلها بسبب الشيطان لم نجد من يذنب في رمضان‪ ،‬إنما هناك كثير من الذنوب‬
‫تُرتكب في رمضان‪ ،‬وهذا يعني أنها من تزيين النفس‪ ،‬وكأن الحق سبحانه أراد أنْ يكشف ابن‬
‫آدم‪ :‬ها أنا قد صفّدْت الشياطين ومع ذلك تذنبون‪.‬‬
‫فإنْ أردتَ أنْ تعرف هل المعصية من النفس أم من الشيطان‪ ،‬فإن النفس تقف بك عند معصية‬
‫بعينها ل تريد سواها‪ ،‬ول تنتقل بك إلى غيرها‪ ،‬وتظل تُلح عليك إلى أنْ تُوقِعك فيها‪ ،‬أما الشيطان‬
‫فإنه يريدك عاصيا بأية صورة وعلى أية حال‪ ،‬فإنْ تأبّ ْيتَ عليه نقلك إلى معصية أخرى‪.‬‬
‫وعلى العاقل أن يتأمل‪ ،‬فالمعصية تعطيك لذة عاجلة ومتعة فانية‪ ،‬ل تليق أبدا بهذا النسان الذي‬
‫كرّمه ال‪ ،‬وجعله خليفة له في الرض‪ ،‬وسيدا لهذا الكون‪ ،‬والكون كله بأرضه وسمائه خادم له‪،‬‬
‫ن يكون الخادم أطول عمرا من المخدوم؟‬
‫فهل يُعقل أ ْ‬
‫إنك تموت بعد عام أو بعد مائة عام‪ ،‬في حين أن الشمس التي تخدمك تعمر مليين السنين‪ :‬إذن‪:‬‬
‫ل ُبدّ أن لك حياة أخرى أبقى وأدوم من حياة خادمك‪ ،‬فإنْ كنتَ الن في حياة تُوصَف بأنها دنيا‪،‬‬
‫فهذا يعني أنها تقابلها حياة أخرى تُوصَف بأنها عليا‪ ،‬وهي حياتك في الخرة‪ ،‬حيث ل موتَ فيها‬
‫أبدا‪.‬‬

‫سكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‪} ...‬‬


‫والقرآن الكريم حينما يُحدّثنا عن الجهاد يقول مرة‪ {:‬وَجَاهِدُواْ بَِأ ْموَاِلكُ ْم وَأَ ْنفُ ِ‬
‫[التوبة‪ ]41 :‬ويقول‪ } :‬وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا‪[ { ...‬العنكبوت‪.]69 :‬‬
‫الجهاد في سبيل ال أي في الطريق إلى ال لثبات اليمان بالله الواحد‪ ،‬وصدق البلغ من‬
‫الرسول المؤيّد بالمعجزة وبالمنهج‪ ،‬فإذا وضح لك السبيل فآمنت بال الواحد الحد قال لك‪ :‬اجعل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كل حركة حياتك في إطار } وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]69 :‬يعني‪ :‬من أجلنا مخلصين‬
‫ل ل ينظرون إلى غيره‪.‬‬
‫والنسان مهما تحرّى الخلص في عمله‪ ،‬وقصد به وجه ال ل يأمن أن يخالطه شيء من رياء‬
‫أو سمعة‪ ،‬حتى أن المعصوم محمدا صلى ال عليه وسلم ليقول‪ " :‬اللهم إني استغفرك من كل عمل‬
‫أردتُ به وجهك‪ ،‬فخالطني فيه ما ليس لك "‪.‬‬
‫ل فما الفَرْق بين المؤمن والكافر‪،‬‬
‫وهذا معنى (جاهدوا فينا) أن يكون العمل كله ل خالصا‪ ،‬وإ ّ‬
‫وكلهما يعمل ويسعى في الدنيا لكسب لقمة العيش له ولولده‪ ،‬فهما في السعي سواء‪ ،‬فما مزية‬
‫المؤمن إذن؟‬
‫الميزة أن الكافر يعمل على َقدْر حاجته فحسب‪ ،‬أمّا المؤمن فيعمل على قدر طاقته‪ ،‬فيأخذ ما يكفيه‬
‫ويعود بالفضل على مَنْ ل طاقةَ عنده للعمل‪ ،‬ففي نيته أن يعمل له وللمحتاج غير القادر‪.‬‬
‫ونمثل لذلك بالبقال الذي فتح ال عليه‪ ،‬فباع كثيرا في أول النهار وأخذ كفايته‪ ،‬ثم أغلق محله فلم‬
‫ينظر إلى الذين يعاملونه على الشهر‪ ،‬ويأخذون حاجتهم لجَل‪ ،‬ولم ينظر إلى ربة البيت التي‬
‫تنتظر عودة زوجها لتشتري ما يلزمها‪ ،‬فقد نظر إلى حظ نفسه‪ ،‬ونسي حظ الخرين‪.‬‬
‫شعُونَ * وَالّذِينَ ُهمْ عَنِ‬
‫واقرأ إنْ شئت قوله تعالى‪َ {:‬قدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ * الّذِينَ ُهمْ فِي صَلَ ِتهِمْ خَا ِ‬
‫الّل ْغوِ ّمعْ ِرضُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون‪ ]4-1 :‬ولم يقل مُؤدّون إنما‪ :‬فاعلون‬
‫من أجل الزكاة أي‪ :‬يعملون على قَدْر طاقتهم‪ ،‬ل على قدْر حاجتهم‪ .‬فالذين يعملون في إطار }‬
‫وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]69 :‬ل يغيب ال أبدا عن بالهم‪.‬‬
‫ولكي نفقه هذه المسألة انظر إلى عمل أو جميل قدّمته لغير وجه ال ترى أن صاحبه أنكره‪ ،‬بل‬
‫ربما ل ينالك منه إل الذمّ‪ ،‬وساعتها ل تلومنّ إل نفسك‪ ،‬لنك أخطأت التوجه‪ ،‬وقد عملت للناس‬
‫ن عملتَ لوجه ال ف ِثقْ أن جميلك محفوظ عند ال وعند الناس‪.‬‬
‫خذْ أجرك منهم‪ ،‬إنما إ ْ‬
‫فُ‬

‫ن يكفر يلفت بهذا‬


‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حينما أعطى للنسان الختيار في أن يؤمن أو أ ْ‬
‫أنظارنا أنه إذا صنعتَ جميلً في إنسان‪ ،‬ثم أنكر جميلك وكفر به‪ ،‬فل تحزن؛ لن الناس فعلوا‬
‫ذلك مع ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فقد خلقهم ورزقهم ثم كفروا به‪.‬‬
‫ثم يأتي جزاء الجهاد في ذات ال‪ } :‬وَالّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَ َن ْهدِيَ ّنهُمْ سُُبلَنَا‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]69 :‬أي‪:‬‬
‫ندلّهم على الطرق الموصّلة إلينا‪ ،‬كأن الطريق إلى ال ليس واحدا‪ ،‬إنما سبل شتى؛ لذلك ل تحقرنّ‬
‫من الطاعة شيئا مهما كان يسيرا‪ ،‬فإن ال تعالى غفر لرجل سقى كلبا يلهث من العطش‪ ،‬ول‬
‫تحقرن من المعصية شيئا‪ ،‬فإن ال أدخل امرأة النار لنها حبست قطة‪ ،‬ول تحتقرن عبدا مهما‬
‫كان‪ ،‬فإن ال تعالى أخفى أسراره في خَلْقه؛ ف ُربّ أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على ال لبرّه‪.‬‬
‫فإذا علمتَ من نفسك ميزة على الخرين فانظر فيم يمتازون به عنك‪ ،‬ودَعْك من نظرة تُورثك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن كنت أفضل في شيء فأنت مفضول في أشياء كثيرة‪ ،‬وسبق أن‬
‫كبرا‪ ،‬واستعلء على الخَلْق‪ ،‬فإ ْ‬
‫قلنا‪ :‬إن ال نثر المواهب بين الخَلْق ليظلوا ملتحمين بحاجة بعضهم إلى بعض‪.‬‬
‫فقوله تعالى } لَ َنهْدِيَ ّنهُمْ سُبُلَنَا‪[ { ...‬العنكبوت‪ ]69 :‬أي‪ :‬السبل الموصّلة لنعيم الخرة‪ ،‬سبل الرتقاء‬
‫سعَىا نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِ ْم وَبِأَ ْيمَا ِنهِم‪[} ...‬الحديد‪.]12 :‬‬
‫في اليقين اليماني الذي قال ال عنه‪ {:‬يَ ْ‬
‫ويقول سيدنا عمر بن عبد العزيز‪ :‬ما قصّر بنا في علم ما جهلناه‪ ،‬إل تقصيرنا في العمل بما‬
‫علمناه فالذي جعلنا ل نعرف أسرار ال أننا قصرنا في العمل بما أمرنا به‪ ،‬إذن‪ :‬فلماذا يعطينا‬
‫ونحن ل نعمل بما أخذنا من قبل‪ ،‬لكن حين تعمل بما علمتَ‪ ،‬فأنت مأمون على منهج ال‪ ،‬فل‬
‫يحرمك المزيد‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَا َدهُمْ ُهدًى وَآتَا ُهمْ َتقُوَا ُهمْ }[محمد‪.]17 :‬‬
‫جعَل ّل ُكمْ فُ ْرقَانا‪[} ...‬النفال‪ ]29 :‬والفرقان من‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬يِا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ َي ْ‬
‫أسماء القرآن‪ ،‬فحين تتقي ال على مقتضاه‪ ،‬وبمدلول منهجه في القرآن‪ ،‬يمنحك فرقانا آخر ونورا‬
‫آخر تبصر به حقائق الشياء‪ ،‬وتهتدي به إلى الحكم الصحيح‪ ،‬هذا النور الذي وهبه ال للمام‬
‫علي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬حينما دخل على عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬فوجده يريد أنْ‬
‫حدّ على زوجة ولدتْ لستة أشهر‪ ،‬والشائع أن فترة الحمل تسعة أشهر‪ ،‬فقال لعمر‪ :‬لكن ال‬
‫يقيم ال َ‬
‫قال غير ذلك يا أمير المؤمنين‪ ،‬قال عمر‪ :‬وماذا قال يا علي؟‬
‫حوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ِلمَنْ أَرَادَ أَن يُ ِتمّ‬
‫ضعْنَ َأ ْولَدَهُنّ َ‬
‫قال علي‪ :‬قال ال تعالى‪ {:‬وَا ْلوَالِدَاتُ يُ ْر ِ‬
‫ال ّرضَاعَةَ‪[} ...‬البقرة‪ ]233 :‬يعني‪ :‬أربعة وعشرون شهرا‪.‬‬
‫شهْرا‪[} ...‬الحقاف‪ ]15 :‬وبطرح العددين يكون‬
‫حمْلُ ُه َو ِفصَالُهُ ثَلَثُونَ َ‬
‫وقال في موضع آخر‪ {:‬وَ َ‬
‫الباقي ستة أشهر‪ ،‬وهي أقل مدة للحمل‪.‬‬

‫هذا هو الفرقان الذي يمنحه ال للمؤمنين الذين عملوا بما عملوا؛ لذلك كان عمر بن الخطاب وما‬
‫أدراك ما عمر؟ عمر الذي كان ينزل الوحي على َوفْق رأيه‪ ،‬كان يقول‪ :‬بئس المقام بأرض ليس‬
‫فيها أبو الحسن‪.‬‬
‫ومعلوم أن عليا ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬تربّى في حجرْ رسول ال‪ ،‬وشرب من معينه‪ ،‬فكل معلوماته‬
‫صفّين التي دارتْ بين علي ومعاوية كان‬
‫إسلمية‪ ،‬وله في الحق حجة ومنطق‪ .‬فمثلً في موقعه ِ‬
‫عمار بن ياسر في صفوف علي‪ ،‬فقتله جنود معاوية‪ ،‬فتذكر الصحابة قول رسول ال لعمار " وَيْح‬
‫عمار‪ ،‬تقتله الفئة الباغية " فعلموا أنها فئة معاوية‪.‬‬
‫فأخذ الصحابة يتركون صفوف معاوية إلى صفوف علي‪ ،‬فأسرع عمرو بن العاص وكان في‬
‫شتْ فاشيةٌ في الجيش‪ ،‬إنْ هي استمرت فلن يبقى معنا‬
‫جيش معاوية‪ ،‬فقال له‪ :‬يا أمير المؤمنين فَ َ‬
‫أحد‪ ،‬قال‪ :‬وما هي؟ قال‪ :‬تَ َذكّر الناس قول رسول ال " ويح عمار تقتله الفئة الباغية " قال معاوية‪:‬‬
‫فأفْشِ فيهم‪ ،‬إنما قتله مَنْ أخرجه للقتال ‪ -‬أي علي ‪ -‬فلما بلغ عليا هذه المقالة قال بما عنده من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الفرقان والحجة‪ :‬إذن قولوا له مَنْ قتل حمزة بن عبد المطلب؟‬
‫فمن عمل بما علم أورثه ال علم ما لم يعلم‪ ،‬ومثّلْنا لذلك قلنا‪ :‬هب أن لك ولدا متعثرا غير مُوفّق‬
‫في حياته العملية‪ ،‬فنصحك إخوانك بأنْ تعطيه فرصة‪ ،‬وتجربه ولو بمشروع صغير في حدود‬
‫مائة جنيه‪ ،‬فلما فعلتَ بدّد هذا المبلغ ولم ينتفع به‪ ،‬أتجرؤ على منحه مبلغا آخر؟ وإنما لو ثمّر هذا‬
‫المبلغ ونماه لعطيته أضعافا‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَإِنّ اللّهَ َلمَعَ ا ْل ُمحْسِنِينَ { [العنكبوت‪ ]69 :‬الحسان من النسان أن يعبد ال‬
‫كأنه يراه‪ ،‬فإن لم يكن يراه فإنه يراه‪ ،‬والحسان في الداء أن تزيد عما فرض ال عليك‪ ،‬لكن من‬
‫جنس من فرض‪ ،‬فإذا أنت أحسنتَ أحسن ال إليك بأنْ يزيدك إشراقا‪ ،‬ويزيدك نورانية‪ ،‬ويُخفّف‬
‫عنك أعباء الطاعة‪ ،‬ويُقبّح في نفسك المعاصي‪.‬‬
‫لذلك بلغت محبة أحد العارفين للطاعة حتى قال‪ :‬اللهم إني أخاف ألّ تثيبني على طاعتي؛ لنني‬
‫أصبحتُ أشتهيها‪ .‬يعني‪ :‬لو لم تكن هناك جنة ول نار لفعلتُ الطاعة؛ لنها أصبحتْ بالنسبة لي‬
‫شهوة نفس‪ ،‬وقد أمرتنا يا ربّ أن نخالف شهوة النفس لذلك أخاف ألّ تثيبني عليها‪ ،‬ولمثل هذا‬
‫نقول‪.‬‬
‫} وَإِنّ اللّهَ َلمَعَ ا ْل ُمحْسِنِينَ { [العنكبوت‪.]69 :‬‬
‫كملة (مع) تفيد المعية‪ ،‬والمعية في أعراف البشر أنْ يلتقي شيء بشيء‪ ،‬لكن إذا كانت المعية مع‬
‫ال فافهم أنها معية أخرى غير التي تعرفها مع زميلك أو صديقك‪ ،‬خُذْها في إطار{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ‬
‫شيْءٌ }[الشورى‪ ]11 :‬فلك وجود ول وجود‪ ،‬لكن أوجودك كوجود ال؟ ال يعلم أننا نسجل الن‬
‫َ‬
‫في مسجد أبي بكر الصديق‪ ،‬لكن هل علْمنا كعِلْمه تعالى؟ ال يعلم هذا قبل أن ينشأ المسجد‪ ،‬وقبل‬
‫أنْ نُولد نحن‪.‬‬

‫سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات‪ ]21 :‬هذا مَثَل للرد على‬


‫ل فيقول‪َ {:‬وفِي أَنفُ ِ‬
‫لذلك يضرب ال لنا مث ً‬
‫جهْ َرةً‪[} ...‬النساء‪:‬‬
‫الذين يطلبون رؤية ال عز وجل وهو غَيْب‪ ،‬مثل للذين قالوا لنبيهم{ أَرِنَا اللّهَ َ‬
‫‪.]153‬‬
‫لكن كيف يرونه والعظمة في الله ألّ يُرى‪ ،‬ول تدركه الحواس‪ ،‬والحق سبحانه يعطينا الدليل في‬
‫سكُمْ َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات‪ ]21 :‬فتأمل في أقرب شيء إليك في نفسك‪ ،‬ل في‬
‫أنفسنا{ َوفِي أَنفُ ِ‬
‫الفاق من حولك‪ ،‬أليست فيك روح تُحرّك جسمك‪ ،‬وبها تحيا وتنفعل أعضاؤك‪ ،‬أليست فيك روح‬
‫تُحرّك جسمك‪ ،‬وبها تحيا وتنفعل أعضاؤك‪ ،‬بدليل إذا خرجتْ منك هذه الروح تصير جثة هامدة؟‬
‫أرأيت هذه الروح وهي بين جنبيك؟ أأدركتها بأيّ حاسة من حواسك؟‬
‫إذن‪ :‬هي معك‪ ،‬لكن ليست تحت إدراكك‪ ،‬وهي خَلْق بسيط من خَلْق ال‪ ،‬فكيف تتطلع إلى أن ترى‬
‫الخالق سبحانه وأنت ل تقدر على رؤية المخلوق؟ لكن إن قُلْت‪ :‬فرؤية المؤمنين ل في الخرة؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خلْق معايير أخرى‪،‬‬
‫ففي الخرة يخلقني ال خَلْقا آخر أستطيع أن أراه سبحانه‪ ،‬حيث سيكون لل َ‬
‫ألستَ تأكل وتشرب في الخرة‪ ،‬ومع ذلك ل تتغوّط في الجنة؟‬
‫لذلك لما سأل حاكم الروم أحد علماء المسلمين‪ :‬كيف تأكلون وتشربون في الجنة ول تتغوطون؟‬
‫فقال له‪ :‬وما العجيب في ذلك؟ ألم تر إلى الطفل في بطن أمه يتغذى وينمو وهو ل يتغوط‪ ،‬ولو‬
‫تغوّط في مشيمته لحترق‪.‬‬
‫ثم سأله‪ :‬وتقولون إن نعيم الجنة تأخذون منه ول ينتهي ول ينقص؟ فقال‪َ :‬هبْ أن لك مصباحا‪،‬‬
‫وجاءت الدنيا كلها‪ ،‬وقبستْ من مصباحك نارا‪ ،‬أينقص منه شيء؟‬
‫فسأله‪ :‬فأين تذهب الرواح التي كانت فينا بعد أن نموت؟ فقال‪ :‬تذهب حيث كانت قبل أنْ تسكن‬
‫فينا‪.‬‬
‫هذه مسائل ونماذج للتوفيق والهداية للحق في إطار‪ } :‬جَاهَدُواْ فِينَا لَ َنهْدِيَ ّن ُهمْ سُبُلَنَا‪[ { ...‬العنكبوت‪:‬‬
‫جعَل ّلكُمْ فُ ْرقَانا‪[} ...‬النفال‪.]29 :‬‬
‫‪ ]69‬وهي فَيْض مما قال ال فيه‪ {:‬إِن تَ ّتقُواْ اللّهَ َي ْ‬

‫(‪)3335 /‬‬

‫الم (‪)1‬‬

‫{ الـم } [الروم‪ ]1 :‬سبق أن تكلمنا كثيرا عن الحروف المقطعة في بدايات السور‪ ،‬ول أريد إعادة‬
‫ما قُلْته‪ ،‬لكن أريد من العلماء أنْ يلتفتوا إلى هذه المسألة لفتة إشراقية تُرينا جميعا‪ ،‬وتكشف لنا‬
‫الحكمة والسرار في هذه الحروف‪.‬‬
‫حدَة‪ ،‬مع أن القرآن في‬
‫وقلنا‪ :‬إن هذه الحروف (الم) بنيت على الوقف‪ ،‬كل حرف منها على ِ‬
‫مجملة مبني على الوصل في آياته وفي سوره‪ ،‬فآخر حرف في السورة موصول بأول حرف في‬
‫سمِ الِ الرحْمنِ الرحيمِ‪)...‬‬
‫حسِنينَ ب ْ‬
‫التي تليها ‪ -‬فهنا نقول‪( :‬وَإِنّ الَ لَمعَ الم ْ‬
‫بل أعجب من هذا‪ ،‬نجد أن آخر سورة الناس مبنيّ على الوصل بأول الفاتحة‪ ،‬فنقول‪ ...( :‬مِنَ‬
‫حمَنِ الرّحيم ا ْلحَمدُ ل َربّ العَالمين)‪.‬‬
‫الجِنّةِ والنّاسِ بسْم الِ الر ْ‬
‫فالقرآن إذن موصول‪ ،‬ل انقطاعَ فيه‪ .‬فلماذا بُنيت الحروف المقطعة في أوائل السور على الوقْف‪،‬‬
‫لماذا ل نقول‪ :‬ألفٌ لمٌ ميمٌ؟ قالوا‪ :‬لن ال تعالى لم يشأ أنْ يجعلها كلمة واحدة‪ ،‬فجاءت على‬
‫القطع‪ ،‬ويؤنسنا قول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل أقول الم حرف‪ ،‬ولكن ألف حرف‪ ،‬ولم‬
‫حرف‪ ،‬وميم حرف " فنريد وننتظر من يدركه ال ليكون من المحسنين‪ ،‬ويدلّنا على ما في هذه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحروف من سِرّ يُوقف عنده‪ ،‬ول يُوصل بغيره‪.‬‬
‫قال الحق سبحانه‪ { :‬غُلِ َبتِ‪.} ...‬‬

‫(‪)3336 /‬‬

‫غُلِ َبتِ الرّومُ (‪)2‬‬

‫كلمة { غُلِ َبتِ‪[ } ...‬الروم‪ ] :‬تدل على وجود معركة غلب فريقٌ‪ ،‬وغُلب فريق‪ ،‬فالذي غُلب هنا‬
‫الروم‪ ،‬وكانوا أهل كتاب ومقرهم الشام وعراق العرب‪ ،‬فالعراق منها قسم ناحية العرب‪ ،‬وقسم‬
‫ناحية فارس‪ ،‬والروم نسبة إلى روم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم‪.‬‬

‫(‪)3337 /‬‬

‫ض وَهُمْ مِنْ َبعْدِ غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ (‪)3‬‬


‫فِي َأدْنَى الْأَ ْر ِ‬

‫قوله { أَدْنَى‪[ } ...‬الروم‪ ]3 :‬يعني‪ :‬أقرب لرض العرب‪ ،‬كما في{ ِإذْ أَنتُمْ بِا ْلعُ ْد َوةِ الدّنْيَا وَهُم‬
‫بِا ْلعُ ْد َوةِ ا ْل ُقصْوَىا }[النفال‪ ]42 :‬فالعُدْوة الدنيا أي‪ :‬القريبة من المدينة‪ ،‬وال ُقصْوى البعيدة عنها‪.‬‬
‫فالمعنى { فِي َأدْنَى الَ ْرضِ‪[ } ...‬الروم‪ ]3 :‬أقرب أرض للجزيرة العربية‪.‬‬
‫وفي قوله سبحانه‪ { :‬وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ } [الروم‪ ]3 :‬بشرى للمسلمين‪ ،‬فالفرس قوم‬
‫كانوا يعبدون النار‪ ،‬أما الروم فأهل كتاب‪ ،‬إذن‪ :‬فالخلف بيننا وبين الفرس في القمة اللهية‪ ،‬أمّا‬
‫ن كانوا ل‬
‫الخلف بيننا وبين الروم ففي القمة الرسالية‪َ ،‬فهُم أقرب إلينا؛ لنهم يؤمنون بإلهنا‪ ،‬وإ ْ‬
‫يؤمنون برسولنا‪.‬‬
‫وهذا من عظمة السلم‪ ،‬فالذي يؤمن بالله أقرب إلى نفوسنا من الذي ل يؤمن بالله؛ لنه على‬
‫القل موصول بالسماء؛ لذلك لما غُلِبت الروم فرح كفار قريش وحزن المؤمنون‪ ،‬وفرح كفار‬
‫قريش لن في هزيمة الروم دليلً على أن محمدا وأصحابه سينهزمون كأصحابهم‪.‬‬
‫وكلمة { غَلَ ِب ِهمْ‪[ } ...‬الروم‪ ]3 :‬مصدر يُضاف للفاعل مرة‪ ،‬ويُضاف للمفعول مرة أخرى‪ ،‬تقول‬
‫أعجبني ضَ ْربُ المير مذنبا‪ ،‬فأضفت المصدر للفاعل‪ .‬وتقول‪ :‬أعجبني ضَرْب المذنب فأضفتَ‬
‫المصدر للمفعول‪ ،‬وكذلك هنا { غَلَ ِبهِمْ‪[ } ...‬الروم‪ ]3 :‬مصدر أضيف إلى المفعول‪.‬‬
‫لكن لماذا قال سبحانه‪ { :‬سَ َيغْلِبُونَ } [الروم‪ ]3 :‬وجاء بالسين الدالة على الستقبال‪ ،‬ثم قال بعدها{‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فِي ِبضْعِ سِنِينَ }[الروم‪ ]4 :‬وهي أيضا دالة على الستقبال؟ قالوا‪ :‬لن الغلبة ل تأتي فجأة‪ ،‬إنما ل‬
‫بُدّ لها من إعداد طويل وأَخْذ بأسباب النصر‪ ،‬وتجهيز القوة اللزمة له‪ ،‬فكأنهم في مدة البضع‬
‫سنين يُعدون للنصر‪ ،‬فكلما أعدوا عُدّة أخذوا جزءاَ من النصر‪ ،‬فالنصر إذن ل يأتي في بضع‬
‫سنين‪ ،‬إنما من عمل دائم على مدى بضع سنين‪.‬‬
‫فهتلر مثلً لما انهزم في الحرب العالمية‪ ،‬وتألّبتْ عليه كل الدول‪ ،‬جاء في عام ‪ 1939‬وهدد العالم‬
‫كله بالحرب‪ ،‬فهل سقطت عليه القوة التي يهدد بها فجأة؟ ل‪ ،‬بل ظل عدة سنوات يُعد العدة ويُجهّز‬
‫الجيش والسلحة والطرق إلى أنْ توفرتْ له القوة التي يهدد بها‪.‬‬

