Professional Documents
Culture Documents
سعِيرِ ()4
عذَابِ ال ّ
كُ ِتبَ عَلَ ْيهِ أَنّهُ مَنْ َتوَلّاهُ فَأَنّهُ ُيضِلّ ُه وَ َيهْدِيهِ إِلَى َ
أي :كتب ال على هذا الشيطان المريد ،وحكم عليه حُكما ظاهرا ،هكذا (عيني عينك) كما يقال
سعِيرِ }
لهُ[ } ...الحج ]4 :أي :تابعه وسار خلفه { فَأَنّهُ ُيضِلّ ُه وَ َيهْدِيهِ إِلَىا عَذَابِ ال ّ
{ أَنّهُ مَن َت َو ّ
ضدّان ،فكيف نجمع بينهما؟
[الحج ]4 :يضله ويهديه ِ
المرادُ :يضِلّه عن طريق الحق والخير ،ويهديه أي :للشر؛ لن معنى الهداية :الدللة مُطْلقا ،فإن
دل ْلتَ على خير فهي هداية ،وإن دللتَ على شر فهي أيضا هداية.
جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ
حشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُو ْا وَأَ ْزوَا َ
واقرأ قوله سبحانه وتعالى {:ا ْ
جحِيمِ }[الصافات.]23 - 22 :
فَاهْدُو ُهمْ إِلَىا صِرَاطِ الْ َ
أي :دُلّوهم وخُذوا بأيديهم إلى جهنم.
ويقول تعالى في آية أخرى {:إِنّ الّذِينَ كَفَرُو ْا وَظََلمُواْ لَمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َلهُ ْم َولَ لِ َيهْدِ َيهُمْ طَرِيقا *
جهَنّمَ[} ..النساء.]169 - 168 :
ِإلّ طَرِيقَ َ
والسّعير :هي النار المتوهّجة التي ل تخمد ول تنطفئ.
ثم يقول الحق سبحانه { :ياأَ ّيهَا النّاسُ إِن كُن ُتمْ فِي رَ ْيبٍ مّنَ الْ َب ْعثِ فَإِنّا خََلقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن
طفَةٍ ُثمّ مِنْ عََلقَةٍ ثُمّ.} ..
نّ ْ
()2581 /
قوله { :ياأَ ّيهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَ ْيبٍ مّنَ الْ َب ْعثِ[ } ..الحج.]5 :
الريب :الشك .فالمعنى :إنْ كنتم شاكّين في مسألة البعث ،فإليكم الدليل على صِدْقه { فَإِنّا خََلقْنَاكُمْ
مّن تُرَابٍ[ } ..الحج ]5 :أي :الخَلْق الول ،وهو آدم عليه السلم ،أما جمهرة الناس بعد آدم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فخُلِقوا من (نطفة) حية من إنسان حي.
والمتتبع ليات القرآن يجد الحق -سبحانه وتعالى -يقول مرة في خَلْق النسان { :مّن تُرَابٍ} ..
حمَإٍ مّسْنُونٍ} ..
[الحج ،]5 :ومرة{ مِن مّآءٍ[} ..الطارق ،]6 :و{ مّن طِينٍ[} ..النعام ،]2 :و{ مّنْ َ
[الحجر ،]26 :و{ مِن صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ[} ..الرحمن ]14 :وهذه التي دعتْ المستشرقين إلى
العتراض على أسلوب القرآن ،يقولون :من أيّ هذه الشياء خُِلقْتم؟
وهذا العتراض ناشيء من عدم َفهْم لغة القرآن ،فالتراب والماء والطين والحمأ والمسنون
والصلصال ،كلها مراحل متعددة للشيء الواحد ،فإذا وضعتَ الماء على التراب صار طينا ،فإنْ
تركتَ الطين حتى يتخمّر ،ويتداخل بعضه في بعض حتى ل تستطيع أنْ تُميّز عنصرا فيه عن
ف فهو صلصال
ج ّ
الخر .وهذا عندما يعطَنُ وتتغير رائحته يكون هو الحمأ المسنون ،فإنْ َ
كالفخار ،ومنه خلق الُ النسان وصوّره ،ونفخ فيه من روحه ،إذن :هذه مراحل للشيء الواحد،
ومرور الشيء بمراحل مختلفة ل يُغيّره.
طفَةٍ[ } ..الحج:
ثم تكلم سبحانه عن الخَلْق الثاني بعد آدم عليه السلم ،وهم ذريته ،فقال { :مِن نّ ْ
]5والنطفة في الصل هي قطرة الماء العَذْب ،كما جاء في قول الشاعرَ :بقَايَا ِنطَافٍ أو َدعَ الغيمُ
صَ ْفوَهَا مُثقّلَةُ الرجَاء زُرْقُ الجَوانبِول تظهر زُرْقة الماء إل إذا كان صافيا ل يشوبه شيء،
وكذلك النطفة هي خلصة الخلصة ،لن جسم النسان تحدث فيه عملية الحتراق ،وعملية
اليض أي :الهدم والبناء بصفة مستمرة ينتج عنها خروج الفضلت المختلفة من الجسم :فالبول،
والغائط ،والعرق ،والدموع ،وصَمْغ الذن ،كلها فضلت ناتجة عن احتراق الطعام بداخل الجسم
حيث يمتص الجسم خلصة الغذاء ،وينقلها إلى الدم.
ومن هذه الخلصة يُستخلص منيّ النسان الذي تؤخذ منه النطفة ،فهو -إذن -خلصة
صفّاها
الخلصة في النسان ،ومنه يحدث الحمل ،ويتكّون الجنين ،وكأن الخالق -عز وجل -قد َ
هذه التصفية ونقّاها كل هذا النقاء؛ لنها ستكون أصْلً لكرم مخلوقاته ،وهو النسان.
وهذه النطفة ل تنزل من النسان إل في عملية الجماع ،وهي ألذّ متعة في وجود النسان الحيّ،
لماذا؟ لو تأملتَ متعة النسان ولذاته الخرى مثل :لذة ال ّذوْق ،أو الشم ،أو الملمس ،فهي لذّاتٌ
معروفة محددة بحاسّة معينة من حواس النسان ،أمّا هذه اللذة المصاحبة لنزول المنيّ أثناء هذه
العملية الجنسية فهي لذة شاملة يهتز لها الجسم كله ،ول تستطيع أنْ تُحدّد فيها منطقة الحساس،
بل كل ذرة من ذرات الجسم تحسها.
لذلك أمرنا ربنا -عز وجل -أن نغتسل بعد هذه العملية؛ لنها شغلتْ كل ذرة من ذرات
تكوينك ،وربما -عند العارفين بال -ل تغفل عن ال تعالى إل في هذه اللحظة؛ لذلك كان المر
بالغتسال بعدها ،هو قول العلماء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما أهل المعرفة عن ال وأهل الشطح وأهل الفيوضات فيقولون :إن ال خلق آدم من طين ،وجعل
نَسْله من هذه النطفة الحية التي وضعها في حواء ،ثم أتى منها كل الخَلْق بعده ،فكأن في كل واحد
سلٌ بعد آدم ،فهذه الذرة موجودة
منا ذرة من أبيه آدم؛ لنه لو طرأ على هذه الذرة موت ما كان َن ْ
فيك في النطفة التي تلقيها ويأتي منها ولدك ،وهي أصْفى شيء فيك؛ لنها الذرة التي شهدتْ
الخَلْق الول خَلْق أبيك آدم عليه السلم.
وقد قرّبنا هذه المسألة وقلنا :لو أنك أخذت سنتيمترا من مادة ملونة ،ووضعته في قارورة ماء ،ثم
ج القارورة حتى اختلط الماء بالمادة الملونة فإن كل قطرة من الماء بها ذرة من هذه
أخذتَ تر ّ
ت القارورة في برميل..الخ.
المادة ،وهكذا لو ألقي َ
إذن :فكل إنسان مِنّا فيه ذرة من أبيه آدم عليه السلم ،هذه الذرة شهدتْ خَلْق آدم ،وشهدتْ العهد
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُمْ
الول الذي أخذه ال على عباده في قوله تعالى {:وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ُ
ستُ بِرَ ّبكُمْ[} ..العراف.]172 :
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
وَأَ ْ
لذلك؛ يُسمّي ال تعالى إرسال الرسل َبعْثا فيقولَ {:ب َعثَ اللّهُ رَسُولً }[الفرقان ]41 :بعثه :كأنه كان
ظهْر آدم عليه
موجودا وله َأصْل في رسالة مباشرة من ال حين أخذ العهد على عبادة ،وهم في َ
السلم ،كما يخاطب الرسول بقولهَ {:ف َذكّرْ إِ ّنمَآ أَنتَ مُ َذكّرٌ }[الغاشية ]21 :أي :مُذكّر بالعهد القديم
الذي أخذناه على أنفسنا.
ستُ
سهِمْ أَلَ ْ
ش َهدَهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ
لذلك اقرأ الية {:وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
ش ِهدْنَآ[} ..العراف.]172 :
بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا َ
ن يأتي الهوى في النفوس{ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا
هذا في مرحلة الذّرّ قبل أ ْ
غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ َأشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْبلُ َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْ ِدهِمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُبْطِلُونَ }
[العراف]173 - 172 :
إذن :بعث ال الرسل لتُذكّر بالعهد الول ،حتى ل تحدث الغفلة ،وحتى تقيم على الناس الحجة.
ثم يقول تعالىُ } :ثمّ مِنْ عََلقَةٍ[ { ..الحج ]5 :سمّيت النطفة علقة؛ لنها تعلَقُ بالرحم ،يقول تعالى
سوّىا }[القيامة.]38 - 37 :
طفَةً مّن مّ ِنيّ ُيمْنَىا * ثُمّ كَانَ عََلقَةً فَخََلقَ فَ َ
في آية أخرى {:أََلمْ َيكُ نُ ْ
فالمنيّ هو السائل الذي يحمل النطفة ،وهي الخلصة التي يتكوّن منها الجنين ،والعَلَقة هنا هي
البُو ْيضَة المخصّبة ،فبعد أنْ كان للبويضة تعلّق بالم ،وللحيوان المنوي (النطفة) تعلّق بالب،
اجتمعا في تعلّق جديد والتقيَا ليتشبّثا بجدار الرحم ،وكأن فيها ذاتية تجعلها تعلَق بنفسها ،يُسمّونها
(زيجوت).
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صغيرة َقدْر ما يُمضغ من الطعام ،وهو خليط من عِدّة أشياء ،كما لو أكلتَ مثلً قطعة لحم مع
ملعقة خضار مع ملعقة أرز ،وبالمضغ يتحوّل هذا إلى خليط ،ذلك لن جسم النسان ل يتكّون من
عنصر واحد ،بل من ستة عشر عنصرا.
خّلقَةٍ وَغَيْرِ ُمخَّلقَةٍ[ { ..الحج ]5 :معنى مخلقة يعني :يظهر عليها هيكل الجسم،
هذه المضغة } مّ َ
وتتشكّل على صورته ،فهذه للرأس ،وهذه للذراع ،وهذه للرّجْل وهكذا ،يعني تخلّقتْ على هيئة
النسان.
أما غير المخلّقة ،فقد عرفنا مؤخرا أنها الخليا التي تُعوّض الجسم وتُرقّعه إذا أصابه عَطَب فهي
بمثابة (احتياطي) لعادة تركيب ما تلف من أنسجة الجسم وترميمها ،كما يحدث مثلً في حالة
الجُرْح فإنْ تركتَه لطبيعة الجسم يندمل شيئا فشيئا ،دون أنْ يتركَ أثرا.
نرى هذا في أولد الفلحين ،حين يُجرح الواحد منهم ،أو تظهر عنده بعض الدمامل ،فيتركونها
لمقاومة الجسم الطبيعية ،وبعد فترة تتلشى هذه الدمامل دون أنْ تتركَ أثرا على الطلق؛ لنهم
تركوا الجسم للصيدلية الربانية.
أما إذا تدخّلنا في الجُرْح بمواد كيماوية إو خياطة أو خلفه فل ُبدّ أن يترك أثرا ،فترى مكانه
لمعا؛ لن هذه المواد أتلفت مسام الجسم؛ لذلك نجد مثل هذه الماكن من الجسم قد تغيرتْ ،ويميل
حكّها (وهرشها)؛ لن هذه المسام كانت تُخرِج بعض فضلت الجسم على هيئة عرق،
النسان إلى َ
فلما انسدت هذه المسام سببت هذه الظاهرة .هذا كله لننا تدخّلْنا في الطبيعة التي خلقها ال.
إذن :فمعنى } وَغَيْرِ مُخَّلقَةٍ[ { ..الحج ]5 :هي الصيدلية التي تُعوّض وتُعيد بناء ما تلف من جسم
النسان.
سمّى[ { ..الحج ]5 :أي:
جلٍ مّ َ
ثم يقول سبحانه } :لّنُبَيّنَ َل ُك ْم وَ ُنقِرّ فِي الَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىا أَ َ
نُوضّح لكم كل ما يتعلّق بهذه المسألة } وَ ُنقِرّ فِي الَرْحَامِ مَا نَشَآءُ[ { ..الحج ]5 :وهي المضْغة
سمّى[ { ..الحج ]5 :أو
جلٍ مّ َ
ن يولد؛ لذلك قال } :إِلَىا أَ َ
التي قُدّر لها أنْ تكون جنينا يكتمل إلى أ ْ
نسقطه ميتا قبل ولدته.
ن قلتَ :وما الحكمة من خَلْقه وتصويره ،إنْ كان قد ُقدّر له أنْ يموت جنينا؟ نقول :لنعرف أن
فإ ْ
الموت أمر ُمطْلق ل رابطَ له ول سِنّ ،فالموت يكون للشيخ كما يكون للجنين في بطن أمه ،ففي
ي وقت ينتهي الجل.
أ ّ
ج ُكمْ[ { ..الحج]5 :بصيغة الجمع ولم
طفْلً[ { ..الحج ]5 :قالُ } :نخْرِ ُ
ج ُكمْ ِ
وقوله تعالى } :ثُمّ ُنخْرِ ُ
طفْلً[ { ..الحج ]5 :بصيغة المفرد ،لماذا؟ قالوا :في اللغة ألفاظ يستوي فيها
يقُلْ :أطفالً إنما } ِ
المفرد والجمع ،فطفل هنا بمعنى أطفال ،وقد وردتْ أطفال في موضع آخر في قوله سبحانه:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدْل ،ورجال عَدْل .وفي قصة سيدنا إبراهيم -عليه السلم -يتكلم عن
وكما تقول هذا رجل َ
ع ُدوّ لِي[} ..الشعراء ]77 :ولم ي ُقلْ :أعداء .وحينما تكلم عن ضَيْفه قال{:
الصنام فيقول {:فَإِ ّنهُمْ َ
َهؤُل ِء ضَيْفِي[} ..الحجر ]68 :ولم يقل :ضيوفي ،إذن :المفرد هنا يُؤدّي معنى الجمع.
ثم يقول سبحانهُ } :ثمّ لِتَبُْلغُواْ أَشُ ّد ُكمْ[ { ..الحج ]5 :وهكذا ،وسبق أنْ تحدّثنا عن مراحل عمر
النسان ،وأنه يمر بمرحلة الرّشْد :رُشْد البنية حين يصبح قادرا على إنجاب مثله ،ورُشْد العقل
حين يصبح قادرا على التصرّف السليم ،ويُحسن الختيار بين البدائل.
ثم تأتي مرحلة الشد {:حَتّىا ِإذَا بَلَغَ أَشُ ّدهُ[} ..الحقاف ]15 :يعني :نضج ُنضْجا من حوادث
الحياة أيضا.
ثم يقول تعالىَ } :ومِنكُمْ مّن يُ َت َوفّىا َومِنكُمْ مّن يُرَدّ إِلَىا أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ[ { ..الحج ]5 :وأرذل العمر
خوَر والضعف } ِلكَيْلَ َيعْلَمَ مِن َبعْدِ عِ ْلمٍ شَيْئا{ ..
يعني رديئه ،حين تظهر على النسان علمات ال َ
[الحج ]5 :لنه ينسى ،وعندها يعرف أن صحته وقوته وسلطانه ليست ذاتية فيه ،إنما موهوبة له
من ال.
وإذا بلغ الرجل أرذلَ العمر يعود من جديد إلى مرحلة الطفولة تدريجيا ،فيحتاج لمَنْ يأخذ بيده
ليقوم أو ليمشي ،كما تأخذ بيد الطفل الصغير ،فإذا تكلّم يتهته ويتلعثم كالطفل الذي يتعلم الكلم..
وهكذا في جميع شئونه.
لذلك يقولون :الزواج المبكر أقرب طريق لنجاب (والد) يعولُك في طفولة شيخوختك ،ولم ي ُقلْ:
ولدا؛ لنه سيقوم معك فيما بعد بدوْر الوالد ،يقولون :لحق والده يعني سنّهما متقارب.
لكن ،لماذا يُ َر ّد بعضنا إلى أرذل العمر دون بعض؟ الحق سبحانه جعلها نماذج حتى ل نقول :يا
ل العمر لصبح المر صعبا علينا ،فمن
ليت أعمارنا تطول؛ لن أعمار الجميع لو طالتْ إلى أر َذ ِ
رحمة ال بنا أنْ خلق الموت.
ت وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ
ت وَرَ َب ْ
ثم يقول تعالى } :وَتَرَى الَ ْرضَ هَامِ َدةً فَِإذَآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّز ْ
َبهِيجٍ { [الحج]5 :
أي :كما كان خَلْق النسان من تراب ،ثم من نطفة ،ثم من علقة ،ثم من ُمضْغة مُخلّقة وغير
ن مات ،ومنهم مَنْ يُرَدّ إلى أرذَل العمر ،كذلك الحال
مُخلّقة ،ثم أخرجه طفلً ،وبلغ َأشُ ّدهُ ،ومنهم مَ ْ
في الرض } :وَتَرَى الَ ْرضَ هَامِ َدةً[ { ..الحج.]5 :
علَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّزتْ[ { ..الحج]5 :
هامدة :ساكنة ،ومنه قولنا للولد كثيرالحركة :اهمد } فَِإذَآ أَنزَلْنَا َ
أي :تحركتْ ذراتُها بالنبات بعد سكونها.
والهتزاز :تحرّك ما كنت تظنه ثابتا ،وليس ما كان ثابتا في الواقع؛ لن لكل كائن حركة في
ذاته ،حتى قطعة الحديد الجامدة لها حركة بين ذراتها ،لكن ليس لديْك من وسائل الدراك ما
تدرك به هذه الحركة .ولو تأملت المغناطيس لدركتَ هذه الحركة بين ذراته ،فحين تُدلّك القضيب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الممغنط وتُمرّره على قضيب آخر غير مُمغنط في اتجاه واحد ،فإنه يكتسب منه المغناطيسية،
وتمرير المغناطيس في اتجاه واحد معناه تعديل للذرات لتحمل شحنة واحدة سالبة أو موجبة ،فإن
اختلف اتجاه الدّلْك فإن الذرات أيضا تختلف.
إذن :في الحديد -رمز الصلبة والجمود -حركة وحياة تناسبه ،وإنْ خُيّل إليك أنه أصمّ جامد
في ظاهرة.
لذلك نقول } هَامِ َدةً[ { ..الحج ]5 :يعني :ساكنة في َرأْي العلم ،حيث ل نباتَ فيها ثم } اهْتَ ّزتْ{ ..
[الحج ]5 :يعني :زادتْ ورَ َبتْ وتحركتْ لخراج النبات ،إنما هي في الحقيقة لم تكُنْ ساكنة
مُطْلقا؛ لن فيها حركة ذاتية بين ذراتها.
ومعنى } :وَرَ َبتْ[ { ..الحج ]5 :أي :زادت عن حجمها ،كما تزيد حبة الفول مثلً حين تُوضَع في
الماء ،وتأخذ حظها من الرطوبة ،وكذلك في جميع البقول ،وهذه الزيادة في حجم الحبة هي التي
تفلقها إلى فلقتين في عملية النبات ،ويخرج منها زبان يتجه إلى أعلى فيكون الساق الذي يبحث
عن الهواء ،وإلى أسفل فيكون الجذر الذي يبحث عن الماء .وتظل هاتان الفلقتان مصدرَ غذاءٍ
ن تمتصّ غذاءها من التربة ،فإذا أ ّدتْ هاتان الفلقتان مهمتهما في
للنبتة حتى تقوى ،وتستطيع أ ْ
تغذية النبتة تحوّلتَا إلى ورقتين ،وهما أول ورقتين في تكوين النبتة.
كذلك ،نلحظ في تغذية النبات أنه ل يأخذ ُكلّ غذائه من التربة ،إنما يتغذى بنسبة ربما 90بالمائة
من غذائه من الهواء ،وتستطيع أن تلحظ هذه الظاهرة إذا نظرتَ إلى إصيص به زرع ،فسوف
تجد ما نقص من التربة كمية ل تُذكَر بالنسبة لحجم النبات الذي خرج منها.
وحين تتأمل جذر النبات تجد فيه آية من آيات ال ،فالجذر يمتد إلى أن يصل إلى الرطوبة أو
الماء ،حتى إذا وصل إلى مصدر غذائه توقّف ،ولك أن تنظر مثلً إلى (كوز الحلبة) فسوف تجد
الجذور غير متساوية في الطول ،بحسب بُعد الحبة عن مصدر الرطوبة.
} وَرَ َبتْ[ { ..الحج ]5 :أي :زادت وانتفشتْ ،كما يحدث في العجين حين تضع فيه الخميرة }
وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ { [الحج.]5 :
هذه صورة حيّة واقعية نلحظها جميعا عيانا :الرض تكون جرداء ساكنة ،ل حركةَ فيها ،فإذا ما
نزل عليها الماء تغيرتْ وتحركتْ ذراتها وتشققتْ عن النبات ،ولو حتى بالمطر الصناعي ،كما
نرى في عرفة مثلً ينزل عليها المطر الصناعي فيخض ّر الوادي ،لكن حينما ينقطع الماء يعود
كما كان لعدم موالة الماء ،ولو واليتَ عليها بالماء لصارت غابات وأحراشا وبساتين كالتي نراها
في أوروبا.
سقِي المرتفع والمنخفض على السواء ،على خلف
والمطر ل يحتاج أنْ تُسوّى له الرض؛ لنه ي ْ
الرض التي تسقيها أنت ل بُدّ أن تُسوّيها للماء حتى يصل إليها جميعا.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا أنزل ال تعالى المطر على الرض الجدباء الجرداء تراها تتفتق بالنبات ،فمن أين جاءت هذه
البذور؟ وكيف لم ُيصِبْها العطب ،وهي في الرض طوال هذه الفترات؟ الرض هي التي تحفظها
من العطب إلى أن تجد البيئة المناسبة للنبات ،وهذا النبات الذي يخرج من الرض دون تدخّل
عذْى).
النسان يسمونه ( ِ
أما عن َنقْل هذه البذور في الصحراء وفي الوديان ،فهي تنتقل بواسطة الريح ،أو في َروَث
الحيوانات.
ومعنى } :مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ { [الحج ]5 :الزوج :البعض يظن الزوج يعني الثنين ،إنما الزوج
كلمة مفردة تدل على واحد مفرد معه مِثْله من جنسه ،ففي قوله تعالى {:وَأَنّهُ خَلَقَ ال ّز ْوجَيْنِ ال ّذكَرَ
وَالُنثَىا }[النجم ]45 :فكل منهما زوج ،وكما نقول :زوج أحذية يعني فردة حذاء معها فردة
أخرى مثلها ،ومثلها كلمة توأم يعني مولود معه مثله فكل واحد منهما يسمى (توأم) وهما معا
(توأمان) ول نقول :هما توأم.
وهنا مظهر من مظاهر ِدقّة الداء القرآنيُ } :كلّ َزوْجٍ[ { ..الحج ]5 :لن كل المخلوقات ،سواء
أكانت جمادا أو نباتا أو حيوانا ،ل بُدّ فيه من ذكر وأنثى ،هذه الزوجية قال ال فيهاَ {:ومِن ُكلّ
شيْءٍ خََلقْنَا َز ْوجَيْنِ[} ..الذاريات ]49 :حتى في الجماد الذي نظنه جمادا ل حركةَ فيه ،يتكّون من
َ
زوجين :سالب وموجب في الكهرباء ،وفي الذرة ،وفي المغناطيس ،فكلّ شيء يعطي أعلى منه،
فل بُدّ فيه من زوجيْن.
لذلك ،فالحق سبحانه وتعالى حينما عالج هذه المسألة عالجها برصيد احتياطي في القرآن ،يقول
سهِ ْم َو ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس:
ض َومِنْ أَنفُ ِ
خلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِبتُ الَ ْر ُ
سبحانه {:سُبْحَانَ الّذِي َ
.]36
فقوله سبحانهَ {:و ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس ]36 :رصيد عالٍ لما سيأتي به العلم من اكتشافات تثبت
صِدْق القرآن على مَرّ اليام ،ففي الماضي عرفنا الكهرباء ،وأنها سالب وموجب فقلنا :هذه مما ل
نعلم ،وفي الماضي القريب عرفنا الذرة فقلنا :هذه مما ل نعلم ،وفي الماضي القريب عرفنا الذرة
فقلنا :هذه مما ل نعلم ،وهذا وجه من وجوه العجاز في القرآن الكريم.
إذن :خُذْها قضية عامة :كل شيء يتكاثر إلى أعلى منه ،فل ُبدّ ان فيه زوجية.
فقوله تعالى } :وَأَنبَتَتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ { [الحج ]5 :فالزوج من النبات مفرد معه مثله ،وهذا
واضح في لقاح الذكر والنثى ،هذا اللقاح قد يكون في الذكر وحده ،أو في النثى وحدها كما في
النخل مثلً ،وقد يكون العنصران معا في النبات الواحد كما في سنبلة القمح أو كوز الذرة.
ولو تأملت نبات الذرة لوجدتَ له في أعله (شوشة) بها حبيبات دقيقة تحمل لقاح الذكورة ،وفي
منتصف العود يخرج الكوز ،وبه شعيرات تصل كل شعرة منها إلى حبة من حبات الذرة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المصطفة على الكوز ،وهذه تحمل لقاح النوثة ،فإذا ه ّبتْ الريح ه ّزتْ أعلى العود فتساقطت
لقاحات الذكورة على هذه الشعيرات فلقحتها؛ لذلك نرى الحبة التي ل يخرج منها شعرة إلى
خارج الغلف تضمر وتموت؛ لنها لم تأخذ حظها من اللقاح.
ومعنىَ } :بهِيجٍ { [الحج ]5 :من البهجة ،فالمراد :الشيء حسن المنظر والجميل الذي يجذب
النظار إليه ،وبهجة النظر إلى النبات شائعة ل تقتصر على مَنْ يملكه بخلف الكل منه ،فحين
تمر ببستان أو حديقة تتمتع بمنظرها وجمال ألوانها وتُسَرّ برائحتها.
وفي النفس النسانية ملكات تتغذى على هذه الخضرة ،وعلى هذه اللوان وتنبسط لهذا الجمال،
ولو لم تكُنْ تمتلكه.
لذلك الحق -سبحانه وتعالى -ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى {:ا ْنظُرُواْ إِلِىا َثمَ ِرهِ إِذَآ
أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ[} ..النعام ]99 :أي :أن النظر مشاع للجميع ،ثم بعد ذلك اتركوا الخصوصيات
لصحابها ،تمتّعوا بما خلق ال ،ففي النفس ملكَات أخرى غير الطعام.
ن وَحِينَ تَسْرَحُونَ }[النحل]6 :
جمَالٌ حِينَ تُرِيحُو َ
واقرأ أيضا قوله تعالى في الخيل {:وََلكُمْ فِيهَا َ
فليست الخيل لحمل الثقال وفقط ،وإنما فيها جمال وأُبّهة ،تُرضِي شيئا في نفوسكم ،وتُشْبِع ملكَة
من ملكاتها.
ثم يقول الحق سبحانه } :ذاِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ{ ..
.
()2582 /
أي :أن ما حدث في خَلْق النسان تكوينا ،وما حدث في إنبات الزرع تكوينا ونماءً ،يردّ هذا كله
إلى أن ال تعالى { ُهوَ ا ْلحَقّ[ } ..الحج ]6 :فلماذا أتى بالحق ولم ي ُقلْ الخالق؟ قالوا :لن الخالق
قد يخلق شيئا ثم يتخلى عنه ،أمّا ال -سبحانه وتعالى -فهو الخالق الحق ،ومعنى الحق أي:
الثابت الذي ل يتغير ،كذلك عطاؤه ل يتغير ،فسوف يظل سبحانه خالقا يعطيك كل يوم؛ لن
عطاءه سبحانه دائم ل ينفد.
وإذا نظرتَ إلى الوجود كله لوجدته دروة مكررة ،فال عز وجل قد خلق الرض وقدّر فيها
أقواتها ،فمثلً كمية الماء التي خلقها ال في الكون هي هي لم تَ ِزدْ ولم تنقص؛ لن للماء دورة في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحياة ،فالماء الذي تشربه طوال حياتك ل يُنقص في كمية الماء الموجود؛ لنه سيخرج منك على
صورة فضلت ليعود في دورة الماء في الكون من جديد.
وهكذا في الطعام الذي تأكله ،وفي الوردة الجميلة الطرية التي نقطفها ،كل ما في الوجود له دورة
يدور فيها ،وهذا معنىَ {:وقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا[} ..فصلت]10 :
حقّ[} ..الحج ]6 :هنا الثابت الذي ل يتغير في الخَلْق وفي العطاء .فل تظن أن عطاء
فمعنى {:الْ َ
ال لك شيء جديد ،إنما هو عطاء قديم يتكرر لك ولغيرك.
ثم يقول تعالى { :وَأَنّهُ يُحْيِـي ا ْل َموْتَىا[ } ..الحج ]6 :كما قُلْنا في الية السابقة { :وَتَرَى الَ ْرضَ
هَامِ َدةً[ } ..الحج ]5 :أي :ساكنة ل حياةَ فيها ،وال وحده القادر على إحيائها؛ لذلك نجد علماء
الفقه يُسمّون الرض التي نصلحها للزراعة (إحياء الموات) فال تعالى هو القادر وحده على إحياء
شيْءٍ قَدِيرٌ } [الحج]6 :
كل ميت؛ لذلك يقول بعدها { :وَأَنّهُ عَلَىا ُكلّ َ
وما دام المر كذلك وما ُدمْتم تشاهدون آية إحياء الموات في الرض المتية فل تنكروا البعث
وإعادتكم بعد الموت .فيقول تعالى { :وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَ ٌة لّ رَ ْيبَ فِيهَا.} ..
()2583 /
وَأَنّ السّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَ ْيبَ فِيهَا وَأَنّ اللّهَ يَ ْب َعثُ مَنْ فِي ا ْلقُبُورِ ()7
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كل شيء قدير ،والساعة آتية ل رَ ْيبَ فيها ،وهو سبحانه يبعث مَنْ في القبور.
ثم يقول الحق سبحانه { :ومِنَ النّاسِ مَن يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ} ..
()2584 /
َومِنَ النّاسِ مَنْ يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِ ْل ٍم وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ ()8
تكلمنا في أول السورة عن الجدل بالعلم والموعظة الحسنة وقلنا :العلم إما علم بَدْهي أو علم
استدللي عقليّ ،أو علم بالوحي من ال سبحانه ،أما هؤلء الذين يجادلون في ال بغير علم بدهي
{ َولَ هُدًى[ } ..الحج ]8 :يعني :علم استدللي عقليَ { ،ولَ كِتَابٍ مّنِيرٍ } [الحج ]8 :يعني :وحي
من ال ،فهؤلء أهل سفسطة وجدل عقيم ل فائدة منه ،وعلى العاقل حين يصادف مثل هذا النوع
من الجدال أن ل يجاريه في سفسطته؛ لنه لن يصل معه إلى مفيد ،إنما عليه أنْ ينقله إلى مجال
ل يحتمل السفسطة.
ولنا في هذه المسألة م َثلٌ وقُدْوة بسيدنا إبراهيم -عليه السلم -حينما جادل النمرود ،اقرأ قول
ال تعالى {:أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ
يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ قَالَ أَنَا ُأحْيِـي وَُأمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ الّذِي كَفَرَ[} ..البقرة]258 :
سفْسَطة حين قال{ أَنَا ُأحْيِـي وَُأمِيتُ[} ..البقرة ]258 :لنه ما فعل
لقد اتبع النمرودُ أسلوب ال ّ
حقيق َة الموت ،ول حقيقة الحياة ،فأراد إبراهيم أن يُلجئه إلى مجال ل سفسطة فيه؛ لينهي هذا
شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا
خصْمه باب اللدد والتهريج ،فقال {:فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ
الموقف ويسدّ على َ
مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ[} ..البقرة ]258 :وكانت النتيجة أنْ حَارَ عدو ال جوابا{ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ[} ..البقرة:
]258أي :دُهِش وتحيّر
.
()2585 /
{ ثَا ِنيَ[ } ..الحج ]9 :ثَنَى الشيء يعني :لَواه ،وعِطْفه :يعني جَنْبه ،والنسان في تكوينه العام له
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ظهْر ،وهذه العضاء تُؤدّي َدوْرا في حياته وحركته ،وتدلّ
رأس ورقبة وكتفان ،وله جانبان و َ
على تصرفاته ،فالذي يجادل في ال عن غير علم ول هدى ول كتاب منير يَثنِي عنك جانبه،
ويَلْوي رأسه؛ لن الكلم ل يعجبه؛ ليس لن كلمك باطل ،إنما ل يعجبه لنه أفلس وليست لديه
الحجة التي يواجهك بها ،فل يملك إل هذه الحركة.
لذلك يُسمّى هذا الجدل " مراءً " ،ومنه قوله تعالىَ {:أفَ ُتمَارُونَهُ عَلَىا مَا يَرَىا }[النجم ]12 :يعني:
أتجادلون رسول ال في أمر رآه؟ والمراء :هو الجَدل العنيف ،مأخوذ من (مَرْى الضرع) يعني:
حَلْب ما فيه من لبن إلى آخر قطرة فيه ،وأهل الريف يقولون عن هذه العملية (قرقر البقرة)
ق في ضرعها شيء.
يعني :أخذ كل لبنها ولم يَ ْب َ
خصْمه ،ولو
كذلك المجادل بالباطل ،أو المجادل بل علم ول حجة تراه يكابر ليأخذ آخر ما عند َ
كان عنده علم وحجة لنهَى الموقف دون لجج أو مكابرة.
والقرآن الكريم يعطينا صورة لهذا الجدل والعراض عن الحق ،فيقول سبحانه {:وَإِذَا قِيلَ َل ُهمْ
ن وَهُم مّسْ َتكْبِرُونَ }[المنافقون.]5 :
س ُه ْم وَرَأَيْ َتهُمْ َيصُدّو َ
َتعَاَلوْاْ يَسْ َت ْغفِرْ َل ُكمْ رَسُولُ اللّهِ َلوّوْاْ رُءُو َ
والقرآن يعطينا التدرج الطبيعي للعراض عن الحق الذي يبدأ بَلىّ الرأس ،ثم الجانب ،ثم يعطيك
دُبُره وعَرْض أكتافه ،هذه كلها ملحظ للفرار من الجدل ،حين ل يقوى على القناع.
ضلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ[ } ..الحج ]9 :هذه عِلّة ثَنْى جانبه ،لنه يريد
طفِهِ لِ ُي ِ
ثم يقول سبحانه { :ثَا ِنيَ عِ ْ
خصْمه وما يلقيه من حجج ودلئل لنهزم ولم يتمكّن من
أنْ يُضل مَنِ اهتدى ،فلو وقف يستمع ل َ
عطْفه هَرَبا من هذا الموقف الذي ل َيقْدر على مواجهته والتصدي له.
إضلل الناس؛ لذلك يَثْني ِ
فما جزاء هذا الصنف؟ يقول تعالىَ { :لهُ فِي الدّنْيَا خِ ْزيٌ[ } ..الحج ]9 :والخِزْي :الهوان والذّلّة،
هذا جزاء الدنيا قبل جزاء الخرة ،ألم يحدث للكفار هذا الخزي يوم بدر؟ ألم يُمسِك رسول ال
صلى ال عليه وسلم بقضيب في يده قبل المعركة ويشير به " :هذا مَصرع فلن ،وهذا مصرع
فلن " ويسمي صناديد الكفر ورؤوس الضلل في قريش؟ وبعد انتهاء المعركة كان المر كما
أخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وصُرِع كلّ هؤلء الصناديد في نفس الماكن التي أشار
إليها رسول ال.
لهُ سيدنا عبد ال بن مسعود ،سبحان ال ،عبد ال بن
ولما قُتِل في هذه المعركة أبو جهل عَ َ
مسعود راعي الغنم يعتلي ظهر سيد قريش ،عندها قال أبو جهل -وكان فيه َرمَق حياة :لقد
صعْبا يا ُروَيْعيّ الغنم ،يعني :ركبتني يا ابن اليه!! فأيّ خِزْي بعد هذا؟!
ارتقيتَ مُرْتقىً َ
وأبو سفيان بعد أن شفع له العباس رضي ال عنه عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ورأى
موكب النبي يوم الفتح ،وحوله رايات النصار في موكب رهيب مهيب ،لم يملك نفسه ولم يستطع
أنْ يُخفي ما في صدره ،فقال للعباس رضي ال :لقد أصبح مُلْك ابن أخيك قويا ،فقال له :إنها
النبوة يا أبا سفيان يعني :المسألة ليست مُلْكا ،إنما هي النبوة المؤيّدة من ال.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وسيدنا أبو بكر -رضي ال عنه -حينما استأذن عليه القوم في الدخول ،فأذِنَ للسابقين إلى
السلم من العبيد والموالي ،وترك بعض صناديد قريش على الباب( ،فورِ َمتْ) أنوفهم من هذا
المر وأغتاظوا ،وكان فيهم أبو سيدنا أبي بكر فقال له :أتأذن لهؤلء وتتركنا؟ فقال له :إنه
ت أنوفكم؟ وما بالكم
السلم الذي قدمهم عليكم .وقد شاهد عمر هذا الموقف فقال لهم :ما لكم و ِرمَ ْ
إذا أُذِن لهم على ربهم وتأخرتم أنتم.
فالغضب الحقيقي سيكون في الخرة حين يُنَادى بهؤلء إلى الجنة ،وتتأخرون أنتم في َهوْل
الموقف.
واقرأ قوله تعالى {:وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ * ُأوْلَـا ِئكَ ا ْل ُمقَرّبُونَ }[ الواقعة.]11 - 10 :
ثم يقول تعالى } :وَ ُنذِيقُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَذَابَ ا ْلحَرِيقِ { [الحج ]9 :فهذا الخِ ْزيُ الذي رََأوْه في الدنيا
عذَابَ الْحَرِيقِ { [الحج ]9 :الحريق :هو الذي
لن يُفلتهم من خِزْي وعذاب الخرة ،ومعنى } َ
يحرق غيره من شِدتّه ،كالنار التي أوقدوها لبراهيم -عليه السلم -وكانت تشوي الطير الذي
ك وَأَنّ{ ..
يمرّ بها في السماء فيقع مشويا .ثم يقول الحق سبحانه } :ذاِلكَ ِبمَا َق ّد َمتْ َيدَا َ
.
()2586 /
{ ذاِلكَ[ } ..الحج ]10 :يعني خِزْي الدنيا وعذاب الحريق في الخرة بما قدّمتْ ،وبما اقترفت
يداك ،ل ظُلْما منّا ول اعتداء ،فأنت الذي ظلمتَ نفسك ،كما قال سبحانهَ {:ومَا ظََلمْنَاهُ ْم وَلَـاكِن
سهُمْ يَظِْلمُونَ }[النحل]118 :
كَانُواْ أَ ْنفُ َ
وهل أخذناهم دون إنذار ،ودون أن نُجرّم هذا الفعل؟ لنك ل تعاقب شخصا على ذنب إل إذا كنتَ
قد نبّهته إليه ،وعرّفته بعقوبته ،فإنْ عاقبته دون علمه بأن هذا ذنب وهذه جريمة فقد ظلمتَه؛ لذلك
فأهل القانون يقولون :ل عقوبةَ إل بتجريم ،ول تجريمَ إل بنصّ.
وقد جاءكم النص الذي يُبيّن لكم ويُجرّم هذا الفعل ،وقد أبلغتُكم الرسل ،وسبق إليكم النذار ،كما
في قوله تعالىَ {:ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً }[السراء.]15 :
{ ذاِلكَ ِبمَا قَ ّد َمتْ يَدَاكَ[ } ..الحج ]10 :فهل الذنوب كلها تقديمُ اليد فقط؟
الذنوب :إما أقوال ،وإما أفعال ،وإما عمل من أعمال القلب ،كالحقد مثلً أو النفاق ..إلخ لكن في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الغالب ما تُزَاول الذنوب باليدي.
ثم يقول تعالى { :وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلّمٍ لّلعَبِيدِ } [الحج ]10 :ظلّم :صيغة مبالغة من الظلم ،تقول:
ظالم .فإنْ أردتَ المبالغة تقول :ظلّم ،كما تقول :فلن آكل وفلن أكُول ،فالفعل واحد ،لكن ما
ينشأ عنه مختلف ،والمبالغة في الفعل قد تكون في الفعل نفسه أو في تكراره ،فمثلً قد تأكل في
الوجبة الواحدة رغيفا واحدا ،وقد تأكل خمسة أرغفة هذه مبالغة في الوجبة الواحدة ،فأنت تأكل
ثلث وجبات ،لكن تبالغ في الوجبة الواحدة ،وقد تكون المبالغة في عدد الوجبات فتأكل في الوجبة
رغيفا واحدا ،لكن تأكل خمس وجبات بدلً من ثلث .فهذه مبالغة بتكرار الحدث.
وصيغة المبالغة لها معنى في الثبات ولها معنى في النفي :إذا قُ ْلتَ :فلن أكول وأثبتّ له المبالغة
فقد أثبتّ له أصل الفعل من باب َأوْلَى فهو آكل ،وإذا نفيتَ المبالغة ف َنفْي المبالغة ل ينفي الصل،
تقول :فلن ليس أكولً ،فهذا ل ينفي أنه آكل .فإذا طبّقنا هذه القاعدة على قوله تعالى { :وَأَنّ اللّهَ
لَيْسَ ِبظَلّمٍ لّلعَبِيدِ } [الحج ]10 :فهذا يعني أنه سبحانه وتعالى (ظالم) حاشا ل ،وهنا نقول :هناك
آيات أخرى تنفي الفعل ،كما في قوله تعالى {:وَلَ َيظْلِمُ رَ ّبكَ َأحَدا }[الكهف ]49 :وقوله تعالى{:
َومَا ظََلمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ ُهمُ الظّاِلمِينَ }[الزخرف.]76 :
كما أن صيغة المبالغة هنا جاءت مضافة للعبيد ،فعلى فرض المبالغة تكون مبالغة في تكرار
الحدث { ِبظَلّمٍ لّلعَبِيدِ } [الحج ]10 :ظلم هذا ،وظلم هذا ،فالمظلوم عبيد ،وليس عبدا واحدا.
ق الضعيف ،ويكون الظلم على قَدْر قوة الظالم وقدرته ،وعلى
والظلم في حقيقته أن يأخذ القويّ حَ ّ
هذا إنْ جاء الظلم من ال تعالى وعلى َقدْر قوته وقدرته فل شكّ أنه سيكون ظُلْما شديدا ل يتحمله
أحد ،فل نقول -إذن -ظالم بل ظلم ،وهكذا يتمشى المعنى مع صيغة المبالغة.
فالحق سبحانه ليس بظلم للعبيد؛ لنه بيّن الحلل والحرام ،وبيّن الجريمة ووضع لها العقوبة ،وقد
بّل َغتْ الرسل من بداية المر فل حُجّةَ لحد.
طمَأَنّ بِهِ} ..
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ومِنَ النّاسِ مَن َيعْبُدُ اللّهَ عَلَىا حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ
.
()2587 /
ج ِههِ
علَى وَ ْ
طمَأَنّ بِ ِه وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ا ْنقََلبَ َ
َومِنَ النّاسِ مَنْ َيعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ
خسِرَ الدّنْيَا وَالَْآخِ َرةَ ذَِلكَ ُهوَ الْخُسْرَانُ ا ْلمُبِينُ ()11
َ
قوله تعالىَ { :ومِنَ النّاسِ مَن َيعْبُدُ اللّهَ عَلَىا حَ ْرفٍ[ } ..الحج ]11 :العبادة :أنْ تطيع ال فيما أمر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فتنفذه ،وتطيعه فيما نهى فتجتنبه ،بعض الناس يعبد ال هذه العبادة طالما هو في خير دائم وسرور
طمَأَنّ بِهِ وَإِنْ
مستمر ،فإذا أصابه شَرّ أو وقع به مكروه ينقلب على وجهه { فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ
جهِهِ[ } ..الحج]11 :
َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ا ْنقَلَبَ عَلَىا وَ ْ
والحق سبحانه يريد من عبده أنْ يُقبل على عبادته في ثبات إيمان ،ل تزعزعه الحداث ،ول تهز
إيمانه فيتراجع ،ربك يريدك عبدا له في الخير وفي الشر ،في السراء وفي الضراء ،فكلهما فتنة
واختبار ،وما آمنتَ بال إل لنك علمتَ أنه إله حكيم عادل قادر ،ول بد أنْ تأخذ ما يجري عليك
من أحداث في ضوء هذه الصفات.
ن وجدوك
فإنْ أثقلتْك الحياة فاعلم أن وراء هذه حكمة إنْ لم تكن لك فلولدك من بعدك ،فلعلهم إ ْ
ط َغوْا ،ولعل حياة الضيق وقِلّة الرزق وتعبك لتوفر متطلبات
ط ِمعُوا وفسدوا و َ
في سعة وفي خير َ
الحياة يكون دافعا لهم.
طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق ]7 - 6 :وقوله تعالى{:
ن الِنسَانَ لَ َي ْ
واقرأ قوله تعالى {:كَلّ إِ ّ
جعُونَ }[النبياء.]35 :
وَنَبْلُوكُم بِالشّ ّر وَالْخَيْرِ فِتْنَ ًة وَإِلَيْنَا تُ ْر َ
ل ُبدّ أنْ تعرف هذه الحقائق ،وأنْ تؤمن بحكمة ربك في كل ما يُجريه عليك ،سواء أكان نعيما أو
ُبؤْسا ،فإنْ أصابك مرض أقعدك في بيتك َف ُقلْ :ماذا حدث خارج البيت ،أبعدني ال عنه وعافاني
منه؟ فلعل الخير فيما تظنه شرا ،كما قال تعالى {:وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ} ..
[البقرة.]216 :
وقد أجرى علماء الحصاء إحصاءات على بعض بيوتنا ،فوجدوا الخوة في البيت الواحد ،وفي
ظروف بيئية واحدة وأب واحد ،وأم واحدة ،حتى التعليم في المدرس على مستوى واحد ،ومع
ذلك تجد أحد البناء مستقيما ملتزما ،وتجد الخر على النقيض ،فلمّا بحثوا في سبب هذه الظاهرة
وجدوا أن الولد المستقيم كانت فترة تربيته وطفولته في وقت كان والده مريضا ويلزم بيته لمدة
ست سنوات ،فأخذ هذا الولد أكبر قِسْط من الرعاية والتربية ،ولم يجد الفرصة للخروج من البيت
أو الختلط برفاق السوء.
وفي نموذج آخر لحد البناء المنحرفين وجدوا أن سبب انحرافه أن والده في فترة تربيته وتنشئته
سعَة من
كان تاجرا ،وكان كثير السفار ،ومع ذلك كان ُيغْدِق على أسرته ،فتربّى الولد في َ
العيش ،بدون مراقبة الب.
وفي نموذج آخر وجدوا أخوين :أحدهما متفوق ،والخر فاشل ،ولما بحثوا أسباب ذلك رغم أنهما
يعيشان ظروفا واحدة وجدوا أن البن المتفوق صحته ضعيفة ،فمال إلى البيت والقراءة
والطلع ،وكان الخر صحيحا وسيما ،فمال إلى حياة الترف ،وقضى معظم وقته خارج البيت.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكَم؛ لنها ناشئة وجارية عليك بحكمة ربك وخالقك،
إذن :فالبتلءات لها مغانم ،ومن ورائها ِ
سعْيك ول من عمل يدك ،وما دامت كذلك فا ْرضَ بها ،واعبد ال بإخلص وإيمان
وليست من َ
ثابت في الخير وفي الشر.
علَىا حَ ْرفٍ[ { ..الحج ]11 :والحرف :هو طرف الشيء ،كأن تدخل فتجد
ومعنىَ } :يعْ ُبدُ اللّهَ َ
الغرفة ممتلئة فتجلس على طرف في آخر الجالسين ،وهذا عاد ًة ل يكون معه تمكّن واطمئنان،
كذلك مَنْ يعبد ال على حرف يعني :لم يتمكّن اليمان من قلبه ،وسرعان ما يُخرِجه البتلء عن
اليمان ،لنه عبد ال عبادةً غير متمكنة باليقين الذي يصدر عن المؤمن بإله حكيم فيما يُجريه
على عبده.
والية لم تترك شيئا من هواجس النفس البشرية سواء في الخير أو في الشر.
وتأمل قول ال تعالى } :فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ[ { ..الحج ]11 :وكذلك } :وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْ َنةٌ[ { ..الحج:
]11فأنت ل تقول :أصبتُ الخيرَ ،إنما الخير هو الذي أصابك وأتاك إلى بابك ،فأنت ل تبحث عن
جعَل لّهُ َمخْرَجا * وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ
رزقك بقدر ما يبحث هو عنك؛ لذلك يقول تعالىَ {:ومَن يَتّقِ اللّهَ يَ ْ
سبُ[} ..الطلق.]3 - 2 :
ث لَ يَحْ َت ِ
حَ ْي ُ
ويقول أهل المعرفة :رِزْقك أعلم بمكانك منك بمكانه ،يعني يعرف عنوانك أما أنت فل تعرف
عنوانه ،بدليل أنك قد تطلب الرزق في مكان فل تُرزَق منه بشيء ،وقد ترى الزرع في الحقول
زاهيا تأمل فيه المحصول الوفير ،وتبني عليه المال ،فإذا بعاصفة أو آفة تأتي عليه ،فل تُرزَق
منه حتى بما يسدّ ال ّرمَق.
ولنا عبرة ومثَلٌ في ابن أُذَيْنة حين ضاقت به الحال في المدينة ،فقالوا له :إن لك صحبة بهشام بن
عبد الملك الخليفة الموي فاذهب إليه ينالك من خير الخلفة ،وفعلً سافر ابن أذينة إلى صديقه،
وضرب إليه أكباد البل حتى الشام ،واستأذن فأَذن له ،واستقبله صاحبه ،وسأله عن حالة فقال:
في ضيق وفي شدة .وكان في مجلس الخليفة علماء فقال له :يا عروة ألست القائل -وكان ابن
س ْوفَ يأْتِينِي؟وهنا أحسّ عروة
أُذَيْنَة شاعراَ:لقَد عَلِمت ومَا السْرَافُ مِنْ خُُلقِي أَنّ الذي ُهوَ رِزْقي َ
أن الخليفة كسر خاطره ،وخَيّب أمله فيه ،فقال له :جزاك ال خيرا يا أمير المؤمنين ،لقد ذكّرت
مني ناسيا ،ون ّبهْتَ مني غافلً ،ثم انصرف.
فلما خرج ابن أُذيْنة من مجلس الخليفة ،وفكّر الخليفة في الموقف وأنّب نفسه على تصّرفه مع
صاحبه الذي قصد خَيْره ،وكيف أنه رَدّه بهذه الصورة ،فأراد أنْ يُصلِح هذا الخطأ ،فأرسل إليه
رسولً يحمل الهدايا الكثيرة ،إل أن رسول الخليفة كلما تبع ابن أُذَيْنة في مكان وجده قد غادره إلى
ن وصل إلى بيته ،فطرق الباب ،وأخبره أن أمير المؤمنين قد ندم على ما كان
مكان آخر ،إلى أ ْ
منه ،وهذه عطاياه وهداياه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سعَى َلهُ فَ ُيعَنّيني تطلّبه وََلوْ َقعَ ْدتُ أَتَانِي لَ يُعنّينيكذلك نلحظ
وهنا أكمل ابن أُذيْنة بيته الول ،فقال:أ ْ
طمَأَنّ ِب ِه وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ[ { ..الحج ]11 :ولم يقابل الخير
في هذه الية } :فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ
بالشر ،إنما سماها (فتْنَة) أي :اختبار وابتلء؛ لنه قد ينجح في هذا الختبار فل يكون شرا في
حقّه.
َ
جهِهِ { [الحج ]11 :يعني :عكس المر ،فبعد أنْ كان عابدا طائعا انقلب
ومعنى } :ا ْنقََلبَ عَلَىا وَ ْ
إلى الضّدّ فصار عاصيا } خَسِرَ الدّنْيَا وَالَخِ َرةَ[ { ..الحج ]11 :وخسْران النسان لعبادته خسران
كبي ٌر ل ُيجْبَر ول يُعوّضه شيء؛ لذلك يقول بعدها } :ذاِلكَ ُهوَ ا ْلخُسْرَانُ ا ْلمُبِينُ { [الحج ]11 :فهل
خسْران مبين ،وخسران غير مبين؟
هناك ُ
نعم :الخسران هو الخسارة التي تُعوّض ،أما الخسارة التي ل عِوضَ لها فهذه هي الخسران المبين
الذي يلزم النسان ول ينفكّ عنه ،وهو خُسْران ل يقتصر على الدنيا فقط فيمكن أنْ تُعوّضه أو
شدّتها .فالخسران المبين
تصبر عليه ،إنما يمتد للخرة حيث ل عِوضَ لخسارتها ول صَبْر على ِ
أي :المحيط الذي يُطوّق صاحبه.
لذلك نقول لمن فقد عزيزا عليه ،كالمرأة التي فقدت وحيدها مثلً :إنْ كان الفقيد حبيبا وغاليا
فبيعوه غاليا وادخلوا به الجنة ،ذلك حين تصبرون على َفقْده وتحتسبونه عند ال ،وإنْ كنتم خسرتم
ش َققْنَا الجيوب ،واعترضنا على قَدَر ال فيه
طمْنا الخدود و َ
به الدنيا فل تخسروا به الخرة ،فإنْ ل َ
فقد خسرنَا به الدنيا والخرة.
وصدق رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال " :عجبا لمر المؤمن ،إن أمره كله خير :إن
أصابته سراء شكر فكان خيرا له ،وإنْ أصابته ضراء صبر فكان خيرا له ،وليس ذلك إل للمؤمن
".
والصبر عند البلء ،والشكر عند الرخاء مرتبة من مراتب اليمان ،ومرحلة من مراحل اليقين في
نفس المؤمن ،وهي بداية وعَتَبة يتلوها مراحل أخرى ومراقٍ ،حَسْب قوة اليمان.
اسمع إلى هذا الحوار الذي دار بين أهل المعرفة من الزّهّاد ،وكيف كانوا يتباروْنَ في الوصول
إلى هذه المراقي اليمانية ،ويتنافسون فيها ،ل عن مُبَاهاة ومفاخرة ،إنما عن نية خالصة في الرّقي
اليماني.
يسأل أحد هؤلء المتمكّنين صاحبه :كيف حال الزهاد في بلدكم؟ فقال :إن أصابنا خير شكرنا،
وإن أصابنا شَرّ صبرنا ،فضحك الشيخ وقال :وما في ذلك؟! إنه حال الكلب في بَلْخ .أما عندنا:
فإنْ أصابنا خير آثرنا ،وإنْ أصابنا شَرّ شكرنا.
وهذه ليست مباهاة إنما تنافس ،فكلً الرجلين زاهد سالك لطريق ال ،يرى نفسه محسوبا على هذا
ن يرتقيَ فيه إلى أعلى مراتبه ،فإياك أنْ تظن أن الغاية عند الصبر على البلء
الطَريق ،فيحاول أ ْ
شكْر على العطاء ،فهذه البداية وبعدها منازل أعْلَى ومَراقٍ أسمى لمن طلبَ العُلَ ،وشمّر عن
وال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ساعد الجد في عبادة ربه.
انظر إلى أحد هؤلء الزّهّاد يقول لصاحبةَ :ألَ تشتاق إلى ال؟ قال :ل ،قال مُتعجبا :وكيف ذلك؟
قال :إنما يُشتاق لغائب ،ومتى غاب عني حتى أشتاق إليه؟ وهكذا تكون درجات اليمان وشفافية
العلقة بين العبد وربه عز وجل.
ثم يقول الحق سبحانه عن هذا الذي يعبد ال على حرف } :يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ َيضُ ّرهُ َومَا لَ
يَن َفعُهُ.{ ..
()2588 /
يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيضُ ّر ُه َومَا لَا يَ ْن َفعُهُ ذَِلكَ ُهوَ الضّلَالُ الْ َبعِيدُ ()12
معنى { :مَا لَ َيضُ ّرهُ[ } ..الحج ]12 :هل الصنم الذي يعبده الكافر من دون ال يمكن أن يضره؟
ل ،الصنم ل يضر ،إنما الذي يضره حقيقة مَنْ عانده وانصرف عن عبادته ،تضره الربوبية التي
يعاندها والمجَازي الذي يجازيه بعمله ،إذن :فما معنىَ { :يضُ ّرهُ[ } ..الحج ]12 :هنا؟
للُ الْ َبعِيدُ }
المعنى :ل يضره إن انصرف عنه ولم يعبده ،ول ينفعه إنْ عبده { :ذاِلكَ ُهوَ الضّ َ
[الحج ]12 :نعم ضلل :لن النسان يعبد ويطيع مَنْ يرجو نفعه في أيّ شيء ،أو يخشى ضره
في أيّ شيء.
وقد ذكرنا سابقا قول بعض العارفين( :واجعل طاعتك لمن ل تستغني عنه) ،ولو قلنا هذه المقولة
لبنائنا في الكتب الدراسية ،واهت ّم بها القائمون على التربية لما أغرى الولد بعضهم بعضا
بالفساد ،ولوقفَ الولد يفكر مرة وألف مرة في توجيهات ربه ،ونصائح أبيه وأمه ،وكيف أنه
سيترك توجيهات مَنْ يحبونه ويخافون عليه ويرجُون له الخير إلى إغراء صديق ل يعرف عنه
وعن أخلقه شيئا.
صغَره مَنْ يحبه ومَنْ يكرهه ،ومَنْ هو
ل ُبدّ أنْ نُطعّم أبناءنا مبادئ السلم ،ليعرف الولد منذ ِ
َأوْلَى بطاعته.
وتلحظ في الية أن الضر سابق للنفع { :مَا لَ َيضُ ّر ُه َومَا لَ يَن َفعُهُ[ } ..الحج ]12 :لن دَ ْرءَ
المفسدة مُقدّم على جَلْب المصلحة؛ لن المفسدة خروج الشيء عن استقامة تكوينه ،والنفع يزيدك
ويضيف إليك ،أما الضر فينقصك ،لذلك خَيْر لك أنْ تظل كما أنت ل تنقص ول تزيد ،فإذا وقفتَ
شكّ أنك ستختار َدفْع الشر أولً ،وتشتغل
أمام أمرين :أحدهما يجلب خيرا ،والخر يدفع شرا ،فل َ
بدَرْءِ المفسدة قبل جَلْب المصلحة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وضربنا لذلك مثلًَ :هبْ أن إنسانا سيرمي لك بتفاحة ،وآخر سيرميك بحجر في نفس الوقت ،فماذا
تفعل؟ تأخذ التفاحة ،أو تتقي أَذى الحجر؟ هذا هو معنى " دَرْء المفسدة مُقدّم على جَلْب المصلحة
".
()2589 /
ن ضَ ّرهُ َأقْ َربُ مِنْ َن ْفعِهِ لَبِئْسَ ا ْل َموْلَى وَلَبِئْسَ ا ْلعَشِيرُ ()13
يَدْعُو َلمَ ْ
ن ضَرّه أقرب
الية السابقة تثبت أنه يدعو مَا ل يضُرّه ومَا ل ينفعه ،وهذه الية تُثبت أنه يدعو مَ ْ
من َنفْعه.
صيغة أفعل التفضيل (أقرب) تدل على أن شيئين اشتركا في صفة واحدة ،إل أن أحدهما زاد عن
الخر في هذه الصفة ،فلو قُ ْلتَ :فلن أحسن من فلن .فهذا يعني أن كلهما حَسَن ،لكن زاد
أحدهما عن الخر في الحُسْن.
ن ضَ ّرهُ َأقْ َربُ مِن ّنفْعِهِ[ } ..الحج]13 :
فقوله تعالى { :يَدْعُو َلمَ ْ
إذن :هناك َنفْع وهو قريب ،لكن الضر أقرب منه ،فهذه الية في ظاهرها تُناقِض الية السابقة،
والحقيقة ليس هناك تناقض ،ول ُبدّ أنْ نفهمَ هذه المسألة في ضوء قوله تعالى {:وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ
غَيْرِ اللّهِ َلوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفا كَثِيرا }[النساء.]82 :
فالوثان التي كانوا يعبدونها كان لها سَدَنة يتحكّمون فيها وفي عابديها ،فإذا أرادوا من اللهة شيئا
قالوا للسدنة :ادعوا اللهة لنا بكذا وكذا ،إذن :كان لهم نفوذ وسُلْطة زمنية ،وكانوا هم الواسطة
بين الوثان وعُبّادها ،هذه الواسطة كانت ُتدِرّ عليهم كثيرا من الخيرات وتعطيهم كثيرا من
المنافع ،فكانوا يأخذون كل ما ُيهْدَى للوثان.
فالوثان -إذن -سبب في َنفْع سدنتها ،لكن هذا النفع قصاراه في الدنيا ،ثم يتركونه بالموت،
ن ول عملَ
فمدة النفع قصيرة ،وربما أتاه الموت قبل أنْ يستفيد بما أخذه ،وإنْ جاء الموت فل إيما َ
ول توبةَ ،وهذا معنى { ضَ ّرهُ َأقْ َربُ مِن ّن ْفعِهِ[ } ..الحج.]13 :
لذلك يقول تعالى بعدها { :لَبِئْسَ ا ْل َموْلَىا وَلَبِئْسَ ا ْلعَشِيرُ } [الحج ]13 :كلمة (بئس) ُتقَال للذم وهي
بمعنى :ساء وقَبُح ،والموْلَى :الذي يليك ويقرُب منك ،ويُراد به النافع لك؛ لنك ل تقرّب إل النافع
لك ،إما لنه يعينك وقت الشدة ،ويساعدك وقت الضيق ،وينصرك إذا احتجتَ لِ ُنصْرته ،وهذا هو
الوليّ.
وإما أنْ تُقرّبه منك؛ لنه يُسليك ويجالسك وتأنس به ،لكنه ضعيف ل يقوى على ُنصْرتك ،وهذا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هو العشير.
والصنام التي يعبدونها بئست المولى؛ لنها ل تنصرهم وقت الشدة ،وبئست العشير؛ لنها ل
تُسليهم ،ول يأنسون بها في غير الشدة.
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنَاتٍ.} ..
خلُ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
ثم يقول الحق سبحانه { :إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ
()2590 /
عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ إِنّ اللّهَ َي ْفعَلُ مَا يُرِيدُ (
خلُ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
إِنّ اللّهَ يُ ْد ِ
)14
بعد أن تكلّم الحق -سبحانه وتعالى -عن الكفار وأهل النار ومَنْ يعبدون ال على حَرْف ،كان ل
بُدّ أنْ يأتيَ بالمقابل؛ لن النفس عندها استعداد للمقارنة والتأمل في أسباب دخول النار ،وفي
أسباب دخول الجنة ،وهذا َأجْدى في إيقاع الحجة.
جحِيمٍ }[النفطار]14 - 13 :
ن الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي َ
ومن ذلك أيضا قوله تعالى {:إِ ّ
حكُواْ قَلِيلً وَلْيَ ْبكُواْ كَثِيرا[} ..التوبة]82 :
وقوله تعالى {:فَلْ َيضْ َ
ن تقابلها ال ّنقْمة ل تُؤتِي الثر المطلوب ،لكن حينما تقابل النعمة بالنقمة
ف ِذكْر النعمة وحدها دون أ ْ
وَسَلْب الضّر بإيجاب النفع فإنّ كلهما يُظهر الخر؛ لذلك يقول تعالىَ {:فمَن ُزحْزِحَ عَنِ النّارِ
خلَ ا ْلجَنّةَ َفقَدْ فَازَ[} ..آل عمران ]185 :فإنْ آمنتَ ل تُ َزحْزح عن النار فقط -مع أن هذه في
وَأُدْ ِ
حدّ ذاتها نعمة -لكن تُزَحْزح عن النار وتدخل الجنة.
َ
واليمان :عمل قلبي ومواجيد تطمئن بها النفس ،لكن اليمان له مطلوب :فأنت آمنتَ بال،
واطمأنّ قلبك إلى أن ال هو الخالق الرازق واجب الوجود ..إلخ ،فما مطلوب هذا اليمان؟
مطلوب اليمان أنْ تستمع لوامره ،لنه حكيم ،وتثق في قدرته لنه قادر ،وتخاف من بطشه لنه
جبار ،ول تيأس من بَسْطه لنه باسط ،ول تأمن قبضه لنه قابض.
لقد آمنتَ بكل هذه القضايا ،فحين يأمرك بأمر فعليك أنْ تستحضر حيثيات هذا المر ،وأنت واثق
أن ربك عز وجل لم يأمرك ولم يَ ْن َهكَ من فراغ ،إنما من خلل صفات الكمال فيه سبحانه ،أو
صفات الجلل والجبروت ،فاستحضر في ُكلّ أعمالك وفي ُكلّ ما تأتي أو تدع هذه الصفات.
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ
خلُ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
لذلك ،جمعت الية بين اليمان والعمل الصالح { :إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ
جَنَاتٍ[ } ..الحج]14 :
عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ} ..
خسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
ن الِنسَانَ َلفِى ُ
وفي سورة العصر {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ق وَ َتوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر.]3 :
حّصوْاْ بِالْ َ
[العصر ]3 - 1 :ليس ذلك وفقط إنما أيضا {:وَ َتوَا َ
فالتواصي بالحق والصبر على الشدائد من الستجابة لداعي اليمان وثمرة من ثماره؛ لن المؤمن
سخْرية واستهزاءً ،وربما تعرّض
سيتعرّض في رحلة الحياة لفِتَن كثيرة قد تزلزله ،وسيواجه ُ
للوان العذاب.
فعليه إذن -أنْ يتمسّك بالحق ويتواصى به مع أخيه ،وعليه أن يصبر ،وأنْ يتواصى بالصبر مع
خوَر ،فعلى القوي في وقت الفتنة أنْ
إخوانه ،ذلك لن النسان قد تعرض له فترات ضَعف و َ
ينصحَ الضعيف.
ن أوصيْتَه اليوم بالصبر ربما يوصيك
وربما تبدّل هذا الحال في موقف آخر وأمام فتنة أخرى ،فَم ْ
غدا ،وهكذا يُثمِر في المجتمع اليماني التواصي بالحق والتواصي بالصبر.
صوْا؛ لنكم ستتعرضون لِهزّات ليست هزّات شاملة جامعة ،إنما هزّات يتعرض لها
إذن :توا َ
ت وجدتَ من إخوانك مَنْ يُواسيك :اصبر ،تجلّد ،احتسب.
ن ض ُعفْ َ
البعض دون الخر ،فإ ْ
وإياك أنْ تُزحزحك الفتنة عن الحق ،أو تخرج عن الصبر ،وهذه عناصر النجاة التي ينبغي
للمؤمنين التمسك بها :إيمان ،وعمل صالح ،وتواصٍ بالحق ،وتواصٍ بالصبر.
وقوله سبحانهَ } :تجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ[ { ..الحج.]14 :
الجنات :هي الحدائق والبساتين المليئة بأنواع المتّع :الزرع ،والخضرة ،والنضارة ،والزهور،
والرائحة الطيبة ،وهذه كلها بنت الماء؛ لذلك قال } َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ[ { ..الحج]14 :
ومعنى } :مِن َتحْ ِتهَا[ { ..الحج ]14 :أن الماء ذاتيّ فيها ،ل يأتيها من مكان آخر ربما ينقطع
عنها ،كما جاء في آية أخرى {:تَجْرِي َتحْ َتهَا الَ ْنهَارُ[} ..التوبة.]100 :
ثم يقول سبحانه } :إِنّ اللّهَ َي ْف َعلُ مَا يُرِيدُ[ { ..الحج ]14 :لنه سبحانه ل ُيعْجِزه شيء ،ول يعالج
أفعاله كما يعالج البشر أفعالهم{ إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ َلهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس ]82 :ولو
تأملتَ هذه الية لوجدتَ الشيء الذي يريده ال ويأمر بكونه موجودا في الحقيقة ،بدليل أن ال
تعالى يخاطبه{ َيقُولَ َلهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس ]82 :فهو -إذن -كائن فعلً ،وموجود حقيقةً ،والمر
هنا إنما هو لظهاره في عالم المشاهدة.
ثم يقول سبحانه } :مَن كَانَ َيظُنّ أَن لّن يَنصُ َرهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ فَلْ َيمْ ُددْ{ ..
.
()2591 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمَاءِ ثُمّ لِ َيقْطَعْ فَلْيَ ْنظُرْ َهلْ
مَنْ كَانَ يَظُنّ أَنْ لَنْ يَ ْنصُ َرهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالْآَخِ َرةِ فَلْ َي ْمدُدْ بِسَ َببٍ إِلَى ال ّ
يُذْهِبَنّ كَيْ ُدهُ مَا َيغِيظُ ()15
(يظنّ) تفيد عِلْما غير يقيني وغير مُتأكد ،وسبق أنْ تكلّمنا في نسبة القضايا ،فهناك حكم محكوم به
ومحكوم عليه ،تقول :زيد مجتهد ،فأنت تعتقد في نِسْبة الجتهاد لزيد ،فإنْ كان اعتقادك صحيحا
فتستطيع أنْ تُقدّم الدَليل على صحته فتقول :بدليل أنه ينجح كل عام بتفوق.
س يقولون :زيد مجتهد .فقال مثلهم،
أما إذا اعتقد هذه القضية ولم يُقدّم عليها دليلً كأنْ سمع النا َ
حدٌ }[الخلص]1 :
لكن ل دليلَ عنده على صِدْق هذه المقولة ،كالطفل الذي نُلقّنه{ ُقلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
هذه قضية واقعية يعتقدها الولد ،لكن ل يستطيع أنْ يُقدّم الدليل عليها إل عندما يكُبر ويستوي
تفكيره.
فمن أين أخذ الطفل هذه القضية واعتقدها؟ أخذها من المأمون عليه :من أبيه أو أستاذه ثم قلّده.
إذن :إنْ كانت القضية واقعة ،لكِنْ ل تستطيع أنْ تقيم الدليل عليها فهي تقليد ،فإنِ اعتقدتَ قضية
واقعة ،وأقمْتَ الدليل عليها ،فهذا أسمْى مراتب العلم ،فإنِ اعتقدتَ قضيةً غير واقعيةٍ ،فهذا جهل.
فالجاهل :مَنْ يعتقد شيئا غير واقع ،وهذا الذي يُتعِب الدنيا كلها ،ويُشقي من حوله ،لن الجاهل
الميّ الذي ل يعلم شيئا ،وليست لديه فكرة يعتقدها صفحة بيضاء ،تستطيع أنْ تقنعه بالحقيقة
ويقبلها منك؛ لنه خالي الذهن ول يعارضك.
شكّ ،فل
فإنْ تشك ْكتَ في النسبة بحيث استوت عندك نسبة الخطأ مع نسبة الصواب ،فهذا هو ال ّ
تستطيع أنْ تجزم باجتهاد زيد ،ول بعدم اجتهاده ،فإنْ غلب الجتهاد فهو ظَنّ ،فإنْ غلب عدم
الجتهاد فهو وَهْم.
إذن :نسبة القضايا إما علم تعتقده :وهو واقع وتستطيع أنْ تقيمَ الدليل عليه ،أو تقليد :وهو ما
تعتقده وهو واقع ،لكن ل تقدر على إقامة الدليل عليه ،أو جهل :حين تعتقد شيئا غير واقع ،أو
شك :حين ل تجزم بالشيء ويستوي عندك النفي والثبات ،أو ظن :حين تُرجّح الثبات ،أو وهم:
حين تُرجّح النفي.
فالظن في قوله تعالى { :مَن كَانَ َيظُنّ أَن لّن يَنصُ َرهُ اللّهُ[ } ..الحج ]15 :أي :يمرّ بخاطره مجرد
مرور أن ال لن ينصر محمدا ،أو يتوهم ذلك -ول يتوهم ذلك إل الكفار -لنهم يأملون ذلك في
ن ينتهيَ عنه؛ لنه أمر بعيد ،لن يحدث ولن
معركة اليمان والكفر -مَنْ ظَنّ هذا الظنّ فعليه أ ْ
يكون.
وقد ظَنّ الكفار هذا الظن حين رََأوْا بوادر نصر اليمان وعلمات فوزه ،فاغتاظوا لذلك ،ولم
يجدوا شيئا يريح خاطرهم إل هذا الظن.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك؛ يردّ ال غيظهم عليهم ،فيقول لهم :ستظلون بغيظكم؛ لن النصر لليمان ولجنوده مستمر،
فليس أمامك إل أنْ تجعل حبلً في السماء وتربط عنقك به ،تشنق نفسك حتى تقع ،فإنْ كان هذا
سمَآءِ ُثمّ لْ َيقْطَعْ فَلْيَ ْنظُرْ َهلْ يُ ْذهِبَنّ كَيْ ُدهُ
الكيد لنفسك يُنجيك من الغيظ فافعل { :فَلْ َي ْمدُدْ ِبسَ َببٍ ِإلَى ال ّ
مَا َيغِيظُ } [الحج.]15 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والحديث مُوجّه للكفار المغتاظين من بوادر النصر لركْب اليمان ،فقوله } :يَنصُ َرهُ[ { ..الحج:
]15ينصر مَنْ؟ ل بُدّ أنه محمد ،لماذا؟
قالوا :لن السماء حينما تُطلَق تدلّ على َمعَانٍ ،فعندما تقول " سماء " نفهم المراد ،وعندما تقول "
قلب " نفهم " ،نور " نعرف المراد .والسماء إما اسم ظاهر مثل :محمد وعلي وعمر وأرض
وسماء ،والسماء إما اسم ظاهر مثل :أنا ،أنت ،هو ،هم.
والضمير مُبْهم ل يُعيّنه إل التكلّم ،فأنت تقول :أنا وكذلك غيرك يقول أنا أو نحن ،فالذي يُعيّن
الضمير المتكلّم به حال الخطاب ،فعُمدْة الفهم في الضمائر ذات المتكلم وذات المخاطب.فإن لم
يكن متكلّما ول مخاطبا فهو غائب ،فمن أين تأتي بقرينة التعريف للغائب؟
ت المتكلم بكلمه،
حين تقول :هو ،هي ،هم .مَن المراد بهذه الضمائر؟ كيف تُعيّنها؟ إنْ عيّ ْن َ
والمخاطب بمخاطبته ،كيف تُعيّن الغائب؟ قالوا :ل ُبدّ أنْ يسبقه شيء يدل عليه ،كأن تقول:
جاءني رجل فأكرمتُه ،أكرمت مَنْ؟ أكرمت الرجل الذي تحدثتُ عنه ،جاءتني امرأة فأكرمتُها،
جاء قوم فلن فأكرمتهم .إذن :فمرجع الضمير هو الذي يدلّ عليه.
لكن لم يسبق ِذكْر لرسول ال صلى ال عليه وسلم قبل الضمير ليُعيّنه ويدلّ عليه ،نعم لم يسبق
ِذكْر لرسول ال ،لكن تأمّل المعنى :الكلم هنا عن النصر بين فريق اليمان وعلى رأسه محمد
صلى ال عليه وسلم ،وفريق الكفر وعلى رأسه هؤلء المعاندون ،فالمقام مُتعيّن أنه ل يعود
الضمير إل على رسول ال صلى ال عليه وسلم.
ومثال ذلك قوله تعالى {:إِنّا أَنزَلْنَاهُ[} ..القدر.]1 :
فالضمير هنا مُتعيّن ،ول ينصرف إل إلى القرآن ،ول يتعين الضمير إل إذا كان الخاطر ل
ينصرف إلى غيره في مقامه.
حدٌ }[الخلص ]1 :تلحظ أن الضمير سابق على السم الظاهر ،فالمرجع
اقرأُ {:قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ
متأخر ،ومع ذلك ل ينصرف الضمير إل إلى ال ،فإذا قِيلَ :هو هكذا على انفراد ل يمكن أن
ينصرف إل ل عز وجل.
كذلك في قوله تعالى {:وََلوْ ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُ ْل ِمهِمْ مّا تَ َركَ عَلَ ْيهَا مِن دَآبّةٍ }[النحل .]61 :على
ظهْر أيّ شيء؟ الذّهْن ل ينصرف في هذا المقام إل إلى الرض.
َ
وقوله تعالى } :فَلْيَنْظُرْ َهلْ ُيذْهِبَنّ كَ ْي ُدهُ مَا َيغِيظُ { [الحج ]15 :الستفهام هنا ِممّنْ يعلم ،فهو
استفهام للتقرير ،ل ِيقُروا هم بأنفسهم أن غَيْظهم سيظلّ كما هو ،ل يشفيه شيء ،وأنهم سيموتون
ظ ُكمْ[} ..آل عمران.]119 :
بغيظهم ،كما قال تعالىُ {:قلْ مُوتُواْ ِبغَيْ ِ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وكَذاِلكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ.{ ..
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2592 /
قوله { أَنزَلْنَاهُ[ } ..الحج ]16 :أي :القرآن؛ لن الضمير هنا كما ذكرنا مرجعه مُتعّين ،وما دام
مرجعه مُتعينا فل يحتاج لذكر سابق .والنزال يحمل معنى العلو ،فإنْ رأيتَ في هذا التشريع الذي
جاءك في القرآن ما يشقّ عليك أو يحولُ بينك وبين ما تشتهيه نفسك ،فاعلم أنه من أَعْلى منك،
من ال ،وليس من مُسَاوٍ لك ،يمكن أنْ تستدرك عليه أو تناقشه :لماذا هذا المر؟ ولماذا هذا
النهي؟ فطالما أن المر يأتيك من ال فل بُدّ أن تسمع وتطيع ول تناقش.
ولنا أُسْوة في هذا التسليم بسيدنا أبي بكر لما قالوا له :إن صاحبك يقول :إنه أُسْرِي به الليلة من
ن قال :إنْ كان قال فقد
مكة إلى بيت المقدس ،ثم عُرِج به إلى السماء ،فما كان من الصّديّق إل أ ْ
صدق ،هكذا دون مناقشة ،فالمر من أعلى ،من ال.
ع ْدتَ مريضا فوجدتَ بجواره كثيرا من الدوية فسألته :لماذا كل هذا الدواء؟ قال:
وقلنا :إنك لو ُ
لقد وصفه الطبيب ،فأخذت تعترض على هذا الدواء ،وتذكر من تفاعلته وأضراره وعناصره،
خلَ لك بها.
وأقحمت نفسك في مسألة ل دَ ْ
هذا قياس مع الفارق ومع العتراف بأخطاء الطباء في وصف الدواء ،لكن لتوضيح المسألة ول
المثل العلى ،وصدق القائل:سُبْحانَ مَنْ يَ ِرثُ الطّبِيبَ وطِبّ ُه ويُرِي المريض َمصَا ِرعَ السِيناإذن:
حجة كل أمر ليس أن نعلم حكمته ،إنما يكفي أنْ نعلم المر به.
ومعنى { آيَاتٍ[ } ..الحج ]16 :أي :عجائب { بَيّنَاتٍ[ } ..الحج ]16 :واضحات .وسبق أنْ ذكرنا
أنْ كلمة اليات تُطلَق على معَانٍ ثلثة :اليات الكونية التي تُثبِت قدرة ال ،وبها يستقر اليمان في
النفوس ،ومنها الليل والنهار والشمس والقمر ،واليات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل لثبات
صِدْق بلغهم عن ال ،واليات التي يتكوّن منها القرآن ،وتُسمّى " حاملة الحكام ".
فالمعنى هنا { َوكَذاِلكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ[ } ..الحج ]16 :تحمل كلمة اليات ُكلّ هذه المعاني،
فآيات القرآن فيها اليات الكونية ،وفيها المعجزة ،وهي ذاتها آيات الحكام.
ثم يقول سبحانه { :وَأَنّ اللّهَ َيهْدِي مَن يُرِيدُ[ } ..الحج ]16 :وهذه من المسائل التي وقف الناس
حولها طويلًُ {:يضِلّ مَن يَشَآ ُء وَ َيهْدِي مَن يَشَآءُ[} ..النحل ]93 :وأمثالها تمسّك بها مَنْ ليس لهم
حظّ من الهداية ،يقولون :لم يُ ِردِ ال لنا الهداية ،فماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟
َ
وهذه وقفة عقلية خاطئة؛ لن ال َوقْفة العقلية تقتضي أنْ تذكر الشيء ومقابله ،أما هؤلء فقد نبّهوا
العقل للتناقض في واحدة وتركوا الخرى ،فهي -إذن َ -وقْفة تبريرية ،فالضال الذي يقول :لقد
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كتب ال عليّ الضلل ،فما ذنبي؟ لماذا لم َي ُقلْ :الطائع الذي كتب ال له الهداية ،لماذا يثيبه؟!
فلماذا تركتم الخير وناقشتم في الشر؟
والمتأمل في اليات التي تتحدث عن مشيئة ال في الضلل والهداية يجد أنه سبحانه قد بيّن مَنْ
شاء أنْ يُضلّه ،وبين مَنْ شاء أنْ يهديه ،اقرأ قوله تعالى {:إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }
سقِينَ }[المنافقون:
[المائدة ]67 :إذنُ :كفْره سابق لعدم هدايته وقوله {:إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَـا ِ
]6وقوله {:إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }[القصص.]50 :
إنما يهدي مَنْ آمن به ،أما هؤلء الذين اختاروا الكفر واطمأنوا إليه وركنوا ،فإن ال تعالى يختم
على قلوبهم ،فل يدخلها اليمان ،ول يخرج منها الكفر ،لنهم أحبّوه فزادهم منه كما زاد المؤمنين
إيمانا {:وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى[} ..محمد.]17 :
والهداية هنا بمعنى الدللة على الخير ،وسبق أنْ ضربنا لها مثلً ،ول تعالى المثَل العلىَ :هبْ
أنك تسلك طريقا ل تعرفه ،فتوقفتَ عند جندي المرور وسألته عن وجهتك فدّلكَ عليها ،ووصف
لك الطريق الموصّل إليها .لكن ،هل دللته لك تُلزمك أنْ تسلك الطريق الذي ُوصِف لك؟
بالطبع أنت حُرّ تسير فيه أو في غيره .فإذا ما حفظتَ لرجل المرور جميَلهُ وشكرته عليه ،ولمس
هو فيك الخير ،فإنه يُعينك بنفسه على عقبات الطريق ،وربما ركب معك ليجتاز بك منطقة خطرة
يخاف عليك منها .هذا معنى {:وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد.]17 :
عكَ وشأنك،
أما لو تعاليتَ على هذا الرجل ،أو اتهمته بعدم المعرفة بمسالك الطرق ،فإنه يد ُ
ويضِنّ عليك بمجرد النصيحة.
ل المؤمن و َدلّ الكافر على الخير ،المؤمن رضي بال وقَبِل
وهكذا ..الحق -سبحانه وتعالى َ -د ّ
أمره و َنهْيه ،وحمد ال على هذه النعمة ،فزاده إيمانا وأعانه على مشقة العبادة ،وجعل له نورا
يسير على َهدْيه ،أما الكافر فقد تركه يتخبّط في ظلمات كفره ،ويتردد في متاهات العمى
والضلل.
س وَالّذِينَ
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئِينَ وَال ّنصَارَىا وَا ْلمَجُو َ
أَشْ َركُوا.{ ..
()2593 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ[ } ..الحج ]17 :ومعنى
هذه فئات ست أخبر ال عنها بقوله { :إِنّ اللّهَ َي ْف ِ
الفصل بينهم أن بينهم خلفا ومعركة ،ولو تتبعتَ اليات التي ذكرت هذه الفئات تجد أن هناك
آيتين في البقرة وفي المائدة.
يقول تعالى {:إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَالّذِينَ هَادُو ْا وَال ّنصَارَىا وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ }[البقرة.]62 :
ل صَالِحا فََلهُمْ َأجْرُهُمْ عِندَ رَ ّبهِ ْم َولَ َ
عمِ َ
وَ َ
وفي المائدة يُقدّم الصابئين على النصارى ،وفي هذا الموضع تأتي بالرفع بالواو ،يقول تعالى {:إِنّ
ع ِملَ صَالِحا فَلَ
ن وَال ّنصَارَىا مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ و َ
الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُو َ
خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ }[المائدة.]69 :
َ
{ الّذِينَ آمَنُواْ[ } ..الحج ]17 :أي :بمحمد صلى ال عليه وسلم { ،وَالّذِينَ هَادُواْ[ } ..الحج]17 :
أي :اليهود ،ثم النصارى وهما قبل السلم ،أما الصابئون :فهؤلء جماعة كانوا على دين إبراهيم
سمّوا الصابئة لخروجهم عن الدين الحق .أما المجوس :فهم عبدة
عليه السلم ،ثم عبدوا الكواكب فَ ُ
النار ،والذين أشركوا :هم المشركون عَبَدة الصنام والوثان.
أما التقديم والتأخير بين النصارى والصابئين ،قالوا :لن النصارى فرقة كبيرة معروفة ولهم نبي،
أما الصابئة فكانوا جماعة خرجوا على نبيهم وخالفوه وأ َتوْا بعقيدة غير عقيدته ،فهم قلّة ،لكن
سبقوا النصارى في الترتيب الزمني؛ لذلك حين يراعي السّ ْبقَ الزمني يقول { :وَالصّابِئِينَ
وَال ّنصَارَى[ } ..الحج ]17 :وحين يراعي الكثرة والشهرة ،يقول {:وَال ّنصَارَىا وَالصّابِئِينَ} ..
[البقرة ]62 :فكلّ من التقديم أو التأخير مُراد لمعنى مُعيّن.
أما قوله {:وَالصّابِئُونَ[} ..المائدة ]69 :بالرفع على خلف القاعدة في العطف ،حيث عطفت على
منصوب ،والمعطوف تابع للمعطوف عليه في إعرابه ،فلماذا وسّط مرفوعا بين منصوبات؟
قالوا :ل يتم الرفع بين المنصوبات إل بعد تمام الجملة ،فكأنه قال :إن الذين آمنوا والذين هادوا
والنصارى ،والصابئون كذلك ،فعطف هنا جملة تامة ،فهي مُؤخّرة في المعنى ،مُقدّمة في اللفظ،
وهكذا تشمل الية التقديم والتأخير السابق.
لكن ،كيف ينشأ الخلف بين الديان؟
ينشأ الخلف من أن قوما يؤمنون بإله ويؤمنون بالنبي المبلّغ عن هذا الله ،لكنهم يختلفون على
أشياء فيما بينهم ،كما نرى الخلف مثلً بين المعتزلة وأهل السنة ،أو الجبرية والقدرية ،فجماعة
تثبت الصفات ،وآخرون يُنكرونها ،جماعة يقولون :النسان مُجْبَر في تصرفاته ،وآخرون يقولون:
بل هو مختار.
وقد ينشأ الخلف بين الديان للختلف في النبوات ،فأهل الديانات يؤمنون بالله الفاعل المختار،
لكن يختلفون في النبياء موسى وعيسى ومحمد مع أنهم جميعا حَقّ .وقد ينشأ الخلف من
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الدعاء ،كالذين يدّعُون النبوة كهؤلء الذين يعبدون النار ،أو يعبدون بوذا مثلً.
فهذه ست طوائف مختلفة ذكرتهم الية ،فما حكم هؤلء جميعا بعد بعثة محمد صلى ال عليه
وسلم؟
نقول :أما المشركون الذين عبدوا الصنام ،وكذلك الذين عبدوا النبوة المدّعاة ،فهؤلء كفار
ضائعون.
أما اليهود والنصارى الذين يؤمنون بإله فاعل مختار ،ويؤمنون بنبوة صادقة ،فشأنهم بعد ظهور
السلم ،أن ال تعالى أقام لنا تصفية آخر المر لهذه الديانات ،فمَنْ كان يهوديا قبل السلم ،ومن
ن كانوا مؤمنين
كان نصرانيا قبل السلم ،فإن ال أجْرى لهم تصفية عقدية هي السلم ،فإ ْ
اليمان الول بال تعالى فعليهم أنْ يبدأوا من جديد مؤمنين مسلمين.
خ ْوفٌ
ل صَالِحا فََل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِندَ رَ ّبهِ ْم َولَ َ
عمِ َ
لذلك قال بعدها {:مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ وَ َ
عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ }[البقرة.]62 :
فبعد ظهور السلم بدأت لهؤلء جميعا -اليهود والنصارى والمجوس والمشركين -حياة جديدة،
حتْ لهم صفحة جديدة هم فيها أولد اليوم ،حيث لزمهم جميعا اليمان بال تعالى واليمان بنبيه
وفُتِ َ
جبّ ما قبله ،وعفا ال عما
محمد صلى ال عليه وسلم ،وكأن السلم تصفية (وأوكازيون إيماني) ي ُ
سلف.
والحق -سبحانه -حينما تكلم عن الجيال السابقة لنبوة محمد صلى ال عليه وسلم قال {:وَإِذْ
ح ْكمَةٍ ُثمّ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ بِهِ
ب وَ ِ
خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَا ٍ
أَ َ
ش َهدُواْ وَأَنَاْ َم َعكُمْ مّنَ
خذْتُمْ عَلَىا ذاِلكُمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ
وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْتُ ْم وَأَ َ
الشّا ِهدِينَ }[آل عمران ]81 :لذلك نبّه ُكلّ من موسى وعيسى -عليهما السلم -بوجود محمد
صلى ال عليه وسلم وبشّروا به ،بدليل قول ال تعالى {:فََلمّا جَآءَهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ بِهِ[} ..البقرة:
]89والمراد اليهود والنصارى.
وقد جاء محمد صلى ال عليه وسلم رحمة للعالمين ،وجامعا للديان كلها في السلم الذي زاد
عليها ما زاد مما تقتضيه أمور الحياة وتطورات العصر ،إلى أن تقوم الساعة.
جاء السلم تصفية لهؤلء ،استأنفوها بإيمان ،واستأنفوها بعمل صالح ،فكان لهم أجرهم كاملً
عند ربهم ل يطعن فيهم دينهم السابق ،ول عقائدهم الفاسدة الكافرة.
صلُ بَيْ َن ُهمْ َيوْمَ
أما إنْ حدث خلف حول النبوات كما تذكر الية التي نحن بصددها } :إِنّ اللّهَ َي ْف ِ
شهِيدٌ { [الحج ]17 :وال َفصْل أن نعرف مِنَ المحقّ ومَنِ المبطل،
شيْءٍ َ
ا ْلقِيامَةِ إِنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ
وهكذا جمعتْ اليات بين حالة التفاق وحالة الختلف وبيّ َنتْ جزاء كل منهما.
ق وهذا مُبطِل
فالفصل إما فصل أماكن ،وإما فصل جزاءات ،قالوا :بالطبع فالحكم بينهم :هذا ُمحِ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سيؤدي إلى اختلف الماكن واختلف الجزاءات.
شهِيدٌ { [الحج ]17 :لن ال تعالى هو الحكَم الذي يفصل
شيْءٍ َ
وقوله تعالى } :إِنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ
بين عباده ،والحكم يحتاج إما إلى بينة أو شهود ،والشهود ل ُبدّ أن يكونوا عُدولً ،ول يتحقق
العدل في الشهادة إل بدين يمنع النسان أنْ يميل عن الحق ،فإن كان الحكم هو ال فل حاجة
لبيّنة ،ول حاجةَ لشهود؛ لنه سبحانه يحيط علمه بكل شيء ،ول يعزب عن علمه مثقال ذرة في
السموات ول في الرض.
حكْم وال َفصْل من الحق سبحانه يشمل كل السلطات :التشريعية والقضائية
ومن العجيب أن ال ُ
حكْمه سبحانه ل يُؤجّل ول يُتحّايل عليه ،ول تضيع فيه الحقوق كما تضيع في
والتنفيذية ،ف ُ
سراديب وأدراج المحاكم.
حكْم البشر فينفصل فيه التشريع عن القضاء عن التنفيذ ،فربما صدر الحكم وتعطّل تنفيذه ،أما
أما ُ
حكم ال فنافذ ل يُؤجّله شيء.
إذن :المسألة لن تمرّ هكذا ،بل هي محسوبة لك أو عليك.
ت َومَن فِي الَ ْرضِ.{ ..
سمَاوَا ِ
جدُ لَهُ مَن فِي ال ّ
ثم يقول الحق سبحانه } :أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َيسْ ُ
()2594 /
قوله تعالى { :أََلمْ تَرَ[ } ..الحج ]18 :يعني :ألم تعلم؛ لن السُجود من هذه الشياء سجود على
حقيقته كما نعلمه في السجود من أنفسنا ،ولكل جنس من أجناس الكون سجود يناسبه.
وسبق أن تحدثنا عن أجناس الكون وهي أربعة :أدناها الجماد ،ثم يليه النبات ،حيث يزيد عليه
خاصية النمو وخاصية الحركة ،ثم يليه الحيوان الذي يزيد خاصية الحساس ،ثم يليه النسان
ويزيد عليه خاصية الفكر والختيار بين البدائل.
وكل جنس من هذه الجناس يخدم ما هو أعلى منه ،حيث تنتهي هذه الدائرة بأن كل مَا في كون
ال مُسخّر لخدمة النسان ،وفي الخبر " :يا ابن آدم خلقتُ الشياء من أجلك ،وخلق ُتكَ من أجلي،
عمّنْ أنت له ".
فل تشتغل بما هو لك َ
فكان على النسان أن يفكر في هذه الميْزة التي منحه ربه إياها ،ويعلم أن كل شيء في الوجود
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صغُر فله مهمة يؤديها ،و َدوْر يقوم به .فَأوْلَى بك أيها النسان وأنت سيد هذا الكون أن
مهما َ
ت بأقلّ من هذه المخلوقات التي سخّرها ال
يكون لك مهمة ،وأن يكون لك دور في الحياة فلس َ
ت أقلّ منها وأدنى.
لك ،وإلّ صِ ْر َ
إن كانت مهمة جميع المخلوقات أنْ تخدمك لنك أعلى منها ،فانظر إلى مهمتك لمَنْ هو أعلى
منك ،فإذا جاءك رسول من أعلى منك ليُنبّهك إلى هذه المهمة كان عليك أن تشكره؛ لنه نبّهك إلى
ما ينبغي لك أن تشتغل به ،وإلى مَنْ يجب عليك التصال به دائما لذلك فالرسول ل يصح أن
حلّ للبحث العقلي.
تنصرف عنه أبدا؛ لنه يُوضّح لك مسائل كثيرة هي مَ َ
وكان على العقل البشري أن يفكر في كل هذه الجناس التي تخدمه :ألك قدرة عليها؟ لقد خدم ْتكَ
ن توجدَ عندك القدرة لتأمر أو لتتناول هذه الشياء،
صغَرِك قبل أنْ تُوجّه إليها أمرا ،وقبل أ ْ
منذ ِ
كان عليك أنْ تتنبه إلى القوة العلى منك ومن هذه المخلوقات ،القوة التي سخّ َرتْ الكون كله
لخدمتك ،وهذا َبحْث طبيعي ل ُبدّ أن يكون.
هذه الشياء في خدمتها لك لم تتأبّ عليك ،ولم تتخلف يوما عن خدمتك ،انظر إلى الشمس والقمر
وغيرهما :أقالت الشمس يوما :إن هؤلء القوم ل يستحقون المعروف ،فلن أطلع عليهم اليوم؟!
الرض :هل ض ّنتْ في يوم على زراعها؟ الريح :هل توقفتْ عن الهبوب .وكلها مخلوقات أقوى
منك ،ول قدرةَ لك عليها ،ول تستطيع تسخيرها ،إنما هي في قبضة ال -عز وجل -ومُسخّرة
لك بأمره سبحانه ،ولنها مُسخّرة فل تتخلف أبدا عن أداء مهمتها.
