You are on page 1of 185

‫عابر سرير‬

‫أحلم مستغانمي‬

‫اهداء‬
‫الى أبي‪ ...‬دوما‪.‬‬
‫والى شرفاء هذه المة ورجالها الرائعين‪ ,‬الذين يعبرون بأقدارهم دون انحناء‪ ,‬متشبثين بأحلم‬
‫الخاسرين‪.‬‬
‫واليك في فتنة عبورك الشامخ‪ ,‬عبورك الجامح‪,‬يوم تعثر بك قدري‪...‬كي تقيم‪.‬‬

‫أحلم‬

‫"عابرة سبيل هي الحقيقة‪..‬‬


‫ول شيء يستطيع أن يعترض سبيلها"‪.‬‬
‫ايميل زول‬
‫الفصل الول‬

‫كنا مساء اللهفة الولى‪ ,‬عاشقين في ضيافة المطر‪ ,‬رتبت لهما المصادفة موعدا خارج‬
‫المدن العربية للخوف‪.‬‬
‫نسينا لليلة أن نكون على حذر‪ ,‬ظنا منا أن باريس تمتهن حراسة العشاق‪.‬‬
‫إن حبا عاش تحت رحمة القتلة‪ ,‬ل بد أن يحتمي خلف أول متراس متاح للبهجة‪ .‬أكنا إذن‬
‫نتمرن رقصا على منصة السعادة‪ ,‬أثناء اعتقادنا أن الفرح فعل مقاومة؟ أم أن بعض الحزن‬
‫من لوازم العشاق؟‬

‫في مساء الولع العائد مخضبا بالشجن‪ .‬يصبح همك كيف تفكك لغم الحب بعد عامين من‬
‫الغياب‪ ,‬وتعطل فتيله الموقوت‪ ,‬دون أن تتشظى بوحا‪.‬‬
‫بعنف معانقة بعد فراق‪ ,‬تود لو قلت "أحبك" كما لو تقول "ما زلت مريضا بك"‪.‬‬
‫تريد أم تقول كلمات متعذرة اللفظ ‪ ,‬كعواطف تترفع عن التعبير‪ ,‬كمرض عصي على‬
‫التشخيص‪.‬‬
‫تود لو استطعت البكاء‪ .‬ل لنك في بيته‪ ,‬ل لنكما معا‪ ,‬ل لنها أخيرا جاءت‪ ,‬ل لنك تعيس‬
‫ول لكونك سعيدا‪ ,‬بل لجمالية البكاء أمام شيء فاتن لن يتكرر كمصادفة‪.‬‬

‫التاسعة والربع ‪,‬وأعقاب سجائر‪.‬‬


‫وقبل سيجارة من ضحكتها الماطرة التي رطبت كبريت حزنك‪.‬‬
‫كنت ستسألها ‪ ,‬كيف ثغرها في غيابك بلغ سن الرشد؟‬
‫وبعيد قبلة لم تقع‪ ,‬كنت ستستفسر‪ :‬ماذا فعلت بشفتيها في غيبتك؟ من رأت عيناها؟ لمن‬
‫تعرى صوتها؟ لمن قالت كلما كان لك؟‬
‫هذه المرأة التي على ايقاع الدفوف القسنطينية‪ ,‬تطارحك الرقص كما لو كانت تطارحك‬
‫البكاء‪ .‬ما الذي يدوزن وقع أقدامها‪ ,‬لتحدث هذا الضطراب الكوني من حولك؟‬
‫كل ذاك المطر‪ .‬وأنت عند قدميها ترتل صلوات الستسقاء‪ .‬تشعر بانتماءك إلى كل أنواع‬
‫الغيوم‪ .‬إلى كل أحزاب البكاء‪ ,‬إلى كل الدموع المنهطلة بسبب النساء‪.‬‬
‫هي هنا‪ .‬وماذا تفعل بكل هذا الشجن؟ أنت الرجل الذي ل يبكي بل يدمع‪ ,‬ل يرقص بل‬
‫يطرب‪ ,‬ل يغني بل يشجى‪.‬‬
‫أمام كل هذا الزخم العاطفي‪ ,‬ل ينتابك غير هاجس التفاصيل‪ ,‬متربصا دوما برواية‪.‬‬
‫تبحث عن المان في الكتابة؟ يا للغباء!‬
‫ألنك هنا‪ ,‬ل وطن لك ول بيت‪ ,‬قررت أن تصبح من نزلء الرواية‪ ,‬ذاهبا الى الكتابة‪ ,‬كما‬
‫يذهب آخرون الى الرقص‪ ,‬كما يذهب الكثيرون الى النساء‪ ,‬كما يذهب الغبياء الى حتفهم؟‬
‫أتنازل الموت في كتاب؟ أم تحتمي من الموت بقلم؟‬

‫كنا في غرفة الجلوس متقابلين‪ ,‬على مرمى خدعة من المخدع‪ .‬عاجزين على انتزاع فتيل‬
‫قنبلة الغيرة تحت سرير صار لغيرنا‪.‬‬
‫لموعدنا هذا ‪ ,‬كانت تلزمنا مناطق منزوعة الذكريات‪ ,‬مجردة من مؤامرة الشياء علينا‪,‬‬
‫بعيدة عن كمين الذاكرة‪ .‬فلماذا جئت بها إلى هذا البيت بالذات‪ ,‬إذا كنت تخاف أن يتسرب‬
‫الحزن إلى قدميها؟‬
‫ذلك أن بي شغفا إلى قدميها‪ .‬وهذه حالة جديدة في الحب‪ .‬فقبلها لم يحدث أن تعلقت بأقدام‬
‫النساء‪.‬‬
‫هي ما تعودت أن تخلع الكعب العالي لضحكتها‪ ,‬لحظة تمشي على حزن رجل‪.‬‬
‫لكنها انحنت ببطء أنثوي‪ ,‬كما تنحني زنبقة برأسها‪ ,‬وبدون أن تخلع صمتها‪ ,‬خلعت ما علق‬
‫بنعليها من دمي‪ ,‬وراحت تواصل الرقص حافية مني‪.‬‬
‫أكانت تعي وقع انحنائها الجميل على خساراتي‪ ,‬وغواية قدميها عندما تخلعان أو تنتعلن‬
‫قلب رجل؟‬
‫شيء ما فيها‪ ,‬كان يذكرني بمشهد "ريتا هاورث" في ذلك الزمن الجميل للسينما‪ ,‬وهي تخلع‬
‫قفازيها السوداوين الطويلين من الساتان‪ ,‬إصبعا إصبعا‪ ,‬بذلك البطء المتعمد‪ ,‬فتدوخ كل‬
‫رجال العالم بدون أن تكون قد خلعت شيئا‪.‬‬
‫هل من هنا جاء شغف المبدعين بتفاصيل النساء؟ ولذا مات بوشكين في نزال غبي دفاعا‬
‫عن شرف قدمي زوجة لم تكن تقرأه‪.‬‬

‫في حضرتها كان الحزن يبدو جميل‪ .‬وكنت لجماليته‪ ,‬أريد أن أحتفظ بتفاصيله متقدة في‬
‫ذاكرتي‪ ,‬أمعن النظر إلى تلك النثى التي ترقص على أنغام الرغبة‪ ,‬كما على خوان‬
‫المنتصرين‪ ,‬حافية من الرحمة بينما أتوسد خسارات عمري عند قدميها‪.‬‬

‫هي ذي ‪ ,‬كما الحياة جاءت‪ ,‬مباغتة كل التوقعات‪ ,‬لكأنها تذهب الى كل حب حافية مبللة‬
‫القدمين دوما‪ ,‬لكأنها خارجة لتوها من بركة الخطايا أو ذاهبة صوبها‪.‬‬
‫اشتقتها! كم اشتقتها‪ ,‬هذه المرأة التي لم أعد أعرف قرابتي بها‪ ,‬فأصبحت أنتسب الى‬
‫قدميها‪.‬‬
‫هي ذي ‪ .‬وأنا خائف‪ ,‬إن أطلت النظر إلى العرق اللمع على عري ظهرها ‪ ,‬أن يصعقني‬
‫تيار النوثة‪.‬‬
‫هي أشهى‪ ,‬هكذا‪ .‬كامرأة تمضي مولية ظهرها‪ ,‬تمنحك فرصة تصورها‪ ,‬تتركك مشتعل‬
‫بمسافة مستحيلها‪.‬‬

‫أنا الرجل الذي يحب مطاردة شذى عابرة سبيل‪ ,‬تمر دون أن تلتفت‪ .‬تميتني امرأة تحتضنها‬
‫أوهامي من الخلف‪ .‬ولهذا اقتنيت لها هذا الفستان السود من الموسلين‪ ,‬بسبب شهقة‬
‫الفتحة التي تعري ظهره‪ ,‬وتسمرني أمام مساحة يطل منها ضوء عتمتها‪.‬‬
‫أو ربما اقتنيته بسبب تلك الهانة المستترة التي اشتممتها من جواب بائعة‪ ,‬لم تكن تصدق‬
‫تماما أن بامكان عربي ذي مظهر ل تفوح منه رائحة النفط‪ ,‬أن ينتمي الى فحش عالم‬
‫القتناء‪.‬‬

‫كنت أتجول مشيا قادما من الوبرا‪ ,‬عندما قادتني قدماي الى "فوبور سانت أونوريه" ‪ .‬ما‬
‫احتطت من شارع تقف على جانبيه سيارات فخمة في انتظار نساء محملت بأكياس فائقة‬
‫التميز‪ ,‬ول توجست من محلت ل تضع في واجهاتها سوى ثوب واحد أو ثوبين‪ .‬لم أكن‬
‫أعرف ذلك الحي ‪ ,‬أصل‪.‬‬
‫عرفت اسم الحي في مابعد‪ ,‬عندما أمدتني البائعة ببطاقة عليها العربون الذي دفعته لحجز‬
‫به ذلك الثوب‪.‬‬
‫بتلك النفة المشوبة بالجنون‪ ,‬بمنطق" النيف" الجزائري تشتري فستان سهرة يعادل ثمنه‬
‫معاشك في الجزائر لعدة شهور‪ ,‬أنت الذي تضن على نفسك بالقل‪ .‬أفعلت ذلك رغبة منك في‬
‫تبذير مال تلك الجائزة التي حصلت عليها‪ ,‬كما لتنجو من لعنة؟ أم لتثبت للحب أنك الكثر‬
‫سخاء منه؟‬
‫أن تشتري فستان سهرة لمرأة لم تعد تتوقع عودتها‪ ,‬ول تعرف في غيابك ماذا فعل الزمن‬
‫بقياساتها‪ ,‬أهي رشوة منك للقدر؟ أم معابثة منك للذاكرة؟ فأنت تدري أن هذا الفستان الذي‬
‫بنيت عليه قصة من الموسلين لم يوجد يوما‪ ,‬ولكن السود يصلح ذريعة لكل شيء‪.‬‬
‫ولذا هو لون أساسي في كل خدعة‪.‬‬

‫أذكر يوم صادفتها في ذلك المقهى‪ ,‬منذ أكثر من سنتين‪ ,‬لم أجد سوى ذريعة من الموسلين‬
‫لمبادرتها‪ .‬سائل ان كانت هي التي رأيتها مرة في حفل زفاف‪ ,‬مرتدية ثوبا طويل من‬
‫الموسلين السود‪.‬‬
‫ارتبكت‪ .‬أظنها كانت ستقول"ل" ولكنها قالت "ربما" ‪.‬‬
‫أحرجها أن تقول " نعم "‪.‬‬
‫في الواقع‪ ,‬لم نكن التقينا بعد‪ .‬لكنني كنت أحب أن أختلق‪ ,‬مع امرأة ‪ ,‬ذكريات ماض لم يكن‪.‬‬
‫أحب كل ذاكرة ل منطق لها‪.‬‬
‫بدأنا منذ تلك اللحظة نفصل قصة على قياس ثوب لم يوجد يوما في خزانتها‪.‬‬
‫عندما استوقفني ذلك الفستان قبل شهرين في واجهة محل‪ ,‬شعرت أنني أعرفه‪ .‬أحببت‬
‫انسيابه العاطفي‪ .‬لكأنه كان يطالب بجسدها أن يرتديه‪ ,‬أو كأنه حدث لها أن ارتدته في‬
‫سهرة ما ‪ ,‬ثم علقته على " الجسد المشجب" لمرأة أخرى ‪ ,‬ريثما تعود‪.‬‬
‫عندما دخلت المحل ‪ ,‬كنت مرتبكا كرجل ضائع بين ملبس النساء‪ .‬فأجبت بأجوبة غبية عن‬
‫السئلة البديهية لتلك البائعة المفرطة في الناقة قدر فرطها في التشكك بنيتي‪.‬‬
‫‪Dans quelle taille voulez-vous cette robe Monsieur‬‬
‫?‬

‫كيف لي أن أعرف قياس امرأة ما سبرت جسدها يوما ال بشفاه اللهفة؟ امرأة أقيس‬
‫اهتزازاتها بمعيار ريختر الشبقي‪ .‬أعرف الطبقات السفلية لشهوتها‪ .‬أعرف في أي عصر‬
‫تراكمت حفريات رغباتها‪ ,‬وفي أي زمن جيولوجي استدار حزام زلزلها‪ ,‬وعلى أي عمق‬
‫تكمن مياه أنوثتها الجوفية‪ .‬أعرف كل هذا‪ ...‬ولم أعد ‪ ,‬منذ سنتين ‪,‬أعرف قياس ثوبها!‬

‫لم تفاجأ البائعة كثيرا بأميتي‪ ,‬أو أل يكون ثمن ذلك الثوب في حوزتي‪ .‬فلم يكن في هيئتي ما‬
‫يوحي بمعرفتي بشؤون النساء‪ ,‬ول بقدرتي على دفع ذلك المبلغ‪.‬‬
‫غير أنها فوجئت بثقافتي عندما تعمدت أن أقول لها بأنني غير معني باسم مصمم هذا‬
‫الفستان‪ ,‬بقدر ما يعنيني تواضعه أمام اللون السود‪ ,‬حتى لكأنه ترك لهذا اللون أن يوقع‬
‫الثوب نيابة عنه‪ ,‬في مكمن الضوء‪ ,‬وأنني أشتري ضوء ظهر عار بثمن فستان!‬
‫قالت كمن يستدرك‪:‬‬
‫‪ -‬أنت رجل ذواقة‪.‬‬
‫ولنني لك أصدق مديحها‪ ,‬لقتناعي أن الذوق لمثلها يرقى وينحط بفراغ وامتلء محفظة‬
‫نقود‪ ,‬قلت‪:‬‬
‫‪ -‬هي ليست قضية ذوق‪ ,‬بل قضية ضوء‪ .‬المهم ليس الشيء بل إسقاطات الضوء عليه‪.‬‬
‫سالفادور دالي أحب ‪ Gala‬وقرر خطفها من زوجها الشاعر بول ايلوار لحظة رؤيته‬
‫ظهرها العاري في البحر صيف ‪.1949‬‬

‫سألتني مندهشة لحديث لم يعودها عليه زبائن ‪ ,‬شراء مثل هذا الثوب ليس حدثا في‬
‫ميزانيتهم‪.‬‬
‫‪ -‬هل أنت رسام؟‬
‫كدت أجيب " بل أنا عاشق" ‪ .‬لكنني قلت‪:‬‬
‫‪ -‬ل ‪ ...‬أنا مصور‪.‬‬
‫وكان يمكن أن أضيف أنني مصور " كبير" ‪ ,‬مادمت موجودا في باريس لحصولي على جائزة‬
‫أحسن صورة صحافية عامئذ‪ .‬فلم يكن في تلك الصورة التي نلتها مناصفة مع الموت‪ ,‬ما‬
‫يغري فضول امرأة مثلها‪ .‬ولذا هي لن تفهم أن يكون هذا الثوب السود هو أحد الستثمارات‬
‫العاطفية التي أحببت أن أنفق عليها ما حصلت عليه من تلك المكافأة‪.‬‬
‫من قال إن القدار ستأتي بها حتى باريس‪ ,‬وإنني سأراه يرتديها؟‬

‫هاهي ترتديه ‪ .‬تتفتح داخله كوردة نارية‪ .‬هي أشهى هكذا‪ ,‬وهي تراقص في حضوري رجل‬
‫غيري‪ ,‬هو الحاضر بيننا بكل تفاصيل الغياب‪.‬‬
‫لو رأى بورخيس تلك المرأة ترقص لنا معا‪ ,‬أنا وهو‪ ,‬لوجد " للزاندالي" قرابة بالرقص‬
‫الرجنتيني‪ ,‬كما التانغو‪ ,‬انه " فكر حزين يرقص" على إيقاع الغيرة لفض خلفات العشاق‪.‬‬
‫في لحظة ما ‪ ,‬لم تعد امرأة ‪ .‬كانت الهة إغريقية ترقص حافية لحظة انخطاف‪.‬‬
‫بعد ذلك سأكتشف أنها كانت الهة تحب رائحة الشواء البشري‪ ,‬ترقص حول محرقة عشاق‬
‫تعاف قرابينهم ول تشتهي غيرهم قربانا‪.‬‬
‫لكأنها كانت قسنطينة‪ ,‬كلما تحرك شيء فيها ‪ ,‬حدث اضطراب جيولوجي واهتزت الجسور‬
‫من حولها‪ ,‬ول يمكنها أن ترقص إل على جثث رجالها‪.‬‬
‫هذه الفكرة لم تفارقني عندما حاولت فيما بعد فهم نزعاتها المجوسية‪.‬‬
‫ماالذي صنع من تلك المرأة روائية تواصل ‪ ,‬في كتاب‪ ,‬مراقصة قتلها؟ أتلك النار التي‬
‫خسارة بعد أخرى‪ ,‬أشعلت قلمها بحرائق جسد عصي على الطفاء؟‬
‫أم هي رغبتها في تحريض الريح‪ ,‬باضرام النار في مستودعات التاريخ التي سطا عليها‬
‫رجال العصابات؟‬
‫في الواقع كنت أحب شجاعتها‪ ,‬عندما تنازل الطغاة وقطاع طرق التاريخ‪ ,‬ومجازفتها بتهريب‬
‫ذلك الكم من البارود في كتاب‪ .‬ول أفهم جبنها في الحياة‪ ,‬عندما يتعلق المر بمواجهة زوج‪.‬‬
‫تماما‪ ,‬كما ل أجد تفسيرا لذكائها في رواية‪ ,‬وغبائها خارج الدب‪ ,‬الى حد عدم قدرتها‪,‬‬
‫وهي التي تبدو خبيرة في النفس البشرية‪ ,‬على التمييز بين من هو مستعد للموت من أجلها‪,‬‬
‫ومن هو مستعد أن يبذل حياته من أجل قتلها‪ .‬انه عماء المبدعين في سذاجة طفولتهم‬
‫البدية‪.‬‬
‫ربما كان عذرها في كونها طفلة تلهو في كتاب‪ .‬هي ل تأخذ نفسها مأخذ الدب‪ ,‬ول تأخذ‬
‫الكتابة مأخذ الجد‪ .‬وحدها النار تعنيها‪.‬‬
‫ولذا‪ ,‬قلت لها يوما‪ " :‬لن أنتزع منك أعواد الثقاب‪ ,‬واصلي اللهو بالنار من أجل الحرائق‬
‫القادمة"‪.‬‬

‫ذلك أن الرواية لم تكن بالنسبة لها‪ ,‬سوى آخر طريق لتمرير الفكار الخطرة تحت مسميات‬
‫بريئة‪.‬‬
‫هي التي يحلو لها التحايل على الجمارك العربية‪ ,‬وعلى نقاط التفتيش‪ ,‬ماذا تراها تخبئ في‬
‫حقائبها الثقيلة‪ ,‬وكتبها السميكة؟‬
‫أنيقة حقائبها‪ .‬سوداء دائما‪ .‬كثيرة الجيوب السرية‪ ,‬كرواية نسائية ‪ ,‬مرتبة بنية تضليلية‪,‬‬
‫كحقيبة امرأة تريد إقناعك أنها ل تخفي شيئا‪.‬‬
‫ولكنها سريعة النفتاح كحقائب البؤساء من المغتربين‪.‬‬
‫أكل كاتب غريب يشي به قفل‪ ,‬غير محكم الغلق‪ ,‬لحقيبة أتعبها الترحال‪ ,‬ل يدري صاحبها‬
‫متى‪ ,‬ول في أي محطة من العمر‪ ,‬يتدفق محتواها أمام الغرباء‪ ,‬فيتدافعون لمساعدته على‬
‫لملمة أشيائه المبعثرة أمامهم لمزيد من التلصص عليه؟ وغالبا ما يفاجأون بحاجاتهم مخبأة‬
‫مع أشيائه‪.‬‬
‫الروائي سارق بامتياز‪ .‬سارق محترم‪ .‬ل يمكن لحد أن يثبت أنه سطا على تفاصيل حياته‬
‫أو على أحلمه السرية‪ .‬من هنا فضولنا أمام كتاباته‪ ,‬كفضولنا أمام حقائب الغرباء المفتوحة‬
‫على السجاد الكهربائي للمتعة‪.‬‬
‫أذكر‪ ,‬يوم انفتحت حقيبة تلك المرأة أمامي لول مرة ‪ ,‬كنت يومها على سرير المرض في‬
‫المستشفى‪ ,‬عندما خطر على بال عبد الحق‪ ,‬زميلي في الجريدة‪ ,‬أن يهديني ذلك الكتاب‪..‬‬
‫كتابها‪.‬‬
‫كنت أتماثل للشفاء من رصاصتين تلقيتهما في ذراعي اليسرى‪ ,‬وأنا أحاول التقاط صور‬
‫للمتظاهرين أثناء أحداث أكتوبر ‪. 1988‬‬
‫كانت البلد تشهد أول تظاهرة شعبية لها منذ الستقلل‪ ,‬والغضب ينزل الى الشوارع لول‬
‫مرة‪ ,‬ومعه الرصاص والدمار والفوضى‪.‬‬
‫لم أعرف يومها ‪ ,‬أتلقيت تينك الرصاصتين من أعلى أحد المباني الرسمية ‪ ,‬عن قصد أم‬
‫عن خطأ؟ أكان العسكر يظنون أنني أمسك سلحا أصوبه نحوهم‪ ,‬أم كانوا يدرون أنني ل‬
‫أمسك بغير آلة تصويري‪ ,‬عندما أطلقوا رصاصهم نحوي قصد اغتيال شاهد إثبات‪.‬‬
‫تماما‪ ,‬كما سوف لن أدري يوما‪ :‬أعن قصد‪ ,‬أم عن مصادفة جاءني عبد الحق بذلك الكتاب‪.‬‬
‫أكان ذلك الكتاب هدية القدر؟ أم رصاصته الخرى؟ أكان حدثا أم حادثا آخر في حياتي؟ ربما‬
‫كان الثنان معا‪.‬‬

‫ليس الحب‪ ,‬ول العجاب‪ ,‬بل الذعر هو أول احساس فاجأني أمام ذلك الكتاب ‪ ".‬ليس الجمال‬
‫سوى بداية ذعر يكاد ل يحتمل" ‪ .‬وكنت مذعورا أمام تلك الرؤى الفجائية الصاعقة‪ ,‬أمام‬
‫ذلك الرتطام المدوي بالخر‪.‬‬
‫أي شيء جميل هو في نهايته كارثة‪ .‬وكيف ل أخشى حالة من الجمال‪ ..‬كان يزمني عمر‬
‫من البشاعة لبلوغها‪.‬‬
‫كنت أدخل مدار الحب والذعر معا‪ ,‬وأنا أفتح ذلك الكتاب‪ .‬منذ الصفحة الولى تبعثرت أشياء‬
‫تلك المرأة على فراش مرضي‪.‬‬
‫كانت امرأة ترتب خزانتها في حضرتك‪ .‬تفرغ حقيبتها وتعلق ثيابها أمامك‪ ,‬قطعة قطعة‪,‬‬
‫وهي تستمع الى موسيقى تيودوراكيس‪ ,‬أو تدندن أغنية لديميس روسوس‪.‬‬
‫كيف تقاوم شهوة التلصص على امرأة‪ ,‬تبدو كأنها ل تشعر بوجودك في غرفتها ‪ ,‬مشغولة‬
‫عنك بترتيب ذاكرتها؟‬
‫وعندما تبدأ في السعال كي تنبهها الى وجودك‪ ,‬تدعوك الى الجلوس على ناصية سريرها‪,‬‬
‫وتروح تقص عليك أسرارا ليست سوى أسرارك‪ ,‬واذ بك تكتشف أنها كانت تخرج من‬
‫حقيبتها ثيابك‪ ,‬منامتك‪ ,‬وأدوات حلقتك‪ ,‬وعطرك ‪ ,‬وجواربك‪ ,‬وحتى الرصاصتين اللتين‬
‫اخترقا ذراعك‪.‬‬
‫عندها تغلق الكتاب خوفا من قدر بطل أصبحت تشبهه حتى في عاهته‪ .‬ويصبح همك‪ ,‬كيف‬
‫التعرف على امرأة عشت معها أكبر مغامرة داخلية‪ .‬كالبراكين البحرية‪ ,‬كل شيء حدث‬
‫داخلك‪ .‬وأنت تريد أن تراها فقط‪ ,‬لتسألها " كيف تسنى لها أن تمل حقيبتها بك؟"‬

‫ثمة كتب عليك أن تقرأها قراءة حذرة‪.‬‬


‫أفي ذلك الكتاب اكتشفت مسدسها مخبأ بين ثنايا ثيابها النسائية‪ ,‬وجملها المواربة القصيرة؟‬
‫لكأنها كانت تكتب لتردي أحدا قتيل‪ ,‬شخصا وحدها تعرفه‪ .‬ولكن يحدث أن تطلق النار عليه‬
‫فتصيبك‪ .‬كانت تملك تلك القدرة النادرة على تدبير جريمة حبر بين جملتين‪ ,‬وعلى دفن قارئ‬
‫أوجده فضوله في جنازة غيره‪ .‬كل ذلك يحدث أثناء انشغالها بتنظيف سلح الكلمات!‬
‫كنت أراها تكفن جثة حبيب في رواية‪ ,‬بذلك القدر من العناية‪ ,‬كما تلفلف الم رضيعا بعد‬
‫حمامه الول‪.‬‬
‫عندما تقول امرأة عاقر‪ " :‬في حياة الكاتب تتناسل الكتب"‪ ,‬هي حتما تعني "تتناسل الجثث"‬
‫وأنا كنت أريدها أن تحبل مني ‪ ,‬أن أقيم في أحشائها‪ ,‬خشية أن أنتهي جثة في كتاب‪.‬‬
‫كنت مع كل نشوة أتصبب لغة صارخا بها‪ " :‬احبلي ‪ ..‬إنها هنيهة الخصاب"‬
‫وكانت شفتاي تلعقان لثما دمع العقم المنحدر على خديها مدرارا كأنه اعتذار‪.‬‬
‫أحاسيس لم أعرفها مع زوجتي التي كنت لسنوات أفرض عليها تناول حبوب منع الحمل‪,‬‬
‫مهووسا بخوفي أن أغتال فتتكرر في طفلي مأساتي‪ .‬فكرة أن أترك ابني يتيما كانت تعذبني‪,‬‬
‫حتى انني في الفترة التي تلت اغتيال عبد الحق‪ ,‬كنت أستيقظ مذعورا كما على صوت بكاء‬
‫رضيع‪.‬‬
‫مع حياة ‪,‬اكتشفت أن البوة فعل حب‪ ,‬وهي التي لم أحلم بالنجاب من سواها‪ .‬كان لي معها‬
‫دوما "حمل كاذب"‪.‬‬
‫لكن‪ ,‬إن كنا ل ننجب من "حمل كاذب" ‪ ,‬فإننا نجهضه‪ .‬بل كل إجهاض ليس سوى نتيجة‬
‫حمل تم خارج رحم المنطق‪ ,‬وما خلقت الروايات إل لحاجتنا الى مقبرة تنام فيها أحلمنا‬
‫الموءودة‪.‬‬

‫إن كنت أجلس اليوم لكتب ‪ ,‬فلنها ماتت‪.‬‬


‫بعدما قتلتها‪ ,‬عدت لمثل تفاصيل الجريمة في كتاب‪.‬‬
‫كمصور يتردد في اختيار الزاوية التي يلتقط منها صورته‪ ,‬ل أدري من أي مدخل أكتب هذه‬
‫القصة التي التقطت صورها من قرب‪ ,‬من الزوايا العريضة للحقيقة‪.‬‬
‫وبمنطق الصورة نفسها التي تلتقطها آلة التصوير معكوسة‪ ,‬ول تعود الى وجهها الحقيقي‬
‫ال بعدما يتم تظهيرها في مختبر‪ ,‬يلزمني تقبل فكرة أن كل شيء يولد مقلوبا‪ ,‬وان الناس‬
‫الذين نراهم معكوسين‪ ,‬هم كذلك‪ ,‬لننا التقينا بهم‪ ,‬قبل أن تتكفل الحياة بقلب حقيقتهم في‬
‫مختبرها لتظهير البشر‪.‬‬
‫إنهم أفلم محروقة أتلفتها فاجعة الضوء‪ ,‬ول جدوى من الحتفاظ بهم‪ .‬لقد ولدوا موتى‪.‬‬

‫ليس ثمة موتى غير أولئك الذين نواريهم في مقبرة الذاكرة‪ .‬اذن يمكننا بالنسيان‪ ,‬أن نشيع‬
‫موتا من شئنا من الحياء‪ ,‬فنستيقظ ذات صباح ونقرر أنهم ما عادوا هنا‪.‬‬
‫بامكاننا أن نلفق لهم ميتة في كتاب‪ ,‬أن نخترع لهم وفاة داهمة بسكتة قلمية مباغتة كحادث‬
‫سير‪ ,‬مفجعة كحادثة غرق‪ ,‬ول يعنينا ذكراهم لنبكيها‪ ,‬كما نبكي الموتى‪ .‬نحتاج أن نتخلص‬
‫من أشيائهم‪ ,‬من هداياهم‪ ,‬من رسائلهم‪ ,‬من تشابك ذاكرتنا بهم‪ .‬نحتاج على وجه السرعة‬
‫أن تلبس حدادهم بعض الوقت‪ ,‬ثم ننسى‪.‬‬

‫لتشفى من حالة عشقية‪ ,‬يلزمك رفاة حب‪ ,‬لتمثال لحبيب تواصل تلميعه بعد الفراق‪ ,‬مصرا‬
‫على ذياك البريق الذي انخطفت به يوما‪ .‬يلزمك قبر ورخام وشجاعة لدفن من كان أقرب‬
‫الناس اليك‪.‬‬
‫أنت من يتأمل جثة حب في طور التعفن‪ ,‬ل تحتفظ بحب ميت في براد الذاكرة‪ ,‬أكتب ‪ ,‬لمثل‬
‫هذا خلقت الروايات‪.‬‬
‫أذكر تلك الجوبة الطريفة لكتاب سئلوا لماذا يكتبون‪ .‬أجاب أحدهم " ليجاور الحياء الموات"‬
‫‪ ,‬وأجاب آخر " كي أسخر من المقابر" ‪ ,‬ورد ثالث " كي أضرب موعدا" ‪.‬‬
‫أين يمكنك‪ ,‬ال في كتاب‪ ,‬أن تضرب موعدا لمرأة سبق أن ابتكرت خديعة موتها‪ ,‬مصرا‬
‫على إقحام جثتها في موكب الحياء‪ ,‬برغم بؤس المعاشرة‪.‬‬
‫أليس في هذه المفارقة سخرية من المقابر التي تضم تحت رخامها ‪ ,‬وتترك الموات يمشون‬
‫ويجيئون في شوارع حياتنا‪.‬‬

‫وكنت قرأت أن (الغوليين) سكان فرنسا الوائل‪ ,‬كانوا يرمون الى النار الرسائل التي يريدون‬
‫إرسالها الى موتاهم‪ .‬وبمكاتيب محملة بسلماتهم وأشواقهم وفجيعتهم‪.‬‬
‫وحدها النار‪ ,‬تصلح ساعي بريد‪ .‬وحدها بامكانها انقاذ الحريق‪ .‬أكل ذلك الرماد‪ ,‬الذي كان‬
‫نارا‪ ,‬من أجل صنع كتاب جميل؟‬
‫حرائقك التي تنطفئ كلما تقدمت في الكتابة‪ ,‬ل بد أن تجمع رمادها صفحة صفحة‪ ,‬وترسله‬
‫الى موتاك بالبريد المسجل‪ ,‬فل توجد وسيلة أكثر ضمانا من كتاب‪.‬‬
‫تعلم اذن أن تقضي سنوات في انجاز حفنة من رماد الكلمات‪ ,‬لمتعة رمي كتاب الى البحر‪,‬‬
‫أن تبعثر في البحر رماد من أحببت‪ ,‬غير مهتم بكون البحر ل يؤتمن على رسالة‪ ,‬تماما كما‬
‫القارئ ل يؤتمن على كتاب‪.‬‬
‫فكتابة رواية تشبه وضع رسالة في زجاجة والقائها في البحر‪ .‬وقد تقع في أيدي أصدقاء أو‬
‫أعداء غير متوقعين‪ .‬يقول غراهام غرين‪ ,‬ناسيا أن يضيف أنه في أغلب الظن ستصطدم‬
‫بجثث كانت لعشاق لنا يقبعون في قعر محيط النسيان‪ .‬بعد أن غرقوا مربوطين الى صخرة‬
‫جبروتهم وأنانيتهم‪ .‬ما كان لنا ال أن نشغل أيدينا بكتابة رواية‪ ,‬حتى ل تمتد الة حتف‬
‫انقاذهم‪ .‬بامكانهم بعد ذلك‪ ,‬أن يباهوا بأنهم المعنيون برفاة حب محنط في كتاب‪.‬‬
‫ام حبا نكتب عنه‪ ,‬هو حب لم يعد موجودا‪ ,‬وكتابا نوزع آلف النسخ منه‪ ,‬ليس سوى رماد‬
‫عشق ننثره في المكتبات‪.‬‬
‫الذين نحبهم‪ ,‬نهديهم مخطوطا ل كتابا‪ ,‬حريقا ل رمادا‪ .‬نهديهم ما ل يساويهم عندنا بأحد‪.‬‬

‫بلزاك في أواخر عمره ‪ ,‬وهو عائد من روسيا‪ ,‬بعد زواجه من السيدة هانكسا‪ ,‬المرأة‬
‫الرستقراطية التي تراسل معها ثماني عشرة سنة ومات بعد زواجه منها بستة أشهر‪ ,‬كان‬
‫يقول لها والخيول تجر كهولته في عربة تمضي به من ثلوج روسيا الى باريس‪:‬‬
‫" في كل مدينة نتوقف فيها‪ ,‬سأشتري لك مصاغا أو ثوبا‪ .‬وعندما سيتعذر علي ذلك‪ ,‬سأقص‬
‫عليك أحدوثة لن أنشرها"‪.‬‬
‫ولنه أنفق ماله للوصول اليها‪ ,‬ولن طريق الرجعة كان طويل‪ ,‬قد يكون قص عليها قصصا‬
‫كثيرة‪.‬‬
‫حتما‪ ,‬أجمل روايات بلزاك هي تلك التي لم يقرأها أحد‪ ,‬وابتكرها من أجل امرأة ما عادت‬
‫موجودة هنا لتحكيها‪.‬‬

‫ربما لهذا‪ ,‬أكتب هذا الكتاب من أجل الشخص الوحيد الذي لم يعد بامكانه اليوم أن يقرأه‪,‬‬
‫ذلك الذي ما بقي منه ال ساعة أنا معصمها‪ ,‬وقصة أنا قلمها‪.‬‬
‫ساعته التي لم أكن قد تنبهت لها يوما كانت له‪ ,‬والتي مذ أصبحت لي‪ ,‬كأني لم أعد أرى‬
‫سواها‪ .‬فمنه تعلمت أن أشلء الشياء أكثر ايلما من جثث أصحابها‪.‬‬
‫هو الذي أجاد الحب ‪ ,‬وكان عليه أن يتعلم كيف يجيد موته‪ .‬قال " ل أحب مضاجعة الموت‬
‫في سرير‪ ,‬فقد قصدت السرير دوما لمنازلة الحب‪ ,‬تمجيدا مني للحياة"‪ .‬لكنه مات على‬
‫السرير اياه‪ .‬وترك لي كغيره شبهة حب‪ ,‬وأشياء ل أدري ماذا أفعل بها‪.‬‬

‫ساعته أمامي على الطاولة التي أكتب عليها‪ .‬وأنا منذ أيام منهمك في مقايضة عمري بها‪.‬‬
‫أهديه عمرا افتراضيا‪ .‬وقتا اضافيا يكفي لكتاية كتاب‪ .‬تائها في تقاطع أقدارنا‪ ,‬ل أملك ال‬
‫بوصلة صوته‪ ,‬لفهم بأية مصادفة أوصلنا الحب معا الى تلك المرأة‪.‬‬
‫أستمع دون تعب الى حواراتنا المحفوظة الى البد في تلك الشرطة‪ ,‬الى تهكمه الصامت بين‬
‫الجمل‪ ,‬الى ذلك البياض الذي كان بيننا‪ ,‬حتى عندما كنا نلوذ بالكلم‪ .‬صوته! يا اله الكائنات‪,‬‬
‫كيف أخذته وتركت صوته؟ حتى لكأن شيئا منه لم يمت‪ .‬ضحكته تلك!‬
‫كيف ترد عنك أذى القدر عندما تتزامن فاجعتان ؟ وهل تستطيع أن تقول انك شفيت من‬
‫عشق تماما من دون أن تضحك‪ ,‬أو من دون أن تبكي!‬

‫ليس البكاء شأنا نسائيا‪.‬‬


‫ل بد للرجال أن يستعيدوا حقهم في البكاء‪ ,‬أو على الحزن إذن أن يستعيد حقه في التهكم‪.‬‬
‫وعليك أن تحسم خيارك‪ :‬أتبكي بحرقة الرجولة‪ ,‬أم ككاتب كبير تكتب نصا بقدر كبير من‬
‫الستخفاف والسخرية! فالموت كما الحب أكثر عبثية من أن تأخذه مأخذ الجد‪.‬‬
‫لقد أصبح ‪ ,‬للفته وحميميته‪ ,‬غريب الطوار‪ .‬وحدث لفرط تواتره‪ ,‬أن أفقدك في فترات ما‬
‫التسلسل الزمني لفجائعك‪ ,‬فأصبحت تستند الى روزنامته لتستدل على منعطفات عمرك‪ ,‬أو‬
‫على حادث ما ‪ ,‬معتمدا على التراتب الزمني لموت أصدقائك‪ .‬وعليك الن أن تردع نزعتك‬
‫للحزن‪ ,‬كما لجمت مع العمر نزعتك الى الغضب‪,‬أن تكتسب عادة التهكم والضحك في زمن‬
‫كنت تبكي فيه بسبب امرأة‪ ,‬أو بسبب قضية‪ ,‬أو خيانة صديق‪.‬‬
‫مرة أخرى‪,‬الموت يحوم حولك إيغال بالفتك بك‪ ,‬كلؤم لغم ل ينفجر فيك‪ ,‬وإنما دوما بجوارك‪.‬‬
‫يخطئك‪ ,‬ليصيبك حيث ل ترى‪ ,‬حين ل تتوقع‪ .‬يلعب معك لعبة نيرون‪ ,‬الذي كان يضحك‪,‬‬
‫ويقول انه كان يمزح كلما انقض على أحد أصحابه ليطعنه بخنجره فأخطأه‪.‬‬
‫اضحك يا رجل‪ ,‬فالموت يمازحك ما دام يخطئك كل مرة ليصيب غيرك!‬

‫الفصل الثاني‬
‫في مارس ‪ , 1942‬سجن جان جنيه لسرقته نسخة نادرة لحد دواوين بول فرلين‪ ,‬بعد أن‬
‫تعذر عليه‪ ,‬وهو الفقير المشرد‪ ,‬شراءها‪.‬‬
‫وعندما سئل أثناء التحقيق‪":‬أتعرف ثمن هذه النسخة التي سرقتها؟" أجاب جنيه الذي لم يكن‬
‫قد أصبح بعد أحد مشاهير الدب الفرنسي المعاصر‪":‬ل‪ ...‬بل أعرف قيمتها"‪.‬‬
‫تذكرت هذه الحادثة‪ ,‬عندما بلغني أنني حصلت على جائزة العام‪ ,‬لحسن صورة صحفية في‬
‫مسابقة"فيزا الصورة" في فرنسا‪ .‬ربما لنني عندما سرقت تلك الصورة من فك الموت‪ ,‬لم‬
‫أكن أعرف كم سيكون سعرها في سوق المآسي المصورة‪ .‬ولكنني حتما كنت أعرف قيمتها‪,‬‬
‫وأعرف كم يمكن لصورة أن تكون مكلفة‪ ,‬وقد كلفتني قبل عشر سنوات‪ ,‬عطبا في ذراعي‬
‫اليسرى‪.‬‬

