You are on page 1of 238

‫تفسير الشعراوي‬

‫سعِيرِ (‪)4‬‬
‫عذَابِ ال ّ‬
‫كُ ِتبَ عَلَ ْيهِ أَنّهُ مَنْ َتوَلّاهُ فَأَنّهُ ُيضِلّ ُه وَ َيهْدِيهِ إِلَى َ‬

‫أي‪ :‬كتب ال على هذا الشيطان المريد‪ ،‬وحكم عليه حُكما ظاهرا‪ ،‬هكذا (عيني عينك) كما يقال‬
‫سعِيرِ }‬
‫لهُ‪[ } ...‬الحج‪ ]4 :‬أي‪ :‬تابعه وسار خلفه { فَأَنّهُ ُيضِلّ ُه وَ َيهْدِيهِ إِلَىا عَذَابِ ال ّ‬
‫{ أَنّهُ مَن َت َو ّ‬
‫ضدّان‪ ،‬فكيف نجمع بينهما؟‬
‫[الحج‪ ]4 :‬يضله ويهديه ِ‬
‫المراد‪ُ :‬يضِلّه عن طريق الحق والخير‪ ،‬ويهديه أي‪ :‬للشر؛ لن معنى الهداية‪ :‬الدللة مُطْلقا‪ ،‬فإن‬
‫دل ْلتَ على خير فهي هداية‪ ،‬وإن دللتَ على شر فهي أيضا هداية‪.‬‬
‫جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْبُدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ‬
‫حشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُو ْا وَأَ ْزوَا َ‬
‫واقرأ قوله سبحانه وتعالى‪ {:‬ا ْ‬
‫جحِيمِ }[الصافات‪.]23 - 22 :‬‬
‫فَاهْدُو ُهمْ إِلَىا صِرَاطِ الْ َ‬
‫أي‪ :‬دُلّوهم وخُذوا بأيديهم إلى جهنم‪.‬‬
‫ويقول تعالى في آية أخرى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ كَفَرُو ْا وَظََلمُواْ لَمْ َيكُنِ اللّهُ لِ َي ْغفِرَ َلهُ ْم َولَ لِ َيهْدِ َيهُمْ طَرِيقا *‬
‫جهَنّمَ‪[} ..‬النساء‪.]169 - 168 :‬‬
‫ِإلّ طَرِيقَ َ‬
‫والسّعير‪ :‬هي النار المتوهّجة التي ل تخمد ول تنطفئ‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬ياأَ ّيهَا النّاسُ إِن كُن ُتمْ فِي رَ ْيبٍ مّنَ الْ َب ْعثِ فَإِنّا خََلقْنَاكُمْ مّن تُرَابٍ ثُمّ مِن‬
‫طفَةٍ ُثمّ مِنْ عََلقَةٍ ثُمّ‪.} ..‬‬
‫نّ ْ‬

‫(‪)2581 /‬‬

‫طفَةٍ ثُمّ مِنْ عََلقَةٍ ثُمّ مِنْ‬


‫يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَ ْيبٍ مِنَ الْ َب ْعثِ فَإِنّا خََلقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ مِنْ نُ ْ‬
‫طفْلًا ُثمّ‬
‫جكُمْ ِ‬
‫سمّى ُثمّ نُخْ ِر ُ‬
‫جلٍ ُم َ‬
‫ضغَةٍ مُخَّلقَ ٍة وَغَيْرِ مُخَّلقَةٍ لِنُبَيّنَ َلكُ ْم وَ ُنقِرّ فِي الْأَ ْرحَامِ مَا َنشَاءُ إِلَى َأ َ‬
‫ُم ْ‬
‫لِتَبُْلغُوا أَشُ ّد ُك ْم َومِ ْنكُمْ مَنْ يُ َت َوفّى َومِ ْنكُمْ مَنْ يُرَدّ إِلَى أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ ِلكَيْلَا َيعْلَمَ مِنْ َبعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى‬
‫ت وَرَ َبتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ (‪)5‬‬
‫الْأَ ْرضَ هَامِ َدةً فَِإذَا أَنْزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَاءَ اهْتَ ّز ْ‬

‫قوله‪ { :‬ياأَ ّيهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَ ْيبٍ مّنَ الْ َب ْعثِ‪[ } ..‬الحج‪.]5 :‬‬
‫الريب‪ :‬الشك‪ .‬فالمعنى‪ :‬إنْ كنتم شاكّين في مسألة البعث‪ ،‬فإليكم الدليل على صِدْقه { فَإِنّا خََلقْنَاكُمْ‬
‫مّن تُرَابٍ‪[ } ..‬الحج‪ ]5 :‬أي‪ :‬الخَلْق الول‪ ،‬وهو آدم عليه السلم‪ ،‬أما جمهرة الناس بعد آدم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فخُلِقوا من (نطفة) حية من إنسان حي‪.‬‬
‫والمتتبع ليات القرآن يجد الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يقول مرة في خَلْق النسان‪ { :‬مّن تُرَابٍ‪} ..‬‬
‫حمَإٍ مّسْنُونٍ‪} ..‬‬
‫[الحج‪ ،]5 :‬ومرة{ مِن مّآءٍ‪[} ..‬الطارق‪ ،]6 :‬و{ مّن طِينٍ‪[} ..‬النعام‪ ،]2 :‬و{ مّنْ َ‬
‫[الحجر‪ ،]26 :‬و{ مِن صَ ْلصَالٍ كَا ْلفَخّارِ‪[} ..‬الرحمن‪ ]14 :‬وهذه التي دعتْ المستشرقين إلى‬
‫العتراض على أسلوب القرآن‪ ،‬يقولون‪ :‬من أيّ هذه الشياء خُِلقْتم؟‬
‫وهذا العتراض ناشيء من عدم َفهْم لغة القرآن‪ ،‬فالتراب والماء والطين والحمأ والمسنون‬
‫والصلصال‪ ،‬كلها مراحل متعددة للشيء الواحد‪ ،‬فإذا وضعتَ الماء على التراب صار طينا‪ ،‬فإنْ‬
‫تركتَ الطين حتى يتخمّر‪ ،‬ويتداخل بعضه في بعض حتى ل تستطيع أنْ تُميّز عنصرا فيه عن‬
‫ف فهو صلصال‬
‫ج ّ‬
‫الخر‪ .‬وهذا عندما يعطَنُ وتتغير رائحته يكون هو الحمأ المسنون‪ ،‬فإنْ َ‬
‫كالفخار‪ ،‬ومنه خلق الُ النسان وصوّره‪ ،‬ونفخ فيه من روحه‪ ،‬إذن‪ :‬هذه مراحل للشيء الواحد‪،‬‬
‫ومرور الشيء بمراحل مختلفة ل يُغيّره‪.‬‬
‫طفَةٍ‪[ } ..‬الحج‪:‬‬
‫ثم تكلم سبحانه عن الخَلْق الثاني بعد آدم عليه السلم‪ ،‬وهم ذريته‪ ،‬فقال‪ { :‬مِن نّ ْ‬
‫‪ ]5‬والنطفة في الصل هي قطرة الماء العَذْب‪ ،‬كما جاء في قول الشاعر‪َ :‬بقَايَا ِنطَافٍ أو َدعَ الغيمُ‬
‫صَ ْفوَهَا مُثقّلَةُ الرجَاء زُرْقُ الجَوانبِول تظهر زُرْقة الماء إل إذا كان صافيا ل يشوبه شيء‪،‬‬
‫وكذلك النطفة هي خلصة الخلصة‪ ،‬لن جسم النسان تحدث فيه عملية الحتراق‪ ،‬وعملية‬
‫اليض أي‪ :‬الهدم والبناء بصفة مستمرة ينتج عنها خروج الفضلت المختلفة من الجسم‪ :‬فالبول‪،‬‬
‫والغائط‪ ،‬والعرق‪ ،‬والدموع‪ ،‬وصَمْغ الذن‪ ،‬كلها فضلت ناتجة عن احتراق الطعام بداخل الجسم‬
‫حيث يمتص الجسم خلصة الغذاء‪ ،‬وينقلها إلى الدم‪.‬‬
‫ومن هذه الخلصة يُستخلص منيّ النسان الذي تؤخذ منه النطفة‪ ،‬فهو ‪ -‬إذن ‪ -‬خلصة‬
‫صفّاها‬
‫الخلصة في النسان‪ ،‬ومنه يحدث الحمل‪ ،‬ويتكّون الجنين‪ ،‬وكأن الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬قد َ‬
‫هذه التصفية ونقّاها كل هذا النقاء؛ لنها ستكون أصْلً لكرم مخلوقاته‪ ،‬وهو النسان‪.‬‬
‫وهذه النطفة ل تنزل من النسان إل في عملية الجماع‪ ،‬وهي ألذّ متعة في وجود النسان الحيّ‪،‬‬
‫لماذا؟ لو تأملتَ متعة النسان ولذاته الخرى مثل‪ :‬لذة ال ّذوْق‪ ،‬أو الشم‪ ،‬أو الملمس‪ ،‬فهي لذّاتٌ‬
‫معروفة محددة بحاسّة معينة من حواس النسان‪ ،‬أمّا هذه اللذة المصاحبة لنزول المنيّ أثناء هذه‬
‫العملية الجنسية فهي لذة شاملة يهتز لها الجسم كله‪ ،‬ول تستطيع أنْ تُحدّد فيها منطقة الحساس‪،‬‬
‫بل كل ذرة من ذرات الجسم تحسها‪.‬‬

‫لذلك أمرنا ربنا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬أن نغتسل بعد هذه العملية؛ لنها شغلتْ كل ذرة من ذرات‬
‫تكوينك‪ ،‬وربما ‪ -‬عند العارفين بال ‪ -‬ل تغفل عن ال تعالى إل في هذه اللحظة؛ لذلك كان المر‬
‫بالغتسال بعدها‪ ،‬هو قول العلماء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أما أهل المعرفة عن ال وأهل الشطح وأهل الفيوضات فيقولون‪ :‬إن ال خلق آدم من طين‪ ،‬وجعل‬
‫نَسْله من هذه النطفة الحية التي وضعها في حواء‪ ،‬ثم أتى منها كل الخَلْق بعده‪ ،‬فكأن في كل واحد‬
‫سلٌ بعد آدم‪ ،‬فهذه الذرة موجودة‬
‫منا ذرة من أبيه آدم؛ لنه لو طرأ على هذه الذرة موت ما كان َن ْ‬
‫فيك في النطفة التي تلقيها ويأتي منها ولدك‪ ،‬وهي أصْفى شيء فيك؛ لنها الذرة التي شهدتْ‬
‫الخَلْق الول خَلْق أبيك آدم عليه السلم‪.‬‬
‫وقد قرّبنا هذه المسألة وقلنا‪ :‬لو أنك أخذت سنتيمترا من مادة ملونة‪ ،‬ووضعته في قارورة ماء‪ ،‬ثم‬
‫ج القارورة حتى اختلط الماء بالمادة الملونة فإن كل قطرة من الماء بها ذرة من هذه‬
‫أخذتَ تر ّ‬
‫ت القارورة في برميل‪..‬الخ‪.‬‬
‫المادة‪ ،‬وهكذا لو ألقي َ‬
‫إذن‪ :‬فكل إنسان مِنّا فيه ذرة من أبيه آدم عليه السلم‪ ،‬هذه الذرة شهدتْ خَلْق آدم‪ ،‬وشهدتْ العهد‬
‫ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُمْ‬
‫الول الذي أخذه ال على عباده في قوله تعالى‪ {:‬وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَادَمَ مِن ُ‬
‫ستُ بِرَ ّبكُمْ‪[} ..‬العراف‪.]172 :‬‬
‫سهِمْ أََل ْ‬
‫شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫وَأَ ْ‬
‫لذلك؛ يُسمّي ال تعالى إرسال الرسل َبعْثا فيقول‪َ {:‬ب َعثَ اللّهُ رَسُولً }[الفرقان‪ ]41 :‬بعثه‪ :‬كأنه كان‬
‫ظهْر آدم عليه‬
‫موجودا وله َأصْل في رسالة مباشرة من ال حين أخذ العهد على عبادة‪ ،‬وهم في َ‬
‫السلم‪ ،‬كما يخاطب الرسول بقوله‪َ {:‬ف َذكّرْ إِ ّنمَآ أَنتَ مُ َذكّرٌ }[الغاشية‪ ]21 :‬أي‪ :‬مُذكّر بالعهد القديم‬
‫الذي أخذناه على أنفسنا‪.‬‬
‫ستُ‬
‫سهِمْ أَلَ ْ‬
‫ش َهدَهُمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِهِمْ ذُرّيّ َتهُ ْم وَأَ ْ‬
‫لذلك اقرأ الية‪ {:‬وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ‬
‫ش ِهدْنَآ‪[} ..‬العراف‪.]172 :‬‬
‫بِرَ ّبكُمْ قَالُواْ بَلَىا َ‬
‫ن يأتي الهوى في النفوس{ أَن َتقُولُواْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا‬
‫هذا في مرحلة الذّرّ قبل أ ْ‬
‫غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ َأشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْبلُ َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْ ِدهِمْ َأفَ ُتهِْلكُنَا ِبمَا َف َعلَ ا ْلمُبْطِلُونَ }‬
‫[العراف‪]173 - 172 :‬‬
‫إذن‪ :‬بعث ال الرسل لتُذكّر بالعهد الول‪ ،‬حتى ل تحدث الغفلة‪ ،‬وحتى تقيم على الناس الحجة‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ُ } :‬ثمّ مِنْ عََلقَةٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬سمّيت النطفة علقة؛ لنها تعلَقُ بالرحم‪ ،‬يقول تعالى‬
‫سوّىا }[القيامة‪.]38 - 37 :‬‬
‫طفَةً مّن مّ ِنيّ ُيمْنَىا * ثُمّ كَانَ عََلقَةً فَخََلقَ فَ َ‬
‫في آية أخرى‪ {:‬أََلمْ َيكُ نُ ْ‬
‫فالمنيّ هو السائل الذي يحمل النطفة‪ ،‬وهي الخلصة التي يتكوّن منها الجنين‪ ،‬والعَلَقة هنا هي‬
‫البُو ْيضَة المخصّبة‪ ،‬فبعد أنْ كان للبويضة تعلّق بالم‪ ،‬وللحيوان المنوي (النطفة) تعلّق بالب‪،‬‬
‫اجتمعا في تعلّق جديد والتقيَا ليتشبّثا بجدار الرحم‪ ،‬وكأن فيها ذاتية تجعلها تعلَق بنفسها‪ ،‬يُسمّونها‬
‫(زيجوت)‪.‬‬

‫ومنها قولهم‪ :‬فلن هذا مثل العلقة إذ كان ملزما لك‪.‬‬


‫ضغَةٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬والمضغة‪ :‬هي قطعة لحم‬
‫بعد ذلك تتحول العلقة إلى مضغة } ُثمّ مِن ّم ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صغيرة َقدْر ما يُمضغ من الطعام‪ ،‬وهو خليط من عِدّة أشياء‪ ،‬كما لو أكلتَ مثلً قطعة لحم مع‬
‫ملعقة خضار مع ملعقة أرز‪ ،‬وبالمضغ يتحوّل هذا إلى خليط‪ ،‬ذلك لن جسم النسان ل يتكّون من‬
‫عنصر واحد‪ ،‬بل من ستة عشر عنصرا‪.‬‬
‫خّلقَةٍ وَغَيْرِ ُمخَّلقَةٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬معنى مخلقة يعني‪ :‬يظهر عليها هيكل الجسم‪،‬‬
‫هذه المضغة } مّ َ‬
‫وتتشكّل على صورته‪ ،‬فهذه للرأس‪ ،‬وهذه للذراع‪ ،‬وهذه للرّجْل وهكذا‪ ،‬يعني تخلّقتْ على هيئة‬
‫النسان‪.‬‬
‫أما غير المخلّقة‪ ،‬فقد عرفنا مؤخرا أنها الخليا التي تُعوّض الجسم وتُرقّعه إذا أصابه عَطَب فهي‬
‫بمثابة (احتياطي) لعادة تركيب ما تلف من أنسجة الجسم وترميمها‪ ،‬كما يحدث مثلً في حالة‬
‫الجُرْح فإنْ تركتَه لطبيعة الجسم يندمل شيئا فشيئا‪ ،‬دون أنْ يتركَ أثرا‪.‬‬
‫نرى هذا في أولد الفلحين‪ ،‬حين يُجرح الواحد منهم‪ ،‬أو تظهر عنده بعض الدمامل‪ ،‬فيتركونها‬
‫لمقاومة الجسم الطبيعية‪ ،‬وبعد فترة تتلشى هذه الدمامل دون أنْ تتركَ أثرا على الطلق؛ لنهم‬
‫تركوا الجسم للصيدلية الربانية‪.‬‬
‫أما إذا تدخّلنا في الجُرْح بمواد كيماوية إو خياطة أو خلفه فل ُبدّ أن يترك أثرا‪ ،‬فترى مكانه‬
‫لمعا؛ لن هذه المواد أتلفت مسام الجسم؛ لذلك نجد مثل هذه الماكن من الجسم قد تغيرتْ‪ ،‬ويميل‬
‫حكّها (وهرشها)؛ لن هذه المسام كانت تُخرِج بعض فضلت الجسم على هيئة عرق‪،‬‬
‫النسان إلى َ‬
‫فلما انسدت هذه المسام سببت هذه الظاهرة‪ .‬هذا كله لننا تدخّلْنا في الطبيعة التي خلقها ال‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فمعنى } وَغَيْرِ مُخَّلقَةٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬هي الصيدلية التي تُعوّض وتُعيد بناء ما تلف من جسم‬
‫النسان‪.‬‬
‫سمّى‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬أي‪:‬‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬لّنُبَيّنَ َل ُك ْم وَ ُنقِرّ فِي الَرْحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىا أَ َ‬
‫نُوضّح لكم كل ما يتعلّق بهذه المسألة } وَ ُنقِرّ فِي الَرْحَامِ مَا نَشَآءُ‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬وهي المضْغة‬
‫سمّى‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬أو‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫ن يولد؛ لذلك قال‪ } :‬إِلَىا أَ َ‬
‫التي قُدّر لها أنْ تكون جنينا يكتمل إلى أ ْ‬
‫نسقطه ميتا قبل ولدته‪.‬‬
‫ن قلتَ‪ :‬وما الحكمة من خَلْقه وتصويره‪ ،‬إنْ كان قد ُقدّر له أنْ يموت جنينا؟ نقول‪ :‬لنعرف أن‬
‫فإ ْ‬
‫الموت أمر ُمطْلق ل رابطَ له ول سِنّ‪ ،‬فالموت يكون للشيخ كما يكون للجنين في بطن أمه‪ ،‬ففي‬
‫ي وقت ينتهي الجل‪.‬‬
‫أ ّ‬
‫ج ُكمْ‪[ { ..‬الحج‪]5 :‬بصيغة الجمع ولم‬
‫طفْلً‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬قال‪ُ } :‬نخْرِ ُ‬
‫ج ُكمْ ِ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬ثُمّ ُنخْرِ ُ‬
‫طفْلً‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬بصيغة المفرد‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬في اللغة ألفاظ يستوي فيها‬
‫يقُلْ‪ :‬أطفالً إنما } ِ‬
‫المفرد والجمع‪ ،‬فطفل هنا بمعنى أطفال‪ ،‬وقد وردتْ أطفال في موضع آخر في قوله سبحانه‪:‬‬

‫طفَالُ مِنكُمُ ا ْلحُلُمَ‪[} ..‬النور‪.]59 :‬‬


‫{ وَإِذَا بَلَ َغ الَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عدْل‪ ،‬ورجال عَدْل‪ .‬وفي قصة سيدنا إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬يتكلم عن‬
‫وكما تقول هذا رجل َ‬
‫ع ُدوّ لِي‪[} ..‬الشعراء‪ ]77 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬أعداء‪ .‬وحينما تكلم عن ضَيْفه قال‪{:‬‬
‫الصنام فيقول‪ {:‬فَإِ ّنهُمْ َ‬
‫َهؤُل ِء ضَيْفِي‪[} ..‬الحجر‪ ]68 :‬ولم يقل‪ :‬ضيوفي‪ ،‬إذن‪ :‬المفرد هنا يُؤدّي معنى الجمع‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ُ } :‬ثمّ لِتَبُْلغُواْ أَشُ ّد ُكمْ‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬وهكذا‪ ،‬وسبق أنْ تحدّثنا عن مراحل عمر‬
‫النسان‪ ،‬وأنه يمر بمرحلة الرّشْد‪ :‬رُشْد البنية حين يصبح قادرا على إنجاب مثله‪ ،‬ورُشْد العقل‬
‫حين يصبح قادرا على التصرّف السليم‪ ،‬ويُحسن الختيار بين البدائل‪.‬‬
‫ثم تأتي مرحلة الشد‪ {:‬حَتّىا ِإذَا بَلَغَ أَشُ ّدهُ‪[} ..‬الحقاف‪ ]15 :‬يعني‪ :‬نضج ُنضْجا من حوادث‬
‫الحياة أيضا‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪َ } :‬ومِنكُمْ مّن يُ َت َوفّىا َومِنكُمْ مّن يُرَدّ إِلَىا أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬وأرذل العمر‬
‫خوَر والضعف } ِلكَيْلَ َيعْلَمَ مِن َبعْدِ عِ ْلمٍ شَيْئا‪{ ..‬‬
‫يعني رديئه‪ ،‬حين تظهر على النسان علمات ال َ‬
‫[الحج‪ ]5 :‬لنه ينسى‪ ،‬وعندها يعرف أن صحته وقوته وسلطانه ليست ذاتية فيه‪ ،‬إنما موهوبة له‬
‫من ال‪.‬‬
‫وإذا بلغ الرجل أرذلَ العمر يعود من جديد إلى مرحلة الطفولة تدريجيا‪ ،‬فيحتاج لمَنْ يأخذ بيده‬
‫ليقوم أو ليمشي‪ ،‬كما تأخذ بيد الطفل الصغير‪ ،‬فإذا تكلّم يتهته ويتلعثم كالطفل الذي يتعلم الكلم‪..‬‬
‫وهكذا في جميع شئونه‪.‬‬
‫لذلك يقولون‪ :‬الزواج المبكر أقرب طريق لنجاب (والد) يعولُك في طفولة شيخوختك‪ ،‬ولم ي ُقلْ‪:‬‬
‫ولدا؛ لنه سيقوم معك فيما بعد بدوْر الوالد‪ ،‬يقولون‪ :‬لحق والده يعني سنّهما متقارب‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا يُ َر ّد بعضنا إلى أرذل العمر دون بعض؟ الحق سبحانه جعلها نماذج حتى ل نقول‪ :‬يا‬
‫ل العمر لصبح المر صعبا علينا‪ ،‬فمن‬
‫ليت أعمارنا تطول؛ لن أعمار الجميع لو طالتْ إلى أر َذ ِ‬
‫رحمة ال بنا أنْ خلق الموت‪.‬‬
‫ت وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ‬
‫ت وَرَ َب ْ‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَتَرَى الَ ْرضَ هَامِ َدةً فَِإذَآ أَنزَلْنَا عَلَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّز ْ‬
‫َبهِيجٍ { [الحج‪]5 :‬‬
‫أي‪ :‬كما كان خَلْق النسان من تراب‪ ،‬ثم من نطفة‪ ،‬ثم من علقة‪ ،‬ثم من ُمضْغة مُخلّقة وغير‬
‫ن مات‪ ،‬ومنهم مَنْ يُرَدّ إلى أرذَل العمر‪ ،‬كذلك الحال‬
‫مُخلّقة‪ ،‬ثم أخرجه طفلً‪ ،‬وبلغ َأشُ ّدهُ‪ ،‬ومنهم مَ ْ‬
‫في الرض‪ } :‬وَتَرَى الَ ْرضَ هَامِ َدةً‪[ { ..‬الحج‪.]5 :‬‬
‫علَ ْيهَا ا ْلمَآءَ اهْتَ ّزتْ‪[ { ..‬الحج‪]5 :‬‬
‫هامدة‪ :‬ساكنة‪ ،‬ومنه قولنا للولد كثيرالحركة‪ :‬اهمد } فَِإذَآ أَنزَلْنَا َ‬
‫أي‪ :‬تحركتْ ذراتُها بالنبات بعد سكونها‪.‬‬
‫والهتزاز‪ :‬تحرّك ما كنت تظنه ثابتا‪ ،‬وليس ما كان ثابتا في الواقع؛ لن لكل كائن حركة في‬
‫ذاته‪ ،‬حتى قطعة الحديد الجامدة لها حركة بين ذراتها‪ ،‬لكن ليس لديْك من وسائل الدراك ما‬
‫تدرك به هذه الحركة‪ .‬ولو تأملت المغناطيس لدركتَ هذه الحركة بين ذراته‪ ،‬فحين تُدلّك القضيب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الممغنط وتُمرّره على قضيب آخر غير مُمغنط في اتجاه واحد‪ ،‬فإنه يكتسب منه المغناطيسية‪،‬‬
‫وتمرير المغناطيس في اتجاه واحد معناه تعديل للذرات لتحمل شحنة واحدة سالبة أو موجبة‪ ،‬فإن‬
‫اختلف اتجاه الدّلْك فإن الذرات أيضا تختلف‪.‬‬

‫إذن‪ :‬في الحديد ‪ -‬رمز الصلبة والجمود ‪ -‬حركة وحياة تناسبه‪ ،‬وإنْ خُيّل إليك أنه أصمّ جامد‬
‫في ظاهرة‪.‬‬
‫لذلك نقول } هَامِ َدةً‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬يعني‪ :‬ساكنة في َرأْي العلم‪ ،‬حيث ل نباتَ فيها ثم } اهْتَ ّزتْ‪{ ..‬‬
‫[الحج‪ ]5 :‬يعني‪ :‬زادتْ ورَ َبتْ وتحركتْ لخراج النبات‪ ،‬إنما هي في الحقيقة لم تكُنْ ساكنة‬
‫مُطْلقا؛ لن فيها حركة ذاتية بين ذراتها‪.‬‬
‫ومعنى‪ } :‬وَرَ َبتْ‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬أي‪ :‬زادت عن حجمها‪ ،‬كما تزيد حبة الفول مثلً حين تُوضَع في‬
‫الماء‪ ،‬وتأخذ حظها من الرطوبة‪ ،‬وكذلك في جميع البقول‪ ،‬وهذه الزيادة في حجم الحبة هي التي‬
‫تفلقها إلى فلقتين في عملية النبات‪ ،‬ويخرج منها زبان يتجه إلى أعلى فيكون الساق الذي يبحث‬
‫عن الهواء‪ ،‬وإلى أسفل فيكون الجذر الذي يبحث عن الماء‪ .‬وتظل هاتان الفلقتان مصدرَ غذاءٍ‬
‫ن تمتصّ غذاءها من التربة‪ ،‬فإذا أ ّدتْ هاتان الفلقتان مهمتهما في‬
‫للنبتة حتى تقوى‪ ،‬وتستطيع أ ْ‬
‫تغذية النبتة تحوّلتَا إلى ورقتين‪ ،‬وهما أول ورقتين في تكوين النبتة‪.‬‬
‫كذلك‪ ،‬نلحظ في تغذية النبات أنه ل يأخذ ُكلّ غذائه من التربة‪ ،‬إنما يتغذى بنسبة ربما ‪ 90‬بالمائة‬
‫من غذائه من الهواء‪ ،‬وتستطيع أن تلحظ هذه الظاهرة إذا نظرتَ إلى إصيص به زرع‪ ،‬فسوف‬
‫تجد ما نقص من التربة كمية ل تُذكَر بالنسبة لحجم النبات الذي خرج منها‪.‬‬
‫وحين تتأمل جذر النبات تجد فيه آية من آيات ال‪ ،‬فالجذر يمتد إلى أن يصل إلى الرطوبة أو‬
‫الماء‪ ،‬حتى إذا وصل إلى مصدر غذائه توقّف‪ ،‬ولك أن تنظر مثلً إلى (كوز الحلبة) فسوف تجد‬
‫الجذور غير متساوية في الطول‪ ،‬بحسب بُعد الحبة عن مصدر الرطوبة‪.‬‬
‫} وَرَ َبتْ‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬أي‪ :‬زادت وانتفشتْ‪ ،‬كما يحدث في العجين حين تضع فيه الخميرة }‬
‫وَأَنبَ َتتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ { [الحج‪.]5 :‬‬
‫هذه صورة حيّة واقعية نلحظها جميعا عيانا‪ :‬الرض تكون جرداء ساكنة‪ ،‬ل حركةَ فيها‪ ،‬فإذا ما‬
‫نزل عليها الماء تغيرتْ وتحركتْ ذراتها وتشققتْ عن النبات‪ ،‬ولو حتى بالمطر الصناعي‪ ،‬كما‬
‫نرى في عرفة مثلً ينزل عليها المطر الصناعي فيخض ّر الوادي‪ ،‬لكن حينما ينقطع الماء يعود‬
‫كما كان لعدم موالة الماء‪ ،‬ولو واليتَ عليها بالماء لصارت غابات وأحراشا وبساتين كالتي نراها‬
‫في أوروبا‪.‬‬
‫سقِي المرتفع والمنخفض على السواء‪ ،‬على خلف‬
‫والمطر ل يحتاج أنْ تُسوّى له الرض؛ لنه ي ْ‬
‫الرض التي تسقيها أنت ل بُدّ أن تُسوّيها للماء حتى يصل إليها جميعا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا أنزل ال تعالى المطر على الرض الجدباء الجرداء تراها تتفتق بالنبات‪ ،‬فمن أين جاءت هذه‬
‫البذور؟ وكيف لم ُيصِبْها العطب‪ ،‬وهي في الرض طوال هذه الفترات؟ الرض هي التي تحفظها‬
‫من العطب إلى أن تجد البيئة المناسبة للنبات‪ ،‬وهذا النبات الذي يخرج من الرض دون تدخّل‬
‫عذْى)‪.‬‬
‫النسان يسمونه ( ِ‬

‫أما عن َنقْل هذه البذور في الصحراء وفي الوديان‪ ،‬فهي تنتقل بواسطة الريح‪ ،‬أو في َروَث‬
‫الحيوانات‪.‬‬
‫ومعنى‪ } :‬مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ { [الحج‪ ]5 :‬الزوج‪ :‬البعض يظن الزوج يعني الثنين‪ ،‬إنما الزوج‬
‫كلمة مفردة تدل على واحد مفرد معه مِثْله من جنسه‪ ،‬ففي قوله تعالى‪ {:‬وَأَنّهُ خَلَقَ ال ّز ْوجَيْنِ ال ّذكَرَ‬
‫وَالُنثَىا }[النجم‪ ]45 :‬فكل منهما زوج‪ ،‬وكما نقول‪ :‬زوج أحذية يعني فردة حذاء معها فردة‬
‫أخرى مثلها‪ ،‬ومثلها كلمة توأم يعني مولود معه مثله فكل واحد منهما يسمى (توأم) وهما معا‬
‫(توأمان) ول نقول‪ :‬هما توأم‪.‬‬
‫وهنا مظهر من مظاهر ِدقّة الداء القرآني‪ُ } :‬كلّ َزوْجٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]5 :‬لن كل المخلوقات‪ ،‬سواء‬
‫أكانت جمادا أو نباتا أو حيوانا‪ ،‬ل بُدّ فيه من ذكر وأنثى‪ ،‬هذه الزوجية قال ال فيها‪َ {:‬ومِن ُكلّ‬
‫شيْءٍ خََلقْنَا َز ْوجَيْنِ‪[} ..‬الذاريات‪ ]49 :‬حتى في الجماد الذي نظنه جمادا ل حركةَ فيه‪ ،‬يتكّون من‬
‫َ‬
‫زوجين‪ :‬سالب وموجب في الكهرباء‪ ،‬وفي الذرة‪ ،‬وفي المغناطيس‪ ،‬فكلّ شيء يعطي أعلى منه‪،‬‬
‫فل بُدّ فيه من زوجيْن‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالحق سبحانه وتعالى حينما عالج هذه المسألة عالجها برصيد احتياطي في القرآن‪ ،‬يقول‬
‫سهِ ْم َو ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس‪:‬‬
‫ض َومِنْ أَنفُ ِ‬
‫خلَق الَ ْزوَاجَ كُّلهَا ِممّا تُن ِبتُ الَ ْر ُ‬
‫سبحانه‪ {:‬سُبْحَانَ الّذِي َ‬
‫‪.]36‬‬
‫فقوله سبحانه‪َ {:‬و ِممّا لَ َيعَْلمُونَ }[يس‪ ]36 :‬رصيد عالٍ لما سيأتي به العلم من اكتشافات تثبت‬
‫صِدْق القرآن على مَرّ اليام‪ ،‬ففي الماضي عرفنا الكهرباء‪ ،‬وأنها سالب وموجب فقلنا‪ :‬هذه مما ل‬
‫نعلم‪ ،‬وفي الماضي القريب عرفنا الذرة فقلنا‪ :‬هذه مما ل نعلم‪ ،‬وفي الماضي القريب عرفنا الذرة‬
‫فقلنا‪ :‬هذه مما ل نعلم‪ ،‬وهذا وجه من وجوه العجاز في القرآن الكريم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬خُذْها قضية عامة‪ :‬كل شيء يتكاثر إلى أعلى منه‪ ،‬فل ُبدّ ان فيه زوجية‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ } :‬وَأَنبَتَتْ مِن ُكلّ َزوْجٍ َبهِيجٍ { [الحج‪ ]5 :‬فالزوج من النبات مفرد معه مثله‪ ،‬وهذا‬
‫واضح في لقاح الذكر والنثى‪ ،‬هذا اللقاح قد يكون في الذكر وحده‪ ،‬أو في النثى وحدها كما في‬
‫النخل مثلً‪ ،‬وقد يكون العنصران معا في النبات الواحد كما في سنبلة القمح أو كوز الذرة‪.‬‬
‫ولو تأملت نبات الذرة لوجدتَ له في أعله (شوشة) بها حبيبات دقيقة تحمل لقاح الذكورة‪ ،‬وفي‬
‫منتصف العود يخرج الكوز‪ ،‬وبه شعيرات تصل كل شعرة منها إلى حبة من حبات الذرة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المصطفة على الكوز‪ ،‬وهذه تحمل لقاح النوثة‪ ،‬فإذا ه ّبتْ الريح ه ّزتْ أعلى العود فتساقطت‬
‫لقاحات الذكورة على هذه الشعيرات فلقحتها؛ لذلك نرى الحبة التي ل يخرج منها شعرة إلى‬
‫خارج الغلف تضمر وتموت؛ لنها لم تأخذ حظها من اللقاح‪.‬‬

‫ومعنى‪َ } :‬بهِيجٍ { [الحج‪ ]5 :‬من البهجة‪ ،‬فالمراد‪ :‬الشيء حسن المنظر والجميل الذي يجذب‬
‫النظار إليه‪ ،‬وبهجة النظر إلى النبات شائعة ل تقتصر على مَنْ يملكه بخلف الكل منه‪ ،‬فحين‬
‫تمر ببستان أو حديقة تتمتع بمنظرها وجمال ألوانها وتُسَرّ برائحتها‪.‬‬
‫وفي النفس النسانية ملكات تتغذى على هذه الخضرة‪ ،‬وعلى هذه اللوان وتنبسط لهذا الجمال‪،‬‬
‫ولو لم تكُنْ تمتلكه‪.‬‬
‫لذلك الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ينبهنا إلى هذه المسألة في قوله تعالى‪ {:‬ا ْنظُرُواْ إِلِىا َثمَ ِرهِ إِذَآ‬
‫أَ ْثمَ َر وَيَ ْنعِهِ‪[} ..‬النعام‪ ]99 :‬أي‪ :‬أن النظر مشاع للجميع‪ ،‬ثم بعد ذلك اتركوا الخصوصيات‬
‫لصحابها‪ ،‬تمتّعوا بما خلق ال‪ ،‬ففي النفس ملكَات أخرى غير الطعام‪.‬‬
‫ن وَحِينَ تَسْرَحُونَ }[النحل‪]6 :‬‬
‫جمَالٌ حِينَ تُرِيحُو َ‬
‫واقرأ أيضا قوله تعالى في الخيل‪ {:‬وََلكُمْ فِيهَا َ‬
‫فليست الخيل لحمل الثقال وفقط‪ ،‬وإنما فيها جمال وأُبّهة‪ ،‬تُرضِي شيئا في نفوسكم‪ ،‬وتُشْبِع ملكَة‬
‫من ملكاتها‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ذاِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2582 /‬‬

‫شيْءٍ قَدِيرٌ (‪)6‬‬


‫ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ وَأَنّهُ يُحْيِي ا ْل َموْتَى وَأَنّهُ عَلَى ُكلّ َ‬

‫أي‪ :‬أن ما حدث في خَلْق النسان تكوينا‪ ،‬وما حدث في إنبات الزرع تكوينا ونماءً‪ ،‬يردّ هذا كله‬
‫إلى أن ال تعالى { ُهوَ ا ْلحَقّ‪[ } ..‬الحج‪ ]6 :‬فلماذا أتى بالحق ولم ي ُقلْ الخالق؟ قالوا‪ :‬لن الخالق‬
‫قد يخلق شيئا ثم يتخلى عنه‪ ،‬أمّا ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فهو الخالق الحق‪ ،‬ومعنى الحق أي‪:‬‬
‫الثابت الذي ل يتغير‪ ،‬كذلك عطاؤه ل يتغير‪ ،‬فسوف يظل سبحانه خالقا يعطيك كل يوم؛ لن‬
‫عطاءه سبحانه دائم ل ينفد‪.‬‬
‫وإذا نظرتَ إلى الوجود كله لوجدته دروة مكررة‪ ،‬فال عز وجل قد خلق الرض وقدّر فيها‬
‫أقواتها‪ ،‬فمثلً كمية الماء التي خلقها ال في الكون هي هي لم تَ ِزدْ ولم تنقص؛ لن للماء دورة في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحياة‪ ،‬فالماء الذي تشربه طوال حياتك ل يُنقص في كمية الماء الموجود؛ لنه سيخرج منك على‬
‫صورة فضلت ليعود في دورة الماء في الكون من جديد‪.‬‬
‫وهكذا في الطعام الذي تأكله‪ ،‬وفي الوردة الجميلة الطرية التي نقطفها‪ ،‬كل ما في الوجود له دورة‬
‫يدور فيها‪ ،‬وهذا معنى‪َ {:‬وقَدّرَ فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا‪[} ..‬فصلت‪]10 :‬‬
‫حقّ‪[} ..‬الحج‪ ]6 :‬هنا الثابت الذي ل يتغير في الخَلْق وفي العطاء‪ .‬فل تظن أن عطاء‬
‫فمعنى‪ {:‬الْ َ‬
‫ال لك شيء جديد‪ ،‬إنما هو عطاء قديم يتكرر لك ولغيرك‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَأَنّهُ يُحْيِـي ا ْل َموْتَىا‪[ } ..‬الحج‪ ]6 :‬كما قُلْنا في الية السابقة‪ { :‬وَتَرَى الَ ْرضَ‬
‫هَامِ َدةً‪[ } ..‬الحج‪ ]5 :‬أي‪ :‬ساكنة ل حياةَ فيها‪ ،‬وال وحده القادر على إحيائها؛ لذلك نجد علماء‬
‫الفقه يُسمّون الرض التي نصلحها للزراعة (إحياء الموات) فال تعالى هو القادر وحده على إحياء‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ } [الحج‪]6 :‬‬
‫كل ميت؛ لذلك يقول بعدها‪ { :‬وَأَنّهُ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫وما دام المر كذلك وما ُدمْتم تشاهدون آية إحياء الموات في الرض المتية فل تنكروا البعث‬
‫وإعادتكم بعد الموت‪ .‬فيقول تعالى‪ { :‬وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَ ٌة لّ رَ ْيبَ فِيهَا‪.} ..‬‬

‫(‪)2583 /‬‬

‫وَأَنّ السّاعَةَ آَتِيَةٌ لَا رَ ْيبَ فِيهَا وَأَنّ اللّهَ يَ ْب َعثُ مَنْ فِي ا ْلقُبُورِ (‪)7‬‬

‫عظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ * َأوَ‬


‫وقد سبق أن أنكروا البعث بعد الموت وقالوا‪ {:‬أَإِذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَ ِ‬
‫لوّلُونَ }[الصافات‪.]17 - 16 :‬‬
‫آبَآؤُنَا ا َ‬
‫فيردّ عليهم الحق سبحانه‪ :‬نعم‪ ،‬سنعيدكم بعد الموت‪ ،‬والذي خلقكم من ل شيءَ قادرٌ على إعادتكم‬
‫من باب َأوْلَى؛ لذلك يقول تعالى‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي يَبْ َدؤُاْ ا ْلخَ ْلقَ ثُمّ ُيعِي ُدهُ وَ ُهوَ َأ ْهوَنُ‪[} ..‬الروم‪]27 :‬‬
‫والحق سبحانه هنا يخاطبنا على َقدْر عقولنا؛ لننا نفهم أن الخَلْق من موجود أهون من الخَلْق من‬
‫سهْل وأسهل‪ ،‬ول هَيّن وأهْون‪.‬‬
‫عدم‪ ،‬أما بالنسبة للخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬فليس هناك َ‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬وَأَنّ السّاعَةَ آتِيَ ٌة لّ رَ ْيبَ فِيهَا‪[ } ..‬الحج‪ ]7 :‬كأن عملية إحياء الموتى ليست مُنْتهى‬
‫قدرة ال‪ ،‬إنما في قدرته تعالى كثير من اليات والعجائب‪ ،‬ومعنى‪ { :‬لّ رَ ْيبَ فِيهَا‪[ } ..‬الحج‪]7 :‬‬
‫شكّ فيها‪ .‬والساعة‪ :‬أي‪ :‬زمن القيامة وموعدها‪ ،‬لكن القيامة ستكون للحساب ولل َفصْل بين‬
‫أي‪ :‬ل َ‬
‫الناس‪ ،‬فل ُبدّ من َبعْثهم من القبور؛ لذلك يقول بعدها‪ { :‬وَأَنّ اللّهَ يَ ْب َعثُ مَن فِي ا ْلقُبُورِ } [الحج‪:‬‬
‫‪.]7‬‬
‫ف ُكلّ ما تقدم ناشيء من أنه سبحانه هو الحق؛ ولنه سبحانه الحق؛ فهو يُحيي الموتي‪ ،‬وهو على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كل شيء قدير‪ ،‬والساعة آتية ل رَ ْيبَ فيها‪ ،‬وهو سبحانه يبعث مَنْ في القبور‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬ومِنَ النّاسِ مَن يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ‪} ..‬‬

‫(‪)2584 /‬‬

‫َومِنَ النّاسِ مَنْ يُجَا ِدلُ فِي اللّهِ ِبغَيْرِ عِ ْل ٍم وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (‪)8‬‬

‫تكلمنا في أول السورة عن الجدل بالعلم والموعظة الحسنة وقلنا‪ :‬العلم إما علم بَدْهي أو علم‬
‫استدللي عقليّ‪ ،‬أو علم بالوحي من ال سبحانه‪ ،‬أما هؤلء الذين يجادلون في ال بغير علم بدهي‬
‫{ َولَ هُدًى‪[ } ..‬الحج‪ ]8 :‬يعني‪ :‬علم استدللي عقلي‪َ { ،‬ولَ كِتَابٍ مّنِيرٍ } [الحج‪ ]8 :‬يعني‪ :‬وحي‬
‫من ال‪ ،‬فهؤلء أهل سفسطة وجدل عقيم ل فائدة منه‪ ،‬وعلى العاقل حين يصادف مثل هذا النوع‬
‫من الجدال أن ل يجاريه في سفسطته؛ لنه لن يصل معه إلى مفيد ‪ ،‬إنما عليه أنْ ينقله إلى مجال‬
‫ل يحتمل السفسطة‪.‬‬
‫ولنا في هذه المسألة م َثلٌ وقُدْوة بسيدنا إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬حينما جادل النمرود‪ ،‬اقرأ قول‬
‫ال تعالى‪ {:‬أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِي حَآجّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ ا ْلمُ ْلكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَ ّبيَ الّذِي‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا مِنَ‬
‫يُحْيِـي وَ ُيمِيتُ قَالَ أَنَا ُأحْيِـي وَُأمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫ا ْل َمغْ ِربِ فَ ُب ِهتَ الّذِي كَفَرَ‪[} ..‬البقرة‪]258 :‬‬
‫سفْسَطة حين قال{ أَنَا ُأحْيِـي وَُأمِيتُ‪[} ..‬البقرة‪ ]258 :‬لنه ما فعل‬
‫لقد اتبع النمرودُ أسلوب ال ّ‬
‫حقيق َة الموت‪ ،‬ول حقيقة الحياة‪ ،‬فأراد إبراهيم أن يُلجئه إلى مجال ل سفسطة فيه؛ لينهي هذا‬
‫شمْسِ مِنَ ا ْلمَشْرِقِ فَ ْأتِ ِبهَا‬
‫خصْمه باب اللدد والتهريج‪ ،‬فقال‪ {:‬فَإِنّ اللّهَ يَأْتِي بِال ّ‬
‫الموقف ويسدّ على َ‬
‫مِنَ ا ْل َمغْ ِربِ‪[} ..‬البقرة‪ ]258 :‬وكانت النتيجة أنْ حَارَ عدو ال جوابا{ فَ ُب ِهتَ الّذِي َكفَرَ‪[} ..‬البقرة‪:‬‬
‫‪ ]258‬أي‪ :‬دُهِش وتحيّر‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2585 /‬‬

‫ي وَنُذِيقُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَذَابَ ا ْلحَرِيقِ (‪)9‬‬


‫ضلّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ لَهُ فِي الدّنْيَا خِ ْز ٌ‬
‫طفِهِ لِ ُي ِ‬
‫ع ْ‬
‫ثَا ِنيَ ِ‬

‫{ ثَا ِنيَ‪[ } ..‬الحج‪ ]9 :‬ثَنَى الشيء يعني‪ :‬لَواه‪ ،‬وعِطْفه‪ :‬يعني جَنْبه‪ ،‬والنسان في تكوينه العام له‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ظهْر‪ ،‬وهذه العضاء تُؤدّي َدوْرا في حياته وحركته‪ ،‬وتدلّ‬
‫رأس ورقبة وكتفان‪ ،‬وله جانبان و َ‬
‫على تصرفاته‪ ،‬فالذي يجادل في ال عن غير علم ول هدى ول كتاب منير يَثنِي عنك جانبه‪،‬‬
‫ويَلْوي رأسه؛ لن الكلم ل يعجبه؛ ليس لن كلمك باطل‪ ،‬إنما ل يعجبه لنه أفلس وليست لديه‬
‫الحجة التي يواجهك بها‪ ،‬فل يملك إل هذه الحركة‪.‬‬
‫لذلك يُسمّى هذا الجدل " مراءً " ‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪َ {:‬أفَ ُتمَارُونَهُ عَلَىا مَا يَرَىا }[النجم‪ ]12 :‬يعني‪:‬‬
‫أتجادلون رسول ال في أمر رآه؟ والمراء‪ :‬هو الجَدل العنيف‪ ،‬مأخوذ من (مَرْى الضرع) يعني‪:‬‬
‫حَلْب ما فيه من لبن إلى آخر قطرة فيه‪ ،‬وأهل الريف يقولون عن هذه العملية (قرقر البقرة)‬
‫ق في ضرعها شيء‪.‬‬
‫يعني‪ :‬أخذ كل لبنها ولم يَ ْب َ‬
‫خصْمه‪ ،‬ولو‬
‫كذلك المجادل بالباطل‪ ،‬أو المجادل بل علم ول حجة تراه يكابر ليأخذ آخر ما عند َ‬
‫كان عنده علم وحجة لنهَى الموقف دون لجج أو مكابرة‪.‬‬
‫والقرآن الكريم يعطينا صورة لهذا الجدل والعراض عن الحق‪ ،‬فيقول سبحانه‪ {:‬وَإِذَا قِيلَ َل ُهمْ‬
‫ن وَهُم مّسْ َتكْبِرُونَ }[المنافقون‪.]5 :‬‬
‫س ُه ْم وَرَأَيْ َتهُمْ َيصُدّو َ‬
‫َتعَاَلوْاْ يَسْ َت ْغفِرْ َل ُكمْ رَسُولُ اللّهِ َلوّوْاْ رُءُو َ‬
‫والقرآن يعطينا التدرج الطبيعي للعراض عن الحق الذي يبدأ بَلىّ الرأس‪ ،‬ثم الجانب‪ ،‬ثم يعطيك‬
‫دُبُره وعَرْض أكتافه‪ ،‬هذه كلها ملحظ للفرار من الجدل‪ ،‬حين ل يقوى على القناع‪.‬‬
‫ضلّ عَن سَبِيلِ اللّهِ‪[ } ..‬الحج‪ ]9 :‬هذه عِلّة ثَنْى جانبه‪ ،‬لنه يريد‬
‫طفِهِ لِ ُي ِ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬ثَا ِنيَ عِ ْ‬
‫خصْمه وما يلقيه من حجج ودلئل لنهزم ولم يتمكّن من‬
‫أنْ يُضل مَنِ اهتدى‪ ،‬فلو وقف يستمع ل َ‬
‫عطْفه هَرَبا من هذا الموقف الذي ل َيقْدر على مواجهته والتصدي له‪.‬‬
‫إضلل الناس؛ لذلك يَثْني ِ‬
‫فما جزاء هذا الصنف؟ يقول تعالى‪َ { :‬لهُ فِي الدّنْيَا خِ ْزيٌ‪[ } ..‬الحج‪ ]9 :‬والخِزْي‪ :‬الهوان والذّلّة‪،‬‬
‫هذا جزاء الدنيا قبل جزاء الخرة‪ ،‬ألم يحدث للكفار هذا الخزي يوم بدر؟ ألم يُمسِك رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم بقضيب في يده قبل المعركة ويشير به‪ " :‬هذا مَصرع فلن‪ ،‬وهذا مصرع‬
‫فلن " ويسمي صناديد الكفر ورؤوس الضلل في قريش؟ وبعد انتهاء المعركة كان المر كما‬
‫أخبر رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وصُرِع كلّ هؤلء الصناديد في نفس الماكن التي أشار‬
‫إليها رسول ال‪.‬‬
‫لهُ سيدنا عبد ال بن مسعود‪ ،‬سبحان ال‪ ،‬عبد ال بن‬
‫ولما قُتِل في هذه المعركة أبو جهل عَ َ‬
‫مسعود راعي الغنم يعتلي ظهر سيد قريش‪ ،‬عندها قال أبو جهل ‪ -‬وكان فيه َرمَق حياة‪ :‬لقد‬
‫صعْبا يا ُروَيْعيّ الغنم‪ ،‬يعني‪ :‬ركبتني يا ابن اليه!! فأيّ خِزْي بعد هذا؟!‬
‫ارتقيتَ مُرْتقىً َ‬
‫وأبو سفيان بعد أن شفع له العباس رضي ال عنه عند رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ورأى‬
‫موكب النبي يوم الفتح‪ ،‬وحوله رايات النصار في موكب رهيب مهيب‪ ،‬لم يملك نفسه ولم يستطع‬
‫أنْ يُخفي ما في صدره‪ ،‬فقال للعباس رضي ال‪ :‬لقد أصبح مُلْك ابن أخيك قويا‪ ،‬فقال له‪ :‬إنها‬
‫النبوة يا أبا سفيان يعني‪ :‬المسألة ليست مُلْكا‪ ،‬إنما هي النبوة المؤيّدة من ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وسيدنا أبو بكر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬حينما استأذن عليه القوم في الدخول‪ ،‬فأذِنَ للسابقين إلى‬
‫السلم من العبيد والموالي‪ ،‬وترك بعض صناديد قريش على الباب‪( ،‬فورِ َمتْ) أنوفهم من هذا‬
‫المر وأغتاظوا‪ ،‬وكان فيهم أبو سيدنا أبي بكر فقال له‪ :‬أتأذن لهؤلء وتتركنا؟ فقال له‪ :‬إنه‬
‫ت أنوفكم؟ وما بالكم‬
‫السلم الذي قدمهم عليكم‪ .‬وقد شاهد عمر هذا الموقف فقال لهم‪ :‬ما لكم و ِرمَ ْ‬
‫إذا أُذِن لهم على ربهم وتأخرتم أنتم‪.‬‬
‫فالغضب الحقيقي سيكون في الخرة حين يُنَادى بهؤلء إلى الجنة‪ ،‬وتتأخرون أنتم في َهوْل‬
‫الموقف‪.‬‬
‫واقرأ قوله تعالى‪ {:‬وَالسّا ِبقُونَ السّا ِبقُونَ * ُأوْلَـا ِئكَ ا ْل ُمقَرّبُونَ }[ الواقعة‪.]11 - 10 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَ ُنذِيقُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ عَذَابَ ا ْلحَرِيقِ { [الحج‪ ]9 :‬فهذا الخِ ْزيُ الذي رََأوْه في الدنيا‬
‫عذَابَ الْحَرِيقِ { [الحج‪ ]9 :‬الحريق‪ :‬هو الذي‬
‫لن يُفلتهم من خِزْي وعذاب الخرة‪ ،‬ومعنى } َ‬
‫يحرق غيره من شِدتّه‪ ،‬كالنار التي أوقدوها لبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬وكانت تشوي الطير الذي‬
‫ك وَأَنّ‪{ ..‬‬
‫يمرّ بها في السماء فيقع مشويا‪ .‬ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ذاِلكَ ِبمَا َق ّد َمتْ َيدَا َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2586 /‬‬

‫ك وَأَنّ اللّهَ لَ ْيسَ بِظَلّامٍ لِ ْلعَبِيدِ (‪)10‬‬


‫ذَِلكَ ِبمَا َق ّد َمتْ َيدَا َ‬

‫{ ذاِلكَ‪[ } ..‬الحج‪ ]10 :‬يعني خِزْي الدنيا وعذاب الحريق في الخرة بما قدّمتْ‪ ،‬وبما اقترفت‬
‫يداك‪ ،‬ل ظُلْما منّا ول اعتداء‪ ،‬فأنت الذي ظلمتَ نفسك‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬ومَا ظََلمْنَاهُ ْم وَلَـاكِن‬
‫سهُمْ يَظِْلمُونَ }[النحل‪]118 :‬‬
‫كَانُواْ أَ ْنفُ َ‬
‫وهل أخذناهم دون إنذار‪ ،‬ودون أن نُجرّم هذا الفعل؟ لنك ل تعاقب شخصا على ذنب إل إذا كنتَ‬
‫قد نبّهته إليه‪ ،‬وعرّفته بعقوبته‪ ،‬فإنْ عاقبته دون علمه بأن هذا ذنب وهذه جريمة فقد ظلمتَه؛ لذلك‬
‫فأهل القانون يقولون‪ :‬ل عقوبةَ إل بتجريم‪ ،‬ول تجريمَ إل بنصّ‪.‬‬
‫وقد جاءكم النص الذي يُبيّن لكم ويُجرّم هذا الفعل‪ ،‬وقد أبلغتُكم الرسل‪ ،‬وسبق إليكم النذار‪ ،‬كما‬
‫في قوله تعالى‪َ {:‬ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ رَسُولً }[السراء‪.]15 :‬‬
‫{ ذاِلكَ ِبمَا قَ ّد َمتْ يَدَاكَ‪[ } ..‬الحج‪ ]10 :‬فهل الذنوب كلها تقديمُ اليد فقط؟‬
‫الذنوب‪ :‬إما أقوال‪ ،‬وإما أفعال‪ ،‬وإما عمل من أعمال القلب‪ ،‬كالحقد مثلً أو النفاق‪ ..‬إلخ لكن في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الغالب ما تُزَاول الذنوب باليدي‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَأَنّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلّمٍ لّلعَبِيدِ } [الحج‪ ]10 :‬ظلّم‪ :‬صيغة مبالغة من الظلم‪ ،‬تقول‪:‬‬
‫ظالم‪ .‬فإنْ أردتَ المبالغة تقول‪ :‬ظلّم‪ ،‬كما تقول‪ :‬فلن آكل وفلن أكُول‪ ،‬فالفعل واحد‪ ،‬لكن ما‬
‫ينشأ عنه مختلف‪ ،‬والمبالغة في الفعل قد تكون في الفعل نفسه أو في تكراره‪ ،‬فمثلً قد تأكل في‬
‫الوجبة الواحدة رغيفا واحدا‪ ،‬وقد تأكل خمسة أرغفة هذه مبالغة في الوجبة الواحدة‪ ،‬فأنت تأكل‬
‫ثلث وجبات‪ ،‬لكن تبالغ في الوجبة الواحدة‪ ،‬وقد تكون المبالغة في عدد الوجبات فتأكل في الوجبة‬
‫رغيفا واحدا‪ ،‬لكن تأكل خمس وجبات بدلً من ثلث‪ .‬فهذه مبالغة بتكرار الحدث‪.‬‬
‫وصيغة المبالغة لها معنى في الثبات ولها معنى في النفي‪ :‬إذا قُ ْلتَ‪ :‬فلن أكول وأثبتّ له المبالغة‬
‫فقد أثبتّ له أصل الفعل من باب َأوْلَى فهو آكل‪ ،‬وإذا نفيتَ المبالغة ف َنفْي المبالغة ل ينفي الصل‪،‬‬
‫تقول‪ :‬فلن ليس أكولً‪ ،‬فهذا ل ينفي أنه آكل‪ .‬فإذا طبّقنا هذه القاعدة على قوله تعالى‪ { :‬وَأَنّ اللّهَ‬
‫لَيْسَ ِبظَلّمٍ لّلعَبِيدِ } [الحج‪ ]10 :‬فهذا يعني أنه سبحانه وتعالى (ظالم) حاشا ل‪ ،‬وهنا نقول‪ :‬هناك‬
‫آيات أخرى تنفي الفعل‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَلَ َيظْلِمُ رَ ّبكَ َأحَدا }[الكهف‪ ]49 :‬وقوله تعالى‪{:‬‬
‫َومَا ظََلمْنَاهُمْ وَلَـاكِن كَانُواْ ُهمُ الظّاِلمِينَ }[الزخرف‪.]76 :‬‬
‫كما أن صيغة المبالغة هنا جاءت مضافة للعبيد‪ ،‬فعلى فرض المبالغة تكون مبالغة في تكرار‬
‫الحدث { ِبظَلّمٍ لّلعَبِيدِ } [الحج‪ ]10 :‬ظلم هذا‪ ،‬وظلم هذا‪ ،‬فالمظلوم عبيد‪ ،‬وليس عبدا واحدا‪.‬‬
‫ق الضعيف‪ ،‬ويكون الظلم على قَدْر قوة الظالم وقدرته‪ ،‬وعلى‬
‫والظلم في حقيقته أن يأخذ القويّ حَ ّ‬
‫هذا إنْ جاء الظلم من ال تعالى وعلى َقدْر قوته وقدرته فل شكّ أنه سيكون ظُلْما شديدا ل يتحمله‬
‫أحد‪ ،‬فل نقول ‪ -‬إذن ‪ -‬ظالم بل ظلم‪ ،‬وهكذا يتمشى المعنى مع صيغة المبالغة‪.‬‬
‫فالحق سبحانه ليس بظلم للعبيد؛ لنه بيّن الحلل والحرام‪ ،‬وبيّن الجريمة ووضع لها العقوبة‪ ،‬وقد‬
‫بّل َغتْ الرسل من بداية المر فل حُجّةَ لحد‪.‬‬
‫طمَأَنّ بِهِ‪} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَن َيعْبُدُ اللّهَ عَلَىا حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2587 /‬‬

‫ج ِههِ‬
‫علَى وَ ْ‬
‫طمَأَنّ بِ ِه وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ا ْنقََلبَ َ‬
‫َومِنَ النّاسِ مَنْ َيعْبُدُ اللّهَ عَلَى حَ ْرفٍ فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ‬
‫خسِرَ الدّنْيَا وَالَْآخِ َرةَ ذَِلكَ ُهوَ الْخُسْرَانُ ا ْلمُبِينُ (‪)11‬‬
‫َ‬

‫قوله تعالى‪َ { :‬ومِنَ النّاسِ مَن َيعْبُدُ اللّهَ عَلَىا حَ ْرفٍ‪[ } ..‬الحج‪ ]11 :‬العبادة‪ :‬أنْ تطيع ال فيما أمر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فتنفذه‪ ،‬وتطيعه فيما نهى فتجتنبه‪ ،‬بعض الناس يعبد ال هذه العبادة طالما هو في خير دائم وسرور‬
‫طمَأَنّ بِهِ وَإِنْ‬
‫مستمر‪ ،‬فإذا أصابه شَرّ أو وقع به مكروه ينقلب على وجهه { فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ‬
‫جهِهِ‪[ } ..‬الحج‪]11 :‬‬
‫َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ا ْنقَلَبَ عَلَىا وَ ْ‬
‫والحق سبحانه يريد من عبده أنْ يُقبل على عبادته في ثبات إيمان‪ ،‬ل تزعزعه الحداث‪ ،‬ول تهز‬
‫إيمانه فيتراجع‪ ،‬ربك يريدك عبدا له في الخير وفي الشر‪ ،‬في السراء وفي الضراء‪ ،‬فكلهما فتنة‬
‫واختبار‪ ،‬وما آمنتَ بال إل لنك علمتَ أنه إله حكيم عادل قادر‪ ،‬ول بد أنْ تأخذ ما يجري عليك‬
‫من أحداث في ضوء هذه الصفات‪.‬‬
‫ن وجدوك‬
‫فإنْ أثقلتْك الحياة فاعلم أن وراء هذه حكمة إنْ لم تكن لك فلولدك من بعدك‪ ،‬فلعلهم إ ْ‬
‫ط َغوْا‪ ،‬ولعل حياة الضيق وقِلّة الرزق وتعبك لتوفر متطلبات‬
‫ط ِمعُوا وفسدوا و َ‬
‫في سعة وفي خير َ‬
‫الحياة يكون دافعا لهم‪.‬‬
‫طغَىا * أَن رّآهُ اسْ َتغْنَىا }[العلق‪ ]7 - 6 :‬وقوله تعالى‪{:‬‬
‫ن الِنسَانَ لَ َي ْ‬
‫واقرأ قوله تعالى‪ {:‬كَلّ إِ ّ‬
‫جعُونَ }[النبياء‪.]35 :‬‬
‫وَنَبْلُوكُم بِالشّ ّر وَالْخَيْرِ فِتْنَ ًة وَإِلَيْنَا تُ ْر َ‬
‫ل ُبدّ أنْ تعرف هذه الحقائق‪ ،‬وأنْ تؤمن بحكمة ربك في كل ما يُجريه عليك‪ ،‬سواء أكان نعيما أو‬
‫ُبؤْسا‪ ،‬فإنْ أصابك مرض أقعدك في بيتك َف ُقلْ‪ :‬ماذا حدث خارج البيت‪ ،‬أبعدني ال عنه وعافاني‬
‫منه؟ فلعل الخير فيما تظنه شرا‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَعَسَىا أَن َتكْرَهُواْ شَيْئا وَ ُهوَ خَيْرٌ ّلكُمْ‪} ..‬‬
‫[البقرة‪.]216 :‬‬
‫وقد أجرى علماء الحصاء إحصاءات على بعض بيوتنا‪ ،‬فوجدوا الخوة في البيت الواحد‪ ،‬وفي‬
‫ظروف بيئية واحدة وأب واحد‪ ،‬وأم واحدة‪ ،‬حتى التعليم في المدرس على مستوى واحد‪ ،‬ومع‬
‫ذلك تجد أحد البناء مستقيما ملتزما‪ ،‬وتجد الخر على النقيض‪ ،‬فلمّا بحثوا في سبب هذه الظاهرة‬
‫وجدوا أن الولد المستقيم كانت فترة تربيته وطفولته في وقت كان والده مريضا ويلزم بيته لمدة‬
‫ست سنوات‪ ،‬فأخذ هذا الولد أكبر قِسْط من الرعاية والتربية‪ ،‬ولم يجد الفرصة للخروج من البيت‬
‫أو الختلط برفاق السوء‪.‬‬
‫وفي نموذج آخر لحد البناء المنحرفين وجدوا أن سبب انحرافه أن والده في فترة تربيته وتنشئته‬
‫سعَة من‬
‫كان تاجرا‪ ،‬وكان كثير السفار‪ ،‬ومع ذلك كان ُيغْدِق على أسرته‪ ،‬فتربّى الولد في َ‬
‫العيش‪ ،‬بدون مراقبة الب‪.‬‬
‫وفي نموذج آخر وجدوا أخوين‪ :‬أحدهما متفوق‪ ،‬والخر فاشل‪ ،‬ولما بحثوا أسباب ذلك رغم أنهما‬
‫يعيشان ظروفا واحدة وجدوا أن البن المتفوق صحته ضعيفة‪ ،‬فمال إلى البيت والقراءة‬
‫والطلع‪ ،‬وكان الخر صحيحا وسيما‪ ،‬فمال إلى حياة الترف‪ ،‬وقضى معظم وقته خارج البيت‪.‬‬

‫والمثلة في هذا المجال كثيرة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكَم؛ لنها ناشئة وجارية عليك بحكمة ربك وخالقك‪،‬‬
‫إذن‪ :‬فالبتلءات لها مغانم‪ ،‬ومن ورائها ِ‬
‫سعْيك ول من عمل يدك‪ ،‬وما دامت كذلك فا ْرضَ بها‪ ،‬واعبد ال بإخلص وإيمان‬
‫وليست من َ‬
‫ثابت في الخير وفي الشر‪.‬‬
‫علَىا حَ ْرفٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]11 :‬والحرف‪ :‬هو طرف الشيء‪ ،‬كأن تدخل فتجد‬
‫ومعنى‪َ } :‬يعْ ُبدُ اللّهَ َ‬
‫الغرفة ممتلئة فتجلس على طرف في آخر الجالسين‪ ،‬وهذا عاد ًة ل يكون معه تمكّن واطمئنان‪،‬‬
‫كذلك مَنْ يعبد ال على حرف يعني‪ :‬لم يتمكّن اليمان من قلبه‪ ،‬وسرعان ما يُخرِجه البتلء عن‬
‫اليمان‪ ،‬لنه عبد ال عبادةً غير متمكنة باليقين الذي يصدر عن المؤمن بإله حكيم فيما يُجريه‬
‫على عبده‪.‬‬
‫والية لم تترك شيئا من هواجس النفس البشرية سواء في الخير أو في الشر‪.‬‬
‫وتأمل قول ال تعالى‪ } :‬فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ‪[ { ..‬الحج‪ ]11 :‬وكذلك‪ } :‬وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْ َنةٌ‪[ { ..‬الحج‪:‬‬
‫‪ ]11‬فأنت ل تقول‪ :‬أصبتُ الخيرَ‪ ،‬إنما الخير هو الذي أصابك وأتاك إلى بابك‪ ،‬فأنت ل تبحث عن‬
‫جعَل لّهُ َمخْرَجا * وَيَرْ ُزقْهُ مِنْ‬
‫رزقك بقدر ما يبحث هو عنك؛ لذلك يقول تعالى‪َ {:‬ومَن يَتّقِ اللّهَ يَ ْ‬
‫سبُ‪[} ..‬الطلق‪.]3 - 2 :‬‬
‫ث لَ يَحْ َت ِ‬
‫حَ ْي ُ‬
‫ويقول أهل المعرفة‪ :‬رِزْقك أعلم بمكانك منك بمكانه‪ ،‬يعني يعرف عنوانك أما أنت فل تعرف‬
‫عنوانه‪ ،‬بدليل أنك قد تطلب الرزق في مكان فل تُرزَق منه بشيء‪ ،‬وقد ترى الزرع في الحقول‬
‫زاهيا تأمل فيه المحصول الوفير‪ ،‬وتبني عليه المال‪ ،‬فإذا بعاصفة أو آفة تأتي عليه‪ ،‬فل تُرزَق‬
‫منه حتى بما يسدّ ال ّرمَق‪.‬‬
‫ولنا عبرة ومثَلٌ في ابن أُذَيْنة حين ضاقت به الحال في المدينة‪ ،‬فقالوا له‪ :‬إن لك صحبة بهشام بن‬
‫عبد الملك الخليفة الموي فاذهب إليه ينالك من خير الخلفة‪ ،‬وفعلً سافر ابن أذينة إلى صديقه‪،‬‬
‫وضرب إليه أكباد البل حتى الشام‪ ،‬واستأذن فأَذن له‪ ،‬واستقبله صاحبه‪ ،‬وسأله عن حالة فقال‪:‬‬
‫في ضيق وفي شدة‪ .‬وكان في مجلس الخليفة علماء فقال له‪ :‬يا عروة ألست القائل ‪ -‬وكان ابن‬
‫س ْوفَ يأْتِينِي؟وهنا أحسّ عروة‬
‫أُذَيْنَة شاعرا‪َ:‬لقَد عَلِمت ومَا السْرَافُ مِنْ خُُلقِي أَنّ الذي ُهوَ رِزْقي َ‬
‫أن الخليفة كسر خاطره‪ ،‬وخَيّب أمله فيه‪ ،‬فقال له‪ :‬جزاك ال خيرا يا أمير المؤمنين‪ ،‬لقد ذكّرت‬
‫مني ناسيا‪ ،‬ون ّبهْتَ مني غافلً‪ ،‬ثم انصرف‪.‬‬
‫فلما خرج ابن أُذيْنة من مجلس الخليفة‪ ،‬وفكّر الخليفة في الموقف وأنّب نفسه على تصّرفه مع‬
‫صاحبه الذي قصد خَيْره‪ ،‬وكيف أنه رَدّه بهذه الصورة‪ ،‬فأراد أنْ يُصلِح هذا الخطأ‪ ،‬فأرسل إليه‬
‫رسولً يحمل الهدايا الكثيرة‪ ،‬إل أن رسول الخليفة كلما تبع ابن أُذَيْنة في مكان وجده قد غادره إلى‬
‫ن وصل إلى بيته‪ ،‬فطرق الباب‪ ،‬وأخبره أن أمير المؤمنين قد ندم على ما كان‬
‫مكان آخر‪ ،‬إلى أ ْ‬
‫منه‪ ،‬وهذه عطاياه وهداياه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سعَى َلهُ فَ ُيعَنّيني تطلّبه وََلوْ َقعَ ْدتُ أَتَانِي لَ يُعنّينيكذلك نلحظ‬
‫وهنا أكمل ابن أُذيْنة بيته الول‪ ،‬فقال‪:‬أ ْ‬
‫طمَأَنّ ِب ِه وَإِنْ َأصَابَتْهُ فِتْنَةٌ‪[ { ..‬الحج‪ ]11 :‬ولم يقابل الخير‬
‫في هذه الية‪ } :‬فَإِنْ َأصَابَهُ خَيْرٌ ا ْ‬
‫بالشر‪ ،‬إنما سماها (فتْنَة) أي‪ :‬اختبار وابتلء؛ لنه قد ينجح في هذا الختبار فل يكون شرا في‬
‫حقّه‪.‬‬
‫َ‬
‫جهِهِ { [الحج‪ ]11 :‬يعني‪ :‬عكس المر‪ ،‬فبعد أنْ كان عابدا طائعا انقلب‬
‫ومعنى‪ } :‬ا ْنقََلبَ عَلَىا وَ ْ‬
‫إلى الضّدّ فصار عاصيا } خَسِرَ الدّنْيَا وَالَخِ َرةَ‪[ { ..‬الحج‪ ]11 :‬وخسْران النسان لعبادته خسران‬
‫كبي ٌر ل ُيجْبَر ول يُعوّضه شيء؛ لذلك يقول بعدها‪ } :‬ذاِلكَ ُهوَ ا ْلخُسْرَانُ ا ْلمُبِينُ { [الحج‪ ]11 :‬فهل‬
‫خسْران مبين‪ ،‬وخسران غير مبين؟‬
‫هناك ُ‬
‫نعم‪ :‬الخسران هو الخسارة التي تُعوّض‪ ،‬أما الخسارة التي ل عِوضَ لها فهذه هي الخسران المبين‬
‫الذي يلزم النسان ول ينفكّ عنه‪ ،‬وهو خُسْران ل يقتصر على الدنيا فقط فيمكن أنْ تُعوّضه أو‬
‫شدّتها‪ .‬فالخسران المبين‬
‫تصبر عليه‪ ،‬إنما يمتد للخرة حيث ل عِوضَ لخسارتها ول صَبْر على ِ‬
‫أي‪ :‬المحيط الذي يُطوّق صاحبه‪.‬‬
‫لذلك نقول لمن فقد عزيزا عليه‪ ،‬كالمرأة التي فقدت وحيدها مثلً‪ :‬إنْ كان الفقيد حبيبا وغاليا‬
‫فبيعوه غاليا وادخلوا به الجنة‪ ،‬ذلك حين تصبرون على َفقْده وتحتسبونه عند ال‪ ،‬وإنْ كنتم خسرتم‬
‫ش َققْنَا الجيوب‪ ،‬واعترضنا على قَدَر ال فيه‬
‫طمْنا الخدود و َ‬
‫به الدنيا فل تخسروا به الخرة‪ ،‬فإنْ ل َ‬
‫فقد خسرنَا به الدنيا والخرة‪.‬‬
‫وصدق رسول ال صلى ال عليه وسلم حين قال‪ " :‬عجبا لمر المؤمن‪ ،‬إن أمره كله خير‪ :‬إن‬
‫أصابته سراء شكر فكان خيرا له‪ ،‬وإنْ أصابته ضراء صبر فكان خيرا له‪ ،‬وليس ذلك إل للمؤمن‬
‫"‪.‬‬
‫والصبر عند البلء‪ ،‬والشكر عند الرخاء مرتبة من مراتب اليمان‪ ،‬ومرحلة من مراحل اليقين في‬
‫نفس المؤمن‪ ،‬وهي بداية وعَتَبة يتلوها مراحل أخرى ومراقٍ‪ ،‬حَسْب قوة اليمان‪.‬‬
‫اسمع إلى هذا الحوار الذي دار بين أهل المعرفة من الزّهّاد‪ ،‬وكيف كانوا يتباروْنَ في الوصول‬
‫إلى هذه المراقي اليمانية‪ ،‬ويتنافسون فيها‪ ،‬ل عن مُبَاهاة ومفاخرة‪ ،‬إنما عن نية خالصة في الرّقي‬
‫اليماني‪.‬‬
‫يسأل أحد هؤلء المتمكّنين صاحبه‪ :‬كيف حال الزهاد في بلدكم؟ فقال‪ :‬إن أصابنا خير شكرنا‪،‬‬
‫وإن أصابنا شَرّ صبرنا‪ ،‬فضحك الشيخ وقال‪ :‬وما في ذلك؟! إنه حال الكلب في بَلْخ‪ .‬أما عندنا‪:‬‬
‫فإنْ أصابنا خير آثرنا‪ ،‬وإنْ أصابنا شَرّ شكرنا‪.‬‬
‫وهذه ليست مباهاة إنما تنافس‪ ،‬فكلً الرجلين زاهد سالك لطريق ال‪ ،‬يرى نفسه محسوبا على هذا‬
‫ن يرتقيَ فيه إلى أعلى مراتبه‪ ،‬فإياك أنْ تظن أن الغاية عند الصبر على البلء‬
‫الطَريق‪ ،‬فيحاول أ ْ‬
‫شكْر على العطاء‪ ،‬فهذه البداية وبعدها منازل أعْلَى ومَراقٍ أسمى لمن طلبَ العُلَ‪ ،‬وشمّر عن‬
‫وال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ساعد الجد في عبادة ربه‪.‬‬
‫انظر إلى أحد هؤلء الزّهّاد يقول لصاحبة‪َ :‬ألَ تشتاق إلى ال؟ قال‪ :‬ل‪ ،‬قال مُتعجبا‪ :‬وكيف ذلك؟‬
‫قال‪ :‬إنما يُشتاق لغائب‪ ،‬ومتى غاب عني حتى أشتاق إليه؟ وهكذا تكون درجات اليمان وشفافية‬
‫العلقة بين العبد وربه عز وجل‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه عن هذا الذي يعبد ال على حرف‪ } :‬يَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لَ َيضُ ّرهُ َومَا لَ‬
‫يَن َفعُهُ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2588 /‬‬

‫يَدْعُو مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَا َيضُ ّر ُه َومَا لَا يَ ْن َفعُهُ ذَِلكَ ُهوَ الضّلَالُ الْ َبعِيدُ (‪)12‬‬

‫معنى‪ { :‬مَا لَ َيضُ ّرهُ‪[ } ..‬الحج‪ ]12 :‬هل الصنم الذي يعبده الكافر من دون ال يمكن أن يضره؟‬
‫ل‪ ،‬الصنم ل يضر‪ ،‬إنما الذي يضره حقيقة مَنْ عانده وانصرف عن عبادته‪ ،‬تضره الربوبية التي‬
‫يعاندها والمجَازي الذي يجازيه بعمله‪ ،‬إذن‪ :‬فما معنى‪َ { :‬يضُ ّرهُ‪[ } ..‬الحج‪ ]12 :‬هنا؟‬
‫للُ الْ َبعِيدُ }‬
‫المعنى‪ :‬ل يضره إن انصرف عنه ولم يعبده‪ ،‬ول ينفعه إنْ عبده‪ { :‬ذاِلكَ ُهوَ الضّ َ‬
‫[الحج‪ ]12 :‬نعم ضلل‪ :‬لن النسان يعبد ويطيع مَنْ يرجو نفعه في أيّ شيء‪ ،‬أو يخشى ضره‬
‫في أيّ شيء‪.‬‬
‫وقد ذكرنا سابقا قول بعض العارفين‪( :‬واجعل طاعتك لمن ل تستغني عنه)‪ ،‬ولو قلنا هذه المقولة‬
‫لبنائنا في الكتب الدراسية‪ ،‬واهت ّم بها القائمون على التربية لما أغرى الولد بعضهم بعضا‬
‫بالفساد‪ ،‬ولوقفَ الولد يفكر مرة وألف مرة في توجيهات ربه‪ ،‬ونصائح أبيه وأمه‪ ،‬وكيف أنه‬
‫سيترك توجيهات مَنْ يحبونه ويخافون عليه ويرجُون له الخير إلى إغراء صديق ل يعرف عنه‬
‫وعن أخلقه شيئا‪.‬‬
‫صغَره مَنْ يحبه ومَنْ يكرهه‪ ،‬ومَنْ هو‬
‫ل ُبدّ أنْ نُطعّم أبناءنا مبادئ السلم‪ ،‬ليعرف الولد منذ ِ‬
‫َأوْلَى بطاعته‪.‬‬
‫وتلحظ في الية أن الضر سابق للنفع‪ { :‬مَا لَ َيضُ ّر ُه َومَا لَ يَن َفعُهُ‪[ } ..‬الحج‪ ]12 :‬لن دَ ْرءَ‬
‫المفسدة مُقدّم على جَلْب المصلحة؛ لن المفسدة خروج الشيء عن استقامة تكوينه‪ ،‬والنفع يزيدك‬
‫ويضيف إليك‪ ،‬أما الضر فينقصك‪ ،‬لذلك خَيْر لك أنْ تظل كما أنت ل تنقص ول تزيد‪ ،‬فإذا وقفتَ‬
‫شكّ أنك ستختار َدفْع الشر أولً‪ ،‬وتشتغل‬
‫أمام أمرين‪ :‬أحدهما يجلب خيرا‪ ،‬والخر يدفع شرا‪ ،‬فل َ‬
‫بدَرْءِ المفسدة قبل جَلْب المصلحة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وضربنا لذلك مثلً‪َ :‬هبْ أن إنسانا سيرمي لك بتفاحة‪ ،‬وآخر سيرميك بحجر في نفس الوقت‪ ،‬فماذا‬
‫تفعل؟ تأخذ التفاحة‪ ،‬أو تتقي أَذى الحجر؟ هذا هو معنى " دَرْء المفسدة مُقدّم على جَلْب المصلحة‬
‫"‪.‬‬

‫(‪)2589 /‬‬

‫ن ضَ ّرهُ َأقْ َربُ مِنْ َن ْفعِهِ لَبِئْسَ ا ْل َموْلَى وَلَبِئْسَ ا ْلعَشِيرُ (‪)13‬‬
‫يَدْعُو َلمَ ْ‬

‫ن ضَرّه أقرب‬
‫الية السابقة تثبت أنه يدعو مَا ل يضُرّه ومَا ل ينفعه‪ ،‬وهذه الية تُثبت أنه يدعو مَ ْ‬
‫من َنفْعه‪.‬‬
‫صيغة أفعل التفضيل (أقرب) تدل على أن شيئين اشتركا في صفة واحدة‪ ،‬إل أن أحدهما زاد عن‬
‫الخر في هذه الصفة‪ ،‬فلو قُ ْلتَ‪ :‬فلن أحسن من فلن‪ .‬فهذا يعني أن كلهما حَسَن‪ ،‬لكن زاد‬
‫أحدهما عن الخر في الحُسْن‪.‬‬
‫ن ضَ ّرهُ َأقْ َربُ مِن ّنفْعِهِ‪[ } ..‬الحج‪]13 :‬‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬يَدْعُو َلمَ ْ‬
‫إذن‪ :‬هناك َنفْع وهو قريب‪ ،‬لكن الضر أقرب منه‪ ،‬فهذه الية في ظاهرها تُناقِض الية السابقة‪،‬‬
‫والحقيقة ليس هناك تناقض‪ ،‬ول ُبدّ أنْ نفهمَ هذه المسألة في ضوء قوله تعالى‪ {:‬وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ‬
‫غَيْرِ اللّهِ َلوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَفا كَثِيرا }[النساء‪.]82 :‬‬
‫فالوثان التي كانوا يعبدونها كان لها سَدَنة يتحكّمون فيها وفي عابديها‪ ،‬فإذا أرادوا من اللهة شيئا‬
‫قالوا للسدنة‪ :‬ادعوا اللهة لنا بكذا وكذا‪ ،‬إذن‪ :‬كان لهم نفوذ وسُلْطة زمنية‪ ،‬وكانوا هم الواسطة‬
‫بين الوثان وعُبّادها‪ ،‬هذه الواسطة كانت ُتدِرّ عليهم كثيرا من الخيرات وتعطيهم كثيرا من‬
‫المنافع‪ ،‬فكانوا يأخذون كل ما ُيهْدَى للوثان‪.‬‬
‫فالوثان ‪ -‬إذن ‪ -‬سبب في َنفْع سدنتها‪ ،‬لكن هذا النفع قصاراه في الدنيا‪ ،‬ثم يتركونه بالموت‪،‬‬
‫ن ول عملَ‬
‫فمدة النفع قصيرة‪ ،‬وربما أتاه الموت قبل أنْ يستفيد بما أخذه‪ ،‬وإنْ جاء الموت فل إيما َ‬
‫ول توبةَ‪ ،‬وهذا معنى { ضَ ّرهُ َأقْ َربُ مِن ّن ْفعِهِ‪[ } ..‬الحج‪.]13 :‬‬
‫لذلك يقول تعالى بعدها‪ { :‬لَبِئْسَ ا ْل َموْلَىا وَلَبِئْسَ ا ْلعَشِيرُ } [الحج‪ ]13 :‬كلمة (بئس) ُتقَال للذم وهي‬
‫بمعنى‪ :‬ساء وقَبُح‪ ،‬والموْلَى‪ :‬الذي يليك ويقرُب منك‪ ،‬ويُراد به النافع لك؛ لنك ل تقرّب إل النافع‬
‫لك‪ ،‬إما لنه يعينك وقت الشدة‪ ،‬ويساعدك وقت الضيق‪ ،‬وينصرك إذا احتجتَ لِ ُنصْرته‪ ،‬وهذا هو‬
‫الوليّ‪.‬‬
‫وإما أنْ تُقرّبه منك؛ لنه يُسليك ويجالسك وتأنس به‪ ،‬لكنه ضعيف ل يقوى على ُنصْرتك‪ ،‬وهذا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هو العشير‪.‬‬
‫والصنام التي يعبدونها بئست المولى؛ لنها ل تنصرهم وقت الشدة‪ ،‬وبئست العشير؛ لنها ل‬
‫تُسليهم‪ ،‬ول يأنسون بها في غير الشدة‪.‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنَاتٍ‪.} ..‬‬
‫خلُ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ‬

‫(‪)2590 /‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ إِنّ اللّهَ َي ْفعَلُ مَا يُرِيدُ (‬
‫خلُ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬
‫إِنّ اللّهَ يُ ْد ِ‬
‫‪)14‬‬

‫بعد أن تكلّم الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عن الكفار وأهل النار ومَنْ يعبدون ال على حَرْف‪ ،‬كان ل‬
‫بُدّ أنْ يأتيَ بالمقابل؛ لن النفس عندها استعداد للمقارنة والتأمل في أسباب دخول النار‪ ،‬وفي‬
‫أسباب دخول الجنة‪ ،‬وهذا َأجْدى في إيقاع الحجة‪.‬‬
‫جحِيمٍ }[النفطار‪]14 - 13 :‬‬
‫ن الَبْرَارَ َلفِي َنعِيمٍ * وَإِنّ ا ْلفُجّارَ َلفِي َ‬
‫ومن ذلك أيضا قوله تعالى‪ {:‬إِ ّ‬
‫حكُواْ قَلِيلً وَلْيَ ْبكُواْ كَثِيرا‪[} ..‬التوبة‪]82 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬فَلْ َيضْ َ‬
‫ن تقابلها ال ّنقْمة ل تُؤتِي الثر المطلوب‪ ،‬لكن حينما تقابل النعمة بالنقمة‬
‫ف ِذكْر النعمة وحدها دون أ ْ‬
‫وَسَلْب الضّر بإيجاب النفع فإنّ كلهما يُظهر الخر؛ لذلك يقول تعالى‪َ {:‬فمَن ُزحْزِحَ عَنِ النّارِ‬
‫خلَ ا ْلجَنّةَ َفقَدْ فَازَ‪[} ..‬آل عمران‪ ]185 :‬فإنْ آمنتَ ل تُ َزحْزح عن النار فقط ‪ -‬مع أن هذه في‬
‫وَأُدْ ِ‬
‫حدّ ذاتها نعمة ‪ -‬لكن تُزَحْزح عن النار وتدخل الجنة‪.‬‬
‫َ‬
‫واليمان‪ :‬عمل قلبي ومواجيد تطمئن بها النفس‪ ،‬لكن اليمان له مطلوب‪ :‬فأنت آمنتَ بال‪،‬‬
‫واطمأنّ قلبك إلى أن ال هو الخالق الرازق واجب الوجود‪ ..‬إلخ‪ ،‬فما مطلوب هذا اليمان؟‬
‫مطلوب اليمان أنْ تستمع لوامره‪ ،‬لنه حكيم‪ ،‬وتثق في قدرته لنه قادر‪ ،‬وتخاف من بطشه لنه‬
‫جبار‪ ،‬ول تيأس من بَسْطه لنه باسط‪ ،‬ول تأمن قبضه لنه قابض‪.‬‬
‫لقد آمنتَ بكل هذه القضايا‪ ،‬فحين يأمرك بأمر فعليك أنْ تستحضر حيثيات هذا المر‪ ،‬وأنت واثق‬
‫أن ربك عز وجل لم يأمرك ولم يَ ْن َهكَ من فراغ‪ ،‬إنما من خلل صفات الكمال فيه سبحانه‪ ،‬أو‬
‫صفات الجلل والجبروت‪ ،‬فاستحضر في ُكلّ أعمالك وفي ُكلّ ما تأتي أو تدع هذه الصفات‪.‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ‬
‫خلُ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫لذلك‪ ،‬جمعت الية بين اليمان والعمل الصالح‪ { :‬إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ‬
‫جَنَاتٍ‪[ } ..‬الحج‪]14 :‬‬
‫عمِلُواْ الصّاِلحَاتِ‪} ..‬‬
‫خسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫ن الِنسَانَ َلفِى ُ‬
‫وفي سورة العصر‪ {:‬وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ق وَ َتوَاصَوْاْ بِالصّبْرِ }[العصر‪.]3 :‬‬
‫حّ‬‫صوْاْ بِالْ َ‬
‫[العصر‪ ]3 - 1 :‬ليس ذلك وفقط إنما أيضا‪ {:‬وَ َتوَا َ‬
‫فالتواصي بالحق والصبر على الشدائد من الستجابة لداعي اليمان وثمرة من ثماره؛ لن المؤمن‬
‫سخْرية واستهزاءً‪ ،‬وربما تعرّض‬
‫سيتعرّض في رحلة الحياة لفِتَن كثيرة قد تزلزله‪ ،‬وسيواجه ُ‬
‫للوان العذاب‪.‬‬
‫فعليه إذن ‪ -‬أنْ يتمسّك بالحق ويتواصى به مع أخيه‪ ،‬وعليه أن يصبر‪ ،‬وأنْ يتواصى بالصبر مع‬
‫خوَر‪ ،‬فعلى القوي في وقت الفتنة أنْ‬
‫إخوانه‪ ،‬ذلك لن النسان قد تعرض له فترات ضَعف و َ‬
‫ينصحَ الضعيف‪.‬‬
‫ن أوصيْتَه اليوم بالصبر ربما يوصيك‬
‫وربما تبدّل هذا الحال في موقف آخر وأمام فتنة أخرى‪ ،‬فَم ْ‬
‫غدا‪ ،‬وهكذا يُثمِر في المجتمع اليماني التواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬
‫صوْا؛ لنكم ستتعرضون لِهزّات ليست هزّات شاملة جامعة‪ ،‬إنما هزّات يتعرض لها‬
‫إذن‪ :‬توا َ‬
‫ت وجدتَ من إخوانك مَنْ يُواسيك‪ :‬اصبر‪ ،‬تجلّد‪ ،‬احتسب‪.‬‬
‫ن ض ُعفْ َ‬
‫البعض دون الخر‪ ،‬فإ ْ‬

‫وإياك أنْ تُزحزحك الفتنة عن الحق‪ ،‬أو تخرج عن الصبر‪ ،‬وهذه عناصر النجاة التي ينبغي‬
‫للمؤمنين التمسك بها‪ :‬إيمان‪ ،‬وعمل صالح‪ ،‬وتواصٍ بالحق‪ ،‬وتواصٍ بالصبر‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ } :‬تجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ‪[ { ..‬الحج‪.]14 :‬‬
‫الجنات‪ :‬هي الحدائق والبساتين المليئة بأنواع المتّع‪ :‬الزرع‪ ،‬والخضرة‪ ،‬والنضارة‪ ،‬والزهور‪،‬‬
‫والرائحة الطيبة‪ ،‬وهذه كلها بنت الماء؛ لذلك قال } َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا الَ ْنهَارُ‪[ { ..‬الحج‪]14 :‬‬
‫ومعنى‪ } :‬مِن َتحْ ِتهَا‪[ { ..‬الحج‪ ]14 :‬أن الماء ذاتيّ فيها‪ ،‬ل يأتيها من مكان آخر ربما ينقطع‬
‫عنها‪ ،‬كما جاء في آية أخرى‪ {:‬تَجْرِي َتحْ َتهَا الَ ْنهَارُ‪[} ..‬التوبة‪.]100 :‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬إِنّ اللّهَ َي ْف َعلُ مَا يُرِيدُ‪[ { ..‬الحج‪ ]14 :‬لنه سبحانه ل ُيعْجِزه شيء‪ ،‬ول يعالج‬
‫أفعاله كما يعالج البشر أفعالهم{ إِ ّنمَآ َأمْ ُرهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئا أَن َيقُولَ َلهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪ ]82 :‬ولو‬
‫تأملتَ هذه الية لوجدتَ الشيء الذي يريده ال ويأمر بكونه موجودا في الحقيقة‪ ،‬بدليل أن ال‬
‫تعالى يخاطبه{ َيقُولَ َلهُ كُن فَ َيكُونُ }[يس‪ ]82 :‬فهو ‪ -‬إذن ‪ -‬كائن فعلً‪ ،‬وموجود حقيقةً‪ ،‬والمر‬
‫هنا إنما هو لظهاره في عالم المشاهدة‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬مَن كَانَ َيظُنّ أَن لّن يَنصُ َرهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالخِ َرةِ فَلْ َيمْ ُددْ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2591 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمَاءِ ثُمّ لِ َيقْطَعْ فَلْيَ ْنظُرْ َهلْ‬
‫مَنْ كَانَ يَظُنّ أَنْ لَنْ يَ ْنصُ َرهُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالْآَخِ َرةِ فَلْ َي ْمدُدْ بِسَ َببٍ إِلَى ال ّ‬
‫يُذْهِبَنّ كَيْ ُدهُ مَا َيغِيظُ (‪)15‬‬

‫(يظنّ) تفيد عِلْما غير يقيني وغير مُتأكد‪ ،‬وسبق أنْ تكلّمنا في نسبة القضايا‪ ،‬فهناك حكم محكوم به‬
‫ومحكوم عليه‪ ،‬تقول‪ :‬زيد مجتهد‪ ،‬فأنت تعتقد في نِسْبة الجتهاد لزيد‪ ،‬فإنْ كان اعتقادك صحيحا‬
‫فتستطيع أنْ تُقدّم الدَليل على صحته فتقول‪ :‬بدليل أنه ينجح كل عام بتفوق‪.‬‬
‫س يقولون‪ :‬زيد مجتهد‪ .‬فقال مثلهم‪،‬‬
‫أما إذا اعتقد هذه القضية ولم يُقدّم عليها دليلً كأنْ سمع النا َ‬
‫حدٌ }[الخلص‪]1 :‬‬
‫لكن ل دليلَ عنده على صِدْق هذه المقولة‪ ،‬كالطفل الذي نُلقّنه{ ُقلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫هذه قضية واقعية يعتقدها الولد‪ ،‬لكن ل يستطيع أنْ يُقدّم الدليل عليها إل عندما يكُبر ويستوي‬
‫تفكيره‪.‬‬
‫فمن أين أخذ الطفل هذه القضية واعتقدها؟ أخذها من المأمون عليه‪ :‬من أبيه أو أستاذه ثم قلّده‪.‬‬
‫إذن‪ :‬إنْ كانت القضية واقعة‪ ،‬لكِنْ ل تستطيع أنْ تقيم الدليل عليها فهي تقليد‪ ،‬فإنِ اعتقدتَ قضية‬
‫واقعة‪ ،‬وأقمْتَ الدليل عليها‪ ،‬فهذا أسمْى مراتب العلم‪ ،‬فإنِ اعتقدتَ قضيةً غير واقعيةٍ‪ ،‬فهذا جهل‪.‬‬
‫فالجاهل‪ :‬مَنْ يعتقد شيئا غير واقع‪ ،‬وهذا الذي يُتعِب الدنيا كلها‪ ،‬ويُشقي من حوله‪ ،‬لن الجاهل‬
‫الميّ الذي ل يعلم شيئا‪ ،‬وليست لديه فكرة يعتقدها صفحة بيضاء‪ ،‬تستطيع أنْ تقنعه بالحقيقة‬
‫ويقبلها منك؛ لنه خالي الذهن ول يعارضك‪.‬‬
‫شكّ‪ ،‬فل‬
‫فإنْ تشك ْكتَ في النسبة بحيث استوت عندك نسبة الخطأ مع نسبة الصواب‪ ،‬فهذا هو ال ّ‬
‫تستطيع أنْ تجزم باجتهاد زيد‪ ،‬ول بعدم اجتهاده‪ ،‬فإنْ غلب الجتهاد فهو ظَنّ‪ ،‬فإنْ غلب عدم‬
‫الجتهاد فهو وَهْم‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نسبة القضايا إما علم تعتقده‪ :‬وهو واقع وتستطيع أنْ تقيمَ الدليل عليه‪ ،‬أو تقليد‪ :‬وهو ما‬
‫تعتقده وهو واقع‪ ،‬لكن ل تقدر على إقامة الدليل عليه‪ ،‬أو جهل‪ :‬حين تعتقد شيئا غير واقع‪ ،‬أو‬
‫شك‪ :‬حين ل تجزم بالشيء ويستوي عندك النفي والثبات‪ ،‬أو ظن‪ :‬حين تُرجّح الثبات‪ ،‬أو وهم‪:‬‬
‫حين تُرجّح النفي‪.‬‬
‫فالظن في قوله تعالى‪ { :‬مَن كَانَ َيظُنّ أَن لّن يَنصُ َرهُ اللّهُ‪[ } ..‬الحج‪ ]15 :‬أي‪ :‬يمرّ بخاطره مجرد‬
‫مرور أن ال لن ينصر محمدا‪ ،‬أو يتوهم ذلك ‪ -‬ول يتوهم ذلك إل الكفار ‪ -‬لنهم يأملون ذلك في‬
‫ن ينتهيَ عنه؛ لنه أمر بعيد‪ ،‬لن يحدث ولن‬
‫معركة اليمان والكفر ‪ -‬مَنْ ظَنّ هذا الظنّ فعليه أ ْ‬
‫يكون‪.‬‬
‫وقد ظَنّ الكفار هذا الظن حين رََأوْا بوادر نصر اليمان وعلمات فوزه‪ ،‬فاغتاظوا لذلك‪ ،‬ولم‬
‫يجدوا شيئا يريح خاطرهم إل هذا الظن‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك؛ يردّ ال غيظهم عليهم‪ ،‬فيقول لهم‪ :‬ستظلون بغيظكم؛ لن النصر لليمان ولجنوده مستمر‪،‬‬
‫فليس أمامك إل أنْ تجعل حبلً في السماء وتربط عنقك به‪ ،‬تشنق نفسك حتى تقع‪ ،‬فإنْ كان هذا‬
‫سمَآءِ ُثمّ لْ َيقْطَعْ فَلْيَ ْنظُرْ َهلْ يُ ْذهِبَنّ كَيْ ُدهُ‬
‫الكيد لنفسك يُنجيك من الغيظ فافعل‪ { :‬فَلْ َي ْمدُدْ ِبسَ َببٍ ِإلَى ال ّ‬
‫مَا َيغِيظُ } [الحج‪.]15 :‬‬

‫سىً وحَسْرة حينما ترى واقعا‬


‫لكن ما الغيظ؟ الغيظ‪ :‬نوع من الغضب مصحوب ومشُوب بحزن وأَ َ‬
‫يحدث أمام عينيك ول يرضيك‪ ،‬وفي الوقت نفسه ل تستطيع أن تفعل شيئا تمنع به مَا ل يُرضيك‪.‬‬
‫وهذه المادة (غيظ) موجودة في مواضع أخرى من كتاب ال‪ ،‬وقد اس ُتعْملَتْ حتى للجمادات التي ل‬
‫تُحسّ‪ ،‬اقرأ قول ال تعالى عن النار‪َ {:‬تكَادُ َتمَيّزُ مِنَ الغَ ْيظِ‪[} ..‬الملك‪ ]8 :‬وقال‪ {:‬إِذَا رَأَ ْتهُمْ مّن‬
‫س ِمعُواْ َلهَا َتغَيّظا وَ َزفِيرا }[الفرقان‪ ]12 :‬فكأن النار مغتاظة من هؤلء‪ ،‬تتأهب لهم‬
‫ّمكَانٍ َبعِيدٍ َ‬
‫وتنتظرهم‪.‬‬
‫والغَيْظ يقع للمؤمن والكافر‪ ،‬فحين نرى عناد الكفار وسُخريتهم واستهزاءهم باليمان نغتاظ‪ ،‬لكن‬
‫يُذهب ال غيْظ قلوبنا‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَيُذْ ِهبْ غَ ْيظَ قُلُو ِبهِمْ‪[} ..‬التوبة‪.]15 :‬‬
‫أما غيْظ الكفار من نصْر اليمان فسوف يَبْقى في قلوبهم‪ ،‬فربّنا ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يقول لهم‪:‬‬
‫ثقُوا تماما أن ال لم يرسل رسولً إل وهو ضامن أنْ ينصره‪ ،‬فإنْ خطر ببالكم خلفُ ذلك فلن‬
‫يُريحكم ويَشْفي غيظكم إلّ أنْ تشنقوا أنفسكم؛ لذلك خاطبهم الحق سبحانه في آية أخرى فقال‪ُ {:‬قلْ‬
‫ظ ُكمْ‪[} ..‬آل عمران‪.]119 :‬‬
‫مُوتُواْ ِبغَيْ ِ‬
‫سمَآءِ‪[ { ..‬الحج‪ } ]15 :‬فَلْ َيمْ ُددْ‪[ { ..‬الحج‪ :]15 :‬من مدّ الشيء‬
‫ومعنى‪ } :‬فَلْ َي ْمدُدْ بِسَ َببٍ إِلَى ال ّ‬
‫يعني‪ :‬أطاله بعد أنْ كان مجتمعا‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬وَالَ ْرضَ مَدَدْنَاهَا‪[} ..‬الحجر‪ ]19 :‬فكلما‬
‫تسير تجد أرضا ممتدة ليس لها نهاية حافّة‪.‬‬
‫والسبب‪ :‬الحبل‪ ،‬يُخرجون به الماء من البئر‪ ،‬لكن هل يستطيع أحد أنْ يربط حبلً في السماء؟‬
‫إذن‪ :‬علّق المسألة على محال‪ ،‬وكأنه يقول لهم‪ :‬حتى إنْ أردتم شَنْق أنفسكم فلن تستطيعوا‪ ،‬وسوف‬
‫تظلّون هكذا بغيظكم‪.‬‬
‫سمَآءِ‪[ { ..‬الحج‪ ]15 :‬يعني‪ :‬سماء البيت وسقفه‪ ،‬كمَنْ يشنق نفسه في‬
‫أو‪ :‬يكون المعنى‪ } :‬إِلَى ال ّ‬
‫سقْف البيت‪.‬‬
‫َ‬
‫ويمكن أن نفهم (السبب) على أنه أيّ شيء يُوصّلك إلى السماء‪ ،‬وأيّ وسيلة للصعود‪ ،‬فيكون‬
‫المعنى‪ :‬خذوا أيّ طريقة تُوصّلكم إلى السماء لتمنعوا عن محمد أسباب النصر؛ لن َنصْر محمد‬
‫يأتي من السماء فامنعوه‪ ،‬وهذه أيضا ل يقدرون عليها‪ ،‬وسيظل غيظهم في قلوبهم‪.‬‬
‫وتلحظ أننا نتكلم عن محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬مع أن الية لم تذكر شيئا عنه‪ ،‬وكل ما جاء في‬
‫الية ضمير الغائب المفرد في قوله تعالى‪ } :‬مَن كَانَ يَظُنّ أَن لّن يَنصُ َرهُ اللّهُ‪[ { ..‬الحج‪]15 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والحديث مُوجّه للكفار المغتاظين من بوادر النصر لركْب اليمان‪ ،‬فقوله‪ } :‬يَنصُ َرهُ‪[ { ..‬الحج‪:‬‬
‫‪ ]15‬ينصر مَنْ؟ ل بُدّ أنه محمد‪ ،‬لماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن السماء حينما تُطلَق تدلّ على َمعَانٍ‪ ،‬فعندما تقول " سماء " نفهم المراد‪ ،‬وعندما تقول "‬
‫قلب " نفهم‪ " ،‬نور " نعرف المراد‪ .‬والسماء إما اسم ظاهر مثل‪ :‬محمد وعلي وعمر وأرض‬
‫وسماء‪ ،‬والسماء إما اسم ظاهر مثل‪ :‬أنا‪ ،‬أنت‪ ،‬هو‪ ،‬هم‪.‬‬

‫والضمير مُبْهم ل يُعيّنه إل التكلّم‪ ،‬فأنت تقول‪ :‬أنا وكذلك غيرك يقول أنا أو نحن‪ ،‬فالذي يُعيّن‬
‫الضمير المتكلّم به حال الخطاب‪ ،‬فعُمدْة الفهم في الضمائر ذات المتكلم وذات المخاطب‪.‬فإن لم‬
‫يكن متكلّما ول مخاطبا فهو غائب‪ ،‬فمن أين تأتي بقرينة التعريف للغائب؟‬
‫ت المتكلم بكلمه‪،‬‬
‫حين تقول‪ :‬هو‪ ،‬هي‪ ،‬هم‪ .‬مَن المراد بهذه الضمائر؟ كيف تُعيّنها؟ إنْ عيّ ْن َ‬
‫والمخاطب بمخاطبته‪ ،‬كيف تُعيّن الغائب؟ قالوا‪ :‬ل ُبدّ أنْ يسبقه شيء يدل عليه‪ ،‬كأن تقول‪:‬‬
‫جاءني رجل فأكرمتُه‪ ،‬أكرمت مَنْ؟ أكرمت الرجل الذي تحدثتُ عنه‪ ،‬جاءتني امرأة فأكرمتُها‪،‬‬
‫جاء قوم فلن فأكرمتهم‪ .‬إذن‪ :‬فمرجع الضمير هو الذي يدلّ عليه‪.‬‬
‫لكن لم يسبق ِذكْر لرسول ال صلى ال عليه وسلم قبل الضمير ليُعيّنه ويدلّ عليه‪ ،‬نعم لم يسبق‬
‫ِذكْر لرسول ال‪ ،‬لكن تأمّل المعنى‪ :‬الكلم هنا عن النصر بين فريق اليمان وعلى رأسه محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وفريق الكفر وعلى رأسه هؤلء المعاندون‪ ،‬فالمقام مُتعيّن أنه ل يعود‬
‫الضمير إل على رسول ال صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ومثال ذلك قوله تعالى‪ {:‬إِنّا أَنزَلْنَاهُ‪[} ..‬القدر‪.]1 :‬‬
‫فالضمير هنا مُتعيّن‪ ،‬ول ينصرف إل إلى القرآن‪ ،‬ول يتعين الضمير إل إذا كان الخاطر ل‬
‫ينصرف إلى غيره في مقامه‪.‬‬
‫حدٌ }[الخلص‪ ]1 :‬تلحظ أن الضمير سابق على السم الظاهر‪ ،‬فالمرجع‬
‫اقرأ‪ُ {:‬قلْ ُهوَ اللّهُ أَ َ‬
‫متأخر‪ ،‬ومع ذلك ل ينصرف الضمير إل إلى ال‪ ،‬فإذا قِيلَ‪ :‬هو هكذا على انفراد ل يمكن أن‬
‫ينصرف إل ل عز وجل‪.‬‬
‫كذلك في قوله تعالى‪ {:‬وََلوْ ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُ ْل ِمهِمْ مّا تَ َركَ عَلَ ْيهَا مِن دَآبّةٍ }[النحل‪ .]61 :‬على‬
‫ظهْر أيّ شيء؟ الذّهْن ل ينصرف في هذا المقام إل إلى الرض‪.‬‬
‫َ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬فَلْيَنْظُرْ َهلْ ُيذْهِبَنّ كَ ْي ُدهُ مَا َيغِيظُ { [الحج‪ ]15 :‬الستفهام هنا ِممّنْ يعلم‪ ،‬فهو‬
‫استفهام للتقرير‪ ،‬ل ِيقُروا هم بأنفسهم أن غَيْظهم سيظلّ كما هو‪ ،‬ل يشفيه شيء‪ ،‬وأنهم سيموتون‬
‫ظ ُكمْ‪[} ..‬آل عمران‪.]119 :‬‬
‫بغيظهم‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ {:‬قلْ مُوتُواْ ِبغَيْ ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬وكَذاِلكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ‪.{ ..‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2592 /‬‬

‫ت وَأَنّ اللّهَ َيهْدِي مَنْ يُرِيدُ (‪)16‬‬


‫َوكَذَِلكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيّنَا ٍ‬

‫قوله { أَنزَلْنَاهُ‪[ } ..‬الحج‪ ]16 :‬أي‪ :‬القرآن؛ لن الضمير هنا كما ذكرنا مرجعه مُتعّين‪ ،‬وما دام‬
‫مرجعه مُتعينا فل يحتاج لذكر سابق‪ .‬والنزال يحمل معنى العلو‪ ،‬فإنْ رأيتَ في هذا التشريع الذي‬
‫جاءك في القرآن ما يشقّ عليك أو يحولُ بينك وبين ما تشتهيه نفسك‪ ،‬فاعلم أنه من أَعْلى منك‪،‬‬
‫من ال‪ ،‬وليس من مُسَاوٍ لك‪ ،‬يمكن أنْ تستدرك عليه أو تناقشه‪ :‬لماذا هذا المر؟ ولماذا هذا‬
‫النهي؟ فطالما أن المر يأتيك من ال فل بُدّ أن تسمع وتطيع ول تناقش‪.‬‬
‫ولنا أُسْوة في هذا التسليم بسيدنا أبي بكر لما قالوا له‪ :‬إن صاحبك يقول‪ :‬إنه أُسْرِي به الليلة من‬
‫ن قال‪ :‬إنْ كان قال فقد‬
‫مكة إلى بيت المقدس‪ ،‬ثم عُرِج به إلى السماء‪ ،‬فما كان من الصّديّق إل أ ْ‬
‫صدق‪ ،‬هكذا دون مناقشة‪ ،‬فالمر من أعلى‪ ،‬من ال‪.‬‬
‫ع ْدتَ مريضا فوجدتَ بجواره كثيرا من الدوية فسألته‪ :‬لماذا كل هذا الدواء؟ قال‪:‬‬
‫وقلنا‪ :‬إنك لو ُ‬
‫لقد وصفه الطبيب‪ ،‬فأخذت تعترض على هذا الدواء‪ ،‬وتذكر من تفاعلته وأضراره وعناصره‪،‬‬
‫خلَ لك بها‪.‬‬
‫وأقحمت نفسك في مسألة ل دَ ْ‬
‫هذا قياس مع الفارق ومع العتراف بأخطاء الطباء في وصف الدواء‪ ،‬لكن لتوضيح المسألة ول‬
‫المثل العلى‪ ،‬وصدق القائل‪:‬سُبْحانَ مَنْ يَ ِرثُ الطّبِيبَ وطِبّ ُه ويُرِي المريض َمصَا ِرعَ السِيناإذن‪:‬‬
‫حجة كل أمر ليس أن نعلم حكمته‪ ،‬إنما يكفي أنْ نعلم المر به‪.‬‬
‫ومعنى { آيَاتٍ‪[ } ..‬الحج‪ ]16 :‬أي‪ :‬عجائب { بَيّنَاتٍ‪[ } ..‬الحج‪ ]16 :‬واضحات‪ .‬وسبق أنْ ذكرنا‬
‫أنْ كلمة اليات تُطلَق على معَانٍ ثلثة‪ :‬اليات الكونية التي تُثبِت قدرة ال‪ ،‬وبها يستقر اليمان في‬
‫النفوس‪ ،‬ومنها الليل والنهار والشمس والقمر‪ ،‬واليات بمعنى المعجزات المصاحبة للرسل لثبات‬
‫صِدْق بلغهم عن ال‪ ،‬واليات التي يتكوّن منها القرآن‪ ،‬وتُسمّى " حاملة الحكام "‪.‬‬
‫فالمعنى هنا { َوكَذاِلكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ‪[ } ..‬الحج‪ ]16 :‬تحمل كلمة اليات ُكلّ هذه المعاني‪،‬‬
‫فآيات القرآن فيها اليات الكونية‪ ،‬وفيها المعجزة‪ ،‬وهي ذاتها آيات الحكام‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَأَنّ اللّهَ َيهْدِي مَن يُرِيدُ‪[ } ..‬الحج‪ ]16 :‬وهذه من المسائل التي وقف الناس‬
‫حولها طويلً‪ُ {:‬يضِلّ مَن يَشَآ ُء وَ َيهْدِي مَن يَشَآءُ‪[} ..‬النحل‪ ]93 :‬وأمثالها تمسّك بها مَنْ ليس لهم‬
‫حظّ من الهداية‪ ،‬يقولون‪ :‬لم يُ ِردِ ال لنا الهداية‪ ،‬فماذا نفعل؟ وما ذنبنا؟‬
‫َ‬
‫وهذه وقفة عقلية خاطئة؛ لن ال َوقْفة العقلية تقتضي أنْ تذكر الشيء ومقابله‪ ،‬أما هؤلء فقد نبّهوا‬
‫العقل للتناقض في واحدة وتركوا الخرى‪ ،‬فهي ‪ -‬إذن ‪َ -‬وقْفة تبريرية‪ ،‬فالضال الذي يقول‪ :‬لقد‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كتب ال عليّ الضلل‪ ،‬فما ذنبي؟ لماذا لم َي ُقلْ‪ :‬الطائع الذي كتب ال له الهداية‪ ،‬لماذا يثيبه؟!‬
‫فلماذا تركتم الخير وناقشتم في الشر؟‬

‫والمتأمل في اليات التي تتحدث عن مشيئة ال في الضلل والهداية يجد أنه سبحانه قد بيّن مَنْ‬
‫شاء أنْ يُضلّه‪ ،‬وبين مَنْ شاء أنْ يهديه‪ ،‬اقرأ قوله تعالى‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلكَافِرِينَ }‬
‫سقِينَ }[المنافقون‪:‬‬
‫[المائدة‪ ]67 :‬إذن‪ُ :‬كفْره سابق لعدم هدايته وقوله‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ ا ْلفَـا ِ‬
‫‪ ]6‬وقوله‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ َيهْدِي ا ْل َقوْمَ الظّاِلمِينَ }[القصص‪.]50 :‬‬
‫إنما يهدي مَنْ آمن به‪ ،‬أما هؤلء الذين اختاروا الكفر واطمأنوا إليه وركنوا‪ ،‬فإن ال تعالى يختم‬
‫على قلوبهم‪ ،‬فل يدخلها اليمان‪ ،‬ول يخرج منها الكفر‪ ،‬لنهم أحبّوه فزادهم منه كما زاد المؤمنين‬
‫إيمانا‪ {:‬وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى‪[} ..‬محمد‪.]17 :‬‬
‫والهداية هنا بمعنى الدللة على الخير‪ ،‬وسبق أنْ ضربنا لها مثلً‪ ،‬ول تعالى المثَل العلى‪َ :‬هبْ‬
‫أنك تسلك طريقا ل تعرفه‪ ،‬فتوقفتَ عند جندي المرور وسألته عن وجهتك فدّلكَ عليها‪ ،‬ووصف‬
‫لك الطريق الموصّل إليها‪ .‬لكن‪ ،‬هل دللته لك تُلزمك أنْ تسلك الطريق الذي ُوصِف لك؟‬
‫بالطبع أنت حُرّ تسير فيه أو في غيره‪ .‬فإذا ما حفظتَ لرجل المرور جميَلهُ وشكرته عليه‪ ،‬ولمس‬
‫هو فيك الخير‪ ،‬فإنه يُعينك بنفسه على عقبات الطريق‪ ،‬وربما ركب معك ليجتاز بك منطقة خطرة‬
‫يخاف عليك منها‪ .‬هذا معنى‪ {:‬وَالّذِينَ اهْ َت َدوْاْ زَادَ ُهمْ ُهدًى وَآتَاهُمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد‪.]17 :‬‬
‫عكَ وشأنك‪،‬‬
‫أما لو تعاليتَ على هذا الرجل‪ ،‬أو اتهمته بعدم المعرفة بمسالك الطرق‪ ،‬فإنه يد ُ‬
‫ويضِنّ عليك بمجرد النصيحة‪.‬‬
‫ل المؤمن و َدلّ الكافر على الخير‪ ،‬المؤمن رضي بال وقَبِل‬
‫وهكذا‪ ..‬الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪َ -‬د ّ‬
‫أمره و َنهْيه‪ ،‬وحمد ال على هذه النعمة‪ ،‬فزاده إيمانا وأعانه على مشقة العبادة‪ ،‬وجعل له نورا‬
‫يسير على َهدْيه‪ ،‬أما الكافر فقد تركه يتخبّط في ظلمات كفره‪ ،‬ويتردد في متاهات العمى‬
‫والضلل‪.‬‬
‫س وَالّذِينَ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئِينَ وَال ّنصَارَىا وَا ْلمَجُو َ‬
‫أَشْ َركُوا‪.{ ..‬‬

‫(‪)2593 /‬‬

‫س وَالّذِينَ أَشْ َركُوا إِنّ اللّهَ َي ْفصِلُ بَيْ َنهُمْ‬


‫إِنّ الّذِينَ َآمَنُوا وَالّذِينَ هَادُوا وَالصّابِئِينَ وَال ّنصَارَى وَا ْلمَجُو َ‬
‫شهِيدٌ (‪)17‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّ اللّهَ عَلَى ُكلّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صلُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ‪[ } ..‬الحج‪ ]17 :‬ومعنى‬
‫هذه فئات ست أخبر ال عنها بقوله‪ { :‬إِنّ اللّهَ َي ْف ِ‬
‫الفصل بينهم أن بينهم خلفا ومعركة‪ ،‬ولو تتبعتَ اليات التي ذكرت هذه الفئات تجد أن هناك‬
‫آيتين في البقرة وفي المائدة‪.‬‬
‫يقول تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ آمَنُو ْا وَالّذِينَ هَادُو ْا وَال ّنصَارَىا وَالصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْ ِم الخِرِ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ }[البقرة‪.]62 :‬‬
‫ل صَالِحا فََلهُمْ َأجْرُهُمْ عِندَ رَ ّبهِ ْم َولَ َ‬
‫عمِ َ‬
‫وَ َ‬
‫وفي المائدة يُقدّم الصابئين على النصارى‪ ،‬وفي هذا الموضع تأتي بالرفع بالواو‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬إِنّ‬
‫ع ِملَ صَالِحا فَلَ‬
‫ن وَال ّنصَارَىا مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ و َ‬
‫الّذِينَ آمَنُواْ وَالّذِينَ هَادُواْ وَالصّابِئُو َ‬
‫خ ْوفٌ عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ }[المائدة‪.]69 :‬‬
‫َ‬
‫{ الّذِينَ آمَنُواْ‪[ } ..‬الحج‪ ]17 :‬أي‪ :‬بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ { ،‬وَالّذِينَ هَادُواْ‪[ } ..‬الحج‪]17 :‬‬
‫أي‪ :‬اليهود‪ ،‬ثم النصارى وهما قبل السلم‪ ،‬أما الصابئون‪ :‬فهؤلء جماعة كانوا على دين إبراهيم‬
‫سمّوا الصابئة لخروجهم عن الدين الحق‪ .‬أما المجوس‪ :‬فهم عبدة‬
‫عليه السلم‪ ،‬ثم عبدوا الكواكب فَ ُ‬
‫النار‪ ،‬والذين أشركوا‪ :‬هم المشركون عَبَدة الصنام والوثان‪.‬‬
‫أما التقديم والتأخير بين النصارى والصابئين‪ ،‬قالوا‪ :‬لن النصارى فرقة كبيرة معروفة ولهم نبي‪،‬‬
‫أما الصابئة فكانوا جماعة خرجوا على نبيهم وخالفوه وأ َتوْا بعقيدة غير عقيدته‪ ،‬فهم قلّة‪ ،‬لكن‬
‫سبقوا النصارى في الترتيب الزمني؛ لذلك حين يراعي السّ ْبقَ الزمني يقول‪ { :‬وَالصّابِئِينَ‬
‫وَال ّنصَارَى‪[ } ..‬الحج‪ ]17 :‬وحين يراعي الكثرة والشهرة‪ ،‬يقول‪ {:‬وَال ّنصَارَىا وَالصّابِئِينَ‪} ..‬‬
‫[البقرة‪ ]62 :‬فكلّ من التقديم أو التأخير مُراد لمعنى مُعيّن‪.‬‬
‫أما قوله‪ {:‬وَالصّابِئُونَ‪[} ..‬المائدة‪ ]69 :‬بالرفع على خلف القاعدة في العطف‪ ،‬حيث عطفت على‬
‫منصوب‪ ،‬والمعطوف تابع للمعطوف عليه في إعرابه‪ ،‬فلماذا وسّط مرفوعا بين منصوبات؟‬
‫قالوا‪ :‬ل يتم الرفع بين المنصوبات إل بعد تمام الجملة‪ ،‬فكأنه قال‪ :‬إن الذين آمنوا والذين هادوا‬
‫والنصارى‪ ،‬والصابئون كذلك‪ ،‬فعطف هنا جملة تامة‪ ،‬فهي مُؤخّرة في المعنى‪ ،‬مُقدّمة في اللفظ‪،‬‬
‫وهكذا تشمل الية التقديم والتأخير السابق‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬كيف ينشأ الخلف بين الديان؟‬
‫ينشأ الخلف من أن قوما يؤمنون بإله ويؤمنون بالنبي المبلّغ عن هذا الله‪ ،‬لكنهم يختلفون على‬
‫أشياء فيما بينهم‪ ،‬كما نرى الخلف مثلً بين المعتزلة وأهل السنة‪ ،‬أو الجبرية والقدرية‪ ،‬فجماعة‬
‫تثبت الصفات‪ ،‬وآخرون يُنكرونها‪ ،‬جماعة يقولون‪ :‬النسان مُجْبَر في تصرفاته‪ ،‬وآخرون يقولون‪:‬‬
‫بل هو مختار‪.‬‬
‫وقد ينشأ الخلف بين الديان للختلف في النبوات‪ ،‬فأهل الديانات يؤمنون بالله الفاعل المختار‪،‬‬
‫لكن يختلفون في النبياء موسى وعيسى ومحمد مع أنهم جميعا حَقّ‪ .‬وقد ينشأ الخلف من‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الدعاء‪ ،‬كالذين يدّعُون النبوة كهؤلء الذين يعبدون النار‪ ،‬أو يعبدون بوذا مثلً‪.‬‬
‫فهذه ست طوائف مختلفة ذكرتهم الية‪ ،‬فما حكم هؤلء جميعا بعد بعثة محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم؟‬
‫نقول‪ :‬أما المشركون الذين عبدوا الصنام‪ ،‬وكذلك الذين عبدوا النبوة المدّعاة‪ ،‬فهؤلء كفار‬
‫ضائعون‪.‬‬

‫أما اليهود والنصارى الذين يؤمنون بإله فاعل مختار‪ ،‬ويؤمنون بنبوة صادقة‪ ،‬فشأنهم بعد ظهور‬
‫السلم‪ ،‬أن ال تعالى أقام لنا تصفية آخر المر لهذه الديانات‪ ،‬فمَنْ كان يهوديا قبل السلم‪ ،‬ومن‬
‫ن كانوا مؤمنين‬
‫كان نصرانيا قبل السلم‪ ،‬فإن ال أجْرى لهم تصفية عقدية هي السلم‪ ،‬فإ ْ‬
‫اليمان الول بال تعالى فعليهم أنْ يبدأوا من جديد مؤمنين مسلمين‪.‬‬
‫خ ْوفٌ‬
‫ل صَالِحا فََل ُهمْ أَجْ ُرهُمْ عِندَ رَ ّبهِ ْم َولَ َ‬
‫عمِ َ‬
‫لذلك قال بعدها‪ {:‬مَنْ آمَنَ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ وَ َ‬
‫عَلَ ْيهِ ْم َولَ هُمْ َيحْزَنُونَ }[البقرة‪.]62 :‬‬
‫فبعد ظهور السلم بدأت لهؤلء جميعا ‪ -‬اليهود والنصارى والمجوس والمشركين ‪ -‬حياة جديدة‪،‬‬
‫حتْ لهم صفحة جديدة هم فيها أولد اليوم‪ ،‬حيث لزمهم جميعا اليمان بال تعالى واليمان بنبيه‬
‫وفُتِ َ‬
‫جبّ ما قبله‪ ،‬وعفا ال عما‬
‫محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكأن السلم تصفية (وأوكازيون إيماني) ي ُ‬
‫سلف‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه ‪ -‬حينما تكلم عن الجيال السابقة لنبوة محمد صلى ال عليه وسلم قال‪ {:‬وَإِذْ‬
‫ح ْكمَةٍ ُثمّ جَآ َءكُمْ َرسُولٌ ّمصَدّقٌ ّلمَا َم َعكُمْ لَ ُت ْؤمِنُنّ بِهِ‬
‫ب وَ ِ‬
‫خذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّيْنَ َلمَآ آتَيْ ُتكُم مّن كِتَا ٍ‬
‫أَ َ‬
‫ش َهدُواْ وَأَنَاْ َم َعكُمْ مّنَ‬
‫خذْتُمْ عَلَىا ذاِلكُمْ ِإصْرِي قَالُواْ َأقْرَرْنَا قَالَ فَا ْ‬
‫وَلَتَنصُرُنّهُ قَالَ أََأقْرَرْتُ ْم وَأَ َ‬
‫الشّا ِهدِينَ }[آل عمران‪ ]81 :‬لذلك نبّه ُكلّ من موسى وعيسى ‪ -‬عليهما السلم ‪ -‬بوجود محمد‬
‫صلى ال عليه وسلم وبشّروا به‪ ،‬بدليل قول ال تعالى‪ {:‬فََلمّا جَآءَهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ بِهِ‪[} ..‬البقرة‪:‬‬
‫‪ ]89‬والمراد اليهود والنصارى‪.‬‬
‫وقد جاء محمد صلى ال عليه وسلم رحمة للعالمين‪ ،‬وجامعا للديان كلها في السلم الذي زاد‬
‫عليها ما زاد مما تقتضيه أمور الحياة وتطورات العصر‪ ،‬إلى أن تقوم الساعة‪.‬‬
‫جاء السلم تصفية لهؤلء‪ ،‬استأنفوها بإيمان‪ ،‬واستأنفوها بعمل صالح‪ ،‬فكان لهم أجرهم كاملً‬
‫عند ربهم ل يطعن فيهم دينهم السابق‪ ،‬ول عقائدهم الفاسدة الكافرة‪.‬‬
‫صلُ بَيْ َن ُهمْ َيوْمَ‬
‫أما إنْ حدث خلف حول النبوات كما تذكر الية التي نحن بصددها‪ } :‬إِنّ اللّهَ َي ْف ِ‬
‫شهِيدٌ { [الحج‪ ]17 :‬وال َفصْل أن نعرف مِنَ المحقّ ومَنِ المبطل‪،‬‬
‫شيْءٍ َ‬
‫ا ْلقِيامَةِ إِنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫وهكذا جمعتْ اليات بين حالة التفاق وحالة الختلف وبيّ َنتْ جزاء كل منهما‪.‬‬
‫ق وهذا مُبطِل‬
‫فالفصل إما فصل أماكن‪ ،‬وإما فصل جزاءات‪ ،‬قالوا‪ :‬بالطبع فالحكم بينهم‪ :‬هذا ُمحِ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سيؤدي إلى اختلف الماكن واختلف الجزاءات‪.‬‬
‫شهِيدٌ { [الحج‪ ]17 :‬لن ال تعالى هو الحكَم الذي يفصل‬
‫شيْءٍ َ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬إِنّ اللّهَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫بين عباده‪ ،‬والحكم يحتاج إما إلى بينة أو شهود‪ ،‬والشهود ل ُبدّ أن يكونوا عُدولً‪ ،‬ول يتحقق‬
‫العدل في الشهادة إل بدين يمنع النسان أنْ يميل عن الحق‪ ،‬فإن كان الحكم هو ال فل حاجة‬
‫لبيّنة‪ ،‬ول حاجةَ لشهود؛ لنه سبحانه يحيط علمه بكل شيء‪ ،‬ول يعزب عن علمه مثقال ذرة في‬
‫السموات ول في الرض‪.‬‬
‫حكْم وال َفصْل من الحق سبحانه يشمل كل السلطات‪ :‬التشريعية والقضائية‬
‫ومن العجيب أن ال ُ‬
‫حكْمه سبحانه ل يُؤجّل ول يُتحّايل عليه‪ ،‬ول تضيع فيه الحقوق كما تضيع في‬
‫والتنفيذية‪ ،‬ف ُ‬
‫سراديب وأدراج المحاكم‪.‬‬
‫حكْم البشر فينفصل فيه التشريع عن القضاء عن التنفيذ‪ ،‬فربما صدر الحكم وتعطّل تنفيذه‪ ،‬أما‬
‫أما ُ‬
‫حكم ال فنافذ ل يُؤجّله شيء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المسألة لن تمرّ هكذا‪ ،‬بل هي محسوبة لك أو عليك‪.‬‬
‫ت َومَن فِي الَ ْرضِ‪.{ ..‬‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫جدُ لَهُ مَن فِي ال ّ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ َيسْ ُ‬

‫(‪)2594 /‬‬

‫س وَا ْل َقمَرُ وَالنّجُو ُم وَالْجِبَالُ‬


‫شمْ ُ‬
‫سمَاوَاتِ َومَنْ فِي الْأَ ْرضِ وَال ّ‬
‫جدُ لَهُ مَنْ فِي ال ّ‬
‫أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْ ُ‬
‫ب َومَنْ ُيهِنِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِنْ ُمكْرِمٍ إِنّ اللّهَ‬
‫وَالشّجَرُ وَال ّدوَابّ َوكَثِيرٌ مِنَ النّاسِ َوكَثِيرٌ حَقّ عَلَ ْيهِ ا ْلعَذَا ُ‬
‫َي ْفعَلُ مَا يَشَاءُ (‪)18‬‬

‫قوله تعالى‪ { :‬أََلمْ تَرَ‪[ } ..‬الحج‪ ]18 :‬يعني‪ :‬ألم تعلم؛ لن السُجود من هذه الشياء سجود على‬
‫حقيقته كما نعلمه في السجود من أنفسنا‪ ،‬ولكل جنس من أجناس الكون سجود يناسبه‪.‬‬
‫وسبق أن تحدثنا عن أجناس الكون وهي أربعة‪ :‬أدناها الجماد‪ ،‬ثم يليه النبات‪ ،‬حيث يزيد عليه‬
‫خاصية النمو وخاصية الحركة‪ ،‬ثم يليه الحيوان الذي يزيد خاصية الحساس‪ ،‬ثم يليه النسان‬
‫ويزيد عليه خاصية الفكر والختيار بين البدائل‪.‬‬
‫وكل جنس من هذه الجناس يخدم ما هو أعلى منه‪ ،‬حيث تنتهي هذه الدائرة بأن كل مَا في كون‬
‫ال مُسخّر لخدمة النسان‪ ،‬وفي الخبر‪ " :‬يا ابن آدم خلقتُ الشياء من أجلك‪ ،‬وخلق ُتكَ من أجلي‪،‬‬
‫عمّنْ أنت له "‪.‬‬
‫فل تشتغل بما هو لك َ‬
‫فكان على النسان أن يفكر في هذه الميْزة التي منحه ربه إياها‪ ،‬ويعلم أن كل شيء في الوجود‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صغُر فله مهمة يؤديها‪ ،‬و َدوْر يقوم به‪ .‬فَأوْلَى بك أيها النسان وأنت سيد هذا الكون أن‬
‫مهما َ‬
‫ت بأقلّ من هذه المخلوقات التي سخّرها ال‬
‫يكون لك مهمة ‪ ،‬وأن يكون لك دور في الحياة فلس َ‬
‫ت أقلّ منها وأدنى‪.‬‬
‫لك‪ ،‬وإلّ صِ ْر َ‬
‫إن كانت مهمة جميع المخلوقات أنْ تخدمك لنك أعلى منها‪ ،‬فانظر إلى مهمتك لمَنْ هو أعلى‬
‫منك‪ ،‬فإذا جاءك رسول من أعلى منك ليُنبّهك إلى هذه المهمة كان عليك أن تشكره؛ لنه نبّهك إلى‬
‫ما ينبغي لك أن تشتغل به‪ ،‬وإلى مَنْ يجب عليك التصال به دائما لذلك فالرسول ل يصح أن‬
‫حلّ للبحث العقلي‪.‬‬
‫تنصرف عنه أبدا؛ لنه يُوضّح لك مسائل كثيرة هي مَ َ‬
‫وكان على العقل البشري أن يفكر في كل هذه الجناس التي تخدمه‪ :‬ألك قدرة عليها؟ لقد خدم ْتكَ‬
‫ن توجدَ عندك القدرة لتأمر أو لتتناول هذه الشياء‪،‬‬
‫صغَرِك قبل أنْ تُوجّه إليها أمرا‪ ،‬وقبل أ ْ‬
‫منذ ِ‬
‫كان عليك أنْ تتنبه إلى القوة العلى منك ومن هذه المخلوقات‪ ،‬القوة التي سخّ َرتْ الكون كله‬
‫لخدمتك‪ ،‬وهذا َبحْث طبيعي ل ُبدّ أن يكون‪.‬‬
‫هذه الشياء في خدمتها لك لم تتأبّ عليك‪ ،‬ولم تتخلف يوما عن خدمتك‪ ،‬انظر إلى الشمس والقمر‬
‫وغيرهما‪ :‬أقالت الشمس يوما‪ :‬إن هؤلء القوم ل يستحقون المعروف‪ ،‬فلن أطلع عليهم اليوم؟!‬
‫الرض‪ :‬هل ض ّنتْ في يوم على زراعها؟ الريح‪ :‬هل توقفتْ عن الهبوب‪ .‬وكلها مخلوقات أقوى‬
‫منك‪ ،‬ول قدرةَ لك عليها‪ ،‬ول تستطيع تسخيرها‪ ،‬إنما هي في قبضة ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ومُسخّرة‬
‫لك بأمره سبحانه‪ ،‬ولنها مُسخّرة فل تتخلف أبدا عن أداء مهمتها‪.‬‬
‫أما النسان فيأتي منه الفساد‪ ،‬ويأتي منه الخروج عن الطاعة لما منحه ال من منطقة الختيار‪.‬‬

