Professional Documents
Culture Documents
أحلم مستغانمي
اهداء
الى أبي ...دوما.
والى شرفاء هذه المة ورجالها الرائعين ,الذين يعبرون بأقدارهم دون انحناء ,متشبثين بأحلم
الخاسرين.
واليك في فتنة عبورك الشامخ ,عبورك الجامح,يوم تعثر بك قدري...كي تقيم.
أحلم
كنا مساء اللهفة الولى ,عاشقين في ضيافة المطر ,رتبت لهما المصادفة موعدا خارج
المدن العربية للخوف.
نسينا لليلة أن نكون على حذر ,ظنا منا أن باريس تمتهن حراسة العشاق.
إن حبا عاش تحت رحمة القتلة ,ل بد أن يحتمي خلف أول متراس متاح للبهجة .أكنا إذن
نتمرن رقصا على منصة السعادة ,أثناء اعتقادنا أن الفرح فعل مقاومة؟ أم أن بعض الحزن
من لوازم العشاق؟
في مساء الولع العائد مخضبا بالشجن .يصبح همك كيف تفكك لغم الحب بعد عامين من
الغياب ,وتعطل فتيله الموقوت ,دون أن تتشظى بوحا.
بعنف معانقة بعد فراق ,تود لو قلت "أحبك" كما لو تقول "ما زلت مريضا بك".
تريد أم تقول كلمات متعذرة اللفظ ,كعواطف تترفع عن التعبير ,كمرض عصي على
التشخيص.
تود لو استطعت البكاء .ل لنك في بيته ,ل لنكما معا ,ل لنها أخيرا جاءت ,ل لنك تعيس
ول لكونك سعيدا ,بل لجمالية البكاء أمام شيء فاتن لن يتكرر كمصادفة.
كنا في غرفة الجلوس متقابلين ,على مرمى خدعة من المخدع .عاجزين على انتزاع فتيل
قنبلة الغيرة تحت سرير صار لغيرنا.
لموعدنا هذا ,كانت تلزمنا مناطق منزوعة الذكريات ,مجردة من مؤامرة الشياء علينا,
بعيدة عن كمين الذاكرة .فلماذا جئت بها إلى هذا البيت بالذات ,إذا كنت تخاف أن يتسرب
الحزن إلى قدميها؟
ذلك أن بي شغفا إلى قدميها .وهذه حالة جديدة في الحب .فقبلها لم يحدث أن تعلقت بأقدام
النساء.
هي ما تعودت أن تخلع الكعب العالي لضحكتها ,لحظة تمشي على حزن رجل.
لكنها انحنت ببطء أنثوي ,كما تنحني زنبقة برأسها ,وبدون أن تخلع صمتها ,خلعت ما علق
بنعليها من دمي ,وراحت تواصل الرقص حافية مني.
أكانت تعي وقع انحنائها الجميل على خساراتي ,وغواية قدميها عندما تخلعان أو تنتعلن
قلب رجل؟
شيء ما فيها ,كان يذكرني بمشهد "ريتا هاورث" في ذلك الزمن الجميل للسينما ,وهي تخلع
قفازيها السوداوين الطويلين من الساتان ,إصبعا إصبعا ,بذلك البطء المتعمد ,فتدوخ كل
رجال العالم بدون أن تكون قد خلعت شيئا.
هل من هنا جاء شغف المبدعين بتفاصيل النساء؟ ولذا مات بوشكين في نزال غبي دفاعا
عن شرف قدمي زوجة لم تكن تقرأه.
في حضرتها كان الحزن يبدو جميل .وكنت لجماليته ,أريد أن أحتفظ بتفاصيله متقدة في
ذاكرتي ,أمعن النظر إلى تلك النثى التي ترقص على أنغام الرغبة ,كما على خوان
المنتصرين ,حافية من الرحمة بينما أتوسد خسارات عمري عند قدميها.
هي ذي ,كما الحياة جاءت ,مباغتة كل التوقعات ,لكأنها تذهب الى كل حب حافية مبللة
القدمين دوما ,لكأنها خارجة لتوها من بركة الخطايا أو ذاهبة صوبها.
اشتقتها! كم اشتقتها ,هذه المرأة التي لم أعد أعرف قرابتي بها ,فأصبحت أنتسب الى
قدميها.
هي ذي .وأنا خائف ,إن أطلت النظر إلى العرق اللمع على عري ظهرها ,أن يصعقني
تيار النوثة.
هي أشهى ,هكذا .كامرأة تمضي مولية ظهرها ,تمنحك فرصة تصورها ,تتركك مشتعل
بمسافة مستحيلها.
أنا الرجل الذي يحب مطاردة شذى عابرة سبيل ,تمر دون أن تلتفت .تميتني امرأة تحتضنها
أوهامي من الخلف .ولهذا اقتنيت لها هذا الفستان السود من الموسلين ,بسبب شهقة
الفتحة التي تعري ظهره ,وتسمرني أمام مساحة يطل منها ضوء عتمتها.
أو ربما اقتنيته بسبب تلك الهانة المستترة التي اشتممتها من جواب بائعة ,لم تكن تصدق
تماما أن بامكان عربي ذي مظهر ل تفوح منه رائحة النفط ,أن ينتمي الى فحش عالم
القتناء.
كنت أتجول مشيا قادما من الوبرا ,عندما قادتني قدماي الى "فوبور سانت أونوريه" .ما
احتطت من شارع تقف على جانبيه سيارات فخمة في انتظار نساء محملت بأكياس فائقة
التميز ,ول توجست من محلت ل تضع في واجهاتها سوى ثوب واحد أو ثوبين .لم أكن
أعرف ذلك الحي ,أصل.
عرفت اسم الحي في مابعد ,عندما أمدتني البائعة ببطاقة عليها العربون الذي دفعته لحجز
به ذلك الثوب.
بتلك النفة المشوبة بالجنون ,بمنطق" النيف" الجزائري تشتري فستان سهرة يعادل ثمنه
معاشك في الجزائر لعدة شهور ,أنت الذي تضن على نفسك بالقل .أفعلت ذلك رغبة منك في
تبذير مال تلك الجائزة التي حصلت عليها ,كما لتنجو من لعنة؟ أم لتثبت للحب أنك الكثر
سخاء منه؟
أن تشتري فستان سهرة لمرأة لم تعد تتوقع عودتها ,ول تعرف في غيابك ماذا فعل الزمن
بقياساتها ,أهي رشوة منك للقدر؟ أم معابثة منك للذاكرة؟ فأنت تدري أن هذا الفستان الذي
بنيت عليه قصة من الموسلين لم يوجد يوما ,ولكن السود يصلح ذريعة لكل شيء.
ولذا هو لون أساسي في كل خدعة.
أذكر يوم صادفتها في ذلك المقهى ,منذ أكثر من سنتين ,لم أجد سوى ذريعة من الموسلين
لمبادرتها .سائل ان كانت هي التي رأيتها مرة في حفل زفاف ,مرتدية ثوبا طويل من
الموسلين السود.
ارتبكت .أظنها كانت ستقول"ل" ولكنها قالت "ربما" .
أحرجها أن تقول " نعم ".
في الواقع ,لم نكن التقينا بعد .لكنني كنت أحب أن أختلق ,مع امرأة ,ذكريات ماض لم يكن.
أحب كل ذاكرة ل منطق لها.
بدأنا منذ تلك اللحظة نفصل قصة على قياس ثوب لم يوجد يوما في خزانتها.
عندما استوقفني ذلك الفستان قبل شهرين في واجهة محل ,شعرت أنني أعرفه .أحببت
انسيابه العاطفي .لكأنه كان يطالب بجسدها أن يرتديه ,أو كأنه حدث لها أن ارتدته في
سهرة ما ,ثم علقته على " الجسد المشجب" لمرأة أخرى ,ريثما تعود.
عندما دخلت المحل ,كنت مرتبكا كرجل ضائع بين ملبس النساء .فأجبت بأجوبة غبية عن
السئلة البديهية لتلك البائعة المفرطة في الناقة قدر فرطها في التشكك بنيتي.
Dans quelle taille voulez-vous cette robe Monsieur
?
كيف لي أن أعرف قياس امرأة ما سبرت جسدها يوما ال بشفاه اللهفة؟ امرأة أقيس
اهتزازاتها بمعيار ريختر الشبقي .أعرف الطبقات السفلية لشهوتها .أعرف في أي عصر
تراكمت حفريات رغباتها ,وفي أي زمن جيولوجي استدار حزام زلزلها ,وعلى أي عمق
تكمن مياه أنوثتها الجوفية .أعرف كل هذا ...ولم أعد ,منذ سنتين ,أعرف قياس ثوبها!
لم تفاجأ البائعة كثيرا بأميتي ,أو أل يكون ثمن ذلك الثوب في حوزتي .فلم يكن في هيئتي ما
يوحي بمعرفتي بشؤون النساء ,ول بقدرتي على دفع ذلك المبلغ.
غير أنها فوجئت بثقافتي عندما تعمدت أن أقول لها بأنني غير معني باسم مصمم هذا
الفستان ,بقدر ما يعنيني تواضعه أمام اللون السود ,حتى لكأنه ترك لهذا اللون أن يوقع
الثوب نيابة عنه ,في مكمن الضوء ,وأنني أشتري ضوء ظهر عار بثمن فستان!
قالت كمن يستدرك:
-أنت رجل ذواقة.
ولنني لك أصدق مديحها ,لقتناعي أن الذوق لمثلها يرقى وينحط بفراغ وامتلء محفظة
نقود ,قلت:
-هي ليست قضية ذوق ,بل قضية ضوء .المهم ليس الشيء بل إسقاطات الضوء عليه.
سالفادور دالي أحب Galaوقرر خطفها من زوجها الشاعر بول ايلوار لحظة رؤيته
ظهرها العاري في البحر صيف .1949
سألتني مندهشة لحديث لم يعودها عليه زبائن ,شراء مثل هذا الثوب ليس حدثا في
ميزانيتهم.
-هل أنت رسام؟
كدت أجيب " بل أنا عاشق" .لكنني قلت:
-ل ...أنا مصور.
وكان يمكن أن أضيف أنني مصور " كبير" ,مادمت موجودا في باريس لحصولي على جائزة
أحسن صورة صحافية عامئذ .فلم يكن في تلك الصورة التي نلتها مناصفة مع الموت ,ما
يغري فضول امرأة مثلها .ولذا هي لن تفهم أن يكون هذا الثوب السود هو أحد الستثمارات
العاطفية التي أحببت أن أنفق عليها ما حصلت عليه من تلك المكافأة.
من قال إن القدار ستأتي بها حتى باريس ,وإنني سأراه يرتديها؟
هاهي ترتديه .تتفتح داخله كوردة نارية .هي أشهى هكذا ,وهي تراقص في حضوري رجل
غيري ,هو الحاضر بيننا بكل تفاصيل الغياب.
لو رأى بورخيس تلك المرأة ترقص لنا معا ,أنا وهو ,لوجد " للزاندالي" قرابة بالرقص
الرجنتيني ,كما التانغو ,انه " فكر حزين يرقص" على إيقاع الغيرة لفض خلفات العشاق.
في لحظة ما ,لم تعد امرأة .كانت الهة إغريقية ترقص حافية لحظة انخطاف.
بعد ذلك سأكتشف أنها كانت الهة تحب رائحة الشواء البشري ,ترقص حول محرقة عشاق
تعاف قرابينهم ول تشتهي غيرهم قربانا.
لكأنها كانت قسنطينة ,كلما تحرك شيء فيها ,حدث اضطراب جيولوجي واهتزت الجسور
من حولها ,ول يمكنها أن ترقص إل على جثث رجالها.
هذه الفكرة لم تفارقني عندما حاولت فيما بعد فهم نزعاتها المجوسية.
ماالذي صنع من تلك المرأة روائية تواصل ,في كتاب ,مراقصة قتلها؟ أتلك النار التي
خسارة بعد أخرى ,أشعلت قلمها بحرائق جسد عصي على الطفاء؟
أم هي رغبتها في تحريض الريح ,باضرام النار في مستودعات التاريخ التي سطا عليها
رجال العصابات؟
في الواقع كنت أحب شجاعتها ,عندما تنازل الطغاة وقطاع طرق التاريخ ,ومجازفتها بتهريب
ذلك الكم من البارود في كتاب .ول أفهم جبنها في الحياة ,عندما يتعلق المر بمواجهة زوج.
تماما ,كما ل أجد تفسيرا لذكائها في رواية ,وغبائها خارج الدب ,الى حد عدم قدرتها,
وهي التي تبدو خبيرة في النفس البشرية ,على التمييز بين من هو مستعد للموت من أجلها,
ومن هو مستعد أن يبذل حياته من أجل قتلها .انه عماء المبدعين في سذاجة طفولتهم
البدية.
ربما كان عذرها في كونها طفلة تلهو في كتاب .هي ل تأخذ نفسها مأخذ الدب ,ول تأخذ
الكتابة مأخذ الجد .وحدها النار تعنيها.
ولذا ,قلت لها يوما " :لن أنتزع منك أعواد الثقاب ,واصلي اللهو بالنار من أجل الحرائق
القادمة".
ذلك أن الرواية لم تكن بالنسبة لها ,سوى آخر طريق لتمرير الفكار الخطرة تحت مسميات
بريئة.
هي التي يحلو لها التحايل على الجمارك العربية ,وعلى نقاط التفتيش ,ماذا تراها تخبئ في
حقائبها الثقيلة ,وكتبها السميكة؟
أنيقة حقائبها .سوداء دائما .كثيرة الجيوب السرية ,كرواية نسائية ,مرتبة بنية تضليلية,
كحقيبة امرأة تريد إقناعك أنها ل تخفي شيئا.
ولكنها سريعة النفتاح كحقائب البؤساء من المغتربين.
أكل كاتب غريب يشي به قفل ,غير محكم الغلق ,لحقيبة أتعبها الترحال ,ل يدري صاحبها
متى ,ول في أي محطة من العمر ,يتدفق محتواها أمام الغرباء ,فيتدافعون لمساعدته على
لملمة أشيائه المبعثرة أمامهم لمزيد من التلصص عليه؟ وغالبا ما يفاجأون بحاجاتهم مخبأة
مع أشيائه.
الروائي سارق بامتياز .سارق محترم .ل يمكن لحد أن يثبت أنه سطا على تفاصيل حياته
أو على أحلمه السرية .من هنا فضولنا أمام كتاباته ,كفضولنا أمام حقائب الغرباء المفتوحة
على السجاد الكهربائي للمتعة.
أذكر ,يوم انفتحت حقيبة تلك المرأة أمامي لول مرة ,كنت يومها على سرير المرض في
المستشفى ,عندما خطر على بال عبد الحق ,زميلي في الجريدة ,أن يهديني ذلك الكتاب..
كتابها.
كنت أتماثل للشفاء من رصاصتين تلقيتهما في ذراعي اليسرى ,وأنا أحاول التقاط صور
للمتظاهرين أثناء أحداث أكتوبر . 1988
كانت البلد تشهد أول تظاهرة شعبية لها منذ الستقلل ,والغضب ينزل الى الشوارع لول
مرة ,ومعه الرصاص والدمار والفوضى.
لم أعرف يومها ,أتلقيت تينك الرصاصتين من أعلى أحد المباني الرسمية ,عن قصد أم
عن خطأ؟ أكان العسكر يظنون أنني أمسك سلحا أصوبه نحوهم ,أم كانوا يدرون أنني ل
أمسك بغير آلة تصويري ,عندما أطلقوا رصاصهم نحوي قصد اغتيال شاهد إثبات.
تماما ,كما سوف لن أدري يوما :أعن قصد ,أم عن مصادفة جاءني عبد الحق بذلك الكتاب.
أكان ذلك الكتاب هدية القدر؟ أم رصاصته الخرى؟ أكان حدثا أم حادثا آخر في حياتي؟ ربما
كان الثنان معا.
ليس الحب ,ول العجاب ,بل الذعر هو أول احساس فاجأني أمام ذلك الكتاب ".ليس الجمال
سوى بداية ذعر يكاد ل يحتمل" .وكنت مذعورا أمام تلك الرؤى الفجائية الصاعقة ,أمام
ذلك الرتطام المدوي بالخر.
أي شيء جميل هو في نهايته كارثة .وكيف ل أخشى حالة من الجمال ..كان يزمني عمر
من البشاعة لبلوغها.
كنت أدخل مدار الحب والذعر معا ,وأنا أفتح ذلك الكتاب .منذ الصفحة الولى تبعثرت أشياء
تلك المرأة على فراش مرضي.
كانت امرأة ترتب خزانتها في حضرتك .تفرغ حقيبتها وتعلق ثيابها أمامك ,قطعة قطعة,
وهي تستمع الى موسيقى تيودوراكيس ,أو تدندن أغنية لديميس روسوس.
كيف تقاوم شهوة التلصص على امرأة ,تبدو كأنها ل تشعر بوجودك في غرفتها ,مشغولة
عنك بترتيب ذاكرتها؟
وعندما تبدأ في السعال كي تنبهها الى وجودك ,تدعوك الى الجلوس على ناصية سريرها,
وتروح تقص عليك أسرارا ليست سوى أسرارك ,واذ بك تكتشف أنها كانت تخرج من
حقيبتها ثيابك ,منامتك ,وأدوات حلقتك ,وعطرك ,وجواربك ,وحتى الرصاصتين اللتين
اخترقا ذراعك.
عندها تغلق الكتاب خوفا من قدر بطل أصبحت تشبهه حتى في عاهته .ويصبح همك ,كيف
التعرف على امرأة عشت معها أكبر مغامرة داخلية .كالبراكين البحرية ,كل شيء حدث
داخلك .وأنت تريد أن تراها فقط ,لتسألها " كيف تسنى لها أن تمل حقيبتها بك؟"
ليس ثمة موتى غير أولئك الذين نواريهم في مقبرة الذاكرة .اذن يمكننا بالنسيان ,أن نشيع
موتا من شئنا من الحياء ,فنستيقظ ذات صباح ونقرر أنهم ما عادوا هنا.
بامكاننا أن نلفق لهم ميتة في كتاب ,أن نخترع لهم وفاة داهمة بسكتة قلمية مباغتة كحادث
سير ,مفجعة كحادثة غرق ,ول يعنينا ذكراهم لنبكيها ,كما نبكي الموتى .نحتاج أن نتخلص
من أشيائهم ,من هداياهم ,من رسائلهم ,من تشابك ذاكرتنا بهم .نحتاج على وجه السرعة
أن تلبس حدادهم بعض الوقت ,ثم ننسى.
لتشفى من حالة عشقية ,يلزمك رفاة حب ,لتمثال لحبيب تواصل تلميعه بعد الفراق ,مصرا
على ذياك البريق الذي انخطفت به يوما .يلزمك قبر ورخام وشجاعة لدفن من كان أقرب
الناس اليك.
أنت من يتأمل جثة حب في طور التعفن ,ل تحتفظ بحب ميت في براد الذاكرة ,أكتب ,لمثل
هذا خلقت الروايات.
أذكر تلك الجوبة الطريفة لكتاب سئلوا لماذا يكتبون .أجاب أحدهم " ليجاور الحياء الموات"
,وأجاب آخر " كي أسخر من المقابر" ,ورد ثالث " كي أضرب موعدا" .
أين يمكنك ,ال في كتاب ,أن تضرب موعدا لمرأة سبق أن ابتكرت خديعة موتها ,مصرا
على إقحام جثتها في موكب الحياء ,برغم بؤس المعاشرة.
أليس في هذه المفارقة سخرية من المقابر التي تضم تحت رخامها ,وتترك الموات يمشون
ويجيئون في شوارع حياتنا.
وكنت قرأت أن (الغوليين) سكان فرنسا الوائل ,كانوا يرمون الى النار الرسائل التي يريدون
إرسالها الى موتاهم .وبمكاتيب محملة بسلماتهم وأشواقهم وفجيعتهم.
وحدها النار ,تصلح ساعي بريد .وحدها بامكانها انقاذ الحريق .أكل ذلك الرماد ,الذي كان
نارا ,من أجل صنع كتاب جميل؟
حرائقك التي تنطفئ كلما تقدمت في الكتابة ,ل بد أن تجمع رمادها صفحة صفحة ,وترسله
الى موتاك بالبريد المسجل ,فل توجد وسيلة أكثر ضمانا من كتاب.
تعلم اذن أن تقضي سنوات في انجاز حفنة من رماد الكلمات ,لمتعة رمي كتاب الى البحر,
أن تبعثر في البحر رماد من أحببت ,غير مهتم بكون البحر ل يؤتمن على رسالة ,تماما كما
القارئ ل يؤتمن على كتاب.
فكتابة رواية تشبه وضع رسالة في زجاجة والقائها في البحر .وقد تقع في أيدي أصدقاء أو
أعداء غير متوقعين .يقول غراهام غرين ,ناسيا أن يضيف أنه في أغلب الظن ستصطدم
بجثث كانت لعشاق لنا يقبعون في قعر محيط النسيان .بعد أن غرقوا مربوطين الى صخرة
جبروتهم وأنانيتهم .ما كان لنا ال أن نشغل أيدينا بكتابة رواية ,حتى ل تمتد الة حتف
انقاذهم .بامكانهم بعد ذلك ,أن يباهوا بأنهم المعنيون برفاة حب محنط في كتاب.
ام حبا نكتب عنه ,هو حب لم يعد موجودا ,وكتابا نوزع آلف النسخ منه ,ليس سوى رماد
عشق ننثره في المكتبات.
الذين نحبهم ,نهديهم مخطوطا ل كتابا ,حريقا ل رمادا .نهديهم ما ل يساويهم عندنا بأحد.
بلزاك في أواخر عمره ,وهو عائد من روسيا ,بعد زواجه من السيدة هانكسا ,المرأة
الرستقراطية التي تراسل معها ثماني عشرة سنة ومات بعد زواجه منها بستة أشهر ,كان
يقول لها والخيول تجر كهولته في عربة تمضي به من ثلوج روسيا الى باريس:
" في كل مدينة نتوقف فيها ,سأشتري لك مصاغا أو ثوبا .وعندما سيتعذر علي ذلك ,سأقص
عليك أحدوثة لن أنشرها".
ولنه أنفق ماله للوصول اليها ,ولن طريق الرجعة كان طويل ,قد يكون قص عليها قصصا
كثيرة.
حتما ,أجمل روايات بلزاك هي تلك التي لم يقرأها أحد ,وابتكرها من أجل امرأة ما عادت
موجودة هنا لتحكيها.
ربما لهذا ,أكتب هذا الكتاب من أجل الشخص الوحيد الذي لم يعد بامكانه اليوم أن يقرأه,
ذلك الذي ما بقي منه ال ساعة أنا معصمها ,وقصة أنا قلمها.
ساعته التي لم أكن قد تنبهت لها يوما كانت له ,والتي مذ أصبحت لي ,كأني لم أعد أرى
سواها .فمنه تعلمت أن أشلء الشياء أكثر ايلما من جثث أصحابها.
هو الذي أجاد الحب ,وكان عليه أن يتعلم كيف يجيد موته .قال " ل أحب مضاجعة الموت
في سرير ,فقد قصدت السرير دوما لمنازلة الحب ,تمجيدا مني للحياة" .لكنه مات على
السرير اياه .وترك لي كغيره شبهة حب ,وأشياء ل أدري ماذا أفعل بها.
ساعته أمامي على الطاولة التي أكتب عليها .وأنا منذ أيام منهمك في مقايضة عمري بها.
أهديه عمرا افتراضيا .وقتا اضافيا يكفي لكتاية كتاب .تائها في تقاطع أقدارنا ,ل أملك ال
بوصلة صوته ,لفهم بأية مصادفة أوصلنا الحب معا الى تلك المرأة.
أستمع دون تعب الى حواراتنا المحفوظة الى البد في تلك الشرطة ,الى تهكمه الصامت بين
الجمل ,الى ذلك البياض الذي كان بيننا ,حتى عندما كنا نلوذ بالكلم .صوته! يا اله الكائنات,
كيف أخذته وتركت صوته؟ حتى لكأن شيئا منه لم يمت .ضحكته تلك!
كيف ترد عنك أذى القدر عندما تتزامن فاجعتان ؟ وهل تستطيع أن تقول انك شفيت من
عشق تماما من دون أن تضحك ,أو من دون أن تبكي!
الفصل الثاني
في مارس , 1942سجن جان جنيه لسرقته نسخة نادرة لحد دواوين بول فرلين ,بعد أن
تعذر عليه ,وهو الفقير المشرد ,شراءها.
وعندما سئل أثناء التحقيق":أتعرف ثمن هذه النسخة التي سرقتها؟" أجاب جنيه الذي لم يكن
قد أصبح بعد أحد مشاهير الدب الفرنسي المعاصر":ل ...بل أعرف قيمتها".
تذكرت هذه الحادثة ,عندما بلغني أنني حصلت على جائزة العام ,لحسن صورة صحفية في
مسابقة"فيزا الصورة" في فرنسا .ربما لنني عندما سرقت تلك الصورة من فك الموت ,لم
أكن أعرف كم سيكون سعرها في سوق المآسي المصورة .ولكنني حتما كنت أعرف قيمتها,
وأعرف كم يمكن لصورة أن تكون مكلفة ,وقد كلفتني قبل عشر سنوات ,عطبا في ذراعي
اليسرى.
في صور الحروب التي أصبحت حرب صور ,ثمة من يثرى بصورة ,وثمة من يدفع ثمنا
لها.
وحدها صورة الحاكم الذي ل يمل من صورته ,تمنحك راحة البال ,إن كان لك شرف
مطاردته يوميا في تنقلته للتقاطها .لكنك متورط في المأساة ,وفي تاريخ كان ينادى فيه
للمصور كما في اليمن السعيد في الخمسينات ,ليلتقط لحظات إعدام الثوار وتخليد مشهد
رؤوسهم المتطايرة بضربات السيوف في الساحات .أيامها ,كان قطع الرؤوس أهم إنجاز,
وعلى المصور الول والوحد في البلد أن يبدأ به مهنته.
ذات يوم ,تنزل عليك صاعقة الصورة ,تصبح مصورا في زمن الموت العبثي.
كل مصور حرب ,مشروع قتيل يبحث عن صورته وسط الدمار .ثمة مخاطرة في أن تكون
مصورا للموت البشع .كأنه دمارك الداخلي .ولن يرمم خرابك عندذاك ,حتى فرحة حصولك
على جائزة.
المشاهير من مصوري الحروب الذين سبقوك إلى هذا المجد الدامي ,يؤكدون ":أنت لن
تخرج سالما ول معافى من هذه المهنة" .لكنك تقع على اكتشاف آخر :ل يمكنك أن تكون
محايدا ,وأنت تتعامل مع الرؤوس المقطوعة ,واقفا وسط برك الدم لتضبط عدستك.
أنت متورط في تغذية عالم نهم للجثث ,مولع بالضحايا ,وكل أنواع الموت الغريب في
بشاعته.
دكتاتورية الفرجة تفرض عليك مزيدا من الجثث المشوهة.
إنهم يريدون صورا بدم ساخن ,مما يجعلك دائم الخوف على صورك أن تبرد ,أن يتخثر
دمها ويجمد قبل أن ترسلها ,هناك حيث من حنفية المآسي ,تتدفق صور الفناء البشري
على الوكالت.
أثناء ذلك ,بإمكان الموتى أن يذهبوا إلى المقابر ,أو أن ينتظروا في البرادات .لقد توقف بهم
الموت ,وجمدت صورتهم إلى البد على عدستك .ولن تدري أخلدتهم بذلك ,أم أ،ك تعيد
قتلهم ثانية.
ل يخفف من ذنبك إل أنك خلف الكاميرا ,ل تصور سوى احتمال موتك.
لكن هذا ل يرد الشكوك عنك .الجميع يشتبه في أمرك " :لصالح من أنت تعمل؟" .أأنت هنا ,
لتمجيد إنجازات القتلة ومنحهم زهوا إعلميا ,أم بنقلك بشاعة جرائمهم تمنح الخرين صك
البراءة ,وحق البقاء في الحكم؟ إلى أي حزب من أحزاب القتلى تنتمي؟ ولصالح من من
القتلة ترسل صورك ..إلى العداء !
وستقضي وقتك في العتذار عن ذنوب لم تقترفها ,عن جائزة لم تسع إليها ,عن بيت محترم
تعيش فيه ,ول بيت لغيرك من الصحافيين ,عن صديقك الذي قتل ,والخر الذي ذات 13
حزيران قتل امرأته وانتحر ..بعد أن عجز عن أن يكون من سماسرة الصورة.
كنت دائم العتقاد أن الصورة ,كما الحب ,تعثر عليها حيث ل تتوقعها .إنها ككل الشياء
النادرة ..هدية المصادفة.
المصادفة هي التي قادتني ذات صباح إلى تلك القرية ,وأنا في طريقي إلى العاصمة ,آتيا من
قسنطينة بالسيارة ,برغم تحذير البعض.
كنت مع زميل عندما استوقفتنا قرية لم تستيقظ من كابوسها ,ومازالت مذهولة أمام موتاها.
لم يكن ثمة من خوف ,بعد أن عاد الموت ليختبئ في الغابات المنيعة المجاورة ,محاطا
بغنائه وسباياه من العذراوات ,ولن يخرج إل في غارات ليلة على قرية أخرى ,شاهرا أدوات
قتله البدائية التي اختارها بنية معلنة للتنكيل بضحاياه ,مذ صدرت فتوى تبشر "المجاهدين"
بمزيد من الثواب ,إن هم استعملوا السلح البيض الصدئ ,من فؤوس وسيوف وسواطير,
لقطع الرؤوس ,وبقر البطون ,وتقطيع الرضع إربا.
قلما كان القتلة يعودون ,لنهم قلما تركوا خلفهم شيئا يشي بالحياة .حتى المواشي كانت
تجاوز جثث أصحابها ,وتموت ميتة تتساوى فيها أخيرا بالنسان.
كانت القرى الجزائرية أمكنة تغريني بتصويرها .ربما لن لها مخزونا عاطفيا في ذاكرتي مذ
كنت أزورها في مواكب الفرح الطلبي في السبعينات ,مع قوافل الحافلت الجامعية ,للحتفال
بافتتاح قرية يتم تدشينها غالبا بحضور رسمي لرئيس الدولة ,ضمن مشروع ألف قرية
اشتراكية.
كان لي دائما إحساس بأنني قد عرفتهم فردا فردا ,لذا عز علي أن أصور موتهم البائس,
مكومين أمامي جثثا في أكياس من النايلون؟
هم الذين أولموا لنا بالقليل الذي كانوا يملكون ,ما أحزنني أن أكون شاهد تصوير على ولئم
رؤؤسهم المقطوفة.
في زمن الهوس المرئي بالمذابح ,وبالميتات المبيتة الشنيعة ,من يصدق النوايا الحسنة
لمصور تتيح له الصورة حق ملحقة جثث القتلى ببراءة مهنية؟ ليست أخلق المروءة ,بل
أخلق الصورة ,هي التي تجعل المصور يفضل على نجدتك تخليد لحظة مأساتك.
في محاولة إلقاء القبض على لحظة الموت الفوتوغرافي ,بإمكان المصور القناص مواصلة
إطلق فلشاته على الجثث بحثا عن "الصورة الصفقة".
فهو يدري أن للموت مراتب أيضا ,وللجثث درجات تفضيل لم تكن لصحابها في حياتهم.
ثمة جثث من الدرجة الولى ,لغلفة المجلت .وأخرى من الدرجة الثانية ,للصفحات
الداخلية الملونة .وثمة أخرى لن تستوقف أحدا ,ولن يشتريها أحد .إنها صور يطاردك
نحس أصحابها.
هاهوذا الموت ممد أمامك على مد البصر .أيها المصور..قم فصور!
ثم رأيته..
ماذا كان يفعل هناك ذلك ,الصغير الجالس وحيدا على رصيف الذهول؟
كان الجميع منشغلين عنه بدفن الموتى .خمس وأربعون جثة .تجاوز عددها ما يمكن لمقبرة
قرية أن تسع من أموات فاستنجدوا بمقبرة القرية المجاورة.
في مذبحة بن طلحة ,كان يلزم ثلث مقابر موزعة على ثلث قرى ,لدفن أكثر من ثلثمائة
جثة .فهل الموت هذه المرة كان أكثر لطفا ,وترك لفرط تخمينه بعض الرواح تنجو من بين
فكيه؟
كان الصغير جالسا كما لو أنه يواصل غيبوبة ذهوله .أخبرني أحدهم أنهم عثروا عليه تحت
السرير الحديدي الضيق الذي كان ينام عليه والده .حيث تسلل من مطرحه الرضي الذي
كان يتقاسمه مع أمه وأخويه ,وانزلق ليختبئ تحت السرير .أو ربما كانت أمه هي التي
دفعت به هناك لنقاذه من الذبح .وهي حيلة ل تنطلي دائما على القتلة ,حيث انه في قرية
مجاورة ,قامت أم بإخفاء بناتها تحت السرير ,غير أنهم عثروا على مخبئهن ,نظرا لبؤس
الغرفة التي كان السرير يشغل نصف مساحتها ,فشدوهن من أرجلهن ,وسحبوهم نحو ساحة
الحوش حيث قتلوهن ونكلوا بجثثهن.
أول فكرة راودتني ,عندما علمت بنيلي تلك الجائزة العالمية عن أفضل صورة صحفية للعام,
هي العودة إلى تلك القرية ,للبحث عن ذلك الطفل.
كانت فكرة لقائي به تلح علي ,وتتزايد يوما بعد آخر ,لتأخذ أحيانا بعدا إنسانيا ,وأحيانا أخر
شكل مشاريع فوتوغرافية أصور فيها عودة تلك القرية إلى الحياة.
حتى قبل أن أحصل على مال تلك الجائزة ,كنت قد قررت أن أخصص نصفه لمساعدة ذلك
الصغير على الخروج من محنة يتمه .ونويت بيني وبين نفسي ,أن أتكفل به مادمت حيا,
بالقدر الذي أستطيعه.
ل أدري ماالذي كان يجعلني متعاطفا مع ذلك الطفل :أيتمنا المشترك؟ أم كونه أصبح ابنا للة
التصوير بالتبني؟
وماالذي جعلني أستعجل التخلص من شبهة مال كانت تفوح منه رائحة مريبة,لجريمة كان
جرمي الوحيد فيها توثيق فظاعات الخرين .كأنني كنت أريد تبييض ذلك المال وغسله ,مما
علق به من دم ,باقتسامه مع الضحية نفسها.
طبعا كانت تحضرني قصة زميلي حسين الذي من أربع سنوات حصل على الجائزة العالمية
للصورة ,عن صورته الشهيرة لمرأة تنتحب ,سقط شالها لحظة ألم ,فتبدت في وشاح حزنها
جميلة ومكابرة وعزلء أمام الموت ,حد استدراجك للبكاء .لكأنها تمثال" العذراء النائحة"
لمايكل أنجلو.
وكان حسين ,عند وصوله إلى قرية بن طلحة ,وجد نفسه أمام أكثر من ثلثمائة جثة ممدة
في أكفانها .فتوجه إلى مستشفى بن موسى حيث أخذ صورة لتلك المرأة التي فاجأها تنتحب,
والتي قيل له إنها فقدت أولدها السبعة في تلك المذبحة.
بعد ذلك ,عندما انتشرت الصورة وجابت العالم ,اكتشف حسين أن المرأة ماكانت أم الولد
بل خالتهم.
كان قد أخذ صورة للموت في كامل خدعته .فكل عبثية الحرب كانت تختصر في صورة
لمرأة وجدت مصادفة حيث عدسة المصور ,وأطفال وجدوا مصادفة حيث براثن الموت.
الموت ,كما الحب ,فيه كثير من التفاصيل العبثية .كلهما خدعة المصادفات المتقنة.
أما الكثر غرابة فكون تلك المرأة ,التي لم تقم دعوى ضد القتلة ,ول طالبت الدولة
بملحقة الجزارين الذين نحروا الجساد الصغيرة لقاربها السبعة ,جاء من يقنعها بأن ترفع
دعوى على المصور الذي صنع "مجده" وثراءه بفجيعتها ,عندما اكتشفت أن للصورة حقوقا
في الغرب ل يملكها صاحبها في العالم العربي .فتطوعت جمعيات لرفع الدعاوى على
المجلت العالمية الكبرى التي نشرت الصورة ,بذريعة الدفاع عن حياء الجزائري وهو
ينتحب بعد مرور الموت!
ل أصعب على البعض من أن يرى جزائريا آخر ينجح .فالنجاح أكبر جريمة يمكن أن
ترتكبها في حقه .ولذا قد يغفر للقتلة جرائمهم ,لكنه لن يغفر لك نجاحاتك.
وكلما ,بحكم المهنة أو بحكم الجوار ,ازدادت قرابته منك ,ازدادت أسباب حقده عليك ,لنه
ل يفهم كيف وأنت مثله في كل شيء ,تنجح حيث أخفق هو.
جارك الذي لعبت وتربيت معه منذ الطفولة ,لو غرقت لجازف بحياته لنقاذك من الغرق.
لكنك لو نجحت في البكالوريا ,ورسب فيها ,وستذهب إلى الجامعة ,ويبقى هو مستندا إلى
حائط الخفاق .وذات يوم ,ستخرج من مسدسه الرصاصة سترديك قتيل مكفنا بنجاحاتك.
عندما ظهر خبر نيلي الجائزة ,أسفل الصفحة الولى من الجريدة الكثر انتشارا ,تحت
عنوان" جثة كلب جزائري تحصل على جائزة الصورة في فرنسا" ,وتله في الغد مقال آخر
في جريدة بالفرنسية عنوانه" فرنسا تفضل تكريم كلب الجزائر" ,أدركت أن ثمة مكيدة
تتدبر ,وأن المر يتجاوز مصادفة التفاق في وجهة نظر.
كانت لعنة النجاح قد حلت بي ,وانتهى المر.
لكن ,كان ل بد أن يمر بعض الوقت ,لكتشف أن خلف ذلك الكم من الحقد والتجني جهد
"صديق" .كان جاري في قسنطينة وتوسطت له لينتقل إلى العمل في العاصمة ,في الجريدة
نفسها التي أعمل فيها ,فوفر علي بكيده كل طعنات العداء ,وجعلني أرى في جثة ذلك الكلب
من الوفاء ما يغني عن إخلص الصدقاء ,بعدما قدمت له من الخدمات ما يكفي لجعل منه
عدوا.
ذات صباح ,قصدت رفقة زميل تلك القرية .احتطنا طبعا لمفاجآت الطريق ,بعدم أخذنا
بطاقاتنا المهنية معنا فيما لو وقعنا في قبضة حاجز أمني مزور ,ينصبه الرهابيون لصطياد
من يضطر لسلوك تلك الطرقات بالسيارة ,ممن يعملون في " دولة الطاغوت" الكافرة ,أي
باختصار ,أي أحد يملك بطاقة عليها ختم رسمي ,ولو كان يعمل زبال في البلدية ,أو أي
مخلوق ل تروق له هيئته ,فيذبحونه إن لم تكن لهم حاجة به ,أو يصطحبونه إلى مخابئهم
إن كان ممن يحتاجون إلى خدماته.
كانت ظاهرة الحواجز المزورة عمت وانتشرت ,وأصبحت مشابهة تماما لحواجز رجال المن
الحقيقيين ,الذين سطا الرهابيون على بزاتهم العسكرية وأسلحتهم ,مما أوقع الناس في
بلبلة وحيرة .فان هم اطمأنوا إلى حاجز ,وأظهروا هوياتهم الحقيقية ,قد يفاجأون به مزورا
ويقتلون ,كذلك العجوز الذي استبشر خيرا بحاجز أوقفه ,وقال للعسكريين بمودة:
-واش ..الكلب ما همش هنا اليوم؟
فرد عليه أحدهم وهو يطلق عليه النار :
-إحنا هم الكلب!
وان هم لم يحملوا أوراقهم الثبوتية خشية وقوعهم في قبضة حاجز مزور ,وكان الحاجز
لرجال أمن حقيقيين ,اتهموا بأنهم إرهابيون ,وعوملوا على هذا الساس ,بعد أن أصبح
الرهابيون أيضا يتنقلون بدون أوراق ثبوتية ,مدعين أنهم موظفو دولة ..أو مجندون في
الخدمة العسكرية.
وهكذا كان الناس ,حفاظا على سلمتهم ,يتنقلون بل هوية في جيوبهم ,ول بطاقة عمل ول
أوراق ثبوتية في حوزتهم ,ول مفكرة تشي بمواعيدهم وأسماء رفاقهم فتفضح مهنتهم.
كان وصولي إلى تلك القرية بسلم ,وبدون حادث يستحق الذكر ,إنجازا تفاءلت به ,لول
أنني لم أجد شيئا مما كنت أبحث عنه هناك.
كانت قلوب الناس موصدة ,كبيوت موتاهم.
وكنت هناك تائها ,في مهب السئلة :كيف أستدل على ذلك البيت ,والبيوت جميعها متشابهة
في بؤسها؟
كيف أتعرف على ذلك الجدار الذي كان يستند إليه الطفل ,وقد غسلوا الجدران خوفا من
ثرثرتها ,في محاولة لغسل ذاكرة القرية من دم أبنائها؟
ومن أسأل عن ذلك الطفل ,والجوبة متناقضة في اقتضابها؟ البعض يقول إن جمعية لرعاية
اليتامى تكفلت به .وآخر يقول إن أحد أقاربه حضر واصطحبه إلى قرية أخرى .وآخر يجزم
أن الطفل اختفى ملتاعا ,بعد أن رآهم يحملون جثة الكلب ويدفنونها في حقل بعيد .وآخر لم
يسمع بوجود هذا الطفل .أو لعله ل يريد أن يسمع بوجودي ,ول صبر له على فضولي.
الصدمة تجعلنا نفقد دائما شيئا متأخرا ,شيئا يغرقنا في الصمت .لأحد يثرثر هنا .حتى
الجدران التي كانت تهذي بالقتلة ,أصابها الخرس ,مذ طليت بماء الكلس.
أحزنني أن القرويين الذين كانوا يحتفون بالغرباء أصبحوا يخافونهم .والذين كانوا يتحدثون
إليهم ,ويتحلقون حولهم في السبعينات أصبحوا يقفون ببلهة ليتفرجوا عليهم ,وكأنهم
قادمون إليهم من عالم آخر ,حتى انك ل تدري بماذا تكلمهم .لكأن لغتهم ما عادت لغتك ,بل
هي لغة اخترعها لهم القهر والفقر والحذر .لغة المذهول من أمره مذ اكتشف قدره.
التضاريس هي التي تختار قدرك ,عندما في زمن الوحوش البشرية تضعك الجغرافية عند
أقدام الجبال ,وعلى مشارف الغابات والدغال .أنت حتما على مرمى قدر من حتفك.
في عزلتهم عن العالم,أصبحت لسكان تلك القرى النائية ملمح واحدة ,يدفنون فيها في اليوم
ذاته ,اثر غارة ليلية تختفي بعدها من الوجود قرية بأكملها.
انه موت ,في عبثيته,مستنسخ من حياتهم الرتيبة ,التي يتناولون فيها كل يوم وجبة واحدة
من الطبق الواحد نفسه لكل أفراد العائلة ,ويرتادون مقهى واحدا ,يدخن فيه الكبار والصغار
السجائر الرديئة نفسها المصنوعة محليا من العرعار الجبلي ,وعندما يمرضون يذهبون إلى
مستوصف ( الدشرة) ,حيث الطبيب الواحد ,والدواء الواحد لكل المراض.
وكل جمعة كانوا يلتقون في المسجد الوحيد ليصلوا ويتضرعوا للله الواحد .حتى جاءهم
القتلة فأفسدوا عليهم وحدانيتهم وقتلوهم باسم رب آخر.
لكأنهم منذ أجيال يكررون الحياة ذاتها ,ويموتون حربا بعد أخرى نيابة عن الخرين,
لوجودهم في المكان الخطأ نفسه.
لكأنهم جاهدوا ضد فرنسا ودفعوا أكبر ضريبة في قسمة الستشهاد ,فقط لتكون لهم بلدية
كتب عليها شعار" من الشعب والى الشعب" يرفرف عليها علم جزائري ,وتتكفل بتوفير قبر
لجثثهم المنكل بها بأيد جزائرية .تتركهم خلفك صامدين حتى الموت المقبل ,في أكواخهم
الحجرية البائسة مع مواشيهم الهزيلة.
هؤلء الذين ل تكاد تشبههم في شيء ,ل صور لسلفهم وأجدادهم تغطي جدران أكواخهم
كما في بيتك ,لنهم منحدرون من سللة التراب .تود لو ضممت رائحة عرقهم إلى صدرك,
لو صافحت بحرارة أيديهم الخشنة المشققة .ولكنهم ل يمدون لك يدا .وحده الموت يمد لك
لسانه حيثما وليت وجهك.
أثناء مغادرتي ,انتابني حزن ل حد له .فقد فاجأني منظر موجع لغابة كانت على مشارف تلك
القرية ,وتم بعد زيارتي الخيرة حرقها حرقا تاما من قبل السلطات ,لجبار الرهابيين على
مغادرتها ,بذريعة حماية المواطنين من القتلة.
في كل حرب أثناء تصفية حساب بين جيلين من البشر ,يموت جيل من الشجار ,في معارك
يتجاوز منطقها فهم الغابات.
"من يقتل من؟" مذهول يسأل الشجر .ول وقت لحد كي يجيب جبل أصبح أصلع ,مرة لن
فرنسا أحرقت أشجاره حرقا تاما كي ل تترك للمجاهدين من تقية ,ومرة لن الدولة
الجزائرية قصفته قصفا جويا شامل حتى ل تترك للرهابيين من ملذ.
باستطاعتنا أن نبكي :حتى الشجار لم يعد بإمكانها أن تموت واقفة.
ماذا يستطيع الشجر أن يفعل ضد وطن يضمر حريقا لكل من ينتسب إليه ؟
وبإمكان البحر أن يضحك :لم يعد العدو يأتينا في البوارج .إنه يولد بيننا في أدغال الكراهية.
ل أدري لماذا أصابني منظر الشجار المحروقة على مد البصر ,بتلك الكآبة التي تصيبك
لحظة تأبين أحلمك.
لكأن شيئا مني مات باغتيال تلك الشجار .أعادتني جثثها المتفحمة إلى زمن جميل قضى فيه
آلف الشباب من جيلي خدمتهم العسكرية في بناء " السد الخضر".
سنتان من أعمار الكثيرين ذهبتا في زرع الشجار لحماية الجزائر من التصحر .كان الشعار
الذي يطاردك في كل مكان آنذاك" :الجزائري يتقدم والصحراء تتراجع".
أكان كل ذلك نكتة؟!
مشتعلين كنا بزمن النفط الول .وكانت لنا أحلم رمال ذهبية ,تسربت من أصابع إلى جيوب
الذين كانوا يبتلعون البلد ويتقدمون أسرع من لهاث الصحراء.
يا لسراب الشعارات! إنها خدعة التائه بين كثبان وطن من الرمال المتحركة ,ل تعول على
وتد يدق فيه ,ول على واحة تلوح منه!
هوذا النصف الخالي ..كيف وصلنا إليه؟ بل كيف اخترقنا الرمل وتسرب إلى كل شيء؟ لم
نعد على مشارف الصحراء ,بل أصبحت الصحراء فينا .إنه التصحر العاطفي.
حدث ذلك ذات ديسمبر 1978عندما ترك لنا بومدين على شاشة التلفزيون ابتسامته
الغامضة تلك ,ورحل.
كانت ملمحه أقل صرامة من العادة ,ونظرته الثاقبة أقل حدة ,ويده التي تعود أن يمررها
على شاربيه وهو يخطب ,كانت منهكة لفرط ما حاولت رفع الجزائر من مطبّات التاريخ.
لم يقل شيئا .فلم يكن عنده يومها ما يقوله ,هو الذي قالوا له في موسكو -التي قصدها
للعلج من مرض نادر وسريع الفتك -إن موته حتمي وعاجل .من الواضح أنه عاد كحصان
سباق مجروح ليموت بين أهله ,وليختبر حبنا له ,بعد أن عانى في بداياته من الجفاء
العاطفي لشعب كان يفضل عليه طلّة بن بلّة ..وعفوية طيبته.
أصوله الريفية التي أورثته الحياء ,وحياته النضالية التي صقلت كبرياءه جعلته يصر على
هيبة الموت وحشمته ,فمات كبيرا ميتة تشبه غموض شخصيته السرية المعقدة.
ذات 29ديسمبر ,وبينما العالم يحتفل بأعياد الميلد ,كنا نودع جثمان الرجل الذي ولدت
على يده مؤسسات الجزائر وأحلمها الكبرى ,الرجل الذي كان لنزاهته ل يمتلك حتى بيتا,
ول عرفنا له أهل ,أو قريبا .ولكنه ترك لنا أجهزة وصيارفة تربوا تحت برنسه ,سيتكلفون
بقمع أحلمنا وإفقارنا ,ورهن مستقبلنا لعدة أجيال .رحل مودعا بجداول الدموع التي لم
يدري أنها ستتحول بعده إلى أنهار دماء.
بكاه الناس كفاجعة تخفي مؤامرة .لكأن موته إشاعة ومرضه مكيدة .فالجزائري تعلم من
حكم بومدين نفسه أل يصدق أن ثمة موتا طبيعيا ,عندما يتعلق المر برجال السياسة.
ولذا رحل مكفنا بالسئلة ,ككل رجالت الجزائر الذين لفقت لهم ميتات وانتحارات وتصفيات
انتقامية عابرة للقارات ..وللتاريخ.
في الواقع ,ثمة أمران ل يصدقهما الجزائري :الموت بسبب طبيعي ,والثراء من مال حلل.
فآلية التفكير لدى الجزائري الذي كان شاهدا على عجائب الحكم ,تجعله يعتقد أن كل من
مات قتل ,وكل من أثرى سرق ,وبسبب هذا الريب الجماعي انهار السد الخضر للثقة,
وابتلعتنا كثبان الخيانات.
يحدث أن أحن إلى جزائر السبعينات .كنا في العشرين ,وكان العالم ل يتجاوز أفق حينا,
لكننا كنا نعتقد أن العالم كله كان يحسدنا .فقد كنا نصدر الثورة والحلم ,لناس مازالوا
منبهرين بشعب أعزل ركعت أمامه فرنسا.
العالم كان جهاز تلفزيون يبث صورا بالسود والبيض نتحلق حولها كل مساء ,غير
مصدقين معجزة ذلك الصندوق العجيب.
ولننا كنا أول من أدخل التلفزيون إلى الحي ,كانت الجارات تتقربن إلينا بإرسال طبق من
الحلوى عصرا مع أولدهن ,كي نسمح لهم بمشاهدة التلفزيون معنا.
كانت لنا أنماط حياة متداخلة بحكم فرحة الستقلل التي لمت شملنا ,وجعلتنا نتعلم المساكنة
دون أن ننعم بالسكينة ,في بناية وأصبحت" غنيمة استقلل" بالنسبة للبعض ,وضريبة نزاهة
وحماقة بالنسبة لبي ,الذي بحكم مسؤوليته عن توزيع الملك الشاغرة التي تركها
الفرنسيون بعد الستقلل ,أصر على القامة في شقة لليجار غير دار إنه سيقضي قيها ما
بقي من عمره ,ولن يغادرها إل بعد ثلثين سنة إلى قبره ,بعد أن تدهورت صحته ,بالسرعة
التي تدهورت بها حالة البناية ,وتعطل به دولب القدر كما تعطل مصعدها نهائيا بعد
السنوات الولى للستقلل ,ليقضي شيخوخته في لهاث صعود طوابقها الخمسة.
في ذلك الزمن الول لٌلستقلل ,بينما كان الجيران مشغولين بالتفرج على التلفزيون..
وعلينا ,كنت من الجانب الخر للشقة ,أترقب بصبر مراهق ,أن تنفح نافذة تلك السيدة
البولونية ,التي كانت تسكن مع زوجها الذي حضر مع مئات المهندسين التقنيين من الدول
الشتراكية ,للنهوض بـ " الثورة الصناعية" في الجزائر ,جاهلين الثورات الصغيرة الخرى
التي سيحدثونها في حياة الفتيان ..والفتيات.
كانت الجزائر ,الخارجة لتوها من الحرب ,صبية تقع في حب من جاؤوا من كل العالم
لتهنئتها وإدارة شؤونها ,وتعرف مغامراتها العاطفية الولى العابرة للقارات والجنسيات
واللهجات ..من خلل آلف قصص الحب التي ولدت بينها وبين الفلسطينيين والعراقيين
والمصريين واللبنانيين الذين جاؤوا ليعملوا أساتذة ومهندسين ومستشارين ,والذين وقعوا
تحت سطوة اسمها ,كما ليقتسموا معها بعض شرف تاريخها ,وتقتسم معهم ما فقدت من
عروبتها.
بالنسبة لي ,جاء الحب بولونيا .بحكم الجغرافية التي وضعت تلك المرأة الشقراء في مرمى
بصري ,في بناية تطل على شقتنا من الجانب الخر ,ولكن بمسافة تحترم وجاهة ذلك
الشارع الذي هندسته فرنسا بما يليق بالمباني الرسمية المجاورة له من فخامة.
شاهدتها ذات صباح ترتدي روب الحمام البيض ,وتقوم بتجفيف شعرها أمام المرآة .لم يكن
يبدو منها شيئا عاريا .ربما لنها كانت تدري أن العيون تتجسس عليها .لكنها كانت شهية
بشعرها المبلل وحركاتها المغرية عن غير قصد.
يومها اختزنت ذاكرة فتوتي صورتها ,لتصبح مع العمر رمزا للغواية النسائية التي أصبح
من شروطها عندي أل تبدو المرأة عارية ..وإنما تظل مشروع عري موارب.
كانت ,ككل " الرفيقات" من الكتلة الشتراكية ,مشتعلة بجميع القضايا التي كان يقذفها بركان
السبعينات من كل القارات.
وكنت في عمر الكتشافات الولى ,مشتعل بها ,وبتلك القضايا العالمية الكبر من أن تحملها
نملة بشرية مثلي.
عندما تزوجت بعد ذلك بعدة سنوات ,وجدتني أقيم في غرفة نوم .مقابلة لغرفة كانت
غرفتها .كثيرا ما تأملت بيتا كان لسنتين مختبر تجاربي الولى ,ومرتعا لجنوني ,قبل أن
يضعه القدر مقابل لما سيصبح حياتي الزوجية الفائقة التعقل ..والبرودة.
دوما ,ثمة امرأة أولى ,تأتيها فتى مرتبكا خجول ,فتتعلم على يدها أن تكون رجل ,ثم أخرى
بعد ذلك بسنوات ,ستبهرها بما تعلمته ,وتختبر فيها سطوة رجولتك.
وحدها زوجتك ,على جسدك أن يكون أبله وغبيا في حضرتها .فإن كنت اكتسبت خبراتك
قبلها ,ستتحاشى استعراضها أمامها عن حياء .وإن كنت كسبتها بعد الزواج ,ستتفادى
استعراضها عن ذكاء .ولذا يتسرب إكسير الشهوة في ما بينكما ,وتسقط الجساد في وهدة
التآخي.
كانت " أولغا" أول "حفرة نسائية" وقعت فيها .ولم أعد أذكر الن من قال" :يسقط الرجل في
أول حفرة نسائية تصادفه .فتاريخ الرجل هو تاريخ السقوط ..في الحفر".
لكنني كثيرا ما تذكرت ضاحكا قول جدتي أثناء حديثها عن أبي الذي كثيرا ما بذر ثروته في
النساء بسبب "فخاخ" تفنن في نصبها له ":من تمسك بأذناب البقر ,رمين به في الحفر!".
ليست الشهوة ,بل اليتم ,ما يلقي بفتى في أول حفرة نسائية يصادفها ,بحثا عن رحم
يحتويه ,عساه ينجبه من جديد.
قبل "أولغا" لم تكن تعنيني النساء ,بقدر ما كانت تعنيني الحيوانات ..والشياء.
النساء جميعهن كن يختصرن في جدتي لبي ,المرأة التي احتضنت طفولتي الولى مذ
غادرت سرير أمي رضيع وانتقلت للنوم في فراشها لعدة سنوات.