أما النسان فيأتي منه الفساد ،ويأتي منه الخروج عن الطاعة لما منحه ال من منطقة الختيار.
البعض يقول عن سجود هذه المخلوقات أنه سجود دللة ،ل سجودا على حقيقته ،لكن هذا القول
علِ َم صَلَتَ ُه وَتَسْبِيحَهُ[} ..النور.]41 :
يعارضه قول ال تعالىُ {:كلّ قَدْ َ
صغُر صلة وتسبيح وسجود ،يتناسب وطبيعته ،إنك لو تأملت سجود النسان
فلكل مخلوق مهما َ
بجبهته على الرض لوجدتَ اختلفا بين الناس باختلف الحوال ،وهم نوع واحد ،فسجود
الصحيح غير سجود المريض الذي يسجد وهو على الفراش ،أو جالس على مقعد ،وربما يشير
بعينه ،أو أصبعه للدللة على السجود ،فإن لم يستطع أجرى السجود على خاطره.
فإذا كان السجود يختلف بهذه الصورة في الجنس الواحد حَسْب حالة وقدرته وطاقته ،فلماذا نستبعد
أن يكون لكل جنس سجوده الخاص به ،والذي يتناسب مع طبيعته؟
وإذا كان هذا حال السجود في النسان ،فهل ننتظر مثلً أن نرى سجود الشمس أو سجود القمر؟!
ما دام الحق -سبحانه وتعالى -قال إنها تسجد ،فل ُبدّ أن نؤمن بسجودها ،لكن على هيئة ل
يعلمها إل خالقها عز وجل.
بال ،لو جلس مريض يصلي على مقعد أو على الفراش ،أتعرف وهو أمامك أنه يسجد؟ إذن:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كيف نطمع في معرفة كيفية سجود هذه المخلوقات؟
ومن معاني السجود :الخضوع والطاعة ،فمَنْ يستبعد أن يكون سجود هذه المخلوقات سجودا على
الحقيقة ،فليعتبر السجود هنا للخضوع والنقياد والطاعة ،كما تقول على إنسان متكبر :جاء ساجدا
سمَآءِ وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا
يعني :خاضعا ذليلً ،ومنه قوله تعالىُ {:ثمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ
طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت.]11 :
َ
إذن :لك أن تفهم السجود على أيّ هذه المعاني تحب ،فلن تخرج عن مراده سبحانه ،ومن رحمة
ال أنْ جعل هذه المخلوقات خاضعة لرادته ،ل تنحلّ عنها أبدا ول تتخلف ،كما قال سبحانه {:إِنّا
حمََلهَا الِنْسَانُ
شفَقْنَ مِ ْنهَا وَ َ
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
عَ َرضْنَا ا َ
جهُولً }[الحزاب.]72 :
إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ
ونحن نتناقل الن ،ونروي بعض حوارات السالكين وأهل المعرفة وأصحاب الفيوضات الذين
َفهِموا عن ال وتذوّقوا لذّة قُرْبه ،وكانوا يتحاورون ويتنافسون ل للمباهاة والفتخار ،إنما للترقي
في القرب من ال.
ن يبصقها ،وبدتْ عليه الحيرة ،وهو
جلس اثنان من هؤلء العارفين وفي َفمِ أحدهم نَخْمة يريد أ ْ
ن أبصقها سمعت
ينظر هنا وهناك فقال لَه صاحبه :أَ ْلقِها واسترحِ ،فقال :كيف وكلما أردتُ أ ْ
الرض تُسبّح فاستح ْيتُ أنْ أُلقيها على مُسبّح ،فقال الخر -ويبدو أنه كان في منزلة أعلى منه -
وقد افتعل ال َبصْق وقال :مُسبّح في مُسبّح.
إذن :فأهل الكشف والعارفون بال يدركون هذا التسبيح ،ويعترفون به ،وعلى قدر ما لديك من
معرفة بال ،وما لديك من َفهْم وإدراك يكون تلقّيك وتقبّلك لمثل هذه المور اليمانية.
ت َومَن فِي
سمَاوَا ِ
جدُ لَهُ مَن فِي ال ّ
والحق -سبحانه وتعالى -حين قال } :أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْ ُ
الَ ْرضِ.
[ { .الحج ]18 :معلوم أن مَنْ في السموات هم الملئكة ولسنْا منهم ،لكن نحن من أهل الرض
حقّ عَلَيْهِ
س َوكَثِيرٌ َ
ويشملنا حكم السجود وندخل في مدلولة ،فلماذا قال بعدهاَ } :وكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ
ا ْلعَذَابُ[ { ..الحج.]18 :
علَيْهِ ا ْلعَذَابُ[ { ..الحج ]18 :تُبيّن أن لنا قهري ًة وتسخيرا
كلمةَ } :وكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ َوكَثِيرٌ حَقّ َ
وسجودا كباقي أجناس الكون ،ولنا أيضا نطقة اختيار .فالكافر الذي يتعوّد التمرّد على خالقه:
يأمره باليمان فيكفر ،ويأمره بالطاعة فيعصي ،فلماذا ل يتمرد على طول الخط؟ لماذا ل يرفض
حلّ به؟
المرض إنْ أمرضه ال؟ ولماذا ل يرفض الموت إنْ َ
إذن :النسان مُؤتمِر بأمر ال مثل الشجر والحجر والحيوان ،ومنطقة الختيار هي التي نشأ عنها
حقّ عليه العذاب.
هذا النقسام :كثير آمن ،وكثير َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكن ،لماذا لم يجعل ال -سبحانه وتعالى -الخَلْق جميعا مُسخّرين؟
قالوا :لن صفة التسخير وعدم الخروج عن مرادات ال تثبت ل تعالى صفة القدرة على الكل،
إنما ل تُثبت ل المحبوبية ،المحبوبية ل تكون إل مع الختيار :أن تكون حُرّا مختارا في أنْ تُؤمنَ
أو تكفر فتختار اليمان ،وأنْ تكون حُرا وقادرا على المعصية ،لكنك تطيع.
وضربنا لذلك مثلً -ول المثل العلى َ :-هبْ أن عندك عبدين ،تربط أحدهما إليك في سلسلة
مثلً ،وتترك الخر حُرا ،فإن ناديتَ عليهما أجاباك ،فأيهما يكون أطْوعَ لك :المقهور المجبر ،أم
الحر الطليق؟.
إذن :التسخير والقهر يُثبت القدرة ،والختيار يُثبت المحبة.
حقّ عليه العذاب ،من أين هذا
والخلف الذي حدث من الناس ،فكثير منهم آمن ،وكثير منهم َ
الختلف يا رب؟ مما خلقتُه فيك من اختيار ،فمَنْ شاء فليؤمن ،ومن شاء فليكفر ،فكأن كفر
سخّره للختيار ،فهو حتى في اختياره مُسخّر.
الكافر واختياره؛ لن ال َ
أما قوله تعالىَ } :وكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ[ { ..الحج ]18 :يعني :باختياراتهم ،وكان المفروض أن يقول
في مقابلها :وقليل ،لكن هؤلء كثير ،وهؤلء كثير أيضا.
علَيْهِ ا ْلعَذَابُ[ { ..الحج ]18 :حقّ :يعني ثبتَ ،فهذا أمر ل بُدّ منه ،حتى ل يستوي
ومعنى } :حَقّ َ
ج َعلُ ا ْلمُسِْلمِينَ كَا ْلمُجْ ِرمِينَ }[القلم ]35 :إذن :ل بُدّ أنْ يعاقب هؤلء ،والحق
المؤمن والكافرَ {:أفَنَ ْ
يقتضي ذلك.
وقوله سبحانهَ } :ومَن ُيهِنِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِن ّمكْرِمٍ إِنّ اللّهَ َيفْ َعلُ مَا يَشَآءُ { [الحج ]18 :لن أحقيّة
العذاب من مُساوٍ لك .قد يأتي مَنْ هو أقوى منه فيمنعه ،أو يأتي شافع يشفع له ،وكأن الحق -
سبحانه وتعالى -يُيئّسُ هؤلء من النجاة من عذابه ،فلن يمنعهم أحد.
فمَنْ أراد ال إهانته فلن يُكرمه أحد ،لب ُنصْرته ول بالشفاعة له ،فالمعنىَ } :ومَن ُيهِنِ اللّهُ..
{ [الحج ]18 :أي :بالعذاب الذي حَقّ عليه وثبت } َفمَا َلهُ مِن ّمكْرِمٍ[ { ..الحج ]18 :يعني :يكرمه
ويُخلّصه من هذا العذاب ،كذلك ل يوجد مَنْ ُيعِزه؛ لن عِزّته ل تكون إل َقهْرا عن ال ،وهذا
مُحَال ،أو يكون بشافع يشفع له عند ال ،ول يشفع أحد عند ال إل بإذنه سبحانه.
لذلك ،نقول :إن الحق سبحانه يُجير على خَلْقه ول يُجَار عليه ،يعني :ل أحد يقول ل :هذا في
جواري؛ لذلك ذ ّيلَ الية بقوله تعالى } :اللّهَ َيفْ َعلُ مَا يَشَآءُ { [الحج.]18 :
صمُواْ فِي رَ ّبهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ.{ ..
صمَانِ اخْ َت َ
خ ْ
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى } :هَـاذَانِ َ
()2595 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سهِمُ
صبّ مِنْ َفوْقِ ُرءُو ِ
ط َعتْ َلهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ُي َ
صمُوا فِي رَ ّبهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُوا قُ ّ
صمَانِ اخْ َت َ
خ ْ
هَذَانِ َ
حمِيمُ ()19
الْ َ
خصْم من اللفاظ التي يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع ،وكذلك المذكر والمؤنث كما في
كلمة َ
سوّرُواْ ا ْلمِحْرَابَ }[ص.]21 :
خصْمِ إِذْ تَ َ
قوله تعالى{ وَ َهلْ أَتَاكَ نَبَأُ ا ْل َ
صمَانِ َبغَىا َب ْعضُنَا عَلَىا َب ْعضٍ[} ..ص.]22 :
خ ْ
ويقول تعالىَ {:
س َوكَثِيرٌ حَقّ عَلَ ْيهِ
صمَانِ[ } ..الحج ]19 :قوله تعالىَ {:وكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ
خ ْ
والمراد بقولهَ { :
ا ْلعَذَابُ[} ..الحج ]18 :والخصومة تحتاج إلى َفصْل بين المتخاصمين ،وال َفصْل يحتاج إلى شهود،
شهِيدا[} ..النساء]79 :
لكن إنْ جاء ال َفصْل من ال تعالى فلن يحتاج إلى شهود{ َوكَفَىا بِاللّهِ َ
وإنْ جاء عليهم بشهود من أنفسهم ،فإنما لقامة الحجة ولتقريعهم ،يقول تعالىَ {:وقَالُواْ ِلجُلُودِ ِهمْ لِمَ
شيْءٍ[} ..فصلت.]21 :
طقَ ُكلّ َ
طقَنَا اللّهُ الّذِي أَن َ
شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ
َ
ن قلتَ :كيف تشهد الجوارح على صاحبها يوم القيامة وهي التي فعلت؟
فإ ْ
نقول :هناك فَرْق بين عمل أريده وعمل أؤديه ،وأنا أبغضه وضربنا لذلك مثلً -ول المثل
العلى -بالقائد الذي يأمر جنوده ،وعليهم أنْ يُطيعوه حتى إنْ كانت الوامر خاطئة ،فإنْ رجعوا
إلى القائد العلى ح َكوْا له مَا كان من قائدهم؛ ذلك لن القائد العلى جعل له ولية عليهم،
وألزمهم طاعته والئتمار بأمره.
فالخالق -عز وجل -جعل لرادة النسان ولية على جوارحه ،فالفعل -إذن -للرادة ،وما
الجوارح إل أداة للتنفيذ .فحينما تريد مثلً أنْ تقوم ،مجرد أن تريد ذلك تجد نفسك قائما دون أنْ
تفكر في حركة القيام أو العضلت التي تحركتْ لتؤدي هذا العمل ،مع أنها عملية مُعقّدة تتضافر
فيها الرادة والعقل والعصاب والعضاء ،وأنت نفسك ل تشعر بشيء من هذا كله ،وهل في
قيامك أمرتَ الجوارح أنْ تتحرّك فتحركتْ؟
ن ينفعل خَلْق
فإذا كانت جوارحك تنفعل لك وتطاوعك لمجرد الرادة ،أفل يكون أوْلى من هذا أ ْ
ال لرادة ال؟
إذن :العمدة في الفعال ليستْ الجوارح وإنما الرادة ،بدليل أن ال تعالى إذا أراد أنْ يُعطّل
جارحة من الجوارح عطّل الرادة المرة ،وقطعها عن الجارحة ،فإذا هي مشلولة ل حركةَ فيها،
فإنْ أراد النسان تحريكها بعد ذلك فلن يستطيع ،لماذا؟
لنه ل يعلم البعاض التي تُحرّك هذه الجارحة ،ولو سألتَ أعلم الناس في علم الحركة والذين
صنعوا النسان اللي :ما الحركة اللية التي تتم في جسم النسان كي يقوم من نومه أو من
جِلْسته؟ ولن يستطيع أحد أنْ يصفَ لك ما يتم بداخل الجسم في هذه المسألة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما لو نظرتَ مثلً إلى الحفّار ،وهو يُؤدّي حركات أشبه بحركات الجسم البشري لوجدتَ صبيا
صفَ لك كل حركة فيه ،وما اللت التي تشترك
يشغله باستخدام بعض الزرار ،ويستطيع أنْ ي ِ
في كل حركةَ .فقُلْ لي بال :ما الزر الذي تضغط عليه لتحرك يدك أو ذراعك؟ ما الزر الذي
تُحرّك به عينيك ،أو لسانك ،أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة منك فينفعل لك ما تريد؛ لن ال تعالى
خلقك ،وجعل لرادتك السيطرة الكاملة على جوارحك ،فل تستبعد أنْ تنفعل المخلوقات ل -عز
ن تفعلَ.
وجل -إنْ أراد منها أ ْ
حتى العذاب في الخرة ليس لهذه الجوارح والبعاض ،إنما العذاب للنفس الواعية ،بدليل أن
النسان إذا تعرّض للم شديد ل يستريح منه ل أنْ ينام ،فإذا استيقظ عاوده اللم ،إذن :فالنفس هي
التي تألم وتتعذّب ل الجوارح.
والحق سبحانه هو الذي يفصل بين هذيْن الخصميْن ،كما قال سبحانه في آية أخرى{ إِنّ اللّهَ
صلُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ[} ..الحج.]17 :
َيفْ ِ
لذلك يقول المام علي رضي ال عنه وكرّم ال وجهه :أنا أول مَنْ يجثو بين يدي ال يوم القيامة
للفصل ومعي عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب .هؤلء في جانب وفي الجانب المقابل:
عتبة ابن ربيعة ،وشيبة بن ربيعة ،والوليد بن عتبة.
لماذا؟ لن بين هؤلء كانت أول معركة في السلم ،وهذه أول خصومة وقعتْ فيه ،ذلك لنهم في
معركة بدر أخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم قوما للمبارزة ،وكانت عادتهم في الحروب أنْ
يخرج أقوياء القوم وأبطالهم للمبارزة بدل أنْ يُعذّبوا القوم ويشركوا الجميع في القتال ،ويعرّضوا
أرواح الناس جميعا للخطر.
صفّين حيث قال علي
ومن ذلك ما حدث بين علي ومعاوية -رضي ال عنهما -في موقعة ِ
لمعاوية :ابرز إليّ يا معاويةُ ،فإنْ غلبتني فالمر لك ،وإنْ غلبتُك فاجعل المر لي ،فقال عمرو بن
حقْنٌ لدماء
العاص وكان في صفوف معاوية :وال ،يا معاوية لقد أنصفك الرجل ،وفي هذا َ
المسلمين في الجانبين.
فنظر معاوية إلى عمرو وقال :وال يا عمرو ما أر ْدتَ إل إن أبرز له فيقتلني ،ويكون لك المر
من بعدي ،وما ُد ْمتَ قد قلتَ ما قلتَ فل يبارزه غيرك فاخرج إليه.
فقام عمرو لمبارزة علي ،لكن أين عمرو من شجاعة علي وقوته؟ وحمل عليّ على عمرو حملة
قوية ،فلما أحسّ عمرو أن عليا سيضربه ضربة تميته لجأ إلى حيلة ،واستعمل دهاءه في صَرْف
عليّ عنه ،فكشف عمرو عن عورته ،وهو يعلم تماما أن عليا يتورع عن النظر إلى العورة،
وفعلً تركه علي وانصرف عنه ،ونجا عمرو بحيلته هذه.
سوْأَ ِتهِ
وقد عبّر الشاعر عن هذا الموقف فقالَ :ولَخَيْرَ في رَدّ الرّدَى بِدَنيّةٍ كَما رَدّهَا َيوْما بِ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صيّ ال ّدمْعِ
ع ِ
عمْرُوويقول الشريف الرضي -وهو من آل البيت -في القصيدة التي مطلعها:أرَاكَ َ
َ
ك ولَ َأمْربَلَى أَنَا مُشْتَاقٌ وعِنْدي َلوْعَ ٌة وَلكِنْ مِثْلي لَ ُيذَاعُ َلهُ
شِيمَ ُتكَ الصّبْر أَما لِ ْل َهوَى َن ْهيُ عل ْي َ
ن أو القَبْرُ
س لَ تَوسّطَ بَيْنَنَا لَنَا الصّدْرُ دُون العَالَمي َ
سِرّوفيها يقول:وَإنّا أُنَا ٌ
نعود إلى بدر ،حيث اعترض الكفار حينما أخرج لهم رسول ال بعض رجال النصار فقالوا:
هؤلء نكرات من النصار ،نريد أن تُخرِج لنا َأ ْكفَاءنا من رجال قريش ،فأخرج لهم رسول ال
صلى ال عليه وسلم عليا وحمزة وعبيد بن الحارث بن عبد المطلب ،وأخرجوا هم عتبة وشيبة
والوليد ،وكان ما كان من ُنصْرة المسلمين وهزيمة المشركين.
شكُرُونَ }[آل
وهذا هو اليوم الذي قال ال فيه {:وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِبَدْ ٍر وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ فَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّلكُمْ َت ْ
عمران.]123 :
إذن :فبدر كانت َفصْلً دنيويا بين هذيْ الخصْمين ،ويبقى َفصْل الخرة الذي قال فيه المام علي:
" أنا أول مَنْ يجثو بين يدي ال يوم القيامة للفصل ".
صمُواْ فِي رَ ّبهِمْ[ { ..الحج ]19 :أي :بسبب اختلفهم في ربهم ،ففريقٌ يؤمن بوجود
ومعنى } :اخْ َت َ
إله ،وفريقٌ يُنكره ،فريق يُثبت له الصفات ،وفريق ينفي عنه هذه الصفات ،يعني :انقسموا بين
إيمان وكفر.
حمِيمُ { [الحج:
سهِمُ ا ْل َ
صبّ مِن َفوْقِ ُرءُو ِ
ط َعتْ َلهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارٍ ُي َ
ثم يُفصّل القول } :فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُ ّ
.]19
ط َعتْ َل ُهمْ ثِيَابٌ مّن نّارٍ[ { ..الحج ]19 :كأن النار تفصيل على قَدْر جسومهم إحكاما للعذاب،
} ُق ّ
شدّتها ،وليست فضفاضة عليهم.
ومبالغةً فيه ،فليس فيها اتساع يمكن أنْ يُقلّل من ِ
حمِيمُ { [الحج ]19 :والحميم :الماء الذي بلغ منتهى الحرارة ،حتى
سهِمُ الْ َ
صبّ مِن َف ْوقِ رُءُو ِ
ثم } ُي َ
ن تتصور ماءً يَغليه ربنا عز وجل!!
صار هو نفسه مُحْرِقا من شِدّة حَرّه ،ولكَ أ ْ
وهكذا يجمع ال عليهم ألوان العذاب؛ لن الثياب يرتديها النسان لتستر عورته ،وتقيه الحر
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا
والبرد ،ففيها شمول لمنفعة الجسم ،يقول تعالىَ {:وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْ َيةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ
خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }
رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَرَتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْ َ
[النحل.]112 :
فالذاقة ليستْ في اللباس ،إنما بشيء آخر ،واللباس يعطي الحاطة والشمول ،لتعم الذاقة ُكلّ
أطراف البدن ،وتحكم عليه مبالغةً في العذاب.
()2596 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صهَرُ ِبهِ مَا فِي بُطُو ِنهِ ْم وَا ْلجُلُودُ ()20
ُي ْ
قلنا :إن هذا الماء بلغ من الحرارة منتهاها ،فلم ي ْغلِ عند درجة الحرارة التي نعرفها ،إنما يُغلِيه
ربه الذي ل يُطيق عذابَه أحدٌ .وأنت إذا صببتَ الماء المغلي على جسم إنسان فإنه يشوي جسمه
صبّ عليهم فإنه يصهر ما في بطونهم
من الخارج ،إنما ل يصل إلى داخله ،أمّا هذا الماء حين ُي َ
أولً ،ثم جلودهم بعد ذلك ،فاللهم قِنَا عذابك يوم تبعث عبادك.
()2597 /
المقامع :هي السياط التي تقمع بها الدابة ،وتَرْدعها لتطاوعك ،أو النسان حين تعاقبه ،لكنها سياط
من حديد ،ففيها دللة على الذّلّة والنكسار ،فضلً عن العذاب.
ثم يُبيّن الحق سبحانه مهمة هذه المقامع ،فيقول { :كُّلمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْ ُرجُواْ مِ ْنهَا.} ..
()2598 /
الحق -سبحانه وتعالى -يُصوّر حال أهل النار وما هم فيه من العذاب ومن اليأس في أن يُخفف
غمّ العذاب جاءتهم هذه السياط فأعادتهم حيث كانوا ،والنسان
عنهم ،فإذا ما حاولوا الخروج من َ
قد يتعود على نوع من العذاب فيهون عليه المر ،كالمسجون مثلً الذي ُيضْرب بالسياط على
ظهره ،فبعد عدة ضربات يفقد الحساس ول يؤثر فيه ضَرْب بعد ذلك.
وقد أجاد المتنبي في وصف هذا المعنى حين قالَ :رمَاني الدّهْرُ بالَرْزَاءِ حتّى كَأنّي فِي غِشَاءٍ مِنْ
سهَامٌ تكسّرتْ ال ّنصَالُ علَى ال ّنصَاللكن أنّى يُخفّف عن أهل النار ،والحق
نِبَالِفكنتُ إذا َأصَابتْني ِ
جتْ جُلُو ُدهُمْ َبدّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْ َرهَا لِيَذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ[} ..النساء:
سبحانه وتعالى يقول {:كُّلمَا َنضِ َ
.]56
ففي إعادتهم تيئيس لهم بعد أنْ طمِعوا في النجاة ،وما أشدّ اليأس بعد الطمع على النفس؛ لذلك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يقولون :ل أفجعَ من يأسٍ مقمع ،بعد أمل ُم ْقمِع .كما يقول تعالى {:وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ} ..
شوِي
[الكهف ]29 :ساعة يسمعون الغاثة يأملون ويستبشرون ،فيأتيهم اليأس في{ ِبمَآءٍ كَا ْل ُمهْلِ يَ ْ
الْوجُوهَ[} ..الكهف.]29 :
عذَابَ الْحَرِيقِ } [الحج ]22 :الحريق :الشيء الذي يحرق غيره لشدته.
وقوله تعالى { :وَذُوقُواْ َ
ت الياتُ عن الكافرين ،وما حاق بهم من العذاب كان ل بُدّ أنْ تتحدّث عن المقابل،
وبعد أن تحدث ْ
عن المؤمنين ليُجري العقلُ مقارنةً بين هذا وذاك ،فيزداد المؤمن تشبّثا باليمان و ُنفْرةً من الكفر،
وكذلك الكافر ينتبه لعاقبة كُفْره فيزهد فيه ويرجع إلى اليمان ،وهكذا ينتفع الجميع بهذه المقابلة،
وكأن الحق سبحانه وتعالى يعطينا في آيات القرآن وفي المقابلت وسائل النجاة والرحمة.
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ.} ..
خلُ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
يقول الحق سبحانه وتعالى { :إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ
()2599 /
عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ
خلُ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ
إِنّ اللّهَ يُ ْد ِ
سهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ()23
ب وَُلؤُْلؤًا وَلِبَا ُ
مِنْ ذَ َه ٍ
يُبيّن الحق سبحانه وتعالى مَا أعدّه لعباده المؤمنين حيث السكن { :جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا
ب وَُلؤْلُؤا[ } ..الحج]23 :
حّلوْنَ فِيهَا مِنْ َأسَاوِرَ مِن ذَ َه ٍ
الَ ْنهَارُ[ } ..الحج ]23 :والزينة { :يُ َ
سكَن والزينة واللباس.
سهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج ]23 :فجمع لهم نعيم ال ّ
واللباس { :وَلِبَا ُ
وفي الخرة يُنعّم الرجال بالحرير وبالذهب الذي حُرّم عليهم في الدنيا ،وهنا قد يعترض النساء،
وما النعيم في شيء تنعّمنا به في الدنيا وهو الحرير والذهب؟
نعم تتمتعْن بالحرير والذهب في الدنيا ،أمّا في الخرة فهو نوع آخر ومتعة كاملة ل يُنغّصها
ق معها ل يأخذه أحد ،ول تحتاج إلى تغييره أو
شيء ،فالحلي للمرأة خالصٌ من المكدّرات ،وبا ٍ
بيعه؛ لنه يتجدّد في يدها كل يوم ،فتراه على صياغة جديدة وشكل جديد غير الذي كان عليه .كما
قلنا سابقا في قوله تعالى عن أهل الجنة {:قَالُواْ هَـاذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِن قَ ْبلُ[} ..البقرة.]25 :
فحسبوا أن طعام الجنة وفاكهتها كفاكهة الدنيا التي أكلوها من قبل ،فيُبيّن لهم ربهم أنها ليستْ
كفاكهة الدنيا{ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها[} ..البقرة ]25 :يعني :أنواعا مختلفة للصنف الواحد.
ثم يقول الحق { :وَهُدُواْ ِإلَى الطّ ّيبِ مِنَ ا ْل َقوْلِ.} ..
()2600 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمِيدِ ()24
وَهُدُوا إِلَى الطّ ّيبِ مِنَ ا ْلقَ ْولِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ ا ْل َ
(هُدُوا) هداهم ال ،فالذي دلّهم على وسائل دخول الجنة والتمتّع فيها بالسكن والزينة واللباس كذلك
يهديهم الن في الجنة ويدلّهم على كيفية شُكر المنعم على هذه النعمة ،هذا معنى { :وَهُدُواْ إِلَى
الطّ ّيبِ مِنَ ا ْل َق ْولِ[ } ..الحج ]24 :هذا القول الطيب لخّصته آيات أخرى ،ومنها قوله تعالى{:
الْحَـمْدُ للّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَعْ َدهُ[} ..الزمر.]74 :
حمْدُ للّهِ * ..الّذِي َأحَلّنَا دَارَ ا ْل ُمقَامَةِ مِن َفضْلِهِ[} ..فاطر.]35 - 34 :
وقوله {:ا ْل َ
حمْدُ للّهِ الّذِي َأذْ َهبَ عَنّا ا ْلحَزَنَ[} ..فاطر]34 :
وقوله {:ا ْل َ
ن يقولوا :الحمد ل ،كما يقول
فحين يدخل أهل الجنةِ الجنةَ ،ويباشرون النعيم المقيم ل يملكون إل أ ْ
حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[يونس.]10 :
عوَا ُهمْ أَنِ ا ْل َ
الحق سبحانه عنهم {:وَآخِرُ دَ ْ
وقالوا { :الطّ ّيبِ مِنَ ا ْل َق ْولِ[ } ..الحج ]24 :هو كلمة التوحيد :ل إله إل ال ،فهذه الكلمة هي
المعشوقة التي أتتْ بنا إلى الجنة ،والمعنى يسَع كل كلم طيب ،كما قال سبحانه {:أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ
سمَآءِ }[إبراهيم.]24 :
عهَا فِي ال ّ
ت َوفَرْ ُ
شجَرةٍ طَيّ َبةٍ َأصُْلهَا ثَا ِب ٌ
ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً كَِلمَةً طَيّبَةً كَ َ
حمِيدِ } [الحج ]24 :أي :هداهم ال إلى طريق الجنة ،أو
ثم يقول تعالى { :وَ ُهدُواْ إِلَىا صِرَاطِ الْ َ
جهَنّمَ[} ..النساء:
إلى الجنة ذاتها ،كما قال في آية الكافرينَ {:ولَ لِ َي ْهدِ َيهُمْ طَرِيقا * ِإلّ طَرِيقَ َ
.]169 - 168
سجِدِ الْحَرَامِ.} ..
ثم يقول الحق سبحانه { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُو ْا وَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّ ِه وَا ْلمَ ْ
()2601 /
انتقلتْ بنا اليات إلى موضوع جديد { :إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ[ } ..الحج ]25 :بصيغة الماضي ،لن
الكفر وقع منهم فعلً { وَ َيصُدّونَ[ } ..الحج ]25 :بصيغة المضارع ،والقياس أن نقول :كفروا
وصَدّوا ،لكن المسألة ليست قاعدة ول هي عملية آلية؛ لن الصدّ عن سبيل ال ناشيء عن الكفر
وما يزال صدّهم مستمرا.
جدِ ا ْلحَرَامِ[ } ..الحج ]25 :لنهم
ومعنى { عَن سَبِيلِ اللّهِ[ } ..الحج ]25 :أي :عن الجهاد { وَا ْلمَسْ ِ
منعوا المسلمين من دخوله ،وكان في قبضتهم وتحت سيطرتهم ،وهذا ما حدث فعلً في الحديبية
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حينما اشتاق صحابة رسول ال إلى أداء العمرة والطواف بالبيت الذي طالت مدة حرمانهم منه،
فلما ذهبوا منعهم كفار مكة ،وصدّوهم عن دخوله.
ن تفعل فيه خطأ ،أو تهينه،
سجِدِ الْحَرَامِ[ } ..الحج ]25 :كلمة حرام يُستفاد منها أنه مُحرّم أ ْ
{ وَا ْلمَ ْ
أو تعتدي فيه .وكلمة (الحَرَام) وصف بها بعض المكان وبعض الزمان ،وهي خمسة أشياء :نقول:
البيت الحرام وهو الكعبة ،والمسجد الحرام ،والبلد الحرام ،ثم المشعر الحرام .وهذه عبارة عن
دوائر مركز الكعبة ،هذه أماكن ،ثم الخامس وهو زمن :الشهر الحرام الذي قال ال فيه:
شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ[ } ..الحج]25 :
{ َيسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ
وحُرْمة الزمان والمكان هنا لحكمة أرادها الخالق سبحانه؛ لنه َربٌ رحيم بخَلْقه يريد أن يجعل
لهم فرصة لِستْر كبريائهم ،والحدّ من غرورهم ،وكانت تنتشر بين القوم الحروب والصراعات
التي كانت ُتذْكي نارها عادات قبلية وسعار الحرب ،حتى أن كِلَ الفريقين يريد أنْ يُفني الخر،
وربما استمروا في الحرب وهم كارهون لها ،لكن يمنعهم كبرياؤهم من التراجع والنسحاب.
لذلك جعل ال سبحانه لهذه الماكن والزمنة حُرْمة لتكون ستارا لهذا الكبرياء الزائف ،ولهذه
العزة البغيضة .وكل حَدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان ،فحرّم ال القتال في الشهر الحرم ،حتى
إذا ما استعرت بينهم حرب جاء شهر حرام ،فأنقذ الضعيف من قبضة القوى دون أنْ يجرح
كبرياءه ،وربما هَزّ رأسه قائلً :لول الشهر الحرام كنت فعلتُ بهم كذا وكذا.
حقِن دماءهم.
فهذه -إذن -رحمة من ال بعباده ،وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها ويَ ْ
وما أشبه كبرياءَ العرب في هذه المسألة بكبرياء زوجيْن تخاصما على َمضَض ،ويريد كل منهم
أنْ يأتي صاحبه ،لكن يمنعه كبرياءه أن يتنازل ،فجلس الرجل في غرفته ،وأغلق الباب على
نفسه ،فنظرتْ الزوجة ،فإذا به يرفع يديه يدعو ال أنْ تُصالحه زوجته ،فذهبتْ وتزيّ َنتْ له ،ثم
دفعت الباب عليه وقالت -وكأن أحدا يُجبرها على الدخول ( -مُوديّانِي فين يا أم هاشم)
وكذلك ،جعل في المكان محرما؛ لن الزمن الحرام الذي حرم فيه قتال أربعة أشهر :ثلثة سرد
وواحد فرد ،الفرد هو رجب ،والسرد هي :ذو القعدة ،وذو الحجة ،والمحرم.
حقْد
فحرّم أيضا القتال في هذه الماكن ليعصم دماء الخَلْق أنْ تُراقَ بسبب تناحر القبائل بال ِغلّ وال ِ
والكبرياء والغرور.
سجِدِ الْحَرَامِ حَتّىا ُيقَاتِلُوكُمْ
يقول تعالى في تحريم القتال في البيت الحرامَ {:ولَ ُتقَاتِلُوهُمْ عِ ْندَ ا ْلمَ ْ
فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُو ُهمْ كَذَِلكَ جَزَآءُ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة.]191 :
فلعلّهم حين تأتي شهور التحريم ،أو يأتي مكانه يستريحون من الحرب ،فيدركون لذة السلم
سعَار الحرب يجُرّ حربا ،ولذة
وأهمية الصلح ،فيقضون على أسباب النزاع بينهم دون حرب ،ف ُ
السلم وراحة المن والشعور بهدوء الحياة َيجُرّ مَيْلً للتصالح وفضّ مثل هذه المنازعات بالطرق
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السلمية.
والمتأمل في هذه الماكن التي حرّمها ال يجدها على مراتب ،وكأنها دوائر مركزها بيت ال
الحرام وهو الكعبة ،ثم المسجد الحرام حولها ،ثم البلد الحرام وهي مكة ،ثم المشعر الحرام الذي
يأخذ جزءا من الزمن فقط في أيام الحج.
أما الكعبة فليست كما يظنّ البعض أنها هذا البناء الذي نراه ،الكعبة هي المكان ،أما هذا البناء فهو
ضتَ هذا البناء القائم الن فمكان البناء هو البيت ،هذا مكانه إنْ نز ْلتَ في أعماق
المكين ،فلو نق ْ
الرض أو صع ْدتَ في طبقات السماء.
إذن :فبيت ال الحرام هو هذه البقعة من الرض حتى السماءَ ،ألَ ترى الناس ُيصَلّون في الدوار
جوّ الكعبة ،ل يواجهون الكعبة ذاتها ،لماذا؟
العليا ،وهم أعلى من هذا البناء بكثير؟ إنهم يواجهون َ
لن الكعبة ممتدة في الجو إلى ما شاء ال.
ثم يلي البيت المسجد ،وهو قطعة أرض حُكرت على المسجدية ،لكن هناك مسجد بالمكان حين
تقيمه أنت ،وتجعل له بناء مثل هذا البناء الذي نتحدث فيه الن يسمى " مسجد " بالمكان ،أو
مسجد بالمكين حين يضيق علينا هذا المسجد فنخرج نصلي في الشارع فهو في هذه الحالة مسجد،
قالوا :ولو امتد إلى صنعاء وتواصلتْ الصفوف فكلّه مسجد.
نعود إلى " ما دار بين المسلمين والمشركين يوم الحديبية ،فقد صدّ الكفار المسلمين عن بيت ال
الحرام وهم على مَرْمى البصر منه ،فاغتاظ المسلمون لذلك ،ورأى بعضهم أن يدخل مكة عُنْوة
ورَغْما عنهم.
لكن كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم سِرّ بينه وبين ربه عز وجل ،فنزل على شروطهم،
وعقد معهم صُلْحا هو " صلح الحديبية " الذي أثار حفيظة الصحابة ،وعلى رأسهم عمر بن
الخطاب ،فقال لرسول ال:يا رسول ال ،ألسنا على الحق؟ قال صلى ال عليه وسلم " :بلى " قال:
أليسوا هم على باطل؟ قال :فلِمَ ُن ْعطِى الدنيّة في ديننا؟ ".
وكان من بنود هذا الصلح :إذا أسلم كافر ودخل في صفوف المسلمين يرده محمد صلى ال عليه
وسلم ،وإذا ذهب مسلم إليهم ل يردونه إلى المسلمين.
وكان للسيدة أم المؤمنين أم سلمة -رضوان ال عليها -موقف عظيم في هذه الشدة ،ورَأْي سديد
ردّ آراء الرجال إلى الرّشْد وإلى الصواب ،وهذا مما نفخر به للمرأة في السلم ،ونردّ به على
المتشدّقين بحقوق المرأة.
فلما عاد رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى فُسْطاطه ُمغْضبا فقال لم سلمة " :هلك المسلمون يا
أم سلمة ،لقد أمرتهم فلم يمتثلوا " يعني امرهم بالعودة دون أداء العمرة هذا العام.
فقالت السيدة أم المؤمنين :يا رسول ال ،إنهم مكروبون ،فقد مُ ِنعُوا عن بيت ال وهم على مَرْأىً
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منه ،لكن اذهب يا رسول ال إلى ما أمرك به ربك ،فافعل فإذا رأوْك فعلْتَهُ علموا أن المر
عزيمة -يعني ل رجعةَ فيه -وفعلً أخذ رسول ال بهذه النصيحة ،فذهب فحلق ،وذبح هدية
وفعل الناس مثله ،وانتهت هذه المسألة.
ن يعودوا إلى المدينة شاءتْ إرادة ال أنْ يخبرهم بالحكمة في قبول رسول ال لشروط
لكن قبل أ ْ
المشركين مع أنها شروط ظالمة مُجْحفة:
أولً :في هذا الصلح وهذه المعاهدة اعتراف منهم بمحمد ومكانته ومنزلته ،وأنه أصبح مساويا
لهم ،وهذا مكسب في حَدّ ذاته.
ثانيا :اتفق الطرفان على وقف القتال بينهم لعدة سنوات ،وهذه الفترة أعطتْ المسلمين فرصة كي
يتفرغوا لستقبال الوفود ونَشْر دين ال.
ثالثا :كان في إمكان رسول ال صلى ال عليه وسلم أنْ يدخلهم مكة رَغْما عن أهلها ،وكان في
مقدوره أن يقتلهم جميعا ،لكن ماذا سيكون موقف المؤمنين من أهل مكة والذين يسترون إيمانهم
ول يعرفهم أحد؟ إنهم وسط هؤلء الكفار ،وسينالهم ما ينال الكفار ،ولو تميّز المؤمنون من الكفار
أو خرجوا في جانب لمكن تفاديهم.
سجِدِ الْحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفا أَن يَبُْلغَ مَحِلّهُ
اقرأ قوله تعالىُ {:همُ الّذِينَ َكفَرُو ْا َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ
خلَ
وََلوْلَ رِجَالٌ ّم ْؤمِنُونَ وَنِسَآءٌ ّم ْؤمِنَاتٌ لّمْ َتعَْلمُوهُمْ أَن َتطَئُوهُمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مّ ْنهُمْ ّمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ لّيُ ْد ِ
عذَابا أَلِيما }[الفتح.]25 :
حمَتِهِ مَن يَشَآءُ َلوْ تَزَيّلُواْ َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُواْ مِ ْنهُمْ َ
اللّهُ فِي َر ْ
سوَآءً
جعَلْنَاهُ لِلنّاسِ[ { ..الحج ]25 :أي :جميعا } َ
ثم يقول تعالى عن المسجد الحرام } :الّذِي َ
ا ْلعَا ِكفُ فِي ِه وَالْبَادِ[ { ..الحج ]25 :العاكف فيه يعني :المقيم ،والباد :القادم إليه من خارج مكة،
سوَآءً[ { ..الحج ]25 :يعني :هذان النوعان متساويان تماما.
ومعنى } َ
لذلك نقول للذين يحجزون الماكن لحسابهم في بيت ال الحرام خاصة ،وفي بيوت ال عامة:
أريحوا أنفسكم ،فالمكان محجوز عند ال لمن سبق ،ل لمن وضع سجادته ،وشغل بها المكان.
سوَآءً ا ْلعَاكِفُ فِي ِه وَالْبَادِ[ { ..الحج ]25 :البعض لنْ يقول :ل يجوز تأجير
عتْ هذه اليةَ } :
وقد دَ َ
البيوت في مكة ،فمَنْ أراد أن ينزل في بيت ينزل فيه دون أجرة حتى يستوي المقيم والغريب.
وهذا الرأي مردود عليه بأن البيوت مكان ومكين ،وأرض مكة كانت للجميع حين كان المكان
حُرا يبني فيه من أراد ،أمّا بعد أن بنى بيتا ،وسكنه أصبح مكينا فيه ،ل يجوز لحد دخوله إل
بإذنه وإرادته.
وقد دار حول هذه المسألة نقاش بين الحنظلي في مكة والمام الشافعي ،حيث يرى الحنظلي أنه ل
يجوز تأجير البيوت في مكة؛ لنها حسب هذه الية للجميع ،فردّ عليه الشافعي رضي ال عنه :لو
كان المر كذلك لما قال سبحانه في المهاجرين {:الّذِينَ ُأخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ[} ..الحشر.]8 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فنسب الديار إليهم .وَلمَا قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لما نزل مكة " :وهل ترك لنا عقيل
من دار أو من ربع؟ " وكوْنُ عقيل يبيع دُورهم بعد أن هاجروا ،فهذا دليل على ملكيتهم لها .لذلك
رجع الحنظلي إلى رأي الشافعي.
هذا مع أن الية تعني البيت فقط ،ل مكة كلها ،فما كان الخلف ليصل إلى مكة كلها.
عذَابٍ أَلِيمٍ { [الحج ]25 :اللحاد قد يكون في
ثم يقول تعالىَ } :ومَن يُ ِردْ فِيهِ بِإِ ْلحَادٍ ِبظُلْمٍ نّ ِذقْهُ مِنْ َ
الحق العلى ،وهو اللحاد في ال عز وجل ،أما هنا فيُراد باللحاد :الميْل عن طريق الحقّ،
وقولهِ } :بظُلْمٍ[ { ..الحج ]25 :الظلم في شيء ل يسمو إلى درجة الكفر ،واللحاد بظلم إنْ حدث
في بيت ال فهو أمر عظيم؛ لنك في بيت ربك (الكعبة).
وكان يجب عليك أن تستحي من مجرد حديث النفس بمعصية ،مجرد الرادة هنا ُتعَدّ ذنبا؛ لنك
في مقام يجب أنْ تستشعر فيه الجلل والمهابة ،فكما أعطى ال لبيته مَيْزة في مضاعفة الحسنات،
كذلك عظّم أمر المعصية وأنت في رحاب بيته ،فتنبّه لهذه المسألة.
سكْر يُتصوّر في بيت
حتى في أمثال أهل الريف يقولون( :تيجي في بيت العالم وتسكر) يعني :ال ّ
أحد العصاة ،في بيت فاسق ،في خمارة ،لكن في بيت عالم ،فهذا شيء كبير ،وجرأة عظيمة.
لماذا؟
فللمكان حُرْمة بحُرمة صاحبة ،فإذا كان للمكان حُرْمة بحُرْمة صاحبه ،والبيت منسوب إلى ال،
عقْر داره ،وأيْ جرأة أعظم من الجرأة على ال؟
فأنت تعصي ربك في ُ
وهذه خاصية للمسجد الحرام ،فكُلّ المساجد في أي مكان بيوت ال ،لكن هناك فَرْق بين بيت ال
باختيار ال ،وبيت ال باختيار عباد ال؛ لذلك جُعل بيتُ ال باختيار ال (البيت الحرام) هو القِبْلة
التي تتجه إليها كل بيوت ال في الرض.
فما عاقبة اللحاد في بيت ال؟ } نّ ِذ ْقهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ { [الحج ]25 :إنهم سيذوقون العذاب بأمر من
الحق دائما وأبدا ،والذاقة أشد الدراكات تأثيرا ،وذلك هو العذاب المهين ،والذوق هو الحساس
بالمطعوم شرابا كان أو طعاما ،إل أنه تعدى كل مُحسّ به ،ولو لم يكن مطعوما أو مشروبا،
ويقول ربنا عز وجلُ {:ذقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان.]49 :
أي :ذق الهانة والمذلة ،ل مما يُطعم أو مما يُشرب ،ولكن بالحساس ،فالذاقة تتعدى إلى كل
البدن ،فالنامل تذوق ،والرّجْل تذوق ،والصدر يذوق ،والرقبة تذوق .وهذا اللون من إذاقة الذل
والهانة في الدنيا لهؤلء مجرد نموذج بسيط لشدة عقاب ال.
وعذاب الخرة سيكون مهولً ،والعذاب هو إيلم الحس .إذا أحببت أن تديم ألمه ،فأ ْبقِ فيه آلة
الحساس باللم.
()2602 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن وَا ْلقَا ِئمِينَ وَال ّركّعِ السّجُودِ
طهّرْ بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِي َ
وَإِذْ َبوّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ أَنْ لَا ُتشْ ِركْ بِي شَيْئًا وَ َ
()26
ما دام الكلم السابق كان حول البيت الحرام ،فمن المناسب أنْ يتكلم عن تاريخه وبنائه ،فقال
ن وَا ْلقَآ ِئمِينَ
طهّرْ بَيْ ِتيَ لِلطّآ ِئفِي َ
سبحانه { :وَإِذْ َبوّأْنَا لِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ أَن لّ تُشْ ِركْ بِي شَيْئا وَ َ
وَال ّركّعِ السّجُودِ } [الحج ]26 :معنى َبوّأه :أي :جعله مَبَاءةً يعني :يذهب لعمله ومصالحه ،ثم يبوء
ضبٍ مّنَ اللّهِ[} ..البقرة.]61 :
إليه ويعود ،كالبيت للنسان يرجع إليه ،ومنه قوله تعالى {:وَبَآءُو ِب َغ َ
وإذ :ظرف زمان لحدث يأتي بعده الخبار بهذا الحدث ،والمعنى خطاب لرسول ال صلى ال
عليه وسلم :اذكر يا محمد الوقت الذي قيل فيه لبراهيم كذا وكذا .وهكذا في كل آيات القرآن تأتي
(إذ) في خطاب لرسول ال صلى ال عليه وسلم بحدث وقع في ذلك الظرف.
لكن ،ما علقة المباءة أو المكان المتبوّأ بمسألة البيت؟ قالوا :لن المكان المتبوّأ بقعة من الرض
يختارها النسان؛ ليرجع إليها من متاعب حياته ،ول يختار النسان مثل هذا المكان إل توفرتْ
فيه كل مُقوّمات الحياة.
سفَ فِي الَ ْرضِ يَتَ َبوّأُ مِ ْنهَا حَ ْيثُ
لذلك يقول تعالى في قصة يوسف عليه السلمَ {:وكَذاِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ
يَشَآءُ[} ..يوسف]56 :
وقال في شأن بني إسرائيل {:وَلَقَدْ َبوّأْنَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ مُ َبوّأَ صِ ْدقٍ[} ..يونس ]93 :فمعنىَ { :بوّأْنَا
لِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ[ } ..الحج ]26 :أي :جعلناه مبَاءة له ،يرجع إليه من حركة حياته بعد أنْ
أعلمنَاهُ ،ودَلَلْناه على مكانه.
وقلنا :إن المكان غير المكين ،المكان هو البقعة التي يقع فيه ويحلّ بها المكين ،فأرض هذا
المسجد مكان ،والبناء القائم على هذه الرض يُسمّى " مكين في هذا المكان " .وعلى هذا فقد َدلّ
ال إبراهيم عليه السلم على المكان الذي سيأمره بإقامة البيت عليه.
وقد كان للعلماء كلم طويل حول هذه المسألة :فبعضهم يذهب إلى أن إبراهيم عليه السلم هو
أول مَنْ بنى البيت .ونقول لصحاب هذا الرأي :الحق -تبارك وتعالى -بوّأ لبراهيم مكان
البيت ،يعني :بيّنه له؛ كأن البيت كان موجودا ،بدليل أن ال تعالى يقول في القصة على لسان
سكَنتُ مِن ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ[} ..إبراهيم.]37 :
إبراهيم {:إِنّي أَ ْ
سمَاعِيلُ[} ..البقرة]127 :
ت وَإِ ْ
وفي قوله تعالى {:وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْي ِ
شبّ ،وأصبح لديه القدرة على معاونة
ومعلوم أن إسماعيل قد شارك أباه وساعده في البناء لما َ
أبيه ،أمّا مسألة السكن فكانت وإسماعيل ما يزال رضيعا ،وقوله تعالى {:عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ} ..
[إبراهيم ]37 :يدل على أن العِنْدية موجودة قبل أنْ يبلغَ إسماعيل أنْ يساعد أباه في بناية البيت،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :هذا دليل على أن البيت كان موجودا قبل إبراهيم.
ت ُوضِعَ لِلنّاسِ
وقد أوضح الحق -سبحانه وتعالى -هذه المسألة في قوله تعالى {:إِنّ َأ ّولَ بَ ْي ٍ
لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا وَ ُهدًى لّ ْلعَاَلمِينَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :قوله تعالى لبراهيم عليه السلم } :أَن لّ تُشْ ِركْ بِي شَيْئا[ { ..الحج ]26 :ل تعني تصوّر
حدوث الشرك من إبراهيم ،وقال } شَيْئا[ { ..الحج ]26 :ليشمل النهيُ ُكلّ ألوان الشرك ،أيا كانت
صورته :شجر ،أو حجر ،أو وثن ،أو نجوم ،أو كواكب.
طهّرْ بَيْ ِتيَ[ { ..الحج ]26 :والتطهير يعني :الطهارة المعنوية بإزالة
ويؤكد هذا المعنى بقوله } :وَ َ
أسباب الشرك ،وإخلص العبادة ل وحده ل شريكَ له ،وطهارة حِسّية ممّا أصابه بمرور الزمن
وحدوث الطوفان ،فقد يكون به شيء من القاذورات مثلً.
ومعنى } لِلطّآ ِئفِينَ[ { ..الحج ]26 :الذين يطوفون بالبيت } :وَا ْلقَآئِمِينَ[ { ..الحج ]26 :المقيمين
المعتكفين فيه للعبادة } وَال ّركّعِ السّجُودِ { [الحج ]26 :الذين يذهبون إليه في أوقات الصلوات لداء
الصلة ،عبّر عن الصلة بالركوع والسجود؛ لنهما أظهر أعمال الصلة.
ثم يقول الحق سبحانه } :وََأذّن فِي النّاسِ بِا ْلحَجّ يَأْتُوكَ ِرجَالً{ ..
.
()2603 /
عمِيقٍ ()27
ل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ ُكلّ فَجّ َ
وَأَذّنْ فِي النّاسِ بِا ْلحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى ُك ّ
أمر ال نبيه إبراهيم بعد أنْ رفع القواعد من البيت أنْ يُؤذّن في الناس بالحج ،لماذا؟ لن البيت
خلْق ال ،فلماذا تقتصر رؤية البيت على مَنْ قُدّر له أنْ يمرّ به ،أو يعيش
بيت ال ،والخَلْق جميعا َ
إلى جواره؟
فأراد الحق -سبحانه وتعالى -أنْ يُشيع هذه الميْزة بين خَلْقه جميعا ،فيذْهبوا لرؤية بيت ربهم،
وإنْ كانت المساجد كلها بيوت ال ،إل أن هذا البيت بالذات هو بيت ال باختيار ال؛ لذلك جعله
قبْلة لبيوته التي اختارها الخَلْق.
إن من علمات الولء بين الناس أنْ نزور قصور العظماء وعِلْية القوم ،ثم يُسجل الزائر اسمه في
سِجلّ الزيارات ،ويرى في ذلك شرفا و ِرفْعة ،فما بالك ببيت ال ،كيف تقتصر زيارته ورؤيته
على أهله والمجاورين له أو مَنْ قُدّر لهم المرور به؟
ومعنى { َأذّن[ } ..الحج ]27 :الذان :العلم ،وأول وسائل العلم السماع بالذن ،ومن الذن أُخذ
الذان .أي :العلم .ومن هذه المادة قوله تعالى {:وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكُمْ[} ..إبراهيم ]7 :أي :أعلم؛ لن
الذن وسيلة السماع الولى ،والخطاب المبدئي الذي نتعلّم به؛ لذلك قبل أنْ تتكلّم ل بُدّ أنْ تسمع.
وحينما أمر ال إبراهيم بالذان لم يكُن حول البيت غير إبراهيم وولده وزوجته ،فلمَنْ يُؤذّن؟ ومَنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سيستمع في صحراء واسعة شاسعة وواد غير مسكون؟ فناداه ربه " :يا إبراهيم عليك الذان
وعلينا البلغ ".
مهمتك أنْ ترفَع صوتك بالذان ،وعلينا إيصال هذا النداء إلى كل الناس ،في كل الزمان ،وفي كل
المكان ،سيسمعه البشر جميعا ،وهم في عالم الذّ ّر وفي أصلب آبائهم بقدرة ال تعالى الذي قال
ت وَلَـاكِنّ اللّهَ َرمَىا[} ..النفال.]17 :
لنبيه محمد صلى ال عليه وسلمَ {:ومَا َرمَ ْيتَ إِذْ َرمَ ْي َ
يعنيَ :أدّ ما عليك ،واترك ما فوق قدرتك لقدرة ربك .فأذّنَ إبراهيم في الناس بالحج ،ووصل
النداء إلى البشر جميعا ،وإلى أن تقوم الساعة ،فَمنْ أجاب ولَبّى :لبيك اللهم لبيك كُتِ َبتْ له حجة،
ومَنْ لبّى مرتين كتِبت له حجّتيْن وهكذا ،لن معنى لبيك :إجابةً لك بعد إجابة.
فإنْ قُ ْلتَ :إن مطالب ال وأوامره كثيرة ،فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة؟ نقول :أركان
السلم تبدأ بالشهادتين :ل إله إل ال محمد رسول ال ،ثم الصلة ،ثم الزكاة ،ثم الصوم ،ثم
الحج ،لو نظرتَ إلى هذه الركان لوجدتَ أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه
وإنْ لم يكُن مستطيعا له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قُوته ،وربما حرمَ نفسه لِيُؤدّي فريضة
الحج ،ول يحدث هذا ول يتكلفه النسان إل في هذه الفريضة ،لماذا؟
قالوا :لن ال تعالى حكم في هذه المسألة فقال :أَذّن -يأتوكَ ،هكذا رَغْما عنهم ،ودون اختيارهم،
َألَ ترى الناس ينجذبون لداء هذه الفريضة ،وكأن قوة خارجة عنهم تجذبهم.
ج َعلْ َأفْئِ َدةً مّنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ[} ..إبراهيم ]37 :ومعنى تهوي :تأتي
وهذا معنى قوله تعالى {:فَا ْ
دون اختيار من ا ْلهُويّ أي :السقوط ،وهو أمر ل يملكه النسان ،كالذي يسقط من مكان عالٍ،
فليس له اختيار في ألّ يسقط.
شوْقا إليه ،وكأن شيئا يجذبها لداء هذه الفريضة؛ لن
ن القلوب إلى بيت ال ،وتتحرّق َ
وهكذا تحِ ّ
ال تعالى أمر بهذه الفريضة ،وحكم فيها بقوله } يَأْتُوكَ[ { ..الحج ]27 :أما في المور الخرى
فقد أمر بها وتركها لختيار المكلف ،يطيع أو يعصي ،إذن :هذه المسألة قضية صادقة بنصّ
القرآن.
وبعض أهل ال َفهْم يقولون :إن المر في } :وََأذّن فِي النّاسِ بِا ْلحَجّ[ { ..الحج ]27 :ليس لبراهيم،
وإنما لمحمد صلى ال عليه وسلم -الذي نزل عليه القرآن ،وخاطبه بهذه الية ،فالمعنى{ وَإِذْ
َبوّأْنَا لِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ[} ..الحج ]26 :يعني :اذكر يا مَنْ أُنْزل عليه كتابي إذْ بوأنا لبراهيم
مكان البيت ،اذكر هذه القضية } وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ[ { ..الحج ]27 :فكأن المر هنا لمحمد
صلى ال عليه وسلم.
لذلك ل نشاهد هذا النسك في المم الخرى كاليهود والنصارى ،فهم ل يحجون ول يذهبون إلى
بيت ال أبدا ،وقد ثبت أن موسى -عليه السلم -حج بيت ال ،لكن لم يثبت أن عيسى عليه
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السلم حَجّ ،بدليل أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " " يُوشك أنْ ينزل ابن مريم ،ويأتي
حاجا ،ويزور قبري ،ويُدفن هناك ".
فقال رسول ال " :ويأتي حاجا " لنه لم يمت ،وسوف يدرك عهد التكليف من رسول ال حين
ينزل من السماء ،وسيصلي خلف إمام من أمة محمد صلى ال على جميع أنبياء ال ورُسُله.
ومن المسائل التي نحتجّ بها عليهم قولهم :إن الذبيح إسحق ،فلو أن الذبيح إسحق كما يدّعون
لكانت مناسك الذبح والفداء و َرمْي الجمار عندكم في الشام ،أمّا هذه المناسك فهي هنا في مكة،
حيث كان إسماعيل.
ثم تذكّروا جيدا ما قاله كتابكم المقدس في الصحاح 24 ،23من أن الحق -سبحانه وتعالى -
أوحى إلى إبراهيم أن يصعد على جبل فاران ،ويأخذ ولده الوحيد ويذبحه ،فالوحيد إسماعيل ل
إسحق؛ لن ال فدى إسماعيل ،ثم بشّر إبراهيم بإسحق.
ومن حكمة ال -عز وجل -أنْ جعل في كذب الكاذب مَنْفذا للحق ،وثغرات نصل منها إلى
الحقيقة؛ لذلك يقول رجال القضاء :ليست هناك جريمة كاملة أبدا ،ل بُدّ أنْ يترك المجرم قرينة
تدلّ عليه مهما احتاط لجريمته ،كأن يسقط منه شيء ولو أزرار من ملبسه ،أو ورقة صغيرة بها
ن يقتصّ منه.
رقم تليفون ..إلخ ،لذلك نقول :الجريمة ل تفيد؛ لن المجرم سيقع ل محالة في يد مَ ْ
ولرجال القضاء ووكلء النيابة مقدرة كبيرة على استخلص الحقيقة من أفواه المجرمين أنفسهم،
فيظل القاضي يحاوره إلى أنْ يجد في كلمه ثغرةً أو تضاربا يصل منه إلى الحقيقة.
ذلك لن للصدق وجها واحدا ل يمكن أنْ يتلجلج صاحبه أو يتردد ،أمّا الكذب فله أكثر من وجه،
والكاذب نفسه لو حاورتَهُ أكثر من مرة لوجدتَ تغييرا وتضاربا في كلمه؛ لذلك العرب يقولون:
ن كنتَ كذوبا فكُنْ َذكُورا .يعني :تذكّر ما قُلْته أولً ،حتى ل تُغيّره بعد ذلك.
إْ
ومن أمثلة الكذب الذي يفضح صاحبه َق ْولُ أحدهم للخر :هل تذكر يوم كنا في مكان كذا ليلة
العيد الصغير ،وكان القمر ظهرا!! فقال :كيف ،يكون القمر مثل الظهر في آخر الشهر؟
وقد يلجأ القاضي إلى بعض الحِيَل ،ول ُبدّ أنْ يستخدم ذكاءه لستجلء وجه الحق ،كالقاضي الذي
احتكم إليه رجلن يتهم أحدهما الخر بأنه أخذ ماله أمانة ،ثم أخذها لنفسه ودفنها في موضع كذا
وكذا ،فلما حاور القاضي المتهم أنكر فانصرف عنه ،وتوجّه إلى صاحب المانة ،وقال له :اذهب
إلى المكان ،وابحثْ لعلّك تكون قد نسيتَه هنا أو هناك.
أو لعلّ آخر أخذه منك ،فذهب صاحب المال ،وفجأة سأل القاضي المتهم :لماذا تأخر فلن طوالَ
هذا الوقت؟ فردّ المتهم :لن المكان بعيدٌ يا سيادة القاضي .فخانتْه ذاكرته ،ونطق بالحق دون أن
يشعر.
جمْعا لرجل ،إنما جمع لراجل،
ثم يقول تعالى } :يَأْتُوكَ ِرجَالً[ { ..الحج ]27 :ورجالً هنا ليست َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وهو الذي يسير على ِرجْلَيْه } وَعَلَىا ُكلّ ضَامِرٍ[ { ..الحج ]27 :الضامر :الفَرَس أو البعير
المهزول من طول السفر.
وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم اللهي } يَأْتُوكَ[ { ..الحج ]27 :فالجميع حريص على
اداء الفريضة حتى إنْ حَجّ ماشيا.
وقوله } :يَأْتِينَ مِن ُكلّ فَجّ عَميِقٍ { [الحج ]27 :أي :من كل طريق واسع } عَميِقٍ { [الحج]27 :
يعني :بعيد.
شهَدُواْ مَنَافِعَ َل ُه ْم وَيَ ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ.{ ..
ثم يقول الحق سبحانه } :لّيَ ْ
()2604 /
سمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ َمعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَ َز َقهُمْ مِنْ َبهِيمَةِ الْأَ ْنعَامِ َفكُلُوا مِ ْنهَا
شهَدُوا مَنَافِعَ َلهُ ْم وَيَ ْذكُرُوا ا ْ
لِيَ ْ
ط ِعمُوا الْبَائِسَ ا ْل َفقِيرَ ()28
وَأَ ْ
كلمة { مَنَافِعَ } ..كلمة عامة واسعة تشمل كل أنواع النفع :مادية دنيوية ،أو دينية أُخروية ،ول
ينبغي أنْ نُضيّق ما وسّعه ال ،ف ُكلّ ما يتصل بالحج من حركات الحياة ُيعَد من المنافع ،فاستعدادك
للحج ،وتدبير نفقاته وأدواته وراحلته فيها منافع لك ولغيرك حين توفر لهلك ما يكفيهم حتى
تعود.
ما يتم من حركة بيع وشراء في مناطق الحج ،كلها منافع متبادلة بين الناس ،التاجر الذي يبيع لك،
وصاحب البيت الذي يُؤجّره لك ،وصاحب السيارة التي تنقلك.
إذن :المنافع المادية في الحج كثيرة ومتشابكة ،متداخلة مع المنافع الدينية الخروية ،فحين تشتري
الهَدْي مثلً تؤدي نُسُكا وتنفع التاجر الذي باع لك ،والمربّي الذي ربّى هذا الهَدْي ،والجزار الذي
ذبحه ،والفقير الذي أكل منه.
إذن :ل يتم الحج إل بحركة حياة واسعة ،فيها َنفْع لك وللناس من حيث ل تدري ،ولك أنْ تنظرَ
في الهدايا التي يجلبها الحجاج معهم لهليهم وذويهم ،خاصة المصريين منهم ،فترى بعضهم
جمْع هذه الشياء قبل أنْ يُؤدّي نُسُكه ويقضي معظم وقته في السواق ،وكأنه لن يكون
ينشغل ب َ
حاجا إل إذا عاد مُحمّلً بهذه الهدايا.
لذلك يأتي إلينا بعض هؤلء يسألون :أنا عليّ دَم مُتْعة وليس معي نقود ،فماذا أفعل؟ يريد أن
عطِني حقيبة سفرك،
يصوم .صحيح :كيف سيُؤدي ما عليه وقد أنفق ُكلّ ما معه؟ فكنت أقول له :ا ْ
وسأبيع ما بها ،ولن أُبقي لك إل ما يكفيك من نفقات حتى تعود.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أليست هذه كلها من المنافع؟
ومن منافع الحج ان الحاجّ منذ أنْ ينوي أداء هذه الفريضة و ُيعِد نفسه لها إعدادا ماديا ،وإعدادا
عمّا
نفسيا معنويا ،فيحاول أنْ يُعيد حساباته من جديد ،ويُصلح من نفسه ما كان فاسدا ،وينتهي َ
صقْل خاصة تُحوّله
كان يقع فيه من معصية ال ،ويُصلِح ما بينه وبين الناس ،إذن :يجري عملية َ
إلى إنسان جديد يليق بهذا الموقف العظيم ،ويكون أهْلً لرؤية بيت ال والطواف به.
ومن العداد للحج أنْ يتعلّم الحاجّ ما له وما عليه ،ويتأدب بآداب الحج فيعرف محظوراته وما
يحرُم عليه ،وأنه سوف يتنازل عن هِنْدامه وملبسه التي يزهو بها ،ومكانته التي يفتخر بها بين
الناس ،وكيف أن الحرام يُسوّي بين الجميع.
يتعلم كيف يتأدب مع نفسه ،ومع كل أجناس الكون من حوله ،مع نفسه فل يُفكّر في معصية ،ول
ظفْر من أظافره ول يقْربُ طيبا ،ول حتى صابونة لها
تمتدّ يده حتى على شعره من شعره ،أو ُ
رائحة.
والعجيب أن الحاج ساعة يدخل في الحرام يحرص كل الحرص على هذه الحكام ،وأتحدى أيّ
إنسان ينوي الحج ويأخذ في الحرام به ،ثم يفكر في معصية؛ لنه ُيعِدّ نفسه لمرحلة جديدة يتطهر
فيها من الذنوب ،فكيف يكتسب المزيد منها وقد أتى من بلد بعيدة ليتطهر منها؟
وفي الحجّ يتأدب الحاج مع الحيوان ،فل يصيده ول يقتله ،ومع النبات فل يقطع شجرا.
يتأدب حتى مع الجماد الذي يعتبره َأدْنى أجناس الكون ،فيحرص على تقبيل الحجر السود،
ويجتهد في الوصول إليه ،فإنْ لم يستطع أشار إليه بيده.
إن الحج التزام وانضباط يفوق أيّ انضباط يعرفه أهل الدنيا في حركة حياتهم ،ففي الحج ترى
هذا النسان السيد العلى لكل المخلوقات كَمْ هو منكسر خاضع مهما كانت منزلته ،وكم هي
طمأنينة النفس البشرية حين تُقبّل حجرا وهي راضية خاضعة ،بل ويحزن النسان إذ لم يتمكن
من تقبيل الحجر.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى } :وَيَ ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ ّمعْلُومَاتٍ[ { ..الحج ]28 :يذكروا اسم
ال؛ لن كل أعمال الحج مصحوبة بذكر ال وتلبيتهَ ،فمَا من عمل يُؤدّيه الحاجّ إل ويقول :لبيك
اللهم لبيك .وتظل التلبية شاغله ودَيْدنه إلى أنْ يرمي جمرة العقبة ،ومعنى " لبيك اللهم لبيك " أن
مشاغل الدنيا تطلبني ،وأنت طلبتني لداء فَ ْرضِك عليّ ،فأنا أُلبّيك أنت أولً؛ لنك خالقي وخالق
كل ما يشغلني ويأخذني منك.
واليام المعلومات هي :أيام التشريق.
ومعنى } :عَلَىا مَا رَ َز َق ُهمْ مّن َبهِيمَةِ[ { ..الحج ]28 :أي :يشكرون ال على هذا الرزق الوقتي
الذي يأكلون منه ويشربون ،ويبيعون ويشترون في أوقات الحج .أو يشكرون ال على أنْ خلقَ لهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه النعام ،وإنْ لم يحجّوا ،ففي خَلْق النعام -وهي البل والبقر والغنم والماعز -وتسخيرها
للنسان حكمة بالغة ،ففضلً عن النتفاع بلحمها وألبانها وأصوافها وأوبارها اذكروا ال واشكروه
أنْ سخّرها لكم ،فلول تسخير ال لها َلمَا استطعتُم أنْ تنتفعوا بها ،فالجمل مثلً هذا الحيوان الضخم
يقوده الطفل الصغير ،وينُيخه ويحمله في حين لم يستطع النسان تسخير الثعبان مثلً أو الذئب.
عمَِلتْ أَ ْيدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ..
لذلك يقول تعالىَ {:أوََلمْ يَ َروْاْ أَنّا خََلقْنَا َلهُم ِممّا َ
}[يس.]72 - 71 :
لذلك نذكر ال ونشكره على ما رزقنا من بهيمة النعام استمتاعا بها َأكْلً ،أو استمتاعا بها بَيْعا أو
ن وَحِينَ َتسْرَحُونَ }[النحل.]6 :
جمَالٌ حِينَ تُرِيحُو َ
زينة ،كما قال تعالى {:وََلكُمْ فِيهَا َ
ولول أن ال تعالى ذَلّلها لِخدمتك ما استط ْعتَ أنت تذليلها والنتفاع بها؛ لذلك من حكمة ال أنْ
يترك بعض خَلْقه غير مُسْتأنس ،ول يمكن لك بحال أن تستأنسه أو تُذلّله لتظل على ِذكْر لهذه
النعمة؛ وتشكر ال عليها.
وسبق أن ضربنا مثلً بالبرغوث ،وهو أَدْنى هذه المخلوقات ،ول تكاد تراه ،ومع ذلك ل تقدر
عليه ،وربما أقضّ َمضْجعك ،وأقلق نومك طوال الليل .وتلمس هذه النعمة في الجمل الذي يقوده
الصبي الصغير ،إذا حرن منك فل تستطيع أن تجعله يسير رغما عنه ،أو صَالَ فل يقدر عليه
أحد ،وقد يقتل صاحبه ويبطش بمَنْ حوله.
إذن :ل قدرة لك عليه بذاتك ،إنما بتذليل ال يمكن النتفاع به ،فتسوقه إلى َنحْره ،فيقف ساكنا
مُسْتسلما لك.
والمتأمل في حال الحيوانات التي أحلها ال لنا يجد امرها عجيبا ،فالحيوان الذي أحلّه ال لك تظل
تنتفع به طوال عمره ،فإذا ما تعرّض لما يُزهِق روحه ،ماذا يفعل؟ يرفع رأسه إلى أعلى،
ويعطيك مكان ذَبْحه ،وكأنه يقول لك :أنا في اللحظات الخيرة فاجتهد في أنْ تنتفع بلحمي ،وأهل
الريف إذا شاهدوا مثل هذه الحالة يقولون :طلب الحلل يعني الذبح .أما الحيوان الذي ل يُذبح ول
يُحله ال فيموت مُنكّس الرأس؛ لنه ل فائدة منه.
هذا الحيوان الذي نتهمه بالغباء ونقول أنه بهيم ..الخ لو فكرتَ فيه لَتغيّر رأيّك ،فالحمار الذي
نتخذه َرمْزا للغباء وعدم ال َفهْم تسوقه أمامك وتُحمّله القاذورات وتضربه فل يعترض عليك ول
يخالفك ،فإنْ نظفْته وزيّنْتَه بلجام فضة ،وبردعة قطيفة تتخذه ُركُوبة وزينة ويسير بك ويحملُك،
وأنت على ظهره ،فإنْ غضبتَ عليه واستخدمْته في الحمال وفي القاذورات تحمّل راضيا
مطيعا..
وانظر إلى هذا الحمار الذي نتخذه مثالً للغباء ،إذا أردتَ منه ان يقفز قناة أوسع من مقدرته
وإمكانياته ،فإنه يتراجع ،ومهما ضربتَه وقسْوتَ عليه ل يُقدِم عليها أبدا؛ لنه يعلم مدى قفزته،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويعلم مقدرته ،ول يُقدِم على شيء فوق ما يطيق -وبعد ذلك نقول عنه :حمار!!
ط ِعمُواْ الْبَآئِسَ ا ْل َفقِيرَ[ { ..الحج.]28 :
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى } :وَأَ ْ
البائس :هو الذي يبدو على مِحْنته وشكله وزِيّه أنه فقير محتاج ،أما الفقير فهو محتاج الباطن،
وإنْ كانَ ظاهره اليُسْر والغِنَى ،وهؤلء الفقراء ل يلتفت الناس إليهم ،وربما ل يعلمون حالهم
وحاجتهم ،وقد قال ال فيهمَ {:يحْسَ ُبهُمُ الْجَا ِهلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ال ّت َع ّففِ َتعْ ِر ُفهُم ِبسِيمَاهُ ْم لَ يَسَْألُونَ النّاسَ
إِلْحَافا[} ..البقرة.]273 :
والمعنى :كُلُوا مما يُبَاح لكم الكل منه ،وهي الصدقة المحضة ،أو الهدية للبيت غير المشروطة
بشيء ،يعني :ل هي دم قِرَان أو تمتّع ،ول هي فدية لمخالفة أمر من أمور الحرام ،أو كانت نذرا
فهذه كلها ل يؤكَل منها.
إذن :كلوا من الصدقة والتطوع ،وأطعموا كذلك البائس والفقير ،ومن رحمة ال بالفقراء أنْ جعل
الغنياء والمياسير هم الذين يبحثون عن الذبائح ويشترونها ويذهبون لمكان الذبح ويتحمّلون مشقة
هذا كله ،ثم يبحثون عن الفقير ليعطوه وهو جالس في مكانه مستريحا ،يأتيه رِزْقه من َفضْل ال
سهلً وميسّرا.
لذلك يقولون :من شرف الفقير أنْ جعله ال ركنا من أركان إسلم الغنيّ ،أي :في فريضة الزكاة،
ولم يجعل الغني ركنا من أركان إسلم الفقير.
ط ّوفُواْ{ ..
ثم يقول الحق سبحانهُ } :ثمّ لْ َي ْقضُواْ َتفَ َثهُ ْم وَلْيُوفُواْ ُنذُورَهُ ْم وَلْ َي ّ
.
()2605 /
{ لْ َي ْقضُواْ[ } ..الحج ]29 :كلمة قضاء تُقال ،إما لقضاء ال الذي يقضيه على النسان مثلً ،وهو
أمر لزم محكوم به ،وإما قضاء من إنسان بين متخاصمين ،وأول شيء في مهمة القضاء أن
يقطع الخصومة ،كأن المعنى { لْ َيقْضُواْ[ } ..الحج ]29 :أي :يقطعوا.
ومعنى { َتفَ َثهُمْ[ } ..الحج ]29 :لما نزل القرآن بهذه الكلمة لم تكن مستعملة في لسان قريش ،ولم
تكن دائرة على ألسنتهم ،فسألوا عنها أهل البادية ،فقالوا :الت َفثُ يعني :الدران والوساخ التي
تعلَقُ بالجسم ،فقالوا :وال لم نعرفها إل ساعةَ نزل القرآن بها.
فالمراد -إذن -ليقطعوا تفثهم أي الدران التي لحقتهم بسبب التزامهم بأمور الحرام ،حيث
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يمكث الحاجّ أيام الحج مُحْرِما ل يتطيب ،ول يأخذ شيئا من شعره أو أظافره ،فإذا ما أنهى أعمال
الحج وذبح هَدْية يجوز له أنْ يقطع هذا التفث ،ويزيل هذه الدران بالتحلّل من الحرام ،و ِفعْل ما
كان محظورا عليه.
وقوله تعالى { :وَلْيُوفُواْ نُذُورَ ُهمْ[ } ..الحج ]29 :يعني :طواف الفاضة ،والطواف :أنْ تدور حول
شيء بحيث تبدأ وتنتهي ،وتبدأ وتنتهي ،وهكذا ،وقد وصف البيت بأنه عتيق ،وكلمة عتيق
استعملت في اللغة استعمالت واسعة ،منها :القديم ،وما دام هو أول بيت ُوضِع للناس فهو إذن
قديم ،والقِدَم هنا صفة مدح؛ لنها تعني الشيء الثمين الذي يُحافظ عليه ويُهتَم به.
كما نرى عند بعض الناس أشياء ثمينة ونادرة يحتفظون بها ويتوارثونها يسمونها " العاديات "
ت قميتها ،وغل ثمنها.
مثل :التحف وغيرها ،وكلما مَرّ عليها الزمن زاد ْ
والعتيق :الشيء الجميل الحسن ،والعتيق :المعتوق من السيطرة والعبودية لغيره ،فما المراد
بوصف البيت هنا بأنه عتيق؟
َوصْف البيت بالقِدَم يشمل ُكلّ هذه المعاني :فهو قديم؛ لنه أول بيت ُوضِع للناس ،وهو غالٍ
ونفيس ونادر حيث نرى فيه مَا ل نراه في غيره من آيات ،ويكفي أن رؤيته والطواف به تغفر
الذنوب ،وهو بيت ال الذي ل مثيلَ له.
وهو كذلك عتيق بمعنى معتوق من سيطرة الغير؛ لن ال حفظه من اعتداء الجبابرة ،ألَ ترى
قصة الفيل ،وما فعله ال بأبرهة حين أراد هَدْمه؟ حتى الفيل الذي كان يتقدّم هذا الجيش أدرك أن
هذا اعتداءٌ على بيت ال ،فتراجع عن البيت ،وأخذ يتوجّه أي وجهة أرادوا إل ناحية الكعبة.
ويُقال :إن رجلً تقدّم إلى الفيل .وقال في أذنه :ابْرُك محمود -اسم الفيل -وارجع راشدا فإنك
ل يعوي كأنه
ظّببلد ال الحرام .وقد عبّر الشاعر عن هذا الموقف ،فقال:حُبِسَ الفيل بال ُم َغمّسِ حَتّى َ
َمعْقُورثم ينزل ال عليهم الطير البابيل التي ترميهم بالحجارة حتى الموت.
جدّ الرسول صلى ال عليه وسلم ليُكلّم أبرهة في البل المائة التي
لذلك لما ذهب عبد المطلب َ
أخذها من إبله ،قال أبرهة :لقد كنتُ أهابك حين رأيتُك ،لكنك سقطت من نظري لما كلّمتني في
مائة بعير أصبْتها لك ،وتركتَ البيت الذي فيه مجدُكم وعزكم.
فماذا قال عبد المطلب؟ قال :أما البل فإنها لي ،أما البيت فله َربّ يحميه.
البعض يتهم عبد المطلب لمقالته هذه بالسلبية ،وليست هذه سلبية من كبير قريش ،إنما ثقةً منه في
ن كنتُ أحميه أنا ،فسأحميه بقوتي وقدرتي
حماية ال لبيته؛ لذلك رَدّه إلى أقوى منه ،وكأنه قال :إ ْ
وحيلتي ،لكنني أريد أنْ أرعبه بقدرة ال وقوته ،وما سلّمتُ البيت إلّ وأنا واثق أن ربّ البيت
سيحميه ،وهذه تُزلزل العدو وتُربكه.
وما أشبه موقف عبد المطلب بموقف موسى عليه السلم ،لما قال له قومه {:إِنّا َلمُدْ َركُونَ }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[الشعراء ]61 :فقال في يقين وثقة {:كَلّ إِنّ َم ِعيَ رَبّي سَ َي ْهدِينِ }[الشعراء.]62 :
إذن :لم يكُنْ عبد المطلب سلبيا كما يتهمه البعض ،بل كان إيجابيا من النوع الراقي ،فلو كان
إيجابيا بالمعنى الذي تريدون لعطتْه هذه اليجابية منع ًة بقوته هو ،إنما تصرّفه وما تعتبرونه
سلبية أعطاه منعةً بقدرة ال وقُوّته سبحانه؛ لذلك تدخّلتْ فورا جنود السماء.
لكن لماذا الطواف والدوران حول الكعبة؟
قالوا :لن المسلم وهو غائب عن الكعبة يُصلّي لجهتها ،كلّ حسب موقعه منها ،فتجد المسلمين في
كل أنحاء العالم يتجهون نحوها ،كل من ناحية ،هذا من الشمال ،وهذا من الجنوب ،وهذا من
الشرق ،وهذا من الغرب ،يعني بكل الجهات الصلية والفرعية.
فإذا ما ذهبتَ إلى الكعبة ذاتها ،وتشرفتَ برؤيتها ،فهل تستقبلها من نفس المكان الذي كنتَ تتجه
إليه في صلتك وغيرك وغيرك؟ إذن :فكل اتجاهات الكعبة سواء لك ولغيرك ،كما قال تعالى{:
فَأَيْ َنمَا ُتوَلّواْ فَ َث ّم وَجْهُ اللّهِ[} ..البقرة ]115 :فليس هناك مكان َأوْلَى من مكان؛ لذلك نطوف حول
البيت.
ك َومَن ُيعَظّمْ حُ ُرمَاتِ اللّهِ َفهُوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّ ِه وَُأحِّلتْ َلكُ ُم الَ ْنعَامُ{ ..
ثم يقول الحق سبحانه } :ذاِل َ
.
()2606 /
ك َومَنْ ُيعَظّمْ حُ ُرمَاتِ اللّهِ َف ُهوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبّهِ وَأُحِّلتْ َلكُمُ الْأَ ْنعَامُ إِلّا مَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ فَاجْتَنِبُوا
ذَِل َ
ن وَاجْتَنِبُوا َق ْولَ الزّورِ ()30
جسَ مِنَ الَْأوْثَا ِ
الرّ ْ
{ ذاِلكَ } ..إشارة إلى الكلم السابق بأنه أمْر واضح ،لكن استمع إلى أمر جديد سيأتي ،فهنا
استئناف كلم على كلم سابق ،فبعد الكلم عن البيت وما يتعلّق به من مناسك الحج يستأنف
السياقَ {:ومَن ُيعَظّمْ حُ ُرمَاتِ اللّهِ َف ُهوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ[} ..الحج ]30 :فالحق -سبحانه -يريد
لعبده أنْ يلتز َم أوامره بفعل المر واجتناب النهي ،ف ُكلّ أمر ل يَحرُم عليك أن تتركه ،وكلّ َنهْي
يحرم عليك أنْ تأتيه ،فهذه هي حرمات ال التي ينبغي عليك تعظيمها بطاعة المر واجتناب
النهي.
وحين تُعظّم هذه الحرمات ل تُعظمها لذاتها ،فليس هناك شيء له حُرْمة في ذاته ،إنما تُعظّمها
لنها حرمات ال وأومره؛ لذلك قد يجعل اللتزام بها مُتغيّرا ،وقد يطرأ عليك ما يبدو متناقضا في
الظاهر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حلّ محلّه التيمُم
فالوضوء مثلً ،البعض يرى فيه نظافة للبدن ،فإذا انقطع الماء وعُدِم وجوده َ
بالتراب الطاهر الذي نُغبّر به أعضاء التيمم ،إذن :ليس في المر نظافة ،إنما هو اللتزام والنقياد
واستحضار أنك ُمقْبل على أمر غير عادي يجب عليك أنْ تتطّهر له بالوضوء ،فإنْ أمر ُتكَ بالتيمم
فعليك اللتزام دون البحث في أسباب المر وعِلّته.
وهكذا يكون الدب مع الوامر وتعظيمها؛ لنها من ال ،ولِمَ ل ونحن نرى مثل هذا اللتزام أو
رياضة التأديب في اللتزام في تعاملتنا الطبيعية الحياتية ،فمثلً الجندي حين يُجنّد يتعلم أول ما
يتعلم النضباط قبل أنْ يُمسِك سلحا أوْ يتدرب عليه ،يتعلم أن كلمة " ثابت " معناها عدم الحركة
مهما كانت الظروف فلو لَدغه عقرب ل يتحرك.
ويدخل المدرب على الجنود في صالة الطعام فيقول :ثابت فينفذ الجميع ..الملعقة التي في الطبق
تظل في الطبق ،والملعقة التي في فم الجندي تظل في فمه ،فل ترى في الصالة الواسعة حركة
واحدة .وهذا النضباط الحركي السلوكي مقدمة للنضباط في المور العسكرية الهامة والخطيرة
بعد ذلك.
إذن :فربّك -عز وجل َ -أوْلَى بهذا النضباط؛ لن العبادة ما هي إل انضباط عابد لوامر معبود
وطاعة مطلقة ل تقبل المناقشة؛ لنك ل تؤديها لذاتها وإنما انقيادا لمر ال ،ففي الطواف تُقبّل
الحجر السود ،وفي رمي الجمار ترمي حجرا ،وهذا حجر وذاك حجر ،هذا ندوسه وهذا نُقبّله
فَحَجر ُيقَبّل وحَجر ُيقَنْبل؛ لن المسألة مسألة طاعة والتزام ،هذا كله من تعظيم حرمات ال.
لذلك المام علي -رضي ال عنه -يلفتنا إلى هذه المسألة فيقول في التيمم :لو أن المر كما
نرى لكان مسح باطن القدم َأوْلَى من ظاهرها؛ لن الوساخ تعلق بباطن القدم أولً.
وقد ذكرنا في اليات السابقة أن الحرمات خمس :البيت الحرام ،والمسجد الحرام ،والبلد الحرام،
ل تفعلها.
والمشعر الحرام ،والشهر الحرام ،وحرمات ال هي الشياء المحرمة التي يجب ا ّ
ثم يُبيّن الحق سبحانه جزاء هذا اللتزامَ } :ف ُهوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ[ { ..الحج ]30 :الخيرية هنا
ليست في ظاهر المر وعند الناس أو في ذاته ،إنما الخيرية للعبد عند ال.
ثم يقول سبحانه } :وَأُحِّلتْ َل ُك ُم الَ ْنعَامُ ِإلّ مَا يُتْلَىا عَلَ ْيكُمْ[ { ..الحج ]30 :قد تقول :كيف وهي
حلل من البداية وفي الصل ،قالوا :لنه لما حرّم الصيد قد يظن البعض أنه حرام دائما فل
ينتفعون بها ،فبيّن سبحانه أنها حلل إل ما ذُكر تحريمه ،ونصّ القرآن عليه في قوله تعالى{:
حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ ُة وَالْدّ ُم وَلَحْمُ الْخِنْزِي ِر َومَآ أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَا ْلمُنْخَ ِنقَ ُة وَا ْل َموْقُو َذ ُة وَا ْلمُتَرَدّ َيةُ
سمُواْ بِالَزْلَمِ[} ..المائدة:
ب وَأَنْ تَسْ َتقْ ِ
ص ِ
وَالنّطِيحَ ُة َومَآ َأ َكلَ السّبُعُ ِإلّ مَا َذكّيْتُ ْم َومَا ذُبِحَ عَلَى الّن ُ
.]3
سقٌ[} ..النعام.]121 :
علَيْ ِه وَإِنّهُ َلفِ ْ
سمُ اللّهِ َ
وقوله تعالى {:وَلَ تَ ْأكُلُواْ ِممّا لَمْ ُي ْذكَرِ ا ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومعنى } :فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الَوْثَانِ[ { ..الحج ]30 :الرجْس :النجاسة الغليظة المتغلغلة في
ذات الشيء .يعني :ليست سطحية فيه يمكن إزالتها ،وإنما هي في نفس الشيء ل يمكن أنْ
تفصلها عنه.
} وَاجْتَنِبُواْ[ { ..الحج ]30 :ل تدل على المتناع فقط ،إنما على مجرد القتراب من دواعي هذه
المعصية؛ لنك حين تقترب من دواعي المعصية وأسبابها ل ُبدّ أن تداعبك وتشغل خاطرك ،ومَنْ
حام حول الشيء يوشك أنْ يقع فيه ،لذلك لم يقُل الحق -سبحانه وتعالى -امتنعوا إنما قال:
اجتنبوا ،ونعجب من بعض الذين أسرفوا على أنفسهم ويقولون :إن المر في اجتنبوا ل يعني
تحريم الخمر ،فلم َي ُقلْ :حُ ّر َمتْ عليكم الخمر.
نقول :اجتنبوا أبلغ في النهي والتحريم وأوسع من حُ ّر َمتْ عليكم ،لو قال الحق -تبارك وتعالى -
حُرّمت عليكم الخمر ،فهذا يعني أنك ل تشربها ،ولكن لك أن تشهد مجلسها وتعصرها وتحملها
ي وجه من هذه الوجوه.
وتبيعها ،أما اجتنبوا فتعني :احذروا مجرد القتراب منها على أ ّ
لذلك ،تجد الداء القرآني للمطلوبات المنهجية في الوامر والنواهي من ال يُفرّق بين حدود ما
ل ال وحدود ما حرّم ،ففي الوامر يقول {:تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتعْتَدُوهَا[} ..البقرة.]229 :
أح ّ
وفي النواهي يقول {:تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتقْرَبُوهَا[} ..البقرة.]187 :
ففي الوامر وما أحلّ ال لك ِقفْ عند ما أحلّ ،ول تتعداه إلى غيره ،أمّا المحرمات فل تقترب
منها مجردَ اقتراب ،فلما أراد ال َنهْي آدم وحواء عن الكل من الشجرة قال لهماَ {:ولَ َتقْرَبَا
هَـا ِذهِ الشّجَ َرةَ[} ..البقرة.]35 :
وبعد أن أمر الحق سبحانه باجتناب الرجْس في عبادة الصنام قال } :وَاجْتَنِبُواْ َقوْلَ الزّورِ
{ [الحج ]30 :فقرن عبادة الوثان بقول الزّور ،كأنهما في الثم سواء؛ لذلك النبي صلى ال عليه
وسلم سلّم يوما من صلة الصبح ،ثم وقف وقال " :أل وإن شهادة زور جعلها ال بعد الوثان ".
لماذا؟ لن في شهادة الزور جماع لكل حيثيات الظلم ،فساع َة يقول :ليس للكون إله ،فهذه شهادة
زور ،وقائلها شاهد زور ،كذلك حين يظلم أو يُغير في الحقيقة ،أو يذمّ الخرين ،كلها داخلة تحت
شهادة الزور.
ولما عدّد النبي صلى ال عليه وسلم الكبائر ،قال " :أل أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا :بلى يا رسول
ال .قال :الشراك بال وعقوق الوالدين -وكان متكئا فجلس -فقال :أل وقول الزور أل وقول
الزور ،قال الراوي :فما زال يكررها حتى قلنا (ليته سكت) أو حتى ظننا أنه ل يسكت ".
ت القُضاة ،وحلفت كاذبا بال.
ويقولون في شاهد الزور :يا شاهد الزور أنت شر منظور ،ضلّل َ
ومن العجيب في شاهد الزور أنه أول ما يسقط من نظر الناس يسقط من نظر مَنْ شهد لصالحه،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خصْمك لكن داستْ قدمك على كرامته وحقّرته ،ولو
شهِد لصالحك ،ورفع رأسك على َ
فرغم أنه َ
تعرّض للشهادة في قضية أخرى فأنت أول مَنْ تفضحه بأنه شهد زورا لصالحك.
سمَآءِ{ ..
ثم يقول سبحانه } :حُ َنفَآءَ للّهِ غَيْرَ ُمشْ ِركِينَ بِ ِه َومَن يُشْ ِركْ بِاللّهِ َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ ال ّ
.
()2607 /
اكتفتْ الية بذكر صفتين فقط من صفات كثيرة على وجه الجمال ،وهما حنفاء ل ،غير مشركين
به ،وحنفاء :جمع حنيف ،مأخوذة من حنيف الرّجل يعني :تقوّسها وعدم استقامتها ،فيقال :فيه
حَنَف أي :ميْل عن الستقامة ،وليس الوصف هنا بأنهم ُمعْوجون ،إنما المراد أن العوجاج عن
العوجاج استقامة.
لذلك ُوصِف إبراهيم -عليه السلم -بأنه{ كَانَ حَنِيفا[} ..آل عمران ]67 :يعني :مائلً عن عبادة
الصنام.
وقلنا :إن السماء ل تتدخّل برسالة جديدة إل حين يَعمّ الفسادُ القومَ ،ويستشري بينهم الضلل،
وتنعدم أسباب الهداية ،حيث ل واعظَ للنسان ل من نفسه وضميره ،ول من دينه ،ول من
مجتمعه وبيئته؛ ذلك لن في النفس البشرية مناعةً للحق طبيعية ،لكن تطمسها الشهوات ،فإذا عُدِم
هذا الواعظ وهذه المناعة في المجتمع تدخَّلتْ السماء بنبي جديد ،ورسالة جديدة ،وإنذار جديد؛ لن
عمّ الجميع ،ولم َيعُدْ أحد يعِظُ الخر ويهديه.
الفساد َ
وهذا المعنى الذي قال ال فيه {:كَانُو ْا لَ يَتَنَا َهوْنَ عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المائدة:
]79
جتْ للناس؛ لن المناعة للحق
ومن هنا شهد ال لمة محمد صلى ال عليه وسلم أنها خير أمة أُخرِ َ
فيها قائمة ،ولها واعظ من نفسها يأمر بالخير ،ويأخذ على يد المنحرف حتى يستقيم؛ لذلك قال
ي وفي أمتي إلى يوم القيامة ".
فيها النبي صلى ال عليه وسلم " :الخير ف ّ
والمعنى :الخير ِفيّ حصرا وفي أمتي نَثْرا ،فرسول ال صلى ال عليه وسلم جمع خصال الخير
كله ،وخَصه ال بالكمال ،لكن مَنْ يُطيق الكمال المحمدي من أمته؟ لذلك نثر ال خصال الخير في
جميع أمة محمد ،فأخذ كلّ واحد منهم صفةً من صفاته ،فكماله صلى ال عليه وسلم منثور في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أمته :هذا كريم ،وهذا شجاع ،وهذا حليم ..إلخ.
ولما كان لمة محمد هذا الدور كان هو خاتم النبياء؛ لن أمته ستؤدي رسالته من بعده ،فل
حاجة -إذن -لتدخل السماء برسالة جديدة إلى أن تقوم الساعة.
إذن نقول :الرسل ل تأتي إل عند العوجاج ،يأتون هم لِيُقوّموا هذا العوجاج ،ويميلون عنه إلى
الستقامة ،هذا معنى الحنيف أو { حُ َنفَآءَ للّهِ[ } ..الحج.]31 :
وهذه الصفة هي مقياس الستقامة على أوامر ال ل على أوامر البشر ،فنحن ل نضع لنفسنا
أسبابَ الكمال ثم نقول :ينبغي أن يكون كذا وكذا ،ل إنما الذي يضع أسباب الكمال للمخلوق هو
الخالق.
والحق -سبحانه وتعالى -ليس مراده من الفعل أنْ يُفعل لذاته ولمجرد الفعل ،إنما مراده من
الفعل أنْ يُفعل لنه أمر به ،وقد أوضحنا هذه المسألة بالكافر الذي يفعل الخير وينفع الناس
والمجتمع ،لكن ليس من منطلق الدين وأمر ال ،إنما من منطلق النسانية والمكانة الجتماعية
والمهابة والمنزلة بين الناس ،ومثل هذا ل يجحفه ال حَقه ،ول يبخسه ثواب عمله ،يعطيه لكن في
ل بقول ال تعالى:
الدنيا عم ً
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :العمل ل يُفعَل؛ لنه حسن في ذاته ،إنما لن ال أمرك به ،بدليل أن الشارع سيأمرك بأمور
ل تجد فيها حُسْنا ،ومع ذلك عليك أنْ تلتزم بها لتحقق النضباط الذي أراده منك الشارع الحكيم،
وبعد ذلك سينكشف لك وجه الحُسْن في هذا العمل ،وتعلم الحكمة منه.
ل موقف السلم من اليتيم ،وقد حث رسول ال صلى ال عليه وسلم على رعايته وإكرامه
خذ مث ً
وكفالته حتى أنه قال " :أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ،وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى "
فكافل اليتيم قرين لرسول ال في الجنة.
حكَم كثيرة ،قد ل يعلمها كثير من الناس؛ لن اليتيم فقد أباه وهو صغير ،ونظر
ففي هذا الموقف ِ
فلم َيجِدْ له أبا ،في حين يتمتع رفاقه بأحضان آبائهم ،فإذا لم يجد هذا الصغير حنانا من كل الناس
كأنهم آباؤه لتربّي عنده شعور بالسّخْط على ال والعتراض على القدر الذي حرمه دون غيره
من حنان الب ورعايته.
لذلك يريد السلم أن ينشأ اليتيم نشأة سويّة في المجتمع ،ل يسخط على ال ،ول يسخط على
الناس؛ لنهم جميعا عاملوه كأنه ولد لهم.
وهناك ملحظ آخر :حين ترى مكانة اليتيم ،وكيف يرعاه المجتمع وينهض به يطمئن قلبك إنْ
فاجأك الموت وأولدك صغار ،هذه مناعات يجعلها السلم في المجتمع :مناعة في نفس اليتيم،
ومناعة فيمَنْ يرعاه ويكفله.
وكفالة اليتيم وإكرامه ل بُدّ أنْ تتم في إطار } حُ َنفَآءَ للّهِ[ { ..الحج ]31 :فيكون عملك ل خالصا،
دون نظر إلى شيء آخر من متاع الدنيا ،كالذي يسعى للوصاية على اليتيم لينتفع بماله ،أو أن له
مطمعا في أمه ..إلخ فهذا عمله كالذي قُلْنا( :كسراب بقيعة) أو كرماد اشتدت به الريح أو كحجر
أملس صَلْد ل ينبت شيئا.