‫في صور الحروب التي أصبحت حرب صور‪ ,‬ثمة من يثرى بصورة‪ ,‬وثمة من يدفع ثمنا‬
‫لها‪.‬‬
‫وحدها صورة الحاكم الذي ل يمل من صورته‪ ,‬تمنحك راحة البال‪ ,‬إن كان لك شرف‬
‫مطاردته يوميا في تنقلته للتقاطها‪ .‬لكنك متورط في المأساة‪ ,‬وفي تاريخ كان ينادى فيه‬
‫للمصور كما في اليمن السعيد في الخمسينات‪ ,‬ليلتقط لحظات إعدام الثوار وتخليد مشهد‬
‫رؤوسهم المتطايرة بضربات السيوف في الساحات‪ .‬أيامها‪ ,‬كان قطع الرؤوس أهم إنجاز‪,‬‬
‫وعلى المصور الول والوحد في البلد أن يبدأ به مهنته‪.‬‬

‫ذات يوم‪ ,‬تنزل عليك صاعقة الصورة‪ ,‬تصبح مصورا في زمن الموت العبثي‪.‬‬
‫كل مصور حرب‪ ,‬مشروع قتيل يبحث عن صورته وسط الدمار‪ .‬ثمة مخاطرة في أن تكون‬
‫مصورا للموت البشع‪ .‬كأنه دمارك الداخلي‪ .‬ولن يرمم خرابك عندذاك‪ ,‬حتى فرحة حصولك‬
‫على جائزة‪.‬‬
‫المشاهير من مصوري الحروب الذين سبقوك إلى هذا المجد الدامي‪ ,‬يؤكدون‪ ":‬أنت لن‬
‫تخرج سالما ول معافى من هذه المهنة"‪ .‬لكنك تقع على اكتشاف آخر‪ :‬ل يمكنك أن تكون‬
‫محايدا ‪ ,‬وأنت تتعامل مع الرؤوس المقطوعة‪ ,‬واقفا وسط برك الدم لتضبط عدستك‪.‬‬
‫أنت متورط في تغذية عالم نهم للجثث‪ ,‬مولع بالضحايا‪ ,‬وكل أنواع الموت الغريب في‬
‫بشاعته‪.‬‬
‫دكتاتورية الفرجة تفرض عليك مزيدا من الجثث المشوهة‪.‬‬
‫إنهم يريدون صورا بدم ساخن‪ ,‬مما يجعلك دائم الخوف على صورك أن تبرد‪ ,‬أن يتخثر‬
‫دمها ويجمد قبل أن ترسلها ‪ ,‬هناك حيث من حنفية المآسي‪ ,‬تتدفق صور الفناء البشري‬
‫على الوكالت‪.‬‬
‫أثناء ذلك‪ ,‬بإمكان الموتى أن يذهبوا إلى المقابر‪ ,‬أو أن ينتظروا في البرادات‪ .‬لقد توقف بهم‬
‫الموت‪ ,‬وجمدت صورتهم إلى البد على عدستك‪ .‬ولن تدري أخلدتهم بذلك‪ ,‬أم أ‪،‬ك تعيد‬
‫قتلهم ثانية‪.‬‬
‫ل يخفف من ذنبك إل أنك خلف الكاميرا‪ ,‬ل تصور سوى احتمال موتك‪.‬‬
‫لكن هذا ل يرد الشكوك عنك‪ .‬الجميع يشتبه في أمرك‪ " :‬لصالح من أنت تعمل؟"‪ .‬أأنت هنا ‪,‬‬
‫لتمجيد إنجازات القتلة ومنحهم زهوا إعلميا‪ ,‬أم بنقلك بشاعة جرائمهم تمنح الخرين صك‬
‫البراءة‪ ,‬وحق البقاء في الحكم؟ إلى أي حزب من أحزاب القتلى تنتمي؟ ولصالح من من‬
‫القتلة ترسل صورك‪ ..‬إلى العداء‍ !‬
‫وستقضي وقتك في العتذار عن ذنوب لم تقترفها‪ ,‬عن جائزة لم تسع إليها‪ ,‬عن بيت محترم‬
‫تعيش فيه‪ ,‬ول بيت لغيرك من الصحافيين‪ ,‬عن صديقك الذي قتل‪ ,‬والخر الذي ذات ‪13‬‬
‫حزيران قتل امرأته وانتحر‪ ..‬بعد أن عجز عن أن يكون من سماسرة الصورة‪.‬‬

‫كنت دائم العتقاد أن الصورة‪ ,‬كما الحب‪ ,‬تعثر عليها حيث ل تتوقعها‪ .‬إنها ككل الشياء‬
‫النادرة‪ ..‬هدية المصادفة‪.‬‬
‫المصادفة هي التي قادتني ذات صباح إلى تلك القرية‪ ,‬وأنا في طريقي إلى العاصمة‪ ,‬آتيا من‬
‫قسنطينة بالسيارة‪ ,‬برغم تحذير البعض‪.‬‬
‫كنت مع زميل عندما استوقفتنا قرية لم تستيقظ من كابوسها‪ ,‬ومازالت مذهولة أمام موتاها‪.‬‬
‫لم يكن ثمة من خوف‪ ,‬بعد أن عاد الموت ليختبئ في الغابات المنيعة المجاورة‪ ,‬محاطا‬
‫بغنائه وسباياه من العذراوات‪ ,‬ولن يخرج إل في غارات ليلة على قرية أخرى‪ ,‬شاهرا أدوات‬
‫قتله البدائية التي اختارها بنية معلنة للتنكيل بضحاياه‪ ,‬مذ صدرت فتوى تبشر "المجاهدين"‬
‫بمزيد من الثواب‪ ,‬إن هم استعملوا السلح البيض الصدئ‪ ,‬من فؤوس وسيوف وسواطير‪,‬‬
‫لقطع الرؤوس‪ ,‬وبقر البطون‪ ,‬وتقطيع الرضع إربا‪.‬‬
‫قلما كان القتلة يعودون‪ ,‬لنهم قلما تركوا خلفهم شيئا يشي بالحياة‪ .‬حتى المواشي كانت‬
‫تجاوز جثث أصحابها‪ ,‬وتموت ميتة تتساوى فيها أخيرا بالنسان‪.‬‬
‫كانت القرى الجزائرية أمكنة تغريني بتصويرها‪ .‬ربما لن لها مخزونا عاطفيا في ذاكرتي مذ‬
‫كنت أزورها في مواكب الفرح الطلبي في السبعينات‪ ,‬مع قوافل الحافلت الجامعية‪ ,‬للحتفال‬
‫بافتتاح قرية يتم تدشينها غالبا بحضور رسمي لرئيس الدولة‪ ,‬ضمن مشروع ألف قرية‬
‫اشتراكية‪.‬‬
‫كان لي دائما إحساس بأنني قد عرفتهم فردا فردا‪ ,‬لذا عز علي أن أصور موتهم البائس‪,‬‬
‫مكومين أمامي جثثا في أكياس من النايلون؟‬
‫هم الذين أولموا لنا بالقليل الذي كانوا يملكون‪ ,‬ما أحزنني أن أكون شاهد تصوير على ولئم‬
‫رؤؤسهم المقطوفة‪.‬‬
‫في زمن الهوس المرئي بالمذابح‪ ,‬وبالميتات المبيتة الشنيعة‪ ,‬من يصدق النوايا الحسنة‬
‫لمصور تتيح له الصورة حق ملحقة جثث القتلى ببراءة مهنية؟ ليست أخلق المروءة‪ ,‬بل‬
‫أخلق الصورة‪ ,‬هي التي تجعل المصور يفضل على نجدتك تخليد لحظة مأساتك‪.‬‬
‫في محاولة إلقاء القبض على لحظة الموت الفوتوغرافي‪ ,‬بإمكان المصور القناص مواصلة‬
‫إطلق فلشاته على الجثث بحثا عن "الصورة الصفقة"‪.‬‬
‫فهو يدري أن للموت مراتب أيضا‪ ,‬وللجثث درجات تفضيل لم تكن لصحابها في حياتهم‪.‬‬
‫ثمة جثث من الدرجة الولى‪ ,‬لغلفة المجلت‪ .‬وأخرى من الدرجة الثانية‪ ,‬للصفحات‬
‫الداخلية الملونة‪ .‬وثمة أخرى لن تستوقف أحدا ‪ ,‬ولن يشتريها أحد‪ .‬إنها صور يطاردك‬
‫نحس أصحابها‪.‬‬
‫هاهوذا الموت ممد أمامك على مد البصر‪ .‬أيها المصور‪..‬قم فصور!‬

‫ثم رأيته‪..‬‬
‫ماذا كان يفعل هناك ذلك‪ ,‬الصغير الجالس وحيدا على رصيف الذهول؟‬
‫كان الجميع منشغلين عنه بدفن الموتى‪ .‬خمس وأربعون جثة‪ .‬تجاوز عددها ما يمكن لمقبرة‬
‫قرية أن تسع من أموات فاستنجدوا بمقبرة القرية المجاورة‪.‬‬
‫في مذبحة بن طلحة‪ ,‬كان يلزم ثلث مقابر موزعة على ثلث قرى‪ ,‬لدفن أكثر من ثلثمائة‬
‫جثة‪ .‬فهل الموت هذه المرة كان أكثر لطفا‪ ,‬وترك لفرط تخمينه بعض الرواح تنجو من بين‬
‫فكيه؟‬
‫كان الصغير جالسا كما لو أنه يواصل غيبوبة ذهوله‪ .‬أخبرني أحدهم أنهم عثروا عليه تحت‬
‫السرير الحديدي الضيق الذي كان ينام عليه والده‪ .‬حيث تسلل من مطرحه الرضي الذي‬
‫كان يتقاسمه مع أمه وأخويه‪ ,‬وانزلق ليختبئ تحت السرير‪ .‬أو ربما كانت أمه هي التي‬
‫دفعت به هناك لنقاذه من الذبح‪ .‬وهي حيلة ل تنطلي دائما على القتلة‪ ,‬حيث انه في قرية‬
‫مجاورة‪ ,‬قامت أم بإخفاء بناتها تحت السرير‪ ,‬غير أنهم عثروا على مخبئهن‪ ,‬نظرا لبؤس‬
‫الغرفة التي كان السرير يشغل نصف مساحتها‪ ,‬فشدوهن من أرجلهن‪ ,‬وسحبوهم نحو ساحة‬
‫الحوش حيث قتلوهن ونكلوا بجثثهن‪.‬‬

‫ماذا تراه رأى ذلك الصغير‪ ,‬ليكون أكثر حزنا من أن يبكي؟‬


‫لقد أطبق الصمت على فمه‪ ,‬ول لغة له إل في نظرات عينيه الفارغتين اللتين تبدوان كأنهما‬
‫تنظران إلى شيء يراه وحده‪ .‬حتى انه لم ينتبه لجثة كلبه الذي سممه الرهابيون ليضمنوا‬
‫عدم نباحه‪ ,‬والملقاة على مقربة منه‪ ,‬في انتظار أن ينتهي الناس من دفن البشر ويتكلفوا‬
‫بعد ذلك بمواراة الحيوانات‪.‬‬
‫كان يجلس وهو يضم ركبتيه الصغيرتين إلى صدره‪ .‬ربما خوفا‪ ,‬أو خجل ‪ ,‬لنه تبول في‬
‫ثيابه أثناء نومه أرضا تحت السرير‪ ,‬وما زالت الثار واضحة على سرواله البائس‪.‬‬
‫هو الن مستند إلى جدار كتبت عليه بدم أهله شعارات لن يعرف كيف يفك طلسمها‪ ,‬لنه لم‬
‫يتعلم القراءة بعد‪.‬ولنه لم يغادر مخبأه‪ ,‬فهو لن يعرف بدم من بالتحديد وقع القتلة جرائمهم‪,‬‬
‫بكلمات كتبت بخط عربي رديء‪ ,‬وبحروف مازال يسيل من بعضها الدم الساخن‪ .‬أبدم أمه‪,‬‬
‫أم أبيه ‪ ,‬أم بدم أحد إخوته؟‬
‫هو لن يعرف شيئا‪ .‬ول حتى بأية معجزة نجا من بين فكي الموت‪ ,‬ليقع بين فكي الحياة‪.‬‬
‫وأنت ل تعرف بأية قوة‪ ,‬ول لي سبب‪ ,‬تركت الموت في مكان مجاور‪ ,‬ورحت تصور سكون‬
‫الشياء بعد الموت‪ ,‬وصخب الدمار في صمته‪ ,‬ودموع الناجين في خرسهم النهائي‪.‬‬
‫لك تكن تصور ما تراه أنت‪ ,‬بل ما تتصور أن ذلك الطفل رآه حد الخرس‪.‬‬
‫عندما كنت ألتقط صورة لذلك الطفل‪ ,‬حضرني قول مصور أمريكي أمام موقف مماثل‪":‬كيف‬
‫تريدوننا أن نضبط العدسة وعيوننا مليئة بالدموع؟"‬
‫ولم أكن بعد لصدق‪ ,‬أنك كي تلتقط صورتك النجح‪ ,‬ل تحتاج إلى آلة تصوير فائقة الدقة‪,‬‬
‫بقدر حاجتك إلى مشهد دامع يمنعك من ضبط العدسة‪.‬‬
‫ل تحتاج إلى تقنيات متقدمة في انتقاء اللوان‪ ,‬بل إلى فيلم بالبيض والسود‪ ,‬مادمت هنا‬
‫بصدد توثيق الحاسيس ل الشياء‪.‬‬

‫أول فكرة راودتني‪ ,‬عندما علمت بنيلي تلك الجائزة العالمية عن أفضل صورة صحفية للعام‪,‬‬
‫هي العودة إلى تلك القرية‪ ,‬للبحث عن ذلك الطفل‪.‬‬
‫كانت فكرة لقائي به تلح علي‪ ,‬وتتزايد يوما بعد آخر‪ ,‬لتأخذ أحيانا بعدا إنسانيا‪ ,‬وأحيانا أخر‬
‫شكل مشاريع فوتوغرافية أصور فيها عودة تلك القرية إلى الحياة‪.‬‬
‫حتى قبل أن أحصل على مال تلك الجائزة‪ ,‬كنت قد قررت أن أخصص نصفه لمساعدة ذلك‬
‫الصغير على الخروج من محنة يتمه‪ .‬ونويت بيني وبين نفسي‪ ,‬أن أتكفل به مادمت حيا‪,‬‬
‫بالقدر الذي أستطيعه‪.‬‬
‫ل أدري ماالذي كان يجعلني متعاطفا مع ذلك الطفل‪ :‬أيتمنا المشترك؟ أم كونه أصبح ابنا للة‬
‫التصوير بالتبني؟‬
‫وماالذي جعلني أستعجل التخلص من شبهة مال كانت تفوح منه رائحة مريبة‪,‬لجريمة كان‬
‫جرمي الوحيد فيها توثيق فظاعات الخرين‪ .‬كأنني كنت أريد تبييض ذلك المال وغسله‪ ,‬مما‬
‫علق به من دم ‪ ,‬باقتسامه مع الضحية نفسها‪.‬‬

‫طبعا كانت تحضرني قصة زميلي حسين الذي من أربع سنوات حصل على الجائزة العالمية‬
‫للصورة‪ ,‬عن صورته الشهيرة لمرأة تنتحب‪ ,‬سقط شالها لحظة ألم‪ ,‬فتبدت في وشاح حزنها‬
‫جميلة ومكابرة وعزلء أمام الموت‪ ,‬حد استدراجك للبكاء‪ .‬لكأنها تمثال" العذراء النائحة"‬
‫لمايكل أنجلو‪.‬‬
‫وكان حسين‪ ,‬عند وصوله إلى قرية بن طلحة‪ ,‬وجد نفسه أمام أكثر من ثلثمائة جثة ممدة‬
‫في أكفانها‪ .‬فتوجه إلى مستشفى بن موسى حيث أخذ صورة لتلك المرأة التي فاجأها تنتحب‪,‬‬
‫والتي قيل له إنها فقدت أولدها السبعة في تلك المذبحة‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ,‬عندما انتشرت الصورة وجابت العالم‪ ,‬اكتشف حسين أن المرأة ماكانت أم الولد‬
‫بل خالتهم‪.‬‬
‫كان قد أخذ صورة للموت في كامل خدعته‪ .‬فكل عبثية الحرب كانت تختصر في صورة‬
‫لمرأة وجدت مصادفة حيث عدسة المصور‪ ,‬وأطفال وجدوا مصادفة حيث براثن الموت‪.‬‬

‫الموت‪ ,‬كما الحب‪ ,‬فيه كثير من التفاصيل العبثية‪ .‬كلهما خدعة المصادفات المتقنة‪.‬‬
‫أما الكثر غرابة فكون تلك المرأة ‪ ,‬التي لم تقم دعوى ضد القتلة‪ ,‬ول طالبت الدولة‬
‫بملحقة الجزارين الذين نحروا الجساد الصغيرة لقاربها السبعة‪ ,‬جاء من يقنعها بأن ترفع‬
‫دعوى على المصور الذي صنع "مجده" وثراءه بفجيعتها‪ ,‬عندما اكتشفت أن للصورة حقوقا‬
‫في الغرب ل يملكها صاحبها في العالم العربي‪ .‬فتطوعت جمعيات لرفع الدعاوى على‬
‫المجلت العالمية الكبرى التي نشرت الصورة‪ ,‬بذريعة الدفاع عن حياء الجزائري وهو‬
‫ينتحب بعد مرور الموت!‬
‫ل أصعب على البعض من أن يرى جزائريا آخر ينجح‪ .‬فالنجاح أكبر جريمة يمكن أن‬
‫ترتكبها في حقه‪ .‬ولذا قد يغفر للقتلة جرائمهم‪ ,‬لكنه لن يغفر لك نجاحاتك‪.‬‬
‫وكلما ‪ ,‬بحكم المهنة أو بحكم الجوار‪ ,‬ازدادت قرابته منك‪ ,‬ازدادت أسباب حقده عليك‪ ,‬لنه‬
‫ل يفهم كيف وأنت مثله في كل شيء‪ ,‬تنجح حيث أخفق هو‪.‬‬
‫جارك الذي لعبت وتربيت معه منذ الطفولة‪ ,‬لو غرقت لجازف بحياته لنقاذك من الغرق‪.‬‬
‫لكنك لو نجحت في البكالوريا‪ ,‬ورسب فيها‪ ,‬وستذهب إلى الجامعة‪ ,‬ويبقى هو مستندا إلى‬
‫حائط الخفاق‪ .‬وذات يوم ‪ ,‬ستخرج من مسدسه الرصاصة سترديك قتيل مكفنا بنجاحاتك‪.‬‬

‫عندما ظهر خبر نيلي الجائزة‪ ,‬أسفل الصفحة الولى من الجريدة الكثر انتشارا‪ ,‬تحت‬
‫عنوان" جثة كلب جزائري تحصل على جائزة الصورة في فرنسا"‪ ,‬وتله في الغد مقال آخر‬
‫في جريدة بالفرنسية عنوانه" فرنسا تفضل تكريم كلب الجزائر"‪ ,‬أدركت أن ثمة مكيدة‬
‫تتدبر‪ ,‬وأن المر يتجاوز مصادفة التفاق في وجهة نظر‪.‬‬
‫كانت لعنة النجاح قد حلت بي‪ ,‬وانتهى المر‪.‬‬
‫لكن‪ ,‬كان ل بد أن يمر بعض الوقت‪ ,‬لكتشف أن خلف ذلك الكم من الحقد والتجني جهد‬
‫"صديق"‪ .‬كان جاري في قسنطينة وتوسطت له لينتقل إلى العمل في العاصمة‪ ,‬في الجريدة‬
‫نفسها التي أعمل فيها‪ ,‬فوفر علي بكيده كل طعنات العداء‪ ,‬وجعلني أرى في جثة ذلك الكلب‬
‫من الوفاء ما يغني عن إخلص الصدقاء‪ ,‬بعدما قدمت له من الخدمات ما يكفي لجعل منه‬
‫عدوا‪.‬‬

‫غير أن الموضوع عاد بعد ذلك ليشغلني في طرحه الخر‪:‬‬


‫تراهم منحوا الجائزة لصورة ذلك الطفل؟ أم لجثة ذلك الكلب؟‬
‫وماذا؟ وقد صدرنا إلى العالم مذابحنا على مدى سنوات‪ ,‬وتم إتلف الحياة الشعورية لناس‬
‫أكثر من جثثنا‪ ,‬بعد أن أصبحت في ندرتها أكثر وقعا على أنفسهم من جثة النسان؟‬
‫أليست كارثة ‪ ,‬لو أن ضمير النسان المعاصر أصبح حقا يستيقظ عندما يرى جثة كلب يذكره‬
‫بكلبه‪ ,‬ول يبدو مهتما بجثة إنسان آخر ل يرى شبها به‪ ,‬ول قرابة معه‪ ,‬لنه من عالم يراه‬
‫مختلفا‪ ..‬ومتخلفا عن عالمه‪ .‬عالم جثث تتقاتل‪.‬‬
‫شغلتني تلك السئلة‪ ,‬حد قراري العودة إلى تلك القرية‪ ,‬بحثا عن جواب في تفاصيل ذلك‬
‫الموت المركب‪.‬‬
‫***‬

‫ذات صباح ‪ ,‬قصدت رفقة زميل تلك القرية‪ .‬احتطنا طبعا لمفاجآت الطريق‪ ,‬بعدم أخذنا‬
‫بطاقاتنا المهنية معنا فيما لو وقعنا في قبضة حاجز أمني مزور‪ ,‬ينصبه الرهابيون لصطياد‬
‫من يضطر لسلوك تلك الطرقات بالسيارة‪ ,‬ممن يعملون في " دولة الطاغوت" الكافرة‪ ,‬أي‬
‫باختصار‪ ,‬أي أحد يملك بطاقة عليها ختم رسمي‪ ,‬ولو كان يعمل زبال في البلدية‪ ,‬أو أي‬
‫مخلوق ل تروق له هيئته‪ ,‬فيذبحونه إن لم تكن لهم حاجة به‪ ,‬أو يصطحبونه إلى مخابئهم‬
‫إن كان ممن يحتاجون إلى خدماته‪.‬‬
‫كانت ظاهرة الحواجز المزورة عمت وانتشرت‪ ,‬وأصبحت مشابهة تماما لحواجز رجال المن‬
‫الحقيقيين ‪ ,‬الذين سطا الرهابيون على بزاتهم العسكرية وأسلحتهم‪ ,‬مما أوقع الناس في‬
‫بلبلة وحيرة‪ .‬فان هم اطمأنوا إلى حاجز‪ ,‬وأظهروا هوياتهم الحقيقية‪ ,‬قد يفاجأون به مزورا‬
‫ويقتلون ‪ ,‬كذلك العجوز الذي استبشر خيرا بحاجز أوقفه‪ ,‬وقال للعسكريين بمودة‪:‬‬
‫‪ -‬واش‪ ..‬الكلب ما همش هنا اليوم؟‬
‫فرد عليه أحدهم وهو يطلق عليه النار ‪:‬‬
‫‪ -‬إحنا هم الكلب!‬
‫وان هم لم يحملوا أوراقهم الثبوتية خشية وقوعهم في قبضة حاجز مزور‪ ,‬وكان الحاجز‬
‫لرجال أمن حقيقيين‪ ,‬اتهموا بأنهم إرهابيون‪ ,‬وعوملوا على هذا الساس‪ ,‬بعد أن أصبح‬
‫الرهابيون أيضا يتنقلون بدون أوراق ثبوتية‪ ,‬مدعين أنهم موظفو دولة‪ ..‬أو مجندون في‬
‫الخدمة العسكرية‪.‬‬
‫وهكذا كان الناس‪ ,‬حفاظا على سلمتهم‪ ,‬يتنقلون بل هوية في جيوبهم‪ ,‬ول بطاقة عمل ول‬
‫أوراق ثبوتية في حوزتهم‪ ,‬ول مفكرة تشي بمواعيدهم وأسماء رفاقهم فتفضح مهنتهم‪.‬‬

‫كان وصولي إلى تلك القرية بسلم‪ ,‬وبدون حادث يستحق الذكر‪ ,‬إنجازا تفاءلت به‪ ,‬لول‬
‫أنني لم أجد شيئا مما كنت أبحث عنه هناك‪.‬‬
‫كانت قلوب الناس موصدة‪ ,‬كبيوت موتاهم‪.‬‬
‫وكنت هناك تائها‪ ,‬في مهب السئلة‪ :‬كيف أستدل على ذلك البيت‪ ,‬والبيوت جميعها متشابهة‬
‫في بؤسها؟‬
‫كيف أتعرف على ذلك الجدار الذي كان يستند إليه الطفل ‪ ,‬وقد غسلوا الجدران خوفا من‬
‫ثرثرتها‪ ,‬في محاولة لغسل ذاكرة القرية من دم أبنائها؟‬
‫ومن أسأل عن ذلك الطفل‪ ,‬والجوبة متناقضة في اقتضابها؟ البعض يقول إن جمعية لرعاية‬
‫اليتامى تكفلت به‪ .‬وآخر يقول إن أحد أقاربه حضر واصطحبه إلى قرية أخرى‪ .‬وآخر يجزم‬
‫أن الطفل اختفى ملتاعا‪ ,‬بعد أن رآهم يحملون جثة الكلب ويدفنونها في حقل بعيد‪ .‬وآخر لم‬
‫يسمع بوجود هذا الطفل‪ .‬أو لعله ل يريد أن يسمع بوجودي‪ ,‬ول صبر له على فضولي‪.‬‬
‫الصدمة تجعلنا نفقد دائما شيئا متأخرا‪ ,‬شيئا يغرقنا في الصمت‪ .‬لأحد يثرثر هنا‪ .‬حتى‬
‫الجدران التي كانت تهذي بالقتلة‪ ,‬أصابها الخرس‪ ,‬مذ طليت بماء الكلس‪.‬‬

‫أحزنني أن القرويين الذين كانوا يحتفون بالغرباء أصبحوا يخافونهم‪ .‬والذين كانوا يتحدثون‬
‫إليهم‪ ,‬ويتحلقون حولهم في السبعينات أصبحوا يقفون ببلهة ليتفرجوا عليهم‪ ,‬وكأنهم‬
‫قادمون إليهم من عالم آخر‪ ,‬حتى انك ل تدري بماذا تكلمهم‪ .‬لكأن لغتهم ما عادت لغتك‪ ,‬بل‬
‫هي لغة اخترعها لهم القهر والفقر والحذر‪ .‬لغة المذهول من أمره مذ اكتشف قدره‪.‬‬
‫التضاريس هي التي تختار قدرك‪ ,‬عندما في زمن الوحوش البشرية تضعك الجغرافية عند‬
‫أقدام الجبال‪ ,‬وعلى مشارف الغابات والدغال‪ .‬أنت حتما على مرمى قدر من حتفك‪.‬‬
‫في عزلتهم عن العالم‪,‬أصبحت لسكان تلك القرى النائية ملمح واحدة‪ ,‬يدفنون فيها في اليوم‬
‫ذاته‪ ,‬اثر غارة ليلية تختفي بعدها من الوجود قرية بأكملها‪.‬‬

‫انه موت‪ ,‬في عبثيته‪,‬مستنسخ من حياتهم الرتيبة ‪ ,‬التي يتناولون فيها كل يوم وجبة واحدة‬
‫من الطبق الواحد نفسه لكل أفراد العائلة ‪ ,‬ويرتادون مقهى واحدا‪ ,‬يدخن فيه الكبار والصغار‬
‫السجائر الرديئة نفسها المصنوعة محليا من العرعار الجبلي‪ ,‬وعندما يمرضون يذهبون إلى‬
‫مستوصف ( الدشرة)‪ ,‬حيث الطبيب الواحد ‪ ,‬والدواء الواحد لكل المراض‪.‬‬
‫وكل جمعة كانوا يلتقون في المسجد الوحيد ليصلوا ويتضرعوا للله الواحد‪ .‬حتى جاءهم‬
‫القتلة فأفسدوا عليهم وحدانيتهم وقتلوهم باسم رب آخر‪.‬‬
‫لكأنهم منذ أجيال يكررون الحياة ذاتها‪ ,‬ويموتون حربا بعد أخرى نيابة عن الخرين‪,‬‬
‫لوجودهم في المكان الخطأ نفسه‪.‬‬
‫لكأنهم جاهدوا ضد فرنسا ودفعوا أكبر ضريبة في قسمة الستشهاد‪ ,‬فقط لتكون لهم بلدية‬
‫كتب عليها شعار" من الشعب والى الشعب" يرفرف عليها علم جزائري‪ ,‬وتتكفل بتوفير قبر‬
‫لجثثهم المنكل بها بأيد جزائرية‪ .‬تتركهم خلفك صامدين حتى الموت المقبل‪ ,‬في أكواخهم‬
‫الحجرية البائسة مع مواشيهم الهزيلة‪.‬‬
‫هؤلء الذين ل تكاد تشبههم في شيء‪ ,‬ل صور لسلفهم وأجدادهم تغطي جدران أكواخهم‬
‫كما في بيتك‪ ,‬لنهم منحدرون من سللة التراب‪ .‬تود لو ضممت رائحة عرقهم إلى صدرك‪,‬‬
‫لو صافحت بحرارة أيديهم الخشنة المشققة‪ .‬ولكنهم ل يمدون لك يدا‪ .‬وحده الموت يمد لك‬
‫لسانه حيثما وليت وجهك‪.‬‬

‫أثناء مغادرتي‪ ,‬انتابني حزن ل حد له‪ .‬فقد فاجأني منظر موجع لغابة كانت على مشارف تلك‬
‫القرية‪ ,‬وتم بعد زيارتي الخيرة حرقها حرقا تاما من قبل السلطات ‪ ,‬لجبار الرهابيين على‬
‫مغادرتها‪ ,‬بذريعة حماية المواطنين من القتلة‪.‬‬
‫في كل حرب أثناء تصفية حساب بين جيلين من البشر‪ ,‬يموت جيل من الشجار‪ ,‬في معارك‬
‫يتجاوز منطقها فهم الغابات‪.‬‬
‫"من يقتل من؟" مذهول يسأل الشجر‪ .‬ول وقت لحد كي يجيب جبل أصبح أصلع‪ ,‬مرة لن‬
‫فرنسا أحرقت أشجاره حرقا تاما كي ل تترك للمجاهدين من تقية‪ ,‬ومرة لن الدولة‬
‫الجزائرية قصفته قصفا جويا شامل حتى ل تترك للرهابيين من ملذ‪.‬‬
‫باستطاعتنا أن نبكي‪ :‬حتى الشجار لم يعد بإمكانها أن تموت واقفة‪.‬‬
‫ماذا يستطيع الشجر أن يفعل ضد وطن يضمر حريقا لكل من ينتسب إليه ؟‬
‫وبإمكان البحر أن يضحك‪ :‬لم يعد العدو يأتينا في البوارج‪ .‬إنه يولد بيننا في أدغال الكراهية‪.‬‬

‫ل أدري لماذا أصابني منظر الشجار المحروقة على مد البصر‪ ,‬بتلك الكآبة التي تصيبك‬
‫لحظة تأبين أحلمك‪.‬‬
‫لكأن شيئا مني مات باغتيال تلك الشجار‪ .‬أعادتني جثثها المتفحمة إلى زمن جميل قضى فيه‬
‫آلف الشباب من جيلي خدمتهم العسكرية في بناء " السد الخضر"‪.‬‬
‫سنتان من أعمار الكثيرين ذهبتا في زرع الشجار لحماية الجزائر من التصحر‪ .‬كان الشعار‬
‫الذي يطاردك في كل مكان آنذاك‪" :‬الجزائري يتقدم والصحراء تتراجع"‪.‬‬
‫أكان كل ذلك نكتة؟!‬
‫مشتعلين كنا بزمن النفط الول‪ .‬وكانت لنا أحلم رمال ذهبية‪ ,‬تسربت من أصابع إلى جيوب‬
‫الذين كانوا يبتلعون البلد ويتقدمون أسرع من لهاث الصحراء‪.‬‬
‫يا لسراب الشعارات! إنها خدعة التائه بين كثبان وطن من الرمال المتحركة‪ ,‬ل تعول على‬
‫وتد يدق فيه‪ ,‬ول على واحة تلوح منه!‬
‫هوذا النصف الخالي‪ ..‬كيف وصلنا إليه؟ بل كيف اخترقنا الرمل وتسرب إلى كل شيء؟ لم‬
‫نعد على مشارف الصحراء‪ ,‬بل أصبحت الصحراء فينا‪ .‬إنه التصحر العاطفي‪.‬‬
‫حدث ذلك ذات ديسمبر ‪ 1978‬عندما ترك لنا بومدين على شاشة التلفزيون ابتسامته‬
‫الغامضة تلك ‪ ,‬ورحل‪.‬‬
‫كانت ملمحه أقل صرامة من العادة‪ ,‬ونظرته الثاقبة أقل حدة‪ ,‬ويده التي تعود أن يمررها‬
‫على شاربيه وهو يخطب‪ ,‬كانت منهكة لفرط ما حاولت رفع الجزائر من مطبّات التاريخ‪.‬‬
‫لم يقل شيئا‪ .‬فلم يكن عنده يومها ما يقوله‪ ,‬هو الذي قالوا له في موسكو ‪ -‬التي قصدها‬
‫للعلج من مرض نادر وسريع الفتك‪ -‬إن موته حتمي وعاجل‪ .‬من الواضح أنه عاد كحصان‬
‫سباق مجروح ليموت بين أهله‪ ,‬وليختبر حبنا له‪ ,‬بعد أن عانى في بداياته من الجفاء‬
‫العاطفي لشعب كان يفضل عليه طلّة بن بلّة‪ ..‬وعفوية طيبته‪.‬‬
‫أصوله الريفية التي أورثته الحياء‪ ,‬وحياته النضالية التي صقلت كبرياءه جعلته يصر على‬
‫هيبة الموت وحشمته‪ ,‬فمات كبيرا ميتة تشبه غموض شخصيته السرية المعقدة‪.‬‬
‫ذات ‪ 29‬ديسمبر‪ ,‬وبينما العالم يحتفل بأعياد الميلد‪ ,‬كنا نودع جثمان الرجل الذي ولدت‬
‫على يده مؤسسات الجزائر وأحلمها الكبرى‪ ,‬الرجل الذي كان لنزاهته ل يمتلك حتى بيتا‪,‬‬
‫ول عرفنا له أهل‪ ,‬أو قريبا‪ .‬ولكنه ترك لنا أجهزة وصيارفة تربوا تحت برنسه‪ ,‬سيتكلفون‬
‫بقمع أحلمنا وإفقارنا ‪ ,‬ورهن مستقبلنا لعدة أجيال ‪ .‬رحل مودعا بجداول الدموع التي لم‬
‫يدري أنها ستتحول بعده إلى أنهار دماء‪.‬‬
‫بكاه الناس كفاجعة تخفي مؤامرة‪ .‬لكأن موته إشاعة ومرضه مكيدة‪ .‬فالجزائري تعلم من‬
‫حكم بومدين نفسه أل يصدق أن ثمة موتا طبيعيا‪ ,‬عندما يتعلق المر برجال السياسة‪.‬‬
‫ولذا رحل مكفنا بالسئلة‪ ,‬ككل رجالت الجزائر الذين لفقت لهم ميتات وانتحارات وتصفيات‬
‫انتقامية عابرة للقارات‪ ..‬وللتاريخ‪.‬‬
‫في الواقع‪ ,‬ثمة أمران ل يصدقهما الجزائري‪ :‬الموت بسبب طبيعي‪ ,‬والثراء من مال حلل‪.‬‬
‫فآلية التفكير لدى الجزائري الذي كان شاهدا على عجائب الحكم‪ ,‬تجعله يعتقد أن كل من‬
‫مات قتل‪ ,‬وكل من أثرى سرق‪ ,‬وبسبب هذا الريب الجماعي انهار السد الخضر للثقة‪,‬‬
‫وابتلعتنا كثبان الخيانات‪.‬‬

‫يحدث أن أحن إلى جزائر السبعينات‪ .‬كنا في العشرين‪ ,‬وكان العالم ل يتجاوز أفق حينا‪,‬‬
‫لكننا كنا نعتقد أن العالم كله كان يحسدنا ‪ .‬فقد كنا نصدر الثورة والحلم‪ ,‬لناس مازالوا‬
‫منبهرين بشعب أعزل ركعت أمامه فرنسا‪.‬‬
‫العالم كان جهاز تلفزيون يبث صورا بالسود والبيض نتحلق حولها كل مساء‪ ,‬غير‬
‫مصدقين معجزة ذلك الصندوق العجيب‪.‬‬
‫ولننا كنا أول من أدخل التلفزيون إلى الحي‪ ,‬كانت الجارات تتقربن إلينا بإرسال طبق من‬
‫الحلوى عصرا مع أولدهن‪ ,‬كي نسمح لهم بمشاهدة التلفزيون معنا‪.‬‬
‫كانت لنا أنماط حياة متداخلة بحكم فرحة الستقلل التي لمت شملنا‪ ,‬وجعلتنا نتعلم المساكنة‬
‫دون أن ننعم بالسكينة‪ ,‬في بناية وأصبحت" غنيمة استقلل" بالنسبة للبعض‪ ,‬وضريبة نزاهة‬
‫وحماقة بالنسبة لبي‪ ,‬الذي بحكم مسؤوليته عن توزيع الملك الشاغرة التي تركها‬
‫الفرنسيون بعد الستقلل ‪ ,‬أصر على القامة في شقة لليجار غير دار إنه سيقضي قيها ما‬
‫بقي من عمره‪ ,‬ولن يغادرها إل بعد ثلثين سنة إلى قبره‪ ,‬بعد أن تدهورت صحته‪ ,‬بالسرعة‬
‫التي تدهورت بها حالة البناية‪ ,‬وتعطل به دولب القدر كما تعطل مصعدها نهائيا بعد‬
‫السنوات الولى للستقلل‪ ,‬ليقضي شيخوخته في لهاث صعود طوابقها الخمسة‪.‬‬
‫في ذلك الزمن الول لٌلستقلل‪ ,‬بينما كان الجيران مشغولين بالتفرج على التلفزيون‪..‬‬
‫وعلينا‪ ,‬كنت من الجانب الخر للشقة‪ ,‬أترقب بصبر مراهق‪ ,‬أن تنفح نافذة تلك السيدة‬
‫البولونية‪ ,‬التي كانت تسكن مع زوجها الذي حضر مع مئات المهندسين التقنيين من الدول‬
‫الشتراكية‪ ,‬للنهوض بـ " الثورة الصناعية" في الجزائر‪ ,‬جاهلين الثورات الصغيرة الخرى‬
‫التي سيحدثونها في حياة الفتيان‪ ..‬والفتيات‪.‬‬
‫كانت الجزائر‪ ,‬الخارجة لتوها من الحرب‪ ,‬صبية تقع في حب من جاؤوا من كل العالم‬
‫لتهنئتها وإدارة شؤونها‪ ,‬وتعرف مغامراتها العاطفية الولى العابرة للقارات والجنسيات‬
‫واللهجات‪ ..‬من خلل آلف قصص الحب التي ولدت بينها وبين الفلسطينيين والعراقيين‬
‫والمصريين واللبنانيين الذين جاؤوا ليعملوا أساتذة ومهندسين ومستشارين‪ ,‬والذين وقعوا‬
‫تحت سطوة اسمها‪ ,‬كما ليقتسموا معها بعض شرف تاريخها‪ ,‬وتقتسم معهم ما فقدت من‬
‫عروبتها‪.‬‬
‫بالنسبة لي‪ ,‬جاء الحب بولونيا‪ .‬بحكم الجغرافية التي وضعت تلك المرأة الشقراء في مرمى‬
‫بصري‪ ,‬في بناية تطل على شقتنا من الجانب الخر‪ ,‬ولكن بمسافة تحترم وجاهة ذلك‬
‫الشارع الذي هندسته فرنسا بما يليق بالمباني الرسمية المجاورة له من فخامة‪.‬‬
‫شاهدتها ذات صباح ترتدي روب الحمام البيض‪ ,‬وتقوم بتجفيف شعرها أمام المرآة‪ .‬لم يكن‬
‫يبدو منها شيئا عاريا‪ .‬ربما لنها كانت تدري أن العيون تتجسس عليها‪ .‬لكنها كانت شهية‬
‫بشعرها المبلل وحركاتها المغرية عن غير قصد‪.‬‬
‫يومها اختزنت ذاكرة فتوتي صورتها‪ ,‬لتصبح مع العمر رمزا للغواية النسائية التي أصبح‬
‫من شروطها عندي أل تبدو المرأة عارية‪ ..‬وإنما تظل مشروع عري موارب‪.‬‬
‫كانت‪ ,‬ككل " الرفيقات" من الكتلة الشتراكية‪ ,‬مشتعلة بجميع القضايا التي كان يقذفها بركان‬
‫السبعينات من كل القارات‪.‬‬
‫وكنت في عمر الكتشافات الولى‪ ,‬مشتعل بها‪ ,‬وبتلك القضايا العالمية الكبر من أن تحملها‬
‫نملة بشرية مثلي‪.‬‬
‫عندما تزوجت بعد ذلك بعدة سنوات‪ ,‬وجدتني أقيم في غرفة نوم‪ .‬مقابلة لغرفة كانت‬
‫غرفتها‪ .‬كثيرا ما تأملت بيتا كان لسنتين مختبر تجاربي الولى‪ ,‬ومرتعا لجنوني‪ ,‬قبل أن‬
‫يضعه القدر مقابل لما سيصبح حياتي الزوجية الفائقة التعقل‪ ..‬والبرودة‪.‬‬
‫دوما‪ ,‬ثمة امرأة أولى‪ ,‬تأتيها فتى مرتبكا خجول‪ ,‬فتتعلم على يدها أن تكون رجل‪ ,‬ثم أخرى‬
‫بعد ذلك بسنوات‪ ,‬ستبهرها بما تعلمته‪ ,‬وتختبر فيها سطوة رجولتك‪.‬‬
‫وحدها زوجتك‪ ,‬على جسدك أن يكون أبله وغبيا في حضرتها‪ .‬فإن كنت اكتسبت خبراتك‬
‫قبلها‪ ,‬ستتحاشى استعراضها أمامها عن حياء‪ .‬وإن كنت كسبتها بعد الزواج‪ ,‬ستتفادى‬
‫استعراضها عن ذكاء‪ .‬ولذا يتسرب إكسير الشهوة في ما بينكما‪ ,‬وتسقط الجساد في وهدة‬
‫التآخي‪.‬‬

