Professional Documents
Culture Documents
aspx
انظر أيضا أسباب النزول للمام أبو http://www.al-eman.com/islamlib/viewchp.asp?bid=153&cid=2#s4
الحسن علي الواحدي النيسابوري
تعلـــــيق علـى القـــــرآن
مقدمة :
من يتلو القرآن بحسب ترتيبه التاريخي ،يلحظ تطورا ً واسعا ً في طرائق
الدعوة ،في أساليبها ومضامينها ،وإنه لبحث طريف أن ندرس طرائق
القرآن في تطور دعوته وأساليب هذه الدعوة وهذا الدرس يتطلب تحليلً
سريعا ً موجزا ً لسور القرآن نكتفي به خشية السهاب لنرى مدى العبقرية
والمعجزة في دعوة النبي العربي .
في العهد المكي الول :
نلمح في سور قصار :بروقا ً ورعودا ً من الوعد والوعيد في الدعوة لليوم
الخر يستفتحها بأقسام غريبة موروثة من بيئته .
في العهد المكي الوسيط :
بين الهجرة الجماعية إلى الحبشة والهجرة الشخصية إلى الطائف ،نرى
وقد تروض النبي على الخطابة – عنصرا ً جديدا ً يصبح محور السور البياني
:القصص القرآني عن النبياء الولين عبرة للقوم الخرين ،في دعوة
التوحيد واسم الله فيها "الرحمن " ثم يتوارى اللقب في المدينة .
في العهد المكي الخير :
بين الهجرة إلى الطائف والهجرة إلى المدينة ،تمتزج المطالع والساليب
والمواضيع :إنها فترة تردد واستطلع إلى الستقلل الطائفي والقومي
عن أهل الكتاب ،تمتاز بظاهرة المثال التي حاول النبي فيها القتداء
بأمثال النجيل والتفوق على أمثال العرب والعجم .كل هذه في "وحدة تامة
"مع أهل الكتاب طيلة العهد بمكة .ثم كانت الهجرة الخيرة والكبرى إلى
المدينة بعد معاهدة العقبة الولى على حرب الحمر والسود من الناس كان
السلم في مكة دعوة دينية فصار في المدينة دولة دينية .
تطور القرآن من دعوة للدين إلى دعوة للدولة فكان لبد له من بنائها من
داخل بتحديد اركان السلم وإصدار تشريع له ،ولبنائها من خارج بإعلن
الحرب المقدسة أي الجهاد .
العهد الول المدني :
عهد الدفاع المسلح يستقل القرآن عن أهل الكتاب بإنشاء السلم "أمة
وسطا ً " وكذلك جعلناكم أمة وسطا ً "( البقرة )143بين الكتابيين
والمشركين وبين اليهود والنصارى أنفسهم وسطا ً قي عقيدتها كقوله
"ألم .الله ل إله إل هو الحي القيوم .نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا ً لما بين
يديه من التوراة والنجيل (آل عمران ) 7-1ووسطا ً في شريعتها كقوله "
يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم
حكيم " (النساء . ) 27-25
نظـــــــــم القـــــرآن
ً كتابا يقول القرآن في الية 23من سورة الزمر ":الله نزل أحسن الحديث
متشابها ً " إن أحسن الحديث فرع من فروع الفنون الدبية ؛ وهذه فرع من
الفنون الجميلة .وهذه بدورها صفة من صفات الوجود ،فالوجود له صفات
جوهرية مثل الحقيقة والكمال والجمال ،والتعبير عن الجمال في جميع
نواحيه يسمى الفنون الجميلة فالتعبير عن الجمال بالصوت هو الموسيقى ،
والتعبير عن الجمال باللون يسمى التصوير ،والتعبير عن الجمال بالخط
يسمى النحت والتعبير عن الجمال بالكلم يسمى الدب والبيان بالمعنى
الواسع أو البلغة .فالعجاز البياني ناحية من الفنون الدبية وهذه فروع
من الفنون الجميلة .لذلك فالعجاز البياني مهما سمى فهو ناحية محدودة
من تصوير جمال الوجود .والعجاز البياني على ناحيتين :ناحية البيان وهو
العجاز بالتخصيص ،وناحية السلوب وهو العجاز الدبي على الطلق
.وسواء أخذنا العجاز البياني في معناه الخاص أم العام المقيد أم المطلق
فهو ل يشمل سائر الفنون الدبية وهو ل يشمل سائر الفنون الجميلة وهو
ل يشمل سائر صفات الوجود حتى يتصف بالعجاز اللهي وهذا ما يفتقر
إليه القرآن ،ونسمع اليوم الكثير من الكتاب يتحدثون عن العجاز البياني
للقرآن ويحصرون إعجاز القرآن في فصاحة لغته وبلغة نظمه ول مراء في
ذلك .وقد بدا لقوم اليوم أن هذا العجاز البياني محدود في مبناه ومعناه
فالتمسوا له الشمول من كل وجه ،وحاولوا أن يجدوا إعجازا ً الهيا ً في
العقيدة وإعجازا ً الهيا ً في الشريعة واعجازا ً إلهيا ً في الفلسفة القرآنية ؛
وإعجازا ً إلهيا ً في العلم الحديث ولكن فاتهم جميعا ً أن تاريخ السلم يجهل
مثل هذا التفكير ومثل هذه المحاولت المفرطة وهذا التعبير فقد أجمعوا
قديما ً على أن إعجاز القرآن في نظمه .قال ناشر بديع القرآن " :البلغة
بابان :السلوب والفنون الدبية وفي باب السلوب تدخل مباحث المعاني
والبيان والبديع في بعض فصوله وأقسامه في حين أن باب الفنون الدبية
جديد في جملته ،ولعل من نتائج ذلك العدول عن هذه السماء (المعاني
والبيان والبديع ) وضع البلغة وضعا ً كامل ً يشبه وضعها في الداب العالمية
.
ندع درس الفنون الدبية لنه ليس من شأن كتاب منزل يهدي إلى صراط
مستقيم أن يسلكها ؛ونترك درس إعجاز القرآن في عقيدته وشريعته
وصوفيته إلى مكان آخر في هذا البحث ونكتفي بدراسة أسلوب القرآن في
فصاحة لغته وبلغة نظمه تمهيدا ً لدراسة أطوار الدعوة القرآنية .
نزول القرآن بالوحي :هل كان باللفظ أم بالمعنى -:
في التقان ج 1ص 44فصل في معنى نزول القرآن أكان بالمعاني وحدها
أم باللفاظ والمعاني معا .ويقول الصفهاني :اتفق أهل السنة والجماعة
على أن كلم الله منزل ؛ واختلفوا في معنى النزال فمنهم من قال هو
إظهار القراءة ،ومنهم من قال أن الله ألهم كلمه جبريل وقال الطيبي
لعل نزول القرآن على النبي أن يتلقفه الملك من الله تلقفا ً روحانيا ً أو
يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به إلى النبي فيلقيه عليه .وقال القطب
الرازي :المراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تلقفاً
روحانيا ً أو يحفظها من اللوح المحفوظ وينزل بها يلقيها عليهم وقال غيره
:في المنزل على النبي ثلثة أقوال :أحدها أنه اللفظ والمعنى ؛ والثاني
أن جبريل إنما نزل بالمعاني خاصة وأن النبي علم تلك المعاني وعبر عنها
بلغة العرب وتمسك قائل هذا بظاهرة قوله تعالى في سورة الشعراء آية
": 193ونزل به الروح المين على قلبك "والقول الثالث أن جبريل أُلقي
إليه المعنى وأنه عبر عن هذه اللفاظ بلغة العرب .وقال الجويني كلم الله
المنزل قسمان قسم قاله الله لجبريل :قل للنبي الذي أنت مرسل إليه :
الله يقول ؛ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على النبي وقال له ما قاله
ربه ،وقسم آخر قال الله لجبريل " :اقرأ على النبي هذا الكتاب فنزل
جبريل بكلمة من الله من غير تغيير .
إذن فالخلف قائم بين المسلمين أنفسهم في هل نزل القرآن بالمعاني
وحدها أو نزل بالمعاني واللفاظ معا ً ،ومن قال أن القرآن نزل بالمعاني
وحدها ،ل تثريب عليه فهو لم يزل من أهل السنة والجماعة .وهذا هو
القول الفصل الذي يجمع بين التوراة والزبور والنبيين والحكمة والنجيل
والقرآن وإن اختلفت اللفاظ في التعبير عن ذلك التوحيد .