‫البعض يقول عن سجود هذه المخلوقات أنه سجود دللة‪ ،‬ل سجودا على حقيقته‪ ،‬لكن هذا القول‬
‫علِ َم صَلَتَ ُه وَتَسْبِيحَهُ‪[} ..‬النور‪.]41 :‬‬
‫يعارضه قول ال تعالى‪ُ {:‬كلّ قَدْ َ‬
‫صغُر صلة وتسبيح وسجود‪ ،‬يتناسب وطبيعته‪ ،‬إنك لو تأملت سجود النسان‬
‫فلكل مخلوق مهما َ‬
‫بجبهته على الرض لوجدتَ اختلفا بين الناس باختلف الحوال‪ ،‬وهم نوع واحد‪ ،‬فسجود‬
‫الصحيح غير سجود المريض الذي يسجد وهو على الفراش‪ ،‬أو جالس على مقعد‪ ،‬وربما يشير‬
‫بعينه‪ ،‬أو أصبعه للدللة على السجود‪ ،‬فإن لم يستطع أجرى السجود على خاطره‪.‬‬
‫فإذا كان السجود يختلف بهذه الصورة في الجنس الواحد حَسْب حالة وقدرته وطاقته‪ ،‬فلماذا نستبعد‬
‫أن يكون لكل جنس سجوده الخاص به‪ ،‬والذي يتناسب مع طبيعته؟‬
‫وإذا كان هذا حال السجود في النسان‪ ،‬فهل ننتظر مثلً أن نرى سجود الشمس أو سجود القمر؟!‬
‫ما دام الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬قال إنها تسجد‪ ،‬فل ُبدّ أن نؤمن بسجودها‪ ،‬لكن على هيئة ل‬
‫يعلمها إل خالقها عز وجل‪.‬‬
‫بال‪ ،‬لو جلس مريض يصلي على مقعد أو على الفراش‪ ،‬أتعرف وهو أمامك أنه يسجد؟ إذن‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كيف نطمع في معرفة كيفية سجود هذه المخلوقات؟‬
‫ومن معاني السجود‪ :‬الخضوع والطاعة‪ ،‬فمَنْ يستبعد أن يكون سجود هذه المخلوقات سجودا على‬
‫الحقيقة‪ ،‬فليعتبر السجود هنا للخضوع والنقياد والطاعة‪ ،‬كما تقول على إنسان متكبر‪ :‬جاء ساجدا‬
‫سمَآءِ وَ ِهيَ دُخَانٌ َفقَالَ َلهَا وَلِلَ ْرضِ ائْتِيَا‬
‫يعني‪ :‬خاضعا ذليلً‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ُ {:‬ثمّ اسْ َتوَىا إِلَى ال ّ‬
‫طوْعا َأوْ كَرْها قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآ ِئعِينَ }[فصلت‪.]11 :‬‬
‫َ‬
‫إذن‪ :‬لك أن تفهم السجود على أيّ هذه المعاني تحب‪ ،‬فلن تخرج عن مراده سبحانه‪ ،‬ومن رحمة‬
‫ال أنْ جعل هذه المخلوقات خاضعة لرادته‪ ،‬ل تنحلّ عنها أبدا ول تتخلف‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬إِنّا‬
‫حمََلهَا الِنْسَانُ‬
‫شفَقْنَ مِ ْنهَا وَ َ‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضِ وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ‬
‫لمَانَةَ عَلَى ال ّ‬
‫عَ َرضْنَا ا َ‬
‫جهُولً }[الحزاب‪.]72 :‬‬
‫إِنّهُ كَانَ ظَلُوما َ‬
‫ونحن نتناقل الن‪ ،‬ونروي بعض حوارات السالكين وأهل المعرفة وأصحاب الفيوضات الذين‬
‫َفهِموا عن ال وتذوّقوا لذّة قُرْبه‪ ،‬وكانوا يتحاورون ويتنافسون ل للمباهاة والفتخار‪ ،‬إنما للترقي‬
‫في القرب من ال‪.‬‬
‫ن يبصقها‪ ،‬وبدتْ عليه الحيرة‪ ،‬وهو‬
‫جلس اثنان من هؤلء العارفين وفي َفمِ أحدهم نَخْمة يريد أ ْ‬
‫ن أبصقها سمعت‬
‫ينظر هنا وهناك فقال لَه صاحبه‪ :‬أَ ْلقِها واسترحِ‪ ،‬فقال‪ :‬كيف وكلما أردتُ أ ْ‬
‫الرض تُسبّح فاستح ْيتُ أنْ أُلقيها على مُسبّح‪ ،‬فقال الخر ‪ -‬ويبدو أنه كان في منزلة أعلى منه ‪-‬‬
‫وقد افتعل ال َبصْق وقال‪ :‬مُسبّح في مُسبّح‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فأهل الكشف والعارفون بال يدركون هذا التسبيح‪ ،‬ويعترفون به‪ ،‬وعلى قدر ما لديك من‬
‫معرفة بال‪ ،‬وما لديك من َفهْم وإدراك يكون تلقّيك وتقبّلك لمثل هذه المور اليمانية‪.‬‬
‫ت َومَن فِي‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫جدُ لَهُ مَن فِي ال ّ‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حين قال‪ } :‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ يَسْ ُ‬
‫الَ ْرضِ‪.‬‬

‫‪[ { .‬الحج‪ ]18 :‬معلوم أن مَنْ في السموات هم الملئكة ولسنْا منهم‪ ،‬لكن نحن من أهل الرض‬
‫حقّ عَلَيْهِ‬
‫س َوكَثِيرٌ َ‬
‫ويشملنا حكم السجود وندخل في مدلولة‪ ،‬فلماذا قال بعدها‪َ } :‬وكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ‬
‫ا ْلعَذَابُ‪[ { ..‬الحج‪.]18 :‬‬
‫علَيْهِ ا ْلعَذَابُ‪[ { ..‬الحج‪ ]18 :‬تُبيّن أن لنا قهري ًة وتسخيرا‬
‫كلمة‪َ } :‬وكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ َوكَثِيرٌ حَقّ َ‬
‫وسجودا كباقي أجناس الكون‪ ،‬ولنا أيضا نطقة اختيار‪ .‬فالكافر الذي يتعوّد التمرّد على خالقه‪:‬‬
‫يأمره باليمان فيكفر‪ ،‬ويأمره بالطاعة فيعصي‪ ،‬فلماذا ل يتمرد على طول الخط؟ لماذا ل يرفض‬
‫حلّ به؟‬
‫المرض إنْ أمرضه ال؟ ولماذا ل يرفض الموت إنْ َ‬
‫إذن‪ :‬النسان مُؤتمِر بأمر ال مثل الشجر والحجر والحيوان‪ ،‬ومنطقة الختيار هي التي نشأ عنها‬
‫حقّ عليه العذاب‪.‬‬
‫هذا النقسام‪ :‬كثير آمن‪ ،‬وكثير َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكن‪ ،‬لماذا لم يجعل ال ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬الخَلْق جميعا مُسخّرين؟‬
‫قالوا‪ :‬لن صفة التسخير وعدم الخروج عن مرادات ال تثبت ل تعالى صفة القدرة على الكل‪،‬‬
‫إنما ل تُثبت ل المحبوبية‪ ،‬المحبوبية ل تكون إل مع الختيار‪ :‬أن تكون حُرّا مختارا في أنْ تُؤمنَ‬
‫أو تكفر فتختار اليمان‪ ،‬وأنْ تكون حُرا وقادرا على المعصية‪ ،‬لكنك تطيع‪.‬‬
‫وضربنا لذلك مثلً ‪ -‬ول المثل العلى ‪َ :-‬هبْ أن عندك عبدين‪ ،‬تربط أحدهما إليك في سلسلة‬
‫مثلً‪ ،‬وتترك الخر حُرا‪ ،‬فإن ناديتَ عليهما أجاباك‪ ،‬فأيهما يكون أطْوعَ لك‪ :‬المقهور المجبر‪ ،‬أم‬
‫الحر الطليق؟‪.‬‬
‫إذن‪ :‬التسخير والقهر يُثبت القدرة‪ ،‬والختيار يُثبت المحبة‪.‬‬
‫حقّ عليه العذاب‪ ،‬من أين هذا‬
‫والخلف الذي حدث من الناس‪ ،‬فكثير منهم آمن‪ ،‬وكثير منهم َ‬
‫الختلف يا رب؟ مما خلقتُه فيك من اختيار‪ ،‬فمَنْ شاء فليؤمن‪ ،‬ومن شاء فليكفر‪ ،‬فكأن كفر‬
‫سخّره للختيار‪ ،‬فهو حتى في اختياره مُسخّر‪.‬‬
‫الكافر واختياره؛ لن ال َ‬
‫أما قوله تعالى‪َ } :‬وكَثِيرٌ مّنَ النّاسِ‪[ { ..‬الحج‪ ]18 :‬يعني‪ :‬باختياراتهم‪ ،‬وكان المفروض أن يقول‬
‫في مقابلها‪ :‬وقليل‪ ،‬لكن هؤلء كثير‪ ،‬وهؤلء كثير أيضا‪.‬‬
‫علَيْهِ ا ْلعَذَابُ‪[ { ..‬الحج‪ ]18 :‬حقّ‪ :‬يعني ثبتَ‪ ،‬فهذا أمر ل بُدّ منه‪ ،‬حتى ل يستوي‬
‫ومعنى‪ } :‬حَقّ َ‬
‫ج َعلُ ا ْلمُسِْلمِينَ كَا ْلمُجْ ِرمِينَ }[القلم‪ ]35 :‬إذن‪ :‬ل بُدّ أنْ يعاقب هؤلء‪ ،‬والحق‬
‫المؤمن والكافر‪َ {:‬أفَنَ ْ‬
‫يقتضي ذلك‪.‬‬
‫وقوله سبحانه‪َ } :‬ومَن ُيهِنِ اللّهُ َفمَا لَهُ مِن ّمكْرِمٍ إِنّ اللّهَ َيفْ َعلُ مَا يَشَآءُ { [الحج‪ ]18 :‬لن أحقيّة‬
‫العذاب من مُساوٍ لك‪ .‬قد يأتي مَنْ هو أقوى منه فيمنعه‪ ،‬أو يأتي شافع يشفع له‪ ،‬وكأن الحق ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬يُيئّسُ هؤلء من النجاة من عذابه‪ ،‬فلن يمنعهم أحد‪.‬‬
‫فمَنْ أراد ال إهانته فلن يُكرمه أحد‪ ،‬لب ُنصْرته ول بالشفاعة له‪ ،‬فالمعنى‪َ } :‬ومَن ُيهِنِ اللّهُ‪..‬‬
‫{ [الحج‪ ]18 :‬أي‪ :‬بالعذاب الذي حَقّ عليه وثبت } َفمَا َلهُ مِن ّمكْرِمٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]18 :‬يعني‪ :‬يكرمه‬
‫ويُخلّصه من هذا العذاب‪ ،‬كذلك ل يوجد مَنْ ُيعِزه؛ لن عِزّته ل تكون إل َقهْرا عن ال‪ ،‬وهذا‬
‫مُحَال‪ ،‬أو يكون بشافع يشفع له عند ال‪ ،‬ول يشفع أحد عند ال إل بإذنه سبحانه‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬نقول‪ :‬إن الحق سبحانه يُجير على خَلْقه ول يُجَار عليه‪ ،‬يعني‪ :‬ل أحد يقول ل‪ :‬هذا في‬
‫جواري؛ لذلك ذ ّيلَ الية بقوله تعالى‪ } :‬اللّهَ َيفْ َعلُ مَا يَشَآءُ { [الحج‪.]18 :‬‬
‫صمُواْ فِي رَ ّبهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُواْ‪.{ ..‬‬
‫صمَانِ اخْ َت َ‬
‫خ ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬هَـاذَانِ َ‬

‫(‪)2595 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سهِمُ‬
‫صبّ مِنْ َفوْقِ ُرءُو ِ‬
‫ط َعتْ َلهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ ُي َ‬
‫صمُوا فِي رَ ّبهِمْ فَالّذِينَ كَفَرُوا قُ ّ‬
‫صمَانِ اخْ َت َ‬
‫خ ْ‬
‫هَذَانِ َ‬
‫حمِيمُ (‪)19‬‬
‫الْ َ‬

‫خصْم من اللفاظ التي يستوي فيها المفرد والمثنى والجمع‪ ،‬وكذلك المذكر والمؤنث كما في‬
‫كلمة َ‬
‫سوّرُواْ ا ْلمِحْرَابَ }[ص‪.]21 :‬‬
‫خصْمِ إِذْ تَ َ‬
‫قوله تعالى{ وَ َهلْ أَتَاكَ نَبَأُ ا ْل َ‬
‫صمَانِ َبغَىا َب ْعضُنَا عَلَىا َب ْعضٍ‪[} ..‬ص‪.]22 :‬‬
‫خ ْ‬
‫ويقول تعالى‪َ {:‬‬
‫س َوكَثِيرٌ حَقّ عَلَ ْيهِ‬
‫صمَانِ‪[ } ..‬الحج‪ ]19 :‬قوله تعالى‪َ {:‬وكَثِيرٌ مّنَ النّا ِ‬
‫خ ْ‬
‫والمراد بقوله‪َ { :‬‬
‫ا ْلعَذَابُ‪[} ..‬الحج‪ ]18 :‬والخصومة تحتاج إلى َفصْل بين المتخاصمين‪ ،‬وال َفصْل يحتاج إلى شهود‪،‬‬
‫شهِيدا‪[} ..‬النساء‪]79 :‬‬
‫لكن إنْ جاء ال َفصْل من ال تعالى فلن يحتاج إلى شهود{ َوكَفَىا بِاللّهِ َ‬
‫وإنْ جاء عليهم بشهود من أنفسهم‪ ،‬فإنما لقامة الحجة ولتقريعهم‪ ،‬يقول تعالى‪َ {:‬وقَالُواْ ِلجُلُودِ ِهمْ لِمَ‬
‫شيْءٍ‪[} ..‬فصلت‪.]21 :‬‬
‫طقَ ُكلّ َ‬
‫طقَنَا اللّهُ الّذِي أَن َ‬
‫شهِدتّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَن َ‬
‫َ‬
‫ن قلتَ‪ :‬كيف تشهد الجوارح على صاحبها يوم القيامة وهي التي فعلت؟‬
‫فإ ْ‬
‫نقول‪ :‬هناك فَرْق بين عمل أريده وعمل أؤديه‪ ،‬وأنا أبغضه وضربنا لذلك مثلً ‪ -‬ول المثل‬
‫العلى ‪ -‬بالقائد الذي يأمر جنوده‪ ،‬وعليهم أنْ يُطيعوه حتى إنْ كانت الوامر خاطئة‪ ،‬فإنْ رجعوا‬
‫إلى القائد العلى ح َكوْا له مَا كان من قائدهم؛ ذلك لن القائد العلى جعل له ولية عليهم‪،‬‬
‫وألزمهم طاعته والئتمار بأمره‪.‬‬
‫فالخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬جعل لرادة النسان ولية على جوارحه‪ ،‬فالفعل ‪ -‬إذن ‪ -‬للرادة‪ ،‬وما‬
‫الجوارح إل أداة للتنفيذ‪ .‬فحينما تريد مثلً أنْ تقوم‪ ،‬مجرد أن تريد ذلك تجد نفسك قائما دون أنْ‬
‫تفكر في حركة القيام أو العضلت التي تحركتْ لتؤدي هذا العمل‪ ،‬مع أنها عملية مُعقّدة تتضافر‬
‫فيها الرادة والعقل والعصاب والعضاء‪ ،‬وأنت نفسك ل تشعر بشيء من هذا كله‪ ،‬وهل في‬
‫قيامك أمرتَ الجوارح أنْ تتحرّك فتحركتْ؟‬
‫ن ينفعل خَلْق‬
‫فإذا كانت جوارحك تنفعل لك وتطاوعك لمجرد الرادة‪ ،‬أفل يكون أوْلى من هذا أ ْ‬
‫ال لرادة ال؟‬
‫إذن‪ :‬العمدة في الفعال ليستْ الجوارح وإنما الرادة‪ ،‬بدليل أن ال تعالى إذا أراد أنْ يُعطّل‬
‫جارحة من الجوارح عطّل الرادة المرة‪ ،‬وقطعها عن الجارحة‪ ،‬فإذا هي مشلولة ل حركةَ فيها‪،‬‬
‫فإنْ أراد النسان تحريكها بعد ذلك فلن يستطيع‪ ،‬لماذا؟‬
‫لنه ل يعلم البعاض التي تُحرّك هذه الجارحة‪ ،‬ولو سألتَ أعلم الناس في علم الحركة والذين‬
‫صنعوا النسان اللي‪ :‬ما الحركة اللية التي تتم في جسم النسان كي يقوم من نومه أو من‬
‫جِلْسته؟ ولن يستطيع أحد أنْ يصفَ لك ما يتم بداخل الجسم في هذه المسألة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أما لو نظرتَ مثلً إلى الحفّار‪ ،‬وهو يُؤدّي حركات أشبه بحركات الجسم البشري لوجدتَ صبيا‬
‫صفَ لك كل حركة فيه‪ ،‬وما اللت التي تشترك‬
‫يشغله باستخدام بعض الزرار‪ ،‬ويستطيع أنْ ي ِ‬
‫في كل حركة‪َ .‬فقُلْ لي بال‪ :‬ما الزر الذي تضغط عليه لتحرك يدك أو ذراعك؟ ما الزر الذي‬
‫تُحرّك به عينيك‪ ،‬أو لسانك‪ ،‬أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة منك فينفعل لك ما تريد؛ لن ال تعالى‬
‫خلقك‪ ،‬وجعل لرادتك السيطرة الكاملة على جوارحك‪ ،‬فل تستبعد أنْ تنفعل المخلوقات ل ‪ -‬عز‬
‫ن تفعلَ‪.‬‬
‫وجل ‪ -‬إنْ أراد منها أ ْ‬

‫حتى العذاب في الخرة ليس لهذه الجوارح والبعاض‪ ،‬إنما العذاب للنفس الواعية‪ ،‬بدليل أن‬
‫النسان إذا تعرّض للم شديد ل يستريح منه ل أنْ ينام‪ ،‬فإذا استيقظ عاوده اللم‪ ،‬إذن‪ :‬فالنفس هي‬
‫التي تألم وتتعذّب ل الجوارح‪.‬‬
‫والحق سبحانه هو الذي يفصل بين هذيْن الخصميْن‪ ،‬كما قال سبحانه في آية أخرى{ إِنّ اللّهَ‬
‫صلُ بَيْ َنهُمْ َيوْمَ ا ْلقِيامَةِ‪[} ..‬الحج‪.]17 :‬‬
‫َيفْ ِ‬
‫لذلك يقول المام علي رضي ال عنه وكرّم ال وجهه‪ :‬أنا أول مَنْ يجثو بين يدي ال يوم القيامة‬
‫للفصل ومعي عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب‪ .‬هؤلء في جانب وفي الجانب المقابل‪:‬‬
‫عتبة ابن ربيعة‪ ،‬وشيبة بن ربيعة‪ ،‬والوليد بن عتبة‪.‬‬
‫لماذا؟ لن بين هؤلء كانت أول معركة في السلم‪ ،‬وهذه أول خصومة وقعتْ فيه‪ ،‬ذلك لنهم في‬
‫معركة بدر أخرج رسول ال صلى ال عليه وسلم قوما للمبارزة‪ ،‬وكانت عادتهم في الحروب أنْ‬
‫يخرج أقوياء القوم وأبطالهم للمبارزة بدل أنْ يُعذّبوا القوم ويشركوا الجميع في القتال‪ ،‬ويعرّضوا‬
‫أرواح الناس جميعا للخطر‪.‬‬
‫صفّين حيث قال علي‬
‫ومن ذلك ما حدث بين علي ومعاوية ‪ -‬رضي ال عنهما ‪ -‬في موقعة ِ‬
‫لمعاوية‪ :‬ابرز إليّ يا معاويةُ‪ ،‬فإنْ غلبتني فالمر لك‪ ،‬وإنْ غلبتُك فاجعل المر لي‪ ،‬فقال عمرو بن‬
‫حقْنٌ لدماء‬
‫العاص وكان في صفوف معاوية‪ :‬وال‪ ،‬يا معاوية لقد أنصفك الرجل‪ ،‬وفي هذا َ‬
‫المسلمين في الجانبين‪.‬‬
‫فنظر معاوية إلى عمرو وقال‪ :‬وال يا عمرو ما أر ْدتَ إل إن أبرز له فيقتلني‪ ،‬ويكون لك المر‬
‫من بعدي‪ ،‬وما ُد ْمتَ قد قلتَ ما قلتَ فل يبارزه غيرك فاخرج إليه‪.‬‬
‫فقام عمرو لمبارزة علي‪ ،‬لكن أين عمرو من شجاعة علي وقوته؟ وحمل عليّ على عمرو حملة‬
‫قوية‪ ،‬فلما أحسّ عمرو أن عليا سيضربه ضربة تميته لجأ إلى حيلة‪ ،‬واستعمل دهاءه في صَرْف‬
‫عليّ عنه‪ ،‬فكشف عمرو عن عورته‪ ،‬وهو يعلم تماما أن عليا يتورع عن النظر إلى العورة‪،‬‬
‫وفعلً تركه علي وانصرف عنه‪ ،‬ونجا عمرو بحيلته هذه‪.‬‬
‫سوْأَ ِتهِ‬
‫وقد عبّر الشاعر عن هذا الموقف فقال‪َ :‬ولَخَيْرَ في رَدّ الرّدَى بِدَنيّةٍ كَما رَدّهَا َيوْما بِ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صيّ ال ّدمْعِ‬
‫ع ِ‬
‫عمْرُوويقول الشريف الرضي ‪ -‬وهو من آل البيت ‪ -‬في القصيدة التي مطلعها‪:‬أرَاكَ َ‬
‫َ‬
‫ك ولَ َأمْربَلَى أَنَا مُشْتَاقٌ وعِنْدي َلوْعَ ٌة وَلكِنْ مِثْلي لَ ُيذَاعُ َلهُ‬
‫شِيمَ ُتكَ الصّبْر أَما لِ ْل َهوَى َن ْهيُ عل ْي َ‬
‫ن أو القَبْرُ‬
‫س لَ تَوسّطَ بَيْنَنَا لَنَا الصّدْرُ دُون العَالَمي َ‬
‫سِرّوفيها يقول‪:‬وَإنّا أُنَا ٌ‬

‫نعود إلى بدر‪ ،‬حيث اعترض الكفار حينما أخرج لهم رسول ال بعض رجال النصار فقالوا‪:‬‬
‫هؤلء نكرات من النصار‪ ،‬نريد أن تُخرِج لنا َأ ْكفَاءنا من رجال قريش‪ ،‬فأخرج لهم رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم عليا وحمزة وعبيد بن الحارث بن عبد المطلب‪ ،‬وأخرجوا هم عتبة وشيبة‬
‫والوليد‪ ،‬وكان ما كان من ُنصْرة المسلمين وهزيمة المشركين‪.‬‬
‫شكُرُونَ }[آل‬
‫وهذا هو اليوم الذي قال ال فيه‪ {:‬وََلقَدْ َنصَ َركُمُ اللّهُ بِبَدْ ٍر وَأَنْتُمْ أَذِلّةٌ فَا ّتقُواْ اللّهَ َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫عمران‪.]123 :‬‬
‫إذن‪ :‬فبدر كانت َفصْلً دنيويا بين هذيْ الخصْمين‪ ،‬ويبقى َفصْل الخرة الذي قال فيه المام علي‪:‬‬
‫" أنا أول مَنْ يجثو بين يدي ال يوم القيامة للفصل "‪.‬‬
‫صمُواْ فِي رَ ّبهِمْ‪[ { ..‬الحج‪ ]19 :‬أي‪ :‬بسبب اختلفهم في ربهم‪ ،‬ففريقٌ يؤمن بوجود‬
‫ومعنى‪ } :‬اخْ َت َ‬
‫إله‪ ،‬وفريقٌ يُنكره‪ ،‬فريق يُثبت له الصفات‪ ،‬وفريق ينفي عنه هذه الصفات‪ ،‬يعني‪ :‬انقسموا بين‬
‫إيمان وكفر‪.‬‬
‫حمِيمُ { [الحج‪:‬‬
‫سهِمُ ا ْل َ‬
‫صبّ مِن َفوْقِ ُرءُو ِ‬
‫ط َعتْ َلهُمْ ثِيَابٌ مّن نّارٍ ُي َ‬
‫ثم يُفصّل القول‪ } :‬فَالّذِينَ كَفَرُواْ قُ ّ‬
‫‪.]19‬‬
‫ط َعتْ َل ُهمْ ثِيَابٌ مّن نّارٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]19 :‬كأن النار تفصيل على قَدْر جسومهم إحكاما للعذاب‪،‬‬
‫} ُق ّ‬
‫شدّتها‪ ،‬وليست فضفاضة عليهم‪.‬‬
‫ومبالغةً فيه‪ ،‬فليس فيها اتساع يمكن أنْ يُقلّل من ِ‬
‫حمِيمُ { [الحج‪ ]19 :‬والحميم‪ :‬الماء الذي بلغ منتهى الحرارة‪ ،‬حتى‬
‫سهِمُ الْ َ‬
‫صبّ مِن َف ْوقِ رُءُو ِ‬
‫ثم } ُي َ‬
‫ن تتصور ماءً يَغليه ربنا عز وجل!!‬
‫صار هو نفسه مُحْرِقا من شِدّة حَرّه‪ ،‬ولكَ أ ْ‬
‫وهكذا يجمع ال عليهم ألوان العذاب؛ لن الثياب يرتديها النسان لتستر عورته‪ ،‬وتقيه الحر‬
‫طمَئِنّةً يَأْتِيهَا‬
‫والبرد‪ ،‬ففيها شمول لمنفعة الجسم‪ ،‬يقول تعالى‪َ {:‬وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْ َيةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ‬
‫خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }‬
‫رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَرَتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْ َ‬
‫[النحل‪.]112 :‬‬
‫فالذاقة ليستْ في اللباس‪ ،‬إنما بشيء آخر‪ ،‬واللباس يعطي الحاطة والشمول‪ ،‬لتعم الذاقة ُكلّ‬
‫أطراف البدن‪ ،‬وتحكم عليه مبالغةً في العذاب‪.‬‬

‫(‪)2596 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صهَرُ ِبهِ مَا فِي بُطُو ِنهِ ْم وَا ْلجُلُودُ (‪)20‬‬
‫ُي ْ‬

‫قلنا‪ :‬إن هذا الماء بلغ من الحرارة منتهاها‪ ،‬فلم ي ْغلِ عند درجة الحرارة التي نعرفها‪ ،‬إنما يُغلِيه‬
‫ربه الذي ل يُطيق عذابَه أحدٌ‪ .‬وأنت إذا صببتَ الماء المغلي على جسم إنسان فإنه يشوي جسمه‬
‫صبّ عليهم فإنه يصهر ما في بطونهم‬
‫من الخارج‪ ،‬إنما ل يصل إلى داخله‪ ،‬أمّا هذا الماء حين ُي َ‬
‫أولً‪ ،‬ثم جلودهم بعد ذلك‪ ،‬فاللهم قِنَا عذابك يوم تبعث عبادك‪.‬‬

‫(‪)2597 /‬‬

‫وََلهُمْ َمقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (‪)21‬‬

‫المقامع‪ :‬هي السياط التي تقمع بها الدابة‪ ،‬وتَرْدعها لتطاوعك‪ ،‬أو النسان حين تعاقبه‪ ،‬لكنها سياط‬
‫من حديد‪ ،‬ففيها دللة على الذّلّة والنكسار‪ ،‬فضلً عن العذاب‪.‬‬
‫ثم يُبيّن الحق سبحانه مهمة هذه المقامع‪ ،‬فيقول‪ { :‬كُّلمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْ ُرجُواْ مِ ْنهَا‪.} ..‬‬

‫(‪)2598 /‬‬

‫غمّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ ا ْلحَرِيقِ (‪)22‬‬


‫كُّلمَا أَرَادُوا أَنْ َيخْرُجُوا مِ ْنهَا مِنْ َ‬

‫الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يُصوّر حال أهل النار وما هم فيه من العذاب ومن اليأس في أن يُخفف‬
‫غمّ العذاب جاءتهم هذه السياط فأعادتهم حيث كانوا‪ ،‬والنسان‬
‫عنهم‪ ،‬فإذا ما حاولوا الخروج من َ‬
‫قد يتعود على نوع من العذاب فيهون عليه المر‪ ،‬كالمسجون مثلً الذي ُيضْرب بالسياط على‬
‫ظهره‪ ،‬فبعد عدة ضربات يفقد الحساس ول يؤثر فيه ضَرْب بعد ذلك‪.‬‬
‫وقد أجاد المتنبي في وصف هذا المعنى حين قال‪َ :‬رمَاني الدّهْرُ بالَرْزَاءِ حتّى كَأنّي فِي غِشَاءٍ مِنْ‬
‫سهَامٌ تكسّرتْ ال ّنصَالُ علَى ال ّنصَاللكن أنّى يُخفّف عن أهل النار‪ ،‬والحق‬
‫نِبَالِفكنتُ إذا َأصَابتْني ِ‬
‫جتْ جُلُو ُدهُمْ َبدّلْنَاهُمْ جُلُودا غَيْ َرهَا لِيَذُوقُواْ ا ْلعَذَابَ‪[} ..‬النساء‪:‬‬
‫سبحانه وتعالى يقول‪ {:‬كُّلمَا َنضِ َ‬
‫‪.]56‬‬
‫ففي إعادتهم تيئيس لهم بعد أنْ طمِعوا في النجاة‪ ،‬وما أشدّ اليأس بعد الطمع على النفس؛ لذلك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يقولون‪ :‬ل أفجعَ من يأسٍ مقمع‪ ،‬بعد أمل ُم ْقمِع‪ .‬كما يقول تعالى‪ {:‬وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ‪} ..‬‬
‫شوِي‬
‫[الكهف‪ ]29 :‬ساعة يسمعون الغاثة يأملون ويستبشرون‪ ،‬فيأتيهم اليأس في{ ِبمَآءٍ كَا ْل ُمهْلِ يَ ْ‬
‫الْوجُوهَ‪[} ..‬الكهف‪.]29 :‬‬
‫عذَابَ الْحَرِيقِ } [الحج‪ ]22 :‬الحريق‪ :‬الشيء الذي يحرق غيره لشدته‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَذُوقُواْ َ‬
‫ت الياتُ عن الكافرين‪ ،‬وما حاق بهم من العذاب كان ل بُدّ أنْ تتحدّث عن المقابل‪،‬‬
‫وبعد أن تحدث ْ‬
‫عن المؤمنين ليُجري العقلُ مقارنةً بين هذا وذاك‪ ،‬فيزداد المؤمن تشبّثا باليمان و ُنفْرةً من الكفر‪،‬‬
‫وكذلك الكافر ينتبه لعاقبة كُفْره فيزهد فيه ويرجع إلى اليمان‪ ،‬وهكذا ينتفع الجميع بهذه المقابلة‪،‬‬
‫وكأن الحق سبحانه وتعالى يعطينا في آيات القرآن وفي المقابلت وسائل النجاة والرحمة‪.‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ‪.} ..‬‬
‫خلُ الّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫يقول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬إِنّ اللّهَ ُيدْ ِ‬

‫(‪)2599 /‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ َتحْ ِتهَا الْأَ ْنهَارُ يُحَّلوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ‬
‫خلُ الّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬
‫إِنّ اللّهَ يُ ْد ِ‬
‫سهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (‪)23‬‬
‫ب وَُلؤُْلؤًا وَلِبَا ُ‬
‫مِنْ ذَ َه ٍ‬

‫يُبيّن الحق سبحانه وتعالى مَا أعدّه لعباده المؤمنين حيث السكن‪ { :‬جَنّاتٍ َتجْرِي مِن تَحْ ِتهَا‬
‫ب وَُلؤْلُؤا‪[ } ..‬الحج‪]23 :‬‬
‫حّلوْنَ فِيهَا مِنْ َأسَاوِرَ مِن ذَ َه ٍ‬
‫الَ ْنهَارُ‪[ } ..‬الحج‪ ]23 :‬والزينة‪ { :‬يُ َ‬
‫سكَن والزينة واللباس‪.‬‬
‫سهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [الحج‪ ]23 :‬فجمع لهم نعيم ال ّ‬
‫واللباس‪ { :‬وَلِبَا ُ‬
‫وفي الخرة يُنعّم الرجال بالحرير وبالذهب الذي حُرّم عليهم في الدنيا‪ ،‬وهنا قد يعترض النساء‪،‬‬
‫وما النعيم في شيء تنعّمنا به في الدنيا وهو الحرير والذهب؟‬
‫نعم تتمتعْن بالحرير والذهب في الدنيا‪ ،‬أمّا في الخرة فهو نوع آخر ومتعة كاملة ل يُنغّصها‬
‫ق معها ل يأخذه أحد‪ ،‬ول تحتاج إلى تغييره أو‬
‫شيء‪ ،‬فالحلي للمرأة خالصٌ من المكدّرات‪ ،‬وبا ٍ‬
‫بيعه؛ لنه يتجدّد في يدها كل يوم‪ ،‬فتراه على صياغة جديدة وشكل جديد غير الذي كان عليه‪ .‬كما‬
‫قلنا سابقا في قوله تعالى عن أهل الجنة‪ {:‬قَالُواْ هَـاذَا الّذِي رُ ِزقْنَا مِن قَ ْبلُ‪[} ..‬البقرة‪.]25 :‬‬
‫فحسبوا أن طعام الجنة وفاكهتها كفاكهة الدنيا التي أكلوها من قبل‪ ،‬فيُبيّن لهم ربهم أنها ليستْ‬
‫كفاكهة الدنيا{ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها‪[} ..‬البقرة‪ ]25 :‬يعني‪ :‬أنواعا مختلفة للصنف الواحد‪.‬‬
‫ثم يقول الحق‪ { :‬وَهُدُواْ ِإلَى الطّ ّيبِ مِنَ ا ْل َقوْلِ‪.} ..‬‬

‫(‪)2600 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمِيدِ (‪)24‬‬
‫وَهُدُوا إِلَى الطّ ّيبِ مِنَ ا ْلقَ ْولِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ ا ْل َ‬

‫(هُدُوا) هداهم ال‪ ،‬فالذي دلّهم على وسائل دخول الجنة والتمتّع فيها بالسكن والزينة واللباس كذلك‬
‫يهديهم الن في الجنة ويدلّهم على كيفية شُكر المنعم على هذه النعمة‪ ،‬هذا معنى‪ { :‬وَهُدُواْ إِلَى‬
‫الطّ ّيبِ مِنَ ا ْل َق ْولِ‪[ } ..‬الحج‪ ]24 :‬هذا القول الطيب لخّصته آيات أخرى‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪{:‬‬
‫الْحَـمْدُ للّهِ الّذِي صَ َدقَنَا وَعْ َدهُ‪[} ..‬الزمر‪.]74 :‬‬
‫حمْدُ للّهِ‪ * ..‬الّذِي َأحَلّنَا دَارَ ا ْل ُمقَامَةِ مِن َفضْلِهِ‪[} ..‬فاطر‪.]35 - 34 :‬‬
‫وقوله‪ {:‬ا ْل َ‬
‫حمْدُ للّهِ الّذِي َأذْ َهبَ عَنّا ا ْلحَزَنَ‪[} ..‬فاطر‪]34 :‬‬
‫وقوله‪ {:‬ا ْل َ‬
‫ن يقولوا‪ :‬الحمد ل‪ ،‬كما يقول‬
‫فحين يدخل أهل الجنةِ الجنةَ‪ ،‬ويباشرون النعيم المقيم ل يملكون إل أ ْ‬
‫حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[يونس‪.]10 :‬‬
‫عوَا ُهمْ أَنِ ا ْل َ‬
‫الحق سبحانه عنهم‪ {:‬وَآخِرُ دَ ْ‬
‫وقالوا‪ { :‬الطّ ّيبِ مِنَ ا ْل َق ْولِ‪[ } ..‬الحج‪ ]24 :‬هو كلمة التوحيد‪ :‬ل إله إل ال‪ ،‬فهذه الكلمة هي‬
‫المعشوقة التي أتتْ بنا إلى الجنة‪ ،‬والمعنى يسَع كل كلم طيب‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ‬
‫سمَآءِ }[إبراهيم‪.]24 :‬‬
‫عهَا فِي ال ّ‬
‫ت َوفَرْ ُ‬
‫شجَرةٍ طَيّ َبةٍ َأصُْلهَا ثَا ِب ٌ‬
‫ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً كَِلمَةً طَيّبَةً كَ َ‬
‫حمِيدِ } [الحج‪ ]24 :‬أي‪ :‬هداهم ال إلى طريق الجنة‪ ،‬أو‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَ ُهدُواْ إِلَىا صِرَاطِ الْ َ‬
‫جهَنّمَ‪[} ..‬النساء‪:‬‬
‫إلى الجنة ذاتها‪ ،‬كما قال في آية الكافرين‪َ {:‬ولَ لِ َي ْهدِ َيهُمْ طَرِيقا * ِإلّ طَرِيقَ َ‬
‫‪.]169 - 168‬‬
‫سجِدِ الْحَرَامِ‪.} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُو ْا وَ َيصُدّونَ عَن سَبِيلِ اللّ ِه وَا ْلمَ ْ‬

‫(‪)2601 /‬‬

‫سوَاءً ا ْلعَا ِكفُ فِيهِ‬


‫جعَلْنَاهُ لِلنّاسِ َ‬
‫جدِ الْحَرَامِ الّذِي َ‬
‫إِنّ الّذِينَ َكفَرُوا وَ َيصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّ ِه وَا ْلمَسْ ِ‬
‫ظلْمٍ ُن ِذقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (‪)25‬‬
‫وَالْبَا ِد َومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِ ُ‬

‫انتقلتْ بنا اليات إلى موضوع جديد‪ { :‬إِنّ الّذِينَ َكفَرُواْ‪[ } ..‬الحج‪ ]25 :‬بصيغة الماضي‪ ،‬لن‬
‫الكفر وقع منهم فعلً { وَ َيصُدّونَ‪[ } ..‬الحج‪ ]25 :‬بصيغة المضارع‪ ،‬والقياس أن نقول‪ :‬كفروا‬
‫وصَدّوا‪ ،‬لكن المسألة ليست قاعدة ول هي عملية آلية؛ لن الصدّ عن سبيل ال ناشيء عن الكفر‬
‫وما يزال صدّهم مستمرا‪.‬‬
‫جدِ ا ْلحَرَامِ‪[ } ..‬الحج‪ ]25 :‬لنهم‬
‫ومعنى { عَن سَبِيلِ اللّهِ‪[ } ..‬الحج‪ ]25 :‬أي‪ :‬عن الجهاد { وَا ْلمَسْ ِ‬
‫منعوا المسلمين من دخوله‪ ،‬وكان في قبضتهم وتحت سيطرتهم‪ ،‬وهذا ما حدث فعلً في الحديبية‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حينما اشتاق صحابة رسول ال إلى أداء العمرة والطواف بالبيت الذي طالت مدة حرمانهم منه‪،‬‬
‫فلما ذهبوا منعهم كفار مكة‪ ،‬وصدّوهم عن دخوله‪.‬‬
‫ن تفعل فيه خطأ‪ ،‬أو تهينه‪،‬‬
‫سجِدِ الْحَرَامِ‪[ } ..‬الحج‪ ]25 :‬كلمة حرام يُستفاد منها أنه مُحرّم أ ْ‬
‫{ وَا ْلمَ ْ‬
‫أو تعتدي فيه‪ .‬وكلمة (الحَرَام) وصف بها بعض المكان وبعض الزمان‪ ،‬وهي خمسة أشياء‪ :‬نقول‪:‬‬
‫البيت الحرام وهو الكعبة‪ ،‬والمسجد الحرام‪ ،‬والبلد الحرام‪ ،‬ثم المشعر الحرام‪ .‬وهذه عبارة عن‬
‫دوائر مركز الكعبة‪ ،‬هذه أماكن‪ ،‬ثم الخامس وهو زمن‪ :‬الشهر الحرام الذي قال ال فيه‪:‬‬
‫شهْرِ ا ْلحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ‪[ } ..‬الحج‪]25 :‬‬
‫{ َيسْأَلُو َنكَ عَنِ ال ّ‬
‫وحُرْمة الزمان والمكان هنا لحكمة أرادها الخالق سبحانه؛ لنه َربٌ رحيم بخَلْقه يريد أن يجعل‬
‫لهم فرصة لِستْر كبريائهم‪ ،‬والحدّ من غرورهم‪ ،‬وكانت تنتشر بين القوم الحروب والصراعات‬
‫التي كانت ُتذْكي نارها عادات قبلية وسعار الحرب‪ ،‬حتى أن كِلَ الفريقين يريد أنْ يُفني الخر‪،‬‬
‫وربما استمروا في الحرب وهم كارهون لها‪ ،‬لكن يمنعهم كبرياؤهم من التراجع والنسحاب‪.‬‬
‫لذلك جعل ال سبحانه لهذه الماكن والزمنة حُرْمة لتكون ستارا لهذا الكبرياء الزائف‪ ،‬ولهذه‬
‫العزة البغيضة‪ .‬وكل حَدَث يحتاج إلى زمان وإلى مكان‪ ،‬فحرّم ال القتال في الشهر الحرم‪ ،‬حتى‬
‫إذا ما استعرت بينهم حرب جاء شهر حرام‪ ،‬فأنقذ الضعيف من قبضة القوى دون أنْ يجرح‬
‫كبرياءه‪ ،‬وربما هَزّ رأسه قائلً‪ :‬لول الشهر الحرام كنت فعلتُ بهم كذا وكذا‪.‬‬
‫حقِن دماءهم‪.‬‬
‫فهذه ‪ -‬إذن ‪ -‬رحمة من ال بعباده‪ ،‬وستار يحميهم من شرور أنفسهم ونزواتها ويَ ْ‬
‫وما أشبه كبرياءَ العرب في هذه المسألة بكبرياء زوجيْن تخاصما على َمضَض‪ ،‬ويريد كل منهم‬
‫أنْ يأتي صاحبه‪ ،‬لكن يمنعه كبرياءه أن يتنازل‪ ،‬فجلس الرجل في غرفته‪ ،‬وأغلق الباب على‬
‫نفسه‪ ،‬فنظرتْ الزوجة‪ ،‬فإذا به يرفع يديه يدعو ال أنْ تُصالحه زوجته‪ ،‬فذهبتْ وتزيّ َنتْ له‪ ،‬ثم‬
‫دفعت الباب عليه وقالت ‪ -‬وكأن أحدا يُجبرها على الدخول ‪( -‬مُوديّانِي فين يا أم هاشم)‬
‫وكذلك‪ ،‬جعل في المكان محرما؛ لن الزمن الحرام الذي حرم فيه قتال أربعة أشهر‪ :‬ثلثة سرد‬
‫وواحد فرد‪ ،‬الفرد هو رجب‪ ،‬والسرد هي‪ :‬ذو القعدة‪ ،‬وذو الحجة‪ ،‬والمحرم‪.‬‬

‫حقْد‬
‫فحرّم أيضا القتال في هذه الماكن ليعصم دماء الخَلْق أنْ تُراقَ بسبب تناحر القبائل بال ِغلّ وال ِ‬
‫والكبرياء والغرور‪.‬‬
‫سجِدِ الْحَرَامِ حَتّىا ُيقَاتِلُوكُمْ‬
‫يقول تعالى في تحريم القتال في البيت الحرام‪َ {:‬ولَ ُتقَاتِلُوهُمْ عِ ْندَ ا ْلمَ ْ‬
‫فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُو ُهمْ كَذَِلكَ جَزَآءُ ا ْلكَافِرِينَ }[البقرة‪.]191 :‬‬
‫فلعلّهم حين تأتي شهور التحريم‪ ،‬أو يأتي مكانه يستريحون من الحرب‪ ،‬فيدركون لذة السلم‬
‫سعَار الحرب يجُرّ حربا‪ ،‬ولذة‬
‫وأهمية الصلح‪ ،‬فيقضون على أسباب النزاع بينهم دون حرب‪ ،‬ف ُ‬
‫السلم وراحة المن والشعور بهدوء الحياة َيجُرّ مَيْلً للتصالح وفضّ مثل هذه المنازعات بالطرق‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السلمية‪.‬‬
‫والمتأمل في هذه الماكن التي حرّمها ال يجدها على مراتب‪ ،‬وكأنها دوائر مركزها بيت ال‬
‫الحرام وهو الكعبة‪ ،‬ثم المسجد الحرام حولها‪ ،‬ثم البلد الحرام وهي مكة‪ ،‬ثم المشعر الحرام الذي‬
‫يأخذ جزءا من الزمن فقط في أيام الحج‪.‬‬
‫أما الكعبة فليست كما يظنّ البعض أنها هذا البناء الذي نراه‪ ،‬الكعبة هي المكان‪ ،‬أما هذا البناء فهو‬
‫ضتَ هذا البناء القائم الن فمكان البناء هو البيت‪ ،‬هذا مكانه إنْ نز ْلتَ في أعماق‬
‫المكين‪ ،‬فلو نق ْ‬
‫الرض أو صع ْدتَ في طبقات السماء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فبيت ال الحرام هو هذه البقعة من الرض حتى السماء‪َ ،‬ألَ ترى الناس ُيصَلّون في الدوار‬
‫جوّ الكعبة‪ ،‬ل يواجهون الكعبة ذاتها‪ ،‬لماذا؟‬
‫العليا‪ ،‬وهم أعلى من هذا البناء بكثير؟ إنهم يواجهون َ‬
‫لن الكعبة ممتدة في الجو إلى ما شاء ال‪.‬‬
‫ثم يلي البيت المسجد‪ ،‬وهو قطعة أرض حُكرت على المسجدية‪ ،‬لكن هناك مسجد بالمكان حين‬
‫تقيمه أنت‪ ،‬وتجعل له بناء مثل هذا البناء الذي نتحدث فيه الن يسمى " مسجد " بالمكان‪ ،‬أو‬
‫مسجد بالمكين حين يضيق علينا هذا المسجد فنخرج نصلي في الشارع فهو في هذه الحالة مسجد‪،‬‬
‫قالوا‪ :‬ولو امتد إلى صنعاء وتواصلتْ الصفوف فكلّه مسجد‪.‬‬
‫نعود إلى " ما دار بين المسلمين والمشركين يوم الحديبية‪ ،‬فقد صدّ الكفار المسلمين عن بيت ال‬
‫الحرام وهم على مَرْمى البصر منه‪ ،‬فاغتاظ المسلمون لذلك‪ ،‬ورأى بعضهم أن يدخل مكة عُنْوة‬
‫ورَغْما عنهم‪.‬‬
‫لكن كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم سِرّ بينه وبين ربه عز وجل‪ ،‬فنزل على شروطهم‪،‬‬
‫وعقد معهم صُلْحا هو " صلح الحديبية " الذي أثار حفيظة الصحابة‪ ،‬وعلى رأسهم عمر بن‬
‫الخطاب‪ ،‬فقال لرسول ال‪:‬يا رسول ال‪ ،‬ألسنا على الحق؟ قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬بلى " قال‪:‬‬
‫أليسوا هم على باطل؟ قال‪ :‬فلِمَ ُن ْعطِى الدنيّة في ديننا؟ "‪.‬‬
‫وكان من بنود هذا الصلح‪ :‬إذا أسلم كافر ودخل في صفوف المسلمين يرده محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وإذا ذهب مسلم إليهم ل يردونه إلى المسلمين‪.‬‬
‫وكان للسيدة أم المؤمنين أم سلمة ‪ -‬رضوان ال عليها ‪ -‬موقف عظيم في هذه الشدة‪ ،‬ورَأْي سديد‬
‫ردّ آراء الرجال إلى الرّشْد وإلى الصواب‪ ،‬وهذا مما نفخر به للمرأة في السلم‪ ،‬ونردّ به على‬
‫المتشدّقين بحقوق المرأة‪.‬‬

‫فلما عاد رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى فُسْطاطه ُمغْضبا فقال لم سلمة‪ " :‬هلك المسلمون يا‬
‫أم سلمة‪ ،‬لقد أمرتهم فلم يمتثلوا " يعني امرهم بالعودة دون أداء العمرة هذا العام‪.‬‬
‫فقالت السيدة أم المؤمنين‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬إنهم مكروبون‪ ،‬فقد مُ ِنعُوا عن بيت ال وهم على مَرْأىً‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫منه‪ ،‬لكن اذهب يا رسول ال إلى ما أمرك به ربك‪ ،‬فافعل فإذا رأوْك فعلْتَهُ علموا أن المر‬
‫عزيمة ‪ -‬يعني ل رجعةَ فيه ‪ -‬وفعلً أخذ رسول ال بهذه النصيحة‪ ،‬فذهب فحلق‪ ،‬وذبح هدية‬
‫وفعل الناس مثله‪ ،‬وانتهت هذه المسألة‪.‬‬
‫ن يعودوا إلى المدينة شاءتْ إرادة ال أنْ يخبرهم بالحكمة في قبول رسول ال لشروط‬
‫لكن قبل أ ْ‬
‫المشركين مع أنها شروط ظالمة مُجْحفة‪:‬‬
‫أولً‪ :‬في هذا الصلح وهذه المعاهدة اعتراف منهم بمحمد ومكانته ومنزلته‪ ،‬وأنه أصبح مساويا‬
‫لهم‪ ،‬وهذا مكسب في حَدّ ذاته‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬اتفق الطرفان على وقف القتال بينهم لعدة سنوات‪ ،‬وهذه الفترة أعطتْ المسلمين فرصة كي‬
‫يتفرغوا لستقبال الوفود ونَشْر دين ال‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬كان في إمكان رسول ال صلى ال عليه وسلم أنْ يدخلهم مكة رَغْما عن أهلها‪ ،‬وكان في‬
‫مقدوره أن يقتلهم جميعا‪ ،‬لكن ماذا سيكون موقف المؤمنين من أهل مكة والذين يسترون إيمانهم‬
‫ول يعرفهم أحد؟ إنهم وسط هؤلء الكفار‪ ،‬وسينالهم ما ينال الكفار‪ ،‬ولو تميّز المؤمنون من الكفار‬
‫أو خرجوا في جانب لمكن تفاديهم‪.‬‬
‫سجِدِ الْحَرَا ِم وَا ْلهَ ْديَ َم ْعكُوفا أَن يَبُْلغَ مَحِلّهُ‬
‫اقرأ قوله تعالى‪ُ {:‬همُ الّذِينَ َكفَرُو ْا َوصَدّوكُمْ عَنِ ا ْلمَ ْ‬
‫خلَ‬
‫وََلوْلَ رِجَالٌ ّم ْؤمِنُونَ وَنِسَآءٌ ّم ْؤمِنَاتٌ لّمْ َتعَْلمُوهُمْ أَن َتطَئُوهُمْ فَ ُتصِي َبكُمْ مّ ْنهُمْ ّمعَ ّرةٌ ِبغَيْرِ عِ ْلمٍ لّيُ ْد ِ‬
‫عذَابا أَلِيما }[الفتح‪.]25 :‬‬
‫حمَتِهِ مَن يَشَآءُ َلوْ تَزَيّلُواْ َلعَذّبْنَا الّذِينَ َكفَرُواْ مِ ْنهُمْ َ‬
‫اللّهُ فِي َر ْ‬
‫سوَآءً‬
‫جعَلْنَاهُ لِلنّاسِ‪[ { ..‬الحج‪ ]25 :‬أي‪ :‬جميعا } َ‬
‫ثم يقول تعالى عن المسجد الحرام‪ } :‬الّذِي َ‬
‫ا ْلعَا ِكفُ فِي ِه وَالْبَادِ‪[ { ..‬الحج‪ ]25 :‬العاكف فيه يعني‪ :‬المقيم‪ ،‬والباد‪ :‬القادم إليه من خارج مكة‪،‬‬
‫سوَآءً‪[ { ..‬الحج‪ ]25 :‬يعني‪ :‬هذان النوعان متساويان تماما‪.‬‬
‫ومعنى } َ‬
‫لذلك نقول للذين يحجزون الماكن لحسابهم في بيت ال الحرام خاصة‪ ،‬وفي بيوت ال عامة‪:‬‬
‫أريحوا أنفسكم‪ ،‬فالمكان محجوز عند ال لمن سبق‪ ،‬ل لمن وضع سجادته‪ ،‬وشغل بها المكان‪.‬‬
‫سوَآءً ا ْلعَاكِفُ فِي ِه وَالْبَادِ‪[ { ..‬الحج‪ ]25 :‬البعض لنْ يقول‪ :‬ل يجوز تأجير‬
‫عتْ هذه الية‪َ } :‬‬
‫وقد دَ َ‬
‫البيوت في مكة‪ ،‬فمَنْ أراد أن ينزل في بيت ينزل فيه دون أجرة حتى يستوي المقيم والغريب‪.‬‬
‫وهذا الرأي مردود عليه بأن البيوت مكان ومكين‪ ،‬وأرض مكة كانت للجميع حين كان المكان‬
‫حُرا يبني فيه من أراد‪ ،‬أمّا بعد أن بنى بيتا‪ ،‬وسكنه أصبح مكينا فيه‪ ،‬ل يجوز لحد دخوله إل‬
‫بإذنه وإرادته‪.‬‬

‫وقد دار حول هذه المسألة نقاش بين الحنظلي في مكة والمام الشافعي‪ ،‬حيث يرى الحنظلي أنه ل‬
‫يجوز تأجير البيوت في مكة؛ لنها حسب هذه الية للجميع‪ ،‬فردّ عليه الشافعي رضي ال عنه‪ :‬لو‬
‫كان المر كذلك لما قال سبحانه في المهاجرين‪ {:‬الّذِينَ ُأخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ‪[} ..‬الحشر‪.]8 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فنسب الديار إليهم‪ .‬وَلمَا قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لما نزل مكة‪ " :‬وهل ترك لنا عقيل‬
‫من دار أو من ربع؟ " وكوْنُ عقيل يبيع دُورهم بعد أن هاجروا‪ ،‬فهذا دليل على ملكيتهم لها‪ .‬لذلك‬
‫رجع الحنظلي إلى رأي الشافعي‪.‬‬
‫هذا مع أن الية تعني البيت فقط‪ ،‬ل مكة كلها‪ ،‬فما كان الخلف ليصل إلى مكة كلها‪.‬‬
‫عذَابٍ أَلِيمٍ { [الحج‪ ]25 :‬اللحاد قد يكون في‬
‫ثم يقول تعالى‪َ } :‬ومَن يُ ِردْ فِيهِ بِإِ ْلحَادٍ ِبظُلْمٍ نّ ِذقْهُ مِنْ َ‬
‫الحق العلى‪ ،‬وهو اللحاد في ال عز وجل‪ ،‬أما هنا فيُراد باللحاد‪ :‬الميْل عن طريق الحقّ‪،‬‬
‫وقوله‪ِ } :‬بظُلْمٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]25 :‬الظلم في شيء ل يسمو إلى درجة الكفر‪ ،‬واللحاد بظلم إنْ حدث‬
‫في بيت ال فهو أمر عظيم؛ لنك في بيت ربك (الكعبة)‪.‬‬
‫وكان يجب عليك أن تستحي من مجرد حديث النفس بمعصية‪ ،‬مجرد الرادة هنا ُتعَدّ ذنبا؛ لنك‬
‫في مقام يجب أنْ تستشعر فيه الجلل والمهابة‪ ،‬فكما أعطى ال لبيته مَيْزة في مضاعفة الحسنات‪،‬‬
‫كذلك عظّم أمر المعصية وأنت في رحاب بيته‪ ،‬فتنبّه لهذه المسألة‪.‬‬
‫سكْر يُتصوّر في بيت‬
‫حتى في أمثال أهل الريف يقولون‪( :‬تيجي في بيت العالم وتسكر) يعني‪ :‬ال ّ‬
‫أحد العصاة‪ ،‬في بيت فاسق‪ ،‬في خمارة‪ ،‬لكن في بيت عالم‪ ،‬فهذا شيء كبير‪ ،‬وجرأة عظيمة‪.‬‬
‫لماذا؟‬
‫فللمكان حُرْمة بحُرمة صاحبة‪ ،‬فإذا كان للمكان حُرْمة بحُرْمة صاحبه‪ ،‬والبيت منسوب إلى ال‪،‬‬
‫عقْر داره‪ ،‬وأيْ جرأة أعظم من الجرأة على ال؟‬
‫فأنت تعصي ربك في ُ‬
‫وهذه خاصية للمسجد الحرام‪ ،‬فكُلّ المساجد في أي مكان بيوت ال‪ ،‬لكن هناك فَرْق بين بيت ال‬
‫باختيار ال‪ ،‬وبيت ال باختيار عباد ال؛ لذلك جُعل بيتُ ال باختيار ال (البيت الحرام) هو القِبْلة‬
‫التي تتجه إليها كل بيوت ال في الرض‪.‬‬
‫فما عاقبة اللحاد في بيت ال؟ } نّ ِذ ْقهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ { [الحج‪ ]25 :‬إنهم سيذوقون العذاب بأمر من‬
‫الحق دائما وأبدا‪ ،‬والذاقة أشد الدراكات تأثيرا‪ ،‬وذلك هو العذاب المهين‪ ،‬والذوق هو الحساس‬
‫بالمطعوم شرابا كان أو طعاما‪ ،‬إل أنه تعدى كل مُحسّ به‪ ،‬ولو لم يكن مطعوما أو مشروبا‪،‬‬
‫ويقول ربنا عز وجل‪ُ {:‬ذقْ إِ ّنكَ أَنتَ ا ْلعَزِيزُ ا ْلكَرِيمُ }[الدخان‪.]49 :‬‬
‫أي‪ :‬ذق الهانة والمذلة‪ ،‬ل مما يُطعم أو مما يُشرب‪ ،‬ولكن بالحساس‪ ،‬فالذاقة تتعدى إلى كل‬
‫البدن‪ ،‬فالنامل تذوق‪ ،‬والرّجْل تذوق‪ ،‬والصدر يذوق‪ ،‬والرقبة تذوق‪ .‬وهذا اللون من إذاقة الذل‬
‫والهانة في الدنيا لهؤلء مجرد نموذج بسيط لشدة عقاب ال‪.‬‬
‫وعذاب الخرة سيكون مهولً‪ ،‬والعذاب هو إيلم الحس‪ .‬إذا أحببت أن تديم ألمه‪ ،‬فأ ْبقِ فيه آلة‬
‫الحساس باللم‪.‬‬

‫(‪)2602 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن وَا ْلقَا ِئمِينَ وَال ّركّعِ السّجُودِ‬
‫طهّرْ بَيْ ِتيَ لِلطّا ِئفِي َ‬
‫وَإِذْ َبوّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ أَنْ لَا ُتشْ ِركْ بِي شَيْئًا وَ َ‬
‫(‪)26‬‬

‫ما دام الكلم السابق كان حول البيت الحرام‪ ،‬فمن المناسب أنْ يتكلم عن تاريخه وبنائه‪ ،‬فقال‬
‫ن وَا ْلقَآ ِئمِينَ‬
‫طهّرْ بَيْ ِتيَ لِلطّآ ِئفِي َ‬
‫سبحانه‪ { :‬وَإِذْ َبوّأْنَا لِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ أَن لّ تُشْ ِركْ بِي شَيْئا وَ َ‬
‫وَال ّركّعِ السّجُودِ } [الحج‪ ]26 :‬معنى َبوّأه‪ :‬أي‪ :‬جعله مَبَاءةً يعني‪ :‬يذهب لعمله ومصالحه‪ ،‬ثم يبوء‬
‫ضبٍ مّنَ اللّهِ‪[} ..‬البقرة‪.]61 :‬‬
‫إليه ويعود‪ ،‬كالبيت للنسان يرجع إليه‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬وَبَآءُو ِب َغ َ‬
‫وإذ‪ :‬ظرف زمان لحدث يأتي بعده الخبار بهذا الحدث‪ ،‬والمعنى خطاب لرسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ :‬اذكر يا محمد الوقت الذي قيل فيه لبراهيم كذا وكذا‪ .‬وهكذا في كل آيات القرآن تأتي‬
‫(إذ) في خطاب لرسول ال صلى ال عليه وسلم بحدث وقع في ذلك الظرف‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما علقة المباءة أو المكان المتبوّأ بمسألة البيت؟ قالوا‪ :‬لن المكان المتبوّأ بقعة من الرض‬
‫يختارها النسان؛ ليرجع إليها من متاعب حياته‪ ،‬ول يختار النسان مثل هذا المكان إل توفرتْ‬
‫فيه كل مُقوّمات الحياة‪.‬‬
‫سفَ فِي الَ ْرضِ يَتَ َبوّأُ مِ ْنهَا حَ ْيثُ‬
‫لذلك يقول تعالى في قصة يوسف عليه السلم‪َ {:‬وكَذاِلكَ َمكّنّا لِيُو ُ‬
‫يَشَآءُ‪[} ..‬يوسف‪]56 :‬‬
‫وقال في شأن بني إسرائيل‪ {:‬وَلَقَدْ َبوّأْنَا بَنِي ِإسْرَائِيلَ مُ َبوّأَ صِ ْدقٍ‪[} ..‬يونس‪ ]93 :‬فمعنى‪َ { :‬بوّأْنَا‬
‫لِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ‪[ } ..‬الحج‪ ]26 :‬أي‪ :‬جعلناه مبَاءة له‪ ،‬يرجع إليه من حركة حياته بعد أنْ‬
‫أعلمنَاهُ‪ ،‬ودَلَلْناه على مكانه‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن المكان غير المكين‪ ،‬المكان هو البقعة التي يقع فيه ويحلّ بها المكين‪ ،‬فأرض هذا‬
‫المسجد مكان‪ ،‬والبناء القائم على هذه الرض يُسمّى " مكين في هذا المكان "‪ .‬وعلى هذا فقد َدلّ‬
‫ال إبراهيم عليه السلم على المكان الذي سيأمره بإقامة البيت عليه‪.‬‬
‫وقد كان للعلماء كلم طويل حول هذه المسألة‪ :‬فبعضهم يذهب إلى أن إبراهيم عليه السلم هو‬
‫أول مَنْ بنى البيت‪ .‬ونقول لصحاب هذا الرأي‪ :‬الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬بوّأ لبراهيم مكان‬
‫البيت‪ ،‬يعني‪ :‬بيّنه له؛ كأن البيت كان موجودا‪ ،‬بدليل أن ال تعالى يقول في القصة على لسان‬
‫سكَنتُ مِن ذُرّيّتِي ِبوَادٍ غَيْرِ ذِي زَ ْرعٍ عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ‪[} ..‬إبراهيم‪.]37 :‬‬
‫إبراهيم‪ {:‬إِنّي أَ ْ‬
‫سمَاعِيلُ‪[} ..‬البقرة‪]127 :‬‬
‫ت وَإِ ْ‬
‫وفي قوله تعالى‪ {:‬وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْي ِ‬
‫شبّ‪ ،‬وأصبح لديه القدرة على معاونة‬
‫ومعلوم أن إسماعيل قد شارك أباه وساعده في البناء لما َ‬
‫أبيه‪ ،‬أمّا مسألة السكن فكانت وإسماعيل ما يزال رضيعا‪ ،‬وقوله تعالى‪ {:‬عِندَ بَيْ ِتكَ ا ْلمُحَرّمِ‪} ..‬‬
‫[إبراهيم‪ ]37 :‬يدل على أن العِنْدية موجودة قبل أنْ يبلغَ إسماعيل أنْ يساعد أباه في بناية البيت‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬هذا دليل على أن البيت كان موجودا قبل إبراهيم‪.‬‬
‫ت ُوضِعَ لِلنّاسِ‬
‫وقد أوضح الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬هذه المسألة في قوله تعالى‪ {:‬إِنّ َأ ّولَ بَ ْي ٍ‬
‫لَلّذِي بِ َبكّةَ مُبَارَكا وَ ُهدًى لّ ْلعَاَلمِينَ }‬

‫[آل عمران‪.]96 :‬‬


‫وحتى نتفق على َفهْم الية نسأل‪ :‬مَنْ هُم الناس؟ الناس هم آدم وذريته إلى أن تقوم الساعة‪ ،‬إذن‪:‬‬
‫فآدم من الناس‪ ،‬فلماذا ل يشمله عموم الية‪ ،‬فالبيت ُوضِع للناس‪ ،‬وآدم من الناس‪ ،‬فل بُدّ أن يكون‬
‫َوُضِع لدم أيضا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬يمكنك القول بأن البيت َوُضِع حتى قبل آدم؛ لذلك نُصدّق بالرأي الذي يقول‪ :‬إن الملئكة هي‬
‫ت البيت أولً‪ ،‬ثم طمسَ الطوفانُ معالم البيت‪ ،‬فدلّ ال إبراهيم بوحي منه على مكان‬
‫التي وضع ْ‬
‫البيت‪ ،‬وأمره أنْ يرفعه من جديد في هذا الوادي‪.‬‬
‫ويُقال‪ :‬إن ال تعالى أرسل إلى إبراهيم سحابة دَلّتْه على المكان‪ ،‬ونطقتْ‪ :‬يا إبراهيم خُذْ على‬
‫قدري‪ ،‬أي‪ :‬البناء‪.‬‬
‫ولو تدبرتَ معنى‪ {:‬وَإِذْ يَ ْرفَعُ إِبْرَاهِيمُ ا ْل َقوَاعِدَ مِنَ الْبَ ْيتِ‪[} ..‬البقرة‪ ]127 :‬ال ّرفْع يعني‪ :‬الرتفاع‪،‬‬
‫وهو البعد الثالث‪ ،‬فكأن القواعد كان لها طُول وعَرْض موجود فعلً‪ ،‬وعلى إبراهيم أنْ يرفعها‪.‬‬
‫لكن لماذا بوّأ ال لبراهيم مكان البيت؟‬
‫لةَ‪[} ..‬إبراهيم‪ ]37 :‬كأن المسألة من‬
‫لما أسكن إبراهيم ذريته عند البيت قال‪ {:‬رَبّنَا لِ ُيقِيمُواْ الصّ َ‬
‫ق والربّ الصّدْق؛ لذلك أمره أولً‪ } :‬أَن لّ‬
‫بدايتها مسألة عبادة وإقامة للصلة‪ ،‬الصلة للله الح ِ‬
‫طهّر هذا‬
‫ن وَال ّركّعِ السّجُودِ { [الحج‪ ]26 :‬والمراد‪َ :‬‬
‫طهّرْ بَيْ ِتيَ لِلطّآ ِئفِينَ وَالْقَآ ِئمِي َ‬
‫تُشْ ِركْ بِي شَيْئا وَ َ‬
‫المكان من كل ما يُشعِر بالشرك‪ ،‬فهذه هي البداية الصحيحة لقامة بيت ال‪.‬‬
‫وهل كان يُعقل أنْ يدخل إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬في الشرك؟ بالطبع ل‪ ،‬وما أبعدَ إبراهيمَ عن‬
‫الشرك‪ ،‬لكن حين يُرسِل ال رسولً‪ ،‬فإنه أول مَنْ يتلقّى عن ال الوامر ليُبلّغ أمته‪ ،‬فهو أول مَنْ‬
‫يتلقى‪ ،‬وأول مَنْ يُنفذ ليكون قدو ًة لقومه فيُصدّقوه ويثقوا به؛ لنه أمرهم بأمر هو ليس ب َنجْوة عنه‪.‬‬
‫أل ترى قوله تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ {:‬يَاأَ ّيهَا النّ ِبيّ اتّقِ اللّهَ‪[} ..‬الحزاب‪ ]1 :‬وهل‬
‫خرج محمد صلى ال عليه وسلم عن تقوى ال؟ إنما المر للمة في شخص رسولها‪ ،‬حتى يس ُهلَ‬
‫علينا المر حين يأمرنا ربنا بتقواه‪ ،‬ول نرى غضاضةً في هذا المر الذي سبقنا إليه رسول ال؛‬
‫لنك تلحظ أن البعض يأنف أن تقول له‪ :‬يا فلن اتق ال‪ ،‬وربما اعتبرها إهانة واتهاما‪ ،‬وظن أنها‬
‫ل تُقال إل لمَنْ بدر منه ما يخالف التقوى‪.‬‬
‫وهذا َفهْم خاطئ للمر بالتقوى‪ ،‬فحين أقول لك‪ :‬اتق ال‪ .‬ل يعني أنني أنفي عنك التقوى‪ ،‬إنما‬
‫أُذكّرك أنْ تبدأ حركة حياتك بتقوى ال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬قوله تعالى لبراهيم عليه السلم‪ } :‬أَن لّ تُشْ ِركْ بِي شَيْئا‪[ { ..‬الحج‪ ]26 :‬ل تعني تصوّر‬
‫حدوث الشرك من إبراهيم‪ ،‬وقال } شَيْئا‪[ { ..‬الحج‪ ]26 :‬ليشمل النهيُ ُكلّ ألوان الشرك‪ ،‬أيا كانت‬
‫صورته‪ :‬شجر‪ ،‬أو حجر‪ ،‬أو وثن‪ ،‬أو نجوم‪ ،‬أو كواكب‪.‬‬
‫طهّرْ بَيْ ِتيَ‪[ { ..‬الحج‪ ]26 :‬والتطهير يعني‪ :‬الطهارة المعنوية بإزالة‬
‫ويؤكد هذا المعنى بقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫أسباب الشرك‪ ،‬وإخلص العبادة ل وحده ل شريكَ له‪ ،‬وطهارة حِسّية ممّا أصابه بمرور الزمن‬
‫وحدوث الطوفان‪ ،‬فقد يكون به شيء من القاذورات مثلً‪.‬‬
‫ومعنى } لِلطّآ ِئفِينَ‪[ { ..‬الحج‪ ]26 :‬الذين يطوفون بالبيت‪ } :‬وَا ْلقَآئِمِينَ‪[ { ..‬الحج‪ ]26 :‬المقيمين‬
‫المعتكفين فيه للعبادة } وَال ّركّعِ السّجُودِ { [الحج‪ ]26 :‬الذين يذهبون إليه في أوقات الصلوات لداء‬
‫الصلة‪ ،‬عبّر عن الصلة بالركوع والسجود؛ لنهما أظهر أعمال الصلة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وََأذّن فِي النّاسِ بِا ْلحَجّ يَأْتُوكَ ِرجَالً‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2603 /‬‬

‫عمِيقٍ (‪)27‬‬
‫ل ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ ُكلّ فَجّ َ‬
‫وَأَذّنْ فِي النّاسِ بِا ْلحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى ُك ّ‬

‫أمر ال نبيه إبراهيم بعد أنْ رفع القواعد من البيت أنْ يُؤذّن في الناس بالحج‪ ،‬لماذا؟ لن البيت‬
‫خلْق ال‪ ،‬فلماذا تقتصر رؤية البيت على مَنْ قُدّر له أنْ يمرّ به‪ ،‬أو يعيش‬
‫بيت ال‪ ،‬والخَلْق جميعا َ‬
‫إلى جواره؟‬
‫فأراد الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أنْ يُشيع هذه الميْزة بين خَلْقه جميعا‪ ،‬فيذْهبوا لرؤية بيت ربهم‪،‬‬
‫وإنْ كانت المساجد كلها بيوت ال‪ ،‬إل أن هذا البيت بالذات هو بيت ال باختيار ال؛ لذلك جعله‬
‫قبْلة لبيوته التي اختارها الخَلْق‪.‬‬
‫إن من علمات الولء بين الناس أنْ نزور قصور العظماء وعِلْية القوم‪ ،‬ثم يُسجل الزائر اسمه في‬
‫سِجلّ الزيارات‪ ،‬ويرى في ذلك شرفا و ِرفْعة‪ ،‬فما بالك ببيت ال‪ ،‬كيف تقتصر زيارته ورؤيته‬
‫على أهله والمجاورين له أو مَنْ قُدّر لهم المرور به؟‬
‫ومعنى { َأذّن‪[ } ..‬الحج‪ ]27 :‬الذان‪ :‬العلم‪ ،‬وأول وسائل العلم السماع بالذن‪ ،‬ومن الذن أُخذ‬
‫الذان‪ .‬أي‪ :‬العلم‪ .‬ومن هذه المادة قوله تعالى‪ {:‬وَإِذْ تََأذّنَ رَ ّبكُمْ‪[} ..‬إبراهيم‪ ]7 :‬أي‪ :‬أعلم؛ لن‬
‫الذن وسيلة السماع الولى‪ ،‬والخطاب المبدئي الذي نتعلّم به؛ لذلك قبل أنْ تتكلّم ل بُدّ أنْ تسمع‪.‬‬
‫وحينما أمر ال إبراهيم بالذان لم يكُن حول البيت غير إبراهيم وولده وزوجته‪ ،‬فلمَنْ يُؤذّن؟ ومَنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سيستمع في صحراء واسعة شاسعة وواد غير مسكون؟ فناداه ربه‪ " :‬يا إبراهيم عليك الذان‬
‫وعلينا البلغ "‪.‬‬
‫مهمتك أنْ ترفَع صوتك بالذان‪ ،‬وعلينا إيصال هذا النداء إلى كل الناس‪ ،‬في كل الزمان‪ ،‬وفي كل‬
‫المكان‪ ،‬سيسمعه البشر جميعا‪ ،‬وهم في عالم الذّ ّر وفي أصلب آبائهم بقدرة ال تعالى الذي قال‬
‫ت وَلَـاكِنّ اللّهَ َرمَىا‪[} ..‬النفال‪.]17 :‬‬
‫لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬ومَا َرمَ ْيتَ إِذْ َرمَ ْي َ‬
‫يعني‪َ :‬أدّ ما عليك‪ ،‬واترك ما فوق قدرتك لقدرة ربك‪ .‬فأذّنَ إبراهيم في الناس بالحج‪ ،‬ووصل‬
‫النداء إلى البشر جميعا‪ ،‬وإلى أن تقوم الساعة‪ ،‬فَمنْ أجاب ولَبّى‪ :‬لبيك اللهم لبيك كُتِ َبتْ له حجة‪،‬‬
‫ومَنْ لبّى مرتين كتِبت له حجّتيْن وهكذا‪ ،‬لن معنى لبيك‪ :‬إجابةً لك بعد إجابة‪.‬‬
‫فإنْ قُ ْلتَ‪ :‬إن مطالب ال وأوامره كثيرة‪ ،‬فلماذا أخذ الحج بالذات هذه المكانة؟ نقول‪ :‬أركان‬
‫السلم تبدأ بالشهادتين‪ :‬ل إله إل ال محمد رسول ال‪ ،‬ثم الصلة‪ ،‬ثم الزكاة‪ ،‬ثم الصوم‪ ،‬ثم‬
‫الحج‪ ،‬لو نظرتَ إلى هذه الركان لوجدتَ أن الحج هو الركن الوحيد الذي يجتهد المسلم في أدائه‬
‫وإنْ لم يكُن مستطيعا له فتراه يوفر ويقتصد حتى من قُوته‪ ،‬وربما حرمَ نفسه لِيُؤدّي فريضة‬
‫الحج‪ ،‬ول يحدث هذا ول يتكلفه النسان إل في هذه الفريضة‪ ،‬لماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن ال تعالى حكم في هذه المسألة فقال‪ :‬أَذّن ‪ -‬يأتوكَ‪ ،‬هكذا رَغْما عنهم‪ ،‬ودون اختيارهم‪،‬‬
‫َألَ ترى الناس ينجذبون لداء هذه الفريضة‪ ،‬وكأن قوة خارجة عنهم تجذبهم‪.‬‬

‫ج َعلْ َأفْئِ َدةً مّنَ النّاسِ َت ْهوِي إِلَ ْيهِمْ‪[} ..‬إبراهيم‪ ]37 :‬ومعنى تهوي‪ :‬تأتي‬
‫وهذا معنى قوله تعالى‪ {:‬فَا ْ‬
‫دون اختيار من ا ْلهُويّ أي‪ :‬السقوط‪ ،‬وهو أمر ل يملكه النسان‪ ،‬كالذي يسقط من مكان عالٍ‪،‬‬
‫فليس له اختيار في ألّ يسقط‪.‬‬
‫شوْقا إليه‪ ،‬وكأن شيئا يجذبها لداء هذه الفريضة؛ لن‬
‫ن القلوب إلى بيت ال‪ ،‬وتتحرّق َ‬
‫وهكذا تحِ ّ‬
‫ال تعالى أمر بهذه الفريضة‪ ،‬وحكم فيها بقوله } يَأْتُوكَ‪[ { ..‬الحج‪ ]27 :‬أما في المور الخرى‬
‫فقد أمر بها وتركها لختيار المكلف‪ ،‬يطيع أو يعصي‪ ،‬إذن‪ :‬هذه المسألة قضية صادقة بنصّ‬
‫القرآن‪.‬‬
‫وبعض أهل ال َفهْم يقولون‪ :‬إن المر في‪ } :‬وََأذّن فِي النّاسِ بِا ْلحَجّ‪[ { ..‬الحج‪ ]27 :‬ليس لبراهيم‪،‬‬
‫وإنما لمحمد صلى ال عليه وسلم ‪ -‬الذي نزل عليه القرآن‪ ،‬وخاطبه بهذه الية‪ ،‬فالمعنى{ وَإِذْ‬
‫َبوّأْنَا لِبْرَاهِيمَ َمكَانَ الْبَ ْيتِ‪[} ..‬الحج‪ ]26 :‬يعني‪ :‬اذكر يا مَنْ أُنْزل عليه كتابي إذْ بوأنا لبراهيم‬
‫مكان البيت‪ ،‬اذكر هذه القضية } وَأَذّن فِي النّاسِ بِالْحَجّ‪[ { ..‬الحج‪ ]27 :‬فكأن المر هنا لمحمد‬
‫صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫لذلك ل نشاهد هذا النسك في المم الخرى كاليهود والنصارى‪ ،‬فهم ل يحجون ول يذهبون إلى‬
‫بيت ال أبدا‪ ،‬وقد ثبت أن موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬حج بيت ال‪ ،‬لكن لم يثبت أن عيسى عليه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السلم حَجّ‪ ،‬بدليل أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " " يُوشك أنْ ينزل ابن مريم‪ ،‬ويأتي‬
‫حاجا‪ ،‬ويزور قبري‪ ،‬ويُدفن هناك "‪.‬‬
‫فقال رسول ال‪ " :‬ويأتي حاجا " لنه لم يمت‪ ،‬وسوف يدرك عهد التكليف من رسول ال حين‬
‫ينزل من السماء‪ ،‬وسيصلي خلف إمام من أمة محمد صلى ال على جميع أنبياء ال ورُسُله‪.‬‬
‫ومن المسائل التي نحتجّ بها عليهم قولهم‪ :‬إن الذبيح إسحق‪ ،‬فلو أن الذبيح إسحق كما يدّعون‬
‫لكانت مناسك الذبح والفداء و َرمْي الجمار عندكم في الشام‪ ،‬أمّا هذه المناسك فهي هنا في مكة‪،‬‬
‫حيث كان إسماعيل‪.‬‬
‫ثم تذكّروا جيدا ما قاله كتابكم المقدس في الصحاح ‪ 24 ،23‬من أن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬
‫أوحى إلى إبراهيم أن يصعد على جبل فاران‪ ،‬ويأخذ ولده الوحيد ويذبحه‪ ،‬فالوحيد إسماعيل ل‬
‫إسحق؛ لن ال فدى إسماعيل‪ ،‬ثم بشّر إبراهيم بإسحق‪.‬‬
‫ومن حكمة ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬أنْ جعل في كذب الكاذب مَنْفذا للحق‪ ،‬وثغرات نصل منها إلى‬
‫الحقيقة؛ لذلك يقول رجال القضاء‪ :‬ليست هناك جريمة كاملة أبدا‪ ،‬ل بُدّ أنْ يترك المجرم قرينة‬
‫تدلّ عليه مهما احتاط لجريمته‪ ،‬كأن يسقط منه شيء ولو أزرار من ملبسه‪ ،‬أو ورقة صغيرة بها‬
‫ن يقتصّ منه‪.‬‬
‫رقم تليفون‪ ..‬إلخ‪ ،‬لذلك نقول‪ :‬الجريمة ل تفيد؛ لن المجرم سيقع ل محالة في يد مَ ْ‬

‫ولرجال القضاء ووكلء النيابة مقدرة كبيرة على استخلص الحقيقة من أفواه المجرمين أنفسهم‪،‬‬
‫فيظل القاضي يحاوره إلى أنْ يجد في كلمه ثغرةً أو تضاربا يصل منه إلى الحقيقة‪.‬‬
‫ذلك لن للصدق وجها واحدا ل يمكن أنْ يتلجلج صاحبه أو يتردد‪ ،‬أمّا الكذب فله أكثر من وجه‪،‬‬
‫والكاذب نفسه لو حاورتَهُ أكثر من مرة لوجدتَ تغييرا وتضاربا في كلمه؛ لذلك العرب يقولون‪:‬‬
‫ن كنتَ كذوبا فكُنْ َذكُورا‪ .‬يعني‪ :‬تذكّر ما قُلْته أولً‪ ،‬حتى ل تُغيّره بعد ذلك‪.‬‬
‫إْ‬
‫ومن أمثلة الكذب الذي يفضح صاحبه َق ْولُ أحدهم للخر‪ :‬هل تذكر يوم كنا في مكان كذا ليلة‬
‫العيد الصغير‪ ،‬وكان القمر ظهرا!! فقال‪ :‬كيف‪ ،‬يكون القمر مثل الظهر في آخر الشهر؟‬
‫وقد يلجأ القاضي إلى بعض الحِيَل‪ ،‬ول ُبدّ أنْ يستخدم ذكاءه لستجلء وجه الحق‪ ،‬كالقاضي الذي‬
‫احتكم إليه رجلن يتهم أحدهما الخر بأنه أخذ ماله أمانة‪ ،‬ثم أخذها لنفسه ودفنها في موضع كذا‬
‫وكذا‪ ،‬فلما حاور القاضي المتهم أنكر فانصرف عنه‪ ،‬وتوجّه إلى صاحب المانة‪ ،‬وقال له‪ :‬اذهب‬
‫إلى المكان‪ ،‬وابحثْ لعلّك تكون قد نسيتَه هنا أو هناك‪.‬‬
‫أو لعلّ آخر أخذه منك‪ ،‬فذهب صاحب المال‪ ،‬وفجأة سأل القاضي المتهم‪ :‬لماذا تأخر فلن طوالَ‬
‫هذا الوقت؟ فردّ المتهم‪ :‬لن المكان بعيدٌ يا سيادة القاضي‪ .‬فخانتْه ذاكرته‪ ،‬ونطق بالحق دون أن‬
‫يشعر‪.‬‬
‫جمْعا لرجل‪ ،‬إنما جمع لراجل‪،‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬يَأْتُوكَ ِرجَالً‪[ { ..‬الحج‪ ]27 :‬ورجالً هنا ليست َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وهو الذي يسير على ِرجْلَيْه } وَعَلَىا ُكلّ ضَامِرٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]27 :‬الضامر‪ :‬الفَرَس أو البعير‬
‫المهزول من طول السفر‪.‬‬
‫وتقديم الماشين على الراكبين تأكيد للحكم اللهي } يَأْتُوكَ‪[ { ..‬الحج‪ ]27 :‬فالجميع حريص على‬
‫اداء الفريضة حتى إنْ حَجّ ماشيا‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬يَأْتِينَ مِن ُكلّ فَجّ عَميِقٍ { [الحج‪ ]27 :‬أي‪ :‬من كل طريق واسع } عَميِقٍ { [الحج‪]27 :‬‬
‫يعني‪ :‬بعيد‪.‬‬
‫شهَدُواْ مَنَافِعَ َل ُه ْم وَيَ ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ‪.{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬لّيَ ْ‬

‫(‪)2604 /‬‬

‫سمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ َمعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَ َز َقهُمْ مِنْ َبهِيمَةِ الْأَ ْنعَامِ َفكُلُوا مِ ْنهَا‬
‫شهَدُوا مَنَافِعَ َلهُ ْم وَيَ ْذكُرُوا ا ْ‬
‫لِيَ ْ‬
‫ط ِعمُوا الْبَائِسَ ا ْل َفقِيرَ (‪)28‬‬
‫وَأَ ْ‬

‫كلمة { مَنَافِعَ‪ } ..‬كلمة عامة واسعة تشمل كل أنواع النفع‪ :‬مادية دنيوية‪ ،‬أو دينية أُخروية‪ ،‬ول‬
‫ينبغي أنْ نُضيّق ما وسّعه ال‪ ،‬ف ُكلّ ما يتصل بالحج من حركات الحياة ُيعَد من المنافع‪ ،‬فاستعدادك‬
‫للحج‪ ،‬وتدبير نفقاته وأدواته وراحلته فيها منافع لك ولغيرك حين توفر لهلك ما يكفيهم حتى‬
‫تعود‪.‬‬
‫ما يتم من حركة بيع وشراء في مناطق الحج‪ ،‬كلها منافع متبادلة بين الناس‪ ،‬التاجر الذي يبيع لك‪،‬‬
‫وصاحب البيت الذي يُؤجّره لك‪ ،‬وصاحب السيارة التي تنقلك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المنافع المادية في الحج كثيرة ومتشابكة‪ ،‬متداخلة مع المنافع الدينية الخروية‪ ،‬فحين تشتري‬
‫الهَدْي مثلً تؤدي نُسُكا وتنفع التاجر الذي باع لك‪ ،‬والمربّي الذي ربّى هذا الهَدْي‪ ،‬والجزار الذي‬
‫ذبحه‪ ،‬والفقير الذي أكل منه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل يتم الحج إل بحركة حياة واسعة‪ ،‬فيها َنفْع لك وللناس من حيث ل تدري‪ ،‬ولك أنْ تنظرَ‬
‫في الهدايا التي يجلبها الحجاج معهم لهليهم وذويهم‪ ،‬خاصة المصريين منهم‪ ،‬فترى بعضهم‬
‫جمْع هذه الشياء قبل أنْ يُؤدّي نُسُكه ويقضي معظم وقته في السواق‪ ،‬وكأنه لن يكون‬
‫ينشغل ب َ‬
‫حاجا إل إذا عاد مُحمّلً بهذه الهدايا‪.‬‬
‫لذلك يأتي إلينا بعض هؤلء يسألون‪ :‬أنا عليّ دَم مُتْعة وليس معي نقود‪ ،‬فماذا أفعل؟ يريد أن‬
‫عطِني حقيبة سفرك‪،‬‬
‫يصوم‪ .‬صحيح‪ :‬كيف سيُؤدي ما عليه وقد أنفق ُكلّ ما معه؟ فكنت أقول له‪ :‬ا ْ‬
‫وسأبيع ما بها‪ ،‬ولن أُبقي لك إل ما يكفيك من نفقات حتى تعود‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أليست هذه كلها من المنافع؟‬
‫ومن منافع الحج ان الحاجّ منذ أنْ ينوي أداء هذه الفريضة و ُيعِد نفسه لها إعدادا ماديا‪ ،‬وإعدادا‬
‫عمّا‬
‫نفسيا معنويا‪ ،‬فيحاول أنْ يُعيد حساباته من جديد‪ ،‬ويُصلح من نفسه ما كان فاسدا‪ ،‬وينتهي َ‬
‫صقْل خاصة تُحوّله‬
‫كان يقع فيه من معصية ال‪ ،‬ويُصلِح ما بينه وبين الناس‪ ،‬إذن‪ :‬يجري عملية َ‬
‫إلى إنسان جديد يليق بهذا الموقف العظيم‪ ،‬ويكون أهْلً لرؤية بيت ال والطواف به‪.‬‬
‫ومن العداد للحج أنْ يتعلّم الحاجّ ما له وما عليه‪ ،‬ويتأدب بآداب الحج فيعرف محظوراته وما‬
‫يحرُم عليه‪ ،‬وأنه سوف يتنازل عن هِنْدامه وملبسه التي يزهو بها‪ ،‬ومكانته التي يفتخر بها بين‬
‫الناس‪ ،‬وكيف أن الحرام يُسوّي بين الجميع‪.‬‬
‫يتعلم كيف يتأدب مع نفسه‪ ،‬ومع كل أجناس الكون من حوله‪ ،‬مع نفسه فل يُفكّر في معصية‪ ،‬ول‬
‫ظفْر من أظافره ول يقْربُ طيبا‪ ،‬ول حتى صابونة لها‬
‫تمتدّ يده حتى على شعره من شعره‪ ،‬أو ُ‬
‫رائحة‪.‬‬
‫والعجيب أن الحاج ساعة يدخل في الحرام يحرص كل الحرص على هذه الحكام‪ ،‬وأتحدى أيّ‬
‫إنسان ينوي الحج ويأخذ في الحرام به‪ ،‬ثم يفكر في معصية؛ لنه ُيعِدّ نفسه لمرحلة جديدة يتطهر‬
‫فيها من الذنوب‪ ،‬فكيف يكتسب المزيد منها وقد أتى من بلد بعيدة ليتطهر منها؟‬
‫وفي الحجّ يتأدب الحاج مع الحيوان‪ ،‬فل يصيده ول يقتله‪ ،‬ومع النبات فل يقطع شجرا‪.‬‬

‫يتأدب حتى مع الجماد الذي يعتبره َأدْنى أجناس الكون‪ ،‬فيحرص على تقبيل الحجر السود‪،‬‬
‫ويجتهد في الوصول إليه‪ ،‬فإنْ لم يستطع أشار إليه بيده‪.‬‬
‫إن الحج التزام وانضباط يفوق أيّ انضباط يعرفه أهل الدنيا في حركة حياتهم‪ ،‬ففي الحج ترى‬
‫هذا النسان السيد العلى لكل المخلوقات كَمْ هو منكسر خاضع مهما كانت منزلته‪ ،‬وكم هي‬
‫طمأنينة النفس البشرية حين تُقبّل حجرا وهي راضية خاضعة‪ ،‬بل ويحزن النسان إذ لم يتمكن‬
‫من تقبيل الحجر‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬وَيَ ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ فِي أَيّامٍ ّمعْلُومَاتٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]28 :‬يذكروا اسم‬
‫ال؛ لن كل أعمال الحج مصحوبة بذكر ال وتلبيته‪َ ،‬فمَا من عمل يُؤدّيه الحاجّ إل ويقول‪ :‬لبيك‬
‫اللهم لبيك‪ .‬وتظل التلبية شاغله ودَيْدنه إلى أنْ يرمي جمرة العقبة‪ ،‬ومعنى " لبيك اللهم لبيك " أن‬
‫مشاغل الدنيا تطلبني‪ ،‬وأنت طلبتني لداء فَ ْرضِك عليّ‪ ،‬فأنا أُلبّيك أنت أولً؛ لنك خالقي وخالق‬
‫كل ما يشغلني ويأخذني منك‪.‬‬
‫واليام المعلومات هي‪ :‬أيام التشريق‪.‬‬
‫ومعنى‪ } :‬عَلَىا مَا رَ َز َق ُهمْ مّن َبهِيمَةِ‪[ { ..‬الحج‪ ]28 :‬أي‪ :‬يشكرون ال على هذا الرزق الوقتي‬
‫الذي يأكلون منه ويشربون‪ ،‬ويبيعون ويشترون في أوقات الحج‪ .‬أو يشكرون ال على أنْ خلقَ لهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه النعام‪ ،‬وإنْ لم يحجّوا‪ ،‬ففي خَلْق النعام ‪ -‬وهي البل والبقر والغنم والماعز ‪ -‬وتسخيرها‬
‫للنسان حكمة بالغة‪ ،‬ففضلً عن النتفاع بلحمها وألبانها وأصوافها وأوبارها اذكروا ال واشكروه‬
‫أنْ سخّرها لكم‪ ،‬فلول تسخير ال لها َلمَا استطعتُم أنْ تنتفعوا بها‪ ،‬فالجمل مثلً هذا الحيوان الضخم‬
‫يقوده الطفل الصغير‪ ،‬وينُيخه ويحمله في حين لم يستطع النسان تسخير الثعبان مثلً أو الذئب‪.‬‬
‫عمَِلتْ أَ ْيدِينَآ أَنْعاما َفهُمْ َلهَا مَاِلكُونَ * وَذَلّلْنَاهَا َلهُمْ‪..‬‬
‫لذلك يقول تعالى‪َ {:‬أوََلمْ يَ َروْاْ أَنّا خََلقْنَا َلهُم ِممّا َ‬
‫}[يس‪.]72 - 71 :‬‬
‫لذلك نذكر ال ونشكره على ما رزقنا من بهيمة النعام استمتاعا بها َأكْلً‪ ،‬أو استمتاعا بها بَيْعا أو‬
‫ن وَحِينَ َتسْرَحُونَ }[النحل‪.]6 :‬‬
‫جمَالٌ حِينَ تُرِيحُو َ‬
‫زينة‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وََلكُمْ فِيهَا َ‬
‫ولول أن ال تعالى ذَلّلها لِخدمتك ما استط ْعتَ أنت تذليلها والنتفاع بها؛ لذلك من حكمة ال أنْ‬
‫يترك بعض خَلْقه غير مُسْتأنس‪ ،‬ول يمكن لك بحال أن تستأنسه أو تُذلّله لتظل على ِذكْر لهذه‬
‫النعمة؛ وتشكر ال عليها‪.‬‬
‫وسبق أن ضربنا مثلً بالبرغوث‪ ،‬وهو أَدْنى هذه المخلوقات‪ ،‬ول تكاد تراه‪ ،‬ومع ذلك ل تقدر‬
‫عليه‪ ،‬وربما أقضّ َمضْجعك‪ ،‬وأقلق نومك طوال الليل‪ .‬وتلمس هذه النعمة في الجمل الذي يقوده‬
‫الصبي الصغير‪ ،‬إذا حرن منك فل تستطيع أن تجعله يسير رغما عنه‪ ،‬أو صَالَ فل يقدر عليه‬
‫أحد‪ ،‬وقد يقتل صاحبه ويبطش بمَنْ حوله‪.‬‬

‫إذن‪ :‬ل قدرة لك عليه بذاتك‪ ،‬إنما بتذليل ال يمكن النتفاع به‪ ،‬فتسوقه إلى َنحْره‪ ،‬فيقف ساكنا‬
‫مُسْتسلما لك‪.‬‬
‫والمتأمل في حال الحيوانات التي أحلها ال لنا يجد امرها عجيبا‪ ،‬فالحيوان الذي أحلّه ال لك تظل‬
‫تنتفع به طوال عمره‪ ،‬فإذا ما تعرّض لما يُزهِق روحه‪ ،‬ماذا يفعل؟ يرفع رأسه إلى أعلى‪،‬‬
‫ويعطيك مكان ذَبْحه‪ ،‬وكأنه يقول لك‪ :‬أنا في اللحظات الخيرة فاجتهد في أنْ تنتفع بلحمي‪ ،‬وأهل‬
‫الريف إذا شاهدوا مثل هذه الحالة يقولون‪ :‬طلب الحلل يعني الذبح‪ .‬أما الحيوان الذي ل يُذبح ول‬
‫يُحله ال فيموت مُنكّس الرأس؛ لنه ل فائدة منه‪.‬‬
‫هذا الحيوان الذي نتهمه بالغباء ونقول أنه بهيم‪ ..‬الخ لو فكرتَ فيه لَتغيّر رأيّك‪ ،‬فالحمار الذي‬
‫نتخذه َرمْزا للغباء وعدم ال َفهْم تسوقه أمامك وتُحمّله القاذورات وتضربه فل يعترض عليك ول‬
‫يخالفك‪ ،‬فإنْ نظفْته وزيّنْتَه بلجام فضة‪ ،‬وبردعة قطيفة تتخذه ُركُوبة وزينة ويسير بك ويحملُك‪،‬‬
‫وأنت على ظهره‪ ،‬فإنْ غضبتَ عليه واستخدمْته في الحمال وفي القاذورات تحمّل راضيا‬
‫مطيعا‪..‬‬
‫وانظر إلى هذا الحمار الذي نتخذه مثالً للغباء‪ ،‬إذا أردتَ منه ان يقفز قناة أوسع من مقدرته‬
‫وإمكانياته‪ ،‬فإنه يتراجع‪ ،‬ومهما ضربتَه وقسْوتَ عليه ل يُقدِم عليها أبدا؛ لنه يعلم مدى قفزته‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويعلم مقدرته‪ ،‬ول يُقدِم على شيء فوق ما يطيق ‪ -‬وبعد ذلك نقول عنه‪ :‬حمار!!‬
‫ط ِعمُواْ الْبَآئِسَ ا ْل َفقِيرَ‪[ { ..‬الحج‪.]28 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ } :‬وَأَ ْ‬
‫البائس‪ :‬هو الذي يبدو على مِحْنته وشكله وزِيّه أنه فقير محتاج‪ ،‬أما الفقير فهو محتاج الباطن‪،‬‬
‫وإنْ كانَ ظاهره اليُسْر والغِنَى‪ ،‬وهؤلء الفقراء ل يلتفت الناس إليهم‪ ،‬وربما ل يعلمون حالهم‬
‫وحاجتهم‪ ،‬وقد قال ال فيهم‪َ {:‬يحْسَ ُبهُمُ الْجَا ِهلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ال ّت َع ّففِ َتعْ ِر ُفهُم ِبسِيمَاهُ ْم لَ يَسَْألُونَ النّاسَ‬
‫إِلْحَافا‪[} ..‬البقرة‪.]273 :‬‬
‫والمعنى‪ :‬كُلُوا مما يُبَاح لكم الكل منه‪ ،‬وهي الصدقة المحضة‪ ،‬أو الهدية للبيت غير المشروطة‬
‫بشيء‪ ،‬يعني‪ :‬ل هي دم قِرَان أو تمتّع‪ ،‬ول هي فدية لمخالفة أمر من أمور الحرام‪ ،‬أو كانت نذرا‬
‫فهذه كلها ل يؤكَل منها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كلوا من الصدقة والتطوع‪ ،‬وأطعموا كذلك البائس والفقير‪ ،‬ومن رحمة ال بالفقراء أنْ جعل‬
‫الغنياء والمياسير هم الذين يبحثون عن الذبائح ويشترونها ويذهبون لمكان الذبح ويتحمّلون مشقة‬
‫هذا كله‪ ،‬ثم يبحثون عن الفقير ليعطوه وهو جالس في مكانه مستريحا‪ ،‬يأتيه رِزْقه من َفضْل ال‬
‫سهلً وميسّرا‪.‬‬
‫لذلك يقولون‪ :‬من شرف الفقير أنْ جعله ال ركنا من أركان إسلم الغنيّ‪ ،‬أي‪ :‬في فريضة الزكاة‪،‬‬
‫ولم يجعل الغني ركنا من أركان إسلم الفقير‪.‬‬
‫ط ّوفُواْ‪{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ } :‬ثمّ لْ َي ْقضُواْ َتفَ َثهُ ْم وَلْيُوفُواْ ُنذُورَهُ ْم وَلْ َي ّ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2605 /‬‬

‫ط ّوفُوا بِالْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ (‪)29‬‬


‫ثُمّ لْ َي ْقضُوا َتفَثَهُ ْم وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَ ّ‬

‫{ لْ َي ْقضُواْ‪[ } ..‬الحج‪ ]29 :‬كلمة قضاء تُقال‪ ،‬إما لقضاء ال الذي يقضيه على النسان مثلً‪ ،‬وهو‬
‫أمر لزم محكوم به‪ ،‬وإما قضاء من إنسان بين متخاصمين‪ ،‬وأول شيء في مهمة القضاء أن‬
‫يقطع الخصومة‪ ،‬كأن المعنى { لْ َيقْضُواْ‪[ } ..‬الحج‪ ]29 :‬أي‪ :‬يقطعوا‪.‬‬
‫ومعنى { َتفَ َثهُمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]29 :‬لما نزل القرآن بهذه الكلمة لم تكن مستعملة في لسان قريش‪ ،‬ولم‬
‫تكن دائرة على ألسنتهم‪ ،‬فسألوا عنها أهل البادية‪ ،‬فقالوا‪ :‬الت َفثُ يعني‪ :‬الدران والوساخ التي‬
‫تعلَقُ بالجسم‪ ،‬فقالوا‪ :‬وال لم نعرفها إل ساعةَ نزل القرآن بها‪.‬‬
‫فالمراد ‪ -‬إذن ‪ -‬ليقطعوا تفثهم أي الدران التي لحقتهم بسبب التزامهم بأمور الحرام‪ ،‬حيث‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يمكث الحاجّ أيام الحج مُحْرِما ل يتطيب‪ ،‬ول يأخذ شيئا من شعره أو أظافره‪ ،‬فإذا ما أنهى أعمال‬
‫الحج وذبح هَدْية يجوز له أنْ يقطع هذا التفث‪ ،‬ويزيل هذه الدران بالتحلّل من الحرام‪ ،‬و ِفعْل ما‬
‫كان محظورا عليه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَلْيُوفُواْ نُذُورَ ُهمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]29 :‬يعني‪ :‬طواف الفاضة‪ ،‬والطواف‪ :‬أنْ تدور حول‬
‫شيء بحيث تبدأ وتنتهي‪ ،‬وتبدأ وتنتهي‪ ،‬وهكذا‪ ،‬وقد وصف البيت بأنه عتيق‪ ،‬وكلمة عتيق‬
‫استعملت في اللغة استعمالت واسعة‪ ،‬منها‪ :‬القديم‪ ،‬وما دام هو أول بيت ُوضِع للناس فهو إذن‬
‫قديم‪ ،‬والقِدَم هنا صفة مدح؛ لنها تعني الشيء الثمين الذي يُحافظ عليه ويُهتَم به‪.‬‬
‫كما نرى عند بعض الناس أشياء ثمينة ونادرة يحتفظون بها ويتوارثونها يسمونها " العاديات "‬
‫ت قميتها‪ ،‬وغل ثمنها‪.‬‬
‫مثل‪ :‬التحف وغيرها‪ ،‬وكلما مَرّ عليها الزمن زاد ْ‬
‫والعتيق‪ :‬الشيء الجميل الحسن‪ ،‬والعتيق‪ :‬المعتوق من السيطرة والعبودية لغيره‪ ،‬فما المراد‬
‫بوصف البيت هنا بأنه عتيق؟‬
‫َوصْف البيت بالقِدَم يشمل ُكلّ هذه المعاني‪ :‬فهو قديم؛ لنه أول بيت ُوضِع للناس‪ ،‬وهو غالٍ‬
‫ونفيس ونادر حيث نرى فيه مَا ل نراه في غيره من آيات‪ ،‬ويكفي أن رؤيته والطواف به تغفر‬
‫الذنوب‪ ،‬وهو بيت ال الذي ل مثيلَ له‪.‬‬
‫وهو كذلك عتيق بمعنى معتوق من سيطرة الغير؛ لن ال حفظه من اعتداء الجبابرة‪ ،‬ألَ ترى‬
‫قصة الفيل‪ ،‬وما فعله ال بأبرهة حين أراد هَدْمه؟ حتى الفيل الذي كان يتقدّم هذا الجيش أدرك أن‬
‫هذا اعتداءٌ على بيت ال‪ ،‬فتراجع عن البيت‪ ،‬وأخذ يتوجّه أي وجهة أرادوا إل ناحية الكعبة‪.‬‬
‫ويُقال‪ :‬إن رجلً تقدّم إلى الفيل‪ .‬وقال في أذنه‪ :‬ابْرُك محمود ‪ -‬اسم الفيل ‪ -‬وارجع راشدا فإنك‬
‫ل يعوي كأنه‬
‫ظّ‬‫ببلد ال الحرام‪ .‬وقد عبّر الشاعر عن هذا الموقف‪ ،‬فقال‪:‬حُبِسَ الفيل بال ُم َغمّسِ حَتّى َ‬
‫َمعْقُورثم ينزل ال عليهم الطير البابيل التي ترميهم بالحجارة حتى الموت‪.‬‬
‫جدّ الرسول صلى ال عليه وسلم ليُكلّم أبرهة في البل المائة التي‬
‫لذلك لما ذهب عبد المطلب َ‬
‫أخذها من إبله‪ ،‬قال أبرهة‪ :‬لقد كنتُ أهابك حين رأيتُك‪ ،‬لكنك سقطت من نظري لما كلّمتني في‬
‫مائة بعير أصبْتها لك‪ ،‬وتركتَ البيت الذي فيه مجدُكم وعزكم‪.‬‬

‫فماذا قال عبد المطلب؟ قال‪ :‬أما البل فإنها لي‪ ،‬أما البيت فله َربّ يحميه‪.‬‬
‫البعض يتهم عبد المطلب لمقالته هذه بالسلبية‪ ،‬وليست هذه سلبية من كبير قريش‪ ،‬إنما ثقةً منه في‬
‫ن كنتُ أحميه أنا‪ ،‬فسأحميه بقوتي وقدرتي‬
‫حماية ال لبيته؛ لذلك رَدّه إلى أقوى منه‪ ،‬وكأنه قال‪ :‬إ ْ‬
‫وحيلتي‪ ،‬لكنني أريد أنْ أرعبه بقدرة ال وقوته‪ ،‬وما سلّمتُ البيت إلّ وأنا واثق أن ربّ البيت‬
‫سيحميه‪ ،‬وهذه تُزلزل العدو وتُربكه‪.‬‬
‫وما أشبه موقف عبد المطلب بموقف موسى عليه السلم‪ ،‬لما قال له قومه‪ {:‬إِنّا َلمُدْ َركُونَ }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[الشعراء‪ ]61 :‬فقال في يقين وثقة‪ {:‬كَلّ إِنّ َم ِعيَ رَبّي سَ َي ْهدِينِ }[الشعراء‪.]62 :‬‬
‫إذن‪ :‬لم يكُنْ عبد المطلب سلبيا كما يتهمه البعض‪ ،‬بل كان إيجابيا من النوع الراقي‪ ،‬فلو كان‬
‫إيجابيا بالمعنى الذي تريدون لعطتْه هذه اليجابية منع ًة بقوته هو‪ ،‬إنما تصرّفه وما تعتبرونه‬
‫سلبية أعطاه منعةً بقدرة ال وقُوّته سبحانه؛ لذلك تدخّلتْ فورا جنود السماء‪.‬‬
‫لكن لماذا الطواف والدوران حول الكعبة؟‬
‫قالوا‪ :‬لن المسلم وهو غائب عن الكعبة يُصلّي لجهتها‪ ،‬كلّ حسب موقعه منها‪ ،‬فتجد المسلمين في‬
‫كل أنحاء العالم يتجهون نحوها‪ ،‬كل من ناحية‪ ،‬هذا من الشمال‪ ،‬وهذا من الجنوب‪ ،‬وهذا من‬
‫الشرق‪ ،‬وهذا من الغرب‪ ،‬يعني بكل الجهات الصلية والفرعية‪.‬‬
‫فإذا ما ذهبتَ إلى الكعبة ذاتها‪ ،‬وتشرفتَ برؤيتها‪ ،‬فهل تستقبلها من نفس المكان الذي كنتَ تتجه‬
‫إليه في صلتك وغيرك وغيرك؟ إذن‪ :‬فكل اتجاهات الكعبة سواء لك ولغيرك‪ ،‬كما قال تعالى‪{:‬‬
‫فَأَيْ َنمَا ُتوَلّواْ فَ َث ّم وَجْهُ اللّهِ‪[} ..‬البقرة‪ ]115 :‬فليس هناك مكان َأوْلَى من مكان؛ لذلك نطوف حول‬
‫البيت‪.‬‬
‫ك َومَن ُيعَظّمْ حُ ُرمَاتِ اللّهِ َفهُوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّ ِه وَُأحِّلتْ َلكُ ُم الَ ْنعَامُ‪{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ذاِل َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2606 /‬‬

‫ك َومَنْ ُيعَظّمْ حُ ُرمَاتِ اللّهِ َف ُهوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبّهِ وَأُحِّلتْ َلكُمُ الْأَ ْنعَامُ إِلّا مَا يُتْلَى عَلَ ْيكُمْ فَاجْتَنِبُوا‬
‫ذَِل َ‬
‫ن وَاجْتَنِبُوا َق ْولَ الزّورِ (‪)30‬‬
‫جسَ مِنَ الَْأوْثَا ِ‬
‫الرّ ْ‬

‫{ ذاِلكَ‪ } ..‬إشارة إلى الكلم السابق بأنه أمْر واضح‪ ،‬لكن استمع إلى أمر جديد سيأتي‪ ،‬فهنا‬
‫استئناف كلم على كلم سابق‪ ،‬فبعد الكلم عن البيت وما يتعلّق به من مناسك الحج يستأنف‬
‫السياق‪َ {:‬ومَن ُيعَظّمْ حُ ُرمَاتِ اللّهِ َف ُهوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ‪[} ..‬الحج‪ ]30 :‬فالحق ‪ -‬سبحانه ‪ -‬يريد‬
‫لعبده أنْ يلتز َم أوامره بفعل المر واجتناب النهي‪ ،‬ف ُكلّ أمر ل يَحرُم عليك أن تتركه‪ ،‬وكلّ َنهْي‬
‫يحرم عليك أنْ تأتيه‪ ،‬فهذه هي حرمات ال التي ينبغي عليك تعظيمها بطاعة المر واجتناب‬
‫النهي‪.‬‬
‫وحين تُعظّم هذه الحرمات ل تُعظمها لذاتها‪ ،‬فليس هناك شيء له حُرْمة في ذاته‪ ،‬إنما تُعظّمها‬
‫لنها حرمات ال وأومره؛ لذلك قد يجعل اللتزام بها مُتغيّرا‪ ،‬وقد يطرأ عليك ما يبدو متناقضا في‬
‫الظاهر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حلّ محلّه التيمُم‬
‫فالوضوء مثلً‪ ،‬البعض يرى فيه نظافة للبدن‪ ،‬فإذا انقطع الماء وعُدِم وجوده َ‬
‫بالتراب الطاهر الذي نُغبّر به أعضاء التيمم‪ ،‬إذن‪ :‬ليس في المر نظافة‪ ،‬إنما هو اللتزام والنقياد‬
‫واستحضار أنك ُمقْبل على أمر غير عادي يجب عليك أنْ تتطّهر له بالوضوء‪ ،‬فإنْ أمر ُتكَ بالتيمم‬
‫فعليك اللتزام دون البحث في أسباب المر وعِلّته‪.‬‬
‫وهكذا يكون الدب مع الوامر وتعظيمها؛ لنها من ال‪ ،‬ولِمَ ل ونحن نرى مثل هذا اللتزام أو‬
‫رياضة التأديب في اللتزام في تعاملتنا الطبيعية الحياتية‪ ،‬فمثلً الجندي حين يُجنّد يتعلم أول ما‬
‫يتعلم النضباط قبل أنْ يُمسِك سلحا أوْ يتدرب عليه‪ ،‬يتعلم أن كلمة " ثابت " معناها عدم الحركة‬
‫مهما كانت الظروف فلو لَدغه عقرب ل يتحرك‪.‬‬
‫ويدخل المدرب على الجنود في صالة الطعام فيقول‪ :‬ثابت فينفذ الجميع‪ ..‬الملعقة التي في الطبق‬
‫تظل في الطبق‪ ،‬والملعقة التي في فم الجندي تظل في فمه‪ ،‬فل ترى في الصالة الواسعة حركة‬
‫واحدة‪ .‬وهذا النضباط الحركي السلوكي مقدمة للنضباط في المور العسكرية الهامة والخطيرة‬
‫بعد ذلك‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فربّك ‪ -‬عز وجل ‪َ -‬أوْلَى بهذا النضباط؛ لن العبادة ما هي إل انضباط عابد لوامر معبود‬
‫وطاعة مطلقة ل تقبل المناقشة؛ لنك ل تؤديها لذاتها وإنما انقيادا لمر ال‪ ،‬ففي الطواف تُقبّل‬
‫الحجر السود‪ ،‬وفي رمي الجمار ترمي حجرا‪ ،‬وهذا حجر وذاك حجر‪ ،‬هذا ندوسه وهذا نُقبّله‬
‫فَحَجر ُيقَبّل وحَجر ُيقَنْبل؛ لن المسألة مسألة طاعة والتزام‪ ،‬هذا كله من تعظيم حرمات ال‪.‬‬
‫لذلك المام علي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬يلفتنا إلى هذه المسألة فيقول في التيمم‪ :‬لو أن المر كما‬
‫نرى لكان مسح باطن القدم َأوْلَى من ظاهرها؛ لن الوساخ تعلق بباطن القدم أولً‪.‬‬
‫وقد ذكرنا في اليات السابقة أن الحرمات خمس‪ :‬البيت الحرام‪ ،‬والمسجد الحرام‪ ،‬والبلد الحرام‪،‬‬
‫ل تفعلها‪.‬‬
‫والمشعر الحرام‪ ،‬والشهر الحرام‪ ،‬وحرمات ال هي الشياء المحرمة التي يجب ا ّ‬

‫ثم يُبيّن الحق سبحانه جزاء هذا اللتزام‪َ } :‬ف ُهوَ خَيْرٌ لّهُ عِندَ رَبّهِ‪[ { ..‬الحج‪ ]30 :‬الخيرية هنا‬
‫ليست في ظاهر المر وعند الناس أو في ذاته‪ ،‬إنما الخيرية للعبد عند ال‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَأُحِّلتْ َل ُك ُم الَ ْنعَامُ ِإلّ مَا يُتْلَىا عَلَ ْيكُمْ‪[ { ..‬الحج‪ ]30 :‬قد تقول‪ :‬كيف وهي‬
‫حلل من البداية وفي الصل‪ ،‬قالوا‪ :‬لنه لما حرّم الصيد قد يظن البعض أنه حرام دائما فل‬
‫ينتفعون بها‪ ،‬فبيّن سبحانه أنها حلل إل ما ذُكر تحريمه‪ ،‬ونصّ القرآن عليه في قوله تعالى‪{:‬‬
‫حُ ّر َمتْ عَلَ ْيكُمُ ا ْلمَيْتَ ُة وَالْدّ ُم وَلَحْمُ الْخِنْزِي ِر َومَآ أُ ِهلّ ِلغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَا ْلمُنْخَ ِنقَ ُة وَا ْل َموْقُو َذ ُة وَا ْلمُتَرَدّ َيةُ‬
‫سمُواْ بِالَزْلَمِ‪[} ..‬المائدة‪:‬‬
‫ب وَأَنْ تَسْ َتقْ ِ‬
‫ص ِ‬
‫وَالنّطِيحَ ُة َومَآ َأ َكلَ السّبُعُ ِإلّ مَا َذكّيْتُ ْم َومَا ذُبِحَ عَلَى الّن ُ‬
‫‪.]3‬‬
‫سقٌ‪[} ..‬النعام‪.]121 :‬‬
‫علَيْ ِه وَإِنّهُ َلفِ ْ‬
‫سمُ اللّهِ َ‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬وَلَ تَ ْأكُلُواْ ِممّا لَمْ ُي ْذكَرِ ا ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومعنى‪ } :‬فَاجْتَنِبُواْ الرّجْسَ مِنَ الَوْثَانِ‪[ { ..‬الحج‪ ]30 :‬الرجْس‪ :‬النجاسة الغليظة المتغلغلة في‬
‫ذات الشيء‪ .‬يعني‪ :‬ليست سطحية فيه يمكن إزالتها‪ ،‬وإنما هي في نفس الشيء ل يمكن أنْ‬
‫تفصلها عنه‪.‬‬
‫} وَاجْتَنِبُواْ‪[ { ..‬الحج‪ ]30 :‬ل تدل على المتناع فقط‪ ،‬إنما على مجرد القتراب من دواعي هذه‬
‫المعصية؛ لنك حين تقترب من دواعي المعصية وأسبابها ل ُبدّ أن تداعبك وتشغل خاطرك‪ ،‬ومَنْ‬
‫حام حول الشيء يوشك أنْ يقع فيه‪ ،‬لذلك لم يقُل الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬امتنعوا إنما قال‪:‬‬
‫اجتنبوا‪ ،‬ونعجب من بعض الذين أسرفوا على أنفسهم ويقولون‪ :‬إن المر في اجتنبوا ل يعني‬
‫تحريم الخمر‪ ،‬فلم َي ُقلْ‪ :‬حُ ّر َمتْ عليكم الخمر‪.‬‬
‫نقول‪ :‬اجتنبوا أبلغ في النهي والتحريم وأوسع من حُ ّر َمتْ عليكم‪ ،‬لو قال الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪-‬‬
‫حُرّمت عليكم الخمر‪ ،‬فهذا يعني أنك ل تشربها‪ ،‬ولكن لك أن تشهد مجلسها وتعصرها وتحملها‬
‫ي وجه من هذه الوجوه‪.‬‬
‫وتبيعها‪ ،‬أما اجتنبوا فتعني‪ :‬احذروا مجرد القتراب منها على أ ّ‬
‫لذلك‪ ،‬تجد الداء القرآني للمطلوبات المنهجية في الوامر والنواهي من ال يُفرّق بين حدود ما‬
‫ل ال وحدود ما حرّم‪ ،‬ففي الوامر يقول‪ {:‬تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتعْتَدُوهَا‪[} ..‬البقرة‪.]229 :‬‬
‫أح ّ‬
‫وفي النواهي يقول‪ {:‬تِ ْلكَ حُدُودُ اللّهِ فَلَ َتقْرَبُوهَا‪[} ..‬البقرة‪.]187 :‬‬
‫ففي الوامر وما أحلّ ال لك ِقفْ عند ما أحلّ‪ ،‬ول تتعداه إلى غيره‪ ،‬أمّا المحرمات فل تقترب‬
‫منها مجردَ اقتراب‪ ،‬فلما أراد ال َنهْي آدم وحواء عن الكل من الشجرة قال لهما‪َ {:‬ولَ َتقْرَبَا‬
‫هَـا ِذهِ الشّجَ َرةَ‪[} ..‬البقرة‪.]35 :‬‬
‫وبعد أن أمر الحق سبحانه باجتناب الرجْس في عبادة الصنام قال‪ } :‬وَاجْتَنِبُواْ َقوْلَ الزّورِ‬
‫{ [الحج‪ ]30 :‬فقرن عبادة الوثان بقول الزّور‪ ،‬كأنهما في الثم سواء؛ لذلك النبي صلى ال عليه‬
‫وسلم سلّم يوما من صلة الصبح‪ ،‬ثم وقف وقال‪ " :‬أل وإن شهادة زور جعلها ال بعد الوثان "‪.‬‬

‫لماذا؟ لن في شهادة الزور جماع لكل حيثيات الظلم‪ ،‬فساع َة يقول‪ :‬ليس للكون إله‪ ،‬فهذه شهادة‬
‫زور‪ ،‬وقائلها شاهد زور‪ ،‬كذلك حين يظلم أو يُغير في الحقيقة‪ ،‬أو يذمّ الخرين‪ ،‬كلها داخلة تحت‬
‫شهادة الزور‪.‬‬
‫ولما عدّد النبي صلى ال عليه وسلم الكبائر‪ ،‬قال‪ " :‬أل أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا‪ :‬بلى يا رسول‬
‫ال‪ .‬قال‪ :‬الشراك بال وعقوق الوالدين ‪ -‬وكان متكئا فجلس ‪ -‬فقال‪ :‬أل وقول الزور أل وقول‬
‫الزور‪ ،‬قال الراوي‪ :‬فما زال يكررها حتى قلنا (ليته سكت) أو حتى ظننا أنه ل يسكت "‪.‬‬
‫ت القُضاة‪ ،‬وحلفت كاذبا بال‪.‬‬
‫ويقولون في شاهد الزور‪ :‬يا شاهد الزور أنت شر منظور‪ ،‬ضلّل َ‬
‫ومن العجيب في شاهد الزور أنه أول ما يسقط من نظر الناس يسقط من نظر مَنْ شهد لصالحه‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خصْمك لكن داستْ قدمك على كرامته وحقّرته‪ ،‬ولو‬
‫شهِد لصالحك‪ ،‬ورفع رأسك على َ‬
‫فرغم أنه َ‬
‫تعرّض للشهادة في قضية أخرى فأنت أول مَنْ تفضحه بأنه شهد زورا لصالحك‪.‬‬
‫سمَآءِ‪{ ..‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬حُ َنفَآءَ للّهِ غَيْرَ ُمشْ ِركِينَ بِ ِه َومَن يُشْ ِركْ بِاللّهِ َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ ال ّ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2607 /‬‬

‫طفُهُ الطّيْرُ َأوْ َت ْهوِي بِهِ‬


‫خَ‬‫سمَاءِ فَتَ ْ‬
‫حُ َنفَاءَ لِلّهِ غَيْرَ مُشْ ِركِينَ ِب ِه َومَنْ ُيشْ ِركْ بِاللّهِ َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ ال ّ‬
‫الرّيحُ فِي َمكَانٍ سَحِيقٍ (‪)31‬‬

‫اكتفتْ الية بذكر صفتين فقط من صفات كثيرة على وجه الجمال‪ ،‬وهما حنفاء ل‪ ،‬غير مشركين‬
‫به‪ ،‬وحنفاء‪ :‬جمع حنيف‪ ،‬مأخوذة من حنيف الرّجل يعني‪ :‬تقوّسها وعدم استقامتها‪ ،‬فيقال‪ :‬فيه‬
‫حَنَف أي‪ :‬ميْل عن الستقامة‪ ،‬وليس الوصف هنا بأنهم ُمعْوجون‪ ،‬إنما المراد أن العوجاج عن‬
‫العوجاج استقامة‪.‬‬
‫لذلك ُوصِف إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬بأنه{ كَانَ حَنِيفا‪[} ..‬آل عمران‪ ]67 :‬يعني‪ :‬مائلً عن عبادة‬
‫الصنام‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن السماء ل تتدخّل برسالة جديدة إل حين يَعمّ الفسادُ القومَ‪ ،‬ويستشري بينهم الضلل‪،‬‬
‫وتنعدم أسباب الهداية‪ ،‬حيث ل واعظَ للنسان ل من نفسه وضميره‪ ،‬ول من دينه‪ ،‬ول من‬
‫مجتمعه وبيئته؛ ذلك لن في النفس البشرية مناعةً للحق طبيعية‪ ،‬لكن تطمسها الشهوات‪ ،‬فإذا عُدِم‬
‫هذا الواعظ وهذه المناعة في المجتمع تدخَّلتْ السماء بنبي جديد‪ ،‬ورسالة جديدة‪ ،‬وإنذار جديد؛ لن‬
‫عمّ الجميع‪ ،‬ولم َيعُدْ أحد يعِظُ الخر ويهديه‪.‬‬
‫الفساد َ‬
‫وهذا المعنى الذي قال ال فيه‪ {:‬كَانُو ْا لَ يَتَنَا َهوْنَ عَن مّنكَرٍ َفعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المائدة‪:‬‬
‫‪]79‬‬
‫جتْ للناس؛ لن المناعة للحق‬
‫ومن هنا شهد ال لمة محمد صلى ال عليه وسلم أنها خير أمة أُخرِ َ‬
‫فيها قائمة‪ ،‬ولها واعظ من نفسها يأمر بالخير‪ ،‬ويأخذ على يد المنحرف حتى يستقيم؛ لذلك قال‬
‫ي وفي أمتي إلى يوم القيامة "‪.‬‬
‫فيها النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬الخير ف ّ‬
‫والمعنى‪ :‬الخير ِفيّ حصرا وفي أمتي نَثْرا‪ ،‬فرسول ال صلى ال عليه وسلم جمع خصال الخير‬
‫كله‪ ،‬وخَصه ال بالكمال‪ ،‬لكن مَنْ يُطيق الكمال المحمدي من أمته؟ لذلك نثر ال خصال الخير في‬
‫جميع أمة محمد‪ ،‬فأخذ كلّ واحد منهم صفةً من صفاته‪ ،‬فكماله صلى ال عليه وسلم منثور في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أمته‪ :‬هذا كريم‪ ،‬وهذا شجاع‪ ،‬وهذا حليم‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫ولما كان لمة محمد هذا الدور كان هو خاتم النبياء؛ لن أمته ستؤدي رسالته من بعده‪ ،‬فل‬
‫حاجة ‪ -‬إذن ‪ -‬لتدخل السماء برسالة جديدة إلى أن تقوم الساعة‪.‬‬
‫إذن نقول‪ :‬الرسل ل تأتي إل عند العوجاج‪ ،‬يأتون هم لِيُقوّموا هذا العوجاج‪ ،‬ويميلون عنه إلى‬
‫الستقامة‪ ،‬هذا معنى الحنيف أو { حُ َنفَآءَ للّهِ‪[ } ..‬الحج‪.]31 :‬‬
‫وهذه الصفة هي مقياس الستقامة على أوامر ال ل على أوامر البشر‪ ،‬فنحن ل نضع لنفسنا‬
‫أسبابَ الكمال ثم نقول‪ :‬ينبغي أن يكون كذا وكذا‪ ،‬ل إنما الذي يضع أسباب الكمال للمخلوق هو‬
‫الخالق‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ليس مراده من الفعل أنْ يُفعل لذاته ولمجرد الفعل‪ ،‬إنما مراده من‬
‫الفعل أنْ يُفعل لنه أمر به‪ ،‬وقد أوضحنا هذه المسألة بالكافر الذي يفعل الخير وينفع الناس‬
‫والمجتمع‪ ،‬لكن ليس من منطلق الدين وأمر ال‪ ،‬إنما من منطلق النسانية والمكانة الجتماعية‬
‫والمهابة والمنزلة بين الناس‪ ،‬ومثل هذا ل يجحفه ال حَقه‪ ،‬ول يبخسه ثواب عمله‪ ،‬يعطيه لكن في‬
‫ل بقول ال تعالى‪:‬‬
‫الدنيا عم ً‬

‫عمَلً }[الكهف‪.]30 :‬‬


‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لَ ُنضِيعُ أَجْرَ مَنْ َأحْسَنَ َ‬
‫{ إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَ َ‬
‫حظّ لهؤلء في ثواب الخرة؛ لنهم عملوا للمجتمع وللناس وللمنزلة‪ ،‬وقد أخذوا المقابل في‬
‫لكن ل َ‬
‫شهْرة وصيتا ذائعا‪ ،‬ومكانة وتخليدا‪.‬‬
‫الدنيا ُ‬
‫وفي الحديث القدسي يقول الحق سبحانه لهم‪ " :‬لقد فع ْلتَ ليُقال وقد قيل " وانتهت المسألة‪.‬‬
‫عمَاُلهُمْ َكسَرَابٍ‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬ضرب لنا عدة أمثلة لهؤلء‪ ،‬فقال‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫ج ْدهُ شَيْئا َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ حِسَا َب ُه وَاللّهُ سَرِيعُ‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا ِإذَا جَآ َءهُ َلمْ يَ ِ‬
‫ِبقِيعَةٍ يَحْسَ ُبهُ ال ّ‬
‫حسَابِ‪[} ..‬النور‪.]39 :‬‬
‫الْ ِ‬
‫فعمل الكافر كالسراب يتراءى له من بعيد‪ ،‬يظن من ورائه الخير‪ ،‬وهو ليس كذلك‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫عاين المر لم يجد شيئا‪ ،‬وفُوجِئ بوجود إله عادل لم يكُنْ في باله يوم عمل ما عمل‪.‬‬
‫عمَاُل ُهمْ كَ َرمَادٍ اشْ َت ّدتْ بِهِ الرّيحُ فِي َيوْمٍ‬
‫وفي آية أخرى يقول سبحانه‪ {:‬مّ َثلُ الّذِينَ كَفَرُواْ بِرَ ّبهِمْ أَ ْ‬
‫شيْءٍ‪[} ..‬إبراهيم‪.]18 :‬‬
‫صفٍ لّ َيقْدِرُونَ ِممّا كَسَبُواْ عَلَىا َ‬
‫عَا ِ‬
‫ص ْفوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ‬
‫س َولَ ُي ْؤمِنُ بِاللّ ِه وَالْ َيوْمِ الخِرِ َفمَثَلُهُ َكمَ َثلِ َ‬
‫وقال‪ {:‬كَالّذِي يُ ْنفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ النّا ِ‬
‫شيْءٍ ّممّا كَسَبُو ْا وَاللّهُ لَ َي ْهدِي ا ْلقَوْمَ ا ْلكَافِرِينَ‪} ..‬‬
‫فََأصَابَ ُه وَا ِبلٌ فَتَ َر َك ُه صَلْدا لّ َيقْدِرُونَ عَلَىا َ‬
‫[البقرة‪.]264 :‬‬
‫وهل ينبت المطر شيئا إذا نزل على الحجر الصّلد الملس؟ هكذا عمل الكافر‪ ،‬فمن أراد ثواب‬
‫الخرة فليحقق معنى } حُ َنفَآءَ للّهِ‪[ { ..‬الحج‪ ]31 :‬ويعمل من منطلق أن ال أمر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬العمل ل يُفعَل؛ لنه حسن في ذاته‪ ،‬إنما لن ال أمرك به‪ ،‬بدليل أن الشارع سيأمرك بأمور‬
‫ل تجد فيها حُسْنا‪ ،‬ومع ذلك عليك أنْ تلتزم بها لتحقق النضباط الذي أراده منك الشارع الحكيم‪،‬‬
‫وبعد ذلك سينكشف لك وجه الحُسْن في هذا العمل‪ ،‬وتعلم الحكمة منه‪.‬‬
‫ل موقف السلم من اليتيم‪ ،‬وقد حث رسول ال صلى ال عليه وسلم على رعايته وإكرامه‬
‫خذ مث ً‬
‫وكفالته حتى أنه قال‪ " :‬أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة‪ ،‬وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى "‬
‫فكافل اليتيم قرين لرسول ال في الجنة‪.‬‬
‫حكَم كثيرة‪ ،‬قد ل يعلمها كثير من الناس؛ لن اليتيم فقد أباه وهو صغير‪ ،‬ونظر‬
‫ففي هذا الموقف ِ‬
‫فلم َيجِدْ له أبا‪ ،‬في حين يتمتع رفاقه بأحضان آبائهم‪ ،‬فإذا لم يجد هذا الصغير حنانا من كل الناس‬
‫كأنهم آباؤه لتربّي عنده شعور بالسّخْط على ال والعتراض على القدر الذي حرمه دون غيره‬
‫من حنان الب ورعايته‪.‬‬
‫لذلك يريد السلم أن ينشأ اليتيم نشأة سويّة في المجتمع‪ ،‬ل يسخط على ال‪ ،‬ول يسخط على‬
‫الناس؛ لنهم جميعا عاملوه كأنه ولد لهم‪.‬‬
‫وهناك ملحظ آخر‪ :‬حين ترى مكانة اليتيم‪ ،‬وكيف يرعاه المجتمع وينهض به يطمئن قلبك إنْ‬
‫فاجأك الموت وأولدك صغار‪ ،‬هذه مناعات يجعلها السلم في المجتمع‪ :‬مناعة في نفس اليتيم‪،‬‬
‫ومناعة فيمَنْ يرعاه ويكفله‪.‬‬

‫وكفالة اليتيم وإكرامه ل بُدّ أنْ تتم في إطار } حُ َنفَآءَ للّهِ‪[ { ..‬الحج‪ ]31 :‬فيكون عملك ل خالصا‪،‬‬
‫دون نظر إلى شيء آخر من متاع الدنيا‪ ،‬كالذي يسعى للوصاية على اليتيم لينتفع بماله‪ ،‬أو أن له‬
‫مطمعا في أمه‪ ..‬إلخ فهذا عمله كالذي قُلْنا‪( :‬كسراب بقيعة) أو كرماد اشتدت به الريح أو كحجر‬
‫أملس صَلْد ل ينبت شيئا‪.‬‬
‫فإنْ حاول النسان إخلص النية ل في مثل هذا العمل فإنه ل يأمن أنْ يخالطه شيء‪ ،‬كما جاء في‬
‫الحديث الشريف‪ " :‬اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك "‪.‬‬
‫الصفة الثانية التي وصف ال بها عباده المؤمنين‪ } :‬غَيْرَ مُشْ ِركِينَ ِبهِ‪[ { ..‬الحج‪ ]31 :‬فالشرك أمر‬
‫عظيم؛ لن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬كما قال في الحديث القدسي ‪ -‬أغنى الشركاء عن الشرك‪،‬‬
‫فكيف تلجأ إلى غير ال وال موجود؟‬
‫لذلك يقول سبحانه في الحديث القدسي‪ " :‬أنا أغنى الشركاء عن الشرك‪ ،‬مَنْ عمل عملً أشرك فيه‬
‫معي غيري‪ ،‬تركته وشِرْكه "‪.‬‬
‫ويعطينا الحق سبحانه بعدها صورة توضيحية لعاقبة الشرك‪َ } :‬ومَن يُشْ ِركْ بِاللّهِ َفكَأَ ّنمَا خَرّ مِنَ‬
‫سحِيقٍ‪[ { ..‬الحج‪.]31 :‬‬
‫طفُهُ الطّيْرُ َأوْ َت ْهوِي بِهِ الرّيحُ فِي َمكَانٍ َ‬
‫سمَآءِ فَتَخْ َ‬
‫ال ّ‬
‫سقْفُ مِن َف ْو ِقهِمْ‪} ..‬‬
‫خرّ‪ :‬يعني سقط من السماء ل يُمسكه شيء‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬فَخَرّ عَلَ ْيهِمُ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[النحل‪.]26 :‬‬
‫صعِد إلى أعلى ل بُدّ أنْ يعود إلى‬
‫ن َ‬
‫وفي النسان جمادية؛ لن قانون الجاذبية يتحكم فيه‪ ،‬فإ ْ‬
‫الرض بفعل هذه الجاذبية‪ ،‬ل يملك أنْ يُمسِك نفسه مُعلّقا في الهواء‪ ،‬فهذا أمر ل يملكه وخارج‬
‫عن استطاعته‪ ،‬وفي النسان نباتية تتمثل في النمو‪ ،‬وفيه حيوانية تتمثل في الغرائز‪ ،‬وفيه إنسانية‬
‫تتمثل في العقل والتفكير والختيار بين البدائل‪ ،‬وبهذه كُرّم عن سائر الجناس‪.‬‬
‫سمَآءِ‪[ { ..‬الحج‪ ]31 :‬بحيث ل تستطيع قوة أنْ‬
‫وتلحظ أن (خرّ) ترتبط بارتفاع بعيد } خَرّ مِنَ ال ّ‬
‫ن يصل إلى الرض تتخطفه الطير‪ ،‬فإنْ لم تتخطفه‬
‫تحميه‪ ،‬أو تمنعه ل بذاته ول بغيره‪ ،‬وقبل أ ْ‬
‫تهوي به الريح في مكان بعيد وتتلعب به‪ ،‬فهو هالك هالك ل محالةَ‪ ،‬ولو كانت واحدة من هذه‬
‫الثلث لكانت كافية‪.‬‬
‫ن يتأمل مغزى هذا التصوير القرآني فيحذر هذا المصير‪ ،‬فهذه حال مَنْ أشرك‬
‫وعلى العاقل أ ْ‬
‫بال‪ ،‬فإنْ أخذتَ الصورة على أنها تشبيه حالة بحالة‪ ،‬فها هي الصورة أمامك واضحة‪ ،‬وإنْ أردتَ‬
‫تفسيرا آخر يُوضّح أجزاءها‪ :‬فالسماء هي السلم‪ ،‬والطير هي الشهوات‪ ،‬والريح هي ريح‬
‫الشيطان‪ ،‬يتلعب به هنا وهناك‪ .‬فأيّ ضياع بعد هذا؟ ومَنْ ذا الذي ينقذه من هذا المصير؟‬
‫شعَائِرَ اللّهِ‪{ ..‬‬
‫ك َومَن ُي َعظّمْ َ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬ذاِل َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2608 /‬‬

