You are on page 1of 56

‫أبي آدم‬

‫قصة الخليقة بين السطورة والحقيقة‬

‫المؤلف‪ :‬عبد الصبور شاهين ‪.‬‬


‫الناشر‪ :‬دار العتصام‬
‫سنة النشر ‪1998:‬‬
‫نسخة حديثة ‪2003 :‬‬
‫المقاس‪ 17×24 :‬سم‬
‫عدد الصفحات‪192 :‬‬

‫أبي آدم‬
‫قصة الخليقة بين السطورة والحقيقة‬

‫{{ مقدمة الطبعة الثانية }}‬

‫حين صدرت الطبعة الولى من هذا الكتاب ( أبي آدم ) أحدثت من الدوي مايحدثه سقوط صخرة ضخمة في بركة آسنة ‪ ،‬وانبعث من‬
‫قلب البركة ‪ -‬أو المجتمع ‪ -‬أناس يتصدون للكتاب ‪ ،‬ولمؤلفه ‪ ،‬ظانين أن بوسعهم أن يخفتوا صوته ‪ ،‬ويخفوا أثره ‪ ،‬بالتشويش والتجريح ‪،‬‬
‫وعلم ال أنهم لم يكونوا يملكون فكراً قادراً على إستيعاب مضمون الكتاب ‪ ،‬بل لقد يصدق في وصفهم ما ذكره المرحوم الكاتب‬
‫السلمي مصطفى صادق الرافعي في وصف بعض خصومه ‪ ،‬بأنه (( يرى السماء الصافية فيظن أنها قبة من الزجاج ‪ ،‬وينظر إلى‬
‫النجمة البادية فيرى أنها بيضة من بيض الدجاج )) ‪.‬‬
‫هكذا سمعنا خلل تلك الفترة جعجعة ‪ ،‬ولم نر طحناً ‪ ،‬وقد قذف وقع الصخرة في البركة بعضهم إلى ساحات القضاء في أربع زخات‬
‫متواليات ‪ ،‬تولى كبرها رجل قانون ‪ ،‬ورجل تدين ‪ ( :‬قضيتان في المحكمة البتدائية ‪ ،‬وأخريان أمام الستئناف العادي والعالي ‪ ،‬فلم يلق‬
‫الرجلن في قضاياهما سوى أحكام الرفض ‪ ،‬وكان سندنا المهم في تلك المواجهة الشرسة ‪ -‬ذات الهداف الخفية ‪ -‬تقرير مستنير أصدره‬
‫مجمع البحوث السلمية ( وهو منشور في ملحق الكتاب ) ‪ ،‬يقرر فيه المجمع أن الكتاب ل يحتوي على مايخالف القرآن الكريم أو‬
‫السنة النبوية ‪ ،‬ول ينكر معلوماً من الدين بالضرورة ‪ ،‬أو ثابتاً من ثوابت العقيدة ‪ ،‬وإنما هو إجتهاد توفرت شروطه في مؤلف الكتاب ‪،‬‬
‫والمجمع قد يختلف معه في بعض النتائج التي توصل إليها ‪ ( .‬أو كما قال ) ‪.‬‬
‫أما الكتاب فقد كان صخرة أردت بها أن أدق رأس الفعى السرائيلية اللبدة في الثقافة السلمية القديمة ‪ ،‬ممثلة فيما سمي‬
‫بالسرائيليات ‪ ،‬وهي ل تعدو أن تكون أساطير خرافية تسللت إلى الفكر السلمي ‪ ،‬وإلى عقل النسان المسلم ‪ ،‬فاعتمدها أئمة من أهل‬
‫التفسير ‪ ،‬ومن خلل تلك التفاسير سكنت في منطقة المسلمات من العقل المسلم ‪ ،‬وهي في الواقع أفعى إسرائيلية إعتنقها كثير من الرجال‬
‫‪ ،‬ممن لم يعملوا عقولهم في تحليل نصوص القرآن ‪ ،‬وممن لم يشعروا بالصدمة حين اتضحت من الرقام المسافات الزمنية الهائلة بين‬
‫معطيات الخرافة ‪ ،‬وتقديرات العلم لماد ما قبل التاريخ ‪ ..‬وأبعاد الحياة البشرية ‪ ..‬لقد خنقت الفعى أفهامهم حين طوقت أعناقهم ‪.‬‬
‫ولبد لنا أن نلتفت أمامنا الن ‪ ،‬فنحن في مواجهة غارة إسرائيلية تحاول استخدام كل الوسائل لتخريب العقل المسلم المعاصر ‪ ،‬وهي ل‬
‫تكف عن ترديد الساطير ‪ ،‬في محاولة لزعزعة يقيننا بأنفسنا ‪ ،‬ويكفي أن يقف رئيس الوزراء السرائيلي السبق مناحم بيجين ‪ -‬أمام‬
‫الهرامات الشامخة ‪ -‬ليردد بصوت عال مزاعمه السرائيلية ‪ ،‬بأن أجداده من بني إسرائيل هم الذين بنوا هذه الثار الخالدة ‪ ،‬وهي‬
‫عملية إغتصاب فاجرة ‪ ،‬يريد بها تجريد الجيال المصرية من كل ميزة أو فضيلة ‪ ،‬هذا على الرغم من أن مناحم بيجين ‪ ،‬وكل من‬
‫تجمعوا في فلسطين تحت شعار الصهيونية ‪ ،‬ل يملكون دليلً واحداً على مايزعمونه إنجازاً لبني إسرائيل في مصر ‪ ،‬بل وأكثر من هذا‬
‫ل يملكون دليلً واحداً على إتصال نسبهم بإسرائيل أو بني إسرائيل ‪ ،‬فهم مجرد لملمة تناثرت في العالم قبل عشرات القرون ‪ ،‬وتجمعت‬
‫في شكل مجموعات من الشذاذ ‪ ،‬لتحقيق خطة إستعمارية ‪ ،‬هي ضرب السلم بواسطة هذه الجيوش المرتزقة ‪.‬‬
‫والعجيب أنهم يسطون على التراث السلمي ‪ ،‬ليؤلفوا ملحمة إسرائيلية تتكامل مع العهد القديم ‪ ،‬ليبنوا لنفسهم وجودًا ثقافياً مؤثراً في‬
‫العقل المسلم وتاريخة ‪ ،‬وهذا هو شأن الغارة المستوطنة الن في فلسطين ‪ ،‬تحاول بما تثير من غبار الفتراءات والكاذيب‬
‫والسرائيليات ‪ ،‬أن تلهينا عن مرارة واقعنا ‪ ،‬الذي ينبغي أن نحتشد لمقاومته بكل مانملك من قوة وعزم وإصرار ‪ ،‬وأن نرفض كل‬
‫دعاوي السلم الزائفة ‪ ،‬التي ليست سوى وسائل يضحكون بها علينا ‪ ،‬وقد تبين لنا أن السلم الذي تعنيه إسرائيل ‪ ،‬ومن وراءها من‬
‫أمريكان وأوروبيين ‪ ،‬هي عبارة عن هدنة بين حربين ‪ ،‬أولهما سبقت ‪ ،‬والثانية آتية ل ريب فيها ‪.‬‬

‫بل إننا نرى لزاماً علينا أن نجاهد تلك الغارة السرائيلية على قلب عالمنا العربي ‪ -‬في فلسطين ‪ ،‬نجاهدها مادياً وأدبياً ‪ ،‬نجاهدها‬
‫ل وتأثيرًا فكريًا وإعلمياً ‪ ،‬وسياسياً وإقتصاديًا ‪ ...‬لبد أن نقضى على هؤلء الغزاة قبل أن يقضوا علينا ‪ ..‬فقد جاءوا‬
‫إستيطاناً ‪ ،‬واحتل ً‬
‫إلى بلدنا قاتلين أو مقتولين وسنكون نحن قاتليهم ‪ ،‬وسيكونون هم المقتولين ‪ -‬بمشيئة ال تعالى ‪ ،‬حتى نسوقهم إلى حصير جهنم ‪.‬‬
‫لقد ابتلى العقل المسلم المعاصر من قبل مدرستين لهما وجود على الساحة ‪ ،‬ولهما ضجيج مزعج ‪ ،‬وقد آن أوان إخماد هذا الضجيج ‪:‬‬
‫أما أولهما فهي المدرسة الخرافية التي تتبنى الحكايات والسرائيليات ‪ .. ،‬وأما ثانيهما فهي المدرسة الحرفية ‪ ،‬والتي تشبثت بالمأثور ‪،‬‬
‫حتى ولو كان خرافياً ‪ ،‬وهي المدرسة التي ترفع السيف في وجه أي إجتهاد ‪ ،‬بدعوى الخروج على قواعد اللعبة السلفية ‪ ،‬والسلفية براء‬
‫من كل أشكال الساطير والخرافات ‪.‬‬

‫ول مناص ‪ -‬إذا أردنا للسلم أن يتبوأ مكانة في عالم الغد ‪ -‬أن يتم القضاء على هاتين المدرستين وآثارهما ‪،‬فهناك تحالف بين الحرفيين‬
‫والخرافيين ‪ ،‬هو الذي يعوق حركة الجتهاد السلمي المعاصر ‪ ،‬وكثيرًا ما اختنقت آراء قيمة بإشاعة هذا الرعب ‪ ،‬مع أن السلم‬
‫يشجع على الجتهاد ‪ ،‬ويعد كل مجتهد بالجر ‪ -‬مادام ل يخالف ثابتًا من ثوابت العقيدة ‪ ،‬وما دام لينكر معلوماً من الدين بالضرورة ‪،‬‬
‫فلنجتهد ‪ ،‬ولتذهب الخرافية والحرفية إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم ‪.‬‬

‫== البـــــاب الول ==‬


‫القصة بين العقل والنقل‬

‫{{ الفصــــل الول }}‬

‫القصـــــة والسرائيليات‬
‫‪------‬‬

‫قصة الخلق ‪ -‬كما أوردها القرآن الكريم ‪ -‬مليئة بالكثير من السرار الخفية ‪ ،‬والمعاني الظاهرة ‪ ،‬وقد تناولها المفسرون والمنصفون من‬
‫زاوية أو أخرى ‪ ،‬وتشابهت محاولت القدماء ‪ ،‬حين أخذ بعضهم عن بعض ‪ ،‬وحين جاء العصر الحديث بمعطياته الكثيرة في مجالت‬
‫علم الرض ( الجيولوجيا ) وعلم النسان ( النتروبولوجيا ) وعلوم الحياة ‪ ،‬والحياء ( البيولوجيا ) وغيرها ‪ -‬تغيرت مفاهيم كثيرة ‪،‬‬
‫وصار لزاماً على من يتصدى لكتابة شيء عن هذه القصة أن يأخذ في إعتباره ماكشف عنه العلم الحديث من حقائق نسبية ‪ ،‬وما قال به‬
‫من نظريات ‪ ،‬حتى ليبدو متخلفاً عن موكب المعرفة المعاصرة ‪ ،‬وذلك على الرغم من أن الذين حاولوا الكتابة في هذه القصة حديثاً‬
‫تعاملوا معها من منطلق المسلمات القديمة ‪ ،‬أو بمنطق الل مساس والتوفيق والحذر ‪.‬‬

‫إن هذه القصة كما وردت في القرآن الكريم تحتمل الكثير من التأويلت ‪ ،‬وهي حافلة باليماءات والشارات ذات الدللة التاريخية‬
‫والزمنية ‪ ،‬ونحن هنا نستخدم المصطلح ( التاريخ ) بالمفهوم العام ‪ ،‬الذي يشمل كل ما مضى من الزمان ‪ ،‬محدداً كان أو غير محدد ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬التاريخ وما قبل التاريخ ‪ ،‬منذ كان الزمان بأمر ال التكويني ( كن ) فكان ‪ ...‬ول معقب ‪..‬‬

‫إن نظرة القدماء إلى القصة قد تأثرت بالتصور السرائيلي لها ‪ ،‬وهو الوارد في سفر التكوين ‪ ،‬حيث يختزل الزمان كله إلى أقل من‬
‫ثلثة آلف سنة تستغرق عشرين جيلً هم المسافة بين آدم وإبراهيم ‪ ،‬وقد إنقسمت سلسلة النسب إلى مجموعتين ‪:‬‬

‫الولى ‪:‬بين آدم ونوح (( وهي عشرة أجيال )) ‪.‬‬


‫الثانية ‪:‬بين نوح وإبراهيم (( وهي عشرة أجيال أيضًا ))‪.‬‬

‫مع ملحظة أن سياق النص يوحي بأن الجيال العشرة الولى قد بادت بسبب الطوفان ‪ ،‬ثم بدأت النسانية جولتها الثانية من سللة‬
‫نوح ‪ ،‬الب الثاني لها ‪ ،‬من خلل أولده الثلثة ‪ :‬سام ‪ -‬وحام ‪ -‬ويافث ( إرجع إلى سفر التكوين ‪ -‬العهد القديم ) ‪ ،‬ومع ملحظة أخرى‬
‫هي ‪ :‬أن العمر الذي عاشه آدم ‪ -‬مثلً ‪ -‬يصل في تقدير العهد القديم إلى حدود الجيل التاسع تقريباً ‪ ،‬أي ‪ :‬قبل نوح بجيل واحد ‪.‬‬

‫لسنا هنا بصدد مناقشة معلومات العهد القديم ونقدها ‪ ،‬فهي ذات طابع أسطوري غالبًا ‪ ،‬ول دليل على خطئها أو صوابها ‪ ،‬سواء في‬
‫السماء أو في الرقام ‪ ،‬وإن كانت إلى الحالة وعدم التصديق أقرب ‪.‬‬

‫ولكن الملحظ أن أصحاب السير قد إعتبروها من المسلمات ‪ ،‬فكرروها دون أدنى مناقشة ‪ ،‬أو حتى توقف ‪ ،‬وهذا هو إبن هشام في‬
‫سيرته يذكر نسب النبي صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فبصل به إلى آدم عبر سلسلة العهد القديم ‪ ،‬فإذا بالنبي من الجيل الخمسين بعد آدم ‪ ،‬أي ‪:‬‬
‫إن المدة من آدم إلى محمد ‪ -‬ثم إلى زمننا هذا ‪ -‬ل تذيد على سبعة آلف عام ‪ ،‬هي كل مامضى من عمر البشرية ‪ ،‬وهو تقديري ل يليق‬
‫مع التقديرات القائمة على الرؤية العلمية ‪ ،‬التي تقرب ول تحدد ‪.‬‬
‫وحسبنا أن ننظر في تعليق محقق السيرة ( الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ) على ماذكره إبن هشام من نسب الرسول صلى ال‬
‫عليه وسلم فقال ‪ ( :‬روى عن عروة بن الزبير أنه قال ‪ :‬ما وجدنا أحداً يعرف مابين عدنان وإسماعيل ) ‪..‬‬
‫وروى عن عمر رضي ال عنه أنه قال ‪ ( :‬إنما ننتسب إلى عدنان ‪ ،‬وما فوق ذلك ل ندري ماهو ) ‪ ،‬وقد صح عن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه قال ‪ -‬لما بلغ عدنان ‪ ( :‬كذب النسابون ) مرتين أو ثلثاً ‪.‬‬

‫وقد كره مالك وجماعة من العلماء أن يرفع الرجل نسبه إلى آدم ‪ ،‬من ِقبَلِ أن هذا كله من باب التخرص والظنون التي ليمكن أن يوثق‬
‫بها (( سيرة ابن هشام جـ ‪ 1‬ص ‪. ) 1‬‬
‫ل ‪ ،‬تستغرق في‬
‫ويلفت النظر في هذا التعليق الرواية عن ابن عباس ‪ ( :‬أن بين عدنان وإسماعيل ثلثين أبًا ل يُعرفون ) ‪ ..‬أي ثلثين جي ً‬
‫المتوسط ثلثة آلف سنة على القل ‪.‬‬

‫فإذا لجعنا إلى حساب التاريخ للمدة من إبراهيم حتى الن وجدناها تقترب من أربعة آلف سنة وهي مدة تختلف تمامًا مع ظنون‬
‫النسابين ‪ ،‬المر الذي ل نعوّل كثيراً على رواة النساب ‪ ،‬ول على مصادرهم الكتابية‬

‫{{ الفصــــل الثاني }}‬

‫النظـــــرة العلميــــــــــة‬
‫******‬

‫أما النظرة العلمية إلى هذه المسألة فإنها تضعنا في قلب تصور آخر ‪ ،‬تحسب أبعاده بمئات اللوف ‪ ..‬بل بمئات المليين من السنين ‪ ،‬وقد‬
‫جاء في موسوعة الثقافة العلمية ( صفحة ‪ ) 418 - 417‬أسماء العصور الجيولوجية ‪ ،‬وآمادها الزمنية ‪ ،‬وهي عصور مرت بكوكب‬
‫الرض ‪ ،‬وقُسمت إلى حقب ‪ ،‬بحسب معالمها السائدة ‪ -‬كما قرر العلماء ‪.‬‬

‫حقبة الحياة العتيقة ‪:‬‬


‫حقبة ماقبل الكمبري = ‪ 71،125،000،000‬سنة‬
‫حقبة الكمبري ‪ 500،000،000 = .....‬سنة‬
‫حقبة الردوفيشي ‪ 375،000،000 = ..‬سنة‬
‫حقبة السيلوري ‪ 235،000،000 =......‬سنة‬
‫حقبة الديفوني ‪ 300،000،000 = ......‬سنة‬
‫حقبة الكربوني ‪ 250،000،000 = ....‬سنة‬
‫حقبة البرمي ‪ 205،000،000 = .....‬سنة‬

‫حقبة الحياة المتوسطة ‪:‬‬


‫حقبة الطراياسي ‪ 170 = ....‬مليون سنة‬
‫حقبة الجوري ‪ 135 =.......‬مليون سنة‬
‫حقبة الطباشيري ‪ 95 = ...‬مليون سنة‬

‫حقبة الحياة الحديثة ‪:‬‬


‫حقبة الباليوسيني ‪ 80 = ...‬مليون سنة‬
‫حقبة اليوسين ‪ 50 = .....‬مليون سنة‬
‫حقبة الوليجوسين ‪ 42 = ..‬مليون سنة‬
‫حقبة الميوسين ‪ 25 = ......‬مليون سنة‬
‫حقبة البليوسين ‪ 8 = .....‬مليين سنة‬
‫حقبة البليستوسين ‪ 500 = ..‬ألف سنة‬

‫وكل هذه الحقب يعتبر وجود النسان فيها غامضاً ‪ ،‬ويمكن أن نتصور وجوده في شكل مخلوق فطري ( خام ) كالحيوان يستخلص‬
‫إدراكات شتى من الحاسيس المختلطة التي ل تحصى ‪.‬‬

‫حقبة الحياة الخيرة ‪:‬‬


‫الدور الخير ‪ ،‬دون تاريخ أو تقدير ‪ ،‬وهو دور إنحسار الجليد ‪ ،‬وقد شهد نباتات منزرعة ‪ ،‬وهي حقبة النسان الهوموسابينز أو النسان‬
‫المفكر ‪.‬‬
‫ومن الواضح أننا طبقًا لهذه المعلومات أمام أزمان متطاولة تحسب كما نرى بعشرات المليارات من السنين ‪ ،‬فقد بدأت حقبة الحياة‬
‫العتيقة بمرحلة ماقبل الكمبري ‪ ،‬أي ‪ :‬منذ واحد وسبعين مليار وخمسة وعشرين مليونا من السنين ‪ ،‬فهو أطول العصور أو الحقب‬
‫وأقدمها على الطلق في تقدير العلماء ‪.‬‬

‫وبدأت حقبة الحياة المتوسطة بالعصر الطراياسي ‪ ،‬منذ مائة وسبعين مليوناً من السنين (( من العلماء المعاصرين من ل يوافق على هذه‬
‫التقديرات جملة وتفصيلً ‪ ،‬ويصف القائلين بها بأنهم مزيفون وكذابون ‪) .‬‬

‫وبدأت حقبة الحياة الحديثة مع بداية العصر الباليوسيني منذ ثمانين مليونًا من السنين ‪ ،‬وتأتي مرحلة حاسمة ضمن هذه الحقبة ‪ ،‬هذ حقبة‬
‫الحياة في العصر البليستوسيني ‪ ،‬وتقدر بدايتها منذ خمسمائة ألف سنة ‪ ،‬طبقًا لمعلومات موسوعة الثقافة العلمية ‪.‬‬

‫فإذا رجعنا إلى كتاب ( صور من حياة ما قبل التاريخ ) ‪ ،‬للمؤلفين ‪ :‬الستاذ الدكتور زغلول النجار ‪ ،‬والستاذ أحمد داود ‪ -‬وجدناه في‬
‫( صفحة ‪ ) 146‬يقرر أن فترات الجليد في عهد البليستوسين دامت حوالي ستمائة ألف سنة ‪ ،‬في فترات ثلث ‪ :‬مائة ألف ‪ ،‬ثم ثلثمائة‬
‫ألف ‪ ،‬ثم مائتي ألف ‪ ،‬فصلت بعضها عن بعض فترات أخرى تميزت بإنحسار الزحف الجليدي ‪ ،‬وعندما كان الجليد ينحسر من فوق‬
‫سطح الرض كانت تكسي بغطاء خضري مزدهر ‪ ،‬وهكذا ‪ ..‬وقد شهد ذلك العصر ظهور النباتات والغابات ‪ ،‬كما ظهرت الحيوانات‬
‫اللفقارية في البحار ‪ ،‬وانتشرت أنواع من القواقع الرضية ‪.‬‬
‫كما ظهرت بعض الحيوانات الفقارية من الثدييات ‪ ،‬ومنها حيوان الرنة ‪ ،‬والثعلب القطبي ‪ ،‬وانتشر بقر البحر في النهار ‪ ،‬ومرحت‬
‫السود والضباع في الغابات ‪ ،‬وانتشرت الدببة في الكهوف ‪ ،‬وبعض الحيوانات المنقرضة ‪ ،‬كذلك الفيل الضخم الذي يطلق عليه‬
‫( الماموث ) ‪ ،‬وحيوان الميجاثيريوم والجلبتودون والديناصورات ‪ ،‬وظهرت في ذلك العصر الفيلة والحصنة والثيران بكثرة ‪ ،‬مع‬
‫شيء من الختلف عما ظهر في حقبة الباليوسين ‪ ،‬أي ‪ :‬منذ تسعين مليون سنة ‪ ،‬والحقبة التالية لها وهي ( الميوسين ) منذ من خمسة‬
‫وعشرين مليون سنة ‪ ،‬وهي الحقبة التي شهدت ظهور بعض أنواع من الطيور ‪ ،‬كالبجع وبداية طائر البطريق ‪ ،‬وطيور الماء التي تشبه‬
‫( أبو قردان ) في العصر الحديث وغيرها ‪ ،‬وانتشرت الخراتيت ‪ ،‬والغزلن والزراف ‪ ،‬وبعض الكلب والدببة ‪ ،‬والنسانيس والقردة ‪،‬‬
‫وبعض الحيوانات المفترسة كالنمور ذوات الناب ‪ ،‬بل إن العلماء السوفييت عثروا على سمكة ضخمة متحجرة في باطن الرض ‪ ،‬عند‬
‫مدينة خاركوف ‪ ،‬حددوا عمرها بأنه حوالي ثلثين مليون سنة ‪ ،‬وغرابة الكشف أيضاً أن قشر السمكة مازال محتفظاً ببريقه ‪ ،‬كشفوا‬
‫عنها أثناء حفر نفق سكة حديد ‪ ،‬وتم نقلها إلى المتحف العلمي لجامعة خاركوف ‪.‬‬

‫كل ذلك وغيره سبق ظهور النسان ‪ ،‬وقد وجدت بقاياه في الصخور القديمة ‪ ،‬وقيعان البحار ‪ ،‬والكثبان الرملية ‪ ،‬ويقول مؤلفا كتاب‬
‫( صور من حياة ماقبل التاريخ ) ‪ -‬صفحة ‪: 148‬‬
‫( وقبل المليون سنة تقريباً ‪ ،‬وجدت بقايا لكائنات شبيهه بالنسان مثل جنس ( اوسترالويشكس ) ‪ ،‬والذي وجدت بقاياه في أفريقياً ‪،‬‬
‫وانتشر في عصر البليستوسين المتوسط عبر معظم قارات العالم القديم ‪.‬‬

‫وبعد ذلك وجدت بقايا ما يعرف بإنسان بكين ‪ ،‬وإنسان جاوة ‪ ،‬وإنسان هيدلبرج ‪ ،‬وإنسان نياندارثال ‪ ،‬وإنسان روديسيا ‪ ،‬وإنسان‬
‫سوانكومب ‪،‬‬
‫ويختار بعض العلماء من بين هؤلء الناسي إنسان هيدلبرج بإعتباره الحلقة الوسطى بين النسان الذي يتكلم والحيوانات التي تصيح ‪،‬‬
‫أما النسان النياندرتالي فيظهر أنه كان ذا مباديء فكرية من اللغة الملفوظة )‬

‫وكل هؤلء الناسي وجوه مختلفة لمخلوق واحد ‪ ،‬كان يتنقل من مرحلة إلى مرحلة في تسوية الخالق له ‪ ،‬فكلما مضت مرحلة من‬
‫التسوية تغيرت بعض أوصافه ‪ ،‬وأفرده الباحثون في الجيولوجيا والنثروبولوجيا بتسمية ‪ ،‬وقد وجدت تلك البقايا بصورة ناقصة‬
‫ونادرة ‪ ،‬مما يجعل معلوماتنا عن هذه المخلوقات الشبيهة بالنسان بعيدة كل البعد عن الكمال ‪.‬‬

‫وأول كائن إنسي له المميزات التشريحية للنسان المعاصر ‪ ،‬وله صفاته من الذكاء ‪ ،‬والقدرة على التعبير عن نفسه هو ( إنسان‬
‫كرومانيون ) والذي وجدت بقاياه في جنوب فرنسا ‪ ،‬في كهوف ترك آثاره على جدرانها رسومًا لبعض الحيوانات التي إصطادها ‪،‬‬
‫ويتضح منها أن هذا المخلوق تمتع بقدر من الذكاء يربطه بالنسان الحالي ‪.‬‬

‫وأقدم بقايا لنسان كرومانون ترجع إلى حوالي ثلثين ‪ ،‬إلى خمسة وثلثين ألف سنة مضت ‪ ،‬وهذه الفترة تعتبر من أقدم فترات التاريخ‬
‫المسجل ‪.‬‬

‫هذه النماذج التي عثر عليها من بقايا النسان على الرض تمتد كما رأينا منذ ماقبل مليون سنة ‪ ،‬وهي تؤرخ لمسيرة هذا المخلوق حتى‬
‫عهد ‪ ،‬قدره العلماء بخمسة وثلثين ألف سنة ‪.‬‬
‫وقد نشرت جريدة الوفد في ‪ (( 1996 / 10 / 6‬قد نعتمد بعض الصحف اليومية مرجعاً ننقل عنه بعض الخبار حين ل يتوافر لدينا‬
‫مؤلف نعتمده في توثيقها ‪ ،‬ومع ذلك فنحن نذكره في إطار أنه خبر ظني الدللة )) نشرت الجريدة أن النسان الول عاش أيضاً في جبل‬
‫طارق في عدة كهوف عثر عليها هناك ‪ ،‬وأن ذلك كان منذ مايقرب من ثلثين ألف سنة ‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد نفاجأ بوجود أحافير تدل على أن ظهور النسان كان أقدم من هذا التقديري ‪ ،‬فمازالت الرض محتوية على شواهد دالة‬
‫على بدء الخلق وكيفيته ‪ ،‬ولن يبلغ النسان مبلغ الحقيقة إل إذا داوم على البحث ‪ ،‬واستمر في السير تفتيشاً لى شواهدها وأدلتها ‪ ،‬وهو ما‬
‫أمرت به اليتان القرآنيتان ‪:‬‬

‫يءٍ َقدِيرٌ ‪ - }} 20‬العنكبوت ‪.‬‬


‫لّ يُنشِئُ النّشَْأةَ الْخِ َرةَ ِإنّ الَّ عَلَى كُلّ شَ ْ‬
‫ق ثُمّ ا ُ‬
‫{{ ُقلْ سِيرُوا فِي الَْرْضِ فَانظُرُوا َكيْفَ بَدَأَ الْخَ ْل َ‬
‫وقوله تعالي ‪:‬‬

‫ض آيَاتٌ لّ ْلمُو ِقنِينَ ‪ - }} 20‬الذاريات ‪.‬‬


‫{{ وَفِي الَْرْ ِ‬

‫وكل ماسجله العلم من مراحل الحياة على الرض هو ول شك من معطيات البحث والسير فيها ‪ ،‬فهي خطوات في الطريق الصحيحة ‪،‬‬
‫ن تَ ْقوِيمٍ‬
‫سِ‬‫تهدي النسان إلى أصله ومنشئه ‪ ،‬عبر تلك الماد السحيقة ‪ ..‬لقد كانت تلك الماد ‪ -‬ولشك ‪ -‬مقدمات لخلق النسان {{ فِي أَحْ َ‬
‫‪ - }} 4‬التين ‪ ،‬أي ‪ :‬إن خلق النسان كان إرادة سابقة أزلً على وجود الرض ذاتها ‪ ،‬قبل مليارات السنين ‪ ،‬ثم كانت الرض ‪ ،‬وكان‬
‫مامر بها من عهود سحيقة يعجز العقل عن تصورها ‪ -‬هو التمهيد اللهي الباهر لظهور السللت البشرية ‪ ،‬الذي تضاربت الراء في‬
‫توقيته ‪ ،‬فليس من هذه العهود ما يعتبر حقيقة مطلقة ‪ ..‬بل هي جميعاً آراء نسبية ‪ ،‬تتفق في الحد الجامع بينها ‪ ،‬وتختلف في العهود‬
‫والحقب ‪ ،‬ول سبيل حتى الن إلى معرفة متى كانت بالضبط بدايتها ونهايتها ‪.‬‬

‫وأكبر دليل على نسبية المعلومات المدونة في المراجع العلمية حول النسان ‪ ،‬وعصر ظهوره على الرض ( قبل مليون سنة ) ‪ -‬ما‬
‫أعلنه مؤخراً أحد العلماء النثروبولوجيين ‪ ،‬من أن وجود النسان كان أسبق مما سقناه نقلً عن موسوعة الثقافة العلمية ‪ ،‬وعن كتاب‬
‫( صور من حياة ماقبل التاريخ ) وهو خبر لم ندهش له ‪ ،‬ونحن نؤمن بنسبية الصدق في معطيات العلم الحديث ‪ ،‬وبخاصة في هذا‬
‫المجال ‪.‬‬

‫لقد نشرت جريدة الهرام في عددها الصادر صباح الربعاء ( ‪ ( : ) 1972 / 11 / 8‬أن البروفيسور ريتشارد ليكي أحد العلماء‬
‫النثروبولوجيا ‪ -‬علم النسان ) ‪ ..‬أعلن في كينيا أنه تم إكتشاف بقايا جمجمة يرجع تاريخها إلى مليونين ونصف مليون عام ‪ ،‬وتعد أقدم‬
‫أثر من نوعه للنسان الول ‪.‬‬

‫وقال العالم ‪ ( :‬إن هذا الكتشاف يمتد في قدمه مليون ونصف مليون عام عن أقدم أثر أمكن العثور عليه حتى الن ‪ ،‬وقد تم إكتشاف‬
‫عظام الجمجمة ‪ ،‬مع عظام لساق بشرية ترجع إلى نفس الحقبة من التاريخ ‪ ،‬في جبل حجري ‪ ،‬بصحراء تقع شرق بحيرة رودلف في‬
‫كينيا ) ‪.‬‬

‫وقال العالم ‪ ( :‬إن هذا الثر يمكن أن يقلب النظريات القائمة بشأن تطور النسان عن أجداده فيما قبل التاريخ ‪ ،‬وكيف ؟ ومتى ؟ ) ‪.‬‬
‫وقد قدم ريتشارد ليكي ‪ ،‬وهو مدير المتحف الوطني في كينيا ‪ -‬تقريراً عن إكتشافه إلى الجمعية الجغرافية الوطنية في واشنطن ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫( إن نظريات التطور الحالية ‪ -‬وعلى رأسها نظرية داروين ‪ -‬تفيد أن النسان تطور من خلوق بدائي ‪ ،‬كانت له سمات بدنية شبيهة‬
‫بسمات القرد ‪ ،‬وإن أقدم أثر للنسان كمخلوق منتصب يسير على رجلين ‪ ،‬وله مخ كبير ‪ -‬يرجع إلى نحو مليون سنة ) ‪.‬‬
‫هذا في حين أن الكشف الجديد يدل على أن المخلوق النساني المنتصب ذا الساقين لم يتطور عن المخلوق البدائي الذي يشبه القرد ‪ ،‬بل‬
‫كان يعاصره منذ أكثر من مليونين ونصف مليون عام ‪ ،‬وأنه يمكن على هذا العتبار إستبعاد المخلوق البدائي الول على أساس أن‬
‫النسان انحدر من سللته ‪.‬‬

‫وذكرت الجمعية الجغرافية في تعليق لها على هذا الكلم ‪ ( :‬أن نظرية ليكي تقوم على أساس أن المخلوق البدائي الول وإسمه العلمي‬
‫( أوسترالوبثيكوس ) وكان أساساً من أكلة النباتات ‪ ،‬قد وصل إلى مرحلة تطويرية مسدودة ‪ ،‬بينما إستطاع النسان الذي استخدم اللحم‬
‫في غذائه ‪ ،‬وتمكن من صناعة الدوات الحجرية ‪ -‬أن يبقى على قيد الحياة ) ‪.‬‬

‫وأكد ليكي في تقريره ‪ ( :‬أنه أمكن إعادة بناء جمجمة من شظايا العظام التي عثر عليها ‪ ،‬وأنه بالرغم من أن هذه الجمجمة ل تشبه‬
‫جماجم الجنس البشري المعروف حاليًا ‪ ،‬إل أنها تختلف كذلك عن جميع أشكال الجماجم التي عثر عليها للنسان الول ‪ ،‬وبذلك تتفق مع‬
‫أي نظريات حالية عن تطور النسان ) ‪.‬‬

‫وواضح إذن أن الفرق الزمني هائل بين هذا الرأي ‪ ،‬وما تقوله نظرية داروين ‪ ،‬كما أن الفرق هائل أيضاً في جوهر التصور للنسان‬
‫الول بين النظريتين ‪ ،‬فهو عند داروين يمشي على أربع منذ مليون سنة ‪ ،‬ثم انتصبت قامته ‪ ،‬وعند ليكي يمشي منتصب القامه منذ‬
‫مليونين ونصف المليون من السنين ‪ ،‬وأنه كذلك منذ كان ‪.‬‬

‫فإذا رجعنا إلى ما أورده المؤلف سيد أحمد الكيلني في كتابه عن ( نظرية داروين بين التأييد والمعارضة ‪ -‬صفحة ‪ ) 21‬حين قال ‪:‬‬
‫( وقد أذاع البروفيسور جوهانس هورزلر ‪ -‬العالم الذري في سمنتبال بسويسرا ‪ -‬بياناً في مارس ‪ ) 1956‬نجد أنه عارض نظرية‬
‫داروين بشدة ‪ ،‬وقال ‪ ( :‬إنه ليوجد دليل واحد من ألف على أن النسان من سللة القرد ‪ ،‬وإن التجارب الواسعة التي أجراها ‪ ،‬دلت على‬
‫أن النسان منذ عشرة مليين سنة وهو يعيش منفرداً ‪ ،‬وبعيداً جدًا ) ‪.‬‬

‫وأضاف إلى ذلك ‪ ( :‬أن الهياكل التي درس عليها تؤكد نظريته ‪ ،‬وقد قدم البروفيسور المذكور للمتحف الطبيعي بمدينة بال ‪ ،‬قطعة من‬
‫الفحم بداخلها قطعة من فك إنسان يرجع تاريخها إلى عشرة مليين سنة ‪ ،‬وهذا هو التاريخ الذي أمكن الحصول فيه على هياكل آدمية ) ‪.‬‬

‫وبتاريخ ‪ 31‬مارس ‪ 1956‬أعلن في أمريكا أن الدكتور ( رويتر ) المشرف علي البحاب في جامعة كولومبيا ‪ -‬قد أيد البروفيسور‬
‫هورذلر في وجهة نظره ‪ ،‬واعتبرت نظرية داروين بذلك رأياً ل يستند إلى أي دليل علمي ‪ ،‬وأن الكائنات إنما خلقت مستقلة النواع ‪،‬‬
‫ل تاماً ‪ ،‬فمنها النسان الذي يمشي على رجليه ‪ ،‬ومنها الدواب التي تمشي على أربع ‪ ،‬ومنها الزواحف التي تمشي علي بطونها ‪.‬‬‫إستقل ً‬
‫وإذا كان سياق الداروينية يقرر أن القردة خلقت هكذا مستقلة عن النواع الخرى قبلها ‪ ،‬فما الذي يجعلها أصلً لنوع النسان في‬
‫فرضية داروين ‪ ،‬في حين أن القرب للمنطق هو أن القدرة التي خلقت نوع القردة التي تمشي على أربع ‪ -‬قد خلقت نوعًا آخر يمشي‬
‫منتصباً على رجلين ‪ ،‬وهو النسان ‪ ،‬وهي القدرة التي أوجدت مليين النواع من المخلوقات المتحركة ‪ ،‬لكل نوع عالمه وقدراته ‪،‬‬
‫وبدايته ونهايته ‪ ،‬فالكل صادر عن قدرة مطلقة واحدة ‪ ،‬تماما كما حدث القرآن عن وحدة الصل وإختلف الشكل ‪ -‬في قوله تعالى ‪:‬‬
‫لّ مَا يَشَاء ِإ ّ‬
‫ن‬ ‫ن وَ ِم ْنهُم مّن َيمْشِي عَلَى أَ ْربَ ٍع يَخُْلقُ ا ُ‬
‫جَليْ ِ‬
‫علَى َبطْنِ ِه َو ِمنْهُم مّن َيمْشِي عَلَى رِ ْ‬
‫خَلقَ كُلّ دَابّ ٍة مِن مّاء َفمِ ْنهُم مّن يَمْشِي َ‬
‫{{ وَالُّ َ‬
‫يءٍ َقدِيرٌ ‪ -}} 45‬سورة النور ‪.‬‬ ‫الَّ عَلَى كُلّ شَ ْ‬

‫نحن إذن أمام جملة من النظريات المشتجرة والمتعارضة ‪ ،‬التي تركز نسبية المعلومات التي تضمنتها ‪ ،‬ولكل واحدة منها أدلتها التي‬
‫تستند إليها في تقرير جوانب التصور الزمنية والخلقية ‪ ،‬ول ريب أن في كل منها شيئاً من الحقيقة الذي يتراوح حتى الن مابين مليون‬
‫سنة ‪ ،‬وعشرة مليين من السنين ‪.‬‬

‫ومن أواخر ما نشرته جريدة الهرام في هذا الشأن ‪ ،‬خلل شهر يونيو ‪ ، 1966‬ماتضمنه بحث علمي آخر في بريطانيا ‪ ،‬قد يكون‬
‫دليلً آخر لهدم نظرية داروين القائلة بأن النسان أصله قرد ‪ ،‬أو منحدر من إحدى سللت القردة العليا ‪ ،‬تحدى العلماء البريطانيون‬
‫الرأي العلمي السائد بأن النسان الول كان يمشي معتمداً على يديه ورجليه ‪ ،‬مثل الشمبانزي ‪.‬‬
‫وقال العلماء في جامعة ليفربول البريطانية ‪ ( :‬إن الرأي الرجح هو أن النسان الول كان يسير منتصب القامة ‪ ،‬تماماً مثل النسان‬
‫اليوم ‪ ،‬وأوضحوا أنه لو كان النسان القديم يسير منحنيًا ‪ -‬كما تصور ذلك بعض النظريات العلمية ‪ -‬فإنه لم يكن من الممكن أن يعتدل‬
‫في قامته ‪ ،‬ويسير كما هو الن أبدًا ) ‪.‬‬

‫وأشار العلماء إلى أنهم أخذوا أحجام النسان القديم ومقاساته من هيكل كائن شبيه بالنسان ‪ ،‬وهو المعروف بإسم ( لوسي ) ‪ ،‬والذي‬
‫عثر عليه في أثيوبيا ‪ ،‬ويرجع إلى ثلثة مليين عام مضت ‪ ،‬ثم استخدموا الكمبيوتر في تطوير إنسان آلي صناعي ( روبوت ) لكي‬
‫يكون نموذجًا لكيفية تحرك ( لوسي ) ‪ ،‬وأوضح العلماء أن التجارب أثبتت أن ( لوسي ) ‪ -‬وهي أنثى ‪ -‬لم تكن لتتطور وتمشي منتصبة‬
‫القامة بعد ذلك ‪ ،‬وقال الدكتور ( روبن كرمبتون ) أحد المشاركين في البحث ‪ :‬إن ذلك يعنى أن النظريات العلمية التي تظهر النسان‬
‫القديم يمشي في وضع ُمنْحَنٍ في حاجة إلى إعادة كتابة ‪ ،‬وأشار إلى أنه ما إن بدأ النسان يقف على قدمين ‪ ،‬فإنه كانت هناك ضغوط‬
‫قوية لكي يسير ويقف منتصباً ‪.‬‬
‫وأوضح أن المشي بشكل منتصب يساعد النسان على التنفس بشكل جيد ‪ ،‬ومشيراً إلى أن قرود الشمبانزي عندما تمشي منحنية فإنها‬
‫تسير لوقت قصير للغاية ‪ ،‬لن هذا الوضع ل يساعدها على التنفس الصحيح ‪ ..‬بل يصيبها بالجهاد ‪ .‬وقال ‪ :‬إن هذه القرود بعد خمسين‬
‫خطوة فقط من المشي في إنحناء تسارع بالجري ‪ ،‬بعكس النسان القديم الذي يظهر علم الثار أنه كان يمشي لكثر من مائتي كيلومتر ‪،‬‬
‫وهذه المسافة ل يمكن أن تتم وهو في حالة إنحناء ‪.‬‬
‫وهذا الرأي يلتقي في تقديره الزمني تقريبًا مع تقدير البروفيسور ( ليكي ) بناءاً على جمجمة كينيا ‪ ،‬غير أن مرتكز الستدلل لم يكن‬
‫البحث في عمر الحفورة ‪ ،‬بل قام على مناقشة القدرة على المشي منتصباً أو منحنياً لدى القردة والنسان ‪ ،‬كيما يصل في النهاية إلى‬
‫رفض نظرية داروين ‪ ،‬بأسلوب التقنية المعاصرة ‪.‬‬

‫وغني عن البيان أن كل الجهود العلمية حتى الن تنصب على معارضة داروين فيما ذهب إليه ‪ ،‬وأن ماقدمناه لم يكن سوى بعض‬
‫العينات التي جهد فيها العلماء ليدحضوا مذهب النشوء والرتقاء ‪ ..‬حتى إننا نستطيع أن نقول ‪ :‬إن نظرية داروين قد ثارت لكثرة‬
‫ماتعرضت له من نقد ‪ -‬مجرد مقولة هشة ‪ ..‬ل تعني شيئاً في مجال البحث عن أصل النسان ‪ ،‬وإن قدمت الكثير في مجال ( البيولوجيا )‬
‫أو علم النسان ‪.‬‬

‫لقد سقطت إذن فكرة ( التطور الخالق ) ‪ ،‬ونقول ‪ ( :‬فكرة ) ‪ ،‬ول نقول ‪ ( :‬نظرية ) ‪ ،‬ورغم أن الناس فتنوا بهذه النظرية لعدة عقود من‬
‫الزمان ‪ ...‬سقطت بكل مارتبط بها من أفكار أخرى ‪.‬‬
‫وانتصرت حقيقة ( الخلق المستقل ) التي قررها الدين ‪ ،‬كما أكدها العلم ‪ ،‬فما كان النسان إل بشراً منذ كان ‪ ،‬وما كان القرد إل قرداً ‪.‬‬
‫وهنا يطرأ سؤال ‪ ،‬ربما يبدو سابقاً لوانه في سياق هذا البحث ‪ ،‬وهو ‪:‬‬

‫هل كان وجود هذه الخليقة البشرية إرادة إلهية وأمراً إلهياً واحداً على الرض ‪ ،‬أرادته القدرة اللهية ؟ وتابعته في مراحله المتطاولة ؟‬
‫أو كان خلقًا متعدداً متقاطراً على الساحة الرضية عبر الوجود الزمني الهائل ؟ وكان آدم أحد هذه المراحل ؟‬

‫ذلكم هو ما سنحاول بيانه فيما يلي من الحديث ‪.‬‬

‫والذي نريد أن نقوله إجمالً ‪ :‬هو أن الخالق العظيم خلق هذا الكون الهائل حين قال ‪ ( :‬كن ) فكان ‪.‬‬
‫كان كل ما كان ‪ ،‬وما يكون ‪ ،‬وما سيكون ‪ ،‬في إطار من الزمان المطلق ‪ ،‬والمشيئة المطلقة ‪ ،‬والنكشاف المطلق ‪ ،‬فليس ‪ -‬بالنسبة إلى‬
‫الخالق ‪ -‬قيود من الزمان ‪ ،‬أو المكان ‪ ،‬أو أي عوامل أخرى ‪ ،‬أما النسان فهو نقطة في بحر الحقيقة ‪ ..‬نقطة محكومة بالزمان والمكان ‪،‬‬
‫وحدود الدراك ‪ -‬كما أراده ال ‪.‬‬

‫وقد خلق ال هذا الغنسان ليكون سيداً في الكون الفسيح ‪ ،‬الذي يتذايد ضخامة وإتساعًا أو إمتداداً ‪ ،‬دون توقف ‪ ..‬بأسرع من سرعة‬
‫الضوء ‪.‬‬
‫ثم جعل ال سبحانه وتعالى لهذا الكون نهاية ‪ ،‬كما أن له بداية ‪ ،‬وحين تحين هذه النهاية سوف تتغير معالم الكون كله كم قال سبحانه ‪:‬‬
‫عطَّلتْ ‪ 4‬وَإِذَا ا ْلوُحُوشُ حُشِ َرتْ ‪ 5‬وَإِذَا ا ْلبِحَارُ‬
‫سيّرَتْ ‪ 3‬وَِإذَا ا ْلعِشَارُ ُ‬ ‫س كُوّ َرتْ ‪ 1‬وَِإذَا النّجُو ُم انكَدَ َرتْ ‪ 2‬وَِإذَا الْ ِ‬
‫جبَالُ ُ‬ ‫ش ْم ُ‬‫{{ إِذَا ال ّ‬
‫سئَِلتْ ‪ -}}8‬التكوير وقال تعالى ‪:‬‬ ‫جتْ ‪ 7‬وَإِذَا ا ْل َم ْوؤُو َدةُ ُ‬
‫سُجّ َرتْ ‪ 6‬وَإِذَا ال ّنفُوسُ ُزوّ َ‬
‫سمَاوَاتُ َوبَرَزُواْ لّ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ ‪ - }} 48‬إبراهيم هل يعقل أن يكون هذا الملك والملكوت من‬ ‫ض وَال ّ‬ ‫غيْرَ الَرْ ِ‬
‫{{ َيوْمَ ُتبَدّلُ الَرْضُ َ‬
‫أجل خليقة ل تدوم أكثر من عشرة أيام ‪ -‬بحساب الزمن اللهي الذي يقرر ‪:‬‬
‫سنَ ٍة ّممّا َتعُدّونَ ‪ - }} 47‬الحج ‪!...‬‬
‫ن َي ْومًا عِندَ َرّبكَ كَأَلْفِ َ‬
‫{{ وَإِ ّ‬

‫وهب أن ذلك الزمان امتد إلى مليون سنة ‪ ،‬أو حتى عشرة مليين ‪ ،‬فإن ذلك ل يعدو أن يكون بضعة آلف من اليام اللهية ‪ ..‬ول المثل‬
‫العلى ‪.‬‬

‫إن ملك ال عظيم ‪...‬‬


‫وإن شأن ال أعظم ‪..‬‬

‫ولهذا الله ‪ -‬تقدست أسماؤه ‪ ،‬وتعاظمت آلؤه ‪ -‬سجدت له الجساد والرواح ‪ ،‬وعنت الوجوه والعقول ‪..‬‬
‫ومن أجل هذا كان موعد النهاية سرًا مكنونًا ل يعلمه إل هو ‪ ..‬إنه موعد الزلزال الكوني الذي يضع النهاية لرحلة مليين السنين ‪..‬‬
‫ويكفي أن نردد هنا قول ال سبحانه ‪:‬‬

‫عظِيمٌ ‪ - }}1‬سورة الحج ‪.‬‬


‫يءٌ َ‬
‫عةِ شَ ْ‬
‫س ا ّتقُوا َرّبكُمْ ِإنّ زَلْزََلةَ السّا َ‬
‫{{ يَا َأّيهَا النّا ُ‬

‫النسان بين العلم والقرآن‬

‫مرة أخرى نكرر ول نمل التكرار ‪:‬‬


‫لبد أن نسلم بأن معطيات العلم ليست حقائق مطلقة في أغلب الحيان بل هي رؤى نسبية ‪ ،‬من حيث إن العقل الذي يتوصل إليها مُ ْر َتهِنٌ‬
‫بقيود من البيئة ‪ ،‬والزمان ‪ ،‬والقدرات الذاتية ‪ ،‬والدلئل المتاحة ‪ ..‬إلخ ‪.‬‬

‫أما القرآن ‪ ،‬وهو الكلمة اللهية النهائية في الخطاب ما بين السماء والرض ‪ ،‬أو ما بين العلى والدنى ‪ -‬فإنه ول شك يقدم للعقل‬
‫النساني الحقائق النهائية في الموضوع ‪ ،‬ولكن الجيال تتفاوت في فهم النص المقدس ‪ ،‬حتى ليبدو ما استخرجه الفكر الديني ‪ -‬حتى‬
‫الن من النصوص ‪ -‬مناقضاً للعلم ‪ ،‬ول سبيل إلى تحقيق اللقاء بينهما ‪.‬‬

‫ونحن ‪ -‬باديء ذي بدء ‪ -‬نقرر أن التناقض بين القرآن ‪ ،‬وما توصل إليه العلم من حقائق نهائية ‪ -‬مستحيل ‪ ،‬وإنما التناقض من جهة أن‬
‫العلم لم يستقر بعد على بر الحقيقة الكاملة ‪ ،‬بل ما زال يدور في إطار النظريات الظنية الدللة ‪ ،‬إلى جانب أن التناقض قد يأتي من‬
‫ضعف التفكير الذي تتسم به معالجة الفكار ‪.‬‬

‫ولننظر مثلً ‪ -‬إلى الجمود الذي اتسم به التفكير الديني حين توقف عند القول بالبداية الدمية للحياة على الرض ‪ ،‬وهي بداية قدرت في‬
‫حدود عشرة آلف عام ‪ ،‬وهو تقدير متواضع في مقابل القول بأن بداية الحياة النسانية تراوحت ما بين مليون سنة ‪ ،‬وعشرة مليين من‬
‫السنين ‪.‬‬
‫ن شاسع بين التقديرين ؟ وهل من سبيل إلى لقاء بينهما ؟‬‫أي َبوْ ِ‬

‫نحن نرى أن ذلك ممكن من خلل فهم واعي للنصوص القرآنية ‪ ..‬فهم يخرج عن المذهب التقليدي الذي إلتزمت به التفاسير كلها ‪،‬‬
‫ويسعى إلى استنطاق النظم القرآني ‪ ،‬ما دام هناك إمكان للتقاء العلم بالقرآن ‪.‬‬

‫ولسوف نحاول السير مع القرآن في حديثه عن النسان والخلق ‪ ،‬منذ اليات الولى التي استهل بها الوحي المحمدي ‪ ،‬وسيراً مع هذا‬
‫الوحي إلى شاطيء الحقيقة القرآنية ‪.‬‬

‫لكن ‪ -‬قبل أن نشرع في هذا العرض نحب أن نقدم نوعاً من الحافير ‪ ،‬أو العاجيب التي أشارت إليها المراجع العربية ‪ ،‬وهي ذات‬
‫دللة ومغزى ‪ ،‬يخدم سعينا لتحقيق إمكان اللقاء بين العلم والقرآن ‪ ،‬وإن غلب عليها طابع المبالغات ‪ ،‬وأسلوب الساطير ‪.‬‬