فإنْ حاول النسان إخلص النية ل في مثل هذا العمل فإنه ل يأمن أنْ يخالطه شيء ،كما جاء في
الحديث الشريف " :اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك ".
الصفة الثانية التي وصف ال بها عباده المؤمنين } :غَيْرَ مُشْ ِركِينَ ِبهِ[ { ..الحج ]31 :فالشرك أمر
عظيم؛ لن الحق -تبارك وتعالى -كما قال في الحديث القدسي -أغنى الشركاء عن الشرك،
فكيف تلجأ إلى غير ال وال موجود؟
لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي " :أنا أغنى الشركاء عن الشرك ،مَنْ عمل عملً أشرك فيه
معي غيري ،تركته وشِرْكه ".
ويعطينا الحق سبحانه بعدها صورة توضيحية لعاقبة الشركَ } :ومَن يُشْ ِركْ بِاللّهِ َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ
سحِيقٍ[ { ..الحج.]31 :
طفُهُ الطّيْرُ َأوْ َت ْهوِي بِهِ الرّيحُ فِي َمكَانٍ َ
سمَآءِ فَتَخْ َ
ال ّ
سقْفُ مِن َف ْو ِقهِمْ} ..
خرّ :يعني سقط من السماء ل يُمسكه شيء ،ومنه قوله تعالى {:فَخَرّ عَلَ ْيهِمُ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[النحل.]26 :
صعِد إلى أعلى ل بُدّ أنْ يعود إلى
ن َ
وفي النسان جمادية؛ لن قانون الجاذبية يتحكم فيه ،فإ ْ
الرض بفعل هذه الجاذبية ،ل يملك أنْ يُمسِك نفسه مُعلّقا في الهواء ،فهذا أمر ل يملكه وخارج
عن استطاعته ،وفي النسان نباتية تتمثل في النمو ،وفيه حيوانية تتمثل في الغرائز ،وفيه إنسانية
تتمثل في العقل والتفكير والختيار بين البدائل ،وبهذه كُرّم عن سائر الجناس.
سمَآءِ[ { ..الحج ]31 :بحيث ل تستطيع قوة أنْ
وتلحظ أن (خرّ) ترتبط بارتفاع بعيد } خَرّ مِنَ ال ّ
ن يصل إلى الرض تتخطفه الطير ،فإنْ لم تتخطفه
تحميه ،أو تمنعه ل بذاته ول بغيره ،وقبل أ ْ
تهوي به الريح في مكان بعيد وتتلعب به ،فهو هالك هالك ل محالةَ ،ولو كانت واحدة من هذه
الثلث لكانت كافية.
ن يتأمل مغزى هذا التصوير القرآني فيحذر هذا المصير ،فهذه حال مَنْ أشرك
وعلى العاقل أ ْ
بال ،فإنْ أخذتَ الصورة على أنها تشبيه حالة بحالة ،فها هي الصورة أمامك واضحة ،وإنْ أردتَ
تفسيرا آخر يُوضّح أجزاءها :فالسماء هي السلم ،والطير هي الشهوات ،والريح هي ريح
الشيطان ،يتلعب به هنا وهناك .فأيّ ضياع بعد هذا؟ ومَنْ ذا الذي ينقذه من هذا المصير؟
شعَائِرَ اللّهِ{ ..
ك َومَن ُي َعظّمْ َ
ثم يقول سبحانه } :ذاِل َ
.
()2608 /
{ ذاِلكَ[ } ..الحج ]32 :كما قلنا في السابقة :إشارة إلى الكلم السابق الذي أصبح واضحا معروفا،
ونستأنف بعدها كلما جديدا تَنبّه له.
شعَائِرَ اللّهِ[ } ..الحج ]32 :الشعائر :جمع شعيرة ،وهي المعالم التي جعلها ال لعباده
{ َومَن ُيعَظّمْ َ
سعْي شعيرة،
لينالوا ثوابه بتعظيمها ،فالحرام شعيرة ،والتكبير شعيرة ،والطواف شعيرة ،وال ّ
ورمْي الجمار شعيرة ..إلخ .وهذه أمور عظّمها ال ،وأمرنا بتعظيمها.
وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من ِفعْله ،أو أدائه ،أو عمله ،عَظّم الشعائر يعني :أدّاها بحبّ وعشْق
وإخلص ،وجاء بها على الوجه الكمل ،وربما زاد على ما طُِلبَ منه.
ومثالنا في ذلك :خليل ال إبراهيم ،عندما أمره ال أنْ يرفع قواعد البيت :كان يكفيه أنْ يبني على
قَدْر ما تطوله يده ،وبذلك يكون قد أدّى ما ُأمِر به ،لكنه عشق هذا التكليف وأحبّه فاحتال للمر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ووضع حجرا على حجر ليقف عليه ،ويرفع البناء بقدر ما ارتفع إليه.
فمحبة أمر ال مَرْقي من مراقي اليمان ،يجب أن نسموَ إليه ،حتى في العمل الدنيويَ :هبْ أنك
ُنقِلْتَ إلى ديوان جديد ،ووصل إلى عِلْمك أن مدير هذا الديوان رجل جا ّد وصعب ،ويُحاسب على
كل صغيرة وكبيرة ،فيمنع التأخير أو التسيّب أثناء الدوام الرسمي ،فإذا بك تلتزم بهذه التعليمات
حرفيا ،بل وتزيد عليها ليس حبا في العمل ،ولكن حتى ل تُسئَل أمام هذا المدير في يوم من اليام.
حبّ وعِشْق يُوصّلنا إلى حب ال عز وجل؛ لذلك نجد من أهل
إذن :الهدف أنْ نؤدي التكاليف ب ُ
ب معصية أورثتْ ذلً وانكسارا خَيْر من طاعة أورثت عِزا واستكبارا.
ن يقولُ :ر ّ
المعرفة مَ ْ
فالمهم أن نصل إلى ال ،أن نخضع ل ،أنْ ن ِذلّ لعزته وجلله ،والمعصية التي تُوصّلك إلى هذه
الغاية خير من الطاعة التي تُسلِمك للغرور والستكبار.
هذه المحبة للتكاليف ،وهذا العشق عبّر عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما قال " :وجُعَلتْ
لةِ قَامُواْ كُسَالَىا
قُرّة عيني في الصلة " لذلك َنعَي القرآن على أولئك الذين{ ِإذَا قَامُواْ إِلَى الصّ َ
س َولَ َي ْذكُرُونَ اللّهَ ِإلّ قَلِيلً[} ..النساء.]142 :
يُرَآءُونَ النّا َ
وابنته فاطمة -رضي ال عنها -كانت تجلو الدرهم وتلمعه ،فلما سألها رسول ال عما تفعل،
قالت :لنني نويتُ أنْ أتصدّق به ،وأعلم أنه يقع في يد ال قبل أنْ يقع في يد الفقير .هذا هو
التعظيم لشعائر ال والقيام بها عن رغبة وحب.
وفي عصور السلم الولى كان الناس يتفاضلون بأسبقهم إلى صلة الجماعة حين يسمع النداء،
وبآخرهم خروجا من المسجد بعد أداء الصلة ،ولك أن تقيس حال هؤلء بحالنا اليوم .هؤلء قوم
عظّموا شعائر ال فلم يُقدّموا عليها شيئا.
ن قال :لقد أصبحتُ أخشى أل يثيبني
حبّ التكاليف وتعظيم شعائر ال بأحد العارفين إلى أ ْ
وقد بلغ ُ
ال على طاعته ،فسألوه :ولماذا؟ قال :لنني أصبحتُ أشتهيها يعني :أصبحتْ شهوة عندي ،فكيف
يُثاب -يعني -على شهوة عندي؟!
سعَة
لذلك أهل العزم وأهل المعرفة عن ال إذا ورد المر من ال وثبت أخذوه على الرّحْب وال ّ
دون جدال ول مناقشة ،وكيف يناقشون أمر ال وهم يُعظّمونه؟ ومن هنا نقول للذين يناقشون في
ل ويعترضون ،بل ومنهم مَنْ
أمور فعلها رسول ال صلى ال عليه وسلم مثل تعدّد زوجاته مث ً
يتهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بما ل يليق.
نقول لهم :ما ُدمْتُم آمنتم بأنه رسول ال ،فكيف تضعون له موازين الكمال من عند أنفسكم.
ن يفعل كذا ،ول يفعل كذا؟ وهل عندكم من الكمال ما تقيسون به ِفعْل
وتقولون :كان ينبغي أ ْ
رسول ال؟ المفروض أن الكمال منه صلى ال عليه وسلم ومن ناحيته ،ل من ناحيتكم.
ثم يقول سبحانه } :فَإِ ّنهَا مِن َت ْقوَى ا ْلقُلُوبِ { [الحج ]32 :ليست من تقوى الجوارح ،بل تقوى قلب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل تقوى قالب ،فالقلب هو محلّ نظر ال إليك ،ومحلّ قياس تعظيمك لشعائر ال.
وسبق أنْ ذكرنا أن ال تعالى ل يريد أنْ يُخضِع قوالبنا ،إنما يريد أنْ يُخضع قلوبنا ،ولو أراد
سكَ َألّ
خعٌ ّنفْ َ
سبحانه أنْ تخضع القوالب لخصعتْ له راغمة ،كما جاء في قوله تعالىَ {:لعَّلكَ بَا ِ
ضعِينَ }[الشعراء- 3 :
سمَآءِ آيَةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ
َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْي ِهمْ مّنَ ال ّ
.]4
ن هو أضعف منك على أيّ شيء يكرهه ،إنْ شئتَ سجد لك ،لكن ل
وأنت تستطيع أنْ تُرغِم مَ ْ
تملك أنْ تجعل في قلبه حبا أو احتراما لك ،لماذا؟ لنك تجبر القالب ،أمّا القلب فل سلطةَ لك عليه
بحال.
سمّى{ ..
جلٍ مّ َ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :لكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىا َأ َ
.
()2609 /
يعني :ما دامت هذه المسائل من شعائر ال ومن تقوى القلوب فاعملوها وعظّموها؛ لن لكم فيها
منافع عرفتها أو لم تعرفها ،وربما تعرف بعضها ول تعرف الباقي؛ لنه مستور عنك ولو أنك ل
تعلم قيمة الجزاء على هذه الشعائر ،فقيمة الجزاء على العمل بحسب أنفاس الخلص في هذا
العمل.
سمّى[ } ..الحج ]33 :ما دام الحق -سبحانه وتعالى -ذَيّل الية بقوله { ثُمّ
جلٍ مّ َ
ومعنى { ِإلَىا أَ َ
مَحِّلهَآ إِلَىا الْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ[ } ..الحج.]33 :
إذن :فالمراد هنا شعيرة الذّبْح ،ول يخفى ما فيها من منافع حيث ننتفع بصوفها ووبرها ولبنها
ولحمها ،ونتخذها زينة وركوبة.
سمّى[ } ..الحج ]33 :يعني :زمن معلوم ،وهو حين تقول وتنوي :هذه هدية
جلٍ مّ َ
كل هذا { إِلَىا َأ َ
للحرم ،ساعة تعقد هذه النية فليس لك النتفاع بشيء منها ،ل أنت ول غيرك؛ لذلك يُميّزونها
بعلمة حتى إنْ ضلت من صاحبها يعرفون أنها ُمهْداة لبيت ال ،فل يأخذها أحد.
وما دامت هذه منافع إلى أجل مسمى ،فل ُبدّ أنها المنافع الدنيوية ،أما المنافع الخروية فسوف
تجدها فيما بعد في الخرة.
ثم يقول سبحانهُ { :ثمّ مَحِّلهَآ إِلَىا الْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ } [الحج ]33 :أي :بعد هذا الجل المسمى ينتهي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بها المطاف عند الحرم حيث تُذبَح هناك.
وقد كان للعلماء كلمٌ حول هذه الية { :ثُمّ مَحِّلهَآ إِلَىا الْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ } [الحج ]33 :حيث قالوا:
محل الذّبْح في مِنَى ،وليس في مكة ،والية تقول ،محلها البيت العتيق.
نقول :الصل كما جاء في الية أن الذبح في مكة وفي الحرم ،إل أنهم لما استقذروا الذّبْح في
الحرم بسبب ما يُخلفه من قاذورات ودماء وخلفه نتيجة هذه العملية ،فرُؤي أن يجعلوا الذبح بعيدا
عن الحرم حتى يظل نظيفا ،وهذا ل يمنع الصل ،وهو أنْ يكون الذّبْح في الحرم ،كما جاء في
آية أخرى {:هَدْيا بَاِلغَ ا ْل َكعْبَةِ[} ..المائدة ]95 :وفي الحديث الشريف " :مكّةُ كلّها مَنْحرٌ ".
جعَلْنَا مَنسَكا لّ َي ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَىا مَا رَ َز َقهُمْ مّن َبهِيمَةِ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَِل ُكلّ ُأمّةٍ َ
الَ ْنعَامِ} ..
.
()2610 /
حدٌ فَلَهُ
سكًا لِ َي ْذكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَى مَا رَ َز َقهُمْ مِنْ َبهِيمَةِ الْأَ ْنعَامِ فَإَِل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَا ِ
جعَلْنَا مَنْ َ
وَِلكُلّ ُأمّةٍ َ
أَسِْلمُوا وَبَشّرِ ا ْل ُمخْبِتِينَ ()34
ن صَلَتِي
المنسك :هو العبادة ،كما جاء في قول ال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلمُ {:قلْ إِ ّ
ي َو َممَاتِي للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ[} ..النعام.]162 :
سكِي َومَحْيَا َ
وَنُ ُ
جعَلْنَا مَنسَكا[ } ..الحج ]34 :لن الشعائر والمناسك والعبادات ليس من
ومعنى { وَِل ُكلّ ُأمّةٍ َ
الضروري أنْ تتفق عند جميع المم ،بل لكل أمة ما يناسبها ،ويناسب ظَرْفها الزمني والبيئي.
لذلك ،فإن الرسل ل تأتي لتُغير القواعد والسس التي يقوم عليها الدين؛ لن هذه القواعد وهذه
السس ثابتة في كل رسالت السماء ،ل تتبدل ول تتغير بتغيّر الرسل.
ك َومَا َوصّيْنَا ِبهِ إِبْرَاهِيمَ
يقول تعالى {:شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا ِبهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْي َ
ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ[} ..الشورى.]13 :
َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ
هذا في الصول ال َعقَدية الثابتة ،أما في الفرعيات فنرى ما يصلح المجتمع ،وما يناسبه من
طاعات وعبادات.
سمَ اللّهِ عَلَىا مَا رَ َز َقهُمْ مّن َبهِيمَةِ
ثم يُبيّن الحق سبحانه الحكمة من هذه المناسك { :لّيَ ْذكُرُواْ ا ْ
الَ ْنعَامِ[ } ..الحج ]34 :أي :يذكروا ال في كل شيء ،ويشكروه على كل نعمة ينالونها من بهيمة
النعام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك نذكر ال عند الذبح نقول :بسم ال ،ال أكبر ،لماذا؟ لن الذبح إزهاق روح خلقها ال ،وما
كان لك أنْ تزهقها بإرادتك ،فمعنى " بسم ال وال أكبر " هنا أنني ل أزهق روحها من عندي ،بل
لن ال أمرني وأباحها لي ،فال أكبر في هذا الموقف من إرادتك ،ومن عواطفك.
ونرى البعض يأنف من مسألة الذّبْح هذه ،يقول :كيف تذبحون هذا الحيوان أو هذه الدجاجة؟
يدّعي الرحمة والشفقة على هذه الحيوانات ،لكنه ليس أرحم بها من خالقها ،وما ذبحناها إل لن
ال أحلّها ،وما أكلناها إل بسم ال ،بدليل أن ما حرمه ال علينا ل نقرب منه أبدا.
وهل أنا أكرم القطة عن الرنب ،فأذبح الرنب وأترك القطة؟ وهل احترم الكلب عن الخروف؟
أبدا ،المسألة مسألة تشريع وأمر ثبت عن الَ ،فعَليّ أنْ أُعظّمه وأُطيعه.
وقوله تعالى { :عَلَىا مَا رَ َز َقهُمْ مّن َبهِيمَ ِة الَ ْنعَامِ[ } ..الحج ]34 :الرزق يعني :أنه تعالى أوجدها
لك ،وملكك إياها ،وذَلّلها لك فاستأنسْتها وسخّرها لك فانتفعتَ بها ،ولول تسخيره ما انقادتْ لك
بقُوتك وقدرتك.
ثم يقول سبحانه { :فَإِلَـا ُهكُمْ إِلَـا ٌه وَاحِدٌ[ } ..الحج ]34 :يعني :إن اختلفت الشرائع من أمة لمة
فإيّاك أنْ تظنّ أن هذا من إله ،وهذا من إله آخر ،إنما هو إله واحد يشرّع لكل أمة ما يناسبها وما
يصلحها؛ لن التشريعات السماوية تأتي علجا لفات اجتماعية.
والصل الصيل هو إيمان بإله واحد فاعل قادر مختار ،يُبلّغ عنه رسول بمعجزة تُبيّن صدقه في
التبليغ عن ال .هذا أصل كل الديانات السماوية ،كذلك قواعد الدين وأساسياته واحدة مُتفق عليها،
فالسرقة والزنا وشهادة الزور.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بالتحديد ،ثم يصف العلج المناسب لهذه الحالة بمقادير دقيقة تُبرئ المرض ول تضرّ المريض
من ناحية أخرى ..كذلك المر في اختلف الشرائع السماوية بين المم.
وما دام أن إلهكم إله واحد ،وما ُدمْتم عنده سواء ،وليس منكم مَنْ هو ابنٌ ال ،ول بينه وبين ال
قرابة .إذن } :فََلهُ أَسِْلمُواْ[ { ..الحج ]34 :يعني :أَسلِموا كل أموركم ل ،فإنْ أمر فعظّموا أمره،
سعَة ،فإنْ ترك مجالً لختيارك فاصنع ما تشاء .ول تنسَ أن ال تعالى
وخذوه على الرّحْب وال ّ
أعطاك فرصة للترقّي اليماني ،وللترقّي الحساني ،وفتح لك مجال الحسان إنْ أردتَ.
ثم يقول سبحانه } :وَبَشّرِ ا ْل ُمخْبِتِينَ { [الحج ]34 :المخبت :في المعنى العام :يعني النسان الخاشع
الخاضع المتواضع لكل أوامر ال ،والمعنى الدقيق للمخبت :هو الذي إذا ظُلم ل ينتصر لنفسه،
لمُورِ }[الشورى ]43 :هكذا بلم
غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم ا ُ
عملً بقول ال تعالى {:وََلمَن صَبَ َر وَ َ
التوكيد.
لمُورِ }[لقمان ]17 :بدون
أما في وصية لقمان لولده {:وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ ا ُ
توكيد لماذا؟
قالوا :لن لقمان يوصي ولده بالصبر على ما أصابه ،والمصائب قسمان :مصيبة تصيب النسان،
وله فيها غريم هو الذي أوقع به المصيب ،وهذه يصاحبها غضب وسعار للنتقام ،ومصيبة
تصيب النسان وليس له غريم كالمرض مثلً ،فإنْ كان له غريم فالصبر أشدّ ،لذلك احتاج إلى
التوكيد ،على خلف المصيبة التي ليس أمامك فيها غريم ،فهي من ال فالصبر عليها أهونُ من
الولى.
ومع ذلك جعل الحق -سبحانه وتعالى -للنفس البشرية منافذ تُنفّس من خللها عن نفسها ،حتى
ل يختمر بداخلها الغضب ،فيتحول إلى حقد وضغينة ،قد تؤدي إلى أكثر مما وقع بك؛ لذلك أباح
لك الرد لكن حبّبك في مَرَاقٍ أخرى ،هي أجدى لك ،فقال تبارك وتعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العاديين ،لكن الذين يعرفون الجزاء ،ويعرفون أنهم بذلك سيكونون في حضانة ربهم يهون عليهم
هذا العمل ،بل ويُحبون الحسان إلى مَنْ أساء.
لذلك؛ فالحسن البصري -رضوان ال عليه -لما بلغه أنّ شخصا نال منه في أحد المجالس -
وكان الوقت بواكير الرّطَب -أرسل خادمه إليه بطبق من الرطب ،وقال له :بلغني أنك أهد ْيتَ
إليّ حسناتك بالمس.
ومعلوم أن الحسنات أغلى وأثمن بكثير من طبق الرّطَب .ومن هنا يقولون :ما أعجب من الذي
يُسيء إلى مَنْ أساء إليه ،لنه أعطاه حسناته ،وهي خلصة عمله ،فكيف يُسِيء إليه؟!
وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُحدِث توازنا في المجتمع ،ويقضي على دواعي الحقد وأسباب
حقْد من
الضغائن في النفس البشرية ،فحين تُحسِن إلى مَنْ يُسِيء إليك فإنك تجتثّ جذور الكُرْة وال ِ
ك وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ
نفسه ،كما قال سبحانه وتعالى {:ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَِإذَا الّذِي بَيْ َن َ
خصْمك من قالب الخصومة ،إلى قالب الولية والمحبة.
حمِيمٌ }[فصلت ]34 :فقد أخرجتَ َ
َ
فالمخْبِت المتواضع ل .أما غير المخبِت فتراه متكبرا (يتفرعن) على مَنْ حوله ،ويرى نفسه أعظم
من الجميع ،ولو أنه استحضر جلل ربه لخشع له ،وتواضع وانكسر لخَلْقه ،فالتكبر دليل غفلة عن
عظمة ال ،كأنه لم يشهد خالقه.
إذن :تستطيع أن تقول أن الخبات على نوعين :إخبات ل بالخضوع والخشوع والتعظيم لوامره،
وإخبات لخَلْق ال ،بحيث ل ينتصر لظلمه ول يظلم ،إنما يتسامح ويعفو؛ لنه يعلم جيدا أنه إذا
ظُلِم من مخلوق تعصّب له الخالق.
ولك أن تنظر إلى أولدك إذا ظلم أحدهم الخر فإلى مَنْ تنحاز ،ومع مَنْ تتعاطف؟ ل شك أنك
عمّا لحقه من الظلم ،حتى إن الظالم ليندم
ستميل إلى المظلوم ،وتحنو عليه ،وتريد أنْ تُعوّضه َ
ن يكونَ هو المظلوم ل الظالم.
على ظُلْمه؛ لنه ميّز أخاه المظلوم عليه ،وربما تمنى أ ْ
عمّن
كذلك حال المخبِت يرى أن الخَلْق جميعا عيال ال ،وأن أحبّهم إليه أرأفهم بعياله؛ لذلك يعفو َ
ظلمَه ،ويترك أمره ل رب الجميع ،كما أن المظلوم إذا رَدّ الظلم فإنه يَردّه بقوته ومقدرته هو،
إنما إنْ ترك الردّ ل جاء الردّ على مقدار قوته سبحانه.
مَلْحظ آخر ينبغي أن يتنبه له المظلوم قبل أن يُفكّر في النتقام ،وهو :مَنْ يدريك لعلك ظلمتَ أنت
أيضا دون أنْ تدري ،لعل للناس عندك مظالم ل تشعر بها ،وليست في حُسبْانك ،فالمسألة -إذن
-لك وعليك.
لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي " :يا ابن آدم دعوتَ على مَنْ ظلمك ".
جهْرَ بِالسّوءِ مِنَ ا ْل َق ْولِ ِإلّ مَن ظُلِمَ[} ..النساء]148 :
حبّ اللّهُ ا ْل َ
وهذا مباح لك بقوله تعالى{ لّ يُ ِ
يعني :أعطيناك فرصة أنْ تدعو على من ظلمك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول سبحانه " :ودعا عليك مَنْ ظلمتَه ،فإنْ شئتَ أجبناك وأجبنا عليك ،وإن شئت أخّرتكُما
عفْوي ".
للخرة فيسعكُما َ
فالمخبت يستحضر هذا كله ،ويركن إلى العفو والتسامح؛ ليأخذ رَبّه عز وجل في صفه؛ لذلك
يقولون :لو علم الظالم ما أعده ال للمظلوم من الكرامة لضَنّ عليه بالظلم.
فحين ترى المظلوم يعفو عنك ويتسامح معك ،فل تظن أنك أخضعته لك ،إنما هو خضع ل الذي
سيرفعه عليك ،و ُيعْلي رأسه عليك في يوم من اليام.
لذلك من أنماط السلوك السوي إذا تشاجر اثنان يقول أحد العقلء :لكما أب نرد عليه ،أو لكما
كبير نرجع إليه في هذه الخصومة.
ثم يقول الحق سبحانه } :الّذِينَ ِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَجَِلتْ قُلُو ُبهُ ْم وَالصّابِرِينَ عَلَىا مَآ َأصَا َبهُمْ{ ..
.
()2611 /
الّذِينَ إِذَا ُذكِرَ اللّ ُه َوجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ وَالصّابِرِينَ عَلَى مَا َأصَا َبهُ ْم وَا ْل ُمقِيمِي الصّلَا ِة َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ
يُ ْنفِقُونَ ()35
يُبيّن لنا الحق سبحانه بعض صفات المختبين ،فهم { الّذِينَ إِذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ[ } ..الحج:
( ]35وَجِلت) :يعني خافت ،واضطربت ،وارتعدت لذكر ال تعظيما له ،ومهابة منه.
طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ }[الرعد.]28 :
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالىَ {:ألَ بِ ِذكْرِ اللّهِ تَ ْ
طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ }[الرعد ،]28 :لماذا؟ لن ذكر
فمرة يقول { وَجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ[ } ..الحج ]35 :ومرة{ َت ْ
ال إنْ جاء بعد المخالفة ل بُدّ للنفس أنْ تخاف و َتوْجَل وتضطرب هيبةً ل عز وجل ،أما إنْ جاء
ِذكْر ال بعد المصيبة أو الشدة فإن النفس تطمئنّ به ،وتأنَسُ لما فيها من رصيد إيماني ترجع إليه
عند الشدة وتركَنُ إليه عند الضيق والبلء ،فإنْ تع ّرضَت لمصيبة وعزّتْ أسبابُ َدفْعها عليك
تقول :أنا لي رب فتلجأ إليه ،كما كان من موسى -عليه السلم -حين قال {:إِنّ َم ِعيَ رَبّي
سَ َيهْدِينِ }[الشعراء.]62 :
{ وَالصّابِرِينَ عَلَىا مَآ َأصَا َبهُمْ[ } ..الحج ]35 :ومعنى أصاب :يعني جاء بأمر سيء في عُرْفك
حسْب سطحية العمل اليذائي ،إنما لو أخذتَ مع المصيبة
أنت ،فتعده مصيبة؛ لننا نُقدّر المصيبة َ
في حسابك الجر عليها لها َنتْ عليك وما أعتبرتَها كذلك؛ لذلك في الحديث الشريف يقول صلى
ال عليه وسلم " :المصاب من حرم الثواب ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذا هو المصاب حقا الذي ل تُجبَر مصيبته ،أما أنْ تُصاب بشيء فتصبر عليه حتى تنالَ الجر
فليس في هذا مصيبة.
لةِ[ } ..الحج ]35 :لن الصلة هي الولء الدائم للعبد المسلم،
ثم يقول سبحانه { :وَا ْل ُمقِيمِي الصّ َ
ن تقولها في العمر مرة،
والفرض الذي ل يسقط عنه بحال من الحوال ،فالشهادتان يكفي أ ْ
والزكاة إنْ كان عندك ِنصَاب فهي مرة واحدة في العام كله ،والصيام كذلك ،شهر في العام،
ن كنتَ مستطيعا فهو مرة واحدة في العمر ،وإنْ لم تكُنْ مستطيعا فليس عليك حج.
والحج إ ْ
إذن :الصلة هي الولء المستمر للحق سبحانه على مَدار اليوم كله ،وربك هو الذي يدعوك إليها،
حضْرته تعالى؛ لنه سبحانه مستعد للقائك في أيّ
ثم لك أنْ تُحدّد أنت موعد ومكان هذا اللقاء في َ
وقت.
وتصور أن رئيس الجمهورية أو الملك مثلً يدعوك ويُحتّم عليك أنْ يراك في اليوم خمس مرات
لتكون في حضرته ،والحق سبحانه حين يدعو عباده للقائه ،ل يدعوهم مرة واحدة إنما خمس
مرات في اليوم والليلة؛ لنه سبحانه ل يتكلف في هذه العملية تكرار لقاءات ،فهو سبحانه يَ ْلقَى
الجميع في وقت واحد.
ل كلّ هؤلء الناس في وقت واحد؟
ولما سئل المام علي -رضي ال عنه :-كيف يُحاسب ا ُ
قال :كما أنه يرزقهم جميعا في وقت واحد.
وقوله تعالىَ { :و ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُنفِقُونَ } [الحج ]35 :ل ينفقون من جيوبهم ،إنما من عطاء ال
ورزقه.
ومن العجيب أن ال تعالى يعطيك ويه ُبكَ ويُغدِق عليك تفضلً منه سبحانه ،فإذا أرادك تُعين
محتاجا قال لك {:مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا[} ..الحديد]11 :
عطِ ما أخذتَه لفلن ،بل إنْ
وكأن ال تعالى يقول لنا :أنا ل أعود في هبتي ول عطائي ،فأقول :أ ْ
ت الفقير من مالك فهو أيضا لك مُدّخر ل يضيع ،فرِزْقك الذي وهبك ال إياه مِلْكك ،ول
أعطي َ
نغبنك في شيء منه أبدا ،فربّك يحترم ملكيتك ويحترم جزاء عملك وجدّك واجتهادك.
نقول -ول المثل العلى :-كالرجل الذي يحتاج مبلغا كبيرا لحد البناء فيأخذ من الباقين ما
معهم وما ادخروه من مصروفاتهم على وَعْد أنْ يُعوّضهم بدلً منها فيما بعد.
عفَهُ لَهُ[} ..الحديد ]11 :فيعاملك ربك بالزيادة؛ لذلك يقول البعض :إن ال
لذلك يقول بعدها {:فَ ُيضَا ِ
تعالى حرّم علينا الربا وهو يعاملنا به ،نعم يعاملك ربك بالربا ويقول لك :اترك لي أنا هذا
التعامل؛ لنني حين أزيدك ل أنقص الخرين ،ول أُنقِص مما عندي ،ول أُرِهق ضعيفا ول
محتاجا ول أستغلّ حاجته.
والصدقة في السلم تأمينٌ لصاحبها ضد الفقر إن احتاج ،فأخوَفُ ما يخافه المرءُ الحاجة عند
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الكبَر ،وعدم القدرة على الكَسْب ،وعند العاقة عن العمل ،يخاف أنْ ينفد ماله ،ويحتاج إلى الناس
حال كِبَره.
عوَزِك وحاجتك.
وعندها يقول له ربه :اطمئن ،فكما أَعط ْيتَ حال ُيسْرك سيعطيك غيرُك حال َ
إذن :أخذ منك ليعطيك ،وليُؤمّن لك مستقبل حياتك الذي تخاف منه.
الصدقة في السلم صندوق لتكافل المجتمع ،كصندوق التأمين في شركات التأمين ،فإذا ما ضاقت
بك أسباب الرزق وشكوْتَ الكِبَر والعجز نقول لك :ل تحزن فأنت في مجتمع مؤمن متكافل ،وكما
طلبنا منك أنْ تعطي وأنت واجد طلبنا من غيرك أنْ يعطيَك وأنت ُمعْدم.
شعَائِرِ اللّهِ َل ُكمْ فِيهَا خَيْرٌ فَا ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا..
جعَلْنَاهَا َلكُمْ مّن َ
ثم يقول الحق سبحانه } :وَالْ ُبدْنَ َ
{
.
()2612 /
بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في النفقة ِممّا رزقكم ال تكلّم في النفقة في ال ُبدْن ،والبُدْن :جمع
ن تكون
بَدَنة ،وهي الجمل أو الناقة ،أو ما يساويهما من البقر ،وسمّاها بَدَنة إشارة إلى ضرورة أ ْ
بدينة سمينة وافرة ،ول ُبدّ أنْ تراعي فيها هذه الصفة عند اختيارك للهَدْي الذي ستُقدمه ل ،واحذر
أن تكون من أولئك الذين يجعلون ل ما يكرهون ،إنما كُنْ من الذين قال ال لهم {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ
آمَنُواْ أَ ْنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ[} ..البقرة ]267 :وقوله تعالى { :فَا ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا
صوَآفّ[ } ..الحج ]36 :أي :اذكروا ال بالشكر على أنْ وهبها وذلّلها لكم ،واذكروا اسم ال عليها
َ
حين ذَبْحها.
صوَآفّ[ } ..الحج ]36 :يعني :واقفةً قائمة على أرْجُلها ،ل ضعفَ فيها ول هُزَال،
ومعنى { َ
مصفوفة وكأنها في معرض أمامك .وهذه صفات البُدْن الجيدة التي تناسب هذه الشعيرة وتليق أنْ
تُقدّمْ َهدْيا لبيت ال.
ومعنى { :فَِإذَا وَجَ َبتْ جُنُو ُبهَا[ } ..الحج ]36 :وجبَ الشيء وجبا يعني :سقط سقوطا قويا على
الرض ،ومعلوم أن ال َبدَنة ل تُذبح وهي مُلْقاة على الرض مثل باقي النعام ،وإنما تُنْحر وهي
ت وقعتْ على الرض وارتمتْ بقوة من بدانتها.
واقفة ،فإذا ما نُحِ َر ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ َفكُلُواْ مِ ْنهَا[ } ..الحج ]36 :وقلنا :إن الكل ل يكون إل من ال َهدْي المحض والتطوع الخالص
الذي ل يرتبط بشيء من مسائل الحج ،فل يكون هَ ْديَ تمتّع أو قِرَان ،ول يكون جِبْرا لمخالفة ،ول
يكون َنذْرا ..إلخ.
وعِلّة المر بالكل من الهَدْي؛ لنهم كانوا يتأففون أنْ يأكلوا من المذبوح للفقراء ،وكأن في المر
بالكل منها إشارة لوجوب اختيارها مما ل تعافه النفس.
ومعنى { :ا ْلقَانِ َع وَا ْل ُمعْتَرّ[ } ..الحج ]36 :القانع :الفقير الذي يتعفّف أنْ يسأل الناس ،والمعترّ:
الفقير الذي يتعرّض للسؤال.
شكُرُونَ[ } ..الحج ]36 :يعني :سخّرناها لكم ،ولو
ثم يقول سبحانه { :كَذاِلكَ سَخّرْنَاهَا َلكُمْ َلعَّل ُكمْ تَ ْ
في غير هذا الموقف ،لقد سخّرها ال لكم منذ وُجِد النسان؛ لذلك عليكم أنْ تشكروا ال على أنْ
أوجدها وملّككم إياها ،وتشكروه على أنْ سخّرها وذلّلها لكم ،وتشكروه على أنْ هداكم للقيام بهذا
المنسك ،وأداء هذه الشعيرة وعمل هذا الخير الذي سيعود عليكم بالنفع في الدنيا وفي الخرة.
ثم يقول الحق سبحانة { :لَن يَنَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا َولَ ِدمَآؤُهَا وَلَـاكِن يَنَالُهُ ال ّت ْقوَىا مِنكُمْ} ..
.
()2613 /
علَى مَا
سخّرَهَا َل ُكمْ لِ ُتكَبّرُوا اللّهَ َ
لَنْ يَنَالَ اللّهَ لُحُو ُمهَا وَلَا ِدمَاؤُهَا وََلكِنْ يَنَالُهُ ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ كَذَِلكَ َ
هَدَا ُك ْم وَبَشّرِ ا ْل ُمحْسِنِينَ ()37
ذلك لنهم كانوا قبل السلم حين يذبحون للوثان يُلطّخون الصنم بدماء الذبيحة ،كأنهم يقولون له:
حمْق تصرفهم ،فهم
لقد ذبحنا لك ،وها هي دماء الذبيحة ،وفي هذا العمل منهم دليل على غبائهم و ُ
يروْن أنهم إذا لم يُلطّخوه بالدم ما عرف أنهم ذبحوا من أجله.
وهنا ينبه الحق -سبحانه وتعالى -إلى هذه المسألة { :لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُو ُمهَا وَلَ ِدمَآؤُهَا} ..
[الحج ]37 :يعني :ل يأخذ منها شيئا ،وهو سبحانه قادر أنْ يعطي الفقير الذي أمرك أنْ تعطيه،
ويجعله مثلك تماما غير محتاج.
إنما أراد سبحانه من تباين الناس في مسألة الفقر والغنى أن يُحدِث توازنا في المجتمع ،فالمجتمع
ليس آلة ميكانيكية تسير على وتيرة واحدة ،إنما هي حياة بشر ل بُدّ من هذه التفاوتات بين الناس،
ثم تتدخّل الشرائع السماوية فتأخذ من القوى وتعطي الضعيف ،وتأخذ من الغني وتعطي الفقير..
وساعتها ،نقضي على مشاعر الحقد والحسد والبغضاء والَثَرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ي الضعيفَ من قوته ل يحسده عليها ،ويتمنى له دوامها؛ لن خيرها يعود عليه،
فحين يعطي القو ّ
وحين يعطي الغنّي مما أفاض ال عليه للفقير يُؤلّف قلبه ،ويجتثّ منه ال ِغلّ والحسد ،ويدعو له
بدوام النعمة.
ل بد من هذا التفاوت ليتحقق فينا قول الرسول صلى ال عليه وسلم " :المؤمن للمؤمن كالبنيان
المرصوص ،يشدّ بعضه بعضا ".
لذلك ،ترى صاحب النعمة الذي ينثر منها على غيره ،إنْ أصابته في ماله مصيبة يحزن له
الخرون ويتألمون بألمه؛ لن نعمته تفيض عليهم ،وخيرُه ينالهم .وأهل الريف إلى عهد قريب
كان الواحد منهم يُربّي البقرة أو الجاموسة؛ ليحلب لبنها ،وكان ل ينسى الجيران وأهل الحاجة،
فكانوا يدعُونَ ال له أنْ يبارك له في ماله ،وإنْ أصابته ضرّاء في ماله حَزِنوا من أجله.
إذن :حين تفيض من نعمة ال عليك على مَنْ حُرِم منها تدفع عن نفسك الكثير من الحقد والحسد،
فإنْ لم تفعل فل أقلّ من إخفاء هذا الخير عن أعْيُنِ المحتاجين حتى ل تثير حفائظهم ،وربما لو
رآك الرجل العاقل يُردعه إيمانه فل تمتدّ عيناه إلى ما في يدك ،إنما حين يراك الطفال الصغار
تحمل ما حُرِموا منه ،أو رأوا ولدك يأكل وهم محرومون هنا تكون المشكلة وقوله تعالى:
{ وَلَـاكِن يَنَالُهُ ال ّتقْوَىا مِنكُمْ[ } ..الحج ]37 :واتقاء ال هو اتباع منهجه ،فيُطاع ال باتباع المنهج
فل يُعصي ،ويُذكر فل يُنسى ،ويُشكر فل يُكفر ،وطريق الطاعة يوجد في اتباع المنهج بـ " افعل
" و " ل تفعل " ،ولكن النعم التي خلقها ال قد تشغل العبد عن ال ،والمنهج يدعوك أنْ تتذكر في
كل نعمة مَنْ أنعم بها ،وإياك أنْ تُنسيَك النعمةُ المنعِمَ.
ثم يقول تبارك وتعالى } :كَذاِلكَ سَخّ َرهَا َلكُمْ لِ ُتكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىا مَا َهدَاكُ ْم وَبَشّرِ ا ْل ُمحْسِنِينَ { [الحج:
]37
تلحظ هنا مسألة المتشابهات يقف عندها العلماء الذين يبحثون في القرآن الكريم ،ففي الية السابقة
شكُرُونَ { [الحج.]36 :
ذَيّلها الحق سبحانه بقوله } :كَذاِلكَ سَخّرْنَاهَا َلكُمْ َلعَّل ُكمْ تَ ْ
هذه المتشابهات يقف عندها العلماء الذين يبحثون في القرآن ويُقلّبون في آياته؛ لذلك يجمعون مثل
حفْظ،
هذه المتشابهة التي تتحدث في موضوع واحد ويُرتّبونها في الذّهن؛ لذلك ل يُؤتمنون على ال ِ
حفْظه ،حتى إذا نسي
حفْظ القرآن أنْ يدعَ مسألة العلم جانبا أثناء ِ
ومن هنا قالوا :ينبغي لمَنْ أراد ِ
كلم ًة وقف مكانه ل يتزحزح إلى أنْ يعرفها ،أمّا العالم فربما وضع مرادفها مكانها ،واستقام له
المعنى.
والمراد بقوله تعالى } :لِ ُتكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىا مَا هَدَا ُكمْ[ { ..الحج ]37 :يعني :تذكرونه وتشكرونه
حسِنِينَ[ { ..الحج ]37 :بشّر يعني :أخْبِرْ بشيء
على ما وفّقكم إليه من هذه الطاعات } وَبَشّرِ ا ْلمُ ْ
سَا ّر قبل مَجِيء زمنه ،ليستعد له المبشّر ويفرح به ،كذلك النذار :أن تخبر بشيء سيء قبل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حلوله أيضا؛ ليستعد له المنذر ،ويجد الفرصة التي يتلفى فيها خطأه ،ويُجنّب نفسه ما يُنذَر به،
ويُقبل على ما يُنجِيه.
و } ا ْل ُمحْسِنِينَ[ { ..الحج :]37 :جمع مُحسِن ،والحسان :أعلى مراتب اليمان ،وهو أنْ تُلزِم
نفسك بشيء من طاعة ال التي فرضها عليك فوق ما فرض ،فربّك عز وجل فرض عليك خمس
صلوات في اليوم والليلة ،وفي إمكانك أنْ تزيد من هذه الصلوات ما تشاء ،لكن من جنس ما
فرض ال عليك ،ل تخترع أنت عبادة من عندك ،كذلك المر في الصوم ،وفي الزكاة ،وفي
الحج ،وفي سائر الطاعات التي ألزمك ال بها ،فإنْ فعلت هذا فقد دخلتَ في مقام الحسان.
وفي الحسان أمران :مُحسن به وهو العبادة أو الطاعة التي تُلزِم نفسك بها فوق ما فرض ال
عليك ،ودافعٌ عليه ،وهو أن تؤدي العمل كأن ال يرقبك ،كما جاء في حديث جبريل " :والحسان
أنْ تعبدَ ال كأنك تراه ،فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك ".
فمراقبتك ل ومراعاتك لنظره تعالى إليك ،يدفعك إلى هذا الحسانَ ،ألَ ترى العامل الذي تباشره
وتُشرِف عليه ،وكيف يُنهِي العمل في موعده؟ وكيف يُجيده؟ على خلف لو تركتَه وانصر ْفتَ
عنه.
فإنْ لم َتصِل إلى هذه المرتبة التي كأنك ترى ال فيها ،فل أقلّ من أنْ تتذكر نظره هو إليك،
ومراقبته سبحانه لحركاتك وسكناتك.
خذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ
ت وَعُيُونٍ * آ ِ
لذلك ،في سورة الذرايات {:إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ
ذَِلكَ ُمحْسِنِينَ }[الذاريات ]16 - 15 :ثم يُفسّر سبب هذا الحسان {:كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا
جعُونَ * وَبِالَسْحَارِ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات.]19-17 :
َيهْ َ
ومَنْ يلزمك بهذه الكاليف؟ لك أنْ تصلي العشاء ثم تنام إلى الفجر ،كذلك لم يُلزمك بالستغفار
وقت السّحَر ،ولم يلزمك بصدقة التطوع .إذن :هذه طاعات فوق ما فرض ال وصَلتْ بأصحابها
إلى مقام الحسان ،وأعلى مراتب اليمان ،فليُشمّر لها مَنْ أراد.
ثم يقول الحق سبحانه } :إِنّ اللّهَ ُيدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُواْ.{ ..
()2614 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صمُواْ فِي رَ ّبهِمْ[} ..الحج.]19 :
صمَانِ اخْ َت َ
خ ْ
وتعالى {:هَـاذَانِ َ
وما دام هناك خصومة فل بُدّ أنْ تنشأ عنها معارك ،هذه المعارك قد تأخذ صورة اللفاظ
والمجادلة ،وقد تأخذ صورة العنف والقوة والشراسة واللتحام المباشر بأدوات الحرب.
ومعركة النبي صلى ال عليه وسلم مع معارضيه من كفار مكة لم تقف عند حَدّ المعركة الكلمية
فحَسْب ،فقد قالوا عنه -صلوات ال وسلمه عليه :ساحر ،وكاهن ،ومجنون ،وشاعر ،ومُفْتر..
إلخ ثم تطوّر المر إلى إيذاء أصحابه وتعذيبهم ،فكانوا يأتون رسول ال مَشْدوخين ومجروحين
فيقول لهم صلى ال عليه وسلم " :لم أومر بقتال ،اصبروا اصبروا ،صبرا صبرا." ..
إلى أنْ زاد اعتداء الكفار وطَفَح الكَيْل منهم أَذن ال لرسوله بالقتال ،فقال {:أُذِنَ لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّن ُهمْ
ظُِلمُو ْا وَإِنّ اللّهَ عَلَىا َنصْرِهِمْ َلقَدِيرٌ }[الحج.]39 :
فقوله تعالى { :إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُواْ[ } ..الحج ]38 :صيغة يدافع :مبالغة مِنْ يدفع ،معنى
يدفع يعني :شيئا واحدا ،أو مرة واحدة ،وتنتهي المسألة ،أمّا يدافع فتدل على مقابلة الفعل بمثله،
فال يدفعهم وهم يقابلون أيضا بالمدافعة ،فيحدث تدافع وتفاعل من الجانبين ،وهذا ل يكون إل في
معركة.
والمعركة تعني :منتصر ومنهزم ،لذلك الحق -تبارك وتعالى -يُطمئن المؤمنين أنه سيدخل
المعركة في صفوفهم ،وسيدافع عنهم.
فقوله تعالى { :إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُواْ[ } ..الحج ]38 :أمر طبيعي؛ لن الحق سبحانه ما
كان ليُرسِل رسولً ،ويتركه لهل الباطل يتغلّبون عليه ،وإلّ فما جَدْوى الرسالة إذن؛ لذلك يُطمئِن
ال تعالى رسوله ويُبشّره ،فيقول {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ *
وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173 - 171 :
وقال {:وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ[} ..الحج.]40 :
وقال {:إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأقْدَا َمكُمْ }[محمد.]7 :
فهذه كلها آيات تُطمئِن المؤمنين وتُبشّرهم ،وقد جاءتْ على مراحل لحكمة أرادها الحق سبحانه،
فمنعهم عن القتال في البداية لحكمة ،ثم جعل القتال فيما بينهم ،وقبْل أنْ يأذنَ لهم في قتال أعدائهم
خوَر والجُبْن ،وضعيفي
لحكمة :هي أنْ يَبْلوا المؤمنين ويُمحّصهم ليُخرِج من صفوفهم أهل ال َ
اليمان الذين يعبدون ال على حَرْف ،ول يبقى بعد ذلك إل قويّ اليمان ثابتُ العقيدة ،الذي يحمل
راية هذا الدين وينسَاح بها في بقاع الرض؛ لنها دعوة عالمية لكل زمان ولكل مكان إلى أنْ
تقوم الساعة ،ولما كانت هذه الدعوة بهذه المنزلة كان ل بُدّ لها من رجال أقوياء يحملونها ،وإل لو
استطاع العداءُ القضاءَ عليها فلن تقومَ لدين ال قائمة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يضعه في النار ،كذلك كانت الفِتَن والبتلءات لتصفية أهل اليمان وتمييزهم ،لكن بالقتال في
صفّ واحد.
َ
خوّانٍ َكفُورٍ { [الحج ]38 :فكأن الحق -سبحانه وتعالى -
حبّ ُكلّ َ
ثم يقول سبحانه } :إِنّ اللّ َه لَ يُ ِ
أصبح طرفا في المعركة ،والخوّان :صيغة مبالغة من خائن ،وهو كثير الخيانة وكذلك كفور:
صيغة مبالغة من كافر.
ومعنى الخيانة يقتضي أن هناك أمانةً خانها .نعم ،هناك المانة الولى ،وهي أمانة التكليف التي
شفَقْنَ مِ ْنهَا
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
ت وَالَرْ ِ
سمَاوَا ِ
لمَانَةَ عَلَى ال ّ
قال ال فيها {:إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
حمََلهَا الِنْسَانُ[} ..الحزاب ]72 :فلقد خانَ هذه المانة بعد أنْ َرضِي أنْ يكونَ أهْلً لها.
وَ َ
وهناك أمانة قبل هذه ،وهي العهد الذي أخذه ال على عباده ،وهم في مرحلة الذّرّ {:وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ
شهِدْنَآ أَن َتقُولُواْ
ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ
سهِمْ أََل ْ
شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ
ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ
مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ
ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ..
َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ
}[العراف.]173 - 172 :
فإنْ قالوا :نعم هذه أمانة ،لكنها بعيدة ،ومَنْ مِنّا يذكرها الن؟
نقول :ألم ُتقِرّوا بأن ال خلقكم ،وأوجدكم من عدم ،وأمدكم من عُدم؟ كما قال سبحانه {:وَلَئِن
سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ[} ..الزخرف ]87 :كما أقرّوا بخَلْق السماوات والرض وما فيها من
ن يؤمنوا ،لكنهم مع هذا كله كفروا ،أليست هذه
خيرات ل عز وجل ،فكان وفاء هذا القرار أ ْ
خيانة للمانة عاصروها جميعا وعايشوها وأسهموا فيها؟
والكَفُور :مَنْ كفر ِنعَم ال وجَحَدها.
وما دام هناك الخوّان والكفُور فل ُبدّ للسماء أنْ تُؤيّد رسولها ،وأنْ تنصره في هذه المعركة أولً،
بأنْ تأذنَ له في القتال ،ثم تأمره بأخذ العُدة والسباب المؤدية للنصر ،فإنْ ع ّزتْ المسائل عليكم،
فأنا معكم أؤيدكم بجنود من عندي.
وقد حدث هذا في َبدْء الدعوة ،فأيّد ال نبيه بجنود من عنده ،بل أيّده حتى بالكافر المعاند :ألم يكُن
دليل رسول ال في الهجرة كافرا؟ ألم ينصره ال بالحمام وبالعنكبوت وهو في الغار؟ ألم ينصره
ختْ تحت أقدام فرس " سُرَاقة " الذي خرج في طلبه؟
بالرض التي سا َ
هذه جنود لم نَرها ،ولم يُؤيّد بها رسول ال صلى ال عليه وسلم إل بعد أن استنفد أسبابه ،ولو
أراد سبحانه لَطوّع لرسوله هؤلء المعاندين ،فما رفع أحد منهم رأسه بعناد لمحمد ،إنما الحق -
تبارك وتعالى -يريد أنْ يعطيه طواعية ويخضع له القوم ،ألم ي ُقلْ سبحانه وتعالى {:إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ
ضعِينَ }[الشعراء.]4 :
سمَآءِ آ َيةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُق ُهمْ َلهَا خَا ِ
عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ
وقلنا :إن ال تعالى يريد أنْ يُخضِع قلوب عباده ل قوالبهم ،فلو أخضعهم ال بآية كونية طبيعية
خسْف ،أو غيره من اليات التي أخذتْ أمثالهم من السابقين لقالوا :إنها
كالريح أو الصاعقة أو ال َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آفاتٌ طبيعية جاءتنا ،لكن جعل ال بين الفريقين هذه المواجهة ،ثم يسّر لحزبه وجنوده أسباب
النصر.
ف صُدُورَ َقوْمٍ ّم ْؤمِنِينَ }
ش ِ
قال سبحانه {:قَاتِلُوهُمْ ُيعَذّ ْبهُمُ اللّهُ بِأَيْدِي ُك ْم وَيُخْزِ ِه ْم وَيَ ْنصُ ْركُمْ عَلَ ْيهِ ْم وَيَ ْ
[التوبة.]14 :
ثم يقول الحق سبحانه } :أُذِنَ لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّن ُهمْ ظُِلمُواْ{ ..
.
()2615 /
ودفاع الحق سبحانه عن الحق يأخذ صورا متعددة ،فأول هذا الدفاع :أنْ أَذِن لهم في أنْ يقاتلوا.
طعْ ُتمْ مّن ُق ّوةٍ َومِن رّبَاطِ الْخَ ْيلِ[} ..النفال:
ثانيا :أمرهم بإعداد القوة للقتال {:وَأَعِدّواْ َلهُمْ مّا اسْتَ َ
.]60
والمراد أنْ يأخذوا بكل أسباب النصر على عدوهم ،وأن يستنفدوا كل ما لديهم من وسائل ،فإنِ
استنفدتم وسائلكم ،أتدخّل أنا بجنود من عندي ل ترونها ،فليس معنى أن ال يدافع عن الذين آمنوا
خلَ السماء لحمايتهم وهم جالسون في بيوتهم ،ل إنما يأخذون بأسباب القوة ويس َعوْنَ
أن تد ُ
ويبادرون هم أولً إلى أسباب النصر.
ومعنى { ُأذِنَ[ } ..الحج ]39 :أنهم كانوا ينتظرون المر بالقتال ،ويستشرفون للنصر على
العداء ،لكن لم يُؤذَن لهم في ذلك ،فلما أراد ال لهم أنْ يقاتلوا أَذن لهم فيه ،فقال تعالى { :أُذِنَ
لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّنهُمْ ظُِلمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىا َنصْرِ ِهمْ َلقَدِيرٌ } [الحج.]39 :
ن يقاتلوا ،لكن ل يعتدوا ،كما قال
ظلِموا ،لذلك أمرهم ربهم -تبارك وتعالى -أ ْ
وعِلّة القتال أنهم ُ
حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ
سبحانهَ {:وقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم َولَ َتعْ َتدُواْ إِنّ اللّهَ لَ ُي ِ
حَ ْيثُ َث ِقفْتُمُوهُم وََأخْرِجُوهُمْ مّنْ حَ ْيثُ َأخْرَجُوكُمْ[} ..البقرة.]191 - 190 :
إذن :أمرهم أولً بالصبر ،وفي المرحلة الولى بأنْ يقاتلوا لِردّ العدوان ،وللدفاع عن أنفسِهم دون
أنْ يعتدوا ،وفي المرحلة الثانية سيقول لهم {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الّذِينَ يَلُو َنكُمْ مّنَ ا ْل ُكفّارِ
ظ ًة وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ }[التوبة.]123 :
وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْ َ
وقوله تعالى { :وَإِنّ اللّهَ عَلَىا َنصْرِ ِهمْ َلقَدِيرٌ } [الحج ]39 :بأسباب يُمكّنهم منها ،أو بغير أسباب
فتأتيهم قوة خفية ل يروْنها ،وقد رأوا نماذج من ذلك فعلً.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول الحق سبحانه { :الّذِينَ ُأخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم ِبغَيْرِ حَقّ ِإلّ أَن َيقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ} ..
.
()2616 /
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ
حقّ إِلّا أَنْ َيقُولُوا رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلَا َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
الّذِينَ أُخْ ِرجُوا مِنْ دِيَارِ ِهمْ ِبغَيْرِ َ
سمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَ ْنصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ إِنّ
صوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصََلوَاتٌ َومَسَاجِدُ يُ ْذكَرُ فِيهَا ا ْ
ت َ
َلهُ ّد َم ْ
اللّهَ َلقَ ِويّ عَزِيزٌ ()40
فلو أنهم ُأخْرِجوا بحقّ كأنْ فعلوا شيئا يستدعي إخراجهم من ديارهم ،كأنْ خدشوا الحياء ،أو هددوا
المْن ،أو أجرموا ،أو خرجوا على قوانين قبائلهم لكانَ إخراجهُم بحقّ.
إنما الواقع أنهم ما فعلوا شيئا ،وليس لهم ذَنْب { ِإلّ أَن َيقُولُواْ رَبّنَا[ } ..الحج ]40 :هذه المقولة
اعتبرها القوم ذَنْبا وجريمة تستحق أنْ يخرجوهم بها من ديارهم.
حمِيدِ }[البروج:
كما قال سبحانه في أهل الخدودَ {:ومَا َن َقمُواْ مِ ْنهُمْ ِإلّ أَن ُي ْؤمِنُواْ بِاللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ
.]8
وفي آية أخرىَ {:هلْ تَن ِقمُونَ مِنّآ ِإلّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ[} ..المائدة.]59 :
طهّرُونَ }[النمل:
وفي قصة لوط عليه السلم {:قَالُواْ أَخْ ِرجُواْ آلَ لُوطٍ مّن قَرْيَ ِتكُمْ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَ َت َ
.]56
إذن :أخرجوهم ،ل لنهم أهل نجاسة ومعصية ،إنما لنهم أناسٌ يتطهّرون ،فالطهارة والعفة
جريمتهم التي ُيخْرَجُون من أجلها!! كما تقول :ل ع ْيبَ في فلن إل أنه كريم ،أو تقول :ل كرامةَ
في فلن إل أنه ِلصّ .فهذه -إذن -صفة ل تمدح ،وتلك صفة ل تذم.
لقد قلب هؤلء الموازين ،وخالفوا الطبيعة السويّة بهذه الحكام الفاسدة التي تدل على فساد الطباع،
وأيّ فساد بعد أنْ قَلَبوا المعايير ،فكرهوا ما يجب أنْ يُحب ،وأحبوا ما يجب أن يكره؟ ول أدلّ
على فساد طبائعهم من عبادتهم لحجر ،وترْكهِم عبادة خالق السماوات والرض.
صوَامِ ُع وَبِيَ ٌع َوصََلوَاتٌ َومَسَاجِدُ
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ ّل ُه ّد َمتْ َ
ثم يقول تعالى { :وََل ْولَ َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
يُ ْذكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيرا[ } ..الحج]40 :
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ
وفي آية أخرى يُبيّن الحق سبحانه نتيجة انعدام هذا التدافع {:وََلوْلَ َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
ت الَ ْرضُ[} ..البقرة.]251 :
َلفَسَ َد ِ
والفساد إنْ حدث بين الناس في حركة الحياة فيمكن أنْ يُعوّض ويُتدارك ،أما إنْ تعدّى الفساد إلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مُقوّمات اليقين اليماني في الرض فَكرِه الناس ما يربطهم بالسماء ،وهدموا أماكن العبادة ،فهذه
الطامة والفساد الذي ل صلحَ بعده ،فكأن اليتين تصوران نوعا من اليغال في الفساد،
والتّضاع في الجرائم.
وتفسد الرض حين ينعدم هذا التدافع ،كيف؟ َهبْ أن ظالما مسْتبدا في بلد ما يستعبد الناس
ويمتصّ خيراتهم بل ودماءهم دون أنْ يردّه أحد ،ل شكّ أن هذا سيُحدث في المجتمع تهاونا
وفوضى ،ولن يجتهد أحد فوق طاقته ،ولمن سيعمل وخيره لغيره؟ وهذا بداية الفساد في الرض.
فإنْ قُلْنا :هذا فساد بين الناس في حركة حياتهم يمكن أنْ يصلح فيما بعد ،فما بالك إن امتدّ الفساد
إلى أماكن الطاعات والعبادات ،وقطع بين الناس الرباط الذي يربطهم بالسماء؟
إنْ كان الفساد الول قابلً للصلح ،ففساد الدين ل يصلح ،لنك خرّ ْبتَ الموازين التي كانت تُنظّم
حركة الحياة ،فأصبح المجتمع بل ميزان وبل ضوابط يرجع إليها.
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ.
ونلْحظُ في قوله تعالى { :وََلوْلَ َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
[ { .الحج ]40 :جاءت قضية عامة لكل الناس ،فلم يخصْ طائفة دون أخرى ،فلم َيقُلْ مثلً :لول
َدفْع ال الكافرين بالمؤمنين ،إنما قال مُطلْق الناس؛ لنها قضية عامة يستوي فيها الجميع في كل
المجتمعات.
كذلك جاءت كلمة (بعض) عامة؛ لتدل على أن كلَ الطرفين صالح أن يكون مدفوعا مرة،
حدّه ،فليس
ومدفوعا عنه أخرىَ ،ف ُهمْ لبعض بالمرصاد :مَنْ أفسد يتصدى له الخر لِيُوقِفه عند َ
المراد أن طائفة تدفع طائفة على طول الخط.
ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ[} ..الزخرف ]32 :دون أنْ يُحدّد
ومثال ذلك قوله تعالى {:وَ َر َفعْنَا َب ْع َ
أيّهما مرفوع ،وأيهما مرفوع عليه؛ لن كلً منهما مرفوع في شيء ،ومرفوع عليه في شيء
آخر؛ ذلك لن العباد كلهم عيال ال ،ل يُحابي منهم أحدا على أحد.
انظر الن إلى قوة روسيا في الشرق وقوة أمريكا في الغرب ،إنهما مثال لقوله تعالى } :وََل ْولَ
ل منهما تقف للخرى بالمرصاد ،ترقبها وترصُد
ضهُمْ بِ َب ْعضٍ[ { ..الحج ]40 :فك ّ
َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ
ن تقف ُكلّ منهما
تحركاتها وتقدّمها العسكري ،وكأن ال تعالى جعلها لحماية سلمة الخرين أ ْ
موقفَ الحذَر والخوف من الخرى.
وهذا الخوف والترقّب والعداد هو الذي يمنع اندلع الحرب بينهما ،فما بالك لو قامت بينهما
حرب أسفرت عن منتصر ومهزوم؟ ل بُدّ أن المنتصر سيعيثُ في الرض فسادا ويستبد
بالخرين ،ويستشري ظُلْمه لعدم وجود مَنْ يُردِعه.
ومن رحمة ال بالمؤمنين أنْ يكيد الظالمين بالظالمين بكل ألوانهم وفنونهم ،ويؤدّب الظالم بمَنْ هو
أشد منه ظُلْما؛ ليظلّ أهلُ الخير بعيدين عن هذه المعركة ،ل يدخلون طَرَفا فيها؛ لن الخيار ل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يصمدون أمام هذه العمليات ،لنهم قوم ِرقَاق القلوب ،ل تناسبهم هذه القسوة وهذه الغِلْظة في
النتقام.
اقرأ قول ال تعالىَ {:وكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[النعام.]129 :
حقِن دماءهم ،ويُريح أولياءه من مثل هذه الصراعات الباطلة.
وهكذا يُوفّر ال أهل الخير ،وي ْ
لذلك لما دخل النبي صلى ال عليه وسلم مكة دخولَ المنتصر ،بعد أنْ أخرجه قومه منها ،وبعد أنْ
فعلوا به وبأصحابه الفاعيل ،كيف دخلها وهو القائد المنتصر الذي تمكّن من رقاب أعدائه؟
دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم مكة مُطأطيء الرأس ،حتى لتكاد رأسه تلمس قربوس السرج
الذي يجلس عليه ،تواضعا منه صلى ال عليه وسلم ،ومع ذلك قال أبو سفيان لما رأى رسول ال
في هذا الموقف ،قال للعباس :لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيما.
وبعد أن تمكّن رسول ال من كفار مكة ،وكان باستطاعته القضاء عليهم جميعهم ،قال " :يا معشر
قريش ،ما تظنّون أَنّي فاعل بكم؟ قالوا :أخ كريم وابن أخ كريم ،قال :فاذهبوا فأنتم الطلقاء ".
فأيّ رحمة هذه؟ وأيّ لين هذا الذي جعله ال في قلوب المؤمنين؟ وهل مِثْل هذا الدين يُعارَض
ويُ ْنصَرف عنه؟
إذن :يُسلّط الحق -تبارك وتعالى -الشرار بعضهم على بعض ،وهذه آية نراها في الظالمين
في كل زمان ومكان ،ويجلس الخيار يرقبون مثل هذه الصراعات التي يُهلِك ال فيها الظالمين
بالظالمين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في خَلْوته ،ومَنْ يعبد ال في جَلْوته.
لذلك سيدنا عمر -رضي ال عنه -قال عن الرجل الذي لزم المسجد للعبادة وعرف أن أخاه
يتكفّل به ويُنفق عليه ،قال :أخوه أعبد منه .كيف؟
قالوا :لنك تستطيع أنْ تجعل من كل حركة لك في الحياة عبادة ،حين تُخِلص النية فيها ل عز
وجل .ولك أن تقارن بين مؤمن وكافر ،كلهما يعمل ويجتهد لِيقُوتَ نفسه وأهل بيته ،ويحيا الحياة
الكريمة ،وهذا هدف الجميع من العمل ،لكن لو أن المؤمن اقتصر في عمله على هذا الهدف
لستوى مع الكافر تماما.
إنما للمؤمن فوق هذا مقاصد أخرى تكمن في نيته وضميره ،المؤمن يفعل على قَدْر طاقته ،ل
على قَدْر حاجته ،ثم يأخذ ما يحتاج إليه ويُنفِق من الباقي ويتصدّق على مَنْ ل يقدر على الحركة
الحياتية.
شعُونَ * وَالّذِينَ
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى {:قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلَ ِتهِمْ خَا ِ
هُمْ عَنِ الّل ْغوِ ّمعْ ِرضُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون ]4 - 1 :هل يعني :مُؤدّون
سعْي والعمل ،فكأنه
فقط؟ ل ،بل إن المؤمن يتحرك ويعمل ويسعى ،وفي نيته مَنْ ل يقدر على ال ّ
يُقبل على العمل ويجتهد فيه ،وفي نيته أنْ يعمل شيئا ل بما يفيض عن حاجته من ناتج عمله وهذا
ما يُميّز المؤمن في حركة الحياة عن الكافر.
وأذكر مرة أننا جئنا من الريف في الشتاء في الثلثينيات لزيارة سيدنا الشيخ الحافظ التيجاني،
وكان مريضا -رحمه ال ورضي ال عنه -وكان يسكن في حارة ،وفضّلنا أن نأخذ (تاكسي)
يُوصّلنا بدل أن نمشي في َوحْل الشتاء ،وعند مدخل الحارة رفض سائق (التاكسي) الدخول وقال:
إن أجرة التوصيل ل تكفي لغسيل السيارة وتنظيفها من هذا الوَحْل ،وبعد إلحاح وافق وأوصلنا
ضعْف أجرته ،لكني قبل أن أنصرف قلتُ له :أنت لماذا تعمل على هذا
إلى حيث نريد ،فأعطيناه ِ
(التاكسي) ولماذا تتعب؟ قال :من أجل مصالحي ومصالح أولدي ،فقلت له :وما يُضيرك إنْ ِز ْدتَ
على ذلك وجع ْلتَ في نيتك أنْ تُيسّر بعملك هذا على الناس؟ فاهتمّ الرجل ولبسته الكلمة فقال :وال
ل اردّ راكبا أبدا.
ومعنى {:وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون ]4 :لم يقل مؤدون؛ لن{ فَاعِلُونَ }[المؤمنون]4 :
ن يفعلوا على َقدْر طاقتهم ويجتهدوا لتوفير شيء بعد نفقاتهم يتصدقون
تعني :أن نيتهم في الفعل أ ْ
منه.
إذن :حرّم السلم الرهبانية التي تَحرِم المجتمع من مشاركة النسان فقال صلى ال عليه وسلم" :
ل رهبانية في السلم " لنه اعتبر كل حركة مقصودٍ منها صالحُ المجتمع كله حركةً إيمانية
عبادية ،ومن هنا كان العمل عبادة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقد وضع العلماء شروطا لمَنْ أراد النقطاع للعبادة :أولها :ألّ يأخذ نفقته من أحد ،بمعنى أن
يعمل أولً لِيُوفّر احتياجاته طوال فترة انقطاعه ،وصدق (إقبال) حين قال:لَيْسَ ُزهْدا تصوف من
غمْرة الحيَاةِ بدينإنما يُع َرفُ التصَوفُ في الـ سّوق بمالٍ ومَطْم ٍع وفُتُونثم يقول
تقي فرّ من َ
تعالىَ } :وصََلوَاتٌ[ { ..الحج ]40 :وهذه لليهود يُسمّون مكان التعبد :صَالوتا .لكن ،لماذا لم
يرتبها القرآن ترتيبا زمنيا ،فيقول :لهدمت صلوات وصوامع وبيع؟ قالوا :لن القرآن يُؤرّخ
للقريب منه فالبعد.
} َومَسَاجِدُ[ { ..الحج ]40 :وهذه للمسلمين } يُ ْذكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيرا[ { ..الحج.]40 :
وما دام الحق سبحانه ذكر المساجد بعد الفعل } ّل ُه ّد َمتْ[ { ..الحج ]40 :فهذا دليل على أنه ل بُدّ
طهُورا ،ومعنى ذلك
جعَِلتْ الرض كلها لهم مسجدا و َ
أن يكون للمسلمين مكان يُحكر للعبادة ،وإنْ ُ
أنْ تصلي في أيّ بقعة من الرض ،وإنْ عُدِم الماء تتطهر بترابها ،وبذلك تكون الرض مَحَلً
ل وتُصلّي
سعْي ،فيمكنك أن تباشر عملك في مصنعك مث ً
للعبادة ومَحَلً لحركة الحياة وللعمل ولل ّ
فيه ،لكن الحق سبحانه يريد منا أن نُخصّص بعض أرضه ليكون بيتا له تنقطع منه حركة الحياة
كلها ،ويُوقَف فقط لمور العبادة.
حصِ َقطَاةٍ بنى ال له بيتا في الجنة ".
لذلك قال صلى ال عليه وسلم " :مَنْ بنى ل مسجدا ولو كمِفْ َ
فقوله تعالىّ } :لهُ ّد َمتَْ ..ومَسَاجِدُ[ { ..الحج ]40 :تدل على مكان خاص للعبادة وإلّ لو اعتُب َرتْ
الرضُ كلها مسجدا ،فماذا تهدم؟
وعليه ،فكل مكان تُزاوَل فيه أمورٌ غير العبادة ل يُعتبر مسجدا ،كأماكن الصلة التي يتخذونها
تحت العمارات السكنية ،هذه ليست مساجد ،والصلة فيها كالصلة في الشارع وفي البيت؛ لن
المسجد (مكان) وما يُبنى عليه (مكين).
والمسجدية تعني :المكان من الرض إلى السماء ،بدليل أننا في بيت ال الحرام نصلي فوق سطح
جوّ الكعبة إلى السماء كعبة ،وكذلك لو كنا
المسجد ،ونتجه لجوّ الكعبة ،ل للكعبة ذاتها ،لماذا؟ لن َ
في مخابيء أو في مناجم تحت الرض؛ لن ما تحت الكعبة من الرض كعبة .وكذلك في
سعَى.
سعَى مَ ْ
الم ْ
خصّص للمسجدية من أرضه إلى سمائه ،وهذا ل يُمارس فيه عمل
حكِر للعبادة ،و ُ
إذن :المسجد ما ُ
دنيوي ول تُعقد فيه صفقة ..إلخ.
أما أنْ نجعل المسجد تحت عمارة سكنية ،وفوق المسجد مباشرة يباشر الناس حياتهم ومعيشتهم بما
فيها من هَرج وَلهْو ،حلل وحرام ،وطهارة ونجاسة ،ومعاشرة زوجية ..إلخ فهذا كله يتنافى مع
حكْرا للعبادة من الرض إلى السماء .فلُنسَمّ هذه الماكن :مُصلّى .ول
المسجدية التي جعلها ال ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نقول :مسجد.
ثم يصف الحق سبحانه المساجد بقولهُ } :ي ْذكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيرا[ { ..الحج ]40 :لن ِذكْر ال
في المساجد دائم ل ينقطع ،ونحن ل نتحدث عن مسجد ،ول عن مساجد قُطْر من القطار ،إنما
المراد مساجد الدنيا كلها من أقصى الشرق لقصى الغرب ،ومن الشمال للجنوب.
ولو نظرتَ إلى أوقات الصلوات لرأيتَ أنها مرتبطة بحركة الفلك وبالشمس في الشروق ،وفي
الزوال ،وفي الغروب ،وباعتبار فارق التوقيت في كل بلد ال تجد أن ِذكْر ال دائم ل ينقطع أبدا
في ليل أو نهار ،فأنت تُؤذّن للصلة ،وغيرُك يقيم ،وغيركما يصلي ،أنت تصلي الظهر ،وغيرك
يصلي الصبح أو العصر ،بل أنت في الركعة الولى من الصبح ،وغيرك في الركعة الثانية ،أنت
تركع وغيرك يسجد.
إذن :هي منظومة عبادية دائمة في كل وقت ،ودائرة في كل مكان من الرض ،فل ينفكّ الكون
ذاكرا ل .أليس هذا ِذكْرا كثيرا؟ أليستْ كلمة (ال أكبرُ) دائرة على ألسنة الخلق ل تنتهي أبدا؟
ثم لما كان َدفْع ال الناسَ بعضهم ببعض ينتج عنه معركة تُسْفر عن منتصر ومنهزم ،قال سبحانه:
} وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ[ { ..الحج ]40 :فإنْ كان التدافع بين الكفار فإنه ل ينتهي ،وإنْ كان
بين حقّ ل وباطل حكم ال بأنه باطل ل بُدّ أن تنتهي ب ُنصْرة الحق ،وغالبا ل تطول هذه المعركة؛
لن الحق دائما في حضانة ال ،إنما تطول المعارك بين باطل وباطل ،فليس أحدهما َأوْلَى ب ُنصْرة
ال من الخر ،فيظل كل منهما يطحن في الخر ،وإنْ لم تكن حربا ساخنة كانت حربا باردة،
لماذا؟ لنه ل يوجد قويّ ل هوى له يستطيع أن يفصل فيها ،وطالما تدخّل الهوى تستمر المعركة.
يبقى في القسمة العقلية المعركة بين حق وحق ،وهذه ل وجودَ لها؛ لن الحق واحد في الوجود،
فل يمكن أنْ يحدث تصادم أبدا بين أهل الحق.
والحق -تبارك وتعالى -في ُنصْرته لوليائه يستطيع أن ينصرهم دون حرب ،ويُهلك أعداءهم،
لكن الحق سبحانه يريد أنْ يأخذوا هم بأسباب النصر؛ لذلك يُعلّمهم أصول هذه المسألة ،فيقول
شدّواْ ا ْلوَثَاقَ فَِإمّا مَنّا َبعْدُ
سبحانه {:فَِإذَا َلقِيتُمُ الّذِينَ َكفَرُواْ َفضَ ْربَ ال ّرقَابِ حَتّىا ِإذَآ أَ ْثخَن ُتمُوهُمْ فَ ُ
ضكُمْ
وَِإمّا ِفدَآءً حَتّىا َتضَعَ الْحَ ْربُ َأوْزَارَهَا ذَِلكَ وََلوْ َيشَآءُ اللّ ُه لَنْ َتصَرَ مِ ْنهُمْ وَلَـاكِن لّيَبُْلوَاْ َب ْع َ
بِ َب ْعضٍ[} ..محمد.]4 :
شدّواْ ا ْلوَثَاقَ} ..
ومعنى{ أَ ْثخَن ُتمُوهُمْ[} ..محمد ]4 :يعني :جعلتموهم ل يقدرون على الحركة{ فَ ُ
[محمد ]4 :ل تُجهِزوا عليهم ،ول تقتلوهم ،إنما شُدّوا قيودهم واستأسِروهم ،وهذه من رحمة
السلم وآدابه في الحروب ،فليس الهدف القتل وإزهاق الرواح ثم{ فَِإمّا مَنّا َبعْدُ وَِإمّا ِفدَآءً} ..
[محمد ]4 :مَنّا إنْ كان هناك تبادل للسرى .فأنت تمنّ وهو يمنّ .والفداء أنْ يفدي نفسه.
وكانت هذه المسألة حجة لنا حينما نتحدث عن الرقّ في السلم ،ونرد على هؤلء الذين يحلو لهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
اتهام السلم ،ويستخدمون في ذلك السفسطة والمراوغة اللغوية لقناع الناس بأن السلم ساهم
في ِنشْر الرقّ والعبودية.
جدْه بداية ،حيث كانت
ونقول :لقد جاء السلم والرق موجود ومنتشر لم يُشرّعه السلم ،ولم يُو ِ
أسباب الرق كثيرة ،وأسباب الستعباد متعددة :فَمنْ تحمّل دَيْنا وعجز عن سدادة يُسْتعبد لصاحب
الدين ،ومَنْ عمل ذنبا وخاف من عقوبته أخذوه عبدا ،ومَنْ اختطفه الشرار في الطريق جعلوه
عبدا ..إلخ.
ق مقصورا على الحرب المشروعة.
فلما جاء السلم عمل على سَدّ منابع الرقّ هذه ،وجعل الر ّ
ثم فتح عدة مصارف شرعية للتخلّص من الرق القائم ،حيث لم يكُنْ موجودا من أبواب العتق إل
إرادة السيد في أنْ يعتق عبده ،فأضاف السلم إلى هذا الباب أبوابا أخرى ،فجعل العتق كفارة
لبعض الذنوب ،وكفارة لليمين ،وكفارة للظّهار ،وحثّ على الصدقة في سبيل العتق ،ومساعدة
المكاتب الذي يريد العتق ويسعى إليه ..إلخ.
فإذا لم تعتق عبدك ،فل أقل من أن تطعمه من طعامك ،وتُلْبسه من ملبسك ،ول تُحمّله ما ل
يطيق ،وإنْ حمّلْته فأعِنْه ،وكما يقول النبي صلى ال عليه وسلم " إنما هم إخوانكم ".
ونلحظ على الذين يعيبون على السلم مسألة الرقّ في الحروب أنهم يقارنون بين الرّق
ق إل مَنْ قدر
والحرية ،لكن المقارنة هنا ليستْ كذلك ،المقارنة هنا بين الرق والقتل؛ لنه ل يُستر ّ
المسترقّ عليه وتمكّن منه في المعركة ،وكان باستطاعته قَتْله ،لكن رحمة ال بعباده منعتْ قتله،
حقْن دم الخر ،ثم بعد انتهاء الحرب نحثّ
وأباحت أَخْذه رقيقا ،فالنفعية للمقاتل المنتصر يقابلها َ
على عتقه ،ونفتح له أبواب الحرية.
إذن :ل تقارن بين عبد وحر ،إنما قارن بين العبودية والقتل :أيهما أقلّ ضررا؟
لذلك قال تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وحتى على اعتبار أنهم هُ ِزمُوا ،وكُسِرت شوكتهم ،وضاعتْ هيبتهم ،لعلهم يفيقون لنفسهم،
ويعودون للحق ،وهذه من رحمة بالكافرين في معاركهم مع اليمان.
لكن ،لماذا يتوب ال على الكفار ويرحمهم وهم أعداء دينه وأعداء نبيه؟ قالوا :لنه سبحانه وتعالى
ربهم وخالقهم ،وهم عباده وعياله ،وهو أرحم بهم ،ومرادات ال في الخَلْق أن يكونوا جميعا
طائعين.
لذلك ،يقول سبحانه في الحديث القدسي " :قالت السماء :يا رب ائذن لي أن أسقط كسفا على ابن
طعِم
آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك ،وقالت الرض :يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد َ
خيرك ومنع شكرك ،وقالت الجبال :يا رب ائذن لي أن أسقط على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع
شكرك ،وقالت البحار :يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك " ".
فالكون كله ناقم على الكافرين ،متمرد على العصاة ،مغتاظ منهم ،فماذا قال الحق -تبارك وتعالى
-لهم؟ قال سبحانه " :دعوني وخَلْقي ،لو خلقتموهم لرحمتموهم ،فإنْ تابوا إليّ ،فأنا حبيبهم ،وإنْ
لم يتوبوا فأنا طبيبهم ".
نعود إلى قوله تعالى } :وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ[ { ..الحج ]40 :وما دام أن النصر من عند ال
فإياكم أنْ تبحثوا في القوة أو تقيسوا قوتكم بقوة عدوكم ،فلربك عز وجل جنود ل يعلمها إل هو،
ووسائل النصر وأنت في حضانة ال كثيرة تأتيك من حيث ل تحتسب وبأهْون السباب ،أقلّها أن
عضُدهم ويُرهبهم
ال يُريكم أعداءكم قليلً ويُكثّر المؤمنين في أعين الكافرين ليفتّ ذلك في َ
ويُزعزع معنوياتهم ،وقد يحدث العكس ،فيرى الكفار المؤمنين قليلً فيجترئون عليهم ،ويتقدمون،
ثم تفاجئهم الحقيقة.
إذنَ {:ومَا َيعَْلمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ[} ..المدثر ]31 :فل تُعوّل فقط على قوتك وتحسب مدى تكافُئِك
عكَ من هذه الحسابات ،وما عليك إل أنْ تستنفد وسائلك وأسبابك ،ثم تدع المجال
مع عدوك ،دَ ْ
لسباب السماء.
وأقلّ جنود ربك أنْ يُلقي الرعب في قلوب أعدائك ،وهذه وحدها كافية ،ويُرْوى أنهم في إحدى
المعارك السلمية تغيرت رائحة أفواه المسلمين ،وأحسّوا فيها بالمرارة لطول فترة القتال،
فأخرجوا السواك يُنظفّون أسنانهم ،ويُطيّبون أفواههم ،عندها قال الكفار :إنهم يسنّون أسنانهم
ليأكلونا ،وقذف ال في قلوبهم الرعب من حيث ل يدرون.
ثم يقول تعالى } :إِنّ اللّهَ َلقَ ِويّ عَزِيزٌ { [الحج ]40 :عزيز :يعني ل يُغلب ،وما دام أن ال تعالى
ضعُفتْ ،ألم يكُن
ت القوى ومهما َ
ينصر مَنْ نصره فل ُبدّ أن تنتهي المعركة بالنصر مهما خار ْ
المسلمون في مكة ضعفاء مضطهدين ،ل يستطيع واحد منهم أن يرفع رأسه بين الكفار؟
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر ]45 :تعجب
ولما نزل قول ال تعالى وهم على هذه الحال {:سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عمر بفراسته وعبقريته :أيّ جمع هذا الذي سيُهزم ونحن غير قادرين حتى حماية أنفسنا؟ فلما
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر.]45 :
رأى يوم بدر قال :صدق ال{ سَ ُيهْزَمُ الْ َ
فما دام أن ال قوي عزيز فل بُدّ أن ينصركم ،وهذه مسألة محكوم بها أزلً {:كَ َتبَ اللّ ُه لَغْلِبَنّ أَنَاْ
وَرُسُلِي[} ..المجادلة.]21 :
لةَ
فإذا ت ّمتْ لكم الغَلَبة ،فاعلموا أن لك َدوْراَ ،ألَ وهو } :الّذِينَ إِنْ ّمكّنّا ُهمْ فِي الَرْضِ َأقَامُواْ الصّ َ
وَآ َتوُاْ ال ّزكَـاةَ{ ..
.
()2617 /
الّذِينَ إِنْ َمكّنّاهُمْ فِي الْأَ ْرضِ َأقَامُوا الصّلَا َة وَآَ َتوُا ال ّزكَا َة وََأمَرُوا بِا ْل َمعْرُوفِ وَ َنهَوْا عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَلِلّهِ
عَاقِبَةُ الُْأمُورِ ()41
معنىّ { :مكّنّاهُمْ فِي الَ ْرضِ[ } ..الحج ]41 :جعلنا لهم سلطانا وقوة وغَلَبة ،فل يَجترئ أحد عليهم
أو يزحزحهم ،وعليهم أنْ يعلموا أن ال ما مكّنهم ونصرهم لذاتهم ،وإنما ليقوموا بمهمة الصلح
وينقوا الخلفة النسانية في الرض من ُكلّ ما يُضعِف صلحها أو يفسده.
لذلك ،سيدنا سليمان عليه السلم كان يركب بساط الريح يحمله حيث أراد ،فداخله شيء من
ن يقول لهُ :أمِرْنا أن نطيعك ما
الزهو ،فمال به البساط وأوشك أنْ يُلقيه ،ثم سمع من البساط مَ ْ
أطعتَ ال.
ن يفرض على مجتمعه ما
والممكّن في الرض الذي أعطاه ال البأْس والقوة والسلطان ،يستطيع أ ْ
يشاء ،حتى إنْ ُمكّن في الرض بباطل يستطيع أنْ يفرض باطله ويُخضِع الناس له ،ولو إلى
حين.
فماذا يُناط بالمؤمن إنْ ُمكّن في الرض؟
لةَ[ } ..الحج ]41 :ليكونوا دائما على ذكْر
يقول تعالى { :الّذِينَ إِنْ ّمكّنّاهُمْ فِي الَ ْرضِ َأقَامُواْ الصّ َ
خمْس مرات في اليوم
وولء من ربهم الذي وهبهم هذا التمكين؛ ذلك لنهم يترددون عليه سبحانه َ
والليلة.
ف وَ َن َهوْاْ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ } [الحج ]41 :فهذه أسس الصلح في
{ وَآ َتوُاْ ال ّزكَـا َة وََأمَرُواْ بِا ْل َمعْرُو ِ
المجتمع والميزان الذي يسعد به الجميع.
لمُورِ } [الحج ]41 :يعني :النهاية إلينا ،وآخر المطاف عندنا ،فمَن التزم هذه
{ وَلِلّهِ عَاقِبَ ُة ا ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
التوجيهات وأدّى دوره المنُوط في مجتمعه ،فبها و ِنعْمتْ ،ومَنْ ألقاها وراء ظهره فعاقبته معروفة.
ثم يُسلّي الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم حتى ل يهتم بما يفعله قوم من كفر وعناد
ومجابهة للدعوة { :وَإِن ُيكَذّبُوكَ َفقَدْ كَذّ َبتْ قَبَْلهُمْ} ..
.
()2618 /
{ وَإِن ُيكَذّبُوكَ[ } ..الحج ]42 :يعني :في دعوتك فيواجهونك ،ويقفون في سبيل دعوتك ليبطلوها،
فاعلم أنك لست في ذلك بِدْعا من الرسل ،فقد كُذّب كثير من الرسل قبلك ،وعليك َألّ تلحظ مسألة
التكذيب منفصلةً عن عاقبته ،نعم :كذب القوم لكن كيف كانت العاقبة؟ اتركناهم أم أخذناهم َأخْذ
عزيز مقتدر؟
حلّ بسابقيهم من المكذّبين والمعاندين.
فل تحزن ،فسوف يحلّ بهم ما َ
وقلنا :إن الرسول يتحمّل من مشقة الرسالة وعناء الدعوة على َقدْر رسالته ،فكلّ رسل ال قبل
محمد كان الرسول يُ ْرسَل إلى قومه خاصة ،وفي مدة محدودة ،وزمان محدود ،ومع ذلك تعبوا
كثيرا في سبيل دعوتهم ،فما بالك برسول ُب ِعثَ إلى الناس كافة في كل زمان وفي كل مكان ،ل
شكّ أنه سيتحمل من التعب والعناء أضعاف ما تحمّله إخوانه من الرسل السابقين.
َ
وكأن الحق -تبارك وتعالى -يُعد رسوله صلى ال علية وسلم ويُوطّنه على تحمّل المشاقّ من
عضُده حين يواجهها عند مباشرة أمر الدعوة ،يقول له :ليست
بداية الطريق حتى ل تفتّ في َ
السيادة أمرا سهلً ،إنما دونها متاعب وأهوال ومصاعب فاستعد ،كما تنبه ولدك :انتبه،
فالمتحانات ستأتي هذا العام صعبة ،فالوزارة تريد تقليل عدد المتقدمين للجامعة ،فاجتهد حتى
تحصل على مجموع مرتفع ،وحين يسمع الولد هذا التنبيه يُجمع تماسكه ،ويجمع تركيزه ،فل يهتز
حين يواجه المتحانات.
ثم يذكر الحق -تبارك وتعالى -نماذج للمكذّبين للرسلَ { :و َقوْمُ إِبْرَاهِي َم َو َقوْمُ لُوطٍ * وََأصْحَابُ
ن َوكُ ّذبَ مُوسَىا فَأمْلَ ْيتُ ِل ْلكَافِرِينَ} ..
مَدْيَ َ
.
()2619 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خذْ ُتهُمْ َفكَ ْيفَ
ن َوكُ ّذبَ مُوسَى فََأمْلَ ْيتُ لِ ْلكَافِرِينَ ُثمّ أَ َ
َوقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ َوقَوْمُ لُوطٍ ( )43وََأصْحَابُ مَدْيَ َ
كَانَ َنكِيرِ ()44
نلحظ هنا أن الحق سبحانه ذكر المكذبين ،إل في قصة موسى فذكر المكذّب ،فلم َيقُل :وقوم موسى
بل قال :وكُذّب موسى ،لماذا؟ قالوا :لن مهمته كانت أصعب حيث تعرّض في دعوته لمنِ ادّعى
اللوهية ذاتها.
وقوله تعالى { :فَأمْلَ ْيتُ ِل ْلكَافِرِينَ ُثمّ َأخَذْ ُتهُمْ[ } ..الحج ]44 :أمليت :أمه ْلتُ حتى ظنوه إهمالً ،وهو
إمهال بأنْ يمدّ ال لهم ،ويطيل في مدتهم ،ل إكراما لهم ،ولكن ليأخذهم بعد هذا أخْذ عزيز مقتدر،
حسَبَنّ الّذِينَ َكفَرُواْ أَ ّنمَا
وفي آية أخرى يُوضّح لنا هذه البرقية المختصرة ،فيقول سبحانه {:وَلَ يَ ْ
سهِمْ إِ ّنمَا ُنمْلِي َلهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِ ْثمَا[} ..آل عمران]178 :
ُنمْلِي َل ُهمْ خَيْرٌ لَنْفُ ِ
وفي هذا المعنى يقول أيضا {:فَلَ ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأ ْولَدُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي ا ْلحَيَاةِ
سهُ ْم وَ ُهمْ كَافِرُونَ }[التوبة.]55 :
الدّنْيَا وَتَزْ َهقَ أَنفُ ُ
إذن :ل تغتر بما في أيديهم؛ لنه فتنة ،حتى إذا أخذهم ال كانت حسرتهم أكبر ،فمن عُدم هذه
النعم ل يتعلق قلبه بها ،ول يألَم لفقدها.
وقد حدث شيء من هذا في أيام سعد زغلول ،وكان أحد معارضيه يشتمه ويتطاول عليه ،لكن
فوجئ الجميع بأنه يُولّيه منصبا مرموقا في القاهرة ،فتعجّب الناس وسألوه في ذلك فقال :نعم،
وضعته في هذا المنصب ليعرف العلو والمنزلة حتى يتحسّر عليها حين ُتسْلَب منه ،وتكون أنكى
له .يعني :يرفعه إلى أعلى حتى يهوي على رقبته ،لنه ما فائدة أن توقعه من على الحصيرة مثل
ً؟!!
ثم يقول تعالىَ { :فكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ } [الحج ]44 :الحق سبحانه يُلقِي الخبر في صورة استفهام
لتقول أنت ما حدث وتشهد به.
والمراد :أعاقبناهم بما يستحقون؟
والنكير :هو النكار على شخص بتغيير حاله من نعمة إلى نقمة ،كالذي يُكرمك ويُواسيك ويَبَشّ
في وجهك ويُغدق عليك ،ثم يقطع عنك هذا كله ،فتقول :لماذا تنكّر لي فلن؟ يعني :قطع عني
نعمته.
وكأن الحق -تبارك وتعالى -يريد أن ينتزع مِنّا القرار بقدرته تعالى على عقاب أعدائه
ومُكذّبي رسله ،وهذا المعنى جاء أيضا في قوله تعالى {:إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ
حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا َأهِْلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْهُمْ قَالُواْ
َيضْ َ
حكُونَ *
ضَإِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُ ْرسِلُواْ عَلَ ْيهِمْ حَافِظِينَ * فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َي ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المطففين ]36 - 29 :يعني :هل
جُوزي الكفار بما عملوا؟ وهل استطعنا أنْ نعاقبهم بما يستحقون من العذاب؟
{ َفكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ } [الحج ]44 :أي :إنكاري لموقفهم من عدم أداء حقوق النعمة فبدّلها ال عليهم
نقمة.
شهَا} ..
ثم يقول الحق سبحانهَ { :فكَأَيّن مّن قَرْ َيةٍ أَهَْلكْنَاهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ َف ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُو ِ
.
()2620 /
قوله تعالىَ { :فكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ[ } ..الحج( ]45 :كأيّن) أداة تدل على الكَثْرة مثل :كم الخبرية حين
تقول :كَمْ أحسنتُ إليك .تعني مرات عديدة تفوق الحصر ،فهي تدل على المبالغة في العدد
والكمية ،ومنها قوله تعالىَ {:وكَأَيّن مّن نّ ِبيّ قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ[} ..آل عمران.]146 :
والقرية :اسم للمكان ،وحين يُهلِك ال القرية ل يُهلك المكان ،إنما يهلك المكين فيه ،فالمراد بالقرية
أهلها ،كما ورد في قوله تعالى {:وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا[} ..يوسف ]82 :أي :اسأل أهل
القرية.
ويحتمل أن يكون المعنى :اسأل القرية تُجبك ،لنك لو سألتَ أهل القرية فلربما يكذبون ،أمّا القرية
فتسجل الحداث وتُخبِر بها كما حدثت.
وقد يتعدى الهلك إلى القرية ذاتها ،فيغير معالمها بدليل قوله تعالى {:فَتِ ْلكَ بُيُو ُتهُمْ خَاوِيَةً ِبمَا
ظََلمُواْ[} ..النمل.]52 :
ومعنىَ { :أهَْلكْنَاهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ[ } ..الحج ]45 :أي :بسبب ظُلْمها ،ول يُغيّر ال ما بقوم حتى
طمَئِنّةً يَأْتِيهَا
يُغيّروا ما بأنفسهم ،وفي آية أخرى يقول تعالىَ {:وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْ َيةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ
خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }
رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَرَتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْ َ
[النحل.]112 :
شهَا} ..
فهلك القُرَى ل بُدّ أن يكون له سبب ،فلما وقع عليها الهلك أصبحت { خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُو ِ
شهَا} ..
[الحج ]45 :الشيء الخاوي يعني :الذي سقط وتهدّم على غيره ،وقوله { :عَلَىا عُرُو ِ
حلّ بها من هلك ،حيث سقط السقف أولً ،ثم انهارت عليه
عظَم ما َ
[الحج ]45 :يدل على ِ
عقِب ،وجعل عاليها سافلها.
الجدران ،أو :أن ال تعالى قَلَبها رأسا على َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله سبحانه { :وَبِئْرٍ ّمعَطَّلةٍ[ } ..الحج ]45 :البئر :هو الفجوة العميقة في الرض ،بحيث تصل
إلى مستوى الماء الجوفيّ ،ومنه يُخرجون الماء للشّرْب وللزراعة ..إلخ ومنه قوله تعالى {:وََلمّا
وَرَدَ مَآءَ َمدْيَنَ[} ..القصص ]23 :أي :البئر الذي يشربون منه.
والبئر حين تكون عاملة ومُسْتفادا منها تلحظ حولها مظاهر حياة ،حيث ينتشر الناس حولها ،وينمو
النبات على بقايا المياه المستخرجة منها ،ويحوم حولها الطير ليرتوي منها ،أما البئر المعطّلة غير
المستعملة فتجدها خَرِبة ليس بها علمات حياة ،وربما تسفو عليها الرياح ،وتطمسها فتُعطّل
وتُهجَر ،فالمراد معطلة عن أداء مهمتها ،ومهمة البئر السّقيا.
{ َو َقصْرٍ مّشِيدٍ } [الحج ]45 :القصر :اسم للمأوى الفَخْم؛ لن المأوى قد يكون خيمة ،أو فسطاطا،
أو عريشة ،أو بيتا ،أو عمارة ،وعندما يرتقي النسان في المأوى فيبني لنفسه شيئا خاصا به ،لكن
ل ُبدّ له أنْ يخرج لقضاء لوازم الحياة من طعام وخلفه ،أما القصر فيعني مكان السكن الذي
يتوفر لك بداخله كل ما تحتاج إليه ،بحيث ل تحتاج إلى الخروج منه ،يعني :بداخله كل مُقوّمات
الحياة .ومنه :سميت الحور مقصورات في قوله تعالى {:حُورٌ مّ ْقصُورَاتٌ فِي ا ْلخِيَامِ }
()2621 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السّيْرَ :قطْع مسافات من مكان إلى آخر ،ويسمونه السياحة ،والحق سبحانه يدعو عباده إلى
السياحة في أنحاء الرض؛ لن للسياحة فائدتين:
ن كنتَ في مكان يضيق بك العيش فيه ،كهؤلء
ن تكون سياحة استثمارية لستنباط الرزق إ ْ
فإما أ ْ
الذين يسافرون للبلد الخرى للعمل وطلب الرزق.
