Professional Documents
Culture Documents
أبي آدم
قصة الخليقة بين السطورة والحقيقة
حين صدرت الطبعة الولى من هذا الكتاب ( أبي آدم ) أحدثت من الدوي مايحدثه سقوط صخرة ضخمة في بركة آسنة ،وانبعث من
قلب البركة -أو المجتمع -أناس يتصدون للكتاب ،ولمؤلفه ،ظانين أن بوسعهم أن يخفتوا صوته ،ويخفوا أثره ،بالتشويش والتجريح ،
وعلم ال أنهم لم يكونوا يملكون فكراً قادراً على إستيعاب مضمون الكتاب ،بل لقد يصدق في وصفهم ما ذكره المرحوم الكاتب
السلمي مصطفى صادق الرافعي في وصف بعض خصومه ،بأنه (( يرى السماء الصافية فيظن أنها قبة من الزجاج ،وينظر إلى
النجمة البادية فيرى أنها بيضة من بيض الدجاج )) .
هكذا سمعنا خلل تلك الفترة جعجعة ،ولم نر طحناً ،وقد قذف وقع الصخرة في البركة بعضهم إلى ساحات القضاء في أربع زخات
متواليات ،تولى كبرها رجل قانون ،ورجل تدين ( :قضيتان في المحكمة البتدائية ،وأخريان أمام الستئناف العادي والعالي ،فلم يلق
الرجلن في قضاياهما سوى أحكام الرفض ،وكان سندنا المهم في تلك المواجهة الشرسة -ذات الهداف الخفية -تقرير مستنير أصدره
مجمع البحوث السلمية ( وهو منشور في ملحق الكتاب ) ،يقرر فيه المجمع أن الكتاب ل يحتوي على مايخالف القرآن الكريم أو
السنة النبوية ،ول ينكر معلوماً من الدين بالضرورة ،أو ثابتاً من ثوابت العقيدة ،وإنما هو إجتهاد توفرت شروطه في مؤلف الكتاب ،
والمجمع قد يختلف معه في بعض النتائج التي توصل إليها ( .أو كما قال ) .
أما الكتاب فقد كان صخرة أردت بها أن أدق رأس الفعى السرائيلية اللبدة في الثقافة السلمية القديمة ،ممثلة فيما سمي
بالسرائيليات ،وهي ل تعدو أن تكون أساطير خرافية تسللت إلى الفكر السلمي ،وإلى عقل النسان المسلم ،فاعتمدها أئمة من أهل
التفسير ،ومن خلل تلك التفاسير سكنت في منطقة المسلمات من العقل المسلم ،وهي في الواقع أفعى إسرائيلية إعتنقها كثير من الرجال
،ممن لم يعملوا عقولهم في تحليل نصوص القرآن ،وممن لم يشعروا بالصدمة حين اتضحت من الرقام المسافات الزمنية الهائلة بين
معطيات الخرافة ،وتقديرات العلم لماد ما قبل التاريخ ..وأبعاد الحياة البشرية ..لقد خنقت الفعى أفهامهم حين طوقت أعناقهم .
ولبد لنا أن نلتفت أمامنا الن ،فنحن في مواجهة غارة إسرائيلية تحاول استخدام كل الوسائل لتخريب العقل المسلم المعاصر ،وهي ل
تكف عن ترديد الساطير ،في محاولة لزعزعة يقيننا بأنفسنا ،ويكفي أن يقف رئيس الوزراء السرائيلي السبق مناحم بيجين -أمام
الهرامات الشامخة -ليردد بصوت عال مزاعمه السرائيلية ،بأن أجداده من بني إسرائيل هم الذين بنوا هذه الثار الخالدة ،وهي
عملية إغتصاب فاجرة ،يريد بها تجريد الجيال المصرية من كل ميزة أو فضيلة ،هذا على الرغم من أن مناحم بيجين ،وكل من
تجمعوا في فلسطين تحت شعار الصهيونية ،ل يملكون دليلً واحداً على مايزعمونه إنجازاً لبني إسرائيل في مصر ،بل وأكثر من هذا
ل يملكون دليلً واحداً على إتصال نسبهم بإسرائيل أو بني إسرائيل ،فهم مجرد لملمة تناثرت في العالم قبل عشرات القرون ،وتجمعت
في شكل مجموعات من الشذاذ ،لتحقيق خطة إستعمارية ،هي ضرب السلم بواسطة هذه الجيوش المرتزقة .
والعجيب أنهم يسطون على التراث السلمي ،ليؤلفوا ملحمة إسرائيلية تتكامل مع العهد القديم ،ليبنوا لنفسهم وجودًا ثقافياً مؤثراً في
العقل المسلم وتاريخة ،وهذا هو شأن الغارة المستوطنة الن في فلسطين ،تحاول بما تثير من غبار الفتراءات والكاذيب
والسرائيليات ،أن تلهينا عن مرارة واقعنا ،الذي ينبغي أن نحتشد لمقاومته بكل مانملك من قوة وعزم وإصرار ،وأن نرفض كل
دعاوي السلم الزائفة ،التي ليست سوى وسائل يضحكون بها علينا ،وقد تبين لنا أن السلم الذي تعنيه إسرائيل ،ومن وراءها من
أمريكان وأوروبيين ،هي عبارة عن هدنة بين حربين ،أولهما سبقت ،والثانية آتية ل ريب فيها .
بل إننا نرى لزاماً علينا أن نجاهد تلك الغارة السرائيلية على قلب عالمنا العربي -في فلسطين ،نجاهدها مادياً وأدبياً ،نجاهدها
ل وتأثيرًا فكريًا وإعلمياً ،وسياسياً وإقتصاديًا ...لبد أن نقضى على هؤلء الغزاة قبل أن يقضوا علينا ..فقد جاءوا
إستيطاناً ،واحتل ً
إلى بلدنا قاتلين أو مقتولين وسنكون نحن قاتليهم ،وسيكونون هم المقتولين -بمشيئة ال تعالى ،حتى نسوقهم إلى حصير جهنم .
لقد ابتلى العقل المسلم المعاصر من قبل مدرستين لهما وجود على الساحة ،ولهما ضجيج مزعج ،وقد آن أوان إخماد هذا الضجيج :
أما أولهما فهي المدرسة الخرافية التي تتبنى الحكايات والسرائيليات .. ،وأما ثانيهما فهي المدرسة الحرفية ،والتي تشبثت بالمأثور ،
حتى ولو كان خرافياً ،وهي المدرسة التي ترفع السيف في وجه أي إجتهاد ،بدعوى الخروج على قواعد اللعبة السلفية ،والسلفية براء
من كل أشكال الساطير والخرافات .
ول مناص -إذا أردنا للسلم أن يتبوأ مكانة في عالم الغد -أن يتم القضاء على هاتين المدرستين وآثارهما ،فهناك تحالف بين الحرفيين
والخرافيين ،هو الذي يعوق حركة الجتهاد السلمي المعاصر ،وكثيرًا ما اختنقت آراء قيمة بإشاعة هذا الرعب ،مع أن السلم
يشجع على الجتهاد ،ويعد كل مجتهد بالجر -مادام ل يخالف ثابتًا من ثوابت العقيدة ،وما دام لينكر معلوماً من الدين بالضرورة ،
فلنجتهد ،ولتذهب الخرافية والحرفية إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم .
القصـــــة والسرائيليات
------
قصة الخلق -كما أوردها القرآن الكريم -مليئة بالكثير من السرار الخفية ،والمعاني الظاهرة ،وقد تناولها المفسرون والمنصفون من
زاوية أو أخرى ،وتشابهت محاولت القدماء ،حين أخذ بعضهم عن بعض ،وحين جاء العصر الحديث بمعطياته الكثيرة في مجالت
علم الرض ( الجيولوجيا ) وعلم النسان ( النتروبولوجيا ) وعلوم الحياة ،والحياء ( البيولوجيا ) وغيرها -تغيرت مفاهيم كثيرة ،
وصار لزاماً على من يتصدى لكتابة شيء عن هذه القصة أن يأخذ في إعتباره ماكشف عنه العلم الحديث من حقائق نسبية ،وما قال به
من نظريات ،حتى ليبدو متخلفاً عن موكب المعرفة المعاصرة ،وذلك على الرغم من أن الذين حاولوا الكتابة في هذه القصة حديثاً
تعاملوا معها من منطلق المسلمات القديمة ،أو بمنطق الل مساس والتوفيق والحذر .
إن هذه القصة كما وردت في القرآن الكريم تحتمل الكثير من التأويلت ،وهي حافلة باليماءات والشارات ذات الدللة التاريخية
والزمنية ،ونحن هنا نستخدم المصطلح ( التاريخ ) بالمفهوم العام ،الذي يشمل كل ما مضى من الزمان ،محدداً كان أو غير محدد ،
أي :التاريخ وما قبل التاريخ ،منذ كان الزمان بأمر ال التكويني ( كن ) فكان ...ول معقب ..
إن نظرة القدماء إلى القصة قد تأثرت بالتصور السرائيلي لها ،وهو الوارد في سفر التكوين ،حيث يختزل الزمان كله إلى أقل من
ثلثة آلف سنة تستغرق عشرين جيلً هم المسافة بين آدم وإبراهيم ،وقد إنقسمت سلسلة النسب إلى مجموعتين :
مع ملحظة أن سياق النص يوحي بأن الجيال العشرة الولى قد بادت بسبب الطوفان ،ثم بدأت النسانية جولتها الثانية من سللة
نوح ،الب الثاني لها ،من خلل أولده الثلثة :سام -وحام -ويافث ( إرجع إلى سفر التكوين -العهد القديم ) ،ومع ملحظة أخرى
هي :أن العمر الذي عاشه آدم -مثلً -يصل في تقدير العهد القديم إلى حدود الجيل التاسع تقريباً ،أي :قبل نوح بجيل واحد .
لسنا هنا بصدد مناقشة معلومات العهد القديم ونقدها ،فهي ذات طابع أسطوري غالبًا ،ول دليل على خطئها أو صوابها ،سواء في
السماء أو في الرقام ،وإن كانت إلى الحالة وعدم التصديق أقرب .
ولكن الملحظ أن أصحاب السير قد إعتبروها من المسلمات ،فكرروها دون أدنى مناقشة ،أو حتى توقف ،وهذا هو إبن هشام في
سيرته يذكر نسب النبي صلى ال عليه وسلم ،فبصل به إلى آدم عبر سلسلة العهد القديم ،فإذا بالنبي من الجيل الخمسين بعد آدم ،أي :
إن المدة من آدم إلى محمد -ثم إلى زمننا هذا -ل تذيد على سبعة آلف عام ،هي كل مامضى من عمر البشرية ،وهو تقديري ل يليق
مع التقديرات القائمة على الرؤية العلمية ،التي تقرب ول تحدد .
وحسبنا أن ننظر في تعليق محقق السيرة ( الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد ) على ماذكره إبن هشام من نسب الرسول صلى ال
عليه وسلم فقال ( :روى عن عروة بن الزبير أنه قال :ما وجدنا أحداً يعرف مابين عدنان وإسماعيل ) ..
وروى عن عمر رضي ال عنه أنه قال ( :إنما ننتسب إلى عدنان ،وما فوق ذلك ل ندري ماهو ) ،وقد صح عن رسول ال صلى ال
عليه وسلم أنه قال -لما بلغ عدنان ( :كذب النسابون ) مرتين أو ثلثاً .
وقد كره مالك وجماعة من العلماء أن يرفع الرجل نسبه إلى آدم ،من ِقبَلِ أن هذا كله من باب التخرص والظنون التي ليمكن أن يوثق
بها (( سيرة ابن هشام جـ 1ص . ) 1
ل ،تستغرق في
ويلفت النظر في هذا التعليق الرواية عن ابن عباس ( :أن بين عدنان وإسماعيل ثلثين أبًا ل يُعرفون ) ..أي ثلثين جي ً
المتوسط ثلثة آلف سنة على القل .
فإذا لجعنا إلى حساب التاريخ للمدة من إبراهيم حتى الن وجدناها تقترب من أربعة آلف سنة وهي مدة تختلف تمامًا مع ظنون
النسابين ،المر الذي ل نعوّل كثيراً على رواة النساب ،ول على مصادرهم الكتابية
النظـــــرة العلميــــــــــة
******
أما النظرة العلمية إلى هذه المسألة فإنها تضعنا في قلب تصور آخر ،تحسب أبعاده بمئات اللوف ..بل بمئات المليين من السنين ،وقد
جاء في موسوعة الثقافة العلمية ( صفحة ) 418 - 417أسماء العصور الجيولوجية ،وآمادها الزمنية ،وهي عصور مرت بكوكب
الرض ،وقُسمت إلى حقب ،بحسب معالمها السائدة -كما قرر العلماء .
وكل هذه الحقب يعتبر وجود النسان فيها غامضاً ،ويمكن أن نتصور وجوده في شكل مخلوق فطري ( خام ) كالحيوان يستخلص
إدراكات شتى من الحاسيس المختلطة التي ل تحصى .
وبدأت حقبة الحياة المتوسطة بالعصر الطراياسي ،منذ مائة وسبعين مليوناً من السنين (( من العلماء المعاصرين من ل يوافق على هذه
التقديرات جملة وتفصيلً ،ويصف القائلين بها بأنهم مزيفون وكذابون ) .
وبدأت حقبة الحياة الحديثة مع بداية العصر الباليوسيني منذ ثمانين مليونًا من السنين ،وتأتي مرحلة حاسمة ضمن هذه الحقبة ،هذ حقبة
الحياة في العصر البليستوسيني ،وتقدر بدايتها منذ خمسمائة ألف سنة ،طبقًا لمعلومات موسوعة الثقافة العلمية .
فإذا رجعنا إلى كتاب ( صور من حياة ما قبل التاريخ ) ،للمؤلفين :الستاذ الدكتور زغلول النجار ،والستاذ أحمد داود -وجدناه في
( صفحة ) 146يقرر أن فترات الجليد في عهد البليستوسين دامت حوالي ستمائة ألف سنة ،في فترات ثلث :مائة ألف ،ثم ثلثمائة
ألف ،ثم مائتي ألف ،فصلت بعضها عن بعض فترات أخرى تميزت بإنحسار الزحف الجليدي ،وعندما كان الجليد ينحسر من فوق
سطح الرض كانت تكسي بغطاء خضري مزدهر ،وهكذا ..وقد شهد ذلك العصر ظهور النباتات والغابات ،كما ظهرت الحيوانات
اللفقارية في البحار ،وانتشرت أنواع من القواقع الرضية .
كما ظهرت بعض الحيوانات الفقارية من الثدييات ،ومنها حيوان الرنة ،والثعلب القطبي ،وانتشر بقر البحر في النهار ،ومرحت
السود والضباع في الغابات ،وانتشرت الدببة في الكهوف ،وبعض الحيوانات المنقرضة ،كذلك الفيل الضخم الذي يطلق عليه
( الماموث ) ،وحيوان الميجاثيريوم والجلبتودون والديناصورات ،وظهرت في ذلك العصر الفيلة والحصنة والثيران بكثرة ،مع
شيء من الختلف عما ظهر في حقبة الباليوسين ،أي :منذ تسعين مليون سنة ،والحقبة التالية لها وهي ( الميوسين ) منذ من خمسة
وعشرين مليون سنة ،وهي الحقبة التي شهدت ظهور بعض أنواع من الطيور ،كالبجع وبداية طائر البطريق ،وطيور الماء التي تشبه
( أبو قردان ) في العصر الحديث وغيرها ،وانتشرت الخراتيت ،والغزلن والزراف ،وبعض الكلب والدببة ،والنسانيس والقردة ،
وبعض الحيوانات المفترسة كالنمور ذوات الناب ،بل إن العلماء السوفييت عثروا على سمكة ضخمة متحجرة في باطن الرض ،عند
مدينة خاركوف ،حددوا عمرها بأنه حوالي ثلثين مليون سنة ،وغرابة الكشف أيضاً أن قشر السمكة مازال محتفظاً ببريقه ،كشفوا
عنها أثناء حفر نفق سكة حديد ،وتم نقلها إلى المتحف العلمي لجامعة خاركوف .
كل ذلك وغيره سبق ظهور النسان ،وقد وجدت بقاياه في الصخور القديمة ،وقيعان البحار ،والكثبان الرملية ،ويقول مؤلفا كتاب
( صور من حياة ماقبل التاريخ ) -صفحة : 148
( وقبل المليون سنة تقريباً ،وجدت بقايا لكائنات شبيهه بالنسان مثل جنس ( اوسترالويشكس ) ،والذي وجدت بقاياه في أفريقياً ،
وانتشر في عصر البليستوسين المتوسط عبر معظم قارات العالم القديم .
وبعد ذلك وجدت بقايا ما يعرف بإنسان بكين ،وإنسان جاوة ،وإنسان هيدلبرج ،وإنسان نياندارثال ،وإنسان روديسيا ،وإنسان
سوانكومب ،
ويختار بعض العلماء من بين هؤلء الناسي إنسان هيدلبرج بإعتباره الحلقة الوسطى بين النسان الذي يتكلم والحيوانات التي تصيح ،
أما النسان النياندرتالي فيظهر أنه كان ذا مباديء فكرية من اللغة الملفوظة )
وكل هؤلء الناسي وجوه مختلفة لمخلوق واحد ،كان يتنقل من مرحلة إلى مرحلة في تسوية الخالق له ،فكلما مضت مرحلة من
التسوية تغيرت بعض أوصافه ،وأفرده الباحثون في الجيولوجيا والنثروبولوجيا بتسمية ،وقد وجدت تلك البقايا بصورة ناقصة
ونادرة ،مما يجعل معلوماتنا عن هذه المخلوقات الشبيهة بالنسان بعيدة كل البعد عن الكمال .
وأول كائن إنسي له المميزات التشريحية للنسان المعاصر ،وله صفاته من الذكاء ،والقدرة على التعبير عن نفسه هو ( إنسان
كرومانيون ) والذي وجدت بقاياه في جنوب فرنسا ،في كهوف ترك آثاره على جدرانها رسومًا لبعض الحيوانات التي إصطادها ،
ويتضح منها أن هذا المخلوق تمتع بقدر من الذكاء يربطه بالنسان الحالي .
وأقدم بقايا لنسان كرومانون ترجع إلى حوالي ثلثين ،إلى خمسة وثلثين ألف سنة مضت ،وهذه الفترة تعتبر من أقدم فترات التاريخ
المسجل .
هذه النماذج التي عثر عليها من بقايا النسان على الرض تمتد كما رأينا منذ ماقبل مليون سنة ،وهي تؤرخ لمسيرة هذا المخلوق حتى
عهد ،قدره العلماء بخمسة وثلثين ألف سنة .
وقد نشرت جريدة الوفد في (( 1996 / 10 / 6قد نعتمد بعض الصحف اليومية مرجعاً ننقل عنه بعض الخبار حين ل يتوافر لدينا
مؤلف نعتمده في توثيقها ،ومع ذلك فنحن نذكره في إطار أنه خبر ظني الدللة )) نشرت الجريدة أن النسان الول عاش أيضاً في جبل
طارق في عدة كهوف عثر عليها هناك ،وأن ذلك كان منذ مايقرب من ثلثين ألف سنة .
ومع ذلك فقد نفاجأ بوجود أحافير تدل على أن ظهور النسان كان أقدم من هذا التقديري ،فمازالت الرض محتوية على شواهد دالة
على بدء الخلق وكيفيته ،ولن يبلغ النسان مبلغ الحقيقة إل إذا داوم على البحث ،واستمر في السير تفتيشاً لى شواهدها وأدلتها ،وهو ما
أمرت به اليتان القرآنيتان :
وكل ماسجله العلم من مراحل الحياة على الرض هو ول شك من معطيات البحث والسير فيها ،فهي خطوات في الطريق الصحيحة ،
ن تَ ْقوِيمٍ
سِتهدي النسان إلى أصله ومنشئه ،عبر تلك الماد السحيقة ..لقد كانت تلك الماد -ولشك -مقدمات لخلق النسان {{ فِي أَحْ َ
- }} 4التين ،أي :إن خلق النسان كان إرادة سابقة أزلً على وجود الرض ذاتها ،قبل مليارات السنين ،ثم كانت الرض ،وكان
مامر بها من عهود سحيقة يعجز العقل عن تصورها -هو التمهيد اللهي الباهر لظهور السللت البشرية ،الذي تضاربت الراء في
توقيته ،فليس من هذه العهود ما يعتبر حقيقة مطلقة ..بل هي جميعاً آراء نسبية ،تتفق في الحد الجامع بينها ،وتختلف في العهود
والحقب ،ول سبيل حتى الن إلى معرفة متى كانت بالضبط بدايتها ونهايتها .
وأكبر دليل على نسبية المعلومات المدونة في المراجع العلمية حول النسان ،وعصر ظهوره على الرض ( قبل مليون سنة ) -ما
أعلنه مؤخراً أحد العلماء النثروبولوجيين ،من أن وجود النسان كان أسبق مما سقناه نقلً عن موسوعة الثقافة العلمية ،وعن كتاب
( صور من حياة ماقبل التاريخ ) وهو خبر لم ندهش له ،ونحن نؤمن بنسبية الصدق في معطيات العلم الحديث ،وبخاصة في هذا
المجال .
لقد نشرت جريدة الهرام في عددها الصادر صباح الربعاء ( ( : ) 1972 / 11 / 8أن البروفيسور ريتشارد ليكي أحد العلماء
النثروبولوجيا -علم النسان ) ..أعلن في كينيا أنه تم إكتشاف بقايا جمجمة يرجع تاريخها إلى مليونين ونصف مليون عام ،وتعد أقدم
أثر من نوعه للنسان الول .
وقال العالم ( :إن هذا الكتشاف يمتد في قدمه مليون ونصف مليون عام عن أقدم أثر أمكن العثور عليه حتى الن ،وقد تم إكتشاف
عظام الجمجمة ،مع عظام لساق بشرية ترجع إلى نفس الحقبة من التاريخ ،في جبل حجري ،بصحراء تقع شرق بحيرة رودلف في
كينيا ) .
وقال العالم ( :إن هذا الثر يمكن أن يقلب النظريات القائمة بشأن تطور النسان عن أجداده فيما قبل التاريخ ،وكيف ؟ ومتى ؟ ) .
وقد قدم ريتشارد ليكي ،وهو مدير المتحف الوطني في كينيا -تقريراً عن إكتشافه إلى الجمعية الجغرافية الوطنية في واشنطن ،وقال :
( إن نظريات التطور الحالية -وعلى رأسها نظرية داروين -تفيد أن النسان تطور من خلوق بدائي ،كانت له سمات بدنية شبيهة
بسمات القرد ،وإن أقدم أثر للنسان كمخلوق منتصب يسير على رجلين ،وله مخ كبير -يرجع إلى نحو مليون سنة ) .
هذا في حين أن الكشف الجديد يدل على أن المخلوق النساني المنتصب ذا الساقين لم يتطور عن المخلوق البدائي الذي يشبه القرد ،بل
كان يعاصره منذ أكثر من مليونين ونصف مليون عام ،وأنه يمكن على هذا العتبار إستبعاد المخلوق البدائي الول على أساس أن
النسان انحدر من سللته .
وذكرت الجمعية الجغرافية في تعليق لها على هذا الكلم ( :أن نظرية ليكي تقوم على أساس أن المخلوق البدائي الول وإسمه العلمي
( أوسترالوبثيكوس ) وكان أساساً من أكلة النباتات ،قد وصل إلى مرحلة تطويرية مسدودة ،بينما إستطاع النسان الذي استخدم اللحم
في غذائه ،وتمكن من صناعة الدوات الحجرية -أن يبقى على قيد الحياة ) .
وأكد ليكي في تقريره ( :أنه أمكن إعادة بناء جمجمة من شظايا العظام التي عثر عليها ،وأنه بالرغم من أن هذه الجمجمة ل تشبه
جماجم الجنس البشري المعروف حاليًا ،إل أنها تختلف كذلك عن جميع أشكال الجماجم التي عثر عليها للنسان الول ،وبذلك تتفق مع
أي نظريات حالية عن تطور النسان ) .
وواضح إذن أن الفرق الزمني هائل بين هذا الرأي ،وما تقوله نظرية داروين ،كما أن الفرق هائل أيضاً في جوهر التصور للنسان
الول بين النظريتين ،فهو عند داروين يمشي على أربع منذ مليون سنة ،ثم انتصبت قامته ،وعند ليكي يمشي منتصب القامه منذ
مليونين ونصف المليون من السنين ،وأنه كذلك منذ كان .
فإذا رجعنا إلى ما أورده المؤلف سيد أحمد الكيلني في كتابه عن ( نظرية داروين بين التأييد والمعارضة -صفحة ) 21حين قال :
( وقد أذاع البروفيسور جوهانس هورزلر -العالم الذري في سمنتبال بسويسرا -بياناً في مارس ) 1956نجد أنه عارض نظرية
داروين بشدة ،وقال ( :إنه ليوجد دليل واحد من ألف على أن النسان من سللة القرد ،وإن التجارب الواسعة التي أجراها ،دلت على
أن النسان منذ عشرة مليين سنة وهو يعيش منفرداً ،وبعيداً جدًا ) .
وأضاف إلى ذلك ( :أن الهياكل التي درس عليها تؤكد نظريته ،وقد قدم البروفيسور المذكور للمتحف الطبيعي بمدينة بال ،قطعة من
الفحم بداخلها قطعة من فك إنسان يرجع تاريخها إلى عشرة مليين سنة ،وهذا هو التاريخ الذي أمكن الحصول فيه على هياكل آدمية ) .
وبتاريخ 31مارس 1956أعلن في أمريكا أن الدكتور ( رويتر ) المشرف علي البحاب في جامعة كولومبيا -قد أيد البروفيسور
هورذلر في وجهة نظره ،واعتبرت نظرية داروين بذلك رأياً ل يستند إلى أي دليل علمي ،وأن الكائنات إنما خلقت مستقلة النواع ،
ل تاماً ،فمنها النسان الذي يمشي على رجليه ،ومنها الدواب التي تمشي على أربع ،ومنها الزواحف التي تمشي علي بطونها .إستقل ً
وإذا كان سياق الداروينية يقرر أن القردة خلقت هكذا مستقلة عن النواع الخرى قبلها ،فما الذي يجعلها أصلً لنوع النسان في
فرضية داروين ،في حين أن القرب للمنطق هو أن القدرة التي خلقت نوع القردة التي تمشي على أربع -قد خلقت نوعًا آخر يمشي
منتصباً على رجلين ،وهو النسان ،وهي القدرة التي أوجدت مليين النواع من المخلوقات المتحركة ،لكل نوع عالمه وقدراته ،
وبدايته ونهايته ،فالكل صادر عن قدرة مطلقة واحدة ،تماما كما حدث القرآن عن وحدة الصل وإختلف الشكل -في قوله تعالى :
لّ مَا يَشَاء ِإ ّ
ن ن وَ ِم ْنهُم مّن َيمْشِي عَلَى أَ ْربَ ٍع يَخُْلقُ ا ُ
جَليْ ِ
علَى َبطْنِ ِه َو ِمنْهُم مّن َيمْشِي عَلَى رِ ْ
خَلقَ كُلّ دَابّ ٍة مِن مّاء َفمِ ْنهُم مّن يَمْشِي َ
{{ وَالُّ َ
يءٍ َقدِيرٌ -}} 45سورة النور . الَّ عَلَى كُلّ شَ ْ
نحن إذن أمام جملة من النظريات المشتجرة والمتعارضة ،التي تركز نسبية المعلومات التي تضمنتها ،ولكل واحدة منها أدلتها التي
تستند إليها في تقرير جوانب التصور الزمنية والخلقية ،ول ريب أن في كل منها شيئاً من الحقيقة الذي يتراوح حتى الن مابين مليون
سنة ،وعشرة مليين من السنين .
ومن أواخر ما نشرته جريدة الهرام في هذا الشأن ،خلل شهر يونيو ، 1966ماتضمنه بحث علمي آخر في بريطانيا ،قد يكون
دليلً آخر لهدم نظرية داروين القائلة بأن النسان أصله قرد ،أو منحدر من إحدى سللت القردة العليا ،تحدى العلماء البريطانيون
الرأي العلمي السائد بأن النسان الول كان يمشي معتمداً على يديه ورجليه ،مثل الشمبانزي .
وقال العلماء في جامعة ليفربول البريطانية ( :إن الرأي الرجح هو أن النسان الول كان يسير منتصب القامة ،تماماً مثل النسان
اليوم ،وأوضحوا أنه لو كان النسان القديم يسير منحنيًا -كما تصور ذلك بعض النظريات العلمية -فإنه لم يكن من الممكن أن يعتدل
في قامته ،ويسير كما هو الن أبدًا ) .
وأشار العلماء إلى أنهم أخذوا أحجام النسان القديم ومقاساته من هيكل كائن شبيه بالنسان ،وهو المعروف بإسم ( لوسي ) ،والذي
عثر عليه في أثيوبيا ،ويرجع إلى ثلثة مليين عام مضت ،ثم استخدموا الكمبيوتر في تطوير إنسان آلي صناعي ( روبوت ) لكي
يكون نموذجًا لكيفية تحرك ( لوسي ) ،وأوضح العلماء أن التجارب أثبتت أن ( لوسي ) -وهي أنثى -لم تكن لتتطور وتمشي منتصبة
القامة بعد ذلك ،وقال الدكتور ( روبن كرمبتون ) أحد المشاركين في البحث :إن ذلك يعنى أن النظريات العلمية التي تظهر النسان
القديم يمشي في وضع ُمنْحَنٍ في حاجة إلى إعادة كتابة ،وأشار إلى أنه ما إن بدأ النسان يقف على قدمين ،فإنه كانت هناك ضغوط
قوية لكي يسير ويقف منتصباً .
وأوضح أن المشي بشكل منتصب يساعد النسان على التنفس بشكل جيد ،ومشيراً إلى أن قرود الشمبانزي عندما تمشي منحنية فإنها
تسير لوقت قصير للغاية ،لن هذا الوضع ل يساعدها على التنفس الصحيح ..بل يصيبها بالجهاد .وقال :إن هذه القرود بعد خمسين
خطوة فقط من المشي في إنحناء تسارع بالجري ،بعكس النسان القديم الذي يظهر علم الثار أنه كان يمشي لكثر من مائتي كيلومتر ،
وهذه المسافة ل يمكن أن تتم وهو في حالة إنحناء .
وهذا الرأي يلتقي في تقديره الزمني تقريبًا مع تقدير البروفيسور ( ليكي ) بناءاً على جمجمة كينيا ،غير أن مرتكز الستدلل لم يكن
البحث في عمر الحفورة ،بل قام على مناقشة القدرة على المشي منتصباً أو منحنياً لدى القردة والنسان ،كيما يصل في النهاية إلى
رفض نظرية داروين ،بأسلوب التقنية المعاصرة .
وغني عن البيان أن كل الجهود العلمية حتى الن تنصب على معارضة داروين فيما ذهب إليه ،وأن ماقدمناه لم يكن سوى بعض
العينات التي جهد فيها العلماء ليدحضوا مذهب النشوء والرتقاء ..حتى إننا نستطيع أن نقول :إن نظرية داروين قد ثارت لكثرة
ماتعرضت له من نقد -مجرد مقولة هشة ..ل تعني شيئاً في مجال البحث عن أصل النسان ،وإن قدمت الكثير في مجال ( البيولوجيا )
أو علم النسان .
لقد سقطت إذن فكرة ( التطور الخالق ) ،ونقول ( :فكرة ) ،ول نقول ( :نظرية ) ،ورغم أن الناس فتنوا بهذه النظرية لعدة عقود من
الزمان ...سقطت بكل مارتبط بها من أفكار أخرى .
وانتصرت حقيقة ( الخلق المستقل ) التي قررها الدين ،كما أكدها العلم ،فما كان النسان إل بشراً منذ كان ،وما كان القرد إل قرداً .
وهنا يطرأ سؤال ،ربما يبدو سابقاً لوانه في سياق هذا البحث ،وهو :
هل كان وجود هذه الخليقة البشرية إرادة إلهية وأمراً إلهياً واحداً على الرض ،أرادته القدرة اللهية ؟ وتابعته في مراحله المتطاولة ؟
أو كان خلقًا متعدداً متقاطراً على الساحة الرضية عبر الوجود الزمني الهائل ؟ وكان آدم أحد هذه المراحل ؟
والذي نريد أن نقوله إجمالً :هو أن الخالق العظيم خلق هذا الكون الهائل حين قال ( :كن ) فكان .
كان كل ما كان ،وما يكون ،وما سيكون ،في إطار من الزمان المطلق ،والمشيئة المطلقة ،والنكشاف المطلق ،فليس -بالنسبة إلى
الخالق -قيود من الزمان ،أو المكان ،أو أي عوامل أخرى ،أما النسان فهو نقطة في بحر الحقيقة ..نقطة محكومة بالزمان والمكان ،
وحدود الدراك -كما أراده ال .
وقد خلق ال هذا الغنسان ليكون سيداً في الكون الفسيح ،الذي يتذايد ضخامة وإتساعًا أو إمتداداً ،دون توقف ..بأسرع من سرعة
الضوء .
ثم جعل ال سبحانه وتعالى لهذا الكون نهاية ،كما أن له بداية ،وحين تحين هذه النهاية سوف تتغير معالم الكون كله كم قال سبحانه :
عطَّلتْ 4وَإِذَا ا ْلوُحُوشُ حُشِ َرتْ 5وَإِذَا ا ْلبِحَارُ
سيّرَتْ 3وَِإذَا ا ْلعِشَارُ ُ س كُوّ َرتْ 1وَِإذَا النّجُو ُم انكَدَ َرتْ 2وَِإذَا الْ ِ
جبَالُ ُ ش ْم ُ{{ إِذَا ال ّ
سئَِلتْ -}}8التكوير وقال تعالى : جتْ 7وَإِذَا ا ْل َم ْوؤُو َدةُ ُ
سُجّ َرتْ 6وَإِذَا ال ّنفُوسُ ُزوّ َ
سمَاوَاتُ َوبَرَزُواْ لّ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ - }} 48إبراهيم هل يعقل أن يكون هذا الملك والملكوت من ض وَال ّ غيْرَ الَرْ ِ
{{ َيوْمَ ُتبَدّلُ الَرْضُ َ
أجل خليقة ل تدوم أكثر من عشرة أيام -بحساب الزمن اللهي الذي يقرر :
سنَ ٍة ّممّا َتعُدّونَ - }} 47الحج !...
ن َي ْومًا عِندَ َرّبكَ كَأَلْفِ َ
{{ وَإِ ّ
وهب أن ذلك الزمان امتد إلى مليون سنة ،أو حتى عشرة مليين ،فإن ذلك ل يعدو أن يكون بضعة آلف من اليام اللهية ..ول المثل
العلى .
ولهذا الله -تقدست أسماؤه ،وتعاظمت آلؤه -سجدت له الجساد والرواح ،وعنت الوجوه والعقول ..