‫{{ الفصــــل الثالث من الباب الول }}‬

‫نظرة القدماء إلى وجود الخليقة‬

‫إذا كان علماء السلف قد اتفق جمهورهم على أن آدم هو أول الخليقة ‪ ،‬وأول ما خلق من تراب ‪ - ،‬فإن بعضهم قد ذهب إلى ما هو أبعد‬
‫من ذلك ‪ ،‬فتصوروا لهذه الخليقة ممتداً في أعماق الزمان ‪ ،‬قبل آدم ‪ ،‬ربما إلى مليين السنين ‪ ،‬والمهم أن أحداً ممن قال بهذا المذهب لم‬
‫يلق نكيراً من الفريق الخر ‪ ..‬بل عاشت الراء المتناقضة جنب إلى جنب ‪ ،‬حتى تلقيناها ورأينا كيف أنار ال بصيرة القدمين فامتدت‬
‫رؤيتهم إلى أعماق الغيب قبل التاريخ على هذه الرض ‪ ،‬وتنوعت رؤيتهم تبعاً لختلف التخيلت ‪ ،‬وما نحسب أنهم اعتمدوا على‬
‫شواهد مادية ‪ ..‬بل هي محض تخيلت هداهم إليها تأملهم المنطقي في أحوال الدنيا ‪ ( ..‬ذكر المسعودي في كتابه عن بعض العلماء ‪ :‬أن‬
‫ال سبحانه وتعالى خلق في الرض قبل آدم ثمانياً وعشرين أمة على خلق مختلفة ‪ ،‬وهي أنواع ‪:‬‬
‫منها ذوات الجنحة ‪ ،‬وكلمهم قرقعة ‪.‬‬
‫ومنها ما لها أبدان كالسود ‪ ،‬ورؤوس كالطير ‪ ،‬ولهم شعور وأذناب ‪ ،‬وكلمهم دويّ ‪.‬‬
‫ومنها ما له وجهان ‪ ،‬واحد من أمامه ‪ ،‬والخر من خلفه ‪ ،‬وله أرجل كثيرة ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬وكلمهم مثل صياح الغرانيق ( جمع غرنوق وهو طائر مائي ) ‪.‬‬ ‫ومنها ما يشبه نصف النسان بيدٍ ورج ٍ‬
‫عوِي الكلب ‪.‬‬‫ومنها ما وجهه كالدمي ‪ ،‬وظهره كالسلحفاة ‪ ،‬وفي رأسه قرن ‪ ،‬وكلمهم مثل َ‬
‫ومنها ما له شعر أبيض ‪ ،‬وذنب كالبقر ‪.‬‬
‫ومنها ما له أنياب بارزة كالخناجر ‪ ،‬وآذان طوال ‪.‬‬

‫ويقال ‪ :‬إن هذه المم تناكحت وتناسلت حتى صارت مائة وعشرين أمة ‪ ( .‬المستطرف ‪. ) 398 /‬‬

‫هذه صورة من تفكير القدمين أو تخيلتهم عن الماضي السحيق قبل هذه الخليقة ‪ ،‬فقد لفقوا أشكالً من المخلوقات ل دليل على أنها‬
‫وجدت إل في الحتمال الخيالي ‪ ،‬ومع ذلك يبقى ‪ -‬بعد استبعاد ما ل دليل عليه من الشكال ‪ -‬أن الرض كانت معمورة قبل آدم ‪ ،‬سواء‬
‫بمثل تلك الصناف ‪ ،‬أو بأصناف أخرى كالديناصورات ‪ ،‬أو الماموث أو بأوادم آخرين قبل آدم ‪ -‬أبينا ‪ -‬على ما قرره بعض العلماء ‪،‬‬
‫أي ‪ :‬أن آدم لم يكن أول مخلوق عاقل على هذه الرض‬

‫ومن المؤكد أن أمماً كثيرة من المخلوقات كانت موجودة قبل ظهور النسان ‪ ،‬كأمم الطير ‪ ،‬والحيوان ‪ ،‬والنبات ‪ ،‬وهي كلها أمم بنص‬
‫يءٍ ‪ }} 38 ..‬سورة‬ ‫حيْهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأ ْمثَاُلكُم مّا َف ّرطْنَا فِي ال ِكتَابِ مِن شَ ْ‬
‫جنَا َ‬
‫ل طَائِرٍ َيطِيرُ بِ َ‬
‫ض َو َ‬
‫الية الكريمة{{ َومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَرْ ِ‬
‫النعام‪ ،.‬وإذا كان النص صريحاً في دواب الرض والطير ‪ ،‬فإن النبات في نظر العلماء كائن نام ( ينمو ) على إختلف أشكاله‬
‫وفصائله ‪ ،‬والية الكريمة تشير إلى حقيقة مذهلة حين تأتي فاصلتها ‪ {{ :‬ثُمّ إِلَى َرّبهِ ْم يُحْشَرُونَ ‪ -}} 38‬سورة النعام ‪ ،.‬وفي ذلك‬
‫جملة من المناقشات حفلت بها كتب التفسير ‪.‬‬

‫أما عن إهتمام العلماء بالتفتيش أو بملحظة ما يجدون صدفة في الرض ‪ ،‬ومتابعة آثار الحياء فيها ‪ ،‬واستدللهم بشواهدها على معالم‬
‫الحياة البشرية وعهودها السحيقة ‪ -‬فذلك أمر لم تتوافر أدواته للقدمين ‪ ،‬ول تهيأت أسبابه إل في عصرنا الحديث مع تطور علوم‬
‫الرض ( الجيولوجيا ) والنسان ( النثروبولوجيا ) ‪ ،‬والتحليلت الكربونية ‪ ...‬وغيرها ‪.‬‬

‫ولكن كان للقدمين فكرة عن النسان القديم ‪ ،‬ولم تكن أفكارهم تذهب في تقدير تاريخ الحياة على الرض إلى أبعد من حديث القرآن‬
‫الكريم عن آدم ونوح ‪ ،‬وعاد وثمود ‪ ،‬وقوم إبراهيم وقوم لوط ‪ ...‬إلخ ‪.‬‬

‫وهذه عهود قريبة نسبياً كما سبق أن قررنا ‪ ،‬وهي لم تتجاوز ثلثين ألف عام ‪ ،‬وهم معذورون قطعاً فيما ذهبوا إليه ‪.‬‬
‫وقد اعتمد بعضهم على مشاهداته لقطع من العظام وبقايا هياكل عظمية ‪ ،‬حاولوا تفسيرها ووصفها بقدر ما رزقوا من القدرة على‬
‫تصور حياة الماضيين وأوصاف هيئاتهم الجسمية ‪ ،‬وهي تبعد كثيراً عن الواقع الذي تصفه الحافير ( الحفريات ) التي عثر عليها‬
‫العلماء في عصرنا ‪ ،‬ولو أن هذه الحافير التي وصفها السلف ‪ -‬وجدت الن لتغيرت فكرتنا عن النسان ‪ ،‬في عهوده السحيقة ‪ ،‬لكن‬
‫المشكلة أن شيئاً من هذه الحافير ل وجود له الن ‪ ،‬فهو وجود مقرون بالمبالغة والتذييد ‪ ،‬حتى حجبت الحقيقة ‪ ،‬وضاعت معالمها‬
‫ضياعًا نهائياً ‪.‬‬
‫ولنذكر عينة من هذه الخبار ‪ ،‬يذكر مؤلف كتاب ( المستطرف في كل فن مستظرف ) ‪ ( :‬قال الشيخ عبد ال ‪ ،‬صاحب كتاب تحفة‬
‫اللباب ‪ :‬دخلت إلى ( باشقرد ) ‪ ،‬فرأيت قبور عاد ‪ ،‬فوجدت سنّ أحدهم طوله أربعة أشبار ‪ ،‬وعرضه شبران ‪ ،‬وكان عندي في باشقرد‬
‫نصف ثنية أخرجت لي من فك أحدهم السفل فكان نصف الثنية شبرين ‪ ،‬ووزنها ألف ومائة مثقال ‪ ،‬وكان دور فك ذلك العادي سبعة‬
‫عشر ذراعاً ‪ ،‬وطول عظم عضد أحدهم ثمانية أذرع ‪ ،‬وعرض كل ضلع من أضلعهم ثلثة أشبار ‪ ،‬كلوح الرخام ) ‪.‬‬

‫وقد يكون هذا الوصف من باب المبالغة المسرفة ‪ ،‬لن مشاهدة المومياوات المتحفية التي مضى عليها خمسة آلف سنة مثلً ‪ -‬تبين لنا‬
‫أن حجم النسان كان بنفس الحجم الحالي ‪ ،‬دون أدنى علقة بما يصفه الشيخ عبد ال في كتابه المشار إليه ‪ ،‬ولذلك يبدو لنا أن للخيال‬
‫دوراً في تضخيم حجم ما يزعم رؤيته من بقايا قوم عاد ‪ ،‬وربما كان ذلك من باب ( الحواديت ) التي جاء منها أشكال وألوان في كتاب (‬
‫ألف ليلة وليلة ) ‪.‬‬
‫أو ربما كان ما وجدوه بهذا الوصف حيواناً هائل ‪ ،‬كالديناصور مثلً ‪ ،‬أو الفيال الضخمة ‪ ،‬التي تقاس أنيابها بالشبار ‪ ،‬وزعم الواصف‬
‫أنه يصف إنساناً من قوم عاد ‪.‬‬

‫ل طويلً ‪ ،‬طوله أكثر من سبعة وعشرين ذراعاً‬ ‫ويستمر الشيخ فيقــــول ‪ ( :‬ولقد رأيت في بلغار ‪ ،‬سنة ثلثين وخمسمائة ‪ -‬نسل عاد رج ً‬
‫‪ ،‬كان يسمى دنقي أو ديقي ‪ ،‬وكان يأخذ الفرس تحت إبطه ‪ ،‬كما يأخذ الولد الصغير ‪ ،‬وكان من قوته يكسر بيده ساق الفرس ‪ ،‬ويقطع‬
‫جلده وأعضاءه كما يقطع باقة البقل ‪ ،‬وكان صاحب بلغار قد اتخذ له درعًا تحمل على عجلة ‪ ،‬وبيضة عادية لرأسه ‪ -‬كأنهما قطعة من‬
‫جبل ‪ ،‬وكان يأخذ في يده شجرة من البلوط كالعصا ‪ ،‬لو ضرب بها الفيل لقتله ‪ ،‬وكان خيّرا متواضعاً ‪ ،‬كان إذا لقيني يسلم عليّ‬
‫ويرحب ‪ ،‬ويكرمني ‪ ،‬وكان رأسي ليصل إلى ركبته ‪ ،‬رحمة ال عليه ‪ ،‬ولم يكن في بلغار حمام يمكنه دخولها ‪ ،‬إل حمام واحد ‪ ،‬وكانت‬
‫له أخت على طوله ‪ ،‬ورأيتها مرات في بلغار ‪ ،‬وقال لي قاضي بلغار ‪ ،‬يعقوب بن النعمان ‪ :‬إن هذه المرأة العادية قتلت زوجها ‪ ،‬وكان‬
‫اسمه آدم ‪ ،‬وكان أقوى أهل بلغار ‪ ،‬قيل ‪ ( :‬إنها ضمته إليها فكسرت أضلعه ‪ ،‬فمات من ساعته ) ( المستطرف ‪. ) 398 /‬‬

‫وقد تأثرت آراء القدمين من العلماء بما ورد في العهد القديم من أساطير عن النسان القديم ‪ ،‬ول سيما قصة عوج بن عنق ‪ ،‬وهي أحد‬
‫معالم الحياة القديمة التي كانوا يتسلّون بروايتها ‪ ،‬وقد كان المستمعون يبهرون بتفاصيلها ‪ ،‬ويتصورون أنها تعبر عن واقع شهدته‬
‫الجيال القديمة ‪.‬‬
‫( روى عن وهب بن منبه في عوج بن عنق أنه كان من أحسن الناس وأجملهم ‪ ،‬إل أنه كان ليوصف طوله ‪ ،‬قيل ‪ :‬إنه كان يخوض في‬
‫الطوفان فلم يبلغ ركبتيه ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إن الطوفان عل على رؤوس الجبال أربعين ذراعًا ‪ ،‬وكان يجتاز بالمدينة فيتخطاها كما يتخطى أحدكم‬
‫عمّره ال دهرًا طويلً حتى أدرك موسى عليه السلم ‪ ،‬وكان جباراً في أفعاله ‪ ،‬يسير في الرض براً وبحرًا ‪ ،‬ويفسد‬
‫الجدول الصغير ‪ ،‬و َ‬
‫ما شاء ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إنه لما حصرت بنو إسرائيل في التيه ذهب فأتى بقطعة من جبل على قدرهم ‪ ،‬واحتملها على رأسه ليلقيها عليهم ‪،‬‬
‫فبعث ال طيراً في منقاره حجر مدور ‪ ،‬فوضعه على الحجر الذي على رأسه ‪ ،‬فانثقب من وسطه ‪ ،‬وانخرق في عنقه ‪ ،‬وأخبر ال عز‬
‫وجل نبيه موسى عليه السلم بذلك فخرج إليه وضربه بعصا فقتله ‪ ،‬ويقال ‪ :‬إن مويى عليه السلم كان طوله عشرة أذرع وعصاه عشرة‬
‫أذرع ‪ ،‬وقفز في الهواء عشرة أذرع وضربه فلم يصل إلي عرقوبه ‪ ،‬فتبارك ال أحسن الخالقين ) ‪.‬‬

‫والعجيب أن يزعم اوي السطورة أن عوجاً عاش ‪ -‬وهو الحفيد لدم ‪ -‬حتى عهد موسى ‪ ،‬أي أكثر من سبعة آلف سنة ‪ ...‬؟؟‬
‫وتمضي السطورة فتحكي عن عنق أم عوج فتقول ‪ ( :‬عنق بنت آدم عليه الصلة والسلم ؟؟ ) وكانت مفردة بغير أخ ‪ ،‬وكانت مشوهة‬
‫الخلقة لها رأسان ‪ ،‬وفي كل يد عشرة أصابع ‪ ،‬ولكل أصبع ظفران كالمنجلين ) ‪ ،‬وقال على إبن أبي طالب ‪ ( :‬هي أول من بغى في‬
‫الرض ‪ ،‬وعمل الفجور ‪ ،‬وجاهر بالمعاصي ‪ ،‬واستخدم الشياطين ‪ ،‬وصرّفهم في وجوه السحر ‪ ،‬فأرسل ال عليها أسداً أعظم من الفيل‬
‫فهجم عليها وقتلها ‪ ،‬وذلك بعد ولدة عوج بسنتين ) ‪.‬‬

‫إننا لم نأت بكل ما قيل عن عنق وولدها عوج ‪ ،‬وقد اختصرنا شيئًا من أخبارهم لكي نظهر ما بلغته الساطير من السيطرة على عقول‬
‫الناس قديمًا ‪ ،‬وحين تأتي الساطير في كتاب مقدس مثل التوراة ‪ -‬فإنها تستبد بعقول التباع ‪ ،‬وتحجب عن أبصارهم بصيص العقل ‪،‬‬
‫وهو ما غرقت فيه عقول كثيرين طوال قرون عديدة ‪.‬‬

‫{{ الفصل الرابع من الباب الول }}‬

‫حـــديـــث القـــرآن‬

‫جدير بنا أن نذكر السور القرآنية التي تعرضت لقصة الخلق ‪ ،‬وما يتصل بها ‪ ،‬مرتبة حسب النزول ‪ ،‬لنتابع من خلل هذا الترتيب تدافع‬
‫معاني الوحي القرآني ‪ ،‬ومنهجه في سوق الحداث والحقائق ‪ ،‬كما أراد ال للنسان أن يتعلمها ‪ ،‬وقد جاء الترتيب هكذا ‪:‬‬

‫رقم السورة حسب النزول ‪) 1 ( --‬‬


‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬العلق‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الشارة الولى للنسان‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 4 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬المدثر‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الشارة الولى للبشر‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 7 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬العلى‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الذي خلق فسوى ( لول مرة )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 27 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬التين‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة عامة لخلق النسان ( في أحسن تقويم )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 30 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬القيامة‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الذكر والنثى ‪ -‬نطفة من ( منى يمنى ‪ ،‬ثم كان علقة فخلق فسوى )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 32 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬المرسلت‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة إلى الماء المهين ‪ ،‬والقرار المكين‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 33 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬ق‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة إلى حضور ال في خلقه‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 35 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الطارق‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة إلى مادة الخلق في الصلب والترائب والماء الدافق الذي يخرج من بينهما ‪.‬‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 37 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬ص‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬قصة الخلق والملئكة وإبليس للمرة الولى ( دون ذكر آدم )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 38 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬العراف‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلق والتصوير ثم قصة آدم والملئكة وإبليس ‪ ( -‬آدم يذكر للمرة الولى )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 40 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬يس‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ( --‬أو لم ير النسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 41 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الفرقان‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الماء والبشر ‪ ،‬والنسب والصهر‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 42 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬فاطر‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ( --‬وال خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجًا )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 43 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬مريم‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ( --‬أو ل يذكر النسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئاً )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 44 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬طه‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ( --‬منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ) ‪ /‬آدم وحياته الرضية‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 49 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬السراء‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إعتراض إبليس على السجود للطين ‪ ،‬وحوار بين ال وبينه‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 53 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الحجر‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلق من صلصال من حمأ مسنون ‪ -‬إلى آخر القصة‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 54 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النعام‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة إلى الخلق من الطين ل شك في هذا‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 55 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الصافات‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إشارة إلى الخلق من الطين اللزب‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 59 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬غافر‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬إجمال مراحل الخلق والشيخوخة‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 68 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الكهف‬
‫ل)‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬علقة التراب بالنطفة ( ثم سواك رج ً‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 69 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النحل‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ( --‬خلق النسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 70 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬نوح‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الطوار ‪ ،‬والنبات في الرض والعودة إليها‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 72 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النبياء‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الحياة من الماء ( من الماء كل شيء حي )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 73 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬المؤمنون‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬تفصيل مراحل الخلق ( من سللة من طين )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 74 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬السجدة‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ( --‬بدأ خلق النسان من طين ‪ -‬ثم جعل نسله من سللة من ماء مهين )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 81 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النفطار‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ( --‬خلقك فسواك فعدلك )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 83 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الروم‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلق من تراب ثم النتشار على الرض بشراً‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 87 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬البقرة‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلفة والسجود من الملئكة والتمرد من إبليس‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 93 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النساء‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلق من ( نفس واحدة وخلق منها زوجها )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 98 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الرحمن‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬الخلق والبيان ‪ ( -‬من صلصال كالفخار ) خلقه فعلمه فصار إنساناً‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 99 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النسان‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ( --‬حين من الدهر ) هو الماضي البشري ( لم يكن شيئاً مذكوراً )‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 104 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬النور‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ ( --‬وال خلق كل دابة من ماء ) ‪ ،‬وأشكال الخلق‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 105 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الحج‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬تقرير كامل ونهائي عن خلق النسان ومراحله ‪.‬‬
‫********************‬
‫رقم السورة حسب النزول ‪) 108 ( --‬‬
‫اســــــــــم الســــــــــــورة ‪ --‬الحجرات‬
‫ملحظــــــــــــــــــــــــــات ‪ --‬ذكر وأنثى ‪ -‬شعوب وقبائل ‪ -‬تعارف ‪ :‬حضارة ‪.‬‬

‫لقد بدأ القرآن ومضته الولى باليتين الكريمتين‬


‫عَلقٍ ‪ -}} 2‬سورة العلق ‪ ،‬وهي بداية رائعة ‪ ،‬تتضمن تعريف ال سبحانه وتعالى‬ ‫خَلقَ ‪ 1‬خََلقَ الِْنسَا َ‬
‫ن مِنْ َ‬ ‫{{ اقْ َر ْأ بِاسْمِ َرّبكَ الّذِي َ‬
‫لذاته ‪ ،‬وهو يخاطب مصطفاه محمداً خطابه الول ‪ ،‬ولتحقيق هذا الغرض يذكر من صفاته الحسنى صفة ( الخالق ) ‪ ،‬وليس دون هذه‬
‫الصفة إمكان للتعرف ‪ ،‬وفي الحديث القدسي ‪ (:‬كنت كنزًا مخفياً فأردت أن أعرف ‪ ،‬فخلقت الخلق ‪ ،‬فبي عرفوني ) ‪ ،‬وبديهي أن يتعرف‬
‫ن مِنْ عََلقٍ }} ‪،‬‬
‫المخلوق على خالقه ‪ ،‬سيّـما وهو يخاطبه ‪ ،‬ويعرفه بنفسه ‪ ،‬ويذوده بأدق المعلومات عن أصل الصنعة ‪ {{ :‬خََلقَ الِْنسَا َ‬
‫وهي معلومة موضوعية خالصة ‪.‬‬

‫وبديهي أيضاً أن يثير هذا السؤال في نفس المخاطب ( محمد ) أشواقاً إلى معرفة ل نهاية لها ‪ ،‬وتطلعاً إلى إدراك العلقة بين ( العلق )‬
‫في مهانته ‪ ،‬وقلة شأنه ‪ ،‬و ( النسان ) في مهابته وعظم شأنه ‪ ،‬في شخص المخاطب الول بهذا الكلم ( محمد المصطفى ) صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬

‫ويأتي بعد ذلك الحديث القرآني الثاني عن ( النسان ) فإذا هو ل يذكره بلفظه ‪ ..‬بل يستخدم لفظاً آخر يدل عليه ‪ ،‬هو ( البشر ) ‪ ،‬وذلك‬
‫في السورة الرابعة من التنزيل العزيز ‪ ،‬سورة ( المدثر ) ‪ ،‬وترد فيها لفظة ( البشر ) أربع مرات في اليات ‪ِ {{ ) 25 ( :‬إنْ هَذَا ِإلّ‬
‫َقوْلُ ا ْلبَشَرِ ‪ ، }} 25‬و ( ‪َ{{ ) 29‬لوّاحَةٌ لّ ْلبَشَرِ ‪ ، }} 29‬و ( ‪َ {{ ) 31‬ومَا هِيَ ِإلّ ِذكْرَى لِ ْلبَشَرِ ‪ ، }} 31‬و ( ‪ {{ ) 36‬نَذِيرًا‬
‫لّ ْلبَشَرِ ‪ ، }} 36‬ول ريب أن مدلول الكلمة في اليات الربع يعني المخلوق المخاطب باليات المنزلة من الوحي ‪ ،‬أي ‪ :‬النسان في‬
‫عمومه ‪ ،‬ثم لم ترد كلمة ( البشر ) بعد ذلك في جملة من السور بترتيب النزول ‪ ،‬حتى السورة السادسة والثلثين ‪ ،‬وهي سورة القمر ‪،‬‬
‫وذلك في سياق قصة النبي صالح مع قومه ثمود ‪ ،‬حين قال قائلهم ‪َ {{ :‬أبَشَرًا ّمنّا وَاحِدًا ّنّتبِعُهُ ‪}}24 ...‬‬

‫بيد أن الشارة التي تعتبر إضافة إلى المفهوم الول للخلق باعتباره المرحلة الولى ‪ -‬جاءت في السورة السابعة ( في ترتيب النزول ) ‪،‬‬
‫سبّحِ اسْمَ َرّبكَ الَْعْلَى ‪ 1‬الّذِي‬
‫وهي سورة العلى ‪ ،‬فذكرت المرحلة الثانية في إيجاد الخلق ‪ ،‬وهي مرحلة التسوية ‪ ،‬فقال تعالى ‪َ {{ :‬‬
‫سوّى ‪ ، }} 2‬والتسوية هنا عمل إلهي سوف يرد ذكره باعتباره دائماً الخطوة الثانية في بناء هذا الخلق ‪.‬‬‫خََلقَ فَ َ‬

‫والمذكور هنا هو مطلق الخلق ‪ ،‬ومطلق التسوية ‪ ،‬دون ذكر لمحلهما ‪ ،‬وهل هو البشر ‪ ،‬أو النسان ‪ ،‬لكن السياق يصرف العبارة إلى‬
‫ن مِنْ عََلقٍ } الذي أشارت إليه السورة الولى ‪.‬‬
‫خَلقَ الِْنسَا َ‬
‫بيان { َ‬

‫خَلقْنَا الِْنسَانَ فِي‬


‫ثم جاء ذكر ( النسان ) في سورة التين ‪ ،‬وهي السورة السابعة والعشرون نزولً ‪ ،‬وذلك في قوله تعالى ‪َ {{ :‬لقَدْ َ‬
‫غيْرُ َم ْمنُونٍ ‪ -}} 6‬سورة التين ‪ ،‬والشارة هنا إلى‬ ‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ فََلهُمْ أَجْرٌ َ‬ ‫سفَلَ سَافِلِينَ ‪ِ 5‬إلّ الّذِي َ‬
‫ن آ َمنُوا وَ َ‬ ‫ن َت ْقوِيمٍ ‪ 4‬ثُمّ رَدَ ْدنَاهُ أَ ْ‬
‫أَحْسَ ِ‬
‫ن َت ْقوِي ٍم } ‪ ،‬ومستوى‬ ‫( النسان ) الذي خلق من علق ‪ ،‬وعلمه ال ما لم يكن يعلم ‪ ،‬فانقسم هذا النسان إلى مستوى رفيع { فِي أَحْسَ ِ‬
‫سفَلَ سَافِلِينَ } ‪ ،‬وهو وصف للواقع الذي يخاطبه الوحي القرآني في مكة ‪ :‬أناس آمنوا فارتفعوا ‪ ،‬وأناس كفروا فاتضعوا ‪.‬‬ ‫وضيع { أَ ْ‬

‫سبُ الِْنسَانُ أَن يُتْ َر َ‬


‫ك‬ ‫ثم يعود القرآن إلى خلق النسان في سورة القيامة ‪ ،‬وهي السورة الثلثون نزولً ‪ ،‬وذلك في قوله تعالى ‪َ {{ :‬أيَحْ َ‬
‫جيْنِ ال ّذكَ َر وَالُْنثَى ‪ -}} 39‬سورة القيامة ‪، .‬‬ ‫ل ِمنْهُ ال ّزوْ َ‬ ‫سوّى ‪ 38‬فَ َ‬
‫جعَ َ‬ ‫ي يُ ْمنَى ‪ 37‬ثُ ّم كَانَ عََل َقةً فَخََلقَ فَ َ‬ ‫سُدًى ‪ 36‬أَلَ ْم َي ُ‬
‫ك ُنطْفَ ًة مّن ّمنِ ّ‬
‫عَلقٍ }} ‪ ،‬وهي مرحلة النطفة من المني يقذفها الرجل في رحم‬ ‫ن مِنْ َ‬
‫وفي هذه اليات إشارة إلى المرحلة السابقة على ‪ {{ :‬خََلقَ الِْنسَا َ‬
‫المرأة ‪ ،‬لتصبح من بعد علقة يتخلق منها الذكر والنثى ‪.‬‬

‫وتضمنت اليات ‪ -‬مما أدركه العلم الحديث ‪ -‬إشارة دقيقة إلى أن تحديد نوع الجنين ‪ ،‬ذكرًا كان أو أنثى ‪ ،‬يتوقف على منيّ الرجل ‪ ،‬ل‬
‫على بويضة المرأة ‪.‬‬

‫وهكذا أفادت هذه اليات مزيداً من المعرفة بعملية الخلق وتفسيره ‪ ،‬فهي في الحقيقة بيان لما أجمله النص الول في سورة العلق ‪.‬‬

‫وكان حرص القرآن في تلك المرحلة الولى على تأكيد العلقة بين الحياة والموت والبعث ‪ ،‬فهو في آيات القيامة يختمها بقوله ‪:‬‬
‫علَى أَن يُحْيِيَ ا ْل َموْتَى ‪ -}} 40‬القيامة ‪ ، .‬وهو في السورة التالية لها ‪ ،‬سورة المرسلت ( الثانية والثلثين نزولً )‬ ‫ك ِبقَادِرٍ َ‬
‫{{ أََل ْيسَ ذَِل َ‬
‫جعَ ْلنَاهُ فِي َقرَا ٍر ّمكِينٍ ‪ 21‬إِلَى َقدَ ٍر مّعْلُومٍ ‪َ 22‬فقَ َد ْرنَا َف ِنعْمَ ا ْلقَادِرُونَ‬
‫يعيد هذه الحقيقة في قوله تعالى ‪ {{ :‬أَلَ ْم نَخْلُقكّم مّن مّاء ّمهِينٍ ‪ 20‬فَ َ‬
‫‪ ، }} 23‬وهو هنا يصف ( المنيّ ) المذكور في سورة القيامة بأنه ( ماء مهين ) ‪ ،‬ولكن المقدرة هي التي جعلت هذا الماء إنسانًا سوياً ‪.‬‬

‫ن َونَعْلَ ُم مَا‬
‫خَلقْنَا الِْنسَا َ‬
‫ونزلت بعد ذلك سورة ( ق ) وهي السورة الثالثة والثلثون ‪ -‬لتفيد حضور ال في نفس النسان ‪ {{ :‬وََلقَدْ َ‬
‫حبْلِ ا ْلوَرِيدِ ‪ -}} 16‬سورة ق ‪ ،‬فكيف يفلت النسان من قبضة ال ؟؟‬ ‫س بِ ِه نَفْسُ ُه َونَحْنُ َأقْ َربُ إَِليْ ِه مِنْ َ‬
‫س ِو ُ‬
‫ُتوَ ْ‬

‫ثم يأتي النص في سورة ( الطارق ) ليضيف مذيداً من المعلومات عن الماء الدافق ( المنيّ ) الذي يخرج من بين الصلب والترائب ‪،‬‬
‫وهي معلومة لم تكن معروفة حتى عصرنا ‪ ،‬و ( الطارق ) هي السورة الخامسة والثلثون نزولً ‪.‬‬

‫ثم نزلت سورة ( ص ) تذكر قصة الخلق لول مرة ‪ ،‬وهي السورة السابعة والثلثون نزولً ‪ ،‬قال سبحانه وتعالى ‪:‬‬
‫لئِكَ ُة كُّلهُ ْم‬ ‫ختُ فِي ِه مِن رّوحِي َف َقعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ‪ 72‬فَسَ َ‬
‫جدَ ا ْلمَ َ‬ ‫ق بَشَرًا مِن طِينٍ ‪َ 71‬فإِذَا َ‬
‫س ّويْتُ ُه َو َنفَ ْ‬ ‫لئِكَةِ ِإنّي خَاِل ٌ‬‫{{ إِذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَ َ‬
‫ت مِنَ ا ْلعَالِينَ ‪75‬‬ ‫ستَ ْكبَ ْرتَ َأ ْم كُن َ‬‫ت بِيَدَيّ أَ ْ‬
‫ل يَا ِإبْلِيسُ مَا َمنَ َعكَ أَن تَسْجُدَ ِلمَا خََل ْق ُ‬ ‫ن مِنْ ا ْلكَافِرِينَ ‪ 74‬قَا َ‬
‫س َتكْبَ َر َوكَا َ‬‫ج َمعُونَ ‪ِ 73‬إلّ ِإبْلِيسَ ا ْ‬ ‫أَ ْ‬
‫خيْ ٌر ّمنْهُ خََل ْقتَنِي مِن نّا ٍر وَخََل ْقتَ ُه مِن طِينٍ ‪ 76‬قَالَ فَاخْ ُرجْ ِم ْنهَا فَِإّنكَ رَجِيمٌ ‪ 77‬وَِإنّ عََل ْيكَ َل ْع َنتِي إِلَى َيوْمِ الدّينِ ‪ 78‬قَالَ َربّ‬ ‫قَالَ َأنَا َ‬
‫عبَا َدكَ‬ ‫ج َمعِينَ ‪ِ 82‬إلّ ِ‬ ‫غ ِويَّنهُمْ أَ ْ‬ ‫ك مِنَ ا ْلمُنظَرِينَ ‪ 80‬إِلَى َيوْمِ ا ْلوَ ْقتِ ا ْلمَعْلُومِ ‪ 81‬قَالَ َف ِبعِزّ ِت َ‬
‫ك لَُ ْ‬ ‫فَأَنظِ ْرنِي إِلَى َيوْ ِم يُ ْب َعثُونَ ‪ 79‬قَالَ فَِإّن َ‬
‫ج َمعِينَ ‪ -}} 85‬سورة ص‬ ‫ك مِ ْنهُمْ أَ ْ‬
‫ك َومِمّن َتبِ َع َ‬ ‫ج َهنّ َم مِن َ‬ ‫حقّ َأقُولُ ‪ 84‬لَمْلَنّ َ‬ ‫ق وَالْ َ‬ ‫حّ‬ ‫مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ ‪ 83‬قَالَ فَالْ َ‬
‫هذا النص القرآني يتضمن لول مرة أساسيات القصة ‪ ،‬قصة الخلق ‪ ،‬من مبدئها إلى منتهاها ‪ ،‬وكل ما جاء بعد ذلك من نصوص القرآن‬
‫متحدثاً عن هذه القصة ‪ -‬يضيف بعض التفاصيل التي تثري جوها ‪ ،‬وتوضح بعض غوامضها ‪.‬‬

‫والساسيات التي نقصدها في القصة هي ‪:‬‬


‫‪ - 1‬إخبار ال للملئكة بأنه سيخلق البشر ‪.‬‬
‫‪ - 2‬خلق البشر من طين ‪ -‬التسوية ‪ -‬النفخ من روح ال ‪ -‬النسان ‪.‬‬
‫‪ - 3‬أمر الملئكة ومعهم إبليس بالسجود للمخلوق عند استوائه واكتماله ‪.‬‬
‫‪ - 4‬سجود الملئكة أجمعين ‪.‬‬
‫‪ - 5‬رفض إبليس للسجود إستكباراً ‪.‬‬
‫‪ - 6‬إدعاء إبليس الخيرية على هذا المخلوق بخيرية النار على الطين ‪.‬‬
‫‪ - 7‬طرد إبليس وإمهاله إلى يوم الدين ‪.‬‬
‫‪ - 8‬توعد إبليس بغواية بني آدم ‪ ،‬إل المخلصين ‪.‬‬
‫‪ - 9‬وعيد ال بجهنم لمن اتبع إبليس ‪.‬‬
‫هذه الساسيات تتكرر في جميع المواضع الخرى في السورة التالية ‪ ،‬ولكنها تذيد بعض التفاصيل المثرية ‪ -‬كما قلنا ‪ -‬وهو ما نلحظه‬
‫مثلً في السورة التالية نزولً ‪ :‬السورة الثامنة والثلثين ‪ ،‬وهي سورة العراف ‪.‬‬

‫غير أننا نلحظ بداية ‪ ،‬أن القصة في سورة ( ص ) لم تتضمن ذكر آدم ‪ ..‬بل اقتصرت على الشارة إلى أن المخلوق ‪ -‬موضوع الحديث‬
‫‪ -‬هو ( بشر ) بحسب ‪ ،‬ثم جاءت سورة العراف لتذكر آدم للمرة الولى في الوحي القرآني ‪ ،‬فكان ذلك تفصيلً بعد إجمال ‪ ،‬ومع‬
‫ملحظة أن السورتين متتاليتان ‪ ،‬ولكي نعرض تفاصيل القصة نتابع مناقشة كل أساسية على حدة ‪.‬‬

‫{{ الفصل الخامس من الباب الول }}‬

‫ل ‪ :‬إعــــلم الملئــــــكة‬
‫أو ً‬

‫‪ ،‬قول ال سبحانه وتعالى للملئكة ‪ِ {{ :‬إنّي خَاِلقٌ بَشَرًا }} ‪ ،‬وهي عبارة تحمل كثيراً من المعاني ‪ ،‬ذلك أن الية تبدأ بعبارة ‪ {{ :‬إِذْ‬
‫قَالَ َرّبكَ ِل ْلمَلَ ِئكَةِ }} ‪ ،‬فهي تستخدم لفظة ( الرب ) مضافة إلى ضمير المخاطب ‪ ،‬وهو ‪ ( :‬محمد ) صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬على نسق‬
‫ماجاء في الخطاب الول ‪{{ :‬اقْرَ ْأ بِاسْمِ َرّبكَ الّذِي خََلقَ }} ‪ ،‬وهي إضافة تقرب النبي من حضرة ربه ‪ ،‬وتدنيه من جلله ‪ ،‬وهو ما‬
‫جرى عليه الوحي في السور الولى بشكل عام ‪.‬‬

‫لكن ‪ ..‬كيف قال ( ربك ) ؟ وكيف تلقت الملئكة هذا القول ؟ وذلك ما ل سبيل إلى إدراكه ‪ ،‬وإن كان هنالك سبيل إلى تأويله ‪ :‬فالرب إذا‬
‫تكلم فكلمه ليس بحرف ‪ ،‬ول صوت ‪ ،‬وهذه صفة كلمه النفسي كما قررها علماء الكلم ‪ ،‬ولكن إدراك الخطاب اللهي يتحقق في كل‬
‫جنس بحسبه ‪ ،‬فإذا تلقى النسان ذلك الخطاب فمن خلل الحرف ‪ ،‬والصوت ‪ ،‬واللغة ‪ ،‬وإذا تلقته الملئكة فمن خلل قدراتها التي‬
‫تختلف عن قدرات النسان ‪ ،‬لختلف طبيعتها عن طبيعته ‪ ،‬ول مانع من أن يكون بلغة ما ‪ ..‬كيفما فطر ال ملئكته ‪.‬‬

‫أما كيف تم هذا الحوار فخوض في غمار الغيب المحجوب ‪ ،‬والحديث فيه اتباع لما تشابه من آيات ال ‪ ،‬ونسأل ال أن يباعد بيننا وبين‬
‫الفتن ‪ ،‬وأن يلهمنا القدرة على تأويل هذه المتشابهات بما يليق بجلله ‪ ،‬وكل ما يعنينا هو التسليم بصدق الخبر ‪ ،‬ووقوع الحوار ‪ ،‬ول في‬
‫ذلك حكمة هو أعلم بها ‪.‬‬

‫ول ريب أن تلقي النبي صلى ال عليه وسلم لهذا الخطاب كان مختلفاً عن تلقينا له ‪ ،‬باعتبار أنه أعلم بربه وأنه ذو إتصال بالمل العلى‬
‫( عالم الملئكة ) ‪ ،‬منذ جاء الروح المين بالوحي ‪ ،‬فإذا خاطب ال نبيه فإن لهذا الخطاب موقعه من نفس النبي ‪ ،‬حتى تكاد قدراته‬
‫الروحية ترفعه إلى مرتبة الشهود ‪ ،‬إستشفافاً لما وراء الكلمات المنزلة ‪ ،‬وإستشرافاً للحضور القدسي ‪ ،‬فهو مائل على الرض ‪ ،‬وهو في‬
‫نفس الوقت يعاين من آيات ربه ما ل يعاين الجلوس من حوله ‪ ،‬إن كان الوحي بمحضر منهم ‪.‬‬

‫ل يَسْ ِبقُونَ ُه بِا ْل َقوْلِ وَهُم‬


‫ن }} ‪ ،‬وهم ل يسبقون ال سبحانه {{ َ‬
‫عبَا ُد مّك َرمُو َ‬
‫أما الملئكة فحسبنا من وصفهم ما جاء بشأنهم في القرآن {{ ِ‬
‫شفِقُونَ ‪ -}} 28‬سورة النبياء ‪ ،‬وهم‬
‫ش َيتِ ِه مُ ْ‬
‫ش َفعُونَ ِإلّ ِلمَنِ ا ْرتَضَى وَهُم مّنْ خَ ْ‬ ‫بِأَمْ ِر ِه يَ ْعمَلُونَ ‪َ 27‬يعْلَ ُم مَا بَيْنَ َأيْدِيهِ ْم َومَا َ‬
‫خ ْلفَهُ ْم َولَ يَ ْ‬
‫ن مَا ُيؤْمَرُونَ ‪ -}} 6‬التحريم ‪.‬‬ ‫لّ مَا َأمَرَهُ ْم َو َيفْعَلُو َ‬
‫ل يَعْصُونَ ا َ‬ ‫كذلك ‪َ {{ :‬‬

‫لئِكَةِ‬
‫علِ ا ْلمَ َ‬
‫ت وَالَْرْضِ جَا ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫حمْدُ لِّ فَاطِرِ ال ّ‬
‫ووصفهم القرآن أيضاً في مطلع سورة فاطر أو ( الملئكة ) ‪ -‬بقوله تعالى ‪ {{ :‬الْ َ‬
‫يءٍ قَدِيرٌ ‪ -}} 1‬سورة فاطر‪.‬‬ ‫علَى كُلّ شَ ْ‬
‫ق مَا يَشَاء إِنّ الَّ َ‬
‫ع يَزِيدُ فِي الْخَ ْل ِ‬
‫لثَ وَ ُربَا َ‬
‫جنِحَ ٍة مّ ْثنَى وَثُ َ‬
‫رُسُلً أُولِي أَ ْ‬

‫ول ريب أن لهذه الوصاف معاني محددة ل نستطيع أن نحيط بها علمًا وحسبنا هنا أن ننقل عن تفسير ( المنار ) ما قرره الستاذ المام‬
‫محمد عبده ‪ ،‬حين تحدث عن الملئكة فقال ‪ ( :‬أما الملئكة فيقول السلف ‪ :‬إنهم خلق أخبرنا ال تعالى بوجودهم ‪ ،‬وببعض أعمالهم ‪،‬‬
‫فيجب علينا اليمان بهم ‪ ،‬ول يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم ‪ ،‬فنفوض علمها إلى ال تعالى ‪ ..‬فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك ‪،‬‬
‫ولكننا نقول ‪ :‬إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطيور ‪ ،‬إذ لو كانت كذلك لرأيناها ‪ ،‬وإذا ورد أنهم موكلون بالعوامل‬
‫الجسمانية ‪ ،‬كالنبات والبحار فإننا نستدل بذلك على أن في الكون عالماً آخر ألطف من هذا العالم المحسوس ‪ ،‬وأن له علقة بنظامه‬
‫وأحكامه ‪ ،‬والعقل ل يحكم بإستحالة هذا ‪ ،‬بل يحكم بإمكانه ‪ ،‬ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به ) ‪.‬‬

‫ثم قال ‪ ( :‬وأما الفائدة فيما وراء البحث في حقيقة الملئكة ‪ ،‬وكيفية الخطاب بينهم وبين ال تعالى فهي من وجوه ‪:‬‬

‫أحدها ‪ :‬أن ال تعالى في عظمته وجلله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه ‪ ،‬وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ‪ ،‬ول‬
‫سيما عند الحيرة ‪ ،‬والسؤال يكون بالمقال ‪ ،‬ويكون بالحال والتوجه إلى ال تعالى في إستفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت‬
‫سننه تعالى بأن يفيض منها ( كالبحث العلمي ‪ ،‬والستدلل العقلي ‪ ،‬واللهام اللهي ) ‪ ،‬وربما كان للملئكة طريق آخر لستفاضة‬
‫العلم ‪ ،‬غير معروف لحد من البشر ‪ ،‬فيمكننا أن نحمل سؤال الملئكة على ذلك‪ ( -‬تفسير المنار ‪. ) 213 - 212 / 1‬‬

‫ثـانـيـــــاً ‪ :‬خلق البشـــــر من طيـــن‬

‫ق بَشَرًا مِن طِينٍ ‪ -}} 71‬سورة ص ‪ ،‬واستخدام الصيغة ( خالق ) هنا يفيد الحداث ‪..‬‬ ‫ونص إعلم ال للملئكة يأتي هكذا {{ ِإنّي خَاِل ٌ‬
‫أي ‪ :‬اليجاد من عدم ‪ ،‬والسؤال هو ‪ :‬هل هذه الصيغة في موقعها تفيد المضى ‪ ،‬أو المستقبل ؟‬
‫ونرى أنها تفيد المضى ‪ ،‬أي ‪ :‬إن ال كان قد خلق هذا البشر قبل العلم به ‪ ،‬وقد أراد أن يخبر الملئكة تهيئة لهم ‪ ،‬حتى يتابعوا أحوال‬
‫المخلوق ‪ ،‬خلل مراحل التسوية ‪ ،‬والنفخ اللهي ‪ -‬كيفما يقعوا له ساجدين ‪ -‬كما أمر ال ‪ ،‬ولعل ذلك ( الخلق ) داخل في المر الزلي‬
‫( الخالق ) ( كن ) وهو أمر لم تعرف الملئكة كل تفاصيله ‪ ،‬إل أن يأذن لها ال بذلك ‪ ،‬أما بقية العلم فيتضمن ذكر ( البشر ) و‬
‫( الطين ) ‪ ،‬والعلقة بينهما ‪.‬‬

‫فأما البشر فهي تسمية لذلك المخلوق الذي أبدعه ال تعالى من الطين ‪ ،‬وأصله في اللغة من ( ب ش ر ) ‪ ،‬وهو يفيد ( الظهور مع حسن‬
‫وجمال ) ‪ ،‬قال ابن فارس ‪ ( :‬هو أصل واحد ‪ :‬ظهور الشيء مع حسن وجمال ) ‪ ،‬وسمي البشر بشرًا لظهورهم ( مقاييس اللغة ‪/ 1‬‬
‫‪ ) 251‬وفي المعجم الكبير ‪ :‬البشر ‪ ..‬النسان ‪ ،‬للذكر والنثى ‪ ،‬وللواحد والمثنى والجمع ‪ ،‬وقد يثني كما جاء في القرآن ‪َ {{ :‬أُنؤْمِنُ‬
‫ن مِثِْلنَا ‪}} 47 ...‬سورة المؤمنون ‪ ،‬وقد يجمع على ( أبشار ) ‪ -‬المعجم الكبير ‪ 335 / 2‬وقد يتحدد المعنى في سياق المعالجة ‪-‬‬ ‫ِلبَشَ َريْ ِ‬
‫لكن الغالب الكثير فيه إفراده ‪ ،‬مع ملحظة أن الكلمة جامدة ‪ ،‬ل تتصرف بوجه من الوجوه ‪ ،‬والمعنى المتناسب هنا هو ظهور هذا‬
‫المخلوق من بين تراب وماء ‪ ،‬أي ‪ :‬من طين ‪ ،‬كما ورد ذلك في السراء ‪ ،‬والنعام ‪ ،‬والصافات ‪ ،‬وكان خلقه بكل بساطة كما ظهرت‬
‫ض َنبَاتًا ‪ -}} 17‬سورة نوح ‪.‬‬
‫النباتات ‪ ،‬وهو قوله تعالى في سورة نوح ( السبعين نزولً ) ‪ {{ :‬وَالُّ أَنبَ َتكُم مّنَ الَْرْ ِ‬

‫ومع أن كل حيوان أو طير أو حشر ‪ -‬إلى آخر سلسلة الكائنات ‪ -‬هو من طين ‪ ،‬فإن البشر هو أبرز هذه المخلوقات ‪ ،‬وأكدها وجوداً ‪،‬‬
‫فلذلك أطلق عليه في القرآن ( البشر ) ‪ ..‬أي ‪ :‬الظاهر على كل الكائنات الطينية ‪ ..‬يسخرها لخدمته ‪ ،‬ويستمد منها قُوتهُ و ُق ّوتًهُ ‪ ،‬ويصارع‬
‫وجودها تأميناً لوجوده ‪.‬‬

‫وربما كان إطلق كلمة ( بشر ) أيضًا بهذا المعنى ‪ ،‬وهو ( الظهور ) ‪ -‬مقابلً لما يتصف به عالم الملئكة ‪ ،‬وعالم الجن ‪ ،‬من عدم‬
‫الظهور ‪ ،‬فهم خلق ل يُرَى ‪ ،‬وقد قرر القرآن ذلك بشأن ( الجن ) ‪ ،‬إذ هي كلمة مشتقة من معنى ‪ ( :‬الجتنان ) وهو الستتار ‪ ،‬وال‬
‫ل تَرَ ْو َنهُمْ ‪ ، }} 27 ...‬فالظهور في البشر ‪ ،‬والخفاء في الجن ‪ -‬هما حقيقة‬
‫ث َ‬
‫حيْ ُ‬
‫يقول عن الشيطان وقبيله ‪ِ {{ :‬إنّ ُه يَرَاكُمْ ُه َو وَ َقبِيُل ُه مِنْ َ‬
‫الحياة التي تعمر هذه الرض ‪ ،‬على اليابسة ‪ ،‬والماء ‪ ،‬وفي جو السماء‬

‫الظهور في البشر ‪ ،‬والخفاء في الجن ‪ -‬هما حقيقة الحياة التي تعمر هذه الرض ‪ ،‬على اليابسة ‪ ،‬والماء ‪ ،‬وفي جو السماء ‪.‬‬
‫والعجيب أن للعربية هنا تميزاً وتفوقاً على اللغات الخرى ‪ ،‬فقد حققت بهذا اللفظ ( بشر ) ‪ ،‬تظابقًا عجيبًا مع معناه ‪ ،‬وكأنما كانت‬
‫تستملي الغيب ‪ ،‬وتستقريء أستاره ‪ ،‬ليمنحها هذه اللفظة ‪ ،‬دون اللغات الخرى في الفصيلة السامية ‪ ،‬بل دون ما عهدنا من اللغات‬
‫الوروبية ‪.‬‬

‫فاللغات السامية كالسريانية ‪ ،‬والحبشية ‪ ،‬والرامية ‪ -‬ل تعرف كلمة ( بشر ) ‪ ،‬بل ول تعرف كلمة ( إنسان ) ‪ ،‬وإنما المستخدم فيها هو‬
‫مايؤخذ من كلمة ( آدام ) ‪ ،‬أو ( بني آدام ) ‪ ،‬وقد عرفت العبرية هاتين الكلمتين فعلً للدللة على ( النسان ) ‪ ،‬وأما ( بشر ) فقد جاء في‬
‫سفر التكوين لفظها بالسين ( بسر ) ‪ ،‬وهي بمعنى ( لحم ) ‪ ،‬وبمعنى ( نفس ) في عبارة العهد القديم ‪ ( :‬كل بسر حي ) ‪ ،‬أي ‪ :‬كل نفس‬
‫حية ‪.‬‬
‫غير أن هذه الكلمة ( بسر ) على خلف القاعدة الغالبة بين العربية والعبرية ‪ ،‬فنحن نعرف أن ما ينطق بالســين في العربية هو في‬
‫العبرية بالشــين ‪ ،‬مثل سلم وشالوم ‪ ،‬وسماء وشماي ‪ ،‬وطرداً لهذه القاعدة كان النسب أن تكون بالســين في العربية وبالشــين في‬
‫العبرية ‪ ،‬لكن ماحدث هو العكس ‪.‬‬
‫هذا من ناحية اللفظ ‪ ،‬وأما من ناحية المعنى فهناك إختلف كامل بين معنى الكلمة ( بشر ) في العربية ‪ ،‬ومعنى ( بسر ) في العبرية ‪..‬‬
‫وهي علمة إستفهام تحتاج إلى إجابة حاسمة ‪.‬‬
‫وفي الفارسية أستخدمت اللفاظ العربية ‪ ،‬مع كلمة ( مَردْ ) ‪ ،‬وهي الوحيدة في اللسان الفارسي بمعنى ( رجل ونفر وشخص وإنسان ) ‪،‬‬
‫وهي أيضًا كلمات مستخدمة فيها ‪.‬‬

‫وفي اللغة الردية أستخدمت كلمة ( آدمي ) في ترجمة كلمة ( بشر ) ‪ ،‬واستخدمت كلمة ( إنسان )‪.‬‬

‫وأما في اللغات الغربية فمنها النجليزية ‪ ،‬وقد استخدمت كلمة ( ‪ ) man‬بمعنى ( بشر وإنسان ) ‪ ،‬وقد استخدم محمد بكثال في ترجمته‬
‫للقرآن كلمة ‪ mortal‬بمعنى ( بشر ) ‪ ،‬وكلمة ‪ man‬بمعنى ( إنسان ) ‪ ،‬في حين استخدم المترجم عبدال يوسف كلمة ‪ man‬في كل‬
‫المعنيين ‪ ،‬كذلك في الفرنسية والمجرية والتركية ‪..‬إلخ ‪.‬‬

‫ومهما تتبعنا ترجمات القرآن في اللغات المختلفة فإننا ل نجد سوى كلمة منه في مراجعتنا لمجموعة الترجمات التي أصدرها مجمع‬
‫الملك فهد ابن عبدالعزيز بالمدينة المنورة ‪ ،‬وقد بلغت عدتها تسع عشرة ترجمة باللغات السلمية وغيرها ‪ ،‬وهو دليل على أن مترجمي‬
‫القرآن ل يجدون في لغاتهم سوى كلمة واحدة للمعنيين ‪ ،‬وهي دائماً بمعنى ( إنســــــــان )‪.‬‬

‫استعمالت القرآن لكلمة ( بشر )‬

‫ولو أننا تابعنا استعمال القرآن لهذه الكلمة فسنجد أنها استخدمت في نفس السياق ‪ ،‬وبنفس المعنى ( مخلوق ظاهر مع حسن وجمال ) ‪،‬‬
‫في أربعة مواضع هي قوله تعالى ( على ترتيب النزول ) ‪:‬‬

‫ق بَشَرًا مِن طِينٍ ‪ - }} 71‬ص‬ ‫‪ {{ - 1‬إِذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَ َ‬


‫ل ِئكَةِ ِإنّي خَاِل ٌ‬
‫صهْرًا وَكَانَ َرّبكَ َقدِيرًا ‪ - }} 54‬الفرقان‬
‫سبًا َو ِ‬
‫جعَلَ ُه نَ َ‬
‫ق مِنَ ا ْلمَاء بَشَرًا فَ َ‬‫خَل َ‬ ‫‪ {{ - 2‬وَ ُهوَ الّذِي َ‬
‫حمٍَإ مّسْنُونٍ ‪ - }} 28‬الحجر‬ ‫ل مّنْ َ‬‫ق بَشَرًا مّن صَ ْلصَا ٍ‬ ‫‪ {{ - 3‬وَإِذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَ َ‬
‫لئِكَةِ ِإنّي خَاِل ٌ‬
‫ب ثُمّ إِذَا أَنتُم بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ‪ - }} 20‬الروم‬ ‫خَل َقكُم مّن تُرَا ٍ‬‫ن آيَاتِهِ أَنْ َ‬ ‫‪َ {{ - 4‬ومِ ْ‬