وإما أن تكون سياحة لَخْذ العبرة والتأمل في مخلوقات ال في مُلْكه الواسع ليستدل بخَلْق ال
وآياته على قدرته تعالى.
والسياحة في البلد المختلفة تتيح لك فرصة ملحظة الختلفات من بيئة لخرى ،فهذه حارة
وهذه باردة ،وهذه صحراء جرداء وهذه خضراء ل يوجد بها حبة رمل ،لذلك يخاطبنا ربنا تبارك
وتعالىُ {:قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ ثُمّ ا ْنظُرُواْ[} ..النعام]11 :
فالعطف في الية بـ (ثُمّ) يدل على أن للسياحة مهمة أخرى ،هي الستثمار وطلب الرزق ،ففي
الية إشارة إلى الجمع بين هاتين المهمتين ،فحين تذهب للعمل إياك أنْ تغفل عن آيات ال في
خذْ منه عبرة كونية تفيدك في دينك.
المكان الذي سافرت إليه ،و ُ
وفي آية أخرى يقول سبحانهُ {:قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَاْنظُرُواْ[} ..النمل]69 :
العطف هنا بالفاء التي تفيد الترتيب ،يعني :سيروا في الرض لتنظروا آيات ال ،فهي خاصة
بسياحة العتبار والتأمل ،ل سياحة الستثمار وطلب الرزق.
ت الماكن
لذلك يقولون في المثال( :اللي يعيش ياما يشوف ،واللي يمشي يشوف أكثر) فكلما تعدد ْ
تعددت اليات والعجائب الدالة على قدرة ال ،وقد ترى منظرا ل يؤثر فيك ،وترى منظرا آخر
يهزّك ويُحرّك عواطفك ،وتأملتك في الكون.
وقولهَ { :أفََلمْ يَسِيرُواْ[ } ..الحج ]46 :تعني وتؤكد أنهم ساروا فعلً ،كما تقول :أفلم أُكرمك؟ ول
تقول هذا إل إذا أكرمته فعلً ،وقد حدث أنهم ساروا فعلً في البلد أثناء رحلة الشتاء والصيف،
علَ ْيهِمْ ّمصْبِحِينَ} ..
وكانوا يمرون على ديار القوم المهلكين ،كما قال تعالى {:وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ َ
[الصافات.]137 :
يعني :أنتم أهل سَيْر وترحال وأهل نظر في مصير مَنْ قبلكم ،فكيف يقبل منكم النصراف عن
آيات ال؟
س َمعُونَ ِبهَا فَإِ ّنهَا لَ َت ْعمَى
{ َأفََلمْ يَسِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَ َتكُونَ َلهُمْ قُلُوبٌ َي ْعقِلُونَ ِبهَآ َأوْ آذَانٌ َي ْ
الَ ْبصَارُ وَلَـاكِن َت ْعمَىا ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ } [الحج ]46 :فما داموا قد ساروا وترحلّوا في
البلد ،فكيف ل يعقلون آيات ال؟ وكيف ل تُحرّك قلوبهم؟
ولنا وقفة عند قوله تعالى { :فَ َتكُونَ َلهُمْ قُلُوبٌ َي ْعقِلُونَ ِبهَآ[ } ..الحج ]46 :وهل يعقِل النسانُ
بقلبه؟ معلوم أن العقل في المخ ،والقلب في الصدر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نعم ،للنسان وسائل إدراك هي الحواس التي تلتقط المحسّات يُسمّونها تأدّبا مع العلم :الحواس
الخمس الظاهرة؛ لن العلم أثبت للنسان في وظائف العضاء حواسا أخرى غير ظاهرة ،فحين
تُمسِك بشيئين مختلفين يمكنك أن تُميّز أيهما أثقل من الخر ،فبأيّ حاسة من الحواس الخمس
المعروفة توصلْتَ إلى هذه النتيجة؟
إنْ قُ ْلتَ بالعين فدعْها على الرض وانظر إليها ،وإنْ قُ ْلتَ باللمس فلك أنْ تلمسها دون أنْ ترفعها
من مكانها ،إذن :فأنت ل تدرك الثقل بهذه الحواس ،إنما بشيء آخر وبآلة إدراك أخرى هي حاسة
ضلِ الذي يُميّز لك الخفيف من الثقيل.
ال َع َ
وحين تذهب لشراء قطعة من القماش تفرك القماش بلطف بين أناملك ،فتستطيع أنْ تُميّز الثخين
من الرقيق ،مع أن الفارق بينهما ل يكاد ُي ْذكَر ،فبأيّ حاسة أدركْتَه؟ إنها حاسة البَيْن .كذلك هناك
حاسة ال ُبعْد وغيرها من الحواسّ التي يكتشفها العلم الحديث في النسان.
فلما يدرك النسان هذه الشياء بوسائل الدراك يتدخّل العقل ليغربل هذه المدركات ،ويختار من
البدائل ما يناسبه ،فإنْ كان سيختار ثوبا يقول :هذا أنعم وأرقّ من هذا ،وإنْ كان سيختار رائحة
يقول :هذه ألطف من هذه ،إنْ كان في الصيف اختار الخفيف ،وإنْ كان في الشتاء اختار السميك.
وبعد أن يختار العقل ويوازن بين البدائل يحكم بقضية تستقر في الذّهْن وتقتنع بها ،ول تحتاج
حتَ إليه بقلبك.
لدراك بعد ذلك ،ول لختيار بين البدائل ،وعندها تنفذ ما استقر في نفسك ،وارت ْ
إذن :إدراك بالحواس وتمييز بالعقل ووقوف عند مبدأ بالقلب ،وما دام استقر المبدأ في قلبك فقد
أصبح دستورا لحياتك ،وكل جوارحك تخدم هذا المبدأ الذي انتهيتَ إليه ،واستقر في قلبك
ووجدانك.
لكن ،لماذا القلب بالذات؟ قالوا :لن القلب هو الذي يقوم بعملية ضَخّ سائل الحياة ،وهو الدم في
جميع إجزاء الجسم وجوارحه ،وهذه الجوارح هي أداة تنفيذ ما استقر في الوجدان؛ لذلك قالوا:
اليمان محلّه القلب ،كيف؟ قالوا :لنك غرب ْلتَ المسائل وصفّيْت القضايا إلى أن استقرت العقيدة
واليمان في قلبك ،واليمان أو العقيدة هي ما انعقد في القلب واستقرّ فيه ،ومن القلب تمتد العقيدة
إلى جميع العضاء والحواس التي تقوم بالعمل بمقتضى هذا اليمان ،وما ُد ْمتَ قد انتهيتَ إلى
ل فيكون قلبك لم يفهم ولم يفقه.
مبدأ وعقيدة ،فإياك أنْ تخالفه إلى غيره ،وإ ّ
وكلمة } َي ْعقِلُونَ ِبهَآ[ { ..الحج ]46 :تدل على أن للعقل مهام أخرى غير أنه يختار ويفاضل بين
البدائل ،فالعقل من مهامه أنْ يعقل صاحبه عن الخطأ ،ويعقله أنْ يشرد في المتاهات ،والبعض
يظن أن معنى عقل يعني حرية الفكر وأنْ يشطح المرء بعقله في الفكار كيف يشاء ،ل ،العقل
عقَال الناقة الذي يمنعها ،ويحجزها أنْ تش ُردَ منك.
من ِ
س َمعُونَ ِبهَا[ { ..الحج ]46 :كيف ولهؤلء القوم آذان تسمع؟ نعم ،لهم
ثم يقول سبحانهَ } :أوْ آذَانٌ يَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آذان تسمع ،لكن سماع ل فائدة منه ،فكأن الحاسّة غير موجودة ،وإل ما فائدة شيء سمعتَه لكن لم
تستفد به ولم تُوظّفه في حركة حياتك ،إنه سماع كعدمه ،بل إن عدمه أفضل منه؛ لن سماعك
يقيم عليك الحجة.
} فَإِ ّنهَا لَ َت ْعمَى الَ ْبصَا ُر وَلَـاكِن َت ْعمَىا ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ { [الحج ]46 :فعمي البصار
س بعمى القلوب؛ لن النسان إذا فقد رؤية البصر يمكنه أنْ يسمع ،وأنْ يُعمل
شيء هيّن ،إذا ما قِي َ
عقله ،وأنْ يهتدي ،ومَا ل يراه يمكن أنْ يخبره به غيره ،ويَصِفه له وَصْفا دقيقا وكأنه يراه ،لكن
ت القلوب ،والنظار مبصرة؟
ما العمل إذا عَم َي ْ
عوَض ،فما البديل إذا عَمي القلب؟ العمى يحاول أنْ يتحسّس
وإذا كان لعمى البصار بديل و ِ
خذْ بيدي ،أما أعمى القلب فماذا يفعل؟
طريقه ،فإنْ عجز قال لكُ :
طمِس على قلبه فل
لذلك ،نقول لمن يغفل عن الشيء الواضح والمبدأ المستقر :أعمى قَلْب .يعنيُ :
يعي شيئا.
وقوله } :ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ { [الحج ]46 :معلوم أن القلوب في الصدور ،فلماذا جاء
التعبيرهكذا؟ قالوا :ليؤكد لك على أن المراد القلب الحقيقي ،حتى ل تظن أنه القلب التفكيريّ
التعقليّ ،كما جاء في قوله تعالىَ {:يقُولُونَ بَِأ ْفوَا ِههِم[} ..آل عمران]167 :
ومعلوم أن القَوْل من الفواه ،لكنه أراد أن يؤكد على القول والكلم؛ لن القول قد يكون بالشارة
والدللة ،فالقول بالكلم هو أبلغ أنواع القول وآكده؛ لذلك قال الشاعر:جِرَاحَاتُ السّنَانِ َلهَا الْتِئَامٌ
ولَ يُلْتَامُ مَا جَرَح اللسَانُويقولون :احفظ لسانك الذي بين فكّيْك ،وهل اللسان إل بين الفكّيْن؟ لكن
أراد التوكيد على القول والكلم خاصة ،ل على طرق التفاهم والتعبير الخرى.
ب وَلَن يُخِْلفَ اللّ ُه وَعْ َدهُ{ ..
ثم يقول الحق سبحانه } :وَيَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ
.
()2622 /
خِلفَ اللّ ُه وَعْ َد ُه وَإِنّ َي ْومًا عِنْدَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَ َنةٍ ِممّا َتعُدّونَ ()47
ب وَلَنْ يُ ْ
وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ول يستعجل النسانُ العذابَ إل إذا كان غَيْ َر مؤمن به ،المؤمن بالعذاب -حقيقةً -يخاف منه،
ويريد أنْ يبطئ عنه أو أنْ ينجوَ منه .والمعنى { :وَيَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَابِ[ } ..الحج ]47 :أنهم
يظنون أنّه إنْ توعّدهم ال بالعذاب فإنه سيقع لِ َتوّه .لذلك ،الحق سبحانه يصحح لهم هذا الفهم،
فيقول { :وَلَن ُيخِْلفَ اللّ ُه وَعْ َد ُه وَإِنّ َيوْما عِندَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَ َنةٍ ّممّا َتعُدّونَ[ } ..الحج ]47 :فل
تتعجلوا توعّدكم به ،فهو واقع بكم ل محالة؛ لنه وَعْد من ال ،وال ل يُخلِف وعده ،لكن اعلموا
أن اليوم عند ال ليس كيومكم ،اليوم عندكم أربع وعشرون ساعة ،أما عند ال فهو كألف سنة من
حسابكم أنتم لليام.
واليوم زمن يتسع لبعض الحداث ،ول يسع أكثر مما قدّر أن يُفعل فيه من الحداث ،أما اليوم عند
جلّ -فيسع أحداثا كثيرة تمل من الزمن ألف سنة من أيامكم؛ ذلك لنكم تزاولون
ال -عَزّ و َ
العمال وتعالجونها ،أما الخالق سبحانه فإنه ل يزاول الفعال بعلج ،وإنما أمره إذا أراد شيئا أن
ن فيكون ،ففِعْلُك يحتاج إلى وقت ،أما ِفعْل ربك فبكلمة كُنْ .وقد شاء الحق سبحانه أنْ
يقول له :كُ ْ
يعيشَ هؤلء في عذاب التفكير في هذا الوعيد طول عمرهم ،فيُعذّبون به قبل حدوثه.
إذن :ل تظن أن العذاب الذي توعّدكم به سيحدث اليوم أو غدا ،ل؛ لن حساب الوقت مختلف.
طمِسْ عَلَىا
ألم تقرأ قول ال تعالى لنبيه موسى -عليه السلم -لمّا دعا على قومه {:رَبّنَا ا ْ
ب الَلِيمَ[} ..يونس]88 :
َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْ ُددْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ
عوَ ُت ُكمَا[} ..يونس.]89 :
قال له ربه {:قَالَ قَدْ ُأجِي َبتْ دّ ْ
ويقول المفسرون :حدثتْ هذه الجابة لموسى بعد أربعين سنة من دعوته عليهم.
سمَآءِ إِلَى الَ ْرضِ ُثمّ َيعْرُجُ إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ
لمْرَ مِنَ ال ّ
وفي موضع آخر يقول تعالى {:يُدَبّ ُر ا َ
ِمقْدَا ُرهُ أَ ْلفَ سَنَةٍ ّممّا َتعُدّونَ }[السجدة.]5 :
خمْسِينَ أَ ْلفَ
وتزيد هذه المدة في قوله سبحانهَ {:تعْرُجُ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَالرّوحُ إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ
سَنَةٍ }[المعارج ]4 :لماذا؟ لن الزمن عندكم في هذه الحالة مُعطّل ،فأنتم من َهوْل ما تروْنَ
تستطيلون القصير ،ويمر عليكم الوقت ثقيلً؛ لذلك تتمنون النصراف ولو إلى النار.
كما أن صاحب النعيم يستقصر الطويل ،ويمر عليه الوقت كأنه لمح البصر ،ومن ذلك ما تلحظه
ن ل يهواه قلبك ،ولهذه المسألة شواهد كثيرة في
من ِقصَر الوقت مع الحبة وطوله مع العداء ومَ ْ
شعرنا العربي ،منها قول أحدهم:حَادِثَاتُ السّرورِ تُوزَنُ وَزْنا وَالبَليَا ُتكَال بالقُفْزَانوقول الخرَ:لمْ
طلْ بع َدكَ لَيْلِي فََلكَمْ ِبتّ
طلْ لَيْلِي ولكِنْ لَمْ أَ َن ْم و َنفَى عَنّي الكَرَى طَ ْيفٌ أََلمّويقول ابن زيدون:إنْ َي ُ
يَ ُ
أشكُو ِقصَرَ الل ْيلِ َمعَكثم يقول سبحانهَ { :وكَأَيّن مّن قَرْ َيةٍ َأمْلَ ْيتُ َلهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ} ..
.
()2623 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خذْ ُتهَا وَإَِليّ ا ْل َمصِيرُ ()48
َوكَأَيّنْ مِنْ قَرْ َيةٍ َأمْلَ ْيتُ َلهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ ُثمّ أَ َ
{ َوكَأَيّن[ } ..الحج ]48 :قلنا :تدل على الكثرة يعني :كثير من القرىَ { ،أمْلَ ْيتُ[ } ..الحج:]48 :
أمهلتُ ،لكن طوال المهال ل يعني الهمال؛ لن ال تعالى يُملي للكافر ويُمهله لجل ،فإذا جاء
الجل والعقاب أخذه.
خذْ ُتهَا } [الحج ]48 :وأخْذُ الشيء يتناسب مع قوة الخذ وقدرته وعنف النتقام بحسب
{ ُثمّ أَ َ
المنتقم ،فإذا كان الخذ هو ال عز وجل ،فكيف سيكون أَخْذه؟
في آية أخرى يوضح ذلك فيقولَ {:أخْذَ عِزِيزٍ مّقْتَدِرٍ }[القمر ]42 :ل ُيغَالب ،ول يمتنع منه أحد،
وكلمة الَخْذ فيها معنى الشدة والعنف وال َقهْر.
ثم يقول سبحانه { :وَإَِليّ ا ْل َمصِيرُ } [الحج ]48 :يعني :المرجع والمآب ،فلن يستطيعوا أنْ يُفلِتوا.
إذن :الملء :تأخير العذاب إلى أجل معين ،كما قال سبحانهَ {:ف َم ّهلِ ا ْلكَافِرِينَ َأ ْمهِ ْلهُمْ ُروَيْدا }
[الطارق.]17 :
هذا الجل قد يكون لمدة ،ثم يقع بهم العذاب ،كما حدث في المم السابقة التي أهلكها ال بالخسْف
أو بالغرق ..الخ ،أما في أمة محمد صلى ال عليه وسلم ،فيكون الملء بأحداث سطحية في
ل بالكفار من الخِزْي والهوان والهزيمة وانكسار شوكتهم ،أمّا العذاب الحقيقي
حّالدنيا ،كالذي َ
فينتظرهم في الخرة.
لذلك يقول الحق -تبارك وتعالى -لنبيه صلى ال عليه وسلم :ل تستبطئ عذابهم والنتقام منهم
في الدنيا ،فما لم تَ َرهُ فيهم من العذاب في الدنيا ستراه في الخرة {:فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي
جعُونَ }[غافر]77 :
َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُ ْر َ
ثم يقول الحق سبحانهُ { :قلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ إِ ّنمَآ} ..
.
()2624 /
ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِ ّنمَا أَنَا َلكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ()49
والنذار نوع من الرحمة ،لنك تخبر بشرّ قبل أوانه ،ليحذره المنذَر ،ويحاول أنْ يُنجي نفسه منه،
ويبتعد عن أسبابه ،فحين أُذكّرك بال ،وأنه يأخذ أعداءه أخْذَ عزيز مقتدر ،فعليك أنْ تربأ بنفسك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عن هذه النهاية ،وأن تنجوَ من دواعي الهلك.
ومعنى { مّبِينٌ } [الحج ]49 :محيط ،ل يترك صغيرة ول كبيرة.
()2625 /
وطالما آمنوا وعملوا الصالحات فقد انتفعوا بالنذراة ،وأثمرتْ فيهم ،فآمنوا بال إلها فاعلً مختارا
له صفات الكمال المطلق ،ثم عملوا على مقتضى أوامره؛ لذلك يكون لهم مغفرة إنْ كانت أََل ّمتْ
نفوسهم بشيء من المعاصي ،ويكون لهم رزق كريم .والكريم هو البذّال ،كأن الرزق نفسه وصل
ح ّد قول
إليهم بكرم وزيادة ،كما أن الكريم هو الذي تظل يده مبسوطة دائما بالعطاء ،على َ
علَى ال َكفّ ِإلّ عَابِرَات سَبِيلفالرزق نفسه كريم؛ لنه ممدود
الشاعر:وَإِنّي امْرؤٌ لَ تَسْ َتقِرّ دَرَا ِهمِي َ
ل ينقطع ،كما لو أخذت كوب ماء من ماء جارٍ ،فإنه يحلّ محلّه غيره على الفور ،وهكذا.
()2626 /
جحِيمِ ()51
س َعوْا فِي آَيَاتِنَا ُمعَاجِزِينَ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ الْ َ
وَالّذِينَ َ
السعي :عمل يذهب إلى غاية ،فإنْ كان قطع مسافة نقول :سِرنْا من كذا إلى كذا ،وإنْ كان في
قضية علمية فكرية ،فيعني :أن الحدث يعمل من شيء بداية إلى شيء غاية.
س ْعيُ ل يُحمد على إطلقه ،ول ُيذَمّ على إطلقه ،فإنْ كان في خير فهو محمود ممدوح،
وال ّ
شكُورا }[السراء ،]19 :وإنْ كان في شَرّ فهو
سعْ ُيهُم مّ ْ
كالسعي الذي قال ال فيه {:فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ
شهِدُ
قبيح مذموم ،كالسعي الذي قال ال تعالى فيهَ {:ومِنَ النّاسِ مَن ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ
سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْرثَ
خصَامِ * وَِإذَا َتوَلّىا َ
علَىا مَا فِي قَلْ ِب ِه وَ ُهوَ أَلَدّ ا ْل ِ
اللّهَ َ
سلَ[} ..البقرة.]205 - 204 :
وَالنّ ْ
سعّاء
أما السعاية فعادة تأخذ جانب الشر .وتعني :الوشاية والسّعي بين الناس بالنميمة ،تقول :فلن َ
ن علموا
بين الخلق يعني :بالشر ينقله بين الناس بقصْد الذى ،وهؤلء إنْ عَلِموا الخير أخ َفوْه ،وإ ْ
الشر أذاعوه ،وإن لم يعلموا كذبوا.
عمّا ينتج من هذه السعاية من الشر بين الناس :هذا آفة الخِذ ،يعني :الذي سمع الشرّ
لذلك ،نقول َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ونقله وسعى به ،وكان عليه أنْ يحبسه ويُخفِيَه ،حتى ل تنتشر هذه الرذيلة بين الخَلْق.
وقد وشى واشٍ بمهام بن عبد ال السلولي إلى زياد بن أبيه ،وكان زياد جبارا فقال للواشي :أأجمع
ن يقول :نعم ،فكيف ينكر ما قال؟! ولعله قال في نفسه :لعل
بينك وبينه؟ فلم يجد الواشي ُبدّا من أ ْ
ال يقضي أمرا يُخرِجني من هذه (الورطة) قبل هذه المواجهة؟ ثم أرسل زياد إلى ابن همام فأُتِي
به ،وقد جعل زياد الواشي في مجلسه خلف ستار ،وأُدخِل همام ،فقال له :يا همام بلغني أنك
هجوْتني ،فقال :كل ،أصلحك ال ما فعلتُ :ول أنت لذلك بأهْل ،فكشف زياد الستار وقال :هذا
الرجل أخبرني أنك هجوتني ،فنظر ابن همام ،فإذا هو صديق له يجالسه ،فقال له:أنتَ امْرؤٌ إمّا
لمْرِ الذي كَانَ بينَنَا بمنزلةٍ بيْنَ الخِيَانَةِ
ناَ
ائتمنْتكَ خَالِيا َفخُ ْنتَ وَِإمّا قُ ْلتَ َق ْولً بِلَ عِ ْل ِمفَأُبْتَ مِ َ
والثْمِيعني :أنت مذموم في كل الحوال؛ لنك إما خُ ْنتَ أمانة المجلس والحديث ولم تحفظ سِرا
ضتُ لك به ،وإمّا اختل ْقتَ هذا القوْل كذبا وبل علم.
فضف ْ
وعندها خلع زياد على همام الخُلَع ،لكنه لم يعاقب الواشي ،وفي هذا إشارة إلى ارتياحهم لمن ينقل
إليهم ،وأن آذانهم قد أخذتْ على ذلك وتعوّ َدتْ عليه.
ومعنى { فِي آيَاتِنَا } [الحج ]51 :واليات إما كونية ،كالشمس والقمر ،وإما معجزات ،وإما آيات
س َعوْا فيها يعني :قالوا فيها ِق ْولً باطلً غير الحق ،كما يسعى الواشي بالباطل بين
الحكام ،و َ
الناس ،فهؤلء إنْ نظروا في آيات الكون قالوا :من صنع الطبيعة.
وإنْ شاهدوا معجزة على يد نبيّ قالوا :سحر وأساطير الولين ،وإنْ سمعوا آيات الحكام تُتْلى
قالوا :شعر .وهم بذلك كله يريدون أنْ يُفسِدوا على أهل اليمان إيمانهم ،ويصدّوا عن سبيل ال.
ومعنى } ُمعَاجِزِينَ { [الحج ]51 :جمع لسم الفاعل معاجز مثل :مقاتل ،وهي من عَاجَزَ غير
عجز عن كذا يعني :لم يقدر عليه ،عَاجَزَ فلنٌ فلنا يعني باراه أيّهما يعجز قبل الخر ،فعاجزه
مثل باراه ليثبتَ أنه الفضل ،ومثل :سابقه ونافسه.
إذن :فالمعاجزة مفاعلة ومشاركة ،وكلمة نافسه الصل فيها من النفَس الذي نأخذه في الشهيق،
ونُخرِجه في الزفير ،والذي به يتأكسد الدم ،وتستمر حركة النسان ،فإن امتنع التنفس يموت؛ لن
النسان يصبر على الطعام ويصبر على الماء ،لكنه ل يصبر على الهواء ولو لنفَس واحد.
وقد حدثتْ هذه المعاجزة أو المنافسة بين سيدنا عمر وسيدنا العباس رضي ال عنهما :قال عمر
للعباس :أتُنافسني في الماء ،يعني :نغطس تحت الماء وننظر أيهما يُعجِز الخر ،ويتحمل عملية
جوّ الهواء ،أما إنْ
توقّف النفَس ،ومثل هذه المنافسة قد يحتال عليها النسان إنْ كتم نفسَه وهو في َ
نزل تحت الماء حيث ينعدم الهواء ،فكيف سيحتال على هذه المسألة؟ وتحت الماء ل يكون إل
الهواء الذاتي الذي اختزنه كل منهما في رئته ،ومثل هذه المنافسة أيهما أفسح صَدْرا من الخر،
وأيّهما أكثر تحمّلً تحت الماء .هذه هي المعاجزة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س َعوْاْ فِي آيَاتِنَا ُمعَاجِزِينَ[ { ..الحج ]51 :أي :يظنون أنهم قادرون أن يُعجزونا ،فحين
فمعنى } َ
نأتي إليهم بكلم بليغ ُمعْجز يختلقون كلما فارغا ليعجزونا به ،فأنّى يكون لهم ذلك؟ وأنّى لهم أنْ
يطعنوا بكلمهم على كلم ال؟
حكْم ال
جحِيمِ { [الحج ]51 :فهذا ُ
صحَابُ الْ َ
ثم يُبيّن جزاء هذا الفعل وهذه المكابرةُ } :أوْلَـا ِئكَ َأ ْ
فيهم قضية واضحة من أقصر الطرق ،فمَنْ ذَا الذي يُعجِز ال؟
ثم يقول الحق سبحانهَ } :ومَآ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ مِن رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ ِإلّ إِذَا َتمَنّىا أَ ْلقَى الشّ ْيطَانُ فِي
ُأمْنِيّتِهِ{ ..
.
()2627 /
ل وَلَا نَ ِبيّ إِلّا إِذَا َتمَنّى أَ ْلقَى الشّ ْيطَانُ فِي ُأمْنِيّتِهِ فَيَنْسَخُ اللّهُ مَا يُ ْلقِي
َومَا أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رَسُو ٍ
حكِيمٌ ()52
علِيمٌ َ
حكِمُ اللّهُ آَيَاتِ ِه وَاللّهُ َ
الشّ ْيطَانُ ثُمّ ُي ْ
أثارت هذه الية جَدلً طويلً بين العلماء ،ودخل فيه كثير من الحشْو والسرائيليات ،خاصة حول
معنى { َتمَنّى } [الحج ]52 :وهي تَرد في اللغة بمعنيين ،وما دام اللفظ يحتمل معنيين فليس
أحدهما َأوَْلَى من الخر إل بمدى استعماله وشيوعه بين جمهور العربية ،ويأتي التمني في اللغة
بمعنى القراءة ،كما ورد في قول حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان رضي ال عنهما:تمنّى
كِتابَ ال أ ّولَ لَيْلةٍ وآخِ َرهَا وَافَاهُ حَتْم المقَادِرِيعني :قُتِل عثمان وهو يقرأ القرآن ،وهذا المعنى
غريب في ح َملْ القرآن عليه لعدم شيوعه.
وتأتي تمنى بمعنى :أحب أن يكون الشيء ،وهذا هو القول المشهور في لغة العرب .أما بمعنى
قرأ فهو غير شائع ،ويُردّ هذا القول ،وينقضه َنقْضا أوليا مبدئيا قوله تعالىَ { :ومَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ
مِن رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ[ } ..الحج.]52 :
ومعلوم أن الرسول ينزل عليه كتاب يمكن أن يقرأه ،أمّا النبي فل ينزل عليه كتاب ،بل يعمل
بشرع مَنْ سبقه من الرسل .إذن :فما دام الرسول والنبي مشتركْين في إلقاء الشيطان ،فل بُدّ أن
تكون المنية هنا بمعنى :أحب أن يكون الشيء ،ل بمعنى قرأ ،فأيّ شيء سيقرأ النبي وَليس معه
كتاب؟
سلْنَا مِن قَبِْلكَ مِن رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ ِإلّ إِذَا َتمَنّىا أَ ْلقَى
والذين فهموا التمني في قوله تعالىَ { :ومَآ أَرْ َ
الشّ ْيطَانُ فِي ُأمْنِيّتِهِ } [الحج ]52 :أنه بمعنى :قرأ ،سواء أكانوا من العلماء المتعمّقين أو
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
السطحيين ،قالوا :المعنى إذا قرأ رسولُ ال القرآنَ تدخّل الشيطان في القراءة ،حتى يُدخِل فيها ما
ليس منها.
ت وَا ْلعُزّىا * َومَنَاةَ الثّالِثَ َة الُخْرَىا }[النجم:
ل َ
وذكروا دليلً على ذلك في قوله تعالىَ {:أفَرَأَيْ ُتمُ ال ّ
]20- 19ثم أضافوا :والغرانيق العل ،وإن شفاعتهن لترتجى .وكأن الشيطان أدخل في القرآن
هذا الكلم ،ثم نسخه ال بعد ذلك ،وأحكم ال آياته.
لكن هذا القول يُشكّك في قضية القرآن ،وكيف نقول به بعد أن قال تعالى في القرآن {:نَ َزلَ بِهِ
لمِينُ * عَلَىا قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ }[الشعراء.]194 - 193 :
حاَ
الرّو ُ
طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ * َفمَا مِنكُمْ
خذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ * ثُمّ َلقَ َ
لقَاوِيلِ * لَ َ
ضاَ
وقال {:وََلوْ َت َقوّلَ عَلَيْنَا َب ْع َ
حدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }[الحاقة.]47 - 44 :
مّنْ أَ َ
إذن :الحق سبحانه وتعالى حفظ قرآنه وكلمه من أمثال هذا العبث ،وكيف نُدخِل في القرآن هذه
الكفريات؟ وكيف تستقيم عبارتهم :والغرانيق العل ،وإن شفاعتهن لترتجى مع قول ال تعالى{:
سمَ ٌة ضِيزَىا
لخْرَىا * أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَ ُه الُنْثَىا * تِ ْلكَ إِذا قِ ْ
لتَ وَا ْلعُزّىا * َومَنَاةَ الثّالِثَ َة ا ُ
َأفَرَأَيْتُمُ ال ّ
}[النجم ]22 - 19 :كيف ينسجم هذا وذاك؟
فهذا الفهم في تفسير الية ل يستقيم ،ول يمكن للشيطان أنْ يُدخِل في القرآن ما ليس منه ،لكن
يحتمل تدخّل الشيطان على وجه آخر :فحين يقرأ رسول ال القرآن ،وفيه هداية للناس ،وفيه
مواعظ وأحكام ومعجزات ،أتنتظر من عدو ال أنْ يُخلِي الجو للناس حتى يسمعوا هذا الكلم دون
أنْ يُشوّش عليهم ،ويُبلبل أفكارهم ،ويَحُول بينهم وبين سماعه؟
فإذا تمنّى الرسول يعني :قرأ ألقى الشيطان في أُمنيته ،وسلّط أتباعه من البشر يقولون في القرآن:
خلَ في كلم ال ما ليس
شعْر وإفْك وأساطير الولين :ف َدوْر الشيطان -إذن -ل أنْ يُد ِ
سحْر و ِ
ِ
منه ،فهذا أمر ل يقدر عليه ول يُمكّنه ال من كتابه أبدا ،إنما يمكن أنْ يُلقِي في طريق القرآن
و َفهْمه والتأثر به العقبات والعراقيل التي تصدّ الناس عن َفهْمه والتأثر به ،وتُفسِد القرآن في نظر
مَنْ يريد أن يؤمن به.
لكن ،هل محاولة تشويه القرآن هذه وصَدّ الناس عنه جاءت بنتيجة ،وصرفتْ الناس فعلَ عن
كتاب ال؟
لقد خ ّيبَ ال سَعيْه ،ولم تقف محاولته عقبة في سبيل اليمان بالقرآن والتأثر به؛ لن القرآن وجد
قلوبا وآذانا استمعتْ وتأملتْ فآمنت وانهارتْ لجلله وعظمته وخضعتْ لسلوبه وبلغته ،فآمنوا
به واحدا بعد الخر.
حكِيمٌ { [الحج]52 :
حكِمُ اللّهُ آيَاتِ ِه وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
ثم يقول تعالى } :فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُ ْلقِي الشّ ْيطَانُ ُثمّ يُ ْ
يعني :ألغى وأبطل ما ألقاه الشيطان من الباطيل والعقبات التي أراد بها أنْ يصدّ الناس عن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
القرآن ،وأحكمَ ال آياته ،وأوضح أنها منه سبحانه ،وأنه كلم ال المعْجز الذي لو اجتمعتْ النس
والجنّ على أنْ يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلً.
هذا على قول مَنِ اعتبر أن } َتمَنّى { [الحج ] 52 :بمعنى :قرأ.
أما على معنى أنها الشيء المحبوب الذي نتمناه ،فنقول :الرسول الذي أرسله ال تعالى بمنهج
الحق إلى الخَلْق ،فإنْ كان قادرا على تطبيق المنهج في نفسه فإنّ أُمنيته أنْ يُصدّق وأنْ يُطاع فيما
جاء به ،أمنيته أنْ يسود َمنهجه ويُسيطر ويسُوس به حركة الحياة في الناس.
والنبي أو الرسول هو َأوْلى الناس بقومه ،وهو أحرصهم على َنفْعهم وهدايتهم ،والقرآن خير يحب
للناس أن يأخذوا به عملً بقوله صلى ال عليه وسلم " :ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب
لنفسه ".
لكن ،هل يترك الشيطان لرسول ال أنْ تتحقق أُمنيته في قومه أَمْ يضع في طريقه العقبات،
ويُحرّك ضده النفوس ،فيتمرّد عليه قومه حيث يُذكّرهم الشيطان بما كان لهم من سيادة ومكانة
سيفقدونها بالسلم؟
وهكذا يُلْقي الشيطان في أُمنية الرسول } ِإلّ ِإذَا َتمَنّىا أَ ْلقَى الشّيْطَانُ فِي ُأمْنِيّتِهِ { [الحج ]52 :وما
كان الشيطان ليدع القرآن ينفذ إلى قلوب الناس أو حتى آذانهم ،أليس هو صاحب فكرة {:لَ
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ[} ..فصلت.]26 :
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
تَ ْ
إن الشيطان لو لم يُلْق العراقيل في سبيل سماع القرآن ويُشكّك فيه لمن به كل مَنْ سمعه؛ لن
للقرآن حلوةً ل ُتقَاوم ،وأثرا ينفذ إلى القلوب مباشرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
آمن به على الفور.
كذلك ،إنْ أردت أنْ تناقشَ قضية اليمان أو الكفر ،وأنْ تختار بينهما؛ لنهما يجتمعان أبدا ،ول بُدّ
أنْ تختار ،فحين تناقش هذه القضية وأنت ُمصِرّ على الكفر فلن تصل إلى اليمان؛ لن ال يطبع
ج الكفر أولً وتحرّر من
على القلب ال ُمصِرّ فل يخرج منه الكفر ،ول يدخله اليمان ،إنما أخرِ ْ
أَسْره ،ثم ناقش المسائل كما تحب.
ح َدةٍ أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن
ظكُمْ ِبوَا ِ
عُكما قال تعالىُ {:قلْ إِ ّنمَآ أَ ِ
جِنّةٍ[} ..سبأ.]46 :
أما أنْ تناقش قضية ،وفي ذهْنك فكرة مُسبقة ،فأنت كهؤلء الذين قال ال فيهمَ {:ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ
إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَرَجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ ِللّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا[} ..محمد ]16 :يعني :ما
الجديد الذي جاء به ،وما المعجزة في هذا الكلم؟ فيأتي الردُ {:أوْلَـا ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىا
قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُواْ َأ ْهوَآءَ ُهمْ * وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَا ُهمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد.]17 - 16 :
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ
شفَآ ٌء وَالّذِي َ
وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه عن القرآنُ {:قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ
عمًى[} ..فصلت.]44 :
فِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ
فالقرآن واحد ،لكن المستقبل مختلف ،وقد ذكرنا أنك حين تريد أن تبرد كوب الشاي الساخن فإنك
تنفخ فيه ،وكذلك إنْ أردتَ أنْ تُدفِئ يديك في برد الشتاء فإنك أيضا تنفخ فيها ،كيف -إذن -
والفاعل واحد؟ نعم ،الفاعل واحد ،لكن المستقبل للفعل مختلف.
وقوله تعالى } :مِن قَبِْلكَ مِن رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ { [الحج.]52 :
(من) هنا للدللة على العموم وشمول كل النبياء والرسل السابقين ،فكل نبي أو رسول يتمنى
يعني :يو ّد ويحب ويرغب أن ينتشر دينه ويُطبّق منهجه ،ويؤمن به جميع قومه ،لكن هيهات أنْ
يتركه الشيطان وما أحبّ ،بل ل بُدّ أنْ يقف له بطريق دعوته ليصدّ الناس عنه ويصرفهم عن
دعوته ومنهجه ،لكن في النهاية ينصر ال رسُله وأنبياءه ،وينسخ عقبات الشيطان التي ألقاها في
حكَمة ل ينكرها أحد.
طريق الدعوة ،ثم يُحكِم ال آياته ،ويؤكدها ويظهرها ،فتصير مُ ْ
وساعةَ تسمع كلمة } أَ ْلقَى { [الحج ]52 :فاعلم أن بعدها عقبات وشرورا ،كما يقول تعالى {:وَأَلْقَيْنَا
بَيْ َنهُمُ ا ْل َعدَا َوةَ وَالْ َب ْغضَآءَ إِلَىا َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ }[المائدة.]64 :
ومما قاله أصحاب الرأي الول في تفسير } َتمَنّى { [الحج ]52 :وأنها بمعنى قرأ :يقولون :إن ال
تعالى يُنزِل على رسوله صلى ال عليه وسلم أشياء تُثبت بشريته ،ثم يمحو ال آثار هذه البشرية
ليبين أن ال صنعه على عينه ،حتى إنْ ه ّمتْ بشريته بشيء يعصمه ال منها.
لذلك يقول صلى ال عليه وسلم " :يَ ِردُ عليّ فأقول :أنا لست كأحدكم ،ويُؤخذ مِنّي فأقول :ما أنا إل
بشر مثلكم ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فالرسول بشر إل أنه يوحى إليه ما يعصمه من زلّت البشر.
ومن بشريته صلى ال عليه وسلم أنه تعرّض للسحر ،وهذه واقعة ل تُنكر ،وقد ورد فيها أحاديث
صحيحة ،وقد كاد الكفار لرسول ال بكل أنواع الكيد :استهزاءٌ ،وسبابا ،واضطهادا ،وإهانة ،ثم
تآمروا عليه بليل ليقتلوه ،وبيّتوا له ،فلم يفلحوا قال تعالى {:وَإِذْ َي ْمكُرُ ِبكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ َأوْ
ن وَ َي ْمكُرُ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال.]30 :
َيقْتُلُوكَ َأوْ يُخْ ِرجُوكَ وَ َيمْكُرُو َ
سعْيهم ،وفشَلتْ
وكاد ال لرسوله وأخرجه من بينهم سالما ،وهكذا فضح ال تبييتهم وخيّب َ
محاولتهم الجهرية والسرية فلجئوا إلى السحرة ليفعلوا برسول ال ما عجزوا هم عنه ،وعملوا
ط ومُشَاطة من شعره صلى ال عليه وسلم وطلع نخلة ذكر ففضحهم ال،
لرسول ال سحرا في ُمشْ ٍ
وأخبر رسوله بذلك فأرسل المام عليا فأتى به من بئر ذروان.
وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُبيّن لنا بشرية الرسول ،وأنه يجري عليه ما يجري على البشر ،لكن
ربه ل يترك بشريته وحدها ،وإنما يعصمه بقيوميته.
وهذا المعنى هو ما قصده أصحاب الرأي الول :أن الرسول يطرأ عليه ما يطرأ على البشر
العادي ،لكن تتدخّل السماء لتعصمه ونحن نختار الرأي الخر الذي يقول أن تمنى بمعنى ودّ
وأحب.
حكِيمٌ { [الحج ]52 :عليم بكيد الشيطان ،وتدبيره ،حكيم
ثم تختتم الية بقوله تعالى } :وَاللّهُ عَلِيمٌ َ
في علج هذا الكيد.
()2628 /
شقَاقٍ َبعِيدٍ
ض وَا ْلقَاسِيَةِ قُلُو ُبهُ ْم وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلفِي ِ
ج َعلَ مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ فِتْ َنةً لِلّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َر ٌ
لِيَ ْ
()53
ولسائل أن يقول :إذا كان ال تعالى ينسخ ما يُلقي الشيطان ،فلماذا كان اللقاءُ بدايةً؟
جعل ال اللقاء فتنةً ليختبر الناس ،وليُميّز مَنْ ينهض بأعباء الرسالة ،فهي مسئولية ل يقوم بها
إل مَنْ ينفذ من الفتن ،وينجو من إغراءات الشيطان ،ويتخطى عقباته وعراقيله؛ لذلك قال تعالى
جتْ لِلنّاسِ }[آل عمران.]110 :
عنهم {:كُنْ ُتمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ
وما تبوأتُم هذه المنزلة إل لنكم أهلٌ لحمْل هذه المانة ،تمرّ بكم الفتن فتهزأون بها ول
ج َعلَ مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ فِتْ َنةً لّلّذِينَ فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ } [الحج]53 :
تزعزعكم؛ لذلك قال تعالى { :لّيَ ْ
أي :نفاق ،فإنْ تعرّض لفتنة انقلب على وجهه .يقول كما يقولون :سحر وكذب وأساطير الولين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكذلك فتنة { وَا ْلقَاسِيَةِ قُلُو ُبهُمْ } [الحج ]53 :وهم الذين فقدوا لين القلب ،فلم ينظروا إلى الجميل
عليهم في الكون خَلْقا وإيجادا وإمدادا ،ولم يعترفوا بفضل ال عليهم ،ولم يستبشروا به ويأتوا إليه.
ونحن نلحظ الولد الصغير يأنس بأمه وأبيه ،ويركن إليهما؛ لنه ذاق حنانهما ،وتربّى في
رعايتهما ،فإنْ ربّته مثلً المربية حتى في وجود أمه فإنه يميل إليها ،ويألف حضنها ،ول يلتفت
لمه ،لماذا؟ لنه نظر إلى الجميل ،من أين أتاه ،ومَنْ صاحب الفضل عليه فرقّ له قلبه ،بصرف
النظر مَنْ هو صاحب الجميل.
ل لهم ول قوة ،فاستقبلهم بكل ألوان الخير ،ومع ذلك كانت
ح ْو َ
فهؤلء طرأوا على َكوْن ال ،ل َ
قلوبهم قاسيةً مُتحجّرة ل تعترف بجميل.
شقَاقٍ َبعِيدٍ } [الحج ]53 :فهم ظالمون أولً لنفسهم حين
ثم يقول سبحانه { :وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلفِي ِ
نظروا إلى منفعة عاجلة قليلة ،وتركوا منفعة كبيرة دائمة .والشّقاق :الخلف ،ومنه قولنا :هذا في
شقَاق
شقَاق هَيّن يكون له اجتماع والتئام ،ليته ك ِ
شقّ ،يعني :غير ملتئمين ،وليْته ِ
شقّ ،وهذا في ِ
ِ
الدنيا بين الناس على عَ َرضٍ من أعراض الحياة ،إنما هم في شقاق بعيد .يعني :أثره دائم ،وأثره
فظيع.
إذن :العلة الولى لما يُلقِي الشيطان أن يكون فتنة .أما العلة الثانية ففي قوله تعالى { :وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ
حقّ مِن رّ ّبكَ} ..
أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ أَنّهُ الْ َ
.
()2629 /
حقّ مِنْ رَ ّبكَ فَ ُي ْؤمِنُوا ِبهِ فَتُخْ ِبتَ لَهُ قُلُو ُبهُ ْم وَإِنّ اللّهَ َلهَادِ الّذِينَ َآمَنُوا
وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ أَنّهُ الْ َ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ ()54
قوله تعالى { :وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ أَنّهُ ا ْلحَقّ مِن رّ ّبكَ } [الحج ]54 :يعني :يتأكدوا تأكيدا
واضحا أن هذا هو الحق ،مهما شوّشَ عليه المشوّشُون ،ومهما قالوا عنه :إنه سحر ،أو كذب ،أو
صدْق القرآن بما لديهم
أساطير الولين؛ لن ال سيُبطل هذا كله ،وسيقف أهل العلم والنظر على ِ
من حقائق ومقدمات واستدللت يعرفون بها أنه الحق.
وما دام هو الحق الذي لم تزعزعه هذه الرياح الكاذبة فل بُدّ أن يؤمنوا به { فَ ُي ْؤمِنُواْ ِبهِ } [الحج:
]54ثم يتبع هذا اليمان عملٌ وتطبيق { فَتُخْ ِبتَ لَهُ } [الحج ]54 :يعني :تخشع وتخضع وتلين
وتستكين.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول سبحانه { :وَإِنّ اللّهَ َلهَادِ الّذِينَ آمَنُواْ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ } [الحج.]54 :
فمسألة كيد الشيطان وإلقائه لم تنته بموت الرسول ،بل هو قاعد لمته من بعده؛ فالشيطان يقعد
لمة محمد كلها ،ولكل مَنْ حمل عنه الدعوة.
س وَالْجِنّ يُوحِي َب ْعضُهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ
ن الِنْ ِ
جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ عَ ُدوّا شَيَاطِي َ
يقول تعالىَ {:وكَذَِلكَ َ
زُخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ غُرُورا وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ مَا َفعَلُوهُ فَذَ ْرهُ ْم َومَا َيفْتَرُونَ }[النعام.]112 :
يعني :دعهم جانبا فال لهم بالمرصاد ،فلماذا -إذن -فعلوه؟ وما الحكمة؟ يقول تعالى{:
حصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ[} ..آل عمران.]141 :
وَلِ ُيمَ ّ
ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ }[النعام]113 :
صغَى إِلَيْهِ َأفْ ِئ َدةُ الّذِي َ
وقال {:وَلِ َت ْ
ل ضعاف اليمان ،ومَنْ يعبدون ال على حرف من أصحاب الحتجاجات
فمهمة الشيطان أنْ يستغ ّ
التبريرية الذين يريدون أنْ يبرروا لنفسهم النغماس في الشهوة والسير في طريق الشيطان،
وهؤلء يحلو لهم الطعن في الدين ،ويتمنون أن يكون الدين والقيامة والرب أوهاما ل حقيقة لها،
لنهم يخافون أن تكون حقيقة ،وأن يتورطوا بأعمالهم السيئة ونهايتهم المؤلمة ،فهم -إذن -
يستبعدون القيامة ويقولون {:أَِإذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }[الصافات.]16 :
لماذا؟ لنه يريد أنْ يبرر سلوكه ،إنه يريد أنْ يُخرِج نفسه من ورطة ،ل مخرج منها ،وهؤلء
يتبعون كل ناعق ،ويجْرُون وراء كل شبهة في دين ال يتلقفونها ويرددونها ،ومرادهم أن يهدموا
الدين من أساسه.
نسمع من هؤلء المسرفين على أنفسهم مثلً مَنْ يعترض على تحريم الميتة وأكل الذبيحة ،وهذا
دليل على خميرة الشرك والكفر في نفوسهم ،ولهم حجج واهية ل تنطلي إل على أمثالهم من
الكفرة والمنافقين ،وهذه مسألة واضحة ،فالموت غير القتل ،غير الذبح.
الموت :أن تخرج الروح أولً دون َنقْض بِنْية الجسم ،وبعد خروج الروح ينقض بناء الجسد ،أما
القتل فيكون بنقض البنية أولً ،ويترتب على َنقْض البنية خروج الروح ،كأن يُضرب النسان أو
الحيوان على رأسه مثلً ،فيموت بعد أنْ اختلّ مخه وتهشّم ،فلم يعُدْ صالحا لبقاء الروح فيه.
سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ} ..
حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ
يقول تعالىَ {:ومَا ُم َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المواصفات خرجتْ الروح من الجسد.
أما الذبح فهو أيضا إزهاق روح ،لكن بأمر ال خالقها وبرخصة منه سبحانه ،كأن يُقتلَ إنسان في
قصاص ،أو في قتال مشروع ،أو نذبح الحيوان الذي أحلّه ال لنا وأمرنا بذبحه ،ولول أمْر ال
بذبحه ما ذبحناه ،ولول أحلّه ما أكلناه ،بدليل أننا ل نأكل ما لم يحِل لنا من الحيوانات الخرى.
ل غفلوا عن
والذين يجادلون في عملية الذّبْح الشرعية ،ويُزهقون أرواح الحيوان بالخنق مث ً
الحكمة من الذبح :الذبح إراقة للدم ،وفي الدم مواد ضارة بالنسان يجب أن يتخلص منها بتصفية
دم ذبيحته؛ لن بها كمية من الدم الفاسد الذي لم يمرّ على الكلية لتنقيه.
فالمسلم حريص على أن يحمل منهج رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وحريص على أن يسود هذا
المنهج حركة الحياة ،لكن لن يدَعَه الشيطان يُحقّق هذه المنية ،كما لم يدع رسوله صلى ال عليه
وسلم من قبل ،فكيْده وإلقاؤه لم ينتهِ بموت الرسول ،وإنما هو بَاقٍ ،وإلى أنْ تقومَ الساعة.
لذلك يقول تعالى في الية بعدهاَ } :ولَ يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّى{ ..
.
()2630 /
عقِيمٍ ()55
عذَابُ َيوْمٍ َ
وَلَا يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّى تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً َأوْ يَأْتِ َيهُمْ َ
قوله { :فِي مِرْيَةٍ } [الحج ]55 :يعني :في شك من هذا ،لذلك قلنا :إن أتباع رسوله صلى ال عليه
س وَ َيكُونَ الرّسُولُ
ش َهدَآءَ عَلَى النّا ِ
ن يكونوا امتدادا لرسالته {:لّ َتكُونُواْ ُ
وسلم مُكلّفون من ال بأ ْ
شهِيدا[} ..البقرة ]143 :شهداء أنكم بلّغتم كما كان الرسول شهيدا عليكم ،فكلّ مِنّا كأنه
عَلَ ْيكُمْ َ
مبعوث من ال ،وكما شهد رسول ال عليه أنه أبلغه ،كذلك هو يشهد أنه بلّغ من بعد رسول ال؛
لذلك جاءت هذه الية للمرين ليكون الرسول شهيدا عليكم ،وتكونوا شهداء على الناس.
والحق -سبحانه وتعالى -حينما حمّلنا هذه الرسالة قال :ما ُدمْتم امتدادا لرسالة الرسول ،فل ُبدّ
أنْ تتعرّضوا لما تعرّض له الرسول من استهزاء وإيذاء وإلقاء في أمنياتكم ،فإنْ صمدتم فإن ال
تعالى ينسخ ما يُلقي الشيطان ،وينصر في النهاية أولياءه ،وسيظل السلم إلى أنْ تقوم الساعة،
وسيظل هناك أناس ُيعَادُون الدين ويُشكّكون فيه ،وسيظل الملحدون الذين يُشكّكون الناس في
وجود ال يخرجون علينا من حين إلى آخر بما يتناقض ودين ال كقولهم :إن هذا الكون خُلِق
بالطبيعة ،وترى وتسمع هذا الكلم في كتاباتهم ومقالتهم.
ولم يَسْلم العلم التجريبي من خرافاتهم هذه ،فإنْ رأوا الحيوان منسجما مع بيئته قالوا :لقد أمدته
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الطبيعة بلون مناسب وتكوين مناسب لبيئته.
ضهَا عَلَىا َب ْعضٍ
ضلُ َب ْع َ
ح ٍد وَ ُنفَ ّ
سقَىا ِبمَآ ٍء وَا ِ
وفي النبات حينما يقفون عند آية من آياته مثلً {:يُ ْ
ل ُكلِ[} ..الرعد ]4 :يقولون :إن النبات يتغذى بعملية النتخاب ،يعني النبات هو الذي ينتخب
فِي ا ُ
ويختار غذاءه ،ففي التربة الواحدة وبالماء الواحد ينمو النبات الحلو والمر والحمضي والحريف،
فبدل أنْ يعترفوا ل تعالى بالفضل والقدرة يقولون :الطبيعة وعملية النتخاب.
وقد تحدثنا مع بعض هؤلء في فرنسا ،وحاولنا الرد عليهم وإبطال حججهم ،وأبسطها أن عملية
النتخاب تحتاج إلى إرادة واعية تُميّز بين الشياء المنتخبة ،فهل عند النبات إرادة تُمكّنه من
اختيار الحلو أو الحامض؟ وهل يُميز بين الم ّر والحريف؟
إنهم يحاولون إقناع الناس بدور الطبيعة ليبعدوا عن الذهان قدرة ال فيقولون :إن النبات يتغذّى
بخاصية النابيب الشعرية يعني :أنابيب ضيقة جدا تشبه الشعرة فسميت بها ،ونحن نعرف أن
الشعرة عبارة عن أنبوبة مجوفة .وحين تضع هذه النبوبة الضيقة في الماء ،فإن الماء يرتفع فيها
إلى مستوى أعلى؛ لن ضغط الهواء داخل هذه النبوبة لضيقها أقلّ من الضغط خارجها لذا يرتفع
فيها الماء ،أما إنْ كانت هذه النبوبة واسعة فإن الضغط بداخلها سيساوي الضغط خارجها ،ولن
يرتفع فيها الماء.
فقُلْنا لهم :لو أحضرنا حوضا به سوائل مختلفة ،مُذَاب بعضها في بعض ،ثم وضعنا به النابيب
شعْرية ،هل سنجد في كل أنبوبة سائلً معينا دون غيره من السوائل ،أم سنجد بها السائل
ال ّ
المخلوط بكل عناصره؟
لو قمتَ بهذه التجربة فستجد السائل يرتفع نعم في النابيب بهذه الخاصية ،لكنها ل تُميّز بين
عنصر وآخر ،فالسائل واحد في كل النابيب ،وما أبعد هذا عن نمو النبات وتغذيته.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كما يُلقِي الشيطان في مسألة الرسول ،فنجد منهم مَنْ يهاجم شخصية رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،وكيف وهو الميّ يقود أمة ويتهمونه ويخوضون في حقّه ،وفي مسألة تعدّد زوجاته صلى
ال عليه وسلم..الخ ِممّا يُمثّل عقبة في سبيل اليمان به صلى ال عليه وسلم.
ونعجب لهجوم هؤلء على رسول ال طالما هم كافرون به ،إن هذا الهجوم يحمل في طياته إيمانا
بأنه رسول ال ،وإل َلمَا استكثروا عليه وَلمَا انتقدوه ،فلو كان شخصا عاديا ما تعرّض لهذه
النتقادات.
لذلك ل تناقش مثل هؤلء في مسألة الرسول ،إنما في مسألة القمة ،ووجود الله ،ثم الرسول
حلّ؛ لنهم
المبلّغ عن هذا الله ،أمّا أنْ تخوض معهم في قضية الرسول بدايةً فلن تصلَ معهم إلى َ
يضعون مقاييس الكمال من عندهم ،ثم يقيسون عليها سلوكيات رسول ال ،وهذا َوضْع مقلوب،
فالكمال نأخذه من الرسول ومن ِفعْله ،ل نضع له نحن مقاييس الكمال.
ثم يُشكّكون بعد ذلك في الحكام ،فيعترضون مثلً على الطلق في السلم ،وكيف نفرق بين
زوجين؟ وهذا أمر عجيب منهم فكيف نجبر زوجين كارهين على معاشرة ل يَ ْبغُونها ،وكأنهما
مقترنان في سلسلة من حديد؟ كيف وأنت ل تستطيع أنْ تربط صديقا بصديق ل يريده ،وهو ل
يراه إل مرة واحدة في اليوم مثلً؟ فهل تستطيع أن تربط زوجين في مكان واحد ،وهما مأمونان
على بعض في حال الكراهية؟
سعْيهم ،ويُظهر بطلن هذه الفكار ،وتُلجِئهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى تشريع
ويُخيّب ال َ
الطلق ،حيث ل بديلَ عنه لحلّ مثل هذه المشاكل.
وقد ناقش هؤلء كثيرا في قوله تعالى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بأحداثها وتجاربها وألجأتكم إلى هذا الحكم الذي تعارضونه ،وها أنتم تُشرّعون بتشريع السلم
وأنتم كافرون به ،وهذا دليل ظهوره عليكم.
ومعنى } حَتّىا تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً { [الحج ]55 :يعني :فجأة ،وقد تكلّم العلماء في معنى الساعة:
أهي يوم القيامة ،أم يوم يموت النسان؟ الساعة تشمل المعنيين معا ،على اعتبار أن مَنْ مات فقد
قامت قيامته حيث انقطع عمله ،وموت النسان يأتي فجأة ،كما أن القيامة تأتي فجأة ،فهما -إذن
-يستويان.
صغْرى؟ وما العلمات الكبرى؟
لكن ،إنْ كانت الساعة بغتة تفجؤهم بأهوالها ،فما العلمات ال ّ
أليست مقدمات تأذن بحلول الساعة ،وحينئذ ل ُتعَدّ بغتة؟ قالوا :علمات الشيء ليست هي إذن
وجودة ،العلمة تعني :قُرْب موعده فانتبهوا واستعِدّوا ،أما وقت حدوثه فل يعلمه أحد ،ول بُدّ أنْ
يأتي بغتة رغم هذه المقدمات.
عقِيمٍ
عذَابُ َيوْمٍ َ
عقِيمٍ { [الحج ]55 :البعض اعتبرَ } :
عذَابُ َي ْومٍ َ
ثم يقول الحق تعالىَ } :أوْ يَأْتِ َيهُمْ َ
عقِيمٍ
{ [الحج ]55 :يعني القيامة ،وبالتالي فالساعة تعني الموت ،وآخرون يقولون } :عَذَابُ َيوْمٍ َ
{ [الحج ]55 :المراد يوم بدر الذي فصل ال فيه بين الحق والباطل.
وهذا اجتهاد ُيشْكرون عليه ،لكن لما نتأمل اليةَ } :ولَ يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ { [الحج:
]55يعني :المرية مستمرة ،لكن بدرا انتهت ،المرية ستظل إلى أن تقوم الساعة.
ول مانعَ أن تكون الساعة بمعنى القيامة ،واليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة ،فيكون المدلول
واحدا ،لن هناك فرقا بين زمن الحدث والحدث نفسه ،فالساعة هي زمن يوجد فيه الحدث وهو
العذاب ،فالساعة أولً ثم يأتي العذاب ،مع أن مجرد قيام الساعة في حَدّ ذاته عذاب.
عقِيمٍ { [الحج ]55 :العقيم :الذي ل يلد ،رجل كان أو امرأة ،فل يأتي بشيء
عذَابُ َيوْمٍ َ
ومعنى } َ
بعده ،ومنه قوله تعالى عن سارة امرأة إبراهيم عليه السلم:
عقِيمٌ }[الذاريات ]29 :وكذلك يوم القيامة يوم عقيم ،حيث ل يوم بعده أبدا ،فهي نهاية
عجُوزٌ َ
{ َ
ح ّد قول أحدهم :حَبَ ْتهُم به الدنيا وأدركَها ال ُعقْم.
المطاف على َ
عقِيمٌ }[الذاريات ]29 :بمعنى :أنها ل تأتي بخير ،بل بشرّ ،كما في قوله تعالىَ {:وفِي عَادٍ إِذْ
أو{ َ
جعَلَ ْتهُ كَال ّرمِيمِ }[الذاريات- 41 :
شيْءٍ أَ َتتْ عَلَ ْيهِ ِإلّ َ
أَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِهمُ الرّيحَ ا ْل َعقِيمَ * مَا َتذَرُ مِن َ
.]42
ذلك لن الريح حين تهبّ ينتظر منها الخير ،إما بسحابة مُمطرة ،أو تحريك لقاح الذكورة
بالنوثة{ وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ }[الحجر ]22 :أما هذه فل خَيْر فيها ،ول طائل منها ،ولتها تقف
جعَلَتْهُ كَال ّرمِيمِ }
شيْءٍ أَ َتتْ عَلَ ْيهِ ِإلّ َ
عند عدم النفع ،ولكن تتعدّاه إلى جَلْب الضّر{ مَا َتذَرُ مِن َ
[الذاريات ]42 :فهي تدمر كل شيء تمرّ عليه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكما جاء في قوله سبحانه {:فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْبِلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ
شيْءٍ بَِأمْرِ رَ ّبهَا فَ ْأصْبَحُواْ لَ يُرَىا ِإلّ
ُهوَ مَا اسْ َت ْعجَلْتُم ِبهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُ َدمّرُ ُكلّ َ
مَسَاكِ ُنهُمْ }[الحقاف.]25 - 24 :
عقِيمٍ { [الحج ]55 :ل خي َر فيها ول نفع ،بل فيها الشر والعذاب ،أو عقيم
فالمعنى -إذن َ } -
يعني :ل يأتي يوم بعده؛ لنكم تركتم دنيا الغيار ،وتقلّب الحوال حال بعد حال ،فالدنيا تتقلّب من
صغَر إلى كِبَر ،ومن َأمْن إلى خوف ،وتتحول من
فقر إلى غنى ،ومن صحة إلى مرض ،ومن ِ
صيف إلى شتاء ،ومن حر إلى برد ،ومن ليل إلى نهار ..وهكذا.
أما في الخرة فقد انتقلتم مِن عالم الغيار الذي يعيش بالسباب إلى عالم آخر يعيش مع المسبّب
عقِب من بعده أو مثيل له ،كما لو
عقِم أن يكون له َ
سبحانه ،وإلى يوم آخر ل يومَ بعده ،كأنه َ
حضرتَ حفلً مثلً قد استكمل ألوان الكمال والنعم ،فتقول :هذا حدث ل يتكرر يعني :عقيم ل
يأتي بعده مثله.
وإذا كنتَ في الدنيا تعيش بالسباب التي خلقها ال لك ،فأنت في الخرة ستجلس مستريحا تتمتع
جلّ ،ويكفي أن يخطر الشيء ببالك ،فتراه بين يديك؛ ولن القيامة ل أغيارَ فيها ول
بالمسبّب عَزّ و َ
ن واحدة ،ل يشيب ول يهرم ،ول يمرض ول يموت.
تقلّب ،فسيظل الجميع كلّ على حاله في سِ ّ
جعَلْنَاهُنّ أَ ْبكَارا * عُرُبا أَتْرَابا *
ألَ ترى إلى قوله تعالى في نساء الجنة {:إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً * َف َ
لصْحَابِ الْ َيمِينِ }[الواقعة.]38 - 35 :
َ
والكاره لزوجته في الدنيا لنها كانت تتعبه نقول له :ل تقِسْ زوجة الدنيا بزوجة الخرة؛ لن ال
طهّ َرةٌ }[النساء.]57 :
تبارك وتعالى يقولّ {:ل ُهمْ فِيهَآ أَ ْزوَاجٌ مّ َ
أي :مطهرة من كل ما كنتَ تكرهه فيها في الدنيا شكلً وطَبْعا وخُلقا ،فأنت الن في الخرة التي
ل يعكر نعيمها كَدَر.
حكُمُ بَيْ َنهُمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ{ ..
ثم يقول الحق سبحانه } :ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ للّهِ َي ْ
.
()2631 /
ن يقول :أليس الملْك ل يومئذ ،وفي كل يوم؟ نعم ،الملْك ل في الدنيا وفي الخرة ،لكن
ولقائل أ ْ
في الدنيا خلق ال خَلْقا وملّكهم ،وجعلهم ملوكا من باطن مُلْكه تعالى ،لكنه مُلْك ل يدوم ،كما قال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سبحانهُ {:قلِ الّل ُهمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن َتشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ َتشَآ ُء وَ ُتعِزّ مَن تَشَآ ُء وَتُ ِذلّ
شيْءٍ قَدِيرٌ }[آل عمران.]26 :
مَن تَشَآءُ بِيَ ِدكَ ا ْلخَيْرُ إِ ّنكَ عَلَىا ُكلّ َ
إذن :ففي الدنيا ملوك مَلّكهم ال أمرا من المور ،ففيها ملك للغير ،أمّا في الخرة فالملْك ل تعالى
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
وحدهّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
حكُمُ بَيْ َن ُهمْ[ } ..الحج ]56 :فقد رَدّ الملْك كله إلى صاحبه ،ورُدّت
وفي القيامة { ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ للّهِ َي ْ
السباب إلى مُسبّبها.
حكُمُ بَيْ َن ُهمْ[ } ..الحج ]56 :أن هناك خصومةً بين طرفين ،أحدهما على حق ،والخر
ومعنى { َي ْ
على باطل ،والفَصْل في خصومات الدنيا تحتاج إلى شهود ،وإلى بينة ،وإلى يمين فيقولون في
المحاكم :البينة على المدّعي واليمين على مَنْ أنكر ،هذا في خصومات الدنيا ،أما خصومات
الخرة فقاضيها الحق -سبحانه وتعالى -الذي يعلم الس ّر وأخفى ،فل يحتاج إلى بينة ول شهود
ول سلطة تُنفّذ ما حكم به.
محكمة الخرة ل تحتاج فيها إلى مُحامٍ ،ول تستطيع فيها أنْ تُدلّس على القاضي ،أو تُؤجّر شاهد
زور ،ل تستطيع في محكمة الخرة أن تستخدم سلطتك الزمنية فتنقض الحكم ،أو تُسقطه؛ لن
الملْك يومئذ ل وحدة ،والحكم يومئذ ل وحدة ،هو سبحانه القاضي والشاهد والمنفّذ ،الذي ل
يستدرك على حكمه أحد.
وما دام هناك حكومة ،فل بُدّ أن تسفر عن محكوم له ومحكوم عليه ،ويُوضّحهما قوله تعالى:
عمِلُواْ الصّالِحَاتِ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ } [الحج.]56 :
{ فَالّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ
وهؤلء هم الفائزون الذين جاء الحكم في صالحهم.
()2632 /
وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ ()57
وهؤلء هم الجبابرة وأصحاب السيادة في دنيا الكفر والعناد ،والذين حكم ال عليهم بالعذاب الذي
يُهينهم بعد عِزّتهم وسلطانهم في الدنيا ،وتلحظ أن العذاب يُوصَف مرة بأنه أليم ،ومرة بأنه عظيم،
ومرة بأنه مُهين.
فالعذاب الليم الذي يُؤلم صاحبه ،لكنه قد يكون لفترة ثم ينتهي ،أما العذاب العظيم فهو الدائم،
والمهيمن هو الذي يُذِله ويدوس كرامته التي طالما اعتز بها .وأنت تجد الناس يختلفون في تقبّل
ألوان العذاب :فمنهم مَنْ ل يؤثر فيه الضرب الموجع ول يحركه ،لكن تؤلمه كلمة تجرح عِزّته
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وكرامته .لذلك جاء العذاب هكذا ألوانا؛ ليستوعب كل صنوف الملَكات النفسية ،ويواجه ُكلّ نفس
بما يؤلمها.
ثم تكلم الحق سبحانه عن أمر كان ل ُبدّ أن نعرفه ،فالمسلمون الوائل في مكة أُخرِجوا من
شكّ أن للوطن وللهل والبيئة التي نشأ فيها
ديارهم وأبنائهم وأموالهم لنهم قالوا :ربنا ال ،ول َ
المرء أثرا في ملكات نفسه ،ل يمكن أنْ يُمحَى بحال ،فإنْ غاب عنه اشتاق إليه وتمنّى العودة،
ن ضَنّوا عليّ كِرَامُلذلك ،فطالب العالم
وكما يقول الشاعر:بَلَدِي وَإنْ جَا َرتْ عليّ عَزي َزةٌ َأهْلِي وإ ْ
عندما يترك بلده إلى القاهرة يقولون :ل ُبدّ له أنْ يرجع ،ولو أن تعضّه الحداث والشدائد ،فيعود
ليطلب من أهله العون والمساعدة ،أو حتى يعود إليها في نهاية المطاف ليدفنوه في تراب بلده.
ي لَ أَرَى
وقالوا :إن سيدنا سليمان -عليه وعلى نبينا الصلة والسلم -لما تفقّد الطير{ َفقَالَ مَاِل َ
شدِيدا َأوْ لَذْ َبحَنّهُ َأوْ لَيَأْتِيَنّي ِبسُلْطَانٍ مّبِينٍ }[النمل20 :
عذَابا َ
ا ْلهُدْ ُهدَ أَمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَآئِبِينَ * لُعَذّبَنّهُ َ
.]21 -
ذلك لنه نبي ،فالمسألة ليستْ جبروتا وتعذيبا ،دون أن يسمع منه .وقالوا :إن الطير سأل سليمان:
كيف يعذب الهدهد؟ قال :أضعه في غير بني جنسه ،وفي غير المكان الذي يألفه ،يعني :في غير
موطنه.
حسَنا} ..
يقول تعالى { :وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُواْ َأوْ مَاتُواْ لَيَرْ ُزقَ ّنهُمُ اللّهُ رِزْقا َ
.
()2633 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َومَن َيخْرُجْ مِن بَيْتِهِ ُمهَاجِرا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ ُيدْ ِركْهُ ا ْل َم ْوتُ َفقَ ْد َوقَعَ أَجْ ُرهُ عَلىَ اللّهِ[} ..النساء:
.]100
لن مَنْ قُتِل فقد فاز بالشهادة ونال إحدى الحُسنْيين ،أما مَنْ مات فقد حُرِم هذا الشرف؛ لذلك فقد
وقع أجره على ال ،وما بالك بأجر مُؤدّيه ربك عز وجل؟ وكما لو أن رجلً مُتْعبا يسير ليس معه
شيء ول يجد حتى مَنْ يقرضه ،وفجأة سقطت رِجْله في حفرة فتكّدر وقال :حتى هذه؟! لكن
سرعان ما وجد قدمه قد أثارتْ شيئا في التراب له بريق ،فإذا هو ذهب كثير وقع عليه بنفسه.
ويُروْى أن فضالة حضرهم وهم يدفنون شهيدا ،وآخر مات غير شهيد ،فرأوْه ترك قبر الشهيد
وذهب إلى قبر غير الشهيد ،فلما سألوه :كيف يترك قبر الشهيد إلى غير الشهيد؟ قال :وال ما
أبالي في أيّ حفرة منهما بُعثْت ما دام قد وقع أجري على ال ،ثم تل هذه اليةَ {:ومَن َيخْرُجْ مِن
بَيْتِهِ ُمهَاجِرا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ ثُمّ ُيدْ ِركْهُ ا ْل َم ْوتُ َفقَ ْد َوقَعَ َأجْ ُرهُ عَلىَ اللّهِ[} ..النساء.]100 :
ثم يقول سبحانه { :وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } [الحج ]58 :حين يصف الحق سبحانه ذاته
بصفة ،ثم تأتي بصيغة الجمع ،فهذا يعني أن ال تعالى أدخل معه الخَلْق في هذه الصفة ،كما سبق
أنْ تكلمنا في قوله تعالى {:فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون.]14 :
خلْق ،وأشركهم معه سبحانه في هذه الصفة؛ لنه سبحانه ل يبخس عباده
فقد أثبت للخَلْق صفة ال َ
شيئا ،ول يحرمهم ثمرة مجهودهم ،فكل مَنْ أوجد شيئا فقد خلقه ،حتى في الكذب قال{ وَتَخُْلقُونَ
ِإفْكا[} ..العنكبوت.]17 :
لن الخَلْق إيجاد من عدم ،فأنت حين تصنع مثلً كوب الماء من الزجاج أوجدتَ ما لم يكن
موجودا ،وإن كنت قد استخدمت المواد المخلوقة ل تعالى ،وأعملتَ فيها عقلك حتى توص ْلتَ إلى
إنشاء شيء جديد لم يكُنْ موجودا ،فأنت بهذا المعنى خالق حسن ،لكن خلق ربك أحسن ،فأنت
تخلق من موجود ،وربك يخلق من عدم ،وما أوجدتَه أنت يظل على حالته ويجمد على خلْقتك له،
ول يتكرر بالتناسل ،ول ينمو ،وليست فيه حياة ،أما خَلْق ربك سبحانه فكما تعلم.
كذلك يقول سبحانه هنا } :وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ { [الحج ]58 :فأثبت لخَلْقه أيضا صفة
الرزق ،من حيث هم سَبَب فيه ،لن الرزق :هو كل ما ينتفع به حتى الحرام ُي َعدّ رزقا؛ لذلك قال
تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ[} ..البقرة.]172 :
نقول :فالعبد سبب في الرزق؛ لن ال تعالى هو خالق الرزق أولً ،ثم أعطاك إياه تنتفع به وتعمل
فيه ،وتعطي منه للغير ،فالرزق منك مناولة عن الرازق الول سبحانه ،فأنت بهذا المعنى رازق
وإنْ كرهوا أنْ يُسمّي النسان رازقا ،رغم قوله تعالى } :وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ { [الحج:
]58لماذا؟ قالوا :حتى ل يفهم أن الرزق من الناس.
لذلك نسمع كثيرا من العمال البسطاء ،أو موظفا صغيرا ،أو بواب عمارة مثلً حين يفصله
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صاحب العمل ،يقول له :يا سيدي الرزاق بيد ال .كيف وقد كنت تأخذ راتبك من يده ومن ماله؟
قالوا :لنه نظر إلى المناوِل الول للرزق ،ولم ينظر إلى المناوِل الثاني.
أما الرزق الحسن الذي أعدّه ال للذين هاجروا في سبيله ،فيوضحه سبحانه في قوله } :لَيُ ْدخِلَ ّنهُمْ
مّدْخَلً يَ ْرضَوْنَهُ{ ..
.
()2634 /
لن الرزق قد يكون حسنا لكنه ل يُرضِي صاحبه ،أما رزق ال لهؤلء فقد بلغ رضاهم ،والرضا:
هو اقتناع النفس بشيء تجد فيه متعة ،بحيث ل تستشرف إلى أعلى منه ،ول تبغي أكثر من ذلك.
لذلك بعد أنْ ينعَم أهل الجنة بنعيمهاِ ،ممّا ل عَيْنٌ رأتْ ،ول أذن سمعتْ ،ول خطر على قلب
بشر ،بعدها يتجلّى الحق -سبحانه -عليهم فيقول لعباده المؤمنين :يا عبادي أرضيتم؟ فيقولون:
وكيف ل نرضى وقد أعطيْتنا ما لم ُتعْطِ أحدا من العالمين؟ قال :أل أعطيكم أفضل من هذا؟ قالوا:
حلّ عليكم رضواني فل أسخط عليكم بعده أبدا.
وهل شيء أفضل مما نحن فيه؟ قال :نعمُ ،أ ِ
س ْوفَ ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَىا }[الضحى:
ومن ذلك قوله تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم {:وَلَ َ
.]5
جعِي إِلَىا رَ ّبكِ رَاضِيَةً مّ ْرضِيّةً }[الفجر.]28 - 27 :
طمَئِنّةُ * ارْ ِ
وقوله تعالى {:ياأَيّ ُتهَا ال ّنفْسُ ا ْلمُ ْ
يبالغ في الرضا ،حيث يتعداك الرضا إلى أن تكون عيشتك نفسها راضية ،وكأنها تعشقك هي،
وترضى بك.
ثم يقول سبحانه { :وَإِنّ اللّهَ َلعَلِيمٌ حَلِيمٌ } [الحج.]59 :
عليم :بما يستحقه كل إنسان عند الحساب من النعيم ،ثم يزيد مَنْ يشاء من فضله ،فليس حساب
ربك في الخرة كحسابكم في الدنيا ،إنما حسابُه تعالى بالفضل ل بالعدل.
وحليم :يحلم على العبد إنْ أساء ،ويتجاوز للصالحين عن ال َهفَوات ،فإنْ خالط عملك الصالح سوء،
وإنْ خالفت منهج ال في غفلة أو هفوة ،فل تجعل هذا يعكر صفو علقتك بربك أو يُنغّص عليك
طمأنينة حياتك؛ لن ربك حليم سيتجاوز عن مثل هذا على حَدّ قولهم (حبيبك يبلع لك الزلط).
لذلك " لما وَشَى أحد المؤمنين للكفار في فتح مكة ،و َهمّ عمر أن يقتله فنهاه رسول ال صلى ال
عليه وسلم وقال :لعل ال قد اطلع على أهل بدر فقال :افعلوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويكفي أنهم خرجوا بأنفسهم واقتحموا معركة غير متكافئة في العدد والعُدّة ،أل نذكر لهم هذا
الموقف؟ ألم يقل الحق سبحانه {:إِنّ ا ْلحَسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ[} ..هود ]114 :ومَنِ ابتُلِي بشيء
يضعف أمامه ،فليكن قويا فيما يقدر عليه ،وإنْ غلبك الشيطان في باب من أبواب الشر فشمّر له
أنت في أبواب الخير ،فإن هذا يُعوّض ذاك.
ك َومَنْ عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ بِهِ ثُمّ ُب ِغيَ عَلَ ْيهِ لَيَنصُرَنّهُ} ..
ثم يقول الحق سبحانه { :ذاِل َ
.
()2635 /
غفُورٌ ()60
ك َومَنْ عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ بِهِ ُثمّ ُب ِغيَ عَلَ ْيهِ لَيَ ْنصُرَنّهُ اللّهُ إِنّ اللّهَ َل َع ُفوّ َ
ذَِل َ
{ ذاِلكَ } [الحج ]60 :يعني :هذا المر الذي تحدثنا فيه قد استقر ،وإليك هذا الكلم الجديد { َومَنْ
عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ بِهِ ثُمّ ُب ِغيَ عَلَ ْيهِ لَيَنصُرَنّهُ[ } ..الحج.]60 :
الحق -سبحانه وتعالى -خلق النسان وجعل فيه ملكات مختلفة ليؤدي خلفته في الرض
بحركات متوازنة ،فخلق لنا عواطف وجعل لها مهمة ،هذه العواطف ل يحكمها قانون .وخلق لنا
أيضا غرائز ولها مهمة ،لكن محكومة بقانون تعلية الغرائز عند الخلق ،فإياك أنْ تتعدى بغريزتك
إلى غير المهمة التي خلقها ال لها.
فمثلً ،غريزة حب الطعام جعلها ال فيك لستبقاء الحياة ،فل تجعلها غرضا أصيلً لذاتها ،فتأكل
لمجرد أنْ تلتذّ بالكل؛ لنها لذة وقتية تعقبها آلم ومتاعب طويلة .وهذه الغريزة جعلها ال في
النفس البشرية منضبطة تماما كما تضبط المنبّة مثلً ،فحين تجوع تجد نفسك تاقتْ للطعام وطلبته،
ت مالتْ نفسك نحو الماء ،وكأن بداخلك جرسا يُنبّهك إلى ما تحتاجه بنيتك من مُقوّمات
وإنْ عطش ْ
استبقائها.
حب الستطلع غريزة جعلها ال فيك لتنظر بها وتستطلع ما في الكون من أسرار دالة على قدرة
ال وعظمته ،فل تتعدى هذا الغرض ،ول تحرّك هذه الغريزة إلى التجسّس على الخَلْق والوقوف
على أسرارهم.
حفْظ النوع ،فل ينبغي أنْ تتعدى ما جعلت له إلى ما حرّم ال.
التناسل غريزة جعلها ال ل ِ
ن تعرضتَ لسبابه
الغضب غريزة وانفعال َقسْري ل تختاره بعقلك تغضب أو ل تغضب ،إنما إ ْ
فل تملك إل أنْ تغضب ،ومع ذلك جعل له حدودا وقنّن له وأمر فيه بضبط النفس وعدم النزوع.
الحب والكُرْه غريزة وعاطفة ل تخضع لقانون ،ول يحكمها العقل ،فلك أن تحب وأن تكره ،لكن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إياك أنْ تتعدّى هذه العاطفة إلى عمل عقليّ ونزوع تعتدي به أو تظلم.
لذلك يقول تعالىَ {:ولَ يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ عَلَى َألّ َتعْدِلُواْ[} ..المائدة.]8 :
لن هذه المسألة ل يحكمها قانون ،وليس بيدك الحب أو الكره؛ لذلك لما قابل سيدنا عمر قاتل
أخيه قال له عمرَ :أدِرْ وجهك عني فإنّي ل أحبك .وكان الرجل عاقلً فقال لسيدنا عمرَ :أوَ عَدمُ
حبك لي يمنعني حقا من حقوقي؟ قال عمر :ل ،فقال الرجل :إنما يبكي على الحب النساء .يعني
أحب أو اكره كما شِ ْئتَ ،لكن ل تتعدّ ول تحرمني حقا من حقوقي.
صفُها البعض
فهل وقفنا بالغرائز عند حدودها وأهدافها؟ لو تأملتَ مثلً الغريزة الجنسية التي ي ِ
ِبمْلء فيه يقول :غريزة بهيمية ..سبحان ال َألَ تستحي أنْ تظلم البهائم لمجرد أنها ل تتكلّم ،وهي
أفهم لهذه الغريزة منكَ ،ألَ تراها بمجرد أن يُخصّب الذكَر أُنثاه ل يقربها أبدا ،وهي ل تمكّنه من
نفسها إذا ما حمَلتْ ،في حين أنك تبالغ في هذه الغريزة ،وتنطلق فيها انطلقا يُخرِجها عن هدفها
والحكمة منها؟ على مثل هذا أن يخزى أن يقول مثل هذه المقولة ،وألّ يظلم البهائم ،فمن الناس
مَنْ هم أَدنْى من البهائم بكثير.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أشد وأبلغ في ردّ العقوبة ،يبيح لك الرد بالمثل لتنتهي المسألة عند هذا الحد ول تتفاقم ،فمَنْ
ضربك ضربة فلك أنْ تُنفّس عن نفسك وتضربه مثلها ،لك ذلك ،لكن تذكرّ المثلية هنا ،ل بد أن
تكون تامة ،كما قال سبحانه في موضع آخر {:وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ[} ..النحل:
.]126
حدّة انفعالك كحِدّة
وهل تستطيع أن تضبط هذه المثلية فتردّ الضربة بمثلها؟ وهل قوتك كقوته ،و ِ
انفعاله؟ ولو حدث وز ْدتَ في ردّك نتيجة غضب ،ماذا تفعل؟ أتسمح له أنْ يردّ عليك هذه الزيادة؟
أم تكون أنت ظالما معتديا؟
سعَة ،وفي قول ال بعدها {:وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ
إذن :ماذا يُلجئك لمثل هذه المتاهة ،ولك في التسامح ِ
خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }[النحل ]126 :مَخْرج من هذا الضيق؟
وسبق أنْ حكينا قصة المرابي اليهودي الذي قال لطالب الدّيْن :إن تأخرت في السداد أشترط عليك
أنْ آخذ رطلً من لحمك .وجاء وقت السداد ولم يُوف المدين ،فرفعه الدائن إلى القاضي وأخبره
بما اشترطه عليه ،فقال القاضي :نعم من حقك أن تأخذ رطلً من لحمه لكن بضربة واحدة
بالسكين تأخذ رطلً ،إنْ زاد أو نقص أخذناه منك.
إذن :مسألة المثلية هنا عقبةٌ تح ّد من ثورة الغضب ،وتفتح بابا للرتقاءات اليمانية ،فإنْ كان
الحق سبحانه سمح لك أن تُنفّس عن نفسك فقالَ {:وجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثُْلهَا[} ..الشورى ]40 :فإنه
حسِنِينَ }[آل
حبّ ا ْلمُ ْ
س وَاللّهُ ُي ِ
ظمِينَ ا ْلغَيْظَ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ
يقول لك :ل تنسَ العفو والتسامح{ وَا ْلكَا ِ
عمران.]134 :
لذلك ،فالية التي معنا تلفتنا َلفْتةً إيمانيةَ } :ومَنْ عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ ِبهِ[ { ..الحج ]60 :واحدة
بواحدة } ثُمّ ُب ِغيَ عَلَ ْيهِ[ { ..الحج ]60 :يعني :زاده بعد أنْ ردّ العدوان بمثله وظلمه واعتدى
عليه } لَيَنصُرَنّهُ اللّهُ[ { ..الحج ]60 :ينصره على المعتدي الذي لم يرتَض حكم ال في َر ّد العقوبة
بمثلها.
غفُورٌ { [الحج ]60 :مع أن الصفة التي
وتلحظ في قوله تعالى مخايل النصر بقوله } إِنّ اللّهَ َل َعفُوّ َ
تناسب الّنصْرة تحتاج قوة وتحتاج عزة ،لكنه سبحانه اختار صفة العفو والمغفرة ليلفت نظر مَنْ
عفُ؛ لن ربك عفو غفور ،فاختار
أراد أنْ يعاقب إلى هذه الرتقاءات اليمانية :اغفر وارحم وا ْ
الصفة التي تُحنّن قلب المؤمن على أخيه المؤمن.
ثم أليس لك ذنب مع ال؟{ َألَ تُحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ َلكُمْ[} ..النور ]22 :فما ُدمْت تحب أن يغفر ال
لك فاغفر لعباده ،وحين تغفر لمَنْ يستحق العقوبة تأتي النتيجة كما قال ربك عز وجل {:فَإِذَا الّذِي
حمِيمٌ }[فصلت.]34 :
ك وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ
بَيْ َن َ
فالحق سبحانه يريد أن يشيع بيننا الصفاء النفسي والتلحم اليماني ،فأعطاك حقّ َردّ العقوبة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بمثلها لتنفّس عن نفسك الغيظ ،ثم دعاك إلى العفو والمغفرة.
ثم يقول الحق سبحانه } :ذاِلكَ بِأَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ{ ..
.
()2636 /
{ ذاِلكَ[ } ..الحج ]61 :يعني ما قُلْته لك سابقا له دليل ،فما هو؟ أن ال يأخذ من القوي ويعطي
للضعيف ،ويأخذ من الطويل ويعطي للقصير ،فالمسألة ليست ثابتة (أو مكانيكا) وإنما خلقها ال
بقدر .والليل والنهار هما ظرفا الحداث التي تفعلونها ،والحق سبحانه { يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ
وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ[ } ..الحج.]61 :
يولج الليل يعني :يُدخِل الليل على النهار ،فيأخذ منه جزءا جزءا فيُطوّل الليل ويُقصّر النهار ،ثم
يُدخِل النهار على الليل فيأخذ منه جزءا جزءا ،فيُطوّل النهار ويُقصّر الليل؛ لذلك نراهما ل
يتساويان ،فمرة يطول الليل في الشتاء مثلً ،ويقصر النهار ،ومرة يطول النهار في الصيف،
ويقصر الليل .فزيادة أحدهما و َنقْص الخر أمر مستمر ،وأغيار متداولة بينهما.
وإذا كانت الغيار في ظرف الحداث ،فل بُدّ أن تتغير الحداث نفسها بالتالي ،فعندما يتسع
الظرف يتسع كذلك الخير فيه ،فمثلً عندنا في المكاييل :الكَيْلة والقدح والوَيْبة وعندنا الردب،
وكل منهما يسَعُ من المحتوى على قدر سعته .وهكذا كما نزيد أن ننقص في ظرف الحداث نزيد
وننقص في الحداث نفسها.
سمِيعٌ َبصِيرٌ } [الحج ]61 :سمي ٌع لما يقال ،بصيرٌ بما
ثم تُذيّل الية بقوله سبحانه { :وَأَنّ اللّهَ َ
يفعل ،فالقول يقابله الفعل ،وكلهما عمل ،والبعض يظن أن العمل شيء والقول شيء آخر ،ل؛
لن العمل وظيفة الجارحة ،فكل جارحة تؤدي مهمتها فهي تعمل ،عمل العَيْن أن ترى ،وعمل
الذن أنْ تسمع ،وعمل اليد أن تلمس ،وعمل النف أن يشُم ،وكذلك عمل اللسان القول ،فالقول
للسان وحده ،والعمل لباقي الجوارح وكلهما عمل ،فدائما نضع القول مقابل الفعل ،كما في قوله
تعالى {:لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف.]2 :
والسمع والبصر هما الجارحتان الرئيسيتان في النسان ،وهما عمدة الحواس كلها ،حيث تعملن
باستمرار على خلف الشّم مثلً ،أو التذوق الذي ل يعمل إل عدة مرات في اليوم كله.
()2637 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ ()62
طُذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ وَأَنّ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ُهوَ الْبَا ِ
حقّ[ } ..الحج:
{ ذاِلكَ[ } ..الحج ]62 :أي الكلم السابق أمر معلوم انتهينا منه { بِأَنّ اللّهَ ُهوَ الْ َ
]62والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير أبدا ،ف ُكلّ ما سِوى ال -عز وجل -يتغير ،وهو
سبحانه الذي يُغيّر ول يتغير؛ ولذلك أهل المعرفة يقولون :إن ال تعالى ل يتغير من أجلكم ،لكن
ن تتغيروا أنتم من أجل ال.
يجب عليكم أ ْ
وما دام أن ربك -عز وجل -هو الحق الثابت الذي ل يتغير ،وما عداه يتغير ،فل تحزن ،ويا
غضبان ا ْرضَ ،ويا مَنْ تبكي اضحك واطمئن؛ لنك ابن أغيار ،وفي دنيا أغيار ل تثبت على
شيء؛ لذلك فالنسان يغضب إذا أُصيب بعقبة في حياته يقول :لو لم تكُنْ هذه!! نقول له :وهل
ن وصلْت القمة ل بُدّ أنْ
تريدها كاملة؟ ل ُبدّ أنْ يصيبك شيء؛ لنك ابن أغيار ،فماذا تنتظر إ ْ
تتراجع؛ لنك ابن أغيار دائم التقلّب في الحوال ،وربك وحده هو الثابت الذي ل يتغير.
طلُ[ } ..الحج ]62 :كل مَا تدعيه أو تعبده من
ثم يقول سبحانه { :وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ُهوَ الْبَا ِ
طلَ كَانَ َزهُوقا }[السراء:
دون ال هو الباطل ،يعني الذي يَبْطُل ،كما جاء في قوله تعالى {:إِنّ الْبَا ِ
]81يعني :يزول ول يثبت أبدا { وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ } [الحج ]62 :العلي يعني :كل خَلْقه
دونه .وكبير يعني :كل خَلْقه صغير.
ومن أسمائه تعالى { ا ْلكَبِيرُ } [الحج ]62 :ول نقول أكبر إل في الذان ،وفي افتتاح الصلة،
والبعض يظن أن أكبر أبلغ في الوصف من كبير ،لكن هذا غير صحيح؛ لن أكبر مضمونه كبير،
إنما كبير مقابله صغير ،فهو سبحانه الكبير؛ لن ما دونه وما عداه صغير.
أما حين يناديك ويستدعيك لداء فريضة ال يقول :ال أكبر؛ لن حركة الحياة وضروريات العيش
عند ال أمر كبير وأمر هام ل يغفل ،لكن إنْ كانت حركة الحياة والسعي فيها أمر كبيرا فال
لةُ فَان َتشِرُواْ
أكبر ،فربّك يُخرجك للصلة من عمل ،ويدعوك بعدها إلى العمل {:فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ
ضلِ اللّهِ[} ..الجمعة.]10 :
ض وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ
فِي الَ ْر ِ
سمَآءِ مَآءً} ..
ثم يقول الحق سبحانه { :أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ
.
()2638 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ أََلمْ تَرَ[ } ..الحج ]63 :إنْ كانت للمر الحِسّي الذي تراه العين ،فأنت لم تَ َر ُه ونُنبهك إليه ،وإنْ
كانت للمر الذي ل يُدرَك بالعين فهي بمعنى :ألم تعلم .وتركنا العلم إلى الرؤية لنبين لك أن الذي
يُعلّمك ال به أوثق مما تهديك إليه عَيْنك.
فالمعنى :ألم تعلم وألم تنظر؟ .المعنيان معا.
سمَآءِ مَآءً[ } ..الحج ]63 :فهذه آية تراها ،لكن ترى منها الظاهر فقط،
{ أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ
فترى الماء ينهمر من السماء ،إنما كيف تكّون هذا الماء في طبقات الجو؟ ولماذا نزل في هذا
المكان بالذات؟ هذه عمليات لم تَرَها ،وقدرة ال تعالى واسعة ،ولك أن تتأمل لو أردتَ أنْ تجمع
كوب ماء واحد من ماء البخار ،وكم يأخذ منك من جهد ووقت وعمليات تسخين وتبخير وتكثيف،
فهل رأيتَ هذه العمليات في تكوين المطر؟
إذن :رأيت من المطر ظاهرة ،لذلك يلفتك ربك إلى ما وراء هذا الظاهر لتتأمله.
لذلك؛ جعل الخالق -عز وجل -مسطح الماء ثلثة أرباع الكرة الرضية ،فاتساع مُسطّح الماء
ل كوبَ ماء في غرفتك،
يزيد من ال َبخْر الذي ينشره ال تعالى على اليابس ،كما لو وضعتَ مث ً
ت الكوب على أرض
وتركتَه مدة شهر أو شهرين ،ستجد أنه ينقص مثلً سنتيمترا ،أما لو نثر َ
الغرفة فسوف يجفّ بعد دقائق.
إذن :فاتساع رقعة الماء يزيد من كمية البخار المتصاعد منها ،ونحن على اليابس نحتاج كمية
كبيرة من الماء ال َعذْب الصالح للزراعة وللشرب..الخ ،ول يتوفر هذا إل بكثرة كمية المطار.
خضَ ّرةً[ } ..الحج ]63 :يعني:
ثم يُبيّن سبحانه نتيجة إنزال الماء من السماء { :فَ ُتصْبِحُ الَ ْرضُ مُ ْ
تصير بعد وقت قصير خضراء زاهية .دون أن يذكر شيئا عن تدخّل النسان في هذه العملية،
فالنسان لم يحرث ولم يبذر ولم يَرْو ،إنما المسألة كلها بقدرة ال ،لكن من أين أتت البذور التي
كوّنَتْ هذا النبات؟ ومَنْ بذرها ووزّعها؟ البُذور كانت موجودة في التربة حيّة كامنة لم ُيصِبْها
شيء ،وإنْ مَرّ عليها الزمن؛ لن ال تعالى يحفظها إلى أنْ تجد الماء وتتوفّر لها عوامل النبات
فتنبت؛ لذلك نُسمّي هذا النبات (العِذْى)؛ لنه خرج بقدرة ال ل دَخْل لحد فيه.
سلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ[} ..الحجر:
وتولّتْ الرياح َنقْل هذه البذور من مكان لخر ،كما قال تعالى {:وَأَرْ َ
]22ولو سلس ْلتَ هذه البذرة ستجدها من شجرة إلى شجرة حتى تصل إلى شجرة أُمّ ،خلقها الخالق
سبحانه ل شجرةَ قبلها ول بذرة .لذلك يُرْوى أن يوسف النجار وكان يرعى السيدة مريم عليها
السلم ويشرف عليها ،ويقال كان خطيبها -لما رآها حاملً وليس لها زوج سألها بأدب :يا مريم،
ت أول بذرة.
أتوجد شجرة بل بذرة؟ قالت :نعم الشجرة التي أنبت ْ
ثم يقول سبحانه } :إِنّ اللّهَ َلطِيفٌ خَبِيرٌ { [الحج ]63 :اللطْف هو ِدقّة التناول للشياء ،فمثلً حين
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تريد أن تدخل خيطا في إبرة ،تجد الخيط ل ينفذ من ثقبها لول مرة ،فتحاول أنْ تُرفّق من طرف
الخيط وتبرمه حتى يدِقّ فينفذ من الثقب ،فالخيط بعد أنْ كان غليظا أصبح لطيفا دقيقا.
ويقولون :الشيء كلما لَطُف عَنُف ،في حين يظن البعض أن الشيء الكبير هو القوي ،لكن هذا
غير صحيح ،فكلما كان الشيء لطيفا دقيقا كان خطره أعظمَ ،ألَ ترى الميكروب كيف يصيب
النسان وكيف ل نشعر به ول نجد له ألما؟ ذلك لنه دقيق لطيف ،وكذلك له مدخل لطيف ل
صغَر بحيث ل تراه بالعين المجردة.