‫شعَائِرَ اللّهِ فَإِ ّنهَا مِنْ َتقْوَى ا ْلقُلُوبِ (‪)32‬‬


‫ك َومَنْ ُيعَظّمْ َ‬
‫ذَِل َ‬

‫{ ذاِلكَ‪[ } ..‬الحج‪ ]32 :‬كما قلنا في السابقة‪ :‬إشارة إلى الكلم السابق الذي أصبح واضحا معروفا‪،‬‬
‫ونستأنف بعدها كلما جديدا تَنبّه له‪.‬‬
‫شعَائِرَ اللّهِ‪[ } ..‬الحج‪ ]32 :‬الشعائر‪ :‬جمع شعيرة‪ ،‬وهي المعالم التي جعلها ال لعباده‬
‫{ َومَن ُيعَظّمْ َ‬
‫سعْي شعيرة‪،‬‬
‫لينالوا ثوابه بتعظيمها‪ ،‬فالحرام شعيرة‪ ،‬والتكبير شعيرة‪ ،‬والطواف شعيرة‪ ،‬وال ّ‬
‫ورمْي الجمار شعيرة‪ ..‬إلخ‪ .‬وهذه أمور عظّمها ال‪ ،‬وأمرنا بتعظيمها‪.‬‬
‫وتعظيم الشيء أبلغ وأشمل من ِفعْله‪ ،‬أو أدائه‪ ،‬أو عمله‪ ،‬عَظّم الشعائر يعني‪ :‬أدّاها بحبّ وعشْق‬
‫وإخلص‪ ،‬وجاء بها على الوجه الكمل‪ ،‬وربما زاد على ما طُِلبَ منه‪.‬‬
‫ومثالنا في ذلك‪ :‬خليل ال إبراهيم‪ ،‬عندما أمره ال أنْ يرفع قواعد البيت‪ :‬كان يكفيه أنْ يبني على‬
‫قَدْر ما تطوله يده‪ ،‬وبذلك يكون قد أدّى ما ُأمِر به‪ ،‬لكنه عشق هذا التكليف وأحبّه فاحتال للمر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ووضع حجرا على حجر ليقف عليه‪ ،‬ويرفع البناء بقدر ما ارتفع إليه‪.‬‬
‫فمحبة أمر ال مَرْقي من مراقي اليمان‪ ،‬يجب أن نسموَ إليه‪ ،‬حتى في العمل الدنيوي‪َ :‬هبْ أنك‬
‫ُنقِلْتَ إلى ديوان جديد‪ ،‬ووصل إلى عِلْمك أن مدير هذا الديوان رجل جا ّد وصعب‪ ،‬ويُحاسب على‬
‫كل صغيرة وكبيرة‪ ،‬فيمنع التأخير أو التسيّب أثناء الدوام الرسمي‪ ،‬فإذا بك تلتزم بهذه التعليمات‬
‫حرفيا‪ ،‬بل وتزيد عليها ليس حبا في العمل‪ ،‬ولكن حتى ل تُسئَل أمام هذا المدير في يوم من اليام‪.‬‬
‫حبّ وعِشْق يُوصّلنا إلى حب ال عز وجل؛ لذلك نجد من أهل‬
‫إذن‪ :‬الهدف أنْ نؤدي التكاليف ب ُ‬
‫ب معصية أورثتْ ذلً وانكسارا خَيْر من طاعة أورثت عِزا واستكبارا‪.‬‬
‫ن يقول‪ُ :‬ر ّ‬
‫المعرفة مَ ْ‬
‫فالمهم أن نصل إلى ال‪ ،‬أن نخضع ل‪ ،‬أنْ ن ِذلّ لعزته وجلله‪ ،‬والمعصية التي تُوصّلك إلى هذه‬
‫الغاية خير من الطاعة التي تُسلِمك للغرور والستكبار‪.‬‬
‫هذه المحبة للتكاليف‪ ،‬وهذا العشق عبّر عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما قال‪ " :‬وجُعَلتْ‬
‫لةِ قَامُواْ كُسَالَىا‬
‫قُرّة عيني في الصلة " لذلك َنعَي القرآن على أولئك الذين{ ِإذَا قَامُواْ إِلَى الصّ َ‬
‫س َولَ َي ْذكُرُونَ اللّهَ ِإلّ قَلِيلً‪[} ..‬النساء‪.]142 :‬‬
‫يُرَآءُونَ النّا َ‬
‫وابنته فاطمة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬كانت تجلو الدرهم وتلمعه‪ ،‬فلما سألها رسول ال عما تفعل‪،‬‬
‫قالت‪ :‬لنني نويتُ أنْ أتصدّق به‪ ،‬وأعلم أنه يقع في يد ال قبل أنْ يقع في يد الفقير‪ .‬هذا هو‬
‫التعظيم لشعائر ال والقيام بها عن رغبة وحب‪.‬‬
‫وفي عصور السلم الولى كان الناس يتفاضلون بأسبقهم إلى صلة الجماعة حين يسمع النداء‪،‬‬
‫وبآخرهم خروجا من المسجد بعد أداء الصلة‪ ،‬ولك أن تقيس حال هؤلء بحالنا اليوم‪ .‬هؤلء قوم‬
‫عظّموا شعائر ال فلم يُقدّموا عليها شيئا‪.‬‬
‫ن قال‪ :‬لقد أصبحتُ أخشى أل يثيبني‬
‫حبّ التكاليف وتعظيم شعائر ال بأحد العارفين إلى أ ْ‬
‫وقد بلغ ُ‬
‫ال على طاعته‪ ،‬فسألوه‪ :‬ولماذا؟ قال‪ :‬لنني أصبحتُ أشتهيها يعني‪ :‬أصبحتْ شهوة عندي‪ ،‬فكيف‬
‫يُثاب ‪ -‬يعني ‪ -‬على شهوة عندي؟!‬
‫سعَة‬
‫لذلك أهل العزم وأهل المعرفة عن ال إذا ورد المر من ال وثبت أخذوه على الرّحْب وال ّ‬
‫دون جدال ول مناقشة‪ ،‬وكيف يناقشون أمر ال وهم يُعظّمونه؟ ومن هنا نقول للذين يناقشون في‬
‫ل ويعترضون‪ ،‬بل ومنهم مَنْ‬
‫أمور فعلها رسول ال صلى ال عليه وسلم مثل تعدّد زوجاته مث ً‬
‫يتهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بما ل يليق‪.‬‬

‫نقول لهم‪ :‬ما ُدمْتُم آمنتم بأنه رسول ال‪ ،‬فكيف تضعون له موازين الكمال من عند أنفسكم‪.‬‬
‫ن يفعل كذا‪ ،‬ول يفعل كذا؟ وهل عندكم من الكمال ما تقيسون به ِفعْل‬
‫وتقولون‪ :‬كان ينبغي أ ْ‬
‫رسول ال؟ المفروض أن الكمال منه صلى ال عليه وسلم ومن ناحيته‪ ،‬ل من ناحيتكم‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬فَإِ ّنهَا مِن َت ْقوَى ا ْلقُلُوبِ { [الحج‪ ]32 :‬ليست من تقوى الجوارح‪ ،‬بل تقوى قلب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل تقوى قالب‪ ،‬فالقلب هو محلّ نظر ال إليك‪ ،‬ومحلّ قياس تعظيمك لشعائر ال‪.‬‬
‫وسبق أنْ ذكرنا أن ال تعالى ل يريد أنْ يُخضِع قوالبنا‪ ،‬إنما يريد أنْ يُخضع قلوبنا‪ ،‬ولو أراد‬
‫سكَ َألّ‬
‫خعٌ ّنفْ َ‬
‫سبحانه أنْ تخضع القوالب لخصعتْ له راغمة‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬لعَّلكَ بَا ِ‬
‫ضعِينَ }[الشعراء‪- 3 :‬‬
‫سمَآءِ آيَةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُقهُمْ َلهَا خَا ِ‬
‫َيكُونُواْ ُم ْؤمِنِينَ * إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ عَلَ ْي ِهمْ مّنَ ال ّ‬
‫‪.]4‬‬
‫ن هو أضعف منك على أيّ شيء يكرهه‪ ،‬إنْ شئتَ سجد لك‪ ،‬لكن ل‬
‫وأنت تستطيع أنْ تُرغِم مَ ْ‬
‫تملك أنْ تجعل في قلبه حبا أو احتراما لك‪ ،‬لماذا؟ لنك تجبر القالب‪ ،‬أمّا القلب فل سلطةَ لك عليه‬
‫بحال‪.‬‬
‫سمّى‪{ ..‬‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬لكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَىا َأ َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2609 /‬‬

‫سمّى ُثمّ مَحِّلهَا ِإلَى الْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ (‪)33‬‬


‫جلٍ مُ َ‬
‫َلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى َأ َ‬

‫يعني‪ :‬ما دامت هذه المسائل من شعائر ال ومن تقوى القلوب فاعملوها وعظّموها؛ لن لكم فيها‬
‫منافع عرفتها أو لم تعرفها‪ ،‬وربما تعرف بعضها ول تعرف الباقي؛ لنه مستور عنك ولو أنك ل‬
‫تعلم قيمة الجزاء على هذه الشعائر‪ ،‬فقيمة الجزاء على العمل بحسب أنفاس الخلص في هذا‬
‫العمل‪.‬‬
‫سمّى‪[ } ..‬الحج‪ ]33 :‬ما دام الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ذَيّل الية بقوله { ثُمّ‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫ومعنى { ِإلَىا أَ َ‬
‫مَحِّلهَآ إِلَىا الْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ‪[ } ..‬الحج‪.]33 :‬‬
‫إذن‪ :‬فالمراد هنا شعيرة الذّبْح‪ ،‬ول يخفى ما فيها من منافع حيث ننتفع بصوفها ووبرها ولبنها‬
‫ولحمها‪ ،‬ونتخذها زينة وركوبة‪.‬‬
‫سمّى‪[ } ..‬الحج‪ ]33 :‬يعني‪ :‬زمن معلوم‪ ،‬وهو حين تقول وتنوي‪ :‬هذه هدية‬
‫جلٍ مّ َ‬
‫كل هذا { إِلَىا َأ َ‬
‫للحرم‪ ،‬ساعة تعقد هذه النية فليس لك النتفاع بشيء منها‪ ،‬ل أنت ول غيرك؛ لذلك يُميّزونها‬
‫بعلمة حتى إنْ ضلت من صاحبها يعرفون أنها ُمهْداة لبيت ال‪ ،‬فل يأخذها أحد‪.‬‬
‫وما دامت هذه منافع إلى أجل مسمى‪ ،‬فل ُبدّ أنها المنافع الدنيوية‪ ،‬أما المنافع الخروية فسوف‬
‫تجدها فيما بعد في الخرة‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ُ { :‬ثمّ مَحِّلهَآ إِلَىا الْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ } [الحج‪ ]33 :‬أي‪ :‬بعد هذا الجل المسمى ينتهي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بها المطاف عند الحرم حيث تُذبَح هناك‪.‬‬
‫وقد كان للعلماء كلمٌ حول هذه الية‪ { :‬ثُمّ مَحِّلهَآ إِلَىا الْبَ ْيتِ ا ْلعَتِيقِ } [الحج‪ ]33 :‬حيث قالوا‪:‬‬
‫محل الذّبْح في مِنَى‪ ،‬وليس في مكة‪ ،‬والية تقول‪ ،‬محلها البيت العتيق‪.‬‬
‫نقول‪ :‬الصل كما جاء في الية أن الذبح في مكة وفي الحرم‪ ،‬إل أنهم لما استقذروا الذّبْح في‬
‫الحرم بسبب ما يُخلفه من قاذورات ودماء وخلفه نتيجة هذه العملية‪ ،‬فرُؤي أن يجعلوا الذبح بعيدا‬
‫عن الحرم حتى يظل نظيفا‪ ،‬وهذا ل يمنع الصل‪ ،‬وهو أنْ يكون الذّبْح في الحرم‪ ،‬كما جاء في‬
‫آية أخرى‪ {:‬هَدْيا بَاِلغَ ا ْل َكعْبَةِ‪[} ..‬المائدة‪ ]95 :‬وفي الحديث الشريف‪ " :‬مكّةُ كلّها مَنْحرٌ "‪.‬‬
‫جعَلْنَا مَنسَكا لّ َي ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَىا مَا رَ َز َقهُمْ مّن َبهِيمَةِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫الَ ْنعَامِ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2610 /‬‬

‫حدٌ فَلَهُ‬
‫سكًا لِ َي ْذكُرُوا اسْمَ اللّهِ عَلَى مَا رَ َز َقهُمْ مِنْ َبهِيمَةِ الْأَ ْنعَامِ فَإَِل ُهكُمْ إِلَ ٌه وَا ِ‬
‫جعَلْنَا مَنْ َ‬
‫وَِلكُلّ ُأمّةٍ َ‬
‫أَسِْلمُوا وَبَشّرِ ا ْل ُمخْبِتِينَ (‪)34‬‬

‫ن صَلَتِي‬
‫المنسك‪ :‬هو العبادة‪ ،‬كما جاء في قول ال تعالى على لسان إبراهيم عليه السلم‪ُ {:‬قلْ إِ ّ‬
‫ي َو َممَاتِي للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ‪[} ..‬النعام‪.]162 :‬‬
‫سكِي َومَحْيَا َ‬
‫وَنُ ُ‬
‫جعَلْنَا مَنسَكا‪[ } ..‬الحج‪ ]34 :‬لن الشعائر والمناسك والعبادات ليس من‬
‫ومعنى { وَِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫الضروري أنْ تتفق عند جميع المم‪ ،‬بل لكل أمة ما يناسبها‪ ،‬ويناسب ظَرْفها الزمني والبيئي‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فإن الرسل ل تأتي لتُغير القواعد والسس التي يقوم عليها الدين؛ لن هذه القواعد وهذه‬
‫السس ثابتة في كل رسالت السماء‪ ،‬ل تتبدل ول تتغير بتغيّر الرسل‪.‬‬
‫ك َومَا َوصّيْنَا ِبهِ إِبْرَاهِيمَ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا ِبهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْي َ‬
‫ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ‪[} ..‬الشورى‪.]13 :‬‬
‫َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ‬
‫هذا في الصول ال َعقَدية الثابتة‪ ،‬أما في الفرعيات فنرى ما يصلح المجتمع‪ ،‬وما يناسبه من‬
‫طاعات وعبادات‪.‬‬
‫سمَ اللّهِ عَلَىا مَا رَ َز َقهُمْ مّن َبهِيمَةِ‬
‫ثم يُبيّن الحق سبحانه الحكمة من هذه المناسك‪ { :‬لّيَ ْذكُرُواْ ا ْ‬
‫الَ ْنعَامِ‪[ } ..‬الحج‪ ]34 :‬أي‪ :‬يذكروا ال في كل شيء‪ ،‬ويشكروه على كل نعمة ينالونها من بهيمة‬
‫النعام‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك نذكر ال عند الذبح نقول‪ :‬بسم ال‪ ،‬ال أكبر‪ ،‬لماذا؟ لن الذبح إزهاق روح خلقها ال‪ ،‬وما‬
‫كان لك أنْ تزهقها بإرادتك‪ ،‬فمعنى " بسم ال وال أكبر " هنا أنني ل أزهق روحها من عندي‪ ،‬بل‬
‫لن ال أمرني وأباحها لي‪ ،‬فال أكبر في هذا الموقف من إرادتك‪ ،‬ومن عواطفك‪.‬‬
‫ونرى البعض يأنف من مسألة الذّبْح هذه‪ ،‬يقول‪ :‬كيف تذبحون هذا الحيوان أو هذه الدجاجة؟‬
‫يدّعي الرحمة والشفقة على هذه الحيوانات‪ ،‬لكنه ليس أرحم بها من خالقها‪ ،‬وما ذبحناها إل لن‬
‫ال أحلّها‪ ،‬وما أكلناها إل بسم ال‪ ،‬بدليل أن ما حرمه ال علينا ل نقرب منه أبدا‪.‬‬
‫وهل أنا أكرم القطة عن الرنب‪ ،‬فأذبح الرنب وأترك القطة؟ وهل احترم الكلب عن الخروف؟‬
‫أبدا‪ ،‬المسألة مسألة تشريع وأمر ثبت عن ال‪َ ،‬فعَليّ أنْ أُعظّمه وأُطيعه‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬عَلَىا مَا رَ َز َقهُمْ مّن َبهِيمَ ِة الَ ْنعَامِ‪[ } ..‬الحج‪ ]34 :‬الرزق يعني‪ :‬أنه تعالى أوجدها‬
‫لك‪ ،‬وملكك إياها‪ ،‬وذَلّلها لك فاستأنسْتها وسخّرها لك فانتفعتَ بها‪ ،‬ولول تسخيره ما انقادتْ لك‬
‫بقُوتك وقدرتك‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬فَإِلَـا ُهكُمْ إِلَـا ٌه وَاحِدٌ‪[ } ..‬الحج‪ ]34 :‬يعني‪ :‬إن اختلفت الشرائع من أمة لمة‬
‫فإيّاك أنْ تظنّ أن هذا من إله‪ ،‬وهذا من إله آخر‪ ،‬إنما هو إله واحد يشرّع لكل أمة ما يناسبها وما‬
‫يصلحها؛ لن التشريعات السماوية تأتي علجا لفات اجتماعية‪.‬‬
‫والصل الصيل هو إيمان بإله واحد فاعل قادر مختار‪ ،‬يُبلّغ عنه رسول بمعجزة تُبيّن صدقه في‬
‫التبليغ عن ال‪ .‬هذا أصل كل الديانات السماوية‪ ،‬كذلك قواعد الدين وأساسياته واحدة مُتفق عليها‪،‬‬
‫فالسرقة والزنا وشهادة الزور‪.‬‬

‫‪ .‬إلخ كلها مُحرّمة في كل الديان‪.‬‬


‫لكن‪ ،‬هناك أمور تناسب أمة‪ ،‬ول تناسب أخرى‪ ،‬والمشرّع للجميع إله واحد‪ ،‬الناس جميعا من َلدُن‬
‫آدم وإلى أنْ تقومَ الساعة عياله‪ ،‬وهم عنده سواء‪ ،‬لذلك يختار لكلّ ما يُصلحه‪.‬‬
‫أل ترى ربّ السرة كيف يُنظّم حياة أولده ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬فيقول‪ :‬هذا يفعل كذا‪ ،‬وهذا‬
‫يفعل كذا‪ ،‬وإذا جاء الطعام قال‪ :‬هذا يأكل كذا وكذا لنه مريض مثلً‪ ،‬ل يناسبه طعام الخرين‪،‬‬
‫ويأمر الم أنْ ُتعِدّ لهذا المريض ما يناسبه من الطعام‪ .‬ذلك لنه رَاعٍ للجميع مسئول عن الجميع‪،‬‬
‫ي مصلحة كل واحد منهم على حِدَة‪.‬‬
‫وعليه أنْ يراع َ‬
‫إذن‪ :‬اختلف التشريعات في هذه المسائل الجزئية بين المم ل يعني تعدّد اللهة كلّ وحاشا ل‪،‬‬
‫بل هو إله واحد‪ ،‬يعطي عبادة كُلً على حسب حاجته‪ ،‬كي يتوازنَ المجتمع ويستقيم حاله‪.‬‬
‫نذكر أنه كان عند طبيب الوحدة الصحية دورقان‪ ،‬في كل منهما مزيج معين‪ ،‬وكان يعطي كل‬
‫المرضى مع اختلف أمراضهم من هذين النوعين فقط؛ لذلك كانت عديمة الجدوى‪ ،‬أما الن‬
‫فالطبيب الماهر ل ُبدّ أن يُجري على مريضه الفحوص والتحاليل اللزمة ليقف على مرضه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بالتحديد‪ ،‬ثم يصف العلج المناسب لهذه الحالة بمقادير دقيقة تُبرئ المرض ول تضرّ المريض‬
‫من ناحية أخرى‪ ..‬كذلك المر في اختلف الشرائع السماوية بين المم‪.‬‬
‫وما دام أن إلهكم إله واحد‪ ،‬وما ُدمْتم عنده سواء‪ ،‬وليس منكم مَنْ هو ابنٌ ال‪ ،‬ول بينه وبين ال‬
‫قرابة‪ .‬إذن‪ } :‬فََلهُ أَسِْلمُواْ‪[ { ..‬الحج‪ ]34 :‬يعني‪ :‬أَسلِموا كل أموركم ل‪ ،‬فإنْ أمر فعظّموا أمره‪،‬‬
‫سعَة‪ ،‬فإنْ ترك مجالً لختيارك فاصنع ما تشاء‪ .‬ول تنسَ أن ال تعالى‬
‫وخذوه على الرّحْب وال ّ‬
‫أعطاك فرصة للترقّي اليماني‪ ،‬وللترقّي الحساني‪ ،‬وفتح لك مجال الحسان إنْ أردتَ‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَبَشّرِ ا ْل ُمخْبِتِينَ { [الحج‪ ]34 :‬المخبت‪ :‬في المعنى العام‪ :‬يعني النسان الخاشع‬
‫الخاضع المتواضع لكل أوامر ال‪ ،‬والمعنى الدقيق للمخبت‪ :‬هو الذي إذا ظُلم ل ينتصر لنفسه‪،‬‬
‫لمُورِ }[الشورى‪ ]43 :‬هكذا بلم‬
‫غفَرَ إِنّ ذَِلكَ َلمِنْ عَزْ ِم ا ُ‬
‫عملً بقول ال تعالى‪ {:‬وََلمَن صَبَ َر وَ َ‬
‫التوكيد‪.‬‬
‫لمُورِ }[لقمان‪ ]17 :‬بدون‬
‫أما في وصية لقمان لولده‪ {:‬وَاصْبِرْ عَلَىا مَآ َأصَا َبكَ إِنّ ذَِلكَ مِنْ عَزْمِ ا ُ‬
‫توكيد لماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن لقمان يوصي ولده بالصبر على ما أصابه‪ ،‬والمصائب قسمان‪ :‬مصيبة تصيب النسان‪،‬‬
‫وله فيها غريم هو الذي أوقع به المصيب‪ ،‬وهذه يصاحبها غضب وسعار للنتقام‪ ،‬ومصيبة‬
‫تصيب النسان وليس له غريم كالمرض مثلً‪ ،‬فإنْ كان له غريم فالصبر أشدّ‪ ،‬لذلك احتاج إلى‬
‫التوكيد‪ ،‬على خلف المصيبة التي ليس أمامك فيها غريم‪ ،‬فهي من ال فالصبر عليها أهونُ من‬
‫الولى‪.‬‬
‫ومع ذلك جعل الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬للنفس البشرية منافذ تُنفّس من خللها عن نفسها‪ ،‬حتى‬
‫ل يختمر بداخلها الغضب‪ ،‬فيتحول إلى حقد وضغينة‪ ،‬قد تؤدي إلى أكثر مما وقع بك؛ لذلك أباح‬
‫لك الرد لكن حبّبك في مَرَاقٍ أخرى‪ ،‬هي أجدى لك‪ ،‬فقال تبارك وتعالى‪:‬‬

‫حبّ ا ْل ُمحْسِنِينَ }[آل عمران‪ ]134 :‬وهذه مراحل‬


‫ظ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ وَاللّهُ يُ ِ‬
‫ظمِينَ ا ْلغَيْ َ‬
‫{ وَا ْلكَا ِ‬
‫حسْب َفهْمك عن ال وقُربْك منه‪:‬‬
‫ثلث‪ ،‬تختار منها ب َ‬
‫ظمِينَ ا ْلغَيْظَ‪[} ..‬آل عمران‪ ]134 :‬يعني‪ :‬تكظم غيظك في نفسك‪ ،‬دون أنْ تترجم‬
‫الولى‪ {:‬وَا ْلكَا ِ‬
‫هذا الغيظ إلى عمل نزوعيّ فتنتقم‪ ،‬فالغيظ ‪ -‬إذن ‪ -‬مسألة وجدانية في القلب‪ ،‬وموجود في‬
‫مواجيد نفسه‪ ،‬وهذه مرحلة‪.‬‬
‫الثانية‪ {:‬وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّاسِ‪[} ..‬آل عمران‪ ]134 :‬يعني‪ :‬ل ينتقم‪ ،‬ول حتى يجعل للغَيْظ مكانا في‬
‫نفسه‪ ،‬فيُصفّيها من مشاعر الحَنَق والغيظ راضيا‪.‬‬
‫حبّ ا ْلمُحْسِنِينَ }[آل عمران‪ ]134 :‬وهي أعلى المراتب‪ ،‬وهي أل تكتفي بالعفو‪ ،‬بل‬
‫الثالثة‪ {:‬وَاللّهُ ُي ِ‬
‫وتُحسِن إلى مَنْ أساء إليك‪ ،‬والبعض يقول‪ :‬هذا ضد طباع البشر‪ ،‬نعم هي ضد طباع البشر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العاديين‪ ،‬لكن الذين يعرفون الجزاء‪ ،‬ويعرفون أنهم بذلك سيكونون في حضانة ربهم يهون عليهم‬
‫هذا العمل‪ ،‬بل ويُحبون الحسان إلى مَنْ أساء‪.‬‬
‫لذلك؛ فالحسن البصري ‪ -‬رضوان ال عليه ‪ -‬لما بلغه أنّ شخصا نال منه في أحد المجالس ‪-‬‬
‫وكان الوقت بواكير الرّطَب ‪ -‬أرسل خادمه إليه بطبق من الرطب‪ ،‬وقال له‪ :‬بلغني أنك أهد ْيتَ‬
‫إليّ حسناتك بالمس‪.‬‬
‫ومعلوم أن الحسنات أغلى وأثمن بكثير من طبق الرّطَب‪ .‬ومن هنا يقولون‪ :‬ما أعجب من الذي‬
‫يُسيء إلى مَنْ أساء إليه‪ ،‬لنه أعطاه حسناته‪ ،‬وهي خلصة عمله‪ ،‬فكيف يُسِيء إليه؟!‬
‫وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُحدِث توازنا في المجتمع‪ ،‬ويقضي على دواعي الحقد وأسباب‬
‫حقْد من‬
‫الضغائن في النفس البشرية‪ ،‬فحين تُحسِن إلى مَنْ يُسِيء إليك فإنك تجتثّ جذور الكُرْة وال ِ‬
‫ك وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ‬
‫نفسه‪ ،‬كما قال سبحانه وتعالى‪ {:‬ا ْدفَعْ بِالّتِي ِهيَ َأحْسَنُ فَِإذَا الّذِي بَيْ َن َ‬
‫خصْمك من قالب الخصومة‪ ،‬إلى قالب الولية والمحبة‪.‬‬
‫حمِيمٌ }[فصلت‪ ]34 :‬فقد أخرجتَ َ‬
‫َ‬
‫فالمخْبِت المتواضع ل‪ .‬أما غير المخبِت فتراه متكبرا (يتفرعن) على مَنْ حوله‪ ،‬ويرى نفسه أعظم‬
‫من الجميع‪ ،‬ولو أنه استحضر جلل ربه لخشع له‪ ،‬وتواضع وانكسر لخَلْقه‪ ،‬فالتكبر دليل غفلة عن‬
‫عظمة ال‪ ،‬كأنه لم يشهد خالقه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬تستطيع أن تقول أن الخبات على نوعين‪ :‬إخبات ل بالخضوع والخشوع والتعظيم لوامره‪،‬‬
‫وإخبات لخَلْق ال‪ ،‬بحيث ل ينتصر لظلمه ول يظلم‪ ،‬إنما يتسامح ويعفو؛ لنه يعلم جيدا أنه إذا‬
‫ظُلِم من مخلوق تعصّب له الخالق‪.‬‬
‫ولك أن تنظر إلى أولدك إذا ظلم أحدهم الخر فإلى مَنْ تنحاز‪ ،‬ومع مَنْ تتعاطف؟ ل شك أنك‬
‫عمّا لحقه من الظلم‪ ،‬حتى إن الظالم ليندم‬
‫ستميل إلى المظلوم‪ ،‬وتحنو عليه‪ ،‬وتريد أنْ تُعوّضه َ‬
‫ن يكونَ هو المظلوم ل الظالم‪.‬‬
‫على ظُلْمه؛ لنه ميّز أخاه المظلوم عليه‪ ،‬وربما تمنى أ ْ‬

‫عمّن‬
‫كذلك حال المخبِت يرى أن الخَلْق جميعا عيال ال‪ ،‬وأن أحبّهم إليه أرأفهم بعياله؛ لذلك يعفو َ‬
‫ظلمَه‪ ،‬ويترك أمره ل رب الجميع‪ ،‬كما أن المظلوم إذا رَدّ الظلم فإنه يَردّه بقوته ومقدرته هو‪،‬‬
‫إنما إنْ ترك الردّ ل جاء الردّ على مقدار قوته سبحانه‪.‬‬
‫مَلْحظ آخر ينبغي أن يتنبه له المظلوم قبل أن يُفكّر في النتقام‪ ،‬وهو‪ :‬مَنْ يدريك لعلك ظلمتَ أنت‬
‫أيضا دون أنْ تدري‪ ،‬لعل للناس عندك مظالم ل تشعر بها‪ ،‬وليست في حُسبْانك‪ ،‬فالمسألة ‪ -‬إذن‬
‫‪ -‬لك وعليك‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي‪ " :‬يا ابن آدم دعوتَ على مَنْ ظلمك "‪.‬‬
‫جهْرَ بِالسّوءِ مِنَ ا ْل َق ْولِ ِإلّ مَن ظُلِمَ‪[} ..‬النساء‪]148 :‬‬
‫حبّ اللّهُ ا ْل َ‬
‫وهذا مباح لك بقوله تعالى{ لّ يُ ِ‬
‫يعني‪ :‬أعطيناك فرصة أنْ تدعو على من ظلمك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يقول سبحانه‪ " :‬ودعا عليك مَنْ ظلمتَه‪ ،‬فإنْ شئتَ أجبناك وأجبنا عليك‪ ،‬وإن شئت أخّرتكُما‬
‫عفْوي "‪.‬‬
‫للخرة فيسعكُما َ‬
‫فالمخبت يستحضر هذا كله‪ ،‬ويركن إلى العفو والتسامح؛ ليأخذ رَبّه عز وجل في صفه؛ لذلك‬
‫يقولون‪ :‬لو علم الظالم ما أعده ال للمظلوم من الكرامة لضَنّ عليه بالظلم‪.‬‬
‫فحين ترى المظلوم يعفو عنك ويتسامح معك‪ ،‬فل تظن أنك أخضعته لك‪ ،‬إنما هو خضع ل الذي‬
‫سيرفعه عليك‪ ،‬و ُيعْلي رأسه عليك في يوم من اليام‪.‬‬
‫لذلك من أنماط السلوك السوي إذا تشاجر اثنان يقول أحد العقلء‪ :‬لكما أب نرد عليه‪ ،‬أو لكما‬
‫كبير نرجع إليه في هذه الخصومة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬الّذِينَ ِإذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَجَِلتْ قُلُو ُبهُ ْم وَالصّابِرِينَ عَلَىا مَآ َأصَا َبهُمْ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2611 /‬‬

‫الّذِينَ إِذَا ُذكِرَ اللّ ُه َوجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ وَالصّابِرِينَ عَلَى مَا َأصَا َبهُ ْم وَا ْل ُمقِيمِي الصّلَا ِة َو ِممّا رَ َزقْنَاهُمْ‬
‫يُ ْنفِقُونَ (‪)35‬‬

‫يُبيّن لنا الحق سبحانه بعض صفات المختبين‪ ،‬فهم { الّذِينَ إِذَا ُذكِرَ اللّ ُه وَجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ‪[ } ..‬الحج‪:‬‬
‫‪( ]35‬وَجِلت)‪ :‬يعني خافت‪ ،‬واضطربت‪ ،‬وارتعدت لذكر ال تعظيما له‪ ،‬ومهابة منه‪.‬‬
‫طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ }[الرعد‪.]28 :‬‬
‫وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬ألَ بِ ِذكْرِ اللّهِ تَ ْ‬
‫طمَئِنّ ا ْلقُلُوبُ }[الرعد‪ ،]28 :‬لماذا؟ لن ذكر‬
‫فمرة يقول { وَجَِلتْ قُلُو ُبهُمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]35 :‬ومرة{ َت ْ‬
‫ال إنْ جاء بعد المخالفة ل بُدّ للنفس أنْ تخاف و َتوْجَل وتضطرب هيبةً ل عز وجل‪ ،‬أما إنْ جاء‬
‫ِذكْر ال بعد المصيبة أو الشدة فإن النفس تطمئنّ به‪ ،‬وتأنَسُ لما فيها من رصيد إيماني ترجع إليه‬
‫عند الشدة وتركَنُ إليه عند الضيق والبلء‪ ،‬فإنْ تع ّرضَت لمصيبة وعزّتْ أسبابُ َدفْعها عليك‬
‫تقول‪ :‬أنا لي رب فتلجأ إليه‪ ،‬كما كان من موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬حين قال‪ {:‬إِنّ َم ِعيَ رَبّي‬
‫سَ َيهْدِينِ }[الشعراء‪.]62 :‬‬
‫{ وَالصّابِرِينَ عَلَىا مَآ َأصَا َبهُمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]35 :‬ومعنى أصاب‪ :‬يعني جاء بأمر سيء في عُرْفك‬
‫حسْب سطحية العمل اليذائي‪ ،‬إنما لو أخذتَ مع المصيبة‬
‫أنت‪ ،‬فتعده مصيبة؛ لننا نُقدّر المصيبة َ‬
‫في حسابك الجر عليها لها َنتْ عليك وما أعتبرتَها كذلك؛ لذلك في الحديث الشريف يقول صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ " :‬المصاب من حرم الثواب "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذا هو المصاب حقا الذي ل تُجبَر مصيبته‪ ،‬أما أنْ تُصاب بشيء فتصبر عليه حتى تنالَ الجر‬
‫فليس في هذا مصيبة‪.‬‬
‫لةِ‪[ } ..‬الحج‪ ]35 :‬لن الصلة هي الولء الدائم للعبد المسلم‪،‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَا ْل ُمقِيمِي الصّ َ‬
‫ن تقولها في العمر مرة‪،‬‬
‫والفرض الذي ل يسقط عنه بحال من الحوال‪ ،‬فالشهادتان يكفي أ ْ‬
‫والزكاة إنْ كان عندك ِنصَاب فهي مرة واحدة في العام كله‪ ،‬والصيام كذلك‪ ،‬شهر في العام‪،‬‬
‫ن كنتَ مستطيعا فهو مرة واحدة في العمر‪ ،‬وإنْ لم تكُنْ مستطيعا فليس عليك حج‪.‬‬
‫والحج إ ْ‬
‫إذن‪ :‬الصلة هي الولء المستمر للحق سبحانه على مَدار اليوم كله‪ ،‬وربك هو الذي يدعوك إليها‪،‬‬
‫حضْرته تعالى؛ لنه سبحانه مستعد للقائك في أيّ‬
‫ثم لك أنْ تُحدّد أنت موعد ومكان هذا اللقاء في َ‬
‫وقت‪.‬‬
‫وتصور أن رئيس الجمهورية أو الملك مثلً يدعوك ويُحتّم عليك أنْ يراك في اليوم خمس مرات‬
‫لتكون في حضرته‪ ،‬والحق سبحانه حين يدعو عباده للقائه‪ ،‬ل يدعوهم مرة واحدة إنما خمس‬
‫مرات في اليوم والليلة؛ لنه سبحانه ل يتكلف في هذه العملية تكرار لقاءات‪ ،‬فهو سبحانه يَ ْلقَى‬
‫الجميع في وقت واحد‪.‬‬
‫ل كلّ هؤلء الناس في وقت واحد؟‬
‫ولما سئل المام علي ‪ -‬رضي ال عنه ‪ :-‬كيف يُحاسب ا ُ‬
‫قال‪ :‬كما أنه يرزقهم جميعا في وقت واحد‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬و ِممّا رَ َزقْنَا ُهمْ يُنفِقُونَ } [الحج‪ ]35 :‬ل ينفقون من جيوبهم‪ ،‬إنما من عطاء ال‬
‫ورزقه‪.‬‬

‫ومن العجيب أن ال تعالى يعطيك ويه ُبكَ ويُغدِق عليك تفضلً منه سبحانه‪ ،‬فإذا أرادك تُعين‬
‫محتاجا قال لك‪ {:‬مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا‪[} ..‬الحديد‪]11 :‬‬
‫عطِ ما أخذتَه لفلن‪ ،‬بل إنْ‬
‫وكأن ال تعالى يقول لنا‪ :‬أنا ل أعود في هبتي ول عطائي‪ ،‬فأقول‪ :‬أ ْ‬
‫ت الفقير من مالك فهو أيضا لك مُدّخر ل يضيع‪ ،‬فرِزْقك الذي وهبك ال إياه مِلْكك‪ ،‬ول‬
‫أعطي َ‬
‫نغبنك في شيء منه أبدا‪ ،‬فربّك يحترم ملكيتك ويحترم جزاء عملك وجدّك واجتهادك‪.‬‬
‫نقول ‪ -‬ول المثل العلى ‪ :-‬كالرجل الذي يحتاج مبلغا كبيرا لحد البناء فيأخذ من الباقين ما‬
‫معهم وما ادخروه من مصروفاتهم على وَعْد أنْ يُعوّضهم بدلً منها فيما بعد‪.‬‬
‫عفَهُ لَهُ‪[} ..‬الحديد‪ ]11 :‬فيعاملك ربك بالزيادة؛ لذلك يقول البعض‪ :‬إن ال‬
‫لذلك يقول بعدها‪ {:‬فَ ُيضَا ِ‬
‫تعالى حرّم علينا الربا وهو يعاملنا به‪ ،‬نعم يعاملك ربك بالربا ويقول لك‪ :‬اترك لي أنا هذا‬
‫التعامل؛ لنني حين أزيدك ل أنقص الخرين‪ ،‬ول أُنقِص مما عندي‪ ،‬ول أُرِهق ضعيفا ول‬
‫محتاجا ول أستغلّ حاجته‪.‬‬
‫والصدقة في السلم تأمينٌ لصاحبها ضد الفقر إن احتاج‪ ،‬فأخوَفُ ما يخافه المرءُ الحاجة عند‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الكبَر‪ ،‬وعدم القدرة على الكَسْب‪ ،‬وعند العاقة عن العمل‪ ،‬يخاف أنْ ينفد ماله‪ ،‬ويحتاج إلى الناس‬
‫حال كِبَره‪.‬‬
‫عوَزِك وحاجتك‪.‬‬
‫وعندها يقول له ربه‪ :‬اطمئن‪ ،‬فكما أَعط ْيتَ حال ُيسْرك سيعطيك غيرُك حال َ‬
‫إذن‪ :‬أخذ منك ليعطيك‪ ،‬وليُؤمّن لك مستقبل حياتك الذي تخاف منه‪.‬‬
‫الصدقة في السلم صندوق لتكافل المجتمع‪ ،‬كصندوق التأمين في شركات التأمين‪ ،‬فإذا ما ضاقت‬
‫بك أسباب الرزق وشكوْتَ الكِبَر والعجز نقول لك‪ :‬ل تحزن فأنت في مجتمع مؤمن متكافل‪ ،‬وكما‬
‫طلبنا منك أنْ تعطي وأنت واجد طلبنا من غيرك أنْ يعطيَك وأنت ُمعْدم‪.‬‬
‫شعَائِرِ اللّهِ َل ُكمْ فِيهَا خَيْرٌ فَا ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا‪..‬‬
‫جعَلْنَاهَا َلكُمْ مّن َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَالْ ُبدْنَ َ‬
‫{‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2612 /‬‬

‫علَ ْيهَا صَوَافّ فَإِذَا َوجَ َبتْ جُنُو ُبهَا‬


‫سمَ اللّهِ َ‬
‫شعَائِرِ اللّهِ َلكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَا ْذكُرُوا ا ْ‬
‫جعَلْنَاهَا َلكُمْ مِنْ َ‬
‫وَالْبُدْنَ َ‬
‫شكُرُونَ (‪)36‬‬
‫ط ِعمُوا ا ْلقَانِ َع وَا ْل ُمعْتَرّ كَذَِلكَ سَخّرْنَاهَا َلكُمْ َلعَّلكُمْ َت ْ‬
‫َفكُلُوا مِ ْنهَا وََأ ْ‬

‫بعد أن تكلم الحق سبحانه وتعالى في النفقة ِممّا رزقكم ال تكلّم في النفقة في ال ُبدْن‪ ،‬والبُدْن‪ :‬جمع‬
‫ن تكون‬
‫بَدَنة‪ ،‬وهي الجمل أو الناقة‪ ،‬أو ما يساويهما من البقر‪ ،‬وسمّاها بَدَنة إشارة إلى ضرورة أ ْ‬
‫بدينة سمينة وافرة‪ ،‬ول ُبدّ أنْ تراعي فيها هذه الصفة عند اختيارك للهَدْي الذي ستُقدمه ل‪ ،‬واحذر‬
‫أن تكون من أولئك الذين يجعلون ل ما يكرهون‪ ،‬إنما كُنْ من الذين قال ال لهم‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ‬
‫آمَنُواْ أَ ْنفِقُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا كَسَبْ ُتمْ‪[} ..‬البقرة‪ ]267 :‬وقوله تعالى‪ { :‬فَا ْذكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَ ْيهَا‬
‫صوَآفّ‪[ } ..‬الحج‪ ]36 :‬أي‪ :‬اذكروا ال بالشكر على أنْ وهبها وذلّلها لكم‪ ،‬واذكروا اسم ال عليها‬
‫َ‬
‫حين ذَبْحها‪.‬‬
‫صوَآفّ‪[ } ..‬الحج‪ ]36 :‬يعني‪ :‬واقفةً قائمة على أرْجُلها‪ ،‬ل ضعفَ فيها ول هُزَال‪،‬‬
‫ومعنى { َ‬
‫مصفوفة وكأنها في معرض أمامك‪ .‬وهذه صفات البُدْن الجيدة التي تناسب هذه الشعيرة وتليق أنْ‬
‫تُقدّمْ َهدْيا لبيت ال‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬فَِإذَا وَجَ َبتْ جُنُو ُبهَا‪[ } ..‬الحج‪ ]36 :‬وجبَ الشيء وجبا يعني‪ :‬سقط سقوطا قويا على‬
‫الرض‪ ،‬ومعلوم أن ال َبدَنة ل تُذبح وهي مُلْقاة على الرض مثل باقي النعام‪ ،‬وإنما تُنْحر وهي‬
‫ت وقعتْ على الرض وارتمتْ بقوة من بدانتها‪.‬‬
‫واقفة‪ ،‬فإذا ما نُحِ َر ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ َفكُلُواْ مِ ْنهَا‪[ } ..‬الحج‪ ]36 :‬وقلنا‪ :‬إن الكل ل يكون إل من ال َهدْي المحض والتطوع الخالص‬
‫الذي ل يرتبط بشيء من مسائل الحج‪ ،‬فل يكون هَ ْديَ تمتّع أو قِرَان‪ ،‬ول يكون جِبْرا لمخالفة‪ ،‬ول‬
‫يكون َنذْرا‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫وعِلّة المر بالكل من الهَدْي؛ لنهم كانوا يتأففون أنْ يأكلوا من المذبوح للفقراء‪ ،‬وكأن في المر‬
‫بالكل منها إشارة لوجوب اختيارها مما ل تعافه النفس‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬ا ْلقَانِ َع وَا ْل ُمعْتَرّ‪[ } ..‬الحج‪ ]36 :‬القانع‪ :‬الفقير الذي يتعفّف أنْ يسأل الناس‪ ،‬والمعترّ‪:‬‬
‫الفقير الذي يتعرّض للسؤال‪.‬‬
‫شكُرُونَ‪[ } ..‬الحج‪ ]36 :‬يعني‪ :‬سخّرناها لكم‪ ،‬ولو‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬كَذاِلكَ سَخّرْنَاهَا َلكُمْ َلعَّل ُكمْ تَ ْ‬
‫في غير هذا الموقف‪ ،‬لقد سخّرها ال لكم منذ وُجِد النسان؛ لذلك عليكم أنْ تشكروا ال على أنْ‬
‫أوجدها وملّككم إياها‪ ،‬وتشكروه على أنْ سخّرها وذلّلها لكم‪ ،‬وتشكروه على أنْ هداكم للقيام بهذا‬
‫المنسك‪ ،‬وأداء هذه الشعيرة وعمل هذا الخير الذي سيعود عليكم بالنفع في الدنيا وفي الخرة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانة‪ { :‬لَن يَنَالَ اللّهَ ُلحُو ُمهَا َولَ ِدمَآؤُهَا وَلَـاكِن يَنَالُهُ ال ّت ْقوَىا مِنكُمْ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2613 /‬‬

‫علَى مَا‬
‫سخّرَهَا َل ُكمْ لِ ُتكَبّرُوا اللّهَ َ‬
‫لَنْ يَنَالَ اللّهَ لُحُو ُمهَا وَلَا ِدمَاؤُهَا وََلكِنْ يَنَالُهُ ال ّت ْقوَى مِ ْنكُمْ كَذَِلكَ َ‬
‫هَدَا ُك ْم وَبَشّرِ ا ْل ُمحْسِنِينَ (‪)37‬‬

‫ذلك لنهم كانوا قبل السلم حين يذبحون للوثان يُلطّخون الصنم بدماء الذبيحة‪ ،‬كأنهم يقولون له‪:‬‬
‫حمْق تصرفهم‪ ،‬فهم‬
‫لقد ذبحنا لك‪ ،‬وها هي دماء الذبيحة‪ ،‬وفي هذا العمل منهم دليل على غبائهم و ُ‬
‫يروْن أنهم إذا لم يُلطّخوه بالدم ما عرف أنهم ذبحوا من أجله‪.‬‬
‫وهنا ينبه الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬إلى هذه المسألة‪ { :‬لَن يَنَالَ اللّهَ لُحُو ُمهَا وَلَ ِدمَآؤُهَا‪} ..‬‬
‫[الحج‪ ]37 :‬يعني‪ :‬ل يأخذ منها شيئا‪ ،‬وهو سبحانه قادر أنْ يعطي الفقير الذي أمرك أنْ تعطيه‪،‬‬
‫ويجعله مثلك تماما غير محتاج‪.‬‬
‫إنما أراد سبحانه من تباين الناس في مسألة الفقر والغنى أن يُحدِث توازنا في المجتمع‪ ،‬فالمجتمع‬
‫ليس آلة ميكانيكية تسير على وتيرة واحدة‪ ،‬إنما هي حياة بشر ل بُدّ من هذه التفاوتات بين الناس‪،‬‬
‫ثم تتدخّل الشرائع السماوية فتأخذ من القوى وتعطي الضعيف‪ ،‬وتأخذ من الغني وتعطي الفقير‪..‬‬
‫وساعتها‪ ،‬نقضي على مشاعر الحقد والحسد والبغضاء والَثَرة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ي الضعيفَ من قوته ل يحسده عليها‪ ،‬ويتمنى له دوامها؛ لن خيرها يعود عليه‪،‬‬
‫فحين يعطي القو ّ‬
‫وحين يعطي الغنّي مما أفاض ال عليه للفقير يُؤلّف قلبه‪ ،‬ويجتثّ منه ال ِغلّ والحسد‪ ،‬ويدعو له‬
‫بدوام النعمة‪.‬‬
‫ل بد من هذا التفاوت ليتحقق فينا قول الرسول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬المؤمن للمؤمن كالبنيان‬
‫المرصوص‪ ،‬يشدّ بعضه بعضا "‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬ترى صاحب النعمة الذي ينثر منها على غيره‪ ،‬إنْ أصابته في ماله مصيبة يحزن له‬
‫الخرون ويتألمون بألمه؛ لن نعمته تفيض عليهم‪ ،‬وخيرُه ينالهم‪ .‬وأهل الريف إلى عهد قريب‬
‫كان الواحد منهم يُربّي البقرة أو الجاموسة؛ ليحلب لبنها‪ ،‬وكان ل ينسى الجيران وأهل الحاجة‪،‬‬
‫فكانوا يدعُونَ ال له أنْ يبارك له في ماله‪ ،‬وإنْ أصابته ضرّاء في ماله حَزِنوا من أجله‪.‬‬
‫إذن‪ :‬حين تفيض من نعمة ال عليك على مَنْ حُرِم منها تدفع عن نفسك الكثير من الحقد والحسد‪،‬‬
‫فإنْ لم تفعل فل أقلّ من إخفاء هذا الخير عن أعْيُنِ المحتاجين حتى ل تثير حفائظهم‪ ،‬وربما لو‬
‫رآك الرجل العاقل يُردعه إيمانه فل تمتدّ عيناه إلى ما في يدك‪ ،‬إنما حين يراك الطفال الصغار‬
‫تحمل ما حُرِموا منه‪ ،‬أو رأوا ولدك يأكل وهم محرومون هنا تكون المشكلة وقوله تعالى‪:‬‬
‫{ وَلَـاكِن يَنَالُهُ ال ّتقْوَىا مِنكُمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]37 :‬واتقاء ال هو اتباع منهجه‪ ،‬فيُطاع ال باتباع المنهج‬
‫فل يُعصي‪ ،‬ويُذكر فل يُنسى‪ ،‬ويُشكر فل يُكفر‪ ،‬وطريق الطاعة يوجد في اتباع المنهج بـ " افعل‬
‫" و " ل تفعل " ‪ ،‬ولكن النعم التي خلقها ال قد تشغل العبد عن ال‪ ،‬والمنهج يدعوك أنْ تتذكر في‬
‫كل نعمة مَنْ أنعم بها‪ ،‬وإياك أنْ تُنسيَك النعمةُ المنعِمَ‪.‬‬

‫ثم يقول تبارك وتعالى‪ } :‬كَذاِلكَ سَخّ َرهَا َلكُمْ لِ ُتكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىا مَا َهدَاكُ ْم وَبَشّرِ ا ْل ُمحْسِنِينَ { [الحج‪:‬‬
‫‪]37‬‬
‫تلحظ هنا مسألة المتشابهات يقف عندها العلماء الذين يبحثون في القرآن الكريم‪ ،‬ففي الية السابقة‬
‫شكُرُونَ { [الحج‪.]36 :‬‬
‫ذَيّلها الحق سبحانه بقوله‪ } :‬كَذاِلكَ سَخّرْنَاهَا َلكُمْ َلعَّل ُكمْ تَ ْ‬
‫هذه المتشابهات يقف عندها العلماء الذين يبحثون في القرآن ويُقلّبون في آياته؛ لذلك يجمعون مثل‬
‫حفْظ‪،‬‬
‫هذه المتشابهة التي تتحدث في موضوع واحد ويُرتّبونها في الذّهن؛ لذلك ل يُؤتمنون على ال ِ‬
‫حفْظه‪ ،‬حتى إذا نسي‬
‫حفْظ القرآن أنْ يدعَ مسألة العلم جانبا أثناء ِ‬
‫ومن هنا قالوا‪ :‬ينبغي لمَنْ أراد ِ‬
‫كلم ًة وقف مكانه ل يتزحزح إلى أنْ يعرفها‪ ،‬أمّا العالم فربما وضع مرادفها مكانها‪ ،‬واستقام له‬
‫المعنى‪.‬‬
‫والمراد بقوله تعالى‪ } :‬لِ ُتكَبّرُواْ اللّهَ عَلَىا مَا هَدَا ُكمْ‪[ { ..‬الحج‪ ]37 :‬يعني‪ :‬تذكرونه وتشكرونه‬
‫حسِنِينَ‪[ { ..‬الحج‪ ]37 :‬بشّر يعني‪ :‬أخْبِرْ بشيء‬
‫على ما وفّقكم إليه من هذه الطاعات } وَبَشّرِ ا ْلمُ ْ‬
‫سَا ّر قبل مَجِيء زمنه‪ ،‬ليستعد له المبشّر ويفرح به‪ ،‬كذلك النذار‪ :‬أن تخبر بشيء سيء قبل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حلوله أيضا؛ ليستعد له المنذر‪ ،‬ويجد الفرصة التي يتلفى فيها خطأه‪ ،‬ويُجنّب نفسه ما يُنذَر به‪،‬‬
‫ويُقبل على ما يُنجِيه‪.‬‬
‫و } ا ْل ُمحْسِنِينَ‪[ { ..‬الحج‪ :]37 :‬جمع مُحسِن‪ ،‬والحسان‪ :‬أعلى مراتب اليمان‪ ،‬وهو أنْ تُلزِم‬
‫نفسك بشيء من طاعة ال التي فرضها عليك فوق ما فرض‪ ،‬فربّك عز وجل فرض عليك خمس‬
‫صلوات في اليوم والليلة‪ ،‬وفي إمكانك أنْ تزيد من هذه الصلوات ما تشاء‪ ،‬لكن من جنس ما‬
‫فرض ال عليك‪ ،‬ل تخترع أنت عبادة من عندك‪ ،‬كذلك المر في الصوم‪ ،‬وفي الزكاة‪ ،‬وفي‬
‫الحج‪ ،‬وفي سائر الطاعات التي ألزمك ال بها‪ ،‬فإنْ فعلت هذا فقد دخلتَ في مقام الحسان‪.‬‬
‫وفي الحسان أمران‪ :‬مُحسن به وهو العبادة أو الطاعة التي تُلزِم نفسك بها فوق ما فرض ال‬
‫عليك‪ ،‬ودافعٌ عليه‪ ،‬وهو أن تؤدي العمل كأن ال يرقبك‪ ،‬كما جاء في حديث جبريل‪ " :‬والحسان‬
‫أنْ تعبدَ ال كأنك تراه‪ ،‬فإنْ لم تكُنْ تراه فإنه يراك "‪.‬‬
‫فمراقبتك ل ومراعاتك لنظره تعالى إليك‪ ،‬يدفعك إلى هذا الحسان‪َ ،‬ألَ ترى العامل الذي تباشره‬
‫وتُشرِف عليه‪ ،‬وكيف يُنهِي العمل في موعده؟ وكيف يُجيده؟ على خلف لو تركتَه وانصر ْفتَ‬
‫عنه‪.‬‬
‫فإنْ لم َتصِل إلى هذه المرتبة التي كأنك ترى ال فيها‪ ،‬فل أقلّ من أنْ تتذكر نظره هو إليك‪،‬‬
‫ومراقبته سبحانه لحركاتك وسكناتك‪.‬‬
‫خذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَ ّبهُمْ إِ ّنهُمْ كَانُواْ قَ ْبلَ‬
‫ت وَعُيُونٍ * آ ِ‬
‫لذلك‪ ،‬في سورة الذرايات‪ {:‬إِنّ ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّا ٍ‬
‫ذَِلكَ ُمحْسِنِينَ }[الذاريات‪ ]16 - 15 :‬ثم يُفسّر سبب هذا الحسان‪ {:‬كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا‬
‫جعُونَ * وَبِالَسْحَارِ ُهمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ * َوفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات‪.]19-17 :‬‬
‫َيهْ َ‬
‫ومَنْ يلزمك بهذه الكاليف؟ لك أنْ تصلي العشاء ثم تنام إلى الفجر‪ ،‬كذلك لم يُلزمك بالستغفار‬
‫وقت السّحَر‪ ،‬ولم يلزمك بصدقة التطوع‪ .‬إذن‪ :‬هذه طاعات فوق ما فرض ال وصَلتْ بأصحابها‬
‫إلى مقام الحسان‪ ،‬وأعلى مراتب اليمان‪ ،‬فليُشمّر لها مَنْ أراد‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬إِنّ اللّهَ ُيدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُواْ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2614 /‬‬

‫خوّانٍ َكفُورٍ (‪)38‬‬


‫حبّ ُكلّ َ‬
‫إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ َآمَنُوا إِنّ اللّهَ لَا يُ ِ‬

‫شعِرنا أن هناك معركة‪ ،‬والمعركة‬


‫صَدْر الية‪ { :‬إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُواْ‪[ } ..‬الحج‪ ]38 :‬يُ ْ‬
‫التي يدافع ال فيها ل ُبدّ أنها بين حق أنزله‪ ،‬وباطل يُواجهه‪ ،‬وقد تقدّم قبل ذلك أن قال تبارك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صمُواْ فِي رَ ّبهِمْ‪[} ..‬الحج‪.]19 :‬‬
‫صمَانِ اخْ َت َ‬
‫خ ْ‬
‫وتعالى‪ {:‬هَـاذَانِ َ‬
‫وما دام هناك خصومة فل بُدّ أنْ تنشأ عنها معارك‪ ،‬هذه المعارك قد تأخذ صورة اللفاظ‬
‫والمجادلة‪ ،‬وقد تأخذ صورة العنف والقوة والشراسة واللتحام المباشر بأدوات الحرب‪.‬‬
‫ومعركة النبي صلى ال عليه وسلم مع معارضيه من كفار مكة لم تقف عند حَدّ المعركة الكلمية‬
‫فحَسْب‪ ،‬فقد قالوا عنه ‪ -‬صلوات ال وسلمه عليه‪ :‬ساحر‪ ،‬وكاهن‪ ،‬ومجنون‪ ،‬وشاعر‪ ،‬ومُفْتر‪..‬‬
‫إلخ ثم تطوّر المر إلى إيذاء أصحابه وتعذيبهم‪ ،‬فكانوا يأتون رسول ال مَشْدوخين ومجروحين‬
‫فيقول لهم صلى ال عليه وسلم‪ " :‬لم أومر بقتال‪ ،‬اصبروا اصبروا‪ ،‬صبرا صبرا‪." ..‬‬
‫إلى أنْ زاد اعتداء الكفار وطَفَح الكَيْل منهم أَذن ال لرسوله بالقتال‪ ،‬فقال‪ {:‬أُذِنَ لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّن ُهمْ‬
‫ظُِلمُو ْا وَإِنّ اللّهَ عَلَىا َنصْرِهِمْ َلقَدِيرٌ }[الحج‪.]39 :‬‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُواْ‪[ } ..‬الحج‪ ]38 :‬صيغة يدافع‪ :‬مبالغة مِنْ يدفع‪ ،‬معنى‬
‫يدفع يعني‪ :‬شيئا واحدا‪ ،‬أو مرة واحدة‪ ،‬وتنتهي المسألة‪ ،‬أمّا يدافع فتدل على مقابلة الفعل بمثله‪،‬‬
‫فال يدفعهم وهم يقابلون أيضا بالمدافعة‪ ،‬فيحدث تدافع وتفاعل من الجانبين‪ ،‬وهذا ل يكون إل في‬
‫معركة‪.‬‬
‫والمعركة تعني‪ :‬منتصر ومنهزم‪ ،‬لذلك الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يُطمئن المؤمنين أنه سيدخل‬
‫المعركة في صفوفهم‪ ،‬وسيدافع عنهم‪.‬‬
‫فقوله تعالى‪ { :‬إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُواْ‪[ } ..‬الحج‪ ]38 :‬أمر طبيعي؛ لن الحق سبحانه ما‬
‫كان ليُرسِل رسولً‪ ،‬ويتركه لهل الباطل يتغلّبون عليه‪ ،‬وإلّ فما جَدْوى الرسالة إذن؛ لذلك يُطمئِن‬
‫ال تعالى رسوله ويُبشّره‪ ،‬فيقول‪ {:‬وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا ا ْلمُ ْرسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ *‬
‫وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪.]173 - 171 :‬‬
‫وقال‪ {:‬وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ‪[} ..‬الحج‪.]40 :‬‬
‫وقال‪ {:‬إِن تَنصُرُواْ اللّهَ يَنصُ ْركُ ْم وَيُثَ ّبتْ َأقْدَا َمكُمْ }[محمد‪.]7 :‬‬
‫فهذه كلها آيات تُطمئِن المؤمنين وتُبشّرهم‪ ،‬وقد جاءتْ على مراحل لحكمة أرادها الحق سبحانه‪،‬‬
‫فمنعهم عن القتال في البداية لحكمة‪ ،‬ثم جعل القتال فيما بينهم‪ ،‬وقبْل أنْ يأذنَ لهم في قتال أعدائهم‬
‫خوَر والجُبْن‪ ،‬وضعيفي‬
‫لحكمة‪ :‬هي أنْ يَبْلوا المؤمنين ويُمحّصهم ليُخرِج من صفوفهم أهل ال َ‬
‫اليمان الذين يعبدون ال على حَرْف‪ ،‬ول يبقى بعد ذلك إل قويّ اليمان ثابتُ العقيدة‪ ،‬الذي يحمل‬
‫راية هذا الدين وينسَاح بها في بقاع الرض؛ لنها دعوة عالمية لكل زمان ولكل مكان إلى أنْ‬
‫تقوم الساعة‪ ،‬ولما كانت هذه الدعوة بهذه المنزلة كان ل بُدّ لها من رجال أقوياء يحملونها‪ ،‬وإل لو‬
‫استطاع العداءُ القضاءَ عليها فلن تقومَ لدين ال قائمة‪.‬‬

‫ل اليمان كما يُصفّي الصائغُ الذهبَ‪ ،‬ويُخرِج خَبَثه حين‬


‫إذن‪ :‬كان ل بُدّ أن يُصفّي الحقُ سبحانه أه َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يضعه في النار‪ ،‬كذلك كانت الفِتَن والبتلءات لتصفية أهل اليمان وتمييزهم‪ ،‬لكن بالقتال في‬
‫صفّ واحد‪.‬‬
‫َ‬
‫خوّانٍ َكفُورٍ { [الحج‪ ]38 :‬فكأن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪-‬‬
‫حبّ ُكلّ َ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬إِنّ اللّ َه لَ يُ ِ‬
‫أصبح طرفا في المعركة‪ ،‬والخوّان‪ :‬صيغة مبالغة من خائن‪ ،‬وهو كثير الخيانة وكذلك كفور‪:‬‬
‫صيغة مبالغة من كافر‪.‬‬
‫ومعنى الخيانة يقتضي أن هناك أمانةً خانها‪ .‬نعم‪ ،‬هناك المانة الولى‪ ،‬وهي أمانة التكليف التي‬
‫شفَقْنَ مِ ْنهَا‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ‬
‫ت وَالَرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لمَانَةَ عَلَى ال ّ‬
‫قال ال فيها‪ {:‬إِنّا عَ َرضْنَا ا َ‬
‫حمََلهَا الِنْسَانُ‪[} ..‬الحزاب‪ ]72 :‬فلقد خانَ هذه المانة بعد أنْ َرضِي أنْ يكونَ أهْلً لها‪.‬‬
‫وَ َ‬
‫وهناك أمانة قبل هذه‪ ،‬وهي العهد الذي أخذه ال على عباده‪ ،‬وهم في مرحلة الذّرّ‪ {:‬وَإِذْ َأخَذَ رَ ّبكَ‬
‫شهِدْنَآ أَن َتقُولُواْ‬
‫ستُ بِرَ ّب ُكمْ قَالُواْ بَلَىا َ‬
‫سهِمْ أََل ْ‬
‫شهَدَ ُهمْ عَلَىا أَنفُ ِ‬
‫ظهُورِ ِهمْ ذُرّيّ َتهُمْ وَأَ ْ‬
‫مِن بَنِي ءَا َدمَ مِن ُ‬
‫ل َوكُنّا ذُرّيّةً مّن َبعْدِ ِهمْ‪..‬‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هَـاذَا غَافِلِينَ * َأوْ َتقُولُواْ إِ ّنمَآ أَشْ َركَ آبَاؤُنَا مِن قَ ْب ُ‬
‫}[العراف‪.]173 - 172 :‬‬
‫فإنْ قالوا‪ :‬نعم هذه أمانة‪ ،‬لكنها بعيدة‪ ،‬ومَنْ مِنّا يذكرها الن؟‬
‫نقول‪ :‬ألم ُتقِرّوا بأن ال خلقكم‪ ،‬وأوجدكم من عدم‪ ،‬وأمدكم من عُدم؟ كما قال سبحانه‪ {:‬وَلَئِن‬
‫سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ‪[} ..‬الزخرف‪ ]87 :‬كما أقرّوا بخَلْق السماوات والرض وما فيها من‬
‫ن يؤمنوا‪ ،‬لكنهم مع هذا كله كفروا‪ ،‬أليست هذه‬
‫خيرات ل عز وجل‪ ،‬فكان وفاء هذا القرار أ ْ‬
‫خيانة للمانة عاصروها جميعا وعايشوها وأسهموا فيها؟‬
‫والكَفُور‪ :‬مَنْ كفر ِنعَم ال وجَحَدها‪.‬‬
‫وما دام هناك الخوّان والكفُور فل ُبدّ للسماء أنْ تُؤيّد رسولها‪ ،‬وأنْ تنصره في هذه المعركة أولً‪،‬‬
‫بأنْ تأذنَ له في القتال‪ ،‬ثم تأمره بأخذ العُدة والسباب المؤدية للنصر‪ ،‬فإنْ ع ّزتْ المسائل عليكم‪،‬‬
‫فأنا معكم أؤيدكم بجنود من عندي‪.‬‬
‫وقد حدث هذا في َبدْء الدعوة‪ ،‬فأيّد ال نبيه بجنود من عنده‪ ،‬بل أيّده حتى بالكافر المعاند‪ :‬ألم يكُن‬
‫دليل رسول ال في الهجرة كافرا؟ ألم ينصره ال بالحمام وبالعنكبوت وهو في الغار؟ ألم ينصره‬
‫ختْ تحت أقدام فرس " سُرَاقة " الذي خرج في طلبه؟‬
‫بالرض التي سا َ‬
‫هذه جنود لم نَرها‪ ،‬ولم يُؤيّد بها رسول ال صلى ال عليه وسلم إل بعد أن استنفد أسبابه‪ ،‬ولو‬
‫أراد سبحانه لَطوّع لرسوله هؤلء المعاندين‪ ،‬فما رفع أحد منهم رأسه بعناد لمحمد‪ ،‬إنما الحق ‪-‬‬
‫تبارك وتعالى ‪ -‬يريد أنْ يعطيه طواعية ويخضع له القوم‪ ،‬ألم ي ُقلْ سبحانه وتعالى‪ {:‬إِن نّشَأْ نُنَ ّزلْ‬
‫ضعِينَ }[الشعراء‪.]4 :‬‬
‫سمَآءِ آ َيةً فَظَّلتْ أَعْنَا ُق ُهمْ َلهَا خَا ِ‬
‫عَلَ ْيهِمْ مّنَ ال ّ‬
‫وقلنا‪ :‬إن ال تعالى يريد أنْ يُخضِع قلوب عباده ل قوالبهم‪ ،‬فلو أخضعهم ال بآية كونية طبيعية‬
‫خسْف‪ ،‬أو غيره من اليات التي أخذتْ أمثالهم من السابقين لقالوا‪ :‬إنها‬
‫كالريح أو الصاعقة أو ال َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫آفاتٌ طبيعية جاءتنا‪ ،‬لكن جعل ال بين الفريقين هذه المواجهة‪ ،‬ثم يسّر لحزبه وجنوده أسباب‬
‫النصر‪.‬‬
‫ف صُدُورَ َقوْمٍ ّم ْؤمِنِينَ }‬
‫ش ِ‬
‫قال سبحانه‪ {:‬قَاتِلُوهُمْ ُيعَذّ ْبهُمُ اللّهُ بِأَيْدِي ُك ْم وَيُخْزِ ِه ْم وَيَ ْنصُ ْركُمْ عَلَ ْيهِ ْم وَيَ ْ‬
‫[التوبة‪.]14 :‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬أُذِنَ لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّن ُهمْ ظُِلمُواْ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2615 /‬‬

‫ظِلمُوا وَإِنّ اللّهَ عَلَى َنصْرِهِمْ َلقَدِيرٌ (‪)39‬‬


‫أُذِنَ ِللّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّنهُمْ ُ‬

‫ودفاع الحق سبحانه عن الحق يأخذ صورا متعددة‪ ،‬فأول هذا الدفاع‪ :‬أنْ أَذِن لهم في أنْ يقاتلوا‪.‬‬
‫طعْ ُتمْ مّن ُق ّوةٍ َومِن رّبَاطِ الْخَ ْيلِ‪[} ..‬النفال‪:‬‬
‫ثانيا‪ :‬أمرهم بإعداد القوة للقتال‪ {:‬وَأَعِدّواْ َلهُمْ مّا اسْتَ َ‬
‫‪.]60‬‬
‫والمراد أنْ يأخذوا بكل أسباب النصر على عدوهم‪ ،‬وأن يستنفدوا كل ما لديهم من وسائل‪ ،‬فإنِ‬
‫استنفدتم وسائلكم‪ ،‬أتدخّل أنا بجنود من عندي ل ترونها‪ ،‬فليس معنى أن ال يدافع عن الذين آمنوا‬
‫خلَ السماء لحمايتهم وهم جالسون في بيوتهم‪ ،‬ل إنما يأخذون بأسباب القوة ويس َعوْنَ‬
‫أن تد ُ‬
‫ويبادرون هم أولً إلى أسباب النصر‪.‬‬
‫ومعنى { ُأذِنَ‪[ } ..‬الحج‪ ]39 :‬أنهم كانوا ينتظرون المر بالقتال‪ ،‬ويستشرفون للنصر على‬
‫العداء‪ ،‬لكن لم يُؤذَن لهم في ذلك‪ ،‬فلما أراد ال لهم أنْ يقاتلوا أَذن لهم فيه‪ ،‬فقال تعالى‪ { :‬أُذِنَ‬
‫لِلّذِينَ ُيقَاتَلُونَ بِأَ ّنهُمْ ظُِلمُواْ وَإِنّ اللّهَ عَلَىا َنصْرِ ِهمْ َلقَدِيرٌ } [الحج‪.]39 :‬‬
‫ن يقاتلوا‪ ،‬لكن ل يعتدوا‪ ،‬كما قال‬
‫ظلِموا‪ ،‬لذلك أمرهم ربهم ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬أ ْ‬
‫وعِلّة القتال أنهم ُ‬
‫حبّ ا ْل ُمعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ‬
‫سبحانه‪َ {:‬وقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ ُيقَاتِلُو َنكُ ْم َولَ َتعْ َتدُواْ إِنّ اللّهَ لَ ُي ِ‬
‫حَ ْيثُ َث ِقفْتُمُوهُم وََأخْرِجُوهُمْ مّنْ حَ ْيثُ َأخْرَجُوكُمْ‪[} ..‬البقرة‪.]191 - 190 :‬‬
‫إذن‪ :‬أمرهم أولً بالصبر‪ ،‬وفي المرحلة الولى بأنْ يقاتلوا لِردّ العدوان‪ ،‬وللدفاع عن أنفسِهم دون‬
‫أنْ يعتدوا‪ ،‬وفي المرحلة الثانية سيقول لهم‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الّذِينَ يَلُو َنكُمْ مّنَ ا ْل ُكفّارِ‬
‫ظ ًة وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ مَعَ ا ْلمُ ّتقِينَ }[التوبة‪.]123 :‬‬
‫وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْ َ‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَإِنّ اللّهَ عَلَىا َنصْرِ ِهمْ َلقَدِيرٌ } [الحج‪ ]39 :‬بأسباب يُمكّنهم منها‪ ،‬أو بغير أسباب‬
‫فتأتيهم قوة خفية ل يروْنها‪ ،‬وقد رأوا نماذج من ذلك فعلً‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬الّذِينَ ُأخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم ِبغَيْرِ حَقّ ِإلّ أَن َيقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2616 /‬‬

‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ‬
‫حقّ إِلّا أَنْ َيقُولُوا رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلَا َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫الّذِينَ أُخْ ِرجُوا مِنْ دِيَارِ ِهمْ ِبغَيْرِ َ‬
‫سمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَ ْنصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَ ْنصُ ُرهُ إِنّ‬
‫صوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصََلوَاتٌ َومَسَاجِدُ يُ ْذكَرُ فِيهَا ا ْ‬
‫ت َ‬
‫َلهُ ّد َم ْ‬
‫اللّهَ َلقَ ِويّ عَزِيزٌ (‪)40‬‬

‫فلو أنهم ُأخْرِجوا بحقّ كأنْ فعلوا شيئا يستدعي إخراجهم من ديارهم‪ ،‬كأنْ خدشوا الحياء‪ ،‬أو هددوا‬
‫المْن‪ ،‬أو أجرموا‪ ،‬أو خرجوا على قوانين قبائلهم لكانَ إخراجهُم بحقّ‪.‬‬
‫إنما الواقع أنهم ما فعلوا شيئا‪ ،‬وليس لهم ذَنْب { ِإلّ أَن َيقُولُواْ رَبّنَا‪[ } ..‬الحج‪ ]40 :‬هذه المقولة‬
‫اعتبرها القوم ذَنْبا وجريمة تستحق أنْ يخرجوهم بها من ديارهم‪.‬‬
‫حمِيدِ }[البروج‪:‬‬
‫كما قال سبحانه في أهل الخدود‪َ {:‬ومَا َن َقمُواْ مِ ْنهُمْ ِإلّ أَن ُي ْؤمِنُواْ بِاللّهِ ا ْلعَزِيزِ ا ْل َ‬
‫‪.]8‬‬
‫وفي آية أخرى‪َ {:‬هلْ تَن ِقمُونَ مِنّآ ِإلّ أَنْ آمَنّا بِاللّهِ‪[} ..‬المائدة‪.]59 :‬‬
‫طهّرُونَ }[النمل‪:‬‬
‫وفي قصة لوط عليه السلم‪ {:‬قَالُواْ أَخْ ِرجُواْ آلَ لُوطٍ مّن قَرْيَ ِتكُمْ إِنّهمْ أُنَاسٌ يَ َت َ‬
‫‪.]56‬‬
‫إذن‪ :‬أخرجوهم‪ ،‬ل لنهم أهل نجاسة ومعصية‪ ،‬إنما لنهم أناسٌ يتطهّرون‪ ،‬فالطهارة والعفة‬
‫جريمتهم التي ُيخْرَجُون من أجلها!! كما تقول‪ :‬ل ع ْيبَ في فلن إل أنه كريم‪ ،‬أو تقول‪ :‬ل كرامةَ‬
‫في فلن إل أنه ِلصّ‪ .‬فهذه ‪ -‬إذن ‪ -‬صفة ل تمدح‪ ،‬وتلك صفة ل تذم‪.‬‬
‫لقد قلب هؤلء الموازين‪ ،‬وخالفوا الطبيعة السويّة بهذه الحكام الفاسدة التي تدل على فساد الطباع‪،‬‬
‫وأيّ فساد بعد أنْ قَلَبوا المعايير‪ ،‬فكرهوا ما يجب أنْ يُحب‪ ،‬وأحبوا ما يجب أن يكره؟ ول أدلّ‬
‫على فساد طبائعهم من عبادتهم لحجر‪ ،‬وترْكهِم عبادة خالق السماوات والرض‪.‬‬
‫صوَامِ ُع وَبِيَ ٌع َوصََلوَاتٌ َومَسَاجِدُ‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ ّل ُه ّد َمتْ َ‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وََل ْولَ َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫يُ ْذكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيرا‪[ } ..‬الحج‪]40 :‬‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ‬
‫وفي آية أخرى يُبيّن الحق سبحانه نتيجة انعدام هذا التدافع‪ {:‬وََلوْلَ َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫ت الَ ْرضُ‪[} ..‬البقرة‪.]251 :‬‬
‫َلفَسَ َد ِ‬
‫والفساد إنْ حدث بين الناس في حركة الحياة فيمكن أنْ يُعوّض ويُتدارك‪ ،‬أما إنْ تعدّى الفساد إلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مُقوّمات اليقين اليماني في الرض فَكرِه الناس ما يربطهم بالسماء‪ ،‬وهدموا أماكن العبادة‪ ،‬فهذه‬
‫الطامة والفساد الذي ل صلحَ بعده‪ ،‬فكأن اليتين تصوران نوعا من اليغال في الفساد‪،‬‬
‫والتّضاع في الجرائم‪.‬‬
‫وتفسد الرض حين ينعدم هذا التدافع‪ ،‬كيف؟ َهبْ أن ظالما مسْتبدا في بلد ما يستعبد الناس‬
‫ويمتصّ خيراتهم بل ودماءهم دون أنْ يردّه أحد‪ ،‬ل شكّ أن هذا سيُحدث في المجتمع تهاونا‬
‫وفوضى‪ ،‬ولن يجتهد أحد فوق طاقته‪ ،‬ولمن سيعمل وخيره لغيره؟ وهذا بداية الفساد في الرض‪.‬‬
‫فإنْ قُلْنا‪ :‬هذا فساد بين الناس في حركة حياتهم يمكن أنْ يصلح فيما بعد‪ ،‬فما بالك إن امتدّ الفساد‬
‫إلى أماكن الطاعات والعبادات‪ ،‬وقطع بين الناس الرباط الذي يربطهم بالسماء؟‬
‫إنْ كان الفساد الول قابلً للصلح‪ ،‬ففساد الدين ل يصلح‪ ،‬لنك خرّ ْبتَ الموازين التي كانت تُنظّم‬
‫حركة الحياة‪ ،‬فأصبح المجتمع بل ميزان وبل ضوابط يرجع إليها‪.‬‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ‪.‬‬
‫ونلْحظُ في قوله تعالى‪ { :‬وََلوْلَ َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬

‫‪[ { .‬الحج‪ ]40 :‬جاءت قضية عامة لكل الناس‪ ،‬فلم يخصْ طائفة دون أخرى‪ ،‬فلم َيقُلْ مثلً‪ :‬لول‬
‫َدفْع ال الكافرين بالمؤمنين‪ ،‬إنما قال مُطلْق الناس؛ لنها قضية عامة يستوي فيها الجميع في كل‬
‫المجتمعات‪.‬‬
‫كذلك جاءت كلمة (بعض) عامة؛ لتدل على أن كلَ الطرفين صالح أن يكون مدفوعا مرة‪،‬‬
‫حدّه‪ ،‬فليس‬
‫ومدفوعا عنه أخرى‪َ ،‬ف ُهمْ لبعض بالمرصاد‪ :‬مَنْ أفسد يتصدى له الخر لِيُوقِفه عند َ‬
‫المراد أن طائفة تدفع طائفة على طول الخط‪.‬‬
‫ضهُمْ َفوْقَ َب ْعضٍ دَرَجَاتٍ‪[} ..‬الزخرف‪ ]32 :‬دون أنْ يُحدّد‬
‫ومثال ذلك قوله تعالى‪ {:‬وَ َر َفعْنَا َب ْع َ‬
‫أيّهما مرفوع‪ ،‬وأيهما مرفوع عليه؛ لن كلً منهما مرفوع في شيء‪ ،‬ومرفوع عليه في شيء‬
‫آخر؛ ذلك لن العباد كلهم عيال ال‪ ،‬ل يُحابي منهم أحدا على أحد‪.‬‬
‫انظر الن إلى قوة روسيا في الشرق وقوة أمريكا في الغرب‪ ،‬إنهما مثال لقوله تعالى‪ } :‬وََل ْولَ‬
‫ل منهما تقف للخرى بالمرصاد‪ ،‬ترقبها وترصُد‬
‫ضهُمْ بِ َب ْعضٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]40 :‬فك ّ‬
‫َدفْعُ اللّهِ النّاسَ َب ْع َ‬
‫ن تقف ُكلّ منهما‬
‫تحركاتها وتقدّمها العسكري‪ ،‬وكأن ال تعالى جعلها لحماية سلمة الخرين أ ْ‬
‫موقفَ الحذَر والخوف من الخرى‪.‬‬
‫وهذا الخوف والترقّب والعداد هو الذي يمنع اندلع الحرب بينهما‪ ،‬فما بالك لو قامت بينهما‬
‫حرب أسفرت عن منتصر ومهزوم؟ ل بُدّ أن المنتصر سيعيثُ في الرض فسادا ويستبد‬
‫بالخرين‪ ،‬ويستشري ظُلْمه لعدم وجود مَنْ يُردِعه‪.‬‬
‫ومن رحمة ال بالمؤمنين أنْ يكيد الظالمين بالظالمين بكل ألوانهم وفنونهم‪ ،‬ويؤدّب الظالم بمَنْ هو‬
‫أشد منه ظُلْما؛ ليظلّ أهلُ الخير بعيدين عن هذه المعركة‪ ،‬ل يدخلون طَرَفا فيها؛ لن الخيار ل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يصمدون أمام هذه العمليات‪ ،‬لنهم قوم ِرقَاق القلوب‪ ،‬ل تناسبهم هذه القسوة وهذه الغِلْظة في‬
‫النتقام‪.‬‬
‫اقرأ قول ال تعالى‪َ {:‬وكَذاِلكَ ُنوَلّي َب ْعضَ الظّاِلمِينَ َبعْضا ِبمَا كَانُواْ َيكْسِبُونَ }[النعام‪.]129 :‬‬
‫حقِن دماءهم‪ ،‬ويُريح أولياءه من مثل هذه الصراعات الباطلة‪.‬‬
‫وهكذا يُوفّر ال أهل الخير‪ ،‬وي ْ‬
‫لذلك لما دخل النبي صلى ال عليه وسلم مكة دخولَ المنتصر‪ ،‬بعد أنْ أخرجه قومه منها‪ ،‬وبعد أنْ‬
‫فعلوا به وبأصحابه الفاعيل‪ ،‬كيف دخلها وهو القائد المنتصر الذي تمكّن من رقاب أعدائه؟‬
‫دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم مكة مُطأطيء الرأس‪ ،‬حتى لتكاد رأسه تلمس قربوس السرج‬
‫الذي يجلس عليه‪ ،‬تواضعا منه صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ومع ذلك قال أبو سفيان لما رأى رسول ال‬
‫في هذا الموقف‪ ،‬قال للعباس‪ :‬لقد أصبح مُلْك ابن أخيك عظيما‪.‬‬
‫وبعد أن تمكّن رسول ال من كفار مكة‪ ،‬وكان باستطاعته القضاء عليهم جميعهم‪ ،‬قال‪ " :‬يا معشر‬
‫قريش‪ ،‬ما تظنّون أَنّي فاعل بكم؟ قالوا‪ :‬أخ كريم وابن أخ كريم‪ ،‬قال‪ :‬فاذهبوا فأنتم الطلقاء "‪.‬‬
‫فأيّ رحمة هذه؟ وأيّ لين هذا الذي جعله ال في قلوب المؤمنين؟ وهل مِثْل هذا الدين يُعارَض‬
‫ويُ ْنصَرف عنه؟‬
‫إذن‪ :‬يُسلّط الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬الشرار بعضهم على بعض‪ ،‬وهذه آية نراها في الظالمين‬
‫في كل زمان ومكان‪ ،‬ويجلس الخيار يرقبون مثل هذه الصراعات التي يُهلِك ال فيها الظالمين‬
‫بالظالمين‪.‬‬

‫صوَامِ ُع وَبِيَعٌ‪[ { ..‬الحج‪ ]40 :‬صوامع جمع صومعة‪ ،‬وهي‬


‫ثم يقول سبحانه وتعالى‪ّ } :‬لهُ ّد َمتْ َ‬
‫مكان خاصّ للعبادة عند النصارى‪ ،‬وعندهم مُتعبّد عام يدخله الجميع هو الكنائس‪ ،‬أما الصّومعة‬
‫فهي مكان خاص لينفرد فيه صاحبه وينقطع للعبادة‪ ،‬ول تكون الصّوْمعة في حضر‪ ،‬إنما تكون في‬
‫الجبال والودية‪ ،‬بعيدا عن العمران لينقطع فيها الراهب عن حركة حياة الناس‪ ،‬وهي التي‬
‫يسمونها الديرة وتوجد في الماكن البعيدة‪.‬‬
‫وقد حرم السلم الرهبانية بهذا المعنى؛ لنها رهبانية ما شرّعها ال‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَرَهْبَانِيّةً‬
‫حقّ رِعَايَ ِتهَا‪[} ..‬الحديد‪.]27 :‬‬
‫عوْهَا َ‬
‫ضوَانِ اللّهِ َفمَا رَ َ‬
‫ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَ ْيهِمْ ِإلّ ابْ ِتغَآءَ ِر ْ‬
‫ومعنى‪ } :‬وَبِيَعٌ‪[ { ..‬الحج‪ ]40 :‬البِيعَ هي الكنائس‪.‬‬
‫فالحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬مَا َنعَى عليهم النقطاع للعبادة‪ ،‬لكن نعى عليهم انقطاعهم عن حركة‬
‫عوْهَا حَقّ رِعَايَ ِتهَا‪[} ..‬الحديد‪.]27 :‬‬
‫الحياة‪ ،‬وأسباب العيش؛ لذلك قال‪َ {:‬فمَا رَ َ‬
‫وقد أباح السلم أيضا الترهّب والنقطاع للعبادة‪ ،‬لكن شريطة أن تكون في جَلْوة يعني‪ :‬بين‬
‫الناس‪ ،‬ل تعتزل حركة الحياة‪ ،‬إنما تعبّد ال في كل حركة من حركات حياتك‪ ،‬وتجعل ال تعالى‬
‫دائما في بالك و ُنصْب عينيك في ُكلّ ما تأتي‪ ،‬وفي كل ما تدَع‪ ،‬إذن‪ :‬هناك فَرْق بين مَنْ يعبد ال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في خَلْوته‪ ،‬ومَنْ يعبد ال في جَلْوته‪.‬‬
‫لذلك سيدنا عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬قال عن الرجل الذي لزم المسجد للعبادة وعرف أن أخاه‬
‫يتكفّل به ويُنفق عليه‪ ،‬قال‪ :‬أخوه أعبد منه‪ .‬كيف؟‬
‫قالوا‪ :‬لنك تستطيع أنْ تجعل من كل حركة لك في الحياة عبادة‪ ،‬حين تُخِلص النية فيها ل عز‬
‫وجل‪ .‬ولك أن تقارن بين مؤمن وكافر‪ ،‬كلهما يعمل ويجتهد لِيقُوتَ نفسه وأهل بيته‪ ،‬ويحيا الحياة‬
‫الكريمة‪ ،‬وهذا هدف الجميع من العمل‪ ،‬لكن لو أن المؤمن اقتصر في عمله على هذا الهدف‬
‫لستوى مع الكافر تماما‪.‬‬
‫إنما للمؤمن فوق هذا مقاصد أخرى تكمن في نيته وضميره‪ ،‬المؤمن يفعل على قَدْر طاقته‪ ،‬ل‬
‫على قَدْر حاجته‪ ،‬ثم يأخذ ما يحتاج إليه ويُنفِق من الباقي ويتصدّق على مَنْ ل يقدر على الحركة‬
‫الحياتية‪.‬‬
‫شعُونَ * وَالّذِينَ‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ فِي صَلَ ِتهِمْ خَا ِ‬
‫هُمْ عَنِ الّل ْغوِ ّمعْ ِرضُونَ * وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون‪ ]4 - 1 :‬هل يعني‪ :‬مُؤدّون‬
‫سعْي والعمل‪ ،‬فكأنه‬
‫فقط؟ ل‪ ،‬بل إن المؤمن يتحرك ويعمل ويسعى‪ ،‬وفي نيته مَنْ ل يقدر على ال ّ‬
‫يُقبل على العمل ويجتهد فيه‪ ،‬وفي نيته أنْ يعمل شيئا ل بما يفيض عن حاجته من ناتج عمله وهذا‬
‫ما يُميّز المؤمن في حركة الحياة عن الكافر‪.‬‬

‫وأذكر مرة أننا جئنا من الريف في الشتاء في الثلثينيات لزيارة سيدنا الشيخ الحافظ التيجاني‪،‬‬
‫وكان مريضا ‪ -‬رحمه ال ورضي ال عنه ‪ -‬وكان يسكن في حارة‪ ،‬وفضّلنا أن نأخذ (تاكسي)‬
‫يُوصّلنا بدل أن نمشي في َوحْل الشتاء‪ ،‬وعند مدخل الحارة رفض سائق (التاكسي) الدخول وقال‪:‬‬
‫إن أجرة التوصيل ل تكفي لغسيل السيارة وتنظيفها من هذا الوَحْل‪ ،‬وبعد إلحاح وافق وأوصلنا‬
‫ضعْف أجرته‪ ،‬لكني قبل أن أنصرف قلتُ له‪ :‬أنت لماذا تعمل على هذا‬
‫إلى حيث نريد‪ ،‬فأعطيناه ِ‬
‫(التاكسي) ولماذا تتعب؟ قال‪ :‬من أجل مصالحي ومصالح أولدي‪ ،‬فقلت له‪ :‬وما يُضيرك إنْ ِز ْدتَ‬
‫على ذلك وجع ْلتَ في نيتك أنْ تُيسّر بعملك هذا على الناس؟ فاهتمّ الرجل ولبسته الكلمة فقال‪ :‬وال‬
‫ل اردّ راكبا أبدا‪.‬‬
‫ومعنى‪ {:‬وَالّذِينَ هُمْ لِل ّزكَـاةِ فَاعِلُونَ }[المؤمنون‪ ]4 :‬لم يقل مؤدون؛ لن{ فَاعِلُونَ }[المؤمنون‪]4 :‬‬
‫ن يفعلوا على َقدْر طاقتهم ويجتهدوا لتوفير شيء بعد نفقاتهم يتصدقون‬
‫تعني‪ :‬أن نيتهم في الفعل أ ْ‬
‫منه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬حرّم السلم الرهبانية التي تَحرِم المجتمع من مشاركة النسان فقال صلى ال عليه وسلم‪" :‬‬
‫ل رهبانية في السلم " لنه اعتبر كل حركة مقصودٍ منها صالحُ المجتمع كله حركةً إيمانية‬
‫عبادية‪ ،‬ومن هنا كان العمل عبادة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقد وضع العلماء شروطا لمَنْ أراد النقطاع للعبادة‪ :‬أولها‪ :‬ألّ يأخذ نفقته من أحد‪ ،‬بمعنى أن‬
‫يعمل أولً لِيُوفّر احتياجاته طوال فترة انقطاعه‪ ،‬وصدق (إقبال) حين قال‪:‬لَيْسَ ُزهْدا تصوف من‬
‫غمْرة الحيَاةِ بدينإنما يُع َرفُ التصَوفُ في الـ سّوق بمالٍ ومَطْم ٍع وفُتُونثم يقول‬
‫تقي فرّ من َ‬
‫تعالى‪َ } :‬وصََلوَاتٌ‪[ { ..‬الحج‪ ]40 :‬وهذه لليهود يُسمّون مكان التعبد‪ :‬صَالوتا‪ .‬لكن‪ ،‬لماذا لم‬
‫يرتبها القرآن ترتيبا زمنيا‪ ،‬فيقول‪ :‬لهدمت صلوات وصوامع وبيع؟ قالوا‪ :‬لن القرآن يُؤرّخ‬
‫للقريب منه فالبعد‪.‬‬
‫} َومَسَاجِدُ‪[ { ..‬الحج‪ ]40 :‬وهذه للمسلمين } يُ ْذكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيرا‪[ { ..‬الحج‪.]40 :‬‬
‫وما دام الحق سبحانه ذكر المساجد بعد الفعل } ّل ُه ّد َمتْ‪[ { ..‬الحج‪ ]40 :‬فهذا دليل على أنه ل بُدّ‬
‫طهُورا‪ ،‬ومعنى ذلك‬
‫جعَِلتْ الرض كلها لهم مسجدا و َ‬
‫أن يكون للمسلمين مكان يُحكر للعبادة‪ ،‬وإنْ ُ‬
‫أنْ تصلي في أيّ بقعة من الرض‪ ،‬وإنْ عُدِم الماء تتطهر بترابها‪ ،‬وبذلك تكون الرض مَحَلً‬
‫ل وتُصلّي‬
‫سعْي‪ ،‬فيمكنك أن تباشر عملك في مصنعك مث ً‬
‫للعبادة ومَحَلً لحركة الحياة وللعمل ولل ّ‬
‫فيه‪ ،‬لكن الحق سبحانه يريد منا أن نُخصّص بعض أرضه ليكون بيتا له تنقطع منه حركة الحياة‬
‫كلها‪ ،‬ويُوقَف فقط لمور العبادة‪.‬‬
‫حصِ َقطَاةٍ بنى ال له بيتا في الجنة "‪.‬‬
‫لذلك قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬مَنْ بنى ل مسجدا ولو كمِفْ َ‬

‫فقوله تعالى‪ّ } :‬لهُ ّد َمتْ‪َ ..‬ومَسَاجِدُ‪[ { ..‬الحج‪ ]40 :‬تدل على مكان خاص للعبادة وإلّ لو اعتُب َرتْ‬
‫الرضُ كلها مسجدا‪ ،‬فماذا تهدم؟‬
‫وعليه‪ ،‬فكل مكان تُزاوَل فيه أمورٌ غير العبادة ل يُعتبر مسجدا‪ ،‬كأماكن الصلة التي يتخذونها‬
‫تحت العمارات السكنية‪ ،‬هذه ليست مساجد‪ ،‬والصلة فيها كالصلة في الشارع وفي البيت؛ لن‬
‫المسجد (مكان) وما يُبنى عليه (مكين)‪.‬‬

‫والمسجدية تعني‪ :‬المكان من الرض إلى السماء‪ ،‬بدليل أننا في بيت ال الحرام نصلي فوق سطح‬
‫جوّ الكعبة إلى السماء كعبة‪ ،‬وكذلك لو كنا‬
‫المسجد‪ ،‬ونتجه لجوّ الكعبة‪ ،‬ل للكعبة ذاتها‪ ،‬لماذا؟ لن َ‬
‫في مخابيء أو في مناجم تحت الرض؛ لن ما تحت الكعبة من الرض كعبة‪ .‬وكذلك في‬
‫سعَى‪.‬‬
‫سعَى مَ ْ‬
‫الم ْ‬
‫خصّص للمسجدية من أرضه إلى سمائه‪ ،‬وهذا ل يُمارس فيه عمل‬
‫حكِر للعبادة‪ ،‬و ُ‬
‫إذن‪ :‬المسجد ما ُ‬
‫دنيوي ول تُعقد فيه صفقة‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫أما أنْ نجعل المسجد تحت عمارة سكنية‪ ،‬وفوق المسجد مباشرة يباشر الناس حياتهم ومعيشتهم بما‬
‫فيها من هَرج وَلهْو‪ ،‬حلل وحرام‪ ،‬وطهارة ونجاسة‪ ،‬ومعاشرة زوجية‪ ..‬إلخ فهذا كله يتنافى مع‬
‫حكْرا للعبادة من الرض إلى السماء‪ .‬فلُنسَمّ هذه الماكن‪ :‬مُصلّى‪ .‬ول‬
‫المسجدية التي جعلها ال ِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نقول‪ :‬مسجد‪.‬‬
‫ثم يصف الحق سبحانه المساجد بقوله‪ُ } :‬ي ْذكَرُ فِيهَا اسمُ اللّهِ كَثِيرا‪[ { ..‬الحج‪ ]40 :‬لن ِذكْر ال‬
‫في المساجد دائم ل ينقطع‪ ،‬ونحن ل نتحدث عن مسجد‪ ،‬ول عن مساجد قُطْر من القطار‪ ،‬إنما‬
‫المراد مساجد الدنيا كلها من أقصى الشرق لقصى الغرب‪ ،‬ومن الشمال للجنوب‪.‬‬
‫ولو نظرتَ إلى أوقات الصلوات لرأيتَ أنها مرتبطة بحركة الفلك وبالشمس في الشروق‪ ،‬وفي‬
‫الزوال‪ ،‬وفي الغروب‪ ،‬وباعتبار فارق التوقيت في كل بلد ال تجد أن ِذكْر ال دائم ل ينقطع أبدا‬
‫في ليل أو نهار‪ ،‬فأنت تُؤذّن للصلة‪ ،‬وغيرُك يقيم‪ ،‬وغيركما يصلي‪ ،‬أنت تصلي الظهر‪ ،‬وغيرك‬
‫يصلي الصبح أو العصر‪ ،‬بل أنت في الركعة الولى من الصبح‪ ،‬وغيرك في الركعة الثانية‪ ،‬أنت‬
‫تركع وغيرك يسجد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هي منظومة عبادية دائمة في كل وقت‪ ،‬ودائرة في كل مكان من الرض‪ ،‬فل ينفكّ الكون‬
‫ذاكرا ل‪ .‬أليس هذا ِذكْرا كثيرا؟ أليستْ كلمة (ال أكبرُ) دائرة على ألسنة الخلق ل تنتهي أبدا؟‬
‫ثم لما كان َدفْع ال الناسَ بعضهم ببعض ينتج عنه معركة تُسْفر عن منتصر ومنهزم‪ ،‬قال سبحانه‪:‬‬
‫} وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ‪[ { ..‬الحج‪ ]40 :‬فإنْ كان التدافع بين الكفار فإنه ل ينتهي‪ ،‬وإنْ كان‬
‫بين حقّ ل وباطل حكم ال بأنه باطل ل بُدّ أن تنتهي ب ُنصْرة الحق‪ ،‬وغالبا ل تطول هذه المعركة؛‬
‫لن الحق دائما في حضانة ال‪ ،‬إنما تطول المعارك بين باطل وباطل‪ ،‬فليس أحدهما َأوْلَى ب ُنصْرة‬
‫ال من الخر‪ ،‬فيظل كل منهما يطحن في الخر‪ ،‬وإنْ لم تكن حربا ساخنة كانت حربا باردة‪،‬‬
‫لماذا؟ لنه ل يوجد قويّ ل هوى له يستطيع أن يفصل فيها‪ ،‬وطالما تدخّل الهوى تستمر المعركة‪.‬‬

‫يبقى في القسمة العقلية المعركة بين حق وحق‪ ،‬وهذه ل وجودَ لها؛ لن الحق واحد في الوجود‪،‬‬
‫فل يمكن أنْ يحدث تصادم أبدا بين أهل الحق‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬في ُنصْرته لوليائه يستطيع أن ينصرهم دون حرب‪ ،‬ويُهلك أعداءهم‪،‬‬
‫لكن الحق سبحانه يريد أنْ يأخذوا هم بأسباب النصر؛ لذلك يُعلّمهم أصول هذه المسألة‪ ،‬فيقول‬
‫شدّواْ ا ْلوَثَاقَ فَِإمّا مَنّا َبعْدُ‬
‫سبحانه‪ {:‬فَِإذَا َلقِيتُمُ الّذِينَ َكفَرُواْ َفضَ ْربَ ال ّرقَابِ حَتّىا ِإذَآ أَ ْثخَن ُتمُوهُمْ فَ ُ‬
‫ضكُمْ‬
‫وَِإمّا ِفدَآءً حَتّىا َتضَعَ الْحَ ْربُ َأوْزَارَهَا ذَِلكَ وََلوْ َيشَآءُ اللّ ُه لَنْ َتصَرَ مِ ْنهُمْ وَلَـاكِن لّيَبُْلوَاْ َب ْع َ‬
‫بِ َب ْعضٍ‪[} ..‬محمد‪.]4 :‬‬
‫شدّواْ ا ْلوَثَاقَ‪} ..‬‬
‫ومعنى{ أَ ْثخَن ُتمُوهُمْ‪[} ..‬محمد‪ ]4 :‬يعني‪ :‬جعلتموهم ل يقدرون على الحركة{ فَ ُ‬
‫[محمد‪ ]4 :‬ل تُجهِزوا عليهم‪ ،‬ول تقتلوهم‪ ،‬إنما شُدّوا قيودهم واستأسِروهم‪ ،‬وهذه من رحمة‬
‫السلم وآدابه في الحروب‪ ،‬فليس الهدف القتل وإزهاق الرواح ثم{ فَِإمّا مَنّا َبعْدُ وَِإمّا ِفدَآءً‪} ..‬‬
‫[محمد‪ ]4 :‬مَنّا إنْ كان هناك تبادل للسرى‪ .‬فأنت تمنّ وهو يمنّ‪ .‬والفداء أنْ يفدي نفسه‪.‬‬
‫وكانت هذه المسألة حجة لنا حينما نتحدث عن الرقّ في السلم‪ ،‬ونرد على هؤلء الذين يحلو لهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫اتهام السلم‪ ،‬ويستخدمون في ذلك السفسطة والمراوغة اللغوية لقناع الناس بأن السلم ساهم‬
‫في ِنشْر الرقّ والعبودية‪.‬‬
‫جدْه بداية‪ ،‬حيث كانت‬
‫ونقول‪ :‬لقد جاء السلم والرق موجود ومنتشر لم يُشرّعه السلم‪ ،‬ولم يُو ِ‬
‫أسباب الرق كثيرة‪ ،‬وأسباب الستعباد متعددة‪ :‬فَمنْ تحمّل دَيْنا وعجز عن سدادة يُسْتعبد لصاحب‬
‫الدين‪ ،‬ومَنْ عمل ذنبا وخاف من عقوبته أخذوه عبدا‪ ،‬ومَنْ اختطفه الشرار في الطريق جعلوه‬
‫عبدا‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫ق مقصورا على الحرب المشروعة‪.‬‬
‫فلما جاء السلم عمل على سَدّ منابع الرقّ هذه‪ ،‬وجعل الر ّ‬
‫ثم فتح عدة مصارف شرعية للتخلّص من الرق القائم‪ ،‬حيث لم يكُنْ موجودا من أبواب العتق إل‬
‫إرادة السيد في أنْ يعتق عبده‪ ،‬فأضاف السلم إلى هذا الباب أبوابا أخرى‪ ،‬فجعل العتق كفارة‬
‫لبعض الذنوب‪ ،‬وكفارة لليمين‪ ،‬وكفارة للظّهار‪ ،‬وحثّ على الصدقة في سبيل العتق‪ ،‬ومساعدة‬
‫المكاتب الذي يريد العتق ويسعى إليه‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫فإذا لم تعتق عبدك‪ ،‬فل أقل من أن تطعمه من طعامك‪ ،‬وتُلْبسه من ملبسك‪ ،‬ول تُحمّله ما ل‬
‫يطيق‪ ،‬وإنْ حمّلْته فأعِنْه‪ ،‬وكما يقول النبي صلى ال عليه وسلم " إنما هم إخوانكم "‪.‬‬
‫ونلحظ على الذين يعيبون على السلم مسألة الرقّ في الحروب أنهم يقارنون بين الرّق‬
‫ق إل مَنْ قدر‬
‫والحرية‪ ،‬لكن المقارنة هنا ليستْ كذلك‪ ،‬المقارنة هنا بين الرق والقتل؛ لنه ل يُستر ّ‬
‫المسترقّ عليه وتمكّن منه في المعركة‪ ،‬وكان باستطاعته قَتْله‪ ،‬لكن رحمة ال بعباده منعتْ قتله‪،‬‬
‫حقْن دم الخر‪ ،‬ثم بعد انتهاء الحرب نحثّ‬
‫وأباحت أَخْذه رقيقا‪ ،‬فالنفعية للمقاتل المنتصر يقابلها َ‬
‫على عتقه‪ ،‬ونفتح له أبواب الحرية‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل تقارن بين عبد وحر‪ ،‬إنما قارن بين العبودية والقتل‪ :‬أيهما أقلّ ضررا؟‬
‫لذلك قال تعالى‪:‬‬

‫ف صُدُورَ َقوْمٍ ّم ْؤمِنِينَ * وَيُذْ ِهبْ غَ ْيظَ‬


‫ش ِ‬
‫{ قَاتِلُو ُهمْ ُيعَذّ ْبهُمُ اللّهُ بِأَ ْيدِيكُ ْم وَيُخْزِ ِه ْم وَيَ ْنصُ ْركُمْ عَلَ ْيهِ ْم وَيَ ْ‬
‫حكِيمٌ }[التوبة‪.]15 - 14 :‬‬
‫قُلُو ِبهِ ْم وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَىا مَن يَشَآءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫ستّ للمر{ قَاتِلُو ُهمْ‪[} ..‬التوبة‪ ]14 :‬وجواب المر مجزوم بالسكون كما في (يُعذّبْهم)‬
‫هذه نتائج ِ‬
‫ومجزوم بحذف حرف العلة كما في (وَيُخْزِهِم)‪ ،‬والخزي لنهم كانوا مغترين بقوتهم‪ ،‬ولديهم‬
‫جبروت مفتعل‪ ،‬يظنون َألّ يقدر عليهم أحد‪ ،‬وكذلك في‪ :‬ينصركم‪ ،‬ويشف‪ ،‬ويذهب‪.‬‬
‫ثم قطع السياقُ الحكمَ السابق‪ ،‬واستأنف كلما جديدا‪ ،‬وإنْ كان معطوفا على ما قبله في اللفظ‪،‬‬
‫وهذا مظهر من مظاهر الدقة في الداء القرآني‪ ،‬ومَ ْلحَظ لرحمة ال تعالى حتى بالكفار‪ ،‬فقال‬
‫تعالى‪ {:‬وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَىا مَن يَشَآءُ‪[} ..‬التوبة‪ ]15 :‬هكذا بالرفع‪ ،‬ل بالجزم فقطع الفعل (يتوب)‬
‫عما قبله؛ لن ال تعالى لم يشأ أن يشرّك بينهم حتى في جواب المر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وحتى على اعتبار أنهم هُ ِزمُوا‪ ،‬وكُسِرت شوكتهم‪ ،‬وضاعتْ هيبتهم‪ ،‬لعلهم يفيقون لنفسهم‪،‬‬
‫ويعودون للحق‪ ،‬وهذه من رحمة بالكافرين في معاركهم مع اليمان‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا يتوب ال على الكفار ويرحمهم وهم أعداء دينه وأعداء نبيه؟ قالوا‪ :‬لنه سبحانه وتعالى‬
‫ربهم وخالقهم‪ ،‬وهم عباده وعياله‪ ،‬وهو أرحم بهم‪ ،‬ومرادات ال في الخَلْق أن يكونوا جميعا‬
‫طائعين‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬يقول سبحانه في الحديث القدسي‪ " :‬قالت السماء‪ :‬يا رب ائذن لي أن أسقط كسفا على ابن‬
‫طعِم‬
‫آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك‪ ،‬وقالت الرض‪ :‬يا رب ائذن لي أن أخسف بابن آدم فقد َ‬
‫خيرك ومنع شكرك‪ ،‬وقالت الجبال‪ :‬يا رب ائذن لي أن أسقط على ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع‬
‫شكرك‪ ،‬وقالت البحار‪ :‬يا رب ائذن لي أن أغرق ابن آدم فقد طعم خيرك ومنع شكرك " "‪.‬‬
‫فالكون كله ناقم على الكافرين‪ ،‬متمرد على العصاة‪ ،‬مغتاظ منهم‪ ،‬فماذا قال الحق ‪ -‬تبارك وتعالى‬
‫‪ -‬لهم؟ قال سبحانه‪ " :‬دعوني وخَلْقي‪ ،‬لو خلقتموهم لرحمتموهم‪ ،‬فإنْ تابوا إليّ‪ ،‬فأنا حبيبهم‪ ،‬وإنْ‬
‫لم يتوبوا فأنا طبيبهم "‪.‬‬
‫نعود إلى قوله تعالى‪ } :‬وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ‪[ { ..‬الحج‪ ]40 :‬وما دام أن النصر من عند ال‬
‫فإياكم أنْ تبحثوا في القوة أو تقيسوا قوتكم بقوة عدوكم‪ ،‬فلربك عز وجل جنود ل يعلمها إل هو‪،‬‬
‫ووسائل النصر وأنت في حضانة ال كثيرة تأتيك من حيث ل تحتسب وبأهْون السباب‪ ،‬أقلّها أن‬
‫عضُدهم ويُرهبهم‬
‫ال يُريكم أعداءكم قليلً ويُكثّر المؤمنين في أعين الكافرين ليفتّ ذلك في َ‬
‫ويُزعزع معنوياتهم‪ ،‬وقد يحدث العكس‪ ،‬فيرى الكفار المؤمنين قليلً فيجترئون عليهم‪ ،‬ويتقدمون‪،‬‬
‫ثم تفاجئهم الحقيقة‪.‬‬
‫إذن‪َ {:‬ومَا َيعَْلمُ جُنُودَ رَ ّبكَ ِإلّ ُهوَ‪[} ..‬المدثر‪ ]31 :‬فل تُعوّل فقط على قوتك وتحسب مدى تكافُئِك‬
‫عكَ من هذه الحسابات‪ ،‬وما عليك إل أنْ تستنفد وسائلك وأسبابك‪ ،‬ثم تدع المجال‬
‫مع عدوك‪ ،‬دَ ْ‬
‫لسباب السماء‪.‬‬

‫وأقلّ جنود ربك أنْ يُلقي الرعب في قلوب أعدائك‪ ،‬وهذه وحدها كافية‪ ،‬ويُرْوى أنهم في إحدى‬
‫المعارك السلمية تغيرت رائحة أفواه المسلمين‪ ،‬وأحسّوا فيها بالمرارة لطول فترة القتال‪،‬‬
‫فأخرجوا السواك يُنظفّون أسنانهم‪ ،‬ويُطيّبون أفواههم‪ ،‬عندها قال الكفار‪ :‬إنهم يسنّون أسنانهم‬
‫ليأكلونا‪ ،‬وقذف ال في قلوبهم الرعب من حيث ل يدرون‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬إِنّ اللّهَ َلقَ ِويّ عَزِيزٌ { [الحج‪ ]40 :‬عزيز‪ :‬يعني ل يُغلب‪ ،‬وما دام أن ال تعالى‬
‫ضعُفتْ‪ ،‬ألم يكُن‬
‫ت القوى ومهما َ‬
‫ينصر مَنْ نصره فل ُبدّ أن تنتهي المعركة بالنصر مهما خار ْ‬
‫المسلمون في مكة ضعفاء مضطهدين‪ ،‬ل يستطيع واحد منهم أن يرفع رأسه بين الكفار؟‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪ ]45 :‬تعجب‬
‫ولما نزل قول ال تعالى وهم على هذه الحال‪ {:‬سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عمر بفراسته وعبقريته‪ :‬أيّ جمع هذا الذي سيُهزم ونحن غير قادرين حتى حماية أنفسنا؟ فلما‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }[القمر‪.]45 :‬‬
‫رأى يوم بدر قال‪ :‬صدق ال{ سَ ُيهْزَمُ الْ َ‬
‫فما دام أن ال قوي عزيز فل بُدّ أن ينصركم‪ ،‬وهذه مسألة محكوم بها أزلً‪ {:‬كَ َتبَ اللّ ُه لَغْلِبَنّ أَنَاْ‬
‫وَرُسُلِي‪[} ..‬المجادلة‪.]21 :‬‬
‫لةَ‬
‫فإذا ت ّمتْ لكم الغَلَبة‪ ،‬فاعلموا أن لك َدوْرا‪َ ،‬ألَ وهو‪ } :‬الّذِينَ إِنْ ّمكّنّا ُهمْ فِي الَرْضِ َأقَامُواْ الصّ َ‬
‫وَآ َتوُاْ ال ّزكَـاةَ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2617 /‬‬

‫الّذِينَ إِنْ َمكّنّاهُمْ فِي الْأَ ْرضِ َأقَامُوا الصّلَا َة وَآَ َتوُا ال ّزكَا َة وََأمَرُوا بِا ْل َمعْرُوفِ وَ َنهَوْا عَنِ ا ْلمُ ْنكَ ِر وَلِلّهِ‬
‫عَاقِبَةُ الُْأمُورِ (‪)41‬‬

‫معنى‪ّ { :‬مكّنّاهُمْ فِي الَ ْرضِ‪[ } ..‬الحج‪ ]41 :‬جعلنا لهم سلطانا وقوة وغَلَبة‪ ،‬فل يَجترئ أحد عليهم‬
‫أو يزحزحهم‪ ،‬وعليهم أنْ يعلموا أن ال ما مكّنهم ونصرهم لذاتهم‪ ،‬وإنما ليقوموا بمهمة الصلح‬
‫وينقوا الخلفة النسانية في الرض من ُكلّ ما يُضعِف صلحها أو يفسده‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬سيدنا سليمان عليه السلم كان يركب بساط الريح يحمله حيث أراد‪ ،‬فداخله شيء من‬
‫ن يقول له‪ُ :‬أمِرْنا أن نطيعك ما‬
‫الزهو‪ ،‬فمال به البساط وأوشك أنْ يُلقيه‪ ،‬ثم سمع من البساط مَ ْ‬
‫أطعتَ ال‪.‬‬
‫ن يفرض على مجتمعه ما‬
‫والممكّن في الرض الذي أعطاه ال البأْس والقوة والسلطان‪ ،‬يستطيع أ ْ‬
‫يشاء‪ ،‬حتى إنْ ُمكّن في الرض بباطل يستطيع أنْ يفرض باطله ويُخضِع الناس له‪ ،‬ولو إلى‬
‫حين‪.‬‬
‫فماذا يُناط بالمؤمن إنْ ُمكّن في الرض؟‬
‫لةَ‪[ } ..‬الحج‪ ]41 :‬ليكونوا دائما على ذكْر‬
‫يقول تعالى‪ { :‬الّذِينَ إِنْ ّمكّنّاهُمْ فِي الَ ْرضِ َأقَامُواْ الصّ َ‬
‫خمْس مرات في اليوم‬
‫وولء من ربهم الذي وهبهم هذا التمكين؛ ذلك لنهم يترددون عليه سبحانه َ‬
‫والليلة‪.‬‬
‫ف وَ َن َهوْاْ عَنِ ا ْلمُ ْنكَرِ } [الحج‪ ]41 :‬فهذه أسس الصلح في‬
‫{ وَآ َتوُاْ ال ّزكَـا َة وََأمَرُواْ بِا ْل َمعْرُو ِ‬
‫المجتمع والميزان الذي يسعد به الجميع‪.‬‬
‫لمُورِ } [الحج‪ ]41 :‬يعني‪ :‬النهاية إلينا‪ ،‬وآخر المطاف عندنا‪ ،‬فمَن التزم هذه‬
‫{ وَلِلّهِ عَاقِبَ ُة ا ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫التوجيهات وأدّى دوره المنُوط في مجتمعه‪ ،‬فبها و ِنعْمتْ‪ ،‬ومَنْ ألقاها وراء ظهره فعاقبته معروفة‪.‬‬
‫ثم يُسلّي الحق سبحانه رسوله صلى ال عليه وسلم حتى ل يهتم بما يفعله قوم من كفر وعناد‬
‫ومجابهة للدعوة‪ { :‬وَإِن ُيكَذّبُوكَ َفقَدْ كَذّ َبتْ قَبَْلهُمْ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2618 /‬‬

‫ح وَعَا ٌد وَ َثمُودُ (‪)42‬‬


‫وَإِنْ ُيكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذّ َبتْ قَبَْلهُمْ َقوْمُ نُو ٍ‬

‫{ وَإِن ُيكَذّبُوكَ‪[ } ..‬الحج‪ ]42 :‬يعني‪ :‬في دعوتك فيواجهونك‪ ،‬ويقفون في سبيل دعوتك ليبطلوها‪،‬‬
‫فاعلم أنك لست في ذلك بِدْعا من الرسل‪ ،‬فقد كُذّب كثير من الرسل قبلك‪ ،‬وعليك َألّ تلحظ مسألة‬
‫التكذيب منفصلةً عن عاقبته‪ ،‬نعم‪ :‬كذب القوم لكن كيف كانت العاقبة؟ اتركناهم أم أخذناهم َأخْذ‬
‫عزيز مقتدر؟‬
‫حلّ بسابقيهم من المكذّبين والمعاندين‪.‬‬
‫فل تحزن‪ ،‬فسوف يحلّ بهم ما َ‬
‫وقلنا‪ :‬إن الرسول يتحمّل من مشقة الرسالة وعناء الدعوة على َقدْر رسالته‪ ،‬فكلّ رسل ال قبل‬
‫محمد كان الرسول يُ ْرسَل إلى قومه خاصة‪ ،‬وفي مدة محدودة‪ ،‬وزمان محدود‪ ،‬ومع ذلك تعبوا‬
‫كثيرا في سبيل دعوتهم‪ ،‬فما بالك برسول ُب ِعثَ إلى الناس كافة في كل زمان وفي كل مكان‪ ،‬ل‬
‫شكّ أنه سيتحمل من التعب والعناء أضعاف ما تحمّله إخوانه من الرسل السابقين‪.‬‬
‫َ‬
‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يُعد رسوله صلى ال علية وسلم ويُوطّنه على تحمّل المشاقّ من‬
‫عضُده حين يواجهها عند مباشرة أمر الدعوة‪ ،‬يقول له‪ :‬ليست‬
‫بداية الطريق حتى ل تفتّ في َ‬
‫السيادة أمرا سهلً‪ ،‬إنما دونها متاعب وأهوال ومصاعب فاستعد‪ ،‬كما تنبه ولدك‪ :‬انتبه‪،‬‬
‫فالمتحانات ستأتي هذا العام صعبة‪ ،‬فالوزارة تريد تقليل عدد المتقدمين للجامعة‪ ،‬فاجتهد حتى‬
‫تحصل على مجموع مرتفع‪ ،‬وحين يسمع الولد هذا التنبيه يُجمع تماسكه‪ ،‬ويجمع تركيزه‪ ،‬فل يهتز‬
‫حين يواجه المتحانات‪.‬‬
‫ثم يذكر الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬نماذج للمكذّبين للرسل‪َ { :‬و َقوْمُ إِبْرَاهِي َم َو َقوْمُ لُوطٍ * وََأصْحَابُ‬
‫ن َوكُ ّذبَ مُوسَىا فَأمْلَ ْيتُ ِل ْلكَافِرِينَ‪} ..‬‬
‫مَدْيَ َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2619 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خذْ ُتهُمْ َفكَ ْيفَ‬
‫ن َوكُ ّذبَ مُوسَى فََأمْلَ ْيتُ لِ ْلكَافِرِينَ ُثمّ أَ َ‬
‫َوقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ َوقَوْمُ لُوطٍ (‪ )43‬وََأصْحَابُ مَدْيَ َ‬
‫كَانَ َنكِيرِ (‪)44‬‬

‫نلحظ هنا أن الحق سبحانه ذكر المكذبين‪ ،‬إل في قصة موسى فذكر المكذّب‪ ،‬فلم َيقُل‪ :‬وقوم موسى‬
‫بل قال‪ :‬وكُذّب موسى‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬لن مهمته كانت أصعب حيث تعرّض في دعوته لمنِ ادّعى‬
‫اللوهية ذاتها‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَأمْلَ ْيتُ ِل ْلكَافِرِينَ ُثمّ َأخَذْ ُتهُمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]44 :‬أمليت‪ :‬أمه ْلتُ حتى ظنوه إهمالً‪ ،‬وهو‬
‫إمهال بأنْ يمدّ ال لهم‪ ،‬ويطيل في مدتهم‪ ،‬ل إكراما لهم‪ ،‬ولكن ليأخذهم بعد هذا أخْذ عزيز مقتدر‪،‬‬
‫حسَبَنّ الّذِينَ َكفَرُواْ أَ ّنمَا‬
‫وفي آية أخرى يُوضّح لنا هذه البرقية المختصرة‪ ،‬فيقول سبحانه‪ {:‬وَلَ يَ ْ‬
‫سهِمْ إِ ّنمَا ُنمْلِي َلهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِ ْثمَا‪[} ..‬آل عمران‪]178 :‬‬
‫ُنمْلِي َل ُهمْ خَيْرٌ لَنْفُ ِ‬
‫وفي هذا المعنى يقول أيضا‪ {:‬فَلَ ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم َولَ َأ ْولَدُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ لِ ُيعَذّ َبهُمْ ِبهَا فِي ا ْلحَيَاةِ‬
‫سهُ ْم وَ ُهمْ كَافِرُونَ }[التوبة‪.]55 :‬‬
‫الدّنْيَا وَتَزْ َهقَ أَنفُ ُ‬
‫إذن‪ :‬ل تغتر بما في أيديهم؛ لنه فتنة‪ ،‬حتى إذا أخذهم ال كانت حسرتهم أكبر‪ ،‬فمن عُدم هذه‬
‫النعم ل يتعلق قلبه بها‪ ،‬ول يألَم لفقدها‪.‬‬
‫وقد حدث شيء من هذا في أيام سعد زغلول‪ ،‬وكان أحد معارضيه يشتمه ويتطاول عليه‪ ،‬لكن‬
‫فوجئ الجميع بأنه يُولّيه منصبا مرموقا في القاهرة‪ ،‬فتعجّب الناس وسألوه في ذلك فقال‪ :‬نعم‪،‬‬
‫وضعته في هذا المنصب ليعرف العلو والمنزلة حتى يتحسّر عليها حين ُتسْلَب منه‪ ،‬وتكون أنكى‬
‫له‪ .‬يعني‪ :‬يرفعه إلى أعلى حتى يهوي على رقبته‪ ،‬لنه ما فائدة أن توقعه من على الحصيرة مثل‬
‫ً؟!!‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬فكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ } [الحج‪ ]44 :‬الحق سبحانه يُلقِي الخبر في صورة استفهام‬
‫لتقول أنت ما حدث وتشهد به‪.‬‬
‫والمراد‪ :‬أعاقبناهم بما يستحقون؟‬
‫والنكير‪ :‬هو النكار على شخص بتغيير حاله من نعمة إلى نقمة‪ ،‬كالذي يُكرمك ويُواسيك ويَبَشّ‬
‫في وجهك ويُغدق عليك‪ ،‬ثم يقطع عنك هذا كله‪ ،‬فتقول‪ :‬لماذا تنكّر لي فلن؟ يعني‪ :‬قطع عني‬
‫نعمته‪.‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يريد أن ينتزع مِنّا القرار بقدرته تعالى على عقاب أعدائه‬
‫ومُكذّبي رسله‪ ،‬وهذا المعنى جاء أيضا في قوله تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ َأجْ َرمُواْ كَانُواْ مِنَ الّذِينَ آمَنُواْ‬
‫حكُونَ * وَإِذَا مَرّواْ ِبهِمْ يَ َتغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَىا َأهِْلهِ ُم انقَلَبُواْ َف ِكهِينَ * وَإِذَا رََأوْهُمْ قَالُواْ‬
‫َيضْ َ‬
‫حكُونَ *‬
‫ضَ‬‫إِنّ هَـا ُؤلَءِ َلضَالّونَ * َومَآ أُ ْرسِلُواْ عَلَ ْيهِمْ حَافِظِينَ * فَالْ َيوْمَ الّذِينَ آمَنُواْ مِنَ ا ْل ُكفّارِ َي ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عَلَى الَرَآ ِئكِ يَنظُرُونَ * َهلْ ُث ّوبَ ا ْل ُكفّارُ مَا كَانُواْ َي ْفعَلُونَ }[المطففين‪ ]36 - 29 :‬يعني‪ :‬هل‬
‫جُوزي الكفار بما عملوا؟ وهل استطعنا أنْ نعاقبهم بما يستحقون من العذاب؟‬
‫{ َفكَ ْيفَ كَانَ َنكِيرِ } [الحج‪ ]44 :‬أي‪ :‬إنكاري لموقفهم من عدم أداء حقوق النعمة فبدّلها ال عليهم‬
‫نقمة‪.‬‬
‫شهَا‪} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬فكَأَيّن مّن قَرْ َيةٍ أَهَْلكْنَاهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ َف ِهيَ خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُو ِ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2620 /‬‬

‫شهَا وَبِئْرٍ ُمعَطَّل ٍة َو َقصْرٍ َمشِيدٍ (‪)45‬‬


‫علَى عُرُو ِ‬
‫َفكَأَيّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهَْلكْنَاهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ َف ِهيَ خَاوِيَةٌ َ‬

‫قوله تعالى‪َ { :‬فكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ‪[ } ..‬الحج‪( ]45 :‬كأيّن) أداة تدل على الكَثْرة مثل‪ :‬كم الخبرية حين‬
‫تقول‪ :‬كَمْ أحسنتُ إليك‪ .‬تعني مرات عديدة تفوق الحصر‪ ،‬فهي تدل على المبالغة في العدد‬
‫والكمية‪ ،‬ومنها قوله تعالى‪َ {:‬وكَأَيّن مّن نّ ِبيّ قَا َتلَ َمعَهُ رِبّيّونَ كَثِيرٌ‪[} ..‬آل عمران‪.]146 :‬‬
‫والقرية‪ :‬اسم للمكان‪ ،‬وحين يُهلِك ال القرية ل يُهلك المكان‪ ،‬إنما يهلك المكين فيه‪ ،‬فالمراد بالقرية‬
‫أهلها‪ ،‬كما ورد في قوله تعالى‪ {:‬وَسْ َئلِ ا ْلقَرْيَةَ الّتِي كُنّا فِيهَا‪[} ..‬يوسف‪ ]82 :‬أي‪ :‬اسأل أهل‬
‫القرية‪.‬‬
‫ويحتمل أن يكون المعنى‪ :‬اسأل القرية تُجبك‪ ،‬لنك لو سألتَ أهل القرية فلربما يكذبون‪ ،‬أمّا القرية‬
‫فتسجل الحداث وتُخبِر بها كما حدثت‪.‬‬
‫وقد يتعدى الهلك إلى القرية ذاتها‪ ،‬فيغير معالمها بدليل قوله تعالى‪ {:‬فَتِ ْلكَ بُيُو ُتهُمْ خَاوِيَةً ِبمَا‬
‫ظََلمُواْ‪[} ..‬النمل‪.]52 :‬‬
‫ومعنى‪َ { :‬أهَْلكْنَاهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ‪[ } ..‬الحج‪ ]45 :‬أي‪ :‬بسبب ظُلْمها‪ ،‬ول يُغيّر ال ما بقوم حتى‬
‫طمَئِنّةً يَأْتِيهَا‬
‫يُغيّروا ما بأنفسهم‪ ،‬وفي آية أخرى يقول تعالى‪َ {:‬وضَ َربَ اللّهُ مَثَلً قَرْ َيةً كَا َنتْ آمِنَةً مّ ْ‬
‫خ ْوفِ ِبمَا كَانُواْ َيصْ َنعُونَ }‬
‫رِ ْز ُقهَا رَغَدا مّن ُكلّ َمكَانٍ َف َكفَرَتْ بِأَ ْنعُمِ اللّهِ فَأَذَا َقهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْ َ‬
‫[النحل‪.]112 :‬‬
‫شهَا‪} ..‬‬
‫فهلك القُرَى ل بُدّ أن يكون له سبب‪ ،‬فلما وقع عليها الهلك أصبحت { خَاوِيَةٌ عَلَىا عُرُو ِ‬
‫شهَا‪} ..‬‬
‫[الحج‪ ]45 :‬الشيء الخاوي يعني‪ :‬الذي سقط وتهدّم على غيره‪ ،‬وقوله‪ { :‬عَلَىا عُرُو ِ‬
‫حلّ بها من هلك‪ ،‬حيث سقط السقف أولً‪ ،‬ثم انهارت عليه‬
‫عظَم ما َ‬
‫[الحج‪ ]45 :‬يدل على ِ‬
‫عقِب‪ ،‬وجعل عاليها سافلها‪.‬‬
‫الجدران‪ ،‬أو‪ :‬أن ال تعالى قَلَبها رأسا على َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله سبحانه‪ { :‬وَبِئْرٍ ّمعَطَّلةٍ‪[ } ..‬الحج‪ ]45 :‬البئر‪ :‬هو الفجوة العميقة في الرض‪ ،‬بحيث تصل‬
‫إلى مستوى الماء الجوفيّ‪ ،‬ومنه يُخرجون الماء للشّرْب وللزراعة‪ ..‬إلخ ومنه قوله تعالى‪ {:‬وََلمّا‬
‫وَرَدَ مَآءَ َمدْيَنَ‪[} ..‬القصص‪ ]23 :‬أي‪ :‬البئر الذي يشربون منه‪.‬‬
‫والبئر حين تكون عاملة ومُسْتفادا منها تلحظ حولها مظاهر حياة‪ ،‬حيث ينتشر الناس حولها‪ ،‬وينمو‬
‫النبات على بقايا المياه المستخرجة منها‪ ،‬ويحوم حولها الطير ليرتوي منها‪ ،‬أما البئر المعطّلة غير‬
‫المستعملة فتجدها خَرِبة ليس بها علمات حياة‪ ،‬وربما تسفو عليها الرياح‪ ،‬وتطمسها فتُعطّل‬
‫وتُهجَر‪ ،‬فالمراد معطلة عن أداء مهمتها‪ ،‬ومهمة البئر السّقيا‪.‬‬
‫{ َو َقصْرٍ مّشِيدٍ } [الحج‪ ]45 :‬القصر‪ :‬اسم للمأوى الفَخْم؛ لن المأوى قد يكون خيمة‪ ،‬أو فسطاطا‪،‬‬
‫أو عريشة‪ ،‬أو بيتا‪ ،‬أو عمارة‪ ،‬وعندما يرتقي النسان في المأوى فيبني لنفسه شيئا خاصا به‪ ،‬لكن‬
‫ل ُبدّ له أنْ يخرج لقضاء لوازم الحياة من طعام وخلفه‪ ،‬أما القصر فيعني مكان السكن الذي‬
‫يتوفر لك بداخله كل ما تحتاج إليه‪ ،‬بحيث ل تحتاج إلى الخروج منه‪ ،‬يعني‪ :‬بداخله كل مُقوّمات‬
‫الحياة‪ .‬ومنه‪ :‬سميت الحور مقصورات في قوله تعالى‪ {:‬حُورٌ مّ ْقصُورَاتٌ فِي ا ْلخِيَامِ }‬

‫[الرحمن‪ ]72 :‬يعني‪ :‬ل تتعداها ول تخرج منها‪.‬‬


‫و } مّشِيدٍ { [الحج‪ ]45 :‬من الشيد‪ ،‬وهو الجير الذي يستعمل َكمُونَةٍ في بناء الحجر يعني‪ :‬مادة‬
‫جعْلها على مستوى واحد‪ ،‬وقديما كان البناء بالطوب اللّبن‪ ،‬والمونة من الطين‪،‬‬
‫للصق الحجارة‪ ،‬و َ‬
‫أما في القصور والمساكن الفخمة الراقية فالبناء بالحجر‪ ،‬والمشيد أيضا العالي المرتفع‪ ،‬ومنه‬
‫قولهم‪ :‬أشاد به يعني‪ :‬رفعه وأعْلى من مكانته‪ ،‬والرتفاع من مَيْزات القصور‪ ،‬ومعلوم أن مقاسات‬
‫الغرف في العمارات مثلً غيرها في القصور‪ ،‬هذه ضيقة منخفضة‪ ،‬وهذه واسعة عالية‪.‬‬
‫وفي قوله تعالى } َو َقصْرٍ مّشِيدٍ { [الحج‪ ]45 :‬دليل على أن هؤلء المهلْكين كانوا من أصحاب‬
‫الغِنَى والنعيم‪ ،‬ومن سكان القصور ومِنْ عِلْية القوم‪.‬‬
‫س َمعُونَ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬أفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَ َتكُونَ َل ُهمْ قُلُوبٌ َي ْعقِلُونَ ِبهَآ َأوْ آذَانٌ َي ْ‬
‫ِبهَا‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2621 /‬‬

‫س َمعُونَ ِبهَا فَإِ ّنهَا لَا َت ْعمَى الْأَ ْبصَارُ‬


‫َأفَلَمْ َيسِيرُوا فِي الْأَ ْرضِ فَ َتكُونَ َلهُمْ قُلُوبٌ َي ْعقِلُونَ ِبهَا َأوْ آَذَانٌ َي ْ‬
‫وََلكِنْ َت ْعمَى ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ (‪)46‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السّيْر‪َ :‬قطْع مسافات من مكان إلى آخر‪ ،‬ويسمونه السياحة‪ ،‬والحق سبحانه يدعو عباده إلى‬
‫السياحة في أنحاء الرض؛ لن للسياحة فائدتين‪:‬‬
‫ن كنتَ في مكان يضيق بك العيش فيه‪ ،‬كهؤلء‬
‫ن تكون سياحة استثمارية لستنباط الرزق إ ْ‬
‫فإما أ ْ‬
‫الذين يسافرون للبلد الخرى للعمل وطلب الرزق‪.‬‬
‫وإما أن تكون سياحة لَخْذ العبرة والتأمل في مخلوقات ال في مُلْكه الواسع ليستدل بخَلْق ال‬
‫وآياته على قدرته تعالى‪.‬‬
‫والسياحة في البلد المختلفة تتيح لك فرصة ملحظة الختلفات من بيئة لخرى‪ ،‬فهذه حارة‬
‫وهذه باردة‪ ،‬وهذه صحراء جرداء وهذه خضراء ل يوجد بها حبة رمل‪ ،‬لذلك يخاطبنا ربنا تبارك‬
‫وتعالى‪ُ {:‬قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ ثُمّ ا ْنظُرُواْ‪[} ..‬النعام‪]11 :‬‬
‫فالعطف في الية بـ (ثُمّ) يدل على أن للسياحة مهمة أخرى‪ ،‬هي الستثمار وطلب الرزق‪ ،‬ففي‬
‫الية إشارة إلى الجمع بين هاتين المهمتين‪ ،‬فحين تذهب للعمل إياك أنْ تغفل عن آيات ال في‬
‫خذْ منه عبرة كونية تفيدك في دينك‪.‬‬
‫المكان الذي سافرت إليه‪ ،‬و ُ‬
‫وفي آية أخرى يقول سبحانه‪ُ {:‬قلْ سِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَاْنظُرُواْ‪[} ..‬النمل‪]69 :‬‬
‫العطف هنا بالفاء التي تفيد الترتيب‪ ،‬يعني‪ :‬سيروا في الرض لتنظروا آيات ال‪ ،‬فهي خاصة‬
‫بسياحة العتبار والتأمل‪ ،‬ل سياحة الستثمار وطلب الرزق‪.‬‬
‫ت الماكن‬
‫لذلك يقولون في المثال‪( :‬اللي يعيش ياما يشوف‪ ،‬واللي يمشي يشوف أكثر) فكلما تعدد ْ‬
‫تعددت اليات والعجائب الدالة على قدرة ال‪ ،‬وقد ترى منظرا ل يؤثر فيك‪ ،‬وترى منظرا آخر‬
‫يهزّك ويُحرّك عواطفك‪ ،‬وتأملتك في الكون‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬أفََلمْ يَسِيرُواْ‪[ } ..‬الحج‪ ]46 :‬تعني وتؤكد أنهم ساروا فعلً‪ ،‬كما تقول‪ :‬أفلم أُكرمك؟ ول‬
‫تقول هذا إل إذا أكرمته فعلً‪ ،‬وقد حدث أنهم ساروا فعلً في البلد أثناء رحلة الشتاء والصيف‪،‬‬
‫علَ ْيهِمْ ّمصْبِحِينَ‪} ..‬‬
‫وكانوا يمرون على ديار القوم المهلكين‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَإِ ّنكُمْ لّ َتمُرّونَ َ‬
‫[الصافات‪.]137 :‬‬
‫يعني‪ :‬أنتم أهل سَيْر وترحال وأهل نظر في مصير مَنْ قبلكم‪ ،‬فكيف يقبل منكم النصراف عن‬
‫آيات ال؟‬
‫س َمعُونَ ِبهَا فَإِ ّنهَا لَ َت ْعمَى‬
‫{ َأفََلمْ يَسِيرُواْ فِي الَ ْرضِ فَ َتكُونَ َلهُمْ قُلُوبٌ َي ْعقِلُونَ ِبهَآ َأوْ آذَانٌ َي ْ‬
‫الَ ْبصَارُ وَلَـاكِن َت ْعمَىا ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ } [الحج‪ ]46 :‬فما داموا قد ساروا وترحلّوا في‬
‫البلد‪ ،‬فكيف ل يعقلون آيات ال؟ وكيف ل تُحرّك قلوبهم؟‬
‫ولنا وقفة عند قوله تعالى‪ { :‬فَ َتكُونَ َلهُمْ قُلُوبٌ َي ْعقِلُونَ ِبهَآ‪[ } ..‬الحج‪ ]46 :‬وهل يعقِل النسانُ‬
‫بقلبه؟ معلوم أن العقل في المخ‪ ،‬والقلب في الصدر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نعم‪ ،‬للنسان وسائل إدراك هي الحواس التي تلتقط المحسّات يُسمّونها تأدّبا مع العلم‪ :‬الحواس‬
‫الخمس الظاهرة؛ لن العلم أثبت للنسان في وظائف العضاء حواسا أخرى غير ظاهرة‪ ،‬فحين‬
‫تُمسِك بشيئين مختلفين يمكنك أن تُميّز أيهما أثقل من الخر‪ ،‬فبأيّ حاسة من الحواس الخمس‬
‫المعروفة توصلْتَ إلى هذه النتيجة؟‬
‫إنْ قُ ْلتَ بالعين فدعْها على الرض وانظر إليها‪ ،‬وإنْ قُ ْلتَ باللمس فلك أنْ تلمسها دون أنْ ترفعها‬
‫من مكانها‪ ،‬إذن‪ :‬فأنت ل تدرك الثقل بهذه الحواس‪ ،‬إنما بشيء آخر وبآلة إدراك أخرى هي حاسة‬
‫ضلِ الذي يُميّز لك الخفيف من الثقيل‪.‬‬
‫ال َع َ‬