‫أما بقية المواضع فقد استخدمت فيها الكلمة بمعنى عام ‪ ،‬هو ( مخلوق غير متميز ) ‪ ،‬أو بمعنى أعم ‪ ( :‬مخلوق ) ‪ ،‬فإذا أريد تمييز هذا‬
‫س ِويّا ‪ - }} 17‬مريم ‪ ، .‬أي ‪ :‬مخلوقاً معتدلً ‪ ،‬ل إفراط‬
‫المخلوق ألحقت الكلمة بوصف مميز ‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪َ {{ :‬ف َتمَثّلَ َلهَا بَشَرًا َ‬
‫ل بَشَرًا رّسُولً ‪ - }} 93‬السراء ‪ ،‬أي ‪ :‬مخلوقًا مرسلً من ال ‪ ،‬وقوله تعالى‬ ‫ل كُنتُ َإ ّ‬
‫سبْحَانَ َربّي هَ ْ‬
‫ول تفريط ‪ ،‬وقوله تعالى ‪ {{ :‬قُلْ ُ‬
‫‪ُ {{ :‬قلْ ِإّنمَا َأنَا بَشَ ٌر مّثُْلكُ ْم يُوحَى إِلَيّ ‪ - }} 6 ....‬فصلت ‪ ،‬فهو مخلوق متميز على كل المخلوقات بالوحي المنزل ‪.‬‬

‫ك كَرِيمٌ ‪ - }} 31‬يوسف ‪ ،‬فمع أن كلمة‬


‫ضمَرُ الوصف ويبرزه السياق ‪ ،‬كما في قوله تعالى ‪ {{ :‬مَا هَـذَا بَشَرًا إِنْ هَـذَا ِإلّ مََل ٌ‬
‫وقد يُ ْ‬
‫( بشرًا ) هنا نكرة ‪ ،‬فإن السياق يفيد أن المشار إليه ‪ ،‬وهو ( الجمال ) ليس جمال مخلوق بشر ‪ ..‬بل هو جمال ملك كريم ‪ ،‬وهي جملة‬
‫تأتي على سبيل المبالغة ‪ ،‬وإل فالملك الكريم مخلوق أيضاً كالبشر ‪ ،‬والمعنى في النهاية ‪ :‬هذا بشر جميل فائق الجمال ‪ ،‬حتى فاق‬
‫جنسه ‪ ،‬ودخل في جنس آخر أجمل وأرقى ‪.‬‬

‫وقد جاء استخدام اللفظة بالمعنى العام في قوله تعالى ‪َ {{ :‬أبَشَرًا مّنّا وَاحِدًا ّنّتبِعُهُ ‪ - }} 24 ...‬القمر ‪ ،‬وهو إنكار من قوم ثمود أن يكون‬
‫ل بَشَرٌ ّمثُْلنَا ‪- }} 154 ...‬‬
‫صالح بشرًا متميزاً عليهم ‪ ،‬وهو قول تكررت روايته في القرآن في نفس السياق الفصصي ‪ {{ :‬مَا أَنتَ ِإ ّ‬
‫الشعراء ‪ ،‬فعدم التميز هنا يعتبر وصفًا كالتميز تماماً ‪.‬‬

‫سنِي بَشَرٌ ‪ - }} 20 ...‬مريم ‪،‬‬


‫واستخدمت الكلمة بالمعنى العم في مثل قوله تعالى على لسان مريم ‪َ {{ :‬أنّى َيكُونُ لِي غُلَ ٌم وََل ْم يَمْسَ ْ‬
‫أي ‪ :‬مخلوق على الطلق ‪.‬‬

‫ولم تخرج الكلمة في الستعمالت القرآنية عن هذا الطار ‪ ،‬مع ملحظة أنها وردت في الوحي المكي في سبعة وعشرين موضعاً ‪ ،‬ولم‬
‫ترد في الوحي المدني إل في أربعة مواضع ‪ ،‬مقتصرة على إفادة معنى ( مخلوق ) فقط ‪ ،‬وهي اليـات ‪:‬‬

‫سنِي بَشَرٌ ‪ - }} 47 ...‬آل عمران ‪.‬‬ ‫‪ {{ - 1‬قَاَلتْ َربّ َأنّى َيكُونُ لِي وَلَ ٌد وََل ْم يَمْسَ ْ‬
‫حكْ َم وَالّنُبوّةَ ‪ - 79 ...‬آل عمران ‪.‬‬
‫ب وَالْ ُ‬‫‪ - 2‬مَا كَانَ ِلبَشَرٍ أَن ُي ْؤتِيَهُ الّ ا ْلكِتَا َ‬
‫‪َ - 3‬فقَالُوا َأبَشَرٌ َيهْدُونَنَا ‪ - 6 ...‬التغابن ‪.‬‬
‫‪ - 4‬بَلْ أَنتُم بَشَرٌ ّممّنْ خََلقَ ‪ - 18 ...‬المائدة ‪.‬‬
‫‪ ،‬وخلصة القول أن الكلمة جاءت في القرآن بمعان أربعة ‪:‬‬

‫الول ‪ :‬البشر هو ‪ :‬الظاهر على كل الكائنات ( وهو المعنى الصلي )‬

‫الثاني ‪ :‬المخلوق بإطلق ( وهو المعنى العم )‬

‫الثالث ‪ :‬المخلوق غير المتميز ( وصف سلبي )‬

‫الرابع ‪ :‬المخلوق المتميز ( وصف إيجابي )‬

‫ومن الواضح أن المعنى الصلي الحقيقي هو المعنى الول ‪ ،‬أما المعاني الثلثة الخرى فهي معاني سياقية يمكن إعتبارها توسعاً في‬
‫استخدام المعنى الصلي ‪ ،‬وهو فيما لحظنا أكثر شيوعاً في الستعمال القرآني ‪.‬‬

‫{{ الفصل السادس من الباب الول }}‬

‫أولً ‪ :‬حقيقة الطين‬

‫أما الطين فقد جاء في مواضع مختلفة بهذا اللفظ ‪ ،‬والمقصود به إجمالً ‪ ( :‬تراب ‪ +‬ماء ) ‪ .‬وقد بادر النص الكريم إلى ذكر ( الماء )‬
‫أصلً لخلق البشر ‪ -‬والماء أحد طرفي المعادلة ‪ -‬في قوله تعالى في سورة الفرقان ( الحادية والربعين نزولً ) قال سبحانه ‪ {{ :‬وَ ُه َو‬
‫صهْرًا ‪ - }} 54 ...‬الفرقان ‪ ، .‬وهي إشارة تدخل في عموم قوله تعالى ‪ {{ :‬وَ َ‬
‫جعَ ْلنَا مِنَ ا ْلمَاء‬ ‫جعََل ُه نَسَبًا وَ ِ‬
‫ق مِنَ ا ْلمَاء بَشَرًا فَ َ‬
‫الّذِي خََل َ‬
‫حيّ ‪ - }} 30 ...‬النبياء ‪ ، .‬وسورة النبياء هي الثانية والسبعون نزولً ‪ ،‬إلى أن ينزل النص الكريم بتفصيل حاسم في سورة‬ ‫يءٍ َ‬ ‫كُلّ شَ ْ‬
‫علَى‬‫طنِ ِه َومِ ْنهُم مّن يَمْشِي َ‬‫ق كُلّ دَابّ ٍة مِن مّاء َف ِم ْنهُم مّن َيمْشِي عَلَى بَ ْ‬
‫النور ‪ ،‬وهي السورة الثانية بعد المائة ‪ ،‬فيقول سبحانه ‪ {{ :‬وَالُّ خََل َ‬
‫ن َو ِمنْهُم مّن َيمْشِي عَلَى أَ ْربَعٍ ‪ - }} 45 ...‬النور ‪ ، .‬وليس وراء ذلك شكل من أشكال الحياة فيما يدب على الرض ‪ ،‬وإن تنوعت‬ ‫رِجَْليْ ِ‬
‫الشكال فيما ل يدب على الرض ‪.‬‬

‫عوْدٌ إلى سورة الفرقان ‪ -‬الحادية والربعين نزولً ‪ -‬والتي ذكر فيها ( الماء ) أصلً للبشر ‪ -‬لنجد أن السورة التالية لها مباشرة في‬ ‫وَ َ‬
‫التنزيل ‪ ،‬وهي الثانية والربعون ( سورة فاطر ) ‪ -‬تذكر ( التراب ) ‪ ،‬وهو الطرف الثاني للمعادلة الطينية ‪ ،‬فيقول سبحانه ‪ {{ :‬وَا ُ‬
‫لّ‬
‫عمُ ِرهِ ِإلّ فِي‬
‫ص مِنْ ُ‬
‫ل يُنقَ ُ‬
‫ل بِعِ ْلمِ ِه َومَا يُ َعمّ ُر مِن مّ َعمّرٍ َو َ‬
‫ل تَضَعُ ِإ ّ‬
‫ل مِنْ أُنثَى وَ َ‬
‫حمِ ُ‬
‫جعََلكُمْ أَ ْزوَاجًا َومَا تَ ْ‬
‫طفَ ٍة ثُمّ َ‬
‫خََل َقكُم مّن تُرَابٍ ثُ ّم مِن ّن ْ‬
‫لّ يَسِيرٌ ‪ - }} 11‬فاطر ‪ ، .‬وهي آية تتضمن الكثير من إختصاصات القدرة اللهية ‪ ،‬ففيه ‪ -‬إلى جانب ( التراب ) و‬ ‫علَى ا ِ‬ ‫كِتَابٍ إِنّ ذَِلكَ َ‬
‫( النطفة ) ‪ -‬إشارة إلى الزوجية {{ ثم جعلناكم أزواجاً }} ‪ ،‬وكأنها تفسير بوجه آخر لعبارة السورة السابقة ( الفرقان ) التي ذكرت‬
‫{{ فجعله نسباً وصهراً }} ‪ ..‬أي ‪ :‬في شكل أزواج تتكامل فيما بينها (( ل يرد على هذا ما توصل إليه العلم أخيراً في مجال استنساخ‬
‫الحيوان ‪ ،‬وهو ما فوجيء به العالم في قضية النعجة ( دوللي ) ‪ ،‬فإن إشارة القرآن إلى إنتاج النسان عن طريق الزوجية تعبير عن‬
‫الطريق الرسمي لعبور الناس إلى مجال الحياة المرضية ‪ ،‬وهو ل ينفي وجود طرق أخرى يحاول العلم معرفتها )) ‪.‬‬

‫ثم تكتمل معادلة الطين بردها إلى الرض ‪ ،‬باعتبارها منبت الخلق ‪ ،‬وذلك في سورة ( طه ) الرابعة والربعين نزولً ) ‪ ،‬فيقول سبحانه‬
‫جكُ ْم تَا َرةً أُخْرَى ‪ - }} 55‬طه ‪ ، .‬كما قال في السورة السبعين نزولً ( نوح ) ‪ {{ :‬ثُمّ ُيعِي ُدكُمْ‬ ‫‪ِ {{ :‬منْهَا خََل ْقنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِي ُدكُمْ َو ِمنْهَا نُخْرِ ُ‬
‫جكُمْ إِخْرَاجًا ‪ - }} 18‬نوح ‪.‬‬ ‫فِيهَا َويُخْرِ ُ‬
‫حبُ ُه وَ ُهوَ‬
‫‪ ،‬ويتكرر ذكر التراب بعد سورة ( فاطر ) في سورة الكهف ( الثامنة والستين نزولً ) ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ {{ :‬قَالَ لَهُ صَا ِ‬
‫سوّاكَ رَجُلً ‪ - }} 37‬الكهف ‪ ، .‬وهكذا يقدم القرآن الحقيقة إجمالً ‪ ،‬ثم يفصلها‬ ‫طفَ ٍة ثُمّ َ‬
‫ك مِن تُرَابٍ ثُ ّم مِن ّن ْ‬ ‫يُحَاوِرُهُ َأ َكفَ ْرتَ بِالّذِي خََل َق َ‬
‫تدريجياً على مسار الوحي ‪.‬‬

‫ويتعرض القرآن في سورة الحجر ‪ ،‬وهي السورة الثالثة والخمسون نزولً ‪ ،‬وذلك في الية الثامنة والعشرين ‪ -‬يتعرض لبعض أوصاف‬
‫الطين ‪ :‬المادة البشرية ‪ ،‬وهي قوله تعالى ‪:‬‬
‫حمٍَإ مّسْنُونٍ ‪ - }} 28‬سورة الحجر ‪ ، .‬لقد زادت هذه الية المادة وضوحاً‬ ‫ل مّنْ َ‬
‫لئِكَةِ ِإنّي خَاِلقٌ بَشَرًا مّن صَ ْلصَا ٍ‬
‫{{ وَإِذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَ َ‬
‫حين ذكرت أن الطين كان في شكل ( صلصال من حمأ مسنون ) ‪ ،‬و ( الصلصال ) هو الطين اليابس ‪ ،‬أو هو الطين الحر خلط بالرمل ‪،‬‬
‫صلْصَالٍ‬‫ن مِن َ‬
‫فصار يتصلصل إذا جف ‪ ،‬فإذا طبخ بالنار فهو فخار ‪ ،‬وآية سورة الرحمن ( السادسة والتسعين نزولً ) ‪ {{ :‬خََلقَ الِْنسَا َ‬
‫كَا ْلفَخّارِ ‪ - }} 14‬الرحمن ‪ ، .‬تنفي عن الصلصال أن يكون طبخ بالنار ‪ ،‬وإن َ‬
‫شبّ َهتْهُ بالفخار في جفافه ‪ ،‬والحمأ ‪ :‬هو الطين السود ‪،‬‬
‫والمسنون ‪ :‬هو المبتل المنتن ‪ ،‬وقد زاد من صفات هذا الطين في سورة الصافات ( الخامسة والخمسين نزولً ) فذكر أنه ‪ {{ :‬طِينٍ‬
‫لّ ِزبٍ ‪ - }} 11‬الصافات ‪ ، .‬بمعنى ‪ :‬متلصق أملس متماسك ‪.‬‬

‫وسواء ‪ -‬في الحقيقة ‪ -‬أن يستخدم القرآن في تعبيره عن أصل البشر ‪ ،‬الرض أو التراب ‪ ،‬أو الطين ‪ ،‬أو الصلصال ‪ ،‬أو الحمأ‬
‫المسنون ‪ ،‬فكل ذلك ل يختلف ‪ ،‬لن المكونات واحدة تماماً ‪ ،‬في التراب وأشكاله السابقة ‪ ،‬وفي الجسد البشري أو المادة الحية ‪.‬‬

‫يقول الستاذ البهي الخولي ‪ ( :‬لو أنك أخذت قبضة من تراب الرض الخصبة ‪ ،‬وأجريت عليها عمليات التحليل الكيماوي لوجدتها‬
‫تتركب من ستة عشر عنصراً ‪ ،‬ولو أخذت قطعة من جسم النسان وأجريت عليها عمليات هذا التحليل لوجدتها كذلك تتركب من ستة‬
‫عشر عنصرًا ‪ -‬هي نفس العناصر التي تتركب منها تربة الرض ‪ ،‬وهذه العناصر هي ما يأتي ‪:‬‬

‫‪ - 1‬الكسجين = ‪% 63.03‬‬
‫‪ - 2‬الكربـــــــون = ‪% 20.20‬‬
‫‪ - 3‬اليدروجين = ‪% 9.90‬‬
‫‪ - 4‬النيتروجـين = ‪% 2.50‬‬
‫‪ - 5‬الكلســــــيوم = ‪% 2.45‬‬
‫‪ - 6‬الفســـــــفور = ‪% 1.01‬‬
‫‪ - 7‬الكـــــــــلور = ‪% 0.16‬‬
‫‪ - 8‬الفــــــــــلور = ‪% 0.14‬‬
‫‪ - 9‬الكبـــــريت = ‪% 0.14‬‬
‫‪ -10‬البوتاسـيوم = ‪% 0.11‬‬
‫‪ -11‬الصـوديوم = ‪% 0.10‬‬
‫‪ -12‬المغنسـيوم = ‪% 0.07‬‬
‫‪ -13‬الحــــــــديد = ‪% 0.01‬‬

‫اليود ‪ +‬السليكون ‪ +‬المنجنيز = آثار ضئيلة‬


‫( أنظر آدم عليه السلم ‪ -‬للبهي الخولي ص ‪ 15‬وما بعدها )‬

‫وقد تبين من جمع النسب المختلفة أن الثار الضئيلة من ( اليود ‪ ،‬والسليكون ‪ ،‬والمنجنيز ) ل تتجاوز ‪ % 0.18‬للمواد الثلث ‪ ،‬وقد‬
‫أضافت قوائم أخرى مواد أرضية دخلت في تكوين النسان ‪ ،‬وهي النحاس والكوبالت ‪ ،‬والتوتيا ‪ ،‬والموليديوم ‪ ،‬واللمونيوم ‪،‬‬
‫والسيلنيوم ‪ ،‬والكادميوم ‪ ،‬والكروم ‪ ،‬وبذلك تصل العناصر الترابية في النسان إلى أربعة وعشرين عنصراً ‪.‬‬

‫فخلق البشر كان من معدن الرض ‪ ،‬كما قال سبحانه وتعالى في السورة الثانية والعشرين نزولً ‪ -‬أي في الوحي المكي المبكر ‪: -‬‬
‫علَ ُم بِكُمْ إِذْ أَنشََأكُم مّنَ الَْرْضِ ‪ - }} 32 ...‬سورة النجم ‪ ، .‬أي ‪ :‬من معدن الرض ‪ ،‬وهو الصلصال المأخوذ من الطين السود‬
‫{{ ُهوَ أَ ْ‬
‫المنتن ‪ -‬هكذا شاءت إرادة ال ‪ ،‬ول يستطيع أحد أن ينكر هذه الحقيقة ‪ ،‬أو أن يكذب بها ‪ ،‬مع أن هناك في مرأى العين مسافة هائلة بين‬
‫الطين واللحم والبشري ‪ ..‬الطين مادة خامدة ‪ ،‬واللحم البشري نسيج حي متنامِ ‪ ،‬وهي مسافة لم يقطعها العقل النساني حتى الن ‪ ،‬ولن‬
‫يقطعها في المستقبل ‪ ،‬بمعنى أن العقل لن يكشف عن سر التحول الذي جعل التراب لحمًا حياً متنامياً ‪ ،‬ومن ثمّ لن يكون بوسع النسان ‪-‬‬
‫مهما تقدم في دراساته عن الخلية الحية ‪ ،‬وعن الهندسة الوراثية ‪ -‬أن يحول التراب إلى خليا حية ‪ ،‬فالمسافة بينهما برزخ يستحيل‬
‫عبوره على قدرات النسان ‪ ،‬لنها في الواقع تعبير عن أمكانيات قدرة ال المتفردة بالخلق والبداع ‪ ،‬بالحياء والفناء ‪.‬‬

‫هذا عن المسافة بين التراب والمادة الحية ‪ ،‬فأما عن المسافة بين التراب والمخلوق البشري فيقول الستاذ سيد قطب ‪ ،‬وهو يعلق على‬
‫ج مِن بَيْنِ الصّ ْلبِ وَالتّرَائِبِ ‪ - }} 7‬الطارق ‪ ( ، .‬فالمسافة الهائلة‬
‫ق مِن مّاء دَا ِفقٍ ‪ 6‬يَخْ ُر ُ‬
‫ن مِمّ خُِلقَ ‪ 5‬خُِل َ‬
‫قوله تعالى ‪ {{ :‬فَ ْليَنظُرِ الِْنسَا ُ‬
‫بين المنشأ والمصير ‪ ،‬بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب ‪ ،‬وبين النسان المدرك العاقل ‪ ،‬المعقد التركيب‬
‫العضوي ‪ ،‬والعصبي ‪ ،‬والعقلي ‪ ،‬والنفسي ‪ ..‬هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق إلى النسان الناطق ‪ ..‬توحي بأن هناك يداً‬
‫خارج ذات النسان ‪ ،‬هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي ل قوام له ‪ ،‬ول إرادة ‪ ،‬ول قدرة في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة ‪،‬‬
‫حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة ‪ ،‬وتشي بأن هناك حافظاً من أمر ال يرعي هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل ‪ ،‬ومن الرادة‬
‫والقدرة ‪ ،‬في رحلتها الطويلة والعجيبة ‪ ،‬وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للنسان من العجائب ‪ ،‬من مولده إلى مماته ) ‪-‬‬
‫( في ظلل القرآن ‪ -‬سورة طارق ) ‪.‬‬

‫ول يفوتنا هنا الشارة إلى أن الماء قد يقصد به ما يخلط بالتراب ليصير طيناً ‪ ،‬وقد يقصد به الماء المهين الذي يبدو في ظاهره ل علقة‬
‫ل بموجودات ترابية ‪ -‬طينية ‪ ،‬متمثلة في الكائنات الحية التي تعتبر ‪ ( :‬كبسولة الحياة ) ‪ ،‬ويتحدث‬‫له بالطين ‪ ،‬وإن كان في الحقيقة حاف ً‬
‫العلم عن مئات المليين من هذه الكائنات الحية في منيّ الرجل ‪ ..‬في الدفقة الواحدة تندفع في رحم المرأة ‪ ،‬في نهاية التصال الجنسي ‪..‬‬
‫وكل هذا صادر عن التراب ‪ ،‬وعائد إلى التراب ‪.‬‬

‫ثانياً ‪ :‬الخَلق النفسي‬

‫وتبقى بعد ذلك آيتان تحدثتا عن خلق النسان من نفس واحدة ‪ ،‬وهما ‪:‬‬
‫سكُنَ إَِل ْيهَا‬
‫جهَا ِليَ ْ‬
‫جعَلَ ِم ْنهَا َزوْ َ‬
‫س وَاحِ َد ٍة وَ َ‬
‫آية العراف ‪ ،‬وهي السورة الثامنة والثلثون نزولً ‪ ..‬قوله تعالى ‪ُ {{ :‬هوَ الّذِي خََل َقكُم مّن ّن ْف ٍ‬
‫ن مِنَ الشّاكِرِينَ ‪َ 189‬فَلمّا آتَا ُهمَا صَالِحاً َ‬
‫جعَلَ‬ ‫ن آ َتيْ َتنَا صَالِحاً ّلنَكُونَ ّ‬
‫عوَا الّ َربّ ُهمَا َلئِ ْ‬
‫خفِيفًا َفمَ ّرتْ بِهِ َفَلمّا َأ ْثقَلَت دّ َ‬
‫حمْلً َ‬
‫حمََلتْ َ‬ ‫فََلمّا َتغَشّاهَا َ‬
‫عمّا يُشْ ِركُونَ ‪ - }} 190‬سورة العراف ‪.‬‬ ‫َلهُ شُ َركَاء فِيمَا آتَا ُهمَا َف َتعَالَى الّ َ‬

‫وآية النساء ‪ ،‬وهي السورة الثالثة والتسعون نزولً ‪ ..‬قوله تعالى ‪:‬‬
‫ل َكثِيرًا َونِسَاء ‪ - }} 1 ...‬سورة النساء ‪.‬‬
‫ث ِمنْ ُهمَا رِجَا ً‬
‫جهَا َوبَ ّ‬
‫ق مِ ْنهَا َزوْ َ‬
‫س وَاحِ َد ٍة وَخََل َ‬
‫خَل َقكُم مّن ّن ْف ٍ‬
‫س ا ّتقُواْ َرّبكُمُ الّذِي َ‬
‫{{ يَا َأيّهَا النّا ُ‬

‫واليتان تقرران وحدة الصل النساني ‪ ،‬إذ المخاطب ها هنا هو الناس ‪ ،‬كما هو نص الية الثانية ‪ ،‬وكما هو مفهوم الية الولى ‪ ،‬لن‬
‫الخطاب في القرآن لم يوجه مطلقاً إلى البشر ‪ ..‬بل إلى النسان ‪ ،‬وبديهي أن نعرف أننا جميعًا منتمون لدم ‪ ،‬كما قال رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ( :‬كلكم لدم ) ‪ ،‬أي ‪ :‬لدم وحواء ‪ ،‬باعتبارهما المصدر الوحيد الذي تناسلت منه كل الزريات النسانية ‪.‬‬

‫غير أن خلق زوج آدم من نفسه مشكل ‪ ،‬فهل حواء من ضلع آدم كما وردت بذلك آثار ؟ أو أن حواء خلقت مستقلً ‪ ،‬كما هو شأن آدم ؟‬
‫الحتمال الخير هو الراجح في نظرنا لمرين ‪:‬‬

‫‪ :‬أن كثيراً من العلماء اعتبروا مسألة الضلع مجرد رمز لطبيعة المرأة وفطرتها ‪.‬‬ ‫أولـهما‬

‫ثانيهما ‪ :‬أن خلق حواء من نفس آدم مؤول على أنها من نوعه وجنسه ‪ ،‬وقد جاء ذلك بالنسبة إلى كل زوج في قوله تعالى ‪ {{ :‬وَمِنْ‬
‫سكُنُوا ِإَليْهَا ‪ - }} 21 ...‬سورة الروم ‪.‬‬
‫سكُمْ أَ ْزوَاجًا ّلتَ ْ‬
‫آيَاتِهِ َأنْ خََلقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ‬

‫ومن المؤكد أن المقصود بآية العراف ليس آدم وزوجه ‪ ،‬لن اليات بعدها تتحدث عن أن الزوجين جعل ل شركاء فيما آتاهما من‬
‫الذرية ‪ ،‬ولم يكن هذا من آدم وزوجه ‪.‬‬

‫وتبقى آية النساء معبرة عن الصل النفسي الذي انبثقت منه كل النفوس ‪ ،‬وعلى الرغم من إختلف القوال في حقيقة هذه النفس ‪ ،‬فإننا‬
‫نميل إلى أنها هي سر ال في النسان ‪ ،‬وبها صار إنساناً ‪ ،‬دونما سواه ‪ ،‬فالخلق فيما انتهى إليه تأملنا في هذه المسألة يتم على مستويين ‪:‬‬

‫مادي من تراب ‪ ،‬وهو الخلق البشري الظاهر ‪.‬‬ ‫خلق‬

‫وخلق نفسي من روح ال ‪ ،‬وهو الخلق الباطن ‪ ،‬ونحن على يقين من أنه لول تلك النفخة اللهية لما كان ذلك المخلوق سوى دابة من‬
‫دواب الرض ‪.‬‬

‫فلماذا أغرق العلماء أنفسهم في البحث عن ماهية النفس ‪ ،‬دون أن يصلوا فيها إلى شيء ‪ ،‬مع أن الحقيقة واضحة بين أيديهم ‪ ،‬وهي في‬
‫غاية الوضوح بقدر ما هي في منتهى الغموض ؟!!‬

‫إنها غيب من غيب ال ‪ ،‬وسر من أسراره ‪ ،‬وهذا هو الوضوح الذي نقصده ‪ ،‬كالكهرباء ل تعرف حقيقتها إل بآثارها ‪ ،‬والعقل والروح‬
‫والنفس قوى أودعها ال كيان هذا النسان ‪ -‬ل تدرك حقائقها ‪ ،‬وإن استدل على وجودها بآثارها ‪ ،‬ومن آثارها أن تنبثق منها زوج الرجل‬
‫التي يسكن إليها ‪.‬‬

‫{{ الفصل السابع من الباب الول }}‬

‫البشر والنســـــان‬

‫إذا كان القرآن قد ذكر خلق ( البشر ) في أربع آيات ‪ ،‬فقد ذكر خلق ( النسان ) في خمس وثلثين آية ‪ ،‬هي على ترتيب النزول موزعة‬
‫بين المكي والمدني ‪ :‬فاليات المكية هي ‪:‬‬

‫‪ - 1‬في السورة الولى ‪:‬‬

‫ن مِنْ عََلقٍ ‪}} 2‬‬ ‫{{ اقْرَ ْأ بِاسْمِ َرّبكَ الّذِي خََلقَ ‪َ 1‬‬
‫خَلقَ الِْنسَا َ‬

‫سورة ‪ :‬العلق ‪.‬‬


‫********‬

‫‪ - 2‬وفي السورة السابعة ‪:‬‬

‫سوّى ‪}} 2‬‬ ‫سبّحِ اسْمَ َرّبكَ الَْعْلَى ‪ 1‬الّذِي َ‬


‫خَلقَ فَ َ‬ ‫{{ َ‬

‫سورة ‪ :‬العلى ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 3‬وفي السورة السابعة والعشرين ‪:‬‬

‫سفَلَ سَافِلِينَ ‪}} 5‬‬


‫ن َتقْوِيمٍ ‪ 4‬ثُمّ رَ َد ْدنَاهُ أَ ْ‬
‫سِ‬‫{{ َلقَدْ خََل ْقنَا الِْنسَانَ فِي أَحْ َ‬

‫سورة ‪ :‬التين ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 4‬وفي السورة الثلثين ‪:‬‬

‫جيْنِ ال ّذكَرَ‬
‫ل ِمنْهُ ال ّزوْ َ‬ ‫سوّى ‪ 38‬فَ َ‬
‫جعَ َ‬ ‫ي ُيمْنَى ‪ 37‬ثُ ّم كَانَ عََلقَةً فَ َ‬
‫خَلقَ فَ َ‬ ‫{{ َأيَحْسَبُ الِْنسَانُ أَن ُيتْ َركَ سُدًى ‪ 36‬أََل ْم َيكُ ُن ْ‬
‫طفَ ًة مّن مّنِ ّ‬
‫وَالُْنثَى ‪}} 39‬‬

‫سورة ‪ :‬القيامة ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 5‬وفي السورة الثانية والثلثين ‪:‬‬


‫جعَ ْلنَاهُ فِي قَرَا ٍر ّمكِينٍ ‪ 21‬إِلَى قَدَ ٍر ّمعْلُومٍ ‪َ 22‬فقَدَ ْرنَا َف ِنعْمَ ا ْلقَادِرُونَ ‪}} 23‬‬
‫{{ أََل ْم نَخْلُقكّم مّن مّاء مّهِينٍ ‪ 20‬فَ َ‬

‫سورة ‪ :‬المرسلت ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 6‬وفي السورة الثالثة والثلثين ‪:‬‬

‫حبْلِ ا ْلوَرِيدِ ‪}} 16‬‬


‫س بِ ِه َنفْسُ ُه َونَحْنُ أَقْ َربُ ِإَليْ ِه مِنْ َ‬
‫سوِ ُ‬
‫ن َونَعْلَ ُم مَا ُتوَ ْ‬
‫خَلقْنَا الِْنسَا َ‬
‫{{ وََلقَدْ َ‬

‫سورة ‪ :‬ق ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 7‬وفي السورة الخامسة والثلثين ‪:‬‬

‫ب وَالتّرَا ِئبِ ‪}} 7‬‬


‫خِلقَ مِن مّاء دَا ِفقٍ ‪ 6‬يَخْ ُرجُ مِن َبيْنِ الصّ ْل ِ‬
‫ن مِمّ خُِلقَ ‪ُ 5‬‬
‫{{ َف ْليَنظُرِ الِْنسَا ُ‬

‫سورة ‪ :‬الطارق ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 8‬وفي السورة الثامنة والثلثين ‪:‬‬

‫صوّ ْرنَاكُمْ ثُمّ قُ ْلنَا لِ ْلمَلئِكَةِ اسْجُدُواْ لدَمَ فَسَجَدُواْ ِإلّ ِإبْلِيسَ ‪}} 11 ...‬‬
‫خَلقْنَاكُ ْم ثُمّ َ‬
‫{{ وََلقَدْ َ‬

‫سورة ‪ :‬العراف ‪.‬‬


‫********‬

‫‪ - 9‬وفي السورة الربعين ‪:‬‬

‫طفَةٍ فَِإذَا ُهوَ خَصِي ٌم ّمبِينٌ ‪ 77‬وَضَ َربَ َلنَا َمثَلً َونَسِيَ خَ ْلقَهُ ‪}} 78 ...‬‬
‫{{ َأوَلَ ْم يَرَ الِْنسَانُ َأنّا خََل ْقنَاهُ مِن ّن ْ‬

‫سورة ‪ :‬يس ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 10‬وفي السورة الثانية والربعين ‪:‬‬

‫حمِلُ مِنْ أُنثَى َولَ تَضَعُ ِإلّ ِبعِ ْلمِهِ ‪}} 11 ...‬‬
‫جعََلكُمْ أَ ْزوَاجًا َومَا تَ ْ‬
‫ب ثُ ّم مِن ّنطْفَ ٍة ثُمّ َ‬
‫خَلقَكُم مّن تُرَا ٍ‬
‫{{ وَالُّ َ‬

‫سورة ‪ :‬فاطر ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 11‬وفي السورة الثالثة والربعين ‪:‬‬

‫ش ْيئًا ‪}} 67‬‬


‫{{ َأ َولَ يَ ْذكُرُ الِْنسَانُ َأنّا خََل ْقنَاهُ مِن َقبْلُ َولَ ْم َيكُ َ‬

‫سورة ‪ :‬مريم ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 12‬وفي السورة الرابعة والربعين ‪:‬‬


‫جكُمْ تَا َرةً أُخْرَى ‪}} 55‬‬
‫{{ مِ ْنهَا خََل ْقنَاكُ ْم وَفِيهَا ُنعِيدُكُ ْم َو ِمنْهَا نُخْرِ ُ‬

‫سورة ‪ :‬طه ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 13‬وفي نفس السورة ‪:‬‬

‫عهِ ْدنَا إِلَى آدَ َم مِن َقبْلُ َفنَسِيَ َولَ ْم نَجِدْ لَهُ عَ ْزمًا ‪}} 115‬‬
‫{{ وََلقَدْ َ‬

‫سورة ‪ :‬طه ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 14‬وفي السورة الخامسة والربعين ‪:‬‬

‫{{ أَفَ َرَأيْتُم مّا تُ ْمنُونَ ‪ 58‬أَأَنتُ ْم تَخُْلقُونَهُ أَ ْم نَحْنُ الْخَاِلقُونَ ‪}} 59‬‬

‫سورة ‪ :‬الواقعة ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 15‬وفي السورة التاسعة والربعين ‪:‬‬

‫ت طِينًا ‪}} 61‬‬


‫خَلقْ َ‬
‫{{ وَِإذْ قُ ْلنَا لِ ْلمَل ِئكَةِ اسْجُدُواْ لدَمَ فَسَجَدُواْ َإلّ ِإبْلِيسَ قَالَ َأأَسْجُدُ ِلمَنْ َ‬

‫سورة ‪ :‬السراء ‪.‬‬

‫********‬
‫‪ - 16‬وفي السورة الثالثة والخمسين ‪:‬‬

‫سنُونٍ ‪}} 26‬‬


‫حمَإٍ مّ ْ‬
‫ل مّنْ َ‬
‫صلْصَا ٍ‬
‫ن مِن َ‬
‫خَلقْنَا الِنسَا َ‬
‫{{ وََلقَدْ َ‬

‫سورة ‪ :‬الحجر ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 17‬وفي السورة الرابع والخمسين ‪:‬‬

‫ل مّسمّى عِن َد ُه ثُمّ أَنتُمْ َت ْمتَرُونَ ‪}} 2‬‬


‫جٌ‬‫ل وَأَ َ‬
‫ن ثُمّ َقضَى أَجَ ً‬
‫{{ ُهوَ الّذِي خََل َقكُم مّن طِي ٍ‬

‫سورة ‪ :‬النعام ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 18‬وفي السورة الخامسة والخمسين ‪:‬‬

‫ن لّزِبٍ ‪}} 11‬‬


‫خ ْلقًا أَم مّنْ خََل ْقنَا ِإنّا خََل ْقنَاهُم مّن طِي ٍ‬
‫ستَ ْفتِهِمْ أَهُمْ أَشَدّ َ‬
‫{{ فَا ْ‬

‫سورة ‪ :‬الصافات ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 19‬وفي السورة التاسعة والخمسين ‪:‬‬

‫طفْلً ثُمّ ِل َتبُْلغُوا أَشُ ّدكُمْ ‪}} 67 ...‬‬


‫جكُ ْم ِ‬
‫طفَ ٍة ثُمّ مِنْ عََلقَ ٍة ثُ ّم يُخْرِ ُ‬
‫ب ثُ ّم مِن ّن ْ‬
‫{{ ُهوَ الّذِي خََل َقكُم مّن تُرَا ٍ‬

‫سورة ‪ :‬غافر ‪.‬‬


‫********‬

‫‪ - 20‬وفي السورة الثامنة والستين ‪:‬‬

‫سوّاكَ رَجُلً ‪}} 37‬‬


‫طفَ ٍة ثُمّ َ‬
‫ب ثُمّ مِن ّن ْ‬
‫ك مِن تُرَا ٍ‬
‫حبُ ُه وَ ُه َو يُحَاوِ ُرهُ َأ َكفَ ْرتَ بِالّذِي خََل َق َ‬
‫{{ قَالَ َلهُ صَا ِ‬

‫سورة ‪ :‬الكهف ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 21‬وفي السورة التاسعة والستين ‪:‬‬

‫خصِيمٌ ّمبِينٌ ‪}} 4‬‬


‫ن مِن ّنطْفَةٍ فَإِذَا ُهوَ َ‬
‫{{ خََلقَ الِنسَا َ‬

‫سورة ‪ :‬النحل ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 22‬وفي السورة السبعين ‪:‬‬

‫طوَارًا ‪}} 14‬‬ ‫ل تَرْجُونَ لِّ وَقَارًا ‪ 13‬وَقَدْ َ‬


‫خَل َقكُمْ َأ ْ‬ ‫{{ مّا َلكُ ْم َ‬

‫سورة ‪ :‬نوح ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 23‬وفي نفس السورة ‪:‬‬


‫جكُمْ إِخْرَاجًا ‪}} 18‬‬
‫ض َنبَاتًا ‪ 17‬ثُ ّم ُيعِي ُدكُمْ فِيهَا َويُخْرِ ُ‬
‫{{ وَالُّ أَن َبتَكُم مّنَ الَْرْ ِ‬

‫سورة ‪ :‬نوح ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 24‬وفي السورة الثالثة والسبعين ‪:‬‬

‫طفَةَ عََلقَةً ‪}} 14 ...‬‬


‫طفَةً فِي قَرَا ٍر ّمكِينٍ ‪ 13‬ثُمّ خََل ْقنَا ال ّن ْ‬ ‫ن مِن سُلََل ٍة مّن طِينٍ ‪ 12‬ثُمّ َ‬
‫جعَ ْلنَاهُ ُن ْ‬ ‫خَلقْنَا الِْنسَا َ‬
‫{{ وََلقَدْ َ‬

‫سورة ‪ :‬المؤمنون ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 25‬وفي السورة الرابعة والسبعين ‪:‬‬

‫سوّا ُه َونَفَخَ فِي ِه مِن رّوحِهِ ‪9 ...‬‬


‫ل نَسْلَ ُه مِن سُلََل ٍة مّن مّاء ّمهِينٍ ‪ 8‬ثُمّ َ‬ ‫ن مِن طِينٍ ‪ 7‬ثُمّ َ‬
‫جعَ َ‬ ‫خَلقَ ُه َوبَدَأَ خَ ْلقَ الِْنسَا ِ‬
‫يءٍ َ‬
‫ن كُلّ شَ ْ‬
‫{{ الّذِي أَحْسَ َ‬
‫}}‬

‫سورة ‪ :‬السجدة ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 26‬وفي السورة الحادية والثمانين ‪:‬‬

‫سوّاكَ َفعَدََلكَ ‪ 7‬فِي َأيّ صُو َر ٍة مّا شَاء َر ّك َبكَ ‪}} 8‬‬
‫ك بِ َرّبكَ ا ْلكَرِيمِ ‪ 6‬الّذِي خََل َقكَ فَ َ‬
‫ن مَا غَ ّر َ‬
‫{{ يَا َأيّهَا الِْنسَا ُ‬

‫سورة ‪ :‬النفطار ‪.‬‬


‫********‬

‫‪ - 27‬وفي السورة الثالثة والثمانين ‪:‬‬

‫حيِيكُمْ ‪}} 40 ...‬‬


‫{{ الُّ الّذِي خََل َقكُ ْم ثُمّ رَزَ َقكُ ْم ثُ ّم ُيمِيتُكُ ْم ثُ ّم يُ ْ‬

‫سورة ‪ :‬الروم ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 28‬وفي نفس السورة ‪:‬‬

‫ضعْفٍ ُق ّوةً ‪}} 54 ...‬‬


‫ل مِن َبعْدِ َ‬
‫جعَ َ‬
‫ف ثُمّ َ‬
‫ضعْ ٍ‬
‫{{ الُّ الّذِي خََل َقكُم مّن َ‬

‫سورة ‪ :‬الروم ‪.‬‬

‫********‬

‫********‬

‫واليـــــات المدنية هي ‪:‬‬

‫‪ - 29‬في السورة السابعة والثمانين ‪:‬‬

‫علٌ فِي الَرْضِ خَلِيفَةً ‪}} 30 ...‬‬


‫ل ِئكَةِ ِإنّي جَا ِ‬
‫{{ وَِإذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَ َ‬

‫سورة ‪ :‬البقرة ‪.‬‬


‫********‬

‫‪ - 30‬وفي السورة الثالثة والتسعين ‪:‬‬

‫ل كَثِيرًا َونِسَاء ‪}} 1 ...‬‬


‫جهَا َو َبثّ ِم ْنهُمَا رِجَا ً‬
‫ق ِمنْهَا َزوْ َ‬
‫س ا ّتقُواْ َرّبكُمُ الّذِي خََل َقكُم مّن ّن ْفسٍ وَاحِ َد ٍة وَخََل َ‬
‫{{ يَا َأّيهَا النّا ُ‬

‫سورة ‪ :‬النساء ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 31‬وفي السورة الثامنة والتسعين ‪:‬‬

‫خَلقَ الِْنسَانَ ‪ 3‬عَّل َمهُ ا ْل َبيَانَ ‪}} 4‬‬


‫{{ َ‬

‫سورة ‪ :‬الرحمن ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 32‬وفي نفس السورة ‪:‬‬

‫ل كَا ْلفَخّارِ ‪}} 14‬‬


‫ن مِن صَلْصَا ٍ‬
‫خَلقَ الِْنسَا َ‬
‫{{ َ‬

‫سورة ‪ :‬الرحمن ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 33‬وفي السورة التاسعة والتسعين ‪:‬‬


‫سمِيعًا بَصِيرًا ‪}} 2‬‬
‫جعَ ْلنَاهُ َ‬
‫طفَةٍ َأمْشَاجٍ ّنبْتَلِيهِ فَ َ‬
‫ن مِن ّن ْ‬ ‫ش ْيئًا مّ ْذكُورًا ‪ِ 1‬إنّا َ‬
‫خَلقْنَا الِْنسَا َ‬ ‫ن مّنَ الدّهْرِ َل ْم يَكُن َ‬
‫{{ هَلْ َأتَى عَلَى الِْنسَانِ حِي ٌ‬

‫سورة ‪ :‬النسان ‪.‬‬

‫********‬

‫‪ - 34‬وفي السورة الخامسة بعد المائة ‪:‬‬

‫طفَ ٍة ثُ ّم مِنْ عََل َقةٍ ‪}} 5 ...‬‬


‫ب مّنَ ا ْل َب ْعثِ فَِإنّا خََل ْقنَاكُم مّن تُرَابٍ ثُ ّم مِن ّن ْ‬
‫{{ يَا َأيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي َر ْي ٍ‬

‫سورة ‪ :‬الحج ‪.‬‬

‫********‬

‫وفي السورة الثامنة بعد المائة ‪:‬‬

‫شعُوبًا وَ َقبَائِلَ ِلتَعَارَفُوا ‪}} 13 ...‬‬


‫{{ يَا َأّيهَا النّاسُ ِإنّا خََل ْقنَاكُم مّن َذكَ ٍر وَأُنثَى وَجَعَ ْلنَاكُمْ ُ‬

‫سورة ‪ :‬الحجرات ‪.‬‬

‫********‬

‫ويلحظ في نصوص هذه اليات أن ( خلق النسان ) جاء بلفظه في ستة عشر موضعاً ‪ ،‬وأن بقية المواضع ‪ -‬وهي تسعة عشر موضعاً‬
‫‪ -‬يدل السياق فيها على أن المراد بها هو ( النسان ) ‪ ،‬وليس ( البشر ) ‪ ،‬حيث اكتفى النص بالشارة دون العبارة ‪ ،‬أو جاء الخطاب‬
‫للناس ل للنسان ‪ ،‬أو كان النص على آدم ‪ ،‬وهو ‪ -‬فيما نرى ‪ -‬أول إنسان ‪ ،‬وكل ذلك جاء في سور ‪ ( :‬العلى ‪ ،‬والمراسلت ‪،‬‬
‫والعراف ‪ ،‬وفاطر ‪ ،‬وطه ‪ -‬في موضعين ‪ -‬وفي السراء ‪ ،‬والنعام ‪ ،‬والصافات ‪ ،‬وغافر ‪ ،‬والكهف ‪ ،‬ونوح ‪ -‬في موضعين ‪-‬‬
‫والروم ‪ ،‬والبقرة ‪ ،‬والحج ‪ ،‬والحجرات ‪ ،‬وانفردت الواقعة بدعوة الناس إلى التأمل فيما يفرزون من منيّ ) ‪.‬‬

‫ولسوف يتضح لنا فيما بعد ‪ -‬أن المراد في هذه المواضع هو ( النسان ) ‪ ،‬وليس البشر ‪ ،‬واليات الست عشرة تتحدث عن ( خلق‬
‫النسان ) تارة من علق ‪ ،‬وأخرى من نطفة ‪ ،‬أو من ( نطفة أمشاج ) ‪ ،‬وثالثة من ( طين ) ‪ ،‬أو من ( سللة من طين ) ‪ ،‬أو من‬
‫( صلصال من حمأ مسنون ) أو من ( صلصال كالفخار ) ‪ -‬هو من صلصال ‪ ،‬وليس فخار ‪ ،‬لن الفخار هو الطين المحروق ‪ ،‬وكأن‬
‫التشبيه يحتفظ في السياق بهذا الفرق في الدالة ‪.‬‬

‫ب مّنَ‬
‫وتأتي آية سورة الحج ( السورة الخامسة بعد المائة ) فتخاطب الناس نصاً وصراحة ‪ ،‬فتقول ‪ {{ :‬يَا َأيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي َر ْي ٍ‬
‫طفَةٍ ‪ }} ...‬إلى آخر الية وهي تجمع إشارتين إلى الصل الول ‪ ،‬وهو التراب ‪ ،‬وإلى الصل‬ ‫خَلقْنَاكُم مّن تُرَابٍ ثُ ّم مِن ّن ْ‬
‫ا ْل َب ْعثِ َفِإنّا َ‬
‫البديل ‪ ،‬وهو النطفة ‪.‬‬

‫و ( الناس ) ‪ :‬اسم جمع لبني آدم ‪ ،‬مفرده ( إنسان ) من غير لفظه ‪.‬‬
‫القرآن المــكي‬

‫فإذا تابعنا بناء السورة التي تأتي لبناتها في اليات المكية المتتابعة وجدنا الحديث عن البداية المرئية للنسان ‪ ،‬وهي ( العلق ) في‬
‫سوّى }} ‪ ،‬ثم تأتي لمحة عن المستوى الخلقي ‪ -‬في‬ ‫السورة الولى ‪ ،‬ثم تأتي إضافة في السورة السابعة ‪ ،‬تشير إلى {{ الّذِي خََلقَ فَ َ‬
‫سفَلَ سَا ِفلِينَ }} ‪ ،‬ثم استثنى من هؤلء السفلة‬
‫ن َتقْوِيمٍ }} ‪ ،‬ثم ارتد إلى {{ أَ ْ‬
‫السورة السابعة والعشرين ‪ -‬فهو قد خُلق أولً {{ فِي أَحْسَ ِ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ }} ‪ ،‬وهي رسالة موجهه إلى معارضي الدعوة والمكذبين بالدين من كفار قريش ‪.‬‬ ‫ن آ َمنُوا وَ َ‬
‫جماعة {{ الّذِي َ‬

‫ويعود الوحي إلى بيان آليات الخلق في السورة الثلثين ( القيامة ) ‪ :‬مني يفرز نطفة تتحول إلى علقة تحمل عناصر الذكورة والنوثة ‪،‬‬
‫بحسب تقدير ال وتحديده للنوع ‪ ،‬وتشير السورة الثانية والثلثون ( المرسلت ) إلى نفس المعنى ‪ ،‬لكنها تذكر المكان الذي تتم فيه عملية‬
‫الخلق ‪ ،‬وهو ( القرار المكين ) أو ( الرحم ) ‪.‬‬

‫ثم يأتي الحديث في السورة التالية مباشرة ‪ ،‬وهي الثالثة والثلثون ( ق ) ليؤكد حضور ال سبحانه وتعالى في وجود هذا النسان ‪ ،‬وهو‬
‫ملمح تربوي ‪ ،‬يستطرد بعده الوحي في السورة الخامسة والثلثين ( الطارق ) ليقرر أن هذا الخلق العظيم ‪ ( ،‬خلق النسان ) {{ خُِلقَ‬
‫ج مِن بَيْنِ الصّ ْلبِ وَالتّرَائِبِ ‪ - }} 7‬سورة الطارق ‪ ،‬والصلب ‪ :‬فقار الظهر ‪ ،‬وهي منبع الماء الدافق عند الرجل ‪،‬‬
‫مِن مّاء دَا ِفقٍ ‪ 6‬يَخْ ُر ُ‬
‫والترائب ‪ :‬جمع ‪ ..‬مفرده تريبة ‪ ،‬وهي عظام الصدر مما يلي الترقوتين ‪ ،‬وهي منبع ماء المرأة ‪ ،‬وهذه المعلومة كانت مجهولة‬
‫للنسان ‪ ،‬وبقيت مجهولة حتى منتصف القرن العشرين ‪ ،‬وقد تضمنها الوحي القرآني منذ أوائل هذا الوحي ‪ ،‬أي منذ ‪ :‬أكثر من أربعة‬
‫عشر قرناً ‪.‬‬

‫صوّ ْرنَاكُمْ }} ‪ ،‬وهما مرحلتان في‬


‫ثم تأتي السورة الثامنة والثلثون ( العراف ) لتتحدث عن الخًلْق والتصوير {{ وََلقَدْ خََل ْقنَاكُ ْم ثُمّ َ‬
‫عمر البشرية ‪ ،‬لعلهما استغرقتا بضعة مليين من السنين ‪ ،‬والتصوير هنا يقابل التسوية في مواضع أخرى ‪ ،‬ومع ملحظة استعمال‬
‫الداة ( ثم ) التي تفيد التراخي بين المرين ‪ ،‬وهو ماسنفرد له معالجة أخرى ‪.‬‬

‫وتنزل في السورة الربعين ( يس ) إشارة إلى مايسبق العلق ‪ ،‬وهو ( النطفة ) مرة أخرى ‪ ،‬ولكن يقرن ذلك بالعجب من أن ل يعرف‬
‫طفَةٍ فَِإذَا ُهوَ خَصِي ٌم ّمبِينٌ ‪ 77‬وَضَ َربَ َلنَا َمثَلً َونَسِيَ خَ ْلقَهُ‬
‫هذا المخلوق قدره في مواجهة خالقه ‪َ {{ ..‬أوَلَ ْم يَرَ الِْنسَانُ َأنّا خََل ْقنَاهُ مِن ّن ْ‬
‫علِيمٌ ‪ - }} 79‬سورة يس ‪.‬‬ ‫ل مَ ّر ٍة وَ ُهوَ ِبكُلّ خَ ْلقٍ َ‬ ‫حيِيهَا الّذِي أَنشَأَهَا َأوّ َ‬ ‫حيِي ا ْل ِعظَا َم وَهِيَ َرمِيمٌ ‪ 78‬قُ ْ‬
‫ل يُ ْ‬ ‫ن يُ ْ‬
‫ل مَ ْ‬
‫قَا َ‬

‫ويواصل الوحي تعريف النسان بأصله في السورة الثانية والربعين ( فاطر ) فيجمع لول مرة بين التراب والنطفة ‪ ،‬ويضيف آية من‬
‫آياته ‪ ،‬وهي خلق الزوج ليأتلف مع زوجه ‪ ،‬وهو يتابع بعلمه مايتم بين الزواج ‪ ،‬وما يترتب عليه من حمل ووضع ‪ ،‬كما يتابع العمار‬
‫‪ -‬طويلة وقصيرة ‪.‬‬

‫ثم يساعف التنزيل ذلك النسان فيخاطب عقله وذاكرته في السورة الثالثة والربعين ( مريم ) ويسأله عن مرحلة ما قبل وجوده ‪ ،‬إن كان‬
‫ش ْيئًا }} ‪ ،‬فالية ترد النسان إلى ما سبقه من عدم ‪ ،‬وهو‬
‫ل وََل ْم َيكُ َ‬
‫لديه شيء يذكره غير العدم ‪َ {{ :‬أ َولَ يَ ْذكُرُ الِْنسَانُ َأنّا خََل ْقنَاهُ مِن َقبْ ُ‬
‫أنصع برهان على أنه مُحْ َدثٌ بيد القدرة ‪ ،‬وهي إشارة تشبه إلى حد كبير ما استهلت به سورة ( النسان ) ‪ -‬التاسعة والتسعون ( المدنية )‬
‫‪.‬‬

‫ويلي سورة ( مريم ) في ترتيب النزول ( طه ) وهي السورة الرابعة والربعون ‪ ،‬وذلك في قوله تعالى {{ ِمنْهَا خََل ْقنَاكُ ْم وَفِيهَا نُعِي ُدكُمْ‬
‫جكُ ْم تَا َرةً أُخْرَى }} ‪ ،‬وكأنها تدل النسان الباحث عن مبدأ خلقه إلى نقطة البداية التي ليس وراءها شيء يذكره مهما حاول ‪.‬‬ ‫َومِ ْنهَا نُخْرِ ُ‬