تشعر به؛ لنه من ال ّ
والبعوضة كم هي هيّنة صغيرة؛ لذلك تُؤلمك لدغتها بخرطومها الدقيق الذي ل تكاد تراه ،وكلما
َدقّ الشيء احتاج إلى احتياط أكثر لتحمي نفسك من خطره ،فمثلً إنْ أردتَ بناء بيت في الخلء
أو منطقة نائية ،فإنك ستضطر أنْ تضع حديدا على الشبابيك يحميك من الحيوانات المفترسة
كالذئاب مثلً ،ثم تضع شبكة من السلك لتحميك من الفئران ،فإن أر ْدتَ أن تحمي نفسك من الذباب
صغُر الشيء ولطف احتاج إلى احتياط أكثر.
والبعوض احتجت إلى سِلْك أدق ،وهكذا كلما َ
فاللطيف هو الذي يدخل في الشياء بلطف؛ لذلك يقولون :فلن لطيف المدخل يعني :يعني :يدخل
ضعْف يدخل إليه منها ،كأن معه (طفاشة)
لكل إنسان بما يناسبه ،ويعرف لكل إنسان نقطة َ
للرجال ،يستطيع أن يفتح بها أي شخصية.
لكن ،ما علقة قوله تعالى } إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [الحج ]63 :بعد قوله } :فَ ُتصْبِحُ الَرْضُ
خضَ ّرةً[ { ..الحج]63 :؟ قالوا :لن عملية النبات تقوم على مَسَامّ وشعيرات دقيقة تخرج من
مُ ْ
البذرة بعد النبات ،وتمتصّ الغذاء من التربة ،هذه الشعيرات الجذرية تحتاج إلى ُلطْف،
ضلُ
ح ٍد وَ ُنفَ ّ
سقَىا ِبمَآ ٍء وَا ِ
وامتصاص الغذاء المناسب لكل نوع يحتاج إلى خبرة ،كما قال تعالى {:يُ ْ
لكُلِ[} ..الرعد.]4 :
ضهَا عَلَىا َب ْعضٍ فِي ا ُ
َب ْع َ
فالرض تصبح مُخضَرّة من ُلطْف الحق سبحانه ،ومن خبرته في مداخل الشياء ،لذلك قال
بعدها } :إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [الحج.]63 :
ول ِدقّة الشعيرات الجذرية نحرص ألّ تعلو المياه الجوفية في التربة؛ لنها تفسد هذه الشعيرات
فتتعطن وتموت فيصفرّ النبات ويموت.
سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ وَإِنّ اللّهَ{ ..
ثم يقول الحق سبحانه } :لّهُ مَا فِي ال ّ
.
()2639 /
حمِيدُ ()64
ض وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ الْ َ
ت َومَا فِي الْأَ ْر ِ
سمَاوَا ِ
لَهُ مَا فِي ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فما في السموات وما في الرض مِلْك ل تعالى ،ومع ذلك ل ينتفع منها الحق سبحانه بشيء ،إنما
ي عنها وغنيّ عنهم ،وبصفات الكمال فيه سبحانه خلق ما في
خلقها لمنفعة خَلْقه ،وهو سبحانه غن ّ
حمِيدُ } [الحج.]64 :
السماوات وما في الرض؛ لذلك قال بعدها { :وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ ا ْلغَنِيّ ا ْل َ
وصفات الكمال في ال تعالى موجودة قبل أنْ يخلق الخَلْق ،وبصفات الكمال خلق ،وملكيته تعالى
للسماوات وللرض ،ولما فيهما ملكية للظرف وللمظروف ،ونحن ل نملك السماوات ،ول نملك
الرض ،إنما نملك ما فيهما من خيرات ومنافع مما ملّكنا ال له ،فهو الغني سبحانه ،المالك لكل
شيء ،وما ملّكنا ال له ،فهو الغني سبحانه ،المالك لكل شيء ،وما ملّكنا إل من باطن مُلْكه.
والحميد :يعني المحمود ،فهو غني محمود؛ لن غنَاه ل يعود عليه سبحانه ،إنما يعود على خَلْقه،
فيحمدونه لغنَاه ،ل يحقدون عليه ،ومن العجيب أن الحق سبحانه يُملّك خَ ْلقَه من مُلْكه ،فمَن استخدم
النعمة فيما جُعلتْ له ،ومَنْ أعطى غير القادر من نعمة ال عليه يشكر ال له ،وهي في الصل
نعمته .ذلك لنك أنت عبده ،وقد استدعاك للوجود ،وعليه سبحانه أنْ يتولّك ويرعاك.
فإن احتاج غير القادر منك شيئا ،قال تعالى {:مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا[} ..البقرة:
.]245
فاعتبره قرضا ،وهو ماله ،لكنه ملّكك إياه؛ لذلك ل يسلبه منك إنما يأخذه قرضا حسنا ويضاعفه
لك؛ لنه غنيّ حميد أي :محمود ،ول يكون الغنى محمودا إل إذا كان غير الغني مستفيدا من
غِنَاه.
ض وَا ْلفُ ْلكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ
ثم يقول الحق سبحانه { :أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ سَخّرَ َلكُم مّا فِي الَرْ ِ
بَِأمْ ِرهِ} ..
.
()2640 /
هذه الية امتداد للية السابقة ،فما في السماء وما في الرض مِلْك له سبحانه لكنه سخّره لمنفعة
خَلْقه ،فإنْ سأل سائل :فلماذا ل يجعلها ال لنا ويُملكنا إياها؟ نقول :لن ربك يريد أنْ يُطمئِنك أنه
لن يعطيها لحد أبدا ،وستظل مِلْكا ل وأنت تنتفع بها ،وهل تأمن إنْ ملّكها ال لغيره أنْ يتغيّر لك
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ويحرمك منها؟ فأمْنُك في أن يظل الملْك ل وحده؛ لنه ربك ومُتولّيك ،ولن يتغير لك ،ولن يتنكّر
في منفعتك.
وقوله تعالى { :وَا ْلفُلْكَ َتجْرِي فِي الْ َبحْرِ بَِأمْ ِرهِ[ } ..الحج ]65 :الفُلْك :السفن ،تُطلق على المفرد
وعلى الجمع ،تجري في البحر بأمره تعالى ،فتسير السفن بالريح حيث أمرها ال ،كما قال
سبحانه {:وَ َتصْرِيفِ الرّيَاحِ[} ..البقرة ]164 :وهذه ل يملكها ول يقدر عليها إل ال ،وقال في آية
ظهْ ِرهِ[} ..الشورى.]33 :
ظلَلْنَ َروَاكِدَ عَلَىا َ
سكِنِ الرّيحَ فَيَ ْ
أخرى {:إِن يَشَأْ ُي ْ
وتأمّل ِدقّة الداء القرآني من ال الذي يعلم ما كان ،ويعلم ما يكون ،ويعلم ما سيكون ،فلقائل الن
ن يقول :لم َنعُد في حاجة إلى الريح تُسيّر السفن ،أو توجهها؛ لنها أصبحت تسير الن بآلت
أْ
ومحركات ،نعم السفن الن تسير بالمحركات ،لكن للريح معنى أوسع من ذلك ،فالريح ليست هذه
القوة الذاتية التي تدفع السفن على صفحة الماء ،إنما الريح تعني القوة في ذاتها ،أيا كانت ريحا أم
بُخَارا أم كهرباء أم ذرة ..إلخ.
حكُمْ[} ..النفال ]46 :يعني :تذهب قوتكم أيًا
بدليل قوله تعالىَ {:ولَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُو ْا وَتَ ْذ َهبَ رِي ُ
كانت هذه القوة حتى الصياد الذي يركب البحر بقارب صغير يُسيّره بالمجاديف بقوة يده
وعضلته هي أيضا قوة ،ل تخرج عن هذا المعنى.
وهكذا يظل معنى الية صالحا لكل زمان ولكل مكان ،وإلى أن تقوم الساعة.
سلْنَا عَلَ ْيهِمُ
والريح إنْ أُفر َدتْ دّلتْ على حدوث شَ ّر وضرر ،كما في قوله تعالىَ {:وفِي عَادٍ ِإذْ أَرْ َ
الرّيحَ ا ْل َعقِيمَ }[الذاريات.]41 :
حكُمْ[} ..النفال]46 :
وقوله {:وَتَذْ َهبَ رِي ُ
وقولهَ {:بلْ ُهوَ مَا اسْ َت ْعجَلْتُم ِبهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }[الحقاف]24 :
وإنْ جاءت بصيغة الجمع دلّت على الخير ،كما في قوله تعالى {:وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ} ..
[الحجر.]22 :
وسبق أنْ تحدثنا عن مهمة الريح في تماسك الشياء وقيامها بذاتها ،فالجبل الشمّ الذي تراه ثابتا
راسخا إنما ثبتَ بأثر الريح عليه ،وإحاطته به من كل جانب ،بحيث لو فُرّغ الهواء من أحد
جوانب الجبل لنهار ،وهذه هي الفكرة التي قامت عليها القنبلة ،فالهواء هو الذي يقيم المباني
والعمارات ويثبتها؛ لنه يحيطها من كل جانب ،فيُحدِث لها هذا التوازن ،فإنْ فُرّغ من أحد
الجوانب ينهار المبنى.
سمَآءَ أَن َتقَعَ عَلَى الَ ْرضِ ِإلّ بِِإذْنِهِ[ } ..الحج ]65 :فالسماء مرفوعة
سكُ ال ّ
ثم يقول سبحانه { :وَ ُيمْ ِ
عمَد ،ل يمسكها فوقنا إل ال بقدرته وقيوميته أنْ تقع على الرض إل بإذنه تعالى ،كما
فوقنا بل َ
قال في آية أخرى:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدٍ مّن َبعْ ِدهِ[} ..فاطر:
س َك ُهمَا مِنْ أَ َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ أَن تَزُولَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ َأمْ َ
سكُ ال ّ
{ إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ
.]41
} إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ { [الحج ]65 :فمن صفاته تعالى الرأفة والرحمة ،وال َفهْم السطحي
لهاتين الصفتين يرى أنهما واحد ،لكن هما صفتان مختلفتان ،فالرأفة تزيل اللم ،والرحمة تزيد
النعام ،والقاعدة أن درْء المفسدة مُقدّم دائما على جَلْب المصلحة ،فربك يرأف بك فيزيل عنك
أسباب اللم قبل أن يجلب لك نفعا برحمته.
وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمثل :قلنا َهبْ أن واحدا يرميك بحجر ،وآخر يرمي لك تفاحة،
فأيّهما يشغلك أولً؟ ل شكّ ستُشغل بالحجر ،كيف تقي نفسك من ضرره ثم تحاول أن تنال هذه
التفاحة؟
جلٍ
لذلك قال تعالى {:وََلوْ ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُ ْل ِمهِمْ مّا تَ َركَ عَلَ ْيهَا مِن دَآبّ ٍة وَلكِن ُيؤَخّ ُرهُمْ إلَىا َأ َ
سمّىا[} ..النحل.]61 :
مّ َ
ثم يقول سبحانه } :وَ ُهوَ الّذِي أَحْيَاكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ{ ..
.
()2641 /
وَ ُهوَ الّذِي َأحْيَاكُمْ ثُمّ ُيمِي ُتكُمْ ثُمّ ُيحْيِيكُمْ إِنّ الْإِنْسَانَ َل َكفُورٌ ()66
الحق -تبارك وتعالى -يُذكّرنا ببعض نعمه وببعض العمليات التي لو تتبعناها لوقفنا بمقتضاها
على ِنعَم ال علينا ،ولم نَنْسها أبدا.
أولها { :وَ ُهوَ الّذِي َأحْيَاكُمْ[ } ..الحج ]66 :والحياء :أن يعطي المحيي ما يُحييه قوة يؤدي بها
المهمة المخلوق لها .والحياء الول في آدم -عليه السلم -حين خلقه ربه وسوّاه ونفخ فيه من
روحه ،ثم أوجدنا نحن من ذريته.
{ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ[ } ..الحج ]66 :وكما أن الخَلْق آية من آيات ال ،فكذلك الموت آية من آيات ال،
نراها ونلمسها ،وما ُد ْمتَ تُصدّق بآية الخَلْق وآية الموت ،وتراهما ،ول تشك فيهما ،فحين نقول
لك إن بعد هذا حياة أخرى فصدّق؛ لن صاحب هذه اليات واحد ،والمقدمات التي تحكم أنت
بصدقها يجب أنْ تؤدي إلى نتيجة تحكم أيضا بصدقها ،وها هي المقدمات بين يديك صادقة.
لذلك يقول تعالى بعدهاُ { :ثمّ يُحْيِيكُمْ[ } ..الحج ]66 :والحياء يُطلَق في القرآن على معانٍ
متعددة ،منها الحياة المادية التي تتمثل في الحركة والكل والشرب ،ومنها الحياة في الخرة التي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قال ال عنها {:وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ[} ..العنكبوت.]64 :
وهذه الحياة الحقيقية؛ لن حياة الدنيا تعتريها الغيار ،ويتقلّب فيها النسان بين القوة والضعف،
صغَر والكِبَر ،وبعد ذلك يعتريها الزوال ،أما حياة الخرة
والصحة والمرض ،والغنى والفقر ،وال ّ
التي وصفها ال بأنها الحيوان يعني :مبالغة في الحياة ،فهي حياة ل أغيار فيها ول زوالَ لها.
إذن :لديك حياتان :حياة لِبنْية المادة وبها تتحرك وتُحِس وتعيش ،وحياة أخرى باقية ل زوالَ لها.
لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْ َتجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ..
}[النفال ]24 :كيف -إذن -ونحن أحياء؟ قالوا :لما يحييكم ليست حياة الدنيا المادية التي
تعتريها الغيار ،إنما يحييكم الحياةَ الحقيقية في الخرة ،الحياة الباقية التي ل تزول ،التي قال ال
عنها {:وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت ]64 :يعني :العلم الحقيقي
الذي يهدي صاحبه.
فإن كانت الحياة المادية الدنيوية بنفْخ الروح في النسان ،ف ِب َم تكون الحياة الثانية{ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا
يُحْيِيكُمْ[} ..النفال.]24 :
قالوا :هذه الحياة تكون بروح أيضا ،لكن غير الروح الولى ،إنها بروح القرآن الذي قال ال فيه{:
َوكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا[} ..الشورى ]52 :وسمّى المَلك الذي ينزل به روحا {:نَ َزلَ بِهِ
لمِينُ }[الشعراء.]193 :
حاَ
الرّو ُ
فالروح الثانية التي تُحييك الحياة الحقيقية الخالدة هي منهج ال في كتابه الكريم ،إن اتبعته نِ ْلتَ
هذه الحياة الباقية الخالدة وتمتعتَ فيها بما ل عَيْن رأت ،ول أذن سمعتْ ،ول خطر على قلب
بشر ،وهي ل مقطوعة ول ممنوعة.
ن الِنْسَانَ َلكَفُورٌ } [الحج ]66 :كفور :صيغة مبالغة من كافر ،والكفور الذي
ثم يقول سبحانه { :إِ ّ
لم يعرف للمنعِم حَقّ النعمة ،مع أنه لو تبيّنها لما انفكّ أبدا عن شكر المنعم سبحانه.
والنسان يمرّ بمراحل مختلفة بين الحياة والموت ،كما جاء في قوله تعالى {:قَالُواْ رَبّنَآ َأمَتّنَا اثْنَتَيْنِ
وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَ َرفْنَا ِبذُنُوبِنَا َف َهلْ إِلَىا خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ }[غافر ،]11 :فمتى سيقولون هذا
الكلم؟
قالوا :هذا يوم القيامة ،وقد أحياهم ال من موت العدم ،فأحياهم في الدنيا ثم أماتهم ،ثم أحياهم في
الخرة ،فهناك موت قبل إيجاد ،وموت بعد إيجاد ،ثم يأتي البعث في القيامة .وقوله تعالى } :وَ ُهوَ
الّذِي َأحْيَاكُمْ[ { ..الحج ]66 :قضية قالها الخالق -عز وجل -ولم يدعها أحد لنفسه مع كثرة
الكفار والملحدة والفاقين في كل زمان ومكان ،لم نسمع مَنِ ادّعَى مسألة الخَلْق ،وهذه قضية
يجب أن نقف عندها وأن نبحث :لماذا لم يظهر مَنْ يدّعي ذلك؟ وإذا لم يَدّع الخَلْق أحدٌ ،ولم يدّع
الحياء أحد ،فمَنْ -إذن -صاحب الخَلْق والحياء والماتة؟
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذا كان الناس يهتمون ويؤرخون ليّ مخترع آلة مثلً ،فيقولون :مخترع الكهرباء فلن وعاش
في بلدة كذا ،وكان من أمره كذا وكذا ،وتعلم في كذا ،وحصل على كذا..الخ فكيف بمَنْ خلقكم
وأحياكم من عدم؟ خاصة وهذه المسألة لم يتبجح بادعائها أحد فثبتت القضية له سبحانه وتعالى.
لمْرِ وَا ْدعُ ِإلَىا
سكُوهُ فَلَ يُنَازِعُ ّنكَ فِي ا َ
جعَلْنَا مَنسَكا هُمْ نَا ِ
ثم يقول الحق سبحانهّ } :ل ُكلّ ُأمّةٍ َ
رَ ّبكَ{ ..
.
()2642 /
سكُوهُ فَلَا يُنَازِعُ ّنكَ فِي الَْأمْ ِر وَا ْدعُ إِلَى رَ ّبكَ إِ ّنكَ َلعَلَى ُهدًى مُسْ َتقِيمٍ (
سكًا هُمْ نَا ِ
جعَلْنَا مَ ْن َ
ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ
)67
الحق -سبحانه وتعالى -خلق آدم عليه السلم خليفة له في الرض ،وأجرى له تدريبا على
مهمته بالمر اللهي والنهي اللهي ،وأخبره بعداوة الشيطان له ولذريته ،وحذّره أن يتبع خطواته،
وقد انتهت هذه التجربة بنزول آدم من الجنة إلى الرض ليباشر مهمته كخليفة ل في أرضه على
أنْ يظلّ على ِذكْر من تجربته مع الشيطان .وقد سخّر ال له كل شيء في الوجود يخدمه ويعمل
من أجله.
ثم أنزل ال عليه منهجا ،يعمل به لتستقيم حركة حياته وحياة ذريته ،وذكّره بالمنهج التدريبي
ط ِفقَا
السابق الذي كلّفه به في الجنة ،وما حدث له لما خالف منهج ربه ،حيث ظهرت عورته {:وَ َ
صفَانِ عَلَ ْي ِهمَا مِن وَرَقِ ا ْلجَنّةِ[} ..العراف.]22 :
خ ِ
يَ ْ
كذلك إنْ خالفت هذا المنهج اللهي في الدنيا ستظهر عوراتكم لذلك إذا رأيت أيّ عورة في
المجتمع في أيّ ناحية :في الجتماع ،في القتصاد ،في التربية ،فاعلم أن حكما من أحكام ال قد
عُطّل ،فظهرت سوأة من سوءات المجتمع؛ لن منهج ال هو قانون الصيانة الذي يحميك وينظم
حياتك لتؤدي مهمتك في الحياة.
كما لو دخلتَ بيتك فوجدتَ آلة من آلت البيت ل تؤدي مهمتها ،فتعلم أن بها عطلً فتذهب بها
إلى المهندس المختص بصيانتها ،كذلك إن تعطل في حياتكم شيء عن أداء مهمته فردّوه إلى
صاحب صيانته إلى ال وإلى الرسول ،وهذا منطق حازم يعترف به الجميع المؤمن والكافر أن
ترد الصنعة إلى صانعها ،وإلى العالِم بقانون صيانتها ،وأنت لم يدّع أحد أنه خلقك ،فحين يحدث
فيك خَلَل ،فعليك أنْ تذهبَ إلى ربك وخالقك.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لذلك " كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلة " ،ومعنى " حزبه أمر "
يعني :شيء فوق طاقته وأسبابه ،يُهرَع إلى الصلة ليعرض نفسه على ربه عز وجل ،فإنْ وجدتَ
في نفسك خللً في أي ناحية ،فما عليك إل أنْ تتوضأ ،وتقف بين يدي ربك ليصلح ما تعطل فيك.
وإن كان المهندس يُصلح لك اللة بشيء مادي ،ولو قطعة صغيرة من السلك ،فإن ربك عز وجل
غَيْب ،وعلجه أيضا غَيْب يأتيك من حيث ل تدري.
خلْقه فيه أصول وفيه فروع ،الصول :أن تؤمن بالله الواحد
ومنهج ال الذي وضعه لصيانة َ
الفاعل المختار ،وهذه قاعدة ما اختلف عليها أيّ من رسالت السماء أبدا ،كما يقول تعالى {:شَ َرعَ
َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا ِبهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ[} ..الشورى.]13 :
فهذه أصول ل يختلف عليها دين من الديان ،لكن لما كان الناس منثورين في شتى بقاع الرض،
تعيش كل جماعة منهم منعزلةً عن الخرى ل ُبعْد المسافات وانعدام وسائل التصال واللتقاء التي
نراها اليوم ،والتي جعلتْ العالم كله قرية واحدة ،ما يحدث في أقصى الشرق تراه وتسمع به في
أقصى الغرب ،وفي نفس الوقت.
لما عاش الناس هذه العزلة ل يدري أحد بأحد لدرجة أنهم كانوا منذ مائتي عام يكتشفون قارات
جديدة.
وقد نشأ عن هذه العزلة أنْ تعددت الداءات بتعدد الجماعات ،فكان الرسول أو النبي يأتي ليعالج
الداءات في جماعة بعينها يُبعَث إلى قومه خاصة ،فهذا ليعالج مسألة الكيل والميزان ،وهذا ليعالج
طغيان المال ،وهذا ليعالج انحراف الطباع وشذوذها ،وهذا ليعالج التعصب القبلي.
أما رسالة محمد صلى ال عليه وسلم ،فجاءت في بداية التقاء الجماعات هنا وهناك ،فكانت
رسالته صلى ال عليه وسلم عامة للناس كافة ،وتجد أصول الرسالت عند موسى وعيسى ومحمد
ل واحدة ،أمّا الفروع فتختلف باختلف البيئات.
عليهم الصلة والسلم أصو ً
لكن ،لما كان في علمه تعالى أن هذه العزلة ستنتهي ،وأن هذه البيئات ستجتمع وتلتقي على أمر
واحد وستتحد فيها الداءات؛ لذلك أرسل الرسول الخاتم لهم جميعا على امتداد الزمان والمكان.
سكُوهُ[ { ..الحج ]67 :أي :أن الحق سبحانه جعل
جعَلْنَا مَنسَكا هُمْ نَا ِ
وفي هذه اليةّ } :ل ُكلّ ُأمّةٍ َ
لكل أمة من المم التي بعث فيها الرسل مناسك تناسب أقضية زمانهم؛ لنهم كانوا في عزلة
جعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً َومِنْهَاجا[} ..المائدة]48 :
بعضهم عن بعض ،كما جاء في قوله تعالىِ {:ل ُكلّ َ
فالشرائع تختلف في الفروع المناسبة للزمان وللمكان وللبيئة ،أما الخلق والعقائد فهي واحدة،
فال عز وجل إله واحد في كل ديانات السماء ،والكذب مُحرّم في كل ديانات السماء لم ي ْأتِ نبي
من النبياء ليبيح لقومه الكذب.
ي َو َممَاتِي للّهِ َربّ
سكِي َومَحْيَا َ
ن صَلَتِي وَنُ ُ
والمنسك :المنهج التعبدي ،ومنه قوله تعالىُ {:قلْ إِ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ا ْلعَاَلمِينَ }[النعام.]162 :
سكُوهُ[} ..الحج ]67 :يعني :فاعلوه.
{ هُمْ نَا ِ
ن يقولوا :أنت رسول ونحن أيضا
لمْرِ[ { ..الحج ]67 :كأ ْ
ثم يقول سبحانه } :فَلَ يُنَازِعُ ّنكَ فِي ا َ
نتبع رسولً ،له منهج وله شريعة ،نعم :لكن هذه شريعة خاتمة جاءت مهيمنة على كل الشرائع
قبلها ،ومناسبة لمستجدّات المور.
لذلك يُطمئن الحق -تبارك وتعالى -رسوله صلى ال عليه وسلم -بعدها } :وَا ْدعُ إِلَىا رَ ّبكَ
إِ ّنكَ َلعَلَىا هُدًى مّسْ َتقِيمٍ { [الحج ]67 :يعني :أطمئن ،فأنت على الحق وا ْدعُ إلى ربك؛ لنك على
هدى مستقيم سيصل إليهم إنْ لم يكن إيمانا فسيكون إصلحا وتقنينا بشريا تلجئهم إليه أحداث
الحياة ومشاكلها ،فلن يجدوا أفضل من شرع ال يحكمون به ،وإنْ لم يؤمنوا.
وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم :ل تنازعهم ول ينازعونك ،وخُذ ما أمرك
ال به {:فَاصْ َدعْ ِبمَا ُت ْؤمَ ُر وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[الحجر ]94 :الذين يجادلونك وينازعونك في
الرسالة ،وسوف تحدث لهم أقضية بقدر ما يُحدِثون من الفجور ويلجئون إلى شرعك وقانونك
ليحلوا به مشاكلهم.
والهدى ُوصِف بأنه مستقيم ،لنه هدى من ال صنعه لك ،هدى الخالق الذي يعلم ملَكات النفس
النسانية كلها ،وشرع لكل ملكة ما يناسبها ،وأحداث الحياة ستضطرهم إلى ما قنن ال لخلفته في
الرض.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَإِن جَادَلُوكَ َف ُقلِ اللّهُ أَعَْلمُ{ ..
.
()2643 /
الجدل :مأخوذ من جَدْل الحبل بعضه على بعض لتقويته ،وإنْ كانت خيطا رفيعا نبرمه فنعطيه
سمْكا وقوة؛ لذلك الخيط حين نبرمه يقلّ في الطول؛ لن أجزاءه تتداخل فيكون أقوى ،فالجدْل من
ُ
خصْم.
تمتين الشيء وتقويته ،وكذلك الجدال؛ فهو محاولة تقوية الحجة أمام ال َ
حسَنُ[} ..النحل ]125 :فالمعنى :إنْ جادلوك بعد التي هي
وفي آية أخرى {:وَجَا ِد ْلهُم بِالّتِي ِهيَ أَ ْ
علَمُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } [الحج ]68 :يعني :ردهم إلى ال واحتكم إليه؛ لذلك جاء
أحسن فقُلْ { اللّهُ أَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكُمُ بَيْ َنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ} ..
بعدها { :اللّهُ يَ ْ
.
()2644 /
حكُمُ بَيْ َن ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ ()69
اللّهُ َي ْ
لحظ أن الحق سبحانه لم ي ُقلْ :يحكم بيننا وبينكم كما يقتضي المعنى؛ لنكما طرفان تتجادلن.
وكأن الحق -تبارك وتعالى -يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم :أتركهم فسوف يختلفون هم
فيما بينهم ،ولن يظل الخلف معك؛ لن الخلف في شيء واحد ينشأ عن هوى النفس ،وهوى
النفس ينشأ من الحرص على السلطة الزمنية ،يعني :أرحْ نفسك ،فربّك سيحكم بينهم فيما كانوا فيه
يختلفون.
سمَآ ِء وَالَرْضِ} ..
ثم يقول الحق سبحانه { :أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ
.
()2645 /
سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ إِنّ ذَِلكَ فِي كِتَابٍ إِنّ َذِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ ()70
أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ
هذه قضية حكم بها الحق سبحانة لنفسه ،ولم يدّعِها أحد ،فل يعلم ما في السماء والرض إل ال،
وهذه الية جاءت بعد الحكم في المنازعة فربما اعترض أحد وقال :ما دام المر من ال أحكاما
تنظم حركة الحياة وقد جاء كل رسول بها ،فما ضرورة أنْ يجيء رسول ال صلى ال عليه وسلم
للناس كافة.
وقلنا :إن الدين نوعان :نوع ل يختلف باختلف الرسل والمم والعصور ،وهذا في القضايا العامة
الشاملة التي ل تتغير ،وهي العقائد والصول والخلق ،ونوع آخر يختلف باختلف العصور
والمم ،فيأتي الحكم مناسبا لكل عصر ،ولكل أمة.
سمَآءِ
وما دام الحق سبحانه هو الذي سيحكم بين الطرفين قال { :أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا فِي ال ّ
وَالَرْضِ[ } ..الحج ]70 :أعلم كل شيء كائن في الوجود ظاهره وباطنه ،فأنا أحكُم عن علم وعن
خبرة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ إِنّ ذاِلكَ فِي كِتَابٍ[ } ..الحج ]70 :والعلم شيء ،والكتاب شيء آخر ،فما دام ال تعالى يعلم كل
شيء ،وما دام سبحانه ل يضل ول ينسى ،فما ضرورة الكتاب؟
قالوا :الكتاب يعني به اللوح المحفوظ الذي يحوي كل شيء.
طهّ َرةٍ
حفٍ ّمكَ ّرمَةٍ * مّ ْرفُوعَةٍ مّ َ
وفي آية أخرى قال {:كَلّ إِ ّنهَا تَ ْذكِ َرةٌ * َفمَن شَآءَ َذكَ َرهُ * فَي صُ ُ
سفَ َرةٍ }[عبس.]15 - 11 :
* بِأَيْدِي َ
حفُوظٍ }[البروج.]22 - 21 :
حتى القرآن نفسه في ذلك الكتابَ {:بلْ ُهوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ * فِي َلوْحٍ مّ ْ
وقال تعالىَ {:يمْحُواْ اللّهُ مَا يَشَآ ُء وَيُثْ ِبتُ وَعِن َدهُ أُمّ ا ْلكِتَابِ }[الرعد ]39 :ويقول تعالى {:وَعِن َدهُ
سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي
ب لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُهوَ وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْ ِر َومَا تَ ْ
َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْي ِ
ب َولَ يَابِسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }[النعام.]59 :
ط ٍ
ت الَ ْرضِ وَلَ رَ ْ
ظُُلمَا ِ
فضرورة الكتاب ليدلّك وليدلّ الملئكة المطّلعين على أن الشياء التي تحدث مستقبلً كتبها ال
أزلً ،فالذي كتب الشيء قبل أنْ يكون ،ثم جاء الشيء موافقا لما أكبر دليل على عِلْمه وإحاطته.
إذن :مجيء الكتاب ل ليساعدنا على شيء ،إنما ليكون حُجّة عليك ،فيقال لك {:اقْ َرأْ كِتَا َبكَ كَفَىا
سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا }[السراء ]14 :ها هو تاريخك ،وها هي قصتك ،ليس كلما من عندنا،
بِ َنفْ ِ
وإنما فعلْك والحجة عليك.
سمَآ ِء وَالَ ْرضِ[ } ..الحج ]70 :يحمل الوعد والوعيد في
وعِلْم ال تعالى في قولهَ { :يعْلَمُ مَا فِي ال ّ
وقت واحد ،وهذا من عجائب الداء القرآني ،أنْ يعطي الشيء ونقيضه ،كيف؟ َهبْ أن عندك
ولديْن اعتدى أحدهما على الخر في غَيبتك ،فلما عُ ْدتَ أسرعا بالشكوى ،كل من صاحبه ،فقلتَ
لهما :اسكتا ل أسمع لكما صوتا .وقد عرفت ما حدث وسأرتب لكل منكما ما يناسبه وما يستحقه
على َوفْق ما علمت ،ل شكّ عندها أن المظلوم سيفرح ويستبشر ،وأن الظالم سيخاف ويتغير لونه.
إذن :فعلم ال بكل شيء في السماء والرض وإحاطته سبحانه بما يجري بين خَلْقه وَعْد للمحق،
ووعيد للمبطل.
ثم يقول سبحانه { :وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَمْ يُنَ ّزلْ ِبهِ سُ ْلطَانا} ..
.
()2646 /
وَ َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَمْ يُنَ ّزلْ بِهِ سُلْطَانًا َومَا لَيْسَ َلهُمْ بِهِ عِلْ ٌم َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َنصِيرٍ ()71
كأن العبادة -وهي :طاعة أمر واجتناب نهي -يجب أن تكون صادرة من أعلى منا جميعا،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فليس لحد منا أن يُشرّع للخر ،فيأمره أو ينهاه؛ لن المر من المساوى لك ل مُرجح له ،وله أنْ
يقول لك :لماذا أنت تأمر وأنا أطيع؟ أما إنْ جاء المر من أعلى منك فأنت تطيع بل اعتراض،
ومعك الحجة أن المر من أعلى منك فأنت تطيع بل اعتراض ،ومعك الحجة أن المر من أعلى،
تقول :أبي أمرني بكذا وكذا ،أو ربي أمرني بكذا وكذا ،أو نهاني عن كذا وكذا.
إذن :كل دليل على حكم الفعل أو الترك ل ُبدّ أنْ يكون مصدره من الحق سبحانه وتعالى ،فهو
ي ول ضرر؛ لنني ما انصعت لمساوٍ
ت لمره ونهيه فل حرجَ عل ّ
العلى مني ومنك ،وإذا انصعْ َ
إنما انصعت ل الذي أنا وأنت عبيد له ،ول غضاضةَ في أن نتبع حكمه.
حكَم أهل الريف يقولون( :اللي الشرع يقطع صباعه مَيْخُرش دم) لماذا؟ لنك ما قطعته
لذلك في ِ
أنت إنما قطعه ال ،فليس المر تسلط أو جبروت من أحد ،وليس فيه مذلّة ول استكانة لحد.
ومعنى { :وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ[ } ..الحج ]71 :يعني :يعبدون غيره تعالى { مَا لَمْ يُنَ ّزلْ بِهِ
سُ ْلطَانا[ } ..الحج ]71 :السلطان :إما سلطان َقهْر ،أو سلطان حجة ،سلطان القهر أن يقهرك
ويجبرك على ما لم تُ ِردْ ِفعْله ،أما سلطان الحجة فيقنعك ويُثبِت لك بالحجة أن تفعل باختيارك،
حجّة.
وهذه اللهة التي يعبدونها من دون ال ليس لها سلطان ،ل َقهْر ول ُ
لذلك؛ في جدل إبليس يوم القيامة للذين اتبعوه يقول لهمَ {:ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن
عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي[} ..إبراهيم ]22 :يعني :كنتم على إشارة فاستجبتم لي ،وليس لي عليكم
دَ َ
سلطان ،ل قوة أقهركم بها على المعصية ،ول حجة أقنعكم بها.
ثم يقول تعالىَ { :ومَا لَيْسَ َلهُمْ بِهِ عِلْمٌ[ } ..الحج ]71 :يعني :علم الجتهاد الذي يستنبط الحكام
من الحكم المُجْمل الذي يُنزله الحق تبارك وتعالى ،وهذه هي حجة العلم التي قال ال تعالى عنها{:
لمْرِ مِ ْن ُهمْ َلعَِلمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْ ِبطُونَهُ مِ ْنهُمْ[} ..النساء ]83 :يعني:
وََلوْ َردّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَىا ُأوْلِي ا َ
أهل العلم.
ن تكونَ
إذن :العبادة ل بُدّ أن تكون بسلطان من ال نصا قاطعا وصريحا ل يحتمل الجدل ،وإما أ ْ
باجتهاد أُولِي العلم.
وقوله تعالىَ { :ومَا لِلظّاِلمِينَ مِن ّنصِيرٍ } [الحج ]71 :لم يقُلْ سبحانه :لن ينتصر الظالمون ،ولم
ي ْنفِ عنهم النصر؛ لن هذه مسألة مُسلمة إنما ل يفزع لنصرتهم أحد ،فلن ينتصروا ولن ينصرهم
أحد ،ول يفزع أحد لينصر أحدا إل إذا كان المنصور ضعيفا.
ثم يقول سبحانه { :وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ َتعْرِفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ َكفَرُواْ ا ْلمُ ْنكَرَ} ..
.
()2647 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سطُونَ بِالّذِينَ يَ ْتلُونَ
وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آَيَاتُنَا بَيّنَاتٍ َتعْ ِرفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ َكفَرُوا ا ْلمُ ْنكَرَ َيكَادُونَ يَ ْ
عَلَ ْيهِمْ آَيَاتِنَا ُقلْ َأفَأُنَبّ ُئكُمْ بِشَرّ مِنْ ذَِلكُمُ النّا ُر وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ َكفَرُوا وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ ()72
تصور هذه الية حال الكفار عند سماعهم لكتاب ال وآياته من رسول ال أو صحابته ،فإذا
سمعوها { َتعْ ِرفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ َكفَرُواْ ا ْلمُ ْنكَرَ[ } ..الحج ]72 :أي :الكراهية تراها وتقرؤها في
وجوههم عُبُوسا وتقطيبا وغضبا وانفعالً ،ينكر ما يسمعون ،ويكاد أن يتحول النفعال إلى نزوع
غضبي يفتك بمَنْ يقرأ القرآن لما بداخلهم من شر وكراهية لما يتلى عليهم.
سطُونَ بِالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَ ْي ِهمْ آيَاتِنَا[ } ..الحج ]72 :والسّطْو :الفَتْك
لذلك قال تعالى بعدهاَ { :يكَادُونَ يَ ْ
والبطش؛ لن العمل الوجداني الذي يشغل نفوسهم يظهر أولً على وجوههم انفعالً يُنبيء بشيء
يريدون إيقاعه بالمؤمنين ،ثم يتحول الوجدان إلى نزوع حركي هو الفتك والبطش.
( ُقلْ) في الرد عليهم :ماذا يُغضِبكم حتى تسطوا علينا وتكرهوا ما نتلو عليكم من كتاب ال.
والغيظ والكراهية عند سماعهم القرآن دليل على عدم قدرتهم على الرد بالحجة ،وعدم قدرتهم
أيضا على اليمان؛ لذلك يتقلّبون بين غيظ وكراهية.
لذلك يخاطبهم بقولهُ { :قلْ َأفَأُنَبّ ُئكُم بِشَرّ مّن ذاِلكُمُ النّا ُر وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ َكفَرُواْ[ } ..الحج]72 :
يعني :مالي أراكم مغتاظين من آيات ال كارهين لها الن ،والمر ما يزال هيّنا؟ أمجرد سماع
اليات يفعل بكم هذا كلّه؟ فما بالكم حينما تباشرون النار في الخرة ،الغيظ الذي تظنونه شرّا
فتسطُون علينا بسببه أمر بسيط ،وهناك أشرّ منه ينتظركم { النّا ُر وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ َكفَرُواْ} ..
[الحج]72 :
وما أشبه هذا بموقف الصّدّيق أبي بكر حينما أوقف صناديد قريش بالباب ،وقدّم عليهم
المستضعفين من المؤمنين ،فغضبوا لذلك وو ِرمَتْ أنوفهم ،فقال لهمَ :أوَرِمتْ أنوفكم أنْ قدمتهم
عليكم الن ،فكيف بكم حين يُقدمهم ال عليكم في دخول الجنة؟
وكلمة { وَعَ َدهَا[ } ..الحج ]72 :الوعد دائما يكون بالخير ،أما هنا فاستُعمَلتْ على سبيل الستهزاء
بهم والتقليل من شأنهم ،كما قال في آية أخرى {:فَبَشّ ْرهُمْ ِبعَذَابٍ َألِيمٍ }[النشقاق ]24 :فساعةَ أن
يسمع ال ُبشْرى يستشرف للخير ،فيفاجئه العذاب ،فيكون أنكَى له.
شوِي الْوجُوهَ[} ..الكهف ]29 :لن
ومن ذلك أيضا قوله تعالى {:وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ
انقباض النفس ويأسها بعد بوادر النبساط أشدّ من العذاب ذاته.
وقوله { :وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } [الحج ]72 :أي :ساءت نهايتكم ومرجعكم.
.
()2648 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُوا لَهُ إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخُْلقُوا ذُبَابًا وََلوِ اجْ َت َمعُوا
يَا أَ ّيهَا النّا ُ
ضعُفَ الطّاِلبُ وَا ْل َمطْلُوبُ ()73
لَ ُه وَإِنْ َيسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئًا لَا َيسْتَ ْنقِذُوهُ مِنْهُ َ
قُلنْا :الضرب إيقاع شيء على شيء بقوة ،ومنه نقول :ضربنا الدينار يعني :بعد أن كان قطعة من
الذهب أو الفضة مثلً أصبح عملةً معروفة متداولة.
والمثل :تشبيه شيء غير معلوم بشيء آخر معلوم وعجيب وبديع َيعْلَق في الذهن ،كما نصف لك
إنسانا لم تَ َرهُ بإنسان تعرفه .نقول هو مثل فلن .وهكذا كل التشبيهات :شيء تريد أن تعلمه
للمخاطب وهو ل يعلمه.
حوْلَهُ َذ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَ َركَهُمْ
ومنه قوله تعالى {:مَثَُلهُمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارا فََلمّآ َأضَا َءتْ مَا َ
فِي ظُُلمَاتٍ لّ يُ ْبصِرُونَ }[البقرة]17 :
ح ِملْ عَلَيْهِ يَ ْل َهثْ َأوْ تَتْ ُركْهُ يَ ْلهَث ذِّلكَ مَ َثلُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ
وقوله تعالىَ {:فمَثَلُهُ َكمَ َثلِ ا ْلكَ ْلبِ إِن تَ ْ
صصَ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ }[العراف]176 :
صصِ ا ْلقَ َ
بِآيَاتِنَا فَا ْق ُ
وقوله تعالى {:مَ َثلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ َأوْلِيَآءَ َكمَ َثلِ ا ْلعَنكَبُوتِ اتّخَ َذتْ بَيْتا وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ
لَبَ ْيتُ ا ْلعَنكَبُوتِ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت.]41 :
إذن :المثال :إعلم بشيء معلوم ليصل العلم فيه إلى شيء مجهول ،وكلمة (مثَل) استقّلتْ بأن
يكون المثَل بديعا في النسج ،بليغا موجزا ،بحيث تتناقله اللسنة بسرعة في كلمات معدودة.
فلو وجدَت مثلً تلميذا مُهملً تكاسل طوال العام ،ولم يذاكر ،فلما حضر المتحان راح يجتهد في
المذاكرة ،فتقول له( :قبل الرماء تمل الكنائن) يعني :قبل أنْ تصطاد بالسهام يجب أنْ ُت ِعدّها أولً
وتمل بها كنانتك ،فهذا م َثلٌ يُضرَب للستعداد للمر قبل حلوله.
ومن أمثلة أهل الريف يقولون( :أعْطِ العيش لخبازه ولو يأكل نصفه) ويُضرب لمن يجعل الصنعة
عند غير صانعها والمتخصص فيها.
ويقولون فيمَنْ يُقصّر في المر المنوط به( :باب النجار مخلع).
خضُ عن
ن يقضي لك حاجة فيفلح فيها ويأتي بالنتيجة المرجوة يقول لك( :أبدى الم ْ
وحين ترسل مَ ْ
خضّ اللبن في القِرْبة لفَصْل الزّبْد عن اللبن.
الزبد) والمخضُ عملية َ
خفّته وجماله وبلغته في
وهكذا ،المثل َقوْل موجز بليغ قيل في مناسبته ،ثم استعمله الناس ل ِ
المواقف المشابهة ،والمثَل يظل على حالة الول ل يغير ،ويجب اللتزام بنصّه مع المفرد والمثنى
ل يقضي لك حاجة ،فعندما يعود تقول له:
والجمع ،ومع المذكر والمؤنث ،فمثلً إنْ أرسلتَ رسو ً
(ما وراءك يا عصام) هكذا بالكسر في خطاب المؤنث مع أنه رجل ،لماذا؟ لن المثَل قيل أول ما
طبُ مذكّرا.
قيل لمؤنث ،فظلّ على هذه الصيغة من التأنيث حتى ولو كان المخا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقصة هذا المثَل أن الحارث ملك كندة أراد أن يتزوج أم إياس ،وبعثَ مَنْ تخطبها له ،وكان
اسمها عصام ،فلما ذهبت إليها قالت لها أمها :إن فلنة جاءت تخطبك لفلن ،فل تخفي عنها شيئا،
ودعيها تشمّك إنْ أرادت ،وناطقيها فيما استنطقتْك به ،فلما دخلتْ على الفتاة وأرادت أن ترى
جسمها خلعتْ ثوبها ،وكشفتْ عن جسمها ،فقالت المرأة( :ترك الخداع من كشف القناع) فسارت
مثلً ،ثم عادت إلى الحارث فاستقبلها متعجلً ردّها فقال( :ما وراءكِ يا عصام) يعني :ما الخبر؟
فظلّ المثل هكذا للمؤنث ،وإن خُوطِب به المذكر.
والحق -تبارك وتعالى -يضرب لكم هذا المثل ويقول :خذوه في بالكم ،وانتبهوا له ،وافتحوا له
آذانكم جيدا واعقلوه؛ لنه سينفعكم في علقتكم برسول ال وبالمؤمنين.
س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُواْ
خصّ أحدا دون أحد } :ياأَ ّيهَا النّا ُ
والخطاب هنا مُوجّه للناس كافّة ،لم ي ُ
لَهُ[ { ..الحج ]73 :فلم يقُل يا أيها المؤمنون؛ لن هذا الم َثلَ مُوجّه إلى الكفار ،فالمؤمنون ليسوا
في حاجة إليه } فَاسْ َت ِمعُواْ لَهُ[ { ..الحج ]73 :يعني :انصتوا وتفهّموا مراده ومرماه ،لتسيروا في
حركتكم على َوفْق ما جاء فيه ،وعلى َوفْق ما فهمتم من مغزاه.
فما هو هذا المثَل؟
} إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ َلهُ[ { ..الحج.]73 :
أي :الذين تعبدونهم وتتجهون إليهم من دون ال } لَن َيخُْلقُواْ ذُبَابا[ { ..الحج ]73 :وهو أصغر
المخلوقات } وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَهُ[ { ..الحج ]73 :يعني :تضاف َرتْ جهودهم ،واجتمع أمرهم جميعا ل
واحدا واحدا ،وهذا ترقّ في التحدي ،حيث زاد في قوة المعاند.
كما ترقّى القرآن في تحدّي العرب ،فتحداهم أولً بأنْ يأتوا بمثل القرآن ،ولن القرآن كثير تحدّاهم
بعشر سور فما استطاعوا ،فتحدّاهم بسورة واحدة فلم يستطيعوا.
ثم يترقى في التحدي فيقول :اجمعوا كل فصحائكم وبلغائكم ،بل والجن أيضا يساعدونكم ولن
ن لَ يَأْتُونَ ِبمِثْلِهِ} ..
س وَالْجِنّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ ِبمِ ْثلِ هَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
ت الِنْ ُ
تستطيعوا {:قُل لّئِنِ اجْ َت َم َع ِ
[السراء.]88 :
خُلقُواْ ذُبَابا[ { ..الحج ]73 :جاءت بنفي المستقبل فلم ي ُقلْ مثلً :لم يخلقوا،
وقوله تعالى } :لَن يَ ْ
فالنفي هنا للتأبيد ،فهم ما استطاعوا في الماضي ،ولن يستطيعوا أيضا فيما بعد حتى ل يظن أحد
أنهم ربما تمكّنوا من ذلك في مستقبل اليام ،ونفي الفعل هكذا على وجه التأبيد؛ لنك قد تترك
الفعل مع قدرتك عليه ،إنما حين تتحدّى به تفعل لتردّ على هذا التحدّي،فأوضح لهم الحق سبحانه
أنهم لم يستطيعوا قبل التحدي ،ولن يستطيعوا بعد التحدي.
ثم يقول تعالى } :وَإِن َيسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ[ { ..الحج ]73 :فقد تقول :إن عملية الخَلْق
هذه عملية صعبة ل يُتحدّى بها ،لذلك تحداهم بما هو أسهل من الخَلْق } وَإِن يَسْلُ ْب ُهمُ الذّبَابُ شَيْئا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لّ َيسْتَنقِذُوهُ مِ ْنهُ[ { ..الحج ]73 :وهل يستطيع أحد أن يُعيد ما أخذه الذباب من طعامه على جناحيه
أو رجله أو خرطومه؟
وكانوا يذبحون القرابين عند الصنام ،ويضعون أمامها الطعام ليباركوه ،فكانت الدماء تسيل عندها
وتتناثر عليها ،فيحطّ عليها الذباب ،ويأخذ من هذه الدماء على أَ ْرجُله النحيفة هذه أو على أجنحته
أو على خرطومه ،فتحدّاهم أن يعيدوا من الذباب ما أخذه ،وهذه مسألة أسهل من مسألة الخَلْق.
ولك أنْ تُجرّب أنت هذه العملية ،إذا وقع ذباب على العسل الذي أمامك ،فل ُبدّ أن يأخذ منه شيئا
ولو كان ضئيلً ل يُدرَك ول يُوزَن ول تكاد تراه ،لكن أتستطيع أنْ تُمسِك الذبابة وتردّ ما أخذتْ
منك؟
ب وَا ْلمَطْلُوبُ { [الحج ]73 :يعني :كلهما ضعيف،
ض ُعفَ الطّاِل ُ
لذلك يقول تعالى بعدهاَ } :
فالذباب في ذاته ضعيف وهم كذلك ضعفاء ،بدليل أنهم لن يقدروا على هذه المسألة ،لكن هناك
ن كان ضعيفا إل أن ال تعالى
ضعيف يدّعي القوة ،وضعيف قوته في أنه ُمقِرّ بضعفه ،فالذباب وإ ْ
قال فيه {:إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا[} ..البقرة ]26 :يعني :ما فوقها
في الصّغر ،ليس المراد ما فوقها في الكبر كالعصفور مثلً.
ثم يقول الحق سبحانه } :مَا َقدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْ ِرهِ{ ..
.
()2649 /
يعني :هؤلء الكفار الذين عبدوا من دون ال آلهة ل تستطيع أن تخلق ذبابا ،ول تستطيع حتى أنْ
تردّ من الذباب ما أخذه ،هؤلء ما عرفوا ل قدره ،ولو عرفوا َقدْر ال ما عبدوا غيره.
والقَدْر :يعني مقدار الشيء ،وقلنا :إن مقادير الشياء تختلف حسب ما تريده من معرفة المقادير،
فالطول مثلً له مقياس ُيقَاس به مقدار الطول ،لكن هذا المقياس يختلف باختلف المقيس ،فإنْ
أردتَ أنْ تقيسَ المسافة بين القاهرة والسكندرية مثلً ل تستخدم المللي أو السنتيمتر ول حتى
ت صورة
المتر ،إنما تستخدم الكيلومتر ،فإنْ أردت شراء قطعة من القماش تقول متر ،أما إنْ أرد َ
شخصية تقول سنتيمتر.
إذن :لكل شيء مقدار يُقدّر به ،ومعيار يُقاس به ،فإنْ أردتَ المسافة تقيس الطول ،فإنْ أردت
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المساحة تقيس الطول في العرض ،فإنْ أردتَ الحجم تقيس الطول في العرض في الرتفاع،
الطول بالمتر والمساحة بالمتر المربع ،والحجم بالمتر المكعب .كذلك في الوزن تُقدّره بالكيلو أو
الرطل أو الجرام ..إلخ.
لهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْزقَهُ[} ..الفجر:
وقدر تأتي بمعنى :ضيّق ،كما جاء في قوله تعالى {:وََأمّآ إِذَا مَا ابْتَ َ
.]16
ويقول الحق سبحانه وتعالىَ {:ومَن ُقدِرَ عَلَيْهِ رِ ْز ُقهُ فَلْيُنفِقْ ِممّآ آتَاهُ اللّهُ[} ..الطلق.]7 :
والمقدار كما يكون في الماديات يكون أيضا في المعنويات ،فمثلً تعبر عن الزيادة المادية تقول:
شبّ وزاد ،أما في المعنويات فيقول الحق سبحانه :كَبُر{ كَبُ َرتْ كَِلمَةً تَخْرُجُ مِنْ
فلن كبر يعني َ
َأ ْفوَا ِههِمْ[} ..الكهف ]5 :يعني :عَظُمتْ.
والحق -تبارك وتعالى -ليس مادة؛ لنه سبحانه فوق المادة ،فمعنى المقدار في حقه تعالى
حقّ قَدْ ِرهِ[ } ..الحج ]74 :ما عظّموه حَقّ التعظيم
عظمته في صفات الكمال فيه { مَا قَدَرُواْ اللّهَ َ
الذي ينبغي له ،وما عرفوا قَدْره ،ولو عرفوا ما عبدوا غيره ،ول عبدوا أحدا معه من هذه اللهة
سوّون هؤلء بال ويقارنونهم به
التي ل تخلق ذبابا ،ول حتى تسترد ما أخذه منهم الذباب ،فكيف يُ َ
عز وجل؟ إنهم لو عرفوا ل تعالى قَدْره لستحيوا من ذلك كله.
ثم تُذيّل الية بقوله تعالى { :إِنّ اللّهَ َلقَ ِويّ عَزِيزٌ } [الحج ]74 :فما مناسبة هاتين الصفتين للسياق
الذي نحن بصدده؟
ن انصرفوا عن عبادته سبحانه إلى
عمّ ْ
قالوا :لن الحق -سبحانه وتعالى -تكلّم في المثَل السابق َ
ب وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج ]73 :فقال في مقابل هذا الضعف إن ال
ض ُعفَ الطّاِل ُ
عبادة الصنام وقالَ {:
لقويّ ،قوة عن العابد؛ لنه ليس في حاجة إلى عبادته ،وقوة عن المعبود لنه لو شاء حَطّمه ،وما
ُدمْتم انصرفتم عن ال وعبدتم غيره ،فهذا فيه مُضارّة ،وكأن هناك معركة ،فإنْ كان كذلك فال
عزيز ل يغالب.
والية { :مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ َقدْ ِرهِ[ } ..الحج ]74 :وردتْ في عدة مواضع في كتاب ال ،منها:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طوِيّاتٌ بِ َيمِينِهِ[} ..الزمر.]67 :
مَ ْ
حقّ قدره ،وقَدَره َقدْره ،كأن المور تختلف في تقدير الشياء ،فمثلً تنظر إلى حجرة
ونقولَ :قدّرَه َ
فتقول :هذه تقريبا 4×5هذا تقدير إجمالي تقريبي ،إنما إنْ أخذت المقياس وقدّ ْرتَ تقديرا حقيقيا،
حقّ قَدرها.
فقد تزيد أو تنقص ،فالول تقول :قدّرْت الحجرة قَدْرها .والخر تقول :قدرت الحجرة َ
حقّ قَدْره فإنك تقدّره على قَدْر استيعاب العقل البشري،
وعليه فإنك إنْ أردت أنْ تُقدّر ال تعالى َ
إنما قَدْره تعالى حقيقة فل تحيط به؛ لن كمالته تعالى ل تتناهى ول تُدرَك إدراكا تاما.
ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين .ولما نزل قوله تعالى{:
حقّ ُتقَاتِهِ[} ..آل عمران ]102 :قال بعض الصحابة :ومَنْ يقدر على
ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّهَ َ
ذلك إنها مسألة صعبة أن نتقي ال التقوى الكاملة التي يستحقها عز وجل ،فأنزل ال تعالى{:
س َعهَا[} ..البقرة.]286 :
ل وُ ْ
طعْتُمْ[} ..التغابن ]16 :ونزلت {:لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ
فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْ َت َ
وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا أثنى على ال تعالى يقول " :سبحانك ،ل نحصي ثناءً عليك،
أنت كما أثنيت على نفسك ".
لماذا؟ لنه ل يملك أحد مهما أُوتِي من بلغة السلوب أنْ يُثني على ال الثناء المناسب الذي يليق
به سبحانه ،ومن رحمة ال تعالى بعباده أن تحمل عنهم هذه المسألة فأثنى الحق سبحانه على
نفسه ،وعلّمنا كيف نثني عليه سبحانه ،فإذا ما تحدث البليغ وأثنى على ال بفنون القول والثناء،
فإن العييّ الذي ل يجيد الكلم يطمئن حيث يُثِني على ربه بما علمه من الثناء ،وما وضعه من
صيغ يقولها الفيلسوف ،ويقولها راعي الشاة.
حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الفاتحة:
ولول أن ال تعالى علّمنا صيغة الحمد في سورة الفاتحة فقال {:ا ْل َ
]2ما تعلمنا هذه الصيغة ،فتعليم ال لعباده صيغة الحمد في ذاتها نعمة تستحق الحمد ،والحمد
يستحق الحمد ،وهكذا في سلسلة ل تنتهي ،ليظل الحق -تبارك وتعالى -محمودا دائما ،ويظل
العبد حاملً دائما.
وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مسألة اللوهية وما ينبغي لها من صفات الكمال المطلق ،وحذر
أنْ نُدخِل عليها ما ليس منها وما ل يستحقها ،وهذه قمة العقائد ،وبعد أن نؤمن باللهيات بهذا
الصفاء ونُخلّص إيماننا من كل ما يشوبه ل بُدّ من البلغ عن هذه القوة اللهية التي آمنا بها،
والبلغ يكون بإرسال الرسل.
ل َومِنَ النّاسِ{ ..
طفِي مِنَ ا ْلمَلَ ِئكَةِ ُرسُ ً
لذلك قال سبحانه } :اللّهُ َيصْ َ
.
()2650 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سمِيعٌ َبصِيرٌ ()75
طفِي مِنَ ا ْلمَلَا ِئكَةِ ُرسُلًا َومِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ َ
صَاللّهُ َي ْ
طفِي مِنَ
إذن :المرحلة الثانية في اليمان بعد اليمان بالقمة اللهية اليمان بالرسل { اللّهُ َيصْ َ
ل َومِنَ النّاسِ[ } ..الحج.]75 :
ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُ ً
والصطفاء :اختيار نخبة من كثير ،واختيار القليل من الكثير دليل على أنها الخلصة والصفوة،
كما يختلف الصطفاء باختلف المصطفي ،فإنْ كان المصطفِي هو ال تعالى فل بُدّ أنْ يختار
خلصة الخلصة.
والصطفاء سائر في الكون كله ،يصطفي من الملئكة رسلً ،ومن الناس رسلً ،ويصطفي من
الزمان ،ويصطفي من المكان ،كما اصطفى رمضان من الزمان ،والكعبة من المكان .ولم يجعل
الحق سبحانه الصطفاء لتدليل المصطفى على غيره ،إنما ليُشيع اصطفاءَه على خَلْق ال ،فما
اصطفى رمضان على سائر الزمن -ل ليدلل رمضان -إنما لتأخذ منه شحنة تُقوّي روحك،
وتُصفّيها بقية اليام ،لتستفيد من صالح عملك فيها.
وقد يتكرر الصطفاء مع اختلف متعلق الصطفاء؛ لذلك وقف المستشرقون عند قول ال تعالى{:
علَىا نِسَآءِ ا ْلعَاَلمِينَ }[آل عمران.]42 :
طفَاكِ َ
ك وَاصْ َ
طهّ َر ِ
ك وَ َ
طفَا ِ
يامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ
يقولون :ما فائدة تكرار الصطفاء هنا؟ ولو تأملنا الية لوجدنا فَرْقا بين الصطفاء الول والخر:
ن تكوني عابدة تقية متبتلة منقطعة في محرابك ل ،أما الصطفاء
الصطفاء الول اصطفاء؛ ل ْ
الخر فاصطفاء على نساء العالمين جميعا ،بأن تكوني أما لمولود بل أب ،فمُتعلّق الصطفاء -
إذن -مختلف.
طفًى منها .وفي آية
وتنقسم الملئكة في مسألة الصطفاء إلى ملئكة ُمصْطفاة ،وملئكة ُمصْ َ
علِ ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُلً[} ..فاطر ]1 :يعني :كلهم لهم رسالة مع عوالم أخرى
أخرى يقول تعالى {:جَا ِ
غيرنا.
أما في الية التي معنا ،فالكلم عن الملئكة الذين لهم صلة بالنسان أمثال جبريل وميكائيل
وإسرافيل وعزرائيل ،والحفظة الكاتبين والمكلفين بحفظ النسان ،فال تعالى يصطفي هؤلء ،أما
الباقون منهم فال مصطفيهم لعبادته فهم مُهيّمون ل يدرون عن هذا الخلق شيئا ،وهم الملئكة
العالون الذين قال ال عنهم في الحديث عن إبليسَ {:أسْ َتكْبَ ْرتَ َأمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص]75 :
يعني :الذين لم يشملهم المر بالسجود؛ لن لهم مهمة أخرى.
سمِيعٌ َبصِيرٌ } [الحج ]75 :السمع يتعلق بالصوات ،والبصر يتعلق
ثم يقول تعالى { :إِنّ اللّهَ َ
سمِيعٌ َبصِيرٌ } [الحج]75 :
س كلها ،والحق سبحانه في قولهَ { :
عمْدة الحوا ّ
بالفعال ،وهما كما قلنا ُ
جهُون بأقوال تؤذيهم واستهزاء ،وس ُيقَابلون بأفعال تعرقل مسيرة دعوتهم،
يُبيّن لنا أن رسله س ُيوَا َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عضُدهم ،وأنا معهم سميع لما يُقال ،بَصير بما يفعل ،فهُمْ تحت
فليكُنْ هذا معلوما حتى ل ي ُفتّ في َ
سمعي وبصري وكلءتي.
()2651 /
{ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [الحج ]76 :ما أمامهم ،ويعلم أيضا ما خلفهم ،فليعمل النسان ما يشاء ،فعِلْم ال
محيط به.
لمُورُ } [الحج ]76 :فالمرجع في النهاية إليه سبحانه ،فالحق -تبارك وتعالى
{ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ ا ُ
-لم يخلق خَلْقه ليتركهم َهمَلً ،إنما خلقهم لحكمة ،وجعل لهم نهاية يُجازَي فيها ُكلّ بعمله ،فمَن
تعب ونصب في سبيل دعوة ال وتحمّل المشاقّ في مساندة رسل ال فله جزاؤه ،ومَنْ جابههم
وعاندهم سواء بالقوال السّابّة الشاتمة المستهزئة ،أو بالفعال التي تعوق دعوتهم ،فله أيضا ما
يستحق من العقاب.
وبعد أن حدّثنا ربنا عز وجل عن اللهيات وعن الرسل التي تُبلّغ عنه سبحانه ،يُحدثنا عن المنهج
الذي سيأتون به لينظم حركة حياتنا ،هذا المنهج موجز في افعل كذا ،ول تفعل كذا ،وهو ل يشمل
عدّة أمور ،والباقي مباح؛
في أوامره ونواهيه كل حركات الحياة .فالوامر والنواهي محصورة في ِ
لن ال تعالى وضع الوامر والنواهي في الصول التي تعصم حركة الحياة من الهواء
والنزوات ،وترك الباقي لختيارك تفعله على أيّ وجه تريد.
لذلك نرى العلماء يجتهدون ويختلفون في مثل هذه المور التي تركها ال لنا ،ولو أراد سبحانه
لنزل فيها حكما محكما ،ل يختلف عليه أحد .ولك أن تقول :ولماذا ترك الحق سبحانه هذه
المور تتضارب فيها القوال ،وتختلف فيها الراء ،وتحدث فيها نزاعات بين الناس؟
قالوا :هذا مراد ال؛ لن ال تعالى خلق النسان مُسخّرا في أشياء ،ومختارا في أشياء أخرى،
فللناس أن يتركوا المجتهد يجتهد ما وسعه الجتهاد ،ثم يحكمون على ما وصل إليه أنه حق،
وآخر يجتهد ويقررون أنه باطل؛ لن ال لو أراده على لون واحد لقاله ،إنما تركه محتملً للراء.
إذن :أراد سبحانه أن تكون هذه الراء لن النسان كما هو محكوم بقهر في كثير من الكونيات
وله اختيار في بعض المور ،كذلك الحال في التكليف ،فهو مقهور في الصول التي لو حاد عنها
يفسد العالم ،ومختار في أمور أخرى يصحّ ِفعْلها ويصحّ تَرْكها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سجُدُو ْا وَاعْبُدُواْ رَ ّبكُمْ} ..
يقول تعالى في هذا المنهج { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ْر َكعُو ْا وَا ْ
.
()2652 /
جدُوا وَاعْ ُبدُوا رَ ّبكُ ْم وَا ْفعَلُوا الْخَيْرَ َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ ()77
يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ْر َكعُوا وَاسْ ُ
النداء في ضَرْب المثل السابق كان للناس كافّة؛ لنه يريد أنْ يَلفِت عُبّاد الصنام إلى هذا المثَل،
ويُسْمعهم إياه ،أمّا هنا فالكلم عن منهج ودستور مُوجّه ،خاصّة إلى الذين آمنوا ،لنه ل يُكلّف
بالحكم إل مَنْ آمن به ،أما مَنْ كفر فليس َأهْلً لحمل هذه المانة؛ لذلك تركه ولم ينظم له حركة
حياته .وكما قلنا في رجل المرور أنه يساعد مَن استعان به ووثق فيه ،فيدلّه ويرشده ،أما مَنْ شكّ
في كلمه وقّللَ من شأنه يتركه يضل في مفترق الطرق.
فإذا ناداك ربك بما يكلفك به ،فاعلم أن الجهة مُنفكّة ،كما في قوله تعالى {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ
آمِنُواْ[} ..النساء.]136 :
وقد اعترض على أسلوب القرآن في هذه الية بعض الذين يأخذون اليات على ظاهرها ،يقولون:
كيف يخاطبهم بيا أيها الذين آمنوا ثم يقول :آمِنوا ،كيف وهم يؤمنون بالفعل؟
قالوا :المراد يا أيها الذين آمنوا قبل سماع الحكم الجديد ظَلّوا على إيمانكم في الحكم الجديد،
ن هو موصوف به فاعلم أن المراد الدوام عليه.
واستمِرّوا على إيمانكم؛ لذلك إذا طلبتَ شيئا ممّ ْ
كما أن هناك فَرْقا بين اليمان بالحكم وبين تنفيذ الحكم ،فقد تؤمن بالحكم أنه من ال ول تشكّ فيه
ول تعترض عليه ،لكنك ل تنفذه وتعصاه ،فمثلً في الحج يقول تعالى {:وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ
الْبَ ْيتِ[} ..آل عمران ]97 :الذي ل تعالى على عباده أنْ يحجوا البيت{ مَنِ اسْ َتطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً} ..
[آل عمران ]97 :وهذا شرط ضروري ،فل تكليفَ بل استطاعة ،ثم يقولَ {:ومَن َكفَرَ }[آل
عمران.]97 :
فهل يعني هذا أن مَنْ لم يحج فهو كافر؟
قالوا :ل ،لن المراد :ل على الناس حكم يعتقده المؤمن ،بأن ل على الناس حج البيت ،فمن اعتقد
هذا العتقاد فهو مؤمن ،أما كونه ينفذه أو ل ينفذه هذه مسألة أخرى.
جدُواْ وَاعْ ُبدُواْ رَ ّبكُمْ[ } ..الحج]77 :
ثم يبدأ أول ما يبدأ في التكليف بمسألة الصلة { :ا ْر َكعُواْ وَاسْ ُ
خصّ هنا الصلة لنها التكليف الذي يتكرر كل
لقد جاء الرسل من عند ال بتكاليف كثيرة ،لكن َ
يوم خمس مرات ،أما بقية التكاليف فهي موسمية :فالصوم شهر في العام كله ،والحج مرة في
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حوْل.
العمر كله لمن استطاع ،والزكاة عند خروج المحصول لمن يملك النصاب أو عند حلول ال َ
خصّها رسول ال صلى ال عليه وسلم في
إذن :تختلف فريضة الصلة عن باقي الفرائض؛ لذلك َ
قوله " :العهد الذي بيننا وبينهم الصلة ،فمَنْ تركها فقد كفر ".
ويقول " :الصلة عماد الدين ".
وخصّها الحق -تبارك وتعالى -بظرف تشريعي خاص ،حيث فُرِضت الصلة بالمباشرة،
وفُرِضت باقي الفرائض بالوحي.
وضربنا لذلك مثلً -ول المثل العلى -قلنا :إن رئيس العمل يمكن أن يرسل لك ورقة يقول:
افعل كذا وكذا ،فإنْ كان أمرا هاما اتصل بك تليفونيا ،وأخبرك بما يريد لهميته ،فإنْ كان المر
أهم من ذلك وجاء من جهة أعلى يقول لك :تعال عندي لمر هام ،ويُكلّفك به مباشرة ،وكذلك
على حسب الهمية يوجد ظرف التشريع.
فالصلة لم تأت بالوحي كباقي الفرائض ،إنما جاءت مباشرة من المُوحِي سبحانه وتعالى؛ لنها
ستكون صلة بين العبد وربه ،فشاء أن يُنزّهَها حتى من هذه الواسطة ،ثم ميّزها على غيرها من
التكاليف ،فجعلها الفريضة التي ل تسقط عن المسلم بحال أبدا .فقد تكون فقيرا فل تلزمك الزكاة،
وغير مستطيع فل يلزمك حج ،ومريض أو مسافر فل يلزمك صوم.
أما الصلة فل يُسقِطها عنك شيء من هذا كله ،فإنْ كنت غير قادر على القيام فلك أنْ تُصلّي
قاعدا أو مضطجعا أو راقدا ،تشير بطرفك لركوعك وسجودك ،ولو حتى تجري أفعال الصلة
على قلبك ،المهم أن تظلّ ذاكرا لربك متصلً به ،ل يمر عليك وقت إل وهو سبحانه في بالك.
وقلنا :إن ذكر ال في الذان والقامة والصلة ِذكْر دائم في كل الوقت ل ينقطع أبدا ،فحين تصلي
أنت الصبح مثلً غيرك يصلي الظهر ،وحين تركع غيرك يسجد ،وحين تقول :بسم ال الرحمن
الرحيم .غيرك يقول :الحمد ل رب العالمين ..الخ.
فهي عبادة متداخلة دائمة ل تنقطع أبدا؛ لذلك يقول أحد أهل المعرفة مخاطبا الزمن :يا زمن فيك
ظهْر ،وفيك العصر ،وفيك
كل الزمن .يعني :في كل جزئية من الزمن الزمن كله ،كأنه قال :يا ُ
المغرب ،وفيك العشاء ،وهكذا العالم كله يدور بعبادة ل ل تنتهي.
وذكر من الصلة الركوع والسجود؛ لنهما أظهر أعمال الصلة ،لكن الركوع والسجود حركات
يؤديها المؤمن المخلص ،ويؤديها المنافق ،وقد كان المنافقون أسبق الناس إلى الصفوف الولى؛
لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يُميّز هذا من هذا ،فقال } :وَاعْ ُبدُواْ رَ ّبكُمْ[ { ..الحج.]77 :
فليست العبرة في حركات الركوع والسجود ،إنما العبرة في التوجّه بها إلى ال ،وإخلص النية
فيها ل ،وإل أصبحت الصلة مجرد حركات ل تعدو أن تكون تمارين رياضية كما يحلو للبعض
أن يقول :الصلة فيها تمارين رياضية تُحرّك كل أجزاء الجسم ،نعم هي كما تقولون رياضة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لكنها ليست عبادة ،العبادة أن تؤديها لن ال تعالى أمرك بها.
ثم يقول تعالى } :وَا ْفعَلُواْ ا ْلخَيْرَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ { [الحج.]77 :
والخير كلمة عامة تشمل كل أوامر التكليف ،لكن جاءت مع الصلة على سبيل الجمال ،لن ما
ل يتم الواجب إل به فهو واجب ،فالخير -إذن -كلمة جامعة لكل ما تؤديه وظائف المناهج من
خير المجتمع؛ لن المنهج ما جاء إل لينظم حركة الحياة تنظيما يتعاون ويتساند ل يتعاند ،فإنْ
سعِد المجتمع بأَسْره.
جاء المر على هذه الصورة َ
ول تنْسَ أن المنهج حين يُضيّق عليك ويُقيّد حركتك يفعل ذلك لصالحك أنت ،وأنت المستفيد من
تقييد الحركة؛ لن ربك قيّد حركتك وضيّق عليك حتى تُلحِق الشر بالخرين ،وفي الوقت نفسه
ضيّق على الخرين جميعا أن يتحركوا بالشر ناحيتك ،وأنت واحد وهم كثير ،فمن أجل تقييد
حركتك قيّد لك حركة الناس جميعا ،فمَنِ الكاسب في هذه المسألة.
غضّ بصرك
الشرع قال لك :ل تسرق وأنت واحد وقال للناس جميعا :ل تسرقوا منه ،وقال لكُ :
غضّوا أبصاركم عن محارم فلن ،فكل تكليف من
عن محارم الغير وأنت واحد .وقال لكل غيرُ :
خلْق يعود عليك.
ال لل َ
فالمعنى } :وَا ْفعَلُواْ ا ْلخَيْرَ { [الحج ]77 :أي :الذي ل يأتي منه فساد أبدا ،وما دامت الحركات
صادرة عن مراد لهوى واحد فإنها تتساند وتتعاون ،فإنْ كان لك هوى ولغيرك هوى تصادمتْ
الهواء وتعاندت ،والخير :كل ما تأمر به التكاليف المنهجية الشرعية من الحق تبارك وتعالى.
ثم يقول سبحانهَ } :لعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ { [الحج ]77 :لكن ،أين سيكون هذا الفَلَح :في الدنيا أم في
الخرة؟
الفلَح يكون في الدنيا لمن قام بشرع ال والتزم منهجه وفعل الخير ،فالفَلح ثمرة طبيعية لمنهج
ال في أيّ مجتمع يتحرك أفرادُه في اتجاه الخير لهم وللغير ،مجتمع يعمل بقول رسول ال صلى
ال عليه وسلم " :ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه " وعندها لن ترى في المجتمع
تزاحما ول تنافرا ول ظلما ول رشوة ..الخ هذا الفلح في الدنيا ،ثم يأتي زيادة على فلح الدنيا
فلح الخرة.
إذن :ل تظنوا التكاليف الشرعية عِبْئا عليكم؛ لنها في صالحكم في الدنيا ،وبها فلح دنياكم ،ثم
يكون ثوابها في الخرة مَحْض الفضل من ال.
وقد نبهنا النبي صلى ال عليه وسلم إلى هذه المسألة فقال " :ل يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا :ول
ن يتغمّدني ال برحمته " ذلك لن النسان يفعل الخير في
أنت يا رسول ال؟ قال :ول أنا ،إل أ ْ
الدنيا لصالحه وصالح دنياه التي يعيشها ،ثم ينال الثواب عليها في الخرة من فضل ال كما قال
تعالى {:وَيَزيدُهُمْ مّن َفضْلِهِ[} ..النساء.]173 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وقوله تعالىَ } :لعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ { [الحج ]77 :نعرف أن لعل أداة للترجي ،وهو درجات بعضها
أرْجى من بعض ،فمثلً حين تقول :لعل فلنا يعطيك ،فأنت ترجو غيرك ول تضمن عطاءه ،فإنْ
قلت :لعلّي أعطيك .فالرجاء -إذن -في يدك ،فهذه أرجى من سابقتها ،لكن ما زلنا أنا وأنت
متساويين ،وربما أعطيك أولً ،إنما حين تقول :لعل ال يعطيك فقد رجوْتَ ال ،فهذه أرجى من
سابقتها ،فإذا قال ال تعالى بذاته :لعلي أعطيك فهذا أقوى درجات الرجاء وآكدها؛ لن الوعد من
ال والرجاء فيه سبحانه ل يخيب.
ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ
جهَا ِدهِ ُهوَ اجْتَبَا ُك ْم َومَا َ
حقّ ِ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :وجَاهِدُوا فِي اللّهِ َ
حَرَجٍ{ ..
.
()2653 /
ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ُهوَ
جهَا ِدهِ ُهوَ اجْتَبَاكُ ْم َومَا َ
حقّ ِ
وَجَا ِهدُوا فِي اللّهِ َ
شهَدَاءَ عَلَى النّاسِ فََأقِيمُوا
شهِيدًا عَلَ ْي ُك ْم وَ َتكُونُوا ُ
سمّاكُمُ ا ْل ُمسِْلمِينَ مِنْ قَ ْبلُ َوفِي هَذَا لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ
َ
صمُوا بِاللّهِ ُهوَ َموْلَاكُمْ فَ ِنعْمَ ا ْل َموْلَى وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ ()78
الصّلَا َة وَآَتُوا ال ّزكَا َة وَاعْ َت ِ
جهَا ِدهِ[ } ..الحج ]78 :كالذي قلناه في{ مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ َقدْ ِرهِ }[الحج ]74 :لن
حقّ ِ
معنى { َ
الجهاد أيضا يحتاج إلى إخلص ،وأنْ تجعل ال في بالك ،فربما خرجتَ لمجرد أن تدفع اللوم عن
نفسك وحملتَ السلح فعلً ودخلت المعركة ،لكن ما في بالك أنها ل وما في بالك إعلء كلمة ال،
كالذي يقاتل للشهرة وليرى الناس مكانته ،أو يقاتل طمعا في الغنائم ،أو لنه مغتاظ من العدو
وبينه وبينه ثأر ،ويريد أن ينتقم منه ،هذه وغيرها أمور تُخرِج القتال عن هدفه وتُفرغه من
محتواه.
لذلك لما سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم :يا رسول ال ،الرجل يقاتل للمغنم ،والرجل يقاتل
ليذكر ،والرجل يقاتل ليُرى مكانه ،فمَنْ في سبيل ال ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :مَنْ
قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في سبيل ال " " وهذا هو حق الجهاد ،وأنت فيه حكَم على
نفسك ،لن ميزان ذلك في يدك
.وقد تسأل :ولماذا الجهاد؟ قالوا :لنك إذا انتفعتَ بالمنهج تطبيقا له بعد التحقيق الذي أتى به
الرسل تنفع نفسك ،لكن ربك -عز وجل -يريد أنْ يُشيع النفع لمن معك أيضا ،وهذا ل يتأتّى إل
بالجهاد بالنفس أو المال أو أي شيء محبوب ،وإل فكيف ستربح الصفقة التي قال ال تعالى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ اّلجَنّةَ[} ..التوبة.]111 :
عنها {:إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ أَنفُ َ
وكما أن للجنود في ساحة القتال مهمة ،كذلك لمن قعد ولم يخرج مهمة :الجندي حين يقتحم
الهوال والمخاطر ويُعرّض نفسه للموت ،فهذا يعني أنه دخل المعركة وما عرّض نفسه للموت،
فهذا يعني أنه ما دخل المعركة وما عرّض نفسه للقتل إل وهو واثق تمام الثقة ،أن ما يذهب إليه
بالقتل خير مما يناله بالجُبْن ،وهذا يشجع الخرين ويحثّهم على القتال.
لذلك ،في غزوة بدر لما سمع الصحابي كلم رسول ال صلى ال عليه وسلم عن أجر الشهيد
وكان في فمه تمرة يمصّها ،فقال :يا رسول ال ،أليس بيني وبين الجنة إل أنْ أُقتل في سبيل ال؟
قال :نعم ،فألقى التمرة من فيه وخرج لتوّه إلى الجهاد لنه واثق تمام الثقة أن ما سيذهب إليه
بالشهادة خير مما ترك.
أما الذين َبقَوْا ولم يخرجوا ،فمهمتهم أن يحملوا المنهج ،وأنْ يحققوه ،وإل لو خرج الجميع إلى
القتال واستشهدوا جميعا ،فمَنْ يحمل منهج ال وينشره؟
وجاءءت كلمة الجهاد عامة لتشمل كل أنواع الجهاد ،فإذا ما أثمر الجهاد ثمرته وتعلبنا على الكفر
فلم َي ُعدْ هناك كفار ،أو خَّلوْا طريق دعوتنا وتركونا ،وأحبوا أنْ يعيشوا في بلدنا أهل ذمة ،فل
داعي -إذن -للقتال ،ويتحول الجهاد إلى ميدان آخر هو جهاد النفس.
لذلك قال تعالى بعدهاُ } :هوَ اجْتَبَاكُمْ[ { ..الحج ]78 :يعني :اختاركم واصطفاكم لتكونوا خير أمة
أُخرجت للناس ،وثمن هذا الجتباء أن نكون أهلً له ،وعلى مستوى مسئوليته ،وأنْ نحقق ما أراده
ال منّا.
كما ننصح جماعة من أهل الدعوة الذين حملوا رايتها ،نقول لهم :لقد اختاركم ال ،فكونوا أَهْلً
لهذا الختيار ،واجعلوا كلمه تعالى في محلّه.
ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ[ { ..الحج ]78 :يعني :ما اجتباكم ليُعنتكم،
ثم يقول سبحانهَ } :ومَا َ
أو ليُضيّق عليكم ،أو ليُعسّر عليكم المور ،إنما جعَل المر كله يُسْر ،وشرعه على قَدْر
الستطاعة ،ورخّص لكم ما يُخفّف عنكم ،ويُذهِب عنكم الحرج والضيق ،فمَنْ لم يستطع القيام
صلى قاعدا ،ومَنْ كان مريضا أفطر ،والفقير ل زكاة عليه ول حج ..الخ.
كما قال سبحانه في موضع آخر {:وََلوْ شَآءَ اللّهُ لَعْنَتَكُمْ[} ..البقرة ]220 :لكنه سبحانه ما أعنتكم
ول ضَيّق عليكم ،وما كلّفكم إل ما تستطيعون القيام به.
وقوله تعالى } :مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ { [الحج ]78 :كلمة (ملة) جاءت هكذا بالنصب ،لنها مفعول به
سِلمَيْنِ َلكَ َومِن
جعَلْنَا مُ ْ
لفعل تقديره( :الزموا) مِلة أبيكم إبراهيم؛ لنكم دعوته حين قال {:رَبّنَا وَا ْ
سكَنَا وَ ُتبْ عَلَيْنَآ[} ..البقرة]128 :
ك وَأَرِنَا مَنَا ِ
ذُرّيّتِنَآ ُأمّةً مّسِْلمَةً ّل َ
ومن دعوة إبراهيم عليه السلم {:رَبّنَا وَا ْبعَثْ فِيهِمْ َرسُولً مّ ْنهُمْ[} ..البقرة ]129 :لذلك كان النبي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صلى ال عليه وسلم يقول " :أنا دعوة أبي إبراهيم ،وبُشْرى عيسى ".
سكَنَا[} ..البقرة ]128 :أعطنا التكاليف ،وكأنه
يعني :من ذريته وذرية ولده إسماعيل{ وَأَرِنَا مَنَا ِ
مُتشوّق إلى تكاليف ال ،وهل يشتاق النسان للتكليف إنْ كان فيه ضيق أو مشقة؟
وكذلك كان صحابة النبي صلى ال عليه وسلم يعشقون تكاليف السلم ،ويسألون عنها رسول ال
رغم قوله لهم " :ذروني ما تركتكم " إل أنهم كانوا يسألون عن أمور الدين ليبنوا حياتهم الجديدة،
ل على ما كانت الجاهلية تفعله ،بل على ما أمر به السلم.
ولنا مَلْحظ في قوله تعالى } :مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ[ { ..الحج.]78 :
عقَديّ للجميع ،وفي أمة السلم مَنْ ليس من ذرية إبراهيم ،لكن إبراهيم عليه
نقول :السلم انقياد َ
السلم أبٌ لرسول ال محمد صلى ال عليه وسلم ،والرسول أب لكل مَنْ آمن به؛ لن أبوة
الرسول أبوة عمل واتباع ،كما جاء في قول ال تعالى في قصة نوح عن ابنه {:إِنّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهِْلكَ[} ..هود.]46 :
سمّى ال زوجاته أمهات للمؤمنين ،فقال
ولما كان النبي صلى ال عليه وسلم أبا لكل مَنْ آمن به َ
سهِ ْم وَأَ ْزوَاجُهُ ُأ ّمهَا ُتهُمْ[} ..الحزاب.]6 :
سبحانه {:النّ ِبيّ َأوْلَىا بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْ أَ ْنفُ ِ
وما دامت الزواج أمهات ،فالزوج أب ،وبناءً على هذه الصلة يكون إبراهيم عليه السلم أبا لمة
السلم ،وإنْ كان فيهم مَنْ ليس من سللته.
ونجد البعض ممّنْ يحبون العتراض على كلم ال يقولون في مسألة أبوة الرسول لمته :لكن
القرآن قال غير ذلك ،قال في قصة زيد بن حارثة:
حمّدٌ أَبَآ َأحَدٍ مّن رّجَاِلكُمْ[} ..الحزاب ]40 :فنفى أن يكون محمد أبا لحد ،وفي هذا ما
{ مّا كَانَ ُم َ
يناقض كلمكم.
نقول :لو فهمتم عن ال ما اعترضتُم على كلمه ،فال يقول :ما كان محمد أبا لحدكم ،بل هو أب
للجميع ،فالمنفيّ أن يكون رسول ال أبا لواحد ،ل أن يكون أبا لجميع أمته .وقال بعدها {:وَلَـاكِن
رّسُولَ اللّهِ[} ..الحزاب ]40 :وما دام رسول ال ،فهو أب للكل.
سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ مِن قَ ْبلُ[ { ..الحج ]78 :يعني:
ثم يقول تعالى عن إبراهيم عليه السلمُ } :هوَ َ
إبراهيم عليه السلم سماكم المسلمين ،فكأن هذه مسألة واضحة وأمْر معروف أنكم مسلمون منذ
ش َهدَآءَ عَلَى النّاسِ..
علَ ْيكُ ْم وَ َتكُونُواْ ُ
شهِيدا َ
إبراهيم عليه السلمَ } :وفِي هَـاذَا لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ
{ [الحج.]78 :
س وَ َيكُونَ الرّسُولُ
شهَدَآءَ عَلَى النّا ِ
وفي موضع آخر يحدث تقديم وتأخير ،فيقول سبحانه {:لّ َتكُونُواْ ُ
شهِيدا }[البقرة.]143 :
عَلَ ْيكُمْ َ
لماذا؟ قالوا :لن رسول ال بلّغ رسالة ال ،وأشهد ال على ذلك حين قال " :اللهم قد بلغت ،اللهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فاشهد " أشهد أنّي بلغتُ ،وهو صلى ال عليه وسلم يريد من أمته أن يكون كل شخص فيها حاملً
لهذه الرسالة ،مُبلّغا لها حتى يسمع كلم الرسول مَنْ لم يحضره ولم يَ َرهُ ،وهكذا يكون الرسول
شهيدا على مَنْ آمن به ،ومَنْ آمن شهيدا على مَنْ بلّغه.
لذلك من شرف أمة محمد أولً أنه ل يأتي بعده رسول؛ لنهم مأمونون على منهج ال ،وكأن
الخير ل ينطفيء فيهم أبدا .وقلنا :إن الرسل ل يأتون إل بعد أنْ يعُمّ الفساد ،ويفقد الناس المناعة
الطبيعية التي تحجزهم عن الشر ،وكذلك يفقدها المجتمع كله فل ينهى أحد أحدا عن شر؛ عندها
يتدخل الحق سبحانه برسول ومعجزة جديدة ليُصلح ما فسد.
فختام الرسالت بمحمد صلى ال عليه وسلم شهادة أن الخير ل ينقطع من أمته أبدا ،ومهما
انحرف الناس سيبقى جماعة على الجادة يحملون المنهج ويتمسكون به ويكونون قدوة لغيرهم.
لذلك حدّد رسول ال هذه المسألة فقال " :الخير فيّ حصرا ،وفي أمتي نثرا " فالخير كله والكمال
كله في شخص رسول ال ،ومنثور في أمته.
ل َة وَآتُواْ ال ّزكَـاةَ[ { ..الحج ]78 :لنها
ثم يعود السياق إلى المر بالصلة } :فََأقِيمُواْ الصّ َ
الفريضة الملزمة للمؤمن ،وفيها إعلء الولء المكرر في اليوم خمس مرات ،وبها يستمر ِذكْر
ال على مدى الزمن كله ل ينقطع أبدا في لحظة من لحظات الزمن حين تنظر إلى العالم كله،
وتضم بعضه إلى بعض.
والمتأمل في الزمن بالنسبة للحق -تبارك وتعالى -يجده دائما ل ينقطع ،فاليوم مثلً عندنا أربع
وعشرون ساعة ،واليوم عند ال ألف سنة مما تعدّون ،واليوم في القيامة خمسون ألف سنة،
وهناك يوم اسمه يوم الن أي :اللحظة التي نحن فيها ،وهو يوم ال الذي قال عنه:
جفّ؟
{ ُكلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن ]29 :لذلك يقول :ما شغل ربك الن وقد صَحّ أن القلم قد َ
قال " :أمور يبديها ول يبتديها ،يرفع أقواما ،ويضع آخرين ".
فيوم الن يوم عام ،ل هو يوم مصر ،ول يوم سوريا ،ول يوم اليابان إذن :في كل لحظة يبدأ ل
يوم ينتهي يوم ،فيومه تعالى مستمر ل ينقطع.
ونقرأ في الحديث النبوي الشريف " :إن ال يبسط يده بالليل ليتوب مُسِيء النهار ،ويبسط يده
بالنهار ليتوب مُسيء الليل ".
نهار مَنْ؟ وليل مَنْ؟ فالنهار والليل في الزمن دائم ل ينقطع ،وفي كل لحظة من لحظات الزمن
ينتهي يوم ويبدأ يوم ،وينتهي ليل ويبدأ ليل .إذن :فال تعالى يده مبسوطة دائما ل يقبضها أبدا،
كما قال سبحانهَ {:بلْ يَدَاهُ مَ ْبسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَ ْيفَ يَشَآءُ[} ..المائدة]64 :
صمُواْ بِاللّهِ { [الحج ]78 :الجئوا إليه في الشدائد ،وهذا يعني أنكم
ثم يقول سبحانه } :وَاعْ َت ِ
ت في
ستُواجهون وتُضطهدون ،فما من حامل منهج ل إل اضُطهد ،فل يؤثر فيكم هذا ول يفُ ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عضُدكم ،واجعلوا ال ملجأكم ومعتصمكم في كل شدة تداهمكم ،كما قال سبحانه {:لَ عَاصِمَ الْ َيوْمَ
َ
مِنْ َأمْرِ اللّهِ ِإلّ مَن رّحِمَ }[هود.]43 :
لكُمْ { [الحج ]78 :يعني :المتولّي لشأنكم،
واعتصامكم بال أمر ل تأتون إليه بأنفسكم إنما } ُهوَ َموْ َ
وما دام هو سبحانه مولكم } فَ ِنعْمَ ا ْل َموْلَىا وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ {
.
()2654 /
لما قال الحق -تبارك وتعالى -في الية قبل السابقة من سورة الحج{ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ[} ..الحج:
ل تفيد الرجاء ،أراد سبحانه أن يؤكد هنا على فلح المؤمنين فقال { :قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }
]77ولع ّ
[المؤمنون ]1 :وأن الرجاء من ال واقع ومؤكد ،لذلك جاء بأداة التحقيق { َقدْ } التي تفيد تحقّق
وقوع الفعل ،وهكذا تنسجم بداية سورة (المؤمنون) مع نهاية سورة (الحج).
وقوله تعالى هناك{ ُتفْلِحُونَ }[الحج ]77 :وهنا { َأفْلَحَ } [المؤمنون ]1 :مادة (فلح) مأخوذة من
ق الرض :إهاجتها
شّفلحة الرض ،والفَلْح هو الشق؛ لذلك قالوا :إن الحديد بالحديد يفلح ،و َ
سمّي الزرع حَرْثا في قوله سبحانه{:
وإثارتها بالحرث ،وهذه العملية هي أساس الزرع ،ومن هنا ُ
خصَامِ * وَإِذَا
شهِدُ اللّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْ ِب ِه وَ ُهوَ أَلَدّ الْ ِ
َومِنَ النّاسِ مَن ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ
سلَ }[البقرة.]205 - 204 :
سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْرثَ وَالنّ ْ
َتوَلّىا َ
ومعنى أفلح :فاز بأقصى ما تتطلع إليه النفس من خير.
والرض حين تحرثها تكون خالية ليس فيها شيء ُيهْلَك ،إذن :المراد بالحرث هنا الزرع الناتج
عن عملية الحرث ،والتي ل بُدّ منها كي تتم عملية الزراعة؛ لنك بالحرث تثير التربة ليتخللها
الهواء ،فيزيد من خصوبتها وصلحها لستقبال البذرة ،وسبق أن تحدثنا عن عملية النبات،
وكيف تتم ،وأن النبات يتغذى على فَلْقتي البذرة إلى أن يصبح له جذر قوي يستطيع أن يمتصّ من
التربة ،فإن ألقيتَ البذرة في أرض صماء غير مثارة فإن الجذر يجد صعوبة في اختراق التربة
والمتصاص منها.
فالحق -تبارك وتعالى -يعطينا صورة من واقعنا المشاهد ،ويستعير من فلحة الرض ليعبر
عن فلح المؤمن وفوزه بالنعيم المقيم في الخرة ،فالفلح يحرث أرضه ويسقيها ويرعاها فتعطيه
الحبة بسبعمائة حبة ،وهكذا سيكون الجزاء في الخرة {:مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عفُ ِلمَن يَشَآ ُء وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبُلَةٍ مّئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ ُيضَا ِ
[البقرة.]261 :
فإذا كانت الرض المخلوقة ل عز وجل تعطي كل هذا العطاء ،فما بالك بعطاء مباشر من خالقك
وخالق الرض التي تعطيك؟ وكما أن الفلح إذا تعب واجتهد زاد محصوله ،كذلك المؤمن كلما
تعب في العبادة واجتهد زاد ثوابه وتضاعف جزاؤه في الخرة
.
()2655 /
شعُونَ ()2
الّذِينَ هُمْ فِي صَلَا ِتهِمْ خَا ِ
كان أول ظاهرية الفلح في الصلة ،وما يزال الحديث عنها موصولً بما قاله ربنا في اليات
سجُدُو ْا وَاعْبُدُواْ رَ ّبكُمْ[} ..الحج ]77 :وقال بعدها {:فََأقِيمُواْ
السابقة {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ْر َكعُو ْا وَا ْ
لةَ وَآتُواْ ال ّزكَـاةَ[} ..الحج.]78 :
الصّ َ
شعُونَ } [المؤمنون]2 :
وهنا جعل أول وصف للمؤمنين الذين أفلحوا { الّذِينَ ُهمْ فِي صَلَ ِتهِمْ خَا ِ
فلم يقل مثلً :مؤدون؛ لن أمر أداء الصلة في حق المؤمنين مفروغ منه ،العبرة هنا بالهيئة
والكيفية ،العبرة بالخشوع والخضوع وسكينة القلب وطمأنينته واستحضار ال الذي تقف بين يديه.
كما تقول لولدك :اجلس أمام المعلم باهتمام ،واستمع إليه بإنصات ،فأنت ل توصيه بالذهاب إلى
المدرسة أو حضور الدرس ،فهذا أمر مفروغ منه؛ لذلك تهتم بجوهر الموضوع والحالة التي
ينبغي أن يكون عليها.
والخشوع أن يكون القلب مطمئنا ساكنا في مهمته هذه ،فل ينشغل بشيء آخر غير الصلة؛ لن
ال ما جعل لرجل من قلبين في جوفه ،وما دام في حضرة ربه عز وجل فل ينبغي أن ينشغل
بسواه ،حتى إن بعض العارفين لمعنى الخشوع يقول :إن الذي يتعمد معرفة مَنْ على يمينه أو مَنْ
على يساره في الصف تبطل صلته.
ولما دخل سيدنا عمر -رضي ال عنه -على رجل يصلي ويعبث بلحيته ،فضربه على يده
وقال :لو خشع قلبك لخشعتْ جوارحك.
ذلك لن الجوارح تستمد طاقتها من القلب ومن الدم الذي يضخه فيها ،فلو شغل القلب عن
الجوارح ما تحركت.
لذلك لما سأل أحد الفقهاء صوفيا :ما حكم مَنْ سها في صلته؟ قال :حكمه عندنا أم عندكم؟ قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ألنا عند ولكم عند؟ قال :نعم ،عند الفقهاء مَنْ يسهو في الصلة يجبره سجود السهو ،أما عندنا فمَنْ
يسهو في الصلة نقتله .يعني مسألة كبيرة.
ثم ألَ يستحق منك ربك وخالقك أن تتفرغ له سبحانه على القل وقت صلتك ،وهي خمس دقائق
في كل وقت من الوقات الخمسة ،وقد تركك باقي الوقت تفعل ما تشاء؟ اتستكثر على ربك أن
تُفرّغ له قلبك ،وأن تستحضره سبحانه ،وهذه العملية في صالحك أنت قبل كل شيء ،في صالحك
أن تكون في جلوة مع ربك تستمد منه سبحانه الطاقة والمعونة ،وتتعرض لنفحاته وإشراقاته
وتقتبس من أنواره وأسراره؟
ومن حرص أهل التقوى على سلمة الصلة وتمامها قال أحدهم لصاحبه الذي يحرص على أنْ
يؤم الناس :لماذا تحرص على المامة وأنت تعرف أن طالب الولية ل يُولّى؟ قال :نعم أحرص
عليها لخرج من الخلف بين الشافعي الذي قال بقراءة الفاتحة خلف المام ،وأبي حنيفة الذي قال
بأن قراءة المام قراءة للمأموم ،فأحرص على المامة حتى أقرأ أنا ،ول أنشغل بهذا الخلف.