ومن أجل هذا كان موعد النهاية سرًا مكنونًا ل يعلمه إل هو ..إنه موعد الزلزال الكوني الذي يضع النهاية لرحلة مليين السنين ..
ويكفي أن نردد هنا قول ال سبحانه :
أما القرآن ،وهو الكلمة اللهية النهائية في الخطاب ما بين السماء والرض ،أو ما بين العلى والدنى -فإنه ول شك يقدم للعقل
النساني الحقائق النهائية في الموضوع ،ولكن الجيال تتفاوت في فهم النص المقدس ،حتى ليبدو ما استخرجه الفكر الديني -حتى
الن من النصوص -مناقضاً للعلم ،ول سبيل إلى تحقيق اللقاء بينهما .
ونحن -باديء ذي بدء -نقرر أن التناقض بين القرآن ،وما توصل إليه العلم من حقائق نهائية -مستحيل ،وإنما التناقض من جهة أن
العلم لم يستقر بعد على بر الحقيقة الكاملة ،بل ما زال يدور في إطار النظريات الظنية الدللة ،إلى جانب أن التناقض قد يأتي من
ضعف التفكير الذي تتسم به معالجة الفكار .
ولننظر مثلً -إلى الجمود الذي اتسم به التفكير الديني حين توقف عند القول بالبداية الدمية للحياة على الرض ،وهي بداية قدرت في
حدود عشرة آلف عام ،وهو تقدير متواضع في مقابل القول بأن بداية الحياة النسانية تراوحت ما بين مليون سنة ،وعشرة مليين من
السنين .
ن شاسع بين التقديرين ؟ وهل من سبيل إلى لقاء بينهما ؟أي َبوْ ِ
نحن نرى أن ذلك ممكن من خلل فهم واعي للنصوص القرآنية ..فهم يخرج عن المذهب التقليدي الذي إلتزمت به التفاسير كلها ،
ويسعى إلى استنطاق النظم القرآني ،ما دام هناك إمكان للتقاء العلم بالقرآن .
ولسوف نحاول السير مع القرآن في حديثه عن النسان والخلق ،منذ اليات الولى التي استهل بها الوحي المحمدي ،وسيراً مع هذا
الوحي إلى شاطيء الحقيقة القرآنية .
لكن -قبل أن نشرع في هذا العرض نحب أن نقدم نوعاً من الحافير ،أو العاجيب التي أشارت إليها المراجع العربية ،وهي ذات
دللة ومغزى ،يخدم سعينا لتحقيق إمكان اللقاء بين العلم والقرآن ،وإن غلب عليها طابع المبالغات ،وأسلوب الساطير .
إذا كان علماء السلف قد اتفق جمهورهم على أن آدم هو أول الخليقة ،وأول ما خلق من تراب - ،فإن بعضهم قد ذهب إلى ما هو أبعد
من ذلك ،فتصوروا لهذه الخليقة ممتداً في أعماق الزمان ،قبل آدم ،ربما إلى مليين السنين ،والمهم أن أحداً ممن قال بهذا المذهب لم
يلق نكيراً من الفريق الخر ..بل عاشت الراء المتناقضة جنب إلى جنب ،حتى تلقيناها ورأينا كيف أنار ال بصيرة القدمين فامتدت
رؤيتهم إلى أعماق الغيب قبل التاريخ على هذه الرض ،وتنوعت رؤيتهم تبعاً لختلف التخيلت ،وما نحسب أنهم اعتمدوا على
شواهد مادية ..بل هي محض تخيلت هداهم إليها تأملهم المنطقي في أحوال الدنيا ( ..ذكر المسعودي في كتابه عن بعض العلماء :أن
ال سبحانه وتعالى خلق في الرض قبل آدم ثمانياً وعشرين أمة على خلق مختلفة ،وهي أنواع :
منها ذوات الجنحة ،وكلمهم قرقعة .
ومنها ما لها أبدان كالسود ،ورؤوس كالطير ،ولهم شعور وأذناب ،وكلمهم دويّ .
ومنها ما له وجهان ،واحد من أمامه ،والخر من خلفه ،وله أرجل كثيرة .
ل ،وكلمهم مثل صياح الغرانيق ( جمع غرنوق وهو طائر مائي ) . ومنها ما يشبه نصف النسان بيدٍ ورج ٍ
عوِي الكلب .ومنها ما وجهه كالدمي ،وظهره كالسلحفاة ،وفي رأسه قرن ،وكلمهم مثل َ
ومنها ما له شعر أبيض ،وذنب كالبقر .
ومنها ما له أنياب بارزة كالخناجر ،وآذان طوال .
ويقال :إن هذه المم تناكحت وتناسلت حتى صارت مائة وعشرين أمة ( .المستطرف . ) 398 /
هذه صورة من تفكير القدمين أو تخيلتهم عن الماضي السحيق قبل هذه الخليقة ،فقد لفقوا أشكالً من المخلوقات ل دليل على أنها
وجدت إل في الحتمال الخيالي ،ومع ذلك يبقى -بعد استبعاد ما ل دليل عليه من الشكال -أن الرض كانت معمورة قبل آدم ،سواء
بمثل تلك الصناف ،أو بأصناف أخرى كالديناصورات ،أو الماموث أو بأوادم آخرين قبل آدم -أبينا -على ما قرره بعض العلماء ،
أي :أن آدم لم يكن أول مخلوق عاقل على هذه الرض
ومن المؤكد أن أمماً كثيرة من المخلوقات كانت موجودة قبل ظهور النسان ،كأمم الطير ،والحيوان ،والنبات ،وهي كلها أمم بنص
يءٍ }} 38 ..سورة حيْهِ ِإلّ ُأمَمٌ َأ ْمثَاُلكُم مّا َف ّرطْنَا فِي ال ِكتَابِ مِن شَ ْ
جنَا َ
ل طَائِرٍ َيطِيرُ بِ َ
ض َو َ
الية الكريمة{{ َومَا مِن دَآبّةٍ فِي الَرْ ِ
النعام ،.وإذا كان النص صريحاً في دواب الرض والطير ،فإن النبات في نظر العلماء كائن نام ( ينمو ) على إختلف أشكاله
وفصائله ،والية الكريمة تشير إلى حقيقة مذهلة حين تأتي فاصلتها {{ :ثُمّ إِلَى َرّبهِ ْم يُحْشَرُونَ -}} 38سورة النعام ،.وفي ذلك
جملة من المناقشات حفلت بها كتب التفسير .
أما عن إهتمام العلماء بالتفتيش أو بملحظة ما يجدون صدفة في الرض ،ومتابعة آثار الحياء فيها ،واستدللهم بشواهدها على معالم
الحياة البشرية وعهودها السحيقة -فذلك أمر لم تتوافر أدواته للقدمين ،ول تهيأت أسبابه إل في عصرنا الحديث مع تطور علوم
الرض ( الجيولوجيا ) والنسان ( النثروبولوجيا ) ،والتحليلت الكربونية ...وغيرها .
ولكن كان للقدمين فكرة عن النسان القديم ،ولم تكن أفكارهم تذهب في تقدير تاريخ الحياة على الرض إلى أبعد من حديث القرآن
الكريم عن آدم ونوح ،وعاد وثمود ،وقوم إبراهيم وقوم لوط ...إلخ .
وهذه عهود قريبة نسبياً كما سبق أن قررنا ،وهي لم تتجاوز ثلثين ألف عام ،وهم معذورون قطعاً فيما ذهبوا إليه .
وقد اعتمد بعضهم على مشاهداته لقطع من العظام وبقايا هياكل عظمية ،حاولوا تفسيرها ووصفها بقدر ما رزقوا من القدرة على
تصور حياة الماضيين وأوصاف هيئاتهم الجسمية ،وهي تبعد كثيراً عن الواقع الذي تصفه الحافير ( الحفريات ) التي عثر عليها
العلماء في عصرنا ،ولو أن هذه الحافير التي وصفها السلف -وجدت الن لتغيرت فكرتنا عن النسان ،في عهوده السحيقة ،لكن
المشكلة أن شيئاً من هذه الحافير ل وجود له الن ،فهو وجود مقرون بالمبالغة والتذييد ،حتى حجبت الحقيقة ،وضاعت معالمها
ضياعًا نهائياً .
ولنذكر عينة من هذه الخبار ،يذكر مؤلف كتاب ( المستطرف في كل فن مستظرف ) ( :قال الشيخ عبد ال ،صاحب كتاب تحفة
اللباب :دخلت إلى ( باشقرد ) ،فرأيت قبور عاد ،فوجدت سنّ أحدهم طوله أربعة أشبار ،وعرضه شبران ،وكان عندي في باشقرد
نصف ثنية أخرجت لي من فك أحدهم السفل فكان نصف الثنية شبرين ،ووزنها ألف ومائة مثقال ،وكان دور فك ذلك العادي سبعة
عشر ذراعاً ،وطول عظم عضد أحدهم ثمانية أذرع ،وعرض كل ضلع من أضلعهم ثلثة أشبار ،كلوح الرخام ) .
وقد يكون هذا الوصف من باب المبالغة المسرفة ،لن مشاهدة المومياوات المتحفية التي مضى عليها خمسة آلف سنة مثلً -تبين لنا
أن حجم النسان كان بنفس الحجم الحالي ،دون أدنى علقة بما يصفه الشيخ عبد ال في كتابه المشار إليه ،ولذلك يبدو لنا أن للخيال
دوراً في تضخيم حجم ما يزعم رؤيته من بقايا قوم عاد ،وربما كان ذلك من باب ( الحواديت ) التي جاء منها أشكال وألوان في كتاب (
ألف ليلة وليلة ) .
أو ربما كان ما وجدوه بهذا الوصف حيواناً هائل ،كالديناصور مثلً ،أو الفيال الضخمة ،التي تقاس أنيابها بالشبار ،وزعم الواصف
أنه يصف إنساناً من قوم عاد .
ل طويلً ،طوله أكثر من سبعة وعشرين ذراعاً ويستمر الشيخ فيقــــول ( :ولقد رأيت في بلغار ،سنة ثلثين وخمسمائة -نسل عاد رج ً
،كان يسمى دنقي أو ديقي ،وكان يأخذ الفرس تحت إبطه ،كما يأخذ الولد الصغير ،وكان من قوته يكسر بيده ساق الفرس ،ويقطع
جلده وأعضاءه كما يقطع باقة البقل ،وكان صاحب بلغار قد اتخذ له درعًا تحمل على عجلة ،وبيضة عادية لرأسه -كأنهما قطعة من
جبل ،وكان يأخذ في يده شجرة من البلوط كالعصا ،لو ضرب بها الفيل لقتله ،وكان خيّرا متواضعاً ،كان إذا لقيني يسلم عليّ
ويرحب ،ويكرمني ،وكان رأسي ليصل إلى ركبته ،رحمة ال عليه ،ولم يكن في بلغار حمام يمكنه دخولها ،إل حمام واحد ،وكانت
له أخت على طوله ،ورأيتها مرات في بلغار ،وقال لي قاضي بلغار ،يعقوب بن النعمان :إن هذه المرأة العادية قتلت زوجها ،وكان
اسمه آدم ،وكان أقوى أهل بلغار ،قيل ( :إنها ضمته إليها فكسرت أضلعه ،فمات من ساعته ) ( المستطرف . ) 398 /
وقد تأثرت آراء القدمين من العلماء بما ورد في العهد القديم من أساطير عن النسان القديم ،ول سيما قصة عوج بن عنق ،وهي أحد
معالم الحياة القديمة التي كانوا يتسلّون بروايتها ،وقد كان المستمعون يبهرون بتفاصيلها ،ويتصورون أنها تعبر عن واقع شهدته
الجيال القديمة .
( روى عن وهب بن منبه في عوج بن عنق أنه كان من أحسن الناس وأجملهم ،إل أنه كان ليوصف طوله ،قيل :إنه كان يخوض في
الطوفان فلم يبلغ ركبتيه ،ويقال :إن الطوفان عل على رؤوس الجبال أربعين ذراعًا ،وكان يجتاز بالمدينة فيتخطاها كما يتخطى أحدكم
عمّره ال دهرًا طويلً حتى أدرك موسى عليه السلم ،وكان جباراً في أفعاله ،يسير في الرض براً وبحرًا ،ويفسد
الجدول الصغير ،و َ
ما شاء ،ويقال :إنه لما حصرت بنو إسرائيل في التيه ذهب فأتى بقطعة من جبل على قدرهم ،واحتملها على رأسه ليلقيها عليهم ،
فبعث ال طيراً في منقاره حجر مدور ،فوضعه على الحجر الذي على رأسه ،فانثقب من وسطه ،وانخرق في عنقه ،وأخبر ال عز
وجل نبيه موسى عليه السلم بذلك فخرج إليه وضربه بعصا فقتله ،ويقال :إن مويى عليه السلم كان طوله عشرة أذرع وعصاه عشرة
أذرع ،وقفز في الهواء عشرة أذرع وضربه فلم يصل إلي عرقوبه ،فتبارك ال أحسن الخالقين ) .
والعجيب أن يزعم اوي السطورة أن عوجاً عاش -وهو الحفيد لدم -حتى عهد موسى ،أي أكثر من سبعة آلف سنة ...؟؟
وتمضي السطورة فتحكي عن عنق أم عوج فتقول ( :عنق بنت آدم عليه الصلة والسلم ؟؟ ) وكانت مفردة بغير أخ ،وكانت مشوهة
الخلقة لها رأسان ،وفي كل يد عشرة أصابع ،ولكل أصبع ظفران كالمنجلين ) ،وقال على إبن أبي طالب ( :هي أول من بغى في
الرض ،وعمل الفجور ،وجاهر بالمعاصي ،واستخدم الشياطين ،وصرّفهم في وجوه السحر ،فأرسل ال عليها أسداً أعظم من الفيل
فهجم عليها وقتلها ،وذلك بعد ولدة عوج بسنتين ) .
إننا لم نأت بكل ما قيل عن عنق وولدها عوج ،وقد اختصرنا شيئًا من أخبارهم لكي نظهر ما بلغته الساطير من السيطرة على عقول
الناس قديمًا ،وحين تأتي الساطير في كتاب مقدس مثل التوراة -فإنها تستبد بعقول التباع ،وتحجب عن أبصارهم بصيص العقل ،
وهو ما غرقت فيه عقول كثيرين طوال قرون عديدة .
حـــديـــث القـــرآن
جدير بنا أن نذكر السور القرآنية التي تعرضت لقصة الخلق ،وما يتصل بها ،مرتبة حسب النزول ،لنتابع من خلل هذا الترتيب تدافع
معاني الوحي القرآني ،ومنهجه في سوق الحداث والحقائق ،كما أراد ال للنسان أن يتعلمها ،وقد جاء الترتيب هكذا :
وبديهي أيضاً أن يثير هذا السؤال في نفس المخاطب ( محمد ) أشواقاً إلى معرفة ل نهاية لها ،وتطلعاً إلى إدراك العلقة بين ( العلق )
في مهانته ،وقلة شأنه ،و ( النسان ) في مهابته وعظم شأنه ،في شخص المخاطب الول بهذا الكلم ( محمد المصطفى ) صلى ال
عليه وسلم .
ويأتي بعد ذلك الحديث القرآني الثاني عن ( النسان ) فإذا هو ل يذكره بلفظه ..بل يستخدم لفظاً آخر يدل عليه ،هو ( البشر ) ،وذلك
في السورة الرابعة من التنزيل العزيز ،سورة ( المدثر ) ،وترد فيها لفظة ( البشر ) أربع مرات في اليات ِ {{ ) 25 ( :إنْ هَذَا ِإلّ
َقوْلُ ا ْلبَشَرِ ، }} 25و ( َ{{ ) 29لوّاحَةٌ لّ ْلبَشَرِ ، }} 29و ( َ {{ ) 31ومَا هِيَ ِإلّ ِذكْرَى لِ ْلبَشَرِ ، }} 31و ( {{ ) 36نَذِيرًا
لّ ْلبَشَرِ ، }} 36ول ريب أن مدلول الكلمة في اليات الربع يعني المخلوق المخاطب باليات المنزلة من الوحي ،أي :النسان في
عمومه ،ثم لم ترد كلمة ( البشر ) بعد ذلك في جملة من السور بترتيب النزول ،حتى السورة السادسة والثلثين ،وهي سورة القمر ،
وذلك في سياق قصة النبي صالح مع قومه ثمود ،حين قال قائلهم َ {{ :أبَشَرًا ّمنّا وَاحِدًا ّنّتبِعُهُ }}24 ...
بيد أن الشارة التي تعتبر إضافة إلى المفهوم الول للخلق باعتباره المرحلة الولى -جاءت في السورة السابعة ( في ترتيب النزول ) ،
سبّحِ اسْمَ َرّبكَ الَْعْلَى 1الّذِي
وهي سورة العلى ،فذكرت المرحلة الثانية في إيجاد الخلق ،وهي مرحلة التسوية ،فقال تعالى َ {{ :
سوّى ، }} 2والتسوية هنا عمل إلهي سوف يرد ذكره باعتباره دائماً الخطوة الثانية في بناء هذا الخلق .خََلقَ فَ َ
والمذكور هنا هو مطلق الخلق ،ومطلق التسوية ،دون ذكر لمحلهما ،وهل هو البشر ،أو النسان ،لكن السياق يصرف العبارة إلى
ن مِنْ عََلقٍ } الذي أشارت إليه السورة الولى .
خَلقَ الِْنسَا َ
بيان { َ
وتضمنت اليات -مما أدركه العلم الحديث -إشارة دقيقة إلى أن تحديد نوع الجنين ،ذكرًا كان أو أنثى ،يتوقف على منيّ الرجل ،ل
على بويضة المرأة .
وهكذا أفادت هذه اليات مزيداً من المعرفة بعملية الخلق وتفسيره ،فهي في الحقيقة بيان لما أجمله النص الول في سورة العلق .
وكان حرص القرآن في تلك المرحلة الولى على تأكيد العلقة بين الحياة والموت والبعث ،فهو في آيات القيامة يختمها بقوله :
علَى أَن يُحْيِيَ ا ْل َموْتَى -}} 40القيامة ، .وهو في السورة التالية لها ،سورة المرسلت ( الثانية والثلثين نزولً ) ك ِبقَادِرٍ َ
{{ أََل ْيسَ ذَِل َ
جعَ ْلنَاهُ فِي َقرَا ٍر ّمكِينٍ 21إِلَى َقدَ ٍر مّعْلُومٍ َ 22فقَ َد ْرنَا َف ِنعْمَ ا ْلقَادِرُونَ
يعيد هذه الحقيقة في قوله تعالى {{ :أَلَ ْم نَخْلُقكّم مّن مّاء ّمهِينٍ 20فَ َ
، }} 23وهو هنا يصف ( المنيّ ) المذكور في سورة القيامة بأنه ( ماء مهين ) ،ولكن المقدرة هي التي جعلت هذا الماء إنسانًا سوياً .
ن َونَعْلَ ُم مَا
خَلقْنَا الِْنسَا َ
ونزلت بعد ذلك سورة ( ق ) وهي السورة الثالثة والثلثون -لتفيد حضور ال في نفس النسان {{ :وََلقَدْ َ
حبْلِ ا ْلوَرِيدِ -}} 16سورة ق ،فكيف يفلت النسان من قبضة ال ؟؟ س بِ ِه نَفْسُ ُه َونَحْنُ َأقْ َربُ إَِليْ ِه مِنْ َ
س ِو ُ
ُتوَ ْ
ثم يأتي النص في سورة ( الطارق ) ليضيف مذيداً من المعلومات عن الماء الدافق ( المنيّ ) الذي يخرج من بين الصلب والترائب ،
وهي معلومة لم تكن معروفة حتى عصرنا ،و ( الطارق ) هي السورة الخامسة والثلثون نزولً .
ثم نزلت سورة ( ص ) تذكر قصة الخلق لول مرة ،وهي السورة السابعة والثلثون نزولً ،قال سبحانه وتعالى :
لئِكَ ُة كُّلهُ ْم ختُ فِي ِه مِن رّوحِي َف َقعُوا لَهُ سَاجِدِينَ 72فَسَ َ
جدَ ا ْلمَ َ ق بَشَرًا مِن طِينٍ َ 71فإِذَا َ
س ّويْتُ ُه َو َنفَ ْ لئِكَةِ ِإنّي خَاِل ٌ{{ إِذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَ َ
ت مِنَ ا ْلعَالِينَ 75 ستَ ْكبَ ْرتَ َأ ْم كُن َت بِيَدَيّ أَ ْ
ل يَا ِإبْلِيسُ مَا َمنَ َعكَ أَن تَسْجُدَ ِلمَا خََل ْق ُ ن مِنْ ا ْلكَافِرِينَ 74قَا َ
س َتكْبَ َر َوكَا َج َمعُونَ ِ 73إلّ ِإبْلِيسَ ا ْ أَ ْ
خيْ ٌر ّمنْهُ خََل ْقتَنِي مِن نّا ٍر وَخََل ْقتَ ُه مِن طِينٍ 76قَالَ فَاخْ ُرجْ ِم ْنهَا فَِإّنكَ رَجِيمٌ 77وَِإنّ عََل ْيكَ َل ْع َنتِي إِلَى َيوْمِ الدّينِ 78قَالَ َربّ قَالَ َأنَا َ
عبَا َدكَ ج َمعِينَ ِ 82إلّ ِ غ ِويَّنهُمْ أَ ْ ك مِنَ ا ْلمُنظَرِينَ 80إِلَى َيوْمِ ا ْلوَ ْقتِ ا ْلمَعْلُومِ 81قَالَ َف ِبعِزّ ِت َ
ك لَُ ْ فَأَنظِ ْرنِي إِلَى َيوْ ِم يُ ْب َعثُونَ 79قَالَ فَِإّن َ
ج َمعِينَ -}} 85سورة ص ك مِ ْنهُمْ أَ ْ
ك َومِمّن َتبِ َع َ ج َهنّ َم مِن َ حقّ َأقُولُ 84لَمْلَنّ َ ق وَالْ َ حّ مِ ْنهُمُ ا ْلمُخَْلصِينَ 83قَالَ فَالْ َ
هذا النص القرآني يتضمن لول مرة أساسيات القصة ،قصة الخلق ،من مبدئها إلى منتهاها ،وكل ما جاء بعد ذلك من نصوص القرآن
متحدثاً عن هذه القصة -يضيف بعض التفاصيل التي تثري جوها ،وتوضح بعض غوامضها .
غير أننا نلحظ بداية ،أن القصة في سورة ( ص ) لم تتضمن ذكر آدم ..بل اقتصرت على الشارة إلى أن المخلوق -موضوع الحديث
-هو ( بشر ) بحسب ،ثم جاءت سورة العراف لتذكر آدم للمرة الولى في الوحي القرآني ،فكان ذلك تفصيلً بعد إجمال ،ومع
ملحظة أن السورتين متتاليتان ،ولكي نعرض تفاصيل القصة نتابع مناقشة كل أساسية على حدة .
ل :إعــــلم الملئــــــكة
أو ً
،قول ال سبحانه وتعالى للملئكة ِ {{ :إنّي خَاِلقٌ بَشَرًا }} ،وهي عبارة تحمل كثيراً من المعاني ،ذلك أن الية تبدأ بعبارة {{ :إِذْ
قَالَ َرّبكَ ِل ْلمَلَ ِئكَةِ }} ،فهي تستخدم لفظة ( الرب ) مضافة إلى ضمير المخاطب ،وهو ( :محمد ) صلى ال عليه وسلم ،على نسق
ماجاء في الخطاب الول {{ :اقْرَ ْأ بِاسْمِ َرّبكَ الّذِي خََلقَ }} ،وهي إضافة تقرب النبي من حضرة ربه ،وتدنيه من جلله ،وهو ما
جرى عليه الوحي في السور الولى بشكل عام .
لكن ..كيف قال ( ربك ) ؟ وكيف تلقت الملئكة هذا القول ؟ وذلك ما ل سبيل إلى إدراكه ،وإن كان هنالك سبيل إلى تأويله :فالرب إذا
تكلم فكلمه ليس بحرف ،ول صوت ،وهذه صفة كلمه النفسي كما قررها علماء الكلم ،ولكن إدراك الخطاب اللهي يتحقق في كل
جنس بحسبه ،فإذا تلقى النسان ذلك الخطاب فمن خلل الحرف ،والصوت ،واللغة ،وإذا تلقته الملئكة فمن خلل قدراتها التي
تختلف عن قدرات النسان ،لختلف طبيعتها عن طبيعته ،ول مانع من أن يكون بلغة ما ..كيفما فطر ال ملئكته .
أما كيف تم هذا الحوار فخوض في غمار الغيب المحجوب ،والحديث فيه اتباع لما تشابه من آيات ال ،ونسأل ال أن يباعد بيننا وبين
الفتن ،وأن يلهمنا القدرة على تأويل هذه المتشابهات بما يليق بجلله ،وكل ما يعنينا هو التسليم بصدق الخبر ،ووقوع الحوار ،ول في
ذلك حكمة هو أعلم بها .
ول ريب أن تلقي النبي صلى ال عليه وسلم لهذا الخطاب كان مختلفاً عن تلقينا له ،باعتبار أنه أعلم بربه وأنه ذو إتصال بالمل العلى
( عالم الملئكة ) ،منذ جاء الروح المين بالوحي ،فإذا خاطب ال نبيه فإن لهذا الخطاب موقعه من نفس النبي ،حتى تكاد قدراته
الروحية ترفعه إلى مرتبة الشهود ،إستشفافاً لما وراء الكلمات المنزلة ،وإستشرافاً للحضور القدسي ،فهو مائل على الرض ،وهو في
نفس الوقت يعاين من آيات ربه ما ل يعاين الجلوس من حوله ،إن كان الوحي بمحضر منهم .
لئِكَةِ
علِ ا ْلمَ َ
ت وَالَْرْضِ جَا ِ
سمَاوَا ِ
حمْدُ لِّ فَاطِرِ ال ّ
ووصفهم القرآن أيضاً في مطلع سورة فاطر أو ( الملئكة ) -بقوله تعالى {{ :الْ َ
يءٍ قَدِيرٌ -}} 1سورة فاطر. علَى كُلّ شَ ْ
ق مَا يَشَاء إِنّ الَّ َ
ع يَزِيدُ فِي الْخَ ْل ِ
لثَ وَ ُربَا َ
جنِحَ ٍة مّ ْثنَى وَثُ َ
رُسُلً أُولِي أَ ْ
ول ريب أن لهذه الوصاف معاني محددة ل نستطيع أن نحيط بها علمًا وحسبنا هنا أن ننقل عن تفسير ( المنار ) ما قرره الستاذ المام
محمد عبده ،حين تحدث عن الملئكة فقال ( :أما الملئكة فيقول السلف :إنهم خلق أخبرنا ال تعالى بوجودهم ،وببعض أعمالهم ،
فيجب علينا اليمان بهم ،ول يتوقف ذلك على معرفة حقيقتهم ،فنفوض علمها إلى ال تعالى ..فإذا ورد أن لهم أجنحة نؤمن بذلك ،
ولكننا نقول :إنها ليست أجنحة من الريش ونحوه كأجنحة الطيور ،إذ لو كانت كذلك لرأيناها ،وإذا ورد أنهم موكلون بالعوامل
الجسمانية ،كالنبات والبحار فإننا نستدل بذلك على أن في الكون عالماً آخر ألطف من هذا العالم المحسوس ،وأن له علقة بنظامه
وأحكامه ،والعقل ل يحكم بإستحالة هذا ،بل يحكم بإمكانه ،ويحكم بصدق الوحي الذي أخبر به ) .
ثم قال ( :وأما الفائدة فيما وراء البحث في حقيقة الملئكة ،وكيفية الخطاب بينهم وبين ال تعالى فهي من وجوه :
أحدها :أن ال تعالى في عظمته وجلله يرضى لعبيده أن يسألوه عن حكمته في صنعه ،وما يخفى عليهم من أسراره في خلقه ،ول
سيما عند الحيرة ،والسؤال يكون بالمقال ،ويكون بالحال والتوجه إلى ال تعالى في إستفاضة العلم بالمطلوب من ينابيعه التي جرت
سننه تعالى بأن يفيض منها ( كالبحث العلمي ،والستدلل العقلي ،واللهام اللهي ) ،وربما كان للملئكة طريق آخر لستفاضة
العلم ،غير معروف لحد من البشر ،فيمكننا أن نحمل سؤال الملئكة على ذلك ( -تفسير المنار . ) 213 - 212 / 1
ق بَشَرًا مِن طِينٍ -}} 71سورة ص ،واستخدام الصيغة ( خالق ) هنا يفيد الحداث .. ونص إعلم ال للملئكة يأتي هكذا {{ ِإنّي خَاِل ٌ
أي :اليجاد من عدم ،والسؤال هو :هل هذه الصيغة في موقعها تفيد المضى ،أو المستقبل ؟
ونرى أنها تفيد المضى ،أي :إن ال كان قد خلق هذا البشر قبل العلم به ،وقد أراد أن يخبر الملئكة تهيئة لهم ،حتى يتابعوا أحوال
المخلوق ،خلل مراحل التسوية ،والنفخ اللهي -كيفما يقعوا له ساجدين -كما أمر ال ،ولعل ذلك ( الخلق ) داخل في المر الزلي
( الخالق ) ( كن ) وهو أمر لم تعرف الملئكة كل تفاصيله ،إل أن يأذن لها ال بذلك ،أما بقية العلم فيتضمن ذكر ( البشر ) و
( الطين ) ،والعلقة بينهما .
فأما البشر فهي تسمية لذلك المخلوق الذي أبدعه ال تعالى من الطين ،وأصله في اللغة من ( ب ش ر ) ،وهو يفيد ( الظهور مع حسن
وجمال ) ،قال ابن فارس ( :هو أصل واحد :ظهور الشيء مع حسن وجمال ) ،وسمي البشر بشرًا لظهورهم ( مقاييس اللغة / 1
) 251وفي المعجم الكبير :البشر ..النسان ،للذكر والنثى ،وللواحد والمثنى والجمع ،وقد يثني كما جاء في القرآن َ {{ :أُنؤْمِنُ
ن مِثِْلنَا }} 47 ...سورة المؤمنون ،وقد يجمع على ( أبشار ) -المعجم الكبير 335 / 2وقد يتحدد المعنى في سياق المعالجة - ِلبَشَ َريْ ِ
لكن الغالب الكثير فيه إفراده ،مع ملحظة أن الكلمة جامدة ،ل تتصرف بوجه من الوجوه ،والمعنى المتناسب هنا هو ظهور هذا
المخلوق من بين تراب وماء ،أي :من طين ،كما ورد ذلك في السراء ،والنعام ،والصافات ،وكان خلقه بكل بساطة كما ظهرت
ض َنبَاتًا -}} 17سورة نوح .
النباتات ،وهو قوله تعالى في سورة نوح ( السبعين نزولً ) {{ :وَالُّ أَنبَ َتكُم مّنَ الَْرْ ِ
ومع أن كل حيوان أو طير أو حشر -إلى آخر سلسلة الكائنات -هو من طين ،فإن البشر هو أبرز هذه المخلوقات ،وأكدها وجوداً ،
فلذلك أطلق عليه في القرآن ( البشر ) ..أي :الظاهر على كل الكائنات الطينية ..يسخرها لخدمته ،ويستمد منها قُوتهُ و ُق ّوتًهُ ،ويصارع
وجودها تأميناً لوجوده .
وربما كان إطلق كلمة ( بشر ) أيضًا بهذا المعنى ،وهو ( الظهور ) -مقابلً لما يتصف به عالم الملئكة ،وعالم الجن ،من عدم
الظهور ،فهم خلق ل يُرَى ،وقد قرر القرآن ذلك بشأن ( الجن ) ،إذ هي كلمة مشتقة من معنى ( :الجتنان ) وهو الستتار ،وال
ل تَرَ ْو َنهُمْ ، }} 27 ...فالظهور في البشر ،والخفاء في الجن -هما حقيقة
ث َ
حيْ ُ
يقول عن الشيطان وقبيله ِ {{ :إنّ ُه يَرَاكُمْ ُه َو وَ َقبِيُل ُه مِنْ َ
الحياة التي تعمر هذه الرض ،على اليابسة ،والماء ،وفي جو السماء
الظهور في البشر ،والخفاء في الجن -هما حقيقة الحياة التي تعمر هذه الرض ،على اليابسة ،والماء ،وفي جو السماء .
والعجيب أن للعربية هنا تميزاً وتفوقاً على اللغات الخرى ،فقد حققت بهذا اللفظ ( بشر ) ،تظابقًا عجيبًا مع معناه ،وكأنما كانت
تستملي الغيب ،وتستقريء أستاره ،ليمنحها هذه اللفظة ،دون اللغات الخرى في الفصيلة السامية ،بل دون ما عهدنا من اللغات
الوروبية .
فاللغات السامية كالسريانية ،والحبشية ،والرامية -ل تعرف كلمة ( بشر ) ،بل ول تعرف كلمة ( إنسان ) ،وإنما المستخدم فيها هو
مايؤخذ من كلمة ( آدام ) ،أو ( بني آدام ) ،وقد عرفت العبرية هاتين الكلمتين فعلً للدللة على ( النسان ) ،وأما ( بشر ) فقد جاء في
سفر التكوين لفظها بالسين ( بسر ) ،وهي بمعنى ( لحم ) ،وبمعنى ( نفس ) في عبارة العهد القديم ( :كل بسر حي ) ،أي :كل نفس
حية .
غير أن هذه الكلمة ( بسر ) على خلف القاعدة الغالبة بين العربية والعبرية ،فنحن نعرف أن ما ينطق بالســين في العربية هو في
العبرية بالشــين ،مثل سلم وشالوم ،وسماء وشماي ،وطرداً لهذه القاعدة كان النسب أن تكون بالســين في العربية وبالشــين في
العبرية ،لكن ماحدث هو العكس .
هذا من ناحية اللفظ ،وأما من ناحية المعنى فهناك إختلف كامل بين معنى الكلمة ( بشر ) في العربية ،ومعنى ( بسر ) في العبرية ..
وهي علمة إستفهام تحتاج إلى إجابة حاسمة .
وفي الفارسية أستخدمت اللفاظ العربية ،مع كلمة ( مَردْ ) ،وهي الوحيدة في اللسان الفارسي بمعنى ( رجل ونفر وشخص وإنسان ) ،
وهي أيضًا كلمات مستخدمة فيها .
وفي اللغة الردية أستخدمت كلمة ( آدمي ) في ترجمة كلمة ( بشر ) ،واستخدمت كلمة ( إنسان ).
وأما في اللغات الغربية فمنها النجليزية ،وقد استخدمت كلمة ( ) manبمعنى ( بشر وإنسان ) ،وقد استخدم محمد بكثال في ترجمته
للقرآن كلمة mortalبمعنى ( بشر ) ،وكلمة manبمعنى ( إنسان ) ،في حين استخدم المترجم عبدال يوسف كلمة manفي كل
المعنيين ،كذلك في الفرنسية والمجرية والتركية ..إلخ .