‫(‪)3338 /‬‬

‫فِي ِبضْعِ سِنِينَ لِلّهِ الَْأمْرُ مِنْ قَ ْبلُ َومِنْ َب ْع ُد وَ َيوْمَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ (‪ )4‬بِ َنصْرِ اللّهِ يَ ْنصُرُ مَنْ َيشَاءُ‬
‫وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ (‪)5‬‬

‫أثارت فرحة الكفار حفيظة المؤمنين‪ ،‬إلى أنْ نزلت { وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِب ِهمْ سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ‬
‫لمْرُ مِن قَ ْبلُ َومِن َبعْدُ‪[ } ...‬الروم‪ ]4-3 :‬ففرح المؤمنون حتى قال أبو بكر‪ :‬وال ل‬
‫سِنِينَ لِلّ ِه ا َ‬
‫يسرّ ال هؤلء‪ ،‬وسينصر الروم على فارس بعد ثلث سنين‪.‬‬
‫لن كلمة بضع تعني من الثلثة إلى العشرة‪ ،‬فأخذها الصّدّيق على أدنى مدلولتها‪ ،‬لماذا؟ لنه‬
‫الصّديق‪ ،‬والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ل يُحمّل المؤمنين مشقة الصبر مدة التسع سنين‪ ،‬وهذه من‬
‫الصديقية التي تميز بها أبو بكر رضي ال عنه‪.‬‬
‫" لذلك قال أبو بكر لُبيّ بن خلف‪ :‬وال ل يقرّ ال عيونكم ‪ -‬يعني‪ :‬بما فرحتم به من انتصار‬
‫الكفار ‪ -‬وقد أخبرنا ال بذلك في مدة بضع سنين‪ ،‬فقال أُبيّ‪ :‬أتراهنني؟ قال‪ :‬أراهنك على كذا من‬
‫القلئص ‪ -‬والقلوص هي الناقة التي تركب ‪ -‬في ثلث سنين عشر قلئص إن انتصرت الروم‪،‬‬
‫وأعطيك مثلها إن انتصرت فارس‪.‬‬
‫فلما ذهب أبو بكر إلى رسول ال‪ ،‬وأخبره بما كان قال‪ " :‬يا أبا بكر ِزدْه في الخطر ومادّه " ‪،‬‬
‫يعني ِزدْ في عدد النوق من عشرة إلى مائة وزده في مدة من ثلث سنين إلى تسع‪ ،‬وفعلً ذهب‬
‫الصّديق لبيّ وعرض عليه المر‪ ،‬فوافق في الرهان على مائة ناقة‪.‬‬
‫فلما اشتدّ الذى من المشركين‪ ،‬وخرج الصّدّيق مهاجرا رآه أُبيّ بن خلف فقال‪ :‬إلى أين أبا‬
‫فصيل؟ وكانوا يغمزون الصّدّيق بهذه الكلمة‪ ،‬فبدل أن يقولوا‪ :‬يا أبا بكر‪ .‬وال َبكْر هو الجمل القوي‬
‫يقولون‪ :‬يا أبا فصيل والفصيل هو الجمل الصغير ‪ -‬فقال الصّديق‪ :‬مهاجر‪ ،‬فقال‪ :‬وأين الرهان‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الذي بيننا؟ فقال‪ :‬إن كان لك يكفلني فيه ولدي عبد الرحمن‪ ،‬فلما جاءت موقعة بدر رأى عبد‬
‫الرحمن أُبيا فقال له‪ :‬إلى أين؟ فقال‪ :‬إلى بدر‪ ،‬فقال‪ :‬وأين الرهان إنْ قت ْلتَ؟ فقال‪ :‬يعطيك ولدي‪.‬‬
‫جعْل لعبد الرحمن‪ ،‬فذهبوا به‬
‫وفي بدر أصيب أُبيّ بجرح من رسول ال مات فيه‪ ،‬وقدّم ولده ال ُ‬
‫إلى رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال‪ " :‬تصدقوا به " "‪.‬‬
‫وهنا وقفة إعجازية إيمانية عقدية‪ :‬سبق أنْ تكلمنا عن الغيب وعن المشهد‪ .‬وقلنا‪ :‬إن الغيب أنواع‪:‬‬
‫غيب له مقدمات تُوصّل إليه‪ ،‬كما تعطي التلميذ تمرينا هندسيا‪ ،‬وكالسرار الكونية التي يتوصّل‬
‫إليها العلماء ويكتشفونها من معطيات الكون‪ ،‬كالذي اكتشف اللة البخارية‪ ،‬وأرشميدس لما اكتشف‬
‫قانون الجسام الطافية‪ ..‬إلخ ول يقال لهؤلء‪ :‬إنهم علموا غيبا‪ ،‬إنما أخذوا مقدمات موجودة‬
‫واستنبطوا منها معدوما‪.‬‬
‫أمّا الغيب المطلق فهو الذي ليس له مقدمات تُوصّل إليه‪ ،‬فهو غيب عن كل الناس‪ ،‬وفيه يقول‬
‫ظهِرُ عَلَىا غَيْبِهِ َأحَدا * ِإلّ مَنِ ارْ َتضَىا مِن رّسُولٍ‪} ...‬‬
‫تعالى‪ {:‬عَالِمُ ا ْلغَ ْيبِ فَلَ ُي ْ‬

‫[الجن‪.]27-26 :‬‬
‫ومن الغيب ما يغيب عنك‪ ،‬لكن ل يغيب عن غيرك‪ ،‬كالشيء الذي يُسرق منك‪ ،‬فهو غيب عنك‬
‫عمّنْ سرقه منك‪.‬‬
‫لنك ل تعرف مكانه‪ ،‬وليس غيبا َ‬
‫وآفة النسان أنه ل يستغل المقدمات للبحث في أسرار الكون ليرتقي في الكونيات‪ ،‬إنما يستغلها‬
‫ن يعلموا‬
‫لمعرفة غيب الخرين‪ ،‬ونقول له‪ :‬إن كنت تريد أن تعلم غيب الخرين‪ ،‬فاسمح لهم أ ْ‬
‫غيبك وأعتقد أن أحدا ل يرضى ذلك‪.‬‬
‫خلْق نعمة كبرى ل تعالى؛ لنه سبحانه رب الناس جميعا‪ ،‬ويريد سبحانه‬
‫إذن‪ :‬سَتْر الغيب عن ال َ‬
‫ن علمتَ في إنسان سيئة واحدة تزهدك في كل حسناته‪،‬‬
‫أن ينتفع خَلْقه بخَلْقه‪ ،‬أل ترى أنك إ ْ‬
‫وتجعلك تكرهه‪ ،‬وتكره كل حسنة من حسناته‪ ،‬فستر ال عنك غَيْب الخرين لتنتفع بحسناتهم‪.‬‬
‫والغيب حجزه ال عنا‪ ،‬إما بحجاب الزمن الماضي‪ ،‬أو الزمن المستقبل‪ ،‬أو بحجاب المكان‪ ،‬فأنت‬
‫ل تعرف أحداث الماضي قبل أنْ تُولد إلى أنْ يأتي مَنْ تثق به‪ ،‬فيخبرك بما حدث في الماضي‪،‬‬
‫وكذلك ل تعرف ما سيحدث في المستقبل‪ ،‬أما حاجز المكان فأنت ل تعرف ما يوجد في مكان‬
‫آخر غير مكانك‪ ،‬وقد يكون الشيء في مكانك‪ ،‬لكن له مكين فل تطلع عليه‪.‬‬
‫سهِمْ َل ْولَ ُي َعذّبُنَا اللّهُ ِبمَا َنقُولُ‪[} ...‬المجادلة‪.]8 :‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬وَ َيقُولُونَ فِي أَنفُ ِ‬
‫فمَنِ الذي أخبر رسول ال بما في نفوسهم؟ لقد خرق ال له حجاب المكان‪ ،‬وأخبره بما يدور في‬
‫نفوس القوم‪ ،‬وأخبرهم رسول ال به‪َ ،‬أمَا كان هذا كافيا لن يؤمنوا بال الذي أخرج مكنون‬
‫صدورهم؟ إذن‪ :‬المسألة عندهم عناد ولجاجة وإنكار‪.‬‬
‫وكذلك ما كان من رسول ال في غزوة مؤتة التي دارتْ على أرض الردن ورسول ال صلى ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليه وسلم بالمدينة ‪ -‬ونعلم أن أهل السيرة ل يطلقون اسم الغزوة إل على التي حضرها رسول‬
‫ال‪ ،‬وكل حدث حربي لم يحضره رسول ال نسميه سرية إل مؤتة هي التي انفردتْ بهذه التسمية‪،‬‬
‫فلماذا مع أن رسول ال لم يشهدها؟‬
‫قالوا‪ :‬بل شهدها رسول ال وهو بالمدينة‪ ،‬بما كشف ال له من حجاب المكان وأطلعه على ما‬
‫يدور هناك حتى كان يخبر صحابته بما يدور في الحرب كأنه يراها‪ ،‬فيقول‪ :‬أخذ الراية فلن‬
‫فقُتِل‪ ،‬فأخذها فلن فقُتِل‪ ،‬فلما جاءهم الخبر وجدوا المر كما أخبر به سيدنا رسول ال‪.‬‬
‫كما خَرق له حجاب الماضي‪ ،‬فأخبره بحوادث في المم السابقة كما في قوله سبحانه‪َ {:‬ومَا كُنتَ‬
‫لمْرَ‪[} ...‬القصص‪َ {]44 :‬ومَا كُنتَ ثَاوِيا فِي أَ ْهلِ مَدْيَنَ تَ ْتلُواْ‬
‫بِجَا ِنبِ ا ْلغَرْ ِبيّ إِذْ َقضَيْنَآ إِلَىا مُوسَى ا َ‬
‫عَلَ ْيهِمْ آيَاتِنَا‪[} ...‬القصص‪.]45 :‬‬
‫كما خرق له صلى ال عليه وسلم حجاب المستقبل‪ ،‬كما في هذه الية التي نحن بصدد الحديث‬
‫عنها‪ } :‬وَهُم مّن َبعْدِ غَلَ ِبهِمْ سَ َيغْلِبُونَ * فِي ِبضْعِ سِنِينَ‪.‬‬

‫‪[ { ..‬الروم‪ ]4-3 :‬فأروني أيّ قوة (كمبيوتر) في الدنيا تُنبئنا بنتيجة معركة ستحدث بعد ثلث‬
‫إلى تسع سنين‪.‬‬
‫فمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وهو النبي المي المقيم في جزيرة العرب ول يعرف شيئا عن قوة‬
‫الروم أو قوة الفرس ‪ -‬يخبرنا بهذه النتيجة؛ لن الذي يعلم الشياء على َوفْق ما تكون هو الذي‬
‫أخبره‪ ،‬وكون محمد صلى ال عليه وسلم يعلنها ويتحدّى بها في قرآن يُتْلَى إلى يوم القيامة دليل‬
‫على تصديقه بمنطق ال له‪ ،‬وأنه واثق من حدوث ما أخبر به‪.‬‬
‫سمّي الصّديق صدّيقا‪ ،‬فحين أخبروه بمقالة رسول ال عن السراء ما كان منه إل أنْ‬
‫ولهذه الثقة ُ‬
‫قال‪ :‬إنْ كان قال فقد صدق ورسول ال صلى ال عليه وسلم يخبر بهذه النتيجة‪ ،‬ويراهن‬
‫المشركين عليها‪ ،‬ويتمسك بها‪ ،‬وما ذاك إل لثقته في صدق هذا البلغ‪ ،‬وأنه ل يمكن أبدا أنْ‬
‫يتخلف‪.‬‬
‫ن تفهموا أن انتصار‬
‫ل َومِن َبعْدُ‪[ { ...‬الروم‪ ]4 :‬يعني‪ :‬إياكم أ ْ‬
‫لمْرُ مِن قَ ْب ُ‬
‫وقوله تعالى } لِلّ ِه ا َ‬
‫الفرس على الروم أو انتصار الروم على الفرس خارج عن مرادات ال‪ ،‬فلله المر من قبل‬
‫الغلب‪ ،‬ول المر من بعد الغلب‪.‬‬
‫فحين غَلبت الروم ل المر‪ ،‬وحين انتصرت الفرس ل المر؛ لن الحق سبحانه يهيج أصحاب‬
‫الخير بأن يُغلّب أصحاب الشر‪ ،‬ويُحرّك حميتهم ويُوقظ بأعدائهم مشاعرهم‪ ،‬ويُنبّههم إلى أن‬
‫العداء ل ينبغي أن يكونوا أحسن منهم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فنصر المكروه ل على المحبوب ل جاء بتوقيت من ال؛ لذلك إياك أن تحزن حين تجد لك‬
‫عدوا‪ ،‬فالحمق هو الذي يحزن لذلك‪ ،‬والعاقل هو الذي يرى لعدوه َفضْلً عليه‪ ،‬فالعدو يُذكّرني‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫دائما بأن أكون قويا مستعدا‪ ،‬يُذكّرني بأن أكون مستقيما حتى ل يجد مني فرصة أو نقيصة‪ .‬العدو‬
‫ضلٌ عليّ ومِنّةٌ‬
‫يجعلك تُجنّد كل ملكاتك للخير لتكون أفضل منه؛ لذلك يقول الشاعر‪:‬عدايَ َلهٌمْ َف ْ‬
‫شكْرٌ على َنفْعهم ليَا َف ُهمْ كدَواءٍ والشّفاء بمُ ّرهِ فَل أَ ْبعَد الرحمنُ عنّي العَادِيَاوهْم بحثُوا‬
‫َفعِنْدي لهُم ُ‬
‫ت المعَاليَاإذن‪ :‬ل المر من قبل ومن بعد‪ ،‬وله الحكمة في‬
‫عَنْ زَلّتي فَاجْتنبتُها وهُمْ نافسُوني فاكتس ْب ُ‬
‫أنْ ينتصر الباطل‪َ ،‬ألَ ترى غزوة أحد‪ ،‬وكيف هُزِم المسلمون لما خالفوا أمر رسول ال وتركوا‬
‫مواقعهم طمعا في مغنم‪ ،‬انهزموا في أول المر‪ ،‬مع أن رسول ال معهم؛ لن سنة ال في كونه‬
‫تقضي بالهزيمة حين نخالف أمر رسول ال‪ ،‬وكيف يكون الحال لو انتصر المسلمون مع مخالفتهم‬
‫لمر رسولهم؟ لو انتصروا الفقد أمر الرسول مصداقيته‪ ،‬ولما أطاعوا له أمرا بعد ذلك‪.‬‬
‫وفي يوم حنين‪ {:‬وَ َيوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَ ْتكُمْ كَثْرَ ُتكُمْ‪[} ...‬التوبة‪ ]25 :‬حتى إن أبا بكر نفسه ليقول‪ :‬لن‬
‫نٌغلب اليوم عن قِلّة‪ ،‬فلما نظروا إلى قوتهم ونسُوا تأييد ال هُزِموا في بداية المر‪ ،‬ثم يحنّ ال‬
‫عليهم‪ ،‬وتتداركهم رحمته تعالى‪ ،‬فينصرهم في النهاية‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فلله المر من قبل ومن بعد‪ ،‬فإياك أن تظن أن انتصار الباطل جاء غصْبا عن إرادة ال‪ ،‬أو‬
‫خارجا عن مراده‪ ،‬إنما أراده ال وقصده لحكمة‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ {:‬وَ َي ْومَئِذٍ َيفْرَحُ ا ْل ُمؤْمِنُونَ * بِ َنصْرِ اللّهِ‪[} ...‬الروم‪ ]5-4 :‬أيّ نصر الذي يفرح به‬
‫الؤمنون؟ أيفرحون لنتصار الروم على الفرس؟ قالوا‪ :‬بل الفرح هنا دوائر متشابكة ومتعالية‪ ،‬فهم‬
‫أولً يفرحون لنتصار أهل دين وأهل كتاب على كفار وملحدة‪ ،‬ويفرحون أن بشرى رسول ال‬
‫تحققتْ‪ ،‬ويفرحون لنهم آمنوا برسول ال‪ ،‬وصدّقوه قبل أن ينطق بهذه البشرى‪.‬‬
‫إنهم يفرحون لنهم أصابوا الحق‪ ،‬فكلما جاءت آية فرح كل منهم بنفسه؛ لنه كان محقا حينما آمن‬
‫بالله الواحد الذي يعلم المور على وفق ما ستكون واتبع رسوله صلى ال عليه وسلم‪ .‬إذن‪ :‬ل‬
‫تقصر هذه الفرحة على شيء واحد‪ ،‬إنما عَدّها إلى أمور كثيرة متداخلة‪.‬‬
‫كما أن اليوم الذي انتصر فيه الروم صادف اليوم الذي انتصر فيه المسلمون في بدر‪.‬‬
‫وقوله تعالى } يَنصُرُ مَن يَشَآءُ‪[ { ...‬الروم‪ ]5 :‬الفرس أو الروم‪ ،‬ما دام أن له المر من قبل ومن‬
‫بعد } وَ ُهوَ ا ْلعَزِيزُ الرّحِيمُ { [الروم‪ ]5 :‬الحق سبحانه وصف نفسه بهاتين الصفتين‪ :‬العزيز‬
‫الرحيم‪ ،‬مع أن العزيز هو الذي يغلب ول ٌيغْلب‪ ،‬فقاهريته سبحانه عالية في هذه الصفة ‪ -‬ومع‬
‫ذلك أتبعها بصفة الرحمة ليُحِدث في نفس المؤمن هذا التوازن بين صفتي القهر والغلبة وبين صفة‬
‫الرحمة‪.‬‬
‫كما أننا نفهم من صفة العزة هنا أنه ل يحدث شيء إل بمراده تعالى‪ ،‬فحين ينتصر طرف وينهزم‬
‫طرف آخر حتى لو انتصر الباطل ل يتم ذلك إل لمراده تعالى؛ لن ال تعالى ل يُبقي الباطل ول‬
‫يُعلي الكفر إل ليظهر الحق‪ ،‬فحين ُي َعضّ الناس بالباطل‪ ،‬ويش َقوْن بالكفر يفزعون إلى اليمان‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويتمسكون به‪.‬‬
‫سفْلَىا َوكَِلمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا‪[} ...‬التوبة‪ ]40 :‬ولم‬
‫ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ ال ّ‬
‫واقرأ قوله تعالى‪ {:‬وَ َ‬
‫جعْل تحويل شيء إلى شيء‪ ،‬أما كلمة ال‬
‫جعْلً لن ال َ‬
‫يقل‪ :‬وجعل كلمة ال هي العليا؛ لنها ليستْ َ‬
‫فهي العليا بداية ودائما‪ ،‬وإنْ علت كلمة الباطل إلى حين‪.‬‬
‫عدَ اللّ ِه لَ ُيخِْلفُ اللّهُ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَ ْ‬

‫(‪)3339 /‬‬

‫خِلفُ اللّ ُه وَعْ َد ُه وََلكِنّ َأكْثَرَ النّاسِ لَا َيعَْلمُونَ (‪)6‬‬


‫وَعْدَ اللّهِ لَا يُ ْ‬

‫خِلفُ اللّ ُه وَعْ َدهُ‪[ } ...‬الروم‪ ]6 :‬وفرْقٌ بين وعد‬


‫ن يكون { لَ يُ ْ‬
‫الوعد‪ :‬هو الخبار بما يسرّ قبل أ ْ‬
‫ال ووعد الناس؛ لنك قد تعد إنسانا بخير‪ ،‬وتحول السباب بينك وبين إنفاذ ما وعدتَ به‪ ،‬كأن‬
‫يتغير رأيك أو تضعف إمكاناتك‪ ،‬أو يتغير السبب الذي كنت ستفعل من أجله‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أنت ل تملك عناصر الوفاء وأسبابه‪ ،‬أمّا وعد الحق سبحانه وتعالى فوعد محقق‪ ،‬حيث ل‬
‫توجد قوة تُخرجه عما وعد‪ ،‬وهو سبحانه ل يُعجزه شيء في الرض ول في السماء‪ ،‬فما دام‬
‫الوعد وعدَ ال ف ِثقْ أنه محقق‪.‬‬
‫علٌ ذاِلكَ غَدا * ِإلّ أَن يَشَآءَ اللّهُ‪[} ...‬الكهف‪:‬‬
‫شيْءٍ إِنّي فَا ِ‬
‫لذلك يُعلّمنا الحق سبحانه‪َ {:‬ولَ َتقْولَنّ لِ َ‬
‫‪ ]24-23‬والمعنى‪ :‬اجعل لنفسك مَخرجَا من الكذب إنْ حالت السباب بينك وبين ما وعدتَ به‪،‬‬
‫بأن تجعل أمرك تحت مشيئة ربك‪ ،‬ل مشيئتك‪ ،‬لنك ل تملك من عناصر إتمام الفعل شيئا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أد ِركْ نفسك‪ ،‬وقُلْ إنْ شاء ال‪ ،‬حتى إذا حالتْ السباب بينك وبين ما أردتَ قلت‪ :‬شِئْت‪،‬‬
‫ولكن ال تعالى لم يشَأ‪.‬‬
‫وال تعالى ل يُخِلف وعده؛ لنه سبحانه يعلم الشياء على َوفْق ما تكون‪ ،‬ول توجد قوة تُحوّله عن‬
‫مراده‪ ،‬وليس له شريك يراجعه‪ ،‬أو يُخرِجه عن مراده‪.‬‬
‫سبَ * سَ َيصْلَىا نَارا ذَاتَ‬
‫وإنْ شئت فاقرأ‪ {:‬تَ ّبتْ يَدَآ أَبِي َل َهبٍ وَتَبّ * مَآ أَغْنَىا عَ ْنهُ مَالُ ُه َومَا كَ َ‬
‫سدٍ }[المسد‪.]5-1 :‬‬
‫طبِ * فِي جِي ِدهَا حَ ْبلٌ مّن مّ َ‬
‫حَ‬‫حمّاَلةَ الْ َ‬
‫َل َهبٍ * وَامْرَأَتُهُ َ‬
‫ألم يكُنْ من الممكن وقتها أنْ يُسلِم أبو لهب كما أسلم حمزة وعمر وخالد وعكرمة وغيرهم؟‬
‫أليست له حرية الختيار كهؤلء؟ بل ألم يسمع هذه السورة؟ ومع هذا كله كفر وأصرّ على كفره‪،‬‬
‫ولم ينطق بكلمة اليمان‪ ،‬ولو حتى للكيد لرسول ال فيقول في نادي قريش ولو نفاقا‪ :‬قال محمد‬
‫كذا وأنا أشهد أل إله إل ال‪ ،‬وأن محمدا رسول ال‪ .‬أليس هذا دليلً على غبائه؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬ما دام أن القرآن أخبر فل بُدّ أن يتم المر على َوفْق ما أخبر به‪.‬‬
‫ونلحظ هنا أن كلمة الوعد تعني البشارة بالخير القادم في المستقبل والكلم هنا عن فريقين‪ :‬فريق‬
‫حقّه؟ فالفرح للمؤمن‬
‫منتصر يفرح بالنصر‪ ،‬وفريق منهزم يحزن للهزيمة‪ ،‬فكيف يستقيم الوعد في َ‬
‫غَمّ لغير المؤمن‪.‬‬
‫ولتوضيح هذه المسألة نذكر أن المستشرقين وقفوا عند قوله تعالى من سورة الرحمن‪ {:‬خََلقَ‬
‫الِنسَانَ مِن صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ * وَخَلَقَ الْجَآنّ مِن مّارِجٍ مّن نّارٍ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }‬
‫[الرحمن‪]16-14 :‬‬
‫شوَاظٌ مّن نّارٍ‬
‫علَ ْي ُكمَا ُ‬
‫سلُ َ‬
‫وقالوا‪ :‬هذا الكلم معقول بالخلق من نعم ال‪ ،‬لكن ماذا عن قوله‪ {:‬يُ ْر َ‬
‫وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ * فَبَِأيّ آلءِ رَ ّب ُكمَا ُتكَذّبَانِ }[الرحمن‪ ]36-35 :‬فأيّ نعمة في النار وفي‬
‫الشواظ؟‬
‫وفات هؤلء أنه من النعمة أن ننبهك إلى الخطر قبل أنْ تقع فيه‪ ،‬ونحذرك من عاقبة الكفر لتنتهي‬
‫عنه كالوالد الذي يقول لولده‪ :‬إنْ أهملتَ دروسك ستفشل‪ ،‬وساعتها سأفعل بك كذا وكذا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ف ِذكْر النار والعذاب نعمة لكل من خالف منهج الحق‪ ،‬فلعله حين يسمع النذار يعود‬
‫ويرعوي‪.‬‬
‫س لَ َيعَْلمُونَ } [الروم‪ ]6:‬نفى عنهم العلم أي‪ :‬ببواطن المور‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫وحقيقتها‪.‬‬
‫ثم أخبر عنهم‪َ { :‬يعَْلمُونَ ظَاهِرا مّنَ الْحَيَاةِ‪.} ...‬‬

‫(‪)3340 /‬‬

‫َيعَْلمُونَ ظَاهِرًا مِنَ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِ َرةِ ُهمْ غَافِلُونَ (‪)7‬‬