‫وحين تذهب لشراء قطعة من القماش تفرك القماش بلطف بين أناملك‪ ،‬فتستطيع أنْ تُميّز الثخين‬
‫من الرقيق‪ ،‬مع أن الفارق بينهما ل يكاد ُي ْذكَر‪ ،‬فبأيّ حاسة أدركْتَه؟ إنها حاسة البَيْن‪ .‬كذلك هناك‬
‫حاسة ال ُبعْد وغيرها من الحواسّ التي يكتشفها العلم الحديث في النسان‪.‬‬
‫فلما يدرك النسان هذه الشياء بوسائل الدراك يتدخّل العقل ليغربل هذه المدركات‪ ،‬ويختار من‬
‫البدائل ما يناسبه‪ ،‬فإنْ كان سيختار ثوبا يقول‪ :‬هذا أنعم وأرقّ من هذا‪ ،‬وإنْ كان سيختار رائحة‬
‫يقول‪ :‬هذه ألطف من هذه‪ ،‬إنْ كان في الصيف اختار الخفيف‪ ،‬وإنْ كان في الشتاء اختار السميك‪.‬‬
‫وبعد أن يختار العقل ويوازن بين البدائل يحكم بقضية تستقر في الذّهْن وتقتنع بها‪ ،‬ول تحتاج‬
‫حتَ إليه بقلبك‪.‬‬
‫لدراك بعد ذلك‪ ،‬ول لختيار بين البدائل‪ ،‬وعندها تنفذ ما استقر في نفسك‪ ،‬وارت ْ‬
‫إذن‪ :‬إدراك بالحواس وتمييز بالعقل ووقوف عند مبدأ بالقلب‪ ،‬وما دام استقر المبدأ في قلبك فقد‬
‫أصبح دستورا لحياتك‪ ،‬وكل جوارحك تخدم هذا المبدأ الذي انتهيتَ إليه‪ ،‬واستقر في قلبك‬
‫ووجدانك‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا القلب بالذات؟ قالوا‪ :‬لن القلب هو الذي يقوم بعملية ضَخّ سائل الحياة‪ ،‬وهو الدم في‬
‫جميع إجزاء الجسم وجوارحه‪ ،‬وهذه الجوارح هي أداة تنفيذ ما استقر في الوجدان؛ لذلك قالوا‪:‬‬
‫اليمان محلّه القلب‪ ،‬كيف؟ قالوا‪ :‬لنك غرب ْلتَ المسائل وصفّيْت القضايا إلى أن استقرت العقيدة‬
‫واليمان في قلبك‪ ،‬واليمان أو العقيدة هي ما انعقد في القلب واستقرّ فيه‪ ،‬ومن القلب تمتد العقيدة‬
‫إلى جميع العضاء والحواس التي تقوم بالعمل بمقتضى هذا اليمان‪ ،‬وما ُد ْمتَ قد انتهيتَ إلى‬
‫ل فيكون قلبك لم يفهم ولم يفقه‪.‬‬
‫مبدأ وعقيدة‪ ،‬فإياك أنْ تخالفه إلى غيره‪ ،‬وإ ّ‬
‫وكلمة } َي ْعقِلُونَ ِبهَآ‪[ { ..‬الحج‪ ]46 :‬تدل على أن للعقل مهام أخرى غير أنه يختار ويفاضل بين‬
‫البدائل‪ ،‬فالعقل من مهامه أنْ يعقل صاحبه عن الخطأ‪ ،‬ويعقله أنْ يشرد في المتاهات‪ ،‬والبعض‬
‫يظن أن معنى عقل يعني حرية الفكر وأنْ يشطح المرء بعقله في الفكار كيف يشاء‪ ،‬ل‪ ،‬العقل‬
‫عقَال الناقة الذي يمنعها‪ ،‬ويحجزها أنْ تش ُردَ منك‪.‬‬
‫من ِ‬
‫س َمعُونَ ِبهَا‪[ { ..‬الحج‪ ]46 :‬كيف ولهؤلء القوم آذان تسمع؟ نعم‪ ،‬لهم‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬أوْ آذَانٌ يَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫آذان تسمع‪ ،‬لكن سماع ل فائدة منه‪ ،‬فكأن الحاسّة غير موجودة‪ ،‬وإل ما فائدة شيء سمعتَه لكن لم‬
‫تستفد به ولم تُوظّفه في حركة حياتك‪ ،‬إنه سماع كعدمه‪ ،‬بل إن عدمه أفضل منه؛ لن سماعك‬
‫يقيم عليك الحجة‪.‬‬

‫} فَإِ ّنهَا لَ َت ْعمَى الَ ْبصَا ُر وَلَـاكِن َت ْعمَىا ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ { [الحج‪ ]46 :‬فعمي البصار‬
‫س بعمى القلوب؛ لن النسان إذا فقد رؤية البصر يمكنه أنْ يسمع‪ ،‬وأنْ يُعمل‬
‫شيء هيّن‪ ،‬إذا ما قِي َ‬
‫عقله‪ ،‬وأنْ يهتدي‪ ،‬ومَا ل يراه يمكن أنْ يخبره به غيره‪ ،‬ويَصِفه له وَصْفا دقيقا وكأنه يراه‪ ،‬لكن‬
‫ت القلوب‪ ،‬والنظار مبصرة؟‬
‫ما العمل إذا عَم َي ْ‬
‫عوَض‪ ،‬فما البديل إذا عَمي القلب؟ العمى يحاول أنْ يتحسّس‬
‫وإذا كان لعمى البصار بديل و ِ‬
‫خذْ بيدي‪ ،‬أما أعمى القلب فماذا يفعل؟‬
‫طريقه‪ ،‬فإنْ عجز قال لك‪ُ :‬‬
‫طمِس على قلبه فل‬
‫لذلك‪ ،‬نقول لمن يغفل عن الشيء الواضح والمبدأ المستقر‪ :‬أعمى قَلْب‪ .‬يعني‪ُ :‬‬
‫يعي شيئا‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬ا ْلقُلُوبُ الّتِي فِي الصّدُورِ { [الحج‪ ]46 :‬معلوم أن القلوب في الصدور‪ ،‬فلماذا جاء‬
‫التعبيرهكذا؟ قالوا‪ :‬ليؤكد لك على أن المراد القلب الحقيقي‪ ،‬حتى ل تظن أنه القلب التفكيريّ‬
‫التعقليّ‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬يقُولُونَ بَِأ ْفوَا ِههِم‪[} ..‬آل عمران‪]167 :‬‬
‫ومعلوم أن القَوْل من الفواه‪ ،‬لكنه أراد أن يؤكد على القول والكلم؛ لن القول قد يكون بالشارة‬
‫والدللة‪ ،‬فالقول بالكلم هو أبلغ أنواع القول وآكده؛ لذلك قال الشاعر‪:‬جِرَاحَاتُ السّنَانِ َلهَا الْتِئَامٌ‬
‫ولَ يُلْتَامُ مَا جَرَح اللسَانُويقولون‪ :‬احفظ لسانك الذي بين فكّيْك‪ ،‬وهل اللسان إل بين الفكّيْن؟ لكن‬
‫أراد التوكيد على القول والكلم خاصة‪ ،‬ل على طرق التفاهم والتعبير الخرى‪.‬‬
‫ب وَلَن يُخِْلفَ اللّ ُه وَعْ َدهُ‪{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَيَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2622 /‬‬

‫خِلفَ اللّ ُه وَعْ َد ُه وَإِنّ َي ْومًا عِنْدَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَ َنةٍ ِممّا َتعُدّونَ (‪)47‬‬
‫ب وَلَنْ يُ ْ‬
‫وَيَسْ َتعْجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَا ِ‬

‫حجَا َرةً مّنَ‬


‫علَيْنَا ِ‬
‫ألم يقولوا في استعجال العذاب‪ {:‬الّلهُمّ إِن كَانَ هَـاذَا ُهوَ ا ْلحَقّ مِنْ عِن ِدكَ فََأمْطِرْ َ‬
‫سمَآءِ َأوِ ائْتِنَا ِبعَذَابٍ أَلِيمٍ‪[} ..‬النفال‪.]32 :‬‬
‫ال ّ‬
‫وقالوا‪ {:‬فَأْتِنَا ِبمَا َتعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصّا ِدقِينَ }[العراف‪.]70 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ول يستعجل النسانُ العذابَ إل إذا كان غَيْ َر مؤمن به‪ ،‬المؤمن بالعذاب ‪ -‬حقيقةً ‪ -‬يخاف منه‪،‬‬
‫ويريد أنْ يبطئ عنه أو أنْ ينجوَ منه‪ .‬والمعنى‪ { :‬وَيَسْ َت ْعجِلُو َنكَ بِا ْلعَذَابِ‪[ } ..‬الحج‪ ]47 :‬أنهم‬
‫يظنون أنّه إنْ توعّدهم ال بالعذاب فإنه سيقع لِ َتوّه‪ .‬لذلك‪ ،‬الحق سبحانه يصحح لهم هذا الفهم‪،‬‬
‫فيقول‪ { :‬وَلَن ُيخِْلفَ اللّ ُه وَعْ َد ُه وَإِنّ َيوْما عِندَ رَ ّبكَ كَأَ ْلفِ سَ َنةٍ ّممّا َتعُدّونَ‪[ } ..‬الحج‪ ]47 :‬فل‬
‫تتعجلوا توعّدكم به‪ ،‬فهو واقع بكم ل محالة؛ لنه وَعْد من ال‪ ،‬وال ل يُخلِف وعده‪ ،‬لكن اعلموا‬
‫أن اليوم عند ال ليس كيومكم‪ ،‬اليوم عندكم أربع وعشرون ساعة‪ ،‬أما عند ال فهو كألف سنة من‬
‫حسابكم أنتم لليام‪.‬‬
‫واليوم زمن يتسع لبعض الحداث‪ ،‬ول يسع أكثر مما قدّر أن يُفعل فيه من الحداث‪ ،‬أما اليوم عند‬
‫جلّ ‪ -‬فيسع أحداثا كثيرة تمل من الزمن ألف سنة من أيامكم؛ ذلك لنكم تزاولون‬
‫ال ‪ -‬عَزّ و َ‬
‫العمال وتعالجونها‪ ،‬أما الخالق سبحانه فإنه ل يزاول الفعال بعلج‪ ،‬وإنما أمره إذا أراد شيئا أن‬
‫ن فيكون‪ ،‬ففِعْلُك يحتاج إلى وقت‪ ،‬أما ِفعْل ربك فبكلمة كُنْ‪ .‬وقد شاء الحق سبحانه أنْ‬
‫يقول له‪ :‬كُ ْ‬
‫يعيشَ هؤلء في عذاب التفكير في هذا الوعيد طول عمرهم‪ ،‬فيُعذّبون به قبل حدوثه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل تظن أن العذاب الذي توعّدكم به سيحدث اليوم أو غدا‪ ،‬ل؛ لن حساب الوقت مختلف‪.‬‬
‫طمِسْ عَلَىا‬
‫ألم تقرأ قول ال تعالى لنبيه موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬لمّا دعا على قومه‪ {:‬رَبّنَا ا ْ‬
‫ب الَلِيمَ‪[} ..‬يونس‪]88 :‬‬
‫َأ ْموَاِلهِ ْم وَاشْ ُددْ عَلَىا قُلُو ِبهِمْ فَلَ ُي ْؤمِنُواْ حَتّىا يَ َروُاْ ا ْلعَذَا َ‬
‫عوَ ُت ُكمَا‪[} ..‬يونس‪.]89 :‬‬
‫قال له ربه‪ {:‬قَالَ قَدْ ُأجِي َبتْ دّ ْ‬
‫ويقول المفسرون‪ :‬حدثتْ هذه الجابة لموسى بعد أربعين سنة من دعوته عليهم‪.‬‬
‫سمَآءِ إِلَى الَ ْرضِ ُثمّ َيعْرُجُ إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ‬
‫لمْرَ مِنَ ال ّ‬
‫وفي موضع آخر يقول تعالى‪ {:‬يُدَبّ ُر ا َ‬
‫ِمقْدَا ُرهُ أَ ْلفَ سَنَةٍ ّممّا َتعُدّونَ }[السجدة‪.]5 :‬‬
‫خمْسِينَ أَ ْلفَ‬
‫وتزيد هذه المدة في قوله سبحانه‪َ {:‬تعْرُجُ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة وَالرّوحُ إِلَيْهِ فِي َيوْمٍ كَانَ ِمقْدَا ُرهُ َ‬
‫سَنَةٍ }[المعارج‪ ]4 :‬لماذا؟ لن الزمن عندكم في هذه الحالة مُعطّل‪ ،‬فأنتم من َهوْل ما تروْنَ‬
‫تستطيلون القصير‪ ،‬ويمر عليكم الوقت ثقيلً؛ لذلك تتمنون النصراف ولو إلى النار‪.‬‬
‫كما أن صاحب النعيم يستقصر الطويل‪ ،‬ويمر عليه الوقت كأنه لمح البصر‪ ،‬ومن ذلك ما تلحظه‬
‫ن ل يهواه قلبك‪ ،‬ولهذه المسألة شواهد كثيرة في‬
‫من ِقصَر الوقت مع الحبة وطوله مع العداء ومَ ْ‬
‫شعرنا العربي‪ ،‬منها قول أحدهم‪:‬حَادِثَاتُ السّرورِ تُوزَنُ وَزْنا وَالبَليَا ُتكَال بالقُفْزَانوقول الخر‪َ:‬لمْ‬
‫طلْ بع َدكَ لَيْلِي فََلكَمْ ِبتّ‬
‫طلْ لَيْلِي ولكِنْ لَمْ أَ َن ْم و َنفَى عَنّي الكَرَى طَ ْيفٌ أََلمّويقول ابن زيدون‪:‬إنْ َي ُ‬
‫يَ ُ‬
‫أشكُو ِقصَرَ الل ْيلِ َمعَكثم يقول سبحانه‪َ { :‬وكَأَيّن مّن قَرْ َيةٍ َأمْلَ ْيتُ َلهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2623 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خذْ ُتهَا وَإَِليّ ا ْل َمصِيرُ (‪)48‬‬
‫َوكَأَيّنْ مِنْ قَرْ َيةٍ َأمْلَ ْيتُ َلهَا وَ ِهيَ ظَاِلمَةٌ ُثمّ أَ َ‬

‫{ َوكَأَيّن‪[ } ..‬الحج‪ ]48 :‬قلنا‪ :‬تدل على الكثرة يعني‪ :‬كثير من القرى‪َ { ،‬أمْلَ ْيتُ‪[ } ..‬الحج‪:]48 :‬‬
‫أمهلتُ‪ ،‬لكن طوال المهال ل يعني الهمال؛ لن ال تعالى يُملي للكافر ويُمهله لجل‪ ،‬فإذا جاء‬
‫الجل والعقاب أخذه‪.‬‬
‫خذْ ُتهَا } [الحج‪ ]48 :‬وأخْذُ الشيء يتناسب مع قوة الخذ وقدرته وعنف النتقام بحسب‬
‫{ ُثمّ أَ َ‬
‫المنتقم‪ ،‬فإذا كان الخذ هو ال عز وجل‪ ،‬فكيف سيكون أَخْذه؟‬
‫في آية أخرى يوضح ذلك فيقول‪َ {:‬أخْذَ عِزِيزٍ مّقْتَدِرٍ }[القمر‪ ]42 :‬ل ُيغَالب‪ ،‬ول يمتنع منه أحد‪،‬‬
‫وكلمة الَخْذ فيها معنى الشدة والعنف وال َقهْر‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَإَِليّ ا ْل َمصِيرُ } [الحج‪ ]48 :‬يعني‪ :‬المرجع والمآب‪ ،‬فلن يستطيعوا أنْ يُفلِتوا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الملء‪ :‬تأخير العذاب إلى أجل معين‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬ف َم ّهلِ ا ْلكَافِرِينَ َأ ْمهِ ْلهُمْ ُروَيْدا }‬
‫[الطارق‪.]17 :‬‬
‫هذا الجل قد يكون لمدة‪ ،‬ثم يقع بهم العذاب‪ ،‬كما حدث في المم السابقة التي أهلكها ال بالخسْف‬
‫أو بالغرق‪ ..‬الخ‪ ،‬أما في أمة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فيكون الملء بأحداث سطحية في‬
‫ل بالكفار من الخِزْي والهوان والهزيمة وانكسار شوكتهم‪ ،‬أمّا العذاب الحقيقي‬
‫حّ‬‫الدنيا‪ ،‬كالذي َ‬
‫فينتظرهم في الخرة‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬لنبيه صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل تستبطئ عذابهم والنتقام منهم‬
‫في الدنيا‪ ،‬فما لم تَ َرهُ فيهم من العذاب في الدنيا ستراه في الخرة‪ {:‬فَـِإمّا نُرِيَ ّنكَ َب ْعضَ الّذِي‬
‫جعُونَ }[غافر‪]77 :‬‬
‫َنعِدُ ُهمْ َأوْ نَ َت َوفّيَ ّنكَ فَإِلَيْنَا يُ ْر َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬قلْ ياأَ ّيهَا النّاسُ إِ ّنمَآ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2624 /‬‬

‫ُقلْ يَا أَ ّيهَا النّاسُ إِ ّنمَا أَنَا َلكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (‪)49‬‬

‫والنذار نوع من الرحمة‪ ،‬لنك تخبر بشرّ قبل أوانه‪ ،‬ليحذره المنذَر‪ ،‬ويحاول أنْ يُنجي نفسه منه‪،‬‬
‫ويبتعد عن أسبابه‪ ،‬فحين أُذكّرك بال‪ ،‬وأنه يأخذ أعداءه أخْذَ عزيز مقتدر‪ ،‬فعليك أنْ تربأ بنفسك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عن هذه النهاية‪ ،‬وأن تنجوَ من دواعي الهلك‪.‬‬
‫ومعنى { مّبِينٌ } [الحج‪ ]49 :‬محيط‪ ،‬ل يترك صغيرة ول كبيرة‪.‬‬

‫(‪)2625 /‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ َل ُهمْ َمغْفِ َر ٌة وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (‪)50‬‬


‫فَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬

‫وطالما آمنوا وعملوا الصالحات فقد انتفعوا بالنذراة‪ ،‬وأثمرتْ فيهم‪ ،‬فآمنوا بال إلها فاعلً مختارا‬
‫له صفات الكمال المطلق‪ ،‬ثم عملوا على مقتضى أوامره؛ لذلك يكون لهم مغفرة إنْ كانت أََل ّمتْ‬
‫نفوسهم بشيء من المعاصي‪ ،‬ويكون لهم رزق كريم‪ .‬والكريم هو البذّال‪ ،‬كأن الرزق نفسه وصل‬
‫ح ّد قول‬
‫إليهم بكرم وزيادة‪ ،‬كما أن الكريم هو الذي تظل يده مبسوطة دائما بالعطاء‪ ،‬على َ‬
‫علَى ال َكفّ ِإلّ عَابِرَات سَبِيلفالرزق نفسه كريم؛ لنه ممدود‬
‫الشاعر‪:‬وَإِنّي امْرؤٌ لَ تَسْ َتقِرّ دَرَا ِهمِي َ‬
‫ل ينقطع‪ ،‬كما لو أخذت كوب ماء من ماء جارٍ‪ ،‬فإنه يحلّ محلّه غيره على الفور‪ ،‬وهكذا‪.‬‬

‫(‪)2626 /‬‬

‫جحِيمِ (‪)51‬‬
‫س َعوْا فِي آَيَاتِنَا ُمعَاجِزِينَ أُولَ ِئكَ َأصْحَابُ الْ َ‬
‫وَالّذِينَ َ‬

‫السعي‪ :‬عمل يذهب إلى غاية‪ ،‬فإنْ كان قطع مسافة نقول‪ :‬سِرنْا من كذا إلى كذا‪ ،‬وإنْ كان في‬
‫قضية علمية فكرية‪ ،‬فيعني‪ :‬أن الحدث يعمل من شيء بداية إلى شيء غاية‪.‬‬
‫س ْعيُ ل يُحمد على إطلقه‪ ،‬ول ُيذَمّ على إطلقه‪ ،‬فإنْ كان في خير فهو محمود ممدوح‪،‬‬
‫وال ّ‬
‫شكُورا }[السراء‪ ،]19 :‬وإنْ كان في شَرّ فهو‬
‫سعْ ُيهُم مّ ْ‬
‫كالسعي الذي قال ال فيه‪ {:‬فَأُولَ ِئكَ كَانَ َ‬
‫شهِدُ‬
‫قبيح مذموم‪ ،‬كالسعي الذي قال ال تعالى فيه‪َ {:‬ومِنَ النّاسِ مَن ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ‬
‫سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْرثَ‬
‫خصَامِ * وَِإذَا َتوَلّىا َ‬
‫علَىا مَا فِي قَلْ ِب ِه وَ ُهوَ أَلَدّ ا ْل ِ‬
‫اللّهَ َ‬
‫سلَ‪[} ..‬البقرة‪.]205 - 204 :‬‬
‫وَالنّ ْ‬
‫سعّاء‬
‫أما السعاية فعادة تأخذ جانب الشر‪ .‬وتعني‪ :‬الوشاية والسّعي بين الناس بالنميمة‪ ،‬تقول‪ :‬فلن َ‬
‫ن علموا‬
‫بين الخلق يعني‪ :‬بالشر ينقله بين الناس بقصْد الذى‪ ،‬وهؤلء إنْ عَلِموا الخير أخ َفوْه‪ ،‬وإ ْ‬
‫الشر أذاعوه‪ ،‬وإن لم يعلموا كذبوا‪.‬‬
‫عمّا ينتج من هذه السعاية من الشر بين الناس‪ :‬هذا آفة الخِذ‪ ،‬يعني‪ :‬الذي سمع الشرّ‬
‫لذلك‪ ،‬نقول َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ونقله وسعى به‪ ،‬وكان عليه أنْ يحبسه ويُخفِيَه‪ ،‬حتى ل تنتشر هذه الرذيلة بين الخَلْق‪.‬‬
‫وقد وشى واشٍ بمهام بن عبد ال السلولي إلى زياد بن أبيه‪ ،‬وكان زياد جبارا فقال للواشي‪ :‬أأجمع‬
‫ن يقول‪ :‬نعم‪ ،‬فكيف ينكر ما قال؟! ولعله قال في نفسه‪ :‬لعل‬
‫بينك وبينه؟ فلم يجد الواشي ُبدّا من أ ْ‬
‫ال يقضي أمرا يُخرِجني من هذه (الورطة) قبل هذه المواجهة؟ ثم أرسل زياد إلى ابن همام فأُتِي‬
‫به‪ ،‬وقد جعل زياد الواشي في مجلسه خلف ستار‪ ،‬وأُدخِل همام‪ ،‬فقال له‪ :‬يا همام بلغني أنك‬
‫هجوْتني‪ ،‬فقال‪ :‬كل‪ ،‬أصلحك ال ما فعلتُ‪ :‬ول أنت لذلك بأهْل‪ ،‬فكشف زياد الستار وقال‪ :‬هذا‬
‫الرجل أخبرني أنك هجوتني‪ ،‬فنظر ابن همام‪ ،‬فإذا هو صديق له يجالسه‪ ،‬فقال له‪:‬أنتَ امْرؤٌ إمّا‬
‫لمْرِ الذي كَانَ بينَنَا بمنزلةٍ بيْنَ الخِيَانَةِ‬
‫ناَ‬
‫ائتمنْتكَ خَالِيا َفخُ ْنتَ وَِإمّا قُ ْلتَ َق ْولً بِلَ عِ ْل ِمفَأُبْتَ مِ َ‬
‫والثْمِيعني‪ :‬أنت مذموم في كل الحوال؛ لنك إما خُ ْنتَ أمانة المجلس والحديث ولم تحفظ سِرا‬
‫ضتُ لك به‪ ،‬وإمّا اختل ْقتَ هذا القوْل كذبا وبل علم‪.‬‬
‫فضف ْ‬
‫وعندها خلع زياد على همام الخُلَع‪ ،‬لكنه لم يعاقب الواشي‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى ارتياحهم لمن ينقل‬
‫إليهم‪ ،‬وأن آذانهم قد أخذتْ على ذلك وتعوّ َدتْ عليه‪.‬‬
‫ومعنى { فِي آيَاتِنَا } [الحج‪ ]51 :‬واليات إما كونية‪ ،‬كالشمس والقمر‪ ،‬وإما معجزات‪ ،‬وإما آيات‬
‫س َعوْا فيها يعني‪ :‬قالوا فيها ِق ْولً باطلً غير الحق‪ ،‬كما يسعى الواشي بالباطل بين‬
‫الحكام‪ ،‬و َ‬
‫الناس‪ ،‬فهؤلء إنْ نظروا في آيات الكون قالوا‪ :‬من صنع الطبيعة‪.‬‬

‫وإنْ شاهدوا معجزة على يد نبيّ قالوا‪ :‬سحر وأساطير الولين‪ ،‬وإنْ سمعوا آيات الحكام تُتْلى‬
‫قالوا‪ :‬شعر‪ .‬وهم بذلك كله يريدون أنْ يُفسِدوا على أهل اليمان إيمانهم‪ ،‬ويصدّوا عن سبيل ال‪.‬‬
‫ومعنى } ُمعَاجِزِينَ { [الحج‪ ]51 :‬جمع لسم الفاعل معاجز مثل‪ :‬مقاتل‪ ،‬وهي من عَاجَزَ غير‬
‫عجز عن كذا يعني‪ :‬لم يقدر عليه‪ ،‬عَاجَزَ فلنٌ فلنا يعني باراه أيّهما يعجز قبل الخر‪ ،‬فعاجزه‬
‫مثل باراه ليثبتَ أنه الفضل‪ ،‬ومثل‪ :‬سابقه ونافسه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالمعاجزة مفاعلة ومشاركة‪ ،‬وكلمة نافسه الصل فيها من النفَس الذي نأخذه في الشهيق‪،‬‬
‫ونُخرِجه في الزفير‪ ،‬والذي به يتأكسد الدم‪ ،‬وتستمر حركة النسان‪ ،‬فإن امتنع التنفس يموت؛ لن‬
‫النسان يصبر على الطعام ويصبر على الماء‪ ،‬لكنه ل يصبر على الهواء ولو لنفَس واحد‪.‬‬
‫وقد حدثتْ هذه المعاجزة أو المنافسة بين سيدنا عمر وسيدنا العباس رضي ال عنهما‪ :‬قال عمر‬
‫للعباس‪ :‬أتُنافسني في الماء‪ ،‬يعني‪ :‬نغطس تحت الماء وننظر أيهما يُعجِز الخر‪ ،‬ويتحمل عملية‬
‫جوّ الهواء‪ ،‬أما إنْ‬
‫توقّف النفَس‪ ،‬ومثل هذه المنافسة قد يحتال عليها النسان إنْ كتم نفسَه وهو في َ‬
‫نزل تحت الماء حيث ينعدم الهواء‪ ،‬فكيف سيحتال على هذه المسألة؟ وتحت الماء ل يكون إل‬
‫الهواء الذاتي الذي اختزنه كل منهما في رئته‪ ،‬ومثل هذه المنافسة أيهما أفسح صَدْرا من الخر‪،‬‬
‫وأيّهما أكثر تحمّلً تحت الماء‪ .‬هذه هي المعاجزة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س َعوْاْ فِي آيَاتِنَا ُمعَاجِزِينَ‪[ { ..‬الحج‪ ]51 :‬أي‪ :‬يظنون أنهم قادرون أن يُعجزونا‪ ،‬فحين‬
‫فمعنى } َ‬
‫نأتي إليهم بكلم بليغ ُمعْجز يختلقون كلما فارغا ليعجزونا به‪ ،‬فأنّى يكون لهم ذلك؟ وأنّى لهم أنْ‬
‫يطعنوا بكلمهم على كلم ال؟‬
‫حكْم ال‬
‫جحِيمِ { [الحج‪ ]51 :‬فهذا ُ‬
‫صحَابُ الْ َ‬
‫ثم يُبيّن جزاء هذا الفعل وهذه المكابرة‪ُ } :‬أوْلَـا ِئكَ َأ ْ‬
‫فيهم قضية واضحة من أقصر الطرق‪ ،‬فمَنْ ذَا الذي يُعجِز ال؟‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬ومَآ أَ ْرسَلْنَا مِن قَبِْلكَ مِن رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ ِإلّ إِذَا َتمَنّىا أَ ْلقَى الشّ ْيطَانُ فِي‬
‫ُأمْنِيّتِهِ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2627 /‬‬

‫ل وَلَا نَ ِبيّ إِلّا إِذَا َتمَنّى أَ ْلقَى الشّ ْيطَانُ فِي ُأمْنِيّتِهِ فَيَنْسَخُ اللّهُ مَا يُ ْلقِي‬
‫َومَا أَ ْرسَلْنَا مِنْ قَبِْلكَ مِنْ رَسُو ٍ‬
‫حكِيمٌ (‪)52‬‬
‫علِيمٌ َ‬
‫حكِمُ اللّهُ آَيَاتِ ِه وَاللّهُ َ‬
‫الشّ ْيطَانُ ثُمّ ُي ْ‬

‫أثارت هذه الية جَدلً طويلً بين العلماء‪ ،‬ودخل فيه كثير من الحشْو والسرائيليات‪ ،‬خاصة حول‬
‫معنى { َتمَنّى } [الحج‪ ]52 :‬وهي تَرد في اللغة بمعنيين‪ ،‬وما دام اللفظ يحتمل معنيين فليس‬
‫أحدهما َأوَْلَى من الخر إل بمدى استعماله وشيوعه بين جمهور العربية‪ ،‬ويأتي التمني في اللغة‬
‫بمعنى القراءة‪ ،‬كما ورد في قول حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان رضي ال عنهما‪:‬تمنّى‬
‫كِتابَ ال أ ّولَ لَيْلةٍ وآخِ َرهَا وَافَاهُ حَتْم المقَادِرِيعني‪ :‬قُتِل عثمان وهو يقرأ القرآن‪ ،‬وهذا المعنى‬
‫غريب في ح َملْ القرآن عليه لعدم شيوعه‪.‬‬
‫وتأتي تمنى بمعنى‪ :‬أحب أن يكون الشيء‪ ،‬وهذا هو القول المشهور في لغة العرب‪ .‬أما بمعنى‬
‫قرأ فهو غير شائع‪ ،‬ويُردّ هذا القول‪ ،‬وينقضه َنقْضا أوليا مبدئيا قوله تعالى‪َ { :‬ومَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبِْلكَ‬
‫مِن رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ‪[ } ..‬الحج‪.]52 :‬‬
‫ومعلوم أن الرسول ينزل عليه كتاب يمكن أن يقرأه‪ ،‬أمّا النبي فل ينزل عليه كتاب‪ ،‬بل يعمل‬
‫بشرع مَنْ سبقه من الرسل‪ .‬إذن‪ :‬فما دام الرسول والنبي مشتركْين في إلقاء الشيطان‪ ،‬فل بُدّ أن‬
‫تكون المنية هنا بمعنى‪ :‬أحب أن يكون الشيء‪ ،‬ل بمعنى قرأ‪ ،‬فأيّ شيء سيقرأ النبي وَليس معه‬
‫كتاب؟‬
‫سلْنَا مِن قَبِْلكَ مِن رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ ِإلّ إِذَا َتمَنّىا أَ ْلقَى‬
‫والذين فهموا التمني في قوله تعالى‪َ { :‬ومَآ أَرْ َ‬
‫الشّ ْيطَانُ فِي ُأمْنِيّتِهِ } [الحج‪ ]52 :‬أنه بمعنى‪ :‬قرأ‪ ،‬سواء أكانوا من العلماء المتعمّقين أو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫السطحيين‪ ،‬قالوا‪ :‬المعنى إذا قرأ رسولُ ال القرآنَ تدخّل الشيطان في القراءة‪ ،‬حتى يُدخِل فيها ما‬
‫ليس منها‪.‬‬
‫ت وَا ْلعُزّىا * َومَنَاةَ الثّالِثَ َة الُخْرَىا }[النجم‪:‬‬
‫ل َ‬
‫وذكروا دليلً على ذلك في قوله تعالى‪َ {:‬أفَرَأَيْ ُتمُ ال ّ‬
‫‪ ]20- 19‬ثم أضافوا‪ :‬والغرانيق العل‪ ،‬وإن شفاعتهن لترتجى‪ .‬وكأن الشيطان أدخل في القرآن‬
‫هذا الكلم‪ ،‬ثم نسخه ال بعد ذلك‪ ،‬وأحكم ال آياته‪.‬‬
‫لكن هذا القول يُشكّك في قضية القرآن‪ ،‬وكيف نقول به بعد أن قال تعالى في القرآن‪ {:‬نَ َزلَ بِهِ‬
‫لمِينُ * عَلَىا قَلْ ِبكَ لِ َتكُونَ مِنَ ا ْلمُنْذِرِينَ }[الشعراء‪.]194 - 193 :‬‬
‫حاَ‬
‫الرّو ُ‬
‫طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ * َفمَا مِنكُمْ‬
‫خذْنَا مِنْهُ بِالْ َيمِينِ * ثُمّ َلقَ َ‬
‫لقَاوِيلِ * لَ َ‬
‫ضاَ‬
‫وقال‪ {:‬وََلوْ َت َقوّلَ عَلَيْنَا َب ْع َ‬
‫حدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }[الحاقة‪.]47 - 44 :‬‬
‫مّنْ أَ َ‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه وتعالى حفظ قرآنه وكلمه من أمثال هذا العبث‪ ،‬وكيف نُدخِل في القرآن هذه‬
‫الكفريات؟ وكيف تستقيم عبارتهم‪ :‬والغرانيق العل‪ ،‬وإن شفاعتهن لترتجى مع قول ال تعالى‪{:‬‬
‫سمَ ٌة ضِيزَىا‬
‫لخْرَىا * أََلكُمُ ال ّذكَ ُر وَلَ ُه الُنْثَىا * تِ ْلكَ إِذا قِ ْ‬
‫لتَ وَا ْلعُزّىا * َومَنَاةَ الثّالِثَ َة ا ُ‬
‫َأفَرَأَيْتُمُ ال ّ‬
‫}[النجم‪ ]22 - 19 :‬كيف ينسجم هذا وذاك؟‬
‫فهذا الفهم في تفسير الية ل يستقيم‪ ،‬ول يمكن للشيطان أنْ يُدخِل في القرآن ما ليس منه‪ ،‬لكن‬
‫يحتمل تدخّل الشيطان على وجه آخر‪ :‬فحين يقرأ رسول ال القرآن‪ ،‬وفيه هداية للناس‪ ،‬وفيه‬
‫مواعظ وأحكام ومعجزات‪ ،‬أتنتظر من عدو ال أنْ يُخلِي الجو للناس حتى يسمعوا هذا الكلم دون‬
‫أنْ يُشوّش عليهم‪ ،‬ويُبلبل أفكارهم‪ ،‬ويَحُول بينهم وبين سماعه؟‬
‫فإذا تمنّى الرسول يعني‪ :‬قرأ ألقى الشيطان في أُمنيته‪ ،‬وسلّط أتباعه من البشر يقولون في القرآن‪:‬‬
‫خلَ في كلم ال ما ليس‬
‫شعْر وإفْك وأساطير الولين‪ :‬ف َدوْر الشيطان ‪ -‬إذن ‪ -‬ل أنْ يُد ِ‬
‫سحْر و ِ‬
‫ِ‬
‫منه‪ ،‬فهذا أمر ل يقدر عليه ول يُمكّنه ال من كتابه أبدا‪ ،‬إنما يمكن أنْ يُلقِي في طريق القرآن‬
‫و َفهْمه والتأثر به العقبات والعراقيل التي تصدّ الناس عن َفهْمه والتأثر به‪ ،‬وتُفسِد القرآن في نظر‬
‫مَنْ يريد أن يؤمن به‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬هل محاولة تشويه القرآن هذه وصَدّ الناس عنه جاءت بنتيجة‪ ،‬وصرفتْ الناس فعلَ عن‬
‫كتاب ال؟‬
‫لقد خ ّيبَ ال سَعيْه‪ ،‬ولم تقف محاولته عقبة في سبيل اليمان بالقرآن والتأثر به؛ لن القرآن وجد‬
‫قلوبا وآذانا استمعتْ وتأملتْ فآمنت وانهارتْ لجلله وعظمته وخضعتْ لسلوبه وبلغته‪ ،‬فآمنوا‬
‫به واحدا بعد الخر‪.‬‬
‫حكِيمٌ { [الحج‪]52 :‬‬
‫حكِمُ اللّهُ آيَاتِ ِه وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬فَيَنسَخُ اللّهُ مَا يُ ْلقِي الشّ ْيطَانُ ُثمّ يُ ْ‬
‫يعني‪ :‬ألغى وأبطل ما ألقاه الشيطان من الباطيل والعقبات التي أراد بها أنْ يصدّ الناس عن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫القرآن‪ ،‬وأحكمَ ال آياته‪ ،‬وأوضح أنها منه سبحانه‪ ،‬وأنه كلم ال المعْجز الذي لو اجتمعتْ النس‬
‫والجنّ على أنْ يأتوا بمثله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلً‪.‬‬
‫هذا على قول مَنِ اعتبر أن } َتمَنّى { [الحج‪ ] 52 :‬بمعنى‪ :‬قرأ‪.‬‬
‫أما على معنى أنها الشيء المحبوب الذي نتمناه‪ ،‬فنقول‪ :‬الرسول الذي أرسله ال تعالى بمنهج‬
‫الحق إلى الخَلْق‪ ،‬فإنْ كان قادرا على تطبيق المنهج في نفسه فإنّ أُمنيته أنْ يُصدّق وأنْ يُطاع فيما‬
‫جاء به‪ ،‬أمنيته أنْ يسود َمنهجه ويُسيطر ويسُوس به حركة الحياة في الناس‪.‬‬
‫والنبي أو الرسول هو َأوْلى الناس بقومه‪ ،‬وهو أحرصهم على َنفْعهم وهدايتهم‪ ،‬والقرآن خير يحب‬
‫للناس أن يأخذوا به عملً بقوله صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب‬
‫لنفسه "‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬هل يترك الشيطان لرسول ال أنْ تتحقق أُمنيته في قومه أَمْ يضع في طريقه العقبات‪،‬‬
‫ويُحرّك ضده النفوس‪ ،‬فيتمرّد عليه قومه حيث يُذكّرهم الشيطان بما كان لهم من سيادة ومكانة‬
‫سيفقدونها بالسلم؟‬
‫وهكذا يُلْقي الشيطان في أُمنية الرسول } ِإلّ ِإذَا َتمَنّىا أَ ْلقَى الشّيْطَانُ فِي ُأمْنِيّتِهِ { [الحج‪ ]52 :‬وما‬
‫كان الشيطان ليدع القرآن ينفذ إلى قلوب الناس أو حتى آذانهم‪ ،‬أليس هو صاحب فكرة‪ {:‬لَ‬
‫ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ‪[} ..‬فصلت‪.]26 :‬‬
‫س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫تَ ْ‬
‫إن الشيطان لو لم يُلْق العراقيل في سبيل سماع القرآن ويُشكّك فيه لمن به كل مَنْ سمعه؛ لن‬
‫للقرآن حلوةً ل ُتقَاوم‪ ،‬وأثرا ينفذ إلى القلوب مباشرة‪.‬‬

‫عضُد الدعوة‪ ،‬فأخذت تزداد يوما بعد‬


‫عضُد القرآن‪ ،‬ول في َ‬
‫ومع ذلك لم َيفُتّ ما ألقى الشيطان في َ‬
‫يوم‪ ،‬ويزداد عدد المؤمنين بالقرآن المصدّقين به‪ ،‬المهم أن نتنبه‪ :‬كيف نستقبل القرآن‪ ،‬وكيف‬
‫نتلقاه‪ ،‬ل بد أن نستقبله استقبالَ الخالي من هوى‪ ،‬فالذي يفسد الحكام أنْ تُستقبل وتدخل على هوى‬
‫سابق‪.‬‬
‫وسبق أن قلنا‪ :‬إن الحيز الواحد ل يسع شيئين في وقت واحد‪ ،‬ل ُبدّ أنْ تُخرِج أحدهما لتُدخِل‬
‫الخر‪ ،‬فعليك ‪ -‬إذن ‪ -‬أنْ تُخلِي عقلك وفكرك تماما‪ ،‬ثم تستقبل كلم ال‪ ،‬وابحث فيه كما شئت‪،‬‬
‫صفْو الفطرة‬
‫فسوف تنتهي إلى اليمان به شريطة أنْ تُصفّي له قلبك‪ ،‬فل تُبق في ذِهْنِك ما يُعكّر َ‬
‫حبّ القرآن‪ ،‬فل‬
‫التي خلقها ال فيك‪ ،‬عندها سيأخذ القرآن طريقه إلى قلبك‪ ،‬فإذا أُشْرِب قلبُك ُ‬
‫يزحزحه بعد ذلك شيء‪.‬‬
‫ولنا في إسلم سيدنا عمر مثالٌ وعِظَة‪ ،‬فلما سمع القرآن من أخته لول مرة‪ ،‬وقد أغلق قلبه على‬
‫كفره لم يتأثر به‪ ،‬وضربها حتى َأدْمى وجهها‪ ،‬وعندها رَقّ قلبه‪ ،‬وتحركت عاطفته نحو أخته‪،‬‬
‫وكأن عاطفة الحب زحزحتْ عاطفة العداوة‪ ،‬وكشفت عن صفاء طَبْعه‪ ،‬فلما سمع القرآن بعدها‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫آمن به على الفور‪.‬‬
‫كذلك‪ ،‬إنْ أردت أنْ تناقشَ قضية اليمان أو الكفر‪ ،‬وأنْ تختار بينهما؛ لنهما يجتمعان أبدا‪ ،‬ول بُدّ‬
‫أنْ تختار‪ ،‬فحين تناقش هذه القضية وأنت ُمصِرّ على الكفر فلن تصل إلى اليمان؛ لن ال يطبع‬
‫ج الكفر أولً وتحرّر من‬
‫على القلب ال ُمصِرّ فل يخرج منه الكفر‪ ،‬ول يدخله اليمان‪ ،‬إنما أخرِ ْ‬
‫أَسْره‪ ،‬ثم ناقش المسائل كما تحب‪.‬‬
‫ح َدةٍ أَن َتقُومُواْ لِلّهِ مَثْنَىا َوفُرَادَىا ثُمّ تَ َت َفكّرُواْ مَا ِبصَاحِ ِبكُمْ مّن‬
‫ظكُمْ ِبوَا ِ‬
‫عُ‬‫كما قال تعالى‪ُ {:‬قلْ إِ ّنمَآ أَ ِ‬
‫جِنّةٍ‪[} ..‬سبأ‪.]46 :‬‬
‫أما أنْ تناقش قضية‪ ،‬وفي ذهْنك فكرة مُسبقة‪ ،‬فأنت كهؤلء الذين قال ال فيهم‪َ {:‬ومِ ْنهُمْ مّن يَسْ َتمِعُ‬
‫إِلَ ْيكَ حَتّىا ِإذَا خَرَجُواْ مِنْ عِن ِدكَ قَالُواْ ِللّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفا‪[} ..‬محمد‪ ]16 :‬يعني‪ :‬ما‬
‫الجديد الذي جاء به‪ ،‬وما المعجزة في هذا الكلم؟ فيأتي الرد‪ُ {:‬أوْلَـا ِئكَ الّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَىا‬
‫قُلُو ِبهِ ْم وَاتّ َبعُواْ َأ ْهوَآءَ ُهمْ * وَالّذِينَ اهْتَ َدوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَا ُهمْ َت ُقوَاهُمْ }[محمد‪.]17 - 16 :‬‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ‬
‫شفَآ ٌء وَالّذِي َ‬
‫وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه عن القرآن‪ُ {:‬قلْ ُهوَ لِلّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَ ِ‬
‫عمًى‪[} ..‬فصلت‪.]44 :‬‬
‫فِي آذَا ِن ِه ْم َوقْرٌ وَ ُهوَ عَلَ ْي ِهمْ َ‬
‫فالقرآن واحد‪ ،‬لكن المستقبل مختلف‪ ،‬وقد ذكرنا أنك حين تريد أن تبرد كوب الشاي الساخن فإنك‬
‫تنفخ فيه‪ ،‬وكذلك إنْ أردتَ أنْ تُدفِئ يديك في برد الشتاء فإنك أيضا تنفخ فيها‪ ،‬كيف ‪ -‬إذن ‪-‬‬
‫والفاعل واحد؟ نعم‪ ،‬الفاعل واحد‪ ،‬لكن المستقبل للفعل مختلف‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬مِن قَبِْلكَ مِن رّسُولٍ وَلَ نَ ِبيّ { [الحج‪.]52 :‬‬

‫(من) هنا للدللة على العموم وشمول كل النبياء والرسل السابقين‪ ،‬فكل نبي أو رسول يتمنى‬
‫يعني‪ :‬يو ّد ويحب ويرغب أن ينتشر دينه ويُطبّق منهجه‪ ،‬ويؤمن به جميع قومه‪ ،‬لكن هيهات أنْ‬
‫يتركه الشيطان وما أحبّ‪ ،‬بل ل بُدّ أنْ يقف له بطريق دعوته ليصدّ الناس عنه ويصرفهم عن‬
‫دعوته ومنهجه‪ ،‬لكن في النهاية ينصر ال رسُله وأنبياءه‪ ،‬وينسخ عقبات الشيطان التي ألقاها في‬
‫حكَمة ل ينكرها أحد‪.‬‬
‫طريق الدعوة‪ ،‬ثم يُحكِم ال آياته‪ ،‬ويؤكدها ويظهرها‪ ،‬فتصير مُ ْ‬
‫وساعةَ تسمع كلمة } أَ ْلقَى { [الحج‪ ]52 :‬فاعلم أن بعدها عقبات وشرورا‪ ،‬كما يقول تعالى‪ {:‬وَأَلْقَيْنَا‬
‫بَيْ َنهُمُ ا ْل َعدَا َوةَ وَالْ َب ْغضَآءَ إِلَىا َي ْومِ ا ْلقِيَامَةِ }[المائدة‪.]64 :‬‬
‫ومما قاله أصحاب الرأي الول في تفسير } َتمَنّى { [الحج‪ ]52 :‬وأنها بمعنى قرأ‪ :‬يقولون‪ :‬إن ال‬
‫تعالى يُنزِل على رسوله صلى ال عليه وسلم أشياء تُثبت بشريته‪ ،‬ثم يمحو ال آثار هذه البشرية‬
‫ليبين أن ال صنعه على عينه‪ ،‬حتى إنْ ه ّمتْ بشريته بشيء يعصمه ال منها‪.‬‬
‫لذلك يقول صلى ال عليه وسلم‪ " :‬يَ ِردُ عليّ فأقول‪ :‬أنا لست كأحدكم‪ ،‬ويُؤخذ مِنّي فأقول‪ :‬ما أنا إل‬
‫بشر مثلكم "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فالرسول بشر إل أنه يوحى إليه ما يعصمه من زلّت البشر‪.‬‬
‫ومن بشريته صلى ال عليه وسلم أنه تعرّض للسحر‪ ،‬وهذه واقعة ل تُنكر‪ ،‬وقد ورد فيها أحاديث‬
‫صحيحة‪ ،‬وقد كاد الكفار لرسول ال بكل أنواع الكيد‪ :‬استهزاءٌ‪ ،‬وسبابا‪ ،‬واضطهادا‪ ،‬وإهانة‪ ،‬ثم‬
‫تآمروا عليه بليل ليقتلوه‪ ،‬وبيّتوا له‪ ،‬فلم يفلحوا قال تعالى‪ {:‬وَإِذْ َي ْمكُرُ ِبكَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ َأوْ‬
‫ن وَ َي ْمكُرُ اللّ ُه وَاللّهُ خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[النفال‪.]30 :‬‬
‫َيقْتُلُوكَ َأوْ يُخْ ِرجُوكَ وَ َيمْكُرُو َ‬
‫سعْيهم‪ ،‬وفشَلتْ‬
‫وكاد ال لرسوله وأخرجه من بينهم سالما‪ ،‬وهكذا فضح ال تبييتهم وخيّب َ‬
‫محاولتهم الجهرية والسرية فلجئوا إلى السحرة ليفعلوا برسول ال ما عجزوا هم عنه‪ ،‬وعملوا‬
‫ط ومُشَاطة من شعره صلى ال عليه وسلم وطلع نخلة ذكر ففضحهم ال‪،‬‬
‫لرسول ال سحرا في ُمشْ ٍ‬
‫وأخبر رسوله بذلك فأرسل المام عليا فأتى به من بئر ذروان‪.‬‬
‫وكأن الحق سبحانه يريد أنْ يُبيّن لنا بشرية الرسول‪ ،‬وأنه يجري عليه ما يجري على البشر‪ ،‬لكن‬
‫ربه ل يترك بشريته وحدها‪ ،‬وإنما يعصمه بقيوميته‪.‬‬
‫وهذا المعنى هو ما قصده أصحاب الرأي الول‪ :‬أن الرسول يطرأ عليه ما يطرأ على البشر‬
‫العادي‪ ،‬لكن تتدخّل السماء لتعصمه ونحن نختار الرأي الخر الذي يقول أن تمنى بمعنى ودّ‬
‫وأحب‪.‬‬
‫حكِيمٌ { [الحج‪ ]52 :‬عليم بكيد الشيطان‪ ،‬وتدبيره‪ ،‬حكيم‬
‫ثم تختتم الية بقوله تعالى‪ } :‬وَاللّهُ عَلِيمٌ َ‬
‫في علج هذا الكيد‪.‬‬

‫(‪)2628 /‬‬

‫شقَاقٍ َبعِيدٍ‬
‫ض وَا ْلقَاسِيَةِ قُلُو ُبهُ ْم وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلفِي ِ‬
‫ج َعلَ مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ فِتْ َنةً لِلّذِينَ فِي قُلُو ِبهِمْ مَ َر ٌ‬
‫لِيَ ْ‬
‫(‪)53‬‬

‫ولسائل أن يقول‪ :‬إذا كان ال تعالى ينسخ ما يُلقي الشيطان‪ ،‬فلماذا كان اللقاءُ بدايةً؟‬
‫جعل ال اللقاء فتنةً ليختبر الناس‪ ،‬وليُميّز مَنْ ينهض بأعباء الرسالة‪ ،‬فهي مسئولية ل يقوم بها‬
‫إل مَنْ ينفذ من الفتن‪ ،‬وينجو من إغراءات الشيطان‪ ،‬ويتخطى عقباته وعراقيله؛ لذلك قال تعالى‬
‫جتْ لِلنّاسِ }[آل عمران‪.]110 :‬‬
‫عنهم‪ {:‬كُنْ ُتمْ خَيْرَ ُأمّةٍ ُأخْرِ َ‬
‫وما تبوأتُم هذه المنزلة إل لنكم أهلٌ لحمْل هذه المانة‪ ،‬تمرّ بكم الفتن فتهزأون بها ول‬
‫ج َعلَ مَا يُ ْلقِي الشّيْطَانُ فِتْ َنةً لّلّذِينَ فِي قُلُو ِبهِم مّ َرضٌ } [الحج‪]53 :‬‬
‫تزعزعكم؛ لذلك قال تعالى‪ { :‬لّيَ ْ‬
‫أي‪ :‬نفاق‪ ،‬فإنْ تعرّض لفتنة انقلب على وجهه‪ .‬يقول كما يقولون‪ :‬سحر وكذب وأساطير الولين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكذلك فتنة { وَا ْلقَاسِيَةِ قُلُو ُبهُمْ } [الحج‪ ]53 :‬وهم الذين فقدوا لين القلب‪ ،‬فلم ينظروا إلى الجميل‬
‫عليهم في الكون خَلْقا وإيجادا وإمدادا‪ ،‬ولم يعترفوا بفضل ال عليهم‪ ،‬ولم يستبشروا به ويأتوا إليه‪.‬‬
‫ونحن نلحظ الولد الصغير يأنس بأمه وأبيه‪ ،‬ويركن إليهما؛ لنه ذاق حنانهما‪ ،‬وتربّى في‬
‫رعايتهما‪ ،‬فإنْ ربّته مثلً المربية حتى في وجود أمه فإنه يميل إليها‪ ،‬ويألف حضنها‪ ،‬ول يلتفت‬
‫لمه‪ ،‬لماذا؟ لنه نظر إلى الجميل‪ ،‬من أين أتاه‪ ،‬ومَنْ صاحب الفضل عليه فرقّ له قلبه‪ ،‬بصرف‬
‫النظر مَنْ هو صاحب الجميل‪.‬‬
‫ل لهم ول قوة‪ ،‬فاستقبلهم بكل ألوان الخير‪ ،‬ومع ذلك كانت‬
‫ح ْو َ‬
‫فهؤلء طرأوا على َكوْن ال‪ ،‬ل َ‬
‫قلوبهم قاسيةً مُتحجّرة ل تعترف بجميل‪.‬‬
‫شقَاقٍ َبعِيدٍ } [الحج‪ ]53 :‬فهم ظالمون أولً لنفسهم حين‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَإِنّ الظّاِلمِينَ َلفِي ِ‬
‫نظروا إلى منفعة عاجلة قليلة‪ ،‬وتركوا منفعة كبيرة دائمة‪ .‬والشّقاق‪ :‬الخلف‪ ،‬ومنه قولنا‪ :‬هذا في‬
‫شقَاق‬
‫شقَاق هَيّن يكون له اجتماع والتئام‪ ،‬ليته ك ِ‬
‫شقّ‪ ،‬يعني‪ :‬غير ملتئمين‪ ،‬وليْته ِ‬
‫شقّ‪ ،‬وهذا في ِ‬
‫ِ‬
‫الدنيا بين الناس على عَ َرضٍ من أعراض الحياة‪ ،‬إنما هم في شقاق بعيد‪ .‬يعني‪ :‬أثره دائم‪ ،‬وأثره‬
‫فظيع‪.‬‬
‫إذن‪ :‬العلة الولى لما يُلقِي الشيطان أن يكون فتنة‪ .‬أما العلة الثانية ففي قوله تعالى‪ { :‬وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ‬
‫حقّ مِن رّ ّبكَ‪} ..‬‬
‫أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ أَنّهُ الْ َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2629 /‬‬

‫حقّ مِنْ رَ ّبكَ فَ ُي ْؤمِنُوا ِبهِ فَتُخْ ِبتَ لَهُ قُلُو ُبهُ ْم وَإِنّ اللّهَ َلهَادِ الّذِينَ َآمَنُوا‬
‫وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ أُوتُوا ا ْلعِلْمَ أَنّهُ الْ َ‬
‫إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (‪)54‬‬

‫قوله تعالى‪ { :‬وَلِ َيعْلَمَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلعِلْمَ أَنّهُ ا ْلحَقّ مِن رّ ّبكَ } [الحج‪ ]54 :‬يعني‪ :‬يتأكدوا تأكيدا‬
‫واضحا أن هذا هو الحق‪ ،‬مهما شوّشَ عليه المشوّشُون‪ ،‬ومهما قالوا عنه‪ :‬إنه سحر‪ ،‬أو كذب‪ ،‬أو‬
‫صدْق القرآن بما لديهم‬
‫أساطير الولين؛ لن ال سيُبطل هذا كله‪ ،‬وسيقف أهل العلم والنظر على ِ‬
‫من حقائق ومقدمات واستدللت يعرفون بها أنه الحق‪.‬‬
‫وما دام هو الحق الذي لم تزعزعه هذه الرياح الكاذبة فل بُدّ أن يؤمنوا به { فَ ُي ْؤمِنُواْ ِبهِ } [الحج‪:‬‬
‫‪ ]54‬ثم يتبع هذا اليمان عملٌ وتطبيق { فَتُخْ ِبتَ لَهُ } [الحج‪ ]54 :‬يعني‪ :‬تخشع وتخضع وتلين‬
‫وتستكين‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَإِنّ اللّهَ َلهَادِ الّذِينَ آمَنُواْ إِلَىا صِرَاطٍ مّسْ َتقِيمٍ } [الحج‪.]54 :‬‬
‫فمسألة كيد الشيطان وإلقائه لم تنته بموت الرسول‪ ،‬بل هو قاعد لمته من بعده؛ فالشيطان يقعد‬
‫لمة محمد كلها‪ ،‬ولكل مَنْ حمل عنه الدعوة‪.‬‬
‫س وَالْجِنّ يُوحِي َب ْعضُهُمْ إِلَىا َب ْعضٍ‬
‫ن الِنْ ِ‬
‫جعَلْنَا ِل ُكلّ نِ ِبيّ عَ ُدوّا شَيَاطِي َ‬
‫يقول تعالى‪َ {:‬وكَذَِلكَ َ‬
‫زُخْ ُرفَ ا ْل َقوْلِ غُرُورا وََلوْ شَآءَ رَ ّبكَ مَا َفعَلُوهُ فَذَ ْرهُ ْم َومَا َيفْتَرُونَ }[النعام‪.]112 :‬‬
‫يعني‪ :‬دعهم جانبا فال لهم بالمرصاد‪ ،‬فلماذا ‪ -‬إذن ‪ -‬فعلوه؟ وما الحكمة؟ يقول تعالى‪{:‬‬
‫حصَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ‪[} ..‬آل عمران‪.]141 :‬‬
‫وَلِ ُيمَ ّ‬
‫ن لَ ُي ْؤمِنُونَ بِالخِ َرةِ }[النعام‪]113 :‬‬
‫صغَى إِلَيْهِ َأفْ ِئ َدةُ الّذِي َ‬
‫وقال‪ {:‬وَلِ َت ْ‬
‫ل ضعاف اليمان‪ ،‬ومَنْ يعبدون ال على حرف من أصحاب الحتجاجات‬
‫فمهمة الشيطان أنْ يستغ ّ‬
‫التبريرية الذين يريدون أنْ يبرروا لنفسهم النغماس في الشهوة والسير في طريق الشيطان‪،‬‬
‫وهؤلء يحلو لهم الطعن في الدين‪ ،‬ويتمنون أن يكون الدين والقيامة والرب أوهاما ل حقيقة لها‪،‬‬
‫لنهم يخافون أن تكون حقيقة‪ ،‬وأن يتورطوا بأعمالهم السيئة ونهايتهم المؤلمة‪ ،‬فهم ‪ -‬إذن ‪-‬‬
‫يستبعدون القيامة ويقولون‪ {:‬أَِإذَا مِتْنَا َوكُنّا تُرَابا وَعِظَاما أَإِنّا َلمَ ْبعُوثُونَ }[الصافات‪.]16 :‬‬
‫لماذا؟ لنه يريد أنْ يبرر سلوكه‪ ،‬إنه يريد أنْ يُخرِج نفسه من ورطة‪ ،‬ل مخرج منها‪ ،‬وهؤلء‬
‫يتبعون كل ناعق‪ ،‬ويجْرُون وراء كل شبهة في دين ال يتلقفونها ويرددونها‪ ،‬ومرادهم أن يهدموا‬
‫الدين من أساسه‪.‬‬
‫نسمع من هؤلء المسرفين على أنفسهم مثلً مَنْ يعترض على تحريم الميتة وأكل الذبيحة‪ ،‬وهذا‬
‫دليل على خميرة الشرك والكفر في نفوسهم‪ ،‬ولهم حجج واهية ل تنطلي إل على أمثالهم من‬
‫الكفرة والمنافقين‪ ،‬وهذه مسألة واضحة‪ ،‬فالموت غير القتل‪ ،‬غير الذبح‪.‬‬
‫الموت‪ :‬أن تخرج الروح أولً دون َنقْض بِنْية الجسم‪ ،‬وبعد خروج الروح ينقض بناء الجسد‪ ،‬أما‬
‫القتل فيكون بنقض البنية أولً‪ ،‬ويترتب على َنقْض البنية خروج الروح‪ ،‬كأن يُضرب النسان أو‬
‫الحيوان على رأسه مثلً‪ ،‬فيموت بعد أنْ اختلّ مخه وتهشّم‪ ،‬فلم يعُدْ صالحا لبقاء الروح فيه‪.‬‬
‫سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ‪} ..‬‬
‫حمّدٌ ِإلّ رَسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ‬
‫يقول تعالى‪َ {:‬ومَا ُم َ‬

‫[آل عمران‪ ]144 :‬إذن‪ :‬فالموت غير القتل‪.‬‬


‫وقد مثّلْنا لذلك بضوء الكهرباء الذي نراه‪ ،‬والذي يسري في السلك‪ ،‬ويظهر أثره في هذه‬
‫اللمبات‪ ،‬نحن ل نعرف حتى الن كُنْه هذه الكهرباء وماهية هذا الضوء‪ ،‬إنما نراه وننعَم به‪ ،‬فإذا‬
‫ما كُسِرت هذه اللمبة ينطفئ النور؛ لنها لم تعُدْ صالحة لستقبال هذا النور‪ ،‬رغم أنه موجود في‬
‫السلك‪ ،‬إذن‪ :‬ل يظهر نور الكهرباء إل في بنية سليمة لهذا الشكل الزجاجي المفرّغ من الهواء‪.‬‬
‫كذلك الروح ل تسكن الجسم‪ ،‬ول تبقى فيه إل إذا كانت له مواصفات معينة‪ ،‬فإن اختّلتْ هذه‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المواصفات خرجتْ الروح من الجسد‪.‬‬
‫أما الذبح فهو أيضا إزهاق روح‪ ،‬لكن بأمر ال خالقها وبرخصة منه سبحانه‪ ،‬كأن يُقتلَ إنسان في‬
‫قصاص‪ ،‬أو في قتال مشروع‪ ،‬أو نذبح الحيوان الذي أحلّه ال لنا وأمرنا بذبحه‪ ،‬ولول أمْر ال‬
‫بذبحه ما ذبحناه‪ ،‬ولول أحلّه ما أكلناه‪ ،‬بدليل أننا ل نأكل ما لم يحِل لنا من الحيوانات الخرى‪.‬‬
‫ل غفلوا عن‬
‫والذين يجادلون في عملية الذّبْح الشرعية‪ ،‬ويُزهقون أرواح الحيوان بالخنق مث ً‬
‫الحكمة من الذبح‪ :‬الذبح إراقة للدم‪ ،‬وفي الدم مواد ضارة بالنسان يجب أن يتخلص منها بتصفية‬
‫دم ذبيحته؛ لن بها كمية من الدم الفاسد الذي لم يمرّ على الكلية لتنقيه‪.‬‬
‫فالمسلم حريص على أن يحمل منهج رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وحريص على أن يسود هذا‬
‫المنهج حركة الحياة‪ ،‬لكن لن يدَعَه الشيطان يُحقّق هذه المنية‪ ،‬كما لم يدع رسوله صلى ال عليه‬
‫وسلم من قبل‪ ،‬فكيْده وإلقاؤه لم ينتهِ بموت الرسول‪ ،‬وإنما هو بَاقٍ‪ ،‬وإلى أنْ تقومَ الساعة‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى في الية بعدها‪َ } :‬ولَ يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّى‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2630 /‬‬

‫عقِيمٍ (‪)55‬‬
‫عذَابُ َيوْمٍ َ‬
‫وَلَا يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتّى تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً َأوْ يَأْتِ َيهُمْ َ‬

‫قوله‪ { :‬فِي مِرْيَةٍ } [الحج‪ ]55 :‬يعني‪ :‬في شك من هذا‪ ،‬لذلك قلنا‪ :‬إن أتباع رسوله صلى ال عليه‬
‫س وَ َيكُونَ الرّسُولُ‬
‫ش َهدَآءَ عَلَى النّا ِ‬
‫ن يكونوا امتدادا لرسالته‪ {:‬لّ َتكُونُواْ ُ‬
‫وسلم مُكلّفون من ال بأ ْ‬
‫شهِيدا‪[} ..‬البقرة‪ ]143 :‬شهداء أنكم بلّغتم كما كان الرسول شهيدا عليكم‪ ،‬فكلّ مِنّا كأنه‬
‫عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫مبعوث من ال‪ ،‬وكما شهد رسول ال عليه أنه أبلغه‪ ،‬كذلك هو يشهد أنه بلّغ من بعد رسول ال؛‬
‫لذلك جاءت هذه الية للمرين ليكون الرسول شهيدا عليكم‪ ،‬وتكونوا شهداء على الناس‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حينما حمّلنا هذه الرسالة قال‪ :‬ما ُدمْتم امتدادا لرسالة الرسول‪ ،‬فل ُبدّ‬
‫أنْ تتعرّضوا لما تعرّض له الرسول من استهزاء وإيذاء وإلقاء في أمنياتكم‪ ،‬فإنْ صمدتم فإن ال‬
‫تعالى ينسخ ما يُلقي الشيطان‪ ،‬وينصر في النهاية أولياءه‪ ،‬وسيظل السلم إلى أنْ تقوم الساعة‪،‬‬
‫وسيظل هناك أناس ُيعَادُون الدين ويُشكّكون فيه‪ ،‬وسيظل الملحدون الذين يُشكّكون الناس في‬
‫وجود ال يخرجون علينا من حين إلى آخر بما يتناقض ودين ال كقولهم‪ :‬إن هذا الكون خُلِق‬
‫بالطبيعة‪ ،‬وترى وتسمع هذا الكلم في كتاباتهم ومقالتهم‪.‬‬
‫ولم يَسْلم العلم التجريبي من خرافاتهم هذه‪ ،‬فإنْ رأوا الحيوان منسجما مع بيئته قالوا‪ :‬لقد أمدته‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الطبيعة بلون مناسب وتكوين مناسب لبيئته‪.‬‬
‫ضهَا عَلَىا َب ْعضٍ‬
‫ضلُ َب ْع َ‬
‫ح ٍد وَ ُنفَ ّ‬
‫سقَىا ِبمَآ ٍء وَا ِ‬
‫وفي النبات حينما يقفون عند آية من آياته مثلً‪ {:‬يُ ْ‬
‫ل ُكلِ‪[} ..‬الرعد‪ ]4 :‬يقولون‪ :‬إن النبات يتغذى بعملية النتخاب‪ ،‬يعني النبات هو الذي ينتخب‬
‫فِي ا ُ‬
‫ويختار غذاءه‪ ،‬ففي التربة الواحدة وبالماء الواحد ينمو النبات الحلو والمر والحمضي والحريف‪،‬‬
‫فبدل أنْ يعترفوا ل تعالى بالفضل والقدرة يقولون‪ :‬الطبيعة وعملية النتخاب‪.‬‬
‫وقد تحدثنا مع بعض هؤلء في فرنسا‪ ،‬وحاولنا الرد عليهم وإبطال حججهم‪ ،‬وأبسطها أن عملية‬
‫النتخاب تحتاج إلى إرادة واعية تُميّز بين الشياء المنتخبة‪ ،‬فهل عند النبات إرادة تُمكّنه من‬
‫اختيار الحلو أو الحامض؟ وهل يُميز بين الم ّر والحريف؟‬
‫إنهم يحاولون إقناع الناس بدور الطبيعة ليبعدوا عن الذهان قدرة ال فيقولون‪ :‬إن النبات يتغذّى‬
‫بخاصية النابيب الشعرية يعني‪ :‬أنابيب ضيقة جدا تشبه الشعرة فسميت بها ‪ ،‬ونحن نعرف أن‬
‫الشعرة عبارة عن أنبوبة مجوفة‪ .‬وحين تضع هذه النبوبة الضيقة في الماء‪ ،‬فإن الماء يرتفع فيها‬
‫إلى مستوى أعلى؛ لن ضغط الهواء داخل هذه النبوبة لضيقها أقلّ من الضغط خارجها لذا يرتفع‬
‫فيها الماء‪ ،‬أما إنْ كانت هذه النبوبة واسعة فإن الضغط بداخلها سيساوي الضغط خارجها‪ ،‬ولن‬
‫يرتفع فيها الماء‪.‬‬
‫فقُلْنا لهم‪ :‬لو أحضرنا حوضا به سوائل مختلفة‪ ،‬مُذَاب بعضها في بعض‪ ،‬ثم وضعنا به النابيب‬
‫شعْرية‪ ،‬هل سنجد في كل أنبوبة سائلً معينا دون غيره من السوائل‪ ،‬أم سنجد بها السائل‬
‫ال ّ‬
‫المخلوط بكل عناصره؟‬
‫لو قمتَ بهذه التجربة فستجد السائل يرتفع نعم في النابيب بهذه الخاصية‪ ،‬لكنها ل تُميّز بين‬
‫عنصر وآخر‪ ،‬فالسائل واحد في كل النابيب‪ ،‬وما أبعد هذا عن نمو النبات وتغذيته‪.‬‬

‫سوّىا * وَالّذِي َقدّرَ َفهَدَىا }[العلى‪.]3 - 2 :‬‬


‫وصدق ال حين قال‪ {:‬الّذِي خََلقَ فَ َ‬
‫إذن‪ :‬ما أبعدَ هذه التفسيرات عن الواقع! وما أجهلَ القائلين بها والمروّجين لها! خاصة في عصر‬
‫ارتقى فيه العلم‪ ،‬وتقدّم البحث‪ ،‬وتنوّعت وسائلة في عصر استنارتْ فيه العقول‪ ،‬واكتُشِفت أسرار‬
‫الكون الدالة على قدرة خالقه عز وجل‪ ،‬ومع ذلك ل يزال هناك مبطلون‪.‬‬
‫والحق سبحانه وتعالى يقول‪َ } :‬ولَ يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ حَتّىا تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْ َتةً‪..‬‬
‫{ [الحج‪.]55 :‬‬
‫فهم ‪ -‬إذن ‪ -‬موجودون في أمة محمد إلى أنْ تقومَ الساعة‪ ،‬وسنواجههم نحن كما واجههم رسول‬
‫ال‪ ،‬وسيظل الشيطان يُلقِي في نفوس هؤلء‪ ،‬ويوسوس لهم‪ ،‬ويوحي إلى أوليائه من النس والجن‪،‬‬
‫ويضع العقبات والعراقيل ليصدّ الناس عن دين ال‪ .‬هذا نموذج من إلقاء الشيطان في مسألة القمة‪،‬‬
‫وهي اليمان بال‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كما يُلقِي الشيطان في مسألة الرسول‪ ،‬فنجد منهم مَنْ يهاجم شخصية رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ ،‬وكيف وهو الميّ يقود أمة ويتهمونه ويخوضون في حقّه‪ ،‬وفي مسألة تعدّد زوجاته صلى‬
‫ال عليه وسلم‪..‬الخ ِممّا يُمثّل عقبة في سبيل اليمان به صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫ونعجب لهجوم هؤلء على رسول ال طالما هم كافرون به‪ ،‬إن هذا الهجوم يحمل في طياته إيمانا‬
‫بأنه رسول ال‪ ،‬وإل َلمَا استكثروا عليه وَلمَا انتقدوه‪ ،‬فلو كان شخصا عاديا ما تعرّض لهذه‬
‫النتقادات‪.‬‬
‫لذلك ل تناقش مثل هؤلء في مسألة الرسول‪ ،‬إنما في مسألة القمة‪ ،‬ووجود الله‪ ،‬ثم الرسول‬
‫حلّ؛ لنهم‬
‫المبلّغ عن هذا الله‪ ،‬أمّا أنْ تخوض معهم في قضية الرسول بدايةً فلن تصلَ معهم إلى َ‬
‫يضعون مقاييس الكمال من عندهم‪ ،‬ثم يقيسون عليها سلوكيات رسول ال‪ ،‬وهذا َوضْع مقلوب‪،‬‬
‫فالكمال نأخذه من الرسول ومن ِفعْله‪ ،‬ل نضع له نحن مقاييس الكمال‪.‬‬
‫ثم يُشكّكون بعد ذلك في الحكام‪ ،‬فيعترضون مثلً على الطلق في السلم‪ ،‬وكيف نفرق بين‬
‫زوجين؟ وهذا أمر عجيب منهم فكيف نجبر زوجين كارهين على معاشرة ل يَ ْبغُونها‪ ،‬وكأنهما‬
‫مقترنان في سلسلة من حديد؟ كيف وأنت ل تستطيع أنْ تربط صديقا بصديق ل يريده‪ ،‬وهو ل‬
‫يراه إل مرة واحدة في اليوم مثلً؟ فهل تستطيع أن تربط زوجين في مكان واحد‪ ،‬وهما مأمونان‬
‫على بعض في حال الكراهية؟‬
‫سعْيهم‪ ،‬ويُظهر بطلن هذه الفكار‪ ،‬وتُلجِئهم أحداث الحياة ومشاكلها إلى تشريع‬
‫ويُخيّب ال َ‬
‫الطلق‪ ،‬حيث ل بديلَ عنه لحلّ مثل هذه المشاكل‪.‬‬
‫وقد ناقش هؤلء كثيرا في قوله تعالى‪:‬‬

‫ظهِ َرهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ }[التوبة‪.]33 :‬‬


‫حقّ لِيُ ْ‬
‫سلَ َرسُولَهُ بِا ْلهُدَىا وَدِينِ الْ َ‬
‫{ ُهوَ الّذِي أَرْ َ‬
‫طفِئُواْ نُورَ اللّهِ بَِأ ْفوَا ِه ِه ْم وَاللّهُ مُتِمّ نُو ِرهِ وََلوْ كَ ِرهَ ا ْلكَافِرُونَ }[الصف‪{]8 :‬‬
‫وفي قوله‪ {:‬يُرِيدُونَ لِيُ ْ‬
‫وََلوْ كَ ِرهَ ا ْل ُمشْ ِركُونَ }[الصف‪.]9 :‬‬
‫يقولون‪ :‬ومع ذلك لم يتم الدين‪ ،‬ول يزال الجمهرة العالمية في الدنيا غَيْر مؤمنين بالسلم‪،‬‬
‫ظهِ َرهُ }‬
‫يريدون أنْ يُشكّكوا في كتاب ال‪ .‬وهذا القول منهم ناشيء عن عدم َفهْم للية‪ ،‬ولمعنى{ لِ ُي ْ‬
‫[التوبة‪ ]33 :‬فهي ل تعني أن ينتصر السلم على كل ما عداه انتصارا يمحو المخالفين له‪.‬‬
‫إنما يُظهِره يعني‪ :‬يكتب له الغلبة بصدق حُجَجه وقضاياه على كُرْه من الكافرين والمشركين‪ ،‬فهم‬
‫‪ -‬إذن ‪ -‬موجودون‪ ،‬لكن يظهر عليهم‪ ،‬ويعلو دين السلم‪ ،‬ويضطرون هم للخذ بقوانينه‬
‫وتشريعاته حَلً لمشاكلهم‪ ،‬و َكوْنهم يتخذون منه حلً لمشاكلهم وهم كافرون به أبلغ في الردّ عليهم‬
‫لو آمنوا به‪ ،‬فلو آمنوا بالسلم ما كان ليظهر عليهم ويعلوهم‪.‬‬
‫فما كنتم تُشكّكون فيه وتقولون إنه ما كان يصدر من إله ول رسول‪ ،‬فها هي اليام قد عضّتكم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بأحداثها وتجاربها وألجأتكم إلى هذا الحكم الذي تعارضونه‪ ،‬وها أنتم تُشرّعون بتشريع السلم‬
‫وأنتم كافرون به‪ ،‬وهذا دليل ظهوره عليكم‪.‬‬
‫ومعنى } حَتّىا تَأْتِ َيهُمُ السّاعَةُ َبغْتَةً { [الحج‪ ]55 :‬يعني‪ :‬فجأة‪ ،‬وقد تكلّم العلماء في معنى الساعة‪:‬‬
‫أهي يوم القيامة‪ ،‬أم يوم يموت النسان؟ الساعة تشمل المعنيين معا‪ ،‬على اعتبار أن مَنْ مات فقد‬
‫قامت قيامته حيث انقطع عمله‪ ،‬وموت النسان يأتي فجأة‪ ،‬كما أن القيامة تأتي فجأة‪ ،‬فهما ‪ -‬إذن‬
‫‪ -‬يستويان‪.‬‬
‫صغْرى؟ وما العلمات الكبرى؟‬
‫لكن‪ ،‬إنْ كانت الساعة بغتة تفجؤهم بأهوالها‪ ،‬فما العلمات ال ّ‬
‫أليست مقدمات تأذن بحلول الساعة‪ ،‬وحينئذ ل ُتعَدّ بغتة؟ قالوا‪ :‬علمات الشيء ليست هي إذن‬
‫وجودة‪ ،‬العلمة تعني‪ :‬قُرْب موعده فانتبهوا واستعِدّوا‪ ،‬أما وقت حدوثه فل يعلمه أحد‪ ،‬ول بُدّ أنْ‬
‫يأتي بغتة رغم هذه المقدمات‪.‬‬
‫عقِيمٍ‬
‫عذَابُ َيوْمٍ َ‬
‫عقِيمٍ { [الحج‪ ]55 :‬البعض اعتبر‪َ } :‬‬
‫عذَابُ َي ْومٍ َ‬
‫ثم يقول الحق تعالى‪َ } :‬أوْ يَأْتِ َيهُمْ َ‬
‫عقِيمٍ‬
‫{ [الحج‪ ]55 :‬يعني القيامة‪ ،‬وبالتالي فالساعة تعني الموت‪ ،‬وآخرون يقولون‪ } :‬عَذَابُ َيوْمٍ َ‬
‫{ [الحج‪ ]55 :‬المراد يوم بدر الذي فصل ال فيه بين الحق والباطل‪.‬‬
‫وهذا اجتهاد ُيشْكرون عليه‪ ،‬لكن لما نتأمل الية‪َ } :‬ولَ يَزَالُ الّذِينَ َكفَرُواْ فِي مِرْيَةٍ مّنْهُ { [الحج‪:‬‬
‫‪ ]55‬يعني‪ :‬المرية مستمرة‪ ،‬لكن بدرا انتهت‪ ،‬المرية ستظل إلى أن تقوم الساعة‪.‬‬
‫ول مانعَ أن تكون الساعة بمعنى القيامة‪ ،‬واليوم العقيم أيضا هو يوم القيامة‪ ،‬فيكون المدلول‬
‫واحدا‪ ،‬لن هناك فرقا بين زمن الحدث والحدث نفسه‪ ،‬فالساعة هي زمن يوجد فيه الحدث وهو‬
‫العذاب‪ ،‬فالساعة أولً ثم يأتي العذاب‪ ،‬مع أن مجرد قيام الساعة في حَدّ ذاته عذاب‪.‬‬
‫عقِيمٍ { [الحج‪ ]55 :‬العقيم‪ :‬الذي ل يلد‪ ،‬رجل كان أو امرأة‪ ،‬فل يأتي بشيء‬
‫عذَابُ َيوْمٍ َ‬
‫ومعنى } َ‬
‫بعده‪ ،‬ومنه قوله تعالى عن سارة امرأة إبراهيم عليه السلم‪:‬‬

‫عقِيمٌ }[الذاريات‪ ]29 :‬وكذلك يوم القيامة يوم عقيم‪ ،‬حيث ل يوم بعده أبدا‪ ،‬فهي نهاية‬
‫عجُوزٌ َ‬
‫{ َ‬
‫ح ّد قول أحدهم‪ :‬حَبَ ْتهُم به الدنيا وأدركَها ال ُعقْم‪.‬‬
‫المطاف على َ‬
‫عقِيمٌ }[الذاريات‪ ]29 :‬بمعنى‪ :‬أنها ل تأتي بخير‪ ،‬بل بشرّ‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬وفِي عَادٍ إِذْ‬
‫أو{ َ‬
‫جعَلَ ْتهُ كَال ّرمِيمِ }[الذاريات‪- 41 :‬‬
‫شيْءٍ أَ َتتْ عَلَ ْيهِ ِإلّ َ‬
‫أَرْسَلْنَا عَلَ ْي ِهمُ الرّيحَ ا ْل َعقِيمَ * مَا َتذَرُ مِن َ‬
‫‪.]42‬‬
‫ذلك لن الريح حين تهبّ ينتظر منها الخير‪ ،‬إما بسحابة مُمطرة‪ ،‬أو تحريك لقاح الذكورة‬
‫بالنوثة{ وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ }[الحجر‪ ]22 :‬أما هذه فل خَيْر فيها‪ ،‬ول طائل منها‪ ،‬ولتها تقف‬
‫جعَلَتْهُ كَال ّرمِيمِ }‬
‫شيْءٍ أَ َتتْ عَلَ ْيهِ ِإلّ َ‬
‫عند عدم النفع‪ ،‬ولكن تتعدّاه إلى جَلْب الضّر{ مَا َتذَرُ مِن َ‬
‫[الذاريات‪ ]42 :‬فهي تدمر كل شيء تمرّ عليه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكما جاء في قوله سبحانه‪ {:‬فََلمّا رََأ ْوهُ عَارِضا مّسْ َتقْبِلَ َأوْدِيَ ِتهِمْ قَالُواْ هَـاذَا عَا ِرضٌ ّممْطِرُنَا َبلْ‬
‫شيْءٍ بَِأمْرِ رَ ّبهَا فَ ْأصْبَحُواْ لَ يُرَىا ِإلّ‬
‫ُهوَ مَا اسْ َت ْعجَلْتُم ِبهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُ َدمّرُ ُكلّ َ‬
‫مَسَاكِ ُنهُمْ }[الحقاف‪.]25 - 24 :‬‬
‫عقِيمٍ { [الحج‪ ]55 :‬ل خي َر فيها ول نفع‪ ،‬بل فيها الشر والعذاب‪ ،‬أو عقيم‬
‫فالمعنى ‪ -‬إذن ‪َ } -‬‬
‫يعني‪ :‬ل يأتي يوم بعده؛ لنكم تركتم دنيا الغيار‪ ،‬وتقلّب الحوال حال بعد حال‪ ،‬فالدنيا تتقلّب من‬
‫صغَر إلى كِبَر‪ ،‬ومن َأمْن إلى خوف‪ ،‬وتتحول من‬
‫فقر إلى غنى‪ ،‬ومن صحة إلى مرض‪ ،‬ومن ِ‬
‫صيف إلى شتاء‪ ،‬ومن حر إلى برد‪ ،‬ومن ليل إلى نهار‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫أما في الخرة فقد انتقلتم مِن عالم الغيار الذي يعيش بالسباب إلى عالم آخر يعيش مع المسبّب‬
‫عقِب من بعده أو مثيل له‪ ،‬كما لو‬
‫عقِم أن يكون له َ‬
‫سبحانه‪ ،‬وإلى يوم آخر ل يومَ بعده‪ ،‬كأنه َ‬
‫حضرتَ حفلً مثلً قد استكمل ألوان الكمال والنعم‪ ،‬فتقول‪ :‬هذا حدث ل يتكرر يعني‪ :‬عقيم ل‬
‫يأتي بعده مثله‪.‬‬
‫وإذا كنتَ في الدنيا تعيش بالسباب التي خلقها ال لك‪ ،‬فأنت في الخرة ستجلس مستريحا تتمتع‬
‫جلّ‪ ،‬ويكفي أن يخطر الشيء ببالك‪ ،‬فتراه بين يديك؛ ولن القيامة ل أغيارَ فيها ول‬
‫بالمسبّب عَزّ و َ‬
‫ن واحدة‪ ،‬ل يشيب ول يهرم‪ ،‬ول يمرض ول يموت‪.‬‬
‫تقلّب‪ ،‬فسيظل الجميع كلّ على حاله في سِ ّ‬
‫جعَلْنَاهُنّ أَ ْبكَارا * عُرُبا أَتْرَابا *‬
‫ألَ ترى إلى قوله تعالى في نساء الجنة‪ {:‬إِنّآ أَنشَأْنَاهُنّ إِنشَآءً * َف َ‬
‫لصْحَابِ الْ َيمِينِ }[الواقعة‪.]38 - 35 :‬‬
‫َ‬
‫والكاره لزوجته في الدنيا لنها كانت تتعبه نقول له‪ :‬ل تقِسْ زوجة الدنيا بزوجة الخرة؛ لن ال‬
‫طهّ َرةٌ }[النساء‪.]57 :‬‬
‫تبارك وتعالى يقول‪ّ {:‬ل ُهمْ فِيهَآ أَ ْزوَاجٌ مّ َ‬
‫أي‪ :‬مطهرة من كل ما كنتَ تكرهه فيها في الدنيا شكلً وطَبْعا وخُلقا‪ ،‬فأنت الن في الخرة التي‬
‫ل يعكر نعيمها كَدَر‪.‬‬
‫حكُمُ بَيْ َنهُمْ فَالّذِينَ آمَنُواْ‪{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ للّهِ َي ْ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2631 /‬‬

‫عمِلُوا الصّاِلحَاتِ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ (‪)56‬‬


‫حكُمُ بَيْ َن ُهمْ فَالّذِينَ َآمَنُوا وَ َ‬
‫ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ لِلّهِ يَ ْ‬

‫ن يقول‪ :‬أليس الملْك ل يومئذ‪ ،‬وفي كل يوم؟ نعم‪ ،‬الملْك ل في الدنيا وفي الخرة‪ ،‬لكن‬
‫ولقائل أ ْ‬
‫في الدنيا خلق ال خَلْقا وملّكهم‪ ،‬وجعلهم ملوكا من باطن مُلْكه تعالى‪ ،‬لكنه مُلْك ل يدوم‪ ،‬كما قال‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سبحانه‪ُ {:‬قلِ الّل ُهمّ مَاِلكَ ا ْلمُ ْلكِ ُتؤْتِي ا ْلمُ ْلكَ مَن َتشَآ ُء وَتَن ِزعُ ا ْلمُ ْلكَ ِممّنْ َتشَآ ُء وَ ُتعِزّ مَن تَشَآ ُء وَتُ ِذلّ‬
‫شيْءٍ قَدِيرٌ }[آل عمران‪.]26 :‬‬
‫مَن تَشَآءُ بِيَ ِدكَ ا ْلخَيْرُ إِ ّنكَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫إذن‪ :‬ففي الدنيا ملوك مَلّكهم ال أمرا من المور‪ ،‬ففيها ملك للغير‪ ،‬أمّا في الخرة فالملْك ل تعالى‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر‪.]16 :‬‬
‫وحده‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫حكُمُ بَيْ َن ُهمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]56 :‬فقد رَدّ الملْك كله إلى صاحبه‪ ،‬ورُدّت‬
‫وفي القيامة { ا ْلمُ ْلكُ َي ْومَئِذٍ للّهِ َي ْ‬
‫السباب إلى مُسبّبها‪.‬‬
‫حكُمُ بَيْ َن ُهمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]56 :‬أن هناك خصومةً بين طرفين‪ ،‬أحدهما على حق‪ ،‬والخر‬
‫ومعنى { َي ْ‬
‫على باطل‪ ،‬والفَصْل في خصومات الدنيا تحتاج إلى شهود‪ ،‬وإلى بينة‪ ،‬وإلى يمين فيقولون في‬
‫المحاكم‪ :‬البينة على المدّعي واليمين على مَنْ أنكر‪ ،‬هذا في خصومات الدنيا‪ ،‬أما خصومات‬
‫الخرة فقاضيها الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬الذي يعلم الس ّر وأخفى‪ ،‬فل يحتاج إلى بينة ول شهود‬
‫ول سلطة تُنفّذ ما حكم به‪.‬‬
‫محكمة الخرة ل تحتاج فيها إلى مُحامٍ‪ ،‬ول تستطيع فيها أنْ تُدلّس على القاضي‪ ،‬أو تُؤجّر شاهد‬
‫زور‪ ،‬ل تستطيع في محكمة الخرة أن تستخدم سلطتك الزمنية فتنقض الحكم‪ ،‬أو تُسقطه؛ لن‬
‫الملْك يومئذ ل وحدة‪ ،‬والحكم يومئذ ل وحدة‪ ،‬هو سبحانه القاضي والشاهد والمنفّذ‪ ،‬الذي ل‬
‫يستدرك على حكمه أحد‪.‬‬
‫وما دام هناك حكومة‪ ،‬فل بُدّ أن تسفر عن محكوم له ومحكوم عليه‪ ،‬ويُوضّحهما قوله تعالى‪:‬‬
‫عمِلُواْ الصّالِحَاتِ فِي جَنّاتِ ال ّنعِيمِ } [الحج‪.]56 :‬‬
‫{ فَالّذِينَ آمَنُو ْا وَ َ‬
‫وهؤلء هم الفائزون الذين جاء الحكم في صالحهم‪.‬‬

‫(‪)2632 /‬‬

‫وَالّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأُولَ ِئكَ َلهُمْ عَذَابٌ ُمهِينٌ (‪)57‬‬

‫وهؤلء هم الجبابرة وأصحاب السيادة في دنيا الكفر والعناد‪ ،‬والذين حكم ال عليهم بالعذاب الذي‬
‫يُهينهم بعد عِزّتهم وسلطانهم في الدنيا‪ ،‬وتلحظ أن العذاب يُوصَف مرة بأنه أليم‪ ،‬ومرة بأنه عظيم‪،‬‬
‫ومرة بأنه مُهين‪.‬‬
‫فالعذاب الليم الذي يُؤلم صاحبه‪ ،‬لكنه قد يكون لفترة ثم ينتهي‪ ،‬أما العذاب العظيم فهو الدائم‪،‬‬
‫والمهيمن هو الذي يُذِله ويدوس كرامته التي طالما اعتز بها‪ .‬وأنت تجد الناس يختلفون في تقبّل‬
‫ألوان العذاب‪ :‬فمنهم مَنْ ل يؤثر فيه الضرب الموجع ول يحركه‪ ،‬لكن تؤلمه كلمة تجرح عِزّته‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وكرامته‪ .‬لذلك جاء العذاب هكذا ألوانا؛ ليستوعب كل صنوف الملَكات النفسية‪ ،‬ويواجه ُكلّ نفس‬
‫بما يؤلمها‪.‬‬
‫ثم تكلم الحق سبحانه عن أمر كان ل ُبدّ أن نعرفه‪ ،‬فالمسلمون الوائل في مكة أُخرِجوا من‬
‫شكّ أن للوطن وللهل والبيئة التي نشأ فيها‬
‫ديارهم وأبنائهم وأموالهم لنهم قالوا‪ :‬ربنا ال‪ ،‬ول َ‬
‫المرء أثرا في ملكات نفسه‪ ،‬ل يمكن أنْ يُمحَى بحال‪ ،‬فإنْ غاب عنه اشتاق إليه وتمنّى العودة‪،‬‬
‫ن ضَنّوا عليّ كِرَامُلذلك‪ ،‬فطالب العالم‬
‫وكما يقول الشاعر‪:‬بَلَدِي وَإنْ جَا َرتْ عليّ عَزي َزةٌ َأهْلِي وإ ْ‬
‫عندما يترك بلده إلى القاهرة يقولون‪ :‬ل ُبدّ له أنْ يرجع‪ ،‬ولو أن تعضّه الحداث والشدائد‪ ،‬فيعود‬
‫ليطلب من أهله العون والمساعدة‪ ،‬أو حتى يعود إليها في نهاية المطاف ليدفنوه في تراب بلده‪.‬‬
‫ي لَ أَرَى‬
‫وقالوا‪ :‬إن سيدنا سليمان ‪ -‬عليه وعلى نبينا الصلة والسلم ‪ -‬لما تفقّد الطير{ َفقَالَ مَاِل َ‬
‫شدِيدا َأوْ لَذْ َبحَنّهُ َأوْ لَيَأْتِيَنّي ِبسُلْطَانٍ مّبِينٍ }[النمل‪20 :‬‬
‫عذَابا َ‬
‫ا ْلهُدْ ُهدَ أَمْ كَانَ مِنَ ا ْلغَآئِبِينَ * لُعَذّبَنّهُ َ‬
‫‪.]21 -‬‬
‫ذلك لنه نبي‪ ،‬فالمسألة ليستْ جبروتا وتعذيبا‪ ،‬دون أن يسمع منه‪ .‬وقالوا‪ :‬إن الطير سأل سليمان‪:‬‬
‫كيف يعذب الهدهد؟ قال‪ :‬أضعه في غير بني جنسه‪ ،‬وفي غير المكان الذي يألفه‪ ،‬يعني‪ :‬في غير‬
‫موطنه‪.‬‬
‫حسَنا‪} ..‬‬
‫يقول تعالى‪ { :‬وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُواْ َأوْ مَاتُواْ لَيَرْ ُزقَ ّنهُمُ اللّهُ رِزْقا َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2633 /‬‬

‫حسَنًا وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ خَيْرُ‬


‫وَالّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ ُثمّ قُتِلُوا َأوْ مَاتُوا لَيَرْ ُزقَ ّنهُمُ اللّهُ رِ ْزقًا َ‬
‫الرّا ِزقِينَ (‪)58‬‬

‫حقّ ِإلّ أَن َيقُولُواْ رَبّنَا اللّهُ }[الحج‪:‬‬


‫وفي موضع آخر يقول تعالى‪ {:‬الّذِينَ أُخْ ِرجُواْ مِن دِيَارِهِم ِبغَيْرِ َ‬
‫‪ ]40‬هؤلء تحملوا الكثير ‪ ،‬وتعبوا في سبيل عقيدتهم‪ ،‬فل ُبدّ أنْ يُعوّضهم ال عن هذه التضحيات‪،‬‬
‫لذلك يقول هنا‪ { :‬وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمّ قُتِلُواْ َأوْ مَاتُواْ لَيَرْ ُزقَ ّنهُمُ اللّهُ رِزْقا حَسَنا }‬
‫[الحج‪ ]58 :‬وأوضحنا أن الموت غير القتل‪ :‬الموت أن تخرج الروح دون َن ْقضٍ للبنية‪ ،‬أما القتل‬
‫فهو َنقْض للبِنْية يترتب عليه خروج الروح‪.‬‬
‫عمّا فاتوه في بلدهم من أهل ومال‪ ،‬كما‬
‫{ لَيَرْ ُزقَ ّن ُهمُ اللّهُ رِزْقا حَسَنا‪[ } ..‬الحج‪ ]58 :‬تعويضا لهم َ‬
‫يُعوّض الحاكم العادل المظلوم فيعطيه أكثر ممّا ُأخِذ منه؛ لذلك يقول سبحانه في موضع آخر‪{:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َومَن َيخْرُجْ مِن بَيْتِهِ ُمهَاجِرا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ ُيدْ ِركْهُ ا ْل َم ْوتُ َفقَ ْد َوقَعَ أَجْ ُرهُ عَلىَ اللّهِ‪[} ..‬النساء‪:‬‬
‫‪.]100‬‬
‫لن مَنْ قُتِل فقد فاز بالشهادة ونال إحدى الحُسنْيين‪ ،‬أما مَنْ مات فقد حُرِم هذا الشرف؛ لذلك فقد‬
‫وقع أجره على ال‪ ،‬وما بالك بأجر مُؤدّيه ربك عز وجل؟ وكما لو أن رجلً مُتْعبا يسير ليس معه‬
‫شيء ول يجد حتى مَنْ يقرضه‪ ،‬وفجأة سقطت رِجْله في حفرة فتكّدر وقال‪ :‬حتى هذه؟! لكن‬
‫سرعان ما وجد قدمه قد أثارتْ شيئا في التراب له بريق‪ ،‬فإذا هو ذهب كثير وقع عليه بنفسه‪.‬‬
‫ويُروْى أن فضالة حضرهم وهم يدفنون شهيدا‪ ،‬وآخر مات غير شهيد‪ ،‬فرأوْه ترك قبر الشهيد‬
‫وذهب إلى قبر غير الشهيد‪ ،‬فلما سألوه‪ :‬كيف يترك قبر الشهيد إلى غير الشهيد؟ قال‪ :‬وال ما‬
‫أبالي في أيّ حفرة منهما بُعثْت ما دام قد وقع أجري على ال‪ ،‬ثم تل هذه الية‪َ {:‬ومَن َيخْرُجْ مِن‬
‫بَيْتِهِ ُمهَاجِرا إِلَى اللّ ِه وَرَسُولِهِ ثُمّ ُيدْ ِركْهُ ا ْل َم ْوتُ َفقَ ْد َوقَعَ َأجْ ُرهُ عَلىَ اللّهِ‪[} ..‬النساء‪.]100 :‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } [الحج‪ ]58 :‬حين يصف الحق سبحانه ذاته‬
‫بصفة‪ ،‬ثم تأتي بصيغة الجمع‪ ،‬فهذا يعني أن ال تعالى أدخل معه الخَلْق في هذه الصفة‪ ،‬كما سبق‬
‫أنْ تكلمنا في قوله تعالى‪ {:‬فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ الْخَاِلقِينَ }[المؤمنون‪.]14 :‬‬
‫خلْق‪ ،‬وأشركهم معه سبحانه في هذه الصفة؛ لنه سبحانه ل يبخس عباده‬
‫فقد أثبت للخَلْق صفة ال َ‬
‫شيئا‪ ،‬ول يحرمهم ثمرة مجهودهم‪ ،‬فكل مَنْ أوجد شيئا فقد خلقه‪ ،‬حتى في الكذب قال{ وَتَخُْلقُونَ‬
‫ِإفْكا‪[} ..‬العنكبوت‪.]17 :‬‬
‫لن الخَلْق إيجاد من عدم‪ ،‬فأنت حين تصنع مثلً كوب الماء من الزجاج أوجدتَ ما لم يكن‬
‫موجودا‪ ،‬وإن كنت قد استخدمت المواد المخلوقة ل تعالى‪ ،‬وأعملتَ فيها عقلك حتى توص ْلتَ إلى‬
‫إنشاء شيء جديد لم يكُنْ موجودا‪ ،‬فأنت بهذا المعنى خالق حسن‪ ،‬لكن خلق ربك أحسن‪ ،‬فأنت‬
‫تخلق من موجود‪ ،‬وربك يخلق من عدم‪ ،‬وما أوجدتَه أنت يظل على حالته ويجمد على خلْقتك له‪،‬‬
‫ول يتكرر بالتناسل‪ ،‬ول ينمو‪ ،‬وليست فيه حياة‪ ،‬أما خَلْق ربك سبحانه فكما تعلم‪.‬‬

‫كذلك يقول سبحانه هنا‪ } :‬وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ { [الحج‪ ]58 :‬فأثبت لخَلْقه أيضا صفة‬
‫الرزق‪ ،‬من حيث هم سَبَب فيه‪ ،‬لن الرزق‪ :‬هو كل ما ينتفع به حتى الحرام ُي َعدّ رزقا؛ لذلك قال‬
‫تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ‪[} ..‬البقرة‪.]172 :‬‬
‫نقول‪ :‬فالعبد سبب في الرزق؛ لن ال تعالى هو خالق الرزق أولً‪ ،‬ثم أعطاك إياه تنتفع به وتعمل‬
‫فيه‪ ،‬وتعطي منه للغير‪ ،‬فالرزق منك مناولة عن الرازق الول سبحانه‪ ،‬فأنت بهذا المعنى رازق‬
‫وإنْ كرهوا أنْ يُسمّي النسان رازقا‪ ،‬رغم قوله تعالى‪ } :‬وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ { [الحج‪:‬‬
‫‪ ]58‬لماذا؟ قالوا‪ :‬حتى ل يفهم أن الرزق من الناس‪.‬‬
‫لذلك نسمع كثيرا من العمال البسطاء‪ ،‬أو موظفا صغيرا‪ ،‬أو بواب عمارة مثلً حين يفصله‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صاحب العمل‪ ،‬يقول له‪ :‬يا سيدي الرزاق بيد ال‪ .‬كيف وقد كنت تأخذ راتبك من يده ومن ماله؟‬
‫قالوا‪ :‬لنه نظر إلى المناوِل الول للرزق‪ ،‬ولم ينظر إلى المناوِل الثاني‪.‬‬
‫أما الرزق الحسن الذي أعدّه ال للذين هاجروا في سبيله‪ ،‬فيوضحه سبحانه في قوله‪ } :‬لَيُ ْدخِلَ ّنهُمْ‬
‫مّدْخَلً يَ ْرضَوْنَهُ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2634 /‬‬

‫ضوْنَ ُه وَإِنّ اللّهَ َلعَلِيمٌ حَلِيمٌ (‪)59‬‬


‫لَيُ ْدخِلَ ّنهُمْ مُ ْدخَلًا يَ ْر َ‬

‫لن الرزق قد يكون حسنا لكنه ل يُرضِي صاحبه‪ ،‬أما رزق ال لهؤلء فقد بلغ رضاهم‪ ،‬والرضا‪:‬‬
‫هو اقتناع النفس بشيء تجد فيه متعة‪ ،‬بحيث ل تستشرف إلى أعلى منه‪ ،‬ول تبغي أكثر من ذلك‪.‬‬
‫لذلك بعد أنْ ينعَم أهل الجنة بنعيمها‪ِ ،‬ممّا ل عَيْنٌ رأتْ‪ ،‬ول أذن سمعتْ‪ ،‬ول خطر على قلب‬
‫بشر‪ ،‬بعدها يتجلّى الحق ‪ -‬سبحانه ‪ -‬عليهم فيقول لعباده المؤمنين‪ :‬يا عبادي أرضيتم؟ فيقولون‪:‬‬
‫وكيف ل نرضى وقد أعطيْتنا ما لم ُتعْطِ أحدا من العالمين؟ قال‪ :‬أل أعطيكم أفضل من هذا؟ قالوا‪:‬‬
‫حلّ عليكم رضواني فل أسخط عليكم بعده أبدا‪.‬‬
‫وهل شيء أفضل مما نحن فيه؟ قال‪ :‬نعم‪ُ ،‬أ ِ‬
‫س ْوفَ ُيعْطِيكَ رَ ّبكَ فَتَ ْرضَىا }[الضحى‪:‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى لنبيه محمد صلى ال عليه وسلم‪ {:‬وَلَ َ‬
‫‪.]5‬‬
‫جعِي إِلَىا رَ ّبكِ رَاضِيَةً مّ ْرضِيّةً }[الفجر‪.]28 - 27 :‬‬
‫طمَئِنّةُ * ارْ ِ‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬ياأَيّ ُتهَا ال ّنفْسُ ا ْلمُ ْ‬
‫يبالغ في الرضا‪ ،‬حيث يتعداك الرضا إلى أن تكون عيشتك نفسها راضية‪ ،‬وكأنها تعشقك هي‪،‬‬
‫وترضى بك‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَإِنّ اللّهَ َلعَلِيمٌ حَلِيمٌ } [الحج‪.]59 :‬‬
‫عليم‪ :‬بما يستحقه كل إنسان عند الحساب من النعيم‪ ،‬ثم يزيد مَنْ يشاء من فضله‪ ،‬فليس حساب‬
‫ربك في الخرة كحسابكم في الدنيا‪ ،‬إنما حسابُه تعالى بالفضل ل بالعدل‪.‬‬
‫وحليم‪ :‬يحلم على العبد إنْ أساء‪ ،‬ويتجاوز للصالحين عن ال َهفَوات‪ ،‬فإنْ خالط عملك الصالح سوء‪،‬‬
‫وإنْ خالفت منهج ال في غفلة أو هفوة‪ ،‬فل تجعل هذا يعكر صفو علقتك بربك أو يُنغّص عليك‬
‫طمأنينة حياتك؛ لن ربك حليم سيتجاوز عن مثل هذا على حَدّ قولهم (حبيبك يبلع لك الزلط)‪.‬‬
‫لذلك " لما وَشَى أحد المؤمنين للكفار في فتح مكة‪ ،‬و َهمّ عمر أن يقتله فنهاه رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم وقال‪ :‬لعل ال قد اطلع على أهل بدر فقال‪ :‬افعلوا ما شئتم فقد غفرتُ لكم "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويكفي أنهم خرجوا بأنفسهم واقتحموا معركة غير متكافئة في العدد والعُدّة‪ ،‬أل نذكر لهم هذا‬
‫الموقف؟ ألم يقل الحق سبحانه‪ {:‬إِنّ ا ْلحَسَنَاتِ ُيذْهِبْنَ السّـيّئَاتِ‪[} ..‬هود‪ ]114 :‬ومَنِ ابتُلِي بشيء‬
‫يضعف أمامه‪ ،‬فليكن قويا فيما يقدر عليه‪ ،‬وإنْ غلبك الشيطان في باب من أبواب الشر فشمّر له‬
‫أنت في أبواب الخير‪ ،‬فإن هذا يُعوّض ذاك‪.‬‬
‫ك َومَنْ عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ بِهِ ثُمّ ُب ِغيَ عَلَ ْيهِ لَيَنصُرَنّهُ‪} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬ذاِل َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2635 /‬‬

‫غفُورٌ (‪)60‬‬
‫ك َومَنْ عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ بِهِ ُثمّ ُب ِغيَ عَلَ ْيهِ لَيَ ْنصُرَنّهُ اللّهُ إِنّ اللّهَ َل َع ُفوّ َ‬
‫ذَِل َ‬

‫{ ذاِلكَ } [الحج‪ ]60 :‬يعني‪ :‬هذا المر الذي تحدثنا فيه قد استقر‪ ،‬وإليك هذا الكلم الجديد { َومَنْ‬
‫عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ بِهِ ثُمّ ُب ِغيَ عَلَ ْيهِ لَيَنصُرَنّهُ‪[ } ..‬الحج‪.]60 :‬‬
‫الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬خلق النسان وجعل فيه ملكات مختلفة ليؤدي خلفته في الرض‬
‫بحركات متوازنة‪ ،‬فخلق لنا عواطف وجعل لها مهمة‪ ،‬هذه العواطف ل يحكمها قانون‪ .‬وخلق لنا‬
‫أيضا غرائز ولها مهمة‪ ،‬لكن محكومة بقانون تعلية الغرائز عند الخلق‪ ،‬فإياك أنْ تتعدى بغريزتك‬
‫إلى غير المهمة التي خلقها ال لها‪.‬‬
‫فمثلً‪ ،‬غريزة حب الطعام جعلها ال فيك لستبقاء الحياة‪ ،‬فل تجعلها غرضا أصيلً لذاتها‪ ،‬فتأكل‬
‫لمجرد أنْ تلتذّ بالكل؛ لنها لذة وقتية تعقبها آلم ومتاعب طويلة‪ .‬وهذه الغريزة جعلها ال في‬
‫النفس البشرية منضبطة تماما كما تضبط المنبّة مثلً‪ ،‬فحين تجوع تجد نفسك تاقتْ للطعام وطلبته‪،‬‬
‫ت مالتْ نفسك نحو الماء‪ ،‬وكأن بداخلك جرسا يُنبّهك إلى ما تحتاجه بنيتك من مُقوّمات‬
‫وإنْ عطش ْ‬
‫استبقائها‪.‬‬
‫حب الستطلع غريزة جعلها ال فيك لتنظر بها وتستطلع ما في الكون من أسرار دالة على قدرة‬
‫ال وعظمته‪ ،‬فل تتعدى هذا الغرض‪ ،‬ول تحرّك هذه الغريزة إلى التجسّس على الخَلْق والوقوف‬
‫على أسرارهم‪.‬‬
‫حفْظ النوع‪ ،‬فل ينبغي أنْ تتعدى ما جعلت له إلى ما حرّم ال‪.‬‬
‫التناسل غريزة جعلها ال ل ِ‬
‫ن تعرضتَ لسبابه‬
‫الغضب غريزة وانفعال َقسْري ل تختاره بعقلك تغضب أو ل تغضب‪ ،‬إنما إ ْ‬
‫فل تملك إل أنْ تغضب‪ ،‬ومع ذلك جعل له حدودا وقنّن له وأمر فيه بضبط النفس وعدم النزوع‪.‬‬
‫الحب والكُرْه غريزة وعاطفة ل تخضع لقانون‪ ،‬ول يحكمها العقل‪ ،‬فلك أن تحب وأن تكره‪ ،‬لكن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إياك أنْ تتعدّى هذه العاطفة إلى عمل عقليّ ونزوع تعتدي به أو تظلم‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى‪َ {:‬ولَ يَجْ ِرمَ ّنكُمْ شَنَآنُ َقوْمٍ عَلَى َألّ َتعْدِلُواْ‪[} ..‬المائدة‪.]8 :‬‬
‫لن هذه المسألة ل يحكمها قانون‪ ،‬وليس بيدك الحب أو الكره؛ لذلك لما قابل سيدنا عمر قاتل‬
‫أخيه قال له عمر‪َ :‬أدِرْ وجهك عني فإنّي ل أحبك‪ .‬وكان الرجل عاقلً فقال لسيدنا عمر‪َ :‬أوَ عَدمُ‬
‫حبك لي يمنعني حقا من حقوقي؟ قال عمر‪ :‬ل‪ ،‬فقال الرجل‪ :‬إنما يبكي على الحب النساء‪ .‬يعني‬
‫أحب أو اكره كما شِ ْئتَ‪ ،‬لكن ل تتعدّ ول تحرمني حقا من حقوقي‪.‬‬
‫صفُها البعض‬
‫فهل وقفنا بالغرائز عند حدودها وأهدافها؟ لو تأملتَ مثلً الغريزة الجنسية التي ي ِ‬
‫ِبمْلء فيه يقول‪ :‬غريزة بهيمية‪ ..‬سبحان ال َألَ تستحي أنْ تظلم البهائم لمجرد أنها ل تتكلّم‪ ،‬وهي‬
‫أفهم لهذه الغريزة منك‪َ ،‬ألَ تراها بمجرد أن يُخصّب الذكَر أُنثاه ل يقربها أبدا‪ ،‬وهي ل تمكّنه من‬
‫نفسها إذا ما حمَلتْ‪ ،‬في حين أنك تبالغ في هذه الغريزة‪ ،‬وتنطلق فيها انطلقا يُخرِجها عن هدفها‬
‫والحكمة منها؟ على مثل هذا أن يخزى أن يقول مثل هذه المقولة‪ ،‬وألّ يظلم البهائم‪ ،‬فمن الناس‬
‫مَنْ هم أَدنْى من البهائم بكثير‪.‬‬

‫وما يقال عن غريزة الجنس في الحيوان يقال كذلك في الطعام والشراب‪.‬‬


‫إذن‪ :‬الخالق سبحانه خلق الغرائز فيك‪ ،‬ولم يكبتها‪ ،‬وجعل لها منافذ شرعية لتؤدي مهمتها في‬
‫حياتك؛ لذلك أحاطها بسياج من التكليف يُنظّمها ويحكمها حتى ل تشرد بك‪ ،‬فقال مثلً في غريزة‬
‫سجِ ٍد وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلَ تُسْ ِرفُواْ‪} ..‬‬
‫الطعام والشراب‪ {:‬يَابَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَ َتكُمْ عِندَ ُكلّ مَ ْ‬
‫[العراف‪.]31 :‬‬
‫وقال في غريزة حب الستطلع‪ {:‬وَلَ َتجَسّسُواْ‪[} ..‬الحجرات‪ ]12 :‬وهكذا في كل غرائزك تجد‬
‫لها حدودا يجب عليك ألّ تتعداها‪.‬‬
‫شدّآءُ عَلَى‬
‫لذلك قلنا في صفات اليمان وفي صفات الكفر أن ال تعالى يصف المؤمنين بأنهم{ أَ ِ‬
‫حمَآءُ بَيْ َنهُمْ‪[} ..‬الفتح‪ ]29 :‬لنهم يضعون كل غريزة في موضعها فالشدة مع العداء‪،‬‬
‫ا ْل ُكفّارِ ُر َ‬
‫والرحمة مع إخوانهم المؤمنين‪ ،‬ويقف عند هذه الحدود ل يقلب مقاييسها‪ ،‬ويلتزم بقول الحق‬
‫سبحانه وتعالى{ أَذِلّةٍ عَلَى ا ْل ُم ْؤمِنِينَ أَعِ ّزةٍ عَلَى ا ْلكَافِرِينَ‪[} ..‬المائدة‪.]54 :‬‬
‫وكأن الخالق عز وجل يُسوّينا تسوية إيمانية‪ ،‬فالمؤمن لم يُخلَق عزيزا ول ذليلً‪ ،‬إنما الموقف هو‬
‫الذي يضعه في مكانه المناسب‪ ،‬فهو عزيز شامخ مع الكفار‪ ،‬وذليل مُنكسِر متواضع مع المؤمنين‪.‬‬
‫ويتفرع عن هذه المسألة مسألة ردّ العقوبة إذا اع ُتدِي عليك‪َ } :‬ومَنْ عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ بِهِ ُثمّ‬
‫ُب ِغيَ عَلَ ْيهِ لَيَنصُرَنّهُ اللّهُ‪[ { ..‬الحج‪.]60 :‬‬
‫الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬هو خالق النفس البشرية‪ ،‬وهو أعلم بنوازعها وخَلَجاتها؛ لذلك أباح لك‬
‫إن اعتدى عليك أنْ تردّ العتداء بمثله‪ ،‬حتى ل يختمر الغضب في نفسك‪ ،‬وقد ينتج عنه ما هو‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أشد وأبلغ في ردّ العقوبة‪ ،‬يبيح لك الرد بالمثل لتنتهي المسألة عند هذا الحد ول تتفاقم‪ ،‬فمَنْ‬
‫ضربك ضربة فلك أنْ تُنفّس عن نفسك وتضربه مثلها‪ ،‬لك ذلك‪ ،‬لكن تذكرّ المثلية هنا‪ ،‬ل بد أن‬
‫تكون تامة‪ ،‬كما قال سبحانه في موضع آخر‪ {:‬وَإِنْ عَاقَبْ ُتمْ َفعَاقِبُواْ ِبمِ ْثلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ‪[} ..‬النحل‪:‬‬
‫‪.]126‬‬
‫حدّة انفعالك كحِدّة‬
‫وهل تستطيع أن تضبط هذه المثلية فتردّ الضربة بمثلها؟ وهل قوتك كقوته‪ ،‬و ِ‬
‫انفعاله؟ ولو حدث وز ْدتَ في ردّك نتيجة غضب‪ ،‬ماذا تفعل؟ أتسمح له أنْ يردّ عليك هذه الزيادة؟‬
‫أم تكون أنت ظالما معتديا؟‬
‫سعَة‪ ،‬وفي قول ال بعدها‪ {:‬وَلَئِن صَبَرْتُمْ َل ُهوَ‬
‫إذن‪ :‬ماذا يُلجئك لمثل هذه المتاهة‪ ،‬ولك في التسامح ِ‬
‫خَيْرٌ لّلصّابِرينَ }[النحل‪ ]126 :‬مَخْرج من هذا الضيق؟‬
‫وسبق أنْ حكينا قصة المرابي اليهودي الذي قال لطالب الدّيْن‪ :‬إن تأخرت في السداد أشترط عليك‬
‫أنْ آخذ رطلً من لحمك‪ .‬وجاء وقت السداد ولم يُوف المدين‪ ،‬فرفعه الدائن إلى القاضي وأخبره‬
‫بما اشترطه عليه‪ ،‬فقال القاضي‪ :‬نعم من حقك أن تأخذ رطلً من لحمه لكن بضربة واحدة‬
‫بالسكين تأخذ رطلً‪ ،‬إنْ زاد أو نقص أخذناه منك‪.‬‬

‫إذن‪ :‬مسألة المثلية هنا عقبةٌ تح ّد من ثورة الغضب‪ ،‬وتفتح بابا للرتقاءات اليمانية‪ ،‬فإنْ كان‬
‫الحق سبحانه سمح لك أن تُنفّس عن نفسك فقال‪َ {:‬وجَزَآءُ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثُْلهَا‪[} ..‬الشورى‪ ]40 :‬فإنه‬
‫حسِنِينَ }[آل‬
‫حبّ ا ْلمُ ْ‬
‫س وَاللّهُ ُي ِ‬
‫ظمِينَ ا ْلغَيْظَ وَا ْلعَافِينَ عَنِ النّا ِ‬
‫يقول لك‪ :‬ل تنسَ العفو والتسامح{ وَا ْلكَا ِ‬
‫عمران‪.]134 :‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالية التي معنا تلفتنا َلفْتةً إيمانية‪َ } :‬ومَنْ عَا َقبَ ِبمِ ْثلِ مَا عُو ِقبَ ِبهِ‪[ { ..‬الحج‪ ]60 :‬واحدة‬
‫بواحدة } ثُمّ ُب ِغيَ عَلَ ْيهِ‪[ { ..‬الحج‪ ]60 :‬يعني‪ :‬زاده بعد أنْ ردّ العدوان بمثله وظلمه واعتدى‬
‫عليه } لَيَنصُرَنّهُ اللّهُ‪[ { ..‬الحج‪ ]60 :‬ينصره على المعتدي الذي لم يرتَض حكم ال في َر ّد العقوبة‬
‫بمثلها‪.‬‬
‫غفُورٌ { [الحج‪ ]60 :‬مع أن الصفة التي‬
‫وتلحظ في قوله تعالى مخايل النصر بقوله } إِنّ اللّهَ َل َعفُوّ َ‬
‫تناسب الّنصْرة تحتاج قوة وتحتاج عزة‪ ،‬لكنه سبحانه اختار صفة العفو والمغفرة ليلفت نظر مَنْ‬
‫عفُ؛ لن ربك عفو غفور‪ ،‬فاختار‬
‫أراد أنْ يعاقب إلى هذه الرتقاءات اليمانية‪ :‬اغفر وارحم وا ْ‬
‫الصفة التي تُحنّن قلب المؤمن على أخيه المؤمن‪.‬‬
‫ثم أليس لك ذنب مع ال؟{ َألَ تُحِبّونَ أَن َي ْغفِرَ اللّهُ َلكُمْ‪[} ..‬النور‪ ]22 :‬فما ُدمْت تحب أن يغفر ال‬
‫لك فاغفر لعباده‪ ،‬وحين تغفر لمَنْ يستحق العقوبة تأتي النتيجة كما قال ربك عز وجل‪ {:‬فَإِذَا الّذِي‬
‫حمِيمٌ }[فصلت‪.]34 :‬‬
‫ك وَبَيْنَهُ عَدَا َوةٌ كَأَنّ ُه وَِليّ َ‬
‫بَيْ َن َ‬
‫فالحق سبحانه يريد أن يشيع بيننا الصفاء النفسي والتلحم اليماني‪ ،‬فأعطاك حقّ َردّ العقوبة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بمثلها لتنفّس عن نفسك الغيظ‪ ،‬ثم دعاك إلى العفو والمغفرة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬ذاِلكَ بِأَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2636 /‬‬

‫سمِيعٌ َبصِيرٌ (‪)61‬‬


‫ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَا ِر وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ وَأَنّ اللّهَ َ‬

‫{ ذاِلكَ‪[ } ..‬الحج‪ ]61 :‬يعني ما قُلْته لك سابقا له دليل‪ ،‬فما هو؟ أن ال يأخذ من القوي ويعطي‬
‫للضعيف‪ ،‬ويأخذ من الطويل ويعطي للقصير‪ ،‬فالمسألة ليست ثابتة (أو مكانيكا) وإنما خلقها ال‬
‫بقدر‪ .‬والليل والنهار هما ظرفا الحداث التي تفعلونها‪ ،‬والحق سبحانه { يُولِجُ اللّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ‬
‫وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي اللّ ْيلِ‪[ } ..‬الحج‪.]61 :‬‬
‫يولج الليل يعني‪ :‬يُدخِل الليل على النهار‪ ،‬فيأخذ منه جزءا جزءا فيُطوّل الليل ويُقصّر النهار‪ ،‬ثم‬
‫يُدخِل النهار على الليل فيأخذ منه جزءا جزءا‪ ،‬فيُطوّل النهار ويُقصّر الليل؛ لذلك نراهما ل‬
‫يتساويان‪ ،‬فمرة يطول الليل في الشتاء مثلً‪ ،‬ويقصر النهار‪ ،‬ومرة يطول النهار في الصيف‪،‬‬
‫ويقصر الليل‪ .‬فزيادة أحدهما و َنقْص الخر أمر مستمر‪ ،‬وأغيار متداولة بينهما‪.‬‬
‫وإذا كانت الغيار في ظرف الحداث‪ ،‬فل بُدّ أن تتغير الحداث نفسها بالتالي‪ ،‬فعندما يتسع‬
‫الظرف يتسع كذلك الخير فيه‪ ،‬فمثلً عندنا في المكاييل‪ :‬الكَيْلة والقدح والوَيْبة وعندنا الردب‪،‬‬
‫وكل منهما يسَعُ من المحتوى على قدر سعته‪ .‬وهكذا كما نزيد أن ننقص في ظرف الحداث نزيد‬
‫وننقص في الحداث نفسها‪.‬‬
‫سمِيعٌ َبصِيرٌ } [الحج‪ ]61 :‬سمي ٌع لما يقال‪ ،‬بصيرٌ بما‬
‫ثم تُذيّل الية بقوله سبحانه‪ { :‬وَأَنّ اللّهَ َ‬
‫يفعل‪ ،‬فالقول يقابله الفعل‪ ،‬وكلهما عمل‪ ،‬والبعض يظن أن العمل شيء والقول شيء آخر‪ ،‬ل؛‬
‫لن العمل وظيفة الجارحة‪ ،‬فكل جارحة تؤدي مهمتها فهي تعمل‪ ،‬عمل العَيْن أن ترى‪ ،‬وعمل‬
‫الذن أنْ تسمع‪ ،‬وعمل اليد أن تلمس‪ ،‬وعمل النف أن يشُم‪ ،‬وكذلك عمل اللسان القول‪ ،‬فالقول‬
‫للسان وحده‪ ،‬والعمل لباقي الجوارح وكلهما عمل‪ ،‬فدائما نضع القول مقابل الفعل‪ ،‬كما في قوله‬
‫تعالى‪ {:‬لِمَ َتقُولُونَ مَا لَ َت ْفعَلُونَ }[الصف‪.]2 :‬‬
‫والسمع والبصر هما الجارحتان الرئيسيتان في النسان‪ ،‬وهما عمدة الحواس كلها‪ ،‬حيث تعملن‬
‫باستمرار على خلف الشّم مثلً‪ ،‬أو التذوق الذي ل يعمل إل عدة مرات في اليوم كله‪.‬‬

‫(‪)2637 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ (‪)62‬‬
‫طُ‬‫ذَِلكَ بِأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلحَقّ وَأَنّ مَا َيدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ُهوَ الْبَا ِ‬

‫حقّ‪[ } ..‬الحج‪:‬‬
‫{ ذاِلكَ‪[ } ..‬الحج‪ ]62 :‬أي الكلم السابق أمر معلوم انتهينا منه { بِأَنّ اللّهَ ُهوَ الْ َ‬
‫‪ ]62‬والحق هو الشيء الثابت الذي ل يتغير أبدا‪ ،‬ف ُكلّ ما سِوى ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يتغير‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه الذي يُغيّر ول يتغير؛ ولذلك أهل المعرفة يقولون‪ :‬إن ال تعالى ل يتغير من أجلكم‪ ،‬لكن‬
‫ن تتغيروا أنتم من أجل ال‪.‬‬
‫يجب عليكم أ ْ‬
‫وما دام أن ربك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬هو الحق الثابت الذي ل يتغير‪ ،‬وما عداه يتغير‪ ،‬فل تحزن‪ ،‬ويا‬
‫غضبان ا ْرضَ‪ ،‬ويا مَنْ تبكي اضحك واطمئن؛ لنك ابن أغيار‪ ،‬وفي دنيا أغيار ل تثبت على‬
‫شيء؛ لذلك فالنسان يغضب إذا أُصيب بعقبة في حياته يقول‪ :‬لو لم تكُنْ هذه!! نقول له‪ :‬وهل‬
‫ن وصلْت القمة ل بُدّ أنْ‬
‫تريدها كاملة؟ ل ُبدّ أنْ يصيبك شيء؛ لنك ابن أغيار‪ ،‬فماذا تنتظر إ ْ‬
‫تتراجع؛ لنك ابن أغيار دائم التقلّب في الحوال‪ ،‬وربك وحده هو الثابت الذي ل يتغير‪.‬‬
‫طلُ‪[ } ..‬الحج‪ ]62 :‬كل مَا تدعيه أو تعبده من‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَأَنّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ُهوَ الْبَا ِ‬
‫طلَ كَانَ َزهُوقا }[السراء‪:‬‬
‫دون ال هو الباطل‪ ،‬يعني الذي يَبْطُل‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬إِنّ الْبَا ِ‬
‫‪ ]81‬يعني‪ :‬يزول ول يثبت أبدا { وَأَنّ اللّهَ ُهوَ ا ْلعَِليّ ا ْلكَبِيرُ } [الحج‪ ]62 :‬العلي يعني‪ :‬كل خَلْقه‬
‫دونه‪ .‬وكبير يعني‪ :‬كل خَلْقه صغير‪.‬‬
‫ومن أسمائه تعالى { ا ْلكَبِيرُ } [الحج‪ ]62 :‬ول نقول أكبر إل في الذان‪ ،‬وفي افتتاح الصلة‪،‬‬
‫والبعض يظن أن أكبر أبلغ في الوصف من كبير‪ ،‬لكن هذا غير صحيح؛ لن أكبر مضمونه كبير‪،‬‬
‫إنما كبير مقابله صغير‪ ،‬فهو سبحانه الكبير؛ لن ما دونه وما عداه صغير‪.‬‬
‫أما حين يناديك ويستدعيك لداء فريضة ال يقول‪ :‬ال أكبر؛ لن حركة الحياة وضروريات العيش‬
‫عند ال أمر كبير وأمر هام ل يغفل‪ ،‬لكن إنْ كانت حركة الحياة والسعي فيها أمر كبيرا فال‬
‫لةُ فَان َتشِرُواْ‬
‫أكبر‪ ،‬فربّك يُخرجك للصلة من عمل‪ ،‬ويدعوك بعدها إلى العمل‪ {:‬فَِإذَا ُقضِ َيتِ الصّ َ‬
‫ضلِ اللّهِ‪[} ..‬الجمعة‪.]10 :‬‬
‫ض وَابْ َتغُواْ مِن َف ْ‬
‫فِي الَ ْر ِ‬
‫سمَآءِ مَآءً‪} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2638 /‬‬

‫خضَ ّرةً إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (‪)63‬‬


‫سمَاءِ مَاءً فَ ُتصْبِحُ الْأَ ْرضُ مُ ْ‬
‫أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَنْ َزلَ مِنَ ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ أََلمْ تَرَ‪[ } ..‬الحج‪ ]63 :‬إنْ كانت للمر الحِسّي الذي تراه العين‪ ،‬فأنت لم تَ َر ُه ونُنبهك إليه‪ ،‬وإنْ‬
‫كانت للمر الذي ل يُدرَك بالعين فهي بمعنى‪ :‬ألم تعلم‪ .‬وتركنا العلم إلى الرؤية لنبين لك أن الذي‬
‫يُعلّمك ال به أوثق مما تهديك إليه عَيْنك‪.‬‬
‫فالمعنى‪ :‬ألم تعلم وألم تنظر؟‪ .‬المعنيان معا‪.‬‬
‫سمَآءِ مَآءً‪[ } ..‬الحج‪ ]63 :‬فهذه آية تراها‪ ،‬لكن ترى منها الظاهر فقط‪،‬‬
‫{ أََلمْ تَرَ أَنّ اللّهَ أَن َزلَ مِنَ ال ّ‬
‫فترى الماء ينهمر من السماء‪ ،‬إنما كيف تكّون هذا الماء في طبقات الجو؟ ولماذا نزل في هذا‬
‫المكان بالذات؟ هذه عمليات لم تَرَها‪ ،‬وقدرة ال تعالى واسعة‪ ،‬ولك أن تتأمل لو أردتَ أنْ تجمع‬
‫كوب ماء واحد من ماء البخار‪ ،‬وكم يأخذ منك من جهد ووقت وعمليات تسخين وتبخير وتكثيف‪،‬‬
‫فهل رأيتَ هذه العمليات في تكوين المطر؟‬
‫إذن‪ :‬رأيت من المطر ظاهرة‪ ،‬لذلك يلفتك ربك إلى ما وراء هذا الظاهر لتتأمله‪.‬‬
‫لذلك؛ جعل الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬مسطح الماء ثلثة أرباع الكرة الرضية‪ ،‬فاتساع مُسطّح الماء‬
‫ل كوبَ ماء في غرفتك‪،‬‬
‫يزيد من ال َبخْر الذي ينشره ال تعالى على اليابس‪ ،‬كما لو وضعتَ مث ً‬
‫ت الكوب على أرض‬
‫وتركتَه مدة شهر أو شهرين‪ ،‬ستجد أنه ينقص مثلً سنتيمترا‪ ،‬أما لو نثر َ‬
‫الغرفة فسوف يجفّ بعد دقائق‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فاتساع رقعة الماء يزيد من كمية البخار المتصاعد منها‪ ،‬ونحن على اليابس نحتاج كمية‬
‫كبيرة من الماء ال َعذْب الصالح للزراعة وللشرب‪..‬الخ‪ ،‬ول يتوفر هذا إل بكثرة كمية المطار‪.‬‬
‫خضَ ّرةً‪[ } ..‬الحج‪ ]63 :‬يعني‪:‬‬
‫ثم يُبيّن سبحانه نتيجة إنزال الماء من السماء‪ { :‬فَ ُتصْبِحُ الَ ْرضُ مُ ْ‬
‫تصير بعد وقت قصير خضراء زاهية‪ .‬دون أن يذكر شيئا عن تدخّل النسان في هذه العملية‪،‬‬
‫فالنسان لم يحرث ولم يبذر ولم يَرْو‪ ،‬إنما المسألة كلها بقدرة ال‪ ،‬لكن من أين أتت البذور التي‬
‫كوّنَتْ هذا النبات؟ ومَنْ بذرها ووزّعها؟ البُذور كانت موجودة في التربة حيّة كامنة لم ُيصِبْها‬
‫شيء‪ ،‬وإنْ مَرّ عليها الزمن؛ لن ال تعالى يحفظها إلى أنْ تجد الماء وتتوفّر لها عوامل النبات‬
‫فتنبت؛ لذلك نُسمّي هذا النبات (العِذْى)؛ لنه خرج بقدرة ال ل دَخْل لحد فيه‪.‬‬
‫سلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ‪[} ..‬الحجر‪:‬‬
‫وتولّتْ الرياح َنقْل هذه البذور من مكان لخر‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَأَرْ َ‬
‫‪ ]22‬ولو سلس ْلتَ هذه البذرة ستجدها من شجرة إلى شجرة حتى تصل إلى شجرة أُمّ‪ ،‬خلقها الخالق‬
‫سبحانه ل شجرةَ قبلها ول بذرة‪ .‬لذلك يُرْوى أن يوسف النجار وكان يرعى السيدة مريم عليها‬
‫السلم ويشرف عليها‪ ،‬ويقال كان خطيبها ‪ -‬لما رآها حاملً وليس لها زوج سألها بأدب‪ :‬يا مريم‪،‬‬
‫ت أول بذرة‪.‬‬
‫أتوجد شجرة بل بذرة؟ قالت‪ :‬نعم الشجرة التي أنبت ْ‬

‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬إِنّ اللّهَ َلطِيفٌ خَبِيرٌ { [الحج‪ ]63 :‬اللطْف هو ِدقّة التناول للشياء‪ ،‬فمثلً حين‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تريد أن تدخل خيطا في إبرة‪ ،‬تجد الخيط ل ينفذ من ثقبها لول مرة‪ ،‬فتحاول أنْ تُرفّق من طرف‬
‫الخيط وتبرمه حتى يدِقّ فينفذ من الثقب‪ ،‬فالخيط بعد أنْ كان غليظا أصبح لطيفا دقيقا‪.‬‬
‫ويقولون‪ :‬الشيء كلما لَطُف عَنُف‪ ،‬في حين يظن البعض أن الشيء الكبير هو القوي‪ ،‬لكن هذا‬
‫غير صحيح‪ ،‬فكلما كان الشيء لطيفا دقيقا كان خطره أعظم‪َ ،‬ألَ ترى الميكروب كيف يصيب‬
‫النسان وكيف ل نشعر به ول نجد له ألما؟ ذلك لنه دقيق لطيف‪ ،‬وكذلك له مدخل لطيف ل‬
‫صغَر بحيث ل تراه بالعين المجردة‪.‬‬
‫تشعر به؛ لنه من ال ّ‬
‫والبعوضة كم هي هيّنة صغيرة؛ لذلك تُؤلمك لدغتها بخرطومها الدقيق الذي ل تكاد تراه‪ ،‬وكلما‬
‫َدقّ الشيء احتاج إلى احتياط أكثر لتحمي نفسك من خطره‪ ،‬فمثلً إنْ أردتَ بناء بيت في الخلء‬
‫أو منطقة نائية‪ ،‬فإنك ستضطر أنْ تضع حديدا على الشبابيك يحميك من الحيوانات المفترسة‬
‫كالذئاب مثلً‪ ،‬ثم تضع شبكة من السلك لتحميك من الفئران‪ ،‬فإن أر ْدتَ أن تحمي نفسك من الذباب‬
‫صغُر الشيء ولطف احتاج إلى احتياط أكثر‪.‬‬
‫والبعوض احتجت إلى سِلْك أدق‪ ،‬وهكذا كلما َ‬
‫فاللطيف هو الذي يدخل في الشياء بلطف؛ لذلك يقولون‪ :‬فلن لطيف المدخل يعني‪ :‬يعني‪ :‬يدخل‬
‫ضعْف يدخل إليه منها‪ ،‬كأن معه (طفاشة)‬
‫لكل إنسان بما يناسبه‪ ،‬ويعرف لكل إنسان نقطة َ‬
‫للرجال‪ ،‬يستطيع أن يفتح بها أي شخصية‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما علقة قوله تعالى } إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [الحج‪ ]63 :‬بعد قوله‪ } :‬فَ ُتصْبِحُ الَرْضُ‬
‫خضَ ّرةً‪[ { ..‬الحج‪]63 :‬؟ قالوا‪ :‬لن عملية النبات تقوم على مَسَامّ وشعيرات دقيقة تخرج من‬
‫مُ ْ‬
‫البذرة بعد النبات‪ ،‬وتمتصّ الغذاء من التربة‪ ،‬هذه الشعيرات الجذرية تحتاج إلى ُلطْف‪،‬‬
‫ضلُ‬
‫ح ٍد وَ ُنفَ ّ‬
‫سقَىا ِبمَآ ٍء وَا ِ‬
‫وامتصاص الغذاء المناسب لكل نوع يحتاج إلى خبرة‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬يُ ْ‬
‫لكُلِ‪[} ..‬الرعد‪.]4 :‬‬
‫ضهَا عَلَىا َب ْعضٍ فِي ا ُ‬
‫َب ْع َ‬
‫فالرض تصبح مُخضَرّة من ُلطْف الحق سبحانه‪ ،‬ومن خبرته في مداخل الشياء‪ ،‬لذلك قال‬
‫بعدها‪ } :‬إِنّ اللّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ { [الحج‪.]63 :‬‬
‫ول ِدقّة الشعيرات الجذرية نحرص ألّ تعلو المياه الجوفية في التربة؛ لنها تفسد هذه الشعيرات‬
‫فتتعطن وتموت فيصفرّ النبات ويموت‪.‬‬
‫سمَاوَاتِ َومَا فِي الَ ْرضِ وَإِنّ اللّهَ‪{ ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬لّهُ مَا فِي ال ّ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2639 /‬‬