ومهما تتبعنا ترجمات القرآن في اللغات المختلفة فإننا ل نجد سوى كلمة منه في مراجعتنا لمجموعة الترجمات التي أصدرها مجمع
الملك فهد ابن عبدالعزيز بالمدينة المنورة ،وقد بلغت عدتها تسع عشرة ترجمة باللغات السلمية وغيرها ،وهو دليل على أن مترجمي
القرآن ل يجدون في لغاتهم سوى كلمة واحدة للمعنيين ،وهي دائماً بمعنى ( إنســــــــان ).
ولو أننا تابعنا استعمال القرآن لهذه الكلمة فسنجد أنها استخدمت في نفس السياق ،وبنفس المعنى ( مخلوق ظاهر مع حسن وجمال ) ،
في أربعة مواضع هي قوله تعالى ( على ترتيب النزول ) :
أما بقية المواضع فقد استخدمت فيها الكلمة بمعنى عام ،هو ( مخلوق غير متميز ) ،أو بمعنى أعم ( :مخلوق ) ،فإذا أريد تمييز هذا
س ِويّا - }} 17مريم ، .أي :مخلوقاً معتدلً ،ل إفراط
المخلوق ألحقت الكلمة بوصف مميز ،كما في قوله تعالى َ {{ :ف َتمَثّلَ َلهَا بَشَرًا َ
ل بَشَرًا رّسُولً - }} 93السراء ،أي :مخلوقًا مرسلً من ال ،وقوله تعالى ل كُنتُ َإ ّ
سبْحَانَ َربّي هَ ْ
ول تفريط ،وقوله تعالى {{ :قُلْ ُ
ُ {{ :قلْ ِإّنمَا َأنَا بَشَ ٌر مّثُْلكُ ْم يُوحَى إِلَيّ - }} 6 ....فصلت ،فهو مخلوق متميز على كل المخلوقات بالوحي المنزل .
وقد جاء استخدام اللفظة بالمعنى العام في قوله تعالى َ {{ :أبَشَرًا مّنّا وَاحِدًا ّنّتبِعُهُ - }} 24 ...القمر ،وهو إنكار من قوم ثمود أن يكون
ل بَشَرٌ ّمثُْلنَا - }} 154 ...
صالح بشرًا متميزاً عليهم ،وهو قول تكررت روايته في القرآن في نفس السياق الفصصي {{ :مَا أَنتَ ِإ ّ
الشعراء ،فعدم التميز هنا يعتبر وصفًا كالتميز تماماً .
ولم تخرج الكلمة في الستعمالت القرآنية عن هذا الطار ،مع ملحظة أنها وردت في الوحي المكي في سبعة وعشرين موضعاً ،ولم
ترد في الوحي المدني إل في أربعة مواضع ،مقتصرة على إفادة معنى ( مخلوق ) فقط ،وهي اليـات :
سنِي بَشَرٌ - }} 47 ...آل عمران . {{ - 1قَاَلتْ َربّ َأنّى َيكُونُ لِي وَلَ ٌد وََل ْم يَمْسَ ْ
حكْ َم وَالّنُبوّةَ - 79 ...آل عمران .
ب وَالْ ُ - 2مَا كَانَ ِلبَشَرٍ أَن ُي ْؤتِيَهُ الّ ا ْلكِتَا َ
َ - 3فقَالُوا َأبَشَرٌ َيهْدُونَنَا - 6 ...التغابن .
- 4بَلْ أَنتُم بَشَرٌ ّممّنْ خََلقَ - 18 ...المائدة .
،وخلصة القول أن الكلمة جاءت في القرآن بمعان أربعة :
ومن الواضح أن المعنى الصلي الحقيقي هو المعنى الول ،أما المعاني الثلثة الخرى فهي معاني سياقية يمكن إعتبارها توسعاً في
استخدام المعنى الصلي ،وهو فيما لحظنا أكثر شيوعاً في الستعمال القرآني .
أما الطين فقد جاء في مواضع مختلفة بهذا اللفظ ،والمقصود به إجمالً ( :تراب +ماء ) .وقد بادر النص الكريم إلى ذكر ( الماء )
أصلً لخلق البشر -والماء أحد طرفي المعادلة -في قوله تعالى في سورة الفرقان ( الحادية والربعين نزولً ) قال سبحانه {{ :وَ ُه َو
صهْرًا - }} 54 ...الفرقان ، .وهي إشارة تدخل في عموم قوله تعالى {{ :وَ َ
جعَ ْلنَا مِنَ ا ْلمَاء جعََل ُه نَسَبًا وَ ِ
ق مِنَ ا ْلمَاء بَشَرًا فَ َ
الّذِي خََل َ
حيّ - }} 30 ...النبياء ، .وسورة النبياء هي الثانية والسبعون نزولً ،إلى أن ينزل النص الكريم بتفصيل حاسم في سورة يءٍ َ كُلّ شَ ْ
علَىطنِ ِه َومِ ْنهُم مّن يَمْشِي َق كُلّ دَابّ ٍة مِن مّاء َف ِم ْنهُم مّن َيمْشِي عَلَى بَ ْ
النور ،وهي السورة الثانية بعد المائة ،فيقول سبحانه {{ :وَالُّ خََل َ
ن َو ِمنْهُم مّن َيمْشِي عَلَى أَ ْربَعٍ - }} 45 ...النور ، .وليس وراء ذلك شكل من أشكال الحياة فيما يدب على الرض ،وإن تنوعت رِجَْليْ ِ
الشكال فيما ل يدب على الرض .
عوْدٌ إلى سورة الفرقان -الحادية والربعين نزولً -والتي ذكر فيها ( الماء ) أصلً للبشر -لنجد أن السورة التالية لها مباشرة في وَ َ
التنزيل ،وهي الثانية والربعون ( سورة فاطر ) -تذكر ( التراب ) ،وهو الطرف الثاني للمعادلة الطينية ،فيقول سبحانه {{ :وَا ُ
لّ
عمُ ِرهِ ِإلّ فِي
ص مِنْ ُ
ل يُنقَ ُ
ل بِعِ ْلمِ ِه َومَا يُ َعمّ ُر مِن مّ َعمّرٍ َو َ
ل تَضَعُ ِإ ّ
ل مِنْ أُنثَى وَ َ
حمِ ُ
جعََلكُمْ أَ ْزوَاجًا َومَا تَ ْ
طفَ ٍة ثُمّ َ
خََل َقكُم مّن تُرَابٍ ثُ ّم مِن ّن ْ
لّ يَسِيرٌ - }} 11فاطر ، .وهي آية تتضمن الكثير من إختصاصات القدرة اللهية ،ففيه -إلى جانب ( التراب ) و علَى ا ِ كِتَابٍ إِنّ ذَِلكَ َ
( النطفة ) -إشارة إلى الزوجية {{ ثم جعلناكم أزواجاً }} ،وكأنها تفسير بوجه آخر لعبارة السورة السابقة ( الفرقان ) التي ذكرت
{{ فجعله نسباً وصهراً }} ..أي :في شكل أزواج تتكامل فيما بينها (( ل يرد على هذا ما توصل إليه العلم أخيراً في مجال استنساخ
الحيوان ،وهو ما فوجيء به العالم في قضية النعجة ( دوللي ) ،فإن إشارة القرآن إلى إنتاج النسان عن طريق الزوجية تعبير عن
الطريق الرسمي لعبور الناس إلى مجال الحياة المرضية ،وهو ل ينفي وجود طرق أخرى يحاول العلم معرفتها )) .
ثم تكتمل معادلة الطين بردها إلى الرض ،باعتبارها منبت الخلق ،وذلك في سورة ( طه ) الرابعة والربعين نزولً ) ،فيقول سبحانه
جكُ ْم تَا َرةً أُخْرَى - }} 55طه ، .كما قال في السورة السبعين نزولً ( نوح ) {{ :ثُمّ ُيعِي ُدكُمْ ِ {{ :منْهَا خََل ْقنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِي ُدكُمْ َو ِمنْهَا نُخْرِ ُ
جكُمْ إِخْرَاجًا - }} 18نوح . فِيهَا َويُخْرِ ُ
حبُ ُه وَ ُهوَ
،ويتكرر ذكر التراب بعد سورة ( فاطر ) في سورة الكهف ( الثامنة والستين نزولً ) ،في قوله تعالى {{ :قَالَ لَهُ صَا ِ
سوّاكَ رَجُلً - }} 37الكهف ، .وهكذا يقدم القرآن الحقيقة إجمالً ،ثم يفصلها طفَ ٍة ثُمّ َ
ك مِن تُرَابٍ ثُ ّم مِن ّن ْ يُحَاوِرُهُ َأ َكفَ ْرتَ بِالّذِي خََل َق َ
تدريجياً على مسار الوحي .
ويتعرض القرآن في سورة الحجر ،وهي السورة الثالثة والخمسون نزولً ،وذلك في الية الثامنة والعشرين -يتعرض لبعض أوصاف
الطين :المادة البشرية ،وهي قوله تعالى :
حمٍَإ مّسْنُونٍ - }} 28سورة الحجر ، .لقد زادت هذه الية المادة وضوحاً ل مّنْ َ
لئِكَةِ ِإنّي خَاِلقٌ بَشَرًا مّن صَ ْلصَا ٍ
{{ وَإِذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَ َ
حين ذكرت أن الطين كان في شكل ( صلصال من حمأ مسنون ) ،و ( الصلصال ) هو الطين اليابس ،أو هو الطين الحر خلط بالرمل ،
صلْصَالٍن مِن َ
فصار يتصلصل إذا جف ،فإذا طبخ بالنار فهو فخار ،وآية سورة الرحمن ( السادسة والتسعين نزولً ) {{ :خََلقَ الِْنسَا َ
كَا ْلفَخّارِ - }} 14الرحمن ، .تنفي عن الصلصال أن يكون طبخ بالنار ،وإن َ
شبّ َهتْهُ بالفخار في جفافه ،والحمأ :هو الطين السود ،
والمسنون :هو المبتل المنتن ،وقد زاد من صفات هذا الطين في سورة الصافات ( الخامسة والخمسين نزولً ) فذكر أنه {{ :طِينٍ
لّ ِزبٍ - }} 11الصافات ، .بمعنى :متلصق أملس متماسك .
وسواء -في الحقيقة -أن يستخدم القرآن في تعبيره عن أصل البشر ،الرض أو التراب ،أو الطين ،أو الصلصال ،أو الحمأ
المسنون ،فكل ذلك ل يختلف ،لن المكونات واحدة تماماً ،في التراب وأشكاله السابقة ،وفي الجسد البشري أو المادة الحية .
يقول الستاذ البهي الخولي ( :لو أنك أخذت قبضة من تراب الرض الخصبة ،وأجريت عليها عمليات التحليل الكيماوي لوجدتها
تتركب من ستة عشر عنصراً ،ولو أخذت قطعة من جسم النسان وأجريت عليها عمليات هذا التحليل لوجدتها كذلك تتركب من ستة
عشر عنصرًا -هي نفس العناصر التي تتركب منها تربة الرض ،وهذه العناصر هي ما يأتي :
- 1الكسجين = % 63.03
- 2الكربـــــــون = % 20.20
- 3اليدروجين = % 9.90
- 4النيتروجـين = % 2.50
- 5الكلســــــيوم = % 2.45
- 6الفســـــــفور = % 1.01
- 7الكـــــــــلور = % 0.16
- 8الفــــــــــلور = % 0.14
- 9الكبـــــريت = % 0.14
-10البوتاسـيوم = % 0.11
-11الصـوديوم = % 0.10
-12المغنسـيوم = % 0.07
-13الحــــــــديد = % 0.01
وقد تبين من جمع النسب المختلفة أن الثار الضئيلة من ( اليود ،والسليكون ،والمنجنيز ) ل تتجاوز % 0.18للمواد الثلث ،وقد
أضافت قوائم أخرى مواد أرضية دخلت في تكوين النسان ،وهي النحاس والكوبالت ،والتوتيا ،والموليديوم ،واللمونيوم ،
والسيلنيوم ،والكادميوم ،والكروم ،وبذلك تصل العناصر الترابية في النسان إلى أربعة وعشرين عنصراً .
فخلق البشر كان من معدن الرض ،كما قال سبحانه وتعالى في السورة الثانية والعشرين نزولً -أي في الوحي المكي المبكر : -
علَ ُم بِكُمْ إِذْ أَنشََأكُم مّنَ الَْرْضِ - }} 32 ...سورة النجم ، .أي :من معدن الرض ،وهو الصلصال المأخوذ من الطين السود
{{ ُهوَ أَ ْ
المنتن -هكذا شاءت إرادة ال ،ول يستطيع أحد أن ينكر هذه الحقيقة ،أو أن يكذب بها ،مع أن هناك في مرأى العين مسافة هائلة بين
الطين واللحم والبشري ..الطين مادة خامدة ،واللحم البشري نسيج حي متنامِ ،وهي مسافة لم يقطعها العقل النساني حتى الن ،ولن
يقطعها في المستقبل ،بمعنى أن العقل لن يكشف عن سر التحول الذي جعل التراب لحمًا حياً متنامياً ،ومن ثمّ لن يكون بوسع النسان -
مهما تقدم في دراساته عن الخلية الحية ،وعن الهندسة الوراثية -أن يحول التراب إلى خليا حية ،فالمسافة بينهما برزخ يستحيل
عبوره على قدرات النسان ،لنها في الواقع تعبير عن أمكانيات قدرة ال المتفردة بالخلق والبداع ،بالحياء والفناء .
هذا عن المسافة بين التراب والمادة الحية ،فأما عن المسافة بين التراب والمخلوق البشري فيقول الستاذ سيد قطب ،وهو يعلق على
ج مِن بَيْنِ الصّ ْلبِ وَالتّرَائِبِ - }} 7الطارق ( ، .فالمسافة الهائلة
ق مِن مّاء دَا ِفقٍ 6يَخْ ُر ُ
ن مِمّ خُِلقَ 5خُِل َ
قوله تعالى {{ :فَ ْليَنظُرِ الِْنسَا ُ
بين المنشأ والمصير ،بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب ،وبين النسان المدرك العاقل ،المعقد التركيب
العضوي ،والعصبي ،والعقلي ،والنفسي ..هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافق إلى النسان الناطق ..توحي بأن هناك يداً
خارج ذات النسان ،هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي ل قوام له ،ول إرادة ،ول قدرة في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة ،
حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة ،وتشي بأن هناك حافظاً من أمر ال يرعي هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل ،ومن الرادة
والقدرة ،في رحلتها الطويلة والعجيبة ،وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للنسان من العجائب ،من مولده إلى مماته ) -
( في ظلل القرآن -سورة طارق ) .
ول يفوتنا هنا الشارة إلى أن الماء قد يقصد به ما يخلط بالتراب ليصير طيناً ،وقد يقصد به الماء المهين الذي يبدو في ظاهره ل علقة
ل بموجودات ترابية -طينية ،متمثلة في الكائنات الحية التي تعتبر ( :كبسولة الحياة ) ،ويتحدثله بالطين ،وإن كان في الحقيقة حاف ً
العلم عن مئات المليين من هذه الكائنات الحية في منيّ الرجل ..في الدفقة الواحدة تندفع في رحم المرأة ،في نهاية التصال الجنسي ..
وكل هذا صادر عن التراب ،وعائد إلى التراب .
وتبقى بعد ذلك آيتان تحدثتا عن خلق النسان من نفس واحدة ،وهما :
سكُنَ إَِل ْيهَا
جهَا ِليَ ْ
جعَلَ ِم ْنهَا َزوْ َ
س وَاحِ َد ٍة وَ َ
آية العراف ،وهي السورة الثامنة والثلثون نزولً ..قوله تعالى ُ {{ :هوَ الّذِي خََل َقكُم مّن ّن ْف ٍ
ن مِنَ الشّاكِرِينَ َ 189فَلمّا آتَا ُهمَا صَالِحاً َ
جعَلَ ن آ َتيْ َتنَا صَالِحاً ّلنَكُونَ ّ
عوَا الّ َربّ ُهمَا َلئِ ْ
خفِيفًا َفمَ ّرتْ بِهِ َفَلمّا َأ ْثقَلَت دّ َ
حمْلً َ
حمََلتْ َ فََلمّا َتغَشّاهَا َ
عمّا يُشْ ِركُونَ - }} 190سورة العراف . َلهُ شُ َركَاء فِيمَا آتَا ُهمَا َف َتعَالَى الّ َ
وآية النساء ،وهي السورة الثالثة والتسعون نزولً ..قوله تعالى :
ل َكثِيرًا َونِسَاء - }} 1 ...سورة النساء .
ث ِمنْ ُهمَا رِجَا ً
جهَا َوبَ ّ
ق مِ ْنهَا َزوْ َ
س وَاحِ َد ٍة وَخََل َ
خَل َقكُم مّن ّن ْف ٍ
س ا ّتقُواْ َرّبكُمُ الّذِي َ
{{ يَا َأيّهَا النّا ُ
واليتان تقرران وحدة الصل النساني ،إذ المخاطب ها هنا هو الناس ،كما هو نص الية الثانية ،وكما هو مفهوم الية الولى ،لن
الخطاب في القرآن لم يوجه مطلقاً إلى البشر ..بل إلى النسان ،وبديهي أن نعرف أننا جميعًا منتمون لدم ،كما قال رسول ال صلى
ال عليه وسلم ( :كلكم لدم ) ،أي :لدم وحواء ،باعتبارهما المصدر الوحيد الذي تناسلت منه كل الزريات النسانية .
غير أن خلق زوج آدم من نفسه مشكل ،فهل حواء من ضلع آدم كما وردت بذلك آثار ؟ أو أن حواء خلقت مستقلً ،كما هو شأن آدم ؟
الحتمال الخير هو الراجح في نظرنا لمرين :
:أن كثيراً من العلماء اعتبروا مسألة الضلع مجرد رمز لطبيعة المرأة وفطرتها . أولـهما
ثانيهما :أن خلق حواء من نفس آدم مؤول على أنها من نوعه وجنسه ،وقد جاء ذلك بالنسبة إلى كل زوج في قوله تعالى {{ :وَمِنْ
سكُنُوا ِإَليْهَا - }} 21 ...سورة الروم .
سكُمْ أَ ْزوَاجًا ّلتَ ْ
آيَاتِهِ َأنْ خََلقَ َلكُم مّنْ أَنفُ ِ
ومن المؤكد أن المقصود بآية العراف ليس آدم وزوجه ،لن اليات بعدها تتحدث عن أن الزوجين جعل ل شركاء فيما آتاهما من
الذرية ،ولم يكن هذا من آدم وزوجه .
وتبقى آية النساء معبرة عن الصل النفسي الذي انبثقت منه كل النفوس ،وعلى الرغم من إختلف القوال في حقيقة هذه النفس ،فإننا
نميل إلى أنها هي سر ال في النسان ،وبها صار إنساناً ،دونما سواه ،فالخلق فيما انتهى إليه تأملنا في هذه المسألة يتم على مستويين :
وخلق نفسي من روح ال ،وهو الخلق الباطن ،ونحن على يقين من أنه لول تلك النفخة اللهية لما كان ذلك المخلوق سوى دابة من
دواب الرض .
فلماذا أغرق العلماء أنفسهم في البحث عن ماهية النفس ،دون أن يصلوا فيها إلى شيء ،مع أن الحقيقة واضحة بين أيديهم ،وهي في
غاية الوضوح بقدر ما هي في منتهى الغموض ؟!!
إنها غيب من غيب ال ،وسر من أسراره ،وهذا هو الوضوح الذي نقصده ،كالكهرباء ل تعرف حقيقتها إل بآثارها ،والعقل والروح
والنفس قوى أودعها ال كيان هذا النسان -ل تدرك حقائقها ،وإن استدل على وجودها بآثارها ،ومن آثارها أن تنبثق منها زوج الرجل
التي يسكن إليها .
البشر والنســـــان
إذا كان القرآن قد ذكر خلق ( البشر ) في أربع آيات ،فقد ذكر خلق ( النسان ) في خمس وثلثين آية ،هي على ترتيب النزول موزعة
بين المكي والمدني :فاليات المكية هي :
ن مِنْ عََلقٍ }} 2 {{ اقْرَ ْأ بِاسْمِ َرّبكَ الّذِي خََلقَ َ 1
خَلقَ الِْنسَا َ
********
********
جيْنِ ال ّذكَرَ
ل ِمنْهُ ال ّزوْ َ سوّى 38فَ َ
جعَ َ ي ُيمْنَى 37ثُ ّم كَانَ عََلقَةً فَ َ
خَلقَ فَ َ {{ َأيَحْسَبُ الِْنسَانُ أَن ُيتْ َركَ سُدًى 36أََل ْم َيكُ ُن ْ
طفَ ًة مّن مّنِ ّ
وَالُْنثَى }} 39
********
********
********
********
صوّ ْرنَاكُمْ ثُمّ قُ ْلنَا لِ ْلمَلئِكَةِ اسْجُدُواْ لدَمَ فَسَجَدُواْ ِإلّ ِإبْلِيسَ }} 11 ...
خَلقْنَاكُ ْم ثُمّ َ
{{ وََلقَدْ َ
طفَةٍ فَِإذَا ُهوَ خَصِي ٌم ّمبِينٌ 77وَضَ َربَ َلنَا َمثَلً َونَسِيَ خَ ْلقَهُ }} 78 ...
{{ َأوَلَ ْم يَرَ الِْنسَانُ َأنّا خََل ْقنَاهُ مِن ّن ْ
********
حمِلُ مِنْ أُنثَى َولَ تَضَعُ ِإلّ ِبعِ ْلمِهِ }} 11 ...
جعََلكُمْ أَ ْزوَاجًا َومَا تَ ْ
ب ثُ ّم مِن ّنطْفَ ٍة ثُمّ َ
خَلقَكُم مّن تُرَا ٍ
{{ وَالُّ َ
********
********
********
عهِ ْدنَا إِلَى آدَ َم مِن َقبْلُ َفنَسِيَ َولَ ْم نَجِدْ لَهُ عَ ْزمًا }} 115
{{ وََلقَدْ َ
********
{{ أَفَ َرَأيْتُم مّا تُ ْمنُونَ 58أَأَنتُ ْم تَخُْلقُونَهُ أَ ْم نَحْنُ الْخَاِلقُونَ }} 59
********
********
- 16وفي السورة الثالثة والخمسين :
********
********
********
********
********
********
********
********
********
سوّاكَ َفعَدََلكَ 7فِي َأيّ صُو َر ٍة مّا شَاء َر ّك َبكَ }} 8
ك بِ َرّبكَ ا ْلكَرِيمِ 6الّذِي خََل َقكَ فَ َ
ن مَا غَ ّر َ
{{ يَا َأيّهَا الِْنسَا ُ
********
********
********
********
********
********
********
********
********
ويلحظ في نصوص هذه اليات أن ( خلق النسان ) جاء بلفظه في ستة عشر موضعاً ،وأن بقية المواضع -وهي تسعة عشر موضعاً
-يدل السياق فيها على أن المراد بها هو ( النسان ) ،وليس ( البشر ) ،حيث اكتفى النص بالشارة دون العبارة ،أو جاء الخطاب
للناس ل للنسان ،أو كان النص على آدم ،وهو -فيما نرى -أول إنسان ،وكل ذلك جاء في سور ( :العلى ،والمراسلت ،
والعراف ،وفاطر ،وطه -في موضعين -وفي السراء ،والنعام ،والصافات ،وغافر ،والكهف ،ونوح -في موضعين -
والروم ،والبقرة ،والحج ،والحجرات ،وانفردت الواقعة بدعوة الناس إلى التأمل فيما يفرزون من منيّ ) .
ولسوف يتضح لنا فيما بعد -أن المراد في هذه المواضع هو ( النسان ) ،وليس البشر ،واليات الست عشرة تتحدث عن ( خلق
النسان ) تارة من علق ،وأخرى من نطفة ،أو من ( نطفة أمشاج ) ،وثالثة من ( طين ) ،أو من ( سللة من طين ) ،أو من
( صلصال من حمأ مسنون ) أو من ( صلصال كالفخار ) -هو من صلصال ،وليس فخار ،لن الفخار هو الطين المحروق ،وكأن
التشبيه يحتفظ في السياق بهذا الفرق في الدالة .
ب مّنَ
وتأتي آية سورة الحج ( السورة الخامسة بعد المائة ) فتخاطب الناس نصاً وصراحة ،فتقول {{ :يَا َأيّهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي َر ْي ٍ
طفَةٍ }} ...إلى آخر الية وهي تجمع إشارتين إلى الصل الول ،وهو التراب ،وإلى الصل خَلقْنَاكُم مّن تُرَابٍ ثُ ّم مِن ّن ْ
ا ْل َب ْعثِ َفِإنّا َ
البديل ،وهو النطفة .
و ( الناس ) :اسم جمع لبني آدم ،مفرده ( إنسان ) من غير لفظه .
القرآن المــكي
فإذا تابعنا بناء السورة التي تأتي لبناتها في اليات المكية المتتابعة وجدنا الحديث عن البداية المرئية للنسان ،وهي ( العلق ) في
سوّى }} ،ثم تأتي لمحة عن المستوى الخلقي -في السورة الولى ،ثم تأتي إضافة في السورة السابعة ،تشير إلى {{ الّذِي خََلقَ فَ َ
سفَلَ سَا ِفلِينَ }} ،ثم استثنى من هؤلء السفلة
ن َتقْوِيمٍ }} ،ثم ارتد إلى {{ أَ ْ
السورة السابعة والعشرين -فهو قد خُلق أولً {{ فِي أَحْسَ ِ
عمِلُوا الصّالِحَاتِ }} ،وهي رسالة موجهه إلى معارضي الدعوة والمكذبين بالدين من كفار قريش . ن آ َمنُوا وَ َ
جماعة {{ الّذِي َ
ويعود الوحي إلى بيان آليات الخلق في السورة الثلثين ( القيامة ) :مني يفرز نطفة تتحول إلى علقة تحمل عناصر الذكورة والنوثة ،
بحسب تقدير ال وتحديده للنوع ،وتشير السورة الثانية والثلثون ( المرسلت ) إلى نفس المعنى ،لكنها تذكر المكان الذي تتم فيه عملية
الخلق ،وهو ( القرار المكين ) أو ( الرحم ) .
ثم يأتي الحديث في السورة التالية مباشرة ،وهي الثالثة والثلثون ( ق ) ليؤكد حضور ال سبحانه وتعالى في وجود هذا النسان ،وهو
ملمح تربوي ،يستطرد بعده الوحي في السورة الخامسة والثلثين ( الطارق ) ليقرر أن هذا الخلق العظيم ( ،خلق النسان ) {{ خُِلقَ
ج مِن بَيْنِ الصّ ْلبِ وَالتّرَائِبِ - }} 7سورة الطارق ،والصلب :فقار الظهر ،وهي منبع الماء الدافق عند الرجل ،
مِن مّاء دَا ِفقٍ 6يَخْ ُر ُ
والترائب :جمع ..مفرده تريبة ،وهي عظام الصدر مما يلي الترقوتين ،وهي منبع ماء المرأة ،وهذه المعلومة كانت مجهولة
للنسان ،وبقيت مجهولة حتى منتصف القرن العشرين ،وقد تضمنها الوحي القرآني منذ أوائل هذا الوحي ،أي منذ :أكثر من أربعة
عشر قرناً .
وتنزل في السورة الربعين ( يس ) إشارة إلى مايسبق العلق ،وهو ( النطفة ) مرة أخرى ،ولكن يقرن ذلك بالعجب من أن ل يعرف
طفَةٍ فَِإذَا ُهوَ خَصِي ٌم ّمبِينٌ 77وَضَ َربَ َلنَا َمثَلً َونَسِيَ خَ ْلقَهُ
هذا المخلوق قدره في مواجهة خالقه َ {{ ..أوَلَ ْم يَرَ الِْنسَانُ َأنّا خََل ْقنَاهُ مِن ّن ْ
علِيمٌ - }} 79سورة يس . ل مَ ّر ٍة وَ ُهوَ ِبكُلّ خَ ْلقٍ َ حيِيهَا الّذِي أَنشَأَهَا َأوّ َ حيِي ا ْل ِعظَا َم وَهِيَ َرمِيمٌ 78قُ ْ
ل يُ ْ ن يُ ْ
ل مَ ْ
قَا َ
ويواصل الوحي تعريف النسان بأصله في السورة الثانية والربعين ( فاطر ) فيجمع لول مرة بين التراب والنطفة ،ويضيف آية من
آياته ،وهي خلق الزوج ليأتلف مع زوجه ،وهو يتابع بعلمه مايتم بين الزواج ،وما يترتب عليه من حمل ووضع ،كما يتابع العمار
-طويلة وقصيرة .
ثم يساعف التنزيل ذلك النسان فيخاطب عقله وذاكرته في السورة الثالثة والربعين ( مريم ) ويسأله عن مرحلة ما قبل وجوده ،إن كان
ش ْيئًا }} ،فالية ترد النسان إلى ما سبقه من عدم ،وهو
ل وََل ْم َيكُ َ
لديه شيء يذكره غير العدم َ {{ :أ َولَ يَ ْذكُرُ الِْنسَانُ َأنّا خََل ْقنَاهُ مِن َقبْ ُ
أنصع برهان على أنه مُحْ َدثٌ بيد القدرة ،وهي إشارة تشبه إلى حد كبير ما استهلت به سورة ( النسان ) -التاسعة والتسعون ( المدنية )
.
ويلي سورة ( مريم ) في ترتيب النزول ( طه ) وهي السورة الرابعة والربعون ،وذلك في قوله تعالى {{ ِمنْهَا خََل ْقنَاكُ ْم وَفِيهَا نُعِي ُدكُمْ
جكُ ْم تَا َرةً أُخْرَى }} ،وكأنها تدل النسان الباحث عن مبدأ خلقه إلى نقطة البداية التي ليس وراءها شيء يذكره مهما حاول . َومِ ْنهَا نُخْرِ ُ
فإذا نظر النسان إلى الرض -ومنها خلقه الول -أدركه -سؤال السورة الخامسة والربعين ( الواقعة ) ليقرب إليه صورة من الحقيقة
{{ .أَفَ َرَأيْتُم مّا تُ ْمنُونَ }}؟؟ .
فإذا نظر إلى الرض ليبحث عن أصله فليعلم أن جزءاً من هذه الرض قفز إلى صلب أبيه ،وترائب أمه ،فلقحت -فيهما -الرضُ
ل ُتبْصِرُونَ - }} 21
سكُمْ أَفَ َ
الرضَ ،فكان ذلك المخلوق الباحث عن الحقيقة ،يحسبها بعيدة ،وهي بين يديه ،وفي إهابه {{ وَفِي أَنفُ ِ
الذاريات .
حمٍَإ مّسْنُونٍ }} ، ل مّنْ َ وهنا يأتي النص الكريم في السورة الثالثة والخمسين ( الحجر ) ليرد النسان إلى أصل ( البشر ) {{ :صَ ْلصَا ٍ
حمَإٍ
ل مّنْ َ
صلْصَا ٍ ن مِن َ خَل ْقنَا الِنسَا َ
ولما كان السياق في السورة يذكر ( النسان ) في مقابل ( الجان ) في آيتي الحجر {{ :وََلقَدْ َ
مّسْنُونٍ }} ،فإن الحديث عن الصل الترابي يرتبط غالبًا ( بالبشر ) ،ولذلك يعود النص إلى الصل فيقول {{ :وَإِذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَلَ ِئكَةِ
ختُ فِي ِه مِن رّوحِي َف َقعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ - }} 29الحجر. سنُونٍ َ 28فإِذَا َ
س ّويْتُ ُه َو َنفَ ْ حمَإٍ مّ ْ
ل مّنْ َ
صلْصَا ٍ
ق بَشَرًا مّن َ
ِإنّي خَاِل ٌ
والربط بين ( النسان ) و ( الصلصال ) سياق تتولى تفسيره اليات التالية التي تحدد المراد بالنسان ،وهو ( البشر ) .
سوْق الحقيقة هنا ،فهو يذكر ( النسان ) هكذا معرفًا ،باعتباره الموضوع الساسي المقصود
وينبغي أن نلحظ أسلوب القرآن في َ
بالذكر ،والمخاطب باليات ،وهو في مقابل ( الجان ) المشارك للنسان في التكليف والمسئولية على هذه الرض .
فإذا شرع في بيان حقيقة الخلق منذ البداية ،ذكر أن هذه البداية كانت في صورة ( بشر ) ..هكذا مُنكّرًا ..باعتباره النموذج الذي
أجريت عليه عمليات التسوية ،والتصوير ،والنفخ من روح ال ( أو التذويد بالملكات العليا التي كان بها البشر إنساناً -وهي العقل ،
واللغة ،والدين ) .
فقبل التسوية لم يكن المخلوق البشري إنسانًا ..بل كان بداية خلق إنسان في حيز القوة ،قبل أن يكون إنساناً في حيز الفعل .
لم يكن أحد من الجن أو الملئكة يعلم شيئاً عن سر ذلك المخلوق البشري ،أو عما سيؤول إليه أمره ،فذلك كله كان غيباً في علم ال
وحده ،وهو من إختصاص قدرته التي تابعت تنفيذ المخطط ،وتحقيق التسويات المطلوبة عبر الجيال ،كما زودته تلك القدرة العظمى
بعوامل التألق حتى صار البشر الغشيم ( إنساناً ) صالحًا للتكليف ،وحمل المانة اللهية .
وكل ذلك الفرق الهائل بين البشر والنسان يشي به الستعمال القرآني ،وهو فرق ما بين التعريف والتنكير في هاتين اليتين من سورة
الحجر .
وإما أن يكون الول :ما بين أن يخلق إلى أن يموت ،والثاني :ما بين الموت إلى البعث ( وهو البرزخ ) .
وذكر تفسير المنار ( ) 248 / 7أن الجل الثاني هو أجل حياة مجموع الناس الذي ينقضب بقيام الساعة ،وقيل :الجل الخاص بكل
فرد ،والجل العام وهو عمر الدنيا .
ونحسب أن هناك احتمالً غاب عن هذه التقديرات ،وهو أن الجل الول ( النكرة ) هو أجل الحياة البشرية السابقة على العهد
النساني ،وأما الجل المسمى ،فهو أجل كل فرد من المكلفين ،فالول مجمل يندمج فيه الكل في واحد ،والثاني مفصل لكل فرد ،
لتعلقه بالمسئولية والحساب والمصير ،ول مانع في نظرنا من إرادة ذلك في الية .
طفَ ٍة ثُمّ
ثم تأتي السورة التاسعة والخمسون ( غافر ) فتربط لول مرة بين التراب والنطفة والعلقة ُ {{ :هوَ الّذِي خََل َقكُم مّن تُرَابٍ ثُ ّم مِن ّن ْ
طفْلً }} ،وهنا يذكر المرحلتين :مرحلة الخلق من تراب ،ومرحلة الخلق من نطفة ،وهما مرحلتان منفصلتان مِنْ عََل َق ٍة ثُ ّم يُخْرِجُكُ ْم ِ
في الظاهر ،وقد ربط القرآن بينهما بحرف التراخي ( ثم ) للتعبير عن المسافة الزمنية بينهما .