ومن قول بعض علماء السلم لنزول القرآن بالمعاني دون اللفاظ ،ينتج
اشكال ضخم :إذا كان جبريل كما نقل السيوطي ":إنما نزل بالمعاني خاصة
وأن محمد اًعلم تلك المعاني وعبر عنها بلغة العرب ؛ أو أن جبريل ألقى
إليه المعنى ،وأن جبريل عبر باللفاظ عن المعنى بلغة العرب " فألفاظ
القرآن ليست من الله بل هي من محمد أو جبريل .وبما أن اعجاز القرآن
في ألفاظه ونظم هذه اللفاظ وأساليب بيانها ،فإعجاز القرآن ليس منزلً
على حد قولهم .يؤيده الحديث المأثور ":أعطيت جوامع الكلم " لذلك
فإعجاز نظمه – مع التعبد بلفظه – قائم على النبي المين ل على الوحي
المبين
كيفيـــة نزول القــرآن وتأليــــفه
قال السيوطي في التقان ص " : 70نزل القرآن منجما ً في عشرين سنة أو
ثلث وعشرين أو خمس وعشرين على حسب الخلف في مدة إقامة النبي
بمكة بعد البعثة ونزول القرآن منجما ً يعني أنه نزل مفرقا ً كل بضع آيات معاً
وذلك أن الوحي كان ينزل بالقرآن مبينا ً للحوادث الجارية التي تعاقبت على
حياة النبي من بعثته إلى وفاته وكان القرآن ينزل بحسب الحاجة :خمس
آيات وعشر آيات وأكثر وأقل ،وقد صح نزول عشر آيات في قصة الفك
جملة في سورة النور من 21-11وصح نزول عشر آيات من سورة المؤمنين
جملة من 11– 1وصح نزول جملة واحدة كقوله في سورة النساء آية " 95غير
أولي الضرر " كذلك قوله في سورة التوبة " 28وإن خفتم عيلة " والحكمة
في نزول اليات قليلة العدد على هذا النحو هي أن يتمكن النبي من حفظها
وتعليمها للناس ،ومن إملئها على كتابه ليدونوها ولنزول القرآن حسب
الحوادث الجارية شواهد كثيرة جدا ً وهي كل القرآن تقريبا ً .تجد مصداق ذلك
في كتبهم على (أسباب النزول للواقدي ) خصوصا ً في اليات التشريعية
التي كانت تنزل في الغالب جوابا ً لحوادث في المجتمع السلمي وأحياناً
كانت تنزل جوابا ً عن أسئلة يسألها بعض المؤمنين ؛وقليل ً ما كانت الحكام
مبتدئة .وقلما ترى حكما ً لم يذكر له المفسرون حادثا ً أُنزل الحكم مرتبا ً عليه
.
قال أبو بكر النباري :أنزل القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرق في بضع
وعشرين فكانت السورة تنزل لمر يحدث والية جوابا ً لمستخبر .مثال ذلك
ما نقله الواحدي أنزل الله في الكللة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي
في أول سورة النساء والخرى في الصيف وهي التي في آخر السورة
فتكون سورة النساء موزعة في النزول على سنة .ومثال ذلك أيضا ً ما
أخبروا عن سورة براءة كان أول براءة قبل غزوة تبوك ،وآخرها بعدها
فتكون سورة براءة موزعة في النزول على سنة أيضا ً ولنا شهادة قرآنبية
من آخر العهد بالمدينة من تلقين اليات " :اذا ما أنزلت سورة قالوا :أيكم
زادته هذه إيمانا ً “ ؟ التوبة 124أول يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو
مرتين ؟ ...وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض :هل يراكم من
أحد ؟ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ؛ ( التوبة )128 -125فالفتنة مرة أو
مرتين في السنة كانت تحدث بمناسبة تنزيل السورة أو السورتين في العام
ونعلم أيضا ً أن تنزيل البقرة دام ثمانية عشر شهرا ً من الهجرة إلى غزوة
بدر .
ولنا على ذلك خير مثال في قصائد الشعر الجاهلي .فالقصيدة عندهم من
السبعة أبيات إلى العشرة .وإذا كانت مثل المعلقات فهي تشتمل على عدة
مواضيع كل موضوع قائم بذاته في نحو عشر أبيات وكما جمعت هذه
الوحدات الشعرية ،القصائد المتنوعة المواضيع المؤتلفة في النظم
والقافية كذلك جمعوا السور في وحدات متقاربة لتقارب الموضوع
والفاصلة ،ربما والزمن أيضا ً ؛ فالسور وحدات تأليفية تقابل وحدات زمنية .
كان القرآن ينزل منجما ً ويحفظ أيضا ً منجما ً قال أبو عبد الرحمن السلمي :
حدثنا الذين يقرأون القرآن كعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما
أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها
من العلم والعمل وقال أنس :كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جد في
أعيننا " رواه أحمد في المسند وقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين
،قال أبو العالية :تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن النبي كان
يأخذه من جبريل خمسا ً خمسا ً .
إن هذا التنجيم في نزول القرآن وتأليفه هو ما يضفي على القرآن ظاهرة
التفكك في ربط أجزاء السورة واليات بعضها ببعض .
وقد لمس القدمون هذا التفكك الظاهر بين مقاطع السور وآياتها فأوجدوا
علم المناسبة الذي يضع قواعد للروابط التي تربط السور واليات .وممن
أكثر من علم المناسبة المام فخر الدين الرازي فقال في تفسيره " :أكثر
لطائف القرآن مودعة في الترتيبات والروابط .
وقد عقد السيوطي فصل ً في كتابه التقان في علوم القرآن يعدد فيه بعض
الروابط .فقال إن ارتباط الية بالية ،إما أن يكون ظاهرا ً لتعلق الكلم بعضه
ببعض أو لورود الثانية للولى على وجه التأكيد أو التقيد أو العتراض أو
البدل .وهذا القسم ل كلم فيه وإما أن يكون باطنا ً ،فليظهر الرتباط بل
يظهر أن كل جملة مستقلة عن الخرى .والمستقلة إما أن تكون معطوفة
بحرف من حروف العطف فلبد أن يكون بينهما جهة جامعة أو أما أن تكون
غير معطوفة فلبد من دعامة تؤذن باتصال الكلم وهذه هي الروابط حصراً
،وهي قرائن تؤذن بالربط :
وفي كتاب التقان للسيوطي فصول تبين مدى العجاز البياني في القرآن
منها :
.1عودة الضمير على أقرب المذكورين فقد اختلف في قوله ":أو لحم
خنزير فإنه رجس " فمنهم من أعاد الضمير إلى المضاف ومنهم من أعاده
إلى المضاف إليه وهذا ليصح في كلم الله .
.2الصل توافق الضمائر في المرجع حذرا ً من التشتيت ؛ولهذا جوز
بعضهم في قوله " :أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم " أن الضمير
في الثاني للتابوت وفي الول لموسى وقد عاب ذلك الزمخشري في كتابه
الكشاف وجعله تنافرا ً مخرجا ً للقرآن عن إعجازه فقال:والضمائر كلها
راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما
يؤدي إليه من تنافر النظم الذي هو أم إعجاز القرآن .وقال ":ليؤمنوا بالله
ورسوله ويعزروه ويوقروه ويسبحوه " الضمائر لله تعالى وللرسول وقوله
أيضا ً في سورة الكهف " :ول تستفت فيهم منهم أحدا ً "فإن ضمير فيهم
لصحاب الكهف (،ومنهم ) لليهود وقال بذلك أبي ثعلب والمبرد أيضا ً ومثله
":ولما جاءت رسلنا لوطا ً سيء بهم ،وضاق بهم ذرعا ً " قال ابن عباس :
ساء ظنا ً بقومه وضاق ذرعا ً بأضيافه وهذا خروج للضمير عن الصل .
.3جمع العاقلت ليعود عليه الضمير غالبا ً إل بصيغة الجمع سواء كان
للقلة أو للكثرة مثل " :والوالدات يرضعن ،والمطلقات يتربصن " ؛ وورود
الفراد في قوله والزوابع مطهرة "ولم يقل مطهرات كما يجب أن يكون .
.4إذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللفظ والمعنى بُديء باللفظ ثم
بالمعنى هذا هو الجادة في القرآن . . .ولم يُبح في القرآن البداءة بالحمل
على المعنى إل في موضع واحد " وقالوا :ما في بطون هذه النعام خالصة
لذكورنا ومحرم على أزواجنا " فأتت خالصة حمل ً على معنى (ما) ثم راعى
اللفظ فقال ":محرم" .
.5التذكير والتأنيث :التأنيث ضربان حقيقي وغير حقيقي فالحقيقي ل
تحذف تاء التأنيث من فعله غالبا ً ،وإما غير الحقيقي فالحذف مع الفصل
أحسن .وكل أسماء الجناس يجوز فيها التذكير حمل ً على الجنس والتأنيث
حمل ً على الجماعة كقوله " أعجاز نخل خاوية . . .أعجاز نخل منقعر . . .إن
البقر تشابه علينا وقريء تشابهت علينا . .السماء منفطر به . .زإذا
ة.السماء انفطرت . . . .جاءتها ريح عاصف . . .ولسليمان الريح عاصف ً
.6وعلى قاعدة التعريف والتنكير جاء تساؤله عن الحكمة في تنكير أحد
وتعريف الصمد في قوله " قل هو الله أحد الله الصمد " ومن تلك
الستثناءات للقواعد العامة شيء كثير في القرآن وهذا يدحض القول بأن
القرآن معجز في نظمه وبيانه .