‫إذا رأيت فعلً ُنفِي مرة‪ ،‬وأُثبت مرة أخرى‪ ،‬فاعلم أن الجهة منفكة‪ ،‬فهم ل يعلمون بواطن المور‪،‬‬
‫إنما يعلمون ظواهرها‪ ،‬وليتهم يعلمون ظواهر كل شيء‪ ،‬إنما ظواهر الدنيا فحسب‪ ،‬ول يعلمون‬
‫بواطنها‪ ،‬فما بالك بالخرة؟‬
‫حين تتأمل أمور الدنيا والقوانين الوضعية التي وضعها البشر‪ ،‬ثم رجعوا عنها بعد حين‪ ،‬تجد أننا‬
‫ل نعلم من الدنيا إل الظاهر‪ ،‬فمثلً قانون الصلح الزراعي الذي نعمل به منذ عام ‪ ،1952‬وكنا‬
‫مُتحمّسين له نُمجّده ول نسمح بالمساس به يناقشونه اليوم‪ ،‬ويطلبون إعادة النظر فيه‪ ،‬بل إلغاءه؛‬
‫لنه لم َي ُعدْ صالحا للتطبيق في هذا العصر‪ ،‬روسيا التي تبنتْ النظام الشيوعي ودافعتْ عنه بكل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قوة هي التي نقضتْ هذا النظام وأسقطته‪.‬‬
‫ما أسقطته أمريكا مثلً‪ ،‬ولو أسقطته أمريكا لنتقلت إليها قوة الشيوعية وغطرستها؛ لذلك يقولون‪:‬‬
‫ما اندحرت الشيوعية إنما انتحرت على أيدي أصحابها‪ .‬ومن الممكن أن ينتحر هؤلء كما‬
‫ن يستقيموا ل‪ ،‬وأن ُيخِلصوا للناس‪.‬‬
‫انتحرتْ نُظمهم فأوْلَى بهم أ ْ‬
‫إذن‪ :‬ل نعرف من الدنيا إل ظواهر الشياء‪ ،‬ول نعرف حقيقتها‪ ،‬كما نشقى الن بسبب المبيدات‬
‫الحشرية التي ظننا أنها ستُريحنا وتُوفر علينا الجهد والوقت في المقاومة اليدوية؟‬
‫كم يشقى العالم اليوم من استخدام السيارات مثلً من تلوث في البيئة وقتْل للرواح كل يوم‪ ،‬ولك‬
‫أن تقارن بين وسائل المواصلت في الماضي ووسائل المواصلت اليوم‪ ،‬فإن كان للوسائل‬
‫الحديثة نفع عاجل‪ ،‬فلها ضرر آجل‪ ،‬ويكفي أن عادم المخلوق ل يصلح الرض‪ ،‬وعادم المخلوق‬
‫للبشر يفسدها‪ ،‬لماذا؟ لننا نعلم ظواهر الشياء‪ .‬ولو علم الذي اكتشف السولر مثلً حقيقته لما‬
‫استخدمه فيما نستخدمه نحن فيه الن‪.‬‬
‫هذا عن عِلْمنا بأمور الدنيا‪ ،‬أمّا الخرة فنحن في غفلة عنها؛ لذلك يقول سيدنا الحسن‪ :‬أعجب‬
‫للرجل يمسك الدينار بأنامله فيعرف وزنه‪ ،‬و (يرنه) فيعرف زيوفه من جيده‪ ،‬ول يحسن الصلة‪.‬‬
‫ت وَلَـاكِنّ اللّهَ َرمَىا‪[} ...‬النفال‪ ]17 :‬فنفى الرمي‪،‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪َ {:‬ومَا َرمَ ْيتَ ِإذْ َرمَ ْي َ‬
‫وأثبته في آية واحدة؛ لن الجهة منفكة‪ ،‬فالثبات لشيء‪ ،‬والنفي لشيء آخر‪ .‬وسبق أنْ مثّلْنا لذلك‬
‫بالتلميذ الذي تجبره على المذاكرة فيفتح الكتاب ويُقلّب صفحاته ويهزّ رأسه‪ ،‬كأنه يقرأ‪ ،‬فإذا ما‬
‫أخبرته فيما قرأ تجده لم يفهم شيئا‪ ،‬فتقول له‪ :‬ذاكرتَ وما ذاكرتَ؛ لنه فعل ِفعْل المذاكرة‪ ،‬ومع‬
‫ذلك هو في الحقيقة لم يذاكر؛ لنه لم يُحصّل شَيئا مما ذاكره‪.‬‬
‫كذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم رمى حين أخذ حفنة من الحصى ورمى بها ناحية جيش‬
‫الكفار‪ ،‬لكن{ َومَا َرمَ ْيتَ ِإذْ َرمَ ْيتَ‪[} ...‬النفال‪ ]17 :‬هذه الحفنة؛ لن قدرتك البشرية ل توصل‬
‫هذه الرمية إلى كل الجيش‪ ،‬فهذه إذن قدرة ال‪.‬‬
‫ونلحظ في قوله تعالى‪:‬‬

‫س لَ َيعَْلمُونَ }[الروم‪ ]6 :‬أنه استثنى من عدم العلم فئة قليلة‪ ،‬فلماذا استثنى‬
‫{ وَلَـاكِنّ َأكْثَرَ النّا ِ‬
‫هذه الفئة مع أننا نُغيّر الدنيوية والقوانين على الجميع؟ قالوا‪ :‬لنه حين ُوضِعت هذه القوانين‬
‫وشًُرعت هذه النظم كانت هناك فئة ترفضها ول تقرها‪ ،‬لذلك لم يتهم الكل بعدم العلم‪.‬‬
‫والظاهر الذي يعلمونه من الحياة الدنيا فيه مُتَع وملذ وشهوات‪ ،‬البعض يعطي لنفسه فيها الحرية‬
‫المطلقة‪ ،‬وينسي عاقبة ذلك في الخرة‪ ،‬لذلك فإن أهل الريف يقولون فيمن ل يحسب حسابا‬
‫للعواقب‪( :‬الديب بلع منجل‪ ،‬فيقول الخر‪ :‬ساعة خراه تسمع عواه)‪.‬‬
‫ن وَا ْلقَنَاطِيرِ ا ْل ُمقَنْطَ َرةِ مِنَ الذّ َهبِ‬
‫ش َهوَاتِ مِنَ النّسَا ِء وَالْبَنِي َ‬
‫حبّ ال ّ‬
‫واقرأ قوله تعالى‪ {:‬زُيّنَ لِلنّاسِ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س ّومَ ِة وَالَنْعَامِ وَالْحَ ْرثِ ذاِلكَ مَتَاعُ ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَاللّهُ عِنْ َدهُ حُسْنُ ا ْلمَآبِ }[آل‬
‫وَا ْلفِضّ ِة وَا ْلخَ ْيلِ ا ْلمُ َ‬
‫عمران‪.]14 :‬‬
‫فذكر الناس متاع الحياة الدنيا ونسُوا الباقيات الصالحات في الخرة‪ ،‬والعاقل هو الذي يستطيع أنْ‬
‫يُوازن بينهما‪ ،‬وسبق أنْ قُلْنا عن الدنيا بالنسبة لك‪:‬هي مدة بلقائك فيها‪ ،‬هي عمرك أنت ل عمر‬
‫الدنيا كلها‪ ،‬كما أن عمرك فيها محدود مظنون ل بُدّ أن ينتهي بالموت‪.‬‬
‫أما الخرة فدار باقية دائمة‪ ،‬دار نعيم ل ينتهي‪ ،‬ول يفوتك بحال‪ ،‬فلماذا تشغلك الفانية عن الباقية؟‬
‫لماذا ترضى لنفسك بصفقة خاسرة؟‬
‫لذلك لما سُئِل المام علي‪ :‬أريد أن أعرف أنا من أهل الدنيا أم من أهل الخرة؟ فقال‪ :‬لم يدع ال‬
‫الجواب لي‪ ،‬إنما الجواب عندك أنت‪ ،‬فإنْ دخل عليك اثنان‪ :‬واحد جاء بهدية‪ ،‬والخر جاء يسألك‬
‫عطية‪ ،‬فإنْ كنت تهشّ لصاحب الهدية فأنت من أهل الدنيا‪ ،‬وإنْ كنت تهشّ لمن يطلب العطية‬
‫فأنت من أهل الخرة‪.‬‬
‫لماذا؟ لن النسان يحب مَنْ يٌعمّر ما يحب‪ ،‬فإنْ كنتَ تحب الخرة فإنك تحب الدنيا فإنك تحب‬
‫مَنْ يعمرها لك؛ لذلك كان أحد الصالحين إنْ جاءه سائل يطرق بابه يهشّ في وجهه‪ ،‬ويبَشّ‬
‫ويقول‪ :‬مرحبا بمَنْ جاء يحمل زادي إلى الخرة بغير أجرة‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا أعاد الضمير في } وَهُمْ عَنِ الخِ َرةِ ُهمْ غَافِلُونَ { [الروم‪ ]7 :‬لماذا لم يقل‪ :‬وهم عن‬
‫الخرة غافلون؟‬
‫لو قال الحق سبحانه وهم عن الخرة غافلون َلفُهم أن الغفلة مسيطرة عليهم‪ ،‬وليست هناك أدلة‬
‫ن الخِ َرةِ هُمْ غَافِلُونَ { [الروم‪ ]7 :‬يعني‪ :‬الغفلة واقعة منهم أنفسهم‪ ،‬وإلّ‬
‫تُوقِظهم‪ ،‬إنما } وَهُمْ عَ ِ‬
‫فالدلة واضحة‪ ،‬لكن ما جدوى الدلة مع قوم هم غافلون‪.‬‬
‫سهِمْ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬أوَلَمْ يَ َت َفكّرُواْ فِي أَنفُ ِ‬

‫(‪)3341 /‬‬

‫سمّى وَإِنّ‬
‫جلٍ مُ َ‬
‫ق وَأَ َ‬
‫حّ‬‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَا إِلّا بِالْ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر َ‬
‫سهِمْ مَا خَلَقَ اللّهُ ال ّ‬
‫َأوَلَمْ يَ َت َفكّرُوا فِي أَ ْنفُ ِ‬
‫كَثِيرًا مِنَ النّاسِ بِِلقَاءِ رَ ّب ِهمْ َلكَافِرُونَ (‪)8‬‬

‫المعنى‪ :‬أن يكون ذلك منهم‪ :‬ل يعلمون إل ظاهرا من الحياة الدنيا‪ ،‬ويغفلون عن الخرة‪ ،‬ولم‬
‫يتفكروا في أنفسهم‪ ،‬فيأتي لهم بالدليل مرة في أنفسهم‪ ،‬ومرة في السماوات والرض‪.‬‬
‫الدليل في النفس يقول لك‪ :‬فكّر في نفسك‪ .‬أي‪ :‬اجعلها موضوع تفكيرك‪ ،‬وتأمل ما فيها من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أسرار دالة على قدرة الخالق عز وجل‪ ،‬فإلى الن ومع ما توصّل إليه العلم ما زال في النسان‬
‫أسرار لم تُكشف بعد‪.‬‬
‫تأمل في مقومات حياتك‪ :‬الكل والشرب والتنفس‪ ،‬وكيف أنك تصبر على الطعام حتى شهر‪،‬‬
‫تتغذى من المخزون في جسمك‪ ،‬وتصبر على الماء من ثلثة إلى عشرة أيام على مقدار ما في‬
‫جسمك من مائية‪ ،‬لكنك ل تصبر على الهواء إل بمقدار شهيق وزفير‪.‬‬
‫لذلك من حكمته تعالى حين أمّن للبشر هذه المقوّمات أنْ جعل مدة صبرك على الطعام أطول‪ ،‬لن‬
‫سعْي إليه‪ ،‬أما الماء فمدة الصبر عليه أقل‪ ،‬لذلك‬
‫طعامك قد يحتكره غيرك‪ ،‬فتحتاج إلى طلبه وال ّ‬
‫جعل الحق سبحانه احتكار الماء قليلً‪.‬‬
‫أما الهواء الذي ل تصبر عليه إل بمقدار شهيق وزفير‪ ،‬فمن حكمة ال تعالى ألّ يُملّك لحد أبدا‪،‬‬
‫وإل لو احتكر الناسُ الهواء لما استقامت الحياة‪ ،‬فلو منعك صاحب الهواء هواءه لمتّ قبل أنْ‬
‫يرضى عنك‪.‬‬
‫تأمل في نفسك حين تأكل الطعام‪ ،‬وفيك مدخلن متجاوران‪ :‬القصبة الهوائية‪ ،‬وهي مجرى الهواء‬
‫للرئتين‪ ،‬والبلعوم وهو مجرى الطعام للمعدة‪ ،‬تأمل ما يحدث لك إنْ دخلتْ حبة أرز واحدة في‬
‫القصبة الهوائية‪ ،‬فبل شعور تشرَق بها‪ ،‬وتظل تقاومها حتى تخرج‪ ،‬وتأمل حركة لسان المزمار‬
‫ل لك فيها‪ ،‬ول قدرة لك‬
‫حين يسد القصبة الهوائية أثناء البلع‪ ،‬هذه الحركة التلقائية التي ل دخ َ‬
‫عليها بذاتك‪.‬‬
‫تأمل وضع المعدة‪ ،‬وكيف أن ال جعل لها فتحة يُسمونها فتحة الفؤاد‪ ،‬هي التي تُغلق المعدة‬
‫بإحكام بعد الطعام‪ ،‬حتى ل تؤذيك رائحته بأنْ تتسرب عصارة المعدة إلى الفم فتؤلمك‪ ،‬فمن‬
‫أصابه خلل في إغلق هذه الفتحة تجد رائحة فمه كريهة يسمونه (أبخر)‪.‬‬
‫كذلك تأمل في عملية إخراج الطعام وكيف تكون طبيعيا مستريحا؟ وفجأت تحتاج إلى الحمام وإلى‬
‫قضاء الحاجة‪ ،‬ماذا حدث؟ والمر كذلك في شربة الماء‪ ،‬ذلك لن لجسمك طاقة تحمّل في المعاء‬
‫وفي المثانة‪ ،‬ففي لحظة يريد الحمل عن الطاقة‪ ،‬فتشعر بالحاجة إلى الخراج‪.‬‬
‫سكُمْ‬
‫وهذا مجال ل حصرَ له مهما تقدمتْ العلوم‪ ،‬ومهما بحثنا في أنفسنا‪ ،‬ويكفي أن نقرأ‪َ {:‬وفِي أَنفُ ِ‬
‫َأفَلَ تُ ْبصِرُونَ }[الذاريات‪ ]21 :‬فدعانا ربنا إلى البحث في أنفسنا قبل البحث فيما حولنا من آيات‬
‫السماء والرض؛ لن أنظارنا قد تقصر عن رؤية ما في السماوات والرض من آيات‪ ،‬أما نفسي‬
‫فهي أقرب دليل منك وأقوى دليل عليك‪.‬‬

‫سهِمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]8 :‬أي‪ :‬فكّروا في أنفسكم بعيدا عن ضجيج الناس وجدالهم‬


‫} َأوََلمْ يَ َت َفكّرُواْ فِي أَنفُ ِ‬
‫ومِرائهم‪ ،‬فحين تجادل الناس تجد لجاجة وحرصا على الظهور‪ ،‬ولو بالباطل‪ ،‬إنما حينما تكون مع‬
‫خصْمك‪ ،‬ول تطمع في‬
‫نفسك تسألها وتتأمل فيها‪ ،‬فل مُهيج ول مُعاند‪ ،‬ل تخجل أنْ ينتصر عليك َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مكانة أو منزلة؛ لذلك تصل بالنظر في نفسك إلى الحقيقة‪.‬‬
‫ح َدةٍ‪[} ...‬سبأ‪]46 :‬‬
‫ظكُمْ ِبوَا ِ‬
‫عُ‬‫لذلك يخاطب القرآن النبي صلى ال عليه وسلم بقوله‪ُ {:‬قلْ إِ ّنمَآ أَ ِ‬
‫ن تفكّرون في صدق هذا الرسول‪ ،‬وتتهمونه بالكذب والفتراء والسحر‪ ..‬الخ أريد منكم‬
‫يعني‪ :‬يا مَ ْ‬
‫شيئا واحدا{ أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا‪[} ...‬سبأ‪ ]46 :‬أي‪ :‬مثنى مثنى‪ ،‬أو منفردين‪ ،‬كلّ على‬
‫شدِيدٍ }[سبأ‪.]46 :‬‬
‫عذَابٍ َ‬
‫حدة{ ُثمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن جِنّةٍ إِنْ ُهوَ ِإلّ نَذِيرٌ ّل ُكمْ بَيْنَ يَ َديْ َ‬
‫إذن‪ :‬الطريق إلى الحقيقة ل يكون بالمجادلة الجماهيرية‪ ،‬إنما بتأمل النسان مع نفسه‪ ،‬أو مع مثله‪،‬‬
‫فمع الجماعة تتحرك في النفس الرغبة في العْلُو والنتصار؛ لذلك حين تناقش العاقل يقول لك‬
‫(حسيبك تراجع نفسك) يعني‪ :‬تفكّر وحدك بحيث ل تُحرج من أحد‪ ،‬فتكون أقرب للموضوعية‬
‫وللوصول إلى الحق‪.‬‬
‫وبعد أنْ أمرنا ربنا بالتفكّر في أنفسنا يلفتنا إلى التأمل فيما حولنا من السماوات والرض } مّا‬
‫سمّى‪[ { ...‬الروم‪.]8 :‬‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫ق وََأ َ‬
‫ض َومَا بَيْ َن ُهمَآ ِإلّ بِا ْلحَ ّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر َ‬
‫خََلقَ اللّهُ ال ّ‬
‫وهناك آية أخرى تقدم التفكّر في السماء والرض على التفكّر في النفس‪ ،‬هي قوله تعالى‪َ {:‬لخَلْقُ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ‪[} ...‬غافر‪.]57 :‬‬
‫ال ّ‬
‫لماذا؟ لن النسان قد يموت قبل أنْ يُولد‪ ،‬ويموت بعد عدة سنوات‪ ،‬أو حتى بعد مئات السنين‪ ،‬أما‬
‫السماوات والرض بما فيهما من أرض وسماء وشمس وقمر‪ ..‬إلخ فهي كما هي منذ خلقها ال لم‬
‫تتغير‪ ،‬وهي تؤدي مهمتها دون تخلّف‪ ،‬ودون صيانة‪ ،‬ودون أعطال‪ ،‬فهي بحقّ أعظم من خَلْق‬
‫الناس وأكبر‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الية والدلة في أنفسكم وفي السماوات والرض‪ ،‬لكن أيهما الية القوى؟ قالوا‪ :‬ما دامت‬
‫خلْق الناس فهي القوى‪ ،‬فإن لم تقنع بها فانظر في نفسك؛ لذلك‬
‫السماوات والرض أكبر من َ‬
‫يقول العلماء بالمفيد والمستفيد‪ ،‬المفيد هو ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فحينما يضرب لي مثلً يضرب لي‬
‫طقْه يأتي لي بالقل‪ ،‬والمستفيد هو الذي ينتقل من القل للكبر‪.‬‬
‫بالقوى‪ ،‬فإنْ لم أُ ِ‬
‫جوّ‬
‫ومعنى } َومَا بَيْ َن ُهمَآ‪[ { ...‬الروم‪ ]8 :‬أي‪ :‬من الكواكب والفلك والنجوم التي نشاهدها في َ‬
‫السماء‪ ،‬وكانوا في الماضي لما أرادوا أنْ يُقرّبوا أمور الدين لعقول الناس يقولون‪ :‬الكواكب‬
‫السبعة هي السماوات السبع‪ ،‬ووقع فيها علماء كبار‪ ،‬لكن الحقيقة أن هذه الكواكب السبعة كلها‬
‫سمَآءَ الدّنْيَا ِب َمصَابِيحَ‪[} ...‬فصلت‪.]12 :‬‬
‫دون السماء الدنيا‪ ،‬واقرأ قول ال تعالى‪ {:‬وَزَيّنّا ال ّ‬
‫فأين السماء من الكواكب التي نشاهدها؟! أتعلم كم ثانية ضوئية بينك وبين الشمس‪ ،‬أو بينك وبين‬
‫القمر؟ بيننا وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية‪ ،‬وبيننا وبين المرأة المسلسلة مائة سنة ضوئية‪،‬‬
‫وبيننا وبين المجرة مليون سنة ضوئية‪.‬‬

‫ولك أن تضرب مليون سنة في ‪365‬يوما‪ ،‬وتضرب الناتج في ‪ 24‬ساعة‪ ،‬وتضرب الناتج في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ستين دقيقة‪ ،‬ثم في ستين ثانية‪ ،‬ثم تضرب الناتج من ذلك في ‪ 300‬ألف كيلو‪ ،‬ثم تأمل الرقم الذي‬
‫وصلتَ إليه‪.‬‬
‫وما أسكتَ القائلين بأن الكواكب السبعة هي السماوات السبع إل أن العلماء اكتشفوا بعدها كوكبا‬
‫جديدا حول الشمس‪ ،‬وبعد سنوات اكتشفوا آخر‪ .‬كذلك حين صعد رواد الفضاء إلى سطح القمر‬
‫أسرع هؤلء (الفاحشة) يقولون‪ :‬لقد سبق القرآن‪ ،‬وأخبر بهذا في قوله تعالى‪ {:‬يا َمعْشَرَ ا ْلجِنّ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ فَانفُذُواْ لَ تَنفُذُونَ ِإلّ بِسُ ْلطَانٍ }‬
‫طعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ َأ ْقطَارِ ال ّ‬
‫وَالِنسِ إِنِ اسْ َت َ‬
‫[الرحمن‪.]33 :‬‬
‫وقالوا‪ :‬إن السلطان هو سلطان العلم الذي مكّننا من اعتلء سطح القمر‪ ،‬وعجيب أن يقول هذا‬
‫الكلم علماء كبار‪ ،‬فأين القمر من السماء؟ القمر ما هو إل ضاحية من ضواحي الرض كمصر‬
‫الجديدة بالنسبة للقاهرة‪ ،‬ثم إنْ كان السلطان هنا هو سلطان العلم‪ ،‬فماذا تقولون في قوله تعالى‬
‫شوَاظٌ مّن نّا ٍر وَنُحَاسٌ فَلَ تَن َتصِرَانِ }[الرحمن‪]35 :‬‬
‫سلُ عَلَ ْي ُكمَا ُ‬
‫بعدها‪ {:‬يُرْ َ‬
‫لقد حدث هذا التخبط نتيجة الخلط بين علوم الدين والشريعة‪ ،‬وبين علوم الكونيات‪ ،‬وهذه آفة‬
‫علماء الدين أنْ يتدخلوا فيما ل علمَ لهم به‪ ،‬فالكونيات يُؤخَذ منها الدليل على عظمة الصانع‬
‫وقدرته سبحانه‪ ،‬إنما ل يُؤخذ منها حكم شرعي‪.‬‬
‫ورأينا من هؤلء مَنْ ينكر كروية الرض‪ ،‬وأنها تدور حول الشمس‪ ،‬ومنهم مَنْ ظن أن علماء‬
‫الكونيات ‪ -‬مع أنهم كفرة ‪ -‬يعلمون الغيب لنهم توصّلوا بحسابات دقيقة لحركة الرض إلى‬
‫موعد الخسوف والكسوف‪ ،‬وجاء الواقع َوفْق ما أخبروا به بالضبط‪.‬‬
‫وهذه المسألة ‪ -‬كما سبق أنْ قُلْنا ‪ -‬ليست من الغيب المطلق‪ ،‬بل من الغيب الذي أعطانا ال‬
‫المقدمات التي توصل إليه‪ ،‬وقد توصّل العلماء إليه بالبحث ودراسة معطيات الكون‪ ،‬ونفهم هذا في‬
‫حقّ‪[} ..‬فصلت‪:‬‬
‫س ِهمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َل ُهمْ أَنّهُ الْ َ‬
‫ق َوفِي أَنفُ ِ‬
‫ضوء قوله تعالى‪ {:‬سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬
‫‪.]53‬‬
‫وهذه أيضا من اليات التي تُقدّم فيها أدلة السماوات والرض على أدلة النفس‪ .‬إذن‪ :‬فالكونيات‬
‫تُبنَى على علوم ودراسات‪ ،‬ل دخلَ للدين بها‪ ،‬الدين جاء ليقول لك‪ :‬افعل كذا‪ ،‬ول تفعل كذا‪ ،‬ثم‬
‫ترك الكونيات إلى أنْ تتسع العقول لفهمها‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪ِ } :‬إلّ بِا ْلحَقّ‪[ { ..‬الروم‪ ]8 :‬لن السماوات والرض وما بينهما من الكواكب‬
‫والفلك تسير على نظام ثابت ل يتخلف‪ ،‬والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير أبدا‪ ،‬وتأمل‬
‫حركة الكواكب والفلك تجد أنها تسير َوفْق نظام دقيق منضبط تماما‪.‬‬
‫فالشمس لم تتخلف يوما فتقول مثلً‪ :‬لن أطلع اليوم على هؤلء الناس؛ لنهم ظالمون‪ ،‬لن لها‬
‫قانونا تسير به‪ ،‬وهي مخلوقة بحق ثابت ل يتغير‪ ،‬وما دامتْ هذه الكونيات خلقت بحق وبشيء‬
‫ثابت فلك أن ترتب عليها حساباتك وتضبط بها وقتك‪ ،‬وأنت ل تضبط وقتك على ساعة إل إذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كانت هي في ذاتها منضبطة‪.‬‬