على فراشها الرضي ,بدأت مشواري كعابر سرير ستتلقفه السرة واحدا بعد الخر حتى
السرير الخير.
ثمة شيء في طفولتك حدث .وبدون أن تعي ذلك ,كل سيء سيدور حوله ,إلى آخر لحظة
من حياتك.
لنك لم تناد امرأة يوما " أمي" ليست علقتك مع اللغة وحدها التي ستتضرر ,بل كل علقاتك
بالشياء.
مثل "روسو" يمكن أن أختصر حياتي بجملة بدأ بها سيرته الذاتية في كتابه " اعترافات" " :
مجيئي إلى الحياة كلف أمي حياتها .وكان ذلك بداية ما سأعرفه من مآس".
منذ يتمي المبكر ,وأنا أقيم علقة أمومة مع ما يحيط بي .أختار لي كل فترة أما حتى اليوم
الذي تصدمني فيه الشياء ,وتذكرني أنني لست طفلها.
المومة ,اكتشفتها ,كما عثر أرخميدس على نظريته وهو داخل حمامه .فذلك الوعاء البيض
الكبير الذي يحتويني في فضاء مائي كجنين ,حدث أن ولّد في داخلي إحساسا غريبا ,جعل
من مغطس الحمام أمي .فقد كنت أقضي فيه كل وقتي رافضا مغادرته خشية أن يفرغ من
مائه ,كما أتوقع أن تكون قد فرغت دماء أمي وهي تنزف بي لحظة الولدة.
يحدث للمومة أن تؤلمني ,حتى عندما ل تكون لها قرابة بي ,كتلك القطة التي كنت في
طفولتي أطعمها ,وأحنو عليها ,وأجلسها في حجري وأنا أطالع كتبي المدرسية ,ثم أصبحت
فجأة شرسة ,ترفض أن أحملها أو أمرر يدي عليها.
ذات يوم ,وقد تركت آثار مخالبها على يدي ,نهرتني جدتي ,وأمرتني أن أتركها وشأنها,
لنها حبلى ول تحب أن يقربها أحد .فبكيت لنني أدركت أنه في يوم ما سيصبح لها صغارا
حقيقيون ,وستتخلى عني.
بعد ذلك رأيتها ترضعهم ,تلعقهم ,تتفقدهم واحدا واحدا .وعلى كثرتهم ل تفرط في واحد
منهم ,وتظل تبحث عنه لتعود به محمول من عنقه بين فكيها.
اليتم ,كالعقم ,يجعلك تغار من حيوان ,وتطالب ال بحق التساوي به مادمت أحد مخلوقاته.
أسئلتي الوجودية بدأت مع القطة :كيف تستطيع القطة أن تحمل صغيرها بين أنيابها من
دون أن تؤذيه؟ وهل حقا هي تخفي صغارها عن أبيهم الذي يحدث عندما يجوع أن يأكلهم؟
وهل الباء جميعهم قساة وغير مبالين؟ وهل ثمة قطط أكثر أمومة من نساء يحملن أثداء
تذر اللبن وتضن بالرحمة؟
بعد ذلك ,عندما كبرت ,وخبرت يتم الوطان ,كبرت" أسئلة القطة" وأصبحت أكثر وجعا:
هل يمكن لوطن أن يلحق بأبنائه أذى ل يلحقه حيوان بنسله؟ هل الثورات أشرس من القطط
في التهامها لبنائها من غير جوع؟ وكيف ل تقبل قطة ,مهما كثر صغارها ,أن يبتعد أحدهم
عنها ,ول ترتاح حتى ترضعهم وتجمعهم حولها ,بينما يرمي وطن أولد إلى المنافي
والشتات غير معني بأمرهم؟ وهل في طمر أوساخهم تحت التراب ,هي أكثر حياء من رجال
يعرضون بدون خجل ,عار بطونهم المنتفخة بخميرة المال المنهوب؟
لم أبحث لهذه السئلة عن جواب ,فـ " الجوبة عمياء ,وحدها السئلة ترى".
الفصل الثالث
برغم سعادتي بالسفر ,كان الحزن حولي يفخخ كل ما يبدو لغيري فرحا ,بدءا بتلك الجائزة
التي تجعلك تكتشف بسخرية مرة أنك تحتاج إلى أسابيع من مهانة الجراءات ,كي تتمكن
من السفر إلى باريس ,لستلم جائزة صورة ل يستغرق وصولها بالنترنت إلى العالم كله,
أكثر من لحظة.
ذلك أن "فيزا الصورة" هي تأشيرة للصورة ,ل لصاحبها .وعولمة الصور ل تعني منح البشر
حق الشياء في التنقل!
ل وقت لك لتسأل نفسك " من الهم إذن :أنت ..أم صورة التقطتها؟".
مشغول أنت .مدينة برغبات صاخبة تنتظرك .سللم معدنية تتلقفك لتقذف بك نحو قاطرات
المترو ,فتختلط بالعابرين والمسرعين والمشردين ,ويحدث وسط المواج البشرية ,أن ترتطم
بموطنك .ل ذاك الذي يكنس شوارع الغربة .أو عاطل عن المل ,يتسكع مثيرا للحذر
والريبة .إنما وطنا آخر كان مفخرتك ,وأجهز القتلة على أحلمه.
بعد ذلك ستعرف أن الجزائر سبقتك إلى باريس ,وأن تلك الرصاصة التي صوبها الرهابيون
نحو رأسها ,جعلت نزفها يتدفق هنا بعشرات الكتاب والسينمائيين والرسامين والمسرحيين
والطباء والباحثين ,وأن الفوج الجديد من جزائريي الشتات ,قام بتأسيس عدة جمعيات
لمساندة ما بقي في الجزائر من مثقفين على قيد الموت في قبضة الرهاب.
بعد وصولي بأيام قصدت المركز الثقافي الجزائري تسقطا لخبار الوطن .ورغبة في الطلع
على الصحافة الجزائرية التي ل تصل كل عناوينها إلى فرنسا.
كان المبنى على جماله موحشا كضريح شيد لتأبين فاخر للثقافة بذريعة الحتفاء بها .أو
لعله شيد بذريعة وهب السترزاق بالعملة الصعبة ,للذين في الزمن الصعب كسدت
بضاعتهم في دكاكين الوطن.
ماكانت برودته تشجع على تصفح هموم البلد .ولم ينقذني يومها من الصقيع ,سوى
ملصقات كانت تعلن عن نشاطات ثقافية متفرقة في باريس.
اكتفيت بأن أسجل في مفكرتي تاريخ عرض إحدى المسرحيات ,وكذلك عنوان الرواق الذي
يقام فيه معرض جماعي لرسامين جزائريين.
ماكنت لظن وأنا أقصد بعد يومين ذلك الرواق يوم الفتتاح ,أن كل القدار الغريبة ستتضافر
لحقا انطلقا من ذلك المعرض ,لتقلب قدري رأسا على عقب.
كانت القاعة تستبقيك بدفئها ,كوقوفك تحت البرد ,أمام عربات القسطل المشوي في شوارع
باريس .دفء له رائحة ولون وكلمات ,صنعها الرسامون أنفسهم لحراجك عاطفيا ,بفضلهم
بين اللوحات بصور المبدعين الذين اغتيلوا ,وبوضعهم علما جزائريا صغيرا جوار الدفتر
الذهبي ,وإرفاقهم دليل اللوحات بكلمة تحثك أل تساهم في اغتيالهم مرة ثانية بالنسيان,
وإهمال من تركوا خلفهم من يتامى وثكالى.
تشعر برغبة في البكاء .تكاد تندم على زيارتك المعرض .أسافرت حتى هنا لتجد كل هذه
الصور في انتظارك؟
احتدم النقاش يومها بين بعض الزوار ,حول من يقتل من في الجزائر .كأنهم كانوا ينتظرون
أن يلتقوا كي يختلفوا .تعذر علي مجادلتهم .وتعذر على مزاجي غير المهيأ لمزيد من الحزن
تجاهل ذلك الكم من الستفزاز المتراشق به بين الجمل.
لم أطل البقاء .قررت العودة لحقا في يوم من أيام السبوع.
أذكر أنني قضيت عدة أيام قبل أن أقصد ذلك الرواق ذات ظهيرة ,لوجودي في محطة مترو
غير بعيدة عنه.
كان كل شيء فيه يبدو يومها هادئا ومسالما .ل شيء من ضجيج الفتتاح .عدا صخب
اللوحات في خبث تآمر صمتها عليك.
رحت أتجول في ذلك المعرض ,عندما استوقفت نظري مجموعة لوحات معروضة تمثل
جميعها جسورا مرسومة في ساعات مختلفة من النهار بجاذبية تكرار مربك في تشابهه .كل
ثلثة أو أربعة منها للجسر نفسه:
جسر باب القنطرة ,أقدم جسور قسنطينة ,وجسر سيدي راشد بأقواسه الحجرية العالية ذات
القطار المتفاوتة ,وجسر الشللت مختبئا كصغير بين الوديان .وحده جسر سيدي مسيد,
أعلى جسور قسنطينة ,كان مرسوما بطريقة مختلفة على لوحة فريدة تمثل جسرا معلقا من
الطرفين بالحبال الحديدية على علو شاهق كأرجوحة في السماء.
وقفت طويل أمام لوحات لها عندي ألفة بصرية ,كأنني عرفتها في زمن ما ,أو شاركت
الفنان في رسمها .كانت على بساطتها محملة بشحنة عاطفية ,تنحرف بك إلى ذاتك ,حتى
لكأنها تخترقك ,أو تشطرك.
فكرت ,وأنا أتأملها ,أن ثمة جسورا ,وأخرى تعبرنا ,كتلك المدن التي نسكنها ,والخرى
التي تسكننا ,حسب قول خالد بن طوبال في " ذاكرة الجسد".
ل أدري كيف أوصلني التفكير إلى ذلك الكائن الحبري الذي انتحلت اسمه صحافيا لعدة
سنوات .وكنت أوقع مقالتي محتميا به ,من رصاص الرهابيين المتربص بكل قلم ,واثقا
بأن هذا الرجل لم يوجد يوما في الحياة ,كما زعمت مؤلفة تلك الرواية.
الفكرة التي راودتني لفرط حبي لشخصيته ,ولتشابهنا في أشياء كثيرة ,حتى إنه لم يكن
يختلف عني سوى في كونه يكبرني بجيل ,وإنه أصبح رساما بعدما فقد ذراعه اليسرى في
إحدى معارك التحرير ,بينما ,بدون أن أفقد ذراعي ,أصبحت أعيش إعاقة تمنعني من
تحريكها بسهولة مذ تلقيت رصاصتين أثناء تصوير تلك المظاهرات.
فكرت بسخرية أنه قد يكون شخص آخر قرأ ذلك الكتاب ,وراح هذه المرة يسرق لوحات
الرجل ,ويرسم تلك الجسور التي كان خالد بن طوبال مولعا بها ,مستندا إلى وصفها في تلك
الرواية .لكن اللوحات ماكانت تبدو تمرينا في الرسم ,بقدر ما هي تمرين على الشفاء من
وجع يلمس فيه الرسام بريشته ممكن اللم أكثر من مرة ,كما ليدلك عليه.
إنه حتما أحد أبناء الصخرة وعشاقها المسكونين بأوجاعها.
خلقت تلك اللوحات لدي فضول مباغتا في إلحاحه ,فقصدت المشرفة على المعرض ,أحاول
مد حديث معها كي تزودني بمعلومات عن الرسام.
غير أنها قالت ,وهي تدلني على سيدة أربعينية جميلة القوام ,ينسدل شعرها الحمر
بتموجات على كتفيها:
-ها هي السيدة المكلفة بتلك اللوحات ,بإمكانها إمدادك بما تحتاجه من معلومات.
قدمت لي المرأة نفسها بمودة ,وبتلك الحرارة التي يتحدث بها الناس إلى بعضهم البعض في
فرنسا في مثل هذه المناسبات ذات الطابع التضامني النساني .قالت:
Bonjour.. Je suis Francoise.. que puis – je pour -
?vous
لم أكن أعرف بعد " ماذا تستطيعه هذه المرأة من أجلي".
فأجبتها:
-إني مهتم بهذه اللوحات .أتمنى لو أعرف شيئا عن صاحبها.
ردت السيدة بحماسة:
-إنها لزيان ,أحد كبار الرسامين الجزائريين.
قلت معتذرا:
-سمعت بهذا السم ..لكنني مع السف لم أشاهد أعماله قبل اليوم.
ردت:
-أتفهم هذا .إنه ضنين العرض ,ومقل الرسم أيضا ,ولذا تنفد لوحاته بسرعة .كما ترى,
معظم لوحاته بيعت.
قلت ,وأنا أقف أمام مجموعة الجسور:
-غريب هذا الثر الذي يتركه في النفس وقع هذا السلم اللوني .دورة النور بين لوحة
وأخرى تعطيك إحساسا أنك ترافق الجسر في دورة نهاره ,مع أن اللوان ل تتغير ,إنها
ذاتها.
قالت:
-لنه تعلم الختزال اللوني من أيام الحاجة .في البدء لم يكن لديه مال ,فاقتصد في اللوان.
كان له بالكاد ما يكفي لثلثة ألوان أو أربعة ,فرسم بألوانه جسرا.
واصلت المرأة:
-كل الرسامين لهم بدايات متقشفة .بيكاسو في أول هجرته إلى فرنسا رسم لوحات غلب
عليها اللون الزرق ,ورأى النقاد سببا واحدا لمرحلته الزرقاء تلك :إن فقر المهاجر الجديد
منعه من شراء ألوان أخرى وحدد خياره .فان غوغ رسم أكثر من لوحة لحقول الشمس
لنه لم يكن في حوزته سوى اللون الصفر.
كنت سأبدي لهذه المرأة إعجابي بثقافتها ,لول أن ذهني كان مشغول كليا بذلك الرسام الذي
بدأت أتعاطف معه ,وأحزن لبؤسه .وكعادتي رحت أفكر في طريقة تمكنني من مساعدته.
قلت لها:
-ل أفهم ..أل يكون أحد فكر في مساعدة رسام موهوب كهذا ,ل يملك ثمن شراء ألوان
للرسم؟
ضحكت السيدة وقالت:
-المر ليس هكذا ..كنت أحدثك عن بداياته ,عن هذه اللوحة التي رسمها قبل أربعين سنة
يوم كان يعالج في تونس أثناء حرب التحرير .أشارت بيدها إلى لوحة " الجسر المعلق".
دققت في اللوحة :في أسفلها كتب :تونس . 1956
شيء ما بدأ يشوش ذهني .فكرة مجنونة عبرتني ,ولكنني استبعدتها خشية أن أشكك في
قواي العقلية .قلت:
-ظننته شابا ..كم عمره إذن؟
-إنه ستيني.
-وما الذي أوصله إلى هذه الجسور؟
-هوسه بقسنطينة طبعا! غالبية هذه اللوحات رسمها منذ 10سنوات ,حدث أن مر بفترة
لم يكن يرسم فيها سوى الجسور .هذا بعض ما بقي من ذلك الجنون .معظمها بيعت في
معارض سابقة.
خشيت فجأة ,إن أنا واصلت السئلة ,أن أقع على اكتشاف مخيف.
سألتها وكأنني أهرب من مفاجأة ل أدري عواقبها:
-وماذا يعرض غير لوحات الجسور هذه؟
قالت مشيرة إلى لوحة تمثل شباكا بحرية محملة بأحذية بمقاييس وأشكال مختلفة تبدو
عتيقة ومنتفخة بالماء المتقاطر منها:
-هذه اللوحة .إنها من أحب لوحاته إلي ,وأعجب أل تكون بيعت حتى الن.
وأمام ما بدا مني من عدم إعجاب بلوحة لم أفهمها ,قالت موضحة:
-هذه رسمها زيان تخليدا لضحايا مظاهرات 17أكتوبر , 1961خرجوا في باريس في
مظاهرة مسالمة مع عائلتهم للمطالبة برفع حظر التجول المفروض على الجزائريين ,فألقى
البوليس بالعشرات منهم موثوقي الطراف في تهر السين .مات الكثيرون غرقا ,وظلت
جثثهم وأحذية بعضهم تطفو على السين لعدة أيام ,لكون معظمهم ل يعرف السباحة.
قلت وأنا أقاطعها حتى ل أبدو أقل معرفة منها بتاريخي:
-أدري ..ما استطاع Paponالمسؤول آنذاك عن المن في باريس ,أن يبعث بهم إلى
المحرقة كما فعل مع اليهود قبل ذلك ,فأنزل عشرين ألفا من رجاله ليرموا بهم إلى " السين"
.كان البوليس يستوقف الواحد منهم سائل" محمد ..أتعرف السباحة؟" وغالبا ما يجيب
المسكين "ل" كما لو كان يدفع عنه شبهة .وعندها يكتفي البوليس بدفعه من الجسر نحو
"السين" .كان السؤال لمجرد توفير جهد شد أطرافه بربطة عنقه!
واصلت المرأة بنبرة فرحة هذه المرة:
-إن جمعية لمناهضة العنصرية استوحت من هذه اللوحة فكرة تخليدها لهذه الجريمة.
قامت في آخر ذكرى لمظاهرات 17أكتوبر بإنزال شباك في نهر السين تحتوي على أحذية
بعدد الضحايا .ثم أخرجت الشباك التي امتلت أحذيتها المهترئة بالماء ,وعرضتها على
ضفاف السين للفرجة ,تذكيرا بأولئك الغرقى.
فقدت صوتي فجأة أمام تلك اللوحة التي ماعادت مساحة لفظ نزاعات اللوان ,بل مساحة
لفظ نزاعات التاريخ.
شعرت برغبة في أن أضم إلى صدري هذه المرأة التي نصفها فرانسواز ,ونصفها فرنسا.
أن أقبل شيئا فيها ,أن أصفع شيئا فيها ,أن أؤلمها ,أن أبكيها ,ثم أعود إلى ذلك الفندق
البائس لبكي وحدي.
أبدأت لحظتها أشتهيها؟
قطعت فرانسواز تفكيري ,وفاجأتني معتذرة لرتباطها بموعد ,وتركتني أمام تلك اللوحة
مشتت الفكار أتأملها تغادر القاعة.
في المساء ,لم يفارقني إحساس متزايد بالفضول تجاه ذلك الرسام ,ول فارقني منظر تلك
اللوحة التي أفضت بي إلى أفكار غريبة ,وأفسدت علقة ود أقمتها مع نهر السين.
حتما ,هذا الرسام تعمد رسم ما يتركه الموتى .فالشباك عذابنا ل الجثة.
تعمد أن يضعك أمام أحذية أكثر بؤسا من أصحابها ,مهملة كأقدارهم ,مثقلة بما علق بها من
أوحال الحياة .تلك الحذية التي تتبلل وتهترئ بفعل الماء ,كما تتحلل جثة .إنها سيرة حياة
الشياء التي تروي بأسمائها سيرة حياة أصحابها.
قضيت السهرة متأمل في أقدار أحذية الذين رحلوا ,هؤلء الذين انتعلوها بدون أن يدروا
أنهم ينتعلون حذائهم يومها لمشوارهم الخير .ما توقعوا أن تخونهم أحذيتهم لحظة غرق.
طبعا ,ما كانت قوارب نجاة ,ولكنهم تمسكوا بها كقارب .أحذية من زوج وأخرى من واحدة,
مشت مسافات ل أحد يعرف وجهتها ,ثم لفظت أنفاسها الخيرة عندما فارقت أقدام أصحابها.
كانوا يومها ثلثين ألف متظاهر ( وستين ألف فردة حذاء) .سيق منهم اثنا عشر ألفا إلى
المعتقلت والملعب التي حجزت ليوائهم .غير أن " السين" الذي عانى دائما من علة
النسيان ,ما عاد يعرف بالتحديد عدد من غرق يومها منهم.
رحت أتصور ضفاف السين بعد ليلة غرق فيها كل هؤلء البؤساء ,وتركوا أحذيتهم يتسلى
المارة باستنطاقها .فهذه عليها آثار جير وأخرى آثار وحل وثالثة ...ماذا ترى كان يعمل
صاحبها ,أدهانا؟ أم بناء؟ أم زبال؟ أم عامل في طوابير اليدي السمر العاملة على تركيب
سيارات "بيجو"؟ فل مهنة غير هذه كان يمارسها الجزائري آنذاك في فرنسا.
أحذية كان لصحابها آمال بسيطة ذهبي مع الفردة الخرى .فردة ما عادت حذاء ,إنها ذلك
المل الخالي من الرجاء ,كصدفة أفرغت ما في جوفها ,مرمية على الشاطئ .ذلك أن المحار
ل يصبح أصدافا فارغة من الحياة ,إل عندما يشطر إلى نصفين ,ويتبعثر فرادى على
الشاطئ.
كان آخر ما توصلت إليه ,بعد أرق ذهب بي في كل صوب ,أ ،أقصد في الغد الرواق لشتري
لوحة الحذية ,كسبا لصداقة فرانسواز ,ولساهم في ذلك المعرض الخيري بشراء لوحة
وجدتني أعشقها.
في الواقع ,كان هذا مشروعي العلني .أما مشروعي الخر فأن ألتقي بفرانسواز مرة أخرى,
وأواصل استنطاقها أكثر عن ذلك الرسام.
عاما ونصف عام في سرير التشرد المني ,عشت منقطعا عن العالم ,أتنقل بحافة خاصة إلى
ثكنة تم تحويلها لسباب أمنية إلى بيت للصحافة يضم كل المطبوعات الجزائرية باللغتين ,ل
أغادرها إل إلى إقامتي الجديدة.
كان مكانا يصعب تسميته ,فما كان بيتا ,ول نزلً ,ول زنزانة .كان مسكنا من نوع مستحدث
اسمه " محمية" في شاطئ كان منتجعا ,وأصبح يتقاسمه " المحميون" ورجال المن .تحتمي
فيه من سقف الخوف بسقف الهانة .فما كانت القضية أن يكون لك سرير وباب يحميك من
القتلة ,بل أن تكون لك كرامة.
في صيف مازافران ,أيام الخوف والغبن والذعر اليومي ,كنت أدري أنها تقيم بمحاذاتي في
بيتها الصيفي ,على الشاطئ الملصق لي ,على النصف الخر من العالم المناقض لبؤسي,
في شاطئ (نادي الصنوبر) ,حيث توجد محمية بنجوم أكثر ,محجوزة فيلتها لكبار القوم.
وكان في هذا عذاب لم أحسب له حسابا .أنا الذي اختار ذلك المنفى لحتمي من حبها ,أكثر
من احتمائي من القتلة ,وإذ المن العاطفي هو أول ما فقدت.
أمن هناك تغذت كراهيتي لها ونما تمردي عليها؟ أن تكون بمحاذاتي ,ولكن دائما في الجهة
الخرى المناقضة لي ,ل شيء يوصلني إليها ,هي التي ل يفصلني عنها مطر ,ول شمس,
ول رمل ,ول بحر ..ول ذعر.
أحيانا كنت أخرج إلى الشرفة أنتظرها بوحشة فنار بحري في ليل ممطر .عسى قوارب
الشوق الشتوي تجنح بها إلي.
أحلم بشهقة المباغتة الجميلة .بارتعاد لوعتها عند اللقاء .باندهاش نظرتها .بضمتها
الولى .كعمر بن أبي ربيعة " أقلّب طرفي في السماء لعله\ يوافق طرفي طرفها حين تنظر".
ثم أذهب إلى النوم ,ممنيا نفسي بالمطر ,عساه يعمدنا على ملة العشق في غفلة من الموت
والقتلة.
مراد الذي قاسمني غرفتي المنية بعض الوقت ,قبل أن يتحول من محميّ من السلطة إلى
طريدتها .كان يعجب من وقوفي طويل في الشرفة ويناديني إلى الداخل لشاطره كأسا وشيئا
من الطرب.
ولكوني ما كنت من مدمني الشرب ,ول من هواة الصخب ,كثيرا ما أزعجه اعتذاري ,وأساء
فهم أعذاري ,وخرج إلى الشرفة ليسحبني نحو الداخل قائلً بتذمر ل يخلو من خفة دم
تميزه:
-يا راجل واش بيك ..يلعن بوها حياة .واش راك تخمم؟ شوف أنا ما على باليش بالدنيا..
يروحوا كلهم يقوّدوا..
كان مراد يمثل نكبة الجزائري مع بحره .يرى بحرا ل يدري كيف يقيم معه علقة سليمة.
فبين البحر وبينه توجس وريبة وسوء فهم تاريخي .ولذا كنا نسكن مدينة شاطئية جميلة
تولي ظهرها للبحر ,ويبادلها البحر عدم الكتراث.
هناك أدركت قول بورخيس " البحر وحيد كأعمى" ..أو ربما أدركت أنني كنت البحر!
***
عندما هاتفته في الصباح عاتبني لنه تعب في الحصول على رقمي في باريس ,ثم بسخريته
الجزائرية المحببة إلى قلبي راح يمازحني مدعيا أنني نسيته مذ حصلت على جائزة لجيفة
كلب بدل أن أصور وسامته التي دوخت الوربيات ,حتى أصبحت سيارة السعاف تسير
وراءه لخلء من يقعن مغمى عليهن ..لدى رؤيته.
" -المبيلنس" يا خويا وراي ..أنا نمشي وهي تهز في البنات..كيفاش ندير قل لي يرحم
باباك؟!
مراد كان يفوت الفرصة على الموت بالستخفاف به .وربما كان مدينا لوجوده على قيد
الحياة بمرحه الدائم ,ومدينا لجمال يشع منه ,باستخفافه أيضا بالجمال ,متجاوزا بذلك عقدة
خلقته.
وفي هذا السياق كان يسميني " الدحدوح" ليذكرني أن وسامتي النسبية لن تغطي على
بشاعته .وكانت له في هذا نظرية تستند إلى مقولة المغني الفرنسي سيرج غاسبور " إن
البشاعة أقوى من الجمال لنها أبقى" .فبرغم بشاعته حصل غاسبور على فاتنات ما كن في
متناول غيره وكأن القبح عندما يتجاوز ضفاف الدمامة ,يصبح في فيضه النادر ضربا من
الجمال المثير للغواية.
وكان في المر منطق يتجاوز فهمي .قد يشرحه من الطرف الخر ,قول بروست " لندع
النساء الجميلت للرجال الذين ل خيال لهم" .لذا كان مراد يراهن على خيال الناث ,محطما
خجل العوانس والنساء الرصينات بمباغتهن بممازحته الفاضحة.
في أحد لقاءاتي به لحقا ,ضربت له موعدا في الرواق ,بعد أن أبدى اهتمامه بزيارة معرض
زيان .كنا نتجول بين اللوحات التي تتقاسم معظمها فكرة الجسور والبواب العتيقة المواربة,
عندما انضمت إلينا فرانسواز التي عرّفته بها قبل ذلك .راحت تسأله بتردد ,كيف وجد
المعرض .وبعد حديث جدي استعرض فيه سعة ثقافته الفنية أضاف فجأة:
-كجزائري أفهم وجع زيان ,وأدري المأساة التي تحملها لوحاته ,لكني كمتلق أجد في هذه
الجسور الممدة وهذه البواب المواربة رمزا أنثويا .ولو كان لي أن أختار عنوانا لهذا
المعرض لسميته " النساء".
وراح أمام عجبنا يشرح فكرته:
-الباب الموارب هو الغشاء الذي تقبع خلفه كل أنوثة مغلولة بقيد النتظار .ما هو مشروع
منه ليس سوى تلك الدعوة البدية للولوج ,أما بعضه المغلق ,فذلك هو التمنع الصارخ
للغواء ..لذا لم أعرف للنساء بابا عصيا على النفتاح .إنها قضية وقت يتواصى بالصبر.
نزل علينا أنا وفرانسواز صمت مفاجئ .شعرت بارتباك أنوثتها .كأنما بدأت أبوابها بالنفتاح
أمام ذلك الرجل الذي لم تكن توليه اهتماما في البدء.
ل أدري من أين جاء مراد بذلك التحليل الفرويدي ,فقد اعتاد أن يقحم الجنس في كل شيء.
حتى إنه ذات مرة راح يقنعنا أثناء مرافعة سياسية دفاعا عن الديمقراطية ,أن الجزائريين
ككل العرب ما استطاعوا أن ينجزوا من النتصارات غير تلك الشعارات المذكرة ,فدفعوا من
أجل فحولة الستقلل مليين البشر ,بينما استخفوا بالشعارات المؤنثة ,استخفافهم بنسائهم.
ولذا كان هوس مراد في المطالبة بتذكير كلمات " الديمقراطية" و " الحرية" عساها تجد
طريقها إلى النجاز العربي.
عندما حاولت معارضة فكرته ,متحججا بانتماء زيان لجيل ل يرى المور بهذه الطريقة,
قال:
-البداع وليد أحاسيس ودوافع ل شعورية وأنت لن تدري أبدا ,مهما اجتهدت ,ماذا كان
يعني مبدع بلوحة رسمها أو بقصيدة نظمها.
قلت:
-إن كنت تعرف حياة المبدع ,تدرك ما أراد إيصاله إليك .حياته هي المفتاح السري
لعماله.
عندما اشتد بنا النقاش قال متهكما:
-بربك ,كيف تحارب الذين يمنعون عنك حرية الرأي إن كنت ترفض عدم تطابقي معك في
تفسير لوحة؟ " الحقيقة في الفن هي التي يكون نقيضها حقيقة كذلك".
أكثر من قناعتي برأيه ,كنت على قناعة بضرورة إبعاد هذا الرجل عن فرانسواز ,حتى ل
يفسد علي ما كنت أخطط له منذ شهر ,خاصة أنه بعد ذلك عندما جلسنا في المقهى ,راح
بمزاح ل يخلو من الجدية يوضح لي ما يعتقده شبها بين نوعية البواب ,وما يقابلها من
أجناس النساء .فهو يرى الوربيات مثل ,كالبواب الزجاجية للمحلت العصرية التي تنفتح
حال اقترابك منها ,بينما تشهر العربيات في وجهك وقارهن كأبواب خشبية سميكة لمجرد
إيهامك أنهن منيعات ومحصنات .وثمة من ,حتى ل تستسهلهن,يتبعن بطء البواب اللولبية
الزجاجية للفنادق التي تدور بك دورة كاملة كي تجتاز عتبة كان يمكن أن تجتازها بخطوة!
وأخريات يحتمين بباب عصري مصفح ,كثير القفال واللسنة ,ولكنهن يتركن لك المفتاح
تحت دواسة الباب ..كما عن غير قصد.
كان المر بالنسبة إليه قضية صبر ل أكثر .لكنه كان يكره مهانة النتظار خلف باب موصد.
كان يحتكم إلى حاسة الفراسة ليعرف نوعية المرأة التي أمامه ,وإلى خبرة اللصوص في
اكتشاف أي نوع من البواب عليه أن يتحدى استعصاءه! وكنت على فرحي بوجوده معي,
وحاجتي إلى ما أدخله إلى حياتي من حركة ,قررت أن أجعل لقاءاتنا متباعدة ,تفاديا
لمناوراته الفحولية التي بدأت تحوم حول فرانسواز.
في صباح اليوم التالي ,قصدت الرواق بحثا عن فرانسواز ,كما لتأكد من أنها ما زالت على
ذلك القدر من اشتهائها إياي.
لم أكن يوما رجلً للمغامرات العابرة .ول كان يروق لي النوم في شراشف المصادفة .ولكن
فرانسواز كانت تعنيني لسبب ,وأصبحت تعنيني لسببين.
قد أكون تعلقت بها لحطة شرود عاطفي من أجل رجل ,هي المعبر الجباري لي طريق
يوصل إليه .لكنني الن أريدها بسبب رجل آخر قررت أل أدعه يأخذها مني .فقط لنه يمتلك
جسارة ليست من طبعي.
***
كان في حوزتي ذرائع جميلة تعفيني من الحساس بالذنب ,إن أنا استسلمت لعروضها
المواربة.
في الواقع لم يكن لي مفر من تلك النوايا الخبيثة لسئلة بريئة ,تطرحها عليك امرأة تضمر
لك متعة شاهقة ..أو هكذا تستنتج من كلمها.
فرانسواز فتحت بجملة واحدة بوابة الشهوات الجهنمية ,وتركتني مذهولً ل أدري كيف
أوقف سيل الحمم .أبمقاومتها ,أم بالستسلم لها؟
فأمام أي خيار من الخيارين كان احتمال ندمي قائما.
لتنجو من أسئلتك ,عليك في الجنس أن تتغابى أحيانا ,حتى ل تتنبه إلى كونك تذهب نحو
المتعة ,لنك تحتاج إلى خيبة صغيرة تلهيك عن خيبات أكبر.
ولذا أنت تحتاج إلى أكاذيب الجسد ,إلى غبائه وفسقه وتناسيه ,كي تقصد النزوات المسروقة
من دون شعور بالذنب.
أنت في حاجة إلى الذعان للمتعة التي تهيئك لللم ,ولللم اللذيذ المخدر الذي يهيئك للموت,
مستندا إلى قول عنيف للمركيز دي ساد " ل طريق لمعرفة الموت أفضل من ربطه بمخيلة
فاسقة".
وأنت ستحتاج حتما إلى تلك المخيلة ,لتوقظ صخب حواس ذكورية تعودت الستكانة قهرا.
تحتاج أن تضرم النار في رغبات مؤجلة دوما .أنت المسكون بنزوات الذين يذهبون كل
صباح نحو موتهم ,يستعدون لمواجهة الموت بالصلة حينا ,وبالثام الخيرة أحيانا أخرى.
غير أن قبولي دعوة فرانسواز لقضاء " وقت ممتع" كان يحمل فرحة مشوبة بذعر لم أعرفه
من قبل ,خشية أن تخونني فحولتي عند اللقاء .حتى إنني ,قبل ذلك بليلة ,تذكرت مغنية
أوبرا شاهدتها تقول في مقابلة تلفزيونية إنها في الليلة التي تسبق حفلتها تعيش كابوسا
مزعجا ترى فيه نفسها تقف على المسرح وقد فقدت صوتها ,مما يجعلها تستيقظ مذعورة
كل مرة ,وتجلس في سريرها لتجرب صوتها إلى أقصاه ,كي تطمئن إلى قوته ,ثم تخلد إلى
النوم.
تراني بلغت عمر الذعر الذكوري ,وذلك الخوف المرضي من فقدان مباغت للفحولة ,في تلك
اللحظة الكثر احتياجا لها ,أمام الشخص الذي تريد إدهاشه بالذات؟ أكل رجل هو مغني أوبرا
مذعور ,ل يدري لفرط صمت أعضائه كيف يختبر صوت رجولته!
فرانسواز وجدت في تمنعي وعدم استعجالي النفراد بها ,شيئا مغريا ومثيرا للتحدي النثوي
الصامت ,ومثيرا أيضا للحترام .خاصة بعدما اعتذرت عن قبول عرضها الذي أظنه كان
نابعا من طيبتها في استضافتي بعض الوقت في بيتها ,لتوفر علي مصاريف القامة المكلفة.
قالت مثبتة حسن نواياها:
-عندي غرفة إضافية يحدث أن يقيم فيها لبعض الوقت الصدقاء العابرون لباريس,
ومعظمهم من معارف زيان .آخر من شغلها زوجة مدير معهد الفنون الجميلة في الجزائر
التي اغتيل زوجها وابنها داخل المعهد .كانت فكرة هذا المعرض لدعم عائلت المبدعين من
ضحايا الرهاب بمبادرة منها ,ولهذا ارتأيت أن أستقبلها في بيتي لحاجتها إلى دعم نفسي
كبير بعد هذه المحنة.
لم تكن فرانسواز تدري أنها قالت العبارة التي كانت تكفي لقناعي بأي شيء تعرضه علي
بعد الن.
سألتها مندهشا:
-وهل زيان يقيم في بيتك؟
أجابت ضاحكة:
-أجل ,وإن شئت أنا من يقيم في بيته .فعندما عاد إلى الجزائر ترك لي البيت لفترة
طويلة ,ثم عرضت عليه بعد ذلك أن أتقاسم معه اليجار .لقد كان المر يناسبني تماما .يدفع
نصف إيجار البيت مقابل أن يشغله أحيانا عندما يزور باريس .إنني محظوظة حقا .فهذا
البيت جميل ,ولم يعد بإمكانك العثور بسعر معقول على شقة كهذه تطل على نهر السين!
لم أعد أصدق ما أسمع .سألتها:
-وهل الشقة تطل على جسر ميرابو؟
ردت متعجبة:
-هل زرتها؟
كنت سأبدو مجنونا لو أخبرتها أنني سبق أن زرتها في رواية.
فأجبت بهدوء كاذب:
-ل ..قلت هذا لنني أحب هذا الجسر ,وتمنيت لو كان المر كذلك.
-إنه فعلً كذلك ..ولذا بإمكانك أن تزور الشقة كلما شعرت برغبة في رؤية ذلك الجسر.
سألتها فجأة مجازفا بكبريائي:
-أما زال عرضك قائما باستضافتي لبعض الوقت في بيتك؟
-طبعا..
ثم واصلت:
Oh.. mon Dieu.. comme tu me rappelles -
!Ziane c'est fou.. tout ca pour un pont
طبعا ..كانت على خطأ .لم يكن " كل هذا بسبب جسر" .وربما كانت في خطئها على صواب,
مادامت قد صاحت " يا إلهي كم تذكرني بزيان".
ذلك أن هذا الجسر ماكان بالنسبة لكلينا مجرد ...جسر.
أضافت:
-بالمناسبة ..سيكون افتتاح معرض زيان بعد يومين .أتمنى أن أراك هناك.
أجبتها وأنا أفكر في كل ما ينتظرني من مفاجآت بعد الن:
-حتما ..سأحضر.
الفصل الرابع
برغم درايتي بعدم حضوره ,ذهبت لحضور افتتاح معرضه الفردي ,فقد كان في المر ما
يغريني بإستهلك احتياطي الحزن الذي أحتفظ به لحدث كهذا.
ي لقاءنا الول .المر ل يعدو احتفاظ الرسام بحقه في أن
ل أظن مرضه هو الذي أفسد عل ّ
يخلف موعدا ,حتى لو كان حفل زفاف لوحاته.
فرانسواز قالت أنه يكره حضور يوم افتتاح معرض له ,لنه بضوضائه وأضوائه يوم
للغرباء .ما عاد له من صبر على ملطفة ومسايرة من يحرصون على حضور شعائر
الفتتاح ,أكثر من حرصهم على تأمل أعمال أخذ بعضها أعواما من عمر الرسام .بل أنه
حدث في أحد معارضه ,أن طلب منها أن تتولى مع إدارة الرواق أمر تعليق اللوحات واختيار
أماكنها على الجدران ,لنه يكره أن يعلق لوحاته ,حتى يمكنه زيارة نفسه بعد ذلك كغريب.
هو الهارب البدي ,ل ملذ له سوى البياض.
كان له ما أراد .أيكون تمارض كي يجد ذريعةً للنسحاب المتعالي ..فسقط في براثن المرض
الحقيقي؟
في غياب الرسام ,كل شيء يأخذ لونه الول .تخفت البهجة المظللة لفراشات الضوء وأناس
إمتهنوا طقوس الفتتاحات .ينتابك شعور بالفقدان ,بإفتقاد شيء لم تمتلكه بعد .يجتاحك
السى من أجل رجل لن تراه ,يحجبك عنه حضوره في غيابه المريع ..غيابه الرائع.
رجل ستدرك لحقا ,أنه يكره أن يساء فهم حضوره ,أن يساء تفسير كلمه .ذلك أن "
الرساميين ل يجيدون فن الكلم .إنهم موسيقيون صامتون كل الوقت".
وهو هنا ,كبيانو أسود مركون مغلقا على صمته ,في صالة تضج بلوحاته ,ازدحمت بغيابه
الصاخب ,مبعثرا ,متناثرا ,متدفقا على الجدران ,كغيوم نفسه المنهطلة على الزوار.
ل تملك إل أن تتعاطف معه ,وهو يواجه الخسائر بفرشاة .ذلك أن هذا المعرض في فن
بعثرة الحزن على الجسور والبواب التي تصهل بها اللوحات ,ليس سوى إعادة اعتبار
للخسارات الجميلة.
عندما غادرت ذلك المعرض ,فكرة واحدة كانت تزداد رسوخا داخلي :أن أطارد طيف هذا
الرجل حتى بيت فرانسواز ,كي أواصل تباعا لملمة سره ,هو الذي يتقن أيضا فن بعثرة
الغياب.
***
تماما ,كما لو كنت بطلً في رواية ,غادرت الفندق الصغير الذي كنت أقيم فيه منذ ما يقارب
الشهر ,وأعددت حقيبتي لسفر مفاجئ نحو بيت كنت أظنه ليس موجودا إل في كتاب!
متعاقد أنا مع الجسور ,مع مدن يشطرها جسر ,مع نساء حيث أحل يكنّ على أهبة عبور.
بذرائع العشاق ,أذهب على خيول الشك الهزيلة ,صوب بيت هو بيته .أقيم مستوطنة غير
شرعية ,فوق ذاكرة الخرين ,حيث التقى هذا الرسام حتما مع تلك الكاتبة.
كيف ترصد ذبذبات بيت تدخله كما تدخل معتقلً للكآبة الجميلة.
تفاجئك ألفة المكنة ,فتستأنف حياة بدأتها في كتاب .كأنك موجود لستئناف حياة الخرين.
تدخله كبطل في رواية .تفتحه كما تفتح كتابا مكتوبا على طريقة برايل ,متلمسا كل شيء
فيه ,لتتأكد من أن الشياء حقيقية ,أو بالحرى لتتأكد أنك تعيش لحظة حقيقية ,ولست هنا
لمواصلة التماهي مع بطل وهمي .أشياء تومي لك أنك تعرفها وهي ليست كذلك .لحظات
تتوهم أنك عشتها وهي ليست كذلك.
وكنت تظن أن الحياة تلفقك كتابا ,فإذا بكتاب يلفق لك حياة .فأيهما فيك الحزن :القارئ
الذي انطلت عليه خدعة الرواية؟ أم العاشق الذي انطلت عليه خديعة مؤلفتها؟
ولماذا أنت سعيد إذن؟ ما دمت بفرح غريب تفعل الشياء الكثر ألما ,تعاشر جثة حب,
تضاجع رمم الشياء الفاضحة ,باحثا في التفاصيل المهملة عما يشي بخيانة من أحببت.
أهي معابثة للذاكرة؟ أم تذاكٍ على الدب؟ أم ..حاجتك أن تغار؟ كحاجتك إلى النوم على
أسرة علقت بشراشفها رائحة رجال سبقوك ,كحاجتك إلى الغطية الخفيفة ,للهاث امرأة
استعادت أنفاسها على صدر غيرك ,كحاجتك إلى البكاء على وسادة تنام عليها وحيدا ,وكانت
وسادة لرأسين.
ل أسوأ من غيرة عاجزة .غيرة متأخرة ل تستطيع حيالها شيئا.
ل أدري متى أصبت بكآبة المخدوعين ,وقررت التوقف عن التفتيش في ذلك البيت عن
شيء ,بعد أن حاولت كثيرا ,على طريقة "شارلوك هولمز" أن أفك شيفرة ذلك الكتاب ,مقارنا
تفاصيله بموجودات الكتاب.
ل عن شفاء الشياء كي أقيم معها حوارا استنطاقيا بحثا عن احتمالت لقاء ,عن
بحثت طوي ً
احتمالت خلف ,عن متع قد تكون اختلست في مكان ما.
كما أمام " العلبة السوداء" لطائرة سقطت ,كنت أريد أن أعرف آخر كلمة قالها العشاق قبل
حدوث الكارثة .من أي علو هوى ذلك الحب؟ في أي مكان بالذات؟ في أي غرفة تبعثرت
شظايا المحبين؟ وهل نجا من تلك الكارثة العشقية غير ذلك الكتاب؟
فرانسواز وضعتني ,بكثير من الحتفاء ,في الغرفة المجاورة لغرفتها ,موضحة أنها الغرفة
التي كان يشغلها زيان كمرسم .ثم أضافت بلهجة مازحة:
-أنت محظوظ :بإمكانك أن تفرد أشياءك .قل شهرين كانت اللوحات في كل مكان ,حتى
هذا السرير لم يكن صالحا للستعمال.
سألتها متعجبا:
-وماذا فعلتما بها؟
-شارك زيان ببعضها في المعرض الجماعي الخيري ,ويعرض ما بقي في حوزته من
لوحات في معرضه الفردي الحالي الذي يذهب نصف ريعه للجمعية الخيرية نفسها .حاولت
عبثا إقناعه بإبقاء بعضها .إنه دائما متطرف .أحيانا كان يرفض لسنوات بيع لوحة واحدة,
وهذه المرة رفض أن يبقي على واحدة منها .تصور ..لم تبق سوى اللوحات المعلقة على
الجدران ,ولو لم يكن أهداني إياها لعرضها للبيع .لعله المرض .أظنه أراد أن يتخلص منها
وهو على قيد الحياة ,ووجد لوحة لمن ل يعنيه سوى أن يعلقها على حائط زهوه .كان يردد
قول رسام آخر " أنت ل تفقد لوحة عندما تبيعها بل عندما يمتلكها من لن يعلقها على جدران
قلبه بل على حائط بيته قصد أن يراها الخرون".
ربما خوفه من أن يقع في يد هؤلء ,هو الذي جعله يعرضها جميعها للبيع ,لنه واثق من
أن الذين سيشترون لوحاته ,أو اللوحات المعروضة لكل هؤلء الرسامين
الجزائريين,المعروفين منهم والجدد ,هم حتما أناس بقلب كبير رغم المكانات القليلة
لبعضهم.
كانت فرانسواز تحتفظ في غرفة نومها باللوحة التي رسمها لها زيان سنة 1987عندما
تعرف عليها أول مرة كموديل في معهد الفنون الجميلة.
على عريها ,كانت الرسمة ل تخلو من مسحة حياء تعود حتما لريشة زيان ,ل لمرأة كانت
تحترف التعري ,وتغطي جدران غرفة نومها بأكثر من لوحة تحمل تواقيع فنانين آخرين.
بدت لي فرانسواز امرأة ل يملها رسام .لكأنها أنثى لكل فرشاة .لفرط اختلف شخصيتها بين
لوحة وأخرى ,كنت تشعر معها وكأنك تسلم نفسك إلى قبيلة من النساء.
رغم ذلك لم يكن في المر ما يغريبني ,ول كانت لي رغبة أن أدخل في تحد مع الرجال الذين
ل انتقائيا في حرماني كما في متعتي ,أنا
سبقوني إليها .فقد كنت على جوعي الجسدي ,رج ً
المولع بانحسار الثوب على جسد متوهم ,ما وجدت في جسدها المكشوف مكمن فتنتي.
كنت أريد امرأة كـ " فينوس" في انزلق نصف ثوبها .أكسو نصفها ,أو أعري نصفها الخر
حسب رغبتي .امرأة نصفها طاهر ونصفها عاهر ,أتكفل بإصلح أو إفساد أحد نصفيها.
فبكل نصف فيها كنت أقيس رجولتي.
فرانسواز بهذا المقياس ,كانت اختبارا سيئا للرجولة .كانت امرأة بفصلين يعاشر أحدهما
الخر أمامك :ربيع شعرها المحمر ,وخريف شفتيها الشاحبتين .وكانت مشكلتي الولى
ثغرها :كيف أضاجع امرأة ل تغريني شفتاها الرفيعتان بتقبيلهما؟
كنت أجد شجاعتي في مواجهة شفتيها بالتفكير في زيان ,الذي حتما سبقني إلى ذلك .أخاله
مثلي كان يعاشر فرانسواز ,مستحضرا حياة .فهل اكتشف قبلي أن زيف القبلة أكثر بؤسا
من زيف المضاجعة؟!
حتما ,كان السرير في ذلك الموعد الول مزدحما بأشباح من سبقوني إليه ,ووحدي كنت
أشعر بذلك محاولً استنطاق ذاكرته.
أسرّة تراكمت فيها الخطايا ,تتوقع منها خرق قاعدة الكتمان .أحقا تريد لذلك " المخدع" أن
يكسر قانون الصمت ..وينطق؟
صمت السرّة إحدى نعم ال علينا ,ما دمنا ,حيث حللنا ,جميعنا عابري سرير.
أدري ارتباك جسدين يلتقيان لول مرة ,ولم يبتكرا لغتهما المشتركة بعد .لكن كان واضحا
أننا ما كنا نملك البجدية نفسها للتحاور.
كنت أكره امرأة تصرخ لحظة الحب .ففي كل صراخ مراوغة ل تخلو من نوايا الغش
النسائي .كنت ل أعرف للمتعة إل احتمالين :أن تبكي امرأة ,أو يغمى عليها .فل متعة دون
بلوغ وعي الغماء .كطائر محلق فارد جناحيه ول يسمع لتحليقه خفقا .المتعة حالة غيبوبة
شاهقة الصمت.
كانت فرانسواز ل تعرف صمت كائنين لحظة توحد .كانت تموء كقطة ,تنتفض كسمكة,
تتلوى كأفعى ,وكلبوءة تختبر ذلك العصيان الشرس في مواجهة الذكورة .كانت كل إناث
ل ل يدري كيف يتدبر لجاما لتلك المهرة الجامحة.
الكائنات .وكنت رج ً
كان للحب مع فرانسواز مذاق الفاكهة المجففة .وكنت أحتاج فجأة إلى وحدتي ,حاجة رجل
مهموم إلى تدخين سيجارة في الفناء.
انتهى الحب .وها أنا أرتعد عاريا كجذع شجرة جرداء.
ل أكثر كآبة من فعل حب ل حب فيه ,بعده تعتريك رغبة ملحة في البكاء .إنها خيانتك الولى
لمرأة قد تكون خانتك منذ ذلك الحين كثيرا .وأنت لست حزينا من أجلها ..بل من أجلك .بعد
تلك المتعة ,تشعر فجأة بالخواء ,ينقصك شيء ما ,ل تدري ما هو.
كنت تظن أنك بنزوتك الولى تلك ,ستمحو ,كما بإسفنجة ,آثار ما علق بك من زرقة اللم.
ولكن ,كما لو كنت تمرر إسفنجة لتنظيف سبورة من الطباشير ,إذا بك تزيد اللوح ضبابية
وتلوثا.
أليست هي التي قالت مرة أثناء حديثها عن معاشرة زوجها مكرهة ":ل بد أن توضع على
أبواب غرف النوم " ممنوع التلويث" كما توضع في بعض الماكن شارات لمنع التدخين..
ذلك أننا نلوث دائما بمن ل نحب".
لماذا مارست الحب إذن؟ ولماذا كنت على عجل؟ ألنك لفرط ما عاشرت جسدك مكتفيا
بمتعته السرية ,لم تعد تعرف التعامل مع جسد غيره؟
أذكر ذلك الصديق الذي قضى في سجن عربي ستة عشر عاما بتهمة النتماء إلى حزب
محظور ,تزوج في العوام الخيرة ,من محامية أحبته وانتظرته طويلً .كم من العوام
قضيا يمنيان النفس بلقاء حميمي جميل ,ل يكون فيه للحارس حق التلصص على وشوشة
متعتهما!
وذات يوم أطلق سراح الرجل .هكذا ,فجأة ,ذات عيد قرروا أن يهدوه الحرية .ألقوا به أمام
السجن مع صرة تضم بؤس متاعه .وما كان يدري أنه في تلك القبية الرطبة قد فقد وإلى
البد عنفوان فحولته ,إل عندما احتضن بولع السجين العاشق ,تلك المرأة التي حلم بها
طويلً.
أثناء تحسسه لجسد الحرية ,ارتطم بعنة عبوديته ,مكتشفا أنه ما عاد قادرا على معاشرة
أحل ٍم ل تمت إلى جسده بصلة!
منذ مدة سمعت بخبر انفصالهما ,بعد أن أخفقت الحياة في ترميم ما ألحقته المعتقلت العربية
من عطب بحبهما.
أثناء هدر عمرك في الوفاء ,عليك أن تتوقع أن يغدر بك الجسد ,وأنت تتنكر لك أعضاؤه.
فوفاؤك لجسد آخر ما هو إل خيانة فاضحة لجسدك.
ت طويل لشتاءٍ عاطفي ,مقتاتين بدسم
بغروب آخر يوم في خريف القلب ,ندخل في سبا ٍ
الذكرى ومجزون المل الذي ما فتئنا كحيوانات القطب الشمالي نجمعه تحسبا لمواسم البؤس
الجليدية.
ذات جليد ..لن يسعفك اختباؤك تحت الفرو السميك للمنيات.
رويدا ..يضمحل قلبك العاطل عن الحب .تتقلص فحولتك العاطلة من التمتع والمتاع ,وإذا
كل عضو فيك لم تستعمله ,قد اضمحل.
تدري أنك مدين في الماضي للحب وحده بإنجازاتك الفحولية الخارقة ,لكن زمن العشق ولى.
خيباتك السابقة علمتك الحتراس من حب يؤسس نفسه على كلمة " إلى البد" .حب بعد
آخر ,مات وهمك بحب حد الموت ,حب حتى الموت.
كل مأساتك الن تدور حول هذا الكتشاف!
***
في اليوم التالي ,قصدت السوق المجاور لملء البراد والتبضع بالمواد الغذائية ,فلم يكن
بإمكاني القامة في بيت ,بدون النفاق عليه.
كنت أتجول مكتشفا مساحيق فرح نهايات السبوع على وجه باريس المرتجفة بردا ,عندما
استوقفني محل جزار يزين خطاطيفه الحديدية برؤوس الخنازير الوردية المعلقة ,حاملة بين
أسنانها قرنفلة ورقية حمراء.
بقيت للحظة أتأملها ,متسائلً أهي إهانة للقرنفل أن يوضع في فم خنزير؟ أم الهانة أن
يتحول رأس كائن حيا إلى مزهرية لدى جزار؟
أعادني المشهد إلى السبعينات ,يوم كان جيراننا الوربيون التون من أوربا الشرقية ,ل
ينفكون يخططون بحماسة ولهفة ,لنهايات السابيع التي يذهبون فيها زرافات لصطياد
الخنازير البرية في الغابات المنتشرة على مشارف العاصمة.
اليوم ,ل أحد يجرؤ على القيام بجولة صيد ,مذ أصبح القتلة ينزلون مدججين بالسواطير
والفؤوس وأدوات قطع الرؤوس ,ليصطادوا ضحاياهم من البشر من بين القرويين العزّل,
ويرحلون تاركين للخنازير البرية مهمة قطع أرزاق من بقي على قيد الحياة ,بإفساد وإتلف
محاصيلهم...
كان اصطياد رأس خنزير ومطاردته في الغابات ,يأخذ من الصيادين آنذاك وقتا وجهدا أكثر
مما يأخذه اليوم قطع رؤوس عائلة بأكملها من القرويين الذين يعرف القتلة تماما مواقع
أكواخهم ول يجدون صعوبة في ذبحهم كالنعاج.
وكانت العودة برأس خنزير واحد ,تمل الصيادين الوربيين آنذاك زهوا .لكن صيادي الطرائد
البشرية يلزمهم كثير من الرؤوس كي يضمنوا فرحة وجودهم على الصفحات الولى
للجرائد ,فهم يشترون برؤوس الخرين صدارة خبر تتناقله وكالت النباء.
هكذا ولدت ظاهرة الرؤوس البشرية المعروضة للشهار أ ,للستثمار ,وأخرى للفرجة أو
للعبرة ,كتلك التي حدث لمراء الموت عندما وجدوا متسعا من الوقت ,أن زينوا بها أشجار
القرية كما أشجار أعياد الميلد ,وفخخوها لتكون جاهزة لتنفجر في أول من يحاول "قطف"
رأس قريبه.
في حرب "الرؤوس الكبيرة" التي بسقوطها يسقط وطن في مطب التاريخ ,وتلك الصغيرة
التي يلزم منها الكثير لتصنع خبرا في جريدة ,وتلك النكرة التي لن يسمع بقطافها أحد ,ل
تستطيع إل أن تتحسس رأسك ,حتى وأنت أمام واجهة جزار في باريس .وتحزن من أجل
القرنفل البلدي ,الذي كان يتفتح في طفولتك ,باقات من القرنفلت الصغيرة ,بذلك الشذى
الذي ما عدت تشتمه في الورود ,مذ قصفت أعمارها إكراما لقصابي العالم المتحضر.