ويلحظ أن هذا الموضوع لم يرد له ذكر في القرآن بعد سورة غافر ،إل بعد عشر سور ..أي :حتى نزلت سورة ( النحل ) بإشارتها
خصِي ٌم مّبِينٌ }} ،وهي السورة التاسعة والستون ،ثم تنزل السورة الحادية والسبعون ، طفَةٍ فَإِذَا ُهوَ َ
ن مِن ّن ْ
المقتضبة {{ :خََلقَ الِنسَا َ
سورة ( نوح ) وفيها إشارة ذات دللة تاريخية ومادية معاً ،هي قوله تعالى {{ :وَ َقدْ خََل َقكُمْ َأ ْطوَارًا }} ،فمن الناحية التاريخية
، :قد يراد بالطوار المراحل الزمنية المتطاولة التي مر بها خلق البشر ،وتقلبهم في أطوار التسوية والتصوير والنفخة من روح ال :
سمْ َع وَالَْبْصـ َر وَالَْ ْفئِ َدةَ }} ،ومن الناحية المادية ، :قد يراد بالطوار ما جاء بعد ذلك مباشرة من حديث
جعَلَ َلكُمُ ال ّ {{ وَ َ
القرآن عن الجنين وأطواره في ( القرار المكين ) وهو رحم الم ،فحديث سورة ( المؤمنون ) هو بمثابة الجابة عن سؤال نَجَمَ عن ذكر
الطوار في سورة نوح ..ماهي هذه الطوار ؟؟ ..فجاء الرد في السورة الثالثة والسبعين ( المؤمنون ) ،وذلك في قوله تعالى :
ن مِن سُلَلَ ٍة مّن طِينٍ }} ،وكأن الية تدفع عن العقل احتمال إدماج العمليتين في عملية واحدة ،فالنسان خلق من{{ وََلقَدْ خََل ْقنَا الِْنسَا َ
( سللة ) نسلت من ( طين ) ،أي :إنه لم يخلق مباشرة من الطين ،فأما ابن الطين مباشرة فهو ( أول البشر ) ،وكان ذلك منذ مليين
السنين .
وهذا المعنى هو الذي عبرت عنه السورة الخامسة والسبعون ( السجدة ) وهي إضافة مهمة للرد على السؤال المثار عن المقصود بــ
ن مِن طِينٍ 7ثُمّ
خ ْلقَ الِْنسَا ِ
يءٍ خََلقَ ُه َوبَدَأَ َ
ن كُلّ شَ ْ
( الطوار ) في السورة الرابعة والسبعين ..يقول ال سبحانه وتعالى {{ :الّذِي أَحْسَ َ
سوّاهُ َو َنفَخَ فِي ِه مِن رّوحِهِ - }} 9 ...السجدة .
ل نَسْلَ ُه مِن سُلََل ٍة مّن مّاء ّمهِينٍ 8ثُمّ َ
جعَ َ
َ
ل أو كالطفال ..بل أسماع ول أبصار ول عقول ،ثم جعل لهم هذه الدوات في مراحل التسوية المتطاولة ، لقد خلق ال البشر أطفا ً
حين شاءت القدرة أن تذود هذا المخلوق البشري بما يحتاج إليه من أدوات الكمال .
بيد أن الحديث في السورة الرابعة والسبعون ( المؤمنون ) لم يقتصر على الشارة التاريخية السابقة ..بل قدم وصفاً ومتابعة لطوار
جعَ ْلنَا ُه ُنطْفَةً فِي قَرَا ٍر مّكِينٍ 13ثُمّ خََل ْقنَا ال ّن ْ
طفَةَ عََل َقةً تكوين الجنين ،وهو إضافة لم تسبق في أي سياق مكي ،فقال سبحانه {{ :ثُمّ َ
سنُ الْخَاِلقِينَ - }} 14المؤمنون . حمًا ثُمّ أَنشَ ْأنَاهُ خَ ْلقًا آخَرَ َف َتبَا َركَ الُّ أَحْ َ
عظَامًا َفكَسَ ْونَا ا ْل ِعظَامَ لَ ْ
ضغَةَ ِ
ضغَةً فَخََل ْقنَا ا ْلمُ ْ
فَخََل ْقنَا ا ْلعََل َق َة مُ ْ
لقد مر النص الكريم بالمراحل المختلفة التي تبدأ بالنطفة ،وتنتهي بالنسان ،في هذا اليجاز المحكم الذي يتضمن حقائق الطوار في
عبَرَ البشر كل الطوار ،فصار خلقاً آخر ( :إنساناً ) {{ َفتَبَا َركَ الُّ أَحْسَنُ الْخَاِلقِينَ }} .
ذلك القرار المكين ..رحم المرأة ،وهكذا َ
وقد نلحظ هنا أن نص ( السجدة ) يتلقى مع هذا النص ،مع فارق الجمال والتفصيل ،ومع انفراد سورة ( المؤمنون ) بمراحل
التكوين الجنيني ،وانفراد سورة ( السجدة ) بمراحل التكوين الطيني .
القرآن المـــدني
ثم تأتي المرحلة المدنية ،وتبدأ بالسورة السابعة والثمانين ( البقرة ) ،فتذكر مرحلة أخرى من مراحل الملحمة الخالدة ،دون أن تذكر
( البشر أو النسان ) ..بل هي تركز على ( آدم ) الذي يهيأ لوظيفة ( الخلفة ) ( البقرة 30 :وما بعدها ) وهو من أجل ذلك يعلم من
اللغة ما لم تعلمه الملئكة ،وسيأتي في ذلك حديث .
وفي السورة الثامنة والتسعين ( الرحمن ) إشارتان ..
، :إلى علقة النسان باللغة في مستواها البياني {{ :خََلقَ الِْنسَانَ 3عَّلمَهُ ا ْلبَيَانَ - }} 4الرحمن . أولهما
سنُونٍ }} ،
حمٍَإ مّ ْ
ل مّنْ َ وثانيهما ، :مذيد من التعريف بالصلصال الذي ذكر في السورة المكية ( الحجر ) على أنه َ {{ :
صلْصَا ٍ
ن نّار }} ،كما سبق أن قابل ( الحمأ ل كَا ْلفَخّارِ }} ،وذلك في مقابل أن الجان خلقوا {{ مِن مّا ِرجٍ مِ ّ
فتصفه بأنه {{ :صَلْصَا ٍ
المسنون ) بــ ( نار السموم ) في سورة الحجر أيضاً ،وللتكرار هنا قائدة هي مذيد من التعريف بطبيعة المادة التي هي أصل الخلق ،
وهي ( الطين اللزب ) كما جاء في سورة الصافات .
علَى
وتبقى في المرحلة المدنية إشارة سورة ( النسان ) ،وهي السورة التاسعة والتسعون ،وقد جاءت في قوله تعالى َ {{ :هلْ َأتَى َ
سمِيعًا بَصِيرًا - }} 2النسان .
جعَ ْلنَاهُ َ
طفَةٍ َأمْشَاجٍ ّنبْتَلِيهِ فَ َ
ن مِن ّن ْ شيْئًا مّ ْذكُورًا ِ 1إنّا َ
خَلقْنَا الِْنسَا َ ن مّنَ الدّهْرِ لَ ْم َيكُن َ
الِْنسَانِ حِي ٌ
وهو كما نرى ،نص يضيف وصفًا تحليلياً للنطفة ،فالمشاج تطلق على الخليا الذكرية ،كالحيوان المنوي ،وتطلق على الخليا
النثوية ،كالبيضة أو البويضة ،قبل أن تندمجا لتكوين اللقحة ( وهي البويضة الملقحة ) التي تكّون الجنين ( المعجم الوسيط :
مشج ) ،والنسان خليط من هذه الخليا ،أو المشاج ،وهي حقيقة لم تذكر من قبل في أي سياق ،إل ما جاء إشارة عامة عن ( الماء
المهين ) ،و ( الماء الدافق ) من الصلب والترائب .
وأخيرًا تأتي السورة الخامسة بعد المائة ( :الحج ) -لتقدم التقرير النهائي عن قصة الخلق في قوله تعالى {{ :يَا َأّيهَا النّاسُ إِن كُنتُمْ فِي
غيْ ِر مُخَّلقَةٍ ّلنُ َبيّنَ َلكُ ْم َونُقِرّ فِي الَْرْحَا ِم مَا نَشَاء إِلَى
ضغَ ٍة مّخَّلقَ ٍة وَ َ
ب ثُ ّم مِن ّنطْفَ ٍة ثُ ّم مِنْ عََلقَ ٍة ثُ ّم مِن مّ َْر ْيبٍ مّنَ ا ْلبَ ْعثِ فَِإنّا خََل ْقنَاكُم مّن تُرَا ٍ
ش ْيئًا َوتَرَى
طفْلً ثُمّ ِلتَبُْلغُوا أَشُ ّدكُ ْم َومِنكُم مّن ُيتَوَفّى َومِنكُم مّن يُرَدّ ِإلَى أَرْ َذلِ ا ْل ُعمُرِ ِل َكيْلَ َيعْلَ َم مِن بَعْدِ عِلْمٍ َ جكُ ْم ِ سمّى ثُمّ نُخْرِ ُ ل مّ َ
أَجَ ٍ
ت مِن كُلّ َز ْوجٍ َبهِيجٍ - }} 5الحج . الَْرْضَ هَامِ َدةً فَإِذَا أَنزَ ْلنَا عََل ْيهَا ا ْلمَاء ا ْهتَ ّزتْ وَ َر َبتْ وَأَن َبتَ ْ
،وهي آية تتضمن تفاصيل مهمة ،وبخاصة فيما يتعلق بالمضغة ،فليست كل مضغة تتحول جنينًا ..بل قد تكون مخلقة ،وقد تكون
غير مخلقة ،وكذلك فيما يتعلق بحياة النسان :طفلً ،فبالغًا ،وقد يحين موته أجََلئِذٍ ،وقد تمتد به الحياة إلى أرذل العمر ،وهي حقائق
سبق اليماء إليها في سورة ( غافر ، ) 61 :ولكنها جاءت هنا في خاتمة التقرير عن إمكان البعث ،ودفع الريب فيه من العقول
والقلوب ،وتلكم هي الغاية التي سيقت من أجلها كل هذه النصوص عن ( خلق البشر -النسان ) :
وأخيرًا ،يختم الوحي حديثه بخطاب عام موجه إلى ( النسانية ) جمعاء ،من كل اللوان ،والجناس ،والصقاع ،تحقيقاً لعموم
الرسالة ،وتأكيداً لمبدأ المساواة المطلقة بين جميع الناس ،وإعلناً للقاعدة اللهية التي سيتم على أساسها محاسبة الخلئق ..يوم الموقف
خَل ْقنَاكُم مّن َذكَ ٍر وَأُنثَى
العظيم ..جاء ذلك في سورة الحجرات ،وهي السورة الثامنة بعد المائة ،في قوله تعالى {{ :يَا َأّيهَا النّاسُ ِإنّا َ
خبِيرٌ - }} 13الحجرات . شعُوبًا وَ َقبَائِلَ ِلتَعَارَفُوا إِنّ َأكْ َر َمكُمْ عِندَ الِّ َأ ْتقَاكُمْ ِإنّ الَّ عَلِيمٌ َ
جعَلْنَاكُمْ ُ
وَ َ
إن هذا البيان اللهي نداء إلى جميع ( الناس ) يذكرهم بوحدة الصل ،فهم جميعاً قد نسلوا من ذكر وأنثى ،هما آدم وزوجه حواء ،
باعتبارهما أول من تألقت فيه صفات ( النسان ) من سللت البشر ،ول إلتفات إلى ماسبقهما من السللت والجيال ،فهما في الواقع
المنبع الذي تدفقت منه جماعات ( الناس ) على هذه الرض ،من بني آدم ..أي :من ظهره ،وقد جعلهم ال شعوبًا وقبائل ،فهم أصل
واحد ،ووجود متنوع ،وعليهم -وقد أدركوا هذه الحقيقة -أن يتعارفوا بحكم ما بينهم من قرابة ،فل فضل لحد منهم على غيره من
شركائه في الصل بأي اعتبار مادي ،وإنما يتفاضلون عند ال بالتزامهم لوامره ،واجتنابهم لمحارمه ،وطاعتهم المطلقة له ،
المعصية ،التي حرّمت على أبويهم في الجنة ،وهي وبعبارة أوضح ، :بأل يأكلوا من الشجرة التي حرمها عليهم ،شجرة
محرمة عليهم إلى أن يرث ال الرض ومن عليها .
وقد جاءت في القرآن كلمة أعمّ من :البشر والنسان ،وهي كلمة ( النام ) ،وتعني كل مخلوق على ظهر الرض ،عاقلً أو غير
لْنَامِ - }} 10سورة الرحمن : .الجن
ض َعهَا لِ َ
ض وَ َ
عاقل ،وإن كان المفسرون يرون أن الكلمة تعني في قوله تعالى {{ وَالَْرْ َ
والنس ،وهما الثقلن المخاطبان ،كما هو وارد في هذه السورة المدنية .
وجاء أيضاً في سورة ( البينة ) ،وهي سورة مدنية ،وهي السورة الحادية بعد المائة نزولً -إطلق لفظة ( البرية ) على ( الخلق ) ،
والجمع :برايا ،قال ال سبحانه وتعالى في وصف الكافرين والمشركين ُ {{ :أوَْل ِئكَ ُهمْ شَرّ ا ْلبَ ِريّةِ - }} 6البينة ، .وقال في وصف
خيْرُ ا ْلبَرِيّةِ - }} 7البينة .
المؤمنين ُ {{ :أ ْوَل ِئكَ هُمْ َ
ونستطيع أن نقرر مع علماء النسان ( النثروبولوجيين ) أن الرض عرفت هذا الخلق الذي ظهر على سطحها منذ مليين السنين ،
تختلف في تقديرات العلم باختلف عمر الحافير ( الحفريات ) ،ونتائج التحليلت العلمية .وقد أطلق العلماء على هذا المخلوق خطأ أو
تجاوزاً لقب ( :إنسان ) ،فقالوا :إنسان بكين ،أو إنسان جاوة ،أو إنسان كينيا ،أو ما سوى ذلك من الطلقات التي تعني مراحل
تكوين ( البشر ) بإطلق القرآن ،واستخدام كلمة ( إنسان ) في وصف هؤلء ليس إل على سبيل التوسيع ،كما استخدمت كلمة ( بشر )
للدللة على معنى ( النسان ) توسعاً أيضاً ،وإل فاللفظ الدقيق بلغة القرآن ،والذي ينبغي أن يستخدم في تسمية تلك المخلوقات العتيقة
التي تدل عليها الحافير -هو ( البشر ) ،فواجب أن يقال :بشر بكين ،وبشر جاوة ،وبشر كينيا ،وبشر النياندارتال ..ألخ .
أما ( النسان ) فل يطلق بمفهوم القرآن إل على ذلك المخلوق المكلف بالتوحيد والعبادة ل غير ،وهو الذي يبدأ بوجود آدم عليه السلم ،
وآدم -على هذا -هو ( أبو النسان ) ،وليس ( أبو البشر ) ،ول علقة بين آدم والبشر الذين بادوا قبله ،تمهيداً لظهور ذلك النسل
الدمي الجديد .
اللهم إل تلك العلقة العامة أو التذكارية ،باعتباره من نسلهم .
ولمر ما وجدنا أن القرآن ل يخاطب البشر ..بل يخاطب النسان ،والتكليف الديني منوط بصفة ( النسانية ) ،ل بصفة ( البشرية ) ،
فلم يعد للبشر القديم وجود منذ ظهر آدم عليه السلم ،وتناسلت ذريته ،وورثت الرض وما عليها .
ولمر ما أيضًا وجدنا أن كلمة ( البشر ) جامدة ل تتصرف ،اللهم إل بالتثنية والجمع في قليل الستعمال ،على حين أن كلمة ( إنسان )
متصرفة مرنة ،وردت في القرآن بصور مختلفة ،وهي مفرد ،جمعه :أناسين ،وأناسي ،وقد استعمل مصغراً فقيل :أنيسان ،
والنس :اسم جماعة الناس ،والجمع أناس ،والواحد إنسي .
والناس :اسم جمع من النوس ،وهو الحركة ..مفرده :إنسان من غير لفظه ،ويقال للمرأة إنسان ،ول يقال :إنسانة ،وإن شاعت على
ألسنة العامة ،وكل ذلك أكسب الكلمة مرونة في الستعمال .
وليس يبعد أن نفترض أن الخالق سبحانه -وقد مضت مشيئته بتفرد آدم وذريته بالسيادة على الرض ،والنهوض بأمر الدين ،وإقامة
سبْحانه فناءَ كل البشر ،من غير ولد آدم ،وذلك بعد عزل السللة الجديدة المنتقاة في الجنة ،وبدأ
التكاليف ،وفي مقدمتها التوحيد -قَدّرَ ُ
الصراع بعد أن أخليت ساحته من العناصر الطفيلية التي لم يعد لها دور ..بل التي انتهى دورها ،ليبدأ على الرض دور جديد ..لكن ،
كيف بدأ هذا الدور ؟ ..أو كيف استهل ذلكم العهد ؟
ذلك ما ل سبيل إلى تصويره إل من خلل الكلمات المجردة ،ول دور أيضاً للخيال في رسم صورته إل من خلل اليمان المطلق بعالم
الغيب ،فذلكم مشهد غيبي تم قبل الزمان النساني بزمان إلهي ،حين صدر أمر بأن يكون الكون ..فكان ..كان كل ماكان ،وكل
غيْرَ الَ ْرضِ
مايكون أو سيكون على طول الزمان ،وبعد أن ينتهي هذا الزمان ،فيبدأ للوجود تقويم زمني آخر {{ َيوْمَ ُتبَدّلُ الَرْضُ َ
سمَاوَاتُ َوبَرَزُواْ لّ ا ْلوَاحِدِ ا ْل َقهّارِ - }} 48سورة ابراهيم .
وَال ّ
حينذاك أمر ال سبحانه كل الذراري التي قدر أن تخرج من صلب آدم ،وأصلب بنيه -أمرها أن تخرج على ساحة الغيب ،وأن تمثل
ل َيعْلَ ُم مَنْ خََلقَ - }} 14 ...الملك ، .و
بين يديه ،كانت أنذاك مجرد ذرات ل يحصيها ول يحصرها حد ،إل علم ال وحده َ {{ ..أ َ
عدّهُمْ عَدّا َ 94وكُلّهُ ْم آتِي ِه َيوْمَ ا ْل ِقيَامَةِ فَ ْردًا - }} 95مريم .
حصَاهُ ْم وَ َ
{{ َلقَدْ أَ ْ
،وأسرعت الذرات بالمثول أمام الجلل اللهي ،فألقى ال -سبحانه -على المشهد الهائل سؤالً واحداً هو الذي من أجله كانت الدعوة
إلى الحضور :
ت بِرَّبكُمْ ؟
س َ
قال تعالى :أَلَ ْ
ل َو ُكنّا وقال ال مبيناً الحكمة من هذا الحشد {{ :أَن َتقُولُو ْا يَوْمَ ا ْل ِقيَامَةِ ِإنّا ُكنّا عَنْ َهذَا غَافِلِينَ َ 172أوْ َتقُولُواْ ِإّنمَا أَشْ َر َ
ك آبَاؤُنَا مِن َقبْ ُ
ذُ ّريّ ًة مّن َبعْدِهِمْ أَ َفُتهِْل ُكنَا ِبمَا َفعَلَ ا ْل ُم ْبطِلُونَ -}} 173العراف .
،إن النص القرآني يروي حكاية هذا المشهد الكوني الرهيب ،وهو يطلب من النبي صلى ال عليه وسلم أن يذكر المؤمنين به {{ َوإِذْ
سهِمْ - }} 172 ...العراف .
علَى أَنفُ ِ
شهَدَهُمْ َ
ظهُورِهِمْ ذُ ّرّيتَهُ ْم وَأَ ْ
ك مِن َبنِي آدَ َم مِن ُ
أَخَذَ َرّب َ
،ول ريب أن سجل كل آدمي ،أو كتابه الذي سيقدم إليه يوم القيامة -سوف يكون مستهلً بصورة من هذا المشهد ..تبين موقعه بين من
حضروا هذا اللقاء ،وتثبت وجوده ،وشهادته على نفسه بالقرار بعبوديته ل :إلهًا ،ورباً ،وحاكماً ،وستكون هذه الصورة هي
سكَ ا ْل َيوْمَ عََل ْيكَ حَسِيبًا - }} 14السراء .
المرجع الول أو المستند الرئيسي في محاكمة كل آدمي يوم القيامة {{ اقْرَ ْأ َكتَا َبكَ َكفَى بِ َنفْ ِ
هكذا بدأ العهد الدمي في ملحمة الخليقة ،وهكذا كان الذين وتكاليفه نقطة البداية في رحلة النسان نحو الموعد ،موعد اللقاء مع ال ،
فهو يسير بين جدارين متوازيين ،جدار المسئولية الجماعية في الدنيا ..وجدار المسئولية الفردية في الخرة ..وبهذا اختلف النسان
عن البشر .
إن الدين يتضمن تكاليف تخص ( النسان ) باعتباره فردًا ،كما تخص ( الناس ) باعتبارهم مجتمعاً ،وليس هذا التفريق بين الفرد
والمجتمع بوارد في استعمال كلمة ( البشر ) ،ففي إطار ( البشرية ) ل تفريق بين المستويات أو السماء ،إذا افترضنا أن البشر عرفوا
شيئاً اسمه ( اللغة ) ،وهو أمر غير بعيد ،لنهم كانوا مجتمعاً حيوانياً ،كل فرد فيه ككل فرد ،وكل فرد بمثابة أية جماعة ،ل اعتبار
للفروق الفردية .
لقد كان ( البشر ) خلل الحقاب والعهود المتطاولة مجرد مخلوقات متحركة ،حيوانية السلوك ،ولكنها تزداد في كل مرحلة تعديلً في
سلوكها ،ونضجًا في خبرتها ،وتلوناً في طرائق التفاهم اللغوي فيما بينها ،وربما كان هذا هو المقصود بسؤال الملئكة للرب -جل
وعل َ {{ -أتَجْعَلُ فِيهَا مَن ُيفْسِدُ فِيهَا َويَسْ ِفكُ ال ّدمَاء }} -البقرة ، ..كان هذا هو الواقع المشاهد ،فتعجب الملئكة من استخلف هؤلء
المفسدين المتوحشين !!
س َنةٌ كالسّنة ،وألف سنة ،أو حتى مليون سنة -كيوم واحد ،
وطبيعي أن ندرك كذلك أن الزمن في هذا الحال لم يكن له معنى أيضاً ،ال ّ
لمعنى لبدايته أو نهايته ،ول وظيفة له وقد عدم موضوعه ،ومن المعروف أن بعض الكائنات التي عاشت في الكهوف المظلمة فقدت
قدرتها على البصار ،إذ كانت الحياة بالنسبة إليها ظلم في ظلم .
وقد عشنا في حياتنا تجربة تقرب إلينا هذا المعنى ،حيث ساقتنا الظروف التعيسة إلى محبس ( زنزانة ) في العتقال السياسي ( عام
.. ) 1955كانت زنزانة مظلمة ..لم نكن ندري فيها مرور اليام ،ول حدود الشهور ،فقد تساوى الليل والنهار ،وضاعت المعالم
والثار .
وبين أيدينا شواهد قرآنية على صواب ما نذهب إليه :ذلك أن قصة الخلق التي جاءت في سورة ( ص ) تعطينا الشارة الولى إلى
الدليل على تمادي العهود التي عاشتها البشرية في ظلم الزمن السحيق ،أو في زنزانة َذيّاك الزمن ..يقول ال تعالى {{ :إِذْ قَالَ َرّبكَ
سوّ ْيتُ ُه َو َنفَخْتُ فِي ِه مِن رّوحِي َف َقعُوا َلهُ سَاجِدِينَ - }} 72سورة ص ، .وقد ذهب أكثر
ق بَشَرًا مِن طِينٍ 71فَإِذَا َ
ل ِئكَةِ ِإنّي خَاِل ٌ
لِ ْلمَ َ
المفسرين إلى أن هذا ( البشر ) هو ( آدم ) عليه السلم ،وأن ال سبحانه وتعالى كلّف بعض ملئكته أن يجمعوا له من تراب الرض ،
من جميع أخلطه وألوانه ،كما ذكرت الروايات الواردة في الطبري ،نقلً عن السرائيليات ،ونقل عنه من جاء بعده ،وأن ال خلق
هذا البشر ،وسواه ،ونفخ فيه من روحه ،فكان آدم الذي أسجدت له الملئكة .
والواقع الذي عبّرت عنه اليتان -في نظرنا -هو أن ال سبحانه خلق ( أو أراد خلق ) البشر من الطين ،وأخبر ملئكته بهذا الخبر ،أو
ق بَشَراً }} ،وهذه هي المرحلة الولى في بداية الخلق اللهي .وكلمة ( البشر ) هنا ل تعني فرداً واحداً ، الرادة العلوية ِ {{ :إنّي خَال ٌ
بل هي -بحسب الصل -تطلق على أكثر من واحد ،لدللتها على الجنس ،وقد حدد القرآن الصورة الولى لخلق الكائنات بأنها خلقت
ض َنبَاتًا - }} 17نوح
خَلقْنَاكُمْ أَ ْزوَاجًا - }} 8النبأ ، .وذلك إنطلقاً من الرض {{ وَالُّ أَن َبتَكُم مّنَ الَْرْ ِ أزواجاً ،فقال سبحانه {{ وَ َ
، .فمن الرض كان انطلق الحياة في شكل أزواج متنوعات :
ن ا ْثنَيْنِ – }} 3 ...الرعد
جيْ ِ جيْنِ َلعَّلكُ ْم تَ َذكّرُونَ - }} 49الذاريات َ {{ .ومِن كُلّ الّثمَرَاتِ َ
جعَلَ فِيهَا َزوْ َ خَلقْنَا َزوْ َ
يءٍ َ
{{ َومِن كُلّ شَ ْ
البرهان القوي
ختُ فِي ِه مِن رّوحِي }} وهي آية مصدرة بأداة ظرفية زمانية هي ( إذا ) ،س ّويْتُ ُه َو َنفَ ْ
وتأتي بعد ذلك مرحلتان في قوله تعالى {{ :فَِإذَا َ
وهي ظَرف لما يستقبل من الزمان ،ويمكن أن يكون هذا الزمان لحظة ،كما يمكن أن يكون ضهرًا طويلً ،والقدرة التي تنجز هذا
الخلق هي القدرة التي تقول للشيء ( كن فيكون ) ،أي :القدرة ال ُكّنيّة التي ل يحكمها الزمان ول المكان ..بل هي التي خلقت الزمان
والمكان ،ونحسب أن استخدام ( إذا ) في هذا السياق ليبعد عن أن يراد به مليين السنين بحساب الزمن الدنيوي ،وإن كانت هذه
المليين ل تعدو أن تكون أيامًا معدودة في حساب الزمن اللهي ،كما أنها مرت مجرد كتلة في ظلم دائم ،لم تلمع خلله أشعة العقل ،
ول أضواء المعرفة .
وقد استخدمت ( إذا ) في القرآن الكريم للدللة على المستقبل القريب والمستقبل البعيد سواءً ،فقوله تعالى {{ :وَإِذَا قِيلَ َلهُمُ ا ْر َكعُوا لَ
يَرْ َكعُونَ - }} 48المرسلت ، .ل تذيد فيه مساحة ( إذا ) الزمنية على لحظة ينطق فيها المر ( :أركعوا ) ،ولكن قوله تعالى :
حتّىَ إِذَا أَخَ َذتِ الَرْضُ زُخْرُ َفهَا وَا ّزّينَتْ - }} 24 ...يونس ، .تمتد فيه المساحة إلى زمان غير معلوم ،وكذلك في اليات : {{ َ
سمَاء ان َفطَ َرتْ - }} 1النفطار ، .و {{ فَإِذَا ُنفِخَ فِي الصّورِ َنفْخَ ٌة وَا ِ
ح َدةٌ س كُوّ َرتْ - }} 1التكوير ، .و {{ ِإذَا ال ّ ش ْم ُ
{{ إِذَا ال ّ
- }} 13الحاقة .. .تتراحب في هذه اليات مساحة الظرف إلى ما شاء ال ،وهو استخدام قرآني مستقبلي ..تحسب أبعاده بالسنين
المعروفة لنا ،فأما إذا عبرت عن المستقبل في داخل الماضي السحيق فتلكم هي المشكلة التي يستحيل حسابها ،ومن هذا القبيل تأتي
ختُ فِي ِه مِن رّوحِي }} ظرفًا زمنياً تعبيراً عن إرادة أزلية تمضي في تحققها عبر مليين س ّويْتُ ُه َو َنفَ ْ
( إذا ) في قوله تعالى َ {{ :فإِذَا َ
السنين ،تسوي ذلك المخلوق ،وهو جنس ( البشر ) ،ثم تذوده بنفخة ال الروحية ليكون عندئذ ( النسان ) الذي تسجد له الملئكة ،
النسان الذي يدخل بوابة الزمان ،ويبدأ حضوره وحضارته .
ومعنى ذلك أن خلق النسان تم عبر ثلث مراحل هائلة ،هي ( الخلق ،والتسوية ،والنفخ ) ،ومن السذاجة أن نفسر هذا النفخ بأنه بث
الروح في الجسد ،فقد حدث ذلك في مرحلة ( الخلق ) الولى ،التي أحالت التراب أو الطين إلى مخلوق ظاهر ( بشر ) يتحرك على
الرض بالروح الحيواني ،كما تتحرك سائر الكائنات من حشر ،وطير وحيوان ،ثم تناولت القدرة ذلك المخلوق في المرحلة الثانية
( بالتسوية ) أو ما يمكن تشبيهه بهندسة البناء وتجميله ،وهي مرحلة التعديل المادي أو الظاهري ،وقد استغرقت مليين السنين ،وال
أعلم بتفاصيلها ،ثم جاءت المرحلة الثالثة للهندسة الداخلية ،وهي المتمثلة في تذويد المخلوق السوي بالملكات والقدرات العليا ،التي
جوهرها ( العقل ) ،والحياة الجتماعية ثمرة العقل ،واللغة وسيلة التصال بين أفراد المجتمع من العقلء ،وبذلك اكتمل بناء ( النسان
) ،فكان ( آدم ) هو أول ( إنسان ) ،وطليعة سللة التكليف بتوحيد ال وعبادته .
ومما يستدل به على هذه المراحل وتكاملها استعمال القرآن لداة التراخي ( ثم ) في ربط أجزاء الجملة في سورة السجدة ،مثلً في قوله
سوّا ُه َونَفَخَ فِي ِه مِن رّوحِهِ - }} 9 ...السجدة ، .
ل نَسْلَ ُه مِن سُلََل ٍة مّن مّاء ّمهِينٍ 8ثُمّ َ ن مِن طِينٍ 7ثُمّ َ
جعَ َ تعالى َ {{ :وبَدَأَ خَ ْلقَ الِْنسَا ِ
والداة ( ثم ) للترتيب مع التراخي ،وكأن استعمالها في هذا السياق ترجمة لمفهوم الزمان المتطاول عبر عنه الظرف ( إذا ) ،في
مقابل استخدام الفاء أو الواو في ربط أجزاء أخرى من اليات ،تعبيراً عن التعقيب أو مطلق الجمع ( التعقيب تعبير عن تتابع الحداث ،
ل ،ومطلق الجمع هو وظيفة ( الواو ) فهي ل بعضها في إثر بعض دون فاصل طويل من الزمن ،وهو وظيفة ( الفاء ) العاطفة أص ً
تفيد ترتيباً ول تعقيبًا ) .
وتذكر الية بعد ذلك عمليات تخليق الجنين ،وهي عمليات متتابعة ل يفصل بينها سوى أشهر أو أيام معدودات ..زمن قصير نسبياً ..
بين العلقة والمضغة ،وبين المضغة والعظام ،وبين العظام واللحم ،وذلك كله معطوف بالفاء ،ويعود السياق بعد ذلك إلى استخدام ( ثم
سنُ الْخَاِلقِينَ }} ،والمعنى
) للتعبير عن طول الفترة الزمنية بين ما سبق وما سوف يأتي بعد {{ :ثُمّ أَنشَ ْأنَاهُ خَ ْلقًا آخَرَ َف َتبَا َركَ الُّ أَحْ َ
التاريخي لنشاء هذا الخلق هو النقلة من البشر إلى النسان ،وهو خلق آخر فعلً ،إلى جانب احتمال أن يكون المراد هو المولود الجديد
.
ويمضي السياق ملتزماً نفس اليقاع البطيء {{ :ثُمّ ِإّنكُمْ َبعْدَ ذَِلكَ َلمَّيتُونَ 15ثُمّ ِإّنكُمْ َيوْمَ ا ْلقِيَامَ ِة ُتبْ َعثُونَ - }} 16المؤمنون ، .لقد
عبرت ( ثم ) في اليتين الخيرتين عن زمن طويل ،هو في الية الولى ( عمر النسان ) الذي يعيشه حتى الموت ،الذي يضع نهاية
للحياة المقدورة لذلك الكائن ،وهو في الية الثانية مدة ما بيننا وبين القيامة والبعث .
صوّ ْرنَاكُمْ ثُمّ ُق ْلنَا لِ ْلمَلئِكَةِ اسْجُدُواْ لدَمَ - }} 11 ...العراف ، .وهي آية
خَلقْنَاكُ ْم ثُمّ َ
ولنقرأ أخيراً آية العراف ،قوله تعالى {{ :وََلقَدْ َ
تعبر عن مرحلتين ،هما ( :الخلق والتصوير ) ،وبينهما فيما نتصور آماد هائلة ،تعبر عنها الداة ( ثم ) ،ويعطف القرآن خطاب ال
سبحانه للملئكة باستخدام ( ثم ) ،وهو في رأينا تعبير عن أن المر بالسجود لم يكن بعد مرحلة التصوير مباشرة ،وهو مايعني مرحلة
التسوية ..بل جاءت قبله مرحلة ( النفخ من روح ال ) ،وقد أومأ اليها استخدا ُم ( ثم ) في صدر الجملة {{ ثُمّ ُق ْلنَا لِ ْلمَلئِكَةِ اسْجُدُواْ
لدَمَ }} ،دون أن يصرح بها ،لنه ل سجود إل لمن زود بروح ال .
وبرغم ذلك قد يعبر النص القرآني عما شأنه التراخي -بالفاء ،فهو يضمنها معنى ( ثم ) ،أو بتعبير أدق :يوظفها في موقع ( ثم ) ،كما
سوّاكَ َفعَدََلكَ 7فِي َأيّ صُو َر ٍة مّا شَاء َر ّك َبكَ - }} 8
ك بِ َرّبكَ ا ْلكَرِيمِ 6الّذِي خََل َقكَ فَ َ
ن مَا غَ ّر َ
جاء في قوله تعالى {{ :يَا َأيّهَا الِْنسَا ُ
النفطار ، .وقد يسوغ هذا التضمين أن المخاطب -وهو النسان -ل يرى في ذاته سوى مخلوق مكتمل ،خلقًا وتسوية ،وعدلً ،فهو
يرى إندماج هذه المراحل في ذاته ،ولذلك لق أن يضمن ( الفاء ) معنى ( ثم ) المتراخية .