‫حسْبَانٍ }[الرحمن‪ ]5 :‬أي‪ :‬مخلوقة بحساب؛ ولنه سبحانه‬


‫شمْسُ وَالْ َقمَرُ بِ ُ‬
‫لذلك يقول سبحانه‪ {:‬ال ّ‬
‫خلقها بحساب جعلها آلة للحساب‪ ،‬فقال‪ {:‬وَا ْل َقمَرَ قَدّرْنَاهُ مَنَا ِزلَ حَتّىا عَادَ كَالعُرجُونِ ا ْلقَدِيمِ * لَ‬
‫ك ال َقمَرَ َولَ الّيلُ سَا ِبقُ ال ّنهَا ِر َو ُكلّ فِي فََلكٍ يَسْ َبحُونَ }[يس‪.]40-39 :‬‬
‫شمْسُ يَن َبغِي َلهَآ أَن تدْ ِر َ‬
‫ال ّ‬
‫ن وَا ْلحِسَابَ }[يونس‪ ]5 :‬وهل تعلمون بالقمر عدد‬
‫ويقول سبحانه‪َ {:‬وقَدّ َرهُ مَنَا ِزلَ لِ َتعَْلمُواْ عَدَدَ السّنِي َ‬
‫السنين والحساب‪ ،‬إل إذا كان هو مخلوقا بحساب؟‬
‫ومع ذلك‪ ،‬ومع أن الكون خلقه ال بالحق الثابت إياك أن تظن أن ثباته دائم باقٍ؛ لن ال تعالى‬
‫سمّى‪[ { ...‬الروم‪ ]8 :‬فبعد أن ينقضي هذا الجل‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫ق وََأ َ‬
‫خلقه على هيئة الثبات لجل } ِإلّ بِا ْلحَ ّ‬
‫الذي أجّلَه ال تُكوّر الشمس وتنكدر النجوم‪ ،‬وتُبدّل الرض غير الرض والسماوات‪ ،‬فالمر ليس‬
‫مجرد أنْ يتغير الشيء الثابت‪ ،‬إنما يزول وينتهي‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه } وَإِنّ كَثِيرا مّنَ النّاسِ بِِلقَآءِ رَ ّبهِمْ َلكَافِرُونَ { [الروم‪ ]8 :‬كنا نجادل الشيوعيين‬
‫نقول لهم‪ :‬لقد بالغتم في تعذيب مخالفيكم من القطاعيين والرأسماليين‪ ،‬وتعديتم في عقابكم‪ ،‬قالوا‪:‬‬
‫لنهم ظلموا وأفسدوا في المجتمع‪ ،‬فقلنا لهم‪ :‬فما بال الذين ظلموا قبل هؤلء وماتوا ولم ينالوا ما‬
‫يستحقون من العقاب؟ أليس من العدل أن تقولوا بدار أخرى يُعاقبون فيها على ما اقترفوه؟‬
‫أل يلفتكم هذا إلى ضرورة القيامة‪ ،‬ووجوب اليمان بها؟ فمن أفلت من أيديكم في الدنيا عاقبه ال‬
‫تعالى في الخرة‪ ،‬ثم أنتم تروْنَ مبدأ الثواب والعقاب في كل شيء‪ ،‬فالذي أطلق لنفسه العَنان في‬
‫الدنيا‪ ،‬وسار فيها على هواه‪ ،‬وعَاثَ في الرض فسادا‪ ،‬ولم تنلْه يد العدالة فهو الفائز إنْ لم تكُنْ له‬
‫دار أخرى يُحاسَب فيها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاليمان بالخرة وبلقاء ال ضرورة يقتضيها المنطق السليم‪ ،‬ومع ذلك يكفر بها كثير من‬
‫الناس } وَإِنّ كَثِيرا مّنَ النّاسِ بِِلقَآءِ رَ ّب ِهمْ َلكَافِرُونَ { [الروم‪.]8 :‬‬
‫فالمؤمن يجب أن يكون على ثقة بهذا اللقاء؛ لن قوانين الرض إنما َتحْمي من ظاهر المنكر‪،‬‬
‫وأما باطن المنكر فل يعلمه إل ال‪ ،‬فل ُبدّ من فترة يُعاقب فيها أصحاب باطن المنكر‪.‬‬

‫(‪)3342 /‬‬

‫َأوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَيَ ْنظُرُوا كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبِْلهِمْ كَانُوا َأشَدّ مِ ْنهُمْ ُق ّوةً وَأَثَارُوا‬
‫سُلهُمْ بِالْبَيّنَاتِ َفمَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َمهُ ْم وََلكِنْ كَانُوا‬
‫عمَرُوهَا وَجَاءَ ْتهُمْ رُ ُ‬
‫عمَرُوهَا َأكْثَرَ ِممّا َ‬
‫ض وَ َ‬
‫الْأَ ْر َ‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ (‪)9‬‬
‫أَ ْنفُ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المعنى‪ :‬أيكفرون بلقاء ربهم ولم يسيروا في الرض‪ ،‬فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ‪-‬‬
‫خذْ فقط أمور الدنيا‪ ،‬فهي كافية لمن اعتبر بها ‪ -‬فهؤلء لم يسيروا في الدنيا‪ ،‬ولم ينظروا فيها‬
‫ُ‬
‫بعين العتبار بمَنْ سبقهم من المم المكذّبة‪ ،‬ولم يتعظوا بما وقع في الدنيا فضلً عما سيقع في‬
‫الخرة‪.‬‬
‫فإنْ كُنّا صدّقنا ما وقع للمكذّبين في الدنيا وشاهدناه بأعيننا‪ ،‬فينبغي أن نُصدّق ما أخبر به ال عن‬
‫خذْ له وسيلة مما تعلم‪ .‬إذن‪ :‬سيروا في الرض‪،‬‬
‫الخرة؛ لنك إنْ أردتَ أنْ تعلم ما تجهل ف ُ‬
‫وانظروا بعين العتبار لمصير الذين كذّبوا‪ ،‬وماذا فعل ال بهم؟‬
‫والسّيْر‪ :‬قَطْع المسافات من مكان إلى مكان { َأوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الَ ْرضِ‪[ } ...‬الروم‪ ]9 :‬لكن أنسير‬
‫في الرض أم على الرض؟ هذا من دقة الداء القرآني‪ ،‬ومظهر من مظاهر إعجازه‪ ،‬فالظاهر‬
‫أننا نسير على الرض‪ ،‬لكن التحقيق أننا نسير في الرض؛ لن الذي خلقنا وخلق الرض قال‪{:‬‬
‫ي وَأَيّاما آمِنِينَ }[سبأ‪.]18 :‬‬
‫سِيرُواْ فِيهَا لَيَاِل َ‬
‫ذلك لن الرض ليست هي مجرد اليابسة التي تحمل الماء‪ ،‬والتي نعيش عليها‪ ،‬إنما الرض‬
‫تشمل كل ما يحيط بها من الغلف الجوي؛ لنها بدونه ل تصلح للعيش عليها‪ ،‬إذن‪ :‬فغلف‬
‫الرض من الرض‪ ،‬فحين نسير ل نسير على الرض إنما في الرض‪.‬‬
‫والسير في الرض نظر له الدين من ناحيتين‪ :‬سير ُي َعدّ سياحة للعتبار‪ ،‬وسيْر ُي َعدّ سياحة‬
‫للستثمار‪ ،‬فالسير للعتبار أن تتأمل اليات في الرض التي تمر بها‪ ،‬فالجزيرة العربية مثلً‬
‫صحراء وجبال يندر فيها الزرع‪ ،‬فإنْ ذهبتَ إلى أسبانيا مثلً تجدها بلدا خضراء ل تكاد ترى‬
‫سطح الرض من كثرة النباتات بها‪.‬‬
‫وفي كل منها خيرات؛ لن الخالق سبحانه وزّع أسباب الفضل على الكون كله‪ ،‬وترى أن هذه‬
‫الرض الجرداء القاحلة والتي كانت يشقّ على الناس العيش بها لما صبر عليها أهلها أعطاهم ال‬
‫خيرها من باطن الرض‪ ،‬فأصبحت تمد أعظم الدول وأرقاها بالوقود الذي ل يُسْتغنى عنه يوما‬
‫واحدا في هذه البلد‪ ،‬وحينما قطعناه عنهم في عام ‪1973‬ضجّوا وكاد البرد يقتلهم‪.‬‬
‫حين تسير في الرض وتنظر بعين العتبار تجد أنها مثل (البطيخة)‪ ،‬لو أخذتَ منها قطاعا طوليا‬
‫فإنه يتساوى مع باقي القطاعات‪ ،‬كذلك الرض وزّع ال بها الخيرات على اختلف ألوانها‪،‬‬
‫فمجموع الخير في كل قطاع من الرض يساوي مجموع الخيرات في القطاعات الخرى‪.‬‬
‫الجبال التي هجرناها في الماضي وقُلْنا إنها جَدْب وقفر ل حياةَ فيها‪ ،‬هي الن مخازن للثروات‬
‫وللخيرات قد اتجهت إليها النظار لعمارها والستفادة منها‪ ،‬وانظر مثلً إلى ما يحدث من نهضة‬
‫عمرانية في سيناء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالخالق سبحانه وزّع الخيرات على الرض‪ ،‬كما وزّع المواهب على الخَلْق ليظل الجميع‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مرتبطا بعضه ببعض برباط الحاجة ل يستغني الناس بعضهم عن بعض‪ ،‬ول البلد بعضها عن‬
‫بعض‪ ،‬وهنا لفتة إيمانية‪ :‬أن الخلق كلهم عباد ال وصنعته‪ ،‬والبلد كلها أرض ال وملكه‪ ،‬وليس‬
‫ل ولد‪ ،‬وليس بينه وبين أحد من عباده قرابة‪ ،‬فالجميع عنده سواء‪ ،‬لذلك سبق أن قلنا‪ :‬ل ينبغي‬
‫لك أنْ تحقد على صاحب الخير أو تحسده؛ لن خيره سيعود عليك حتما‪.‬‬

‫ومعنى } الّذِينَ مِن قَبِْلهِمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]9 :‬أي‪ :‬المم التي كذّ َبتْ الرسل‪ ،‬وفي آية أخرى يوضح‬
‫خذَتْهُ‬
‫سبحانه عاقبة هؤلء المكذبين‪َ {:‬فكُلّ َأخَذْنَا ِبذَنبِهِ َفمِ ْنهُم مّن أَ ْرسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبا َومِ ْنهُمْ مّنْ أَ َ‬
‫ض َومِ ْنهُمْ مّنْ أَغْ َرقْنَا َومَا كَانَ اللّهُ لِيَظِْل َمهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ‬
‫سفْنَا بِهِ الَرْ َ‬
‫الصّيْحَةُ َومِنْهُمْ مّنْ خَ َ‬
‫سهُمْ َيظِْلمُونَ }[العنكبوت‪.]40 :‬‬
‫أَنفُ َ‬
‫ويخاطب سبحانه كفار قريش‪ {:‬وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ عَلَ ْيهِمْ ّمصْبِحِينَ * وَبِالّيلِ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[الصافات‪:‬‬
‫‪.]138-137‬‬
‫أي‪ :‬في أسفاركم ورحلت تجارتكم تروْنَ مدائن صالح وغيرها من القرى التي أصابها العذاب‬
‫مازالت شاخصة لكل ذي عينين‪.‬‬
‫ويقول سبحانه‪ {:‬أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ا ْل ِعمَادِ * الّتِي َلمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ }‬
‫عوْنَ ذِى‬
‫[الفجر‪ ]8-6 :‬وكانوا في رمال الحقاف{ وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْ َ‬
‫عذَابٍ }[الفجر‪:‬‬
‫سوْطَ َ‬
‫ط َغوْاْ فِي الْبِلَدِ * فََأكْثَرُواْ فِيهَا ا ْلفَسَادَ * َفصَبّ عَلَ ْيهِمْ رَ ّبكَ َ‬
‫لوْتَادِ * الّذِينَ َ‬
‫اَ‬
‫‪.]13-9‬‬
‫لقد كان لكل هؤلء حضارات ما زالت حتى الن تبهر أرقى حضارات اليوم‪ ،‬فيأتون إليها ليتأملوا‬
‫ما فيها من أسرار وعجائب‪ ،‬ومع ذلك لم تستطع هذه الحضارات أنْ تحمي نفسها من الدمار‬
‫حلّ بها‪ ،‬إذن‪ :‬لكم في هؤلء عِبْرة‪.‬‬
‫والزوال‪ ،‬وما استطاعت أنْ تمنع نفسها من عذاب ال حين َ‬
‫وكأن الحق سبحانه في قوله‪َ } :‬أوََلمْ يَسيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَيَنظُرُواْ كَ ْيفَ كَانَ عَاقِبَةُ الّذِينَ مِن‬
‫قَبِْلهِمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]9 :‬يقول لكفار قريش‪ :‬أنتم يا مشركي قريش أقلّ المم‪ ،‬ل قوةَ لكم‪ ،‬ول مال‬
‫ول حضارة ول عمارة‪ ،‬فمن اليسير علينا أن نأخذكم كما أخذنا مَنْ هم أقوى منكم‪ ،‬إنما سبق أنْ‬
‫أخذتم العهد في قوله سبحانه‪َ {:‬ومَا كَانَ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُ ْم وَأَنتَ فِيهِ ْم َومَا كَانَ اللّهُ ُمعَذّ َبهُ ْم وَ ُهمْ‬
‫يَسْ َت ْغفِرُونَ }[النفال‪.]33 :‬‬
‫عمَرُوهَا‪[ { ...‬الروم‪:‬‬
‫عمَرُوهَآ َأكْثَرَ ِممّا َ‬
‫لذلك يقول بعدها‪ } :‬كَانُواْ َأشَدّ مِ ْنهُمْ ُق ّو ًة وَأَثَارُو ْا الَ ْرضَ وَ َ‬
‫‪ ]9‬فالمم المكذّبة التي أخذها ال وجعلها لكم عبرة كانت أقوى منكم‪ ،‬وأخصب أرضا‪ ،‬لذلك أثاروا‬
‫الرض‪ .‬أي‪ :‬حرثوها للزراعة وللعمار‪ ،‬وأنتم بواد ذي ذرع‪ ،‬والحرث يُطلَق على الزرع كما‬
‫سلَ‪[} ...‬البقرة‪.]205 :‬‬
‫ث وَالنّ ْ‬
‫في قوله سبحانه‪ {:‬وَ ُيهِْلكَ الْحَ ْر َ‬
‫ذلك لن الرض ل تنبت النبات الجيد إل إذا أثارها الفلح‪ ،‬وقلّبها ليتخلل الهواء تربتها‪ ،‬فتجود‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عليه وتؤدي مهمتها كما ينبغي‪ ،‬أما إنْ تركتها هامدة متماسكة التربة والذرات‪ ،‬فإنها تمسك النبات‬
‫ول تعطي فرصة للجذور البسيطة لنْ تمتد في التربة‪ ،‬خاصة في بداية النبات‪.‬‬

‫وفي موضع آخر يقول ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عن النبات‪َ {:‬أفَرَأَيْتُم مّا تَحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ َأمْ‬
‫نَحْنُ الزّارِعُونَ }[الواقعة‪.]64-63 :‬‬
‫وفي قصة البقرة مع بني إسرائيل لما تلكئوا في ذبحها وطلبوا أوصافها‪ ،‬قال لهم الحق سبحانه‪{:‬‬
‫سقِي ا ْلحَ ْرثَ‪[} ...‬البقرة‪.]71 :‬‬
‫ض َولَ َت ْ‬
‫إِ ّنهَا َبقَ َرةٌ لّ ذَلُولٌ تُثِي ُر الَ ْر َ‬
‫سقْيها‬
‫يعني‪ :‬بقرة مُرفهة غير سهلة النقياد‪ ،‬فل تُستخدم‪ ،‬ل في حَرْث الرض وإثارتها‪ ،‬ول في َ‬
‫بعد أنْ تُحرَث؛ لذلك تجد أن الفلح الواعي ل بُدّ أن يثير الرض ويُقلّب تربتها قبل الزراعة‪،‬‬
‫ويتركها فترة ليتخللها الهواء والشمس‪ ،‬ففي هذا إحياء للتربة وتجديد لنشاطها‪ ،‬كما يقولون أيضا‪:‬‬
‫قبل أن تزرع ما تحتاج إليه انزع ما ل تحتاج إليه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهؤلء القوم كانت لهم زروع وثمار تمتعوا بها وجمعوا خيراتها‪.‬‬
‫عمَرُوهَا‪[ { ...‬الروم‪ ]9 :‬أي‪ :‬بما يسّر ال لهم من الطاقات والمكانات‪ ،‬وأعملوا فيها‬
‫ومعنى } َ‬
‫الموهبة التي جعلها ال فيهم‪ ،‬فاستخرجوا من الرض خيراتها‪ ،‬كما قال سبحانه‪ُ {:‬هوَ أَنشََأكُمْ مّنَ‬
‫الَ ْرضِ وَاسْ َت ْعمَ َركُمْ فِيهَا‪[} ...‬هود‪.]61 :‬‬
‫وإعمار الرض يكون بكل مظهر من مظاهر الرقي والحياة‪ ،‬إما بالزرع أو الغًرْس‪ ،‬وإما بالبناء‪،‬‬
‫ق النهار والمصارف وإقامة الطرق وغير ذلك مما ينفع الناس‪ ،‬ونُفرّق هنا بين الزرع‬
‫وإما بش ّ‬
‫والغَرْس‪ :‬فالزرع ما تزرعه ثم تحصده مرة واحدة كالقمح مثلً‪ ،‬أما الغرس فما تغرسُه‪ ،‬ويظل‬
‫فترة طويلة يُدر عليك‪ ،‬فمحصوله مُتجدّد كحدائق الفاكهة‪ ،‬والزرع يكون ببذْر الحبّ‪ ،‬أما الغرس‬
‫فنبتة سبق إعدادها تُغرس‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَجَآءَ ْتهُمْ رُسُُلهُم بِالْبَيّنَاتِ‪[ { ...‬الروم‪ ]9 :‬فبعد أنْ أعطاهم مقوّمات الحياة‬
‫وإمكانات المادة وطاقاتها‪ ،‬وبعد أنْ جَ َنوْا ثمارها لم يتركهم للمادة إنما أعطاهم إمكانات القيم‬
‫والدين‪ ،‬فأرسل لهم الرسل } بِالْبَيّنَاتِ‪[ { ...‬الروم‪ ]9 :‬أي‪ :‬اليات الواضحات الدالة على صِدْق‬
‫الرسول في البلغ عن ربه وهذه التي نسميها المعجزات‪.‬‬
‫وسبق أنْ ذكرنا أن كلمة اليات تُطلَق على معانٍ ثلثة‪ :‬آيات كونية دالة على قدرة الصانع‬
‫سبحانه كالشمس والقمر‪ ،‬وآيات تُؤيّد الرسل وتُثبت صِدْقهم في البلغ عن ال وهي المعجزات‪،‬‬
‫وآيات القرآن التي تحمل الحكام والمنهج‪ ،‬وكلها أمور واضحة بينة‪.‬‬
‫ظِلمُونَ { [الروم‪ ]9 :‬نعم‪ ،‬ما ظلمهم‬
‫سهُمْ يَ ْ‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬فمَا كَانَ اللّهُ لِ َيظِْل َمهُ ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬
‫ال؛ لنه سبحانه أمدهم بمقوّمات الحياة وإمكانات المادة‪ ،‬ثم أمدهم بمقومات الروح والقيم‪ ،‬فإنْ‬
‫حادوا بعد ذلك عن منهجه سبحانه فما ظلموا إل أنفسهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم نقول‪ :‬كيف يتأتّى الظلم من ال تعالى؟ الظلم يقع نعم من النسان لخيه النسان؛ لنه يحقد‬
‫عليه‪ ،‬ويريد أنْ يتمتع بما في يده‪ ،‬فالظالم يأخذ حقّ المظلوم الذي ل قدرةَ له على حماية حقه‪.‬‬
‫فكيف إذن نتصور الظلم من ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬وهو سبحانه مالك كل شيء‪ ،‬وغني عن كل‬
‫شيء؟ إذن‪ :‬ما ظلمهم ال‪ ،‬ولكن ظلموا أنفسهم حينما حادوا عن طريق ال ومنهجه‪.‬‬

‫(‪)3343 /‬‬

‫ثُمّ كَانَ عَاقِ َبةَ الّذِينَ أَسَاءُوا السّوأَى أَنْ كَذّبُوا بِآَيَاتِ اللّ ِه َوكَانُوا ِبهَا يَسْ َتهْزِئُونَ (‪)10‬‬

‫الساءة ضدها الحسان‪ ،‬وسبق أن قلنا‪ :‬إن الحسان‪ :‬أن تترك الصالح على صلحه‪ ،‬أو أن تزيده‬
‫صلحا‪ ،‬ومثّلْنا لذلك ببئر الماء الذي يشرب منه الناس‪ ،‬فواحد يأتي إليه فيردمه أو يُلوث ماءه‪،‬‬
‫وآخر يبني حوله سياجا يحميه أو يجعل له آلة تُخرج الماء وتُريح الناس‪ ،‬فهذا أحسن وذاك أساء‪،‬‬
‫ن تكفّ إساءتك‪ ،‬وتدع الحال على ما هو عليه‪.‬‬
‫فإذا لم تكُنْ محسنا فل أقلّ من أ ْ‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬خلق الكون على هيئة الصلح‪ ،‬ولو تركناه كما خلقه ربه لَظلّ على‬
‫صلحه‪ ،‬إِذا ل يأتي الفساد إل من تدخّل النسان؛ لذلك يقول سبحانه{ وَإِذَا قِيلَ َل ُه ْم لَ ُتفْسِدُواْ فِي‬
‫شعُرُونَ }[البقرة‪-11 :‬‬
‫سدُونَ وَلَـاكِن لّ يَ ْ‬
‫الَ ْرضِ قَالُواْ إِ ّنمَا َنحْنُ ُمصْلِحُونَ * أَل إِ ّنهُمْ هُمُ ا ْل ُمفْ ِ‬
‫‪.]12‬‬
‫وينبغي على النسان أنْ يأخذ من ظواهر الكون ما يفيده‪ ،‬أذكر أننا حينما سافرنا إلى مكة سنة‬
‫‪ 1950‬كنا ننتظر السّقاء الذي يأتي لنا بقربة الماء‪ ،‬ويأخذ أجرة حملها‪ ،‬وكنا نضعها في (البزان)‬
‫وهو مثل (الزير) عندنا‪ ،‬فإذا أراد أحدنا أن يتوضأ يأخذ من الماء كوزا واحدا ويقول‪ :‬نويت نية‬
‫الغتراف‪ ،‬ول يزيد في وضوئه عن هذا الكوز؛ لننا نشتري الماء‪ ،‬أما الن فالواحد منا ل تكفيه‬
‫(صفيحة) لكي يتوضأ من حنفية الماء‪ .‬وفي ترشيد استعمال الماء ترشيد أيضا للصرف الصحي‬
‫وللمياه الجوفية التي تضر بالمباني وبالتربة الزراعية‪.‬‬
‫لذلك يحذرنا النبي صلى ال عليه وسلم من السراف في استعمال الماء حتى لو كنّا على نهر‬
‫جارٍ‪.‬‬
‫فمعنى الذين أساءوا‪ :‬أي الذي جاء إلى الصالح فأفسده أو أنشأ إفسادا جديدا‪ ،‬وطبيعي أن تكون‬
‫عاقبته من جنس ِفعْله { عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُواْ السّوءَىا } [الروم‪ ]10 :‬والسّوأى‪ :‬مؤنث سيء مثل‪:‬‬
‫صغْرى‪ ،‬فهي أفعل تفضيل من السّوء‪.‬‬
‫حسْنى للمؤنث‪ .‬وأصغر و ُ‬
‫حسن للمذكر‪ ،‬و ُ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬أَن َكذّبُواْ بِآيَاتِ اللّ ِه َوكَانُواْ ِبهَا يَسْ َتهْزِئُونَ } [الروم‪ ]10 :‬فالمر لم يقف عند‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدّ التكذيب باليات‪ ،‬إنما تعدّى التكذيب إلى الستهزاء‪ ،‬فما فلسفة أهل الستهزاء حينما يستهزئون‬
‫َ‬
‫بالخرين؟ كثيرا ما نلحظ أن التلميذ الفاشل يستهزيء بالمجتهد‪ ،‬والمنحرف يستهزيء بالمستقيم‪،‬‬
‫لماذا؟‬
‫لن حظ الفاشل أنْ يزهد المجتهد في اجتهاده‪ ،‬وحظ المنحرف أن يصير المستقيم منحرفا مثله‪،‬‬
‫ومن هنا نسمع عبارات السخرية من الخرين كما حكاها القرآن‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ‬
‫حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا أَ ْهِلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَِإذَا‬
‫الّذِينَ آمَنُواْ َيضْ َ‬
‫رََأوْهُمْ قَالُواْ إِنّ هَـاؤُلَءِ َلضَالّونَ }[المطففين‪.]32-29 :‬‬
‫لكن ل تتعجل‪ ،‬وانتظر عاقبة ذلك حينما يأخذ هؤلء المؤمنون أماكنهم في الجنة‪ ،‬ويجلسون على‬
‫حكُونَ * عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ‬
‫ضَ‬‫سُرُرها وأرائكها‪ {:‬فَالْ َي ْومَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َي ْ‬
‫ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المطففين‪.]36-34 :‬‬
‫والخطاب هنا للمؤمنين الذين تحملوا السخرية والستهزاء في الدنيا‪ :‬أقدرنا أنْ نجازيهم على ما‬
‫فعلوه بكم؟‬
‫إذن‪ :‬فلسفة الستهزاء أن النسان لم يقدر على نفسه ليحملها على الفضائل‪ ،‬فيغيظه كل صاحب‬
‫فضيلة‪ ،‬ويؤلمه أنْ يرى مستقيما ينعم بعزّ الطاعة‪ ،‬وهو في حمئة المعصية؛ لذلك يسخر منه لعله‬
‫ينصرف عما هو فيه من الطاعة والستقامة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3344 /‬‬

‫جعُونَ (‪)11‬‬
‫اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ ُثمّ إِلَ ْيهِ تُرْ َ‬