ل وسط حدائق" ,
في مدينة كان هنري ميلر يتجول فيها جائعا ,وفي حالة انتصاب,متنق ً
التويلري" غير مبصر سوى أجساد نسائية من رخام ,عساها تغادر عريها الرخامي وترافقه
إلى فندق تشرده ,لم أكن أنا سوى الرؤوس المعلقة في أي مكان ,لي سبب كان.
حتى مومسات (بيغال) المنتشرات على أرصفة الليل ,في هيئة ل يصمد أمام غواية التلصص
على عريهن رجل ,لم أستطع وأنا أعبر شارعهن أن أقيم مع أجسادهن العارية تحت معاطف
الفرو ,أية علقة فضول .فقد كن يذكرنني بمشهد آخر تناقلت تفاصيله الصحافة العالمية
لمومسات البؤس العربي .مشهد لو رآه زوربا لجهش راقصا ,لنساء علقت رؤوسهن على
أبواب بيوتهن البائسة في مدينة عربية ,ل تخرج من حرب إل لتبتكر لرجالها أخرى .وريثما
يكبر الجيل التي من الشهداء ,كانت تفرغ البيوت من رجالها ,ومن أثاثها ,ومن لقمة
عيشها ,لتسكنها أرامل الحروب وأيتامها.
لكن ل تهتم ,زوربا ..يا صديق الرامل ل تحزن .الجميلت الصغيرات ل يترملن .إنهن
يزين قصور سادة الحروب العربية .وحدهن البائسات الفقيرات يمتن غسلً لشرف الوطن,
كما مات أزواجهن فداءً له .وبإمكان رؤوسهن الخمسين التي قطعت بمباركة ماجدات
فاضلت يمثلن التحاد النسائي ,بإمكانها أن تبقى معلقة على البواب يوما كاملً تأكيدا
لطهارة اليد التي قطعتها ,كي يعتبر بها الفقراء الذين جازفوا بقبول مذلة " المتعة مقابل
الغذاء" ,وتجرأوا على تمني شيئا آخر في هذه الدنيا غير إضافة جماجمهم لتزيين كعكة عيد
ميلد القائد.
يخطئ من يعتقد أننا عندما ندخل مدنا جديدة نترك ذاكرتنا في المطار .كلً حيث يذهب ,يقصد
مدينة محملً بأخرى ,ويقيم مع آخرين في مدن ل يتقاسمها بالضرورة معهم ,ويتجول في
خراب وحده يراه.
" وما دمت خربت بيتك في هذا الركن الصغير من العالم فسيلحقك الخراب أينما حللت".
ولكنك لم تكن قد سمعت بعد بقول ذلك الشاعر ,ول كنت تظن أن حقيبتك محملة بهذا الكم
من الجماجم .و إل ما كنت سافرت.
فاكتب إذن ,أنت الذي مازلت ل تدري بعد إن كانت الكتابة فعل تستر أم فعل انفضاح ,إذا
كانت فعل قتل أو فعل انبعاث.
تتمنى لو أطلقت النار على كل الطغاة بجملة ,لكن من تنازل أيها الكاتب بقلم ,في نزال كل
غرمائك فيه يتربعون على عروش من الجماجم.
كان عليك قبل أن تهجم على الوراق أن تختار كلماتك بعناية ملكم ,أن تصوب ضرباتك
إلى القتلة ,بأدنى قدر ممكن من المجازفة .أن تكتسب تلك الموهبة .موهبة كتابة كتب
غيبية ,تسعى إلى سلمة صاحبها وراءته ,غير معني بما تسببه رواية رديئة من أضرار,
ول جبن كاتب ل يمكن لقارئ أن يأتمنه على حياته أو يوصيه ثأرا لدمه.
من تكون ..لتحاول الثأر لكل الدم العربي بكتاب .وحده الحبر شبهة أيها الجالس على
الشبهات .أكتب لتنظيف مرآبك من خردة العمر ,كما ينظف محارب سلحا قديما.
مازال للقتلة متسع من الجاه.ول وقت لك إل ساعته ,تدق بعده في معصمك ..تمد يدك بما
يلزمها من القوة للكتابة.
وبرغم هذا ,قد ل تجد الشجاعة لتقص عليه ما حل بتلك اللوحة!
بعد يومين من إقامتي عند فرانسواز ,هاتفت مراد حتى ل يقيم الدنيا ويقعدها بحثا عني في
باريس ,يعد أن تركت الفندق دون إخباره بذلك.
تحاشيت طبعا إعطاءه تفاصيل عن إقامتي الجديدة .واقترحت عليه أن نلتقي في اليوم
التالي.
لكنه فاجأني بذلك الخبر الذي ما توقعته أبدا حين قال لي معتذرا:
انتهى الحب .وها أنا أرتعد عاريا كجذع شجرة جرداء.
-لن أستطيع أن أراك غدا .سأكون مشغولً بانتظار ناصر عبد المولى .سيحضر من ألمانيا
للقامة عندي بعض الوقت ..لكن إن شئت سنلتقي جميعا بعد غد.
سألته غير مصدق:
-أي ناصر؟
-ناصر ..ابن الشهيد الطاهر عبد المولى .أنت تدري أنه يقيم منذ سنتين في ألمانيا بعد أن
اتهم بانتمائه لجماعة إسلمية مسلحة .حصل على حق اللجوء السياسي هناك .لكن ليس
بإمكانه طبعا العودة إلى الجزائر ولذا سيحضر إلى باريس للقاء والدته التي لم يرها منذ
سنتين .التقيت به مطولً في ألمانيا ..واتفقنا أن يبرمج مجيئه إلى باريس عند استئجاري
شقة كي يتمكن من القامة عندي ,فهو لسباب أمنية يفضل عدم القامة في الفندق.
وهكذا كان مراد يزف لي خبرين :خبر مجيء ناصر ,وحتمية مجيء أخته رفقة والدتها .فلم
يكن من المعقول أن تأتي والدته بمفردها إلى باريس.
أذهلتني صاعقة المفاجأة.
أحقا ستأتي تلك المرأة التي ما كان في مفكرة حياتي موعد معها؟
ستأتي ,بعدما لفرط انتظارها ما عدت أنتظر مجيئها.
سنتان من النقطاع ,تمددت فيهما جثة الوقت بيننا ,وجوارها شيء شبيه بجثتي ,فقد
أحببتها لحظة دوار عشقي كمن يقفز في الفراغ دون أن يفتح مظلة الهبوط ,ثم ..تركتها كما
أحببتها ,كما يلقي يائس بنفسه من جسر بدون النظر إلى أسفل .أما كنت ابن قسنطينة حيث
الجسور طريقة حياة وطريقة موت ..وحب!
تلك التي لم يتخل عنها يوما رجل,تخليت عنها ,خشية أن تتخلى هي عني .كأنني القائل "
رب هجر قد كان من خوف هجر\ وفراق قد كان خوف فراق".
أكثر إيلما من التخلي نفسه ,خوفي الدائم من تخليها عني.
عكس العشاق الذين يستميتون دفاعا عن مواقعهم ومكاسبهم العاطفية ,عندما أغار أنسحب,
وأترك لمن أحب فرصة اختياري من جديد.
كنت رجل الخسارات الختيارية بامتياز .ما كان لي أن أتقبل فكرة أن تهجرني امرأة إلى
رجل آخر.
أنا الذي لم أتقبل فكرة أن يكون أحد قد سبقني إليها .كيف لي أن أطمئن إلى امرأة تزرع
داخلي مع كل كلمة حقولً من الشك.
أذكر يوم سألتني لول مرة إن كنت أحبها ,أجبتها:
-ل أدري ..ما أدريه أنني أخافك.
في الواقع كنت أخاف التيه الذي سيلي حبها ,فمثلها ل يمكن لرجل أن يحب بعدها دون أن
يقاصص نفسه بها.
يومها ,فكرت أنني ل يمكن أن أواجه الخوف منها إل بالجهاز عليها هجرا .وكان ثمة
احتمال آخر :اعتماد طريقتها في القتل الرحيم داخل كتاب جميل .فقد حدث أن أهدتني ما
يغري بالكتابة .أشياء انتقتها بحرص أم على اختيار اللوازم المدرسية لطفلها يوم دخوله
الول إلى المدرسة.
وكنت بعد موت عبد الحق بأسبوعين ,صادفتها في مكتبة في قسنطينة تشتري ظروفا
وطوابع بريدية لتبعث رسالة إلى ناصر في ألمانيا .كانت تمسك بيدها دفترا أسود ,قالت
مازحة إنها اشترته لنه تحرش بها .سألتني فجأة:
-إن أهدينك إياه ,هل ستكتب شيئا جميلً؟
قلت:
-ل أظنني سأفعل ..ستحتاجين إليه أكثر مني.
لم تعر جوابي اهتماما ,توجهت إلى البائع تطلب منه عدة أقلم سيالة من نوع معين .قالت
وهي تمدني بها " أريد منك كتابا" كما لو قالت " أريد منك طفلً" .فهل كانت تريد أن
تستبقيني بكتاب ,كما تستبقي امرأة زوجا بطفل؟ أم كانت تهيئني للفراق الطويل؟
سألتها متوجسا مراوغة ما:
-ما مناسبة هذه الهدية؟
ردت مازحة:
-بإمكاننا متى شئنا أن نخترع مناسبة .سأفترض أنه عيد ميلدك ..إني ألدك متى شئت
من المرات.
كانت المومة خدعتها الجميلة ,كخدعة أبوتي لها.
أمدتني بالدفتر وقالت:
!Bon anniverssaire -
لم يكن بإمكانها أن تقول هذه المنية إل بالفرنسية أو بالفصحى ..فليس في اللهجة
الجزائرية صيغة ول تعبير بإمكانك أن تتمنى به لحد عيد ميلد سعيدا .بينما تفيض هذه
اللهجة بمفردات التعازي والمواساة!.
ضحكت للفكرة .وجدتها تصلح بداية لكتاب يشرع جزائري في كتابته يوم عيد ميلده .لكنني
لك أكتب شيئا على ذلك الدفتر الذي أهدتني إياه ,والذي نسيت أمره عندما ذهبت للقامة في
" مازافران" .ولم أعثر عليه إل منذ مدة قريبة ,والصح أنني أنا الذي بحثت عنه.
لتكتب ,ل يكفي أن يهديك أحد دفترا وأقلما ,بل ل بد أن يؤذيك أحد إلى حد الكتابة .وماكنت
لستطيع كتابة هذا الكتاب ,لول أنها زودتني بالحقد اللزم للكتابة .فنحن ل نكتب كتابا من
أجل أحد ,بل ضده.
دفترها أمامي .وساعة يده في معصمي .وكل هذا الوقت المكفن ببياض الورق في متناولي.
وأنا أكتب عنها كما كنت أمارس الحب سرا معها ,بالشراسة نفسها .في الحلم ,كان يأتي
اشتهائي إياها عنيفا لنني أرفضها في اليقظة ,وعندما كان ينتهي ذلك الفسق الحلمي ,كنت
أصرخ باسمها ,ويجهش جسدي سرا بالبكاء ,ثم أحزن وأكره يدي لساعات ,أكره كل
أعضائي التي تأتمر بأمرها.
باليد إياها أكتب .بالعنف نفسه أستحضرها على الورق ,ذلك أنه يلزمني الكثير من الفحولة
لمواجهة عري البياض .ومن لم ينجح في مقاربة أنثى ,لن يعرف كيف يقارب ورقة .فنحن
نكتب كما نمارس الحب .البعض يأخذ الكتابة عنوة كيفما اتفق .والخر يعتقد أنها ل تمنحك
نفسها إل بالمراودة ,كالناقة التي ل تدر لبنا إل بعد إبساس ,فيقضي أعواما في ملطفتها
من أجل إنجاز كتاب.
لكن كيف لك أن تلطف ورقة ,وتجامل قارئا ,عندما تكتب على إيقاع الموت لشخص ما عاد
موجودا ,مصرا على إخباره بما حدث.
ما نفع العلم الذي يزيد الموات حزنا!؟
كانت حياتي مع فرانسواز قد بدأت هادئة وجميلة ,ولكن بدون لهفة ول شغف ,يؤثثها ذلك
الصمت الذي يلي ضجة الجسد ,تلك الخيبة الصامتة ,الندم المدفون تحت الكلمات.
كل صباح ,كان الندم الجميل يأخذ حماما ,يدخن سيجارة ,يضع قبلة على الشفتين
الشاحبتين .الندم الذي كان يدري أن الوحدة أفضل من سرير السوء ,كان يلهو باختبار
سرير جديد ,كما ليكذب ندمه .فمن عادة النوم أن يثرثر كثيرا قبل الحب وبعده ,كي يقنع
نفسه أنه ليس نادما على ما ليس حبا!
استيقظن في اليوم التالي ,فلم أجد فرانسواز .ربما تكون نهضت باكرا إلى المعهد.
قررت أن أتناول قهوتي الصباحية مع فينوس ,النثى الوحيدة الموجودة بالبيت .كانت في
وقفتها تلك في ركن من الصالون بحجم امرأة حقيقية ,تبدو كأنثى تستيقظ من نعاسها
الجميل على أهبة التبرعم النثوي الخير ,تنتظر لهفة يديك ,أو أوامر من عينيك ,لتسقط
ملءتها أرضا وتصبح امرأة.
كانت مثل أشياء ذلك البيت ,تخفي نصف الحقيقة ,ملفوفة بانسياب يغريك بالبحث عما تحت
ثوبها الحجري.
أنت لن تعرف شيئا عنها ,سوى أنه هو الذي اقتناها لنها أنثاه .والمرأة التي بإمكانه أن
يعيش معها بدون عقد,إنها أكثر منه عطبا .ولكن ذلك لن يمنعها من أن تكون النثى الشهر
والشهى.
وأفهم أن يكون رودان قال إن لها القدرة على إلهاب الحواس لنها تمثل بهجة الحياة .هي
دائمة البتسام ,تستيقظ بمزاج رائق كل صباح .لنها ,وهي إلهة الحب والجمال ,لم تتلوث
برجل .إنها أنثى بشهوات مترفعة!
حتما هي أسعد من نساء يقضين عمرهن كشجرة المطاط التي تزين الصالون ,في انتظار أن
يتكرم عليها صاحب البيت بالسقاية ...مرة كل أسبوع!
لأدري كم من الوقت قضيت في التباس جسدي معها .أجيل نظري في جغرافية رغباتها؟
أتأمل جمالية أنوثة تحيط كل شيء فيها بلغز.
في حياة المصور كثير من الوقت الصامت ,من الساعات المهملة ,ومن تلك الحياة البيضاء
التي تسبق الصورة.
ذلك الضجر المتيقظ ,يخلق عنده وقتا للحلم ,ولذا بإمكانه أن يقضي ساعة في تأمل شجرة..
أو حركة الريح العابثة بستائر نافذة .أو انعكاس ضوء منار بحري على البحر ,كذاك الذي
كنت أقضي ساعات في تأمله ..في ليل " مازافران".
لكن وحدها فينوس تعطيك الحساس أن الجمال كما الحب والبهجة ,كانزلق ثوبها الحجري,
أشياء قد تكون عند قدميك ,إن توقفت عن الركض قليلً ,وتأملت الحياة.
ولذا ,كان ذلك الوقت الصباحي الذي قضيته معها ,أجمل من وقت ليلي قضيته مع غيرها.
لم أحاول استنطاقها بعد ذلك .ككل الشياء الشامتة صمتا في ذلك البيت .هي لن تقول أكثر.
ماجدوى أن أنتزع منها اعترافات مخادعة؟
حيث أنا قريب منها غريب عليها ,لن أرى شيئا .وحده شكي يرى.
في خلوتي الولى بالشياء فقدت القدرة على رؤيتها .فقدت حتى تلقائية فهم أنني أثناء
استنطاقها أصبحت بعض ذاكرتها .لقد شيأتني ,وإذ بي الشيء العابر بها ..كغيري .وهي
الكائن المقيم الثابت الشاهد علي.
بعد ساعة من الذهول الشارد أمامها تركت فينوس وخرجت إلى الشرفة أكتشف المنظر
وألقي تحية الصباح على " جسر ميرابو".
استنادا إلى رواية تلك الكاتبة التي ل تصدق إل في الروايات ,بإمكاني أن أكون واثقا على
القل من أنهما وقفا هنا ذات مطر..
كما اليوم ,وأنه قبّلها طويلً هنا على مرأى من الجسر ,بعد أن قرأ عليها شيئا من قصيدة
السياب.
أما زال الجسر يذكر قبلة جزائريين ائتمناه على حبهما؟ وتحت قدميه البديتين يجري نهر لم
يؤتمن على أرواح الجزائريين ذات أكتوبر 1961عندما طفت عشرات الجثث التي ألقيت
إليه مكبلة؟
كانت المسافات تبدو واهية بيني وبينه .أحيانا كنت أعيش المواقف ,كما لو كنت هو .مقتفيا
أثره في السرة والشوارع والمعارض والمقاهي .كنت أضاجع نساءه في سرير كان سريره.
أعطي مواعيد في المقهى الذي كان يرتاده .أتأمل جسر ميرابو من شرفة بيته ,أحتسي قهوة
أعددتها في مطبخه ,أجالس أنثاه الرخامية المفضلة ,وفي المساء أخلد إلى النوم على سرير
ترك عليه بعض رائحته ..وكثيرا من أرقي .أفكر طويلً في تلك المرأة نفسها التي منعته منذ
سنوات من النوم .أليس المر غريبا حقا؟
لسباب أجهلها ,ما زلت على لهفة النتظار ويأس اللقاء.
تلك المرأة التي بذريعة تعقب غيرها ما كنت أقتفي أثر سواها ,سأضع اليوم يدي على مكمن
سرها .فقد أهدتني مصادفات الحياة الموجعة موعدا مع رجل ينام في سرير بمستشفى(
) Ville juiveادعت أنه ل يوجد سوى في كتابها.
ذلك أن أبطال الروايات غالبا ما يمرضون ..بسبب مؤلفيهم!
كنت أعي أن موعدي مع زيان ,أيا كان نوعية العلقة التي ستتم بعده ,والنتائج التي ستنجم
عنه ,هو حدث في حياتي .وعلي أن أستعد له بذلك القدر من الحيطة العاطفية ,حتى ل
أفسده بعد أن أخذ مني المر شهرا في مطاردة فرانسواز لقناعها بضرورة أن أتعرف
عليه ..ولو على سرير المرض.
الفصل الخامس
كان في ضيافة البياض .لكن بابتسامة سمراء وطلة مضيئة كألوان قزح بعد ظهيرة توقف
فيها المطر.
نهض يسلم علي بحفاوة ,واضعا شيئا من اللوان بيننا.
-أهلً خالد ...تفضل.
لم أعرف بأي اسم ول بأية صيغة أناديه كي أرد سلمه .فاكتفيت باحتضانه مرددا:
-أهلً ..حمد ال ع سلمتك.
متسائلً ماذا تكون فرانسواز قالت له ليستقبلني بهذه الحرارة.
جلس قبالتي .ها هو إذن.
كان يرتدي هم العمر بأناقة.
كان وسيما ,تلك الوسامة القسنطينية المهربة منذ قرون في جينات الندلسيين ,بحاجبين
سميكين بعض الشيء ,وشعر على رماديته ما زال يطغى عليه السواد ,وابتسامة أدركت
بعدها أن نصفها تهكم صامت ,ترك آثاره على غمازة كأخدود نحتها الزمن على الجانب
اليمن من فمه.
وكانت له عينان طاعنتان في الغراء ,ونظرة منهكة ,لرجل أحبته النساء ,لفرط ازدرائه
للحياة.
كم عمره؟ ل يهم .مسرع به الخريف ,وينتظره صقيع الشتاء .إنه منتصف اليأس الجميل.
منتصف الموت الول ,وهو لهذا يبتسم .يبدو في أوج جاذبيته ,جاذبية من يعرف الكثير لنه
خسر الكثير .وهذا سأفهمه لحقا.
على الكرسي المقابل لسريره العالي صغرت ,وتعلمت الجلوس خلف المنضدة المنخفضة
للسؤال.
كيف تطرق ذاكرة ذلك الرجل طرقا خفيفا؟ كيف تأخذ منه أجوبة عن أسئلة لن تطرحها,
ولكنك جئت بذريعتها؟
كيف تفتح نافذة الكلم في غرفة مريض ,بدون أن تبدو غبيا ,أو أنانيا ,أو انتهازيا تسابق
الموت على سرقة أسراره.
قلت كمن يعتذر:
-تمنيت هذا الموعد كثيرا .آسف أن يتم لقاؤنا في المستشفى .إن شاء ال صحتك في
تحسن.
رد مازحا:
-ل تهتم..بي صبر مستعصٍ على الشفاء.
قلت:
-بدءا ..أنا أحب أعمالك الفنية ولي تواطؤ مع كثير من لوحاتك ,ثم عندما فوجئت بوجودك
في باريس طلبت من فرانسواز أن تجمعني بك .فأنا بمناسبة مرور ذكرى ثورة نوفمبر أعد
مجموعة حوارات مطولة مع شخصيات جزائرية ساهمت في حرب التحرير ..لي إحساس
أنني سأنجز معك حوارا جميلً.
قال مبتسما:
-أعتقد ذلك أيضا .فنحن حسب ما بلغني ,لنا الهتمامات ذاتها ,ونشترك في حب الكثير
من الشياء.
لم أكن أعرف عنه لحظتها ما يكفي لدرك أنه اكتسب منذ زمن حدس الحقيقة ,وتدرب على
فن التغابي الذكي ,وأن " الشياء" هنا ,ربما كان يعني بها ..النساء.
قلت وأنا أستأذنه فتح المسجل كي أعطي رسمية للقاء:
-تعنيني ذاكرتك كثيرا ..فأنت خضت حرب التحرير وعايشت معارك وبطولت تلك الفترة..
ماذا بقي لك من ذكرى رجالت وأبطال تلك الحقبة؟
رد مازحا:
-أنت تلحق ذاكرة مضللة .ل وجود إل للبطولت الصغيرة .البطولت الكبيرة أساطير
نختلقها ل حقا.
أكبر المعارك تخوضها ببسالة الضمير ..ل بسلحك ول بعضلتك ,وتلك المعارك هي التي
يستبسل فيها الناس البسطاء النكرة الذين يصنعون أسطورة النصر الكبير ,والذين لن يأتي
على ذكرهم أحد ..ولن يسألهم صحافي على سرير المرض عن ماضيهم.
وقعت في حب ذلك الرجل ,في حب لغته ,في حب استعلئه على اللم وانتقائه معزوفة
وجعه ,في حب وسامة تبتكر جمالها كل لحظة بدون جهد ,لنها تشع من داخله .وأدركت أن
تكون حياة قد أحبته إلى ذلك الحد .لقد خلق ليكون كائنا روائيا.
كان دائم التنبه إلى جرس الكلمات ,وإلى ما يضيفه الصمت لجملة .تطرح عليه سؤالً,
فيأخذه منك ويصوغه في سؤال آخر ,يبدأ غالبا بقوله:
-تقصد..
وفي صيغته التساؤلية تلك يكمن جوابه .هو يصححك ,لكن بقلم الرصاص دائما ,بصوت أقل
نبرة من صوتك ,ل قلم أحمر في حوزته .هو ليس معلما ,هو فقط رجل يسخر كبورخيس,
يملك تلك "الحقيقة الهزلية" التي تجعل من مجالسته متعة لم تعرفها من قبل.
قال وهو يتصفح مقالتي:
-تدري؟ أحسد كل من يكتب " .الكتابة هي التجذيف بيد واحدة" وبرغم هذا هي ليست في
متناولي .لقد فقدت الرغبة في البحار ,ربما لنك كي تبحر ل بد أن يكون لك مرفأ تبحر
نحوه ,ول وجهة لي .حتى الرسم توقفت عن ممارسته منذ سنتين.
أمدني اعترافه هذا بموجز عن نشرته العاطفية ,ذلك أنني تذكرت قول بيكاسو " أن تعود إلى
الرسم أي أن تعود إلى الحب" فقد ارتبطت كل مرحلة فنية عنده ,بدخول امرأة جديدة في
حياته .وربما كانت كل مرحلة فنية عنده ,بدخول امرأة جديدة في حياته .وربما كانت الكتابة
عكس ذلك ,فقد كانت حياة كلما سألتها خلل السنتين اللتين قضيناهما معا لماذا ل تكتب؟
أجابت " الكتابة إعمال قطيعة مع الحب وعلج كيماوي للشفاء منه ..سأكتب عندما نفترق".
قلت:
-مؤسف حقا ..أل تكون قد رسمت كل هذه الفترة.
أجاب:
-الرسم كما الكتابة ,وسيلة الضعفاء أمام الحياة لدفع الذى المقبل .وأنا ما عدت أحتاجها
لنني استقويت بخساراتي .القوى هو الذي ل يملك شيئا ليخسره .ل تنغش بهيئتي .أنا
رجل سعيد .لم يحدث أن كنت على هذا القدر من الخفة والستخفاف بما كان مهما قبل
اليوم.
عليك في مساء الحياة أن تخلع هم العمر كما تخلع بدلة نهارك أو تخلع ذراعك أو أعضاءك
الصطناعية ,أن تعلق خوفك على المشجب ,وأن تقلع عن الحلم .كل الذين أحببتهم ماتوا
بقصاص أحلمهم!
أدركت فجأة سر جاذبيته .كانت تكمن في كونه أصبح حرا .عندما ما عاد لديه ما يخسره أو
يخاف عليه.
وهو يدرك جماله كلما فاجأ نفسه يتصرف محتكما لمزاجه ,ل لحكم الخرين ,كما عاش من
قبل .ول تستطيع إل أن تحسده ,لنه خفيف ومفلس .خفته اكتسبها مما أثق به الناس
أنفسهم من نفاق .وبإمكانه أن يقول لكل من يصادفه من معارف ما لم يجرؤ على قوله من
قبل.
كرأيه في الرسام غير الموهوب الذي كان ينافقه مادحا أعماله ,والجار الذي كان يجامله
اللحية عن خوف ,والصديق الذي كان يسكت عن اختلساته عن حياء ,والعدو المنافق الذي
كان يدعي أمامه الغباء.
سألته:
-أل تخشى أل يبقى لك صديق بعد هذا؟
ضحك:
-ما كان لي صديق لخسره .أصدقائي سقطوا من القطار .عندما تغادر وطنك ,تولي ظهرك
لشجرة كانت صديقة ,ولصديق كان عدوا .النجاح كما الفشل ,اختبار جيد لمن حولك ,للذي
سيتقرب منك ليسرق ضوءك ,والذي سيعاديك لن ضوءك كشف عيوبه ,والذي حين فشل
في أن ينجح ,نذر حياته لثبات عدم شرعية نجاحك.
الناس تحسدك دائما على شيء ل يستحق الحسد ,لن متاعهم هو سقط متاعك .حتى على
الغربة يحسدونك ,كأنما التشرد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقدا وحقدا ,وأنا رجل يحب
أن يدفع ليخسر صديقا .يعنيني كثيرا أن أختبر الناس وأعرف كم أساوي في بورصة
نخاستهم العاطفية .البعض تبدو لك صداقته ثمينة وهو جاهز ليتخلى عنك مقابل 500
فرنك يكسبها من مقال يشتمك فيه ,وآخر يستدين منك مبلغا ل يحتاجه وإنما يغتبط لحرمانك
منه ,وآخر أصبح عدوك لفرط ما أحسنت إليه " ثمة خدمات كبيرة إلى الحد الذي ل يمكن
الرد عليها بغير نكران الجميل" .ولذا ل بد أن تعذر من تنكر لك ,ماذا تستطيع ضد النفس
البشرية؟
-وكيف تعيش بدون أصدقاء؟
-ل حاجة لي إليهم ..أصبح همي العثور على أعداء كبار أكبر بهم .تلك الضفادع الصغيرة
التي تنقنق تحت نافذتك وتستدرجك إلى منازلتها في مستنقع ,أصغر من أن تكون صالحة
للعداوة .لكنها تشوش عليك وتمنعك من العمل ..وتعكر عليك حياتك .إنه زمن حقير ,حتى
قامات العداء تقزمت ,وهذا في حد ذاته مأساة بالنسبة لرجل مثلي حارب لثلث سنوات
جيوش فرنسا في الجبال ..كيف تريدني أن أنازل اليوم ضآلة يترفع سيفك عن منازلتها؟
-أنت إذن تعيش وحيدا؟
رد مبتسما:
-أبدا ..أنا موجود دائما لكل من يحتاجني ,إني صديق الجميع ولكن ل صديق لي .آخر
صديق فقدته كان شاعرا فلسطينيا توفي منذ سنوات في بيروت أثناء الجتياح السرائيلي.
لم أجد أحدا بعده ليشغل تلك المساحة الجميلة التي كان يملها داخلي .معه مات شيء مني.
ما وجدت من يتطابق مع مزاجي ووجعي.
سكت قليلً ثم أضاف:
-تدري؟ هذه أول مرة أتحدث فيها هكذا لحد .لكأنك تذكرني به .لقد كان في عمرك تقريبا
ووسيم هكذا مثلك ,وكان شاعرا غير معروف ولكنه مذهل في انتقائه الكلمات .عندما أغادر
المستشفى ,سأطلعك على بعض قصائده ..ما زالت في حوزتي.
قال فجأة كمن يعتذر:
-قد أكون تحدثت كثيرا ..عادة أنا ضنين في الكلم ,فالرسامون حسب أحدهم " أبناء
الصمت".
قلت وأنا أمازحه:
-ل تهتم ..فالمصورون أبناء الصبر!..
قال وقد أضاءت وجهه ابتسامة:
-جميل هذا ..يا إلهي ..أنت تتكلم مثله!
كدت أقول له " طبعا ..لن رجال تلك المرأة جميعهم يتشابهون" لكنني لم أقل شيئا .وقفت
لودعه .ضمني بحرارة إليه ,وسألني:
-متى ستنشر هذه المقابلة؟
أجبته بمحبة:
-لم تنته بعد لتنشر ..لقاءاتنا ستتكرر إن شئت ,فأنا أريد عملً عميقا يحيط بكل شخصيتك.
قال مازحا:
-ل تقل لي إنك ستعد كتابا عني ..ما التقيت بكاتب إل وأغريته بأن يلملم أشلء ذاكرتي في
كتاب!
استنتجت أنه يعنيها .قلت:
-ل ,أنا لست كاتبا .الكتابة تكفين الوقت بالورق البيض ..أنا مصور ,مهنتي الحتفاظ
بجثة الوقت ,تثبيت اللحظة ..كما تثبت فراشة على لوحة.
قال وهو يرافقني نحو الباب:
-في الحالتين ..أنت ل تكفن سوى نفسك بذا أو ذاك.
ثم واصل كمن تذكر شيئا:
-ل تنس أن تأتيني في المرة المقبلة بالصورة التي حصلت بها على جائزة .لقد أخبرتني
فرانسواز أنك مصور كبير.
كأنني بدأت أشبهه ,لم أعلق على صفة "كبير" سوى بابتسامة نصفها تهكم.
تركته للبياض .وغادرت المستشفى مليئا بذلك الكم المذهل من اللوان.
عندما عادت فرانسواز إلى البيت ,وجدتني أعيد الستماع إلى تسجيل حوارنا.
سألتني إن كنت أفرغ الشريط قصد كتابة المقال .أجبتها أنني أفرغه لمتل به .فلم يكن في
الواقع في نيتي أن أكتب أي مقال .ول توقعت يومها أنني ,كمن سبقني إلى ذلك الرجل,
سأرتق أسمال ثوب ذاكرته في كتاب!
***
دفع واحدة ,قررت الحياة أن تغدق عليك بتلك المصادفات المفجعة في سخائها ,حد إرعابك
من سعادة لم تحسب لها حسابا .لم أكن أصدق لقائي بزيان حتى كنت في اليوم التالي أتعرف
على ناصر.
أكان في المر وما سيليه من مصادفات أخرى ..مصادفة حقا؟
" المصادفة هي المضاء الذي يوقع به ال مشيئته" .ومشيئته هي ما نسميه قدرا.
وكان في تقاطع أقدارنا في تلك النقطة من العالم أمر مذهل في تزامنه .لن أعرف يوما إن
كان هبة من الحياة أو مقلبا من مقالبها.
كل ما أدريه أنني مذ غادرت الجزائر ما عدت ذلك الصحافي ول المصور الذي كنته .أصبحت
بطلً في رواية ,أو في فيلم سينمائي يعيش على أهبة مباغتة؟ جاهزا لمر ما ..لفرح طارئ
أو لفاجعة مرتقبة.
نحن من بعثرتهم قسنطينة ,ها نحن نتواعد في عواصم الحزن وضواحي الخوف الباريسي.
حتى من قبل أن نلتقي حزنت من أجل ناصر ,من أجل اسم أكبر من أن يقيم ضيفا في
ضواحي التاريخ ,لن أباه لم يورثه شيئا عدا اسمه ,ولن البعض صنع من الوطن ملكا
عقاريا لولده ,وأدار البلد كما يدير مزرعة عائلية تربي في خرائبها القتلة ,بينما يتشرد
شرفاء الوطن في المنافي.
ل كان لقائي به ,وضمة منه احتضنت فيها التاريخ
جميل ناصر .كما تصورته كان .وجمي ً
والحب معا ,فقد كان نصفه سي الطاهر ونصفه حياة.
بدا مراد أسعدنا .كان يحب لم شمل الصدقاء .وكان دائم البحث عن مناسبة يحتفي فيها
بالحياة.
كانت شقته على بساطتها مؤثثة بدفء من استعاض بالثاث الجميل عن خسارة ما ,ومن
استعان بالموسيقى القسنطينية ليغطي على نواح داخلي ل يتوقف.
سألته متعجبا:
-متى استطعت أن تفعل كل هذا؟
رد مازحا:
-أثناء انشغالك بالمعارض التشكيلية!
فهمت ما يقصد.
-والغاني القسنطينية ,من أين أحضرتها؟
-اشتريتها من هنا .تجد في السواق كل الغاني من الشيخ ريمون وسيمون تمار حتى
الفرقاني .يهود قسنطينة ينتجون في فرنسا معظم هذه الشرطة.
رحت أسأل ناصر عن أخباره وعن سفره من ألمانيا إلى باريس إن كان وجد فيه مشقة.
رد مازحا:
-كانت السئلة أطول من المسافة! ثم أضاف :أقصد الهانات المهذبة التي تقدم إليك من
المطارات على شكل أسئلة.
قال مراد مازحا:
-واش تدير يا خويا " ..وجه الخروف معروف!"
رد ناصر:
-معروف بماذا؟بأنه الذئب؟
أجاب مراد:
-إن لم تكن الذئب ,فالذئاب كثيرة هذه اليام .ول أدري سببا لغضبك .هنا على القل ل
خوف عليك ما دمت بريئا .ول تشكل خطرا على الخرين .أما عندنا فحتى البريء ل يضمن
سلمته!
رد ناصر متذمرا:
-نحن نفاضل بين موت وآخر ,وذا وآخر ,ل غير .في الجزائر يبحثون عنك لتصفيتك
جسديا .عذابك يدوم زمن اختراق رصاصة .في أوربا بذريعة إنقاذك من القتلة يقتلونك عريا
كل لحظة ,ويطيل من عذابك أن العري ل يقتل بل يجردك من حميميتك ويغتالك مهانة .تشعر
أنك تمشي بين الناس وتقيم بينهم لكنك لن تكون منهم ,أنت عار ومكشوف بين الناس بسبب
اسمك ,وسحنتك ودينك .ل خصوصية لك برغم أنك في بلد حر .أنت تحب وتعمل وتسافر
وتنفق بشهادة الكاميرات وأجهزة التنصت وملفات الستخبارات.
قال مراد:
-وهذا يحدث لك أيضا في بلدك.
وكما لينهي الجدل وقف ليسألنا:
-واش تحبوا تاكلوا يا جماعة؟
سعدت بالسؤال .ل لجوعي ,وإنما رغبة في تغيير نقاش ل يصلح بداية لجلسة.
ضحكت في أعماقي لما ينتظر ناصر المسكين من مجادلت ومشاكسات يومية مع مراد الذي
أقصى تضحية قد يقوم بها إكراما لضيفه :امتناعه عن تناول الكحول في حضرته .وقبل أن
نجيبه قصد مراد المطبخ وعاد بصحن من الصومون وآخر من الجبان والمخللت .قال وهو
يضعها على الطاولة:
-هزوا قلبكم ..قبل العشاء.
اقترحت أن نطلب بيتزا إلى البيت حتى ل نتحول إلى فئران بيضاء في مختبر مراد للطبخ.
قال ناصر ممنيا نفسه بوليمة:
-عندما تأتي امّا ستعد لنا أطباق قسنطينية تغير مذاق الهمبرغر الماني في فمي ..كم
اشتقت لكلنا..
رد عليه مراد مازحا:
-دعك يا رجل من الطبخ الجزائري وإل أصبحت حقا إرهابيا.
مواصلً بمزاح:
-أتدري أنه قد صدر كتاب مؤخرا في أمريكا يثبت علقة بعض أنواع الكل بالنزعات
الجرامية ..لو اطلع عليه مسؤولونا لوجدوا أنه من واجب الحكومة أن تتدخل بعد الن في
ما يأكله الجزائريون بذريعة أن الرهاب عندنا يتغذى أولً من المطبخ الجزائري.
ونظرا لنبرته الجادة سألته:
-أحقا ما تقول؟
أجاب:
-طبعا ..أرأيتم شعبا مهووسا بأكل الرؤوس " المشوشطة" مثل الشعب الجزائري؟ حتى في
فرنسا ما تكاد تسأل جزائريا ماذا تريد أن تأكل حتى يطالبك " ببزلوف" .ترى الجميع وقوفا
لدى جزار اللحم الحلل ليفوز برأس مشوي لخروف ..أو رأسين يعود بهما إلى البيت ,وإن
لم يجده أصبح طبقه المفضل لوبيا " بالكراوع" .وال لو أن غاندي نفسه اتبع لشهر واحد
ريجيم المطبخ الجزائري المعاصر وتغذى " بوزلوف" وتعشى " كراوع" لباع عصاه ومعزاه
واشترى كلشينكوف!
ضحكنا كثيرا لكلم مراد .قاتله ال .يا لجمال روحه المرحة .إنه نموذج لشعب أنقذته
سخريته من الموت.
قلت مواصلً جدله المازح:
-ربما بسبب استهلكنا الزائد للكراوع ل نفكر سوى بالهروب ومغادرة الجزائر نحو أية
وجهة.
قاطعني مستشهدا بمثل قسنطيني:
-وبسبب إقبالنا على "بوزلوف" أصبحنا " مثل الراس المشوشط ..ما فينا فير اللسان"!
حين جاء ( ساعي البيتزا) يوصل ما طلبناه بالهاتف ,بذريعة علقة الكل الجزائري
بالنزعات الجرامية .خاصة أن البيتزا ولدت في بلد المافيا ,وهي بحكم جيناتها اليطالية
ليست بريئة إلى هذا الحد!
ذلك الفرح الجميل النادر الذي جمعنا ,لم ينسني الموضوع الذي كان وحده يعنيني,
فاستدرجت ناصر إلى مزيد من الخبار قائلً:
-آن للحاجة أن تحضر ,صعب على الذي تربى على ولئم المومة أن يرضى بشريحة
بيتزا .وإن كان يعز على نفسي ما ستتحمله المسكينة في هذا العمر من عذاب السفر.
ثم واصلت سائل:
-هل ستقيم هنا معك ؟
-ل ..ستسكن مع أختي في الفندق .لكنها ستزورني هنا حتما ..ل أدري بعد كيف ستتم
المور.
قال الشيء الوحيد الذي كنت أريد معرفته .والباقي كان مجرد تفاصيل.
هي ستأتي إذن! وكيف لهذه المصادفات العنيفة في سخائها ,أن تكتمل بدون مجيئها وبدون
شيء على ذلك القدر من صاعقة المفاجأة.
دخلت في حالة شرود .رحت بعيدا أفكر في مصادفة قد تجمعني بها أو ذريعة تعطيها علما
بوجودي هنا.
كيف لي أن أعرف في أي فندق ستقيم؟ وإذا كان زوجها سيرافقها أم ل؟
كنت ل أزال أبحث عن طريقة أستدرج بها ناصر للحديث عن زوجها عساه يبوح ببعض
أخبارها ,عندما لم يقاوم مراد شهوة شتمه وقال موجها الحديث إلى ناصر:
-واش جاي معاها هذاك الرخيص؟
سألته بتغابٍ:
-عمن تتحدث؟
قال:
-زوج أخته ..إن النجوم ل ترفع وضيعا!
أجاب ناصر:
-ل أظنه سيأتي ..يخاف إذا زار فرنسا أن يطالب أقارب بعض الضحايا السلطات الفرنسية
بمنعه من العودة إلى الجزائر ,ومحاكمته كمجرم حرب نظرا لجلسات التعذيب التي أشرف
عليها ,وبعض الغتيالت التي تمت بأمر منه .وحدهم أولده يسافرون لمتابعة أعماله في
الخارج.
أشعل مراد سيجارة عصبية وقال بتذمر:
-الحرب استثمار جيد ,كيف ل يثرون لو لم يكن لهم مدخول من الجثث ومصلحة في إبقاء
الخرين مشغولين عنهم بمواراة موتاهم .فعندما ل تدور آلة الموت بأمرهم كانت تدور
لصالحهم .فمن بربك الكثر إرهابا والكثر تدميرا لهذا الوطن ..هم أم القتلة!
خفت أن يتعكر جو سهرتنا بخلفات في وجهات نظر ل أظنها جديدة على الرجلين ,ولكن ما
كان الوقت مناسبا لها.
استفدت من فتح الموضوع لطرح على ناصر السؤال الذي كان يعنيني ويشغلني دائما..
قلت:
-اعذرني ..ولكن ل أفهم كيف استطاعت أختك العيش مع هذا الرجل وكيف لم تطلب
الطلق منه حتى الن؟
رد ناصر بعد شيء من الصمت:
-لن مثله ل يطلق بل يقتل.
عبرتني قشعريرة .راح ذهني للحظات يستعرض كل سيناريوهات الموت المبيت .يا إلهي..
أيمكن لشيء كهذا أن يحدث؟
أوصلتني أفكاري السوداوية إلى تذكر ضرورة عودتي إلى باريس .نظرت إلى الساعة,
فوجئت بأنها الثانية عشرة إل ربعا .وقفت مستعجلً الذهاب .كنت أخاف قاطرات الضواحي
ل من مفاجآت .لكن مراد نصحني بالبقاء لقضاء الليلة عنده .وأغراني
وما تحمله لك لي ً
بسهرة قد ل تتكرر.
ترددت في قبول عرضه .فكرت في فرانسواز التي لم أخبرها بعدم عودتي إلى البيت .ثم
فكرت في أنني لم أحضر لوازمي معي ...وأنه قد ل يكون من مكان لنومنا جميعا.
لكن مراد حسم ترددي قائلً:
-كل شيء كاين يا سيدي غير ما تخممش!
وجدت في قضائي ليلة مع ناصر ,حدثا قد ل يتكرر فأنا لم أنس لحظة أنه أخ المرأة التي
أحب.
استأذنت مراد في إجراء مكالمة هاتفية ,بدون أن أخبره أنني سأطلب فرانسواز .لكنه بعد
ذلك ,باغتني بخبث السؤال.
-واش ..قلتلها ماكش جاي؟
سألت بتغاب:
-شكون؟
رد:
" -اللبة" متاعك!
ل أدري كيف وجد في فرانسواز شيئا من اللبؤة ..ربما بسبب شعرها الحمر أو ربما بسبب
ما رآه فيها من شراسة مثيرة.
قلت مغيرا الموضوع بطريقة مازحة:
-أنا هارب يا خويا من أدغال الوطن ..يرحم باباك إبعد عني " اللبات" والسود!
-واش بيك وليت خواف ..رانا هنا ..نوريولهم الزنباع وين ينباع.
ل أدري لمن كان يريد أن يري "أين يباع الزنباع" :للرهابيين ..للعسكر ..أم لفرانسواز..
أجبته مازحا لحسم الجدل:
-وري زنباعك للي تحب ..أنا يا خويا راجل خواف!
انضم إلينا ناصر مرتديا عباءة البيت ,بعد أن انتهى من أداء صلة العشاء .بدا كأنه أكبر من
عمره .أحببت فيه طهارة تشع منه ل علقة لها بعباءته البيضاء.
مازال نقيا ,لم تستطع الغربة أن تجعله يتعفن ويتلوث .ول أصابته تشوهات المغتربين .كان
معذبا بذنب وجوده خارج الجزائر .يبدو مبعثرا على أرض الحرية .لكنه لم يفقد رصانته ول
كان له كلم ناري .كان يدافع عن قناعاته بصوت منخفض .وأحيانا بصمته .سأل:
-عم تتحدثان؟
قلت:
-كنت أقول له إنني خواف .هل عيب في أن يخاف المرء؟
صمت ولم يرد .شعرت أنني خيبت ظنه .قلت كما لبرز له خوفي:
-صدقني لفرط ما عشت مع عدو ل يرى ,ما عاد الخوف يغادرني .خاصة في الليل .كلما
غادرت بيتي لرمي بكيس الزبالة ,توقعت أن أحدا يتربص بي وأنا أنزل الطوابق المعتمة
للبناية ..أو أن أحدا ينتظرني في ركن من الشارع لينقض علي .ذلك أنني كل مرة أتذكر
سينمائيا كان يدعى علي التنكي ,لم أكن أعرفه ,لكنه أغتيل في الحي الذي أسكنه بينما كان
ذاهبا ليلً ليلقي بكيس الزبالة .تصور أن ترتبط ذكرى شخص في ذهنك بالقمامة ,بأعمار
موضوعة في أكياس الزبالة على الساعة العاشرة ,كما ليجمعها زبال القدر ,كان قد انتهى
لتوه من تصوير فيلم عنوانه " الفراشة لن تطير بعد الن".
قاطعني مراد:
-يرحم باباك ..خلينا من هاذ الحكايات ..على بالك وشحال في الساعة؟
نظرنا جميعنا إلى الساعة.
واصل:
-راهي الوحدة ..حبس يا راجل من " لي زافيرات متاع السريكات ولي زافيرات متاع
الكتيلتت" هاذي اللي كالوا فيها " جبت كط يوانسني ولى يبرك في عينيه!" قلنالك اقعد يا
راجل توانسنا ..وليت تخوف فينا!
انفجرنا ضاحكين أنا وناصر كما لم نضحك من زمان.
لفظ مراد كلمه على طريقو ( المفتش الطاهر) وهو شخصية كوميدية شعبية توفي في
السبعينات ,اشتهر على طريقة كولمبو بمعطفه المضاد للمطر وبدور رجل التحري المختص
في قضايا " السريكات " و " الكتيلت" أي السرقات ..والجرائم .وصنعت شهرته لهجته
المميزة في تحويل القاف "كافا" على طريقة أهل مدينة جيجل .لفظا القلب "كلبا" وقال لي "
كالليً.
وكان مراد يستشهد بمثل شعبي معناه " جئت بالقط ليؤنسني فأخافني بعينيه اللتين تبرقان
في العتمة" بعد أن استبقاني لؤنسه فرحت حسب قوله أخيفه بأخبار القتلى الذين اغتيلوا
ل وهم يلقون كيس الزبالة!
لي ً
وكأنما أصابه ذعر العجائز من عواقب الفرح ,قال ناصر وهو يستعيد جديته:
-ال يجعلها خير ..عندي بالزاف ما ضحكتش هكذا!
رد مراد متهكما:
-ياوال مهابل ..واحد خايف يموت وواحد خايف يضحك..
إضحك يا راجل آخرتها موت!
كان هذا شعارنا أيام " مازفران" .يوم كان يحاضر لقناعنا بالفرح كفعل مقاومة .فبالنسبة
إليه مشكلتنا في الجزائر أن الناس ل وقت لديهم للحياة .وهم مستغرقون في الستشهاد.
حتى أنهم في انشغالهم بالبحث عن ذريعة لموت جميل ,نسوا لماذا هم يموتون .بينما أثناء
انشغالنا نحن بالبقاء أحياء نسينا أن نحيا .فل هؤلء هنئوا بموتهم ول نحن نعمنا بحياتنا.
حتما كان على حق .كانت تنقصنا البهجة حتى صار ضروريا حسب قوله أن يؤسس المرء
خلية سرية لتعاطي الفرح سرا في بيته بصفته نشاطا محظورا لسنوات في الجزائر .أذكر
ذلك الستاذ الذي روى لي كيف كان مرة جالسا في مقهى على رصيف الجامعة مع صديقين
يتجازبون أطراف الحديث ويضحكون ,عندما توقف أمامهم رجلن في زي أفغاني وسألهم
بنبرة عدائية " :ماذا يضحككم؟" .ولم يشفع لهم إل أن تعرف أحدهما على أحد الجالسين .ولم
يذهبا حتى أخذا منهم عهدا بأنهم " ما يزيدوش يعاودوا يضحكوا"!
عندما رويت تلك الحادثة الغريبة لمراد ,وجد فيها ما يؤكد نظريته بأن الطغاة يجدون دائما
في فرح الرعية خرقا لقوانين القهر وتعديا على مؤسسة العسف .ولذا إن أكبر معارضة لي
ديكتاتور في العالم هي أن تقرر أن تبتهج .فأي دكتاتور يعز عليه أن يفرح الناس إن لم
يرتبط فرحهم بعيد ميلده أو ذكرى وصوله إلى الحكم.
كان مراد أثناء ذلك قد توجه إلى آلة التسجيل ووضع شريطا لغنية قسنطينية .وقبل أن
نستجمع أفكارنا عل صوت تلك الغنية الراقصة التي كأنني ما نسيتها يوما ,مع أنني لم
أستمع إليها منذ زمن بعيد .أغنية من تلك الغاني التي تكاد تكون لها رائحة ,ويكاد يكون
لها جسد .جسد نساء شاهدتهن في طفولتك بشعرهن المنفلت يرقصن منخطفات حتى
الغماء في أثوابهن الجميلة المطرزة بخيوط الذهب.
وقف مراد ,والسيجارة في طرف فمه ,يرقص كأنه يراقص نفسه على موسيقى الزندالي.
رقصة ل تخلو من رصانة الرجولة وإغرائها ,يتحرك نصفه العلى بكتفين يهتزان كأنهما
مع كل حركة يضبطان إيقاع التحدي الذي يسكنه ,بينما يتماوج وسطه يمنة ويسرة ببطء
يفضح مزاج شهواته واليقاع السري لجسده.
بدا لي فجأة أجمل مما هو .أجمل مما كان يوما .وفهمت لماذا تشتهيه النساء.
ل أدري كيف أعادني رقصه إلى زوجها الذي شاهدته مرة على التلفزيون أثناء نقل حفل
مباشر.
كان بهيئة من يدعي الوقار يرتدي مهابته العسكرية ,جالسا في الصفوف المامية مع أولئك
الذين هم أهم من أن يطربوا ,مكتفين عندما تلتهب القاعة بصوت الفرقاني مرددا " أليف يا
سلطاني والهجران كواني" بجهد متواضع والتكرم على المغني بتصفيق رصين خشية أن
تتناثر من على أكتافهم نجومهم المثبتة بغراء هيبتهم الزائفة!
ل ل يتنتفض منتصبا في حضرة الطرب ,هو حتما فاقد للقدرة على
أشفقت عليه .إن رج ً
الرتعاش في حضرة النشوة!
شكرت يومها حضوره البارد في سريرها.
كان مراد أثناء ذلك يزداد وسامة كلما ازداد وقع الدفوف .كأنما كانت الموسيقى تدق احتفاء
برجولته .وكأن جسده في انتشائه يبتهل لشيء وحده يعرفه.
باسم ال نبدى كلمي...............قسمطينة هي غرامي
نتفكرك في منامـي...............إنتـي والوالديـــن
كانت الصوات والدفوف ترد على المغني مع نهاية كل بيت ( ال) وتمضي الغنية في ذكر
أحياء قسنطينة وأسواقها اسما اسما:
على السويقة نبكي وانّوح .................رحبة الصوف قلبي مجروح
باب الـواد والقـنـطرة ..................رحـتِ يا الزيـن خسـارة
ل ما سيكون قدرك معها .تهديك شجىً
لكأنها تحيك لك مؤامرة ,هذه الغنية التي مازلت جاه ً
يفضي بك إلى شجن ,طربا يفضي بك إلى حزن .تضعك أمام النطفاء الفجائي لمباهج صباك,
لنها تذكرك بوزر خساراتك.
أأراد مراد حقا إبهاجنا بأغنية ,برغم إيقاعها الفرح ,هي في وضعنا ذاك دعوة معلنة للبكاء؟
أو ربما نحن من فقدنا عادة الفرح ,ولم نعد نصلح للنخراط في حزب البهجة الذي يدعونا
إليه عنوة!
عبثا حاول مراد استدراجنا لمراقصته احتفا ًء بمباهجنا المؤجلة .انتهت سهرتنا كما بدأت,
بأحاسيس متناقضة تخفي خسارات لم ندر كيف نتدبر أمرها.
احترمت حزن ناصر المترفع عن الفشاء .وعندما كان علي بعد ذلك أن أتقاسم معه غرفة
أصبحت للنوم ,تركت له الريكة التي تحولت إلى سرير لشخصين ونمت على فراش أرضي.
كان له مقام التاريخ وسطوته .وكنت رجل الشهوات الرضية والحزن المنخفض الذي نام
دوما عند أقدام قسنطينة.
***
صباح الضواحي الباردة ,وأنت عابر سرير حيث نمت ,وقلبك الذي استيقظ مقلوبا رأسا على
عقب ,كمزاج الكراسي المقلوبة فجرا على طاولت المقاهي الباريسية ,ينتظر من يمسح
أرضه من خطى الذين مشوا بوحل أحذيتهم على أحلمك.
من يكنس رصيف حزنك من أوراق خريف العشاق؟
أكان لمزاجي علقة بليلة قضيتها على فراشٍ أرضي أتقلب بحثا عن جانب يغفو عليه أرقي؟
أنا الذي كنت أختبر أغرب المصادفات ,أن أتقاسم غرفة نوم مع أخ امرأة حلمت أن أقضي
معها ليلة!
أيمكن أن تأخذ قسطا من النسيان عندما تنام أرضا على فراش الحرمان ,تماما عند أقدام
ذاكرتك؟
أين أنجو من امرأة تطاردني حيث كنت؟ وماذا أتسلق للهروب منها ول جدران لسجنها؟
قبل النوم ,واصلت الثرثرة قليلً مع ناصر ,كما تتحدث النساء عندنا مع بعضهن البعض بين
طابقين.
في عتمة ما قبل النعاس ,وبعد أن توقعته غفا ,استدار ناصر صوب جهتي وسألني فجأة:
-كيف تركت قسنطينة؟
شعرت أنه أجّل السؤال الهم .خشية أن ينفضح به ,أو كأنه أراد أن يغفو على ذكراها كما
يغفو غيره على ذكرى حبيبة!
أردت أن أدثره بشيء جميل .لكن وجدتني أقول:
-هي بخير .لقد خلعت أخيرا حداد صالح باي .ل ملءة في قسنطينة .كلما ماتت عجوز
كفنت بمليتها وولد حجاب جديد مع صبية.
لم يقل شيئا .ول أنا أضفت لحزننا مزيدا من الكلم .أظنه غفا وهو يضم إلى صدره ملءة
أمه المضمخة برائحتها.
كنت أفكر وقتها في امرأة هي الوريثة الوحيدة لذلك الحداد الجميل ,وأنزلق تحت فراش
غيابها.
سريري لم يخل منها ,تلك التي بعد كل زيارة يتجدد عبقها ,أخفي ثوبها كما نخفي ,ليلة
العيد ,ثيابنا تحت الوسادة .أزور رائحتها ..ويعودني في الوحدة قميص نومها.
عامان من الوفاء ,لقميص نوم سرق كل عبق النوثة المعتقة في قارورة الجسد.
كنت أواظب على اشتهائها كل ليلة .وأستيقظ ,كل صباح ,وعلى سريري آثار أحلم مخضبة
بها.