} .. وقد تفسر هذه المراحل في سورة النفطار على أنها خاصة بأحوال الجنين في بطن أمه ،كما يقول المام القرطبي { :خََل َقكَ
أي :قدر خَ ْل َقكَ من نطفة { ،فسوّاك } :في بطن أمك ،وجعل لك يدين ورجلين وعينين وسائر أعضائك { ،فعـدلك } ..أي :
خفَـفَـاً ،أي :أمالك وصرفك إلى أي صورةجعلك معتدلً سوي الخلق ..وقرأ الكوفيون :عاصم وحمزة والكسائي َ { :فعَـدَلَكَ } ..م َ
شاء ،إما حسناً وإما قبيحاً ،وإما طويلً وإما قصيراً ) .
ولسنا مع هذا التــوجيه ،مع أنه يحل مشكلة التراخي مع الفاء ،لن السلوب القرآني درج على استخدام كلمات الخلق والتسوية والنفخ
-خاصة بأحوال البشر منذ وجدوا ،إلى أن صار البشر سوياً ..أي :إنساناً اصطفاه ال ،وناط به تحقيق رسالة العبودية ل رب
العالمين .
ترى ،كم من الجيال البشرية لزم لعمليتي التسوية ،والنفخ ،حتى كان آدم ذلك النسان الكامل الناطق ؟!
ل نبالغ إذا قلنا :إن ذلك اقتضى مئات اللوف من الجيال ،وقد سجل كل جيل بصمته المتميزة ،على طريق الكتمال ،ول سيما في
مجال العقل ،واللسان ،والجمال .
برهان التكرار
وضح لنا مما سبق أن ( النسان ) هو المقصود من التكليف الديني ،وأن ( البشر ) وهم طلئع الخليقة ،ل مكان لهم في عالمنا ،لنهم
بادوا ،ودرست آثارهم ،فلم تبق منهم سوى أحاديث وأحافير تدل على أنهم كانوا موجودين ،منذ عصور جيواوجية متقادمة ،فلما
قضت إرادة ال بإجاد هذا الخلق النساني -قدر خلق آدم ،وهو مستوى خاص جداً من ( البشر ) ،مزود بأدوات كاملة من العقل واللغة
والعاطفة ،وملكات الدراك والضمير ،والرادة ،والستعدادات الفطرية والغريزية ،للتفرقة بين الخير والشر ،وكل ذلك ثمرة من
ثمرات النفخة اللهية التي أتم ال بها خلقة ،وهيأه ليعيش في ضوء المعايير الدينية التي أرسل بها النبياء ،منذ آدم إلى محمد عليهم
جميعاً أفضل الصلة والسلم ،وذلك قوله تعالى {{ :ص }} -آل عمران .
ومقتضى ذلك أن النوع البشري قد انقرض ليحل محله رتبة أرقى هي رتبة ( النسان ) باعتباره الطور المحسن من أطوار البشر ،
والجيل المختار للمسيرة الجديدة على طريق التوحيد ومعرفة ال ،ثم أطلق على أفراد هذه الرتبة :بنو آدم .
ولقد نجد في القرآن دليلً قاطعاً على صحة هذا المذهب ،حين نجده محتفيًا بالنسان متابعاً لوصف كل أحواله ،في ثلثة وثلثين
موضعاً ،على حين أنه لم يذكر ( البشر ) بوصف واحد ،وهو سلوك واضح الدللة على صدق التفرقة بين المستويين .
وللنظر الن إلى نصوص القرآن الواردة بشأن النسان ،بحسب ورودها في ترتيب المصحف :
خصِي ٌم مّبِينٌ - }} 77يس . َ {{ -16أوَلَ ْم يَرَ الِْنسَانُ َأنّا خََل ْقنَاهُ مِن ّن ْ
طفَةٍ فَإِذَا ُهوَ َ
سبِيلِهِ
ل وَجَعَلَ لِّ أَندَادًا ّليُضِلّ عَن َ
ن يَدْعُو إَِليْ ِه مِن َقبْ ُ
ي مَا كَا َ {{ -17وَِإذَا َمسّ الِْنسَانَ ضُرّ َدعَا َربّ ُه مُنِيبًا إَِليْ ِه ثُمّ إِذَا َ
خوّلَ ُه ِن ْعمَ ًة مّنْ ُه نَسِ َ
- }} 8 ..الزمر .
ض وَنَأى بِجَا ِنبِ ِه وَإِذَا مَسّهُ الشّرّ فَذُو ُدعَاء عَرِيضٍ - }} 51فصلت . {{ -20وَِإذَا َأ ْن َعمْنَا َ
علَى الِْنسَانِ أَعْ َر َ
عبَا ِدهِ جُ ْزءًا إِنّ الِْنسَانَ َل َكفُورٌ ّمبِينٌ - }} 15الزخرف . {{ -22وَ َ
جعَلُوا َل ُه مِنْ ِ
{{ -28يَا َأّيهَا الِْنسَانُ ِإّنكَ كَا ِدحٌ ِإلَى َرّبكَ كَدْحًا َفمُلَقِيهِ - }} 6النشقاق .
هذه هي المواضع التي ذكر فيها ( النسان ) في القرآن الكريم بصفات مختلفة ،بين الخير والشر ،والقوة والضعف ،واليمان والكفر ،
والحكمة والحمق ،والعلم والجهل ،والطهر والدنس ،والعرفان والجحود ،وأخيرًا فهو مستهدف دائماً لعداوة الشيطان ..هذا كله عن
النسان .
على حين أن القرآن كله لم يذكر البشر بشيء من هذا أو غيره ،مع أن كلمة ( البشر ) وردت في القرآن مفردة ثلثين مرة ،ثم ذكرت
مثناة مرة واحدة ،أما ( النسان ) فقد ورد لفظه في القرآن الكريم اثنتين وستين مرة ،بالضافة إلى ورود لفظة ( النس ) سبع عشرة
مرة ،وجاءت لفظة ( أناس ) سبع مرات ،ولفظة ( الناس ) مائتين وأربعاً وثلثين مرة ،ولفظة ( أناسي ) مرة واحدة ،فمجموع ورود
لفظ النسان وأمثاله ثلثمائة وإحدى وعشرين مرة .
سبق القول أن مجموع ورود لفظ النسان وأمثاله -ثلثمائة وإحدى وعشرين مرة ...
فإذا علمنا أن ( الناس ) قد خوطبوا في القرآن الكريم بلقب ( بني آدم ) ،وأن ذلك قد جاء سبع مرات في القرآن ،إذا علمنا ذلك كله ،
تأكد لدينا أن ( النسان ) هو المرحلة الخيرة والحاسمة في تاريخ الحياة على الرض ،وأن وجود ( البشر ) إنما كان بمثابة المراحل
التحضيرية لذلكم المخلوق الذي قضى على الرض مليين السنين بين عوامل التسوية ،وتحصيل خواص الجمال ،والكمال ،بروح
من ال الذي الذي قدر له أن يكون سيد الكون ،حتى صار جديراً بأن يحمل أمانة ال على هذه الرض ،وينفرد بذلك من دون السموات
ش َفقْنَ
حمِ ْلنَهَا وَأَ ْ
جبَالِ فََأبَيْنَ أَن يَ ْ
ض وَالْ ِ
ت وَالَْرْ ِ
سمَاوَا ِ
علَى ال ّ
لْمَانَةَ َ
ضنَا ا َ
والرض والجبال جميعاً ،فكان قوله تعالى بشأنه ِ {{ :إنّا عَ َر ْ
جهُولً - }} 72الحزاب . ن ظَلُومًا َ
مِ ْنهَا وَحَمََلهَا الِْنسَانُ ِإنّ ُه كَا َ
لقد خفيت هذه التفرقة على أجيال العلماء من قبل ،سواء ذلك القدماء والمحدثون ،بعد أن طغى طوفان السرائيليات ،وأصبحت
المصدر الوحيد للحديث عن العالم القديم ،والخلق ،حتى تصور العلمانيون وأحلسهم وأشباههم أن الدين مناقض للعلم في هذه القضية
الخطيرة ،وأن الدين ل يملك سوى بعض القصص السطوري ،وبعض التصورات الخرافية ،وأن الدين بذلك يقف أمام حائط
مسدود ،يجب تجاوزه للحاق بركب العلم والتقدم .
وها نحن أولء نجد الدين في نصوصه الحقه ( القرآن ) يسبق العلم سبقاً بعيداً ،ويحدد هوية الحياة على الرض تحديدًا ل يتصادم مع
العقل والرؤية العلمية اللحقة ..بل إنه يتوافق مع الحقائق العلمية ،ويدعو إلى العتماد عليها في فهم قضية ( بدء الخليقة ) ،كما سبق
لّ يُنشِئُ النّشَْأةَ الْخِ َرةَ - }} 20 ...
خ ْلقَ ثُمّ ا ُ
أن قرأنا ذلك في آية سورة العنكبوت {{ :قُلْ سِيرُوا فِي الَْرْضِ فَانظُرُوا َكيْفَ بَ َدأَ الْ َ
العنكبوت ، .وبذلك يكون العلم بياناً لنصوص القرآن ،فيما توصل إليه من حقائق ،كما أنه في طريقه إلى موافقة القرآن في كل ما قرر
من نظريات تحتاج إلى مزيد من البحث والتحقيق .
هل آن الوان لنجيب عن السؤال الذي طرحناه من قبل ،وهو :هل كان وجود هذه الخليقة البشرية شيئاً واحداً في الرض ..أرادته
القدرة اللهية ،وتابعته في مراحله المتطاولة ،وسارت به حتى انتهى إلى آدم عليه السلم ؟ ..أم كان وجود الخليقة في صورة
مجموعة من الشكال المتنوعة أو المتقاطرة على الساحة الرضية عبر الوجود الزمني الهائل ،وكان آدم أحد هذه الشياء ؟
إننا نبادر إلى نفي الشق الثاني من السؤال نفيًا قاطعًا لسباب تفرض نفسها :أن البشرية تعني في المفهوم الديني القرآني جنساً واحداً ،
ل عدة أجناس مقتبس بعضها من بعض على ما قررته النظرية الداروينية ..التي أسقطها العلماء في الشرق والغرب على السواء .
وقد تميزت هذه الخليقة بصفات ثابتة في كل المراحل ..مشتركة بين أفرادها وأجيالها ..مختلفة عما عرفت به أجناس الخلئق الخرى
علَى َبطْنِ ِه َو ِمنْهُم مّن
خَلقَ كُلّ دَابّ ٍة مِن مّاء َفمِ ْنهُم مّن يَمْشِي َ
من خصائص وميزات وصفات ،وهو ما يعنيه قول ال تعالى {{ :وَالُّ َ
ن َو ِمنْهُم مّن َيمْشِي عَلَى أَ ْربَعٍ }} -النور ، .والعلم يؤكد صدق هذه الية بتقريره أن البشر منذ وجدوا كانوا يسيرون علَى رِجَْليْ ِ
يَمْشِي َ
منتصبي القامة ،بعكس الجناس الخرى ،والختلف في هذه الخاصية يعني تعدد أجناس الخلق ،وهو الحقيقة المقررة حتى الن فيما
نشاهد من أصناف الخلق ،ما َدقّ منها وما جَلّ .
ن طِين }} ،وأن هذا البشر سوف يتعرض للتسوية والتعديل في ق بَشَرًا مِ ّ
ثم إن ال سبحانه وتعالى أخبر الملئكة أزلً أنه {{ خَـاِل ٌ
أطوار نضجه ،حتى يكتمل ،وحينئذ يتعين على الملئكة أن تسجد له ،فلو تعددت النواع الخلقية لما تقررت حكمة الخالق في أمره
بالسجود لهذا المخلوق بالذات ،دون غيره من أجناس الخلق الخرى ،فهو متعين منذ كان طيناً ،لم يخف أمره على ملئكة الرحمن ،
وهي تتابع ما يطرأ عليه من تغير وتنام عبر الدهور ،حتى أصبح بشرًا سوياً ..أي :إنسانا متكاملً ،هو آدم عليه السلم
ج َمعُونَ ِ 73إلّ ِإبْلِيسَ - }} 74 ...ص . {{ فَسَجَدَ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة كُّلهُمْ أَ ْ
لقد كانت ملحمة هائلة !! تلك التي استغرقها خلق البشر وتسويته وتزويده بالملكات العليا التي أصبح بها ( إنسانًا ) تتألق فيه كمالت
طفَى آ َدمَ - }} 33 ...آل عمران ، .فصار آدم نبياً ،كما قال سبحانه {{ :ثُمّ
صَالنبوة ،فاختاره ال واصطفاه كما قال ِ {{ :إنّ الّ ا ْ
عَليْ ِه وَهَدَى - }} 122طه .
ج َتبَاهُ َربّهُ َفتَابَ َ
اْ
لقد استغرقت هذه الملحمة -كما سبق أن قلنا مليين السنين ،ولكنها مرت ظلماً في ظلم ،أو :
غيباً في غيب ،حتى أذن ال للصبح أن ينبلج -فأشرق النسان من سللة البشر ،واكتمل الخلق ،
وجاء آدم !!
وليس غريباً أن نتصور -بناء على هذا -أن آدم جاء مولودًا لبوين ( ذكر الشيخ رشيد رضا أن
وثنيي الهند يزعمون أن لدم أماً ،ولها في مدينتهم المقدسة -بنارس -قبر عليه قبة بجانب قبة قبره
-المنار ، . ) 308 / 8وأن حواء جاءت كذلك ،على الرغم مما سوف يلقى هذا التصور من
معارضة تلقائية ،ورفض عنيف !! وبل تفكير !!
إن هذا التصور ل يتصادم في رأينا مع حقيقة خلق النسان من طين ،ذلك أن الخلق الذي بدأ منذ مليين السنين بالجسد الطيني -كان
هدفه النهائي والوحيد خلق ( آدم ) ،وكل ما مضى من أحداث بين التاريخين -إن كان ثمة تاريخ -إنما هو وقائع بناء جسد آدم ،
سنَ ٌة استمرت
وعقله ،وروحه ،وملكاته ،وخصائصه ،وقد تم ذلك كله في غيبوبة الزمان ،حيث استوى الصفر والمليون ،فما هي إل ِ
بضعة مليين من السنين حتى استوى النسان ( ..آدم ) الذي نبت من التراب ،وانبثق من الرض ،لقد تبددت الحداث والوقائع ،ولم
يبق منها سوى الحقيقة الترابية .
وهو تصور ليس غريباً ،ول بعيداً عن الواقع الذي قرره القرآن -مثلً -عن الخرة حين قال تعالى {{ :كََأّنهُمْ َيوْ َم يَ َروْ َنهَا لَ ْم يَ ْل َبثُوا ِإ ّ
ل
جبّه كل الحداث مهما تعاظمت ،واستغرقت شيّةً َأوْ ضُحَاهَا - }} 46النازعات .. .أي :إن الزمان يكون قد انطوى ،وسقطت في ُ عَ ِ
ض َيوْمٍ فَاسْأَلْ ا ْلعَادّينَ 113قَالَ إِن ّل ِب ْثتُمْ ِإلّ قَلِيلً ّلوْ
مئات السنين ،وهو كذلك ما قرره القرآن في قوله تعالى {{ :قَالُوا َل ِبثْنَا َيوْمًا َأ ْو بَعْ َ
َأّنكُمْ كُنتُمْ َتعَْلمُونَ - }} 114المؤمنون .
وبهذا تكون الحقيقة الترابية أثبت الحقائق وأبرزها في وجود كل مخلوق يدخل في مضمون الضمائر ( أنا -ونحن -وأنت -وأنتِ -
حمَإٍ
وأنتما -وأنتم -وأنتن -وهو -وهي -وهما -وهم -وهن ) ،وخبرها جميعاً ( من تراب ) {{ :صَ ْلصَالٍ مّنْ َ
مّسْنُونٍ }}
كانت اللغة هي معجزة الخلقالتي أثمرها تزويد المخلوق البشري بالملكات العليا ،وفي قمتها :العقل ..وإذا كان البشر قد عاشوا مليين
السنين حتى تتم عملية التسوية ،والنفخ اللهي -فإن من أخطر مظاهر الكمال الخِ ْلقَي أن يدرك الفراد معنى العلقات المتبادلة فيما
بينهم ،وهي علقات ل يمكن أن تتحقق إل من خلل اللغة ،ونحن نستخدم ( اللغة ) هنا بالمفهوم العام الذي يشمل الجاذبية الجنسية ،
وهي أقدم لغة وصلت مابين طرفي النوع البشري من أول لحظة ،كما يشمل التدافع والحتكاك المادي ،والشارة والصوت المبهم ..
إلخ ،وعلى طريق النضج البشري بدأت الجوارح تصل ما بين الفرد والفرد ،وما بين الذكر والنثى ،ونحسب أن صوت الجنس كان
أقدم الصوات التي صدرت عن البشر أو صرخوا بها .
وكما بدأت وظائف الجوارح تتحدد في سلوكيات مادية ،قابلة للترقي والتطوع والتنويع ،وما أشبه البشر آنذاك -والزمان طفل لم
جكُم مّن ُبطُونِ
يتجاوز بضعة مليين من السنين -بأطفالنا الن في أيامهم الولى ،وهو ما عبرت عنه الية الكريمة {{ :وَالّ أَخْرَ َ
شكُرُونَ - }} 78النحل .
سمْ َع وَالَبْصَا َر وَالَ ْفئِ َدةَ َلعَّلكُ ْم تَ ْ
جعَلَ َلكُمُ الْ ّ
شيْئًا وَ َ
ُأ ّمهَا ِتكُ ْم لَ َتعَْلمُونَ َ
ومن المسلم به علمياً أن وجود البشر كان مسبوقًا بوجود الكائنات الخرى من الطير والحيوان في البر والبحر ،وكانت هذه تشكل عالماً
من الكائنات بأشكالها وأنواعها ،كما كان لها تأثير مباشر على الوجود البشري ،فمنها كان قوت البشر ووسائل عملهم ..بل تولى بعض
الطيور مهمة تعليم هذا المخلوق ما هو بحاجة إليه من سلوكيات ،ودور الغراب في قصة أبني آدم ذو دللة ظاهرة في هذا المجال :
سوْءةَ أَخِيهِ - }} 31 ...المائدة ، .أي :إن النسان في مطلع فجره لم يكن
ف ُيوَارِي َ
{{ َف َبعَثَ الّ غُرَابًا َيبْحَثُ فِي الَرْضِ ِليُ ِريَ ُه كَيْ َ
يدفن جثث الموتى من جنسه ،حتى شاهد -وهو في قمة مأساته -الغراب يلقنه درس الدفن ،بعدما بلغ سن الرشد ،ودخل في المرحلة
الدمية الجديدة ،ول يبعد أن نتصور أن البشر كانوا في بداية وجودهم ،وقبل رشدهم يتآكلون ويتفارسون ..أي :يأكل بعضهم بعضاً .
ولو أننا تصورنا حياة الصدام ،والصراع بين البشر وسائر أجناس الخلق -فإن ذلك يعني أن العلقات بين الموجودات والبشر كانت
هي القوت اليومي ،بوجهيها :السلبي واليجابي .
وقد كانت هذه العلقات تتنامى دائماً ،كمًا وكيفاً ، ،وهي تحدث بصماتها ،وتحفر في العقل البشري آثارها ،وكان البشر قد مـيزوا
بالفـؤاد ،أي :بالعقل ،وهو ما يعني أنهم كانوا قادرين على الحتفاظ بالتجربة في ذاكرتهم ،ثم صاروا يفيدون من رصيد التجارب
المتراكمة ،في الحركة ،وفي الصوت .
لقد كانت للطير أو للحيوان طريقته التي ل تتغير في التعامل مع جنسه ،وغير جنسه ،ولكنه يأتيمن ذلك ما يوصف بالتلقائية البدية ،
والثبات الغريزي المتواصل عبر مليين السنين ،وإن حدث تغير أحياناً في الشكل ،أما رصيد التجارب البشرية فقد كان في نمو دائم ،
وتغير مستمر ،رغبة في تحسين الداء ،وتمكين الجنس البشري من السيطرة على سائر الجناس ،ومن هنا كان التوجه إلى استخدام
الدوات الحجرية لمضاعفة القدرة ،وتأمين السيطرة ..هذا من جانب الحركة .
فأما من جانب الصوت فقد كان أغزر مادةً ،وأكثر حدوثاً ،إذ كانت الضوضاء -وما زالت -هي غذاء الحياة وقوتها ،ودليلها ،سواء
صدرت الضوضاء عن البشر ،أم صدرت عن المادة المتعلقة بالحركة ،وليس بوسع مخلوق أن يأتي بحركة إل مقترنة بصوت ،
ينبعث من أثر إحتكاك المادة بعضها ببعض ،أو يصدر عن النسان ،وهو يتعامل معها ،ثم يتحول الصوت إلى مقطع ،ثم إلى كلمة ،
ثم إلى درجات من التركيب المتنوع ،ثم تتطور هذه الحالة التي اقترن فيها الصوت بالحركة ،ليصدر الصوت مستقلً عن الحركة ،وقد
يكون في هذا الحال مجرد صوت ،وقد يرتبط بهدف حيوي ،أو تعبير عاطفي ،وهكذا نشأت اللغة البشرية ،مع التجاوز البالغ عن
تفاصيل كثيرة ..كثيرة جدًا تتعلق بأوعية الزمان والمكان ،واحتمالت الفعل والترك ،واليجاب والسلب ،والعطاء والمنع ،والذكاء
والغباء ،والتناقض والستواء ..إلخ .
ول شك أن البشر كانوا محوطين بأصوات أخرى تصدر عن الطيور والحيوانات ،ولهم من دون الخلئق جميعاً قدرة على تقليد
الصوات ،ونادر من الطيور ما عرف بتقليد الصوات ( الببغاء ) ،أما النسان فقد لذ له دائماً التخاطب مع تلك الكائنات ،أو التجارب
معها من باب التسلية أو الترويض ،وقد لحظ أولئك البشر أن لكل كائن نوعاً من الضوضاء يستخدمه في قيادة القطيع ،أو نداء
النثى ،أو تحذير الصغار ،أو مواجهة الخطار ،فلم ل يكونوا كذلك ،وهم يملكون قدرة هائلة على التنويع ،وهم -كذلك -يعقلون
المعنى الوظيفي للصوت حين ينطلق بوجه من الوجوه ،ولم ل يكون تعاملهم مع هذه الكائنات من قناة اللغة ،بحيث يضعون لها أسماء
تميزها عند التعامل معها .
هكذا تخلقت اللغة خلل مليين السنين ،حتى صارت مكونة من أصوات متشخصة ،وكلمات متخصصة ،وحتى أصبحت تضم
اللوف من الكلمات ..بل حتى تنوعت فبلغت عدة اللغات أكثر من ألفي لغة ينطقها النسان الن ،وكلها مبنية على عدد محدد من
الصوات هو غاية ما يصدره جهاز النطق ،ل يزيد ول يتنوع .
لقد أولع كثيرون بالبحث عن أصل اللغة ،فمن قائل :إنها من وحي ال ..نزّله على بعض عباده من النبياء ،كآدم ،وإسماعيل !!
وللجاحظ هنا مقولة :إن ال فتق لهاة إسماعيل بالعربية على غير مثال سبق ( مختارات فصول الجاحظ /مخطوط بدار الكتب ) .
وقائل :إنها مواضعة حددت لكل شيء اسمه المتفق عليه -وهو قول ابن جنى في ( الخصائص . ) 44 / 1
وقائل :إنها محاكاة لصوات الطبيعة !!
وقائل :إنها نتيجة إنفعالت تعرض لها النسان !!
وتصور أستاذنا الدكتور إبراهيم أنيس -رحمة ال عليه ( -أن الكلمات النسانية الناشئة كانت كثيرة المبنى ،قليلة المعنى ،فالمجتمع
جماعة من الشباب يمرحون ،ويلعبون ،ويستمتعون بالنطق ،دون هدف معين سوى المتعة واللعب بألسنتهم ،كما كانوا يلعبون بأيديهم
وأرجلهم ،أي :إن اللغة نشأت في صورة لعب ممتع ،ل يهدف إلى إيصال معنى إلى السامع ..بل كانت أشبه بمناغاة الطفل وأصواته
المبهمة ..فلم يكن النسان الول معنيًا بالفكار ،ولكن عنايته كانت مقصورة على الغرائز والعواطف ،ولعل الحب والغريزة الجنسية
أقوى هذه العواطف ،فهو ينطق أو يصوت ليستلفت انتباه الليف ،ويثبت وجوده واستقلله ،كالطير حين ينتقل من فنن إلى فنن ،وهو
يغني غناءً متواصلً ،لعله بهذا ينال الحظوة لدى أليفة من الطيور .
كذلك كان النسان الول يغني في أثناء صيده ،وفي حربه ،وفي كل ما يقوم به ..غنا ًء ل كغنائنا -يهدف إلى الطرب -وإنما هو
تصويت منسجم تتردد فيه الصوات والمقاطع .
ثم تطور هذا النطق من مجرد اللعب والمتعة ،وأصبح ذا هدف فيما بعد ،واستغل في التعبير عن كل ما يدور بخلد النسان من خير أو
شر ( دللة اللفاظ صفحة 23وما بعدها ) .
والواقع أن كل افتراض لتفسير نشأة اللغة له نصيب ،ولو ضئيل ،من الصواب ،فكل الراء تجتمع لتنسج ثوب اللغة في صورة مكتملة
،غير أنها جميعاً وقعت في خطأ مشترك هو خلطها بين البشر والنسان من ناحية ،وتصورها أن اهتداء النسان للغة كان خلل الفترة
الزمنية القريبة التي عاشها النسان منذ آدم عليه السلم باعتباره أول المخلوقات ..من ناحية أخرى .
والحق الذي نؤمن به هو أن اللغة ظاهرة بشرية معقدة شديدة التعقيد ،ظهرت في حياة البشر على مدى المليين من السنين التي عاشوها
قبل ظهور آدم عليه السلم ،وقد بلغت درجة من الكمال باعتبارها أداة تعامل على مشارف العهد النساني الدمي ،حتى تحملت ما دار
من حوار بين ال وملئكته ،وبين ال وإبليس ،وبين ال وآدم وجواء ،بكل ما حوته هذه الحوارات من معان دقيقة وراقية ..أقرب
شيء إلى التجريد ،والتجريد مستوى من الرقي اللغوي ل تعرفه سوى اللغات الحضارية الناضجة التي تجاوزت المحسوس من المجرد
.
بل إننا حين نقرأ قصة ابني آدم ( هابيل وقابيل ) يبهرنا فيها غزارة التجريد في المعنى ،وثراء اللفظ ،حتى إن النسانية مازالت دون
بلوغ الفق الخلقي والقيمي الذي عبرت عنه تلك القصة ،مما يدل على درجة من الحضارة الدينية ،بلغها النسان في ذلك الزمان ،
بعد أن كافح مليين السنين في مرحلة البشرية .
ل لَ ْقتَُلّنكَ
ل مِنَ الخَرِ قَا َ
ل مِن أَحَدِ ِهمَا وَلَ ْم ُيتَ َقبّ ْ حقّ إِذْ قَ ّربَا قُ ْربَانًا َفُتقُبّ َ
عَليْهِ ْم َنبَأَ ا ْبنَيْ آ َد َم بِالْ َ
ولنقرأ نص القصة .بقول ال تعالى {{ :وَاتْلُ َ
سطٍ يَدِيَ ِإَل ْيكَ لَ ْقتَُلكَ ِإنّي أَخَافُ الّ َربّ ا ْلعَاَلمِينَ ِ 28إنّي أُرِيدُ أَن ل مِنَ ا ْل ُمّتقِينَ َ 27لئِن بَسَطتَ إِلَ ّ
ي يَ َدكَ ِل َت ْقتَُلنِي مَا َأنَ ْا ِببَا ِ قَالَ ِإنّمَا َيتَ َقبّلُ ا ّ
ح مِنَ الْخَاسِرِينَ َ 30ف َبعَثَ صبَ َعتْ لَ ُه َنفْسُهُ َقتْلَ أَخِيهِ َف َقتَلَهُ َفأَ ْ طوّ َ ن مِنْ َأصْحَابِ النّا ِر وَذَِلكَ جَزَاء الظّاِلمِينَ َ 29ف َ تَبُوءَ بِِإ ْثمِي وَِإ ْث ِمكَ َفتَكُو َ
صبَحَ سوْءةَ أَخِي فَأَ ْ
ن ِمثْلَ هَـذَا ا ْلغُرَابِ فَُأوَارِيَ َ ل يَا وَيَْلتَا َأعَجَ ْزتُ أَنْ َأكُو َ سوْءةَ أَخِيهِ قَا َ ف ُيوَارِي َالّ غُرَابًا َيبْحَثُ فِي الَرْضِ ِليُرِيَ ُه َكيْ َ
مِنَ النّا ِدمِينَ - }} 31المائدة .
لقد ذكرت القصة :القربان ،وهو معنى ديني خاص ،وذكرت قبول القربان أو عدم قبوله ،ودللة ذلك على التقوى ،والتهديد بالقتل
والتسامح في مواجهة التهديد ،خوفاً من ال ،رب العالمين ،وذكرت :مفهوم الثم ،ومضاعفته ،وعاقبة الظلم ،وهي النار ،وسيطرة
النفس المارة بالشر على القاتل حتى قتل أخاه ،وصار بذلك خاسراً دنياه وأخراه ،وأخيراً ذكرت الدرس الذي تلقاه القاتل من الغراب ،
فتحول فعل الطير إلى معنى كبير من لوم النفس ،والندم العميق .
وكل هذه المعاني الدينية ذات دللة على الرقي النسبي الذي بلغه النسان ،لعهد آدم ..لقد اجتازت اللغة مرحلة التعبير المادي فأصبحت
معبرة عن المعاني الغيبية ..أي :إنها عبرت مستوى الحقيقة إلى المجاز ،وهو تقدم خطير ،لم تبلغه البشرية إل عبر مليين السنين ،
وقد توجت هذه المرحلة باصطفاء آدم ،نبياً يحمل رسالة ال إلى بنيه ،وهم الجيل الول من أجيال النسانية .
ومن المعاني الغيبية المجردة ذات الدللة العميقة على مذهبنا هذا -ما جرى على لسان إبليس وهو يغري آدم وزوجه بالكل من الشجرة
عنْ هَـ ِذهِ الشّجَ َرةِ ِإلّ أَن َتكُونَا مََلكَيْنِ َأ ْو َتكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ - }} 20العراف !! .فمتى عرف
المحرمة -قال {{ :مَا َنهَاكُمَا َرّبكُمَا َ
آدم وزوجه معنى الخلود ؟ وكيف لهما أن يتخيله ،وهو معنى مرتبط بواقع لم يحدث من قبل ،على فرض أنهما أول المخلوقات
البشرية ؟؟ ونعني به واقع ( الموت ) وهو ضد الخلود ؟
إن ذلك يؤكد أنهما عاينا أجيالً سابقة حصدها الموت ،وابتلعها الفناء ،ولعل الخلود أو البقاء كان حلمًا يراودهما ،فجاءهما الشيطان من
هذا الباب وقد عرف حلمهما ،أو نقطة ضعفهما ،فقاسمهما ِ {{ :إنّي َلكُمَا َلمِنَ النّاصِحِينَ َ 21ف َدلّهُمَا ِبغُرُورٍ - }} 22 ...العراف .
إننا ل نشك في أن آدم قد صنع على عين ال ،وأنه ظفر برعاية ربانية استثنائية جعلته في ذاته معجزة إلهية ،وكان آدم بذلك مدداً
للمرحلة القادمة التي بدأت به مع زوجه حواء ،ومن خلل آدم بدأت النسانية مسيرتها بخطوات قاصدة راشدة ،على حين بادت
الموجودات البشرية الطليقة الشاردة لتبدأ المرحلة الجديدة ..مرحلة التكليف الديني ..بعبادة الله الخالق الواحد ،بعد
أن تم للنسان التعرف على الكون من حوله ،من خلل السماء التي تحدد وجود كل شيء والتي أعانه ال سبحانه على استيعابها .
وبقى سؤال لم يطرحه أحد ممن تناولوا هذه القصة في القديم والحديث ،وهو :من أين جاءت تسمية آدم ؟
والسم رمز المسمى ؛ فهل يمكن أن يطلق على آدم هذا السم دون أن تكون البشرية قد قطعت شوطًا هائلً في الرقي اللغوي قبل مرحلة
سمَاء كُّلهَا - }} 31 ...البقرة - .فهل ل يوحى منطوق الية على هذا النحو
النسانية الدمية ؟ وإذا قرأنا قوله تعالى {{ :وَعَلّمَ آدَمَ الَ ْ
بأن الساحة كانت حافلة بأسماء كثيرة لموجودات مادية ،أو أسماء لمعان مجردة ،وأن حصيلة ذلك كانت في عقل آدم ؟ أو استطاع آدم
أن يحصلها !!
قد يقول قائل :إن اسم ( آدم ) هو اختيار ال ،أطلقه على أول خليقة في الرض !!
ولكن التناسب الذي نجده بين السم والمسمى ..أي :بين معنى كلمة ( آدم ) والمادة التي ينتمي إليها وهي ( أديم الرض ) -هذا
التناسب ل يمكن أن يتصور حدوثه على سبيل الصدفة أو الفجاءة ،فالفجاءة خروج على سنة ال في الخلق والتسوية والبداع ،وهو
آيات العظمة اللهية ودلئلها .فلم يبق إل أن نفترض مستوى من النضج اللغوي بلغته البشرية في أواخر مرحلتها ،وفي بواكير العهد
النساني ،وهو ما يعني أن العربية قديمة ..قدم التاريخ النساني على هذه الرض ..على القل .
لقد زعم العبرانيون أن لغتهم هي أقدم اللغات وأصلها وهو ما لم يسلّم به أحد من علماء اللغات لنعدام الدليل على صحة مقولتهم ،أما
نحن فنرى -انطلقًا من ملحظاتنا السابقة -أن العربية هي الصل والقدم ،ولذا كان اختيار ال لها في كل ما دار من حوار جرت به
أحداث هذه القصة .