‫فإذا نظر النسان إلى الرض ‪ -‬ومنها خلقه الول ‪ -‬أدركه ‪ -‬سؤال السورة الخامسة والربعين ( الواقعة ) ليقرب إليه صورة من الحقيقة‬
‫‪ {{ .‬أَفَ َرَأيْتُم مّا تُ ْمنُونَ }}؟؟ ‪.‬‬

‫فإذا نظر إلى الرض ليبحث عن أصله فليعلم أن جزءاً من هذه الرض قفز إلى صلب أبيه ‪ ،‬وترائب أمه ‪ ،‬فلقحت ‪ -‬فيهما ‪ -‬الرضُ‬
‫ل ُتبْصِرُونَ ‪- }} 21‬‬
‫سكُمْ أَفَ َ‬
‫الرضَ ‪ ،‬فكان ذلك المخلوق الباحث عن الحقيقة ‪ ،‬يحسبها بعيدة ‪ ،‬وهي بين يديه ‪ ،‬وفي إهابه {{ وَفِي أَنفُ ِ‬
‫الذاريات ‪.‬‬

‫النسان يخرج من البشر‬

‫حمٍَإ مّسْنُونٍ }} ‪،‬‬ ‫ل مّنْ َ‬ ‫وهنا يأتي النص الكريم في السورة الثالثة والخمسين ( الحجر ) ليرد النسان إلى أصل ( البشر ) ‪ {{ :‬صَ ْلصَا ٍ‬
‫حمَإٍ‬
‫ل مّنْ َ‬
‫صلْصَا ٍ‬ ‫ن مِن َ‬ ‫خَل ْقنَا الِنسَا َ‬
‫ولما كان السياق في السورة يذكر ( النسان ) في مقابل ( الجان ) في آيتي الحجر ‪ {{ :‬وََلقَدْ َ‬
‫مّسْنُونٍ }} ‪ ،‬فإن الحديث عن الصل الترابي يرتبط غالبًا ( بالبشر ) ‪ ،‬ولذلك يعود النص إلى الصل فيقول ‪ {{ :‬وَإِذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَلَ ِئكَةِ‬
‫ختُ فِي ِه مِن رّوحِي َف َقعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ ‪ - }} 29‬الحجر‪.‬‬ ‫سنُونٍ ‪َ 28‬فإِذَا َ‬
‫س ّويْتُ ُه َو َنفَ ْ‬ ‫حمَإٍ مّ ْ‬
‫ل مّنْ َ‬
‫صلْصَا ٍ‬
‫ق بَشَرًا مّن َ‬
‫ِإنّي خَاِل ٌ‬
‫والربط بين ( النسان ) و ( الصلصال ) سياق تتولى تفسيره اليات التالية التي تحدد المراد بالنسان ‪ ،‬وهو ( البشر ) ‪.‬‬

‫سوْق الحقيقة هنا ‪ ،‬فهو يذكر ( النسان ) هكذا معرفًا ‪ ،‬باعتباره الموضوع الساسي المقصود‬
‫وينبغي أن نلحظ أسلوب القرآن في َ‬
‫بالذكر ‪ ،‬والمخاطب باليات ‪ ،‬وهو في مقابل ( الجان ) المشارك للنسان في التكليف والمسئولية على هذه الرض ‪.‬‬

‫فإذا شرع في بيان حقيقة الخلق منذ البداية ‪ ،‬ذكر أن هذه البداية كانت في صورة ( بشر ) ‪ ..‬هكذا مُنكّرًا ‪ ..‬باعتباره النموذج الذي‬
‫أجريت عليه عمليات التسوية ‪ ،‬والتصوير ‪ ،‬والنفخ من روح ال ( أو التذويد بالملكات العليا التي كان بها البشر إنساناً ‪ -‬وهي العقل ‪،‬‬
‫واللغة ‪ ،‬والدين ) ‪.‬‬

‫فقبل التسوية لم يكن المخلوق البشري إنسانًا ‪ ..‬بل كان بداية خلق إنسان في حيز القوة ‪ ،‬قبل أن يكون إنساناً في حيز الفعل ‪.‬‬

‫لم يكن أحد من الجن أو الملئكة يعلم شيئاً عن سر ذلك المخلوق البشري ‪ ،‬أو عما سيؤول إليه أمره ‪ ،‬فذلك كله كان غيباً في علم ال‬
‫وحده ‪ ،‬وهو من إختصاص قدرته التي تابعت تنفيذ المخطط ‪ ،‬وتحقيق التسويات المطلوبة عبر الجيال ‪ ،‬كما زودته تلك القدرة العظمى‬
‫بعوامل التألق حتى صار البشر الغشيم ( إنساناً ) صالحًا للتكليف ‪ ،‬وحمل المانة اللهية ‪.‬‬

‫وكل ذلك الفرق الهائل بين البشر والنسان يشي به الستعمال القرآني ‪ ،‬وهو فرق ما بين التعريف والتنكير في هاتين اليتين من سورة‬
‫الحجر ‪.‬‬

‫خَل َقكُم مّن‬


‫ويرد هذا المعنى إجمالً للتذكير في سورة ( النعام ) التي جاءت بعد الحجر مباشرة وهي الرابعة والخمسون ‪ُ {{ :‬هوَ الّذِي َ‬
‫ل مّسمّى عِن َدهُ }} ‪ ..،‬فهو ( طين لزب ) ‪ ،‬كما في السورة التالية مباشرة ( الصافات ) ‪ ،‬غير أن بقية آية النعام‬ ‫ن ثُمّ قَضَى أَجَلً َوأَجَ ٌ‬
‫طِي ٍ‬
‫ل مّسمّى عِن َدهُ }} ‪ ،‬وقد كان تحديد المقصود بالجلين موضع‬ ‫ل وَأَجَ ٌ‬
‫تتحدث كما رأينا عن ( أجلين ) في قوله تعالى ‪ {{ :‬ثُمّ قَضَى أَجَ ً‬
‫اجتهاد المفسرين ‪ ،‬فحصروه في ثلث احتمالت ‪:‬‬

‫فإما أن يكون الجل الول ‪ :‬أجل الموت ‪ ،‬والخر ‪ :‬القيامة ‪..‬‬

‫وإما أن يكون الول ‪ :‬ما بين أن يخلق إلى أن يموت ‪ ،‬والثاني ‪ :‬ما بين الموت إلى البعث ( وهو البرزخ ) ‪.‬‬

‫وقيل الول ‪ :‬النوم ‪ ،‬والثاني ‪ :‬الموت ( الكشاف ‪. ) 4 / 2‬‬

‫وذكر تفسير المنار ( ‪ ) 248 / 7‬أن الجل الثاني هو أجل حياة مجموع الناس الذي ينقضب بقيام الساعة ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الجل الخاص بكل‬
‫فرد ‪ ،‬والجل العام وهو عمر الدنيا ‪.‬‬

‫ونحسب أن هناك احتمالً غاب عن هذه التقديرات ‪ ،‬وهو أن الجل الول ( النكرة ) هو أجل الحياة البشرية السابقة على العهد‬
‫النساني ‪ ،‬وأما الجل المسمى ‪ ،‬فهو أجل كل فرد من المكلفين ‪ ،‬فالول مجمل يندمج فيه الكل في واحد ‪ ،‬والثاني مفصل لكل فرد ‪،‬‬
‫لتعلقه بالمسئولية والحساب والمصير ‪ ،‬ول مانع في نظرنا من إرادة ذلك في الية ‪.‬‬

‫طفَ ٍة ثُمّ‬
‫ثم تأتي السورة التاسعة والخمسون ( غافر ) فتربط لول مرة بين التراب والنطفة والعلقة ‪ُ {{ :‬هوَ الّذِي خََل َقكُم مّن تُرَابٍ ثُ ّم مِن ّن ْ‬
‫طفْلً }} ‪ ،‬وهنا يذكر المرحلتين ‪ :‬مرحلة الخلق من تراب ‪ ،‬ومرحلة الخلق من نطفة ‪ ،‬وهما مرحلتان منفصلتان‬ ‫مِنْ عََل َق ٍة ثُ ّم يُخْرِجُكُ ْم ِ‬
‫في الظاهر ‪ ،‬وقد ربط القرآن بينهما بحرف التراخي ( ثم ) للتعبير عن المسافة الزمنية بينهما ‪.‬‬

‫ويلحظ أن هذا الموضوع لم يرد له ذكر في القرآن بعد سورة غافر ‪ ،‬إل بعد عشر سور ‪ ..‬أي ‪ :‬حتى نزلت سورة ( النحل ) بإشارتها‬
‫خصِي ٌم مّبِينٌ }} ‪ ،‬وهي السورة التاسعة والستون ‪ ،‬ثم تنزل السورة الحادية والسبعون ‪،‬‬ ‫طفَةٍ فَإِذَا ُهوَ َ‬
‫ن مِن ّن ْ‬
‫المقتضبة ‪ {{ :‬خََلقَ الِنسَا َ‬
‫سورة ( نوح ) وفيها إشارة ذات دللة تاريخية ومادية معاً ‪ ،‬هي قوله تعالى ‪ {{ :‬وَ َقدْ خََل َقكُمْ َأ ْطوَارًا }} ‪ ،‬فمن الناحية التاريخية‬
‫‪ ، :‬قد يراد بالطوار المراحل الزمنية المتطاولة التي مر بها خلق البشر ‪ ،‬وتقلبهم في أطوار التسوية والتصوير والنفخة من روح ال ‪:‬‬
‫سمْ َع وَالَْبْصـ َر وَالَْ ْفئِ َدةَ }} ‪ ،‬ومن الناحية المادية ‪ ، :‬قد يراد بالطوار ما جاء بعد ذلك مباشرة من حديث‬
‫جعَلَ َلكُمُ ال ّ‬ ‫{{ وَ َ‬
‫القرآن عن الجنين وأطواره في ( القرار المكين ) وهو رحم الم ‪ ،‬فحديث سورة ( المؤمنون ) هو بمثابة الجابة عن سؤال نَجَمَ عن ذكر‬
‫الطوار في سورة نوح ‪ ..‬ماهي هذه الطوار ؟؟ ‪ ..‬فجاء الرد في السورة الثالثة والسبعين ( المؤمنون ) ‪ ،‬وذلك في قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن مِن سُلَلَ ٍة مّن طِينٍ }} ‪ ،‬وكأن الية تدفع عن العقل احتمال إدماج العمليتين في عملية واحدة ‪ ،‬فالنسان خلق من‬‫{{ وََلقَدْ خََل ْقنَا الِْنسَا َ‬
‫( سللة ) نسلت من ( طين ) ‪ ،‬أي ‪ :‬إنه لم يخلق مباشرة من الطين ‪ ،‬فأما ابن الطين مباشرة فهو ( أول البشر ) ‪ ،‬وكان ذلك منذ مليين‬
‫السنين ‪.‬‬

‫وهذا المعنى هو الذي عبرت عنه السورة الخامسة والسبعون ( السجدة ) وهي إضافة مهمة للرد على السؤال المثار عن المقصود بــ‬
‫ن مِن طِينٍ ‪ 7‬ثُمّ‬
‫خ ْلقَ الِْنسَا ِ‬
‫يءٍ خََلقَ ُه َوبَدَأَ َ‬
‫ن كُلّ شَ ْ‬
‫( الطوار ) في السورة الرابعة والسبعين ‪ ..‬يقول ال سبحانه وتعالى ‪ {{ :‬الّذِي أَحْسَ َ‬
‫سوّاهُ َو َنفَخَ فِي ِه مِن رّوحِهِ ‪ - }} 9 ...‬السجدة ‪.‬‬
‫ل نَسْلَ ُه مِن سُلََل ٍة مّن مّاء ّمهِينٍ ‪ 8‬ثُمّ َ‬
‫جعَ َ‬
‫َ‬

‫ن }} ‪ ،‬ثم كانت التسوية‬


‫فخلق النسان ( بدأ من طين ) ‪ ،‬أي ‪ :‬عند البداية البشرية ‪ ،‬ثم استخرج ال منه نسلً {{ مِن سُلََل ٍة مّن مّاء ّمهِي ٍ‬
‫ونفخ الروح ‪ ،‬فكان ( النسان ) هو الثمرة في نهاية المطاف ‪ ..‬عبر تلكم الطوار التاريخية السحيقة العتيقة ‪.‬‬
‫سمْ َع وَالَْبْصـرَ‬
‫جعَلَ َلكُمُ ال ّ‬
‫ح ِه وَ َ‬
‫سوّا ُه وَ َنفَخَ فِي ِه مِن رّو ِ‬
‫وحسبنا أن نلحظ هنا ما يشير إلى بعض مراحل التسوية في قوله تعالى ‪ {{ :‬ثُمّ َ‬
‫جعْلُ خلل مراحل التسوية ‪ ،‬وهو مايفترض أن ( البشر ) كان في المراحل الولى بل سمع‬ ‫وَالَْ ْفئِ َدةَ ‪ - }} 9 ..‬السجدة ‪ ، .‬فقد تم هذا ال َ‬
‫ول بصر ول فؤاد ( عقل ) ‪ ،‬تمامًا كما هو حال المولود ‪ ،‬حين يخرج من بطن أمه ‪ ..‬ل يسمع ول يبصر ول يعقل ‪ ..‬لنعدام الحاجة إلى‬
‫هذه الدوات في المرحلة الولى من الوجود ‪ ،‬فكل ما يحتاجه الوليد هو أن تكون له شفتان ‪ ،‬يمتص بهما غذاءه من ثدي أمه ‪ ،‬وبعد فترة‬
‫جكُم مّن‬
‫‪ -‬وبالتدريج ‪ -‬يبدأ في استخدام عينيه وأذنيه وعقله في التعامل مع ما حوله من عناصر الحياة ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪ {{ :‬وَالّ أَخْرَ َ‬
‫لبْصَا َر وَالَ ْفئِ َدةَ َلعَّلكُ ْم تَشْكُرُونَ ‪ - }} 78‬النحل ‪.‬‬
‫سمْعَ وَا َ‬
‫جعَلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫ش ْيئًا وَ َ‬
‫ل َتعْلَمُونَ َ‬
‫ُبطُونِ ُأمّهَا ِتكُمْ َ‬

‫ل أو كالطفال ‪ ..‬بل أسماع ول أبصار ول عقول ‪ ،‬ثم جعل لهم هذه الدوات في مراحل التسوية المتطاولة ‪،‬‬ ‫لقد خلق ال البشر أطفا ً‬
‫حين شاءت القدرة أن تذود هذا المخلوق البشري بما يحتاج إليه من أدوات الكمال ‪.‬‬

‫بيد أن الحديث في السورة الرابعة والسبعون ( المؤمنون ) لم يقتصر على الشارة التاريخية السابقة ‪ ..‬بل قدم وصفاً ومتابعة لطوار‬
‫جعَ ْلنَا ُه ُنطْفَةً فِي قَرَا ٍر مّكِينٍ ‪ 13‬ثُمّ خََل ْقنَا ال ّن ْ‬
‫طفَةَ عََل َقةً‬ ‫تكوين الجنين ‪ ،‬وهو إضافة لم تسبق في أي سياق مكي ‪ ،‬فقال سبحانه ‪ {{ :‬ثُمّ َ‬
‫سنُ الْخَاِلقِينَ ‪ - }} 14‬المؤمنون ‪.‬‬ ‫حمًا ثُمّ أَنشَ ْأنَاهُ خَ ْلقًا آخَرَ َف َتبَا َركَ الُّ أَحْ َ‬
‫عظَامًا َفكَسَ ْونَا ا ْل ِعظَامَ لَ ْ‬
‫ضغَةَ ِ‬
‫ضغَةً فَخََل ْقنَا ا ْلمُ ْ‬
‫فَخََل ْقنَا ا ْلعََل َق َة مُ ْ‬

‫لقد مر النص الكريم بالمراحل المختلفة التي تبدأ بالنطفة ‪ ،‬وتنتهي بالنسان ‪ ،‬في هذا اليجاز المحكم الذي يتضمن حقائق الطوار في‬
‫عبَرَ البشر كل الطوار ‪ ،‬فصار خلقاً آخر ‪ ( :‬إنساناً ) {{ َفتَبَا َركَ الُّ أَحْسَنُ الْخَاِلقِينَ }} ‪.‬‬
‫ذلك القرار المكين ‪ ..‬رحم المرأة ‪ ،‬وهكذا َ‬

‫وقد نلحظ هنا أن نص ( السجدة ) يتلقى مع هذا النص ‪ ،‬مع فارق الجمال والتفصيل ‪ ،‬ومع انفراد سورة ( المؤمنون ) بمراحل‬
‫التكوين الجنيني ‪ ،‬وانفراد سورة ( السجدة ) بمراحل التكوين الطيني ‪.‬‬

‫ك بِرَ ّبكَ ا ْلكَرِيمِ ‪6‬‬


‫ن مَا غَ ّر َ‬
‫ويبقى من الوحي المكي ماورد في السورة الثانية والثمانون ( النفطار ) من قوله تعالى ‪ {{ :‬يَا َأّيهَا الِْنسَا ُ‬
‫سوّاكَ َفعَدََلكَ ‪ 7‬فِي َأيّ صُو َر ٍة مّا شَاء َر ّك َبكَ ‪ - }} 8‬النفطار ‪.‬‬
‫الّذِي خََل َقكَ فَ َ‬

‫ضعْفٍ ُق ّوةً ثُمّ‬


‫ل مِن بَعْدِ َ‬ ‫جعَ َ‬
‫ف ثُمّ َ‬
‫ضعْ ٍ‬
‫وأيضاً ما ورد في السورة الرابعة والثمانين ( الروم ) من قوله تعالى ‪ {{ :‬الُّ الّذِي خََل َقكُم مّن َ‬
‫ق مَا يَشَاء وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ ‪ - }} 54‬الروم ‪ ، .‬وهما تنزيلن وردا في مقام التذكير بقدرة ال ‪،‬‬ ‫ض ْعفًا وَشَ ْيبَ ًة يَخُْل ُ‬
‫ل مِن بَعْدِ ُق ّوةٍ َ‬ ‫جعَ َ‬
‫َ‬
‫وهيمنته على النسان ‪ ،‬ومشيئته المطلقة ‪ {{ ..‬فِي أَيّ صُو َرةٍ مّا شَاء َركّ َبكَ}} ‪ ( ،‬يخلق ما يشاء ) ‪ ،‬وتنفرد الية الولى بمفهوم قوله ‪:‬‬
‫ك }} ‪ ،‬وهو معنى خاص باختياره الصورة التي يظهر بها النسان على الرض ‪ ،‬بين سائر الصور ‪ ،‬وتنفرد الية الثانية بذكر‬ ‫{{ َفعَدََل َ‬
‫الضعف والقوة ‪ ،‬وضابطهما من المشيئة اللهية ‪ ،‬فل ضعف إل بمشيئته ‪ ،‬ول قوة إل باختياره وإرادته {{ وَ ُهوَ ا ْلعَلِيمُ ا ْلقَدِيرُ }}‪.‬‬

‫وبذلك ينتهي الحديث المكي عن خلق النسان ‪.‬‬

‫القرآن المـــدني‬

‫ثم تأتي المرحلة المدنية ‪ ،‬وتبدأ بالسورة السابعة والثمانين ( البقرة ) ‪ ،‬فتذكر مرحلة أخرى من مراحل الملحمة الخالدة ‪ ،‬دون أن تذكر‬
‫( البشر أو النسان ) ‪ ..‬بل هي تركز على ( آدم ) الذي يهيأ لوظيفة ( الخلفة ) ( البقرة ‪ 30 :‬وما بعدها ) وهو من أجل ذلك يعلم من‬
‫اللغة ما لم تعلمه الملئكة ‪ ،‬وسيأتي في ذلك حديث ‪.‬‬
‫وفي السورة الثامنة والتسعين ( الرحمن ) إشارتان ‪..‬‬

‫‪ ، :‬إلى علقة النسان باللغة في مستواها البياني ‪ {{ :‬خََلقَ الِْنسَانَ ‪ 3‬عَّلمَهُ ا ْلبَيَانَ ‪ - }} 4‬الرحمن ‪.‬‬ ‫أولهما‬

‫سنُونٍ }} ‪،‬‬
‫حمٍَإ مّ ْ‬
‫ل مّنْ َ‬ ‫وثانيهما ‪ ، :‬مذيد من التعريف بالصلصال الذي ذكر في السورة المكية ( الحجر ) على أنه ‪َ {{ :‬‬
‫صلْصَا ٍ‬
‫ن نّار }} ‪ ،‬كما سبق أن قابل ( الحمأ‬ ‫ل كَا ْلفَخّارِ }} ‪ ،‬وذلك في مقابل أن الجان خلقوا {{ مِن مّا ِرجٍ مِ ّ‬
‫فتصفه بأنه ‪ {{ :‬صَلْصَا ٍ‬
‫المسنون ) بــ ( نار السموم ) في سورة الحجر أيضاً ‪ ،‬وللتكرار هنا قائدة هي مذيد من التعريف بطبيعة المادة التي هي أصل الخلق ‪،‬‬
‫وهي ( الطين اللزب ) كما جاء في سورة الصافات ‪.‬‬

‫علَى‬
‫وتبقى في المرحلة المدنية إشارة سورة ( النسان ) ‪ ،‬وهي السورة التاسعة والتسعون ‪ ،‬وقد جاءت في قوله تعالى ‪َ {{ :‬هلْ َأتَى َ‬
‫سمِيعًا بَصِيرًا ‪ - }} 2‬النسان ‪.‬‬
‫جعَ ْلنَاهُ َ‬
‫طفَةٍ َأمْشَاجٍ ّنبْتَلِيهِ فَ َ‬
‫ن مِن ّن ْ‬ ‫شيْئًا مّ ْذكُورًا ‪ِ 1‬إنّا َ‬
‫خَلقْنَا الِْنسَا َ‬ ‫ن مّنَ الدّهْرِ لَ ْم َيكُن َ‬
‫الِْنسَانِ حِي ٌ‬

‫وهو كما نرى ‪ ،‬نص يضيف وصفًا تحليلياً للنطفة ‪ ،‬فالمشاج تطلق على الخليا الذكرية ‪ ،‬كالحيوان المنوي ‪ ،‬وتطلق على الخليا‬
‫النثوية ‪ ،‬كالبيضة أو البويضة ‪ ،‬قبل أن تندمجا لتكوين اللقحة ( وهي البويضة الملقحة ) التي تكّون الجنين ( المعجم الوسيط ‪:‬‬
‫مشج ) ‪ ،‬والنسان خليط من هذه الخليا ‪ ،‬أو المشاج ‪ ،‬وهي حقيقة لم تذكر من قبل في أي سياق ‪ ،‬إل ما جاء إشارة عامة عن ( الماء‬
‫المهين ) ‪ ،‬و ( الماء الدافق ) من الصلب والترائب ‪.‬‬
‫وأخيرًا تأتي السورة الخامسة بعد المائة ‪ ( :‬الحج ) ‪ -‬لتقدم التقرير النهائي عن قصة الخلق في قوله تعالى ‪ {{ :‬يَا َأّيهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي‬
‫غيْ ِر مُخَّلقَةٍ ّلنُ َبيّنَ َلكُ ْم َونُقِرّ فِي الَْرْحَا ِم مَا نَشَاء إِلَى‬
‫ضغَ ٍة مّخَّلقَ ٍة وَ َ‬
‫ب ثُ ّم مِن ّنطْفَ ٍة ثُ ّم مِنْ عََلقَ ٍة ثُ ّم مِن مّ ْ‬‫َر ْيبٍ مّنَ ا ْلبَ ْعثِ فَِإنّا خََل ْقنَاكُم مّن تُرَا ٍ‬
‫ش ْيئًا َوتَرَى‬
‫طفْلً ثُمّ ِلتَبُْلغُوا أَشُ ّدكُ ْم َومِنكُم مّن ُيتَوَفّى َومِنكُم مّن يُرَدّ ِإلَى أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ ِل َكيْلَ َيعْلَ َم مِن بَعْدِ عِلْمٍ َ‬ ‫جكُ ْم ِ‬ ‫سمّى ثُمّ نُخْرِ ُ‬ ‫ل مّ َ‬
‫أَجَ ٍ‬
‫ت مِن كُلّ َز ْوجٍ َبهِيجٍ ‪ - }} 5‬الحج ‪.‬‬ ‫الَْرْضَ هَامِ َدةً فَإِذَا أَنزَ ْلنَا عََل ْيهَا ا ْلمَاء ا ْهتَ ّزتْ وَ َر َبتْ وَأَن َبتَ ْ‬

‫‪ ،‬وهي آية تتضمن تفاصيل مهمة ‪ ،‬وبخاصة فيما يتعلق بالمضغة ‪ ،‬فليست كل مضغة تتحول جنينًا ‪ ..‬بل قد تكون مخلقة ‪ ،‬وقد تكون‬
‫غير مخلقة ‪ ،‬وكذلك فيما يتعلق بحياة النسان ‪ :‬طفلً ‪ ،‬فبالغًا ‪ ،‬وقد يحين موته أجََلئِذٍ ‪ ،‬وقد تمتد به الحياة إلى أرذل العمر ‪ ،‬وهي حقائق‬
‫سبق اليماء إليها في سورة ( غافر ‪ ، ) 61 :‬ولكنها جاءت هنا في خاتمة التقرير عن إمكان البعث ‪ ،‬ودفع الريب فيه من العقول‬
‫والقلوب ‪ ،‬وتلكم هي الغاية التي سيقت من أجلها كل هذه النصوص عن ( خلق البشر ‪ -‬النسان ) ‪:‬‬

‫لّ َيبْ َعثُ مَن فِي ا ْل ُقبُورِ ‪}} 7‬‬


‫يءٍ قَدِيرٌ ‪ 6‬وََأنّ السّاعَ َة آ ِتيَ ٌة لّ َر ْيبَ فِيهَا وَأَنّ ا َ‬
‫حيِي ا ْل َم ْوتَى وََأنّهُ عَلَى كُلّ شَ ْ‬
‫ق وََأنّ ُه يُ ْ‬
‫حّ‬‫ك بِأَنّ الَّ ُهوَ الْ َ‬
‫{{ ذَِل َ‬
‫‪ -‬الحج ‪.‬‬

‫وأخيرًا ‪ ،‬يختم الوحي حديثه بخطاب عام موجه إلى ( النسانية ) جمعاء ‪ ،‬من كل اللوان ‪ ،‬والجناس ‪ ،‬والصقاع ‪ ،‬تحقيقاً لعموم‬
‫الرسالة ‪ ،‬وتأكيداً لمبدأ المساواة المطلقة بين جميع الناس ‪ ،‬وإعلناً للقاعدة اللهية التي سيتم على أساسها محاسبة الخلئق ‪ ..‬يوم الموقف‬
‫خَل ْقنَاكُم مّن َذكَ ٍر وَأُنثَى‬
‫العظيم ‪ ..‬جاء ذلك في سورة الحجرات ‪ ،‬وهي السورة الثامنة بعد المائة ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ {{ :‬يَا َأّيهَا النّاسُ ِإنّا َ‬
‫خبِيرٌ ‪ - }} 13‬الحجرات ‪.‬‬ ‫شعُوبًا وَ َقبَائِلَ ِلتَعَارَفُوا إِنّ َأكْ َر َمكُمْ عِندَ الِّ َأ ْتقَاكُمْ ِإنّ الَّ عَلِيمٌ َ‬
‫جعَلْنَاكُمْ ُ‬
‫وَ َ‬

‫إن هذا البيان اللهي نداء إلى جميع ( الناس ) يذكرهم بوحدة الصل ‪ ،‬فهم جميعاً قد نسلوا من ذكر وأنثى ‪ ،‬هما آدم وزوجه حواء ‪،‬‬
‫باعتبارهما أول من تألقت فيه صفات ( النسان ) من سللت البشر ‪ ،‬ول إلتفات إلى ماسبقهما من السللت والجيال ‪ ،‬فهما في الواقع‬
‫المنبع الذي تدفقت منه جماعات ( الناس ) على هذه الرض ‪ ،‬من بني آدم ‪ ..‬أي ‪ :‬من ظهره ‪ ،‬وقد جعلهم ال شعوبًا وقبائل ‪ ،‬فهم أصل‬
‫واحد ‪ ،‬ووجود متنوع ‪ ،‬وعليهم ‪ -‬وقد أدركوا هذه الحقيقة ‪ -‬أن يتعارفوا بحكم ما بينهم من قرابة ‪ ،‬فل فضل لحد منهم على غيره من‬
‫شركائه في الصل بأي اعتبار مادي ‪ ،‬وإنما يتفاضلون عند ال بالتزامهم لوامره ‪ ،‬واجتنابهم لمحارمه ‪ ،‬وطاعتهم المطلقة له ‪،‬‬
‫المعصية ‪ ،‬التي حرّمت على أبويهم في الجنة ‪ ،‬وهي‬ ‫وبعبارة أوضح ‪ ، :‬بأل يأكلوا من الشجرة التي حرمها عليهم ‪ ،‬شجرة‬
‫محرمة عليهم إلى أن يرث ال الرض ومن عليها ‪.‬‬

‫الـطريـــق إلى الجـــنة‬

‫ملحظات على العلقة بين البشر والنسان ‪:‬‬


‫حقيقة ل ريب فيها ‪ ،‬هي أن بين ( البشر والنسان ) عموماً وخصوصًا مطلقاً ‪ ،‬فــ ( البشر ) لفظ عام في كل مخلوق ظهر على سطح‬
‫الرض ‪ ،‬يسير على قدمين ‪ ،‬منتصب القامة ‪ ،‬و ( النسان ) لفظ خاص بكل من كان من البشر مكلفًا بمعرفة ال وعبادته ‪ ،‬فكل إنسان‬
‫بشر ‪ ،‬وليس كل بشر إنسان ‪.‬‬
‫والمقصود هو طبعًا المعنى الول الذي استعملت فيه الكلمة ( بشر ) في آيات القرآن ‪ ،‬وهو الظاهر أو المتحرك مع حسن وجمال ‪.‬‬

‫وقد جاءت في القرآن كلمة أعمّ من ‪ :‬البشر والنسان ‪ ،‬وهي كلمة ( النام ) ‪ ،‬وتعني كل مخلوق على ظهر الرض ‪ ،‬عاقلً أو غير‬
‫لْنَامِ ‪ - }} 10‬سورة الرحمن ‪ : .‬الجن‬
‫ض َعهَا لِ َ‬
‫ض وَ َ‬
‫عاقل ‪ ،‬وإن كان المفسرون يرون أن الكلمة تعني في قوله تعالى {{ وَالَْرْ َ‬
‫والنس ‪ ،‬وهما الثقلن المخاطبان ‪ ،‬كما هو وارد في هذه السورة المدنية ‪.‬‬

‫وجاء أيضاً في سورة ( البينة ) ‪ ،‬وهي سورة مدنية ‪ ،‬وهي السورة الحادية بعد المائة نزولً ‪ -‬إطلق لفظة ( البرية ) على ( الخلق ) ‪،‬‬
‫والجمع ‪ :‬برايا ‪ ،‬قال ال سبحانه وتعالى في وصف الكافرين والمشركين ‪ُ {{ :‬أوَْل ِئكَ ُهمْ شَرّ ا ْلبَ ِريّةِ ‪ - }} 6‬البينة ‪ ، .‬وقال في وصف‬
‫خيْرُ ا ْلبَرِيّةِ ‪ - }} 7‬البينة ‪.‬‬
‫المؤمنين ‪ُ {{ :‬أ ْوَل ِئكَ هُمْ َ‬

‫ونستطيع أن نقرر مع علماء النسان ( النثروبولوجيين ) أن الرض عرفت هذا الخلق الذي ظهر على سطحها منذ مليين السنين ‪،‬‬
‫تختلف في تقديرات العلم باختلف عمر الحافير ( الحفريات ) ‪ ،‬ونتائج التحليلت العلمية ‪ .‬وقد أطلق العلماء على هذا المخلوق خطأ أو‬
‫تجاوزاً لقب ‪ ( :‬إنسان ) ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إنسان بكين ‪ ،‬أو إنسان جاوة ‪ ،‬أو إنسان كينيا ‪ ،‬أو ما سوى ذلك من الطلقات التي تعني مراحل‬
‫تكوين ( البشر ) بإطلق القرآن ‪ ،‬واستخدام كلمة ( إنسان ) في وصف هؤلء ليس إل على سبيل التوسيع ‪ ،‬كما استخدمت كلمة ( بشر )‬
‫للدللة على معنى ( النسان ) توسعاً أيضاً ‪ ،‬وإل فاللفظ الدقيق بلغة القرآن ‪ ،‬والذي ينبغي أن يستخدم في تسمية تلك المخلوقات العتيقة‬
‫التي تدل عليها الحافير ‪ -‬هو ( البشر ) ‪ ،‬فواجب أن يقال ‪ :‬بشر بكين ‪ ،‬وبشر جاوة ‪ ،‬وبشر كينيا ‪ ،‬وبشر النياندارتال ‪ ..‬ألخ ‪.‬‬

‫أما ( النسان ) فل يطلق بمفهوم القرآن إل على ذلك المخلوق المكلف بالتوحيد والعبادة ل غير ‪ ،‬وهو الذي يبدأ بوجود آدم عليه السلم ‪،‬‬
‫وآدم ‪ -‬على هذا ‪ -‬هو ( أبو النسان ) ‪ ،‬وليس ( أبو البشر ) ‪ ،‬ول علقة بين آدم والبشر الذين بادوا قبله ‪ ،‬تمهيداً لظهور ذلك النسل‬
‫الدمي الجديد ‪.‬‬
‫اللهم إل تلك العلقة العامة أو التذكارية ‪ ،‬باعتباره من نسلهم ‪.‬‬
‫ولمر ما وجدنا أن القرآن ل يخاطب البشر ‪ ..‬بل يخاطب النسان ‪ ،‬والتكليف الديني منوط بصفة ( النسانية ) ‪ ،‬ل بصفة ( البشرية ) ‪،‬‬
‫فلم يعد للبشر القديم وجود منذ ظهر آدم عليه السلم ‪ ،‬وتناسلت ذريته ‪ ،‬وورثت الرض وما عليها ‪.‬‬

‫ولمر ما أيضًا وجدنا أن كلمة ( البشر ) جامدة ل تتصرف ‪ ،‬اللهم إل بالتثنية والجمع في قليل الستعمال ‪ ،‬على حين أن كلمة ( إنسان )‬
‫متصرفة مرنة ‪ ،‬وردت في القرآن بصور مختلفة ‪ ،‬وهي مفرد ‪ ،‬جمعه ‪ :‬أناسين ‪ ،‬وأناسي ‪ ،‬وقد استعمل مصغراً فقيل ‪ :‬أنيسان ‪،‬‬
‫والنس ‪ :‬اسم جماعة الناس ‪ ،‬والجمع أناس ‪ ،‬والواحد إنسي ‪.‬‬

‫والناس ‪ :‬اسم جمع من النوس ‪ ،‬وهو الحركة ‪ ..‬مفرده ‪ :‬إنسان من غير لفظه ‪ ،‬ويقال للمرأة إنسان ‪ ،‬ول يقال ‪ :‬إنسانة ‪ ،‬وإن شاعت على‬
‫ألسنة العامة ‪ ،‬وكل ذلك أكسب الكلمة مرونة في الستعمال ‪.‬‬

‫وليس يبعد أن نفترض أن الخالق سبحانه ‪ -‬وقد مضت مشيئته بتفرد آدم وذريته بالسيادة على الرض ‪ ،‬والنهوض بأمر الدين ‪ ،‬وإقامة‬
‫سبْحانه فناءَ كل البشر ‪ ،‬من غير ولد آدم ‪ ،‬وذلك بعد عزل السللة الجديدة المنتقاة في الجنة ‪ ،‬وبدأ‬
‫التكاليف ‪ ،‬وفي مقدمتها التوحيد ‪ -‬قَدّرَ ُ‬
‫الصراع بعد أن أخليت ساحته من العناصر الطفيلية التي لم يعد لها دور ‪ ..‬بل التي انتهى دورها ‪ ،‬ليبدأ على الرض دور جديد ‪ ..‬لكن ‪،‬‬
‫كيف بدأ هذا الدور ؟ ‪ ..‬أو كيف استهل ذلكم العهد ؟‬

‫ذلك ما ل سبيل إلى تصويره إل من خلل الكلمات المجردة ‪ ،‬ول دور أيضاً للخيال في رسم صورته إل من خلل اليمان المطلق بعالم‬
‫الغيب ‪ ،‬فذلكم مشهد غيبي تم قبل الزمان النساني بزمان إلهي ‪ ،‬حين صدر أمر بأن يكون الكون ‪ ..‬فكان ‪ ..‬كان كل ماكان ‪ ،‬وكل‬
‫غيْرَ الَ ْرضِ‬
‫مايكون أو سيكون على طول الزمان ‪ ،‬وبعد أن ينتهي هذا الزمان ‪ ،‬فيبدأ للوجود تقويم زمني آخر {{ َيوْمَ ُتبَدّلُ الَرْضُ َ‬
‫سمَاوَاتُ َوبَرَزُواْ لّ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ ‪ - }} 48‬سورة ابراهيم ‪.‬‬
‫وَال ّ‬

‫حينذاك أمر ال سبحانه كل الذراري التي قدر أن تخرج من صلب آدم ‪ ،‬وأصلب بنيه ‪ -‬أمرها أن تخرج على ساحة الغيب ‪ ،‬وأن تمثل‬
‫ل َيعْلَ ُم مَنْ خََلقَ ‪ - }} 14 ...‬الملك ‪ ، .‬و‬
‫بين يديه ‪ ،‬كانت أنذاك مجرد ذرات ل يحصيها ول يحصرها حد ‪ ،‬إل علم ال وحده ‪َ {{ ..‬أ َ‬
‫عدّهُمْ عَدّا ‪َ 94‬وكُلّهُ ْم آتِي ِه َيوْمَ ا ْل ِقيَامَةِ فَ ْردًا ‪ - }} 95‬مريم ‪.‬‬
‫حصَاهُ ْم وَ َ‬
‫{{ َلقَدْ أَ ْ‬

‫‪ ،‬وأسرعت الذرات بالمثول أمام الجلل اللهي ‪ ،‬فألقى ال ‪ -‬سبحانه ‪ -‬على المشهد الهائل سؤالً واحداً هو الذي من أجله كانت الدعوة‬
‫إلى الحضور ‪:‬‬

‫ت بِرَّبكُمْ ؟‬
‫س َ‬
‫قال تعالى ‪ :‬أَلَ ْ‬

‫شهِ ْدنَا ‪.‬‬


‫وتلقوا السؤال ووعوه فقالوا جميعاً في صوت واحد ‪ :‬بَلَى ‪َ ..‬‬

‫ل َو ُكنّا‬ ‫وقال ال مبيناً الحكمة من هذا الحشد ‪ {{ :‬أَن َتقُولُو ْا يَوْمَ ا ْل ِقيَامَةِ ِإنّا ُكنّا عَنْ َهذَا غَافِلِينَ ‪َ 172‬أوْ َتقُولُواْ ِإّنمَا أَشْ َر َ‬
‫ك آبَاؤُنَا مِن َقبْ ُ‬
‫ذُ ّريّ ًة مّن َبعْدِهِمْ أَ َفُتهِْل ُكنَا ِبمَا َفعَلَ ا ْل ُم ْبطِلُونَ ‪ -}} 173‬العراف ‪.‬‬

‫‪ ،‬إن النص القرآني يروي حكاية هذا المشهد الكوني الرهيب ‪ ،‬وهو يطلب من النبي صلى ال عليه وسلم أن يذكر المؤمنين به {{ َوإِذْ‬
‫سهِمْ ‪ - }} 172 ...‬العراف ‪.‬‬
‫علَى أَنفُ ِ‬
‫شهَدَهُمْ َ‬
‫ظهُورِهِمْ ذُ ّرّيتَهُ ْم وَأَ ْ‬
‫ك مِن َبنِي آدَ َم مِن ُ‬
‫أَخَذَ َرّب َ‬

‫‪ ،‬ول ريب أن سجل كل آدمي ‪ ،‬أو كتابه الذي سيقدم إليه يوم القيامة ‪ -‬سوف يكون مستهلً بصورة من هذا المشهد ‪ ..‬تبين موقعه بين من‬
‫حضروا هذا اللقاء ‪ ،‬وتثبت وجوده ‪ ،‬وشهادته على نفسه بالقرار بعبوديته ل ‪ :‬إلهًا ‪ ،‬ورباً ‪ ،‬وحاكماً ‪ ،‬وستكون هذه الصورة هي‬
‫سكَ ا ْل َيوْمَ عََل ْيكَ حَسِيبًا ‪ - }} 14‬السراء ‪.‬‬
‫المرجع الول أو المستند الرئيسي في محاكمة كل آدمي يوم القيامة {{ اقْرَ ْأ َكتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ‬

‫هكذا بدأ العهد الدمي في ملحمة الخليقة ‪ ،‬وهكذا كان الذين وتكاليفه نقطة البداية في رحلة النسان نحو الموعد ‪ ،‬موعد اللقاء مع ال ‪،‬‬
‫فهو يسير بين جدارين متوازيين ‪ ،‬جدار المسئولية الجماعية في الدنيا ‪ ..‬وجدار المسئولية الفردية في الخرة ‪ ..‬وبهذا اختلف النسان‬
‫عن البشر ‪.‬‬

‫إن الدين يتضمن تكاليف تخص ( النسان ) باعتباره فردًا ‪ ،‬كما تخص ( الناس ) باعتبارهم مجتمعاً ‪ ،‬وليس هذا التفريق بين الفرد‬
‫والمجتمع بوارد في استعمال كلمة ( البشر ) ‪ ،‬ففي إطار ( البشرية ) ل تفريق بين المستويات أو السماء ‪ ،‬إذا افترضنا أن البشر عرفوا‬
‫شيئاً اسمه ( اللغة ) ‪ ،‬وهو أمر غير بعيد ‪ ،‬لنهم كانوا مجتمعاً حيوانياً ‪ ،‬كل فرد فيه ككل فرد ‪ ،‬وكل فرد بمثابة أية جماعة ‪ ،‬ل اعتبار‬
‫للفروق الفردية ‪.‬‬

‫لقد كان ( البشر ) خلل الحقاب والعهود المتطاولة مجرد مخلوقات متحركة ‪ ،‬حيوانية السلوك ‪ ،‬ولكنها تزداد في كل مرحلة تعديلً في‬
‫سلوكها ‪ ،‬ونضجًا في خبرتها ‪ ،‬وتلوناً في طرائق التفاهم اللغوي فيما بينها ‪ ،‬وربما كان هذا هو المقصود بسؤال الملئكة للرب ‪ -‬جل‬
‫وعل ‪َ {{ -‬أتَجْعَلُ فِيهَا مَن ُيفْسِدُ فِيهَا َويَسْ ِفكُ ال ّدمَاء }} ‪ -‬البقرة ‪ ، ..‬كان هذا هو الواقع المشاهد ‪ ،‬فتعجب الملئكة من استخلف هؤلء‬
‫المفسدين المتوحشين !!‬

‫س َنةٌ كالسّنة ‪ ،‬وألف سنة ‪ ،‬أو حتى مليون سنة ‪ -‬كيوم واحد ‪،‬‬
‫وطبيعي أن ندرك كذلك أن الزمن في هذا الحال لم يكن له معنى أيضاً ‪ ،‬ال ّ‬
‫لمعنى لبدايته أو نهايته ‪ ،‬ول وظيفة له وقد عدم موضوعه ‪ ،‬ومن المعروف أن بعض الكائنات التي عاشت في الكهوف المظلمة فقدت‬
‫قدرتها على البصار ‪ ،‬إذ كانت الحياة بالنسبة إليها ظلم في ظلم ‪.‬‬
‫وقد عشنا في حياتنا تجربة تقرب إلينا هذا المعنى ‪ ،‬حيث ساقتنا الظروف التعيسة إلى محبس ( زنزانة ) في العتقال السياسي ( عام‬
‫‪ .. ) 1955‬كانت زنزانة مظلمة ‪ ..‬لم نكن ندري فيها مرور اليام ‪ ،‬ول حدود الشهور ‪ ،‬فقد تساوى الليل والنهار ‪ ،‬وضاعت المعالم‬
‫والثار ‪.‬‬

‫وبين أيدينا شواهد قرآنية على صواب ما نذهب إليه ‪ :‬ذلك أن قصة الخلق التي جاءت في سورة ( ص ) تعطينا الشارة الولى إلى‬
‫الدليل على تمادي العهود التي عاشتها البشرية في ظلم الزمن السحيق ‪ ،‬أو في زنزانة َذيّاك الزمن ‪ ..‬يقول ال تعالى ‪ {{ :‬إِذْ قَالَ َرّبكَ‬
‫سوّ ْيتُ ُه َو َنفَخْتُ فِي ِه مِن رّوحِي َف َقعُوا َلهُ سَاجِدِينَ ‪ - }} 72‬سورة ص ‪ ، .‬وقد ذهب أكثر‬
‫ق بَشَرًا مِن طِينٍ ‪ 71‬فَإِذَا َ‬
‫ل ِئكَةِ ِإنّي خَاِل ٌ‬
‫لِ ْلمَ َ‬
‫المفسرين إلى أن هذا ( البشر ) هو ( آدم ) عليه السلم ‪ ،‬وأن ال سبحانه وتعالى كلّف بعض ملئكته أن يجمعوا له من تراب الرض ‪،‬‬
‫من جميع أخلطه وألوانه ‪ ،‬كما ذكرت الروايات الواردة في الطبري ‪ ،‬نقلً عن السرائيليات ‪ ،‬ونقل عنه من جاء بعده ‪ ،‬وأن ال خلق‬
‫هذا البشر ‪ ،‬وسواه ‪ ،‬ونفخ فيه من روحه ‪ ،‬فكان آدم الذي أسجدت له الملئكة ‪.‬‬

‫والواقع الذي عبّرت عنه اليتان ‪ -‬في نظرنا ‪ -‬هو أن ال سبحانه خلق ( أو أراد خلق ) البشر من الطين ‪ ،‬وأخبر ملئكته بهذا الخبر ‪ ،‬أو‬
‫ق بَشَراً }} ‪ ،‬وهذه هي المرحلة الولى في بداية الخلق اللهي ‪ .‬وكلمة ( البشر ) هنا ل تعني فرداً واحداً ‪،‬‬ ‫الرادة العلوية ‪ِ {{ :‬إنّي خَال ٌ‬
‫بل هي ‪ -‬بحسب الصل ‪ -‬تطلق على أكثر من واحد ‪ ،‬لدللتها على الجنس ‪ ،‬وقد حدد القرآن الصورة الولى لخلق الكائنات بأنها خلقت‬
‫ض َنبَاتًا ‪ - }} 17‬نوح‬
‫خَلقْنَاكُمْ أَ ْزوَاجًا ‪ - }} 8‬النبأ ‪ ، .‬وذلك إنطلقاً من الرض {{ وَالُّ أَن َبتَكُم مّنَ الَْرْ ِ‬ ‫أزواجاً ‪ ،‬فقال سبحانه {{ وَ َ‬
‫‪ ، .‬فمن الرض كان انطلق الحياة في شكل أزواج متنوعات ‪:‬‬
‫ن ا ْثنَيْنِ ‪ – }} 3 ...‬الرعد‬
‫جيْ ِ‬ ‫جيْنِ َلعَّلكُ ْم تَ َذكّرُونَ ‪ - }} 49‬الذاريات ‪َ {{ .‬ومِن كُلّ الّثمَرَاتِ َ‬
‫جعَلَ فِيهَا َزوْ َ‬ ‫خَلقْنَا َزوْ َ‬
‫يءٍ َ‬
‫{{ َومِن كُلّ شَ ْ‬

‫البرهان القوي‬

‫ختُ فِي ِه مِن رّوحِي }} وهي آية مصدرة بأداة ظرفية زمانية هي ( إذا ) ‪،‬‬‫س ّويْتُ ُه َو َنفَ ْ‬
‫وتأتي بعد ذلك مرحلتان في قوله تعالى ‪ {{ :‬فَِإذَا َ‬
‫وهي ظَرف لما يستقبل من الزمان ‪ ،‬ويمكن أن يكون هذا الزمان لحظة ‪ ،‬كما يمكن أن يكون ضهرًا طويلً ‪ ،‬والقدرة التي تنجز هذا‬
‫الخلق هي القدرة التي تقول للشيء ( كن فيكون ) ‪ ،‬أي ‪ :‬القدرة ال ُكّنيّة التي ل يحكمها الزمان ول المكان ‪ ..‬بل هي التي خلقت الزمان‬
‫والمكان ‪ ،‬ونحسب أن استخدام ( إذا ) في هذا السياق ليبعد عن أن يراد به مليين السنين بحساب الزمن الدنيوي ‪ ،‬وإن كانت هذه‬
‫المليين ل تعدو أن تكون أيامًا معدودة في حساب الزمن اللهي ‪ ،‬كما أنها مرت مجرد كتلة في ظلم دائم ‪ ،‬لم تلمع خلله أشعة العقل ‪،‬‬
‫ول أضواء المعرفة ‪.‬‬

‫وقد استخدمت ( إذا ) في القرآن الكريم للدللة على المستقبل القريب والمستقبل البعيد سواءً ‪ ،‬فقوله تعالى ‪ {{ :‬وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ ا ْر َكعُوا لَ‬
‫يَرْ َكعُونَ ‪ - }} 48‬المرسلت ‪ ، .‬ل تذيد فيه مساحة ( إذا ) الزمنية على لحظة ينطق فيها المر ‪ ( :‬أركعوا ) ‪ ،‬ولكن قوله تعالى ‪:‬‬
‫حتّىَ إِذَا أَخَ َذتِ الَرْضُ زُخْرُ َفهَا وَا ّزّينَتْ ‪ - }} 24 ...‬يونس ‪ ، .‬تمتد فيه المساحة إلى زمان غير معلوم ‪ ،‬وكذلك في اليات ‪:‬‬ ‫{{ َ‬
‫سمَاء ان َفطَ َرتْ ‪ - }} 1‬النفطار ‪ ، .‬و {{ فَإِذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ َنفْخَ ٌة وَا ِ‬
‫ح َدةٌ‬ ‫س كُوّ َرتْ ‪ - }} 1‬التكوير ‪ ، .‬و {{ ِإذَا ال ّ‬ ‫ش ْم ُ‬
‫{{ إِذَا ال ّ‬
‫‪ - }} 13‬الحاقة ‪ .. .‬تتراحب في هذه اليات مساحة الظرف إلى ما شاء ال ‪ ،‬وهو استخدام قرآني مستقبلي ‪ ..‬تحسب أبعاده بالسنين‬
‫المعروفة لنا ‪ ،‬فأما إذا عبرت عن المستقبل في داخل الماضي السحيق فتلكم هي المشكلة التي يستحيل حسابها ‪ ،‬ومن هذا القبيل تأتي‬
‫ختُ فِي ِه مِن رّوحِي }} ظرفًا زمنياً تعبيراً عن إرادة أزلية تمضي في تحققها عبر مليين‬ ‫س ّويْتُ ُه َو َنفَ ْ‬
‫( إذا ) في قوله تعالى ‪َ {{ :‬فإِذَا َ‬
‫السنين ‪ ،‬تسوي ذلك المخلوق ‪ ،‬وهو جنس ( البشر ) ‪ ،‬ثم تذوده بنفخة ال الروحية ليكون عندئذ ( النسان ) الذي تسجد له الملئكة ‪،‬‬
‫النسان الذي يدخل بوابة الزمان ‪ ،‬ويبدأ حضوره وحضارته ‪.‬‬

‫ومعنى ذلك أن خلق النسان تم عبر ثلث مراحل هائلة ‪ ،‬هي ( الخلق ‪ ،‬والتسوية ‪ ،‬والنفخ ) ‪ ،‬ومن السذاجة أن نفسر هذا النفخ بأنه بث‬
‫الروح في الجسد ‪ ،‬فقد حدث ذلك في مرحلة ( الخلق ) الولى ‪ ،‬التي أحالت التراب أو الطين إلى مخلوق ظاهر ( بشر ) يتحرك على‬
‫الرض بالروح الحيواني ‪ ،‬كما تتحرك سائر الكائنات من حشر ‪ ،‬وطير وحيوان ‪ ،‬ثم تناولت القدرة ذلك المخلوق في المرحلة الثانية‬
‫( بالتسوية ) أو ما يمكن تشبيهه بهندسة البناء وتجميله ‪ ،‬وهي مرحلة التعديل المادي أو الظاهري ‪ ،‬وقد استغرقت مليين السنين ‪ ،‬وال‬
‫أعلم بتفاصيلها ‪ ،‬ثم جاءت المرحلة الثالثة للهندسة الداخلية ‪ ،‬وهي المتمثلة في تذويد المخلوق السوي بالملكات والقدرات العليا ‪ ،‬التي‬
‫جوهرها ( العقل ) ‪ ،‬والحياة الجتماعية ثمرة العقل ‪ ،‬واللغة وسيلة التصال بين أفراد المجتمع من العقلء ‪ ،‬وبذلك اكتمل بناء ( النسان‬
‫) ‪ ،‬فكان ( آدم ) هو أول ( إنسان ) ‪ ،‬وطليعة سللة التكليف بتوحيد ال وعبادته ‪.‬‬