‫هل بدأ ال الخلق بالفعل‪ ،‬أم مازال يبدأ الخلق؟ السلوب هنا أسلوب ربّ يتكلم‪ ،‬فهو سبحانه بدأ‬
‫الخَلْق أصوله أولً‪ ،‬وما يزال خالقا سبحانه‪ ،‬وما دام هو الذي خلق َبدْءا‪ ،‬فهو الذي يعيد { اللّهُ يَ ْبدَأُ‬
‫الْخَ ْلقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ‪[ } ....‬الروم‪.]11 :‬‬
‫وفي أعراف البشر أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه؛ لن البتداء يكون من عدم‪ ،‬أما العادة فمن‬
‫موجود‪ ،‬لذلك يقول الحق سبحانه‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَلْقَ ثُمّ ُيعِي ُد ُه وَ ُهوَ َأ ْهوَنُ عَلَ ْيهِ‪[} ...‬الروم‪:‬‬
‫‪ ]27‬أي‪ :‬بمقاييسكم وعلى قَدْر َفهْمكم‪ ،‬لكن في الحقيقة ليس هناك هَيّن وأهون في حقه تعالى؛ لنه‬
‫ن فيكون‪ ،‬لكن يخاطبنا سبحانه على قَدْر عقولنا‪.‬‬
‫سبحانه ل يفعل بمزاولة الشياء وعلجها‪ ،‬إنما بكُ ْ‬
‫فالحق سبحانه بدأ الخلق وما يزال سبحانه يخلق‪ ،‬وانظر مثلً إلى الزرع تحصده وتأخذ منه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التقاوي للعام القادم‪ ،‬وهكذا في دورة مستمرة بين بَدْء وإعادة { اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ ُثمّ ُيعِي ُدهُ‪} ...‬‬
‫[الروم‪.]11 :‬‬
‫وسبق أنْ ضربنا مثلً بالوردة الغضّة الطرية بما فيه من جمال في المنظر والرائحة‪ ،‬فإذا ما‬
‫قُطِفتْ ج ّفتْ‪ ،‬لن المائية التي بها تبخرتْ‪ ،‬وكذلك رائحتها ولونها انتشر في الثير‪ ،‬ثم يتفتت‬
‫الباقي ويصير ترابا‪ ،‬فإذا ما زرعت وردة جديدة أخذت من المائية التي تبخرت ومن اللون ومن‬
‫الرائحة التي في الجو‪.‬‬
‫وهكذا تبدأ دورة وتنتهي أخرى؛ لن مُقوّمات الحياة التي خلقها ال هي هي في الكون‪ ،‬ل تزيد‬
‫ول تنقص‪ ،‬فالماء في الكون كما هو منذ خلقه ال‪َ :‬هبْ أنك شربت طوال حياتك عشرين طنا من‬
‫الماء‪ ،‬هل تحمل معك هذا الماء الن؟ ل إنما تَمّ إخراجه على هيئة عرق وبول ومخاط وصماخ‬
‫أذن‪ ..‬إلخ‪ ،‬وهذا كله تبخّر ليبدأ دورة جديدة‪.‬‬
‫جعُونَ } [الروم‪ ]11 :‬نلحظ أن الكلم هنا عن الخَلْق { اللّهُ يَ ْبدَأُ ا ْلخَلْقَ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ُ { :‬ثمّ إِلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫جعُونَ } [الروم‪:‬‬
‫ثُمّ ُيعِي ُدهُ ثُمّ‪[ } ...‬الروم‪ ]11 :‬لكن انتقل السياق من المفرد إلى الجمع { ثُمّ ِإلَيْهِ تُ ْر َ‬
‫‪ ]11‬ولم يقل يرجع أي‪ :‬الخلْق‪ ،‬فلماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن الناس جميعا ل يختلفون في َبدْء الخلق ول في إعادته‪ ،‬لكن يختلفون في الرجوع إلى‬
‫ال‪ ،‬فهذا مؤمن‪ ،‬وهذا كافر‪ ،‬هذا طائع‪ ،‬وهذا عاصٍ‪ ،‬وهذا بين بين‪ ،‬ففي حال الرجوع إلى ال‬
‫ستفترق هذه الوحدة إلى طريقين‪ :‬طريق للسعداء‪ ،‬وطريق للشقياء‪ ،‬لذلك لزم صيغة الفراد في‬
‫البَدْء وفي العادة‪ ،‬وانتقل إلى الجمع في الرجوع إلى ال لختلفهم في الرجوع‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ‪.} ...‬‬

‫(‪)3345 /‬‬

‫وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ يُبِْلسُ ا ْلمُجْ ِرمُونَ (‪)12‬‬

‫معنى { يُبْلِسُ ا ْل ُمجْ ِرمُونَ } [الروم‪ ]12 :‬أي‪ :‬يسكتون سُكوتَ اليائس الذي ل يجد حجة‪ ،‬فينقطع ل‬
‫يدري ما يقول ول يجد مَنْ يدافع عنه‪ ،‬حتى قادتهم وكبراؤهم قد سبقوهم إلى العذاب‪ ،‬فلم يعُدْ لهم‬
‫سمّي (إبليس)؛‬
‫أمل في النجاة‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬يقْ ُدمُ َق ْومَهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ‪[} ...‬هود‪ ،]98 :‬ومن ذلك ُ‬
‫لنه يئس من رحمة ال‪.‬‬
‫شيْءٍ حَتّىا‬
‫وفي موضع آخر يقول الحق سبحانه‪ {:‬فََلمّا نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ ِبهِ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ مّبْلِسُونَ }[النعام‪.]44 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي‪ :‬لما نسوا منهج ال أراد سبحانه أن يعاقبهم في الدنيا‪ ،‬وحين يعاقبهم ال في الدنيا ل يأخذهم‬
‫على حالهم إنما يُرخي لهم العَنان‪ ،‬ويُزيد لهم في الخيرات‪ ،‬ويُوسّع عليهم مٌتَع الدنيا وزخارفها‪،‬‬
‫حتى إذا أخذهم على هذه الحال كان أَخْذه أليما‪ ،‬وكانت سقطتهم من أعلى‪.‬‬
‫كما أنك مثلً ل تُوقع عدوك من على الحصيرة‪ ،‬إنما ترفعه إلى أعلى ليكون النتقام أبلغَ‪ ،‬أمّا إنْ‬
‫أخذهم على حال الضّيق والفقر‪ ،‬فالمسألة إذن هيّنة‪ ،‬وما أقرب الفقر من العذاب!‬
‫ولنا ملحظ في قوله تعالى{ فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ‪[} ....‬النعام‪ ]44 :‬فمادة فتح إنْ أراد الحق سبحانه الفتح‬
‫لصالح المفتوح عليه يقول{ إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَتْحا مّبِينا }[الفتح‪ ]1 :‬وإن أراد الفتح لغير صالحه يقول{‬
‫فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ‪[} ...‬النعام‪ ]44 :‬والفرق بيّن بين المعنيين‪ ،‬لن اللم هنا للملك{ إِنّا فَ َتحْنَا َلكَ فَتْحا‬
‫مّبِينا }[الفتح‪ ]1 :‬إنما على{ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ‪[} ...‬النعام‪ ]44 :‬فتعني ضدهم وفي غير صالحهم‪ ،‬كما‬
‫نقول في المحاسبة‪ :‬له وعليه‪ ،‬له في المكسب وعليه في الخسارة‪.‬‬

‫(‪)3346 /‬‬

‫ش َفعَا ُء َوكَانُوا بِشُ َركَا ِئهِمْ كَافِرِينَ (‪)13‬‬


‫وَلَمْ َيكُنْ َلهُمْ مِنْ شُ َركَا ِئهِمْ ُ‬

‫نعم‪ ،‬لم يجدوا من شركائهم مَنْ يشفع لهم؛ لن الشركاء قد تبرأوا منهم‪ ،‬كما قال سبحانه‪ِ {:‬إذْ تَبَرّأَ‬
‫ط َعتْ ِبهِمُ الَسْبَابُ }[البقرة‪.]166 :‬‬
‫ب وَ َتقَ ّ‬
‫الّذِينَ اتّ ِبعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّ َبعُو ْا وَرََأوُاْ ا ْلعَذَا َ‬
‫حتَ َأقْدَامِنَا لِ َيكُونَا مِنَ‬
‫جعَ ْل ُهمَا تَ ْ‬
‫ن وَالِنسِ َن ْ‬
‫وكذلك يقول التابعون‪ {:‬رَبّنَآ أَرِنَا الّذَيْنِ َأضَلّنَا مِنَ ا ْلجِ ّ‬
‫سفَلِينَ }[فصلت‪.]29 :‬‬
‫الَ ْ‬
‫وما أشبه هذين‪ :‬التابع والمتبوع بتلميذين فاشلين تعوّدا على اللعب وتضييع الوقت‪ ،‬وشغَل كل‬
‫منهما صاحبه عن دروسه‪ ،‬وأغواه بالتسكّع في الطرقات‪ ،‬إلى أنْ داهمهما المتحان وفاجأتهما‬
‫الحقيقة المرّة‪ ،‬فراح كل منهما يلعن الخر ويسبّه‪ ،‬ويلقي عليه بالمسئولية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ساعة الجد تنهار كل هذه الصلت الواهية‪ ،‬وتتقطع كل الحبال التي تربط أهل الباطل في‬
‫الدنيا { َوكَانُواْ ِبشُ َركَآ ِئهِمْ كَافِرِينَ } [الروم‪ ]13 :‬ولِمَ ل وقد تكشفتْ الحقائق‪ ،‬وظهر زيفهم وبان‬
‫ضللهم؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ‪.} ...‬‬

‫(‪)3347 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ َي ْومَئِذٍ يَ َتفَ ّرقُونَ (‪)14‬‬

‫أي‪ :‬الذين اجتمعوا في الدنيا على الشر وعلى الضلل يتفرقون يوم القيامة‪ ،‬ويصيرون أعداءً‬
‫وخصوما بعد أنْ كانوا أخلء‪ ،‬فيمتاز المؤمنون في ناحية والكافرون في ناحية‪ ،‬حتى العصاة من‬
‫المؤمنين الذين لهم رائحة من الطاعة ل يتركهم المؤمنون‪ ،‬إنما يشفعون لهم ويأخذونهم في‬
‫صفوفهم‪.‬‬
‫والتنوين في { َي ْومَئِذٍ‪[ } ..‬الروم‪ ]14 :‬بدل من جملة { وَ َيوْمَ َتقُومُ السّاعَةُ‪[ } ...‬الروم‪ ]14 :‬أي‪:‬‬
‫يوم تقوم الساعة يتفرقون‪.‬‬

‫(‪)3348 /‬‬

‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ َف ُهمْ فِي َر ْوضَةٍ ُيحْبَرُونَ (‪)15‬‬


‫فََأمّا الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬

‫ما دام الخلق سيمتازون يوم القيامة ويتفرقون‪ ،‬فل ُبدّ أن نرى هذه القسمة‪ :‬الذين آمنوا والذين‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ‪[ } ...‬الروم‪:‬‬
‫كفروا‪ ،‬وها هي اليات تُرينا هذا التفصيل‪ { :‬فََأمّا الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫‪ ]15‬فما جزاؤهم { َفهُمْ فِي َر ْوضَةٍ يُحْبَرُونَ } [الروم‪ ]15 :‬الروضة‪ :‬هي المكان المليء بالخضرة‬
‫والنهار والشجار والنضارة‪ ،‬وكانت هذه عادة نادرة عند العرب؛ لنهم أهل صحراء تقلّ في‬
‫بلدهم الحدائق والرياض‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالرياض والبساتين عندهم شيء عظيم ونعمة كبيرة‪ ،‬ومعنى { يُحْبَرُونَ } [الروم‪ ]15 :‬من‬
‫الحبور‪ ،‬وهو الفرحة حينما يظهر عليك أثر النعمة‪ ،‬هذا عن المؤمنين‪ ،‬فماذا عن الكافرين؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََأمّا الّذِينَ َكفَرُو ْا َوكَذّبُواْ‪.} ...‬‬

‫(‪)3349 /‬‬

‫حضَرُونَ (‪)16‬‬
‫وََأمّا الّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآَيَاتِنَا وَِلقَاءِ الَْآخِ َرةِ فَأُولَ ِئكَ فِي ا ْل َعذَابِ مُ ْ‬

‫المحضر بالفتح‪ :‬الذي يحضره غيره‪ ،‬ول ُتقَال إل في الشر‪ ،‬وفيها ما يدلّ على الدانة‪ ،‬وإل‬
‫لحضر هو بنفسه‪ ،‬ونحن نفزع لسماع هذه الكلمة؛ لن المحضر ل يأتيك إل لشر‪ ،‬كذلك حال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الكفار والمكذّبين يوم القيامة تجرّهم الملئكة‪ ،‬وتجبرهم‪ ،‬وتسوقهم للحضور رَغْما عنهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬فسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ‪.} ...‬‬

‫(‪)3350 /‬‬

‫ن وَحِينَ ُتصْ ِبحُونَ (‪)17‬‬


‫فَسُبْحَانَ اللّهِ حِينَ ُتمْسُو َ‬

‫هنا تتجلى عظمة اليمان‪ ،‬وتتجلى محبة ال تعالى لخَلْقه‪ ،‬حيث يدعوهم إليه في كل أوقات اليوم‬
‫والليلة‪ ،‬في الصباح وفي المساء‪ ،‬في العشية والظهيرة‪.‬‬
‫والحق سبحانه حين يطلب من عباده أن يؤمنوا به‪ ،‬إنما لحبه لهم‪ ،‬وحرصه عليهم ليعطيهم‪،‬‬
‫ويفيض عليهم من آلئه‪ ،‬وإل فهو سبحانه بصفات الكمال والجلل غنيّ عنهم‪ ،‬فإيمان المؤمنين ل‬
‫يزيد في مُلكه سبحانه شيئا‪ ،‬كذلك ُكفْر الكافرين ل ينقص من مُلكه سبحانه شيئا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المسألة أنه سبحانه يريد أنْ يبرّ صنعته‪ ،‬ويُكرم خَلْقه وعباده؛ لذلك يستدعيهم إلى حضرته‪،‬‬
‫وقرّبنا هذه المسألة بمثل ‪ -‬ول تعالى المثل العلى ‪ ،-‬قلنا‪ :‬إذا أردتَ أنْ تقابل أحد العظماء‪ ،‬أو‬
‫أصحاب المراكز العليا‪ ،‬فدون هذا اللقاء مشاقّ ل بُدّ أن تتجشمها‪.‬‬
‫ل ُبدّ أن ُيؤْذَن لك أولً في اللقاء‪ ،‬ثم يُحدّد لك الزمان والمكان‪ ،‬بل ومدة اللقاء وموضوعه‪ ،‬وربما‬
‫الكلمات التي ستقولها‪ ،‬ثم هو الذي يُنهي اللقاء‪ ،‬ل أنت‪.‬‬
‫هذا إنْ أردتَ لقاء الخَلْق‪ ،‬فما بالك بلقاء الخالق عز وجل؟ يكفي أنه سبحانه يستدعيك بنفسه إلى‬
‫حضرته‪ ،‬ويجعل ذلك فرضا وحتما عليك‪ ،‬ويطلبك قبل أنْ تطلبه‪ ،‬ويذكرك قبل أن تذكره‪ ،‬ل مرة‬
‫واحدة‪ ،‬إنما خمس مرات في اليوم والليلة‪ ،‬فإذا لبّ ْيتَ طلبه أفاض عليك من رحمته‪ ،‬ومن نعمه‪،‬‬
‫ومن تجلياته‪ ،‬وما بالك بصنعة تُعرَض على صانعها خمس مرات كل يوم‪ ،‬أيصيبها عطب؟‬
‫ثم يترك لك ربك كل تفاصيل هذه المقابلة‪ ،‬فتختار أنت الزمان والمكان والموضوع‪ ،‬فإنْ أردتَ أنْ‬
‫تطيل أمد المقابلة‪ ،‬فإن ربك ل يملّ حتى تمل؛ لذلك فإن أهل المعرفة الذين عرفوا ل تعالى َقدْره‪،‬‬
‫سبُ نفسِي عِزّا بأنّي عَبْدٌ يَحْ َتفِي بي‬
‫حْ‬‫وعرفوا عطاءه‪ ،‬وعرفوا عاقبة اللجوء إليه سبحانه يقولون‪َ :‬‬
‫بلَ مَواعيدَ رَ ّب ُهوَ في ُقدْسِهِ العَ ّز ولكن أنا ألقي كيفما وأين أحبوالعبودية كلمة مكروهة عند البشر؛‬
‫لن العبودية للبشر ُذلّ ومهانة‪ ،‬حيث يأخذ السيد خير عبده‪ ،‬أمّا العبودية ل فهي قمة العزّ كله‪،‬‬
‫وفيها يأخذ العبد غير سيده؛ لذلك امتنّ ال تعالى على رسوله صلى ال عليه وسلم بهذه العبودية‬
‫في قوله سبحانه‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ‪[} ...‬السراء‪.]1 :‬‬
‫وكلمة { فَسُ ْبحَانَ اللّهِ‪[ } ...‬الروم‪ ]17 :‬هي في ذاتها عبادة وتسبيح ل تعني‪ :‬أُنزّه ال عن أنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يكون مثله شيء؛ لذلك يقول أهل المعرفة‪ :‬كل ما يخطر ببالك فال غير ذلك؛ لنه سبحانه{ لَ ْيسَ‬
‫شيْءٌ‪[} ...‬الشورى‪.]11 :‬‬
‫َكمِثْلِهِ َ‬
‫فال سبحانه مُنزّه في ذاته‪ ،‬مُنزّه في صفاته‪ ،‬مُنزّه في أفعاله‪ ،‬فإنْ وجدنا صفة مشتركة بين الخَلْق‬
‫شيْءٌ‪[} ...‬الشورى‪.]11 :‬‬
‫والخالق سبحانه نفهمها في إطار{ لَيْسَ َكمِثْلِهِ َ‬
‫وقلنا‪ :‬إنك لو استقرأت مادة سبح ومشتقاتها في كتاب ال تجد في أول السراء‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي‬
‫أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ‪} ...‬‬

‫ت وَالَرْضِ‪[} ...‬الحديد‪ ]1 :‬ثم{‬


‫سمَاوَا ِ‬
‫[السراء‪ ]1 :‬وفي أول سورة الحديد‪ {:‬سَبّحَ للّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ‪[} ...‬الجمعة‪.]1 :‬‬
‫يُسَبّحُ لِلّهِ مَا فِي ال ّ‬
‫حتْ له‬
‫فكأن ال تعالى مُسبّح أزلً قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبّحه‪ ،‬فالتسبيح ثابت ل أولً‪ ،‬وبعد ذلك سبّ َ‬
‫السماوات والرض‪ ،‬ولم ينقطع تسبيحها‪ ،‬إنما ما زالت مُسبّحة ل‪.‬‬
‫فإذا كان التسبيح ثابتا ل تعالى قبل أنْ يخلق مَنْ يُسبّحه‪ ،‬وحين خلق السماوات والرض سبّحتْ‬
‫له السماوات والرض وما زالت‪ ،‬فعليك أنت أيها النسان ألّ تشذّ عن هذه القاعدة‪ ،‬وألّ تتخلف‬
‫عن هذه المنظومة الكونية‪ ،‬وأن تكون أنت كذلك مُسبّحا؛ لذلك جاء في القرآن‪ {:‬سَبّحِ اسْمَ رَ ّبكَ‬
‫الَعْلَىا }[العلى‪.]1 :‬‬
‫ح ْم ِد ِه وَلَـاكِن لّ‬
‫شيْءٍ ِإلّ ُيسَبّحُ بِ َ‬
‫فاستح أنت أيها النسان‪ ،‬فكل شيء في الوجود مُسبّح{ وَإِن مّن َ‬
‫حهُمْ‪[} ...‬السراء‪.]44 :‬‬
‫َتفْ َقهُونَ َتسْبِي َ‬
‫حسّا‪ ،‬فقال‪ :‬إن‬
‫لكن أراد بعض العلماء أنْ يُقرّب تسبيح الجمادات التي ل يسمع لها صوتا ول ِ‬
‫تسبيحها تسبيح دللة على ال‪ .‬ونقول‪ :‬إنْ كان تسبيحَ دللة كما تقول فقد فهمته‪ ،‬وال يقول{‬
‫حهُمْ‪[} ...‬السراء‪.]44 :‬‬
‫وَلَـاكِن لّ َت ْفقَهُونَ تَسْبِي َ‬
‫إذن‪ :‬فف ْهمُك له غير حقيقي‪ ،‬وما دام أن ال أخبر أنها تُسبّح فهي تسبّح على الحقيقة بلغة ل نعرفها‬
‫نحن‪ ،‬ولِمَ ل وال قد أعطانا أمثلة لشياء غير ناطقة سبّحتْ؟ ألم ي ُقلْ عن الجبال أنها تُسبّح مع‬
‫داود عليه السلم‪ {:‬ياجِبَالُ َأوّبِي َمعَ ُه وَالطّيْرَ‪[} ...‬سبأ‪ ]10 :‬ألم يُثبت للنملة وللهدهد كلما‬
‫ومنطقا؟ وقال في عموم الكائنات‪ُ {:‬كلّ َقدْ عَلِ َم صَلَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ‪[} ...‬النور‪.]41 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالتسبيح ل تعالى من كل الكائنات‪ ،‬والحق سبحانه يعطينا المثل في ذواتنا‪ :‬فأنت إذا لم تكُنْ‬
‫تعرف النجليزية مثلً‪ ،‬أتفهم مَنْ يتكلم بها؟ وهي لغة لها أصوات وحروف تُنطق‪ ،‬وتسمعها بنفس‬
‫الطريقة التي تتكلم أنت بها‪.‬‬
‫لذلك تأتي كلمة (سبحان ال) في الشياء التي يجب أنْ تُنزه ال فيها‪ ،‬واقرأ إنْ شئت قوله تعالى‬
‫في السراء‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَ ْب ِدهِ‪[} ...‬السراء‪ ]1 :‬كأنه سبحانه يقول لنا‪ :‬نزّهوا ال عن‬
‫مشابهة البشر‪ ،‬وعن قوانين البشر في هذه المسألة‪ ،‬إياك أنْ تقول‪ :‬كيف ذهب محمد من مكة إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بيت المقدس‪ ،‬ثم يصعد إلى السماء‪ ،‬ويعود في ليلة واحدة‪.‬‬
‫فبقانون البشر يصعُب عليك َفهْم هذه المسألة‪ ،‬وهذا ما فعله كفار مكة حيث قالوا‪ :‬كيف ونحن‬
‫نضرب إليها أكباد البل شهرا‪ ،‬وتدّعي أنك أتيتها في ليلة؟ فقاسوا المسألة والمسافات على قدرتهم‬
‫هم‪ ،‬فاستبعدوا ذلك وكذّبوه‪.‬‬
‫ولو تأملوا الية{ سُ ْبحَانَ الّذِي َأسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ‪[} ...‬السراء‪ ]1 :‬وهم أهل اللغة لَعرفوا أن السراء لم‬
‫يكُنْ بقوة محمد‪ ،‬فلم ي ُقلْ أسريتُ‪ ،‬ولكن قال‪ " :‬أُسرِي بي " ‪ ،‬فل دخلَ له في هذه المسألة وقانونه‬
‫فيها مُلْغى‪ ،‬إنما أسرى بقانون مَنْ أسرى به‪.‬‬
‫إذن‪ :‬عليك أن تُنزه ال عن قوانينك في الزمان وفي المسافة‪ ،‬وإنْ أردتَ أن تُقرب هذه المسألة‬
‫للعقل‪ ،‬فالمسافة تحتاج إلى زمن يتناسب مع الوسيلة هذه المسألة للعقل‪ ،‬فالمسافة تحتاج إلى زمن‬
‫يتناسب مع الوسيلة التي ستقطع بها المسافة‪ ،‬فالذي يسير غير الذي يركب دابةً‪ ،‬غير الذي يركب‬
‫سيارة أو طائرة أو صاروخا وهكذا‪.‬‬

‫ت القوة إلى ال عز وجل؟‬


‫فإذا كان في قوانين البشر‪ :‬إذا زادت القوة َقلّ الزمن‪ ،‬فكيف لو نسَ ْب َ‬
‫عندها نقول‪ :‬ل زمن فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬إن ألغينا الزمن مع قوة ال وقدرته تعالى‪ ،‬فلماذا ذكر الزمن هنا‬
‫وقُدّر بليلة؟‬
‫قالوا‪ :‬لن الرحلة لم تقتصر على الذهاب والعودة‪ ،‬إنما تعرّض فيها النبي صلى ال عليه وسلم‬
‫َلمَراء كثيرة‪ ،‬وقابل هناك بعض النبياء‪ ،‬وتحدّث معهم‪ ،‬فهذه الحداث لرسول ال هي التي‬
‫استغرقتْ الزمن‪ ،‬أمّا الرحلة فلم تستغرق وقتا‪.‬‬
‫كذلك جاءت كلمة (سبحان) في قوله تعالى‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي خَلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِبتُ الَ ْرضُ‬
‫س ِه ْم َو ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس‪ ]36 :‬لماذا؟ لن مسألة الخَلْق من المسائل التي يقف عندها‬
‫َومِنْ أَنفُ ِ‬
‫العقل‪ ،‬وينبغي أنْ تُنزّه ال عن أنْ يشاركه فيها أحد‪.‬‬
‫ولما نزلت هذه الية كان الناس يعرفون الزوجية في النبات لنهم كانوا يُلقّحون النخل‪ ،‬ويعرفونها‬
‫في النسان؛ لنهم يتزوجون وينجبون‪ ،‬وكذلك يعرفونها في الحيوان‪ ،‬هذه حدود العقل في مسألة‬
‫الزوجية‪.‬‬
‫لكن الية لم تقتصر على ذلك‪ ،‬إنما قال سبحانه{ َو ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس‪ ]36 :‬لن المستقبل‬
‫سيكتشف لهم عن أشياء أخرى تقوم على نظرية الزوجية‪ ،‬وقد عرفنا نحن هذه النظرية في‬
‫الكهرباء مثلً حيث (السالب) و (الموجب)‪ ،‬وفي الذرات حيث (اللكترونات)‪ ،‬و (البروتونات)‪..‬‬
‫إلخ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ساعةَ تسمع كلمة التسبيح فاعلم أنك ستستقبل حدثا فريدا‪ ،‬ليس كأحداث البشر‪ ،‬ول يخضع‬
‫لقوانينهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَاوَاتِ‪.{ ...‬‬
‫حمْدُ فِي ال ّ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَلَهُ الْ َ‬

‫(‪)3351 /‬‬

‫ظهِرُونَ (‪)18‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْرضِ وَعَشِيّا وَحِينَ تُ ْ‬
‫حمْدُ فِي ال ّ‬
‫وَلَهُ ا ْل َ‬

‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ‪[ } ...‬الروم‪ ]18 :‬فصَلتْ بين الزمنة‬