اذا تتبعنا سيرة موسى في التوراة نرى أنه بعد أن أخرج بني إسرائيل من
مصر ذهب بهم إلى برية سيناء .وهناك أصعده الله إليه على جبل حوريب
.وعلى الجبل بين البروق والرعود ،والدخان والنار ،أوحى الله إلى عبده
الشريعة الموسوية وسلمه موجزها على "لوحي العهد " في الوصايا العشر
.ثم تاه الشعب أربعين سنة في الصحراء أتم فيها موسى تدريبهم على
توحيد الله ،وهيأهم لنشاء المة الجديدة والدولة الجديدة في الرض
الجديدة .فالدين من توحيد وتشريع وطقوس واضح منذ اللحظة الولى
وظلت شريعة سيناء في كلماالعشر أعظم دستور أخلقي للبشرية على
مدى الدهور .
وإذا استقرينا النجيل نرى أن الله يعلن في الردن بظهور رائع بعثة
المسيح الذي يسميه صوت جهير من السماء " :هذا هو ابني الحبيب الذي به
سررت " مت 17: 3ثم يبدأ المسيح دعوته ،فيلتف حوله بعض التلميذ ،
وتتبعه الجموع من كل الجهات فيصعد بهم إلى جبل في الخليل .وهناك في
العالي ،على عشب الربيع يلقي المسيح خطبته الولى التي تحوي دستور
النجيل الخالد .فيه يعلن المسيح العقيدة الجديدة والشريعة الجديدة ،
والحياة المسيحية الجديدة .وإذ الله أب خاص للمسيح وأب عام للبشر فهم
أبناء الله وأخوة بعضهم لبعض ،لذلك فالدين الجديد علقة أب بأبنائه وأبناء
بأبيهم السماوي " :فكونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل "مت : 5
. 48وإذ الشريعة الجديدة محبة الله كأب والناس كأخوة :وعلى هذا الساس
يطور وصايا الله العشر من العمال الخارجية إلى النيات والفكار "وإذن
فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم فافعلوه أنتم بهم :فذلك هو الناموس
والنبياء " مت 12 : 6ثم طاف فلسطين من الشمال إلى الجنوب مرات ،مدة
ثلث سنوات تقريبا ً يعلم ويفسر هذا الدستور النجيلي .
دامت سرية الدعوة ثلث سنين تقريبا ً .في هذه الثناء كانت تعتريه أزمات
نفسية حادة بلغت ذروتها في فترة فتور الوحي وانقطاعه عنه .وقد ذكر
ابن إسحاق أن مدة انقطاع المحي كانت ثلث سنين ؛وفي قول :أن المدة
سنتان ونصف ؛وفي قول ثالث أنها كانت أربعين يوما ً .وفي قول رابع أنها
كانت خمسة عشر يوما ً ؛ وفي قول خامس أنها كانت أيام .ول يكاد التاريخ
الصحيح للسيرة النبوية في مكة يقف من أحداثها الثابتة إل على النزر
اليسير .ولعل أشد الفترات غموضا ً هي فترة انقطاع الوحي . . .ولقد قيل
أن النبي ضاق ضيقا ً شديدا ً بانقطاع الوحي عنه وأنه كان يهيم على وجهه
في الصحراء يناجي ربه .وبلغ به المر مرة أن هم بإلقاء نفسه من قمة
جبل شاهق .وقد انتهت هذه المحنة الشديدة بنزول سورة الضحى التي
تصف هذه الزمة النفسية .ويفهم من هذا الظرف الذي نزلت فيه هذه
السورة كانت الثالثة (ل بل العاشرة أو الحادية عشر ة ) أي حين كان عمر
النبي ثلثة وأربعين عاما ً أو نحوها ".ولم ينقطع الوحي ولم يفتر طويل ً إل
هذه المرة " .
أن "أول سورة أعلنها محمد بمكة كانت سورة النجم "(التقان ج 1ص ) 25
وهي الثانية والعشرون في تاريخ التنزيل :اذن ماقبلها كان من الدعوة
السرية .وفي إعلن أول سورة من القرآن جاء حديث الغرانيق (النجم . ) 20
ثم جاءه المر ":وانذر عشيرتك القربين " فصار يطوف جهرا ً على أقربائه
يدعوهم .وتوسع في الدعوة كما أمر أخيرا ً "فاصدع بما تؤمر واعرض عن
المشركين ".وهكذا "بدأ محمد تبليغ دعوته في العام الرابع للبعثة "وبدأت
قريش بالمقاومة على أنواعها حتى انتهوا مع جماعة محمد القليلين
بالهجرة إلى الحبشة المسيحية ،في السنة الخامسة أو السادسة للبعثة
المحمدية .
وسنرى أن العهد الول المكي () 615-610مدة خمس سنين ونيف ما بين
البعثة والهجرة إلى الحبشة كان دعوة ليوم الدين ،في معرض المطالبة
بالصلح الجتماعي .وكان اسلوبها طريقة القسام الغريبة القومية
.ويظهر على سور الدعوة القرآنية في هذه الفترة دلئل التأثير المسيحي
الكثرية المشركة في مكة كانت اقلية كتابية في مجموعها مسيحية ،انتمى
إليها محمد يدعو بدعوتها حتى بلغ الذروة في سورة مريم التي حملها
أصحابه معهم إلى الحبشة النصرانية يتوددون بها إلى النجاشي بوحدة
اليمان التي تجمعهم .
ومطلعها "إقرأ " دعوة 96 الســـورة الولى :العــلق ورقمها بالمصحف
محمد للقراءة .
كان ذلك في الغالب سنة 610م ويقولون أنها سورة محكمة ل ناسخ فيها ول
منسوخ .
تعليـــق :
ليس في القرآن ما يمكن الستدلل به على أوليات القرآن نزول ً وكل ما
هناك روايات لسباب وظروف نزول آيات قرآنية تعد في تاريخ القرآن من
الوليات .ومع أن أوثق الروايات وأكثرها اعتبارا ً وأخذا ً تذكر ان أول مانزل
من القرآن هو اليات الخمس من سورة العلق ؛فإن هناك روايات يذكر
بعضها أن هذا الول هو الفاتحة .ويذكر بعضها أنه الضحى وبعضها يذكر أنه
اليات الولى من المدثر وبعضها يذكر أنه اليات الولى من المزمل ( محمد
عزة دروزة سيرة الرسول ج 1ص ) 121فهناك خمس سور تتنازع مطالعها
أولية التنزيل .
وسورة العلق التي بين أيدينا يمكن تقسيمها إلى أقسام من : 5-1محمد
يُدعى إلى القراءة من 19 -6من زمن متأخر ،يدل على تغيير النظم
والفاصلة .قيل نزل في عمه ابو جهل الذي نهاه عن الصلة في الكعبة .
وأسباب النزول توحي بأن فيه ثلثة أجوبة على ثلث حملت من أحد الطغاة
( 8-6ثم 16-9ثم . ) 19-17
تعليــق :
أل يوحي قوله "إقرأ " مرتين و"الذي علم " أن محمد كان يقرأ ويكتب ؟ أو
صار بهذه يقرأ ويكتب " :إنه هو الكرم الذي كان من أهم نعمه عليه تعليمه
القراءة والكتابة ليهذب نفسه ويعلم ما لم يعمل (عبد المتعال الصعيدي
:النظم الفني في القرآن ص . . ) 356هل يوافق قوله خلق النسان من
علق جمع علقة وهي القطعة اليسيرة من الدم الغليظ ( الجللن ) – خلق
آدم من تراب أم خلق كل إنسان من نطفة ؟ وهل علم الله بالقلم الوحي
أم العلوم الطبيعية للنسان ك " خلق النسان من علق "؟ ،وقوله ":أن رآه
" أي رأى نفسه (الجللن ) :تعبير غامض . . .ثم أن الوحي والتنزيل قذف
شفهي في روع النبي فما معنى قوله "إقرأ " . . .علم بالقلم"؟ أل يوحي
بأنه يقرأ شيئا ً مكتوبا ً بالقلم ؟
بالمصحف "ما أنت بنعمة ربك الســـورة الثـانيــة ( :ن والقـلم ):ورقمها
68
بمجنون "
هذه السورة بها ستة أقسام من أزمنة مختلفة بمكة .
من 7-1القسم الباكر :جواب على تهمتهم له بالجنون أي به جنَة :خلقه
العظيم دليل العقل والهدى .
من 16-8حملة من زمن متأخر على الوليد بن المغيرة لنه سمى القرآن
أساطير الولين ؛
من 33 -17قصة أصحاب جنة حرموا منها مساكين ،ويقولون أن هذه اليات
نزلت بالمدينة .