أستأتي إذن تلك التي تجيء بها مصادفة وتذهب بها أخرى؟
وأنا الذي لم يحدث أن التفت إلى الخلف ,ول عدت إلى سلة المهملت بحثا عن شيء سبق
أن ألقيته فيها.
عشت أجمع بعضها في الخرين ,أرمم ما تهشم مني بانكسارها.
وهأنذا أعثر على آخر حيلة لستدراجها إلى فخ المصادفة ,بعد أن زودت ناصر ببطاقة عن
معرض زيان ,واثقا تماما أنه سيحدثها عنه ,خاصة بعدما أخبرته بمرضه وبيعه في هذا
المعرض آخر لوحاته.
قال ناصر متأثرا بالخبر:
-كم يحزنني مرضه ..مم يعاني؟
-من السرطان ..لكنه ل يدري.
قال متهكما:
-مثله ل يدري؟! أنت حتمُا ل تعرفه جيدا .لقد علم بأكثر مما كان يجب عليه أن يعرف.
-منذ متى تعرفه؟
-منذ زمن بعيد ..كأنني عرفته دوما .عرفته في صغري الول عندما كان يزورنا في تونس
بعد وفاة أبي ,ثم أضعته بعض الوقت ,وعدت فإلتقيت به في قسنطينة بمناسبة زفاف أختي
حياة .ل أفهم حتى اليوم كيف قبل أن يحضر ذلك الزفاف ..كانت المرة الوحيدة التي اختلفنا
فيها ..لكن كان له دوما في قلبي شي ًء من ذكرى هيبة أبي.
عندما استيقظنا ,ذهب ناصر ليأخذ حمامه الصباحي ويحلق ذقنه .سألته مازحا ونحن نتناول
قهوة الصباح:
-هل حلقت لحيتك خوفا من المضايقات؟
رد وهو يحرك قهوته بتأن:
-ماكانت لي يوما لحية لحلقها .أنا أحب قول المام علي رضي ال عنه " أفضل الزهد
إخفاءه" .بعض اللحى عدة تنكرية ,كتلك اللحية التي حكمتنا في السبعينات .أنت حتما تعرف
صاحبها ,فقصته معروفة لدى رجال جيله الذين يروون أنه يوم كان شابا تلقى ضربة
بالموسى في وجهه في أحد مواخير قسنطينة ,فأخفاها منذ ذلك الحين بلحية غطت عاره
بهيبة.
سألني بعد ذلك عن عنوان المستشفى الذي يتعالج فيه زيان ,وقال متأسفا إنه كان يتمنى أن
يذهب ليعوده اليوم ..لول أنه مشغول باستقبال والدته وأخته.
هكذا ,وقد نصبت فخاخ المصادفة في كل مكان ,كان علي بعد الن أن أنتظر مجيئها بصبر
صياد ,أو بصبر مصور ينتظر ساعات ليصطاد صورة .فالصورة كما المرأة ,ل تمنح نفسها
إل لعاشق جاهز أن يبذر في انتظارها ما شاءت من العمر.
عدت إلى البيت سعيدا ,فمراد من النوع الذي تسعد عندما تلتقي به ,وتسعد أيضا عندما
تفارقه وتعود إلى سكينتك.
غير أنني لم أعد إلى سكينتي خالي اليدين .استعرت منه شريطين :ذاك الذي رقص عليه,
وآخر كنت أنوي البكاء عليه .اعتاد الحزن عندي أن يرافق كل فرحة ,كما يصاحب فنجان
القهوة كوب الماء المجاني الذي يقدمه لك نادل عندما تطلب قهوة في فرنسا.
احتفت فرانسواز بعودتي .شعرت أنها افتقدتني.
سألتني عن مراد .قلت لها إنه هايص وحايص كعادته .ضحكت:
..Il est marrant ce type -
وأن يكون هذا الرجل "طريفا" أو "لطيفا" حسب قولها ,لم يكن ليثير شكوكي بعد .في الواقع,
كنت دائم التفكير في إحكام فخاخ المصادفة.
قلت حتى أهيئها لتواجدي المكثف بعد الن أكثر في قاعة المعرض:
-هل من إزعاج إن ترددت هذين اليومين على الرواق؟ إنني أحتاج أن أرى اللوحات ,وأن
ألتقي بزوار المعرض لكتب عن زيان بطريقة أكثر حيوية.
-فكرة جميلة ..طبعا ل إزعاج في ذلك .كارول تجدك لطيفا ,وسألتني عنك البارحة.
-حقا؟ بأية مناسبة؟
-أخبرتها أنني قد أسافر في نهاية السبوع إلى جنوب فرنسا لزور والدتي .سألتني إن
كنت ستسافر معي فأجبتها أنك على الرجح لن تأتي.
برغم أنني ما كنت رافقتها ,لو عرضت علي ذلك ,مفوتا علي فرصة لقائي بحياة ,آلمني أن
تزف لي الخبر بتلك الطريقة.
ثم عدت وعذرتها ,فأنا أقيم معها منذ بضعة أيام فقط ,وهذا ل يعطيني حق ملحقتها
وإحراجها أمام والدتها.
اتجهت فرانسواز نحو طاولة ركن في الصالون ,عليها صور مختلفة الحجام ,وعادت
بواحدة لسيدة ستينية ,قالت وهي تريني إياها:
-إنها ماما ..أعز مخلوق عندي .أتردد عليها كثيرا لمواساتها منذ فقدت أبي في السنة
الماضية.
-يؤسفني ذلك.
أخذت منها الصورة .تأملتها بمحبة ثم استطردت:
-هي أجمل من أن تطوقي ابتسامتها بهذا البرواز الفضي الضخم.
-أحبه ..قديم وثمين .اشتريته قبل سنتين من سوق البراغيث.
-ربما كان ثمينا لكنه ل يليق بها .الناس الذين نحبهم ل يحتاجون إلى تأطير صورهم في
براويز غالية .إهانة أن يشغلنا الطار عن النظر إليهم ويحول بيننا وبينهم .الطار ل يزيد
من قيمة صورة لنها ليست لوحة فنية وإنما ذكرى عاطفية ,لذا هو يشوش علقتنا
الوجدانية بهم ويعبث بذاكرتنا .الجميل أن تبقى صورهم كما كانت فينا عارية إل من شفافية
الزجاج.
صمتت فرانسواز مأخوذة بكلمي ,ثم قالت:
-ربما كنت على حق .هذا المنطق ل يدركه إل مصور.
صححت لها:
-أو محب!
ثم واصلت واجدا في اقتناعها مناسبة للتفاتة جميلة:
-أتسمحين أن أهديك بروازا لهذه الصورة .إن كانت العز عندك ,ميزيها بأل تضيفي إليها
شيئا.
طوقتني بذراعيها وقالت وهي تضع قبلة على خدي:
.Tu sais que je taime.. toi -
قلت مدعيا التعجب:
?C'est vrai ca -
كيف ترد علة امرأة تطوقك باعتراف في صيغة سؤال جميل " أتدري أنني أحبك؟" إل بسؤال
آخر " أحقا هذا؟" متفاديا أسئلة أخرى قد تفضي بك إلى السرير في وضح النهار مع امرأة
دائمة الشتعال.
قلت وأنا أداعبها:
-أجلي أسئلتك إلى المساء .سأجيب عنها واحدا ..واحدا .لكن بهدوء وبدون صراخ إذا
أمكن!
ضحكت وقالت:
-أيها اللعين ..سأحاول!
-سأزور زيان بعد الظهر .لم أطمئن عليه منذ يومين.
-حسن ..فقد صدر مقال جيد عن معرضه سيسعده حتما الطلع عليه .خذه إليه معك.
أخبره أيضا أن ثلثا من لوحاته بيعت البارحة .كانت نهاية أسبوع مثمرة بالنسبة للرواق.
ثم أضافت:
-لم أعد أدري أيجب أن أفرح أم أحزن عندما تباع له لوحة .من ناحية يذهب ريعها في
عمل خيري ..ومن ناحية أخرى أشعر كأنه يقوم بمجزرة تجاه أعماله بتصفيتها جميعها
خلل معرضين بينهما أقل من شهر ..أنا لم أسمع بمذبحة فنية غريبة كهذه.
أجبتها وأنا أتنهد:
-أتمنى أنه يعي ما يفعل!
***
كانت الساعة الثانية ظهرا عندما قصدته.
صادفت ممرضة غادرت غرفته .سألتها عن وضعه الصحي.
قالت:
-في تحسن.
ثم واصلت:
-إن كنت من أقاربه أقنعه بعدم مغادرة المستشفى هذا السبوع.
-لماذا ؟ هل طالب هو بذلك؟
-أجل ..يريد أن يزور معرضه ويجمع لوحاته عند انتهاء المعرض .لكن الطبيب يخشى أن
يتسبب هذا الجهد في انتكاس صحته ..هل هو رسام؟
-رسام كبير.
أريتها المجلة التي كنت أحملها في يدي عسى ذلك يمنحه حظوة خاصة لديهم.
قالت مكتفية برؤية صورته وعنوان المقال:
-فعلً ..يبدو كذلك .يحتاج إذن لعناية أكثر ,فالفنانون مفرطو الحساسية.
عندما دخلت عليه ,أضاءت وجهه فرحة المفاجأة .نهض من سريره يسلم علي بحرارة.
وجلس قبالتي على الكرسي الجلدي.
بادرني:
-وَينك ..حسبتك نسيتني!
-طبعا ل ..انشغلت ببعض المور.
لم أشأ أن أخبره بوجود ناصر في باريس .وماكنت لخبره طبعا بوصول حياة ووالدتها
اليوم.
واصلت:
-أراك اليوم أفضل ..حتى الممرضة تجد صحتك في تحسن.
-ربما ..لكنني سأكون أحسن لو زرت المعرض .أحب أن أرى لوحاتي مرة أخيرة قبل أن
تباع ,وأن أجمع ما بقي منها.
مددته بالمجلة:
-بالمناسبة أرسلت لك فرانسواز معي مقالً صدر في مجلة " سثزء" عن معرضك .اطلعت
عليه في المترو ..مقال جيد.
-سأقرؤه لحقا.
قلت وأنا أبحث عن شيء آخر قد يسعده:
-أحضرت لك أيضا الصورة التي منحوني جائزة عليها ,وطلبت مني أن أحضرها لك.
دبت فيه حماسة مفاجئة .أخذها مني ,وراح يتأملها بعض الوقت:
-مؤثرة حقا .الموت فيها يجاور الحياة ,أو كأنه يمتد إلى ما يبدو حياة برغم أنه ل يمثل
فيها سوى جثة كلب.
قاطعته ,مستأذنا منه فتح المسجل حتى ل أفوت شيئا من حواراتنا.
أجاب بشيء من التعجب:
-افعل إن شئت ] .ثم واصل[ أفهم أن يكونوا منحوك جائزة على هذه الصورة .في الحرب
يصبح موت حيوان موجعا في فجيعة موت إنسان ,ككلب تجده ميتا مضروبا على رأسه
بالحجر بعد أن قتله الرهابيون ليتمكنوا من دخول بيتك .جثته مشروع جثتك.
ثمة صورة تحضرني الن ,هي منظر جثث الحيوانات التي كنا أيام حرب التحرير أثناء
اجتيازنا الحدود الجزائرية التونسية نصادف جثثها تكهربت وعلقت في السلك ,أثناء
محاولتها اجتياز خط موريس ,أو تبعثرت أشلؤها وهي تمر فوق لغم .دوما كنت أرى فيها
إحدى احتمالت موتي أو عطبي .ولم يخطئ إحساسي إذ انفجر لغم وذهب يوما بذراعي.كل
جثث الكائنات التي كانت حية ,تتشابه .ولذا الذين يسرعون بدفن كلب أو قط ما كانوا
يسرعون لطعامه يوم كان حيا .يفعلون ذلك لنهم يروا في جثته رفاتهم.
-يسعدني رأيك .عذبتني التأويلت الكثيرة لهذه الصورة .خاصة من الصحافة الجزائرية
التي رأت بعضها أن فرنسا كرمت في هذه الصورة كلب الجزائر ..ل موتاها.
أجابني مبتسما:
-وهذا أيضا تأويل فيه صواب .مع أن البعض ل يأخذ من التأويلت إل ما يضرك .لمتعة
إفساد فرحتك بالنجاح .ولكنهم هنا يستندون إلى حقيقة أن النسان الغربي أكثر شفقة على
الحيوان منه على النسان ,مما جعل المتسولين والمشردين يخرجون إلى التسول بصحبة
كلب وأحيانا كلبين .تراهم جالسين على الرصفة مع كلبهم الضخمة النائمة أرضا بعدما
أدركوا أن الكلب شفيعهم لدى المارة .سمعت أحدهم يقول مرة على التلفزيون إن الناس
يتصدقون على كلبه وليس عليه ,وإن إحسانهم ليس رأفة به وإنما بكلبه ,فقبله كان يموت
جوعا .في بلد يحسن فيها النسان للحيوان ل لصاحبه ,من المنطقي أن يكرم جثة كلب ..ل
صورة طفل بائس جواره!
أصابتني حججه بحزن إضافي .لكنها أضافت إلى إعجابي به انبهارا بمنطقه السليم في
التحليل وهو يقول بعد شيء من الصمت كأنه وقع على اكتشاف جديد:
-ثمة مع السف احتمال آخر لختيارهم هذه الصورة ,إنها شهادة عن وفاة الثورة
الجزائرية ,متمثلة في وحدة مصير النسان والكلب في الجزائر بعد سبع سنوات من
النضال ,وأربعين سنة من الستقلل .فيها إراحة للضمير الفرنسي وتشف مستتر.
قلت بنبرة أسىً قاطعا صمت حزن فاجأنا:
-ما عاد يعنيني أن أعرف شيئا عن هذه الصورة .بل كيف أتخلص من مال هذه الجائزة
بعمل يعود ريعه لضحايا الرهاب.
ثم أضفت وقد تذكرت شيئا:
-بالمناسبة :ثلث من لوحاتك بيعت البارحة.
قال بسعادة:
-جميل ..ل أدري أيا منها بيعت ..ل يهم .أظنها ستباع جميعها.
قلت بعد شيء من الصمت:
-ل أفهم أن يتخلى رسام عن كل لوحاته دفعة واحدة .في هذا الفقدان الكامل والفوري
إشعار بالفاجعة وإصرار على الخسارة.
-أتعتقد هذا؟
صمت حتى ظننت أنه لن يضيف شيئا .لكنه واصل بدون توقف ,وبحزن هاتف يرن طويلً
ول يرفعه أحد:
-الفاجعة ..أن تتخلى الشياء عنك ,لنك لم تمتلك شجاعة التخلي عنها .عليك أل تتفادى
خساراتك .فأنت ل تغتني بأشياء ما لم تفقد أخرى .إنه فن تقدير الخسائر التي ل بد منها.
ولذا ,أنا كصديقي الذي كان يردد " ل متاع لي سوى خساراتي .أما أرباحي فسقط
متاع",أؤثر الخسارات الكبيرة على المكاسب الصغيرة .أحب المجد الضائع مرة واحدة.
لو تدري كم من المور الغريبة كنت شاهدا عليها .لو تدري لبلغت عمق رحم الحكمة.
صمت قليلً ,ثم واصل:
ل في القاعة ,حيث كان يعرض الرسام المغربي
-في 16نوفمبر الماضي ,شب حريق لي ً
المهدي القطبي أعماله في مدينة ( ليل) .أنا ل أعرف هذا الرجل .لكنه أصبح صديق فجائعي
عندما قرأت في الصحف أن معرضه ذاك كان يضم خلصة خمس وعشرين سنة من أعماله
الفنية.
ثلثون سنة قضاها في باريس مثابرا على إنجاز لوحات أخذت منه أجمل أعوام عمره ,حرم
فيها نفسه من كل شيء لينجز معرضا بدل أن يحضره الزوار زارته النيران.
في هذه الحالة ,قد تقول ,ليت اللصوص هم الذين حضروا بدل النار .ربما في المر عزاؤك.
هكذا عودتنا الخبار التي تنقل لنا بين الحين والخر سرقات لشهر اللوحات .غير أن
السرقات كما الحريق ,قسمة ونصيب ,ل يحددها قدر اللوحات بل قدر أصحابها وشأنهم ,ولذا
أنت لن تسمع يوما بنار التهمت لوحات بيكاسو أو فان غوغ ..كما لن تسمع بسارق غامر
بسرقة لوحاتي!
قلت كمن يتمتم:
-غريب هذا المر!
قال متهكما:
ثمة أقدار أكثر غرابة تذهب فبها اللوحات بنفسها إلى أعدائها وسارقيها .اسمع هذه القصة
العجيبة :لي صديق عراقي يقيم في أوربا منذ عشرين سنة .رجل مهووس بالبصرة كهوسي
بقسنطينة .ل يرسم إل مدينته ,ل يتحدث إل عنها .وكان لشهرته ,يعرض الكثيرون عليه
شراء لوحاته تلك .وعلى حاجته كان يرفض ويقول " :إنني أحتفظ بها لذلك اليوم الذي
يتحرر فيه العراق من طغاته ,فأهدي يومها لوحاتي إلى متحف البصرة ,مكانها الحقيقي".
ذات يوم زارته سيدة كويتية ثرية مشهورة بولعها باقتناء العمال الفنية وحبها لمساعدة
المبدعين العرب في المنافي .وعبثا حاولت إغراءه بشراء لوحاته ,غير أنه أمام خوفه أن
تتشرد لوحاته بعده ,وثقة منه في تقدير تلك السيدة للفن ,قبل عرضها في أن تحتفظ بها
وتبقى في حوزتها حتى "تتحرر البصرة" فتسلمها بنفسها إلى متحف المدينة.
غير أن الذي حدث ل يمكن حتى لسينمائي أن يتصوره .بعد سنة من حيازتها اللوحات,
قامت جيوش صدام بغزو الكويت ,وأثناء احتللهم قصرها وقعوا على لوحات الرسام,
فأخذوها غنيمة حرب إلى العراق حيث اختفت أخبارها مع المختفين والمخطوفين .وربما
تكون أعدمت نيابة عن صاحبها المحكوم عليه بالعدام منذ عشرين سنة! أو ربما تكون
زينت قصور الطغاة أنفسهم ,أو قد تكون بيعت بسعر رخيص في سوق الخردة .فهكذا كان
يفعل النازيون الذين كانوا عندما يريدون إذلل رسام كبير يصادرون لوحاته ويبيعونها
بأسعار زهيدة ل تتجاوز أحيانا الثلثين ماركا!
كما ترى ..ثمة حكمة ل تبلغها إل في عز وحدتك وغربتك ,عندما تبلغ عمرا طاعنا في
الخسارة .تلزمك خسارات كبيرة لتدرك قيمة ما بقي في حوزتك ,لتهون عليك الفجائع
الصغيرة .عندها تدرك أن السعادة إتقان فن الختزال ,أن تقوم بفرز ما بإمكانك أن تتخلص
منه ,وما يلزمك لما بقي من سفر .وقتها تكتشف أن معظم الشياء التي تحيط بها نفسك
ليست ضرورية ,بل هي حمل يثقلك .ولنني وصلت إلى هذه القناعة قررت أن أبيع جميع
لوحاتي .حتى اللوحة الحب إلى قلبي عرضتها للبيع ,وضعت عليها إشارة توهم أنها
ل لها .إنها الوحيدة التي
محجوزة ,في الواقع ,أنا حجزتها خشية أن يشتريها من ليس أه ً
يعنيني أ ،أعرف لمن ستكون .هل ستعلق على جدار قلب ,أم على حائط بيت.
في النهاية ,عندما تبدأ في الختزال تكتشف أن عمرك كله قد يختصر في إنجاز واحد .أما
الكثر ألما ,فأن تترك إنجاز عمرك لقريب ل يقدر قيمته .يرثه منك بحكم صلة الدم ل صلة
الفن.
هل يجوز أن أترك أعمالي لبن أخي الرهابي ,الذي قد يكون فنانون وكتاب قد قتلوا على
يده؟ إن من يقتل بشرا ل يؤتمن على شيء.
ثم فجأة صمت ,ذلك الصمت الذي يحدث فيك أثرا أكثر من الكلمات.
ذهب بي التفكير وقتها بعيدا .جمعت شجاعتي وقلت له:
-أريد أن أشتري منك هذه اللوحة ..هل تبيعني إياها؟
فوجئ بسؤالي .أجاب بذكاء من عثر على مخرج:
-ولكنك ل تدري عن أية لوحة أتكلم .كيف أثق في حبك للوحة ل تعرفها!
أجبته:
-أنا أحب كل أعمالك ..وهذه اللوحة خاصة .وقفت أتأملها طويلً في المعرض ولم أفهم أن
تكون بعتها!
أصلح من جلسته ,ثم قال بنبرة متعجبة:
-تعرفها؟ كيف لك أن تعرفها؟ ثمة سبع عشرة لوحة من أعمالي عليها إشارة حمراء تقو
إنها بيعت!
أجبته بعناد جميل:
-أل يشفع لي عندك أنني عرفتها من بين 17لوحة؟!
رد مستسلما وقد حشرته في المربع الخير:
-إن دليتني عليها حقا ..فهي لك!
ثم أضاف بعد صمت ,كمن يريد أن يكون كبيرا في هزيمته:
-أقصد ..هي لك بدون مقابل!
-بل مقابل كل ما بقي لي من مال تلك الجائزة.
ثم واصلت في محاولة لقناعه بمكاسبه:
-صفقة جميلة .أملك مالً أريد أن أتخلص منه في عمل خيري ..وأنت تملك لوحة ل تدري
لمن تتركها .بهذا تصنع سعادتنا نحن الثلثة ,أنا ,وأنت ,والناس الذين سيذهب ريع هذه
اللوحة لهم.
ثم أضفت ,وفكرة مجنونة تعبر ذهني:
-وربما تصنع سعادة شخص رابع.
-من؟
-المرأة التي قد أهديها إياها!
غير أني استدركت خشية أن أجعله يعدل عن رأيه:
-ل تخش على لوحتك ..إنها سيدة الجسور ..ككل نساء قسنطينة!
لعلي قلت له كل شيء دفعة واحدة ,أو قلت أكثر مما يجب أن أقول في جلسة واحدة.
بدا لي للحظة حزينا ,حزن محارب تخلت عنه زوجته وهو في الجبهة ..ويعرف ذلك.
لكنه كان في مشهده ذاك ,ذكيا كما ينبغي ,متغابيا كما يليق ,متهكما حتى لكأن حزنه يدافع
عن نفسه بالسخرية.
قال بصوت خافت الضاءة ,كفنار بحري في ليل ممطر:
-يا مغبون ..ل تحب امرأة تحب الجسور .الجسر ل يصلح لتعمر بمحاذاته بيتا .هو ل
يصلح سقفا لمأواك .أن تبني بيتا على طرف جسر .كأن ترفع الكلفة بينك وبين الهاوية!
كان مريضا بحكمته المتهكمة حتى لكأنه يعاني منها.ذكيا ذكاء المرض الخير الذي يمنحك
فرصة التفكير .يجعلك تتنبه لما لم تكن تراه من قبل.
ألن المرض يعيد النسان طفلً .يستعيد المرض حدس الطفال في معرفة من يحبهم ومن
يكذب عليهم؟
كنت واثقا أنه أحبني منذ اللقاء الول .لكن ماذا كان يعرف عني هذا الرجل المحتفي بي
كقريب أو صديق كما لو كان ينتظر مجيئي ,هو الذي لم أصادف أحدا يعوده؟ حتما ,هو لم
يصدق أعذاري الصحفية في طلب مقابلة .لكن ,كان يتحدث إلي كما لو كان يحادث صحفيا
حينا ..وصديقا أحيانا أخرى ,بدون أن يغفل أثناء ذلك الغريم الذي كان يتوجسه في.
سألته شبه معتذر:
-إن كان يزعجك أن أهدي هذه اللوحة لشخص آخر سأحتفظ بها لنفسي.
ضحك متهكما ,وقال ذلك الكلم الذي لم أختبر صدقه إل لحقا:
-ل تهتم ..حتى أن تكون اللوحة لك ,فلست من يقرر قدرها .أنت لست سوى يد في عمر
أشياء ستتناوب عليها أيد كثيرة .كل شيء يغير يد صاحبه ,وأحيانا يستبدلها بيد عدوه.
امرأتك ,وظيفتك ,بيتك ,مقتنياتك ,كل شيء لك سينتقل إلى غيرك شئت أم أبيت .المهم أل
تدري بذلك .ولذا عليك باكرا أن تتمرن على تقبل الخيانة.
ل ثم واصل وهو يحرك كتفه اليسر مشيرا إلى ذراعه المبتورة:
صمت قلي ً
-عندما تهجرك أعضاؤك ,وتتخلى عنك وهي من لحمك ودمك ,عليك أل تعجب أن يتخلى
عنك حبيب أو قريب أو وطن ..فما بالك بلوحة؟
شعرت كأنما الحزن رفعني إلى عمره ,أنني شخت في لحظات ,وأفلست وأنا أراه يستعرض
خساراته.
قلت:
ل على هذا القدر من الحكمة.
-أحسدك ..لم أعرف قبلك رج ً
رد بتهكمه الموجع:
-سأجيبك بقول أحبه في الكتاب المقدس " :مادمت سأنتهي إلى مصير الجاهل ..فلماذا
كنت حكيما؟"
كنت على وشك مغادرته حين ناداني لول مرة:
-خالد...
ثم واصل ممازحا كمن ل يعنيه جوابك بقدر ما يعنيه أل تستخف بذكائه:
-أما زال اسمك خالد؟
-أحيانا..
-وأحيانا أخرى..؟
قلت متهربا من سؤاله:
-في معظم الحيان اسمي خالد بن طوبال ..السم الذي يشبهني أكثر ..في الواقع أخذته من
رواية.
ل كما ليوفر علي جهد البحث عن ذريعة:
وقبل أن أواصل ,قاطعني قائ ً
-أتدري لماذا انتحر خالد بن طوبال في رواية مالك حداد " رصيف الزهار لم يعد يجيب؟"
قلت معتذرا:
-في الواقع ,قرأت هذه الرواية منذ زمن بعيد ونسيت أحداثها.
قال:
-رواية صغيرة من مائة صفحة .ل يحدث فيها شيء تقريبا ,عدا انتحار بطلها في آخر
الرواية ,عندما علم أثناء وجوده في فرنسا من الجرائد ,أن وريدة زوجته التي يعشقها
وقاوم من أجلها كل إغراءات مونيك ,مستعجلً العودة إلى قسنطينة ليراها ,هربت أثناء
غيابه مع أحد المظليين الفرنسيين ,وانفضح أمرها عندما ماتت معه في حادث .ولذا يلقي
خالد بنفسه من القطار .شخص غيره كان فكر في طريقة أخرى للموت ,لكن القسنطيني
الذي أمه صخرة وأبوه جسر ,يولد بعاهة روحية ,حاملً بذرة النتحار في جيناته ,مسكونا
بشهوة القفز نحو العدم ,وتلك الكآبة الهائلة التي تغريك بالستسلم للهاوية.
ليست الخيانة هي التي كانت سببا في موت خالد بن طوبال ,إنما علمه بها .كان عليه أل
يدري ,غير أن خالد بن طوبال في كل الروايات يدري ..لن وريدة التي ,حسب تعبير
مارغريت دوراس في إحدى رواياتها ".عقدت قرانها على الريح" تخونه في كل رواية مع
مظلي جديد .وفي كل الروايات يموت خالد مرتين :مرة بسبب جيناته القسنطينية ..ومرة
بذكائه!
ماذا كان علي أن أفهم من كلم رجل ينصب لك بين الكلمات فخاخ الصمت ,وبين صمت
وصمت يهديك مفك تأويل اللغام.
سألني فجأة:
-هل أنت قسنطيني؟
قلت كمن يعترف بخطيئة:
-أجل..
-ما دام ليس في إمكانك تغيير جيناتك ..ل تحب امرأة تحب الجسور .كل حب قسنطيني
يقف على حافة المنحدرات العاطفية.
يا لهذا الرجل ..فقد غفلة الصحة ,لكنه اكتسب فطنة المرض .وعبثا حشرت حواسي للتقط
ما يمكن أن يشي بما جئته متقصيا إياه.
كرجال جيله ,كان به ورع عاطفي ,هو لن يكاشفني ,ول أنا سأسأله عنها.
ربما يكون تعرف علي بذكاء القلب وحدسه .لكننا منذ البدء جعلنا التغابي بيننا ميثاق ذكاء,
أو ميثاق كبرياء.
كنت سعيدا بما ل أعرفه عنه ,سعادتي بما لن يعرفه عني.
كنا هناك ,لن كلنا خالد بن طوبال ,وهذا المر ,الوحيد الذي كان كلنا يعرفه.
ما كدت أعود إلى البيت ,حتى اتصلت بمراد متذرعا بالطمئنان على وصول أم ناصر
وسلمتها.
قال:
-وصلت ظهرا صحبة أخته ,وناصر سيبقى لقضاء المسية معهما.
تنفست الصعداء .سألني بعد ذلك:
-متى نراك؟
وجدتني فجأة على عجل .قلت له شبه معتذر:
-سأكون مشغولً هذه اليام.
ثم أضفت:
-الحالة مخلّطة شوية.
ودعني مراد مازحا أو ناصحا وهو يقول:
" -خلها تصفى".
طبعا ما كان يدري أنها كانت " مخلّطة بكراع كلب" .ول مجال لزيد عليها خلطة أخرى!
كان السؤال الول :كيف بإمكاني بعد الن وبالقدر الدنى من الضرار ومن الشبهات ,أن
أدير علقات متداخلة متشابكة مع بعضها البعض ,خلقتها مصادفة تواجدنا جميعا في
باريس ,حتى أصبحت تحتاج إلى شرطي القدر لتفادي حوادث سير المصادفات!
فبقدر إصراري على رؤية حياة ,كنت ل أريد أن أفقد احترام ناصر ,ول أن أثير شكوك زيان
أو أسبب ألمه ,ول أن أخسر علقة جميلة تجمعني بفرانسواز.
ثمة أيضا مصيبة الدخول في مدار حب محفوف بالمخاطر والمجازفات ,مع امرأة تلحقها
دائما فتنة الشائعات ,وتسبقها حيث حلت عيون المخبرين وأجهزة التنصت .وأنت دوما
خائف عليها منها ..خائف منها عليك!
أن تحب امرأة يحكم زوجها بلدا ,بماله ومخبريه ,يا لغواياتك الجميلة المكلفة ..يا لجنونك يا
رجل!
لم أستطع ليلتها معاشرة فرانسواز .كان جسدي سبقني وراح يبحث عنها في عناوين
الفنادق .كيف لي أن أنام وأنا بكامل ترقبي ,كأني ما خلعت يوما انتظارها .أكنت أفتقدها
لقاصص نفسي باشتياقها بعد أن عذبني المتلك المؤقت لها؟
وأنا الذي أعلم أنها ما عادت لتبقى ,وأنني لن أمتلك منها هذه المرة أيضا إل غبار السفر.
لماذا تراني على عجل؟
***
أوحدي كنت أنتظرها تائها بين تلك اللوحات؟ خطر لي أننا كنا ننتظرها معا ..أنا ولوحاته.
أنا وهو .وهذه أيضا مصادفة عجيبة أخرى.
كأنما الحياة تفكك نسيج قصته وتعيد نسجها منن جديد باستبداله بي في كل موقف .هكذا
حدثت الشياء في تلك الرواية التي أحفظها عن ظهر قلب ..عن ظهر مقلب!
هكذا كان ينتظرها هو نفسه في بداية "ذاكرة الجسد" ,عساها تأتي وتزور معرضه ثانية
بمفردها.
بالترقب نفسه ,بنفس الصرار واليأس والمل ,كان يروح ويجيء داخل هذه القاعة التي قدّم
ل "وفيا
فيها أول معرض له ,والتي تشهد اليوم معرضه الخير .كان حسب قوله رج ً
للمكنة ..في أزمنة الخيانة".
منذ ذلك الحين ,كم مر على هذا المعرض من لوحات قبل أن تعود " حنين" لتأخذ مكانها على
جدار ,كما لو أ ،الزمن بالنسبة لها ظل معلقا كما الجسر المرسوم عليها.
سعادتي هذا الصباح تعود أيضا لنني اشتريتها بعد أن عقدت تلك الصفقة المجنونة مع
زيان.أدرك دون أن أشرح له أكثر ,أنه ل يملك سواي وريثا لها.
هي لي إذن ..وأنا في هذه القاعة ملك متوج بها ,أختبر فرحة أ ،أفلس ,مقابل قطعة قماش
مصلوبة على جدار أسميتها قسنطينة!
بلعت كوب الماء على عجل ..ذلك الذي أحضره لي النادل مجانا مع القهوة ..كما ليساعدني
على ابتلع غصة.
غادرت المقهى بعد ذلك بدون أن أعود إلى الرواق كما كنت أنوي.
قصدت المترو عائدا إلى البيت .انشقت السماء فجأة بسيول من المطار كأنها تبكي نيابة
عني .كنت دون مظلة ..أمشي متقدما في وحل الحاسيس النسانية.
عندما عادت فرانسواز في المساء ,قالت بتذمر وهي تخلع معطفها:
-أتمنى أل أجد هذا الطقس في انتظاري في ( نيس) ..يا إلهي كم كرهت المطر!
سألتها:
-متى تنوين السفر؟
-صباح الجمعة ..سأقضي هناك نهاية السبوع وأعود الثنين صباحا.
لم أقل شيئا .مددتها فقط بصورة والدتها كما أعددت بروازها الزجاجي دون إطار.
قبلتني على خدي موشوشة:
!.Oh merci.. elle est mieux ainsi -
قلت أنا أعابث شعرها الحمر:
-تدرين ..في الماضي كان حزني يعود لعجزي على جعل الرائحة ترى على الصورة .الن
لم أعد أحزن مذ طوّرت آلة تصويري.
قالت مصدقة:
-حقا! كيف؟
أجبت متهكما:
-الن مثلً ..بإمكانك أل تتكلمي .ما أطبقت شفتيك عنه سألتقطه بعدسة في داخلي.
لم أتوقع منها أن تفهم ,ولذا لم أعجب وهي تجيبني:
-أتكون اخترعت الصورة الفاضحة؟
-ل ..اخترعت فاجعة الصورة!
اشتقت فجأة إلى خالد .وحده كان سيفهم جملة على هذا القدر من وجع السخرية .فهو من
اخترع قبلي " فاجعة اللوحة" ..وهو من سبقني إلى تقاسم هذا البيت مع امرأة ..ل تتفجع
سوى أمام النشرة الجوية!
سألتها بعد ذلك ,إن كانت تفضل أن أقيم في مكان آخر أثناء غيابها.
قالت محتجة:
-أبدا ..كيف فكرت في شيء كهذا!
-في جميع الحالت ..سأعود بعد أسبوعين أو ثلثة إلى الجزائر .وسأغادر الشقة حتما قبل
خروج زيان من المستشفى .ل أريد أن يعلم بإقامتي هنا.
أضفت:
-وبالمناسبة..أنوي شراء هاتف خلوي يمكنك أن تطلبينني عليه لنني ل أرد على الهاتف
كما تعلمين ,خشية أن يكون زيان على الخط ,فهو يعرف صوتي.
-فكرة جيدة ..في جميع الحالت ,من يتصلون بي أثناء غيابي بإمكانهم أن يتركوا لي
رسالة صوتية على الهاتف.
بعد ذلك ,عندما تقاسمنا السرير نفسه للنوم ,وجدتني عاجزا عن ضمها بدون مشقة ,أو
تقبيل شفتيها الرفيعتين بدو استجداء بلهة الحواس.
كان عزائي أن كل مساء :مليين البيوت ينزل عليها الليل كما ينزل علينا ,بذلك القدر من
نفاق المعاشرة ,وأن مليين الناس غيري ل يدري كيف يهربون من وشاية الليل الفاضحة
لغترابهم الجسدي عن أقرب الناس إليهم.
تذكرت زوجتي التي إستطاعت أن تسرق مني طفلً بفضل ذرائع فراش الزوجية.
ففي حوادث السرير ,يحدث أن تصطدم بشخص ينام جوارك أو أن تلمس شيئا منه وجد في
متناول جسدك.
أثناء تسكعك في أزقة القدر ,قد تتعثر بحب امرأة مرتكبا حادثا عاطفيا للسير ,ولكن امرأة
أخرى هي التي تحبل منك إثر حادث سرير!
دوما كان لي سوء ظن بالفرح ,ارتياب من البهجة المضللة للعيد .فليس العيد سوى
الستعداد له ,تماما كعيد انتظاري إياها.
عندما غادرت البيت ظهرا متجها إلى الرواق .كانت المدينة مزدانة كما لتستخف بي.
أسريعا جاءت نهاية السنة؟ أم هم التجار دوما على عجل كي يبيعوك عيدا ليس عيدك .فنحن
نصنع أعيادنا الحقيقية في غفلة من كل العياد.
أليست هي من كانت تقول إننا نحتاج إلى مدينة ثالثة ليست قسنطينة ول الجزائر ,ل تكون
مدينتي ,ول مدينتها .مدينة خارج خارطة الخوف العربية ,نلتقي فيها دون ذعر؟
هي ذي باريس ,وحب ينتمي للشتاء ,لبائع الكستناء المشوية ,لليل ينزل على عجل ,لمطر
يظل يهطل ,لواجهات مرشوشة برذاذ الثلج إليها.
لو أثلجت وهي هنا ,يا إله الشتاء ,لو تكوّم الثلج عند باب بيت انغلق علينا كي أختبر تلك
العدوانية الجميلة للثلج ,عندما يتساقط في الخارج ونكون معا جوار مدفأة الشواق.
لكنها لم تأتِ .والثلج واصل تساقطه داخلي ,وأنا أنتظرها في الرواق مبعثرا بين ارتياب
الحتمالت ,مدافعا عن هشاشة الممكن بمزيد من النتظار.
كانت لغيابها الرهيب المحرق ,غيابها الشهي الصقيعي ,امرأة جميل معها حتى أن تخلف
موعدا.
عندما يئست من مجيئها ,عاودتني الحاجة إلى لقاء زيان عساني أطمئن على أخباره
وأتسقط أخبارها ,داعيا ال كي ل يجمعني بها عنده تفاديا لمصادفة لن يخرج منها أحدنا
سالما.
كانت الساعة الرابعة بعد الظهر عندما قصدته.
لم يقل شيئا وأنا آخذه عن الطاولة .بدا وكأنه فوجئ بتصرفي.
تأملت العنوان ,ثم فتحت الكتاب تلقائيا على الصفحة الولى ,وإذ بي أمام إهداء بخطها!
كلمات لم أقرأها بعد أن أحسست أن نظراته تراقبني صمتا .أحرجني كبرياء صمته .ربما كان
يختبر قلة ذوقي أو وقاحتي في التجسس على سره الكبير.
اكتفيت بقراءة التاريخ المكتوب على الهداء.
استنتجت أنها زارته هذا الصباح .وأدركت من أين جاءت باقة الورد الجميلة وعلبة
الشوكولطة الفاخرة جوار سريره .فهمت أيضا ذكاء تلك الطرفة ,عندما قال ليقنعني بفضائل
الشوكولطة مصرا على أن يضيفني منها:
-الشوكولطة ل تعطيك نشوة وطاقة للبداع فحسب ,بل للذتها تساعدك على ابتلع أي
مذاق مر يرافقها ,مسهلة عليك الموت لحظة تلقّيك رصاصة .حتى إن هامنغواي عندما كتب
لزوجة أبيه طالبا منها أن تبعث ببندقية أبيه التي انتحر بها ,أرسلتها إليه مرفوقة بعلبة
شوكولطة لعلمها أنه يريدها ..كي ينتحر!
يا لذكاء هذا الرجل وجمال تهكمه!
كما ليذهب بكلمنا منحىً بعيدا عن تلك المرأة ,قال وهو يراني أعيد الكتاب إلى مكانه:
-إنه كتاب جميل .فيه تفاصيل مذهلة لم أكن أعرفها عن موت كاتب ياسين .سجنت معه في
ل بحياة متشابهة,
8ماي 1945في سجن الكديا ,عشت معه كل ولدة " نجمة" ,كنا جي ً
بخيبات عاطفية مدمرة ,بأحلم وطنية أكبر من أعمارنا ,بآباء لم نتعرف عليهم يوما,
بأمهات مجنونات من فرط خوفهن علينا .كنا نتشابه تقريبا جميعنا في كل شيء .ولم نعد
نختلف بعد ذلك إل في موتنا.
مد يده إلى جارور الطاولة الصغيرة الموجودة على يمينه .أخذ سيجارة لم يشعلها .ظل
ممسكا بها كما لو كان أشعلها .ثم قال:
-أنتمي إلى جيل النهايات الغريبة غير المتوقعة .عندما قرأت في هذا الكتاب تفاصيل موت
كاتب ياسين في فرنسا التي تصادفت مع موت ابن عمه مصطفى كاتب ,ثم كيف شيعت
جنازته في الجزائر ,فكرت في قول مالرو " ل يحدث للنسان ما يستحقه ,بل ما يشبهه".
موت ياسين كحياته ,موت موجع ومشاغب ومسرحي ومعارض ومحرض وساخر.
تصور ..يوم مات ياسين في مدينة ( غرونوبل) في 29أكتوبر 1989حدث زلزال في
الجزائر .ولكن نشرة الخبار ذلك المساء كانت تتضمن فتوى بثتها الذاعة الوطنية ,أصدرها
المفتي محمد الغزالي رئيس المجلس السلمي لجامعة قسنطينة ,ومستشار الرئيس بن جديد
ل لن يواريه تراب الجزائر ,ويحرم بحكمها
آنذاك ,يعلن فيها أن مثل هذا الرجل ليس أه ً
دفنه في مقبرة إسلمية .ولكن ياسين ظل حتى بعد موته يستخف بالفتاوى وبكل أنواع
السلطات .حملت نعشه النساء كما الرجال .لول مرة ,رجل تحمل نعشه فرقة مسرحية
بكاملها.
كانت نكتته الخيرة أن تعطلت سيارة الـ " البيجو" 504التي كانت تنقل جثمانه ,لكثرة
الممثلين الذين كانت تحملهم ,مما جعل المشيعين يترجلون ويذهبون به إلى المقبرة على
القدام وسط زمامير السيارات والزغاريد ونشيد الممية الذي كانوا ينشدونه باللغة البربرية.
لم يستطع المام ول الرسميون شيئا لسكات كاتب ياسين حيا ول ميتا .ولم يستطيعوا منع
القدر أن يجعله يدفن في أول نوفمبر تاريخ اندلع الثورة الجزائرية .كان أول من أدخل
الفوضى والديمقراطية والزغاريد إلى المقابر كما أدخلها قبل ذلك إلى المعتقلت والسجون!
قلت متعجبا:
-إنه لموت طريف حقا ..لم أسمع بهذه التفاصيل من قبل.
قال ساخرا:
-ليس هذا الطريف في حد ذاته ,إنما تشكيلة الموت في غرابة أقداره كما عرفه جيلنا.
تصور يا رجل :لي صديقان كلهما من رجال التاريخ وكبار مجاهدي الثورة ,أحدهما مات
قهرا والخر مات ضحكا .هل تصدق هذا؟ أنت سمعت حتما بعبد الحفيظ بوالصوف؟
-طبعا ..كان مدير الستخبارات العسكرية أثناء الثورة.
-أتدري كيف مات هذا الرجل الصلب المراس الذي اشتهر بغموضه وأوامره التي ل رحمة
فيها في التصفيات الجسدية للعداء كما للرفاق؟ توفي سنة 1980إثر أزمة قلبية فاجأته
وهو يضحك ضحكا شديدا على نكتة سمعها من صديق عبر الهاتف!
كان قد انسحب من الحياة السياسية نهائيا بعد الستقلل ,رافضا أي منصب قيادي وأصبح
بإمكانه أن يموت ضاحكا!
أليست نهايته أفضل من نهاية سليمان عميرات ,رفيق سلحه الذي مات بعد ذلك حزنا
بسكتة قلبية أثناء معركة الفاتحة على جثمان محمد بوضياف ,رفيق سلحهما الخر الذي
سقط مغتالً؟
لم ينج من هذه اللعنة حتى من مات من جيلنا شهيدا ميتة البطال .أورث نحس جيله إلى
ذريته ,كالشهيد البطل مصطفى بن بولعيد الذي اغتيل ابنه عبد الوهاب وهو في الخمسين
من عمره في 22آذار , 1995نهار اغتيل أبوه على أيدي الفرنسيين قبل تسعة وثلثين
سنة ,بعد أن نصب له الرهابيون حاجزا وهو في طريقه إلى بلدته " باتنة" ليشارك ككل سنة
في التأبين الذي يقام في ذكرى استشهاد أبيه.
ربما كانت في هذه الميتة بالذات كل فاجعة جيلنا .رجل مثل مصطفى بن بولعيد ,أحد رموز
مقاومتنا ,تهديه الجزائر جثمان ابنه في يوم استشهاده ..أي وطن هذا؟
توقف في تلك اللحظة شريط التسجيل .انتبه إلى أنني كنت فتحت المسجل ,قال وأنا أقلب
الشريط:
-خليك م التسجيل يا راجل ..التاريخ " الحلّوف" راه يسجل!
قلت مازحا في محاولة للتخفيف من مرارته:
-التاريخ يسجل لكن أنا أنشر .أريد نشر هذه المقابلة كشهادة عن تلك المرحلة.
رد بتهكم مر:
-أية مرحلة؟ تلك المرحلة لم تنته يا رجل .الجزائري يعيش جدلية تدمير الذات ,هو مبرمج
لبادة نفسه والتنكيل بها عندما ل يجد عدوا لينوب عنه في ذلك .تظن أن الرهابيين كان
لهم الفضل في بدعة قتل الكتاب والقضاة والطباء والسينمائيين والشعراء والمحامين
والمسرحيين ..الجزائر لها تقاليد في قتل مثقفيها ..وأنا كنت في صفوف المجاهدين عندما
في خدعة هدفها إلحاق ضرر نفسي بالمقاومة ,أوحت فرنسا للعقيد عميروش بأن بين رجاله
من يعملون مخبرين لصالح الجيش الفرنسي .فقام في يوليو ,1956وبعد محاكمة
سريعة ,بقتل ألف وثمانمائة من رجاله ,في حادثة تاريخية شهيرة باسم " La
."bleuiteفورا وجهت أصابع التهام إلى المثقفين ,أي إلى المتعلمين الذين تركوا
دراساتهم ليلتحقوا بالجبهة ,والذين بسبب علمهم وثقافتهم الفرنسية لم تكن جبهة التحرير
تثق في ولئهم .أما القتلة الذين انقضوا عليهم فكانوا رفاقهم من المجاهدين القرويين
والميين في معظمهم ,والذين منذ البدء لم يغفروا لهم تميزهم عنهم بالمعرفة .واليوم أيضا
لم يتغير شيء .كل جاهل يثأر لجهله بقتل مثقف بعد المزايدة عليه في اليمان والتشكيك في
ولئه للوطن .وها نحن في ما بقي لنا من ضحايا الرهاب ضد المثقفين.
توقف ليسألني فجأة:
-هل اشتريت تلك اللوحة؟
وقبل أن أجيب ,فتح الجارور يبحث عن شيء .أخرج ولعة ,أشعل السيجارة التي كان
ممسكا بها طوال الوقت.
وبدون أن أقول له شيئا أجاب متهكما من تعجبي لتدخينه في المستشفى:
-ل تهتم ..أنا أنتمي إلى جيل من الرجال المجبولين بالعصيان.
ثم أعاد سؤاله بصيغة أخرى:
-ماذا ستفعل بتلك اللوحة؟
-سآخذها معي إلى قسنطينة عندما أعود بعد أسبوعين أو ثلثة.
ثم أردفت خشية أن يكون قد غير رأيه:
-ستبقى بتصرفك .بإمكانك أن تراها عندما تزور قسنطينة.
-لم أعد أتردد على قسنطينة .لم يبق لي فيها أحد ول شيء .آخر مرة زرتها منذ سنة
ونصف لحضر جنازة ابن أخي حسان.شعرت أنها مدينة لم تعد تصلح إل صورة على بطاقة
بريدية أو جسرا على لوحة .بدت لي جسورها هرمة تعبة ,كأنها شاخت وتساقطت عنها
حجارتها ,كأفواه تعرت عن أسنانها ,كسحنة من يعبرونها بملمح تعرت من تعابيرها,
مسرعين حينا ..متثاقلي الخطى أحيانا أخرى ,تائهين حائرين ,كمن ينتظر فاجعة.
-ربما لنك زرتها في ظرف حزين.
-ما كان لي يوما معها موعد سعيد .دوما غادرتها مفجوعا .رافضا عقد ميثاق مع الوحل
الذي أتى على كل شيء .ل أريد أن أكون هناك عندما تخلع قسنطينة حجارتها ..وتنزلق
نحو وهد الهاوية.
صدقني منذ اغتيال بوضياف أصبحت أكره حتى السفر إلى الجزائر ,فبموته مات شيء فينا.
عندما جاؤوا به متضرعين كي ينقذ الجزائر ويكون رئيسها ,ما ظنوا أن ذلك الرجل الذي
جبلته السجون والمنافي وخيانات الرفاق ,على هزاله ,ما كان يصلح لبرام صفقة فوق
الجثث فحولوه إلى جثة كي نتعلم من جثته.
أل ترى كل ذلك الحجر المتساقط علينا بعده؟ بإمكاننا الن أن نواصل التراشق بذلك الكم من
السئلة .ما عاد السؤال " من قتل بوضياف؟" صار ":صوب أي مصب ذاهب بنا الوحل؟
صوب أي وحل ذاهب بنا التاريخ؟"
عندما أراد بعد ذلك أن يغادر سريره ليودعني ,أوقع المزهرية بحركة من يده وهو يحاول
الستناد إلى الطاولة.
انحنيت متأسفا أرفعها من الرض وأجمع الورود.
قال كمن يعتذر عن حماقة:
-في الفترة الخيرة أصبحت مصابا بعمى الطراف .ما مررت بشيء إل واصطدمت به.
دعك من جمعه ..ستحضر الممرضة للملمته ..إنه ورد فقط وهو آيل للذبول!
ثم أردف بتهكم وحده يتقنه:
-حتى وإن سقطت ذراعي ..حاذر أن تلتقطها.
-أنت تعاكس قصيدة محمود درويش.
" سقطت ذراعي فالتقطها
وسقطت جنبك فالتقطني"
قاطعني مواصلً:
" -واضرب عدوك بي"..
-أتعرفها؟
رد مبتسما:
-أعرفها؟ كم أعرفها! كانت القصيدة المفضلة لصديقي زياد .كان دوما يقول :ليتني كاتبها.
فأعلق " ل تهتم ..إن سقطت سألتقطك بذراعي الوحيدة" .لنني مع زياد كنت أعرف كم العدو
الذي سأقذف بجسده في اتجاهه .لكنك إن التقطت ذراعي فعلى من ستقذفها؟
واصل بسعادة:
-بالمناسبة عندما أغادر المستشفى سأطلعك على بعض أشعار زياد.
-أما زالت في حوزتك حتى اليوم؟
-طبعا ..قد أفرط بلوحاتي ول أفرط بها ..مشكلتي دوما كانت إرث الشهداء.
افترقنا دون أن أدرك إن كان يومها أكثر سعادة أو أكثر حزنا من العادة.
كان يتصرف باستخفاف المفلس .يدخن ويدرك أن في السجائر مضرة له .وطلب مني أن
أحضر له قارورة ويسكي صغيرة من تلك التي تقدم في الطائرات لملء كأس واحدة ,غير
معني بأنه ممنوع من تناولها مع دوائه .وينسى أن يأخذ دواءه لنه يدري أن ل جدوى من
الدواء .ويأكل أشياء قد تتدهور بها صحته عسى بها ترتفع معنوياته التي ل تتغذى سوى
بالمحظورات.
أظنه كان سعيدا ,غير أن السعادة لم تكن لها علقة بباقة الورد ,ول بالشوكولطة الفاخرة
التي أحضرتها له ,والتي وضع حبات منها في جيبي وهو يودعني ,ول بذلك الكتاب الذي
تلقاه منها ,كما تلقى هامنغواي البندقية من زوجة أبيه.
سعادته كانت بسبب سماح الطبيب له بمغادرة المستشفى يوم الربعاء ,فقد كان يخطط
لمشاريع كثيرة أولها زيارة معرضه وجمع ما بقي من لوحاته.
أما مرارته ,فكان سببها السري على الرجح كون المرأة التي أحبها عادت بعد أن شفي
منها لتعوده وتتفرج عليه في بشاعة مرضه الخير.
هو نفسه قال مرة إنه عندما يشعر بأنه أصبح بشعا في علقة ,ينهيها ويهرب حتى عندما
يكون الطرف الخر وطنا .لكن أين كان بإمكانه أن يهرب وهو رهين سرير المرض؟
أتوقع أن يكون استأصل الزائدة العاطفية وراح يختبر قدرته على تجميل البشاعة بالسخرية.
كذلك اليوم الذي اعتذر لي فيه مازحا لعدم استطاعته مغادرة سريره كالعادة والجلوس معي
بسبب استلقائه على ظهره ووجود ذراعه الوحيدة موصولة إلى أنبوب مصل الدواء.
قال متهكما:
-في هذا الوضع تماما رسم ميكيل أنجلو سقف كنيسة ( كابيل سيستينا) .ظل هكذا يرسم
وهو ممدد عاريا على السقالة لعدة أشهر ويده اليمنى مرفوعة إلى السقف .كان يرفض
الستعانة بالمساعدين ويصر على إنجاز رسم السقف وحده .وكان لوجاع جسده يقول "
أعيش في الجحيم ..وأرسم لوحة" .وكان البابا يتسلق السلم الخشبي ويصعد للتجسس عليه
ومباركته!
أحيانا يكرم المرء في وضع مهين! وهو ما يذكرني بقول جميل لمناضل سيق إلى الشنق.
فسئل قبل إعدامه " هل ليك ما تقوله قبل الموت؟" فأجاب جلده " يكفي فخرا أن أموت
وقدماي فوق رؤوسكم".
ليست المهانة أن أكون في هذا الوضع .إنما في كوني هنا أضاجع الموت في سرير .قصدت
السرير دوما لمنازلة الحب!
في طريق العودة إلى البيت توقفت في مكتبة بحثا عن كتاب " توأما نجمة" لبن عمار مديان
الذي كان زيان يطالعه .كان بي فضول أن أعرف لماذا أهدته إياه.
وما كدت أعود إلى البيت وينتهي العشاء الخفيف الذي فاجأتني فرانسواز بإعداده حتى
ل مطالعته.
اعتذرت منها وذهبت إلى غرفة النوم مستعج ً
رغم انشغالها ببرنامج تلفزيوني لم تبد فرانسواز سعيدة أن تراني أتركها وأختلي بنفسي
للمطالعة .كان المر غريبا حقا ,فأنا لم أعرف امرأة إل واعتبرت الكتاب غريمها الول في
البيت .وجربت بما أوتيت من مواهب نسائية أن تسرقني من القراءة كما لو أن في انشغالي
بها إهانة لنوثتها .كان ما يزيد الطين بلة ,ويجعل من الكتاب ضرة ,عادتي القراءة في
السرير .كنت دوما أدعو الكتب التي أحبها إلى غرفة نومي لعتقادي أن الكتب الجميلة
كالنساء الجميلت ,ل يمكن مجالستهن في الصالون ,ول بد أن تراودك الرغبة في أ ،تخلو
بهن ..في مخدع.
الصالون خلق لتلك الكتب الوقورة الرصينة المصطفة في مكتبة ,تدافع عن صيتها بثقل
وزنها ,وتعوض عن بلوغها سن اليأس الدبي بتجليدها الفاخر وخطها الذهبي.
كنت بدون قصد أؤنث الكتب.
تلك السهلة التي تندس في جيبك .كتب النتظار والضجر التي كنساء المصادفات تصلح
لقراءة واحدة .وأخرى للمؤانسة ترافقك إلى سريرك لتنهي ليلها أرضا منهكة ,نائمة على
بطنها كامرأة بعد ليلة حب .وأخرى صقيلة الورق فاخرة الطباعة ,تتربص بجيبك كبغايا
أمستردام خلف واجهة زجاجية ..قد تنقل إليك عدوى الرداءة.