‫ومما يستدل به على هذه المراحل وتكاملها استعمال القرآن لداة التراخي ( ثم ) في ربط أجزاء الجملة في سورة السجدة ‪ ،‬مثلً في قوله‬
‫سوّا ُه َونَفَخَ فِي ِه مِن رّوحِهِ ‪ - }} 9 ...‬السجدة ‪، .‬‬
‫ل نَسْلَ ُه مِن سُلََل ٍة مّن مّاء ّمهِينٍ ‪ 8‬ثُمّ َ‬ ‫ن مِن طِينٍ ‪ 7‬ثُمّ َ‬
‫جعَ َ‬ ‫تعالى ‪َ {{ :‬وبَدَأَ خَ ْلقَ الِْنسَا ِ‬
‫والداة ( ثم ) للترتيب مع التراخي ‪ ،‬وكأن استعمالها في هذا السياق ترجمة لمفهوم الزمان المتطاول عبر عنه الظرف ( إذا ) ‪ ،‬في‬
‫مقابل استخدام الفاء أو الواو في ربط أجزاء أخرى من اليات ‪ ،‬تعبيراً عن التعقيب أو مطلق الجمع ( التعقيب تعبير عن تتابع الحداث ‪،‬‬
‫ل ‪ ،‬ومطلق الجمع هو وظيفة ( الواو ) فهي ل‬ ‫بعضها في إثر بعض دون فاصل طويل من الزمن ‪ ،‬وهو وظيفة ( الفاء ) العاطفة أص ً‬
‫تفيد ترتيباً ول تعقيبًا ) ‪.‬‬

‫طفَةً فِي‬ ‫ن مِن سُلََل ٍة مّن طِينٍ ‪ 12‬ثُمّ َ‬


‫جعَ ْلنَا ُه ُن ْ‬ ‫خَل ْقنَا الِْنسَا َ‬ ‫بل إن هذا التراخي يتجلى في سورة ( المؤمنون ) في قوله تعالى ‪ {{ :‬وََلقَدْ َ‬
‫حمًا ثُمّ أَنشَ ْأنَاهُ خَ ْلقًا آخَرَ‪- }} 14 ...‬‬‫عظَامًا َفكَسَ ْونَا ا ْل ِعظَامَ لَ ْ‬‫ضغَةَ ِ‬ ‫ض َغةً فَخََل ْقنَا ا ْلمُ ْ‬ ‫قَرَا ٍر ّمكِينٍ ‪ 13‬ثُمّ خََل ْقنَا ال ّن ْ‬
‫طفَةَ عََل َقةً فَخََل ْقنَا ا ْلعََلقَ َة مُ ْ‬
‫طفَةً فِي قَرَارٍ‬‫جعْل ) {{ ُن ْ‬ ‫المؤمنون‪ ، .‬ولنتأمل استعمال ( ثم ) في اليات ‪ ،‬بجانب استعمال ( الفاء ) ‪ ،‬فبين ( الخلق ) من الطين و ( ال َ‬
‫جعْل ) تعبير عن جانب من استكمال ( الخلق ) ‪ ،‬ثم‬
‫مّكِينٍ }} ‪ -‬مسافة زمنية ‪ ،‬ل يعلمها إل ال ‪ ،‬استغرقتها عمليات التسوية ‪ ،‬وهذا ( ال َ‬
‫تكون النطفة علقة ‪ ،‬ولعل تقدير ذلك تم في زمان متطاول أيضاً ‪.‬‬

‫وتذكر الية بعد ذلك عمليات تخليق الجنين ‪ ،‬وهي عمليات متتابعة ل يفصل بينها سوى أشهر أو أيام معدودات ‪ ..‬زمن قصير نسبياً ‪..‬‬
‫بين العلقة والمضغة ‪ ،‬وبين المضغة والعظام ‪ ،‬وبين العظام واللحم ‪ ،‬وذلك كله معطوف بالفاء ‪ ،‬ويعود السياق بعد ذلك إلى استخدام ( ثم‬
‫سنُ الْخَاِلقِينَ }} ‪ ،‬والمعنى‬
‫) للتعبير عن طول الفترة الزمنية بين ما سبق وما سوف يأتي بعد ‪ {{ :‬ثُمّ أَنشَ ْأنَاهُ خَ ْلقًا آخَرَ َف َتبَا َركَ الُّ أَحْ َ‬
‫التاريخي لنشاء هذا الخلق هو النقلة من البشر إلى النسان ‪ ،‬وهو خلق آخر فعلً ‪ ،‬إلى جانب احتمال أن يكون المراد هو المولود الجديد‬
‫‪.‬‬
‫ويمضي السياق ملتزماً نفس اليقاع البطيء ‪ {{ :‬ثُمّ ِإّنكُمْ َبعْدَ ذَِلكَ َلمَّيتُونَ ‪ 15‬ثُمّ ِإّنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة ُتبْ َعثُونَ ‪ - }} 16‬المؤمنون ‪ ، .‬لقد‬
‫عبرت ( ثم ) في اليتين الخيرتين عن زمن طويل ‪ ،‬هو في الية الولى ( عمر النسان ) الذي يعيشه حتى الموت ‪ ،‬الذي يضع نهاية‬
‫للحياة المقدورة لذلك الكائن ‪ ،‬وهو في الية الثانية مدة ما بيننا وبين القيامة والبعث ‪.‬‬

‫صوّ ْرنَاكُمْ ثُمّ ُق ْلنَا لِ ْلمَلئِكَةِ اسْجُدُواْ لدَمَ ‪ - }} 11 ...‬العراف ‪ ، .‬وهي آية‬
‫خَلقْنَاكُ ْم ثُمّ َ‬
‫ولنقرأ أخيراً آية العراف ‪ ،‬قوله تعالى ‪ {{ :‬وََلقَدْ َ‬
‫تعبر عن مرحلتين ‪ ،‬هما ‪ ( :‬الخلق والتصوير ) ‪ ،‬وبينهما فيما نتصور آماد هائلة ‪ ،‬تعبر عنها الداة ( ثم ) ‪ ،‬ويعطف القرآن خطاب ال‬
‫سبحانه للملئكة باستخدام ( ثم ) ‪ ،‬وهو في رأينا تعبير عن أن المر بالسجود لم يكن بعد مرحلة التصوير مباشرة ‪ ،‬وهو مايعني مرحلة‬
‫التسوية ‪ ..‬بل جاءت قبله مرحلة ( النفخ من روح ال ) ‪ ،‬وقد أومأ اليها استخدا ُم ( ثم ) في صدر الجملة {{ ثُمّ ُق ْلنَا لِ ْلمَلئِكَةِ اسْجُدُواْ‬
‫لدَمَ }} ‪ ،‬دون أن يصرح بها ‪ ،‬لنه ل سجود إل لمن زود بروح ال ‪.‬‬

‫وبرغم ذلك قد يعبر النص القرآني عما شأنه التراخي ‪ -‬بالفاء ‪ ،‬فهو يضمنها معنى ( ثم ) ‪ ،‬أو بتعبير أدق ‪ :‬يوظفها في موقع ( ثم ) ‪ ،‬كما‬
‫سوّاكَ َفعَدََلكَ ‪ 7‬فِي َأيّ صُو َر ٍة مّا شَاء َر ّك َبكَ ‪- }} 8‬‬
‫ك بِ َرّبكَ ا ْلكَرِيمِ ‪ 6‬الّذِي خََل َقكَ فَ َ‬
‫ن مَا غَ ّر َ‬
‫جاء في قوله تعالى ‪ {{ :‬يَا َأيّهَا الِْنسَا ُ‬
‫النفطار ‪ ، .‬وقد يسوغ هذا التضمين أن المخاطب ‪ -‬وهو النسان ‪ -‬ل يرى في ذاته سوى مخلوق مكتمل ‪ ،‬خلقًا وتسوية ‪ ،‬وعدلً ‪ ،‬فهو‬
‫يرى إندماج هذه المراحل في ذاته ‪ ،‬ولذلك لق أن يضمن ( الفاء ) معنى ( ثم ) المتراخية ‪.‬‬

‫} ‪..‬‬ ‫وقد تفسر هذه المراحل في سورة النفطار على أنها خاصة بأحوال الجنين في بطن أمه ‪ ،‬كما يقول المام القرطبي ‪ { :‬خََل َقكَ‬
‫أي ‪ :‬قدر خَ ْل َقكَ من نطفة ‪ { ،‬فسوّاك } ‪ :‬في بطن أمك ‪ ،‬وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك ‪ { ،‬فعـدلك } ‪ ..‬أي ‪:‬‬
‫خفَـفَـاً ‪ ،‬أي ‪ :‬أمالك وصرفك إلى أي صورة‬‫جعلك معتدلً سوي الخلق ‪ ..‬وقرأ الكوفيون ‪ :‬عاصم وحمزة والكسائي ‪َ { :‬فعَـدَلَكَ } ‪ ..‬م َ‬
‫شاء ‪ ،‬إما حسناً وإما قبيحاً ‪ ،‬وإما طويلً وإما قصيراً ) ‪.‬‬

‫ولسنا مع هذا التــوجيه ‪ ،‬مع أنه يحل مشكلة التراخي مع الفاء ‪ ،‬لن السلوب القرآني درج على استخدام كلمات الخلق والتسوية والنفخ‬
‫‪ -‬خاصة بأحوال البشر منذ وجدوا ‪ ،‬إلى أن صار البشر سوياً ‪ ..‬أي ‪ :‬إنساناً اصطفاه ال ‪ ،‬وناط به تحقيق رسالة العبودية ل رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫ترى ‪ ،‬كم من الجيال البشرية لزم لعمليتي التسوية ‪ ،‬والنفخ ‪ ،‬حتى كان آدم ذلك النسان الكامل الناطق ؟!‬

‫ل نبالغ إذا قلنا ‪ :‬إن ذلك اقتضى مئات اللوف من الجيال ‪ ،‬وقد سجل كل جيل بصمته المتميزة ‪ ،‬على طريق الكتمال ‪ ،‬ول سيما في‬
‫مجال العقل ‪ ،‬واللسان ‪ ،‬والجمال ‪.‬‬

‫{{ الفصل التاسع والخير من الباب الول }}‬

‫برهان التكرار‬

‫النسان مرة أخرى‬

‫وضح لنا مما سبق أن ( النسان ) هو المقصود من التكليف الديني ‪ ،‬وأن ( البشر ) وهم طلئع الخليقة ‪ ،‬ل مكان لهم في عالمنا ‪ ،‬لنهم‬
‫بادوا ‪ ،‬ودرست آثارهم ‪ ،‬فلم تبق منهم سوى أحاديث وأحافير تدل على أنهم كانوا موجودين ‪ ،‬منذ عصور جيواوجية متقادمة ‪ ،‬فلما‬
‫قضت إرادة ال بإجاد هذا الخلق النساني ‪ -‬قدر خلق آدم ‪ ،‬وهو مستوى خاص جداً من ( البشر ) ‪ ،‬مزود بأدوات كاملة من العقل واللغة‬
‫والعاطفة ‪ ،‬وملكات الدراك والضمير ‪ ،‬والرادة ‪ ،‬والستعدادات الفطرية والغريزية ‪ ،‬للتفرقة بين الخير والشر ‪ ،‬وكل ذلك ثمرة من‬
‫ثمرات النفخة اللهية التي أتم ال بها خلقة ‪ ،‬وهيأه ليعيش في ضوء المعايير الدينية التي أرسل بها النبياء ‪ ،‬منذ آدم إلى محمد عليهم‬
‫جميعاً أفضل الصلة والسلم ‪ ،‬وذلك قوله تعالى ‪ {{ :‬ص }} ‪ -‬آل عمران ‪.‬‬
‫ومقتضى ذلك أن النوع البشري قد انقرض ليحل محله رتبة أرقى هي رتبة ( النسان ) باعتباره الطور المحسن من أطوار البشر ‪،‬‬
‫والجيل المختار للمسيرة الجديدة على طريق التوحيد ومعرفة ال ‪ ،‬ثم أطلق على أفراد هذه الرتبة ‪ :‬بنو آدم ‪.‬‬

‫ولقد نجد في القرآن دليلً قاطعاً على صحة هذا المذهب ‪ ،‬حين نجده محتفيًا بالنسان متابعاً لوصف كل أحواله ‪ ،‬في ثلثة وثلثين‬
‫موضعاً ‪ ،‬على حين أنه لم يذكر ( البشر ) بوصف واحد ‪ ،‬وهو سلوك واضح الدللة على صدق التفرقة بين المستويين ‪.‬‬
‫وللنظر الن إلى نصوص القرآن الواردة بشأن النسان ‪ ،‬بحسب ورودها في ترتيب المصحف ‪:‬‬

‫ضعِيفًا ‪ - }} 28‬النساء ‪.‬‬ ‫‪ {{ - 1‬يُرِيدُ الّ أَن يُ َ‬


‫خفّفَ عَنكُ ْم وَخُِلقَ الِنسَانُ َ‬

‫عنَا إِلَى ضُ ّر مّسّ ُه كَذَِلكَ ُزيّنَ لِ ْلمُسْرِفِينَ‬


‫عنْهُ ضُ ّرهُ مَ ّر كَأَن لّ ْم يَدْ ُ‬
‫شفْنَا َ‬ ‫‪ {{ - 2‬وَإِذَا مَسّ الِنسَانَ الضّرّ َدعَانَا لِجَنبِهِ َأوْ قَا ِ‬
‫عدًا َأوْ قَآ ِئمًا فََلمّا كَ َ‬
‫مَا كَانُو ْا يَ ْعمَلُونَ ‪ - }} 12‬يونس ‪.‬‬

‫س كَفُورٌ ‪ - }} 9‬هود ‪.‬‬


‫عنَاهَا ِمنْهُ ِإنّهُ َل َيئُو ٌ‬
‫حمَ ًة ثُ ّم نَزَ ْ‬
‫ن ِمنّا رَ ْ‬ ‫‪ {{ - 3‬وََلئِنْ َأذَ ْقنَا ا ِ‬
‫لنْسَا َ‬

‫ش ْيطَانَ لِلِنسَانِ عَ ُد ّو مّبِينٌ ‪ - }} 5‬يوسف ‪.‬‬


‫‪ِ {{ - 4‬إنّ ال ّ‬

‫‪ِ {{ - 5‬إنّ الِنسَانَ َلظَلُو ٌم َكفّارٌ ‪ - }} 34‬إبراهيم ‪.‬‬

‫خصِي ٌم مّبِينٌ ‪ - }} 4‬النحل‬


‫طفَةٍ فَإِذَا ُهوَ َ‬ ‫‪ {{ - 6‬خََلقَ الِنسَا َ‬
‫ن مِن ّن ْ‬

‫‪َ {{ - 7‬وكَانَ الِنسَانُ عَجُولً ‪ - }} 11‬السراء ‪.‬‬

‫ن كَفُورًا ‪ - }} 67‬السراء ‪.‬‬ ‫‪َ {{ - 8‬وكَانَ ا ِ‬


‫لنْسَا ُ‬

‫ن َيؤُوسًا ‪ - }} 83‬السراء ‪.‬‬ ‫‪ {{ - 9‬وَإِذَآ َأ ْنعَ ْمنَا عَلَى الِنسَانِ َأعْرَ َ‬


‫ض َونَأَى بِجَا ِنبِ ِه وَإِذَا مَسّهُ الشّ ّر كَا َ‬

‫ن النسَانُ َقتُورًا ‪ - }} 100‬السراء ‪.‬‬


‫‪َ {{ -10‬وكَا َ‬

‫يءٍ جَ َدلً ‪ - }} 54‬الكهف ‪.‬‬


‫‪َ {{ -11‬وكَانَ الِْنسَانُ َأ ْكثَرَ شَ ْ‬

‫ن مِنْ عَجَلٍ ‪ - }} 37 ...‬النبياء ‪.‬‬ ‫‪ُ {{ -12‬‬


‫خِلقَ الِْنسَا ُ‬

‫‪ {{ -13‬إِنّ الِْنسَانَ َل َكفُورٌ ‪ - }} 66‬الحج ‪.‬‬

‫ش ْيطَانُ لِلِْنسَانِ خَذُولً ‪ - }} 29‬الفرقان ‪.‬‬


‫‪َ {{ -14‬وكَانَ ال ّ‬

‫جهُولً ‪ - }} 72‬الحزاب ‪.‬‬


‫ن ظَلُومًا َ‬ ‫‪ {{ -15‬وَ َ‬
‫حمََلهَا الِْنسَانُ ِإنّ ُه كَا َ‬

‫خصِي ٌم مّبِينٌ ‪ - }} 77‬يس ‪.‬‬ ‫‪َ {{ -16‬أوَلَ ْم يَرَ الِْنسَانُ َأنّا خََل ْقنَاهُ مِن ّن ْ‬
‫طفَةٍ فَإِذَا ُهوَ َ‬

‫سبِيلِهِ‬
‫ل وَجَعَلَ لِّ أَندَادًا ّليُضِلّ عَن َ‬
‫ن يَدْعُو إَِليْ ِه مِن َقبْ ُ‬
‫ي مَا كَا َ‬ ‫‪ {{ -17‬وَِإذَا َمسّ الِْنسَانَ ضُرّ َدعَا َربّ ُه مُنِيبًا إَِليْ ِه ثُمّ إِذَا َ‬
‫خوّلَ ُه ِن ْعمَ ًة مّنْ ُه نَسِ َ‬
‫‪ - }} 8 ..‬الزمر ‪.‬‬

‫علْ ٍم بَلْ هِيَ ِف ْتنَةٌ ‪ - }} 49 ..‬الزمر ‪.‬‬


‫علَى ِ‬ ‫‪ {{ -18‬فَإِذَا َمسّ الِْنسَانَ ضُرّ َدعَانَا ثُمّ إِذَا َ‬
‫خوّ ْلنَا ُه نِ ْعمَ ًة ّمنّا قَالَ ِإّنمَا أُوتِيتُهُ َ‬

‫خيْ ِر وَإِن مّسّهُ الشّرّ َف َيؤُوسٌ َقنُوطٌ ‪ - }} 49‬فصلت ‪.‬‬


‫ن مِن دُعَاء الْ َ‬ ‫‪َ {{ -19‬‬
‫ل يَسْأَمُ الِْنسَا ُ‬

‫ض وَنَأى بِجَا ِنبِ ِه وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ فَذُو ُدعَاء عَرِيضٍ ‪ - }} 51‬فصلت ‪.‬‬ ‫‪ {{ -20‬وَِإذَا َأ ْن َعمْنَا َ‬
‫علَى الِْنسَانِ أَعْ َر َ‬

‫ن َكفُورٌ ‪ - }} 48‬الشورى ‪.‬‬


‫سّيئَ ٌة ِبمَا َق ّدمَتْ َأيْدِيهِمْ فَإِنّ الِْنسَا َ‬ ‫‪ {{ -21‬وَإِن تُ ِ‬
‫ص ْبهُمْ َ‬

‫عبَا ِدهِ جُ ْزءًا إِنّ الِْنسَانَ َل َكفُورٌ ّمبِينٌ ‪ - }} 15‬الزخرف ‪.‬‬ ‫‪ {{ -22‬وَ َ‬
‫جعَلُوا َل ُه مِنْ ِ‬

‫خيْ ُر مَنُوعًا ‪ - }} 21‬المعارج ‪.‬‬


‫‪ {{ -23‬إِنّ الِْنسَانَ خُِلقَ َهلُوعًا ‪ 19‬إِذَا مَسّهُ الشّرّ جَزُوعًا ‪ 20‬وَإِذَا مَسّهُ الْ َ‬

‫‪ {{ -24‬بَلِ الِْنسَانُ عَلَى َنفْسِ ِه بَصِي َرةٌ ‪ - }} 14‬القيامة ‪.‬‬

‫‪َ {{ -25‬أيَحْسَبُ الِْنسَانُ أَن يُتْ َركَ سُدًى ‪ - }} 36‬القيامة ‪.‬‬


‫ن مَا َأ ْكفَ َرهُ ‪ - }} 17‬عبس ‪.‬‬
‫‪ُ {{ -26‬قتِلَ الِْنسَا ُ‬

‫ك بِرَ ّبكَ ا ْلكَرِيمِ ‪ - }} 6‬النفطار ‪.‬‬ ‫‪ {{ -27‬يَا َأّيهَا الِْنسَا ُ‬


‫ن مَا غَ ّر َ‬

‫‪ {{ -28‬يَا َأّيهَا الِْنسَانُ ِإّنكَ كَا ِدحٌ ِإلَى َرّبكَ كَدْحًا َفمُلَقِيهِ ‪ - }} 6‬النشقاق ‪.‬‬

‫‪َ {{ -29‬لقَدْ خََل ْقنَا الِْنسَانَ فِي كَبَدٍ ‪ - }} 4‬البلد ‪.‬‬

‫عمِلُوا الصّالِحَاتِ ‪ - }} 6 ..‬التين ‪.‬‬ ‫سفَلَ سَافِلِينَ ‪ِ 5‬إلّ الّذِي َ‬


‫ن آ َمنُوا وَ َ‬ ‫ن َت ْقوِيمٍ ‪ 4‬ثُمّ رَدَ ْدنَاهُ أَ ْ‬
‫‪َ {{ -30‬لقَدْ خََل ْقنَا الِْنسَانَ فِي أَحْسَ ِ‬

‫س َتغْنَى ‪ - }} 7‬العلق ‪.‬‬


‫‪ {{ -31‬كَلّ ِإنّ الِْنسَانَ َل َيطْغَى ‪ 6‬أَن رّآهُ ا ْ‬

‫خيْرِ لَشَدِيدٌ ‪ - }} 8‬العاديات ‪.‬‬ ‫شهِيدٌ ‪ 7‬وَِإنّهُ لِ ُ‬


‫حبّ الْ َ‬ ‫‪ {{ -32‬إِنّ الِْنسَانَ لِ َربّهِ َل َكنُودٌ ‪ 6‬وَِإنّهُ َ‬
‫علَى ذَِلكَ لَ َ‬

‫صبْرِ ‪ - }} 3‬العصر ‪.‬‬


‫صوْا بِال ّ‬
‫ق َو َتوَا َ‬
‫حّ‬‫صوْا بِالْ َ‬
‫ت وَ َتوَا َ‬
‫عمِلُوا الصّالِحَا ِ‬ ‫‪ {{ -33‬وَا ْلعَصْرِ ‪ 1‬إِنّ الِْنسَانَ َلفِي خُسْرٍ ‪ِ 2‬إلّ الّذِي َ‬
‫ن آ َمنُوا وَ َ‬

‫هذه هي المواضع التي ذكر فيها ( النسان ) في القرآن الكريم بصفات مختلفة ‪ ،‬بين الخير والشر ‪ ،‬والقوة والضعف ‪ ،‬واليمان والكفر ‪،‬‬
‫والحكمة والحمق ‪ ،‬والعلم والجهل ‪ ،‬والطهر والدنس ‪ ،‬والعرفان والجحود ‪ ،‬وأخيرًا فهو مستهدف دائماً لعداوة الشيطان ‪ ..‬هذا كله عن‬
‫النسان ‪.‬‬

‫على حين أن القرآن كله لم يذكر البشر بشيء من هذا أو غيره ‪ ،‬مع أن كلمة ( البشر ) وردت في القرآن مفردة ثلثين مرة ‪ ،‬ثم ذكرت‬
‫مثناة مرة واحدة ‪ ،‬أما ( النسان ) فقد ورد لفظه في القرآن الكريم اثنتين وستين مرة ‪ ،‬بالضافة إلى ورود لفظة ( النس ) سبع عشرة‬
‫مرة ‪ ،‬وجاءت لفظة ( أناس ) سبع مرات ‪ ،‬ولفظة ( الناس ) مائتين وأربعاً وثلثين مرة ‪ ،‬ولفظة ( أناسي ) مرة واحدة ‪ ،‬فمجموع ورود‬
‫لفظ النسان وأمثاله ثلثمائة وإحدى وعشرين مرة ‪.‬‬
‫سبق القول أن مجموع ورود لفظ النسان وأمثاله ‪ -‬ثلثمائة وإحدى وعشرين مرة ‪...‬‬
‫فإذا علمنا أن ( الناس ) قد خوطبوا في القرآن الكريم بلقب ( بني آدم ) ‪ ،‬وأن ذلك قد جاء سبع مرات في القرآن ‪ ،‬إذا علمنا ذلك كله ‪،‬‬
‫تأكد لدينا أن ( النسان ) هو المرحلة الخيرة والحاسمة في تاريخ الحياة على الرض ‪ ،‬وأن وجود ( البشر ) إنما كان بمثابة المراحل‬
‫التحضيرية لذلكم المخلوق الذي قضى على الرض مليين السنين بين عوامل التسوية ‪ ،‬وتحصيل خواص الجمال ‪ ،‬والكمال ‪ ،‬بروح‬
‫من ال الذي الذي قدر له أن يكون سيد الكون ‪ ،‬حتى صار جديراً بأن يحمل أمانة ال على هذه الرض ‪ ،‬وينفرد بذلك من دون السموات‬
‫ش َفقْنَ‬
‫حمِ ْلنَهَا وَأَ ْ‬
‫جبَالِ فََأبَيْنَ أَن يَ ْ‬
‫ض وَالْ ِ‬
‫ت وَالَْرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫علَى ال ّ‬
‫لْمَانَةَ َ‬
‫ضنَا ا َ‬
‫والرض والجبال جميعاً ‪ ،‬فكان قوله تعالى بشأنه ‪ِ {{ :‬إنّا عَ َر ْ‬
‫جهُولً ‪ - }} 72‬الحزاب ‪.‬‬ ‫ن ظَلُومًا َ‬
‫مِ ْنهَا وَحَمََلهَا الِْنسَانُ ِإنّ ُه كَا َ‬

‫لقد خفيت هذه التفرقة على أجيال العلماء من قبل ‪ ،‬سواء ذلك القدماء والمحدثون ‪ ،‬بعد أن طغى طوفان السرائيليات ‪ ،‬وأصبحت‬
‫المصدر الوحيد للحديث عن العالم القديم ‪ ،‬والخلق ‪ ،‬حتى تصور العلمانيون وأحلسهم وأشباههم أن الدين مناقض للعلم في هذه القضية‬
‫الخطيرة ‪ ،‬وأن الدين ل يملك سوى بعض القصص السطوري ‪ ،‬وبعض التصورات الخرافية ‪ ،‬وأن الدين بذلك يقف أمام حائط‬
‫مسدود ‪ ،‬يجب تجاوزه للحاق بركب العلم والتقدم ‪.‬‬

‫وها نحن أولء نجد الدين في نصوصه الحقه ( القرآن ) يسبق العلم سبقاً بعيداً ‪ ،‬ويحدد هوية الحياة على الرض تحديدًا ل يتصادم مع‬
‫العقل والرؤية العلمية اللحقة ‪ ..‬بل إنه يتوافق مع الحقائق العلمية ‪ ،‬ويدعو إلى العتماد عليها في فهم قضية ( بدء الخليقة ) ‪ ،‬كما سبق‬
‫لّ يُنشِئُ النّشَْأةَ الْخِ َرةَ ‪- }} 20 ...‬‬
‫خ ْلقَ ثُمّ ا ُ‬
‫أن قرأنا ذلك في آية سورة العنكبوت ‪ {{ :‬قُلْ سِيرُوا فِي الَْرْضِ فَانظُرُوا َكيْفَ بَ َدأَ الْ َ‬
‫العنكبوت ‪ ، .‬وبذلك يكون العلم بياناً لنصوص القرآن ‪ ،‬فيما توصل إليه من حقائق ‪ ،‬كما أنه في طريقه إلى موافقة القرآن في كل ما قرر‬
‫من نظريات تحتاج إلى مزيد من البحث والتحقيق ‪.‬‬

‫آدم أبـو النسان‬

‫هل آن الوان لنجيب عن السؤال الذي طرحناه من قبل ‪ ،‬وهو ‪ :‬هل كان وجود هذه الخليقة البشرية شيئاً واحداً في الرض ‪ ..‬أرادته‬
‫القدرة اللهية ‪ ،‬وتابعته في مراحله المتطاولة ‪ ،‬وسارت به حتى انتهى إلى آدم عليه السلم ؟ ‪ ..‬أم كان وجود الخليقة في صورة‬
‫مجموعة من الشكال المتنوعة أو المتقاطرة على الساحة الرضية عبر الوجود الزمني الهائل ‪ ،‬وكان آدم أحد هذه الشياء ؟‬

‫إننا نبادر إلى نفي الشق الثاني من السؤال نفيًا قاطعًا لسباب تفرض نفسها ‪ :‬أن البشرية تعني في المفهوم الديني القرآني جنساً واحداً ‪،‬‬
‫ل عدة أجناس مقتبس بعضها من بعض على ما قررته النظرية الداروينية ‪ ..‬التي أسقطها العلماء في الشرق والغرب على السواء ‪.‬‬

‫وقد تميزت هذه الخليقة بصفات ثابتة في كل المراحل ‪ ..‬مشتركة بين أفرادها وأجيالها ‪ ..‬مختلفة عما عرفت به أجناس الخلئق الخرى‬
‫علَى َبطْنِ ِه َو ِمنْهُم مّن‬
‫خَلقَ كُلّ دَابّ ٍة مِن مّاء َفمِ ْنهُم مّن يَمْشِي َ‬
‫من خصائص وميزات وصفات ‪ ،‬وهو ما يعنيه قول ال تعالى ‪ {{ :‬وَالُّ َ‬
‫ن َو ِمنْهُم مّن َيمْشِي عَلَى أَ ْربَعٍ }} ‪ -‬النور ‪ ، .‬والعلم يؤكد صدق هذه الية بتقريره أن البشر منذ وجدوا كانوا يسيرون‬ ‫علَى رِجَْليْ ِ‬
‫يَمْشِي َ‬
‫منتصبي القامة ‪ ،‬بعكس الجناس الخرى ‪ ،‬والختلف في هذه الخاصية يعني تعدد أجناس الخلق ‪ ،‬وهو الحقيقة المقررة حتى الن فيما‬
‫نشاهد من أصناف الخلق ‪ ،‬ما َدقّ منها وما جَلّ ‪.‬‬
‫ن طِين }} ‪ ،‬وأن هذا البشر سوف يتعرض للتسوية والتعديل في‬ ‫ق بَشَرًا مِ ّ‬
‫ثم إن ال سبحانه وتعالى أخبر الملئكة أزلً أنه {{ خَـاِل ٌ‬
‫أطوار نضجه ‪ ،‬حتى يكتمل ‪ ،‬وحينئذ يتعين على الملئكة أن تسجد له ‪ ،‬فلو تعددت النواع الخلقية لما تقررت حكمة الخالق في أمره‬
‫بالسجود لهذا المخلوق بالذات ‪ ،‬دون غيره من أجناس الخلق الخرى ‪ ،‬فهو متعين منذ كان طيناً ‪ ،‬لم يخف أمره على ملئكة الرحمن ‪،‬‬
‫وهي تتابع ما يطرأ عليه من تغير وتنام عبر الدهور ‪ ،‬حتى أصبح بشرًا سوياً ‪ ..‬أي ‪ :‬إنسانا متكاملً ‪ ،‬هو آدم عليه السلم‬
‫ج َمعُونَ ‪ِ 73‬إلّ ِإبْلِيسَ ‪ - }} 74 ...‬ص ‪.‬‬ ‫{{ فَسَجَدَ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة كُّلهُمْ أَ ْ‬

‫ل نَسَْل ُه مِن سُلَلَ ٍة مّن مّاء مّهِينٍ ‪8‬‬


‫جعَ َ‬
‫إن منطوق القرآن ومفهومه يؤكدان وحدة الخلق البشري الذي بدأ بأول بشر خلق من طين ‪ {{ :‬ثُمّ َ‬
‫سمْعَ وَالَْبْصَا َر وَالَْ ْفئِ َدةَ ‪ - }} 9 ...‬السجدة ‪ ، .‬ول مانع في نظرنا من أن نتصور البشر الول‬‫جعَلَ َلكُمُ ال ّ‬
‫سوّاهُ َو َنفَخَ فِي ِه مِن رّوحِ ِه وَ َ‬
‫ثُمّ َ‬
‫جعَلَ َلكُمُ‬
‫بل وظيفة سمع ول بصر ‪ ،‬ول فؤاد ‪ ،‬ثم كان ذلك في مراحل مختلفة على طريق استكمال مقومات هذا الخلق البشري ‪ {{ :‬وَ َ‬
‫لْبْصَا َر وَالَْ ْفئِ َدةَ }} ‪ ( ،‬يجب أن نلحظ الفرق بين الخلق وهو اليجاد من عدم ‪ ،‬والجعل وهو تمكين الحاسة من أداء وظيفتها )‬ ‫سمْ َع وَا َ‬‫ال ّ‬
‫‪ ، .‬وقد سبقت الشارة إلى مغزى هذه المرحلة ‪ ،‬واللغة من أخطر مقومات هذا الخلق ‪ ،‬ويبدو أنها بلغت درجة من الكمال في المرحلة‬
‫الدمية الحاسمة ‪ ،‬حتى تفوق آدم على الملئكة في أول إختبار ‪.‬‬

‫لقد كانت ملحمة هائلة !! تلك التي استغرقها خلق البشر وتسويته وتزويده بالملكات العليا التي أصبح بها ( إنسانًا ) تتألق فيه كمالت‬
‫طفَى آ َدمَ ‪ - }} 33 ...‬آل عمران ‪ ، .‬فصار آدم نبياً ‪ ،‬كما قال سبحانه ‪ {{ :‬ثُمّ‬
‫صَ‬‫النبوة ‪ ،‬فاختاره ال واصطفاه كما قال ‪ِ {{ :‬إنّ الّ ا ْ‬
‫عَليْ ِه وَهَدَى ‪ - }} 122‬طه ‪.‬‬
‫ج َتبَاهُ َربّهُ َفتَابَ َ‬
‫اْ‬

‫لقد استغرقت هذه الملحمة ‪ -‬كما سبق أن قلنا مليين السنين ‪ ،‬ولكنها مرت ظلماً في ظلم ‪ ،‬أو ‪:‬‬
‫غيباً في غيب ‪ ،‬حتى أذن ال للصبح أن ينبلج ‪ -‬فأشرق النسان من سللة البشر ‪ ،‬واكتمل الخلق ‪،‬‬
‫وجاء آدم !!‬

‫وليس غريباً أن نتصور ‪ -‬بناء على هذا ‪ -‬أن آدم جاء مولودًا لبوين ( ذكر الشيخ رشيد رضا أن‬
‫وثنيي الهند يزعمون أن لدم أماً ‪ ،‬ولها في مدينتهم المقدسة ‪ -‬بنارس ‪ -‬قبر عليه قبة بجانب قبة قبره‬
‫‪ -‬المنار ‪ ، . ) 308 / 8‬وأن حواء جاءت كذلك ‪ ،‬على الرغم مما سوف يلقى هذا التصور من‬
‫معارضة تلقائية ‪ ،‬ورفض عنيف !! وبل تفكير !!‬
‫إن هذا التصور ل يتصادم في رأينا مع حقيقة خلق النسان من طين ‪ ،‬ذلك أن الخلق الذي بدأ منذ مليين السنين بالجسد الطيني ‪ -‬كان‬
‫هدفه النهائي والوحيد خلق ( آدم ) ‪ ،‬وكل ما مضى من أحداث بين التاريخين ‪ -‬إن كان ثمة تاريخ ‪ -‬إنما هو وقائع بناء جسد آدم ‪،‬‬
‫سنَ ٌة استمرت‬
‫وعقله ‪ ،‬وروحه ‪ ،‬وملكاته ‪ ،‬وخصائصه ‪ ،‬وقد تم ذلك كله في غيبوبة الزمان ‪ ،‬حيث استوى الصفر والمليون ‪ ،‬فما هي إل ِ‬
‫بضعة مليين من السنين حتى استوى النسان ‪ ( ..‬آدم ) الذي نبت من التراب ‪ ،‬وانبثق من الرض ‪ ،‬لقد تبددت الحداث والوقائع ‪ ،‬ولم‬
‫يبق منها سوى الحقيقة الترابية ‪.‬‬

‫وهو تصور ليس غريباً ‪ ،‬ول بعيداً عن الواقع الذي قرره القرآن ‪ -‬مثلً ‪ -‬عن الخرة حين قال تعالى ‪ {{ :‬كََأّنهُمْ َيوْ َم يَ َروْ َنهَا لَ ْم يَ ْل َبثُوا ِإ ّ‬
‫ل‬
‫جبّه كل الحداث مهما تعاظمت ‪ ،‬واستغرقت‬ ‫شيّةً َأوْ ضُحَاهَا ‪ - }} 46‬النازعات ‪ .. .‬أي ‪ :‬إن الزمان يكون قد انطوى ‪ ،‬وسقطت في ُ‬ ‫عَ ِ‬
‫ض َيوْمٍ فَاسْأَلْ ا ْلعَادّينَ ‪ 113‬قَالَ إِن ّل ِب ْثتُمْ ِإلّ قَلِيلً ّلوْ‬
‫مئات السنين ‪ ،‬وهو كذلك ما قرره القرآن في قوله تعالى ‪ {{ :‬قَالُوا َل ِبثْنَا َيوْمًا َأ ْو بَعْ َ‬
‫َأّنكُمْ كُنتُمْ َتعَْلمُونَ ‪ - }} 114‬المؤمنون ‪.‬‬

‫وبهذا تكون الحقيقة الترابية أثبت الحقائق وأبرزها في وجود كل مخلوق يدخل في مضمون الضمائر ( أنا ‪ -‬ونحن ‪ -‬وأنت ‪ -‬وأنتِ ‪-‬‬
‫حمَإٍ‬
‫وأنتما ‪ -‬وأنتم ‪ -‬وأنتن ‪ -‬وهو ‪ -‬وهي ‪ -‬وهما ‪ -‬وهم ‪ -‬وهن ) ‪ ،‬وخبرها جميعاً ( من تراب ) ‪ {{ :‬صَ ْلصَالٍ مّنْ َ‬
‫مّسْنُونٍ }}‬

‫== البـــــاب الثاني ==‬


‫وقائـــع القصــة‬

‫{{ الفصــــل الول }}‬


‫البشـــر واللغـــــــة‬
‫‪------‬‬

‫كانت اللغة هي معجزة الخلقالتي أثمرها تزويد المخلوق البشري بالملكات العليا ‪ ،‬وفي قمتها ‪ :‬العقل ‪ ..‬وإذا كان البشر قد عاشوا مليين‬
‫السنين حتى تتم عملية التسوية ‪ ،‬والنفخ اللهي ‪ -‬فإن من أخطر مظاهر الكمال الخِ ْلقَي أن يدرك الفراد معنى العلقات المتبادلة فيما‬
‫بينهم ‪ ،‬وهي علقات ل يمكن أن تتحقق إل من خلل اللغة ‪ ،‬ونحن نستخدم ( اللغة ) هنا بالمفهوم العام الذي يشمل الجاذبية الجنسية ‪،‬‬
‫وهي أقدم لغة وصلت مابين طرفي النوع البشري من أول لحظة ‪ ،‬كما يشمل التدافع والحتكاك المادي ‪ ،‬والشارة والصوت المبهم ‪..‬‬
‫إلخ ‪ ،‬وعلى طريق النضج البشري بدأت الجوارح تصل ما بين الفرد والفرد ‪ ،‬وما بين الذكر والنثى ‪ ،‬ونحسب أن صوت الجنس كان‬
‫أقدم الصوات التي صدرت عن البشر أو صرخوا بها ‪.‬‬

‫وكما بدأت وظائف الجوارح تتحدد في سلوكيات مادية ‪ ،‬قابلة للترقي والتطوع والتنويع ‪ ،‬وما أشبه البشر آنذاك ‪ -‬والزمان طفل لم‬
‫جكُم مّن ُبطُونِ‬
‫يتجاوز بضعة مليين من السنين ‪ -‬بأطفالنا الن في أيامهم الولى ‪ ،‬وهو ما عبرت عنه الية الكريمة ‪ {{ :‬وَالّ أَخْرَ َ‬
‫شكُرُونَ ‪ - }} 78‬النحل ‪.‬‬
‫سمْ َع وَالَبْصَا َر وَالَ ْفئِ َدةَ َلعَّلكُ ْم تَ ْ‬
‫جعَلَ َلكُمُ الْ ّ‬
‫شيْئًا وَ َ‬
‫ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ َ‬

‫ومن المسلم به علمياً أن وجود البشر كان مسبوقًا بوجود الكائنات الخرى من الطير والحيوان في البر والبحر ‪ ،‬وكانت هذه تشكل عالماً‬
‫من الكائنات بأشكالها وأنواعها ‪ ،‬كما كان لها تأثير مباشر على الوجود البشري ‪ ،‬فمنها كان قوت البشر ووسائل عملهم ‪ ..‬بل تولى بعض‬
‫الطيور مهمة تعليم هذا المخلوق ما هو بحاجة إليه من سلوكيات ‪ ،‬ودور الغراب في قصة أبني آدم ذو دللة ظاهرة في هذا المجال ‪:‬‬
‫سوْءةَ أَخِيهِ ‪ - }} 31 ...‬المائدة ‪ ، .‬أي ‪ :‬إن النسان في مطلع فجره لم يكن‬
‫ف ُيوَارِي َ‬
‫{{ َف َبعَثَ الّ غُرَابًا َيبْحَثُ فِي الَرْضِ ِليُ ِريَ ُه كَيْ َ‬
‫يدفن جثث الموتى من جنسه ‪ ،‬حتى شاهد ‪ -‬وهو في قمة مأساته ‪ -‬الغراب يلقنه درس الدفن ‪ ،‬بعدما بلغ سن الرشد ‪ ،‬ودخل في المرحلة‬
‫الدمية الجديدة ‪ ،‬ول يبعد أن نتصور أن البشر كانوا في بداية وجودهم ‪ ،‬وقبل رشدهم يتآكلون ويتفارسون ‪ ..‬أي ‪ :‬يأكل بعضهم بعضاً ‪.‬‬

‫ولو أننا تصورنا حياة الصدام ‪ ،‬والصراع بين البشر وسائر أجناس الخلق ‪ -‬فإن ذلك يعني أن العلقات بين الموجودات والبشر كانت‬
‫هي القوت اليومي ‪ ،‬بوجهيها ‪ :‬السلبي واليجابي ‪.‬‬

‫وقد كانت هذه العلقات تتنامى دائماً ‪ ،‬كمًا وكيفاً ‪ ، ،‬وهي تحدث بصماتها ‪ ،‬وتحفر في العقل البشري آثارها ‪ ،‬وكان البشر قد مـيزوا‬
‫بالفـؤاد ‪ ،‬أي ‪ :‬بالعقل ‪ ،‬وهو ما يعني أنهم كانوا قادرين على الحتفاظ بالتجربة في ذاكرتهم ‪ ،‬ثم صاروا يفيدون من رصيد التجارب‬
‫المتراكمة ‪ ،‬في الحركة ‪ ،‬وفي الصوت ‪.‬‬

‫لقد كانت للطير أو للحيوان طريقته التي ل تتغير في التعامل مع جنسه ‪ ،‬وغير جنسه ‪ ،‬ولكنه يأتيمن ذلك ما يوصف بالتلقائية البدية ‪،‬‬
‫والثبات الغريزي المتواصل عبر مليين السنين ‪ ،‬وإن حدث تغير أحياناً في الشكل ‪ ،‬أما رصيد التجارب البشرية فقد كان في نمو دائم ‪،‬‬
‫وتغير مستمر ‪ ،‬رغبة في تحسين الداء ‪ ،‬وتمكين الجنس البشري من السيطرة على سائر الجناس ‪ ،‬ومن هنا كان التوجه إلى استخدام‬
‫الدوات الحجرية لمضاعفة القدرة ‪ ،‬وتأمين السيطرة ‪ ..‬هذا من جانب الحركة ‪.‬‬

‫فأما من جانب الصوت فقد كان أغزر مادةً ‪ ،‬وأكثر حدوثاً ‪ ،‬إذ كانت الضوضاء ‪ -‬وما زالت ‪ -‬هي غذاء الحياة وقوتها ‪ ،‬ودليلها ‪ ،‬سواء‬
‫صدرت الضوضاء عن البشر ‪ ،‬أم صدرت عن المادة المتعلقة بالحركة ‪ ،‬وليس بوسع مخلوق أن يأتي بحركة إل مقترنة بصوت ‪،‬‬
‫ينبعث من أثر إحتكاك المادة بعضها ببعض ‪ ،‬أو يصدر عن النسان ‪ ،‬وهو يتعامل معها ‪ ،‬ثم يتحول الصوت إلى مقطع ‪ ،‬ثم إلى كلمة ‪،‬‬
‫ثم إلى درجات من التركيب المتنوع ‪ ،‬ثم تتطور هذه الحالة التي اقترن فيها الصوت بالحركة ‪ ،‬ليصدر الصوت مستقلً عن الحركة ‪ ،‬وقد‬
‫يكون في هذا الحال مجرد صوت ‪ ،‬وقد يرتبط بهدف حيوي ‪ ،‬أو تعبير عاطفي ‪ ،‬وهكذا نشأت اللغة البشرية ‪ ،‬مع التجاوز البالغ عن‬
‫تفاصيل كثيرة ‪ ..‬كثيرة جدًا تتعلق بأوعية الزمان والمكان ‪ ،‬واحتمالت الفعل والترك ‪ ،‬واليجاب والسلب ‪ ،‬والعطاء والمنع ‪ ،‬والذكاء‬
‫والغباء ‪ ،‬والتناقض والستواء ‪ ..‬إلخ ‪.‬‬

‫ول شك أن البشر كانوا محوطين بأصوات أخرى تصدر عن الطيور والحيوانات ‪ ،‬ولهم من دون الخلئق جميعاً قدرة على تقليد‬
‫الصوات ‪ ،‬ونادر من الطيور ما عرف بتقليد الصوات ( الببغاء ) ‪ ،‬أما النسان فقد لذ له دائماً التخاطب مع تلك الكائنات ‪ ،‬أو التجارب‬
‫معها من باب التسلية أو الترويض ‪ ،‬وقد لحظ أولئك البشر أن لكل كائن نوعاً من الضوضاء يستخدمه في قيادة القطيع ‪ ،‬أو نداء‬
‫النثى ‪ ،‬أو تحذير الصغار ‪ ،‬أو مواجهة الخطار ‪ ،‬فلم ل يكونوا كذلك ‪ ،‬وهم يملكون قدرة هائلة على التنويع ‪ ،‬وهم ‪ -‬كذلك ‪ -‬يعقلون‬
‫المعنى الوظيفي للصوت حين ينطلق بوجه من الوجوه ‪ ،‬ولم ل يكون تعاملهم مع هذه الكائنات من قناة اللغة ‪ ،‬بحيث يضعون لها أسماء‬
‫تميزها عند التعامل معها ‪.‬‬

‫هكذا تخلقت اللغة خلل مليين السنين ‪ ،‬حتى صارت مكونة من أصوات متشخصة ‪ ،‬وكلمات متخصصة ‪ ،‬وحتى أصبحت تضم‬
‫اللوف من الكلمات ‪ ..‬بل حتى تنوعت فبلغت عدة اللغات أكثر من ألفي لغة ينطقها النسان الن ‪ ،‬وكلها مبنية على عدد محدد من‬
‫الصوات هو غاية ما يصدره جهاز النطق ‪ ،‬ل يزيد ول يتنوع ‪.‬‬

‫لقد أولع كثيرون بالبحث عن أصل اللغة ‪ ،‬فمن قائل ‪ :‬إنها من وحي ال ‪ ..‬نزّله على بعض عباده من النبياء ‪ ،‬كآدم ‪ ،‬وإسماعيل !!‬
‫وللجاحظ هنا مقولة ‪ :‬إن ال فتق لهاة إسماعيل بالعربية على غير مثال سبق ( مختارات فصول الجاحظ ‪ /‬مخطوط بدار الكتب ) ‪.‬‬
‫وقائل ‪ :‬إنها مواضعة حددت لكل شيء اسمه المتفق عليه ‪ -‬وهو قول ابن جنى في ( الخصائص ‪. ) 44 / 1‬‬
‫وقائل ‪ :‬إنها محاكاة لصوات الطبيعة !!‬
‫وقائل ‪ :‬إنها نتيجة إنفعالت تعرض لها النسان !!‬

‫وتصور أستاذنا الدكتور إبراهيم أنيس ‪ -‬رحمة ال عليه ‪ ( -‬أن الكلمات النسانية الناشئة كانت كثيرة المبنى ‪ ،‬قليلة المعنى ‪ ،‬فالمجتمع‬
‫جماعة من الشباب يمرحون ‪ ،‬ويلعبون ‪ ،‬ويستمتعون بالنطق ‪ ،‬دون هدف معين سوى المتعة واللعب بألسنتهم ‪ ،‬كما كانوا يلعبون بأيديهم‬
‫وأرجلهم ‪ ،‬أي ‪ :‬إن اللغة نشأت في صورة لعب ممتع ‪ ،‬ل يهدف إلى إيصال معنى إلى السامع ‪ ..‬بل كانت أشبه بمناغاة الطفل وأصواته‬
‫المبهمة ‪ ..‬فلم يكن النسان الول معنيًا بالفكار ‪ ،‬ولكن عنايته كانت مقصورة على الغرائز والعواطف ‪ ،‬ولعل الحب والغريزة الجنسية‬
‫أقوى هذه العواطف ‪ ،‬فهو ينطق أو يصوت ليستلفت انتباه الليف ‪ ،‬ويثبت وجوده واستقلله ‪ ،‬كالطير حين ينتقل من فنن إلى فنن ‪ ،‬وهو‬
‫يغني غناءً متواصلً ‪ ،‬لعله بهذا ينال الحظوة لدى أليفة من الطيور ‪.‬‬

‫كذلك كان النسان الول يغني في أثناء صيده ‪ ،‬وفي حربه ‪ ،‬وفي كل ما يقوم به ‪ ..‬غنا ًء ل كغنائنا ‪ -‬يهدف إلى الطرب ‪ -‬وإنما هو‬
‫تصويت منسجم تتردد فيه الصوات والمقاطع ‪.‬‬

‫ثم تطور هذا النطق من مجرد اللعب والمتعة ‪ ،‬وأصبح ذا هدف فيما بعد ‪ ،‬واستغل في التعبير عن كل ما يدور بخلد النسان من خير أو‬
‫شر ( دللة اللفاظ صفحة ‪ 23‬وما بعدها ) ‪.‬‬

‫والواقع أن كل افتراض لتفسير نشأة اللغة له نصيب ‪ ،‬ولو ضئيل ‪ ،‬من الصواب ‪ ،‬فكل الراء تجتمع لتنسج ثوب اللغة في صورة مكتملة‬
‫‪ ،‬غير أنها جميعاً وقعت في خطأ مشترك هو خلطها بين البشر والنسان من ناحية ‪ ،‬وتصورها أن اهتداء النسان للغة كان خلل الفترة‬
‫الزمنية القريبة التي عاشها النسان منذ آدم عليه السلم باعتباره أول المخلوقات ‪ ..‬من ناحية أخرى ‪.‬‬

‫والحق الذي نؤمن به هو أن اللغة ظاهرة بشرية معقدة شديدة التعقيد ‪ ،‬ظهرت في حياة البشر على مدى المليين من السنين التي عاشوها‬
‫قبل ظهور آدم عليه السلم ‪ ،‬وقد بلغت درجة من الكمال باعتبارها أداة تعامل على مشارف العهد النساني الدمي ‪ ،‬حتى تحملت ما دار‬
‫من حوار بين ال وملئكته ‪ ،‬وبين ال وإبليس ‪ ،‬وبين ال وآدم وجواء ‪ ،‬بكل ما حوته هذه الحوارات من معان دقيقة وراقية ‪ ..‬أقرب‬
‫شيء إلى التجريد ‪ ،‬والتجريد مستوى من الرقي اللغوي ل تعرفه سوى اللغات الحضارية الناضجة التي تجاوزت المحسوس من المجرد‬
‫‪.‬‬

‫بل إننا حين نقرأ قصة ابني آدم ( هابيل وقابيل ) يبهرنا فيها غزارة التجريد في المعنى ‪ ،‬وثراء اللفظ ‪ ،‬حتى إن النسانية مازالت دون‬
‫بلوغ الفق الخلقي والقيمي الذي عبرت عنه تلك القصة ‪ ،‬مما يدل على درجة من الحضارة الدينية ‪ ،‬بلغها النسان في ذلك الزمان ‪،‬‬
‫بعد أن كافح مليين السنين في مرحلة البشرية ‪.‬‬