()2656 /
اللغو :الكلم الذي ل فائدة منه ،ويُطلق أيضا على كل فعل ل جدوى منه ،وفي موضع آخر يقول
تعالى {:وَإِذَا مَرّواْ بِالّل ْغوِ مَرّوا كِراما }[الفرقان ]72 :ل يشغلون به ول يأبهون له ،وحكى القرآن
ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ[} ..فصلت.]26 :
س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ
عن الكفار عند سماعهم القرآن قولهم {:لَ تَ ْ
س َمعُونَ فِيهَا َلغْوا وَلَ تَأْثِيما * ِإلّ قِيلً
لذلك جعل الحق -تبارك وتعالى -من نعيم الجنة {:لَ يَ ْ
سَلَما سَلَما }[الواقعة ]26 - 25 :كأن من المعايب في الدنيا ومن مصائبها أن نسمع فيها لغوا
كثيرا ل فائدة منه ،وفي آية أخرى يقول عن خمر الخرة التي ل تُذهب العقل ،ول تجعل صاحبها
يهذي بلغو الكلم {:يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسا لّ َل ْغوٌ فِيهَا َولَ تَأْثِيمٌ }[الطور.]23 :
و { ّمعْ ِرضُونَ } [المؤمنون ]3 :العراض في الصل تجنّب الشيء ،وهو صورة لحركة إباء
النفس لشيء ما .وأهل المعرفة يضعون للغو مقياسا ،فيقولون :كل عمل ل تنال عليه ثوابا من ال
فهو لغو.
لذلك احرص دائما أن تكون حركتك كلها ل حتى تُثَابَ عليها ،كصاحبنا الذي دخل عليه رجل
وقصده في قضاء أمر من المور وهو ل يملك هذا المر ،لكن أراد أنْ يستغل فرصة الخير هذه،
وأن يكون له ثواب حتى في حركة المتناع عنه ،فرفع يده :اللهم إنه عبد قصد عبدا وأنا آخذ بيده
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ن كنتُ ل أقدر على
وأقصد ربا ،فاجعل تصويب خطئه في قصدي تصويبا لقصدك .يعني :أنا وإ ْ
قضائها إل أنني أدخل بها على ال من هذه الناحية.
()2657 /
الزكاة أولً تطلق على معنى التطهير ،كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى {:خُذْ مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ
طهّرُهُ ْم وَتُ َزكّيهِمْ ِبهَا }[التوبة ]103 :لن الغفلة قد تصيب النسان حال جمع المال ،فيخالط
صَ َدقَةً ُت َ
ماله ما فيه شبهة مثلً ،فيحتاج إلى تطهير ،وتطهير المال يكون بالصدقة منه.
والزكاة بمعنى النماء ،فبعد أن تُطهر المال تُنمّيه وتزيده ،كما جاء في قوله تعالىَ {:قدْ َأفْلَحَ مَن
َزكّاهَا }[الشمس ]9 :يعني :نمّى ملَكة الخير فيها ،ورقّاها وصعّدها بأن ينظر إلى العمل إنْ كان
سينقص منك في الظاهر ،إل أنه سيجلب لك الخير فيما بعد ،فترتقي بذلك ملكَات الخير في نفسك.
لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن الربا ،وهو الزيادة جمع المتناقضات في آية واحدة ،فالربا يزيد
المال ويأخذ المرابي المائة مائة وعشرا ،في حين تنقص الزكاة من المال في الظاهر ،فالمائة بعد
الزكاة تصبح سبعة وتسعين ونصفا ،ثم تأتي الية لتضع أمامك المقياس الحقيقيَ {:ي ْمحَقُ اللّهُ الْرّبَا
حقٌ ،والذي تظنه نقصا هو بركة
وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ }[البقرة ،]276 :فالربا الذي تظنه زيادة هو مَ ْ
وزيادة ونماء.
وفي آية أخرى يقول تعالىَ {:ومَآ آتَيْتُمْ مّن رّبا لّيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَلَ يَرْبُو عِندَ اللّ ِه َومَآ آتَيْ ُتمْ
ضعِفُونَ }[الروم ]39 :أي :الذين يضاعف ال لهم
ن وَجْهَ اللّهِ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُم ْ
مّن َزكَاةٍ تُرِيدُو َ
ويزيدهم.
وكما أمرنا ربنا -تبارك وتعالى -بالخشوع في الصلة أمرنا كذلك في الزكاة ،فلم يقل :مؤدون.
ولكن { فَاعِلُونَ } [المؤمنون ]4 :وهذه من تربية مقامات العبادة في النسان ،فأنت حين تصلي
ينبغي أن تخشع وتخضع في صلتك ل ،وكذلك حين تُزكّي تُرقّي ملكَة الخير في نفسك ،فحين
سعْيك حاجتك،
تعمل وتسعى ل تعمل على قَدْر حاجتك ،وإنما على قَدْر طاقتك ،فتأخذ من ثمرة َ
وفي نيتك أن تُخرِج من الباقي زكاة مالك وصدقتك ،فالزكاة -إذن -في بالك وفي نيتك بدايةً.
ج ِهمْ} ..
ثم يقول الحق سبحانه { :وَالّذِينَ ُهمْ ِلفُرُو ِ
.
()2658 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جهِمْ حَافِظُونَ ()5
وَالّذِينَ ُهمْ ِلفُرُو ِ
()2659 /
جهِمْ َأوْ مَا مََلكَتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّن ُهمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ()6
إِلّا عَلَى أَ ْزوَا ِ
أي :يحفظون فروجهم إل على أزواجهم؛ لن ال أحلها { َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ[ } ..المؤمنون]6 :
ومِلْك اليمين حلل لم َيعُد له موضع ،ولم َيعُد له وجود الن ،وقد حرم هذا القانون البشري
الدولي ،فلم يعد هناك إماء كما كان قبل السلم ،فهذا حكم مُعطّل لم َي ُعدْ له مدلول ،وفرق بين أن
يُعطّل الحكم لعدم وجود موضوعه وبين أن يُلْغى الحكم ،فمِلْك اليمين حكم لم يُلْغ ،الحكم قائم إنما
ل يوجد له موضوع.
ولتوضيح هذه المسألةَ :هبْ أنك في مجتمع كله أغنياء ،ليس فيهم فقير ول مستحق للزكاة عندها
تقول :حكم الزكاة مُعطّل ،فهي كفريضة موجودة ،لكن ليس لها موضوع.
وبعض السطحيين يقولون :لقد ألغى عمر بن الخطاب -رضي ال عنه -سهام المؤلفة قلوبهم،
والحقيقة أنه ما ألغى ول يملك أن يُلغي حكما من أحكام ال ،إنما لم يجد أحدا من المؤلّفة قلوبهم
ليعطيه ،فالحكم قائم لكن ليس له موضوع ،بدليل أن حكم تأليف القلوب قائم ومعمول به حتى الن
في بلد المسلمين ،وكثيرا ما نحاول تأليف قلوب بعض الكُتّاب وبعض الجماعات لنعطفها نحو
سهْم المؤلفة قلوبهم ما زال
السلم ،خاصة وغيرنا يبذلون قصارى جهودهم في ذلك .إذن :ف َ
موجودا ويُعمل به.
ن يقول :إن عمر -رضي ال عنه -عطّل حَدّ السرقة في عام الرمادة ،وهذا ادعاء
كما نسمع مَ ْ
مخالف للحقيقة؛ لنه ما عطّل هذا الحد إنما عطّل نصا وأحيا نصا؛ لن القاعدة الشرعية تقول:
جوْعته فلم يصل إلى نصاب السرقة ،فالسرقة
سدّ َ
ادرأوا الحدود بالشبهات .وما دام قد سرق لي ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تكون بعد قدر يكفي الضرورة.
ولقائل أن يقول :إذا دارت حرب بين المؤمنين والكافرين وأسروا منا وأسرنا منهم ،أل يوجد
حينئذ مِلْك اليمينِ؟ نقول :نعم يوجد مِلْك اليمين ،لكن ستواجهك قوانين دولية ألزمتَ نفسك بها
ق فمِلْك اليمين قائم وموجود.
ن وُجِد الر ّ
وارتضيتها تقول بمنع الرقّ وعليك اللتزام بها ،لكن إ ْ
وهذه المسألة يأخونها سُبّة في السلم ،وكيف أنه يبيح للسيد كذا وكذا من مِلْك يمينه.
وهذا المأخذ ناشيء عن عدم فهم هؤلء للحكمة من مِلْك اليمين ،وأن كرامة المملوكة ارتفعت بهذه
الباحة ،فالمملوكة ُأخِذت في حرب أو خلفه ،وكان في إمكان مَنْ يأخذها أن يقتلها ،لكن الحق
سبحانه حمى دمها ،ونمّى في النفس مسألة النفعية ،فأباح لمَنْ يأسرها أن ينتفع بها وأحلّها له
أيضا.
لمَة أو السيرة في بيت سيدها ومعه زوجة أو أكثر وهي تشاهد هذه
ولك أن تتصور هذه ا َ
العلقات الزوجية في المجتمع من حولها ،إن من حكمة ال أن أباح لسيدها معاشرتها؛ لنها لن
ترى لربة البيت بعد ذلك مزيّة عليها؛ لنهما أصبحا سواء ،فإذا ما حملتْ من سيدها فقد أصبحتْ
حُرّة بولدها ،وكأن الحق سبحانه يُسيّر المور تجاه العِتْق والحرية .ألَ تراه بعد هذا يفتح باب
العتق ويُعدّد أسبابه ،فجعله أحد مصارف الزكاة وبابا من أبواب الصدقة وكفّارة لبعض التجاوزات
التي يرتكبها النسان.
ثم يقول سبحانه { :فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون ]6 :يعني :ل نمدحهم ول نذمّهم ،وكأن المسألة
هذه في أضيق نطاق.
ثم يقول الحق سبحانهَ { :فمَنِ ابْ َتغَىا وَرَآءَ ذاِلكَ} ..
.
()2660 /
َفمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ ()7
{ ابْ َتغَىا } :طلب { ،وَرَآءَ ذاِلكَ } :غير ما ذكرناه من الزواج ومِلْك اليمين.
وسبق أن ذكرنا أن كلمة { وَرَآءَ } استُعمْلت في القرآن لمعَان عدة ،فهي هنا بمعنى غير الزواج
حلّ َل ُكمْ مّا وَرَاءَ ذَاِلكُمْ }[النساء ]24 :يعني:
ومِلْك اليمين .ومن ذلك أيضا قوله سبحانه.. {:وَأُ ِ
ح ّرمْت عليكم كذا وكذا ،وأحلَ ْلتُ لكم غير ما ُذكِر.
وتُستعمل وراء بمعنى َبعْد؛ لن الغيرية قد تتحد في الزمن ،فيوجد الثنان في وقت واحد ،أمّا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ق َومِن وَرَآءِ
ح َكتْ فَبَشّرْنَاهَا بِِإسْحَا َ
البعدية فزمنها مختلف ،كما قوله تعالى {:وَامْرَأَتُهُ قَآ ِئمَةٌ َفضَ ِ
سحَاقَ َي ْعقُوبَ }[هود ]71 :يعني :من بعده؛ لن الزمن مختلف.
إِ ْ
وتأتي وراء بمعنى :خلف ،كما في قوله تعالى {:وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ
ظهُورِهِ ْم وَاشْتَ َروْاْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ }[آل عمران:
س َولَ َتكْ ُتمُونَهُ فَنَ َبذُوهُ وَرَآءَ ُ
لِلنّا ِ
]187يعني :جعلوه خلف ظهورهم.
غصْبا }
سفِينَةٍ َ
خذُ ُكلّ َ
وتأتي وراء أيضا بمعنى أمام ،كما في قوله تعالىَ {:وكَانَ وَرَآءَهُم مِّلكٌ يَأْ ُ
غصْبا.
[الكهف ]79 :ومعلوم أن الملك كان أمامهم ينتظر كل سفينة تمرّ به فيأخذها َ
جهَنّمُ[} ..ابراهيم ]16 :وجهنم أمامه ،وستأتي فيما بعد ،ولم َت ْمضِ فتكون
وقوله تعالى {:مّن وَرَآئِهِ َ
خلفه.
ومعنى { :فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ[ } ..المؤمنون ]7 :أي :المعتدون المتجاوزون لما شُرع لهم،
وربنا -تبارك وتعالى -حينما يُحذّرنا من التعدي يُفرّق بين التعدي في الوامر ،والتعدي في
النواهي ،فإنْ كان في الوامر يقول {:فَلَ َتعْتَدُوهَا }[البقرة.]229 :
وإن كان في النواهي يقول {:فَلَ َتقْرَبُوهَا }[البقرة.]187 :
عهْدِهِمْ} ..
لمَانَاتِهِمْ وَ َ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَالّذِينَ ُه ْم َ
.
()2661 /
{ رَاعُونَ } :يعني يحافظون عليها ويراعونها بالتنفيذ ،والمانة :كل ما استُؤمِنْت عليه ،وأول
شيء استؤمِنتَ عليه عهد اليمان بال الذي أخذه ال عليك ،وما ُدمْت قد آمنت بالله فعليك أن
تُنفّذ أوامره.
لمَانَةَ
إذن :هناك أمانة للحق وأمانة للخَلْق ،أمانة الحق التي قال ال تعالى عنها {:إِنّا عَ َرضْنَا ا َ
حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما
شفَقْنَ مِ ْنهَا وَ َ
حمِلْ َنهَا وَأَ ْ
ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
عَلَى ال ّ
جهُولً }[الحزاب.]72 :
َ
فما ُد ْمتَ قد قبلت تحمّل المانة ،فعليك الداء.
أما العهد :فكل ما يتعهد به النسان في غير معصية ويلزمه الوفاء بما عاهد به؛ لنك حين تعاهد
طتَ حركته وقيدتها في دائرة إنفاذ هذا العهد ،فحين تقول لي :سأقابلك غدا
إنسانا على شيء فقد رب ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في المكان الفلني في الوقت الفلني لعمل كذا وكذا ،فإنني سأُرتّب حركة حياتي بناءً على هذا
الوعد ،فإذا أخلفتَ وعدك فقد أطلقتَ نفسك في زمنك وتصرفت حسْب راحتك ،وقيّدْت حركتي أنا
في زمني وضيّعت مصالحي ،وأربكت حركة يومي؛ لذلك شدّد السلم على مسألة خُلْف الوعد.
()2662 /
في اليات السابقة تحدّث عن الصلة من حيث هيئة الخشوع والخضوع فيها ،وهنا يذكر الصلة
من حيث أدائها والحفاظ عليها؛ لن الحفظ يعني أن تأخذ كل وقت من أوقات الصلة بميلده
وميلد الوقات بالذان ،لكن البعض يقولون :إن الوقت ُممْتدّ ،فالظهر مثلً ُممْتد من أذان الظهر
إلى قبل أذان العصر ،وهكذا في باقي الصلوات.
ن يضمن لك الحياة إلى آخر الوقت؟ مَنْ يضمن لك أن
نقول :نعم هذا صحيح والوقت مُمتد ،لكن مَ ْ
تصلي العشاء مثلً قبل أذان الفجر؟ نعم ،تظل غير آثم إلى آخر لحظة إذا تمكنتَ من الصلة
وصلّيْتَ ،لكن هل تضمن هذا؟ كالذي يستطيع أن يحج ،إل أنه أخّر الحج إلى آخر أيامه ،فإنْ حج
فل شيء عليه ،لكنه ل يضمن البقاء إلى أنْ يحج؛ لذلك يجب المبادرة بالحج عند أول استطاعة
حتى ل تأثم إنْ فاتك وأنت قادر.
()2663 /
{ ُأوْلَـا ِئكَ } [المؤمنون ]10 :يعني :أصحاب الصفات المتقدمة ،وهم ستة أصناف :الذين هم في
صلتهم خاشعون ،والذين هم عن اللغو معرضون ،والذين هم للزكاة فاعلون ،والذين هم لفروجهم
حافظون ،والذين هم لماناتهم وعهدهم راعون ،والذين هم على صلواتهم يحافظون.
هؤلء هم الوارثون ،والرْثَ :أخْذ حق من غير عقد أو هبة؛ لن َأخْذ مال الغير ل بُدّ أن يكون
إما ببيع وعقد ،وإما هبة من صاحب المال .لذلك سألوا الوارث :أهذا حقك؟ قال :نعم ،قالوا :فما
صكّك عليه؟ يعني :أين العقد الذي أخذته به؟ قال :عقدي وصَكّي {:يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي َأ ْولَ ِدكُمْ لِل ّذكَرِ
مِ ْثلُ حَظّ الُنْثَيَيْنِ }[النساء ]11 :فهو عقد أوثق وأعلى من تعاقد البشر.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وما دام عقدي من الحق -تبارك وتعالى -فل ت ُقلْ :إن الميراث مأخوذ بغير عقد؛ لنه قائم على
أوثق العقود ،وهو العقد من ال.
وكثيرا ما يخرج الناس في مسألة الميراث عما شرع ال حُبا في المال واستئثارا به ،أو بخلً على
مَنْ جعل له الشرع نصيبا ،فمَنْ كان عنده البنون والبنات يعطي البنين ويحرم البنات ،ومَنْ كان
عنده بنات يكتب لهُنّ ما يملك حتى يحرم إخوته وأعمامهم من حقهم في ماله ،وهذا كثيرا ما
يحدث في المجتمع.
ويجب عليك أن تتنبه لمسألة الميراث وتحترم شرع ال فيه وتقسيم ال للمال ،فقد وهبك ال المال
وتركك تتصرف فيه طوال حياتك ،وليس لك أن تتصرف فيه أيضا بعد موتك ،عليك أنْ تدعَ
المال لصاحبه وواهبه يتصرف فيه؛ لذلك قال ال تعالى عن الرث {:فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ }[النساء:
ن تمتثل لها وتنفذها ،وحين تتأبّى عليها
]11يعني :ليست من أحد آخر ،وما دامت من ال فعليك أ ْ
فإنك تتأبّى على ال وترفض قِسْمته.
والمتأمل في مسألة الرث يجد الخير كل الخير فيما شرعه ال ،ومَنْ كان يحب البنين فل ُيعْط
البنات حتى ل يفسد علقة أولده من بعده ،ويأتي إلينا بعض الرجال الذين أخذوا كل مال أبيهم
وحَرَموا منه البنات ،يقولون :نريد أن نُصحّح هذا الخطأ ونعيد القسمة على ما شرع ال.
ونجد عند بعض الناس إشراقات إيمانية ،فإنْ رفض بعض الخوة إعادة التقسيم على شرع ال
يقول :أنا أتحمل ميراث أخواتي من مالي الخاص ،ومثل هؤلء يفتح ال عليهم ويبارك لهم فيما
بقي؛ لنهم جعلوا اعتمادهم على ال فيزيدهم من فضله ويُربي لهم القليل حتى يصير كثيرا ،أما
مَنِ اعتمد على ما في يده فإن ال يكِلُه إليه.
ونعجب من الذي يجعل ماله للبنات ليحرم منه إخوته ،نقول له :أنت لستَ عادلً في هذا
التصرف ،يجب أن تعاملهم بالمثل ،فلو تركت بناتك فقراء ل مال لهن ،فمَنْ يعولهُنّ ويرعاهن من
بعدك؟ يعولهن العمام.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لقد خلق ال الخَلْق ،وأعطى للناس أسباب ملكيته ،ووزّع هذه الملكية بين عباده :هذا يملك كذا،
وهذا يملك كذا من فضل ال تعالى .فإذا كان يوم القيامة عاد الملْك كله إلى صاحبه ،وكان الحق
حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر.]16 :
سبحانه وتعالى هو الوارث الوحيد يوم يقولّ {:لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ
وال خير الوارثين؛ لن الوارث يأخذ ما ورثه لينتفع هو به ،لكن الحق سبحانه يرث ما تركه
للغير ليعود خَيْره عليهم ويزيدهم ،ويعطيهم أضعافا مضاعفة ،وإذا كان يعطيهم في الدنيا بأسباب
فإنه في الخرة يرث هذه السباب ،ويعطيهم من فضله بل أسباب ،حيث تعيش في الجنة مستريحا
س ْعيَ ،وما يخطر ببالك تجده بين يديك دون أنْ تُحرّك ساكنا.
ب ول نصبَ ول َ
ل تع َ
إذن :البشر يرثون ليأخذوا ،أمّا الحق سبحانه فيرث ليعطي؛ لذلك فهو خير الوارثين.
فأيّ شيء يرثه المؤمنون الذين توفرت فيهم هذه الصفات؟ يجيب الحق سبحانه } :الّذِينَ يَرِثُونَ
ا ْلفِرْ َدوْسَ{ ..
.
()2664 /
إذن :الحق سبحانه ورّثهم في الفانية ليعطيهم الفردوس الخالد في الخرة ،والفردوس أعلى الجنة،
فورث الحق لينفع عباده ويُصعّد النفع لهم ،ففي الدنيا كنا ننتفع بالسباب ،وفي الخرة ننتفع بغير
أسباب ،الحق ورث ليعطي ،ل مِثْل ما أخذ إنما فوق ما أخذ؛ لننا نأخذ في الميراث ما يفنى ،ول
تعالى يعطينا في ميراثه ما يبقى.
لكن ِممّنْ يرثون الفردوس؟
قالوا :الحق -تبارك وتعالى -عندما خلق الخَلْق ،وجعل فيهم الختيار بين اليمان والكفر ،وبين
الطاعة والمعصية ر ّتبَ على ذلك أمورا ،فجعل الجنة على فرض أن الخَلْق كلهم مؤمنون ،بحيث
لو دخلوا الجنة جميعا ما كانت هناك أزمة أماكن ول زحام ،وكذلك جعل النار على فرض أن
الخَلْق كلهم كافرون ،فلو كفر الناس جميعا لكان لكل منهم مكانه في النار.
وعليه فحين يدخل أهل الجنةِ الجن َة يتركون أماكنهم في النار ،وحين يدخل أهل النارِ النارَ يتركّون
أماكنهم في الجنة ،فيرث أهل النار الماكن الشاغرة فيها ،ويرث أهل الجنة الماكن الشاغرة فيها.
والفردوس أعلى مكان في الجنة ،لذلك كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول " إذا سألتم ال فاسألوه
الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة " ذلك؛ لن الفردوس جنة على أعلى رَبْوة في الجنة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يعني :في مكان مُميّز منها ،والعلو في مسألة المسكن والجنان أمر محبوب في الدنيا ،الناس
سكْنى في الماكن العالية ،حيث نقاء الهواء ونقاء الماءَ ،ألَ تراهم يزرعون في
يُحبون ال ّ
المرتفعات ،وإنْ كانت الرض مستوية يجعلون فيها مصارف منخفضة تمتصّ الماء الزائد الذي
ضعْفَيْنِ }[البقرة:
يفسد الزرع؛ لذلك يقول سبحانهَ {:كمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ
.]265
سقَى من ماء السماء الذي يغسل الوراق قبل
سقَى بالماء الغمر ،إنما ُت ْ
كذلك الرض المرتفعة ل ُت ْ
أن يروي الجذور ،فيكون النبات على أفضل ما يكون؛ لذلك يقول عنها رب العزة {:فَآ َتتْ ُأكَُلهَا
ضعْفَيْنِ }[البقرة.]265 :
ِ
ومعلوم أن الوراق هي رئة النبات ،وعليها تقوم عملية التمثيل الضوئي التي يصنع منها النبات
سدّت مسام الوراق وتراكم عليها الغبار فإن ذلك يُقلّل من قدرة النبات على
غذاءه ،فإذا ما ُ
التنفس ،مثل النسان حينما ُيصَاب بشيء في رئته تزعجه وتُقلّل من كفاءته.
وفي الفردوس ميزة أخرى هي أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي غرس شجرها بيده ،كما كرّم
جدَ ِلمَا خََل ْقتُ بِيَ َديّ[} ..ص:
آدم عليه السلم فخلقه بيده تعالى ،فقال {:ياإِبْلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَن َتسْ ُ
.]75
ويُروى أن الحق -تبارك وتعالى -لما خلق الفردوس ،وغرس أشجارها بيده قال للفردوس:
تكلمي ،فلما تكلمت الفردوس قالت {:قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }[المؤمنون.]1 :
ثم يقول تعالى { :هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون ]11 :لن نعيم الجنة باقٍ ودائم ل ينقطع ،وقد
عرفنا أن نعيم الدنيا موقوت مهما أُوتِي النسان منه ،فإنه منقطع زائل ،إما أنْ يتركك بالفقر
والحاجة ،وإما أنْ تتركه أنت بالموت ،لذلك يقول تعالى في نعيم الخرة:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الصيانة قبل أن يخلق النسان.
()2665 /
سبق أن تكلمنا عن خَلْق النسان ،وعرفنا أن الخالق -عز وجل -خلق النسان الول ،وهو آدم
عليه السلم من طين ،ومن أبعاضه خلق زوجه ،ثم بالتزاوج جاء عامة البشر كما قال تعالى{:
وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا رِجَالً كَثِيرا وَنِسَآءً }[النساء.]1 :
ومسألة خَلْق السماء والرض والناس مسألة احتفظ ال بها ،ولم يطلع عليها أحد ،كما قال
عضُدا }
سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ
ض َولَ خَلْقَ أَ ْنفُ ِ
سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ
شهَدّتهُمْ خَ ْلقَ ال ّ
سبحانه {:مّآ َأ ْ
[الكهف.]51 :
فل ُتصْغ إلى هؤلء المضلين في كل زمان ومكان ،الذين يدّعون العلم والمعرفة ،ونسمعهم
يقولون :إن العالم كان كتلة واحدة تدور بسرعة فانفصل عنها أجزاء كوّنَت الرض ..الخ وعن
النسان يقولون :كان أصله قردا ،إلى آخر هذه الخرافات التي ل أساس لها من الصحة.
لذلك أعطانا ال تعالى المناعة اليمانية التي تحمينا أنْ ننساق خلف هذه النظريات ،فأخبرنا
سبحانه خبر هؤلء وحذرنا منهم؛ لنهم ما شهدوا شيئا من الخَلْق ،ولم يتخذهم ال أعوانا فيقولون
مثل هذا الكلم .إذن :هذا أمر استأثر ال بعلمه ،فل تأخذوا علمه إلّ مما أخبركم ال به.
وكلمة النسان اسم جنس تطلق على المفرد والمثنى والجمع ،والمذكر والمؤنث ،فكل واحد منا
ن الِنسَانَ
إنسان ،بدليل أن ال تعالى استثنى من المفرد اللفظ جمعا في قوله تعالى {:وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ
َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ[} ..العصر ]3 - 1 :فاستثنى من المفرد الجماعة.
ومعنى { خََلقْنَا } [المؤمنون ]12 :أوجدنا من عدم ،وسبق أن قلنا :إن ال تعالى أثبت للبشر صفة
الخَلْق أيضا مع الفارق بين خَلْق ال من عدم وخَلْق البشر من موجود ،وخَلْق ال فيه حركة وحياة
فينمو ويتكاثر ،أما ما يخلق البشر فيجمد على حاله ل يتغير؛ لذلك وصف الحق سبحانه ذاته فقال:
{ فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ ا ْلخَاِلقِينَ } [المؤمنون.]14 :
أما َقوْل القرآن حكايةً عن عيسى عليه السلم {:أَخُْلقُ َلكُمْ مّنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ[} ..آل عمران:
]49فهذه من خاصياته عليه السلم ،واليجاد فيها بأمر من ال يُجريه على يد نبيه.
فالمعنى { :وَلَقَدْ خََلقْنَا الِنْسَانَ[ } ..المؤمنون ]12 :أي :النسان الول ،وهو آدم عليه السلم { مِن
غمْده
سلّ السيف من ِ
سلّ منه كما يُ َ
سُلَلَةٍ مّن طِينٍ[ } ..المؤمنون ]12 :والسللة :خلصة الشيء ُت َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أي:الجراب الذي يُوضَع فيه ،فالسيف هو الداة الفتاكة الفاعلة ،أما ال ِغمْد فهو مجرد حافظ وحامل
لهذا الشيء الهام.
فالسللة -إذن -هي أجود ما في الشيء ،وقد خلق ال النسان الول من أجود عناصر الطين
وأنواعه ،وهي زُبْد الطين ،فلو أخذتَ قبضة من الطين وضغطتَ عليها بين أصابعك يتفّلتْ منها
الزبد ،وهو أجود ما في الطين ويبقى في قبضتك بقايا رمال وأشياء خشنة.
" ولما أحب سيدنا حسان بن ثابت أنْ يهجوَ قريشا لمعاداتهم لرسول ال صلى ال عليه وسلم قال:
إئذن لي يا رسول ال أنْ أَهْجُوهم من على المنبر فقال صلى ال عليه وسلم :أتهجوهم وأنا منهم؟
سلّ الشعرة من العجين ".
فقال حسان :أسلّك منهم كما ُت َ
وتُطلَق السللة على الشيء الجيد فيقولون :فلن من سللة كذا ،وفلن سليل المجد .يعني :في
مقام المدح ،حتى في الخيل يحتفظون لها بسللت معروفة أصيلة ويُسجّلون لها شهادات ميلد
تثبت أصالة سللتها ،ومن هنا جاءت شهرة الخيل العربية الصيلة.
صدْق هذه الية ،فبالتحليل المعمليّ التجريبي أثبتوا أن العناصر المكوّنة
وقد أثبت العلم الحديث ِ
للنسان هي نفسها عناصر الطين ،وهي ستة عشر عنصرا ،تبدأ بالكسوجين ،وتنتهي بالمنجنيز،
والمراد هنا التربة الطينية الخصْبة الصالحة للرزاعة؛ لن الرض عامة بها عناصر كثيرة قالوا:
مائة وثلثة عشر عنصرا.
()2666 /
يعني :بعد أن جعلناه بشرا مُسْتويا فيه روح جعلناه يتكاثر من نفسه ،وكما خلقناه من خلصة
الطين في النسان الول نخلقه في النسْل من خلصة الماء وأصفى شيء فيه ،وهي النطفة؛ لن
النسان يأكل ويشرب ويتنفس ،والدم يمتص خلصة الغذاء ،والباقي يخرج على هيئة فضلت ،ثم
يُصفّى الدم ويرشح في الرئة وفي الكلى ،ومن خلصة الدم تكون طاقة النسان وتكون النطفة
التي يخلق منها النسان .إذن :فهو حتى في النطفة من سللة مُنْتقاة.
والنطفة التي هي أساس خَلْق النسان تعيش في وسط مناسب هو السائل المنوي ،لذلك قال
طفَةً مّن مّ ِنيّ ُيمْنَى }[القيامة ]37 :ثم جعلنا هذه النطفة { فِي قَرَارٍ ّمكِينٍ }
سبحانهَ {:ألَمْ َيكُ ُن ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[المؤمنون ]13 :قرار :يعني مُستقر تستقر فيه النطفة ،والقرار المكين هو الرحم خلقه ال على
هذه الهيئة ،فحصّنه بعظام الحوض ،وجعله مُعدّا لستقبال هذه النطفة والحفاظ عليها.
()2667 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الجنين من هذا الوضع ،وقبل أن يختنق.
ولما كانت مسألة خَلْق النسان فيها كثير من العِبَر واليات ودلئل القدرة طوال هذه المراحل التي
يتقلّب فيها النسان ،ناسب أنْ تختم الية بقوله تعالى { :فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ الْخَاِلقِينَ } [المؤمنون:
ن تقول :سبحان ال ،تبارك ال
]14لنك حين تقف وتتأمل قدرة ال في خَلْق النسان ل تملك إل أ ْ
الخالق.
" لذلك يروى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما قرأ هذه الية سبق عمر فقال (فتبارك ال
أحسن الخالقين) فقال صلى ال عليه وسلم للكاتب :اكتبها فقد نزلتْ "
،لنها انفعال طبيعي لقدرة ال ،وعجيب صُنْعه ،وبديع خلقه ،وهذا نوع من التجاوب بين السليقة
العربية واللسان العربي وبين أسلوب القرآن الذي جاء بلسان القوم.
ويقال :إن سيدنا معاذ بن جبل نطق بها أيضا ،وكذلك نطق بها رجل آخر هو عبد ال بن سعد بن
أبي السرح ،مع اختلف في نتيجة هذا النطق :لما نطق بها عمر ومعاذ رضي ال عنهما كان
استحسانا وتعجبا ينتهي إلى ال ،ويُقِرّ له سبحانه بالقدرة وبديع الصّنْع.
أما ابن أبي السرح فقد قالها كذلك تعجبا ،لكن لما وافق قولُه قولَ القرآن أُعْجِب بنفسه ،وادعى أنه
يُوحَى إليه كما يُوحَى إلى محمد ،ولم ل وهو يقول كما يقول القرآن ،ومع ذلك هو ما يزال مؤدبا
يدّعي مجرد أنه يوحى إليه ،لكن زاد تعاليه وجَرّه غرور إلى أنْ قال :سأنزل مثلما أنزل ال،
فليس ضروريا وجود ال في هذه المسألة ،فارتدّ والعياذ بال بسببها ،وفيه نزل قول ال تعالى{:
شيْ ٌء َومَن قَالَ سَأُن ِزلُ مِ ْثلَ
ي وَلَمْ يُوحَ إِلَ ْيهِ َ
حيَ إَِل ّ
علَى اللّهِ كَذِبا َأوْ قَالَ ُأوْ ِ
َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا َ
مَآ أَنَزلَ اللّهُ[} ..النعام.]93 :
" وظل ابن أبي السرح إلى فتح مكة حيث شفع فيه عثمان رضي ال عنه عند رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،فلما رأى رسول ال حِرْص عثمان عليه سكت ،ولم ي ُقلْ فيه شيئا ،وعندها أخذه
عثمان رضي ال عنه وانصرف ،فقال النبي صلى ال عليه وسلم لصحابته " :أما كان فيكم مَنْ
يُجهز عليه؟ " فقالوا :يا رسول ال لو أومأتَ لنا برأسك؟ يعني :أش ْرتَ إلينا بهذا ،انظر هنا إلى
منطق النبوة ،قال صلى ال عليه وسلم " :ل ينبغي أن يكون لنبي خائنة العين " يعني :هذا
تصرّف ل يليق بالنبياء ،فلو فعلتموها من أنفسكم كان ل بأس.
حسُن إسلمه ،ثم يُولّي مصر ،ويقود
ثم بعد ذلك تحل بركة عثمان على ابن أبي السرح فيُؤمن ويَ ْ
الفتوحات في إفريقيا ،ويتغلب على الضجة التي أثاروها في بلد النوبة ،وكأن ال تعالى كان
يدخره لهذا المر الهام.
وبعد هذه العجائب التي رأيناها في مراحل خَلْق النسان وخروجه إلى الحياة والقرار ل تعالى
بأنه أحسن الخالقين ،يُذكّرنا سبحانه بأن هذه الحياة لن تدوم ،فيقول تبارك وتعالى } :ثُمّ إِ ّن ُكمْ َبعْدَ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ذاِلكَ َلمَيّتُونَ {
.
()2668 /
ولك أنْ تسأل :كيف يُحدّثنا الحق -تبارك وتعالى -عن مراحل الخَلْق ،ثم يُحدّثنا مباشرة عن
مراحل الموت والبعث؟
نقول :جعلهما ال تعالى معا لتستقبل الحياة وفي الذّهْن وفي الذاكرة ما ينقض هذه الحياة ،حتى ل
تتعالى ول تغفل عن هذه النهاية ولتكُنْ على بالك ،فتُرتّب حركة حياتك على هذا الساس.
شيْءٍ َقدِيرٌ * الّذِي خََلقَ
ومن ذلك أيضا قول ال تعالى {:تَبَا َركَ الّذِي بِيَ ِدهِ ا ْلمُ ْلكُ وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ
عمَلً[} ..الملك ]2 - 1 :كأنه سبحانه ينعى إلينا أنفسنا قبل أنْ
ا ْل َم ْوتَ وَا ْلحَيَاةَ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ َأحْسَنُ َ
يخلق فينا الحياة ،وقدّم الموت على الحياة حتى الحياة وتستقبل قبلها الموت الذي ينقضها فل تغتر
بالحياة ،وتعمل لما بعد الموت.
وقد خاطب الحق -سبحانه وتعالى -نبيه صلى ال عليه وسلم بقوله {:إِ ّنكَ مَ ّيتٌ وَإِ ّنهُمْ مّيّتُونَ }
ن مات بالفعل ،وهذا غير صحيح ،فالميّت
[الزمر ]30 :البعض يظن أن ميّت بالتشديد يعني مَ ْ
بتشديد الياء هو ما يؤول أمره إلى الموت ،وإنْ كان ما يزال على قيد الحياة ،فكلنا بهذا المعنى
ميّتون ،أمّا الذي مات بالفعل فهو ميْت بسكون الياء ،ومنه قول الشاعر:لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَراحَ
ِبمَ ْيتٍ إنما الم ْيتُ م ّيتُ الحْياءِومعنىَ { :بعْدَ ذاِلكَ } [المؤمنون ]15 :يعني :بعد أطوار الخَلْق التي
تقدمت من خَلْق النسان الول من الطين إلى أنْ قال سبحانه {:فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ ا ْلخَاِلقِينَ }
[المؤمنون.]14 :
والمتأمل في هذه الية وهي تُحدّثنا عن الموت الذي ل ينكره أحد ول يشكّ فيه أحد ،ومع ذلك
أكدها الحق -تبارك وتعالى -بأداتين من أدوات التوكيد { :ثُمّ إِ ّنكُمْ َبعْدَ ذاِلكَ َلمَيّتُونَ }
[المؤمنون ]15 :فأكّدها بإنّ وباللم ،ومعلوم أننا ل نلجأ إلى التوكيد إل حين يواجهنا منكر ،فيأتي
التأكيد على قَدْر ما يواجهك من إنكار ،أما خالي الذهن فل يحتاج إلى توكيد.
تقول مثلً لخالي الذهن الذي ل يشك في كلمك :يجتهد محمد ،فإنْ شك تؤكد له بالجملة السمية
التي تفيد ثبوت واستقرار الصفة :محمد مجتهد ،وتزيد من تأكيد الكلم على قدر النكار ،فتقول:
إن محمدا مجتهد ،أو إن محمدا لمجتهد ،أو وال إن محمدا لمجتهد .هذه درجات للتأكيد على
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حسْب حال مَنْ تخاطبه.
إذن :أكّد الكلم عن الموت الذي ل يشكّ فيه أحد ،فقال { :ثُمّ إِ ّنكُمْ َبعْدَ ذاِلكَ َلمَيّتُونَ } [المؤمنون:
]15ومع ذلك لما تكلّم عن البعث وهو محلّ الشك والنكار قال سبحانهُ { :ثمّ إِ ّنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ
تُ ْبعَثُونَ }
.
()2669 /
ولم ي ُقلْ :لتبعثون كما قال{ َلمَيّتُونَ }[المؤمنون ]15 :فكيف يؤكد ما فيه تصديق وتسليم ،ول يؤكد
ما فيه إنكار؟
قالوا :نعم؛ لن المتكلم هو ال تعالى ،الذي يرى غفلتكم عن الموت رغم وضوحه ،فلما غفلتم عنه
كنتم كالمكذّبين به المنكرين له ،لذلك أكد عليه ،لذلك يقال " :ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين
الناس بالموت " فالكل يعلم الموت ويعاينه ،لكن يبعده عن نفسه ،ول يتصوّره في حقه.
أما البعث والقيامة فأدلتها واضحة ل يصح لحد أنْ ينكرها؛ لذلك جاءت دون توكيد { :ثُمّ إِ ّنكُمْ
َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تُ ْبعَثُونَ } [المؤمنون ]16 :فأدلة البعث أوضح من أن يقف العقل فيها أو ينكرها؛ لذلك
سأطلقها إطلقا دون مبالغة في التوكيد ،أمّا مَنْ يتشكك فيه أو ينكره ،فهذا نؤكد له الكلم ،فانظر
إلى بصر الحق -سبحانه وتعالى -بعقليات خَلْقه وبنفوسهم ومََلكَاتهم.
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلقَدْ خََلقْنَا َف ْوقَكُمْ سَبْعَ طَرَآ ِئقَ} ..
.
()2670 /
نلحظ أن للعدد سبعة مواقف في هذه السورة وأسرارا يجب أن نتأملها ،ففي استهلل السورة ذكر
سبحانه سبعة أصناف {:قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ[} ..المؤمنون.]2 - 1 :
وفي مراحل خَلْق النسان نجده مَرّ بسبعة أطوار :سللة من طين ،ثم نطفة ،ثم علقة ،ثم مضغة،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم عظاما ،ثم لحما ،ثم أنشأناه خَلْقا آخر.
وهنا يقول { :وََلقَدْ خََلقْنَا َف ْو َقكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ[ } ..المؤمنون.]17 :
ت َومِنَ الَ ْرضِ مِثَْلهُنّ[} ..الطلق.]12 :
سمَاوَا ٍ
وفي موضع آخر قال {:اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ َ
فهذه سبعة للغاية ،وسبعة للمغيّا له ،وهو النسان ،وسبعة للسماوات والرض المخلوقة للنسان.
وطرائق :جمع طريقة أي :مطروقة للملئكة ،والشيء المطروق ما له حجم يتسع بالطّرْق ،كما
تطرق قطعة من الحديد مثلً ،فانظر إلى السماء واتساعها .و ُقلْ :سبحان مَنْ طرقها.
وتلحظ أن الحق سبحانه لم يذكر هنا الرض ،لماذا؟ قالوا :لن الرض نقف عليها ثابتين ل
ك فوقنا؛ لذلك يقول سبحانه بعدهاَ { :ومَا كُنّا عَنِ
نخاف من شيء ،إنما الخوف من السماء أنْ تند ّ
الْخَ ْلقِ غَافِلِينَ } [المؤمنون ]17 :فلن نغفل عن السماء من فوقكم ،وسوف نُمسكها بأيدينا ،كما قال
حدٍ مّن َبعْ ِدهِ} ..
س َك ُهمَا مِنْ أَ َ
سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ أَن تَزُولَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ َأمْ َ
سكُ ال ّ
سبحانه {:إِنّ اللّهَ ُي ْم ِ
[فاطر.]41 :
ثم يعطينا الحق -تبارك وتعالى -الدليل الحسيّ على هذه الية ،وكيف أن ال تعالى رفع السماء
عمَد ،ومثال ذلك الطير يُمسكه ال في السماءَ {:أوَلَمْ يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ َف ْو َقهُ ْم صَافّاتٍ
فوقنا بل َ
حمَـانُ[} ..الملك.]19 :
س ُكهُنّ ِإلّ الرّ ْ
وَيَقْ ِبضْنَ مَا ُيمْ ِ
نعلم أن الطير يطير في السماء بحركة الجناحين التي تدفع الهواء وتقاوم الجاذبية فل يسقط،
كالسباح الذي يدفع بذراعيه الماء ليسبح ،فإذا ما قبض الطائر جناحيه ومع ذلك يظل مُعلّقا في
السماء ل يسقط فمَنْ يُمسِكه في هذه الحالة؟ هذه صورة تشاهدونها ل يشكّ فيها أحد ،فإذا قلت لكم
أني أمسك السماء أن تقع على الرض فصدّقوا وآمنوا ،واستدلوا على الغيب بالمشاهد.
وكأن الحق سبحانه في قولهَ { :ومَا كُنّا عَنِ ا ْلخَلْقِ غَافِلِينَ } [المؤمنون ]17 :يقول :اطمئنوا إلى
السماء من فوقكم ،فقد جعلتُ لها التأمينات اللزمة التي تُؤمّن معيشتكم تحت سقفها ،اطمئنوا لنها
بأيدينا وفي رعايتنا.
لكن ،ما المراد بقوله { عَنِ ا ْلخَلْقِ } [المؤمنون ]17 :أهو النسان أم خَلْق السماء؟ المراد :ما كُنّا
غافلين عن خَلْق السماء ،فبنيناها على ترتيبات ونظم تحميكم وتضمن سلمتكم.
والغفلة :تَرْك شيء لنه غاب عن البال ،وهذه مسألة ل تكون أبدا في حق ال -عز وجل -لنه
ل تأخذه سِنَة ول نوم.
سكَنّاهُ فِي الَرْضِ} ..
سمَآءِ مَآءً ِبقَدَرٍ فَأَ ْ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ
.
()2671 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ض وَإِنّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ َلقَادِرُونَ ()18
سكَنّاهُ فِي الْأَ ْر ِ
سمَاءِ مَاءً ِبقَدَرٍ فَأَ ْ
وَأَنْزَلْنَا مِنَ ال ّ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
سكَنّاهُ فِي الَرْضِ.
الموجود على السطح { فَأَ ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2672 /
الجنة :المكان المليء بالشجار العالية والمزروعات التي تستر مَنْ يسير فيها ،أو تستره عن
الخارج ،فل يحتاج في متطلبات حياته إلى غيرها ،فهي من الكمال بحيث تكفيه ،فل يخرج عنها.
ل وَأَعْنَابٍ ّلكُمْ فِيهَا َفوَاكِهُ كَثِي َرةٌ } [المؤمنون ]19 :لما لها من منزلة عند
واختار هذه النواع { نّخِي ٍ
العرب ،وقال { َفوَاكِهُ كَثِي َرةٌ } [المؤمنون ]19 :لنه لم يحصر جميع النواع.
()2673 /
الطور :جبل منسوب إلى سيناء ،وسيناء مكان حسن؛ لن ال بارك فيها ،والطور كلّم ال عليه
موسى ،فهو مكان مبارك ،كما بارك ال أرض بيت المقدس فقال {:سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً
سمِيعُ ال َبصِيرُ
حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ ُهوَ ال ّ
ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ
ج ِد ا َ
سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَسْ ِ
مّنَ ا ْلمَ ْ
}[السراء.]1 :
ومعنى { تَن ُبتُ بِالدّهْنِ } [المؤمنون ]20 :الدهن هو الدّسَم ،والمراد هنا شجرة الزيتون التي
يستخرجون منها الزيت المعروف { تَن ُبتُ بِالدّهْنِ } [المؤمنون ]20 :الدهن هو الدّسَم ،والمراد هنا
شجرة الزيتون التي يستخرجون منها الزيت المعروف { َوصِبْغٍ لّلكِلِيِنَ } [المؤمنون ]20 :يعني:
شهَى الكلت وألذّها عند مَنْ يزرعون
يتخذونه إداما يغمسون فيه الخبز ويأكلونه ،وهو من أ ْ
الزيتون في سيناء وفي بلد الشام ،وقد ُذقْنا هذه الكْلة الشهيرة في لبنان ،عندما ذهبنا إليها في
موسم حصاد الزيتون.
()2674 /
سقِيكُمْ ِممّا فِي ُبطُو ِنهَا وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِي َرةٌ َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ ()21
وَإِنّ َلكُمْ فِي الْأَ ْنعَامِ َلعِبْ َرةً ُن ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النعام :يُراد بها البل والبقر ،وألحق بالبقر الجاموس ،ولم يُذكَر لنه لم يكُنْ موجودا بالبيئة
العربية ،والغنم وتشمل الضأن والماعز ،وفي سورة النعام يقول تعالىَ {:ثمَانِ َيةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ
ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ[} ..النعام.]143 :
اثْنَيْ ِ
ويقال فيها :أنعام و َنعَم (بفتح النون والعين)
والعبرة :شيء تعتبرون به وتستدلّون به على قدرة ال وبديع صُنْعه في خَلْق النعام.
لكن ،ما العبرة في خَلْق هذه النعام؟ الحق -سبحانه وتعالى -تكلّم عن خَلْق النسان ،وأنه تعالى
خلقه من صفوة وخلصة وسللة من الطين ومن النطفة ،وهكذا في جميع أطوار خَلْقه .وفي
النعام ترى شيئا من هذا الصطفاء والختيار ،فالنعام تأكل من هنا وهناك وتجمع شتى النواع
من المأكولت ،ومن هذا الخليط يخرج الفَرْث ،وهو مُنتِن ل تطيق رائحته ويتكون دم الحيوان،
ومن بين الفَرْث والدم يُصفّي لك الخالق -عز وجل -لبنا خالصا ،وهذه سللة أيضا وتصفية.
ث وَدَمٍ لّبَنا خَالِصا سَآئِغا
سقِيكُمْ ّممّا فِي ُبطُونِهِ مِن بَيْنِ فَ ْر ٍ
قال تعالى {:وَإِنّ َل ُكمْ فِي الَ ْنعَامِ َلعِبْ َرةً نّ ْ
لِلشّارِبِينَ }[النحل.]66 :
سقِيكُمْ ّممّا فِي ُبطُو ِنهَا } [المؤمنون ]21 :وفي آية النحل{:
ونلحظ أن الية التي معنا تقول { :نّ ْ
سقِيكُمْ ّممّا فِي ُبطُونِهِ }[النحل ]66 :ذلك لننا نأخذ اللبن من إناث النعام ليس من كل النعام،
نّ ْ
فالمعنى { ّممّا فِي ُبطُو ِنهَا } [المؤمنون ]21 :أي :الناث منها و{ ّممّا فِي بُطُونِهِ }[النحل]66 :
سقِيكُمْ } [المؤمنون ]21 :من سقى ،وفي موضع
أي :بطون البعض؛ ولذا عاد الضمير مذكرا { .نّ ْ
سقَيْنَا ُكمُوهُ }[الحجر ]22 :من الفعل أسقى .البعض يقول إنهما مترادفان ،وهما ليسا كذلك
آخر{ فَأَ ْ
لن لكل منهما معنى ،فسقى يعني :أعطاه الشراب ،أمّا أسقى فيعني جهز له ما يشربه لحين يحب
أن يشرب.
سقَاهُمْ رَ ّبهُمْ شَرَابا
لذلك لما تكلّم الحق سبحانه عن شراب الجنة ،قال {:وَحُلّواْ َأسَاوِرَ مِن ِفضّ ٍة وَ َ
طهُورا }[النسان.]21 :
َ
سقَيْنَاكُمُوهُ
سمَآءِ مَاءً فََأ ْ
ولما تكلم عن ماء المطر قال سبحانه {:وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ
َومَآ أَنْ ُتمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }[الحجر ]22 :يعني :جعله في مستودع لحين الحاجة إليه.
كما قلنا في (مُرضِع) بالكسر ،و (مُرضَع) بالفتح ،فمرضع بالكسر للتي ترضع بالفعل ،ومنه قوله
ض َعتْ }[الحج.]2 :
عمّآ أَ ْر َ
ضعَةٍ َ
تعالىَ {:يوْمَ تَ َروْ َنهَا تَذْ َهلُ ُكلّ مُ ْر ِ
أما مرضَع بالفتح ،فهي الصالحة للرضاعة.
ثم يقول تعالى { :وََلكُمْ ف ِيهَا مَنَافِعُ كَثِي َرةٌ َومِنْهَا تَ ْأكُلُونَ } [المؤمنون ]21 :نلحظ أن آية النحل
ركزت على مسألة تصفية اللبن من بين فَرْث ودم ،أما هنا فقد ركزت على منافع أخرى للنعام،
فكل آية تأخذ جانبا من الموضوع ،وتتناوله من زاوية خاصة ،نوضح ذلك لمن يقولون بالتكرار
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في القرآن الكريم ،فاليات في الموضوع الواحد ليست تكرارا ،إنما هو تأسيس بلقطات مختلفة،
كل لقطة تؤدي في مكانها موقعا من العِظَة والعبرة ،بحيث إذا جمعتَ كل هذه المكررات الظاهرة
تعطيك الصورة الكاملة للشيء.
والمنافع في النعام كثيرة :منها نأخذ الصوف والوبر ،وكانوا يصنعون منه الملبس والفرش
والخيام ،قبل أن تُعرف الملبس والمنسوجات الحديثة ،ومن ملبس الصوف سُميت الصوفية لمَنْ
يلبسون الثياب الخشنة ،وهم الن يصنعون من الصوف ملبس ناعمة كالحرير يرتديها المترفون.
سكَنا
ج َعلَ َلكُمْ مّن بُيُو ِتكُمْ َ
ومن منافع النعام أيضا الجلود والعظام وغيرها ،يقول تعالى {:وَاللّهُ َ
صوَافِهَا وََأوْبَارِهَا
ظعْ ِنكُ ْم وَ َيوْمَ ِإقَامَ ِتكُ ْم َومِنْ َأ ْ
خفّو َنهَا َيوْمَ َ
ج َعلَ َلكُمْ مّن جُلُو ِد الَ ْنعَامِ بُيُوتا تَسْ َت ِ
وَ َ
شعَارِهَآ أَثَاثا َومَتَاعا إِلَىا حِينٍ }[النحل.]80 :
وَأَ ْ
} َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ { [المؤمنون ]21 :أي :لحما ،وذكر اللحم في آخر هذه المنافع؛ لنه آخر ما يمكن
النتفاع به من الحيوان ،وسبق أنْ ذكرنا أن الحيوان الذي أحلّه ال لنا إذا تعرض لما يزهق
روحه ،فإنه يرفع لك رقبته ،ويكشف لك عن موضع ذَبْحه كأنه يقول لك :أسرع واستفد مني قبل
ن أموت.
أْ
ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَىا بََلدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ ِبشِقّ
وفي لقطة أخرى لمنافع النعام يقول سبحانه {:وَتَ ْ
الَنفُسِ }[النحل ]7 :إذن :كل آية تحدثت عن النعام تعطينا فائدة لتظل مربوطا بالقرآن كله.
()2675 /
حمَلُونَ ()22
وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ
{ وَعَلَ ْيهَا } [المؤمنون ]22 :أي :على الدواب تُحملون ،فنركب الدواب ،ونحمل عليها متاعنا ،لكن
لما كانت الرض ثلثة أرباعها ماء ،فإن الحق -سبحانه وتعالى -ما تركنا في البحر ،إنما
حمَلُونَ } [المؤمنون ]22 :فكما أعددتُ لكم المطايا على اليابسة
حملنا فيه أيضا { وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ
الضيقة أعددتُ لكم كذلك ما تركبونه في هذه المساحة الواسعة من الماء.
عمّنْ له صلة بالفُلْك ،وهو نوح عليه السلم:
ولما كان الكلم هنا عن الفُلْك فقد ناسب ذلك الحديث َ
{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحا إِلَىا َق ْومِهِ َفقَالَ يا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ} ..
.
()2676 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ َفقَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَا تَ ّتقُونَ ()23
بعد أنْ حدّثنا القرآن الكريم عن خَلْق النسان وخَلْق الحيوان ،وحدثنا عن بعض نعمه التي امتنّ
بها علينا تدرج بنا إلى صناعة الفُلْك؛ لنه قد يسأل سائل :وكيف تكون هذه الفُلْك أي :تخلق
كالنسان والحيوان بالتوالد ،أم تنبت كالزرع؟ فأوضح الخالق سبحانه لنه وُجدت بالوحي في قوله
تعالى {:فََأوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا }[المؤمنون.]27 :
ومعنى{ بِأَعْيُنِنَا }[المؤمنون ]27 :أنها صنعة دقيقة ،لم يترك فيها الحق سبحانه نبيّه يفعل ما يشاء،
حمَلْنَاهُ
إنما تابعه ولحظه ووجّهه إلى كيفية صناعتها والمواد المستخدمة فيها ،كما قال سبحانه {:وَ َ
ح وَ ُدسُرٍ }[القمر ]13 :وهي الحبال ،كانوا يربطون بها ألواح الخشب ،ويضمون
عَلَىا ذَاتِ أَ ْلوَا ٍ
ش ّد بها اللواح بعضها إلى بعض.
بعضها إلى بعض ،أو المسامير تُ َ
لكن ،مهما أُح ِك َمتْ ألواح الخشب بعضها إلى بعض ،فل بُدّ أنْ يظل بينها مسامّ يتسرب منها الماء،
فكيف نتفادى ذلك في صناعة الفُلْك خاصة في مراحلها البدائية؟ يقولون :ل بُدّ لصانع الفُلْك أنْ
يجفف الخشب جيدا قبل تصنيعه فإذا ما نزل الخشبُ الماءَ يتشرب منه ،فيزيد حجمه فيسدّ هذه
المسام تماما ،ول يتسرب منها الماء.
جوَارِ ا ْلمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ
ومن عجائب القرآن ومعجزاته في مسألة الفُلْك قوله تعالى {:وَلَهُ ا ْل َ
كَالَعْلَمِ }[الرحمن ]24 :يعني :كالجبال العالية .وهذه الفُلْك لم تكُنْ موجودة وقت نزول القرآن
إنما أخبر ال بها ،مما يدل على أنه تعالى الذي امتنّ علينا بهذه النعمة ،علم ما يمكن أن يتوصل
إليه النسان من تطور في صناعة الفلك ،وأنها ستكون عالية شاهقة كالجبال.
وطالما أن الكلم معنا عن الفُلْك ،فطبيعي ومن المناسب أن نذكر نوحا عليه السلم؛ لنه أول من
اهتدى بالوحي إليه إلى صناعة الفُلْك ،فقال سبحانه { :وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحا إِلَىا َق ْومِهِ[ } ..المؤمنون:
]23لما تكلم الحق سبحانه عما في النعام من ِنعَم وفوائد ،لكنها تؤول كلها -بل والدنيا معها -
إلى زوال ،أراد سبحانه أن يعطينا طرفا من الحياة الباقية والنعيم الدائم الذي ل يزول فذكر منهج
ال الذي أُرسِل به نوح ،وهو واحد من أولى العَزْم من الرسل.
والرسال :هو أنْ يكلّف مُرسِل مُرْسَلً إلى مُرْسَل إليه ،فالمكلف هو الحق سبحانه ،والمكلف
بالرسالة نوح عليه السلم ،والمرسل إليهم هم قومه ،وال ل يرسل إلى قوم إل كانوا يهمونه،
وكيف ل وهم عباده وخَلْقه ،وقد جعلهم خلفاء له في الرض؟
والذي خلق خَلْقا ،أو صنع صَنْعة ل ُبدّ أنْ يضع لها قانون صيانتها ،لتؤدي مهمتها في الحياة،
وتقوم بدورها على الوجه الكمل ،كما مثّلنا لذلك -ول تعالى المثل العلى -بصانع الثلجة أو
التلفزيون حين يضع معه كتالوجا يحوي تعليمات التشغيل وطريقة الصيانة وكيفية إصلح
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
العطال.
فالذي خلق النسان وجعله خليفة له في الرض َأوْلَى بهذا القانون وَأوْلَى بصيانة خَلْقه؛ لذلك يقول
سبحانه في الحديث القدسي " :يا ابن آدم ،خلقت الشياء كلها من أجلك ،وخلقتُك من أجلي ،فل
تشتغل بما هو لك عما أنت له " يعني :ما دام كل شيء من أجلك يعمل لك ويُؤدّي مهمته ،فعليك
أيضا أن تؤدي مهمتك التي خلقتُك من أجلها.
لذلك وضع لك ربّك قانون صيانتك بافعل كذا ول تفعل كذا ،فعليك أن تلتزم المر فتؤديه فهو سِرّ
الجمال في الكون ،وسِرّ السعادة والتوافق في حركة الحياة ،وعليك أن تجتنب النهي فل تقربه؛
لنه سيؤدي إلى قُبْح ،وسيكشف عورة من عورات المجتمع ،أما المور التي سكت عنها فأنت
حُ ّر فيها تفعل أو ل تفعل؛ لن ذلك ل يأتي بقبيح في المجتمع ،وهذه المسائل تُسمّى المباحات ،وقد
تركها ال لحريتك واختيارك.
والحق -تبارك وتعالى -لما استدعى النسان إلى هذا الكون خلق له مقومات حياته من مُقوّمات
استبقاء الحياة من طعام وشراب وهواء واستبقاء النوع بالتناسل ،وقد شمل قانون الصيانة كل هذه
المقومات ،فنظمها وحدد ما يحل وما يحرم .فقالُ :كلْ هذه ول تأكل هذه ،واشرب هذا ول تشرب
ذاك ،ولو شاهدنا المخترعين في مسائل المادة نجد الصانع يحدد مقومات صنعته ،فمثلً هذا
الجهاز يعمل على 110فولت ،وهذا يعمل 220فولت ،وهذه اللة تعمل بالبنزين ،وهذه
بالسولر ،فلو غيّرت في هذه المقومات تفسد اللة ول تؤدي مهمتها.
حدْ عنه ،وإل
كذلك -ول المثل العلى -عليك أن تلتزم بقانون ومنهج خالقك عز وجل ،ول تَ ِ
فسد حالك وعجزتَ عن أداء مهمتك في الحياة .فإن أردنا أن تستقيم لنا الخلفة التي خلقنا ال لها
وهي خلفة مُصلحة ل مُفسدة ،فعلينا بقانون الصيانة الذي وضعه لنا خالقنا عز وجل.
لذلك ،إنْ رأيت في المجتمع عورة ظاهرة في أي ناحية من نواحي الحياة فاعلم أنها نتيجة طبيعية
للخروج عن منهج ال ،وتعطيل حكم من أحكامه ،فمثلً حين ترى الفقراء والجوْعى والمحاويج
سعْي في مناكب
فاعلم أن في المر تعطيلً لحكم من أحكام ال ،فهم إما كسالى ل يحاولون ال ّ
الرض ،وإما غير قادرين حرمهم القادرون واستأثروا بالثروة دونهم.
البعض يقول :إذا كان الحق سبحانه قد حرّم علينا بعض الشياء ،فلماذا خلقها؟ ويُمثّلون لذلك
بالخنزير مثلً وبالخمر .وخطأ هؤلء أنهم يظنون أن كل شيء خُلِق ليُؤكل ،وهذا غير صحيح؛
لن ال تعالى خلق هذه الشياء لمهمة تؤديها في الحياة ،وليس بالضرورة أنْ تُؤكل ،فالخنزير
خلقه ال لينظف البيئة من القاذورات ،لذلك ل تراه يأكل غيرها.
أما الخمر فلم تُخلق خمرا ،إنما هي ثمرة العنب الحلوة التي تؤكل طازجة ،أخذها النسان وتدخّل
في هذه الطبيعة وأفسدها بتخميره ،فصار الحلل بذلك محرما.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نعود إلى قول ال تعالى } :وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحا إِلَىا َق ْومِهِ { [المؤمنون ]23 :القوم :هم الرجال،
خاصة من المجتمع ،وليس الرجال والنساء ،بدليل قوله تعالى {:ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ يَسْخَرْ َقوْمٌ
مّن َقوْمٍ عَسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ ِنسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىا أَن َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ[} ..الحجرات:
]11فالنساء في مقابل القوم أي :الرجال.
س ْوفَ َأخَالُ أَدْرِي َأ َقوْمٌ آلُ حِصنٍ َأمْ نِسَاءُلكْن هل أُرسِل نوح
ومن ذلك قول الشاعرَ :ومَا أَدْرِي و َ
عليه السلم إلى الرجال دون النساء؟ أُرسِل نوح إلى الجميع ،لكن ُذكِر القوم لنهم هم الذين
سيحملون معه أمر الدعوة ويسيحون بها ،ويُبلّغونها لمن لهم ولية عليهم من النساء ،والرجال
مَنُوط بهم القيام بمهام المور في عمارة الكون وصلحه.
والضافة في } َق ْومِهِ[ { ..المؤمنون ]23 :بمعنى اللم يعني :قوم له؛ لن الضافة تأتي بمعنى
من مثل :أردب قمح يعني من قمح ،وبمعنى في مثل :مكر الليل يعني في الليل ،وبمعنىاللم مثل:
قلم زيد يعني لزيد.
فالمعنى هنا :قوم له؛ لنه منهم ومأمون عليهم ومعروف لهم سيرته الولى ،فإذا قال لهم ل
خلْق أن يرسل إليهم واحدا منهم ،كما قال سبحانهَ {:لقَدْ جَآ َءكُمْ
يتهمونه ،إذن :فمن رحمة ال بال َ
ف للقوم على خلف ما إنْ كان الرسول
سكُمْ[} ..التوبة ]128 :ففي هذا إيناس وإ ْل ٌ
رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
مََلكَا مثلً ،فإن القوم يستوحشونه ول يأنسون إليه.
لذلك ،فالنبي صلى ال عليه وسلم كان يُسمّى بين قومه وقبل بعثته بالصادق المين؛ لنه معروف
لهم ماضيه وسيرته ومُقوّمات حياته تُشجّع على أنْ يُصدّقوه فيما جاء به ،وكيف يصدقونه في أمر
الدنيا ،ول يُصدقونه في البلغ عن ال؟
إذن } :إِلَىا َق ْومِهِ { [المؤمنون ]23 :أننا لم ن ْأتِ لكم برسول من جنس آخر ،ول من قبيلة أخرى،
بل منكم ،وتعرفون ماضيه وتاريخه ،فتأنسون بما يجيء به ،ول تقفون منه موقف العداء.
أو يكون المعنى :إلى قوم منه؛ لنهم ل يكونون قوما قوّامين على شئون إصلح الحياة ،إل إذا
استمعوا منهجه ،فهم منه؛ لنهم سيأخذون منه منهج ال.
ثم يقول سبحانهَ } :فقَالَ يا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ[ { ..المؤمنون( ]23 :يا قوم)
استمالة وتحنين لهم } اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ[ { ..المؤمنون ]23 :والعبادة طاعة عابد
لمر معبود ،والعبادة تقتضي تكليفا بأمر ونهي .فاللوهية تكليف وعبادة ،أما الربوبية فعطاء
جعُونَ }[هود ]34 :أي :ربكم جميعا :ربّ المؤمن،
وتربية؛ لذلك قال سبحانه{ ُهوَ رَ ّبكُ ْم وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ
وربّ الكافر ،ربّ الطائع ،ورب العاصي.
وكما قلنا :الشمس والقمر والرض والمطر ..الخ كلها تخدم الجميع ،ل فرْقَ بين مؤمن وكافر؛
لن ذلك عطاء الربوبية ،وإنْ سألت الكافر الجاحد :من خلقك؟ من رزقك؟ فلن يملك إل أن يقول:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ال ،إذن :فليخْزَ هؤلء على أعراضهم ،وليعلموا أنه تعالى وحدة المستحق للطاعة وللعبادة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا ،ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على
أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا ،ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم
وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا في صعيد واحد ،وسألني كل واحد مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك
مما عندي إل كمغرز إبرة أحدكم إذا غمسه في البحر ،وذلك أنّي جواد واجد ماجد ،عطائي كلم،
وعذابي كلم ،إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له :كن فيكون ".
إذن :حين تطيعني فالخير لك؛ لنك ضمنتَ بهذه الطاعة حياة أخرى خالدة باقية بعد هذه الحياة
ن يفوتك
ن تفوت نعيمها بالموت ،وإما أ ْ
الفانية التي مهما أترفت فيها فهي إلى زوال ،فإما أ ْ
ق ل يفوتك ول تفوته؛ لنها نعمة ل مقطوعة ول
بالحاجة والفقر ،أما في الخرة فالنعيم دائم بَا ٍ
ممنوعة.
لذلك قال سبحانه {:وَإِنّ الدّا َر الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت ]64 :فكأن عطاء
اللوهية ربوبية متعدية إلى زمن آخر غير زمن الدنيا ،فل تظن أن طاعتك ستفيدني في شيء ،أو
ظِلمُونَ }
سهُمْ يَ ْ
أن معصيتك ستضرني بشيء ،ومن هنا قال تعالىَ {:ومَا ظََلمْنَاهُ ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ
[النحل.]118 :
وقوله تعالى } :مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ { [المؤمنون ]23 :أي :معبود غيره } َأفَلَ تَ ّتقُونَ
ل في
{ [المؤمنون ]23 :هذا استفهام يحمل معنى التهديد والتوبيخ ،لكن كيف يُوبّخهم وهو لم يَ َز ْ
مرحلة المر بعبادة ال ،ولم يسمع منهم بعد بوادر الطاعة أو العصيان؟ قالوا :يبدو أنه رأى منهم
إعراضا فأمرهم بتقوى ال.
والتقوى معناها أنْ تجعل بينك وبين ربك وقاية تقيك صفات جبروته و َقهْره وتحميك من أسباب
بَطْشه وانتقامه ،فلست مطيقا لهذه الصفات .والوقاية التي تجعلها بينك وبين هذه الصفات هي أن
تنفذ منهج ال بطاعة الوامر واجتناب النواهي.
ن يقول سبحانه {:وَا ّتقُواْ اللّهَ }[البقرة]194 :
ومن عجيب تركيبات التقوى في القرآن الكريم أ ْ
ويقول {:فَا ّتقُواْ النّارَ[} ..البقرة ]24 :قالوا :نعم اتق ال ،واتق النار؛ لنك تتقي ال من متعلقات
صفات قهره وغضبه ومنها النار ،فحين تتقي ال بالمنهج فقد اتق ْيتَ النار أيضا.
ضلَ
ثم يقول سبحانهَ } :فقَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن َق ْومِهِ مَا هَـاذَا ِإلّ بَشَرٌ مّثُْل ُكمْ يُرِيدُ أَن يَ َتفَ ّ
عَلَ ْيكُمْ{ ..
.
()2677 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
َفقَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َق ْومِهِ مَا َهذَا إِلّا َبشَرٌ مِثُْلكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَ َت َفضّلَ عَلَ ْيكُمْ وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَأَنْ َزلَ
س ِمعْنَا ِبهَذَا فِي آَبَائِنَا الَْأوّلِينَ ()24
مَلَا ِئكَةً مَا َ
المل :من الملء يعني :الشيء الذي يمل الشيء ،فالمل يعني الذين يملون العيون بشرفهم
ومكانتهم وعظمتهم وأبهتِهم ،ومن ذلك قولهم :فلن مِلءُ العين ،أو ِملْءُ السمع والبصر ،ويقولون
للرجل إذا بلغ في الحُسْن مبلغا :فلن قَيْد العيون يعني :حين تراه ل تصرف بصرك إلى غيره من
شِدّة حسنه كأنه قيّد بصرك نحوه .أما في المقابل فيقولون :فلن تتقحمه العين ول تراه وكأنه غير
موجود.
إذن :المل :هم الذين يملؤون صدور المجالس أُبّهة وفخامة ووجاهة وسيادة ،لكن ،لماذا هؤلء
بالذات هم الذين تعصّبوا ضده وواجهوه؟
قالوا :لن منهج ال ما جاء إل لصلح ما فسد في الكون وما استشرى فيه من شر ،فالحق -
تبارك وتعالى -يُنزِل منهجا على لسان رسول أول ،ويطلب من قومه أن يُبلّغوا منهج رسولهم
من بعده ،لكن تأتي الغفلة على هذا المنهج فيخرج الناس عنه ويأتي خروجهم عن منهج ربهم على
عِدّة صور:
فمنهم مَنْ يخرج عن منهج ربه ويصنع الذنب ،إل أنه يعاود نفسه ويراجعها ويلومها وسرعان ما
يتوب ويندم ،فزاجره من نفسه وواعظه من داخله ،وهؤلء الذين خلطوا عملً صالحا وآخر سيئا.
ومنهم مَنْ يخرج على منهج ربه خروجا ل رجعةَ له ول زاجر ،وهذا نسميه بلغتنا (فاقد) يعني:
لم َي ُعدْ له زاجر من شرع ول من ضمير .ويبقى بعد ذلك زاجر المجتمع حين يرى مثل هؤلء
ظلّ
الخارجين عن منهج الحق عليه أنْ يتصدّى لهم ،ويقاطعهم ول يودهم ول يحترمهم ،وإل لو َ
المنحرف ومرتكب القبائح على حاله من احترام الناس وتقديرهم ،ولو ظلّ على مكانته في
المجتمع لتمادى في غَيّه وأسرف على نفسه وعلى مجتمعه فيستشري بذلك الشر في المجتمع،
ويعُمّ الفساد وتشيع الفوضى.
ألَ ترى الشرع الحكيم حين جعل الدية في القتل على العاقلة يعني :عائلة القاتل ،ل على القاتل
وحده؟ لماذا؟ لكي يأخذوا على يد ولدهم إن انحرف أو ب َدتْ عنده بوادر العتداء؛ لنهم جميعا
سيحملون هذه التبعة.
خصّ المل بالذات؛ لنهم هم المنتفعون بالشر والفساد في المجتمع ،ومن مصلحتهم أنْ
ونقولُ :
يستمر هذا الوضع لتبقى لهم سلطتهم الزمنية ومكانتهم؛ لذلك هم أول مَنْ يقابلون الرسالت
بالجحود والنكران .ألم يقل الحق سبحانه عنهم في آية أخرى {:مَا نَرَاكَ ِإلّ َبشَرا مّثْلَنَا َومَا نَرَاكَ
اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ ُهمْ أَرَاذِلُنَا[} ..هود.]27 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فهؤلء الذين يُسمّونهم أراذل هم المستضعفون والفقراء والمطحونون والمهمومون بأمور الخَلْق
والدين والقيم ،فما إنْ تسمع آذانهم عن رسالة إل تلهّفوا عليها وارتموا في أحضانها لنها جاءت
ن يؤمن .وإنْ جاء المنهج لنصاف هؤلء ،فقد جاء أيضا لينزع من
لتنقذهم؛ لذلك يكونون أول مَ ْ
أصحاب السلطان والقهر والجبروت سلطانهم وتعاليهم ،فل بُدّ أن يواجهوه ويعاندوه.
ومعنى } :الّذِينَ َكفَرُواْ مِن َق ْومِهِ[ { ..المؤمنون ]24 :كفروا :يعني جحدوا وجود ال } مَا هَـاذَا
صدّهم عن الرسول كونه بشرا ،إذن :فماذا كنتم
ِإلّ بَشَرٌ مّثُْلكُمْ { [المؤمنون ]24 :فأول شيء َ
تنتظرون؟ وقد شرح هذا المعنى في قوله تعالىَ {:ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ
أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ َبشَرا رّسُولً }[السراء.]94 :
ول ُبدّ في الرسول أن يكون من جنس المرسَل إليهم؛ ليصح أن يكون لهم ُأسْوة ،فيقلدوه ويهتدوا
كل
به ،وإل لو جاء الرسول مَلكا فكيف تتحقق فيه القدوة؟ وكيف تطيعونه وأنتم تعلمون أنه مََل ٌ
يأكل ول يشرب ول يتناسل ،وليست لديه شهوة ،ول مُقوّمات المعصية؟
ولنفرض أن ال نزّل عليكم ملَكا ،فكيف ستشاهدونه وتتلقوْن عنه؟ ل بُدّ -إذن -أن يأتيكم في
صورة رجل لتتمكنوا من مشاهدته والتلقّي عنه ،وهكذا نعود في نقاش هذه المسألة إلى أنه رجل؛
ل وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا يَلْبِسُونَ }[النعام ]9 :وتظل
جعَلْنَاهُ َرجُ ً
جعَلْنَاهُ مَلَكا لّ َ
لذلك قال سبحانه {:وََلوْ َ
الشبهة باقية.
حمْق أن نقول بأن يكون الرسول مَلَكا.
إذن :من ال ُ
أما قولهمَ } :بشَرٌ مّثُْلكُمْ { [المؤمنون ]24 :نعم ،هو بشر ،لكن ليس كمثلكم ،فأنتم كاذبون في هذه
المثلية ،لنه بشر اصطفاه ال بالوحي؛ لذلك يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم " :يؤخذ مني
فأقول :ما أنا إل بشر مثلكم ،وأُعْطَى من ال فأقول :أنا لست كأحدكم ".
ويقول تعالى لرسول ال صلى ال عليه وسلمُ {:قلْ إِ ّنمَآ أَنَاْ َبشَرٌ مّثُْلكُمْ يُوحَىا ِإَليّ أَ ّنمَآ ِإلَـا ُهكُمْ
إِلَـا ٌه وَاحِدٌ }[فصلت ]6 :ومن هنا كانت الفضلية في أنه بَشر يُوحَى إليه ،وما بشريته إل لليناس
واللْف.
ضلَ عَلَ ْيكُمْ { [المؤمنون:
ثم يتابع الحق سبحانه مقالة هؤلء الكافرين من قوم نوح } :يُرِيدُ أَن يَ َتفَ ّ
]24يتفضّل :يعني ينسب نفسه إلى الفضل والشرف والسيادة ليكون متبوعا وهم تابعون } وََلوْ
شَآءَ اللّهُ { [المؤمنون ]24 :يعني :لو شاء أنْ يرسل رسولً } لَنزَلَ مَلَ ِئكَةً { [المؤمنون]24 :
أي :رسلً ،وقد َردّ ال تعالى عليهم هذا القول ،فقال تبارك وتعالى {:قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ
سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء.]95 :
علَ ْيهِم مّنَ ال ّ
طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا َ
مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ مُ ْ
س ِمعْنَا ِبهَـاذَا فِي آبَآئِنَا الَوّلِينَ { [المؤمنون ]24 :المراد بهذا :يعني أن يأتي مَنْ
ثم يقولون } :مّا َ
يقول اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ،لن آباءنا الولين كانوا يعبدون الصنام ،ولم ي ْأتِ مَنْ يقول
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
لنا هذا الكلم مثل نوح.
وهذا دليل على أنهم مُقلّدون للباء ،ليس لديهم تفكير واستقلل في الرأي ينظرون به إلى الشياء
علَىا ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَىا
نظرة الحق والعدالة ،وفي موضع آخر قال تعالى عنهم {:إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا َ
آثَارِهِم ّمقْتَدُونَ }[الزخرف.]23 :
ولو تأملنا حال المجتمعات ،ومنها مجتمعنا الذي نعيش فيه لوضح لنا كذب هؤلء في ادعائهم
التقليد للباء ،كيف؟ تأمل حال الجيال المختلفة تجد كل جيل له راية وتطلعاته ورغباته التي ربما
اختلف فيها البن عن أبيه ،فالبناء الن لهم رأي مستقل ،فالولد يختار مثلً الكلية التي يرغبها،
الملبس التي يحبها ،وإنْ خالفتْ رأي أبيه ،بل ويصل المر إلى اتهام الباء بالجمود والتخلف إنْ
لزم المر ،وهذا موجود في كل الجيال.
إذن :لماذا لم تقولوا في مثل هذه المور :إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ لماذا كانت لكم ذاتية ور ْأيٌ
مستقل في أمور الدنيا دون أمور الدين؟ إنكم تتخذون الذاتية فيما يُلبّي رغباتكم وشهواتكم
وانحرافاتكم ،وتتخذون التقليد فيما يُقلّل تكليفكم؛ لن التكليف سيُقيّد هذه الرغبات والشهوات
ويقضي على هذه النحرفات؛ لذلك يتمرد هؤلء على منهج ال.
لذلك ،نعجب لما نراه ونسمعه من حال أبنائنا اليوم ،وكيف أفلتَ الزمام من الباء والمهات،
فالشاب يسير على هواه في أمور انحرافية ،فإن وجّهه أبوه أعرض عنه واتهمه بأنه من جيل قديم
وقد ذهب زمانه بل رجعة ،وقد تعدى المر من الولد إلى البنات ،فصِرْن أيضا يتمردْنَ على
هذه القيم ول يهتممن بها.
س ِمعْنَا ِبهَـاذَا فِي آبَآئِنَا الَوّلِينَ { [المؤمنون.]24 :
فقولهم } :مّا َ
فقولهم {:إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا ُأمّةٍ }[الزخرف ]23 :هم كاذبون أيضا في هذه المقولة؛ لنهم لو
صَدَقوا لقلّدوهم في كل شيء وما عليهم في أمور الدنيا وفي أمور الدين والقيم والخلق.
لذلك الحق -تبارك وتعالى -يعالج هذه القضية في مواضع عدة من كتابه الكريم ،وبأساليب
مختلفة ،منها قوله سبحانه {:وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَآ أَن َزلَ اللّهُ قَالُواْ َبلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} ..
[البقرة.]170 :
لن هذا يريحهم من مشقة التكاليف ،وإنْ كانت العبادة :طاعة عابد لمعبود في أمره ونهيه ،فما
أسهلَ عبادة الصنام؛ لنها آلهة كما يدعون لكن ليس لها منهج ،وليس معها تكاليف ،فبأيّ شيء
أمرك الصنم؟ وعن أيّ شيء نهاك؟ وماذا أعدّ من جزاء لمن أطاعه؟ وماذا أعدّ من عقاب لمن
عصاه ،إذن :معبود بل منهج وبل تكاليف ،وهذا دليل كذبهم في عبادة الصنام وغيرها من
آلهتهم.
سفَه وجهل؛ لن الكلم
حمْق و َ
الم يقولوا {:مَا َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى }[الزمر ]3 :فهذا ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
منطقيا ل يستقيم ،كيف تقولون نعبدهم وليس لهم منهج ،وليس لهم تكاليف ،والعبادة طاعة عابد
لمعبود؟
خوَاء وإفلس عقديّ؛ لذلك يردّ الحق -تبارك وتعالى -عليهم فيقول سبحانه{:
إذن :ما هو إل ِ
َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ شَيْئا َولَ َيهْتَدُونَ }[البقرة.]170 :
وفي موضع آخر يقول -سبحانه وتعالى -عنهم {:قَالُواْ حَسْبُنَا مَا َوجَدْنَا عَلَ ْيهِ آبَاءَنَآ[} ..المائدة:
]104وهذه أبلغ من سابقتها ،لنهم يُصعّدون كفرهم و ُيصِرون عليه ،فقولهمَ {:بلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا
عَلَيْهِ آبَآءَنَآ[} ..البقرة ]170 :فلربما يراجعون أنفسهم فيهتدون إلى الحق ،ويخالفون الباء.
لكن هنا:
{ حَسْبُنَا[} ..المائدة ]104 :يعني :كافينا ،ولن نغيره ولن نحيد عنه؛ لذلك يأتي كل آية بما يناسبها:
لخْرى
ففي الولى قال تعالى ردا عليهمَ {:أوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَ َي ْعقِلُونَ شَيْئا }[البقرة ]170 :وفي ا ُ
قال ردا عليهمَ {:أوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَ َيعَْلمُونَ شَيْئا[} ..المائدة.]104 :
فذكر العقل في الولى؛ لن النسان يأتمر فيه بنفسه ،وذكر في الخرى العلم؛ لن النسان في
العلم يأتمر بعقله ،وعقل العلم أيضا ،فالعلم -إذن -أوسع من العقل؛ لذلك ذكره مع قولهم{
حسْبُنَا[} ..المائدة ]104 :الدالة على المبالغة والصرار على الكفر.
َ
س ِمعْنَا ِبهَـاذَا[ { ..المؤمنون ]24 :أن الغفلة قد استحكمت فيهم؛
كما نلحظ عليهم في قولهم } :مّا َ
لن نوحا عليه السلم يعتبر الجد الخامس بعد آدم عليه السلم ،فبينهما فترة طويلة ،فكيف ما
سمعوا طوال هذه الفترة برسول أو نبي ،يقول :اعبدوا ال ما لكم من إله غيره؟
()2678 /
{ إِنْ ُهوَ[ } ..المؤمنون ]25 :يعني :ماهو و { جِنّةٌ } :يعني جنون ،وهو ستر العقل الذي ستر
العقل الذي يسيطر على حركة النسان في الحياة فيسير حسب تقنيناتها (افعل كذا) و (ل تفعل
ن يعرض العمال على العقل أو التفكير؛ لذلك من
كذا) ،أما المجنون فيعمل ما يخطر له دون أ ْ
عدالة ال في خَلْقه أننا ل نؤاخذ المجنون على تصرّفاته حين يعتدى على أحد منا بالسبّ أو
الضرب مثلً ،ول نملك إل أن نبتسم له ،وندعو ال أن يعافينا مما ابتله به.
فإنْ كان هذا الحال المجنون في حركة حياته ،فهل يكون ذو الخلق الذي يسير َوفْق قوانين الحياة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ومحكوما بنظم وقيم خلقية ،هل يكون مجنونا؟ ومن العجيب أن تهمة الجنون هذه سائرة على
لسان المكذّبين للرسل في كل زمان ومكان ،وقد اّتهِم بها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فردّ ال
عليهم ونفى عن رسوله هذه الصفة في قوله {:ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ
عظِيمٍ }[القلم.]4 - 1 :
خلُقٍ َ
ك لَجْرا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ َلعَلَىا ُ
ِبمَجْنُونٍ * وَإِنّ َل َ
فكيف يكون ذو الخلق مجنونا؟ ولو كان صلى ال عليه وسلم مجنونا ،فلماذا استأمنوه على
ودائعهم ونفائسهم ،واطمأنوا إليه ،وس ّموْه الصادق المين؟ إنهم ما فعلوا ذلك إل لنهم يعلمون
خُلقه ،وأنه محكوم بقيم من الحق والخير ل تتزحزح.
وما دام المر ل يعدو أن يكون رجلً به جِنّة { فَتَرَ ّبصُواْ بِهِ حَتّىا حِينٍ } [المؤمنون ]25 :أي:
انتظروا واتركوه وشأنه ،فربما عاد إلى صوابه ،وترك هذه المسألة من تلقاء نفسه حين يرانا
منصرفين عنه غير مُهتمين به ،أو دَعُوه فإنْ كان على حق ونصرة ال وأظهر أمره عندها نتبعه،
وإنْ كانت الخرى فها نحن مُعرِضون عنه من بداية المر.
()2679 /
بعد أنْ كذّبه قومه دعا ال ان ينصره { ِبمَا َكذّبُونِ } [المؤمنون ]26 :يعني :انصرني بسبب
تكذيبهم ،واجعل تكذيبهم ل مدلولَ له فينتصر عليهم رغم تكذيبهم ،أو :يا رب عوّضني بتكذيبهم
نصرا ،يعني :أ ْبدِلني من كذبهم نصرا ،كما تقول :اشتريت كذا بكذا ،فأخذت هذا بدل هذا.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى { :فََأوْحَيْنَآ إِلَ ْيهِ أَنِ اصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ َأمْرُنَا} ..
.
()2680 /
فََأوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ َأمْرُنَا َوفَارَ التّنّورُ فَاسُْلكْ فِيهَا مِنْ ُكلّ َز ْوجَيْنِ
ن وَأَهَْلكَ إِلّا مَنْ سَبَقَ عَلَ ْيهِ ا ْل َقوْلُ مِ ْنهُ ْم وَلَا ُتخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُوا إِ ّنهُمْ ُمغْ َرقُونَ ()27
اثْنَيْ ِ
استجاب ال تعالى دعاء نبيه نوح -عليه السلم -في الّنصْرة على قومه ،فأمره بأن يصنع
الفلك .والفُلْك هي السفينة ،وتُطلق على المفرد والجمع ،قال تعالى {:فَأَنجَيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
شكُرُونَ }
شحُونِ }[الشعراء ]119 :وقال {:وَتَرَى ا ْلفُ ْلكَ فِيهِ َموَاخِرَ لِتَبْ َتغُواْ مِن َفضْلِهِ وََلعَّلكُمْ تَ ْ
ا ْلمَ ْ
[فاطر ]12 :فدّلتْ مرة على المفرد ،ومرة على الجمع.
وقوله تعالى { :بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا[ } ..المؤمنون ]27 :دليل على أن نوحا -عليه السلم -لم يكن
نجارا كما يقول البعض ،فلو كان نجارا لهداه عقله إلى صناعتها ،إنما هو صنعها بوحي من ال
وتوجيهاته ورعايته ،كما قال سبحانه {:وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه ]39 :فالمعنى :اصنع الفُلْك،
وسوف أوفقك إلى صناعتها ،وأهديك إلى ما يجب أن يكون ،وأُصحّح لك إنْ أخطأت في وضع
شيء في غيرموضعه ،إذنَ :أمَ ْرتُ وأَعَ ْنتُ وتابعتُ .والوحي :هو خطاب ال لرسوله بخفاء.
ثم يقول تعالى { :فَِإذَا جَآءَ َأمْرُنَا َوفَارَ التّنّورُ } [المؤمنون.]27 :
وهنا لم يتعرض السياق للفترة التي صنع فيها نوح السفينة ،والتي جاءت في قوله تعالى {:وَ َيصْنَعُ
ا ْلفُ ْلكَ َوكُّلمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلٌ مّن َقوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنّا فَإِنّا َنسْخَرُ مِنكُمْ َكمَا
سخَرُونَ }[هود ]38 :ذلك لنهم ل يعلمون شيئا عن سبب صناعتها.
تَ ْ
حمَلْنَاهُ عَلَىا ذَاتِ أَ ْلوَاحٍ
وفي موضع آخر ُيعْلِمنا -سبحانه وتعالى -عن كيفية صُنْعها فيقول {:وَ َ
وَدُسُرٍ }[القمر ]13 :وقلنا :إن الدّسُر :الحبال التي ُتضَمّ بها ألواح الخشب بعضها إلى بعض
شريطة أن تكون جافة ،و ُتضَم إلى بعضها بحكمة حتى إذا ما نزل الماء وتشرّبت منه يزيد حجمها
ل يصنعون براميل الزيت من شرائح الخشب.
فتسدّ المسام بين اللواح ،كما نراهم مث ً
وقد صنع أحدهم سفينة من البَرْدى بهذه الطريقة ،وسافر بها إلى أمريكا واستخدم فيها الحبال بدلً
من المسامير.
ثم يقول سبحانه { :فََأوْحَيْنَآ ِإلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا فَِإذَا جَآءَ َأمْرُنَا[ } ..المؤمنون]27 :
يعني :بإنجاء المؤمنين بك ،وإهلك المكذبين { َوفَارَ التّنّورُ[ } ..المؤمنون ]27 :والتنور :هو
الفرن الذي يخبزون فيه الخبز ،ويقال :إنه كان موروثا لنوح من أيام آدم ،يفور بالماء يعني:
يخرج منه الماء ،وهو في الصل محلّ للنار ،فيخرج منه الماء وكأنه يغلي .لكن هل كل الماء
سيخرج من التنور؟ الماء سيخرج من كل أنحاء الرض وسينزل من السماء ،وفوران التنور هو
إيذان بمباشرة هذه العملية وبداية لها.
إذا حدث هذا { فَاسُْلكْ فِيهَا مِن ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ[ } ..المؤمنون ]27 :يعني :احمل وأدخل فيها
سقَرَ }[المدثر:
زوجين ذكرا وأنثى من كل نوع من المخلوقات ،كما في قوله تعالى {:مَا سََل َككُمْ فِي َ
]42يعني :أدخلكم ،وقال سبحانه {:اسُْلكْ يَ َدكَ فِي جَيْ ِبكَ[} ..القصص ]32 :يعني :أدخلها ،وقال
سبحانهَ {:كذَِلكَ نَسُْلكُهُ فِي قُلُوبِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ }[الحجر.]12 :
ومن مادة (سلك) أخذنا في أعرافنا اللغوية.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حفْظ نوعه
والتنوين في } مِن ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ[ { ..المؤمنون ]27 :يعني :من كل شيء نريد ِ
واستمراره؛ لن الطوفان سيُغرق كل شيء ،والحق -تبارك وتعالى -يريد أن يحفظ لعباده
المؤمنين مُقوّمات حياتهم وما يخدمهم من الحيوانات والنعام وجميع أنواع المخلوقات الخرى من
كل ما يِلدُ أو يبيض.
ومعنى } َز ْوجَيْنِ { [المؤمنون ]27 :ليس كما يظنّ البعض أن زوج يعني :اثنين ،إنما الزوج يعني
ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ
فرد ومعه مثله ،ومنه قوله تعالىَ {:ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ
ن الِ ْبلِ اثْنَيْنِ
حَرّمَ أَ ِم الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَ ْرحَا ُم الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُن ُت ْم صَا ِدقِينَ * َومِ َ
َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ[} ..النعام.]144 - 143 :
فسمّى كلّ فرد من هذه الثمانية زوجا؛ لن معه مثله.
هذا في جميع المخلوقات ،أما في البشر فلم ي ُقلْ زوجين ،إنما قال } وَأَهَْلكَ { [المؤمنون ]27 :أيا
كان نوعهم وعددهم ،لكن الهلية هنا أهلية نسب ،أم أهلية إيمانية؟
الهلية هنا يُراد بها أهلية اليمان والتباع ،بدليل أن ال تعالى شرح هذه اللقطة في آية أخرى،
فقال على لسان نوح عليه السلمَ {:فقَالَ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ َأهْلِي[} ..هود.]45 :
ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ }[هود]46 :
فقال له ربه {:إِنّهُ لَيْسَ مِنْ َأهِْلكَ إِنّهُ َ
فبنوة النبياء بنوة عمل واتباع ،فإنْ جاءت من صُلْبه فأهلً وسهلً ،وإنْ جاءت من الغير فأهلً
وسهلً " .لذلك النبي صلى ال عليه وسلم يقول عن سلمان الفارسي " :سلمان منا آل البيت " " فقد
تعدى أن يكون مسلما إلى أن صار واحدا من آل البيت.
وكذلك أدخل فيها أهلك من النسب بدليل أنه استثنى منهمِ } :إلّ مَن سَ َبقَ عَلَيْهِ ا ْلقَ ْولُ مِ ْنهُمْ
{ [المؤمنون ]27 :وكان له امرأتان ،واحدة كفرت به وخانته هي وولدها كنعان ،والتي ذُكرت في
ح وَامْرََأتَ لُوطٍ كَانَتَا
قول ال تعالى في سورة التحريم {:ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُو ٍ
حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَاِلحَيْنِ فَخَانَتَا ُهمَا[} ..التحريم.]10 :
تَ ْ
وكنعان هو الذي قال :سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وهذه اللقطة لم تذكر هنا؛ لن أحداث
القصة جاءت مُفرّقة في عِدّة مواضع ،بحيث لو جُمعت تعطي الصورة العامة للقصة ،فإنْ قُ ْلتَ:
فلماذا لم تأتِ مرة واحدة كما في قصة يوسف عليه السلم؟
نقول :جاءت قصة يوسف كاملة في موضع واحد ليعطينا بها الحق -سبحانه وتعالى -نموذجا
للقصة الكاملة المحبوكة التي تدل على قدرته تعالى على التيان بالقصة مرة واحدة لمن أراد ذلك،
فإنْ أردتها كاملة فنحن قادرون على ذلك ،وها هي قصة يوسف ،إنما الهدف من القصص في
ك وَرَتّلْنَاهُ
القرآن هو تثبيت فؤاد النبي صلى ال عليه وسلم كما قال تعالى {:كَذَِلكَ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َد َ
تَرْتِيلً }
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[الفرقان]32 :؛ لنه صلى ال عليه وسلم سيقابل مواقف تكذيب وعداء وعناد من قومه،
وسيتعرض لزمات شديدة ويحتاج إلى ما يُسلّيه ويُثبّته أمام هذه الحداث.
لذلك جاءت لقطات القصص القرآني في عدة مواضع لتسلية رسول ال ،والتخفيف عنه كلما
جمْع هذه اللقطات المتفرقة تتكون لديك القصة الكاملة
تعرّض لموقف من هذه المواقف ،وب َ
المستوية.
وقد أدخل نوح معه زوجته الخرى المؤمنة وأولده :سام وحام ويافث وزوجاتهم ،فهؤلء ستة
ونوح وزوجه فهم ثمانية ،ومعهم اثنان وسبعون من المؤمنين وأصول اليمان الباقي مع نوح عليه
السلم.
ن كفر من أهله أمرا ل استئناف فيه ،قال تعالى بعدهاَ {:ولَ تُخَاطِبْنِي فِي
ولما كان الحكم بغرق مَ ْ
الّذِينَ ظََلمُواْ إِ ّنهُمْ ّمغْ َرقُونَ }[هود ]37 :لكن ظلموا مَنْ؟ ظلموا أنفسهم حين كفروا بال ،والحق
عظِيمٌ }[لقمان.]13 :
سبحانه يقول {:إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ
صحيح أنت حين كفرت أخذتَ حقّ ال في أنه واحد أحد موجود ،وإله ل معبود غيره ،وأعطيتَه
حمْق
لغيره ،لكن هذا الظلم لم يضر ال تعالى في شيء إنما أضرّ بك وظلمتَ به نفسك ،ومنتهى ال ُ
والسفه أن يظلم النسان نفسه.
ح ْمدُ للّهِ{ ..
ثم يقول سبحانة } :فَإِذَا اسْ َتوَ ْيتَ أَنتَ َومَن ّم َعكَ عَلَى ا ْلفُ ْلكِ َف ُقلِ الْ َ
.