أعتقد أنني خلل سنوات طويلة ما أقمت علقة جميلة سوى مع الكتب .بعض هذه العلقات
كانت تضاهي في شغفها وطقوسها شيئا شبيها بالخيانة الزوجية ,مما جعلني أتعاطاها أحيانا
سرا متبرءا من شبهتها ,خاصة عندما كنت أقضي وقتا طويلً منشغلً عن زوجتي النائمة
جواري ,بمطالعة كتاب يعطيني من متعة المعرفة والمباغتة ,أكثر مما يعطيني جسدها الذي
أعرفه عن ظهر زوج!
في ذلك البيت الذي في البدء وبصفتي البن البكر سكنته مع زوجة أبي وأختي المطلقة ,كنت
ل لتكون فضاءً نسائيا تهرّب إليه
أجد متعة في تسريب كتاب إلى غرفة نوم مهيأة أص ً
زوجتي أشياءها من الخرين ,أو بالحرى من الخريات!
حدث كثيرا أثناء تهريبي كتابا إلى مخدع الزوجية ,مدعيا حاجتي المهنية إلى مطالعته ,أن
تذكرت أبي الذي عثر أثناء حرب التحرير على حيلة فوق كل الشبهات تمكنه من إحضار
عشيقاته إلى البيت ,مستفيدا من نشاطه النضالي ,وإقامتنا بمفردنا في بيت شاسع على
الطراز العربي .فكان يغلق علينا ,أنا وجدتي وزوجته العروس ,في إحدى الغرف الكبيرة,
متحججا باستقبال المجاهدين الذين كانوا يقضون بين الحين والخر ليلة " مشاورات" في
بيتنا ..يعودون بعدها إلى الجبال!
كان عمري ل يتجاوز الست سنوات .وبرغم ذلك لفت انتباهي أن أبي ,على غير عادته,
أصبح يغلق علينا باب الغرفة بالمفتاح ,بعد أن كان في الماضي يكتفي بأن يسعل بصوتٍ
عا ٍل كلما دخل البيت مع رجل غريب مرددا وهو يسبقه بخطوات " :الطريق ..الطريق".
فتسرع النساء إلى أول غرفة ويغلقن عليهن الباب حتى يمر الرجال.
ذات مرة تأملت من ثقب الباب الذي لم تكن قامتي تعلوه سوى بقليل ,فرأيته يدخل مع امرأة
بملءة سوداء .عندما أخبرت زوجة أبي بذلك بدت مندهشة ,غير أن جدتي تدخلت لتنهرني
ململمة الفضيحة ,مدعية أن العادة جرت أن يتنكر المجاهدون في زي النساء.
من يومها بدأت زوجة أبي التي لم تقتنع بالزي التنكري للمجاهدين ,تتجسس بدورها من
ثقب الباب ,وترى نساء بهيئات مختلفة يعبرن كل مرة وسط الدار.
ولكن اكتشافها لم يغير شيئا من تصرفاتها ,فهي لم تجرؤ حتى على إخباره بأنها تدري أنه
يكذب عليها ,خشية أن يغضب ويعيدها إلى بيت أهلها ,فتستبدل بشرف الزواج من أحد
وجهاء قسنطينة مذلة أن تكون رقما في طوابير المطلقات.
هكذا واصلت إعداد أشهى الطعام للمجاهدين و " المجاهدات" ,القادمين لتوهم " من الجبال
الشامخات الشاهقات" ,وفرش سريرها بأجمل ما في جهازها من شراشف مطرزة ,والمضي
للنوم جوار صغيرتها في غرفة الضيوف ,بينما كان أبي يخوض معاركه التحريرية في
سريرها الزوجي على أمتار منها .وربما كانت أثناء تقلبها في فراشها ,تبحث عن وجوه
وأسماء لنساء فاجرات يدخلن بيتها تحت حشمة الملية وعفة الجهاد ليضاجعن زوجها في
حضرتها.
كان يلزمني بلوغ سن التأمل ,كي أفهم أنني يوم وضعت عيني على ثقب المفتاح لم أكن
أكتشف سوى قسنطينة التي لم يكن ذلك البيت العتيق سوى صورة لتقاليد نفاقها.
دفعة واحدة أدركت أن الباء يكذبون ,وأن المجاهدين ليسوا منزهين عن الخطيئة ,وأن
النساء اللئي يلبسن مليات لسن فوق الشبهات ,وأن النساء القابعات في بيوت الظلم
الزوجي لسن مخدوعات إلى هذا الحد ,وأن " الضحية ليست بريئة من دمها"!
بعد ذلك ,أصبحت مع العمر أرى في تصرفات أبي آنذاك جانبا " زوربوياُ" ساهم في خلق
أسطورته النضالية والعشقية.
كان بحكم ثقافته رجلً لكل الجبهات .خاض معاركه ضد الستعمار وضد المؤسسة الزوجية
التي لم يؤمن بها يوما ,وانتسب إليها استجابة للحاح جدتي ل غير .كان ل بد له من زوجة
تتكفل بتربيتي بعد وفاة والدتي ,فجاءته بإحدى القريبات من اللئي هيئن ليكن ربات بيوت
وأمهات صالحات.
في الواقع ,عشقه للحرية أوصله إلى العجاب بنساء متحررات .كان له ضعف دائم تجاه
الجنبيات لكونهن متعلمات .ساعدته وسامة أندلسية عرف بها أهل قسنطينة الوائل ,على
اكتساح القلوب الشقراء والسمراء .كمدرّسة فرنسية نظم أشعاره الولى تغز ًل بها ,أو تلك
الرملة اليهودية التي كان زوجها حارسا في سجن الكديا عندما كان والدي سجينا هناك,
وكانت جدتي تتردد على بيته كلما أرادت أن ترسل شيئا إلى أبي في السجن .وعندما بعد
سنتين عرف العالم المجاعة وكلّف أبي من طرف الدارة الفرنسية بتوزيع قسائم المساعدات
الغذائية على سكان قسنطينة من المسلمين ,كان يزورها ليزودها خلسة هي وبعض عونه
من المعارف والجيران ,في ذلك الزمن الذي كانت تتجاور فيه الجناس والديان.
كان زوربا على طريقته .اعتاد أن يحيط نفسه بالرامل والعوانس ,ونساء على وشك أن
تذبل ورودهن وليس لهن بستاني سواه.
كان مسؤولً عن كل نساء الرض ,بدون تمييز بين أعمارهن أو ديانتهن أو جمالهن,
مسؤولً عن أجسادهن وأحلمهن ,معنيا بتعليمهن وإدارة مستقبلهن إلى حد التكفل
بتزويجهن ,ومسؤولً عن كل جياع الرض أينما وجدت أفواههم وبطونهم ولقمتهم .وعن
كل المظلومين والمستعمرين أينما وجدت أرضهم وقضيتهم .ولذا " عاش ما كسب ..مات ما
خلى" .فلم يكن يعنيه أن يمتلك بقدر ما كان يعنيه أن يحيا.
وكان بعد الستقلل يقيم في شقة واسعة استأجرها .نشغل نحن جزأها الكبر بينما يحيا هو
بين غرفتين :صالونه الذهبي الفخم حيث يستقبل ضيوفه من السياسيين ورفاق قدامى
يتناقصون كل عام ,وغرفة نوم فاخرة اشتراها من معمرين فرنسيين غادروا الجزائر عند
الستقلل ,ربما كانت تعود لنهاية القرن الماضي ,بخزانة ضخمة منقوشة باليد بحفر صغير
على شكل دوالٍ تغطيها مرايا كبيرة .جوارها سرير عا ٍل يسند رأسه لوح بذات النقوش
وينتهي جانباه من العلى بمجسمات نحاسية لملكين كأنما يطيران أحدهما صوب الخر,
وعلى جانبي السرير طاولتان صغيرتان تغطيهما لوحتان رخاميتان ,يقابله خزانة أثاث
بأربعة جوارير بمماسك نحاسية جميلة تعلوه مرآة أخرى تحيط بها النقوش ذاتها.
كان الصالون قصاص أبي .كان كتلك الغرف القليلة الستعمال ,القليلة الستقبال والمهيأة
لزوار لن يأتوا .يذكّره بابه الذي ل يفتح إل في المناسبات بأن الرفاق من حوله انفضوا.
أما غرفة النوم التي كانت مملكته وما بقي من جاهه والتي كان ينام فيها وحده ,فقد أصبحت
بعده قصاصي أنا .كان مستبعدا بيعها لسباب عاطفية ,ولذا وجدتني أبدأ حياتي الزوجية
على سريرها.
كان في الغرفة رائحة توقظ زمن الموتى ,تفسد عليك زمانك .ما أصعب أن تبدأ حياتك
الزوجية على سرير كان أبوك يشغله وحده ,وينام على يساره دائما إلى حد تواطأ الزمن مع
الجسد حافرا لحدا داخل الفراش الصوفي بحيث ما عاد بإمكانك أن تتقاسمه مع شخص ,إل
وتدحرج أحدكما نحو الخر.
كانت غرفة فاخرة تصلح بسريرها العالي وأبواب خزائنها الثقيلة للنتيكا ..ل للحب .وربما
أرادها أبي فخمة إلى ذلك الحد ليعوض بها غياب الحب في حياته.
ما كان أبي ثريا ,ول اشترى تلك الغرفة بالذات ليراها أحد سواه .ولكنها كانت تذكرني
بغرف نوم فاخرة مؤثثة بإثم واضح في التبذير ,قصد إقناعك أن الثرياء ليسوا عشاقا
سيئين!
ذات يوم تبدأ حياتك الزوجية في سرير المسنين المليء بكوابيس النوم غير المريح .وعليك,
لسباب عاطفية غبية ,أن تتدرب على التصرف بحياة سبقك إليها أبوك .رائحته هنا علقت
بالخشب ..بالستائر ..بأوراق الجدران ..بكريستال الثريا .وأنت مدهوش ,ل تدري حتى متى
ستظل رائحته تتسرب إليك .أكانت كل تلك الغرفة سريرا لرائحته؟
كنت تظن لك فيها حياة مؤقتة ,كما لو كانت نزلً تمر به ,كما لو كنت عابر سرير .ولكن
حيث تنام ,ذات يوم ,في اللحظة التي تتوقعها القل ,تجتاحك رائحة الغياب ,وتستيقظ فيك
تلك الرائحة التي أفسدت عليك منذ البدء علقتك بجسد زوجتك ,حد جعلك تفرض عليها
تناول حبوب منع الحمل لسنوات ,خشية مجيء صغير يعاني من " تشوهات السرية
للسرة"!
كنت أجد فرحتي بعد ذلك في الهروب إلى بيت عبد الحق ,حيث أصبح لشهواتي سرير غير
شرعي مع حياة .فعليك بل توقف أن تخترع حياتك الخرى المزورة ,إنقاذا لحياتك الحقيقية
التي ل وهج فيها.
وكنت تزوجت امرأة لتقوم بالشغال المنزلية داخلي ,لتكنس ما خلّفت النساء الخريات من
دمار في حياتي ,مستنجدا بالزواج الوقائي عساه يضع متاريس تجنبني انزلقات الحياة ,وإذ
في ذلك الزواج اغتيال للحياة.
ذلك أن ثمة من يبتزك بدون أن يقول لك شيئا ,ذلك البتزاز الصامت للضعفاء ,الذي يجيز له
التصرف بحياتك مذ وقعت في قبضته بحكم ورقة ثبوتية.
ثمة من ينال منك ,بدون أن يقصد إيذاءك ,إنما باستحواذه عليك حد اليذاء .ثمة من يربط
سعادته بحقه في أن يجعلك تعيسا ,بحكم أنه شريك لحياتك ,تشعر أن الحياة معه أصبحت
موتا لك ,ول بد من المواجهة غير الجميلة مع شخص لم يؤذك ,لم يخنك ,ولكنه يغتالك
ببطئ.
تريد أن تستقيل من دور الزوج الصالح والسعيد الذي مثلته لسنوات ,تفاديا منك للشجارات
والخلفات .تريد أن تتنازل عن أوسكار التمثيل الذي كان يمكن أن تحصل عليه في البطولة
الرجالية في فيلم " الحياة الزوجية" .ل لقلة حيلتك ,فأنت ما زلت قادرا على مزيد من
الكاذيب التي تبتلعها امرأة دون جهد .ولكنك متعب ,والحياة أقصر من أن تقضيها في حياكة
الكاذيب ,والرعب اليومي الذي تعيشه أكبر من أن تزيد عليه الخوف من زوجتك.
الفصل السادس
ثم جاءت.
انخلعت أبواب الترقب على تدفق ضوئها المباغت.
دخلت ..وتوقف العالم برهة عن الدوران.
توقف القلب دقة عن الخفقان كما للتقاط النفاس من شهقة.
إعصار يتقدم في معطف فرو ترتديه امرأة .أيتها العناية اللهية..
أل ترفقت بي!
أيتها السماء ..أيها المطر ..يا جبال اللب ..خذوا علما أنها جاءت.
التقينا إذن..
الذين قالوا :وحدها الجبال ل تلتقي أخطأوا ,والذين بنوا بينها جسورا لتتصافح من دون أن
تنحني ,ل يفهمون شيئا في قوانين الطبيعة.
الجبال ل تلتقي إل في الزلزل والهزات الرضية الكبرى ,وعندها ل تتصافح إنما تتحول إلى
تراب واحد.
أكان بوسعنا تفادي الكارثة؟ ها نحن نلتقي حيث رتبت لنا المصادفة موعدا في آخر معاقل
الحزن ..كلعنة.
عمي صباحا سيدتي الجميلة ..كفاجعة.
هي ذي ..كيف يمكن فك الشتباك مع عينيها .كل ما أردته كان النظر إليها بعد هذا الغياب.
كانت تبدو كشجرة ليمون .تساقط زهرها دهشة عندما رأتني .كان آخر مكان توقعت أن
تراني فيه هو باريس ,في معرض رسام أنكرت وجوده خارج كتاب.
قالت:
-شيء ل يصدق.
-هي حياة ندين بها لمصادفة اللقاءات.
ردت باندهاش جميل ل يخلو من الذعر:
-يا إلهي ..ما توقعت أبدا أن أراك هنا!
قلت مازحا:
-ماذا أفعل إذا كان كل شيء يعيدك إلي.
كنت ألمّح لقولها مرة " كل شيء يعيدني إليك" وكنت أجبتها مصححا آنذاك " :وكل شيء
يبقيني فيكِ".
قالت معلقة بذكاء:
-ظننتك غيرت عنوان إقامتك منذ ذلك الحين!
أجبت وأنا أمازحها نافضا سترتي:
-كما ترين :كلما هممت بمغادرتك تعثرت بكِ.
ثم واصلت:
-بالمناسبة ..أجمل ما يحدث لنا ل نعثر عليه بل نتعثر به.
كنت هنا أيضا أصحح قولها " أجمل حب ..هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر".
كيف الفكاك من حب تمكن منك حد اختراق لغتك ,حتى أصبحت إحدى متعك فيه هتك أسرار
اللغة؟
النشوة معها حالة لغوية .لكأنني كنت أراقصها بالكلمات ,أخاصرها ,أطيّرها ,أبعثرها,
ألملمها .وكانت خطى كلماتنا دوما تجد إيقاعها منذ الجملة الولى.
كنا في كل حوار راقصين يتزلجان على مرايا الجليد في ثياب احتفائية ,منتعلين موسيقى
الكلمات.
ذات مرة قالت:
-أحلم أن أفتح باب بيتك معك.
أجبتها على إيقاع التانغو ,وأنا أعيد أحلمها خطوتين إلى الوراء:
-وأحلم أن أفتح الباب ..فألقاك.
لكن الحياة قلبت لنا الدوار .هاهي ذي تفتح باب قاعة لتزور معرضا فتلقاني .إنه ليس زمن
التانغو ,بل أزمنة الفالس ,بدوارها المحموم وجملها المتخاصرة في تداخلها ,وارتباك
خطوتها الولى بجمل منتشية ,متداخلة ,كتوتر شفتين قبل قبلة ,لمرأة بلغت في غيابي
ثلثين سنة ..وبعض قُبَل .ويلزمها سبع قبلت أخرى ,لتبلغ عمر حزني الموثق في شهادة
ل تأخذ بعين العتبار ,ميلدي على يديها ذات 30أكتوبر على الساعة الواحدة والربع
ظهرا ..في مقهى!
الشياء معها تبدأ كما تنتهي :على حافة ربع الساعة الخيرة.
كانت تتأملني بارتباك المفاجأة .وكنا بعد سنتين من الغياب يتصفح أحدنا الخر على عجل,
وندخل صمتا في حوارات طويلة لحديث لم يكن.
سألتها إن كان في رفقتها أحد.
ردت:
-حضرت بمفردي.
-حسنا إذن أقترح أن تلقي نظرة على المعرض ثم أدعوك لنشرب شيئا معا في المقهى
المجاور.
تعمدت أن أتركها تقوم بجولة بمفردها .أردت أن أحافظ على جمالية المسافة لراها
بوضوح ,ولتجسس على ذاكرتها المعلقة فوق أكثر من جسر.
كما توقعت ,بعد بضع لوحات ,ذهبت صوب تلك اللوحة .رأيتها تقف أمامها طويلً كما لول
مرة منذ عشر سنوات.
كما من دون قصد قصدتها .كانت تجيل النظر في دليل اللوحات .سألتها إن كانت أحبت تلك
اللوحة.
قالت كما لخفاء شبهة:
-كنت أعجب فقط أن يكون الرسام باعها .أرى عليها إشارة حمراء.
سألتها مستفيدا من الفرصة إن كانت تعرف الرسام.
قالت:
-ل ..أبدا .لكن من عادة الرسامين أن يحتفظوا بلوحتهم الولى .وحسب التاريخ المكتوب
عليها ,هي أول لوحاته ,بينها وبين بقية اللوحات أكثر من ربع قرن!
-هل كان يعنيك شراؤها؟
قالت بعد شيء من التردد:
-ل أدري..
ثم واصلت:
-في جميع الحالت بيعت ,وعلي أن أختار غيرها ..ل أستطيع التركيز على شيء وأنت
معي .سأعود مرة ثانية لختيار لوحة أو لوحتين.
قلت مستدرجا إياها لعتراف ما:
-مازلت غير مصدق أننا معا ..بربك ما الذي جاء بك إلى هنا؟
أنا الذي كنت أملك سوء الظن بأجوبتها ,لم أكن مهتما باختيار صيغة لسئلتي .كانت تملك
إغراء الصمت المفاجئ عن اعتراف كادت تطيره ريح المباغتة .ولذا بين جملتين تنحسران
كذبا كانت تشد فستان اللغة صمتا ..إلى السفل.
-إنها مصادفة ل أكثر ..أمدني أخي ناصر ببطاقة إعلن عن هذا المعرض لعلمه أنني أحب
الرسم ...غادرت باريس منذ 10سنوات وما عدت منذ ذلك الحين أتابع الحياة الثقافية هنا.
لم أفهم سر إصرارها على إنكار وجود هذا الرجل ذات يوم في حياتها.
أكان ذلك بسبب عاهته؟ أم كهولته؟ أم كانت فقط ككل الكتّاب ل تحب انفضاح شخصياتها في
واقع الحياة؟
كان واضحا أن ناصر لم يأتِ على ذكري معها ول زيان طبعا ,مما جعلها تتوقع وجودي هنا
مصادفة .ونظرا لختلف اسم الرسام عن اسم بطلها ,ربما اعتقدت أن الكذبة انطلت عليّ,
خاصة أنها كانت واثقة من وجود زيان في المستشفى واستحالة لقائي به.
ربما ولدت لحظتها في ذهني تلك الفكرة المجنونة التي رحت بسرعة الفرحة أخطط
لتفاصيلها ,بعد أن قررت أن أهيئ لذاكرتها مقلبا بحجم نكرانها!
عندما خلوت بها بعد ذلك في المقهى ,بدت لي كثيرة الصمت سهوا ,دائمة النظر إلى الرواق
الذي كنا نراه خلف الواجهة الزجاجية على الرصيف الخر ,كأنها كانت تستعيد شيئا أو
تتوقع قدوم أحد .إنها لم تتغير.
متداخل الوقت حبها ,لكأنها تواصل معك حب رجل أحبته قبلك ,أثناء استعدادها لحب من
سيليك.
لفرط ديمومة حالتها العشقية ,لم تعد تعرف هلع النساء في بداية كل حب ,ول حداد العشاق
أمام يتم العواطف.
أنت الذي قد يأخذ معك حداد حب سنتين ,يا لغباء حدادك الشعبي! من أين لك هذا الصبر
على امرأة لها حداد ملكيّ ,ل يكاد يموت ملك إل ويعلن مع مواته اسم من سيعتلي عرش
قلبها؟
سألتها مرة عن سبب أل تكون كتبت سوى كتاب واحد .أجابت ساخرة " :لم أرت ِد سوى حداد
حب واحد ,لتكتب ل بد أن تدخل في حالة حداد على أحد أو على شيء ,الحياة تزداد قصرا
كلما تقدم بنا العمر ,ول وقت لنا لمثل هذا الهدر الباذخ .ما الحداد إل خيانة للحياة ".وربما
كانت تعني أن الوفاء لشخص واحد ..خيانة لنفسنا .تحاشت قول ذلك لنني كنت وقتها ذلك
الشخص الواحد الذي كانت تحبه!
عندما أحضر النادل طلباتنا ,سألتها وأنا أشعل سيجارة:
-هل كتبت شيئا خلل هاتين السنتين؟
كان باستطاعتي عبر هذا السؤال وحده أن أعرف ما حدث بعدي.
باغتها سؤالي حتما .على القل في استباقه أسئلة أخرى ,أظنها أدركت بذكاء " شيفرتنا"
العشقية ..كنت أسألها إن هي لبست حدادي بعض الوقت.
ردت بصوت غائب:
-ل..
لم تضف شيئا على تلك الكلمة ,أي تبرير يمكن أن يغير وقعها .شعرت بلسعة اللم وبوجع
العتراف الذي تلقيته كإهانة لحبنا.
ألم يبق من اشتعالت ذلك الزمن الجميل ما يكفي لضرام نار الكلمات في كتاب؟
ي سوى خالد بن طوبال ,الرجل الذي كنت أذكرها به والذي
أهي لم تحبني إذن؟ وما أحبت ف ّ
كانت تقول إنه أحد ابتكاراتها الروائية.
أم ترى أحبت فيّ عبد الحق ,الرجل الذي توهمته أنا وكان سيليني في عرش قلبها لو أن
الموت لم يسبقها إليه؟
حب يحيلها إلى حب ول وقت لديها للفقدان .الفقدان الذي هو مداد الكتابة.
سألتني بعدما طال صمتي:
-فيم تفكر؟
-في مسرحية عنوانها " الحداد يليق بإلكترا" .كنت أفكر أن الحداد يليق بك .جربي الحداد
بعض الشيء ,قد تكتبين أشياء جميلة.
-عدلت عن كتابة الروايات .إنها كالقمار تعطيك وهما كاذبا بالكسب .أثناء إدارتك الخرين
تنسى أن تدير حياتك ..أقصد تنسى أن تحيا .كل رواية تضيف إلى عمر الخرين ما تسرقه
من عمر كاتبها .كمن يجهد في تبذير حياة بحجة تدبير شؤونها.
سألتها ساخرا:
-ألهذا تقتلين أبطالك دائما لتوفري على نفسك جهد إدارة حياتهم؟
ردت مازحة:
-ثمة أبطال يكبرون داخلك إلى حد ل يتركون لك حيزا للحياة ,ول بد أن تقتلهم لتحيا .مثل
هؤلء بإمكانهم قتل مؤلفيهم .بعض الروائيين يموتون على يد أبطالهم لنهم ما توقعوا قدرة
كائن حبري على القتل.
واصلت بعد شيء من الصمت:
-خالد مثلً ..لو لم أقتله في رواية لقتلني .ما قست عليه رجلً إل و ازدادت فجيعتي .كان
ل بد أن يموت .جماله يفضح بشاعة الخرين ويشوش حياتي العاطفية.
راودتني رغبة أن أقول لها إنه -برغم ذلك -على قيد الحياة ,يشاركنا استنشاق هواء هذه
المدينة.
لكنني صمت .لم يكن آن بعد أوان تلك المواجهة!
لم أدر لماذا ,برغم ذلك ,لم يزدني حديثي معها إل اشتهاءً لها.
كاتبة مشغولة عن كتابة الروايات بالتهام الحياة ,تفتح شهيتك للتهامها .إضافة إلى أن
امرأة على ذلك القدر من الكذب الروائي ,تعطيك ذريعة إضافية لستدراجها إلى موعد تسقط
فيه أقنعتها الروائية!
ها هي ذي .وأنا شارد بها عنها .نسيت كل مآخذي عليها .نسيت لماذا افترقنا ..لماذا
كرهتها .وها أنا أريدها الن ,فورا ,بالتطرف نفسه .كنت سأقول " :أضيئي نفق الترقب
بموعد" لكنني وجدت في تلك الصيغة استجدا ًء ل يليق بامرأة ل تحب إل رجلً عصيّ
العاطفة .قلبت جملتي في صيغة ل تسمح لها سوى بتحديد الوقت .قلت:
-أي ساعة أراك غدا؟
-أأنت على عجل؟
-أنا على امتلء.
أضفت كما لصحح زلة لسان كنت تعمدتها:
-في جعبتي كثير من الكلم إليك.
قالت:
-لماذا تتبدد في المشافهة؟ بما كان ما في جعبتك يصلح لكتابة رواية.
كان لها دهاء النوثة الفطري .فتنة امرأة تكيد لك بتواطؤ منك .امرأة مغوية ,مستعصية,
جمالها في نصفها المستحيل الذي يلغي السبيل إلى نصف آخر ,يوهمك أنها مفتوحة على
احتمال رغباتك.
هي المجرمة عمدا .الفاتنة كما بل قصد .تتعاقد معها على الخلص وتدري أنك تبرم صفقة
مع غيمة .ل يمكن أن تتوقع في أي أرض ستمطر أو متى.
امرأة لها علقة بالتقمص .تتقمص نساء من أقصى العفة إلى أقصى الفسق ,من أقصى
البراءة إلى أقصى الجرام.
قلت:
-حواراتنا تحتاج إلى غرفة مغلقة.
ردت:
-ل أحب الثرثرة على شراشف الضجر.
أجبتها بما كنت واثقا أنه سيقنعها:
-لن تضجري ..هيأت لك موقدا أنت حطبه.
لفظت هذه الجملة وأنا ابتسم ,فوحدي كنت أعرف ما أعنيه .لكنني واصلت بنبرة أخرى:
-كيف تقاومين هذا المطر بمفردك؟ نحن في باريس ,إن لم يهزمك الحنين إليّ ستهزمك
النشرة الجوية ,إل إذا كنت أحضرتِ في حقائب سفرك من يتكفل بتدفئتك!
غرقت لول مرة في صمت طويل.
لحظت في صوتها نبرة حزن لم أعهدها منها ..ثم واصلت كأنها تحادث نفسها:
-سامحك ال..
ولم تضف شيئا.
شعرت بحزن من أساء إلى الفراشات ,ولم أجد سببا لشراستي معها .ربما لفرط حبي لها.
ربما لدراكي بامتلكي المؤقت لها .لم أستطع أن أكون إل على ذلك القدر من العنف
العشقي.
قلت معتذرا :
سامحيني لم أكن أقصد إيلمك.
قالت بعد صمت:
-يؤلمني أنك ما زلت ل تعي كم أنا جاهزة لدفع مقابل لقاء معك .عيون زوجي مبثوثة في
كل مكان ..وأنا أجلس إليك في مقهى غير معنية إن مت بسببك في حادث حب .أنا التي أن
لم أمت بعد ,فلكوني عدلت عن الحب وتخليت عن الكتابة .الشبهتان اللتان لم يغفرهما لي
زوجي.
أمسكت بيدها قصد تقبيلها ,بدا لي خاتم الزواج ,أعدت وضعها وأخذت الخرى .طبعت قبلة
طويلة عليها وتمتمت كما لنفسي:
-حبيبتي...
سألتها وأنا أرفع شفتي عن يدها:
-كيف سمح لك أن تسافري من دونه؟
قالت:
-جئت مع والدتي بذريعة أن أراجع طبيبا مختصا في العقم النسائي .نحن هنا لنلتقي بأخي
ناصر .حضر من ألمانيا خصيصا ليرانا .أخاف أن تموت أمي بدون أن تراه ..أصبحت هذه
الفكرة ذعري الدائم ,هرول العمر بها سريعا منذ غيابه.
قلت وأنا ممسك بيدها:
-كم تمنيت أن ألتقي بوالدتك .كثيرا ما شعرت أنها أمي .ل بسبب يتمي فحسب ,بل
لحاسيسي المتداخلة المتقاطعة دوما مع جسدك .أحيانا أشعر أننا خرجنا من الرحم نفسه.
وأحيانا أن جسمك هو الذي لفظني إلى الحياة ومن حقي أن أستوطنه .أعطيني تصريحا
للقامة فيه تسعة أشهر ..أطالب باللجوء العاطفي إلى جسدك!
ابتسمت وعل وجنتيها احمرار العذارى ,وارتبكت خصلت شعرها حتى بدت كأنها صغيرتي.
كنت أحب جرأتها حينا ,وحينا حياءها .أحب تلك النوثة المترفعة التي ل يمكن أن تستبيحها
عنوةً إل بإذن عشقي.
قالت وهي ترفع خصلة شعرها ببطء:
-معك أريد حملً أبديا.
أجبت ممازحا:
-لن أستطيع إذن أن أستولدك طفلة جميلة مثلك .أتدرين خسارة ألّ تتكرري في أنثى
أخرى؟ ستتضائل كمية النوثة في العالم!
-بل أدري خسارة أن أتحسس بطني بحثا عنك كل مرة ,ول أفهم أل تكون تسربت إليّ .ل
بد أن تكون امرأة لتدرك فجيعة بطن لم يحبل ممن أحب .وحدها المرأة تدرك ذلك.
سألتها بعد صمت:
-حياة هل أحببتني؟
-لن أجيبك .أرى في سؤالك استخفافا بي ,وفي جوابي عنه استخفافا بك .كل المشاعر التي
تستنجد بالبوح هي مشاعر نصف كاذبة .إن خدش حميمية الخر ل تتأتى إل بالتعري الدميم
للبوح.
هذا كلم تعلمته منك في ذلك الزمن البعيد أيام كنت أستجدي منك اعترافا بحبي فتجيب ":أي
طبق شهي للبوح ل يخلو من توابل الرياء .وحده الصمت هو ذلك الشيء العاري الذي يخلو
من الكذب".
قلت مندهشا:
-متى حفظت كل هذا؟
-في تلك اليام التي عشتها عند أقدام أريكتك ,بصبر قطة ,ألعق من صحن النبهار كل ما
تتفوه به .قلت مازحا:
-وعندما كانت تشبع تلك القطة ,تحولني إلى كرة صوفية تلعب بها حينا وأحيانا أخرى
تنتف بمخالبها خيوطها .كم غرستِ مخالب ساديتك في طيبوبتي ..ثم لعقت جراحي إمعانا في
إيلمي.
ضحكنا بتواطؤ الزمن الجميل .وعندما رأيتها تنظر إلى ساعتها معلنة تأخرها ,قلت:
-أريد أن أراكِ ..ل بد أن تتدبري لنا موعدا.
-ل أظنني أستطيع التحايل على ناصر وآما معا .سيلحق بي أحدهما حتما حيثما أذهب.
قلت ضاحكا:
-ولماذا أنتِ روائية إذن؟
***
افترقنا في المقهى خشية أن نصادف أحد التجار الجزائريين من المترددين على المعرض,
بعد أن تركت لها رقم هاتفي الجوال.
تركتها تسبقني بخطوات .وبينما كانت تنتظر سيارة أجرة ,كنت أقصد المترو عائدا إلى البيت
خوفا على جمال فرحة قد أنفضح بها.
الفرحة الخرى كانت سفر فرانسواز صباح الغد .وجدتها تعد حقيبة سفرها.
كانت مجهدة بعد يومين من العمل في المعهد ,ل ترغب سوى في النوم كي تستطيع
الستيقاظ باكرا.
سعدت بأنها لم تتحرش بي .كان عقلي كله عند حياة ,ولم أكن سعدت بأنها لم تتحرش بي.
كان عقلي كله عند حياة ,ولم أكن بي .كان عقلي كله عند حياة ,ولم أكن أدرك أن عقلها
أيضا كان عند رجل آخر!
ل تلك الليلة أمام التلفزيون .لم أستطع النوم .ثم فكرت أن أطلب ناصر لياقة
سهرت طوي ً
للطمئنان عن والدته.
بدا محتفيا بي كأنه افتقدني .وأصر على دعوتي يوم السبت للعشاء عند مراد لن والدته
ستحضر لتعد لهم أكلً قسنطينيا!
سألته عن صحتها .قال بشيء من السى:
-إن العذاب النفسي الذي عرفته امّا على يد الفرنسيين أيام كان أبي أحد قادة الثورة
الملحقيين ,ل يعادل ما تلقيه في هذا العمر بسببي ..تصور أن تتحمل عجوز في سنها
مشقة السفر لترى ابنها ,لن وطنه مغلق في وجهه وعليها أن تختار أتريده ميتا أم متشردا.
لم أشأ أن أقص عليه ما بذريعة مواساته كان سيزيده ألما.
ذكرني كلمه بما سمعته يوما عن والدة أحمد بن بلة التي ,رغم ما كانت عليه من ضعف
بنية وقصر قامة ,أذهلت الفرنسيين بشجاعتها .فعندما اعتقلوا ابنها وساقوها إليه قصد
إحباط معنوياته وتعذيبه برؤيتها ,فاجأتهم بأن لم تقل له وهي تراه مكبلً سوى " الطير الحر
ما يتخبطش" وأدركوا أنها بذلك المثل الشعبي كانت تحثه على أن يكون نسرا كاسرا ل
عصفورا ينتفض خوفا في يد العدو.
لكن الحياة كانت تعد لها امتحانا آخر .فبعد استقلل الجزائر خرج بن بلّة زعيما من سجن
العدو ليجد معتقلت وطنه مشرعة في انتظاره سبع عشرة سنة أخرى .لم يسمح لتلك الم
العجوز برؤيته سوى بعد سنتين من اعتقاله .يومها ولهانة ابنها تم تعريتها وتفتيشها
وتركت ترتجف بردا على مرأى من كلب حراسة الثورة .لم تصمد كهولتها أمام مجرى
هواء التاريخ ,ماتت بعد فترة وجيزة من جراء نزلة القهر بردا على مرمى العيون اللمبالية
لوطنٍ له القدرة على مسخ النسور الكواسر إلى عصافير مذعورة.
كان عليه أن ينتظر خمس عشرة سنة لتفتح له الزنزانة على مضض ,ويطير كعصفور
مهيض الجناح ليحط باكيا على قبرها.
ل أدري كيف وصلت إلى هذا الكم من اللم نهار كنت فيه الكثر سعادة .كنت طلبت ناصر
طمعا في رائحة أخته ,وإذا بي أبكي بسبب أمه .مسكونون نحن بأوجاعنا ,فحتى عندما نحب
ل نستطيع إل تحويل الحب إلى حزن كبير.
في اليوم التالي استيقظت باكرا كي أتناول فطور الصباح مع فرانسواز ,وأودعها بما يقتضيه
الموقف من حرارة ,و أتلقى تعليماتها الخيرة حول إدارة شؤون البيت في غيابها .عندما
عدت إلى البيت بعدما رافقتها لحمل عنها حقيبتها حتى باب البناية انتابني شعور غريب
ونظراتي تتقاطع مع نظرات البواب الفضولية التي ل تخلو من عدائية صامتة.
أحسست كما لو كنت ل أقيم في هذا البيت ,بل أسترق إقامتي فيه ,كالمهاجرين الذين ل
أوراق لهم .أجرب المساكنة .أقيم علقة غير شرعية مع مسكن عليّ أثناء مكوثي المختلس
فيه ,أل ألفت نظر الجيران أو أثير انتباههم .عليّ أل أفتح الباب لحد ,لنني لست هنا أحد,
ول أرد على الهاتف ,خشية أل يكون " هو" على الخط .فأنا موجود هنا في المكان الخطأ
فوق ألغام الذاكرة .وعندما سيدق ذلك الهاتف طويلً بعد ذلك ولن أرد عليه ,سأكتشف بعدها
أنني كنت موجودا في الوقت الخطأ أيضا!
وحده ذلك المشروع الذي أهدتني إياه المصادفات في تقاطعها الغريب كان يملني حماسة.
ذلك أنني قررت أن أستدرجها إلى هذا البيت لرغامها على العتراف بأنها ذات يوم مرت
من هنا ,وأن ذلك الرجل وجد حقا.
سبق لها أن قالت إن للذاكرة حيلٌ إحداها الكتابة ,وكانت تعني أن للذاكرة أحابيل إحداها
الكذب .وكانت يومها توهمك بذلك لتهرب تلك الحقيقة في كتاب ,هي التي تحب توثيق
جرائمها العشقية ,كيف كان لها أل تصف بيته بكل تفاصيله ,بتمثال ( فينوس) في ركن من
الصالون .بلوحات الجسور المعلقة على الجدران ,بالشرفة المطلة على جسر ميرابو,
بالمرسم الذي تكدس على رفوفه الكثير من تعب العمر.
ذلك أنها ما توقعت أن يكون لقارئ يوما ,قدر القامة في الغرف السرية لكتابها.
كنت أعي ذلك المتياز الذي أهدتني إياه الحياة .ولذا قررت أن أقضي نهاري في البيت
متمتعا باحتجازي في متاهات رواية ,أُقحمت فيها كبطل من أبطالها.
في الواقع كان شيءٌ فيّ ينتظر صوتها .شيء ل يتوقف عن انتظار شيء منها .وكنت ل
أعرف لي مكانا يليق بتوتري غير ذلك البيت .كنت أنتظر صوتها كما اعتدت أن أنتظر
صورة .فعندما تكون جالسا على مقعد الوقت المهدور ,غير منتظر لشيءٍ البتة ,تجد الشياء
في انتظارك ,وتهديك الحياة صورة لمشهد لن يتكرر.
أن تنتظر دون أن تنتظر .دون أن تعرف بأنك تنتظر .لحظتها تأتي الصورة مثل حب ,مثل
امرأة ..مثل هاتف .تأتي عندما يكون المكان مليئا بشيء محتمل المجيء.
وكنت مليئا بذلك البيت .أعيش بين غبار أشياء يلمسني في صمته ضجيجها .ويذكرني أنني
عابر بينها .ولذا أحضرت آلة تصويري ,ورحت بدوري أوثق زمني العابر في حضورها.
ذلك أنني اعتدت أن أطلق سيلً من الفلشات على كل ما أشعر أنه مهدد بالزوال كأنني أقتله
لنقذه.
من جثة الوقت تعلمت اقتناص اللحظة الهاربة ,وإيقاف انسياب الوقت في لقطة .فالصورة
هي محاولة يائسة لتحنيط الزمن.
عندما امتل ذلك الفيلم بالصور ,فاجأني إحساس بالبوة .كأن آلة التصوير التي كانت رفيقة
حياتي غدت أنثى تحمل في أحشائها أولدي.
فتلك اللحظة الغامضة الخاطفة التي يتقاطع فيها الظل والضوء ليصنعا صورة ,تعادل في
معجزتها اصطياد هنيهة الخصاب بين رجل وامرأة.
ل أدري من أين خطرت لي هذه الفكرة .ربما لنني بسبب عقدة يتمي كنت مهووسا ببطون
النساء وصدورهن ,دائم البحث عن رحم أأتمنه على طفلي.
هي كانت كفينوس ,لها غضاضة بطن لم ينجب .حزن نساء يدارين بحياء فاجعة الخواء .في
كل تطابق معها كنت أصلي للهة الخصاب كي تحرر أنوثتها المغتصبة في أسرة العسكر.
كانت ذاكرتي المنتصبة دوما تتمرد على فكرة أن يشيخ بطنها من غير انفضاح بي.
ذات مرة قلت لها مازحا ":أنت لن تحبلي من سواي .فمنذ موت الفاشية ما عادت النساء
تحبل قسرا ,مستسلمات لسطوة طغاتهن ,كتلك المرأة التي قرأت أنها قالت بفعل الجاذبية
الخارقة للقوة " عندما رأيت موسيليني يمر في موكب شعرت أنني حبلت منه ".اليوم ,حتى
البطون الموصدة للميرات أذابت نيران العشق شموع أختامها الملكية .وما عاد اللقاح
الزرق يثير شهية الخصاب لدى الرحام المتوجة.
عندما أغلقت جهازي النقّال ,شعرت أن كل الفصول قد عبرت في مكالمة واحدة عبر ذبذبات
صوتها ,وأنني تائه بين إشراقة ضحكتها وغيم صمتها ورذاذ حزنها السري.
حرّك فيّ ذلك الهاتف أحاسيس متناقضة وليدة مشاعر عنيفة في جموحها.
بعد انقطاع صوتها كان ينتابني حزن ل مبرر له .لفرط إسعادك كانت امرأة تحرض الحزن
عليك.
عاودتني تلك المنية ذاتها :ليت صوتها يباع في الصيدليات لشتريه .إنني أحتاج صوتها
لعيش .أحتاج أن أتناوله ثلث مرات في اليوم .مرة على الريق ,ومرة قبل النوم ,ومرة
عندما يهجم عليّ الحزن أو الفرح كما الن.
أي علم هذا الذي لم يستطع حتى الن أن يضع أصوات من نحب في أقراص ,أو في زجاجة
دواء نتناولها سرا ,عندما نصاب بوعكة عاطفية بدون أن يدري صاحبها كم نحن نحتاجه.
الفصل السابع
على يمين الذكريات ,قبالة الضفة اليسرى لنهر السين ,كانت كراسٍ تنتظر لقاء المصادفات,
وطاولت تحتسي الضجر المسائي ,وكان ثمة أنا ,خلف واجهة زجاجية لمقهى في زاوية
مهيأة لشخصين .أنتظرها على مرمى بيت خارج من كتاب.
وهي ستأتي .لها هنا عاشق على أحر من موقد ,ولي رغبات بشيء من الهيل ,وقهوة من
غير سكر ,يأتي بها نادل الحزن المهندم.
كنت شاردا بها خلف زجاج الترقب حين فاجأني برق طلّتها .وقفت أسلّم عليها واضعا قبلتين
على خديها دون تفكير .فباريس تجيز لك سرقة القبل.
سحبت كرسيا وجلست قبالتي .قالت وهي تستعيد أنفاسها:
-ضعت في متاهات المترو ..فقدت عادة التنقل في ذلك العالم السفلي المزدحم بالبشر ..ما
الذي أوصلك إلى هنا؟ ما سمعت بهذه المحطة من قبل!
طبعا لم أصدقها .كنت أصدّق فيها بياض الكذب .وفهمت كم كان يلزمها من حقائب لتهريب
كذبة واحدة.
-آسف ..ظننتك تحسنين التنقل بالميترو.
ردت وهي تضع حقيبة يدها على الكرسي المجاور:
-في لحظة ما ,خفت أن تكون أخطأت في إرشادي إلى العنوان.
أجبت مبتسما:
-طبعا لم أخطئ ..وإن كنت أحب العودة معك إلى جادة الخطأ!
راحت تتأملني لبرهة ,كما لتحاول فك إشارة كنت أبعثها إليها بين الكلمات ,ثم قالت بعصبية
أنثوية:
-ما زلت تتعمد أن تقول لي أشياء ل تفهم!
قلت ضاحكا:
-أبدا ..كنت أعني أنني عشت عمرا على خطأ ..صوابي الوحيد أنني تعثرت بك.
اكتفيت بأن أوصل إليها نصف ما أقصد .النصف الخر ستكتشفه لحقا.
قالت متوسلة:
-أرجوك ..ل ترهقني بجهد إضافي ..ل قوة لي على البحث بين الكلمات .يكفيني ما قمت
به من جهد حتى ل تغير أمّا أو ناصر رأيهما ويصطحباني معهما إلى ذلك العشاء.
عندما حضر النادل ليسألها ماذا تريد ,اعتذرت وقالت إنها تفضّل أن تغادر المقهى.
أكانت على عجل كي نختلي؟ أم كانت على قلق متوجّسة شيئا قد أفاجئها به؟
دفعت ثمن قهوتي وغادرنا المقهى.
بدت لي مندهشة ,متباطئة الخطى وهي تراني أسلك طريقا كنها تعرفه.
سألتها إن كان ثمة ما يزعجها:
-نسيت كيف أسير بأمان في شارع ليس إلّ .اعتدت على مدن شكاكة ,تنتظرك خارج بيتك
بعيون فضولية ,وأخرى متربصة ,وأخرى عدائية .توقعك في قبضة الخوف.
كنا نسلك منعطف الشارع المؤدي إلى البيت عندما فاجأنا المطر .سألتها إن كانت تحمل
مظلة:
-ل ..نسيتها لفرط عجلتي.
-وأنا نسيتها لفرط فرحتي ..لكن ل يهم نحن لسنا بعيدين عن البيت.
واصلت التحرش بها وأنا أراها تسبقني بخطوات:
-هل أنت على عجل؟
ردت بشيء من العصبية وهي تغطي شعرها بحقيبة يدها:
-أنا على بلل..
اكتفيت بإسراع الخطى نحو تلك البناية وأنا أفكر في فصاحتها المواربة.
وقفت جواري باندهاش صامت وهي تراني أضغط على الرقام السرية التي تفتح باب
البناية .وهذه المرة أيضا لم أسألها ما الذي يدهشها ,تغابيت وهي تسألني:
-أتسكن هنا؟
أجبت مازحا:
-دوما كنت أقيم في شوارع جانبية لجادة حبك.
أحسست أن المفاجأة سمرتها عند الباب .سحبتها من يدها قائلً:
-تعالي ..ل تبقي هكذا على ناصية السئلة.
لكنها سألتني بنبرة من كان يمشي نائما ..ثم استفاق:
-إلى أين نحن ذاهبان؟
-تدرين ما يقول مقطع من " بحيرة البجع" " ,تعال على رؤوس الصابع ,واضعا يدا على
فمك كي ل تبوح بسر المكان الذي أقودك إليه ,كي تستأثر وحدك بالجواهر المرصعة على
اسمك".
ردت متذمرة:
-أهو وقت بحيرة البجع؟ أطرح عليك سؤالً فتجيبني شعرا!
أجبتها ونحن ندخل المصعد:
-حضورك يورطني دائما في الشياء الجميلة.
عندما انغلق المصعد علينا ,لم تكن مشغولة بلحظة خلوتنا الولى .كان نظرها يتسمر على
لوحة الزرار التي تحمل أرقام الطوابق.
ربما بدأت تتأكد لحظتها نحو أي طابق كنت آخذها .ولكنها واصلت النظر إلى اللوحة ,كأنها
تراهن على احتمال وجود خطإٍ في اللحظة الخيرة.
قلت كما دون قصد ,متماديا في التغابي المزعج وأنا أضغط على زر المفاجأة:
-الحب له دائما حضور متعالٍ ,إنه يقيم في الدور السابع.
لم تعلق بكلمة ,ول أنا نظرت في عينيها بحثا عن آثار صدمة ارتطامها بالحقيقة.
عندما فتحت الباب ,شعرت وأنا أنير البيت أن نظرتها تتفقد المكان كما لتطمئن على سلمة
الشياء.
كانت اللعبة مشابهة للوحة يتنكر رسامها لملهمه ,وعندما تكون انتبهت إلى تصديقه ,تقودك
خطى القدر يوما إلى مكمن سره ,ول يمكنك آنذاك مقاومة الرغبة في وضعه أمام كذبته.
وهذا البيت الخارج من كتابها ,والمطابق لكل تفاصيل وصفها له ,يليق بمواجهة كهذه .كنت
أحب تلك اللحظة التي أفحم فيها امرأة بحجة ل تتوقعها ,ثم أتفرج على عريها أمام الحقيقة.
قررت أن أمضي في لعبة التغابي إلى أقصاها .ما دام لم يبد عليها أي رد فعل صارخ.
-هل أعجبك البيت؟
ردت وهي تختار كلماتها بعناية:
-فيه دفء جميل.
أضفت وأنا أتنبه لثيابها المبللة:
-كان عليك أن تحملي مظلة ..أو أن ترتدي معطف فرو ليوم كهذا.
-تعمدت ارتداء هذا الجاكيت خوف أن يتسبب لي معطف فاخر بمشاكل في الميترو .يقال إن
العتداءات وعمليات النشل كثرت هذه اليام.
قلت وأنا أضع أول قبلة على شفتيها:
-ومن قال إنك هنا في مأمن؟ ل أكثر سطوا من عاشق انتظر سنتين!
بقبلة ابتلعت زينة شفتيها ,تاركا؟ً لها ابتلع أكاذيبها ,وهي تقول:
-اشتقتك ..كم انتظرت هذا اليوم.
في الوقع ,كانت ل تزال تحت وقع إرباك المكان ,ول تجرؤ على سؤالي كيف وصلت إلى هذا
البيت ,ول ماذا أفعل هنا.
فرحت أتأمل ملمحها بعد مباغتة القبلة الولى التي يتغير بعدها وجه الخر ,لنه ل يعود
كما كان من قبل.
قلت متحاشيا إرباك الموقف:
-أنت تصغرين مع كل قبلة ..بعض قُ َب ٍل أخرى وتصبحين على مشارف العشرين.
ردت وهي تتجه نحو الصالون:
-ومن أدراك أنني أحب ذلك العمر ..اليوم لي عمر شفتيك.
قلت بسخرية ل تخلو من تهكم مر:
-وغدا؟
أجابت وقد باغتها السؤال:
-غدا؟ ل أدري ..ليست الخرة من هواجسي.
قلت مازحا:
-سأعطيك إذن من القبل ما يجعلك تبلغين سن الجحيم بسرعة.
كنت أتعمد ممازحتها تخفيفا لحرج اللحظات الولى .في الواقع ما كانت لي رغبة سوى
تأملها.
جلست على الريكة قبالة الموقد ,أنظر إليها ,وهي تتنقل في الصالون متأملة تمثال فينوس
واللوحات المعلقة على الجدران ,دون أن تعلّق بشيء.
لم أقاطع خلوتها الولى بالذاكرة .كنت سعيدا بتأملها.
كانت مبللة كقطة .شيء منها كان يذكرني بـ " أولغا" جارتي البولونية ,وهي تنشف شعرها
في روب حمامها البيض .خشيت عليها أن تمرض.
-بإمكانك أن تجففي شعرك في الحمام.
ابتسمت ابتسامة غائبة:
وقبل أن تتوجه نحو الحمام تذكرت شيئا فأردفت قائلً:
-إن شئت أن تغيري ثيابك ..لدي فستان لك ,بإمكانك ارتداؤه.
ردت بلؤم نسائي:
-أهو فستان لصاحبة البيت؟
قد تكون رأت صورا لفرانسواز وأخرى لمها على طاولة ركن في الصالون.
ل استفزازها:
أجبت متجاه ً
-ل ..بل اشتريته لك.
ل ذلك الفستان السود في كيسه الفاخر.
تركتها واقفة وسط الصالون ,وعدت بعد حين حام ً
قلت وأنا أناولها إياه:
-أتمنى أن يعجبك ..وأن يكون مقاسك.
قالت وهي تأخذه مندهشة:
-متى اشتريته؟
أجبت مازحا:
-لن تصدقي لو قلت لك إنني اشتريته منذ أكثر من شهرين ,حتى قبل أن أتوقع لقاءك.
راحت تفرده بإعجاب واضح:
-جميل ..جميل حقا ..كيف فكرت أن تشتريه لي ,لقد خربت حتما ميزانيتك.
-ل تهتمي ,إنه استثمار عاطفي جيد.
-لو لم أحضر إلى باريس ول التقينا ماذا كنت ستفعل به يا مهبول ..أكنت ستهديه
لزوجتك؟
-قطعا ل ,اشتريته لرشو به القدر إنه ثوب الحب ..وسعيد أن تكوني أنت من ترتديه ل
أخرى.
ردت بغيرة نسائية واضحة:
-وهل ثمة أخرى؟
-ل ..إنما أنت من علمتني أننا نفصّل كل حب من قماش حب آخر.
لم تعلّق .ذهبت صوب المرآة ووضعته على جسدها لترى إن كان يناسبها.
طمأنتها قائلً:
-السود يليق بك.
قالت وهي تهم بإعادته إلى الكيس:
-هو أجمل من أن أرتديه في البيت ..إنه فستان سهرة.
-ونحن في سهرة ..وفي باريس .أين سأراك فيه إن لم يكن هنا؟
بدت مقتنعة.
اقترحت عليها أن تذهب إلى الغرفة المجاورة وترتديه.
تأملت للحظة وجهي المنعكس أمامها في المرآة .ثم بدون أن تقول شيئا ,أخذته ومضت
صوب الغرفة التي كان واضحا أنها تعرف الطريق إليها!
أكنت أريد أن أختبر معرفتها بالبيت ..أم أختبر صبري عليها ,وأقاصص نفسي بانتظارها
وهي تتعرى لذاكرتها في تلك الغرفة.
كان بإمكاني عن لهفة ,أن ألحق بها ,أو أن أقترح عن عادة ارتداءه أمامي في الصالون.
لكنني لم أفعل ,إنقاذا لجمالية اللحظة.
رغم استعجال الجسد وجوعه ,كنت أسعد بمتعة تأجيل متعتي ,كفاكهة تدري أنها لك ,ولكنك
تؤجل قضمها.
حاولت أن أستعين على انتظارها بالبحث عن شريط يليق بالمناسبة .كانت تلك الغنية ما
زالت داخل جهاز الكاسيت.
اكتفيت بإعادتها إلى البداية ..والضغط على الزر.
باسم ال نبدى كلمي.........قسمطينة هي غرامي
نتفكرك في منامي .........إنتي والوالدين ال
جلست رفقة قسنطينة أنتظرها ,أو هكذا ظننت ,حتى أطلت كبجعة سوداء ..كأنها في كل ما
ترتديه ما ارتدت سوى ملءتها .وإذا بها قسنطينة.
في ذلك الزمن الذي كانت تزورني فيه متنكرة في عباءة أمها ,خوفا من أعين الفضوليين
ونوايا الرهابيين المتربصين بالنساء ,أذكر قولي لها أنني أحبها في تلك العباية السوداء
أجابت يومها " :عليك أن تحب الثوب الذي ترتديه ليحبك ,وإل سيبادلك اللمبالة والنفور,
فتبدو فيه قبيحا .بعض الناس ل يقيمون علقة حب مع ما يرتدون ,ولذا هم يبدون غير
جميلين حتى في أناقتهم ,والبعض تراهم على بساطة زيهم متألقين ,لنهم يرتدون بذلة
يحبونها ول يملكون سواها".
أتراها أحبت هذا الثوب حتى لتبدو فاتنة فيه إلى هذا الحد؟
أم هي أحبت فتنة هذا الموقف وغرابة لقائنا معا في بيت يعيدها عشر سنوات إلى متاهتها
العاطفية الولى.
كانت كلمات الغنية امتدادا لخساراتنا ,ممزوجة بحسرات الشتياق إلى قسنطينة .وكانت
الموسيقى بإيقاع دفوفها تبث في الجو ذبذبات الخوف من رغبات تولّد مشاعر عنيفة ,تبدو
معها الرغبة في الرقص عبورا إلى حزن آخر.
لن وجودك في " محمية عاطفية" خارج خارطة الخوف العربي يمنحك كل الصلحيات في
اختبار جنونك ..قلت لها::
-حياة ..اشطحي لي.
فاجأها طلبي ,وفاجأني حياؤها .ردت بخجل نساء قسنطينة في زمن مضى:
-ما نقدرش ..عمري ما شطحت قدام راجل.