‫كانت " أولغا" أول "حفرة نسائية" وقعت فيها‪ .‬ولم أعد أذكر الن من قال‪" :‬يسقط الرجل في‬
‫أول حفرة نسائية تصادفه‪ .‬فتاريخ الرجل هو تاريخ السقوط‪ ..‬في الحفر"‪.‬‬
‫لكنني كثيرا ما تذكرت ضاحكا قول جدتي أثناء حديثها عن أبي الذي كثيرا ما بذر ثروته في‬
‫النساء بسبب "فخاخ" تفنن في نصبها له ‪ ":‬من تمسك بأذناب البقر ‪ ,‬رمين به في الحفر!"‪.‬‬

‫ليست الشهوة‪ ,‬بل اليتم‪ ,‬ما يلقي بفتى في أول حفرة نسائية يصادفها‪ ,‬بحثا عن رحم‬
‫يحتويه‪ ,‬عساه ينجبه من جديد‪.‬‬
‫قبل "أولغا" لم تكن تعنيني النساء‪ ,‬بقدر ما كانت تعنيني الحيوانات ‪ ..‬والشياء‪.‬‬
‫النساء جميعهن كن يختصرن في جدتي لبي‪ ,‬المرأة التي احتضنت طفولتي الولى مذ‬
‫غادرت سرير أمي رضيع وانتقلت للنوم في فراشها لعدة سنوات‪.‬‬
‫على فراشها الرضي‪ ,‬بدأت مشواري كعابر سرير ستتلقفه السرة واحدا بعد الخر حتى‬
‫السرير الخير‪.‬‬
‫ثمة شيء في طفولتك حدث‪ .‬وبدون أن تعي ذلك ‪ ,‬كل سيء سيدور حوله ‪,‬إلى آخر لحظة‬
‫من حياتك‪.‬‬
‫لنك لم تناد امرأة يوما " أمي" ليست علقتك مع اللغة وحدها التي ستتضرر‪ ,‬بل كل علقاتك‬
‫بالشياء‪.‬‬
‫مثل "روسو" يمكن أن أختصر حياتي بجملة بدأ بها سيرته الذاتية في كتابه " اعترافات" ‪" :‬‬
‫مجيئي إلى الحياة كلف أمي حياتها‪ .‬وكان ذلك بداية ما سأعرفه من مآس"‪.‬‬
‫منذ يتمي المبكر‪ ,‬وأنا أقيم علقة أمومة مع ما يحيط بي‪ .‬أختار لي كل فترة أما حتى اليوم‬
‫الذي تصدمني فيه الشياء‪ ,‬وتذكرني أنني لست طفلها‪.‬‬
‫المومة‪ ,‬اكتشفتها‪ ,‬كما عثر أرخميدس على نظريته وهو داخل حمامه‪ .‬فذلك الوعاء البيض‬
‫الكبير الذي يحتويني في فضاء مائي كجنين‪ ,‬حدث أن ولّد في داخلي إحساسا غريبا‪ ,‬جعل‬
‫من مغطس الحمام أمي‪ .‬فقد كنت أقضي فيه كل وقتي رافضا مغادرته خشية أن يفرغ من‬
‫مائه‪ ,‬كما أتوقع أن تكون قد فرغت دماء أمي وهي تنزف بي لحظة الولدة‪.‬‬
‫يحدث للمومة أن تؤلمني‪ ,‬حتى عندما ل تكون لها قرابة بي‪ ,‬كتلك القطة التي كنت في‬
‫طفولتي أطعمها‪ ,‬وأحنو عليها‪ ,‬وأجلسها في حجري وأنا أطالع كتبي المدرسية‪ ,‬ثم أصبحت‬
‫فجأة شرسة‪ ,‬ترفض أن أحملها أو أمرر يدي عليها‪.‬‬
‫ذات يوم‪ ,‬وقد تركت آثار مخالبها على يدي‪ ,‬نهرتني جدتي‪ ,‬وأمرتني أن أتركها وشأنها‪,‬‬
‫لنها حبلى ول تحب أن يقربها أحد‪ .‬فبكيت لنني أدركت أنه في يوم ما سيصبح لها صغارا‬
‫حقيقيون‪ ,‬وستتخلى عني‪.‬‬
‫بعد ذلك رأيتها ترضعهم‪ ,‬تلعقهم‪ ,‬تتفقدهم واحدا واحدا ‪ .‬وعلى كثرتهم ل تفرط في واحد‬
‫منهم‪ ,‬وتظل تبحث عنه لتعود به محمول من عنقه بين فكيها‪.‬‬
‫اليتم‪ ,‬كالعقم‪ ,‬يجعلك تغار من حيوان‪ ,‬وتطالب ال بحق التساوي به مادمت أحد مخلوقاته‪.‬‬

‫أسئلتي الوجودية بدأت مع القطة‪ :‬كيف تستطيع القطة أن تحمل صغيرها بين أنيابها من‬
‫دون أن تؤذيه؟ وهل حقا هي تخفي صغارها عن أبيهم الذي يحدث عندما يجوع أن يأكلهم؟‬
‫وهل الباء جميعهم قساة وغير مبالين؟ وهل ثمة قطط أكثر أمومة من نساء يحملن أثداء‬
‫تذر اللبن وتضن بالرحمة؟‬
‫بعد ذلك‪ ,‬عندما كبرت‪ ,‬وخبرت يتم الوطان‪ ,‬كبرت" أسئلة القطة" وأصبحت أكثر وجعا‪:‬‬
‫هل يمكن لوطن أن يلحق بأبنائه أذى ل يلحقه حيوان بنسله؟ هل الثورات أشرس من القطط‬
‫في التهامها لبنائها من غير جوع؟ وكيف ل تقبل قطة‪ ,‬مهما كثر صغارها‪ ,‬أن يبتعد أحدهم‬
‫عنها ‪ ,‬ول ترتاح حتى ترضعهم وتجمعهم حولها‪ ,‬بينما يرمي وطن أولد إلى المنافي‬
‫والشتات غير معني بأمرهم؟ وهل في طمر أوساخهم تحت التراب‪ ,‬هي أكثر حياء من رجال‬
‫يعرضون بدون خجل‪ ,‬عار بطونهم المنتفخة بخميرة المال المنهوب؟‬
‫لم أبحث لهذه السئلة عن جواب‪ ,‬فـ " الجوبة عمياء‪ ,‬وحدها السئلة ترى"‪.‬‬

‫الفصل الثالث‬

‫باريس ذات أيلول!‬


‫كنا في خريف كأنه شتاء‪ .‬قررت بدءا أن أنشغل بتبديد الحياة‪ ,‬بخمول من توقف لول مرة‬
‫عن الجري‪ ,‬فحلت به متاعب عمر‪.‬‬
‫الربعون‪ .‬وكل ذلك الهدر‪ ,‬تلك النكسارات ‪ ,‬الخسارات‪ ,‬الصداقات التي ما كانت صداقات‪,‬‬
‫النتصارات التي ماكانت انتصارات‪ ,‬وتلك الشهوات‪ ...‬التي استوت على نار الصبر الخافتة‪.‬‬
‫كنت أود لو استطعت اختبار طيش الغرباء‪ .‬في صباحاتي المتأخرة ‪ ,‬أحلم بنساء ل أعرف‬
‫لهن أسماء‪ ,‬يشجعنك بدون كلم على اقتحامهن‪ ,‬نساء عابرات لضجر عابر‪ .‬ولكن كيف‬
‫تعبر ممالك المتعة‪ ,‬وقد سلبك الرعب الهارب منه جواز مرور رجولتك‪ ,‬وعليك أن تعيش‬
‫بإثم الشهوات غير المحققة‪.‬‬
‫لكأنني‪ ,‬في كل سرير‪ ,‬كنت أعد حقائبي لسفار كاذبة نحو صدرها‪ ,‬أتململ في الحزن‪ ,‬بحثا‬
‫عن حزن أنثوي أرحم‪ ,‬أستقر فيه‪.‬‬

‫برغم سعادتي بالسفر‪ ,‬كان الحزن حولي يفخخ كل ما يبدو لغيري فرحا‪ ,‬بدءا بتلك الجائزة‬
‫التي تجعلك تكتشف بسخرية مرة أنك تحتاج إلى أسابيع من مهانة الجراءات‪ ,‬كي تتمكن‬
‫من السفر إلى باريس‪ ,‬لستلم جائزة صورة ل يستغرق وصولها بالنترنت إلى العالم كله‪,‬‬
‫أكثر من لحظة‪.‬‬
‫ذلك أن "فيزا الصورة" هي تأشيرة للصورة‪ ,‬ل لصاحبها‪ .‬وعولمة الصور ل تعني منح البشر‬
‫حق الشياء في التنقل!‬
‫ل وقت لك لتسأل نفسك " من الهم إذن ‪ :‬أنت ‪ ..‬أم صورة التقطتها؟"‪.‬‬
‫مشغول أنت‪ .‬مدينة برغبات صاخبة تنتظرك‪ .‬سللم معدنية تتلقفك لتقذف بك نحو قاطرات‬
‫المترو‪ ,‬فتختلط بالعابرين والمسرعين والمشردين‪ ,‬ويحدث وسط المواج البشرية‪ ,‬أن ترتطم‬
‫بموطنك‪ .‬ل ذاك الذي يكنس شوارع الغربة‪ .‬أو عاطل عن المل‪ ,‬يتسكع مثيرا للحذر‬
‫والريبة‪ .‬إنما وطنا آخر كان مفخرتك‪ ,‬وأجهز القتلة على أحلمه‪.‬‬
‫بعد ذلك ستعرف أن الجزائر سبقتك إلى باريس‪ ,‬وأن تلك الرصاصة التي صوبها الرهابيون‬
‫نحو رأسها‪ ,‬جعلت نزفها يتدفق هنا بعشرات الكتاب والسينمائيين والرسامين والمسرحيين‬
‫والطباء والباحثين‪ ,‬وأن الفوج الجديد من جزائريي الشتات‪ ,‬قام بتأسيس عدة جمعيات‬
‫لمساندة ما بقي في الجزائر من مثقفين على قيد الموت في قبضة الرهاب‪.‬‬

‫بعد وصولي بأيام قصدت المركز الثقافي الجزائري تسقطا لخبار الوطن‪ .‬ورغبة في الطلع‬
‫على الصحافة الجزائرية التي ل تصل كل عناوينها إلى فرنسا‪.‬‬
‫كان المبنى على جماله موحشا كضريح شيد لتأبين فاخر للثقافة بذريعة الحتفاء بها‪ .‬أو‬
‫لعله شيد بذريعة وهب السترزاق بالعملة الصعبة ‪ ,‬للذين في الزمن الصعب كسدت‬
‫بضاعتهم في دكاكين الوطن‪.‬‬
‫ماكانت برودته تشجع على تصفح هموم البلد‪ .‬ولم ينقذني يومها من الصقيع‪ ,‬سوى‬
‫ملصقات كانت تعلن عن نشاطات ثقافية متفرقة في باريس‪.‬‬
‫اكتفيت بأن أسجل في مفكرتي تاريخ عرض إحدى المسرحيات‪ ,‬وكذلك عنوان الرواق الذي‬
‫يقام فيه معرض جماعي لرسامين جزائريين‪.‬‬

‫ماكنت لظن وأنا أقصد بعد يومين ذلك الرواق يوم الفتتاح‪ ,‬أن كل القدار الغريبة ستتضافر‬
‫لحقا انطلقا من ذلك المعرض‪ ,‬لتقلب قدري رأسا على عقب‪.‬‬
‫كانت القاعة تستبقيك بدفئها‪ ,‬كوقوفك تحت البرد‪ ,‬أمام عربات القسطل المشوي في شوارع‬
‫باريس‪ .‬دفء له رائحة ولون وكلمات‪ ,‬صنعها الرسامون أنفسهم لحراجك عاطفيا‪ ,‬بفضلهم‬
‫بين اللوحات بصور المبدعين الذين اغتيلوا ‪ ,‬وبوضعهم علما جزائريا صغيرا جوار الدفتر‬
‫الذهبي‪ ,‬وإرفاقهم دليل اللوحات بكلمة تحثك أل تساهم في اغتيالهم مرة ثانية بالنسيان‪,‬‬
‫وإهمال من تركوا خلفهم من يتامى وثكالى‪.‬‬
‫تشعر برغبة في البكاء‪ .‬تكاد تندم على زيارتك المعرض‪ .‬أسافرت حتى هنا لتجد كل هذه‬
‫الصور في انتظارك؟‬
‫احتدم النقاش يومها بين بعض الزوار‪ ,‬حول من يقتل من في الجزائر‪ .‬كأنهم كانوا ينتظرون‬
‫أن يلتقوا كي يختلفوا‪ .‬تعذر علي مجادلتهم‪ .‬وتعذر على مزاجي غير المهيأ لمزيد من الحزن‬
‫تجاهل ذلك الكم من الستفزاز المتراشق به بين الجمل‪.‬‬
‫لم أطل البقاء‪ .‬قررت العودة لحقا في يوم من أيام السبوع‪.‬‬

‫أذكر أنني قضيت عدة أيام قبل أن أقصد ذلك الرواق ذات ظهيرة‪ ,‬لوجودي في محطة مترو‬
‫غير بعيدة عنه‪.‬‬
‫كان كل شيء فيه يبدو يومها هادئا ومسالما‪ .‬ل شيء من ضجيج الفتتاح‪ .‬عدا صخب‬
‫اللوحات في خبث تآمر صمتها عليك‪.‬‬
‫رحت أتجول في ذلك المعرض‪ ,‬عندما استوقفت نظري مجموعة لوحات معروضة تمثل‬
‫جميعها جسورا مرسومة في ساعات مختلفة من النهار بجاذبية تكرار مربك في تشابهه‪ .‬كل‬
‫ثلثة أو أربعة منها للجسر نفسه‪:‬‬
‫جسر باب القنطرة‪ ,‬أقدم جسور قسنطينة‪ ,‬وجسر سيدي راشد بأقواسه الحجرية العالية ذات‬
‫القطار المتفاوتة‪ ,‬وجسر الشللت مختبئا كصغير بين الوديان‪ .‬وحده جسر سيدي مسيد‪,‬‬
‫أعلى جسور قسنطينة‪ ,‬كان مرسوما بطريقة مختلفة على لوحة فريدة تمثل جسرا معلقا من‬
‫الطرفين بالحبال الحديدية على علو شاهق كأرجوحة في السماء‪.‬‬
‫وقفت طويل أمام لوحات لها عندي ألفة بصرية‪ ,‬كأنني عرفتها في زمن ما‪ ,‬أو شاركت‬
‫الفنان في رسمها‪ .‬كانت على بساطتها محملة بشحنة عاطفية‪ ,‬تنحرف بك إلى ذاتك‪ ,‬حتى‬
‫لكأنها تخترقك‪ ,‬أو تشطرك‪.‬‬
‫فكرت‪ ,‬وأنا أتأملها‪ ,‬أن ثمة جسورا ‪ ,‬وأخرى تعبرنا‪ ,‬كتلك المدن التي نسكنها‪ ,‬والخرى‬
‫التي تسكننا‪ ,‬حسب قول خالد بن طوبال في " ذاكرة الجسد"‪.‬‬

‫ل أدري كيف أوصلني التفكير إلى ذلك الكائن الحبري الذي انتحلت اسمه صحافيا لعدة‬
‫سنوات‪ .‬وكنت أوقع مقالتي محتميا به‪ ,‬من رصاص الرهابيين المتربص بكل قلم‪ ,‬واثقا‬
‫بأن هذا الرجل لم يوجد يوما في الحياة‪ ,‬كما زعمت مؤلفة تلك الرواية‪.‬‬

‫الفكرة التي راودتني لفرط حبي لشخصيته‪ ,‬ولتشابهنا في أشياء كثيرة‪ ,‬حتى إنه لم يكن‬
‫يختلف عني سوى في كونه يكبرني بجيل‪ ,‬وإنه أصبح رساما بعدما فقد ذراعه اليسرى في‬
‫إحدى معارك التحرير‪ ,‬بينما ‪ ,‬بدون أن أفقد ذراعي‪ ,‬أصبحت أعيش إعاقة تمنعني من‬
‫تحريكها بسهولة مذ تلقيت رصاصتين أثناء تصوير تلك المظاهرات‪.‬‬
‫فكرت بسخرية أنه قد يكون شخص آخر قرأ ذلك الكتاب‪ ,‬وراح هذه المرة يسرق لوحات‬
‫الرجل‪ ,‬ويرسم تلك الجسور التي كان خالد بن طوبال مولعا بها‪ ,‬مستندا إلى وصفها في تلك‬
‫الرواية‪ .‬لكن اللوحات ماكانت تبدو تمرينا في الرسم‪ ,‬بقدر ما هي تمرين على الشفاء من‬
‫وجع يلمس فيه الرسام بريشته ممكن اللم أكثر من مرة‪ ,‬كما ليدلك عليه‪.‬‬
‫إنه حتما أحد أبناء الصخرة وعشاقها المسكونين بأوجاعها‪.‬‬

‫خلقت تلك اللوحات لدي فضول مباغتا في إلحاحه‪ ,‬فقصدت المشرفة على المعرض‪ ,‬أحاول‬
‫مد حديث معها كي تزودني بمعلومات عن الرسام‪.‬‬
‫غير أنها قالت‪ ,‬وهي تدلني على سيدة أربعينية جميلة القوام‪ ,‬ينسدل شعرها الحمر‬
‫بتموجات على كتفيها‪:‬‬
‫‪ -‬ها هي السيدة المكلفة بتلك اللوحات‪ ,‬بإمكانها إمدادك بما تحتاجه من معلومات‪.‬‬
‫قدمت لي المرأة نفسها بمودة‪ ,‬وبتلك الحرارة التي يتحدث بها الناس إلى بعضهم البعض في‬
‫فرنسا في مثل هذه المناسبات ذات الطابع التضامني النساني‪ .‬قالت‪:‬‬
‫‪Bonjour.. Je suis Francoise.. que puis – je pour -‬‬
‫‪?vous‬‬
‫لم أكن أعرف بعد " ماذا تستطيعه هذه المرأة من أجلي"‪.‬‬
‫فأجبتها‪:‬‬
‫‪ -‬إني مهتم بهذه اللوحات‪ .‬أتمنى لو أعرف شيئا عن صاحبها‪.‬‬
‫ردت السيدة بحماسة‪:‬‬
‫‪ -‬إنها لزيان‪ ,‬أحد كبار الرسامين الجزائريين‪.‬‬
‫قلت معتذرا‪:‬‬
‫‪ -‬سمعت بهذا السم‪ ..‬لكنني مع السف لم أشاهد أعماله قبل اليوم‪.‬‬
‫ردت‪:‬‬
‫‪ -‬أتفهم هذا ‪ .‬إنه ضنين العرض‪ ,‬ومقل الرسم أيضا‪ ,‬ولذا تنفد لوحاته بسرعة‪ .‬كما ترى‪,‬‬
‫معظم لوحاته بيعت‪.‬‬
‫قلت‪ ,‬وأنا أقف أمام مجموعة الجسور‪:‬‬
‫‪ -‬غريب هذا الثر الذي يتركه في النفس وقع هذا السلم اللوني‪ .‬دورة النور بين لوحة‬
‫وأخرى تعطيك إحساسا أنك ترافق الجسر في دورة نهاره‪ ,‬مع أن اللوان ل تتغير‪ ,‬إنها‬
‫ذاتها‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬لنه تعلم الختزال اللوني من أيام الحاجة‪ .‬في البدء لم يكن لديه مال‪ ,‬فاقتصد في اللوان‪.‬‬
‫كان له بالكاد ما يكفي لثلثة ألوان أو أربعة‪ ,‬فرسم بألوانه جسرا‪.‬‬
‫واصلت المرأة‪:‬‬
‫‪ -‬كل الرسامين لهم بدايات متقشفة‪ .‬بيكاسو في أول هجرته إلى فرنسا رسم لوحات غلب‬
‫عليها اللون الزرق‪ ,‬ورأى النقاد سببا واحدا لمرحلته الزرقاء تلك‪ :‬إن فقر المهاجر الجديد‬
‫منعه من شراء ألوان أخرى وحدد خياره ‪ .‬فان غوغ رسم أكثر من لوحة لحقول الشمس‬
‫لنه لم يكن في حوزته سوى اللون الصفر‪.‬‬
‫كنت سأبدي لهذه المرأة إعجابي بثقافتها‪ ,‬لول أن ذهني كان مشغول كليا بذلك الرسام الذي‬
‫بدأت أتعاطف معه‪ ,‬وأحزن لبؤسه‪ .‬وكعادتي رحت أفكر في طريقة تمكنني من مساعدته‪.‬‬
‫قلت لها‪:‬‬
‫‪ -‬ل أفهم‪ ..‬أل يكون أحد فكر في مساعدة رسام موهوب كهذا‪ ,‬ل يملك ثمن شراء ألوان‬
‫للرسم؟‬
‫ضحكت السيدة وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬المر ليس هكذا‪ ..‬كنت أحدثك عن بداياته‪ ,‬عن هذه اللوحة التي رسمها قبل أربعين سنة‬
‫يوم كان يعالج في تونس أثناء حرب التحرير‪ .‬أشارت بيدها إلى لوحة " الجسر المعلق"‪.‬‬
‫دققت في اللوحة‪ :‬في أسفلها كتب‪ :‬تونس ‪. 1956‬‬
‫شيء ما بدأ يشوش ذهني‪ .‬فكرة مجنونة عبرتني‪ ,‬ولكنني استبعدتها خشية أن أشكك في‬
‫قواي العقلية‪ .‬قلت‪:‬‬
‫‪ -‬ظننته شابا‪ ..‬كم عمره إذن؟‬
‫‪ -‬إنه ستيني‪.‬‬
‫‪ -‬وما الذي أوصله إلى هذه الجسور؟‬
‫‪ -‬هوسه بقسنطينة طبعا! غالبية هذه اللوحات رسمها منذ ‪ 10‬سنوات‪ ,‬حدث أن مر بفترة‬
‫لم يكن يرسم فيها سوى الجسور‪ .‬هذا بعض ما بقي من ذلك الجنون‪ .‬معظمها بيعت في‬
‫معارض سابقة‪.‬‬
‫خشيت فجأة‪ ,‬إن أنا واصلت السئلة‪ ,‬أن أقع على اكتشاف مخيف‪.‬‬
‫سألتها وكأنني أهرب من مفاجأة ل أدري عواقبها‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا يعرض غير لوحات الجسور هذه؟‬
‫قالت مشيرة إلى لوحة تمثل شباكا بحرية محملة بأحذية بمقاييس وأشكال مختلفة تبدو‬
‫عتيقة ومنتفخة بالماء المتقاطر منها‪:‬‬
‫‪ -‬هذه اللوحة ‪ .‬إنها من أحب لوحاته إلي‪ ,‬وأعجب أل تكون بيعت حتى الن‪.‬‬
‫وأمام ما بدا مني من عدم إعجاب بلوحة لم أفهمها‪ ,‬قالت موضحة‪:‬‬
‫‪ -‬هذه رسمها زيان تخليدا لضحايا مظاهرات ‪ 17‬أكتوبر ‪ , 1961‬خرجوا في باريس في‬
‫مظاهرة مسالمة مع عائلتهم للمطالبة برفع حظر التجول المفروض على الجزائريين‪ ,‬فألقى‬
‫البوليس بالعشرات منهم موثوقي الطراف في تهر السين‪ .‬مات الكثيرون غرقا‪ ,‬وظلت‬
‫جثثهم وأحذية بعضهم تطفو على السين لعدة أيام‪ ,‬لكون معظمهم ل يعرف السباحة‪.‬‬
‫قلت وأنا أقاطعها حتى ل أبدو أقل معرفة منها بتاريخي‪:‬‬
‫‪ -‬أدري‪ ..‬ما استطاع ‪ Papon‬المسؤول آنذاك عن المن في باريس‪ ,‬أن يبعث بهم إلى‬
‫المحرقة كما فعل مع اليهود قبل ذلك‪ ,‬فأنزل عشرين ألفا من رجاله ليرموا بهم إلى " السين"‬
‫‪ .‬كان البوليس يستوقف الواحد منهم سائل" محمد‪ ..‬أتعرف السباحة؟" وغالبا ما يجيب‬
‫المسكين "ل" كما لو كان يدفع عنه شبهة‪ .‬وعندها يكتفي البوليس بدفعه من الجسر نحو‬
‫"السين" ‪ .‬كان السؤال لمجرد توفير جهد شد أطرافه بربطة عنقه!‬
‫واصلت المرأة بنبرة فرحة هذه المرة‪:‬‬
‫‪ -‬إن جمعية لمناهضة العنصرية استوحت من هذه اللوحة فكرة تخليدها لهذه الجريمة‪.‬‬
‫قامت في آخر ذكرى لمظاهرات ‪ 17‬أكتوبر بإنزال شباك في نهر السين تحتوي على أحذية‬
‫بعدد الضحايا‪ .‬ثم أخرجت الشباك التي امتلت أحذيتها المهترئة بالماء‪ ,‬وعرضتها على‬
‫ضفاف السين للفرجة‪ ,‬تذكيرا بأولئك الغرقى‪.‬‬

‫فقدت صوتي فجأة أمام تلك اللوحة التي ماعادت مساحة لفظ نزاعات اللوان ‪ ,‬بل مساحة‬
‫لفظ نزاعات التاريخ‪.‬‬
‫شعرت برغبة في أن أضم إلى صدري هذه المرأة التي نصفها فرانسواز‪ ,‬ونصفها فرنسا‪.‬‬
‫أن أقبل شيئا فيها‪ ,‬أن أصفع شيئا فيها‪ ,‬أن أؤلمها‪ ,‬أن أبكيها‪ ,‬ثم أعود إلى ذلك الفندق‬
‫البائس لبكي وحدي‪.‬‬
‫أبدأت لحظتها أشتهيها؟‬
‫قطعت فرانسواز تفكيري‪ ,‬وفاجأتني معتذرة لرتباطها بموعد‪ ,‬وتركتني أمام تلك اللوحة‬
‫مشتت الفكار أتأملها تغادر القاعة‪.‬‬

‫في المساء‪ ,‬لم يفارقني إحساس متزايد بالفضول تجاه ذلك الرسام‪ ,‬ول فارقني منظر تلك‬
‫اللوحة التي أفضت بي إلى أفكار غريبة‪ ,‬وأفسدت علقة ود أقمتها مع نهر السين‪.‬‬
‫حتما‪ ,‬هذا الرسام تعمد رسم ما يتركه الموتى‪ .‬فالشباك عذابنا ل الجثة‪.‬‬
‫تعمد أن يضعك أمام أحذية أكثر بؤسا من أصحابها‪ ,‬مهملة كأقدارهم‪ ,‬مثقلة بما علق بها من‬
‫أوحال الحياة‪ .‬تلك الحذية التي تتبلل وتهترئ بفعل الماء‪ ,‬كما تتحلل جثة‪ .‬إنها سيرة حياة‬
‫الشياء التي تروي بأسمائها سيرة حياة أصحابها‪.‬‬

‫قضيت السهرة متأمل في أقدار أحذية الذين رحلوا‪ ,‬هؤلء الذين انتعلوها بدون أن يدروا‬
‫أنهم ينتعلون حذائهم يومها لمشوارهم الخير‪ .‬ما توقعوا أن تخونهم أحذيتهم لحظة غرق‪.‬‬
‫طبعا‪ ,‬ما كانت قوارب نجاة‪ ,‬ولكنهم تمسكوا بها كقارب‪ .‬أحذية من زوج وأخرى من واحدة‪,‬‬
‫مشت مسافات ل أحد يعرف وجهتها‪ ,‬ثم لفظت أنفاسها الخيرة عندما فارقت أقدام أصحابها‪.‬‬
‫كانوا يومها ثلثين ألف متظاهر ( وستين ألف فردة حذاء)‪ .‬سيق منهم اثنا عشر ألفا إلى‬
‫المعتقلت والملعب التي حجزت ليوائهم‪ .‬غير أن " السين" الذي عانى دائما من علة‬
‫النسيان‪ ,‬ما عاد يعرف بالتحديد عدد من غرق يومها منهم‪.‬‬

‫رحت أتصور ضفاف السين بعد ليلة غرق فيها كل هؤلء البؤساء‪ ,‬وتركوا أحذيتهم يتسلى‬
‫المارة باستنطاقها‪ .‬فهذه عليها آثار جير وأخرى آثار وحل وثالثة‪ ...‬ماذا ترى كان يعمل‬
‫صاحبها‪ ,‬أدهانا؟ أم بناء؟ أم زبال؟ أم عامل في طوابير اليدي السمر العاملة على تركيب‬
‫سيارات "بيجو"؟ فل مهنة غير هذه كان يمارسها الجزائري آنذاك في فرنسا‪.‬‬
‫أحذية كان لصحابها آمال بسيطة ذهبي مع الفردة الخرى‪ .‬فردة ما عادت حذاء‪ ,‬إنها ذلك‬
‫المل الخالي من الرجاء‪ ,‬كصدفة أفرغت ما في جوفها‪ ,‬مرمية على الشاطئ‪ .‬ذلك أن المحار‬
‫ل يصبح أصدافا فارغة من الحياة‪ ,‬إل عندما يشطر إلى نصفين‪ ,‬ويتبعثر فرادى على‬
‫الشاطئ‪.‬‬
‫كان آخر ما توصلت إليه‪ ,‬بعد أرق ذهب بي في كل صوب‪ ,‬أ‪ ،‬أقصد في الغد الرواق لشتري‬
‫لوحة الحذية‪ ,‬كسبا لصداقة فرانسواز‪ ,‬ولساهم في ذلك المعرض الخيري بشراء لوحة‬
‫وجدتني أعشقها‪.‬‬
‫في الواقع‪ ,‬كان هذا مشروعي العلني‪ .‬أما مشروعي الخر فأن ألتقي بفرانسواز مرة أخرى‪,‬‬
‫وأواصل استنطاقها أكثر عن ذلك الرسام‪.‬‬

‫عاما ونصف عام في سرير التشرد المني‪ ,‬عشت منقطعا عن العالم‪ ,‬أتنقل بحافة خاصة إلى‬
‫ثكنة تم تحويلها لسباب أمنية إلى بيت للصحافة يضم كل المطبوعات الجزائرية باللغتين‪ ,‬ل‬
‫أغادرها إل إلى إقامتي الجديدة‪.‬‬
‫كان مكانا يصعب تسميته‪ ,‬فما كان بيتا‪ ,‬ول نزلً ‪ ,‬ول زنزانة‪ .‬كان مسكنا من نوع مستحدث‬
‫اسمه " محمية" في شاطئ كان منتجعا‪ ,‬وأصبح يتقاسمه " المحميون" ورجال المن‪ .‬تحتمي‬
‫فيه من سقف الخوف بسقف الهانة‪ .‬فما كانت القضية أن يكون لك سرير وباب يحميك من‬
‫القتلة‪ ,‬بل أن تكون لك كرامة‪.‬‬
‫في صيف مازافران‪ ,‬أيام الخوف والغبن والذعر اليومي‪ ,‬كنت أدري أنها تقيم بمحاذاتي في‬
‫بيتها الصيفي‪ ,‬على الشاطئ الملصق لي‪ ,‬على النصف الخر من العالم المناقض لبؤسي‪,‬‬
‫في شاطئ (نادي الصنوبر)‪ ,‬حيث توجد محمية بنجوم أكثر‪ ,‬محجوزة فيلتها لكبار القوم‪.‬‬
‫وكان في هذا عذاب لم أحسب له حسابا ‪ .‬أنا الذي اختار ذلك المنفى لحتمي من حبها‪ ,‬أكثر‬
‫من احتمائي من القتلة‪ ,‬وإذ المن العاطفي هو أول ما فقدت‪.‬‬

‫أمن هناك تغذت كراهيتي لها ونما تمردي عليها؟ أن تكون بمحاذاتي‪ ,‬ولكن دائما في الجهة‬
‫الخرى المناقضة لي‪ ,‬ل شيء يوصلني إليها‪ ,‬هي التي ل يفصلني عنها مطر‪ ,‬ول شمس‪,‬‬
‫ول رمل‪ ,‬ول بحر‪ ..‬ول ذعر‪.‬‬

‫أحيانا كنت أخرج إلى الشرفة أنتظرها بوحشة فنار بحري في ليل ممطر‪ .‬عسى قوارب‬
‫الشوق الشتوي تجنح بها إلي‪.‬‬
‫أحلم بشهقة المباغتة الجميلة‪ .‬بارتعاد لوعتها عند اللقاء‪ .‬باندهاش نظرتها ‪ .‬بضمتها‬
‫الولى‪ .‬كعمر بن أبي ربيعة " أقلّب طرفي في السماء لعله\ يوافق طرفي طرفها حين تنظر"‪.‬‬
‫ثم أذهب إلى النوم‪ ,‬ممنيا نفسي بالمطر‪ ,‬عساه يعمدنا على ملة العشق في غفلة من الموت‬
‫والقتلة‪.‬‬
‫مراد الذي قاسمني غرفتي المنية بعض الوقت‪ ,‬قبل أن يتحول من محميّ من السلطة إلى‬
‫طريدتها‪ .‬كان يعجب من وقوفي طويل في الشرفة ويناديني إلى الداخل لشاطره كأسا وشيئا‬
‫من الطرب‪.‬‬
‫ولكوني ما كنت من مدمني الشرب‪ ,‬ول من هواة الصخب‪ ,‬كثيرا ما أزعجه اعتذاري‪ ,‬وأساء‬
‫فهم أعذاري‪ ,‬وخرج إلى الشرفة ليسحبني نحو الداخل قائلً بتذمر ل يخلو من خفة دم‬
‫تميزه‪:‬‬
‫‪ -‬يا راجل واش بيك‪ ..‬يلعن بوها حياة‪ .‬واش راك تخمم؟ شوف أنا ما على باليش بالدنيا‪..‬‬
‫يروحوا كلهم يقوّدوا‪..‬‬
‫كان مراد يمثل نكبة الجزائري مع بحره‪ .‬يرى بحرا ل يدري كيف يقيم معه علقة سليمة‪.‬‬
‫فبين البحر وبينه توجس وريبة وسوء فهم تاريخي‪ .‬ولذا كنا نسكن مدينة شاطئية جميلة‬
‫تولي ظهرها للبحر‪ ,‬ويبادلها البحر عدم الكتراث‪.‬‬
‫هناك أدركت قول بورخيس " البحر وحيد كأعمى" ‪ ..‬أو ربما أدركت أنني كنت البحر!‬

‫***‬

‫عندما هاتفته في الصباح عاتبني لنه تعب في الحصول على رقمي في باريس‪ ,‬ثم بسخريته‬
‫الجزائرية المحببة إلى قلبي راح يمازحني مدعيا أنني نسيته مذ حصلت على جائزة لجيفة‬
‫كلب بدل أن أصور وسامته التي دوخت الوربيات‪ ,‬حتى أصبحت سيارة السعاف تسير‬
‫وراءه لخلء من يقعن مغمى عليهن‪ ..‬لدى رؤيته‪.‬‬
‫‪ " -‬المبيلنس" يا خويا وراي‪ ..‬أنا نمشي وهي تهز في البنات‪..‬كيفاش ندير قل لي يرحم‬
‫باباك؟!‬
‫مراد كان يفوت الفرصة على الموت بالستخفاف به‪ .‬وربما كان مدينا لوجوده على قيد‬
‫الحياة بمرحه الدائم‪ ,‬ومدينا لجمال يشع منه‪ ,‬باستخفافه أيضا بالجمال‪ ,‬متجاوزا بذلك عقدة‬
‫خلقته‪.‬‬
‫وفي هذا السياق كان يسميني " الدحدوح" ليذكرني أن وسامتي النسبية لن تغطي على‬
‫بشاعته‪ .‬وكانت له في هذا نظرية تستند إلى مقولة المغني الفرنسي سيرج غاسبور " إن‬
‫البشاعة أقوى من الجمال لنها أبقى"‪ .‬فبرغم بشاعته حصل غاسبور على فاتنات ما كن في‬
‫متناول غيره وكأن القبح عندما يتجاوز ضفاف الدمامة‪ ,‬يصبح في فيضه النادر ضربا من‬
‫الجمال المثير للغواية‪.‬‬
‫وكان في المر منطق يتجاوز فهمي‪ .‬قد يشرحه من الطرف الخر‪ ,‬قول بروست " لندع‬
‫النساء الجميلت للرجال الذين ل خيال لهم"‪ .‬لذا كان مراد يراهن على خيال الناث‪ ,‬محطما‬
‫خجل العوانس والنساء الرصينات بمباغتهن بممازحته الفاضحة‪.‬‬

‫في أحد لقاءاتي به لحقا‪ ,‬ضربت له موعدا في الرواق‪ ,‬بعد أن أبدى اهتمامه بزيارة معرض‬
‫زيان‪ .‬كنا نتجول بين اللوحات التي تتقاسم معظمها فكرة الجسور والبواب العتيقة المواربة‪,‬‬
‫عندما انضمت إلينا فرانسواز التي عرّفته بها قبل ذلك‪ .‬راحت تسأله بتردد‪ ,‬كيف وجد‬
‫المعرض‪ .‬وبعد حديث جدي استعرض فيه سعة ثقافته الفنية أضاف فجأة‪:‬‬
‫‪ -‬كجزائري أفهم وجع زيان‪ ,‬وأدري المأساة التي تحملها لوحاته‪ ,‬لكني كمتلق أجد في هذه‬
‫الجسور الممدة وهذه البواب المواربة رمزا أنثويا‪ .‬ولو كان لي أن أختار عنوانا لهذا‬
‫المعرض لسميته " النساء"‪.‬‬
‫وراح أمام عجبنا يشرح فكرته‪:‬‬
‫‪ -‬الباب الموارب هو الغشاء الذي تقبع خلفه كل أنوثة مغلولة بقيد النتظار‪ .‬ما هو مشروع‬
‫منه ليس سوى تلك الدعوة البدية للولوج‪ ,‬أما بعضه المغلق‪ ,‬فذلك هو التمنع الصارخ‬
‫للغواء‪ ..‬لذا لم أعرف للنساء بابا عصيا على النفتاح‪ .‬إنها قضية وقت يتواصى بالصبر‪.‬‬

‫نزل علينا أنا وفرانسواز صمت مفاجئ‪ .‬شعرت بارتباك أنوثتها‪ .‬كأنما بدأت أبوابها بالنفتاح‬
‫أمام ذلك الرجل الذي لم تكن توليه اهتماما في البدء‪.‬‬
‫ل أدري من أين جاء مراد بذلك التحليل الفرويدي‪ ,‬فقد اعتاد أن يقحم الجنس في كل شيء‪.‬‬
‫حتى إنه ذات مرة راح يقنعنا أثناء مرافعة سياسية دفاعا عن الديمقراطية‪ ,‬أن الجزائريين‬
‫ككل العرب ما استطاعوا أن ينجزوا من النتصارات غير تلك الشعارات المذكرة‪ ,‬فدفعوا من‬
‫أجل فحولة الستقلل مليين البشر‪ ,‬بينما استخفوا بالشعارات المؤنثة‪ ,‬استخفافهم بنسائهم‪.‬‬
‫ولذا كان هوس مراد في المطالبة بتذكير كلمات " الديمقراطية" و " الحرية" عساها تجد‬
‫طريقها إلى النجاز العربي‪.‬‬
‫عندما حاولت معارضة فكرته‪ ,‬متحججا بانتماء زيان لجيل ل يرى المور بهذه الطريقة‪,‬‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ -‬البداع وليد أحاسيس ودوافع ل شعورية وأنت لن تدري أبدا‪ ,‬مهما اجتهدت‪ ,‬ماذا كان‬
‫يعني مبدع بلوحة رسمها أو بقصيدة نظمها‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪ -‬إن كنت تعرف حياة المبدع‪ ,‬تدرك ما أراد إيصاله إليك‪ .‬حياته هي المفتاح السري‬
‫لعماله‪.‬‬
‫عندما اشتد بنا النقاش قال متهكما‪:‬‬
‫‪ -‬بربك‪ ,‬كيف تحارب الذين يمنعون عنك حرية الرأي إن كنت ترفض عدم تطابقي معك في‬
‫تفسير لوحة؟ " الحقيقة في الفن هي التي يكون نقيضها حقيقة كذلك"‪.‬‬