من 47 -34قسم من العهد الثاني :هل الجنة للمسلمين أم للمشركين ؟
من 50 – 48قصة صاحب الحوت اصبر كما صبر يونس ؛
من 52 – 51يصف سحر بيان القرآن عليهم × ويرد على تهمة الجنون .
نعــليق :
نجد في اليات -47 – 37أن محمدا ً يفاضل المشركين ويفخر عليهم بدراسة
الكتاب وكتابة الغيب منه – وهل تتفق الية 45التي تقول "وأملي لهم أن
كيدي متين " شديد ل يطاق مع البسملة التي تستفتح السورة باسم
الرحمان الرحيم ؟وكيف يكلف بالسجود في الخرة من ل يستطيعه (آية )42
ا
السورة الولى :من اليات : 8 _ 1رؤيا "شديد القوى " بالفؤاد ،وهو بالفق
العلى ثم عند سدرة المنتهى ،والسؤال هنا هل كانت رؤيا ملك الوحي
بالبصر أم بالبصيرة ؟ شهادة ال"ما كذب الفؤاد ما رأى " تعني أنها كانت
بالخيال والبصيرة .
أما سدرة المنتهى فقد أجمع المفسرون أن سدرة المنتهى في السماء
.ويقول المستشرق اليطالي "كيتاني " أنها عند جنة المأوى قرب مكة
وفي الكامل للهذلي أن قاب قوسين موضع قرب مكة (التقان ج 1ص 24
سطر ) 9وهكذا تكون السماء الثلثة :قاب قوسين ،وجنة المأوى ،وسدرة
المنتهى أسماء أماكن على الرض في جوار مكة ل في السماء ويدل على
ذلك ما قاله البيضاوي أن قوله "نزلة أخرى " فعلة من النزول اشعارا ً بأن
الرؤيا في هذه المرة أيضا ً كانت بنزول ودنو ل بصعود ونزول .
السورة الثانية :من اليات 25 -9حملة على اللت والعزى ومناة – قصة
الغرانيق جواب أول بعد قصة الغرانيق :ألكم الذكر وله النثى ؟ يقطعه
جواب ثان ربما من المدينة :إن هي إل أسماء ؛ .
قصة الغرانيق - :قال ابن كثير في تفسيرسورة النجم أن النبي قرأ على
مجلس من قريش (أفرأيتم اللت والعزى ومناة الثالثة الخرى ) فألقى
الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى ففرحوا
بذلك " ويقول السيوطي " قال المشركون :ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم
فسجد وسجدوا " وقال الحافظ ابن حجر ":كثرة الطرق تدل على أن للقصة
أصل ً " .والنص القرآني يتطلب جوابا ً على "أفرأيتم " ؛فالجملة مبتورة ل
جواب فيها للسؤال ربما كان الجواب فيها ما ألقاه الشيطان على لسانه ،
وهذا كله يضعف إعجاز القرآن وأنه منزل من عند الله لن الله كان عليه أن
يحكم آياته فكيف سمح للشيطان أن يلقي على محمد ما هو مشابه
للوحي ؟ .
السورة الثالثة :من الية 30– 26حملة ثانية من زمن متأخر على المشركين
"الذين ل يؤمنون بالخرة " لجعل آلهتهم ملئكة ؛ .
تشريع من المدينة :المحسنون هم الذين 32 – 31 السورة الرابعة :من الية
يجتنبون كبائر الثم والفواحش إل اللمم ،ل الذين يزكون أنفسهم :من
تقصد هل تقصد اليهود ؟
جاء في التقان (ج 1ص ) 18أن سورة مريم مما حمل إلى الحبشة فقد صح
أن جعفر ابن أبي طالب قرأها على النجاشي – أخرجه أحمد في مسنده
"فهي ذروة التأثير المسيحي .لذلك فالسور مثل القمر وص والعراف
والجن ويس والفرقان وفاطر ومريم هي سور فترة انتقال من العهد الول
إلى العهد الثاني حيث يقدم الدعوة إلى التوحيد على الدعوة إلى يوم الدين
في أسلوب القصص القرآني الذي ظهر سحره في قصص سورة مريم .
أوائل الدعوة عند كل نبي ذات قيمة فريدة لنها تدل على بواعث تلك
الدعوة ،وعلى أهدافها الولى وعلى موضوعها الساسي .وهذا التعليق
على العهد الول بمكة يتناول أسلوب القرآن الول وموضوعه وصلته
بالكتاب الذي نزل من قبل .
قال البيهقي عن الحسن في (شعب اليمان ) " :أنزل الله مئة وأربعة
كتب ،أودع علومها أربعة :التوراة والزبور والنجيل والفرقان .ثم أودع علوم
التوراة والزبور والنجيل :الفرقان – ثم أودع علوم الفرقان :المفصل ثم
أودع علوم المفصل :الفاتحة ؛فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير
جميع الكتب المنزلة ".
وروى وائلة عن النبي قال " :أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ،ومكان
الزبور المئين ،ومكان النجيل المثاني ،وفضلت بالمفصل " .
فالفصل يعني سور القرآن القصيرة وأكثرها في العهد الول بمكة ،وبه
فضل النبي المي على سائر النبياء ،والقرآن على سائر الكتب المنزلة من
التوراة إلى الزبور إلى النجيل،لنه كما يقولون أودع جميع علومها فقام
مقامها .
وها نحن قد استقرينا ستا ً وثلثين سورة من بينها الفاتحة ،وجميعها من
أوائل ما نزل من القرآن :فهل وجدت في هذه السور ،وفي هذا المفصل
علوم التوراة والزبور والنجيل ؟ بل هل وجدت فيها ما يميز القرآن المكي
من قصص ،وما يميز القرآن المدني من تشريع ؟
فليس فيها من عقيدة جديدة ؛
وليس فيها من شريعة جديدة ؛
وليس فيها من دين جديد بتعليمه أو بطريقته ؛
قال الشيخ سيد قطب في كتابه التصوير الفني للقرآن ص " : 21وإننا
لننظر فلنجد فيها إل القليل من تلك الغراض التي يراها الباحثين أكبر
مزايا للقرآن :إننا اذا استثنينا اشارة سريعة إلى خلق النسان من نطفة ،
وتنويع الشكال واللوان في سورة فاطر ،وخلق النسان من ماء دافق
يخرج من بين الصلب والترائب في سورة الطارق ،لنجد علوما ً كونية في
هذه السور على وجه الجمال .وكذلك لنجد التشريع .ولنجد النبوات .ولكننا
نجد في هذه السور كما نجد في سواها من السور المدنية والمكية على
السواء مثال لذلك الجمال الفني الذي ضربنا عنه المثال .
جمالها الفني رائع لينكر .ولكن هل الجمال الفني والعجاز البياني هو
الدين النهائي ،والحقيقة الخالدة والشريعة المنقذة التي كانت البشرية
تنتظرها ،على فترة من الرسل ،،وبعد المسيح والنجيل ،من "خاتمة النبياء
والمرسلين " .
لقد كانت البشرية تنتظر في مطلع القرآن ،الجامع لعلوم التوراة والنجيل
والزبور اعلن دستور ايمان ،وشرعةأخلق أسمى مما جاء به موسى في
"الكلمات العشر " في بدء التنزيل في سيناء .وستبقى شرعة الخلق
النسانية مدى الدهر .
كانت البشرية على فترة من الرسل والمسيح تنتظر في "المفصل" و
"الفاتحة " – اللذين بهما فضل النبي العربي عمن سواه من المرسلين –
إيمانا ً جديدا ً يجدد علقات الخالق بالمخلوق ،والمخلوق بالخالق ،وأخيه
المخلوق ،أفضل من الدعائم التي وضعها المسيح في خطابه الول
التأسيسي على الجبل فقد ختم المسيح أنبياء الكتاب بإعلن دين جديد ،
مبني على عقيدة جديدة وشريعة جديدة وحياة دينية جديدة :علم ان الله ،
ن لله فوق كل صفاته أب للنسان ،والنسان بعد المسيح ليس عبدا ً بل هو إب ُ
؛فحول الدين الذي هو علقة المخلوق بالخالق من علقة عبد بسيده الخالق
إلى علقة الب الذي في السماوات بأبنائه الذين على الرض ؛وعلقة
النسان بالله إلى علقة ابن بأبيه السماوي .لذلك فالشريعة التي تربط
المخلوق بالخالق أو المخلوق بأخيه المخلوق هي شريعة المحبة البنوية
والخوية :فجعل المحبة روح التشريع النجيلي منذ أول عظة .وصهر الحياة
المسيحية كما في فاتحة النجيل "أبانا الذي في السموات " :بأن يتقدس
اسم الله الب فينا ،وأن يأتي ملكوته فينا ،وأن تكون مشيئته فينا ،وذلك
كله كما في السماء كذلك على الرض ؛ وأسس الحياة الدينية الجديدة على
اليمان بهذه البوة ال لهية ،وهذه البنوة النسانية ؛ وعلى العمل بهذه
المحبة البنوية لله ،والخوية للنسان كل إنسان .وأعطى مثال الحياة
المسيحية النجيلية المبنية على تلكما العقيدة والشريعة ،هاتين القاعدتين
ن كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل الذهبيتين " :فأنتم إذ ً
" (مت " ) 48 : 5وإذن كل ماتريدون أن يفعل الناس بكم فافعلوه أنتم أيضاً
بهم :فذلك هو الناموس والنبياء "(مت ) 6:12فهل في " المفصل"ما يغني
عما في النجيل أو ينسخه كما يقولون ؟وهل "الجمال الفني " في "
المفصل" أفضل وأجمل من الحياة الدينية التي يدعو اليها النجيل ؟ .