‫حمِيدُ (‪)64‬‬
‫ض وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ ا ْلغَ ِنيّ الْ َ‬
‫ت َومَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫لَهُ مَا فِي ال ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فما في السموات وما في الرض مِلْك ل تعالى‪ ،‬ومع ذلك ل ينتفع منها الحق سبحانه بشيء‪ ،‬إنما‬
‫ي عنها وغنيّ عنهم‪ ،‬وبصفات الكمال فيه سبحانه خلق ما في‬
‫خلقها لمنفعة خَلْقه‪ ،‬وهو سبحانه غن ّ‬
‫حمِيدُ } [الحج‪.]64 :‬‬
‫السماوات وما في الرض؛ لذلك قال بعدها‪ { :‬وَإِنّ اللّهَ َل ُهوَ ا ْلغَنِيّ ا ْل َ‬
‫وصفات الكمال في ال تعالى موجودة قبل أنْ يخلق الخَلْق‪ ،‬وبصفات الكمال خلق‪ ،‬وملكيته تعالى‬
‫للسماوات وللرض‪ ،‬ولما فيهما ملكية للظرف وللمظروف‪ ،‬ونحن ل نملك السماوات‪ ،‬ول نملك‬
‫الرض‪ ،‬إنما نملك ما فيهما من خيرات ومنافع مما ملّكنا ال له‪ ،‬فهو الغني سبحانه‪ ،‬المالك لكل‬
‫شيء‪ ،‬وما ملّكنا ال له‪ ،‬فهو الغني سبحانه‪ ،‬المالك لكل شيء‪ ،‬وما ملّكنا إل من باطن مُلْكه‪.‬‬
‫والحميد‪ :‬يعني المحمود‪ ،‬فهو غني محمود؛ لن غنَاه ل يعود عليه سبحانه‪ ،‬إنما يعود على خَلْقه‪،‬‬
‫فيحمدونه لغنَاه‪ ،‬ل يحقدون عليه‪ ،‬ومن العجيب أن الحق سبحانه يُملّك خَ ْلقَه من مُلْكه‪ ،‬فمَن استخدم‬
‫النعمة فيما جُعلتْ له‪ ،‬ومَنْ أعطى غير القادر من نعمة ال عليه يشكر ال له‪ ،‬وهي في الصل‬
‫نعمته‪ .‬ذلك لنك أنت عبده‪ ،‬وقد استدعاك للوجود‪ ،‬وعليه سبحانه أنْ يتولّك ويرعاك‪.‬‬
‫فإن احتاج غير القادر منك شيئا‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬مّن ذَا الّذِي ُيقْ ِرضُ اللّهَ قَرْضا حَسَنا‪[} ..‬البقرة‪:‬‬
‫‪.]245‬‬
‫فاعتبره قرضا‪ ،‬وهو ماله‪ ،‬لكنه ملّكك إياه؛ لذلك ل يسلبه منك إنما يأخذه قرضا حسنا ويضاعفه‬
‫لك؛ لنه غنيّ حميد أي‪ :‬محمود‪ ،‬ول يكون الغنى محمودا إل إذا كان غير الغني مستفيدا من‬
‫غِنَاه‪.‬‬
‫ض وَا ْلفُ ْلكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ سَخّرَ َلكُم مّا فِي الَرْ ِ‬
‫بَِأمْ ِرهِ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2640 /‬‬

‫سمَاءَ أَنْ َتقَعَ عَلَى‬


‫سكُ ال ّ‬
‫ض وَا ْلفُ ْلكَ َتجْرِي فِي الْبَحْرِ بَِأمْ ِر ِه وَ ُيمْ ِ‬
‫أَلَمْ تَرَ أَنّ اللّهَ سَخّرَ َلكُمْ مَا فِي الْأَ ْر ِ‬
‫الْأَ ْرضِ إِلّا بِِإذْنِهِ إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ َرحِيمٌ (‪)65‬‬

‫هذه الية امتداد للية السابقة‪ ،‬فما في السماء وما في الرض مِلْك له سبحانه لكنه سخّره لمنفعة‬
‫خَلْقه‪ ،‬فإنْ سأل سائل‪ :‬فلماذا ل يجعلها ال لنا ويُملكنا إياها؟ نقول‪ :‬لن ربك يريد أنْ يُطمئِنك أنه‬
‫لن يعطيها لحد أبدا‪ ،‬وستظل مِلْكا ل وأنت تنتفع بها‪ ،‬وهل تأمن إنْ ملّكها ال لغيره أنْ يتغيّر لك‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ويحرمك منها؟ فأمْنُك في أن يظل الملْك ل وحده؛ لنه ربك ومُتولّيك‪ ،‬ولن يتغير لك‪ ،‬ولن يتنكّر‬
‫في منفعتك‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَا ْلفُلْكَ َتجْرِي فِي الْ َبحْرِ بَِأمْ ِرهِ‪[ } ..‬الحج‪ ]65 :‬الفُلْك‪ :‬السفن‪ ،‬تُطلق على المفرد‬
‫وعلى الجمع‪ ،‬تجري في البحر بأمره تعالى‪ ،‬فتسير السفن بالريح حيث أمرها ال‪ ،‬كما قال‬
‫سبحانه‪ {:‬وَ َتصْرِيفِ الرّيَاحِ‪[} ..‬البقرة‪ ]164 :‬وهذه ل يملكها ول يقدر عليها إل ال‪ ،‬وقال في آية‬
‫ظهْ ِرهِ‪[} ..‬الشورى‪.]33 :‬‬
‫ظلَلْنَ َروَاكِدَ عَلَىا َ‬
‫سكِنِ الرّيحَ فَيَ ْ‬
‫أخرى‪ {:‬إِن يَشَأْ ُي ْ‬
‫وتأمّل ِدقّة الداء القرآني من ال الذي يعلم ما كان‪ ،‬ويعلم ما يكون‪ ،‬ويعلم ما سيكون‪ ،‬فلقائل الن‬
‫ن يقول‪ :‬لم َنعُد في حاجة إلى الريح تُسيّر السفن‪ ،‬أو توجهها؛ لنها أصبحت تسير الن بآلت‬
‫أْ‬
‫ومحركات‪ ،‬نعم السفن الن تسير بالمحركات‪ ،‬لكن للريح معنى أوسع من ذلك‪ ،‬فالريح ليست هذه‬
‫القوة الذاتية التي تدفع السفن على صفحة الماء‪ ،‬إنما الريح تعني القوة في ذاتها‪ ،‬أيا كانت ريحا أم‬
‫بُخَارا أم كهرباء أم ذرة‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫حكُمْ‪[} ..‬النفال‪ ]46 :‬يعني‪ :‬تذهب قوتكم أيًا‬
‫بدليل قوله تعالى‪َ {:‬ولَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُو ْا وَتَ ْذ َهبَ رِي ُ‬
‫كانت هذه القوة حتى الصياد الذي يركب البحر بقارب صغير يُسيّره بالمجاديف بقوة يده‬
‫وعضلته هي أيضا قوة‪ ،‬ل تخرج عن هذا المعنى‪.‬‬
‫وهكذا يظل معنى الية صالحا لكل زمان ولكل مكان‪ ،‬وإلى أن تقوم الساعة‪.‬‬
‫سلْنَا عَلَ ْيهِمُ‬
‫والريح إنْ أُفر َدتْ دّلتْ على حدوث شَ ّر وضرر‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬وفِي عَادٍ ِإذْ أَرْ َ‬
‫الرّيحَ ا ْل َعقِيمَ }[الذاريات‪.]41 :‬‬
‫حكُمْ‪[} ..‬النفال‪]46 :‬‬
‫وقوله‪ {:‬وَتَذْ َهبَ رِي ُ‬
‫وقوله‪َ {:‬بلْ ُهوَ مَا اسْ َت ْعجَلْتُم ِبهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ }[الحقاف‪]24 :‬‬
‫وإنْ جاءت بصيغة الجمع دلّت على الخير‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ‪} ..‬‬
‫[الحجر‪.]22 :‬‬
‫وسبق أنْ تحدثنا عن مهمة الريح في تماسك الشياء وقيامها بذاتها‪ ،‬فالجبل الشمّ الذي تراه ثابتا‬
‫راسخا إنما ثبتَ بأثر الريح عليه‪ ،‬وإحاطته به من كل جانب‪ ،‬بحيث لو فُرّغ الهواء من أحد‬
‫جوانب الجبل لنهار‪ ،‬وهذه هي الفكرة التي قامت عليها القنبلة‪ ،‬فالهواء هو الذي يقيم المباني‬
‫والعمارات ويثبتها؛ لنه يحيطها من كل جانب‪ ،‬فيُحدِث لها هذا التوازن‪ ،‬فإنْ فُرّغ من أحد‬
‫الجوانب ينهار المبنى‪.‬‬
‫سمَآءَ أَن َتقَعَ عَلَى الَ ْرضِ ِإلّ بِِإذْنِهِ‪[ } ..‬الحج‪ ]65 :‬فالسماء مرفوعة‬
‫سكُ ال ّ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَ ُيمْ ِ‬
‫عمَد‪ ،‬ل يمسكها فوقنا إل ال بقدرته وقيوميته أنْ تقع على الرض إل بإذنه تعالى‪ ،‬كما‬
‫فوقنا بل َ‬
‫قال في آية أخرى‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدٍ مّن َبعْ ِدهِ‪[} ..‬فاطر‪:‬‬
‫س َك ُهمَا مِنْ أَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ أَن تَزُولَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ َأمْ َ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫{ إِنّ اللّهَ ُيمْ ِ‬
‫‪.]41‬‬
‫} إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيمٌ { [الحج‪ ]65 :‬فمن صفاته تعالى الرأفة والرحمة‪ ،‬وال َفهْم السطحي‬
‫لهاتين الصفتين يرى أنهما واحد‪ ،‬لكن هما صفتان مختلفتان‪ ،‬فالرأفة تزيل اللم‪ ،‬والرحمة تزيد‬
‫النعام‪ ،‬والقاعدة أن درْء المفسدة مُقدّم دائما على جَلْب المصلحة‪ ،‬فربك يرأف بك فيزيل عنك‬
‫أسباب اللم قبل أن يجلب لك نفعا برحمته‪.‬‬
‫وسبق أن أوضحنا هذه المسألة بمثل‪ :‬قلنا َهبْ أن واحدا يرميك بحجر‪ ،‬وآخر يرمي لك تفاحة‪،‬‬
‫فأيّهما يشغلك أولً؟ ل شكّ ستُشغل بالحجر‪ ،‬كيف تقي نفسك من ضرره ثم تحاول أن تنال هذه‬
‫التفاحة؟‬
‫جلٍ‬
‫لذلك قال تعالى‪ {:‬وََلوْ ُيؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُ ْل ِمهِمْ مّا تَ َركَ عَلَ ْيهَا مِن دَآبّ ٍة وَلكِن ُيؤَخّ ُرهُمْ إلَىا َأ َ‬
‫سمّىا‪[} ..‬النحل‪.]61 :‬‬
‫مّ َ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَ ُهوَ الّذِي أَحْيَاكُمْ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ ُثمّ يُحْيِي ُكمْ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2641 /‬‬

‫وَ ُهوَ الّذِي َأحْيَاكُمْ ثُمّ ُيمِي ُتكُمْ ثُمّ ُيحْيِيكُمْ إِنّ الْإِنْسَانَ َل َكفُورٌ (‪)66‬‬

‫الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يُذكّرنا ببعض نعمه وببعض العمليات التي لو تتبعناها لوقفنا بمقتضاها‬
‫على ِنعَم ال علينا‪ ،‬ولم نَنْسها أبدا‪.‬‬
‫أولها‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي َأحْيَاكُمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]66 :‬والحياء‪ :‬أن يعطي المحيي ما يُحييه قوة يؤدي بها‬
‫المهمة المخلوق لها‪ .‬والحياء الول في آدم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬حين خلقه ربه وسوّاه ونفخ فيه من‬
‫روحه‪ ،‬ثم أوجدنا نحن من ذريته‪.‬‬
‫{ ُثمّ ُيمِي ُتكُمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]66 :‬وكما أن الخَلْق آية من آيات ال‪ ،‬فكذلك الموت آية من آيات ال‪،‬‬
‫نراها ونلمسها‪ ،‬وما ُد ْمتَ تُصدّق بآية الخَلْق وآية الموت‪ ،‬وتراهما‪ ،‬ول تشك فيهما‪ ،‬فحين نقول‬
‫لك إن بعد هذا حياة أخرى فصدّق؛ لن صاحب هذه اليات واحد‪ ،‬والمقدمات التي تحكم أنت‬
‫بصدقها يجب أنْ تؤدي إلى نتيجة تحكم أيضا بصدقها‪ ،‬وها هي المقدمات بين يديك صادقة‪.‬‬
‫لذلك يقول تعالى بعدها‪ُ { :‬ثمّ يُحْيِيكُمْ‪[ } ..‬الحج‪ ]66 :‬والحياء يُطلَق في القرآن على معانٍ‬
‫متعددة‪ ،‬منها الحياة المادية التي تتمثل في الحركة والكل والشرب‪ ،‬ومنها الحياة في الخرة التي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قال ال عنها‪ {:‬وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ‪[} ..‬العنكبوت‪.]64 :‬‬
‫وهذه الحياة الحقيقية؛ لن حياة الدنيا تعتريها الغيار‪ ،‬ويتقلّب فيها النسان بين القوة والضعف‪،‬‬
‫صغَر والكِبَر‪ ،‬وبعد ذلك يعتريها الزوال‪ ،‬أما حياة الخرة‬
‫والصحة والمرض‪ ،‬والغنى والفقر‪ ،‬وال ّ‬
‫التي وصفها ال بأنها الحيوان يعني‪ :‬مبالغة في الحياة‪ ،‬فهي حياة ل أغيار فيها ول زوالَ لها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لديك حياتان‪ :‬حياة لِبنْية المادة وبها تتحرك وتُحِس وتعيش‪ ،‬وحياة أخرى باقية ل زوالَ لها‪.‬‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْ َتجِيبُواْ للّ ِه وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم ِلمَا ُيحْيِيكُمْ‪..‬‬
‫}[النفال‪ ]24 :‬كيف ‪ -‬إذن ‪ -‬ونحن أحياء؟ قالوا‪ :‬لما يحييكم ليست حياة الدنيا المادية التي‬
‫تعتريها الغيار‪ ،‬إنما يحييكم الحياةَ الحقيقية في الخرة‪ ،‬الحياة الباقية التي ل تزول‪ ،‬التي قال ال‬
‫عنها‪ {:‬وَإِنّ الدّارَ الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت‪ ]64 :‬يعني‪ :‬العلم الحقيقي‬
‫الذي يهدي صاحبه‪.‬‬
‫فإن كانت الحياة المادية الدنيوية بنفْخ الروح في النسان‪ ،‬ف ِب َم تكون الحياة الثانية{ ِإذَا دَعَاكُم ِلمَا‬
‫يُحْيِيكُمْ‪[} ..‬النفال‪.]24 :‬‬
‫قالوا‪ :‬هذه الحياة تكون بروح أيضا‪ ،‬لكن غير الروح الولى‪ ،‬إنها بروح القرآن الذي قال ال فيه‪{:‬‬
‫َوكَذَِلكَ َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ رُوحا مّنْ َأمْرِنَا‪[} ..‬الشورى‪ ]52 :‬وسمّى المَلك الذي ينزل به روحا‪ {:‬نَ َزلَ بِهِ‬
‫لمِينُ }[الشعراء‪.]193 :‬‬
‫حاَ‬
‫الرّو ُ‬
‫فالروح الثانية التي تُحييك الحياة الحقيقية الخالدة هي منهج ال في كتابه الكريم‪ ،‬إن اتبعته نِ ْلتَ‬
‫هذه الحياة الباقية الخالدة وتمتعتَ فيها بما ل عَيْن رأت‪ ،‬ول أذن سمعتْ‪ ،‬ول خطر على قلب‬
‫بشر‪ ،‬وهي ل مقطوعة ول ممنوعة‪.‬‬
‫ن الِنْسَانَ َلكَفُورٌ } [الحج‪ ]66 :‬كفور‪ :‬صيغة مبالغة من كافر‪ ،‬والكفور الذي‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬إِ ّ‬
‫لم يعرف للمنعِم حَقّ النعمة‪ ،‬مع أنه لو تبيّنها لما انفكّ أبدا عن شكر المنعم سبحانه‪.‬‬

‫والنسان يمرّ بمراحل مختلفة بين الحياة والموت‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬قَالُواْ رَبّنَآ َأمَتّنَا اثْنَتَيْنِ‬
‫وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَ َرفْنَا ِبذُنُوبِنَا َف َهلْ إِلَىا خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ }[غافر‪ ،]11 :‬فمتى سيقولون هذا‬
‫الكلم؟‬
‫قالوا‪ :‬هذا يوم القيامة‪ ،‬وقد أحياهم ال من موت العدم‪ ،‬فأحياهم في الدنيا ثم أماتهم‪ ،‬ثم أحياهم في‬
‫الخرة‪ ،‬فهناك موت قبل إيجاد‪ ،‬وموت بعد إيجاد‪ ،‬ثم يأتي البعث في القيامة‪ .‬وقوله تعالى‪ } :‬وَ ُهوَ‬
‫الّذِي َأحْيَاكُمْ‪[ { ..‬الحج‪ ]66 :‬قضية قالها الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ولم يدعها أحد لنفسه مع كثرة‬
‫الكفار والملحدة والفاقين في كل زمان ومكان‪ ،‬لم نسمع مَنِ ادّعَى مسألة الخَلْق‪ ،‬وهذه قضية‬
‫يجب أن نقف عندها وأن نبحث‪ :‬لماذا لم يظهر مَنْ يدّعي ذلك؟ وإذا لم يَدّع الخَلْق أحدٌ‪ ،‬ولم يدّع‬
‫الحياء أحد‪ ،‬فمَنْ ‪ -‬إذن ‪ -‬صاحب الخَلْق والحياء والماتة؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذا كان الناس يهتمون ويؤرخون ليّ مخترع آلة مثلً‪ ،‬فيقولون‪ :‬مخترع الكهرباء فلن وعاش‬
‫في بلدة كذا‪ ،‬وكان من أمره كذا وكذا‪ ،‬وتعلم في كذا‪ ،‬وحصل على كذا‪..‬الخ فكيف بمَنْ خلقكم‬
‫وأحياكم من عدم؟ خاصة وهذه المسألة لم يتبجح بادعائها أحد فثبتت القضية له سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫لمْرِ وَا ْدعُ ِإلَىا‬
‫سكُوهُ فَلَ يُنَازِعُ ّنكَ فِي ا َ‬
‫جعَلْنَا مَنسَكا هُمْ نَا ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ّ } :‬ل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫رَ ّبكَ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2642 /‬‬

‫سكُوهُ فَلَا يُنَازِعُ ّنكَ فِي الَْأمْ ِر وَا ْدعُ إِلَى رَ ّبكَ إِ ّنكَ َلعَلَى ُهدًى مُسْ َتقِيمٍ (‬
‫سكًا هُمْ نَا ِ‬
‫جعَلْنَا مَ ْن َ‬
‫ِل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫‪)67‬‬

‫الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬خلق آدم عليه السلم خليفة له في الرض‪ ،‬وأجرى له تدريبا على‬
‫مهمته بالمر اللهي والنهي اللهي‪ ،‬وأخبره بعداوة الشيطان له ولذريته‪ ،‬وحذّره أن يتبع خطواته‪،‬‬
‫وقد انتهت هذه التجربة بنزول آدم من الجنة إلى الرض ليباشر مهمته كخليفة ل في أرضه على‬
‫أنْ يظلّ على ِذكْر من تجربته مع الشيطان‪ .‬وقد سخّر ال له كل شيء في الوجود يخدمه ويعمل‬
‫من أجله‪.‬‬
‫ثم أنزل ال عليه منهجا‪ ،‬يعمل به لتستقيم حركة حياته وحياة ذريته‪ ،‬وذكّره بالمنهج التدريبي‬
‫ط ِفقَا‬
‫السابق الذي كلّفه به في الجنة‪ ،‬وما حدث له لما خالف منهج ربه‪ ،‬حيث ظهرت عورته‪ {:‬وَ َ‬
‫صفَانِ عَلَ ْي ِهمَا مِن وَرَقِ ا ْلجَنّةِ‪[} ..‬العراف‪.]22 :‬‬
‫خ ِ‬
‫يَ ْ‬
‫كذلك إنْ خالفت هذا المنهج اللهي في الدنيا ستظهر عوراتكم لذلك إذا رأيت أيّ عورة في‬
‫المجتمع في أيّ ناحية‪ :‬في الجتماع‪ ،‬في القتصاد‪ ،‬في التربية‪ ،‬فاعلم أن حكما من أحكام ال قد‬
‫عُطّل‪ ،‬فظهرت سوأة من سوءات المجتمع؛ لن منهج ال هو قانون الصيانة الذي يحميك وينظم‬
‫حياتك لتؤدي مهمتك في الحياة‪.‬‬
‫كما لو دخلتَ بيتك فوجدتَ آلة من آلت البيت ل تؤدي مهمتها‪ ،‬فتعلم أن بها عطلً فتذهب بها‬
‫إلى المهندس المختص بصيانتها‪ ،‬كذلك إن تعطل في حياتكم شيء عن أداء مهمته فردّوه إلى‬
‫صاحب صيانته إلى ال وإلى الرسول‪ ،‬وهذا منطق حازم يعترف به الجميع المؤمن والكافر أن‬
‫ترد الصنعة إلى صانعها‪ ،‬وإلى العالِم بقانون صيانتها‪ ،‬وأنت لم يدّع أحد أنه خلقك‪ ،‬فحين يحدث‬
‫فيك خَلَل‪ ،‬فعليك أنْ تذهبَ إلى ربك وخالقك‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لذلك " كان النبي صلى ال عليه وسلم إذا حزبه أمر قام إلى الصلة " ‪ ،‬ومعنى " حزبه أمر "‬
‫يعني‪ :‬شيء فوق طاقته وأسبابه‪ ،‬يُهرَع إلى الصلة ليعرض نفسه على ربه عز وجل‪ ،‬فإنْ وجدتَ‬
‫في نفسك خللً في أي ناحية‪ ،‬فما عليك إل أنْ تتوضأ‪ ،‬وتقف بين يدي ربك ليصلح ما تعطل فيك‪.‬‬
‫وإن كان المهندس يُصلح لك اللة بشيء مادي‪ ،‬ولو قطعة صغيرة من السلك‪ ،‬فإن ربك عز وجل‬
‫غَيْب‪ ،‬وعلجه أيضا غَيْب يأتيك من حيث ل تدري‪.‬‬
‫خلْقه فيه أصول وفيه فروع‪ ،‬الصول‪ :‬أن تؤمن بالله الواحد‬
‫ومنهج ال الذي وضعه لصيانة َ‬
‫الفاعل المختار‪ ،‬وهذه قاعدة ما اختلف عليها أيّ من رسالت السماء أبدا‪ ،‬كما يقول تعالى‪ {:‬شَ َرعَ‬
‫َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا ِبهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْيكَ‪[} ..‬الشورى‪.]13 :‬‬
‫فهذه أصول ل يختلف عليها دين من الديان‪ ،‬لكن لما كان الناس منثورين في شتى بقاع الرض‪،‬‬
‫تعيش كل جماعة منهم منعزلةً عن الخرى ل ُبعْد المسافات وانعدام وسائل التصال واللتقاء التي‬
‫نراها اليوم‪ ،‬والتي جعلتْ العالم كله قرية واحدة‪ ،‬ما يحدث في أقصى الشرق تراه وتسمع به في‬
‫أقصى الغرب‪ ،‬وفي نفس الوقت‪.‬‬

‫لما عاش الناس هذه العزلة ل يدري أحد بأحد لدرجة أنهم كانوا منذ مائتي عام يكتشفون قارات‬
‫جديدة‪.‬‬
‫وقد نشأ عن هذه العزلة أنْ تعددت الداءات بتعدد الجماعات‪ ،‬فكان الرسول أو النبي يأتي ليعالج‬
‫الداءات في جماعة بعينها يُبعَث إلى قومه خاصة‪ ،‬فهذا ليعالج مسألة الكيل والميزان‪ ،‬وهذا ليعالج‬
‫طغيان المال‪ ،‬وهذا ليعالج انحراف الطباع وشذوذها‪ ،‬وهذا ليعالج التعصب القبلي‪.‬‬
‫أما رسالة محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فجاءت في بداية التقاء الجماعات هنا وهناك‪ ،‬فكانت‬
‫رسالته صلى ال عليه وسلم عامة للناس كافة‪ ،‬وتجد أصول الرسالت عند موسى وعيسى ومحمد‬
‫ل واحدة‪ ،‬أمّا الفروع فتختلف باختلف البيئات‪.‬‬
‫عليهم الصلة والسلم أصو ً‬
‫لكن‪ ،‬لما كان في علمه تعالى أن هذه العزلة ستنتهي‪ ،‬وأن هذه البيئات ستجتمع وتلتقي على أمر‬
‫واحد وستتحد فيها الداءات؛ لذلك أرسل الرسول الخاتم لهم جميعا على امتداد الزمان والمكان‪.‬‬
‫سكُوهُ‪[ { ..‬الحج‪ ]67 :‬أي‪ :‬أن الحق سبحانه جعل‬
‫جعَلْنَا مَنسَكا هُمْ نَا ِ‬
‫وفي هذه الية‪ّ } :‬ل ُكلّ ُأمّةٍ َ‬
‫لكل أمة من المم التي بعث فيها الرسل مناسك تناسب أقضية زمانهم؛ لنهم كانوا في عزلة‬
‫جعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً َومِنْهَاجا‪[} ..‬المائدة‪]48 :‬‬
‫بعضهم عن بعض‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ِ {:‬ل ُكلّ َ‬
‫فالشرائع تختلف في الفروع المناسبة للزمان وللمكان وللبيئة‪ ،‬أما الخلق والعقائد فهي واحدة‪،‬‬
‫فال عز وجل إله واحد في كل ديانات السماء‪ ،‬والكذب مُحرّم في كل ديانات السماء لم ي ْأتِ نبي‬
‫من النبياء ليبيح لقومه الكذب‪.‬‬
‫ي َو َممَاتِي للّهِ َربّ‬
‫سكِي َومَحْيَا َ‬
‫ن صَلَتِي وَنُ ُ‬
‫والمنسك‪ :‬المنهج التعبدي‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪ُ {:‬قلْ إِ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ا ْلعَاَلمِينَ }[النعام‪.]162 :‬‬
‫سكُوهُ‪[} ..‬الحج‪ ]67 :‬يعني‪ :‬فاعلوه‪.‬‬
‫{ هُمْ نَا ِ‬
‫ن يقولوا‪ :‬أنت رسول ونحن أيضا‬
‫لمْرِ‪[ { ..‬الحج‪ ]67 :‬كأ ْ‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬فَلَ يُنَازِعُ ّنكَ فِي ا َ‬
‫نتبع رسولً‪ ،‬له منهج وله شريعة‪ ،‬نعم‪ :‬لكن هذه شريعة خاتمة جاءت مهيمنة على كل الشرائع‬
‫قبلها‪ ،‬ومناسبة لمستجدّات المور‪.‬‬
‫لذلك يُطمئن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬رسوله صلى ال عليه وسلم ‪ -‬بعدها‪ } :‬وَا ْدعُ إِلَىا رَ ّبكَ‬
‫إِ ّنكَ َلعَلَىا هُدًى مّسْ َتقِيمٍ { [الحج‪ ]67 :‬يعني‪ :‬أطمئن‪ ،‬فأنت على الحق وا ْدعُ إلى ربك؛ لنك على‬
‫هدى مستقيم سيصل إليهم إنْ لم يكن إيمانا فسيكون إصلحا وتقنينا بشريا تلجئهم إليه أحداث‬
‫الحياة ومشاكلها‪ ،‬فلن يجدوا أفضل من شرع ال يحكمون به‪ ،‬وإنْ لم يؤمنوا‪.‬‬
‫وكأن الحق سبحانه يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬ل تنازعهم ول ينازعونك‪ ،‬وخُذ ما أمرك‬
‫ال به‪ {:‬فَاصْ َدعْ ِبمَا ُت ْؤمَ ُر وَأَعْ ِرضْ عَنِ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[الحجر‪ ]94 :‬الذين يجادلونك وينازعونك في‬
‫الرسالة‪ ،‬وسوف تحدث لهم أقضية بقدر ما يُحدِثون من الفجور ويلجئون إلى شرعك وقانونك‬
‫ليحلوا به مشاكلهم‪.‬‬
‫والهدى ُوصِف بأنه مستقيم‪ ،‬لنه هدى من ال صنعه لك‪ ،‬هدى الخالق الذي يعلم ملَكات النفس‬
‫النسانية كلها‪ ،‬وشرع لكل ملكة ما يناسبها‪ ،‬وأحداث الحياة ستضطرهم إلى ما قنن ال لخلفته في‬
‫الرض‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَإِن جَادَلُوكَ َف ُقلِ اللّهُ أَعَْلمُ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2643 /‬‬

‫وَإِنْ جَادَلُوكَ َف ُقلِ اللّهُ أَعَْلمُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ (‪)68‬‬

‫الجدل‪ :‬مأخوذ من جَدْل الحبل بعضه على بعض لتقويته‪ ،‬وإنْ كانت خيطا رفيعا نبرمه فنعطيه‬
‫سمْكا وقوة؛ لذلك الخيط حين نبرمه يقلّ في الطول؛ لن أجزاءه تتداخل فيكون أقوى‪ ،‬فالجدْل من‬
‫ُ‬
‫خصْم‪.‬‬
‫تمتين الشيء وتقويته‪ ،‬وكذلك الجدال؛ فهو محاولة تقوية الحجة أمام ال َ‬
‫حسَنُ‪[} ..‬النحل‪ ]125 :‬فالمعنى‪ :‬إنْ جادلوك بعد التي هي‬
‫وفي آية أخرى‪ {:‬وَجَا ِد ْلهُم بِالّتِي ِهيَ أَ ْ‬
‫علَمُ ِبمَا َت ْعمَلُونَ } [الحج‪ ]68 :‬يعني‪ :‬ردهم إلى ال واحتكم إليه؛ لذلك جاء‬
‫أحسن فقُلْ { اللّهُ أَ ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكُمُ بَيْ َنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ‪} ..‬‬
‫بعدها‪ { :‬اللّهُ يَ ْ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2644 /‬‬

‫حكُمُ بَيْ َن ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَِلفُونَ (‪)69‬‬
‫اللّهُ َي ْ‬

‫لحظ أن الحق سبحانه لم ي ُقلْ‪ :‬يحكم بيننا وبينكم كما يقتضي المعنى؛ لنكما طرفان تتجادلن‪.‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يقول لرسوله صلى ال عليه وسلم‪ :‬أتركهم فسوف يختلفون هم‬
‫فيما بينهم‪ ،‬ولن يظل الخلف معك؛ لن الخلف في شيء واحد ينشأ عن هوى النفس‪ ،‬وهوى‬
‫النفس ينشأ من الحرص على السلطة الزمنية‪ ،‬يعني‪ :‬أرحْ نفسك‪ ،‬فربّك سيحكم بينهم فيما كانوا فيه‬
‫يختلفون‪.‬‬
‫سمَآ ِء وَالَرْضِ‪} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2645 /‬‬

‫سمَا ِء وَالْأَ ْرضِ إِنّ ذَِلكَ فِي كِتَابٍ إِنّ َذِلكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرٌ (‪)70‬‬
‫أَلَمْ َتعَْلمْ أَنّ اللّهَ َيعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬

‫هذه قضية حكم بها الحق سبحانة لنفسه‪ ،‬ولم يدّعِها أحد‪ ،‬فل يعلم ما في السماء والرض إل ال‪،‬‬
‫وهذه الية جاءت بعد الحكم في المنازعة فربما اعترض أحد وقال‪ :‬ما دام المر من ال أحكاما‬
‫تنظم حركة الحياة وقد جاء كل رسول بها‪ ،‬فما ضرورة أنْ يجيء رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫للناس كافة‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن الدين نوعان‪ :‬نوع ل يختلف باختلف الرسل والمم والعصور‪ ،‬وهذا في القضايا العامة‬
‫الشاملة التي ل تتغير‪ ،‬وهي العقائد والصول والخلق‪ ،‬ونوع آخر يختلف باختلف العصور‬
‫والمم‪ ،‬فيأتي الحكم مناسبا لكل عصر‪ ،‬ولكل أمة‪.‬‬
‫سمَآءِ‬
‫وما دام الحق سبحانه هو الذي سيحكم بين الطرفين قال‪ { :‬أََلمْ َتعْلَمْ أَنّ اللّهَ َيعَْلمُ مَا فِي ال ّ‬
‫وَالَرْضِ‪[ } ..‬الحج‪ ]70 :‬أعلم كل شيء كائن في الوجود ظاهره وباطنه‪ ،‬فأنا أحكُم عن علم وعن‬
‫خبرة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ إِنّ ذاِلكَ فِي كِتَابٍ‪[ } ..‬الحج‪ ]70 :‬والعلم شيء‪ ،‬والكتاب شيء آخر‪ ،‬فما دام ال تعالى يعلم كل‬
‫شيء‪ ،‬وما دام سبحانه ل يضل ول ينسى‪ ،‬فما ضرورة الكتاب؟‬
‫قالوا‪ :‬الكتاب يعني به اللوح المحفوظ الذي يحوي كل شيء‪.‬‬
‫طهّ َرةٍ‬
‫حفٍ ّمكَ ّرمَةٍ * مّ ْرفُوعَةٍ مّ َ‬
‫وفي آية أخرى قال‪ {:‬كَلّ إِ ّنهَا تَ ْذكِ َرةٌ * َفمَن شَآءَ َذكَ َرهُ * فَي صُ ُ‬
‫سفَ َرةٍ }[عبس‪.]15 - 11 :‬‬
‫* بِأَيْدِي َ‬
‫حفُوظٍ }[البروج‪.]22 - 21 :‬‬
‫حتى القرآن نفسه في ذلك الكتاب‪َ {:‬بلْ ُهوَ قُرْآنٌ مّجِيدٌ * فِي َلوْحٍ مّ ْ‬
‫وقال تعالى‪َ {:‬يمْحُواْ اللّهُ مَا يَشَآ ُء وَيُثْ ِبتُ وَعِن َدهُ أُمّ ا ْلكِتَابِ }[الرعد‪ ]39 :‬ويقول تعالى‪ {:‬وَعِن َدهُ‬
‫سقُطُ مِن وَ َرقَةٍ ِإلّ َيعَْل ُمهَا َولَ حَبّةٍ فِي‬
‫ب لَ َيعَْل ُمهَآ ِإلّ ُهوَ وَ َيعْلَمُ مَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْ ِر َومَا تَ ْ‬
‫َمفَاتِحُ ا ْلغَ ْي ِ‬
‫ب َولَ يَابِسٍ ِإلّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ }[النعام‪.]59 :‬‬
‫ط ٍ‬
‫ت الَ ْرضِ وَلَ رَ ْ‬
‫ظُُلمَا ِ‬
‫فضرورة الكتاب ليدلّك وليدلّ الملئكة المطّلعين على أن الشياء التي تحدث مستقبلً كتبها ال‬
‫أزلً‪ ،‬فالذي كتب الشيء قبل أنْ يكون‪ ،‬ثم جاء الشيء موافقا لما أكبر دليل على عِلْمه وإحاطته‪.‬‬
‫إذن‪ :‬مجيء الكتاب ل ليساعدنا على شيء‪ ،‬إنما ليكون حُجّة عليك‪ ،‬فيقال لك‪ {:‬اقْ َرأْ كِتَا َبكَ كَفَىا‬
‫سكَ الْ َيوْمَ عَلَ ْيكَ حَسِيبا }[السراء‪ ]14 :‬ها هو تاريخك‪ ،‬وها هي قصتك‪ ،‬ليس كلما من عندنا‪،‬‬
‫بِ َنفْ ِ‬
‫وإنما فعلْك والحجة عليك‪.‬‬
‫سمَآ ِء وَالَ ْرضِ‪[ } ..‬الحج‪ ]70 :‬يحمل الوعد والوعيد في‬
‫وعِلْم ال تعالى في قوله‪َ { :‬يعْلَمُ مَا فِي ال ّ‬
‫وقت واحد‪ ،‬وهذا من عجائب الداء القرآني‪ ،‬أنْ يعطي الشيء ونقيضه‪ ،‬كيف؟ َهبْ أن عندك‬
‫ولديْن اعتدى أحدهما على الخر في غَيبتك‪ ،‬فلما عُ ْدتَ أسرعا بالشكوى‪ ،‬كل من صاحبه‪ ،‬فقلتَ‬
‫لهما‪ :‬اسكتا ل أسمع لكما صوتا‪ .‬وقد عرفت ما حدث وسأرتب لكل منكما ما يناسبه وما يستحقه‬
‫على َوفْق ما علمت‪ ،‬ل شكّ عندها أن المظلوم سيفرح ويستبشر‪ ،‬وأن الظالم سيخاف ويتغير لونه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فعلم ال بكل شيء في السماء والرض وإحاطته سبحانه بما يجري بين خَلْقه وَعْد للمحق‪،‬‬
‫ووعيد للمبطل‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لَمْ يُنَ ّزلْ ِبهِ سُ ْلطَانا‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2646 /‬‬

‫وَ َيعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ مَا لَمْ يُنَ ّزلْ بِهِ سُلْطَانًا َومَا لَيْسَ َلهُمْ بِهِ عِلْ ٌم َومَا لِلظّاِلمِينَ مِنْ َنصِيرٍ (‪)71‬‬

‫كأن العبادة ‪ -‬وهي‪ :‬طاعة أمر واجتناب نهي ‪ -‬يجب أن تكون صادرة من أعلى منا جميعا‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فليس لحد منا أن يُشرّع للخر‪ ،‬فيأمره أو ينهاه؛ لن المر من المساوى لك ل مُرجح له‪ ،‬وله أنْ‬
‫يقول لك‪ :‬لماذا أنت تأمر وأنا أطيع؟ أما إنْ جاء المر من أعلى منك فأنت تطيع بل اعتراض‪،‬‬
‫ومعك الحجة أن المر من أعلى منك فأنت تطيع بل اعتراض‪ ،‬ومعك الحجة أن المر من أعلى‪،‬‬
‫تقول‪ :‬أبي أمرني بكذا وكذا‪ ،‬أو ربي أمرني بكذا وكذا‪ ،‬أو نهاني عن كذا وكذا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬كل دليل على حكم الفعل أو الترك ل ُبدّ أنْ يكون مصدره من الحق سبحانه وتعالى‪ ،‬فهو‬
‫ي ول ضرر؛ لنني ما انصعت لمساوٍ‬
‫ت لمره ونهيه فل حرجَ عل ّ‬
‫العلى مني ومنك‪ ،‬وإذا انصعْ َ‬
‫إنما انصعت ل الذي أنا وأنت عبيد له‪ ،‬ول غضاضةَ في أن نتبع حكمه‪.‬‬
‫حكَم أهل الريف يقولون‪( :‬اللي الشرع يقطع صباعه مَيْخُرش دم) لماذا؟ لنك ما قطعته‬
‫لذلك في ِ‬
‫أنت إنما قطعه ال‪ ،‬فليس المر تسلط أو جبروت من أحد‪ ،‬وليس فيه مذلّة ول استكانة لحد‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬وَ َيعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ‪[ } ..‬الحج‪ ]71 :‬يعني‪ :‬يعبدون غيره تعالى { مَا لَمْ يُنَ ّزلْ بِهِ‬
‫سُ ْلطَانا‪[ } ..‬الحج‪ ]71 :‬السلطان‪ :‬إما سلطان َقهْر‪ ،‬أو سلطان حجة‪ ،‬سلطان القهر أن يقهرك‬
‫ويجبرك على ما لم تُ ِردْ ِفعْله‪ ،‬أما سلطان الحجة فيقنعك ويُثبِت لك بالحجة أن تفعل باختيارك‪،‬‬
‫حجّة‪.‬‬
‫وهذه اللهة التي يعبدونها من دون ال ليس لها سلطان‪ ،‬ل َقهْر ول ُ‬
‫لذلك؛ في جدل إبليس يوم القيامة للذين اتبعوه يقول لهم‪َ {:‬ومَا كَانَ ِليَ عَلَ ْيكُمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن‬
‫عوْ ُتكُمْ فَاسْ َتجَبْتُمْ لِي‪[} ..‬إبراهيم‪ ]22 :‬يعني‪ :‬كنتم على إشارة فاستجبتم لي‪ ،‬وليس لي عليكم‬
‫دَ َ‬
‫سلطان‪ ،‬ل قوة أقهركم بها على المعصية‪ ،‬ول حجة أقنعكم بها‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬ومَا لَيْسَ َلهُمْ بِهِ عِلْمٌ‪[ } ..‬الحج‪ ]71 :‬يعني‪ :‬علم الجتهاد الذي يستنبط الحكام‬
‫من الحكم المُجْمل الذي يُنزله الحق تبارك وتعالى‪ ،‬وهذه هي حجة العلم التي قال ال تعالى عنها‪{:‬‬
‫لمْرِ مِ ْن ُهمْ َلعَِلمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْ ِبطُونَهُ مِ ْنهُمْ‪[} ..‬النساء‪ ]83 :‬يعني‪:‬‬
‫وََلوْ َردّوهُ إِلَى الرّسُولِ وَإِلَىا ُأوْلِي ا َ‬
‫أهل العلم‪.‬‬
‫ن تكونَ‬
‫إذن‪ :‬العبادة ل بُدّ أن تكون بسلطان من ال نصا قاطعا وصريحا ل يحتمل الجدل‪ ،‬وإما أ ْ‬
‫باجتهاد أُولِي العلم‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬ومَا لِلظّاِلمِينَ مِن ّنصِيرٍ } [الحج‪ ]71 :‬لم يقُلْ سبحانه‪ :‬لن ينتصر الظالمون‪ ،‬ولم‬
‫ي ْنفِ عنهم النصر؛ لن هذه مسألة مُسلمة إنما ل يفزع لنصرتهم أحد‪ ،‬فلن ينتصروا ولن ينصرهم‬
‫أحد‪ ،‬ول يفزع أحد لينصر أحدا إل إذا كان المنصور ضعيفا‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَإِذَا تُتْلَىا عَلَ ْيهِمْ آيَاتُنَا بَيّنَاتٍ َتعْرِفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ َكفَرُواْ ا ْلمُ ْنكَرَ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2647 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سطُونَ بِالّذِينَ يَ ْتلُونَ‬
‫وَإِذَا تُتْلَى عَلَ ْيهِمْ آَيَاتُنَا بَيّنَاتٍ َتعْ ِرفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ َكفَرُوا ا ْلمُ ْنكَرَ َيكَادُونَ يَ ْ‬
‫عَلَ ْيهِمْ آَيَاتِنَا ُقلْ َأفَأُنَبّ ُئكُمْ بِشَرّ مِنْ ذَِلكُمُ النّا ُر وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ َكفَرُوا وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ (‪)72‬‬

‫تصور هذه الية حال الكفار عند سماعهم لكتاب ال وآياته من رسول ال أو صحابته‪ ،‬فإذا‬
‫سمعوها { َتعْ ِرفُ فِي وُجُوهِ الّذِينَ َكفَرُواْ ا ْلمُ ْنكَرَ‪[ } ..‬الحج‪ ]72 :‬أي‪ :‬الكراهية تراها وتقرؤها في‬
‫وجوههم عُبُوسا وتقطيبا وغضبا وانفعالً‪ ،‬ينكر ما يسمعون‪ ،‬ويكاد أن يتحول النفعال إلى نزوع‬
‫غضبي يفتك بمَنْ يقرأ القرآن لما بداخلهم من شر وكراهية لما يتلى عليهم‪.‬‬
‫سطُونَ بِالّذِينَ يَتْلُونَ عَلَ ْي ِهمْ آيَاتِنَا‪[ } ..‬الحج‪ ]72 :‬والسّطْو‪ :‬الفَتْك‬
‫لذلك قال تعالى بعدها‪َ { :‬يكَادُونَ يَ ْ‬
‫والبطش؛ لن العمل الوجداني الذي يشغل نفوسهم يظهر أولً على وجوههم انفعالً يُنبيء بشيء‬
‫يريدون إيقاعه بالمؤمنين‪ ،‬ثم يتحول الوجدان إلى نزوع حركي هو الفتك والبطش‪.‬‬
‫( ُقلْ) في الرد عليهم‪ :‬ماذا يُغضِبكم حتى تسطوا علينا وتكرهوا ما نتلو عليكم من كتاب ال‪.‬‬
‫والغيظ والكراهية عند سماعهم القرآن دليل على عدم قدرتهم على الرد بالحجة‪ ،‬وعدم قدرتهم‬
‫أيضا على اليمان؛ لذلك يتقلّبون بين غيظ وكراهية‪.‬‬
‫لذلك يخاطبهم بقوله‪ُ { :‬قلْ َأفَأُنَبّ ُئكُم بِشَرّ مّن ذاِلكُمُ النّا ُر وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ َكفَرُواْ‪[ } ..‬الحج‪]72 :‬‬
‫يعني‪ :‬مالي أراكم مغتاظين من آيات ال كارهين لها الن‪ ،‬والمر ما يزال هيّنا؟ أمجرد سماع‬
‫اليات يفعل بكم هذا كلّه؟ فما بالكم حينما تباشرون النار في الخرة‪ ،‬الغيظ الذي تظنونه شرّا‬
‫فتسطُون علينا بسببه أمر بسيط‪ ،‬وهناك أشرّ منه ينتظركم { النّا ُر وَعَدَهَا اللّهُ الّذِينَ َكفَرُواْ‪} ..‬‬
‫[الحج‪]72 :‬‬
‫وما أشبه هذا بموقف الصّدّيق أبي بكر حينما أوقف صناديد قريش بالباب‪ ،‬وقدّم عليهم‬
‫المستضعفين من المؤمنين‪ ،‬فغضبوا لذلك وو ِرمَتْ أنوفهم‪ ،‬فقال لهم‪َ :‬أوَرِمتْ أنوفكم أنْ قدمتهم‬
‫عليكم الن‪ ،‬فكيف بكم حين يُقدمهم ال عليكم في دخول الجنة؟‬
‫وكلمة { وَعَ َدهَا‪[ } ..‬الحج‪ ]72 :‬الوعد دائما يكون بالخير‪ ،‬أما هنا فاستُعمَلتْ على سبيل الستهزاء‬
‫بهم والتقليل من شأنهم‪ ،‬كما قال في آية أخرى‪ {:‬فَبَشّ ْرهُمْ ِبعَذَابٍ َألِيمٍ }[النشقاق‪ ]24 :‬فساعةَ أن‬
‫يسمع ال ُبشْرى يستشرف للخير‪ ،‬فيفاجئه العذاب‪ ،‬فيكون أنكَى له‪.‬‬
‫شوِي الْوجُوهَ‪[} ..‬الكهف‪ ]29 :‬لن‬
‫ومن ذلك أيضا قوله تعالى‪ {:‬وَإِن يَسْ َتغِيثُواْ ُيغَاثُواْ ِبمَآءٍ كَا ْل ُم ْهلِ يَ ْ‬
‫انقباض النفس ويأسها بعد بوادر النبساط أشدّ من العذاب ذاته‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬وَبِئْسَ ا ْل َمصِيرُ } [الحج‪ ]72 :‬أي‪ :‬ساءت نهايتكم ومرجعكم‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2648 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُوا لَهُ إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ لَنْ يَخُْلقُوا ذُبَابًا وََلوِ اجْ َت َمعُوا‬
‫يَا أَ ّيهَا النّا ُ‬
‫ضعُفَ الطّاِلبُ وَا ْل َمطْلُوبُ (‪)73‬‬
‫لَ ُه وَإِنْ َيسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئًا لَا َيسْتَ ْنقِذُوهُ مِنْهُ َ‬

‫قُلنْا‪ :‬الضرب إيقاع شيء على شيء بقوة‪ ،‬ومنه نقول‪ :‬ضربنا الدينار يعني‪ :‬بعد أن كان قطعة من‬
‫الذهب أو الفضة مثلً أصبح عملةً معروفة متداولة‪.‬‬
‫والمثل‪ :‬تشبيه شيء غير معلوم بشيء آخر معلوم وعجيب وبديع َيعْلَق في الذهن‪ ،‬كما نصف لك‬
‫إنسانا لم تَ َرهُ بإنسان تعرفه‪ .‬نقول هو مثل فلن‪ .‬وهكذا كل التشبيهات‪ :‬شيء تريد أن تعلمه‬
‫للمخاطب وهو ل يعلمه‪.‬‬
‫حوْلَهُ َذ َهبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَ َركَهُمْ‬
‫ومنه قوله تعالى‪ {:‬مَثَُلهُمْ َكمَ َثلِ الّذِي اسْ َت ْوقَدَ نَارا فََلمّآ َأضَا َءتْ مَا َ‬
‫فِي ظُُلمَاتٍ لّ يُ ْبصِرُونَ }[البقرة‪]17 :‬‬
‫ح ِملْ عَلَيْهِ يَ ْل َهثْ َأوْ تَتْ ُركْهُ يَ ْلهَث ذِّلكَ مَ َثلُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ كَذّبُواْ‬
‫وقوله تعالى‪َ {:‬فمَثَلُهُ َكمَ َثلِ ا ْلكَ ْلبِ إِن تَ ْ‬
‫صصَ َلعَّلهُمْ يَ َت َفكّرُونَ }[العراف‪]176 :‬‬
‫صصِ ا ْلقَ َ‬
‫بِآيَاتِنَا فَا ْق ُ‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬مَ َثلُ الّذِينَ اتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ َأوْلِيَآءَ َكمَ َثلِ ا ْلعَنكَبُوتِ اتّخَ َذتْ بَيْتا وَإِنّ َأوْهَنَ الْبُيُوتِ‬
‫لَبَ ْيتُ ا ْلعَنكَبُوتِ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت‪.]41 :‬‬
‫إذن‪ :‬المثال‪ :‬إعلم بشيء معلوم ليصل العلم فيه إلى شيء مجهول‪ ،‬وكلمة (مثَل) استقّلتْ بأن‬
‫يكون المثَل بديعا في النسج‪ ،‬بليغا موجزا‪ ،‬بحيث تتناقله اللسنة بسرعة في كلمات معدودة‪.‬‬
‫فلو وجدَت مثلً تلميذا مُهملً تكاسل طوال العام‪ ،‬ولم يذاكر‪ ،‬فلما حضر المتحان راح يجتهد في‬
‫المذاكرة‪ ،‬فتقول له‪( :‬قبل الرماء تمل الكنائن) يعني‪ :‬قبل أنْ تصطاد بالسهام يجب أنْ ُت ِعدّها أولً‬
‫وتمل بها كنانتك‪ ،‬فهذا م َثلٌ يُضرَب للستعداد للمر قبل حلوله‪.‬‬
‫ومن أمثلة أهل الريف يقولون‪( :‬أعْطِ العيش لخبازه ولو يأكل نصفه) ويُضرب لمن يجعل الصنعة‬
‫عند غير صانعها والمتخصص فيها‪.‬‬
‫ويقولون فيمَنْ يُقصّر في المر المنوط به‪( :‬باب النجار مخلع)‪.‬‬
‫خضُ عن‬
‫ن يقضي لك حاجة فيفلح فيها ويأتي بالنتيجة المرجوة يقول لك‪( :‬أبدى الم ْ‬
‫وحين ترسل مَ ْ‬
‫خضّ اللبن في القِرْبة لفَصْل الزّبْد عن اللبن‪.‬‬
‫الزبد) والمخضُ عملية َ‬
‫خفّته وجماله وبلغته في‬
‫وهكذا‪ ،‬المثل َقوْل موجز بليغ قيل في مناسبته‪ ،‬ثم استعمله الناس ل ِ‬
‫المواقف المشابهة‪ ،‬والمثَل يظل على حالة الول ل يغير‪ ،‬ويجب اللتزام بنصّه مع المفرد والمثنى‬
‫ل يقضي لك حاجة‪ ،‬فعندما يعود تقول له‪:‬‬
‫والجمع‪ ،‬ومع المذكر والمؤنث‪ ،‬فمثلً إنْ أرسلتَ رسو ً‬
‫(ما وراءك يا عصام) هكذا بالكسر في خطاب المؤنث مع أنه رجل‪ ،‬لماذا؟ لن المثَل قيل أول ما‬
‫طبُ مذكّرا‪.‬‬
‫قيل لمؤنث‪ ،‬فظلّ على هذه الصيغة من التأنيث حتى ولو كان المخا َ‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقصة هذا المثَل أن الحارث ملك كندة أراد أن يتزوج أم إياس‪ ،‬وبعثَ مَنْ تخطبها له‪ ،‬وكان‬
‫اسمها عصام‪ ،‬فلما ذهبت إليها قالت لها أمها‪ :‬إن فلنة جاءت تخطبك لفلن‪ ،‬فل تخفي عنها شيئا‪،‬‬
‫ودعيها تشمّك إنْ أرادت‪ ،‬وناطقيها فيما استنطقتْك به‪ ،‬فلما دخلتْ على الفتاة وأرادت أن ترى‬
‫جسمها خلعتْ ثوبها‪ ،‬وكشفتْ عن جسمها‪ ،‬فقالت المرأة‪( :‬ترك الخداع من كشف القناع) فسارت‬
‫مثلً‪ ،‬ثم عادت إلى الحارث فاستقبلها متعجلً ردّها فقال‪( :‬ما وراءكِ يا عصام) يعني‪ :‬ما الخبر؟‬
‫فظلّ المثل هكذا للمؤنث‪ ،‬وإن خُوطِب به المذكر‪.‬‬

‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يضرب لكم هذا المثل ويقول‪ :‬خذوه في بالكم‪ ،‬وانتبهوا له‪ ،‬وافتحوا له‬
‫آذانكم جيدا واعقلوه؛ لنه سينفعكم في علقتكم برسول ال وبالمؤمنين‪.‬‬
‫س ضُ ِربَ مَ َثلٌ فَاسْ َت ِمعُواْ‬
‫خصّ أحدا دون أحد‪ } :‬ياأَ ّيهَا النّا ُ‬
‫والخطاب هنا مُوجّه للناس كافّة‪ ،‬لم ي ُ‬
‫لَهُ‪[ { ..‬الحج‪ ]73 :‬فلم يقُل يا أيها المؤمنون؛ لن هذا الم َثلَ مُوجّه إلى الكفار‪ ،‬فالمؤمنون ليسوا‬
‫في حاجة إليه } فَاسْ َت ِمعُواْ لَهُ‪[ { ..‬الحج‪ ]73 :‬يعني‪ :‬انصتوا وتفهّموا مراده ومرماه‪ ،‬لتسيروا في‬
‫حركتكم على َوفْق ما جاء فيه‪ ،‬وعلى َوفْق ما فهمتم من مغزاه‪.‬‬
‫فما هو هذا المثَل؟‬
‫} إِنّ الّذِينَ َتدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخُْلقُواْ ذُبَابا وََلوِ اجْ َت َمعُواْ َلهُ‪[ { ..‬الحج‪.]73 :‬‬
‫أي‪ :‬الذين تعبدونهم وتتجهون إليهم من دون ال } لَن َيخُْلقُواْ ذُبَابا‪[ { ..‬الحج‪ ]73 :‬وهو أصغر‬
‫المخلوقات } وََلوِ اجْ َت َمعُواْ لَهُ‪[ { ..‬الحج‪ ]73 :‬يعني‪ :‬تضاف َرتْ جهودهم‪ ،‬واجتمع أمرهم جميعا ل‬
‫واحدا واحدا‪ ،‬وهذا ترقّ في التحدي‪ ،‬حيث زاد في قوة المعاند‪.‬‬
‫كما ترقّى القرآن في تحدّي العرب‪ ،‬فتحداهم أولً بأنْ يأتوا بمثل القرآن‪ ،‬ولن القرآن كثير تحدّاهم‬
‫بعشر سور فما استطاعوا‪ ،‬فتحدّاهم بسورة واحدة فلم يستطيعوا‪.‬‬
‫ثم يترقى في التحدي فيقول‪ :‬اجمعوا كل فصحائكم وبلغائكم‪ ،‬بل والجن أيضا يساعدونكم ولن‬
‫ن لَ يَأْتُونَ ِبمِثْلِهِ‪} ..‬‬
‫س وَالْجِنّ عَلَىا أَن يَأْتُواْ ِبمِ ْثلِ هَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫ت الِنْ ُ‬
‫تستطيعوا‪ {:‬قُل لّئِنِ اجْ َت َم َع ِ‬
‫[السراء‪.]88 :‬‬
‫خُلقُواْ ذُبَابا‪[ { ..‬الحج‪ ]73 :‬جاءت بنفي المستقبل فلم ي ُقلْ مثلً‪ :‬لم يخلقوا‪،‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬لَن يَ ْ‬
‫فالنفي هنا للتأبيد‪ ،‬فهم ما استطاعوا في الماضي‪ ،‬ولن يستطيعوا أيضا فيما بعد حتى ل يظن أحد‬
‫أنهم ربما تمكّنوا من ذلك في مستقبل اليام‪ ،‬ونفي الفعل هكذا على وجه التأبيد؛ لنك قد تترك‬
‫الفعل مع قدرتك عليه‪ ،‬إنما حين تتحدّى به تفعل لتردّ على هذا التحدّي‪،‬فأوضح لهم الحق سبحانه‬
‫أنهم لم يستطيعوا قبل التحدي‪ ،‬ولن يستطيعوا بعد التحدي‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَإِن َيسْلُ ْبهُمُ الذّبَابُ شَيْئا لّ يَسْتَنقِذُوهُ‪[ { ..‬الحج‪ ]73 :‬فقد تقول‪ :‬إن عملية الخَلْق‬
‫هذه عملية صعبة ل يُتحدّى بها‪ ،‬لذلك تحداهم بما هو أسهل من الخَلْق } وَإِن يَسْلُ ْب ُهمُ الذّبَابُ شَيْئا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لّ َيسْتَنقِذُوهُ مِ ْنهُ‪[ { ..‬الحج‪ ]73 :‬وهل يستطيع أحد أن يُعيد ما أخذه الذباب من طعامه على جناحيه‬
‫أو رجله أو خرطومه؟‬
‫وكانوا يذبحون القرابين عند الصنام‪ ،‬ويضعون أمامها الطعام ليباركوه‪ ،‬فكانت الدماء تسيل عندها‬
‫وتتناثر عليها‪ ،‬فيحطّ عليها الذباب‪ ،‬ويأخذ من هذه الدماء على أَ ْرجُله النحيفة هذه أو على أجنحته‬
‫أو على خرطومه‪ ،‬فتحدّاهم أن يعيدوا من الذباب ما أخذه‪ ،‬وهذه مسألة أسهل من مسألة الخَلْق‪.‬‬

‫ولك أنْ تُجرّب أنت هذه العملية‪ ،‬إذا وقع ذباب على العسل الذي أمامك‪ ،‬فل ُبدّ أن يأخذ منه شيئا‬
‫ولو كان ضئيلً ل يُدرَك ول يُوزَن ول تكاد تراه‪ ،‬لكن أتستطيع أنْ تُمسِك الذبابة وتردّ ما أخذتْ‬
‫منك؟‬
‫ب وَا ْلمَطْلُوبُ { [الحج‪ ]73 :‬يعني‪ :‬كلهما ضعيف‪،‬‬
‫ض ُعفَ الطّاِل ُ‬
‫لذلك يقول تعالى بعدها‪َ } :‬‬
‫فالذباب في ذاته ضعيف وهم كذلك ضعفاء‪ ،‬بدليل أنهم لن يقدروا على هذه المسألة‪ ،‬لكن هناك‬
‫ن كان ضعيفا إل أن ال تعالى‬
‫ضعيف يدّعي القوة‪ ،‬وضعيف قوته في أنه ُمقِرّ بضعفه‪ ،‬فالذباب وإ ْ‬
‫قال فيه‪ {:‬إِنّ اللّ َه لَ يَسْ َتحْى أَن َيضْ ِربَ مَثَلً مّا َبعُوضَةً َفمَا َف ْو َقهَا‪[} ..‬البقرة‪ ]26 :‬يعني‪ :‬ما فوقها‬
‫في الصّغر‪ ،‬ليس المراد ما فوقها في الكبر كالعصفور مثلً‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬مَا َقدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْ ِرهِ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2649 /‬‬

‫حقّ قَدْ ِرهِ إِنّ اللّهَ َل َق ِويّ عَزِيزٌ (‪)74‬‬


‫مَا قَدَرُوا اللّهَ َ‬

‫يعني‪ :‬هؤلء الكفار الذين عبدوا من دون ال آلهة ل تستطيع أن تخلق ذبابا‪ ،‬ول تستطيع حتى أنْ‬
‫تردّ من الذباب ما أخذه‪ ،‬هؤلء ما عرفوا ل قدره‪ ،‬ولو عرفوا َقدْر ال ما عبدوا غيره‪.‬‬
‫والقَدْر‪ :‬يعني مقدار الشيء‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن مقادير الشياء تختلف حسب ما تريده من معرفة المقادير‪،‬‬
‫فالطول مثلً له مقياس ُيقَاس به مقدار الطول‪ ،‬لكن هذا المقياس يختلف باختلف المقيس‪ ،‬فإنْ‬
‫أردتَ أنْ تقيسَ المسافة بين القاهرة والسكندرية مثلً ل تستخدم المللي أو السنتيمتر ول حتى‬
‫ت صورة‬
‫المتر‪ ،‬إنما تستخدم الكيلومتر‪ ،‬فإنْ أردت شراء قطعة من القماش تقول متر‪ ،‬أما إنْ أرد َ‬
‫شخصية تقول سنتيمتر‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لكل شيء مقدار يُقدّر به‪ ،‬ومعيار يُقاس به‪ ،‬فإنْ أردتَ المسافة تقيس الطول‪ ،‬فإنْ أردت‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المساحة تقيس الطول في العرض‪ ،‬فإنْ أردتَ الحجم تقيس الطول في العرض في الرتفاع‪،‬‬
‫الطول بالمتر والمساحة بالمتر المربع‪ ،‬والحجم بالمتر المكعب‪ .‬كذلك في الوزن تُقدّره بالكيلو أو‬
‫الرطل أو الجرام‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫لهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِ ْزقَهُ‪[} ..‬الفجر‪:‬‬
‫وقدر تأتي بمعنى‪ :‬ضيّق‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬وََأمّآ إِذَا مَا ابْتَ َ‬
‫‪.]16‬‬
‫ويقول الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬ومَن ُقدِرَ عَلَيْهِ رِ ْز ُقهُ فَلْيُنفِقْ ِممّآ آتَاهُ اللّهُ‪[} ..‬الطلق‪.]7 :‬‬
‫والمقدار كما يكون في الماديات يكون أيضا في المعنويات‪ ،‬فمثلً تعبر عن الزيادة المادية تقول‪:‬‬
‫شبّ وزاد‪ ،‬أما في المعنويات فيقول الحق سبحانه‪ :‬كَبُر{ كَبُ َرتْ كَِلمَةً تَخْرُجُ مِنْ‬
‫فلن كبر يعني َ‬
‫َأ ْفوَا ِههِمْ‪[} ..‬الكهف‪ ]5 :‬يعني‪ :‬عَظُمتْ‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬ليس مادة؛ لنه سبحانه فوق المادة‪ ،‬فمعنى المقدار في حقه تعالى‬
‫حقّ قَدْ ِرهِ‪[ } ..‬الحج‪ ]74 :‬ما عظّموه حَقّ التعظيم‬
‫عظمته في صفات الكمال فيه { مَا قَدَرُواْ اللّهَ َ‬
‫الذي ينبغي له‪ ،‬وما عرفوا قَدْره‪ ،‬ولو عرفوا ما عبدوا غيره‪ ،‬ول عبدوا أحدا معه من هذه اللهة‬
‫سوّون هؤلء بال ويقارنونهم به‬
‫التي ل تخلق ذبابا‪ ،‬ول حتى تسترد ما أخذه منهم الذباب‪ ،‬فكيف يُ َ‬
‫عز وجل؟ إنهم لو عرفوا ل تعالى قَدْره لستحيوا من ذلك كله‪.‬‬
‫ثم تُذيّل الية بقوله تعالى‪ { :‬إِنّ اللّهَ َلقَ ِويّ عَزِيزٌ } [الحج‪ ]74 :‬فما مناسبة هاتين الصفتين للسياق‬
‫الذي نحن بصدده؟‬
‫ن انصرفوا عن عبادته سبحانه إلى‬
‫عمّ ْ‬
‫قالوا‪ :‬لن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬تكلّم في المثَل السابق َ‬
‫ب وَا ْلمَطْلُوبُ }[الحج‪ ]73 :‬فقال في مقابل هذا الضعف إن ال‬
‫ض ُعفَ الطّاِل ُ‬
‫عبادة الصنام وقال‪َ {:‬‬
‫لقويّ‪ ،‬قوة عن العابد؛ لنه ليس في حاجة إلى عبادته‪ ،‬وقوة عن المعبود لنه لو شاء حَطّمه‪ ،‬وما‬
‫ُدمْتم انصرفتم عن ال وعبدتم غيره‪ ،‬فهذا فيه مُضارّة‪ ،‬وكأن هناك معركة‪ ،‬فإنْ كان كذلك فال‬
‫عزيز ل يغالب‪.‬‬
‫والية‪ { :‬مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ َقدْ ِرهِ‪[ } ..‬الحج‪ ]74 :‬وردتْ في عدة مواضع في كتاب ال‪ ،‬منها‪:‬‬

‫شيْءٍ‪[} ..‬النعام‪ ]91 :‬فلم يعرفوا‬


‫حقّ قَدْ ِرهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَن َزلَ اللّهُ عَلَىا بَشَرٍ مّن َ‬
‫{ َومَا قَدَرُواْ اللّهَ َ‬
‫ل تعالى َقدْره لنهم اتهموه‪ ،‬وله سبحانه كمال العدل‪ ،‬فكيف يُكلف عباده بعبادته‪ ،‬ول يبلغهم‬
‫برسول؟ وهو سبحانه القائل‪َ {:‬ومَا كُنّا ُمعَذّبِينَ حَتّىا نَ ْب َعثَ َرسُولً }[السراء‪.]15 :‬‬
‫صفُون الحق سبحانه‬
‫شيْءٍ‪[} ..‬النعام‪ ]91 :‬كأنهم ي ِ‬
‫فحين يقولون‪ {:‬مَآ أَن َزلَ اللّهُ عَلَىا َبشَرٍ مّن َ‬
‫بأنه يُعذّب الناس دون أنْ يُبلّغهم بشيء‪ .‬ويردّ عليهم في هذه المسألة‪ُ {:‬قلْ مَنْ أَن َزلَ ا ْلكِتَابَ الّذِي‬
‫جَآءَ بِهِ مُوسَىا‪[} ..‬النعام‪.]91 :‬‬
‫سمَاوَاتُ‬
‫جمِيعـا قَ ْبضَـتُهُ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة وَال ّ‬
‫حقّ قَدْ ِر ِه وَالَ ْرضُ َ‬
‫وفي موضع آخر‪َ {:‬ومَا قَدَرُواْ اللّهَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طوِيّاتٌ بِ َيمِينِهِ‪[} ..‬الزمر‪.]67 :‬‬
‫مَ ْ‬
‫حقّ قدره‪ ،‬وقَدَره َقدْره‪ ،‬كأن المور تختلف في تقدير الشياء‪ ،‬فمثلً تنظر إلى حجرة‬
‫ونقول‪َ :‬قدّرَه َ‬
‫فتقول‪ :‬هذه تقريبا ‪4×5‬هذا تقدير إجمالي تقريبي‪ ،‬إنما إنْ أخذت المقياس وقدّ ْرتَ تقديرا حقيقيا‪،‬‬
‫حقّ قَدرها‪.‬‬
‫فقد تزيد أو تنقص‪ ،‬فالول تقول‪ :‬قدّرْت الحجرة قَدْرها‪ .‬والخر تقول‪ :‬قدرت الحجرة َ‬
‫حقّ قَدْره فإنك تقدّره على قَدْر استيعاب العقل البشري‪،‬‬
‫وعليه فإنك إنْ أردت أنْ تُقدّر ال تعالى َ‬
‫إنما قَدْره تعالى حقيقة فل تحيط به؛ لن كمالته تعالى ل تتناهى ول تُدرَك إدراكا تاما‪.‬‬
‫ومن ذلك ما سبق أن ذكرناه عن علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين‪ .‬ولما نزل قوله تعالى‪{:‬‬
‫حقّ ُتقَاتِهِ‪[} ..‬آل عمران‪ ]102 :‬قال بعض الصحابة‪ :‬ومَنْ يقدر على‬
‫ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ّتقُواْ اللّهَ َ‬
‫ذلك إنها مسألة صعبة أن نتقي ال التقوى الكاملة التي يستحقها عز وجل‪ ،‬فأنزل ال تعالى‪{:‬‬
‫س َعهَا‪[} ..‬البقرة‪.]286 :‬‬
‫ل وُ ْ‬
‫طعْتُمْ‪[} ..‬التغابن‪ ]16 :‬ونزلت‪ {:‬لَ ُيكَّلفُ اللّهُ َنفْسا ِإ ّ‬
‫فَا ّتقُواْ اللّهَ مَا اسْ َت َ‬
‫وكان النبي صلى ال عليه وسلم إذا أثنى على ال تعالى يقول‪ " :‬سبحانك‪ ،‬ل نحصي ثناءً عليك‪،‬‬
‫أنت كما أثنيت على نفسك "‪.‬‬
‫لماذا؟ لنه ل يملك أحد مهما أُوتِي من بلغة السلوب أنْ يُثني على ال الثناء المناسب الذي يليق‬
‫به سبحانه‪ ،‬ومن رحمة ال تعالى بعباده أن تحمل عنهم هذه المسألة فأثنى الحق سبحانه على‬
‫نفسه‪ ،‬وعلّمنا كيف نثني عليه سبحانه‪ ،‬فإذا ما تحدث البليغ وأثنى على ال بفنون القول والثناء‪،‬‬
‫فإن العييّ الذي ل يجيد الكلم يطمئن حيث يُثِني على ربه بما علمه من الثناء‪ ،‬وما وضعه من‬
‫صيغ يقولها الفيلسوف‪ ،‬ويقولها راعي الشاة‪.‬‬
‫حمْدُ للّهِ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ }[الفاتحة‪:‬‬
‫ولول أن ال تعالى علّمنا صيغة الحمد في سورة الفاتحة فقال‪ {:‬ا ْل َ‬
‫‪ ]2‬ما تعلمنا هذه الصيغة‪ ،‬فتعليم ال لعباده صيغة الحمد في ذاتها نعمة تستحق الحمد‪ ،‬والحمد‬
‫يستحق الحمد‪ ،‬وهكذا في سلسلة ل تنتهي‪ ،‬ليظل الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬محمودا دائما‪ ،‬ويظل‬
‫العبد حاملً دائما‪.‬‬
‫وبعد أن تكلم الحق سبحانه عن مسألة اللوهية وما ينبغي لها من صفات الكمال المطلق‪ ،‬وحذر‬
‫أنْ نُدخِل عليها ما ليس منها وما ل يستحقها‪ ،‬وهذه قمة العقائد‪ ،‬وبعد أن نؤمن باللهيات بهذا‬
‫الصفاء ونُخلّص إيماننا من كل ما يشوبه ل بُدّ من البلغ عن هذه القوة اللهية التي آمنا بها‪،‬‬
‫والبلغ يكون بإرسال الرسل‪.‬‬
‫ل َومِنَ النّاسِ‪{ ..‬‬
‫طفِي مِنَ ا ْلمَلَ ِئكَةِ ُرسُ ً‬
‫لذلك قال سبحانه‪ } :‬اللّهُ َيصْ َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2650 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سمِيعٌ َبصِيرٌ (‪)75‬‬
‫طفِي مِنَ ا ْلمَلَا ِئكَةِ ُرسُلًا َومِنَ النّاسِ إِنّ اللّهَ َ‬
‫صَ‬‫اللّهُ َي ْ‬

‫طفِي مِنَ‬
‫إذن‪ :‬المرحلة الثانية في اليمان بعد اليمان بالقمة اللهية اليمان بالرسل { اللّهُ َيصْ َ‬
‫ل َومِنَ النّاسِ‪[ } ..‬الحج‪.]75 :‬‬
‫ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُ ً‬
‫والصطفاء‪ :‬اختيار نخبة من كثير‪ ،‬واختيار القليل من الكثير دليل على أنها الخلصة والصفوة‪،‬‬
‫كما يختلف الصطفاء باختلف المصطفي‪ ،‬فإنْ كان المصطفِي هو ال تعالى فل بُدّ أنْ يختار‬
‫خلصة الخلصة‪.‬‬
‫والصطفاء سائر في الكون كله‪ ،‬يصطفي من الملئكة رسلً‪ ،‬ومن الناس رسلً‪ ،‬ويصطفي من‬
‫الزمان‪ ،‬ويصطفي من المكان‪ ،‬كما اصطفى رمضان من الزمان‪ ،‬والكعبة من المكان‪ .‬ولم يجعل‬
‫الحق سبحانه الصطفاء لتدليل المصطفى على غيره‪ ،‬إنما ليُشيع اصطفاءَه على خَلْق ال‪ ،‬فما‬
‫اصطفى رمضان على سائر الزمن ‪ -‬ل ليدلل رمضان ‪ -‬إنما لتأخذ منه شحنة تُقوّي روحك‪،‬‬
‫وتُصفّيها بقية اليام‪ ،‬لتستفيد من صالح عملك فيها‪.‬‬
‫وقد يتكرر الصطفاء مع اختلف متعلق الصطفاء؛ لذلك وقف المستشرقون عند قول ال تعالى‪{:‬‬
‫علَىا نِسَآءِ ا ْلعَاَلمِينَ }[آل عمران‪.]42 :‬‬
‫طفَاكِ َ‬
‫ك وَاصْ َ‬
‫طهّ َر ِ‬
‫ك وَ َ‬
‫طفَا ِ‬
‫يامَرْيَمُ إِنّ اللّهَ اصْ َ‬
‫يقولون‪ :‬ما فائدة تكرار الصطفاء هنا؟ ولو تأملنا الية لوجدنا فَرْقا بين الصطفاء الول والخر‪:‬‬
‫ن تكوني عابدة تقية متبتلة منقطعة في محرابك ل‪ ،‬أما الصطفاء‬
‫الصطفاء الول اصطفاء؛ ل ْ‬
‫الخر فاصطفاء على نساء العالمين جميعا‪ ،‬بأن تكوني أما لمولود بل أب‪ ،‬فمُتعلّق الصطفاء ‪-‬‬
‫إذن ‪ -‬مختلف‪.‬‬
‫طفًى منها‪ .‬وفي آية‬
‫وتنقسم الملئكة في مسألة الصطفاء إلى ملئكة ُمصْطفاة‪ ،‬وملئكة ُمصْ َ‬
‫علِ ا ْلمَلَ ِئكَةِ رُسُلً‪[} ..‬فاطر‪ ]1 :‬يعني‪ :‬كلهم لهم رسالة مع عوالم أخرى‬
‫أخرى يقول تعالى‪ {:‬جَا ِ‬
‫غيرنا‪.‬‬
‫أما في الية التي معنا‪ ،‬فالكلم عن الملئكة الذين لهم صلة بالنسان أمثال جبريل وميكائيل‬
‫وإسرافيل وعزرائيل‪ ،‬والحفظة الكاتبين والمكلفين بحفظ النسان‪ ،‬فال تعالى يصطفي هؤلء‪ ،‬أما‬
‫الباقون منهم فال مصطفيهم لعبادته فهم مُهيّمون ل يدرون عن هذا الخلق شيئا‪ ،‬وهم الملئكة‬
‫العالون الذين قال ال عنهم في الحديث عن إبليس‪َ {:‬أسْ َتكْبَ ْرتَ َأمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص‪]75 :‬‬
‫يعني‪ :‬الذين لم يشملهم المر بالسجود؛ لن لهم مهمة أخرى‪.‬‬
‫سمِيعٌ َبصِيرٌ } [الحج‪ ]75 :‬السمع يتعلق بالصوات‪ ،‬والبصر يتعلق‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬إِنّ اللّهَ َ‬
‫سمِيعٌ َبصِيرٌ } [الحج‪]75 :‬‬
‫س كلها‪ ،‬والحق سبحانه في قوله‪َ { :‬‬
‫عمْدة الحوا ّ‬
‫بالفعال‪ ،‬وهما كما قلنا ُ‬
‫جهُون بأقوال تؤذيهم واستهزاء‪ ،‬وس ُيقَابلون بأفعال تعرقل مسيرة دعوتهم‪،‬‬
‫يُبيّن لنا أن رسله س ُيوَا َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عضُدهم‪ ،‬وأنا معهم سميع لما يُقال‪ ،‬بَصير بما يفعل‪ ،‬فهُمْ تحت‬
‫فليكُنْ هذا معلوما حتى ل ي ُفتّ في َ‬
‫سمعي وبصري وكلءتي‪.‬‬

‫(‪)2651 /‬‬

‫جعُ الُْأمُورُ (‪)76‬‬


‫خ ْلفَهُ ْم وَإِلَى اللّهِ تُرْ َ‬
‫َيعْلَمُ مَا بَيْنَ أَ ْيدِيهِ ْم َومَا َ‬

‫{ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } [الحج‪ ]76 :‬ما أمامهم‪ ،‬ويعلم أيضا ما خلفهم‪ ،‬فليعمل النسان ما يشاء‪ ،‬فعِلْم ال‬
‫محيط به‪.‬‬
‫لمُورُ } [الحج‪ ]76 :‬فالمرجع في النهاية إليه سبحانه‪ ،‬فالحق ‪ -‬تبارك وتعالى‬
‫{ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ ا ُ‬
‫‪ -‬لم يخلق خَلْقه ليتركهم َهمَلً‪ ،‬إنما خلقهم لحكمة‪ ،‬وجعل لهم نهاية يُجازَي فيها ُكلّ بعمله‪ ،‬فمَن‬
‫تعب ونصب في سبيل دعوة ال وتحمّل المشاقّ في مساندة رسل ال فله جزاؤه‪ ،‬ومَنْ جابههم‬
‫وعاندهم سواء بالقوال السّابّة الشاتمة المستهزئة‪ ،‬أو بالفعال التي تعوق دعوتهم‪ ،‬فله أيضا ما‬
‫يستحق من العقاب‪.‬‬
‫وبعد أن حدّثنا ربنا عز وجل عن اللهيات وعن الرسل التي تُبلّغ عنه سبحانه‪ ،‬يُحدثنا عن المنهج‬
‫الذي سيأتون به لينظم حركة حياتنا‪ ،‬هذا المنهج موجز في افعل كذا‪ ،‬ول تفعل كذا‪ ،‬وهو ل يشمل‬
‫عدّة أمور‪ ،‬والباقي مباح؛‬
‫في أوامره ونواهيه كل حركات الحياة‪ .‬فالوامر والنواهي محصورة في ِ‬
‫لن ال تعالى وضع الوامر والنواهي في الصول التي تعصم حركة الحياة من الهواء‬
‫والنزوات‪ ،‬وترك الباقي لختيارك تفعله على أيّ وجه تريد‪.‬‬
‫لذلك نرى العلماء يجتهدون ويختلفون في مثل هذه المور التي تركها ال لنا‪ ،‬ولو أراد سبحانه‬
‫لنزل فيها حكما محكما‪ ،‬ل يختلف عليه أحد‪ .‬ولك أن تقول‪ :‬ولماذا ترك الحق سبحانه هذه‬
‫المور تتضارب فيها القوال‪ ،‬وتختلف فيها الراء‪ ،‬وتحدث فيها نزاعات بين الناس؟‬
‫قالوا‪ :‬هذا مراد ال؛ لن ال تعالى خلق النسان مُسخّرا في أشياء‪ ،‬ومختارا في أشياء أخرى‪،‬‬
‫فللناس أن يتركوا المجتهد يجتهد ما وسعه الجتهاد‪ ،‬ثم يحكمون على ما وصل إليه أنه حق‪،‬‬
‫وآخر يجتهد ويقررون أنه باطل؛ لن ال لو أراده على لون واحد لقاله‪ ،‬إنما تركه محتملً للراء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أراد سبحانه أن تكون هذه الراء لن النسان كما هو محكوم بقهر في كثير من الكونيات‬
‫وله اختيار في بعض المور‪ ،‬كذلك الحال في التكليف‪ ،‬فهو مقهور في الصول التي لو حاد عنها‬
‫يفسد العالم‪ ،‬ومختار في أمور أخرى يصحّ ِفعْلها ويصحّ تَرْكها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سجُدُو ْا وَاعْبُدُواْ رَ ّبكُمْ‪} ..‬‬
‫يقول تعالى في هذا المنهج‪ { :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ْر َكعُو ْا وَا ْ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2652 /‬‬

‫جدُوا وَاعْ ُبدُوا رَ ّبكُ ْم وَا ْفعَلُوا الْخَيْرَ َلعَّل ُكمْ ُتفْلِحُونَ (‪)77‬‬
‫يَا أَ ّيهَا الّذِينَ َآمَنُوا ا ْر َكعُوا وَاسْ ُ‬

‫النداء في ضَرْب المثل السابق كان للناس كافّة؛ لنه يريد أنْ يَلفِت عُبّاد الصنام إلى هذا المثَل‪،‬‬
‫ويُسْمعهم إياه‪ ،‬أمّا هنا فالكلم عن منهج ودستور مُوجّه‪ ،‬خاصّة إلى الذين آمنوا‪ ،‬لنه ل يُكلّف‬
‫بالحكم إل مَنْ آمن به‪ ،‬أما مَنْ كفر فليس َأهْلً لحمل هذه المانة؛ لذلك تركه ولم ينظم له حركة‬
‫حياته‪ .‬وكما قلنا في رجل المرور أنه يساعد مَن استعان به ووثق فيه‪ ،‬فيدلّه ويرشده‪ ،‬أما مَنْ شكّ‬
‫في كلمه وقّللَ من شأنه يتركه يضل في مفترق الطرق‪.‬‬
‫فإذا ناداك ربك بما يكلفك به‪ ،‬فاعلم أن الجهة مُنفكّة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ‬
‫آمِنُواْ‪[} ..‬النساء‪.]136 :‬‬
‫وقد اعترض على أسلوب القرآن في هذه الية بعض الذين يأخذون اليات على ظاهرها‪ ،‬يقولون‪:‬‬
‫كيف يخاطبهم بيا أيها الذين آمنوا ثم يقول‪ :‬آمِنوا‪ ،‬كيف وهم يؤمنون بالفعل؟‬
‫قالوا‪ :‬المراد يا أيها الذين آمنوا قبل سماع الحكم الجديد ظَلّوا على إيمانكم في الحكم الجديد‪،‬‬
‫ن هو موصوف به فاعلم أن المراد الدوام عليه‪.‬‬
‫واستمِرّوا على إيمانكم؛ لذلك إذا طلبتَ شيئا ممّ ْ‬
‫كما أن هناك فَرْقا بين اليمان بالحكم وبين تنفيذ الحكم‪ ،‬فقد تؤمن بالحكم أنه من ال ول تشكّ فيه‬
‫ول تعترض عليه‪ ،‬لكنك ل تنفذه وتعصاه‪ ،‬فمثلً في الحج يقول تعالى‪ {:‬وَللّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ‬
‫الْبَ ْيتِ‪[} ..‬آل عمران‪ ]97 :‬الذي ل تعالى على عباده أنْ يحجوا البيت{ مَنِ اسْ َتطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً‪} ..‬‬
‫[آل عمران‪ ]97 :‬وهذا شرط ضروري‪ ،‬فل تكليفَ بل استطاعة‪ ،‬ثم يقول‪َ {:‬ومَن َكفَرَ }[آل‬
‫عمران‪.]97 :‬‬
‫فهل يعني هذا أن مَنْ لم يحج فهو كافر؟‬
‫قالوا‪ :‬ل‪ ،‬لن المراد‪ :‬ل على الناس حكم يعتقده المؤمن‪ ،‬بأن ل على الناس حج البيت‪ ،‬فمن اعتقد‬
‫هذا العتقاد فهو مؤمن‪ ،‬أما كونه ينفذه أو ل ينفذه هذه مسألة أخرى‪.‬‬
‫جدُواْ وَاعْ ُبدُواْ رَ ّبكُمْ‪[ } ..‬الحج‪]77 :‬‬
‫ثم يبدأ أول ما يبدأ في التكليف بمسألة الصلة‪ { :‬ا ْر َكعُواْ وَاسْ ُ‬
‫خصّ هنا الصلة لنها التكليف الذي يتكرر كل‬
‫لقد جاء الرسل من عند ال بتكاليف كثيرة‪ ،‬لكن َ‬
‫يوم خمس مرات‪ ،‬أما بقية التكاليف فهي موسمية‪ :‬فالصوم شهر في العام كله‪ ،‬والحج مرة في‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حوْل‪.‬‬
‫العمر كله لمن استطاع‪ ،‬والزكاة عند خروج المحصول لمن يملك النصاب أو عند حلول ال َ‬
‫خصّها رسول ال صلى ال عليه وسلم في‬
‫إذن‪ :‬تختلف فريضة الصلة عن باقي الفرائض؛ لذلك َ‬
‫قوله‪ " :‬العهد الذي بيننا وبينهم الصلة‪ ،‬فمَنْ تركها فقد كفر "‪.‬‬
‫ويقول‪ " :‬الصلة عماد الدين "‪.‬‬
‫وخصّها الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬بظرف تشريعي خاص‪ ،‬حيث فُرِضت الصلة بالمباشرة‪،‬‬
‫وفُرِضت باقي الفرائض بالوحي‪.‬‬
‫وضربنا لذلك مثلً ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬قلنا‪ :‬إن رئيس العمل يمكن أن يرسل لك ورقة يقول‪:‬‬
‫افعل كذا وكذا‪ ،‬فإنْ كان أمرا هاما اتصل بك تليفونيا‪ ،‬وأخبرك بما يريد لهميته‪ ،‬فإنْ كان المر‬
‫أهم من ذلك وجاء من جهة أعلى يقول لك‪ :‬تعال عندي لمر هام‪ ،‬ويُكلّفك به مباشرة‪ ،‬وكذلك‬
‫على حسب الهمية يوجد ظرف التشريع‪.‬‬

‫فالصلة لم تأت بالوحي كباقي الفرائض‪ ،‬إنما جاءت مباشرة من المُوحِي سبحانه وتعالى؛ لنها‬
‫ستكون صلة بين العبد وربه‪ ،‬فشاء أن يُنزّهَها حتى من هذه الواسطة‪ ،‬ثم ميّزها على غيرها من‬
‫التكاليف‪ ،‬فجعلها الفريضة التي ل تسقط عن المسلم بحال أبدا‪ .‬فقد تكون فقيرا فل تلزمك الزكاة‪،‬‬
‫وغير مستطيع فل يلزمك حج‪ ،‬ومريض أو مسافر فل يلزمك صوم‪.‬‬
‫أما الصلة فل يُسقِطها عنك شيء من هذا كله‪ ،‬فإنْ كنت غير قادر على القيام فلك أنْ تُصلّي‬
‫قاعدا أو مضطجعا أو راقدا‪ ،‬تشير بطرفك لركوعك وسجودك‪ ،‬ولو حتى تجري أفعال الصلة‬
‫على قلبك‪ ،‬المهم أن تظلّ ذاكرا لربك متصلً به‪ ،‬ل يمر عليك وقت إل وهو سبحانه في بالك‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن ذكر ال في الذان والقامة والصلة ِذكْر دائم في كل الوقت ل ينقطع أبدا‪ ،‬فحين تصلي‬
‫أنت الصبح مثلً غيرك يصلي الظهر‪ ،‬وحين تركع غيرك يسجد‪ ،‬وحين تقول‪ :‬بسم ال الرحمن‬
‫الرحيم‪ .‬غيرك يقول‪ :‬الحمد ل رب العالمين‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫فهي عبادة متداخلة دائمة ل تنقطع أبدا؛ لذلك يقول أحد أهل المعرفة مخاطبا الزمن‪ :‬يا زمن فيك‬
‫ظهْر‪ ،‬وفيك العصر‪ ،‬وفيك‬
‫كل الزمن‪ .‬يعني‪ :‬في كل جزئية من الزمن الزمن كله‪ ،‬كأنه قال‪ :‬يا ُ‬
‫المغرب‪ ،‬وفيك العشاء‪ ،‬وهكذا العالم كله يدور بعبادة ل ل تنتهي‪.‬‬
‫وذكر من الصلة الركوع والسجود؛ لنهما أظهر أعمال الصلة‪ ،‬لكن الركوع والسجود حركات‬
‫يؤديها المؤمن المخلص‪ ،‬ويؤديها المنافق‪ ،‬وقد كان المنافقون أسبق الناس إلى الصفوف الولى؛‬
‫لذلك أراد الحق سبحانه أنْ يُميّز هذا من هذا‪ ،‬فقال‪ } :‬وَاعْ ُبدُواْ رَ ّبكُمْ‪[ { ..‬الحج‪.]77 :‬‬
‫فليست العبرة في حركات الركوع والسجود‪ ،‬إنما العبرة في التوجّه بها إلى ال‪ ،‬وإخلص النية‬
‫فيها ل‪ ،‬وإل أصبحت الصلة مجرد حركات ل تعدو أن تكون تمارين رياضية كما يحلو للبعض‬
‫أن يقول‪ :‬الصلة فيها تمارين رياضية تُحرّك كل أجزاء الجسم‪ ،‬نعم هي كما تقولون رياضة‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لكنها ليست عبادة‪ ،‬العبادة أن تؤديها لن ال تعالى أمرك بها‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وَا ْفعَلُواْ ا ْلخَيْرَ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ { [الحج‪.]77 :‬‬
‫والخير كلمة عامة تشمل كل أوامر التكليف‪ ،‬لكن جاءت مع الصلة على سبيل الجمال‪ ،‬لن ما‬
‫ل يتم الواجب إل به فهو واجب‪ ،‬فالخير ‪ -‬إذن ‪ -‬كلمة جامعة لكل ما تؤديه وظائف المناهج من‬
‫خير المجتمع؛ لن المنهج ما جاء إل لينظم حركة الحياة تنظيما يتعاون ويتساند ل يتعاند‪ ،‬فإنْ‬
‫سعِد المجتمع بأَسْره‪.‬‬
‫جاء المر على هذه الصورة َ‬

‫ول تنْسَ أن المنهج حين يُضيّق عليك ويُقيّد حركتك يفعل ذلك لصالحك أنت‪ ،‬وأنت المستفيد من‬
‫تقييد الحركة؛ لن ربك قيّد حركتك وضيّق عليك حتى تُلحِق الشر بالخرين‪ ،‬وفي الوقت نفسه‬
‫ضيّق على الخرين جميعا أن يتحركوا بالشر ناحيتك‪ ،‬وأنت واحد وهم كثير‪ ،‬فمن أجل تقييد‬
‫حركتك قيّد لك حركة الناس جميعا‪ ،‬فمَنِ الكاسب في هذه المسألة‪.‬‬
‫غضّ بصرك‬
‫الشرع قال لك‪ :‬ل تسرق وأنت واحد وقال للناس جميعا‪ :‬ل تسرقوا منه‪ ،‬وقال لك‪ُ :‬‬
‫غضّوا أبصاركم عن محارم فلن‪ ،‬فكل تكليف من‬
‫عن محارم الغير وأنت واحد‪ .‬وقال لكل غير‪ُ :‬‬
‫خلْق يعود عليك‪.‬‬
‫ال لل َ‬
‫فالمعنى‪ } :‬وَا ْفعَلُواْ ا ْلخَيْرَ { [الحج‪ ]77 :‬أي‪ :‬الذي ل يأتي منه فساد أبدا‪ ،‬وما دامت الحركات‬
‫صادرة عن مراد لهوى واحد فإنها تتساند وتتعاون‪ ،‬فإنْ كان لك هوى ولغيرك هوى تصادمتْ‬
‫الهواء وتعاندت‪ ،‬والخير‪ :‬كل ما تأمر به التكاليف المنهجية الشرعية من الحق تبارك وتعالى‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬لعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ { [الحج‪ ]77 :‬لكن‪ ،‬أين سيكون هذا الفَلَح‪ :‬في الدنيا أم في‬
‫الخرة؟‬
‫الفلَح يكون في الدنيا لمن قام بشرع ال والتزم منهجه وفعل الخير‪ ،‬فالفَلح ثمرة طبيعية لمنهج‬
‫ال في أيّ مجتمع يتحرك أفرادُه في اتجاه الخير لهم وللغير‪ ،‬مجتمع يعمل بقول رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ " :‬ل يؤمن أحدكم حتى يحب لخيه ما يحب لنفسه " وعندها لن ترى في المجتمع‬
‫تزاحما ول تنافرا ول ظلما ول رشوة‪ ..‬الخ هذا الفلح في الدنيا‪ ،‬ثم يأتي زيادة على فلح الدنيا‬
‫فلح الخرة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ل تظنوا التكاليف الشرعية عِبْئا عليكم؛ لنها في صالحكم في الدنيا‪ ،‬وبها فلح دنياكم‪ ،‬ثم‬
‫يكون ثوابها في الخرة مَحْض الفضل من ال‪.‬‬
‫وقد نبهنا النبي صلى ال عليه وسلم إلى هذه المسألة فقال‪ " :‬ل يدخل أحدكم الجنة بعمله قالوا‪ :‬ول‬
‫ن يتغمّدني ال برحمته " ذلك لن النسان يفعل الخير في‬
‫أنت يا رسول ال؟ قال‪ :‬ول أنا‪ ،‬إل أ ْ‬
‫الدنيا لصالحه وصالح دنياه التي يعيشها‪ ،‬ثم ينال الثواب عليها في الخرة من فضل ال كما قال‬
‫تعالى‪ {:‬وَيَزيدُهُمْ مّن َفضْلِهِ‪[} ..‬النساء‪.]173 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وقوله تعالى‪َ } :‬لعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ { [الحج‪ ]77 :‬نعرف أن لعل أداة للترجي‪ ،‬وهو درجات بعضها‬
‫أرْجى من بعض‪ ،‬فمثلً حين تقول‪ :‬لعل فلنا يعطيك‪ ،‬فأنت ترجو غيرك ول تضمن عطاءه‪ ،‬فإنْ‬
‫قلت‪ :‬لعلّي أعطيك‪ .‬فالرجاء ‪ -‬إذن ‪ -‬في يدك‪ ،‬فهذه أرجى من سابقتها‪ ،‬لكن ما زلنا أنا وأنت‬
‫متساويين‪ ،‬وربما أعطيك أولً‪ ،‬إنما حين تقول‪ :‬لعل ال يعطيك فقد رجوْتَ ال‪ ،‬فهذه أرجى من‬
‫سابقتها‪ ،‬فإذا قال ال تعالى بذاته‪ :‬لعلي أعطيك فهذا أقوى درجات الرجاء وآكدها؛ لن الوعد من‬
‫ال والرجاء فيه سبحانه ل يخيب‪.‬‬
‫ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ‬
‫جهَا ِدهِ ُهوَ اجْتَبَا ُك ْم َومَا َ‬
‫حقّ ِ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬وجَاهِدُوا فِي اللّهِ َ‬
‫حَرَجٍ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2653 /‬‬

‫ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ُهوَ‬
‫جهَا ِدهِ ُهوَ اجْتَبَاكُ ْم َومَا َ‬
‫حقّ ِ‬
‫وَجَا ِهدُوا فِي اللّهِ َ‬
‫شهَدَاءَ عَلَى النّاسِ فََأقِيمُوا‬
‫شهِيدًا عَلَ ْي ُك ْم وَ َتكُونُوا ُ‬
‫سمّاكُمُ ا ْل ُمسِْلمِينَ مِنْ قَ ْبلُ َوفِي هَذَا لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ‬
‫َ‬
‫صمُوا بِاللّهِ ُهوَ َموْلَاكُمْ فَ ِنعْمَ ا ْل َموْلَى وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ (‪)78‬‬
‫الصّلَا َة وَآَتُوا ال ّزكَا َة وَاعْ َت ِ‬

‫جهَا ِدهِ‪[ } ..‬الحج‪ ]78 :‬كالذي قلناه في{ مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ َقدْ ِرهِ }[الحج‪ ]74 :‬لن‬
‫حقّ ِ‬
‫معنى { َ‬
‫الجهاد أيضا يحتاج إلى إخلص‪ ،‬وأنْ تجعل ال في بالك‪ ،‬فربما خرجتَ لمجرد أن تدفع اللوم عن‬
‫نفسك وحملتَ السلح فعلً ودخلت المعركة‪ ،‬لكن ما في بالك أنها ل وما في بالك إعلء كلمة ال‪،‬‬
‫كالذي يقاتل للشهرة وليرى الناس مكانته‪ ،‬أو يقاتل طمعا في الغنائم‪ ،‬أو لنه مغتاظ من العدو‬
‫وبينه وبينه ثأر‪ ،‬ويريد أن ينتقم منه ‪ ،‬هذه وغيرها أمور تُخرِج القتال عن هدفه وتُفرغه من‬
‫محتواه‪.‬‬
‫لذلك لما سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬الرجل يقاتل للمغنم‪ ،‬والرجل يقاتل‬
‫ليذكر‪ ،‬والرجل يقاتل ليُرى مكانه‪ ،‬فمَنْ في سبيل ال‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬مَنْ‬
‫قاتل لتكون كلمة ال هي العليا فهو في سبيل ال " " وهذا هو حق الجهاد‪ ،‬وأنت فيه حكَم على‬
‫نفسك‪ ،‬لن ميزان ذلك في يدك‬
‫‪ .‬وقد تسأل‪ :‬ولماذا الجهاد؟ قالوا‪ :‬لنك إذا انتفعتَ بالمنهج تطبيقا له بعد التحقيق الذي أتى به‬
‫الرسل تنفع نفسك‪ ،‬لكن ربك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يريد أنْ يُشيع النفع لمن معك أيضا‪ ،‬وهذا ل يتأتّى إل‬
‫بالجهاد بالنفس أو المال أو أي شيء محبوب‪ ،‬وإل فكيف ستربح الصفقة التي قال ال تعالى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سهُ ْم وََأ ْموَاَلهُمْ بِأَنّ َلهُمُ اّلجَنّةَ‪[} ..‬التوبة‪.]111 :‬‬
‫عنها‪ {:‬إِنّ اللّهَ اشْتَرَىا مِنَ ا ْل ُمؤْمِنِينَ أَنفُ َ‬
‫وكما أن للجنود في ساحة القتال مهمة‪ ،‬كذلك لمن قعد ولم يخرج مهمة‪ :‬الجندي حين يقتحم‬
‫الهوال والمخاطر ويُعرّض نفسه للموت‪ ،‬فهذا يعني أنه دخل المعركة وما عرّض نفسه للموت‪،‬‬
‫فهذا يعني أنه ما دخل المعركة وما عرّض نفسه للقتل إل وهو واثق تمام الثقة‪ ،‬أن ما يذهب إليه‬
‫بالقتل خير مما يناله بالجُبْن‪ ،‬وهذا يشجع الخرين ويحثّهم على القتال‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬في غزوة بدر لما سمع الصحابي كلم رسول ال صلى ال عليه وسلم عن أجر الشهيد‬
‫وكان في فمه تمرة يمصّها‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول ال‪ ،‬أليس بيني وبين الجنة إل أنْ أُقتل في سبيل ال؟‬
‫قال‪ :‬نعم‪ ،‬فألقى التمرة من فيه وخرج لتوّه إلى الجهاد لنه واثق تمام الثقة أن ما سيذهب إليه‬
‫بالشهادة خير مما ترك‪.‬‬
‫أما الذين َبقَوْا ولم يخرجوا‪ ،‬فمهمتهم أن يحملوا المنهج‪ ،‬وأنْ يحققوه‪ ،‬وإل لو خرج الجميع إلى‬
‫القتال واستشهدوا جميعا‪ ،‬فمَنْ يحمل منهج ال وينشره؟‬
‫وجاءءت كلمة الجهاد عامة لتشمل كل أنواع الجهاد‪ ،‬فإذا ما أثمر الجهاد ثمرته وتعلبنا على الكفر‬
‫فلم َي ُعدْ هناك كفار‪ ،‬أو خَّلوْا طريق دعوتنا وتركونا‪ ،‬وأحبوا أنْ يعيشوا في بلدنا أهل ذمة‪ ،‬فل‬
‫داعي ‪ -‬إذن ‪ -‬للقتال‪ ،‬ويتحول الجهاد إلى ميدان آخر هو جهاد النفس‪.‬‬

‫لذلك قال تعالى بعدها‪ُ } :‬هوَ اجْتَبَاكُمْ‪[ { ..‬الحج‪ ]78 :‬يعني‪ :‬اختاركم واصطفاكم لتكونوا خير أمة‬
‫أُخرجت للناس‪ ،‬وثمن هذا الجتباء أن نكون أهلً له‪ ،‬وعلى مستوى مسئوليته‪ ،‬وأنْ نحقق ما أراده‬
‫ال منّا‪.‬‬
‫كما ننصح جماعة من أهل الدعوة الذين حملوا رايتها‪ ،‬نقول لهم‪ :‬لقد اختاركم ال‪ ،‬فكونوا أَهْلً‬
‫لهذا الختيار‪ ،‬واجعلوا كلمه تعالى في محلّه‪.‬‬
‫ج َعلَ عَلَ ْيكُمْ فِي الدّينِ مِنْ حَرَجٍ‪[ { ..‬الحج‪ ]78 :‬يعني‪ :‬ما اجتباكم ليُعنتكم‪،‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬ومَا َ‬
‫أو ليُضيّق عليكم‪ ،‬أو ليُعسّر عليكم المور‪ ،‬إنما جعَل المر كله يُسْر‪ ،‬وشرعه على قَدْر‬
‫الستطاعة‪ ،‬ورخّص لكم ما يُخفّف عنكم‪ ،‬ويُذهِب عنكم الحرج والضيق‪ ،‬فمَنْ لم يستطع القيام‬
‫صلى قاعدا‪ ،‬ومَنْ كان مريضا أفطر‪ ،‬والفقير ل زكاة عليه ول حج‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫كما قال سبحانه في موضع آخر‪ {:‬وََلوْ شَآءَ اللّهُ لَعْنَتَكُمْ‪[} ..‬البقرة‪ ]220 :‬لكنه سبحانه ما أعنتكم‬
‫ول ضَيّق عليكم‪ ،‬وما كلّفكم إل ما تستطيعون القيام به‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ { [الحج‪ ]78 :‬كلمة (ملة) جاءت هكذا بالنصب‪ ،‬لنها مفعول به‬
‫سِلمَيْنِ َلكَ َومِن‬
‫جعَلْنَا مُ ْ‬
‫لفعل تقديره‪( :‬الزموا) مِلة أبيكم إبراهيم؛ لنكم دعوته حين قال‪ {:‬رَبّنَا وَا ْ‬
‫سكَنَا وَ ُتبْ عَلَيْنَآ‪[} ..‬البقرة‪]128 :‬‬
‫ك وَأَرِنَا مَنَا ِ‬
‫ذُرّيّتِنَآ ُأمّةً مّسِْلمَةً ّل َ‬
‫ومن دعوة إبراهيم عليه السلم‪ {:‬رَبّنَا وَا ْبعَثْ فِيهِمْ َرسُولً مّ ْنهُمْ‪[} ..‬البقرة‪ ]129 :‬لذلك كان النبي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صلى ال عليه وسلم يقول‪ " :‬أنا دعوة أبي إبراهيم‪ ،‬وبُشْرى عيسى "‪.‬‬
‫سكَنَا‪[} ..‬البقرة‪ ]128 :‬أعطنا التكاليف‪ ،‬وكأنه‬
‫يعني‪ :‬من ذريته وذرية ولده إسماعيل{ وَأَرِنَا مَنَا ِ‬
‫مُتشوّق إلى تكاليف ال‪ ،‬وهل يشتاق النسان للتكليف إنْ كان فيه ضيق أو مشقة؟‬
‫وكذلك كان صحابة النبي صلى ال عليه وسلم يعشقون تكاليف السلم‪ ،‬ويسألون عنها رسول ال‬
‫رغم قوله لهم‪ " :‬ذروني ما تركتكم " إل أنهم كانوا يسألون عن أمور الدين ليبنوا حياتهم الجديدة‪،‬‬
‫ل على ما كانت الجاهلية تفعله‪ ،‬بل على ما أمر به السلم‪.‬‬
‫ولنا مَلْحظ في قوله تعالى‪ } :‬مّلّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ‪[ { ..‬الحج‪.]78 :‬‬
‫عقَديّ للجميع‪ ،‬وفي أمة السلم مَنْ ليس من ذرية إبراهيم‪ ،‬لكن إبراهيم عليه‬
‫نقول‪ :‬السلم انقياد َ‬
‫السلم أبٌ لرسول ال محمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬والرسول أب لكل مَنْ آمن به؛ لن أبوة‬
‫الرسول أبوة عمل واتباع‪ ،‬كما جاء في قول ال تعالى في قصة نوح عن ابنه‪ {:‬إِنّهُ لَيْسَ مِنْ‬
‫أَهِْلكَ‪[} ..‬هود‪.]46 :‬‬
‫سمّى ال زوجاته أمهات للمؤمنين‪ ،‬فقال‬
‫ولما كان النبي صلى ال عليه وسلم أبا لكل مَنْ آمن به َ‬
‫سهِ ْم وَأَ ْزوَاجُهُ ُأ ّمهَا ُتهُمْ‪[} ..‬الحزاب‪.]6 :‬‬
‫سبحانه‪ {:‬النّ ِبيّ َأوْلَىا بِا ْل ُم ْؤمِنِينَ مِنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫وما دامت الزواج أمهات‪ ،‬فالزوج أب‪ ،‬وبناءً على هذه الصلة يكون إبراهيم عليه السلم أبا لمة‬
‫السلم‪ ،‬وإنْ كان فيهم مَنْ ليس من سللته‪.‬‬
‫ونجد البعض ممّنْ يحبون العتراض على كلم ال يقولون في مسألة أبوة الرسول لمته‪ :‬لكن‬
‫القرآن قال غير ذلك‪ ،‬قال في قصة زيد بن حارثة‪:‬‬

‫حمّدٌ أَبَآ َأحَدٍ مّن رّجَاِلكُمْ‪[} ..‬الحزاب‪ ]40 :‬فنفى أن يكون محمد أبا لحد‪ ،‬وفي هذا ما‬
‫{ مّا كَانَ ُم َ‬
‫يناقض كلمكم‪.‬‬
‫نقول‪ :‬لو فهمتم عن ال ما اعترضتُم على كلمه‪ ،‬فال يقول‪ :‬ما كان محمد أبا لحدكم‪ ،‬بل هو أب‬
‫للجميع‪ ،‬فالمنفيّ أن يكون رسول ال أبا لواحد‪ ،‬ل أن يكون أبا لجميع أمته‪ .‬وقال بعدها‪ {:‬وَلَـاكِن‬
‫رّسُولَ اللّهِ‪[} ..‬الحزاب‪ ]40 :‬وما دام رسول ال‪ ،‬فهو أب للكل‪.‬‬
‫سمّاكُمُ ا ْلمُسِْلمِينَ مِن قَ ْبلُ‪[ { ..‬الحج‪ ]78 :‬يعني‪:‬‬
‫ثم يقول تعالى عن إبراهيم عليه السلم‪ُ } :‬هوَ َ‬
‫إبراهيم عليه السلم سماكم المسلمين‪ ،‬فكأن هذه مسألة واضحة وأمْر معروف أنكم مسلمون منذ‬
‫ش َهدَآءَ عَلَى النّاسِ‪..‬‬
‫علَ ْيكُ ْم وَ َتكُونُواْ ُ‬
‫شهِيدا َ‬
‫إبراهيم عليه السلم‪َ } :‬وفِي هَـاذَا لِ َيكُونَ الرّسُولُ َ‬
‫{ [الحج‪.]78 :‬‬
‫س وَ َيكُونَ الرّسُولُ‬
‫شهَدَآءَ عَلَى النّا ِ‬
‫وفي موضع آخر يحدث تقديم وتأخير‪ ،‬فيقول سبحانه‪ {:‬لّ َتكُونُواْ ُ‬
‫شهِيدا }[البقرة‪.]143 :‬‬
‫عَلَ ْيكُمْ َ‬
‫لماذا؟ قالوا‪ :‬لن رسول ال بلّغ رسالة ال‪ ،‬وأشهد ال على ذلك حين قال‪ " :‬اللهم قد بلغت‪ ،‬اللهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فاشهد " أشهد أنّي بلغتُ‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم يريد من أمته أن يكون كل شخص فيها حاملً‬
‫لهذه الرسالة‪ ،‬مُبلّغا لها حتى يسمع كلم الرسول مَنْ لم يحضره ولم يَ َرهُ‪ ،‬وهكذا يكون الرسول‬
‫شهيدا على مَنْ آمن به‪ ،‬ومَنْ آمن شهيدا على مَنْ بلّغه‪.‬‬
‫لذلك من شرف أمة محمد أولً أنه ل يأتي بعده رسول؛ لنهم مأمونون على منهج ال‪ ،‬وكأن‬
‫الخير ل ينطفيء فيهم أبدا‪ .‬وقلنا‪ :‬إن الرسل ل يأتون إل بعد أنْ يعُمّ الفساد‪ ،‬ويفقد الناس المناعة‬
‫الطبيعية التي تحجزهم عن الشر‪ ،‬وكذلك يفقدها المجتمع كله فل ينهى أحد أحدا عن شر؛ عندها‬
‫يتدخل الحق سبحانه برسول ومعجزة جديدة ليُصلح ما فسد‪.‬‬
‫فختام الرسالت بمحمد صلى ال عليه وسلم شهادة أن الخير ل ينقطع من أمته أبدا‪ ،‬ومهما‬
‫انحرف الناس سيبقى جماعة على الجادة يحملون المنهج ويتمسكون به ويكونون قدوة لغيرهم‪.‬‬
‫لذلك حدّد رسول ال هذه المسألة فقال‪ " :‬الخير فيّ حصرا‪ ،‬وفي أمتي نثرا " فالخير كله والكمال‬
‫كله في شخص رسول ال‪ ،‬ومنثور في أمته‪.‬‬
‫ل َة وَآتُواْ ال ّزكَـاةَ‪[ { ..‬الحج‪ ]78 :‬لنها‬
‫ثم يعود السياق إلى المر بالصلة‪ } :‬فََأقِيمُواْ الصّ َ‬
‫الفريضة الملزمة للمؤمن‪ ،‬وفيها إعلء الولء المكرر في اليوم خمس مرات‪ ،‬وبها يستمر ِذكْر‬
‫ال على مدى الزمن كله ل ينقطع أبدا في لحظة من لحظات الزمن حين تنظر إلى العالم كله‪،‬‬
‫وتضم بعضه إلى بعض‪.‬‬
‫والمتأمل في الزمن بالنسبة للحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يجده دائما ل ينقطع‪ ،‬فاليوم مثلً عندنا أربع‬
‫وعشرون ساعة‪ ،‬واليوم عند ال ألف سنة مما تعدّون‪ ،‬واليوم في القيامة خمسون ألف سنة‪،‬‬
‫وهناك يوم اسمه يوم الن أي‪ :‬اللحظة التي نحن فيها‪ ،‬وهو يوم ال الذي قال عنه‪:‬‬

‫جفّ؟‬
‫{ ُكلّ َيوْمٍ ُهوَ فِي شَأْنٍ }[الرحمن‪ ]29 :‬لذلك يقول‪ :‬ما شغل ربك الن وقد صَحّ أن القلم قد َ‬
‫قال‪ " :‬أمور يبديها ول يبتديها‪ ،‬يرفع أقواما‪ ،‬ويضع آخرين "‪.‬‬
‫فيوم الن يوم عام‪ ،‬ل هو يوم مصر‪ ،‬ول يوم سوريا‪ ،‬ول يوم اليابان إذن‪ :‬في كل لحظة يبدأ ل‬
‫يوم ينتهي يوم‪ ،‬فيومه تعالى مستمر ل ينقطع‪.‬‬
‫ونقرأ في الحديث النبوي الشريف‪ " :‬إن ال يبسط يده بالليل ليتوب مُسِيء النهار‪ ،‬ويبسط يده‬
‫بالنهار ليتوب مُسيء الليل "‪.‬‬
‫نهار مَنْ؟ وليل مَنْ؟ فالنهار والليل في الزمن دائم ل ينقطع‪ ،‬وفي كل لحظة من لحظات الزمن‬
‫ينتهي يوم ويبدأ يوم‪ ،‬وينتهي ليل ويبدأ ليل‪ .‬إذن‪ :‬فال تعالى يده مبسوطة دائما ل يقبضها أبدا‪،‬‬
‫كما قال سبحانه‪َ {:‬بلْ يَدَاهُ مَ ْبسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَ ْيفَ يَشَآءُ‪[} ..‬المائدة‪]64 :‬‬
‫صمُواْ بِاللّهِ { [الحج‪ ]78 :‬الجئوا إليه في الشدائد‪ ،‬وهذا يعني أنكم‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَاعْ َت ِ‬
‫ت في‬
‫ستُواجهون وتُضطهدون‪ ،‬فما من حامل منهج ل إل اضُطهد‪ ،‬فل يؤثر فيكم هذا ول يفُ ّ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عضُدكم‪ ،‬واجعلوا ال ملجأكم ومعتصمكم في كل شدة تداهمكم‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬لَ عَاصِمَ الْ َيوْمَ‬
‫َ‬
‫مِنْ َأمْرِ اللّهِ ِإلّ مَن رّحِمَ }[هود‪.]43 :‬‬
‫لكُمْ { [الحج‪ ]78 :‬يعني‪ :‬المتولّي لشأنكم‪،‬‬
‫واعتصامكم بال أمر ل تأتون إليه بأنفسكم إنما } ُهوَ َموْ َ‬
‫وما دام هو سبحانه مولكم } فَ ِنعْمَ ا ْل َموْلَىا وَ ِنعْمَ ال ّنصِيرُ {‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2654 /‬‬

‫قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ (‪)1‬‬

‫لما قال الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬في الية قبل السابقة من سورة الحج{ َلعَّلكُمْ ُتفْلِحُونَ‪[} ..‬الحج‪:‬‬
‫ل تفيد الرجاء‪ ،‬أراد سبحانه أن يؤكد هنا على فلح المؤمنين فقال‪ { :‬قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }‬
‫‪ ]77‬ولع ّ‬
‫[المؤمنون‪ ]1 :‬وأن الرجاء من ال واقع ومؤكد‪ ،‬لذلك جاء بأداة التحقيق { َقدْ } التي تفيد تحقّق‬
‫وقوع الفعل‪ ،‬وهكذا تنسجم بداية سورة (المؤمنون) مع نهاية سورة (الحج)‪.‬‬
‫وقوله تعالى هناك{ ُتفْلِحُونَ }[الحج‪ ]77 :‬وهنا { َأفْلَحَ } [المؤمنون‪ ]1 :‬مادة (فلح) مأخوذة من‬
‫ق الرض‪ :‬إهاجتها‬
‫شّ‬‫فلحة الرض‪ ،‬والفَلْح هو الشق؛ لذلك قالوا‪ :‬إن الحديد بالحديد يفلح‪ ،‬و َ‬
‫سمّي الزرع حَرْثا في قوله سبحانه‪{:‬‬
‫وإثارتها بالحرث‪ ،‬وهذه العملية هي أساس الزرع‪ ،‬ومن هنا ُ‬
‫خصَامِ * وَإِذَا‬
‫شهِدُ اللّهَ عَلَىا مَا فِي قَلْ ِب ِه وَ ُهوَ أَلَدّ الْ ِ‬
‫َومِنَ النّاسِ مَن ُيعْجِ ُبكَ َقوْلُهُ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا وَيُ ْ‬
‫سلَ }[البقرة‪.]205 - 204 :‬‬
‫سعَىا فِي الَ ْرضِ لِ ُيفْسِدَ فِ ِيهَا وَ ُيهِْلكَ ا ْلحَ ْرثَ وَالنّ ْ‬
‫َتوَلّىا َ‬
‫ومعنى أفلح‪ :‬فاز بأقصى ما تتطلع إليه النفس من خير‪.‬‬
‫والرض حين تحرثها تكون خالية ليس فيها شيء ُيهْلَك‪ ،‬إذن‪ :‬المراد بالحرث هنا الزرع الناتج‬
‫عن عملية الحرث‪ ،‬والتي ل بُدّ منها كي تتم عملية الزراعة؛ لنك بالحرث تثير التربة ليتخللها‬
‫الهواء‪ ،‬فيزيد من خصوبتها وصلحها لستقبال البذرة‪ ،‬وسبق أن تحدثنا عن عملية النبات‪،‬‬
‫وكيف تتم‪ ،‬وأن النبات يتغذى على فَلْقتي البذرة إلى أن يصبح له جذر قوي يستطيع أن يمتصّ من‬
‫التربة‪ ،‬فإن ألقيتَ البذرة في أرض صماء غير مثارة فإن الجذر يجد صعوبة في اختراق التربة‬
‫والمتصاص منها‪.‬‬
‫فالحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يعطينا صورة من واقعنا المشاهد‪ ،‬ويستعير من فلحة الرض ليعبر‬
‫عن فلح المؤمن وفوزه بالنعيم المقيم في الخرة‪ ،‬فالفلح يحرث أرضه ويسقيها ويرعاها فتعطيه‬
‫الحبة بسبعمائة حبة‪ ،‬وهكذا سيكون الجزاء في الخرة‪ {:‬مّ َثلُ الّذِينَ يُ ْنفِقُونَ َأ ْموَاَلهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عفُ ِلمَن يَشَآ ُء وَاللّ ُه وَاسِعٌ عَلِيمٌ }‬
‫َكمَ َثلِ حَبّةٍ أَنبَ َتتْ سَ ْبعَ سَنَا ِبلَ فِي ُكلّ سُنبُلَةٍ مّئَةُ حَبّةٍ وَاللّهُ ُيضَا ِ‬
‫[البقرة‪.]261 :‬‬
‫فإذا كانت الرض المخلوقة ل عز وجل تعطي كل هذا العطاء‪ ،‬فما بالك بعطاء مباشر من خالقك‬
‫وخالق الرض التي تعطيك؟ وكما أن الفلح إذا تعب واجتهد زاد محصوله‪ ،‬كذلك المؤمن كلما‬
‫تعب في العبادة واجتهد زاد ثوابه وتضاعف جزاؤه في الخرة‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2655 /‬‬

‫شعُونَ (‪)2‬‬
‫الّذِينَ هُمْ فِي صَلَا ِتهِمْ خَا ِ‬

‫كان أول ظاهرية الفلح في الصلة‪ ،‬وما يزال الحديث عنها موصولً بما قاله ربنا في اليات‬
‫سجُدُو ْا وَاعْبُدُواْ رَ ّبكُمْ‪[} ..‬الحج‪ ]77 :‬وقال بعدها‪ {:‬فََأقِيمُواْ‬
‫السابقة‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ا ْر َكعُو ْا وَا ْ‬
‫لةَ وَآتُواْ ال ّزكَـاةَ‪[} ..‬الحج‪.]78 :‬‬
‫الصّ َ‬
‫شعُونَ } [المؤمنون‪]2 :‬‬
‫وهنا جعل أول وصف للمؤمنين الذين أفلحوا { الّذِينَ ُهمْ فِي صَلَ ِتهِمْ خَا ِ‬
‫فلم يقل مثلً‪ :‬مؤدون؛ لن أمر أداء الصلة في حق المؤمنين مفروغ منه‪ ،‬العبرة هنا بالهيئة‬
‫والكيفية‪ ،‬العبرة بالخشوع والخضوع وسكينة القلب وطمأنينته واستحضار ال الذي تقف بين يديه‪.‬‬
‫كما تقول لولدك‪ :‬اجلس أمام المعلم باهتمام‪ ،‬واستمع إليه بإنصات‪ ،‬فأنت ل توصيه بالذهاب إلى‬
‫المدرسة أو حضور الدرس‪ ،‬فهذا أمر مفروغ منه؛ لذلك تهتم بجوهر الموضوع والحالة التي‬
‫ينبغي أن يكون عليها‪.‬‬
‫والخشوع أن يكون القلب مطمئنا ساكنا في مهمته هذه‪ ،‬فل ينشغل بشيء آخر غير الصلة؛ لن‬
‫ال ما جعل لرجل من قلبين في جوفه‪ ،‬وما دام في حضرة ربه عز وجل فل ينبغي أن ينشغل‬
‫بسواه‪ ،‬حتى إن بعض العارفين لمعنى الخشوع يقول‪ :‬إن الذي يتعمد معرفة مَنْ على يمينه أو مَنْ‬
‫على يساره في الصف تبطل صلته‪.‬‬
‫ولما دخل سيدنا عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬على رجل يصلي ويعبث بلحيته‪ ،‬فضربه على يده‬
‫وقال‪ :‬لو خشع قلبك لخشعتْ جوارحك‪.‬‬
‫ذلك لن الجوارح تستمد طاقتها من القلب ومن الدم الذي يضخه فيها‪ ،‬فلو شغل القلب عن‬
‫الجوارح ما تحركت‪.‬‬
‫لذلك لما سأل أحد الفقهاء صوفيا‪ :‬ما حكم مَنْ سها في صلته؟ قال‪ :‬حكمه عندنا أم عندكم؟ قال‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ألنا عند ولكم عند؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬عند الفقهاء مَنْ يسهو في الصلة يجبره سجود السهو‪ ،‬أما عندنا فمَنْ‬
‫يسهو في الصلة نقتله‪ .‬يعني مسألة كبيرة‪.‬‬
‫ثم ألَ يستحق منك ربك وخالقك أن تتفرغ له سبحانه على القل وقت صلتك‪ ،‬وهي خمس دقائق‬
‫في كل وقت من الوقات الخمسة‪ ،‬وقد تركك باقي الوقت تفعل ما تشاء؟ اتستكثر على ربك أن‬
‫تُفرّغ له قلبك‪ ،‬وأن تستحضره سبحانه‪ ،‬وهذه العملية في صالحك أنت قبل كل شيء‪ ،‬في صالحك‬
‫أن تكون في جلوة مع ربك تستمد منه سبحانه الطاقة والمعونة‪ ،‬وتتعرض لنفحاته وإشراقاته‬
‫وتقتبس من أنواره وأسراره؟‬
‫ومن حرص أهل التقوى على سلمة الصلة وتمامها قال أحدهم لصاحبه الذي يحرص على أنْ‬
‫يؤم الناس‪ :‬لماذا تحرص على المامة وأنت تعرف أن طالب الولية ل يُولّى؟ قال‪ :‬نعم أحرص‬
‫عليها لخرج من الخلف بين الشافعي الذي قال بقراءة الفاتحة خلف المام‪ ،‬وأبي حنيفة الذي قال‬
‫بأن قراءة المام قراءة للمأموم‪ ،‬فأحرص على المامة حتى أقرأ أنا‪ ،‬ول أنشغل بهذا الخلف‪.‬‬

‫(‪)2656 /‬‬

‫وَالّذِينَ ُهمْ عَنِ الّل ْغوِ ُمعْ ِرضُونَ (‪)3‬‬

‫اللغو‪ :‬الكلم الذي ل فائدة منه‪ ،‬ويُطلق أيضا على كل فعل ل جدوى منه‪ ،‬وفي موضع آخر يقول‬
‫تعالى‪ {:‬وَإِذَا مَرّواْ بِالّل ْغوِ مَرّوا كِراما }[الفرقان‪ ]72 :‬ل يشغلون به ول يأبهون له‪ ،‬وحكى القرآن‬
‫ن وَا ْل َغوْاْ فِيهِ‪[} ..‬فصلت‪.]26 :‬‬
‫س َمعُواْ ِلهَـاذَا ا ْلقُرْآ ِ‬
‫عن الكفار عند سماعهم القرآن قولهم‪ {:‬لَ تَ ْ‬
‫س َمعُونَ فِيهَا َلغْوا وَلَ تَأْثِيما * ِإلّ قِيلً‬
‫لذلك جعل الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬من نعيم الجنة‪ {:‬لَ يَ ْ‬
‫سَلَما سَلَما }[الواقعة‪ ]26 - 25 :‬كأن من المعايب في الدنيا ومن مصائبها أن نسمع فيها لغوا‬
‫كثيرا ل فائدة منه‪ ،‬وفي آية أخرى يقول عن خمر الخرة التي ل تُذهب العقل‪ ،‬ول تجعل صاحبها‬
‫يهذي بلغو الكلم‪ {:‬يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسا لّ َل ْغوٌ فِيهَا َولَ تَأْثِيمٌ }[الطور‪.]23 :‬‬
‫و { ّمعْ ِرضُونَ } [المؤمنون‪ ]3 :‬العراض في الصل تجنّب الشيء‪ ،‬وهو صورة لحركة إباء‬
‫النفس لشيء ما‪ .‬وأهل المعرفة يضعون للغو مقياسا‪ ،‬فيقولون‪ :‬كل عمل ل تنال عليه ثوابا من ال‬
‫فهو لغو‪.‬‬
‫لذلك احرص دائما أن تكون حركتك كلها ل حتى تُثَابَ عليها‪ ،‬كصاحبنا الذي دخل عليه رجل‬
‫وقصده في قضاء أمر من المور وهو ل يملك هذا المر‪ ،‬لكن أراد أنْ يستغل فرصة الخير هذه‪،‬‬
‫وأن يكون له ثواب حتى في حركة المتناع عنه‪ ،‬فرفع يده‪ :‬اللهم إنه عبد قصد عبدا وأنا آخذ بيده‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ن كنتُ ل أقدر على‬
‫وأقصد ربا‪ ،‬فاجعل تصويب خطئه في قصدي تصويبا لقصدك‪ .‬يعني‪ :‬أنا وإ ْ‬
‫قضائها إل أنني أدخل بها على ال من هذه الناحية‪.‬‬

‫(‪)2657 /‬‬

‫وَالّذِينَ ُهمْ لِل ّزكَاةِ فَاعِلُونَ (‪)4‬‬

‫الزكاة أولً تطلق على معنى التطهير‪ ،‬كما جاء في قول الحق تبارك وتعالى‪ {:‬خُذْ مِنْ َأ ْموَاِلهِمْ‬
‫طهّرُهُ ْم وَتُ َزكّيهِمْ ِبهَا }[التوبة‪ ]103 :‬لن الغفلة قد تصيب النسان حال جمع المال‪ ،‬فيخالط‬
‫صَ َدقَةً ُت َ‬
‫ماله ما فيه شبهة مثلً‪ ،‬فيحتاج إلى تطهير‪ ،‬وتطهير المال يكون بالصدقة منه‪.‬‬
‫والزكاة بمعنى النماء‪ ،‬فبعد أن تُطهر المال تُنمّيه وتزيده‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪َ {:‬قدْ َأفْلَحَ مَن‬
‫َزكّاهَا }[الشمس‪ ]9 :‬يعني‪ :‬نمّى ملَكة الخير فيها‪ ،‬ورقّاها وصعّدها بأن ينظر إلى العمل إنْ كان‬
‫سينقص منك في الظاهر‪ ،‬إل أنه سيجلب لك الخير فيما بعد‪ ،‬فترتقي بذلك ملكَات الخير في نفسك‪.‬‬
‫لذلك لما تكلم الحق سبحانه عن الربا‪ ،‬وهو الزيادة جمع المتناقضات في آية واحدة‪ ،‬فالربا يزيد‬
‫المال ويأخذ المرابي المائة مائة وعشرا‪ ،‬في حين تنقص الزكاة من المال في الظاهر‪ ،‬فالمائة بعد‬
‫الزكاة تصبح سبعة وتسعين ونصفا‪ ،‬ثم تأتي الية لتضع أمامك المقياس الحقيقي‪َ {:‬ي ْمحَقُ اللّهُ الْرّبَا‬
‫حقٌ‪ ،‬والذي تظنه نقصا هو بركة‬
‫وَيُرْبِي الصّ َدقَاتِ }[البقرة‪ ،]276 :‬فالربا الذي تظنه زيادة هو مَ ْ‬
‫وزيادة ونماء‪.‬‬
‫وفي آية أخرى يقول تعالى‪َ {:‬ومَآ آتَيْتُمْ مّن رّبا لّيَرْ ُبوَ فِي َأ ْموَالِ النّاسِ فَلَ يَرْبُو عِندَ اللّ ِه َومَآ آتَيْ ُتمْ‬
‫ضعِفُونَ }[الروم‪ ]39 :‬أي‪ :‬الذين يضاعف ال لهم‬
‫ن وَجْهَ اللّهِ فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْل ُم ْ‬
‫مّن َزكَاةٍ تُرِيدُو َ‬
‫ويزيدهم‪.‬‬
‫وكما أمرنا ربنا ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬بالخشوع في الصلة أمرنا كذلك في الزكاة‪ ،‬فلم يقل‪ :‬مؤدون‪.‬‬
‫ولكن { فَاعِلُونَ } [المؤمنون‪ ]4 :‬وهذه من تربية مقامات العبادة في النسان‪ ،‬فأنت حين تصلي‬
‫ينبغي أن تخشع وتخضع في صلتك ل‪ ،‬وكذلك حين تُزكّي تُرقّي ملكَة الخير في نفسك‪ ،‬فحين‬
‫سعْيك حاجتك‪،‬‬
‫تعمل وتسعى ل تعمل على قَدْر حاجتك‪ ،‬وإنما على قَدْر طاقتك‪ ،‬فتأخذ من ثمرة َ‬
‫وفي نيتك أن تُخرِج من الباقي زكاة مالك وصدقتك‪ ،‬فالزكاة ‪ -‬إذن ‪ -‬في بالك وفي نيتك بدايةً‪.‬‬
‫ج ِهمْ‪} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَالّذِينَ ُهمْ ِلفُرُو ِ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2658 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جهِمْ حَافِظُونَ (‪)5‬‬
‫وَالّذِينَ ُهمْ ِلفُرُو ِ‬

‫سوْءَتَا ُكلّ من الرجل والمرأة‪ ،‬وقد أمر ال تعالى بحفظها على‬


‫الفروج‪ :‬جمع فَرْج‪ ،‬والمقصود َ‬
‫المهمة التي خُلقت من أجلها‪ ،‬ومهمة هذه العضاء إما إخراج عادم الجسم من بول أو غائط‪ ،‬أو‬
‫حفْظ النسل‪ ،‬وعلى النسان أن يحفظ فرجه على ما أحلّه له في قوله‬
‫العملية الجنسية وهدفها ِ‬
‫جهِمْ َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ‪} ..‬‬
‫تعالى‪ِ { :‬إلّ عَلَىا أَ ْزوَا ِ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2659 /‬‬

‫جهِمْ َأوْ مَا مََلكَتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ فَإِ ّن ُهمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (‪)6‬‬
‫إِلّا عَلَى أَ ْزوَا ِ‬

‫أي‪ :‬يحفظون فروجهم إل على أزواجهم؛ لن ال أحلها { َأوْ مَا مََل َكتْ أَ ْيمَا ُنهُمْ‪[ } ..‬المؤمنون‪]6 :‬‬
‫ومِلْك اليمين حلل لم َيعُد له موضع‪ ،‬ولم َيعُد له وجود الن‪ ،‬وقد حرم هذا القانون البشري‬
‫الدولي‪ ،‬فلم يعد هناك إماء كما كان قبل السلم‪ ،‬فهذا حكم مُعطّل لم َي ُعدْ له مدلول‪ ،‬وفرق بين أن‬
‫يُعطّل الحكم لعدم وجود موضوعه وبين أن يُلْغى الحكم‪ ،‬فمِلْك اليمين حكم لم يُلْغ‪ ،‬الحكم قائم إنما‬
‫ل يوجد له موضوع‪.‬‬
‫ولتوضيح هذه المسألة‪َ :‬هبْ أنك في مجتمع كله أغنياء‪ ،‬ليس فيهم فقير ول مستحق للزكاة عندها‬
‫تقول‪ :‬حكم الزكاة مُعطّل‪ ،‬فهي كفريضة موجودة‪ ،‬لكن ليس لها موضوع‪.‬‬
‫وبعض السطحيين يقولون‪ :‬لقد ألغى عمر بن الخطاب ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬سهام المؤلفة قلوبهم‪،‬‬
‫والحقيقة أنه ما ألغى ول يملك أن يُلغي حكما من أحكام ال‪ ،‬إنما لم يجد أحدا من المؤلّفة قلوبهم‬
‫ليعطيه‪ ،‬فالحكم قائم لكن ليس له موضوع‪ ،‬بدليل أن حكم تأليف القلوب قائم ومعمول به حتى الن‬
‫في بلد المسلمين‪ ،‬وكثيرا ما نحاول تأليف قلوب بعض الكُتّاب وبعض الجماعات لنعطفها نحو‬
‫سهْم المؤلفة قلوبهم ما زال‬
‫السلم‪ ،‬خاصة وغيرنا يبذلون قصارى جهودهم في ذلك‪ .‬إذن‪ :‬ف َ‬
‫موجودا ويُعمل به‪.‬‬
‫ن يقول‪ :‬إن عمر ‪ -‬رضي ال عنه ‪ -‬عطّل حَدّ السرقة في عام الرمادة‪ ،‬وهذا ادعاء‬
‫كما نسمع مَ ْ‬
‫مخالف للحقيقة؛ لنه ما عطّل هذا الحد إنما عطّل نصا وأحيا نصا؛ لن القاعدة الشرعية تقول‪:‬‬
‫جوْعته فلم يصل إلى نصاب السرقة‪ ،‬فالسرقة‬
‫سدّ َ‬
‫ادرأوا الحدود بالشبهات‪ .‬وما دام قد سرق لي ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تكون بعد قدر يكفي الضرورة‪.‬‬
‫ولقائل أن يقول‪ :‬إذا دارت حرب بين المؤمنين والكافرين وأسروا منا وأسرنا منهم‪ ،‬أل يوجد‬
‫حينئذ مِلْك اليمينِ؟ نقول‪ :‬نعم يوجد مِلْك اليمين‪ ،‬لكن ستواجهك قوانين دولية ألزمتَ نفسك بها‬
‫ق فمِلْك اليمين قائم وموجود‪.‬‬
‫ن وُجِد الر ّ‬
‫وارتضيتها تقول بمنع الرقّ وعليك اللتزام بها‪ ،‬لكن إ ْ‬
‫وهذه المسألة يأخونها سُبّة في السلم‪ ،‬وكيف أنه يبيح للسيد كذا وكذا من مِلْك يمينه‪.‬‬
‫وهذا المأخذ ناشيء عن عدم فهم هؤلء للحكمة من مِلْك اليمين‪ ،‬وأن كرامة المملوكة ارتفعت بهذه‬
‫الباحة‪ ،‬فالمملوكة ُأخِذت في حرب أو خلفه‪ ،‬وكان في إمكان مَنْ يأخذها أن يقتلها‪ ،‬لكن الحق‬
‫سبحانه حمى دمها‪ ،‬ونمّى في النفس مسألة النفعية‪ ،‬فأباح لمَنْ يأسرها أن ينتفع بها وأحلّها له‬
‫أيضا‪.‬‬
‫لمَة أو السيرة في بيت سيدها ومعه زوجة أو أكثر وهي تشاهد هذه‬
‫ولك أن تتصور هذه ا َ‬
‫العلقات الزوجية في المجتمع من حولها‪ ،‬إن من حكمة ال أن أباح لسيدها معاشرتها؛ لنها لن‬
‫ترى لربة البيت بعد ذلك مزيّة عليها؛ لنهما أصبحا سواء‪ ،‬فإذا ما حملتْ من سيدها فقد أصبحتْ‬
‫حُرّة بولدها‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يُسيّر المور تجاه العِتْق والحرية‪ .‬ألَ تراه بعد هذا يفتح باب‬
‫العتق ويُعدّد أسبابه‪ ،‬فجعله أحد مصارف الزكاة وبابا من أبواب الصدقة وكفّارة لبعض التجاوزات‬
‫التي يرتكبها النسان‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬فَإِ ّنهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون‪ ]6 :‬يعني‪ :‬ل نمدحهم ول نذمّهم‪ ،‬وكأن المسألة‬
‫هذه في أضيق نطاق‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬فمَنِ ابْ َتغَىا وَرَآءَ ذاِلكَ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2660 /‬‬