‫أكثر من قناعتي برأيه‪ ,‬كنت على قناعة بضرورة إبعاد هذا الرجل عن فرانسواز‪ ,‬حتى ل‬
‫يفسد علي ما كنت أخطط له منذ شهر‪ ,‬خاصة أنه بعد ذلك عندما جلسنا في المقهى‪ ,‬راح‬
‫بمزاح ل يخلو من الجدية يوضح لي ما يعتقده شبها بين نوعية البواب‪ ,‬وما يقابلها من‬
‫أجناس النساء‪ .‬فهو يرى الوربيات مثل‪ ,‬كالبواب الزجاجية للمحلت العصرية التي تنفتح‬
‫حال اقترابك منها‪ ,‬بينما تشهر العربيات في وجهك وقارهن كأبواب خشبية سميكة لمجرد‬
‫إيهامك أنهن منيعات ومحصنات‪ .‬وثمة من ‪ ,‬حتى ل تستسهلهن‪,‬يتبعن بطء البواب اللولبية‬
‫الزجاجية للفنادق التي تدور بك دورة كاملة كي تجتاز عتبة كان يمكن أن تجتازها بخطوة!‬
‫وأخريات يحتمين بباب عصري مصفح‪ ,‬كثير القفال واللسنة‪ ,‬ولكنهن يتركن لك المفتاح‬
‫تحت دواسة الباب‪ ..‬كما عن غير قصد‪.‬‬
‫كان المر بالنسبة إليه قضية صبر ل أكثر‪ .‬لكنه كان يكره مهانة النتظار خلف باب موصد‪.‬‬
‫كان يحتكم إلى حاسة الفراسة ليعرف نوعية المرأة التي أمامه‪ ,‬وإلى خبرة اللصوص في‬
‫اكتشاف أي نوع من البواب عليه أن يتحدى استعصاءه! وكنت على فرحي بوجوده معي‪,‬‬
‫وحاجتي إلى ما أدخله إلى حياتي من حركة‪ ,‬قررت أن أجعل لقاءاتنا متباعدة‪ ,‬تفاديا‬
‫لمناوراته الفحولية التي بدأت تحوم حول فرانسواز‪.‬‬

‫في صباح اليوم التالي‪ ,‬قصدت الرواق بحثا عن فرانسواز‪ ,‬كما لتأكد من أنها ما زالت على‬
‫ذلك القدر من اشتهائها إياي‪.‬‬
‫لم أكن يوما رجلً للمغامرات العابرة‪ .‬ول كان يروق لي النوم في شراشف المصادفة‪ .‬ولكن‬
‫فرانسواز كانت تعنيني لسبب‪ ,‬وأصبحت تعنيني لسببين‪.‬‬
‫قد أكون تعلقت بها لحطة شرود عاطفي من أجل رجل‪ ,‬هي المعبر الجباري لي طريق‬
‫يوصل إليه‪ .‬لكنني الن أريدها بسبب رجل آخر قررت أل أدعه يأخذها مني‪ .‬فقط لنه يمتلك‬
‫جسارة ليست من طبعي‪.‬‬

‫***‬

‫كان في حوزتي ذرائع جميلة تعفيني من الحساس بالذنب‪ ,‬إن أنا استسلمت لعروضها‬
‫المواربة‪.‬‬
‫في الواقع لم يكن لي مفر من تلك النوايا الخبيثة لسئلة بريئة‪ ,‬تطرحها عليك امرأة تضمر‬
‫لك متعة شاهقة‪ ..‬أو هكذا تستنتج من كلمها‪.‬‬
‫فرانسواز فتحت بجملة واحدة بوابة الشهوات الجهنمية‪ ,‬وتركتني مذهولً ل أدري كيف‬
‫أوقف سيل الحمم‪ .‬أبمقاومتها‪ ,‬أم بالستسلم لها؟‬
‫فأمام أي خيار من الخيارين كان احتمال ندمي قائما‪.‬‬
‫لتنجو من أسئلتك‪ ,‬عليك في الجنس أن تتغابى أحيانا‪ ,‬حتى ل تتنبه إلى كونك تذهب نحو‬
‫المتعة‪ ,‬لنك تحتاج إلى خيبة صغيرة تلهيك عن خيبات أكبر‪.‬‬
‫ولذا أنت تحتاج إلى أكاذيب الجسد‪ ,‬إلى غبائه وفسقه وتناسيه‪ ,‬كي تقصد النزوات المسروقة‬
‫من دون شعور بالذنب‪.‬‬
‫أنت في حاجة إلى الذعان للمتعة التي تهيئك لللم‪ ,‬ولللم اللذيذ المخدر الذي يهيئك للموت‪,‬‬
‫مستندا إلى قول عنيف للمركيز دي ساد " ل طريق لمعرفة الموت أفضل من ربطه بمخيلة‬
‫فاسقة"‪.‬‬
‫وأنت ستحتاج حتما إلى تلك المخيلة‪ ,‬لتوقظ صخب حواس ذكورية تعودت الستكانة قهرا‪.‬‬
‫تحتاج أن تضرم النار في رغبات مؤجلة دوما‪ .‬أنت المسكون بنزوات الذين يذهبون كل‬
‫صباح نحو موتهم‪ ,‬يستعدون لمواجهة الموت بالصلة حينا‪ ,‬وبالثام الخيرة أحيانا أخرى‪.‬‬

‫غير أن قبولي دعوة فرانسواز لقضاء " وقت ممتع" كان يحمل فرحة مشوبة بذعر لم أعرفه‬
‫من قبل‪ ,‬خشية أن تخونني فحولتي عند اللقاء‪ .‬حتى إنني‪ ,‬قبل ذلك بليلة‪ ,‬تذكرت مغنية‬
‫أوبرا شاهدتها تقول في مقابلة تلفزيونية إنها في الليلة التي تسبق حفلتها تعيش كابوسا‬
‫مزعجا ترى فيه نفسها تقف على المسرح وقد فقدت صوتها‪ ,‬مما يجعلها تستيقظ مذعورة‬
‫كل مرة‪ ,‬وتجلس في سريرها لتجرب صوتها إلى أقصاه‪ ,‬كي تطمئن إلى قوته‪ ,‬ثم تخلد إلى‬
‫النوم‪.‬‬
‫تراني بلغت عمر الذعر الذكوري‪ ,‬وذلك الخوف المرضي من فقدان مباغت للفحولة‪ ,‬في تلك‬
‫اللحظة الكثر احتياجا لها‪ ,‬أمام الشخص الذي تريد إدهاشه بالذات؟ أكل رجل هو مغني أوبرا‬
‫مذعور‪ ,‬ل يدري لفرط صمت أعضائه كيف يختبر صوت رجولته!‬

‫فرانسواز وجدت في تمنعي وعدم استعجالي النفراد بها‪ ,‬شيئا مغريا ومثيرا للتحدي النثوي‬
‫الصامت‪ ,‬ومثيرا أيضا للحترام‪ .‬خاصة بعدما اعتذرت عن قبول عرضها الذي أظنه كان‬
‫نابعا من طيبتها في استضافتي بعض الوقت في بيتها‪ ,‬لتوفر علي مصاريف القامة المكلفة‪.‬‬
‫قالت مثبتة حسن نواياها‪:‬‬
‫‪ -‬عندي غرفة إضافية يحدث أن يقيم فيها لبعض الوقت الصدقاء العابرون لباريس‪,‬‬
‫ومعظمهم من معارف زيان‪ .‬آخر من شغلها زوجة مدير معهد الفنون الجميلة في الجزائر‬
‫التي اغتيل زوجها وابنها داخل المعهد‪ .‬كانت فكرة هذا المعرض لدعم عائلت المبدعين من‬
‫ضحايا الرهاب بمبادرة منها‪ ,‬ولهذا ارتأيت أن أستقبلها في بيتي لحاجتها إلى دعم نفسي‬
‫كبير بعد هذه المحنة‪.‬‬
‫لم تكن فرانسواز تدري أنها قالت العبارة التي كانت تكفي لقناعي بأي شيء تعرضه علي‬
‫بعد الن‪.‬‬
‫سألتها مندهشا‪:‬‬
‫‪ -‬وهل زيان يقيم في بيتك؟‬
‫أجابت ضاحكة‪:‬‬
‫‪ -‬أجل ‪ ,‬وإن شئت أنا من يقيم في بيته‪ .‬فعندما عاد إلى الجزائر ترك لي البيت لفترة‬
‫طويلة‪ ,‬ثم عرضت عليه بعد ذلك أن أتقاسم معه اليجار‪ .‬لقد كان المر يناسبني تماما‪ .‬يدفع‬
‫نصف إيجار البيت مقابل أن يشغله أحيانا عندما يزور باريس‪ .‬إنني محظوظة حقا‪ .‬فهذا‬
‫البيت جميل‪ ,‬ولم يعد بإمكانك العثور بسعر معقول على شقة كهذه تطل على نهر السين!‬
‫لم أعد أصدق ما أسمع‪ .‬سألتها‪:‬‬
‫‪ -‬وهل الشقة تطل على جسر ميرابو؟‬
‫ردت متعجبة‪:‬‬
‫‪ -‬هل زرتها؟‬
‫كنت سأبدو مجنونا لو أخبرتها أنني سبق أن زرتها في رواية‪.‬‬
‫فأجبت بهدوء كاذب‪:‬‬
‫‪ -‬ل ‪ ..‬قلت هذا لنني أحب هذا الجسر‪ ,‬وتمنيت لو كان المر كذلك‪.‬‬
‫‪ -‬إنه فعلً كذلك‪ ..‬ولذا بإمكانك أن تزور الشقة كلما شعرت برغبة في رؤية ذلك الجسر‪.‬‬
‫سألتها فجأة مجازفا بكبريائي‪:‬‬
‫‪ -‬أما زال عرضك قائما باستضافتي لبعض الوقت في بيتك؟‬
‫‪ -‬طبعا‪..‬‬
‫ثم واصلت‪:‬‬
‫‪Oh.. mon Dieu.. comme tu me rappelles -‬‬
‫‪!Ziane c'est fou.. tout ca pour un pont‬‬
‫طبعا‪ ..‬كانت على خطأ‪ .‬لم يكن " كل هذا بسبب جسر"‪ .‬وربما كانت في خطئها على صواب‪,‬‬
‫مادامت قد صاحت " يا إلهي كم تذكرني بزيان"‪.‬‬
‫ذلك أن هذا الجسر ماكان بالنسبة لكلينا مجرد‪ ...‬جسر‪.‬‬
‫أضافت‪:‬‬
‫‪ -‬بالمناسبة‪ ..‬سيكون افتتاح معرض زيان بعد يومين‪ .‬أتمنى أن أراك هناك‪.‬‬
‫أجبتها وأنا أفكر في كل ما ينتظرني من مفاجآت بعد الن‪:‬‬
‫‪ -‬حتما‪ ..‬سأحضر‪.‬‬

‫الفصل الرابع‬

‫برغم درايتي بعدم حضوره‪ ,‬ذهبت لحضور افتتاح معرضه الفردي‪ ,‬فقد كان في المر ما‬
‫يغريني بإستهلك احتياطي الحزن الذي أحتفظ به لحدث كهذا‪.‬‬
‫ي لقاءنا الول‪ .‬المر ل يعدو احتفاظ الرسام بحقه في أن‬
‫ل أظن مرضه هو الذي أفسد عل ّ‬
‫يخلف موعدا‪ ,‬حتى لو كان حفل زفاف لوحاته‪.‬‬
‫فرانسواز قالت أنه يكره حضور يوم افتتاح معرض له‪ ,‬لنه بضوضائه وأضوائه يوم‬
‫للغرباء‪ .‬ما عاد له من صبر على ملطفة ومسايرة من يحرصون على حضور شعائر‬
‫الفتتاح‪ ,‬أكثر من حرصهم على تأمل أعمال أخذ بعضها أعواما من عمر الرسام‪ .‬بل أنه‬
‫حدث في أحد معارضه‪ ,‬أن طلب منها أن تتولى مع إدارة الرواق أمر تعليق اللوحات واختيار‬
‫أماكنها على الجدران‪ ,‬لنه يكره أن يعلق لوحاته‪ ,‬حتى يمكنه زيارة نفسه بعد ذلك كغريب‪.‬‬
‫هو الهارب البدي‪ ,‬ل ملذ له سوى البياض‪.‬‬
‫كان له ما أراد‪ .‬أيكون تمارض كي يجد ذريعةً للنسحاب المتعالي‪ ..‬فسقط في براثن المرض‬
‫الحقيقي؟‬

‫في غياب الرسام‪ ,‬كل شيء يأخذ لونه الول‪ .‬تخفت البهجة المظللة لفراشات الضوء وأناس‬
‫إمتهنوا طقوس الفتتاحات‪ .‬ينتابك شعور بالفقدان‪ ,‬بإفتقاد شيء لم تمتلكه بعد‪ .‬يجتاحك‬
‫السى من أجل رجل لن تراه‪ ,‬يحجبك عنه حضوره في غيابه المريع‪ ..‬غيابه الرائع‪.‬‬
‫رجل ستدرك لحقا‪ ,‬أنه يكره أن يساء فهم حضوره‪ ,‬أن يساء تفسير كلمه‪ .‬ذلك أن "‬
‫الرساميين ل يجيدون فن الكلم‪ .‬إنهم موسيقيون صامتون كل الوقت"‪.‬‬
‫وهو هنا‪ ,‬كبيانو أسود مركون مغلقا على صمته‪ ,‬في صالة تضج بلوحاته‪ ,‬ازدحمت بغيابه‬
‫الصاخب‪ ,‬مبعثرا‪ ,‬متناثرا‪ ,‬متدفقا على الجدران‪ ,‬كغيوم نفسه المنهطلة على الزوار‪.‬‬
‫ل تملك إل أن تتعاطف معه‪ ,‬وهو يواجه الخسائر بفرشاة‪ .‬ذلك أن هذا المعرض في فن‬
‫بعثرة الحزن على الجسور والبواب التي تصهل بها اللوحات‪ ,‬ليس سوى إعادة اعتبار‬
‫للخسارات الجميلة‪.‬‬
‫عندما غادرت ذلك المعرض ‪ ,‬فكرة واحدة كانت تزداد رسوخا داخلي‪ :‬أن أطارد طيف هذا‬
‫الرجل حتى بيت فرانسواز‪ ,‬كي أواصل تباعا لملمة سره‪ ,‬هو الذي يتقن أيضا فن بعثرة‬
‫الغياب‪.‬‬

‫***‬

‫تماما‪ ,‬كما لو كنت بطلً في رواية‪ ,‬غادرت الفندق الصغير الذي كنت أقيم فيه منذ ما يقارب‬
‫الشهر‪ ,‬وأعددت حقيبتي لسفر مفاجئ نحو بيت كنت أظنه ليس موجودا إل في كتاب!‬
‫متعاقد أنا مع الجسور‪ ,‬مع مدن يشطرها جسر‪ ,‬مع نساء حيث أحل يكنّ على أهبة عبور‪.‬‬
‫بذرائع العشاق‪ ,‬أذهب على خيول الشك الهزيلة‪ ,‬صوب بيت هو بيته‪ .‬أقيم مستوطنة غير‬
‫شرعية‪ ,‬فوق ذاكرة الخرين‪ ,‬حيث التقى هذا الرسام حتما مع تلك الكاتبة‪.‬‬

‫كيف ترصد ذبذبات بيت تدخله كما تدخل معتقلً للكآبة الجميلة‪.‬‬
‫تفاجئك ألفة المكنة‪ ,‬فتستأنف حياة بدأتها في كتاب‪ .‬كأنك موجود لستئناف حياة الخرين‪.‬‬
‫تدخله كبطل في رواية‪ .‬تفتحه كما تفتح كتابا مكتوبا على طريقة برايل‪ ,‬متلمسا كل شيء‬
‫فيه‪ ,‬لتتأكد من أن الشياء حقيقية‪ ,‬أو بالحرى لتتأكد أنك تعيش لحظة حقيقية‪ ,‬ولست هنا‬
‫لمواصلة التماهي مع بطل وهمي‪ .‬أشياء تومي لك أنك تعرفها وهي ليست كذلك ‪ .‬لحظات‬
‫تتوهم أنك عشتها وهي ليست كذلك‪.‬‬
‫وكنت تظن أن الحياة تلفقك كتابا‪ ,‬فإذا بكتاب يلفق لك حياة‪ .‬فأيهما فيك الحزن‪ :‬القارئ‬
‫الذي انطلت عليه خدعة الرواية؟ أم العاشق الذي انطلت عليه خديعة مؤلفتها؟‬
‫ولماذا أنت سعيد إذن؟ ما دمت بفرح غريب تفعل الشياء الكثر ألما‪ ,‬تعاشر جثة حب‪,‬‬
‫تضاجع رمم الشياء الفاضحة‪ ,‬باحثا في التفاصيل المهملة عما يشي بخيانة من أحببت‪.‬‬
‫أهي معابثة للذاكرة؟ أم تذاكٍ على الدب؟ أم ‪ ..‬حاجتك أن تغار؟ كحاجتك إلى النوم على‬
‫أسرة علقت بشراشفها رائحة رجال سبقوك‪ ,‬كحاجتك إلى الغطية الخفيفة‪ ,‬للهاث امرأة‬
‫استعادت أنفاسها على صدر غيرك‪ ,‬كحاجتك إلى البكاء على وسادة تنام عليها وحيدا‪ ,‬وكانت‬
‫وسادة لرأسين‪.‬‬
‫ل أسوأ من غيرة عاجزة‪ .‬غيرة متأخرة ل تستطيع حيالها شيئا‪.‬‬
‫ل أدري متى أصبت بكآبة المخدوعين‪ ,‬وقررت التوقف عن التفتيش في ذلك البيت عن‬
‫شيء‪ ,‬بعد أن حاولت كثيرا‪ ,‬على طريقة "شارلوك هولمز" أن أفك شيفرة ذلك الكتاب‪ ,‬مقارنا‬
‫تفاصيله بموجودات الكتاب‪.‬‬
‫ل عن شفاء الشياء كي أقيم معها حوارا استنطاقيا بحثا عن احتمالت لقاء‪ ,‬عن‬
‫بحثت طوي ً‬
‫احتمالت خلف‪ ,‬عن متع قد تكون اختلست في مكان ما‪.‬‬
‫كما أمام " العلبة السوداء" لطائرة سقطت‪ ,‬كنت أريد أن أعرف آخر كلمة قالها العشاق قبل‬
‫حدوث الكارثة‪ .‬من أي علو هوى ذلك الحب؟ في أي مكان بالذات؟ في أي غرفة تبعثرت‬
‫شظايا المحبين؟ وهل نجا من تلك الكارثة العشقية غير ذلك الكتاب؟‬

‫فرانسواز وضعتني‪ ,‬بكثير من الحتفاء‪ ,‬في الغرفة المجاورة لغرفتها‪ ,‬موضحة أنها الغرفة‬
‫التي كان يشغلها زيان كمرسم‪ .‬ثم أضافت بلهجة مازحة‪:‬‬
‫‪ -‬أنت محظوظ‪ :‬بإمكانك أن تفرد أشياءك‪ .‬قل شهرين كانت اللوحات في كل مكان ‪ ,‬حتى‬
‫هذا السرير لم يكن صالحا للستعمال‪.‬‬
‫سألتها متعجبا‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا فعلتما بها؟‬
‫‪ -‬شارك زيان ببعضها في المعرض الجماعي الخيري‪ ,‬ويعرض ما بقي في حوزته من‬
‫لوحات في معرضه الفردي الحالي الذي يذهب نصف ريعه للجمعية الخيرية نفسها‪ .‬حاولت‬
‫عبثا إقناعه بإبقاء بعضها‪ .‬إنه دائما متطرف‪ .‬أحيانا كان يرفض لسنوات بيع لوحة واحدة‪,‬‬
‫وهذه المرة رفض أن يبقي على واحدة منها‪ .‬تصور‪ ..‬لم تبق سوى اللوحات المعلقة على‬
‫الجدران‪ ,‬ولو لم يكن أهداني إياها لعرضها للبيع‪ .‬لعله المرض‪ .‬أظنه أراد أن يتخلص منها‬
‫وهو على قيد الحياة‪ ,‬ووجد لوحة لمن ل يعنيه سوى أن يعلقها على حائط زهوه‪ .‬كان يردد‬
‫قول رسام آخر " أنت ل تفقد لوحة عندما تبيعها بل عندما يمتلكها من لن يعلقها على جدران‬
‫قلبه بل على حائط بيته قصد أن يراها الخرون"‪.‬‬
‫ربما خوفه من أن يقع في يد هؤلء‪ ,‬هو الذي جعله يعرضها جميعها للبيع‪ ,‬لنه واثق من‬
‫أن الذين سيشترون لوحاته‪ ,‬أو اللوحات المعروضة لكل هؤلء الرسامين‬
‫الجزائريين‪,‬المعروفين منهم والجدد‪ ,‬هم حتما أناس بقلب كبير رغم المكانات القليلة‬
‫لبعضهم‪.‬‬

‫كانت فرانسواز تحتفظ في غرفة نومها باللوحة التي رسمها لها زيان سنة ‪ 1987‬عندما‬
‫تعرف عليها أول مرة كموديل في معهد الفنون الجميلة‪.‬‬
‫على عريها‪ ,‬كانت الرسمة ل تخلو من مسحة حياء تعود حتما لريشة زيان‪ ,‬ل لمرأة كانت‬
‫تحترف التعري‪ ,‬وتغطي جدران غرفة نومها بأكثر من لوحة تحمل تواقيع فنانين آخرين‪.‬‬
‫بدت لي فرانسواز امرأة ل يملها رسام‪ .‬لكأنها أنثى لكل فرشاة‪ .‬لفرط اختلف شخصيتها بين‬
‫لوحة وأخرى‪ ,‬كنت تشعر معها وكأنك تسلم نفسك إلى قبيلة من النساء‪.‬‬
‫رغم ذلك لم يكن في المر ما يغريبني‪ ,‬ول كانت لي رغبة أن أدخل في تحد مع الرجال الذين‬
‫ل انتقائيا في حرماني كما في متعتي‪ ,‬أنا‬
‫سبقوني إليها‪ .‬فقد كنت على جوعي الجسدي‪ ,‬رج ً‬
‫المولع بانحسار الثوب على جسد متوهم‪ ,‬ما وجدت في جسدها المكشوف مكمن فتنتي‪.‬‬
‫كنت أريد امرأة كـ " فينوس" في انزلق نصف ثوبها‪ .‬أكسو نصفها‪ ,‬أو أعري نصفها الخر‬
‫حسب رغبتي‪ .‬امرأة نصفها طاهر ونصفها عاهر‪ ,‬أتكفل بإصلح أو إفساد أحد نصفيها‪.‬‬
‫فبكل نصف فيها كنت أقيس رجولتي‪.‬‬

‫فرانسواز بهذا المقياس‪ ,‬كانت اختبارا سيئا للرجولة‪ .‬كانت امرأة بفصلين يعاشر أحدهما‬
‫الخر أمامك‪ :‬ربيع شعرها المحمر‪ ,‬وخريف شفتيها الشاحبتين‪ .‬وكانت مشكلتي الولى‬
‫ثغرها‪ :‬كيف أضاجع امرأة ل تغريني شفتاها الرفيعتان بتقبيلهما؟‬
‫كنت أجد شجاعتي في مواجهة شفتيها بالتفكير في زيان‪ ,‬الذي حتما سبقني إلى ذلك‪ .‬أخاله‬
‫مثلي كان يعاشر فرانسواز‪ ,‬مستحضرا حياة‪ .‬فهل اكتشف قبلي أن زيف القبلة أكثر بؤسا‬
‫من زيف المضاجعة؟!‬
‫حتما‪ ,‬كان السرير في ذلك الموعد الول مزدحما بأشباح من سبقوني إليه‪ ,‬ووحدي كنت‬
‫أشعر بذلك محاولً استنطاق ذاكرته‪.‬‬
‫أسرّة تراكمت فيها الخطايا‪ ,‬تتوقع منها خرق قاعدة الكتمان‪ .‬أحقا تريد لذلك " المخدع" أن‬
‫يكسر قانون الصمت‪ ..‬وينطق؟‬
‫صمت السرّة إحدى نعم ال علينا‪ ,‬ما دمنا‪ ,‬حيث حللنا‪ ,‬جميعنا عابري سرير‪.‬‬
‫أدري ارتباك جسدين يلتقيان لول مرة‪ ,‬ولم يبتكرا لغتهما المشتركة بعد‪ .‬لكن كان واضحا‬
‫أننا ما كنا نملك البجدية نفسها للتحاور‪.‬‬
‫كنت أكره امرأة تصرخ لحظة الحب‪ .‬ففي كل صراخ مراوغة ل تخلو من نوايا الغش‬
‫النسائي‪ .‬كنت ل أعرف للمتعة إل احتمالين‪ :‬أن تبكي امرأة‪ ,‬أو يغمى عليها‪ .‬فل متعة دون‬
‫بلوغ وعي الغماء‪ .‬كطائر محلق فارد جناحيه ول يسمع لتحليقه خفقا‪ .‬المتعة حالة غيبوبة‬
‫شاهقة الصمت‪.‬‬
‫كانت فرانسواز ل تعرف صمت كائنين لحظة توحد‪ .‬كانت تموء كقطة‪ ,‬تنتفض كسمكة‪,‬‬
‫تتلوى كأفعى‪ ,‬وكلبوءة تختبر ذلك العصيان الشرس في مواجهة الذكورة‪ .‬كانت كل إناث‬
‫ل ل يدري كيف يتدبر لجاما لتلك المهرة الجامحة‪.‬‬
‫الكائنات‪ .‬وكنت رج ً‬

‫كان للحب مع فرانسواز مذاق الفاكهة المجففة‪ .‬وكنت أحتاج فجأة إلى وحدتي‪ ,‬حاجة رجل‬
‫مهموم إلى تدخين سيجارة في الفناء‪.‬‬
‫انتهى الحب‪ .‬وها أنا أرتعد عاريا كجذع شجرة جرداء‪.‬‬
‫ل أكثر كآبة من فعل حب ل حب فيه‪ ,‬بعده تعتريك رغبة ملحة في البكاء‪ .‬إنها خيانتك الولى‬
‫لمرأة قد تكون خانتك منذ ذلك الحين كثيرا‪ .‬وأنت لست حزينا من أجلها‪ ..‬بل من أجلك‪ .‬بعد‬
‫تلك المتعة‪ ,‬تشعر فجأة بالخواء‪ ,‬ينقصك شيء ما‪ ,‬ل تدري ما هو‪.‬‬
‫كنت تظن أنك بنزوتك الولى تلك‪ ,‬ستمحو‪ ,‬كما بإسفنجة‪ ,‬آثار ما علق بك من زرقة اللم‪.‬‬
‫ولكن‪ ,‬كما لو كنت تمرر إسفنجة لتنظيف سبورة من الطباشير‪ ,‬إذا بك تزيد اللوح ضبابية‬
‫وتلوثا‪.‬‬
‫أليست هي التي قالت مرة أثناء حديثها عن معاشرة زوجها مكرهة‪ ":‬ل بد أن توضع على‬
‫أبواب غرف النوم " ممنوع التلويث" كما توضع في بعض الماكن شارات لمنع التدخين‪..‬‬
‫ذلك أننا نلوث دائما بمن ل نحب"‪.‬‬
‫لماذا مارست الحب إذن؟ ولماذا كنت على عجل؟ ألنك لفرط ما عاشرت جسدك مكتفيا‬
‫بمتعته السرية‪ ,‬لم تعد تعرف التعامل مع جسد غيره؟‬

‫أذكر ذلك الصديق الذي قضى في سجن عربي ستة عشر عاما بتهمة النتماء إلى حزب‬
‫محظور‪ ,‬تزوج في العوام الخيرة‪ ,‬من محامية أحبته وانتظرته طويلً‪ .‬كم من العوام‬
‫قضيا يمنيان النفس بلقاء حميمي جميل‪ ,‬ل يكون فيه للحارس حق التلصص على وشوشة‬
‫متعتهما!‬
‫وذات يوم أطلق سراح الرجل‪ .‬هكذا ‪ ,‬فجأة‪ ,‬ذات عيد قرروا أن يهدوه الحرية‪ .‬ألقوا به أمام‬
‫السجن مع صرة تضم بؤس متاعه‪ .‬وما كان يدري أنه في تلك القبية الرطبة قد فقد وإلى‬
‫البد عنفوان فحولته‪ ,‬إل عندما احتضن بولع السجين العاشق‪ ,‬تلك المرأة التي حلم بها‬
‫طويلً‪.‬‬
‫أثناء تحسسه لجسد الحرية‪ ,‬ارتطم بعنة عبوديته‪ ,‬مكتشفا أنه ما عاد قادرا على معاشرة‬
‫أحل ٍم ل تمت إلى جسده بصلة!‬
‫منذ مدة سمعت بخبر انفصالهما‪ ,‬بعد أن أخفقت الحياة في ترميم ما ألحقته المعتقلت العربية‬
‫من عطب بحبهما‪.‬‬

‫أثناء هدر عمرك في الوفاء‪ ,‬عليك أن تتوقع أن يغدر بك الجسد‪ ,‬وأنت تتنكر لك أعضاؤه‪.‬‬
‫فوفاؤك لجسد آخر ما هو إل خيانة فاضحة لجسدك‪.‬‬
‫ت طويل لشتاءٍ عاطفي‪ ,‬مقتاتين بدسم‬
‫بغروب آخر يوم في خريف القلب‪ ,‬ندخل في سبا ٍ‬
‫الذكرى ومجزون المل الذي ما فتئنا كحيوانات القطب الشمالي نجمعه تحسبا لمواسم البؤس‬
‫الجليدية‪.‬‬
‫ذات جليد‪ ..‬لن يسعفك اختباؤك تحت الفرو السميك للمنيات‪.‬‬
‫رويدا‪ ..‬يضمحل قلبك العاطل عن الحب‪ .‬تتقلص فحولتك العاطلة من التمتع والمتاع‪ ,‬وإذا‬
‫كل عضو فيك لم تستعمله‪ ,‬قد اضمحل‪.‬‬
‫تدري أنك مدين في الماضي للحب وحده بإنجازاتك الفحولية الخارقة‪ ,‬لكن زمن العشق ولى‪.‬‬
‫خيباتك السابقة علمتك الحتراس من حب يؤسس نفسه على كلمة " إلى البد"‪ .‬حب بعد‬
‫آخر‪ ,‬مات وهمك بحب حد الموت‪ ,‬حب حتى الموت‪.‬‬
‫كل مأساتك الن تدور حول هذا الكتشاف!‬

‫***‬

‫في اليوم التالي‪ ,‬قصدت السوق المجاور لملء البراد والتبضع بالمواد الغذائية‪ ,‬فلم يكن‬
‫بإمكاني القامة في بيت‪ ,‬بدون النفاق عليه‪.‬‬
‫كنت أتجول مكتشفا مساحيق فرح نهايات السبوع على وجه باريس المرتجفة بردا‪ ,‬عندما‬
‫استوقفني محل جزار يزين خطاطيفه الحديدية برؤوس الخنازير الوردية المعلقة‪ ,‬حاملة بين‬
‫أسنانها قرنفلة ورقية حمراء‪.‬‬
‫بقيت للحظة أتأملها‪ ,‬متسائلً أهي إهانة للقرنفل أن يوضع في فم خنزير؟ أم الهانة أن‬
‫يتحول رأس كائن حيا إلى مزهرية لدى جزار؟‬

‫أعادني المشهد إلى السبعينات‪ ,‬يوم كان جيراننا الوربيون التون من أوربا الشرقية‪ ,‬ل‬
‫ينفكون يخططون بحماسة ولهفة‪ ,‬لنهايات السابيع التي يذهبون فيها زرافات لصطياد‬
‫الخنازير البرية في الغابات المنتشرة على مشارف العاصمة‪.‬‬
‫اليوم‪ ,‬ل أحد يجرؤ على القيام بجولة صيد‪ ,‬مذ أصبح القتلة ينزلون مدججين بالسواطير‬
‫والفؤوس وأدوات قطع الرؤوس‪ ,‬ليصطادوا ضحاياهم من البشر من بين القرويين العزّل‪,‬‬
‫ويرحلون تاركين للخنازير البرية مهمة قطع أرزاق من بقي على قيد الحياة‪ ,‬بإفساد وإتلف‬
‫محاصيلهم‪...‬‬
‫كان اصطياد رأس خنزير ومطاردته في الغابات‪ ,‬يأخذ من الصيادين آنذاك وقتا وجهدا أكثر‬
‫مما يأخذه اليوم قطع رؤوس عائلة بأكملها من القرويين الذين يعرف القتلة تماما مواقع‬
‫أكواخهم ول يجدون صعوبة في ذبحهم كالنعاج‪.‬‬
‫وكانت العودة برأس خنزير واحد‪ ,‬تمل الصيادين الوربيين آنذاك زهوا‪ .‬لكن صيادي الطرائد‬
‫البشرية يلزمهم كثير من الرؤوس كي يضمنوا فرحة وجودهم على الصفحات الولى‬
‫للجرائد‪ ,‬فهم يشترون برؤوس الخرين صدارة خبر تتناقله وكالت النباء‪.‬‬
‫هكذا ولدت ظاهرة الرؤوس البشرية المعروضة للشهار أ‪ ,‬للستثمار‪ ,‬وأخرى للفرجة أو‬
‫للعبرة‪ ,‬كتلك التي حدث لمراء الموت عندما وجدوا متسعا من الوقت‪ ,‬أن زينوا بها أشجار‬
‫القرية كما أشجار أعياد الميلد‪ ,‬وفخخوها لتكون جاهزة لتنفجر في أول من يحاول "قطف"‬
‫رأس قريبه‪.‬‬

‫في حرب "الرؤوس الكبيرة" التي بسقوطها يسقط وطن في مطب التاريخ‪ ,‬وتلك الصغيرة‬
‫التي يلزم منها الكثير لتصنع خبرا في جريدة‪ ,‬وتلك النكرة التي لن يسمع بقطافها أحد‪ ,‬ل‬
‫تستطيع إل أن تتحسس رأسك‪ ,‬حتى وأنت أمام واجهة جزار في باريس‪ .‬وتحزن من أجل‬
‫القرنفل البلدي‪ ,‬الذي كان يتفتح في طفولتك‪ ,‬باقات من القرنفلت الصغيرة‪ ,‬بذلك الشذى‬
‫الذي ما عدت تشتمه في الورود‪ ,‬مذ قصفت أعمارها إكراما لقصابي العالم المتحضر‪.‬‬
‫ل وسط حدائق" ‪,‬‬
‫في مدينة كان هنري ميلر يتجول فيها جائعا‪ ,‬وفي حالة انتصاب‪,‬متنق ً‬
‫التويلري" غير مبصر سوى أجساد نسائية من رخام‪ ,‬عساها تغادر عريها الرخامي وترافقه‬
‫إلى فندق تشرده‪ ,‬لم أكن أنا سوى الرؤوس المعلقة في أي مكان‪ ,‬لي سبب كان‪.‬‬
‫حتى مومسات (بيغال) المنتشرات على أرصفة الليل‪ ,‬في هيئة ل يصمد أمام غواية التلصص‬
‫على عريهن رجل‪ ,‬لم أستطع وأنا أعبر شارعهن أن أقيم مع أجسادهن العارية تحت معاطف‬
‫الفرو‪ ,‬أية علقة فضول‪ .‬فقد كن يذكرنني بمشهد آخر تناقلت تفاصيله الصحافة العالمية‬
‫لمومسات البؤس العربي‪ .‬مشهد لو رآه زوربا لجهش راقصا‪ ,‬لنساء علقت رؤوسهن على‬
‫أبواب بيوتهن البائسة في مدينة عربية‪ ,‬ل تخرج من حرب إل لتبتكر لرجالها أخرى‪ .‬وريثما‬
‫يكبر الجيل التي من الشهداء‪ ,‬كانت تفرغ البيوت من رجالها‪ ,‬ومن أثاثها‪ ,‬ومن لقمة‬
‫عيشها‪ ,‬لتسكنها أرامل الحروب وأيتامها‪.‬‬
‫لكن ل تهتم ‪ ,‬زوربا‪ ..‬يا صديق الرامل ل تحزن‪ .‬الجميلت الصغيرات ل يترملن‪ .‬إنهن‬
‫يزين قصور سادة الحروب العربية‪ .‬وحدهن البائسات الفقيرات يمتن غسلً لشرف الوطن‪,‬‬
‫كما مات أزواجهن فداءً له‪ .‬وبإمكان رؤوسهن الخمسين التي قطعت بمباركة ماجدات‬
‫فاضلت يمثلن التحاد النسائي‪ ,‬بإمكانها أن تبقى معلقة على البواب يوما كاملً تأكيدا‬
‫لطهارة اليد التي قطعتها‪ ,‬كي يعتبر بها الفقراء الذين جازفوا بقبول مذلة " المتعة مقابل‬
‫الغذاء"‪ ,‬وتجرأوا على تمني شيئا آخر في هذه الدنيا غير إضافة جماجمهم لتزيين كعكة عيد‬
‫ميلد القائد‪.‬‬
‫يخطئ من يعتقد أننا عندما ندخل مدنا جديدة نترك ذاكرتنا في المطار‪ .‬كلً حيث يذهب‪ ,‬يقصد‬
‫مدينة محملً بأخرى‪ ,‬ويقيم مع آخرين في مدن ل يتقاسمها بالضرورة معهم‪ ,‬ويتجول في‬
‫خراب وحده يراه‪.‬‬
‫" وما دمت خربت بيتك في هذا الركن الصغير من العالم فسيلحقك الخراب أينما حللت"‪.‬‬
‫ولكنك لم تكن قد سمعت بعد بقول ذلك الشاعر‪ ,‬ول كنت تظن أن حقيبتك محملة بهذا الكم‬
‫من الجماجم‪ .‬و إل ما كنت سافرت‪.‬‬
‫فاكتب إذن‪ ,‬أنت الذي مازلت ل تدري بعد إن كانت الكتابة فعل تستر أم فعل انفضاح‪ ,‬إذا‬
‫كانت فعل قتل أو فعل انبعاث‪.‬‬
‫تتمنى لو أطلقت النار على كل الطغاة بجملة‪ ,‬لكن من تنازل أيها الكاتب بقلم‪ ,‬في نزال كل‬
‫غرمائك فيه يتربعون على عروش من الجماجم‪.‬‬

‫كان عليك قبل أن تهجم على الوراق أن تختار كلماتك بعناية ملكم ‪ ,‬أن تصوب ضرباتك‬
‫إلى القتلة‪ ,‬بأدنى قدر ممكن من المجازفة‪ .‬أن تكتسب تلك الموهبة‪ .‬موهبة كتابة كتب‬
‫غيبية‪ ,‬تسعى إلى سلمة صاحبها وراءته‪ ,‬غير معني بما تسببه رواية رديئة من أضرار‪,‬‬
‫ول جبن كاتب ل يمكن لقارئ أن يأتمنه على حياته أو يوصيه ثأرا لدمه‪.‬‬
‫من تكون‪ ..‬لتحاول الثأر لكل الدم العربي بكتاب‪ .‬وحده الحبر شبهة أيها الجالس على‬
‫الشبهات‪ .‬أكتب لتنظيف مرآبك من خردة العمر‪ ,‬كما ينظف محارب سلحا قديما‪.‬‬
‫مازال للقتلة متسع من الجاه‪.‬ول وقت لك إل ساعته‪ ,‬تدق بعده في معصمك‪ ..‬تمد يدك بما‬
‫يلزمها من القوة للكتابة‪.‬‬
‫وبرغم هذا‪ ,‬قد ل تجد الشجاعة لتقص عليه ما حل بتلك اللوحة!‬