‫حمْدُ فِي ال ّ‬
‫نحلظ أن قوله تعالى { وَلَهُ ا ْل َ‬
‫ظهِرُونَ }‬
‫ن وَحِينَ ُتصْبِحُونَ }[الروم‪ ]17 :‬في ناحية‪ ،‬و { وَعَشِيّا وَحِينَ تُ ْ‬
‫المذكورة‪ ،‬فجعلت{ ُتمْسُو َ‬
‫[الروم‪ ]18 :‬في ناحية‪ ،‬مع أنها جميعا أوقات وأزمنة في اليوم والليلة‪ ،‬لماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لنه سبحانه يريد أنْ يُشعرنا أن له الحمد‪ ،‬ويجب أنْ تحمده على أنه مُنزّه عن التمثيل؛ لنها‬
‫في مصلحتك أنت‪ ،‬وأنت الجاني لثمار ها التنزيه‪ ،‬فإنْ أرادك بخير فل مثيلَ له سبحانه يمنعه‬
‫عنك‪ ،‬وله وحده الكبرياء الذي يحميك أن يتكبر أحد عليك‪ ،‬وله وحده تخضع وتسجد‪ ،‬ل تسجد‬
‫لغيره‪ ،‬فسجودك لوجه ربك يكفيك كل الوجه‪ ،‬كما قال الشاعر‪:‬فَالسّجُودُ الذي َتجْتويهِ فيه مِنْ‬
‫أُلُوف السّجُودِ نَجَاةُإذن‪ :‬من مصلحتك أن يكون ال تعالى هو الواحد الذي ل مثيلَ له‪ ،‬والقوى‬
‫الذي ل يوجد أقوى منه‪ ،‬والمتكبّر بحقّ؛ لن كبرياءه يحمي الضعيف أنْ يتكبّر عليه القوي‪ ،‬يجب‬
‫أنْ تحمد ال الذي تعبّدنا بالسجود له وحده‪ ،‬وبالخضوع له وحده؛ لنه أنجاك بالسجود له أنْ تسجد‬
‫لكل قوي عنك‪ ،‬وهذا من عظمته تعالى ورحمته بخَلْقه؛ لذلك تستوجب الحمد‪.‬‬
‫لذلك نقول في العامية (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) لماذا؟ لنه ل يعيش عزيزا مُكرّما إل‬
‫إذا كان له كبير يحميه‪ ،‬ويدافع عنه‪ ،‬كذلك أنت ل تكون عزيزا إل في عبوديتك ل‪.‬‬
‫والخَلْق جميعا بالنسبة ل تعالى سواء‪ ،‬فليس له سبحانه من عباده ولد ول قريب‪ ،‬فل مؤثرات‬
‫تؤثر عليه‪ ،‬فيحابي أحدا على أحد‪ ،‬فنحن جميعا شركة في ال؛ لذلك يقول سبحانه{ مَا اتّخَذَ‬
‫ل وَلَدا }[الجن‪ ]3 :‬أي‪ :‬ل شيء يؤثر عليه سبحانه‪.‬‬
‫صَاحِبَ ًة َو َ‬
‫حمْدُ‪[ } ...‬الروم‪ ]18 :‬لن التسبيح ينبغي أنْ يُتبَع بالحمد فتقول‪ :‬سبحان‬
‫وقال بعد التسبيح { وَلَهُ ا ْل َ‬
‫ال والحمد ل‪ ،‬أي‪ :‬الحمد ل على أنني سبّحت مسبّحا‪.‬‬
‫وحين نتأمل هذه الوقات التي أمرنا ال فيها بالتسبيح‪ ،‬وهي المساء والصباح والعشي‪ ،‬وهي من‬
‫العصر إلى المغرب‪ ،‬ثم الظهيرة نجد أنها أوقات عامة سارية في َكوْن ال ل تنقطع أبدا‪ ،‬فأيّ‬
‫صباح وأيّ مساء؟ صباحي أنا؟ أم صباح الخرين؟ مسائي أم مساء غيري في أقصى أطراف‬
‫المعمورة؟‬
‫إن المتأمل في دورة الوقت يجد أن كل لحظة فيه ل تخلو من صباح ومساء‪ ،‬وعشية وظهيرة‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهذا يعني أن ال تعالى مُسبّح معبود في كل لحظة من لحظات الزمن‪.‬‬
‫وفي ضوء هذا نفهم قول الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إن ال يبسط يده بالليل ليتوب مُسيء‬
‫النهار‪ ،‬ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل " فالكون ل يخلو في لحظة واحدة من ليل أو نهار‪،‬‬
‫وهذا يعني أن يد ال سبحانه مبسوطة دائما ل تُقبَض‪َ {:‬بلْ يَدَاهُ مَ ْبسُوطَتَانِ‪[} ...‬المائدة‪.]64 :‬‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ‪.} ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬يخْرِجُ ا ْل َ‬

‫(‪)3352 /‬‬

‫ي وَيُحْيِي الْأَ ْرضَ َبعْدَ َموْتِهَا َوكَذَِلكَ ُتخْرَجُونَ (‪)19‬‬


‫حّ‬‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ‬
‫يُخْرِجُ الْ َ‬

‫أولً‪ :‬ما مناسبة الحديث عن البعث‪ ،‬وإخراج الحيّ من الميت‪ ،‬وإخراج الميت من الحيّ بعد‬
‫الحديث عن تسبيح ال وتحميده؟ قالوا‪ :‬لنه تكلّم عن المساء والصباح‪ ،‬وفيهما شبه بالحياة‬
‫والموت‪ ،‬ففي المساء يحلّ الظلم‪ ،‬ويسكُن الخَلْق وينامون‪ ،‬فهو وقت للهدوء والستقرار‪ ،‬والنوم‬
‫الذي هو صورة من صور الموت؛ لذلك نسميه الموت الصغر‪ ،‬وفي الصباح وقت الحركة‬
‫جعَلْنَا‬
‫جعَلْنَا الّيلَ لِبَاسا * وَ َ‬
‫والعمل والسعي على المعاش‪ ،‬ففيه إذن حياة‪ ،‬كما يقول سبحانه‪ {:‬وَ َ‬
‫ال ّنهَارَ َمعَاشا }[النبأ‪.]11-10 :‬‬
‫ويُُمثّل الموت والبعث بالنوم والستيقاظ منه‪ ،‬كما جاء في بعض المواعظ‪ " :‬لتموتُن كما تنامون‪،‬‬
‫ولتُبعثُنّ كما تستيقظون "‪.‬‬
‫وما ُدمْنا قد شاهدنا الحاليْنِ‪ ،‬وعايّنا النوم واليقظة‪ ،‬فلنأخذ منهما دليلً على البعث بعد الموت‪ ،‬وإنْ‬
‫أخبرنا القرآن بذلك‪ ،‬فعلينا أنْ نُصدّق‪ ،‬وأنْ نأخذ من المشاهد دليلً على الغَيْب‪ ،‬وهذا ما جاءتْ به‬
‫الية‪:‬‬
‫حيّ‪[ } ...‬الروم‪.]19 :‬‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ الْ َ‬
‫{ ُيخْرِجُ ا ْل َ‬
‫حدّ عِلْمنا وفَهمنا للمور‪ ،‬وإل فكُلّ‬
‫وقوله تعالى هنا (الحي والميت) أي‪ :‬في نظرنا نحن وعلى َ‬
‫شيء في الوجود له حياة تناسبه‪ ،‬ول يوجد موت حقيقي إل في الخرة التي قال ال فيها‪ُ {:‬كلّ‬
‫ج َههُ‪[} ...‬القصص‪.]88 :‬‬
‫شيْءٍ هَاِلكٌ ِإلّ وَ ْ‬
‫َ‬
‫حيّ عَن بَيّنَةٍ‪} ...‬‬
‫فضدّ الحياة الهلك بدليل قوله تعالى‪ {:‬لّ َيهِْلكَ مَنْ هََلكَ عَن بَيّنَ ٍة وَيَحْيَىا مَنْ َ‬
‫[النفال‪]42 :‬‬
‫حيّ‪ ،‬لكنه حي بحياة تناسبه‪ .‬وأذكر‬
‫وما دام كلّ شيء هالكا إل وجهه تعالى‪ ،‬فكل شيء بالتالي َ‬
‫أنهم كانوا يُعلّموننا كيفية عمل المغناطيس وانتقال المغناطيسية من قطعة مُمغنطة إلى قطعة أخرى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالدّلْك في اتجاه واحد‪ ،‬وفعلً شاهدنا أن قطعة الحديد تكتسب المغناطيسية‪.‬‬
‫وتستطيع أنْ تجذب إليها قطعة أخرى‪ ،‬أليس هذا مظهرا من مظاهر الحياة؟ أليست هذه حركة في‬
‫الجماد الذي نراه نحن جمادا ل حياةَ فيه‪ ،‬وهو يؤثر ويتأثر بغيره‪ ،‬وفيه ذرات تتحرك بنظام ثابت‬
‫ولها قانون‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نقول لكل شيء موجود حياته الخاصة به‪ ،‬وإنْ كُنّا ل ندركها؛ لننا نفهم أن الحياة في‬
‫الحياء فحسب‪ ،‬إنما هي في كل شيء وكَوْنك ل تفقه حياة هذه الشياء‪ ،‬فهذه مسألة أخرى‪.‬‬
‫لذلك سيدنا سليمان ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬لما سمع كلم النملة‪ ،‬وكيف أنها تفهم وتقف ديدبانا لقبيلتها‪،‬‬
‫وتفهم حركة الجيش وعاقبة الوقوف في طريقه‪ ،‬فتحذر جماعتها ادخلوا مساكنكم‪ ،‬وكيف كانت‬
‫شعُرُونَ }[النمل‪ ]18 :‬فهي تعلم‬
‫طمَ ّنكُمْ سُلَ ْيمَانُ وَجُنُو ُد ُه وَهُ ْم لَ َي ْ‬
‫حِ‬‫واعية‪ ،‬وعادلة في قولها‪ {.‬لَ يَ ْ‬
‫أن الجيش لو حطّم النمل‪ ،‬فهذا عن غير مقصد منهم‪ ،‬وعندها أحسّ سليمان بنعمة ال عليه بأنْ‬
‫شكُرَ ِن ْعمَ َتكَ الّتِي أَ ْن َع ْمتَ عََليّ وَعَلَىا‬
‫يعلم ما ل يعلمه غيره من الناس‪ ،‬فقال‪َ { :‬ربّ َأوْزِعْنِي أَنْ أَ ْ‬
‫وَالِ َديّ‪[ } ...‬النمل‪.]19 :‬‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ‪.‬‬
‫فمعنى { يُخْرِجُ ا ْل َ‬

‫‪[ { ...‬الروم‪ ]19 :‬أي‪ :‬في عُرْفنا نحن‪ ،‬وعلى قَدْر َفهْمنا للحياة وللموت‪ ،‬والبعض يقول‪ :‬يعني‬
‫يُخرج البيضة من الدجاجة‪ ،‬ويُخرج الدجاجة من البيضة‪ ،‬وهذا الكلم ل يستقيم مع منطق العقل‪،‬‬
‫وهل كل بيضة بالضرورة تُخرج دجاجة؟ ل بل ل بُدّ أنْ تكون بيضة مُخصّبة‪ .‬إذن‪ :‬ل ت ُقلْ‬
‫البيضة والدجاجة‪ ،‬ولكن ُقلْ يُخرج الحي من الميت من كل شيء موجود‪.‬‬
‫حيّ‪[ { ...‬الروم‪ ]19 :‬وفي موضع آخر يقول تعالى‪{:‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَيُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتَ مِنَ ا ْل َ‬
‫حيّ‪[} ...‬النعام‪ ]95 :‬فأتى باسم الفاعل (مُخْرِج) بدلً‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ َومُخْرِجُ ا ْلمَ ّيتِ مِنَ الْ َ‬
‫يُخْرِجُ الْ َ‬
‫من الفعل المضارع‪.‬‬
‫لذلك وقف عندها المشككون في أسلوب القرآن‪ ،‬يقولون‪ :‬إنْ كانت إحداهما بليغة‪ ،‬فالخرى غير‬
‫بليغة‪ ،‬وهذا منهم نتيجة طبيعية لعدم َفهْمهم للغة القرآن‪ ،‬وليستْ لديهم الملَكة العربية التي تستقبل‬
‫كلم ال‪.‬‬
‫وهنا نقول‪ :‬إن الذي يتكلم ربّ يعطي لكل لفظة وزنها‪ ،‬ويضع كل كلمة في موضعها الذي ل‬
‫تُؤدّيه كلمة أخرى‪.‬‬
‫حيّ مِنَ ا ْلمَ ّيتِ‪[ { ...‬الروم‪ ]19 :‬هذه في مصلحة مَنْ؟ في مصلحتنا نحن؛‬
‫فقوله تعالى } يُخْرِجُ ا ْل َ‬
‫لن النسان بطَبْعه يحب الحياة‪ ،‬وربما استعلى بها‪ ،‬واغترّ بهذا الستعلء‪ ،‬كما قال ربنا‪ {:‬كَلّ إِنّ‬
‫طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق‪.]7-6 :‬‬
‫الِنسَانَ لَيَ ْ‬
‫لذلك يُذكّره ربه تعالى بالمقابل‪ :‬فأنا كما أُخرج الحيّ من الميت أُخرِج الميت من الحيّ فانتبه‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وإياك أنْ تَتعالى أو تتكبّر‪ ،‬وافهم أن الحياة موهوبة لك من ربك يمكن أنْ يسلبها منك في أيّ‬
‫لحظة‪.‬‬
‫وعبّر عن هذا المعنى مرة بالفعل المضارع (يُخرِج) الدالّ على الستمرار والتجدّد‪ ،‬ومرة باسم‬
‫الفاعل (مُخرِج) الدال على ثبوت الصفة وملزمتها للموصوف‪ ،‬ل مجرد حدث عارض‪.‬‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ * الّذِي خََلقَ ا ْل َم ْوتَ‬
‫لذلك تأمل قول ال تعالى‪ {:‬تَبَا َركَ الّذِي بِيَ ِدهِ ا ْلمُ ْلكُ وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫عمَلً‪[} ...‬الملك‪ ]2-1 :‬وفي نظرنا أن الحياة تسبق الموت‪ ،‬لكن الحق‬
‫حسَنُ َ‬
‫وَالْحَيَاةَ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّي ُكمْ أَ ْ‬
‫سبحانه يريد أن يقتل في النسان صفة الغترار بالحياة‪ ،‬فجعله يستقبل الحياة بما يناقضها‪ ،‬فقال{‬
‫ت وَالْحَيَاةَ‪[} ...‬الملك‪.]2 :‬‬
‫الّذِي خَلَقَ ا ْل َموْ َ‬
‫فقدّم الموت على الحياة‪ ،‬فقبل أنْ تفكر في الحياة تذكّر الموت حتى ل تغترّ بها ول تَطْغى‪.‬‬
‫ويتجلى هذا المعنى أيضا في سورة الواقعة‪َ {:‬أفَرَأَيْتُمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَن ُتمْ تَخُْلقُونَهُ أَم نَحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ *‬
‫ت َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ }[الواقعة‪.]60-58 :‬‬
‫نَحْنُ َقدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْو َ‬
‫يعني‪ :‬خذوا بالكم‪ ،‬وافهموا أنني واهب الحياة‪ ،‬وأستطيع أنْ أسلبها فل تغت ّر بها ول (تتفرعن)‪،‬‬
‫وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يَ ُدكّ في النسان صفة الكبرياء والتعالي‪ ،‬فيُحدث هذه المقابلة دائما‬
‫بين ِذكْر الحياة في آيات القرآن الكريم‪.‬‬
‫ثم َألَ ترى أن الخالق سبحانه لم يجعل للموت سببا من أسباب العمر والسنين‪ ،‬فواحد يموت قبل‬
‫أنْ يُولَد‪ ،‬وواحد يموت بعد يوم أو بعد شهر‪ ،‬وآخر يموت بعد عدة أعوام‪ ،‬وآخر بعد مائة عام‪.‬‬

‫إذن‪ :‬مسألة ل ضابط لها إل أقدار ال وأجله الذي أجلّه سبحانه‪ ،‬وفي هذا إشارة للنسان‪ :‬احذر‬
‫فقد تُس ْلبَ منك الحياة التي تنشأ منها غرورك في أيّ لحظة‪ ،‬ودون أنْ تدري ودن سابق إنذار أو‬
‫مقدمات‪ ،‬فاستقِمْ إذن على منهج ربك‪ ،‬ول تجتريء على المعصية؛ لنك قد تموت قبل أنْ تتدارك‬
‫نفسَك بالتوبة‪.‬‬
‫لذلك يقولون‪ :‬إن الحق سبحانه حين أبهم وقت الموت بيّنه بالبهام غايةَ البيان‪ ،‬كيف؟ قالوا‪ :‬لنه‬
‫سبحانه لو حدّد لك موعد الموت لكنتَ تستعد له قبل أوانه‪ ،‬إنما حين أبهمه جعلك تستعدّ له كل‬
‫لحظة من لحظات حياتك‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَيُحْي الَ ْرضَ َبعْدَ َموْ ِتهَا‪[ { ...‬الروم‪ ]19 :‬وفي موضع آخر‪ {:‬وَتَرَى الَ ْرضَ‬
‫ت وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ }[الحج‪.]5 :‬‬
‫ت وَرَ َب ْ‬
‫هَامِ َدةً فَِإذَآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّز ْ‬
‫فالرض كانت ميتة هامدة جامدة جرداء‪ ،‬ل أثرَ فيها لحياة‪ ،‬فلما نزل عليها الماء وسقاها المطر‬
‫تحركت وأنبتتْ من كل زوج بهيج‪ ،‬فهي نموذج حيّ مُشَاهد للخَلْق وللحياة‪.‬‬
‫خضَ ّرةً‪[} ...‬الحج‪]63 :‬‬
‫ح الَ ْرضُ ُم ْ‬
‫سمَآءِ مَآءً فَ ُتصْبِ ُ‬
‫وفي آية أخرى‪ {:‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫فهل أخضرتْ الرضُ ساعةَ نزل عليها المطر؟ ل‪ ،‬إنما بعد فترة‪ ،‬كأنه سبحانه يقول لك‪ :‬لحظ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحدث ساعة يوجد‪ ،‬واستحضر صورته‪ ،‬فبعد نزول الماء ترى الرض تخضرّ تدريجيا‪ ،‬وإنْ لم‬
‫تبذر فيها شيئا‪ ،‬ففيها بذور شتّى حملتْها الرياح‪ ،‬ثم استقرتْ في التربة ولو لسنوات طوال تظل‬
‫صالحة للنبات تنتظر الماء لتؤدي مهمتها‪.‬‬
‫والذي عاش في الصحراء يشاهد هذه الظاهرة‪ ،‬وقد رأيناها في عرفة بعد أنْ نزل عليها المطر‪،‬‬
‫وعُدْنا بعد عدة أيام‪ ،‬فإذا الرض تكتسي باللون الخضر‪ .‬لذلك إياك أن تظن أن كل زرع زرعه‬
‫النسان‪ ،‬وإلّ فمنْ أين جاءت أول بذرة زرعها النسان‪ .‬إذن‪ :‬هناك زراعات ل دخلَ للنسان‬
‫بها‪.‬‬
‫طفَاكِ عَلَىا نِسَآءِ ا ْلعَاَلمِينَ‬
‫طهّ َركِ وَاصْ َ‬
‫طفَاكِ َو َ‬
‫ولنقرأ قصة مريم عليها السلم‪ {:‬يامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬
‫خلْق جميعا‪ ،‬بأن‬
‫}[آل عمران‪ ]42 :‬فالصطفاء الول لم يقُلْ على مَنْ‪ .‬فالمعنى‪ :‬اصطفاكِ على ال َ‬
‫طهّركِ وجعلك صالحة تقية قوّامة‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫َ‬
‫أما الصطفاء الخر فليس على الخَلْق جميعا‪ ،‬إنما على النساء؛ لنها تفردتْ عن نساء العالمين‬
‫بأنْ تلِدَ بغير ذكورة‪.‬‬
‫والشاهد الذي نريده هنا أن يوسف النجار لما لحظ على مريم علمات الحمل وهو يعلم مَنْ هي‬
‫مريم‪ ،‬وأنها لم تفارق المحراب طوال عمرها‪ ،‬فلم يرِدْ على ذِهْنه المعنى الثاني‪ ،‬ويريد أن يستفهم‬
‫عمّا يراه‪ ،‬فسألها بأدب‪ :‬يا مريم‪ ،‬أتوجد شجرة بدون بذرة؟ فقالت وقد لقّنها الحق سبحانه‪ :‬نعم‪،‬‬
‫َ‬
‫الشجرة التي أنبتت أول بذرة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه يمتنّ علينا بالشيء‪ ،‬ثم يُذكّرنا بقدرته تعالى على سَلْبه‪ ،‬وعلى نقيضه حتى ل‬
‫نغترّ به‪ ،‬ليس في مسألة الموت والحياة فحسب‪ ،‬إنما في الزرع وفي الماء وفي النار‪ ،‬واقرأ قوله‬
‫تعالى‪:‬‬

‫{ َأفَرَأَيْ ُتمْ مّا ُتمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخُْلقُونَهُ أَم َنحْنُ ا ْلخَاِلقُونَ * َنحْنُ قَدّرْنَا بَيْ َنكُمُ ا ْل َم ْوتَ َومَا َنحْنُ ِبمَسْبُوقِينَ‬
‫* عَلَىا أَن نّ َب ّدلَ َأمْثَاَلكُ ْم وَنُنشِ َئكُمْ فِي مَا لَ َتعَْلمُونَ * وََلقَدْ عَِلمْ ُتمُ النّشَْأ َة الُولَىا فََل ْولَ َت َذكّرُونَ *‬
‫حطَاما فَظَلْ ُتمْ َت َفكّهُونَ *‬
‫جعَلْنَاهُ ُ‬
‫َأفَرَأَيْتُم مّا َتحْرُثُونَ * أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ َنحْنُ الزّارِعُونَ * َلوْ َنشَآءُ َل َ‬
‫إِنّا َل ُمغْ َرمُونَ * َبلْ َنحْنُ مَحْرُومُونَ * َأفَرَأَيْتُمُ ا ْلمَآءَ الّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَن ُتمْ أَنزَلْ ُتمُوهُ مِنَ ا ْلمُزْنِ أَمْ‬
‫شكُرُونَ * َأفَرَأَيْتُمُ النّارَ الّتِي تُورُونَ * أَأَن ُتمْ أَنشَأْ ُتمْ‬
‫جعَلْنَاهُ أُجَاجا فََل ْولَ َت ْ‬
‫نَحْنُ ا ْلمُنزِلُونَ * َلوْ َنشَآءُ َ‬
‫شجَرَ َتهَآ أَمْ َنحْنُ ا ْلمُنشِئُونَ }[الواقعة‪.]72-58 :‬‬
‫َ‬
‫جعَلْنَاهُ حُطَاما‪} ...‬‬
‫ونلحظ في الداء القرآني في هذه اليات الدقة في استخدام لم التوكيد في{ لَ َ‬
‫[الواقعة‪ ]65 :‬في الحديث عن الزرع؛ لن للنسان دورا فيه‪ ،‬حيث يحرث ويغرس ويسقي‪،‬‬
‫وربما ظَنّ لنفسه قدرة عليه‪.‬‬
‫جعَلْنَاهُ أُجَاجا‪[} ...‬الواقعة‪ ]70 :‬بدون توكيد‪،‬‬
‫لكن لما تحدّث عن الماء ذكر في نقضه{ َلوْ َنشَآءُ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لماذا؟ لن الماء ل دخلَ لحد فيه‪ ،‬ول يدعيه أحد‪ ،‬فل أنت بخرتَ الماء‪ ،‬ول أنت أنزلتَ المطر‪،‬‬
‫جعَلْنَاهُ‪[} ...‬الواقعة‪ ]70 :‬بدون توكيد‪.‬‬
‫لذلك قال‪َ {:‬‬
‫أما عند ذكْر النار كنعمة من ِنعَم ال لم يذكر ما ينقضها‪ ،‬فقال‪ {:‬أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَ َتهَآ َأمْ نَحْنُ‬
‫ا ْلمُنشِئُونَ }[الواقعة‪ ]72 :‬ولم ي ُقلْ مثلً‪ :‬لو نشاء لطفأناها‪ ،‬تُرى لماذا؟ قالوا‪ :‬لتظل النارُ ماثلة‬
‫أمامنا على حال اشتعالها ل تخمد أبدا‪ ،‬وكأن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يُلوّح بها لكل عَاصٍ علّه‬
‫يعود إلى الجادّة‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬وكَذَِلكَ ُتخْرَجُونَ { [الروم‪ ]19 :‬كذلك‪ :‬إشارة إلى ما سبق ِذكْره من إحياء‬
‫الرض بعد موتها‪ ،‬كمثْل ذلك تُخرجون وتُبعثون‪ ،‬فمَنْ أنكر البعث فلينظر عملية إحياء الرض‬
‫الجامدة بالنبات بعد نزول المطر عليها‪.‬‬

‫(‪)3353 /‬‬

‫َومِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خََل َقكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ إِذَا أَنْ ُتمْ بَشَرٌ تَنْ َتشِرُونَ (‪)20‬‬