()2681 /
{ اسْ َتوَ ْيتَ } [المؤمنون ]28 :يعني :استعليتَ وركبتَ أنت ومَنْ معك على الفُلْك واطمأنّ قلبك إلى
حمْدُ للّهِ } [المؤمنون ]28 :فل بد للمؤمن أن يستقبل ِنعَم ال عليه
نجاة المؤمنين معك { َف ُقلِ الْ َ
بالحمد ،وبألّ تُنسيه النعمةُ جللَ المنعِم ،فساعةَ أنْ يستتب لك المر على الفُلْك وتطمئن بادر
بحمد ال.
شفْنَا
س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ
وفي موضع آخر يقول سبحانه {:وَِإذَا مَ ّ
عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ كَذاِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[يونس.]12 :
وكأن الحق -تبارك وتعالى -يعطينا حصانة ،ويجعل لنا أسوة بذاته سبحانه ،حتى إذا ما
تعرضنا لنكران الجميل ممّنْ أحسنّا إليه ل نغضب؛ لن الناس ينكرون الجميل حتى مع ال عز
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وجل.
لذلك لما قال موسى -عليه السلم -يا ربّ أسألك َألّ يُقال فيّ ما ليس فيّ .يعني :ل يتهمني
الناس ظلما ،فردّ عليه ربه عز وجل " :يا موسى ،كيف ولم أصنع ذلك لنفسي ".
إذن :فهذه مسألة ل يطمع فيها أحد ،ولو أن كل فاعل للجميل يضِنّ به على الناس لنهم ينكرونه
َلفَسد الحال ،وتوقفت المصالح بين الخَلْق ،وضَنّ أهل الخير بخيرهم؛ لذلك وضع لنا ربنا -عز
وجل -الُسْوة بنفسه سبحانه.
والنسان إنْ كان حسيسا ل يقف عند إنكار الجميل ،إنما يتعدّى ذلك فيكره مَنْ أحسن إليه ويحقد
عليه ،ذلك لن النسان مجبول على حب النفس والتعالي والغطرسة ،فإذا ما رأى مَنْ أحسن إليه
كرهه؛ لنه يدكّ فيه كبرياء نفسه ،ويَحدّ من تعاليه.
ن يتعالى،
ومن هنا قالوا " :اتق شرّ من أحسنت إليه " لماذا؟ لنه يخزَى ساعة يراك ،وهو يريد أ ْ
ووجودك يكسر عنده هذا التعالي.
إذن :وطّنْ نفسك على أن الجميل قد يُنكَر حتى لو كان فاعله رب العزة سبحانه ،فل يحزنك أنْ
يُنكَر جميلك أنت.
خضّعا فَإنْ أدركُوهَا خلّفوكَ وهَ ْروَلُواوأفضلُهم مَنْ
وعن ذلك قال الشاعرَ :يسِير َذوُو الحاجَاتِ خل َفكَ ُ
ن ثوابَ الِ أرْبَى
ع المعْروفَ مهما تنكّروا فَإ ّ
إنْ ُذكِرْت بسي ٍء تو ّقفَ ل ينفي وقد يتقوّلفَل تَد ِ
ب لك المر على الفُلْك ،فإياك أنْ تغتَرّ أو تنأى
وأجزَلُفالمعنى :إذا استويتَ أنت ومَنْ معك ،واستت ّ
حمْد ال على هذه النعمة؛ لذلك أمرنا حين نركب أي مركب أن نقول " :بسم ال
بجانبك فتنسى َ
مجريها ومرساها " لنك ما أجريتها بمهارتك وقوتك ،إنما باسم ال الذي ألهم ،وباسم ال الذي
أعان ،وباسم ال الذي تابعني ،ورعاني بعينه ،وما ُد ْمتَ تذكر المنعم عند النعمة وتعترف لصاحب
الفضل بفضله يحفظها لك.
أما أنْ تنكرها على صاحبها ،وتنسبها لنفسك ،كالذي قال {:إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي} ..
[القصص ]78 :فيقول :ما دام المر كذلك ،فحافظ أنت عليه.
ن نقول " :سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا
حتى في ركوب الدّابّة يُعلّمنا صلى ال عليه وسلم أ ْ
له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون ".
وقوله تعالى { :الّذِي َنجّانَا مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [المؤمنون ]28 :وذكر النجاة لن دَرْءَ المفسدة
مُقدّم على جَلْب المنفعة.
ثم يُعلّمه ربه دعاءً آخر يدعو به حين تستقر به السفينة على الجُودي ،وعندما ينزل منها ليباشر
حياته الجديدة على الرضَ { :وقُل ّربّ أَنزِلْنِي مُن َزلً مّبَارَكا وَأَنتَ خَيْرُ} ..
.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2682 /
َوقُلْ َربّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَا َركًا وَأَ ْنتَ خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ ()29
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مثلً ،لكن ما توجده يظل جامدا على حالته ل ينمو ول يتناسل ،وليست فيه حياة ،ومع ذلك سماك
ربك خالقا ،وكذلك قال {:وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ }[النبياء ]89 :وقال {:خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل عمران:
.]54
وكما أن ال عز وجل لم يضنّ عليك بهذه الصفات ،فل تضنّ عليه سبحانه بأنه خير المنزلين،
وخير الوارثين ،وخير الماكرين ،وأحسن الخالقين.
ك ليَاتٍ وَإِن كُنّا َلمُبْتَلِينَ }
ثم يقول الحق سبحانه { :إِنّ فِي ذاِل َ
.
()2683 /
{ فِي ذاِلكَ[ } ..المؤمنون ]30 :يعني :فيما تقدم { ليَاتٍ[ } ..المؤمنون ]30 :عبر وعظات
وعجائب ،لو فكّر فيها المرء بعقل محايد لنتهى إلى الخير { وَإِن كُنّا َلمُبْتَلِينَ } [المؤمنون]30 :
فل تظن أن البتلء مقصور على الظلمة والكافرين الذين أخذهم ال وأهلكهم ،فقد يقع البتلء
ن ل يستحق البتلء ،وحين يبتلي الُ أهلَ الخير والصلح فما ذلك إل ليزداد أجرهم وتُرفع
بمَ ْ
مكانتهم و ُيمَحّص إيمانهم.
ومن ذلك البتلءات التي وقعت بالمسلمين الوائل ،فإنها لم تكُنْ كراهية لهم أو انتقاما منهم ،إنما
كانت تصفية لمعدنهم وإظهارا ليمانهم الراسخ الذي ل يتزعزع؛ لنهم سيحملون دعوة ال إلى أنْ
تقوم الساعة ،فل ُبدّ من تمحيصهم وتصفيتهم.
سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن َيقُولُواْ آمَنّا وَهُمْ لَ ُيفْتَنُونَ }[العنكبوت ]2 :ل ،لبُدّ
كما قال سبحانهَ {:أحَ ِ
من البتلء الذي يُميّز الصادقين ممّنْ يعبد ال على حَرْف ،ل بُدّ أن يتساقط هؤلء من موكب
الدعوة ،ول يبقى إل المؤمنين الراسخون على إيمانهم الذين ل تزعزعهم الحداث.
إذن :المعنى { وَإِن كُنّا َلمُبْتَلِينَ } [المؤمنون ]30 :يعني :أهل اليمان الذين ل يستحقون العذاب؛
لننا نحب أن نرفع درجاتهم ونُمحّص إيمانهم ليكونوا أَهْلً لدعوة ال؛ لذلك يقول الحق -تبارك
وتعالى -في الحديث القدسي " :وعزتي وجللي ،ل أُخرج عبدي من الدنيا وقد أردتُ به الخير
حتى أوفيه ما عمله من السيئات ،من مرض في جسمه وخسارة في ماله ،وفقد في ولده ،فإذا بقيتْ
عليه سيئة ثقّلت عليه سكرات الموت حتى يأتيني كيوم ولدته أمه ..وعزتي وجللي ،ل أخرج
عبدي من الدنيا وقد أردتُ به الشر حتى أوفيه ما عمله من الحسنات ،صحةً في جسمه ،وبركة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
في ماله وولده ،فإذا بقيتْ له حسنة خففتُ عليه سكرات الموت حتى يأتيني وليست له حسنة ".
إذن :فالبتلء كما يكون انتقاما من الكفرة والظلمة يكون كذلك تربيبا للنفع ،وتمحيصا لليمان،
وإرادة للثواب.
ثم يقول الحق سبحانهُ { :ثمّ أَنشَأْنَا مِن َبعْدِ ِهمْ قَرْنا آخَرِينَ }
.
()2684 /
أي :من بعد قوم نوح عليه السلم ،وقلنا :إن القرن :الزمن الذي يجمع أُنَاسا متقاربين في مسائل
الحياة ،وانتهى العلماء إلى أن القرن مائة عام ،أو إلى ملك مهما طال ،أو رسالة مهما طالتْ ،كلها
تسمى قَرْنا.
ثم يقول الحق سبحانه { :فَأَ ْرسَلْنَا فِيهِمْ َرسُولً مّ ْنهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ} ..
.
()2685 /
فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِ ْنهُمْ أَنِ اعْ ُبدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَا تَ ّتقُونَ ()32
جاء بعد قوم نوح عليه السلم قوم عاد ،وقد أرسل ال إليهم سيدنا هودا عليه السلم ،كما جاء في
قوله تعالى {:وَإِلَىا عَادٍ َأخَا ُهمْ هُودا[} ..العراف ]65 :وقد دعاهم بنفس دعوة نوح { :أَنِ اعْبُدُواْ
اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ[ } ..المؤمنون ]32 :وقال لهم أيضاَ { :أفَلَ تَ ّتقُونَ } [المؤمنون.]32 :
إذن :هو منهج مُوحّد عند جميع الرسالت ،كما قال سبحانه {:شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىا بِهِ
ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ
ك َومَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ
نُوحا وَالّذِي َأ ْوحَيْنَآ إِلَ ْي َ
فِيهِ[} ..الشورى.]13 :
جعَلْنَا مِنكُمْ
ن قلتَ :فما بال قوله تعالىِ {:ل ُكلّ َ
فدين ال واحد ،نزل به جميع الرسل والنبياء ،فإ ْ
شِرْعَةً َومِنْهَاجا[} ..المائدة.]48 :
نقول :نعم ،لن العقائد والصول هي الثابتة التي ل تتغير :اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ،أمّا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
المنهج والشريعة الخاصة بالفروع فهي محلّ التغيير بين الرسل؛ لنها أمور تتعلق بحركة الحياة،
والحق -تبارك وتعالى -يعطي لكل بيئة على لسان رسولها ما يناسبها وما يعالج أمراضها
وداءاتها.
والشّرْعة :هي القانون الذي يحكم حركة حياتك ،أمّا الدين فهو المر الثابت والموحّد من قبل ال
-عز وجل -والذي ل يملك أحد أنْ يُغيّر فيه حرفا واحدا.
لذلك ،كانت آفة المم أنْ يجعلوا أنفسهم فِرَقا مختلفة وأحزابا متباينة ،وهؤلء الذين قال ال فيهم{:
شيْءٍ[} ..النعام.]159 :
ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ
إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َنهُ ْم َوكَانُواْ شِيَعا لّ ْ
وتأمل {:فَ ّرقُواْ دِي َنهُمْ[} ..النعام ]159 :ولم ي ُقلْ :فرّقوا شريعتهم ول منهجهم ،ذلك لن الدين واحد
حسْب ما في المة من داءات ،فهؤلء
عند ال ،أمّا المناهج والشرائع فهي مجال الختلف على َ
كانوا يعبدون الوثان ،وهؤلء كانوا يُطفّفون الكيل والميزان ،وهؤلء كانوا يجحدون ِنعَم ال..
الخ.
وسبق أنْ أوضحنا أن اختلف الداءات في هذه المم ناتج عن العزلة التي كانت تبعدهم ،فل
يدري هذا بهذا ،وهم في زمن واحد .أمّا في رسالة السلم -هذه الرسالة العامة الخاتمة -فقد
جاءت على موعد من التقاء المم وتواصل الحضارات ،فما يحدث في أقصى الشمال يعرفه مَنْ
في أقصى الجنوب؛ لذلك توحدت الداءات ،فجاء رسول واحد خاتم بتشريع صالح لجميع الزمان
ولجميع المكان ،وإلى قيام الساعة.
وآفة المسلمين في التعصّب العمى الذي يُنزِل المور الجتهادية التي ترك ال لعباده فيه حريةً
واختيارا منزلةَ الصول والعقائد التي ل اجتهادَ فيها ،فيتسرّعون في الحكم على الناس واتهامهم
بالكفر لمجرد الختلف في وجهات النظر الجتهادية.
نقول :من رحمة ال بنا أنْ جعل الصول واحدة ل خلفَ عليها ،أما الفروع والمور الجتهادية
ل وَإِلَىا ُأوْلِي
التي تتأتّى بالفهم من المجتهد فقد تركها ال لصحاب الفهم {،وََلوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُو ِ
لمْرِ مِ ْنهُمْ َلعَِلمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْ ِبطُونَهُ مِ ْنهُمْ} ..
اَ
[النساء.]83 :
وإل لو أراد الحق سبحانه َلمَا جعل لنا اجتهادا في شيء ،ولجاءتْ كل مسائل الدين قهرية ،ل رَ ْأيَ
جمْعا قهريا
فيها لحد ول اجتهاد ،أمّا الحق -سبحانه وتعالى -فقد شاءت حكمته أن يجمعنا َ
على المور التي إنْ لم نجمع عليها تفسد ،أما المور التي تصلح على أي وجه فتركها لجتهاد
خَلْقه.
فعلينا -إذن -أنْ نحترم رأي الخرين ،وألّ نتجرأ عليهم بل لنحترم ما اختاره ال لنا من حرية
الفكر والجتهاد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأُسْوتنا في هذه المسألة سيرة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وسلف هذه المة في غزوة
الحزاب ،فلما هَ ّبتْ الريح على معسكر الكفار فاقتلعت خيامهم وشتتت شملهم وفَرّوا من الميدان
انصرف رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى المدينة ،لكن سرعان ما أمره ربه بالتوجه إلى بني
قريظة لتأديبهم ،وأخبره -سبحانه وتعالى -أن الملئكة ما زالت على حال استعدادها ،ولم
يضعوا عنهم أداة الحرب ،فجمع رسول ال الصحابة وقال لهم " :مَنْ كان يؤمن بال واليوم الخر
فل يصلين العصر إل في بني قريظة ".
وفعلً ،سار الصحابة نحو بني قريظة فيما بين العصر والمغرب ،فمنهم مَنْ خاف أنْ يدركه
ن يصلي العصر ،فصلى في الطريق ومنهم مَن التزم بأمر رسول ال صلى ال
المغرب قبل أ ْ
عليه وسلم بألّ يصلي إل في بني قريظة ،حتى وإن أدركه المغرب ،حدث هذا الخلف إذن بين
صحابة رسول ال وفي وجوده ،لكنه خلف فرعيَ ،لمّا رفعوه إلى رسول ال وافق هؤلء ،ووافق
هؤلء ،ولم ينكر على أحد منهم ما اجتهد.
إذن :في المسائل الجتهادية ينبغي أن نحترم رأي الخرين؛ لذلك فالعلماء -رضي ال عنهم -
وأصحاب الفكر المتزن يقولون :رأيي صواب يحتمل الخطأ ،ورأْي غيري خطأ يحتمل الصواب.
فليت المسلمين يتخلصون من هذه الفة التي فرّقتهم ،وأضعفتْ شوكتهم بين المم .ليتهم يذكرون
شيْءٍ[} ..النعام.]159 :
ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ
دائما قول ال تعالى {:إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َنهُ ْم َوكَانُواْ شِيَعا لّ ْ
ولما تكلم الحق -تبارك وتعالى -عن مسألة الوضوء ،قال سبحانه {:يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا ُقمْتُمْ
سكُ ْم وَأَرْجَُلكُمْ إِلَى ا ْل َكعْبَينِ} ..
سحُواْ بِ ُرؤُو ِ
ق وَامْ َ
إِلَى الصّلةِ فاغْسِلُو ْا وُجُو َهكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ إِلَى ا ْلمَرَافِ ِ
[المائدة.]6 :
نلحظ أنه تعالى عند الوجه قال{ فاغْسِلُو ْا وُجُو َهكُمْ[} ..المائدة ]6 :دون أن يحدد للوجه حدودا،
لماذا؟ لن الوجه ل خلفَ عليه بين الناس ،لكن في اليدي قال {:وَأَيْدِ َيكُمْ ِإلَى ا ْلمَرَا ِفقِ[} ..المائدة:
ن يقول :اليدي إلى الكتف .ومنهم مَنْ
]6فحدد اليد إلى المرفق؛ لنها محل خلف ،فمن الناس مَ ْ
ن يقول :هي كف اليد.
يقول :إلى المرفق .ومنهم مَ ْ
لذلك حدّدها ربنا -عز وجل -ليُخرِجنا من دائرة الخلف في غَسْل هذا العضو ،ولو تركها -
سبحانه وتعالى -دون هذا التحديد لكانَ المر فيها مباحا :يغسل كل واحد يده كما يرى ،كذلك في
سكُمْ[} ..المائدة ]6 :وتركها لحتمالت الباء التي يراها
الرأس قال سبحانه {:وَامْسَحُواْ بِ ُرؤُو ِ
البعض لللصاق ،أو للتعدية ،أو للتبعيض.
إذن :حين ترى مخالفا لك في مثل هذه المور ل تتهمه؛ لن النص أجاز له هذا الختلف،
وأعطاه كما أعطاك حقّ الجتهاد.
ثم قال الحق سبحانهَ َ } :وقَالَ ا ْلمَلُ مِن َق ْومِهِ الّذِينَ َكفَرُواْ َوكَذّبُواْ ِبِلقَآءِ الخِ َر ِة وَأَتْ َرفْنَاهُمْ فِي
الْحَيـاةِ الدّنْيَا{ ..
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
.
()2686 /
َوقَالَ ا ْلمَلَأُ مِنْ َق ْومِهِ الّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِِلقَاءِ الَْآخِ َر ِة وَأَتْ َرفْنَاهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا مَا هَذَا إِلّا بَشَرٌ
مِثُْلكُمْ يَ ْأ ُكلُ ِممّا تَ ْأكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْ َربُ ِممّا َتشْرَبُونَ ()33
تكلمنا عن معنى { َا ْلمَلُ } [المؤمنون ]33 :وهم عَيْن العيان وأصحاب السلطة والنفوذ في القوم،
والذين يضايقهم المنهج اليماني ،ويقضي على مكانتهم ،ويقف في وجه طغيانهم وسيطرتهم
واستضعافهم للخلق.
{ َ َوقَالَ ا ْلمَلُ مِن َق ْومِهِ الّذِينَ َكفَرُواْ[ } ..المؤمنون ]33 :تماما كما حدث مع سابقيهم من قوم نوح
{ َ َوكَذّبُواْ بِِلقَآءِ الخِ َر ِة وَأَتْ َرفْنَا ُهمْ فِي الْحَيـاةِ الدّنْيَا[ } ..المؤمنون ]33 :مادة :ترف مثل فرح،
نقول :ترف الرجل يترف إذا تنعّم ،فإذا ِز ْدتَ عليها الهمزة (أترف) نقول :أترفته النعمة ،أترفه
ال ،يعني :كانت النعمة سبب طغيان ،ووسّع ال عليه في النعمة ليتسع في الطغيان.
وفي هذا المعنى ورد قوله تعالى {:فََلمّا نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ ِبهِ[} ..النعام ]44 :يعني من منهج الحق{
خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبِْلسُونَ }[النعام:
شيْءٍ حَتّىا ِإذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَ َ
فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
.]44
ذلك ،ليكون الَخْذ أقوى وأعنف وأبلغ في اليلم والحسرة ،وسبق أن ذكرنا تشبيها أضحك
الحاضرين كثيرا ،ول تعالى -المثل العلى ،-قلنا :إن ال تعالى إذا أراد أنْ يُوقع معاندا ل
يُوقعه من فوق الحصيرة ،إنما يوقعه من فوق كرسي عالٍ ومكانة رفيعة ،ليكون (الهُدْر) أقوى
وأشدّ.
فإن أخذ النسان العادي الذي ل يملك ما يتحسرعليه من مال أو جاه أو منصب ،فالمر هيّن ،أمّا
حين يُرقّيه و ُيعِلي منزلته ويُترِفه في النعيم ،ثم يأخذه على هذه الحال فل شكّ أنه أخْذ عزيز
مقتدر ،وهذا أش ّد وأنكَى.
إذن :أترفناهم يعني :وسّعنا عليهم وأمددناهم بالنعم المختلفة ليزدادوا في كفرهم وطغيانهم ،على
غمْرَ ِتهِمْ حَتّىا حِينٍ * أَ َيحْسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّهُمْ ِبهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ *
حدّ قوله تعالىَ {:فَذَ ْرهُمْ فِي َ
َ
شعُرُونَ }[المؤمنون.]56 - 54 :
نُسَا ِرعُ َلهُمْ فِي ا ْلخَيْرَاتِ بَل لّ يَ ْ
إن ال تعالى يم ّد لهؤلء في وسائل الغيّ والنحراف ليزدادوا منها ،ويتعمقوا في آثامها لنتعمق
نحن في عذابهم والنتقام منهم.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يحكي القرآن عنهم هذه المقولة التي سارت على ألسنتهم جميعا في كل الرسالتَ { :مَا هَـاذَا
ِإلّ بَشَرٌ مّثُْلكُمْ[ } ..المؤمنون ]33 :وكأن هذه الكلمة أصبحتْ لزمة من لوازم المكذّبين للرسل
المعاندين لمنهج ال ،ثم يؤكدون على بشرية الرسول فيقولونَ { :يَ ْأ ُكلُ ِممّا تَ ْأكُلُونَ مِنْ ُه وَيَشْ َربُ
ِممّا تَشْرَبُونَ } [المؤمنون ]33 :ألم يقُل كفار مكة لرسول ال صلى ال عليه وسلم {:مَالِ هَـاذَا
سوَاقِ[} ..الفرقان.]7 :
طعَا َم وَ َيمْشِي فِي الَ ْ
الرّسُولِ يَ ْأ ُكلُ ال ّ
سبحان ال ،كأنهم يتكلمون بلسان واحد مع اختلف المم وتباعد الزمان ،لكن كما يقولون :الكفر
ملة واحدة.
()2687 /
خاسرون إنْ أطعتم بشرا مثلكم ،لكنه بشر ليس مثلكم ،إنه بشر يُوحَى إليه ،فأنا ل أتبع فيه
بشريته ،إنما أتبع ما ينزل عليه من الوحي.
.
()2688 /
إنهم ينكرون البعث بعد الموت الذي يعدهم به نبيهم ،لكن ما الشكال في مسألة البعث؟ أليست
العادة أهونَ من ال َبدْء؟ وإذا كان الخالق -عز وجل -قد خلقكم من ل شيء فلنْ يُعيدكم من
الرفات أهون ،وإن كانت كلمة أهون ل تليق في حق ال تعالى؛ لنه سبحانه ل يفعل أموره عن
ت عليه العقول،
علج ومزاولة ،إنما عن كلمة " كُنْ " لكن الحديث في هذه المسألة يأتي بما تعارف ْ
وبما يُقرّب القضية إلى الذهان.
()2689 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ هَ ْيهَاتَ[ } ..المؤمنون ]36 :اسم فعل بمعنى َبعُد ،يعني َبعُد هذا المر ،وهو أن نرجع بعد
الموت ،وبعد أن صِرْنا عظاما و ُرفَاتا.
والكلمة في اللغة إما اسم أو فعل أو حرف :السم ما َدلّ على معنى مستقل بالفهم غير مرتبط
بزمن ،فحين تقول :سماء نفهم أنها كل مّا علك فأظلّك .والفعل كلمة تدل أيضا على معنى مستقل
بالفهم لكنه مرتبط بزمن ،فحين نقول :أكل نفهم المقصود منها ،وهي متعلقة بالزمن الماضي ،أما
الحرف فكلمة تدل على معنى غير مستقل بذاته ،فالحرف (على) يدل على معنى الستعلء ،لكن
استعلء أي شيء؟
فالمعنى -إذن -ل يستقل بذاته ،إنما يحتاج إلى مَا يوضحه ،كذلك (في) تدل على الظرفية ،لكن
ل تُحدد بذاتها هذه الظرفية ،كذلك من للبتداء وإلى للغاية ،ولكل من السم والفعل والحرف
علمات خاصة يُعرف بها.
وغير هذه الثلثة قسم رابع جاء مخالفا لهذه القاعدة؛ لذلك يسمونه الخالفة وهو اسم الفعل مثل
(هيهات) أي َبعُد ،فهو اسم يدل على معنى الفعل دون أن يقبل علمات الفعل ،ومثله شتان بمعنى
تفرق ،أف بمعنى أتضجّر ..الخ.
ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا { :إِنْ ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وَ َنحْيَا} ..
.
()2690 /
لقد استبعد هؤلء أمر البعث؛ لنهم ل يعتقدون في حياة غير حياتهم الدنيا ،فالمر عندهم محصور
فيها { إِنْ ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا[ } ..المؤمنون ]37 :إن :حرف نفي يعني .ما هي ،كما جاء في
قوله تعالى {:مّا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ ِإلّ اللّئِي وَلَدْ َنهُمْ[} ..المجادلة ]2 :يعني :ما أمهاتهم إل
اللئي ولدْنَهم.
وقولهَ { :نمُوتُ وَ َنحْيَا[ } ..المؤمنون ]37 :قد يظن البعض أنهم بهذا القول يؤمنون بالبعث ،لنهم
قالوا( :نموت ونحيا) فكيف يُنكرونه؟
والمراد :نموت نحن ،ويحيا من خلف بعدنا من أولدنا ،بدليل قولهم بعدهاِ { :إ َومَا َنحْنُ
ِبمَ ْبعُوثِينَ }.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2691 /
جلٌ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َومَا َنحْنُ لَهُ ِب ُمؤْمِنِينَ ()38
إِنْ ُهوَ إِلّا َر ُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فإذا جاء مَنْ يخبرني أنه خالق هذه الشمس أقول له :إذن هي لك ،إلى أن يأتي منازع يدّعيها
لنفسه ،ولم يأت منازع يدّعيها إلى الن.
وقولهم { :افتَرَى[ } ..المؤمنون ]38 :مبالغة منهم في حقّ رسولهم؛ لن الفتراء :تعمّد الكذب،
والكذب كما قلنا :أن يأتي الكلم مخالفا للواقع ،وقد يأتي الكلم مخالفا للواقع لكن حسب علم
صاحبه ،فهو في ذاته صادق.
()2692 /
سبحان ال ،كأن تاريخ الرسالت يعيد نفسه مع المكذّبين ،وكأنه (أكلشيه) ثابت على ألسنة الرسل:
اعبدوا ال ما لكم من إله غيره ،فيتهمونه ويُكذّبونه ويقولون :ما أنت إل بشر مثلنا ،فتأتي النهاية
واحدة :ربّ انصرني بما كذّبون ،يعني :أبدلني بتكذيبهم َنصْرا.
هذه َقوْلة هود -عليه السلم -حين كذّبه قومه ،وقوْلة نوح ،وقوْلة كل نبي كذّبه القوم؛ لن
الرسول حين يُكذّب من الرسل إليهم ل يفزع إل إلى مَنْ أرسله؛ لن مَنْ أرسله وعده بالنصرة
والتأييد {:وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات.]173 :
وقال {:وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ[} ..الحج ]40 :وقال سبحانه {:وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا
ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ }[الصافات.]172 - 171 :
فالمعنى :انصرني لنك أرسلتني ،وقد كذّبني القوم بعد أن استنفدتُ في دعوتهم كل أسبابي ،ولم
َيعُدْ لي بهم طاقة ،ولم َيعُد لي إل معونتك .والنسان حين يستنفد كل السباب التي منحه ال إياها
دون أن يصل إلى غايته فقد أصبح مضطرا داخلً في قوله سبحانهَ {:أمّن ُيجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ إِذَا
دَعَاهُ[} ..النمل.]62 :
إذن :ل تلجأ إلى ال إل بعد أنْ تؤدي ما عليك أولً ،وتفرغ كل ما طاقتك في سبيل غايتك ،لكن
ل تقعد عن السباب وتقول :يا رب فالرض أمامك والفأس في يدك ومعك عافية وقدرة ،فاعمل
واستنفد أسبابك أولً حتى تكون في جانب المضطر الذي يُجيب ال دعاءه.
ن يقول :دعوتُ ال ولم يستجب لي ،ونقول له :أنت لم َت ْدعُ بدعاء المضطر،
لذلك نسمع كثيرا مَ ْ
أنت تدعو بدعاء مَنْ في يده السباب ولكنه تكاسل عنها؛ لذلك ل يُستجاب لك.
وهذه نراها حتى مع البشر ،ول تعالى المثل العلىَ :هبْ أنك صاحب مال وتجارة وجاءتك
بضاعة من الجمرك مثلً ،وجلست تراقب العمال وهم يُدخِلونها المخازن ،فليس من مهامك الحمل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حمْله وكاد الصندوق أن يوقعه
والتخزين فهذه مهمة العمال ،لكن َهبْ أنك وجدت عاملً ثقُلَ عليه ِ
على الرض ،ماذا يكون موقفك؟ ل شكّ أنك ستفزع إليه وتأخذ بيده وتساعده؛ لنه فعل كل ما
في وُسْعه ،واستفرغ كل أسبابه وقواه ،فلم تضِنّ أنت عليه بالعون.
كذلك ربك -عز وجل -يريد منك أن تؤدي ما عليك ول تدعه لشيء قد جعل لك فيه أسبابا؛
لن السباب يد ال الممدودة لخَلْقه ،فل ترد يد ال بالسباب لتطلب الذات بل أسباب.
لذلك جاء قول الرسل الذين كُذبوا { :قَالَ َربّ ا ْنصُرْنِي[ } ..المؤمنون ]39 :ليس وأنا قاعد
متخاذل متهاون ،ولكن { ِبمَا كَذّبُونِ } [المؤمنون ]39 :يعني :فعلت كل مَا في وُسْعي ،ولم َيعُ ْد لي
بهم طاقة.
عمّا قَلِيلٍ لّ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ }.
فتأتي الجابة على وجه السرعة { :قَالَ َ
()2693 /
عمّا قَلِيلٍ[ } ..المؤمنون ]40 :يعني :بعد قليل ،فـ (عن) هنا بمعنى بعد ،كما جاء في قوله
{ َ
تعالى {:لَتَ ْركَبُنّ طَبَقا عَن طَبقٍ }[النشقاق ]19 :يعني :بعد طبق.
أما { مّا[ } ..المؤمنون ]40 :هنا فقد دّلتْ على الظرف الزمني؛ لن المراد بعد قليل من الزمن.
{ لّ ُيصْ ِبحُنّ نَا ِدمِينَ } [المؤمنون ]40 :حين يقع بهم ما كانوا به يُكذّبون ،ويحلّ عليهم العذاب
يندمون ،لنهم لن يستطيعوا تدارك ما فاتهم ،فليس أمامهم إذن إل الندم ،وهذه المسألة دّلتْ على
أن الفطرة النسانية حين ل تختلط عليها الهواء تنتهي في ذاتها إلى الحق ،وإنْ أخرجها الغضب
إلى الباطل ،فإنها تعود إلى توازنها وإلى الجادة حين تهدأ ثورة الغضب.
والحق -تبارك وتعالى -يعطينا أدلةً وإشارات حول هذه القضية في قصة ولدي آدم عليه السلم
حدِ ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِنَ الخَرِ قَالَ
حقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَتُقُ ّبلَ مِن أَ َ
فيقول {:وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَادَمَ بِالْ َ
لقْتُلَ ّنكَ قَالَ إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ }[المائدة.]27 :
َ
عتْ َلهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ أَخِيهِ َفقَتَلَهُ[} ..المائدة ]30 :فجاء القتل أثرا من آثار
طوّ َ
إلى أنْ قال سبحانهَ {:ف َ
الغضب ،والمفروض أنه بعد أن قتله شفى نفسه ،وينبغي له أن يُسَرّ لنه حقق ما يريد ،لكن{
فََأصْبَحَ مِنَ النّا ِدمِينَ }[المائدة.]31 :
ت ثورة الغضب بداخله ندم على ما فعل ،لماذا؟ لن هذه طبيعة النفس البشرية
أي :بعد أن هدأ ْ
التي ل يُطغيها ول يُخرجها عن توازنها إل الهوى ،فإنْ خرج الهوى عادت إلى الستقامة وإلى
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الحق ،وكأن ال تعالى خلق في النسان مقاييس يجب ألّ تُفسدها الهواء ول يُخرِجها الغضب عن
حدّ العتدال ،لذلك يقولون :آفة الرأي الهوى.
َ
لقد استيقظ قابيل ،لكن بعد أنْ رأى عاقبة السوء التي وصل إليها بتسرّعه ،لكن الذكي يستيقظ قبل
رَ ّد الفعل.
لكن ،لماذا اختار لهم وقت الصباح بالذات { :لّ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ } [المؤمنون ]40 :المتتبع لما حاق
بالمم المكذّبة من العذاب والنتقام يجد أنه غالبا ما يكون في الصباح ،كما قال تعالىَ {:أفَ ِبعَذَابِنَا
يَسْ َتعْجِلُونَ * فَِإذَا نَ َزلَ بِسَاحَ ِتهِمْ فَسَآ َء صَبَاحُ ا ْلمُنْذَرِينَ }[الصافات.]177 - 176 :
عذَابٌ مّسْ َتقِرّ }[القمر.]38 :
حهُم ُبكْ َرةً َ
وقال سبحانه {:وََلقَدْ صَبّ َ
وقال سبحانه {:فَتَنَا َدوْاْ ُمصْبِحِينَ }[القلم.]21 :
ذلك ،لن الصباح يعقب فترة النوم والخمول الحركي ،فيقومون من نومهم فيفاجئهم العذاب،
ويأخذهم على حين غفلة وعدم استعداد للمواجهة ،على خلف إنْ جاءهم العذاب أثناء النهار وهم
مستعدون.
وندمهم على أنهم كذّبوا أمرا ما كان ينبغي أن يُكذّب وقد جَرّ عليهم الوَيْلت ،والندم على خير
فات من طبيعة النفس البشرية التي عادةً ما تغلبها الشهوة ويُغريها الحمق بردّ الحق ،ويمنعها
الكِبْر من النصياع للرسول خاصة وهو بشر مثلهم ،ويريد في ظنهم أنْ يستعلي عليهم ،لكن حين
يواجهون عاقبة هذا التكذيب ونتيجة هذا الحمق يندمون ،ولتَ ساعة مَنْدم.
إذن :فشهوة النفس تجعل النسان يقف موقفا ،إذا ما جُوزي عليه بالشدة يندم أنه لم يُنفذ ولم يطع،
يندم على غطرسته في موقف كان ينبَغي عليه أنْ يتنازل عن كبريائه؛ لذلك يقولون :من الشجاعة
أنْ تجبن ساعة.
ويحسن ذلك إذا كنت أمام عدو ل تقدر على مجابهته ،ونذكر للرئيس الراحل السادات مثل هذا
ضعْف وجُبْن،
الموقف حين قال :ل أستطيع أن أحارب أمريكا ،فالبعض فهم هذا القول على أنه َ
وهو ليس كذلك ،إنما هو شجاعة من الرجل ،شجاعة من نوع راقٍ؛ لن من الشجاعة أيضا أن
تشجع على نفسك ،وهذه شجاعة أعلى من الشجاعة على عدوك ،وتصور لو دخل السادات مثل
هذه الحرب فهُزِم كيف سيكون ندمه على شجاعة متهورة ل تحسب العواقب .وقد رأينا عاقبة
الجرأة على دخول حرب غير متكافئة.
جعَلْنَا ُهمْ غُثَآءً.{ ..
حقّ فَ َ
ثم يقول الحق سبحانه } :فََأخَذَ ْت ُهمُ الصّيْحَةُ بِالْ َ
()2694 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَ ُبعْدًا لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ ()41
حقّ َف َ
حةُ بِالْ َ
خذَ ْتهُمُ الصّيْ َ
فَأَ َ
ما دام الحق -تبارك وتعالى -توعّدهم وحدّد لهم موعدا ،فل ُبدّ أن يقع بهم هذا الوعيد في
الوقت ذاته ،وإلّ لو مَرّ دون أن يصيبهم ما يندمون لجله لنهدم المبدأ من أساسه ،ما دام أن ال
تعالى قالها وسجّلها على نفسه سبحانه في قرآن يحفظه هو.
عمّا قَلِيلٍ لّ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ }[المؤمنون ]40 :فل ُبدّ أن ينزل بهم العذاب في الصباح.
{ َ
خذَ ْتهُمُ الصّ ْيحَةُ بِا ْلحَقّ[ } ..المؤمنون ]41 :ل بالظلم والعدوان ،وفي موضع آخر قال
لذلك { فَأَ َ
ح صَ ْرصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة ]6 :والمعنيان يلتقيان ،لن الريح
سبحانه عنهم {:وََأمَا عَادٌ فَأُهِْلكُواْ بِرِي ٍ
الصرصر لها صوت مزمجر كأنه الصيحة والصراخ.
جعَلْنَاهُمْ غُثَآءً[ } ..المؤمنون ]41 :الغثاء :ما يحمله السيل من قش وأوراق وبقايا النبات،
{ َف َ
فتكون طبقة طافية على وجه الماء تذهب بها الريح في إحدى الجوانب ،والغثاء هو الزّبَد الذي
جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ} ..
قال الحق سبحانه وتعالى عنه {:فََأمّا الزّ َبدُ فَيَ ْذ َهبُ ُ
[الرعد.]17 :
وفي الحديث الشريف قال صلى ال عليه وسلم لصحابه " :يوشك أن تتداعَى عليكم المم كما
تتداعَى الكلة إلى قصعتها -يعني :يدعو بعضهم بعضا لمحاربتكم كأنكم غنيمة يريدون اقتسامها
-فقالوا :أمِنْ قِلّة نحن يا رسول ال؟ قال :بل أنتم يومئذ كثير ،ولكنكم غثاء كغثاء السيل " يعني:
شيئا هيّنا ل قيمةَ له يذهب سريعا.
وقوله تعالى { :فَ ُبعْدا لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [المؤمنون ]41 :أي :بُعدا لهم عن رحمتنا ونعيمنا الذي كُنّا
نُمنّيهم به و َنعِدهم به لو آمنوا ،وليس البُعد عن العذاب؛ لن البعد مسافة زمنية أو مكانية ،نقول:
هذا بعيد ،أي :زمنه أو مكانه ،المراد هنا ال ُبعْد عن النعيم الذي كان ينتظرهم إنْ آمنوا.
حقّ الغير ،والشرك هو الظلم العظم؛ لنه ظلم في مسألة القمة ،والبعض
والظلم :كما قلنا أخذْ َ
من السطحيين يظن أن الشرك ظلم عظيم؛ لنك ظلمتَ ال سبحانه وتعالى ،لنك أنكرتَ وجوده
وهو موجود ،وأشركتَ معه غيره وهو واحد ل شريك له ،نعم أنت ظلمتَ ،لكن ما ظلمتَ ال؛
لنه سبحانه ل يظلمه أحد ،وإنْ كان الظلم -كما نقول َ -أخْذ حَقّ الغير ،فحقّ ال محفوظ وثابت
له سبحانه قبل أن يُوجَد مَنْ يعترف له بهذا الحق ،حقّ ال ثابت مهما علَ الباطل وتبجّح أهل
الضلل.
سفْلَىا[} ..التوبة ]40 :وفي المقابلَ {:وكَِلمَةُ اللّهِ
ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ ال ّ
لذلك يقول عز وجل {:وَ َ
ِهيَ ا ْلعُلْيَا[} ..التوبة ]40 :ولم يقُل قياسا على الولى :وكلمةَ ال العليا؛ لن معنى ذلك أن كلمة ال
مرفوعةً على صورة الجملة السمية الدالّة على الثبوت{ َوكَلِمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا[} ..التوبة ]40 :أي:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دائما ومهما عََلتِ كلمة الكافرين .لماذا؟
قالوا :لن عُلُو كلمة الكافرين في ذَاته عُُلوّ لكلمة ال ،فإذا عل الكفر واستشرى شرّه وفساده يعض
خسّة الكفر ودناءته وما جرّه عليهم من ظلم وفساد فينكروه
الناس ويُوقِظ غفلتهم ويُنبههم إلى ِ
ويعودوا إلى جادة الطريق ،وإلى الحق الثابت ل عز وجل.
إذن :فكلمة ال هي العليا مهما كانت الجولة لكلمة الذين كفروا ،وكما يقولون :والضد يُظهر حُسْنه
الضدّ .وال عز وجل ل يُسْلِم الحق ،ولكن يتركه ليبلو غَيْره الناس عليه ،فإنْ لم يغاروا عليه غار
هو عليه.
وما داموا ما ظلموا ال ،ول يستطيعون ذلك ،فما ظلموا إل أنفسهم ،وإنْ عُقل ظلمك لغيرك
وأخذك لحقه فل يُعقَل ظلمك لنفسك؛ لنه أبشع أنواع الظلم وأبلغها.
()2695 /
قبل عدة آيات قال الحق تبارك وتعالى {:ثُمّ أَنشَأْنَا مِن َبعْ ِدهِمْ قَرْنا آخَرِينَ }[المؤمنون ]31 :فجاءتْ
قرنا بصيغة المفرد؛ لن الحديث مقصور على عاد قوم هود ،أما هنا فقال تعالىُ { :ثمّ أَنشَأْنَا مِن
َبعْدِ ِهمْ قُرُونا[ } ..المؤمنون ]42 :لن الكلم سيأتي عن أمم ورسالت مختلفة ومتعددة ،فجاءت
(قرونا) بصيغة الجمع ،متتابعة أو متعاصرة ،كما تعاصر إبراهيم ولوط ،وكما تعاصر موسى
وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلة والسلم.
جَلهَا َومَا َيسْتَأْخِرُونَ }.
ثم يقول الحق سبحانه { :مَا َتسْبِقُ مِنْ ُأمّةٍ أَ َ
()2696 /
عوْها انتباهكم ،فلكل أمة أجلٌ تنتهي عنده تماما ،مثل أجَل الفراد الذي
تأملوا هذه الية جيدا وارْ َ
ل يتقدّم ول يتأخّر ،فقرْن بعد قَرْن ،وأمة بعد أمة ،تمرّ بأطوار شتى كأطوار حياة النسان ،ثم
تنتهي إلى زوال ويعقبها غيرها.
فلكل أمة رسول يحمل إليها دعوة ال ومنهجه ويجاهد في سبيل نشرها إلى أنْ ينصره ال وتنتشر
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
دعوته ويتمسّك الناس بها ،ثم تصيبهم غفلة وفتور عن منهج ال ،فينصرفون عنه ويختلفون
ويتفرقون ،فيكون ذلك إيذانا بزوالها ثم يخلفها غيرها؟
كذلك في مسألة الحضارات التي تندثر ليحلّ محلّها حضارات أخرى أقوى ،نسمع عن حضارة
قديمة في مصر وفي الصين وفي اليمن ،نسمع عن الحضارة الرومانية والفينيقية ..الخ حضارات
تتوالى وتأخذ حظها من الرّقيّ والرفاهية ،وتُورِث أصحابها رخاوة وطراوة ،وتبدلهم بالجَلَد والقوة
ضعْفا ،فيغفلوا عن أسباب رُقيّهم وتقدّمهم ،فتنهدم حضارتهم ويحلّ محلّها أقوى منها
لِينا و َ
وأصلب.
وهذا مثال ونموذج في حضارة بلغت أوج عظمتها {:أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ
لوْتَادِ
ا ْل ِعمَادِ * الّتِي َلمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ * وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْعَوْنَ ذِى ا َ
}[الفجر.]10 - 6 :
وإلى الن ،ونحن نرى آثار الحضارة الفرعونية ،وكيف أنها تجذب انتباه أصحاب الحضارات
الحديثة وتنال إعجابهم ،فيأتون إليها من كل أنحاء العالم ،مع أن حضارة عاد كانت أعظم منها؛
لن ال تعالى قال في حقها {:الّتِي لَمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ }[الفجر.]8 :
ومع ذلك ل نرى لهم أثرا يدل على عِظَم حضارتهم ،ولم يكُنْ لهذه الحضارة مناعة لتحمي نفسها،
أو تحتفظ لها بشيء ،فانهارت وبادتْ ولم يَبْقَ منها حتى أثر.
كذلك أتباع الرسل يمرّون بمثل هذه الدورة ،فبعد قوة اليمان تصيبهم الغفلة ويتسرب إليهم
الضعف وسوء الحال ،إلى أن يرسل الحق سبحانه رسولً جديدا.
{ مَا َتسْبِقُ مِنْ ُأمّةٍ أَجََلهَا َومَا يَسْتَ ْأخِرُونَ } [المؤمنون.]43 :
المعنى في الجملة الولى واضح ،فأيّ أمة ل يمكن أنْ تسبق أجلها الذي حدّده ال لها ،ول يمكنْ
أن تنتهي أو تقوّص قبل أنْ يحلّ هذا الجل.
لكن ما المراد بقوله سبحانهَ { :ومَا يَسْتَ ْأخِرُونَ } [المؤمنون ]43 :كيف يتأتّى ذلك؟ فهمنا :ل تسبق
أجلها يعني أجلها أن تقوض بعد عشرين سنة ،فل يمكن أن تُقوّض قبل خمس عشرة ،أما كونها
تستأخر بعد أن بلغتْ العشرين إلى عشرة ،فكيف يتم ذلك؟
نقول :ل تستأخر يعني :من حيث الحكم هي ل تسبق الجل وهي محكوم عليها بأنها ل تستأخر؛
لن الستئخار بعد بلوغ الجل مستحيل ،كما لو قلنا :شخص بلغ سِنّ العشرين ل يقدر أن يموت
في العاشرة .فالمعنى :الصل فيه أنه ل يستأخر.
ضهُمْ
سلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ُكلّ مَا جَآءَ ُأمّةً رّسُوُلهَا كَذّبُوهُ فَأَتْ َبعْنَا َب ْع َ
ثم يقول الحق سبحانهُ { :ثمّ أَرْ َ
َبعْضا.} ..
()2697 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلْنَاهُمْ َأحَادِيثَ فَ ُبعْدًا
ضهُمْ َب ْعضًا َو َ
ثُمّ أَ ْرسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ُكلّ مَا جَاءَ ُأمّةً رَسُوُلهَا كَذّبُوهُ فَأَتْ َبعْنَا َب ْع َ
ِلقَوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ ()44
{ تَتْرَا[ } ..المؤمنون ]44 :يعني :متوالين يتبع بعضهم بعضاَ؛ لذلك ظنّها البعض فعلً وهي ليست
بفعل ،بدليل أنها جاءت في قراءة أخرى (تترا) بالتنوين والفعل ل يُنوّن ،إذن :هي اسم ،واللف
فيها للتأنيث مثل حُبْلى.
ل من الواو ،كما جاء في الحديث الشريف من
ضفْ إلى ذلك أن التاء الولى تأتي في اللغة بد ً
أ ِ
نصيحة النبي صلى ال عليه وسلم " :احفظ ال يحفظك ،احفظ ال تجدْه تجاهك -أو وجاهك "
يعني :مواجهك.
فإذا أُبدَلتْ التاء الولى في (تترا) واوا تقول (وترا) يعني :متتابعين فَرَْدا ،والوتر هو الفَرْد.
ثم يقول سبحانهُ { :كلّ مَا جَآءَ ُأمّةً رّسُوُلهَا َكذّبُوهُ[ } ..المؤمنون ]44 :فهذه طبيعة ولزمة من
لوازم المرسل إليهم ،وما من رسول أُرسل إلى قوم إل كذّبوه ،ثم يلجأ إلى ربه {:قَالَ َربّ
ا ْنصُرْنِي ِبمَا َكذّبُونِ }[المؤمنون.]39 :
ولو لم يُكذّب الرسول ما كان هناك ضرورة لرساله إليهم ،وما جاء الرسول إل بعد أن استشرى
الباطل ،وعَمّ الطغيان ،فطبيعي أنْ يُكذّب من هؤلء المنتفعين بالشر المستفيدين من الباطل والذين
يدافعون عنه بكل قواهم ،وكأن تكذيبهم للرسل دليل على صواب مجيء الرسل ،وإل لما كان
هناك ضرورة لرسالت جديدة.
ضهُمْ َبعْضا[ } ..المؤمنون ]44 :يعني :يمضي واحد ويأتي غيره من
وقوله تعالى { :فَأَتْ َبعْنَا َب ْع َ
الرسل ،أو نهلك المكذّبين ثم يأتي بعدهم آخرون ،فيكذبون فنهلكهم أيضا.
جمْعا لحديث كما نقول :أحاديث رسول ال
جعَلْنَاهُمْ َأحَادِيثَ[ } ..المؤمنون ]44 :أحاديث :إما َ
{ وَ َ
صلى ال عليه وسلم أو جمع :أحدوثة .وهي المقولة التي يتشدّق بها الجميع ،وتلوكُها كل اللسنة،
ومن ذلك قول النسان إذا كثُر كلم الناس حوله( :جعلوني حدوتة) يعني على سبيل التوبيخ
والتقريع لهم.
جعَلْنَا ُهمْ أَحَادِيثَ[ } ..المؤمنون ]44 :كأنه لم ي ْبقَ منهم أثر إل أنْ نتكلم عنهم ،ونذكرهم
فقوله { :وَ َ
جعَلْنَا ُهمْ أَحَادِيثَ َومَزّقْنَا ُهمْ ُكلّ ُممَزّقٍ[} ..سبأ:
حكَى ،وفي موضع آخر قال تعالى {:فَ َ
كتاريخ يُ ْ
.]19
ثم يقول تعالى عنهم كما قال عن سابقيهم { :فَ ُبعْدا ّل َقوْ ٍم لّ ُي ْؤمِنُونَ } [المؤمنون ]44 :يعنيُ :بعْدا
لهم عن رحمة ال ،و ُبعْدا لهم عن نعيم ال الذي كان ينتظرهم ،ولو أنهم آمنوا لنالوه.
سلْنَا مُوسَىا وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا.} ..
ثم يقول الحق سبحانهُ { :ثمّ أَرْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2698 /
ثُمّ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ ()45
تكررت قصة موسى -عليه السلم -كثيرا ومعه أخوه هارون ،كما قال {:اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *
وَأَشْ ِركْهُ فِي َأمْرِي }[طه ]32 - 31 :والبعض يظن أن موسى جاء برسالة واحدة ،لكنه جاء
ل َولَ ُت َعذّ ْبهُمْ[} ..طه:
سلْ َمعَنَا بَنِي إِسْرَائِي َ
برسالتين :رسالة خاصة إلى فرعون ملخّصها {:فَأَرْ ِ
.]47
وجاء له بمعجزات تثبت صِدْق رسالته من ال ،ولم يكن جدال موسى لفرعون في مسألة اليمان
جزءا من هذه الرسالة ،إنما جاء هكذا عرضا في المناقشة التي دارتْ بينهما.
والرسالة الخرى هي رسالته إلى بني إسرائيل متمثلة في التوراة.
وقوله { :بِآيَاتِنَا[ } ..المؤمنون ]45 :قلنا :إن اليات جمع آية ،وهي الشيء العجيب الملفت للنظر
الفائق على نظرائه وأقرانه ،والذي يكرم ويفتخر به .واليات إما كونية دالّة على قدرة ال في
ل وَال ّنهَارُ[} ..فصلت.]37 :
الخَلْق كالشمس والقمر ..إلخ كما قال سبحانهَ {:ومِنْ آيَا ِتهِ الّي ُ
ن تلفت نظر المخلوق إلى بديع صنع الخالق وضرورة اليمان به،
ومهمة هذه اليات الكونية أ ْ
فمنها نعلم أن وراء الكون البديع خالقا وقوة تمده وتديره ،فَمنْ يمدّ هذه الشمس بهذه القوة الهائلة؟
إن التيار الكهربائي إذا أنقطع ُتطْفأ هذه اللمبة ،فمَنْ خلق الشمس من عدم ،وأمدّها بالطاقة من
عدم؟
إذن :وراء هذا الكون قوة ما هي؟ وماذا تطلب منا؟ وهذه مهمة الرسول أنْ يُبلغنا ،ويُجيب لنا عن
هذه السئلة.
وتُطلق الية أيضا على المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول في البلغ عن ال.
وتُطلق الية على آيات القرآن الحاملة للحكام والحاوية لمنهج ال إلى خَلْقه.
سلْطَانٍ مّبِينٍ } [المؤمنون ]45 :فعطف { وَسُ ْلطَانٍ مّبِينٍ } [المؤمنون]45 :
ثم يقول تعالى { :وَ ُ
على { بِآيَاتِنَا } [المؤمنون ]45 :وهذا من عطف الصفة على الموصوف لمزيد اختصاص؛ لن
اليات هي السلطان ،فالسلطان :الحجة .والحجة على الموجود العلى آيات الكون ،والحجة على
صِدْق الرسول المعجزات ،والحجة على الحكام اليات الحاملة لها.
سمّى معجزة موسى عليه السلم (العصا) سلطانا مبينا أي :محيطا؛ لنها معجزة متكررة رأينا
وَ
لها عدة حالت :فهذه العصا الجافة مرة تنقلب إلى حيّة تلقَفُ الحيّات ،ومرة يضرب بها البحر
فينفلق ،ومرة يضرب بها الحجر فيتفجر منه الماء ،وفوق ذلك قال عنها {:وَلِيَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
}[طه.]18 :
ومن معاني السلطان :ال َقهْر على عمل شيء أو القناع بالحجة لعمل هذا الشيء ،لذلك كانت حجة
عوْ ُتكُمْ
علَ ْيكُمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ
إبليس الوحيدة يوم القيامة أن يقول لتباعهَ {:ومَا كَانَ ِليَ َ
فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي[} ..إبراهيم ]22 :يعني :كنتم رَهْن الشارة ،إنما أنا ل سلطان لي عليكم ،ل سلطانَ
قهر ،ول سلطان حجة.
خيّ[} ..إبراهيم ]22 :والنسان يصرخ إذا
خكُ ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ
لذلك قال في النهاية {:مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ
فزّعه أمر ل حيلة له به ،فيصرخ استنفارا لمعين يُعينه ،فمَنْ أسرع إليه وأعانه يقال :أصرخه.
يعني :أزال سبب صراخه.
()2699 /
عوْنَ[ } ..المؤمنون ]46 :لقب لكل مَنْ كان يحكم مصر ،مثل كِسْرى في الفرس ،وقيصر في
{ فِرْ َ
الروم ،وتكلّمنا عن معنى (المل) وهي من المتلء ،والمراد القوم الذين يملؤون العيون مهابةً
ومنزلةً ،وهم أشراف القوم وصدور المجالس ،ومنه قولهم :فلن قَيْد النواظر يعني :مَنْ ينظر إليه
ل ينصرف عنه إلى غيره.
وقوله تعالى { :فَاسْ َتكْبَرُو ْا َوكَانُواْ َقوْما عَالِينَ } [المؤمنون ]46 :والستكبار غير التعالي،
فالمستكبر يعلم الحكم ويعترف به ،لكن يأبى أنْ يطيعه ،ويأنف أن يصنع ما أمر به ،أما العالي
فهو الذي يظن أنه لم يدخل في المر من البداية.
ومن هنا جاء قوله تعالى لبليس لما أبى السجود لدم {:أَسْ َتكْبَ ْرتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص]75 :
والعالون هم الملئكة المهيّمون في ال ،والذين ل يدرون شيئا عن آدم وذريته.
()2700 /
اعترضوا أيضا هنا على بشرية موسى وهارون كما حدث من المم السابقة ،إنهم يريدون الرسول
مََلكَا ،كما جاء في موضع آخرَ {:ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بَشَرا رّسُولً }[السراء.]94 :
ومن الغباء أن يطلبوا ملَكا رسولً ،فلو جاءهم الرسول ملكا ،فكيف سيكون أسْوة للبشر؟ وكيف
جعَلْنَاهُ مَلَكا
سيروْنَه ويتل ّقوْن عنه؟ إذن :ل بُدّ أنْ يأتيهم في صورة بشر؛ لذلك يقول تعالى {:وََلوْ َ
ل وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا يَلْبِسُونَ }[النعام]9 :
جعَلْنَاهُ َرجُ ً
لّ َ
وستظل الشبهة قائمة ،فما الذي يجعلك تُصدّق أنه مَلَك؟
وقوله تعالىَ { :وقَ ْو ُم ُهمَا لَنَا عَابِدُونَ } [المؤمنون ]47 :يعني :كيف نؤمن لموسى وهارون
وقومهما -أي :بني إسرائيل -خدم لنا ،يأتمرون بأمرنا ،بل ونُذلّهم ونُذبّح أولدهم ،ونستحيي
نساءهم ،ونسومهم سوء العذاب؟
وسمّى ذلك عبادة ،لن مَنْ يخضع لنسان ،ويطيع أمره كأنه عبده.
()2701 /
()2702 /
{ ا ْلكِتَابَ[ } ..المؤمنون ]49 :أي :التوراة ،وفيه منهج الهداية { َلعَّلهُمْ َيهْ َتدُونَ } [المؤمنون]49 :
أي :يأخذون الطريق الموصّل للغاية الشريفة المفيدة من أقصر طريق.
جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَةً.} ..
ثم يقول الحق سبحانهَ { :و َ
()2703 /
جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَُأمّهُ آَيَةً وَ َآوَيْنَا ُهمَا إِلَى رَ ْب َوةٍ ذَاتِ قَرَا ٍر َو َمعِينٍ ()50
وَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
بعد أن أعطانا هذه اللقطة الموجزة من قصة موسى وهارون انتقل إلى المسيح ابن مريم ،والقرآن
في حديثه عن عيسى عليه السلم مرة يقول :ابن مريم ،ومرة يقول :عيسى بن مريم .وتسمية
عيسى عليه السلم بأمه هي التي جعلتْ سيدتنا وسيدة نساء العالمين مريم ساعة تُبشّر بغلم
تستنكر ذلك ،وتقول :كيف ولم يمسسني بشر؟ ولم يخطر ببالها أنها يمكن أنْ تتزوّج وتُنجب،
لماذا؟ لن ال سماه ابن مريم ،وما دام سماه بأمه ،إذن :فلن يكون له أب.
وليس أصعب على الفتاة من أن تجد نفسها حاملً ولم يمسسها رجل؛ لن عِرْض الفتاة أغلى
وأعزّ ما تملك ،لذلك مهّد الحق -تبارك وتعالى -لهذه المسألة ،وأعدّ مريم لستقبالها ،وأعطاها
المناعة اللزمة لمواجهة هذا المر العجيب ،كما نفعل الن في التطعيم ضد المراض ،وإعطاء
المناعة التي تمنع المرض.
فلما دخل زكريا -عليه السلم -على مريم فوجد عندها رزقا لم ي ْأتِ به ،وهو كفيلها والمسئول
عنها ،سألها {:أَنّىا َلكِ هَـاذَا قَاَلتْ ُهوَ مِنْ عِندِ اللّهِ[} ..آل عمران ]37 :وكان هذا الردّ من مريم
عن َفهْم تام لقضية الرزق ،ولم يكُنْ كلم دراويش ،بدليل أنها قالت بعدها {:إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن
يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران.]37 :
وفي هذا الموقف درس لكل أب ولكل وليّ أمر ورب أسرة أن يسأل أهل بيته عن كل شيء يراه
ع لولده فرصة أنْ تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم.
في بيته ولم ي ْأتِ هو به ،حتى ل يد َ
لقد انتفع زكريا -عليه السلم -بهذا القول وانتبه إلى هذه الحقيقة ،نعم زكريا يعلم أن ال يرزق
مَنْ يشاء بغير حساب ،لكن ذلك العلم كان معلومة في حاشية الشعور ،فلما سمعها من مريم
خرجتْ إلى بُؤرة شعوره ،وعند ذلك دعا ال أن يرزقه الولد وقد بلغ من الكِبَر عِتيا ،وامرأته
عاقر.
ستْ بالحمل دون أن يمسسْها بشر فاطمأنتْ؛ لن ال يرزق مَنْ
وكذلك انتفعت بها مريم حين أح ّ
يشاء بغير حساب.
جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَُأمّهُ[ } ..المؤمنون ]50 :فأخبر سبحانه عن المثنى بالمفرد
وقوله تعالى { :وَ َ
{ آيَةً[ } ..المؤمنون ]50 :لنهما مشتركان فيها :مريم آية لنها أنجبت من غير زوج ،وعيسى
آية لنه وُلِد من غير أب ،فالية إذن ل تكون في أحدهما دون الخر ،وهما فيها سواء.
جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَةً} ..
لذلك يراعي النص القرآني هذه المساواة ف ُيقَدّم عيسى في آية { :وَ َ
جعَلْنَاهَا وَابْ َنهَآ آ َيةً لّ ْلعَاَلمِينَ }[النبياء ]91 :هذه
[المؤمنون ]50 :ويقدم مريم في آية أخرى {:وَ َ
العدالة في النص لنهما سواء في الخيرية ل يتميز أحدهما على الخر.
والية هي المر العجيب الذي يُثبت لنا طلقة قدرة الخالق في الخَلْق ،وحتى ل يظن البعض أن
مسألة الخَلْق مسألة (ميكانيكية) من أب وأم ،لذلك كان وجه العجب في خَلْق عيسى أن يخرج عن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
هذه القاعدة ليجعله ال دليلً على قدرته تعالى ،فإنْ أراد أنْ يخلق خلق من العدم ،أو من أب فقط،
أو من أم فقط ،وحتى في اكتمال العنصرين يوجد الب والم ،لكن ل يوجد النجاب ،إذن:
المسألة إرادة ل عز وجل ،وطلقة لقدرة إلهية ل حدودَ لها.
ت وَالَرْضِ َيخْلُقُ مَا َيشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ
سمَاوَا ِ
يقول سبحانهِ {:للّهِ مُ ْلكُ ال ّ
عقِيما[} ..الشورى.]50 :
ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ
جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ
ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ
والن نلحظ أن البعض يحاول منع النجاب بشتى الوسائل ،لكن إنْ قُدّر له مولود جاء رغم أنف
الجميع ،ورغم إحكام وسائل منع الحمل التي تفننوا فيها.
ثم يقول سبحانه } :وَآوَيْنَا ُهمَآ إِلَىا رَ ْب َوةٍ ذَاتِ قَرَارٍ َومَعِينٍ[ { ..المؤمنون ]50 :من الطبيعي بعد
أن حملتْ مريم بهذه الطريقة أنْ تُضطهد من قومها وتُطارد ،بل وتستحي هي من الناس وتتحاشى
حدَا ُهمَا َتمْشِي عَلَى اسْ ِتحْيَآءٍ} ..
أن يراها أحد ،أل ترى قوله تعالى عن ابنة شعيبَ {:فجَآءَتْهُ إِ ْ
[القصص ]25 :على استحياء ،لنها ذهبت لستدعاء فتىً غريب عنها ،فما بالك بمريم حين يراها
القوم حاملً وليس لها زوج؟ إنها مسألة أصعب ما تكون على المرأة.
لذلك لما سئل المام محمد عبده وهو في باريس :بأيّ وجه قابلتْ عائشة قومها بعد حادثة الفك؟
فألهمه ال الجواب وهداه إلى الصواب ،فقال :بالوجه الذي قابلتْ به مري ُم قومَها وقد جاءتْ تحمل
ولدها؛ ذلك لنهم أرادوا أنْ يأخذوها سُبة ومطعنا في جبين السلم.
ولما كانت مريم بهذه الصفة تولها ال ودافع عنها ،فهذا يوسف النجار وكان خطيب مريم حين
حمْلها ،وهو أَغْير الناس عليها بدل أنْ يتشكك فيها ويتهمها يتحوّل قلبه عليها بالعطف،
يرى مسألة َ
كما قال تعالى {:وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ ا ْلمَرْءِ َوقَلْبِهِ[} ..النفال.]24 :
فإذا به يخدمها ويحنُو عليها؛ لن ال أنزل المسألة على قلبه منزل الرضا ،وكل ما قاله في
عمّا حدث بطريقة مهذبة :يا مريمُ أرأيتِ شجرة بدون بذرة؟
مجادلة مريم وفي الستفسار َ
فضحكتْ مريم وقد فهمت ما يريد وقالت :نعم الشجرة التي أنبتت أول بذرة إنه كلم أهل اليمان
والفهم عن ال.
لذلك آواها ال وولدها } وَآوَيْنَا ُهمَآ إِلَىا رَ ْب َوةٍ ذَاتِ قَرَا ٍر َو َمعِينٍ { [المؤمنون ]50 :وساعةَ تسمع
كلمة اليواء تفهم أن شخصا اضطر إلى مكان يلجأ إليه ويأوي إليه ،وكذلك كانت مريمُ مضطرة
تحتاج إلى مكان يحتويها وهي مضطهدة من قومها .ول ُبدّ في مكان اليواء هذا أنْ تتوفر فيه
مُقوّمات الحياة ،خاصة لمثل مريم التي تستعد لستقبال وليدها ،ومقومات الحياة :هواء وماء
وطعام.
فانظر كيف أعدّ الحق -سبحانه وتعالى -لمريم مكان اليواء } :وَآوَيْنَا ُهمَآ إِلَىا رَ ْب َوةٍ.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
[ { .المؤمنون ]50 :وهي المكان العالي عن الرض المنخفض عن الجبل ،فهو معتدل الجو؛ لنه
بين الحرارة في الرض المستوية والبرودة في أعلى الجبل.
} ذَاتِ قَرَارٍ[ { ..المؤمنون ]50 :يعني :توفرتْ لها أسباب الستقرار من ماء وطعام ،فالماء يأتيها
من أعلى الجبال ويمرّ عليها ما ًء معينا ،يعني :تراه بعينك ،والطعام يأتيها من ثمار النخلة التي
نزلت يجوارها.
ومعلوم أن الربوة هي أنسب الماكن حيث يمر عليها الماء من أعلى ،ول يتبقى فيها مياه جوفية
تضرّ بمزروعاتها؛ لنها تتصرف في الرض المنخفضة عنها.
لذلك ضرب لنا الحق -تبارك وتعالى -المثل للرض الخصبة التي تؤتي المحصول الوافر،
سهِمْ َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ} ..
فقالَ {:ومَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَتَثْبِيتا مّنْ أَ ْنفُ ِ
[البقرة.]265 :
إذن :اختار ال تعالى لمريم القرار الذي تتوفر فيه مقومات الحياة على أعلى مستوى بحيث ل
تحتاج أن تنتقل منه إلى غيره.
وبعد ذلك يتكلم الحق -سبحانه وتعالى -عن قضية عامة بعد أن تكلّم عن القرار ومُقوّمات
سلُ
الحياة ،وهي الطعام والشراب والهواء ،فناسب ذلك أن يتكلم سبحانه عن المطعم } :ياأَ ّيهَا الرّ ُ
عمَلُواْ صَالِحا.{ ..
ت وَا ْ
كُلُواْ مِنَ الطّيّبَا ِ
()2704 /
لكن ،كيف يخاطب الحق -تبارك وتعالى -الرسل جميعا في وقت واحد؟ نقول :لن القرآن
الكريم هو كلم ال القديم ،لم ي ْأتِ خاصا بمحمد صلى ال عليه وسلم ،وأنْ نزل عليه فهو إذن
خطاب لكل رسول جاء.
عمَلُو ْا صَالِحا} ..
وبعد أن أمرهم الحق سبحانه بالكل من الطيب أمرهم بالعمل الصالح { :وَا ْ
علِيمٌ } [المؤمنون ]51 :كأن الحق سبحانه
[المؤمنون ]51 :ثم يقول سبحانه { :إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ َ
يقول :اسمعوا كلمي فيما آمركم به ،فأنا عليم وخبير بكل ما يُصلحكم؛ لنني الخالق الذي أعلم
كيف تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير ،ول تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير إل إذا أخذتم
المطعم من الحلل الطيب.
وكما قلنا :إن صانع اللة يضع لها الوقود المناسب لتشغيلها ،وإلّ تعطلتْ عن أداء مهمتها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
طعَم الطيب الذي يبني ذراتك من الحلل،
فلكي تؤدي الصالح في حركة حياتك عليك أنْ تبدأ بالم ْ
فيحدث انسجاما بين هذه الذرات ،وتعمل معا متعاونة غير متعاندة ،وإن انسجمتْ ذراتُك وتوافقتْ
أعانتك على الصالح.
فإنْ دخل الحرام إلى طعامك وتلوثتْ به ذراتُك تنافرتْ وتعاندت ،كما لو وضعتَ لللة وقودا غير
جعِل لها ،فافهموا هذه القضية؛ لنني أنا الخالق فآمِنُوا لي كما تؤمنون بقدرة الصانع حين
ما ُ
يصنع لكم صناعة ،ويضع لكم قانون صيانتها.
إذن :أمر الحق سبحانه أولً رسله بالكل من الطيبات؛ لن العمل الصالح يحتاج إلى جهاز سليم
متوافق من داخله؛ لذلك في سيرة النبي صلى ال عليه وسلم أن أم عبد ال أخت شداد بن أوس،
أرسلت إلى النبي في يوم صامه وهو حارّ شيئا من اللبن يفطر عليه ،وهو صلى ال عليه وسلم
يعلم أنها فقيرة ل تَملك شيئا فأرسل إليها :من أين لك هذا اللبن؟ فأرسلت إليه :من شاة عندي،
فبعث إليها :ومن أين لك بالشاة؟ قالت :اشتريتها بمال دبّرته .فشرب رسول ال من اللبن.
وإنْ كنا نحن ل نتحرى في َمطْعمنا ُكلّ هذا التحري ،لكن هذا رسول ال الذي يُنفذ منهج ال كما
جاءه ،وعلى أكمل وجه .وفي الحديث الشريف " :أيها الناس ،إن ال طيب ل يقبل إل طيبا ،وإن
عمَلُو ْا صَالِحا
ت وَا ْ
سلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَا ِ
ال أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ،فقال { :ياأَ ّيهَا الرّ ُ
إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون ]51 :وقال { :ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ} ..
[البقرة ]172 :ثم ذكر الرجل يطيل السفر ،أشعث أغبر ،يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب
ومطعمه حرام ،ومشربه حرام ،وملبسه حرام ،وغُذّي بالحرام ،فأنّى يُستجاب لذلك؟ ".
نعم ،كيف يُستجاب له وهو يدعو ال بجهاز إرسال فاسد مُشوّش دَنّسه وخالطه الحرام؟
ن أكون
وفي حديث سيدنا سعد رضي ال عنه لما قال لرسول ال :يا رسول ال ا ْدعُ ال لي أ ْ
طبْ مطعمك تكُنْ مُستجاب الدعوة ".
مُستجاب الدعوة ،فقال صلى ال عليه وسلم " :يا سعد أ ِ
علِيمٌ } [المؤمنون ]51 :يعني :أعلم
ثم يُذيّل الحق سبحانه هذه الية بقوله تعالى { :إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ َ
ما يُصلحكم ،وما يجلب لكم الخير.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَإِنّ هَـا ِذهِ ُأمّ ُتكُمْ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً.} ..
()2705 /
بعد أن تكلّم الحق -سبحانه وتعالى -عن المعركة بين اليمان والكفر أراد هنا أن يتكلم عن
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
معركة أخرى ل تقلّ خطورة عن الولى ،وهي معركة الفُرْقة والختلف بين صفوف المؤمنين،
عضُد المة و ُتضِعفها أمام أعدائها ،ونسمعهم
ق عصانا ،وتفُتّ في َ
ليحذرنا من الخلفات التي تش ّ
الن يقولون عنّا بعدما وصلنا إليه من شيع وأحزاب -ليتفقوا أولً فيما بينهم ،ثم يُبشّروا
بالسلم.
المة :الجماعة يجمعهم زمن واحد أو دين واحد ،وتُطلَق على الفرد الواحد حين تجتمع فيه
خصال الخير التي ل تجتمع إل في أمة ،لذلك سمّى ال تعالى نبيه إبراهيم أمة في قوله تعالى{:
إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتا لِلّهِ حَنِيفا وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[النحل.]120 :
جعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَ ًة َومِ ْنهَاجا[} ..المائدة ]48 :فكيف نقول :إنها أمة واحدة؟
أما قوله سبحانهِ {:ل ُكلّ َ
قالوا :لن الدين يتكّون من أصول وعقائد ،وهذه واحدة ل تختلف باختلف الديان ،وأخلق
وفروع .وهذه تختلف من دين لخر باختلف البيئة؛ لنها تأتي بما يناسب حركة الحياة في كل
عصر.
ك َومَا َوصّيْنَا ِبهِ إِبْرَاهِيمَ
يقول تعالى {:شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا ِبهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْي َ
ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ[} ..الشورى]13 :
َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ
إذن :فالمة واحدة يعني في عقائدها وإن اختلفتْ في الشريعة والمنهج ،والحكام الجزئية التي
حلّ َلكُم َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ عَلَ ْيكُمْ[ } ..آل
تتعرض لقضية الحياة .ومن ذلك قوله تعالىَ { :ولُ ِ
عمران.]50 :
وكانوا في المم السابقة إذا وقعت نجاسة على ثوب يقطعون الموضع الذي وقعت عليه ،فلما جاء
السلم خفّف عن الناس هذا العَنت ،وشرع لهم أنْ يغسلوه فيطهر.
وما دام أن أمتكم أمة واحدة { وَأَنَاْ رَ ّبكُمْ فَا ّتقُونِ } [المؤمنون ]52 :يعني :اتقوا ال في هذه المة
الواحدة وأبقوا على وحدتها ،واحذروا ما يُفرّقها من خلفات حول فروع إن اختلف البعض عليها
اتهموا الخرين بالكفر؛ لنهم يريدون أنْ يَنْهبوا من الدين الجامع سلطة زمنية لنفسهم.
شيْءٍ} ..
ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ
والحق -تبارك وتعالى -يقول {:إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َنهُ ْم َوكَانُواْ شِيَعا لّ ْ
[النعام.]159 :
ف عليها ول اجتهادَ فيها ،وأما
حكَم أصول ل خل َ
فالمور التي أحكمها ال باللفظ الصريح المُ ْ
المور التي تركها سبحانه للجتهاد فيجب أن نحترم فيها اجتهاد الخرين ،وإل لو أراد الحق
سبحانه لجعل المر كله ُمحْكما ل مجالَ فيه لرأي أو اجتهاد.
ومعنى { وَأَنَاْ رَ ّب ُكمْ[ } ..المؤمنون ]52 :أن من عطاء ربوبيتي أنْ جع ْلتُ لكم أمورا محكمة
وعقائد ثابتة؛ لن الختلف فيها يفسد المجتمع ،وتركتُ لكم أمورا أخرى تأتون بها أو تتركونها،
ُكلّ حسب اجتهاده؛ لن الختلف فيها ل يترتب عليه فساد في المجتمع ،وسبق أن مثّلنا لهذه
المور.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حكِموه ،وما جعلتُ لكم فيه
وقوله { :فَا ّتقُونِ } [المؤمنون ]52 :يعني :بطاعة المر ،فما أحكمتُه فَأ ْ
اجتهادا فاقبلوا فيه اجتهاد الخرين.
طعُواْ َأمْرَ ُهمْ بَيْ َنهُمْ زُبُرا.} ..
لكن ،هل سمعنا قوْل ال وأطعْنَا؟ يقول سبحانه { :فَ َتقَ ّ
()2706 /
طعُوا َأمْ َرهُمْ بَيْ َنهُمْ زُبُرًا ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا لَدَ ْي ِهمْ فَرِحُونَ ()53
فَ َتقَ ّ
{ زُبُرا } [المؤمنون ]53 :يعني :قطعا متفرقة ،ومنه{ آتُونِي زُبَرَ ا ْلحَدِيدِ[} ..الكهف.]96 :
{ ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ فَ ِرحُونَ } [المؤمنون ]53 :يعني :كل جماعة تتعصب لرأيها وتفرح به،
وكأنها على الحق وغيرها على الباطل ،يريدون أن تكون لهم سلطة زمنية بين الناس ،ويُصوّرون
لهم أنهم أتوْا بما لم يأت به أحد من قبلهم ،وتنبّهوا إلى ما غفل عنه الخرون.
{ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ[ } ..المؤمنون ]53 :بالرأي الذي يريدونه ،ل بالحكم الذي يرتضيه الحق سبحانه
وتعالى.
من ذلك قولهم :إن الصلة في مسجد به قبر أو ضريح باطلة ،وأن ذلك شرك في العبادة ..إلخ
ولو أن المر كما يقولون فليهدموا القبر في المدينة.
ن يتفهموا المور على وجهها الصحيح ،حتى ل
إن على هؤلء الذين يثيرون مثل هذه الخلفات أ ْ
طعُواْ َأمْرَهُمْ بَيْ َن ُهمْ زُبُرا ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا لَدَ ْي ِهمْ فَرِحُونَ }
نكون من الذين قال ال عنهم { :فَ َتقَ ّ
[المؤمنون.]53 :
وما أفسد استقبال الديان السابقة على السلم إل مثل هذه الخلفات ،وإلّ فكل دين سبق السلم
وخصوصا الموسوية والعيسوية قد بشّ َرتْ بمحمد صلى ال عليه وسلم ،وكانوا وهم أهل كتاب
ورسالة وعلى صلة بالسماء -يجادلون أهل الكفر من عبدة الصنام يقولون :لقد أطلّ زمان نبي
يظهر فيكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم.
ومع ذلك {:فََلمّا جَآ َءهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ[} ..البقرة ]89 :لماذا؟ لنهم يريدون أن يحتفظوا
بسلطتهم الزمنية.
كيف ل ينكرون رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقد كان أحدهم يستعد لتنصيب نفسه ملكا على
المدينة يوم أنْ دخلها رسول ال ،فأفسد عليه ما أراد؟
()2707 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
غمْرَ ِتهِمْ حَتّى حِينٍ ()54
فَذَرْ ُهمْ فِي َ
{ َفذَرْهُمْ[ } ..المؤمنون ]54 :يعني :دَعْهم ،والعرب لم تستعمل الماضي من هذين الفعلين ،فورد
فيهما يدع ويذر .وقد ورد هذا الفعل أيضا في قوله تعالى {:وَذَرْنِي وَا ْل ُمكَذّبِينَ ُأوْلِي ال ّن ْعمَةِ} ..
[المزمل.]11 :
وفي قوله تعالىَ {:فذَرْنِي َومَن ُيكَ ّذبُ ِبهَـاذَا الْحَدِيثِ[} ..القلم.]44 :
والمعنى :ذرهم لي أنا أتولى عقابهم ،وأفعل بهم ما أشاء ،أو :ذرهم يفعلون ما يشاءون ليستحقوا
العقاب ،وينزل بهم العذاب.
والغمرة :جملة الماء التي تغطي قامة الرجل وتمنع عنه التنفس ،فل يبقى له من أمل في الحياة إل
بمقدار ما في رئته لكبر قدر من الهواء؛ لذلك يحرص النسان على أنْ يُمرّن نفسه على أن تتسع
رئته لكبر قدر من الهواء.
ومن ذلك أخذت كلمة المنافسة ،وأصلها أن يغطس اثنان تحت الماء ليختبر كل منهما الخر :أيّهما
يبقى فترة أطول تحت الماء ودون تنفس.
ويقول تعالىَ {:وفِي ذَِلكَ فَلْيَتَنَافَسِ ا ْلمُتَنَافِسُونَ }[المطففين ]26 :وتستطيع أن تُجري مع نفسك هذه
المنافسة ،بأن تأخذ نفسا عميقا ثم تعد :واحد ،اثنان وسوف ترى مقدار ما في رئتك من الهواء.
فالمعنى :ذَرْهم في غبائهم وغفلتهم فلن يطول بهم الوقت؛ لنهم كمن غمره الماء ،وسرعان ما
تنكتم أنفاسه ويفارق الحياة؛ لذلك قال تعالى بعدها { :حَتّىا حِينٍ } [المؤمنون ]54 :والحين مدة
من الزمن قد تطول ،كما في قوله تعالىُ {:تؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَ ّبهَا[} ..إبراهيم.]25 :
ن وَحِينَ ُتصْبِحُونَ }[الروم ]17 :وكأن
وقد تقتصر كما في قوله تعالى {:فَسُ ْبحَانَ اللّهِ حِينَ ُتمْسُو َ
ال تعالى عَبّر بالغمرة ليدل على أن حينهم لن يطول.
ثم ينتقل السياق ليعالج قضية قد تشغل حتى كثيرا من المؤمنين { :أَ َيحْسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّ ُهمْ بِهِ مِن مّالٍ
وَبَنِينَ * نُسَا ِرعُ َلهُمْ.} ..
()2708 /
شعُرُونَ ()56
ل وَبَنِينَ ( )55نُسَا ِرعُ َلهُمْ فِي ا ْلخَيْرَاتِ َبلْ لَا يَ ْ
حسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّهُمْ بِهِ مِنْ مَا ٍ
أَيَ ْ
هذه قضية شغلت كثيرا من المؤمنين حين يروْنَ الكافرين بال مُرفّهين مُنعّمين ،في يدهم المال
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
والنفوذ ،في حين أن المؤمنين فقراء ،وربما تشكّك البعض واهتزّ إيمانه لهذه المتناقضات.
ونقول لهؤلء :لم تكن هذه صورة المؤمنين في الماضي ،إنهم سادوا الدنيا بعلومهم وثقافاتهم
حلّ بهم ما هم
وازدهرتْ حضارتهم على مدى ألف سنة من الزمان ،فلما تخّلوْا عن دينهم وقِيَمهم َ
فيه الن.
لقد تقدم علينا الخرون؛ لنهم أخذوا بأسباب الدنيا ،وينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ أيضا
بهذه السباب؛ لنها من عطاء الربوبية الذي ل يُحرم منه ل مؤمن ول كافر ،فَمنْ أحسنه نال
ثمرته وأخذ خيره.
قال سبحانه {:مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ فِي حَرْثِ ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا
َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى ]20 :والسباب يد ال الممدودة لخَلْقه ،فَمنْ ردّ يد ال
إليه فل ُبدّ أن يشْقى في رحلة الحياة.
وقد يكون تنعّم هؤلء مجرد ترف يجرّهم إلى الطغيان ،كما جاء في قوله تعالى {:فََلمّا نَسُواْ مَا
شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ مّبْلِسُونَ }
ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
[النعام.]44 :
ل وَبَنِينَ *
حسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّ ُهمْ بِهِ مِن مّا ٍ
لذلك فالحق -تبارك وتعالى -يعالج هنا هذه المسألة { :أَيَ ْ
نُسَا ِرعُ َلهُمْ فِي ا ْلخَيْرَاتِ[ } ..المؤمنون ]56 - 55 :أيظنون أن هذا خير لهم؟ ل ،بل هو إمهال
واستدراج ليزدادوا طغيانا.
وفي موضع آخر يقول سبحانهَ {:ولَ ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم وََأ ْولَدُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن ُي َعذّ َبهُمْ ِبهَا فِي
الدّنْيَا }[التوبة.]85 :
شعُرُونَ } [المؤمنون( ]56 :بل) :تفيد الضراب عما قبلها وإثبات ما
وقوله تعالى { :بَل لّ َي ْ
بعدها ،إضراب عن مسألة تنعّم هؤلء؛ لنها نعمة موقوته وزائلة ،وهي في الحقيقة عليهم نقمة،
لنهم ل يشعرون ،ل يشعرون أن هذه النعمة ل تعني محبتهم ورضانا عنهم ،ول يشعرون
بالمكيدة وبالفخ الذي يُدبّر لهم.
وسبق أن أوضحنا أن ال تعالى حين يريد النتقام من عدوه يُمدّه أولً ،ويُوسّع عليه ويُعلي مكانته،
حتى إذا أخذه كان أَخْذه مؤلما وشديدا.
وقوله تعالى { :نُسَا ِرعُ َلهُمْ فِي ا ْلخَيْرَاتِ[ } ..المؤمنون ]56 :المسارعة ترد في كتاب ال على
َمعَانٍ :مرة يتعدّى الفعل بإلى ،مثل {:وَسَارِعُواْ إِلَىا َمغْفِ َرةٍ مّن رّ ّبكُمْ[} ..آل عمران ]133 :ومرة
يتعدى بفي ،مثلُ { :يسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ[ } ..المؤمنون ]61 :فما الفرق بين المعنيين؟
ن كنتَ في الخير
طىً عاجلة ،لكن إ ْ
سارع إلى كذا :إذا كنتَ خارجا عنه ،وتريد أن تخطو إليه خُ ّ
أصلً وتريد أنْ ترتقي فيه تقول :سارع في الخيرات .فالولى يخاطب بها مَنْ لم يدخل في حيّز
الخير ،والخرى لمنْ كان مظروفا في الخير ،ويريد الرتقاء.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
()2709 /
ش ِفقُونَ ()57
إِنّ الّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْ َيةِ رَ ّبهِمْ مُ ْ
الخشية :هي أشد الخوف ،والنسان قد يخاف من شيء ،لكن يبقى عنده أمل في النجاة ،ويتوقّع
من السباب ما ينقذه ويُؤمّن خوفه ،لكن حين تخاف من ال فهو خوف ل منفذَ للمل فيه ،ول
تهبّ فيه هَبّة تُشعرك بلطف.
شفِقُونَ } [المؤمنون ]57 :الشفاق أيضا الخوف ،وهو خوف يُمدَح ول يُذم؛ لنه خوف
ومعنى { مّ ْ
يحمل صاحبه ويحثّه على تجنّب أسباب الخشية بالعمل الصالح ،إنه إشفاق من الذنب الذي
يستوجب العقوبة ،كالتلميذ الذي يذاكر ويجتهد خوفا من الرسوب ،وهكذا حال المؤمن يخاف هذا
الخوف المثمر الممدوح الذي يجعله يأخذ بأسباب النجاة ،وهذا دليل اليمان.
أمّا الشفاق بعد فوات الوان ،والذي حكاه القرآن عن المجرمينَ {:و ُوضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى
ش ِفقِينَ ِممّا فِي ِه وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا[} ..الكهف ]49 :فهذا إشفاق ل فائدة منه؛ لنه جاء
ا ْلمُجْ ِرمِينَ مُ ْ
بعد ضياع الفرصة وانتهاء وقت العمل ،فقد قامت القيامة ونُشِرت الكتب ول أملَ في النجاة إذن.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ ُي ْؤمِنُونَ * وَالّذِينَ هُم بِرَ ّبهِمْ.} ..
()2710 /
وَالّذِينَ ُهمْ بِآَيَاتِ رَ ّبهِمْ ُي ْؤمِنُونَ ( )58وَالّذِينَ هُمْ بِرَ ّبهِمْ لَا ُيشْ ِركُونَ ()59
نلحظ في هذه اليات أن الحق سبحانه حدثنا عن الشفاق والخشية ،ثم عن اليمان بآيات ال ،ثم
في النهاية عن مسألة الشرك .وقد تسأل :لماذا لم يبدأ بالتحذير من الشرك؟
نقول :لن الشرك المراد هنا الشرك الخفي الذي يقع فيه حتى المؤمن ،والذي قال ال فيهَ {:ومَا
ل وَهُمْ مّشْ ِركُونَ }[يوسف ]106 :فل تظن أن الشرك فقط أن تجعل ل شريكا،
ُي ْؤمِنُ َأكْثَ ُرهُمْ بِاللّهِ ِإ ّ
أو أن تسجد لصنم ،فمن الشرك شرك خفي دقيق يتسرب إلى القلب ويخالط العمل مهما كان
صاحبه مؤمنا.
لذلك ،فالنبي صلى ال عليه وسلم يُعلّمنا الدب في هذه المسألة ،فيقول في دعائه " :اللهم إني
أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك ".
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فالنسان يشرع في العمل ويخلص فيه النية ل ،ومع ذلك يتسرب إليه شيء من الرياء وتزيين
الشيطان؛ لذلك وصف النبي صلى ال عليه وسلم الشرك الخفي بأنه أخفى من دبيب النملة
السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء.
كما أن الشرك الكبر ل يتصور ِممّن هذه الصفات المتقدمة صفاته.
ثم يقول الحق سبحانه { :وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَآ آتَو ْا ّوقُلُوبُهُ ْم َوجِلَةٌ.} ..
()2711 /
جعُونَ ()60
وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَا آَ َتوْا َوقُلُو ُبهُ ْم وَجِلَةٌ أَ ّنهُمْ إِلَى رَ ّبهِمْ رَا ِ
{ ُيؤْتُونَ[ } ..المؤمنون ]60 :يعني المال ،وقال بعدها { :مَآ آتَواْ[ } ..المؤمنون ]60 :حتى ل
يجعل لها حدا ،ل العُشْر ول نصف العُشر ،يريد سبحانه أن يفسح لريحية العطاء وسخاء النفس،
لذلك جاءت { مَآ آتَواْ[ } ..المؤمنون ]60 :هكذا مُبْهمة حتى ل نظن أنها الزكاة ،ونعرف أن ال
تعالى يفتح المجال للحسانية والتفضّل ،وهذا هو مقام الحسان الذي قال ال تعالى عنه {:إِنّ
ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَا ُهمْ رَ ّبهُمْ إِ ّن ُهمْ كَانُواْ قَ ْبلَ ذَِلكَ مُحْسِنِينَ }[الذاريات- 15 :
.]16
والمحسن :الذي يلزم نفسه من الطاعات فوق ما ألزمه ال ،لكن من جنس ما فرض ال عليه ،فإن
كان الفرض في الصوم شهر رمضان يصوم المحسن رمضان ويزيد عليه؛ لذلك تجد الدقة في
سحَارِ هُمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ }
جعُونَ * وَبِالَ ْ
الداء القرآني ،حيث يقول بعدها {:كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َي ْه َ
[الذاريات.]18 - 17 :
صلّ العشاء ونَمْ
وهذه أمور فوق ما فرض ال عليهم ،ولم يطلب منك أن تقوم الليل ل تنام ،لكن َ
حتى الفجر ،وهذه المسألة واضحة في قوله تعالى بعدهاَ {:وفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }
[الذرايات ]19 :ولم يقل (معلوم) لن الية ل تتكلم عن الحق المعلوم وهو الزكاة ،إنما عن
الصدقة والتطوع فوق ما فرض ال.
والبهام في { مَآ[ } ..المؤمنون ]60 :جاء أيضا في قول ال تعالىَ {:فغَشِ َي ُهمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِ َيهُمْ }
[طه ]78 :ولم يحدد مقدار الماء الذي غشيهم ،وترك المسألة مبهمة ليكون المعنى أبلغ ،ولتذهب
الظنون في َهوْلها كل مذهب.
لكن؛ ما داموا قد أعْطوا ومدّوا أيديهم للخرين بالعطاء ،فلماذا يقول تعالىّ { :وقُلُو ُبهُمْ وَجِلَةٌ} ..
[المؤمنون.]60 :
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
نقول :لن العبرة ليست بمجرد العمل ،إنما العبرة بقبول العمل ،والعمل ل يُقبل إل إذا كان خالصا
لوجه ال ل يخالطه رياء ول سمعة ،فهم إذن يعملون ويتح ّروْن الخلص وأسباب القبول
ويتصدّق أحدهم بالصدقة ،بحيث ل تعلم شماله ما أنفقتْ يمينه ،ومع ذلك يخاف عدم القبول ،وهذه
أيضا من علمات اليمان.
ن تعمل عملً ل تأخذ عليه أجرا؛ لنك إنْ رأيت الناس في شيء
وكأن ربك عز وجل َيغَار عليك أ ْ
جهْد ُمهْدر ل فائدة منه ،وهذه المسألة ل
من العمل تركك ال وإياهم تأخذ منهم الجزاء ،فهذا إذن َ
يرضاها لك ربك.
وفي الحديث القدسي " :الخلص سِرّ من أسراري أودعته قلب مَنْ أحببت من عبادي ،ل يطلع
عليه مَلَك فيكتبه ،ول شيطان فيفسده ".
والوجل :انفعال قسري واضطراب يطرأ على العضو من خوف أو خشية ،والخوف شيء يخيفك
أنت ،أما الخشية فهي أعلى من الخوف ،وهي أن تخاف ممن يوقع بك أذى أشد مما أنت فيه.
ومن أهل التفسير مَنْ يرى أن الية { وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَآ آتَو ْا ّوقُلُو ُبهُ ْم وَجِلَةٌ.
[ { .المؤمنون ]60 :جاءت في الرجل الذي يسرق ،والذي يزني ،والذي يشرب الخمر ،لكن قلبه
وَجلٌ من لقاء ال وخشيته ،فما يزال فيه بقية من بقايا اليمان والحياء من ال تعالى .وقالوا :إن
عائشة رضي ال عنها فهمت هذا من الية.
لكن هذا الفهم ل يستقيم مع قوله تعالى } ُيؤْتُونَ[ { ..المؤمنون ]60 :أي :يؤتون غيرهم ،فهناك
ت ومُؤْتىً له ،ولو أراد السرقة والزنى وشرب الخمر لقال :يَأْتُون.
إذن مُؤ ٍ
فالمراد :يؤتون غيرهم ما عليهم من الحق ،سواء أكانت هذه الحقوق ل تعالى كالزكاة والكفارات
والنذور والحدود ،أو كانت متعلقة بالعباد كالودائع والمانات والعدالة في الحكم بينهم ..الخ فيؤدي
جلٌ َألّ يصاحب الخلص عمله فل يقبل.
المؤمن ما عليه من هذه الحقوق ،وقلبه وَ ِ
جعُونَ { [المؤمنون ]60 :فالمؤمن يؤدي ما عليه ،ومع ذلك
ثم يقول تعالى } :أَ ّنهُمْ إِلَىا رَ ّبهِمْ رَا ِ
تراه خائفا وَجِلً؛ لنه يثق في الرجوع إلى ال والوقوف بين يديه سبحانه ،وهو ربه الذي يُجازيه
على قّدْر إخلصه ،ويخاف أيضا أن يفتضح أمره إنْ خالط عملَه شيءٌ من الرياء؛ لن ربه غيور
ل يرضى معه شريكا في العمل ،وهو سبحانه يعلم كل شيء ويحاسب على ذرات الخير وعلى
ذرات الشر.
وهناك أعمال في ظاهرها أنها من الدين ،لكن في طيها شيء من الرياء ،وإنْ لم يَدْرِ النسان به،
ومن ذلك قولهم :أفعل هذا ل ثم لك ،أو :توكلت على ال وعليك ..الخ ،فهذه العبارات وأمثالها
تحمل في طياتها معاني الشرك التي ينبغي أن نُنزّه ال منها ،فل نعطف على ال تعالى أحدا حتى
ل نشركه مع ال ،ولو عن غيرقصد.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ل وَهُمْ مّشْ ِركُونَ }[يوسف ]106 :ويوم القيامة يطمئن
لذلك يقول تعالىَ {:ومَا ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُهُمْ بِاللّهِ ِإ ّ
أهل الخلص إلى الجزاء ،و ُيفَاجأ أهل الشرك والرياء بوجود ال تعالى ،ولم يكن على بالهم حين
ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ َلمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا
حسَبُهُ ال ّ
عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ
عملوا {:وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ
حسَابَهُ[} ..النور ]39 :إذن :ما ُدمْنَا سنفاجأ بوجود الحق ،ول شيء غير
َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ ِ
الحق ،فليكُنْ عملنا للحق ،ول شيء لغير الحق.
} ُأوْلَـا ِئكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ.{ ..
()2712 /
{ ُأوْلَـا ِئكَ[ } ..المؤمنون ]61 :أي :أصحاب الصفات المتقدمة { ُيسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ} ..
[المؤمنون ]61 :وفرْق بين أسرع وسارع :أسرع يُسرع يعني :بذاته ،إنما سارع يسارع أي :يرى
غيره يسرع ،فيحاول أنْ يتفوق عليه ،ففيه مبالغة وحافز على المنافسة.
وسبق أنْ أوضحنا الفرق بين سارع إلى وسارع في ،فمعنى { يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} ..
[المؤمنون ]61 :أنهم كانوا في حيّز الخيرات ومظروفين فيه ،لكن يحاولون الرتقاء والزدياد من
الخيرات للوصول إلى مرتبة أعلى.
وقوله تعالى { :وَهُمْ َلهَا سَا ِبقُونَ } [المؤمنون ]61 :هل المسارعة هي عِلّة أنهم سبقوا إلى
الخيرات ،أم أنْ سَبْقهم إلى الخيرات عِلّة المسارعة؟
في اللغة يقولون :سبب ومُسبب ،وشرط وجزاء ،وعلة ومعلول .فحين تقول :إنْ تذاكر تنجح،
فالمذاكرة سبب النجاح ،لكن هل سبقت المذاكرةُ النجاح؟ ل ،بل وُجد النجاح أولً في بالك،
واستحضرت مميزاته وكيف ستكون منزلتك في المجتمع وبين الناس ،وبذلك وجد عندك دافع
وخاطر ،ثم أردت أنْ تحققه واقعا ،فذاكرت للوصول إلى هذا الهدف.