‫بعد يومين من إقامتي عند فرانسواز‪ ,‬هاتفت مراد حتى ل يقيم الدنيا ويقعدها بحثا عني في‬
‫باريس‪ ,‬يعد أن تركت الفندق دون إخباره بذلك‪.‬‬
‫تحاشيت طبعا إعطاءه تفاصيل عن إقامتي الجديدة‪ .‬واقترحت عليه أن نلتقي في اليوم‬
‫التالي‪.‬‬
‫لكنه فاجأني بذلك الخبر الذي ما توقعته أبدا حين قال لي معتذرا‪:‬‬
‫انتهى الحب‪ .‬وها أنا أرتعد عاريا كجذع شجرة جرداء‪.‬‬
‫‪ -‬لن أستطيع أن أراك غدا‪ .‬سأكون مشغولً بانتظار ناصر عبد المولى‪ .‬سيحضر من ألمانيا‬
‫للقامة عندي بعض الوقت‪ ..‬لكن إن شئت سنلتقي جميعا بعد غد‪.‬‬
‫سألته غير مصدق‪:‬‬
‫‪ -‬أي ناصر؟‬
‫‪ -‬ناصر‪ ..‬ابن الشهيد الطاهر عبد المولى‪ .‬أنت تدري أنه يقيم منذ سنتين في ألمانيا بعد أن‬
‫اتهم بانتمائه لجماعة إسلمية مسلحة‪ .‬حصل على حق اللجوء السياسي هناك‪ .‬لكن ليس‬
‫بإمكانه طبعا العودة إلى الجزائر ولذا سيحضر إلى باريس للقاء والدته التي لم يرها منذ‬
‫سنتين‪ .‬التقيت به مطولً في ألمانيا‪ ..‬واتفقنا أن يبرمج مجيئه إلى باريس عند استئجاري‬
‫شقة كي يتمكن من القامة عندي‪ ,‬فهو لسباب أمنية يفضل عدم القامة في الفندق‪.‬‬
‫وهكذا كان مراد يزف لي خبرين‪ :‬خبر مجيء ناصر‪ ,‬وحتمية مجيء أخته رفقة والدتها‪ .‬فلم‬
‫يكن من المعقول أن تأتي والدته بمفردها إلى باريس‪.‬‬
‫أذهلتني صاعقة المفاجأة‪.‬‬

‫أحقا ستأتي تلك المرأة التي ما كان في مفكرة حياتي موعد معها؟‬
‫ستأتي ‪ ,‬بعدما لفرط انتظارها ما عدت أنتظر مجيئها‪.‬‬
‫سنتان من النقطاع‪ ,‬تمددت فيهما جثة الوقت بيننا‪ ,‬وجوارها شيء شبيه بجثتي‪ ,‬فقد‬
‫أحببتها لحظة دوار عشقي كمن يقفز في الفراغ دون أن يفتح مظلة الهبوط‪ ,‬ثم‪ ..‬تركتها كما‬
‫أحببتها‪ ,‬كما يلقي يائس بنفسه من جسر بدون النظر إلى أسفل‪ .‬أما كنت ابن قسنطينة حيث‬
‫الجسور طريقة حياة وطريقة موت‪ ..‬وحب!‬
‫تلك التي لم يتخل عنها يوما رجل‪,‬تخليت عنها‪ ,‬خشية أن تتخلى هي عني‪ .‬كأنني القائل "‬
‫رب هجر قد كان من خوف هجر\ وفراق قد كان خوف فراق"‪.‬‬
‫أكثر إيلما من التخلي نفسه‪ ,‬خوفي الدائم من تخليها عني‪.‬‬

‫عكس العشاق الذين يستميتون دفاعا عن مواقعهم ومكاسبهم العاطفية‪ ,‬عندما أغار أنسحب‪,‬‬
‫وأترك لمن أحب فرصة اختياري من جديد‪.‬‬
‫كنت رجل الخسارات الختيارية بامتياز‪ .‬ما كان لي أن أتقبل فكرة أن تهجرني امرأة إلى‬
‫رجل آخر‪.‬‬
‫أنا الذي لم أتقبل فكرة أن يكون أحد قد سبقني إليها‪ .‬كيف لي أن أطمئن إلى امرأة تزرع‬
‫داخلي مع كل كلمة حقولً من الشك‪.‬‬
‫أذكر يوم سألتني لول مرة إن كنت أحبها‪ ,‬أجبتها‪:‬‬
‫‪ -‬ل أدري‪ ..‬ما أدريه أنني أخافك‪.‬‬
‫في الواقع كنت أخاف التيه الذي سيلي حبها‪ ,‬فمثلها ل يمكن لرجل أن يحب بعدها دون أن‬
‫يقاصص نفسه بها‪.‬‬
‫يومها‪ ,‬فكرت أنني ل يمكن أن أواجه الخوف منها إل بالجهاز عليها هجرا‪ .‬وكان ثمة‬
‫احتمال آخر‪ :‬اعتماد طريقتها في القتل الرحيم داخل كتاب جميل‪ .‬فقد حدث أن أهدتني ما‬
‫يغري بالكتابة‪ .‬أشياء انتقتها بحرص أم على اختيار اللوازم المدرسية لطفلها يوم دخوله‬
‫الول إلى المدرسة‪.‬‬
‫وكنت بعد موت عبد الحق بأسبوعين‪ ,‬صادفتها في مكتبة في قسنطينة تشتري ظروفا‬
‫وطوابع بريدية لتبعث رسالة إلى ناصر في ألمانيا‪ .‬كانت تمسك بيدها دفترا أسود‪ ,‬قالت‬
‫مازحة إنها اشترته لنه تحرش بها‪ .‬سألتني فجأة‪:‬‬
‫‪ -‬إن أهدينك إياه‪ ,‬هل ستكتب شيئا جميلً؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪ -‬ل أظنني سأفعل‪ ..‬ستحتاجين إليه أكثر مني‪.‬‬
‫لم تعر جوابي اهتماما‪ ,‬توجهت إلى البائع تطلب منه عدة أقلم سيالة من نوع معين‪ .‬قالت‬
‫وهي تمدني بها " أريد منك كتابا" كما لو قالت " أريد منك طفلً"‪ .‬فهل كانت تريد أن‬
‫تستبقيني بكتاب‪ ,‬كما تستبقي امرأة زوجا بطفل؟ أم كانت تهيئني للفراق الطويل؟‬
‫سألتها متوجسا مراوغة ما‪:‬‬
‫‪ -‬ما مناسبة هذه الهدية؟‬
‫ردت مازحة‪:‬‬
‫‪ -‬بإمكاننا متى شئنا أن نخترع مناسبة ‪ .‬سأفترض أنه عيد ميلدك‪ ..‬إني ألدك متى شئت‬
‫من المرات‪.‬‬
‫كانت المومة خدعتها الجميلة‪ ,‬كخدعة أبوتي لها‪.‬‬
‫أمدتني بالدفتر وقالت‪:‬‬
‫‪!Bon anniverssaire -‬‬
‫لم يكن بإمكانها أن تقول هذه المنية إل بالفرنسية أو بالفصحى‪ ..‬فليس في اللهجة‬
‫الجزائرية صيغة ول تعبير بإمكانك أن تتمنى به لحد عيد ميلد سعيدا‪ .‬بينما تفيض هذه‬
‫اللهجة بمفردات التعازي والمواساة‪!.‬‬
‫ضحكت للفكرة‪ .‬وجدتها تصلح بداية لكتاب يشرع جزائري في كتابته يوم عيد ميلده‪ .‬لكنني‬
‫لك أكتب شيئا على ذلك الدفتر الذي أهدتني إياه‪ ,‬والذي نسيت أمره عندما ذهبت للقامة في‬
‫" مازافران"‪ .‬ولم أعثر عليه إل منذ مدة قريبة‪ ,‬والصح أنني أنا الذي بحثت عنه‪.‬‬
‫لتكتب‪ ,‬ل يكفي أن يهديك أحد دفترا وأقلما‪ ,‬بل ل بد أن يؤذيك أحد إلى حد الكتابة‪ .‬وماكنت‬
‫لستطيع كتابة هذا الكتاب‪ ,‬لول أنها زودتني بالحقد اللزم للكتابة‪ .‬فنحن ل نكتب كتابا من‬
‫أجل أحد ‪ ,‬بل ضده‪.‬‬

‫دفترها أمامي‪ .‬وساعة يده في معصمي‪ .‬وكل هذا الوقت المكفن ببياض الورق في متناولي‪.‬‬
‫وأنا أكتب عنها كما كنت أمارس الحب سرا معها‪ ,‬بالشراسة نفسها‪ .‬في الحلم‪ ,‬كان يأتي‬
‫اشتهائي إياها عنيفا لنني أرفضها في اليقظة‪ ,‬وعندما كان ينتهي ذلك الفسق الحلمي‪ ,‬كنت‬
‫أصرخ باسمها‪ ,‬ويجهش جسدي سرا بالبكاء‪ ,‬ثم أحزن وأكره يدي لساعات‪ ,‬أكره كل‬
‫أعضائي التي تأتمر بأمرها‪.‬‬
‫باليد إياها أكتب‪ .‬بالعنف نفسه أستحضرها على الورق‪ ,‬ذلك أنه يلزمني الكثير من الفحولة‬
‫لمواجهة عري البياض‪ .‬ومن لم ينجح في مقاربة أنثى‪ ,‬لن يعرف كيف يقارب ورقة‪ .‬فنحن‬
‫نكتب كما نمارس الحب‪ .‬البعض يأخذ الكتابة عنوة كيفما اتفق‪ .‬والخر يعتقد أنها ل تمنحك‬
‫نفسها إل بالمراودة‪ ,‬كالناقة التي ل تدر لبنا إل بعد إبساس‪ ,‬فيقضي أعواما في ملطفتها‬
‫من أجل إنجاز كتاب‪.‬‬
‫لكن كيف لك أن تلطف ورقة‪ ,‬وتجامل قارئا‪ ,‬عندما تكتب على إيقاع الموت لشخص ما عاد‬
‫موجودا‪ ,‬مصرا على إخباره بما حدث‪.‬‬
‫ما نفع العلم الذي يزيد الموات حزنا!؟‬

‫كانت حياتي مع فرانسواز قد بدأت هادئة وجميلة‪ ,‬ولكن بدون لهفة ول شغف‪ ,‬يؤثثها ذلك‬
‫الصمت الذي يلي ضجة الجسد‪ ,‬تلك الخيبة الصامتة‪ ,‬الندم المدفون تحت الكلمات‪.‬‬
‫كل صباح‪ ,‬كان الندم الجميل يأخذ حماما‪ ,‬يدخن سيجارة‪ ,‬يضع قبلة على الشفتين‬
‫الشاحبتين‪ .‬الندم الذي كان يدري أن الوحدة أفضل من سرير السوء‪ ,‬كان يلهو باختبار‬
‫سرير جديد‪ ,‬كما ليكذب ندمه‪ .‬فمن عادة النوم أن يثرثر كثيرا قبل الحب وبعده‪ ,‬كي يقنع‬
‫نفسه أنه ليس نادما على ما ليس حبا!‬

‫استيقظن في اليوم التالي‪ ,‬فلم أجد فرانسواز‪ .‬ربما تكون نهضت باكرا إلى المعهد‪.‬‬
‫قررت أن أتناول قهوتي الصباحية مع فينوس‪ ,‬النثى الوحيدة الموجودة بالبيت‪ .‬كانت في‬
‫وقفتها تلك في ركن من الصالون بحجم امرأة حقيقية‪ ,‬تبدو كأنثى تستيقظ من نعاسها‬
‫الجميل على أهبة التبرعم النثوي الخير‪ ,‬تنتظر لهفة يديك‪ ,‬أو أوامر من عينيك‪ ,‬لتسقط‬
‫ملءتها أرضا وتصبح امرأة‪.‬‬
‫كانت مثل أشياء ذلك البيت‪ ,‬تخفي نصف الحقيقة‪ ,‬ملفوفة بانسياب يغريك بالبحث عما تحت‬
‫ثوبها الحجري‪.‬‬
‫أنت لن تعرف شيئا عنها‪ ,‬سوى أنه هو الذي اقتناها لنها أنثاه‪ .‬والمرأة التي بإمكانه أن‬
‫يعيش معها بدون عقد‪,‬إنها أكثر منه عطبا‪ .‬ولكن ذلك لن يمنعها من أن تكون النثى الشهر‬
‫والشهى‪.‬‬
‫وأفهم أن يكون رودان قال إن لها القدرة على إلهاب الحواس لنها تمثل بهجة الحياة‪ .‬هي‬
‫دائمة البتسام‪ ,‬تستيقظ بمزاج رائق كل صباح‪ .‬لنها‪ ,‬وهي إلهة الحب والجمال‪ ,‬لم تتلوث‬
‫برجل‪ .‬إنها أنثى بشهوات مترفعة!‬
‫حتما هي أسعد من نساء يقضين عمرهن كشجرة المطاط التي تزين الصالون‪ ,‬في انتظار أن‬
‫يتكرم عليها صاحب البيت بالسقاية‪ ...‬مرة كل أسبوع!‬

‫لأدري كم من الوقت قضيت في التباس جسدي معها‪ .‬أجيل نظري في جغرافية رغباتها؟‬
‫أتأمل جمالية أنوثة تحيط كل شيء فيها بلغز‪.‬‬
‫في حياة المصور كثير من الوقت الصامت‪ ,‬من الساعات المهملة‪ ,‬ومن تلك الحياة البيضاء‬
‫التي تسبق الصورة‪.‬‬
‫ذلك الضجر المتيقظ‪ ,‬يخلق عنده وقتا للحلم‪ ,‬ولذا بإمكانه أن يقضي ساعة في تأمل شجرة‪..‬‬
‫أو حركة الريح العابثة بستائر نافذة‪ .‬أو انعكاس ضوء منار بحري على البحر‪ ,‬كذاك الذي‬
‫كنت أقضي ساعات في تأمله‪ ..‬في ليل " مازافران"‪.‬‬
‫لكن وحدها فينوس تعطيك الحساس أن الجمال كما الحب والبهجة‪ ,‬كانزلق ثوبها الحجري‪,‬‬
‫أشياء قد تكون عند قدميك‪ ,‬إن توقفت عن الركض قليلً‪ ,‬وتأملت الحياة‪.‬‬
‫ولذا‪ ,‬كان ذلك الوقت الصباحي الذي قضيته معها‪ ,‬أجمل من وقت ليلي قضيته مع غيرها‪.‬‬
‫لم أحاول استنطاقها بعد ذلك‪ .‬ككل الشياء الشامتة صمتا في ذلك البيت‪ .‬هي لن تقول أكثر‪.‬‬
‫ماجدوى أن أنتزع منها اعترافات مخادعة؟‬
‫حيث أنا قريب منها غريب عليها‪ ,‬لن أرى شيئا‪ .‬وحده شكي يرى‪.‬‬

‫في خلوتي الولى بالشياء فقدت القدرة على رؤيتها‪ .‬فقدت حتى تلقائية فهم أنني أثناء‬
‫استنطاقها أصبحت بعض ذاكرتها‪ .‬لقد شيأتني‪ ,‬وإذ بي الشيء العابر بها ‪ ..‬كغيري‪ .‬وهي‬
‫الكائن المقيم الثابت الشاهد علي‪.‬‬
‫بعد ساعة من الذهول الشارد أمامها تركت فينوس وخرجت إلى الشرفة أكتشف المنظر‬
‫وألقي تحية الصباح على " جسر ميرابو"‪.‬‬
‫استنادا إلى رواية تلك الكاتبة التي ل تصدق إل في الروايات‪ ,‬بإمكاني أن أكون واثقا على‬
‫القل من أنهما وقفا هنا ذات مطر‪..‬‬
‫كما اليوم‪ ,‬وأنه قبّلها طويلً هنا على مرأى من الجسر‪ ,‬بعد أن قرأ عليها شيئا من قصيدة‬
‫السياب‪.‬‬
‫أما زال الجسر يذكر قبلة جزائريين ائتمناه على حبهما؟ وتحت قدميه البديتين يجري نهر لم‬
‫يؤتمن على أرواح الجزائريين ذات أكتوبر ‪ 1961‬عندما طفت عشرات الجثث التي ألقيت‬
‫إليه مكبلة؟‬

‫لو أن للسين ذاكرة لغير الحزن مجراه‪.‬‬


‫اثنا عشر ألف معتقل فاضت بهم الملعب والسجون‪ ,‬وستمئة مفقود وغريق توقف قدرهم‬
‫فوق الجسور الكثيرة التي لم تول النظر لجثثهم الطافية وهي تعبر تحتها‪.‬‬
‫أفهم عجز خالد في تلك الرواية على إقامة علقة ود مع هذا المنظر الجميل‪.‬‬
‫لست عاتبا على نهر " السين" ول أنا على خلف معه‪ .‬فذاكرة المياه المحملة عبر العصور‬
‫بجثث من كل الجناس‪ ,‬ل تستطيع أن تفرق بين الهويات‪ ,‬ول يمكنها التمييز بين جثث‬
‫الفرنسيين الذي ألقوا سنة ‪ 1789‬إلى هذا النهر باسم الثورة‪ ..‬وجثث الجزائريين الذين‬
‫ألقوا إليه على مسافة قرنين بتهمتها‪.‬‬
‫جميعها دفعتها في اتجاه المصب‪.‬‬
‫أنا أثق في براءة النهار‪ ,‬ول أشك سوى في النوايا الطيبة للجسور‪ .‬شكي في الشعارات‬
‫الكبيرة للثورات‪ .‬فعندما أعطت الثورة الفرنسية اسم أحد خطبائها لجسر‪ ,‬كان في المر‬
‫خدعة ما‪.‬‬
‫ميرابو الذي وقف في البرلمان الفرنسي ليقول جملته الشهيرة " نحن هنا بإرادة الشعب ولن‬
‫نغادر إل على أسنة الرماح"‪ .‬أكان يدري أنه بعد قرنين سيكون شاهدا على حرب ضد إرادة‬
‫شعب آخر؟‬
‫أغلقت النافذة‪ ,‬غير دار أين أمضي بقاطرة عمري المزدحمة بأحزان الخرين‪ .‬حيث أحل‬
‫تطل شرفتي على فاجعة‪ .‬وإذ بي حتى هنا في باريس‪ ,‬كمن لفرط جوعه ل يعرف الجلوس‬
‫إلى مائدة الحياة العامرة‪ .‬أصنع تعاستي من ذاكرة الفقدان حينا‪ .,‬وحينا من ذاكرة الحرمان‪.‬‬
‫أخذت حماما‪ ,‬ونزلت أكتشف الحي الذي أقام فيه خالد لسنوات‪ .‬ذلك أنني مذ دخلت بيته‬
‫استعاد زيان اسمه الول‪ ,‬كأبطال بول إستر الذين يلتقطون دائما شيئا من الطرقات‪ ,‬كنت‬
‫أتسقط أخباره‪ ,‬أتعقب آثاره‪ .‬أجمع غباره في الشوارع‪ ,‬متقصيا‪ ,‬سائلً كل مكان قد يكون‬
‫ل سياحيا لمعالم سبقني إلى زيارتها‪.‬‬
‫عنى له شيئا‪ ,‬مستعينا بتلك الرواية‪ ,‬كما لو كانت دلي ً‬
‫كنت أختبر الفتتان ببطل رواية‪ ,‬وأسطو على سحره متماهيا معه حيث أمر‪.‬‬
‫أكنت أتعقب آثار رجل‪ ..‬أم أتشمم رائحة حب؟‬

‫كانت المسافات تبدو واهية بيني وبينه‪ .‬أحيانا كنت أعيش المواقف‪ ,‬كما لو كنت هو‪ .‬مقتفيا‬
‫أثره في السرة والشوارع والمعارض والمقاهي‪ .‬كنت أضاجع نساءه في سرير كان سريره‪.‬‬
‫أعطي مواعيد في المقهى الذي كان يرتاده‪ .‬أتأمل جسر ميرابو من شرفة بيته‪ ,‬أحتسي قهوة‬
‫أعددتها في مطبخه‪ ,‬أجالس أنثاه الرخامية المفضلة‪ ,‬وفي المساء أخلد إلى النوم على سرير‬
‫ترك عليه بعض رائحته‪ ..‬وكثيرا من أرقي‪ .‬أفكر طويلً في تلك المرأة نفسها التي منعته منذ‬
‫سنوات من النوم‪ .‬أليس المر غريبا حقا؟‬
‫لسباب أجهلها‪ ,‬ما زلت على لهفة النتظار ويأس اللقاء‪.‬‬
‫تلك المرأة التي بذريعة تعقب غيرها ما كنت أقتفي أثر سواها‪ ,‬سأضع اليوم يدي على مكمن‬
‫سرها‪ .‬فقد أهدتني مصادفات الحياة الموجعة موعدا مع رجل ينام في سرير بمستشفى(‬
‫‪ ) Ville juive‬ادعت أنه ل يوجد سوى في كتابها‪.‬‬
‫ذلك أن أبطال الروايات غالبا ما يمرضون‪ ..‬بسبب مؤلفيهم!‬

‫كنت أعي أن موعدي مع زيان‪ ,‬أيا كان نوعية العلقة التي ستتم بعده‪ ,‬والنتائج التي ستنجم‬
‫عنه‪ ,‬هو حدث في حياتي‪ .‬وعلي أن أستعد له بذلك القدر من الحيطة العاطفية‪ ,‬حتى ل‬
‫أفسده بعد أن أخذ مني المر شهرا في مطاردة فرانسواز لقناعها بضرورة أن أتعرف‬
‫عليه‪ ..‬ولو على سرير المرض‪.‬‬

‫الفصل الخامس‬

‫اشتريت باقة ورد وقصدته‪.‬‬


‫تحاشيت اللون البيض‪ .‬إنه ل يليق برسام كرس حياته للغاء هذا اللون‪ .‬تفاديت أيضا أناقة‬
‫تجعلني أبدو أقل لياقة في حضرة مرضه‪ ,‬وتوقظ غيرة عاشق أدركه الحب في سن الشك‪.‬‬
‫ولم أنس أن أحضر له معي بعض مقالتي‪ .‬حتى يصدق ذريعتي لزيارته‪ ,‬خاصة أن توقيعها‬
‫يحمل اسم خالد بن طوبال‪.‬‬
‫بدون أن تكون غرفته تحمل الرقم ‪ , 8‬كان فيها شيء يذكرك بآخر ديوان لمل دنقل‪ ,‬فكل‬
‫غرف المرضى رقم في مملكة البياض‪.‬‬
‫" كان نقاب الطباء أبيض‪ /‬لون المعاطف أبيض‪ /‬تاج الحكيمات أبيض‪ /‬أردية الراهبات‪/‬‬
‫الملءات‪ /‬لون السرة‪ /‬أربطة الشاش والقطن‪ /‬قرص المنوم‪ /‬أنبوبة المصل‪ /‬كوب اللبن"‪.‬‬

‫كان في ضيافة البياض‪ .‬لكن بابتسامة سمراء وطلة مضيئة كألوان قزح بعد ظهيرة توقف‬
‫فيها المطر‪.‬‬
‫نهض يسلم علي بحفاوة‪ ,‬واضعا شيئا من اللوان بيننا‪.‬‬
‫‪ -‬أهلً خالد‪ ...‬تفضل‪.‬‬
‫لم أعرف بأي اسم ول بأية صيغة أناديه كي أرد سلمه‪ .‬فاكتفيت باحتضانه مرددا‪:‬‬
‫‪ -‬أهلً‪ ..‬حمد ال ع سلمتك‪.‬‬
‫متسائلً ماذا تكون فرانسواز قالت له ليستقبلني بهذه الحرارة‪.‬‬
‫جلس قبالتي‪ .‬ها هو إذن‪.‬‬
‫كان يرتدي هم العمر بأناقة‪.‬‬
‫كان وسيما‪ ,‬تلك الوسامة القسنطينية المهربة منذ قرون في جينات الندلسيين‪ ,‬بحاجبين‬
‫سميكين بعض الشيء‪ ,‬وشعر على رماديته ما زال يطغى عليه السواد‪ ,‬وابتسامة أدركت‬
‫بعدها أن نصفها تهكم صامت‪ ,‬ترك آثاره على غمازة كأخدود نحتها الزمن على الجانب‬
‫اليمن من فمه‪.‬‬
‫وكانت له عينان طاعنتان في الغراء‪ ,‬ونظرة منهكة‪ ,‬لرجل أحبته النساء‪ ,‬لفرط ازدرائه‬
‫للحياة‪.‬‬
‫كم عمره؟ ل يهم‪ .‬مسرع به الخريف‪ ,‬وينتظره صقيع الشتاء‪ .‬إنه منتصف اليأس الجميل‪.‬‬
‫منتصف الموت الول‪ ,‬وهو لهذا يبتسم‪ .‬يبدو في أوج جاذبيته‪ ,‬جاذبية من يعرف الكثير لنه‬
‫خسر الكثير‪ .‬وهذا سأفهمه لحقا‪.‬‬

‫على الكرسي المقابل لسريره العالي صغرت‪ ,‬وتعلمت الجلوس خلف المنضدة المنخفضة‬
‫للسؤال‪.‬‬
‫كيف تطرق ذاكرة ذلك الرجل طرقا خفيفا؟ كيف تأخذ منه أجوبة عن أسئلة لن تطرحها‪,‬‬
‫ولكنك جئت بذريعتها؟‬
‫كيف تفتح نافذة الكلم في غرفة مريض‪ ,‬بدون أن تبدو غبيا‪ ,‬أو أنانيا‪ ,‬أو انتهازيا تسابق‬
‫الموت على سرقة أسراره‪.‬‬
‫قلت كمن يعتذر‪:‬‬
‫‪ -‬تمنيت هذا الموعد كثيرا‪ .‬آسف أن يتم لقاؤنا في المستشفى‪ .‬إن شاء ال صحتك في‬
‫تحسن‪.‬‬
‫رد مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬ل تهتم‪..‬بي صبر مستعصٍ على الشفاء‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪ -‬بدءا‪ ..‬أنا أحب أعمالك الفنية ولي تواطؤ مع كثير من لوحاتك‪ ,‬ثم عندما فوجئت بوجودك‬
‫في باريس طلبت من فرانسواز أن تجمعني بك‪ .‬فأنا بمناسبة مرور ذكرى ثورة نوفمبر أعد‬
‫مجموعة حوارات مطولة مع شخصيات جزائرية ساهمت في حرب التحرير‪ ..‬لي إحساس‬
‫أنني سأنجز معك حوارا جميلً‪.‬‬
‫قال مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬أعتقد ذلك أيضا‪ .‬فنحن حسب ما بلغني ‪ ,‬لنا الهتمامات ذاتها‪ ,‬ونشترك في حب الكثير‬
‫من الشياء‪.‬‬
‫لم أكن أعرف عنه لحظتها ما يكفي لدرك أنه اكتسب منذ زمن حدس الحقيقة‪ ,‬وتدرب على‬
‫فن التغابي الذكي‪ ,‬وأن " الشياء" هنا‪ ,‬ربما كان يعني بها ‪ ..‬النساء‪.‬‬
‫قلت وأنا أستأذنه فتح المسجل كي أعطي رسمية للقاء‪:‬‬
‫‪ -‬تعنيني ذاكرتك كثيرا‪ ..‬فأنت خضت حرب التحرير وعايشت معارك وبطولت تلك الفترة‪..‬‬
‫ماذا بقي لك من ذكرى رجالت وأبطال تلك الحقبة؟‬
‫رد مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تلحق ذاكرة مضللة‪ .‬ل وجود إل للبطولت الصغيرة‪ .‬البطولت الكبيرة أساطير‬
‫نختلقها ل حقا‪.‬‬
‫أكبر المعارك تخوضها ببسالة الضمير‪ ..‬ل بسلحك ول بعضلتك‪ ,‬وتلك المعارك هي التي‬
‫يستبسل فيها الناس البسطاء النكرة الذين يصنعون أسطورة النصر الكبير‪ ,‬والذين لن يأتي‬
‫على ذكرهم أحد‪ ..‬ولن يسألهم صحافي على سرير المرض عن ماضيهم‪.‬‬

‫فاجأني المنطلق العكسي الذي بدأ به حوارنا‪ .‬حاولت مسايرة وجهته‪:‬‬


‫‪ -‬لكنك توافق من يقول إن الثورات يخطط لها الدهاة‪ ,‬وينفذها البطال ويجني ثمارها‬
‫الجبناء؟‬
‫ابتسم وأصلح من جلسته وكأن الحوار أصبح فجأة يعنيه‪ ,‬ثم رد بعد شيء من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬إن كان لي أن أختصر تجربتي في هذه الثورة التي عايشت جميع مراحلها‪ ,‬فبتصحيح هذه‬
‫المقولة القابلة للمراجعة في كل عمر‪ .‬اليوم بالنسبة لي‪ ,‬الثورة تخطط له القدار وينفذها‬
‫الغبياء ويجني ثمارها السراق‪ .‬دائما‪ ,‬عبر التاريخ‪ ,‬حدثت الشياء هكذا‪ .‬ل عدالة في‬
‫ثورات تتسلى القدار بقسمة أنصبتها‪ ,‬في الموت والغنيمة‪ ,‬بين مجاهدي الساعة الخيرة‪,‬‬
‫وشهداء ربع الساعة الخيرة‪ .‬أتدري عبثية منظر الشهيد الخير‪ ,‬في المعركة الخيرة‪,‬‬
‫عندما يتعانق الطرفان في حضرته؟ فوق جثة آخر شهيد تبرم أول صفقة‪.‬‬
‫بقيت ملزما صمتي‪ .‬كانت أسئلته أجوبة مغلقة ل إضافة لك عليها‪ ,‬لكنني كنت أبحث عن‬
‫مدخل يوصلني إليه‪ ,‬عساني أعرف إن كان له ماض يطابق ماضي خالد في تلك الرواية‪.‬‬
‫سلكت إليه طريقا متعرجا‪:‬‬
‫‪ -‬وأنت‪ ..‬كيف عشت تلك البدايات‪ ..‬أي ماض كان ماضيك؟‬
‫أجاب ساخرا‪ ,‬كمحارب عجوز بدأ يستخف بانتصاراته‪:‬‬
‫‪ -‬إجللً للحلم القديمة غير المحققة‪ ,‬أحب التحدث عن الماضي بصيغة الجمع‪ ..‬في ماضي‬
‫المغفلين الذي كان عيبا فيه أن تقول " أنا" نسيت أن أكون أنا‪ .‬أما اليوم‪ ,‬فبجسارة‬
‫اللصوص‪ ,‬من الطبيعي أن يتحدث أي زعيم عصابة عن نفسه بصيغة الجمع!‬
‫قال جملته الخيرة وهو يضحك‪.‬‬
‫كان له جمالية الحزن الهادئ‪ .‬الحزن الذي أكسبه بلغة الصمت‪ ,‬وفصاحة التهكم‪ ,‬بحيث‬
‫كان إن ضحك أدركت أنه يدعوك إلى مشاركته البكاء‪.‬‬
‫قلت لعيده إلى الحديث عن نفسه‪:‬‬
‫‪ -‬لكن اسمك كأحد كبار رسامي الجزائر يعطيك حق أن تكون فردا ومتفردا‪.‬‬
‫أجاب بنبرة ساخرة‪:‬‬
‫‪ -‬ذاك الحق ل تكتسبه بموهبتك وإنما بحكم الشيخوخة والمرض‪ ..‬عندما تبلغ هذا السرير‬
‫الخير‪ ,‬تعود كما كنت بدءا‪ :‬وحيدا وأعزل‪ .‬تصبح من جديد "أنا" لن الجميع انفضوا من‬
‫حولك‪.‬‬
‫عليك أن تتدرب على الكلم بالمفرد‪ ,‬والتفكير بالمفرد‪ ,‬أنت الذي قضيت عمرا تتحدث بصيغة‬
‫الجمع‪ ,‬ل لهميتك ول لهمية كرسي تجلس عليه‪ ,‬ولكن ‪ ,‬لن " النا" لم تكن موجودة على‬
‫أيام جيلك‪ .‬كان جيل الحلم الجماعية‪ ,‬والموت من أجل هدف واحد‪.‬‬
‫لم تكن تنقصنا أحيانا النانية‪ ,‬ول الوصولية‪ ,‬ول الخيانة‪ ,‬ول حتى جريمة قتل الرفاق‪ .‬كانت‬
‫تنقصنا السخرية‪ .‬وكانت تلك فجيعة حياة نضالية محكوم عليها بالنضباط والجدية‪ ,‬مما جعل‬
‫الذكاء والحلم على أيامنا ضربا من التمرد‪ .‬منذ زمن وأنا أعاني من نقص في كريات‬
‫الضحك‪ ..‬ولذا أوصلني القهر إلى هنا!‬
‫لم أعرف كيف أواصل الحديث إليه‪ .‬قلت معلقا‪:‬‬
‫‪ -‬إنها الحياة‪ ..‬كل يواجهها بما استطاع‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ -‬تقصد‪ ..‬كل يتخلى عن قناعاته حيث استطاع‪ .‬تركب القطار البخاري للرفض‪ ,‬وترى‬
‫رفاقك خلسة يترجلون الواحد بعد الخر‪ ,‬وتدري أنك مسافر فيه عمرا واقفا ‪ ,‬وأنك آخر من‬
‫ينزل‪ .‬ولكن ماذا بإمكانك أن تفعل إن كنت لم تولد على أيام القطارات السريعة!‬
‫كان الحوار يمضي بنا إلى حيث يوصلنا كلمه‪ ,‬فسألته‪:‬‬
‫‪ -‬والغربة‪ ..‬أية محطة تمثل في رحلتك؟‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ -‬الغربة ليست محطة‪ ..‬إنها قاطرة أركبها حتى الوصول الخير‪ ,‬قصاص الغربة‪ ,‬يكمن في‬
‫كونها تنقص منك ما جئت تأخذ منها‪ .‬بلد كلما احتضنك‪ ,‬ازداد الصقيع في داخلك‪ .‬لنها في‬
‫كل ما تعطيك تعيدك إلى حرمانك الول‪ .‬ولذا تذهب نحو الغربة لتكتشف شيئا‪ ...‬فتنكشف‬
‫باغترابك‪.‬‬
‫‪ -‬وبماذا انكشفت؟‬
‫‪ -‬انكشفت بعاهتي‪ .‬ل بهذه التي تراها‪ ,‬بل بما يوجد في أطرافها ول تراه‪.‬‬
‫صمت فجأة عن الحديث‪ ,‬كما لو أنه استطرد صمتا‪ ,‬ليواصل الحديث إلى نفسه عن أشياء ل‬
‫تريد البوح بها‪.‬‬
‫لم أقاطع صمته بكلمة‪ .‬رأيته يتأمل ذراعي اليسرى‪ ,‬كأنه استشعر عاهتي غير الظاهرة‪.‬‬
‫أكان يملك حدس المعوقين‪ ..‬أم كان يعرف بعاهتي؟‬
‫ل كلمه‪:‬‬
‫أردف مواص ً‬
‫‪ -‬أنت لن تفهم هذا‪ .‬هذا أمر ل يفهمه إل من فقد أحد أطرافه‪ .‬وحده يعاني من "ظاهرة‬
‫الطراف الخفية" إحساس ينتابه بأن العضو المبتور ما زال موجودا‪ .‬بل هو يمتد في بعض‬
‫الوقات إلى كامل الجسد‪ .‬إنه يؤلمه‪ ..‬ويشعر بحاجة إلى حكه‪ ..‬أو تقليم أظافر يد ل توجد!‬
‫كذلك الشياء التي فقدناها‪ .‬والوطان التي غادرناها والشخاص الذين اقتلعوا منا‪ .‬غيابهم ل‬
‫يعني اختفاءهم‪ .‬إنهم يتحركون في أعصاب نهايات أطرافنا المبتورة‪ .‬يعيشون فينا‪ ,‬كما‬
‫يعيش وطن‪ ..‬كما تعيش امرأة‪ ..‬كما يعيش صديق رحل‪ ..‬ول أحد غيرنا يراهم‪ .‬وفي الغربة‬
‫يسكنوننا ول يساكنوننا‪ ,‬فيزداد صقيع أطرافنا‪ ,‬وننفضح بهم بردا!‬
‫سرت في جسدي قشعريرة كلمات قالها بهدوء كمن يتسلى بإطلق النار على نفسه‪..‬‬
‫فيصيبك‪.‬‬
‫كان يختصر لي حياته من خلل السيرة الذاتية ليد أصبحت ليتمها " ذاكرة جسد"‪ .‬إنه يتم‬
‫العضاء‪ .‬كيف أعتقد أنني ل أفهم هذا؟‬
‫شعرت برغبة في البكاء‪ .‬أو في تقبيل ذلك الطرف المعطوب من ذراعه‪ .‬هناك حيث تبدأ‬
‫خساراتنا المشتركة‪.‬‬
‫يا إلهي‪ ..‬إنه خالد!‬

‫وقعت في حب ذلك الرجل‪ ,‬في حب لغته‪ ,‬في حب استعلئه على اللم وانتقائه معزوفة‬
‫وجعه‪ ,‬في حب وسامة تبتكر جمالها كل لحظة بدون جهد‪ ,‬لنها تشع من داخله‪ .‬وأدركت أن‬
‫تكون حياة قد أحبته إلى ذلك الحد‪ .‬لقد خلق ليكون كائنا روائيا‪.‬‬
‫كان دائم التنبه إلى جرس الكلمات‪ ,‬وإلى ما يضيفه الصمت لجملة‪ .‬تطرح عليه سؤالً‪,‬‬
‫فيأخذه منك ويصوغه في سؤال آخر‪ ,‬يبدأ غالبا بقوله‪:‬‬
‫‪ -‬تقصد‪..‬‬
‫وفي صيغته التساؤلية تلك يكمن جوابه‪ .‬هو يصححك‪ ,‬لكن بقلم الرصاص دائما‪ ,‬بصوت أقل‬
‫نبرة من صوتك‪ ,‬ل قلم أحمر في حوزته‪ .‬هو ليس معلما‪ ,‬هو فقط رجل يسخر كبورخيس‪,‬‬
‫يملك تلك "الحقيقة الهزلية" التي تجعل من مجالسته متعة لم تعرفها من قبل‪.‬‬
‫قال وهو يتصفح مقالتي‪:‬‬
‫‪ -‬تدري؟ أحسد كل من يكتب‪ " .‬الكتابة هي التجذيف بيد واحدة" وبرغم هذا هي ليست في‬
‫متناولي‪ .‬لقد فقدت الرغبة في البحار‪ ,‬ربما لنك كي تبحر ل بد أن يكون لك مرفأ تبحر‬
‫نحوه‪ ,‬ول وجهة لي‪ .‬حتى الرسم توقفت عن ممارسته منذ سنتين‪.‬‬
‫أمدني اعترافه هذا بموجز عن نشرته العاطفية‪ ,‬ذلك أنني تذكرت قول بيكاسو " أن تعود إلى‬
‫الرسم أي أن تعود إلى الحب" فقد ارتبطت كل مرحلة فنية عنده‪ ,‬بدخول امرأة جديدة في‬
‫حياته‪ .‬وربما كانت كل مرحلة فنية عنده‪ ,‬بدخول امرأة جديدة في حياته‪ .‬وربما كانت الكتابة‬
‫عكس ذلك‪ ,‬فقد كانت حياة كلما سألتها خلل السنتين اللتين قضيناهما معا لماذا ل تكتب؟‬
‫أجابت " الكتابة إعمال قطيعة مع الحب وعلج كيماوي للشفاء منه‪ ..‬سأكتب عندما نفترق"‪.‬‬