‫ل لَ ْقتَُلّنكَ‬
‫ل مِنَ الخَرِ قَا َ‬
‫ل مِن أَحَدِ ِهمَا وَلَ ْم ُيتَ َقبّ ْ‬ ‫حقّ إِذْ قَ ّربَا قُ ْربَانًا َفُتقُبّ َ‬
‫عَليْهِ ْم َنبَأَ ا ْبنَيْ آ َد َم بِالْ َ‬
‫ولنقرأ نص القصة ‪ .‬بقول ال تعالى ‪ {{ :‬وَاتْلُ َ‬
‫سطٍ يَدِيَ ِإَل ْيكَ لَ ْقتَُلكَ ِإنّي أَخَافُ الّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ‪ِ 28‬إنّي أُرِيدُ أَن‬ ‫ل مِنَ ا ْل ُمّتقِينَ ‪َ 27‬لئِن بَسَطتَ إِلَ ّ‬
‫ي يَ َدكَ ِل َت ْقتَُلنِي مَا َأنَ ْا ِببَا ِ‬ ‫قَالَ ِإنّمَا َيتَ َقبّلُ ا ّ‬
‫ح مِنَ الْخَاسِرِينَ ‪َ 30‬ف َبعَثَ‬ ‫صبَ َ‬‫عتْ لَ ُه َنفْسُهُ َقتْلَ أَخِيهِ َف َقتَلَهُ َفأَ ْ‬ ‫طوّ َ‬ ‫ن مِنْ َأصْحَابِ النّا ِر وَذَِلكَ جَزَاء الظّاِلمِينَ ‪َ 29‬ف َ‬ ‫تَبُوءَ بِِإ ْثمِي وَِإ ْث ِمكَ َفتَكُو َ‬
‫صبَحَ‬ ‫سوْءةَ أَخِي فَأَ ْ‬
‫ن ِمثْلَ هَـذَا ا ْلغُرَابِ فَُأوَارِيَ َ‬ ‫ل يَا وَيَْلتَا َأعَجَ ْزتُ أَنْ َأكُو َ‬ ‫سوْءةَ أَخِيهِ قَا َ‬ ‫ف ُيوَارِي َ‬‫الّ غُرَابًا َيبْحَثُ فِي الَرْضِ ِليُرِيَ ُه َكيْ َ‬
‫مِنَ النّا ِدمِينَ ‪ - }} 31‬المائدة ‪.‬‬

‫لقد ذكرت القصة ‪ :‬القربان ‪ ،‬وهو معنى ديني خاص ‪ ،‬وذكرت قبول القربان أو عدم قبوله ‪ ،‬ودللة ذلك على التقوى ‪ ،‬والتهديد بالقتل‬
‫والتسامح في مواجهة التهديد ‪ ،‬خوفاً من ال ‪ ،‬رب العالمين ‪ ،‬وذكرت ‪ :‬مفهوم الثم ‪ ،‬ومضاعفته ‪ ،‬وعاقبة الظلم ‪ ،‬وهي النار ‪ ،‬وسيطرة‬
‫النفس المارة بالشر على القاتل حتى قتل أخاه ‪ ،‬وصار بذلك خاسراً دنياه وأخراه ‪ ،‬وأخيراً ذكرت الدرس الذي تلقاه القاتل من الغراب ‪،‬‬
‫فتحول فعل الطير إلى معنى كبير من لوم النفس ‪ ،‬والندم العميق ‪.‬‬

‫وكل هذه المعاني الدينية ذات دللة على الرقي النسبي الذي بلغه النسان ‪ ،‬لعهد آدم ‪ ..‬لقد اجتازت اللغة مرحلة التعبير المادي فأصبحت‬
‫معبرة عن المعاني الغيبية ‪ ..‬أي ‪ :‬إنها عبرت مستوى الحقيقة إلى المجاز ‪ ،‬وهو تقدم خطير ‪ ،‬لم تبلغه البشرية إل عبر مليين السنين ‪،‬‬
‫وقد توجت هذه المرحلة باصطفاء آدم ‪ ،‬نبياً يحمل رسالة ال إلى بنيه ‪ ،‬وهم الجيل الول من أجيال النسانية ‪.‬‬

‫ومن المعاني الغيبية المجردة ذات الدللة العميقة على مذهبنا هذا ‪ -‬ما جرى على لسان إبليس وهو يغري آدم وزوجه بالكل من الشجرة‬
‫عنْ هَـ ِذهِ الشّجَ َرةِ ِإلّ أَن َتكُونَا مََلكَيْنِ َأ ْو َتكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ‪ - }} 20‬العراف ‪ !! .‬فمتى عرف‬
‫المحرمة ‪ -‬قال ‪ {{ :‬مَا َنهَاكُمَا َرّبكُمَا َ‬
‫آدم وزوجه معنى الخلود ؟ وكيف لهما أن يتخيله ‪ ،‬وهو معنى مرتبط بواقع لم يحدث من قبل ‪ ،‬على فرض أنهما أول المخلوقات‬
‫البشرية ؟؟ ونعني به واقع ( الموت ) وهو ضد الخلود ؟‬

‫إن ذلك يؤكد أنهما عاينا أجيالً سابقة حصدها الموت ‪ ،‬وابتلعها الفناء ‪ ،‬ولعل الخلود أو البقاء كان حلمًا يراودهما ‪ ،‬فجاءهما الشيطان من‬
‫هذا الباب وقد عرف حلمهما ‪ ،‬أو نقطة ضعفهما ‪ ،‬فقاسمهما ‪ِ {{ :‬إنّي َلكُمَا َلمِنَ النّاصِحِينَ ‪َ 21‬ف َدلّهُمَا ِبغُرُورٍ ‪ - }} 22 ...‬العراف ‪.‬‬

‫إننا ل نشك في أن آدم قد صنع على عين ال ‪ ،‬وأنه ظفر برعاية ربانية استثنائية جعلته في ذاته معجزة إلهية ‪ ،‬وكان آدم بذلك مدداً‬
‫للمرحلة القادمة التي بدأت به مع زوجه حواء ‪ ،‬ومن خلل آدم بدأت النسانية مسيرتها بخطوات قاصدة راشدة ‪ ،‬على حين بادت‬
‫الموجودات البشرية الطليقة الشاردة لتبدأ المرحلة الجديدة ‪ ..‬مرحلة التكليف الديني ‪ ..‬بعبادة الله الخالق الواحد ‪ ،‬بعد‬
‫أن تم للنسان التعرف على الكون من حوله ‪ ،‬من خلل السماء التي تحدد وجود كل شيء والتي أعانه ال سبحانه على استيعابها ‪.‬‬

‫ونعود إلى حديث اللغة فنقول ‪:‬‬


‫لقد اقترنت نشأة اللغة بمجموعة هائلة من الصدف العشوائية ‪ ،‬يجل حصرها ‪ ،‬وكان المخلوق البشري أشبه بطفل جلس إلى جهاز كمتور‬
‫( الكمتور ‪ :‬نحت عربي ‪ -‬للمؤلف ‪ -‬من كلمة كمبيوتر ) ضخم ذي مفاتيح كثيرة ‪ ،‬فأخذ الطفل في البداية يلمس هذه المفاتيح ‪ ،‬ويرقب‬
‫أثر لمساته ‪ ،‬وكلما وجد أثراً على شاشة الجهاز كرر اللمس ليستمتع به أو بغيره ‪ ،‬حتى تكونت بينه وبين الجهاز أُ ْلفَة أغرته بالمذيد ‪،‬‬
‫فمضى يستخدم خبراته المثبتة نتيجة التكرار ‪ ،‬ويبني تجارب أخرى مركبة من تجاربه البسيطة ‪ ،‬إلى أن سيطر على الجهاز مع تقدمه‬
‫في العمر ‪ ،‬وصار به خبيرًا ‪ ..‬فكذلك النسان الذي ورث التراث البشري ‪ ،‬وتألقت في شخصه كل المواهب البشرية ‪ ،‬وزاده ال مدداً‬
‫وتعليماً ‪ ،‬فكان آدم عليه السلم العلمة الولى لبدء عهد جديد ‪ ،‬هو عهد النسان المتدين ‪ :‬آدم وبنيه ‪.‬‬

‫وبقى سؤال لم يطرحه أحد ممن تناولوا هذه القصة في القديم والحديث ‪ ،‬وهو ‪ :‬من أين جاءت تسمية آدم ؟‬

‫والسم رمز المسمى ؛ فهل يمكن أن يطلق على آدم هذا السم دون أن تكون البشرية قد قطعت شوطًا هائلً في الرقي اللغوي قبل مرحلة‬
‫سمَاء كُّلهَا ‪ - }} 31 ...‬البقرة ‪ - .‬فهل ل يوحى منطوق الية على هذا النحو‬
‫النسانية الدمية ؟ وإذا قرأنا قوله تعالى ‪ {{ :‬وَعَلّمَ آدَمَ الَ ْ‬
‫بأن الساحة كانت حافلة بأسماء كثيرة لموجودات مادية ‪ ،‬أو أسماء لمعان مجردة ‪ ،‬وأن حصيلة ذلك كانت في عقل آدم ؟ أو استطاع آدم‬
‫أن يحصلها !!‬

‫قد يقول قائل ‪ :‬إن اسم ( آدم ) هو اختيار ال ‪ ،‬أطلقه على أول خليقة في الرض !!‬

‫ولكن التناسب الذي نجده بين السم والمسمى ‪ ..‬أي ‪ :‬بين معنى كلمة ( آدم ) والمادة التي ينتمي إليها وهي ( أديم الرض ) ‪ -‬هذا‬
‫التناسب ل يمكن أن يتصور حدوثه على سبيل الصدفة أو الفجاءة ‪ ،‬فالفجاءة خروج على سنة ال في الخلق والتسوية والبداع ‪ ،‬وهو‬
‫آيات العظمة اللهية ودلئلها ‪ .‬فلم يبق إل أن نفترض مستوى من النضج اللغوي بلغته البشرية في أواخر مرحلتها ‪ ،‬وفي بواكير العهد‬
‫النساني ‪ ،‬وهو ما يعني أن العربية قديمة ‪ ..‬قدم التاريخ النساني على هذه الرض ‪ ..‬على القل ‪.‬‬

‫لقد زعم العبرانيون أن لغتهم هي أقدم اللغات وأصلها وهو ما لم يسلّم به أحد من علماء اللغات لنعدام الدليل على صحة مقولتهم ‪ ،‬أما‬
‫نحن فنرى ‪ -‬انطلقًا من ملحظاتنا السابقة ‪ -‬أن العربية هي الصل والقدم ‪ ،‬ولذا كان اختيار ال لها في كل ما دار من حوار جرت به‬
‫أحداث هذه القصة ‪.‬‬

‫{{ الفصل الثاني من الباب الثاني }}‬

‫النســــان والملئـــــكة‬

‫الملئكة عالم من عوالم الكون التي برأها ال ‪ ،‬خلقهم من مادة النور ‪ ،‬بهذا جاء الحديث الشريف برواية أحمد ومسلم رضي ال عنهما ‪:‬‬
‫( خلقت الملئكة من نور ‪ ،‬وخلق الجان من نار ‪ ،‬وخلق النسان مما وصف لكم ) ‪ ،‬وليس بلزم أن نبحث‬
‫في ماهية هذا النور ‪ ،‬وهل هو النور الذي نألفه من مصدر كالقمر ‪ ،‬أو الضوء الذي عهدناه من مصدر الشمس ‪ ،‬أو هو نور آخر مختلف‬
‫العناصر والطياف ل ندري كنهه ؟ ويكفي أن نذكر قياسًا يَقـِــفُنا عند حدود أقدارنا ‪ ،‬فقد خلقنا ال من تراب ‪ ،‬وشتان ما بين هذا التراب‬
‫واللحم الدمي في الشكل ‪ ،‬وإن اتحدت عناصرهما عند التحليل ‪ ،‬فالمسافة هائلة ل يمكن للعقل أن يقطعها ‪ ،‬وكذلك الملئكة ‪ ..‬هم من‬
‫النور ‪ ،‬ومع ذلك نتصور أن هيئتهم التي خلقوا عليها بعيدة جداً عن مادة النور التي نألفها ‪ ،‬وكل مانملكه هو أن نؤمن بهم كما أخبر ال‬
‫عنهم ‪ ،‬وكما طلب منا اليمان بهم ‪ ،‬فهم ملئكة ال وجنده ‪ ،‬وهم جزء من عالم الغيب الذي حجبت عنا حقيقته ‪ ،‬واستحالت علينا رؤيته ‪،‬‬
‫ولعلنا نتذكر هنا أن البشر قد كانوا في أقدار الخلق هم العالم الظاهر ‪ ،‬في مقابل العالمين المخلوقين الخفيين ‪ ،‬عالم الملئكة وعالم الجن ‪،‬‬
‫وما شاء ال من خلق ل نعلمه ‪.‬‬

‫ونحن من خلل الدين ندرك الدور الذي تؤديه الملئكة في عالمنا النساني ‪ ،‬فمنهم ملهمون بالخير ‪ ،‬ومنهم حفظة ‪ ..‬سفرة ‪ ..‬كرام‬
‫كاتبون ‪ ،‬ومنهم حملة العرش ‪ ،‬ومنهم ملئكة السماء والسحاب والمطر والرزاق والقدار ‪ ،‬ومنهم الموكلون بحياة العباد وموتهم ‪ ..‬إلى‬
‫سمَاوَاتِ وَالَْرْضِ َومَنْ عِن َدهُ‬
‫ما ل يحصى من مهام خصهم ال بالقيام عليها في إدارة الكون ‪ ،‬في السموات والرض ‪َ {{ :‬ولَ ُه مَن فِي ال ّ‬
‫ل وَالّنهَا َر لَ َي ْفتُرُونَ ‪ - }}20‬النبياء ‪.‬‬
‫ستَحْسِرُونَ ‪ 19‬يُسَبّحُونَ الّليْ َ‬
‫عبَا َدتِ ِه َولَ يَ ْ‬
‫عنْ ِ‬
‫ستَ ْكبِرُونَ َ‬
‫لَ يَ ْ‬

‫علقة النســــان بالملئـــــكة‬

‫بدأت علقة النسان بالملئكة على مشارف المرحلة البشرية ‪ ،‬وذلك حين أعلم ال الملئكة أنه خلق أو أنه يريد خلق ( بشر من طين ) ‪،‬‬
‫وإعداداً لهم في مواجهة ما سوف يحدث من متغيرات على ساحة الرض ‪ ،‬وقد إختارها ال ليجاد هذه الخليقة البشرية ‪ ،‬بعد أن جعلها‬
‫مهداً ‪ ،‬وكان البلغ اللهي منطوياً على جملة من العناصر المستقبلية إضافة إلى ما كان منجزاً منه ‪ ..‬كان ( خلق البشر ) قد أنجز ‪ ،‬أو‬
‫ق بَشَرًا }} ‪ ،‬ثم جاءت المور المستقبلية في شكل هذا السلوب الشرطي‬ ‫هو بسبيله إلى النجاز ‪ ،‬وهو دللة الجملة الولى ‪ِ {{ :‬إنّي خَاِل ٌ‬
‫س ّويْتُ ُه َو َنفَخْتُ فِي ِه مِن رّوحِي َفقَعُوا َلهُ سَاجِدِينَ }} ‪ ،‬وكأن ال يريد من الملئكة أن تراقب ما يحدث من تغييرات في أحوال‬
‫‪ {{ :‬فَِإذَا َ‬
‫هذا المخلوق الظاهر وصفاته ومقوماته ‪ ،‬حتى يسجدوا له كما أمرهم ‪ ،‬إذعانًا لمره ‪ ،‬وإعظاماً لروعة إبداعه ‪ ،‬ومضت مليين السنين ‪،‬‬
‫وطحنت عشرات اللوف من الجيال ‪ ،‬وربما مئاتها في عملية التسوية والتزويد بالملكات العليا والملئكة تراقب أحوال ذلكم المخلوق‬
‫وتحركاته ‪ ،‬حتى آن أوان السجود ‪.‬‬

‫كان المدخل إلى معرفتهم بأن السجود قد آن أوانه خطاب ال سبحانه لهم بقوله ‪ِ {{ :‬إنّي جَاعِلٌ فِي الَ ْرضِ خَلِيفَةً ‪ - }} 30 ...‬البقرة‬
‫‪ ، .‬وهو خطاب يتضمن إخبارهم بأن التسوية قد تمت ‪ ،‬وقد صار البشر مزوداً بالنفخة من روح ال ‪ ،‬وكان لهذا القول وقع المفاجئة على‬
‫أسماعهم ‪ ،‬فهم يتابعون منذ مليين السنين أحوال هذا المخلوق ( البشر ) ‪ ،‬ويعاينون من شئونه ما يحيرهم ‪ ،‬ولذلك بادروا إلى سؤال‬
‫حمْ ِدكَ َوُنقَ ّدسُ َلكَ ‪ - }} 30 ...‬البقرة ‪ ، .‬وكأنهم يقولون‬
‫ح بِ َ‬
‫سبّ ُ‬
‫ن نُ َ‬
‫س ِفكُ ال ّدمَاء وَنَحْ ُ‬
‫جعَلُ فِيهَا مَن ُيفْسِدُ فِيهَا َويَ ْ‬
‫المولى عز وجل ‪َ {{ :‬أتَ ْ‬
‫لربهم ‪ :‬أهذا هو المخلوق الذي أمرتنا بالسجود له ‪ ،‬حين أخبرتنا بخبره منذ مليين السنين ؟ لقد راقبنا أحواله منذ ذلك العهد السحيق ‪،‬‬
‫فما رأينا منه غير الفساد في الرض ‪ ،‬وسفك الدماء ‪ ،‬وهم يشيرون بذلك إلى السلوكيات الحيوانية التي كان عليها البشر في مختلف‬
‫مراحل تسويتهم ‪ ،‬حتى إكتمال ملكاتهم بالنفخة اللهية وثمراتها ‪.‬‬

‫ويحلوا لبعض المفسرين ‪ -‬أو لجمهورهم ‪ -‬أن يفترضوا أن الملئكة كانوا يرون أنهم جديرون بهذه الخلفة دون البشر ‪ ،‬وهو افتراض‬
‫ل يقبله العقل ‪ ،‬فقد كانوا يتمتعون بميزات الشهود والقرب من ال سبحانه وتعالى ‪ ،‬وهي مرتبة عليا في سلم المخلوقات ‪ -‬لم يبلغها‬
‫غيرهم من الكائنات الخرى !! إن الكون كله صفحة مبسوطة بين أيديهم وأنوارهم ‪ ،‬يرتادون آفاقه ‪ ،‬ويجوبون أنحاءه ‪ ،‬ويعلمون من‬
‫أمره ما أذن ال لهم بعلمه ‪ ،‬وأين هذا البهاء والسناء من أحوال ذلك المخلوق الحيواني ‪ ،‬اللزق بالرض ‪ ،‬النابت من التراب ‪ ،‬المعربد‬
‫في ممالك الطير والحيوان ‪ ،‬السافك لدماء جنسه وغير جنسه ؟!‬

‫فما الذي تتمناه الملئكة أكثر مما هي فيه من اتصال بالمل العلى ؟ ‪ ..‬إن معنى سؤال الملئكة ل يتضمن رغبتهم في تلك الخلفة ‪ ،‬أو‬
‫حسد البشر عليها ‪ ..‬بل هو تعبير عن إستغرابهم لما يتوقعونه من استمرار الفساد ‪ ،‬وتذايد التشويش في الرض على تسبيحهم وتحميدهم‬
‫ك }} ‪ -‬موقع الحال ‪ ،‬أي ‪ :‬إننا غارقون في‬ ‫ك وَ ُنقَ ّدسُ َل َ‬
‫حمْ ِد َ‬
‫ح بِ َ‬
‫ن نُسَبّ ُ‬
‫وتقديسهم لجلل ال وعظمته ‪ ،‬فموقع الجملة الملئكية ‪َ {{ :‬ونَحْ ُ‬
‫أنوار التقديس ‪ ،‬في حين أن هؤلء والغون في بحار الدماء ‪ ،‬ل يعرفون ديناً ‪ ،‬ول يعبدون إلهاً ‪.‬‬
‫ل تَعَْلمُونَ }} ‪ ،‬وسكتت الملئكة ‪.‬‬
‫وقال ال ‪ِ {{ :‬إنّي أَعَْل ُم مَا َ‬

‫س ِفكُ ال ّدمَاء }} ‪ ،‬فهي إشارة إلى إنتشار جرائم القتل في تلك العهود‬
‫ونبادر هنا على إلى تسجيل ملحظة على عبارة الملئكة ‪ {{ :‬وَيَ ْ‬
‫بين البشر ‪ ،‬ولم يكن قتل قابيل لهابيل إل استئنافاً لسفك الدماء في العهد النساني ‪ ،‬عهد التكليف بعبادة ال وحده ‪ ،‬بعد انقراض بقية‬
‫البشر ‪ ،‬وانتهاء العهد البشري الذي لم يعرف تكليفاً ول تلقى رسالة ول اتبع ديناً ‪.‬‬

‫فهذه الجريمة كانت أولى الجرائم في العهد النساني ‪ ،‬وتميزت بالهتداء إلى دفن الموتى من بني آدم لول مرة ‪ ،‬بعد أن كانت الجثث‬
‫تترك في العراء كسائر الحيوانات النافقة ‪ ،‬تأكلها الضراوي ‪ ،‬أو تتآكل ‪.‬‬

‫وقول الرسول صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فيما رواه البخاري والنسائي عن مسروق عن عبد ال ‪ ( :‬ل تقتل نفسًا ظلماً إل كان على ابن آدم‬
‫الول كـفـْلٌ من دمها ‪ ،‬وذلك أنه أول من سن القتل ) ‪ -‬يشير أيضاً إلى موقع ذلك الجرم من المسئولية ‪ ،‬فقبل ارتكاب هذه الجريمة لم‬
‫تكن هناك مسئولية عن قتل النفس ‪ ،‬لنه ل مسئولية إل بعد إرسال الرسل ‪ ،‬وقبل آدم لم يكن رسول ول دين ‪ ،‬فل مسئولية ‪ ،‬وبعد آدم بدأ‬
‫العهد النساني فكانت المسئولية الدينية ‪ ،‬فتحمل ابن آدم الول وزر قتل أخيه ‪ ،‬وعليه كفل من دم كل نفس تقتل ظلماً ‪ ،‬لنه أول من سن‬
‫القتل ‪ ،‬أي ‪ :‬هو أول من خرج على الدين ‪ ،‬واتخذ لنفسه سنة أخرى ‪ ،‬هي سنة الظلم والقتل ‪ ،‬ل سنة الدين والعدل ‪ ،‬وفي الحديث ‪:‬‬
‫( من سن سنة حسنة فله أجرها ‪ ،‬وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ‪ ،‬ومن سن سنة سيئة فعليه‬
‫وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) ‪.‬‬
‫علَ ُم مَا لَ َتعَْلمُونَ }} ومضمون هذا الخبر أمر لهم بالسكوت ‪ ،‬ودارت القدار على نهج المشيئة ‪،‬‬ ‫لقد قال ال سبحانه لملئكته ‪ِ {{ :‬إنّي أَ ْ‬
‫وبدأ الدرس الول ‪ ،‬أو الرسالة الولى في تاريخ النسانية ‪ {{ :‬وَعَلّمَ آ َدمَ الَسْمَاء كُّلهَا }} ‪ ..‬وحتى هذه اللحظة لم تكن الملئكة تعلم ‪:‬‬
‫مَنْ ذلك الذي جعله ال من بين البشر خليفة في الرض ؟!! ولم يكن آدم قد ظهر على المسرح ‪ ،‬فاصطفاؤه كان في علم ال وحده ‪ ..‬وهم‬
‫معذورون لنهم ل يرون في تلك الخليقة إل الجانب السلبي ‪ ،‬أما الجانب اليجابي فمحجوب عنهم ‪ ،‬ولم يكشف ال لهم شيئاً من أسراره ‪.‬‬

‫سمَاء كُّلهَا }} وهذه أول مرة يذكر فيها لفظ ( آدم ) ‪ ،‬وتعليم ال له هو‬ ‫علّمَ آ َدمَ الَ ْ‬
‫وجاء وحي ال بالرسالة والصطفاء إلى آدم ‪ {{ ،‬وَ َ‬
‫طفَى آدَ َم َونُوحًا وَآلَ‬
‫صَ‬‫فحوى رسالته التي لم تذكر إل في هذه الية ‪ ،‬وهي آية ل يمكن تفسيرها إل في ضوء قوله تعالى ‪ {{ :‬إِنّ الّ ا ْ‬
‫عمْرَانَ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ ‪ - }} 33‬آل عمران ‪.‬‬
‫ِإبْرَاهِي َم وَآلَ ِ‬

‫إن آدم رسول مصطفى من ال ‪ ،‬تمامًا كنوح وإبراهيم ‪ ،‬ولقد كانت لنوح ملحمة كبيرة تحدث عنها القرآن في أكثر من موضع ‪ ،‬وكانت‬
‫لدم ‪ -‬قبل نوح ‪ -‬ملحمته الكبرى التي بدأت بهذه اللمحة اللهية ‪ ،‬فقد علمه ما ل تعلم الملئكة ‪ ..‬علمه الدين ‪ ،‬والرسالة التي سوف‬
‫يبلغها لبنيه ‪ ،‬وهو ما بدا متألقاً في الحوار الذي دار بين أبنيه متضمناً كل المفاهيم التوحيدية ‪ ،‬وأمهات الخلق الدينية ‪ ،‬وتلكم هي‬
‫السماء التي تعلمها آدم عن ربه ‪.‬‬
‫ولمر ما حَــرَصَ القرآن على أن يؤكد أنه تعلم {{ الَسْمَاء كُّلهَا }} ‪ ،‬فلعل آدم كان يعرف بعض السماء فتولى ال سبحانه تعليمه كل‬
‫السماء ‪ ،‬فيما يتصل بالمهمة التي سينهض بها ‪ ،‬خليفة في الرض ‪ ،‬ومن بين السماء التي تعلمها أسماء الملئكة المشاركين في هذا‬
‫الحوار ‪ ،‬وقد تضمن القرآن بعض هذه السماء فتعلمها المؤمنون من الوحي ‪.‬‬

‫وكان اصطفاء آدم للرسالة النسانية الولى غيبًا محجوباً عن الملئكة ‪ ،‬ل يعلمه إل رب العزة ‪ ،‬وكانت السماء التي تعلمها متعلقة‬
‫بالمانة التي ناطها ال بآدم وذريته ‪ ،‬وهو ما لم تعلمه الملئكة من قبل ‪ ..‬إنها بداية عهد جديد ‪ ،‬وإشراقة جيل النسان على أنقاض‬
‫سمَاء هَـؤُلء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ‪ 31‬قَالُواْ‬
‫الركام البشري ‪ ،‬وحين عرض ال سبحانه هذه المضامين على الملئكة ‪َ {{ :‬فقَالَ أَن ِبئُونِي بِأَ ْ‬
‫حكِيمُ ‪ - }} 32‬البقرة ‪.‬‬ ‫عّلمْ َتنَا ِإّنكَ أَنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ‬
‫ك لَ عِلْمَ َلنَا ِإلّ مَا َ‬
‫سبْحَا َن َ‬
‫ُ‬
‫ول مانع من أن يشار إلى المعروضات الماثلة في الموقف بإشارة العقلء ( هؤلء ) ‪ ،‬لن السماء تتعلق باشخاص وأشياء تفرد آدم‬
‫ل يَا آدَمُ أَنبِ ْئهُم بِأَسْمَآ ِئهِمْ فََلمّا أَنبَأَهُ ْم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ َألَمْ أَقُل‬
‫بعلمها ‪ ،‬وأقرت الملئكة بأنها ل تعلم إل ما سمحت به من قبل مشيئة ال ‪ {{ ،‬قَا َ‬
‫ن َومَا كُنتُ ْم تَ ْكتُمُونَ ‪ - }} 33‬البقرة ‪.‬‬
‫علَ ُم مَا تُبْدُو َ‬
‫ض وَأَ ْ‬
‫ت وَالَرْ ِ‬ ‫سمَاوَا ِ‬
‫غيْبَ ال ّ‬ ‫ّلكُمْ ِإنّي َأعْلَمُ َ‬

‫ووضح من الموقف تفوق آدم ‪ ،‬واختصاصه بالرسالة والصطفاء ‪ ،‬وهنا حانت لحظة السجود لدم ‪ ،‬تنفيذاً للمر الصادر منذ بضعة‬
‫مليين من السنين ‪.‬‬

‫فسجود الملئكة كان في تقديرنا سجوداً لدم النبي المصطفى ‪.‬‬

‫{{ الفصل الثالث من الباب الثاني }}‬

‫السجــــود للنبـــي النســـــان‬

‫ورد موضـــوع السجود لدم في ســبع صور من القــرآن ‪ ،‬وهي بترتيب النزول ‪:‬‬

‫ن مِنْ ا ْلكَافِرِينَ ‪ - }} 74‬ص ‪.‬‬ ‫ج َمعُونَ ‪ِ 73‬إلّ ِإبْلِيسَ ا ْ‬


‫س َتكْبَ َر َوكَا َ‬ ‫‪ - 1‬السورة السابعة والثلثون ( ص ) ‪ {{ :‬فَسَجَدَ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة كُّلهُمْ أَ ْ‬

‫صوّ ْرنَاكُمْ ثُمّ قُ ْلنَا لِ ْلمَلئِكَةِ اسْجُدُواْ لدَمَ فَسَجَدُواْ ِإلّ ِإبْلِيسَ َل ْم يَكُن مّنَ‬ ‫‪ - 2‬السورة الثامنة والثلثون ( العراف ) ‪ {{ :‬وََلقَدْ َ‬
‫خَلقْنَاكُ ْم ثُمّ َ‬
‫جدِينَ ‪ - }} 11‬العراف ‪.‬‬ ‫السّا ِ‬

‫جدُواْ لدَمَ فَسَجَدُواْ ِإلّ ِإبْلِيسَ َأبَى ‪ - }} 116‬طه ‪.‬‬ ‫‪ - 3‬السورة الرابعة والربعون ( طه ) ‪ {{ :‬وَإِذْ ُق ْلنَا لِ ْلمَ َ‬
‫لئِكَةِ اسْ ُ‬

‫ت طِينًا ‪- }} 61‬‬ ‫‪ - 4‬السورة التاسعة والربعون ( السراء ) ‪ {{ :‬وَإِذْ قُ ْلنَا لِ ْلمَلئِكَةِ اسْجُدُواْ لدَمَ فَسَ َ‬
‫جدُواْ َإلّ ِإبْلِيسَ قَالَ َأأَسْجُدُ ِلمَنْ خََل ْق َ‬
‫السراء ‪.‬‬

‫جمَعُونَ ‪ِ 30‬إلّ ِإبْلِيسَ َأبَى أَن َيكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ ‪ - }} 31‬الحجر‬ ‫‪ - 5‬السورة الثالثة والخمسون ( الحجر ) ‪ {{ :‬فَسَ َ‬
‫جدَ ا ْلمَلئِكَ ُة كُّلهُمْ أَ ْ‬
‫‪.‬‬

‫عنْ َأمْرِ َربّهِ ‪...‬‬


‫سقَ َ‬
‫ن مِنَ الْجِنّ َففَ َ‬
‫س كَا َ‬
‫جدُوا لِدَمَ فَسَجَدُوا ِإلّ ِإبْلِي َ‬ ‫‪ - 6‬السورة الثامنة والستون ( الكهف ) ‪ {{ :‬وَإِذْ ُق ْلنَا لِ ْلمَ َ‬
‫لئِكَةِ اسْ ُ‬
‫‪ - }} 50‬الكهف ‪.‬‬

‫ن مِنَ ا ْلكَافِرِينَ ‪}} 34‬‬


‫ستَ ْكبَرَ َوكَا َ‬ ‫‪ - 7‬السورة السابعة والثمانون ( البقرة ) ‪ {{ :‬وَِإذْ قُ ْلنَا لِ ْلمَ َ‬
‫ل ِئكَةِ اسْجُدُواْ لدَمَ فَسَجَدُواْ ِإلّ ِإبْلِيسَ َأبَى وَا ْ‬
‫‪ -‬البقرة ‪.‬‬

‫ويلحظ على ماسبق من النصوص القرآنية ما يأتي ‪:‬‬

‫‪ - 1‬أن النصوص الستة الولى مكية ‪ ،‬والنص السابع مدني ‪.‬‬

‫‪ - 2‬أن النص في سورة ( ص ) يجعل السجود عقب تمام النفخ من روح ال ‪ ،‬وكأنه جزاء وجواب للشرط {{ فَإِذَا َ‬
‫س ّو ْيتُهُ }} ‪ ،‬وكذلك‬
‫أيضاً السياق في نص سورة ( الحجر ) ‪ ،‬أما النص في سورة ( العراف ) فيوحي بوجود مسافة زمنية بين مرحلة التصوير ( أو‬
‫التسوية ) وبين المر بالسجود ‪ ،‬كما سبقت ملحظته ‪ ،‬ولكن استجابة الملئكة للمر كانت في سياقها فورية مقرونة بالفاء ‪.‬‬

‫وتتشابه النصوص في بقية السور المكية في ( طه والسراء والحجر والكهف ) ‪ -‬إذ يأتي السجود جوابًا للمر ‪ ( :‬اسجدوا ) ( فسجدوا )‬
‫‪.‬‬
‫أما النص المدني في سورة البقرة فيجعل المر بالسجود عقب فصل هام من القصة ‪ ،‬هو الحوار بين رب العزة والملئكة في شأن‬
‫( الخلفة في الرض ) ‪ ،‬وهي إضافة بارزة لم ترد في أي نص قرآني سابق أو لحق ‪.‬‬

‫لقد كان أهل التفسير يرون دائماً أن السجود الملئكي قد حدث عقب نفخة ال سبحانه وتعالى ‪ ،‬التي أنهضت آدم ( بشرًا مُســوَيّ ) ‪ ،‬وهو‬
‫رأي سائد في كل التفاسير ‪ ،‬إذ إن الملئكة رأت في تحرك هذا المخلوق الطيني آية إلهية تستوجب السجود ‪ -‬تكريماً لدم ‪ ،‬وطاعة ل‬
‫عز وجل ‪ ،‬بحسب الرؤية القديمة ‪ ،‬وهو ما يقوله الستاذ البهي الخولي ( ص ‪ : ) 59‬سجدوا ‪ -‬الملئكة ‪ -‬له بأمر من ال عز وجل‬
‫عندما نفخ فيه سبحانه من روحه ) ‪.‬‬
‫أما نحن فنرى طبقاً لتصورنا أن نص سورة البقرة ‪ ،‬وهو النص الخير الذي يحكم جميع النصوص السابقة ‪ ،‬ويهيمن عليها ‪ -‬هذا‬
‫النص ‪ ،‬قد طرح تريباً آخر للحداث ‪ ،‬فجاء بالمر بالسجود بعد مشهد الحوار بين ال وملئكته عن اتخاذ خليفة في الرض ‪ ،‬ولم يكن‬
‫آدم معلوماً آنذاك للملئكة ‪ ،‬رغم أنه كان موجوداً على الساحة بين أغمار البشر ‪ ،‬وأنهم يفسدون ويسفكون الدماء ‪ ،‬ولو كانت الملئكة‬
‫تعرف أن المقصود آدم ‪ ،‬فربما استثنته من هذا التعميم ‪ ،‬ولذلك قال ال تعالى ‪ِ {{ :‬إنّي َأعْلَ ُم مَا لَ َتعَْلمُونَ }} ‪.‬‬

‫لئِكَةِ ‪ - }} 31 ...‬البقرة ‪ ، .‬كان التعليم هو الوحي‬


‫ضهُمْ عَلَى ا ْلمَ َ‬
‫سمَاء كُّلهَا ثُمّ عَ َر َ‬
‫وهنا دخل آدم إلى مسرح الحوار {{ َوعَلّمَ آدَمَ الَ ْ‬
‫الذي علم آدم ما لم يكن يعلمه ‪ ،‬وهو اصطفاؤه نبياً ‪ ،‬وتزويده بالضرورة من التعاليم الدينية ‪ ،‬ليبدأ الموكب الجديد ‪ ،‬موكب النسان‬
‫المكرم في شخص آدم ‪َ {{ :‬وَلقَ ْد كَرّ ْمنَا َبنِي آ َدمَ ‪ - }} 70 ...‬السراء ‪ ، .‬وموقف آدم عليه السلم في هذا هو موقف محمد صلى ال‬
‫ك مَا لَ ْم َتكُنْ َتعْلَمُ ‪ - }} 113 ...‬النساء ‪.‬‬ ‫عليه وسلم ‪ ،‬وقد قال ال له ‪ {{ :‬وَعَّل َم َ‬

‫علِمــَت الملئكة لول مرة أن المقصود بالخليفة هو ( آدم ) ‪ ،‬وليس غير ‪ ..‬إنها النبوة ‪ ،‬طليعة الموكب النساني ‪،‬‬
‫وفي هذا الموقف َ‬
‫وقاعدة إنطلق الخلق الذي بدأت خطواته التنفيذية منذ مليين السنين ‪ ،‬فوجد كماله في شخص آدم ‪ ،‬النبي المصطفى ‪ ..‬يا لها من قدرة‬
‫هائلة ؛ تابعت عملية الخلق خلل هذا الزمن المتطاول !! ويا له من إنجاز رائع تجلى أعظم تجلٍ في شخص آدم الرسول ‪ ،‬الذي تفوق‬
‫على ملئكة الرحمن !!‬

‫ن مِنَ ا ْلكَافِرِينَ }} ‪ -‬إنه‬


‫س َتكْبَ َر َوكَا َ‬
‫في هذا المشهد الكوني العظيم أمر ال ملئكته بالسجود لدم ‪ ،‬تكريمًا وتكليفاً ‪ِ {{ :‬إلّ ِإبْلِيسَ َأبَى وَا ْ‬
‫موقف يثير من العماق كوامن الطاعة والعجاب ‪ ،‬كما يحرك دوافع الحقد ودفائنه ‪ ،‬وفي هذا المشهد ولد الشيطان !! الكافر المتآبى‬
‫المستكبر !! ‪..‬‬

‫ول بد أن نتعرض هنا لمعنى السجود والمراد به في هذا الموقف ‪ ،‬وننقل من الستاذ البهي الخولي ما قاله في كتابه ( آدم عليه السلم‬
‫ص ‪ ( : ) 59‬ومن البديهي أن هذا السجود لم يكن سجود عبادة ونسك ‪ ،‬فإن ذلك ل يكون لغير ال ‪ ،‬إنما هو سجود تحية وتكريم‬
‫ومؤانسة ‪ ،‬وليس ضرورياً أن يكون سجوداً وضعوا له الجباه على الرض ‪ ،‬كما نفعل في سجودنا ل عز وجل ‪ ،‬فللسجود هيئات كثيرة‬
‫تتنوع بتنوع أصناف الخلئق ‪ ،‬وال سبحانه يقول في ذلك ‪ {{ :‬وَالنّجْ ُم وَالشّجَ ُر يَسْجُدَانِ ‪ - }} 6‬الرحمن ‪ ، .‬ويقول على لسان يوسف‬
‫سمَاوَاتِ‬‫لِ يَسْجُ ُد مَا فِي ال ّ‬ ‫ش ْمسَ وَا ْل َقمَرَ َرَأيْ ُتهُمْ لِي سَاجِدِينَ ‪ - }} 4‬يوسف ‪ ، .‬ويقول ‪ {{ :‬وَ ّ‬‫حدَ عَشَ َر َكوْ َكبًا وَال ّ‬ ‫لبيه ‪ِ {{ :‬إنّي َرَأيْتُ أَ َ‬
‫ل يَسْ َتكْبِرُونَ ‪ - }} 49‬النحل ‪ ، .‬ومن البديهي أن سجود الدواب ليس كسجود الملئكة ‪،‬‬ ‫ض مِن دَآبّ ٍة وَا ْلمَل ِئكَ ُة وَهُ ْم َ‬‫َومَا فِي الَرْ ِ‬
‫وسجودهما ليس كسجود الكواكب والشمس والقمر ‪ ،‬وسجود هؤلء جميعاً ليس كسجود الشجر والزرع الصغير ‪ ..‬وهكذا ‪ ..‬ذلك إلى أن‬
‫من معاني السجود في اللغة التطامن والتواضع ‪ ،‬ويقول صاحب المصباح المنير ‪ ( :‬وسجد البعير ‪ :‬خفض رأسه عند ركوبه ‪ ،‬وكل‬
‫شيء ذل فقد سجد ) ‪ ،‬فإذا كان في سجود الملئكة معنى الذل فليس هو ذل العبودية ‪ ،‬ول الذل المضيع للكرامة ‪ ،‬إنما هو ذل التطامن‬
‫حمَةِ ‪ - }} 24 ...‬السراء ‪ ، .‬وتراه فيما يتبادله‬ ‫ل مِنَ الرّ ْ‬
‫جنَاحَ الذّ ّ‬
‫خفِضْ َلهُمَا َ‬
‫والمودة الذي ترى شيئاً منه في قوله تعالى ‪ {{ :‬وَا ْ‬
‫علَى‬‫رحماء المؤمنين بينهم من انكسار الخ لخيه المؤمن الذي عبر عنه الحق تبارك وتعالى بقوله ‪ {{ :‬أَ ِذلّةٍ عَلَى ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ أَعِ ّزةٍ َ‬
‫ا ْلكَافِرِينَ ‪ - }} 54 ...‬المائدة ‪.‬‬

‫فهو سجود فيه معنى التحية والمودة وخفض الجناح ‪ ،‬والقرار بالفضل ‪ ،‬قال القرطبي في الجامع ‪ ( :‬وقال قوم ‪ :‬لم يكن هذا السجود‬
‫المعتاد اليوم ‪ ،‬الذي هو وضع الجبهة على الرض ‪ ،‬ولكنه مبقي على أصل اللغة ‪ ،‬فهو من التذلل والنقياد ‪ ..‬أي ‪ :‬خضعوا لدم ‪،‬‬
‫وأقروا له بالفضل ) ‪ -‬القرطبي ‪. 293 / 1‬‬
‫والواقع أن الموقف لم يكن بحاجة إلى هذا العناء لتفسير السجود بالتذلل أو خفض الجناح ‪ ،‬أو القرار بالفضل ‪ ،‬فذلك كله مبني على‬
‫التصور القديم الذي يرى الموقف محصوراً في اللحظات التي انبهرت فيها الملئكة بدبيب نفخة ال في جسد آدم ‪ ،‬وهو تصور تَبيّنَ‬
‫قصورهُ عن فهم الموضوع في ضوء معطيات العلم ‪ ،‬واحتمالت النصوص القرآنية ‪.‬‬

‫والذي نطمئن إليه هو أن سجود الملئكة كان يعني تكليفهم بحياطة الحياة النسانية ‪ ،‬ابتداء من ( آدم ) ‪ ،‬وهو تكليف ماض إلى يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬تتولى الملئكة فيه المحافظة على بني آدم ‪ ،‬وإلهامهم الخير ‪ ،‬طبقًا لمشيئة ال سبحانه ‪ ،‬في مقابل ما توعد به إبليس آدم وذريته‬
‫من الغواية والحتناك والهيمنة والتضليل ‪.‬‬

‫فالملئكة هم بموجب أمر السجود ‪ -‬أحد طرفي المعادلة في الحياة النسانية ‪ ،‬التي قامت على الصراع بين الخير والشر ‪.‬‬

‫وعلى ذلك فقد سجد الملئكة ‪ ،‬وما زالوا ساجدين ‪ ،‬لدم ‪ ،‬ولبني آدم ‪ ،‬وهذه هي الكرامة التي كفلها ال لهذه الذرية المصطفاة من خليقته‬
‫طّيبَاتِ وَفَضّ ْلنَاهُمْ عَلَى‬
‫حمَ ْلنَاهُمْ فِي ا ْلبَرّ وَا ْلبَحْ ِر وَرَزَ ْقنَاهُم مّنَ ال ّ‬
‫البشرية طبقاً لما قررته آية سورة السراء ‪ {{ :‬وََلقَ ْد كَ ّرمْنَا َبنِي آدَ َم وَ َ‬
‫كَثِي ٍر مّمّنْ خََل ْقنَا َتفْضِيلً ‪ - }} 70‬السراء ‪ ، .‬وهي أيضاً الكرامة التي أشار إليها إبليس في قصة الحوار في سورة السراء ‪ {{ :‬قَالَ‬
‫أَرََأ ْي َتكَ هَـذَا الّذِي كَرّ ْمتَ عَلَيّ ‪ - }} 62 ...‬السراء ‪ ،‬فقد احتقن حين رأى ما خص به آدم من تكريم وكرامة ‪ ،‬فتوعد بأن يضله وذريته‬
‫‪ ،‬ليظهر عدم استحقاقهم لهذه الكرامة‬

‫{{ الفصل الرابع من الباب الثاني }}‬

‫مـوقـــف إبليـــس مـن السجــــود‬


‫لبليس في قصة آدم موقفان ‪ :‬موقف مع رب العزة ‪ ،‬وموقف مع آدم وزوجه حواء ‪ ،‬الموقفان يتحولن في النهاية إلى موقف واحد ‪ ،‬هو‬
‫موقف الصراع بين الخير والشر ‪ ،‬أو التناقض بين الملئكة والشيطان ‪ ،‬ومجال الصراع دائمًا هو نفس النسان ( آدم وذريته ) ‪.‬‬

‫ويظهر إبليس في مشهد التكليف بالسجود فجأة ‪ ،‬ودون مقدمات ‪ ،‬فلم يرد له ذكر قبل هذا المشهد ‪ ،‬وما كان سوى واحد من ( الجن‬
‫المنتشرين ) في أرجاء الرض ‪ ،‬ولعله كان ذا حظوة واقتراب من عالم الملئكة حتى جاء أمر السجود ‪ ،‬وكأنه مقصود به معهم ‪،‬‬
‫عنْ َأمْرِ َربّهِ ‪...‬‬
‫سقَ َ‬
‫ن مِنَ الْجِنّ َففَ َ‬
‫س كَا َ‬
‫جدُوا لِدَمَ فَسَجَدُوا ِإلّ ِإبْلِي َ‬
‫لئِكَةِ اسْ ُ‬
‫والقرآن ينص على ذلك في قوله تعالى ‪ {{ :‬وَإِذْ ُق ْلنَا لِ ْلمَ َ‬
‫‪ - }} 50‬الكهف ‪.‬‬

‫ولعل تجاهل القرآن لذكره في خبر المر بالسجود ‪ -‬إنه كان لنه مجرد فرد من ( الجن ) ‪ ،‬على حين أن الخطاب كان لعالم الملئكة‬
‫بإطلق ‪.‬‬
‫عنْ َأمْرِ َربّهِ }} ؛ صار علماً على الشر في مقابل استجابة الملئكة الذين‬
‫سقَ َ‬
‫فلما شذ في موقفه ‪ ،‬وأعلن رفضه لمر ال ‪َ {{ ..‬ففَ َ‬
‫صاروا أعلماً على الخير ‪.‬‬

‫ونحسب أن المر لم يكن بالصورة التي يتخيلها العامة من المفسرين ‪ ،‬من مثول الملئكة ومعهم إبليس بين يدي ال ‪ ،‬جل وعل ‪ ،‬وآدم‬
‫واقف ينتظر حدوث السجود ‪ ،‬فقد استقر رأينا على أن السجود كان لدم النبي الذي أختير خليفة ‪ ،‬والذي استهل به عهد النسان ‪ ،‬ل لدم‬
‫المخلوق ‪ ،‬فإن حدث الخلق كان قد مضت عليه مليين السنين ‪ ،‬وإن لم يكن فرق بين السـّنَـةِ والســّنــةِ ‪ ،‬وعليه ‪ ،‬فإن تكليف ال سبحانه‬
‫للملئكة بالسجود كان يعني تكليفهم بالشغال بحفظ ذلك الخليفة النبي ‪ ،‬وذريته إلى يوم القيامة وقد رفض إبليس أن يخضع للمر‬
‫اللهي ‪ ،‬وأن يعمل في خدمة النسان كالملئكة ‪ ،‬وبذلك انشق على المر اللهي ‪ ،‬وصار عدوًا لدم وذريته ‪ ،‬كما صار عدواً ل‬
‫خالقه ‪ ،‬وقد استعلن بهذه العداوة ‪ ،‬فلم يرجع عنها رغم زعمه أنه عبد ال !!‬

‫وعلى هذا تكون َت َكوّّن التشكيل الجديد للحياة كما أرادها ال ‪ :‬صراعاً بين الخير والشر ‪ ،‬وتناقضاً بين الشيطان والملئكة في شأن الحياة‬
‫النسانية ‪ ،‬وآدم وذريته موضوع الصراع ‪ ،‬وأدواته ‪ ،‬وهم أبطاله أو ضحاياه ‪ ،‬تمهيداً للمرحلة التالية من الملحمة الوجودية ‪ ،‬مرحلة‬
‫الحساب ‪ ،‬والجنة والنار ‪ ،‬والخلود فيهما ‪.‬‬

‫إن إبليس الذي رفض السجود والتكليف ‪ -‬كان عاصياً لمر ال من ناحية ‪ ،‬وكان أداة لتنفيذ إرادة ال من ناحية أخرى ‪ ،‬ولول أنه رفض‬
‫السجود ‪ ،‬وركب رأسه ما كانت هذه الدنيا ‪ ،‬وهو أمر لم يكن مقصوداً له حين عصى ربه ‪ ،‬ولم يكن يدريه قبل أن يكون ‪.‬‬

‫ق بَشَرًا مِن طِينٍ‬ ‫ل ِئكَةِ ِإنّي خَاِل ٌ‬‫ولنعد الن إلى النص الول من التنزيل ‪ ،‬الذي ذكر هذا المشهد في سورة ( ص ) ‪ِ {{ :‬إذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَ َ‬
‫ن مِنْ ا ْلكَافِرِينَ‬ ‫ج َمعُونَ ‪ِ 73‬إلّ ِإبْلِيسَ ا ْ‬
‫س َتكْبَ َر َوكَا َ‬ ‫سوّ ْيتُ ُه َو َنفَخْتُ فِي ِه مِن رّوحِي َف َقعُوا َلهُ سَاجِدِينَ ‪ 72‬فَسَجَدَ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة كُّلهُمْ أَ ْ‬ ‫‪ 71‬فَإِذَا َ‬
‫خيْ ٌر ّمنْهُ خََل ْقتَنِي مِن نّا ٍر وَخََل ْقتَ ُه مِن طِينٍ‬ ‫س َتكْبَ ْرتَ أَ ْم كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ ‪ 75‬قَالَ َأنَا َ‬ ‫س مَا َم َن َعكَ أَن تَسْجُدَ ِلمَا خََل ْقتُ ِبيَدَيّ أَ ْ‬ ‫‪ 74‬قَا َ‬
‫ل يَا ِإبْلِي ُ‬
‫‪ 76‬قَالَ فَاخْ ُرجْ ِم ْنهَا فَِإّنكَ رَجِيمٌ ‪ 77‬وَِإنّ عََل ْيكَ َل ْع َنتِي إِلَى َيوْمِ الدّينِ ‪ 78‬قَالَ َربّ فَأَنظِ ْرنِي إِلَى يَوْ ِم ُيبْ َعثُونَ ‪ 79‬قَالَ فَِإّنكَ مِنَ ا ْلمُنظَرِينَ‬
‫حقّ َأقُولُ ‪ 84‬لَمْلَنّ‬ ‫ق وَالْ َ‬
‫حّ‬ ‫ك ِمنْهُمُ ا ْلمُخْلَصِينَ ‪ 83‬قَالَ فَالْ َ‬ ‫ج َمعِينَ ‪ِ 82‬إلّ ِ‬
‫عبَا َد َ‬ ‫‪ 80‬إِلَى يَوْمِ ا ْلوَ ْقتِ ا ْل َمعْلُومِ ‪ 81‬قَالَ َفبِعِ ّز ِتكَ لَُ ْ‬
‫غ ِو َينّهُمْ أَ ْ‬
‫جمَعِينَ ‪ - }} 85‬ص ‪.‬‬ ‫جهَنّ َم مِنكَ َو ِممّن تَ ِب َعكَ ِمنْهُمْ أَ ْ‬
‫َ‬

‫ويبدو لنا هذا النص أشبه بتلخيص للحوار ‪ ،‬أو بالحرى للقصة التي جاءت تفاصيل كثيرة منها في السورة التالية نزولً ‪ ،‬سورة‬
‫( العراف ) ‪ ،‬لكن حسبنا الن هذا الموجز الذي يقتصر على جانب الحوار بين ال وبين المتمرد إبليس ‪.‬‬

‫وفي بداية النظر في مكونات الحوار نؤكد هنا على ضرورة مراعاة المسافة بين ما ينبغي ل من جلل وعظمة وعلو شأن ‪ ،‬وهو‬
‫سبحانه الخالق الباريء المصور ‪ ،‬وبين إبليس من حيث هو مخلوق يواجه خالقه ‪ ،‬وهو ل يذيد في قدره عن أي مخلوق متمرد على‬
‫أوامر الخالق ‪ ،‬مُصِرّ على معصيته ‪ ،‬سواء أكان من النس أم من الجن ‪ ..‬هذا من ناحية ‪..‬‬
‫ومن ناحية أخرى يجب أن نستبعد الصورة الساذجة التي يتخيلها بعض من تناولوا هذه القصة ‪ ..‬أعني ‪ :‬صورة المواجهة المباشرة في‬
‫هذا الحوار ‪ ،‬فل ريب أن الشيطان كان في موقعه من الكون ‪ ،‬ل يستطيع أن يتجاوز قدره ‪ ،‬فيتطاول إلى المقام السنى ‪ ،‬مقام رب العزة‬
‫‪ ،‬ليجابهه بتلك المقولت ‪ ،‬فال أعلى وأجل من أن تدركه البصار ‪ ،‬أو تحده الوهام والظنون ‪ .‬وغاية ما نتصوره أن يكون الحوار قد‬
‫جرى من خلل الوحي النفسي ‪ ،‬الذي أحاط بتفاصيله من يعلم السر وأخفى ‪ ،‬فهو ‪ -‬وال أعلم ‪ -‬حوار جرى في نفس إبليس ‪ ،‬حين رفض‬
‫المر بالسجود ‪ ،‬من منطلق اعتقاده بأنه خير من آدم من حيث الصل ‪ ،‬فهو من نار ‪ ،‬وآدم من طين ‪ ،‬وذلك رداً على ما ثار في نفسه‬
‫ج ِمنْهَا‬
‫من أن إباءه السجود ل تفسير له إل الكبر والغطرسة ‪ ،‬وحينئذ جاءه المر اللهي ‪ -‬أيضًا ‪ -‬من طريق الوحي النفسي ‪ {{ :‬فَاخْ ُر ْ‬
‫عَل ْيكَ َلعْ َنتِي إِلَى َيوْمِ الدّينِ }} ‪ ..‬وهكذا سار الحوار إلى نهايته ‪ ،‬بكل ما تضمن من حقائق وأقدار عبرت عنها كل‬
‫فَِإّنكَ رَجِيمٌ * َوإِنّ َ‬
‫رسالت النبياء ‪ ،‬من لدن آدم إلى محمد ‪ ،‬عليهم جميعاً أفضل الصلة وأتم السلم ‪.‬‬