فاتحة القرآن تحمد الله على أنه رب العالمين ،الرحمان الرحيم ،ملك يوم
الدين وفاتحة "النجيل " تقول " :أبانا الذي في السموات " تصف الرحمن
الرحيم أنه "أبانا" وتصف رب العالمين وملك يوم الدين أنه "الذي في
السموات " أي ربا ً على العالمين وسيدا ً يوم الدين .
فاتحة القرآن تطلب الهداية إلى الصراط المستقيم .وفاتحة النجيل تطلب
وتفصل أن "يتقدس اسم الب السماوي ،ويأتي ملكوته " وتكون مشيئته –
كما في السماء كذلك على الرض " .أجل فاتحة القرآن رائعة ولكنها ل
تغني عن فاتحة النجيل .فالقرآن تصديق وتفصيل للنجيل وليس ناسخا ً أو
مكمل ً له .
وهذا ما حمل العلمة بشئون وتاريخ الديان جولد تسيهر في كتابه العقيدة
والشريعة في السلم ص 5ترجمة علماء الزهر على القول " :محمد لم
يبشر بجديد من الفكار ،كما لم يمدنا أيضا ً بجديد فيما يتصل بعلقة النسان
بما هو فوق حسه وشعوره وباللنهاية ،وقد علق علماء الزهر عليه بالقول
:جاء على فترة من الرسل وغواية وعمى من المم والناس في شرك
وعبادات باطلة فهدى الناس وسن لهم الله على لسانه بما أوحى إليه ما
كان فيه شفاء لهم وإخراج لهم من الظلمات إلى النور " ونقول :إن هداية
الناس عمل عظيم ،ولكن هل في الهداية هدى جديد ؟هذا ما يعنيه جولد
تسيهر .لكن هذا وذاك لينقصان من القيمة النسبية للقرآن وطرافته
الدينية .
وهكذا فليس من جديد في الدعوة القرآنية الولى – كما يرى سيد قطب
وأمثاله – سوى الجمال الفني .وهذا الجمال الفني المعجز ما هو أسلوبه ؟ .
اسلوب القرآن المكي الول يمتاز بعدة طرائق :منها المناداة مثل قوله في
المزمل :يا أيها المزمل " وقوله في المدثر " يا أيها المدثر " ؛ومنها
السؤال بأنواعه البيانية :مثل قوله "أرأيت الذي يكذب بالدين " ؟ألم تر
كيف فعل ربك بأصحاب الفيل "" . .وما أدراك ما القارعة " ؟ " . .وما أدراك
ما الحاقة " ؟ "وما أدراك ما ليلة القدر " ؟ ؛ ألم يعلم بأن الله يرى " ألخ .
ولكن اسلوب السور القرآنية الولى الذي يميزها عن سواها من كل العهود
هو تلك القسام القومية الغريبة :إنه يقسم بكل الشياء إل بإله التوحيد .
وقد جاء في التقان للسيوطي ج 2ص 106القسم في خمس عشرة سورة :
أقسم فيها بالملئكة (والصافات صفا ً ) وسورتان بالفلك ( والسماء ذات
البروج ؛ والسماء والطارق ؛) وست سور بلوازمها ( :والنجم ؛ )قسم بالثريا
( ،والفجر ؛ ) بمبدأ النهار ( ،والشمس ؛ ) بآية النهار ( ،والليل ) بشطر
الزمان ( ،والضحى ؛ )بشطر النهار ( ،والعصر ؛ ) بشطر الخر ،أو بجملة
الزمان ؛ وسورتان بالهواء الذي هو أحد العناصر (والذاريات ؛) ( والمرسلت
؛) وسورة بالتربة التي هي منها أيضا ً وهي (والطور ؛ ) وسورة بالنبات
(والتين والزيتون ؛) وسورة بالحيوان الناطق وهي (والنازعات غرقا ً ؛ )
وسورة بالبهيم وهي ( والعاديات ضبحا ً ؛) .فهل من الجمال الفني
والعجاز اللهي أن يقسم الخالق بمخلوقاته ؟ .
كانت عبادة العرب القدمين فلكية ،يعبدون الشمس والقمر والكواكب ،
ويخشعون لها ولمظاهلرها الباهرة من ليل ونهار وفجر وعصر وضحى
ومساء ،وكانوا يقسمون بها تقربا ً وزلفى .قال عن ملكة سبأ "وجدتها
وقومها يسجدون للشمس من دون الله " (سبأ ) 24ولما تحولوا من الوثنية
للشرك فالتوحيد ظلت رواسب الوثنية في تعابيرهم وأقسامهم ودخلت
الدب ولغة الكهان والعرافين .ولما نزل القرآن الول اتبع النبي طريقة
قومه في الدب الديني ،فأقسم معهم ،وهو"أول المسلمين " بكل الخلئق
سوى الخالق ؛قال السيوطي في التقان ج 2ص"، 135ان العرب كانت تعظم
هذه الشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون "
لكن هل في اتباع طريقتهم الدبية في القسام الوثنية جمال السلوب
وكمال التنزيل ؟
جاء في النبيين على لسان أشعياء " :إني أنا الله وليس آخر ؛بذاتي أقسمت
،ومن فمي خرج الصدق ،كلمة ل ترجع :إنها لي ستجثوا كل ركبة ؛ وبي
سيقسم كل إنسان " (أشع ) 23: 45فالقسم دليل اليمان والعبادة ،والقسم
بالله شهادة توحيد والقسم بغير الله انحراف عن التوحيد .
ورد في رسائل الحواريين الملهمة " :إن الناس يقسمون بما هو أعظم
منهم ،وينقضي كل خصام بينهم بالقسم ".فإنه لما وعد الله إبراهيم ،إذ لم
يكن له أعظم يقسم به ،أقسم بنفسه ،قائل ً " :إني لباركنك بركة وأكثرك
تكثيرا ً " ( عب ) 13،14: 6فهذا هو الكلم الذي يليق بالخالق .وكان المسيح
إذا أراد التوكيد والجزم يقول :الحق ؛ الحق أقول لكم ؛"(مت 18 : 5و 26؛: 6
2و ) 16او يكتفي بالتوكيد " :أما أنا فأقول لكم " فهذه هي القسام التي
تليق بالخالق .
ً
لذلك حرم المسيح كل قسم إل بالله " :أيضا سمعتم أنه قيل للقدماء :ل
تحنث ،بل اوف للرب أقسامك .وأما أنا فأقول لكم ل تحلفوا البتة ،ل
بالسماء لنها كرسي الله ،ول بالرض لنها موطيء قدميه ،ول بأورشليم
لنها مدينة الملك العظيم .ول تحلف برأسك ،لنك ل تقدر أن تجعل شعرة
واحدة بيضاء أو سوداء .بل ليكن كلمكم :نعم نعم ،ل ل وما زاد على ذلك
فهو من الشرير ( .مت .) 37 -33 : 5
قال أيضا ً جولد تسيهر بحسب ترجمة علماء الزهر " :لقد كانت السور
الولى في النزول على الشكل الذي تعود الكهان القدماء وضع نبوآتهم فيه
؛ ولو جاء في شكل آخر ،لما رضي أي عربي أن يرى فيه قرآنا ً موحى به من
الله " فأجاب سيد قطب في كتابه التصوير الفني في القرآن ص 17قائل ً :
"لننظر في السورة الولى سورة العلق ،إنها تضم خمس عشرة فاصلة
قصيرة ،ربما يلوح في أول المر أنها تشبه "سجع الكهان " أو "حكمة
السجاع " مما كان معروفا ً عند العرب إذ ذاك .ولكن العهد في هذه وتلك
أنها جمل متناثرة ل رابط بينها ول اتساق فهل هذا هو الشأن في سورة
العلق ؟ الجواب ل ؛فهذا نسق متساوق يربط فواصله تناسق داخلي دقيق "
.وفات الستاذ أن اليات الخمس الولى من زمن،وما بعدها من زمن آخر
يختلف موضوعا ً ونظماً.قال دروزة في سيرة الرسول ج 1ص " : 122تراتيب
السور القرآنية المأثورة جميعها تضع سورة العلق أول السور ،بسبب أولية
آياتها الخمس على الرجح ؛ لن مضمون اليات التالية يدل على أنها تأخرت
عنها وقتا ً ما ،إذ احتوت صورة لمواقف أحد الطغاة من النبي .ول يعقل
هذا ال بعد أن تلقى النبي المر بالدعوة وسار في تنفيذ المر شوطا ً ما " .