النســــان والملئـــــكة
الملئكة عالم من عوالم الكون التي برأها ال ،خلقهم من مادة النور ،بهذا جاء الحديث الشريف برواية أحمد ومسلم رضي ال عنهما :
( خلقت الملئكة من نور ،وخلق الجان من نار ،وخلق النسان مما وصف لكم ) ،وليس بلزم أن نبحث
في ماهية هذا النور ،وهل هو النور الذي نألفه من مصدر كالقمر ،أو الضوء الذي عهدناه من مصدر الشمس ،أو هو نور آخر مختلف
العناصر والطياف ل ندري كنهه ؟ ويكفي أن نذكر قياسًا يَقـِــفُنا عند حدود أقدارنا ،فقد خلقنا ال من تراب ،وشتان ما بين هذا التراب
واللحم الدمي في الشكل ،وإن اتحدت عناصرهما عند التحليل ،فالمسافة هائلة ل يمكن للعقل أن يقطعها ،وكذلك الملئكة ..هم من
النور ،ومع ذلك نتصور أن هيئتهم التي خلقوا عليها بعيدة جداً عن مادة النور التي نألفها ،وكل مانملكه هو أن نؤمن بهم كما أخبر ال
عنهم ،وكما طلب منا اليمان بهم ،فهم ملئكة ال وجنده ،وهم جزء من عالم الغيب الذي حجبت عنا حقيقته ،واستحالت علينا رؤيته ،
ولعلنا نتذكر هنا أن البشر قد كانوا في أقدار الخلق هم العالم الظاهر ،في مقابل العالمين المخلوقين الخفيين ،عالم الملئكة وعالم الجن ،
وما شاء ال من خلق ل نعلمه .
ونحن من خلل الدين ندرك الدور الذي تؤديه الملئكة في عالمنا النساني ،فمنهم ملهمون بالخير ،ومنهم حفظة ..سفرة ..كرام
كاتبون ،ومنهم حملة العرش ،ومنهم ملئكة السماء والسحاب والمطر والرزاق والقدار ،ومنهم الموكلون بحياة العباد وموتهم ..إلى
سمَاوَاتِ وَالَْرْضِ َومَنْ عِن َدهُ
ما ل يحصى من مهام خصهم ال بالقيام عليها في إدارة الكون ،في السموات والرض َ {{ :ولَ ُه مَن فِي ال ّ
ل وَالّنهَا َر لَ َي ْفتُرُونَ - }}20النبياء .
ستَحْسِرُونَ 19يُسَبّحُونَ الّليْ َ
عبَا َدتِ ِه َولَ يَ ْ
عنْ ِ
ستَ ْكبِرُونَ َ
لَ يَ ْ
بدأت علقة النسان بالملئكة على مشارف المرحلة البشرية ،وذلك حين أعلم ال الملئكة أنه خلق أو أنه يريد خلق ( بشر من طين ) ،
وإعداداً لهم في مواجهة ما سوف يحدث من متغيرات على ساحة الرض ،وقد إختارها ال ليجاد هذه الخليقة البشرية ،بعد أن جعلها
مهداً ،وكان البلغ اللهي منطوياً على جملة من العناصر المستقبلية إضافة إلى ما كان منجزاً منه ..كان ( خلق البشر ) قد أنجز ،أو
ق بَشَرًا }} ،ثم جاءت المور المستقبلية في شكل هذا السلوب الشرطي هو بسبيله إلى النجاز ،وهو دللة الجملة الولى ِ {{ :إنّي خَاِل ٌ
س ّويْتُ ُه َو َنفَخْتُ فِي ِه مِن رّوحِي َفقَعُوا َلهُ سَاجِدِينَ }} ،وكأن ال يريد من الملئكة أن تراقب ما يحدث من تغييرات في أحوال
{{ :فَِإذَا َ
هذا المخلوق الظاهر وصفاته ومقوماته ،حتى يسجدوا له كما أمرهم ،إذعانًا لمره ،وإعظاماً لروعة إبداعه ،ومضت مليين السنين ،
وطحنت عشرات اللوف من الجيال ،وربما مئاتها في عملية التسوية والتزويد بالملكات العليا والملئكة تراقب أحوال ذلكم المخلوق
وتحركاته ،حتى آن أوان السجود .
كان المدخل إلى معرفتهم بأن السجود قد آن أوانه خطاب ال سبحانه لهم بقوله ِ {{ :إنّي جَاعِلٌ فِي الَ ْرضِ خَلِيفَةً - }} 30 ...البقرة
، .وهو خطاب يتضمن إخبارهم بأن التسوية قد تمت ،وقد صار البشر مزوداً بالنفخة من روح ال ،وكان لهذا القول وقع المفاجئة على
أسماعهم ،فهم يتابعون منذ مليين السنين أحوال هذا المخلوق ( البشر ) ،ويعاينون من شئونه ما يحيرهم ،ولذلك بادروا إلى سؤال
حمْ ِدكَ َوُنقَ ّدسُ َلكَ - }} 30 ...البقرة ، .وكأنهم يقولون
ح بِ َ
سبّ ُ
ن نُ َ
س ِفكُ ال ّدمَاء وَنَحْ ُ
جعَلُ فِيهَا مَن ُيفْسِدُ فِيهَا َويَ ْ
المولى عز وجل َ {{ :أتَ ْ
لربهم :أهذا هو المخلوق الذي أمرتنا بالسجود له ،حين أخبرتنا بخبره منذ مليين السنين ؟ لقد راقبنا أحواله منذ ذلك العهد السحيق ،
فما رأينا منه غير الفساد في الرض ،وسفك الدماء ،وهم يشيرون بذلك إلى السلوكيات الحيوانية التي كان عليها البشر في مختلف
مراحل تسويتهم ،حتى إكتمال ملكاتهم بالنفخة اللهية وثمراتها .
ويحلوا لبعض المفسرين -أو لجمهورهم -أن يفترضوا أن الملئكة كانوا يرون أنهم جديرون بهذه الخلفة دون البشر ،وهو افتراض
ل يقبله العقل ،فقد كانوا يتمتعون بميزات الشهود والقرب من ال سبحانه وتعالى ،وهي مرتبة عليا في سلم المخلوقات -لم يبلغها
غيرهم من الكائنات الخرى !! إن الكون كله صفحة مبسوطة بين أيديهم وأنوارهم ،يرتادون آفاقه ،ويجوبون أنحاءه ،ويعلمون من
أمره ما أذن ال لهم بعلمه ،وأين هذا البهاء والسناء من أحوال ذلك المخلوق الحيواني ،اللزق بالرض ،النابت من التراب ،المعربد
في ممالك الطير والحيوان ،السافك لدماء جنسه وغير جنسه ؟!
فما الذي تتمناه الملئكة أكثر مما هي فيه من اتصال بالمل العلى ؟ ..إن معنى سؤال الملئكة ل يتضمن رغبتهم في تلك الخلفة ،أو
حسد البشر عليها ..بل هو تعبير عن إستغرابهم لما يتوقعونه من استمرار الفساد ،وتذايد التشويش في الرض على تسبيحهم وتحميدهم
ك }} -موقع الحال ،أي :إننا غارقون في ك وَ ُنقَ ّدسُ َل َ
حمْ ِد َ
ح بِ َ
ن نُسَبّ ُ
وتقديسهم لجلل ال وعظمته ،فموقع الجملة الملئكية َ {{ :ونَحْ ُ
أنوار التقديس ،في حين أن هؤلء والغون في بحار الدماء ،ل يعرفون ديناً ،ول يعبدون إلهاً .
ل تَعَْلمُونَ }} ،وسكتت الملئكة .
وقال ال ِ {{ :إنّي أَعَْل ُم مَا َ
س ِفكُ ال ّدمَاء }} ،فهي إشارة إلى إنتشار جرائم القتل في تلك العهود
ونبادر هنا على إلى تسجيل ملحظة على عبارة الملئكة {{ :وَيَ ْ
بين البشر ،ولم يكن قتل قابيل لهابيل إل استئنافاً لسفك الدماء في العهد النساني ،عهد التكليف بعبادة ال وحده ،بعد انقراض بقية
البشر ،وانتهاء العهد البشري الذي لم يعرف تكليفاً ول تلقى رسالة ول اتبع ديناً .
فهذه الجريمة كانت أولى الجرائم في العهد النساني ،وتميزت بالهتداء إلى دفن الموتى من بني آدم لول مرة ،بعد أن كانت الجثث
تترك في العراء كسائر الحيوانات النافقة ،تأكلها الضراوي ،أو تتآكل .
وقول الرسول صلى ال عليه وسلم ،فيما رواه البخاري والنسائي عن مسروق عن عبد ال ( :ل تقتل نفسًا ظلماً إل كان على ابن آدم
الول كـفـْلٌ من دمها ،وذلك أنه أول من سن القتل ) -يشير أيضاً إلى موقع ذلك الجرم من المسئولية ،فقبل ارتكاب هذه الجريمة لم
تكن هناك مسئولية عن قتل النفس ،لنه ل مسئولية إل بعد إرسال الرسل ،وقبل آدم لم يكن رسول ول دين ،فل مسئولية ،وبعد آدم بدأ
العهد النساني فكانت المسئولية الدينية ،فتحمل ابن آدم الول وزر قتل أخيه ،وعليه كفل من دم كل نفس تقتل ظلماً ،لنه أول من سن
القتل ،أي :هو أول من خرج على الدين ،واتخذ لنفسه سنة أخرى ،هي سنة الظلم والقتل ،ل سنة الدين والعدل ،وفي الحديث :
( من سن سنة حسنة فله أجرها ،وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ،ومن سن سنة سيئة فعليه
وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ) .
علَ ُم مَا لَ َتعَْلمُونَ }} ومضمون هذا الخبر أمر لهم بالسكوت ،ودارت القدار على نهج المشيئة ، لقد قال ال سبحانه لملئكته ِ {{ :إنّي أَ ْ
وبدأ الدرس الول ،أو الرسالة الولى في تاريخ النسانية {{ :وَعَلّمَ آ َدمَ الَسْمَاء كُّلهَا }} ..وحتى هذه اللحظة لم تكن الملئكة تعلم :
مَنْ ذلك الذي جعله ال من بين البشر خليفة في الرض ؟!! ولم يكن آدم قد ظهر على المسرح ،فاصطفاؤه كان في علم ال وحده ..وهم
معذورون لنهم ل يرون في تلك الخليقة إل الجانب السلبي ،أما الجانب اليجابي فمحجوب عنهم ،ولم يكشف ال لهم شيئاً من أسراره .
سمَاء كُّلهَا }} وهذه أول مرة يذكر فيها لفظ ( آدم ) ،وتعليم ال له هو علّمَ آ َدمَ الَ ْ
وجاء وحي ال بالرسالة والصطفاء إلى آدم {{ ،وَ َ
طفَى آدَ َم َونُوحًا وَآلَ
صَفحوى رسالته التي لم تذكر إل في هذه الية ،وهي آية ل يمكن تفسيرها إل في ضوء قوله تعالى {{ :إِنّ الّ ا ْ
عمْرَانَ عَلَى ا ْلعَاَلمِينَ - }} 33آل عمران .
ِإبْرَاهِي َم وَآلَ ِ
إن آدم رسول مصطفى من ال ،تمامًا كنوح وإبراهيم ،ولقد كانت لنوح ملحمة كبيرة تحدث عنها القرآن في أكثر من موضع ،وكانت
لدم -قبل نوح -ملحمته الكبرى التي بدأت بهذه اللمحة اللهية ،فقد علمه ما ل تعلم الملئكة ..علمه الدين ،والرسالة التي سوف
يبلغها لبنيه ،وهو ما بدا متألقاً في الحوار الذي دار بين أبنيه متضمناً كل المفاهيم التوحيدية ،وأمهات الخلق الدينية ،وتلكم هي
السماء التي تعلمها آدم عن ربه .
ولمر ما حَــرَصَ القرآن على أن يؤكد أنه تعلم {{ الَسْمَاء كُّلهَا }} ،فلعل آدم كان يعرف بعض السماء فتولى ال سبحانه تعليمه كل
السماء ،فيما يتصل بالمهمة التي سينهض بها ،خليفة في الرض ،ومن بين السماء التي تعلمها أسماء الملئكة المشاركين في هذا
الحوار ،وقد تضمن القرآن بعض هذه السماء فتعلمها المؤمنون من الوحي .
وكان اصطفاء آدم للرسالة النسانية الولى غيبًا محجوباً عن الملئكة ،ل يعلمه إل رب العزة ،وكانت السماء التي تعلمها متعلقة
بالمانة التي ناطها ال بآدم وذريته ،وهو ما لم تعلمه الملئكة من قبل ..إنها بداية عهد جديد ،وإشراقة جيل النسان على أنقاض
سمَاء هَـؤُلء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ 31قَالُواْ
الركام البشري ،وحين عرض ال سبحانه هذه المضامين على الملئكة َ {{ :فقَالَ أَن ِبئُونِي بِأَ ْ
حكِيمُ - }} 32البقرة . عّلمْ َتنَا ِإّنكَ أَنتَ ا ْلعَلِيمُ الْ َ
ك لَ عِلْمَ َلنَا ِإلّ مَا َ
سبْحَا َن َ
ُ
ول مانع من أن يشار إلى المعروضات الماثلة في الموقف بإشارة العقلء ( هؤلء ) ،لن السماء تتعلق باشخاص وأشياء تفرد آدم
ل يَا آدَمُ أَنبِ ْئهُم بِأَسْمَآ ِئهِمْ فََلمّا أَنبَأَهُ ْم بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ َألَمْ أَقُل
بعلمها ،وأقرت الملئكة بأنها ل تعلم إل ما سمحت به من قبل مشيئة ال {{ ،قَا َ
ن َومَا كُنتُ ْم تَ ْكتُمُونَ - }} 33البقرة .
علَ ُم مَا تُبْدُو َ
ض وَأَ ْ
ت وَالَرْ ِ سمَاوَا ِ
غيْبَ ال ّ ّلكُمْ ِإنّي َأعْلَمُ َ
ووضح من الموقف تفوق آدم ،واختصاصه بالرسالة والصطفاء ،وهنا حانت لحظة السجود لدم ،تنفيذاً للمر الصادر منذ بضعة
مليين من السنين .
ورد موضـــوع السجود لدم في ســبع صور من القــرآن ،وهي بترتيب النزول :
صوّ ْرنَاكُمْ ثُمّ قُ ْلنَا لِ ْلمَلئِكَةِ اسْجُدُواْ لدَمَ فَسَجَدُواْ ِإلّ ِإبْلِيسَ َل ْم يَكُن مّنَ - 2السورة الثامنة والثلثون ( العراف ) {{ :وََلقَدْ َ
خَلقْنَاكُ ْم ثُمّ َ
جدِينَ - }} 11العراف . السّا ِ
جدُواْ لدَمَ فَسَجَدُواْ ِإلّ ِإبْلِيسَ َأبَى - }} 116طه . - 3السورة الرابعة والربعون ( طه ) {{ :وَإِذْ ُق ْلنَا لِ ْلمَ َ
لئِكَةِ اسْ ُ
ت طِينًا - }} 61 - 4السورة التاسعة والربعون ( السراء ) {{ :وَإِذْ قُ ْلنَا لِ ْلمَلئِكَةِ اسْجُدُواْ لدَمَ فَسَ َ
جدُواْ َإلّ ِإبْلِيسَ قَالَ َأأَسْجُدُ ِلمَنْ خََل ْق َ
السراء .
جمَعُونَ ِ 30إلّ ِإبْلِيسَ َأبَى أَن َيكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ - }} 31الحجر - 5السورة الثالثة والخمسون ( الحجر ) {{ :فَسَ َ
جدَ ا ْلمَلئِكَ ُة كُّلهُمْ أَ ْ
.
- 2أن النص في سورة ( ص ) يجعل السجود عقب تمام النفخ من روح ال ،وكأنه جزاء وجواب للشرط {{ فَإِذَا َ
س ّو ْيتُهُ }} ،وكذلك
أيضاً السياق في نص سورة ( الحجر ) ،أما النص في سورة ( العراف ) فيوحي بوجود مسافة زمنية بين مرحلة التصوير ( أو
التسوية ) وبين المر بالسجود ،كما سبقت ملحظته ،ولكن استجابة الملئكة للمر كانت في سياقها فورية مقرونة بالفاء .
وتتشابه النصوص في بقية السور المكية في ( طه والسراء والحجر والكهف ) -إذ يأتي السجود جوابًا للمر ( :اسجدوا ) ( فسجدوا )
.
أما النص المدني في سورة البقرة فيجعل المر بالسجود عقب فصل هام من القصة ،هو الحوار بين رب العزة والملئكة في شأن
( الخلفة في الرض ) ،وهي إضافة بارزة لم ترد في أي نص قرآني سابق أو لحق .
لقد كان أهل التفسير يرون دائماً أن السجود الملئكي قد حدث عقب نفخة ال سبحانه وتعالى ،التي أنهضت آدم ( بشرًا مُســوَيّ ) ،وهو
رأي سائد في كل التفاسير ،إذ إن الملئكة رأت في تحرك هذا المخلوق الطيني آية إلهية تستوجب السجود -تكريماً لدم ،وطاعة ل
عز وجل ،بحسب الرؤية القديمة ،وهو ما يقوله الستاذ البهي الخولي ( ص : ) 59سجدوا -الملئكة -له بأمر من ال عز وجل
عندما نفخ فيه سبحانه من روحه ) .
أما نحن فنرى طبقاً لتصورنا أن نص سورة البقرة ،وهو النص الخير الذي يحكم جميع النصوص السابقة ،ويهيمن عليها -هذا
النص ،قد طرح تريباً آخر للحداث ،فجاء بالمر بالسجود بعد مشهد الحوار بين ال وملئكته عن اتخاذ خليفة في الرض ،ولم يكن
آدم معلوماً آنذاك للملئكة ،رغم أنه كان موجوداً على الساحة بين أغمار البشر ،وأنهم يفسدون ويسفكون الدماء ،ولو كانت الملئكة
تعرف أن المقصود آدم ،فربما استثنته من هذا التعميم ،ولذلك قال ال تعالى ِ {{ :إنّي َأعْلَ ُم مَا لَ َتعَْلمُونَ }} .
علِمــَت الملئكة لول مرة أن المقصود بالخليفة هو ( آدم ) ،وليس غير ..إنها النبوة ،طليعة الموكب النساني ،
وفي هذا الموقف َ
وقاعدة إنطلق الخلق الذي بدأت خطواته التنفيذية منذ مليين السنين ،فوجد كماله في شخص آدم ،النبي المصطفى ..يا لها من قدرة
هائلة ؛ تابعت عملية الخلق خلل هذا الزمن المتطاول !! ويا له من إنجاز رائع تجلى أعظم تجلٍ في شخص آدم الرسول ،الذي تفوق
على ملئكة الرحمن !!
ول بد أن نتعرض هنا لمعنى السجود والمراد به في هذا الموقف ،وننقل من الستاذ البهي الخولي ما قاله في كتابه ( آدم عليه السلم
ص ( : ) 59ومن البديهي أن هذا السجود لم يكن سجود عبادة ونسك ،فإن ذلك ل يكون لغير ال ،إنما هو سجود تحية وتكريم
ومؤانسة ،وليس ضرورياً أن يكون سجوداً وضعوا له الجباه على الرض ،كما نفعل في سجودنا ل عز وجل ،فللسجود هيئات كثيرة
تتنوع بتنوع أصناف الخلئق ،وال سبحانه يقول في ذلك {{ :وَالنّجْ ُم وَالشّجَ ُر يَسْجُدَانِ - }} 6الرحمن ، .ويقول على لسان يوسف
سمَاوَاتِلِ يَسْجُ ُد مَا فِي ال ّ ش ْمسَ وَا ْل َقمَرَ َرَأيْ ُتهُمْ لِي سَاجِدِينَ - }} 4يوسف ، .ويقول {{ :وَ ّحدَ عَشَ َر َكوْ َكبًا وَال ّ لبيه ِ {{ :إنّي َرَأيْتُ أَ َ
ل يَسْ َتكْبِرُونَ - }} 49النحل ، .ومن البديهي أن سجود الدواب ليس كسجود الملئكة ، ض مِن دَآبّ ٍة وَا ْلمَل ِئكَ ُة وَهُ ْم ََومَا فِي الَرْ ِ
وسجودهما ليس كسجود الكواكب والشمس والقمر ،وسجود هؤلء جميعاً ليس كسجود الشجر والزرع الصغير ..وهكذا ..ذلك إلى أن
من معاني السجود في اللغة التطامن والتواضع ،ويقول صاحب المصباح المنير ( :وسجد البعير :خفض رأسه عند ركوبه ،وكل
شيء ذل فقد سجد ) ،فإذا كان في سجود الملئكة معنى الذل فليس هو ذل العبودية ،ول الذل المضيع للكرامة ،إنما هو ذل التطامن
حمَةِ - }} 24 ...السراء ، .وتراه فيما يتبادله ل مِنَ الرّ ْ
جنَاحَ الذّ ّ
خفِضْ َلهُمَا َ
والمودة الذي ترى شيئاً منه في قوله تعالى {{ :وَا ْ
علَىرحماء المؤمنين بينهم من انكسار الخ لخيه المؤمن الذي عبر عنه الحق تبارك وتعالى بقوله {{ :أَ ِذلّةٍ عَلَى ا ْل ُمؤْ ِمنِينَ أَعِ ّزةٍ َ
ا ْلكَافِرِينَ - }} 54 ...المائدة .
فهو سجود فيه معنى التحية والمودة وخفض الجناح ،والقرار بالفضل ،قال القرطبي في الجامع ( :وقال قوم :لم يكن هذا السجود
المعتاد اليوم ،الذي هو وضع الجبهة على الرض ،ولكنه مبقي على أصل اللغة ،فهو من التذلل والنقياد ..أي :خضعوا لدم ،
وأقروا له بالفضل ) -القرطبي . 293 / 1
والواقع أن الموقف لم يكن بحاجة إلى هذا العناء لتفسير السجود بالتذلل أو خفض الجناح ،أو القرار بالفضل ،فذلك كله مبني على
التصور القديم الذي يرى الموقف محصوراً في اللحظات التي انبهرت فيها الملئكة بدبيب نفخة ال في جسد آدم ،وهو تصور تَبيّنَ
قصورهُ عن فهم الموضوع في ضوء معطيات العلم ،واحتمالت النصوص القرآنية .
والذي نطمئن إليه هو أن سجود الملئكة كان يعني تكليفهم بحياطة الحياة النسانية ،ابتداء من ( آدم ) ،وهو تكليف ماض إلى يوم
القيامة ،تتولى الملئكة فيه المحافظة على بني آدم ،وإلهامهم الخير ،طبقًا لمشيئة ال سبحانه ،في مقابل ما توعد به إبليس آدم وذريته
من الغواية والحتناك والهيمنة والتضليل .
فالملئكة هم بموجب أمر السجود -أحد طرفي المعادلة في الحياة النسانية ،التي قامت على الصراع بين الخير والشر .
وعلى ذلك فقد سجد الملئكة ،وما زالوا ساجدين ،لدم ،ولبني آدم ،وهذه هي الكرامة التي كفلها ال لهذه الذرية المصطفاة من خليقته
طّيبَاتِ وَفَضّ ْلنَاهُمْ عَلَى
حمَ ْلنَاهُمْ فِي ا ْلبَرّ وَا ْلبَحْ ِر وَرَزَ ْقنَاهُم مّنَ ال ّ
البشرية طبقاً لما قررته آية سورة السراء {{ :وََلقَ ْد كَ ّرمْنَا َبنِي آدَ َم وَ َ
كَثِي ٍر مّمّنْ خََل ْقنَا َتفْضِيلً - }} 70السراء ، .وهي أيضاً الكرامة التي أشار إليها إبليس في قصة الحوار في سورة السراء {{ :قَالَ
أَرََأ ْي َتكَ هَـذَا الّذِي كَرّ ْمتَ عَلَيّ - }} 62 ...السراء ،فقد احتقن حين رأى ما خص به آدم من تكريم وكرامة ،فتوعد بأن يضله وذريته
،ليظهر عدم استحقاقهم لهذه الكرامة
ويظهر إبليس في مشهد التكليف بالسجود فجأة ،ودون مقدمات ،فلم يرد له ذكر قبل هذا المشهد ،وما كان سوى واحد من ( الجن
المنتشرين ) في أرجاء الرض ،ولعله كان ذا حظوة واقتراب من عالم الملئكة حتى جاء أمر السجود ،وكأنه مقصود به معهم ،
عنْ َأمْرِ َربّهِ ...
سقَ َ
ن مِنَ الْجِنّ َففَ َ
س كَا َ
جدُوا لِدَمَ فَسَجَدُوا ِإلّ ِإبْلِي َ
لئِكَةِ اسْ ُ
والقرآن ينص على ذلك في قوله تعالى {{ :وَإِذْ ُق ْلنَا لِ ْلمَ َ
- }} 50الكهف .
ولعل تجاهل القرآن لذكره في خبر المر بالسجود -إنه كان لنه مجرد فرد من ( الجن ) ،على حين أن الخطاب كان لعالم الملئكة
بإطلق .
عنْ َأمْرِ َربّهِ }} ؛ صار علماً على الشر في مقابل استجابة الملئكة الذين
سقَ َ
فلما شذ في موقفه ،وأعلن رفضه لمر ال َ {{ ..ففَ َ
صاروا أعلماً على الخير .
ونحسب أن المر لم يكن بالصورة التي يتخيلها العامة من المفسرين ،من مثول الملئكة ومعهم إبليس بين يدي ال ،جل وعل ،وآدم
واقف ينتظر حدوث السجود ،فقد استقر رأينا على أن السجود كان لدم النبي الذي أختير خليفة ،والذي استهل به عهد النسان ،ل لدم
المخلوق ،فإن حدث الخلق كان قد مضت عليه مليين السنين ،وإن لم يكن فرق بين السـّنَـةِ والســّنــةِ ،وعليه ،فإن تكليف ال سبحانه
للملئكة بالسجود كان يعني تكليفهم بالشغال بحفظ ذلك الخليفة النبي ،وذريته إلى يوم القيامة وقد رفض إبليس أن يخضع للمر
اللهي ،وأن يعمل في خدمة النسان كالملئكة ،وبذلك انشق على المر اللهي ،وصار عدوًا لدم وذريته ،كما صار عدواً ل
خالقه ،وقد استعلن بهذه العداوة ،فلم يرجع عنها رغم زعمه أنه عبد ال !!
وعلى هذا تكون َت َكوّّن التشكيل الجديد للحياة كما أرادها ال :صراعاً بين الخير والشر ،وتناقضاً بين الشيطان والملئكة في شأن الحياة
النسانية ،وآدم وذريته موضوع الصراع ،وأدواته ،وهم أبطاله أو ضحاياه ،تمهيداً للمرحلة التالية من الملحمة الوجودية ،مرحلة
الحساب ،والجنة والنار ،والخلود فيهما .
إن إبليس الذي رفض السجود والتكليف -كان عاصياً لمر ال من ناحية ،وكان أداة لتنفيذ إرادة ال من ناحية أخرى ،ولول أنه رفض
السجود ،وركب رأسه ما كانت هذه الدنيا ،وهو أمر لم يكن مقصوداً له حين عصى ربه ،ولم يكن يدريه قبل أن يكون .
ق بَشَرًا مِن طِينٍ ل ِئكَةِ ِإنّي خَاِل ٌولنعد الن إلى النص الول من التنزيل ،الذي ذكر هذا المشهد في سورة ( ص ) ِ {{ :إذْ قَالَ َرّبكَ لِ ْلمَ َ
ن مِنْ ا ْلكَافِرِينَ ج َمعُونَ ِ 73إلّ ِإبْلِيسَ ا ْ
س َتكْبَ َر َوكَا َ سوّ ْيتُ ُه َو َنفَخْتُ فِي ِه مِن رّوحِي َف َقعُوا َلهُ سَاجِدِينَ 72فَسَجَدَ ا ْلمَلَ ِئكَ ُة كُّلهُمْ أَ ْ 71فَإِذَا َ
خيْ ٌر ّمنْهُ خََل ْقتَنِي مِن نّا ٍر وَخََل ْقتَ ُه مِن طِينٍ س َتكْبَ ْرتَ أَ ْم كُنتَ مِنَ ا ْلعَالِينَ 75قَالَ َأنَا َ س مَا َم َن َعكَ أَن تَسْجُدَ ِلمَا خََل ْقتُ ِبيَدَيّ أَ ْ 74قَا َ
ل يَا ِإبْلِي ُ
76قَالَ فَاخْ ُرجْ ِم ْنهَا فَِإّنكَ رَجِيمٌ 77وَِإنّ عََل ْيكَ َل ْع َنتِي إِلَى َيوْمِ الدّينِ 78قَالَ َربّ فَأَنظِ ْرنِي إِلَى يَوْ ِم ُيبْ َعثُونَ 79قَالَ فَِإّنكَ مِنَ ا ْلمُنظَرِينَ
حقّ َأقُولُ 84لَمْلَنّ ق وَالْ َ
حّ ك ِمنْهُمُ ا ْلمُخْلَصِينَ 83قَالَ فَالْ َ ج َمعِينَ ِ 82إلّ ِ
عبَا َد َ 80إِلَى يَوْمِ ا ْلوَ ْقتِ ا ْل َمعْلُومِ 81قَالَ َفبِعِ ّز ِتكَ لَُ ْ
غ ِو َينّهُمْ أَ ْ
جمَعِينَ - }} 85ص . جهَنّ َم مِنكَ َو ِممّن تَ ِب َعكَ ِمنْهُمْ أَ ْ
َ
ويبدو لنا هذا النص أشبه بتلخيص للحوار ،أو بالحرى للقصة التي جاءت تفاصيل كثيرة منها في السورة التالية نزولً ،سورة
( العراف ) ،لكن حسبنا الن هذا الموجز الذي يقتصر على جانب الحوار بين ال وبين المتمرد إبليس .
وفي بداية النظر في مكونات الحوار نؤكد هنا على ضرورة مراعاة المسافة بين ما ينبغي ل من جلل وعظمة وعلو شأن ،وهو
سبحانه الخالق الباريء المصور ،وبين إبليس من حيث هو مخلوق يواجه خالقه ،وهو ل يذيد في قدره عن أي مخلوق متمرد على
أوامر الخالق ،مُصِرّ على معصيته ،سواء أكان من النس أم من الجن ..هذا من ناحية ..
ومن ناحية أخرى يجب أن نستبعد الصورة الساذجة التي يتخيلها بعض من تناولوا هذه القصة ..أعني :صورة المواجهة المباشرة في
هذا الحوار ،فل ريب أن الشيطان كان في موقعه من الكون ،ل يستطيع أن يتجاوز قدره ،فيتطاول إلى المقام السنى ،مقام رب العزة
،ليجابهه بتلك المقولت ،فال أعلى وأجل من أن تدركه البصار ،أو تحده الوهام والظنون .وغاية ما نتصوره أن يكون الحوار قد
جرى من خلل الوحي النفسي ،الذي أحاط بتفاصيله من يعلم السر وأخفى ،فهو -وال أعلم -حوار جرى في نفس إبليس ،حين رفض
المر بالسجود ،من منطلق اعتقاده بأنه خير من آدم من حيث الصل ،فهو من نار ،وآدم من طين ،وذلك رداً على ما ثار في نفسه
ج ِمنْهَا
من أن إباءه السجود ل تفسير له إل الكبر والغطرسة ،وحينئذ جاءه المر اللهي -أيضًا -من طريق الوحي النفسي {{ :فَاخْ ُر ْ
عَل ْيكَ َلعْ َنتِي إِلَى َيوْمِ الدّينِ }} ..وهكذا سار الحوار إلى نهايته ،بكل ما تضمن من حقائق وأقدار عبرت عنها كل
فَِإّنكَ رَجِيمٌ * َوإِنّ َ
رسالت النبياء ،من لدن آدم إلى محمد ،عليهم جميعاً أفضل الصلة وأتم السلم .
قد يحلو لبعض المتفلسفة أن يروا في هذا الموقف البليسي تعبيرًا عن القوة والشجاعة الدبية ..بل وزاد بعضهم في المغالطة ،
فرأى في هذا الموقف آية على منتهى الـتوحيد ،فهو ل يسجد إل ل وحده !! ..وتخيل بعضهم أن إبليس حين تمرد على ال صار
رمز للحرية ،وزعيم الحرار الرافضين للقيود !! ..
والواقع أن موقف إبليس في ذلك الحوار يعكس ملمح شخصية متناقضة غبية ،غاية في الغباء والتناقد ،والضعف ،والجبن ،
والجهالة ،وذلك إذا ما احتكمنا إلى المقاييس الخلقية المثالية ،وإنما أضفي عليه حلم ال الواسع هالة من التعاظم تليق بمتكبر
حقود ،هو إبليس .
فليس من القوة أن يتصدى المخلوق للخالق ،ويتمرد عليه ،وهو يعرف يقيناً أنه هو الخاسر في النهاية ..بل وهو يعلم أنه يخاطب
ربه ذا القوة المطلقة ،والبأس الشديد .
وليس من الشجاعة أن يتجرأ على ال ،وهو يعلم أن ذلك يؤدي به إلى جهنم ،وبئس المصير ،ثم يستمر في هذا التجرؤ إلى حد
الوقاحــة والتحدي العبيط !!
وليس التوحيد إل الذعان بالعبودية والطاعة المطلقة ل وحده ل شريك له ،والنصياع لوامره ،وإبليس حين رفض السجود لدم
لم يكن إل رافضاً لمر ال ،وقد أوقعه في هذا الجرم سوء تأوله ،أو لنقل :إنه قد ر َك َب ُه في هذه اللحظة شيطان آخر أعتى منه -لو
صح التصور -فأغراه بالتمرد ،وأعماه عن تبين وجه الحق الذي أدركته الملئكة ،فالملئكة هم في الواقع أذكى منه ،وأعمق
توحيدًا ،على حين خرج هو عن دائرة التوحـيد !!
ويكفي دليلً على غباء إبليس أنه وقد خفي عليه المعنى الصحيح للسجود ،وهو موالة آدم وذريته -إلى يوم القيامة ،كما أدركت
ذلك الملئكة -انبرى بعقله الغبي يعقد مقارنة بين النار والطين ،ويزعم خيريته على آدم من هذا الجانب ،مع أن الطين عند التأمل
خير من النار ،فهو زكي معطاء ،وهي أداة إهلك وعذاب .
ل عن ذلك :فإن المر بالسجود لدم لم يكن يعني أفضلية ،بقدر ما كان يعني إرادة تنظيم الحياة الجديدة على أساس من تعاون
وفض ً
المستويات الخَلقية الثلثة :النور والطين والنار ،أو الملئكة ،والبشر والجن ،وخضوع الجميع لمر ال وإرادته .
وهب -يا إبليس -أن السجود كان يعني الفضلية ،فإن هذه الفضلية لم تكن تعني الصل المادي ،بل تعني تعلق الرادة اللهية
بالمر وتنفيذه من ناحية ،ثم إن معيار الفضلية في مستواها العلوي ليس مادة الخلق ،من طين أو من نار ،بل هو التنافس في
طاعة ال ،كما قال تعالى في محكم التنزيل {{ :إِنّ َأكْ َرمَكُمْ عِندَ الِّ َأ ْتقَاكُمْ - }} 13 ...الحجرات ، .فقد يُحّلقُ في سماوات
الرضوان جِنيّ من نار ،وقد يرسب في قاع الجحيم إنسِيّ من طين ،لن المعيار هو التقوى .