أجبتها بما يضاهي حياء أنوثتها من رجولة:
ي لِمنُو؟
-أنا مانيش راجل ..أنا راجلك ..وهاذا الزين إذا موش ل ّ
تراني لفظت كلمة السر التي انتظرها جسدها طويلً .فل أظن أحدا قبلي سألها " لمن
جمالك ..إن لم يكن لي أنا"؟
بحشمة قسنطينة عندما ترقص لول مرة في حضرة رجل ,راح جسدها يتهادى .لم تكن
تتلوّى ,لم تكن تتمايل ,ول كان في حركتها من غنج .كانت إثارتها في إغرائها الموارب,
في تلك النوثة التي تحت صخب الموسلين ترقص وكأنها تبكي .على أغنية محملة بذلك الكم
من الشجن.
كان في الجو براعم جنون لشهوات مؤجلة أزهرت أخيرا خارج بساتين الخوف ,لكن في
بيت متورط في حزننا أكثر من أن نفرح فيه.
بدا لي كأنما لستحالة فرحنا ,كنا نمارس الحب رقصا ,بنشوة الحزن المتعالي.
وقبلها لم أكن خبرت الرقص الذي يضرم الحزن .صامتا كنت ,جالسا قبالتها ,طربا لفرط
حزني ,حزينا لفرط طربي ,منتشيا بها لفرط جوعي إليها .دمائي تصهل تجاهها دوما,
لتنتهي كرما يعتصر تحت وقع قدميها.
أحببت فصاحة قدميها المخضبتين بدم الرجال .في كل رغبة شيء من العنف المستتر.
ألهذا خفت كعبها ,أم لنه ل يليق بقسنطينة الرقص بكعب عال؟
قلت " :اخلعي نعلك يا سيدتي ..في الرقص كما في العبادة ل نحتاج إلى حذاء" .فقد تنبهت
إلى وقوف فينوس منتصبة تواصل انتعال ابتسامتها البدية.
أن تكون آلهة لم يعفها من الذهاب حافية إلى لويس الثامن عشر .فيوم جيء بها إليه,
ليستقبلها رسميا بما يليق بمقام آلهة للجمال ,وجد من بين متملقيه من أوصله الجتهاد إلى
المطالبة بأن تتواضع وتأتيه حافية لتؤدي له طقوس الطاعة ,كما في الساطير القديمة.
ولن قدمها اليسرى كانت مغطاة بقطعة قماش متدلية من وسط جسدها ,يقال إن خبراء
الترميم في متحف اللوفر قاموا بتبديل قدمها اليمنى بقدم بدون خف.
من يومها تزداد " فينوس" تهكما .ما استطاعوا أن يجعلوا تمثالها ينحني ول يديها
المبتورتين تصفقان لحاكم أو ملك.
وهي تود لو أنها رقصت الن كأنثى على هذه الموسيقى .غير أن الرقص القسنطيني ل
يرقص بفوطة تلف حول ردفين لجسد نصف عار ,لهيبة نسائه في حضورهن الخرافي ,يكاد
رقص القسنطينيات يضاهي طقوس العبادة.
إنه يا إلهة الجمال شيء أجمل من أن يتعرى .أروع من أن يوصف.
ل إذن يا سيدتي الحجرية " ,نحن ل نستطيع الرقص مع إنسان سعيد" والبسي ثوبا
احزني قلي ً
من المخمل المطرز بخيوط الذهب ,أثقل من أن ترتديه وحدك ,أجمل من أل يراك فيه أحد.
ضعي حول خصرك حزاما قضت أمك عمرا في جمع صكوكه الذهبية ,كي تلبسيه ليلة
عرسك .مرري في قدميك المخضبتين بالحناء خلخالً تسمع رنته حين تمشين ,ول يرى منه
سوى واحد حين تجلسين ,وتعالي على هودج الشهوات المتهادي لتتعلمي الرقص
القسنطيني.
انحنت حياة تخلع حذاءها ,وتواصل الرقص حافية الشهوات ,على إيقاع خلخال أوهامي.
لفرط انخطافي بها ,لم أنتبه لحظتها لمكان إزعاج الجيران .لكن عندما راح الهاتف يرن بعد
ذلك بإلحاح في غرفة النوم ,توقعت أن يكون أحدهم اتصل احتجاجا على صوت الموسيقى.
ل بتعليمات فرانسواز ,فضلت أل أجيب ,مكتفيا بالنظر إلى الساعة.
عم ً
كانت التاسعة والربع بعد الشجن .أظننا تجاوزنا الوقت الحضاري المباح لضجيج السهر.
كان الشريط على مشارف نهايته .توجهت نحو المسجل أخفّض صوت الموسيقى.
سألتني وهي تجلس قبالتي على الريكة:
-أل ترد على الهاتف؟
-ل.
قالت بمكر النوثة:
-ربما أحد يصر على محادثتك ..اللحاح الهاتفي صفة أنثوية.
قلت متجاهلً تلميحها:
-المحب كالمتعبد ..ل يقطع صلته ليرد على الهاتف!
-ول يقطع عبادته أيضا لينظر إلى الساعة ..إل إذا كان مثلً ينتظر هاتفا.
ضحكت لمنطق غيرتها .أجبتها وأنا أفك الساعة من معصمي ,وأضعها على طاولة قريبة:
-بل ل هاجس للمتعبد إل الساعة ,لنه كالعاشق يخاف أن تفاجئه ساعته .هاجس الموت
يواجهنا أمام كل حب ,لن الزمن هاجس عشقي ,برغم أن العشاق ,كما الموتى ,ل يحتاجون
إلى ساعة لكونهم بدخولهم إلى الحب يخرجون من الزمن المتعارف عليه!
واصلت مازحا:
-خلعت ساعتي ..أتحداك أل تنظري بعد الن إلى ساعتك!
ردت ضاحكة:
-عليك اللعنة ..تهزمني دائما بدون جهد.
صححتها وأنا أضمها إلي:
-بل بجهد غبائك العاطفي!
رحت أقبلها طويلً .قبلة تأخرت كثيرا حتى لكأن عليها أن تغطي نفقات عامين من النتظار.
فوحدها اقبل بإمكانها أن تعيد إليك عمرا أفلت منك ,برغم حملك أثناءه ..ساعة في معصمك!
شعرت برغبة في أن أسألها :هل قبّلها أحد قبلي على هذه الريكة نفسها؟
غير أنني كنت أعرف الجواب ,فاستبدلته بآخر أكثر إلحاحا .قلت وأنا أعابث شعرها:
-حياة ..هل قبّلك رجل بعدي؟؟
فاجأها السؤال .ردت عليه بضحكة ماكرة ,ضحكة ماطرة تجاهلت رذاذها .قلت موضحا:
-ل أريد نصا روائيا ..ل يعنيني أن أعرف من يكون ول كيف أو متى حدث هذا ..أريد أن
أعرف فقط هل حدث؟
هي عادة ل تصدق إل عندما يكون في صدقها إيلمك ,ولمرة تمنيت لو أنها كذبت.
كنت أنتظر منها جوابا لكنها لم تملك سوى كلمات كضمادات لصقة ,توضع على عجل لوقف
نزيف.
قالت إذ وجدت في سؤال آخر براءة لذمتها:
-قلت مرة إن " الذكاء هو تقاسم السئلة" دعني أتذاكى وأسألك بدوري ,ما علقتك بهذه
المرأة التي تغطي صورها كل مكان في هذا البيت الذي تستقبلني فيه؟
ضحكت لسؤالها .فالذكاء ما كان بالنسبة إليها تقاسم السئلة بل قلبها .وأنا جئت بها إلى هنا
كي أرغمها على العتراف بحقيقة وجود خالد ..ها هي تقلب الدوار ,وتبدأ باستنطاقي عن
فرانسواز.
قررت أن أتراشق معها بجمر الغيرة ,خاصة أ ،في المر جانبا طريفا آخر .فهي ل تتوقع
حتى الن أن أكون التقيت بخالد ,أو أنني أعرف شيئا عنه ,لعتقادها أنه ترك هذا البيت منذ
سنوات .لكنها حتما تعرفت على فرانسواز من صورها المرسومة على اللوحات .ول تفهم
كيف هذه المرأة استطاعت أن تسرق منها الرجلين الهم في حياتها.
-صديقة أقيم عندها منذ أشهر.
ثم واصلت مستدركا بلؤم:
-تلقفتني " الحفر النسائية" بعدك .لكن في كل امرأة مررت بها تعثرت بك!
ردت بضحكة تخفي لهيب الغيرة:
-ل داع لسؤالك إذن ماذا فعلت في غيبتي .لكثرة ما تعثرت بي في كل حفرة ,أتوقع أن
تكون قضيت الوقت أرضا ,هل استمتعت بذلك؟
كانت أنثى ل تختلف عن الجهزة البوليسية ,تحتاج إلى تقارير ترفعها إليها في كل لقاء عن
كل أنثى مارست الحب معها قبلها .وككل المخابرات كانت تجد متعتها في التدقيق بالتفاصيل.
تماديا في إيلمها ,تجاهلت فضولها .فهي تدري أن قصة ل تبوح بتفاصيلها هي قصة
عشقية ,ووحدها المغامرات العابرة تغذّي آذان السرّة التي ل ذاكرة لها.
ربما لهذا هي لم تبح يوما بحبها لخالد ول لزياد .فهل كان حبها أكبر وأجمل من أن يحكى
خارج كتاب؟
أثناء تأملي ولعها بي ,كلما ازدادت يقينا بخياناتي لها ,وقعت على مفارقة عجيبة ,وأنا
اكتشف أن وفاء رجل لمرأة واحدة ,يجعله الشهى في عيون بقية النساء اللئي يصبح
هدفهن اليقاع به ,بينما خيانته إياها تجعله شهيا لديها!
تذكرت خالد الذي قد يكون مثلي خسرها في الماضي لفرط إخلصه لها ,ثم أصبح جديرا
بغيرتها مذ تلقفته فرانسواز ,تماما كما أصبح فنانا جديرا بالهتمام في الجزائر ,مذ غادرها,
لتتلقفه هنا صالت العرض الباريسية!
وهكذا الذين يقولون إننا نحتاج إلى الكاذيب الصغيرة لنقاذ الحقيقة ..ربما عليهم أن
يضيفوا حاجتنا إلى شيء من الخيانة ,لنقاذ الوفاء ,سواء لوطن ..أو لمرأة.
حاولت أن أستدرجها للحديث عن خالد ,مستفيدا من جلوسنا عند العشاء متقابلين للوحة
عليها جسر:
-دوما كانت الجسور ثالثنا ..أتحبين هذه اللوحة؟
أجابت وقد فاجأها سؤالي:
-ما عدت أحب الجسور .مذ اغتيل سائقي " عمي أحمد" بسببي ونحن على الجسر ,كرهت
الجسور ,خاصة أن لي جدّا انتحر بإلقاء نفسه من جسر سيدي راشد ,وهذه الحادثة التي لم
ل فكرت وأنا أعبر جوار برج
تكن تعنيني أصبحت تحضرني بين الحين والخر .البارحة مث ً
إيفيل أننا لم نسمع بأحد انتحر بإلقاء نفسه من برج ,فالمنتحر ل يبحث عن المكان العلى
للنتحار بقدر ما يعنيه زخم الحياة .هو يختار الجسر لنه يريد أن يشهدنا على موته ,ينتهز
فرصة ذلك الزخم الحياتي لكي يقضي على الحياة ,عساها تنتحر بانتحاره ,لنه برغم كل
شيء ل يصدق أنها ستستمر بعده.
كانت تبدو أجمل ,عندما تتحدث في أشياء جادة .رحت أستدرجها لحوار ظننته سيكون كذلك:
-إن كنت تكرهين الجسور ,لماذا تشغل كل رواياتك؟ اشرحي لي هذا اللغز الذي لم أفهمه!
عادت إلى مراوغتها الساخرة وردت:
-ثمة مقولة جميلة لبروست ":أن تشرح تفاصيل رواية كأن تنسى السعر على هدية" .مثله
ل أملك شروحا لي شيء كتبته.
علّقت مازحا:
-طبعا ..أفهم تماما أن تكوني امرأة ملتزمة بـ " إيتيكيت" الهدية!
ثم واصلت -وبالمناسبة ,سؤالي كان بسبب لوحة زيان اشتريتها تمثل جسرا ,وكنت أنوي
أن أهديك إياها.
قاطعتني:
-أرجوك ل تفعل .قد ل أعلقها أبدا في بيتي.
أجبتها وقد وجدتني أتحدث مثل فرانسواز:
-كنت سأهديك إياها لتعلّقيها على قلبك ..ل على جدران بيتك.
قالت:
-ما عاد في حوائط قلبي مكان لعلّق عليه شيئا.
كانت محاولتي الخيرة لستدراجها للحديث عنه .انتابتني بعدها حالة كآبة.
أكنت حقا أحبها؟ أم أحب وجعي في حضرتها؟ امرأة ل أريدها ول أريد أن أشفى منها ,كان
في طفرة ألمي بها شيء مطهر يرفعني إلى قامة النبياء.
قالت وقد لحظت حزني:
-ل تحزن هكذا ..يكفيني هذا الفستان هدية منك .احتفظ أنت باللوحة ما دامت تعجبك.
اعذرني ,أصبحت أتشاءم من الجسور.
أشعلت سيجارة وقلت وأنا أتأملها وهي تقطع شريحة اللحمة:
-أما زلت تبحثين عن آباء لرواياتك؟
ردت ضاحكة:
-ما زلت..
-روايتك التالية سأكون أباها ..وأمها ..وجد أمها ..وستكتبينها " بل أمّك"!
كان لنا قاموس من الغزل الجزائري ل غنى لنا فيه عن المسبّات .ضحكت وهي تستعيد
مفردات شراستنا العشقية وقالت وهي تقّبلني:
-نشتيك يلعن بوزينك ..ويلعن بو الرواية متاعك..
كنت أفكر لحظتها أن بعد كل متعة كان الحب يحصي عدد الطفال الذين لم أستولدها إياهم.
ولكن بعد كل حرمان جسدي كان الدب يفرك كفّيه مستبشرا بعمل روائي .ول بد لهذه المرأة
المقصّرة في الكتابة على النكتاب ,أن تنجب بحرمانها اليوم مني نصها الجمل .قررت أل
يخرج قلمها سالما من هذا البيت ,بيته.
بعد العشاء عندما وضعت على الطاولة سلة الفواكه وصحن الفراولة التي كنت أحضرتها
لعلمي بحبها لها ,قلت مازحا:
-احذري الفراولة ..برغم كونها عزلء فقد تشعل حربا عالمية .قرأت أن إحدى الرسائل
المشفرة التي كانت توجهها إذاعة المقاومة الفرنسية التي كان يشرف عليها ديغول في لندن
أثناء الحتلل اللماني ,كانت تحمل مساء 5حزيران 1944هذه الرسالة المشفرة":
أرسين يحب المربى بالفراولة" وكان ذلك إعلنا بإنزال الحلفاء جيوشهم على الشواطئ
الفرنسية!
قالت متعجبة:
-حقا..؟
قلت مازحا:
-ل تخافي ..خطورتها ليست في قوتها ..إنما في حمرة غوايتها .وربما لهذا يصعب على
الناظر إليها مقاومتها .على غير بقية الفواكه هي غير مكترثة بأن تحمي نفسها بقشرة ,أو
تلتحف بغلف .إنها فاكهة سافرة ولذا هي سريعة العطب.
كانت عيناها تتبعان يدي وهي تمرغ حبة الفراولة في صحن السكر.
قلت وأنا ألقمها إياها بذلك البطء المتعمد:
-ل أدري من ألصق للتفاح شبهة الخطيئة .الخطيئة ل تقضم ,بل تلقم ,والمتعة ليست
سوى في كمية المواربة بين الفعلين.
في الحبة الثانية ,كنت توقفت عن الكلم ,كي أعلمها فضائل الصمت في حضرة الفراولة.
تركت لثغرها أمر مواصلة التفكير في متعة ل يمكن لها أن تدوم ,حتى ل نجد أنفسنا يوما
مثل زوربا نتقيأها لنشفى منها .فالفراط في الملذات ..تراجيديا إغريقية.
تراها أدركت أنني كنت أعدها لمتعة مع وقف التنفيذ ,وأنني ألقمها فاكهة الفراق!
لم أتوقع أن يجرؤ الحب على التخلي عنا هنا حيث قادنا ,ولكن ,أكان يمكن أن يحدث شيئا
بيننا في ذلك البيت المزدحم بأشباح عشاق ,لم يكن لهم الوقت الكافي لتغيير شراشفهم
وجمع أشيائهم.
ما كانت هي ول كنت أنا .تحدثنا لغة ليست لغتنا .قلنا كلما غبيا لفرط تذاكينا .كنا نتكلم ثم
نصمت فجأة ,كي ل نقول أكثر من نصف الحقيقة ,محتفظين للمنا بنصفها الخر.
طوال السهرة ,كنا نعاند تعب السئلة ,نغالب نعاس الجوبة .أما كان يحق لصبرنا من
سرير تتمدد عليه رغباتنا المؤجلة؟
امرأة كانت رائحتها ,قميص نومها ضمن لوازم نومك .وأنت الن تستطيع النوم معها ,ول
أنت تدري ماذا ستفعل بعدها.
وكنت في تاريخ بعيد لحبكما ,تستبقيها لحظة الفراق قائلً " ل تغادري ..كل أعضائي تشعر
باليتم عندما تغيبي" وها أنت يتيم في حضرتها .يبكيها كل شيء فيك ول ترى.
وكنت تقول لها ,وأنت تغدق عليها بتلك اللذة الشاهقة " سأفسدك إمتاعا حتى ل تصلحي
لرجل غيري" وكنت تظن عندما افترقتما أنك ما عدت تصلح لمرأة بعدها .وها أنت تكتشف
أنك لم تعد تصلح حتى لها .فهل استدرجتها إلى هنا لستخراج شهادة الموت السريري لحب
كان حيا بغيابكما؟
تمددت جواري في ذاك السرير ,أنثى منزوعة الفتيل .ضممتها إلى صدري طفلة وديعة ,تلوذ
بي ,كذلك الزمن الذي كانت تسألني فيه فزعة " هل ستعيش معي؟" ,فأطمئنها ورأسي
يتململ بحثا عن المكان الدفأ في صدرها " سأعشش فيك" ,فتلح بذعر العشاق " حقا لن
نفترق؟" فأجيب بسذاجتهم " حتما لن ننشطر".
انتابني خوف مفاجئ بفقدانها ,وأنا أكرر صمتا الحركة ذاتها بحثا عن مكان لرأسي في
صدرها .ويصطدم وجهي بموسلين ثوبها السود الذي لم تخلعه .شعرت أن الموت سيسرق
أحدنا من الخر وأننا قد ل نلتقي أبدا.
عاودني ما قاله ناصر .ماذا لو دبّر لها زوجها ميتة " نظيفة" ,أو ماذا لو اغتالها الرهابيون
مثلً.
لم يكن هاجسي احتمال موتي أنا ,إنما قصاص العيش بعدها.
كانت فكرة موتها الحقيقية ,امتحانا فاضحا لعشقي إياها .فأنت ل يمكن أن تدرك مدى حبك
لشخص ,إن لم تتمثل محنة الغياب ,وتتأمل ردود فعلك ,وأحاسيسك الولى أمام جثمانه.
يوم رحت أختبر وقع موتها الحقيقي عليّ ,كدت أموت حقا .تسارعت نبضات قلبي,
وفاجأتني حالة اختناق وضيق في التنفس ظننتها ستودي بي .طلبت رقمها ,ثم قطعت الخط
لتأكد من أنها على قيد الحياة .كنا في قطيعة طويلة ,غير أني عندما استعدت أنفاسي حقدت
عليها .كان يمكن للموت أن يختلسني في غفلة منها وتواصل بعدي تبذير كلمات ضنّت بها
عليّ في حياتي ..لتشيّد بها صرح ضريحي في رواية.
كنّا متمددين بثيابنا في غرفة فرانسواز ,تحيط بنا صورها المرسومة على اللوحات.
سألتني بنبرة ما قبل البكاء وهي تلتصق بي:
-أما عدت تحبني ..أم أنت تفكر بها؟
لم أجب.
في مثل هذه الحالت ل تصل الكلمات حية ,وحدها التي ل نقولها تنجو من الرصاص
الطائش للبوح.
ضممتها إلى صدري .وقلت وأنا أقبلها:
-نامي حبيبتي ..تصبحين على كتاب!
***
كنت لحظتها أضع يدي في جيب سترتي لشدة البرد الصباحي ,حين عثرت على حبات
الشوكولطة التي أعطاني إياها زيان عندما زرته في المستشفى.
راودتني فكرة ماكرة أسعدتني .كنت ما أزال أفكر في الطريقة المثلى لتنفيذها ,عندما لمحت
سيارة الجرة في آخر الشارع تتجه نحونا ,فلم يبق أمامي إل أن أقبّلها مودّعا ,وأمد لها
بحبتين منها قائلً:
إنها شوكولطة أهداني إياها صديق زرته في المستشفى ,تناوليها حتى ل تبقي على خواء.
ظلت لبرهة تتأمل قطعتي الشوكولطة .حتما تعرّفت عليها من ماركتها المميزة ,لكنها لم تقل
شيئا.
ركبت التاكسي وهي تحت وقع المفاجأة ,بدون أن تفهم ما الذي أوصلني حتى غرفة زيان
في المستشفى ,وما الذي أوصل إلى جيبي تلك الشوكولطة التي أحضرتها له.
شعرت ,وأنا عائد إلى البيت ,بفرحة من فاز في اللحظة الخيرة في جولة شطرنج شاقة.
لكن فرحتي لم تخل من مرارة موجعة ترافق وعينا بموت شيء جميل فينا.
***
عندما نراجع حياتنا نجد أن أجمل ما حدث لنا كان مصادفة ,وأن الخيبات الكبرى تأتي دوما
على سجاد فاخر فرشناه لستقبال السعادة.
ى أل أخطط لشيء بعد الن ,عدا الستعداد لمغادرة هذا البيت قبل خروج زيان
قررت عن أس ً
ي أيضا أل أترك ما يشي بمروري .وقبل أن أنسى ,ذهبت
يوم الربعاء من المستشفى .فعل ّ
لخفاء أشرطة الغاني القسنطينية ,خشية أن أتركها في جهاز التسجيل ,فيستنتج أنني أقمت
هنا.
أثناء تفكيري في كل التفاصيل ,تذكرت أنني لم أزره منذ يومين ,وأنه قال لي وهو يمدني
بقطع الشوكولطة تلك ,إنه كان يفضل لو جاؤوه مكانها بشيء من "الزلبية" أو " قلب اللوز"
,مازحته:
-رمضان ما زال بعيدا.
-لكن المريض يشبه الصائم .إنه يقضي وقته في اشتهاء المأكولت ,خاصة تلك المرتبطة
بذاكرة طفولية أو عاطفة.
وجدت في فكرة الذهاب إلى أحد الحياء المغاربية التي ل تعترف بالعطل الفرنسية لشتري
له شيئا من الحلويات الجزائرية ,قبل أن أعوده في المستشفى ,أفضل ما يمكن أن أفعل في
يوم أحد ,خاصة أن شعوري بالذنب كان يتزايد تجاهه.
ألهذا رحت أجول في السوق العربيّ ,بحثا عن كل ما يمكن أن يحمل من الجزائر في كيس؟
اشتريت علبة صغيرة من التمر ,ورغيفا من الكسرة له ,وآخر لي ,بعد أن قال لي البائع إن
سيدة تعد هذه الرغفة كل يوم وإنها تنفذ بسرعة.
عجبت لذلك العالم الذي كنت أجهله عن جزائر أخرى نقلت بكامل منتوجاتها وعاداتها إلى
حي احتلته الوجوه السمر .وتذكرت قولً ساخرا لمراد " عدا أمك وأبيك ..تجد في هذا البلد
كل شيء".
توقفت بعد ذلك في مطعم شعبي يدّعي تقديم " كسكي ملكي" .أقنعت نفسي لجوعي أنه كذلك.
كنت في الواقع أريد أيضا هدر بعض الوقت حتى تحين ساعة الزيارات.
وصلت إلى المستشفى عند الساعة الثانية ,كان في المستشفى حركة غير عادية ,بسبب
الزيارات التي تتزايد أيام العطل.
سعدت لمجيئي حتى ل يشعر زيان بوحشة أكبر هذا اليوم بالذات .سعدت أيضا لـ" حمولتي
الوطنية" ,كانت هذه أول مرة أحضر له أكلً بدل الصحافة التي ل تزيده إل همّا.
طرقت الباب بفرحة المباغتة ,ثم فتحته كعادتي متقدما خطوة نحو المام ,لكنني فوجئت
بعجوز مشدودة إلى أنبوب الدواء تشغل مكانه في ذاك السرير .هزيلة ,شاحبة اللون ,لها
نظرات فارغة ,حلّ مكانها حين رأتني تعبير يستجد بي ,مطالبة بشيء ما لم تفصح عنه ول
أنا أدركته.
بقيت برهة مذهو ًل أنظر إليها ,قبل أن أعتذر وأغادر الغرفة مسرعا.
قصدت مكتب الممرضات في الطابق ,أسأل عن مريض الغرفة رقم .11كنت أثناء ذلك
أهدّئ من روعي ,فقد يكونون قد اصطحبوه لجراء فحوصات أو للتصوير الشعاعي ,أو ربما
غيروا غرفته ليس أكثر ,ذلك أنني تذكرت أنه قال لي مرة منذ أكثر من أسبوعين " قد ل
تجدني في هذه الغرفة ,قد أنقل إلى جناح آخر" ,قبل أن يعلّق مازحا " أنا هنا عابر سرير".
توقعت أن تدلني الممرضة على الرقم الجديد لغرفته ,لكنها سألتني إن كنت من أقاربه .أجبت
" نعم" .قالت:
-لقد اتصلنا بالرقم الهاتفي الذي في حوزتنا لنخبركم بتدهور مفاجئ لصحته ليلة البارحة,
وتركنا رسالة صوتية نطلب حضور أقاربه ,ولم يتصل بنا أحد وعاودنا التصال على الرقم
نفسه هذا الصباح دون جدوى.
بين الذعر والعجلة سألتها:
-متى كان هذا؟
-عند العاشرة والنصف صباحا.
كان ذلك الوقت الذي خرجت فيه لشتري حاجيات للكل قبل أن تغلق المحلت الغذائية ظهر
الحد.
عادت إلى دفتر كبير كان أمامها:
-التصال الول كان البارحة عند التاسعة والربع مساءً.
استعجلتها:
-وهل بإمكاني أن أراه الن؟
ردت بنبرة من تدرب أعواما على مواساة الغرباء:
.Je suis desolee monsieur..Il est decede-
بدا لي كأنها لفظت الخبر بالعربية .قام القلب بترجمته الفورية إلى لغة الفاجعة ,واختصر كل
الجملة وما تلها بعد ذلك من واجب المواساة في كلمة واحدة ,نزلت علي كصاعقة من ثلثة
أحرف.
لم أفهم كيف أن ثلثة أحرف مجتمعة في ذلم السياق تصبح برغم انسيابها الموسيقي مؤلمة
إلى ذلك الحد .حتى لكأن التاء المفتوحة في آخرها ليست سوى تابوت.
كان احتمال موته قائما ,لكنني لم أتوقعه أن يأتي سريعا ,ول بهذا التوقيت .هذه المصادفات
مجتمعة باتت أكثر تعسفية من أن تكون مصادفات .لها إصرار القدر في عبثيته.
قالت بتأثر:
-أمر مؤلم أن يموت قبل مغادرته المستشفى بيومين .كان يبدو سعيدا بخروجه .أنا نفسي
فؤجئت عندما قيل لي هذا الصباح إنه قضى ليلة أمس في قسم العناية الفائقة.
سألتني بعد ذلك وهي تراني أقف لحظات مذهولً أمامها بدون أن أقول شيئا ,إن كنت أريد
أن أراه .أجبتها "ل" .أمدتني بورقة لوقعها إن كنت أنوي استلم أشيائه .لمحت في الخزانة
التي فتحتها ,علبة الشوكولطة الفاخرة فوق كومة ثيابه .أجبتها إنني أفضل أن أترك ذلك
فيما بعد.
تركتها وغادرت المستشفى مذهولً ,مشلول الحاسيس ,كأن دموعي تجمدت في براد يحوي
الن ما كان "هو".
ل بالكيس ذاك .بكل ما أحضرته له,وما عاد في حاجة إليه .حاولت أن
أخذت الميترو محم ً
أتخلص منه بعد ذلك ,بالتصدق به ,في إحدى المحطات على أحد مشردي الميترو ,فارتاب
في أمره ,ولم يبد حماسة في أخذه مني .كان يفضل مكانه ,قطعة نقدية من عشرة فرنكات,
يشتري بها نبيذا ,فوجدتني أعطيه الكيس وعشرة فونكات لقنعه بحسن نواياي.
هو سيد التهكم والصمت الملتبس ,ما ترك لي فرصة لكذبة أخيرة ,كنت أعددتها لبرر
انشغالي عنه.
ربما كان يحتاج إلى تلك الكلمات التي احتفظت بها خوفا عليه .كان يحتاج إلى الحقيقة,
فأعفاني بموته من مزيد من الكذب.
قرر العبور إلى سريره الخير بينما كنت أنا أشغل سريره الول.
أهداني بيته ,نساءه ,وأشياءه ,وما ترك لي فرصة لهديه ولو بعض قطع من الزلبية,
وأحقق أمنيته الخيرة البسيطة ,بساطة من شبع غربة..وما بقي له سوى جوع الوطن.
أستعيده متهكما ,تهكم ذلك الغياب الشارد الذي يسبق اكتمال الغياب .كم من الشياء كنت
سأقولها له اليوم ,لو لم أكن منهك القول ,مذ أصبح بيننا كل هذا البياض .منذ متى وهو
ذاهب صوب الصمت البيض؟
عندما وصلت إلى البيت ,شعرت وأنا أدخله بهول الفاجعة .بصدمة الواقع الذي يدفعك تحت
عجلت قطار ركبته بنية الحلم.
ارتميت على أريكة الصالون منهكا كحصان سباق.
كان عليّ بدءا أن أتوقف عن الركض قليلً .أن أجلس لفهم ما الذي أوصلني إلى هذا البيت,
أنا الذي كنت ألهو بممازحة الدب ,أكنت أمازح القدر دون علمي؟
أدخلني الموقف لغرابته في حالة ذهول من أمري .رحت أتأمل مشهدا كأنني لست بطله..
كأنني شاهدته في زمن ما.
يوم قرأت سيرة ذلك الرسام ,وجدتني أتماهى معه في أمكنة كثيرة من تلك القصة .تمنيت أن
أكرر حياته بما تستحق العادة من ذكاء .ولكن من يتذاكى مع "المكتوب"؟ المكتوب الذي بدأ
بالنسبة لي بذلك الكتاب الذي ل يمكن أن تخرج من قراءته سالما.
أمنه جاءت اللعنة؟ أم من "حياة"؟ تلك المرأة التي كانت تحمل اسما يعني عكسه كعادة العرب
في تسمية ما يرون فيه شرا بنقيضه؟
أم ترى اللعنة تكمن في الجسور التي ما زال إحداها معلّقا قبالة هذه الريكة؟
هنا أمامها عاش زيان حقيقة موت زياد الذي لم يكن يفصله عن التطابق به سوى حرف.
وفي حضرة هذه الجسور أجهش راقصا على إيقاع زوربا بذراعه الوحيدة يوم أخبروه
باغتيال أخيه الوحيد.
أمصادفة إذا كانت الجسور مبنية من السمنت ,المادة التي تضمر في قتامتها غضبا مكتوما
وشرا صامتا ,كمن يدبر لك مكيدة؟ طالما شككت بنوايا الجسور ,مذ اكتشفت في كل هارب
شبهة جسر ,ل أحد يدري لي الطرفين ينتمي.
لكن زيان لم يكن هاربا .كان مهربا لما ظنه وطنا.
يالغباء الرجل ,بين ما يعتقده جسرا ,وما يعتقد الجسر أنه وطن ثمة جثتك .فالجسر ل يقاس
بمدى المسافة التي تفصل طرفيه ,بل بعمق المسافة التي تفصلك عن هاويته.
عندما تولد فوق صخرة ,محكوم عليك أن تكون سيزيف ,ذلك أنك منذور للخسارات
الشاهقة ,لفرط ارتفاع أحلمك.
نحن من تسلّق جبال الوهم ,وحمل أحلمه ..شعاراته ..مشاريعه ..كتاباته ..لوحاته ,وصعد
بها لهثا حتى القمة .كيف تدحرجنا بحمولتنا جيلً بعد آخر نحو منحدرات الهزائم؟
من يرفع كل الذي وقع منا في السفح؟
عندما دخلت فرنسا بعد سبع سنوات من الوقوف ذليلةٍ أمام تلك القلعة المحصنة كعش نسر
في العالي ,راح خيالة قسنطينة وفرسانها الذين لم يعتادوا على مذلة السر .يقفزون
بخيولهم من على الجسور عائدين إلى رحم الوديان .كان آنذاك الموت قفزا نحو منحدراتها
الشديدة ,آخر نصر لرجال ل مفخرة لهم سوى أنهم أبناء الصخرة.
بهم انتهى زمن الموت الجميل ,وأصبح وادي الرمال مجرى لنفايات التاريخ ,تطفو فيه مع
قمامة المدينة وأخبار لصوصها المحترمين ,جثث أبنائها الجميلين والبائسين.
ل شيء يستطيع أن يمنعك من تسلق " جسور الموت" حتى ذلك الحزام المني الذي ,بعد أن
كثرت حالت النتحار ,أحاطوا به خصر الجسور لتصبح أعلى .قد يمنعك أن تطل على
الموت ,ولكن ل يمنع الموت أن يطل عليك ,حيث أنت في حضيض خيباتك.
فجأة ,مثل حياة ,بدأت أتطير من هذه اللوحات .ووجدت في جلوسي أمامها ,استفزازا صامتا
لقدر ل قوة لي على مواجهته.
سعدت أنني سأغادر هذا البيت قريبا ,وأنها ستبقى هنا .ثم تذكّرت اللوحة التي اشتريتها وما
زالت معروضة حتى انتهاء المعرض .فكرت أن أكلّف فرانسواز بإحضارها .ثم فكرت في
غرابة سفري مع جثمان زيان برفقة تلك اللوحة.
أوصلني التفكير إلى حقيبتي التي ل بد أن أعدها ,وأشياء زيان التي علي أن أقوم بفرزها
بسرعة ,لنني ل أدري متى سيكون سفري إلى قسنطينة حسب تاريخ الرحلت.
ووجدتني أستعيد ما كنت عشته منذ سنتين بعد اغتيال عبد الحق ,عندما كان عليّ أن أجمع
أشيائي في بيته الذي كنت أقيم فيه بين الحين والخر في تلك الفترة التي كان فيها
الصحافيون يغيرون عناوينهم يوميا ,والتي كان عبد الحق بدوره ل يعرف عنوانا ثابتا مذ
استشعر خطر اغتياله.
ربما كان المر أهون يومها ,لنني لم أكن معنيا سوى بجمع أشيائي ,بينما تركت لزوجته
عذاب التكفل بأشيائه .غير أن وجعي كان بسبب كل ما كانت حياة قد أحضرته.حتى إنّ زيارة
بعد أخرى ,أصبح البيت ينقسم إلى أشياء عبد الحق البسيطة ,وتلك الشياء الخرى الفاخرة,
التي كانت تهربها من بيتها ,وتأتي بها ,مشفقة على بؤس شقة ,ل علقة لها بفخامة
مسكنها ,غير مدركة أنها تؤثث شقة صديقي!
في البدء كنت سأشرح لها الحقيقة ,ولكن كنت أحببت سوء الفهم العشقي الذي تورطنا فيه,
وإغراء تلك العلقة الملتبسة التي تجمعنا.
وكان بإمكان عبد الحق ,كلما مر ,أن يعرف وتيرة زياراتها من مستجدات البيت ,من مناشف
جميلة ,وشراشف أنيقة ,ومنافض من الكريستال ,ولوازم مطبخ ,وروب للحمام.
بدأت أتعود أن أراها تأتي من بيتها محملة دائما بكل ما تقع عليه يداها ,حتى الجبان
المستوردة ..وألواح الشوكولطة ..وعلب السجائر .بل حدث لفرط إجرامها العاطفي المغلف
بالعطاء ,أن أهدتني ثيابا ومصاغا اشترته نيابة عني لزوجتي!
كانت امرأة سخية في كل شيء .في خوفها عليك ,في انشغالها بك ,في اشتهائك ,في
إمتاعك ..وحتى في إيلمك.
ذلك السخاء العشقي الذي تشعر عندما تفقده بفاجعة اليتم الول ,لنك تعي أن ل امرأة بعدها
ستحبك بذلك الحجم ول بتلك الطريقة .ذلك أنك أثناء انبهارك بها ,كانت تلك المرأة تعيث فيك
عشقا وفسقا وكرما ,وتفسدك وتخرّبك وتدلّلك وتشكّلك ,بحيث لن تعود تصلح لمرأة عداها.
عندما مات عبد الحق ,أصبح السؤال ماذا أفعل بتلك الشياء .أأتركها في البيت لتتصرف بها
زوجة عبد الحق كيفما اتفق ,أو آخذها إلى بيتي لقاصص بها نفسي؟
فأصعب من اختراع قصة مقنعة لزوجتي عن مصدرها ,معايشتي اليومية لتلك الشياء التي
ارتبط كل شيء منها بذكرى تحرّض الشجون عليك ,وتعيدك إلى ذلك الجحيم غير المدرك
لسعادة كانت تحمل في فرحتها بذور تعاستك التية.
كمثل صدقة جارية ,كان عشق تلك المرأة قصاصا جاريا .ما عرفت امرأة بعدها إل وكان
فيها قصاصك .وما استعملت شيئا أهدتك إياه إل وعذبت نفسك به ,وما ضممت إلى صدرك
غيرها ..إل وهجم عليك الصقيع.
كيف تنجو من وجع المقارنة؟ هي التي أغدقت عليك بما لن تعطيك امرأة بعدها .أكانت
تضمر لك في كل ما أعطته ألما ,ذلك أن العشق وحده في كل ما يعطيك يضمر قصاصه
المستقبليّ.
ما الرحم إذن ,ما يتركه لك الموتى حين يرحلون؟ أم ما يتركه الحب بعد رحيل الحياء؟
أطفأت في منفضة اللم أسئلتي ,وذهبت صوب غرفة زيان أفتح ورشة الموت.
***
هي ذي الحياة بأشياء موتها التي ل تموت .هس ذي تلك الشياء التي تظنك تنالها فتنال
منك ,لنها ستعيش بعدك.
في كل موت أنت أمام الموقف نفسه .كما كنت أمام أشياء أبيك ,وغرفة نومه التي أورثك
إياها ,بخزانة تضم بدلت وثياب وأشياء رجل من عمره,منامته ,روب البيت السميك,
والخر الحريري ,ثيابه الداخلية ذات الماركة الفرنسية نفسها دائما ,مفكرته ,خف البيت
الصوفي ,نظاراته ,ساعته ,كنزاته ,أدويته المكدسة لشهر مقبلة ,ظنا منه أنه بشرائه
كميات أكثر يشتري له عمرا أطول.
في غرفة نوم أبيك ,ثم في بيت عبد الحق ,والن أمام أشياء زيان ,تفهم أنك تساوي أرخص
من أي شيء تملكه.
وإل ..كيف لمنفضة ثمنها 10فرنكات أن تعيش بعدك؟ كيف لساعة ثمنها 500فرنك أن
تواصل عقاربها الدوران غير آبهة بتوقف قلبك؟ كيف لسرير؟ كيف لكرسي؟ كيف لحذاء؟
كيف لجورب ما زال عليك عرق قدميك أل يكترث لموتك؟
وكيف أن الشياء التي كلفتك الكثر هي أول من يخونك ,وأن تلك التي كدت تفقد بسببها
حياتك ,ما تكاد تفرق الحياة حتى تذهب لغيرك؟
السؤال نفسه يعود :كيف أواجه الحضور الظالم ,الحضور الرهيب البارد ,لتلك الشياء غير
المعنية بموتٍ ما بردت جثته بعد؟
طبعا " ل أكثر خبثا من البراءة" وأنا تعلّمت أل أنخدع ببراءة حضورها اللفويّ الصامت .أل
أصدق حزنها الشامت الذي يقول لك ,إنّ أصحابها لم يعودوا هنا ,وإنها على يتمها ستعيش
بعدهم .وقد تذهب إلى أعدائهم ,كما يذهب حذاء جندي ميت إلى عدوّه البائس في ساحة قتال
يكسوها الثلج.
في الموت ,الدور الكثر تعاسة ,ليس من نصيب الذي رحل وما عاد معنيّا بشيء ,إنما من
نصيب الذي سيرى قدر الشياء بعده.
على حزنها ,ل أظن فرانسواز ستتحمل طويلً جثث الشياء في بيتها .والمر حسب معرفتي
بها لن يأخذ منها أكثر من ساعتين أو ثلث ,وهو ما يلزمها من وقت لجمع أوراق زيان
وكتبه ,في انتظار أن تسلّمها لول عربي يدخل بيتها.
أما ما بقي فقد تضعه في أكياس ,ليأخذ مكانه في الطابق السفلي جوار صندوق القمامة ,أو
في أحسن الحالت ,قد تحتفظ به في المرآب ,في انتظار المرور التالي للصليب الحمر لجمع
المساعدات النسانية.
ذلك أن فرانسواز مهووسة بالمبادرات الخيرية ,وكأنها نذرت نفسها لمساعدة بؤساء
البشرية ,يتناوبون على قلبها وعلى سريرها حسب مستجدات المآسي في العالم .حتى كان
يبدو لي أن معاشرتها زيان تدخل ضمن نشاطاتها الخيرية.
وكنت أراها ,حسب نشرات الخبار ,تسارع لتلبية نداء الغاثة لهذه الجهة أو تلك ,جامعة ما
زاد عن حاجتها من ثياب ,وما بلي أو لم يب َل من أحذية وستائر وشراشف ,في أكياس كبيرة
من البلستيك تقوم بإنزالها ووضعها جوار مقصورة البواب ,في انتظار أن يجمعها الصليب
الحمر.
كان في فرانسواز شيء من الطيبة الممزوجة بسذاجة الغربيين في التعامل مع الخر ,والذي
يتحكم فيها منطق إعلمي يبسط الشياء ,ويقسّم العالم إلى خيّر وشرير ,وحضاري
ومتخلف ,ولزم وغير ضروري.
يوم رأيتها تنزل بتلك الكياس لتتصدق بها لضحايا " سراييفو" ,اعترفت لها أنني أحسدها
على شجاعتها في التخلص من كل شيء بسرعة وقدرتها على رمي الشياء في كيس
للصدقة ,بدون ندم أو تردد أو حنين ,غير معنية بذاكرة الشياء ول بقيمتها العاطفية,
وتمنيت لو استطعت مثلها أن أجمع ذاكرتي في صرة ,وأضعها عندالباب كي أتخلص من
حمولتي ..وأضاهيها خفة.
سألتني:
-وماذا تفعلون إذن بالشياء التي لم تعد من حاجة لكم بها؟
أجبت مازحا:
-ليس في حوزتنا أشياء ل نحتاجها ,لنها حتى عندما تهترئ ,وتعتق ,نحتاج حضورها
المهمل في خزائننا أو في مرآب خردتنا ,ل عن بخل ,بل لننا نحب أن نثقل أنفسنا بالذاكرة,
ونفضل أن نتصدق بالمال ,على أن نتصدق بجثث أشيائنا ,ولهذا يلزمنا دائما بيوت كبيرة.
ثم واصلت ضاحكا :أليس في المر كارثة!؟
ها هي ذي الكارثة! فتفضل أيها العربي المثقل بحمولتك ,تركة أخرى في انتظارك ,فماذا
ستفعل بهذه الغربة الفضفاضة لرجل ضاق به الوطن ,وترك لك ما خاله وطنا :كتبا في
ل أو أصدقاء ,ربما
الشعر وأخرى عن تاريخ الجزائر ,صور أخذها مع أناس قد يكونون أه ً
ماتوا أو ما زالوا أحياء ,نسخة قديمة لمصحف ,مفكرات لعدة سنوات عليها عناوين
ومواعيد وأسماء ,وصفات طبية ,تذاكر سفر مستعملة ,ملصقات صغيرة لها ذكرى وحده
يعرفها كقارورة عطر " شانيل" النسائية الفارغة ,قابعة في ركن قي في خزانة الملبس,
مغرورقة في حزن فقدانها العطري .إنه الوفاء النثوي يجهش اعتذارا عن كل الخيانات
النسائية.
تجمع حولك أشياء بديلة تسميها وطنا .تحيط نفسك بغرباء تسميهم أهلً .تنام في سرير
عابرة تسميها حبيبة .تحمل في جيبك دفتر هاتف بأرقام كثيرة لناس تسميهم أصدقاء .تبتكر
أعيادا ومناسبات وعناوين وعادات ,ومقهى ترتاده كما تزور قريبا.
أثناء تفصيلك لوطن بديل ,تصبح الغربة فضفاضة عليك ,حتى لتكاد تخالها برنسا .غربة
كوطن ,وطن كأنه غربة .فالغربة يا رجل فاجعة يتم إدراكها على مراحل ,ول يستكمل الوعي
بها ,إل بانغلق ذلك التابوت على أسئلتك التي بقيت مفتوحة عمرا بأكمله ,ولن تكون هنا
يومها لتعرف كم كنت غريبا قبل ذلك ,ول كم ستصبح منفيا بعد الن!
كنت ما أزال أفكر كيف أتصرف بكل تلك الشياء ,عندما لمحت حذا ًء أسفل الخزانة.
كان حذاءه الوحيد ,أو بالحرى ,ما بقي له هنا .فهو حتما يملك حذاءً آخر ذهب به إلى
المستشفى.
ل أدري لماذا اختار ذلك الحذاء دون هذا لسفرته الخيرة .قد يكون تركه لمناسبة أجمل,
فهو حذاء جديد كأنه لم ينتعله .وبرغم ذلك ,بدا لي أكثر حزنا من الخر ,مختبئا أسفل
الخزانة كيتيم ,يخاف أن يلفت النظار إليه فيطرد ..أو يُغتال.
أثمة يتم للحذية أيضا؟
بدا لي زوجا الحذاء متلصقين كرجلي ذلك الصغير المرعوب .عندما مددت يدي لخرجهما
من مخبئهما ,استعدت منظر ذلك الطفل الذي أخذت له صورة ,والذي قضى ليلة مختبئا تحت
السرير ,وعندما استيقظ في الصباح ,وجد أنه فقد كل أهله,وأنه أصبح يتيما إلى البد.
أنا الذي قررت أمام ورشة الموت أل أبكي ,أمام ذلك الحذاء الذي كسا الغبار لمعته ,وجدتني
أنهار باكيا.
هو رجل المسافة ,وحشمة التغافل .أحزنني هتك أسراره ,والتسكع في عالم ما توقع أن
يدخله غريب بعده ,بذريعة أنه لم يعد هنا ليحمي أشياءه الصغيرة السرية .تلك الشياء التي
لم تحفظ حرمة غيبته ,بل راحت تغتابه ,وتثرثر مع أول عابر سبيل.
وأذكر عندما زرته في إحدى المرات ,وكان علي أن أغادر الغرفة وأنتظره بعض الوقت في
الخارج ريثما تنتهي الممرضة من خدمته ,راح يعتذر لي عن انتظاري ,ويحدثني عن مذلة
المرض الذي يعطي ليّ شخص الحق في أن يستبيح جسدك وينتهك حميميتك.
قال:
-هذه أول مرة أدخل فيها المستشفى مذ بترت ذراعي منذ أكثر من أربعين سنة .ل أحب
مهانة المرض .ما أنقذني أنني تعودت في الحياة أن أواجه النظرات التي تعرّي عاهتي بأن
أتغابى ..فلم أفعل غير مواصلة ذلك هنا.
ثم واصل:
-التغابي هو بعض ما اكتسبته من اليتم .عندما تعيش يتيما ,تتكفل الحياة بتعليمك أشياء
مختلفة عن غيرك من الصغار .تعلّمك الدونيّة ,لن أول شيء تدركه هو أنك أقل شأنا من
سواك ,وأنه ل أحد يردّ عنك ضربات الخرين ,ومن بعدهم ضربات الحياة.أنت في مهب
القدر وحدك كصفصافة ,وعليك أن تدافع عن نفسك بالتغابي ,عندما يستقوي عليك أطفال
آخرون ,فتتظاهر بأنك لم تسمع ..وأنك تدري أن لهم آباء يدافعون عنهم ول أب لك.
صمت بعض الوقت ..ثم واصل:
-كلّ اكتسب شيئا من دونيته ,سواء أكان كريما أو بخيلً ..عنيفا أو مسالما ..واثقا في
الناس أو مرتابا ..عازبا أو رب عائلة.
كلّ يتيم هو مريض بدونية سابقة ,يتداوى منها حسب استعداداته النفسية.
لكن أعلى درجات اليتم ..يتم العضاء .إنها دونية عارية معروضة للفرجة والفضول ,ل
شفاء منها ,لنك ما رأيت أحدا إل وذهب نظرك مباشرة إلى ما يملكه ..وينقصك أنت ..وهنا
كم يلزمك من التغابي لتكذب على نفسك!
أستعيد الن كلمه هذا ..متذكرا قولً لمعاوية بن أبي سفيان " إن ثلث الحكمة فطنة ,وثلثيها
تغافل".
ذلك أنه ما كان لي أن أدرك ثلثي حكمته إل وأنا أجمع أشياء موته ,وأقع فجأة بين حاجاته
على نسخة من كتاب "فوضى الحواس" تبدو منهكة لفرط تداولها ,نسخة بدون إهداء ,من
الرجح أن يكون اشتراها .ذلك أن السعر مكتوب بقلم الرصاص على صفحتها الولى..
بالفرنك الفرنسي .وفي الرقام الثلثة تلك ,كانت تختصر كل فجيعة رجل أحالته حبيبته من
قلب كتاب كان سيده ,إلى غريب ل مكان له حتى في إهداء الصفحة الولى .يدفع 140
فرنكا ,كي يعرف ما أخبارها مطاردا خيانتها بين السطور.
كان يعرف إذن من أكون ,وكان يواجهني بالتغابي ذاته!
نزلت عليّ صاعقة الكتشاف ,وسمّرتني مكاني .رحت من دهشتي أتصفح الكتاب وأعيد
قراءة صفحات منه كيفما اتفق وكأنني أكتشفه لتوّي ,باحثا عما يمكن أن يكون قد تسقطه
عني.
كيف له في محاولة لتقصّي أخبارها ,أل يشتري كتابا لها صدر بعد أن افترقا.
وهي التي كالنظمة العربية ,تحترف توثيق جرائمها ,واستنطاق ضحاياها في كتاب .كيف
لها أ ّل تجعلني مفضوحا بالنسبة إليه ,بقدر ما كان هو في " ذاكرة الجسد" ,وإذ بواحدنا
يعرف عن الخر كل شيء ,جاهلً فقط علم الخر بذلك.
كمن يحاول فكّ سرّ كبير ,بترتيب فسيفساء السرار الصغيرة ,رحت أحاول أن أفهم ,في أيّ
موعد بالذات أدرك من أكون ,وأيّ تفصيل بالذات جعله يتعرّف عليّ .أمن السم الذي أعطته
له فرانسواز ,وهي تطلب لي موعدا معه؟
ترى لو لم أقدّم نفسي على أنني خالد بن طوبال أكان سيتعرف عليّ مثلً من عاهة ذراعي
اليسرى التي ل تتحرك بسهولة؟ أم كان سيعرفني لنني كما في الرواية مصوّر...ومن
قسنطينة؟ ولفترض أنني عندما زرته في المستشفى لم أقل له شيئا على الطلق ,أكان
سيتعرف عليّ بحدس المحب ,وريبة الرجولة؟
ثم ,قد يكون تعرّف عليّ ,وعرف من ذلك الكتاب كل شيء عن علقتي بحياة ,وهذا ليس
مهما في النهاية..
لكن ,أكان على علم أنني أقيم في بيته؟ وأساكن صديقته؟ وأنني التقيت بحياة واصطحبتها
إلى هذا البيت؟ وأنها كانت ترقص لي لحظة كان يحتضر؟
أيكون اختار تلك اللحظة بالذات لن يموت فيها إمعانا منه في التغابي؟
ما زلت غير مصدّق أن يكون في توقيت موته مصادفة ,ول أرى سببا لتدهور مباغت
لصحته .فل شيء عندما التقيت به قبل ذلك بيوم ,يشي بأن حياته في خطر أو أنه يعاني من
انتكاسة ما.
بل إنني لم أره ممازحا ومرحا كذلك اليوم .وأعرف خبث ذلك المرض بالذات ,الذي من
بعض مكره ,إعطاؤك قبل أن يفتك بك ,إحساسا بالتعافي .والكل من حولك سيقولون لك ذلك,
لنك فعلً ستبدو في أحسن حالتك.
أعرف هذا من أبي .غير أني من عمي أعرف أيضا أن النسان يختار توقيت موته .وإل
كيف استطاع أن يموت في أول نوفمبر بالذات ,تاريخ اندلع الثورة الجزائرية التي كان أحد
رجالها؟
وجدت تأكيدا لهذا المقال أبحاثا قام بها متشنيكوف ,وهو عالم وضع في بداية القرن
العشرين نظرية في وظائف خليا الجسم ,تثبت أن النسان ل يموت إل إذا أراد حقا ذلك,
وأن موته العضوي ليس سوى استجابة لمطلب نفسي ملحّ.
وإذا صدقت هذه النظرية تكون الثورة الجزائرية أودت بحياة عميّ برصاصة تأخر مفعولها
القاتل أربعين سنة ,وأكون أنا من أقنع زيان يومها بإطلق رصاصة الرحمة على نفسه
واشتهاء الموت حد استحضاره.
هذه الفكرة لم تكن إل لتزيد من حزني ,ولذا ما كادت فرانسواز تعود إلى البيت حتى بادرتها
ل عمّا إذا كانت أخبرت زيان بإقامتي عندها أم ل.
سائ ً
أجابت متعجبة:
-طبعا ل..
ثم واصلت:
ي بعدم إخباره.
-ما كان لي أن أنسى ذلك بعد إلحاحك عل ّ
تمتمت:
-شكرا!
وتنفست الصعداء .يا إلهي ما أصعب الساءة للموتى.
واصلت فرانسواز ,وهي تتعجب لمري قائلة:
-زيّان يعرف بأنّ لي علقات .وهو ما كان يتدخل في حياتي .هذا المر كان واضحا بيننا
منذ البدء ..فلماذا أنت قلق؟
كم كان سيطول الكلم ,لو أنا شرحت لها أسباب قلقي .لكن في مثل هذه الحالت ,كنت
أكتشف كم هي غريبة عني وكم الكلم معها يأخذ بعدا عبثيّا .هذا برغم تأثرها البالغ عندما
وقع عليها الخبر حتى أنها انهارت على الريكة باكية مرددة:
..ce n'est pas possible...Oh mon Dieu-
قبل أن تسألني وهي تستمع إلى الرسائل الهاتفية ,كيف أنني لم أعرف بنداءات المستشفى.
أجبتها وقد فاجأني سؤالها ,أنني كنت ذلك المساء خارج البيت .لكنها أجابت بما فاجأني
أكثر " ,آه صحيح ..ربما كنت يومها تتعشّى عند مراد".
بقيت صامتا للحظات ,وأنا أستنتج من عبارتها أنها على اتصال دائم معه ,وأنهما يتهاتفان
كل يوم.
لم يكن الظرف مناسبا لمعن التفكير في غدر صديق أثناء انشغالي بتفاصيل موت صديق
آخر .كان جميلً أن أتأكد من أن للموت تنوعه ,فثمة موتى نواريهم التراب ,وآخرون أحياء
نطمرهم في وحل مخازيهم.
ل بإمكانه أن يتفهم خيانة زوجة .لكنه ل يغفر خيانة صديق .فخيانة الزوجة قد
كنت رج ً
تكون نزوة عابرة ,أما خيانة الصديق فهي غدرٌ مع سبق الصرار.