‫َفمَنِ ابْ َتغَى وَرَاءَ ذَِلكَ فَأُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ (‪)7‬‬

‫{ ابْ َتغَىا }‪ :‬طلب‪ { ،‬وَرَآءَ ذاِلكَ }‪ :‬غير ما ذكرناه من الزواج ومِلْك اليمين‪.‬‬
‫وسبق أن ذكرنا أن كلمة { وَرَآءَ } استُعمْلت في القرآن لمعَان عدة‪ ،‬فهي هنا بمعنى غير الزواج‬
‫حلّ َل ُكمْ مّا وَرَاءَ ذَاِلكُمْ }[النساء‪ ]24 :‬يعني‪:‬‬
‫ومِلْك اليمين‪ .‬ومن ذلك أيضا قوله سبحانه‪.. {:‬وَأُ ِ‬
‫ح ّرمْت عليكم كذا وكذا‪ ،‬وأحلَ ْلتُ لكم غير ما ُذكِر‪.‬‬
‫وتُستعمل وراء بمعنى َبعْد؛ لن الغيرية قد تتحد في الزمن‪ ،‬فيوجد الثنان في وقت واحد‪ ،‬أمّا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ق َومِن وَرَآءِ‬
‫ح َكتْ فَبَشّرْنَاهَا بِِإسْحَا َ‬
‫البعدية فزمنها مختلف‪ ،‬كما قوله تعالى‪ {:‬وَامْرَأَتُهُ قَآ ِئمَةٌ َفضَ ِ‬
‫سحَاقَ َي ْعقُوبَ }[هود‪ ]71 :‬يعني‪ :‬من بعده؛ لن الزمن مختلف‪.‬‬
‫إِ ْ‬
‫وتأتي وراء بمعنى‪ :‬خلف‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬وَإِذْ َأخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُواْ ا ْلكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ‬
‫ظهُورِهِ ْم وَاشْتَ َروْاْ بِهِ َثمَنا قَلِيلً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ }[آل عمران‪:‬‬
‫س َولَ َتكْ ُتمُونَهُ فَنَ َبذُوهُ وَرَآءَ ُ‬
‫لِلنّا ِ‬
‫‪ ]187‬يعني‪ :‬جعلوه خلف ظهورهم‪.‬‬
‫غصْبا }‬
‫سفِينَةٍ َ‬
‫خذُ ُكلّ َ‬
‫وتأتي وراء أيضا بمعنى أمام‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬وكَانَ وَرَآءَهُم مِّلكٌ يَأْ ُ‬
‫غصْبا‪.‬‬
‫[الكهف‪ ]79 :‬ومعلوم أن الملك كان أمامهم ينتظر كل سفينة تمرّ به فيأخذها َ‬
‫جهَنّمُ‪[} ..‬ابراهيم‪ ]16 :‬وجهنم أمامه‪ ،‬وستأتي فيما بعد‪ ،‬ولم َت ْمضِ فتكون‬
‫وقوله تعالى‪ {:‬مّن وَرَآئِهِ َ‬
‫خلفه‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬فَُأوْلَـا ِئكَ هُمُ ا ْلعَادُونَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]7 :‬أي‪ :‬المعتدون المتجاوزون لما شُرع لهم‪،‬‬
‫وربنا ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬حينما يُحذّرنا من التعدي يُفرّق بين التعدي في الوامر‪ ،‬والتعدي في‬
‫النواهي‪ ،‬فإنْ كان في الوامر يقول‪ {:‬فَلَ َتعْتَدُوهَا }[البقرة‪.]229 :‬‬
‫وإن كان في النواهي يقول‪ {:‬فَلَ َتقْرَبُوهَا }[البقرة‪.]187 :‬‬
‫عهْدِهِمْ‪} ..‬‬
‫لمَانَاتِهِمْ وَ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَالّذِينَ ُه ْم َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2661 /‬‬

‫عهْدِ ِهمْ رَاعُونَ (‪)8‬‬


‫وَالّذِينَ ُهمْ لَِأمَانَا ِتهِ ْم وَ َ‬

‫{ رَاعُونَ }‪ :‬يعني يحافظون عليها ويراعونها بالتنفيذ‪ ،‬والمانة‪ :‬كل ما استُؤمِنْت عليه‪ ،‬وأول‬
‫شيء استؤمِنتَ عليه عهد اليمان بال الذي أخذه ال عليك‪ ،‬وما ُدمْت قد آمنت بالله فعليك أن‬
‫تُنفّذ أوامره‪.‬‬
‫لمَانَةَ‬
‫إذن‪ :‬هناك أمانة للحق وأمانة للخَلْق‪ ،‬أمانة الحق التي قال ال تعالى عنها‪ {:‬إِنّا عَ َرضْنَا ا َ‬
‫حمََلهَا الِنْسَانُ إِنّهُ كَانَ ظَلُوما‬
‫شفَقْنَ مِ ْنهَا وَ َ‬
‫حمِلْ َنهَا وَأَ ْ‬
‫ض وَالْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن َي ْ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫عَلَى ال ّ‬
‫جهُولً }[الحزاب‪.]72 :‬‬
‫َ‬
‫فما ُد ْمتَ قد قبلت تحمّل المانة‪ ،‬فعليك الداء‪.‬‬
‫أما العهد‪ :‬فكل ما يتعهد به النسان في غير معصية ويلزمه الوفاء بما عاهد به؛ لنك حين تعاهد‬
‫طتَ حركته وقيدتها في دائرة إنفاذ هذا العهد‪ ،‬فحين تقول لي‪ :‬سأقابلك غدا‬
‫إنسانا على شيء فقد رب ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في المكان الفلني في الوقت الفلني لعمل كذا وكذا‪ ،‬فإنني سأُرتّب حركة حياتي بناءً على هذا‬
‫الوعد‪ ،‬فإذا أخلفتَ وعدك فقد أطلقتَ نفسك في زمنك وتصرفت حسْب راحتك‪ ،‬وقيّدْت حركتي أنا‬
‫في زمني وضيّعت مصالحي‪ ،‬وأربكت حركة يومي؛ لذلك شدّد السلم على مسألة خُلْف الوعد‪.‬‬

‫(‪)2662 /‬‬

‫وَالّذِينَ ُهمْ عَلَى صََلوَا ِتهِمْ يُحَا ِفظُونَ (‪)9‬‬

‫في اليات السابقة تحدّث عن الصلة من حيث هيئة الخشوع والخضوع فيها‪ ،‬وهنا يذكر الصلة‬
‫من حيث أدائها والحفاظ عليها؛ لن الحفظ يعني أن تأخذ كل وقت من أوقات الصلة بميلده‬
‫وميلد الوقات بالذان‪ ،‬لكن البعض يقولون‪ :‬إن الوقت ُممْتدّ‪ ،‬فالظهر مثلً ُممْتد من أذان الظهر‬
‫إلى قبل أذان العصر‪ ،‬وهكذا في باقي الصلوات‪.‬‬
‫ن يضمن لك الحياة إلى آخر الوقت؟ مَنْ يضمن لك أن‬
‫نقول‪ :‬نعم هذا صحيح والوقت مُمتد‪ ،‬لكن مَ ْ‬
‫تصلي العشاء مثلً قبل أذان الفجر؟ نعم‪ ،‬تظل غير آثم إلى آخر لحظة إذا تمكنتَ من الصلة‬
‫وصلّيْتَ‪ ،‬لكن هل تضمن هذا؟ كالذي يستطيع أن يحج‪ ،‬إل أنه أخّر الحج إلى آخر أيامه‪ ،‬فإنْ حج‬
‫فل شيء عليه‪ ،‬لكنه ل يضمن البقاء إلى أنْ يحج؛ لذلك يجب المبادرة بالحج عند أول استطاعة‬
‫حتى ل تأثم إنْ فاتك وأنت قادر‪.‬‬

‫(‪)2663 /‬‬

‫أُولَ ِئكَ هُمُ ا ْلوَارِثُونَ (‪)10‬‬

‫{ ُأوْلَـا ِئكَ } [المؤمنون‪ ]10 :‬يعني‪ :‬أصحاب الصفات المتقدمة‪ ،‬وهم ستة أصناف‪ :‬الذين هم في‬
‫صلتهم خاشعون‪ ،‬والذين هم عن اللغو معرضون‪ ،‬والذين هم للزكاة فاعلون‪ ،‬والذين هم لفروجهم‬
‫حافظون‪ ،‬والذين هم لماناتهم وعهدهم راعون‪ ،‬والذين هم على صلواتهم يحافظون‪.‬‬
‫هؤلء هم الوارثون‪ ،‬والرْث‪َ :‬أخْذ حق من غير عقد أو هبة؛ لن َأخْذ مال الغير ل بُدّ أن يكون‬
‫إما ببيع وعقد‪ ،‬وإما هبة من صاحب المال‪ .‬لذلك سألوا الوارث‪ :‬أهذا حقك؟ قال‪ :‬نعم‪ ،‬قالوا‪ :‬فما‬
‫صكّك عليه؟ يعني‪ :‬أين العقد الذي أخذته به؟ قال‪ :‬عقدي وصَكّي‪ {:‬يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي َأ ْولَ ِدكُمْ لِل ّذكَرِ‬
‫مِ ْثلُ حَظّ الُنْثَيَيْنِ }[النساء‪ ]11 :‬فهو عقد أوثق وأعلى من تعاقد البشر‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وما دام عقدي من الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬فل ت ُقلْ‪ :‬إن الميراث مأخوذ بغير عقد؛ لنه قائم على‬
‫أوثق العقود‪ ،‬وهو العقد من ال‪.‬‬
‫وكثيرا ما يخرج الناس في مسألة الميراث عما شرع ال حُبا في المال واستئثارا به‪ ،‬أو بخلً على‬
‫مَنْ جعل له الشرع نصيبا‪ ،‬فمَنْ كان عنده البنون والبنات يعطي البنين ويحرم البنات‪ ،‬ومَنْ كان‬
‫عنده بنات يكتب لهُنّ ما يملك حتى يحرم إخوته وأعمامهم من حقهم في ماله‪ ،‬وهذا كثيرا ما‬
‫يحدث في المجتمع‪.‬‬
‫ويجب عليك أن تتنبه لمسألة الميراث وتحترم شرع ال فيه وتقسيم ال للمال‪ ،‬فقد وهبك ال المال‬
‫وتركك تتصرف فيه طوال حياتك‪ ،‬وليس لك أن تتصرف فيه أيضا بعد موتك‪ ،‬عليك أنْ تدعَ‬
‫المال لصاحبه وواهبه يتصرف فيه؛ لذلك قال ال تعالى عن الرث‪ {:‬فَرِيضَةً مّنَ اللّهِ }[النساء‪:‬‬
‫ن تمتثل لها وتنفذها‪ ،‬وحين تتأبّى عليها‬
‫‪ ]11‬يعني‪ :‬ليست من أحد آخر‪ ،‬وما دامت من ال فعليك أ ْ‬
‫فإنك تتأبّى على ال وترفض قِسْمته‪.‬‬
‫والمتأمل في مسألة الرث يجد الخير كل الخير فيما شرعه ال‪ ،‬ومَنْ كان يحب البنين فل ُيعْط‬
‫البنات حتى ل يفسد علقة أولده من بعده‪ ،‬ويأتي إلينا بعض الرجال الذين أخذوا كل مال أبيهم‬
‫وحَرَموا منه البنات‪ ،‬يقولون‪ :‬نريد أن نُصحّح هذا الخطأ ونعيد القسمة على ما شرع ال‪.‬‬
‫ونجد عند بعض الناس إشراقات إيمانية‪ ،‬فإنْ رفض بعض الخوة إعادة التقسيم على شرع ال‬
‫يقول‪ :‬أنا أتحمل ميراث أخواتي من مالي الخاص‪ ،‬ومثل هؤلء يفتح ال عليهم ويبارك لهم فيما‬
‫بقي؛ لنهم جعلوا اعتمادهم على ال فيزيدهم من فضله ويُربي لهم القليل حتى يصير كثيرا‪ ،‬أما‬
‫مَنِ اعتمد على ما في يده فإن ال يكِلُه إليه‪.‬‬
‫ونعجب من الذي يجعل ماله للبنات ليحرم منه إخوته‪ ،‬نقول له‪ :‬أنت لستَ عادلً في هذا‬
‫التصرف‪ ،‬يجب أن تعاملهم بالمثل‪ ،‬فلو تركت بناتك فقراء ل مال لهن‪ ،‬فمَنْ يعولهُنّ ويرعاهن من‬
‫بعدك؟ يعولهن العمام‪.‬‬

‫إذن‪ :‬لتكُنْ معاملة بالمثل‪.‬‬


‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬حين يُورث هذه الصناف يورثهم بفضله وكرمه‪ ،‬وقد بيّن النبي صلى‬
‫ال عليه وسلم ذلك بقوله‪ " :‬ل يدخل أحد منكم الجنة بعمله‪ ،‬قالوا‪ :‬ول أنت يا رسول ال؟ قال‪ :‬ول‬
‫أنا إل أن يتغمدني ال برحمته "‪.‬‬
‫أما قوله تعالى‪ {:‬ا ْدخُلُواْ ا ْلجَنّةَ ِبمَا كُنْتُمْ َت ْعمَلُونَ }[النحل‪ ]32 :‬فهذا خاص بمجرد دخول الجنة‪ ،‬أما‬
‫الزيادة فهي من فضل ال{ وَيَزيدُ ُهمْ مّن َفضْلِهِ }[النساء‪]173 :‬‬
‫ومن أسمائه تعالى (الوارث) وقال‪ {:‬وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ }[النبياء‪ ]89 :‬فماذا يرث الحق سبحانه‬
‫وتعالى مِنّا؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لقد خلق ال الخَلْق‪ ،‬وأعطى للناس أسباب ملكيته‪ ،‬ووزّع هذه الملكية بين عباده‪ :‬هذا يملك كذا‪،‬‬
‫وهذا يملك كذا من فضل ال تعالى‪ .‬فإذا كان يوم القيامة عاد الملْك كله إلى صاحبه‪ ،‬وكان الحق‬
‫حدِ ا ْل َقهّارِ }[غافر‪.]16 :‬‬
‫سبحانه وتعالى هو الوارث الوحيد يوم يقول‪ّ {:‬لمَنِ ا ْلمُ ْلكُ الْ َيوْمَ لِلّهِ ا ْلوَا ِ‬
‫وال خير الوارثين؛ لن الوارث يأخذ ما ورثه لينتفع هو به‪ ،‬لكن الحق سبحانه يرث ما تركه‬
‫للغير ليعود خَيْره عليهم ويزيدهم‪ ،‬ويعطيهم أضعافا مضاعفة‪ ،‬وإذا كان يعطيهم في الدنيا بأسباب‬
‫فإنه في الخرة يرث هذه السباب‪ ،‬ويعطيهم من فضله بل أسباب‪ ،‬حيث تعيش في الجنة مستريحا‬
‫س ْعيَ‪ ،‬وما يخطر ببالك تجده بين يديك دون أنْ تُحرّك ساكنا‪.‬‬
‫ب ول نصبَ ول َ‬
‫ل تع َ‬
‫إذن‪ :‬البشر يرثون ليأخذوا‪ ،‬أمّا الحق سبحانه فيرث ليعطي؛ لذلك فهو خير الوارثين‪.‬‬
‫فأيّ شيء يرثه المؤمنون الذين توفرت فيهم هذه الصفات؟ يجيب الحق سبحانه‪ } :‬الّذِينَ يَرِثُونَ‬
‫ا ْلفِرْ َدوْسَ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2664 /‬‬

‫الّذِينَ يَرِثُونَ ا ْلفِرْ َدوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (‪)11‬‬

‫إذن‪ :‬الحق سبحانه ورّثهم في الفانية ليعطيهم الفردوس الخالد في الخرة‪ ،‬والفردوس أعلى الجنة‪،‬‬
‫فورث الحق لينفع عباده ويُصعّد النفع لهم‪ ،‬ففي الدنيا كنا ننتفع بالسباب‪ ،‬وفي الخرة ننتفع بغير‬
‫أسباب‪ ،‬الحق ورث ليعطي‪ ،‬ل مِثْل ما أخذ إنما فوق ما أخذ؛ لننا نأخذ في الميراث ما يفنى‪ ،‬ول‬
‫تعالى يعطينا في ميراثه ما يبقى‪.‬‬
‫لكن ِممّنْ يرثون الفردوس؟‬
‫قالوا‪ :‬الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬عندما خلق الخَلْق‪ ،‬وجعل فيهم الختيار بين اليمان والكفر‪ ،‬وبين‬
‫الطاعة والمعصية ر ّتبَ على ذلك أمورا‪ ،‬فجعل الجنة على فرض أن الخَلْق كلهم مؤمنون‪ ،‬بحيث‬
‫لو دخلوا الجنة جميعا ما كانت هناك أزمة أماكن ول زحام‪ ،‬وكذلك جعل النار على فرض أن‬
‫الخَلْق كلهم كافرون‪ ،‬فلو كفر الناس جميعا لكان لكل منهم مكانه في النار‪.‬‬
‫وعليه فحين يدخل أهل الجنةِ الجن َة يتركون أماكنهم في النار‪ ،‬وحين يدخل أهل النارِ النارَ يتركّون‬
‫أماكنهم في الجنة‪ ،‬فيرث أهل النار الماكن الشاغرة فيها‪ ،‬ويرث أهل الجنة الماكن الشاغرة فيها‪.‬‬
‫والفردوس أعلى مكان في الجنة‪ ،‬لذلك كان النبي صلى ال عليه وسلم يقول " إذا سألتم ال فاسألوه‬
‫الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة " ذلك؛ لن الفردوس جنة على أعلى رَبْوة في الجنة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يعني‪ :‬في مكان مُميّز منها‪ ،‬والعلو في مسألة المسكن والجنان أمر محبوب في الدنيا‪ ،‬الناس‬
‫سكْنى في الماكن العالية‪ ،‬حيث نقاء الهواء ونقاء الماء‪َ ،‬ألَ تراهم يزرعون في‬
‫يُحبون ال ّ‬
‫المرتفعات‪ ،‬وإنْ كانت الرض مستوية يجعلون فيها مصارف منخفضة تمتصّ الماء الزائد الذي‬
‫ضعْفَيْنِ }[البقرة‪:‬‬
‫يفسد الزرع؛ لذلك يقول سبحانه‪َ {:‬كمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ َأصَا َبهَا وَا ِبلٌ فَآ َتتْ ُأكَُلهَا ِ‬
‫‪.]265‬‬
‫سقَى من ماء السماء الذي يغسل الوراق قبل‬
‫سقَى بالماء الغمر‪ ،‬إنما ُت ْ‬
‫كذلك الرض المرتفعة ل ُت ْ‬
‫أن يروي الجذور‪ ،‬فيكون النبات على أفضل ما يكون؛ لذلك يقول عنها رب العزة‪ {:‬فَآ َتتْ ُأكَُلهَا‬
‫ضعْفَيْنِ }[البقرة‪.]265 :‬‬
‫ِ‬
‫ومعلوم أن الوراق هي رئة النبات‪ ،‬وعليها تقوم عملية التمثيل الضوئي التي يصنع منها النبات‬
‫سدّت مسام الوراق وتراكم عليها الغبار فإن ذلك يُقلّل من قدرة النبات على‬
‫غذاءه‪ ،‬فإذا ما ُ‬
‫التنفس‪ ،‬مثل النسان حينما ُيصَاب بشيء في رئته تزعجه وتُقلّل من كفاءته‪.‬‬
‫وفي الفردوس ميزة أخرى هي أن الحق سبحانه وتعالى هو الذي غرس شجرها بيده‪ ،‬كما كرّم‬
‫جدَ ِلمَا خََل ْقتُ بِيَ َديّ‪[} ..‬ص‪:‬‬
‫آدم عليه السلم فخلقه بيده تعالى‪ ،‬فقال‪ {:‬ياإِبْلِيسُ مَا مَ َن َعكَ أَن َتسْ ُ‬
‫‪.]75‬‬
‫ويُروى أن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬لما خلق الفردوس‪ ،‬وغرس أشجارها بيده قال للفردوس‪:‬‬
‫تكلمي‪ ،‬فلما تكلمت الفردوس قالت‪ {:‬قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُم ْؤمِنُونَ }[المؤمنون‪.]1 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [المؤمنون‪ ]11 :‬لن نعيم الجنة باقٍ ودائم ل ينقطع‪ ،‬وقد‬
‫عرفنا أن نعيم الدنيا موقوت مهما أُوتِي النسان منه‪ ،‬فإنه منقطع زائل‪ ،‬إما أنْ يتركك بالفقر‬
‫والحاجة‪ ،‬وإما أنْ تتركه أنت بالموت‪ ،‬لذلك يقول تعالى في نعيم الخرة‪:‬‬

‫{ لّ َمقْطُوعَ ٍة َولَ َممْنُوعَةٍ }[الواقعة‪.]33 :‬‬


‫وهكذا نلحظ على استهلل هذه السورة أن الحق سبحانه بدأ بالكلم عن الفلح في الخرة كأنه قدّم‬
‫ثمرة اليمان أولً‪ ،‬ووضع الجزاء بداية بين يديك كأنه سبحانه يقول لك‪ :‬هذا جزاء مَنْ آمن بي‬
‫حمَـانُ * عَلّمَ ا ْلقُرْآنَ‬
‫واتبع منهجي‪ .‬كما جاء في قوله تعالى في استهلل سورة (الرحمن)‪ {:‬الرّ ْ‬
‫عّلمَهُ البَيَانَ }[الرحمن‪ ]4 - 1 :‬كيف وقد خلق ال النسان أولً‪ ،‬ثم علّمه‬
‫ق الِنسَانَ * َ‬
‫* خََل َ‬
‫القرآن؟‬
‫قالوا‪ :‬لن الذي يصنع صنعة يضع لها قانونها‪ ،‬ويُحدّد لها مهمتها أولً قبل أن يشرع في‬
‫صناعتها‪ ،‬فمثلً ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬الذي يصنع الثلجة‪ ،‬قبل أن يصنعها حدد عملها ومهمتها‬
‫وقانون صيانتها والغاية منها‪.‬‬
‫والقرآن هو منهج النسان‪ ،‬وقانون صيانته في حركة الحياة؛ لذلك خلق ال المنهج ووضع قانون‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الصيانة قبل أن يخلق النسان‪.‬‬

‫(‪)2665 /‬‬

‫وَلَقَدْ خََلقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (‪)12‬‬

‫سبق أن تكلمنا عن خَلْق النسان‪ ،‬وعرفنا أن الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬خلق النسان الول‪ ،‬وهو آدم‬
‫عليه السلم من طين‪ ،‬ومن أبعاضه خلق زوجه‪ ،‬ثم بالتزاوج جاء عامة البشر كما قال تعالى‪{:‬‬
‫وَ َبثّ مِ ْن ُهمَا رِجَالً كَثِيرا وَنِسَآءً }[النساء‪.]1 :‬‬
‫ومسألة خَلْق السماء والرض والناس مسألة احتفظ ال بها‪ ،‬ولم يطلع عليها أحد‪ ،‬كما قال‬
‫عضُدا }‬
‫سهِ ْم َومَا كُنتُ مُتّخِذَ ا ْل ُمضِلّينَ َ‬
‫ض َولَ خَلْقَ أَ ْنفُ ِ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْر ِ‬
‫شهَدّتهُمْ خَ ْلقَ ال ّ‬
‫سبحانه‪ {:‬مّآ َأ ْ‬
‫[الكهف‪.]51 :‬‬
‫فل ُتصْغ إلى هؤلء المضلين في كل زمان ومكان‪ ،‬الذين يدّعون العلم والمعرفة‪ ،‬ونسمعهم‬
‫يقولون‪ :‬إن العالم كان كتلة واحدة تدور بسرعة فانفصل عنها أجزاء كوّنَت الرض‪ ..‬الخ وعن‬
‫النسان يقولون‪ :‬كان أصله قردا‪ ،‬إلى آخر هذه الخرافات التي ل أساس لها من الصحة‪.‬‬
‫لذلك أعطانا ال تعالى المناعة اليمانية التي تحمينا أنْ ننساق خلف هذه النظريات‪ ،‬فأخبرنا‬
‫سبحانه خبر هؤلء وحذرنا منهم؛ لنهم ما شهدوا شيئا من الخَلْق‪ ،‬ولم يتخذهم ال أعوانا فيقولون‬
‫مثل هذا الكلم‪ .‬إذن‪ :‬هذا أمر استأثر ال بعلمه‪ ،‬فل تأخذوا علمه إلّ مما أخبركم ال به‪.‬‬
‫وكلمة النسان اسم جنس تطلق على المفرد والمثنى والجمع‪ ،‬والمذكر والمؤنث‪ ،‬فكل واحد منا‬
‫ن الِنسَانَ‬
‫إنسان‪ ،‬بدليل أن ال تعالى استثنى من المفرد اللفظ جمعا في قوله تعالى‪ {:‬وَا ْل َعصْرِ * إِ ّ‬
‫َلفِى خُسْرٍ * ِإلّ الّذِينَ آمَنُواْ‪[} ..‬العصر‪ ]3 - 1 :‬فاستثنى من المفرد الجماعة‪.‬‬
‫ومعنى { خََلقْنَا } [المؤمنون‪ ]12 :‬أوجدنا من عدم‪ ،‬وسبق أن قلنا‪ :‬إن ال تعالى أثبت للبشر صفة‬
‫الخَلْق أيضا مع الفارق بين خَلْق ال من عدم وخَلْق البشر من موجود‪ ،‬وخَلْق ال فيه حركة وحياة‬
‫فينمو ويتكاثر‪ ،‬أما ما يخلق البشر فيجمد على حاله ل يتغير؛ لذلك وصف الحق سبحانه ذاته فقال‪:‬‬
‫{ فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ ا ْلخَاِلقِينَ } [المؤمنون‪.]14 :‬‬
‫أما َقوْل القرآن حكايةً عن عيسى عليه السلم‪ {:‬أَخُْلقُ َلكُمْ مّنَ الطّينِ َكهَيْئَةِ الطّيْرِ‪[} ..‬آل عمران‪:‬‬
‫‪ ]49‬فهذه من خاصياته عليه السلم‪ ،‬واليجاد فيها بأمر من ال يُجريه على يد نبيه‪.‬‬
‫فالمعنى‪ { :‬وَلَقَدْ خََلقْنَا الِنْسَانَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]12 :‬أي‪ :‬النسان الول‪ ،‬وهو آدم عليه السلم { مِن‬
‫غمْده‬
‫سلّ السيف من ِ‬
‫سلّ منه كما يُ َ‬
‫سُلَلَةٍ مّن طِينٍ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]12 :‬والسللة‪ :‬خلصة الشيء ُت َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أي‪:‬الجراب الذي يُوضَع فيه‪ ،‬فالسيف هو الداة الفتاكة الفاعلة‪ ،‬أما ال ِغمْد فهو مجرد حافظ وحامل‬
‫لهذا الشيء الهام‪.‬‬
‫فالسللة ‪ -‬إذن ‪ -‬هي أجود ما في الشيء‪ ،‬وقد خلق ال النسان الول من أجود عناصر الطين‬
‫وأنواعه‪ ،‬وهي زُبْد الطين‪ ،‬فلو أخذتَ قبضة من الطين وضغطتَ عليها بين أصابعك يتفّلتْ منها‬
‫الزبد‪ ،‬وهو أجود ما في الطين ويبقى في قبضتك بقايا رمال وأشياء خشنة‪.‬‬
‫" ولما أحب سيدنا حسان بن ثابت أنْ يهجوَ قريشا لمعاداتهم لرسول ال صلى ال عليه وسلم قال‪:‬‬
‫إئذن لي يا رسول ال أنْ أَهْجُوهم من على المنبر فقال صلى ال عليه وسلم‪ :‬أتهجوهم وأنا منهم؟‬
‫سلّ الشعرة من العجين "‪.‬‬
‫فقال حسان‪ :‬أسلّك منهم كما ُت َ‬

‫وتُطلَق السللة على الشيء الجيد فيقولون‪ :‬فلن من سللة كذا‪ ،‬وفلن سليل المجد‪ .‬يعني‪ :‬في‬
‫مقام المدح‪ ،‬حتى في الخيل يحتفظون لها بسللت معروفة أصيلة ويُسجّلون لها شهادات ميلد‬
‫تثبت أصالة سللتها‪ ،‬ومن هنا جاءت شهرة الخيل العربية الصيلة‪.‬‬
‫صدْق هذه الية‪ ،‬فبالتحليل المعمليّ التجريبي أثبتوا أن العناصر المكوّنة‬
‫وقد أثبت العلم الحديث ِ‬
‫للنسان هي نفسها عناصر الطين‪ ،‬وهي ستة عشر عنصرا‪ ،‬تبدأ بالكسوجين‪ ،‬وتنتهي بالمنجنيز‪،‬‬
‫والمراد هنا التربة الطينية الخصْبة الصالحة للرزاعة؛ لن الرض عامة بها عناصر كثيرة قالوا‪:‬‬
‫مائة وثلثة عشر عنصرا‪.‬‬

‫(‪)2666 /‬‬

‫طفَةً فِي قَرَارٍ َمكِينٍ (‪)13‬‬


‫جعَلْنَاهُ نُ ْ‬
‫ثُمّ َ‬

‫يعني‪ :‬بعد أن جعلناه بشرا مُسْتويا فيه روح جعلناه يتكاثر من نفسه‪ ،‬وكما خلقناه من خلصة‬
‫الطين في النسان الول نخلقه في النسْل من خلصة الماء وأصفى شيء فيه‪ ،‬وهي النطفة؛ لن‬
‫النسان يأكل ويشرب ويتنفس‪ ،‬والدم يمتص خلصة الغذاء‪ ،‬والباقي يخرج على هيئة فضلت‪ ،‬ثم‬
‫يُصفّى الدم ويرشح في الرئة وفي الكلى‪ ،‬ومن خلصة الدم تكون طاقة النسان وتكون النطفة‬
‫التي يخلق منها النسان‪ .‬إذن‪ :‬فهو حتى في النطفة من سللة مُنْتقاة‪.‬‬
‫والنطفة التي هي أساس خَلْق النسان تعيش في وسط مناسب هو السائل المنوي‪ ،‬لذلك قال‬
‫طفَةً مّن مّ ِنيّ ُيمْنَى }[القيامة‪ ]37 :‬ثم جعلنا هذه النطفة { فِي قَرَارٍ ّمكِينٍ }‬
‫سبحانه‪َ {:‬ألَمْ َيكُ ُن ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[المؤمنون‪ ]13 :‬قرار‪ :‬يعني مُستقر تستقر فيه النطفة‪ ،‬والقرار المكين هو الرحم خلقه ال على‬
‫هذه الهيئة‪ ،‬فحصّنه بعظام الحوض‪ ،‬وجعله مُعدّا لستقبال هذه النطفة والحفاظ عليها‪.‬‬

‫(‪)2667 /‬‬

‫حمًا ثُمّ أَ ْنشَأْنَاهُ‬


‫سوْنَا ا ْل ِعظَامَ َل ْ‬
‫ضغَةَ عِظَامًا َفكَ َ‬
‫طفَةَ عََلقَةً َفخََلقْنَا ا ْلعََلقَةَ ُمضْغَةً َفخََلقْنَا ا ْل ُم ْ‬
‫ثُمّ خََلقْنَا النّ ْ‬
‫حسَنُ الْخَاِلقِينَ (‪)14‬‬
‫خَ ْلقًا َآخَرَ فَتَبَا َركَ اللّهُ أَ ْ‬

‫سمّ َيتْ كذلك لنها تعلَق بجدار‬


‫يقول العلماء‪ :‬بعد أربعين يوما تتحول هذه النطفة إلى علقة‪ ،‬و ُ‬
‫الرحم‪ ،‬والعلماء يسمونها الزيجوت‪ ،‬وهي عبارة عن بويضة مُخصّبة‪ ،‬وتبدأ في أخذ غذائها منه‪.‬‬
‫ومن عجائب قدرة ال في تكوين النسان أن المرأة إذا لم تحمل ينزل عليها دم الحيض‪ ،‬فإذا ما‬
‫حملتْ ل ترى الحيض أبدا‪ ،‬لماذا؟ لن هذا الدم ينزل حين لم تكُنْ له مهمة ول تستفيد به الم‪ ،‬أمَا‬
‫وقد حدث الحمل فإنه يتحول بقدرة ال إلى غذاء لهذا الجنين الجديد‪.‬‬
‫ضغَةً‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]14 :‬وهي قطعة صغيرة من اللحم على‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ { :‬فخََلقْنَا ا ْلعََلقَةَ ُم ْ‬
‫قَدْر ما يُمضَغ‪ ،‬وسبق أن قلنا‪ :‬إن المضغة تنقسم بعد ذلك إلى مُخلّقة وغير مُخلّقة‪ ،‬كما قال تعالى‬
‫ضغَةٍ مّخَّلقَ ٍة وَغَيْرِ مُخَّلقَةٍ لّنُبَيّنَ َلكُمْ‪[} ..‬الحج‪ ]5 :‬هذا على وجه‬
‫في الية الخرى‪ {:‬ثُمّ مِن ّم ْ‬
‫التفصيل‪ ،‬أما في الية التي معنا فيُحدّثنا عن أطوار الخلق عامة‪ ،‬حتى ل نظن أن القرآن فيه‬
‫تكرار كما يدّعِي البعض‪.‬‬
‫المضْغة المخلّقة هي التي يتكّون منها جوارح النسان وأعضاؤه‪ ،‬وغير المخلّقة تظل كما قلنا‪:‬‬
‫احتياطيا لصيانة ما يتلف من الجسم‪ ،‬كما يحدث مثلً في الجروح وما شابه ذلك من عطب يصيب‬
‫النسان‪ ،‬فتقوم غير المخلّقة بدورها الحتياطي‪.‬‬
‫سوْنَا ا ْل ِعظَامَ َلحْما ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ‪[ } ..‬المؤمنون‪:‬‬
‫ضغَةَ عِظَاما َفكَ َ‬
‫ثم يقول تعالى‪َ { :‬فخََلقْنَا ا ْل ُم ْ‬
‫‪ ]14‬لنه كان في كل هذه الطوار‪ :‬النطفة‪ ،‬ثم العلقة‪ ،‬ثم المضغة‪ ،‬ثم العظام واللحم ما يزال تابعا‬
‫لمة متصلً بها ويتغذّى منها‪ ،‬فلما شاء ال له أنْ يُولَد ينفصل عن أمه ليباشر حياته بذاته؛ ولذلك‬
‫نجد لحظة انفصال الجنين عن أمه في عملية الولدة مسألة صعبة؛ لنه سيستقبل حياة ذاتية‬
‫تستلزم أن تعمل أجهزته لول مرة‪ ،‬وأول هذه الجهزة جهاز التنفس‪.‬‬
‫ومن رحمة ال بالجنين أن ينزل برأسه أولً ليستطيع التنفس‪ ،‬ثم يخرج باقي جسمه بعد ذلك‪ ،‬فإن‬
‫حدث العكس ونزل برجليه فربما يموت؛ لنه انفصل عن تبعيته لمه‪ ،‬وليس له قدرة على التنفس‬
‫ليحتفظ بحياته الذاتية الجديدة؛ لذلك في هذه الحالة يلجأ الطبيب إلى إجراء عملية قيصرية لنقاذ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الجنين من هذا الوضع‪ ،‬وقبل أن يختنق‪.‬‬
‫ولما كانت مسألة خَلْق النسان فيها كثير من العِبَر واليات ودلئل القدرة طوال هذه المراحل التي‬
‫يتقلّب فيها النسان‪ ،‬ناسب أنْ تختم الية بقوله تعالى‪ { :‬فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ الْخَاِلقِينَ } [المؤمنون‪:‬‬
‫ن تقول‪ :‬سبحان ال‪ ،‬تبارك ال‬
‫‪ ]14‬لنك حين تقف وتتأمل قدرة ال في خَلْق النسان ل تملك إل أ ْ‬
‫الخالق‪.‬‬
‫" لذلك يروى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم حينما قرأ هذه الية سبق عمر فقال (فتبارك ال‬
‫أحسن الخالقين) فقال صلى ال عليه وسلم للكاتب‪ :‬اكتبها فقد نزلتْ "‬

‫‪ ،‬لنها انفعال طبيعي لقدرة ال‪ ،‬وعجيب صُنْعه‪ ،‬وبديع خلقه‪ ،‬وهذا نوع من التجاوب بين السليقة‬
‫العربية واللسان العربي وبين أسلوب القرآن الذي جاء بلسان القوم‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬إن سيدنا معاذ بن جبل نطق بها أيضا‪ ،‬وكذلك نطق بها رجل آخر هو عبد ال بن سعد بن‬
‫أبي السرح‪ ،‬مع اختلف في نتيجة هذا النطق‪ :‬لما نطق بها عمر ومعاذ رضي ال عنهما كان‬
‫استحسانا وتعجبا ينتهي إلى ال‪ ،‬ويُقِرّ له سبحانه بالقدرة وبديع الصّنْع‪.‬‬
‫أما ابن أبي السرح فقد قالها كذلك تعجبا‪ ،‬لكن لما وافق قولُه قولَ القرآن أُعْجِب بنفسه‪ ،‬وادعى أنه‬
‫يُوحَى إليه كما يُوحَى إلى محمد‪ ،‬ولم ل وهو يقول كما يقول القرآن‪ ،‬ومع ذلك هو ما يزال مؤدبا‬
‫يدّعي مجرد أنه يوحى إليه‪ ،‬لكن زاد تعاليه وجَرّه غرور إلى أنْ قال‪ :‬سأنزل مثلما أنزل ال‪،‬‬
‫فليس ضروريا وجود ال في هذه المسألة‪ ،‬فارتدّ والعياذ بال بسببها‪ ،‬وفيه نزل قول ال تعالى‪{:‬‬
‫شيْ ٌء َومَن قَالَ سَأُن ِزلُ مِ ْثلَ‬
‫ي وَلَمْ يُوحَ إِلَ ْيهِ َ‬
‫حيَ إَِل ّ‬
‫علَى اللّهِ كَذِبا َأوْ قَالَ ُأوْ ِ‬
‫َومَنْ َأظْلَمُ ِممّنِ افْتَرَىا َ‬
‫مَآ أَنَزلَ اللّهُ‪[} ..‬النعام‪.]93 :‬‬
‫" وظل ابن أبي السرح إلى فتح مكة حيث شفع فيه عثمان رضي ال عنه عند رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم‪ ،‬فلما رأى رسول ال حِرْص عثمان عليه سكت‪ ،‬ولم ي ُقلْ فيه شيئا‪ ،‬وعندها أخذه‬
‫عثمان رضي ال عنه وانصرف‪ ،‬فقال النبي صلى ال عليه وسلم لصحابته‪ " :‬أما كان فيكم مَنْ‬
‫يُجهز عليه؟ " فقالوا‪ :‬يا رسول ال لو أومأتَ لنا برأسك؟ يعني‪ :‬أش ْرتَ إلينا بهذا‪ ،‬انظر هنا إلى‬
‫منطق النبوة‪ ،‬قال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬ل ينبغي أن يكون لنبي خائنة العين " يعني‪ :‬هذا‬
‫تصرّف ل يليق بالنبياء‪ ،‬فلو فعلتموها من أنفسكم كان ل بأس‪.‬‬
‫حسُن إسلمه‪ ،‬ثم يُولّي مصر‪ ،‬ويقود‬
‫ثم بعد ذلك تحل بركة عثمان على ابن أبي السرح فيُؤمن ويَ ْ‬
‫الفتوحات في إفريقيا‪ ،‬ويتغلب على الضجة التي أثاروها في بلد النوبة‪ ،‬وكأن ال تعالى كان‬
‫يدخره لهذا المر الهام‪.‬‬
‫وبعد هذه العجائب التي رأيناها في مراحل خَلْق النسان وخروجه إلى الحياة والقرار ل تعالى‬
‫بأنه أحسن الخالقين‪ ،‬يُذكّرنا سبحانه بأن هذه الحياة لن تدوم‪ ،‬فيقول تبارك وتعالى‪ } :‬ثُمّ إِ ّن ُكمْ َبعْدَ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ذاِلكَ َلمَيّتُونَ {‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2668 /‬‬

‫ثُمّ إِ ّن ُكمْ َبعْدَ ذَِلكَ َلمَيّتُونَ (‪)15‬‬

‫ولك أنْ تسأل‪ :‬كيف يُحدّثنا الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬عن مراحل الخَلْق‪ ،‬ثم يُحدّثنا مباشرة عن‬
‫مراحل الموت والبعث؟‬
‫نقول‪ :‬جعلهما ال تعالى معا لتستقبل الحياة وفي الذّهْن وفي الذاكرة ما ينقض هذه الحياة‪ ،‬حتى ل‬
‫تتعالى ول تغفل عن هذه النهاية ولتكُنْ على بالك‪ ،‬فتُرتّب حركة حياتك على هذا الساس‪.‬‬
‫شيْءٍ َقدِيرٌ * الّذِي خََلقَ‬
‫ومن ذلك أيضا قول ال تعالى‪ {:‬تَبَا َركَ الّذِي بِيَ ِدهِ ا ْلمُ ْلكُ وَ ُهوَ عَلَىا ُكلّ َ‬
‫عمَلً‪[} ..‬الملك‪ ]2 - 1 :‬كأنه سبحانه ينعى إلينا أنفسنا قبل أنْ‬
‫ا ْل َم ْوتَ وَا ْلحَيَاةَ لِيَبُْل َوكُمْ أَ ّيكُمْ َأحْسَنُ َ‬
‫يخلق فينا الحياة‪ ،‬وقدّم الموت على الحياة حتى الحياة وتستقبل قبلها الموت الذي ينقضها فل تغتر‬
‫بالحياة‪ ،‬وتعمل لما بعد الموت‪.‬‬
‫وقد خاطب الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬نبيه صلى ال عليه وسلم بقوله‪ {:‬إِ ّنكَ مَ ّيتٌ وَإِ ّنهُمْ مّيّتُونَ }‬
‫ن مات بالفعل‪ ،‬وهذا غير صحيح‪ ،‬فالميّت‬
‫[الزمر‪ ]30 :‬البعض يظن أن ميّت بالتشديد يعني مَ ْ‬
‫بتشديد الياء هو ما يؤول أمره إلى الموت‪ ،‬وإنْ كان ما يزال على قيد الحياة‪ ،‬فكلنا بهذا المعنى‬
‫ميّتون‪ ،‬أمّا الذي مات بالفعل فهو ميْت بسكون الياء‪ ،‬ومنه قول الشاعر‪:‬لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَراحَ‬
‫ِبمَ ْيتٍ إنما الم ْيتُ م ّيتُ الحْياءِومعنى‪َ { :‬بعْدَ ذاِلكَ } [المؤمنون‪ ]15 :‬يعني‪ :‬بعد أطوار الخَلْق التي‬
‫تقدمت من خَلْق النسان الول من الطين إلى أنْ قال سبحانه‪ {:‬فَتَبَا َركَ اللّهُ َأحْسَنُ ا ْلخَاِلقِينَ }‬
‫[المؤمنون‪.]14 :‬‬
‫والمتأمل في هذه الية وهي تُحدّثنا عن الموت الذي ل ينكره أحد ول يشكّ فيه أحد‪ ،‬ومع ذلك‬
‫أكدها الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬بأداتين من أدوات التوكيد‪ { :‬ثُمّ إِ ّنكُمْ َبعْدَ ذاِلكَ َلمَيّتُونَ }‬
‫[المؤمنون‪ ]15 :‬فأكّدها بإنّ وباللم‪ ،‬ومعلوم أننا ل نلجأ إلى التوكيد إل حين يواجهنا منكر‪ ،‬فيأتي‬
‫التأكيد على قَدْر ما يواجهك من إنكار‪ ،‬أما خالي الذهن فل يحتاج إلى توكيد‪.‬‬
‫تقول مثلً لخالي الذهن الذي ل يشك في كلمك‪ :‬يجتهد محمد‪ ،‬فإنْ شك تؤكد له بالجملة السمية‬
‫التي تفيد ثبوت واستقرار الصفة‪ :‬محمد مجتهد‪ ،‬وتزيد من تأكيد الكلم على قدر النكار‪ ،‬فتقول‪:‬‬
‫إن محمدا مجتهد‪ ،‬أو إن محمدا لمجتهد‪ ،‬أو وال إن محمدا لمجتهد‪ .‬هذه درجات للتأكيد على‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حسْب حال مَنْ تخاطبه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أكّد الكلم عن الموت الذي ل يشكّ فيه أحد‪ ،‬فقال‪ { :‬ثُمّ إِ ّنكُمْ َبعْدَ ذاِلكَ َلمَيّتُونَ } [المؤمنون‪:‬‬
‫‪ ]15‬ومع ذلك لما تكلّم عن البعث وهو محلّ الشك والنكار قال سبحانه‪ُ { :‬ثمّ إِ ّنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ‬
‫تُ ْبعَثُونَ }‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2669 /‬‬

‫ثُمّ إِ ّن ُكمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تُ ْبعَثُونَ (‪)16‬‬

‫ولم ي ُقلْ‪ :‬لتبعثون كما قال{ َلمَيّتُونَ }[المؤمنون‪ ]15 :‬فكيف يؤكد ما فيه تصديق وتسليم‪ ،‬ول يؤكد‬
‫ما فيه إنكار؟‬
‫قالوا‪ :‬نعم؛ لن المتكلم هو ال تعالى‪ ،‬الذي يرى غفلتكم عن الموت رغم وضوحه‪ ،‬فلما غفلتم عنه‬
‫كنتم كالمكذّبين به المنكرين له‪ ،‬لذلك أكد عليه‪ ،‬لذلك يقال‪ " :‬ما رأيت يقينا أشبه بالشك من يقين‬
‫الناس بالموت " فالكل يعلم الموت ويعاينه‪ ،‬لكن يبعده عن نفسه‪ ،‬ول يتصوّره في حقه‪.‬‬
‫أما البعث والقيامة فأدلتها واضحة ل يصح لحد أنْ ينكرها؛ لذلك جاءت دون توكيد‪ { :‬ثُمّ إِ ّنكُمْ‬
‫َيوْمَ ا ْلقِيَامَةِ تُ ْبعَثُونَ } [المؤمنون‪ ]16 :‬فأدلة البعث أوضح من أن يقف العقل فيها أو ينكرها؛ لذلك‬
‫سأطلقها إطلقا دون مبالغة في التوكيد‪ ،‬أمّا مَنْ يتشكك فيه أو ينكره‪ ،‬فهذا نؤكد له الكلم‪ ،‬فانظر‬
‫إلى بصر الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬بعقليات خَلْقه وبنفوسهم ومََلكَاتهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلقَدْ خََلقْنَا َف ْوقَكُمْ سَبْعَ طَرَآ ِئقَ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2670 /‬‬

‫ق َومَا كُنّا عَنِ الْخَ ْلقِ غَافِلِينَ (‪)17‬‬


‫وَلَقَدْ خََلقْنَا َف ْو َقكُمْ سَبْعَ طَرَا ِئ َ‬

‫نلحظ أن للعدد سبعة مواقف في هذه السورة وأسرارا يجب أن نتأملها‪ ،‬ففي استهلل السورة ذكر‬
‫سبحانه سبعة أصناف‪ {:‬قَدْ َأفْلَحَ ا ْل ُمؤْمِنُونَ * الّذِينَ هُمْ‪[} ..‬المؤمنون‪.]2 - 1 :‬‬
‫وفي مراحل خَلْق النسان نجده مَرّ بسبعة أطوار‪ :‬سللة من طين‪ ،‬ثم نطفة‪ ،‬ثم علقة‪ ،‬ثم مضغة‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم عظاما‪ ،‬ثم لحما‪ ،‬ثم أنشأناه خَلْقا آخر‪.‬‬
‫وهنا يقول‪ { :‬وََلقَدْ خََلقْنَا َف ْو َقكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ‪[ } ..‬المؤمنون‪.]17 :‬‬
‫ت َومِنَ الَ ْرضِ مِثَْلهُنّ‪[} ..‬الطلق‪.]12 :‬‬
‫سمَاوَا ٍ‬
‫وفي موضع آخر قال‪ {:‬اللّهُ الّذِي خَلَقَ سَبْعَ َ‬
‫فهذه سبعة للغاية‪ ،‬وسبعة للمغيّا له‪ ،‬وهو النسان‪ ،‬وسبعة للسماوات والرض المخلوقة للنسان‪.‬‬
‫وطرائق‪ :‬جمع طريقة أي‪ :‬مطروقة للملئكة‪ ،‬والشيء المطروق ما له حجم يتسع بالطّرْق‪ ،‬كما‬
‫تطرق قطعة من الحديد مثلً‪ ،‬فانظر إلى السماء واتساعها‪ .‬و ُقلْ‪ :‬سبحان مَنْ طرقها‪.‬‬
‫وتلحظ أن الحق سبحانه لم يذكر هنا الرض‪ ،‬لماذا؟ قالوا‪ :‬لن الرض نقف عليها ثابتين ل‬
‫ك فوقنا؛ لذلك يقول سبحانه بعدها‪َ { :‬ومَا كُنّا عَنِ‬
‫نخاف من شيء‪ ،‬إنما الخوف من السماء أنْ تند ّ‬
‫الْخَ ْلقِ غَافِلِينَ } [المؤمنون‪ ]17 :‬فلن نغفل عن السماء من فوقكم‪ ،‬وسوف نُمسكها بأيدينا‪ ،‬كما قال‬
‫حدٍ مّن َبعْ ِدهِ‪} ..‬‬
‫س َك ُهمَا مِنْ أَ َ‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ أَن تَزُولَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ َأمْ َ‬
‫سكُ ال ّ‬
‫سبحانه‪ {:‬إِنّ اللّهَ ُي ْم ِ‬
‫[فاطر‪.]41 :‬‬
‫ثم يعطينا الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬الدليل الحسيّ على هذه الية‪ ،‬وكيف أن ال تعالى رفع السماء‬
‫عمَد‪ ،‬ومثال ذلك الطير يُمسكه ال في السماء‪َ {:‬أوَلَمْ يَ َروْا إِلَى الطّيْرِ َف ْو َقهُ ْم صَافّاتٍ‬
‫فوقنا بل َ‬
‫حمَـانُ‪[} ..‬الملك‪.]19 :‬‬
‫س ُكهُنّ ِإلّ الرّ ْ‬
‫وَيَقْ ِبضْنَ مَا ُيمْ ِ‬
‫نعلم أن الطير يطير في السماء بحركة الجناحين التي تدفع الهواء وتقاوم الجاذبية فل يسقط‪،‬‬
‫كالسباح الذي يدفع بذراعيه الماء ليسبح‪ ،‬فإذا ما قبض الطائر جناحيه ومع ذلك يظل مُعلّقا في‬
‫السماء ل يسقط فمَنْ يُمسِكه في هذه الحالة؟ هذه صورة تشاهدونها ل يشكّ فيها أحد‪ ،‬فإذا قلت لكم‬
‫أني أمسك السماء أن تقع على الرض فصدّقوا وآمنوا‪ ،‬واستدلوا على الغيب بالمشاهد‪.‬‬
‫وكأن الحق سبحانه في قوله‪َ { :‬ومَا كُنّا عَنِ ا ْلخَلْقِ غَافِلِينَ } [المؤمنون‪ ]17 :‬يقول‪ :‬اطمئنوا إلى‬
‫السماء من فوقكم‪ ،‬فقد جعلتُ لها التأمينات اللزمة التي تُؤمّن معيشتكم تحت سقفها‪ ،‬اطمئنوا لنها‬
‫بأيدينا وفي رعايتنا‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما المراد بقوله { عَنِ ا ْلخَلْقِ } [المؤمنون‪ ]17 :‬أهو النسان أم خَلْق السماء؟ المراد‪ :‬ما كُنّا‬
‫غافلين عن خَلْق السماء‪ ،‬فبنيناها على ترتيبات ونظم تحميكم وتضمن سلمتكم‪.‬‬
‫والغفلة‪ :‬تَرْك شيء لنه غاب عن البال‪ ،‬وهذه مسألة ل تكون أبدا في حق ال ‪ -‬عز وجل ‪ -‬لنه‬
‫ل تأخذه سِنَة ول نوم‪.‬‬
‫سكَنّاهُ فِي الَرْضِ‪} ..‬‬
‫سمَآءِ مَآءً ِبقَدَرٍ فَأَ ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2671 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ض وَإِنّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ َلقَادِرُونَ (‪)18‬‬
‫سكَنّاهُ فِي الْأَ ْر ِ‬
‫سمَاءِ مَاءً ِبقَدَرٍ فَأَ ْ‬
‫وَأَنْزَلْنَا مِنَ ال ّ‬

‫سمَآءِ مَآءً ِبقَدَرٍ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]18 :‬فهل الماء مَقرّه السماء؟‬


‫يقول تعالى عن الماء‪ { :‬وَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫ق الَ ْرضَ فِي‬
‫ل‪ ،‬الماء مقرّه الرض‪ ،‬كما جاء في قول ال تعالى‪ُ {:‬قلْ أَإِ ّنكُمْ لَ َت ْكفُرُونَ بِالّذِي خََل َ‬
‫سيَ مِن َف ْو ِقهَا وَبَا َركَ فِيهَا َوقَدّرَ فِيهَآ‬
‫ج َعلَ فِيهَا َروَا ِ‬
‫جعَلُونَ َلهُ أَندَادا ذَِلكَ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ * وَ َ‬
‫َي ْومَيْنِ وَ َت ْ‬
‫سوَآءً لّلسّآئِلِينَ‪[} ..‬فصلت‪.]10 - 9 :‬‬
‫َأ ْقوَا َتهَا فِي أَرْ َبعَةِ أَيّامٍ َ‬
‫لما يستدعي الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬النسان إلى هذا الوجود جعل له في الرض مُقوّمات استبقاء‬
‫حياته من الهواء والقوت والماء‪ ،‬والنسان كما قلنا يستطيع أن يصبر على الطعام‪ ،‬وصبره أقل‬
‫على الماء‪ ،‬لكن ل صبرَ له على الهواء؛ لذلك شاءت قدرة ال ألّ يُملّكه لحد؛ لنه مُقوّم الحياة‬
‫الول‪ ،‬فالغلف الجوي والهواء المحيط بالرض تابع لها وجزء منها داخل تحت قوله‪َ {:‬وقَدّرَ‬
‫فِيهَآ َأ ْقوَا َتهَا‪[} ..‬فصلت‪ ]10 :‬بدليل أنهم حينما يخرجون عن نطاق الرض يمتنع الهواء‪.‬‬
‫ومن حكمة الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬وقدرته أنْ جعل الماء على الرض مالحا؛ لن الملح أساس في‬
‫صلح الشياء التي يطرأ عليها الفساد‪ ،‬فالماء العذب عُرضة للتغيّر والعطن‪ ،‬وبالملح نصلح ما‬
‫نخشى تغيّره فنضعه على الطعام ليحفظه ونستخدمه في دباغة الجلود‪ ..‬الخ‬
‫لذلك قال الشاعر‪:‬يَا رِجَالَ الدينِ يا مِلْحَ البََلدِ مَنْ يُصلح الملحَ إذَا المِلْحُ فَسَدإذن‪ :‬أصل الماء في‬
‫الرض‪ ،‬لكن ينزل من السماء بعد عملية البَخْر التي تُصفيه فينزل عَذْبا صالحا للشرب وللري‪،‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن الخالق سبحانه جعل رقعة الماء على الرض أكبر من رقعة اليابسة حتى تتسع رقعة‬
‫البَخْر‪ ،‬ويتكون المطر الذي يكفي حاجة أهل الرض‪.‬‬
‫ومن رحمة ال بنا أن ينزل الماء من السماء { ِبقَدَرٍ } [المؤمنون‪ ]18 :‬يعني‪ :‬بحساب وعلى قَدْر‬
‫الحاجة‪ ،‬فلو نزل هكذا مرة واحدة لصبح طوفانا مُدمّرا‪ ،‬كما حدث لقوم نوح ولهل مأرب‪ .‬وفي‬
‫شيْءٍ ِإلّ عِندَنَا خَزَائُِن ُه َومَا نُنَزّلُهُ ِإلّ ِبقَدَرٍ ّمعْلُومٍ }[الحجر‪:‬‬
‫موضع آخر يقول سبحانه‪ {:‬وَإِن مّن َ‬
‫‪.]21‬‬
‫سكَنّاهُ فِي الَ ْرضِ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]18 :‬لننا نأخذ حاجتنا من ماء المطر‪،‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬فَأَ ْ‬
‫والباقي يتسرب في باطن الرض‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬فسََلكَهُ يَنَابِيعَ فِي الَ ْرضِ }[الزمر‪ ]21 :‬ومن‬
‫عجيب قدرة ال في المياه الجوفية أنها تسير في مسارب مختلفة‪ ،‬بحيث ل يختلط الماء العَذْب‬
‫بالماء المالح مع ما يتميز به الماء من خاصية الستطراق‪ ،‬والعاملون في مجال حفر البار‬
‫يجدون من ذلك عجائب‪ ،‬فقد يجدون الماء العَذْب بجوار المالح‪ ،‬بل وفي وسط البحر لنها ليست‬
‫مستطرقة‪ ،‬إنما تسير في شعيرات ينفصل بعضها عن بعض‪.‬‬
‫ضبَ الماء العَذْب‬
‫والمياه الجوفية مخزون طبيعي من الماء نُخرجه عند الحاجة‪ ،‬ويُسعِفنا إذا َن ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫سكَنّاهُ فِي الَرْضِ‪.‬‬
‫الموجود على السطح { فَأَ ْ‬

‫جفّ المطر تستطيعون أن تستنبطوه‪.‬‬


‫‪[ { .‬المؤمنون‪ ]18 :‬ليكون احتياطيا لحين الحاجة إليه‪ ،‬فإذا َ‬
‫علَىا ذَهَابٍ بِهِ َلقَادِرُونَ { [المؤمنون‪:‬‬
‫ثم يُذكّرنا الحق سبحانه بقدرته على سَلْب هذه النعمة } وَإِنّا َ‬
‫‪ ]18‬يعني‪ :‬سيروا في هذه النعمة سَيْرا ل يُعرّضها للزوال‪ ،‬وقال في موضع آخر‪ُ {:‬قلْ أَرَأَيْ ُتمْ إِنْ‬
‫غوْرا َفمَن يَأْتِي ُكمْ ِبمَآءٍ ّمعِينٍ }[الملك‪]30 :‬‬
‫َأصْبَحَ مَآ ُؤكُمْ َ‬
‫سمَآءِ مَآءً ِبقَدَرٍ‬
‫وحين َتعُدّ ِنعَم ال التي أمتنّ علينا بها بداية من نعمة الماء‪ } :‬وَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫{ [المؤمنون‪ ]18 :‬تجدها أيضا سبعة‪.‬‬
‫ويبدو أن لهذا العدد أسرارا في هذه السورة‪ ،‬فقد ذكر من أوصاف المؤمنين سبعة‪ ،‬ومن مراحل‬
‫خَلْق النسان سبعا‪ ،‬ومن السماء والرض سبعة‪ ،‬وهنا يذكر من نعمه علينا سبعة؛ لذلك كان‬
‫للعلماء وقفات عند هذا العدد بالذات‪.‬‬
‫وأذكر ونحن في المملكة السعودية وكنت أستاذا في كلية الشريعة ومعي بعض الساتذة ورئيس‬
‫بعثتنا الشيخ زكي غيث ‪ -‬رحمه ال وغفر ال له ‪ -‬ورئيس بعثة المعارف الستاذ صلح بك‬
‫الباقر‪ ،‬وكان دائما ما يجلس معنا شيخ علماء المملكة في هذا الوقت السيد إسحق عزوز‪ ،‬وكان‬
‫يجمعنا كل ليلة الفندق الذي نقيم فيه‪ ،‬وكنا نتدارس بعض قضايا العلم‪.‬‬
‫وقد أثار الشيخ إبراهيم عطية قضية هذا العدد في القرآن الكريم‪ ،‬وكان يقرأ في تفسير القرطبي‬
‫فوجد فيه‪ :‬قال عمر بن الخطاب لبن عباس‪ :‬يا ابن عباس أتعرف متى ليلة القدر؟ فقال ابن‬
‫عباس‪ :‬أغلب الظن أنها ليلة السابع والعشرين‪ ،‬فلما سمعنا هذا الكلم قلنا‪ :‬هذه سبعة‪ ،‬وهذه سبع‬
‫وعشرون‪ ،‬فلما اختلفنا اقترح علينا الشيخ محمد أبو علي ‪ -‬أطال ال عمره ‪ -‬أن نذهب لنصلي‬
‫في الحرم بدل أن نصلي في الفندق عملً بسنة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد كان كلما‬
‫حزبه أمر يقوم إلى الصلة‪ ،‬وقلنا‪ :‬ربما يفتح ال علينا في هذه المسألة‪.‬‬
‫وبعد أن صلينا جلسنا نناقش هذه المسألة‪ ،‬فإذا برجل ل نعرفه على سمة المجاذيب غير مهتم‬
‫بنفسه‪ ،‬يجلس بجوارنا ويُنصت لما نقول‪ ،‬ثم شاركنا الكلم وقال‪ :‬ألم يقُل رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم‪ " :‬التمسوها في العشر الواخر من رمضان " إذن‪ :‬فدعكم من العشرين يوما‪ ،‬واحسبوا‬
‫في العشر الواخر‪ ،‬ثم نظرنا فلم نجده‪ ،‬كأن وحدة الزمن التي توجد بها ليلة القدر هي هذه العشر‪،‬‬
‫وكأنها بهذا المعنى ليلة السابع‪ ،‬وهذه أيضا من أسرار هذا العدد{ َو َفوْقَ ُكلّ ذِي عِ ْلمٍ عَلِيمٌ }‬
‫[يوسف‪.]76 :‬‬
‫أطال ال في عمر مَنْ بقي من هؤلء‪ ،‬وغفر ال لمن ذهب‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فَأَنشَأْنَا َلكُمْ ِبهِ جَنّاتٍ مّن نّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ ّلكُمْ فِيهَا َفوَاكِهُ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2672 /‬‬

‫ل وَأَعْنَابٍ َل ُكمْ فِيهَا َفوَاكِهُ كَثِي َر ٌة َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ (‪)19‬‬


‫فَأَنْشَأْنَا َلكُمْ بِهِ جَنّاتٍ مِنْ َنخِي ٍ‬

‫الجنة‪ :‬المكان المليء بالشجار العالية والمزروعات التي تستر مَنْ يسير فيها‪ ،‬أو تستره عن‬
‫الخارج‪ ،‬فل يحتاج في متطلبات حياته إلى غيرها‪ ،‬فهي من الكمال بحيث تكفيه‪ ،‬فل يخرج عنها‪.‬‬
‫ل وَأَعْنَابٍ ّلكُمْ فِيهَا َفوَاكِهُ كَثِي َرةٌ } [المؤمنون‪ ]19 :‬لما لها من منزلة عند‬
‫واختار هذه النواع { نّخِي ٍ‬
‫العرب‪ ،‬وقال { َفوَاكِهُ كَثِي َرةٌ } [المؤمنون‪ ]19 :‬لنه لم يحصر جميع النواع‪.‬‬

‫(‪)2673 /‬‬

‫ن َوصِبْغٍ لِلَْآكِلِينَ (‪)20‬‬


‫وَشَجَ َرةً َتخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْ ُبتُ بِالدّهْ ِ‬

‫الطور‪ :‬جبل منسوب إلى سيناء‪ ،‬وسيناء مكان حسن؛ لن ال بارك فيها‪ ،‬والطور كلّم ال عليه‬
‫موسى‪ ،‬فهو مكان مبارك‪ ،‬كما بارك ال أرض بيت المقدس فقال‪ {:‬سُ ْبحَانَ الّذِي أَسْرَىا ِبعَبْ ِدهِ لَيْلً‬
‫سمِيعُ ال َبصِيرُ‬
‫حوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنّهُ ُهوَ ال ّ‬
‫ل ْقصَى الّذِي بَا َركْنَا َ‬
‫ج ِد ا َ‬
‫سجِدِ ا ْلحَرَامِ إِلَىا ا ْلمَسْ ِ‬
‫مّنَ ا ْلمَ ْ‬
‫}[السراء‪.]1 :‬‬
‫ومعنى { تَن ُبتُ بِالدّهْنِ } [المؤمنون‪ ]20 :‬الدهن هو الدّسَم‪ ،‬والمراد هنا شجرة الزيتون التي‬
‫يستخرجون منها الزيت المعروف { تَن ُبتُ بِالدّهْنِ } [المؤمنون‪ ]20 :‬الدهن هو الدّسَم‪ ،‬والمراد هنا‬
‫شجرة الزيتون التي يستخرجون منها الزيت المعروف { َوصِبْغٍ لّلكِلِيِنَ } [المؤمنون‪ ]20 :‬يعني‪:‬‬
‫شهَى الكلت وألذّها عند مَنْ يزرعون‬
‫يتخذونه إداما يغمسون فيه الخبز ويأكلونه‪ ،‬وهو من أ ْ‬
‫الزيتون في سيناء وفي بلد الشام‪ ،‬وقد ُذقْنا هذه الكْلة الشهيرة في لبنان‪ ،‬عندما ذهبنا إليها في‬
‫موسم حصاد الزيتون‪.‬‬

‫(‪)2674 /‬‬

‫سقِيكُمْ ِممّا فِي ُبطُو ِنهَا وََلكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِي َرةٌ َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ (‪)21‬‬
‫وَإِنّ َلكُمْ فِي الْأَ ْنعَامِ َلعِبْ َرةً ُن ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النعام‪ :‬يُراد بها البل والبقر‪ ،‬وألحق بالبقر الجاموس‪ ،‬ولم يُذكَر لنه لم يكُنْ موجودا بالبيئة‬
‫العربية‪ ،‬والغنم وتشمل الضأن والماعز‪ ،‬وفي سورة النعام يقول تعالى‪َ {:‬ثمَانِ َيةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ‬
‫ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ‪[} ..‬النعام‪.]143 :‬‬
‫اثْنَيْ ِ‬
‫ويقال فيها‪ :‬أنعام و َنعَم (بفتح النون والعين)‬
‫والعبرة‪ :‬شيء تعتبرون به وتستدلّون به على قدرة ال وبديع صُنْعه في خَلْق النعام‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما العبرة في خَلْق هذه النعام؟ الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬تكلّم عن خَلْق النسان‪ ،‬وأنه تعالى‬
‫خلقه من صفوة وخلصة وسللة من الطين ومن النطفة‪ ،‬وهكذا في جميع أطوار خَلْقه‪ .‬وفي‬
‫النعام ترى شيئا من هذا الصطفاء والختيار‪ ،‬فالنعام تأكل من هنا وهناك وتجمع شتى النواع‬
‫من المأكولت‪ ،‬ومن هذا الخليط يخرج الفَرْث‪ ،‬وهو مُنتِن ل تطيق رائحته ويتكون دم الحيوان‪،‬‬
‫ومن بين الفَرْث والدم يُصفّي لك الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬لبنا خالصا‪ ،‬وهذه سللة أيضا وتصفية‪.‬‬
‫ث وَدَمٍ لّبَنا خَالِصا سَآئِغا‬
‫سقِيكُمْ ّممّا فِي ُبطُونِهِ مِن بَيْنِ فَ ْر ٍ‬
‫قال تعالى‪ {:‬وَإِنّ َل ُكمْ فِي الَ ْنعَامِ َلعِبْ َرةً نّ ْ‬
‫لِلشّارِبِينَ }[النحل‪.]66 :‬‬
‫سقِيكُمْ ّممّا فِي ُبطُو ِنهَا } [المؤمنون‪ ]21 :‬وفي آية النحل‪{:‬‬
‫ونلحظ أن الية التي معنا تقول‪ { :‬نّ ْ‬
‫سقِيكُمْ ّممّا فِي ُبطُونِهِ }[النحل‪ ]66 :‬ذلك لننا نأخذ اللبن من إناث النعام ليس من كل النعام‪،‬‬
‫نّ ْ‬
‫فالمعنى { ّممّا فِي ُبطُو ِنهَا } [المؤمنون‪ ]21 :‬أي‪ :‬الناث منها و{ ّممّا فِي بُطُونِهِ }[النحل‪]66 :‬‬
‫سقِيكُمْ } [المؤمنون‪ ]21 :‬من سقى‪ ،‬وفي موضع‬
‫أي‪ :‬بطون البعض؛ ولذا عاد الضمير مذكرا‪ { .‬نّ ْ‬
‫سقَيْنَا ُكمُوهُ }[الحجر‪ ]22 :‬من الفعل أسقى‪ .‬البعض يقول إنهما مترادفان‪ ،‬وهما ليسا كذلك‬
‫آخر{ فَأَ ْ‬
‫لن لكل منهما معنى‪ ،‬فسقى يعني‪ :‬أعطاه الشراب‪ ،‬أمّا أسقى فيعني جهز له ما يشربه لحين يحب‬
‫أن يشرب‪.‬‬
‫سقَاهُمْ رَ ّبهُمْ شَرَابا‬
‫لذلك لما تكلّم الحق سبحانه عن شراب الجنة‪ ،‬قال‪ {:‬وَحُلّواْ َأسَاوِرَ مِن ِفضّ ٍة وَ َ‬
‫طهُورا }[النسان‪.]21 :‬‬
‫َ‬
‫سقَيْنَاكُمُوهُ‬
‫سمَآءِ مَاءً فََأ ْ‬
‫ولما تكلم عن ماء المطر قال سبحانه‪ {:‬وَأَرْسَلْنَا الرّيَاحَ َلوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ ال ّ‬
‫َومَآ أَنْ ُتمْ لَهُ بِخَازِنِينَ }[الحجر‪ ]22 :‬يعني‪ :‬جعله في مستودع لحين الحاجة إليه‪.‬‬
‫كما قلنا في (مُرضِع) بالكسر‪ ،‬و (مُرضَع) بالفتح‪ ،‬فمرضع بالكسر للتي ترضع بالفعل‪ ،‬ومنه قوله‬
‫ض َعتْ }[الحج‪.]2 :‬‬
‫عمّآ أَ ْر َ‬
‫ضعَةٍ َ‬
‫تعالى‪َ {:‬يوْمَ تَ َروْ َنهَا تَذْ َهلُ ُكلّ مُ ْر ِ‬
‫أما مرضَع بالفتح‪ ،‬فهي الصالحة للرضاعة‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وََلكُمْ ف ِيهَا مَنَافِعُ كَثِي َرةٌ َومِنْهَا تَ ْأكُلُونَ } [المؤمنون‪ ]21 :‬نلحظ أن آية النحل‬
‫ركزت على مسألة تصفية اللبن من بين فَرْث ودم‪ ،‬أما هنا فقد ركزت على منافع أخرى للنعام‪،‬‬
‫فكل آية تأخذ جانبا من الموضوع‪ ،‬وتتناوله من زاوية خاصة‪ ،‬نوضح ذلك لمن يقولون بالتكرار‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في القرآن الكريم‪ ،‬فاليات في الموضوع الواحد ليست تكرارا‪ ،‬إنما هو تأسيس بلقطات مختلفة‪،‬‬
‫كل لقطة تؤدي في مكانها موقعا من العِظَة والعبرة‪ ،‬بحيث إذا جمعتَ كل هذه المكررات الظاهرة‬
‫تعطيك الصورة الكاملة للشيء‪.‬‬

‫والمنافع في النعام كثيرة‪ :‬منها نأخذ الصوف والوبر‪ ،‬وكانوا يصنعون منه الملبس والفرش‬
‫والخيام‪ ،‬قبل أن تُعرف الملبس والمنسوجات الحديثة‪ ،‬ومن ملبس الصوف سُميت الصوفية لمَنْ‬
‫يلبسون الثياب الخشنة‪ ،‬وهم الن يصنعون من الصوف ملبس ناعمة كالحرير يرتديها المترفون‪.‬‬
‫سكَنا‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مّن بُيُو ِتكُمْ َ‬
‫ومن منافع النعام أيضا الجلود والعظام وغيرها‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬وَاللّهُ َ‬
‫صوَافِهَا وََأوْبَارِهَا‬
‫ظعْ ِنكُ ْم وَ َيوْمَ ِإقَامَ ِتكُ ْم َومِنْ َأ ْ‬
‫خفّو َنهَا َيوْمَ َ‬
‫ج َعلَ َلكُمْ مّن جُلُو ِد الَ ْنعَامِ بُيُوتا تَسْ َت ِ‬
‫وَ َ‬
‫شعَارِهَآ أَثَاثا َومَتَاعا إِلَىا حِينٍ }[النحل‪.]80 :‬‬
‫وَأَ ْ‬
‫} َومِ ْنهَا تَ ْأكُلُونَ { [المؤمنون‪ ]21 :‬أي‪ :‬لحما‪ ،‬وذكر اللحم في آخر هذه المنافع؛ لنه آخر ما يمكن‬
‫النتفاع به من الحيوان‪ ،‬وسبق أنْ ذكرنا أن الحيوان الذي أحلّه ال لنا إذا تعرض لما يزهق‬
‫روحه‪ ،‬فإنه يرفع لك رقبته‪ ،‬ويكشف لك عن موضع ذَبْحه كأنه يقول لك‪ :‬أسرع واستفد مني قبل‬
‫ن أموت‪.‬‬
‫أْ‬
‫ح ِملُ أَ ْثقَاَلكُمْ إِلَىا بََلدٍ لّمْ َتكُونُواْ بَاِلغِيهِ ِإلّ ِبشِقّ‬
‫وفي لقطة أخرى لمنافع النعام يقول سبحانه‪ {:‬وَتَ ْ‬
‫الَنفُسِ }[النحل‪ ]7 :‬إذن‪ :‬كل آية تحدثت عن النعام تعطينا فائدة لتظل مربوطا بالقرآن كله‪.‬‬

‫(‪)2675 /‬‬

‫حمَلُونَ (‪)22‬‬
‫وَعَلَ ْيهَا وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ‬

‫{ وَعَلَ ْيهَا } [المؤمنون‪ ]22 :‬أي‪ :‬على الدواب تُحملون‪ ،‬فنركب الدواب‪ ،‬ونحمل عليها متاعنا‪ ،‬لكن‬
‫لما كانت الرض ثلثة أرباعها ماء‪ ،‬فإن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ما تركنا في البحر‪ ،‬إنما‬
‫حمَلُونَ } [المؤمنون‪ ]22 :‬فكما أعددتُ لكم المطايا على اليابسة‬
‫حملنا فيه أيضا { وَعَلَى ا ْلفُ ْلكِ تُ ْ‬
‫الضيقة أعددتُ لكم كذلك ما تركبونه في هذه المساحة الواسعة من الماء‪.‬‬
‫عمّنْ له صلة بالفُلْك‪ ،‬وهو نوح عليه السلم‪:‬‬
‫ولما كان الكلم هنا عن الفُلْك فقد ناسب ذلك الحديث َ‬
‫{ وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحا إِلَىا َق ْومِهِ َفقَالَ يا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2676 /‬‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى َق ْومِهِ َفقَالَ يَا َقوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَا تَ ّتقُونَ (‪)23‬‬

‫بعد أنْ حدّثنا القرآن الكريم عن خَلْق النسان وخَلْق الحيوان‪ ،‬وحدثنا عن بعض نعمه التي امتنّ‬
‫بها علينا تدرج بنا إلى صناعة الفُلْك؛ لنه قد يسأل سائل‪ :‬وكيف تكون هذه الفُلْك أي‪ :‬تخلق‬
‫كالنسان والحيوان بالتوالد‪ ،‬أم تنبت كالزرع؟ فأوضح الخالق سبحانه لنه وُجدت بالوحي في قوله‬
‫تعالى‪ {:‬فََأوْحَيْنَآ إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا }[المؤمنون‪.]27 :‬‬
‫ومعنى{ بِأَعْيُنِنَا }[المؤمنون‪ ]27 :‬أنها صنعة دقيقة‪ ،‬لم يترك فيها الحق سبحانه نبيّه يفعل ما يشاء‪،‬‬
‫حمَلْنَاهُ‬
‫إنما تابعه ولحظه ووجّهه إلى كيفية صناعتها والمواد المستخدمة فيها‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَ َ‬
‫ح وَ ُدسُرٍ }[القمر‪ ]13 :‬وهي الحبال‪ ،‬كانوا يربطون بها ألواح الخشب‪ ،‬ويضمون‬
‫عَلَىا ذَاتِ أَ ْلوَا ٍ‬
‫ش ّد بها اللواح بعضها إلى بعض‪.‬‬
‫بعضها إلى بعض‪ ،‬أو المسامير تُ َ‬
‫لكن‪ ،‬مهما أُح ِك َمتْ ألواح الخشب بعضها إلى بعض‪ ،‬فل بُدّ أنْ يظل بينها مسامّ يتسرب منها الماء‪،‬‬
‫فكيف نتفادى ذلك في صناعة الفُلْك خاصة في مراحلها البدائية؟ يقولون‪ :‬ل بُدّ لصانع الفُلْك أنْ‬
‫يجفف الخشب جيدا قبل تصنيعه فإذا ما نزل الخشبُ الماءَ يتشرب منه‪ ،‬فيزيد حجمه فيسدّ هذه‬
‫المسام تماما‪ ،‬ول يتسرب منها الماء‪.‬‬
‫جوَارِ ا ْلمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ‬
‫ومن عجائب القرآن ومعجزاته في مسألة الفُلْك قوله تعالى‪ {:‬وَلَهُ ا ْل َ‬
‫كَالَعْلَمِ }[الرحمن‪ ]24 :‬يعني‪ :‬كالجبال العالية‪ .‬وهذه الفُلْك لم تكُنْ موجودة وقت نزول القرآن‬
‫إنما أخبر ال بها‪ ،‬مما يدل على أنه تعالى الذي امتنّ علينا بهذه النعمة‪ ،‬علم ما يمكن أن يتوصل‬
‫إليه النسان من تطور في صناعة الفلك‪ ،‬وأنها ستكون عالية شاهقة كالجبال‪.‬‬
‫وطالما أن الكلم معنا عن الفُلْك‪ ،‬فطبيعي ومن المناسب أن نذكر نوحا عليه السلم؛ لنه أول من‬
‫اهتدى بالوحي إليه إلى صناعة الفُلْك‪ ،‬فقال سبحانه‪ { :‬وََلقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحا إِلَىا َق ْومِهِ‪[ } ..‬المؤمنون‪:‬‬
‫‪ ]23‬لما تكلم الحق سبحانه عما في النعام من ِنعَم وفوائد‪ ،‬لكنها تؤول كلها ‪ -‬بل والدنيا معها ‪-‬‬
‫إلى زوال‪ ،‬أراد سبحانه أن يعطينا طرفا من الحياة الباقية والنعيم الدائم الذي ل يزول فذكر منهج‬
‫ال الذي أُرسِل به نوح‪ ،‬وهو واحد من أولى العَزْم من الرسل‪.‬‬
‫والرسال‪ :‬هو أنْ يكلّف مُرسِل مُرْسَلً إلى مُرْسَل إليه‪ ،‬فالمكلف هو الحق سبحانه‪ ،‬والمكلف‬
‫بالرسالة نوح عليه السلم‪ ،‬والمرسل إليهم هم قومه‪ ،‬وال ل يرسل إلى قوم إل كانوا يهمونه‪،‬‬
‫وكيف ل وهم عباده وخَلْقه‪ ،‬وقد جعلهم خلفاء له في الرض؟‬
‫والذي خلق خَلْقا‪ ،‬أو صنع صَنْعة ل ُبدّ أنْ يضع لها قانون صيانتها‪ ،‬لتؤدي مهمتها في الحياة‪،‬‬
‫وتقوم بدورها على الوجه الكمل‪ ،‬كما مثّلنا لذلك ‪ -‬ول تعالى المثل العلى ‪ -‬بصانع الثلجة أو‬
‫التلفزيون حين يضع معه كتالوجا يحوي تعليمات التشغيل وطريقة الصيانة وكيفية إصلح‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫العطال‪.‬‬

‫فالذي خلق النسان وجعله خليفة له في الرض َأوْلَى بهذا القانون وَأوْلَى بصيانة خَلْقه؛ لذلك يقول‬
‫سبحانه في الحديث القدسي‪ " :‬يا ابن آدم‪ ،‬خلقت الشياء كلها من أجلك‪ ،‬وخلقتُك من أجلي‪ ،‬فل‬
‫تشتغل بما هو لك عما أنت له " يعني‪ :‬ما دام كل شيء من أجلك يعمل لك ويُؤدّي مهمته‪ ،‬فعليك‬
‫أيضا أن تؤدي مهمتك التي خلقتُك من أجلها‪.‬‬
‫لذلك وضع لك ربّك قانون صيانتك بافعل كذا ول تفعل كذا‪ ،‬فعليك أن تلتزم المر فتؤديه فهو سِرّ‬
‫الجمال في الكون‪ ،‬وسِرّ السعادة والتوافق في حركة الحياة‪ ،‬وعليك أن تجتنب النهي فل تقربه؛‬
‫لنه سيؤدي إلى قُبْح‪ ،‬وسيكشف عورة من عورات المجتمع‪ ،‬أما المور التي سكت عنها فأنت‬
‫حُ ّر فيها تفعل أو ل تفعل؛ لن ذلك ل يأتي بقبيح في المجتمع‪ ،‬وهذه المسائل تُسمّى المباحات‪ ،‬وقد‬
‫تركها ال لحريتك واختيارك‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬لما استدعى النسان إلى هذا الكون خلق له مقومات حياته من مُقوّمات‬
‫استبقاء الحياة من طعام وشراب وهواء واستبقاء النوع بالتناسل‪ ،‬وقد شمل قانون الصيانة كل هذه‬
‫المقومات‪ ،‬فنظمها وحدد ما يحل وما يحرم‪ .‬فقال‪ُ :‬كلْ هذه ول تأكل هذه‪ ،‬واشرب هذا ول تشرب‬
‫ذاك‪ ،‬ولو شاهدنا المخترعين في مسائل المادة نجد الصانع يحدد مقومات صنعته‪ ،‬فمثلً هذا‬
‫الجهاز يعمل على ‪ 110‬فولت‪ ،‬وهذا يعمل ‪ 220‬فولت‪ ،‬وهذه اللة تعمل بالبنزين‪ ،‬وهذه‬
‫بالسولر‪ ،‬فلو غيّرت في هذه المقومات تفسد اللة ول تؤدي مهمتها‪.‬‬
‫حدْ عنه‪ ،‬وإل‬
‫كذلك ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬عليك أن تلتزم بقانون ومنهج خالقك عز وجل‪ ،‬ول تَ ِ‬
‫فسد حالك وعجزتَ عن أداء مهمتك في الحياة‪ .‬فإن أردنا أن تستقيم لنا الخلفة التي خلقنا ال لها‬
‫وهي خلفة مُصلحة ل مُفسدة‪ ،‬فعلينا بقانون الصيانة الذي وضعه لنا خالقنا عز وجل‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬إنْ رأيت في المجتمع عورة ظاهرة في أي ناحية من نواحي الحياة فاعلم أنها نتيجة طبيعية‬
‫للخروج عن منهج ال‪ ،‬وتعطيل حكم من أحكامه‪ ،‬فمثلً حين ترى الفقراء والجوْعى والمحاويج‬
‫سعْي في مناكب‬
‫فاعلم أن في المر تعطيلً لحكم من أحكام ال‪ ،‬فهم إما كسالى ل يحاولون ال ّ‬
‫الرض‪ ،‬وإما غير قادرين حرمهم القادرون واستأثروا بالثروة دونهم‪.‬‬
‫البعض يقول‪ :‬إذا كان الحق سبحانه قد حرّم علينا بعض الشياء‪ ،‬فلماذا خلقها؟ ويُمثّلون لذلك‬
‫بالخنزير مثلً وبالخمر‪ .‬وخطأ هؤلء أنهم يظنون أن كل شيء خُلِق ليُؤكل‪ ،‬وهذا غير صحيح؛‬
‫لن ال تعالى خلق هذه الشياء لمهمة تؤديها في الحياة‪ ،‬وليس بالضرورة أنْ تُؤكل‪ ،‬فالخنزير‬
‫خلقه ال لينظف البيئة من القاذورات‪ ،‬لذلك ل تراه يأكل غيرها‪.‬‬
‫أما الخمر فلم تُخلق خمرا‪ ،‬إنما هي ثمرة العنب الحلوة التي تؤكل طازجة‪ ،‬أخذها النسان وتدخّل‬
‫في هذه الطبيعة وأفسدها بتخميره‪ ،‬فصار الحلل بذلك محرما‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نعود إلى قول ال تعالى‪ } :‬وََلقَدْ أَ ْرسَلْنَا نُوحا إِلَىا َق ْومِهِ { [المؤمنون‪ ]23 :‬القوم‪ :‬هم الرجال‪،‬‬
‫خاصة من المجتمع‪ ،‬وليس الرجال والنساء‪ ،‬بدليل قوله تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُو ْا لَ يَسْخَرْ َقوْمٌ‬
‫مّن َقوْمٍ عَسَىا أَن َيكُونُواْ خَيْرا مّ ْنهُ ْم َولَ ِنسَآءٌ مّن نّسَآءٍ عَسَىا أَن َيكُنّ خَيْرا مّ ْنهُنّ‪[} ..‬الحجرات‪:‬‬
‫‪ ]11‬فالنساء في مقابل القوم أي‪ :‬الرجال‪.‬‬
‫س ْوفَ َأخَالُ أَدْرِي َأ َقوْمٌ آلُ حِصنٍ َأمْ نِسَاءُلكْن هل أُرسِل نوح‬
‫ومن ذلك قول الشاعر‪َ :‬ومَا أَدْرِي و َ‬
‫عليه السلم إلى الرجال دون النساء؟ أُرسِل نوح إلى الجميع‪ ،‬لكن ُذكِر القوم لنهم هم الذين‬
‫سيحملون معه أمر الدعوة ويسيحون بها‪ ،‬ويُبلّغونها لمن لهم ولية عليهم من النساء‪ ،‬والرجال‬
‫مَنُوط بهم القيام بمهام المور في عمارة الكون وصلحه‪.‬‬
‫والضافة في } َق ْومِهِ‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]23 :‬بمعنى اللم يعني‪ :‬قوم له؛ لن الضافة تأتي بمعنى‬
‫من مثل‪ :‬أردب قمح يعني من قمح‪ ،‬وبمعنى في مثل‪ :‬مكر الليل يعني في الليل‪ ،‬وبمعنىاللم مثل‪:‬‬
‫قلم زيد يعني لزيد‪.‬‬
‫فالمعنى هنا‪ :‬قوم له؛ لنه منهم ومأمون عليهم ومعروف لهم سيرته الولى‪ ،‬فإذا قال لهم ل‬
‫خلْق أن يرسل إليهم واحدا منهم‪ ،‬كما قال سبحانه‪َ {:‬لقَدْ جَآ َءكُمْ‬
‫يتهمونه‪ ،‬إذن‪ :‬فمن رحمة ال بال َ‬
‫ف للقوم على خلف ما إنْ كان الرسول‬
‫سكُمْ‪[} ..‬التوبة‪ ]128 :‬ففي هذا إيناس وإ ْل ٌ‬
‫رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫مََلكَا مثلً‪ ،‬فإن القوم يستوحشونه ول يأنسون إليه‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالنبي صلى ال عليه وسلم كان يُسمّى بين قومه وقبل بعثته بالصادق المين؛ لنه معروف‬
‫لهم ماضيه وسيرته ومُقوّمات حياته تُشجّع على أنْ يُصدّقوه فيما جاء به‪ ،‬وكيف يصدقونه في أمر‬
‫الدنيا‪ ،‬ول يُصدقونه في البلغ عن ال؟‬
‫إذن‪ } :‬إِلَىا َق ْومِهِ { [المؤمنون‪ ]23 :‬أننا لم ن ْأتِ لكم برسول من جنس آخر‪ ،‬ول من قبيلة أخرى‪،‬‬
‫بل منكم‪ ،‬وتعرفون ماضيه وتاريخه‪ ،‬فتأنسون بما يجيء به‪ ،‬ول تقفون منه موقف العداء‪.‬‬
‫أو يكون المعنى‪ :‬إلى قوم منه؛ لنهم ل يكونون قوما قوّامين على شئون إصلح الحياة‪ ،‬إل إذا‬
‫استمعوا منهجه‪ ،‬فهم منه؛ لنهم سيأخذون منه منهج ال‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬فقَالَ يا َقوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ‪[ { ..‬المؤمنون‪( ]23 :‬يا قوم)‬
‫استمالة وتحنين لهم } اعْبُدُواْ اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]23 :‬والعبادة طاعة عابد‬
‫لمر معبود‪ ،‬والعبادة تقتضي تكليفا بأمر ونهي‪ .‬فاللوهية تكليف وعبادة‪ ،‬أما الربوبية فعطاء‬
‫جعُونَ }[هود‪ ]34 :‬أي‪ :‬ربكم جميعا‪ :‬ربّ المؤمن‪،‬‬
‫وتربية؛ لذلك قال سبحانه{ ُهوَ رَ ّبكُ ْم وَإِلَ ْيهِ تُرْ َ‬
‫وربّ الكافر‪ ،‬ربّ الطائع‪ ،‬ورب العاصي‪.‬‬
‫وكما قلنا‪ :‬الشمس والقمر والرض والمطر‪ ..‬الخ كلها تخدم الجميع‪ ،‬ل فرْقَ بين مؤمن وكافر؛‬
‫لن ذلك عطاء الربوبية‪ ،‬وإنْ سألت الكافر الجاحد‪ :‬من خلقك؟ من رزقك؟ فلن يملك إل أن يقول‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ال‪ ،‬إذن‪ :‬فليخْزَ هؤلء على أعراضهم‪ ،‬وليعلموا أنه تعالى وحدة المستحق للطاعة وللعبادة‪.‬‬

‫فمقتضيات الربوبية واليمان بها تقتضي أن نؤمن باللوهية‪.‬‬


‫كما أن الطفل الصغير ينشأ بين أبيه وأمه ويشبّ‪ ،‬فل يجد غيرهما يخدمه ويقضي حاجته ويُوفّر‬
‫متطلباته‪ ،‬بل ويزيل عنه الذى ويسهر على راحته‪ .‬كل ذلك بروح سعيدة ونفس راضية مطمئنة‪،‬‬
‫ربما يجوعان لتشبع‪ ،‬ويعريان لتكسى‪ ،‬ويحرمان نفسيهما ليوفرا لك الحياة الكريمة‪ ،‬فإذا ما كبر‬
‫حلُم ومبلغ الرجال نجده يعقّهما‪ ،‬ويخرج عن طاعتهما‪ ،‬ويأخذه من أحضانهما‬
‫الصغير وبلغ ال ُ‬
‫أصدقاء السوء‪ ،‬ويُزيّنون له التمرد على أبيه وأمه‪.‬‬
‫ونقول لمثل هذا العاق‪ :‬اخْزَ على عِرْضك واسْتَحِ‪ ،‬فليس هكذا يكون رد الجميل‪ ،‬وأين كان هؤلء‬
‫ن كنتَ صغيرا تحتاج إلى من يعولك ويميط عنك الذى‪ ،‬ويسهر على راحتك؟ قد‬
‫الصدقاء يوم أ ْ‬
‫كان ينبغي عليك ألّ تسمع إل لمن أحسن إليك‪.‬‬
‫وهذا مثال لتوحيد اللوهية وتوحيد الربوبية ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬فكيف تأخذ من ربك عطاء‬
‫الربوبية‪ ،‬ثم تتمرد عليه سبحانه في اللوهية‪ ،‬فتعصي أمره وتكفر بنعمه؟ كان من الواجب عليك‬
‫الوفاء للنعمة‪.‬‬
‫ول بد أن تعلم أن ربك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬مأمون عليك في التكليف بالمر والنهي‪ ،‬لنك عبده‬
‫وصنعته‪ ،‬وأنك حين تُؤدّي ما عليك تجاه اللوهية ل ينتفع ال سبحانه من ذلك بشيء‪ ،‬إنما تعود‬
‫منفعتها عليك‪ ،‬وهكذا إذا ما رددت أمور الطاعة والعبادة والتكاليف لوجدتها تعود في النهاية أيضا‬
‫إلى عطاء الربوبية؛ لنها تعود عليك أنت بالنفع‪.‬‬
‫فنحن نأخذ الوامر والنواهي على أنها تكاليف وأعباء يقتضيها اليمان باللوهية‪ ،‬نقول‪ :‬نعم هي‬
‫ت لوجدتَ اللوهية من الربوبية‪ ،‬فحين يُحرّم مثلً عليك‬
‫تكاليف من ال لكن لصالحك‪ ،‬فلو أنصف َ‬
‫شرب الخمر ويحميك من فساد العقل‪ ،‬هل ينتفع سبحانه من ذلك بشيء؟‬
‫سمَاوَاتِ وَالَ ْرضَ لَ َيقُولُنّ اللّهُ‪[} ..‬لقمان‪:‬‬
‫لذلك يقول تعالى عن هؤلء‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُمْ مّنْ خَلَقَ ال ّ‬
‫‪.]25‬‬
‫ويقول‪ {:‬وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ‪[} ..‬الزخرف‪.]87 :‬‬
‫فما دام هو سبحانه خالقكم ورازقكم وخالق السموات والرض‪ ،‬فلماذا تعصونه؟ وهل نقص‬
‫عصيانكم من مُلْكه شيئا؟ وهل زاد في مُلْكه شيء بطاعة مَنْ أطاع؟ هل زاد في مُلْك ال بطاعة‬
‫الطائعين أرض أو سماء‪ ،‬أو شمس أو قمر؟‬
‫إن الحق سبحانه قبل أن يخلقكم خلق لكم بصفات الكمال فيه كل مُقوّمات حياتكم واستدعاكم إلى‬
‫كون ُمعَدّ لستقبالكم ولمعيشتكم‪ .‬إذن‪ :‬فر ّبكَ ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ل تنفعه طاعة‪ ،‬ول تضره معصية‪.‬‬
‫لذلك يقول في الحديث القدسي‪ " :‬يا عبادي‪ ،‬لو أن أولكم وآخركم‪ ،‬وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا‪ ،‬ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على‬
‫أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا‪ ،‬ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم‬
‫وشاهدكم وغائبكم اجتمعوا في صعيد واحد‪ ،‬وسألني كل واحد مسألته فأعطيتها له ما نقص ذلك‬
‫مما عندي إل كمغرز إبرة أحدكم إذا غمسه في البحر‪ ،‬وذلك أنّي جواد واجد ماجد‪ ،‬عطائي كلم‪،‬‬
‫وعذابي كلم‪ ،‬إنما أمري لشيء إذا أردتُه أن أقول له‪ :‬كن فيكون "‪.‬‬

‫إذن‪ :‬حين تطيعني فالخير لك؛ لنك ضمنتَ بهذه الطاعة حياة أخرى خالدة باقية بعد هذه الحياة‬
‫ن يفوتك‬
‫ن تفوت نعيمها بالموت‪ ،‬وإما أ ْ‬
‫الفانية التي مهما أترفت فيها فهي إلى زوال‪ ،‬فإما أ ْ‬
‫ق ل يفوتك ول تفوته؛ لنها نعمة ل مقطوعة ول‬
‫بالحاجة والفقر‪ ،‬أما في الخرة فالنعيم دائم بَا ٍ‬
‫ممنوعة‪.‬‬
‫لذلك قال سبحانه‪ {:‬وَإِنّ الدّا َر الخِ َرةَ َل ِهيَ الْحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت‪ ]64 :‬فكأن عطاء‬
‫اللوهية ربوبية متعدية إلى زمن آخر غير زمن الدنيا‪ ،‬فل تظن أن طاعتك ستفيدني في شيء‪ ،‬أو‬
‫ظِلمُونَ }‬
‫سهُمْ يَ ْ‬
‫أن معصيتك ستضرني بشيء‪ ،‬ومن هنا قال تعالى‪َ {:‬ومَا ظََلمْنَاهُ ْم وَلَـاكِن كَانُواْ أَ ْنفُ َ‬
‫[النحل‪.]118 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ { [المؤمنون‪ ]23 :‬أي‪ :‬معبود غيره } َأفَلَ تَ ّتقُونَ‬
‫ل في‬
‫{ [المؤمنون‪ ]23 :‬هذا استفهام يحمل معنى التهديد والتوبيخ‪ ،‬لكن كيف يُوبّخهم وهو لم يَ َز ْ‬
‫مرحلة المر بعبادة ال‪ ،‬ولم يسمع منهم بعد بوادر الطاعة أو العصيان؟ قالوا‪ :‬يبدو أنه رأى منهم‬
‫إعراضا فأمرهم بتقوى ال‪.‬‬
‫والتقوى معناها أنْ تجعل بينك وبين ربك وقاية تقيك صفات جبروته و َقهْره وتحميك من أسباب‬
‫بَطْشه وانتقامه‪ ،‬فلست مطيقا لهذه الصفات‪ .‬والوقاية التي تجعلها بينك وبين هذه الصفات هي أن‬
‫تنفذ منهج ال بطاعة الوامر واجتناب النواهي‪.‬‬
‫ن يقول سبحانه‪ {:‬وَا ّتقُواْ اللّهَ }[البقرة‪]194 :‬‬
‫ومن عجيب تركيبات التقوى في القرآن الكريم أ ْ‬
‫ويقول‪ {:‬فَا ّتقُواْ النّارَ‪[} ..‬البقرة‪ ]24 :‬قالوا‪ :‬نعم اتق ال‪ ،‬واتق النار؛ لنك تتقي ال من متعلقات‬
‫صفات قهره وغضبه ومنها النار‪ ،‬فحين تتقي ال بالمنهج فقد اتق ْيتَ النار أيضا‪.‬‬
‫ضلَ‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬فقَالَ ا ْلمَلُ الّذِينَ َكفَرُواْ مِن َق ْومِهِ مَا هَـاذَا ِإلّ بَشَرٌ مّثُْل ُكمْ يُرِيدُ أَن يَ َتفَ ّ‬
‫عَلَ ْيكُمْ‪{ ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2677 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫َفقَالَ ا ْلمَلَأُ الّذِينَ َكفَرُوا مِنْ َق ْومِهِ مَا َهذَا إِلّا َبشَرٌ مِثُْلكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَ َت َفضّلَ عَلَ ْيكُمْ وََلوْ شَاءَ اللّهُ لَأَنْ َزلَ‬
‫س ِمعْنَا ِبهَذَا فِي آَبَائِنَا الَْأوّلِينَ (‪)24‬‬
‫مَلَا ِئكَةً مَا َ‬

‫المل‪ :‬من الملء يعني‪ :‬الشيء الذي يمل الشيء‪ ،‬فالمل يعني الذين يملون العيون بشرفهم‬
‫ومكانتهم وعظمتهم وأبهتِهم‪ ،‬ومن ذلك قولهم‪ :‬فلن مِلءُ العين‪ ،‬أو ِملْءُ السمع والبصر‪ ،‬ويقولون‬
‫للرجل إذا بلغ في الحُسْن مبلغا‪ :‬فلن قَيْد العيون يعني‪ :‬حين تراه ل تصرف بصرك إلى غيره من‬
‫شِدّة حسنه كأنه قيّد بصرك نحوه‪ .‬أما في المقابل فيقولون‪ :‬فلن تتقحمه العين ول تراه وكأنه غير‬
‫موجود‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المل‪ :‬هم الذين يملؤون صدور المجالس أُبّهة وفخامة ووجاهة وسيادة‪ ،‬لكن‪ ،‬لماذا هؤلء‬
‫بالذات هم الذين تعصّبوا ضده وواجهوه؟‬
‫قالوا‪ :‬لن منهج ال ما جاء إل لصلح ما فسد في الكون وما استشرى فيه من شر‪ ،‬فالحق ‪-‬‬
‫تبارك وتعالى ‪ -‬يُنزِل منهجا على لسان رسول أول‪ ،‬ويطلب من قومه أن يُبلّغوا منهج رسولهم‬
‫من بعده‪ ،‬لكن تأتي الغفلة على هذا المنهج فيخرج الناس عنه ويأتي خروجهم عن منهج ربهم على‬
‫عِدّة صور‪:‬‬
‫فمنهم مَنْ يخرج عن منهج ربه ويصنع الذنب‪ ،‬إل أنه يعاود نفسه ويراجعها ويلومها وسرعان ما‬
‫يتوب ويندم‪ ،‬فزاجره من نفسه وواعظه من داخله‪ ،‬وهؤلء الذين خلطوا عملً صالحا وآخر سيئا‪.‬‬
‫ومنهم مَنْ يخرج على منهج ربه خروجا ل رجعةَ له ول زاجر‪ ،‬وهذا نسميه بلغتنا (فاقد) يعني‪:‬‬
‫لم َي ُعدْ له زاجر من شرع ول من ضمير‪ .‬ويبقى بعد ذلك زاجر المجتمع حين يرى مثل هؤلء‬
‫ظلّ‬
‫الخارجين عن منهج الحق عليه أنْ يتصدّى لهم‪ ،‬ويقاطعهم ول يودهم ول يحترمهم‪ ،‬وإل لو َ‬
‫المنحرف ومرتكب القبائح على حاله من احترام الناس وتقديرهم‪ ،‬ولو ظلّ على مكانته في‬
‫المجتمع لتمادى في غَيّه وأسرف على نفسه وعلى مجتمعه فيستشري بذلك الشر في المجتمع‪،‬‬
‫ويعُمّ الفساد وتشيع الفوضى‪.‬‬
‫ألَ ترى الشرع الحكيم حين جعل الدية في القتل على العاقلة يعني‪ :‬عائلة القاتل‪ ،‬ل على القاتل‬
‫وحده؟ لماذا؟ لكي يأخذوا على يد ولدهم إن انحرف أو ب َدتْ عنده بوادر العتداء؛ لنهم جميعا‬
‫سيحملون هذه التبعة‪.‬‬
‫خصّ المل بالذات؛ لنهم هم المنتفعون بالشر والفساد في المجتمع‪ ،‬ومن مصلحتهم أنْ‬
‫ونقول‪ُ :‬‬
‫يستمر هذا الوضع لتبقى لهم سلطتهم الزمنية ومكانتهم؛ لذلك هم أول مَنْ يقابلون الرسالت‬
‫بالجحود والنكران‪ .‬ألم يقل الحق سبحانه عنهم في آية أخرى‪ {:‬مَا نَرَاكَ ِإلّ َبشَرا مّثْلَنَا َومَا نَرَاكَ‬
‫اتّ َب َعكَ ِإلّ الّذِينَ ُهمْ أَرَاذِلُنَا‪[} ..‬هود‪.]27 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فهؤلء الذين يُسمّونهم أراذل هم المستضعفون والفقراء والمطحونون والمهمومون بأمور الخَلْق‬
‫والدين والقيم‪ ،‬فما إنْ تسمع آذانهم عن رسالة إل تلهّفوا عليها وارتموا في أحضانها لنها جاءت‬
‫ن يؤمن‪ .‬وإنْ جاء المنهج لنصاف هؤلء‪ ،‬فقد جاء أيضا لينزع من‬
‫لتنقذهم؛ لذلك يكونون أول مَ ْ‬
‫أصحاب السلطان والقهر والجبروت سلطانهم وتعاليهم‪ ،‬فل بُدّ أن يواجهوه ويعاندوه‪.‬‬

‫ومعنى‪ } :‬الّذِينَ َكفَرُواْ مِن َق ْومِهِ‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]24 :‬كفروا‪ :‬يعني جحدوا وجود ال } مَا هَـاذَا‬
‫صدّهم عن الرسول كونه بشرا‪ ،‬إذن‪ :‬فماذا كنتم‬
‫ِإلّ بَشَرٌ مّثُْلكُمْ { [المؤمنون‪ ]24 :‬فأول شيء َ‬
‫تنتظرون؟ وقد شرح هذا المعنى في قوله تعالى‪َ {:‬ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ‬
‫أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ َبشَرا رّسُولً }[السراء‪.]94 :‬‬
‫ول ُبدّ في الرسول أن يكون من جنس المرسَل إليهم؛ ليصح أن يكون لهم ُأسْوة‪ ،‬فيقلدوه ويهتدوا‬
‫كل‬
‫به‪ ،‬وإل لو جاء الرسول مَلكا فكيف تتحقق فيه القدوة؟ وكيف تطيعونه وأنتم تعلمون أنه مََل ٌ‬
‫يأكل ول يشرب ول يتناسل‪ ،‬وليست لديه شهوة‪ ،‬ول مُقوّمات المعصية؟‬
‫ولنفرض أن ال نزّل عليكم ملَكا‪ ،‬فكيف ستشاهدونه وتتلقوْن عنه؟ ل بُدّ ‪ -‬إذن ‪ -‬أن يأتيكم في‬
‫صورة رجل لتتمكنوا من مشاهدته والتلقّي عنه‪ ،‬وهكذا نعود في نقاش هذه المسألة إلى أنه رجل؛‬
‫ل وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا يَلْبِسُونَ }[النعام‪ ]9 :‬وتظل‬
‫جعَلْنَاهُ َرجُ ً‬
‫جعَلْنَاهُ مَلَكا لّ َ‬
‫لذلك قال سبحانه‪ {:‬وََلوْ َ‬
‫الشبهة باقية‪.‬‬
‫حمْق أن نقول بأن يكون الرسول مَلَكا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬من ال ُ‬
‫أما قولهم‪َ } :‬بشَرٌ مّثُْلكُمْ { [المؤمنون‪ ]24 :‬نعم‪ ،‬هو بشر‪ ،‬لكن ليس كمثلكم‪ ،‬فأنتم كاذبون في هذه‬
‫المثلية‪ ،‬لنه بشر اصطفاه ال بالوحي؛ لذلك يقول رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬يؤخذ مني‬
‫فأقول‪ :‬ما أنا إل بشر مثلكم‪ ،‬وأُعْطَى من ال فأقول‪ :‬أنا لست كأحدكم "‪.‬‬
‫ويقول تعالى لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ُ {:‬قلْ إِ ّنمَآ أَنَاْ َبشَرٌ مّثُْلكُمْ يُوحَىا ِإَليّ أَ ّنمَآ ِإلَـا ُهكُمْ‬
‫إِلَـا ٌه وَاحِدٌ }[فصلت‪ ]6 :‬ومن هنا كانت الفضلية في أنه بَشر يُوحَى إليه‪ ،‬وما بشريته إل لليناس‬
‫واللْف‪.‬‬
‫ضلَ عَلَ ْيكُمْ { [المؤمنون‪:‬‬
‫ثم يتابع الحق سبحانه مقالة هؤلء الكافرين من قوم نوح‪ } :‬يُرِيدُ أَن يَ َتفَ ّ‬
‫‪ ]24‬يتفضّل‪ :‬يعني ينسب نفسه إلى الفضل والشرف والسيادة ليكون متبوعا وهم تابعون } وََلوْ‬
‫شَآءَ اللّهُ { [المؤمنون‪ ]24 :‬يعني‪ :‬لو شاء أنْ يرسل رسولً } لَنزَلَ مَلَ ِئكَةً { [المؤمنون‪]24 :‬‬
‫أي‪ :‬رسلً‪ ،‬وقد َردّ ال تعالى عليهم هذا القول‪ ،‬فقال تبارك وتعالى‪ {:‬قُل َلوْ كَانَ فِي الَ ْرضِ‬
‫سمَآءِ مَلَكا رّسُولً }[السراء‪.]95 :‬‬
‫علَ ْيهِم مّنَ ال ّ‬
‫طمَئِنّينَ لَنَزّلْنَا َ‬
‫مَل ِئكَةٌ َيمْشُونَ مُ ْ‬
‫س ِمعْنَا ِبهَـاذَا فِي آبَآئِنَا الَوّلِينَ { [المؤمنون‪ ]24 :‬المراد بهذا‪ :‬يعني أن يأتي مَنْ‬
‫ثم يقولون‪ } :‬مّا َ‬
‫يقول اعبدوا ال ما لكم من إله غيره‪ ،‬لن آباءنا الولين كانوا يعبدون الصنام‪ ،‬ولم ي ْأتِ مَنْ يقول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫لنا هذا الكلم مثل نوح‪.‬‬
‫وهذا دليل على أنهم مُقلّدون للباء‪ ،‬ليس لديهم تفكير واستقلل في الرأي ينظرون به إلى الشياء‬
‫علَىا ُأمّ ٍة وَإِنّا عَلَىا‬
‫نظرة الحق والعدالة‪ ،‬وفي موضع آخر قال تعالى عنهم‪ {:‬إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا َ‬
‫آثَارِهِم ّمقْتَدُونَ }[الزخرف‪.]23 :‬‬
‫ولو تأملنا حال المجتمعات‪ ،‬ومنها مجتمعنا الذي نعيش فيه لوضح لنا كذب هؤلء في ادعائهم‬
‫التقليد للباء‪ ،‬كيف؟ تأمل حال الجيال المختلفة تجد كل جيل له راية وتطلعاته ورغباته التي ربما‬
‫اختلف فيها البن عن أبيه‪ ،‬فالبناء الن لهم رأي مستقل‪ ،‬فالولد يختار مثلً الكلية التي يرغبها‪،‬‬
‫الملبس التي يحبها‪ ،‬وإنْ خالفتْ رأي أبيه‪ ،‬بل ويصل المر إلى اتهام الباء بالجمود والتخلف إنْ‬
‫لزم المر‪ ،‬وهذا موجود في كل الجيال‪.‬‬

‫إذن‪ :‬لماذا لم تقولوا في مثل هذه المور‪ :‬إنا وجدنا آباءنا على أمة؟ لماذا كانت لكم ذاتية ور ْأيٌ‬
‫مستقل في أمور الدنيا دون أمور الدين؟ إنكم تتخذون الذاتية فيما يُلبّي رغباتكم وشهواتكم‬
‫وانحرافاتكم‪ ،‬وتتخذون التقليد فيما يُقلّل تكليفكم؛ لن التكليف سيُقيّد هذه الرغبات والشهوات‬
‫ويقضي على هذه النحرفات؛ لذلك يتمرد هؤلء على منهج ال‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬نعجب لما نراه ونسمعه من حال أبنائنا اليوم‪ ،‬وكيف أفلتَ الزمام من الباء والمهات‪،‬‬
‫فالشاب يسير على هواه في أمور انحرافية‪ ،‬فإن وجّهه أبوه أعرض عنه واتهمه بأنه من جيل قديم‬
‫وقد ذهب زمانه بل رجعة‪ ،‬وقد تعدى المر من الولد إلى البنات‪ ،‬فصِرْن أيضا يتمردْنَ على‬
‫هذه القيم ول يهتممن بها‪.‬‬
‫س ِمعْنَا ِبهَـاذَا فِي آبَآئِنَا الَوّلِينَ { [المؤمنون‪.]24 :‬‬
‫فقولهم‪ } :‬مّا َ‬
‫فقولهم‪ {:‬إِنّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىا ُأمّةٍ }[الزخرف‪ ]23 :‬هم كاذبون أيضا في هذه المقولة؛ لنهم لو‬
‫صَدَقوا لقلّدوهم في كل شيء وما عليهم في أمور الدنيا وفي أمور الدين والقيم والخلق‪.‬‬
‫لذلك الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يعالج هذه القضية في مواضع عدة من كتابه الكريم‪ ،‬وبأساليب‬
‫مختلفة‪ ،‬منها قوله سبحانه‪ {:‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ اتّ ِبعُوا مَآ أَن َزلَ اللّهُ قَالُواْ َبلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ‪} ..‬‬
‫[البقرة‪.]170 :‬‬
‫لن هذا يريحهم من مشقة التكاليف‪ ،‬وإنْ كانت العبادة‪ :‬طاعة عابد لمعبود في أمره ونهيه‪ ،‬فما‬
‫أسهلَ عبادة الصنام؛ لنها آلهة كما يدعون لكن ليس لها منهج‪ ،‬وليس معها تكاليف‪ ،‬فبأيّ شيء‬
‫أمرك الصنم؟ وعن أيّ شيء نهاك؟ وماذا أعدّ من جزاء لمن أطاعه؟ وماذا أعدّ من عقاب لمن‬
‫عصاه‪ ،‬إذن‪ :‬معبود بل منهج وبل تكاليف‪ ،‬وهذا دليل كذبهم في عبادة الصنام وغيرها من‬
‫آلهتهم‪.‬‬
‫سفَه وجهل؛ لن الكلم‬
‫حمْق و َ‬
‫الم يقولوا‪ {:‬مَا َنعْبُدُ ُهمْ ِإلّ لِ ُيقَرّبُونَآ إِلَى اللّهِ زُ ْلفَى }[الزمر‪ ]3 :‬فهذا ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫منطقيا ل يستقيم‪ ،‬كيف تقولون نعبدهم وليس لهم منهج‪ ،‬وليس لهم تكاليف‪ ،‬والعبادة طاعة عابد‬
‫لمعبود؟‬
‫خوَاء وإفلس عقديّ؛ لذلك يردّ الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬عليهم فيقول سبحانه‪{:‬‬
‫إذن‪ :‬ما هو إل ِ‬
‫َأوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُ ْم لَ َي ْعقِلُونَ شَيْئا َولَ َيهْتَدُونَ }[البقرة‪.]170 :‬‬
‫وفي موضع آخر يقول ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عنهم‪ {:‬قَالُواْ حَسْبُنَا مَا َوجَدْنَا عَلَ ْيهِ آبَاءَنَآ‪[} ..‬المائدة‪:‬‬
‫‪ ]104‬وهذه أبلغ من سابقتها‪ ،‬لنهم يُصعّدون كفرهم و ُيصِرون عليه‪ ،‬فقولهم‪َ {:‬بلْ نَتّبِعُ مَآ أَ ْلفَيْنَا‬
‫عَلَيْهِ آبَآءَنَآ‪[} ..‬البقرة‪ ]170 :‬فلربما يراجعون أنفسهم فيهتدون إلى الحق‪ ،‬ويخالفون الباء‪.‬‬
‫لكن هنا‪:‬‬

‫{ حَسْبُنَا‪[} ..‬المائدة‪ ]104 :‬يعني‪ :‬كافينا‪ ،‬ولن نغيره ولن نحيد عنه؛ لذلك يأتي كل آية بما يناسبها‪:‬‬
‫لخْرى‬
‫ففي الولى قال تعالى ردا عليهم‪َ {:‬أوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَ َي ْعقِلُونَ شَيْئا }[البقرة‪ ]170 :‬وفي ا ُ‬
‫قال ردا عليهم‪َ {:‬أوََلوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَ َيعَْلمُونَ شَيْئا‪[} ..‬المائدة‪.]104 :‬‬
‫فذكر العقل في الولى؛ لن النسان يأتمر فيه بنفسه‪ ،‬وذكر في الخرى العلم؛ لن النسان في‬
‫العلم يأتمر بعقله‪ ،‬وعقل العلم أيضا‪ ،‬فالعلم ‪ -‬إذن ‪ -‬أوسع من العقل؛ لذلك ذكره مع قولهم{‬
‫حسْبُنَا‪[} ..‬المائدة‪ ]104 :‬الدالة على المبالغة والصرار على الكفر‪.‬‬
‫َ‬
‫س ِمعْنَا ِبهَـاذَا‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]24 :‬أن الغفلة قد استحكمت فيهم؛‬
‫كما نلحظ عليهم في قولهم‪ } :‬مّا َ‬
‫لن نوحا عليه السلم يعتبر الجد الخامس بعد آدم عليه السلم‪ ،‬فبينهما فترة طويلة‪ ،‬فكيف ما‬
‫سمعوا طوال هذه الفترة برسول أو نبي‪ ،‬يقول‪ :‬اعبدوا ال ما لكم من إله غيره؟‬

‫(‪)2678 /‬‬

‫جلٌ بِهِ جِنّةٌ فَتَرَ ّبصُوا بِهِ حَتّى حِينٍ (‪)25‬‬


‫إِنْ ُهوَ إِلّا َر ُ‬

‫{ إِنْ ُهوَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]25 :‬يعني‪ :‬ماهو و { جِنّةٌ }‪ :‬يعني جنون‪ ،‬وهو ستر العقل الذي ستر‬
‫العقل الذي يسيطر على حركة النسان في الحياة فيسير حسب تقنيناتها (افعل كذا) و (ل تفعل‬
‫ن يعرض العمال على العقل أو التفكير؛ لذلك من‬
‫كذا)‪ ،‬أما المجنون فيعمل ما يخطر له دون أ ْ‬
‫عدالة ال في خَلْقه أننا ل نؤاخذ المجنون على تصرّفاته حين يعتدى على أحد منا بالسبّ أو‬
‫الضرب مثلً‪ ،‬ول نملك إل أن نبتسم له‪ ،‬وندعو ال أن يعافينا مما ابتله به‪.‬‬
‫فإنْ كان هذا الحال المجنون في حركة حياته‪ ،‬فهل يكون ذو الخلق الذي يسير َوفْق قوانين الحياة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ومحكوما بنظم وقيم خلقية‪ ،‬هل يكون مجنونا؟ ومن العجيب أن تهمة الجنون هذه سائرة على‬
‫لسان المكذّبين للرسل في كل زمان ومكان‪ ،‬وقد اّتهِم بها رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬فردّ ال‬
‫عليهم ونفى عن رسوله هذه الصفة في قوله‪ {:‬ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ‬
‫عظِيمٍ }[القلم‪.]4 - 1 :‬‬
‫خلُقٍ َ‬
‫ك لَجْرا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ َلعَلَىا ُ‬
‫ِبمَجْنُونٍ * وَإِنّ َل َ‬
‫فكيف يكون ذو الخلق مجنونا؟ ولو كان صلى ال عليه وسلم مجنونا‪ ،‬فلماذا استأمنوه على‬
‫ودائعهم ونفائسهم‪ ،‬واطمأنوا إليه‪ ،‬وس ّموْه الصادق المين؟ إنهم ما فعلوا ذلك إل لنهم يعلمون‬
‫خُلقه‪ ،‬وأنه محكوم بقيم من الحق والخير ل تتزحزح‪.‬‬
‫وما دام المر ل يعدو أن يكون رجلً به جِنّة { فَتَرَ ّبصُواْ بِهِ حَتّىا حِينٍ } [المؤمنون‪ ]25 :‬أي‪:‬‬
‫انتظروا واتركوه وشأنه‪ ،‬فربما عاد إلى صوابه‪ ،‬وترك هذه المسألة من تلقاء نفسه حين يرانا‬
‫منصرفين عنه غير مُهتمين به‪ ،‬أو دَعُوه فإنْ كان على حق ونصرة ال وأظهر أمره عندها نتبعه‪،‬‬
‫وإنْ كانت الخرى فها نحن مُعرِضون عنه من بداية المر‪.‬‬

‫(‪)2679 /‬‬

‫قَالَ َربّ ا ْنصُرْنِي ِبمَا كَذّبُونِ (‪)26‬‬

‫بعد أنْ كذّبه قومه دعا ال ان ينصره { ِبمَا َكذّبُونِ } [المؤمنون‪ ]26 :‬يعني‪ :‬انصرني بسبب‬
‫تكذيبهم‪ ،‬واجعل تكذيبهم ل مدلولَ له فينتصر عليهم رغم تكذيبهم‪ ،‬أو‪ :‬يا رب عوّضني بتكذيبهم‬
‫نصرا‪ ،‬يعني‪ :‬أ ْبدِلني من كذبهم نصرا‪ ،‬كما تقول‪ :‬اشتريت كذا بكذا‪ ،‬فأخذت هذا بدل هذا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى‪ { :‬فََأوْحَيْنَآ إِلَ ْيهِ أَنِ اصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا فَإِذَا جَآءَ َأمْرُنَا‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2680 /‬‬

‫فََأوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ َأمْرُنَا َوفَارَ التّنّورُ فَاسُْلكْ فِيهَا مِنْ ُكلّ َز ْوجَيْنِ‬
‫ن وَأَهَْلكَ إِلّا مَنْ سَبَقَ عَلَ ْيهِ ا ْل َقوْلُ مِ ْنهُ ْم وَلَا ُتخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظََلمُوا إِ ّنهُمْ ُمغْ َرقُونَ (‪)27‬‬
‫اثْنَيْ ِ‬

‫استجاب ال تعالى دعاء نبيه نوح ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬في الّنصْرة على قومه‪ ،‬فأمره بأن يصنع‬
‫الفلك‪ .‬والفُلْك هي السفينة‪ ،‬وتُطلق على المفرد والجمع‪ ،‬قال تعالى‪ {:‬فَأَنجَيْنَا ُه َومَن ّمعَهُ فِي ا ْلفُ ْلكِ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫شكُرُونَ }‬
‫شحُونِ }[الشعراء‪ ]119 :‬وقال‪ {:‬وَتَرَى ا ْلفُ ْلكَ فِيهِ َموَاخِرَ لِتَبْ َتغُواْ مِن َفضْلِهِ وََلعَّلكُمْ تَ ْ‬
‫ا ْلمَ ْ‬
‫[فاطر‪ ]12 :‬فدّلتْ مرة على المفرد‪ ،‬ومرة على الجمع‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]27 :‬دليل على أن نوحا ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬لم يكن‬
‫نجارا كما يقول البعض‪ ،‬فلو كان نجارا لهداه عقله إلى صناعتها‪ ،‬إنما هو صنعها بوحي من ال‬
‫وتوجيهاته ورعايته‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬وَلِ ُتصْنَعَ عَلَىا عَيْنِي }[طه‪ ]39 :‬فالمعنى‪ :‬اصنع الفُلْك‪،‬‬
‫وسوف أوفقك إلى صناعتها‪ ،‬وأهديك إلى ما يجب أن يكون‪ ،‬وأُصحّح لك إنْ أخطأت في وضع‬
‫شيء في غيرموضعه‪ ،‬إذن‪َ :‬أمَ ْرتُ وأَعَ ْنتُ وتابعتُ‪ .‬والوحي‪ :‬هو خطاب ال لرسوله بخفاء‪.‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬فَِإذَا جَآءَ َأمْرُنَا َوفَارَ التّنّورُ } [المؤمنون‪.]27 :‬‬
‫وهنا لم يتعرض السياق للفترة التي صنع فيها نوح السفينة‪ ،‬والتي جاءت في قوله تعالى‪ {:‬وَ َيصْنَعُ‬
‫ا ْلفُ ْلكَ َوكُّلمَا مَرّ عَلَيْهِ مَلٌ مّن َقوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنّا فَإِنّا َنسْخَرُ مِنكُمْ َكمَا‬
‫سخَرُونَ }[هود‪ ]38 :‬ذلك لنهم ل يعلمون شيئا عن سبب صناعتها‪.‬‬
‫تَ ْ‬
‫حمَلْنَاهُ عَلَىا ذَاتِ أَ ْلوَاحٍ‬
‫وفي موضع آخر ُيعْلِمنا ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عن كيفية صُنْعها فيقول‪ {:‬وَ َ‬
‫وَدُسُرٍ }[القمر‪ ]13 :‬وقلنا‪ :‬إن الدّسُر‪ :‬الحبال التي ُتضَمّ بها ألواح الخشب بعضها إلى بعض‬
‫شريطة أن تكون جافة‪ ،‬و ُتضَم إلى بعضها بحكمة حتى إذا ما نزل الماء وتشرّبت منه يزيد حجمها‬
‫ل يصنعون براميل الزيت من شرائح الخشب‪.‬‬
‫فتسدّ المسام بين اللواح‪ ،‬كما نراهم مث ً‬
‫وقد صنع أحدهم سفينة من البَرْدى بهذه الطريقة‪ ،‬وسافر بها إلى أمريكا واستخدم فيها الحبال بدلً‬
‫من المسامير‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬فََأوْحَيْنَآ ِإلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ ا ْلفُ ْلكَ بِأَعْيُنِنَا َووَحْيِنَا فَِإذَا جَآءَ َأمْرُنَا‪[ } ..‬المؤمنون‪]27 :‬‬
‫يعني‪ :‬بإنجاء المؤمنين بك‪ ،‬وإهلك المكذبين { َوفَارَ التّنّورُ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]27 :‬والتنور‪ :‬هو‬
‫الفرن الذي يخبزون فيه الخبز‪ ،‬ويقال‪ :‬إنه كان موروثا لنوح من أيام آدم‪ ،‬يفور بالماء يعني‪:‬‬
‫يخرج منه الماء‪ ،‬وهو في الصل محلّ للنار‪ ،‬فيخرج منه الماء وكأنه يغلي‪ .‬لكن هل كل الماء‬
‫سيخرج من التنور؟ الماء سيخرج من كل أنحاء الرض وسينزل من السماء‪ ،‬وفوران التنور هو‬
‫إيذان بمباشرة هذه العملية وبداية لها‪.‬‬
‫إذا حدث هذا { فَاسُْلكْ فِيهَا مِن ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]27 :‬يعني‪ :‬احمل وأدخل فيها‬
‫سقَرَ }[المدثر‪:‬‬
‫زوجين ذكرا وأنثى من كل نوع من المخلوقات‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬مَا سََل َككُمْ فِي َ‬
‫‪ ]42‬يعني‪ :‬أدخلكم‪ ،‬وقال سبحانه‪ {:‬اسُْلكْ يَ َدكَ فِي جَيْ ِبكَ‪[} ..‬القصص‪ ]32 :‬يعني‪ :‬أدخلها‪ ،‬وقال‬
‫سبحانه‪َ {:‬كذَِلكَ نَسُْلكُهُ فِي قُلُوبِ ا ْلمُجْ ِرمِينَ }[الحجر‪.]12 :‬‬
‫ومن مادة (سلك) أخذنا في أعرافنا اللغوية‪.‬‬

‫نقول‪ :‬سلّك الماسورة أو العين يعني‪ :‬أدخل فيها ما يزيل سدّتها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حفْظ نوعه‬
‫والتنوين في } مِن ُكلّ َزوْجَيْنِ اثْنَيْنِ‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]27 :‬يعني‪ :‬من كل شيء نريد ِ‬
‫واستمراره؛ لن الطوفان سيُغرق كل شيء‪ ،‬والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يريد أن يحفظ لعباده‬
‫المؤمنين مُقوّمات حياتهم وما يخدمهم من الحيوانات والنعام وجميع أنواع المخلوقات الخرى من‬
‫كل ما يِلدُ أو يبيض‪.‬‬
‫ومعنى } َز ْوجَيْنِ { [المؤمنون‪ ]27 :‬ليس كما يظنّ البعض أن زوج يعني‪ :‬اثنين‪ ،‬إنما الزوج يعني‬
‫ن َومِنَ ا ْل َمعْزِ اثْنَيْنِ ُقلْ ءَآل ّذكَرَيْنِ‬
‫فرد ومعه مثله‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪َ {:‬ثمَانِيَةَ أَ ْزوَاجٍ مّنَ الضّأْنِ اثْنَيْ ِ‬
‫ن الِ ْبلِ اثْنَيْنِ‬
‫حَرّمَ أَ ِم الُنثَيَيْنِ َأمّا اشْ َتمََلتْ عَلَيْهِ أَ ْرحَا ُم الُنثَيَيْنِ نَبّئُونِي ِبعِلْمٍ إِن كُن ُت ْم صَا ِدقِينَ * َومِ َ‬
‫َومِنَ الْ َبقَرِ اثْنَيْنِ‪[} ..‬النعام‪.]144 - 143 :‬‬
‫فسمّى كلّ فرد من هذه الثمانية زوجا؛ لن معه مثله‪.‬‬
‫هذا في جميع المخلوقات‪ ،‬أما في البشر فلم ي ُقلْ زوجين‪ ،‬إنما قال } وَأَهَْلكَ { [المؤمنون‪ ]27 :‬أيا‬
‫كان نوعهم وعددهم‪ ،‬لكن الهلية هنا أهلية نسب‪ ،‬أم أهلية إيمانية؟‬
‫الهلية هنا يُراد بها أهلية اليمان والتباع‪ ،‬بدليل أن ال تعالى شرح هذه اللقطة في آية أخرى‪،‬‬
‫فقال على لسان نوح عليه السلم‪َ {:‬فقَالَ َربّ إِنّ ابْنِي مِنْ َأهْلِي‪[} ..‬هود‪.]45 :‬‬
‫ع َملٌ غَيْ ُر صَالِحٍ }[هود‪]46 :‬‬
‫فقال له ربه‪ {:‬إِنّهُ لَيْسَ مِنْ َأهِْلكَ إِنّهُ َ‬
‫فبنوة النبياء بنوة عمل واتباع‪ ،‬فإنْ جاءت من صُلْبه فأهلً وسهلً‪ ،‬وإنْ جاءت من الغير فأهلً‬
‫وسهلً‪ " .‬لذلك النبي صلى ال عليه وسلم يقول عن سلمان الفارسي‪ " :‬سلمان منا آل البيت " " فقد‬
‫تعدى أن يكون مسلما إلى أن صار واحدا من آل البيت‪.‬‬
‫وكذلك أدخل فيها أهلك من النسب بدليل أنه استثنى منهم‪ِ } :‬إلّ مَن سَ َبقَ عَلَيْهِ ا ْلقَ ْولُ مِ ْنهُمْ‬
‫{ [المؤمنون‪ ]27 :‬وكان له امرأتان‪ ،‬واحدة كفرت به وخانته هي وولدها كنعان‪ ،‬والتي ذُكرت في‬
‫ح وَامْرََأتَ لُوطٍ كَانَتَا‬
‫قول ال تعالى في سورة التحريم‪ {:‬ضَ َربَ اللّهُ مَثَلً لّلّذِينَ َكفَرُواْ امْرََأتَ نُو ٍ‬
‫حتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَاِلحَيْنِ فَخَانَتَا ُهمَا‪[} ..‬التحريم‪.]10 :‬‬
‫تَ ْ‬
‫وكنعان هو الذي قال‪ :‬سآوي إلى جبل يعصمني من الماء وهذه اللقطة لم تذكر هنا؛ لن أحداث‬
‫القصة جاءت مُفرّقة في عِدّة مواضع‪ ،‬بحيث لو جُمعت تعطي الصورة العامة للقصة‪ ،‬فإنْ قُ ْلتَ‪:‬‬
‫فلماذا لم تأتِ مرة واحدة كما في قصة يوسف عليه السلم؟‬
‫نقول‪ :‬جاءت قصة يوسف كاملة في موضع واحد ليعطينا بها الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬نموذجا‬
‫للقصة الكاملة المحبوكة التي تدل على قدرته تعالى على التيان بالقصة مرة واحدة لمن أراد ذلك‪،‬‬
‫فإنْ أردتها كاملة فنحن قادرون على ذلك‪ ،‬وها هي قصة يوسف‪ ،‬إنما الهدف من القصص في‬
‫ك وَرَتّلْنَاهُ‬
‫القرآن هو تثبيت فؤاد النبي صلى ال عليه وسلم كما قال تعالى‪ {:‬كَذَِلكَ لِنُثَ ّبتَ بِهِ ُفؤَا َد َ‬
‫تَرْتِيلً }‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫[الفرقان‪]32 :‬؛ لنه صلى ال عليه وسلم سيقابل مواقف تكذيب وعداء وعناد من قومه‪،‬‬
‫وسيتعرض لزمات شديدة ويحتاج إلى ما يُسلّيه ويُثبّته أمام هذه الحداث‪.‬‬
‫لذلك جاءت لقطات القصص القرآني في عدة مواضع لتسلية رسول ال ‪ ،‬والتخفيف عنه كلما‬
‫جمْع هذه اللقطات المتفرقة تتكون لديك القصة الكاملة‬
‫تعرّض لموقف من هذه المواقف‪ ،‬وب َ‬
‫المستوية‪.‬‬
‫وقد أدخل نوح معه زوجته الخرى المؤمنة وأولده‪ :‬سام وحام ويافث وزوجاتهم‪ ،‬فهؤلء ستة‬
‫ونوح وزوجه فهم ثمانية‪ ،‬ومعهم اثنان وسبعون من المؤمنين وأصول اليمان الباقي مع نوح عليه‬
‫السلم‪.‬‬
‫ن كفر من أهله أمرا ل استئناف فيه‪ ،‬قال تعالى بعدها‪َ {:‬ولَ تُخَاطِبْنِي فِي‬
‫ولما كان الحكم بغرق مَ ْ‬
‫الّذِينَ ظََلمُواْ إِ ّنهُمْ ّمغْ َرقُونَ }[هود‪ ]37 :‬لكن ظلموا مَنْ؟ ظلموا أنفسهم حين كفروا بال‪ ،‬والحق‬
‫عظِيمٌ }[لقمان‪.]13 :‬‬
‫سبحانه يقول‪ {:‬إِنّ الشّ ْركَ َلظُلْمٌ َ‬
‫صحيح أنت حين كفرت أخذتَ حقّ ال في أنه واحد أحد موجود‪ ،‬وإله ل معبود غيره‪ ،‬وأعطيتَه‬
‫حمْق‬
‫لغيره‪ ،‬لكن هذا الظلم لم يضر ال تعالى في شيء إنما أضرّ بك وظلمتَ به نفسك‪ ،‬ومنتهى ال ُ‬
‫والسفه أن يظلم النسان نفسه‪.‬‬
‫ح ْمدُ للّهِ‪{ ..‬‬
‫ثم يقول سبحانة‪ } :‬فَإِذَا اسْ َتوَ ْيتَ أَنتَ َومَن ّم َعكَ عَلَى ا ْلفُ ْلكِ َف ُقلِ الْ َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2681 /‬‬