لقد سجل إبليس على نفسه نقطة غباء ،حين حصر نفسه في ملحظة الفرق بين الطين والنار ،ولو كان ذلك صحيحاً لفخرت الملئكة
عبَدَتهُ قد تصوروا أن
عليه بأنها من ( النور ) ،وهو خير من النار قطعاً ،بمقياس إبليس ..بل وبكل مقياس !! وإذا كان أتباع الشيطان و َ
إلههم هو رمز الحرية ،وزعيم الحرار فما ذلك إل أثر من آثار تسلطه بغبائه على عقولهم ،إن كانت لهم عقول ،لقد تعلقوا بمفهوم
التمرد الذي أبداه إبليس في مواجهة أمر خالقه ،ولم ينظروا إلى أنه لم ينكر ربوبية ال ،في مطلبه أن ينظره إلى يوم البعث ،وفي قَسَمهِ
بعزة ربه ،وهو مسلك يصمه بالتناقض أو بالجنون ،إذ كيف يُقبَلُ منه أن يتمرد على ( رب العزة ) باعترافه ،ويختار طريق الغواية
والغراء والذلة ،عامدًا متعمداً ..اللهم إل أن يكون غبياً غاية في الغباء ،أو منقاداً لشيطان أعتى منه ،تسلط عليه حتى أضله هذا
الضلل المبين ؟ !! وحتى فقد القدرة على التمييز فلم يلحظ تناقضه الفاضح !! فإذا لم يكن هناك شيطان قبله ،فهو إذا إنطماس
البصيرة ،وعمى البصر ،وهو أولً وأخيراً الحقد الذي ملكه تجاه آدم وذريته .
أين الحرية إذن ؟ !! اللهم إل أن يكون معنى الحرية هو النتصار للرذيلة ،والتحلل من كل قيمة تعمر بها الحياة ..أن يكون معنى
الحرية تخريب الدنيا ،وتدمير بنائها اللهي ،ونشر الفساد واللحاد ،وإشاعة الفوضى والنفلت ،وسيادة الحقد على وجوه الحياة
كلها ؟ !!
ومع ذلك ،إن إبليس كان في موقفه مغروراً ،لنه زعم لنفسه القدرة على إغواء الناس أجمعين ،إل المخلصين منهم من عباد ال ،
وعجيب أن يدرك هذا الفرق بين الغواية والخلص ثم يستمر في مزاعمه ،فكان نذير ال له بأن يمل جهنم منه ومن أتباعه أجمعين ،
وبهذا ختم الحوار -كما قدمته سورة ( ص ) -في أول سياق يتعرض لهذه القصة .
فإذا قرأنا ما جاء في السورة التالية لها ،في سورة العراف -الثامنة والثلثين -وجدنا مذيداً من التفاصيل عن أساليب إبليس في إفساد
طكَ ا ْلمُسْ َتقِيمَ 16ثُ ّم لتِ َينّهُم مّن
غوَ ْي َتنِي لَ ْقعُدَنّ َلهُمْ صِرَا َ
الحياة الدمية ( النسانية ) ،وهو مضمون قوله ( لغوينهم ) {{ :قَالَ َفبِمَا َأ ْ
شمَآئِِلهِ ْم َولَ تَجِدُ َأكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ - }} 17العراف . بَيْنِ َأيْدِيهِ ْم َومِنْ خَ ْل ِفهِ ْم وَعَنْ َأ ْيمَانِهِ ْم وَعَن َ
وفي السورة التاسعة والربعين -السراء -يخاطب إبليس ربه {{ :قَالَ أَرََأ ْي َتكَ هَـذَا الّذِي كَ ّر ْمتَ عَلَيّ َلئِنْ أَخّ ْرتَنِ ِإلَى َيوْمِ ا ْل ِقيَامَةِ
لَحْ َت ِنكَنّ ذُ ّريّتَهُ َإلّ قَلِيلً - }} 62السراء .
ك وَأَجِْلبْ
صوْ ِت َ
ت مِ ْنهُ ْم بِ َ
س َتطَ ْع َ ج َهنّمَ جَزَآ ُؤكُمْ جَزَاء مّوْفُورًا 63وَا ْ
س َتفْزِ ْز مَنِ ا ْ ويجيبه ال سبحانه {{ :قَالَ اذْ َهبْ َفمَن تَ ِب َعكَ ِمنْهُمْ َفإِنّ َ
شيْطَانُ ِإلّ غُرُورًا - }} 64السراء . عدْهُ ْم َومَا َيعِدُهُمُ ال ّ
لوْل ِد وَ ِ ل وَا َ
ل ْموَا ِك وَشَا ِر ْكهُمْ فِي ا َ
خيِْلكَ وَرَجِِل َ
عََل ْيهِم بِ َ
ن مِن دُونِهِ ِإلّ ِإنَاثًا وفي السورة الثالثة والتسعين -النساء -يأتي حديث عن الشيطان ،والمقصود به إبليس -قال تعالى {{ :إِن يَدْعُو َ
عبَا ِدكَ نَصِيبًا ّمفْرُوضًا َ 118ولُضِّلّنهُ ْم َولُ َمنّ َينّهُ ْم وَلمُرَّنهُمْ فََلُيبَّتكُنّ آذَا َ
ن ن مِنْ ِ
ل لَتّخِذَ ّل وَقَا َشيْطَانًا مّرِيدًا ّ 117لعَنَهُ ا ّ وَإِن يَدْعُونَ ِإلّ َ
ش ْيطَانُ ن وَِليّا مّن دُونِ الّ َفقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا ّمبِينًا 119يَعِدُهُ ْم َوُيمَنّيهِمْ َومَا يَعِدُهُمُ ال ّ
ش ْيطَا َ
ل َومَن َيتّخِذِ ال ّ
خ ْلقَ ا ّ
لنْعَا ِم وَلمُرَّنهُمْ فََلُيغَيّرُنّ َ
اَ
ِإلّ غُرُورًا - }} 120النساء .
ط ْعتَ
س َت َ ج َهنّمَ جَزَآ ُؤكُمْ جَزَاء ّموْفُورًا 63وَا ْ
س َتفْزِزْ مَنِ ا ْ ويرد ال سبحانه وتعالى عليه هذا الوعيد {{ :قَالَ اذْ َهبْ َفمَن تَ ِب َعكَ ِم ْنهُمْ فَإِنّ َ
عبَادِي َل ْيسَ َلكَش ْيطَانُ ِإلّ غُرُورًا 64إِنّ ِلوْل ِد وَعِدْهُ ْم َومَا يَعِدُهُمُ ال ّ ل وَا َ
ل ْموَا ِ
ك وَشَا ِركْهُمْ فِي ا َ
ك وَرَجِِل َ
خيِْل َ
عَليْهِم بِ َ
ك وَأَجِْلبْ َص ْوتِ َ
مِ ْنهُ ْم بِ َ
ك َوكِيلً - }} 65السراء ، .وفي هذا الرد توصيف لوسائل الغواء ،ومدى ما يمكن أن يكون لبليس من ن َو َكفَى بِرَ ّب َ
عََل ْيهِمْ سُ ْلطَا ٌ
أساليب تخريب الحياة اليمانية ؛ أن يستفز الناس ويستخفهم بصوته ،وأن يجلب عليهم ويصيح بهم بكل ما يملك من خيل ورَجْل ،وهو
كناية عن الضجيج والصخب ،والتسلط ،وقد يدخل في مضمون الصوت والجلبة كل كلم من العبث والمجون ،والفحش والبذاء ،
ونداءات الجنس ،وأفلم النحلل ،وكل هذه أساليب شيطانية تحقق أهداف إبليس .
وحسبنا في قول رسول ال صلى ال عليه وسلم { :إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم } ،فهو جار إلى المخ مباشرة ،ويبقى
لوْلدِ }} ،وقد فسره الزمخشري بقوله :واما المشاركة في الموالل وَا َ
ل ْموَا ِ
في اليتين السابقتين قوله تعالى {{ :وَشَا ِركْهُمْ فِي ا َ
والولد فكل معصية يحملهم عليها كالربا ،والمكاسب المحرمة ،والبحيرة والسائبة ،والنفاق في الفسوق والسراف ،ومنع الزكاة ،
والتوصل إلى الولد بالسبب الحرام ،ودعوى ولد بغير نسب ،والتسمية بعبد العزى ،وعبد الحارث ،والتهويد والتنصير ،والحمل
على الحِرَف الذميمة ،والعمال المحظورة ( ،وعدهم ) المواعيد الكاذبة من شفاعة اللهة ،والكرامة على ال بالنساب الشريفة ،
وتسويف التوبة ،ومغفرة الذنوب بدونها ،والتكال على الرحمة وشفاعة الرسول في الكبائر ،والخروج من النار بعد أن يصيروا حمماً
،وإيثار العاجل على الجل ( الكشاف . ) 457 / 2
غوَ ْي َتنِي
ب بِمَآ َأ ْ
وهذه هي أساليب الغواية الشيطانية التي نزلت فيها اليتان من سورة الحجر ،وهي الثالثة والخمسون نزولً {{ :قَالَ َر ّ
ك ِمنْهُمُ ا ْلمُخْلَصِينَ - }} 40الحجر ، .فعبارة ( لزين لهم في الرض ) جمَعِينَ ِ 39إلّ ِ
عبَا َد َ غوِ َينّهُمْ أَ ْ
ض َولُ ْ لُزَّينَنّ َلهُمْ فِي الَرْ ِ
تلخيص لما ورد من أساليب الغواية في سورة ( ص والعراف والسراء ) ،وقد جاءت اليات من سورة النساء المدنية ،وهي الثالثة
ن مِن دُونِهِ ِإلّ ِإنَاثًا وَإِن يَ ْدعُونَ ِإلّ والتسعون نزولً -وهي أيضاً آخر ما نزل في وصف ألعيب الشيطان ..قال تعالى {{ :إِن يَدْعُو َ
لنْعَامِ ك نَصِيبًا ّمفْرُوضًا َ 118ولُضِّلنّهُ ْم َو ُ
لمَّنيَّنهُ ْم وَلمُ َرنّهُمْ َفَليُ َبّتكُنّ آذَانَ ا َ عبَا ِد َ
ن مِنْ ِ
ل لَتّخِذَ ّ ل وَقَا َ ش ْيطَانًا مّرِيدًا ّ 117ل َعنَهُ ا ّ َ
ش ْيطَانُ ِإلّ ن وَِليّا مّن دُونِ الّ َفقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مّبِينًا َ 119يعِدُهُ ْم َويُ َمنّيهِ ْم َومَا َيعِدُهُمُ ال ّ ش ْيطَا َ
ل َومَن يَتّخِذِ ال ّ وَلمُ َرنّهُمْ َفَليُ َغيّرُنّ خَ ْلقَ ا ّ
غُرُورًا - }} 120النساء .
والنص هنا يذكر من أساليب الشيطان ( الضلل ) وهو لفظ عام يشمل كل ما مضى ،ويضيف النص أسلوب ( التّمنْية ) بالمانيّ
الباطلة من طول العمار ،أي :شق أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ،وجاء الخامس ذكراً ،وتحريم النتفاع بها ،ثم يلي ذلك ما كانت
تعرفه الجاهلية أيضًا من ( تغيير خلق ال ) ،وكان ذلك يتمثل في فقء عين الفحل الخامي ليعفى من الركوب ،كما يتمثل في خصاء
بني آدم ،وقيل :إن المقصود تشويه السلم ،وهو فطرة ال التي فطر الناس عليها ،وقيل :الوشم ،وقيل :التخنث ( الكشاف / 1
. ) 565 - 564
الولــى :أن إبليس فيما توعد به لم يكن يرسم خريطة الحياة الدمية المستقبلة ،ولكنه كان في موقفه يطفح حقداً ،وينطق كذباً
وغرورًا ..هو صورة مما يتمنى أن يكون ،ولسوف نجد أن ما ذكره من عوائد الجاهلية لم يكتب له البقاء ،ولم يعد له أثر ..بل تلشى
من الحياة النسانية تماماً ،ولعله استبدل به أساليب أخرى تتناسب مع فنون العصر وجنونه .
والثانية :أن تلقينا لمقولت إبليس ل ينبغي أن يخدعنا عن حقيقته ،وهي أنه غبي ومغرور ،بل هو ( الغَرور ) ..لم يتصف كائن
بذلك سواه َ {{ :ولَ َيغُرّ ّنكُم بِالِّ ا ْلغَرُورُ - }} 5فاطر ، .أي :الغوى الكبر ،وكل مواقفه وأساليبه تدل على ذلك ،ولسوف نزيد هذه
الملحظات عمقاً في حديثنا عن شخصية الشيطان كما تصورها آيات القرآن .
والثالثة :أن ما ذكرنا من أساليب الغواء الشيطاني ليس إل الشكل النظري ،والتوعد المغيظ -إن صح التعبير -فأما التطبيق
العملي فهو في كل عصر بحسبه ،ومع كل إنسان بحسبه أيضاً ،والهدف الرئيسي أن يذيد من حصيلة جهنم من بني آدم ،حتى ل
يصلها وحده ،أو مع أتباعه من شياطين النس والجن وحدهم .
ج ِمنْهَا فَِإّنكَ رَجِيمٌ 77وَِإنّ عََل ْيكَ َل ْع َنتِي إِلَى َيوْمِ الدّينِ ويبقى من هذا الحوار ما جاء في قوله تعالى في سورة ( ص ) {{ :قَالَ فَاخْ ُر ْ
ك مِنَ الصّاغِرِينَ - }} 78ص ، .وقد جاء في مقابلها في سورة العراف {{ :قَالَ فَا ْه ِب ْ
ط مِ ْنهَا َفمَا َيكُونُ َلكَ أَن تَ َت َكبّرَ فِيهَا فَاخْ ُرجْ ِإّن َ
- }} 13العراف ، .كما تكرر هذا المر بعدما أظهر إبليس من وقاحة في مخاطبة المولى عز وجل {{ :قَالَ اخْ ُرجْ ِم ْنهَا مَ ْذؤُومًا
مّدْحُورًا - }} 18 ...العراف .
خ ُرجْ ِمنْهَا فَِإّنكَ رَجِيمٌ 77وَإِنّ عََل ْيكَ َلعْ َنتِي إِلَى يَوْمِ الدّي ِ
ن وما جاء في سورة الحجر ل يختلف عما جاء في سورة ( ص ) {{ :قَالَ فَا ْ
ط مِ ْنهَا }} ،وكلهما يثير سؤالً خ ُرجْ ِمنْهَا }} أو {{ قَالَ فَا ْه ِب ْ - }} 78ص .. .وقد استـــخدم النص الكريم أحد لفظين {{ :قَالَ فَا ْ
عن المقصود بالضمير في ( منها ) ،علم يعود هذا الضمير ولم يتقدم ذكر لما يعــود إليه ؟ ..وذلك مع ملحظة أن المر موجه إلى
ضكُمْ ِل َبعْضٍ إبليس وحده ،على خلف المر الخر الذي جاء في الحوار مع آدم وزوجه ،بعد الوقوع في الخطيئة {{ :قَالَ ا ْه ِبطُو ْا َبعْ ُ
ع ُدوّ - }} 123 ...طه ، .أو {{ :قُ ْلنَا ا ْه ِبطُو ْا مِ ْنهَا ضكُمْ ِلبَعْضٍ َ عَ ُدوّ - }} 24 ...العراف ، .أو ُ {{ :ق ْلنَا ا ْه ِبطُا ِم ْنهَا َ
جمِيعًا َبعْ ُ
جمِيعاً - }} 38 ...البقرة .
َ
إن المتأمل في المـر الموجه إلى آدم وزوجه ل يعسر عليه أن يلحظ عود الضمير إلى ( الجنة ) المذكورة في السياق المتقدم من القصة
،أما المر الموجه إلى إبليس وحده فهو الذي يثير التساؤل ،وقد ذهب الزمخشري إلى أن المراد هو الهبوط أو الخروج من السماء التي
هي مكان المطيعين المتواضـعين من الملئكة إلى الرض التي هي مقر العاصـين المتكبرين من الثقلين َ {{ ..فمَا َيكُونُ َلكَ أَن تَ َتكَبّرَ
ك مِنَ الصّاغِرِينَ }} ،أي :من أهل الصغار والهوان على ال ،وعلى أوليائه لتكبرك ..وذلك أنه لما فِيهَا }} وتعصى {{ فَاخْ ُرجْ ِإّن َ
أظهر الستكبار ( ُأ ْل ِبسَ الصغار ) ( الكشاف . ) 69 / 2
ويرى صاحب المنار ( :أن الهبوط هو النحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه ،أو من مكانة ومنزلة إلى ما دونها ،ثم قال :
والضمير عائد إلى الجنة التي خلق ال فيها آدم ،وكانت على نشز مرتفع من الرض ( المنار ، ) 296 /ولعل بيان الزمخشري أقرب
إلى العقل ،لعدم تقدم ما يعود عليه الضمير ،سوى ما يفهم من المقام ،والمر ليس إهباطاً ماديًا ..بل هو نوع من الزجر ،كما قال
سبحانه وتعالى {{ :اذْ َهبْ َفمَن تَ ِب َعكَ ِم ْنهُمْ ، }} ..ولن الجنة التي وردت في الحوار مع آدم قد أسكنه ال إياها بعد صدور هذا المر
إلى إبليس ،وقريب من ذلك ما ذكـره صاحب المنار عن الحافظ ابن كثير قال ( :يقول تعالى لبليس بأمر قدر كوني :فاهبط منها
بسبب عصيانك لمري ،وخروجك عن طاعتي ،فما يكون لك أن تتكبر فيها ؛ قال كثير من المفسرين :الضمير عائد إلى الجنة ،
غرِينَ }} ..أي :الذليلين الحقيرين ..
ك مِنَ الصّا ِ
ويحتمل أن يكون عائداً إلى المنزلة التي هو فيها من الملكوت العلى {{ فَاخْ ُرجْ ِإّن َ
معاملة له بنقيض قصده ،ومكافئة لمراده بضده ،فعند ذلك استدرك اللعين ،وسأل النظرة إلى يوم الدين ) ( .المنار ، ) 297 / 8
وعلى نسق هذا السلوب تجري تعبيرات مماثلة على ألسنة العوام ،ل تراد حرفيتها ..بل المراد مضمونها الموقفي ،كقول العامة :
( اطْلَع ِمنْها وهي تِ ْعمَر ) ،فالمقصود هنا مجرد النصراف عن الموضوع ،وعدم التدخل فيه .
ولقد يعين على تبين المراد بالمر الموجه إلى إبليس ( اهبط منها ) -أنه اقترن في آية العراف بما يفسر هذا المراد ،وهو قوله تعالى :
ن }} ،و ( الهبوط ) حركة رأسية من أعلى إلى أدنى ،و ( الخروج ) حركة أفقية من مكان إلى آخر ، ك مِنَ الصّاغِرِي َ
{{ فَاخْ ُرجْ ِإّن َ
والجمع بين البعدين على المستوى المادي متناقض ،فلم يبق إل المستوى الخلقي ،وهو الهبوط من قمة الطاعة إلى درك التمرد ،
والخروج من حرم الرضوان إلى حمأة الفسوق والعصيان ،وذلك يمكن تفسير الهبوط بالخروج .
فأما أن يقال :إن الرض أقل من السماء فقول ل موضع له ،لن الكون كله خلق ال وصنعته ،وهو مجال لمره سبحانه ،ول الخلق
والمر ،والماكن تشرف بأنها صنعة الخالق ،ل بمن تعلق بها من المخلوقات طائعاً أو عاصياً ،فاستوى بذلك الظرف والمظروف ،
وقد يخص ال بعض خلقه ببعض الماكن ،كما يخص بعض الماكن ببعض خلقه ،وكل ذلك في إطار الخلق والمر ،تبارك ال رب
العالمين .
إن ال سبحانه ل يكره خلقه لذواتهم ،بل يكره منهم أفعالهم التي نهاهم عنها ،ويدعوهم إلى مزايلتها ،مزايلة لبليس الذي افتضح
أمره ،وتعرى من ملبسه ،وأغرقهم في وساوسه ،كما أن ال يدعوهم إلى فعل المأمورات حتى يحبهم ،ويزيد في الحسان إليهم ،
فمن أطاع ال فقد ارتقى في درجات المل العلى صعداً ،ومن عصا ال فقد ارتكس في دركات العذاب حُدُرًا ،وبئس المصير ،وهذا
هو الصل ،أو هي السنة التي عامل ال بها خلقه المكلفين بطاعته ،منذ كان التكليف .
يبدأ الفصل الثاني من الحوار في قصة الخلق ،بعد افتضاح أمر إبليس ،وإعلنه السافر عن عداوته لدم وذريته -يبدأ الفصل بتوجيه
جكَ
ت وَ َزوْ ُ
سكُنْ أَن َ
ال لدم أن يسكن هو وزوجه ( حواء ) الجنة ،وأول آية تحدثت عن هذا التوجيه هي آية العراف {{ :وَيَا آدَمُ ا ْ
ل تَقْ َربَا هَـ ِذهِ الشّجَ َرةَ َفتَكُونَا مِنَ الظّاِلمِينَ - }} 19العراف .
ش ْئُتمَا َو َ
ح ْيثُ ِ
جنّةَ َفكُلَ مِنْ َ
الْ َ
ول مناص من التسليم بأن آدم هو ابن الرض ،وقد كانت حياته قبل الصطفاء وبعد الصطفاء على الرض ،وقد اختار ال للزوجين
بقعة رائعة من البقاع المثمرة ،توفر فيها الغذاء ،والكساء ،والماء والظل ،وسائر مقومات الحياة الرخية ،وقال له {{ :إِنّ َلكَ َألّ
ل تَضْحَى - }} 119طه ، .وكان لهذه الجنة ( أو الحديقة ) وظيفتان : تَجُوعَ فِيهَا َولَ َتعْرَى 118وََأّنكَ َ
ل َتظْمَأُ فِيهَا َو َ
الولـى :أن يمارس فيها آدم أساسيات الرسالة التي اصطفاه ال لتبليغها إلى ذريته ،ول سيما التكاليف الخلقية ،والتعاليم الدينية
المتصلة بالدنيا والخرة ،وهو ما يبدو متألقاً في قصة ابني آدم ( هابيل وقابيل ) في سورة المائدة ،ول ريب أن الولدين قد تلقيا عن
أبيهما كل ما دار في حوارهما من تعاليم كالتقوى والفجور ،والتوحيد والشرك ،والحلل والحرام ،والعدل والظلم ،والجنة والنار ،
وفي هذه الجنة الرضية كانت الخطيئة التي سوف نتعرض لمناقشتها بعد قليل .
الثـانيـة :أن هذه الجنة كانت بمثابة الملجأ المن الذي يعزل آدم وزوجه بعد الصطفاء -عن سائر البشر -خارج نطاق التكليف
الديني .ريثما تخلي الساحة الرضية من وجودهم ..إذ إن الرض لم تكون بعد ذلك إل لدم وذريته ،وهي بداية العهد النساني .
لقد خلق آدم من تراب الرض ،ليعمر هذه الرض ،وذلك قدر ال منذ شاء خلق البشر ،وهم أصول آدم .
وما أشبه ما حدث آنذاك ،حين عزل آدم وزوجه في الجنة ،بما حدث بعد ذلك إبان الطوفان ،فقد حمل نوح في فلكه من كلّ زوجين
ل بُعْداً
ي وَقِي َ
س َت َوتْ عَلَى الْجُودِ ّ
ك حتى {{ وَا ْ
اثنين ،وأهله معه ثم تولى الطوفان تطهير الرض من المشركين وآثارهم ،وقاد نوح الفُ ْل َ
لّ ْل َقوْمِ الظّاِلمِينَ - }} 44هود ، .لقد كان بدأ العهد النساني يتطلب إخلء الرض من المفسدين وسفاكي الدماء وهو ما تولت القدرة
اللهية تنفيذه فترة سكني آدم وزوجه في الجنة .
على أننا ينبغي أل تفوتنا ملحظة ظهور زوج لدم ،لم يرد ذكرها قبل ذلك ،وهو ما يعني أن آدم كان متزوجاً قبل الستخلف
والصطفاء ،وذلك ما يدل عليه سياق القصة .يقول الشيخ رشيد رضا ( :والية تدل على أن آدم كان له زوج ..أي :امرأة ،وليس في
القرآن مثل ما في التوراة من أن ال تعالى ألقى على آدم سباتًا ،انتزع في أثنائه ضلع من أضلعه فخلق له منه حواء امرأته ،وأنها
سميت امرأة ( لنها من أمرىء أخذت ) ،وما روى في هذا المعنى فهو مأخوذ من السرائيليات ،وحديث أبي هريرة في الصحيحين :
جلٍ - }} 37 ...النبياء ، .بدليل قوله ( :فإن ذهبت تقيمه كسرته ،ن مِنْ عَ َ
( فإن المرأة خلقت من ضلع ، ) ..على حد {{ خُِلقَ الِْنسَا ُ
وإن تركته لم يزل أعوج ،فاستوصوا بالنساء ) ..أي ( :لتحاولوا تقويم النساء بالشدة ) ( المنار . ) 308 / 8
وعلى أية حال فإن اختيار القرآن إبراز وجود الزوج كان على أعتاب الجنة ،ودخل الزوجان الجنة أو السكن الذي اختاره ال لهما
ليبدءا حياة ل يدريان من ملمحها إل ما أذن ال لهما بمعرفته ،فليست هذه الجنة نهاية المطاف ،ولكنها مرحلة سوف تشهد أحداثًا
وفصولً في قصة الحياة على هذه الرض .
على أن من الضروري أن نشير هنا إلى أن دللة لفظ ( :الجنة ) على ( البستان الرضي ) هي الدللة الحقيقية والصلية ،وفي مقابلها
دللة اللفظ على ( دار النعيم الخروي ) ،وهي دللة مجازية ،جاء بها القرآن ،كما جاء بالدللة الحقيقية ،ومن ذلك ما جاء في سورة
صبِحِينَ َ 17ولَ
سمُوا َليَصْ ِرمُّنهَا مُ ْ
جنّةِ إِذْ َأقْ َ
( القـلم ) ،وهي السورة الثانية نزولً -من قوله تعالى ِ {{ :إنّا بََل ْونَاهُ ْم كَمَا بََل ْونَا أَصْحَابَ الْ َ
يَسْ َتثْنُونَ - }} 18القـلم ، .وهو أول استعمال للفظ ( الجنة ) في القرآن ،فجاء به على دللته الصلية ( البستان ) ،ثم ثنّى بذكر جنة
جنّاتِ الّنعِيمِ - }} 34القـلم ، .وكأن القرآن قصد إلى إثارة المقابلة الخرة في نفس السورة ،في قوله تعالى {{ :إِنّ لِ ْل ُمتّقِينَ عِندَ َرّبهِمْ َ
بين ( جنة ) الدنيا ،وهي عرضة للنوازل ،و ( جنات النعيم ) في الخرة ..ينالها المتقون ،وذلك في فترة مبكرة جداً من نزول الوحي
القرآني ،فسورة القلم هي ثاني سور القرآن نزولً .
ونعود إلى الجنة وساكنَيْــهَا اللذين ذودهما ربهما بكل ما يلزمهما من تنبيهات وتحذيرات من حقد إبليس عليهما ،ولكن هيهات لدم
وزوجه ،وهما حديثا عهد بالتكاليف ،قليل الخبرة بألعيب العدو وأخلقه الوضيعة ..هيهات لهما أن يقاوما ما واجها معه من إغراء ؛
أثار شهيتهما ،وحرك غرائزهما .
ل َتقْرَبَا هَـ ِذهِ الشّجَ َر َة }} ،وما أعظم ما أباح لهما من ِنعَم ،وما منحهما من الحرية ، شئْ ُتمَا وَ َ
حيْثُ ِ
ل مِنْ َ
لقد كان توجيه ال لهما {{ :كُ َ
بالقياس إلى ما منعهما منه ،وجاء الشيطان يوسوس لهما ،صارفًا لهما عن نعم ال الوفيرة والمباحة ،مركّزا على تلك الشجرة
عنْ هَـ ِذهِ الشّجَ َرةِ ِإلّ أَن َتكُونَا مََلكَيْنِ َأوْ المحظورة ،وهي معيار الطاعة والمعصية ..جاء الشيطان قائلً لهما {{ :مَا نَهَاكُمَا َرّبكُمَا َ
تَكُونَا مِنَ الْخَاِلدِينَ - }} 20العراف ، .كانت القضية واضحة ،تتعلق بتوجيه ال سبحانه لهما أل يأكل من الشجرة ،وكان هدف
الشيطان أن يأكل من الشجرة وأن يفعل ذلك بأي ثمن من الكذب والخداع ،فهو إذاً التصادم بين أمر ال وهدف الشيطان ،وقد بدأ
ج َمعِينَ - }} 39الحجر ، .ول ريب أن تلك غ ِويَّنهُمْ أَ ْ
ض َولُ ْ
يمارس مهمة الغواء ،وينفذ وعيده الذي أعلنه {{ لُ َزّينَنّ َلهُمْ فِي الَرْ ِ
الشجرة كانت مغرية ،تدعو إلى تجربة مذاقها ،وجاء إبليس بكلم كله كذب ،فربط بين الشجرة والرتقاء إلى درجة الملئكية ،أو
تحقيق الخلود ،وكل المرين مطمح لدم وزوجه ،لقد علما أن ل ملئكة مقربين ،مخلوقين من النور ،لهم عند ال الدرجات العلى ،
كما علما أن كل نعيم ل محالة زائل بالموت ،كما فنيت اجيال قبلهما ،ول مهرب من الموت إل بتحقيق الخلود ،وما أعزه مطلباً ،وما
أهونه وسيلة ،أن يأكل من الشجرة ..مجرد مذاق ..ولن يكلفهما ذلك إل أن يمدا أيديهما إلى ثمرها ،وزادهما تعلقاً بالدخول في هذه
سمَ ُهمَا ِإنّي َلكُمَا َلمِنَ النّاصِحِينَ - }} 21العراف التجربة أن اللعين أخذ يقسم لهما بال إنه يريد صالحهما ،وإنه ناصح لهما {{ وَقَا َ
، .وهو كاذب في كلمه ،كاذب في قسمه ،ولكنهما لم يتصورا أن يوجد من يجرؤ على الكذب بهذه الصورة الفاجرة ،حتى ولو كان
شقَىجنّةِ َفتَ ْ
جنّ ُكمَا مِنَ الْ َ
ل يُخْرِ َ
جكَ فَ َ ك وَلِ َزوْ ِ
إبليس ،وغاب عنهما تماماً في هذه اللحظة تحذير ال لهما َ {{ :فقُ ْلنَا يَا آدَمُ ِإنّ هَذَا عَ ُدوّ ّل َ
ل ِمنْهَا }} ،في لحظة ذهول وضعف ، - }} 117طه ، .وعل صوت الشيطان في أذنيهما يدعوهما أن يأكل من الشجرة {{ ،فََأكَـ َ
وكانت القشة التي قسمت ظهر البعير ..كانت الخطيئة التي جعلتهما من الظالمين ..يا لهول الموقف !!
أية شجرة هذه التي كان القتراب منها سبباً في تتابع تلك النتائج الهائلة في حياة النسان ؟!
لسنا نميل إلى التعويل على معرفة نوعها ،أو أثرها ،فكل ذلك ل يهم ،إذا ماقيس بموقف معصية الله العظيم ،رغم التحذير
والتذكير ،يقول الستاذ سيد قطب ( :ويسكت القرآن عن تحديد هذه الشجرة ،لن تحديد جنسها ل يذيد شيئاً في حكمة حظرها ،مما
يرجح أن الحظر في ذاته هو المقصود ،لقد أذن ال لهما بالمتاع الحلل ،ووصاهما بالمتناع عن المحظور ،ول بد من محظور يتعلم
منه هذا الجنس أن يقف عند حد ،وأن يدرب المكوز في طبعه من الرادة التي يضبط بها رغباته وشهواته ،ويستعلي بها على هذه
الرغبات والشهوات ،فيظل حاكماً لها ..ل محكوماً بها كالحيوان ،فهذه هي خاصية ( النسان ) ( الظلل . ) 129 / 8
ط ِفقَا
س ْوءَاتُ ُهمَا َو َ
وهكذا -رغم التحذير اللهي -سقط الزوجان في شرك الغواية {{ :فَ َدلّ ُهمَا ِبغُرُورٍ َفَلمّا ذَاقَا الشّجَ َر َة بَ َدتْ َلهُمَا َ
جنّةِ - }} 22 ...العراف ، .وعبارة القرآن ( فدلهما بغرور ) تعني أنه أوقعهما في الغرور والنخداع عَليْ ِهمَا مِن وَ َرقِ الْ َ
صفَانِ َ
يَخْ ِ
حين استدرجهما إلى الحضيض ،والتدلية :السقاط إلى السفل وتلك هي النتيجة الخلقية التي قصد إليها الشيطان ؛ أن يكشف عن
ضعف آدم وزوجه ،لنهما -في رأيه -ل يستحقان التكريم الذي خصهما ال به ،وبذلك لم يعد الشيطان وحده هو المتورط في
المعصية ..بل ( استوى الماء والخشبة ) ،فهما في الخطيئة سواء ،غير أن وصف القرآن للثار المادية للكل من الشجرة يستاهل
الوقوف عنده والتأمل في واقعة المعقول .
لقد تناقل المفسرون رأياً واحداً عن السوأة ،وهي العورة ،وقالوا -دون اختلف -إن نتيجة الكل من الشجرة كانت ظهور عورة كل
منهما لنفسه ولصاحبه ،وكانا من قبل ل يريان ذلك لمواراة سوأتهما عنهما ،والغريب أن يقول صاحب المنار ( :والقرب عندي أن
معنى ظهورهما لهما أن شهوة التناسل دبت فيهما بتأثير الكل من الشجرة ،فنبهتهما إلى ما كان خفي عنهما من أمرها ،فخجل من
ظهورها ،وشعرا بالحاجة إلى سترها ،وشرعا يخصفان ،أي :يلزقان ،أو يضعان ويربطان على أبدانهما من ورق الجنة ) ( المنار
. ) 311 / 8
إن كل مايقال في مسألة ( السوأة ) هو محض اجتهاد يسمح به أسلوب الية ووصفها لما حدث .وعلى ذلك يجوز أن نجتهد في فهمها
انطلقاً من الملحظات التية :
- 1أن القرآن ذكر ( السوأة ) بالجمع مضافًا إلى مثنى ،وهو ما يعني أن ما بدا منهما ليس عورتيهما ..بل هي عورات كثيرة ،ولو
كانت العورة الغليظة هي المقصودة لقال النص الكريم ( بدت لهما سوأتاهما ) ،لكن الجمع يوحي لنا بمعنى آخر .
- 2افتراض أنهما فوجـئا برؤية ما لم يكونا يريانه مخالفاً لمعنى الزوجية ،وسنة ال فيها ،وآراء المفسرين قائمة على افتراض أنهما
أول زوجين في تاريخ البشرية ،وهو أمر أثبتنا خلفه ،فقد كان التصال الجنسي بين الذكور والناث -منذ مليين السنين -بل قيد أو
شرط خلل العهد البشري ،حيث لم يكن دين ول تكليف .