‫قلت‪:‬‬
‫‪ -‬مؤسف حقا‪ ..‬أل تكون قد رسمت كل هذه الفترة‪.‬‬
‫أجاب‪:‬‬
‫‪ -‬الرسم كما الكتابة‪ ,‬وسيلة الضعفاء أمام الحياة لدفع الذى المقبل‪ .‬وأنا ما عدت أحتاجها‬
‫لنني استقويت بخساراتي‪ .‬القوى هو الذي ل يملك شيئا ليخسره‪ .‬ل تنغش بهيئتي‪ .‬أنا‬
‫رجل سعيد‪ .‬لم يحدث أن كنت على هذا القدر من الخفة والستخفاف بما كان مهما قبل‬
‫اليوم‪.‬‬
‫عليك في مساء الحياة أن تخلع هم العمر كما تخلع بدلة نهارك أو تخلع ذراعك أو أعضاءك‬
‫الصطناعية‪ ,‬أن تعلق خوفك على المشجب‪ ,‬وأن تقلع عن الحلم‪ .‬كل الذين أحببتهم ماتوا‬
‫بقصاص أحلمهم!‬
‫أدركت فجأة سر جاذبيته‪ .‬كانت تكمن في كونه أصبح حرا‪ .‬عندما ما عاد لديه ما يخسره أو‬
‫يخاف عليه‪.‬‬
‫وهو يدرك جماله كلما فاجأ نفسه يتصرف محتكما لمزاجه‪ ,‬ل لحكم الخرين‪ ,‬كما عاش من‬
‫قبل‪ .‬ول تستطيع إل أن تحسده‪ ,‬لنه خفيف ومفلس‪ .‬خفته اكتسبها مما أثق به الناس‬
‫أنفسهم من نفاق‪ .‬وبإمكانه أن يقول لكل من يصادفه من معارف ما لم يجرؤ على قوله من‬
‫قبل‪.‬‬
‫كرأيه في الرسام غير الموهوب الذي كان ينافقه مادحا أعماله‪ ,‬والجار الذي كان يجامله‬
‫اللحية عن خوف‪ ,‬والصديق الذي كان يسكت عن اختلساته عن حياء‪ ,‬والعدو المنافق الذي‬
‫كان يدعي أمامه الغباء‪.‬‬
‫سألته‪:‬‬
‫‪ -‬أل تخشى أل يبقى لك صديق بعد هذا؟‬
‫ضحك‪:‬‬
‫‪ -‬ما كان لي صديق لخسره‪ .‬أصدقائي سقطوا من القطار‪ .‬عندما تغادر وطنك‪ ,‬تولي ظهرك‬
‫لشجرة كانت صديقة‪ ,‬ولصديق كان عدوا‪ .‬النجاح كما الفشل‪ ,‬اختبار جيد لمن حولك‪ ,‬للذي‬
‫سيتقرب منك ليسرق ضوءك‪ ,‬والذي سيعاديك لن ضوءك كشف عيوبه‪ ,‬والذي حين فشل‬
‫في أن ينجح‪ ,‬نذر حياته لثبات عدم شرعية نجاحك‪.‬‬
‫الناس تحسدك دائما على شيء ل يستحق الحسد‪ ,‬لن متاعهم هو سقط متاعك‪ .‬حتى على‬
‫الغربة يحسدونك‪ ,‬كأنما التشرد مكسب وعليك أن تدفع ضريبته نقدا وحقدا‪ ,‬وأنا رجل يحب‬
‫أن يدفع ليخسر صديقا‪ .‬يعنيني كثيرا أن أختبر الناس وأعرف كم أساوي في بورصة‬
‫نخاستهم العاطفية‪ .‬البعض تبدو لك صداقته ثمينة وهو جاهز ليتخلى عنك مقابل ‪500‬‬
‫فرنك يكسبها من مقال يشتمك فيه‪ ,‬وآخر يستدين منك مبلغا ل يحتاجه وإنما يغتبط لحرمانك‬
‫منه‪ ,‬وآخر أصبح عدوك لفرط ما أحسنت إليه " ثمة خدمات كبيرة إلى الحد الذي ل يمكن‬
‫الرد عليها بغير نكران الجميل"‪ .‬ولذا ل بد أن تعذر من تنكر لك‪ ,‬ماذا تستطيع ضد النفس‬
‫البشرية؟‬
‫‪ -‬وكيف تعيش بدون أصدقاء؟‬
‫‪ -‬ل حاجة لي إليهم‪ ..‬أصبح همي العثور على أعداء كبار أكبر بهم‪ .‬تلك الضفادع الصغيرة‬
‫التي تنقنق تحت نافذتك وتستدرجك إلى منازلتها في مستنقع‪ ,‬أصغر من أن تكون صالحة‬
‫للعداوة‪ .‬لكنها تشوش عليك وتمنعك من العمل‪ ..‬وتعكر عليك حياتك‪ .‬إنه زمن حقير‪ ,‬حتى‬
‫قامات العداء تقزمت‪ ,‬وهذا في حد ذاته مأساة بالنسبة لرجل مثلي حارب لثلث سنوات‬
‫جيوش فرنسا في الجبال‪ ..‬كيف تريدني أن أنازل اليوم ضآلة يترفع سيفك عن منازلتها؟‬
‫‪ -‬أنت إذن تعيش وحيدا؟‬
‫رد مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬أبدا‪ ..‬أنا موجود دائما لكل من يحتاجني‪ ,‬إني صديق الجميع ولكن ل صديق لي‪ .‬آخر‬
‫صديق فقدته كان شاعرا فلسطينيا توفي منذ سنوات في بيروت أثناء الجتياح السرائيلي‪.‬‬
‫لم أجد أحدا بعده ليشغل تلك المساحة الجميلة التي كان يملها داخلي‪ .‬معه مات شيء مني‪.‬‬
‫ما وجدت من يتطابق مع مزاجي ووجعي‪.‬‬
‫سكت قليلً ثم أضاف‪:‬‬
‫‪ -‬تدري؟ هذه أول مرة أتحدث فيها هكذا لحد‪ .‬لكأنك تذكرني به‪ .‬لقد كان في عمرك تقريبا‬
‫ووسيم هكذا مثلك‪ ,‬وكان شاعرا غير معروف ولكنه مذهل في انتقائه الكلمات‪ .‬عندما أغادر‬
‫المستشفى‪ ,‬سأطلعك على بعض قصائده‪ ..‬ما زالت في حوزتي‪.‬‬
‫قال فجأة كمن يعتذر‪:‬‬
‫‪ -‬قد أكون تحدثت كثيرا‪ ..‬عادة أنا ضنين في الكلم‪ ,‬فالرسامون حسب أحدهم " أبناء‬
‫الصمت"‪.‬‬
‫قلت وأنا أمازحه‪:‬‬
‫‪ -‬ل تهتم‪ ..‬فالمصورون أبناء الصبر‪!..‬‬
‫قال وقد أضاءت وجهه ابتسامة‪:‬‬
‫‪ -‬جميل هذا‪ ..‬يا إلهي‪ ..‬أنت تتكلم مثله!‬
‫كدت أقول له " طبعا‪ ..‬لن رجال تلك المرأة جميعهم يتشابهون" لكنني لم أقل شيئا‪ .‬وقفت‬
‫لودعه‪ .‬ضمني بحرارة إليه‪ ,‬وسألني‪:‬‬
‫‪ -‬متى ستنشر هذه المقابلة؟‬
‫أجبته بمحبة‪:‬‬
‫‪ -‬لم تنته بعد لتنشر‪ ..‬لقاءاتنا ستتكرر إن شئت‪ ,‬فأنا أريد عملً عميقا يحيط بكل شخصيتك‪.‬‬
‫قال مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬ل تقل لي إنك ستعد كتابا عني‪ ..‬ما التقيت بكاتب إل وأغريته بأن يلملم أشلء ذاكرتي في‬
‫كتاب!‬
‫استنتجت أنه يعنيها‪ .‬قلت‪:‬‬
‫‪ -‬ل ‪ ,‬أنا لست كاتبا‪ .‬الكتابة تكفين الوقت بالورق البيض‪ ..‬أنا مصور‪ ,‬مهنتي الحتفاظ‬
‫بجثة الوقت‪ ,‬تثبيت اللحظة‪ ..‬كما تثبت فراشة على لوحة‪.‬‬
‫قال وهو يرافقني نحو الباب‪:‬‬
‫‪ -‬في الحالتين‪ ..‬أنت ل تكفن سوى نفسك بذا أو ذاك‪.‬‬
‫ثم واصل كمن تذكر شيئا‪:‬‬
‫‪ -‬ل تنس أن تأتيني في المرة المقبلة بالصورة التي حصلت بها على جائزة‪ .‬لقد أخبرتني‬
‫فرانسواز أنك مصور كبير‪.‬‬
‫كأنني بدأت أشبهه‪ ,‬لم أعلق على صفة "كبير" سوى بابتسامة نصفها تهكم‪.‬‬
‫تركته للبياض‪ .‬وغادرت المستشفى مليئا بذلك الكم المذهل من اللوان‪.‬‬

‫عندما عادت فرانسواز إلى البيت‪ ,‬وجدتني أعيد الستماع إلى تسجيل حوارنا‪.‬‬
‫سألتني إن كنت أفرغ الشريط قصد كتابة المقال‪ .‬أجبتها أنني أفرغه لمتل به‪ .‬فلم يكن في‬
‫الواقع في نيتي أن أكتب أي مقال‪ .‬ول توقعت يومها أنني ‪ ,‬كمن سبقني إلى ذلك الرجل‪,‬‬
‫سأرتق أسمال ثوب ذاكرته في كتاب!‬

‫***‬

‫دفع واحدة‪ ,‬قررت الحياة أن تغدق عليك بتلك المصادفات المفجعة في سخائها‪ ,‬حد إرعابك‬
‫من سعادة لم تحسب لها حسابا‪ .‬لم أكن أصدق لقائي بزيان حتى كنت في اليوم التالي أتعرف‬
‫على ناصر‪.‬‬
‫أكان في المر وما سيليه من مصادفات أخرى‪ ..‬مصادفة حقا؟‬
‫" المصادفة هي المضاء الذي يوقع به ال مشيئته"‪ .‬ومشيئته هي ما نسميه قدرا‪.‬‬
‫وكان في تقاطع أقدارنا في تلك النقطة من العالم أمر مذهل في تزامنه‪ .‬لن أعرف يوما إن‬
‫كان هبة من الحياة أو مقلبا من مقالبها‪.‬‬
‫كل ما أدريه أنني مذ غادرت الجزائر ما عدت ذلك الصحافي ول المصور الذي كنته‪ .‬أصبحت‬
‫بطلً في رواية‪ ,‬أو في فيلم سينمائي يعيش على أهبة مباغتة؟ جاهزا لمر ما‪ ..‬لفرح طارئ‬
‫أو لفاجعة مرتقبة‪.‬‬

‫نحن من بعثرتهم قسنطينة‪ ,‬ها نحن نتواعد في عواصم الحزن وضواحي الخوف الباريسي‪.‬‬
‫حتى من قبل أن نلتقي حزنت من أجل ناصر‪ ,‬من أجل اسم أكبر من أن يقيم ضيفا في‬
‫ضواحي التاريخ‪ ,‬لن أباه لم يورثه شيئا عدا اسمه‪ ,‬ولن البعض صنع من الوطن ملكا‬
‫عقاريا لولده‪ ,‬وأدار البلد كما يدير مزرعة عائلية تربي في خرائبها القتلة‪ ,‬بينما يتشرد‬
‫شرفاء الوطن في المنافي‪.‬‬
‫ل كان لقائي به‪ ,‬وضمة منه احتضنت فيها التاريخ‬
‫جميل ناصر‪ .‬كما تصورته كان‪ .‬وجمي ً‬
‫والحب معا‪ ,‬فقد كان نصفه سي الطاهر ونصفه حياة‪.‬‬
‫بدا مراد أسعدنا‪ .‬كان يحب لم شمل الصدقاء‪ .‬وكان دائم البحث عن مناسبة يحتفي فيها‬
‫بالحياة‪.‬‬
‫كانت شقته على بساطتها مؤثثة بدفء من استعاض بالثاث الجميل عن خسارة ما‪ ,‬ومن‬
‫استعان بالموسيقى القسنطينية ليغطي على نواح داخلي ل يتوقف‪.‬‬
‫سألته متعجبا‪:‬‬
‫‪ -‬متى استطعت أن تفعل كل هذا؟‬
‫رد مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬أثناء انشغالك بالمعارض التشكيلية!‬
‫فهمت ما يقصد‪.‬‬
‫‪ -‬والغاني القسنطينية‪ ,‬من أين أحضرتها؟‬
‫‪ -‬اشتريتها من هنا‪ .‬تجد في السواق كل الغاني من الشيخ ريمون وسيمون تمار حتى‬
‫الفرقاني‪ .‬يهود قسنطينة ينتجون في فرنسا معظم هذه الشرطة‪.‬‬
‫رحت أسأل ناصر عن أخباره وعن سفره من ألمانيا إلى باريس إن كان وجد فيه مشقة‪.‬‬
‫رد مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬كانت السئلة أطول من المسافة! ثم أضاف‪ :‬أقصد الهانات المهذبة التي تقدم إليك من‬
‫المطارات على شكل أسئلة‪.‬‬
‫قال مراد مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬واش تدير يا خويا‪ " ..‬وجه الخروف معروف!"‬
‫رد ناصر‪:‬‬
‫‪ -‬معروف بماذا؟بأنه الذئب؟‬
‫أجاب مراد‪:‬‬
‫‪ -‬إن لم تكن الذئب‪ ,‬فالذئاب كثيرة هذه اليام‪ .‬ول أدري سببا لغضبك‪ .‬هنا على القل ل‬
‫خوف عليك ما دمت بريئا‪ .‬ول تشكل خطرا على الخرين‪ .‬أما عندنا فحتى البريء ل يضمن‬
‫سلمته!‬
‫رد ناصر متذمرا‪:‬‬
‫‪ -‬نحن نفاضل بين موت وآخر‪ ,‬وذا وآخر‪ ,‬ل غير‪ .‬في الجزائر يبحثون عنك لتصفيتك‬
‫جسديا‪ .‬عذابك يدوم زمن اختراق رصاصة‪ .‬في أوربا بذريعة إنقاذك من القتلة يقتلونك عريا‬
‫كل لحظة‪ ,‬ويطيل من عذابك أن العري ل يقتل بل يجردك من حميميتك ويغتالك مهانة‪ .‬تشعر‬
‫أنك تمشي بين الناس وتقيم بينهم لكنك لن تكون منهم‪ ,‬أنت عار ومكشوف بين الناس بسبب‬
‫اسمك‪ ,‬وسحنتك ودينك‪ .‬ل خصوصية لك برغم أنك في بلد حر‪ .‬أنت تحب وتعمل وتسافر‬
‫وتنفق بشهادة الكاميرات وأجهزة التنصت وملفات الستخبارات‪.‬‬
‫قال مراد‪:‬‬
‫‪ -‬وهذا يحدث لك أيضا في بلدك‪.‬‬
‫وكما لينهي الجدل وقف ليسألنا‪:‬‬
‫‪ -‬واش تحبوا تاكلوا يا جماعة؟‬
‫سعدت بالسؤال‪ .‬ل لجوعي‪ ,‬وإنما رغبة في تغيير نقاش ل يصلح بداية لجلسة‪.‬‬
‫ضحكت في أعماقي لما ينتظر ناصر المسكين من مجادلت ومشاكسات يومية مع مراد الذي‬
‫أقصى تضحية قد يقوم بها إكراما لضيفه‪ :‬امتناعه عن تناول الكحول في حضرته‪ .‬وقبل أن‬
‫نجيبه قصد مراد المطبخ وعاد بصحن من الصومون وآخر من الجبان والمخللت‪ .‬قال وهو‬
‫يضعها على الطاولة‪:‬‬
‫‪ -‬هزوا قلبكم‪ ..‬قبل العشاء‪.‬‬
‫اقترحت أن نطلب بيتزا إلى البيت حتى ل نتحول إلى فئران بيضاء في مختبر مراد للطبخ‪.‬‬
‫قال ناصر ممنيا نفسه بوليمة‪:‬‬
‫‪ -‬عندما تأتي امّا ستعد لنا أطباق قسنطينية تغير مذاق الهمبرغر الماني في فمي‪ ..‬كم‬
‫اشتقت لكلنا‪..‬‬
‫رد عليه مراد مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬دعك يا رجل من الطبخ الجزائري وإل أصبحت حقا إرهابيا‪.‬‬
‫مواصلً بمزاح‪:‬‬
‫‪ -‬أتدري أنه قد صدر كتاب مؤخرا في أمريكا يثبت علقة بعض أنواع الكل بالنزعات‬
‫الجرامية‪ ..‬لو اطلع عليه مسؤولونا لوجدوا أنه من واجب الحكومة أن تتدخل بعد الن في‬
‫ما يأكله الجزائريون بذريعة أن الرهاب عندنا يتغذى أولً من المطبخ الجزائري‪.‬‬
‫ونظرا لنبرته الجادة سألته‪:‬‬
‫‪ -‬أحقا ما تقول؟‬
‫أجاب‪:‬‬
‫‪ -‬طبعا‪ ..‬أرأيتم شعبا مهووسا بأكل الرؤوس " المشوشطة" مثل الشعب الجزائري؟ حتى في‬
‫فرنسا ما تكاد تسأل جزائريا ماذا تريد أن تأكل حتى يطالبك " ببزلوف"‪ .‬ترى الجميع وقوفا‬
‫لدى جزار اللحم الحلل ليفوز برأس مشوي لخروف‪ ..‬أو رأسين يعود بهما إلى البيت‪ ,‬وإن‬
‫لم يجده أصبح طبقه المفضل لوبيا " بالكراوع"‪ .‬وال لو أن غاندي نفسه اتبع لشهر واحد‬
‫ريجيم المطبخ الجزائري المعاصر وتغذى " بوزلوف" وتعشى " كراوع" لباع عصاه ومعزاه‬
‫واشترى كلشينكوف!‬
‫ضحكنا كثيرا لكلم مراد‪ .‬قاتله ال‪ .‬يا لجمال روحه المرحة‪ .‬إنه نموذج لشعب أنقذته‬
‫سخريته من الموت‪.‬‬
‫قلت مواصلً جدله المازح‪:‬‬
‫‪ -‬ربما بسبب استهلكنا الزائد للكراوع ل نفكر سوى بالهروب ومغادرة الجزائر نحو أية‬
‫وجهة‪.‬‬
‫قاطعني مستشهدا بمثل قسنطيني‪:‬‬
‫‪ -‬وبسبب إقبالنا على "بوزلوف" أصبحنا " مثل الراس المشوشط‪ ..‬ما فينا فير اللسان"!‬

‫حين جاء ( ساعي البيتزا) يوصل ما طلبناه بالهاتف‪ ,‬بذريعة علقة الكل الجزائري‬
‫بالنزعات الجرامية‪ .‬خاصة أن البيتزا ولدت في بلد المافيا‪ ,‬وهي بحكم جيناتها اليطالية‬
‫ليست بريئة إلى هذا الحد!‬
‫ذلك الفرح الجميل النادر الذي جمعنا‪ ,‬لم ينسني الموضوع الذي كان وحده يعنيني‪,‬‬
‫فاستدرجت ناصر إلى مزيد من الخبار قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬آن للحاجة أن تحضر‪ ,‬صعب على الذي تربى على ولئم المومة أن يرضى بشريحة‬
‫بيتزا‪ .‬وإن كان يعز على نفسي ما ستتحمله المسكينة في هذا العمر من عذاب السفر‪.‬‬
‫ثم واصلت سائل‪:‬‬
‫‪ -‬هل ستقيم هنا معك ؟‬
‫‪ -‬ل‪ ..‬ستسكن مع أختي في الفندق‪ .‬لكنها ستزورني هنا حتما‪ ..‬ل أدري بعد كيف ستتم‬
‫المور‪.‬‬
‫قال الشيء الوحيد الذي كنت أريد معرفته‪ .‬والباقي كان مجرد تفاصيل‪.‬‬

‫هي ستأتي إذن! وكيف لهذه المصادفات العنيفة في سخائها‪ ,‬أن تكتمل بدون مجيئها وبدون‬
‫شيء على ذلك القدر من صاعقة المفاجأة‪.‬‬
‫دخلت في حالة شرود‪ .‬رحت بعيدا أفكر في مصادفة قد تجمعني بها أو ذريعة تعطيها علما‬
‫بوجودي هنا‪.‬‬
‫كيف لي أن أعرف في أي فندق ستقيم؟ وإذا كان زوجها سيرافقها أم ل؟‬
‫كنت ل أزال أبحث عن طريقة أستدرج بها ناصر للحديث عن زوجها عساه يبوح ببعض‬
‫أخبارها‪ ,‬عندما لم يقاوم مراد شهوة شتمه وقال موجها الحديث إلى ناصر‪:‬‬
‫‪ -‬واش جاي معاها هذاك الرخيص؟‬
‫سألته بتغابٍ‪:‬‬
‫‪ -‬عمن تتحدث؟‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ -‬زوج أخته‪ ..‬إن النجوم ل ترفع وضيعا!‬
‫أجاب ناصر‪:‬‬
‫‪ -‬ل أظنه سيأتي‪ ..‬يخاف إذا زار فرنسا أن يطالب أقارب بعض الضحايا السلطات الفرنسية‬
‫بمنعه من العودة إلى الجزائر‪ ,‬ومحاكمته كمجرم حرب نظرا لجلسات التعذيب التي أشرف‬
‫عليها‪ ,‬وبعض الغتيالت التي تمت بأمر منه‪ .‬وحدهم أولده يسافرون لمتابعة أعماله في‬
‫الخارج‪.‬‬
‫أشعل مراد سيجارة عصبية وقال بتذمر‪:‬‬
‫‪ -‬الحرب استثمار جيد‪ ,‬كيف ل يثرون لو لم يكن لهم مدخول من الجثث ومصلحة في إبقاء‬
‫الخرين مشغولين عنهم بمواراة موتاهم‪ .‬فعندما ل تدور آلة الموت بأمرهم كانت تدور‬
‫لصالحهم‪ .‬فمن بربك الكثر إرهابا والكثر تدميرا لهذا الوطن‪ ..‬هم أم القتلة!‬
‫خفت أن يتعكر جو سهرتنا بخلفات في وجهات نظر ل أظنها جديدة على الرجلين‪ ,‬ولكن ما‬
‫كان الوقت مناسبا لها‪.‬‬
‫استفدت من فتح الموضوع لطرح على ناصر السؤال الذي كان يعنيني ويشغلني دائما‪..‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪ -‬اعذرني‪ ..‬ولكن ل أفهم كيف استطاعت أختك العيش مع هذا الرجل وكيف لم تطلب‬
‫الطلق منه حتى الن؟‬
‫رد ناصر بعد شيء من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬لن مثله ل يطلق بل يقتل‪.‬‬
‫عبرتني قشعريرة‪ .‬راح ذهني للحظات يستعرض كل سيناريوهات الموت المبيت‪ .‬يا إلهي‪..‬‬
‫أيمكن لشيء كهذا أن يحدث؟‬
‫أوصلتني أفكاري السوداوية إلى تذكر ضرورة عودتي إلى باريس‪ .‬نظرت إلى الساعة‪,‬‬
‫فوجئت بأنها الثانية عشرة إل ربعا‪ .‬وقفت مستعجلً الذهاب‪ .‬كنت أخاف قاطرات الضواحي‬
‫ل من مفاجآت‪ .‬لكن مراد نصحني بالبقاء لقضاء الليلة عنده‪ .‬وأغراني‬
‫وما تحمله لك لي ً‬
‫بسهرة قد ل تتكرر‪.‬‬
‫ترددت في قبول عرضه‪ .‬فكرت في فرانسواز التي لم أخبرها بعدم عودتي إلى البيت‪ .‬ثم‬
‫فكرت في أنني لم أحضر لوازمي معي‪ ...‬وأنه قد ل يكون من مكان لنومنا جميعا‪.‬‬
‫لكن مراد حسم ترددي قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬كل شيء كاين يا سيدي غير ما تخممش!‬
‫وجدت في قضائي ليلة مع ناصر‪ ,‬حدثا قد ل يتكرر فأنا لم أنس لحظة أنه أخ المرأة التي‬
‫أحب‪.‬‬
‫استأذنت مراد في إجراء مكالمة هاتفية‪ ,‬بدون أن أخبره أنني سأطلب فرانسواز‪ .‬لكنه بعد‬
‫ذلك‪ ,‬باغتني بخبث السؤال‪.‬‬
‫‪ -‬واش‪ ..‬قلتلها ماكش جاي؟‬
‫سألت بتغاب‪:‬‬
‫‪ -‬شكون؟‬
‫رد‪:‬‬
‫‪ " -‬اللبة" متاعك!‬
‫ل أدري كيف وجد في فرانسواز شيئا من اللبؤة‪ ..‬ربما بسبب شعرها الحمر أو ربما بسبب‬
‫ما رآه فيها من شراسة مثيرة‪.‬‬
‫قلت مغيرا الموضوع بطريقة مازحة‪:‬‬
‫‪ -‬أنا هارب يا خويا من أدغال الوطن‪ ..‬يرحم باباك إبعد عني " اللبات" والسود!‬
‫‪ -‬واش بيك وليت خواف‪ ..‬رانا هنا‪ ..‬نوريولهم الزنباع وين ينباع‪.‬‬
‫ل أدري لمن كان يريد أن يري "أين يباع الزنباع"‪ :‬للرهابيين‪ ..‬للعسكر‪ ..‬أم لفرانسواز‪..‬‬
‫أجبته مازحا لحسم الجدل‪:‬‬
‫‪ -‬وري زنباعك للي تحب‪ ..‬أنا يا خويا راجل خواف!‬
‫انضم إلينا ناصر مرتديا عباءة البيت‪ ,‬بعد أن انتهى من أداء صلة العشاء‪ .‬بدا كأنه أكبر من‬
‫عمره‪ .‬أحببت فيه طهارة تشع منه ل علقة لها بعباءته البيضاء‪.‬‬
‫مازال نقيا‪ ,‬لم تستطع الغربة أن تجعله يتعفن ويتلوث‪ .‬ول أصابته تشوهات المغتربين‪ .‬كان‬
‫معذبا بذنب وجوده خارج الجزائر‪ .‬يبدو مبعثرا على أرض الحرية‪ .‬لكنه لم يفقد رصانته ول‬
‫كان له كلم ناري‪ .‬كان يدافع عن قناعاته بصوت منخفض‪ .‬وأحيانا بصمته‪ .‬سأل‪:‬‬
‫‪ -‬عم تتحدثان؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أقول له إنني خواف‪ .‬هل عيب في أن يخاف المرء؟‬
‫صمت ولم يرد‪ .‬شعرت أنني خيبت ظنه‪ .‬قلت كما لبرز له خوفي‪:‬‬
‫‪ -‬صدقني لفرط ما عشت مع عدو ل يرى‪ ,‬ما عاد الخوف يغادرني‪ .‬خاصة في الليل‪ .‬كلما‬
‫غادرت بيتي لرمي بكيس الزبالة‪ ,‬توقعت أن أحدا يتربص بي وأنا أنزل الطوابق المعتمة‬
‫للبناية‪ ..‬أو أن أحدا ينتظرني في ركن من الشارع لينقض علي‪ .‬ذلك أنني كل مرة أتذكر‬
‫سينمائيا كان يدعى علي التنكي‪ ,‬لم أكن أعرفه‪ ,‬لكنه أغتيل في الحي الذي أسكنه بينما كان‬
‫ذاهبا ليلً ليلقي بكيس الزبالة‪ .‬تصور أن ترتبط ذكرى شخص في ذهنك بالقمامة‪ ,‬بأعمار‬
‫موضوعة في أكياس الزبالة على الساعة العاشرة‪ ,‬كما ليجمعها زبال القدر‪ ,‬كان قد انتهى‬
‫لتوه من تصوير فيلم عنوانه " الفراشة لن تطير بعد الن"‪.‬‬
‫قاطعني مراد‪:‬‬
‫‪ -‬يرحم باباك‪ ..‬خلينا من هاذ الحكايات‪ ..‬على بالك وشحال في الساعة؟‬
‫نظرنا جميعنا إلى الساعة‪.‬‬
‫واصل‪:‬‬
‫‪ -‬راهي الوحدة‪ ..‬حبس يا راجل من " لي زافيرات متاع السريكات ولي زافيرات متاع‬
‫الكتيلتت" هاذي اللي كالوا فيها " جبت كط يوانسني ولى يبرك في عينيه!" قلنالك اقعد يا‬
‫راجل توانسنا‪ ..‬وليت تخوف فينا!‬
‫انفجرنا ضاحكين أنا وناصر كما لم نضحك من زمان‪.‬‬
‫لفظ مراد كلمه على طريقو ( المفتش الطاهر) وهو شخصية كوميدية شعبية توفي في‬
‫السبعينات‪ ,‬اشتهر على طريقة كولمبو بمعطفه المضاد للمطر وبدور رجل التحري المختص‬
‫في قضايا " السريكات " و " الكتيلت" أي السرقات‪ ..‬والجرائم‪ .‬وصنعت شهرته لهجته‬
‫المميزة في تحويل القاف "كافا" على طريقة أهل مدينة جيجل‪ .‬لفظا القلب "كلبا" وقال لي "‬
‫كالليً‪.‬‬
‫وكان مراد يستشهد بمثل شعبي معناه " جئت بالقط ليؤنسني فأخافني بعينيه اللتين تبرقان‬
‫في العتمة" بعد أن استبقاني لؤنسه فرحت حسب قوله أخيفه بأخبار القتلى الذين اغتيلوا‬
‫ل وهم يلقون كيس الزبالة!‬
‫لي ً‬
‫وكأنما أصابه ذعر العجائز من عواقب الفرح‪ ,‬قال ناصر وهو يستعيد جديته‪:‬‬
‫‪ -‬ال يجعلها خير‪ ..‬عندي بالزاف ما ضحكتش هكذا!‬
‫رد مراد متهكما‪:‬‬
‫‪ -‬ياوال مهابل‪ ..‬واحد خايف يموت وواحد خايف يضحك‪..‬‬
‫إضحك يا راجل آخرتها موت!‬

‫كان هذا شعارنا أيام " مازفران" ‪ .‬يوم كان يحاضر لقناعنا بالفرح كفعل مقاومة‪ .‬فبالنسبة‬
‫إليه مشكلتنا في الجزائر أن الناس ل وقت لديهم للحياة‪ .‬وهم مستغرقون في الستشهاد‪.‬‬
‫حتى أنهم في انشغالهم بالبحث عن ذريعة لموت جميل‪ ,‬نسوا لماذا هم يموتون‪ .‬بينما أثناء‬
‫انشغالنا نحن بالبقاء أحياء نسينا أن نحيا‪ .‬فل هؤلء هنئوا بموتهم ول نحن نعمنا بحياتنا‪.‬‬
‫حتما كان على حق‪ .‬كانت تنقصنا البهجة حتى صار ضروريا حسب قوله أن يؤسس المرء‬
‫خلية سرية لتعاطي الفرح سرا في بيته بصفته نشاطا محظورا لسنوات في الجزائر‪ .‬أذكر‬
‫ذلك الستاذ الذي روى لي كيف كان مرة جالسا في مقهى على رصيف الجامعة مع صديقين‬
‫يتجازبون أطراف الحديث ويضحكون‪ ,‬عندما توقف أمامهم رجلن في زي أفغاني وسألهم‬
‫بنبرة عدائية‪ " :‬ماذا يضحككم؟"‪ .‬ولم يشفع لهم إل أن تعرف أحدهما على أحد الجالسين‪ .‬ولم‬
‫يذهبا حتى أخذا منهم عهدا بأنهم " ما يزيدوش يعاودوا يضحكوا"!‬
‫عندما رويت تلك الحادثة الغريبة لمراد‪ ,‬وجد فيها ما يؤكد نظريته بأن الطغاة يجدون دائما‬
‫في فرح الرعية خرقا لقوانين القهر وتعديا على مؤسسة العسف‪ .‬ولذا إن أكبر معارضة لي‬
‫ديكتاتور في العالم هي أن تقرر أن تبتهج‪ .‬فأي دكتاتور يعز عليه أن يفرح الناس إن لم‬
‫يرتبط فرحهم بعيد ميلده أو ذكرى وصوله إلى الحكم‪.‬‬

‫كان مراد أثناء ذلك قد توجه إلى آلة التسجيل ووضع شريطا لغنية قسنطينية‪ .‬وقبل أن‬
‫نستجمع أفكارنا عل صوت تلك الغنية الراقصة التي كأنني ما نسيتها يوما‪ ,‬مع أنني لم‬
‫أستمع إليها منذ زمن بعيد‪ .‬أغنية من تلك الغاني التي تكاد تكون لها رائحة‪ ,‬ويكاد يكون‬
‫لها جسد‪ .‬جسد نساء شاهدتهن في طفولتك بشعرهن المنفلت يرقصن منخطفات حتى‬
‫الغماء في أثوابهن الجميلة المطرزة بخيوط الذهب‪.‬‬
‫وقف مراد‪ ,‬والسيجارة في طرف فمه‪ ,‬يرقص كأنه يراقص نفسه على موسيقى الزندالي‪.‬‬
‫رقصة ل تخلو من رصانة الرجولة وإغرائها‪ ,‬يتحرك نصفه العلى بكتفين يهتزان كأنهما‬
‫مع كل حركة يضبطان إيقاع التحدي الذي يسكنه‪ ,‬بينما يتماوج وسطه يمنة ويسرة ببطء‬
‫يفضح مزاج شهواته واليقاع السري لجسده‪.‬‬
‫بدا لي فجأة أجمل مما هو‪ .‬أجمل مما كان يوما‪ .‬وفهمت لماذا تشتهيه النساء‪.‬‬

‫ل أدري كيف أعادني رقصه إلى زوجها الذي شاهدته مرة على التلفزيون أثناء نقل حفل‬
‫مباشر‪.‬‬
‫كان بهيئة من يدعي الوقار يرتدي مهابته العسكرية‪ ,‬جالسا في الصفوف المامية مع أولئك‬
‫الذين هم أهم من أن يطربوا‪ ,‬مكتفين عندما تلتهب القاعة بصوت الفرقاني مرددا " أليف يا‬
‫سلطاني والهجران كواني" بجهد متواضع والتكرم على المغني بتصفيق رصين خشية أن‬
‫تتناثر من على أكتافهم نجومهم المثبتة بغراء هيبتهم الزائفة!‬
‫ل ل يتنتفض منتصبا في حضرة الطرب‪ ,‬هو حتما فاقد للقدرة على‬
‫أشفقت عليه‪ .‬إن رج ً‬
‫الرتعاش في حضرة النشوة!‬
‫شكرت يومها حضوره البارد في سريرها‪.‬‬

‫كان مراد أثناء ذلك يزداد وسامة كلما ازداد وقع الدفوف‪ .‬كأنما كانت الموسيقى تدق احتفاء‬
‫برجولته‪ .‬وكأن جسده في انتشائه يبتهل لشيء وحده يعرفه‪.‬‬
‫باسم ال نبدى كلمي‪...............‬قسمطينة هي غرامي‬
‫نتفكرك في منامـي‪...............‬إنتـي والوالديـــن‬
‫كانت الصوات والدفوف ترد على المغني مع نهاية كل بيت ( ال) وتمضي الغنية في ذكر‬
‫أحياء قسنطينة وأسواقها اسما اسما‪:‬‬
‫على السويقة نبكي وانّوح ‪.................‬رحبة الصوف قلبي مجروح‬
‫باب الـواد والقـنـطرة‪ ..................‬رحـتِ يا الزيـن خسـارة‬
‫ل ما سيكون قدرك معها‪ .‬تهديك شجىً‬
‫لكأنها تحيك لك مؤامرة‪ ,‬هذه الغنية التي مازلت جاه ً‬
‫يفضي بك إلى شجن‪ ,‬طربا يفضي بك إلى حزن‪ .‬تضعك أمام النطفاء الفجائي لمباهج صباك‪,‬‬
‫لنها تذكرك بوزر خساراتك‪.‬‬

‫أأراد مراد حقا إبهاجنا بأغنية‪ ,‬برغم إيقاعها الفرح‪ ,‬هي في وضعنا ذاك دعوة معلنة للبكاء؟‬
‫أو ربما نحن من فقدنا عادة الفرح‪ ,‬ولم نعد نصلح للنخراط في حزب البهجة الذي يدعونا‬
‫إليه عنوة!‬
‫عبثا حاول مراد استدراجنا لمراقصته احتفا ًء بمباهجنا المؤجلة‪ .‬انتهت سهرتنا كما بدأت‪,‬‬
‫بأحاسيس متناقضة تخفي خسارات لم ندر كيف نتدبر أمرها‪.‬‬
‫احترمت حزن ناصر المترفع عن الفشاء‪ .‬وعندما كان علي بعد ذلك أن أتقاسم معه غرفة‬
‫أصبحت للنوم‪ ,‬تركت له الريكة التي تحولت إلى سرير لشخصين ونمت على فراش أرضي‪.‬‬
‫كان له مقام التاريخ وسطوته‪ .‬وكنت رجل الشهوات الرضية والحزن المنخفض الذي نام‬
‫دوما عند أقدام قسنطينة‪.‬‬

‫***‬

‫صباح الضواحي الباردة‪ ,‬وأنت عابر سرير حيث نمت‪ ,‬وقلبك الذي استيقظ مقلوبا رأسا على‬
‫عقب‪ ,‬كمزاج الكراسي المقلوبة فجرا على طاولت المقاهي الباريسية‪ ,‬ينتظر من يمسح‬
‫أرضه من خطى الذين مشوا بوحل أحذيتهم على أحلمك‪.‬‬
‫من يكنس رصيف حزنك من أوراق خريف العشاق؟‬
‫أكان لمزاجي علقة بليلة قضيتها على فراشٍ أرضي أتقلب بحثا عن جانب يغفو عليه أرقي؟‬
‫أنا الذي كنت أختبر أغرب المصادفات‪ ,‬أن أتقاسم غرفة نوم مع أخ امرأة حلمت أن أقضي‬
‫معها ليلة!‬
‫أيمكن أن تأخذ قسطا من النسيان عندما تنام أرضا على فراش الحرمان‪ ,‬تماما عند أقدام‬
‫ذاكرتك؟‬
‫أين أنجو من امرأة تطاردني حيث كنت؟ وماذا أتسلق للهروب منها ول جدران لسجنها؟‬

‫قبل النوم‪ ,‬واصلت الثرثرة قليلً مع ناصر‪ ,‬كما تتحدث النساء عندنا مع بعضهن البعض بين‬
‫طابقين‪.‬‬
‫في عتمة ما قبل النعاس‪ ,‬وبعد أن توقعته غفا‪ ,‬استدار ناصر صوب جهتي وسألني فجأة‪:‬‬
‫‪ -‬كيف تركت قسنطينة؟‬
‫شعرت أنه أجّل السؤال الهم‪ .‬خشية أن ينفضح به‪ ,‬أو كأنه أراد أن يغفو على ذكراها كما‬
‫يغفو غيره على ذكرى حبيبة!‬
‫أردت أن أدثره بشيء جميل‪ .‬لكن وجدتني أقول‪:‬‬
‫‪ -‬هي بخير‪ .‬لقد خلعت أخيرا حداد صالح باي‪ .‬ل ملءة في قسنطينة‪ .‬كلما ماتت عجوز‬
‫كفنت بمليتها وولد حجاب جديد مع صبية‪.‬‬
‫لم يقل شيئا‪ .‬ول أنا أضفت لحزننا مزيدا من الكلم‪ .‬أظنه غفا وهو يضم إلى صدره ملءة‬
‫أمه المضمخة برائحتها‪.‬‬

‫كنت أفكر وقتها في امرأة هي الوريثة الوحيدة لذلك الحداد الجميل‪ ,‬وأنزلق تحت فراش‬
‫غيابها‪.‬‬
‫سريري لم يخل منها‪ ,‬تلك التي بعد كل زيارة يتجدد عبقها‪ ,‬أخفي ثوبها كما نخفي‪ ,‬ليلة‬
‫العيد‪ ,‬ثيابنا تحت الوسادة‪ .‬أزور رائحتها‪ ..‬ويعودني في الوحدة قميص نومها‪.‬‬
‫عامان من الوفاء‪ ,‬لقميص نوم سرق كل عبق النوثة المعتقة في قارورة الجسد‪.‬‬
‫كنت أواظب على اشتهائها كل ليلة‪ .‬وأستيقظ‪ ,‬كل صباح‪ ,‬وعلى سريري آثار أحلم مخضبة‬
‫بها‪.‬‬
‫أستأتي إذن تلك التي تجيء بها مصادفة وتذهب بها أخرى؟‬
‫وأنا الذي لم يحدث أن التفت إلى الخلف‪ ,‬ول عدت إلى سلة المهملت بحثا عن شيء سبق‬
‫أن ألقيته فيها‪.‬‬
‫عشت أجمع بعضها في الخرين‪ ,‬أرمم ما تهشم مني بانكسارها‪.‬‬
‫وهأنذا أعثر على آخر حيلة لستدراجها إلى فخ المصادفة‪ ,‬بعد أن زودت ناصر ببطاقة عن‬
‫معرض زيان‪ ,‬واثقا تماما أنه سيحدثها عنه‪ ,‬خاصة بعدما أخبرته بمرضه وبيعه في هذا‬
‫المعرض آخر لوحاته‪.‬‬
‫قال ناصر متأثرا بالخبر‪:‬‬
‫‪ -‬كم يحزنني مرضه‪ ..‬مم يعاني؟‬
‫‪ -‬من السرطان‪ ..‬لكنه ل يدري‪.‬‬
‫قال متهكما‪:‬‬
‫‪ -‬مثله ل يدري؟! أنت حتمُا ل تعرفه جيدا‪ .‬لقد علم بأكثر مما كان يجب عليه أن يعرف‪.‬‬
‫‪ -‬منذ متى تعرفه؟‬
‫‪ -‬منذ زمن بعيد‪ ..‬كأنني عرفته دوما‪ .‬عرفته في صغري الول عندما كان يزورنا في تونس‬
‫بعد وفاة أبي‪ ,‬ثم أضعته بعض الوقت‪ ,‬وعدت فإلتقيت به في قسنطينة بمناسبة زفاف أختي‬
‫حياة‪ .‬ل أفهم حتى اليوم كيف قبل أن يحضر ذلك الزفاف‪ ..‬كانت المرة الوحيدة التي اختلفنا‬
‫فيها‪ ..‬لكن كان له دوما في قلبي شي ًء من ذكرى هيبة أبي‪.‬‬