‫الكلم هنا عن بَدْء الخلق‪ ،‬قال تعالى { َومِنْ آيَاتِهِ أَنْ خََل َقكُمْ‪[ } ...‬الروم‪ ]20 :‬بصيغة الجمع‪،‬‬
‫والمراد آدم ثم حواء‪ ،‬ثم بثّ ال منهما رجالً كثيرا ونساء‪ ،‬فالعالم اليوم الذي ُيعَدّ بالمليارات حين‬
‫تعود به إلى الماضي ل ُبدّ أنْ تعود إلى اثنين هما آدم وحواء‪ ،‬فلما التقيا نشأ منهما النسل‪ ،‬لكن‬
‫هل نشأ النسل من أبعاض ميتة خرجتْ من آدم‪ ،‬أم من أبعاض حيّة هي الحيوانات المنوية؟‬
‫لو أن الحيوان المنويّ كان ميتا لما حدث النجاب‪ .‬إذن‪ :‬جاء أولد آدم من ميكروب أبيهم آدم‪،‬‬
‫وانتشروا في الرض وأنجبوا‪ ،‬وكل منهم يحمل ذرة من أبيه الول آدم عليه السلم‪ .‬وبالتالي فكُلّ‬
‫مِنّا فيه ذرة حية من عهد آدم‪ ،‬وحتى الن لم يطرأ عليها فناء أبدا‪ ،‬وهذا هو عَالَم الذّرّ الذي شهد‬
‫خَلْق ال لدم‪ ،‬إنها أبعاضنا التي شهدتْ هذا العهد الول بين الخَلْق والخالق سبحانه‪ {:‬وَإِذْ َأخَذَ‬
‫شهِدْنَآ أَن‬
‫ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ‬
‫سهِمْ أََل ْ‬
‫شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ‬
‫رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ‬
‫َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ }[العراف‪.]172 :‬‬
‫إذن‪ :‬في كل مِنّا الن وحتى قيام الساعة ذرةٌ حيّة من أبيه آدم‪ ،‬هذه الذرة الحية هي التي شهدتْ‬
‫هذا العهد‪ ،‬وهي التي تمثل الفطرة اليمانية في كل نفس بشرية‪ ،‬لكن هذه الفطرة قد تُطمس أو‬
‫تُغلّف بالغفلة والمعاصي‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أخبرنا أنه يخلق الشياء ويُوجِدها بكُنْ{ إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن‬
‫َيقُولَ لَهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪ ]82 :‬إل النسان‪ ،‬فقد بلغ من تكريمه أنْ سوّاه ربه بيده‪ ،‬وجعله خليفة له‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في الرض‪ ،‬وتجلّى عليه بصفات من صِفاته‪ ،‬فأعطاه من قدرته قدرةً‪ ،‬ومن عِلْمه عِلْما‪ ،‬ومن‬
‫حكمته حكمة‪ ،‬ومن غِنَاه غِنىً‪.‬‬
‫وربنا سبحانه حينما يخلقنا هذا الخَلْق يريد مِنّا أنْ نستعمل هذه الصفات التي وهبها لنا‪ ،‬كما‬
‫يستعملها هو سبحانه‪ ،‬فال تعالى بقدرته خلق لنا ما ينفعنا‪ ،‬فعليك أنت بما وهبك ال من القدرة أنْ‬
‫تعمل ما ينفع‪ ،‬وال بحكمته ر ّتبَ الشياء‪ ،‬فعليك بما لديْك من حكمة أنْ تُرتّب الِشياء‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫ونشير إلى أن القدرة تختلف‪ ،‬فقدرة تفعل لك‪ ،‬وقدرة عُلْيا تجعلك تفعل بنفسك‪َ ،‬هبْ أنك قابلتَ‬
‫حمْل متاعه مثلً‪ ،‬فتحمله أنت له‪ ،‬فأنت إذن عدّ ْيتَ إليه أثرَ قوتك‪ ،‬إنما‬
‫ل ضعيفا ل َي ْقوَى على َ‬
‫رج ً‬
‫ل هو ضعيفا‪.‬‬
‫ظّ‬
‫أما الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬فل يُعدّي أثر قوته إلى عبده فحسب‪ ،‬إنما يُعدّي له القدرة ذاتها‪،‬‬
‫فيُقوّي الضعيف؛ فيحمل متاعه بنفسه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أعظم تكريم للنسان أنْ يقول الخالق سبحانه‪ :‬إنني خلقتُه بيدي في قوله سبحانه لبليس‪{:‬‬
‫سجُدَ ِلمَا خََل ْقتُ بِ َي َديّ‪} ...‬‬
‫قَالَ ياإِبْلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَن تَ ْ‬

‫[ص‪.]75 :‬‬
‫ن تكون كريما على نفسك كما كرّمك ال‪ ،‬ولك أنْ تنزل بها‬
‫ثم لك أيها النسان بعد هذا التكريم أ ْ‬
‫إلى الحضيض‪ ،‬فنفسك حيث تجعلها أنت‪.‬‬
‫س َفلَ سَافِلِينَ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ‬
‫يقول تعالى‪َ {:‬لقَدْ خََلقْنَا الِنسَانَ فِي َأحْسَنِ َت ْقوِيمٍ * ثُمّ رَدَدْنَاهُ أَ ْ‬
‫عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ‪[} ...‬التين‪ ]5-4 :‬فانظر لنفسك منزلة من المنزلتين‪.‬‬
‫وَ َ‬
‫وكلمة } مّن تُرَابٍ‪[ { ...‬الروم‪ ]20 :‬أي‪ :‬الصل الذي خُلِق منه آدم‪ ،‬والتراب مع الماء يصير‬
‫ف فهو صلصال كالفخار‪ ،‬إذن‪ :‬هذه هي‬
‫ج ّ‬
‫طينا‪ ،‬فإنْ تعطّن وتغيّ َرتْ رائحته فهو حمأ مسنون‪ ،‬فإنْ َ‬
‫العناصر التي وردت ومراحل خَلْقِ النسان‪ ،‬وكلها مُسمّيات للتراب‪ ،‬وحالت طرأتْ عليه‪.‬‬
‫فإنْ جاء مَنْ يقول في مسألة الخَلْق بغير هذا فل نُصدّقه؛ لن الذي خلق النسان أخبرنا كيف‬
‫خلقه‪ ،‬أما هؤلء فلم يشهدوا من خَلْق النسان شيئا‪ ،‬وهم في نظر الدين مُضللون‪ ،‬يجب الحذر من‬
‫أفكارهم؛ لن ال تعالى يقول في شأنهم‪:‬‬
‫عضُدا }[الكهف‪.]51 :‬‬
‫{ َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫خضْ العلماء في مسألة الخلق خلق النسان وخلق الشمس والقمر والرض‪ ...‬الخ‪ .‬لو‬
‫وال لو لم َي ُ‬
‫لم نسمع بنظرية داروين أكانت تصدُق هذه الية؟ وإل لقالوا‪ :‬أين المضللون الذين تكلّم القرآن‬
‫عنهم؟ فهم إذن قالوا وطلعوا علينا بنظرياتهم‪ ،‬يريدون أنْ يُكذّبوا دين ال‪ ،‬وأنْ يُشكّكوا فيه‪ ،‬وإذا‬
‫بهم يقومون جميعا دليلً على صِدْقه من حيث ل يشعرون‪.‬‬
‫وعلى شاكلة هؤلء الذين نسمعهم الن ينكرون أحاديث النبي صلى ال عليه وسلم ويُشككون في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صحتها‪ ،‬هذه في الحقيقة ظاهرة طبيعية جاءت لتثبت صدق رسول ال؛ لنه صلى ال عليه وسلم‬
‫لم يغفل هذه المسألة‪ ،‬إنما أخبر عنها ونبهنا إليها‪ ،‬وأعطانا المناعة اللزمة ‪ -‬الثلثي الذي نسمع‬
‫عنه من رجال الصحة‪.‬‬
‫يقول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬يوشك رجل من أمتي يتكيء على أريكته يُحدّث بالحديث عني‬
‫فيقول‪ :‬بيننا وبينكم كتاب ال‪ ،‬فما وجدنا فيه من حلل حللناه‪ ،‬وما وجدنا فيه من حرام حرمناه‪،‬‬
‫َألَ وإنّ ما حرم رسول ال مثل ما حرم ال "‪.‬‬
‫خذُوهُ‬
‫لماذا؟ لن ال تعالى أعطاه تفويضا في أنْ يُشرّع لمته‪ ،‬فقال تعالى‪َ {:‬ومَآ آتَاكُمُ الرّسُولُ فَ ُ‬
‫َومَا َنهَاكُمْ عَنْهُ فَان َتهُواْ‪[} ...‬الحشر‪ ]7 :‬فللرسول إيتاء‪ ،‬وللرسول أمر ونهي يجب أنْ يُطاع‬
‫بطاعتنا ل‪.‬‬
‫وتعالَ لمن ينكر السنة ويقول‪ :‬علينا بالقرآن ‪ -‬عندما يصلي المغرب مثلً واسأله‪ :‬كم ركعة‬
‫صليتَ المغرب؟ سيقول‪ :‬ثلث ركعات‪ ،‬فمن أين علم أن المغرب ثلث ركعات؟ أمن القرآن الذي‬
‫يتعصّب له‪ ،‬أم من السنة التي يُنكرها‪ .‬إذن‪ :‬كيف يتعبد على قول رسول ال ثم ينكره؟‬
‫إذن‪ :‬فالحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬بيّن مراحل خَلْق النسان من تراب‪ ،‬صار طينا‪ ،‬ثم صار حمأ‬
‫مسنونا‪ ،‬ثم صلصالً كالفخار‪ ،‬ثم نفخ فيه ال من روحه‪ ،‬ونحن لم نشاهد هذه المسألة‪ ،‬إنما أخبرنا‬
‫بها‪ ،‬ومن رحمته تعالى بخَلْقه‪ ،‬ولكي ل تحار عقولهم حينما تبحث هذه العملية يعطينا في الكون‬
‫المشَاهد لنا شواهد تُوضّح لنا الغيب الذي لم نشاهده‪.‬‬

‫ففي أعرافنا أن هَدْم الشيء أو َنقْص البناء يأتي على عكس البناء‪ ،‬فما بُني أولً ُيهْدَم آخرا‪ ،‬وما‬
‫بُني آخرا يُهدَم أولً‪ ،‬وأنت لم تشاهد عملية الخَلْق‪ ،‬لكن شاهدتَ عملية الموت‪ ،‬والموت َنقْض‬
‫للحياة‪.‬‬
‫ن تتأملَ النسان حينما يموت‪ ،‬فأول َنقْض لبنيته أنْ تخرج منه الروح‪ ،‬وكانت آخر شيء في‬
‫ولك أ ْ‬
‫بنائه‪ ،‬ثم يتصلّب الجسد ويتجمد‪ ،‬كما كان في مرحلة الصلصالية‪ ،‬ثم يتعفّن وتتغير رائحته‪ ،‬كما‬
‫كان في مرحلة الحمأ المسنون‪ ،‬ثم تمتص الرض ما فيه من مائية ليصير إلى التراب كما بدأه‬
‫خالقه من تراب‪ ،‬إذن‪ :‬صدق ال تعالى في المشهد حين بيّن لنا الموت‪ ،‬فصدّقنا ما قاله في الحياة‪.‬‬
‫خصْب والنماء‪ ،‬ومخازن للقوت‬
‫وكما أن التراب والطين هما أصل النسان فهما أيضا مصدر ال ِ‬
‫وهما مُقوّم من مُقوّمات حياتنا‪ :‬لذلك لما تكلم القرآن عن التراب قال سبحانه‪ُ {:‬قلْ أَإِ ّن ُكمْ لَ َت ْكفُرُونَ‬
‫سيَ مِن‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫جعَلُونَ َلهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫ق الَ ْرضَ فِي َي ْومَيْنِ وَ َت ْ‬
‫بِالّذِي خَلَ َ‬
‫َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا‪[} ...‬فصلت‪ ]10-9 :‬يعني‪ :‬في الجبال لنها أقرب مذكور أو في الرض‬
‫عموما؛ لن الرواسي في الرض{ َوقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا‪[} ...‬فصلت‪.]10 :‬‬
‫فالقوت يأتينا من طينة الرض‪ ،‬ومن التراب الذي يتفتت من الجبال مُكوّنا الطمي أو الغرْيَن الذي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يحمله إلينا ماء المطر‪ ،‬فالرض هي أمنا الحقيقية‪ ،‬منها خُِلقْنا‪ ،‬ومنها مُقوّمات حياتنا‪.‬‬
‫وعجيب أن نرى من العلماء غير المؤمنين مَنْ يثبت صدْق القرآن في مسألة خَلْق النسان من‬
‫طين حين حلّلوا عناصر الرض فوجدوها ستة عشر عنصرا هي نفسها التي وجدوها في جسم‬
‫النسان‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يُجنّد مَنْ يثبت صِدْق آياته ولو من الكفار‪.‬‬
‫حقّ‪} ...‬‬
‫سهِمْ حَتّىا يَتَبَيّنَ َلهُمْ أَنّهُ الْ َ‬
‫ق َوفِي أَنفُ ِ‬
‫وصدق ال العظيم حين قال‪ {:‬سَنُرِي ِهمْ آيَاتِنَا فِي الفَا ِ‬
‫[فصلت‪ .]53 :‬وفي القرآن آيات تدلّ على معادلت لو بحثها (الكمبيوتر) الن ل ُبدّ أن نؤمن بأن‬
‫هذا الكلم من عند ال وأنه صِدْق‪.‬‬
‫ل ل تفهمها؛ وكذلك هو ل‬
‫تأمل ظاهرة اللغة‪ ،‬وكيف نتكلم ونتفاهم‪ ،‬فأنت إذا لم تتعلم النجليزية مث ً‬
‫يفهم العربية‪ .‬لماذا؟ ل ن اللغة وليدة المحاكاة‪ ،‬فما تسمعه الذن يحكيه اللسان‪ ،‬وهي ظاهرة‬
‫اجتماعية‪ ،‬فلو عاش النسان وحده لما احتاج للغة؛ لنه سيفعل ما يطرأ على باله وفقط‪.‬‬
‫أمّا حين يعيش في جماعة فل ُبدّ له أن يتفاهم معهم‪ ،‬يأخذ منهم ويأخذون منه‪ ،‬يسمع منهم‬
‫ويسمعون منه‪ ،‬حتى الخرس ل بُدّ له من لغة يتفاهم بها مع مَنْ حوله‪ ،‬ويستخدم فعلً لغة‬
‫الشارة‪ ،‬وقد أقدره ال على فهمها‪.‬‬
‫وال سبحانه يُبقي للنسان المتكلم دللت الشارة في النفس الناطقة‪ ،‬فمثلً لو اضطررت للكلم‬
‫ل ويفهم عنك ويفعل ما تريد‪.‬‬
‫وفي فمك طعام‪ ،‬فإنك تشير لولدك أو لخادمك مث ً‬

‫إذن‪ :‬فينا نحن السوياء بقايا خَرس نستعمله‪ ،‬حينما ل يسعفنا النطق إذن‪ :‬التفاهم أمر ضروري‪،‬‬
‫واللغة وليدة المحاكاة؛ لذلك نقول للولد الصغير‪ :‬ل تخرج إلى الشارع‪ ،‬لماذا؟ حتى ل تسمع أذنه‬
‫كلما قبيحا فيحكيه هو‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كيف تعلمتُ اللغة؟ تعلمتها من أبي ومن المحيط بي‪ ،‬وتعلمها أبي من أبيه‪ ،‬ومن المحيطين‬
‫به‪ ،‬وهكذا‪ .‬ولك أن تسلسل هذه المسألة كما سلسلنا التكاثر في النسان‪ ،‬وسوف نعود بالتالي إلى‬
‫سمَآءَ‬
‫أبينا آدم عليه السلم‪ ،‬وعندها نقول‪ :‬ومَنْ علّم آدم اللغة؟ يردّ علينا القرآن‪ {:‬وَعَلّمَ ءَا َد َم الَ ْ‬
‫كُّلهَا‪[} ...‬البقرة‪ ]31 :‬هذا كلم منطقي استقرائي يدلّ دللة قاطعة على صِدْق آيات القرآن‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪ُ } :‬ثمّ إِذَآ أَن ُتمْ بَشَرٌ تَن َتشِرُونَ { [الروم‪ ]20 :‬ثم‪ :‬أي بعد أنْ خلقنا ال من تراب تكاثر‬
‫الخَلْق وتزايدوا بسرعة؛ لن السياق استعمل هنا (إذا) الفجائية الدالة على الفجأة‪ ،‬والتي يُمثّلون لها‬
‫بقولهم‪ :‬خرجتُ فإذا أسدٌ بالباب‪ ،‬يعني‪ :‬فاجأني‪ ،‬فالمعنى أنكم تتزايدون وتنتشرون في الرض‬
‫سكُمْ‪.{ ...‬‬
‫بسرعة‪ ،‬ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومِنْ آيَا ِتهِ أَنْ خَلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬

‫(‪)3354 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمَةً إِنّ فِي ذَِلكَ‬
‫ج َعلَ بَيْ َن ُكمْ َموَ ّد ًة وَرَ ْ‬
‫سكُنُوا إِلَ ْيهَا َو َ‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجًا لِ َت ْ‬
‫َومِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خََلقَ َلكُمْ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫لَآَيَاتٍ ِلقَوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ (‪)21‬‬

‫قلنا‪ :‬إن الية هي الشيء العجيب الذي يقف عنده العقل مندهشا دهشةً تُورِث إعجابا‪ ،‬وإعجابا‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجا‪} ...‬‬
‫يُورث يقينا بحكمة الخالق‪ .‬من هذه اليات العجيبة الباهرة { أَنْ خََلقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬
‫[الروم‪ ]21 :‬يعني‪ :‬من جنسكم ونوعكم‪.‬‬
‫فلم يشأ سبحانه أنْ يحدث التكاثر مثلً بين النسان وبقرة‪ ،‬ل إنما إنسان مع إنسان‪ ،‬يختلف معه‬
‫فقط في النوع‪ ،‬هذا ذكر وهذه أنثى‪ ،‬والختلف في النوع اختلف تكامل‪ ،‬ل اختلف تعاند‬
‫وتصادم‪ ،‬فالمرأة للرقة والليونة والحنان‪ ،‬والرجل للقوة والخشونة‪ ،‬فهي تفرح بقوته ورجولته‪،‬‬
‫وهو يفرح بنعومتها وأنوثتها‪ ،‬فيحدث التكامل الذي أراده ال وقصده للتكاثر في بني النسان‪.‬‬
‫وعجيب أنْ يرى البعض أن الذكورة نقيض النوثة‪ ،‬ويثيرون بينهما الخلف المفتعل الذي ل‬
‫معنى له‪ ،‬فالذكورة والنوثة ضرورتان متكاملتان كتكامل الليل والنهار‪ ،‬وهما آيتان يستقبلهما‬
‫الناس جميعا‪ ،‬هل نُجري مقارنة بين الليل والنهار‪ ،‬وهما آيتان يستقبلهما الناس جميعا‪ ،‬هل نُجري‬
‫مقارنة بين الليل والنهار‪ ..‬أيهما أفضل؟ لذلك تأمل دقة الداء القرآني حينما جمع بين الليل‬
‫والنهار‪ ،‬وبين الذكر والنثى‪ ،‬وتدبّر هذا المعنى الدقيق‪ {:‬وَالْلّ ْيلِ إِذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ إِذَا تَجَلّىا *‬
‫ل منكما مهمته‪ ،‬كما‬
‫سعْ َيكُمْ لَشَتّىا }[الليل‪ ]4-1 :‬أي‪ :‬مختلف‪ ،‬فل ُك ّ‬
‫َومَا خَلَقَ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا * إِنّ َ‬
‫سعْيكما ينشأ التكامل العلى‪.‬‬
‫أن الليل للراحة‪ ،‬والسكون والنهار للسعي والعمل‪ ،‬وبتكامل َ‬
‫فل داعي إذن لنْ أطلب المساواة بالمرأة‪ ،‬ول أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل‪ ،‬لقد صُدعت‬
‫رءوسنا من هؤلء المنادين بهذه المساواة المزعومة‪ ،‬والتي ل معنى لها بعد قوله تعالى{ إِنّ‬
‫ل منكما مهمته‪ ،‬كما أن الليل للراحة‪ ،‬والسكون والنهار‬
‫سعْ َيكُمْ َلشَتّىا }[الليل‪ ]4 :‬أي‪ :‬مختلف‪ ،‬فل ُك ّ‬
‫َ‬
‫سعْيكما ينشأ التكامل العلى‪.‬‬
‫للسعي والعمل‪ ،‬وبتكامل َ‬
‫فل داعي إذن لنْ أطلب المساواة بالمرأة‪ ،‬ول أنْ تطلب المرأة المساواة بالرجل‪ ،‬لقد صُدعت‬
‫رءوسنا من هؤلء المنادين بهذه المساواة المزعومة‪ ،‬والتي ل معنى لها بعد قوله تعالى‪ {:‬إِنّ‬
‫سعْ َيكُمْ َلشَتّىا }[الليل‪.]4 :‬‬
‫َ‬
‫وعجيب أن نسمع من يقول ‪ -‬من الرجال ‪ -‬ينبغي للمرأة أن تحتل مكان الرجل‪ ،‬وأنْ تؤدي ما‬
‫يؤديه‪ ،‬ونقول‪ :‬ل نستطيع أن تُحمّل المرأة مهمة الرجل إل إذا حمّ ْلتَ الرجل مهمة المرأة‪ ،‬فيحمل‬
‫كما تحمل‪ ،‬ويلد كما تلد‪ ،‬ويُرضِع كما تُرضِع‪ ،‬فدعونا من شعارات (البلطجية) الذين يهرفون بما‬
‫ل يعرفون‪.‬‬
‫س ُكمْ‪[} ...‬التوبة‪ ]128 :‬أي‪ :‬من جنسكم‬
‫ومثل هذا قوله تعالى‪َ {:‬لقَدْ جَآ َءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وبشريتكم‪ ،‬فهو نفس لها كل طاقات البشر‪ ،‬ليكون لكم أسوة‪ ،‬ولو جاء الرسول مَلَكا لما تحققتْ فيه‬
‫سكُمْ‪[} ...‬التوبة‪]128 :‬‬
‫السوة‪ ،‬وَلقُلْتم هذا ملَك‪ ،‬ونحن ل نقدر على ما يقدر هو عليه‪ .‬أو{ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫يعني‪ :‬من العرب ومن قريش‪.‬‬
‫سكُمْ‪[} ...‬التوبة‪ ]128 :‬يعني‪ :‬خَلْق حواء من ضلع آدم‪ ،‬فهي من أنفسنا‬
‫والبعض يرى أن{ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫يعني‪ :‬قطعة منا‪ ،‬لكن الكلم هنا‬

‫سكُمْ‪[} ...‬التوبة‪ ]128 :‬مخاطب به الذكر والنثى معا‪ ،‬كما أن الزواج تُطلق عليهما‬
‫{ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫أيضا‪ ،‬على الرجل وعلى المرأة‪ ،‬والبعض يفهم أن الزوج يعني اثنين‪ ،‬لكن الزوج مفرد معه مثله؛‬
‫ج َعلَ فِيهَا َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ‪[} ...‬الرعد‪.]3 :‬‬
‫لذلك يقول تعالى‪َ {:‬ومِن ُكلّ ال ّثمَرَاتِ َ‬
‫وفي الماضي كنا نعتقد أن نوع الجنين إنما يتحدد من ماء الرجل وماء المرأة‪ ،‬لكن القرآن يقول‬
‫طفَةً مّن مّ ِنيّ ُيمْنَىا }[القيامة‪ ]37 :‬فماء المرأة ل دخلَ له في نوع الجنين‪،‬‬
‫غير ذلك‪ {:‬أَلَمْ َيكُ ُن ْ‬
‫ذكرا كان أم أنثى‪ ،‬الذكورة والنوثة يحددها ماء الرجل‪.‬‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجا‪[ { ...‬الروم‪]21 :‬‬
‫وهذا ما أثبته العلم الحديث‪ ،‬وعلى هذا نقول } خَلَقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬
‫يعني‪ :‬من ذكور الزواج‪ ،‬خلق منك ميكروبا هو (الكس أو الكس واي) كما اصطلح عليه العلم‬
‫الحديث‪ ،‬وهو يعني الذكورة والنوثة‪.‬‬
‫وسبق أنْ ذكرنا في هذه المسألة قصة أبي حمزة الرجل العربي الذي تزوج على امرأته؛ لنها ل‬
‫تنجب البنين‪ ،‬وهجرها لهذا السبب فقالت بما لديها من سليقة عربية‪ ،‬وقَوْلُها دليل على علم العرب‬
‫غضْبان َألّ نَلدَ البَنينَاتَال‬
‫حمْز َة ل يأْتينَا َ‬
‫قديما بهذه الحقيقة التي أثبتها العلم مؤخرا‪ ،‬قالت‪:‬مَا لبي َ‬
‫مَا ذَلكَ في أَيْدينَا ونحن كال ْرضِ لِزَارِعينانُعطي َلهُمْ مثْل الذي أُعْطينَا والحق سبحانه بهذا يريد أن‬
‫يقول‪ :‬إنني أريد خليفة متكاثرا ليعمر هذه الرض الواسعة‪ ،‬فإذا رأيتَ مكانا قد ضاق بأهله فاعلم‬
‫أن هناك مكانا آخر خاليا‪ ،‬فالمسألة سوء توزيع لخَلْق ال على أرض ال‪.‬‬
‫لذلك يقولون‪ :‬إن سبب الزمات أن يوجد رجال بل أرض‪ ،‬وأرض بل رجال‪ ،‬وضربنا مثلً لذلك‬
‫عتْ لكفَت العالم العربي كله‪ ،‬في حين‬
‫بأرض السودان الخصبة التي ل تجد مَنْ يزرعها‪ ،‬ولو زُرِ َ‬
‫نعيش نحن في الوادي والدلتا حتى ضاقتْ بنا‪ ،‬فإنْ فكرت في الهجرة إلى هذه الماكن الخالية‬
‫واجهتْك مشاكل الحدود التي قيدوا الناس بها‪ ،‬وما أنزل ال بها من سلطان‪.‬‬
‫ذلك لما أُتيح لنا الحديث في المم المتحدة قلت لهم‪ :‬آية واحدة في كتاب ال لو عملتم بها َلحَّلتْ‬
‫ض َعهَا لِلَنَامِ }[الرحمن‪]10 :‬‬
‫لكم المشاكل القتصادية في العالم كله‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬وَالَ ْرضَ َو َ‬
‫فالرض كل الرض للنام‪ ،‬كل النام على الطلق‪.‬‬
‫سعَةً فَ ُتهَاجِرُواْ فِيهَا‪[} ...‬النساء‪]97 :‬‬
‫واقرأ قوله تعالى في هذه المسألة‪ {:‬أََلمْ َتكُنْ أَ ْرضُ اللّهِ وَا ِ‬
‫إذن‪ :‬ل تعارض منهج ال وقدره في أحكامه‪ ،‬ثم تشكو الفساد والضيق والزمات‪ ،‬إنك لو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫استقرأتَ ظواهر الكون لما وجدتَ فسادا أبدا إل فيما تتناوله يد النسان على غير القانون والمنهج‬
‫الذي وضعه خالق هذا الكون سبحانه‪ ،‬أما ما ل تتناوله يد النسان فتراه منضبطا ل يختل ول‬
‫يتخلف‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المشاكل والزمات إنما تنشأ حينما نسير في كون ال على غير هدى ال وبغير منهجه؛ لذلك‬
‫ن يقول‪ :‬العيشة ضَنْك‪ ،‬فل يقفز إلى ذهنك عند سماع هذه الكلمة إل مشكلة الفقر‪ ،‬لكن‬
‫تسمع مَ ْ‬
‫الضنك أوسع من ذلك بكثير‪ ،‬فقد يوجد الغِنَى والترف ورَغَد العيش‪ ،‬وترى الناس مع ذلك في‬
‫ضنك شديد‪.‬‬