ن كَمَا أَخْ َرجَ - 3أن آدم لم يكن يعيش في الجنة عارياً بدائيًا ،وهو ما قرره القرآن في قوله تعالى {{ :يَا بَنِي آدَ َم لَ َي ْفتِ َنّنكُمُ ال ّ
ش ْيطَا ُ
س ْوءَا ِت ِهمَا - }} 27 ...العراف .
سهُمَا ِليُ ِريَ ُهمَا َ
عنْ ُهمَا ِلبَا َ
جنّ ِة يَن ِزعُ َ
َأ َبوَ ْيكُم مّنَ الْ َ
فقد شعرا حين ذاقا الشجرة أنهما خالفا أمر ربهما ،وقد حزرهما من الشيطان تحذيراً صارماً ،ومعنى ذلك غضب ال عليهما ،وهو ما
هيج مشاعرهما ،ووضعهما في مواجهة عاقبة ل يحتملنها .
وركبهما الندم من هذا التعري أمام ال ،فأخذا يحاولن التخبؤ والستتار حياءً منه وخجلً ،وذلك بأن يتخذا من ورق الجنة غطاء
يسترهما ،وكأنهما يهيلن عليهما هذا الورق .
ع ُدوّ ّمبِينٌ - }} 22 ش ْيطَآنَ َلكُمَا َ وبَ ْينَما هما في هذه الحال الرعيبة {{ نَادَا ُهمَا َرّبهُمَا أََلمْ َأ ْنهَ ُكمَا عَن تِ ْل ُكمَا الشّجَ َر ِة وَأَقُل ّلكُمَا ِإنّ ال ّ
ن مِنَ
حمْنَا َل َنكُونَ ّ
العراف ، .وكان هذا النداء بمثابة حبـل النقاذ لهـما فتعلقا به وقال َ {{ :رّبنَا ظََل ْمنَا أَنفُسَنَا وَإِن لّ ْم َتغْفِرْ َلنَا َوتَرْ َ
الْخَاسِرِينَ - }} 23العراف .
وهذه الكلمات هي التي أشارت إليها الية الكريمة َ {{ :فتََلقّى آدَ ُم مِن ّربّ ِه كَِلمَاتٍ َفتَابَ عََليْهِ ِإنّهُ ُهوَ ال ّتوّابُ الرّحِيمُ - }} 37البقرة .
ن مِن
جهَالَ ٍة ثُ ّم َيتُوبُو َ
س َوءَ بِ َ
ن يَ ْعمَلُونَ ال ّ
ويمكن تفسير نسيان آدم بأنه داخل في مضمون الجهالة في قوله ِ {{ :إنّمَا ال ّتوْبَةُ عَلَى الّ لِلّذِي َ
قَرِيبٍ - }} 17 ...النساء .
وهو موقف يختلف عن موقف إبليس الذي علم السوء ،وفعله ،وأصر عليه ،ولذا استحق آدم وزوجه أن يتوب ال عليهما .
وعند هذا المقطع من تسلسل الحداث اكتملت معادلة الحياة الدنيا بكل عناصرها ( :المر -الوسوسة -المخالفة -الندم -المغفرة ) ،
فآن الوان لنزول آدم إلى معترك الحياة الدنيا ،وقد ترسخت في عقله ونفسه تلك المعادلة ،بعد أن هيئت له الساحة ،وأخليت الرض
من المفسدين وسفاكي الدماء ،ولم يعد فيها سوى النسان الجديد ( ،آدم :أبي النسان ،وحواء :أمه ) في مواجهة إبليس عدوهما
س َتقَرّ َو َمتَاعٌ ِإلَى حِينٍ 24قَالَ
ض مُ ْ
ضكُمْ ِل َبعْضٍ عَ ُد ّو وََلكُمْ فِي الَرْ ِ
اللدود ،وقامت الحياة على هذا العداء المتبادل {{ :قَالَ ا ْه ِبطُواْ َبعْ ُ
ن وَفِيهَا تَمُوتُونَ َو ِمنْهَا تُخْرَجُونَ - }} 25العراف .
ح َيوْ َ
فِيهَا تَ ْ
ولسنا بحاجة إلى تكرار أن المر بالهبوط مرادف للمر بالخروج .
{{ الفصل السادس من الباب الثاني }}
ال
*****
-"-ال -"-
كان القرآن -ول يزال -الوثيقة اللغوية التي نعتمد عليها في معرفة السماء التي وردت في قصة الخلق ،وما يتصل بها ،وأقدم
السماء على الطلق هو لفظ الجللة ( ال ) ،فهو الول بل بداية ،والخر بل نهاية ،والمفروض أنه قبل ظهور ( النسان ) -لم يكن
البشر يعرفون شيئًا سوى ما تهيئه لهم طبيعة مرحلة النمو التي يعيشونها ،فقبل أن يكون العقل ،وقبل أن تتكون اللغة لم يكونوا يدركون
شيئاً عن حقيقة الحياة ،وطبيعة الوجود ،إلى أن كان اصطفاء ( آدم ) فعرفت الخليقة خالقها ،بدءاً من معرفة آدم لربه ،وفي نفس
الموقف برزت أسماء بعض المخلوقات :الملئكة -البشر -آدم -إبليس ،ول ريب لدينا في أنها أسماء قديمة ،استخدمت قبل أن تظهر
العربية إلى الوجود ،وقد وردت هذه السماء في كلم ال ضمن حديث القرآن عن قصة الخلق ،أولى قصص الوجود البشري
والنساني معاً .
ونحن ل نتصور أن هذه السماء كلمات مأخوذة من العربية للتعبير عن شخصيات القصة ،فقد كانت القصة قبل أن تكون اللغات
بالشكل المعروف ،نوعًا وعدداً ،وقد عرفت تلك الشخصيات بهذه السماء التي جاءت في كلم ال ،وهذا هو السر في شيوعها في
كثير من اللغات النسانية بصور نطقية متقاربة ،فلفظ الجللة ( :ال ) معروف هكذا في اللغات السامية القديمة ،ومنها العربية ،كما
تعرفه اللغات الوروبية .
ع ،أو بمعنى
ولقد حاول الشتقاقيون أن يردوا لفظ الجللة ( ال ) إلى جذر اشتقاقي ،فقال كثير منهم بأنه مشتق من ( أَلِ َه ) بمعنى :فَ ِز َ
:تحير ،أو بمعنى :عبد ،أو بمعنى :أقام ،وقال بعضهم :إنه من ( َولِه ) بمعنى :أحب ،وقال غيرهم :إنه من ( له ) بمعنى احتجب
أو ارتفع .
وفريق ثالث قال :بأنه غير عربي ،فهو سرياني -أو عبراني .
والذي نراه أن ذلك كله خبط في ظلماء مدلهمة لن ال سبحانه أخبر عباده بأنه ( ال ) ،وطلب منهم أن يعبدوه ويوحدوه لنه ( ال ) ،
والخطاب هنا ليس عربياً لقوم عرب ..بل هو خطاب إلهي كوني صدر عن خالق الكون ،والنسان ،واللغات ،فهو إذن ليس أسماً
صاغته ألسنة المخلوقات ..بل تلقته هذه اللسنة من المل العلى عَلَماً على ذات المعبود بحق ،واستوعبته العربية ،كما استوعبته سائر
اللغات التي تلقت رسالت السماء ،ونطقت به حسب قوانينها ،وتقاليدها ،وقدرتها النطقية .فل ينبغي أن يدرج في معجم العربية على
أنه كلمة من كلماتها ..بل على أن اللسان العربي نطقه هكذا كما لقنه ،وكما نطقه غير العرب ،وقد اخترع العبرانيون إلوهيم ،أو
يهوه ،كما ورد إيل ،وإلّ ،ولكن يبقى ( ال ) ،وتتلشى كل الختراعات أو الواردات فلفظ الجللة هو أصل السماء ،وأولها ،
س َنتِكُ ْم وَأَ ْلوَا ِنكُمْ ...
ختِلَفُ أَلْ ِ
ض وَا ْ
ت وَالَْرْ ِ
سمَاوَا ِ
خ ْلقُ ال ّ
ن آيَاتِهِ َ
ومصدرها ،كما أنه مصدر اللغات واللسنة ،وصدق ال {{ :وَمِ ْ
- }} 22الروم ، .وهو القديم ،وما سواه محدث ،وهو قديم بذاته ،وبإسمه قبل أن تكون اللغات ..بل قبل أن تكون الكائنات .
-"-الملئكــــة -"-
وأما عن ( الملئكة ) فهي كلمة إسلمية أيضاً ..لم تستخدم في العربية قبل أن يرد ذكرها في بداية الوحي ،في سورة المدثر ،وهي
رابع سور القرآن نزولً ،وقد ردها اللغويون إلى الجذر ( ألك ) ،الذي اشتقت منه كلمة ( مَاْلك ) ،ثم حدث قلب مكاني ،فصارت
( مًلك ) ،ثم جمعت فصارت ( ملئكة ) ،ول دليل على استخدامها في العربية قبل القرآن .
وأقطاب ( الملئكة ) ،وفي مقدمتهم ( جبريل وعزرائيل ) ،جاءت تسمياتهم مركبة ،وهي شائعة في كثير من اللغات ،فكلمة
( جبرائيل ) جزءُها الول ( جبر ) بمعنى ( رجل ) ،وكلمة ( عزرائيل ) جزءُها الول ( عزر ) بمعنى ( قوة ) ،وهما مضافتان إلى
لفظ ( إيل ) ..أي :ال ،وكأن الول يعني ( رجل ال ) ،والثاني هو ( قوة ال ) ،وهي ترجمة متخيلة بقدر ما تسعه اللغة النسانية ،
وإل فليس في الملئكة رجال أو نساء ،ول يليق أن تحصر قوة ال في ملك مخلوق واحد ..بل إن التجريد هنا غير لئق ،إذ إن القوة
ي الحياء مَعْ ُزوٌ في القرآن إلى ال ( ومنها :القوي ) من أسماء ال وصفاته الحسنى ،وليس مَلَكاً بعينه ،خاصة أن اختصاص َتوَف ّ
ح َدكُمُ ا ْل َم ْوتُ َتوَ ّفتْهُ رُسُُلنَا لّ َي َتوَفّى الَْن ُفسَ - }} 42 ...الزمر ، .ومَعْ ُزوٌ إلى رسل ال من الملئكة َ {{ :
حتّىَ إِذَا جَاء أَ َ سبحانه {{ :ا ُ
ل ِبكُمْ - }} 11 ...السجدة .. .أي :إن قوة الماتة - }} 61 ...النعام ، .ومَعْ ُزوٌ إلى ملك الموت {{ ُق ْ
ل يَ َتوَفّاكُم مَّلكُ ا ْل َم ْوتِ الّذِي ُوكّ َ
ليست محصورة في ملك بعينه ،وعلى أية حال فإن القرآن لم يذكر من أسماء الملئكة سوى ( جبريل وميكال ) ،ولسنا مكلفين بترجمة
معاني هذه السماء ،أو التعمل معها على أساس معانيها ،فالسماء ل تعلل ،إنما هي كتل صوتية ل يلتفت إلى مكوناتها .
إن ذلك يعني أن هذه التسميات كانت قبل اللغة العربية ..بل هي فعلً قبل اللغات البشرية ،وأن ما حاول الشتقاقيون أن يستخرجوه من
المعاني في ضوء الربط بيم السم ،وجذره اللغوي المفترض -هو في الحقيقة افتعال يقلب القضية رأساً على عقب !!
-"-آدم -"-
لقد حاول الشتقاقيون أن يجدوا لدم أصلً في ( أديم الرض ) الذي خلق منه ،والحق -في نظرنا -أن أديم الرض اشتق من ( آدم )
الذي يعني ( النسان ) بالمعنى العام في كثير من اللغات ،وكان مرتبطًا دائماً بالتراب ،والطين ،فأطلق على مادته التي خلق منها :
أديم ،على سبيل الشتقاق من الجوامد ،وهو مجاز مرسل علقته الصلية والفرعية ،إن صح التصور .
ويمكن أيضاً أن يقال :إن ( آدم ) بمعنى :الجلد ..مشتق كذلك من ( آدم ) ،ويطلق على الجلد :البشرة ،وللبشرة علقة لفظية بالكلمة
القديمة الولى في ملحمة الخلق ،كلمة ( بشر ) التي تفردت بها العربية -كما سبق أن قلنا .
-#-إبليــس -#-
أما كلمة ( إبليس ) فهي موجودة في لغات قديمة كاليونانية ( ديابولوس ) ،وهي كلمة تبدو مركبة من جزئين ( :ديا +بولوس ) ،وقد
أخذت اللغات الوروبية ،باعتبرارها أحدث من اليونانية -الجزء الول من التركيب ( -ديا ) ( ،ديابل ، ) Diableوأخذت العربية
وأخواتها الساميات الجزء الثاني من التركيب كما هو ( إبليس ) مع تنوع في طريقة النطق ،هذا ما قرره محقق الزينة .
ول يبعد في تقديرنا أن تكون الكلمة من عطاء القرآن للعربية ..وهي أقدم اللغات السامية .فلم نعثر على ما يشهد بوجودها قبل السلم
في لسان العرب ..بل إن الكلمة ليس لها مقابل لفظي أو دللي في العبرية ،وقد وردت لول مرة في القرآن في سورة ( ص ) ..أي :
في سياق قصة آدم ،وذكر المعجم الوسيط أن جمع الكلمة :أبالس ،وأبالسة .
أما كيف عالج أهل اللغة لفظها ومعناها ؟!
فقد قال اللغويون العرب :إنه على وزن إفعيل ،مشتق من أبلس الرجل :إذا انقطع ولم تكت له حجة ،ويقال :هو من يَ ِئسَ ،قالوا في
تفسير قوله تعالى {{ َفإِذَا هُم مّـبْلِسُونَ }} ،قال :يائسون ،قال ابن عباس ( :لما لعنه ال أبلس من رحمته ) ،وقال الفراء :
( مبلسون ،يعني :في العذاب ) ،وقال ( :المبلس :اليائس من النجاة والقانط ،وهو أيضًا المنقطع الحجة ) .
ويقال أيضاً :أبلس ،إذا سكت ولم يُجِ ْر جوابًا ، ..ويقال :ال ُمبْلسُ :الحزين النادم ،وقد أبلس الرجل إبلساً ،أي :اكتأب وحزن ،وفي
قوله تعالى {{ ُيبِْلسُ الْـمُجْرِمُونَ }} ،أي :يندمون ،ويكأبون وييأسون ،وقال مجاهد في قوله تعالى {{ ُيبِْلسُ الْـمُجْرِمُونَ }} ..قال :
البلس :الفضيحة ،وقال غيره :البلس :الخشوع {{ ..فَِإذَا هُم مّـبْلِسُونَ }} ،قال :خاشعون ،وقال غيره :المبلس :المتروك
المخذول .
قال صاحب الزينة ( :وكل هذه المعاني قد جاءت في البلس ،وهي قريبة بعضها من بعض ،فكأن إبليس هو مأخوذ من ذلك ،لنه
ل منقطع الحجة ،ساكتاً ،فقيل له :إبليس ) ( الزينة
افتضح بعصيانة ،فيئس من رحمة ال ،وحزن وندم ،فصار مخذولً متروكاً ،ذلي ً
. ) 193 - 192 / 1
هذه -كما قلنا رؤية الشتقاقيين العرب ،ويكفي أن نلحظ خطأ استنباطها حين رأى صاحب الزينة أنه قيل له ( :إبليس ) بعد أن حدث
له ما حدث ،على حين أن ( إبليس ) كان قبل أن يحدث شيء من ذلك !! وإن أطلق عليه بعضهم قبل افتضاحه ( عزازيل ) !! ولم يثبت
ذلك !!
ويرى علماء الغرب أن الكلمة دخلت محرّفه في العربية من اليونانية ( :ديابولوس ) ،وجاء في المعجم الكبير : 161 / 1أن العرب
حذفت ( ديا ) في أول الكلمة ،وتوصلوا للنطق بالساكن بزيادة اللف في أوله ،وأنه لم يرد ذكره في المعاجم الرامية والسريانية .
يقول محقق الزينة ( :قد يكون العرب أخذته من اليونانية مباشرة باتصالهم بنصارى العرب الموالين للكنيسة البيزنطية ،كما أشار إليه
( جفري ) ( الزينة :السابق -هامش ) .
ونقول بعد هذا كله ما سبق أن قلناه من أن ذلك افتعال يقلب القضية رأساً على عقب ،والذي نراه هو اللفظ قديم ،مستمد أساساً من علم
ال بالقضية ووقائعها ،وعناصرها ،وأن هذه اللفاظ دخلت اللغات النسانية عن طريق الديان ،والكتب المقدسة ،بأية لغة كانت هذه
الكتب .وقد يتفق هذا مع ما قاله أبو عبيدة من أن اللفظ اسم أعجمي ،غير أن العجمية تعني في اصطلح العلماء :أن اللفظ ( إبليس )
مستمد من لغة غير عربية ،وهو ما نحاول هنا أن ننفيه ،فاللفظ مستمد من علم ال ،وهو اسم لذلك ( المخلوق اللعين ) ،ويكفي أن
نتعامل معه بهذا العتبار ،دون حاجة إلى تأصيله في العربية ،أو تحليل مادته اللغوية ،وإرجاعه إلى جذر اشتقاقي ،فذلك كله في
نظرنا تلفيق ل يفيد اللغة شيئًا ،مهما فسر ( البلس ) بما ذكر من المعاني السابقة ،وقد حدث للكلمة في الستعمال العربي بعض
النضج ،فجمعت ،واشتق منها ( البلسة )
-#-الشـيـطان -#-
أما كلمة ( شيطان ) ،وجمعها :شياطين فهي عربية قديمة ،وقد تكون من الصل :شطن ،بمعنى البعد ،فالكلمة بوزن فيعال ،والنون
أصلية ،وقد تكون من الصل شيط ،شاط ،أي :احترق من الغضب ،فيكون بوزن فعلن ،نحو :حيران ،وهيمان ،فالنون زائدة ( .
الزينة . ) 180 - 179
ويطلق على كل عات متمرد من الجن والنس والدواب :شيطان ،ويقول العرب لكل منفرد بقوته وجلده ،قوي مستقل بنفسه ،منهمك
في أمره :شيطان ،قال جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزلي *** وكُنّ يهوينني إذ كنت شيطاناً
أي :إن النساء يدعونه ( شيطانًا ) لتفرده بأفعال الشيان من الغزل وغيره .
ويطلق اسم ( شيطان ) على الحية خفيفة الجسم قبيحة المنظر ،وهو أحد وجهي التفسير في قوله تعالى {{ :طَ ْل ُعهَا كََأنّهُ ُرؤُوسُ
شيَاطِينِ - }} 65الصافات .أنظر ( الزينة . ) 181 /
ال ّ
ومن صفات الشيطان ( الغول ) ،وهو ساحر الجن ،وكذلك ( السعلة ) وهي أخبث من الغول وأعظمها سحراً .
ومن صفاته ( :الوسواس الخناس ) ،والوسواس هو الذي يلقي بوسوسته في القلوب ،حتى يختبل النسان ،والخناس هو الذي يهرب
عند ذكر ال سبحانه .
ومن صفاته ( الغرور ) لم يوصف بذلك غير الشيطان ،وهو وصف على فعول ،مثل ظلوم وحقود وتؤوم -صفات مبالغة -وقد يفسر
خبّل
( الطيف ) أو ( الطائف ) بأن المقصود به الشيطان ،وكذلك ( الخيال ) ،ويذكر صاحب الزينة أن من الشياطين جنساً يقال له ( :ال ُ
) ،وهم الذين يُخّــبلَون الناس ويؤذونهم ،وقد يدفعونهم إلى الجنون ..يقال :رجل مُخَـبّل :إذا كان به مس من الجن ،والخبال هو
الجنون واختلط العقل .
جبْتِ
ن بِالْ ِ
ب ُيؤْ ِمنُو َ
ومن أسماء الشيطان أيضاً ( الطاغوت ) ،وهو وارد في قوله تعالى َ {{ :ألَ ْم تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُو ْا نَصِيبًا مّنَ ا ْل ِكتَا ِ
وَالطّاغُوتِ - }} 51 ...النساء .
ن َكفَرُواْ َأوِْليَآؤُهُمُ الطّاغُوتُ - }} 257 ...البقرة .
،وقوله {{ :وَالّذِي َ
وواضح أن وظيفة القرين بمقتضى اليات شر كل الشر ،غير أن أثر وجود القرين انحصر في الغفلة عن ذكر ال ،أو محاولة
الغفال ،والمشاغلة بالدنيا ،والعكوف عليها ،دون تجاوز ذلك إلى اختصاص الشيطان الكبر ( إبليس ) الذي يحرص على أن يحقق
من وراء إغوائه الشرك بال ،فهو يترك أسباب الشرك من المعاصي ،ومقدماته من الثام لمساعديه من شياطين الجن والنس ،حتى
إذا شارف النسان حدود الشرك تحرك الملعون بصوته وخيله ورجله ليتم مهمته الكبرى ،ويشهد انتصار وعيده ،وتفوق الغواية على
الهداية .
وجاء في الثار ذكر شيطان اسمه ( خنزب ) ،فذلك في حديث مرفوع عن ابن مسعود :أن للشيطان لمة لليعاد بالشر ،والتكذيب
بالحق ،والقنوط من الخير ،ويبدو أن هذا الشيطان متخصص في الحيلولة بين المؤمن وصلته ( .زاد المعاد . ) 39 / 2
وقد ورد ذكر إبليس في القرآن إحدى عشر مرة ،منها عشر مرات في مكة ،ومرة واحدة في المدينة في سورة البقرة .
ويلحظ أن مواضع ذكره لم تتجاوز قصة آدم في تسع مرات ،وجاء ذكره مرتين في غير القصة ،إحداهما في سورة الشعراء ،في
جمَعُونَ - }} 95 سياق يتحدث عن المشركين ،ممن اتخذوا من دون ال آلهة ،قال َ {{ :ف ُكبْ ِكبُوا فِيهَا هُ ْم وَا ْلغَاوُونَ 94وَ ُ
جنُودُ ِإبْلِيسَ أَ ْ
الشعراء ، .وموضوع الية جنود إبليس ،ل إبليس ذاته ،وإن كان إمام أهل النار ،والخرى في سورة سبأ في سياق يتحدث عن
ظنّهُ فَاّتبَعُوهُ ِإلّ فَرِيقًا مّنَ
س َعَليْهِمْ ِإبْلِي ُ
موقفهم من دعوة ال ،فأرسل ال عليهم سيل العرم ،وسجل ذلك عليهم فقال {{ :وََلقَدْ صَ ّدقَ َ
ا ْل ُم ْؤمِنِينَ - }} 20سبأ ، .وواضح أن الواقعة تشهد بأن إبليس ماثل بشخصه في الموقف ،فقد حقق وعيده حين قعد لبني آدم على
طكَ الْـمُسْتَـقِمَ }} -فدفعهم إلى اتخاذ الشركاء ،وأضلهم فكانوا من الغاوين . ل ْقعُـدَنّ َلهُمْ صِرَا َ
طريق السلم َ {{ :
فإذا لحظنا أن إبليس لم يذكر في وحي المدينة سوى مرة واحدة ،في سورة البقرة -وأن أكثر ما ذكر كان في الفترة المكية ،وفي قصة
آدم وحدها -أدركنا أن اسم ( إبليس ) ليس علماً على جنس من المخلوقات الخفية ..بل هو اسم ذات ،تفردت بقيادة الخلق إلى الشرك ،
وهو الذي مثل الدور الكبر في قصة بداية العهد النساني ،ولقد كان لذكره في مكة مناسبة ضرورية ،حيث كثر أولياؤه من كفار
مكة ،وعتاة الجاهلية ،فكان التركيز عليه لبراز دوره ،والتنفير منه .
فأما في المدينة فقد برزت على الساحة أحداث أخرى ،حين كثر أنصار الحق ،وقامت دولته ،وصرحت المواجهة بين جند ال ،
وأعدائه ،فناسب أن يقوم بمهمته معه ذريته من كبار الشياطين وصغارهم ،وهم الذين تم التعريف بهم وبشرورهم في كثير من آيات
الوحي المكي والمدني ،على سواء .
وقد أشار القرآن إلى أن لبليس ذرية ،فقال {{ :أَ َف َتتّخِذُونَ ُه وَذُ ّرّيتَهُ َأوِْليَاء مِن دُونِي وَهُمْ َلكُمْ عَ ُدوّ - }} 50 ...الكهف . .ول ندري
كيف تكاثرت الشياطين من ذرية إبليس ..اللهم إل إذا أخذنا ما ذكره صاحب المستطرف من أن إبليس ( ل يلد ،بل يلقح كالطير ويبيض
ويفرخ ،قيل :إنه يخرج من كل بيضة ستون ألف شيطان ) ( المستطرف ، ) 402 /فإذا استبعدنا هذا من قياس التكاثر بين الشياطين
على غرار تكاثر الطيور ،والحشرات ،فقد نتصور أن طبيعة إبليس النارية تقبل التكاثر بما يشبه النقسام ،فيحدث عند احتدام حقده
تولد الشرر ،فيكون من كل شرارة شيطان وليد ،يكبر برعاية أبيه ،ويبقى معه إلى أجله المسمى .
وبذلك يبرز دور الشياطين إلى جانب دور ( إبليس ) زعيمهم الكبر ،وأبيهم اللعين ،ليتولوا إضلل المؤمنين عن طريق الستقامة ،
ودفعهم إلى المعاصي ،من الكبائر والصغائر ،فمن الواضح إذاً أن كلمة ( إبليس ) علم أطلق على ذلك الشيطان الكبر دون ذريته من
الشياطين والمردة ،ولهذا لم يَتَسَمّ باسمه أحد غيره ،فلم يرد في الستعمال ( إبليس النس ) ،كما ورد ( شياطين النس ) ،وهم الذين
نفخ إبليس في قلوبهم فصاروا له جنداً .
وربما نستطيع أن نتصور واقع العمل بين إبليس وذريته وجنوده من الشياطين ،في ضوء دللة النصوص القرآنية بحيث يتولى إبليس
محاربة بني آدم ليصدهم عن السلم ،ويغرقهم في الشرك ،وفي كل ما يؤدي إليه من قول أو عمل ،وتلك مهمة رهيبة تتصل
بالمباديء والعقائد والديان ،على أن يتولى بقية الشياطين مهمات دون ذلك ،في مجال الرزيلة والشر ..كلّ حسب اقتداره على
الغواء والضلل ،وإشاعة الفساد ،فمنهم الذكي والغبي ،والنابه والكسول ،ولسوف نزيد الصورة وضوحاً عند استعراض
النصوص الواردة بشأن ( الشيطان ) .
على أن ( إبليس ) وصف في القرآن بأنه ( شيطان ) ،وهو ما يشي به مثلً ..قوله تعالى في سورة العنكبوت {{ :وَعَادًا َو َثمُودَ وَقَد
ل َوكَانُوا مُسْ َتبْصِرِينَ - }} 38العنكبوت ، .فهذه المهمة الضخمة ، سبِي ِ
عنِ ال ّ
صدّهُمْ َ
عمَاَلهُمْ فَ َ
ش ْيطَانُ َأ ْ
تّ َبيّنَ َلكُم مّن مّسَاكِ ِنهِ ْم وَ َزيّنَ َلهُمُ ال ّ
المتمثلة في صرف هؤلء الكفرة عن اليمان ،وصدهم عن التوحيد -هي مهمة هائلة ل يقدر عليها سوى ( إبليس ) ذاته ،الذي وصف
بأنه ( الشيطان ) -هكذا معرفًا بـ ( ال ) العهدية ،أي :الشيطان الذي تعرفون ،وتذكرون قصته ووعيده ،والموقف هنا مع عاد وثمود
-الذين عاشوا في الفترة مابين نوح وإبراهيم .
ل تَ ْعبُدُوا
عهَدْ إَِل ْيكُمْ يَا َبنِي آدَمَ أَن ّ
وأوضح من ذلك دللة على أن المراد ( بالشيطان ) هو ( إبليس ) -قوله تعالى في سورة يس َ {{ :ألَمْ َأ ْ
ستَقِيمٌ - }} 61يس ، .إننا نستطيع أن نطردها قاعدة في كل شيطان معرف ط مّ ْ ش ْيطَانَ ِإنّهُ َلكُمْ عَ ُد ّو ّمبِينٌ 60وََأنْ ا ْ
عبُدُونِي هَذَا صِرَا ٌ ال ّ
بــ ( ال ) ،فهو ( إبليس ) ،ويعتمد في ذلك أيضاً على دللة السياق ،فأما إذا جاء اللفظ منكرًا فإننا نرجح أن يكون المراد به واحداً من
جنس الشياطين
ورد ذكر الشيطان في القرآن مفرداً ،وجمعًا في سياقات توحي باختلف المعنى المقصود منه .وقد جاء مفرداً في التنزيل المكي ثلثاً
وثلثين مرة ،وجاء مفرداً في التنزيل المدني ثمانياً وعشرين مرة .
أما وروده جمعاً -فقد جاء في التنزيل المكي خمس عشة مرة ،وفي التنزيل المدني ثلث مرات .
وقد نستطيع أن نميز بعض وجوه المعنى المراد من خلل ملحظة ورود الكلمة معرفة أو منكرة -كما سبق أن قلنا ،فإذا جاء معرفاً ( :
الشيطان ) فهو ( إبليس ) ،وإذا جاء منكرًا ( شيطان ) فهو أحد من جنس الشياطين ( من ذرية إبليس ) ،وقد جاء اللفظ منكراً
( شيطان ) فعلً في خمسة مواضع هي على التوالي بحسب النزول :
ويلحظ أولً أن الية في سورة التكوير هي أولى اليات التي تعرضت لذكر الشيطان في القرآن ،فجاءت به منكراً ،وقد كانت العرب
تعرف ( الشيطان ) ،وتراه في أطياف الشعراء ،فجاء القرآن لينفي أن تكون آياته كأبيات الشعر من طائف الشيطان الذي عرفوه :
ش ْيطَانٍ رَجِيمٍ - }} 25التكوير ( مكية ) .
{{ َومَا ُه َو ِبقَوْلِ َ
ونحسب أن وصف الشيطان هنا بأنه ( رجيم ) هو الجديد في هذه البداية ،لتعريف المخاطبين بأن شأن الشيطان أن يرجم بالحجارة ،
وهو ما لم يعرفه أهل الجاهلية ،وكأنه يقول لهم :إن ما يمليه الشيطان على عقل الشاعر ل يحمل هداية ،ول يدعو إلى خير ،فهو
ستَقِيمَ - }} 28التكوير ،وقد عكس ما يتلوه عليكم محمد صلى ال عليه وسلم ِ {{ :إنْ ُهوَ ِإلّ ِذكْرٌ لّ ْلعَاَلمِينَ ِ 27لمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَ ْ
صمت الوحي بعد ذلك عن ذكر الشيطان -منكرًا ومعرفًا -طيلة ثلثين سورة -حتى جاء ذكر ( إبليس ) في سورة ( ص ) لول مرة ،
عبْ َدنَا َأيّوبَ إِ ْذ نَادَى َربّهُ
وعرض ذكر ( الشيطان ) مفردًا بعيداً عن قصة آدم ،أي :في إطار مستقل ،وهو في قوله تعالى {{ :وَا ْذكُرْ َ
غوّاصٍ - }} 37 ل بَنّاء وَ َن كُ ّشيَاطِي َب وَعَذَابٍ - }} 41ص ،وجاء ذكره جمعاً في قوله تعالى {{ :وَال ّ ص ٍ
ن بِنُ ْ
ش ْيطَا ُ
َأنّي مَسّنِيَ ال ّ
ص ،واليتان تتحدثان عن أمور تتصل بقصتي نبيين كريمين ..أحدهما :أيوب ،الذي دعا ربه أن يخلصه من وساوس الشيطان أثناء
مرضه وابتلئه ،والثاني :سليمان ،الذي سخر ال له الجن والشياطين في أمور تتصل بما وهبه ال من ملك لم يوهب لحد بعده ،
وحين تأتي قصة آدم في آخر سورة ( ص ) يذكر ( إبليس ) لول مرة ،وكأنه ل علقة له بالشيطان ،فلكل منهما مجاله ،ولكن الوحي
ينزل بعد ذلك مباشرة بسورة العراف ( التاسعة والثلثين ) ،فيجمع بين إبليس والشيطان في قصة آدم ،ويطابق بينهما ،ولو أننا قرأنا
شعَـرْنا أن كلمة ( الشيطان ) في هذا السياق تأتي في
لَ َ س لَهُـمَا الشّ ْيطَانُ }}
سوَ َ
{{ فَوَ ْ
اليات حتى قوله تعالى :
موقع الوصف ،أي :ذلك الشرير المجرم ،وملحظ الوصفية هنا أظهر من ملحظ السمية .
وحين يتقمص ( النسان ) وظيفة الشيطان ،فإنه يكون أخبث طينة ،وأبشع كيداً ،وأعظم إفساداً من الجن وشياطينهم ،وقد شهد
ل من هؤلء الشياطين ..في شكل مفكرين ،وساسة وحكام ،وأذناب ،وطواغيت و ( هلفيت ) -إن صح التعبير -وقد عصرنا أجيا ً
جمعوا في ذواتهم صفات الشيطان الجني ،وأضافوا إليها أخبث صفات النس ،فكانوا مزيجاً من الشرور المرئية وغير المرئية .
كما شهد عصرنا من فنون هؤلء الشياطين أهوالً تزيف صورة الحق ،فإذا هو باطل يخدع العقول ،ويفني العمار في متابعته والتعلق
به .
نعم :شهد عصرنا ذلك الصراع من أجل احتلل الفضاء ،وشحنه بالموبقات ،ونشر الفجور بكل وسائل الغراء والستدراج ،تحت
شعارات ظاهرها فيه الرحمة ،وباطنها من قبله العذاب ،وهي شعارات ( مصالح الجماهير ) و ( خدمة الشعب ) و ( عولمة الثقافة ) ،
وغير ذلك من دعاوي الباطل ،ولغات ( شياطين النس ) ،والمضمون الوحيد هو الجنس ،والجنس وحده ،حتى يذهل النسان عن
غايته ،ويعقد اتصاله بهدفه ،ويبقى مجرد متفرج أبله على ألعاب الشياطين .
أما التقدم ،والحضارة ،والعدالة ،والكرامة ،والقوة ،والدين ،والنصر على العدو ،والعداد للمواجهة المحتومة -فكل ذلك كلم
أجوف ،ل قيمة له ،ول مضمون ..يكفي أن ننام على أهازيج السلم ،وأن نستسلم لحلم اليقظة والمنام ،بعيداً عن الحركة الناشطة ،
والعمل اليجابي ،والبناء الخلقي .
انتهى