وكذلك القول عن اليات الربع الولى من سورة القلم وما يليها من حملة
شديدة على بعض الزعماء ،وعن اليات السبع الولى من سورة المزمل
"وأن ما بعدها نزل متأخرا ً عنها أو عن اليات السبع الولى من سورة
المدثر ،واليات التالية لها التي تحتوي حملة على زعيم جاحد . . .وإذا صح
نزول اليات الولة من السور الثلث السابقة – العلق والقلم والمزمل –
لحدتها يكون التساق قد تم " .
وعليه نقل السيوطي قول أحد العلماء " :يشترط في حسن ارتباط الكلم
أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره ؛ فإن وقع على أسباب مختلفة لم
يقع فيه ارتباط .ومن ربط ذلك فهو متكلف بما ل يقدر عليه إل بربط ركيك
يصان عن مثله حسن الحديث فضل ً عن أحسنه " .وأنت رأيت أن سور العهد
الول ل تشكل كل منها وحدة تامة بل هي كما يقول دروزة في سيرة
الرسول ج 1ص " 125مجموعات " متداخلة بعضها في بعض في زمن النزول
"مثل سور العلى والشمس والليل والعصر والخلص والعاديات والتين
والتكاثر والقارعة ألخ الخ هي التي نزلت . . .قبل اليات التالية لمطالع
السور الربع الولى – العلق والقلم والمزمل والمدثر – اذا صح ذلك القول
بأن هذه المطالع نزلت منفصلة ومبكرة عن بواقيها ؟ " وهو صحيح يدل
عليه اختلف الومضوع والنظم ،ويظهر من ذلك أن التفكك وقلة التناسق
في المجموعات القرآنية كان ملحوظا ً منذ زمن النبي .جاء في أسباب
النزول للسيوطي " :أخرج ابن اسحاق وابن جرير من طريق سعيد أو
عكرمة عن ابن عباس قال :أتى النبي .سلم بن مشكم في عامة يهود
سماهم فقالوا :كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا ؟ وأن هذا الذي جئت به ل
نراه متناسقا ً كتناسق التوراة فأنزل علينا كتابا ً نعرفه ،وإل جئناك بمثل ما
تأتي به .فأنزل الله ( أول تحد بالقرآن ) " :قل لئن اجتمعت النس والجن
على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ل يأتون بمثله " ( السراء ) 88قال الجللن
" :ل يأتون بمثله :في الفصاحة والبلغة – ل في التناسق .
مع ذلك فقد سحر القرآن الول العرب ،ولم يجدوا ما يصفونه به سوى
كلمة "سحر " وإلى الن يسحر السامعين بإيقاعه وأسلوبه .ولكنه على حد
قولهم " إن هو إل سحر يؤثر " ( المدثر ) 24وظل سادة مكة يلحقونه
بهذه التهمة " يعرضوا ويقولوا :سحر مستمر " ( القمر ) 2حتى تحول عن
طريقة قومه في أقسامهم الغريبة إلى أسلوب أهل الكتاب في العهد
الثاني كما سنرى .
في القرآن المكي كله ظاهرة عامة فما بين القرآن والكتاب انتساب ونسب
وهذا النتساب إلى الكتاب وأهله ،وهذا النسب القائم بين القرآن والكتاب
يجعل من أمم التوحيد المنزل أمة واحدة " إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا
ربكم فاعبدون " (النبياء ) 92 :ويكرر التأكيد بقوله في سورة المؤمنون ىية
" 53وان هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون " .
منذ سورة القلم يشير في معرض الرد على المشركين بقوله " أم لكم
كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون . . .أم عندهم الغيب فهم
يكتبون " ؟ فهناك كتاب يدرس ،وغيب عنه يكتب ؛ ويصرح في سورة
الحاقة آية " 38فل أقسم بما تبصرون وما لتبصرون ،انه لقول رسول
كريم ؛ وما هو بقول شاعر ،قليل ً ما تؤمنون ؛ ول بقول كاهن قليل ً ما
تذكرون ؛ تنزيل من رب العالمين " وهذا التنزيل بواسطة رسول كريم
يذكر لنا مصادره في كل سانحة :منذ سورة العلى يقول " :إن هذا
(القرآن)لفي الصحف الولى ،صحف إبراهيم وموسى " (العلى )18
وبخصوص صحف إبراهيم التي كان الحنفاء يعتمدون عليها فإننا لنعرفها
.ومن هذه الشارة نرى تطور النبي من الحنيفية إلى الكتابية .إن القرآن
في صحف الولى جملة وتفصيل ً " :أولم ينبأ بما في صحف موسى
وإبراهيم الذي وفى .أل تزر وازرة وزر أخرى ،وأن ليس للنسان إل ما
سعى ،وأن يعيه سوف يرى " (النجم ) 42 -37وأخبار القرون الماضية هي
أيضا ً في الكتاب " :وكل شيء فعلوه في الزبر " أي زبر الولين ،كتبهم
كالتوراة والنجيل " (الجللن ) ومعجزة محمد التي تؤيده وتشهد له أنه بلغ
قومه ما في تلك الصحف الولى " :قالوا :لول يأتينا بآية من ربه ؟ -أولم
تأتهم بينة ما في الصحف الولى ؟ " (طه ) 133إذن ما بين القرآن والكتاب
صلة انتساب ونسب ؛ وسيظل يردد ذلك طيلة العهد بمكة إنه تنزيل من زبر
الولين كقوله في سورة الشعراء آيات من (" :) 196-192وإنه لتنزيل رب
العالمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين .وإنه لفي زبر
الولين" .وكيف يكون تنزيل رب العالمين ،ومع ذلك فهو في زبر الولين ؟
" -هذا سر النبي ظل يستفتح على المشركين بقوله " :وما آتيناهم من
كتب يدرسونها " ( سبأ . ) 44:وإذا اتهموه شتى التهم يجيب " :أم عندهم
الغيب فهم يكتبون " (الطور . ) 43-30 :وإذا شك هو من نفسه يقال له " :
فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك
لقد جاءك الحق من ربك فل تكنن من الممترين "( يونس ) 94 :ويأتيه المر
صراحة "أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة . . .أولئك الذين هدى
الله فبهداهم اقتده " (النعام ) 90:وظل حتى النهاية يصرح بأن القرآن
"بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إل
الظالمون " (العنكبوت )49:وهذا النتساب والنسب يجعل من أمم التوحيد
أمة واحدة ،فترى منذ البدأ صراعا ً بين النزعة القومية والنزعة الكتابية في
السلوب الذي يتحرر من طريقة قومه إلى طريقة أهل الكتاب .
ونلحظ في القرآن المكي أنه يذكر الكتاب على العموم ،وأهل الكتاب على
العموم ،دون تمييز بين الكتب المنزلة ،والمم الكتابية المختلفة .ذاك شأن
القرآن المدني ،ونرى حينا ً ميل ً ظاهرا ً إلى المسيحية ،وحينا ً ميل ً أظهر إلى
الموسوية بقى علينا أن نحدد تأثير كل نزعة عليه ،ونلمس أن التأثير
المسيحي هو الغالب في العهد الول بمكة .
يوم بعثة النبي العربي ونزول القرآن كان في مكة الشرك الحاكم المتحكم
أقلية موحدة .فالوثنية العربية القديمة كانت قد زالت من الوجود في مكة
والحجاز والجزيرة بكاملها ،ولم يبق منها سوى مظاهرها في مراسيم الحج
إلى الكعبة ،وفي تعابير الكلم كالقسام الفلكية الغريبة .أمست الوثنية
شركا ً أي عبادة الله الحد مع غيره من خلقه .وذاك الشرك كان في انحلل
فهو شرك ظاهري أكثر منه حقيقي .فقد كانت روح التوحيد تتغلغل في
طبقات الشعب بفضل الدعوات اليهودية والمسيحية ،وماانبثق عنهما من
حنيفية ، ،حتى شاع التوحيد الكتابي وشع .قال الدكتور جواد علي " :
فعبادة أهل مكة هي عبادة محمد ،وتوحيدهم توحيد إسلمي أو توحيد قريب
من التوحيد السلمي " .
وقد استخلص الستاذ دروزة من آيات القرآن والثار السلمية أن أكثرية
الموحدين في مكة كانوا مسيحيين .