‫فانظر مثلً إلى السويد‪ ،‬وهي من أغنى دول العالم‪ ،‬ومع ذلك يكثر بها الجنون والشذوذ والعقد‬
‫النفسية‪ ،‬ويكثر بها النتحار نتيجة الضيق الذي يعانونه‪ ،‬مع أنهم أغنى وأعلى في مستوى دخل‬
‫الفرد‪.‬‬
‫فالمسألة ‪ -‬إذن ‪ -‬ليست حالة اقتصادية‪ ،‬إنما مسألة منهج ل تعالى غير مُطلّق وغير معمول به‪،‬‬
‫عمَىا }[طه‪:‬‬
‫ش ًة ضَنكا وَنَحْشُ ُرهُ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ أَ ْ‬
‫وصدق ال‪َ {:‬ومَنْ أَعْ َرضَ عَن ِذكْرِي فَإِنّ لَهُ َمعِي َ‬
‫‪.]124‬‬
‫عشْنا بمنهج ال لوجدنا لذة العيش ولو مع الفقر‪.‬‬
‫لذلك لو ِ‬
‫سكُنُواْ إِلَ ْيهَا‪[ { ...‬الروم‪ ]21 :‬هذه هي العلة الصيلة في الزواج‪ ،‬أي‪ :‬يسكن‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬لّتَ ْ‬
‫الزوجان أحدهما للخر‪ ،‬والسكن ل يكون إل عن حركة‪ ،‬كذلك فالرجل طوال يومه في حركة‬
‫العمل والسعي على المعاش يكدح ويتعب‪ ،‬فيريد آخر النهار أن يسكن إلى مَنْ يريحه ويواسيه‪،‬‬
‫سكَن والحنان والعطف والرقة‪ ،‬وفي هذا السكَن يرتاح ويستعيد‬
‫فل يجد غير زوجته عندها ال ّ‬
‫نشاطه للعمل في غد‪.‬‬
‫لكن تصور إنْ عاد الرجل مُتْعبا فلم يجد هذا السكن‪ ،‬بل وجد زوجته ومحلّ سكنه وراحته تزيده‬
‫سكَن هنا‪ ،‬وأن تؤدي مهمتها لتستقيم‬
‫صفْوه‪ .‬إذن‪ :‬ينبغي للمرأة أنْ تعلم معنى ال ّ‬
‫تعبا‪ ،‬وتكدّر عليه َ‬
‫أمور الحياة‪.‬‬
‫حمَةً‪[ { ...‬الروم‪ ]21 :‬المودة هي‬
‫ج َعلَ بَيْ َنكُم ّموَ ّدةً وَرَ ْ‬
‫سكَن إنما } َو َ‬
‫ثم إن المر ل يقتصر على ال ّ‬
‫الحب المتبادل في (مشوار) الحياة وشراكتها‪ ،‬فهو يكدح ويُوفر لوازم العيش‪ ،‬وهي تكدح لتدبر‬
‫سعْ َيكُمْ َلشَتّىا }[الليل‪ ]4 :‬هذا في إطار من الحب‬
‫أمور البيت وتربية الولد؛ لن ال يقول{ إِنّ َ‬
‫والحنان المتبادل‪.‬‬
‫أما الرحمة فتأتي في مؤخرة هذه الصفات‪ :‬سكن ومودة ورحمة‪ ،‬ذلك لن البشر عامة أبناء‬
‫أغيار‪ ،‬وكثيرا ما تتغير أحوالهم‪ ،‬فالقوي قد يصير إلى الضعف‪ ،‬والغني قد يصير إلى فقر‪،‬‬
‫والمرأة الجميلة تُغيّرها اليام أو يهدّها المرض‪ ...‬إلخ‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك يلفت القرآن أنظارنا إلى أن هذه المرحلة التي ربما فقدتم فيها السكن‪ ،‬وفقدتُم المودة‪ ،‬فإن‬
‫الرحمة تسعكما‪ ،‬فليرحم الزوج زوجته إنْ َقصُرت إمكاناتها للقيام بواجبها‪ ،‬ولترحم الزوجة‬
‫زوجها إنْ أقعده المرض أو أصابه الفقر‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وكثير من كبار السن من الذين يتقون ال ويراعون هذه التعاليم يعيشون حياتهم الزوجية على هذا‬
‫المبدأ مبدأ الرحمة‪ ،‬لذلك حينما يًلمّحون للمرأة التي أقعد المرض زوجها تقول‪( :‬أنا آكله لحم‬
‫وأرميه عظم؟)‬
‫هذه هي المرأة ذات الدين التي تعيدنا إلى حديث رسول ال في اختيار الزوجة‪ " :‬تُنكح المرأة‬
‫لربع‪ :‬لمالها‪ ،‬ولحسبها‪ ،‬ولجمالها ‪ -‬وهذه كلها أغيار ‪ -‬ولدينها‪ ،‬فاظفر بذات الدين تربت يداك "‬
‫فأنت وهي أبناء أغيار‪ ،‬ل يثبت أحد منكما على حاله‪ ،‬فيجب أنْ تردا إلى شيء ثابت ومنهج‬
‫محايد ل هوى له‪ ،‬يميل به إلى أحدكما‪ ،‬منهج أنتما فيه سواء‪ ،‬ولن تجدوا ذلك إل في دين ال‪.‬‬

‫لذلك يحذرنا النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬إذا جاءكم مَنْ ترضون دينه وخُلقه فزوّجوه‪ ،‬أل تفعلوا‬
‫تكُنْ فتنة في الرض وفساد كبير "‪.‬‬
‫وإياك حين تكبر زوجتك أن تقول إنها لم تعد تمل نظري‪ ،‬أو كذا وكذا‪ ،‬لن الزوجة ما جعلها ال‬
‫إل سكنا لك وأنثى ووعاءً‪ ،‬فإذا هاجتْ غرائزك بطبيعتها تجد مصرفا‪ ،‬كما قال النبي صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ " :‬إذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته ‪ -‬أي‪ :‬تعجبه وتحرّك في نفسه نوازع ‪ -‬فلي ْأتِ أهله‪،‬‬
‫فإنْ ال ُبضْع واحد "‪.‬‬
‫وكلما طبّق الزوجان المقاييس الدينية‪ ،‬وتحلّيا بآداب الدين وجد كل منهما في الخر ما يعجبه‪ ،‬فإنْ‬
‫ذهب الجمال الظاهري مع الزمن فسيبقى جمال الروح ووقارها‪ ،‬سيبقى في المرأة جمال الطبع‬
‫والسلوك‪ ،‬وكلما تذكرتَ إخلصها لك وتفانيها في خدمتك وحِرْصها على معاشك ورعايتها لحرمة‬
‫بيتك كلّما تمسكْت بها‪ ،‬وازددتَ حبا لها‪.‬‬
‫وكذلك الحال بالنسبة للزوجة‪ ،‬فلكل مرحلة من العمر جاذبيتها وجمالها الذي يُعوّضنا ما فات‪.‬‬
‫ولما كان من طبيعة المرأة أنْ يظهر عليها علمات الكِبَر أكثر من الرجل؛ لذلك كان على الرجل‬
‫صفَته كيت وكيت‪،‬‬
‫أنْ يراعي هذه المسألة‪ ،‬فلما سأل أحدهم الحسن‪ :‬لقد تقدم رجل يخطب ابنتي و ِ‬
‫ل مؤمنا‪ ،‬إنْ أحبها أكرمها‪ ،‬وإنْ كرهها لم يظلمها‪.‬‬
‫قال‪ :‬ل تنكِحها إل رج ً‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬إِنّ فِي َذِلكَ ليَاتٍ ّل َقوْمٍ يَ َت َفكّرُونَ { [الروم‪ ]21 :‬يتفكرون في هذه المسائل وفي‬
‫هذه المراحل التي تمرّ بالحياة الزوجية‪ ،‬وكيف أن ال تعالى جعل لنا الزواج من أنفسنا‪ ،‬وليستْ‬
‫سكَن والحب والمودة‪ ،‬ثم في مرحلة الكِبَر على‬
‫من جنس آخر‪ ،‬وكيف بنى هذه العلقة على ال ّ‬
‫الرحمة التي يجب أنْ يتعايش بها الزوجان طيلة حياتهما معا‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ‪.{ ...‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)3355 /‬‬

‫ض وَاخْ ِتلَافُ أَ ْلسِنَ ِتكُ ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَاتٍ لِ ْلعَاِلمِينَ (‪)22‬‬
‫سمَاوَاتِ وَالْأَ ْر ِ‬
‫َومِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ ال ّ‬

‫في خلق السماوات والرض آيات أظهرها لنا كما قال في موضع آخر إنها تقوم على غير عمد‪{:‬‬
‫عمَدٍ تَ َروْ َنهَا‪[} ...‬لقمان‪.]10 :‬‬
‫سمَاوَاتِ ِبغَيْرِ َ‬
‫خََلقَ ال ّ‬
‫فالسماء التي تروْنها على امتداد الفق تقوم بغير أعمدة‪ ،‬ولكم أنْ تسيروا في الرض‪ ،‬وأنْ تبحثوا‬
‫عمَدٍ تَ َروْ َنهَا‪[} ...‬لقمان‪ ]10 :‬يعني‪ :‬هي موجودة لكن ل‬
‫عن هذه العُمد فلن تروْا شيئا‪ .‬أو{ ِبغَيْرِ َ‬
‫ترونها‪.‬‬
‫عمُد تحمله من أسفل‪ ،‬أو قوة تمسكه من أعلى؛‬
‫والمنطق يقتضي أن الشيء العالي ل بُدّ له إما من ُ‬
‫لذلك ينبغي أنْ نجمع بين اليات لتكتمل لدينا هذه الصورة‪ ،‬فالحق سبحانه يقول في موضع آخر‪{:‬‬
‫ت وَالَرْضَ أَن تَزُولَ‪[} ...‬فاطر‪.]41 :‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ‬
‫إذن‪ :‬ليست للسماء أعمدة‪ ،‬إنما يمسكها خالقها ‪ -‬عز وجل ‪ -‬من أعلى‪ ،‬فل تقع على الرض إل‬
‫بإذنه‪ ،‬ول تتعجب من هذه المسألة‪ ،‬فقد أعطانا ال تعالى مثالً مُشاهدا في قوله سبحانه‪َ {:‬ألَمْ يَ َروْاْ‬
‫س ُكهُنّ ِإلّ اللّهُ‪[} ...‬النحل‪.]79 :‬‬
‫سمَآءِ مَا ُيمْ ِ‬
‫جوّ ال ّ‬
‫إِلَىا الطّيْرِ مُسَخّرَاتٍ فِي َ‬
‫فإنْ قُلْت‪ :‬يمسكها في جو السماء حركة الجناحين ورفرفتها التي تحدث مقاومة للهواء‪ ،‬فترتفع به‪،‬‬
‫وتمسك نفسها في الجو‪ ،‬نقول‪ :‬وتُمسك أيضا في جو السماء بدون حركة الجناحين‪ ،‬واقرأ إنْ شئتَ‬
‫قوله تعالى‪َ {:‬أوَلَمْ يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ َف ْو َقهُ ْم صَافّاتٍ وَ َيقْ ِبضْنَ‪[} ...‬الملك‪.]19 :‬‬
‫فترى الطير في السماء مادّا جناحيه ثابتا بدون حركة‪ ،‬ومع ذلك ل يقع على الرض ول يُمسكه‬
‫جوّ السماء إذن إل قدرة ال‪.‬‬
‫في َ‬
‫ت وَالَ ْرضِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫إذن‪ :‬خُذْ مما تشاهد دليلً على صدْق ما ل تشاهد؛ لذلك يقول سبحانه‪ {:‬لَخَ ْلقُ ال ّ‬
‫َأكْـبَرُ مِنْ خَ ْلقِ النّاسِ‪[} ...‬غافر‪ ]57 :‬مع أنها خُلِقت لخدمة النسان‪.‬‬
‫فمع أنك أيها النسان مظهر من مظاهر قدرة ال‪ ،‬وفيك انطوى العالم الكبر‪ ،‬إل أن عمرك‬
‫محدود ل ُي َعدّ شيئا إذا قِيسَ بعمر الرض والسماء والشمس والقمر‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫لفُ َألْسِنَ ِتكُ ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ‪[ } ...‬الروم‪:‬‬
‫ثم يعود السياق هنا إلى آية من آيات ال في النسان‪ { :‬وَاخْتِ َ‬
‫‪ ]22‬اللسان يُطلَق على اللغة كما قال تعالى{ بِِلسَانٍ عَرَ ِبيّ مّبِينٍ }[الشعراء‪ ]195 :‬وقال‪ {:‬لّسَانُ‬
‫ي وَهَـاذَا ِلسَانٌ عَرَ ِبيّ مّبِينٌ }[النحل‪.]103 :‬‬
‫ج ِم ّ‬
‫الّذِي يُ ْلحِدُونَ إِلَ ْيهِ أَعْ َ‬
‫ويًُطلَق أيضا على هذه الجارحة المعروفة‪ ،‬وإنما أُطِلق اللسان على اللغة؛ لن أغلبها يعتمد على‬
‫اللسان وعلى النطق‪ ،‬مع أن اللسان يُمثّل جزءا بسيطا في عملية النطق‪ ،‬حيث يشترك معه في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النطق الفم والسنان والشفتان والحبال الصوتية‪ ..‬إلخ‪ ،‬لكن اللسان هو العمدة في هذه العملية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاختلف اللسنة يعني اختلف اللغات‪.‬‬
‫وسبق أنْ قُلْنا‪ :‬إن اللغة ظاهرة اجتماعية يكتسبها النسان من البيئة المحيطة به‪ ،‬وحين نسلسلها ل‬
‫بُدّ أنْ نصلَ بها إلى أبينا آدم عليه السلم‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن ال تعالى هو الذي علّمه اللغة حين علّمه‬
‫السماء كلها‪ ،‬ثم يتخذ آدم وذريته من بعده هذه السماء ليتفاهموا بها‪ ،‬وليضيفوا إليها أسماء‬
‫جديدة‪.‬‬

‫لذلك نرى أولدنا مثلً حينما نريد أنْ نُعلّمهم ونُرقّيهم نُعلّمهم أولً أسماء الشياء قبل أنْ يتعلموا‬
‫الفعال؛ لن السم أظهر‪َ ،‬ألَ ترى أن ال ِفعْل والحدث يدل عليه باسم‪ ،‬فكلمة ( ِفعْل) هي ذاتها اسم‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬كيف ينشأ اختلف اللغات؟ لو تأملنا مثلً اللغة العربية نجدها لغة واحدةً‪ ،‬لكن بيئاتها متعددة‪:‬‬
‫هذا مصري‪ ،‬وهذا سوداني‪ ،‬وهذا سوري‪ ،‬مغربي‪ ،‬عراقي‪ ..‬الخ نشترك جميعا في لغة واحدة‪،‬‬
‫لكن لكل بيئة لهجة خاصة قد ل تُفهَم في البيئة الخرى‪ ،‬أما إذا تحدّثنا جميعا باللغة العربية لغة‬
‫القرآن تفاهم الجميع بها‪.‬‬
‫أما اختلف اللغات فينشأ عن انعزال البيئات بعضها عن بعض‪ ،‬هذا النعزال يؤدي إلى وجود‬
‫لغة جديدة‪ ،‬فمثلً النجليزية والفرنسية واللمانية و‪ ..‬إلخ ترجع جميعها إلى أصل واحد هو اللغة‬
‫اللتينية‪ ،‬فلما انعزلتْ البيئات أرادتْ كل منها أن يكون لها استقللية ذاتية بلغة خاصة بها مستقلة‬
‫بألفاظها وقواعدها‪.‬‬
‫لفُ أَ ْلسِنَ ِتكُمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]22 :‬يعني‪ :‬اختلف ما ينشأ عن اللسان وغيره من آلت‬
‫أو } وَاخْتِ َ‬
‫الكلم من أصوات مختلفة‪ ،‬كما نرى الن في آخر صيحات علم الصوات أنْ يجدوا للصوت‬
‫بصمة تختلف من شخص لخر كبصمة الصابع‪ ،‬بل بصمة الصوت أوضح دللة من بصمة اليد‪.‬‬
‫ورأينا لذلك خزائن ُتضْبط على بصمة صوت صاحبها‪ ،‬فساعة يُصدر لها صوتا تفتح له‪.‬‬
‫ومن العجيب والمدهش في مجال الصوت أن المصوّتات كثيرة منها‪ :‬الجماد كحفيف الشجر‬
‫وخرير الماء‪ ،‬ومنها‪ :‬الحيوان‪ ،‬نقول‪ :‬نقيق الضفادع وصهيل الخيل‪ ،‬ونهيق الحمار‪ ،‬و ُثغَاء الشاة‪،‬‬
‫ورُغَاء البل‪ ..‬الخ لكن بال أسألك‪ :‬لو سمعت صوت حمار ينهق‪ ،‬أتستطيع أن تقول هذا حمار‬
‫فلن؟ ل‪ ،‬لن كل الصوات من ُكلّ الجناس خل النسان صوتها واحد ل يميزه شيء‪.‬‬
‫أما في النسان‪ ،‬فل ُكلّ منّا صوته المميز في نبرته وحدّته واستعلئه أو استفاله‪ ،‬أو في رقته أو في‬
‫تضخيمه‪ ..‬الخ‪ .‬فلماذا إذن تميّز صوت النسان بهذه الميزة عن باقي الصوات؟‬
‫قالوا‪ :‬لن الجماد والحيوان ليس لهما مسئوليات ينبغي أنْ تُضبط وأنْ تُحدّد كما للنسان‪ ،‬وإل‬
‫كيف نُميز المجرم حين يرتكب جريمته ونحن ل نعرف اسمه‪ ،‬ول نعرف شيئا من أوصافه؟‬
‫وحتى لو عرفنا أوصافه فإنها ل تدلّنا عليه دللة قاطعة تُحدّد المسئولية ويترتب عليها الجزاء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقال سبحانه بعدها } وَأَ ْلوَا ِنكُمْ‪[ { ...‬الروم‪ ]22 :‬فاختلف اللسنة واللوان ليحدث هذا التميّز بين‬
‫الناس‪ ،‬ولن النسان هو المسئول خلق ال فيه اختلفَ اللسنة واللوان؛ لنستدل عليه بشكله‪:‬‬
‫بطوله أو ِقصَره أو ملبسة‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫وفي ذلك ما يضبط سلوك النسان ويُقوّمه حين يعلم أنه لن يفلت ب ِفعْلته‪ ،‬ول بُدّ أنْ يدل عليه شيء‬
‫من هذه المميزات‪.‬‬
‫لذلك نرى رجال البحث الجنائي ينظمون خطة للبحث عن المجرم قد تطول‪ ،‬لماذا؟ لنهم يريدون‬
‫أنْ يُضيّقوا دائرة البحث فيُخرجون منها مَنْ ل تنطبق عليه مواصفاتهم‪ ،‬وما يزالون يُضيّقون‬
‫الدائرة حتى يصلوا للجاني‪.‬‬

‫شعُوبا َوقَبَآئِلَ‬
‫جعَلْنَا ُكمْ ُ‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يقول‪ {:‬ياأَ ّيهَا النّاسُ إِنّا خََلقْنَاكُم مّن َذكَ ٍر وَأُنْثَىا وَ َ‬
‫لِ َتعَا َرفُواْ‪[} ....‬الحجرات‪.]13 :‬‬
‫فالتميّز والتعارف أمر ضروري لستقامة حركة الحياة‪ ،‬ألَ ترى الرجل يضع لكل ولد من أولده‬
‫اسما يُميّزه‪ ،‬فإن عشق اسم محمد مثلً‪ ،‬وأحب أن يسمى كل أولده محمدا ل بد أن يميزه‪ ،‬فهذا‬
‫محمد الكبير‪ ،‬وهذا محمد الصغير‪ ،‬وهذا الوسط‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل بُدّ أن يتميز الخَلْق لنستطيع تحديد المسئوليات‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬لّ ْلعَاَلمِينَ‪[ { ...‬الروم‪ ]22 :‬أي‪ :‬الذين يبحثون في الشياء‪ ،‬ول يقفون عند‬
‫ظواهرها‪ ،‬إنما يتغلغلون في بطونها‪ ،‬ويَسْبرون أغوارها للوصول إلى حقيقتها‪.‬‬
‫ت وَالَرْضِ َيمُرّونَ عَلَ ْيهَا وَهُمْ عَ ْنهَا‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لذلك يلوم علينا ربنا عز وجل‪َ {:‬وكَأَيّن مّن آيَةٍ فِي ال ّ‬
‫ُمعْ ِرضُونَ }[يوسف‪ ]105 :‬فل يليق بأصحاب العقول أن يغفلوا عن هذه اليات‪ ،‬إنما يتأملونها‬
‫ليستنبطوا منها ما ينفعهم في مستقبل حياتهم‪ ،‬كما نرى في المخترعات والكتشافات الحديثة التي‬
‫خدمتْ البشرية‪ ،‬كالذي اخترع عصر البخار‪ ،‬والذي اخترع العجلة‪ ،‬والذي اكتشف الكهرباء‬
‫والجاذبية والبنسلين‪ ..‬الخ‪ ،‬إذن‪ :‬نمر على آيات ال في الكون بيقظة‪ ،‬وكل العلوم التجريبية نتيجة‬
‫لهذه اليقظة‪.‬‬
‫والعَالمون‪ :‬جمع عالم‪ ،‬وكانت تطلق في الماضي على مَنْ يعرف الحلل والحرام‪ ،‬لكن هي أوسع‬
‫من ذلك‪ ،‬فالعالم‪ :‬كل مَنْ يعلم قضية كونية أو شرعية‪ ،‬ويُسمّى هذا " عالم بالكونيات " وهذا عالم‬
‫سمَآءِ مَآءً فََأخْرَجْنَا ِبهِ َثمَرَاتٍ مّخْتَلِفا أَ ْلوَا ُنهَا‬
‫بالشرع‪ ،‬وإنْ شئتَ فاقرأ‪ {:‬أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أن َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫ب وَالَ ْنعَامِ‬
‫س وَال ّدوَآ ّ‬
‫حمْرٌ مّخْتَِلفٌ أَ ْلوَا ُنهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * َومِنَ النّا ِ‬
‫ض وَ ُ‬
‫جدَدٌ بِي ٌ‬
‫َومِنَ الْجِبَالِ ُ‬
‫مُخْتَِلفٌ أَ ْلوَانُهُ َكذَِلكَ‪[} ...‬فاطر‪.]28-27 :‬‬
‫فذكر سبحانه النبات‪ ،‬ثم الجماد‪ ،‬ثم الناس‪ ،‬ثم الحيوان‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ {:‬إِ ّنمَا َيخْشَى اللّهَ مِنْ عِبَا ِدهِ ا ْلعَُلمَاءُ‪[} ...‬فاطر‪ ]28 :‬على إطلقها فلم يُحدّد أي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫علماء‪ :‬علماء النبات‪ ،‬أو الحيوان‪ ،‬أو الجمادات‪ ،‬أو علماء الشرع‪ ،‬إذن‪ :‬العَالِم كل مَنْ يعلم حقيقة‬
‫في الكون وجودية أو شرعية من عند ال‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا أطلقوا العالم على العالم بالشرع خاصة؟ قالوا‪ :‬لنه أول العلوم المفيدة التي عرفوها؛‬
‫لذلك رأينا من آداب العلم في السلم ألّ يُدخِل علماء الشرع أنفسهم في الكونيات‪ ،‬وألّ يُدخل‬
‫علماء الكونيات أنفسهم في علوم الشرع‪.‬‬
‫والذي أحدث الضطراب بين هذه التخصصات أن يقول مثلً علماء الكونيات بأن الرض تدور‬
‫ن يقول‪ :‬هذا مخالف للدين ‪ -‬هكذا عن غير دراسة‪ ،‬سبحان‬
‫حول الشمس‪ ،‬فيقوم من علماء الدين مَ ْ‬
‫ال‪ ،‬لماذا تُقحِم نفسك فيما ل تعلم؟ وماذا يضيرك كعالم بالشرع أن تكون الرض كرة تدور أو ل‬
‫تدور؟ ما الحرام الذي زاد بدوران الرض وما الحلل الذي انتقص؟ كذلك الحال لما صعد‬
‫النسان إلى القمر‪ ،‬اعترض على ذلك بعض رجال الدين‪.‬‬

‫كذلك نسمع مَنْ ل عِلْم له بالشرع يعترض على بعض مسائل الشرع يقول‪ :‬هذه ل يقبلها العقل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬آفة العلم أن يقحم العالم نفسه فيما ل يعلم‪ ،‬ولو التزم كلّ بما يعلم لرتاح الجميع‪ ،‬وتركت كل‬
‫ساحة لهلها‪.‬‬
‫وعجيب أن يستشهد رجال الدين على عدم كروية الرض بقوله تعالى‪ {:‬وَالَ ْرضَ مَدَدْنَاهَا‪} ...‬‬
‫[الحجر‪ ]19 :‬ولو تأملوا معنى{ مَ َددْنَاهَا‪[} ...‬الحجر‪ ]19 :‬لما اعترضوا؛ لن معنى مددناها يعني‪:‬‬
‫كلما سِ ْرتُ في الرض وجدتها ممتدة ل تنتهي حتى تعود إلى النقطة التي بدأت منها‪ ،‬وهذا يعني‬
‫أنها كرة ل نهاية لها‪ ،‬ولو كانت مُسطحة أو مُثلثة مثلً لكان لها نهاية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نقول للعلماء عموما‪ :‬ل تُدخلوا أنوفكم فيما ل علْم لكم به‪ ،‬ودَعُوا المجال لصحابه‪ ،‬عملً‬
‫بقوله تعالى‪َ {:‬قدْ عَلِمَ ُكلّ أُنَاسٍ مّشْرَ َبهُمْ‪[} ...‬البقرة‪.]60 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالّيلِ‪.{ ...‬‬

‫(‪)3356 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like