إذن :فكل شرط وجواب :الجواب سبب في الشرط ،والشرط سبب في الجواب ،الجواب سبب في
الشرط دافعا له ،والشرط سبب في الجواب واقعا وتنفيذا ،فالنجاح وُجد دافعا على المذاكرة،
والمذاكرة جاءت واقعا ليتحقق النجاح.
ت وَهُمْ َلهَا سَا ِبقُونَ } [المؤمنون ]61 :فالمعنى :القصد
وكذلك في { ُأوْلَـا ِئكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَا ِ
أنْ يسبق فسارع ،سارع في الواقع ليسبق بالفعل ،لكن السبْق قبل المسارعة؛ لن الذهن متهيء له
أولً وحقائقه واضحة.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :الشرط والجزاء ،والسبب والمسبب ،والعلة والمعلول تدور بين دافع هو الجواب ،وواقع هو
الشرط.
ومعنى { :وَ ُهمْ َلهَا سَا ِبقُونَ } [المؤمنون ]61 :يعني :هم أهل لهذا العمل وقادرون عليه ،كما لو
طلبتُ منك شيئا فتقول لي :هذا شيء صعب فأقول لك :وأنت لها.
س َعهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِا ْلحَقّ.} ..
ثم يقول الحق سبحانهَ { :ولَ ُنكَّلفُ َنفْسا ِإلّ وُ ْ
()2713 /
بعد أن تكلم الحق سبحانه عن المسارعة والمنافسة بيّن أنها على قَدْر الوُسْع والطاقة ،وأنه سبحانه
ما كلّفك إل بعد عِلْمه بقدرتك ،وأنك تسع هذا التكليف ،فإياك أنْ تنظر إلى الحكم فتقول :أنا أسعه
أو ل أسعه ،لكن أنظر إلى التكليف :ما دام ربك قد كلّفك فاعلم أنه في وُسْعك ،وحين يعلم منك
ربك عدم القدرة يُخفّف عنك التكليف دون أنْ تطلب أنت ذلك .والمثلة على تخفيف التكاليف
واضحة في الصلة والصوم والحج ..الخ.
والن نسمع مَنْ يقول :لم َتعُد الطاقة في هذا العصر تسع هذه التكاليف ،فالزمن تغيّر ،والعمال
والمسئوليات كثرت ،إلى غير ذلك من هذه القوال التي يريد أصحابها التنصّل من شرع ال.
ونقول ما دام التكليف باقيا فالوُسْع بَاقٍ ،والحق -سبحانه وتعالى -أعلم بوُسْع خَلْقه وطاقاتهم.
ل إلى التكليف ،ثم أحكم على الوُسْع من التكليف ،ول أحكم على التكليف من
إذن :أنا أنظر أو ً
الوُسْع.
ثم يقول سبحانه { :وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِا ْلحَقّ وَهُ ْم لَ يُظَْلمُونَ } [المؤمنون ]62 :المراد هنا كتاب
أعمالنا الذي سجّل فيه كل شيء قدّمته اليدي ،لكن :ما الحكمة من تسجيل العمال؟ وهل يُكذّب
سجّل عليهم؟
العباد ربهم عز وجل فيما ُ
قالوا :الحكمة من تسجيل العمال أن تكون حجة على صاحبها ،وليعلم أن ال ما ظلمه شيئا؛ لذلك
سيقول له ربه {:اقْ َرأْ كِتَا َبكَ[} ..السراء ]14 :يعني :بنفسك حتى تُقام عليك الحجة ،ول يكون
عندك اعتراض.
ثم قال بعدها { :وَ ُه ْم لَ ُيظَْلمُونَ } [المؤمنون ]62 :لن الظلم ل يُتصوّر من الحق -سبحانه
وتعالى -فالظلم نتيجة الحاجة ،وأنت تظلم غيرك حين تريد أن تنتفع بأثر الغير في الخير زيادة
عمّا عندك ،فالظلم إذن نتيجة الحاجة ،والحق سبحانه هو المعطي ،وهو الغني الذي ل حاجةَ له
َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إلى أحد ،فلماذا يظلم؟
سدّ حاجته أو شهوته ،ولو كان قويا لكفى نفسه
كذلك قد يظلم الضعيف ليأخذ ما في يد غيره لي ُ
بمجهوده.
عمَالٌ.} ..
غمْ َرةٍ مّنْ هَـاذَا وََلهُمْ أَ ْ
ثم يقول الحق سبحانهَ { :بلْ قُلُو ُبهُمْ فِي َ
()2714 /
{ َبلْ[ } ..المؤمنون ]63 :حرف يدل على الضراب عن الكلم السابق ،وإثبات الحكم للكلم
بعدها .وال َغمْرة كما قلنا :هي جملة الماء الذي يعلو قامة النسان حتى يمنع عنه التنفس ويحرمه
الهواء ،وهو أول مُقوّم من مُقوّمات الحياة.
فالنسان يصبر على الطعام شهرا ،ويصبر على الماء من ثلثة أيام لعشرة ،إنما ل يصبر على
ال ّنفَس إل بمقدار ما يحتويه الصدر من الهواء ،فإنْ كان كانت رئتك سليمة تتسع لكبر كمية من
الهواء ،وتستطيع أنْ تتحمل عدم التنفس لفترة أطول ،أما إن كانت الرئة مُعتَلّة ،فإنها ل تتسع
لكمية كبيرة ،وسرعان ما ينتهي الهواء ويموت النسان.
ومن التنفس جاءت المنافسة ،كما في قوله تعالىَ {:وفِي ذَِلكَ فَلْيَتَنَافَسِ ا ْلمُتَنَافِسُونَ }[المطففين]26 :
ثم استُعمَِلتْ لكل عمل تُنافِس فيه غيرك؛ لن الهواء هو العنصر الساسي في الحياة.
لذلك الخالق -عز وجل -حينما خلق هذه البِنْية النسانية جعل لها نظاما فريدا في وقودها
وغذائها على خلف صَنْعة البشر ،فلو منعتَ البنزين مثلً عن السيارة توقفتْ ،أمّا صنعة الخالق
-عز وجل -فالجسم يأخذ حاجته من الطعام والماء ،ثم يختزن الباقي لوقت الحاجة ،وقد علم
الحق سبحانه شهوتك وحبك للطعام وللشراب ،وأخذْك منهما فوق حاجتك ،فإنْ غاب عنك الطعام
تغذّى جسمك من هذا المخزن الرباني.
لذلك نرى البعض حين يتأخر عنه الطعام يقول :نفس انصدت عن الكل ،والحقيقة أنه أكل فعلً،
وتغذى من مخزون الطعام والشراب في جسمه.
ومن حكمة ال أن الطعام الفائض يُختزن في صورة واحدة هي الشحم ،الذي يتحول تلقائيا إلى أيّ
عنصر آخر يحتاجه الجسم ،فإذا انتهى الشحم تغذّى الجسم على اللحم والعضلت ،ثم على
العظام ،وهي آخر مخزن للقوت في جسم النسان؛ لذلك جاء في قصة زكريا عليه السلم {:قَالَ
شقِيّا }[مريم.]4 :
َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَظْمُ مِنّي وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبا وَلَمْ َأكُنْ ِبدُعَآ ِئكَ َربّ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
أما الهواء فليس له مخزن إل بقدْر ما تتسع له الرئة ،فإذا نفد منها الهواء بشهيق وزفير فل حيلة
فيه ،ومن رحمة ال بعباده ألّ يُملّك الهواء لحد ،فقد يملك الطعام وربما يملك الماء ،أمّا الهواء
الذي يحتاجه في كل نفَس ،فقد جعله ال مِلْكا للجميع ،حتى ل يمنعه أحد عن أحد؛ لنك ل تستطيع
ن يرضى
أن تحتال له كما تحتال للطعام وللشراب ،ولو غضب عليك مالك الهواء لمتّ قبل أ ْ
عنك.
غمْ َرةٍ[ } ..المؤمنون:
ونلحظ هنا أن الغمرة ل تحتويهم هم ،إنما تحتوي القلوبَ { :بلْ قُلُو ُبهُمْ فِي َ
]63وهذه بلوى أعظم؛ لن القلب محلّ لحصيلة المدركات التي يأخذها العقل ،ويُميّز بينها ويختار
منها ويُرجّح ،ثم تتحول هذه المدركات إلى عقائد تستقر في القلب وعلى َهدْيها تسير في حركة
الحياة.
لذلك إنْ كان القلب نفسه في الغمرة فالمصيبة أشدّ والبلء أعظم؛ لنه مُسْتودع العقائد والمبادئ
التي تُنير لك الطريق.
ن وَالِنْسِ
جهَنّمَ كَثِيرا مّنَ ا ْلجِ ّ
والقلب هو محلّ نظر ال إلى عباده ،لذلك يقول سبحانه {:وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ِل َ
ب لّ َي ْف َقهُونَ ِبهَا[} ..العراف.]179 :
َلهُمْ قُلُو ٌ
وقال سبحانه {:خَ َتمَ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ[} ..البقرة ]7 :لنهم أحبوا الكفر واطمأنوا إليه ،ولنه سبحانه
ربّ متولّ ربوبية الخلق ،يعطيهم ما أراداوا حتى إنْ كان كفرا؛ لذلك ختم على قلوبهم حتى ل
يدخلها إيمان ول يخرج منها كفر؛ لنهم عشقوا الكفر وأحبّوه.
لذلك نقول لهل المصائب الذين يُصابون في غَالٍ أو عزيز فيحزنون عليه ،ويبالغون بإقامة المآتم
والسرادقات ،ويقيمون ذكرى الخميس والربعين وغيرها ،وربما كان البن عاقا لوالديه في
حياتهما ،فإذا مات أبوه أو أمه أقام المآتم وشغل الناس ،وهو كما قال الشاعر:لَ أَعْرِفنّك بعْد
الموتِ تَ ْندِبني وفِي حَيَاتي مَا بَّلغْتَني زَادَاأو الم التي فقدت وحيدها مثلً ،فتعيش حزينة مُكدّرة،
وكأنها عشقتْ الحزن وأحبّته ،نحذر هؤلء وننصح كل حزين أن يُغلق باب الحزن بمسامير
ظلّ معك ولزمك.
الرضا والتسليم ،فالحزن إنْ رأى بابه مُواربا دخل و َ
وسبق أن وضحنا أن الحق سبحانه ل يرفع بلءً عن عبده حتى يرضى به ،ولنا القدوة في هذه
المسألة بأبينا إبراهيم -عليه السلم -حين ابتله ربه بذبح ولده في رؤيا رآها ،واعتبرها هو
تكليفا ،ورضي بقدر ال وسلم لمره ،ثم أخبر ولده ووحيده بهذه الرؤيا حتى ل يحرمه هذا الجر
ول يأخذه على غِرّة ،فيتغير قلبه عليه {:فََلمّا َأسَْلمَا وَتَلّهُ لِ ْلجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ
عظِيمٍ }
حسِنِينَ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ * َوفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ َ
صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ
[الصافات.]107 - 103 :
فبعد أن رضي إبراهيم وولده بقضاء ال رفع عنهما البلء ،وجاءهما الفداء من ال لسماعيل ،بل
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ت فضلً من
وزاده بأنْ بشّره بولد آخر هو إسحاق ،ومن وراء إسحاق يعقوب ،أجيال متعاقبة جاء ْ
ال وجزاءً على الرضا بقضائه وقدره ،وما أحسن ما قال الشاعر في هذا الموقف:
حكْمه فَلحكْمةٍ َي ْقضِيِه حتّى تسْتريح و َتغْنَماواذكُرْ خليلَ الِ في ذَبْح ابنهِ إ ْذ قالَ خالقُه فَلمّا
سَلّمْ لربك ُ
أسْلَماإذن :إذا كانت القلوب نفسها في غمرة ،فقد خرب جهاز العقائد والمبادئ ،وينشأ عن خرابه
خراب حركة الحياة وانحراف السلوك .وقد أخذ القلب هذه الهمية؛ لنه معمل الدم ،ومصدر
سائل الحياة ،فإنْ فسدَ ل ُبدّ أنْ ينضح على باقي الجوارح ،فتفسد هي الخرى ،ولو كان القلب
ح صلحه على الجوارح كلها فتصلح ،كما جاء في الحديث الشريف " :أل
صالحا فل ُبدّ أ نْ ينض َ
إن في الجسد ُمضْغة إذا صَلُحت صَلُح الجسد كله ،وإذا فسدت فسد الجسد كله ،أل وهي القلب ".
عمَالٌ مّن دُونِ ذاِلكَ ُهمْ َلهَا عَامِلُونَ { [المؤمنون ]63 :يعني المر ل
ثم يقول سبحانه } :وََلهُمْ أَ ْ
يتوقف بهم عند مسألة العقائد ،إنما لهم أعمال أخرى كثيرة سيقعون فيها ،فالحق سبحانه ل يذكر
لهم إل قمم المخالفات ونماذج منها ،إنما في علمه تعالى وفي لوحه المحفوظ أنهم سيفعلون كذا
ويفعلون كذا ،وإنْ كانوا هم أنفسهم ل يعلمون أن ذلك سيحدث منهم لكن ربهم -عز وجل -يعلم
بطلقة القدرة ما كان وما سيكون.
ومن عجائب قدرة ال أنه سبحانه يحكم على عبده الكافر أنه سيعمل كذا وكذا ،ومع ذلك لم يعاند
أحد الكفار ،فيقول :إن ال حكم عليّ بكذا ،ولكني لن أفعل فيكون حكم ال عليه غير صحيح؛ لن
الحق سبحانه ل يتحكم فيما يجريه علينا فحسب ،وإنما في اختيار العبد ومراده ،مع أن العبد حُرّ
في أن يفعل أو ل يفعل.
وهذه القضية واضحة في قوله تعالى عن أبي لهب {:تَ ّبتْ يَدَآ أَبِي َل َهبٍ وَتَبّ * مَآ أَغْنَىا عَ ْنهُ مَالُهُ
سبَ * سَ َيصْلَىا نَارا[} ..المسد ]3 - 1 :تفيد المستقبل ،فقد حكم الحق سبحانه عليه أنه
َومَا َك َ
سيكون في النار ،وكان أبو لهب في أمة ومَجْمع من القوم الكافرين ،ومنهم مَنْ آمن فمن يضمن
أن يسمع أبو لهب هذا الحكم ومع ذلك ل يؤمن ويموت كافرا؟
ثم ألم َيكُنْ بإمكان هذا (المغفل) أن يقف على مل ويقول " :ل إله إل ال محمد رسول ال "
ويدخل في السلم ،فيكون الحكم فيه غير صحيح؟ لكن هذا كلم ال وحكمه القديم ل يُردّ ول
يخالفه أحد مهما كان أمره في يده وهو قادر على الختيار ،هذا من طلقة قدرة ال في ِفعْله
وعلى خَلْقه في أفعالهم.
فالمعنى } :هُمْ َلهَا عَامِلُونَ { [المؤمنون ]63 :حكم ل يُرد ول يُكذّب ،حتى وإنْ أخبر به صاحبه؛
لن علم ال تعالى مستوعبٌ لما كان ولما سيكون ،وكأن الحق سبحانه يقول :إن طلقة القدرة
ليست فيما أفعله فحسب ،إنما يفعله غيري ِممّنْ أعطيتُه حرية الختيار.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
ثم يقول الحق سبحانه } :حَتّىا إِذَآ َأخَذْنَا مُتْ َرفِيهِمْ بِا ْل َعذَابِ.{ ..
()2715 /
يعني :بعد أن أشركوا بال وكفروا به ،وبعد أنْ أصبحتْ قلوبهم في غمرة وعمىً إذا مسّهم شيء
من العذاب يجأرون ويصرخون ،ومَنْ ذا الذي يطيق لفحة أو رائحة من عذاب ال؟
ومعنى { َأخَذْنَا[ } ..المؤمنون ]64 :كلمة الخذ لها مجال واسع في كتاب ال ،والَخْذ :هو
الستيلء بعنف على شيء هو ل يحبّ أنْ تستولي عليه ،والَخْذ يُوحي بالعنف والشدة ،بحيث ل
يستطيع المأخوذ الفلت مهما حاول.
ومن ذلك قوله تعالىَ {:أخْذَ عِزِيزٍ ّمقْتَدِرٍ }[القمر ]42 :يعني :أخذا شديدا يتململ منه فل يستطيع
الفكاك.
حةُ[} ..هود.]67 :
خذَ الّذِينَ ظََلمُواْ الصّيْ َ
وقوله {:وَأَ َ
شدِيدٌ }[هود.]102 :
ويقول {:إِنّ َأخْ َذهُ أَلِيمٌ َ
ومعنى { :مُتْ َرفِيهِمْ[ } ..المؤمنون ]64 :من الترف وهو التنعّم؛ لن الحياة تقوم على ضروريات
تستبقي الحياة وكماليات تُسعدِها وتُرفّهها وتُثريها ،فالمتْرَف مَنْ عنده من النعيم فوق الضروريات،
يقال :ترِف الرجل يتَرف من باب فَرِح يفرح ،وأترفته النعمة إذا أطغته ،وأترفه ال يعني :وسّع
عليه النعمة وزاده منها .وعلى قدر التراف يكون الخذ أبلغَ واللم أشدّ.
وسبق أن ذكرنا قول ال عز وجل {:فََلمّا نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ ِبهِ[} ..النعام ]44 :يعني :من منهج ال،
خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا
شيْءٍ حَتّىا ِإذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَ َ
لم نُضيّق عليهم إنما {:فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ
هُمْ مّبْلِسُونَ * َفقُطِعَ دَابِرُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ ظََلمُواْ[} ..النعام.]45 - 44 :
فهنا تكون النكاية أشدّ ،والحسرة أعظم.
والكلم هنا عن كفار قريش ،فكيف أخذهم ال وهم في ترف من العيش ،حيث تصبّ عندهم كل
خيرات الجزيرة حتى عاشوا عيشة الترف والتنعم؟
أخذهم ال حال ترفهم بالقَحْط والسنين؛ لذلك لما رآهم النبي صلى ال عليه وسلم أُترفوا بالنعمة
شدُدْ وطأتك على ُمضَر ،واجعلها عليهم سنين كسني يوسف ".
وط َغوْا بها قال " :اللهم ا ْ
واستجاب ال تعالى دعاء نبيه ،فأصابهم الجدب والقَحْط حتى أكلوا الجيف و (العِلْهز) وهو شعر
جفّ وتجمد تحت حرارة الشمس ،وهذا هو المراد بقوله
الذبيحة أو وبرها المخلوط بدمها بعد أنْ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
تعالى { :حَتّىا ِإذَآ أَخَذْنَا مُتْ َرفِيهِمْ بِا ْلعَذَابِ[ } ..المؤمنون.]64 :
وقوله تعالى { :إِذَا هُمْ َيجْأَرُونَ[ } ..المؤمنون.]64 :
يصرخون ويضجّون ،فهذا أبو سفيان بعد أن أكلوا الجيف والفضلت يقول للنبي صلى ال عليه
وسلم :يا محمد ألستَ رحمةً للعالمين؟ إذن :فا ْدعُ ال أنْ يُفرّج عنا ،فدعا رسول ال صلى ال عليه
وسلم ربه حتى فرج عنهم.
ن قتل ،وأسر مَنْ أسر،
أو :يراد بالعذاب هنا ما حدث لهم يوم بدر ،حيث أذلّهم ال ،فقتل منهم مَ ْ
وانهارت سيادتهم وضاعت هيبتهم ،وقد كانوا يُعذّبون المؤمنين ويقتلونهم ،ويقيمونهم في حَرّ
الشمس ويضعون الحجار الكبيرة فوق بطونهم ،حتى أنزل ال تعالى في هذه الحالة القاسية التي
جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }
يعانيها المؤمنون {:سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ
[القمر.]45 :
فيستقبلون الية بتعجّب :حتى يقول عمر :أيّ جمع هذا الذي سيُهزم ،فليس هناك أيّ بادرة لنصر
المؤمنين ،فلما جاء يوم بدر ورأى المؤمنون ما حاق بالكافرين قال عمر نفسه :صدق ال ،سيُهزم
الجمع وقد هُزِم.
وقوله تعالى } :إِذَا هُمْ َيجْأَرُونَ { [المؤمنون ]64 :يجأر :يصرخ بصوت عالٍ ،والنسان ل
يصرخ إل إذا كان في محنة ل تقدر أسبابه على دفعها ،فيصرخ طلبا لمن ينجده ،ويرفع صوته
ليُسمِع كل مَنْ حوله ،كما يقولون (يجعر).
والجؤار مثل الخوار يعني :يصيحون مثل العجول بعد ما كانوا رجالً وسادة وطغاة ،فلماذا لم
تظلّوا سادة ،لماذا تصرخون الن؟ وكان المنتظر منهم في وقت الشدة أنْ يتماسكوا ،وأن يتجلّدوا
حتى ل يشمت بهم العبيد والفقراء الذين آمنوا ،كما يقول الشاعر:وتجلّدِي للِشّامِتينَ أُرِيهُمو أَنّي
ضعُلكن ،هيهات فقد حاق بهم العذاب ،ولن يخدعوا أنفسهم الن ،فليس
لر ْيبِ الدهْرِ ل أتض ْع َ
أمامهم إل الصراخ يطلبون به المغيث والمنجي من المهالك.
ثم يقول الحق سبحانه } :لَ َتجْأَرُواْ الْ َيوْمَ إِ ّنكُمْ مّنّا لَ تُنصَرُونَ {.
()2716 /
يرد عليهم الحق سبحانه { :لَ تَجْأَرُواْ الْ َيوْمَ[ } ..المؤمنون ]65 :لن مَنْ يجأر ينادي مَنْ ينصره
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
وأنتم لن تُنصروا { إِ ّنكُمْ مّنّا لَ تُنصَرُونَ } [المؤمنون ]65 :ل تُنصرون من جهتنا؛ لني أنصر
أوليائي ،وأنصر رسلي ،وأنصر مَنْ ينصرني ،فاقطعوا الظن في نصري لكم؛ لنني أنا الذي
أنزلتُ بكم ما جعلكم تجأرون بسببه ،فكيف أزيله عنكم؟
وفي موضع آخر يتكلم الحق سبحانه عن أهل الكفر الذين تمالئوا عليه ،وشجّع بعضهم بعضا على
التجرّؤ على القرآن وعلى النبي صلى ال عليه وسلم ،ويُصفّقون لمن يخوض في حقهما{:
جحِيمِ *
جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْ ُبدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ فَاهْدُو ُهمْ إِلَىا صِرَاطِ الْ َ
حشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُواْ وَأَ ْزوَا َ
اْ
َوقِفُوهُمْ إِ ّن ُهمْ مّسْئُولُونَ * مَا َلكُ ْم لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َيوْمَ مُسْتَسِْلمُونَ }[الصافات.]26 - 22 :
إذن :ل تجأروا لنكم لن تُنصروا مِنّا ،وكيف ننصركم بجؤاركم هذا ،وقد انصرفتم عن آياتي؟
()2717 /
كيف تستغيثون بال وتجأرون إليه وأنتم تُلْقى عليكم آياته تشرح لكم وتثبت لكم وجود ال باليات
الكونية ،وتثبت لكم صِدْق الرسول بالمعجزات ،وتحمل لكم منهج ال في اليات حاملة الحكام،
ولكنكم عميتم عن ذلك كله.
عقَا ِبكُمْ تَن ِكصُونَ } [المؤمنون ]66 :العقب :مؤخرة القدم ،فبدل أن يمشي
ومعنى { َفكُن ُتمْ عَلَىا أَ ْ
إلى المام كما خلقه ال وجعل له كشافات يُبصر بها الطريق ،ويهتدي إلى موضع قدميْه ،إذا به
عمُوا عن
يمشي للخلف على عَقبه ،وكأنهم أُخِذوا أَخْذا غَيّر عندهم دولب السير ،لماذا؟ لنهم َ
أسباب الهداية ،فصاروا يتخبطون في متاهات الحياة على غير هدى ،كمَنْ يسير بظهره ل يعرف
مواقع قدميْه ،وهكذا فعلوا هم بأنفسهم.
وهذا التراجع يسمونه في قيادة السيارات (مارشادير) ،ويحتاج فيه النسان لمن يُوجّهه ويرشد
حركته يمينا أو شمالً؛ لنه ل يرى.
فالمعنى :ل تَلُمْ إل نفسك حيث حرمتها من أسباب الهداية ،فبعد أنْ جاءتك وأصبحت بين يديك
أغمضتَ عنها عينيك.
عقِبَيْ ِه َوقَالَ إِنّي
وفي موضع آخر قال سبحانه عن الشيطان {:فََلمّا تَرَآ َءتِ ا ْلفِئَتَانِ َن َكصَ عَلَىا َ
بَرِيءٌ مّ ْنكُمْ[} ..النفال.]48 :
()2718 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
مُسْ َتكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا َتهْجُرُونَ ()67
مادة :كبر تأتي بكسر الباء للدللة على العمر تقول :كَبِر فلن .يعني :كان صغيرا ثم كبر ،وبضم
الباء للشيء المعنوي وللقيم ،كما في قوله تعالى {:كَبُ َرتْ كَِلمَةً تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ[} ..الكهف]5 :
يعني :عظمت.
ومعنى الستكبار افتعال الكِبر وطلبه ،مثل :استفهم يعني :طلب ال َفهْم ،في حين هو ليس كبيرا في
ذاته ،فهو محتاج إلى غيره .فالكبير في ذاته مَنْ تكون عنده وتتوفر له في ذاته مُقوّمات الحياة
وضرورياتها وترفها ،ل يستمدها من أحد.
لكن النسان ضروريات حياته ،وأسباب ترفه موهوبة له من غيره ،فل يصح له أنْ يتكبّر ،فمَنْ
أراد أن يتكبّر فليتكبّر بشيء ذاتي فيه من صحة أو مال أو سلطان ...الخ ،وهذه كلها أمور
موهوبة لك ،فالصحيح قد يصبح سقيما ،والغني قد يصبح فقيرا.
لذلك ،فالكبرياء ل تعالى وحده؛ لنه الواهب للغير ،والمتفضّل على الخَلْق بما يمكن أنْ يتكبروا
به ،ومن صفات جلله وكماله سبحانه (المتكبر)؛ لنه سبحانه رب الخَلْق أجمعين ،ومن مصلحة
الخلق أن يكون المتكبر هو ال وحده ،حتى ل يرفع أحد رأسه على خَلْقه ويتكّبر عليهم.
وهكذا يحمي الحق سبحانه خَلْقه من خَلْقه ،فإنْ تكبّر عليك ربك ،وأجري عليك قدرا؛ لنك فعلت
شيئا وأنت واحد ،فاعلم أنه يتكبر على الخرين جميعا وهم كثيرون ،إنْ فعلوا بك هذا الشيء،
إذن :فصفة الكبرياء ل عز وجل في صالحك.
ومثّلْنا لذلك ،ول المثل العلى :من مصلحة السرة ألّ يكون لها إل كبير واحد يُرجَع إليه ،ومن
أقوال العامة (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) لنه الميزان الذي تستقيم به المور ويُسيّر دفّة
الحياة.
وقلنا :إن من أسمائه تعالى (الكبير) ول نقول :الكبر مع أنها صيغة مبالغة ،لماذا؟ لن أكبر
صيغة مبالغة عندنا نحن البشر ،نقول :هذا كبير وذاك أكبر ،وهذا قويّ وذاك أقوَى ،ول يقال هذا
في صفته تعالى لنك لو قُلْت :ال أكبر لكان المعنى أنك شرَكت معه غيره ،فهو سبحانه أكبر
وغيره كبير ،لذلك ل تُقال :ال أكبر إل في النداء للصلة.
إذن :المستكبر :الذي يطلب مؤهلت كبْر وليس لذاتيته شيء من هذه المؤهلت ،والنسان ل
ينبغي له أن يتكبر إل إذا ملك ذاتيات كبره ،والمخلوق ل يملك شيئا من ذلك.
ومعنى { ُمسْ َتكْبِرِينَ بِهِ[ } ..المؤمنون ]67 :الهاء في (به) ضمير مُبْهم ،يُعرّف بمرجعه ،كما
تقول :جاءني رجل فأكرمته ،فالذي أزال إبهام الهاء مرجعه إلى رجل .وفي الية لم يتقدم اسم
يعود عليه الضمير ،لكن الكلم هنا عن الرسول الذي أُرسل إليهم ،والقرآن الذي أُنزل عليهم
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
معجزة ومنهاجا ،إذن :ل يعود الضمير إل إلى واحد منهما.
أو :أن الضمير في (به) يعود إلى بيت ال الحرام ،وقد كان سببا لمكانة قريش ومنزلتهم بين
العرب ،وأعطاهم وَضْعا من السيادة والشرف ،فكانوا يسيرون في رحلت التجارة إلى اليمن وإلى
الشام دون أن يتعرض لهم أحد ،في وقت انتشر فيه بين القبائل السّلْب والنهب والغارة وقطع
الطريق.
وما كانت هذه المنزلة لتكون لهم لول بيت ال الحرام الذي يحجّه العرب كل عام ،وخدمته
وسدانته في أيدي قريش؛ لذلك استكبروا به على المة كلها ،ليس هذا فقط ،إنما تجرأوا أيضا على
البيت.
سمُرون ليلً ،وكانوا
ويقول تعالى بعدها } :سَامِرا َتهْجُرُونَ { [المؤمنون ]67 :السامر :الجماعة ي ْ
يجتمعون حول بيت ال ليلً يتحدثون في حق النبي صلى ال عليه وسلم ،يشتمونه ويخوضون في
حقه ،وفي حق القرآن الذي نزل عليه.
وليتهم يسمرون عند البيت بالخير إنما بهُجر ،والهُجْر هو ُفحْش الكلم في محمد صلى ال عليه
وسلم وفي القرآن.
فأمر هؤلء عجيب :كيف يفعلون هذا وهم في رحاب بيت ال الذي جعل لهم السيادة والمنزلة؟
كيف يخوضون في رسول ال الذي جاء ليطهر هذا البيت من الصنام ورجسها؟ إنه سوء أدب
مع ال ،ومع رسوله ،ومع القرآن ،يصدق فيه قول الشاعر:أُعلّمهُ الرمايةَ ُكلّ يوْمٍ فََلمّا اشْتَدّ سَاعِدُه
َرمَانِيوكَمْ علّمتُه َنظْ َم القَوافِي فََلمّا قَالَ قَافِية هَجَانِيلقد استكبر هؤلء على المة كلها بالبيت ،ومع
سفَه وللطيْش ،ولكل مَا ل يليق به ،فالقرآن
سمَر وللهُجْر ولل ّ
ذلك ما حفظوا حُرْمته ،وجعلوه مكانا لل ّ
عندهم أساطير الولين ،ومحمد عندهم ساحر وكاهن وَشاعر ومجنون ..وهكذا.
والحق -سبحانه وتعالى -يُنبّهكم إلى أن ضروريات حياتكم هِبةٌ منه سبحانه وتفضّل ،فحينما
جاءكم أبرهة ليهدم هذا البيت العتيق ،وينقل هذه العظمة وهذه القداسة إلى الحبشة ،ولم يكن لكم
طاقة لردّه ول قدرةَ على حماية البيت ،فلو هدمه لضاعتْ هيبتكم وسيادتكم بين القبائل ،ولتجرأوا
عليكم كما تجرأوا على غيركم ،لكن حمى ال بيته ،ودافع عن حرماته ،حتى إن الفيل نفسه وعى
هذا الدرس ،ووقف مكانه ل يتحرك نحو البيت خاصة ،ويوجهونه في أي ناحية أخرى فيسير.
ويُ ْروَى أن أحدهم قال للفيل يخاطبه :ابْرك محمود وارجع راشدا -يعني :انفد بجلدك؛ لنك في
س الفِيلُ بالم َغمّس حَتّى صَارَ يحبُو كَأنّهُ َم ْعقُورُوهكذا ردّهم
بلد ال الحرام ،وكما قال الشاعر:حُبِ َ
ال مقهورين مدحورين ،وحفظ لكم البيت ،وأبقى لكم السيادة.
لذلك لحظ النتقال من سورة الفيل إلى سورة قريش ،يقول تعالى {:أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ
سلَ عَلَ ْيهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ * تَ ْرمِيهِم ِبحِجَا َرةٍ مّن
ج َعلْ كَ ْيدَهُمْ فِي َتضْلِيلٍ * وَأَرْ َ
بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ * أَلَمْ َي ْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
صفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل ]5 - 1 :يعني :مثل التبن والفُتَات الذي تذروه الرياح.
جعََلهُمْ َك َع ْ
سجّيلٍ * فَ َ
ِ
حلّ بأصحاب الفيل ،فاللم في
لفِ قُرَيْشٍ }[قريش ]1 :يعني ما َ
ثم يقول في أول قريش {:لِي َ
حلّ بأصحاب الفيل لتألف قريش ما اعتادته من رحلة الشتاء
حلّ ما َ
(لِيلَف) لم التعليل ،يعنيَ :
ل ِفهِمْ رِحَْلةَ الشّتَآ ِء وَالصّ ْيفِ[} ..قريش ]2 :وما دام أن ال تعالى قد حماكم وحمى لكم
والصيف{ إِي َ
البيت ،وحفظ لكم السيادة كان ينبغي عليكم أنْ تعبدوه وحده ل شريك له{ فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا
خ ْوفٍ }[قريش.]4 - 3 :
ع وَآمَ َنهُم مّنْ َ
ط َع َمهُم مّن جُو ٍ
الْبَ ْيتِ * الّذِي أَ ْ
ثم يقول الحق سبحانهَ } :أفَلَمْ َيدّبّرُواْ ا ْلقَ ْولَ أَمْ جَآءَ ُهمْ مّا لَمْ يَ ْأتِ.{ ..
()2719 /
َأفَلَمْ َيدّبّرُوا ا ْل َقوْلَ أَمْ جَا َءهُمْ مَا َلمْ يَ ْأتِ آَبَا َءهُمُ الَْأوّلِينَ (َ )68أمْ لَمْ َيعْ ِرفُوا َرسُوَلهُمْ َفهُمْ َلهُ مُ ْنكِرُونَ (
)69
في هذه الية واليات بعدها يريد -سبحانه وتعالى -أن يُوبّخهم بعدة أمور واحد بعد واحد بعد
الخر.
أولهاَ { :أفََلمْ يَدّبّرُواْ ا ْل َق ْولَ[ } ..المؤمنون ]68 :فالستفهام هنا للتوبيخ وللتقريع :ماذا جرى
لهؤلء؟ أفلم يعقلوا القول الذي جاءهم في القرآن ،وهم أمة الفصاحة والبلغة والبيان ،وأمة القول
بكل فنونه حتى أقاموا له المواسم والمعارض وعلّقوه على الجدار؟
ل تفهموا القرآن ،وقد جاءكم بأسلوب على مستوى أعلى من البلغة والفصاحة ،ل
لذلك ل يُعقل أ ّ
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ
بُدّ أنكم فهمتموه ووعيْتُم ما فيه ،بدليل قولكمَ {:ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ
عَظِيمٍ }[الزخرف.]31 :
وهكذا الكذاب يسرقه طبعه ،وينمّ منطقه عما في ضميره ،فاعتراضكم ليس على القرآن إنما على
محمد؛ لنه فقير من أوسط القوم ،فالمسألة -إذن -منازعة سيادة وسلطة زمنية ،لكن ألم يَدْرِ
هؤلء أن محمدا صلى ال عليه وسلم ما جاء ليسلبهم سلطتهم ،أو يعلو هو عليهم ،إنما جاء
ليحكمهم بمنهج ال ،ويتحمل هو الذى والتعب والمشقة في سبيل راحتهم وسعادتهم؟
لقد جاء النبي صلى ال عليه وسلم ليأخذ الحكم ويحمل منهج ال تكليفا ل تشريفا ،بدليل أنه عاش
في مستوى أقلّ منكم ،فل ترى رسول ال إل أقلهم طعاما وأقلهم شرابا ،أقلهم لباسا وأثاثا ،حتى
أقاربه كانوا فقراء ،ومع ذلك حرّم عليهم الزكاة التي أباحها لعامة المسلمين الفقراء ،كذلك يرث
الناس وهم ل يرثون.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف]31 :
علَىا رَ ُ
وبعد ذلك كله تقولونَ {:ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ َ
يبدو أنكم أِلفْتم العبودية للعظماء وللجبابرة ،ألِفتم العبودية لغير ال ،وعَزّ عليكم أن يحرركم ال
من هذه العبودية على يد رجل منكسر فقير منكم ،جاء ليصلحكم ويخرجكم من العبودية للمخلوق
إلى العبودية للخالق عز وجل.
ألم ي ُقلْ أحد رؤوس الكفر عن القرآن " :وال إن أعله لمثمر ،وإن أسفله لمغدق ،وإنه يعلو ول
ُيعْلى عليه ".
إذنَ { :أفَلَمْ يَدّبّرُواْ ا ْل َقوْلَ[ } ..المؤمنون ]68 :توبيخ ،لنهم فهموا القرآن ،لكن حسدوا محمدا
سدُونَ
صلى ال عليه وسلم أن ينزل عليه ،وأن ينال دونهم هذه المكانة ،كما قال سبحانه {:أَمْ َيحْ ُ
النّاسَ عَلَىا مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ[} ..النساء.]54 :
لوّلِينَ } [المؤمنون ]68 :يعني :جاءهم أمر غريب ل
المر الثاني { :أَمْ جَآ َءهُمْ مّا َلمْ يَ ْأتِ آبَآ َءهُ ُم ا َ
عهدَ لهم به ،وهو أن يأتي رسول من عند ال ،وهذه المسألة معروفة لهم ،فمنهم إبراهيم عليه
السلم ،ومنهم إسماعيل وهم مؤمنون بهما ،إذن :ليست مسألة عجيبة ،بل يعرفونها جيدا ،لكن ما
منعهم في الولى منعهم في هذه ،إنه الحسد لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لذلك يقول تعالى{:
وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ} ..
[الزخرف.]87 :
المر الثالث } :أَمْ لَمْ َيعْ ِرفُواْ رَسُوَلهُمْ َف ُهمْ لَهُ مُنكِرُونَ { [المؤمنون.]69 :
يعني :أن َزلَ عليهم رسولٌ من السماء ل يعرفون سيرته وخُلقه ونسبه ومسلكه قبل أنْ يُبعث؟ إنهم
ضوْا حكومته بينهم في مسألة الحجر
س ّموْه " الصادق المين " وارت َ
يعرفونه جيدا ،وقبل بعثته َ
سقْطة
السود ،وكانوا يأتمنونه على ودائعهم ونفائس أموالهم ،ولم يجربوا عليه كذبا أوخيانة أو َ
من سقطات الجاهلية.
سكُمْ[} ..التوبة]128 :
وقد شرحت هذه المسألة في قول ال تعالىَ {:لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ
يعني :من جنسكم ،ومن نوعكم ،ومن قبيلتكم ،ليس غريبا عنكم وهو معروف لكم :سلوكه وسيرته
وخُلقه ،وإذا لم تُجرّبوا عليه الكذب مع الخَلْق ،أتتصورون منه أنْ يكذب على الخالق؟
وهل رسول ال في أول بعثته َلمّا أخبر الناس أنه رسول ال جاء القرآن ليحمل الناس على
اليمان به؟ ل ،إنما جاء ليتحدى مَنْ لم يؤمن ،أما مَنْ آمن بداية ،بمجرد أنْ قال محمد :أنا رسول
ن قال
ال قال :صدقت ،وأنه لم يكذب أبدا؛ لذلك كان المقياس عند الصحابة أن يقول رسول ال ،فإ ْ
فالمسألة منتهية لنه صادق ل يشكّ أحد منهم في صِدْقه.
لذلك النبي صلى ال عليه وسلم لما قال أبو بكر في مسالة السراء والمعراج :إنْ كان قال فقد
سىْ رهان
صدق ،يحملها رسول ال تقديرا لبي بكر ويقول " :كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفر َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
" يعني :في الخُلُق الطيب والسلوك السّويّ " فسبقتُه للنبوة فاتبعني ،ولو سبقني هو لتبعتُه ".
" ولما نزل جبريل -عليه السلم -على سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم في أول الوحي
فأجهده ،فذهب إلى السيدة خديجة -رضي ال عنها -وحكى لها ما حدث له كأنه يستفهم منها
عمّا حدث ولم يخبرها أنه رسول من عند ال ،ومع ذلك أخذته إلى ورقة بن نوفل ،وكان على علم
َ
بالكتب السابقة ،فلما سمع ورقة بن نوفل ما حدث قال :إنه الناموس الذي كان ينزل على موسى
جيّ هم؟ " قال " :ما جاء
وليتني أكون حيا إذ يُخرجك قومك ،فقال صلى ال عليه وسلمَ " :أ َومُخر ِ
أحد بمثل ما جئت به إل عُودِي ،وإنْ يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا ".
ومع ذلك يظل رسول ال صلى ال عليه وسلم خائفا قلقا أن يكون هذا شيئاَ من الشيطان ،فتُطمئِنه
السيدة خديجة ،فهذا ل يعقل مع رسول ال ،لذلك تقول له " :إنك لتصلُ الرحم ،وتُكسِب المعدوم،
وتحمل ال َكلّ ،وتعين على نوائب الدهر ،وال لن يخذلك ال أبدا ".
ومن هنا أعتبروا السيدة خديجة أول مجتهدة في السلم؛ لنها اجتهدتْ واستنبطتْ من مقدمات
سمّيت بأم المؤمنين ،حتى
رسول ال قبل البعثة دليلً على صِدْقه بعد البعثة؛ لذلك كانت أول مَنْ ُ
قال بعض العارفين :خديجة أم المؤمنين بما فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه في هذه
السّن كان في حاجة إلى أم أكثر من حاجته إلى عروس صغيرة تُدلّله ،وقد قامت خديجة -رضي
ال عنها -فعلً بدور الم لرسول ال فاحتضنته ،وطمأنته ووقفت إلى جواره في أش ّد الوقات
وأحرجها.
كما نلحظ في اليةَ } :أمْ لَمْ َيعْ ِرفُواْ رَسُوَلهُمْ[ { ..المؤمنون ]69 :فأضاف الرسول إليهم يعني:
رسول لهم ،أما في الضافة إلى ال تعالى :رسول ال ،فالمعنى رسول منه ،وهكذا يختلف
المعنى باختلف الضافة.
()2720 /
والمسألة الرابعة في توبيخ ال لهم { :أَمْ َيقُولُونَ ِبهِ جِنّةٌ[ } ..المؤمنون ]70 :يعني :جنون،
والجنون أنْ تتعطل اللة العقلية التي تزن الحركات على وفق النفع والضر ،فتفعل الخير النافع،
وتترك الشر الضارّ .ولننظر :أيّ خصلة من خصال الجنون في محمد صلى ال عليه وسلم.
خذْ خُلقه ،والخلُق أمر يتفق عليه الجميع ويحمدونه ،حتى وإنْ
عكَ من قضية الدين والله إنما ُ
ودَ ْ
كانوا ضد صفته ،فالكذاب يحب الصادق ،ويعترف أن الصدق شرف وكرامة ،والبخيل يحب
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الكريم ،والغضوب يحب الحليمَ ،ألَ ترى الكاذب يزاول كذبه على الناس ،لكن ل يحب مَنْ يكذب
عليه؟
َألَ ترى شاهد الزور ينقذ غيره بشهادته ،ومع ذلك يسقط من نظره ويحتقره ،حتى إن أهل الحكمة
ليقولون :إن شاهد الزور ترتفع رأسك على الخصم بشهادته ،وتدوس قدمك على كرامته ،ومَنْ
جعلك موضعا للنقيصة فقد سقطت من نظره ،وإنْ أعنْتَه على أمره.
إذن :فالخلق مقاييسها واحدة ،فقيسوا محمدا بأخلقه ،ل بالدين والرسالة التي جاء بها ،انظروا
إلى خُلقه فيكم ،ولن يستطيع واحد منكم أنْ يتهمه في خُلقه بشيء ،وما دام ل يُتّهم في خُلقه فل
يُتهم كذلك في عقله؛ لن العقل هو ميزان الخُلق وأساسه.
لذلك يقول ربه -عز وجل -في حقّه {:ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبمَجْنُونٍ *
ك لَجْرا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ َلعَلَىا خُُلقٍ عَظِيمٍ }[القلم ]4 - 1 :فخلُقك العظيم أكبر دليل
وَإِنّ َل َ
على أنك لستَ مجنونا.
إذن :محمد بريء من هذه التهمة ،والمسألة كلها كما قال تعالىَ { :بلْ جَآ َءهُمْ بِا ْلحَقّ} ..
[المؤمنون ]70 :فهذا عيبه في نظرهم؛ لن الحق يغيظ أهل الباطل المنتفعين منه ،والبعض يرى
الحق في الخير الذي يأتيه ،فإنْ كان في شيء ل ينتفع منه فهو شَرّ؛ لذلك إنْ أردتَ أنْ تحكم على
خصْلة فاحكم عليها وهي عليك ،ل وهي لك ،فمثلً أن تكره الكاذب سواء كذب لك أو كذب
َ
عليك ،إذن :فخُذْ المسائل على أنها لك وعليك.
والحق -سبحانه وتعالى -حينما قيّد حركتك في النظر إلى محارم الخرين ،ل تتبرم ول ت ُقلْ:
منعني متعة النظر ..الخ ،لكن انظر إلى أنه قيّد عينيك وأنت واحد ،وقيّد عيون الخرين عن
محارمك وهم كثيرون.
حقّ كَارِهُونَ } [المؤمنون ]70 :وطبيعي أن يكره أهل الباطل
ويقول تعالى بعدها { :وََأكْثَرُهُمْ لِلْ َ
الذين استشرى ظلمهم وطغيانهم ،يكرهون الحق الذي جاء ليعدل الميزان ،ويُقوّم المعْوج في
حركة الحياة ،وكراهية أهل الباطل لرسول ال كان ينبغي أن تكون معيار تصديق له ل تكذيب
به ،ينبغي أن نقول :طالما أن أهل الباطل يكرهون هذا فل ُبدّ أنه الحق وإلّ ما كرهوه.
()2721 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
إذن :فالمسائل ل تسير على َهوَى المخلوق ،إنما على مرادات الخالق؛ لن الخالق سبحانه هو
صانع هذا الكون ،وكلّ صانع يغَارُ على صَنْعته ،وهذا ُمشَاهد حتى في صنعة البشر ،ولك أنْ
تتصوّر ماذا يحدث لو أفسدتَ على صان ٍع ما صنعَه.
وعدالة الشياء أن تسير على َوفْق مرادات الصانع ،ل هوى المصنوع؛ لن الهواء تملكها
الغيار ،فالنسان لو سار في حركة حياته على َوفْق هواه لخذ مَا ليس له ،ولَقبل الرشوة ،ومال
إلى الفِسْق والنحراف؛ لنه في الظاهر يرى أنه منتفع بهذا ول ينظر العاقبة والمحصلة النهائية،
لقد نظر إلى متعة زائلة موقوته ،ونسي تبعة ثقيلة لن يقدر عليها فيما بعد.
ض َومَن فِيهِنّ} ..
سمَاوَاتُ وَالَ ْر ُ
حقّ أَ ْهوَآءَهُمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ
لذلك يقول الحق سبحانه { :وََلوِ اتّبَعَ الْ َ
[المؤمنون ]71 :ولك أن تقول :نعم ،اتباع الهواء يُفسِد الرض ،ويُفسِد حركة الحياة فيها ،لكن
كيف يُفسِد السماء؟ وهل لحد قدرة عليها؟
ونقول :ألم يكُنْ من أمنيات هؤلءَ {:وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ
ع ْمتَ عَلَيْنَا
سمَآءَ َكمَا زَ َ
سقِطَ ال ّ
ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ تُ ْ
َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ
كِسَفا[} ..السراء.]92 - 90 :
إذن :من أهوائهم أنْ تتهدّم السماء ،ولو حتى على رؤوسهم ،وأي فساد بعد هذا ،وهكذا لو اتبعتَ
أهواءهم لفس َدتْ السموات والرض ،ليس هذا وفقط بل { َومَن فِيهِنّ[ } ..المؤمنون ]71 :حيث
سيتعدّى فسادهم ليشمل كل ما في الوجود.
لذلك يقيد النبي صلى ال عليه وسلم هذه الهواء في قوله " :ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا
حيٌ يُوحَىا }
ل وَ ْ
طقُ عَنِ ا ْل َهوَىا * إِنْ ُهوَ ِإ ّ
لما جئت به " لنه صلى ال عليه وسلمَ {:ومَا يَن ِ
[النجم.]4 - 3 :
وقد توقف بعض المستشرقين مُعترِضا على هذه الية{ َومَا يَنطِقُ عَنِ ا ْل َهوَىا }[النجم ]3 :يقولون:
يعني كلمه كله صحيح ،فلماذا يُعدّل له ربه بعض الحكام؟ ومعنى ذلك أن الحكم المعدّل حين
نطق به كان ينطق عن هوى.
ولو فهم هؤلء معنى الهوى ما كان منهم هذا العتراض ،فالهوَى أن تعرف الحق ،لكن هواك
حكْما وانصرف
يصرفك عنه ،ورسول ال صلى ال عليه وسلم لم يكُنْ يعرف في هذه المسائل ُ
عنه ،إنما نطق وحكم على مقتضى ما فهم في أمر لم ينزل فيه من ال شيء ،ثم نزل الحكم من
ال ليُعدّل اجتهاد رسوله.
إذن :لم يكُنْ لرسول ال َه َوىً ينطق بمقتضاه ،وفي تعديل الحق سبحانه لرسوله ،وتبليغ الرسول
لمته بهذا التعديل أكبر دليل على صِدْقه صلى ال عليه وسلم وأمانته في البلغ عن ربه ،وإلّ فلم
يكُنْ أحد ليعلم هذا التعديل ،لو أخفاه رسول ال تعصّبا لنفسه ،أو لدفْع الخطأ عنه.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جكَ[} ..التحريم:
حلّ اللّهُ َلكَ تَبْ َتغِي مَ ْرضَاةَ أَ ْزوَا ِ
ومن ذلك قوله تعالى {:ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ ِلمَ تُحَرّمُ مَآ أَ َ
عفَا اللّهُ عَنكَ ِلمَ َأذِنتَ َل ُهمْ[} ..التوبة.]43 :
]1ويقول سبحانهَ {:
وكان بوسع رسول ال أن يكتم هذه اليات التي تعاتبه و ُتعَدّ مأخذا عليه ،لكنه صلى ال عليه وسلم
لقَاوِيلِ * لَخَذْنَا مِنْهُ
ضاَ
كان أمينا يقول ما له وما عليه ،لذلك يقول عن ربه {:وََلوْ َتقَ ّولَ عَلَيْنَا َب ْع َ
طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ }[الحاقة.]46 - 44 :
بِالْ َيمِينِ * ثُمّ َلقَ َ
ثم يقول تعالىَ } :بلْ أَتَيْنَاهُمْ ِب ِذكْرِهِمْ َفهُمْ عَن ِذكْرِ ِهمْ ّمعْ ِرضُونَ { [المؤمنون ]71 :و (بل) تفيد
الضراب عن الكلم السابق ،وإثبات كلم جديد بعدها ،والذكْر هنا يعني :الشرف والصّيت
ك وَِل َقوْ ِمكَ[} ..الزخرف.]44 :
والمكانة العالية ،كما جاء في قوله تعالى عن القرآن {:وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ ّل َ
وقوله تعالىَ {:لقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكُمْ كِتَابا فِيهِ ِذكْ ُر ُكمْ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[النبياء ]10 :فكان يجب عليهم أن
يحتضنوا هذا القرآن ،ويرفعوه فوق رؤوسهم ،ففيه مجدهم وشرفهم وعِزّتهم ،والعرب بدون
القرآن ل ِذكْرَ لهم ،فقد كانوا أمة أمية تعيش على الترحال والتنقل ،ول تستقر إل على منابع الماء
ومواضع الكل ،كانوا بَدْوا تنتشر فيما بينهم الحروب والغارات وقَطْع الطريق ،كان الواحد منهم
يسرق ليُكرم ضيفه بما سرق.
وهذه من المور العجيبة في عادات العرب في الجاهلية ،فلم يكن لديهم منهج يحكم حياتهم،
عجيب أنْ ترى حب الغارة والعتداء مع الشهامة والكرام في طبيعة واحدة ،فهو يفعل ما يعِنّ له،
وما يخطر بباله ،فالمسألة ليست محكومة عندهم بقانون ،حتى قال فيهم الشاعر:ل تمدحَنّ ابْنَ
ل ولَ
عبّادٍ وإنْ هطَلتْ َكفّاهُ بالجُود حتّى أشبَه الدّ َيمَافَإنّها خطرَاتٌ من وَسَاوِسِهِ ُيعْطي ويمنَع لَ بُخْ ً
ك َرمَاومن أشهر قصائد الشعر العربي في الكرم هذه القصيدة التي تأصّل فيها هذا الخُلق حتى عند
الطفال ،وحتى أن الب يهِمّ بذبح ولده للضيف ،لنه لم يجد ما يذبحه لِقرَاه.
جفْوةٍ
صبِ البطن مُرْملٍ ببيداءَ لم َيعْرف بها ساكنٌ َرسْماأَخِي َ
ويقول فيها الشاعر:وَطَاوٍ ثَلثا عَا ِ
س وَحْشةٌ يرى ال ُبؤْس فِيَها مِنْ شراسته ُنعْميرَأَى شبحا وِسْط الظّلم فَرَاعَه فَلما رأَى
فيه من الُنْ ِ
شعْب
حمَاوأفرد في ِ
ضَيْفا تشمّر واهْتماوقَالَ هَيّا ربّاه ضَيْف ول قِرَى!! بحقّك لَ تحرمْه تالليلةَ الّل ْ
عَجُوزا إزَاءَهَا ثَلثَة أَشْباحٍ َتخَالهموا ُب ْهمَاحُفاةً عُراةً مَا اغت َذوْا خُبْز مَلّة ولَ عَرفُوا للبُرّ مُذْ خُلِقوا
طعْماولَ تَعتذِرْ بالعُدم على الذِي طَرَا يظنّ
طعْمافَقالَ ابنُه َلمّا رآهُ بحيْرةٍ أيَا أ ْبتِ اذْبحْني ويسّر َلهُم ُ
سعُنا ذمّافروّى قليلً ثُمّ أحجمَ بُرْه ًة وَإنْ ُهوَ لم يذبح فَتَاهُ َفقَد همّافبَيْنَا ُهمَا عَ ّنتْ على ال ُبعْد
لَنَا مَالً فيُ ِ
خلْف مِسْحلها َنظْماعطَاشا تريد الماءَ فا ْنسَابَ نحوهَا علَى أنّه مِنْها إلىَ َدمِها
عَانَةٌ قَد انتظمتْ من َ
أَظْمافَأَمهلَها حتّى تر ّوتْ عِطاشُها وأرسَل فيها من كِنَانتِه سَهمْافَخَرّت نَحُوصٌ ذَات جحش قَدْ
اكتن َزتْ لَحْما وقد طُ ّبقَتْ شحْمافَيَا بشْ َرهُ إذْ جرّها نَحْو قوم ِه ويَا بشْرهُم لما رأوا كَلْمها يَ ْدمَىوباتَ
أبُوهم من َبشَاشتِه أبا َلضَ ْيفِهموا والمم مِنْ ِبشْرها ُأمّا
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
خصْلة الكرم في العربي ،حتى في الطفال الصغار ،فهو وإنْ كان فقيرا لكن ل يحب
لقد تأصلتْ َ
أن يُعرف عنه الفقر ،يحب أن يظهر في صورة الغني الكريم المعطاء ،وإنْ ناقض ذلك صفات
أخرى ذميمة فيه.
والشاهد أنهم جماعة تناقضتْ خصالهم ،وقد عاشوا في أمية تامة فلم يعالجوا حضارة ،وهذه
حسِبت لهم بعد ظهور السلم وبعثة النبي صلى ال عليه وسلم من بينهم ،فكيف لمثل هؤلء أنْ
ُ
يأتوا بهذه المعاني والساليب العالية التي تحكم العالم كله؟ ولو كانوا أهلَ علم وحضارة لقالوا
عنهم وعن السلم :إنه قفزة حضارية.
ولو كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قارئا لقالوا :قرأ لفلن وفلن ،كما حكى عنهم الحق
سبحانه وتعالى {:وَلَقَدْ َنعْلَمُ أَ ّنهُمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ[} ..النحل.]103 :
إذن :ف ِذكْر العرب وشرفهم ومجدهم وكرامتهم في القرآن ،ومع ذلك لم يعملوا حتى لمصلحتهم،
ولم يهتموا بهذا القرآن ،إنما أعرضوا عنه } َفهُمْ عَن ِذكْرِ ِهمْ ّمعْ ِرضُونَ { [المؤمنون.]71 :
أي :عن القرآن ،وهذا دليل أنهم كانوا مغفلين ،ل يعرفون حتى مصلحتهم.
ثم يقول الحق سبحانه } :أَمْ تَسَْأُلهُمْ خَرْجا َفخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْرٌ.{ ..
()2722 /
أَمْ َتسْأَُلهُمْ خَرْجًا َفخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْ ٌر وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ ()72
(الخَرْج) :ما يخرج منك طواعية ،أما الخراج فهو ما يخرج منك رغما عنك ،والزيادة في المبنى
تدل على الزيادة في المعنى ،فالخراج أبلغ من الخَرْج .والمراد بقوله تعالى { :أَمْ تَسْأَُلهُمْ خَرْجا
خذْه من
ن كنتَ تريد خَرْجا فل تأخذه من أيديهم ،إنما ُ
فَخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْرٌ[ } ..المؤمنون ]72 :إ ْ
ربك ،فما عندهم ليس خَرْجا بل خراج { فَخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْرٌ[ } ..المؤمنون.]72 :
خلْقه برزق يرزقهم به،
فل تأخذ الرزق إل من يد الخير والبركة؛ لن الحق سبحانه ل يمنّ على َ
فهو سبحانه قد استدعاهم إلى الحياة؛ لذلك تكفّل سبحانه بأرزاقهم ،كما لو دعوتَ صديقا إلى طعام
فإنك ُتعِدّ له ما يكفي عشرة ،فما بالك حينما ُيعِدّ لك ربك عز وجل؟
ثم يُذيّل الحق سبحانه الية بقوله تعالى { وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } [المؤمنون ]72 :وهذه أحدثتْ
إشكالً عند البعض؛ لن الحق سبحانه جعل لخَلْقه شراكة في صفة الرزق ،فغيره سبحانه يرزق
أيضا ،لكن هو خير الرازقين؛ لنه يرزق الخَلْق بأصول الشياء التي يرزقون منها غيرهم ،فإنْ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
كنتَ ترزق غيرك مثلً طعاما فهو سبحانه أصل هذا الطعام ومصدره.
ن أعملتَ
هو سبحانه خالق التربة ،وخالق الماء ،وخالق الهواء ،وخالق البذرة ،وما عليك إل أ ْ
عقلك ،واستخدمتَ الطاقات التي منحك ال إياها ،فأخرجتَ هذا الطعام ،فلو أنك جِ ْئتَ لهلك
بحاجيات المطبخ ولوازم المعيشة طوال الشهر من دقيق وسمن وأرز وسكر ..إلخ وقامت زوجتُك
وقامت زوجتُك بإعداد الطعام أتقول :إن الزوجة هي التي جاءت بالطعام؟
لذلك يقول العلماء وأهل المعرفة :نَزّهوا ألسنتكم عن قول :فلن رازق ،ودَعُوها لقول ال تعالى؛
لنه سبحانه هو خالق الرزق ،وواجد أصوله ،وما أنت إل مُنَاول للغير.
وتلحظ أنه تعالى أضاف الخَراج إلى الربوبية التي تفيد الرعاية والعناية والتربية ،فما دام الخراجُ
خراجَ ربك يا محمد ،فهو خراج كثير وعطاء ل ينفد.
()2723 /
الصراط المستقيم :الطريق المعتدل الذي ل عوجَ فيه ول أمتا ،فكيف إذن يتأبون عليك ويقفون في
طريقك وأنت تدعوهم إلى الصراط المستقيم؟ وإن انتفع بالصراط المعوج واحد فسوف ينتفع
بالصراط المستقيم المليين.
ومن ذلك ما سبق أن أوضحناه من أنه يجب عليك أن تنظر إلى ما أعطاه لك التشريع قبل أنْ
تنظر إلى ما أخذه منك ،فالشرع حين يأخذ منك وأنت غني يعطيك وأنت فقير ،ويأمرك برعاية
اليتيم ليرعى أولدك من بعدك إنْ تركتَهم وهم صغار.
فالشرع -إذن -يُؤمن حياتك ويجعلك تستقبل مقادير ال بالرضا؛ لنك في مجتمع إيماني لن
يتخلى عنك إن افتقرت ،ولن يترك أولدك إنْ تيتّموا ،فالمجتمع اليماني إنْ مات فيه الب كان
الجميع لليتيم آباء .أما إنْ ضاع اليتيم في مجتمع اليمان فإن ذلك يفتح الباب للسخط على قدر ال،
ن يقولوا :ما الحكمة في أن يأخذ أباهم ويتركهم عالة ل يتكفل بهم أحد؟
ويُغري ضعاف اليمان أ ْ
()2724 /
وَإِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالَْآخِ َرةِ عَنِ الصّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ()74
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
{ الصّرَاطِ[ } ..المؤمنون ]74 :هو الطريق المستقيم الذي يُؤدّي إلى الغاية بأقلّ مجهود ،وفي أقل
وقت ويوصلك إلى أفضل غاية .والطريق يأخذ حظه من العناية والهتمام بقدر الغاية الموصّل
إليها ،فالطريق من القاهرة إلى السكندرية غير الطريق بين القرى والنّجوع.
حظّ في العوجاج وعدم
ومعنى { :لَنَاكِبُونَ } [المؤمنون ]74 :يعني :منحرفون عن الطريق ،ولهم َ
الستقامة؛ لذلك مَنْ يريد الصدق (تعال دوغري) يعني :من الطريق الذي ل اعوجاجَ فيه ول
مراوغةَ.
لكن ،ما الذي جعلهم يتنكّبون الطريق المستقيم الذي يُنظّم لهم حركة الحياة ،ويجعلها تتساند ل
تتعاند ،ويعود مجهود الفرد على الباقين؟ لماذا يحرِمون أنفسهم من مزايا هذا الطريق؟
قالوا :لنهم مكذبون بالخرة ،ولو لم يكونوا مكذبين بالخرة لمنوا واتبعوا منهج ال؛ لنهم
سيئولون إلى ال أيلولةً ،تعطي المحسن جزاءه وتعطي المسيء جزاءه .فالذي أفسد هؤلء أنهم
اتبعوا أهواءهم ،وظنوا أن الدنيا هي الغاية وهي نهاية المطاف ،وغفلوا عن الخرة ،وأنها دار
النعيم الحقيقي الذي ل يفوتُك ول تفوته.
كما قال عنها الحق سبحانه وتعالى {:وَإِنّ الدّا َر الخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت:
]64يعني :الحياة الحقيقية.
طغْيَا ِنهِمْ.} ..
شفْنَا مَا ِبهِمْ مّن ضُرّ لَّلجّواْ فِي ُ
حمْنَاهُ ْم َوكَ َ
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلوْ َر ِ
()2725 /
س الِنسَانَ
يعني :لو حدث هذا لعادوا إلى ما كانوا عليه ،كما قال سبحانه في موضع آخر {:وَإِذَا مَ ّ
شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ} ..
الضّرّ دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ
[يونس.]12 :
ج َعلَ لِلّهِ أَندَادا[} ..الزمر:
وليْتَه اكتفى عند هذا الحدّ ،إنما يتعدّى هذا ،كما جاء في قوله تعالى {:وَ َ
]8يقول كما قال قارون {:إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي[} ..القصص ]78 :يعني :هذا بمجهودي
وتعبي ،وقد كلمت فلنا ،وفعلت كذا وكذا.
لذلك كان طبيعيا أن يقول له ربه :ما ُد ْمتَ قد أوتيتَهُ على علم عندك ،فاحفظه بعلم عندك قال
سفْنَا بِهِ وَبِدَا ِر ِه الَ ْرضَ[} ..القصص.]81 :
تعالى {:فَخَ َ
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فأين الن عِلْمك؟ وأيّ علم هذا الذي ل يستطيع أن يحتفظ بما أتى به؟ ومعلوم أن استنباط الشيء
أصعب من حفْظه وصيانته.
طغْيَا ِنهِمْ[ } ..المؤمنون ]75 :والطغيان :مجاوزة
ومعنى { لّلَجّواْ[ } ..المؤمنون ]75 :تمادوا { فِي ُ
حدّا مرسوما ل ينقص ول يزيد ،فإن اتبعتَ هذا
الحدّ؛ لن ال تعالى جعل لكل شيء في الوجود َ
ت واستقامتْ حركة حياتك بل منازع ،ولو طغى الشيء أفسد حركة
الحدّ الذي رسمه ال لك استقم َ
الحياة ،حتى لو كان الماء الذي جعل ال منه كل شيء حيّ ،لو طغى يُغرق ويُدمّر بعد أنْ كان
حمَلْنَاكُمْ فِي ا ْلجَارِيَةِ }[الحاقة.]11 :
طغَا ا ْلمَآءُ َ
سر الحياة حال اعتداله .ومنه قوله سبحانه {:إِنّا َلمّا َ
ويقال لمن جاوز الحدّ :طاغية بتاء التأنيث الدالة على المبالغة ،فإنْ تجاوز هذه أيضا نقول:
طاغوت.
ثم تأتي نتيجة التمادي في الطغيان { َي ْع َمهُونَ } [المؤمنون ]75 :يعني :يتحيرون و َي ْعمَوْن عن
الرّشْد والصواب ،فل يُميّزون بين خير وشر.
ثم يقول الحق سبحانه { :وََلقَدْ َأخَذْنَاهُمْ بِا ْلعَذَابِ َفمَا اسْ َتكَانُواْ لِرَ ّبهِمْ.} ..
()2726 /
خذْنَاهُمْ بِا ْل َعذَابِ َفمَا اسْ َتكَانُوا لِرَ ّبهِ ْم َومَا يَ َتضَرّعُونَ ()76
وَلَقَدْ أَ َ
استكان فلن ل تقال إل لمَنْ كان مُتحركا حركةً شريرة ،ثم هدأ وسكن ،نقول :فلن (انكَنّ) أو
استكان وأصلها (كوْن) فالمعنى :طلب وجودا جديدا غير الوجود الذي كان عليه ،أو حالً غير
الحال الذي كان عليه أولً ،فقبل أنْ يستكين ويخضع كان ل بُدّ مُتمرّدا على ربه.
والوجود نوعان :وجود أولي مطلق ،ووجود ثَانٍ بعد الوجود الولي ،كما نقول مثلً :وُلِد زيد
يعني وُجِد زيد وجودا أوليا ،إنما على أيّ هيئة وُجد؟ جميلً ،قبيحا ..هذه تحتاج إلى وجود آخر،
تقول :كان زيدّ هكذا فعل وفاعل ل يحتاج إلى إخبار آخر لنها للوجود الول ،لكن حين نقول:
كان زيد مجتهدا ،فهذا هو الوجود الثاني وهو الجتهاد ،وهو وجود ناتج عن الوجود الول.
فكان الولى هي كان التامة التي وردتْ في قوله تعالى {:وَإِن كَانَ ذُو عُسْ َرةٍ فَنَظِ َرةٌ إِلَىا مَيْسَ َرةٍ..
}[البقرة ]280 :أي :وُجِد ذو عُسْرة ،ول تحتاج في هذه الحالة إلى خبر.
ونقول :تمنّى فلن على ال أنْ يُوجَد له ولد ،فكان محمد ،يعني :وُجِد .أما كان الناقصة فتحتاج
إلى خبر؛ لن (كان) ِفعْل يدل على زمان الماضي ،والفعل ل بُدّ أنْ يدل على زمن وحدث؛ لذلك
ل ُبدّ لها من الخبر الذي يعطي الحدث تقول :كان زيد مجتهدا ،فجاء الخبر ليكمل الفعل الناقص،
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فكأنك قلتَ :زيد مجتهد.
ن لنفسهم ول
ومعنى { َفمَا اسْ َتكَانُواْ لِرَ ّبهِمْ[ } ..المؤمنون ]76 :أن خضوعهم واستكانتهم لم تكُ ْ
للناس ،إنما استكانة ل بأخْذ أوامره بمنتهى الخضوع وبمنتهى الطاعة ،لكنهم ما فعلوا وما
استكانوا ،ل في حال الرحمة وكَشْف الضر ،ول في حال الَخْذ والعذاب ،وكان عليهم أن يعلموا
أن ال غيّر حاله معهم ،ومقتضى ذلك أن يُغيّروا هم أيضا حالهم مع ال ،فيستكينوا لربهم
ويخضعوا لوامره.
{ َومَا يَ َتضَرّعُونَ } [المؤمنون ]76 :الضراعة :هي الدعاء والذلّة والخضوع لمن أخذ بيدك في
شيء ،كما جاء في قوله تعالى {:فََلوْل ِإذْ جَآءَهُمْ بَ ْأسُنَا َتضَرّعُواْ[} ..النعام ]43 :يعني :لجئوا إلى
ال وتوجَهوا إليه بالدعاء والستغاثة.
()2727 /
ت معهم كل المحاولت ،فما أج َدتْ معهم الرحمة واستمروا على غَلْوائهم ،وما أجدى معهم
لقد فشل ْ
العذاب وما استكانوا بعد أن أخذهم ال به ،إذن :لم يَ ْبقَ لهم حجة ول أملٌ في النجاة ،ففتح ال
شدِيدٍ[ } ..المؤمنون ]77 :يعني :أصابتهم محنة كأنهم من وراء باب ُمغْلق
عليهم { بَابا ذَا عَذَابٍ َ
تفاجئهم { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [المؤمنون ]77 :آيسون من النجاة مُتحسّرون على ما فاتهم.
لفْئِ َدةَ.} ..
سمْعَ وَالَ ْبصَا َر وَا َ
ثم يقول الحق سبحانه { :وَ ُهوَ الّذِي أَنْشَأَ َل ُكمُ ال ّ
()2728 /
شكُرُونَ ()78
سمْ َع وَالْأَ ْبصَارَ وَالَْأفْئِ َدةَ قَلِيلًا مَا تَ ْ
وَ ُهوَ الّذِي أَنْشَأَ َلكُمُ ال ّ
الحق -سبحانه وتعالى -يقول :خلقتُ عبادي من عدم ،وأمددتهم بأقوات الحياة ومقوماتها من
عدم ،ثم جعلتُ لهم منهجا ينظم حركة حياتهم ويصُون بنيتهم ،لن صاحب الصنعة أعلم بصنعته،
ل هل صنعها
وأعلم يما يصلحها ،ويعرف غايتها التي خلقها من أجلها ،فالذي صنع الثلجة مث ً
أولً ثم قال لنا :انظروا في أيّ شيء تفيدكم هذه اللة؟ ل ،إنما قبل أن يصنعها حدّد مهمتها،
والغاية منها ،وكذلك خلق ال ،ول المثل العلى.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حدّد الغاية أعلم بقانون الصيانة الذي يحمي صنعته من الفساد ،ويجعلها تؤدي
والذي خلق و َ
مهمتها على أكمل وجه ،فإنْ خالفت قانون الصيانة الذي وضعه لك ربك تفسد حياتك وتتعطّل عن
ن وَالِنسَ ِإلّ
أداء مهمتك التي خلقت لها ،وهي عبادة ال وحده ل شريك لهَ {:ومَا خََل ْقتُ الْجِ ّ
لِ َيعْبُدُونِ }[الذاريات.]56 :
لذلك أمركم إن اختلفتم في شيء أنْ تردوه إلى ال وإلى الرسول ،كما ترد اللة إلى صانعها العالم
بطبيعتها وبمواطن الخلل فيها ،ونستنبط من هذه المسألة :إذا رأيتَ خللً في الكون أو فسادا في
عطّل.
حكْما ل قد ُ
ناحية من نواحيه ،وإذا رأيت عورة من العورات قد ظهرتْ فاعلم أن ُ
فمثلً إنْ رأيتَ فقيرا جائعا عاريا فإما أنه قادر على العمل لكنه قعد عن السعي وخالف قوله
تعالى {:فَامْشُواْ فِي مَنَاكِ ِبهَا َوكُلُواْ مِن رّ ْزقِ ِه وَإِلَيْهِ النّشُورُ }[الملك ]15 :أو :أن القادرين العاملين
حقّ لّلسّآ ِئلِ
حرموه حقّه الذي جعله ال له في أموالهم ،وخالفوا قوله تعالىَ {:وفِي َأ ْموَاِلهِمْ َ
وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات.]19 :
سدّ
لذلك ،فالحق -سبحانه وتعالى -يُجري على عباده من المقادير ما يحفظ لهم توازن الحياة وي ُ
حاجة المحتاجين ،كما نرى مثلً أحد الثرياء يترك بلده ،وينتقل إلى بلد آخر يضع فيها أمواله
وثرواته ،وليس هناك لهذه النقلة إل أنها خاطر سلّطه ال عليه ليحفظ به توزيع المال في المجتمع،
ولو حسبتها لوجدتَ أن هذا المكان زادت فيه حصيلة الزكاة عن حاجة المحتاجين ،فانتقل إلى بلد
آخر قلّت فيه الموال عن حاجة الفقراء والمحتاجين.
وبعد ذلك لم يتركك ربك ،بل عرض لك اليات التي تلفتك إليه ،وتُحنّنك إلى التعرّف عليه ،وهي
إما آيات كونية عجيبة تدل على قدرة ال تعالى ،أو معجزات تثبت صِدْق النبياء في البلغ عن
ال؛ لن ال تعالى ل يخاطب عباده كل واحد بمفرده ،إنما يرسل رسولً ليُبلّغهم ثم يُؤيّده بالمعجزة
الدالة على صِدْقه في البلغ.
فحين تنظر في آيات الكون وتستدل بها على وجود خالق قادر لكنك ل تعرف مَنْ هو هذا الخالق
يأتي الرسول ليقول لك :إنه ال ،وقد ضربنا لذلك مثلً -ول المثل العلىَ :هبْ أن أحدا دَقّ
الباب ونحن جلوس بالداخل فما الذي يحدث؟ نتفق نحن جميعا على أن طارقا بالباب.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
الشاهد :أن هذه اليات كلها تحتاج إلى وسائل لدراكها ،تحتاج إلى سمع وبصر لنراها ونسمعها،
سمْ َع وَالَبْصَارَ
ثم تحتاج إلى عقل لنفكر فيها ونتأملها؛ لذلك يقول سبحانه } :وَ ُهوَ الّذِي أَنْشَأَ َلكُمُ ال ّ
وَالَفْئِ َدةَ[ { ..المؤمنون.]78 :
السمع والبصر من الحواس التي سماها العلماء احتياطا الحواس الخمس الظاهرة أي :أن هناك
حواسّ أخرى لم يكتشفوها ،وفعلً اكتشفها العلم بعد ذلك كحاسة العضل التي تميز بها الثقل،
وحاسة البين التي تميز بها الغليظ من الرقيق في الثياب مثلً ،فهذه الشياء ل تستطيع التعرّف
عليها بالحواسّ الخمس المعروفة.
عمْدة الحواس :السمع والبصر؛ لنه إذا جاءني رسول يُبلّغني عن ال ل بُدّ أن أسمع منه ،فإنْ
وُ
كنتَ مؤمنا بإله فقد اكتفيتَ بحاسة السمع ،وإنْ كنتَ غير مؤمن تحتاج إلى بصر لتبصر به آياته
الدالة على وجوده وقدرته ،وتستدل بالصّنْعة على الصانع ،وبالخِلْقة على الخالق ،وتقف على ما
في كوْن ال من الدقة والحكام والهندسة والبداع.
وهذه مهمة العقل بعد أن تحولت المسموعات والمرئيات إلى قضايا ومبادئ عقلية تحكم حياتك،
كما لو رأيتَ النار بعينك ثم لمستها بيدك فأحرقتك فتكوّنت لديك قضية عقلية مُؤدّاها أن النار لها
خاصية الحراق فل تلمسها بعد ذلك ،وهذه تراها حتى في الطفل الصغير حينما يعجبه قرن
ل فيقضمه فيشعر بحرارته وألمه.
الشطة مث ً
فإن رآه بعد ذلك يقول (أوف) ،فهذه اللفظة بالنسبة للطفل قضية عقلية تكوّنَتْ لديه نتيجة تجربة
استقرتْ في فؤاده ،وأخذها مبدأً يسير عليه في كل حياته ،وهكذا من المحسّات ومن تجارب الحياة
تتكوّن لديك قضايا عقلية تستفيد بها فيما بعد.
إذن :من وسائل الدراك تتكوّن المبادئ والقضايا التي يأخذها العقل ،ويفاضل بينها حتى ينتهي
إلى قضية ومبدأ يستقر في القلب ونُسمّيها عقيدة يعني :شيء معقود عليه ل ينحلّ.
وحين تتأمل حديث القرآن عن الحواس تجده يُرتّبها دائما هذا الترتيب :السمع والبصر والفؤاد
عمْدة الحواس ،فالشمّ مثلً والتذوق واللمس ل نحتاج إليه إل قليلً ،أما السمع والبصر
لنها ُ
فعليهما تقوم مسألة الدعوة :السمع لسماع البلغ ،والبصر لنرى آيات ال الدالة على قدرته تعالى.
وقد أثبت العلم الحديث هذا الترتيب للسمع والبصر والفؤاد مما يدلّ على أنه ترتيب من خالق عن
حكمة وعلم وقدرة ،بحيث ل يأتي واحد منها قبل الخر ،كما أثبت علماء وظائف العضاء صِدْق
هذا الترتيب ،فأوّل أداة تؤدي مهمتها في النسان هي الذن ثم العين ،وتعمل من ثلثة إلى عشرة
أيام من الولدة ،ثم من السمع والبصر توجد القضايا التي يعمل فيها العقل.
إذن :فهذا ترتيب خَلْقي وتكويني .كما أن السمع وهو أول حاسّة تؤدي مهمتها في النسان هو
أيضا الدراك الوحيد الذي يصاحب النسان في كل أطواره ،فالذن تسمع مثلً حتى في حالة
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
النوم على خلف العين؛ ذلك لن بالسمع يتم الستدعاء ،لذلك تظل تؤدي مهمتها حتى في حال
النوم.
كما أن العين ل ترى في الظلم ولها غطاء طبيعي ومغاليق تحجب الرؤية ،وليست الذن كذلك،
فالصوت إذا خرج تسمعه جميع الذان ،أما المرئيّ فقد يوجد معك في نفس المكان ول تراه وقد
سمْعَ وَالَ ْبصَارَ..
يراه غيرك ،إذن :فالمسموع واحد والمرائي متعددة ،لذلك قال سبحانه } :ال ّ
{ [المؤمنون.]78 :
فليس لك خيار في السمع ،لكن لك خيار في الرؤية ،فالمبصرات تتعدد بتعدّد البصار ،لكن السمع
ل يتعدد بتعدّد السماع.
لذلك من إعجازات البيان القرآني في قصة أهل الكهف أن ال تعالى ضرب على آذانهم في
الكهف ليناموا ول تزعجهم الصوات في هذه الصحراء الدويّة ،ولو بقي لهم السمع كشأن الخَلْق
جميعا لما استقر لهم قَرَار طوال هذه الفترة الطويلة ،ولفزعتهم الصوات.
يقول الحق سبحانه وتعالىَ {:فضَرَبْنَا عَلَىا آذَا ِنهِمْ فِي ا ْل َك ْهفِ سِنِينَ عَدَدا }[الكهف.]11 :
كذلك من آيات العجاز في القرآن الكريم أن جميع اليات التي ذكرتْ السمع والبصر ذكرتْه بهذا
س ِمعْنَا} ..
الترتيب :السمع والبصار ،إل في آية واحدة في موقف القيامة قالوا {:رَبّنَآ أَ ْبصَرْنَا وَ َ
[السجدة.]12 :
فقدّم البصر على السمع؛ لن في القيامة تفجؤهم المرائي أولً قبل أنْ تفجأهم الصوات ،وهذه من
مظاهر الدقة في الداء القرآني المعجز.
وكأن الحق سبحانه يقول :ل عُذْر لك عندي فقد أعطيتُك سمعا لتسمع البلغ عني من الرسول،
وأعطيتُك عَيْنا لتلتفت إلى آيات الكون ،وأعطيتُك فؤادا تفكر به ،وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلّك
على وجود الخالق عز وجل.
إذن :ما أخذتُك على غِرّة ،ول خدعتُك في شيء ،إنما خلقتُك من عدم ،وأمددتُك من عُدم ،ورتبتُ
لك منافذ الدراك ترتيبا منطقيا تكوينيا ،فأيّ عذر لك بعد ذلك ..وإياكم بعد هذا كله أنْ تشغلكم
الهواء ،وتصْرفكم عن البلغ الذي جاءكم على لسان رسولنا.
والمتأمل في تركيب كل من الذن والعين يجد فيهما آيات ومعجزات للخالق -عز وجل -ما
يزال العلماء لم يصلوا رغم تقدّم العلوم إلى أسرارها وكُنْهها.
شكُرُونَ { [المؤمنون ]78 :لن هذه ِنعَم وآلء وآيات
ثم يقول سبحانه في ختام الية } :قَلِيلً مّا تَ ْ
حقّ الشكر.
ل ،كان ينبغي أن تشكر َ
شكْر
شكُرُونَ { [المؤمنون ]78 :أنه تعالى عبّر عن عدم ال ّ
البعض يقول في معنى } قَلِيلً مّا َت ْ
بالقلة ،وهذا الفهم ل يستقيم هنا؛ لن ال تعالى أثبت لعباده شكرا لكنه قليل ،وربك -عز وجل -
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
يريد شكرا دائما يصاحب كل نعمة ينعم بها عليك ،فساعة ترى العمى الذي حُرِم نعمة البصر
يتخبّط في الطريق تقول الحمد ل ،تقولها هكذا بالفطرة؛ لنك تعيش وتتقلب في نعَم ال ،لكن ل
تتذكرها إل حين ترى مَنْ حُرِم منها.
لذلك ،إنْ أردتَ أنْ تدوم لك النعمة فاعقلها بِذكْر ال المنعم ُقلْ عند النعمة ،أو عند رؤية ما يعجبك
في أهل أو مال :ما شاء ال ل قوة إل بالَ ،ألّ ترى أن ال تعالى جعل الحسد لينبهنا :إنْ أردتَ
حفْظها وصيانتها ،وجعلتَ حفظها إلى مَنْ
صيانة النعمة فل تنسَ المنعِمَ؛ لنه وحده القادر على ِ
شكْر عليها.
صنعها .ول يُصاب النسان في النعمة إل إذا غفل عن المنعم وترك ال ّ
وأذكر أنه كان في قريتنا رجل من أهل الفهم عن ال ،وكان يملك ثلث فدان يزرعه المزروعات
التقليدية ،وفي أحد العوام زرعه قطنا ،فجاءت عليه الدودة وكادت تهلكه ،فكلّمه والدي في مسألة
الدودة هذه فقال له :يا عم متولي ل تقلق فأنا أؤدي صيانتها يعني :أُخرِج منها الزكاة.
ثم يقول الحق سبحانه } :وَ ُهوَ الّذِي ذَرََأ ُكمْ فِي الَ ْرضِ.{ ..
()2729 /
{ ذَرََأكُمْ[ } ..المؤمنون ]79 :بثكم ونشركم في أنحاء الرض لتعمر كلها ،وتعجب حين ترى أناسا
متشبثين بالجبال والصحراء القفر الجرداء ،ول يرضون بها بديلً ،ويتحملون في سبيل البقاء بها
العَنَت والمشقة ،حتى إنك لتقول :لماذا ل يتركون هذا المكان إلى مكان خصب.
وقد رأينا مثل هؤلء الذين صبروا على أقدار ال في بلدهم ،رأيناهم في اليمن بعد أن أغرقها
سيل العرم ،وكانت تُسمّى " اليمن السعيد " ورأيناهم في السعودية وفي الكويت ،وحكى لنا أهل
هذه البلد ما كانوا فيه من الضيق وقسوة الحياة ،ثم جاءتهم عاقبة صبرهم ،وجعل ال -سبحانه
وتعالى -هذه الجبال وهذه الصحراوات أغنى بلد الدنيا؛ لنهم َرضُوا في الولى بقضاء ال،
فأبدلهم بصبرهم على لواء الصحراء نعيما ،لو حُرِم منه المنعّمون في الدنيا لماتوا من البرد.
ذلك لن الخالق -عز وجل -نثر خيراته في كل أنحاء الرض بالتساوي ،فكل قطعة طولية من
الرض فيها من الخيرات مثل ما في القطعة الخرى ،وفي يوم من اليام كان أصحاب الزرع هم
أصحاب المال وأصحاب السيادة ،ثم تغيرت هذه الصورة بظهور خَيْرات أخرى غير الزراعة،
فالخيرات -إذن -مطمورة في أنحاء الرض لكن لها أوان تظهر فيه.
إذن :ف َبثّ الخليقة ونشْرُها في أنحاء الرض له حكمة أرادها الخالق عز وجل.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
حشَرُونَ } [المؤمنون ]79 :يعني :ل تفهموا أنكم بنشركم في
ثم يقول الحق سبحانه { :وَإِلَ ْيهِ تُ ْ
الرض وتفريقكم فيها أنكم تفلتون منا ،أو أننا ل نقدر على جمعكم مرة أخرى ،فكما نشرناكم
لحكمة نجمعكم لحكمة ل يخرج من أيدينا أحد.
لفُ.} ..
ثم يقول الحق سبحانه { :وَ ُهوَ الّذِي يُحْيِي وَ ُيمِيتُ وَلَهُ اخْتِ َ
()2730 /
وَ ُهوَ الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ وَلَهُ اخْ ِتلَافُ اللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ ()80
{ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ[ } ..المؤمنونِ ]80 :فعْلن ل بُدّ أن ينشآ بعد وجود الحياة ووجود الموت ،فالخالق
-عز وجل -يُوجِد الحياة أولً ،ويوجد الموت ،ثم يجري حدثا منهما على ما يريده.
ت الموت في كل اليات ،إل في آية واحدة في سورة تبارك {:الّذِي خََلقَ ا ْل َم ْوتَ
والحياة سبق ْ
وَالْحَيَاةَ[} ..الملك ]2 :وعِلّة ذلك أن ال تعالى يعطي للنسان بالحياة إرادةً تُنشِيء الحركة في كل
أجهزته ،ولك أن تتأمل :ما الذي تفعله إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ تحريك
يدك أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة وتتحرك أعضاؤك دون أن تدري أو تُجهد نفسك للقيام بهذه
الحركات ،ودون أن تباشر أي شيء.
إذن :بمجرد إرادتك تنفعل لك الجوارح وأنت مخلوق لربك ،فإذا كان المخلوق يفعل ما يريد بل
معالجة ،فكيف نستبعد هذا في حقّه -سبحانه وتعالى -ونكذب أنه يقول للشيء :كُنْ فيكون ،مع
أننا نفعل ما نريد بجوارحنا بمجرد الرادة ،ودون أن نأمرها بشيء أو نقول شيئا ،وال سبحانه
وتعالى يقول للشيء :كُنْ فيكون ،وأنت تفعل دون أن تقول.
وقد قدّم الحق سبحانه الموتَ في هذه الية {:الّذِي خََلقَ ا ْل َم ْوتَ وَا ْلحَيَاةَ[} ..الملك]2 :؛ لن الحياة
ستُورث النسانَ غرورا في سيطرة إرادته على جوارحه فيطغى ،فأراد ربه -عز وجل -أن
يُنبهه :تذكّر أنني أميتُ؛ ليستقبل الحياة ومعها نقيضها ،فيستقيم في حركة الحياة.
وصفة الخَلْق والماتة صفات ل قديمة قبل أنْ يخلق شيئا أو يميت شيئا؛ لنها صفات ثابتة ل قبل
أنْ يباشر متعلقات هذه الصفات كما قلنا ،ول المثل العلى :الشاعر حين يقول قصيدة قالها لنه
شاعر ول نقول :إنه شاعر لنه قال هذه القصيدة ،فلول صفة الشعر فيه ما قال.
وكما أن الحياة مخلوقة ،فالموت كذلك مخلوق ،وقد يقول قائل :إذا أطلقتَ رصاصة على شخص
أردَ ْتهُ قتيلً فقد خلقتَ الموت.
نقول :الحمد ل أنك لم تدّع الحياء واكتفيتَ بالموت ،لكن فَرْق بين الموت والقتل ،القتل َنقْض
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
للبِنْية يتبعه إزهاق للروح ،أما الموت فتخرج الروح أولً دون َنقْض للبنية.
سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا
حمّدٌ ِإلّ َرسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ
لذلك يقول سبحانهَ {:ومَا مُ َ
عقَا ِبكُمْ[} ..آل عمران.]144 :
أَ ْ
والنمرود الذي حَاجّ إبراهيم -عليه السلم -في ربه أمر بقتل واحد وتَرْك الخر ،وادّعى أنه
ق لمرَ
أحيا هذا ،وأمات هذا ،وكانت منه هذه العمال سفسطة ل معنى لها ،ولو كان على حَ ّ
بإحياء هذا الذي قتله؛ لذلك قطع عليه إبراهيم -عليه السلم -هذا الطريق ونقله إلى مجال آخر
ل يستطيع المراوغة فيه.
إذن :هَدْم البِنْية يتبعه خروج الروح؛ لن للروح مواصفات خاصة ،بحيث ل تحل إل في بنية
سليمة ،وقد أوضحنا هذه المسألة -ول المثل العلى -بلمبة الكهرباء ،فقوة الكهرباء كامنة في
السلك ل نرى نورها إل وضعنا اللمبة مكانها ،ويكون لها مواصفات بحيث ل تضيء إل إذا
توفرتْ لها هذه الصفات ،فإنْ كُسِرَت ينطفيء نورها.
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
جعَلْنَا ال ّنهَارَ َمعَاشا }[النبأ.]11 - 10 :
جعَلْنَا الّيلَ لِبَاسا * وَ َ
ال تعالى {:وَ َ
سهَر ،مثل
ومن ِدقّة الداء القرآني أن يراعي هؤلء الذين يعملون ليلً ،وتقتضي طبيعة أعمالهم ال ّ
رجال الشرطة وعمال المخابز وغيرهم ،فيقول تعالىَ {:ومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالّيلِ وَال ّنهَارِ[} ..الروم:
]23فالليل هو الصل ،والنهار لمثل هؤلء الذين يخدمون المجتمع ليلً؛ لذلك عليهم أن يجعلوا
من النهار ليلً صناعيا ،فيغلقوا النوافذ ويناموا في مكان هادئ؛ ليأخذ الجسم حظه من الراحة
والهدوء.
إذن :الليل والنهار ليسا ضِدّيْن ،إنما هما خَلْقان متكاملن ل متعاندان ،وهما كالذكَر والنثى ،يُكمل
كل منها الخر ،ل كما يدّعي البعض أنهما ضدان متقابلن؛ لذلك بعد أن أقسم الحق سبحانه بالليل
إذا يغشى ،وبالنهار إذا تجلّى ،قال:
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
فنحن نرى الليل يخلُف النهار ،والنهار يخلُف الليل ،لكن احكم القضية في كل أطوار زمنها ،فما
دام الحق -سبحانه وتعالى -جعل الليل والنهار خِلْفة ،فل بُدّ أن يكون ذلك من بداية خلقهما ،فلو
وُجِد الليل أولً ثم وُجِد النهار ،فل يكون الليل خِلْفة؛ لنه لم يسبقه شيء ،فهذا يعني أنهما خُلقا
معا ،فلما دار الزمن خلف بعضهما الخر ،وهذا ل ينشأ إل إذا كانت الرض مُكوّرة ،بحيث
يجتمع فيها الليل والنهار في وقت واحد ،فالذي واجه الشمس كان نهارا ،والذي واجه الظلمة كان
ليلً.
ثم يقول سبحانهَ } :أفَلَ َت ْعقِلُونَ { [المؤمنون ]80 :لن هذه المسائل كان يجب أن تعقلوها خاصة،
وقد كانت اختلفات الوقات مَبْنية على التعقل ،أما الن فهي مَبْنية على النقل ،حيث تقاربت
المسافات ،وصِرْنا نعرف فارق التوقيت بيننا وبين جميع أنحاء العالم بالتحديد.
كذلك كان الناس في الماضي ينكرون نظرية كروية الرض ،حتى بعد أن التقطوا لها صورا
أظهرت كرويتها وجدنا من مفكرينا من ينكر ذلك.
ونقول :لماذا نقف هذا الموقف من نظريات ثابتة قد سبق قرآنُنَا إلى هذا القول؟ ولماذا نعطي
الخرين فكرة أن ديننا يغفل هذه المسائل ،مع أنه قد سبق كل هذه الكتشافات؟
ولو تأملتَ قوله تعالى {:وَ ُهوَ الّذِي مَ ّد الَ ْرضَ[} ..الرعد ]3 :لوجدت فيه الدليل القاطع على
صِدْق هذه النظرية؛ لن الرض الممدودة هي التي ل تنتهي إلى حافة ،وهذا ل يتأتّى إل إذا
كانت الرض كروية بحيث تسير فيها ،ل تجد لها نهاية حتى تصل إلى الموضع الذي منه بدأت،
ولو كانت الرض على أي شكل آخر غير الكروي مثل المربع أو المستطيل لكان لها نهاية .لكن
لم تتوفر لنا في الماضي اللت التي تُوضّح هذه الحقيقة وتُظهرها.
إذن :الحق سبحانه في قولهَ } :أفَلَ َت ْعقِلُونَ { [المؤمنون ]80 :ينبهنا إلى ضرورة إعمال العقول
في المسائل الكونية؛ لنها ستوفر علينا الكثير في الطريق إلى ال عز وجل ،ولماذا يُعمِل النسان
عقله ويتفنّن مثلً في ارتكاب الجرائم فَيُرتب لها ويُخطط؟ لكن ال تعالى يكون له بالمرصاد
فيُوقِعه في مَزْلَق ،فيترك وراءه منفذا لثبات جريمته ،وثغرة تُوصّل إليه؛ لذلك يقول رجال
القضاء :ليست هناك جريمة كاملة ،وهذه مهمة القاضي أو المحقق الذي يحاور المجرم ليصل إلى
هذه الثغرة.
وكأن الحق -سبحانه وتعالى -يقول :لقد استخدمتَ عقلك فيما ل ينبغي ،وسخّرْته لشهوات
نفسك ،فل ُبدّ أن أوقعك في مزلق ينكشف فيه أمرك ،فإنْ سترتها عليك مرة فإياك أنْ تتمادى ،أو
تظنّ أنك أفلتّ بعقلك وترتيبك وإلّ أخذتُك ولو بجريمة لم تفعلها؛ لنك ل تستطيع أن تُرتّب بعقلك
على ال ،وعدالته سبحانه فوق كل ترتيب.
كما لو ُفضِح إنسان بأمر هو منه بريء ،ولحقه الذى والضرر بسبب هذه الدانة الكاذبة ،فتأتي
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا
عدالة السماء فيستر ال عليه فضيحة فعلها جزاءً لما قد أصابه في الولى ،وهذه مسألة ل يفعلها
إل رب.
والحق -سبحانه وتعالى -حينما يُنبّه العقل ويثيره :تفكّر ،تدبّر ،تعقّل ،ليدرك الشياء الكونية من
حوله ،فهذا دليل على أنه سبحانه واثق من صَنْعته وإبداعه لكونه؛ لذلك يثير العقول للبحث
وللتأمل في هذه الصنعة.
وهذه المسألة نلحظها فيمَنْ يعرض صَنْعته من البشر ،فالذي يتقن صَنْعته يعرضها ويدعوك إلى
اختبارها والتأكد من جودتها على خلف الصنعة الرديئة التي يلّفها لك صانعها ،ويصرفك عن
تأملها حتى ل تكتشف عيبها.
فحين ينبهك ربك إلى التأمل في صَنْعته فعليك أنْ تدرك المغزى من هذه الثارة لتصل إلى مراده
تعالى لك.
ثم يقول الحق سبحانهَ } :بلْ قَالُواْ مِ ْثلَ مَا قَالَ الَوّلُونَ {.
()2731 /
/http://www.daardesign.com/forum
منتدى دارنا