قال في كتابه :عصر النبي وبيئته قبل البعثة الفصل الثالث ص : 103-97
فهذه اليات يمكن أن تلهمنا ما يلي )1 :أنه كان في مكة أناس من أهل
الكتب السماوية وكانوا من جملة من اتصل بهم محمد ودعاهم إلى التصديق
برسالته ومتابعته )2 .أنهم لم يكونوا قليلين .وأن منهم من كان ذا سعة
وثروة تمكنه من النفاق في سبيل البر والخير .كما أن منهم من ىكان
قوي النفس والشخصية بحيث ل يبالي بلوم زعماء قريش على متابعتهم
للنبي مثل ً قوله في سورة القصص آيات من " 55 – 52الذين آتيناهم الكتاب
من قبله ىهم به يؤمنون .وإذ يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا
كنا من قبله مسلمين " . . . .وهذا وذاك يلهمان أن منهم من كان أرقى
طبقة من أرقاء وغلمان في خدمة الزعماء والتجار وملك أيمانهم )3 .أن
منهم من كان متميزا ً في ثقافته ومعارفه الدينية بحيث كان اهل ً للرجوع
اليه واستشهاده في أمر رسالة محمد .وأن هذا الفريق لم يكن نكرة في
أوساط مكة بل كان موضع اعتماد وثقة من العرب أو أهل مكة ،ومرجع
استفتاآتهم في المور والمعارف الدينية والدنيوية )4 .أنهم على العموم
كانوا رقيقي العاطفة دمثي الخلق ثابتين فيما يعتقدون أنه الحق ولو لقوا
في سبيل ذلك العنت ،جريئين في إظهار عقيدتهم ،وأن منهم من كان
مجادل ً حجاجا ً بل ومتطرفا ً في الجدل والحجاج )5 .إن إيراد قصتي ولدة
يحيى وعيسى في سورة مريم وإيراد خبر انكسار الروم النصارى مع بشرى
انتصارهم بعد قليل (سورة الروم ) والجدل في أمر حقيقة عيسى ورسالته
يمكن أن يلهم أن الكتابيين الذين انطوت اليات على ملهمات وجودهم في
مكة هم أو أكثرهم من النصارى .ومن المرجح كثيرا ً أن من هؤلء من كان
عربي الجنس مستقرا ً في مكة أو مترددا ً عليها من اليمن وأطراف الجزيرة
الشمالية حيث كانت النصرانية سائدة بين حضر العرب وقبائلهم والتصال
مستمر .والذي نرجحه أن أفراد الجالية الجنبية المقيمين في مكة هم من
النصارى الروم والسريان والسوريين . . . .للعمال الصناعية حيناً
والتجارية حينا ً والتبشير حينا ً آخر . .
ونرجح أن عددهم لم يكن يتجاوز المئات القليلة ( مئات قليلة من صناع
وتجار ومبشرين أل يكفون لعمل انقلب توحيدي في مكة مع الزمن ؟؟ ) . .
.وإذا كنا قد رجحنا أن الكتابيين والجانب كلهم أو جلهم نصارى ،فإن هذا
ل يعني كذلك أنه لم يكن في مكة إسرائيليون " .
وسترسل جواد على في المفصل فيقول في صفحة " : 425أما النصرانية
فقد وصلنا في الستدلل إلى القول بوجود جالية أعجمية نصرانية في
مكة ،واحتمال وجود جالية أعجمية نصرانية في يثرب أيضا ً ،وبترجيح وجود
عرب متنصرين مستقرين في بيئتي النبي وعصره وإذا كان مدى انتشار
النصرانية في بيئة النبي الخاصة ضيقا ً فإن هذا ليعني أن تأثيرها كان
ضعيفا ً فيها .فنحن نعتقد أن النصرانية كانت كاليهودية مصدرا ً من مصادر
المعارف والفكار الدينية التي كانت عند عرب الحجاز والتي استدللنا عليها
بآيات كثيرة أوردناها . . .دلئل على ما كان عند عرب الحجاز ،وعرب مكة
خاصة من إلمام غير يسير بالنصرانية وعقائدها وقصصها وإشكالت ولدة
المسيح وبنوته وصلبه وما كان فيها من مذاهب وآراء .وطبيعي أن يكون
لهذا كله رد فعل في نفوسهم ومعارفهم وعقولهم وعقائدهم . . .وأن
مشركي مكة ذهبوا اليه إلى أن محمد نفسه قد تعلم وتأثر بهم على ما
حكته عنهم آيتا النحل " 103ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر " . . . .
وآية الفرقان " 4وقال الذين كفروا إن هذا إل إفك افتراه وأعانه عليه قوم
آخرون . " . .وأن لننسى كذلك تلك اللوف المؤلفة من متنصرة العرب
الذين كان الحجازيون خاصة يغدون ويروحون اليهم في أسفارهم ورحلتهم
التجارية ويخالطونهم مخالطة الشقيق ويتزوجون منهم ويتفاهمون معهم
بلسانهم القومي المشترك .وأن لننسى أن كثيرا ً منهم كانوا يشهدون
موسم الحج وأسولقه ،ومنهم من كان يبشر ويخطب كقس بن ساعدة وان
الصلت والتقاليد القبلية كانت تجمع النصراني من العرب برابطة الباء
والجداد جمعا ً وثيقا ً تتصل أواصره وتستمر مظاهره .وأن كثير من العرب
غير النصارى وخاصة الحجازيون يصهرون إلى العرب النصارى وبالعكس
فتزداد هذه الواصر والمظاهر قوة ولحمة .وان كل هذا من شأنه أن يهيء
لعرب الحجاز الفرص الكثيرة للطلع والستماع والدرس والتأثر "ولقد
استلهمنا من ذلك أن من بين الذين اتصلوا بمحمد عربا ً كما أن غير العرب
كانوا يفهمون العربية .والقرائن القرآنية تلهمنا منجهة ،والتاريخ المتصل
بالمشاهدة من جهة أخرى يخبرنا بأن ألوفا ً مؤلفة من العرب كانوا نصارى ،
ومنهم البدو ومنهم الحضر ،وأنهم كان لهم دول وشأن على مسرح بلد
الشام والعراق ،ولهم أساقفهم ورهبانهم وقسيسوهم وكنائسهم وأديرتهم
الكثيرة .واستتباعا ً لهذا فإن من السائغ أن يقال أنه لبد من أن يكون بعض
أسفار العهد القديم والجديد إن لم يكن جميعها ،قد ترجمت إلى العربية
قبل السلم ،وضاعت فيما ضاع من آثار عربية مدونة في غمرات الثورات
والفتن والفتوح .ونرى أن هذا هو الذي يستقيم مع وجود عشرات اللف
من العرب النصارى والف الرهبان والقسيسين العرب ،ومئات الكنائس
والديار العربية .
)2بيئة محمد الشخصية كانت على الغالب حنيفية مسيحية :
قوله "ووجدك عائل ً فأغنى " أغناه الله بزواجه من السيدة خديجة بنت
خويلد بن أسد بن عبد العزى .وقد ترملت مرتين .تقول السيرة " :وكانت
خديجة يومئذ من أوسط نساء قريش نسبا ً وأعظمهن شرفا ً وأكثرهن مال ً "
تزوجها محمد وتزوج تجارتها معها .وقضى محمد قبل بعثته خمسة عشر
عاما ً زوجا ً للتاجرة القرشية الكبيرة .ويصف القرآن في اعتزاز نعمة الله
الكبرى على قريش في قوله في سورة قريش فيقول " :ليلف قريش
.إيلفهم .رحلة الشتاء والصيف " . . .رحلة الشتاء إلى اليمن والصيف إلى
الشام تلك الرحلت التجارية والستطلعية والثقافية التي قام بها محمد
تاجرا ً مرموقا ً في مال خديجة قبل زواجه وبعده .وفي تلك الرحلت
الطويلة الممتعة ،طالما أشبع محمد نهمه ،مثل الحنفاء ،في الستطلع إلى
التوحيد الكتابي الذي كان يستلفت نظر عقول العرب الناضجة .وتخص كل
السير محمدا ً باتصالته بالحبار والرهبان في تلك الرحلت ،فتنقل سيرة
ابن هشام خبر رحلة الفتى محمد مع عمه أبي طالب إلى الشام والتقائه
بالراهب بحيرى في بصرى حوران "وكان إليه علم أهل النصرا نية فقال
بحيرى في الفتى القول الجميل .وتنقل أيضا ً خبر التقائه في كهولته ،في
إحدى رحلته التجارية للسيدة خديجة ،بالراهب نسطور .وفي لقاء الراهبين
تجري أحاديث الدين .وفي تردد محمد المتواصل فتى وكهل ً ،على الرهبان ،
ميل ظاهر إلى المسيحية كما يظهره القرآن المكي في هذا العهد .
"ولننسى كما قدمنا أن كثيرا ً من النصارى كانوا يشهدون موسم الحج
وأسواقه ومنهم من كان يبشر فيه ويخطب كقس ابن ساعدة " اسقف
نجران .وقد نقل المسعودي تلك الذكرى الحارة التي حفظها النبي من
سماعه خطيب العرب والنصرانية المشهور .وذكرى حارة بعد طول المدى
تدل على مدى التأثر الشديد بدعوة اسقف نجران في عكاظ .