وضعت تلك الجملة بيننا مسافة من جليد الجفاء .وقد تكون فرانسواز فسّرت برودتي تجاهها
بعد ذلك بفاجعة موت زيّان ,بدون أن تعرف حجم المقبرة التي أحملها في قلبي.
اكتفيت ليلً بضمّها إلى صدري ,وأنا أفكّر في اقتراب ليلة سيحتلّ فيها مراد مكاني عابرا
لهذا السرير ..المقيم.
***
لنني لم أنم .غادرت البيت باكرا صباح اليوم التالي لقضي بعض ما تأخر من مشاغلي,
نظرا لمستجدات الظرف ,واستعدادا لعودة وشيكة إلى الجزائر.
عندما عدت مساءً ,أخبرت فرانسواز أنني زرت مكتب الخطوط الجزائرية ,وأن ثمة رحلة
إلى قسنطينة بعد ثلثة أيام .سألتها إن كان بإمكاني العتماد عليها في الجراءات الدارية
وتكفّلي أنا بالمور الخرى .ثم واصلت بعد شيء من الصمت:
-نقل الجثمان يكلف 32ألف فرنك.
سألتني فرانسواز:
-هل تملك هذا المبلغ؟
وجدتني أبتسم ..وأجبتها:
-ل ..اشتريت تلك اللوحة بما كان معي!
قالت بتذمر:
-يا للحماقة ..نصف ريع لوحاته ذهب إلى الجمعيات الخيرية والنصف الخر الذي يعود
إليه ل نستطيع التصرف فيه .فبحكم موته ,كلّ شيء بعد الن محجوز قانونيا ومجمّد في
انتظار حصر الورثة.
واصلت وهي تشعل سيجارة:
-ليتك ما اشتريت تلك اللوحة .إنها أغلى لوحة بيعت .أصرّ زيّان على أن تباع لوحاته
بأسعار معقولة حتى تكون في متناول الجميع .ربما وضع سعرا غاليا لها لنها الحب إليه.
-بل أنا من وضع سعرا لها .هو لم يطلب منّي شيئا .أردت أن أضع فيها ما بقي في
حوزتي من مال تلك الجائزة ..وأرتاح.
قالت بعد شيء من الصمت:
-أل ترى من العجيب أن يكون زيان أراد ائما الحتفاظ بهذه اللوحة ,وأن ثمنها يساوي
تقريبا تكاليف نقل جثمانه إلى قسنطينة؟.
اقشعرّ جسدي :يا إلهي من أين جاءت بهذه الفكرة .انتابني شعور بالذعر ,كأنني بشرائي
تلك اللوحة سرقت منه قبره ,أو كأنني اشتريت بها قبري .ذهب تفكيري في كلّ صوب,
واستعدت تطيّر حياة من الجسور.
وبدون أن أشرح لها هواجسي ,وجدتني أسأل فرانسواز:
-أتعتقدين أننا ستعثر في يومين على مشترٍ لها؟
ردّت بدون أن يبدو عليها أسف أو عجب لقراري:
-قد يكون ذلك ممكنا ما دامت معروضة .يكفي أن نرفع عنها الشارة التي تدل أنها بيعت..
كل رواق يملك قائمة بأهم الزبائن الذين يعنيهم اقتناء لوحات هذا الفنان أو ذاك .وهو يتّصل
بهم في مثل هذه الحالت.
كان بيعها كالحتفاظ بها يحزنني .ولذا ما عدت أدري أيّ القرارين كان صائبا ,خاصة أنني
اشتريتها من مالي ,لنني أحببتها ,ولن ل أحد غيري يقدّر قيمتها العاطفية.
وكان السؤال في حالة احتفظت بهاِ :ممّن أستدين المبلغ لنقل جثمان زيّان ,أم ناصر وهو
أكثر نزاهة من أن يفيض حسابه بهذا المبلغ ,أمن مراد ول رغبة لي بعد الن في التعامل
معه ,ول أظنه سيساعدني سوى بالقليل.
كان الحل الوحيد هو التصال بحياة .أظنها قادرة على تأمين هذا المبلغ.وكنت سأسعد بذلك
لول أن ل مال لها سوى مال زوجها ,وأن في المر إهانة لعمر قضاه زيان رافضا التلوث
بمال اللصوص ذوي الياقات البيض ,أو الستنجاد بدولة ليست مسؤولة سوى عن تأمين
علم وطني يغطّى به جثمان مبدعيها ممّن اغتيلوا بالعشرات على أيدي الرهابيين .فكيف
أفكّر في طلب مساعدة من السفارة؟
كان رجل التورّع والترفّع ,كم هيأوا له من أبواب واطئة يستدعي مروره منها انحناء
كبريائه ,والتنازل عن ذلك العتداد بالذات .ألن قامته أصبحت الن في انبطاح تابوت,
بإمكانه أ يمرّ من باب أبى المرور منه حيّا؟
لم يكن المر يتطلب الكثير من التفكير .وجدتني مؤتمناّ على رفات هذا الرجل ,فلن أتصرف
إل بما يليق بما أعرفه عنه .ول أخاله سيسعد إن أنا تسولت ثمن نقل جثمانه من الخرين,
وقد تصدّق حيّا بما كان سيضمن له موتا كريما.
هو رجل الحزن المتعالي ,أليس أكرم له أن يسافر على نفقة إحدى لوحاته ,على أن تنقل
رفاته على حساب أحد المحسنين ,أو كرما وتصدّقا من قراصنة الوطان المنهوبة؟
قطعت فرانسواز تفكيري قائلة:
ي أن أخبر فورا كارول كسبا للوقت .فأحيانا ل
-إن كنت تريد أن تعرض اللوحة للبيع ,عل ّ
تتم المرو بسرعة ,خاصّة أننا في نهايات السنة,والناس في مواسم العياد ل يملكون مالً
لنفاقه في مثل هذه المشتريات عندما تكون غالية نسبيا.
أجبتها وأنا أشعل سيجارة وأذهب صوب الشرفة:
-اطلبيها..
في الصباح التالي استيقظت متعبا من ليل كله كوابيس .قد أكون تكلمت أثناء نومي أو تقلبت
كثيرا .ممّا اضطر فرانسواز للنوم على أريكة الصالون.
وضعت قبلة على خدها ,واعتذرت لها محرجا.
ردت بلطف:
..Ce n' est pas grave
ثم سألتني ,لماذا كنت مضطربا إلى ذلك الحد.
أجبتها وأنا أتجه صوب المطبخ لعد القهوة:
-كان حلما مزعجا.
من الرجح أن تكون قصة اللوحة وحواري مع فرانسواز وأشياء زيّان التي قضيت البارحة
في فرزها ,تراكمت جميعها في ل شعوري ,لتولد ذلك الحلم الذي كنت أرى فيه نفسي ما
هممت باجتياز جسر من جسور قسنطينة إل وصاح بي الناس على جانبيه أل أفعل.
كان الناس يهرّبون أشياءهم من بيوتهم البائسة المعلّقة على المرتفعات ,صارخين بمن ل
ن الجسور جميعها ستنهار ,والجميع مذعورون ل يدرون أيّ
يدري أن الرض تنزلق وأ ّ
جسر يسلكون للهروب من قسنطينة.
لنني رجل منطقي ,وجدت لهذا الحلم سببا آخر ,يعود لذلك المقال الذي قرأته عندما كنت في
الجزائر ونسيته منذ ذلك الحين,وأظنه عاد اليوم ليطفو على سطح الشعور.
وكان زميل لي ,أمدّني بتلك الجريدة بالفرنسية ,وقال ممازحا بلهجة أبن العاصمة " إتهلكت
عليكم يا خو قسمطينة راحت .كاش نهار تقوموا تِلقاوْ رواحكم قاع تحت".
عنوان المقال كان يعلن بخطّ كبير بالفرنسية أنّ الرض تنزلق في قسنطينة ,مسبوقا بعنوان
أصغر يسأل " ماذا تنتظر الحكومة؟"
المقال كان مرعبا في معلوماته ,مؤكدا أن ظاهرة انزلق الرض التي تتعرض لها المدينة
تتزايد ,متقدمة بعدّة سنتيمترات سنويا ,وأن أكثر من مائة ألف نسمة على القل يعيشون
داخل الخطر في المساكن التي ,لفقر أصحابها الوافدين من كل صوب ,بنيت كيفما اتفق على
المنحدرات الصخرية ,مما زاد من الخطار التي تهدد جسر سيدي راشد الذي لم يشفع له
وقوفه على 27قوسا حجريا.
مصير جسر القنطرة ليس أفضل ,هو الذي مذ بناه الرومان يلهو بالمخاطر .وبرغم اعتباره
من أعجب البناءات ,ظلّ معطلً خمسة قرون حتى جاء صالح باي فجلب له مائة عامل من
أوربا لبنائه تحت إشراف مهندس إسباني ,قبل أن يهدمه الفرنسيون ويعيدون في القرن
التاسع عشر بناء الجسر القائم حاليا.
ما غزا قسنطينة غازٍ ,أو حكمها حاكم إل وبنى مجده بإعادة بناء جسورها غير معترف بمن
بنوها قبله! مما جعل آمال القسنطينيين معلّقة كجسورهم ,إلى ما سيقرره الخبراء
المريكيون والكنديون واليابانيون الذين تقول الجريدة إنهم سيتشاورون حول أحسن طريقة
لنقاذ مدينة تعيش منذ 2500سنة محصّنة كعشّ النسر في العالي ..معجزة أبدعها
الحجر وأفسدها البشر.
لم أحكِ شيئا من كلّ هذا لفرانسواز .كان يكفي ما ينتظرها من كوابيس النهار.
تقاسمنا روزنامة التفاصيل المزعجة للموت ,ذهبت فرانسواز لتتابع الجراءات الدارية ,بما
في ذلك المرور على المستشفى واستلم أشياء زيان ,بينما ذهبت أنا لنهي بعض ما تأخر
من مشاغلي ,ومراجعة الخطوط الجزائرية.
لفرط إمعاني في إغفال الحبّ ,كان يأتيني متنكرا في النسيان ,حين ل أتوقعه .كيف تستطيع
قتل الحب مرة واحدة ,دفعة واحدة ,وهو ليس بينك وبين شخص واحد .إنه بينك وبين كل
ما له علقة به.
عند باب الرواق قابلني ملصق المعرض وعليه صورة إحدى لوحات زيان التي تمثل بابا
عتيقا نصف مفتوح ,وقد وضع على أعلى زاويته اليسرى وشاح حداد يعلن موت الرسام.
وقفت أتأمله لحظات كأني أريد أن أتأكد من صدق الحدث.
استقبلتني كارول بمودة .كانت متأثرة لموت زيان الذي عرفته منذ مجيئه إلى فرنسا .دعتني
إلى مكتبها ,معبّر ًة عن ألمها لنه لن يكون هنا عند انتهاء المعرض كعادته .أمدتني بالمبلغ
الذي دفعته يوم اشتريت اللوحة ,وقالت:
-آسفة ,لم تستمتع حتى بامتلكها لفترة.
قلت:
-قد يكون هذا أفضل .ربما كنت تعوّدت عليها ,أو تعوّدت هي عليّ .غيّرت هذه اللوحة
صاحبها دون أن تغيّر مكانها ,انتقلت من ملكية إلى أخرى ,من دون حتّى أن تنتبه لذلك!
لم أحاول أن أعرف من اشتراها .تركتها شاكرا ,وأنا أفكر في أنني أستعيد بذلك المبلغ ,ل
ثمن اللوحة ,بل ثمن تلك الجائزة التي كأنني حصلت عليها لموّل بأفضل صورة للموت
فاجعة موت آخر .لقد ازدهر الموت عندنا وأثرى حتّى صار بإمكانه أن يموّل نفسه!
لم يفاجئني وأنا أقوم بجولة في المعرض أل أرى أحدا من الزوار .ل أظنه كان وقتا لرتياد
المعارض ..ول وقتا للموت.
كانت الساعة الرابعة ذات بداية أسبوع ,من نهاية سنة ,والناس مشغولون بإعداد أفراحهم.
فهل تعمّد أن يستفيد من انشغال الحياة عنه حتى يتسللّ من قبضتها؟
لم أحزن لخلوّ المعرض .بل سعدت لنه كان لي وحدي .شعرت أنني أمتلك كلّ تلك اللوحات
لبعض الوقت ,في انتظار أن أخسرها جميعها .وحدهم الثرياء يرفضون أن تتم عملية
امتلكهم للوحة بعيون القلب.
كنت سعيدا ,لنني كنت هناك لفعل الشيء الوحيد الذي تمنيته ولم يحدث ,أن أتجوّل في هذا
المعرض مع زيان.
ذلك أنه حتما سيحضر ,فل يمكن أن يخلف موعدا مع لوحاتٍ تتشوق لنزالها من أزاميل
الصلب والعودة إلى كنف رسامها.
ل أمام كل
الجميع مشغول عنه .وهو يملك أخيرا كل الوقت .ويمكننا أن نتوقّف لنتحدّث طوي ً
لوحة ,لول أنني أنا الذي ل وقت لي ,ول أدري بماذا أبرر له انشغالي ,وضرورة أن أتركه
بعد حين قبل أن تغلق الخطوط الجزائرية مكاتبها.
سيلعن هذه الخطوط ويسألني " ماذا أنت ذاهب لتفعل في ذلك البلد ..أثمة مهبول يذهب
لقضاء رأس السنة هناك؟".
ل"
ولن أجد ما أجيبه به .ثم عندما لن يستطيع استبقائي أكثر ,سيودعني كعادته قائ ً
سنواصل الحديث غدا" ,مضيفا بعد شيء من الصمت " إن كان لديك وقت".
كانت هذه طريقته في الترفع عن استجداء زيارة.
ت حتى
لكن أزفت ساعة الرحيل يا صديقي .لقد انتهى وقت الزيارة الكبرى .لم يبق من الوق ِ
ما يغطي تلك الزيارات المبرمجة للمشافي .مات الوقت يا عزيزي .أنت الن في " الوقت
المجمد".
عندما رأيت كل هذه اللوحات لول مرة .سألت فرانسواز عن س ّر هذه الحوارات المطوّلة
التي يبدو أن زيان أقامها مع البواب .قالت" عندما يدخل رسام في مرحلة ل يرسم فيها فترة
سوى الموضوع نفسه ,يعني أن ثمة حدثا أو وجعا ارتبط بذلك الموضوع".
لم أسألها أيّ وجع وراءها ول أظنها كانت تعرف ذلك ,فيوم احتدم النقاش بيني وبين مراد
حول لوحات البواب التي لم يكن يرى فيها مراد سوى أفخاذ نساء مشرّعة حينا ,مواربة
أحيانا أخرى ,بدت لنبهارها بنظريته كأنها تشاركه الرأي صمتا.
الن فقط ..وأنا وحدي أتنقل بينها متمعنا في تفاصيلها الصغيرة ,أخالني وقعت على فاجعة
الجواب من خلل حديث بعيد مع فرانسواز ,يوم أخبرتني بمرض زيان عندما قالت " إن
اغتيال ابن أخيه دمّره حتى أظنه السبب في السرطان الذي أصابه .السرطان ليس سوى
الدموع المحتبسة للجسد ..معروف أنه يأتي دائما بعد فاجعة"
بقيت أتحين الفرصة لسأل زيان عن تفاصيل موت ابن أخيه لعتقادي أن تفاصيل تلك الميتة
دمّرته أكثر من الموت نفسه.
كنا نتحدث مرة عن التشكيلة العجيبة لموت الجزائريّ عندما قال زيان بتهكم أسود:
-أصبح ضروريا اصدار كاتولوغ للموت العربيّ ,يختار فيه الواحد في قائمة الميتات
المعروضة طريقة موته.مستفيدا من جهد أمة تفوقت في تطوير ثقافة الموت .فقد تختار بدل
أن تموت ميتة كرديّة مرشوشا كالحشرة بالمبيدات الكيماوية ,أن يكون لك شرف الموت
بالمسدس الذهبي لله الموت نفسه أو أحد أبنائه .وقد تفضّل بدل أن تسلّم حيا لتنهشك
الكلب الجائعة ,وتدور بأحشائك في ساحة سجنٍ كما حدث في سجون مغاربية ,أن تحفر
بنفسك قبرك وتتمدد فيه بملء إرادتك ,فيذبحك الرهابيون وأنت مستلقٍ في وضعك النهائي
المفضّل.
إمكانك أيضا أن ل تموت دفعة واحدة .ثمة أنظمة عربية تقدّم تسهيلت في الموت ,فتلقمك
إياه ابتداءا من قلع الظافر وحرق الصابع بالسيد ,إن كنت صحافيا ,وانتها ًء بسمل العيون
وبقر البطون حسب مزاج سفاحك.
كان يتحدث بمرارة الستخفاف .جمعت شجاعتي وقلت:
-آسف ,سمعت باغتيال ابن أخيك ..كيف حدث ذلك؟
قال وقد باغته السؤال:
-سليم؟
ثم واصل بعد شيء من الصمت:
-مات أكثر من مرة ..آخرها كانت بالرصاص.
كان واضحا أنني وضعت يدي على وجع طازج .لم أضف شيئا ,تركت له حرية أن يصمت
أو أن يواصل.
وكإناء يطفح حزنا تدفق:
-من بين كل الميتات التي عايشتها في هذا العمر كانت ميتة سليم هي الكثر ألما .حتى
ب وجد نفسه يتيما عندما
موت أبيه وهو أخي الوحيد ما كان لها هذا الوقع على نفسي .شا ّ
قتل رجال المن أباه في مظاهرات 88فراح يدرس ليلً نهارا ليستطيع بسرعة إعالة أمه
وأخويه ,حتى إنه لتفوقه استطاع دخول المدرسة العليا لتكوين الكوادر .كان شابا مولعا
بالعلم ,فأرسلته الدولة لفرنسا لمدة ستة أشهر للدراسة ,كي يتمكن من إدخال نظام
المعلوماتية إلى أجهزة الجمارك في قسنطينة.
عندما استلم وظيفة كان الرهابيون قد بدأوا في قتل موظّفي الدولة ,وبعدما استشعر بالخطر
إثر اغتيال زميلين له ,بدأ إلحاحه بالمطالبة بسكن أمنيّ ,فأعطوه بيتا منفيا على مشارف
جبل الوحش .لم يكن مرتاحا إليه ,تصور مسكنا أمنيا دون هاتف ..بمحاذاة غابة! أصبح كل
هم سليم توفير مبلغ من معاشه لتصفيح الباب ,فقد كان المبلغ بالنسبة إليه ثروة صغيرة,
وكان باستطاعته لو شاء الحصول على أضعافه لو أنه طالب بعمولة على عشرات المعدات
التي كلّف بشرائها من فرنسا .لكنه كان نزيها بالوراثة ,مترفعا وقنوعا وكان يحب الجزائر.
ولذا في زمن النهب المؤدلج وشرعة اللصوصية كان يقتطع مبلغا من مرتبه كي يتمكن في
لهاث الكدح اليومي ,أن يظفر بباب يحميه من القتلة.
ل عندما حطّت
لكنهم جاؤوه عندما اعتقد أنه ظفر بالمان .كانت الساعة الحادية عشرة لي ً
كتيبة الموت خلف بابه المصفح ,تماما بعد بدء منع التجول بقليل .مطمئنين إلى أن ل أحد
سيأتي بعد الن لنجدته ,ومستفيدين من حالة البلبلة السائدة ,إذ ل أحد يدري في هذه
ت تحصّن فيه الرهابيون ,أو
الحالت إن كان رجال المن هم الذين يحاولون دخول بي ٍ
الرهابيون هم الذين يهاجمون بيتا لحد ضحاياهم.
كما في فيلم أمريكي للرعب يقف فيه الضحية أعزل خلف باب تحكمه من الطرف الخر
وحوش بشرية,جاؤوا بعدة الموت وكل الليات المتطورة لفتح البواب صارخين به أن يفتح,
فل يفعل مطمئنا إلى بابه المصفّح.
لم يكن الموت في صحبتهم .كانوا هم الموت .أربع ساعات ونصف والموت خلف الباب
يتحداه على إيقاع الفؤوس وزمجرة المعاول بالشتائم والمسبات أن يفتح " حلّ يا قوّاد ..يا
رخيص ..جيناك يا كافر ..يا عدو ال".
فيرد القلب خلف الباب بالدعوات عسى يحميه رب البواب .لم يشفع له نحيب زوجته ول
عويل صغيره ول جاء أحد لنجدته من الجيران .ل سمع البوليس ول سمع ال برغم
الصوات المدوّية لللت التي كانوا يفتحون بها الباب .وبعد أن مات سليم أكثر من مرة ,بدأ
يستعد لموته الخير .فكلما تقدم الوقت وازداد الموت اقتراباُ منه ,ازداد القتلة عصبية وازداد
وعيدهم بالتنكيل به.
هو الذي كل ما فيه كان يرتجف .الخائف من كل شيء وعلى كلّ شيء ,من أين تأتيه
شجاعة الضعف ليفتح الباب ويرتاح؟ من أين تأتيه الحكمة لحظة خوف ,ليعرف كيف عليه
أن يتصرف؟ ماذا ينقذ قبل أن يفتح الموت عليه الباب؟
ما استطاع أن يحمل ابنه ذا السنوات الثلث بين ذراعيه المرتجفتن .فجلس منهارا على
كرسيّ ,بينما كان ابنه متمسكا برجله ,كان يوصي امرأته كل مرة بشيء يتذكره .مرةً أن
تقبّل أمه عنه وأن تطلب منها أن تسامحه وأن تدعو له بالرحمة .ومرة أن تسلّم عليّ وأن
توصيني بعد الن بابنه .ومرة أن تعتذر لزميل له استدان منه مالً ,طالبا منها سداده إن هي
حصلت على " دية" من الجمارك.
وهنا رأيت زيان يدمع لول مرّة:
-تصور ..رجلً على حاجته يوصي امرأته في ظرف كذاك بر ّد دينه بعد موته ,بينما سادة
لهم مدخول من الجثث ينهبون وطنا والناس يموتون.
-وكيف قُتل سليم؟
-على الثالثة والنصف فجرا نجح الموت في خلع الباب ,كان منهارا على ركبتيه .راح
ل من
يتضرع لهم حتى ل يقتلوه أمام صغيره .سحبوه خارج البيت وأطلقوا عليه واب ً
الرصاص ,مرضاة لصبر الموت الذي أهين أمام ذلك الباب المحكم لربع ساعات ونصف.
كان جسده مخرما .أصبحت معركتنا في اليام اللحقة مع السمنت الذي تشبّث بدمائه.
أتساءل الن ,إن كان مفتاح شيفرة هذه اللوحات يوجد في قصة رجل وضع كل مدّخراته
في تصفيح باب لير ّد عنه الموت ,وإذ به لم يشتر بذلك الباب سوى تمديد لعذاب موته .ألم
يكن زيان يريد فقط أن يوحي أن وراء كل باب موت متربّص.
ما كان في القلب متسع لمزيد من اللم ,ول كان لديّ الوقت لفتح حوارا مع كل لوحة على
حدة .ذهبت مباشرة نحوها هي .شعرت أنني أذهب إلى موعد مع امرأة أصبحت متزوجة من
غيري .كما عندما كنت أذهب إلى مواعيد حياة .فهل تنتمي اللوحات أيضا إلى مؤسسة
الخاتم والصبع؟ هل هي ملك من يمتلكها ..أم من يراها؟ ملك من يحبها؟ أم من يملك المال
فيشتريها؟ وماذا لو كانت لمن خسرها ,لنه وحده من يشتهيها!
أكان في مقدوري تفادي هذه الخسارة؟ بإمكاني أن أؤجلها فقط .فما أنا إل يد في حياة كل
شيء أمتلكه ,تسبقني إليه يد ,وتليني إليه أخرى ,وجميعنا يملكه إلى حين.
الفضل كان أن نستشير الشياء ,كما يستشير القاضي عند الطلق الطفال ,مع ن يريدون
أن يذهبوا ,مع أمهم؟ أم مع أبيهم؟
أيّ تجنّ في حق الشياء ,أل يكون لها حق اختيار مالكها؟ كم من المشاكل كانت ستحل لو
أننا بدل استفتاء البشر ,استفتينا ما يختلفون حوله ..ويقتتلون عليه.
وقفت أتأملها ,كأنني أعتذر لها لنني ما استطعت أن أحتفظ بها ,كأنني بطول النظر إليها
أحاول اغراءها بأن تلحق بي " خطيفة" كما تهرب عروس ليلة زفافها ,وتلتحق بمن تحب.
الن وقد أصبحت لغيري ,صار لي الدور الجمل ,فقد أصلح أن أكون لها عشيقا ,كقسنطينة
الجالسة منذ 25قرنا في حضن التاريخ ,تمشّط شعرها وتمدّ من علوّ عرشها حديثا مع
النجوم .كان يلزمها عشيق يتغزّل بها ,ويحنّي قدميها المتدليتين في الوديان ,يدلّلها ,يغطيها
ل بالقبل كي تنام ..ل زوجا ساديا يعود كلّ مساء بمزاج سيء فيتشاجر معها ويشبعها
لي ً
ضربا!
ألم يقل عبد الحق متحسرا على قدر قسنطينة " هذه أنثى أكثر فتنة من أن تكون امرأة لحد,
وأكثر أسطورة من أن تحبل بكلّ هذه الجنة العشوائية .فكيف أوثقوها إلى هذه الجبال..
وأنكروا عليها أن تتململ انزلقا لحظة اغتصاب".
كنّا أنا وهي في مناظرة صامتة .كانت ,كنساء قسنطينة ,أكثر جبنا من أن تحسم قدرها.
وكانت من ذلك النوع من اللوحات ,الذي ينظر إليك تلك النظرة المخترقة ,فتتحول أمامها
بدورك إلى لوحة ,في لحظة ما ,بدت لي كأنها ما عادت جسرا ,بل أنا الذي مسخت جسرا.
حتى إنها ذكرتني بـ" ماغريت" حين رسم غليونا وسمّى لوحته " هذا ليس غليونا".
أكان يلزم زيان عمر آخر ليدرك أن هذا الشيء الذي رسمه منذ أكثر من ثلثين سنة ,ما
كان جسرا ول امرأة ول مدينة ول وطنا .ذلك أن " الوطن ليس مكانا على الرض إنه فكرة
في الذهن".
إذن من أجل فكرة ,ل من أجل أرض ,نحارب ونموت ونفقد أعضاءنا ونفقد أقرباءنا
وممتلكاتنا .هل الوطن تراب؟ أم ما يحدث لك فوقه؟
أنسجن ونشرد ونغتال ونموت في المنافي ونهان من أجل فكرة؟
ومن أجل تلك الفكرة التي ل تموت حتى بموتنا نبيع أغلى ما في حوزتنا ,كي نؤمن تذكرة
شحنٍ لرفاتنا ,حتى نعود إلى ذلك الوطن الذي ما كان ليوجد لول تلك الفكرة المخادعة!
كنت أفكر :ماالذي جعل هذه اللوحة هي الهم دون غيرها لدى زيان؟ لم أجد جوابا إل في
قوله ذات مرة ":نحن ل نرسم لوحاتنا بالشيء نفسه ,كل لوحة نرسمها بعضو فينا" .منذ
زمان توقفت عن رسم الشياء بيدي أو بقلبي .جغرافية التشرد الوجداني علمتني أن أرسك
بخطاي .هذا المعرض هو خريطة ترحالي الداخلي .أنت ل ترى على اللوحات إل آثار نعلي.
بيكاسو كان يقول" أذهب إلى المرسم كما يذهب المسلم إلى الصلة,تاركا حذائي عند الباب".
أنا ل أدخل اللوحة إل بأتربة حذائي .بكل ما علق بنعلي من غبار التشرد ..أرسم".
كانت ,إذن ,اللوحة التي رسمها زيان بقلبه ,ومن كل قلبه قصد أن يتمدد عليها كجسر ويخلد
إلى النوم.
بها بدأت وانتهت قصة العجوز والجسر .رجل عاش في مهب الجسور .له الريح كلها وكل
هذه البواب المخلوعة التي تؤثث الجدران في غيابه وتعبث بها الريح في المساء ,لكأنها
تقول لمن توقف عندها " :ل تطرق كل هذا الطرق ..ما عاد الرسام هنا".
هو الذي كان يعكس أسئلته جسورا وأبوابا .تصورته كلما توقف أمام لوحة يجيب بجديته
العابثة على سؤال لها:
-لماذا توقفت عن الرسم؟
-لنسى " ..أن ترسم يعني أن تتذكر"
-لماذا تخليت عن اللوان المائية؟
-لن اللوان الزيتية تسمح لك بتصحيح أخطائك ..أن ترسم أي أن تعترف بحقك في الخطأ.
-يا سيد السواد ..لماذا أنت ملفوفا بكل هذا البياض؟
-لن البيض خدعة اللوان .يوم طلبوا من ماري أنطوانيت وهم يقودونها إلى المقصلة,
أن تغيّر فستانها السود ..خلعته وارتدت ثوبها الكثر بياضا.
-لماذا أنت على عجل؟
-أمشي في بلد ونعلي يتحسّس تراب وطن آخر.
-ولماذا حزين أنت؟
ق نفسي.
-نادم لني ارتكبت كلّ تلك البطولت في ح ّ
-ماذا نستطيع من أجلك نحن لوحاتك المعلقة على جدار اليتم؟
-متعب! اسندوني إلى أعمدة الكذب ..حتى أتوهم الموت واقفا!
***
قبل أن أجلس إلى كأسي ,طلبت ناصر لخبره بوفاة زيان ,وكنت أجّلت التصال به إلى
اليوم ,حتى ل أجدني مضطرّا إلى الحديث مع مراد ,الذي انتهى أمره بالنسبة لي ,وحتى ل
ينقل ناصر الخبر إلى حياة فتفسد عليّ قدسية حزني .فقد أصبح موت زيان قضيتي وحدي.
صاح ناصر من هول الخبر:
-إنّا ل وإنّا إليه راجعون ..يا خويا مش معقول كنت معاه غير هاذ الجمعة ..كان يبان ل
بأس عليه ..الدنيا بنت الكلب تدّي الغالي وتخلّي الرخيص ..كان سيد الرجال.
أخبرته أن الجثمان سينقل غدا إلى قسنطينة وأننا سنكون في المطار عند السادسة مساءا ,
إن كان يريد أن يقرأ الفاتحة على روحه.
قال إنه سيأتي طبعا .وبدا متأسّفا لغياب مراد الذي سافر قبل يومين إلى ألمانيا .كان هذا
أجمل خبر زفّه لي .سألني إن كان سيحضر أحد من السفارة .قلت " ل أعتقد" .قال " موعدنا
إذن غدا".
كانت فرانسواز أثناء ذلك طلبت بيتزا إلى البيت .فقصدت المطبخ أعدّ سلطة ,وأقلي صحنا
من " النقانق" التي اشتريتها قبل يومين من جزّارة " حلل" .فلتناقضاته الغريبة يصرّ
الجزائري حتى وهو يحتسي نبيذا أ ّل يتناول معه إل اللحم الحلل!
قالت فرانسواز وهي تراني أضع الصحن على الطاولة:
-يا إلهي ..كم في هذا الصحن من مواد دسمة .أتدري أن زيت القليّة عدوك الول؟
ابتسمت .كيف لي أن أرتب سلم العداوات ,وأين أضع أعدائي الخرين إذن ,إذا كان الدسم
هو عدوي الول! وأين هي عداوة الزيت ,ومكيدة الزبدة ,وغدر السجائر ,ومؤامرة السكّر,
ودسائس الملح ,من غدر الصدقاء وحسد الزملء وظلم القرباء ونفاق الرفاق ورعب
الرهابيين ومذلة الوطن؟ أليس كثيرا كل هذه العداوات على شخص واحد!
تذكرت زيان يوم طلب مني أن أغلق باب غرفته كي يشعل سيجارة .سألته متعجبا:
-أوَليس التدخين ممنوعا في المستشفى؟
ردّ مبتسما:
-طبعا ..بل يعادل ارتكاب جريمة .لكن كما قال أمل دنقل لطبيبه وهو على سريره الخير":
خُلِق القانون ليخترق" .ثم أنت ل تستطيع يا رجل أن تعيش وتموت مطيعا ,ول أن تكون
جبانا في السابعة والستين من عمرك ..وتخاف سيجارة!
تأملت يومها منفضته المخبأة في جارور الطاولة الصغيرة القريبة من سريره .كانت ملى
بأعقاب سجائر تكاد تكون كاملة ,كحرائق أخمدت على عجل ,كأنه لم يسحب منها سوى
َنفَس واحد.
كان يبدد الحياة ,كما يتلف السجائر لمتعة إشعالها .ما كان في المنفضة من وجود لعواد
ل بيد واحدة ل يمكن أن يستعمل علبة كبريت ,ألذا ل تفارقه الرغبة في إضرام
ثقاب .إن رج ً
النار؟
قال متهكما:
-ل تصدق أن الشياء مضرة بالصحة .وحدهم الشخاص مضرّون .وقد يلحقون بك من
الذى أكثر مما تلحق بك الشياء ,التي تصرّ وزارة الصحة على تحذيرك من تعاطيها .ولذا
كلّما تقدّم بي العمر ,تعلّمت أن أستعيض عن الناس بالشياء ,أن أحيط نفسي بالموسيقى
والكتب واللوحات والنبيذ الجيد ,فهي على القل ل تكيد لك ,ول تغدر بك .إنها واضحة في
تعاملها معك .والهم من هذا أنها ل تنافقك ول تهينك ول يعنيها أن تكون زبّالً أو جنرالً.
واصل ساخرا:
-قرأت منذ مدّة أن زبالً في فرنسا فقد ذراعه بعدما علق قفّازه في أسنان مكبس الشاحنة,
بينما كان يحاول دفع النفايات الضخمة بيده بعيدا في جوفها .فكرت أن هذا الرجل الذي فقد
ذراعه في معركة الحياة "القذرة" وهو ينازلها للحصول على لقمة نظيفة ,لن تكون له وجاهة
ضابط فقد ذراعه في معركة من أجل الستيلء على الوطن .فالعضاء تساوي ما يساويه
أصحابها .الجنرال أنطونيو لوبيز دي سانتانا الذي حكم المكسيك حكما دكتاتوريا ثلث مرّات,
أقام جنازة رسمية مهيبة لساقه اليمنى التي فقدها في ما يسمى حرب الفطائر .فبين ذراع
الزبال وساق الجنرال فرق خمس نجوم .نحن لسنا متساوين في العاقة سوى أمام الشياء.
فال ّرجْل الخشبية التي كانت تحمل ذلك الجنرال ..وحدها لم تكن ترى نجومه!
أكثر من فنّه ,كانت حكمة ذلك الرجل هي ما يذهلني .ذلك أن صوته لم يفارقني .كان يأتي
في كل مناسبة ملتبس الضاءات في جملة .وسعادتي اليوم تكمن في تلك الشرطة التي
سجّلت عليها جلسات حواراتنا ,يوم كان ,وهو ممدد في ذاك السرير مربوطا إلى أكسير
الذاكرة ,يحدثني عن قناعات سكن فيها مع العمر.
رجل مات وترك لي صوته .صوته ذاك ,بين غيوم اللغة وصحو الصمت ,يتقدّم ككاسحة
أوهام ,يدرّبك على فنّ إزالة خدع الحياة الفتّاكة وألغامها.
وقفت أبحث عن أغنية تناسب مزاجي ,أغنية كمكعّبات الثلج ,كانت تنقص كأسي .كنت
أريدها عربية .استأذنت فرانسواز في سماعها ,ذلك أن الحزن في هذه الحالت كالطرب ل
يكون إل عربيّا.
سألتني عن كلماتها .ما كانت لي رغبة في أن أشرح لها الغنية ,لكنني قلت بمجاملة:
-إنها أغنية يتوجّه فيها المغني لمرأة قاسية ..أحبّها وتخلّت عنه.
كيف أترجم لها أغنية تحيك لك مؤامرة بكاء ,وتذبحك فيها الكمنجة ذهابا وإيابا .أية لغة,
أية كلمات ,تحمل كمّا كافيا من الشجن لتقول بها:
" -آآآه يا ظالمة ..وعليك انخلّي أولد عرشي يتامى".
شعرت أن ل عجب في تشابه حياة بهذه المرأة التي يبكيها الفرقاني .لكأن كل أغنية في
العالم أيّا كان من يغنيها ,هو ل يبكي ول يشكو سواها .هي المتهم الول في كل أغاني
الحبّ ,الخائن دوما في كل قصة ,الجاني في كل فيلم عاطفيّ ,وبإمكانك إلباسها كلّ الجرائم
العشقية عبر التاريخ.
سألتني فرانسواز:
-أكلّ الغاني العربية حزينة هكذا؟
أجبتها كمن ينفي تهمة:
-ل ..ليس دائما.
ردت كأنها تجاملني:
-قد يكون هذا الحزن سر رومنطيقية العرب وتمتعهم بذلك السخاء العاطفي.
قلت متهكما:
-سخاؤنا العاطفي يا عزيزتي سببه يتمنا ل حزننا ,لأكثر سخاءً من اليتامى .نحن ,على
كثرتنا أمة يتيمة ,مذ تخلّى التاريخ عنّا ونحن هكذا ...اليتيم كما يقول زيّان ل يشفى أبدا من
إحساسه بالدونية -واصلت بعد شيء من الصمت -العطر الذي أهديتك إياه " شانيل رقم ""5
دليل على ذلك .حتى عندما نجحت كوكو شانيل واشتهرت ,لم تشف من عقدة يتمها..
وأطلقت على عطرها الول الرقم الذي كانت تحمله في دار اليتام التي تربّت فيها .لحظي
بساطة القارورة في خطوطها المربعة دون أيّ نقوش أو فخامة أو طلء .ذلك أن اليتم عارٍ
وشفاف إلى ذلك الحد .حتى أنه ل يحمل اسما .بل رقما .إن معجزة شانيل ليست في
ابتكارها عطرا شذيّا ,بل في جعلها من اليتم عطرا ومن الرقم اسما.
قالت فرانسواز مندهشة:
-عجيب ..لم أكن أعرف هذا.
-هذا أمر ل يعرفه الكثيرون .وربما لم تكن تعرفه حتى مارلين مونرو التي كانت ل تتعطّر
بغيره ,حتى إنها عندما سئلت مرة " ماذا ترتدين للنوم؟" أجابت " بضع قطرات من شانيل
رقم ."5وفهم من كلمها أنها لم تكن ترتدي شيئا.
-يا إلهي من أين لك هذه المعلومات؟
قلت مازحا:
-هذه يا عزيزتي ثقافة اليتم .ثم واصلت بنبرة أخرى :أحدثك عن مارلين مونرو لنني
تذكرتها اليوم في المعرض .يحكى أنها لفرط إحساسها باليتم ,كانت تملك القدرة عند دخولها
أي مكان ,أن تميز يتيما من بين أربعين شخصا .قد فاجأني هذا الحساس اليوم وأنا أدخل
الرواق ,كان بإمكان أي زائر للمعرض بدون أن يمتلك هذه الحاسة ,أن يكتشف يُتْم تلك
اللوحة بين كل اللوحات.
مرعب ذلك الحساس الذي تخلّفه في قلب أي ناظر إليها .ما كنت قبل اليوم لصدق يُتْم
اللوحات .على كلّ ..ماكان في المعرض زوار ليلحظوا ذلك.
قالت فرانسواز:
-ل تقلق ,الناس مشغولون بالعياد ..والكثيرون لم يسمعوا بموت زيان بعد.
ثم واصلت بتذمر:
-بالمناسبة ..أتدري أن الرواق قد باع تلك اللوحة بـ 50ألف فرنك؟ كسب 20ألف
فرنك من دون حتى أن تتحرك اللوحة من مسمارها .كان يكفي أن تتصل كارول هاتفيا بأحد
زبائنها وتخبره أن الرسام مات ,ليتضاعف السعر.
قلت بغضب:
-مكر سماسرة الفنون .ينتظرون موت الرسام ,ليصنعوا ثروتهم من فنّ لم يستطع صاحبه
التعيّش منه ,ول أن يضمن به موتا كريما.
سألتها بفضول:
-من اشتراها بهذه السرعة وبهذا الثمن؟
كنت أتوقع أن يكون المشتري أحد أثرياء المهجر الجزائريين الذين ,وقد انتفخت حساباتهم
بالمال المنهوب ,درجوا على تبييض سمعتهم بالتسابق إلى شراء كل ما يعرض لكبار
المبدعين الجزائريين ,فل أرى غير أحدهم بإمكانه أن يدفع خمسين ألف فرنك لشراء لوحة
تعرض عليه بالهاتف ,وقد سمعت أحد هؤلء يقول مرة في مجلس مبررا ولعه المفاجئ
بالفن " إن كسب المال موهبة ,وإنفاقه ثقافة" .أثبت بما اختلس من أموال أنه " موهوب" لم
يبق عليه إل أن يثبت بما يقتني أنه مثقف!
غير أن فرانسواز فاجأت كل توقعاتي وهي تقول:
-إنه فرنسي ثري من ذوي " الرجل السوداء" يملك لوحات نادرة منها مجموعة من لوحات
" ," Les orientalistesوأخرى لمحمد راسيم .اشترى مؤخرا لوحات لطلن
عرضت للبيع .حتما سمعت بأطلن ..رسام يهودي قسنطيني يعتبر أحد وجوه الفن
التجريدي ,مات في الستينات ..إشتهر بولعه بقسنطينة وبسجنه أكثر من مرة بسبب مساندته
للحركات التحررية.
كنت ل أزال تحت وقع الدهشة عندما واصلت:
-أخبرتني كارول أنه كان يريد أن يشتري لوحات أكثر لزيان ,ولكن لم يكن من حق الرواق
بيع شيء بعد الن ,عدا لوحتك أنت طبعا ,لنها بيعت قبل وفاة زيان.
ي من حزن قامت وجلست جواري تواسيني:
ثم أمام ما بدا عل ّ
-ل تحزن هكذا ,إنه رجل يحب الفن ومعروف عنه هوسه بكل ما له علقة بقسنطينة.
زيان عندما عاد لول مرة إلى قسنطينة أحضر له أشياء صغيرة من هناك .أظنه كان صديق
طفولته ,أو أنهما درسا معا أو شيئا من هذا القبيل.
سألتها وقد ضاع صوتي:
أتعتقدين أن زيان كان سيبيعها له؟
قالت:
-ل أظن ذلك ,فزيان كان يرفض في جميع الحالت بيعها ليّ كان .ولول إحساسه بالموت
وثقته فيك لما باعها حتى لك .أظنه كان يود الحتفاظ بها لنفسه ,لكنه ما وجد أحدا ليورثه
إياها .ابن أخيه اغتاله الرهابيون بطريقة شنيعة منذ سنتين .وابن أخيه الخر اختفى قبل
سنوات ويعتقد أنه التحق بالرهابيين ,أو مات.أما أخوه الوحيد فقد اغتيل منذ عشر سنوات
في أحداث .88
ل أصعب على فنان من أن ل يجد في آخر عمره أحدا يطمئن إليه ..ويأتمنه على أعماله.
قلت بتهكم الحسرة:
-تدرين أن تسمية " الرجل السوداء" أطلقت على المعمرين الفرنسيين الذين أرسلوا
للستيطان في الجزائر بعد الغزو الكولونيالي أوساط القرن التاسع عشر ,إذ كانوا ينتعلون
أحذية سوداء سميكة أثناء إشرافهم على المزارع و الراضي .حتما هذا الثري ما توقع أن
يواصل انتعال التاريخ أبا عن جدّ .ول توقع أن يأتي يوم ل يبقى فيه لهذه اللوحة من قريب
سواه ..بعد أن انقرض أهلها في الحروب العبثية .كان عليه انتظار أن ينتهوا من الجهاز
على بعضهم البعض فيحظى بميراث كامل.
لعلها لم تفهم كلمي .قالت:
-في سوق الفن ,المر قضية وقت ل غير .عليك أن تنتظر فقط ,وبشيء من الصبر ,وبما
يلزم من مال ,أنت تحصل في النهاية على أية لوحة تريدها .يكفي أن تقتنص الفرصة.
أحيانا تصادفك ضربة حظ وتستفيد من لحظة غفلة كما هذه المرة ,أثناء انشغال الناس
بأعيادهم وقبل أن ينتشر خبر موت الرسام.
قلت وأنا أسكب شيئا من الخمر:
-حتما ..ما التاريخ إل نتاج لحظات الغفلة!
ما كنت أبا عبد ال ,ول وجدتني مرغما على تسليم مفاتيح غرناطة ,فلم البكاء؟ إنها
خسارات غير قابلة للشماتة ,ما دمت اخترتها بنفسي.
عندما كانت تزورني حياة لساعة أو ساعتين على عجل ,ثم تعود مذعورة إلى بيتها ,قلت
لها مرة ":ل يعنيني أن أمتلكك بالتقسيط .أرفض أن أربحك لساعات تذهبين بعدها لغيري,
تلك الرباح الصغيرة ل تثريني .أنا لست بقّال الحيّ ,أنا عاشق يفضّل أن يخسرك بتفوق.
أريد معك ربحا مدمرا كخسارة".
لم أكن أدري أن أرباحا فادحة تتوالد خساراتها ,كتلك الجائزة التي مذ ربحتها وأنا أشتري
بها خساراتي.
أعادني الموقف إلى زيان الذي ,في هذا المكان عينه ,رقص بين خرائبه بذراعه الوحيدة,
كبطل إغريقي مشوّه في تلك الليلة التي تخلّى فيها عن أكثر لوحاته لفرانسواز وذهب ليدفن
أخاه.
كم تمنيت أل أتماهى معه في هذا المشهد العبثي الخير ,أنا الذي جئت فرنسا لستلم جائزة.
أكان القدر قد جاء بي ,فقط لكون اليد التي تسلّم لوحة وتستلم جثمانا؟
وضعت موسيقى زوربا وجلست أشرب نخبه.
عم مساءً يا خالد.
الن وقد أصبحت جزءا من هذا الخراب الجميل الذي ل يشبه شيئا مما عرفت ,ستحتاج إلى
الرقص كثيرا يا صديقي .فارقص غير معنيّ بأن تفسد سكينة الموتى.
ل تقل تأخر الوقت .أنت تعيش في منطقة عزلء من الزمن .ل جدوى من النظر إلى
ساعتك ,ليست هنا لتدلّك على الوقت ,بل لتضع رفات الوقت بيننا.
انتهى الن كل شيء .عندما أصبح كل ذلك الوقت ,ما عدت معنيا بالزمن ,ترى الشياء
بوضوح ,لم يعد بإمكانك أن ترسمها .دخلت منطقة غياب اللوان ,ذاهب صوب التراب.
تراب كنت تتوق إليه ,أسميته وطنك( .وطنك؟) بإمكانك أن تذهب إليه على حسابك ,دون أن
تستعد كعادتك قبل موعد .ل جدوى من أناقتك ,ففي ضيافة الديدان تتساوى الجساد يا
صديقي ,ولن يوجد من يتنبّه لعطبك ,لذراعك التي كلّما تعرّيت أخفيتها عن الخرين.
تراب يحتفي بك ,وديدان أصبحت وليمتها تهزأ من نساء أحببنك وترفعت عن إمتاعهن .كنت
ترفض إغراء عاهرة إسمها الحياة ,وجئت اليوم تهدي جسد شيخوختك للحشرات.
أيها الحمق ,بعد الن ,كل ما ينسب لغيرك في الفسق أنت فاعله .كل خطيئة يحاسب عليها
غيرك أنت مقترفها .كل حكمة يلفظها رجل أنت قائلها .كل امرأة تحبل ,أنت من تسلّل إلى
مخدعها.
الن وقد أصبح كل شيء خلفك ,أنت أكثر حكمة من أي وقت مضى ,فقم وارقص.
ن امرأة أحببتها خانتك معي ..وستخوننا معا.
ارقص ,ل ّ
لنّ بيتا كان لك قد صار لسواك.
لنّ لوحات رسمتها ذهبت إلى أيدٍ لم تتوقعها.
لنّ جسورا مجّدتها تنكرت لك ,ووطنا عشقته تخلى عنك.
لنّ أشياء سخيفة احتقرتها ,ستعيش بعدك.
لنّ حسّان سيكون قريبا منك بعد الن.
لنّ أولده الذين ربّيتهم سقطوا في خندق الكراهية ولن يكونوا في جنازتك.
لنّ قسنطينة التي عشقتها أشاحت عنك كما كانت اللهة الغريقية تزورّ عن رؤية الجثث..
نهضت فرانسواز نحو المطبخ حاملة صحون السفرة .ناديتها وأنا أرفع بعض الشيء من
موسيقى زوربا:
-أرجوك كاترين ..تعالي للجلوس جواري ,فعمّا قريب سنواجه مطبّات شاهقة.
قالت محتجة:
-ولنني لست كاترين.
أجبتها بنبرة مازحة:
ت أنني أنا أيضا لست خالد.
-صحيح ..أنت لم تقرئي تلك الرواية .لو قرأتها لدرك ِ
قالت بعدما عادت للجلوس جواري:
-أنت ثمل أليس كذلك؟
-تعتقدين هذا؟ لنني قلت لك الحقيقة؟ الحقيقة يا عزيزتي تؤخذ من هذيان السكارى.
أتدرين أن الطوارق يختارون أسماءهم بالقرعة ,وكذلك أنا أصبحت خالد مصادفةً.
واصلت أمام اندهاشها المستخفّ بكلمي:
-في موسم قطف الرؤوس وحصاد القلم ,فشلنا نحن الصحافيين في العثور على أسماء
مستعارة نختفي خلفها من الرهابيين .كلّ اختار اسمه الجديد حسب ما صادفه من أسماء.
أنا انتحلت اسم بطل في رواية أحببتها.
واصلت بعد شيء من الصمت:
-إن شئت الحقيقة ,خالد بن طوبال ليس أنا ,إنما زيان .ولكن تلك قصة أخرى .في الواقع
كان هذا اسمه في تلك الرواية ,بينما أصبح هذا اسمي فس الحياة .ففي الرواية أيضا نحتاج
إلى استعارة أسماء ليست لنا ,ولذا أثناء انتقالنا بين الثنين كثيرا ما ل نعود ندري من
نكون .إنها لعبة القنعة في كرنفال الحياة.
-ولكن ما اسمك؟
-وماذا يغيّر اسمي .ما دمت تعرفين لقب فمي وكنية يديّ ,فكلّما م ّر شيء مني بك ترك
إمضاءة عليك.
-جميل ..ولكن ما السم المكتوب على أوراقك الثبوتية؟
-ل أحب أن تكوني رجل بوليس يدقق في هوية عابر .افترضي أننا التقينا في تلك
المنتجعات السياحية البحرية التي من أجل بلوغ وهم السعادة ,يفرض فيها على الزبائن
التخلي عن أسمائهم خلل فترة القامة ,فتطلق عليهم أسماء بعض المحارات البحرية أو
اللهة اليونانية وأحيانا أرقام ل غير .أيّ قصاص أن تحملي اسمك قيدا مدى العمر!
أحسد سكان بلد عربية يعيش فيها الناس بل أسماء .لعبو الكرة يستد ّل عليهم بأرقامهم,
النوّاب يحملون أسماء مناطقهم ,المسؤولون يحملون أسماء وظائفهم ,المطربون ل يغّنون
إل في جوقة ,الموات لهم مقبرة جماعية يضع عليها الزوّار الرسميون إكليلً للجميع .إنهم
في منتجع التاريخ ,اختزلوا أسماءهم جميعا في اسم رجل واحد وارتاحوا .الحكم عملية
اختزال .ثمّة نعمة في أن تكون "ل أحد" .ل تتوفر لك ,إل عندما يأتي حاكم ويؤمم كل
السماء ,أو يأتي الموت ويبعثرك في كل شيء.
كان زوربا بدأ ينتفض رقصا .وكنت أفكّر في بورخيس عندما يقول في نهاية كتابه " الخلد" "
كنت هوميروس وقريبا أصير ل أحد ,كما عوليس قريبا أصبح العالم كله ,لنني أكون قد
متّ".
قرّرت أن أضع ذراعي على كتف زيان ونبدأ الرقص سويا ,فزوربا رقصة تصبح أجمل
عندما يؤديها رجلن بعنفوان الخاسرين ..فاتحين ذراعيهما لحتضان العدم.
هيا زيان ,انتهى الن كل شيء فارقص .عندما ترقص ,كما عندما تموت ,تصبح سيد
العالم .ارقص كي تسخر من المقابر.
أما كنت تريد أن تكتب كتابا من أجلها؟ ارقص لكتبه عنك.
تدبّر رجلين لرقصتك الخيرة ,وتعال من دون حذاء.
في الرقص كما في الموت ل نحتاج إلى أحذية!
الفصل الثامن
عندما انتهيت من تسجيل حقيبتي الصغيرة ,بعد وقوفي طويلً في طوابير الحياء المتدافعين
ي وأحواض للورد
والمحمّلين بكل أنواع الحمولت وأغربها ,من حرامات وطاولت ك ّ
وطناجر وسجاد وحقائب بؤس من كل الحجام ,عائدين بها كغنائم غربة إلى الوطن ,ذهبت
إلى حيث ل طوابير بشرية تزاحمني وحيث كل شيء سقط متاع ,مذ أصبح فيها البشر هم
المتعة و الحمولة التي تسافر مختومة ومرقمة مع البضائع في جوف الطائرة.
وقفت في تلك القاعة المخصصة ليداع ما هو جاهز للشحن إلى كل الوجهات .في جهة منها
كانت تتكدس الصناديق الضخمة التي تنقلها اللت نحو الطائرات ,ويهرع عمال بثيابهم
الزرق وقبعاتهم الصفر لجرها في عربات مكشوفة ,مما كان يحدث أحيانا أصواتا قوية,
ويترك جانبا من القاعة مفتوحا لمجرى هواء جليدي .أحدهم نبّهني أن أقصد الجهة الخرى
من القاعة ,فقصدتها أنتظره.
ثمّ جاء..
هاهم يأتون به ,غرباء يحملونه على أكتافهم ,حلما في تابوت من خشب ,مكلّلً بكبرياء
الخاسرين يجيء ,له جنازة تليق بسخريته ,أكاد أصيح بهم " ل تسرعوا بنعشه فتتعثرون
بضحكته" .هو المتئد المتمهل ,ل تستعجلوه .هو الواثق كالتأمل ,انصتوا لتهكمه وهو يعبر
لوحته الخيرة ,يجتاز قدره من ضفة إلى أخرى ,كما يجتاز جسرا ,محمولً من أناسٍ ل
يدرون كم رسم هذا الممر.
وهو يبني جسرا .ل همّ للمهندسين إل العبور المين ,أما العبور الجميل ,فيهندس جماله أو
بشاعته مهندس أكبر ,يملك وحده حقّ هندسة خطى القدر.
ق له أن يستريح.
يا إله الجسور ,يا إله العبور الخير ,ل توقظه .عاش عمره على سفر ,ح ّ
يا إلهة السرة ,عابر سرير هو حيثما حلّ ,فأهده راحة سريره الضيق الخير.
وأنت يا إله البواب ,ل قبور آمنة في انتظاره ,فل تدعهم يخلعون باب نومه.
في حضرته ,اكتشفت أنني فقدت القدرة على البكاء ,ولم يبق لي أمام الحزن إل ذلك النين
الخرس للحيتان في عتمة المحيطات.
كان أمام الموت يفعل ما كان يفعله دائما أمام الحياة :التهكم!
وعندما لم أجد في العين دمعا يليق بسخريته ,رحت أشاطره البتسام.
فجأة لمحتها ,كانت رفقة ناصر ,جاءت .إذن جاءت .هي ,أكانت هي؟ تلك المرأة القادمة
ف شعرها شال من الموسلين السود ,مرتدية معطف فرو طويل ,برغم البرد
بخطىً بطيئة يل ّ
القارس ,ما أحببت ترف حدادها الفاخر.
قبل أن تقترب ,فكّرت أن معطفها يساوي أكثر من ثمن تلك اللوحة ,كان يكفي أن تستغني
عنه ليشعر خالد الن ببرد أقلّ.