‫قد يحلو لبعض المتفلسفة أن يروا في هذا الموقف البليسي تعبيرًا عن القوة والشجاعة الدبية ‪ ..‬بل وزاد بعضهم في المغالطة ‪،‬‬
‫فرأى في هذا الموقف آية على منتهى الـتوحيد ‪ ،‬فهو ل يسجد إل ل وحده !! ‪ ..‬وتخيل بعضهم أن إبليس حين تمرد على ال صار‬
‫رمز للحرية ‪ ،‬وزعيم الحرار الرافضين للقيود !! ‪..‬‬

‫والواقع أن موقف إبليس في ذلك الحوار يعكس ملمح شخصية متناقضة غبية ‪ ،‬غاية في الغباء والتناقد ‪ ،‬والضعف ‪ ،‬والجبن ‪،‬‬
‫والجهالة ‪ ،‬وذلك إذا ما احتكمنا إلى المقاييس الخلقية المثالية ‪ ،‬وإنما أضفي عليه حلم ال الواسع هالة من التعاظم تليق بمتكبر‬
‫حقود ‪ ،‬هو إبليس ‪.‬‬
‫فليس من القوة أن يتصدى المخلوق للخالق ‪ ،‬ويتمرد عليه ‪ ،‬وهو يعرف يقيناً أنه هو الخاسر في النهاية ‪ ..‬بل وهو يعلم أنه يخاطب‬
‫ربه ذا القوة المطلقة ‪ ،‬والبأس الشديد ‪.‬‬

‫وليس من الشجاعة أن يتجرأ على ال ‪ ،‬وهو يعلم أن ذلك يؤدي به إلى جهنم ‪ ،‬وبئس المصير ‪ ،‬ثم يستمر في هذا التجرؤ إلى حد‬
‫الوقاحــة والتحدي العبيط !!‬

‫وليس التوحيد إل الذعان بالعبودية والطاعة المطلقة ل وحده ل شريك له ‪ ،‬والنصياع لوامره ‪ ،‬وإبليس حين رفض السجود لدم‬
‫لم يكن إل رافضاً لمر ال ‪ ،‬وقد أوقعه في هذا الجرم سوء تأوله ‪ ،‬أو لنقل ‪ :‬إنه قد ر َك َب ُه في هذه اللحظة شيطان آخر أعتى منه ‪ -‬لو‬
‫صح التصور ‪ -‬فأغراه بالتمرد ‪ ،‬وأعماه عن تبين وجه الحق الذي أدركته الملئكة ‪ ،‬فالملئكة هم في الواقع أذكى منه ‪ ،‬وأعمق‬
‫توحيدًا ‪ ،‬على حين خرج هو عن دائرة التوحـيد !!‬

‫ويكفي دليلً على غباء إبليس أنه وقد خفي عليه المعنى الصحيح للسجود ‪ ،‬وهو موالة آدم وذريته ‪ -‬إلى يوم القيامة ‪ ،‬كما أدركت‬
‫ذلك الملئكة ‪ -‬انبرى بعقله الغبي يعقد مقارنة بين النار والطين ‪ ،‬ويزعم خيريته على آدم من هذا الجانب ‪ ،‬مع أن الطين عند التأمل‬
‫خير من النار ‪ ،‬فهو زكي معطاء ‪ ،‬وهي أداة إهلك وعذاب ‪.‬‬

‫ل عن ذلك ‪ :‬فإن المر بالسجود لدم لم يكن يعني أفضلية ‪ ،‬بقدر ما كان يعني إرادة تنظيم الحياة الجديدة على أساس من تعاون‬
‫وفض ً‬
‫المستويات الخَلقية الثلثة ‪ :‬النور والطين والنار ‪ ،‬أو الملئكة ‪ ،‬والبشر والجن ‪ ،‬وخضوع الجميع لمر ال وإرادته ‪.‬‬

‫وهب ‪ -‬يا إبليس ‪ -‬أن السجود كان يعني الفضلية ‪ ،‬فإن هذه الفضلية لم تكن تعني الصل المادي ‪ ،‬بل تعني تعلق الرادة اللهية‬
‫بالمر وتنفيذه من ناحية ‪ ،‬ثم إن معيار الفضلية في مستواها العلوي ليس مادة الخلق ‪ ،‬من طين أو من نار ‪ ،‬بل هو التنافس في‬
‫طاعة ال ‪ ،‬كما قال تعالى في محكم التنزيل ‪ {{ :‬إِنّ َأكْ َرمَكُمْ عِندَ الِّ َأ ْتقَاكُمْ ‪ - }} 13 ...‬الحجرات ‪ ، .‬فقد يُحّلقُ في سماوات‬
‫الرضوان جِنيّ من نار ‪ ،‬وقد يرسب في قاع الجحيم إنسِيّ من طين ‪ ،‬لن المعيار هو التقوى ‪.‬‬

‫لقد سجل إبليس على نفسه نقطة غباء ‪ ،‬حين حصر نفسه في ملحظة الفرق بين الطين والنار ‪ ،‬ولو كان ذلك صحيحاً لفخرت الملئكة‬
‫عبَدَتهُ قد تصوروا أن‬
‫عليه بأنها من ( النور ) ‪ ،‬وهو خير من النار قطعاً ‪ ،‬بمقياس إبليس ‪ ..‬بل وبكل مقياس !! وإذا كان أتباع الشيطان و َ‬
‫إلههم هو رمز الحرية ‪ ،‬وزعيم الحرار فما ذلك إل أثر من آثار تسلطه بغبائه على عقولهم ‪ ،‬إن كانت لهم عقول ‪ ،‬لقد تعلقوا بمفهوم‬
‫التمرد الذي أبداه إبليس في مواجهة أمر خالقه ‪ ،‬ولم ينظروا إلى أنه لم ينكر ربوبية ال ‪ ،‬في مطلبه أن ينظره إلى يوم البعث ‪ ،‬وفي قَسَمهِ‬
‫بعزة ربه ‪ ،‬وهو مسلك يصمه بالتناقض أو بالجنون ‪ ،‬إذ كيف يُقبَلُ منه أن يتمرد على ( رب العزة ) باعترافه ‪ ،‬ويختار طريق الغواية‬
‫والغراء والذلة ‪ ،‬عامدًا متعمداً ‪ ..‬اللهم إل أن يكون غبياً غاية في الغباء ‪ ،‬أو منقاداً لشيطان أعتى منه ‪ ،‬تسلط عليه حتى أضله هذا‬
‫الضلل المبين ؟ !! وحتى فقد القدرة على التمييز فلم يلحظ تناقضه الفاضح !! فإذا لم يكن هناك شيطان قبله ‪ ،‬فهو إذا إنطماس‬
‫البصيرة ‪ ،‬وعمى البصر ‪ ،‬وهو أولً وأخيراً الحقد الذي ملكه تجاه آدم وذريته ‪.‬‬

‫أين الحرية إذن ؟ !! اللهم إل أن يكون معنى الحرية هو النتصار للرذيلة ‪ ،‬والتحلل من كل قيمة تعمر بها الحياة ‪ ..‬أن يكون معنى‬
‫الحرية تخريب الدنيا ‪ ،‬وتدمير بنائها اللهي ‪ ،‬ونشر الفساد واللحاد ‪ ،‬وإشاعة الفوضى والنفلت ‪ ،‬وسيادة الحقد على وجوه الحياة‬
‫كلها ؟ !!‬

‫ومع ذلك ‪ ،‬إن إبليس كان في موقفه مغروراً ‪ ،‬لنه زعم لنفسه القدرة على إغواء الناس أجمعين ‪ ،‬إل المخلصين منهم من عباد ال ‪،‬‬
‫وعجيب أن يدرك هذا الفرق بين الغواية والخلص ثم يستمر في مزاعمه ‪ ،‬فكان نذير ال له بأن يمل جهنم منه ومن أتباعه أجمعين ‪،‬‬
‫وبهذا ختم الحوار ‪ -‬كما قدمته سورة ( ص ) ‪ -‬في أول سياق يتعرض لهذه القصة ‪.‬‬

‫فإذا قرأنا ما جاء في السورة التالية لها ‪ ،‬في سورة العراف ‪ -‬الثامنة والثلثين ‪ -‬وجدنا مذيداً من التفاصيل عن أساليب إبليس في إفساد‬
‫طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ ‪ 16‬ثُ ّم لتِ َينّهُم مّن‬
‫غوَ ْي َتنِي لَ ْقعُدَنّ َلهُمْ صِرَا َ‬
‫الحياة الدمية ( النسانية ) ‪ ،‬وهو مضمون قوله ( لغوينهم ) ‪ {{ :‬قَالَ َفبِمَا َأ ْ‬
‫شمَآئِِلهِ ْم َولَ تَجِدُ َأكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ‪ - }} 17‬العراف ‪.‬‬ ‫بَيْنِ َأيْدِيهِ ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ َأ ْيمَانِهِ ْم وَعَن َ‬

‫وفي السورة التاسعة والربعين ‪ -‬السراء ‪ -‬يخاطب إبليس ربه ‪ {{ :‬قَالَ أَرََأ ْي َتكَ هَـذَا الّذِي كَ ّر ْمتَ عَلَيّ َلئِنْ أَخّ ْرتَنِ ِإلَى َيوْمِ ا ْل ِقيَامَةِ‬
‫لَحْ َت ِنكَنّ ذُ ّريّتَهُ َإلّ قَلِيلً ‪ - }} 62‬السراء ‪.‬‬

‫ك وَأَجِْلبْ‬
‫صوْ ِت َ‬
‫ت مِ ْنهُ ْم بِ َ‬
‫س َتطَ ْع َ‬ ‫ج َهنّمَ جَزَآ ُؤكُمْ جَزَاء مّوْفُورًا ‪ 63‬وَا ْ‬
‫س َتفْزِ ْز مَنِ ا ْ‬ ‫ويجيبه ال سبحانه ‪ {{ :‬قَالَ اذْ َهبْ َفمَن تَ ِب َعكَ ِمنْهُمْ َفإِنّ َ‬
‫شيْطَانُ ِإلّ غُرُورًا ‪ - }} 64‬السراء ‪.‬‬ ‫عدْهُ ْم َومَا َيعِدُهُمُ ال ّ‬
‫لوْل ِد وَ ِ‬ ‫ل وَا َ‬
‫ل ْموَا ِ‬‫ك وَشَا ِر ْكهُمْ فِي ا َ‬
‫خيِْلكَ وَرَجِِل َ‬
‫عََل ْيهِم بِ َ‬

‫ك ِمنْهُمُ‬ ‫جمَعِينَ ‪ِ 39‬إلّ ِ‬


‫عبَا َد َ‬ ‫غوِ َيّنهُمْ أَ ْ‬
‫ض َولُ ْ‬
‫غ َو ْيتَنِي لُ َزيّنَنّ َلهُمْ فِي الَرْ ِ‬
‫وفي السورة الثالثة والخمسين ‪ -‬الحجر ‪ {{ -‬قَالَ َربّ ِبمَآ أَ ْ‬
‫ا ْلمُخَْلصِينَ ‪ - }} 40‬الحجر ‪.‬‬

‫ن مِن دُونِهِ ِإلّ ِإنَاثًا‬ ‫وفي السورة الثالثة والتسعين ‪ -‬النساء ‪ -‬يأتي حديث عن الشيطان ‪ ،‬والمقصود به إبليس ‪ -‬قال تعالى ‪ {{ :‬إِن يَدْعُو َ‬
‫عبَا ِدكَ نَصِيبًا ّمفْرُوضًا ‪َ 118‬ولُضِّلّنهُ ْم َولُ َمنّ َينّهُ ْم وَلمُرَّنهُمْ فََلُيبَّتكُنّ آذَا َ‬
‫ن‬ ‫ن مِنْ ِ‬
‫ل لَتّخِذَ ّ‬‫ل وَقَا َ‬‫شيْطَانًا مّرِيدًا ‪ّ 117‬لعَنَهُ ا ّ‬ ‫وَإِن يَدْعُونَ ِإلّ َ‬
‫ش ْيطَانُ‬ ‫ن وَِليّا مّن دُونِ الّ َفقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا ّمبِينًا ‪ 119‬يَعِدُهُ ْم َوُيمَنّيهِمْ َومَا يَعِدُهُمُ ال ّ‬
‫ش ْيطَا َ‬
‫ل َومَن َيتّخِذِ ال ّ‬
‫خ ْلقَ ا ّ‬
‫لنْعَا ِم وَلمُرَّنهُمْ فََلُيغَيّرُنّ َ‬
‫اَ‬
‫ِإلّ غُرُورًا ‪ - }} 120‬النساء ‪.‬‬

‫غ ِو َينّهُمْ }} ‪ ،‬فهو يقعد لبني آدم على الصراط‬


‫وهكذا ‪ -‬عبر النصوص المتتابعة ‪ -‬يتضح المقصود بالغواية في قوله تعالى ‪ {{ :‬لُ ْ‬
‫المستقيم ‪ ،‬بأن يعترضهم على طريق السلم ‪ ،‬وهو يتسلل إلى حياتهم من كل اتجاه بوسوسته بقدر ما يستطيع ‪ ،‬وقد ورد في الحديث ((‬
‫إن الشيطان قعد لبن آدم بأطرقه ؛ قعد له بطريق السلم فقال له ‪ :‬تدع دين آبائك ‪ ،‬فعصاه فأسلم ‪،‬‬
‫ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له ‪ :‬تدع ديارك فتتغرب ‪ ،‬فعصاه فهاجر ‪ ،‬ثم قعد له بطريق الجهاد‬
‫فقال له ‪ :‬تقاتل فتقتل فيقسم مالك ‪ ،‬وتنكح إمرأتك ‪ ،‬فعصاه فقاتل )) ( الكشاف ‪ ، ) 71 - 70 / 2‬وإبليس يتوعد‬
‫هنا بأن يحاصر بني آدم من جميع الجهات ‪ ،‬كناية في محاولته الهيمنة عليهم ليذهلهم عما خصهم ال به من الكرامة ‪ ،‬وهو ما جاء في‬
‫النص التالي في سورة السراء ‪ -‬التاسعة والربعين نزولً ‪ -‬في الية الكريمة ‪ {{ :‬قَالَ أَ َرَأيْ َتكَ هَـذَا الّذِي كَرّ ْمتَ عَلَيّ َلئِنْ أَخّ ْرتَنِ إِلَى‬
‫ح َتنِكَنّ ُذ ّريّتَهُ َإلّ َقلِيلً ‪ - }} 62‬السراء ‪ ،‬والحتناك ‪ ،‬مأخوذ من الحنك ‪ ،‬فكأنه يتوعد بأن يلتهم بوسوسته بني آدم ‪ ،‬إل‬ ‫َيوْمِ ا ْل ِقيَامَ ِة لَ ْ‬
‫قليلً منهم ‪ ،‬ممن يعصم ال من غواية الشيطان ‪ ،‬وهذه صورة أخرى من تفسير معنى الغواء‬

‫ل منهم ‪ ،‬ممن يعصم ال من غواية الشيطان ‪.‬‬


‫توعد إبليس بأن يلتهم بوسوسته بني آدم ‪ ،‬إل قلي ً‬

‫ط ْعتَ‬
‫س َت َ‬ ‫ج َهنّمَ جَزَآ ُؤكُمْ جَزَاء ّموْفُورًا ‪ 63‬وَا ْ‬
‫س َتفْزِزْ مَنِ ا ْ‬ ‫ويرد ال سبحانه وتعالى عليه هذا الوعيد ‪ {{ :‬قَالَ اذْ َهبْ َفمَن تَ ِب َعكَ ِم ْنهُمْ فَإِنّ َ‬
‫عبَادِي َل ْيسَ َلكَ‬‫ش ْيطَانُ ِإلّ غُرُورًا ‪ 64‬إِنّ ِ‬‫لوْل ِد وَعِدْهُ ْم َومَا يَعِدُهُمُ ال ّ‬ ‫ل وَا َ‬
‫ل ْموَا ِ‬
‫ك وَشَا ِركْهُمْ فِي ا َ‬
‫ك وَرَجِِل َ‬
‫خيِْل َ‬
‫عَليْهِم بِ َ‬
‫ك وَأَجِْلبْ َ‬‫ص ْوتِ َ‬
‫مِ ْنهُ ْم بِ َ‬
‫ك َوكِيلً ‪ - }} 65‬السراء ‪ ، .‬وفي هذا الرد توصيف لوسائل الغواء ‪ ،‬ومدى ما يمكن أن يكون لبليس من‬ ‫ن َو َكفَى بِرَ ّب َ‬
‫عََل ْيهِمْ سُ ْلطَا ٌ‬
‫أساليب تخريب الحياة اليمانية ؛ أن يستفز الناس ويستخفهم بصوته ‪ ،‬وأن يجلب عليهم ويصيح بهم بكل ما يملك من خيل ورَجْل ‪ ،‬وهو‬
‫كناية عن الضجيج والصخب ‪ ،‬والتسلط ‪ ،‬وقد يدخل في مضمون الصوت والجلبة كل كلم من العبث والمجون ‪ ،‬والفحش والبذاء ‪،‬‬
‫ونداءات الجنس ‪ ،‬وأفلم النحلل ‪ ،‬وكل هذه أساليب شيطانية تحقق أهداف إبليس ‪.‬‬

‫وحسبنا في قول رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ { :‬إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم } ‪ ،‬فهو جار إلى المخ مباشرة ‪ ،‬ويبقى‬
‫لوْلدِ }} ‪ ،‬وقد فسره الزمخشري بقوله ‪ :‬واما المشاركة في الموال‬‫ل وَا َ‬
‫ل ْموَا ِ‬
‫في اليتين السابقتين قوله تعالى ‪ {{ :‬وَشَا ِركْهُمْ فِي ا َ‬
‫والولد فكل معصية يحملهم عليها كالربا ‪ ،‬والمكاسب المحرمة ‪ ،‬والبحيرة والسائبة ‪ ،‬والنفاق في الفسوق والسراف ‪ ،‬ومنع الزكاة ‪،‬‬
‫والتوصل إلى الولد بالسبب الحرام ‪ ،‬ودعوى ولد بغير نسب ‪ ،‬والتسمية بعبد العزى ‪ ،‬وعبد الحارث ‪ ،‬والتهويد والتنصير ‪ ،‬والحمل‬
‫على الحِرَف الذميمة ‪ ،‬والعمال المحظورة ‪ ( ،‬وعدهم ) المواعيد الكاذبة من شفاعة اللهة ‪ ،‬والكرامة على ال بالنساب الشريفة ‪،‬‬
‫وتسويف التوبة ‪ ،‬ومغفرة الذنوب بدونها ‪ ،‬والتكال على الرحمة وشفاعة الرسول في الكبائر ‪ ،‬والخروج من النار بعد أن يصيروا حمماً‬
‫‪ ،‬وإيثار العاجل على الجل ( الكشاف ‪. ) 457 / 2‬‬

‫غوَ ْي َتنِي‬
‫ب بِمَآ َأ ْ‬
‫وهذه هي أساليب الغواية الشيطانية التي نزلت فيها اليتان من سورة الحجر ‪ ،‬وهي الثالثة والخمسون نزولً ‪ {{ :‬قَالَ َر ّ‬
‫ك ِمنْهُمُ ا ْلمُخْلَصِينَ ‪ - }} 40‬الحجر ‪ ، .‬فعبارة ( لزين لهم في الرض )‬ ‫جمَعِينَ ‪ِ 39‬إلّ ِ‬
‫عبَا َد َ‬ ‫غوِ َينّهُمْ أَ ْ‬
‫ض َولُ ْ‬ ‫لُزَّينَنّ َلهُمْ فِي الَرْ ِ‬
‫تلخيص لما ورد من أساليب الغواية في سورة ( ص والعراف والسراء ) ‪ ،‬وقد جاءت اليات من سورة النساء المدنية ‪ ،‬وهي الثالثة‬
‫ن مِن دُونِهِ ِإلّ ِإنَاثًا وَإِن يَ ْدعُونَ ِإلّ‬ ‫والتسعون نزولً ‪ -‬وهي أيضاً آخر ما نزل في وصف ألعيب الشيطان ‪ ..‬قال تعالى ‪ {{ :‬إِن يَدْعُو َ‬
‫لنْعَامِ‬ ‫ك نَصِيبًا ّمفْرُوضًا ‪َ 118‬ولُضِّلنّهُ ْم َو ُ‬
‫لمَّنيَّنهُ ْم وَلمُ َرنّهُمْ َفَليُ َبّتكُنّ آذَانَ ا َ‬ ‫عبَا ِد َ‬
‫ن مِنْ ِ‬
‫ل لَتّخِذَ ّ‬ ‫ل وَقَا َ‬ ‫ش ْيطَانًا مّرِيدًا ‪ّ 117‬ل َعنَهُ ا ّ‬ ‫َ‬
‫ش ْيطَانُ ِإلّ‬ ‫ن وَِليّا مّن دُونِ الّ َفقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مّبِينًا ‪َ 119‬يعِدُهُ ْم َويُ َمنّيهِ ْم َومَا َيعِدُهُمُ ال ّ‬ ‫ش ْيطَا َ‬
‫ل َومَن يَتّخِذِ ال ّ‬ ‫وَلمُ َرنّهُمْ َفَليُ َغيّرُنّ خَ ْلقَ ا ّ‬
‫غُرُورًا ‪ - }} 120‬النساء ‪.‬‬

‫والنص هنا يذكر من أساليب الشيطان ( الضلل ) وهو لفظ عام يشمل كل ما مضى ‪ ،‬ويضيف النص أسلوب ( التّمنْية ) بالمانيّ‬
‫الباطلة من طول العمار ‪ ،‬أي ‪ :‬شق أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ‪ ،‬وجاء الخامس ذكراً ‪ ،‬وتحريم النتفاع بها ‪ ،‬ثم يلي ذلك ما كانت‬
‫تعرفه الجاهلية أيضًا من ( تغيير خلق ال ) ‪ ،‬وكان ذلك يتمثل في فقء عين الفحل الخامي ليعفى من الركوب ‪ ،‬كما يتمثل في خصاء‬
‫بني آدم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬إن المقصود تشويه السلم ‪ ،‬وهو فطرة ال التي فطر الناس عليها ‪ ،‬وقيل ‪ :‬الوشم ‪ ،‬وقيل ‪ :‬التخنث ( الكشاف ‪/ 1‬‬
‫‪. ) 565 - 564‬‬

‫ونسجل هنا بعض الملحظات ‪:‬‬

‫الولــى ‪ :‬أن إبليس فيما توعد به لم يكن يرسم خريطة الحياة الدمية المستقبلة ‪ ،‬ولكنه كان في موقفه يطفح حقداً ‪ ،‬وينطق كذباً‬
‫وغرورًا ‪ ..‬هو صورة مما يتمنى أن يكون ‪ ،‬ولسوف نجد أن ما ذكره من عوائد الجاهلية لم يكتب له البقاء ‪ ،‬ولم يعد له أثر ‪ ..‬بل تلشى‬
‫من الحياة النسانية تماماً ‪ ،‬ولعله استبدل به أساليب أخرى تتناسب مع فنون العصر وجنونه ‪.‬‬

‫والثانية ‪ :‬أن تلقينا لمقولت إبليس ل ينبغي أن يخدعنا عن حقيقته ‪ ،‬وهي أنه غبي ومغرور ‪ ،‬بل هو ( الغَرور ) ‪ ..‬لم يتصف كائن‬
‫بذلك سواه ‪َ {{ :‬ولَ َيغُرّ ّنكُم بِالِّ ا ْلغَرُورُ ‪ - }} 5‬فاطر ‪ ، .‬أي ‪ :‬الغوى الكبر ‪ ،‬وكل مواقفه وأساليبه تدل على ذلك ‪ ،‬ولسوف نزيد هذه‬
‫الملحظات عمقاً في حديثنا عن شخصية الشيطان كما تصورها آيات القرآن ‪.‬‬

‫والثالثة ‪ :‬أن ما ذكرنا من أساليب الغواء الشيطاني ليس إل الشكل النظري ‪ ،‬والتوعد المغيظ ‪ -‬إن صح التعبير ‪ -‬فأما التطبيق‬
‫العملي فهو في كل عصر بحسبه ‪ ،‬ومع كل إنسان بحسبه أيضاً ‪ ،‬والهدف الرئيسي أن يذيد من حصيلة جهنم من بني آدم ‪ ،‬حتى ل‬
‫يصلها وحده ‪ ،‬أو مع أتباعه من شياطين النس والجن وحدهم ‪.‬‬

‫ج ِمنْهَا فَِإّنكَ رَجِيمٌ ‪ 77‬وَِإنّ عََل ْيكَ َل ْع َنتِي إِلَى َيوْمِ الدّينِ‬ ‫ويبقى من هذا الحوار ما جاء في قوله تعالى في سورة ( ص ) ‪ {{ :‬قَالَ فَاخْ ُر ْ‬
‫ك مِنَ الصّاغِرِينَ‬ ‫‪ - }} 78‬ص ‪ ، .‬وقد جاء في مقابلها في سورة العراف ‪ {{ :‬قَالَ فَا ْه ِب ْ‬
‫ط مِ ْنهَا َفمَا َيكُونُ َلكَ أَن تَ َت َكبّرَ فِيهَا فَاخْ ُرجْ ِإّن َ‬
‫‪ - }} 13‬العراف ‪ ، .‬كما تكرر هذا المر بعدما أظهر إبليس من وقاحة في مخاطبة المولى عز وجل ‪ {{ :‬قَالَ اخْ ُرجْ ِم ْنهَا مَ ْذؤُومًا‬
‫مّدْحُورًا ‪ - }} 18 ...‬العراف ‪.‬‬

‫خ ُرجْ ِمنْهَا فَِإّنكَ رَجِيمٌ ‪ 77‬وَإِنّ عََل ْيكَ َلعْ َنتِي إِلَى يَوْمِ الدّي ِ‬
‫ن‬ ‫وما جاء في سورة الحجر ل يختلف عما جاء في سورة ( ص ) ‪ {{ :‬قَالَ فَا ْ‬
‫ط مِ ْنهَا }} ‪ ،‬وكلهما يثير سؤالً‬ ‫خ ُرجْ ِمنْهَا }} أو {{ قَالَ فَا ْه ِب ْ‬‫‪ - }} 78‬ص ‪ .. .‬وقد استـــخدم النص الكريم أحد لفظين ‪ {{ :‬قَالَ فَا ْ‬
‫عن المقصود بالضمير في ( منها ) ‪ ،‬علم يعود هذا الضمير ولم يتقدم ذكر لما يعــود إليه ؟ ‪ ..‬وذلك مع ملحظة أن المر موجه إلى‬
‫ضكُمْ ِل َبعْضٍ‬ ‫إبليس وحده ‪ ،‬على خلف المر الخر الذي جاء في الحوار مع آدم وزوجه ‪ ،‬بعد الوقوع في الخطيئة ‪ {{ :‬قَالَ ا ْه ِبطُو ْا َبعْ ُ‬
‫ع ُدوّ ‪ - }} 123 ...‬طه ‪ ، .‬أو ‪ {{ :‬قُ ْلنَا ا ْه ِبطُو ْا مِ ْنهَا‬ ‫ضكُمْ ِلبَعْضٍ َ‬ ‫عَ ُدوّ ‪ - }} 24 ...‬العراف ‪ ، .‬أو ‪ُ {{ :‬ق ْلنَا ا ْه ِبطُا ِم ْنهَا َ‬
‫جمِيعًا َبعْ ُ‬
‫جمِيعاً ‪ - }} 38 ...‬البقرة ‪.‬‬
‫َ‬

‫إن المتأمل في المـر الموجه إلى آدم وزوجه ل يعسر عليه أن يلحظ عود الضمير إلى ( الجنة ) المذكورة في السياق المتقدم من القصة‬
‫‪ ،‬أما المر الموجه إلى إبليس وحده فهو الذي يثير التساؤل ‪ ،‬وقد ذهب الزمخشري إلى أن المراد هو الهبوط أو الخروج من السماء التي‬
‫هي مكان المطيعين المتواضـعين من الملئكة إلى الرض التي هي مقر العاصـين المتكبرين من الثقلين ‪َ {{ ..‬فمَا َيكُونُ َلكَ أَن تَ َتكَبّرَ‬
‫ك مِنَ الصّاغِرِينَ }} ‪ ،‬أي ‪ :‬من أهل الصغار والهوان على ال ‪ ،‬وعلى أوليائه لتكبرك ‪ ..‬وذلك أنه لما‬ ‫فِيهَا }} وتعصى {{ فَاخْ ُرجْ ِإّن َ‬
‫أظهر الستكبار ( ُأ ْل ِبسَ الصغار ) ( الكشاف ‪. ) 69 / 2‬‬

‫ويرى صاحب المنار ‪ ( :‬أن الهبوط هو النحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه ‪ ،‬أو من مكانة ومنزلة إلى ما دونها ‪ ،‬ثم قال ‪:‬‬
‫والضمير عائد إلى الجنة التي خلق ال فيها آدم ‪ ،‬وكانت على نشز مرتفع من الرض ( المنار ‪ ، ) 296 /‬ولعل بيان الزمخشري أقرب‬
‫إلى العقل ‪ ،‬لعدم تقدم ما يعود عليه الضمير ‪ ،‬سوى ما يفهم من المقام ‪ ،‬والمر ليس إهباطاً ماديًا ‪ ..‬بل هو نوع من الزجر ‪ ،‬كما قال‬
‫سبحانه وتعالى ‪ {{ :‬اذْ َهبْ َفمَن تَ ِب َعكَ ِم ْنهُمْ ‪ ، }} ..‬ولن الجنة التي وردت في الحوار مع آدم قد أسكنه ال إياها بعد صدور هذا المر‬
‫إلى إبليس ‪ ،‬وقريب من ذلك ما ذكـره صاحب المنار عن الحافظ ابن كثير قال ‪ ( :‬يقول تعالى لبليس بأمر قدر كوني ‪ :‬فاهبط منها‬
‫بسبب عصيانك لمري ‪ ،‬وخروجك عن طاعتي ‪ ،‬فما يكون لك أن تتكبر فيها ؛ قال كثير من المفسرين ‪ :‬الضمير عائد إلى الجنة ‪،‬‬
‫غرِينَ }} ‪ ..‬أي ‪ :‬الذليلين الحقيرين ‪..‬‬
‫ك مِنَ الصّا ِ‬
‫ويحتمل أن يكون عائداً إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت العلى {{ فَاخْ ُرجْ ِإّن َ‬
‫معاملة له بنقيض قصده ‪ ،‬ومكافئة لمراده بضده ‪ ،‬فعند ذلك استدرك اللعين ‪ ،‬وسأل النظرة إلى يوم الدين ) ‪ ( .‬المنار ‪، ) 297 / 8‬‬
‫وعلى نسق هذا السلوب تجري تعبيرات مماثلة على ألسنة العوام ‪ ،‬ل تراد حرفيتها ‪ ..‬بل المراد مضمونها الموقفي ‪ ،‬كقول العامة ‪:‬‬
‫( اطْلَع ِمنْها وهي تِ ْعمَر ) ‪ ،‬فالمقصود هنا مجرد النصراف عن الموضوع ‪ ،‬وعدم التدخل فيه ‪.‬‬

‫ولقد يعين على تبين المراد بالمر الموجه إلى إبليس ( اهبط منها ) ‪ -‬أنه اقترن في آية العراف بما يفسر هذا المراد ‪ ،‬وهو قوله تعالى ‪:‬‬
‫ن }} ‪ ،‬و ( الهبوط ) حركة رأسية من أعلى إلى أدنى ‪ ،‬و ( الخروج ) حركة أفقية من مكان إلى آخر ‪،‬‬ ‫ك مِنَ الصّاغِرِي َ‬
‫{{ فَاخْ ُرجْ ِإّن َ‬
‫والجمع بين البعدين على المستوى المادي متناقض ‪ ،‬فلم يبق إل المستوى الخلقي ‪ ،‬وهو الهبوط من قمة الطاعة إلى درك التمرد ‪،‬‬
‫والخروج من حرم الرضوان إلى حمأة الفسوق والعصيان ‪ ،‬وذلك يمكن تفسير الهبوط بالخروج ‪.‬‬

‫فأما أن يقال ‪ :‬إن الرض أقل من السماء فقول ل موضع له ‪ ،‬لن الكون كله خلق ال وصنعته ‪ ،‬وهو مجال لمره سبحانه ‪ ،‬ول الخلق‬
‫والمر ‪ ،‬والماكن تشرف بأنها صنعة الخالق ‪ ،‬ل بمن تعلق بها من المخلوقات طائعاً أو عاصياً ‪ ،‬فاستوى بذلك الظرف والمظروف ‪،‬‬
‫وقد يخص ال بعض خلقه ببعض الماكن ‪ ،‬كما يخص بعض الماكن ببعض خلقه ‪ ،‬وكل ذلك في إطار الخلق والمر ‪ ،‬تبارك ال رب‬
‫العالمين ‪.‬‬

‫إن ال سبحانه ل يكره خلقه لذواتهم ‪ ،‬بل يكره منهم أفعالهم التي نهاهم عنها ‪ ،‬ويدعوهم إلى مزايلتها ‪ ،‬مزايلة لبليس الذي افتضح‬
‫أمره ‪ ،‬وتعرى من ملبسه ‪ ،‬وأغرقهم في وساوسه ‪ ،‬كما أن ال يدعوهم إلى فعل المأمورات حتى يحبهم ‪ ،‬ويزيد في الحسان إليهم ‪،‬‬
‫فمن أطاع ال فقد ارتقى في درجات المل العلى صعداً ‪ ،‬ومن عصا ال فقد ارتكس في دركات العذاب حُدُرًا ‪ ،‬وبئس المصير ‪ ،‬وهذا‬
‫هو الصل ‪ ،‬أو هي السنة التي عامل ال بها خلقه المكلفين بطاعته ‪ ،‬منذ كان التكليف ‪.‬‬

‫{{ الفصل الخامس من الباب الثاني }}‬

‫بين إبليس وآدم في الجنة‬

‫يبدأ الفصل الثاني من الحوار في قصة الخلق ‪ ،‬بعد افتضاح أمر إبليس ‪ ،‬وإعلنه السافر عن عداوته لدم وذريته ‪ -‬يبدأ الفصل بتوجيه‬
‫جكَ‬
‫ت وَ َزوْ ُ‬
‫سكُنْ أَن َ‬
‫ال لدم أن يسكن هو وزوجه ( حواء ) الجنة ‪ ،‬وأول آية تحدثت عن هذا التوجيه هي آية العراف ‪ {{ :‬وَيَا آدَمُ ا ْ‬
‫ل تَقْ َربَا هَـ ِذهِ الشّجَ َرةَ َفتَكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ ‪ - }} 19‬العراف ‪.‬‬
‫ش ْئُتمَا َو َ‬
‫ح ْيثُ ِ‬
‫جنّةَ َفكُلَ مِنْ َ‬
‫الْ َ‬

‫ول مناص من التسليم بأن آدم هو ابن الرض ‪ ،‬وقد كانت حياته قبل الصطفاء وبعد الصطفاء على الرض ‪ ،‬وقد اختار ال للزوجين‬
‫بقعة رائعة من البقاع المثمرة ‪ ،‬توفر فيها الغذاء ‪ ،‬والكساء ‪ ،‬والماء والظل ‪ ،‬وسائر مقومات الحياة الرخية ‪ ،‬وقال له ‪ {{ :‬إِنّ َلكَ َألّ‬
‫ل تَضْحَى ‪ - }} 119‬طه ‪ ، .‬وكان لهذه الجنة ( أو الحديقة ) وظيفتان ‪:‬‬ ‫تَجُوعَ فِيهَا َولَ َتعْرَى ‪ 118‬وََأّنكَ َ‬
‫ل َتظْمَأُ فِيهَا َو َ‬
‫الولـى ‪ :‬أن يمارس فيها آدم أساسيات الرسالة التي اصطفاه ال لتبليغها إلى ذريته ‪ ،‬ول سيما التكاليف الخلقية ‪ ،‬والتعاليم الدينية‬
‫المتصلة بالدنيا والخرة ‪ ،‬وهو ما يبدو متألقاً في قصة ابني آدم ( هابيل وقابيل ) في سورة المائدة ‪ ،‬ول ريب أن الولدين قد تلقيا عن‬
‫أبيهما كل ما دار في حوارهما من تعاليم كالتقوى والفجور ‪ ،‬والتوحيد والشرك ‪ ،‬والحلل والحرام ‪ ،‬والعدل والظلم ‪ ،‬والجنة والنار ‪،‬‬
‫وفي هذه الجنة الرضية كانت الخطيئة التي سوف نتعرض لمناقشتها بعد قليل ‪.‬‬

‫الثـانيـة ‪ :‬أن هذه الجنة كانت بمثابة الملجأ المن الذي يعزل آدم وزوجه بعد الصطفاء ‪ -‬عن سائر البشر ‪ -‬خارج نطاق التكليف‬
‫الديني ‪ .‬ريثما تخلي الساحة الرضية من وجودهم ‪ ..‬إذ إن الرض لم تكون بعد ذلك إل لدم وذريته ‪ ،‬وهي بداية العهد النساني ‪.‬‬
‫لقد خلق آدم من تراب الرض ‪ ،‬ليعمر هذه الرض ‪ ،‬وذلك قدر ال منذ شاء خلق البشر ‪ ،‬وهم أصول آدم ‪.‬‬

‫وما أشبه ما حدث آنذاك ‪ ،‬حين عزل آدم وزوجه في الجنة ‪ ،‬بما حدث بعد ذلك إبان الطوفان ‪ ،‬فقد حمل نوح في فلكه من كلّ زوجين‬
‫ل بُعْداً‬
‫ي وَقِي َ‬
‫س َت َوتْ عَلَى الْجُودِ ّ‬
‫ك حتى {{ وَا ْ‬
‫اثنين ‪ ،‬وأهله معه ثم تولى الطوفان تطهير الرض من المشركين وآثارهم ‪ ،‬وقاد نوح الفُ ْل َ‬
‫لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ ‪ - }} 44‬هود ‪ ، .‬لقد كان بدأ العهد النساني يتطلب إخلء الرض من المفسدين وسفاكي الدماء وهو ما تولت القدرة‬
‫اللهية تنفيذه فترة سكني آدم وزوجه في الجنة ‪.‬‬

‫على أننا ينبغي أل تفوتنا ملحظة ظهور زوج لدم ‪ ،‬لم يرد ذكرها قبل ذلك ‪ ،‬وهو ما يعني أن آدم كان متزوجاً قبل الستخلف‬
‫والصطفاء ‪ ،‬وذلك ما يدل عليه سياق القصة ‪ .‬يقول الشيخ رشيد رضا ‪ ( :‬والية تدل على أن آدم كان له زوج ‪ ..‬أي ‪ :‬امرأة ‪ ،‬وليس في‬
‫القرآن مثل ما في التوراة من أن ال تعالى ألقى على آدم سباتًا ‪ ،‬انتزع في أثنائه ضلع من أضلعه فخلق له منه حواء امرأته ‪ ،‬وأنها‬
‫سميت امرأة ( لنها من أمرىء أخذت ) ‪ ،‬وما روى في هذا المعنى فهو مأخوذ من السرائيليات ‪ ،‬وحديث أبي هريرة في الصحيحين ‪:‬‬
‫جلٍ ‪ - }} 37 ...‬النبياء ‪ ، .‬بدليل قوله ‪ ( :‬فإن ذهبت تقيمه كسرته ‪،‬‬‫ن مِنْ عَ َ‬
‫( فإن المرأة خلقت من ضلع ‪ ، ) ..‬على حد {{ خُِلقَ الِْنسَا ُ‬
‫وإن تركته لم يزل أعوج ‪ ،‬فاستوصوا بالنساء ) ‪ ..‬أي ‪ ( :‬لتحاولوا تقويم النساء بالشدة ) ( المنار ‪. ) 308 / 8‬‬

‫وعلى أية حال فإن اختيار القرآن إبراز وجود الزوج كان على أعتاب الجنة ‪ ،‬ودخل الزوجان الجنة أو السكن الذي اختاره ال لهما‬
‫ليبدءا حياة ل يدريان من ملمحها إل ما أذن ال لهما بمعرفته ‪ ،‬فليست هذه الجنة نهاية المطاف ‪ ،‬ولكنها مرحلة سوف تشهد أحداثًا‬
‫وفصولً في قصة الحياة على هذه الرض ‪.‬‬

‫على أن من الضروري أن نشير هنا إلى أن دللة لفظ ‪ ( :‬الجنة ) على ( البستان الرضي ) هي الدللة الحقيقية والصلية ‪ ،‬وفي مقابلها‬
‫دللة اللفظ على ( دار النعيم الخروي ) ‪ ،‬وهي دللة مجازية ‪ ،‬جاء بها القرآن ‪ ،‬كما جاء بالدللة الحقيقية ‪ ،‬ومن ذلك ما جاء في سورة‬
‫صبِحِينَ ‪َ 17‬ولَ‬
‫سمُوا َليَصْ ِرمُّنهَا مُ ْ‬
‫جنّةِ إِذْ َأقْ َ‬
‫( القـلم ) ‪ ،‬وهي السورة الثانية نزولً ‪ -‬من قوله تعالى ‪ِ {{ :‬إنّا بََل ْونَاهُ ْم كَمَا بََل ْونَا أَصْحَابَ الْ َ‬
‫يَسْ َتثْنُونَ ‪ - }} 18‬القـلم ‪ ، .‬وهو أول استعمال للفظ ( الجنة ) في القرآن ‪ ،‬فجاء به على دللته الصلية ( البستان ) ‪ ،‬ثم ثنّى بذكر جنة‬
‫جنّاتِ الّنعِيمِ ‪ - }} 34‬القـلم ‪ ، .‬وكأن القرآن قصد إلى إثارة المقابلة‬ ‫الخرة في نفس السورة ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ {{ :‬إِنّ لِ ْل ُمتّقِينَ عِندَ َرّبهِمْ َ‬
‫بين ( جنة ) الدنيا ‪ ،‬وهي عرضة للنوازل ‪ ،‬و ( جنات النعيم ) في الخرة ‪ ..‬ينالها المتقون ‪ ،‬وذلك في فترة مبكرة جداً من نزول الوحي‬
‫القرآني ‪ ،‬فسورة القلم هي ثاني سور القرآن نزولً ‪.‬‬

‫ونعود إلى الجنة وساكنَيْــهَا اللذين ذودهما ربهما بكل ما يلزمهما من تنبيهات وتحذيرات من حقد إبليس عليهما ‪ ،‬ولكن هيهات لدم‬
‫وزوجه ‪ ،‬وهما حديثا عهد بالتكاليف ‪ ،‬قليل الخبرة بألعيب العدو وأخلقه الوضيعة ‪ ..‬هيهات لهما أن يقاوما ما واجها معه من إغراء ؛‬
‫أثار شهيتهما ‪ ،‬وحرك غرائزهما ‪.‬‬

‫ل َتقْرَبَا هَـ ِذهِ الشّجَ َر َة }} ‪ ،‬وما أعظم ما أباح لهما من ِنعَم ‪ ،‬وما منحهما من الحرية ‪،‬‬ ‫شئْ ُتمَا وَ َ‬
‫حيْثُ ِ‬
‫ل مِنْ َ‬
‫لقد كان توجيه ال لهما ‪ {{ :‬كُ َ‬
‫بالقياس إلى ما منعهما منه ‪ ،‬وجاء الشيطان يوسوس لهما ‪ ،‬صارفًا لهما عن نعم ال الوفيرة والمباحة ‪ ،‬مركّزا على تلك الشجرة‬
‫عنْ هَـ ِذهِ الشّجَ َرةِ ِإلّ أَن َتكُونَا مََلكَيْنِ َأوْ‬ ‫المحظورة ‪ ،‬وهي معيار الطاعة والمعصية ‪ ..‬جاء الشيطان قائلً لهما ‪ {{ :‬مَا نَهَاكُمَا َرّبكُمَا َ‬
‫تَكُونَا مِنَ الْخَاِلدِينَ ‪ - }} 20‬العراف ‪ ، .‬كانت القضية واضحة ‪ ،‬تتعلق بتوجيه ال سبحانه لهما أل يأكل من الشجرة ‪ ،‬وكان هدف‬
‫الشيطان أن يأكل من الشجرة وأن يفعل ذلك بأي ثمن من الكذب والخداع ‪ ،‬فهو إذاً التصادم بين أمر ال وهدف الشيطان ‪ ،‬وقد بدأ‬
‫ج َمعِينَ ‪ - }} 39‬الحجر ‪ ، .‬ول ريب أن تلك‬ ‫غ ِويَّنهُمْ أَ ْ‬
‫ض َولُ ْ‬
‫يمارس مهمة الغواء ‪ ،‬وينفذ وعيده الذي أعلنه {{ لُ َزّينَنّ َلهُمْ فِي الَرْ ِ‬
‫الشجرة كانت مغرية ‪ ،‬تدعو إلى تجربة مذاقها ‪ ،‬وجاء إبليس بكلم كله كذب ‪ ،‬فربط بين الشجرة والرتقاء إلى درجة الملئكية ‪ ،‬أو‬
‫تحقيق الخلود ‪ ،‬وكل المرين مطمح لدم وزوجه ‪ ،‬لقد علما أن ل ملئكة مقربين ‪ ،‬مخلوقين من النور ‪ ،‬لهم عند ال الدرجات العلى ‪،‬‬
‫كما علما أن كل نعيم ل محالة زائل بالموت ‪ ،‬كما فنيت اجيال قبلهما ‪ ،‬ول مهرب من الموت إل بتحقيق الخلود ‪ ،‬وما أعزه مطلباً ‪ ،‬وما‬
‫أهونه وسيلة ‪ ،‬أن يأكل من الشجرة ‪ ..‬مجرد مذاق ‪ ..‬ولن يكلفهما ذلك إل أن يمدا أيديهما إلى ثمرها ‪ ،‬وزادهما تعلقاً بالدخول في هذه‬
‫سمَ ُهمَا ِإنّي َلكُمَا َلمِنَ النّاصِحِينَ ‪ - }} 21‬العراف‬ ‫التجربة أن اللعين أخذ يقسم لهما بال إنه يريد صالحهما ‪ ،‬وإنه ناصح لهما {{ وَقَا َ‬
‫‪ ، .‬وهو كاذب في كلمه ‪ ،‬كاذب في قسمه ‪ ،‬ولكنهما لم يتصورا أن يوجد من يجرؤ على الكذب بهذه الصورة الفاجرة ‪ ،‬حتى ولو كان‬
‫شقَى‬‫جنّةِ َفتَ ْ‬
‫جنّ ُكمَا مِنَ الْ َ‬
‫ل يُخْرِ َ‬
‫جكَ فَ َ‬ ‫ك وَلِ َزوْ ِ‬
‫إبليس ‪ ،‬وغاب عنهما تماماً في هذه اللحظة تحذير ال لهما ‪َ {{ :‬فقُ ْلنَا يَا آدَمُ ِإنّ هَذَا عَ ُدوّ ّل َ‬
‫ل ِمنْهَا }} ‪ ،‬في لحظة ذهول وضعف ‪،‬‬ ‫‪ - }} 117‬طه ‪ ، .‬وعل صوت الشيطان في أذنيهما يدعوهما أن يأكل من الشجرة ‪ {{ ،‬فََأكَـ َ‬
‫وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير ‪ ..‬كانت الخطيئة التي جعلتهما من الظالمين ‪ ..‬يا لهول الموقف !!‬
‫أية شجرة هذه التي كان القتراب منها سبباً في تتابع تلك النتائج الهائلة في حياة النسان ؟!‬

‫لسنا نميل إلى التعويل على معرفة نوعها ‪ ،‬أو أثرها ‪ ،‬فكل ذلك ل يهم ‪ ،‬إذا ماقيس بموقف معصية الله العظيم ‪ ،‬رغم التحذير‬
‫والتذكير ‪ ،‬يقول الستاذ سيد قطب ‪ ( :‬ويسكت القرآن عن تحديد هذه الشجرة ‪ ،‬لن تحديد جنسها ل يذيد شيئاً في حكمة حظرها ‪ ،‬مما‬
‫يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود ‪ ،‬لقد أذن ال لهما بالمتاع الحلل ‪ ،‬ووصاهما بالمتناع عن المحظور ‪ ،‬ول بد من محظور يتعلم‬
‫منه هذا الجنس أن يقف عند حد ‪ ،‬وأن يدرب المكوز في طبعه من الرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته ‪ ،‬ويستعلي بها على هذه‬
‫الرغبات والشهوات ‪ ،‬فيظل حاكماً لها ‪ ..‬ل محكوماً بها كالحيوان ‪ ،‬فهذه هي خاصية ( النسان ) ( الظلل ‪. ) 129 / 8‬‬
‫ط ِفقَا‬
‫س ْوءَاتُ ُهمَا َو َ‬
‫وهكذا ‪ -‬رغم التحذير اللهي ‪ -‬سقط الزوجان في شرك الغواية ‪ {{ :‬فَ َدلّ ُهمَا ِبغُرُورٍ َفَلمّا ذَاقَا الشّجَ َر َة بَ َدتْ َلهُمَا َ‬
‫جنّةِ ‪ - }} 22 ...‬العراف ‪ ، .‬وعبارة القرآن ( فدلهما بغرور ) تعني أنه أوقعهما في الغرور والنخداع‬ ‫عَليْ ِهمَا مِن وَ َرقِ الْ َ‬
‫صفَانِ َ‬
‫يَخْ ِ‬
‫حين استدرجهما إلى الحضيض ‪ ،‬والتدلية ‪ :‬السقاط إلى السفل وتلك هي النتيجة الخلقية التي قصد إليها الشيطان ؛ أن يكشف عن‬
‫ضعف آدم وزوجه ‪ ،‬لنهما ‪ -‬في رأيه ‪ -‬ل يستحقان التكريم الذي خصهما ال به ‪ ،‬وبذلك لم يعد الشيطان وحده هو المتورط في‬
‫المعصية ‪ ..‬بل ( استوى الماء والخشبة ) ‪ ،‬فهما في الخطيئة سواء ‪ ،‬غير أن وصف القرآن للثار المادية للكل من الشجرة يستاهل‬
‫الوقوف عنده والتأمل في واقعة المعقول ‪.‬‬

‫لقد تناقل المفسرون رأياً واحداً عن السوأة ‪ ،‬وهي العورة ‪ ،‬وقالوا ‪ -‬دون اختلف ‪ -‬إن نتيجة الكل من الشجرة كانت ظهور عورة كل‬
‫منهما لنفسه ولصاحبه ‪ ،‬وكانا من قبل ل يريان ذلك لمواراة سوأتهما عنهما ‪ ،‬والغريب أن يقول صاحب المنار ‪ ( :‬والقرب عندي أن‬
‫معنى ظهورهما لهما أن شهوة التناسل دبت فيهما بتأثير الكل من الشجرة ‪ ،‬فنبهتهما إلى ما كان خفي عنهما من أمرها ‪ ،‬فخجل من‬
‫ظهورها ‪ ،‬وشعرا بالحاجة إلى سترها ‪ ،‬وشرعا يخصفان ‪ ،‬أي ‪ :‬يلزقان ‪ ،‬أو يضعان ويربطان على أبدانهما من ورق الجنة ) ( المنار‬
‫‪. ) 311 / 8‬‬

‫إن كل مايقال في مسألة ( السوأة ) هو محض اجتهاد يسمح به أسلوب الية ووصفها لما حدث ‪ .‬وعلى ذلك يجوز أن نجتهد في فهمها‬
‫انطلقاً من الملحظات التية ‪:‬‬

‫‪ - 1‬أن القرآن ذكر ( السوأة ) بالجمع مضافًا إلى مثنى ‪ ،‬وهو ما يعني أن ما بدا منهما ليس عورتيهما ‪ ..‬بل هي عورات كثيرة ‪ ،‬ولو‬
‫كانت العورة الغليظة هي المقصودة لقال النص الكريم ( بدت لهما سوأتاهما ) ‪ ،‬لكن الجمع يوحي لنا بمعنى آخر ‪.‬‬

‫‪ - 2‬افتراض أنهما فوجـئا برؤية ما لم يكونا يريانه مخالفاً لمعنى الزوجية ‪ ،‬وسنة ال فيها ‪ ،‬وآراء المفسرين قائمة على افتراض أنهما‬
‫أول زوجين في تاريخ البشرية ‪ ،‬وهو أمر أثبتنا خلفه ‪ ،‬فقد كان التصال الجنسي بين الذكور والناث ‪ -‬منذ مليين السنين ‪ -‬بل قيد أو‬
‫شرط خلل العهد البشري ‪ ،‬حيث لم يكن دين ول تكليف ‪.‬‬