‫عندما استيقظنا‪ ,‬ذهب ناصر ليأخذ حمامه الصباحي ويحلق ذقنه‪ .‬سألته مازحا ونحن نتناول‬
‫قهوة الصباح‪:‬‬
‫‪ -‬هل حلقت لحيتك خوفا من المضايقات؟‬
‫رد وهو يحرك قهوته بتأن‪:‬‬
‫‪ -‬ماكانت لي يوما لحية لحلقها‪ .‬أنا أحب قول المام علي رضي ال عنه " أفضل الزهد‬
‫إخفاءه"‪ .‬بعض اللحى عدة تنكرية‪ ,‬كتلك اللحية التي حكمتنا في السبعينات‪ .‬أنت حتما تعرف‬
‫صاحبها‪ ,‬فقصته معروفة لدى رجال جيله الذين يروون أنه يوم كان شابا تلقى ضربة‬
‫بالموسى في وجهه في أحد مواخير قسنطينة‪ ,‬فأخفاها منذ ذلك الحين بلحية غطت عاره‬
‫بهيبة‪.‬‬
‫سألني بعد ذلك عن عنوان المستشفى الذي يتعالج فيه زيان‪ ,‬وقال متأسفا إنه كان يتمنى أن‬
‫يذهب ليعوده اليوم‪ ..‬لول أنه مشغول باستقبال والدته وأخته‪.‬‬
‫هكذا ‪ ,‬وقد نصبت فخاخ المصادفة في كل مكان‪ ,‬كان علي بعد الن أن أنتظر مجيئها بصبر‬
‫صياد‪ ,‬أو بصبر مصور ينتظر ساعات ليصطاد صورة‪ .‬فالصورة كما المرأة‪ ,‬ل تمنح نفسها‬
‫إل لعاشق جاهز أن يبذر في انتظارها ما شاءت من العمر‪.‬‬
‫عدت إلى البيت سعيدا‪ ,‬فمراد من النوع الذي تسعد عندما تلتقي به‪ ,‬وتسعد أيضا عندما‬
‫تفارقه وتعود إلى سكينتك‪.‬‬
‫غير أنني لم أعد إلى سكينتي خالي اليدين‪ .‬استعرت منه شريطين‪ :‬ذاك الذي رقص عليه‪,‬‬
‫وآخر كنت أنوي البكاء عليه‪ .‬اعتاد الحزن عندي أن يرافق كل فرحة‪ ,‬كما يصاحب فنجان‬
‫القهوة كوب الماء المجاني الذي يقدمه لك نادل عندما تطلب قهوة في فرنسا‪.‬‬
‫احتفت فرانسواز بعودتي‪ .‬شعرت أنها افتقدتني‪.‬‬
‫سألتني عن مراد‪ .‬قلت لها إنه هايص وحايص كعادته‪ .‬ضحكت‪:‬‬
‫‪..Il est marrant ce type -‬‬
‫وأن يكون هذا الرجل "طريفا" أو "لطيفا" حسب قولها‪ ,‬لم يكن ليثير شكوكي بعد‪ .‬في الواقع‪,‬‬
‫كنت دائم التفكير في إحكام فخاخ المصادفة‪.‬‬
‫قلت حتى أهيئها لتواجدي المكثف بعد الن أكثر في قاعة المعرض‪:‬‬
‫‪ -‬هل من إزعاج إن ترددت هذين اليومين على الرواق؟ إنني أحتاج أن أرى اللوحات‪ ,‬وأن‬
‫ألتقي بزوار المعرض لكتب عن زيان بطريقة أكثر حيوية‪.‬‬
‫‪ -‬فكرة جميلة‪ ..‬طبعا ل إزعاج في ذلك‪ .‬كارول تجدك لطيفا‪ ,‬وسألتني عنك البارحة‪.‬‬
‫‪ -‬حقا؟ بأية مناسبة؟‬
‫‪ -‬أخبرتها أنني قد أسافر في نهاية السبوع إلى جنوب فرنسا لزور والدتي‪ .‬سألتني إن‬
‫كنت ستسافر معي فأجبتها أنك على الرجح لن تأتي‪.‬‬
‫برغم أنني ما كنت رافقتها‪ ,‬لو عرضت علي ذلك‪ ,‬مفوتا علي فرصة لقائي بحياة‪ ,‬آلمني أن‬
‫تزف لي الخبر بتلك الطريقة‪.‬‬
‫ثم عدت وعذرتها‪ ,‬فأنا أقيم معها منذ بضعة أيام فقط‪ ,‬وهذا ل يعطيني حق ملحقتها‬
‫وإحراجها أمام والدتها‪.‬‬

‫اتجهت فرانسواز نحو طاولة ركن في الصالون‪ ,‬عليها صور مختلفة الحجام ‪ ,‬وعادت‬
‫بواحدة لسيدة ستينية‪ ,‬قالت وهي تريني إياها‪:‬‬
‫‪ -‬إنها ماما‪ ..‬أعز مخلوق عندي‪ .‬أتردد عليها كثيرا لمواساتها منذ فقدت أبي في السنة‬
‫الماضية‪.‬‬
‫‪ -‬يؤسفني ذلك‪.‬‬
‫أخذت منها الصورة‪ .‬تأملتها بمحبة ثم استطردت‪:‬‬
‫‪ -‬هي أجمل من أن تطوقي ابتسامتها بهذا البرواز الفضي الضخم‪.‬‬
‫‪ -‬أحبه‪ ..‬قديم وثمين‪ .‬اشتريته قبل سنتين من سوق البراغيث‪.‬‬
‫‪ -‬ربما كان ثمينا لكنه ل يليق بها‪ .‬الناس الذين نحبهم ل يحتاجون إلى تأطير صورهم في‬
‫براويز غالية‪ .‬إهانة أن يشغلنا الطار عن النظر إليهم ويحول بيننا وبينهم‪ .‬الطار ل يزيد‬
‫من قيمة صورة لنها ليست لوحة فنية وإنما ذكرى عاطفية‪ ,‬لذا هو يشوش علقتنا‬
‫الوجدانية بهم ويعبث بذاكرتنا‪ .‬الجميل أن تبقى صورهم كما كانت فينا عارية إل من شفافية‬
‫الزجاج‪.‬‬
‫صمتت فرانسواز مأخوذة بكلمي‪ ,‬ثم قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ربما كنت على حق‪ .‬هذا المنطق ل يدركه إل مصور‪.‬‬
‫صححت لها‪:‬‬
‫‪ -‬أو محب!‬
‫ثم واصلت واجدا في اقتناعها مناسبة للتفاتة جميلة‪:‬‬
‫‪ -‬أتسمحين أن أهديك بروازا لهذه الصورة‪ .‬إن كانت العز عندك‪ ,‬ميزيها بأل تضيفي إليها‬
‫شيئا‪.‬‬
‫طوقتني بذراعيها وقالت وهي تضع قبلة على خدي‪:‬‬
‫‪.Tu sais que je taime.. toi -‬‬
‫قلت مدعيا التعجب‪:‬‬
‫‪?C'est vrai ca -‬‬
‫كيف ترد علة امرأة تطوقك باعتراف في صيغة سؤال جميل " أتدري أنني أحبك؟" إل بسؤال‬
‫آخر " أحقا هذا؟" متفاديا أسئلة أخرى قد تفضي بك إلى السرير في وضح النهار مع امرأة‬
‫دائمة الشتعال‪.‬‬
‫قلت وأنا أداعبها‪:‬‬
‫‪ -‬أجلي أسئلتك إلى المساء‪ .‬سأجيب عنها واحدا‪ ..‬واحدا‪ .‬لكن بهدوء وبدون صراخ إذا‬
‫أمكن!‬
‫ضحكت وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬أيها اللعين‪ ..‬سأحاول!‬
‫‪ -‬سأزور زيان بعد الظهر‪ .‬لم أطمئن عليه منذ يومين‪.‬‬
‫‪ -‬حسن‪ ..‬فقد صدر مقال جيد عن معرضه سيسعده حتما الطلع عليه‪ .‬خذه إليه معك‪.‬‬
‫أخبره أيضا أن ثلثا من لوحاته بيعت البارحة‪ .‬كانت نهاية أسبوع مثمرة بالنسبة للرواق‪.‬‬
‫ثم أضافت‪:‬‬
‫‪ -‬لم أعد أدري أيجب أن أفرح أم أحزن عندما تباع له لوحة‪ .‬من ناحية يذهب ريعها في‬
‫عمل خيري‪ ..‬ومن ناحية أخرى أشعر كأنه يقوم بمجزرة تجاه أعماله بتصفيتها جميعها‬
‫خلل معرضين بينهما أقل من شهر‪ ..‬أنا لم أسمع بمذبحة فنية غريبة كهذه‪.‬‬
‫أجبتها وأنا أتنهد‪:‬‬
‫‪ -‬أتمنى أنه يعي ما يفعل!‬

‫***‬
‫كانت الساعة الثانية ظهرا عندما قصدته‪.‬‬
‫صادفت ممرضة غادرت غرفته‪ .‬سألتها عن وضعه الصحي‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬في تحسن‪.‬‬
‫ثم واصلت‪:‬‬
‫‪ -‬إن كنت من أقاربه أقنعه بعدم مغادرة المستشفى هذا السبوع‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا ؟ هل طالب هو بذلك؟‬
‫‪ -‬أجل‪ ..‬يريد أن يزور معرضه ويجمع لوحاته عند انتهاء المعرض‪ .‬لكن الطبيب يخشى أن‬
‫يتسبب هذا الجهد في انتكاس صحته‪ ..‬هل هو رسام؟‬
‫‪ -‬رسام كبير‪.‬‬
‫أريتها المجلة التي كنت أحملها في يدي عسى ذلك يمنحه حظوة خاصة لديهم‪.‬‬
‫قالت مكتفية برؤية صورته وعنوان المقال‪:‬‬
‫‪ -‬فعلً‪ ..‬يبدو كذلك‪ .‬يحتاج إذن لعناية أكثر‪ ,‬فالفنانون مفرطو الحساسية‪.‬‬
‫عندما دخلت عليه‪ ,‬أضاءت وجهه فرحة المفاجأة‪ .‬نهض من سريره يسلم علي بحرارة‪.‬‬
‫وجلس قبالتي على الكرسي الجلدي‪.‬‬
‫بادرني‪:‬‬
‫‪ -‬وَينك‪ ..‬حسبتك نسيتني!‬
‫‪ -‬طبعا ل‪ ..‬انشغلت ببعض المور‪.‬‬
‫لم أشأ أن أخبره بوجود ناصر في باريس‪ .‬وماكنت لخبره طبعا بوصول حياة ووالدتها‬
‫اليوم‪.‬‬
‫واصلت‪:‬‬
‫‪ -‬أراك اليوم أفضل‪ ..‬حتى الممرضة تجد صحتك في تحسن‪.‬‬
‫‪ -‬ربما‪ ..‬لكنني سأكون أحسن لو زرت المعرض‪ .‬أحب أن أرى لوحاتي مرة أخيرة قبل أن‬
‫تباع‪ ,‬وأن أجمع ما بقي منها‪.‬‬
‫مددته بالمجلة‪:‬‬
‫‪ -‬بالمناسبة أرسلت لك فرانسواز معي مقالً صدر في مجلة " سثزء" عن معرضك‪ .‬اطلعت‬
‫عليه في المترو‪ ..‬مقال جيد‪.‬‬
‫‪ -‬سأقرؤه لحقا‪.‬‬
‫قلت وأنا أبحث عن شيء آخر قد يسعده‪:‬‬
‫‪ -‬أحضرت لك أيضا الصورة التي منحوني جائزة عليها‪ ,‬وطلبت مني أن أحضرها لك‪.‬‬
‫دبت فيه حماسة مفاجئة‪ .‬أخذها مني‪ ,‬وراح يتأملها بعض الوقت‪:‬‬
‫‪ -‬مؤثرة حقا‪ .‬الموت فيها يجاور الحياة‪ ,‬أو كأنه يمتد إلى ما يبدو حياة برغم أنه ل يمثل‬
‫فيها سوى جثة كلب‪.‬‬
‫قاطعته‪ ,‬مستأذنا منه فتح المسجل حتى ل أفوت شيئا من حواراتنا‪.‬‬
‫أجاب بشيء من التعجب‪:‬‬
‫‪ -‬افعل إن شئت‪ ] .‬ثم واصل[ أفهم أن يكونوا منحوك جائزة على هذه الصورة‪ .‬في الحرب‬
‫يصبح موت حيوان موجعا في فجيعة موت إنسان‪ ,‬ككلب تجده ميتا مضروبا على رأسه‬
‫بالحجر بعد أن قتله الرهابيون ليتمكنوا من دخول بيتك‪ .‬جثته مشروع جثتك‪.‬‬
‫ثمة صورة تحضرني الن‪ ,‬هي منظر جثث الحيوانات التي كنا أيام حرب التحرير أثناء‬
‫اجتيازنا الحدود الجزائرية التونسية نصادف جثثها تكهربت وعلقت في السلك ‪ ,‬أثناء‬
‫محاولتها اجتياز خط موريس‪ ,‬أو تبعثرت أشلؤها وهي تمر فوق لغم‪ .‬دوما كنت أرى فيها‬
‫إحدى احتمالت موتي أو عطبي‪ .‬ولم يخطئ إحساسي إذ انفجر لغم وذهب يوما بذراعي‪.‬كل‬
‫جثث الكائنات التي كانت حية‪ ,‬تتشابه‪ .‬ولذا الذين يسرعون بدفن كلب أو قط ما كانوا‬
‫يسرعون لطعامه يوم كان حيا‪ .‬يفعلون ذلك لنهم يروا في جثته رفاتهم‪.‬‬
‫‪ -‬يسعدني رأيك‪ .‬عذبتني التأويلت الكثيرة لهذه الصورة‪ .‬خاصة من الصحافة الجزائرية‬
‫التي رأت بعضها أن فرنسا كرمت في هذه الصورة كلب الجزائر‪ ..‬ل موتاها‪.‬‬
‫أجابني مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬وهذا أيضا تأويل فيه صواب‪ .‬مع أن البعض ل يأخذ من التأويلت إل ما يضرك ‪ .‬لمتعة‬
‫إفساد فرحتك بالنجاح‪ .‬ولكنهم هنا يستندون إلى حقيقة أن النسان الغربي أكثر شفقة على‬
‫الحيوان منه على النسان‪ ,‬مما جعل المتسولين والمشردين يخرجون إلى التسول بصحبة‬
‫كلب وأحيانا كلبين‪ .‬تراهم جالسين على الرصفة مع كلبهم الضخمة النائمة أرضا بعدما‬
‫أدركوا أن الكلب شفيعهم لدى المارة‪ .‬سمعت أحدهم يقول مرة على التلفزيون إن الناس‬
‫يتصدقون على كلبه وليس عليه‪ ,‬وإن إحسانهم ليس رأفة به وإنما بكلبه‪ ,‬فقبله كان يموت‬
‫جوعا‪ .‬في بلد يحسن فيها النسان للحيوان ل لصاحبه‪ ,‬من المنطقي أن يكرم جثة كلب‪ ..‬ل‬
‫صورة طفل بائس جواره!‬
‫أصابتني حججه بحزن إضافي‪ .‬لكنها أضافت إلى إعجابي به انبهارا بمنطقه السليم في‬
‫التحليل وهو يقول بعد شيء من الصمت كأنه وقع على اكتشاف جديد‪:‬‬
‫‪ -‬ثمة مع السف احتمال آخر لختيارهم هذه الصورة ‪ ,‬إنها شهادة عن وفاة الثورة‬
‫الجزائرية‪ ,‬متمثلة في وحدة مصير النسان والكلب في الجزائر بعد سبع سنوات من‬
‫النضال‪ ,‬وأربعين سنة من الستقلل‪ .‬فيها إراحة للضمير الفرنسي وتشف مستتر‪.‬‬
‫قلت بنبرة أسىً قاطعا صمت حزن فاجأنا‪:‬‬
‫‪ -‬ما عاد يعنيني أن أعرف شيئا عن هذه الصورة‪ .‬بل كيف أتخلص من مال هذه الجائزة‬
‫بعمل يعود ريعه لضحايا الرهاب‪.‬‬
‫ثم أضفت وقد تذكرت شيئا‪:‬‬
‫‪ -‬بالمناسبة ‪ :‬ثلث من لوحاتك بيعت البارحة‪.‬‬
‫قال بسعادة‪:‬‬
‫‪ -‬جميل‪ ..‬ل أدري أيا منها بيعت‪ ..‬ل يهم‪ .‬أظنها ستباع جميعها‪.‬‬
‫قلت بعد شيء من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬ل أفهم أن يتخلى رسام عن كل لوحاته دفعة واحدة‪ .‬في هذا الفقدان الكامل والفوري‬
‫إشعار بالفاجعة وإصرار على الخسارة‪.‬‬
‫‪ -‬أتعتقد هذا؟‬
‫صمت حتى ظننت أنه لن يضيف شيئا‪ .‬لكنه واصل بدون توقف‪ ,‬وبحزن هاتف يرن طويلً‬
‫ول يرفعه أحد‪:‬‬
‫‪ -‬الفاجعة‪ ..‬أن تتخلى الشياء عنك‪ ,‬لنك لم تمتلك شجاعة التخلي عنها‪ .‬عليك أل تتفادى‬
‫خساراتك‪ .‬فأنت ل تغتني بأشياء ما لم تفقد أخرى‪ .‬إنه فن تقدير الخسائر التي ل بد منها‪.‬‬
‫ولذا‪ ,‬أنا كصديقي الذي كان يردد " ل متاع لي سوى خساراتي‪ .‬أما أرباحي فسقط‬
‫متاع"‪,‬أؤثر الخسارات الكبيرة على المكاسب الصغيرة‪ .‬أحب المجد الضائع مرة واحدة‪.‬‬
‫لو تدري كم من المور الغريبة كنت شاهدا عليها‪ .‬لو تدري لبلغت عمق رحم الحكمة‪.‬‬
‫صمت قليلً‪ ,‬ثم واصل‪:‬‬
‫ل في القاعة‪ ,‬حيث كان يعرض الرسام المغربي‬
‫‪ -‬في ‪ 16‬نوفمبر الماضي‪ ,‬شب حريق لي ً‬
‫المهدي القطبي أعماله في مدينة ( ليل)‪ .‬أنا ل أعرف هذا الرجل‪ .‬لكنه أصبح صديق فجائعي‬
‫عندما قرأت في الصحف أن معرضه ذاك كان يضم خلصة خمس وعشرين سنة من أعماله‬
‫الفنية‪.‬‬
‫ثلثون سنة قضاها في باريس مثابرا على إنجاز لوحات أخذت منه أجمل أعوام عمره‪ ,‬حرم‬
‫فيها نفسه من كل شيء لينجز معرضا بدل أن يحضره الزوار زارته النيران‪.‬‬
‫في هذه الحالة‪ ,‬قد تقول‪ ,‬ليت اللصوص هم الذين حضروا بدل النار‪ .‬ربما في المر عزاؤك‪.‬‬
‫هكذا عودتنا الخبار التي تنقل لنا بين الحين والخر سرقات لشهر اللوحات‪ .‬غير أن‬
‫السرقات كما الحريق‪ ,‬قسمة ونصيب‪ ,‬ل يحددها قدر اللوحات بل قدر أصحابها وشأنهم‪ ,‬ولذا‬
‫أنت لن تسمع يوما بنار التهمت لوحات بيكاسو أو فان غوغ‪ ..‬كما لن تسمع بسارق غامر‬
‫بسرقة لوحاتي!‬
‫قلت كمن يتمتم‪:‬‬
‫‪ -‬غريب هذا المر!‬
‫قال متهكما‪:‬‬
‫ثمة أقدار أكثر غرابة تذهب فبها اللوحات بنفسها إلى أعدائها وسارقيها‪ .‬اسمع هذه القصة‬
‫العجيبة‪ :‬لي صديق عراقي يقيم في أوربا منذ عشرين سنة‪ .‬رجل مهووس بالبصرة كهوسي‬
‫بقسنطينة‪ .‬ل يرسم إل مدينته‪ ,‬ل يتحدث إل عنها‪ .‬وكان لشهرته‪ ,‬يعرض الكثيرون عليه‬
‫شراء لوحاته تلك‪ .‬وعلى حاجته كان يرفض ويقول‪ " :‬إنني أحتفظ بها لذلك اليوم الذي‬
‫يتحرر فيه العراق من طغاته‪ ,‬فأهدي يومها لوحاتي إلى متحف البصرة‪ ,‬مكانها الحقيقي"‪.‬‬
‫ذات يوم زارته سيدة كويتية ثرية مشهورة بولعها باقتناء العمال الفنية وحبها لمساعدة‬
‫المبدعين العرب في المنافي‪ .‬وعبثا حاولت إغراءه بشراء لوحاته‪ ,‬غير أنه أمام خوفه أن‬
‫تتشرد لوحاته بعده‪ ,‬وثقة منه في تقدير تلك السيدة للفن‪ ,‬قبل عرضها في أن تحتفظ بها‬
‫وتبقى في حوزتها حتى "تتحرر البصرة" فتسلمها بنفسها إلى متحف المدينة‪.‬‬
‫غير أن الذي حدث ل يمكن حتى لسينمائي أن يتصوره‪ .‬بعد سنة من حيازتها اللوحات‪,‬‬
‫قامت جيوش صدام بغزو الكويت‪ ,‬وأثناء احتللهم قصرها وقعوا على لوحات الرسام‪,‬‬
‫فأخذوها غنيمة حرب إلى العراق حيث اختفت أخبارها مع المختفين والمخطوفين‪ .‬وربما‬
‫تكون أعدمت نيابة عن صاحبها المحكوم عليه بالعدام منذ عشرين سنة! أو ربما تكون‬
‫زينت قصور الطغاة أنفسهم‪ ,‬أو قد تكون بيعت بسعر رخيص في سوق الخردة‪ .‬فهكذا كان‬
‫يفعل النازيون الذين كانوا عندما يريدون إذلل رسام كبير يصادرون لوحاته ويبيعونها‬
‫بأسعار زهيدة ل تتجاوز أحيانا الثلثين ماركا!‬
‫كما ترى‪ ..‬ثمة حكمة ل تبلغها إل في عز وحدتك وغربتك‪ ,‬عندما تبلغ عمرا طاعنا في‬
‫الخسارة‪ .‬تلزمك خسارات كبيرة لتدرك قيمة ما بقي في حوزتك‪ ,‬لتهون عليك الفجائع‬
‫الصغيرة‪ .‬عندها تدرك أن السعادة إتقان فن الختزال‪ ,‬أن تقوم بفرز ما بإمكانك أن تتخلص‬
‫منه‪ ,‬وما يلزمك لما بقي من سفر‪ .‬وقتها تكتشف أن معظم الشياء التي تحيط بها نفسك‬
‫ليست ضرورية‪ ,‬بل هي حمل يثقلك‪ .‬ولنني وصلت إلى هذه القناعة قررت أن أبيع جميع‬
‫لوحاتي‪ .‬حتى اللوحة الحب إلى قلبي عرضتها للبيع‪ ,‬وضعت عليها إشارة توهم أنها‬
‫ل لها‪ .‬إنها الوحيدة التي‬
‫محجوزة‪ ,‬في الواقع‪ ,‬أنا حجزتها خشية أن يشتريها من ليس أه ً‬
‫يعنيني أ‪ ،‬أعرف لمن ستكون‪ .‬هل ستعلق على جدار قلب‪ ,‬أم على حائط بيت‪.‬‬
‫في النهاية‪ ,‬عندما تبدأ في الختزال تكتشف أن عمرك كله قد يختصر في إنجاز واحد‪ .‬أما‬
‫الكثر ألما‪ ,‬فأن تترك إنجاز عمرك لقريب ل يقدر قيمته‪ .‬يرثه منك بحكم صلة الدم ل صلة‬
‫الفن‪.‬‬
‫هل يجوز أن أترك أعمالي لبن أخي الرهابي‪ ,‬الذي قد يكون فنانون وكتاب قد قتلوا على‬
‫يده؟ إن من يقتل بشرا ل يؤتمن على شيء‪.‬‬
‫ثم فجأة صمت‪ ,‬ذلك الصمت الذي يحدث فيك أثرا أكثر من الكلمات‪.‬‬
‫ذهب بي التفكير وقتها بعيدا‪ .‬جمعت شجاعتي وقلت له‪:‬‬
‫‪ -‬أريد أن أشتري منك هذه اللوحة‪ ..‬هل تبيعني إياها؟‬
‫فوجئ بسؤالي‪ .‬أجاب بذكاء من عثر على مخرج‪:‬‬
‫‪ -‬ولكنك ل تدري عن أية لوحة أتكلم‪ .‬كيف أثق في حبك للوحة ل تعرفها!‬
‫أجبته‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أحب كل أعمالك‪ ..‬وهذه اللوحة خاصة‪ .‬وقفت أتأملها طويلً في المعرض ولم أفهم أن‬
‫تكون بعتها!‬
‫أصلح من جلسته‪ ,‬ثم قال بنبرة متعجبة‪:‬‬
‫‪ -‬تعرفها؟ كيف لك أن تعرفها؟ ثمة سبع عشرة لوحة من أعمالي عليها إشارة حمراء تقو‬
‫إنها بيعت!‬
‫أجبته بعناد جميل‪:‬‬
‫‪ -‬أل يشفع لي عندك أنني عرفتها من بين ‪ 17‬لوحة؟!‬
‫رد مستسلما وقد حشرته في المربع الخير‪:‬‬
‫‪ -‬إن دليتني عليها حقا‪ ..‬فهي لك!‬
‫ثم أضاف بعد صمت‪ ,‬كمن يريد أن يكون كبيرا في هزيمته‪:‬‬
‫‪ -‬أقصد‪ ..‬هي لك بدون مقابل!‬
‫‪ -‬بل مقابل كل ما بقي لي من مال تلك الجائزة‪.‬‬
‫ثم واصلت في محاولة لقناعه بمكاسبه‪:‬‬
‫‪ -‬صفقة جميلة‪ .‬أملك مالً أريد أن أتخلص منه في عمل خيري‪ ..‬وأنت تملك لوحة ل تدري‬
‫لمن تتركها‪ .‬بهذا تصنع سعادتنا نحن الثلثة‪ ,‬أنا ‪ ,‬وأنت ‪ ,‬والناس الذين سيذهب ريع هذه‬
‫اللوحة لهم‪.‬‬
‫ثم أضفت‪ ,‬وفكرة مجنونة تعبر ذهني‪:‬‬
‫‪ -‬وربما تصنع سعادة شخص رابع‪.‬‬
‫‪ -‬من؟‬
‫‪ -‬المرأة التي قد أهديها إياها!‬
‫غير أني استدركت خشية أن أجعله يعدل عن رأيه‪:‬‬
‫‪ -‬ل تخش على لوحتك‪ ..‬إنها سيدة الجسور‪ ..‬ككل نساء قسنطينة!‬
‫لعلي قلت له كل شيء دفعة واحدة‪ ,‬أو قلت أكثر مما يجب أن أقول في جلسة واحدة‪.‬‬
‫بدا لي للحظة حزينا‪ ,‬حزن محارب تخلت عنه زوجته وهو في الجبهة‪ ..‬ويعرف ذلك‪.‬‬
‫لكنه كان في مشهده ذاك‪ ,‬ذكيا كما ينبغي‪ ,‬متغابيا كما يليق‪ ,‬متهكما حتى لكأن حزنه يدافع‬
‫عن نفسه بالسخرية‪.‬‬
‫قال بصوت خافت الضاءة‪ ,‬كفنار بحري في ليل ممطر‪:‬‬
‫‪ -‬يا مغبون‪ ..‬ل تحب امرأة تحب الجسور‪ .‬الجسر ل يصلح لتعمر بمحاذاته بيتا‪ .‬هو ل‬
‫يصلح سقفا لمأواك‪ .‬أن تبني بيتا على طرف جسر‪ .‬كأن ترفع الكلفة بينك وبين الهاوية!‬
‫كان مريضا بحكمته المتهكمة حتى لكأنه يعاني منها‪.‬ذكيا ذكاء المرض الخير الذي يمنحك‬
‫فرصة التفكير‪ .‬يجعلك تتنبه لما لم تكن تراه من قبل‪.‬‬
‫ألن المرض يعيد النسان طفلً‪ .‬يستعيد المرض حدس الطفال في معرفة من يحبهم ومن‬
‫يكذب عليهم؟‬
‫كنت واثقا أنه أحبني منذ اللقاء الول‪ .‬لكن ماذا كان يعرف عني هذا الرجل المحتفي بي‬
‫كقريب أو صديق كما لو كان ينتظر مجيئي‪ ,‬هو الذي لم أصادف أحدا يعوده؟ حتما‪ ,‬هو لم‬
‫يصدق أعذاري الصحفية في طلب مقابلة‪ .‬لكن‪ ,‬كان يتحدث إلي كما لو كان يحادث صحفيا‬
‫حينا‪ ..‬وصديقا أحيانا أخرى‪ ,‬بدون أن يغفل أثناء ذلك الغريم الذي كان يتوجسه في‪.‬‬
‫سألته شبه معتذر‪:‬‬
‫‪ -‬إن كان يزعجك أن أهدي هذه اللوحة لشخص آخر سأحتفظ بها لنفسي‪.‬‬
‫ضحك متهكما‪ ,‬وقال ذلك الكلم الذي لم أختبر صدقه إل لحقا‪:‬‬
‫‪ -‬ل تهتم‪ ..‬حتى أن تكون اللوحة لك‪ ,‬فلست من يقرر قدرها‪ .‬أنت لست سوى يد في عمر‬
‫أشياء ستتناوب عليها أيد كثيرة‪ .‬كل شيء يغير يد صاحبه‪ ,‬وأحيانا يستبدلها بيد عدوه‪.‬‬
‫امرأتك‪ ,‬وظيفتك‪ ,‬بيتك‪ ,‬مقتنياتك‪ ,‬كل شيء لك سينتقل إلى غيرك شئت أم أبيت‪ .‬المهم أل‬
‫تدري بذلك‪ .‬ولذا عليك باكرا أن تتمرن على تقبل الخيانة‪.‬‬
‫ل ثم واصل وهو يحرك كتفه اليسر مشيرا إلى ذراعه المبتورة‪:‬‬
‫صمت قلي ً‬
‫‪ -‬عندما تهجرك أعضاؤك‪ ,‬وتتخلى عنك وهي من لحمك ودمك‪ ,‬عليك أل تعجب أن يتخلى‬
‫عنك حبيب أو قريب أو وطن‪ ..‬فما بالك بلوحة؟‬
‫شعرت كأنما الحزن رفعني إلى عمره‪ ,‬أنني شخت في لحظات‪ ,‬وأفلست وأنا أراه يستعرض‬
‫خساراته‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫ل على هذا القدر من الحكمة‪.‬‬
‫‪ -‬أحسدك‪ ..‬لم أعرف قبلك رج ً‬
‫رد بتهكمه الموجع‪:‬‬
‫‪ -‬سأجيبك بقول أحبه في الكتاب المقدس ‪ " :‬مادمت سأنتهي إلى مصير الجاهل‪ ..‬فلماذا‬
‫كنت حكيما؟"‬
‫كنت على وشك مغادرته حين ناداني لول مرة‪:‬‬
‫‪ -‬خالد‪...‬‬
‫ثم واصل ممازحا كمن ل يعنيه جوابك بقدر ما يعنيه أل تستخف بذكائه‪:‬‬
‫‪ -‬أما زال اسمك خالد؟‬
‫‪ -‬أحيانا‪..‬‬
‫‪ -‬وأحيانا أخرى‪..‬؟‬
‫قلت متهربا من سؤاله‪:‬‬
‫‪ -‬في معظم الحيان اسمي خالد بن طوبال‪ ..‬السم الذي يشبهني أكثر‪ ..‬في الواقع أخذته من‬
‫رواية‪.‬‬
‫ل كما ليوفر علي جهد البحث عن ذريعة‪:‬‬
‫وقبل أن أواصل‪ ,‬قاطعني قائ ً‬
‫‪ -‬أتدري لماذا انتحر خالد بن طوبال في رواية مالك حداد " رصيف الزهار لم يعد يجيب؟"‬
‫قلت معتذرا‪:‬‬
‫‪ -‬في الواقع‪ ,‬قرأت هذه الرواية منذ زمن بعيد ونسيت أحداثها‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ -‬رواية صغيرة من مائة صفحة‪ .‬ل يحدث فيها شيء تقريبا‪ ,‬عدا انتحار بطلها في آخر‬
‫الرواية‪ ,‬عندما علم أثناء وجوده في فرنسا من الجرائد‪ ,‬أن وريدة زوجته التي يعشقها‬
‫وقاوم من أجلها كل إغراءات مونيك‪ ,‬مستعجلً العودة إلى قسنطينة ليراها‪ ,‬هربت أثناء‬
‫غيابه مع أحد المظليين الفرنسيين‪ ,‬وانفضح أمرها عندما ماتت معه في حادث‪ .‬ولذا يلقي‬
‫خالد بنفسه من القطار‪ .‬شخص غيره كان فكر في طريقة أخرى للموت‪ ,‬لكن القسنطيني‬
‫الذي أمه صخرة وأبوه جسر‪ ,‬يولد بعاهة روحية‪ ,‬حاملً بذرة النتحار في جيناته‪ ,‬مسكونا‬
‫بشهوة القفز نحو العدم‪ ,‬وتلك الكآبة الهائلة التي تغريك بالستسلم للهاوية‪.‬‬
‫ليست الخيانة هي التي كانت سببا في موت خالد بن طوبال‪ ,‬إنما علمه بها‪ .‬كان عليه أل‬
‫يدري‪ ,‬غير أن خالد بن طوبال في كل الروايات يدري‪ ..‬لن وريدة التي ‪ ,‬حسب تعبير‬
‫مارغريت دوراس في إحدى رواياتها‪ ".‬عقدت قرانها على الريح" تخونه في كل رواية مع‬
‫مظلي جديد‪ .‬وفي كل الروايات يموت خالد مرتين‪ :‬مرة بسبب جيناته القسنطينية‪ ..‬ومرة‬
‫بذكائه!‬
‫ماذا كان علي أن أفهم من كلم رجل ينصب لك بين الكلمات فخاخ الصمت‪ ,‬وبين صمت‬
‫وصمت يهديك مفك تأويل اللغام‪.‬‬
‫سألني فجأة‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت قسنطيني؟‬
‫قلت كمن يعترف بخطيئة‪:‬‬
‫‪ -‬أجل‪..‬‬
‫‪ -‬ما دام ليس في إمكانك تغيير جيناتك‪ ..‬ل تحب امرأة تحب الجسور‪ .‬كل حب قسنطيني‬
‫يقف على حافة المنحدرات العاطفية‪.‬‬
‫يا لهذا الرجل‪ ..‬فقد غفلة الصحة‪ ,‬لكنه اكتسب فطنة المرض‪ .‬وعبثا حشرت حواسي للتقط‬
‫ما يمكن أن يشي بما جئته متقصيا إياه‪.‬‬
‫كرجال جيله‪ ,‬كان به ورع عاطفي‪ ,‬هو لن يكاشفني‪ ,‬ول أنا سأسأله عنها‪.‬‬
‫ربما يكون تعرف علي بذكاء القلب وحدسه‪ .‬لكننا منذ البدء جعلنا التغابي بيننا ميثاق ذكاء‪,‬‬
‫أو ميثاق كبرياء‪.‬‬
‫كنت سعيدا بما ل أعرفه عنه‪ ,‬سعادتي بما لن يعرفه عني‪.‬‬
‫كنا هناك‪ ,‬لن كلنا خالد بن طوبال‪ ,‬وهذا المر‪ ,‬الوحيد الذي كان كلنا يعرفه‪.‬‬
‫ما كدت أعود إلى البيت‪ ,‬حتى اتصلت بمراد متذرعا بالطمئنان على وصول أم ناصر‬
‫وسلمتها‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ -‬وصلت ظهرا صحبة أخته‪ ,‬وناصر سيبقى لقضاء المسية معهما‪.‬‬
‫تنفست الصعداء‪ .‬سألني بعد ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬متى نراك؟‬
‫وجدتني فجأة على عجل‪ .‬قلت له شبه معتذر‪:‬‬
‫‪ -‬سأكون مشغولً هذه اليام‪.‬‬
‫ثم أضفت‪:‬‬
‫‪ -‬الحالة مخلّطة شوية‪.‬‬
‫ودعني مراد مازحا أو ناصحا وهو يقول‪:‬‬
‫‪ " -‬خلها تصفى"‪.‬‬
‫طبعا ما كان يدري أنها كانت " مخلّطة بكراع كلب"‪ .‬ول مجال لزيد عليها خلطة أخرى!‬

‫كان السؤال الول‪ :‬كيف بإمكاني بعد الن وبالقدر الدنى من الضرار ومن الشبهات‪ ,‬أن‬
‫أدير علقات متداخلة متشابكة مع بعضها البعض‪ ,‬خلقتها مصادفة تواجدنا جميعا في‬
‫باريس‪ ,‬حتى أصبحت تحتاج إلى شرطي القدر لتفادي حوادث سير المصادفات!‬
‫فبقدر إصراري على رؤية حياة‪ ,‬كنت ل أريد أن أفقد احترام ناصر‪ ,‬ول أن أثير شكوك زيان‬
‫أو أسبب ألمه‪ ,‬ول أن أخسر علقة جميلة تجمعني بفرانسواز‪.‬‬
‫ثمة أيضا مصيبة الدخول في مدار حب محفوف بالمخاطر والمجازفات‪ ,‬مع امرأة تلحقها‬
‫دائما فتنة الشائعات‪ ,‬وتسبقها حيث حلت عيون المخبرين وأجهزة التنصت‪ .‬وأنت دوما‬
‫خائف عليها منها‪ ..‬خائف منها عليك!‬
‫أن تحب امرأة يحكم زوجها بلدا‪ ,‬بماله ومخبريه‪ ,‬يا لغواياتك الجميلة المكلفة‪ ..‬يا لجنونك يا‬
‫رجل!‬
‫لم أستطع ليلتها معاشرة فرانسواز‪ .‬كان جسدي سبقني وراح يبحث عنها في عناوين‬
‫الفنادق‪ .‬كيف لي أن أنام وأنا بكامل ترقبي‪ ,‬كأني ما خلعت يوما انتظارها‪ .‬أكنت أفتقدها‬
‫لقاصص نفسي باشتياقها بعد أن عذبني المتلك المؤقت لها؟‬
‫وأنا الذي أعلم أنها ما عادت لتبقى‪ ,‬وأنني لن أمتلك منها هذه المرة أيضا إل غبار السفر‪.‬‬
‫لماذا تراني على عجل؟‬
‫***‬

‫استيقظت في الصباح بمزاج جميل‪.‬‬


‫قررت أن أذيب الفرحة في فنجان قهوة‪ ,‬أن أبدأ النهار بإقامة علقة جميلة وكسولة مع‬
‫الحياة‪ ,‬أن أفك ربطة عنق الوقت‪ ,‬وأترك قميصي مفتوحا لرياح المصادفة‪.‬‬
‫قصدت المعرض في حدود الثانية عشرة‪ ,‬واثقا أنها لن تغادر الفندق باكرا‪ ,‬نظرا لعادتها‬
‫الصباحية الكسولة‪.‬‬
‫منت أشك أن تحضر يومها‪.‬كان اليوم الول لوجودها في باريس‪ ,‬ولم يكن من الطبيعي أن‬
‫تأتي إلى الرواق لمشاهدة معرض خالد‪ ,‬حال خروجها إلى المدينة‪ .‬لكن‪ ,‬لم أكن أريد أن‬
‫أفوت أي احتمال لمرورها‪.‬‬
‫ل على كرسي الوقت‪ ,‬في مخادعة الزمن خشية انفراط حبات‬
‫كنت مستعدا أن أجلس طوي ً‬
‫مسبحة الصبر‪ .‬ل أرتجي ثوابا غير لهفة القبلة الولى‪.‬‬
‫أحب ذلك التبذير الجميل في الحب‪ .‬بي ولع بكل أنواع الهدر الجنوني‪ ,‬عندما يتعلق المر‬
‫بغاية عاطفية‪.‬‬
‫وكنت قبل كل هذا رجلً طاعنا في الصبر‪ ,‬بحكم مهنتي‪.‬‬

‫أوحدي كنت أنتظرها تائها بين تلك اللوحات؟ خطر لي أننا كنا ننتظرها معا‪ ..‬أنا ولوحاته‪.‬‬
‫أنا وهو‪ .‬وهذه أيضا مصادفة عجيبة أخرى‪.‬‬
‫كأنما الحياة تفكك نسيج قصته وتعيد نسجها منن جديد باستبداله بي في كل موقف‪ .‬هكذا‬
‫حدثت الشياء في تلك الرواية التي أحفظها عن ظهر قلب‪ ..‬عن ظهر مقلب!‬
‫هكذا كان ينتظرها هو نفسه في بداية "ذاكرة الجسد"‪ ,‬عساها تأتي وتزور معرضه ثانية‬
‫بمفردها‪.‬‬
‫بالترقب نفسه‪ ,‬بنفس الصرار واليأس والمل‪ ,‬كان يروح ويجيء داخل هذه القاعة التي قدّم‬
‫ل "وفيا‬
‫فيها أول معرض له‪ ,‬والتي تشهد اليوم معرضه الخير‪ .‬كان حسب قوله رج ً‬
‫للمكنة‪ ..‬في أزمنة الخيانة"‪.‬‬
‫منذ ذلك الحين‪ ,‬كم مر على هذا المعرض من لوحات قبل أن تعود " حنين" لتأخذ مكانها على‬
‫جدار‪ ,‬كما لو أ‪ ،‬الزمن بالنسبة لها ظل معلقا كما الجسر المرسوم عليها‪.‬‬
‫سعادتي هذا الصباح تعود أيضا لنني اشتريتها بعد أن عقدت تلك الصفقة المجنونة مع‬
‫زيان‪.‬أدرك دون أن أشرح له أكثر‪ ,‬أنه ل يملك سواي وريثا لها‪.‬‬
‫هي لي إذن‪ ..‬وأنا في هذه القاعة ملك متوج بها‪ ,‬أختبر فرحة أ‪ ،‬أفلس‪ ,‬مقابل قطعة قماش‬
‫مصلوبة على جدار أسميتها قسنطينة!‬