كان يكفيها معطف داكن ووردة حمراء ,لتصبح "نجمة" فهل ليس في خزانتها معطف بسيط
يليق بفاجعة كبيرة؟
أقنعت نفسي بأنها لم تكن هي .حتما كانت " نجمة" ,تلك الغريبة الجميلة الهاربة من القصائد
والواقعة في قبضة التاريخ .مثلها كان لها كل وجوه النساء ولها كل السماء ,إل أنها اليوم
خلعت مليتها السوداء التي ارتدتها حدادا على صالح باي ,وارتدت معطف فرو اقتناه لها
أحد قطّاع طرق التاريخ.
من يحاسب زوجة قرصان إن هي ارتدت شيئا من غنائمه؟
كانت تتقدم ببطء ل يشبه خطوتها ,ألن قدميها المخضبتين بالحناء تعبتا؟
منذ زفافها وهي تمشي كي تبلغ هذا الجثمان.
عرّفني ناصر بأخته .كان أولى أن أعرفه بها .مدّت يدها نحوي .المرأة ذات معطف الفرو,
لم تقل شيئا ,عساها تخفي تردد أكفنا وارتباكها لحظة مصافحة.
ليس من أجل ناصر .بل من أجله هو ,تحاشينا أن تطول بيننا النظرات .لم نكن نريد أن
نشهده ميتا على ما كان يعلمه حيا.
في حضرته ,كنّا نتبرّأ من ذاكرتنا العشقية ,مستخفّين بذكاء الموتى.
ضمّني ناصر طويلً إلى صدره .التصقت دمعة على خدّه بخدي .قال كلمات في بياض
الكوما ,وبكى .بدا لي كأنه شاخ ,كأنه هو أيضا ما عاد هو ,كأنه أصبح الطاهر عبد المولى.
كانت هكذا ملمح أبيه كما خلّدتها صور الثورة.
ناصر الذي رفض أن يحضر زفافها ,يوم كان في قسنطينة ,أيّ قدر عجيب جاء به من
ألمانيا ,ليحضر جنازة خالد هنا في باريس! أكان لقاؤنا حوله آخر رغبة أراد أن يخطفها من
الفكّ الساخر للموت؟
موتا مكثفا في دقّته ,مباغتا في توقيته ,ذكيّا في انتقاء شهوده ,حتى لكأنه وصية.
أشك أننا كنا جميعنا هناك في ذلك المكان مصادفة .في المصادفة شيء من الفوضى ل
يتقنها الموت.
ل يوجد سوء ترقيم ,ول سوء تدبير في هذا العالم الجائر .يوجد ما يسميه رنيه شار في
إحدى قصائده " فوضى الدقة" .إنه الموت المشاغب الجبار ,كما في تراجيديا إغريقية.
أيّ مأساة أن تخلف شيئا على هذا القدر من الفاجعة! أيّ ملهاة أن تكون شاهدا عليه!
واقفين كنا أمام أسطورة رجل عاديّ ,بأحلم ذات أقدار ملحمية.
رجل يدعى خالد بن طوبال .فمنذ اجتمعنا حوله استعاد اسمه الول ,وبهذا السم يعود إلى
قسنطينة .الموت غيّر اسمه وكشف أسماءنا.
أذكر يوم سألني بتهكم ذكيّ:
-خالد ..أما زلت خالد؟
مثله أكاد أسأل المرأة ذات المعطف الفرو:
-حياة ..أما زلت حياة؟
ذلك أنها مذ دخلت هذا المكان أصبحت " نجمة".
نجمة المرأة المعشوقة ,المشتهاة ,المقدسة ,المرأة الجرح ,الفاجعة ,الظالمة المظلومة,
المغتصبة ,المتوحشة ,الوفية الخائنة " .العذراء بعد كل اغتصاب" " ,ابنة النسر البيض
والسود" التي " يقتتل الجميع بسببها ولكنهم ل يجتمعون إل حولها".
هي الزوجة التي تحمل اسم عدوك .البنت التي لم تنجبها .الم التي تخلت عنك .هي المرأة
التي ولد حبها متداخلً مع الوطن ,متزامنا مع فجائعه ,حتى لكأنها ما كانت يوما سوى
الجزائر.
ذلك أن قصة " نجمة" في بعدها السطوري ,كأحد أشهر قصص الحب الجزائري ,ولدت إثر
مظاهرات 8مايو 1945التي دفعت فيها قسنطينة والمدن المحيطة بها أكثر من ثلثين
ألف قتيل في أول مظاهرة جزائرية تطالب بالحرية.
كان كاتب ياسين يومها في عامه السابع عشر ,يقاد مع اللف إلى السجن ,وكان في طريقه
إلى معتقله الول يرى شبابا مكبّلين تجرهم شاحنات إلى عناوين مجهولة ,وآخرين يعدمون
في الطريق بالرصاص.
وفي الزنزانة الكبيرة التي ضاقت بأسراها ,كان العسكر يأتون كلّ مرة لصطحاب رجال لن
يراهم أحد بعد ذلك أبدا.
عندما غادر كاتب ياسين السجن بعد أشهر لم يجد بيتا ليأويه .كانت أمه قد جُنّت ظنّا منها
أنه قُتل ,وأُدخلت إلى مستشفى المراض العقلية .قصد الشاب بيت خالَيْه المد ّرسَين فوجد
ن الطامّة كانت عندما علم
أنهما قُتِل,ذهب إلى بيت جدّه القاضي فوجد أنهم اغتالوه,غير أ ّ
أنهم في غيابه زوّجوا ابنة عمّه التي كان يحبّها.
في لحظة سهو ,اغتصبت تلك المعشوقة التي لن يشفى من حبّها أبدا ,عمرا من الهذيان
أصبحت فيه " نجمة" كل النساء .فكلما سقط الحجاب عن امرأة في مسرحيات كاتب ياسين
تظهر " نجمة" من تحت كل المليات ومن تحت كل السماء.
ألم يقل في آخر عيد ميلد له وبعد وفاة أمّه عن عمر إلتهم فيه الجنون الصامت 36سنة
من حياتها " :ولدت في 8مايو 45وقتلت هناك مع الجثث الحقيقية بجوار أمي التي انتهى
بها المر في مصحّ المجانين ,ثم ولدت من جديد مع " نجمة" ,أحبها ذلك الحب الول ,الحب
الموجع في استحالته ,سعيد بحزني بها ,أكتبها ,لم أكتب سواها ,كمجنون".
هو الكاتب المسرحي ,لم يتوقع أن تلك المرأة التي أحبها منذ خمسين سنة ,وما عاد يعرف
ملمح شيخوختها ,ستأتي لتحضر العرض الوحيد والخير لمشهد موته ,في مسرحية حياة
بدأ فصلها الول منذ نصف قرن يوم رآها.
فما كان ليصدق أن النص الخير ليّ مسرحيّ ,يرتجله القدر ,ووحده الموت يوزع فيه
الدوار على الناس بين متفرجين وممثلين ,ل دقّات ثلثا تسبق رفع الستار ,فالقدر ل ينبهك
عندما يحين دورك ببدء المسرحية ,ل في أية جهة من المسرح ستكون ,ول من سيكون
الحضور يومها.
وهي ,هي الباكية الن باستحياء ,المحتمية من الذاكرة بفروها ,عندما زارت زيان في
المستشفى وأهدته ذلك الكتاب ,أكانت تدري أنها تهديه قدره ,وتطلعه عليه كنبوءة؟
وعندما كتبت على الصفحة الولى " أحببت هذا الكتاب ,حتما سيعجبك" ماذا كان في كتاب "
توأما نجمة" ما تريد إطلعه عليه ,غير ذلك الموت الغرائبي لصديقه ياسين ,وما كانت هي
الروائية لتتوقع أنها مثل " نجمة" ستجد نفسها مصادفة تحضر المشهد الخير لموت رجل
عشقها ورسمها كمجنون ,فسلّمته للغربة والشيخوخة والمرض.
لم تفارقني فكرة تطابق الموقفين .مثل " نجمة" ,ما كان يمكن لحياة أن تحضر جنازة خالد
ن ناصر يقف هنا مع المشاهدين ,بينما كان أخو نجمة مسجىً
لول وجود أخيها .الفرق أ ّ
جوار حبيبها ,في قاعة ترانزيت الموات كهذه!
في ذلك الموت العجيب " الممسرح" لكاتب ياسين وابن عمّه مصطفى كاتب ,شيء يتجاوز
الخيال المسرحي نفسه .يزيد من غرابته أن الرجلين كانا رجلي مسرح .كان مصطفى كاتب
الذي عرفته شخصيا مديرا للمسرح الوطني في السبعينات قبل أن يفتك به الداء .بينما كان
كاتب ياسين يتزعّم المسرح المعارض ويقدّم عروضه بالعامّية والمازيغية في التجمعات
العمّالية.
وإذا كان ياسين نحيلً وعصبيا ويعرف جغرافية السجون والمعتقلت ,ومن بعدها عناوين
المصحّات العقلية والخانات ,كان مصطفى كاتب تقيّا ورصينا ووسيما وسامة أرستقراطية
قسنطينية ,زاده شعره الفضّي وابتسامته الهادئة تميّزا.
وكانا بحكم اختلف معتقداتهما ومزاجهما منقطعين عن بعضهما إنقطاعا كأنه قطيعة .كلّ
يدور في مجرته ,حتى ذلك اليوم الذي جاء بهما الموت كلّ من مدينة ووضعهما متجاورين
في قاعة كهذه في مطار مرسيليا قبل سفرهما الخير إلى الجزائر.
لم يكن الممثلون هذه المرة على المنصة .كانوا في التوابيت .والذي كان يدير الممثلين في
هذا المشهد الخير كان خارج المسرح ,فالفضاء المسرحي كان أكبر من أن يقدر على
إدارته البشر .وهذه المرّة لم يكن من تنافس بين الممثلين ,فالنجم الوحد في مسرحية
الموت ,هو الموت ,ولنه ل مكان للتصفيق ,لن ينهض الممثلن لتحية الجمهور قبل
انسحابهما الخير.
أليس القدر هو الذي جعل كاتب ياسين يموت في مدينة غرونوبل ( جنوب فرنسا) يوم 28
أكتوبر , 1989وابن عمّه مصطفى كاتب يموت بعده بيوم واحد في 29أكتوبر في
مرسيليا .حتى إن إحدى الجرائد عنونت الخبر " كاتب +كاتب = مكتوب".
هكذا جيء بجثمان كاتب ياسين إلى مطار مرسيليا ليتم نقله على الطائرة نفسها مع مصطفى
كاتب.
يحكي بن عمار مديان في ذلك الكتاب كيف أنه وجد نفسه وهو الصديق القرب إلى كاتب
ياسين والمرافق لجثمانه ,شاهدا ومشاهدا ذلك الحدث العجيب الذي تحّولت خلله قاعة
ترانزيت البضائع وتوابيت الموتى في مطار مرسيليا ,إلى خشبة ل حدود لها ول ستائر ,كلّ
شيء فيها حقيقيّ ,وكلّ شيء شبيه بمسرح إغريقي.
شاهد فجأة امرأة تتقدّم بخطىً بطيئة داخل معطف غامق طويل ,حاملة في يدها المختفية في
قفَاز أسود ,وردة ذات ساق طويل.
كان وجهها يختفي خلف نظارات سود ,وقبّة المعطف التي كانت ترفعها ,تخفي الكثير من
ملمحها.
تقدّمت المرأة نحو النعشين ,وراحت تقرأ السم المكتوب على كلّ منهما .توقّفت عند التابوت
الذي كان ينام داخله مصطفى ,انحنت وقبّلت طرف النعش ,ثمّ ,بدون أن تخلع قفّازيها,
مرّرت يدها على نعش ياسين في ملمسة سريعة للخشب .بقيت بعض الوقت ممسكة بتلك
الوردة ,ثم وضعتها على نعش أخيها مصطفى ,وابتعدت.
كانت " ..نجمة"!
كأبطال الروايات والمسرحيات الذين يغادرون نصوصهم ,ويأتون لوداع المؤلف ,جاءت "
نجمة" ,لكنها لم تكن هناك لوداع الكاتب الذي حوّلها أسطورة ,وإلى رمز لوطن .الشاعر
الذي صنع من وجهها ألف وجه ,ومن اسمها اسما لكلّ النساء ,وأدخل قصّتها في روائع
الدب العالمي.
جاءت لوداع أخيها .هي زليخة كاتب ,في عامها السبعين ,قد تكون نسيت منذ ذلك الزمن
البعيد أنها" نجمة" ,فهي كانت تعيش باسمين ,واحد للحياة والخر للسطورة .ولذا ما توقعت
أن تقوم الحياة نفسها بتذكيرها أمام جثمان ياسين ,أنها برغم شيخوختها ,مازالت " نجمة"..
فوحدها الساطير ل تشيخ!
يا للحياة عندما تبدأ في تقليد المسرح حينا ,والدب حينا ,حتى تجعلك لفرط غرائبيتها تبدو
كاذبا.
من يصدق شيئا غريبا عن امرأة كزهرة توليب سوداء ,تدعى تارة حياة وتارة " نجمة".
تأتي دائما في آخر لحظة ,في آخر مشهد ,لتقف أمام نعش رجل توقف عن الهذيان بها
لفرط ما انتظرها.
امرأة كأنها وطن ,ل تكلّف نفسها سوى جهد تمرير يدها بالقفاز على تابوتك ,أو وضع وردة
على نعشك في أحسن الحالت.
كم مرّة يجب أن تموت لتستحقّ دفء صدرها!
كنت أفكر في الكاتب الصوماليّ نور الدين فرح مبرّرا هجرته المعاكسة من أوربا إلى أفريقيا
قائلً ":إني بحاجة ماسّة إلى الدفء ,إلى هذا تحتاج الجثة" .وأكاد أخلع عن تلك المرأة
معطفها لغطي به نعش خالد ,في رحلة عودته إلى صقيع الوطن .أكاد أصرخ بها ,ل تكوني
" نجمة" ,استبقيه بقبلة ,استبقيه بدمع أكثر ,قولي إنك أحببته ,انفضحي به قليلً .هل أجمل
من فضيحة الموت للعشّاق؟
ضعي يدك عليه ,يدك التي تقتل ,يدك التي تكتب ,مرّريها عند أعلى التابوت ,كما لو كنت
تدلّكين كتفه ,هناك حيث مكمن يتمه.
ل تخافي عليه من فضيحة جميلة .لم يعد يخشى أحدا ,ول عاد معرّضا إلى شيء .إنه
معروض لفضول الشياء .عيناه المغمضتان تحفظان السرّ ,وقفصه الصدريّ الذي كنت
عصفورته ,موحش وبارد مذ غادرته ,فغطيّه.
أيتها المتردّدة ذعرا ,إرمي بنفسك فوق هذا الصندوق الخشبيّ الذي يضمه كما كنت ترتمين
طفلة صغيرة على حجره,يوم كان يلعبك ,يضمك إليه بذراع واحدة ,يستبقيك ملتصقة إلى
صدره.
هوذا ممدد أمامك ..من لك بعده؟ من كان لك سواه؟ إلثمي صندوقه ..إلثميه .سيعرف ذلك
ن الخشب غير موصل للحرارة,الموت ل يعترف بنظريات الكيمياء.
حتما .ل تصدّقي أ ّ
غافلي الحياء ,واختبري تلك الرغبات الخيرة التي نسرقها من فوق جثة الموت ,تلك القُبَل
التي توقظ الجثث.
أنا الذي أعرف تماما جغرافيتها ,أعرف منطقتها البركانية ,وتلك الزئبقية ,وتلك الناريّة,
كنت أكتشف مساحتها الجليدية ,وتضاريس حزنها المدروس كي ل يتجاوز حدّه.
امتلكني يقين النهاية ,وأنا أراها في حزنها الرصين ذاك.
أدركت أمام جليدها أنها هكذا ستواجه جثماني إن أنا متّ!
عندما انتهينا من قراءة فاتحة على روحه ,ابتعدنا ثلثتنا نحو ركن قصيّ من الصالة.
اغتنمت الفرصة لمدها بكيس فيه دفاتر صغيرة سجّل عليها زيان أفكارا مبعثرة على مدى
سنوات ,وأوراق أخرى كان يحتفظ بها في ظرف ,أظنها كانت لزياد ,نظرا لصيغتها الشعرية
المتقنة ,ولختلف خطّها عن خطّ زيان.
وضعت أيضا في الكيس كتابيها ,بدون إهداء ,كما احتفظ بهما زيان لسنوات ,واضعا سطورا
على بعض الجمل .ولم أنس طبعا كتاب " توأما نجمة" كما أهدته إياه قبل أيّام في آخر زيارة
لها.
هكذا أكون قسّمت تركة خالد بين امرأتين ,واثقا بأن واحدة ستسارع بإلقاء معظمها في
الزبالة ,ولن تحتفظ سوى باللوحات لقيمتها الماديّة ,وأخرى وقد فقدت اللوحات ..ستصنع
من خسارتها كتابا.
لم أحتفظ لنفسي سوى بساعته ,غير واعٍ أنني سأقع في فخّ تلك الساعة في ما بعد ,فكيف
يمكن مقاربة الحياة انطلقا من الموت ,لكأنّ عقارب الوقت التي وهبت سمّها لعقارب
ساعتك ,تدور ضدّك ,وفي كلّ دورة تستعجلك الفناء.
قلت كما لبرر لناصر مدّي أخته بذلك الكيس:
-إنها بعض أوراق وكتابات تركها زيان ,قد تستفيد منها السيدة حياة إن شاءت أن تكتب
شيئا عنه.
-ل تهتم ستتكفّل الصحافة بعد الن بتكفينه بورق الجرائد.
لم تفتح الكيس ,ول حاولت أن تلقي نظرة على محتوياته .حتما لم تتوقّع موقفا عجيبا كهذا,
ي لول مرة وسألتني:
لكنّها توجهت إل ّ
-بالنسبة للوحاته ,ماذا فعلتم بها؟
قلت:
-أظنها بيعت في معظمها.
قال ناصر:
-عندما أخبرتني بموته ,أول فكرة خطرت ببالي بعد المكالمة ,تلك اللوحة التي حكيت لي
أنا ومراد كيف أقنعته أن يبيعك إياها .في البدء ظننتك مجنونا لنك دفعت فيها كل ما تملك,
ثم بعد ذلك فكرت أن ثمة أشياء ل تعوّض ويجب على المرء أن ل يفكّر في الثمن عندما
تعرض عليه.
سألت بفضول:
-عن أية لوحة تتحدثان؟
وقبل أن أرد أجاب ناصر:
-عن لوحة رسمها سي زيان في بداياته وكانت تعزّ عليه كثيرا.
إنها تمثّل جسر سيدي مسيد.
قالت بتهذيب يضع بيننا مسافة للبراءة الكاذبة:
-أتمنى أن أراها .أيمكنك أن تترك لي هاتفا أو عنوانا أكاتبك عليه إن احتجت شيئا في ما
يخص أعمال زيان؟
كانت هذه آخر حيلة عثرت عليها لتطلب عنواني في حضرة أخيها ,فهي تعرف عاداتي في
الختفاء المفاجئ من حياتها.
أجبتها بطريقة تفهم منها أنني لم أتغيّر:
-آسف ,فليس لي عنوان ثابت بعد -مضيفا بعد شيء من الصمت -ثم إنني ...بعت تلك
اللوحة!
صرخ الثنان بتعجب:
-بعتها؟ وعلش؟
" وعلش؟"
لم يكن المكان مناسبا لشرح لهما " لماذا" بعتها .فقد يكون زيان يسترق السمع إلينا,
وفاجعة واحدة تكفيه .ذلك أن السؤال سيتوالد ويصبح " كيفاش؟" و " بقداش؟" و " لشكون؟"
وبكم ليست شيئا قياسا بلمن ,فعندها سأصبح خائنا باع الجزائر والمة العربية جميعها
للغرب ,وبسببي سقطت غرناطة وضاعت القدس ,فحتما ثمة مؤامرة حيكت ضد المة
العربية ,دبرها الرواق بالشتراك مع المستشفى ,خاصة أن معظم الطباء هم من اليهود.
وهل ما يحدث لنا منذ قرون خارج المؤامرة؟
كانا مازال مذهولين ينتظران مني جوابا ,ولم أجد شيئا لجيب به عن سؤالهما " وعلش؟".
فأحيانا يلزمك كتابة كتاب من هذا الحجم لتجيب عن سؤال من كلمة واحدة ":لماذا؟"
هل صدمها حقا فقدان تلك اللوحة ..فأفقدتها الفاجعة صوتها!
أظنها كانت ستقول شيئا ,عندما عل صوت المضيفة على الميكروفون يطالب المسافرين إلى
قسنطينة على متن الخطوط الجزائرية ,الرحلة رقم ,701باللتحاق بالبوابة رقم .43
بدت كأنها وجدت في ذلك النداء ذريعةً للتأهب لمغادرة المكان ,فما عاد ثمة ما يقال.
حضرني قول مالك حداد " :في محطات السفر والمطارات ,مكبرات الصوت تقول" على
السادة المسافرين التوجه إلى "...ذلك أن السيدات ل يغادرن أبدا".
فعلى أيامه كانت النساء ممنوعات من السفر ,قابعات في البيوت .أما اليوم ,فل وقت لهن
لمرافقة حبيبٍ يسافر في تابوت.
ضمّني ناصر إلى صدره وقال:
-ربي يعظّم أجرك ,ويحميك .لو كنت نقدر ندخل للجزائر وال نروح معالك ..لكن هاك على
بالك.
ثم وقف أمام الجثمان لحظات متمتما بكلمات كأنها دعاء .لمحته يمسح دموعا دون أن يرفع
يده اليمنى عن النعش.
هل أيقظ دعاء ناصر شيئا فيها؟ هل ذكّرها نداء الميكروفون أنني أنا وهذا المسجّى مسافران
معا ,وأنها فقدتنا نحن الثنين؟
مدت يدها نحوي موّدعة .رأيتها لول مرة أمام جثمانه مجهشةً بالبكاء.
كنت أحتقر تعاسة الذين ل يجرؤون على القتراب من السعادة الشاهقة ,الباهظة ,التي ل
ب الكبير يختبر في لحظة ضياعه القصوى.
تملك للسطو عليها إل لحظة ,فالح ّ
تلك اللحظة التي تصنع مفخرة كبار العشّاق الذين يأتون عندما نيأس من مجيئهم ,ويخطفون
سائق سيارة ليلحقوا بطائرة ويشتروا آخر مكان في رحلة ,ليحجزوا للمصادفة مقعدا جوار
مَن يحبّون.
الرائعون الذين يخطفون قدرك بالسرعة التي سطوا بها ذات يوم على قطار عمرك.
كنت أريد حبا يأتي دقائق قبل إقلع الطائرة فيغّير مسار رحلتي ,أو يحجز له مكانا جواري.
لكنها تركتني معه ..ومضت.
لم تقل شيئا .فقط بكت .وخالد ظلّ يكفنه البرد بيننا .استطعت أن أؤمن له ثمن تذكرة ,وما
استطعت أن أتدبّر له معطفا.
كان الميكروفون يكرر النداء .إنه وعي الفراق ,ول مناديل للوداعات الكبيرة.
وحدي كنت معه ,عندما جاؤوا لنقله .حملوه ليقبع هناك شخصا بين المتعة .أمّا أنا فولجت
الطائرة متاعا بين الركاب.
افترقنا هناك ,برغم أننا كنا نأخذ الطائرة نفسها أنا وهو.
ذهب آخر رفاق الريح ,وبقيت مرتعدا ,ل أدري كيف أوصد الباب خلف رجل عاش كما مات
في مهب التاريخ ,واقفا فوق جسر .في كل غربة ,كأسماك الصومون ,تبحث عن مجرى
مائي يعيدك من حيث جئت ,سالكا جسرا للوصول .لكن ,ليس بسبب النهر وُجد الجسر ,إنه
كالمواطنة ,لم تبتدع إل بسبب خديعة اسمها الوطن.
فنم نومة لوحة ,ما عاد جسرك جسرا يا صاحبي.
***
أستعيد كتاب " توأما نجمة" وصاحبه الذي يروي كيف وجد نفسه لمصادفة غريبة ,المرافق
لجثمانيْ كاتب ياسين ومصطفى كاتب من مرسيليا إلى الجزائر .وأجد عزائي في احتمال أن
يكون قد عرف ألما مضاعفا للمي ما دام سافر مع جثمانين.
ثم تقودني الفكار إلى تلك الخبار التي نقلتها الصحف في الثمانينات عن طائرات بلد عربي
مخصصة لنقل البضائع ,حوّلتها الضرورة إلى طائرات للنعوش ,وراحت لسابيع تنقل في
رحلت مكّوكيّة أحلم آلف المصريين الذين قصدوا ذلك البلد للعمل بنوايا وحدوية ,وعادوا
منه مشوّهين في صناديق محكمة القفال ,أغلقت على أحلمهم المتواضعة التي تم التنكيل
بها ,عندما أعلن رسميا في ليلة ظلماء وفي خضم الحتفالت بعودة الجنود البطال من
حربهم ضد الجيران ,فتح موسم إصطياد الغرباء الذين اتّهموا بإنتهاك شرف النساء ..أثناء
انشغال أبناء الوطن بالدفاع عن المة العربية.
إنه الموت العربي بالجملة وبالتجزئة .الموت مفردا ومثنى وجمعا ,الذي ل تدري أمامه هل
أكثر ألما أن تسافر في طائرة ل يدري ركابها ,وهم يطاردون المضيفة بصغائر الطلبات ,أن
تحتهم رجلً ميتا ,أم أن تكون قائد طائرة عربية ل مضيفات فيها ول خدمات ,لن جميع
ركابها أموات؟!
يذكرني الموقف بصديق ينتمي إلى إحدى " الممالك" العربية ,سأله أحدهم مرة ":من أين
أنت؟" أجاب ساخرا ":من المهلكة" ,فردّ عليه الثاني مزايدا ":وأنا من أمّ المهالك" ,وضحك
الثنان على النكتة .فقد تعرّف كلهما على بلد الخر ,دون أن يتّفقا على أيّ منهما كان أكثر
هلكا من الخر!
هالك يا ولدي ..مهلوك .وفي هذا المطار بإمكانك أن تختبر حجم الذى الذي ألحقه القتلة
بجوازك الخضر.
ذهب عنفوانك .مثير للريبة حيث حللت ,تفضحك هيئتك ,وسمرتك ,وطابور المتدافعين,
والكلب المتدربة على شمشمة أمثالك.
مذ قام الرهابيون باختطاف طائرة فرنسية وقتل بعض ركابها ,والجزائريون يخضعون لحجر
أمنيّ في المطار ,كما لو أن بهم وباء ,وعليك أن تقف أعزل أمام جبروت الجهزة الكاشفة
لكل شيء ,والكاميرات الفاضحة لنواياك ,والنظرات الثاقبة لحاسيسك ,والهانات المهذبة
التي تطرح عليك في شكل أسئلة.
تستااااااااهل ما الذي جاء بك؟
من ردهة إلى ممر إلى معبر ,لست سوى رقم في طوابير الذلّ .فكيف وقد اعتدت المذلة أن
تطالب باحترام أكثر على متن " طائرتك"؟
ل رقم لمقعدك ,وعليك أن تدخل في سباق الفوز بكرسيّ ,أن تكون لك جسارة تجّار الحقائب
في التدافع.
فالكرسيّ ,أيّ كرسيّ ,ل بدّ من القتتال للفوز به .ثمة من أرسلوا أناسا بااللف إلى المقابر
للجلوس عليه ,والنفراد به ,وأنت تريد كرسيّا من دون عناء!
وتريد مكانا تضع فيه حقيبة يدك ,ولكنهم سبقوك واحتلوا كل شيء .الكل محمّل بالحقائب
البائسة المكتظة بالعمر الغالي ,والجميع حريص على ما في يده ,أكثر من حرصه على
ن ل شيء سوى النسان سريع العطب.
نفسه ,ل يدري أ ْ
أتساءل ,أين كنت إذن سأضع تلك اللوحة لو كنت أحضرتها معي .فحتى إن قضيت نصف
الرحلة في إقناع المضيفة بأهميتها ,ماذا كانت تستطيع أن تفعل أكثر مما فعل غيرها في
موقف كهذا؟ فأنا لم أنسَ تلك الكاتبة المقيمة في المهجر ,التي شاهدتها على التلفزيون
الجزائري تحكي ,كيف أنها عندما عادت لزيارة الجزائر ,ومعها حقيبة صغيرة ل تفارقها,
فيها كتاباتها ومخطوط روايتها الجديدة ,ما وجدوا في تلك الطائرة الواصلة من سوريا
والمليئة برهط غريب من تجّار الرصفة الذين ل يحتاجون إلى تأشيرة لدخول الشام ,أيّ
مكان يضعون فيه الحقيبة ,فتطّوع مضيف للتكفّل بها عندما أبلغه بعض من تعرّف عليها من
الركاب ,أنها حقيبة كاتبة لم تعد لوطنها منذ سبع سنوات.
في منتصف الرحلة جاء من يخبرها أن حقيبتها كرّمت بوضعها في " مرحاض الطائرة".
المضيف قال إنه كان شخصيا يقوم بإخراجها وإعادتها إلى مكانها في الحمام ,بعد مرور كل
راكب ,لنهم أوصوه خيرا بها ,ولول معزّتها واحترامه للدب لما وضعها في " بيت الدب",
ولصر على إنزالها مع بقية الحقائب إلى جوف الطائرة ..وارتاح!
ماذا تقول لوطن يهينك بنية صادقة في الحتفاء بك؟
إحدى الصور التي تمنيت لو التقطتها ,هي صورة حقيبة الكاتب ,مرمية أرضا في مرحاض
الطائرة بعد أربع ساعات من الطيران ,بينما تسافر بضائع المهربين الصغار مصونة
محفوظة في الخزائن الموجودة فوق رؤوس أصحابها.
لو نشرت صورة كتلك ,لجاء من يقول إنني أهين وطني أمام الغرباء ,وأعطاني درسا في
الوطنية ,ذلك أن الوطن وحده يملك حق إهانتك ,وحق إسكاتك ,وحق قتلك ,وحق حبّك على
طريقته بكل تشوهاته العاطفية.
كيف حدث هذا؟ وكيف وصلنا إلى شيء على هذا القدر من الغرابة؟
ل تنتظر أن يجيبك أحد هنا .فالجواب ليس في طائرة ,إنما في مكان آخر حيث كان إقلعها
الول.
عليك بعد الن وإلى آخر عمرك أن تجيب :لماذا حصلت على تلك الجائزة دون غيرك؟ لماذا
أخذت تلك الصورة لذلك الطفل وذلك الكلب دون سواهما؟ لماذا بعت تلك اللوحة لذلك
الشخص دون سواه؟
أنت مطالب بالجابة على أسئلة يحتكر غيرك الردّ عليها ,من أنت حتى تغيّر مجرى التاريخ
أو مجرى نهر لست فيه سوى قشة يجرفها التيار إلى حتمية المصب؟
أنت ل تعرف حتى ماذا تفعل هنا ,وكيف أصبحت الوصيّ على هذا الجثمان وأنت مثقل
بالوصايا ,متعب بنوايا يحرسها القتلة.
تتمنى لو كنت محمد بوضياف عائدا إلى الوطن في طائرة فرحتك لنقاذ الجزائر ,لو أن ل
حقائب لك ,لو أن يديك ممدودتان لتحية المستقبلين ملوّحتان بتوعد القتلة واللصوص الكبار
المهيبين .لكن هو نفسه عاد مرتديا كفنه ,وما فتح ملفّا إل وفتح معه قبره.
فاربط حزام المان يا رجل ,وتابع شروح المضيفة حول أقنعة الوكسجين ,وصدريّة النجاة.
***
اخترت بنفسي العجوز التي ستجلس جواري ,أما الفتاة التي جلست على شمالي ,فهي التي
اختارتني .قد تكون استلطفتني مقارنة بالخيارات الرجالية الخرى.
فمهمّ في رحلة طويلة كهذه أل تجد نفسك مربوطا جوار من سيزيدونك هما وغما ,فينتابك
إحساس من توقف به المصعد ,ووجد نفسه محجوزا مع أناس ل يستلطفهم ,وعليه أن
يتقاسم معهم حدوده القليمية وأجواءه الحميمية المستباحة بحكم المكان.
وكنت بعد عبورنا نقطة التفتيش ,قمت بمساعدة تلك العجوز على حمل الكيس الكبير الذي ل
أدري كيف حمّلوها إياه ,أو كيف أصرّت هي على حمله وراحت تتوقف كل حين لتستريح
قليلً من عبئه.
أحبّ عجائزنا ,ول أقاوم رائحة عرق عباءاتهن ,ل أقاوم دعواتهن وبركاتهن .ل أقاوم
لغتهن المحملة بكمّ من المومة ,تعطيك في بضع كلمات زادك من الحنان لعمر ..وبعض
عمر.
-يعيشك يا وليدي ..ربي يسترك ويه ّز عنك هم الدنيا ..ربي يزيّن سعدك.
كلمات وأقع في ورطة عاطفية مع عجوز ,وإذ بي حمّال وعتّال ومرافق لها ,ومسؤول عن
إيصالها حتى قسنطينة.
أهي عقدة يتمي؟ دوما خطفتني العجائز وغيّرن وجهتي.
ن وجهتها
فما صادفت واحدة تنوء كهولتها بق ّفةٍ ,إل ووجدتني أحمل وزرها عنها مدّعيا أ ّ
تصادف وجهتي .مرة تسبب لي المر في صفعة تأديبية من أبي ,الذي لم يصدّق عذر
تأخري في العودة من المدرسة.
كانت العجوز ذاهبة صوب رحبة الصوف لبيع أرغفة أعدّتها في البيت ,وقضيت ساعة
أمشي جوارها حاملً محفظة المدرسة بيد ,وقفّتها بيدي الخرى.
كانت تلك الصفعة الوحيدة التي تلقّيتها في حياتي من أبي.
كانت العجوز الجالسة جواري تسافر لول مرّة بمفردها ,وجاءت إلى باريس لزيارة ابنتها
التي وضعت مولودها الول .وقبل أن تقلع الطائرة كنت عرفت تقريبا كل شيء عن حياتها.
ل س ّر للعجائز ,كلّ الذي ينقصهن هو رجل مشدود الوثاق إلى كرسيّ ,له صبر الستماع إلى
خيبات كهولتهن.
كانت مرعوبة من الطائرة ,وتريد أن تفهم كل شروحات المضيفة فيما يخصّ صدرية النجاة
وقناع الوكسجين وحزام المان ومخارج الطوارئ .ثم تعود من رعبها وتستسلم للمكتوب
وتقول إن العمار بيد ال ,وتواصل ثرثرتها عن صهرها الذي اشترى محلّ قصابة في
فرنسا ,وابنها الذي يسعى إلى الحصول على أوراق للقامة في باريس ,بعد أن كره العيش
في قسنطينة التي كانت ملذ الفقير فأصبحت مدينة الفقراء .كان المحتاج يقصدها لعلمه
بثراء أهلها وكرمهم ,وأصبح الن يقيم فيها مع آلف الفقراء الذين جاؤوها من كل صوب
وأفقروا أهلها.
-منين جا ْو يا ولدي " جوج وماجوج" هاذُو اللي كلوْ الدنيا ..وهججونا من البلد ..يا
حسرة راحوا دار شكون وشكون .بقاوْ غير الرعيان .على بالك أنا بنت شكون؟
ولم أكن على استعداد لعرف هذه العجوز ابنة مَن ,ومن أية شجرة تنحدر .فأنا لم أكن هناك
لخطبها ,ولكن ل يمكن أن تمنع عجوزا من التباهي بأصلها ,وهو كل ما بقي لها في زمن
الذلّ.
كانت من العائلت العريقة في قسنطينة .اشتهر عمها بإنشاء أول شركة لنتاج التبغ في
الجزائر .كان ممن يُضرب بهم المثل وجاهة وغنىً ,وأفهم أل تتقبل فكرة أن تنتهي ابنتها
زوجة لرجل اغتنى في الغربة ,ولم يغتنِ عن إرث أبا عن جدّ ,ول فكرة أن تتقاسم الطائرة
مع " الرعيان" و "بني عريان" ..ولكن:
-هذي الدنيا يا امّا واش نديرو..
في غمرة اندهاشهم بها ,أطلق القدامى على قسنطينة اسم " المدينة السعيدة" ,وهذه العجوز
الميّة كم وفّرت عليها أمّيّتها من ألم ,فهي لن تقرأ يوما ما قيل في قسنطينة .هي فقط ترى
ض تمشي في شوارعه حافية.
ماآلت إليه .قسنطينة المكابرة ل تدري ماذا تفعل بثراء ما ٍ
قسنطينة الفاضلة التي تحرسها الثام ويحكمها الضجر المتفاقم ,وهذيان الزقة المحمومة
المثقلة بالغرائز المعتّقة تحت المليات.
لم تتغيّر .ما زال يرعب نساءها الجميلت التعيسات ,الشهيّات الشهوانيات ,الخوف المزمن
من نميمة أناسها الطيّبين الخبثاء .ولذا ,هي تجلس صامتة على يساري ,وأنا قدري حيث
أذهب أن أقع بين فكيّ حبّها.
عندما ,بعد ذلك ,مرّت المضيفة تعرض علينا الجرائد ,سمعت الفتاة لول مرة تنطق لتطلب
جريدتي "الوطن" و "الحرية" .لم يبق من نصيبي سوى " الشعب" و "المجاهد" .تقاسمنا
بالتساوي أكاذيب العناوين.
يحضرني دائما في مثل هذه المواقف ,قول ساخر لبرنارد شو معلّقا على تمثال الحرية في
أمريكا " إن المم تصنع تماثيل كبيرة للشياء التي تفقدها أكثر" وهو ما يفسّر وجود أكبر
قوس عربي للنصر في البلد الذي مُني بأكبر الخسائر والدمار.
إمعانا منّا في تضخيم خسارات ندّعي اكتسابها ,نذهب حتى إضافة ما نفتقده إلى أسماء
أوطاننا .ولن الجزائر خرجت إلى الوجود "جمهورية ديمقراطية شعبية" ,فقد حسمنا منذ
الستقلل مشاكل الشعب وقضية الديمقراطية ,وتفوقنا منذ البدء في ما يخصّ الحريات على
أية دولة أوربية تحمل اسما من كلمة واحدة!
أمة تحتفي بخساراتها ,وتتوارث منذ الندلس فن تجميل الهزائم والجرائم بالتعايش اللغوي
الفاخر معها.
عندما نغتال رئيسا نسمّي مطارا باسمه ,وعندما نفقد مدينة نسمّمي باسمها شارعا ,وعندما
نخسر وطنا نطلق اسمه على فندق,وعندما نخنق في الشعب صوته ,ونسرق من جيبه قوته,
نسمّي باسمه جريدة.
انشغلنا بتصفّح الجرائد .لم نتبادل أية كلمة .كانت امرأة غامضة كبيوت نوافذها إلى الداخل,
ل الجلوس بمحاذاة أنوثتها المربكة التي توقظ الرواسب العاطفية المتراكمة فيك,
وكان جمي ً
وتجعلك تكتشفها من مشربيات النوافذ.
عبرتني فكرة مجنونة :ماذا لو كان الحب يجلس على يساري ,أنا الذي لم أقاوم يوما إغراء
امرأة صامتة ,ول جمالية أنوثة تحيط كل شيء فيها بلغز.
عندما جاؤوا بوجبة العشاء ,بدا على العجوز حماسة بددت فجأة خوفها من الموت ,وأوقفت
سيل السئلة التي كانت تطاردني بها ,عن اهتزاز الطائرة كما تبدّى لها من النافذة .بل إنّها
استفادت من فقدان شهيتي للكل ,لستئذاني في تناول بعض ما في صينيتي.
أثناء ذلك ,كانت الغادة القسنطينية التي على يساري تأكل بدون لهفة ,كما لو أنها تأكل
بحياءٍ مترفّع ,كذلك الزمن الذي كانت النساء يختبئن عن النظار ليأكلن ,وكأن كل متعة لها
علقة بالجسد ل بد أن تمارسها النساء سرّا ,وأن أيّ جوع جسدي ل يليق بامرأة إشهاره.
بعد العشاء ,أُخفتت الضواء ,وقامت المضيفة بتوزيع بعض اللحفة على المسنين والطفال,
فطلبت لحافا للعجوز عسى النوم أن يخدر عضلة الثرثرة بين فكيّها ,وتكفّ مع كلّ مطبّ
هوائيّ عن التبؤ لنا بكارثة جوّيّة.
مسكينة هي ,تعتقد أن ل أخطر من طائرة محلقة في السماء.
ل تدري أن الموت قد يدبّر لك مقلبا آخر ,وينتطرك أرضا عند سلّم الطائرة ,كما حدث مع
عبد العزيز ,الصيدلني المعروف في العاصمة بحبه للحياة ,وبخدماته الكثيرة للناس .قائد
الطائرة كان من معارفه ,فقام بنقله للدرجة الولى وأوصى المضيفات به خمرا ,فرحن
يسقينه كؤوس الويسكي الواحدة بعد الخرى ,بحيث كان بعد ساعتين من الطيران بين
باريس والجزائر غير قادر على الوقوف على رجليه .وما كاد يضع قدميه على أول درج
للطائرة حتى تدحرج من سلّمها الحديدي الضيق الذي كان يهتزّ تحت قدميه ,وانتهى جسده
في السفل ليموت بعد يومين إثر نزيف في الدماغ .فلكونه كان من ركاب الدرجة الولى,
وأول من نزل السلم لم يكن أحد ليسبقه ويحول دون تدحرجه حتى الموت!
فهل كان قائد الطائرة يدري أنه بتغيير درجته من الثانية إلى الولى ,كان يتمادى في تدليله
حدّ إيصاله إلى مرتبة " شهيد" من الدرجة الولى؟
في الطائرة ,كما في الحياة ,عليك أن تحترم قانون المراتب ,ول تتحايل لتقفز مرتبة ,فرّبما
كان في ذلك المكسب هلكك .عليك أن تعرف منذ البدء أين يوجد مكانك ,في الولى أم في
الثانية .فأيّ تحايل قد يحيلك إلى أسفل ..مع الحقائب!
عليك أيضا أن تتأكد أين يوجد مقعدك :على يمين أم على شمال الحب ,فالمأساة تبدأ عندما
يتسلى القدر بفوضى ترقيم المقاعد.
كنت دائم التنبه إلى الفتاة الجالسة جواري ,إلى عطرها الخفيف ,وإلى تلك الرغبات الصامتة
التي تولد في العتمة .يكفي شيء من الضوء الخافت ,لتستيقظ الحواس وتصبح النساء أجمل
مما هنّ عليه.
قليل من العتمة يوقظ الوهم الجميل فينا ,أمّا حلكة التعتيم ,فتساوينا بسكان العالم السفلي.
لم أستطع أن أغفو .ابتسامة بكعب عالٍ ,تجاملك من فوق أنوثتها ,وتحتك..آه تحتك ثمة ما
يمنعك من البتسام ,أنت الجالس بين التقاطع المربع للحياة والموت.
فجأة أشعلت المضيفة الضواء ,وباشرت بتوزيع بطاقات النزول ,بينما مرّت أخرى لجمع
اللحفة من الركاب.
لحظت أن العجوز لم تسلّم لحافها إلى المضيفة ,لمحتها تطويه وتخفيه في كيسها .خوفها
من الموت لم يمنعها من السطو على تفاهات الحياة.
إنها كأولئك الذين تنجو طائرتهم من كارثة جوية ,أو ينجون من حريق شبّ في بيتهم ,وبعد
أن يكونوا عرفوا كل أنواع الويلت ,ما يكادون يعودون للحياة حتى يباشرون البحث عن
أمتعتهم والتحسر على ما لحق بها من تلف.
هي تأخذه ل لحاجتها ,بل لمجرد " نتف" شركة الطيران .فالذين ينهبون الوطن فوق
بالمليين ,أعطوا للبسطاء حق سرقة الشياء الصغيرة أو إتلفها ,مساهمة منهم بالتنكيل
بوطن حماته لصوصه.
فيمَ قد ينفعها هذا اللحاف الصغير؟ ذلك النائم تحت في المكان الكثر بردا في الطائرة ,أحوج
منها إليه.
أكانت ستفقد شهيتها للكل ,لو أنا أخبرتها بوجوده؟ هل كانت ستتفرّغ للدعاء والصلوات
وتقلع عن سرقة اللحفة ,لو أنها علمت أن ل شيء يفصلها عن الموت ,وأنها في أيّة لحظة
قد تنتقل للقامة تحت؟
من عادة الجالسين فوق ,أن يرفضوا التفكير في أنّ في كل موقع يمرون به ,ثمة طابق
سفلي يتربص بهم.
سألتني العجوز:
= واش آوليدي وصلنا لقسمطينة؟
أجبتها:
-ما زال ثلث ساعة ونوصلو آمّا.
باشرت بملء استمارتي واستمارتها .هو ل استمارة له ,ربما أن له ترف السفر بتذكرة
تساوي أضعاف ثمن أية تذكرة لراكب يجلس "فوقه".
حتما في المر مزحة ما .إنه يساوي ميتا ,أضعاف ما كان يساويه حيّا ,فلماذا إذن هو بارد
وحزين إلى هذا الحد؟
ألم ينتظر يوما مطيرا كهذا عمرا بأكمله يعود فيه محمولً على أكتاف السحب إلى قسنطينة؟
هاهوذا بلغها أخيرا.
قسمطينة..آ الميمة جيتك بيه .صغيرك العائد من براد المنافي ,مرتعدا كعصفور ضمّيه .كان
عليه أن يقضي عمرا من أجل بلوغ صدرك .وليدك المغبون ,لفرط ما هو لك ما عاد هو,
لفرط ما كان خالد ما عاد زيان ,لفرط ما أصبح زيان ما وجد له مستقرا غير قبر أخيه.
نحن أبناء الصخرة ,ما عدنا ندري أيّا منا صخر .ما عادت من خنساء لنستدل على قبرنا
بدموعها .كلنا في هذه الطائرة "صخر" .لكن ما عليهش يا امّا ..سنواصل توسيع المدافن.
كانت المضيفة تمر لحظتها بعربة البضائع .طلبت منها علبة سجائر .كنت على وشك أن
أدفع ثمنها ,عندما سمعت الفتاة تسألها إن كان يوجد عندها ذلك العطر .بقيت مندهشا,
ن الحياة تستفزني ,وتواصل معابثتي.
شعرت أ ّ
كان المر شيء يتجاوز جمال مصادفة تطابق في اختيار نوع عطر بالذات ,إلى هول تصادف
وجود تابوته تحتنا .هو الذي كان يحتفظ بين أشيائه بقارورةٍ فارغة لهذا العطر نفسه.
ما عاد السؤال :من أين له تلك القارورة؟ وعلى أية أنثى انسكبت؟ ومنذ متى وهو يحتفظ
بها كما يحتفظ يتيم بشيءٍ وحده يعرف قيمته؟ بل غدا سؤا ًل آخر إقشعّر له جسدي :ماذا لو
كان هو الذي طلب ذلك العطر لنه اليوم أحوجنا إليه؟
غير أنه في العالم السفلي ,حيث هو ,لم يتحرر بالموت من الحياة فحسب ,بل تحرر به من
محنة يتمه واغترابه .فما حاجته إلى عطرٍ يسكبه في قارورة اليتم الفارغة؟
إنه اليوم القل يتما بيننا .ل يخاف على شذى فرحة أن تنضب ,له رائحة ل يستطيع الزمن
أن ينال منها ,إنها رائحة البدية.
ن ينفضح برائحته ,هو يحتاج ذلك العطر للجم رائحة توقظ شراهة
أم تراه ,في عزلة جثما ٍ
الديدان ,وتشي ببشاعة رجلٍ كان حريصا على جمالية الحضور.
غير أن العطر في قارورة هو مشروع شذى رائحة .ل يصبح كذلك إل بانصهاره بكيمياء
الجسد .ولذا ما عاد بإمكان عط ٍر أن يغطّي على تلك الرائحة.
الرائحة ,ل شيء غير اعتذار عطرٍ تأخر فناب عنه الموت.
عندما عادت المضيفة لتقبض ثمن قارورة العطر من الفتاة ,راودتني فكرة أن أهديها إياه,
إكراما لتهكم رائحته ,على يتمٍ ننفضح به عطرا في غيابه.
غير أنني لم أفعل ,خشية أن ل تطمئن لعذري ,وتظنني أتحرش بها كعادة البائسين من
الرجال ,عندما يظفرون بأنثى مربوطة إلى جوارهم.
أكنت بذريعة ملمسة جثمانه بعطر ..ل أسعى سوى لملمسة صمتها؟
كنت سعيدا بذلك القليل الذي قالته .مستمتعا بالرتباك اللذيذ أمام شيء شبيه بالحب .ذاهبا
بالصمت إلى أقصاه ,مهيئا بيننا بعمق اللتباس حفرة لغرس شتلة الشهوات .تأخذني سنة
التفكير إلى نسج أكثر من بداية قصة قد تكون لي مع هذه المرأة.
فوق هول النهايات ,أصابني رعب البدايات ,جمال الخوف العاطفي ,دواره وإغراؤه .إن
إستطعت تأمين مظلةٍ تقيني رذاذ الرغبة ,من أين لي بكمامة تصد شذى عطر الغواية النفاذ؟
كان العبور الخاطف لرائحته ,يشوش بعض الوقت على اشتهائي لها .لكن ما استطاع أن
يلغي سلطة عطرها عليّ.
كان الحب يتقدم نحوي كوقع حوافر الجياد ,يسبقه غبار الماضي ,ذلك أن في هذه المرأة
شيئا من تلك .شيء منها لأعرفه بعد ,لكنني أتشممه.
تلك التي يوم رأيتها لول مرة في ذلك المقهى ذات ثلثين أكتوبر عند الساعة الواحدة
والربع ,شعرت بصاعقة الصطدام العشقيّ بين كوكبين سيتشظّيا انخطافا أحدهما بالخر.
أذكر ,من هول النبهار بفاجعة على ذلك القدر من جمال الدمار ,أني قلت لها وأنا أستأذنها
في الجلوس " :سيدتي ..أشكر الدورة الدموية للكرة الرضية ,لنها لم تجعلنا نلتقي قبل
اليوم".
في مجرة الحب ,من يدير سير الكواكب؟ من يبعدها ويقرّبها؟ من يبرمج تلقيها وتصادمها؟
من يطقئ إحداها ويضيء أخرى في سماء حياتنا؟ وهل ينبغي أن يتعثّر المرء بجثمان ليقع
في الحب؟
في سعينا إلى حبّ جديد ,دوما نتعثر بجثمان من أحببنا ,بمن قتلناهم حتى نستطيع مواصلة
الطريق نحو غيرهم ,لكأننا نحتاج جثمانهم جسرا .ولذا في كلّ عثراتنا العاطفية ,نقع في
المكان نفسه ,على الصخرة نفسها ,وتنهض أجسادنا مثخنةٍ بخدوشٍ تنكأُ جراح ارتطامنا
بالحب الول .فل تهدر وقتك في نصح العشاق ,للحبّ أخطاء أبدية واجبة التكرار!
أأكون ما شفيت منها؟ لكأنها امرأة داخلة في خياشيم ذاكرتي ,مخترقة مسام قدري .أتعثّر
بعطرها أينما حللت.
ما كانت " حياة" ..إنها الحياة.
كم حلمت بطائات تأخذني إليها ,بمدن جديدة نزورها معا ,بغرف فنادق ينغلق فيها الباب
علينا ,بصباحات آخذ فيها حمامي فتناولني شفتيها منشفة ,بأماسٍ نتحدث فيها طويلً عن
الحب والموت ,عن ال ,عن العسكر ,عن الحلم المغدور بها ..وعن الوطان الخادعة.
حلمت برقمها يظهر على شاشة هاتفي ,بصوتها يتناول معي قهوتي ,يرافقني إلى مكتبي,
يجتاز معي الشوارع ,يركب معي الطائرات ,يضمّني حزام أمان في كل مقعد ,يطاردني
بخوف المهات ,يطمئنني ,يطمئن عليّ ,صوت يأخذ بيدي.
لكن ,دوما كانت لي مع هذه المرأة متع مهددة .ليس ثمة غير هذه الجثث التي بيننا .إحداها
تسافر معي ,تسترق السمع إليّ ,وتضحك ملء موتها منيّ.
في حب كذاك ل تتعثر بجثة .أنت تتعثّر بمقبرة.
كنت منشغلً بذكراها ,عندما فاجأني صوت المضيفة" الرجاء أن تقوّموا ظهور مقاعدكم..أن
تبقوا أحزمتكم مربوطة ..وأن تكفّوا عن التدخين".
بدأت العجوز على يميني تطالبني بالهتمام بها .ساعدتها على ربط حزامها ,وأنزلت الستارة
الصغيرة للنافذة ,حتى ل تزداد رعبا إنْ هي نظرت إلى قسنطينة من فوق.
-ما تشوفيش لتحت يامّا.
كنت أريد أن تطلق سبيلي قليلً .أن أنظر أنا أيضا جواري ,على يساري ,كي أنسى العالم
السفلي .أن أسرق اللحظات الخيرة من هذا الموعد الشاهق في غرائبيته ,لقول شيئا لعطرٍ
جاء حضوره متأخرا ,ومخيفا ,كلحظة هبوط طائرة.
لكن الطائرة حطت على الرض بتلك السرعة الرتطامية القصوى التي تنزل بها الطائرات.
كان أزير محركاتها يعلو وهي تسرع بنا على مدرج المطار ,ولم يعد بإمكان أحد تبادل أيّ
حديث.
ذهب تفكيري عنده ,إلى نعشه الذي يرتجّ اللحظة مرتطما بتراب قسنطينة.
هنا نفترق أنا وهو .هنا ينتهي مهرجان السفر .ول أملك إلأن أأتمنها عليه .إنه الليل,
والوقت غير مناسب لللرتماء في حضنها.
باكرا تذهب إلى النوم قسنطينة ,ول أحد يجرؤ على إيقاظ حارس الموتى الذي ارتدى منامة
الغفلة خوفا من القتلة.
عليك أن تعرف أنك منذ الن في حماية الديدان ,التي في غيبتك عششت وتناسلت فوق
التراب وتحته.
أن تتفهم جشع الديدان البشرية ,التي جمعت ثروتاه من موائد تعففك وترفعك حيا عما كان
وليمتها .وستحرّض عليك اليوم أخرى ,لتقتات بما بقي من جسد سبق أن أطعمت بعضه
للثورة.
نفاخر بمآثر الديدان وإكراما لنهمها لمزيد من الشهداء ,نقدم لها بهاء أجسادنا قرابين ولء.
فعمرك المسفوح بين ثورتك وثروتهم ,منذور يا صديقي كجسدك لديدان الوطن ,التي يتولّى
مزارعو تخصيب الموت تربيتها وتهيأة التربة الفضل لها ,كما تربي بلد أخرى في
أحواضها اللؤلؤ والمرجان.
مستسلم هو للنعاس الخير ,ومنهك الحلم أنا .ل أدري من منا العظم خوفا .سيدتي
قسنطينة التي ل تستيقظ إل لجدولة موتنا ,تعفّفي عن إيذاء حلمه ,تظاهري بالكتراث به,
أحضنيه كذبا وعودي إلى النوم .ل تدققي في أوراقه كثيرا .ل تسأليه عن إسمه ,حيثما حلّ
كان اسمه القسنطيني ,والن وقد حلّ فيك امنحي إسمه لصخرة أو شجرة عند أقدام جسر,
ما دامت كل الشوارع والزقة محجوزة أسماؤها لقدامى الشهداء والخسارات القادمة.
كان أزير الطائرة يغطّي على صخب صمت تقاسمته طوال الرحلة معه.
ماذا أستطيع ضدّ قدر حجز لي في سفريات الحياة مقعدا فوق رائحة ..وجوار عطر,
يستقلن الطائرة نفسها.
وحدها العجوز المتشبثة بذراعي تشبّثها بالحياة كانت تصلني دعواتها وابتهالتها المذعورة.
كان صوت المضيفة يعلن ":الحرارة في الخارج ست درجات .الساعة الن تشير إلى الحادية
عشرة والنصف ليلً .الرجاء إبقاء أحزمتكم مربوطة .لقد حطّت بنا الطائرة في مطار محمد
بوضياف ..قسنطينة".