‫ن كَمَا أَخْ َرجَ‬ ‫‪ - 3‬أن آدم لم يكن يعيش في الجنة عارياً بدائيًا ‪ ،‬وهو ما قرره القرآن في قوله تعالى ‪ {{ :‬يَا بَنِي آدَ َم لَ َي ْفتِ َنّنكُمُ ال ّ‬
‫ش ْيطَا ُ‬
‫س ْوءَا ِت ِهمَا ‪ - }} 27 ...‬العراف ‪.‬‬
‫سهُمَا ِليُ ِريَ ُهمَا َ‬
‫عنْ ُهمَا ِلبَا َ‬
‫جنّ ِة يَن ِزعُ َ‬
‫َأ َبوَ ْيكُم مّنَ الْ َ‬

‫جنّةِ ‪ - }} 22 ...‬العراف ‪ ، .‬يؤكد أن الضمير في ( عليهما ) ل يعود على‬


‫صفَانِ عََل ْيهِمَا مِن وَ َرقِ الْ َ‬ ‫‪ - 4‬قوله تعالى ‪َ {{ :‬و َ‬
‫طفِقَا يَخْ ِ‬
‫( السوءات ) ‪ ،‬وإل لقال ‪ ( :‬عليها ) ‪ ،‬بل إن عائد الضمير هو ( آدم وحواء ) بشخصيهما ‪ ،‬والصورة كما تبدو لنا في موقف الزوجين‬
‫صورة هائلة ‪:‬‬

‫فقد شعرا حين ذاقا الشجرة أنهما خالفا أمر ربهما ‪ ،‬وقد حزرهما من الشيطان تحذيراً صارماً ‪ ،‬ومعنى ذلك غضب ال عليهما ‪ ،‬وهو ما‬
‫هيج مشاعرهما ‪ ،‬ووضعهما في مواجهة عاقبة ل يحتملنها ‪.‬‬

‫وركبهما الندم من هذا التعري أمام ال ‪ ،‬فأخذا يحاولن التخبؤ والستتار حياءً منه وخجلً ‪ ،‬وذلك بأن يتخذا من ورق الجنة غطاء‬
‫يسترهما ‪ ،‬وكأنهما يهيلن عليهما هذا الورق ‪.‬‬

‫ع ُدوّ ّمبِينٌ ‪- }} 22‬‬ ‫ش ْيطَآنَ َلكُمَا َ‬ ‫وبَ ْينَما هما في هذه الحال الرعيبة {{ نَادَا ُهمَا َرّبهُمَا أََلمْ َأ ْنهَ ُكمَا عَن تِ ْل ُكمَا الشّجَ َر ِة وَأَقُل ّلكُمَا ِإنّ ال ّ‬
‫ن مِنَ‬
‫حمْنَا َل َنكُونَ ّ‬
‫العراف ‪ ، .‬وكان هذا النداء بمثابة حبـل النقاذ لهـما فتعلقا به وقال ‪َ {{ :‬رّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُسَنَا وَإِن لّ ْم َتغْفِرْ َلنَا َوتَرْ َ‬
‫الْخَاسِرِينَ ‪ - }} 23‬العراف ‪.‬‬

‫وهذه الكلمات هي التي أشارت إليها الية الكريمة ‪َ {{ :‬فتََلقّى آدَ ُم مِن ّربّ ِه كَِلمَاتٍ َفتَابَ عََليْهِ ِإنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ ‪ - }} 37‬البقرة ‪.‬‬

‫ج َتبَاهُ َربّهُ َفتَابَ عََليْ ِه وَهَدَى ‪ - }} 122‬طه ‪.‬‬


‫عصَى آ َدمُ َربّهُ َف َغوَى ‪ 121‬ثُمّ ا ْ‬
‫وقد عبر القرآن عن الموقف كله بقوله ‪ {{ :‬وَ َ‬

‫ي وَلَ ْم نَجِدْ لَهُ عَ ْزمًا ‪- }} 115‬‬


‫عهِ ْدنَا إِلَى آدَ َم مِن َقبْلُ َفنَسِ َ‬
‫وأرجع سبب الوقوع في الغواية إلى أنه لم يكن عامدًا ‪ ..‬بل ناسياً ‪ {{ :‬وََلقَدْ َ‬
‫طه ‪.‬‬

‫ن مِن‬
‫جهَالَ ٍة ثُ ّم َيتُوبُو َ‬
‫س َوءَ بِ َ‬
‫ن يَ ْعمَلُونَ ال ّ‬
‫ويمكن تفسير نسيان آدم بأنه داخل في مضمون الجهالة في قوله ‪ِ {{ :‬إنّمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى الّ لِلّذِي َ‬
‫قَرِيبٍ ‪ - }} 17 ...‬النساء ‪.‬‬

‫وهو موقف يختلف عن موقف إبليس الذي علم السوء ‪ ،‬وفعله ‪ ،‬وأصر عليه ‪ ،‬ولذا استحق آدم وزوجه أن يتوب ال عليهما ‪.‬‬
‫وعند هذا المقطع من تسلسل الحداث اكتملت معادلة الحياة الدنيا بكل عناصرها ‪ ( :‬المر ‪ -‬الوسوسة ‪ -‬المخالفة ‪ -‬الندم ‪ -‬المغفرة ) ‪،‬‬
‫فآن الوان لنزول آدم إلى معترك الحياة الدنيا ‪ ،‬وقد ترسخت في عقله ونفسه تلك المعادلة ‪ ،‬بعد أن هيئت له الساحة ‪ ،‬وأخليت الرض‬
‫من المفسدين وسفاكي الدماء ‪ ،‬ولم يعد فيها سوى النسان الجديد ‪ ( ،‬آدم ‪ :‬أبي النسان ‪ ،‬وحواء ‪ :‬أمه ) في مواجهة إبليس عدوهما‬
‫س َتقَرّ َو َمتَاعٌ ِإلَى حِينٍ ‪ 24‬قَالَ‬
‫ض مُ ْ‬
‫ضكُمْ ِل َبعْضٍ عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي الَرْ ِ‬
‫اللدود ‪ ،‬وقامت الحياة على هذا العداء المتبادل ‪ {{ :‬قَالَ ا ْه ِبطُواْ َبعْ ُ‬
‫ن وَفِيهَا تَمُوتُونَ َو ِمنْهَا تُخْرَجُونَ ‪ - }} 25‬العراف ‪.‬‬
‫ح َيوْ َ‬
‫فِيهَا تَ ْ‬

‫ولسنا بحاجة إلى تكرار أن المر بالهبوط مرادف للمر بالخروج ‪.‬‬
‫{{ الفصل السادس من الباب الثاني }}‬

‫اللغة والسمـــاء القديمـــــة‬

‫ال‬

‫الملئكــــة ‪ -‬آدم ‪ -‬إبليــس ‪ -‬الشـيـطان‬

‫*****‬

‫‪ -"-‬ال ‪-"-‬‬

‫كان القرآن ‪ -‬ول يزال ‪ -‬الوثيقة اللغوية التي نعتمد عليها في معرفة السماء التي وردت في قصة الخلق ‪ ،‬وما يتصل بها ‪ ،‬وأقدم‬
‫السماء على الطلق هو لفظ الجللة ( ال ) ‪ ،‬فهو الول بل بداية ‪ ،‬والخر بل نهاية ‪ ،‬والمفروض أنه قبل ظهور ( النسان ) ‪ -‬لم يكن‬
‫البشر يعرفون شيئًا سوى ما تهيئه لهم طبيعة مرحلة النمو التي يعيشونها ‪ ،‬فقبل أن يكون العقل ‪ ،‬وقبل أن تتكون اللغة لم يكونوا يدركون‬
‫شيئاً عن حقيقة الحياة ‪ ،‬وطبيعة الوجود ‪ ،‬إلى أن كان اصطفاء ( آدم ) فعرفت الخليقة خالقها ‪ ،‬بدءاً من معرفة آدم لربه ‪ ،‬وفي نفس‬
‫الموقف برزت أسماء بعض المخلوقات ‪ :‬الملئكة ‪ -‬البشر ‪ -‬آدم ‪ -‬إبليس ‪ ،‬ول ريب لدينا في أنها أسماء قديمة ‪ ،‬استخدمت قبل أن تظهر‬
‫العربية إلى الوجود ‪ ،‬وقد وردت هذه السماء في كلم ال ضمن حديث القرآن عن قصة الخلق ‪ ،‬أولى قصص الوجود البشري‬
‫والنساني معاً ‪.‬‬

‫ونحن ل نتصور أن هذه السماء كلمات مأخوذة من العربية للتعبير عن شخصيات القصة ‪ ،‬فقد كانت القصة قبل أن تكون اللغات‬
‫بالشكل المعروف ‪ ،‬نوعًا وعدداً ‪ ،‬وقد عرفت تلك الشخصيات بهذه السماء التي جاءت في كلم ال ‪ ،‬وهذا هو السر في شيوعها في‬
‫كثير من اللغات النسانية بصور نطقية متقاربة ‪ ،‬فلفظ الجللة ‪ ( :‬ال ) معروف هكذا في اللغات السامية القديمة ‪ ،‬ومنها العربية ‪ ،‬كما‬
‫تعرفه اللغات الوروبية ‪.‬‬

‫ع ‪ ،‬أو بمعنى‬
‫ولقد حاول الشتقاقيون أن يردوا لفظ الجللة ( ال ) إلى جذر اشتقاقي ‪ ،‬فقال كثير منهم بأنه مشتق من ( أَلِ َه ) بمعنى ‪ :‬فَ ِز َ‬
‫‪ :‬تحير ‪ ،‬أو بمعنى ‪ :‬عبد ‪ ،‬أو بمعنى ‪ :‬أقام ‪ ،‬وقال بعضهم ‪ :‬إنه من ( َولِه ) بمعنى ‪ :‬أحب ‪ ،‬وقال غيرهم ‪ :‬إنه من ( له ) بمعنى احتجب‬
‫أو ارتفع ‪.‬‬

‫وأغلق بعضهم باب الشتقاق وقال بأنه غير مشتق ‪.‬‬

‫وفريق ثالث قال ‪ :‬بأنه غير عربي ‪ ،‬فهو سرياني ‪ -‬أو عبراني ‪.‬‬

‫والكثرون على أنه عربي ‪.‬‬

‫والذي نراه أن ذلك كله خبط في ظلماء مدلهمة لن ال سبحانه أخبر عباده بأنه ( ال ) ‪ ،‬وطلب منهم أن يعبدوه ويوحدوه لنه ( ال ) ‪،‬‬
‫والخطاب هنا ليس عربياً لقوم عرب ‪ ..‬بل هو خطاب إلهي كوني صدر عن خالق الكون ‪ ،‬والنسان ‪ ،‬واللغات ‪ ،‬فهو إذن ليس أسماً‬
‫صاغته ألسنة المخلوقات ‪ ..‬بل تلقته هذه اللسنة من المل العلى عَلَماً على ذات المعبود بحق ‪ ،‬واستوعبته العربية ‪ ،‬كما استوعبته سائر‬
‫اللغات التي تلقت رسالت السماء ‪ ،‬ونطقت به حسب قوانينها ‪ ،‬وتقاليدها ‪ ،‬وقدرتها النطقية ‪ .‬فل ينبغي أن يدرج في معجم العربية على‬
‫أنه كلمة من كلماتها ‪ ..‬بل على أن اللسان العربي نطقه هكذا كما لقنه ‪ ،‬وكما نطقه غير العرب ‪ ،‬وقد اخترع العبرانيون إلوهيم ‪ ،‬أو‬
‫يهوه ‪ ،‬كما ورد إيل ‪ ،‬وإلّ ‪ ،‬ولكن يبقى ( ال ) ‪ ،‬وتتلشى كل الختراعات أو الواردات فلفظ الجللة هو أصل السماء ‪ ،‬وأولها ‪،‬‬
‫س َنتِكُ ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ ‪...‬‬
‫ختِلَفُ أَلْ ِ‬
‫ض وَا ْ‬
‫ت وَالَْرْ ِ‬
‫سمَاوَا ِ‬
‫خ ْلقُ ال ّ‬
‫ن آيَاتِهِ َ‬
‫ومصدرها ‪ ،‬كما أنه مصدر اللغات واللسنة ‪ ،‬وصدق ال ‪ {{ :‬وَمِ ْ‬
‫‪ - }} 22‬الروم ‪ ، .‬وهو القديم ‪ ،‬وما سواه محدث ‪ ،‬وهو قديم بذاته ‪ ،‬وبإسمه قبل أن تكون اللغات ‪ ..‬بل قبل أن تكون الكائنات ‪.‬‬
‫‪ -"-‬الملئكــــة ‪-"-‬‬

‫وأما عن ( الملئكة ) فهي كلمة إسلمية أيضاً ‪ ..‬لم تستخدم في العربية قبل أن يرد ذكرها في بداية الوحي ‪ ،‬في سورة المدثر ‪ ،‬وهي‬
‫رابع سور القرآن نزولً ‪ ،‬وقد ردها اللغويون إلى الجذر ( ألك ) ‪ ،‬الذي اشتقت منه كلمة ( مَاْلك ) ‪ ،‬ثم حدث قلب مكاني ‪ ،‬فصارت‬
‫( مًلك ) ‪ ،‬ثم جمعت فصارت ( ملئكة ) ‪ ،‬ول دليل على استخدامها في العربية قبل القرآن ‪.‬‬

‫وأقطاب ( الملئكة ) ‪ ،‬وفي مقدمتهم ( جبريل وعزرائيل ) ‪ ،‬جاءت تسمياتهم مركبة ‪ ،‬وهي شائعة في كثير من اللغات ‪ ،‬فكلمة‬
‫( جبرائيل ) جزءُها الول ( جبر ) بمعنى ( رجل ) ‪ ،‬وكلمة ( عزرائيل ) جزءُها الول ( عزر ) بمعنى ( قوة ) ‪ ،‬وهما مضافتان إلى‬
‫لفظ ( إيل ) ‪ ..‬أي ‪ :‬ال ‪ ،‬وكأن الول يعني ( رجل ال ) ‪ ،‬والثاني هو ( قوة ال ) ‪ ،‬وهي ترجمة متخيلة بقدر ما تسعه اللغة النسانية ‪،‬‬
‫وإل فليس في الملئكة رجال أو نساء ‪ ،‬ول يليق أن تحصر قوة ال في ملك مخلوق واحد ‪ ..‬بل إن التجريد هنا غير لئق ‪ ،‬إذ إن القوة‬
‫ي الحياء مَعْ ُزوٌ في القرآن إلى ال‬ ‫( ومنها ‪ :‬القوي ) من أسماء ال وصفاته الحسنى ‪ ،‬وليس مَلَكاً بعينه ‪ ،‬خاصة أن اختصاص َتوَف ّ‬
‫ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ َتوَ ّفتْهُ رُسُُلنَا‬ ‫لّ َي َتوَفّى الَْن ُفسَ ‪ - }} 42 ...‬الزمر ‪ ، .‬ومَعْ ُزوٌ إلى رسل ال من الملئكة ‪َ {{ :‬‬
‫حتّىَ إِذَا جَاء أَ َ‬ ‫سبحانه ‪ {{ :‬ا ُ‬
‫ل ِبكُمْ ‪ - }} 11 ...‬السجدة ‪ .. .‬أي ‪ :‬إن قوة الماتة‬ ‫‪ - }} 61 ...‬النعام ‪ ، .‬ومَعْ ُزوٌ إلى ملك الموت {{ ُق ْ‬
‫ل يَ َتوَفّاكُم مَّلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُوكّ َ‬
‫ليست محصورة في ملك بعينه ‪ ،‬وعلى أية حال فإن القرآن لم يذكر من أسماء الملئكة سوى ( جبريل وميكال ) ‪ ،‬ولسنا مكلفين بترجمة‬
‫معاني هذه السماء ‪ ،‬أو التعمل معها على أساس معانيها ‪ ،‬فالسماء ل تعلل ‪ ،‬إنما هي كتل صوتية ل يلتفت إلى مكوناتها ‪.‬‬

‫إن ذلك يعني أن هذه التسميات كانت قبل اللغة العربية ‪ ..‬بل هي فعلً قبل اللغات البشرية ‪ ،‬وأن ما حاول الشتقاقيون أن يستخرجوه من‬
‫المعاني في ضوء الربط بيم السم ‪ ،‬وجذره اللغوي المفترض ‪ -‬هو في الحقيقة افتعال يقلب القضية رأساً على عقب !!‬

‫‪ -"-‬آدم ‪-"-‬‬

‫لقد حاول الشتقاقيون أن يجدوا لدم أصلً في ( أديم الرض ) الذي خلق منه ‪ ،‬والحق ‪ -‬في نظرنا ‪ -‬أن أديم الرض اشتق من ( آدم )‬
‫الذي يعني ( النسان ) بالمعنى العام في كثير من اللغات ‪ ،‬وكان مرتبطًا دائماً بالتراب ‪ ،‬والطين ‪ ،‬فأطلق على مادته التي خلق منها ‪:‬‬
‫أديم ‪ ،‬على سبيل الشتقاق من الجوامد ‪ ،‬وهو مجاز مرسل علقته الصلية والفرعية ‪ ،‬إن صح التصور ‪.‬‬

‫ويمكن أيضاً أن يقال ‪ :‬إن ( آدم ) بمعنى ‪ :‬الجلد ‪ ..‬مشتق كذلك من ( آدم ) ‪ ،‬ويطلق على الجلد ‪ :‬البشرة ‪ ،‬وللبشرة علقة لفظية بالكلمة‬
‫القديمة الولى في ملحمة الخلق ‪ ،‬كلمة ( بشر ) التي تفردت بها العربية ‪ -‬كما سبق أن قلنا ‪.‬‬

‫‪ -#-‬إبليــس ‪-#-‬‬

‫أما كلمة ( إبليس ) فهي موجودة في لغات قديمة كاليونانية ( ديابولوس ) ‪ ،‬وهي كلمة تبدو مركبة من جزئين ‪ ( :‬ديا ‪ +‬بولوس ) ‪ ،‬وقد‬
‫أخذت اللغات الوروبية ‪ ،‬باعتبرارها أحدث من اليونانية ‪ -‬الجزء الول من التركيب ‪ ( -‬ديا ) ‪ ( ،‬ديابل ‪ ، ) Diable‬وأخذت العربية‬
‫وأخواتها الساميات الجزء الثاني من التركيب كما هو ( إبليس ) مع تنوع في طريقة النطق ‪ ،‬هذا ما قرره محقق الزينة ‪.‬‬

‫ول يبعد في تقديرنا أن تكون الكلمة من عطاء القرآن للعربية ‪ ..‬وهي أقدم اللغات السامية ‪ .‬فلم نعثر على ما يشهد بوجودها قبل السلم‬
‫في لسان العرب ‪ ..‬بل إن الكلمة ليس لها مقابل لفظي أو دللي في العبرية ‪ ،‬وقد وردت لول مرة في القرآن في سورة ( ص ) ‪ ..‬أي ‪:‬‬
‫في سياق قصة آدم ‪ ،‬وذكر المعجم الوسيط أن جمع الكلمة ‪ :‬أبالس ‪ ،‬وأبالسة ‪.‬‬
‫أما كيف عالج أهل اللغة لفظها ومعناها ؟!‬

‫فقد قال اللغويون العرب ‪ :‬إنه على وزن إفعيل ‪ ،‬مشتق من أبلس الرجل ‪ :‬إذا انقطع ولم تكت له حجة ‪ ،‬ويقال ‪ :‬هو من يَ ِئسَ ‪ ،‬قالوا في‬
‫تفسير قوله تعالى {{ َفإِذَا هُم مّـبْلِسُونَ }} ‪ ،‬قال ‪ :‬يائسون ‪ ،‬قال ابن عباس ‪ ( :‬لما لعنه ال أبلس من رحمته ) ‪ ،‬وقال الفراء ‪:‬‬
‫( مبلسون ‪ ،‬يعني ‪ :‬في العذاب ) ‪ ،‬وقال ‪ ( :‬المبلس ‪ :‬اليائس من النجاة والقانط ‪ ،‬وهو أيضًا المنقطع الحجة ) ‪.‬‬

‫ويقال أيضاً ‪ :‬أبلس ‪ ،‬إذا سكت ولم يُجِ ْر جوابًا ‪ ، ..‬ويقال ‪ :‬ال ُمبْلسُ ‪ :‬الحزين النادم ‪ ،‬وقد أبلس الرجل إبلساً ‪ ،‬أي ‪ :‬اكتأب وحزن ‪ ،‬وفي‬
‫قوله تعالى {{ ُيبِْلسُ الْـمُجْرِمُونَ }} ‪ ،‬أي ‪ :‬يندمون ‪ ،‬ويكأبون وييأسون ‪ ،‬وقال مجاهد في قوله تعالى {{ ُيبِْلسُ الْـمُجْرِمُونَ }} ‪ ..‬قال ‪:‬‬
‫البلس ‪ :‬الفضيحة ‪ ،‬وقال غيره ‪ :‬البلس ‪ :‬الخشوع ‪ {{ ..‬فَِإذَا هُم مّـبْلِسُونَ }} ‪ ،‬قال ‪ :‬خاشعون ‪ ،‬وقال غيره ‪ :‬المبلس ‪ :‬المتروك‬
‫المخذول ‪.‬‬

‫قال صاحب الزينة ‪ ( :‬وكل هذه المعاني قد جاءت في البلس ‪ ،‬وهي قريبة بعضها من بعض ‪ ،‬فكأن إبليس هو مأخوذ من ذلك ‪ ،‬لنه‬
‫ل منقطع الحجة ‪ ،‬ساكتاً ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إبليس ) ( الزينة‬
‫افتضح بعصيانة ‪ ،‬فيئس من رحمة ال ‪ ،‬وحزن وندم ‪ ،‬فصار مخذولً متروكاً ‪ ،‬ذلي ً‬
‫‪. ) 193 - 192 / 1‬‬
‫هذه ‪ -‬كما قلنا رؤية الشتقاقيين العرب ‪ ،‬ويكفي أن نلحظ خطأ استنباطها حين رأى صاحب الزينة أنه قيل له ‪ ( :‬إبليس ) بعد أن حدث‬
‫له ما حدث ‪ ،‬على حين أن ( إبليس ) كان قبل أن يحدث شيء من ذلك !! وإن أطلق عليه بعضهم قبل افتضاحه ( عزازيل ) !! ولم يثبت‬
‫ذلك !!‬

‫ويرى علماء الغرب أن الكلمة دخلت محرّفه في العربية من اليونانية ‪ ( :‬ديابولوس ) ‪ ،‬وجاء في المعجم الكبير ‪ : 161 / 1‬أن العرب‬
‫حذفت ( ديا ) في أول الكلمة ‪ ،‬وتوصلوا للنطق بالساكن بزيادة اللف في أوله ‪ ،‬وأنه لم يرد ذكره في المعاجم الرامية والسريانية ‪.‬‬

‫يقول محقق الزينة ‪ ( :‬قد يكون العرب أخذته من اليونانية مباشرة باتصالهم بنصارى العرب الموالين للكنيسة البيزنطية ‪ ،‬كما أشار إليه‬
‫( جفري ) ( الزينة ‪ :‬السابق ‪ -‬هامش ) ‪.‬‬

‫ونقول بعد هذا كله ما سبق أن قلناه من أن ذلك افتعال يقلب القضية رأساً على عقب ‪ ،‬والذي نراه هو اللفظ قديم ‪ ،‬مستمد أساساً من علم‬
‫ال بالقضية ووقائعها ‪ ،‬وعناصرها ‪ ،‬وأن هذه اللفاظ دخلت اللغات النسانية عن طريق الديان ‪ ،‬والكتب المقدسة ‪ ،‬بأية لغة كانت هذه‬
‫الكتب ‪ .‬وقد يتفق هذا مع ما قاله أبو عبيدة من أن اللفظ اسم أعجمي ‪ ،‬غير أن العجمية تعني في اصطلح العلماء ‪ :‬أن اللفظ ( إبليس )‬
‫مستمد من لغة غير عربية ‪ ،‬وهو ما نحاول هنا أن ننفيه ‪ ،‬فاللفظ مستمد من علم ال ‪ ،‬وهو اسم لذلك ( المخلوق اللعين ) ‪ ،‬ويكفي أن‬
‫نتعامل معه بهذا العتبار ‪ ،‬دون حاجة إلى تأصيله في العربية ‪ ،‬أو تحليل مادته اللغوية ‪ ،‬وإرجاعه إلى جذر اشتقاقي ‪ ،‬فذلك كله في‬
‫نظرنا تلفيق ل يفيد اللغة شيئًا ‪ ،‬مهما فسر ( البلس ) بما ذكر من المعاني السابقة ‪ ،‬وقد حدث للكلمة في الستعمال العربي بعض‬
‫النضج ‪ ،‬فجمعت ‪ ،‬واشتق منها ( البلسة )‬

‫‪ -#-‬الشـيـطان ‪-#-‬‬

‫أما كلمة ( شيطان ) ‪ ،‬وجمعها ‪ :‬شياطين فهي عربية قديمة ‪ ،‬وقد تكون من الصل ‪ :‬شطن ‪ ،‬بمعنى البعد ‪ ،‬فالكلمة بوزن فيعال ‪ ،‬والنون‬
‫أصلية ‪ ،‬وقد تكون من الصل شيط ‪ ،‬شاط ‪ ،‬أي ‪ :‬احترق من الغضب ‪ ،‬فيكون بوزن فعلن ‪ ،‬نحو ‪ :‬حيران ‪ ،‬وهيمان ‪ ،‬فالنون زائدة ‪( .‬‬
‫الزينة ‪. ) 180 - 179‬‬

‫ويطلق على كل عات متمرد من الجن والنس والدواب ‪ :‬شيطان ‪ ،‬ويقول العرب لكل منفرد بقوته وجلده ‪ ،‬قوي مستقل بنفسه ‪ ،‬منهمك‬
‫في أمره ‪ :‬شيطان ‪ ،‬قال جرير ‪:‬‬
‫أيام يدعونني الشيطان من غزلي *** وكُنّ يهوينني إذ كنت شيطاناً‬
‫أي ‪ :‬إن النساء يدعونه ( شيطانًا ) لتفرده بأفعال الشيان من الغزل وغيره ‪.‬‬

‫ويطلق اسم ( شيطان ) على الحية خفيفة الجسم قبيحة المنظر ‪ ،‬وهو أحد وجهي التفسير في قوله تعالى ‪ {{ :‬طَ ْل ُعهَا كََأنّهُ ُرؤُوسُ‬
‫شيَاطِينِ ‪ - }} 65‬الصافات ‪ .‬أنظر ( الزينة ‪. ) 181 /‬‬
‫ال ّ‬

‫ن مّارِدٍ ‪ - }} 7‬الصافات ‪ ، .‬وهو خارج عن الطاعة‬


‫ش ْيطَا ٍ‬
‫ح ْفظًا مّن كُلّ َ‬
‫ومن صفات الشيطان ‪ ( :‬المارد ) ‪ ،‬وهو في قوله تعالى ‪ {{ :‬وَ ِ‬
‫ش ْيطَانًا مّرِيدًا ‪ّ 117‬لعَنَهُ الّ ‪ - }} 118 ...‬النساء ‪.‬‬ ‫‪ ،‬ومنه أيضاً قوله تعالى ‪َ {{ :‬وإِن يَدْعُونَ ِإلّ َ‬

‫ش ْيطَانِ الرّجِيمِ ‪ - }} 98‬النحل ‪ ، .‬والرجيم هو المرجوم ‪ ،‬كاللعين أي ‪( :‬‬ ‫ل مِنَ ال ّ‬


‫س َتعِ ْذ بِا ّ‬
‫ومن صفاته ( الرجيم ) في قوله تعالى ‪ {{ :‬فَا ْ‬
‫الملعون ) ‪ ،‬وهو أيضاً كذلك بمقتضى الخطاب الول إليه ‪ {{ :‬وَِإنّ عََل ْيكَ َل ْعنَتِي ِإلَى َيوْمِ الدّينِ ‪ - }} 78‬ص ‪.‬‬

‫ومن صفات الشيطان ( الغول ) ‪ ،‬وهو ساحر الجن ‪ ،‬وكذلك ( السعلة ) وهي أخبث من الغول وأعظمها سحراً ‪.‬‬

‫ومن صفاته ‪ ( :‬الوسواس الخناس ) ‪ ،‬والوسواس هو الذي يلقي بوسوسته في القلوب ‪ ،‬حتى يختبل النسان ‪ ،‬والخناس هو الذي يهرب‬
‫عند ذكر ال سبحانه ‪.‬‬

‫ومن صفاته ( الغرور ) لم يوصف بذلك غير الشيطان ‪ ،‬وهو وصف على فعول ‪ ،‬مثل ظلوم وحقود وتؤوم ‪ -‬صفات مبالغة ‪ -‬وقد يفسر‬
‫خبّل‬
‫( الطيف ) أو ( الطائف ) بأن المقصود به الشيطان ‪ ،‬وكذلك ( الخيال ) ‪ ،‬ويذكر صاحب الزينة أن من الشياطين جنساً يقال له ‪ ( :‬ال ُ‬
‫) ‪ ،‬وهم الذين يُخّــبلَون الناس ويؤذونهم ‪ ،‬وقد يدفعونهم إلى الجنون ‪ ..‬يقال ‪ :‬رجل مُخَـبّل ‪ :‬إذا كان به مس من الجن ‪ ،‬والخبال هو‬
‫الجنون واختلط العقل ‪.‬‬

‫جبْتِ‬
‫ن بِالْ ِ‬
‫ب ُيؤْ ِمنُو َ‬
‫ومن أسماء الشيطان أيضاً ( الطاغوت ) ‪ ،‬وهو وارد في قوله تعالى ‪َ {{ :‬ألَ ْم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُو ْا نَصِيبًا مّنَ ا ْل ِكتَا ِ‬
‫وَالطّاغُوتِ ‪ - }} 51 ...‬النساء ‪.‬‬
‫ن َكفَرُواْ َأوِْليَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ ‪ - }} 257 ...‬البقرة ‪.‬‬
‫‪ ،‬وقوله ‪ {{ :‬وَالّذِي َ‬

‫ك بِهِ َقبْلَ أَن َتقُو َم مِن‬


‫عفْريتٌ مّنَ الْجِنّ َأنَا آتِي َ‬
‫ومن أجناس الشياطين ‪ :‬العفريت ‪ ،‬وجمعه ‪ :‬عفاريت ‪ ،‬وهو وارد في القرآن ‪ {{ :‬قَالَ ِ‬
‫عفْـريَ ٌة ِنفْرِية ‪ ،‬وعُفارية ‪ .‬وهو الموثق الخلق الشديد‬ ‫ّمقَا ِمكَ ‪ - }} 39 ...‬النمل ‪ ، .‬والعفريت من كل شيء ‪ ( :‬المبالغ ‪ ،‬ويقال ‪ :‬فلن ِ‬
‫المصحّح ) ( الزينة ‪. ) 191 /‬‬
‫ولم يذكر صاحب الزينة من صفات الشيطان ‪ :‬القرين ‪ ،‬وجمعه ‪ :‬قرناء ‪ ،‬وقد وردت الكلمتان في آي القرآن ‪ ،‬الولى في قوله تعالى ‪:‬‬
‫ش ْيطَانًا َف ُهوَ لَهُ قَرِينٌ ‪ - }} 36‬الزخرف ‪ ، .‬والثانية في قوله تعالى ‪ {{ :‬وَ َقيّ ْ‬
‫ضنَا َلهُمْ قُ َرنَاء‬ ‫ن ُنقَيّضْ َلهُ َ‬
‫حمَ ِ‬
‫{{ َومَن َي ْعشُ عَن ِذكْرِ الرّ ْ‬
‫فَ َزّينُوا َلهُم مّا َبيْنَ َأيْدِيهِمْ َومَا خَ ْل َفهُمْ ‪ - }} 25 ...‬فصلت ‪ ، .‬كما ورد ذكر ( القرين ) في سورة ( ق ) ‪ ،‬في اليتين ‪ {{ :‬وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا‬
‫ل َبعِيدٍ ‪ - }} 27‬سورة ق ‪.‬‬ ‫عتِيدٌ ‪ - }} 23‬سورة ق ‪ ، .‬وقوله ‪ {{ :‬قَالَ قَرِينُهُ َرّبنَا مَا َأ ْ‬
‫طغَ ْيتُ ُه وََلكِن كَانَ فِي ضَلَ ٍ‬ ‫مَا لَدَيّ َ‬

‫شيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا ‪ - }} 38‬النساء ‪.‬‬


‫وورد ذكر القرين أيضاً في سورة النساء ‪ ،‬في قوله تعالى ‪ {{ :‬وَمَن َيكُنِ ال ّ‬

‫وواضح أن وظيفة القرين بمقتضى اليات شر كل الشر ‪ ،‬غير أن أثر وجود القرين انحصر في الغفلة عن ذكر ال ‪ ،‬أو محاولة‬
‫الغفال ‪ ،‬والمشاغلة بالدنيا ‪ ،‬والعكوف عليها ‪ ،‬دون تجاوز ذلك إلى اختصاص الشيطان الكبر ( إبليس ) الذي يحرص على أن يحقق‬
‫من وراء إغوائه الشرك بال ‪ ،‬فهو يترك أسباب الشرك من المعاصي ‪ ،‬ومقدماته من الثام لمساعديه من شياطين الجن والنس ‪ ،‬حتى‬
‫إذا شارف النسان حدود الشرك تحرك الملعون بصوته وخيله ورجله ليتم مهمته الكبرى ‪ ،‬ويشهد انتصار وعيده ‪ ،‬وتفوق الغواية على‬
‫الهداية ‪.‬‬

‫وجاء في الثار ذكر شيطان اسمه ( خنزب ) ‪ ،‬فذلك في حديث مرفوع عن ابن مسعود ‪ :‬أن للشيطان لمة لليعاد بالشر ‪ ،‬والتكذيب‬
‫بالحق ‪ ،‬والقنوط من الخير ‪ ،‬ويبدو أن هذا الشيطان متخصص في الحيلولة بين المؤمن وصلته ‪ ( .‬زاد المعاد ‪. ) 39 / 2‬‬

‫‪ -#-‬إبليس في القرآن ‪-#-‬‬

‫وقد ورد ذكر إبليس في القرآن إحدى عشر مرة ‪ ،‬منها عشر مرات في مكة ‪ ،‬ومرة واحدة في المدينة في سورة البقرة ‪.‬‬
‫ويلحظ أن مواضع ذكره لم تتجاوز قصة آدم في تسع مرات ‪ ،‬وجاء ذكره مرتين في غير القصة ‪ ،‬إحداهما في سورة الشعراء ‪ ،‬في‬
‫جمَعُونَ ‪- }} 95‬‬ ‫سياق يتحدث عن المشركين ‪ ،‬ممن اتخذوا من دون ال آلهة ‪ ،‬قال ‪َ {{ :‬ف ُكبْ ِكبُوا فِيهَا هُ ْم وَا ْلغَاوُونَ ‪ 94‬وَ ُ‬
‫جنُودُ ِإبْلِيسَ أَ ْ‬
‫الشعراء ‪ ، .‬وموضوع الية جنود إبليس ‪ ،‬ل إبليس ذاته ‪ ،‬وإن كان إمام أهل النار ‪ ،‬والخرى في سورة سبأ في سياق يتحدث عن‬
‫ظنّهُ فَاّتبَعُوهُ ِإلّ فَرِيقًا مّنَ‬
‫س َ‬‫عَليْهِمْ ِإبْلِي ُ‬
‫موقفهم من دعوة ال ‪ ،‬فأرسل ال عليهم سيل العرم ‪ ،‬وسجل ذلك عليهم فقال ‪ {{ :‬وََلقَدْ صَ ّدقَ َ‬
‫ا ْل ُم ْؤمِنِينَ ‪ - }} 20‬سبأ ‪ ، .‬وواضح أن الواقعة تشهد بأن إبليس ماثل بشخصه في الموقف ‪ ،‬فقد حقق وعيده حين قعد لبني آدم على‬
‫طكَ الْـمُسْتَـقِمَ }} ‪ -‬فدفعهم إلى اتخاذ الشركاء ‪ ،‬وأضلهم فكانوا من الغاوين ‪.‬‬ ‫ل ْقعُـدَنّ َلهُمْ صِرَا َ‬
‫طريق السلم ‪َ {{ :‬‬
‫فإذا لحظنا أن إبليس لم يذكر في وحي المدينة سوى مرة واحدة ‪ ،‬في سورة البقرة ‪ -‬وأن أكثر ما ذكر كان في الفترة المكية ‪ ،‬وفي قصة‬
‫آدم وحدها ‪ -‬أدركنا أن اسم ( إبليس ) ليس علماً على جنس من المخلوقات الخفية ‪ ..‬بل هو اسم ذات ‪ ،‬تفردت بقيادة الخلق إلى الشرك ‪،‬‬
‫وهو الذي مثل الدور الكبر في قصة بداية العهد النساني ‪ ،‬ولقد كان لذكره في مكة مناسبة ضرورية ‪ ،‬حيث كثر أولياؤه من كفار‬
‫مكة ‪ ،‬وعتاة الجاهلية ‪ ،‬فكان التركيز عليه لبراز دوره ‪ ،‬والتنفير منه ‪.‬‬

‫فأما في المدينة فقد برزت على الساحة أحداث أخرى ‪ ،‬حين كثر أنصار الحق ‪ ،‬وقامت دولته ‪ ،‬وصرحت المواجهة بين جند ال ‪،‬‬
‫وأعدائه ‪ ،‬فناسب أن يقوم بمهمته معه ذريته من كبار الشياطين وصغارهم ‪ ،‬وهم الذين تم التعريف بهم وبشرورهم في كثير من آيات‬
‫الوحي المكي والمدني ‪ ،‬على سواء ‪.‬‬

‫وقد أشار القرآن إلى أن لبليس ذرية ‪ ،‬فقال ‪ {{ :‬أَ َف َتتّخِذُونَ ُه وَذُ ّرّيتَهُ َأوِْليَاء مِن دُونِي وَهُمْ َلكُمْ عَ ُدوّ ‪ - }} 50 ...‬الكهف ‪ . .‬ول ندري‬
‫كيف تكاثرت الشياطين من ذرية إبليس ‪ ..‬اللهم إل إذا أخذنا ما ذكره صاحب المستطرف من أن إبليس ( ل يلد ‪ ،‬بل يلقح كالطير ويبيض‬
‫ويفرخ ‪ ،‬قيل ‪ :‬إنه يخرج من كل بيضة ستون ألف شيطان ) ( المستطرف ‪ ، ) 402 /‬فإذا استبعدنا هذا من قياس التكاثر بين الشياطين‬
‫على غرار تكاثر الطيور ‪ ،‬والحشرات ‪ ،‬فقد نتصور أن طبيعة إبليس النارية تقبل التكاثر بما يشبه النقسام ‪ ،‬فيحدث عند احتدام حقده‬
‫تولد الشرر ‪ ،‬فيكون من كل شرارة شيطان وليد ‪ ،‬يكبر برعاية أبيه ‪ ،‬ويبقى معه إلى أجله المسمى ‪.‬‬

‫وبذلك يبرز دور الشياطين إلى جانب دور ( إبليس ) زعيمهم الكبر ‪ ،‬وأبيهم اللعين ‪ ،‬ليتولوا إضلل المؤمنين عن طريق الستقامة ‪،‬‬
‫ودفعهم إلى المعاصي ‪ ،‬من الكبائر والصغائر ‪ ،‬فمن الواضح إذاً أن كلمة ( إبليس ) علم أطلق على ذلك الشيطان الكبر دون ذريته من‬
‫الشياطين والمردة ‪ ،‬ولهذا لم يَتَسَمّ باسمه أحد غيره ‪ ،‬فلم يرد في الستعمال ( إبليس النس ) ‪ ،‬كما ورد ( شياطين النس ) ‪ ،‬وهم الذين‬
‫نفخ إبليس في قلوبهم فصاروا له جنداً ‪.‬‬

‫وربما نستطيع أن نتصور واقع العمل بين إبليس وذريته وجنوده من الشياطين ‪ ،‬في ضوء دللة النصوص القرآنية بحيث يتولى إبليس‬
‫محاربة بني آدم ليصدهم عن السلم ‪ ،‬ويغرقهم في الشرك ‪ ،‬وفي كل ما يؤدي إليه من قول أو عمل ‪ ،‬وتلك مهمة رهيبة تتصل‬
‫بالمباديء والعقائد والديان ‪ ،‬على أن يتولى بقية الشياطين مهمات دون ذلك ‪ ،‬في مجال الرزيلة والشر ‪ ..‬كلّ حسب اقتداره على‬
‫الغواء والضلل ‪ ،‬وإشاعة الفساد ‪ ،‬فمنهم الذكي والغبي ‪ ،‬والنابه والكسول ‪ ،‬ولسوف نزيد الصورة وضوحاً عند استعراض‬
‫النصوص الواردة بشأن ( الشيطان ) ‪.‬‬

‫على أن ( إبليس ) وصف في القرآن بأنه ( شيطان ) ‪ ،‬وهو ما يشي به مثلً ‪ ..‬قوله تعالى في سورة العنكبوت ‪ {{ :‬وَعَادًا َو َثمُودَ وَقَد‬
‫ل َوكَانُوا مُسْ َتبْصِرِينَ ‪ - }} 38‬العنكبوت ‪ ، .‬فهذه المهمة الضخمة ‪،‬‬ ‫سبِي ِ‬
‫عنِ ال ّ‬
‫صدّهُمْ َ‬
‫عمَاَلهُمْ فَ َ‬
‫ش ْيطَانُ َأ ْ‬
‫تّ َبيّنَ َلكُم مّن مّسَاكِ ِنهِ ْم وَ َزيّنَ َلهُمُ ال ّ‬
‫المتمثلة في صرف هؤلء الكفرة عن اليمان ‪ ،‬وصدهم عن التوحيد ‪ -‬هي مهمة هائلة ل يقدر عليها سوى ( إبليس ) ذاته ‪ ،‬الذي وصف‬
‫بأنه ( الشيطان ) ‪ -‬هكذا معرفًا بـ ( ال ) العهدية ‪ ،‬أي ‪ :‬الشيطان الذي تعرفون ‪ ،‬وتذكرون قصته ووعيده ‪ ،‬والموقف هنا مع عاد وثمود‬
‫‪ -‬الذين عاشوا في الفترة مابين نوح وإبراهيم ‪.‬‬

‫ل تَ ْعبُدُوا‬
‫عهَدْ إَِل ْيكُمْ يَا َبنِي آدَمَ أَن ّ‬
‫وأوضح من ذلك دللة على أن المراد ( بالشيطان ) هو ( إبليس ) ‪ -‬قوله تعالى في سورة يس ‪َ {{ :‬ألَمْ َأ ْ‬
‫ستَقِيمٌ ‪ - }} 61‬يس ‪ ، .‬إننا نستطيع أن نطردها قاعدة في كل شيطان معرف‬ ‫ط مّ ْ‬ ‫ش ْيطَانَ ِإنّهُ َلكُمْ عَ ُد ّو ّمبِينٌ ‪ 60‬وََأنْ ا ْ‬
‫عبُدُونِي هَذَا صِرَا ٌ‬ ‫ال ّ‬
‫بــ ( ال ) ‪ ،‬فهو ( إبليس ) ‪ ،‬ويعتمد في ذلك أيضاً على دللة السياق ‪ ،‬فأما إذا جاء اللفظ منكرًا فإننا نرجح أن يكون المراد به واحداً من‬
‫جنس الشياطين‬

‫‪-#-‬الشيطان في القرآن ‪-#-‬‬

‫ورد ذكر الشيطان في القرآن مفرداً ‪ ،‬وجمعًا في سياقات توحي باختلف المعنى المقصود منه ‪ .‬وقد جاء مفرداً في التنزيل المكي ثلثاً‬
‫وثلثين مرة ‪ ،‬وجاء مفرداً في التنزيل المدني ثمانياً وعشرين مرة ‪.‬‬

‫أما وروده جمعاً ‪ -‬فقد جاء في التنزيل المكي خمس عشة مرة ‪ ،‬وفي التنزيل المدني ثلث مرات ‪.‬‬

‫وقد نستطيع أن نميز بعض وجوه المعنى المراد من خلل ملحظة ورود الكلمة معرفة أو منكرة ‪ -‬كما سبق أن قلنا ‪ ،‬فإذا جاء معرفاً ‪( :‬‬
‫الشيطان ) فهو ( إبليس ) ‪ ،‬وإذا جاء منكرًا ( شيطان ) فهو أحد من جنس الشياطين ( من ذرية إبليس ) ‪ ،‬وقد جاء اللفظ منكراً‬
‫( شيطان ) فعلً في خمسة مواضع هي على التوالي بحسب النزول ‪:‬‬

‫ش ْيطَانٍ رَجِيمٍ ‪ - }} 25‬التكوير ( مكية ) ‪.‬‬


‫* السورة السابعة ( التكوير ) {{ َومَا ُه َو ِب َقوْلِ َ‬

‫ش ْيطَانٍ رّجِيمٍ ‪ - }} 17‬الحجر ( مكية ‪.‬‬


‫ح ِفظْنَاهَا مِن كُلّ َ‬
‫* السورة الرابعة والخمسون ( الحجر ) {{ وَ َ‬

‫ن مّارِدٍ ‪ - }} 7‬الصافات ( مكية ) ‪.‬‬


‫ش ْيطَا ٍ‬
‫ح ْفظًا مّن كُلّ َ‬
‫* السورة السادسة والخمسون ( الصافات ) {{ وَ ِ‬

‫ش ْيطَانًا َف ُهوَ َلهُ قَرِينٌ ‪ - }} 36‬الزخرف ( مكية ) ‪.‬‬


‫ن نُ َقيّضْ لَهُ َ‬
‫حمَ ِ‬
‫* السورة الثانية والستون ( الزخرف ) {{ َومَن َي ْعشُ عَن ِذكْرِ الرّ ْ‬

‫ش ْيطَانًا مّرِيدًا ‪ - }} 117‬النساء ( مدنية ) ‪.‬‬


‫ن مِن دُونِهِ ِإلّ ِإنَاثًا َوإِن يَدْعُونَ ِإلّ َ‬
‫* السورة الثالثة والتسعون ( النساء ) {{ إِن يَ ْدعُو َ‬

‫ويلحظ أولً أن الية في سورة التكوير هي أولى اليات التي تعرضت لذكر الشيطان في القرآن ‪ ،‬فجاءت به منكراً ‪ ،‬وقد كانت العرب‬
‫تعرف ( الشيطان ) ‪ ،‬وتراه في أطياف الشعراء ‪ ،‬فجاء القرآن لينفي أن تكون آياته كأبيات الشعر من طائف الشيطان الذي عرفوه ‪:‬‬
‫ش ْيطَانٍ رَجِيمٍ ‪ - }} 25‬التكوير ( مكية ) ‪.‬‬
‫{{ َومَا ُه َو ِبقَوْلِ َ‬

‫ونحسب أن وصف الشيطان هنا بأنه ( رجيم ) هو الجديد في هذه البداية ‪ ،‬لتعريف المخاطبين بأن شأن الشيطان أن يرجم بالحجارة ‪،‬‬
‫وهو ما لم يعرفه أهل الجاهلية ‪ ،‬وكأنه يقول لهم ‪ :‬إن ما يمليه الشيطان على عقل الشاعر ل يحمل هداية ‪ ،‬ول يدعو إلى خير ‪ ،‬فهو‬
‫ستَقِيمَ ‪ - }} 28‬التكوير ‪ ،‬وقد‬ ‫عكس ما يتلوه عليكم محمد صلى ال عليه وسلم ‪ِ {{ :‬إنْ ُهوَ ِإلّ ِذكْرٌ لّ ْلعَاَلمِينَ ‪ِ 27‬لمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَ ْ‬
‫صمت الوحي بعد ذلك عن ذكر الشيطان ‪ -‬منكرًا ومعرفًا ‪ -‬طيلة ثلثين سورة ‪ -‬حتى جاء ذكر ( إبليس ) في سورة ( ص ) لول مرة ‪،‬‬
‫عبْ َدنَا َأيّوبَ إِ ْذ نَادَى َربّهُ‬
‫وعرض ذكر ( الشيطان ) مفردًا بعيداً عن قصة آدم ‪ ،‬أي ‪ :‬في إطار مستقل ‪ ،‬وهو في قوله تعالى ‪ {{ :‬وَا ْذكُرْ َ‬
‫غوّاصٍ ‪- }} 37‬‬ ‫ل بَنّاء وَ َ‬‫ن كُ ّ‬‫شيَاطِي َ‬‫ب وَعَذَابٍ ‪ - }} 41‬ص ‪ ،‬وجاء ذكره جمعاً في قوله تعالى ‪ {{ :‬وَال ّ‬ ‫ص ٍ‬
‫ن بِنُ ْ‬
‫ش ْيطَا ُ‬
‫َأنّي مَسّنِيَ ال ّ‬
‫ص ‪ ،‬واليتان تتحدثان عن أمور تتصل بقصتي نبيين كريمين ‪ ..‬أحدهما ‪ :‬أيوب ‪ ،‬الذي دعا ربه أن يخلصه من وساوس الشيطان أثناء‬
‫مرضه وابتلئه ‪ ،‬والثاني ‪ :‬سليمان ‪ ،‬الذي سخر ال له الجن والشياطين في أمور تتصل بما وهبه ال من ملك لم يوهب لحد بعده ‪،‬‬
‫وحين تأتي قصة آدم في آخر سورة ( ص ) يذكر ( إبليس ) لول مرة ‪ ،‬وكأنه ل علقة له بالشيطان ‪ ،‬فلكل منهما مجاله ‪ ،‬ولكن الوحي‬
‫ينزل بعد ذلك مباشرة بسورة العراف ( التاسعة والثلثين ) ‪ ،‬فيجمع بين إبليس والشيطان في قصة آدم ‪ ،‬ويطابق بينهما ‪ ،‬ولو أننا قرأنا‬
‫شعَـرْنا أن كلمة ( الشيطان ) في هذا السياق تأتي في‬
‫لَ َ‬ ‫س لَهُـمَا الشّ ْيطَانُ }}‬
‫سوَ َ‬
‫{{ فَوَ ْ‬
‫اليات حتى قوله تعالى ‪:‬‬
‫موقع الوصف ‪ ،‬أي ‪ :‬ذلك الشرير المجرم ‪ ،‬وملحظ الوصفية هنا أظهر من ملحظ السمية ‪.‬‬

‫وحين يتقمص ( النسان ) وظيفة الشيطان ‪ ،‬فإنه يكون أخبث طينة ‪ ،‬وأبشع كيداً ‪ ،‬وأعظم إفساداً من الجن وشياطينهم ‪ ،‬وقد شهد‬
‫ل من هؤلء الشياطين ‪ ..‬في شكل مفكرين ‪ ،‬وساسة وحكام ‪ ،‬وأذناب ‪ ،‬وطواغيت و ( هلفيت ) ‪ -‬إن صح التعبير ‪ -‬وقد‬ ‫عصرنا أجيا ً‬
‫جمعوا في ذواتهم صفات الشيطان الجني ‪ ،‬وأضافوا إليها أخبث صفات النس ‪ ،‬فكانوا مزيجاً من الشرور المرئية وغير المرئية ‪.‬‬

‫كما شهد عصرنا من فنون هؤلء الشياطين أهوالً تزيف صورة الحق ‪ ،‬فإذا هو باطل يخدع العقول ‪ ،‬ويفني العمار في متابعته والتعلق‬
‫به ‪.‬‬

‫نعم ‪ :‬شهد عصرنا ذلك الصراع من أجل احتلل الفضاء ‪ ،‬وشحنه بالموبقات ‪ ،‬ونشر الفجور بكل وسائل الغراء والستدراج ‪ ،‬تحت‬
‫شعارات ظاهرها فيه الرحمة ‪ ،‬وباطنها من قبله العذاب ‪ ،‬وهي شعارات ( مصالح الجماهير ) و ( خدمة الشعب ) و ( عولمة الثقافة ) ‪،‬‬
‫وغير ذلك من دعاوي الباطل ‪ ،‬ولغات ( شياطين النس ) ‪ ،‬والمضمون الوحيد هو الجنس ‪ ،‬والجنس وحده ‪ ،‬حتى يذهل النسان عن‬
‫غايته ‪ ،‬ويعقد اتصاله بهدفه ‪ ،‬ويبقى مجرد متفرج أبله على ألعاب الشياطين ‪.‬‬

‫أما التقدم ‪ ،‬والحضارة ‪ ،‬والعدالة ‪ ،‬والكرامة ‪ ،‬والقوة ‪ ،‬والدين ‪ ،‬والنصر على العدو ‪ ،‬والعداد للمواجهة المحتومة ‪ -‬فكل ذلك كلم‬
‫أجوف ‪ ،‬ل قيمة له ‪ ،‬ول مضمون ‪ ..‬يكفي أن ننام على أهازيج السلم ‪ ،‬وأن نستسلم لحلم اليقظة والمنام ‪ ،‬بعيداً عن الحركة الناشطة ‪،‬‬
‫والعمل اليجابي ‪ ،‬والبناء الخلقي ‪.‬‬

‫جنّة ‪ ،‬وقنوات التصال بين أعداء ال من الشياطين الملعين ‪.‬‬


‫إنها مراقص الشيطان ‪ ،‬ونوادي البالسة ‪ ،‬وملعب ال ِ‬

‫انتهى‬

You might also like