‫حمْدُ ِللّهِ الّذِي نَجّانَا مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ (‪)28‬‬


‫علَى ا ْلفُ ْلكِ َف ُقلِ ا ْل َ‬
‫ت َومَنْ َم َعكَ َ‬
‫فَإِذَا اسْ َتوَ ْيتَ أَ ْن َ‬

‫{ اسْ َتوَ ْيتَ } [المؤمنون‪ ]28 :‬يعني‪ :‬استعليتَ وركبتَ أنت ومَنْ معك على الفُلْك واطمأنّ قلبك إلى‬
‫حمْدُ للّهِ } [المؤمنون‪ ]28 :‬فل بد للمؤمن أن يستقبل ِنعَم ال عليه‬
‫نجاة المؤمنين معك { َف ُقلِ الْ َ‬
‫بالحمد‪ ،‬وبألّ تُنسيه النعمةُ جللَ المنعِم‪ ،‬فساعةَ أنْ يستتب لك المر على الفُلْك وتطمئن بادر‬
‫بحمد ال‪.‬‬
‫شفْنَا‬
‫س الِنسَانَ الضّرّ دَعَانَا لِجَن ِبهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ‬
‫وفي موضع آخر يقول سبحانه‪ {:‬وَِإذَا مَ ّ‬
‫عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ كَذاِلكَ زُيّنَ لِ ْلمُسْ ِرفِينَ مَا كَانُواْ َي ْعمَلُونَ }[يونس‪.]12 :‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يعطينا حصانة‪ ،‬ويجعل لنا أسوة بذاته سبحانه‪ ،‬حتى إذا ما‬
‫تعرضنا لنكران الجميل ممّنْ أحسنّا إليه ل نغضب؛ لن الناس ينكرون الجميل حتى مع ال عز‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وجل‪.‬‬
‫لذلك لما قال موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬يا ربّ أسألك َألّ يُقال فيّ ما ليس فيّ‪ .‬يعني‪ :‬ل يتهمني‬
‫الناس ظلما‪ ،‬فردّ عليه ربه عز وجل‪ " :‬يا موسى‪ ،‬كيف ولم أصنع ذلك لنفسي "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فهذه مسألة ل يطمع فيها أحد‪ ،‬ولو أن كل فاعل للجميل يضِنّ به على الناس لنهم ينكرونه‬
‫َلفَسد الحال‪ ،‬وتوقفت المصالح بين الخَلْق‪ ،‬وضَنّ أهل الخير بخيرهم؛ لذلك وضع لنا ربنا ‪ -‬عز‬
‫وجل ‪ -‬الُسْوة بنفسه سبحانه‪.‬‬
‫والنسان إنْ كان حسيسا ل يقف عند إنكار الجميل‪ ،‬إنما يتعدّى ذلك فيكره مَنْ أحسن إليه ويحقد‬
‫عليه‪ ،‬ذلك لن النسان مجبول على حب النفس والتعالي والغطرسة‪ ،‬فإذا ما رأى مَنْ أحسن إليه‬
‫كرهه؛ لنه يدكّ فيه كبرياء نفسه‪ ،‬ويَحدّ من تعاليه‪.‬‬
‫ن يتعالى‪،‬‬
‫ومن هنا قالوا‪ " :‬اتق شرّ من أحسنت إليه " لماذا؟ لنه يخزَى ساعة يراك‪ ،‬وهو يريد أ ْ‬
‫ووجودك يكسر عنده هذا التعالي‪.‬‬
‫إذن‪ :‬وطّنْ نفسك على أن الجميل قد يُنكَر حتى لو كان فاعله رب العزة سبحانه‪ ،‬فل يحزنك أنْ‬
‫يُنكَر جميلك أنت‪.‬‬
‫خضّعا فَإنْ أدركُوهَا خلّفوكَ وهَ ْروَلُواوأفضلُهم مَنْ‬
‫وعن ذلك قال الشاعر‪َ :‬يسِير َذوُو الحاجَاتِ خل َفكَ ُ‬
‫ن ثوابَ الِ أرْبَى‬
‫ع المعْروفَ مهما تنكّروا فَإ ّ‬
‫إنْ ُذكِرْت بسي ٍء تو ّقفَ ل ينفي وقد يتقوّلفَل تَد ِ‬
‫ب لك المر على الفُلْك‪ ،‬فإياك أنْ تغتَرّ أو تنأى‬
‫وأجزَلُفالمعنى‪ :‬إذا استويتَ أنت ومَنْ معك‪ ،‬واستت ّ‬
‫حمْد ال على هذه النعمة؛ لذلك أمرنا حين نركب أي مركب أن نقول‪ " :‬بسم ال‬
‫بجانبك فتنسى َ‬
‫مجريها ومرساها " لنك ما أجريتها بمهارتك وقوتك‪ ،‬إنما باسم ال الذي ألهم‪ ،‬وباسم ال الذي‬
‫أعان‪ ،‬وباسم ال الذي تابعني‪ ،‬ورعاني بعينه‪ ،‬وما ُد ْمتَ تذكر المنعم عند النعمة وتعترف لصاحب‬
‫الفضل بفضله يحفظها لك‪.‬‬
‫أما أنْ تنكرها على صاحبها‪ ،‬وتنسبها لنفسك‪ ،‬كالذي قال‪ {:‬إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي‪} ..‬‬
‫[القصص‪ ]78 :‬فيقول‪ :‬ما دام المر كذلك‪ ،‬فحافظ أنت عليه‪.‬‬
‫ن نقول‪ " :‬سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا‬
‫حتى في ركوب الدّابّة يُعلّمنا صلى ال عليه وسلم أ ْ‬
‫له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون "‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬الّذِي َنجّانَا مِنَ ا ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [المؤمنون‪ ]28 :‬وذكر النجاة لن دَرْءَ المفسدة‬
‫مُقدّم على جَلْب المنفعة‪.‬‬
‫ثم يُعلّمه ربه دعاءً آخر يدعو به حين تستقر به السفينة على الجُودي‪ ،‬وعندما ينزل منها ليباشر‬
‫حياته الجديدة على الرض‪َ { :‬وقُل ّربّ أَنزِلْنِي مُن َزلً مّبَارَكا وَأَنتَ خَيْرُ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2682 /‬‬

‫َوقُلْ َربّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَا َركًا وَأَ ْنتَ خَيْرُ ا ْلمُنْزِلِينَ (‪)29‬‬

‫ك وَعَلَىا ُأمَمٍ ّممّن‬


‫وفي موضع آخر قال سبحانه‪ {:‬قِيلَ يانُوحُ اهْ ِبطْ بِسَلَمٍ مّنّا وَبَركَاتٍ عَلَ ْي َ‬
‫ّم َعكَ‪[} ..‬هود‪ ]48 :‬لنك ستنزل منها وليست هي مكان معيشتك‪.‬‬
‫خلَ صِدْقٍ‬
‫وكذلك دعا النبي صلى ال عليه وسلم فقال كما حكى القرآن‪َ {:‬وقُل ّربّ َأدْخِلْنِي مُ ْد َ‬
‫ج صِدْقٍ‪[} ..‬السراء‪.]80 :‬‬
‫وَأَخْرِجْنِي ُمخْرَ َ‬
‫فل بُدّ أن تذكر في النعمة المنعِمَ بها‪ ،‬لذلك فالذين يُصابون في نعم ال عليهم بأعين الحاسدين‪ِ ،‬ثقْ‬
‫تمام الثقة أنهم حين رأوْا نعمة ال عليهم لم يذكروا المنعِم بها‪ ،‬ولو أن النسان حين يرى نعمة من‬
‫نعم ال عليه في ماله أو ولده فيقول‪ :‬ما شاء ال ل قوة إل بال‪ ،‬ووضع النعمة في حماية المنعم‬
‫لضمِن دوام نعمته وسلمتها من أعين الحاسدين؛ لنه وضعها تحت قانون الصيانة اللهية‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬مُن َزلً مّبَارَكا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]29 :‬الشيء المبارك‪ :‬الذي يعطي فوق ما يتصور من‬
‫حجمه‪ ،‬كأن يعيش شخص براتب بسيط عيشة كريمة ويُربّي أولده أفضل تربية‪ ،‬فيتساءل الناس‪:‬‬
‫من أين ذلك؟ ونقول‪ :‬إنها البركة التي تحلّ في القليل فيصير كثيرا‪ ،‬صحيح أن الوارد قليل لكن‬
‫يُكثّره قلة المنصرف منه‪.‬‬
‫وقد مثّلنا لذلك بواحد يرتزق من الحلل‪ ،‬فيُيسّر ال أمره‪ ،‬ويقضي مصالحه بأيسر تكلفه‪ ،‬فإذا‬
‫مرض ولده مثلً يشفيه ال بقرص أسبرين وكوب من الشاي‪ ،‬ول يفزع لمرضه؛ لنه مطمئن‬
‫القلب‪ ،‬راضي النفس‪ ،‬واثق في معونة ال‪ .‬أما الذي يتكسب من الحرام ويأكل الرشوة‪ ..‬الخ إنْ‬
‫مرض ولده يُهرع به إلى الطباء ويتوقع في ولده أخطر المراض‪ ،‬فإنِ ارتشى بعشرة صرف‬
‫عليها مائة‪.‬‬
‫وسبق أن قلنا‪ :‬إن هذه البركة هي رزق السّلْب الذي ل يزيد من دخلك‪ ،‬إنما يُقلّل من مصروفاتك‪.‬‬
‫وكلمة { وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلمُنزِلِينَ } [المؤمنون‪ ]29 :‬أم أنه سبحانه المُنزِل الوحيد؟ ال خير المنزلين‬
‫يعني‪ :‬أباح أن يقال للعبد أيضا مُنزِل حين يُنزل شخصا في مكان مريح‪ ،‬كأن يُسكنه مثلً في شقة‬
‫ن كنتَ من ِزلً بهذا المعنى‪ ،‬فال عز وجل هو خير‬
‫مريحة‪ ،‬أو يستقبله ضيفا عليه‪ ..‬الخ‪ .‬وإ ْ‬
‫المنزلين؛ لنه سبحانه حين يُنزلك ينزل على قَدْره تعالى‪ ،‬وعلى َقدْر كرمه وعطائه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬لم يضِنّ عليه خَلْقه أنْ يصفهم بما وصف به نفسه‪ ،‬فلم يضنّ عليك‬
‫حسَنُ ا ْلخَاِلقِينَ‪[} ..‬المؤمنون‪ ]14 :‬فأثبت لك صفة الخَلْق‪،‬‬
‫ن يصفك بالخَلْق فقال‪ {:‬فَتَبَا َركَ اللّهُ أَ ْ‬
‫أْ‬
‫لنك توجد معدوما مع أنك تُوجده من موجود ال‪ ،‬كأنْ تصنع من الرمل والنار كوبا من الزجاج‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مثلً‪ ،‬لكن ما توجده يظل جامدا على حالته ل ينمو ول يتناسل‪ ،‬وليست فيه حياة‪ ،‬ومع ذلك سماك‬
‫ربك خالقا‪ ،‬وكذلك قال‪ {:‬وَأَنتَ خَيْرُ ا ْلوَارِثِينَ }[النبياء‪ ]89 :‬وقال‪ {:‬خَيْرُ ا ْلمَاكِرِينَ }[آل عمران‪:‬‬
‫‪.]54‬‬
‫وكما أن ال عز وجل لم يضنّ عليك بهذه الصفات‪ ،‬فل تضنّ عليه سبحانه بأنه خير المنزلين‪،‬‬
‫وخير الوارثين‪ ،‬وخير الماكرين‪ ،‬وأحسن الخالقين‪.‬‬
‫ك ليَاتٍ وَإِن كُنّا َلمُبْتَلِينَ }‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬إِنّ فِي ذاِل َ‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2683 /‬‬

‫ت وَإِنْ كُنّا َلمُبْتَلِينَ (‪)30‬‬


‫إِنّ فِي ذَِلكَ لَآَيَا ٍ‬

‫{ فِي ذاِلكَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]30 :‬يعني‪ :‬فيما تقدم { ليَاتٍ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]30 :‬عبر وعظات‬
‫وعجائب‪ ،‬لو فكّر فيها المرء بعقل محايد لنتهى إلى الخير { وَإِن كُنّا َلمُبْتَلِينَ } [المؤمنون‪]30 :‬‬
‫فل تظن أن البتلء مقصور على الظلمة والكافرين الذين أخذهم ال وأهلكهم‪ ،‬فقد يقع البتلء‬
‫ن ل يستحق البتلء‪ ،‬وحين يبتلي الُ أهلَ الخير والصلح فما ذلك إل ليزداد أجرهم وتُرفع‬
‫بمَ ْ‬
‫مكانتهم و ُيمَحّص إيمانهم‪.‬‬
‫ومن ذلك البتلءات التي وقعت بالمسلمين الوائل‪ ،‬فإنها لم تكُنْ كراهية لهم أو انتقاما منهم‪ ،‬إنما‬
‫كانت تصفية لمعدنهم وإظهارا ليمانهم الراسخ الذي ل يتزعزع؛ لنهم سيحملون دعوة ال إلى أنْ‬
‫تقوم الساعة‪ ،‬فل ُبدّ من تمحيصهم وتصفيتهم‪.‬‬
‫سبَ النّاسُ أَن يُتْ َركُواْ أَن َيقُولُواْ آمَنّا وَهُمْ لَ ُيفْتَنُونَ }[العنكبوت‪ ]2 :‬ل‪ ،‬لبُدّ‬
‫كما قال سبحانه‪َ {:‬أحَ ِ‬
‫من البتلء الذي يُميّز الصادقين ممّنْ يعبد ال على حَرْف‪ ،‬ل بُدّ أن يتساقط هؤلء من موكب‬
‫الدعوة‪ ،‬ول يبقى إل المؤمنين الراسخون على إيمانهم الذين ل تزعزعهم الحداث‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المعنى { وَإِن كُنّا َلمُبْتَلِينَ } [المؤمنون‪ ]30 :‬يعني‪ :‬أهل اليمان الذين ل يستحقون العذاب؛‬
‫لننا نحب أن نرفع درجاتهم ونُمحّص إيمانهم ليكونوا أَهْلً لدعوة ال؛ لذلك يقول الحق ‪ -‬تبارك‬
‫وتعالى ‪ -‬في الحديث القدسي‪ " :‬وعزتي وجللي‪ ،‬ل أُخرج عبدي من الدنيا وقد أردتُ به الخير‬
‫حتى أوفيه ما عمله من السيئات‪ ،‬من مرض في جسمه وخسارة في ماله‪ ،‬وفقد في ولده‪ ،‬فإذا بقيتْ‬
‫عليه سيئة ثقّلت عليه سكرات الموت حتى يأتيني كيوم ولدته أمه‪ ..‬وعزتي وجللي‪ ،‬ل أخرج‬
‫عبدي من الدنيا وقد أردتُ به الشر حتى أوفيه ما عمله من الحسنات‪ ،‬صحةً في جسمه‪ ،‬وبركة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫في ماله وولده‪ ،‬فإذا بقيتْ له حسنة خففتُ عليه سكرات الموت حتى يأتيني وليست له حسنة "‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالبتلء كما يكون انتقاما من الكفرة والظلمة يكون كذلك تربيبا للنفع‪ ،‬وتمحيصا لليمان‪،‬‬
‫وإرادة للثواب‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬ثمّ أَنشَأْنَا مِن َبعْدِ ِهمْ قَرْنا آخَرِينَ }‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2684 /‬‬

‫ثُمّ أَ ْنشَأْنَا مِنْ َبعْدِ ِهمْ قَرْنًا َآخَرِينَ (‪)31‬‬

‫أي‪ :‬من بعد قوم نوح عليه السلم‪ ،‬وقلنا‪ :‬إن القرن‪ :‬الزمن الذي يجمع أُنَاسا متقاربين في مسائل‬
‫الحياة‪ ،‬وانتهى العلماء إلى أن القرن مائة عام‪ ،‬أو إلى ملك مهما طال‪ ،‬أو رسالة مهما طالتْ‪ ،‬كلها‬
‫تسمى قَرْنا‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬فَأَ ْرسَلْنَا فِيهِمْ َرسُولً مّ ْنهُمْ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2685 /‬‬

‫فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِ ْنهُمْ أَنِ اعْ ُبدُوا اللّهَ مَا َلكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْ ُرهُ َأفَلَا تَ ّتقُونَ (‪)32‬‬

‫جاء بعد قوم نوح عليه السلم قوم عاد‪ ،‬وقد أرسل ال إليهم سيدنا هودا عليه السلم‪ ،‬كما جاء في‬
‫قوله تعالى‪ {:‬وَإِلَىا عَادٍ َأخَا ُهمْ هُودا‪[} ..‬العراف‪ ]65 :‬وقد دعاهم بنفس دعوة نوح‪ { :‬أَنِ اعْبُدُواْ‬
‫اللّهَ مَا َلكُمْ مّنْ إِلَـاهٍ غَيْ ُرهُ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]32 :‬وقال لهم أيضا‪َ { :‬أفَلَ تَ ّتقُونَ } [المؤمنون‪.]32 :‬‬
‫إذن‪ :‬هو منهج مُوحّد عند جميع الرسالت‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا وَصّىا بِهِ‬
‫ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ‬
‫ك َومَا وَصّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ‬
‫نُوحا وَالّذِي َأ ْوحَيْنَآ إِلَ ْي َ‬
‫فِيهِ‪[} ..‬الشورى‪.]13 :‬‬
‫جعَلْنَا مِنكُمْ‬
‫ن قلتَ‪ :‬فما بال قوله تعالى‪ِ {:‬ل ُكلّ َ‬
‫فدين ال واحد‪ ،‬نزل به جميع الرسل والنبياء‪ ،‬فإ ْ‬
‫شِرْعَةً َومِنْهَاجا‪[} ..‬المائدة‪.]48 :‬‬
‫نقول‪ :‬نعم‪ ،‬لن العقائد والصول هي الثابتة التي ل تتغير‪ :‬اعبدوا ال ما لكم من إله غيره‪ ،‬أمّا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫المنهج والشريعة الخاصة بالفروع فهي محلّ التغيير بين الرسل؛ لنها أمور تتعلق بحركة الحياة‪،‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يعطي لكل بيئة على لسان رسولها ما يناسبها وما يعالج أمراضها‬
‫وداءاتها‪.‬‬
‫والشّرْعة‪ :‬هي القانون الذي يحكم حركة حياتك‪ ،‬أمّا الدين فهو المر الثابت والموحّد من قبل ال‬
‫‪ -‬عز وجل ‪ -‬والذي ل يملك أحد أنْ يُغيّر فيه حرفا واحدا‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬كانت آفة المم أنْ يجعلوا أنفسهم فِرَقا مختلفة وأحزابا متباينة‪ ،‬وهؤلء الذين قال ال فيهم‪{:‬‬
‫شيْءٍ‪[} ..‬النعام‪.]159 :‬‬
‫ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ‬
‫إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َنهُ ْم َوكَانُواْ شِيَعا لّ ْ‬
‫وتأمل‪ {:‬فَ ّرقُواْ دِي َنهُمْ‪[} ..‬النعام‪ ]159 :‬ولم ي ُقلْ‪ :‬فرّقوا شريعتهم ول منهجهم‪ ،‬ذلك لن الدين واحد‬
‫حسْب ما في المة من داءات‪ ،‬فهؤلء‬
‫عند ال‪ ،‬أمّا المناهج والشرائع فهي مجال الختلف على َ‬
‫كانوا يعبدون الوثان‪ ،‬وهؤلء كانوا يُطفّفون الكيل والميزان‪ ،‬وهؤلء كانوا يجحدون ِنعَم ال‪..‬‬
‫الخ‪.‬‬
‫وسبق أنْ أوضحنا أن اختلف الداءات في هذه المم ناتج عن العزلة التي كانت تبعدهم‪ ،‬فل‬
‫يدري هذا بهذا‪ ،‬وهم في زمن واحد‪ .‬أمّا في رسالة السلم ‪ -‬هذه الرسالة العامة الخاتمة ‪ -‬فقد‬
‫جاءت على موعد من التقاء المم وتواصل الحضارات‪ ،‬فما يحدث في أقصى الشمال يعرفه مَنْ‬
‫في أقصى الجنوب؛ لذلك توحدت الداءات‪ ،‬فجاء رسول واحد خاتم بتشريع صالح لجميع الزمان‬
‫ولجميع المكان‪ ،‬وإلى قيام الساعة‪.‬‬
‫وآفة المسلمين في التعصّب العمى الذي يُنزِل المور الجتهادية التي ترك ال لعباده فيه حريةً‬
‫واختيارا منزلةَ الصول والعقائد التي ل اجتهادَ فيها‪ ،‬فيتسرّعون في الحكم على الناس واتهامهم‬
‫بالكفر لمجرد الختلف في وجهات النظر الجتهادية‪.‬‬
‫نقول‪ :‬من رحمة ال بنا أنْ جعل الصول واحدة ل خلفَ عليها‪ ،‬أما الفروع والمور الجتهادية‬
‫ل وَإِلَىا ُأوْلِي‬
‫التي تتأتّى بالفهم من المجتهد فقد تركها ال لصحاب الفهم‪ {،‬وََلوْ رَدّوهُ إِلَى الرّسُو ِ‬
‫لمْرِ مِ ْنهُمْ َلعَِلمَهُ الّذِينَ يَسْتَنْ ِبطُونَهُ مِ ْنهُمْ‪} ..‬‬
‫اَ‬

‫[النساء‪.]83 :‬‬
‫وإل لو أراد الحق سبحانه َلمَا جعل لنا اجتهادا في شيء‪ ،‬ولجاءتْ كل مسائل الدين قهرية‪ ،‬ل رَ ْأيَ‬
‫جمْعا قهريا‬
‫فيها لحد ول اجتهاد‪ ،‬أمّا الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬فقد شاءت حكمته أن يجمعنا َ‬
‫على المور التي إنْ لم نجمع عليها تفسد‪ ،‬أما المور التي تصلح على أي وجه فتركها لجتهاد‬
‫خَلْقه‪.‬‬
‫فعلينا ‪ -‬إذن ‪ -‬أنْ نحترم رأي الخرين‪ ،‬وألّ نتجرأ عليهم بل لنحترم ما اختاره ال لنا من حرية‬
‫الفكر والجتهاد‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأُسْوتنا في هذه المسألة سيرة رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وسلف هذه المة في غزوة‬
‫الحزاب‪ ،‬فلما هَ ّبتْ الريح على معسكر الكفار فاقتلعت خيامهم وشتتت شملهم وفَرّوا من الميدان‬
‫انصرف رسول ال صلى ال عليه وسلم إلى المدينة‪ ،‬لكن سرعان ما أمره ربه بالتوجه إلى بني‬
‫قريظة لتأديبهم‪ ،‬وأخبره ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أن الملئكة ما زالت على حال استعدادها‪ ،‬ولم‬
‫يضعوا عنهم أداة الحرب‪ ،‬فجمع رسول ال الصحابة وقال لهم‪ " :‬مَنْ كان يؤمن بال واليوم الخر‬
‫فل يصلين العصر إل في بني قريظة "‪.‬‬
‫وفعلً‪ ،‬سار الصحابة نحو بني قريظة فيما بين العصر والمغرب‪ ،‬فمنهم مَنْ خاف أنْ يدركه‬
‫ن يصلي العصر‪ ،‬فصلى في الطريق ومنهم مَن التزم بأمر رسول ال صلى ال‬
‫المغرب قبل أ ْ‬
‫عليه وسلم بألّ يصلي إل في بني قريظة‪ ،‬حتى وإن أدركه المغرب‪ ،‬حدث هذا الخلف إذن بين‬
‫صحابة رسول ال وفي وجوده‪ ،‬لكنه خلف فرعي‪َ ،‬لمّا رفعوه إلى رسول ال وافق هؤلء‪ ،‬ووافق‬
‫هؤلء‪ ،‬ولم ينكر على أحد منهم ما اجتهد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬في المسائل الجتهادية ينبغي أن نحترم رأي الخرين؛ لذلك فالعلماء ‪ -‬رضي ال عنهم ‪-‬‬
‫وأصحاب الفكر المتزن يقولون‪ :‬رأيي صواب يحتمل الخطأ‪ ،‬ورأْي غيري خطأ يحتمل الصواب‪.‬‬
‫فليت المسلمين يتخلصون من هذه الفة التي فرّقتهم‪ ،‬وأضعفتْ شوكتهم بين المم‪ .‬ليتهم يذكرون‬
‫شيْءٍ‪[} ..‬النعام‪.]159 :‬‬
‫ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ‬
‫دائما قول ال تعالى‪ {:‬إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َنهُ ْم َوكَانُواْ شِيَعا لّ ْ‬
‫ولما تكلم الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬عن مسألة الوضوء‪ ،‬قال سبحانه‪ {:‬يَا أَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ ِإذَا ُقمْتُمْ‬
‫سكُ ْم وَأَرْجَُلكُمْ إِلَى ا ْل َكعْبَينِ‪} ..‬‬
‫سحُواْ بِ ُرؤُو ِ‬
‫ق وَامْ َ‬
‫إِلَى الصّلةِ فاغْسِلُو ْا وُجُو َهكُ ْم وَأَيْدِ َي ُكمْ إِلَى ا ْلمَرَافِ ِ‬
‫[المائدة‪.]6 :‬‬
‫نلحظ أنه تعالى عند الوجه قال{ فاغْسِلُو ْا وُجُو َهكُمْ‪[} ..‬المائدة‪ ]6 :‬دون أن يحدد للوجه حدودا‪،‬‬
‫لماذا؟ لن الوجه ل خلفَ عليه بين الناس‪ ،‬لكن في اليدي قال‪ {:‬وَأَيْدِ َيكُمْ ِإلَى ا ْلمَرَا ِفقِ‪[} ..‬المائدة‪:‬‬
‫ن يقول‪ :‬اليدي إلى الكتف‪ .‬ومنهم مَنْ‬
‫‪ ]6‬فحدد اليد إلى المرفق؛ لنها محل خلف‪ ،‬فمن الناس مَ ْ‬
‫ن يقول‪ :‬هي كف اليد‪.‬‬
‫يقول‪ :‬إلى المرفق‪ .‬ومنهم مَ ْ‬
‫لذلك حدّدها ربنا ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ليُخرِجنا من دائرة الخلف في غَسْل هذا العضو‪ ،‬ولو تركها ‪-‬‬
‫سبحانه وتعالى ‪ -‬دون هذا التحديد لكانَ المر فيها مباحا‪ :‬يغسل كل واحد يده كما يرى‪ ،‬كذلك في‬
‫سكُمْ‪[} ..‬المائدة‪ ]6 :‬وتركها لحتمالت الباء التي يراها‬
‫الرأس قال سبحانه‪ {:‬وَامْسَحُواْ بِ ُرؤُو ِ‬
‫البعض لللصاق‪ ،‬أو للتعدية‪ ،‬أو للتبعيض‪.‬‬
‫إذن‪ :‬حين ترى مخالفا لك في مثل هذه المور ل تتهمه؛ لن النص أجاز له هذا الختلف‪،‬‬
‫وأعطاه كما أعطاك حقّ الجتهاد‪.‬‬
‫ثم قال الحق سبحانه‪َ َ } :‬وقَالَ ا ْلمَلُ مِن َق ْومِهِ الّذِينَ َكفَرُواْ َوكَذّبُواْ ِبِلقَآءِ الخِ َر ِة وَأَتْ َرفْنَاهُمْ فِي‬
‫الْحَيـاةِ الدّنْيَا‪{ ..‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2686 /‬‬

‫َوقَالَ ا ْلمَلَأُ مِنْ َق ْومِهِ الّذِينَ َكفَرُوا َوكَذّبُوا بِِلقَاءِ الَْآخِ َر ِة وَأَتْ َرفْنَاهُمْ فِي ا ْلحَيَاةِ الدّنْيَا مَا هَذَا إِلّا بَشَرٌ‬
‫مِثُْلكُمْ يَ ْأ ُكلُ ِممّا تَ ْأكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْ َربُ ِممّا َتشْرَبُونَ (‪)33‬‬

‫تكلمنا عن معنى { َا ْلمَلُ } [المؤمنون‪ ]33 :‬وهم عَيْن العيان وأصحاب السلطة والنفوذ في القوم‪،‬‬
‫والذين يضايقهم المنهج اليماني‪ ،‬ويقضي على مكانتهم‪ ،‬ويقف في وجه طغيانهم وسيطرتهم‬
‫واستضعافهم للخلق‪.‬‬
‫{ َ َوقَالَ ا ْلمَلُ مِن َق ْومِهِ الّذِينَ َكفَرُواْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]33 :‬تماما كما حدث مع سابقيهم من قوم نوح‬
‫{ َ َوكَذّبُواْ بِِلقَآءِ الخِ َر ِة وَأَتْ َرفْنَا ُهمْ فِي الْحَيـاةِ الدّنْيَا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]33 :‬مادة‪ :‬ترف مثل فرح‪،‬‬
‫نقول‪ :‬ترف الرجل يترف إذا تنعّم‪ ،‬فإذا ِز ْدتَ عليها الهمزة (أترف) نقول‪ :‬أترفته النعمة‪ ،‬أترفه‬
‫ال‪ ،‬يعني‪ :‬كانت النعمة سبب طغيان‪ ،‬ووسّع ال عليه في النعمة ليتسع في الطغيان‪.‬‬
‫وفي هذا المعنى ورد قوله تعالى‪ {:‬فََلمّا نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ ِبهِ‪[} ..‬النعام‪ ]44 :‬يعني من منهج الحق{‬
‫خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا هُمْ مّبِْلسُونَ }[النعام‪:‬‬
‫شيْءٍ حَتّىا ِإذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَ َ‬
‫فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫‪.]44‬‬
‫ذلك‪ ،‬ليكون الَخْذ أقوى وأعنف وأبلغ في اليلم والحسرة‪ ،‬وسبق أن ذكرنا تشبيها أضحك‬
‫الحاضرين كثيرا‪ ،‬ول تعالى ‪ -‬المثل العلى ‪ ،-‬قلنا‪ :‬إن ال تعالى إذا أراد أنْ يُوقع معاندا ل‬
‫يُوقعه من فوق الحصيرة‪ ،‬إنما يوقعه من فوق كرسي عالٍ ومكانة رفيعة‪ ،‬ليكون (الهُدْر) أقوى‬
‫وأشدّ‪.‬‬
‫فإن أخذ النسان العادي الذي ل يملك ما يتحسرعليه من مال أو جاه أو منصب‪ ،‬فالمر هيّن‪ ،‬أمّا‬
‫حين يُرقّيه و ُيعِلي منزلته ويُترِفه في النعيم‪ ،‬ثم يأخذه على هذه الحال فل شكّ أنه أخْذ عزيز‬
‫مقتدر‪ ،‬وهذا أش ّد وأنكَى‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أترفناهم يعني‪ :‬وسّعنا عليهم وأمددناهم بالنعم المختلفة ليزدادوا في كفرهم وطغيانهم‪ ،‬على‬
‫غمْرَ ِتهِمْ حَتّىا حِينٍ * أَ َيحْسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّهُمْ ِبهِ مِن مّالٍ وَبَنِينَ *‬
‫حدّ قوله تعالى‪َ {:‬فَذَ ْرهُمْ فِي َ‬
‫َ‬
‫شعُرُونَ }[المؤمنون‪.]56 - 54 :‬‬
‫نُسَا ِرعُ َلهُمْ فِي ا ْلخَيْرَاتِ بَل لّ يَ ْ‬
‫إن ال تعالى يم ّد لهؤلء في وسائل الغيّ والنحراف ليزدادوا منها‪ ،‬ويتعمقوا في آثامها لنتعمق‬
‫نحن في عذابهم والنتقام منهم‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يحكي القرآن عنهم هذه المقولة التي سارت على ألسنتهم جميعا في كل الرسالت‪َ { :‬مَا هَـاذَا‬
‫ِإلّ بَشَرٌ مّثُْلكُمْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]33 :‬وكأن هذه الكلمة أصبحتْ لزمة من لوازم المكذّبين للرسل‬
‫المعاندين لمنهج ال‪ ،‬ثم يؤكدون على بشرية الرسول فيقولون‪َ { :‬يَ ْأ ُكلُ ِممّا تَ ْأكُلُونَ مِنْ ُه وَيَشْ َربُ‬
‫ِممّا تَشْرَبُونَ } [المؤمنون‪ ]33 :‬ألم يقُل كفار مكة لرسول ال صلى ال عليه وسلم‪ {:‬مَالِ هَـاذَا‬
‫سوَاقِ‪[} ..‬الفرقان‪.]7 :‬‬
‫طعَا َم وَ َيمْشِي فِي الَ ْ‬
‫الرّسُولِ يَ ْأ ُكلُ ال ّ‬
‫سبحان ال‪ ،‬كأنهم يتكلمون بلسان واحد مع اختلف المم وتباعد الزمان‪ ،‬لكن كما يقولون‪ :‬الكفر‬
‫ملة واحدة‪.‬‬

‫(‪)2687 /‬‬

‫طعْتُمْ بَشَرًا مِثَْلكُمْ إِ ّنكُمْ ِإذًا لَخَاسِرُونَ (‪)34‬‬


‫وَلَئِنْ أَ َ‬

‫خاسرون إنْ أطعتم بشرا مثلكم‪ ،‬لكنه بشر ليس مثلكم‪ ،‬إنه بشر يُوحَى إليه‪ ،‬فأنا ل أتبع فيه‬
‫بشريته‪ ،‬إنما أتبع ما ينزل عليه من الوحي‪.‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2688 /‬‬

‫عظَامًا أَ ّنكُمْ مُخْ َرجُونَ (‪)35‬‬


‫أَ َيعِ ُدكُمْ أَ ّنكُمْ إِذَا مِتّ ْم َوكُنْتُمْ تُرَابًا وَ ِ‬

‫إنهم ينكرون البعث بعد الموت الذي يعدهم به نبيهم‪ ،‬لكن ما الشكال في مسألة البعث؟ أليست‬
‫العادة أهونَ من ال َبدْء؟ وإذا كان الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬قد خلقكم من ل شيء فلنْ يُعيدكم من‬
‫الرفات أهون‪ ،‬وإن كانت كلمة أهون ل تليق في حق ال تعالى؛ لنه سبحانه ل يفعل أموره عن‬
‫ت عليه العقول‪،‬‬
‫علج ومزاولة‪ ،‬إنما عن كلمة " كُنْ " لكن الحديث في هذه المسألة يأتي بما تعارف ْ‬
‫وبما يُقرّب القضية إلى الذهان‪.‬‬

‫(‪)2689 /‬‬

‫هَ ْيهَاتَ هَ ْيهَاتَ ِلمَا تُوعَدُونَ (‪)36‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ هَ ْيهَاتَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]36 :‬اسم فعل بمعنى َبعُد‪ ،‬يعني َبعُد هذا المر‪ ،‬وهو أن نرجع بعد‬
‫الموت‪ ،‬وبعد أن صِرْنا عظاما و ُرفَاتا‪.‬‬
‫والكلمة في اللغة إما اسم أو فعل أو حرف‪ :‬السم ما َدلّ على معنى مستقل بالفهم غير مرتبط‬
‫بزمن‪ ،‬فحين تقول‪ :‬سماء نفهم أنها كل مّا علك فأظلّك‪ .‬والفعل كلمة تدل أيضا على معنى مستقل‬
‫بالفهم لكنه مرتبط بزمن‪ ،‬فحين نقول‪ :‬أكل نفهم المقصود منها‪ ،‬وهي متعلقة بالزمن الماضي‪ ،‬أما‬
‫الحرف فكلمة تدل على معنى غير مستقل بذاته‪ ،‬فالحرف (على) يدل على معنى الستعلء‪ ،‬لكن‬
‫استعلء أي شيء؟‬
‫فالمعنى ‪ -‬إذن ‪ -‬ل يستقل بذاته‪ ،‬إنما يحتاج إلى مَا يوضحه‪ ،‬كذلك (في) تدل على الظرفية‪ ،‬لكن‬
‫ل تُحدد بذاتها هذه الظرفية‪ ،‬كذلك من للبتداء وإلى للغاية‪ ،‬ولكل من السم والفعل والحرف‬
‫علمات خاصة يُعرف بها‪.‬‬
‫وغير هذه الثلثة قسم رابع جاء مخالفا لهذه القاعدة؛ لذلك يسمونه الخالفة وهو اسم الفعل مثل‬
‫(هيهات) أي َبعُد‪ ،‬فهو اسم يدل على معنى الفعل دون أن يقبل علمات الفعل‪ ،‬ومثله شتان بمعنى‬
‫تفرق‪ ،‬أف بمعنى أتضجّر‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه وتعالى عنهم أنهم قالوا‪ { :‬إِنْ ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُوتُ وَ َنحْيَا‪} ..‬‬
‫‪.‬‬

‫(‪)2690 /‬‬

‫ت وَنَحْيَا َومَا َنحْنُ ِبمَ ْبعُوثِينَ (‪)37‬‬


‫إِنْ ِهيَ إِلّا حَيَاتُنَا الدّنْيَا َنمُو ُ‬

‫لقد استبعد هؤلء أمر البعث؛ لنهم ل يعتقدون في حياة غير حياتهم الدنيا‪ ،‬فالمر عندهم محصور‬
‫فيها { إِنْ ِهيَ ِإلّ حَيَاتُنَا الدّنْيَا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]37 :‬إن‪ :‬حرف نفي يعني‪ .‬ما هي‪ ،‬كما جاء في‬
‫قوله تعالى‪ {:‬مّا هُنّ ُأ ّمهَا ِتهِمْ إِنْ ُأ ّمهَا ُتهُمْ ِإلّ اللّئِي وَلَدْ َنهُمْ‪[} ..‬المجادلة‪ ]2 :‬يعني‪ :‬ما أمهاتهم إل‬
‫اللئي ولدْنَهم‪.‬‬
‫وقوله‪َ { :‬نمُوتُ وَ َنحْيَا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]37 :‬قد يظن البعض أنهم بهذا القول يؤمنون بالبعث‪ ،‬لنهم‬
‫قالوا‪( :‬نموت ونحيا) فكيف يُنكرونه؟‬
‫والمراد‪ :‬نموت نحن‪ ،‬ويحيا من خلف بعدنا من أولدنا‪ ،‬بدليل قولهم بعدها‪ِ { :‬إ َومَا َنحْنُ‬
‫ِبمَ ْبعُوثِينَ }‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2691 /‬‬

‫جلٌ افْتَرَى عَلَى اللّهِ َكذِبًا َومَا َنحْنُ لَهُ ِب ُمؤْمِنِينَ (‪)38‬‬
‫إِنْ ُهوَ إِلّا َر ُ‬

‫علَىا اللّهِ َكذِبا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]38 :‬وعجيب‬


‫يعني‪ :‬الرجل الذي أخبركم بمسألة البعث { افتَرَىا َ‬
‫منهم هذا القول‪ ،‬فهم يعرفون ال ويعترفون { افتَرَىا عَلَىا اللّهِ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]38 :‬فكيف يكون‬
‫إلها دون أنْ يُبلغكم رسالة على لسان رسوله؟ وإلّ‪ ،‬فكيف يكون إلها دون أنْ يُبلغكم رسالة على‬
‫لسان رسوله؟ وإلّ‪ ،‬فكيف ستعرفون منهج ال؟ قالوا‪ :‬بالعقل‪ ،‬لكن العقل في هذه المسألة ل يصح‪.‬‬
‫وسبق أنْ مثّلنا لذلك ‪ -‬ول المثل العلى‪َ :‬هبْ أننا نجلس في حجرة مغلقة و َدقّ جرس الباب‪ ،‬ل‬
‫شكّ أننا سنتفق جميعا على أن طارقا بالباب‪ ،‬وهذا يسمى " تعقل " ‪ ،‬لكنا سنختلف في التصوّر‪:‬‬
‫أهو رجل؟ أم امرأة؟ أم طفل‪ ،‬أهو بشير أم نذير؟‪ ....‬الخ‪.‬‬
‫إذن‪ :‬نتفق حين نقف عند التعقّل‪ ،‬لكن كيف نعرف مَنْ بالباب؟ نجعله هو يخبر عن نفسه حين‬
‫نقول‪ :‬مَنِ الطارق؟ يقول‪ :‬أنا فلن‪ ،‬وجئتُ لكذا وكذا‪ .‬فمَنِ الذي يبلغ عن التعقل؟ صاحبه‪.‬‬
‫وكذلك عقلك يؤمن بأن الكون له خالق واحد تدلّ عليه آيات الكون‪ ،‬فأنتَ لو نظرتَ إلى لمبة‬
‫الكهرباء هذه التي تنير غرفة واحدة‪ ،‬وتأملَ لوجدتَ وراءها مصانع وعددا وآلت وعمالً‬
‫ومهندسين ومخترعين‪ ،‬ومع ذلك لها قدرة محدودة‪ ،‬ولهّا عمر افتراضي وربما كسرت ليّ سبب‬
‫وطفئتْ‪.‬‬
‫أفل تنظر كذلك إلى الشمس وتتأمل ما فيها من آيات وعجائب‪ ،‬وكيف أنها تنير نصف الكرة‬
‫الرضية في وقت واحد دون أنْ تتعطلَ ودون أنْ تحتاج إلى صيانة أو قطعة غيار‪ ،‬ومع ذلك لم‬
‫يدّعها أحد لنفسه‪ ،‬أفلَ يدل ذلك على أن وراء هذا الخَلْق العظيم خالقا أعظم؟‬
‫إذا كنا نُؤرّخ لمكتشف الكهرباء ومخترع المصباح الكهربائي‪ ،‬ونذكر ماذا صنع؟ وكيف توصّل‬
‫إلى ما توصّل إليه‪ ،‬أليس يجدر بنا أنْ نبحث في خالق هذا الكون العجيب؟‬
‫ل ول تستطيع‪ ،‬وإذا اشتدت‬
‫إنك لو حاولتَ أنْ تنظر إلى قرص الشمس أثناء النهار‪ ،‬فإنّ نظرك يك ّ‬
‫حرارتها ل يطيقها أحد‪ ،‬مع أن بينك وبين الشمس ثماني دقائق ضوئية‪ ،‬كل ثانية فيها ثلثمائة‬
‫ألف كيلومتر‪ ،‬فأيّ طاقة هذه التي تنبعث من الشمس؟‬
‫ل أو‬
‫ومن عجائبها أيضا أنك تشعر بحرارتها على الرض المنبسطة فإذا ما ارتفعت فوق جبل مث ً‬
‫منطقة عالية تقلّ درجة الحرارة مع أنك تقترب من الشمس‪ ،‬على خلف ما لو أوقدتَ نارا مثلً‬
‫فتجد أن حرارتها تنخفض كلما ابتعدت عنها‪ ،‬أما الشمس فكلما اقتربت منها قّلتْ درجة الحرارة‪،‬‬
‫فمَنْ يقدر على هذه الظاهرة؟‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فإذا جاء مَنْ يخبرني أنه خالق هذه الشمس أقول له‪ :‬إذن هي لك‪ ،‬إلى أن يأتي منازع يدّعيها‬
‫لنفسه‪ ،‬ولم يأت منازع يدّعيها إلى الن‪.‬‬
‫وقولهم‪ { :‬افتَرَى‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]38 :‬مبالغة منهم في حقّ رسولهم؛ لن الفتراء‪ :‬تعمّد الكذب‪،‬‬
‫والكذب كما قلنا‪ :‬أن يأتي الكلم مخالفا للواقع‪ ،‬وقد يأتي الكلم مخالفا للواقع لكن حسب علم‬
‫صاحبه‪ ،‬فهو في ذاته صادق‪.‬‬

‫(‪)2692 /‬‬

‫قَالَ َربّ ا ْنصُرْنِي ِبمَا كَذّبُونِ (‪)39‬‬

‫سبحان ال‪ ،‬كأن تاريخ الرسالت يعيد نفسه مع المكذّبين‪ ،‬وكأنه (أكلشيه) ثابت على ألسنة الرسل‪:‬‬
‫اعبدوا ال ما لكم من إله غيره‪ ،‬فيتهمونه ويُكذّبونه ويقولون‪ :‬ما أنت إل بشر مثلنا‪ ،‬فتأتي النهاية‬
‫واحدة‪ :‬ربّ انصرني بما كذّبون‪ ،‬يعني‪ :‬أبدلني بتكذيبهم َنصْرا‪.‬‬
‫هذه َقوْلة هود ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬حين كذّبه قومه‪ ،‬وقوْلة نوح‪ ،‬وقوْلة كل نبي كذّبه القوم؛ لن‬
‫الرسول حين يُكذّب من الرسل إليهم ل يفزع إل إلى مَنْ أرسله؛ لن مَنْ أرسله وعده بالنصرة‬
‫والتأييد‪ {:‬وَإِنّ جُندَنَا َلهُمُ ا ْلغَالِبُونَ }[الصافات‪.]173 :‬‬
‫وقال‪ {:‬وَلَيَنصُرَنّ اللّهُ مَن يَنصُ ُرهُ‪[} ..‬الحج‪ ]40 :‬وقال سبحانه‪ {:‬وََلقَدْ سَ َب َقتْ كَِلمَتُنَا ِلعِبَادِنَا‬
‫ا ْلمُرْسَلِينَ * إِ ّنهُمْ َلهُمُ ا ْلمَنصُورُونَ }[الصافات‪.]172 - 171 :‬‬
‫فالمعنى‪ :‬انصرني لنك أرسلتني‪ ،‬وقد كذّبني القوم بعد أن استنفدتُ في دعوتهم كل أسبابي‪ ،‬ولم‬
‫َيعُدْ لي بهم طاقة‪ ،‬ولم َيعُد لي إل معونتك‪ .‬والنسان حين يستنفد كل السباب التي منحه ال إياها‬
‫دون أن يصل إلى غايته فقد أصبح مضطرا داخلً في قوله سبحانه‪َ {:‬أمّن ُيجِيبُ ا ْل ُمضْطَرّ إِذَا‬
‫دَعَاهُ‪[} ..‬النمل‪.]62 :‬‬
‫إذن‪ :‬ل تلجأ إلى ال إل بعد أنْ تؤدي ما عليك أولً‪ ،‬وتفرغ كل ما طاقتك في سبيل غايتك‪ ،‬لكن‬
‫ل تقعد عن السباب وتقول‪ :‬يا رب فالرض أمامك والفأس في يدك ومعك عافية وقدرة‪ ،‬فاعمل‬
‫واستنفد أسبابك أولً حتى تكون في جانب المضطر الذي يُجيب ال دعاءه‪.‬‬
‫ن يقول‪ :‬دعوتُ ال ولم يستجب لي‪ ،‬ونقول له‪ :‬أنت لم َت ْدعُ بدعاء المضطر‪،‬‬
‫لذلك نسمع كثيرا مَ ْ‬
‫أنت تدعو بدعاء مَنْ في يده السباب ولكنه تكاسل عنها؛ لذلك ل يُستجاب لك‪.‬‬
‫وهذه نراها حتى مع البشر‪ ،‬ول تعالى المثل العلى‪َ :‬هبْ أنك صاحب مال وتجارة وجاءتك‬
‫بضاعة من الجمرك مثلً‪ ،‬وجلست تراقب العمال وهم يُدخِلونها المخازن‪ ،‬فليس من مهامك الحمل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حمْله وكاد الصندوق أن يوقعه‬
‫والتخزين فهذه مهمة العمال‪ ،‬لكن َهبْ أنك وجدت عاملً ثقُلَ عليه ِ‬
‫على الرض‪ ،‬ماذا يكون موقفك؟ ل شكّ أنك ستفزع إليه وتأخذ بيده وتساعده؛ لنه فعل كل ما‬
‫في وُسْعه‪ ،‬واستفرغ كل أسبابه وقواه‪ ،‬فلم تضِنّ أنت عليه بالعون‪.‬‬
‫كذلك ربك ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يريد منك أن تؤدي ما عليك ول تدعه لشيء قد جعل لك فيه أسبابا؛‬
‫لن السباب يد ال الممدودة لخَلْقه‪ ،‬فل ترد يد ال بالسباب لتطلب الذات بل أسباب‪.‬‬
‫لذلك جاء قول الرسل الذين كُذبوا‪ { :‬قَالَ َربّ ا ْنصُرْنِي‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]39 :‬ليس وأنا قاعد‬
‫متخاذل متهاون‪ ،‬ولكن { ِبمَا كَذّبُونِ } [المؤمنون‪ ]39 :‬يعني‪ :‬فعلت كل مَا في وُسْعي‪ ،‬ولم َيعُ ْد لي‬
‫بهم طاقة‪.‬‬
‫عمّا قَلِيلٍ لّ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ }‪.‬‬
‫فتأتي الجابة على وجه السرعة‪ { :‬قَالَ َ‬

‫(‪)2693 /‬‬

‫عمّا قَلِيلٍ لَ ُيصْ ِبحُنّ نَا ِدمِينَ (‪)40‬‬


‫قَالَ َ‬

‫عمّا قَلِيلٍ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]40 :‬يعني‪ :‬بعد قليل‪ ،‬فـ (عن) هنا بمعنى بعد‪ ،‬كما جاء في قوله‬
‫{ َ‬
‫تعالى‪ {:‬لَتَ ْركَبُنّ طَبَقا عَن طَبقٍ }[النشقاق‪ ]19 :‬يعني‪ :‬بعد طبق‪.‬‬
‫أما { مّا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]40 :‬هنا فقد دّلتْ على الظرف الزمني؛ لن المراد بعد قليل من الزمن‪.‬‬
‫{ لّ ُيصْ ِبحُنّ نَا ِدمِينَ } [المؤمنون‪ ]40 :‬حين يقع بهم ما كانوا به يُكذّبون‪ ،‬ويحلّ عليهم العذاب‬
‫يندمون‪ ،‬لنهم لن يستطيعوا تدارك ما فاتهم‪ ،‬فليس أمامهم إذن إل الندم‪ ،‬وهذه المسألة دّلتْ على‬
‫أن الفطرة النسانية حين ل تختلط عليها الهواء تنتهي في ذاتها إلى الحق‪ ،‬وإنْ أخرجها الغضب‬
‫إلى الباطل‪ ،‬فإنها تعود إلى توازنها وإلى الجادة حين تهدأ ثورة الغضب‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يعطينا أدلةً وإشارات حول هذه القضية في قصة ولدي آدم عليه السلم‬
‫حدِ ِهمَا وَلَمْ يُ َتقَ ّبلْ مِنَ الخَرِ قَالَ‬
‫حقّ إِذْ قَرّبَا قُرْبَانا فَتُقُ ّبلَ مِن أَ َ‬
‫فيقول‪ {:‬وَا ْتلُ عَلَ ْيهِمْ نَبَأَ ابْ َنيْ ءَادَمَ بِالْ َ‬
‫لقْتُلَ ّنكَ قَالَ إِ ّنمَا يَ َتقَ ّبلُ اللّهُ مِنَ ا ْلمُ ّتقِينَ }[المائدة‪.]27 :‬‬
‫َ‬
‫عتْ َلهُ َنفْسُهُ قَ ْتلَ أَخِيهِ َفقَتَلَهُ‪[} ..‬المائدة‪ ]30 :‬فجاء القتل أثرا من آثار‬
‫طوّ َ‬
‫إلى أنْ قال سبحانه‪َ {:‬ف َ‬
‫الغضب‪ ،‬والمفروض أنه بعد أن قتله شفى نفسه‪ ،‬وينبغي له أن يُسَرّ لنه حقق ما يريد‪ ،‬لكن{‬
‫فََأصْبَحَ مِنَ النّا ِدمِينَ }[المائدة‪.]31 :‬‬
‫ت ثورة الغضب بداخله ندم على ما فعل‪ ،‬لماذا؟ لن هذه طبيعة النفس البشرية‬
‫أي‪ :‬بعد أن هدأ ْ‬
‫التي ل يُطغيها ول يُخرجها عن توازنها إل الهوى‪ ،‬فإنْ خرج الهوى عادت إلى الستقامة وإلى‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الحق‪ ،‬وكأن ال تعالى خلق في النسان مقاييس يجب ألّ تُفسدها الهواء ول يُخرِجها الغضب عن‬
‫حدّ العتدال‪ ،‬لذلك يقولون‪ :‬آفة الرأي الهوى‪.‬‬
‫َ‬
‫لقد استيقظ قابيل‪ ،‬لكن بعد أنْ رأى عاقبة السوء التي وصل إليها بتسرّعه‪ ،‬لكن الذكي يستيقظ قبل‬
‫رَ ّد الفعل‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬لماذا اختار لهم وقت الصباح بالذات‪ { :‬لّ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ } [المؤمنون‪ ]40 :‬المتتبع لما حاق‬
‫بالمم المكذّبة من العذاب والنتقام يجد أنه غالبا ما يكون في الصباح‪ ،‬كما قال تعالى‪َ {:‬أفَ ِبعَذَابِنَا‬
‫يَسْ َتعْجِلُونَ * فَِإذَا نَ َزلَ بِسَاحَ ِتهِمْ فَسَآ َء صَبَاحُ ا ْلمُنْذَرِينَ }[الصافات‪.]177 - 176 :‬‬
‫عذَابٌ مّسْ َتقِرّ }[القمر‪.]38 :‬‬
‫حهُم ُبكْ َرةً َ‬
‫وقال سبحانه‪ {:‬وََلقَدْ صَبّ َ‬
‫وقال سبحانه‪ {:‬فَتَنَا َدوْاْ ُمصْبِحِينَ }[القلم‪.]21 :‬‬
‫ذلك‪ ،‬لن الصباح يعقب فترة النوم والخمول الحركي‪ ،‬فيقومون من نومهم فيفاجئهم العذاب‪،‬‬
‫ويأخذهم على حين غفلة وعدم استعداد للمواجهة‪ ،‬على خلف إنْ جاءهم العذاب أثناء النهار وهم‬
‫مستعدون‪.‬‬
‫وندمهم على أنهم كذّبوا أمرا ما كان ينبغي أن يُكذّب وقد جَرّ عليهم الوَيْلت‪ ،‬والندم على خير‬
‫فات من طبيعة النفس البشرية التي عادةً ما تغلبها الشهوة ويُغريها الحمق بردّ الحق‪ ،‬ويمنعها‬
‫الكِبْر من النصياع للرسول خاصة وهو بشر مثلهم‪ ،‬ويريد في ظنهم أنْ يستعلي عليهم‪ ،‬لكن حين‬
‫يواجهون عاقبة هذا التكذيب ونتيجة هذا الحمق يندمون‪ ،‬ولتَ ساعة مَنْدم‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فشهوة النفس تجعل النسان يقف موقفا‪ ،‬إذا ما جُوزي عليه بالشدة يندم أنه لم يُنفذ ولم يطع‪،‬‬
‫يندم على غطرسته في موقف كان ينبَغي عليه أنْ يتنازل عن كبريائه؛ لذلك يقولون‪ :‬من الشجاعة‬
‫أنْ تجبن ساعة‪.‬‬
‫ويحسن ذلك إذا كنت أمام عدو ل تقدر على مجابهته‪ ،‬ونذكر للرئيس الراحل السادات مثل هذا‬
‫ضعْف وجُبْن‪،‬‬
‫الموقف حين قال‪ :‬ل أستطيع أن أحارب أمريكا‪ ،‬فالبعض فهم هذا القول على أنه َ‬
‫وهو ليس كذلك‪ ،‬إنما هو شجاعة من الرجل‪ ،‬شجاعة من نوع راقٍ؛ لن من الشجاعة أيضا أن‬
‫تشجع على نفسك‪ ،‬وهذه شجاعة أعلى من الشجاعة على عدوك‪ ،‬وتصور لو دخل السادات مثل‬
‫هذه الحرب فهُزِم كيف سيكون ندمه على شجاعة متهورة ل تحسب العواقب‪ .‬وقد رأينا عاقبة‬
‫الجرأة على دخول حرب غير متكافئة‪.‬‬
‫جعَلْنَا ُهمْ غُثَآءً‪.{ ..‬‬
‫حقّ فَ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬فََأخَذَ ْت ُهمُ الصّيْحَةُ بِالْ َ‬

‫(‪)2694 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَ ُبعْدًا لِ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ (‪)41‬‬
‫حقّ َف َ‬
‫حةُ بِالْ َ‬
‫خذَ ْتهُمُ الصّيْ َ‬
‫فَأَ َ‬

‫ما دام الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬توعّدهم وحدّد لهم موعدا‪ ،‬فل ُبدّ أن يقع بهم هذا الوعيد في‬
‫الوقت ذاته‪ ،‬وإلّ لو مَرّ دون أن يصيبهم ما يندمون لجله لنهدم المبدأ من أساسه‪ ،‬ما دام أن ال‬
‫تعالى قالها وسجّلها على نفسه سبحانه في قرآن يحفظه هو‪.‬‬
‫عمّا قَلِيلٍ لّ ُيصْبِحُنّ نَا ِدمِينَ }[المؤمنون‪ ]40 :‬فل ُبدّ أن ينزل بهم العذاب في الصباح‪.‬‬
‫{ َ‬
‫خذَ ْتهُمُ الصّ ْيحَةُ بِا ْلحَقّ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]41 :‬ل بالظلم والعدوان‪ ،‬وفي موضع آخر قال‬
‫لذلك { فَأَ َ‬
‫ح صَ ْرصَرٍ عَاتِيَةٍ }[الحاقة‪ ]6 :‬والمعنيان يلتقيان‪ ،‬لن الريح‬
‫سبحانه عنهم‪ {:‬وََأمَا عَادٌ فَأُهِْلكُواْ بِرِي ٍ‬
‫الصرصر لها صوت مزمجر كأنه الصيحة والصراخ‪.‬‬
‫جعَلْنَاهُمْ غُثَآءً‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]41 :‬الغثاء‪ :‬ما يحمله السيل من قش وأوراق وبقايا النبات‪،‬‬
‫{ َف َ‬
‫فتكون طبقة طافية على وجه الماء تذهب بها الريح في إحدى الجوانب‪ ،‬والغثاء هو الزّبَد الذي‬
‫جفَآ ًء وََأمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَ َي ْم ُكثُ فِي الَ ْرضِ‪} ..‬‬
‫قال الحق سبحانه وتعالى عنه‪ {:‬فََأمّا الزّ َبدُ فَيَ ْذ َهبُ ُ‬
‫[الرعد‪.]17 :‬‬
‫وفي الحديث الشريف قال صلى ال عليه وسلم لصحابه‪ " :‬يوشك أن تتداعَى عليكم المم كما‬
‫تتداعَى الكلة إلى قصعتها ‪ -‬يعني‪ :‬يدعو بعضهم بعضا لمحاربتكم كأنكم غنيمة يريدون اقتسامها‬
‫‪ -‬فقالوا‪ :‬أمِنْ قِلّة نحن يا رسول ال؟ قال‪ :‬بل أنتم يومئذ كثير‪ ،‬ولكنكم غثاء كغثاء السيل " يعني‪:‬‬
‫شيئا هيّنا ل قيمةَ له يذهب سريعا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَ ُبعْدا لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ } [المؤمنون‪ ]41 :‬أي‪ :‬بُعدا لهم عن رحمتنا ونعيمنا الذي كُنّا‬
‫نُمنّيهم به و َنعِدهم به لو آمنوا‪ ،‬وليس البُعد عن العذاب؛ لن البعد مسافة زمنية أو مكانية‪ ،‬نقول‪:‬‬
‫هذا بعيد‪ ،‬أي‪ :‬زمنه أو مكانه‪ ،‬المراد هنا ال ُبعْد عن النعيم الذي كان ينتظرهم إنْ آمنوا‪.‬‬
‫حقّ الغير‪ ،‬والشرك هو الظلم العظم؛ لنه ظلم في مسألة القمة‪ ،‬والبعض‬
‫والظلم‪ :‬كما قلنا أخذْ َ‬
‫من السطحيين يظن أن الشرك ظلم عظيم؛ لنك ظلمتَ ال سبحانه وتعالى‪ ،‬لنك أنكرتَ وجوده‬
‫وهو موجود‪ ،‬وأشركتَ معه غيره وهو واحد ل شريك له‪ ،‬نعم أنت ظلمتَ‪ ،‬لكن ما ظلمتَ ال؛‬
‫لنه سبحانه ل يظلمه أحد‪ ،‬وإنْ كان الظلم ‪ -‬كما نقول ‪َ -‬أخْذ حَقّ الغير‪ ،‬فحقّ ال محفوظ وثابت‬
‫له سبحانه قبل أن يُوجَد مَنْ يعترف له بهذا الحق‪ ،‬حقّ ال ثابت مهما علَ الباطل وتبجّح أهل‬
‫الضلل‪.‬‬
‫سفْلَىا‪[} ..‬التوبة‪ ]40 :‬وفي المقابل‪َ {:‬وكَِلمَةُ اللّهِ‬
‫ج َعلَ كَِلمَةَ الّذِينَ كَفَرُواْ ال ّ‬
‫لذلك يقول عز وجل‪ {:‬وَ َ‬
‫ِهيَ ا ْلعُلْيَا‪[} ..‬التوبة‪ ]40 :‬ولم يقُل قياسا على الولى‪ :‬وكلمةَ ال العليا؛ لن معنى ذلك أن كلمة ال‬
‫مرفوعةً على صورة الجملة السمية الدالّة على الثبوت{ َوكَلِمَةُ اللّهِ ِهيَ ا ْلعُلْيَا‪[} ..‬التوبة‪ ]40 :‬أي‪:‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫دائما ومهما عََلتِ كلمة الكافرين‪ .‬لماذا؟‬
‫قالوا‪ :‬لن عُلُو كلمة الكافرين في ذَاته عُُلوّ لكلمة ال‪ ،‬فإذا عل الكفر واستشرى شرّه وفساده يعض‬
‫خسّة الكفر ودناءته وما جرّه عليهم من ظلم وفساد فينكروه‬
‫الناس ويُوقِظ غفلتهم ويُنبههم إلى ِ‬
‫ويعودوا إلى جادة الطريق‪ ،‬وإلى الحق الثابت ل عز وجل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكلمة ال هي العليا مهما كانت الجولة لكلمة الذين كفروا‪ ،‬وكما يقولون‪ :‬والضد يُظهر حُسْنه‬
‫الضدّ‪ .‬وال عز وجل ل يُسْلِم الحق‪ ،‬ولكن يتركه ليبلو غَيْره الناس عليه‪ ،‬فإنْ لم يغاروا عليه غار‬
‫هو عليه‪.‬‬
‫وما داموا ما ظلموا ال‪ ،‬ول يستطيعون ذلك‪ ،‬فما ظلموا إل أنفسهم‪ ،‬وإنْ عُقل ظلمك لغيرك‬
‫وأخذك لحقه فل يُعقَل ظلمك لنفسك؛ لنه أبشع أنواع الظلم وأبلغها‪.‬‬

‫(‪)2695 /‬‬

‫ثُمّ أَ ْنشَأْنَا مِنْ َبعْدِ ِهمْ قُرُونًا َآخَرِينَ (‪)42‬‬

‫قبل عدة آيات قال الحق تبارك وتعالى‪ {:‬ثُمّ أَنشَأْنَا مِن َبعْ ِدهِمْ قَرْنا آخَرِينَ }[المؤمنون‪ ]31 :‬فجاءتْ‬
‫قرنا بصيغة المفرد؛ لن الحديث مقصور على عاد قوم هود‪ ،‬أما هنا فقال تعالى‪ُ { :‬ثمّ أَنشَأْنَا مِن‬
‫َبعْدِ ِهمْ قُرُونا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]42 :‬لن الكلم سيأتي عن أمم ورسالت مختلفة ومتعددة‪ ،‬فجاءت‬
‫(قرونا) بصيغة الجمع‪ ،‬متتابعة أو متعاصرة‪ ،‬كما تعاصر إبراهيم ولوط‪ ،‬وكما تعاصر موسى‬
‫وشعيب عليهم وعلى نبينا الصلة والسلم‪.‬‬
‫جَلهَا َومَا َيسْتَأْخِرُونَ }‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬مَا َتسْبِقُ مِنْ ُأمّةٍ أَ َ‬

‫(‪)2696 /‬‬

‫مَا تَسْ ِبقُ مِنْ ُأمّةٍ َأجََلهَا َومَا َيسْتَأْخِرُونَ (‪)43‬‬

‫عوْها انتباهكم‪ ،‬فلكل أمة أجلٌ تنتهي عنده تماما‪ ،‬مثل أجَل الفراد الذي‬
‫تأملوا هذه الية جيدا وارْ َ‬
‫ل يتقدّم ول يتأخّر‪ ،‬فقرْن بعد قَرْن‪ ،‬وأمة بعد أمة‪ ،‬تمرّ بأطوار شتى كأطوار حياة النسان‪ ،‬ثم‬
‫تنتهي إلى زوال ويعقبها غيرها‪.‬‬
‫فلكل أمة رسول يحمل إليها دعوة ال ومنهجه ويجاهد في سبيل نشرها إلى أنْ ينصره ال وتنتشر‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫دعوته ويتمسّك الناس بها‪ ،‬ثم تصيبهم غفلة وفتور عن منهج ال‪ ،‬فينصرفون عنه ويختلفون‬
‫ويتفرقون‪ ،‬فيكون ذلك إيذانا بزوالها ثم يخلفها غيرها؟‬
‫كذلك في مسألة الحضارات التي تندثر ليحلّ محلّها حضارات أخرى أقوى‪ ،‬نسمع عن حضارة‬
‫قديمة في مصر وفي الصين وفي اليمن‪ ،‬نسمع عن الحضارة الرومانية والفينيقية‪ ..‬الخ حضارات‬
‫تتوالى وتأخذ حظها من الرّقيّ والرفاهية‪ ،‬وتُورِث أصحابها رخاوة وطراوة‪ ،‬وتبدلهم بالجَلَد والقوة‬
‫ضعْفا‪ ،‬فيغفلوا عن أسباب رُقيّهم وتقدّمهم‪ ،‬فتنهدم حضارتهم ويحلّ محلّها أقوى منها‬
‫لِينا و َ‬
‫وأصلب‪.‬‬
‫وهذا مثال ونموذج في حضارة بلغت أوج عظمتها‪ {:‬أََلمْ تَرَ كَ ْيفَ َفعَلَ رَ ّبكَ ِبعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ‬
‫لوْتَادِ‬
‫ا ْل ِعمَادِ * الّتِي َلمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ * وَ َثمُودَ الّذِينَ جَابُواْ الصّخْرَ بِا ْلوَادِ * َوفِرْعَوْنَ ذِى ا َ‬
‫}[الفجر‪.]10 - 6 :‬‬
‫وإلى الن‪ ،‬ونحن نرى آثار الحضارة الفرعونية‪ ،‬وكيف أنها تجذب انتباه أصحاب الحضارات‬
‫الحديثة وتنال إعجابهم‪ ،‬فيأتون إليها من كل أنحاء العالم‪ ،‬مع أن حضارة عاد كانت أعظم منها؛‬
‫لن ال تعالى قال في حقها‪ {:‬الّتِي لَمْ يُخَْلقْ مِثُْلهَا فِي الْبِلَدِ }[الفجر‪.]8 :‬‬
‫ومع ذلك ل نرى لهم أثرا يدل على عِظَم حضارتهم‪ ،‬ولم يكُنْ لهذه الحضارة مناعة لتحمي نفسها‪،‬‬
‫أو تحتفظ لها بشيء‪ ،‬فانهارت وبادتْ ولم يَبْقَ منها حتى أثر‪.‬‬
‫كذلك أتباع الرسل يمرّون بمثل هذه الدورة‪ ،‬فبعد قوة اليمان تصيبهم الغفلة ويتسرب إليهم‬
‫الضعف وسوء الحال‪ ،‬إلى أن يرسل الحق سبحانه رسولً جديدا‪.‬‬
‫{ مَا َتسْبِقُ مِنْ ُأمّةٍ أَجََلهَا َومَا يَسْتَ ْأخِرُونَ } [المؤمنون‪.]43 :‬‬
‫المعنى في الجملة الولى واضح‪ ،‬فأيّ أمة ل يمكن أنْ تسبق أجلها الذي حدّده ال لها‪ ،‬ول يمكنْ‬
‫أن تنتهي أو تقوّص قبل أنْ يحلّ هذا الجل‪.‬‬
‫لكن ما المراد بقوله سبحانه‪َ { :‬ومَا يَسْتَ ْأخِرُونَ } [المؤمنون‪ ]43 :‬كيف يتأتّى ذلك؟ فهمنا‪ :‬ل تسبق‬
‫أجلها يعني أجلها أن تقوض بعد عشرين سنة‪ ،‬فل يمكن أن تُقوّض قبل خمس عشرة‪ ،‬أما كونها‬
‫تستأخر بعد أن بلغتْ العشرين إلى عشرة‪ ،‬فكيف يتم ذلك؟‬
‫نقول‪ :‬ل تستأخر يعني‪ :‬من حيث الحكم هي ل تسبق الجل وهي محكوم عليها بأنها ل تستأخر؛‬
‫لن الستئخار بعد بلوغ الجل مستحيل‪ ،‬كما لو قلنا‪ :‬شخص بلغ سِنّ العشرين ل يقدر أن يموت‬
‫في العاشرة‪ .‬فالمعنى‪ :‬الصل فيه أنه ل يستأخر‪.‬‬
‫ضهُمْ‬
‫سلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا ُكلّ مَا جَآءَ ُأمّةً رّسُوُلهَا كَذّبُوهُ فَأَتْ َبعْنَا َب ْع َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬ثمّ أَرْ َ‬
‫َبعْضا‪.} ..‬‬

‫(‪)2697 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَلْنَاهُمْ َأحَادِيثَ فَ ُبعْدًا‬
‫ضهُمْ َب ْعضًا َو َ‬
‫ثُمّ أَ ْرسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى ُكلّ مَا جَاءَ ُأمّةً رَسُوُلهَا كَذّبُوهُ فَأَتْ َبعْنَا َب ْع َ‬
‫ِلقَوْمٍ لَا ُي ْؤمِنُونَ (‪)44‬‬

‫{ تَتْرَا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]44 :‬يعني‪ :‬متوالين يتبع بعضهم بعضاَ؛ لذلك ظنّها البعض فعلً وهي ليست‬
‫بفعل‪ ،‬بدليل أنها جاءت في قراءة أخرى (تترا) بالتنوين والفعل ل يُنوّن‪ ،‬إذن‪ :‬هي اسم‪ ،‬واللف‬
‫فيها للتأنيث مثل حُبْلى‪.‬‬
‫ل من الواو‪ ،‬كما جاء في الحديث الشريف من‬
‫ضفْ إلى ذلك أن التاء الولى تأتي في اللغة بد ً‬
‫أ ِ‬
‫نصيحة النبي صلى ال عليه وسلم‪ " :‬احفظ ال يحفظك‪ ،‬احفظ ال تجدْه تجاهك ‪ -‬أو وجاهك "‬
‫يعني‪ :‬مواجهك‪.‬‬
‫فإذا أُبدَلتْ التاء الولى في (تترا) واوا تقول (وترا) يعني‪ :‬متتابعين فَرَْدا‪ ،‬والوتر هو الفَرْد‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ُ { :‬كلّ مَا جَآءَ ُأمّةً رّسُوُلهَا َكذّبُوهُ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]44 :‬فهذه طبيعة ولزمة من‬
‫لوازم المرسل إليهم‪ ،‬وما من رسول أُرسل إلى قوم إل كذّبوه‪ ،‬ثم يلجأ إلى ربه‪ {:‬قَالَ َربّ‬
‫ا ْنصُرْنِي ِبمَا َكذّبُونِ }[المؤمنون‪.]39 :‬‬
‫ولو لم يُكذّب الرسول ما كان هناك ضرورة لرساله إليهم‪ ،‬وما جاء الرسول إل بعد أن استشرى‬
‫الباطل‪ ،‬وعَمّ الطغيان‪ ،‬فطبيعي أنْ يُكذّب من هؤلء المنتفعين بالشر المستفيدين من الباطل والذين‬
‫يدافعون عنه بكل قواهم‪ ،‬وكأن تكذيبهم للرسل دليل على صواب مجيء الرسل‪ ،‬وإل لما كان‬
‫هناك ضرورة لرسالت جديدة‪.‬‬
‫ضهُمْ َبعْضا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]44 :‬يعني‪ :‬يمضي واحد ويأتي غيره من‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَأَتْ َبعْنَا َب ْع َ‬
‫الرسل‪ ،‬أو نهلك المكذّبين ثم يأتي بعدهم آخرون‪ ،‬فيكذبون فنهلكهم أيضا‪.‬‬
‫جمْعا لحديث كما نقول‪ :‬أحاديث رسول ال‬
‫جعَلْنَاهُمْ َأحَادِيثَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]44 :‬أحاديث‪ :‬إما َ‬
‫{ وَ َ‬
‫صلى ال عليه وسلم أو جمع‪ :‬أحدوثة‪ .‬وهي المقولة التي يتشدّق بها الجميع‪ ،‬وتلوكُها كل اللسنة‪،‬‬
‫ومن ذلك قول النسان إذا كثُر كلم الناس حوله‪( :‬جعلوني حدوتة) يعني على سبيل التوبيخ‬
‫والتقريع لهم‪.‬‬
‫جعَلْنَا ُهمْ أَحَادِيثَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]44 :‬كأنه لم ي ْبقَ منهم أثر إل أنْ نتكلم عنهم‪ ،‬ونذكرهم‬
‫فقوله‪ { :‬وَ َ‬
‫جعَلْنَا ُهمْ أَحَادِيثَ َومَزّقْنَا ُهمْ ُكلّ ُممَزّقٍ‪[} ..‬سبأ‪:‬‬
‫حكَى‪ ،‬وفي موضع آخر قال تعالى‪ {:‬فَ َ‬
‫كتاريخ يُ ْ‬
‫‪.]19‬‬
‫ثم يقول تعالى عنهم كما قال عن سابقيهم‪ { :‬فَ ُبعْدا ّل َقوْ ٍم لّ ُي ْؤمِنُونَ } [المؤمنون‪ ]44 :‬يعني‪ُ :‬بعْدا‬
‫لهم عن رحمة ال‪ ،‬و ُبعْدا لهم عن نعيم ال الذي كان ينتظرهم‪ ،‬ولو أنهم آمنوا لنالوه‪.‬‬
‫سلْنَا مُوسَىا وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا‪.} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ُ { :‬ثمّ أَرْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2698 /‬‬

‫ثُمّ أَ ْرسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُ ْلطَانٍ مُبِينٍ (‪)45‬‬

‫تكررت قصة موسى ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬كثيرا ومعه أخوه هارون‪ ،‬كما قال‪ {:‬اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *‬
‫وَأَشْ ِركْهُ فِي َأمْرِي }[طه‪ ]32 - 31 :‬والبعض يظن أن موسى جاء برسالة واحدة‪ ،‬لكنه جاء‬
‫ل َولَ ُت َعذّ ْبهُمْ‪[} ..‬طه‪:‬‬
‫سلْ َمعَنَا بَنِي إِسْرَائِي َ‬
‫برسالتين‪ :‬رسالة خاصة إلى فرعون ملخّصها‪ {:‬فَأَرْ ِ‬
‫‪.]47‬‬
‫وجاء له بمعجزات تثبت صِدْق رسالته من ال‪ ،‬ولم يكن جدال موسى لفرعون في مسألة اليمان‬
‫جزءا من هذه الرسالة‪ ،‬إنما جاء هكذا عرضا في المناقشة التي دارتْ بينهما‪.‬‬
‫والرسالة الخرى هي رسالته إلى بني إسرائيل متمثلة في التوراة‪.‬‬
‫وقوله‪ { :‬بِآيَاتِنَا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]45 :‬قلنا‪ :‬إن اليات جمع آية‪ ،‬وهي الشيء العجيب الملفت للنظر‬
‫الفائق على نظرائه وأقرانه‪ ،‬والذي يكرم ويفتخر به‪ .‬واليات إما كونية دالّة على قدرة ال في‬
‫ل وَال ّنهَارُ‪[} ..‬فصلت‪.]37 :‬‬
‫الخَلْق كالشمس والقمر‪ ..‬إلخ كما قال سبحانه‪َ {:‬ومِنْ آيَا ِتهِ الّي ُ‬
‫ن تلفت نظر المخلوق إلى بديع صنع الخالق وضرورة اليمان به‪،‬‬
‫ومهمة هذه اليات الكونية أ ْ‬
‫فمنها نعلم أن وراء الكون البديع خالقا وقوة تمده وتديره‪ ،‬فَمنْ يمدّ هذه الشمس بهذه القوة الهائلة؟‬
‫إن التيار الكهربائي إذا أنقطع ُتطْفأ هذه اللمبة‪ ،‬فمَنْ خلق الشمس من عدم‪ ،‬وأمدّها بالطاقة من‬
‫عدم؟‬
‫إذن‪ :‬وراء هذا الكون قوة ما هي؟ وماذا تطلب منا؟ وهذه مهمة الرسول أنْ يُبلغنا‪ ،‬ويُجيب لنا عن‬
‫هذه السئلة‪.‬‬
‫وتُطلق الية أيضا على المعجزة التي تثبت صِدْق الرسول في البلغ عن ال‪.‬‬
‫وتُطلق الية على آيات القرآن الحاملة للحكام والحاوية لمنهج ال إلى خَلْقه‪.‬‬
‫سلْطَانٍ مّبِينٍ } [المؤمنون‪ ]45 :‬فعطف { وَسُ ْلطَانٍ مّبِينٍ } [المؤمنون‪]45 :‬‬
‫ثم يقول تعالى‪ { :‬وَ ُ‬
‫على { بِآيَاتِنَا } [المؤمنون‪ ]45 :‬وهذا من عطف الصفة على الموصوف لمزيد اختصاص؛ لن‬
‫اليات هي السلطان‪ ،‬فالسلطان‪ :‬الحجة‪ .‬والحجة على الموجود العلى آيات الكون‪ ،‬والحجة على‬
‫صِدْق الرسول المعجزات‪ ،‬والحجة على الحكام اليات الحاملة لها‪.‬‬
‫سمّى معجزة موسى عليه السلم (العصا) سلطانا مبينا أي‪ :‬محيطا؛ لنها معجزة متكررة رأينا‬
‫وَ‬
‫لها عدة حالت‪ :‬فهذه العصا الجافة مرة تنقلب إلى حيّة تلقَفُ الحيّات‪ ،‬ومرة يضرب بها البحر‬
‫فينفلق‪ ،‬ومرة يضرب بها الحجر فيتفجر منه الماء‪ ،‬وفوق ذلك قال عنها‪ {:‬وَلِيَ فِيهَا مَآ ِربُ أُخْرَىا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫}[طه‪.]18 :‬‬
‫ومن معاني السلطان‪ :‬ال َقهْر على عمل شيء أو القناع بالحجة لعمل هذا الشيء‪ ،‬لذلك كانت حجة‬
‫عوْ ُتكُمْ‬
‫علَ ْيكُمْ مّن سُ ْلطَانٍ ِإلّ أَن دَ َ‬
‫إبليس الوحيدة يوم القيامة أن يقول لتباعه‪َ {:‬ومَا كَانَ ِليَ َ‬
‫فَاسْتَجَبْ ُتمْ لِي‪[} ..‬إبراهيم‪ ]22 :‬يعني‪ :‬كنتم رَهْن الشارة‪ ،‬إنما أنا ل سلطان لي عليكم‪ ،‬ل سلطانَ‬
‫قهر‪ ،‬ول سلطان حجة‪.‬‬
‫خيّ‪[} ..‬إبراهيم‪ ]22 :‬والنسان يصرخ إذا‬
‫خكُ ْم َومَآ أَنتُمْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫لذلك قال في النهاية‪ {:‬مّآ أَنَاْ ِب ُمصْرِ ِ‬
‫فزّعه أمر ل حيلة له به‪ ،‬فيصرخ استنفارا لمعين يُعينه‪ ،‬فمَنْ أسرع إليه وأعانه يقال‪ :‬أصرخه‪.‬‬
‫يعني‪ :‬أزال سبب صراخه‪.‬‬

‫(‪)2699 /‬‬

‫عوْنَ َومَلَئِهِ فَاسْ َتكْبَرُوا َوكَانُوا َق ْومًا عَالِينَ (‪)46‬‬


‫إِلَى فِرْ َ‬

‫عوْنَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]46 :‬لقب لكل مَنْ كان يحكم مصر‪ ،‬مثل كِسْرى في الفرس‪ ،‬وقيصر في‬
‫{ فِرْ َ‬
‫الروم‪ ،‬وتكلّمنا عن معنى (المل) وهي من المتلء‪ ،‬والمراد القوم الذين يملؤون العيون مهابةً‬
‫ومنزلةً‪ ،‬وهم أشراف القوم وصدور المجالس‪ ،‬ومنه قولهم‪ :‬فلن قَيْد النواظر يعني‪ :‬مَنْ ينظر إليه‬
‫ل ينصرف عنه إلى غيره‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬فَاسْ َتكْبَرُو ْا َوكَانُواْ َقوْما عَالِينَ } [المؤمنون‪ ]46 :‬والستكبار غير التعالي‪،‬‬
‫فالمستكبر يعلم الحكم ويعترف به‪ ،‬لكن يأبى أنْ يطيعه‪ ،‬ويأنف أن يصنع ما أمر به‪ ،‬أما العالي‬
‫فهو الذي يظن أنه لم يدخل في المر من البداية‪.‬‬
‫ومن هنا جاء قوله تعالى لبليس لما أبى السجود لدم‪ {:‬أَسْ َتكْبَ ْرتَ أَمْ كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ }[ص‪]75 :‬‬
‫والعالون هم الملئكة المهيّمون في ال‪ ،‬والذين ل يدرون شيئا عن آدم وذريته‪.‬‬

‫(‪)2700 /‬‬

‫َفقَالُوا أَ ُن ْؤمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا َوقَ ْو ُم ُهمَا لَنَا عَابِدُونَ (‪)47‬‬

‫اعترضوا أيضا هنا على بشرية موسى وهارون كما حدث من المم السابقة‪ ،‬إنهم يريدون الرسول‬
‫مََلكَا‪ ،‬كما جاء في موضع آخر‪َ {:‬ومَا مَنَعَ النّاسَ أَن ُي ْؤمِنُواْ ِإذْ جَآءَهُمُ ا ْلهُدَىا ِإلّ أَن قَالُواْ أَ َب َعثَ اللّهُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بَشَرا رّسُولً }[السراء‪.]94 :‬‬
‫ومن الغباء أن يطلبوا ملَكا رسولً‪ ،‬فلو جاءهم الرسول ملكا‪ ،‬فكيف سيكون أسْوة للبشر؟ وكيف‬
‫جعَلْنَاهُ مَلَكا‬
‫سيروْنَه ويتل ّقوْن عنه؟ إذن‪ :‬ل بُدّ أنْ يأتيهم في صورة بشر؛ لذلك يقول تعالى‪ {:‬وََلوْ َ‬
‫ل وَلَلَبَسْنَا عَلَ ْيهِم مّا يَلْبِسُونَ }[النعام‪]9 :‬‬
‫جعَلْنَاهُ َرجُ ً‬
‫لّ َ‬
‫وستظل الشبهة قائمة‪ ،‬فما الذي يجعلك تُصدّق أنه مَلَك؟‬
‫وقوله تعالى‪َ { :‬وقَ ْو ُم ُهمَا لَنَا عَابِدُونَ } [المؤمنون‪ ]47 :‬يعني‪ :‬كيف نؤمن لموسى وهارون‬
‫وقومهما ‪ -‬أي‪ :‬بني إسرائيل ‪ -‬خدم لنا‪ ،‬يأتمرون بأمرنا‪ ،‬بل ونُذلّهم ونُذبّح أولدهم‪ ،‬ونستحيي‬
‫نساءهم‪ ،‬ونسومهم سوء العذاب؟‬
‫وسمّى ذلك عبادة‪ ،‬لن مَنْ يخضع لنسان‪ ،‬ويطيع أمره كأنه عبده‪.‬‬

‫(‪)2701 /‬‬

‫َفكَذّبُو ُهمَا َفكَانُوا مِنَ ا ْل ُمهَْلكِينَ (‪)48‬‬

‫أي‪ :‬بالغرق‪ ،‬وهذه قصة مشهورة معروفة‪ ،‬وجعلها ال مُثْلة وعِبرةً‪.‬‬

‫(‪)2702 /‬‬

‫وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى ا ْلكِتَابَ َلعَّلهُمْ َيهْتَدُونَ (‪)49‬‬

‫{ ا ْلكِتَابَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]49 :‬أي‪ :‬التوراة‪ ،‬وفيه منهج الهداية { َلعَّلهُمْ َيهْ َتدُونَ } [المؤمنون‪]49 :‬‬
‫أي‪ :‬يأخذون الطريق الموصّل للغاية الشريفة المفيدة من أقصر طريق‪.‬‬
‫جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَةً‪.} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬و َ‬

‫(‪)2703 /‬‬

‫جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَُأمّهُ آَيَةً وَ َآوَيْنَا ُهمَا إِلَى رَ ْب َوةٍ ذَاتِ قَرَا ٍر َو َمعِينٍ (‪)50‬‬
‫وَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫بعد أن أعطانا هذه اللقطة الموجزة من قصة موسى وهارون انتقل إلى المسيح ابن مريم‪ ،‬والقرآن‬
‫في حديثه عن عيسى عليه السلم مرة يقول‪ :‬ابن مريم‪ ،‬ومرة يقول‪ :‬عيسى بن مريم‪ .‬وتسمية‬
‫عيسى عليه السلم بأمه هي التي جعلتْ سيدتنا وسيدة نساء العالمين مريم ساعة تُبشّر بغلم‬
‫تستنكر ذلك‪ ،‬وتقول‪ :‬كيف ولم يمسسني بشر؟ ولم يخطر ببالها أنها يمكن أنْ تتزوّج وتُنجب‪،‬‬
‫لماذا؟ لن ال سماه ابن مريم‪ ،‬وما دام سماه بأمه‪ ،‬إذن‪ :‬فلن يكون له أب‪.‬‬
‫وليس أصعب على الفتاة من أن تجد نفسها حاملً ولم يمسسها رجل؛ لن عِرْض الفتاة أغلى‬
‫وأعزّ ما تملك‪ ،‬لذلك مهّد الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬لهذه المسألة‪ ،‬وأعدّ مريم لستقبالها‪ ،‬وأعطاها‬
‫المناعة اللزمة لمواجهة هذا المر العجيب‪ ،‬كما نفعل الن في التطعيم ضد المراض‪ ،‬وإعطاء‬
‫المناعة التي تمنع المرض‪.‬‬
‫فلما دخل زكريا ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬على مريم فوجد عندها رزقا لم ي ْأتِ به‪ ،‬وهو كفيلها والمسئول‬
‫عنها‪ ،‬سألها‪ {:‬أَنّىا َلكِ هَـاذَا قَاَلتْ ُهوَ مِنْ عِندِ اللّهِ‪[} ..‬آل عمران‪ ]37 :‬وكان هذا الردّ من مريم‬
‫عن َفهْم تام لقضية الرزق‪ ،‬ولم يكُنْ كلم دراويش‪ ،‬بدليل أنها قالت بعدها‪ {:‬إِنّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن‬
‫يَشَآءُ ِبغَيْرِ حِسَابٍ }[آل عمران‪.]37 :‬‬
‫وفي هذا الموقف درس لكل أب ولكل وليّ أمر ورب أسرة أن يسأل أهل بيته عن كل شيء يراه‬
‫ع لولده فرصة أنْ تمتد أيديهم إلى ما ليس لهم‪.‬‬
‫في بيته ولم ي ْأتِ هو به‪ ،‬حتى ل يد َ‬
‫لقد انتفع زكريا ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬بهذا القول وانتبه إلى هذه الحقيقة‪ ،‬نعم زكريا يعلم أن ال يرزق‬
‫مَنْ يشاء بغير حساب‪ ،‬لكن ذلك العلم كان معلومة في حاشية الشعور‪ ،‬فلما سمعها من مريم‬
‫خرجتْ إلى بُؤرة شعوره‪ ،‬وعند ذلك دعا ال أن يرزقه الولد وقد بلغ من الكِبَر عِتيا‪ ،‬وامرأته‬
‫عاقر‪.‬‬
‫ستْ بالحمل دون أن يمسسْها بشر فاطمأنتْ؛ لن ال يرزق مَنْ‬
‫وكذلك انتفعت بها مريم حين أح ّ‬
‫يشاء بغير حساب‪.‬‬
‫جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَُأمّهُ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]50 :‬فأخبر سبحانه عن المثنى بالمفرد‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَ َ‬
‫{ آيَةً‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]50 :‬لنهما مشتركان فيها‪ :‬مريم آية لنها أنجبت من غير زوج‪ ،‬وعيسى‬
‫آية لنه وُلِد من غير أب‪ ،‬فالية إذن ل تكون في أحدهما دون الخر‪ ،‬وهما فيها سواء‪.‬‬
‫جعَلْنَا ابْنَ مَرْيَ َم وَُأمّهُ آيَةً‪} ..‬‬
‫لذلك يراعي النص القرآني هذه المساواة ف ُيقَدّم عيسى في آية‪ { :‬وَ َ‬
‫جعَلْنَاهَا وَابْ َنهَآ آ َيةً لّ ْلعَاَلمِينَ }[النبياء‪ ]91 :‬هذه‬
‫[المؤمنون‪ ]50 :‬ويقدم مريم في آية أخرى‪ {:‬وَ َ‬
‫العدالة في النص لنهما سواء في الخيرية ل يتميز أحدهما على الخر‪.‬‬
‫والية هي المر العجيب الذي يُثبت لنا طلقة قدرة الخالق في الخَلْق‪ ،‬وحتى ل يظن البعض أن‬
‫مسألة الخَلْق مسألة (ميكانيكية) من أب وأم‪ ،‬لذلك كان وجه العجب في خَلْق عيسى أن يخرج عن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫هذه القاعدة ليجعله ال دليلً على قدرته تعالى‪ ،‬فإنْ أراد أنْ يخلق خلق من العدم‪ ،‬أو من أب فقط‪،‬‬
‫أو من أم فقط‪ ،‬وحتى في اكتمال العنصرين يوجد الب والم‪ ،‬لكن ل يوجد النجاب‪ ،‬إذن‪:‬‬
‫المسألة إرادة ل عز وجل‪ ،‬وطلقة لقدرة إلهية ل حدودَ لها‪.‬‬

‫ت وَالَرْضِ َيخْلُقُ مَا َيشَآءُ َي َهبُ ِلمَن يَشَآءُ إِنَاثا وَ َي َهبُ ِلمَن َيشَآءُ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫يقول سبحانه‪ِ {:‬للّهِ مُ ْلكُ ال ّ‬
‫عقِيما‪[} ..‬الشورى‪.]50 :‬‬
‫ج َعلُ مَن يَشَآءُ َ‬
‫جهُمْ ُذكْرَانا وَإِنَاثا وَيَ ْ‬
‫ال ّذكُورَ * َأوْ يُ َزوّ ُ‬
‫والن نلحظ أن البعض يحاول منع النجاب بشتى الوسائل‪ ،‬لكن إنْ قُدّر له مولود جاء رغم أنف‬
‫الجميع‪ ،‬ورغم إحكام وسائل منع الحمل التي تفننوا فيها‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وَآوَيْنَا ُهمَآ إِلَىا رَ ْب َوةٍ ذَاتِ قَرَارٍ َومَعِينٍ‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]50 :‬من الطبيعي بعد‬
‫أن حملتْ مريم بهذه الطريقة أنْ تُضطهد من قومها وتُطارد‪ ،‬بل وتستحي هي من الناس وتتحاشى‬
‫حدَا ُهمَا َتمْشِي عَلَى اسْ ِتحْيَآءٍ‪} ..‬‬
‫أن يراها أحد‪ ،‬أل ترى قوله تعالى عن ابنة شعيب‪َ {:‬فجَآءَتْهُ إِ ْ‬
‫[القصص‪ ]25 :‬على استحياء‪ ،‬لنها ذهبت لستدعاء فتىً غريب عنها‪ ،‬فما بالك بمريم حين يراها‬
‫القوم حاملً وليس لها زوج؟ إنها مسألة أصعب ما تكون على المرأة‪.‬‬
‫لذلك لما سئل المام محمد عبده وهو في باريس‪ :‬بأيّ وجه قابلتْ عائشة قومها بعد حادثة الفك؟‬
‫فألهمه ال الجواب وهداه إلى الصواب‪ ،‬فقال‪ :‬بالوجه الذي قابلتْ به مري ُم قومَها وقد جاءتْ تحمل‬
‫ولدها؛ ذلك لنهم أرادوا أنْ يأخذوها سُبة ومطعنا في جبين السلم‪.‬‬
‫ولما كانت مريم بهذه الصفة تولها ال ودافع عنها‪ ،‬فهذا يوسف النجار وكان خطيب مريم حين‬
‫حمْلها‪ ،‬وهو أَغْير الناس عليها بدل أنْ يتشكك فيها ويتهمها يتحوّل قلبه عليها بالعطف‪،‬‬
‫يرى مسألة َ‬
‫كما قال تعالى‪ {:‬وَاعَْلمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ ا ْلمَرْءِ َوقَلْبِهِ‪[} ..‬النفال‪.]24 :‬‬
‫فإذا به يخدمها ويحنُو عليها؛ لن ال أنزل المسألة على قلبه منزل الرضا‪ ،‬وكل ما قاله في‬
‫عمّا حدث بطريقة مهذبة‪ :‬يا مريمُ أرأيتِ شجرة بدون بذرة؟‬
‫مجادلة مريم وفي الستفسار َ‬
‫فضحكتْ مريم وقد فهمت ما يريد وقالت‪ :‬نعم الشجرة التي أنبتت أول بذرة إنه كلم أهل اليمان‬
‫والفهم عن ال‪.‬‬
‫لذلك آواها ال وولدها } وَآوَيْنَا ُهمَآ إِلَىا رَ ْب َوةٍ ذَاتِ قَرَا ٍر َو َمعِينٍ { [المؤمنون‪ ]50 :‬وساعةَ تسمع‬
‫كلمة اليواء تفهم أن شخصا اضطر إلى مكان يلجأ إليه ويأوي إليه‪ ،‬وكذلك كانت مريمُ مضطرة‬
‫تحتاج إلى مكان يحتويها وهي مضطهدة من قومها‪ .‬ول ُبدّ في مكان اليواء هذا أنْ تتوفر فيه‬
‫مُقوّمات الحياة‪ ،‬خاصة لمثل مريم التي تستعد لستقبال وليدها‪ ،‬ومقومات الحياة‪ :‬هواء وماء‬
‫وطعام‪.‬‬
‫فانظر كيف أعدّ الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬لمريم مكان اليواء‪ } :‬وَآوَيْنَا ُهمَآ إِلَىا رَ ْب َوةٍ‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫‪[ { .‬المؤمنون‪ ]50 :‬وهي المكان العالي عن الرض المنخفض عن الجبل‪ ،‬فهو معتدل الجو؛ لنه‬
‫بين الحرارة في الرض المستوية والبرودة في أعلى الجبل‪.‬‬
‫} ذَاتِ قَرَارٍ‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]50 :‬يعني‪ :‬توفرتْ لها أسباب الستقرار من ماء وطعام‪ ،‬فالماء يأتيها‬
‫من أعلى الجبال ويمرّ عليها ما ًء معينا‪ ،‬يعني‪ :‬تراه بعينك‪ ،‬والطعام يأتيها من ثمار النخلة التي‬
‫نزلت يجوارها‪.‬‬
‫ومعلوم أن الربوة هي أنسب الماكن حيث يمر عليها الماء من أعلى‪ ،‬ول يتبقى فيها مياه جوفية‬
‫تضرّ بمزروعاتها؛ لنها تتصرف في الرض المنخفضة عنها‪.‬‬
‫لذلك ضرب لنا الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬المثل للرض الخصبة التي تؤتي المحصول الوافر‪،‬‬
‫سهِمْ َكمَ َثلِ جَنّةٍ بِرَ ْب َوةٍ‪} ..‬‬
‫فقال‪َ {:‬ومَ َثلُ الّذِينَ يُ ْن ِفقُونَ َأ ْموَاَلهُمُ ابْ ِتغَآءَ مَ ْرضَاتِ اللّ ِه وَتَثْبِيتا مّنْ أَ ْنفُ ِ‬
‫[البقرة‪.]265 :‬‬
‫إذن‪ :‬اختار ال تعالى لمريم القرار الذي تتوفر فيه مقومات الحياة على أعلى مستوى بحيث ل‬
‫تحتاج أن تنتقل منه إلى غيره‪.‬‬
‫وبعد ذلك يتكلم الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عن قضية عامة بعد أن تكلّم عن القرار ومُقوّمات‬
‫سلُ‬
‫الحياة‪ ،‬وهي الطعام والشراب والهواء‪ ،‬فناسب ذلك أن يتكلم سبحانه عن المطعم‪ } :‬ياأَ ّيهَا الرّ ُ‬
‫عمَلُواْ صَالِحا‪.{ ..‬‬
‫ت وَا ْ‬
‫كُلُواْ مِنَ الطّيّبَا ِ‬

‫(‪)2704 /‬‬

‫عمَلُوا صَاِلحًا إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ (‪)51‬‬


‫سلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَا ْ‬
‫يَا أَ ّيهَا الرّ ُ‬

‫لكن‪ ،‬كيف يخاطب الحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬الرسل جميعا في وقت واحد؟ نقول‪ :‬لن القرآن‬
‫الكريم هو كلم ال القديم‪ ،‬لم ي ْأتِ خاصا بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وأنْ نزل عليه فهو إذن‬
‫خطاب لكل رسول جاء‪.‬‬
‫عمَلُو ْا صَالِحا‪} ..‬‬
‫وبعد أن أمرهم الحق سبحانه بالكل من الطيب أمرهم بالعمل الصالح‪ { :‬وَا ْ‬
‫علِيمٌ } [المؤمنون‪ ]51 :‬كأن الحق سبحانه‬
‫[المؤمنون‪ ]51 :‬ثم يقول سبحانه‪ { :‬إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ َ‬
‫يقول‪ :‬اسمعوا كلمي فيما آمركم به‪ ،‬فأنا عليم وخبير بكل ما يُصلحكم؛ لنني الخالق الذي أعلم‬
‫كيف تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير‪ ،‬ول تستقيم بنيتكم للحركة الصالحة للخير إل إذا أخذتم‬
‫المطعم من الحلل الطيب‪.‬‬
‫وكما قلنا‪ :‬إن صانع اللة يضع لها الوقود المناسب لتشغيلها‪ ،‬وإلّ تعطلتْ عن أداء مهمتها‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫طعَم الطيب الذي يبني ذراتك من الحلل‪،‬‬
‫فلكي تؤدي الصالح في حركة حياتك عليك أنْ تبدأ بالم ْ‬
‫فيحدث انسجاما بين هذه الذرات‪ ،‬وتعمل معا متعاونة غير متعاندة‪ ،‬وإن انسجمتْ ذراتُك وتوافقتْ‬
‫أعانتك على الصالح‪.‬‬
‫فإنْ دخل الحرام إلى طعامك وتلوثتْ به ذراتُك تنافرتْ وتعاندت‪ ،‬كما لو وضعتَ لللة وقودا غير‬
‫جعِل لها‪ ،‬فافهموا هذه القضية؛ لنني أنا الخالق فآمِنُوا لي كما تؤمنون بقدرة الصانع حين‬
‫ما ُ‬
‫يصنع لكم صناعة‪ ،‬ويضع لكم قانون صيانتها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬أمر الحق سبحانه أولً رسله بالكل من الطيبات؛ لن العمل الصالح يحتاج إلى جهاز سليم‬
‫متوافق من داخله؛ لذلك في سيرة النبي صلى ال عليه وسلم أن أم عبد ال أخت شداد بن أوس‪،‬‬
‫أرسلت إلى النبي في يوم صامه وهو حارّ شيئا من اللبن يفطر عليه‪ ،‬وهو صلى ال عليه وسلم‬
‫يعلم أنها فقيرة ل تَملك شيئا فأرسل إليها‪ :‬من أين لك هذا اللبن؟ فأرسلت إليه‪ :‬من شاة عندي‪،‬‬
‫فبعث إليها‪ :‬ومن أين لك بالشاة؟ قالت‪ :‬اشتريتها بمال دبّرته‪ .‬فشرب رسول ال من اللبن‪.‬‬
‫وإنْ كنا نحن ل نتحرى في َمطْعمنا ُكلّ هذا التحري‪ ،‬لكن هذا رسول ال الذي يُنفذ منهج ال كما‬
‫جاءه‪ ،‬وعلى أكمل وجه‪ .‬وفي الحديث الشريف‪ " :‬أيها الناس‪ ،‬إن ال طيب ل يقبل إل طيبا‪ ،‬وإن‬
‫عمَلُو ْا صَالِحا‬
‫ت وَا ْ‬
‫سلُ كُلُواْ مِنَ الطّيّبَا ِ‬
‫ال أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين‪ ،‬فقال‪ { :‬ياأَ ّيهَا الرّ ُ‬
‫إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ عَلِيمٌ } [المؤمنون‪ ]51 :‬وقال‪ { :‬ياأَ ّيهَا الّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَ َزقْنَاكُمْ‪} ..‬‬
‫[البقرة‪ ]172 :‬ثم ذكر الرجل يطيل السفر‪ ،‬أشعث أغبر‪ ،‬يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب‬
‫ومطعمه حرام‪ ،‬ومشربه حرام‪ ،‬وملبسه حرام‪ ،‬وغُذّي بالحرام‪ ،‬فأنّى يُستجاب لذلك؟ "‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬كيف يُستجاب له وهو يدعو ال بجهاز إرسال فاسد مُشوّش دَنّسه وخالطه الحرام؟‬
‫ن أكون‬
‫وفي حديث سيدنا سعد رضي ال عنه لما قال لرسول ال‪ :‬يا رسول ال ا ْدعُ ال لي أ ْ‬
‫طبْ مطعمك تكُنْ مُستجاب الدعوة "‪.‬‬
‫مُستجاب الدعوة‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪ " :‬يا سعد أ ِ‬
‫علِيمٌ } [المؤمنون‪ ]51 :‬يعني‪ :‬أعلم‬
‫ثم يُذيّل الحق سبحانه هذه الية بقوله تعالى‪ { :‬إِنّي ِبمَا َت ْعمَلُونَ َ‬
‫ما يُصلحكم‪ ،‬وما يجلب لكم الخير‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَإِنّ هَـا ِذهِ ُأمّ ُتكُمْ ُأمّ ًة وَاحِ َدةً‪.} ..‬‬

‫(‪)2705 /‬‬

‫ح َد ًة وَأَنَا رَ ّبكُمْ فَا ّتقُونِ (‪)52‬‬


‫وَإِنّ هَ ِذهِ ُأمّ ُت ُكمْ ُأمّ ًة وَا ِ‬

‫بعد أن تكلّم الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬عن المعركة بين اليمان والكفر أراد هنا أن يتكلم عن‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫معركة أخرى ل تقلّ خطورة عن الولى‪ ،‬وهي معركة الفُرْقة والختلف بين صفوف المؤمنين‪،‬‬
‫عضُد المة و ُتضِعفها أمام أعدائها‪ ،‬ونسمعهم‬
‫ق عصانا‪ ،‬وتفُتّ في َ‬
‫ليحذرنا من الخلفات التي تش ّ‬
‫الن يقولون عنّا بعدما وصلنا إليه من شيع وأحزاب ‪ -‬ليتفقوا أولً فيما بينهم‪ ،‬ثم يُبشّروا‬
‫بالسلم‪.‬‬
‫المة‪ :‬الجماعة يجمعهم زمن واحد أو دين واحد‪ ،‬وتُطلَق على الفرد الواحد حين تجتمع فيه‬
‫خصال الخير التي ل تجتمع إل في أمة‪ ،‬لذلك سمّى ال تعالى نبيه إبراهيم أمة في قوله تعالى‪{:‬‬
‫إِنّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ ُأمّةً قَانِتا لِلّهِ حَنِيفا وَلَمْ َيكُ مِنَ ا ْلمُشْ ِركِينَ }[النحل‪.]120 :‬‬
‫جعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَ ًة َومِ ْنهَاجا‪[} ..‬المائدة‪ ]48 :‬فكيف نقول‪ :‬إنها أمة واحدة؟‬
‫أما قوله سبحانه‪ِ {:‬ل ُكلّ َ‬
‫قالوا‪ :‬لن الدين يتكّون من أصول وعقائد‪ ،‬وهذه واحدة ل تختلف باختلف الديان‪ ،‬وأخلق‬
‫وفروع‪ .‬وهذه تختلف من دين لخر باختلف البيئة؛ لنها تأتي بما يناسب حركة الحياة في كل‬
‫عصر‪.‬‬
‫ك َومَا َوصّيْنَا ِبهِ إِبْرَاهِيمَ‬
‫يقول تعالى‪ {:‬شَ َرعَ َلكُم مّنَ الدّينِ مَا َوصّىا ِبهِ نُوحا وَالّذِي َأوْحَيْنَآ إِلَ ْي َ‬
‫ن َولَ تَ َتفَ ّرقُواْ فِيهِ‪[} ..‬الشورى‪]13 :‬‬
‫َومُوسَىا وَعِيسَىا أَنْ َأقِيمُواْ الدّي َ‬
‫إذن‪ :‬فالمة واحدة يعني في عقائدها وإن اختلفتْ في الشريعة والمنهج‪ ،‬والحكام الجزئية التي‬
‫حلّ َلكُم َب ْعضَ الّذِي حُرّمَ عَلَ ْيكُمْ‪[ } ..‬آل‬
‫تتعرض لقضية الحياة‪ .‬ومن ذلك قوله تعالى‪َ { :‬ولُ ِ‬
‫عمران‪.]50 :‬‬
‫وكانوا في المم السابقة إذا وقعت نجاسة على ثوب يقطعون الموضع الذي وقعت عليه‪ ،‬فلما جاء‬
‫السلم خفّف عن الناس هذا العَنت‪ ،‬وشرع لهم أنْ يغسلوه فيطهر‪.‬‬
‫وما دام أن أمتكم أمة واحدة { وَأَنَاْ رَ ّبكُمْ فَا ّتقُونِ } [المؤمنون‪ ]52 :‬يعني‪ :‬اتقوا ال في هذه المة‬
‫الواحدة وأبقوا على وحدتها‪ ،‬واحذروا ما يُفرّقها من خلفات حول فروع إن اختلف البعض عليها‬
‫اتهموا الخرين بالكفر؛ لنهم يريدون أنْ يَنْهبوا من الدين الجامع سلطة زمنية لنفسهم‪.‬‬
‫شيْءٍ‪} ..‬‬
‫ستَ مِ ْنهُمْ فِي َ‬
‫والحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يقول‪ {:‬إِنّ الّذِينَ فَ ّرقُواْ دِي َنهُ ْم َوكَانُواْ شِيَعا لّ ْ‬
‫[النعام‪.]159 :‬‬
‫ف عليها ول اجتهادَ فيها‪ ،‬وأما‬
‫حكَم أصول ل خل َ‬
‫فالمور التي أحكمها ال باللفظ الصريح المُ ْ‬
‫المور التي تركها سبحانه للجتهاد فيجب أن نحترم فيها اجتهاد الخرين‪ ،‬وإل لو أراد الحق‬
‫سبحانه لجعل المر كله ُمحْكما ل مجالَ فيه لرأي أو اجتهاد‪.‬‬
‫ومعنى { وَأَنَاْ رَ ّب ُكمْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]52 :‬أن من عطاء ربوبيتي أنْ جع ْلتُ لكم أمورا محكمة‬
‫وعقائد ثابتة؛ لن الختلف فيها يفسد المجتمع‪ ،‬وتركتُ لكم أمورا أخرى تأتون بها أو تتركونها‪،‬‬
‫ُكلّ حسب اجتهاده؛ لن الختلف فيها ل يترتب عليه فساد في المجتمع‪ ،‬وسبق أن مثّلنا لهذه‬
‫المور‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حكِموه‪ ،‬وما جعلتُ لكم فيه‬
‫وقوله‪ { :‬فَا ّتقُونِ } [المؤمنون‪ ]52 :‬يعني‪ :‬بطاعة المر‪ ،‬فما أحكمتُه فَأ ْ‬
‫اجتهادا فاقبلوا فيه اجتهاد الخرين‪.‬‬
‫طعُواْ َأمْرَ ُهمْ بَيْ َنهُمْ زُبُرا‪.} ..‬‬
‫لكن‪ ،‬هل سمعنا قوْل ال وأطعْنَا؟ يقول سبحانه‪ { :‬فَ َتقَ ّ‬

‫(‪)2706 /‬‬

‫طعُوا َأمْ َرهُمْ بَيْ َنهُمْ زُبُرًا ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا لَدَ ْي ِهمْ فَرِحُونَ (‪)53‬‬
‫فَ َتقَ ّ‬

‫{ زُبُرا } [المؤمنون‪ ]53 :‬يعني‪ :‬قطعا متفرقة‪ ،‬ومنه{ آتُونِي زُبَرَ ا ْلحَدِيدِ‪[} ..‬الكهف‪.]96 :‬‬
‫{ ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ فَ ِرحُونَ } [المؤمنون‪ ]53 :‬يعني‪ :‬كل جماعة تتعصب لرأيها وتفرح به‪،‬‬
‫وكأنها على الحق وغيرها على الباطل‪ ،‬يريدون أن تكون لهم سلطة زمنية بين الناس‪ ،‬ويُصوّرون‬
‫لهم أنهم أتوْا بما لم يأت به أحد من قبلهم‪ ،‬وتنبّهوا إلى ما غفل عنه الخرون‪.‬‬
‫{ ِبمَا َلدَ ْيهِمْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]53 :‬بالرأي الذي يريدونه‪ ،‬ل بالحكم الذي يرتضيه الحق سبحانه‬
‫وتعالى‪.‬‬
‫من ذلك قولهم‪ :‬إن الصلة في مسجد به قبر أو ضريح باطلة‪ ،‬وأن ذلك شرك في العبادة‪ ..‬إلخ‬
‫ولو أن المر كما يقولون فليهدموا القبر في المدينة‪.‬‬
‫ن يتفهموا المور على وجهها الصحيح‪ ،‬حتى ل‬
‫إن على هؤلء الذين يثيرون مثل هذه الخلفات أ ْ‬
‫طعُواْ َأمْرَهُمْ بَيْ َن ُهمْ زُبُرا ُكلّ حِ ْزبٍ ِبمَا لَدَ ْي ِهمْ فَرِحُونَ }‬
‫نكون من الذين قال ال عنهم‪ { :‬فَ َتقَ ّ‬
‫[المؤمنون‪.]53 :‬‬
‫وما أفسد استقبال الديان السابقة على السلم إل مثل هذه الخلفات‪ ،‬وإلّ فكل دين سبق السلم‬
‫وخصوصا الموسوية والعيسوية قد بشّ َرتْ بمحمد صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وكانوا وهم أهل كتاب‬
‫ورسالة وعلى صلة بالسماء ‪ -‬يجادلون أهل الكفر من عبدة الصنام يقولون‪ :‬لقد أطلّ زمان نبي‬
‫يظهر فيكم نتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ {:‬فََلمّا جَآ َءهُمْ مّا عَ َرفُواْ َكفَرُواْ ِبهِ‪[} ..‬البقرة‪ ]89 :‬لماذا؟ لنهم يريدون أن يحتفظوا‬
‫بسلطتهم الزمنية‪.‬‬
‫كيف ل ينكرون رسول ال صلى ال عليه وسلم‪ ،‬وقد كان أحدهم يستعد لتنصيب نفسه ملكا على‬
‫المدينة يوم أنْ دخلها رسول ال‪ ،‬فأفسد عليه ما أراد؟‬

‫(‪)2707 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫غمْرَ ِتهِمْ حَتّى حِينٍ (‪)54‬‬
‫فَذَرْ ُهمْ فِي َ‬

‫{ َفذَرْهُمْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]54 :‬يعني‪ :‬دَعْهم‪ ،‬والعرب لم تستعمل الماضي من هذين الفعلين‪ ،‬فورد‬
‫فيهما يدع ويذر‪ .‬وقد ورد هذا الفعل أيضا في قوله تعالى‪ {:‬وَذَرْنِي وَا ْل ُمكَذّبِينَ ُأوْلِي ال ّن ْعمَةِ‪} ..‬‬
‫[المزمل‪.]11 :‬‬
‫وفي قوله تعالى‪َ {:‬فذَرْنِي َومَن ُيكَ ّذبُ ِبهَـاذَا الْحَدِيثِ‪[} ..‬القلم‪.]44 :‬‬
‫والمعنى‪ :‬ذرهم لي أنا أتولى عقابهم‪ ،‬وأفعل بهم ما أشاء‪ ،‬أو‪ :‬ذرهم يفعلون ما يشاءون ليستحقوا‬
‫العقاب‪ ،‬وينزل بهم العذاب‪.‬‬
‫والغمرة‪ :‬جملة الماء التي تغطي قامة الرجل وتمنع عنه التنفس‪ ،‬فل يبقى له من أمل في الحياة إل‬
‫بمقدار ما في رئته لكبر قدر من الهواء؛ لذلك يحرص النسان على أنْ يُمرّن نفسه على أن تتسع‬
‫رئته لكبر قدر من الهواء‪.‬‬
‫ومن ذلك أخذت كلمة المنافسة‪ ،‬وأصلها أن يغطس اثنان تحت الماء ليختبر كل منهما الخر‪ :‬أيّهما‬
‫يبقى فترة أطول تحت الماء ودون تنفس‪.‬‬
‫ويقول تعالى‪َ {:‬وفِي ذَِلكَ فَلْيَتَنَافَسِ ا ْلمُتَنَافِسُونَ }[المطففين‪ ]26 :‬وتستطيع أن تُجري مع نفسك هذه‬
‫المنافسة‪ ،‬بأن تأخذ نفسا عميقا ثم تعد‪ :‬واحد‪ ،‬اثنان وسوف ترى مقدار ما في رئتك من الهواء‪.‬‬

‫فالمعنى‪ :‬ذَرْهم في غبائهم وغفلتهم فلن يطول بهم الوقت؛ لنهم كمن غمره الماء‪ ،‬وسرعان ما‬
‫تنكتم أنفاسه ويفارق الحياة؛ لذلك قال تعالى بعدها‪ { :‬حَتّىا حِينٍ } [المؤمنون‪ ]54 :‬والحين مدة‬
‫من الزمن قد تطول‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ُ {:‬تؤْتِي ُأكَُلهَا ُكلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَ ّبهَا‪[} ..‬إبراهيم‪.]25 :‬‬
‫ن وَحِينَ ُتصْبِحُونَ }[الروم‪ ]17 :‬وكأن‬
‫وقد تقتصر كما في قوله تعالى‪ {:‬فَسُ ْبحَانَ اللّهِ حِينَ ُتمْسُو َ‬
‫ال تعالى عَبّر بالغمرة ليدل على أن حينهم لن يطول‪.‬‬
‫ثم ينتقل السياق ليعالج قضية قد تشغل حتى كثيرا من المؤمنين‪ { :‬أَ َيحْسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّ ُهمْ بِهِ مِن مّالٍ‬
‫وَبَنِينَ * نُسَا ِرعُ َلهُمْ‪.} ..‬‬

‫(‪)2708 /‬‬

‫شعُرُونَ (‪)56‬‬
‫ل وَبَنِينَ (‪ )55‬نُسَا ِرعُ َلهُمْ فِي ا ْلخَيْرَاتِ َبلْ لَا يَ ْ‬
‫حسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّهُمْ بِهِ مِنْ مَا ٍ‬
‫أَيَ ْ‬

‫هذه قضية شغلت كثيرا من المؤمنين حين يروْنَ الكافرين بال مُرفّهين مُنعّمين‪ ،‬في يدهم المال‬
‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫والنفوذ‪ ،‬في حين أن المؤمنين فقراء‪ ،‬وربما تشكّك البعض واهتزّ إيمانه لهذه المتناقضات‪.‬‬
‫ونقول لهؤلء‪ :‬لم تكن هذه صورة المؤمنين في الماضي‪ ،‬إنهم سادوا الدنيا بعلومهم وثقافاتهم‬
‫حلّ بهم ما هم‬
‫وازدهرتْ حضارتهم على مدى ألف سنة من الزمان‪ ،‬فلما تخّلوْا عن دينهم وقِيَمهم َ‬
‫فيه الن‪.‬‬
‫لقد تقدم علينا الخرون؛ لنهم أخذوا بأسباب الدنيا‪ ،‬وينبغي علينا نحن المسلمين أن نأخذ أيضا‬
‫بهذه السباب؛ لنها من عطاء الربوبية الذي ل يُحرم منه ل مؤمن ول كافر‪ ،‬فَمنْ أحسنه نال‬
‫ثمرته وأخذ خيره‪.‬‬
‫قال سبحانه‪ {:‬مَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الخِ َرةِ نَ ِزدْ لَهُ فِي حَرْثِ ِه َومَن كَانَ يُرِيدُ حَ ْرثَ الدّنْيَا ُنؤْتِهِ مِ ْنهَا‬
‫َومَا َلهُ فِي الخِ َرةِ مِن ّنصِيبٍ }[الشورى‪ ]20 :‬والسباب يد ال الممدودة لخَلْقه‪ ،‬فَمنْ ردّ يد ال‬
‫إليه فل ُبدّ أن يشْقى في رحلة الحياة‪.‬‬
‫وقد يكون تنعّم هؤلء مجرد ترف يجرّهم إلى الطغيان‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬فََلمّا نَسُواْ مَا‬
‫شيْءٍ حَتّىا إِذَا فَ ِرحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَخَذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا ُهمْ مّبْلِسُونَ }‬
‫ُذكّرُواْ بِهِ فَ َتحْنَا عَلَ ْيهِمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫[النعام‪.]44 :‬‬
‫ل وَبَنِينَ *‬
‫حسَبُونَ أَ ّنمَا ُنمِدّ ُهمْ بِهِ مِن مّا ٍ‬
‫لذلك فالحق ‪ -‬تبارك وتعالى ‪ -‬يعالج هنا هذه المسألة‪ { :‬أَيَ ْ‬
‫نُسَا ِرعُ َلهُمْ فِي ا ْلخَيْرَاتِ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]56 - 55 :‬أيظنون أن هذا خير لهم؟ ل‪ ،‬بل هو إمهال‬
‫واستدراج ليزدادوا طغيانا‪.‬‬
‫وفي موضع آخر يقول سبحانه‪َ {:‬ولَ ُتعْجِ ْبكَ َأ ْموَاُلهُ ْم وََأ ْولَدُهُمْ إِ ّنمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن ُي َعذّ َبهُمْ ِبهَا فِي‬
‫الدّنْيَا }[التوبة‪.]85 :‬‬
‫شعُرُونَ } [المؤمنون‪( ]56 :‬بل)‪ :‬تفيد الضراب عما قبلها وإثبات ما‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬بَل لّ َي ْ‬
‫بعدها‪ ،‬إضراب عن مسألة تنعّم هؤلء؛ لنها نعمة موقوته وزائلة‪ ،‬وهي في الحقيقة عليهم نقمة‪،‬‬
‫لنهم ل يشعرون‪ ،‬ل يشعرون أن هذه النعمة ل تعني محبتهم ورضانا عنهم‪ ،‬ول يشعرون‬
‫بالمكيدة وبالفخ الذي يُدبّر لهم‪.‬‬
‫وسبق أن أوضحنا أن ال تعالى حين يريد النتقام من عدوه يُمدّه أولً‪ ،‬ويُوسّع عليه ويُعلي مكانته‪،‬‬
‫حتى إذا أخذه كان أَخْذه مؤلما وشديدا‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬نُسَا ِرعُ َلهُمْ فِي ا ْلخَيْرَاتِ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]56 :‬المسارعة ترد في كتاب ال على‬
‫َمعَانٍ‪ :‬مرة يتعدّى الفعل بإلى‪ ،‬مثل‪ {:‬وَسَارِعُواْ إِلَىا َمغْفِ َرةٍ مّن رّ ّبكُمْ‪[} ..‬آل عمران‪ ]133 :‬ومرة‬
‫يتعدى بفي‪ ،‬مثل‪ُ { :‬يسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]61 :‬فما الفرق بين المعنيين؟‬
‫ن كنتَ في الخير‬
‫طىً عاجلة‪ ،‬لكن إ ْ‬
‫سارع إلى كذا‪ :‬إذا كنتَ خارجا عنه‪ ،‬وتريد أن تخطو إليه خُ ّ‬
‫أصلً وتريد أنْ ترتقي فيه تقول‪ :‬سارع في الخيرات‪ .‬فالولى يخاطب بها مَنْ لم يدخل في حيّز‬
‫الخير‪ ،‬والخرى لمنْ كان مظروفا في الخير‪ ،‬ويريد الرتقاء‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫(‪)2709 /‬‬

‫ش ِفقُونَ (‪)57‬‬
‫إِنّ الّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْ َيةِ رَ ّبهِمْ مُ ْ‬

‫الخشية‪ :‬هي أشد الخوف‪ ،‬والنسان قد يخاف من شيء‪ ،‬لكن يبقى عنده أمل في النجاة‪ ،‬ويتوقّع‬
‫من السباب ما ينقذه ويُؤمّن خوفه‪ ،‬لكن حين تخاف من ال فهو خوف ل منفذَ للمل فيه‪ ،‬ول‬
‫تهبّ فيه هَبّة تُشعرك بلطف‪.‬‬
‫شفِقُونَ } [المؤمنون‪ ]57 :‬الشفاق أيضا الخوف‪ ،‬وهو خوف يُمدَح ول يُذم؛ لنه خوف‬
‫ومعنى { مّ ْ‬
‫يحمل صاحبه ويحثّه على تجنّب أسباب الخشية بالعمل الصالح‪ ،‬إنه إشفاق من الذنب الذي‬
‫يستوجب العقوبة‪ ،‬كالتلميذ الذي يذاكر ويجتهد خوفا من الرسوب‪ ،‬وهكذا حال المؤمن يخاف هذا‬
‫الخوف المثمر الممدوح الذي يجعله يأخذ بأسباب النجاة‪ ،‬وهذا دليل اليمان‪.‬‬
‫أمّا الشفاق بعد فوات الوان‪ ،‬والذي حكاه القرآن عن المجرمين‪َ {:‬و ُوضِعَ ا ْلكِتَابُ فَتَرَى‬
‫ش ِفقِينَ ِممّا فِي ِه وَيَقُولُونَ ياوَيْلَتَنَا‪[} ..‬الكهف‪ ]49 :‬فهذا إشفاق ل فائدة منه؛ لنه جاء‬
‫ا ْلمُجْ ِرمِينَ مُ ْ‬
‫بعد ضياع الفرصة وانتهاء وقت العمل‪ ،‬فقد قامت القيامة ونُشِرت الكتب ول أملَ في النجاة إذن‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَالّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَ ّبهِمْ ُي ْؤمِنُونَ * وَالّذِينَ هُم بِرَ ّبهِمْ‪.} ..‬‬

‫(‪)2710 /‬‬

‫وَالّذِينَ ُهمْ بِآَيَاتِ رَ ّبهِمْ ُي ْؤمِنُونَ (‪ )58‬وَالّذِينَ هُمْ بِرَ ّبهِمْ لَا ُيشْ ِركُونَ (‪)59‬‬

‫نلحظ في هذه اليات أن الحق سبحانه حدثنا عن الشفاق والخشية‪ ،‬ثم عن اليمان بآيات ال‪ ،‬ثم‬
‫في النهاية عن مسألة الشرك‪ .‬وقد تسأل‪ :‬لماذا لم يبدأ بالتحذير من الشرك؟‬
‫نقول‪ :‬لن الشرك المراد هنا الشرك الخفي الذي يقع فيه حتى المؤمن‪ ،‬والذي قال ال فيه‪َ {:‬ومَا‬
‫ل وَهُمْ مّشْ ِركُونَ }[يوسف‪ ]106 :‬فل تظن أن الشرك فقط أن تجعل ل شريكا‪،‬‬
‫ُي ْؤمِنُ َأكْثَ ُرهُمْ بِاللّهِ ِإ ّ‬
‫أو أن تسجد لصنم‪ ،‬فمن الشرك شرك خفي دقيق يتسرب إلى القلب ويخالط العمل مهما كان‬
‫صاحبه مؤمنا‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالنبي صلى ال عليه وسلم يُعلّمنا الدب في هذه المسألة‪ ،‬فيقول في دعائه‪ " :‬اللهم إني‬
‫أستغفرك من كل عمل أردتُ به وجهك فخالطني فيه ما ليس لك "‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فالنسان يشرع في العمل ويخلص فيه النية ل‪ ،‬ومع ذلك يتسرب إليه شيء من الرياء وتزيين‬
‫الشيطان؛ لذلك وصف النبي صلى ال عليه وسلم الشرك الخفي بأنه أخفى من دبيب النملة‬
‫السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء‪.‬‬
‫كما أن الشرك الكبر ل يتصور ِممّن هذه الصفات المتقدمة صفاته‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَآ آتَو ْا ّوقُلُوبُهُ ْم َوجِلَةٌ‪.} ..‬‬

‫(‪)2711 /‬‬

‫جعُونَ (‪)60‬‬
‫وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَا آَ َتوْا َوقُلُو ُبهُ ْم وَجِلَةٌ أَ ّنهُمْ إِلَى رَ ّبهِمْ رَا ِ‬

‫{ ُيؤْتُونَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]60 :‬يعني المال‪ ،‬وقال بعدها‪ { :‬مَآ آتَواْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]60 :‬حتى ل‬
‫يجعل لها حدا‪ ،‬ل العُشْر ول نصف العُشر‪ ،‬يريد سبحانه أن يفسح لريحية العطاء وسخاء النفس‪،‬‬
‫لذلك جاءت { مَآ آتَواْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]60 :‬هكذا مُبْهمة حتى ل نظن أنها الزكاة‪ ،‬ونعرف أن ال‬
‫تعالى يفتح المجال للحسانية والتفضّل‪ ،‬وهذا هو مقام الحسان الذي قال ال تعالى عنه‪ {:‬إِنّ‬
‫ا ْلمُ ّتقِينَ فِي جَنّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَآ آتَا ُهمْ رَ ّبهُمْ إِ ّن ُهمْ كَانُواْ قَ ْبلَ ذَِلكَ مُحْسِنِينَ }[الذاريات‪- 15 :‬‬
‫‪.]16‬‬
‫والمحسن‪ :‬الذي يلزم نفسه من الطاعات فوق ما ألزمه ال‪ ،‬لكن من جنس ما فرض ال عليه‪ ،‬فإن‬
‫كان الفرض في الصوم شهر رمضان يصوم المحسن رمضان ويزيد عليه؛ لذلك تجد الدقة في‬
‫سحَارِ هُمْ يَسْ َت ْغفِرُونَ }‬
‫جعُونَ * وَبِالَ ْ‬
‫الداء القرآني‪ ،‬حيث يقول بعدها‪ {:‬كَانُواْ قَلِيلً مّن اللّ ْيلِ مَا َي ْه َ‬
‫[الذاريات‪.]18 - 17 :‬‬
‫صلّ العشاء ونَمْ‬
‫وهذه أمور فوق ما فرض ال عليهم‪ ،‬ولم يطلب منك أن تقوم الليل ل تنام‪ ،‬لكن َ‬
‫حتى الفجر‪ ،‬وهذه المسألة واضحة في قوله تعالى بعدها‪َ {:‬وفِي َأ ْموَاِلهِمْ حَقّ لّلسّآ ِئلِ وَا ْلمَحْرُومِ }‬
‫[الذرايات‪ ]19 :‬ولم يقل (معلوم) لن الية ل تتكلم عن الحق المعلوم وهو الزكاة‪ ،‬إنما عن‬
‫الصدقة والتطوع فوق ما فرض ال‪.‬‬
‫والبهام في { مَآ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]60 :‬جاء أيضا في قول ال تعالى‪َ {:‬فغَشِ َي ُهمْ مّنَ الْيَمّ مَا غَشِ َيهُمْ }‬
‫[طه‪ ]78 :‬ولم يحدد مقدار الماء الذي غشيهم‪ ،‬وترك المسألة مبهمة ليكون المعنى أبلغ‪ ،‬ولتذهب‬
‫الظنون في َهوْلها كل مذهب‪.‬‬
‫لكن؛ ما داموا قد أعْطوا ومدّوا أيديهم للخرين بالعطاء‪ ،‬فلماذا يقول تعالى‪ّ { :‬وقُلُو ُبهُمْ وَجِلَةٌ‪} ..‬‬
‫[المؤمنون‪.]60 :‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫نقول‪ :‬لن العبرة ليست بمجرد العمل‪ ،‬إنما العبرة بقبول العمل‪ ،‬والعمل ل يُقبل إل إذا كان خالصا‬
‫لوجه ال ل يخالطه رياء ول سمعة‪ ،‬فهم إذن يعملون ويتح ّروْن الخلص وأسباب القبول‬
‫ويتصدّق أحدهم بالصدقة‪ ،‬بحيث ل تعلم شماله ما أنفقتْ يمينه‪ ،‬ومع ذلك يخاف عدم القبول‪ ،‬وهذه‬
‫أيضا من علمات اليمان‪.‬‬
‫ن تعمل عملً ل تأخذ عليه أجرا؛ لنك إنْ رأيت الناس في شيء‬
‫وكأن ربك عز وجل َيغَار عليك أ ْ‬
‫جهْد ُمهْدر ل فائدة منه‪ ،‬وهذه المسألة ل‬
‫من العمل تركك ال وإياهم تأخذ منهم الجزاء‪ ،‬فهذا إذن َ‬
‫يرضاها لك ربك‪.‬‬
‫وفي الحديث القدسي‪ " :‬الخلص سِرّ من أسراري أودعته قلب مَنْ أحببت من عبادي‪ ،‬ل يطلع‬
‫عليه مَلَك فيكتبه‪ ،‬ول شيطان فيفسده "‪.‬‬
‫والوجل‪ :‬انفعال قسري واضطراب يطرأ على العضو من خوف أو خشية‪ ،‬والخوف شيء يخيفك‬
‫أنت‪ ،‬أما الخشية فهي أعلى من الخوف‪ ،‬وهي أن تخاف ممن يوقع بك أذى أشد مما أنت فيه‪.‬‬
‫ومن أهل التفسير مَنْ يرى أن الية { وَالّذِينَ ُيؤْتُونَ مَآ آتَو ْا ّوقُلُو ُبهُ ْم وَجِلَةٌ‪.‬‬

‫‪[ { .‬المؤمنون‪ ]60 :‬جاءت في الرجل الذي يسرق‪ ،‬والذي يزني‪ ،‬والذي يشرب الخمر‪ ،‬لكن قلبه‬
‫وَجلٌ من لقاء ال وخشيته‪ ،‬فما يزال فيه بقية من بقايا اليمان والحياء من ال تعالى‪ .‬وقالوا‪ :‬إن‬
‫عائشة رضي ال عنها فهمت هذا من الية‪.‬‬
‫لكن هذا الفهم ل يستقيم مع قوله تعالى } ُيؤْتُونَ‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]60 :‬أي‪ :‬يؤتون غيرهم‪ ،‬فهناك‬
‫ت ومُؤْتىً له‪ ،‬ولو أراد السرقة والزنى وشرب الخمر لقال‪ :‬يَأْتُون‪.‬‬
‫إذن مُؤ ٍ‬
‫فالمراد‪ :‬يؤتون غيرهم ما عليهم من الحق‪ ،‬سواء أكانت هذه الحقوق ل تعالى كالزكاة والكفارات‬
‫والنذور والحدود‪ ،‬أو كانت متعلقة بالعباد كالودائع والمانات والعدالة في الحكم بينهم‪ ..‬الخ فيؤدي‬
‫جلٌ َألّ يصاحب الخلص عمله فل يقبل‪.‬‬
‫المؤمن ما عليه من هذه الحقوق‪ ،‬وقلبه وَ ِ‬
‫جعُونَ { [المؤمنون‪ ]60 :‬فالمؤمن يؤدي ما عليه‪ ،‬ومع ذلك‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬أَ ّنهُمْ إِلَىا رَ ّبهِمْ رَا ِ‬
‫تراه خائفا وَجِلً؛ لنه يثق في الرجوع إلى ال والوقوف بين يديه سبحانه‪ ،‬وهو ربه الذي يُجازيه‬
‫على قّدْر إخلصه‪ ،‬ويخاف أيضا أن يفتضح أمره إنْ خالط عملَه شيءٌ من الرياء؛ لن ربه غيور‬
‫ل يرضى معه شريكا في العمل‪ ،‬وهو سبحانه يعلم كل شيء ويحاسب على ذرات الخير وعلى‬
‫ذرات الشر‪.‬‬
‫وهناك أعمال في ظاهرها أنها من الدين‪ ،‬لكن في طيها شيء من الرياء‪ ،‬وإنْ لم يَدْرِ النسان به‪،‬‬
‫ومن ذلك قولهم‪ :‬أفعل هذا ل ثم لك‪ ،‬أو‪ :‬توكلت على ال وعليك‪ ..‬الخ‪ ،‬فهذه العبارات وأمثالها‬
‫تحمل في طياتها معاني الشرك التي ينبغي أن نُنزّه ال منها‪ ،‬فل نعطف على ال تعالى أحدا حتى‬
‫ل نشركه مع ال‪ ،‬ولو عن غيرقصد‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ل وَهُمْ مّشْ ِركُونَ }[يوسف‪ ]106 :‬ويوم القيامة يطمئن‬
‫لذلك يقول تعالى‪َ {:‬ومَا ُي ْؤمِنُ َأكْثَرُهُمْ بِاللّهِ ِإ ّ‬
‫أهل الخلص إلى الجزاء‪ ،‬و ُيفَاجأ أهل الشرك والرياء بوجود ال تعالى‪ ،‬ولم يكن على بالهم حين‬
‫ظمْآنُ مَآءً حَتّىا إِذَا جَآ َءهُ َلمْ َيجِ ْدهُ شَيْئا‬
‫حسَبُهُ ال ّ‬
‫عمَاُلهُمْ كَسَرَابٍ ِبقِيعَةٍ يَ ْ‬
‫عملوا‪ {:‬وَالّذِينَ َكفَرُواْ أَ ْ‬
‫حسَابَهُ‪[} ..‬النور‪ ]39 :‬إذن‪ :‬ما ُدمْنَا سنفاجأ بوجود الحق‪ ،‬ول شيء غير‬
‫َووَجَدَ اللّهَ عِن َدهُ َف َوفّاهُ ِ‬
‫الحق‪ ،‬فليكُنْ عملنا للحق‪ ،‬ول شيء لغير الحق‪.‬‬
‫} ُأوْلَـا ِئكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2712 /‬‬