والثار كلها تدل على اصطفاء محمد قبل البعثة وبعدها عصبة من
النصارى ،ل للهو والعبث ،بل للختلء والتأمل .قال محمد صبيح في تعليق
على ذلك في كتابه سيرة الرسول ص " : 123لم يقل أحد أن محمدا ً لم يكن
يعلم شيئا ً من أمر هذه اللغات (الجنبية ) التي تأثرت بها مكة ،وأمر هذه
الثقافات التي ذابت فيها .بل أكثر من هذا فإن لدينا من الحوادث ما يؤكد
اتصال محمد وهو في مكة بهؤلء الجانب الذين كانوا يقيمون فيها ،وكان
يزورهم ويطيل صحبتهم .فقد روي عن عبيد الله بن مسلم قال :كان لنا
غلمان روميان يقرآن كتابا ً لهما بلسانهما فكان النبي يمر بهما فيقوم
فيسمع منهما .وروي عن ابن إسحاق أن محمد كثيرا ً ما كان يجلس عند
المروة إلى سبيعة – غلم نصراني يقال له جبر – عبد لبني الحضرمي .وعن
ابن عباس ان النبي كان يزور وهو في مكة أعجميا ً اسمه بلعام ،وكان
المشركون يرونه يدخل عليه ويخرج من عنده .وفي رواية أخرى أن غلماً
(كان لحويطب بن عبد العزى ) قد أسلم وحسن إسلمه ،اسمه عائش أو
يعيش ،وكان صاحب كتيب وقيل هو جبر ،وقيل هما إثنان جبر ويسار ،كانا
يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والنجيل فكان رسول الله إذا مر
عليهما وقف يسمع ما يقرآن . .الخ .واذن فقد كان محمد يسمع ما يقرأ
في الكتب بلغة غير لغة مكة ،وكان يفهم ما يتلى عليه .
وأخرج الستاذ دروزة في سيرة الرسول ج 1ص 16من ملهمات القرآن في
سورة النحل آية 103تحكي دعوى الكفار أن شخصا ً أجنبيا ً معينا ً كان يعلم
النبي " :ولقد نعلم أنهم يقولون :انما يعلمه بشر ؛ -لسان الذي يلحدون
اليه أعجمي ،وهذا لسان عربي مبين " .والية تنفي جحود نزول الوحي
ولتنفي اتصال ً ما بينه وبين أحد أفراد الجالية الجنبية كما هو ظاهر .
والمتبادر أن الجاحدين لم يكونوا ليقولوا ما قالوه لو لم يروا أو يعرفوا أن
محمد كان يتردد على شخص من أفراد هذه الجالية في مكة ،هو أهل علم
وتعليم ديني وله وقوف على الكتب الدينية السماوية .وفي سورة الفرقان
آية " 4قال الذين كفروا :إن هذا إل إفك افتراه ،وأعانه عليه قوم آخرون "
إنما تنفي دعوة الستعانة ول تنفي اتصال ً أو صحبة بين محمد وفريق من
الناس كما أن تعبير قوم آخرون "يلهم أن المنسوب اليهم أكثر من واحد .
والذي يتبادر إلى الذهن أن الكفار لم يكونوا ليقولوا ماقالوه مما حكته الية
لو لم يروا أو يعرفوا أن محمد كان حلقة أو رفاق يجتمعون إليه ويجتمع
إليهم ويتحدثون في المور الدينية .وليس من المستبعد – إن لم نقل من
المرجح – أن هذا كان قبل البعثة ثم امتد إلى ما بعدها .وأن يكون من هؤلء
الرفاق أفراد من الجالية الكتابية الذين آمنوا بالنبي .واندمجوا في دعوته ،
وممن كانت تعنيهم تلك اليات المكية .وقد ذكرت الروايات أسماء عدد من
هؤلء بين المسلمين كسلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلل الحبشي .
إذن كان محمد ورفاقه المثقفون من فتيان قريش يجتمعون حلقات مع
رفاقهم المثقفين من النصارى العرب والعاجم ،قبل البعثة وبعدها ،
يتحدثون في المور الدينية والمسيحية .وهذه الحلقات الدينية تظهر لنا
استعداد محمد الفطري الى الستطلع الديني ،والميل إلى الثقافة
المسيحية .فقد ثبت لنا ترجيح تردده على بعض الكتابيين ،ووجود حلقة
رفاق له يجتمع إليهم من الكتابيين وغيرهم ،وجريان الحديث بينه وبينهم
في أمور دينية وثقافية متنوعة .فهذه دائرة ضيقة وخاصة كما هو واضح ،بل
قد تكون حلقة من حلقات اعتكافاته ورياضاته الروحية .
والقرآن والحديث والسيرة تشهد أن محمدا ً كان قبل بعثته من أولئك
الموحدين الذين تأثروا بالتوحيد الكتابي ،ولكن لم يدخلوا في نصرانية أو
يهودية ،بل ظلوا مستقلين في توحيدهم ،حنفاء لله .قال الستاذ دروزة
أيضا ً " :والذي نعتقده وهو ما وصلنا اليه ونرى أن اليات القرآنية تلهمه :
ان النبي كان من هؤلء الفراد الذين أنفوا من تقاليد الباء الشركية
والجاهلية ،واعتنقوا فكرة الوحدانية وأخذوا يعبدون الله على ملة إبراهيم
.أو ما ظنوه كذلك ،أو أخذوا يبحثون عنها ولم يعتنقوا اليهودية ول النصرانية
. . .وأنه أي محمد كان كذلك منذ أن نضج شبابه .وأن اقترانه بخديجة
ساعده على التفرغ لتجاهه وحياته الروحية ،هذه التي كان من مظاهرها
تلك الرياضات أو العتكافات الروحية السنوية في رمضان وفي غار حراء
خاصة " إلى أن اهتدى " ووجدك ضال ً فهدى " .
فمحمد لم يكن أمي بل كان تاجرا ً دوليا ً ،ومثقفا ومطلعا مثل رفاقه من
ً ً
قريش ومن أهل الكتاب وباحثا ً دينيا ً يسأل عن التوحيد الكتابي ،وحنيفاً
يتعاطى الرياضات النسكية والعتكافات الروحية ذو ميل ظاهر للمسيحية .
وقد آن لنا أن نتخلص من الوهم المتوارث منذ أجيال في وصف النبي
العربي بالمية أي جهل القراءة والكتابة ،والبتعاد عن كل ثقافة كان القول
ض من كرامته النبوية .أجل يسمي القرآن محمد بثقافة محمد الواسعة غ ُ
"النبي المي " في العراف 157ولكن ليس بحسب اللغة ،ولكن بحسب
اصطلح الكتابيين "ذلك بأنهم قالوا :ليس علينا في الميين سبيل " (آل
عمران . ) 75والمعنى صريح في القرآن :يقول عن نفسه " هو الذي بعث
في الميين رسول ً منهم . . .يعلمهم الكتاب والحكمة " (الجمعة )2ويميز
صريحا ً بين الفريقين " :وقل للذين أوتوا الكتاب والميين :أأسلمتم ؟ فإن
أسلموا فقد اهتدوا (آل عمران )20وهناك آيات (يوسف ")3نحن نقص عليك
أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين
"وفي العنكبوت " 48وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولتخطه بيمينك " . .
والنساء . . . " 113وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم
وكان فضل الله عليك عظيما ً " كل هذه اليات حملت على ما يبدوا على
نفي الكتساب العلمي عن النبي قبل البعثة ،بل على بذل الجهد في هذا
النفي وتوكيده .ونحن ل نرى حكمة أو ضرورة تحمل هؤلء العلماء على
نفي الكتساب العلمي عن النبي قبل بعثته وبذل الجهد في هذا النفي .
كما أننا لنرى هذه اليات تتعارض مع صحة القول بأن النبي قد اكتسب
معارف كثيرة مما كانت تحتويه الكتب الدينية وغيرها ،من مباديء وأسس
وتشريعات وقصص ومما كان يدور على ألسنة الناس في مثل ذلك كتابيين
كانوا أو غير كتابيين ،بسبب تلك التصالت التي تلهم وقوعها اليات
القرآنية ،وبسبب الرحلت التي اجمعت الروايات على أن النبي قد قام
بها ؛ وبسبب وقوعه في بيئة تلم الماما ً غير يسير بهذه المعارف . . .وليس
من الطبيعي ول من المعقول أن يبقى النبي في عزلة أو غفلة عن هذا كله
. .فإن هذا يناقض طبائع الشياء "وفاتهم أن أنبياء الكتاب المقدس كانوا
مثقفين ،ويتقنون الكتاب ،والشعر النبوي والعهد الجديد يقول عن موسى
سيد الشريعة " :تأدب بحكمة المصريين كلها " في بيت فرعون (أع ) 22 :7
وليس في هذا غضاضة على كرامته النبوية .بل قد هيأه الله بثقافته العالية
إلى تحرير شعبه من عبودية مصر .وكذلك هيأ محمدا ً بتجارته الدولية
وثقافته الواسعة ،وانعكافاته الحنيفية ،واتصالته المسيحية وبيئته العائلية .