‫ت وَهُمْ َلهَا سَا ِبقُونَ (‪)61‬‬


‫أُولَ ِئكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَا ِ‬

‫{ ُأوْلَـا ِئكَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]61 :‬أي‪ :‬أصحاب الصفات المتقدمة { ُيسَارِعُونَ فِي ا ْلخَيْرَاتِ‪} ..‬‬
‫[المؤمنون‪ ]61 :‬وفرْق بين أسرع وسارع‪ :‬أسرع يُسرع يعني‪ :‬بذاته‪ ،‬إنما سارع يسارع أي‪ :‬يرى‬
‫غيره يسرع‪ ،‬فيحاول أنْ يتفوق عليه‪ ،‬ففيه مبالغة وحافز على المنافسة‪.‬‬
‫وسبق أنْ أوضحنا الفرق بين سارع إلى وسارع في‪ ،‬فمعنى { يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ‪} ..‬‬
‫[المؤمنون‪ ]61 :‬أنهم كانوا في حيّز الخيرات ومظروفين فيه‪ ،‬لكن يحاولون الرتقاء والزدياد من‬
‫الخيرات للوصول إلى مرتبة أعلى‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬وَهُمْ َلهَا سَا ِبقُونَ } [المؤمنون‪ ]61 :‬هل المسارعة هي عِلّة أنهم سبقوا إلى‬
‫الخيرات‪ ،‬أم أنْ سَبْقهم إلى الخيرات عِلّة المسارعة؟‬
‫في اللغة يقولون‪ :‬سبب ومُسبب‪ ،‬وشرط وجزاء‪ ،‬وعلة ومعلول‪ .‬فحين تقول‪ :‬إنْ تذاكر تنجح‪،‬‬
‫فالمذاكرة سبب النجاح‪ ،‬لكن هل سبقت المذاكرةُ النجاح؟ ل‪ ،‬بل وُجد النجاح أولً في بالك‪،‬‬
‫واستحضرت مميزاته وكيف ستكون منزلتك في المجتمع وبين الناس‪ ،‬وبذلك وجد عندك دافع‬
‫وخاطر‪ ،‬ثم أردت أنْ تحققه واقعا‪ ،‬فذاكرت للوصول إلى هذا الهدف‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فكل شرط وجواب‪ :‬الجواب سبب في الشرط‪ ،‬والشرط سبب في الجواب‪ ،‬الجواب سبب في‬
‫الشرط دافعا له‪ ،‬والشرط سبب في الجواب واقعا وتنفيذا‪ ،‬فالنجاح وُجد دافعا على المذاكرة‪،‬‬
‫والمذاكرة جاءت واقعا ليتحقق النجاح‪.‬‬
‫ت وَهُمْ َلهَا سَا ِبقُونَ } [المؤمنون‪ ]61 :‬فالمعنى‪ :‬القصد‬
‫وكذلك في { ُأوْلَـا ِئكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَا ِ‬
‫أنْ يسبق فسارع‪ ،‬سارع في الواقع ليسبق بالفعل‪ ،‬لكن السبْق قبل المسارعة؛ لن الذهن متهيء له‬
‫أولً وحقائقه واضحة‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬الشرط والجزاء‪ ،‬والسبب والمسبب‪ ،‬والعلة والمعلول تدور بين دافع هو الجواب‪ ،‬وواقع هو‬
‫الشرط‪.‬‬
‫ومعنى‪ { :‬وَ ُهمْ َلهَا سَا ِبقُونَ } [المؤمنون‪ ]61 :‬يعني‪ :‬هم أهل لهذا العمل وقادرون عليه‪ ،‬كما لو‬
‫طلبتُ منك شيئا فتقول لي‪ :‬هذا شيء صعب فأقول لك‪ :‬وأنت لها‪.‬‬
‫س َعهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِا ْلحَقّ‪.} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬ولَ ُنكَّلفُ َنفْسا ِإلّ وُ ْ‬

‫(‪)2713 /‬‬

‫ق وَهُمْ لَا يُظَْلمُونَ (‪)62‬‬


‫حّ‬‫س َعهَا وََلدَيْنَا كِتَابٌ يَ ْنطِقُ بِالْ َ‬
‫وَلَا ُنكَّلفُ َنفْسًا إِلّا وُ ْ‬

‫بعد أن تكلم الحق سبحانه عن المسارعة والمنافسة بيّن أنها على قَدْر الوُسْع والطاقة‪ ،‬وأنه سبحانه‬
‫ما كلّفك إل بعد عِلْمه بقدرتك‪ ،‬وأنك تسع هذا التكليف‪ ،‬فإياك أنْ تنظر إلى الحكم فتقول‪ :‬أنا أسعه‬
‫أو ل أسعه‪ ،‬لكن أنظر إلى التكليف‪ :‬ما دام ربك قد كلّفك فاعلم أنه في وُسْعك‪ ،‬وحين يعلم منك‬
‫ربك عدم القدرة يُخفّف عنك التكليف دون أنْ تطلب أنت ذلك‪ .‬والمثلة على تخفيف التكاليف‬
‫واضحة في الصلة والصوم والحج‪ ..‬الخ‪.‬‬
‫والن نسمع مَنْ يقول‪ :‬لم َتعُد الطاقة في هذا العصر تسع هذه التكاليف‪ ،‬فالزمن تغيّر‪ ،‬والعمال‬
‫والمسئوليات كثرت‪ ،‬إلى غير ذلك من هذه القوال التي يريد أصحابها التنصّل من شرع ال‪.‬‬
‫ونقول ما دام التكليف باقيا فالوُسْع بَاقٍ‪ ،‬والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أعلم بوُسْع خَلْقه وطاقاتهم‪.‬‬
‫ل إلى التكليف‪ ،‬ثم أحكم على الوُسْع من التكليف‪ ،‬ول أحكم على التكليف من‬
‫إذن‪ :‬أنا أنظر أو ً‬
‫الوُسْع‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪ { :‬وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِا ْلحَقّ وَهُ ْم لَ يُظَْلمُونَ } [المؤمنون‪ ]62 :‬المراد هنا كتاب‬
‫أعمالنا الذي سجّل فيه كل شيء قدّمته اليدي‪ ،‬لكن‪ :‬ما الحكمة من تسجيل العمال؟ وهل يُكذّب‬
‫سجّل عليهم؟‬
‫العباد ربهم عز وجل فيما ُ‬
‫قالوا‪ :‬الحكمة من تسجيل العمال أن تكون حجة على صاحبها‪ ،‬وليعلم أن ال ما ظلمه شيئا؛ لذلك‬
‫سيقول له ربه‪ {:‬اقْ َرأْ كِتَا َبكَ‪[} ..‬السراء‪ ]14 :‬يعني‪ :‬بنفسك حتى تُقام عليك الحجة‪ ،‬ول يكون‬
‫عندك اعتراض‪.‬‬
‫ثم قال بعدها‪ { :‬وَ ُه ْم لَ ُيظَْلمُونَ } [المؤمنون‪ ]62 :‬لن الظلم ل يُتصوّر من الحق ‪ -‬سبحانه‬
‫وتعالى ‪ -‬فالظلم نتيجة الحاجة‪ ،‬وأنت تظلم غيرك حين تريد أن تنتفع بأثر الغير في الخير زيادة‬
‫عمّا عندك‪ ،‬فالظلم إذن نتيجة الحاجة‪ ،‬والحق سبحانه هو المعطي‪ ،‬وهو الغني الذي ل حاجةَ له‬
‫َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إلى أحد‪ ،‬فلماذا يظلم؟‬
‫سدّ حاجته أو شهوته‪ ،‬ولو كان قويا لكفى نفسه‬
‫كذلك قد يظلم الضعيف ليأخذ ما في يد غيره لي ُ‬
‫بمجهوده‪.‬‬
‫عمَالٌ‪.} ..‬‬
‫غمْ َرةٍ مّنْ هَـاذَا وََلهُمْ أَ ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ { :‬بلْ قُلُو ُبهُمْ فِي َ‬

‫(‪)2714 /‬‬

‫عمَالٌ مِنْ دُونِ ذَِلكَ هُمْ َلهَا عَامِلُونَ (‪)63‬‬


‫غمْ َرةٍ مِنْ َهذَا وََلهُمْ أَ ْ‬
‫َبلْ قُلُو ُبهُمْ فِي َ‬

‫{ َبلْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]63 :‬حرف يدل على الضراب عن الكلم السابق‪ ،‬وإثبات الحكم للكلم‬
‫بعدها‪ .‬وال َغمْرة كما قلنا‪ :‬هي جملة الماء الذي يعلو قامة النسان حتى يمنع عنه التنفس ويحرمه‬
‫الهواء‪ ،‬وهو أول مُقوّم من مُقوّمات الحياة‪.‬‬
‫فالنسان يصبر على الطعام شهرا‪ ،‬ويصبر على الماء من ثلثة أيام لعشرة‪ ،‬إنما ل يصبر على‬
‫ال ّنفَس إل بمقدار ما يحتويه الصدر من الهواء‪ ،‬فإنْ كان كانت رئتك سليمة تتسع لكبر كمية من‬
‫الهواء‪ ،‬وتستطيع أنْ تتحمل عدم التنفس لفترة أطول‪ ،‬أما إن كانت الرئة مُعتَلّة‪ ،‬فإنها ل تتسع‬
‫لكمية كبيرة‪ ،‬وسرعان ما ينتهي الهواء ويموت النسان‪.‬‬
‫ومن التنفس جاءت المنافسة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪َ {:‬وفِي ذَِلكَ فَلْيَتَنَافَسِ ا ْلمُتَنَافِسُونَ }[المطففين‪]26 :‬‬
‫ثم استُعمَِلتْ لكل عمل تُنافِس فيه غيرك؛ لن الهواء هو العنصر الساسي في الحياة‪.‬‬
‫لذلك الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬حينما خلق هذه البِنْية النسانية جعل لها نظاما فريدا في وقودها‬
‫وغذائها على خلف صَنْعة البشر‪ ،‬فلو منعتَ البنزين مثلً عن السيارة توقفتْ‪ ،‬أمّا صنعة الخالق‬
‫‪ -‬عز وجل ‪ -‬فالجسم يأخذ حاجته من الطعام والماء‪ ،‬ثم يختزن الباقي لوقت الحاجة‪ ،‬وقد علم‬
‫الحق سبحانه شهوتك وحبك للطعام وللشراب‪ ،‬وأخذْك منهما فوق حاجتك‪ ،‬فإنْ غاب عنك الطعام‬
‫تغذّى جسمك من هذا المخزن الرباني‪.‬‬
‫لذلك نرى البعض حين يتأخر عنه الطعام يقول‪ :‬نفس انصدت عن الكل‪ ،‬والحقيقة أنه أكل فعلً‪،‬‬
‫وتغذى من مخزون الطعام والشراب في جسمه‪.‬‬
‫ومن حكمة ال أن الطعام الفائض يُختزن في صورة واحدة هي الشحم‪ ،‬الذي يتحول تلقائيا إلى أيّ‬
‫عنصر آخر يحتاجه الجسم‪ ،‬فإذا انتهى الشحم تغذّى الجسم على اللحم والعضلت‪ ،‬ثم على‬
‫العظام‪ ،‬وهي آخر مخزن للقوت في جسم النسان؛ لذلك جاء في قصة زكريا عليه السلم‪ {:‬قَالَ‬
‫شقِيّا }[مريم‪.]4 :‬‬
‫َربّ إِنّي وَهَنَ ا ْلعَظْمُ مِنّي وَاشْ َت َعلَ الرّأْسُ شَيْبا وَلَمْ َأكُنْ ِبدُعَآ ِئكَ َربّ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫أما الهواء فليس له مخزن إل بقدْر ما تتسع له الرئة‪ ،‬فإذا نفد منها الهواء بشهيق وزفير فل حيلة‬
‫فيه‪ ،‬ومن رحمة ال بعباده ألّ يُملّك الهواء لحد‪ ،‬فقد يملك الطعام وربما يملك الماء‪ ،‬أمّا الهواء‬
‫الذي يحتاجه في كل نفَس‪ ،‬فقد جعله ال مِلْكا للجميع‪ ،‬حتى ل يمنعه أحد عن أحد؛ لنك ل تستطيع‬
‫ن يرضى‬
‫أن تحتال له كما تحتال للطعام وللشراب‪ ،‬ولو غضب عليك مالك الهواء لمتّ قبل أ ْ‬
‫عنك‪.‬‬
‫غمْ َرةٍ‪[ } ..‬المؤمنون‪:‬‬
‫ونلحظ هنا أن الغمرة ل تحتويهم هم‪ ،‬إنما تحتوي القلوب‪َ { :‬بلْ قُلُو ُبهُمْ فِي َ‬
‫‪ ]63‬وهذه بلوى أعظم؛ لن القلب محلّ لحصيلة المدركات التي يأخذها العقل‪ ،‬ويُميّز بينها ويختار‬
‫منها ويُرجّح‪ ،‬ثم تتحول هذه المدركات إلى عقائد تستقر في القلب وعلى َهدْيها تسير في حركة‬
‫الحياة‪.‬‬

‫لذلك إنْ كان القلب نفسه في الغمرة فالمصيبة أشدّ والبلء أعظم؛ لنه مُسْتودع العقائد والمبادئ‬
‫التي تُنير لك الطريق‪.‬‬
‫ن وَالِنْسِ‬
‫جهَنّمَ كَثِيرا مّنَ ا ْلجِ ّ‬
‫والقلب هو محلّ نظر ال إلى عباده‪ ،‬لذلك يقول سبحانه‪ {:‬وَلَقَدْ ذَرَأْنَا ِل َ‬
‫ب لّ َي ْف َقهُونَ ِبهَا‪[} ..‬العراف‪.]179 :‬‬
‫َلهُمْ قُلُو ٌ‬
‫وقال سبحانه‪ {:‬خَ َتمَ اللّهُ عَلَىا قُلُوبِهمْ‪[} ..‬البقرة‪ ]7 :‬لنهم أحبوا الكفر واطمأنوا إليه‪ ،‬ولنه سبحانه‬
‫ربّ متولّ ربوبية الخلق‪ ،‬يعطيهم ما أراداوا حتى إنْ كان كفرا؛ لذلك ختم على قلوبهم حتى ل‬
‫يدخلها إيمان ول يخرج منها كفر؛ لنهم عشقوا الكفر وأحبّوه‪.‬‬
‫لذلك نقول لهل المصائب الذين يُصابون في غَالٍ أو عزيز فيحزنون عليه‪ ،‬ويبالغون بإقامة المآتم‬
‫والسرادقات‪ ،‬ويقيمون ذكرى الخميس والربعين وغيرها‪ ،‬وربما كان البن عاقا لوالديه في‬
‫حياتهما‪ ،‬فإذا مات أبوه أو أمه أقام المآتم وشغل الناس‪ ،‬وهو كما قال الشاعر‪:‬لَ أَعْرِفنّك بعْد‬
‫الموتِ تَ ْندِبني وفِي حَيَاتي مَا بَّلغْتَني زَادَاأو الم التي فقدت وحيدها مثلً‪ ،‬فتعيش حزينة مُكدّرة‪،‬‬
‫وكأنها عشقتْ الحزن وأحبّته‪ ،‬نحذر هؤلء وننصح كل حزين أن يُغلق باب الحزن بمسامير‬
‫ظلّ معك ولزمك‪.‬‬
‫الرضا والتسليم‪ ،‬فالحزن إنْ رأى بابه مُواربا دخل و َ‬
‫وسبق أن وضحنا أن الحق سبحانه ل يرفع بلءً عن عبده حتى يرضى به‪ ،‬ولنا القدوة في هذه‬
‫المسألة بأبينا إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬حين ابتله ربه بذبح ولده في رؤيا رآها‪ ،‬واعتبرها هو‬
‫تكليفا‪ ،‬ورضي بقدر ال وسلم لمره‪ ،‬ثم أخبر ولده ووحيده بهذه الرؤيا حتى ل يحرمه هذا الجر‬
‫ول يأخذه على غِرّة‪ ،‬فيتغير قلبه عليه‪ {:‬فََلمّا َأسَْلمَا وَتَلّهُ لِ ْلجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإِبْرَاهِيمُ * قَدْ‬
‫عظِيمٍ }‬
‫حسِنِينَ * إِنّ هَـاذَا َل ُهوَ الْبَلَءُ ا ْلمُبِينُ * َوفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ َ‬
‫صَ ّد ْقتَ ال ّرؤْيَآ إِنّا كَذَِلكَ َنجْزِي ا ْلمُ ْ‬
‫[الصافات‪.]107 - 103 :‬‬
‫فبعد أن رضي إبراهيم وولده بقضاء ال رفع عنهما البلء‪ ،‬وجاءهما الفداء من ال لسماعيل‪ ،‬بل‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ت فضلً من‬
‫وزاده بأنْ بشّره بولد آخر هو إسحاق‪ ،‬ومن وراء إسحاق يعقوب‪ ،‬أجيال متعاقبة جاء ْ‬
‫ال وجزاءً على الرضا بقضائه وقدره‪ ،‬وما أحسن ما قال الشاعر في هذا الموقف‪:‬‬
‫حكْمه فَلحكْمةٍ َي ْقضِيِه حتّى تسْتريح و َتغْنَماواذكُرْ خليلَ الِ في ذَبْح ابنهِ إ ْذ قالَ خالقُه فَلمّا‬
‫سَلّمْ لربك ُ‬
‫أسْلَماإذن‪ :‬إذا كانت القلوب نفسها في غمرة‪ ،‬فقد خرب جهاز العقائد والمبادئ‪ ،‬وينشأ عن خرابه‬
‫خراب حركة الحياة وانحراف السلوك‪ .‬وقد أخذ القلب هذه الهمية؛ لنه معمل الدم‪ ،‬ومصدر‬
‫سائل الحياة‪ ،‬فإنْ فسدَ ل ُبدّ أنْ ينضح على باقي الجوارح‪ ،‬فتفسد هي الخرى‪ ،‬ولو كان القلب‬
‫ح صلحه على الجوارح كلها فتصلح‪ ،‬كما جاء في الحديث الشريف‪ " :‬أل‬
‫صالحا فل ُبدّ أ نْ ينض َ‬
‫إن في الجسد ُمضْغة إذا صَلُحت صَلُح الجسد كله‪ ،‬وإذا فسدت فسد الجسد كله‪ ،‬أل وهي القلب "‪.‬‬

‫عمَالٌ مّن دُونِ ذاِلكَ ُهمْ َلهَا عَامِلُونَ { [المؤمنون‪ ]63 :‬يعني المر ل‬
‫ثم يقول سبحانه‪ } :‬وََلهُمْ أَ ْ‬
‫يتوقف بهم عند مسألة العقائد‪ ،‬إنما لهم أعمال أخرى كثيرة سيقعون فيها‪ ،‬فالحق سبحانه ل يذكر‬
‫لهم إل قمم المخالفات ونماذج منها‪ ،‬إنما في علمه تعالى وفي لوحه المحفوظ أنهم سيفعلون كذا‬
‫ويفعلون كذا‪ ،‬وإنْ كانوا هم أنفسهم ل يعلمون أن ذلك سيحدث منهم لكن ربهم ‪ -‬عز وجل ‪ -‬يعلم‬
‫بطلقة القدرة ما كان وما سيكون‪.‬‬
‫ومن عجائب قدرة ال أنه سبحانه يحكم على عبده الكافر أنه سيعمل كذا وكذا‪ ،‬ومع ذلك لم يعاند‬
‫أحد الكفار‪ ،‬فيقول‪ :‬إن ال حكم عليّ بكذا‪ ،‬ولكني لن أفعل فيكون حكم ال عليه غير صحيح؛ لن‬
‫الحق سبحانه ل يتحكم فيما يجريه علينا فحسب‪ ،‬وإنما في اختيار العبد ومراده‪ ،‬مع أن العبد حُرّ‬
‫في أن يفعل أو ل يفعل‪.‬‬
‫وهذه القضية واضحة في قوله تعالى عن أبي لهب‪ {:‬تَ ّبتْ يَدَآ أَبِي َل َهبٍ وَتَبّ * مَآ أَغْنَىا عَ ْنهُ مَالُهُ‬
‫سبَ * سَ َيصْلَىا نَارا‪[} ..‬المسد‪ ]3 - 1 :‬تفيد المستقبل‪ ،‬فقد حكم الحق سبحانه عليه أنه‬
‫َومَا َك َ‬
‫سيكون في النار‪ ،‬وكان أبو لهب في أمة ومَجْمع من القوم الكافرين‪ ،‬ومنهم مَنْ آمن فمن يضمن‬
‫أن يسمع أبو لهب هذا الحكم ومع ذلك ل يؤمن ويموت كافرا؟‬
‫ثم ألم َيكُنْ بإمكان هذا (المغفل) أن يقف على مل ويقول‪ " :‬ل إله إل ال محمد رسول ال "‬
‫ويدخل في السلم‪ ،‬فيكون الحكم فيه غير صحيح؟ لكن هذا كلم ال وحكمه القديم ل يُردّ ول‬
‫يخالفه أحد مهما كان أمره في يده وهو قادر على الختيار‪ ،‬هذا من طلقة قدرة ال في ِفعْله‬
‫وعلى خَلْقه في أفعالهم‪.‬‬
‫فالمعنى‪ } :‬هُمْ َلهَا عَامِلُونَ { [المؤمنون‪ ]63 :‬حكم ل يُرد ول يُكذّب‪ ،‬حتى وإنْ أخبر به صاحبه؛‬
‫لن علم ال تعالى مستوعبٌ لما كان ولما سيكون‪ ،‬وكأن الحق سبحانه يقول‪ :‬إن طلقة القدرة‬
‫ليست فيما أفعله فحسب‪ ،‬إنما يفعله غيري ِممّنْ أعطيتُه حرية الختيار‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬حَتّىا إِذَآ َأخَذْنَا مُتْ َرفِيهِمْ بِا ْل َعذَابِ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2715 /‬‬

‫خذْنَا مُتْ َرفِيهِمْ بِا ْلعَذَابِ ِإذَا ُهمْ يَجْأَرُونَ (‪)64‬‬


‫حَتّى إِذَا أَ َ‬

‫يعني‪ :‬بعد أن أشركوا بال وكفروا به‪ ،‬وبعد أنْ أصبحتْ قلوبهم في غمرة وعمىً إذا مسّهم شيء‬
‫من العذاب يجأرون ويصرخون‪ ،‬ومَنْ ذا الذي يطيق لفحة أو رائحة من عذاب ال؟‬
‫ومعنى { َأخَذْنَا‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]64 :‬كلمة الخذ لها مجال واسع في كتاب ال‪ ،‬والَخْذ‪ :‬هو‬
‫الستيلء بعنف على شيء هو ل يحبّ أنْ تستولي عليه‪ ،‬والَخْذ يُوحي بالعنف والشدة‪ ،‬بحيث ل‬
‫يستطيع المأخوذ الفلت مهما حاول‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪َ {:‬أخْذَ عِزِيزٍ ّمقْتَدِرٍ }[القمر‪ ]42 :‬يعني‪ :‬أخذا شديدا يتململ منه فل يستطيع‬
‫الفكاك‪.‬‬
‫حةُ‪[} ..‬هود‪.]67 :‬‬
‫خذَ الّذِينَ ظََلمُواْ الصّيْ َ‬
‫وقوله‪ {:‬وَأَ َ‬
‫شدِيدٌ }[هود‪.]102 :‬‬
‫ويقول‪ {:‬إِنّ َأخْ َذهُ أَلِيمٌ َ‬
‫ومعنى‪ { :‬مُتْ َرفِيهِمْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]64 :‬من الترف وهو التنعّم؛ لن الحياة تقوم على ضروريات‬
‫تستبقي الحياة وكماليات تُسعدِها وتُرفّهها وتُثريها‪ ،‬فالمتْرَف مَنْ عنده من النعيم فوق الضروريات‪،‬‬
‫يقال‪ :‬ترِف الرجل يتَرف من باب فَرِح يفرح‪ ،‬وأترفته النعمة إذا أطغته‪ ،‬وأترفه ال يعني‪ :‬وسّع‬
‫عليه النعمة وزاده منها‪ .‬وعلى قدر التراف يكون الخذ أبلغَ واللم أشدّ‪.‬‬
‫وسبق أن ذكرنا قول ال عز وجل‪ {:‬فََلمّا نَسُواْ مَا ُذكّرُواْ ِبهِ‪[} ..‬النعام‪ ]44 :‬يعني‪ :‬من منهج ال‪،‬‬
‫خذْنَاهُمْ َبغْتَةً فَإِذَا‬
‫شيْءٍ حَتّىا ِإذَا فَرِحُواْ ِبمَآ أُوتُواْ أَ َ‬
‫لم نُضيّق عليهم إنما‪ {:‬فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ أَ ْبوَابَ ُكلّ َ‬
‫هُمْ مّبْلِسُونَ * َفقُطِعَ دَابِرُ ا ْل َقوْمِ الّذِينَ ظََلمُواْ‪[} ..‬النعام‪.]45 - 44 :‬‬
‫فهنا تكون النكاية أشدّ‪ ،‬والحسرة أعظم‪.‬‬
‫والكلم هنا عن كفار قريش‪ ،‬فكيف أخذهم ال وهم في ترف من العيش‪ ،‬حيث تصبّ عندهم كل‬
‫خيرات الجزيرة حتى عاشوا عيشة الترف والتنعم؟‬
‫أخذهم ال حال ترفهم بالقَحْط والسنين؛ لذلك لما رآهم النبي صلى ال عليه وسلم أُترفوا بالنعمة‬
‫شدُدْ وطأتك على ُمضَر‪ ،‬واجعلها عليهم سنين كسني يوسف "‪.‬‬
‫وط َغوْا بها قال‪ " :‬اللهم ا ْ‬
‫واستجاب ال تعالى دعاء نبيه‪ ،‬فأصابهم الجدب والقَحْط حتى أكلوا الجيف و (العِلْهز) وهو شعر‬
‫جفّ وتجمد تحت حرارة الشمس‪ ،‬وهذا هو المراد بقوله‬
‫الذبيحة أو وبرها المخلوط بدمها بعد أنْ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫تعالى‪ { :‬حَتّىا ِإذَآ أَخَذْنَا مُتْ َرفِيهِمْ بِا ْلعَذَابِ‪[ } ..‬المؤمنون‪.]64 :‬‬
‫وقوله تعالى‪ { :‬إِذَا هُمْ َيجْأَرُونَ‪[ } ..‬المؤمنون‪.]64 :‬‬
‫يصرخون ويضجّون‪ ،‬فهذا أبو سفيان بعد أن أكلوا الجيف والفضلت يقول للنبي صلى ال عليه‬
‫وسلم‪ :‬يا محمد ألستَ رحمةً للعالمين؟ إذن‪ :‬فا ْدعُ ال أنْ يُفرّج عنا‪ ،‬فدعا رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ربه حتى فرج عنهم‪.‬‬
‫ن قتل‪ ،‬وأسر مَنْ أسر‪،‬‬
‫أو‪ :‬يراد بالعذاب هنا ما حدث لهم يوم بدر‪ ،‬حيث أذلّهم ال‪ ،‬فقتل منهم مَ ْ‬
‫وانهارت سيادتهم وضاعت هيبتهم‪ ،‬وقد كانوا يُعذّبون المؤمنين ويقتلونهم‪ ،‬ويقيمونهم في حَرّ‬
‫الشمس ويضعون الحجار الكبيرة فوق بطونهم‪ ،‬حتى أنزل ال تعالى في هذه الحالة القاسية التي‬
‫جمْ ُع وَ ُيوَلّونَ الدّبُرَ }‬
‫يعانيها المؤمنون‪ {:‬سَ ُيهْزَمُ ا ْل َ‬

‫[القمر‪.]45 :‬‬
‫فيستقبلون الية بتعجّب‪ :‬حتى يقول عمر‪ :‬أيّ جمع هذا الذي سيُهزم‪ ،‬فليس هناك أيّ بادرة لنصر‬
‫المؤمنين‪ ،‬فلما جاء يوم بدر ورأى المؤمنون ما حاق بالكافرين قال عمر نفسه‪ :‬صدق ال‪ ،‬سيُهزم‬
‫الجمع وقد هُزِم‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬إِذَا هُمْ َيجْأَرُونَ { [المؤمنون‪ ]64 :‬يجأر‪ :‬يصرخ بصوت عالٍ‪ ،‬والنسان ل‬
‫يصرخ إل إذا كان في محنة ل تقدر أسبابه على دفعها‪ ،‬فيصرخ طلبا لمن ينجده‪ ،‬ويرفع صوته‬
‫ليُسمِع كل مَنْ حوله‪ ،‬كما يقولون (يجعر)‪.‬‬
‫والجؤار مثل الخوار يعني‪ :‬يصيحون مثل العجول بعد ما كانوا رجالً وسادة وطغاة‪ ،‬فلماذا لم‬
‫تظلّوا سادة‪ ،‬لماذا تصرخون الن؟ وكان المنتظر منهم في وقت الشدة أنْ يتماسكوا‪ ،‬وأن يتجلّدوا‬
‫حتى ل يشمت بهم العبيد والفقراء الذين آمنوا‪ ،‬كما يقول الشاعر‪:‬وتجلّدِي للِشّامِتينَ أُرِيهُمو أَنّي‬
‫ضعُلكن‪ ،‬هيهات فقد حاق بهم العذاب‪ ،‬ولن يخدعوا أنفسهم الن‪ ،‬فليس‬
‫لر ْيبِ الدهْرِ ل أتض ْع َ‬
‫أمامهم إل الصراخ يطلبون به المغيث والمنجي من المهالك‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬لَ َتجْأَرُواْ الْ َيوْمَ إِ ّنكُمْ مّنّا لَ تُنصَرُونَ {‪.‬‬

‫(‪)2716 /‬‬

‫لَا تَجْأَرُوا الْ َيوْمَ إِ ّنكُمْ مِنّا لَا تُ ْنصَرُونَ (‪)65‬‬

‫يرد عليهم الحق سبحانه‪ { :‬لَ تَجْأَرُواْ الْ َيوْمَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]65 :‬لن مَنْ يجأر ينادي مَنْ ينصره‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫وأنتم لن تُنصروا { إِ ّنكُمْ مّنّا لَ تُنصَرُونَ } [المؤمنون‪ ]65 :‬ل تُنصرون من جهتنا؛ لني أنصر‬
‫أوليائي‪ ،‬وأنصر رسلي‪ ،‬وأنصر مَنْ ينصرني‪ ،‬فاقطعوا الظن في نصري لكم؛ لنني أنا الذي‬
‫أنزلتُ بكم ما جعلكم تجأرون بسببه‪ ،‬فكيف أزيله عنكم؟‬
‫وفي موضع آخر يتكلم الحق سبحانه عن أهل الكفر الذين تمالئوا عليه‪ ،‬وشجّع بعضهم بعضا على‬
‫التجرّؤ على القرآن وعلى النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬ويُصفّقون لمن يخوض في حقهما‪{:‬‬
‫جحِيمِ *‬
‫جهُ ْم َومَا كَانُواْ َيعْ ُبدُونَ * مِن دُونِ اللّهِ فَاهْدُو ُهمْ إِلَىا صِرَاطِ الْ َ‬
‫حشُرُواْ الّذِينَ ظََلمُواْ وَأَ ْزوَا َ‬
‫اْ‬
‫َوقِفُوهُمْ إِ ّن ُهمْ مّسْئُولُونَ * مَا َلكُ ْم لَ تَنَاصَرُونَ * َبلْ هُمُ الْ َيوْمَ مُسْتَسِْلمُونَ }[الصافات‪.]26 - 22 :‬‬
‫إذن‪ :‬ل تجأروا لنكم لن تُنصروا مِنّا‪ ،‬وكيف ننصركم بجؤاركم هذا‪ ،‬وقد انصرفتم عن آياتي؟‬

‫(‪)2717 /‬‬

‫عقَابِكُمْ تَ ْن ِكصُونَ (‪)66‬‬


‫قَدْ كَا َنتْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَ ْيكُمْ َفكُنْ ُتمْ عَلَى أَ ْ‬

‫كيف تستغيثون بال وتجأرون إليه وأنتم تُلْقى عليكم آياته تشرح لكم وتثبت لكم وجود ال باليات‬
‫الكونية‪ ،‬وتثبت لكم صِدْق الرسول بالمعجزات‪ ،‬وتحمل لكم منهج ال في اليات حاملة الحكام‪،‬‬
‫ولكنكم عميتم عن ذلك كله‪.‬‬
‫عقَا ِبكُمْ تَن ِكصُونَ } [المؤمنون‪ ]66 :‬العقب‪ :‬مؤخرة القدم‪ ،‬فبدل أن يمشي‬
‫ومعنى { َفكُن ُتمْ عَلَىا أَ ْ‬
‫إلى المام كما خلقه ال وجعل له كشافات يُبصر بها الطريق‪ ،‬ويهتدي إلى موضع قدميْه‪ ،‬إذا به‬
‫عمُوا عن‬
‫يمشي للخلف على عَقبه‪ ،‬وكأنهم أُخِذوا أَخْذا غَيّر عندهم دولب السير‪ ،‬لماذا؟ لنهم َ‬
‫أسباب الهداية‪ ،‬فصاروا يتخبطون في متاهات الحياة على غير هدى‪ ،‬كمَنْ يسير بظهره ل يعرف‬
‫مواقع قدميْه‪ ،‬وهكذا فعلوا هم بأنفسهم‪.‬‬
‫وهذا التراجع يسمونه في قيادة السيارات (مارشادير)‪ ،‬ويحتاج فيه النسان لمن يُوجّهه ويرشد‬
‫حركته يمينا أو شمالً؛ لنه ل يرى‪.‬‬
‫فالمعنى‪ :‬ل تَلُمْ إل نفسك حيث حرمتها من أسباب الهداية‪ ،‬فبعد أنْ جاءتك وأصبحت بين يديك‬
‫أغمضتَ عنها عينيك‪.‬‬
‫عقِبَيْ ِه َوقَالَ إِنّي‬
‫وفي موضع آخر قال سبحانه عن الشيطان‪ {:‬فََلمّا تَرَآ َءتِ ا ْلفِئَتَانِ َن َكصَ عَلَىا َ‬
‫بَرِيءٌ مّ ْنكُمْ‪[} ..‬النفال‪.]48 :‬‬

‫(‪)2718 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫مُسْ َتكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا َتهْجُرُونَ (‪)67‬‬

‫مادة‪ :‬كبر تأتي بكسر الباء للدللة على العمر تقول‪ :‬كَبِر فلن‪ .‬يعني‪ :‬كان صغيرا ثم كبر‪ ،‬وبضم‬
‫الباء للشيء المعنوي وللقيم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ {:‬كَبُ َرتْ كَِلمَةً تَخْرُجُ مِنْ َأ ْفوَا ِههِمْ‪[} ..‬الكهف‪]5 :‬‬
‫يعني‪ :‬عظمت‪.‬‬
‫ومعنى الستكبار افتعال الكِبر وطلبه‪ ،‬مثل‪ :‬استفهم يعني‪ :‬طلب ال َفهْم‪ ،‬في حين هو ليس كبيرا في‬
‫ذاته‪ ،‬فهو محتاج إلى غيره‪ .‬فالكبير في ذاته مَنْ تكون عنده وتتوفر له في ذاته مُقوّمات الحياة‬
‫وضرورياتها وترفها‪ ،‬ل يستمدها من أحد‪.‬‬
‫لكن النسان ضروريات حياته‪ ،‬وأسباب ترفه موهوبة له من غيره‪ ،‬فل يصح له أنْ يتكبّر‪ ،‬فمَنْ‬
‫أراد أن يتكبّر فليتكبّر بشيء ذاتي فيه من صحة أو مال أو سلطان‪ ...‬الخ‪ ،‬وهذه كلها أمور‬
‫موهوبة لك‪ ،‬فالصحيح قد يصبح سقيما‪ ،‬والغني قد يصبح فقيرا‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬فالكبرياء ل تعالى وحده؛ لنه الواهب للغير‪ ،‬والمتفضّل على الخَلْق بما يمكن أنْ يتكبروا‬
‫به‪ ،‬ومن صفات جلله وكماله سبحانه (المتكبر)؛ لنه سبحانه رب الخَلْق أجمعين‪ ،‬ومن مصلحة‬
‫الخلق أن يكون المتكبر هو ال وحده‪ ،‬حتى ل يرفع أحد رأسه على خَلْقه ويتكّبر عليهم‪.‬‬
‫وهكذا يحمي الحق سبحانه خَلْقه من خَلْقه‪ ،‬فإنْ تكبّر عليك ربك‪ ،‬وأجري عليك قدرا؛ لنك فعلت‬
‫شيئا وأنت واحد‪ ،‬فاعلم أنه يتكبر على الخرين جميعا وهم كثيرون‪ ،‬إنْ فعلوا بك هذا الشيء‪،‬‬
‫إذن‪ :‬فصفة الكبرياء ل عز وجل في صالحك‪.‬‬
‫ومثّلْنا لذلك‪ ،‬ول المثل العلى‪ :‬من مصلحة السرة ألّ يكون لها إل كبير واحد يُرجَع إليه‪ ،‬ومن‬
‫أقوال العامة (اللي ملوش كبير يشتري له كبير) لنه الميزان الذي تستقيم به المور ويُسيّر دفّة‬
‫الحياة‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إن من أسمائه تعالى (الكبير) ول نقول‪ :‬الكبر مع أنها صيغة مبالغة‪ ،‬لماذا؟ لن أكبر‬
‫صيغة مبالغة عندنا نحن البشر‪ ،‬نقول‪ :‬هذا كبير وذاك أكبر‪ ،‬وهذا قويّ وذاك أقوَى‪ ،‬ول يقال هذا‬
‫في صفته تعالى لنك لو قُلْت‪ :‬ال أكبر لكان المعنى أنك شرَكت معه غيره‪ ،‬فهو سبحانه أكبر‬
‫وغيره كبير‪ ،‬لذلك ل تُقال‪ :‬ال أكبر إل في النداء للصلة‪.‬‬
‫إذن‪ :‬المستكبر‪ :‬الذي يطلب مؤهلت كبْر وليس لذاتيته شيء من هذه المؤهلت‪ ،‬والنسان ل‬
‫ينبغي له أن يتكبر إل إذا ملك ذاتيات كبره‪ ،‬والمخلوق ل يملك شيئا من ذلك‪.‬‬
‫ومعنى { ُمسْ َتكْبِرِينَ بِهِ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]67 :‬الهاء في (به) ضمير مُبْهم‪ ،‬يُعرّف بمرجعه‪ ،‬كما‬
‫تقول‪ :‬جاءني رجل فأكرمته‪ ،‬فالذي أزال إبهام الهاء مرجعه إلى رجل‪ .‬وفي الية لم يتقدم اسم‬
‫يعود عليه الضمير‪ ،‬لكن الكلم هنا عن الرسول الذي أُرسل إليهم‪ ،‬والقرآن الذي أُنزل عليهم‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫معجزة ومنهاجا‪ ،‬إذن‪ :‬ل يعود الضمير إل إلى واحد منهما‪.‬‬
‫أو‪ :‬أن الضمير في (به) يعود إلى بيت ال الحرام‪ ،‬وقد كان سببا لمكانة قريش ومنزلتهم بين‬
‫العرب‪ ،‬وأعطاهم وَضْعا من السيادة والشرف‪ ،‬فكانوا يسيرون في رحلت التجارة إلى اليمن وإلى‬
‫الشام دون أن يتعرض لهم أحد‪ ،‬في وقت انتشر فيه بين القبائل السّلْب والنهب والغارة وقطع‬
‫الطريق‪.‬‬

‫وما كانت هذه المنزلة لتكون لهم لول بيت ال الحرام الذي يحجّه العرب كل عام‪ ،‬وخدمته‬
‫وسدانته في أيدي قريش؛ لذلك استكبروا به على المة كلها‪ ،‬ليس هذا فقط‪ ،‬إنما تجرأوا أيضا على‬
‫البيت‪.‬‬
‫سمُرون ليلً‪ ،‬وكانوا‬
‫ويقول تعالى بعدها‪ } :‬سَامِرا َتهْجُرُونَ { [المؤمنون‪ ]67 :‬السامر‪ :‬الجماعة ي ْ‬
‫يجتمعون حول بيت ال ليلً يتحدثون في حق النبي صلى ال عليه وسلم‪ ،‬يشتمونه ويخوضون في‬
‫حقه‪ ،‬وفي حق القرآن الذي نزل عليه‪.‬‬
‫وليتهم يسمرون عند البيت بالخير إنما بهُجر‪ ،‬والهُجْر هو ُفحْش الكلم في محمد صلى ال عليه‬
‫وسلم وفي القرآن‪.‬‬
‫فأمر هؤلء عجيب‪ :‬كيف يفعلون هذا وهم في رحاب بيت ال الذي جعل لهم السيادة والمنزلة؟‬
‫كيف يخوضون في رسول ال الذي جاء ليطهر هذا البيت من الصنام ورجسها؟ إنه سوء أدب‬
‫مع ال‪ ،‬ومع رسوله‪ ،‬ومع القرآن‪ ،‬يصدق فيه قول الشاعر‪:‬أُعلّمهُ الرمايةَ ُكلّ يوْمٍ فََلمّا اشْتَدّ سَاعِدُه‬
‫َرمَانِيوكَمْ علّمتُه َنظْ َم القَوافِي فََلمّا قَالَ قَافِية هَجَانِيلقد استكبر هؤلء على المة كلها بالبيت‪ ،‬ومع‬
‫سفَه وللطيْش‪ ،‬ولكل مَا ل يليق به‪ ،‬فالقرآن‬
‫سمَر وللهُجْر ولل ّ‬
‫ذلك ما حفظوا حُرْمته‪ ،‬وجعلوه مكانا لل ّ‬
‫عندهم أساطير الولين‪ ،‬ومحمد عندهم ساحر وكاهن وَشاعر ومجنون‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يُنبّهكم إلى أن ضروريات حياتكم هِبةٌ منه سبحانه وتفضّل‪ ،‬فحينما‬
‫جاءكم أبرهة ليهدم هذا البيت العتيق‪ ،‬وينقل هذه العظمة وهذه القداسة إلى الحبشة‪ ،‬ولم يكن لكم‬
‫طاقة لردّه ول قدرةَ على حماية البيت‪ ،‬فلو هدمه لضاعتْ هيبتكم وسيادتكم بين القبائل‪ ،‬ولتجرأوا‬
‫عليكم كما تجرأوا على غيركم‪ ،‬لكن حمى ال بيته‪ ،‬ودافع عن حرماته‪ ،‬حتى إن الفيل نفسه وعى‬
‫هذا الدرس‪ ،‬ووقف مكانه ل يتحرك نحو البيت خاصة‪ ،‬ويوجهونه في أي ناحية أخرى فيسير‪.‬‬
‫ويُ ْروَى أن أحدهم قال للفيل يخاطبه‪ :‬ابْرك محمود وارجع راشدا ‪ -‬يعني‪ :‬انفد بجلدك؛ لنك في‬
‫س الفِيلُ بالم َغمّس حَتّى صَارَ يحبُو كَأنّهُ َم ْعقُورُوهكذا ردّهم‬
‫بلد ال الحرام‪ ،‬وكما قال الشاعر‪:‬حُبِ َ‬
‫ال مقهورين مدحورين‪ ،‬وحفظ لكم البيت‪ ،‬وأبقى لكم السيادة‪.‬‬
‫لذلك لحظ النتقال من سورة الفيل إلى سورة قريش‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬أَلَمْ تَرَ كَ ْيفَ َف َعلَ رَ ّبكَ‬
‫سلَ عَلَ ْيهِمْ طَيْرا أَبَابِيلَ * تَ ْرمِيهِم ِبحِجَا َرةٍ مّن‬
‫ج َعلْ كَ ْيدَهُمْ فِي َتضْلِيلٍ * وَأَرْ َ‬
‫بَِأصْحَابِ ا ْلفِيلِ * أَلَمْ َي ْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫صفٍ مّ ْأكُولٍ }[الفيل‪ ]5 - 1 :‬يعني‪ :‬مثل التبن والفُتَات الذي تذروه الرياح‪.‬‬
‫جعََلهُمْ َك َع ْ‬
‫سجّيلٍ * فَ َ‬
‫ِ‬
‫حلّ بأصحاب الفيل‪ ،‬فاللم في‬
‫لفِ قُرَيْشٍ }[قريش‪ ]1 :‬يعني ما َ‬
‫ثم يقول في أول قريش‪ {:‬لِي َ‬
‫حلّ بأصحاب الفيل لتألف قريش ما اعتادته من رحلة الشتاء‬
‫حلّ ما َ‬
‫(لِيلَف) لم التعليل‪ ،‬يعني‪َ :‬‬
‫ل ِفهِمْ رِحَْلةَ الشّتَآ ِء وَالصّ ْيفِ‪[} ..‬قريش‪ ]2 :‬وما دام أن ال تعالى قد حماكم وحمى لكم‬
‫والصيف{ إِي َ‬
‫البيت‪ ،‬وحفظ لكم السيادة كان ينبغي عليكم أنْ تعبدوه وحده ل شريك له{ فَلْ َيعْبُدُواْ َربّ هَـاذَا‬
‫خ ْوفٍ }[قريش‪.]4 - 3 :‬‬
‫ع وَآمَ َنهُم مّنْ َ‬
‫ط َع َمهُم مّن جُو ٍ‬
‫الْبَ ْيتِ * الّذِي أَ ْ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬أفَلَمْ َيدّبّرُواْ ا ْلقَ ْولَ أَمْ جَآءَ ُهمْ مّا لَمْ يَ ْأتِ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2719 /‬‬

‫َأفَلَمْ َيدّبّرُوا ا ْل َقوْلَ أَمْ جَا َءهُمْ مَا َلمْ يَ ْأتِ آَبَا َءهُمُ الَْأوّلِينَ (‪َ )68‬أمْ لَمْ َيعْ ِرفُوا َرسُوَلهُمْ َفهُمْ َلهُ مُ ْنكِرُونَ (‬
‫‪)69‬‬

‫في هذه الية واليات بعدها يريد ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬أن يُوبّخهم بعدة أمور واحد بعد واحد بعد‬
‫الخر‪.‬‬
‫أولها‪َ { :‬أفََلمْ يَدّبّرُواْ ا ْل َق ْولَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]68 :‬فالستفهام هنا للتوبيخ وللتقريع‪ :‬ماذا جرى‬
‫لهؤلء؟ أفلم يعقلوا القول الذي جاءهم في القرآن‪ ،‬وهم أمة الفصاحة والبلغة والبيان‪ ،‬وأمة القول‬
‫بكل فنونه حتى أقاموا له المواسم والمعارض وعلّقوه على الجدار؟‬
‫ل تفهموا القرآن‪ ،‬وقد جاءكم بأسلوب على مستوى أعلى من البلغة والفصاحة‪ ،‬ل‬
‫لذلك ل يُعقل أ ّ‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ‬
‫بُدّ أنكم فهمتموه ووعيْتُم ما فيه‪ ،‬بدليل قولكم‪َ {:‬ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ عَلَىا َر ُ‬
‫عَظِيمٍ }[الزخرف‪.]31 :‬‬
‫وهكذا الكذاب يسرقه طبعه‪ ،‬وينمّ منطقه عما في ضميره‪ ،‬فاعتراضكم ليس على القرآن إنما على‬
‫محمد؛ لنه فقير من أوسط القوم‪ ،‬فالمسألة ‪ -‬إذن ‪ -‬منازعة سيادة وسلطة زمنية‪ ،‬لكن ألم يَدْرِ‬
‫هؤلء أن محمدا صلى ال عليه وسلم ما جاء ليسلبهم سلطتهم‪ ،‬أو يعلو هو عليهم‪ ،‬إنما جاء‬
‫ليحكمهم بمنهج ال‪ ،‬ويتحمل هو الذى والتعب والمشقة في سبيل راحتهم وسعادتهم؟‬
‫لقد جاء النبي صلى ال عليه وسلم ليأخذ الحكم ويحمل منهج ال تكليفا ل تشريفا‪ ،‬بدليل أنه عاش‬
‫في مستوى أقلّ منكم‪ ،‬فل ترى رسول ال إل أقلهم طعاما وأقلهم شرابا‪ ،‬أقلهم لباسا وأثاثا‪ ،‬حتى‬
‫أقاربه كانوا فقراء‪ ،‬ومع ذلك حرّم عليهم الزكاة التي أباحها لعامة المسلمين الفقراء‪ ،‬كذلك يرث‬
‫الناس وهم ل يرثون‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جلٍ مّنَ ا ْلقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ }[الزخرف‪]31 :‬‬
‫علَىا رَ ُ‬
‫وبعد ذلك كله تقولون‪َ {:‬ل ْولَ نُ ّزلَ هَـاذَا ا ْلقُرْآنُ َ‬
‫يبدو أنكم أِلفْتم العبودية للعظماء وللجبابرة‪ ،‬ألِفتم العبودية لغير ال‪ ،‬وعَزّ عليكم أن يحرركم ال‬
‫من هذه العبودية على يد رجل منكسر فقير منكم‪ ،‬جاء ليصلحكم ويخرجكم من العبودية للمخلوق‬
‫إلى العبودية للخالق عز وجل‪.‬‬
‫ألم ي ُقلْ أحد رؤوس الكفر عن القرآن‪ " :‬وال إن أعله لمثمر‪ ،‬وإن أسفله لمغدق‪ ،‬وإنه يعلو ول‬
‫ُيعْلى عليه "‪.‬‬
‫إذن‪َ { :‬أفَلَمْ يَدّبّرُواْ ا ْل َقوْلَ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]68 :‬توبيخ‪ ،‬لنهم فهموا القرآن‪ ،‬لكن حسدوا محمدا‬
‫سدُونَ‬
‫صلى ال عليه وسلم أن ينزل عليه‪ ،‬وأن ينال دونهم هذه المكانة‪ ،‬كما قال سبحانه‪ {:‬أَمْ َيحْ ُ‬
‫النّاسَ عَلَىا مَآ آتَاهُمُ اللّهُ مِن َفضْلِهِ‪[} ..‬النساء‪.]54 :‬‬
‫لوّلِينَ } [المؤمنون‪ ]68 :‬يعني‪ :‬جاءهم أمر غريب ل‬
‫المر الثاني‪ { :‬أَمْ جَآ َءهُمْ مّا َلمْ يَ ْأتِ آبَآ َءهُ ُم ا َ‬
‫عهدَ لهم به‪ ،‬وهو أن يأتي رسول من عند ال‪ ،‬وهذه المسألة معروفة لهم‪ ،‬فمنهم إبراهيم عليه‬
‫السلم‪ ،‬ومنهم إسماعيل وهم مؤمنون بهما‪ ،‬إذن‪ :‬ليست مسألة عجيبة‪ ،‬بل يعرفونها جيدا‪ ،‬لكن ما‬
‫منعهم في الولى منعهم في هذه‪ ،‬إنه الحسد لرسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لذلك يقول تعالى‪{:‬‬
‫وَلَئِن سَأَلْ َتهُم مّنْ خََل َقهُمْ لَ َيقُولُنّ اللّهُ‪} ..‬‬

‫[الزخرف‪.]87 :‬‬
‫المر الثالث‪ } :‬أَمْ لَمْ َيعْ ِرفُواْ رَسُوَلهُمْ َف ُهمْ لَهُ مُنكِرُونَ { [المؤمنون‪.]69 :‬‬
‫يعني‪ :‬أن َزلَ عليهم رسولٌ من السماء ل يعرفون سيرته وخُلقه ونسبه ومسلكه قبل أنْ يُبعث؟ إنهم‬
‫ضوْا حكومته بينهم في مسألة الحجر‬
‫س ّموْه " الصادق المين " وارت َ‬
‫يعرفونه جيدا‪ ،‬وقبل بعثته َ‬
‫سقْطة‬
‫السود‪ ،‬وكانوا يأتمنونه على ودائعهم ونفائس أموالهم‪ ،‬ولم يجربوا عليه كذبا أوخيانة أو َ‬
‫من سقطات الجاهلية‪.‬‬
‫سكُمْ‪[} ..‬التوبة‪]128 :‬‬
‫وقد شرحت هذه المسألة في قول ال تعالى‪َ {:‬لقَدْ جَآ َء ُكمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُ ِ‬
‫يعني‪ :‬من جنسكم‪ ،‬ومن نوعكم‪ ،‬ومن قبيلتكم‪ ،‬ليس غريبا عنكم وهو معروف لكم‪ :‬سلوكه وسيرته‬
‫وخُلقه‪ ،‬وإذا لم تُجرّبوا عليه الكذب مع الخَلْق‪ ،‬أتتصورون منه أنْ يكذب على الخالق؟‬
‫وهل رسول ال في أول بعثته َلمّا أخبر الناس أنه رسول ال جاء القرآن ليحمل الناس على‬
‫اليمان به؟ ل‪ ،‬إنما جاء ليتحدى مَنْ لم يؤمن‪ ،‬أما مَنْ آمن بداية‪ ،‬بمجرد أنْ قال محمد‪ :‬أنا رسول‬
‫ن قال‬
‫ال قال‪ :‬صدقت‪ ،‬وأنه لم يكذب أبدا؛ لذلك كان المقياس عند الصحابة أن يقول رسول ال‪ ،‬فإ ْ‬
‫فالمسألة منتهية لنه صادق ل يشكّ أحد منهم في صِدْقه‪.‬‬
‫لذلك النبي صلى ال عليه وسلم لما قال أبو بكر في مسالة السراء والمعراج‪ :‬إنْ كان قال فقد‬
‫سىْ رهان‬
‫صدق‪ ،‬يحملها رسول ال تقديرا لبي بكر ويقول‪ " :‬كنت أنا وأبو بكر في الجاهلية كفر َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫" يعني‪ :‬في الخُلُق الطيب والسلوك السّويّ " فسبقتُه للنبوة فاتبعني‪ ،‬ولو سبقني هو لتبعتُه "‪.‬‬
‫" ولما نزل جبريل ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬على سيدنا رسول ال صلى ال عليه وسلم في أول الوحي‬
‫فأجهده‪ ،‬فذهب إلى السيدة خديجة ‪ -‬رضي ال عنها ‪ -‬وحكى لها ما حدث له كأنه يستفهم منها‬
‫عمّا حدث ولم يخبرها أنه رسول من عند ال‪ ،‬ومع ذلك أخذته إلى ورقة بن نوفل‪ ،‬وكان على علم‬
‫َ‬
‫بالكتب السابقة‪ ،‬فلما سمع ورقة بن نوفل ما حدث قال‪ :‬إنه الناموس الذي كان ينزل على موسى‬
‫جيّ هم؟ " قال‪ " :‬ما جاء‬
‫وليتني أكون حيا إذ يُخرجك قومك‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم‪َ " :‬أ َومُخر ِ‬
‫أحد بمثل ما جئت به إل عُودِي‪ ،‬وإنْ يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزّرا "‪.‬‬
‫ومع ذلك يظل رسول ال صلى ال عليه وسلم خائفا قلقا أن يكون هذا شيئاَ من الشيطان‪ ،‬فتُطمئِنه‬
‫السيدة خديجة‪ ،‬فهذا ل يعقل مع رسول ال‪ ،‬لذلك تقول له‪ " :‬إنك لتصلُ الرحم‪ ،‬وتُكسِب المعدوم‪،‬‬
‫وتحمل ال َكلّ‪ ،‬وتعين على نوائب الدهر‪ ،‬وال لن يخذلك ال أبدا "‪.‬‬
‫ومن هنا أعتبروا السيدة خديجة أول مجتهدة في السلم؛ لنها اجتهدتْ واستنبطتْ من مقدمات‬
‫سمّيت بأم المؤمنين‪ ،‬حتى‬
‫رسول ال قبل البعثة دليلً على صِدْقه بعد البعثة؛ لذلك كانت أول مَنْ ُ‬
‫قال بعض العارفين‪ :‬خديجة أم المؤمنين بما فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم؛ لنه في هذه‬
‫السّن كان في حاجة إلى أم أكثر من حاجته إلى عروس صغيرة تُدلّله‪ ،‬وقد قامت خديجة ‪ -‬رضي‬
‫ال عنها ‪ -‬فعلً بدور الم لرسول ال فاحتضنته‪ ،‬وطمأنته ووقفت إلى جواره في أش ّد الوقات‬
‫وأحرجها‪.‬‬
‫كما نلحظ في الية‪َ } :‬أمْ لَمْ َيعْ ِرفُواْ رَسُوَلهُمْ‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]69 :‬فأضاف الرسول إليهم يعني‪:‬‬
‫رسول لهم‪ ،‬أما في الضافة إلى ال تعالى‪ :‬رسول ال‪ ،‬فالمعنى رسول منه ‪ ،‬وهكذا يختلف‬
‫المعنى باختلف الضافة‪.‬‬

‫(‪)2720 /‬‬

‫ق وََأكْثَرُهُمْ لِ ْلحَقّ كَا ِرهُونَ (‪)70‬‬


‫حّ‬‫أَمْ َيقُولُونَ ِبهِ جِنّةٌ َبلْ جَاءَهُمْ بِالْ َ‬

‫والمسألة الرابعة في توبيخ ال لهم‪ { :‬أَمْ َيقُولُونَ ِبهِ جِنّةٌ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]70 :‬يعني‪ :‬جنون‪،‬‬
‫والجنون أنْ تتعطل اللة العقلية التي تزن الحركات على وفق النفع والضر‪ ،‬فتفعل الخير النافع‪،‬‬
‫وتترك الشر الضارّ‪ .‬ولننظر‪ :‬أيّ خصلة من خصال الجنون في محمد صلى ال عليه وسلم‪.‬‬
‫خذْ خُلقه‪ ،‬والخلُق أمر يتفق عليه الجميع ويحمدونه‪ ،‬حتى وإنْ‬
‫عكَ من قضية الدين والله إنما ُ‬
‫ودَ ْ‬
‫كانوا ضد صفته‪ ،‬فالكذاب يحب الصادق‪ ،‬ويعترف أن الصدق شرف وكرامة‪ ،‬والبخيل يحب‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الكريم‪ ،‬والغضوب يحب الحليم‪َ ،‬ألَ ترى الكاذب يزاول كذبه على الناس‪ ،‬لكن ل يحب مَنْ يكذب‬
‫عليه؟‬
‫َألَ ترى شاهد الزور ينقذ غيره بشهادته‪ ،‬ومع ذلك يسقط من نظره ويحتقره‪ ،‬حتى إن أهل الحكمة‬
‫ليقولون‪ :‬إن شاهد الزور ترتفع رأسك على الخصم بشهادته‪ ،‬وتدوس قدمك على كرامته‪ ،‬ومَنْ‬
‫جعلك موضعا للنقيصة فقد سقطت من نظره‪ ،‬وإنْ أعنْتَه على أمره‪.‬‬
‫إذن‪ :‬فالخلق مقاييسها واحدة‪ ،‬فقيسوا محمدا بأخلقه‪ ،‬ل بالدين والرسالة التي جاء بها‪ ،‬انظروا‬
‫إلى خُلقه فيكم‪ ،‬ولن يستطيع واحد منكم أنْ يتهمه في خُلقه بشيء‪ ،‬وما دام ل يُتّهم في خُلقه فل‬
‫يُتهم كذلك في عقله؛ لن العقل هو ميزان الخُلق وأساسه‪.‬‬
‫لذلك يقول ربه ‪ -‬عز وجل ‪ -‬في حقّه‪ {:‬ن وَا ْلقَلَ ِم َومَا يَسْطُرُونَ * مَآ أَنتَ بِ ِن ْعمَةِ رَ ّبكَ ِبمَجْنُونٍ *‬
‫ك لَجْرا غَيْرَ َممْنُونٍ * وَإِ ّنكَ َلعَلَىا خُُلقٍ عَظِيمٍ }[القلم‪ ]4 - 1 :‬فخلُقك العظيم أكبر دليل‬
‫وَإِنّ َل َ‬
‫على أنك لستَ مجنونا‪.‬‬
‫إذن‪ :‬محمد بريء من هذه التهمة‪ ،‬والمسألة كلها كما قال تعالى‪َ { :‬بلْ جَآ َءهُمْ بِا ْلحَقّ‪} ..‬‬
‫[المؤمنون‪ ]70 :‬فهذا عيبه في نظرهم؛ لن الحق يغيظ أهل الباطل المنتفعين منه‪ ،‬والبعض يرى‬
‫الحق في الخير الذي يأتيه‪ ،‬فإنْ كان في شيء ل ينتفع منه فهو شَرّ؛ لذلك إنْ أردتَ أنْ تحكم على‬
‫خصْلة فاحكم عليها وهي عليك‪ ،‬ل وهي لك‪ ،‬فمثلً أن تكره الكاذب سواء كذب لك أو كذب‬
‫َ‬
‫عليك‪ ،‬إذن‪ :‬فخُذْ المسائل على أنها لك وعليك‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حينما قيّد حركتك في النظر إلى محارم الخرين‪ ،‬ل تتبرم ول ت ُقلْ‪:‬‬
‫منعني متعة النظر‪ ..‬الخ‪ ،‬لكن انظر إلى أنه قيّد عينيك وأنت واحد‪ ،‬وقيّد عيون الخرين عن‬
‫محارمك وهم كثيرون‪.‬‬
‫حقّ كَارِهُونَ } [المؤمنون‪ ]70 :‬وطبيعي أن يكره أهل الباطل‬
‫ويقول تعالى بعدها‪ { :‬وََأكْثَرُهُمْ لِلْ َ‬
‫الذين استشرى ظلمهم وطغيانهم‪ ،‬يكرهون الحق الذي جاء ليعدل الميزان‪ ،‬ويُقوّم المعْوج في‬
‫حركة الحياة‪ ،‬وكراهية أهل الباطل لرسول ال كان ينبغي أن تكون معيار تصديق له ل تكذيب‬
‫به‪ ،‬ينبغي أن نقول‪ :‬طالما أن أهل الباطل يكرهون هذا فل ُبدّ أنه الحق وإلّ ما كرهوه‪.‬‬

‫(‪)2721 /‬‬

‫ض َومَنْ فِيهِنّ َبلْ أَتَيْنَاهُمْ بِ ِذكْرِهِمْ َفهُمْ عَنْ ِذكْرِهِمْ‬


‫س َموَاتُ وَالْأَ ْر ُ‬
‫س َدتِ ال ّ‬
‫حقّ أَ ْهوَاءَهُمْ َلفَ َ‬
‫وََلوِ اتّ َبعَ الْ َ‬
‫ُمعْ ِرضُونَ (‪)71‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫إذن‪ :‬فالمسائل ل تسير على َهوَى المخلوق‪ ،‬إنما على مرادات الخالق؛ لن الخالق سبحانه هو‬
‫صانع هذا الكون‪ ،‬وكلّ صانع يغَارُ على صَنْعته‪ ،‬وهذا ُمشَاهد حتى في صنعة البشر‪ ،‬ولك أنْ‬
‫تتصوّر ماذا يحدث لو أفسدتَ على صان ٍع ما صنعَه‪.‬‬
‫وعدالة الشياء أن تسير على َوفْق مرادات الصانع‪ ،‬ل هوى المصنوع؛ لن الهواء تملكها‬
‫الغيار‪ ،‬فالنسان لو سار في حركة حياته على َوفْق هواه لخذ مَا ليس له‪ ،‬ولَقبل الرشوة‪ ،‬ومال‬
‫إلى الفِسْق والنحراف؛ لنه في الظاهر يرى أنه منتفع بهذا ول ينظر العاقبة والمحصلة النهائية‪،‬‬
‫لقد نظر إلى متعة زائلة موقوته‪ ،‬ونسي تبعة ثقيلة لن يقدر عليها فيما بعد‪.‬‬
‫ض َومَن فِيهِنّ‪} ..‬‬
‫سمَاوَاتُ وَالَ ْر ُ‬
‫حقّ أَ ْهوَآءَهُمْ َلفَسَ َدتِ ال ّ‬
‫لذلك يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلوِ اتّبَعَ الْ َ‬
‫[المؤمنون‪ ]71 :‬ولك أن تقول‪ :‬نعم‪ ،‬اتباع الهواء يُفسِد الرض‪ ،‬ويُفسِد حركة الحياة فيها‪ ،‬لكن‬
‫كيف يُفسِد السماء؟ وهل لحد قدرة عليها؟‬
‫ونقول‪ :‬ألم يكُنْ من أمنيات هؤلء‪َ {:‬وقَالُواْ لَن ّن ْؤمِنَ َلكَ حَتّىا َتفْجُرَ لَنَا مِنَ الَ ْرضِ يَنْبُوعا * َأوْ‬
‫ع ْمتَ عَلَيْنَا‬
‫سمَآءَ َكمَا زَ َ‬
‫سقِطَ ال ّ‬
‫ل وَعِ َنبٍ فَ ُتفَجّ َر الَ ْنهَارَ خِلَلهَا َتفْجِيرا * َأوْ تُ ْ‬
‫َتكُونَ َلكَ جَنّةٌ مّن نّخِي ٍ‬
‫كِسَفا‪[} ..‬السراء‪.]92 - 90 :‬‬
‫إذن‪ :‬من أهوائهم أنْ تتهدّم السماء‪ ،‬ولو حتى على رؤوسهم‪ ،‬وأي فساد بعد هذا‪ ،‬وهكذا لو اتبعتَ‬
‫أهواءهم لفس َدتْ السموات والرض‪ ،‬ليس هذا وفقط بل { َومَن فِيهِنّ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]71 :‬حيث‬
‫سيتعدّى فسادهم ليشمل كل ما في الوجود‪.‬‬
‫لذلك يقيد النبي صلى ال عليه وسلم هذه الهواء في قوله‪ " :‬ل يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا‬
‫حيٌ يُوحَىا }‬
‫ل وَ ْ‬
‫طقُ عَنِ ا ْل َهوَىا * إِنْ ُهوَ ِإ ّ‬
‫لما جئت به " لنه صلى ال عليه وسلم‪َ {:‬ومَا يَن ِ‬
‫[النجم‪.]4 - 3 :‬‬
‫وقد توقف بعض المستشرقين مُعترِضا على هذه الية{ َومَا يَنطِقُ عَنِ ا ْل َهوَىا }[النجم‪ ]3 :‬يقولون‪:‬‬
‫يعني كلمه كله صحيح‪ ،‬فلماذا يُعدّل له ربه بعض الحكام؟ ومعنى ذلك أن الحكم المعدّل حين‬
‫نطق به كان ينطق عن هوى‪.‬‬
‫ولو فهم هؤلء معنى الهوى ما كان منهم هذا العتراض‪ ،‬فالهوَى أن تعرف الحق‪ ،‬لكن هواك‬
‫حكْما وانصرف‬
‫يصرفك عنه‪ ،‬ورسول ال صلى ال عليه وسلم لم يكُنْ يعرف في هذه المسائل ُ‬
‫عنه‪ ،‬إنما نطق وحكم على مقتضى ما فهم في أمر لم ينزل فيه من ال شيء‪ ،‬ثم نزل الحكم من‬
‫ال ليُعدّل اجتهاد رسوله‪.‬‬
‫إذن‪ :‬لم يكُنْ لرسول ال َه َوىً ينطق بمقتضاه‪ ،‬وفي تعديل الحق سبحانه لرسوله‪ ،‬وتبليغ الرسول‬
‫لمته بهذا التعديل أكبر دليل على صِدْقه صلى ال عليه وسلم وأمانته في البلغ عن ربه‪ ،‬وإلّ فلم‬
‫يكُنْ أحد ليعلم هذا التعديل‪ ،‬لو أخفاه رسول ال تعصّبا لنفسه‪ ،‬أو لدفْع الخطأ عنه‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جكَ‪[} ..‬التحريم‪:‬‬
‫حلّ اللّهُ َلكَ تَبْ َتغِي مَ ْرضَاةَ أَ ْزوَا ِ‬
‫ومن ذلك قوله تعالى‪ {:‬ياأَ ّيهَا النّ ِبيّ ِلمَ تُحَرّمُ مَآ أَ َ‬
‫عفَا اللّهُ عَنكَ ِلمَ َأذِنتَ َل ُهمْ‪[} ..‬التوبة‪.]43 :‬‬
‫‪ ]1‬ويقول سبحانه‪َ {:‬‬
‫وكان بوسع رسول ال أن يكتم هذه اليات التي تعاتبه و ُتعَدّ مأخذا عليه‪ ،‬لكنه صلى ال عليه وسلم‬
‫لقَاوِيلِ * لَخَذْنَا مِنْهُ‬
‫ضاَ‬
‫كان أمينا يقول ما له وما عليه‪ ،‬لذلك يقول عن ربه‪ {:‬وََلوْ َتقَ ّولَ عَلَيْنَا َب ْع َ‬
‫طعْنَا مِنْهُ ا ْلوَتِينَ }[الحاقة‪.]46 - 44 :‬‬
‫بِالْ َيمِينِ * ثُمّ َلقَ َ‬
‫ثم يقول تعالى‪َ } :‬بلْ أَتَيْنَاهُمْ ِب ِذكْرِهِمْ َفهُمْ عَن ِذكْرِ ِهمْ ّمعْ ِرضُونَ { [المؤمنون‪ ]71 :‬و (بل) تفيد‬
‫الضراب عن الكلم السابق‪ ،‬وإثبات كلم جديد بعدها‪ ،‬والذكْر هنا يعني‪ :‬الشرف والصّيت‬
‫ك وَِل َقوْ ِمكَ‪[} ..‬الزخرف‪.]44 :‬‬
‫والمكانة العالية‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى عن القرآن‪ {:‬وَإِنّهُ لَ ِذكْرٌ ّل َ‬
‫وقوله تعالى‪َ {:‬لقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَ ْيكُمْ كِتَابا فِيهِ ِذكْ ُر ُكمْ َأفَلَ َت ْعقِلُونَ }[النبياء‪ ]10 :‬فكان يجب عليهم أن‬
‫يحتضنوا هذا القرآن‪ ،‬ويرفعوه فوق رؤوسهم‪ ،‬ففيه مجدهم وشرفهم وعِزّتهم‪ ،‬والعرب بدون‬
‫القرآن ل ِذكْرَ لهم‪ ،‬فقد كانوا أمة أمية تعيش على الترحال والتنقل‪ ،‬ول تستقر إل على منابع الماء‬
‫ومواضع الكل‪ ،‬كانوا بَدْوا تنتشر فيما بينهم الحروب والغارات وقَطْع الطريق‪ ،‬كان الواحد منهم‬
‫يسرق ليُكرم ضيفه بما سرق‪.‬‬
‫وهذه من المور العجيبة في عادات العرب في الجاهلية‪ ،‬فلم يكن لديهم منهج يحكم حياتهم‪،‬‬
‫عجيب أنْ ترى حب الغارة والعتداء مع الشهامة والكرام في طبيعة واحدة‪ ،‬فهو يفعل ما يعِنّ له‪،‬‬
‫وما يخطر بباله‪ ،‬فالمسألة ليست محكومة عندهم بقانون‪ ،‬حتى قال فيهم الشاعر‪:‬ل تمدحَنّ ابْنَ‬
‫ل ولَ‬
‫عبّادٍ وإنْ هطَلتْ َكفّاهُ بالجُود حتّى أشبَه الدّ َيمَافَإنّها خطرَاتٌ من وَسَاوِسِهِ ُيعْطي ويمنَع لَ بُخْ ً‬
‫ك َرمَاومن أشهر قصائد الشعر العربي في الكرم هذه القصيدة التي تأصّل فيها هذا الخُلق حتى عند‬
‫الطفال‪ ،‬وحتى أن الب يهِمّ بذبح ولده للضيف‪ ،‬لنه لم يجد ما يذبحه لِقرَاه‪.‬‬
‫جفْوةٍ‬
‫صبِ البطن مُرْملٍ ببيداءَ لم َيعْرف بها ساكنٌ َرسْماأَخِي َ‬
‫ويقول فيها الشاعر‪:‬وَطَاوٍ ثَلثا عَا ِ‬
‫س وَحْشةٌ يرى ال ُبؤْس فِيَها مِنْ شراسته ُنعْميرَأَى شبحا وِسْط الظّلم فَرَاعَه فَلما رأَى‬
‫فيه من الُنْ ِ‬
‫شعْب‬
‫حمَاوأفرد في ِ‬
‫ضَيْفا تشمّر واهْتماوقَالَ هَيّا ربّاه ضَيْف ول قِرَى!! بحقّك لَ تحرمْه تالليلةَ الّل ْ‬
‫عَجُوزا إزَاءَهَا ثَلثَة أَشْباحٍ َتخَالهموا ُب ْهمَاحُفاةً عُراةً مَا اغت َذوْا خُبْز مَلّة ولَ عَرفُوا للبُرّ مُذْ خُلِقوا‬
‫طعْماولَ تَعتذِرْ بالعُدم على الذِي طَرَا يظنّ‬
‫طعْمافَقالَ ابنُه َلمّا رآهُ بحيْرةٍ أيَا أ ْبتِ اذْبحْني ويسّر َلهُم ُ‬
‫سعُنا ذمّافروّى قليلً ثُمّ أحجمَ بُرْه ًة وَإنْ ُهوَ لم يذبح فَتَاهُ َفقَد همّافبَيْنَا ُهمَا عَ ّنتْ على ال ُبعْد‬
‫لَنَا مَالً فيُ ِ‬
‫خلْف مِسْحلها َنظْماعطَاشا تريد الماءَ فا ْنسَابَ نحوهَا علَى أنّه مِنْها إلىَ َدمِها‬
‫عَانَةٌ قَد انتظمتْ من َ‬
‫أَظْمافَأَمهلَها حتّى تر ّوتْ عِطاشُها وأرسَل فيها من كِنَانتِه سَهمْافَخَرّت نَحُوصٌ ذَات جحش قَدْ‬
‫اكتن َزتْ لَحْما وقد طُ ّبقَتْ شحْمافَيَا بشْ َرهُ إذْ جرّها نَحْو قوم ِه ويَا بشْرهُم لما رأوا كَلْمها يَ ْدمَىوباتَ‬
‫أبُوهم من َبشَاشتِه أبا َلضَ ْيفِهموا والمم مِنْ ِبشْرها ُأمّا‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫خصْلة الكرم في العربي‪ ،‬حتى في الطفال الصغار‪ ،‬فهو وإنْ كان فقيرا لكن ل يحب‬
‫لقد تأصلتْ َ‬
‫أن يُعرف عنه الفقر‪ ،‬يحب أن يظهر في صورة الغني الكريم المعطاء‪ ،‬وإنْ ناقض ذلك صفات‬
‫أخرى ذميمة فيه‪.‬‬
‫والشاهد أنهم جماعة تناقضتْ خصالهم‪ ،‬وقد عاشوا في أمية تامة فلم يعالجوا حضارة‪ ،‬وهذه‬
‫حسِبت لهم بعد ظهور السلم وبعثة النبي صلى ال عليه وسلم من بينهم‪ ،‬فكيف لمثل هؤلء أنْ‬
‫ُ‬
‫يأتوا بهذه المعاني والساليب العالية التي تحكم العالم كله؟ ولو كانوا أهلَ علم وحضارة لقالوا‬
‫عنهم وعن السلم‪ :‬إنه قفزة حضارية‪.‬‬
‫ولو كان رسول ال صلى ال عليه وسلم قارئا لقالوا‪ :‬قرأ لفلن وفلن‪ ،‬كما حكى عنهم الحق‬
‫سبحانه وتعالى‪ {:‬وَلَقَدْ َنعْلَمُ أَ ّنهُمْ َيقُولُونَ إِ ّنمَا ُيعَّلمُهُ بَشَرٌ‪[} ..‬النحل‪.]103 :‬‬
‫إذن‪ :‬ف ِذكْر العرب وشرفهم ومجدهم وكرامتهم في القرآن‪ ،‬ومع ذلك لم يعملوا حتى لمصلحتهم‪،‬‬
‫ولم يهتموا بهذا القرآن‪ ،‬إنما أعرضوا عنه } َفهُمْ عَن ِذكْرِ ِهمْ ّمعْ ِرضُونَ { [المؤمنون‪.]71 :‬‬
‫أي‪ :‬عن القرآن‪ ،‬وهذا دليل أنهم كانوا مغفلين‪ ،‬ل يعرفون حتى مصلحتهم‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬أَمْ تَسَْأُلهُمْ خَرْجا َفخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْرٌ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2722 /‬‬

‫أَمْ َتسْأَُلهُمْ خَرْجًا َفخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْ ٌر وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ (‪)72‬‬

‫(الخَرْج)‪ :‬ما يخرج منك طواعية‪ ،‬أما الخراج فهو ما يخرج منك رغما عنك‪ ،‬والزيادة في المبنى‬
‫تدل على الزيادة في المعنى‪ ،‬فالخراج أبلغ من الخَرْج‪ .‬والمراد بقوله تعالى‪ { :‬أَمْ تَسْأَُلهُمْ خَرْجا‬
‫خذْه من‬
‫ن كنتَ تريد خَرْجا فل تأخذه من أيديهم‪ ،‬إنما ُ‬
‫فَخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْرٌ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]72 :‬إ ْ‬
‫ربك‪ ،‬فما عندهم ليس خَرْجا بل خراج { فَخَرَاجُ رَ ّبكَ خَيْرٌ‪[ } ..‬المؤمنون‪.]72 :‬‬
‫خلْقه برزق يرزقهم به‪،‬‬
‫فل تأخذ الرزق إل من يد الخير والبركة؛ لن الحق سبحانه ل يمنّ على َ‬
‫فهو سبحانه قد استدعاهم إلى الحياة؛ لذلك تكفّل سبحانه بأرزاقهم‪ ،‬كما لو دعوتَ صديقا إلى طعام‬
‫فإنك ُتعِدّ له ما يكفي عشرة‪ ،‬فما بالك حينما ُيعِدّ لك ربك عز وجل؟‬
‫ثم يُذيّل الحق سبحانه الية بقوله تعالى { وَ ُهوَ خَيْرُ الرّا ِزقِينَ } [المؤمنون‪ ]72 :‬وهذه أحدثتْ‬
‫إشكالً عند البعض؛ لن الحق سبحانه جعل لخَلْقه شراكة في صفة الرزق‪ ،‬فغيره سبحانه يرزق‬
‫أيضا‪ ،‬لكن هو خير الرازقين؛ لنه يرزق الخَلْق بأصول الشياء التي يرزقون منها غيرهم‪ ،‬فإنْ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫كنتَ ترزق غيرك مثلً طعاما فهو سبحانه أصل هذا الطعام ومصدره‪.‬‬
‫ن أعملتَ‬
‫هو سبحانه خالق التربة‪ ،‬وخالق الماء‪ ،‬وخالق الهواء‪ ،‬وخالق البذرة‪ ،‬وما عليك إل أ ْ‬
‫عقلك‪ ،‬واستخدمتَ الطاقات التي منحك ال إياها‪ ،‬فأخرجتَ هذا الطعام‪ ،‬فلو أنك جِ ْئتَ لهلك‬
‫بحاجيات المطبخ ولوازم المعيشة طوال الشهر من دقيق وسمن وأرز وسكر‪ ..‬إلخ وقامت زوجتُك‬
‫وقامت زوجتُك بإعداد الطعام أتقول‪ :‬إن الزوجة هي التي جاءت بالطعام؟‬
‫لذلك يقول العلماء وأهل المعرفة‪ :‬نَزّهوا ألسنتكم عن قول‪ :‬فلن رازق‪ ،‬ودَعُوها لقول ال تعالى؛‬
‫لنه سبحانه هو خالق الرزق‪ ،‬وواجد أصوله‪ ،‬وما أنت إل مُنَاول للغير‪.‬‬
‫وتلحظ أنه تعالى أضاف الخَراج إلى الربوبية التي تفيد الرعاية والعناية والتربية‪ ،‬فما دام الخراجُ‬
‫خراجَ ربك يا محمد‪ ،‬فهو خراج كثير وعطاء ل ينفد‪.‬‬

‫(‪)2723 /‬‬

‫وَإِ ّنكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْ َتقِيمٍ (‪)73‬‬

‫الصراط المستقيم‪ :‬الطريق المعتدل الذي ل عوجَ فيه ول أمتا‪ ،‬فكيف إذن يتأبون عليك ويقفون في‬
‫طريقك وأنت تدعوهم إلى الصراط المستقيم؟ وإن انتفع بالصراط المعوج واحد فسوف ينتفع‬
‫بالصراط المستقيم المليين‪.‬‬
‫ومن ذلك ما سبق أن أوضحناه من أنه يجب عليك أن تنظر إلى ما أعطاه لك التشريع قبل أنْ‬
‫تنظر إلى ما أخذه منك‪ ،‬فالشرع حين يأخذ منك وأنت غني يعطيك وأنت فقير‪ ،‬ويأمرك برعاية‬
‫اليتيم ليرعى أولدك من بعدك إنْ تركتَهم وهم صغار‪.‬‬
‫فالشرع ‪ -‬إذن ‪ -‬يُؤمن حياتك ويجعلك تستقبل مقادير ال بالرضا؛ لنك في مجتمع إيماني لن‬
‫يتخلى عنك إن افتقرت‪ ،‬ولن يترك أولدك إنْ تيتّموا‪ ،‬فالمجتمع اليماني إنْ مات فيه الب كان‬
‫الجميع لليتيم آباء‪ .‬أما إنْ ضاع اليتيم في مجتمع اليمان فإن ذلك يفتح الباب للسخط على قدر ال‪،‬‬
‫ن يقولوا‪ :‬ما الحكمة في أن يأخذ أباهم ويتركهم عالة ل يتكفل بهم أحد؟‬
‫ويُغري ضعاف اليمان أ ْ‬

‫(‪)2724 /‬‬

‫وَإِنّ الّذِينَ لَا ُي ْؤمِنُونَ بِالَْآخِ َرةِ عَنِ الصّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (‪)74‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫{ الصّرَاطِ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]74 :‬هو الطريق المستقيم الذي يُؤدّي إلى الغاية بأقلّ مجهود‪ ،‬وفي أقل‬
‫وقت ويوصلك إلى أفضل غاية‪ .‬والطريق يأخذ حظه من العناية والهتمام بقدر الغاية الموصّل‬
‫إليها‪ ،‬فالطريق من القاهرة إلى السكندرية غير الطريق بين القرى والنّجوع‪.‬‬
‫حظّ في العوجاج وعدم‬
‫ومعنى‪ { :‬لَنَاكِبُونَ } [المؤمنون‪ ]74 :‬يعني‪ :‬منحرفون عن الطريق‪ ،‬ولهم َ‬
‫الستقامة؛ لذلك مَنْ يريد الصدق (تعال دوغري) يعني‪ :‬من الطريق الذي ل اعوجاجَ فيه ول‬
‫مراوغةَ‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬ما الذي جعلهم يتنكّبون الطريق المستقيم الذي يُنظّم لهم حركة الحياة‪ ،‬ويجعلها تتساند ل‬
‫تتعاند‪ ،‬ويعود مجهود الفرد على الباقين؟ لماذا يحرِمون أنفسهم من مزايا هذا الطريق؟‬
‫قالوا‪ :‬لنهم مكذبون بالخرة‪ ،‬ولو لم يكونوا مكذبين بالخرة لمنوا واتبعوا منهج ال؛ لنهم‬
‫سيئولون إلى ال أيلولةً‪ ،‬تعطي المحسن جزاءه وتعطي المسيء جزاءه‪ .‬فالذي أفسد هؤلء أنهم‬
‫اتبعوا أهواءهم‪ ،‬وظنوا أن الدنيا هي الغاية وهي نهاية المطاف‪ ،‬وغفلوا عن الخرة‪ ،‬وأنها دار‬
‫النعيم الحقيقي الذي ل يفوتُك ول تفوته‪.‬‬
‫كما قال عنها الحق سبحانه وتعالى‪ {:‬وَإِنّ الدّا َر الخِ َرةَ َل ِهيَ ا ْلحَ َيوَانُ َلوْ كَانُواْ َيعَْلمُونَ }[العنكبوت‪:‬‬
‫‪ ]64‬يعني‪ :‬الحياة الحقيقية‪.‬‬
‫طغْيَا ِنهِمْ‪.} ..‬‬
‫شفْنَا مَا ِبهِمْ مّن ضُرّ لَّلجّواْ فِي ُ‬
‫حمْنَاهُ ْم َوكَ َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلوْ َر ِ‬

‫(‪)2725 /‬‬

‫طغْيَا ِنهِمْ َي ْع َمهُونَ (‪)75‬‬


‫ن ضُرّ لََلجّوا فِي ُ‬
‫شفْنَا مَا ِبهِمْ مِ ْ‬
‫حمْنَاهُ ْم َوكَ َ‬
‫وََلوْ َر ِ‬

‫س الِنسَانَ‬
‫يعني‪ :‬لو حدث هذا لعادوا إلى ما كانوا عليه‪ ،‬كما قال سبحانه في موضع آخر‪ {:‬وَإِذَا مَ ّ‬
‫شفْنَا عَنْ ُه ضُ ّرهُ مَرّ كَأَن لّمْ يَدْعُنَآ إِلَىا ضُرّ مّسّهُ‪} ..‬‬
‫الضّرّ دَعَانَا ِلجَنبِهِ َأوْ قَاعِدا َأوْ قَآئِما فََلمّا كَ َ‬
‫[يونس‪.]12 :‬‬
‫ج َعلَ لِلّهِ أَندَادا‪[} ..‬الزمر‪:‬‬
‫وليْتَه اكتفى عند هذا الحدّ‪ ،‬إنما يتعدّى هذا‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬وَ َ‬
‫‪ ]8‬يقول كما قال قارون‪ {:‬إِ ّنمَآ أُوتِيتُهُ عَلَىا عِلْمٍ عِندِي‪[} ..‬القصص‪ ]78 :‬يعني‪ :‬هذا بمجهودي‬
‫وتعبي‪ ،‬وقد كلمت فلنا‪ ،‬وفعلت كذا وكذا‪.‬‬
‫لذلك كان طبيعيا أن يقول له ربه‪ :‬ما ُد ْمتَ قد أوتيتَهُ على علم عندك‪ ،‬فاحفظه بعلم عندك قال‬
‫سفْنَا بِهِ وَبِدَا ِر ِه الَ ْرضَ‪[} ..‬القصص‪.]81 :‬‬
‫تعالى‪ {:‬فَخَ َ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فأين الن عِلْمك؟ وأيّ علم هذا الذي ل يستطيع أن يحتفظ بما أتى به؟ ومعلوم أن استنباط الشيء‬
‫أصعب من حفْظه وصيانته‪.‬‬
‫طغْيَا ِنهِمْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]75 :‬والطغيان‪ :‬مجاوزة‬
‫ومعنى { لّلَجّواْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]75 :‬تمادوا { فِي ُ‬
‫حدّا مرسوما ل ينقص ول يزيد‪ ،‬فإن اتبعتَ هذا‬
‫الحدّ؛ لن ال تعالى جعل لكل شيء في الوجود َ‬
‫ت واستقامتْ حركة حياتك بل منازع‪ ،‬ولو طغى الشيء أفسد حركة‬
‫الحدّ الذي رسمه ال لك استقم َ‬
‫الحياة‪ ،‬حتى لو كان الماء الذي جعل ال منه كل شيء حيّ‪ ،‬لو طغى يُغرق ويُدمّر بعد أنْ كان‬
‫حمَلْنَاكُمْ فِي ا ْلجَارِيَةِ }[الحاقة‪.]11 :‬‬
‫طغَا ا ْلمَآءُ َ‬
‫سر الحياة حال اعتداله‪ .‬ومنه قوله سبحانه‪ {:‬إِنّا َلمّا َ‬
‫ويقال لمن جاوز الحدّ‪ :‬طاغية بتاء التأنيث الدالة على المبالغة‪ ،‬فإنْ تجاوز هذه أيضا نقول‪:‬‬
‫طاغوت‪.‬‬
‫ثم تأتي نتيجة التمادي في الطغيان { َي ْع َمهُونَ } [المؤمنون‪ ]75 :‬يعني‪ :‬يتحيرون و َي ْعمَوْن عن‬
‫الرّشْد والصواب‪ ،‬فل يُميّزون بين خير وشر‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وََلقَدْ َأخَذْنَاهُمْ بِا ْلعَذَابِ َفمَا اسْ َتكَانُواْ لِرَ ّبهِمْ‪.} ..‬‬

‫(‪)2726 /‬‬

‫خذْنَاهُمْ بِا ْل َعذَابِ َفمَا اسْ َتكَانُوا لِرَ ّبهِ ْم َومَا يَ َتضَرّعُونَ (‪)76‬‬
‫وَلَقَدْ أَ َ‬

‫استكان فلن ل تقال إل لمَنْ كان مُتحركا حركةً شريرة‪ ،‬ثم هدأ وسكن‪ ،‬نقول‪ :‬فلن (انكَنّ) أو‬
‫استكان وأصلها (كوْن) فالمعنى‪ :‬طلب وجودا جديدا غير الوجود الذي كان عليه‪ ،‬أو حالً غير‬
‫الحال الذي كان عليه أولً‪ ،‬فقبل أنْ يستكين ويخضع كان ل بُدّ مُتمرّدا على ربه‪.‬‬
‫والوجود نوعان‪ :‬وجود أولي مطلق‪ ،‬ووجود ثَانٍ بعد الوجود الولي‪ ،‬كما نقول مثلً‪ :‬وُلِد زيد‬
‫يعني وُجِد زيد وجودا أوليا‪ ،‬إنما على أيّ هيئة وُجد؟ جميلً‪ ،‬قبيحا‪ ..‬هذه تحتاج إلى وجود آخر‪،‬‬
‫تقول‪ :‬كان زيدّ هكذا فعل وفاعل ل يحتاج إلى إخبار آخر لنها للوجود الول‪ ،‬لكن حين نقول‪:‬‬
‫كان زيد مجتهدا‪ ،‬فهذا هو الوجود الثاني وهو الجتهاد‪ ،‬وهو وجود ناتج عن الوجود الول‪.‬‬
‫فكان الولى هي كان التامة التي وردتْ في قوله تعالى‪ {:‬وَإِن كَانَ ذُو عُسْ َرةٍ فَنَظِ َرةٌ إِلَىا مَيْسَ َرةٍ‪..‬‬
‫}[البقرة‪ ]280 :‬أي‪ :‬وُجِد ذو عُسْرة‪ ،‬ول تحتاج في هذه الحالة إلى خبر‪.‬‬
‫ونقول‪ :‬تمنّى فلن على ال أنْ يُوجَد له ولد‪ ،‬فكان محمد‪ ،‬يعني‪ :‬وُجِد‪ .‬أما كان الناقصة فتحتاج‬
‫إلى خبر؛ لن (كان) ِفعْل يدل على زمان الماضي‪ ،‬والفعل ل بُدّ أنْ يدل على زمن وحدث؛ لذلك‬
‫ل ُبدّ لها من الخبر الذي يعطي الحدث تقول‪ :‬كان زيد مجتهدا‪ ،‬فجاء الخبر ليكمل الفعل الناقص‪،‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فكأنك قلتَ‪ :‬زيد مجتهد‪.‬‬
‫ن لنفسهم ول‬
‫ومعنى { َفمَا اسْ َتكَانُواْ لِرَ ّبهِمْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]76 :‬أن خضوعهم واستكانتهم لم تكُ ْ‬
‫للناس‪ ،‬إنما استكانة ل بأخْذ أوامره بمنتهى الخضوع وبمنتهى الطاعة‪ ،‬لكنهم ما فعلوا وما‬
‫استكانوا‪ ،‬ل في حال الرحمة وكَشْف الضر‪ ،‬ول في حال الَخْذ والعذاب‪ ،‬وكان عليهم أن يعلموا‬
‫أن ال غيّر حاله معهم‪ ،‬ومقتضى ذلك أن يُغيّروا هم أيضا حالهم مع ال‪ ،‬فيستكينوا لربهم‬
‫ويخضعوا لوامره‪.‬‬
‫{ َومَا يَ َتضَرّعُونَ } [المؤمنون‪ ]76 :‬الضراعة‪ :‬هي الدعاء والذلّة والخضوع لمن أخذ بيدك في‬
‫شيء‪ ،‬كما جاء في قوله تعالى‪ {:‬فََلوْل ِإذْ جَآءَهُمْ بَ ْأسُنَا َتضَرّعُواْ‪[} ..‬النعام‪ ]43 :‬يعني‪ :‬لجئوا إلى‬
‫ال وتوجَهوا إليه بالدعاء والستغاثة‪.‬‬

‫(‪)2727 /‬‬

‫شدِيدٍ ِإذَا ُهمْ فِيهِ مُبِْلسُونَ (‪)77‬‬


‫حَتّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَ ْي ِهمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ َ‬

‫ت معهم كل المحاولت‪ ،‬فما أج َدتْ معهم الرحمة واستمروا على غَلْوائهم‪ ،‬وما أجدى معهم‬
‫لقد فشل ْ‬
‫العذاب وما استكانوا بعد أن أخذهم ال به‪ ،‬إذن‪ :‬لم يَ ْبقَ لهم حجة ول أملٌ في النجاة‪ ،‬ففتح ال‬
‫شدِيدٍ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]77 :‬يعني‪ :‬أصابتهم محنة كأنهم من وراء باب ُمغْلق‬
‫عليهم { بَابا ذَا عَذَابٍ َ‬
‫تفاجئهم { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [المؤمنون‪ ]77 :‬آيسون من النجاة مُتحسّرون على ما فاتهم‪.‬‬
‫لفْئِ َدةَ‪.} ..‬‬
‫سمْعَ وَالَ ْبصَا َر وَا َ‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي أَنْشَأَ َل ُكمُ ال ّ‬

‫(‪)2728 /‬‬

‫شكُرُونَ (‪)78‬‬
‫سمْ َع وَالْأَ ْبصَارَ وَالَْأفْئِ َدةَ قَلِيلًا مَا تَ ْ‬
‫وَ ُهوَ الّذِي أَنْشَأَ َلكُمُ ال ّ‬

‫الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يقول‪ :‬خلقتُ عبادي من عدم‪ ،‬وأمددتهم بأقوات الحياة ومقوماتها من‬
‫عدم‪ ،‬ثم جعلتُ لهم منهجا ينظم حركة حياتهم ويصُون بنيتهم‪ ،‬لن صاحب الصنعة أعلم بصنعته‪،‬‬
‫ل هل صنعها‬
‫وأعلم يما يصلحها‪ ،‬ويعرف غايتها التي خلقها من أجلها‪ ،‬فالذي صنع الثلجة مث ً‬
‫أولً ثم قال لنا‪ :‬انظروا في أيّ شيء تفيدكم هذه اللة؟ ل‪ ،‬إنما قبل أن يصنعها حدّد مهمتها‪،‬‬
‫والغاية منها‪ ،‬وكذلك خلق ال‪ ،‬ول المثل العلى‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حدّد الغاية أعلم بقانون الصيانة الذي يحمي صنعته من الفساد‪ ،‬ويجعلها تؤدي‬
‫والذي خلق و َ‬
‫مهمتها على أكمل وجه‪ ،‬فإنْ خالفت قانون الصيانة الذي وضعه لك ربك تفسد حياتك وتتعطّل عن‬
‫ن وَالِنسَ ِإلّ‬
‫أداء مهمتك التي خلقت لها‪ ،‬وهي عبادة ال وحده ل شريك له‪َ {:‬ومَا خََل ْقتُ الْجِ ّ‬
‫لِ َيعْبُدُونِ }[الذاريات‪.]56 :‬‬
‫لذلك أمركم إن اختلفتم في شيء أنْ تردوه إلى ال وإلى الرسول‪ ،‬كما ترد اللة إلى صانعها العالم‬
‫بطبيعتها وبمواطن الخلل فيها‪ ،‬ونستنبط من هذه المسألة‪ :‬إذا رأيتَ خللً في الكون أو فسادا في‬
‫عطّل‪.‬‬
‫حكْما ل قد ُ‬
‫ناحية من نواحيه‪ ،‬وإذا رأيت عورة من العورات قد ظهرتْ فاعلم أن ُ‬
‫فمثلً إنْ رأيتَ فقيرا جائعا عاريا فإما أنه قادر على العمل لكنه قعد عن السعي وخالف قوله‬
‫تعالى‪ {:‬فَامْشُواْ فِي مَنَاكِ ِبهَا َوكُلُواْ مِن رّ ْزقِ ِه وَإِلَيْهِ النّشُورُ }[الملك‪ ]15 :‬أو‪ :‬أن القادرين العاملين‬
‫حقّ لّلسّآ ِئلِ‬
‫حرموه حقّه الذي جعله ال له في أموالهم‪ ،‬وخالفوا قوله تعالى‪َ {:‬وفِي َأ ْموَاِلهِمْ َ‬
‫وَا ْلمَحْرُومِ }[الذاريات‪.]19 :‬‬
‫سدّ‬
‫لذلك‪ ،‬فالحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يُجري على عباده من المقادير ما يحفظ لهم توازن الحياة وي ُ‬
‫حاجة المحتاجين‪ ،‬كما نرى مثلً أحد الثرياء يترك بلده‪ ،‬وينتقل إلى بلد آخر يضع فيها أمواله‬
‫وثرواته‪ ،‬وليس هناك لهذه النقلة إل أنها خاطر سلّطه ال عليه ليحفظ به توزيع المال في المجتمع‪،‬‬
‫ولو حسبتها لوجدتَ أن هذا المكان زادت فيه حصيلة الزكاة عن حاجة المحتاجين‪ ،‬فانتقل إلى بلد‬
‫آخر قلّت فيه الموال عن حاجة الفقراء والمحتاجين‪.‬‬
‫وبعد ذلك لم يتركك ربك‪ ،‬بل عرض لك اليات التي تلفتك إليه‪ ،‬وتُحنّنك إلى التعرّف عليه‪ ،‬وهي‬
‫إما آيات كونية عجيبة تدل على قدرة ال تعالى‪ ،‬أو معجزات تثبت صِدْق النبياء في البلغ عن‬
‫ال؛ لن ال تعالى ل يخاطب عباده كل واحد بمفرده‪ ،‬إنما يرسل رسولً ليُبلّغهم ثم يُؤيّده بالمعجزة‬
‫الدالة على صِدْقه في البلغ‪.‬‬
‫فحين تنظر في آيات الكون وتستدل بها على وجود خالق قادر لكنك ل تعرف مَنْ هو هذا الخالق‬
‫يأتي الرسول ليقول لك‪ :‬إنه ال‪ ،‬وقد ضربنا لذلك مثلً ‪ -‬ول المثل العلى‪َ :‬هبْ أن أحدا دَقّ‬
‫الباب ونحن جلوس بالداخل فما الذي يحدث؟ نتفق نحن جميعا على أن طارقا بالباب‪.‬‬

‫لكن مَنْ هو؟ ل أحد يعلم‪.‬‬


‫فالتفاق هنا في التعقّل‪ ،‬وأن هناك قوةً خلف الباب تدقّه‪ ،‬لكن مَنْ هو؟ وماذا يريد؟ ل ُبدّ لمعرفة‬
‫هذه المسائل من بلغ عن هذه القوة‪ ،‬وإياك أنْ تقول بالظن‪ :‬هذا فلن وأنا أقول هذا فلن‪ ،‬إنما‬
‫ن هو‪ ،‬وما عليك إل أنْ تقول‪ :‬مَنْ بالباب وسوف يخبرك هو‬
‫علينا أن ننتظر البلغ منه لنعرف مَ ْ‬
‫عن نفسه‪ ،‬وعن سبب مجيئه‪ ،‬وماذا يريد‪ .‬ثم بعد ذلك تأتي اليات التي تحمل منهج ال‪ ،‬وتخبرك‬
‫أنه يريد منك كذا وكذا‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫الشاهد‪ :‬أن هذه اليات كلها تحتاج إلى وسائل لدراكها‪ ،‬تحتاج إلى سمع وبصر لنراها ونسمعها‪،‬‬
‫سمْ َع وَالَبْصَارَ‬
‫ثم تحتاج إلى عقل لنفكر فيها ونتأملها؛ لذلك يقول سبحانه‪ } :‬وَ ُهوَ الّذِي أَنْشَأَ َلكُمُ ال ّ‬
‫وَالَفْئِ َدةَ‪[ { ..‬المؤمنون‪.]78 :‬‬
‫السمع والبصر من الحواس التي سماها العلماء احتياطا الحواس الخمس الظاهرة أي‪ :‬أن هناك‬
‫حواسّ أخرى لم يكتشفوها‪ ،‬وفعلً اكتشفها العلم بعد ذلك كحاسة العضل التي تميز بها الثقل‪،‬‬
‫وحاسة البين التي تميز بها الغليظ من الرقيق في الثياب مثلً‪ ،‬فهذه الشياء ل تستطيع التعرّف‬
‫عليها بالحواسّ الخمس المعروفة‪.‬‬
‫عمْدة الحواس‪ :‬السمع والبصر؛ لنه إذا جاءني رسول يُبلّغني عن ال ل بُدّ أن أسمع منه‪ ،‬فإنْ‬
‫وُ‬
‫كنتَ مؤمنا بإله فقد اكتفيتَ بحاسة السمع‪ ،‬وإنْ كنتَ غير مؤمن تحتاج إلى بصر لتبصر به آياته‬
‫الدالة على وجوده وقدرته‪ ،‬وتستدل بالصّنْعة على الصانع‪ ،‬وبالخِلْقة على الخالق‪ ،‬وتقف على ما‬
‫في كوْن ال من الدقة والحكام والهندسة والبداع‪.‬‬
‫وهذه مهمة العقل بعد أن تحولت المسموعات والمرئيات إلى قضايا ومبادئ عقلية تحكم حياتك‪،‬‬
‫كما لو رأيتَ النار بعينك ثم لمستها بيدك فأحرقتك فتكوّنت لديك قضية عقلية مُؤدّاها أن النار لها‬
‫خاصية الحراق فل تلمسها بعد ذلك‪ ،‬وهذه تراها حتى في الطفل الصغير حينما يعجبه قرن‬
‫ل فيقضمه فيشعر بحرارته وألمه‪.‬‬
‫الشطة مث ً‬
‫فإن رآه بعد ذلك يقول (أوف)‪ ،‬فهذه اللفظة بالنسبة للطفل قضية عقلية تكوّنَتْ لديه نتيجة تجربة‬
‫استقرتْ في فؤاده‪ ،‬وأخذها مبدأً يسير عليه في كل حياته‪ ،‬وهكذا من المحسّات ومن تجارب الحياة‬
‫تتكوّن لديك قضايا عقلية تستفيد بها فيما بعد‪.‬‬
‫إذن‪ :‬من وسائل الدراك تتكوّن المبادئ والقضايا التي يأخذها العقل‪ ،‬ويفاضل بينها حتى ينتهي‬
‫إلى قضية ومبدأ يستقر في القلب ونُسمّيها عقيدة يعني‪ :‬شيء معقود عليه ل ينحلّ‪.‬‬
‫وحين تتأمل حديث القرآن عن الحواس تجده يُرتّبها دائما هذا الترتيب‪ :‬السمع والبصر والفؤاد‬
‫عمْدة الحواس‪ ،‬فالشمّ مثلً والتذوق واللمس ل نحتاج إليه إل قليلً‪ ،‬أما السمع والبصر‬
‫لنها ُ‬
‫فعليهما تقوم مسألة الدعوة‪ :‬السمع لسماع البلغ‪ ،‬والبصر لنرى آيات ال الدالة على قدرته تعالى‪.‬‬
‫وقد أثبت العلم الحديث هذا الترتيب للسمع والبصر والفؤاد مما يدلّ على أنه ترتيب من خالق عن‬
‫حكمة وعلم وقدرة‪ ،‬بحيث ل يأتي واحد منها قبل الخر‪ ،‬كما أثبت علماء وظائف العضاء صِدْق‬
‫هذا الترتيب‪ ،‬فأوّل أداة تؤدي مهمتها في النسان هي الذن ثم العين‪ ،‬وتعمل من ثلثة إلى عشرة‬
‫أيام من الولدة‪ ،‬ثم من السمع والبصر توجد القضايا التي يعمل فيها العقل‪.‬‬

‫إذن‪ :‬فهذا ترتيب خَلْقي وتكويني‪ .‬كما أن السمع وهو أول حاسّة تؤدي مهمتها في النسان هو‬
‫أيضا الدراك الوحيد الذي يصاحب النسان في كل أطواره‪ ،‬فالذن تسمع مثلً حتى في حالة‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫النوم على خلف العين؛ ذلك لن بالسمع يتم الستدعاء‪ ،‬لذلك تظل تؤدي مهمتها حتى في حال‬
‫النوم‪.‬‬
‫كما أن العين ل ترى في الظلم ولها غطاء طبيعي ومغاليق تحجب الرؤية‪ ،‬وليست الذن كذلك‪،‬‬
‫فالصوت إذا خرج تسمعه جميع الذان‪ ،‬أما المرئيّ فقد يوجد معك في نفس المكان ول تراه وقد‬
‫سمْعَ وَالَ ْبصَارَ‪..‬‬
‫يراه غيرك‪ ،‬إذن‪ :‬فالمسموع واحد والمرائي متعددة‪ ،‬لذلك قال سبحانه‪ } :‬ال ّ‬
‫{ [المؤمنون‪.]78 :‬‬
‫فليس لك خيار في السمع‪ ،‬لكن لك خيار في الرؤية‪ ،‬فالمبصرات تتعدد بتعدّد البصار‪ ،‬لكن السمع‬
‫ل يتعدد بتعدّد السماع‪.‬‬
‫لذلك من إعجازات البيان القرآني في قصة أهل الكهف أن ال تعالى ضرب على آذانهم في‬
‫الكهف ليناموا ول تزعجهم الصوات في هذه الصحراء الدويّة‪ ،‬ولو بقي لهم السمع كشأن الخَلْق‬
‫جميعا لما استقر لهم قَرَار طوال هذه الفترة الطويلة‪ ،‬ولفزعتهم الصوات‪.‬‬
‫يقول الحق سبحانه وتعالى‪َ {:‬فضَرَبْنَا عَلَىا آذَا ِنهِمْ فِي ا ْل َك ْهفِ سِنِينَ عَدَدا }[الكهف‪.]11 :‬‬
‫كذلك من آيات العجاز في القرآن الكريم أن جميع اليات التي ذكرتْ السمع والبصر ذكرتْه بهذا‬
‫س ِمعْنَا‪} ..‬‬
‫الترتيب‪ :‬السمع والبصار‪ ،‬إل في آية واحدة في موقف القيامة قالوا‪ {:‬رَبّنَآ أَ ْبصَرْنَا وَ َ‬
‫[السجدة‪.]12 :‬‬
‫فقدّم البصر على السمع؛ لن في القيامة تفجؤهم المرائي أولً قبل أنْ تفجأهم الصوات‪ ،‬وهذه من‬
‫مظاهر الدقة في الداء القرآني المعجز‪.‬‬
‫وكأن الحق سبحانه يقول‪ :‬ل عُذْر لك عندي فقد أعطيتُك سمعا لتسمع البلغ عني من الرسول‪،‬‬
‫وأعطيتُك عَيْنا لتلتفت إلى آيات الكون‪ ،‬وأعطيتُك فؤادا تفكر به‪ ،‬وتنتهي إلى حصيلة إيمانية تدلّك‬
‫على وجود الخالق عز وجل‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ما أخذتُك على غِرّة‪ ،‬ول خدعتُك في شيء‪ ،‬إنما خلقتُك من عدم‪ ،‬وأمددتُك من عُدم‪ ،‬ورتبتُ‬
‫لك منافذ الدراك ترتيبا منطقيا تكوينيا‪ ،‬فأيّ عذر لك بعد ذلك‪ ..‬وإياكم بعد هذا كله أنْ تشغلكم‬
‫الهواء‪ ،‬وتصْرفكم عن البلغ الذي جاءكم على لسان رسولنا‪.‬‬
‫والمتأمل في تركيب كل من الذن والعين يجد فيهما آيات ومعجزات للخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬ما‬
‫يزال العلماء لم يصلوا رغم تقدّم العلوم إلى أسرارها وكُنْهها‪.‬‬
‫شكُرُونَ { [المؤمنون‪ ]78 :‬لن هذه ِنعَم وآلء وآيات‬
‫ثم يقول سبحانه في ختام الية‪ } :‬قَلِيلً مّا تَ ْ‬
‫حقّ الشكر‪.‬‬
‫ل‪ ،‬كان ينبغي أن تشكر َ‬

‫شكْر‬
‫شكُرُونَ { [المؤمنون‪ ]78 :‬أنه تعالى عبّر عن عدم ال ّ‬
‫البعض يقول في معنى } قَلِيلً مّا َت ْ‬
‫بالقلة‪ ،‬وهذا الفهم ل يستقيم هنا؛ لن ال تعالى أثبت لعباده شكرا لكنه قليل‪ ،‬وربك ‪ -‬عز وجل ‪-‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫يريد شكرا دائما يصاحب كل نعمة ينعم بها عليك‪ ،‬فساعة ترى العمى الذي حُرِم نعمة البصر‬
‫يتخبّط في الطريق تقول الحمد ل‪ ،‬تقولها هكذا بالفطرة؛ لنك تعيش وتتقلب في نعَم ال‪ ،‬لكن ل‬
‫تتذكرها إل حين ترى مَنْ حُرِم منها‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬إنْ أردتَ أنْ تدوم لك النعمة فاعقلها بِذكْر ال المنعم ُقلْ عند النعمة‪ ،‬أو عند رؤية ما يعجبك‬
‫في أهل أو مال‪ :‬ما شاء ال ل قوة إل بال‪َ ،‬ألّ ترى أن ال تعالى جعل الحسد لينبهنا‪ :‬إنْ أردتَ‬
‫حفْظها وصيانتها‪ ،‬وجعلتَ حفظها إلى مَنْ‬
‫صيانة النعمة فل تنسَ المنعِمَ؛ لنه وحده القادر على ِ‬
‫شكْر عليها‪.‬‬
‫صنعها‪ .‬ول يُصاب النسان في النعمة إل إذا غفل عن المنعم وترك ال ّ‬
‫وأذكر أنه كان في قريتنا رجل من أهل الفهم عن ال‪ ،‬وكان يملك ثلث فدان يزرعه المزروعات‬
‫التقليدية‪ ،‬وفي أحد العوام زرعه قطنا‪ ،‬فجاءت عليه الدودة وكادت تهلكه‪ ،‬فكلّمه والدي في مسألة‬
‫الدودة هذه فقال له‪ :‬يا عم متولي ل تقلق فأنا أؤدي صيانتها يعني‪ :‬أُخرِج منها الزكاة‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ } :‬وَ ُهوَ الّذِي ذَرََأ ُكمْ فِي الَ ْرضِ‪.{ ..‬‬

‫(‪)2729 /‬‬

‫ض وَإِلَيْهِ ُتحْشَرُونَ (‪)79‬‬


‫وَ ُهوَ الّذِي ذَ َرَأكُمْ فِي الْأَ ْر ِ‬

‫{ ذَرََأكُمْ‪[ } ..‬المؤمنون‪ ]79 :‬بثكم ونشركم في أنحاء الرض لتعمر كلها‪ ،‬وتعجب حين ترى أناسا‬
‫متشبثين بالجبال والصحراء القفر الجرداء‪ ،‬ول يرضون بها بديلً‪ ،‬ويتحملون في سبيل البقاء بها‬
‫العَنَت والمشقة‪ ،‬حتى إنك لتقول‪ :‬لماذا ل يتركون هذا المكان إلى مكان خصب‪.‬‬
‫وقد رأينا مثل هؤلء الذين صبروا على أقدار ال في بلدهم‪ ،‬رأيناهم في اليمن بعد أن أغرقها‬
‫سيل العرم‪ ،‬وكانت تُسمّى " اليمن السعيد " ورأيناهم في السعودية وفي الكويت‪ ،‬وحكى لنا أهل‬
‫هذه البلد ما كانوا فيه من الضيق وقسوة الحياة‪ ،‬ثم جاءتهم عاقبة صبرهم‪ ،‬وجعل ال ‪ -‬سبحانه‬
‫وتعالى ‪ -‬هذه الجبال وهذه الصحراوات أغنى بلد الدنيا؛ لنهم َرضُوا في الولى بقضاء ال‪،‬‬
‫فأبدلهم بصبرهم على لواء الصحراء نعيما‪ ،‬لو حُرِم منه المنعّمون في الدنيا لماتوا من البرد‪.‬‬
‫ذلك لن الخالق ‪ -‬عز وجل ‪ -‬نثر خيراته في كل أنحاء الرض بالتساوي‪ ،‬فكل قطعة طولية من‬
‫الرض فيها من الخيرات مثل ما في القطعة الخرى‪ ،‬وفي يوم من اليام كان أصحاب الزرع هم‬
‫أصحاب المال وأصحاب السيادة‪ ،‬ثم تغيرت هذه الصورة بظهور خَيْرات أخرى غير الزراعة‪،‬‬
‫فالخيرات ‪ -‬إذن ‪ -‬مطمورة في أنحاء الرض لكن لها أوان تظهر فيه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬ف َبثّ الخليقة ونشْرُها في أنحاء الرض له حكمة أرادها الخالق عز وجل‪.‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫حشَرُونَ } [المؤمنون‪ ]79 :‬يعني‪ :‬ل تفهموا أنكم بنشركم في‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَإِلَ ْيهِ تُ ْ‬
‫الرض وتفريقكم فيها أنكم تفلتون منا‪ ،‬أو أننا ل نقدر على جمعكم مرة أخرى‪ ،‬فكما نشرناكم‬
‫لحكمة نجمعكم لحكمة ل يخرج من أيدينا أحد‪.‬‬
‫لفُ‪.} ..‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪ { :‬وَ ُهوَ الّذِي يُحْيِي وَ ُيمِيتُ وَلَهُ اخْتِ َ‬

‫(‪)2730 /‬‬

‫وَ ُهوَ الّذِي ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ وَلَهُ اخْ ِتلَافُ اللّ ْيلِ وَال ّنهَارِ َأفَلَا َت ْعقِلُونَ (‪)80‬‬

‫{ ُيحْيِي وَ ُيمِيتُ‪[ } ..‬المؤمنون‪ِ ]80 :‬فعْلن ل بُدّ أن ينشآ بعد وجود الحياة ووجود الموت‪ ،‬فالخالق‬
‫‪ -‬عز وجل ‪ -‬يُوجِد الحياة أولً‪ ،‬ويوجد الموت‪ ،‬ثم يجري حدثا منهما على ما يريده‪.‬‬
‫ت الموت في كل اليات‪ ،‬إل في آية واحدة في سورة تبارك‪ {:‬الّذِي خََلقَ ا ْل َم ْوتَ‬
‫والحياة سبق ْ‬
‫وَالْحَيَاةَ‪[} ..‬الملك‪ ]2 :‬وعِلّة ذلك أن ال تعالى يعطي للنسان بالحياة إرادةً تُنشِيء الحركة في كل‬
‫أجهزته‪ ،‬ولك أن تتأمل‪ :‬ما الذي تفعله إنْ أردتَ أن تقوم من مكانك؟ ماذا تفعل إنْ أردتَ تحريك‬
‫يدك أو قدمك؟ إنها مجرد إرادة وتتحرك أعضاؤك دون أن تدري أو تُجهد نفسك للقيام بهذه‬
‫الحركات‪ ،‬ودون أن تباشر أي شيء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬بمجرد إرادتك تنفعل لك الجوارح وأنت مخلوق لربك‪ ،‬فإذا كان المخلوق يفعل ما يريد بل‬
‫معالجة‪ ،‬فكيف نستبعد هذا في حقّه ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬ونكذب أنه يقول للشيء‪ :‬كُنْ فيكون‪ ،‬مع‬
‫أننا نفعل ما نريد بجوارحنا بمجرد الرادة‪ ،‬ودون أن نأمرها بشيء أو نقول شيئا‪ ،‬وال سبحانه‬
‫وتعالى يقول للشيء‪ :‬كُنْ فيكون‪ ،‬وأنت تفعل دون أن تقول‪.‬‬
‫وقد قدّم الحق سبحانه الموتَ في هذه الية‪ {:‬الّذِي خََلقَ ا ْل َم ْوتَ وَا ْلحَيَاةَ‪[} ..‬الملك‪]2 :‬؛ لن الحياة‬
‫ستُورث النسانَ غرورا في سيطرة إرادته على جوارحه فيطغى‪ ،‬فأراد ربه ‪ -‬عز وجل ‪ -‬أن‬
‫يُنبهه‪ :‬تذكّر أنني أميتُ؛ ليستقبل الحياة ومعها نقيضها‪ ،‬فيستقيم في حركة الحياة‪.‬‬
‫وصفة الخَلْق والماتة صفات ل قديمة قبل أنْ يخلق شيئا أو يميت شيئا؛ لنها صفات ثابتة ل قبل‬
‫أنْ يباشر متعلقات هذه الصفات كما قلنا‪ ،‬ول المثل العلى‪ :‬الشاعر حين يقول قصيدة قالها لنه‬
‫شاعر ول نقول‪ :‬إنه شاعر لنه قال هذه القصيدة‪ ،‬فلول صفة الشعر فيه ما قال‪.‬‬
‫وكما أن الحياة مخلوقة‪ ،‬فالموت كذلك مخلوق‪ ،‬وقد يقول قائل‪ :‬إذا أطلقتَ رصاصة على شخص‬
‫أردَ ْتهُ قتيلً فقد خلقتَ الموت‪.‬‬
‫نقول‪ :‬الحمد ل أنك لم تدّع الحياء واكتفيتَ بالموت‪ ،‬لكن فَرْق بين الموت والقتل‪ ،‬القتل َنقْض‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫للبِنْية يتبعه إزهاق للروح‪ ،‬أما الموت فتخرج الروح أولً دون َنقْض للبنية‪.‬‬
‫سلُ أَفإِنْ مّاتَ َأوْ قُ ِتلَ ا ْنقَلَبْتُمْ عَلَىا‬
‫حمّدٌ ِإلّ َرسُولٌ قَدْ خََلتْ مِن قَبْلِهِ الرّ ُ‬
‫لذلك يقول سبحانه‪َ {:‬ومَا مُ َ‬
‫عقَا ِبكُمْ‪[} ..‬آل عمران‪.]144 :‬‬
‫أَ ْ‬
‫والنمرود الذي حَاجّ إبراهيم ‪ -‬عليه السلم ‪ -‬في ربه أمر بقتل واحد وتَرْك الخر‪ ،‬وادّعى أنه‬
‫ق لمرَ‬
‫أحيا هذا‪ ،‬وأمات هذا‪ ،‬وكانت منه هذه العمال سفسطة ل معنى لها‪ ،‬ولو كان على حَ ّ‬
‫بإحياء هذا الذي قتله؛ لذلك قطع عليه إبراهيم‪ -‬عليه السلم ‪ -‬هذا الطريق ونقله إلى مجال آخر‬
‫ل يستطيع المراوغة فيه‪.‬‬
‫إذن‪ :‬هَدْم البِنْية يتبعه خروج الروح؛ لن للروح مواصفات خاصة‪ ،‬بحيث ل تحل إل في بنية‬
‫سليمة‪ ،‬وقد أوضحنا هذه المسألة ‪ -‬ول المثل العلى ‪ -‬بلمبة الكهرباء‪ ،‬فقوة الكهرباء كامنة في‬
‫السلك ل نرى نورها إل وضعنا اللمبة مكانها‪ ،‬ويكون لها مواصفات بحيث ل تضيء إل إذا‬
‫توفرتْ لها هذه الصفات‪ ،‬فإنْ كُسِرَت ينطفيء نورها‪.‬‬

‫ل وَال ّنهَارِ‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]80 :‬الليل يحل بغياب الشمس وحلول‬


‫لفُ اللّ ْي ِ‬
‫ثم يقول تعالى‪ } :‬وََلهُ اخْتِ َ‬
‫الظّلْمة التي تمنع رؤية الشياء‪ ،‬وقديما كانوا يظنون أن الرؤية تتم حين يقع شعاع من العين على‬
‫المرئي‪ ،‬ثم جاء العالم المسلم الحسن بن الهيثم‪ ،‬فأثبت خطأ هذه النظرية‪ ،‬وقرر أن الرؤية تتم حين‬
‫يقع شعاع من المرئيّ على العين فتراه‪ ،‬بدليل أنك ل ترى الشيء إنْ كان في الظلم‪.‬‬
‫وظُلْمة الليل تنبهنا إلى أهمية الضوء الذي ل ُبدّ منه لنهتدي إلى حركة الحياة‪ ،‬والنسان يواجه‬
‫خطورة إنْ سار في الظلم؛ لنه إمّا أن يصطدم بأضعف منه فيحطمه‪ ،‬أو بأقوى منه فيؤلمه‬
‫ويؤذيه‪.‬‬
‫سعْي في مناكب الرض‪ ،‬وكذلك ل بُدّ من‬
‫إذن‪ :‬ل بُدّ من وجود النور لتتم به حركة الحياة وال ّ‬
‫الظّلْمة التي تمنع الشعاع عن الجسم‪ ،‬فيستريح من عناء العمل‪ ،‬وقد أثبت العلم الحديث خطر‬
‫الشعاعات على صحة النسان‪.‬‬
‫ل وَال ّنهَارِ‪[ { ..‬المؤمنون‪ ]80 :‬فجعلهما يختلفان ويتعاقبان‬
‫لفُ اللّ ْي ِ‬
‫لذلك يقول تعالى‪ } :‬وََلهُ اخْتِ َ‬
‫ليؤدي كل منهما وظيفته في الكون‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬وَالْلّ ْيلِ إِذَا َيغْشَىا * وَال ّنهَارِ إِذَا َتجَلّىا }[الليل‪:‬‬
‫‪ ]2 - 1‬وطالما أن لكل منهما مهمته‪ ،‬فإياك أن تقلب الليل إلى نهار‪ ،‬أو النهار إلى ليل؛ لنك بذلك‬
‫تخالف الطبيعة التي خلقك ال عليها‪ ،‬وانظر إلى هؤلء الذين يسلكون هذا المسلك فيسهرون الليل‬
‫حتى الفجر‪ ،‬وينامون النهار حتى المغرب‪ ،‬وكم أحدثوا من فساد في حركة الحياة‪ ،‬فالتلميذ ينام في‬
‫الدرس‪ ،‬والعامل ينام ويُقصّر في أداء عمله‪.‬‬
‫والنبي صلى ال عليه وسلم يُنبّهنا إلى هذه المسألة في قوله‪ ..." :‬أطفئوا المصابيح إذا رقدتم " لن‬
‫الجسم ل يأخذ راحته‪ ،‬ول يهدأ إل في الظلمة‪ ،‬فيصبح النسان قويا مستريحا نشيطا‪ ،‬واقرأ قول‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫جعَلْنَا ال ّنهَارَ َمعَاشا }[النبأ‪.]11 - 10 :‬‬
‫جعَلْنَا الّيلَ لِبَاسا * وَ َ‬
‫ال تعالى‪ {:‬وَ َ‬
‫سهَر‪ ،‬مثل‬
‫ومن ِدقّة الداء القرآني أن يراعي هؤلء الذين يعملون ليلً‪ ،‬وتقتضي طبيعة أعمالهم ال ّ‬
‫رجال الشرطة وعمال المخابز وغيرهم‪ ،‬فيقول تعالى‪َ {:‬ومِنْ آيَاتِهِ مَنَا ُمكُم بِالّيلِ وَال ّنهَارِ‪[} ..‬الروم‪:‬‬
‫‪ ]23‬فالليل هو الصل‪ ،‬والنهار لمثل هؤلء الذين يخدمون المجتمع ليلً؛ لذلك عليهم أن يجعلوا‬
‫من النهار ليلً صناعيا‪ ،‬فيغلقوا النوافذ ويناموا في مكان هادئ؛ ليأخذ الجسم حظه من الراحة‬
‫والهدوء‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الليل والنهار ليسا ضِدّيْن‪ ،‬إنما هما خَلْقان متكاملن ل متعاندان‪ ،‬وهما كالذكَر والنثى‪ ،‬يُكمل‬
‫كل منها الخر‪ ،‬ل كما يدّعي البعض أنهما ضدان متقابلن؛ لذلك بعد أن أقسم الحق سبحانه بالليل‬
‫إذا يغشى‪ ،‬وبالنهار إذا تجلّى‪ ،‬قال‪:‬‬

‫سعْ َيكُمْ َلشَتّىا }[الليل‪ ]4 - 3 :‬فالليل والنهار كالذكر والنثى لكل‬


‫خلَقَ ال ّذكَ َر وَالُنثَىا * إِنّ َ‬
‫{ َومَا َ‬
‫منهما مهمة في حركة الحياة‪.‬‬
‫واختلف الليل والنهار من حيث الضوء والظّلْمة والطول وال ِقصَر وفي اختلف الماكن‪ ،‬فالليل ل‬
‫ينتظم الكون كله‪ ،‬وكذلك النهار‪ ،‬فحين يكون عندك لَيْل فهو عند غيرك نهار‪ ،‬يقول تعالى‪ {:‬يُولِجُ‬
‫الْلّ ْيلَ فِي ال ّنهَارِ وَيُولِجُ ال ّنهَارَ فِي الْلّ ْيلِ‪[} ..‬فاطر‪.]13 :‬‬
‫وينتج عن هذا تعدّد المشارق والمغارب بتعدّد الماكن بحيث كل مشرق يقابله مغرب‪ ،‬وكل‬
‫مغرب يقابله مَشْرق‪ ،‬لدرجة أنهم قالوا‪ :‬ينشأ ليل ونهار في كل واحد على مليون من الثانية‪.‬‬
‫وينشأ عن هذا كما قلنا استدامة ِذكْر ال على مدى الوقت كله‪ ،‬بحيث ل ينتهي الذان‪ ،‬ول تنتهي‬
‫الصلة في الكون لحظة واحدة‪ ،‬فأنت تصلي المغرب‪ ،‬وغيرك يصلي العشاء‪ ..‬وهكذا‪ .‬إذن‪:‬‬
‫فالحق سبحانه يريد أن يكون مذكورا في كل الكون بجيمع أوقات الصلة في كل وقت‪.‬‬
‫حتى إن أحد الصوفية وأهل المعرفة يقول مخاطبا الزمن‪ :‬يا زمن وفيك كل الزمن‪ .‬يعني‪ :‬يا ظهر‬
‫وفيك عصر ومغرب وعشاء وفجر‪ ،‬لكن عند غيري‪.‬‬
‫ومن اختلف الليل والنهار ينشأ أيضا الصيف الحار والشتاء البارد‪ ،‬والحق سبحانه وتعالى كلف‬
‫العبيد كلهم تكليفا واحدا كالحج مثلً‪ ،‬وربط العبادات كلها بالزمن الهجري‪ ،‬فالصيف والشتاء‬
‫يدوران في الزمن‪ ،‬ويتضح هذا إذا قارنت بين التوقيت الهجري والميلدي‪ ،‬وبذلك مَنْ لم يناسبه‬
‫الحج في الصيف حَجّ في الشتاء؛ لن اختلف التوقيت القمري يُلون السنة كلها بكل الجواء‪.‬‬
‫لذلك قالوا‪ :‬إن ليلة القدر تدور في العام كله؛ لن السابع والعشرين من رمضان يوافق مرة أول‬
‫يناير‪ ،‬ومرة يوافق الثاني‪ ،‬ومرة يوافق الثالث‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫ل وَال ّنهَارَ خِ ْلفَةً ّلمَنْ‬
‫ج َعلَ الّي َ‬
‫ومن اختلف الليل والنهار أنهما خِلْفة‪ ،‬كما قال تعالى‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫شكُورا }[الفرقان‪.]62 :‬‬
‫أَرَادَ أَن يَ ّذكّرَ َأوْ أَرَادَ ُ‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫فنحن نرى الليل يخلُف النهار‪ ،‬والنهار يخلُف الليل‪ ،‬لكن احكم القضية في كل أطوار زمنها‪ ،‬فما‬
‫دام الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬جعل الليل والنهار خِلْفة‪ ،‬فل بُدّ أن يكون ذلك من بداية خلقهما‪ ،‬فلو‬
‫وُجِد الليل أولً ثم وُجِد النهار‪ ،‬فل يكون الليل خِلْفة؛ لنه لم يسبقه شيء‪ ،‬فهذا يعني أنهما خُلقا‬
‫معا‪ ،‬فلما دار الزمن خلف بعضهما الخر‪ ،‬وهذا ل ينشأ إل إذا كانت الرض مُكوّرة‪ ،‬بحيث‬
‫يجتمع فيها الليل والنهار في وقت واحد‪ ،‬فالذي واجه الشمس كان نهارا‪ ،‬والذي واجه الظلمة كان‬
‫ليلً‪.‬‬
‫ثم يقول سبحانه‪َ } :‬أفَلَ َت ْعقِلُونَ { [المؤمنون‪ ]80 :‬لن هذه المسائل كان يجب أن تعقلوها خاصة‪،‬‬
‫وقد كانت اختلفات الوقات مَبْنية على التعقل‪ ،‬أما الن فهي مَبْنية على النقل‪ ،‬حيث تقاربت‬
‫المسافات‪ ،‬وصِرْنا نعرف فارق التوقيت بيننا وبين جميع أنحاء العالم بالتحديد‪.‬‬
‫كذلك كان الناس في الماضي ينكرون نظرية كروية الرض‪ ،‬حتى بعد أن التقطوا لها صورا‬
‫أظهرت كرويتها وجدنا من مفكرينا من ينكر ذلك‪.‬‬

‫ونقول‪ :‬لماذا نقف هذا الموقف من نظريات ثابتة قد سبق قرآنُنَا إلى هذا القول؟ ولماذا نعطي‬
‫الخرين فكرة أن ديننا يغفل هذه المسائل‪ ،‬مع أنه قد سبق كل هذه الكتشافات؟‬
‫ولو تأملتَ قوله تعالى‪ {:‬وَ ُهوَ الّذِي مَ ّد الَ ْرضَ‪[} ..‬الرعد‪ ]3 :‬لوجدت فيه الدليل القاطع على‬
‫صِدْق هذه النظرية؛ لن الرض الممدودة هي التي ل تنتهي إلى حافة‪ ،‬وهذا ل يتأتّى إل إذا‬
‫كانت الرض كروية بحيث تسير فيها‪ ،‬ل تجد لها نهاية حتى تصل إلى الموضع الذي منه بدأت‪،‬‬
‫ولو كانت الرض على أي شكل آخر غير الكروي مثل المربع أو المستطيل لكان لها نهاية‪ .‬لكن‬
‫لم تتوفر لنا في الماضي اللت التي تُوضّح هذه الحقيقة وتُظهرها‪.‬‬
‫إذن‪ :‬الحق سبحانه في قوله‪َ } :‬أفَلَ َت ْعقِلُونَ { [المؤمنون‪ ]80 :‬ينبهنا إلى ضرورة إعمال العقول‬
‫في المسائل الكونية؛ لنها ستوفر علينا الكثير في الطريق إلى ال عز وجل‪ ،‬ولماذا يُعمِل النسان‬
‫عقله ويتفنّن مثلً في ارتكاب الجرائم فَيُرتب لها ويُخطط؟ لكن ال تعالى يكون له بالمرصاد‬
‫فيُوقِعه في مَزْلَق‪ ،‬فيترك وراءه منفذا لثبات جريمته‪ ،‬وثغرة تُوصّل إليه؛ لذلك يقول رجال‬
‫القضاء‪ :‬ليست هناك جريمة كاملة‪ ،‬وهذه مهمة القاضي أو المحقق الذي يحاور المجرم ليصل إلى‬
‫هذه الثغرة‪.‬‬
‫وكأن الحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬يقول‪ :‬لقد استخدمتَ عقلك فيما ل ينبغي‪ ،‬وسخّرْته لشهوات‬
‫نفسك‪ ،‬فل ُبدّ أن أوقعك في مزلق ينكشف فيه أمرك‪ ،‬فإنْ سترتها عليك مرة فإياك أنْ تتمادى‪ ،‬أو‬
‫تظنّ أنك أفلتّ بعقلك وترتيبك وإلّ أخذتُك ولو بجريمة لم تفعلها؛ لنك ل تستطيع أن تُرتّب بعقلك‬
‫على ال‪ ،‬وعدالته سبحانه فوق كل ترتيب‪.‬‬
‫كما لو ُفضِح إنسان بأمر هو منه بريء‪ ،‬ولحقه الذى والضرر بسبب هذه الدانة الكاذبة‪ ،‬فتأتي‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬
‫عدالة السماء فيستر ال عليه فضيحة فعلها جزاءً لما قد أصابه في الولى‪ ،‬وهذه مسألة ل يفعلها‬
‫إل رب‪.‬‬
‫والحق ‪ -‬سبحانه وتعالى ‪ -‬حينما يُنبّه العقل ويثيره‪ :‬تفكّر‪ ،‬تدبّر‪ ،‬تعقّل‪ ،‬ليدرك الشياء الكونية من‬
‫حوله‪ ،‬فهذا دليل على أنه سبحانه واثق من صَنْعته وإبداعه لكونه؛ لذلك يثير العقول للبحث‬
‫وللتأمل في هذه الصنعة‪.‬‬
‫وهذه المسألة نلحظها فيمَنْ يعرض صَنْعته من البشر‪ ،‬فالذي يتقن صَنْعته يعرضها ويدعوك إلى‬
‫اختبارها والتأكد من جودتها على خلف الصنعة الرديئة التي يلّفها لك صانعها‪ ،‬ويصرفك عن‬
‫تأملها حتى ل تكتشف عيبها‪.‬‬
‫فحين ينبهك ربك إلى التأمل في صَنْعته فعليك أنْ تدرك المغزى من هذه الثارة لتصل إلى مراده‬
‫تعالى لك‪.‬‬
‫ثم يقول الحق سبحانه‪َ } :‬بلْ قَالُواْ مِ ْثلَ مَا قَالَ الَوّلُونَ {‪.‬‬

‫(‪)2731 /‬‬

‫‪/http://www.daardesign.com/forum‬‬
‫منتدى دارنا‬

You might also like