‫كان الوقت يمر رتيبا‪.‬‬


‫مرت ثلث ساعات على وجودي في القاعة‪ .‬قررت أن أقصد المقهى على الرصيف المقابل‬
‫لحتسي قهوة‪.‬‬
‫اخترت طاولة بمحاذاة واجهة زجاجية‪ .‬حتى ألمحها في حالة قدومها‪ .‬لكنني بعد بعض‬
‫الوقت فوجئت بمراد يدخل الرواق‪.‬‬
‫حمدت ال لنني ما كنت هناك‪ .‬فربما ظل معي طوال الوقت وأفسد علي لقائي بها لو جاءت‪.‬‬
‫عجبت لمروره‪ ,‬فما كان من تقاليده زيارة المعارض أكثر من مرة‪ ,‬ول كان مهتما بلوحات‬
‫زيان‪ ..‬أو بصاحبها‪.‬‬
‫ولو أطال البقاء لعتقدت أنه غير عادته‪ .‬لكنه بدا كما لو أنه جاء لسبب آخر‪ ,‬أو لملقاة‬
‫شخص ما‪ .‬ربما ما كان سوى فرانسواز‪.‬‬
‫اقتنعت بذلك وأنا أراها تودعه عند الباب بحميمية‪ ,‬وهو يطبع قبلة على خدها‪ ,‬بينما ذراعه‬
‫تخاصرها بمودة تتجاوز البراءة‪.‬‬
‫هي حتما حسبتني غادرت الرواق إلى البيت‪ .‬وهو ما توقع أن أكون هنا قبالة خيانته‪.‬‬
‫عبرتني سحابة كآبة‪ ,‬وأدركت سر سؤاله الدائم لي‪ ,‬متى أنوي العودة إلى الجزائر‪ ,‬بذريعة‬
‫أنه يريد إرسال شيء معي بعدما تأكد أنني ل أملك سوى تأشيرة سياحية‪ ,‬وأنني أقيم في‬
‫بيتها‪ .‬أما هو فلم يكن يريد القامة عندها‪..‬بقدر ما كان يرى بن فخذيها أوراق إقامته في‬
‫فرنسا وربما‪ ..‬مشروع جواز سفر " أحمر"!‬

‫بلعت كوب الماء على عجل‪ ..‬ذلك الذي أحضره لي النادل مجانا مع القهوة‪ ..‬كما ليساعدني‬
‫على ابتلع غصة‪.‬‬
‫غادرت المقهى بعد ذلك بدون أن أعود إلى الرواق كما كنت أنوي‪.‬‬
‫قصدت المترو عائدا إلى البيت‪ .‬انشقت السماء فجأة بسيول من المطار كأنها تبكي نيابة‬
‫عني‪ .‬كنت دون مظلة‪ ..‬أمشي متقدما في وحل الحاسيس النسانية‪.‬‬
‫عندما عادت فرانسواز في المساء‪ ,‬قالت بتذمر وهي تخلع معطفها‪:‬‬
‫‪ -‬أتمنى أل أجد هذا الطقس في انتظاري في ( نيس) ‪ ..‬يا إلهي كم كرهت المطر!‬
‫سألتها‪:‬‬
‫‪ -‬متى تنوين السفر؟‬
‫‪ -‬صباح الجمعة‪ ..‬سأقضي هناك نهاية السبوع وأعود الثنين صباحا‪.‬‬
‫لم أقل شيئا‪ .‬مددتها فقط بصورة والدتها كما أعددت بروازها الزجاجي دون إطار‪.‬‬
‫قبلتني على خدي موشوشة‪:‬‬
‫‪!.Oh merci.. elle est mieux ainsi -‬‬
‫قلت أنا أعابث شعرها الحمر‪:‬‬
‫‪ -‬تدرين‪ ..‬في الماضي كان حزني يعود لعجزي على جعل الرائحة ترى على الصورة‪ .‬الن‬
‫لم أعد أحزن مذ طوّرت آلة تصويري‪.‬‬
‫قالت مصدقة‪:‬‬
‫‪ -‬حقا! كيف؟‬
‫أجبت متهكما‪:‬‬
‫‪ -‬الن مثلً‪ ..‬بإمكانك أل تتكلمي‪ .‬ما أطبقت شفتيك عنه سألتقطه بعدسة في داخلي‪.‬‬
‫لم أتوقع منها أن تفهم‪ ,‬ولذا لم أعجب وهي تجيبني‪:‬‬
‫‪ -‬أتكون اخترعت الصورة الفاضحة؟‬
‫‪ -‬ل ‪ ..‬اخترعت فاجعة الصورة!‬

‫اشتقت فجأة إلى خالد‪ .‬وحده كان سيفهم جملة على هذا القدر من وجع السخرية‪ .‬فهو من‬
‫اخترع قبلي " فاجعة اللوحة"‪ ..‬وهو من سبقني إلى تقاسم هذا البيت مع امرأة‪ ..‬ل تتفجع‬
‫سوى أمام النشرة الجوية!‬
‫سألتها بعد ذلك‪ ,‬إن كانت تفضل أن أقيم في مكان آخر أثناء غيابها‪.‬‬
‫قالت محتجة‪:‬‬
‫‪ -‬أبدا‪ ..‬كيف فكرت في شيء كهذا!‬
‫‪ -‬في جميع الحالت‪ ..‬سأعود بعد أسبوعين أو ثلثة إلى الجزائر‪ .‬وسأغادر الشقة حتما قبل‬
‫خروج زيان من المستشفى‪ .‬ل أريد أن يعلم بإقامتي هنا‪.‬‬
‫أضفت‪:‬‬
‫‪ -‬وبالمناسبة‪..‬أنوي شراء هاتف خلوي يمكنك أن تطلبينني عليه لنني ل أرد على الهاتف‬
‫كما تعلمين‪ ,‬خشية أن يكون زيان على الخط‪ ,‬فهو يعرف صوتي‪.‬‬
‫‪ -‬فكرة جيدة‪ ..‬في جميع الحالت‪ ,‬من يتصلون بي أثناء غيابي بإمكانهم أن يتركوا لي‬
‫رسالة صوتية على الهاتف‪.‬‬
‫بعد ذلك‪ ,‬عندما تقاسمنا السرير نفسه للنوم‪ ,‬وجدتني عاجزا عن ضمها بدون مشقة‪ ,‬أو‬
‫تقبيل شفتيها الرفيعتين بدو استجداء بلهة الحواس‪.‬‬
‫كان عزائي أن كل مساء‪ :‬مليين البيوت ينزل عليها الليل كما ينزل علينا‪ ,‬بذلك القدر من‬
‫نفاق المعاشرة‪ ,‬وأن مليين الناس غيري ل يدري كيف يهربون من وشاية الليل الفاضحة‬
‫لغترابهم الجسدي عن أقرب الناس إليهم‪.‬‬
‫تذكرت زوجتي التي إستطاعت أن تسرق مني طفلً بفضل ذرائع فراش الزوجية‪.‬‬
‫ففي حوادث السرير‪ ,‬يحدث أن تصطدم بشخص ينام جوارك أو أن تلمس شيئا منه وجد في‬
‫متناول جسدك‪.‬‬
‫أثناء تسكعك في أزقة القدر‪ ,‬قد تتعثر بحب امرأة مرتكبا حادثا عاطفيا للسير‪ ,‬ولكن امرأة‬
‫أخرى هي التي تحبل منك إثر حادث سرير!‬
‫دوما كان لي سوء ظن بالفرح‪ ,‬ارتياب من البهجة المضللة للعيد‪ .‬فليس العيد سوى‬
‫الستعداد له‪ ,‬تماما كعيد انتظاري إياها‪.‬‬
‫عندما غادرت البيت ظهرا متجها إلى الرواق‪ .‬كانت المدينة مزدانة كما لتستخف بي‪.‬‬
‫أسريعا جاءت نهاية السنة؟ أم هم التجار دوما على عجل كي يبيعوك عيدا ليس عيدك‪ .‬فنحن‬
‫نصنع أعيادنا الحقيقية في غفلة من كل العياد‪.‬‬
‫أليست هي من كانت تقول إننا نحتاج إلى مدينة ثالثة ليست قسنطينة ول الجزائر‪ ,‬ل تكون‬
‫مدينتي‪ ,‬ول مدينتها‪ .‬مدينة خارج خارطة الخوف العربية‪ ,‬نلتقي فيها دون ذعر؟‬
‫هي ذي باريس‪ ,‬وحب ينتمي للشتاء‪ ,‬لبائع الكستناء المشوية‪ ,‬لليل ينزل على عجل‪ ,‬لمطر‬
‫يظل يهطل‪ ,‬لواجهات مرشوشة برذاذ الثلج إليها‪.‬‬
‫لو أثلجت وهي هنا‪ ,‬يا إله الشتاء‪ ,‬لو تكوّم الثلج عند باب بيت انغلق علينا كي أختبر تلك‬
‫العدوانية الجميلة للثلج‪ ,‬عندما يتساقط في الخارج ونكون معا جوار مدفأة الشواق‪.‬‬

‫لكنها لم تأتِ‪ .‬والثلج واصل تساقطه داخلي‪ ,‬وأنا أنتظرها في الرواق مبعثرا بين ارتياب‬
‫الحتمالت‪ ,‬مدافعا عن هشاشة الممكن بمزيد من النتظار‪.‬‬
‫كانت لغيابها الرهيب المحرق‪ ,‬غيابها الشهي الصقيعي‪ ,‬امرأة جميل معها حتى أن تخلف‬
‫موعدا‪.‬‬
‫عندما يئست من مجيئها‪ ,‬عاودتني الحاجة إلى لقاء زيان عساني أطمئن على أخباره‬
‫وأتسقط أخبارها‪ ,‬داعيا ال كي ل يجمعني بها عنده تفاديا لمصادفة لن يخرج منها أحدنا‬
‫سالما‪.‬‬
‫كانت الساعة الرابعة بعد الظهر عندما قصدته‪.‬‬

‫ق جوار طاولة سريره‪ .‬كانت في الغرفة ذبذبات بهجة‪,‬‬


‫فاجأتني باقة ورد منتقاة بذوق را ٍ‬
‫خلقتها الورود الصفر والبنفسجية‪.‬‬
‫وجدته سعيدا‪ .‬ربما سعادة المتكئ ضاحكا على خرائبه‪.‬‬
‫بدا لي خفيفا ومفلسا‪ .‬ل تدري ما الذي سرق منه بالتحديد ليكون حزينا ساخرا إلى ذلك‬
‫الحد‪.‬‬
‫همّ بالنهوض لستقبالي‪ .‬لكنني طلبت منه أل يغادر سريره‪ .‬فوضع على الطاولة المجاورة‬
‫كتابا كان يقرأه‪ .‬وقال وأنا أنحني لتقبيله‪:‬‬
‫‪ -‬أهلً‪ ..‬توحشناك يا راجل‪ ..‬وين راك غاطس؟‬
‫أجبت كمن يرد عنه شبهة السعادة التي يرى فيها المريض اعتداءً على حزنه‪:‬‬
‫‪ -‬راني غاطس في المشاكل‪ ..‬على بالك‪.‬‬
‫كان جوابا على الطريقة الجزائرية‪ .‬يحمل كمّا من الشكوى والتذمر التي لست مضطرا لشرح‬
‫أسبابها‪ ,‬ما دام الذي يستمع إليها " على بالو" بحكم أنه غارق حتما في المشاكل نفسها‪..‬‬
‫لكونه جزائريا!‬
‫وكما ليفهم مصدر مشاكلي فاجأني سائلً‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت متزوج؟‬
‫قلت ساخرا‪:‬‬
‫‪ -‬أحيانا‬
‫‪ -‬وأحيانا أخرى؟‬
‫‪ -‬متشرد عاطفي‪.‬‬
‫أضفت ممازحا كما لطمئنه‪:‬‬
‫‪ -‬لكنني رجل حذر‪ ..‬ألزم جغرافيتي!‬
‫رد ضاحكا‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تذكرني بصديق كان يحترف المغامرة المحسوبة‪ ,‬أي أنه ما كان مغامرا‪ ,‬ول كان‬
‫وفيا‪ .‬كان يخاف المراض الشائعة‪ ,‬وكنت أقول له عندما يدعي الستقامة " إن الوفاء المبني‬
‫على الرعب الوبائي‪ ,‬كالسلم المبني على الرعب النووي‪ ,‬ل يعوّل عليه‪ .‬فاختر صفك يا‬
‫رجل‪ ..‬ول تحد عنه‪ ,‬كن خائنا بجدارة‪ ..‬أو مخلصا كما لو بك مس من وفاء!"‬
‫كانت تلك المرة الولى التي سألني فيها عن حياتي الخاصة‪ .‬أعطاني الحق في أن أطرح‬
‫عليه السؤال نفسه‪ .‬قلت‪:‬‬
‫‪ -‬وهل أنت متزوج؟‬
‫رد ضاحكا‪:‬‬
‫‪ -‬لنني أكره الخيانة رفضت الزواج‪ .‬فالزواج الناجح يحتاج إلى شيء من الخيانة لنقاذه‪.‬‬
‫إنه مدين لها بدوامه‪ ,‬بقدر ما هي مدينة له بوجودها‪ .‬فل أكثر كآبة من إحساسك بامتلك‬
‫أحد‪ ..‬أو بامتلكه لك إلى البد‪.‬‬
‫أنا أرفض امتلك شيء‪ ,‬فكيف أقبل بامتلك شخص ومطالبته بالوفاء البدي لي بحكم ورقة‬
‫ثبوتية‪ .‬ل أظنني قادرا على أن أكون من رعاة الضجر الزوجي في شراشف النفاق‪.‬‬
‫أضاف بعد شيء من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬تدري‪ ..‬أجمل شيء في الحياة وفاء مغلف بالشهوة‪ .‬أما التعس فشهوة مكفنة بالوفاء!‬
‫من أين له صفاء الذهن ليصل إلى حكمة كهذه‪ ,‬وهو جالس بين قوارير الدوية ومصل‬
‫الكلمات‪ .‬ومتى خبرَ هذا؟ ومع من؟‬
‫كان لعينيه جمالية تعب مزمن‪ .‬ولكنه كان يبدو غير حزين‪.‬‬
‫‪ -‬أراك سعيدا اليوم‪.‬‬
‫رد ضاحكا‬
‫‪ -‬حقا؟ وما جدوى أن تتعذب؟ ل تصدق أن العذاب يجعلك أقوى وأجمل‪ ,‬وحده النسيان‬
‫يستطيع ذلك‪ .‬عليك أن تلقي على الذاكرة تحية حذرة‪ ,‬فكل عذاباتك تأتي من التفاتك إلى‬
‫نفسك‪.‬‬
‫عندما راح يسكب لنفسه كوب ماء‪ ,‬دققت في ذلك الكتاب الموجود على الطاولة المجاورة‬
‫لسريره‪ ,‬كان كتابا صغيرا ليس على غلفه ما يلفت النظر‪ .‬عنوانه‪:‬‬
‫‪.Les jumeaux de Nedjma -‬‬
‫لكن فضولي لكتشاف مطالعات رجل‪ ,‬ما رأيت كتابا قبل اليوم على طاولته‪ ,‬جعلني أمد يدي‬
‫تلقائيا لتصفحه‪ ,‬غير متوقع المفاجأة التي كانت تنتظرني داخله‪.‬‬

‫لم يقل شيئا وأنا آخذه عن الطاولة‪ .‬بدا وكأنه فوجئ بتصرفي‪.‬‬
‫تأملت العنوان‪ ,‬ثم فتحت الكتاب تلقائيا على الصفحة الولى‪ ,‬وإذ بي أمام إهداء بخطها!‬
‫كلمات لم أقرأها بعد أن أحسست أن نظراته تراقبني صمتا‪ .‬أحرجني كبرياء صمته‪ .‬ربما كان‬
‫يختبر قلة ذوقي أو وقاحتي في التجسس على سره الكبير‪.‬‬
‫اكتفيت بقراءة التاريخ المكتوب على الهداء‪.‬‬
‫استنتجت أنها زارته هذا الصباح‪ .‬وأدركت من أين جاءت باقة الورد الجميلة وعلبة‬
‫الشوكولطة الفاخرة جوار سريره‪ .‬فهمت أيضا ذكاء تلك الطرفة‪ ,‬عندما قال ليقنعني بفضائل‬
‫الشوكولطة مصرا على أن يضيفني منها‪:‬‬
‫‪ -‬الشوكولطة ل تعطيك نشوة وطاقة للبداع فحسب‪ ,‬بل للذتها تساعدك على ابتلع أي‬
‫مذاق مر يرافقها‪ ,‬مسهلة عليك الموت لحظة تلقّيك رصاصة‪ .‬حتى إن هامنغواي عندما كتب‬
‫لزوجة أبيه طالبا منها أن تبعث ببندقية أبيه التي انتحر بها‪ ,‬أرسلتها إليه مرفوقة بعلبة‬
‫شوكولطة لعلمها أنه يريدها‪ ..‬كي ينتحر!‬
‫يا لذكاء هذا الرجل وجمال تهكمه!‬
‫كما ليذهب بكلمنا منحىً بعيدا عن تلك المرأة‪ ,‬قال وهو يراني أعيد الكتاب إلى مكانه‪:‬‬
‫‪ -‬إنه كتاب جميل‪ .‬فيه تفاصيل مذهلة لم أكن أعرفها عن موت كاتب ياسين‪ .‬سجنت معه في‬
‫ل بحياة متشابهة‪,‬‬
‫‪ 8‬ماي ‪ 1945‬في سجن الكديا‪ ,‬عشت معه كل ولدة " نجمة"‪ ,‬كنا جي ً‬
‫بخيبات عاطفية مدمرة‪ ,‬بأحلم وطنية أكبر من أعمارنا‪ ,‬بآباء لم نتعرف عليهم يوما‪,‬‬
‫بأمهات مجنونات من فرط خوفهن علينا‪ .‬كنا نتشابه تقريبا جميعنا في كل شيء‪ .‬ولم نعد‬
‫نختلف بعد ذلك إل في موتنا‪.‬‬

‫مد يده إلى جارور الطاولة الصغيرة الموجودة على يمينه‪ .‬أخذ سيجارة لم يشعلها‪ .‬ظل‬
‫ممسكا بها كما لو كان أشعلها‪ .‬ثم قال‪:‬‬
‫‪ -‬أنتمي إلى جيل النهايات الغريبة غير المتوقعة‪ .‬عندما قرأت في هذا الكتاب تفاصيل موت‬
‫كاتب ياسين في فرنسا التي تصادفت مع موت ابن عمه مصطفى كاتب‪ ,‬ثم كيف شيعت‬
‫جنازته في الجزائر‪ ,‬فكرت في قول مالرو " ل يحدث للنسان ما يستحقه‪ ,‬بل ما يشبهه"‪.‬‬
‫موت ياسين كحياته‪ ,‬موت موجع ومشاغب ومسرحي ومعارض ومحرض وساخر‪.‬‬
‫تصور‪ ..‬يوم مات ياسين في مدينة ( غرونوبل) في ‪ 29‬أكتوبر ‪ 1989‬حدث زلزال في‬
‫الجزائر‪ .‬ولكن نشرة الخبار ذلك المساء كانت تتضمن فتوى بثتها الذاعة الوطنية‪ ,‬أصدرها‬
‫المفتي محمد الغزالي رئيس المجلس السلمي لجامعة قسنطينة‪ ,‬ومستشار الرئيس بن جديد‬
‫ل لن يواريه تراب الجزائر‪ ,‬ويحرم بحكمها‬
‫آنذاك‪ ,‬يعلن فيها أن مثل هذا الرجل ليس أه ً‬
‫دفنه في مقبرة إسلمية‪ .‬ولكن ياسين ظل حتى بعد موته يستخف بالفتاوى وبكل أنواع‬
‫السلطات‪ .‬حملت نعشه النساء كما الرجال‪ .‬لول مرة‪ ,‬رجل تحمل نعشه فرقة مسرحية‬
‫بكاملها‪.‬‬
‫كانت نكتته الخيرة أن تعطلت سيارة الـ " البيجو" ‪ 504‬التي كانت تنقل جثمانه‪ ,‬لكثرة‬
‫الممثلين الذين كانت تحملهم‪ ,‬مما جعل المشيعين يترجلون ويذهبون به إلى المقبرة على‬
‫القدام وسط زمامير السيارات والزغاريد ونشيد الممية الذي كانوا ينشدونه باللغة البربرية‪.‬‬
‫لم يستطع المام ول الرسميون شيئا لسكات كاتب ياسين حيا ول ميتا‪ .‬ولم يستطيعوا منع‬
‫القدر أن يجعله يدفن في أول نوفمبر تاريخ اندلع الثورة الجزائرية‪ .‬كان أول من أدخل‬
‫الفوضى والديمقراطية والزغاريد إلى المقابر كما أدخلها قبل ذلك إلى المعتقلت والسجون!‬
‫قلت متعجبا‪:‬‬
‫‪ -‬إنه لموت طريف حقا‪ ..‬لم أسمع بهذه التفاصيل من قبل‪.‬‬
‫قال ساخرا‪:‬‬
‫‪ -‬ليس هذا الطريف في حد ذاته‪ ,‬إنما تشكيلة الموت في غرابة أقداره كما عرفه جيلنا‪.‬‬
‫تصور يا رجل‪ :‬لي صديقان كلهما من رجال التاريخ وكبار مجاهدي الثورة‪ ,‬أحدهما مات‬
‫قهرا والخر مات ضحكا‪ .‬هل تصدق هذا؟ أنت سمعت حتما بعبد الحفيظ بوالصوف؟‬
‫‪ -‬طبعا‪ ..‬كان مدير الستخبارات العسكرية أثناء الثورة‪.‬‬
‫‪ -‬أتدري كيف مات هذا الرجل الصلب المراس الذي اشتهر بغموضه وأوامره التي ل رحمة‬
‫فيها في التصفيات الجسدية للعداء كما للرفاق؟ توفي سنة ‪ 1980‬إثر أزمة قلبية فاجأته‬
‫وهو يضحك ضحكا شديدا على نكتة سمعها من صديق عبر الهاتف!‬
‫كان قد انسحب من الحياة السياسية نهائيا بعد الستقلل‪ ,‬رافضا أي منصب قيادي وأصبح‬
‫بإمكانه أن يموت ضاحكا!‬
‫أليست نهايته أفضل من نهاية سليمان عميرات‪ ,‬رفيق سلحه الذي مات بعد ذلك حزنا‬
‫بسكتة قلبية أثناء معركة الفاتحة على جثمان محمد بوضياف‪ ,‬رفيق سلحهما الخر الذي‬
‫سقط مغتالً؟‬
‫لم ينج من هذه اللعنة حتى من مات من جيلنا شهيدا ميتة البطال‪ .‬أورث نحس جيله إلى‬
‫ذريته‪ ,‬كالشهيد البطل مصطفى بن بولعيد الذي اغتيل ابنه عبد الوهاب وهو في الخمسين‬
‫من عمره في ‪ 22‬آذار ‪ , 1995‬نهار اغتيل أبوه على أيدي الفرنسيين قبل تسعة وثلثين‬
‫سنة‪ ,‬بعد أن نصب له الرهابيون حاجزا وهو في طريقه إلى بلدته " باتنة" ليشارك ككل سنة‬
‫في التأبين الذي يقام في ذكرى استشهاد أبيه‪.‬‬
‫ربما كانت في هذه الميتة بالذات كل فاجعة جيلنا‪ .‬رجل مثل مصطفى بن بولعيد ‪ ,‬أحد رموز‬
‫مقاومتنا‪ ,‬تهديه الجزائر جثمان ابنه في يوم استشهاده‪ ..‬أي وطن هذا؟‬

‫توقف في تلك اللحظة شريط التسجيل‪ .‬انتبه إلى أنني كنت فتحت المسجل‪ ,‬قال وأنا أقلب‬
‫الشريط‪:‬‬
‫‪ -‬خليك م التسجيل يا راجل‪ ..‬التاريخ " الحلّوف" راه يسجل!‬
‫قلت مازحا في محاولة للتخفيف من مرارته‪:‬‬
‫‪ -‬التاريخ يسجل لكن أنا أنشر‪ .‬أريد نشر هذه المقابلة كشهادة عن تلك المرحلة‪.‬‬
‫رد بتهكم مر‪:‬‬
‫‪ -‬أية مرحلة؟ تلك المرحلة لم تنته يا رجل‪ .‬الجزائري يعيش جدلية تدمير الذات‪ ,‬هو مبرمج‬
‫لبادة نفسه والتنكيل بها عندما ل يجد عدوا لينوب عنه في ذلك‪ .‬تظن أن الرهابيين كان‬
‫لهم الفضل في بدعة قتل الكتاب والقضاة والطباء والسينمائيين والشعراء والمحامين‬
‫والمسرحيين‪ ..‬الجزائر لها تقاليد في قتل مثقفيها‪ ..‬وأنا كنت في صفوف المجاهدين عندما‬
‫في خدعة هدفها إلحاق ضرر نفسي بالمقاومة‪ ,‬أوحت فرنسا للعقيد عميروش بأن بين رجاله‬
‫من يعملون مخبرين لصالح الجيش الفرنسي‪ .‬فقام في يوليو ‪ ,1956‬وبعد محاكمة‬
‫سريعة‪ ,‬بقتل ألف وثمانمائة من رجاله‪ ,‬في حادثة تاريخية شهيرة باسم " ‪La‬‬
‫‪ ."bleuite‬فورا وجهت أصابع التهام إلى المثقفين‪ ,‬أي إلى المتعلمين الذين تركوا‬
‫دراساتهم ليلتحقوا بالجبهة‪ ,‬والذين بسبب علمهم وثقافتهم الفرنسية لم تكن جبهة التحرير‬
‫تثق في ولئهم‪ .‬أما القتلة الذين انقضوا عليهم فكانوا رفاقهم من المجاهدين القرويين‬
‫والميين في معظمهم‪ ,‬والذين منذ البدء لم يغفروا لهم تميزهم عنهم بالمعرفة‪ .‬واليوم أيضا‬
‫لم يتغير شيء‪ .‬كل جاهل يثأر لجهله بقتل مثقف بعد المزايدة عليه في اليمان والتشكيك في‬
‫ولئه للوطن‪ .‬وها نحن في ما بقي لنا من ضحايا الرهاب ضد المثقفين‪.‬‬
‫توقف ليسألني فجأة‪:‬‬
‫‪ -‬هل اشتريت تلك اللوحة؟‬
‫وقبل أن أجيب‪ ,‬فتح الجارور يبحث عن شيء‪ .‬أخرج ولعة‪ ,‬أشعل السيجارة التي كان‬
‫ممسكا بها طوال الوقت‪.‬‬
‫وبدون أن أقول له شيئا أجاب متهكما من تعجبي لتدخينه في المستشفى‪:‬‬
‫‪ -‬ل تهتم‪ ..‬أنا أنتمي إلى جيل من الرجال المجبولين بالعصيان‪.‬‬
‫ثم أعاد سؤاله بصيغة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا ستفعل بتلك اللوحة؟‬
‫‪ -‬سآخذها معي إلى قسنطينة عندما أعود بعد أسبوعين أو ثلثة‪.‬‬
‫ثم أردفت خشية أن يكون قد غير رأيه‪:‬‬
‫‪ -‬ستبقى بتصرفك‪ .‬بإمكانك أن تراها عندما تزور قسنطينة‪.‬‬
‫‪ -‬لم أعد أتردد على قسنطينة‪ .‬لم يبق لي فيها أحد ول شيء‪ .‬آخر مرة زرتها منذ سنة‬
‫ونصف لحضر جنازة ابن أخي حسان‪.‬شعرت أنها مدينة لم تعد تصلح إل صورة على بطاقة‬
‫بريدية أو جسرا على لوحة‪ .‬بدت لي جسورها هرمة تعبة‪ ,‬كأنها شاخت وتساقطت عنها‬
‫حجارتها‪ ,‬كأفواه تعرت عن أسنانها‪ ,‬كسحنة من يعبرونها بملمح تعرت من تعابيرها‪,‬‬
‫مسرعين حينا‪ ..‬متثاقلي الخطى أحيانا أخرى‪ ,‬تائهين حائرين‪ ,‬كمن ينتظر فاجعة‪.‬‬
‫‪ -‬ربما لنك زرتها في ظرف حزين‪.‬‬
‫‪ -‬ما كان لي يوما معها موعد سعيد‪ .‬دوما غادرتها مفجوعا‪ .‬رافضا عقد ميثاق مع الوحل‬
‫الذي أتى على كل شيء‪ .‬ل أريد أن أكون هناك عندما تخلع قسنطينة حجارتها‪ ..‬وتنزلق‬
‫نحو وهد الهاوية‪.‬‬
‫صدقني منذ اغتيال بوضياف أصبحت أكره حتى السفر إلى الجزائر‪ ,‬فبموته مات شيء فينا‪.‬‬
‫عندما جاؤوا به متضرعين كي ينقذ الجزائر ويكون رئيسها‪ ,‬ما ظنوا أن ذلك الرجل الذي‬
‫جبلته السجون والمنافي وخيانات الرفاق‪ ,‬على هزاله‪ ,‬ما كان يصلح لبرام صفقة فوق‬
‫الجثث فحولوه إلى جثة كي نتعلم من جثته‪.‬‬
‫أل ترى كل ذلك الحجر المتساقط علينا بعده؟ بإمكاننا الن أن نواصل التراشق بذلك الكم من‬
‫السئلة‪ .‬ما عاد السؤال " من قتل بوضياف؟" صار ‪ ":‬صوب أي مصب ذاهب بنا الوحل؟‬
‫صوب أي وحل ذاهب بنا التاريخ؟"‬

‫ساد بيننا صمت الفاجعة‪.‬‬


‫ثم ‪ ,‬ل أدري كيف حدثت الشياء‪ .‬اتجهت نحو السرير كمن يحتضن صخرة خشية أن يجرفه‬
‫السيل‪ ,‬ضممته‪ ..‬وفاجأني البكاء‪.‬‬
‫حتما‪ ,‬كانت دموع مؤجلة تجمعت داخلي كغيمة مثقلة تبحث عن جو مناسب لتهطل‪.‬‬
‫قلت كمن يبرر حماقة‪:‬‬
‫‪ -‬خالد‪ ..‬نشتيك‪.‬‬
‫لم يحتج لنني ناديته خالد‪ ,‬ول تعجب أن يكون حبه ذريعتي للبكاء‪.‬‬
‫تصرف كما لو كان من عادة الرجال أن يبكوا‪ .‬ضمني دون أن يفهم ما بي‪ ,‬أو ربما أدرك‬
‫أكثر مما قلت‪ ,‬لكنه لم يبكِ‪ ,‬من مثله يدمع فقط‪ ,‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬ل تحزن‪ ..‬خلقت الحلم كي ل تتحقق!‬
‫أثناء ضمه لي اقشعر جسدي وأنا أصطدم بالفراغ الذي خلفته ذراعه الناقصة‪ .‬كنت أختبر‬
‫لحظتها كيف ضمها‪ .‬كيف بإمكان رجل بذراع وحيدة أن يضم إنسانا آخر إلى صدره‪ .‬لم أعد‬
‫أدري أكنت أبكيها فيه‪ ..‬أم أبكيه فيها؟ أو أنني أبكي نفسي بينهما‪.‬‬
‫هي التي كانت هنا وجلست على هذا الكرسي مكاني‪ .‬لكأنها ما زالت بيننا‪ .‬أشم عطر غيابها‪.‬‬

‫عندما أراد بعد ذلك أن يغادر سريره ليودعني‪ ,‬أوقع المزهرية بحركة من يده وهو يحاول‬
‫الستناد إلى الطاولة‪.‬‬
‫انحنيت متأسفا أرفعها من الرض وأجمع الورود‪.‬‬
‫قال كمن يعتذر عن حماقة‪:‬‬
‫‪ -‬في الفترة الخيرة أصبحت مصابا بعمى الطراف‪ .‬ما مررت بشيء إل واصطدمت به‪.‬‬
‫دعك من جمعه‪ ..‬ستحضر الممرضة للملمته‪ ..‬إنه ورد فقط وهو آيل للذبول!‬
‫ثم أردف بتهكم وحده يتقنه‪:‬‬
‫‪ -‬حتى وإن سقطت ذراعي‪ ..‬حاذر أن تلتقطها‪.‬‬
‫‪ -‬أنت تعاكس قصيدة محمود درويش‪.‬‬
‫" سقطت ذراعي فالتقطها‬
‫وسقطت جنبك فالتقطني"‬
‫قاطعني مواصلً‪:‬‬
‫‪ " -‬واضرب عدوك بي‪"..‬‬
‫‪ -‬أتعرفها؟‬
‫رد مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬أعرفها؟ كم أعرفها! كانت القصيدة المفضلة لصديقي زياد‪ .‬كان دوما يقول‪ :‬ليتني كاتبها‪.‬‬
‫فأعلق " ل تهتم‪ ..‬إن سقطت سألتقطك بذراعي الوحيدة"‪ .‬لنني مع زياد كنت أعرف كم العدو‬
‫الذي سأقذف بجسده في اتجاهه‪ .‬لكنك إن التقطت ذراعي فعلى من ستقذفها؟‬
‫واصل بسعادة‪:‬‬
‫‪ -‬بالمناسبة عندما أغادر المستشفى سأطلعك على بعض أشعار زياد‪.‬‬
‫‪ -‬أما زالت في حوزتك حتى اليوم؟‬
‫‪ -‬طبعا‪ ..‬قد أفرط بلوحاتي ول أفرط بها‪ ..‬مشكلتي دوما كانت إرث الشهداء‪.‬‬
‫افترقنا دون أن أدرك إن كان يومها أكثر سعادة أو أكثر حزنا من العادة‪.‬‬
‫كان يتصرف باستخفاف المفلس‪ .‬يدخن ويدرك أن في السجائر مضرة له‪ .‬وطلب مني أن‬
‫أحضر له قارورة ويسكي صغيرة من تلك التي تقدم في الطائرات لملء كأس واحدة‪ ,‬غير‬
‫معني بأنه ممنوع من تناولها مع دوائه‪ .‬وينسى أن يأخذ دواءه لنه يدري أن ل جدوى من‬
‫الدواء‪ .‬ويأكل أشياء قد تتدهور بها صحته عسى بها ترتفع معنوياته التي ل تتغذى سوى‬
‫بالمحظورات‪.‬‬
‫أظنه كان سعيدا‪ ,‬غير أن السعادة لم تكن لها علقة بباقة الورد‪ ,‬ول بالشوكولطة الفاخرة‬
‫التي أحضرتها له‪ ,‬والتي وضع حبات منها في جيبي وهو يودعني‪ ,‬ول بذلك الكتاب الذي‬
‫تلقاه منها‪ ,‬كما تلقى هامنغواي البندقية من زوجة أبيه‪.‬‬
‫سعادته كانت بسبب سماح الطبيب له بمغادرة المستشفى يوم الربعاء‪ ,‬فقد كان يخطط‬
‫لمشاريع كثيرة أولها زيارة معرضه وجمع ما بقي من لوحاته‪.‬‬
‫أما مرارته‪ ,‬فكان سببها السري على الرجح كون المرأة التي أحبها عادت بعد أن شفي‬
‫منها لتعوده وتتفرج عليه في بشاعة مرضه الخير‪.‬‬
‫هو نفسه قال مرة إنه عندما يشعر بأنه أصبح بشعا في علقة‪ ,‬ينهيها ويهرب حتى عندما‬
‫يكون الطرف الخر وطنا‪ .‬لكن أين كان بإمكانه أن يهرب وهو رهين سرير المرض؟‬
‫أتوقع أن يكون استأصل الزائدة العاطفية وراح يختبر قدرته على تجميل البشاعة بالسخرية‪.‬‬
‫كذلك اليوم الذي اعتذر لي فيه مازحا لعدم استطاعته مغادرة سريره كالعادة والجلوس معي‬
‫بسبب استلقائه على ظهره ووجود ذراعه الوحيدة موصولة إلى أنبوب مصل الدواء‪.‬‬
‫قال متهكما‪:‬‬
‫‪ -‬في هذا الوضع تماما رسم ميكيل أنجلو سقف كنيسة ( كابيل سيستينا)‪ .‬ظل هكذا يرسم‬
‫وهو ممدد عاريا على السقالة لعدة أشهر ويده اليمنى مرفوعة إلى السقف‪ .‬كان يرفض‬
‫الستعانة بالمساعدين ويصر على إنجاز رسم السقف وحده‪ .‬وكان لوجاع جسده يقول "‬
‫أعيش في الجحيم‪ ..‬وأرسم لوحة"‪ .‬وكان البابا يتسلق السلم الخشبي ويصعد للتجسس عليه‬
‫ومباركته!‬
‫أحيانا يكرم المرء في وضع مهين! وهو ما يذكرني بقول جميل لمناضل سيق إلى الشنق‪.‬‬
‫فسئل قبل إعدامه " هل ليك ما تقوله قبل الموت؟" فأجاب جلده " يكفي فخرا أن أموت‬
‫وقدماي فوق رؤوسكم"‪.‬‬
‫ليست المهانة أن أكون في هذا الوضع‪ .‬إنما في كوني هنا أضاجع الموت في سرير‪ .‬قصدت‬
‫السرير دوما لمنازلة الحب!‬

‫في طريق العودة إلى البيت توقفت في مكتبة بحثا عن كتاب " توأما نجمة" لبن عمار مديان‬
‫الذي كان زيان يطالعه‪ .‬كان بي فضول أن أعرف لماذا أهدته إياه‪.‬‬
‫وما كدت أعود إلى البيت وينتهي العشاء الخفيف الذي فاجأتني فرانسواز بإعداده حتى‬
‫ل مطالعته‪.‬‬
‫اعتذرت منها وذهبت إلى غرفة النوم مستعج ً‬
‫رغم انشغالها ببرنامج تلفزيوني لم تبد فرانسواز سعيدة أن تراني أتركها وأختلي بنفسي‬
‫للمطالعة‪ .‬كان المر غريبا حقا‪ ,‬فأنا لم أعرف امرأة إل واعتبرت الكتاب غريمها الول في‬
‫البيت‪ .‬وجربت بما أوتيت من مواهب نسائية أن تسرقني من القراءة كما لو أن في انشغالي‬
‫بها إهانة لنوثتها‪ .‬كان ما يزيد الطين بلة‪ ,‬ويجعل من الكتاب ضرة‪ ,‬عادتي القراءة في‬
‫السرير‪ .‬كنت دوما أدعو الكتب التي أحبها إلى غرفة نومي لعتقادي أن الكتب الجميلة‬
‫كالنساء الجميلت‪ ,‬ل يمكن مجالستهن في الصالون‪ ,‬ول بد أن تراودك الرغبة في أ‪ ،‬تخلو‬
‫بهن‪ ..‬في مخدع‪.‬‬
‫الصالون خلق لتلك الكتب الوقورة الرصينة المصطفة في مكتبة‪ ,‬تدافع عن صيتها بثقل‬
‫وزنها‪ ,‬وتعوض عن بلوغها سن اليأس الدبي بتجليدها الفاخر وخطها الذهبي‪.‬‬
‫كنت بدون قصد أؤنث الكتب‪.‬‬
‫تلك السهلة التي تندس في جيبك‪ .‬كتب النتظار والضجر التي كنساء المصادفات تصلح‬
‫لقراءة واحدة‪ .‬وأخرى للمؤانسة ترافقك إلى سريرك لتنهي ليلها أرضا منهكة‪ ,‬نائمة على‬
‫بطنها كامرأة بعد ليلة حب‪ .‬وأخرى صقيلة الورق فاخرة الطباعة‪ ,‬تتربص بجيبك كبغايا‬
‫أمستردام خلف واجهة زجاجية‪ ..‬قد تنقل إليك عدوى الرداءة‪.‬‬

‫أعتقد أنني خلل سنوات طويلة ما أقمت علقة جميلة سوى مع الكتب‪ .‬بعض هذه العلقات‬
‫كانت تضاهي في شغفها وطقوسها شيئا شبيها بالخيانة الزوجية‪ ,‬مما جعلني أتعاطاها أحيانا‬
‫سرا متبرءا من شبهتها‪ ,‬خاصة عندما كنت أقضي وقتا طويلً منشغلً عن زوجتي النائمة‬
‫جواري‪ ,‬بمطالعة كتاب يعطيني من متعة المعرفة والمباغتة‪ ,‬أكثر مما يعطيني جسدها الذي‬
‫أعرفه عن ظهر زوج!‬

‫في ذلك البيت الذي في البدء وبصفتي البن البكر سكنته مع زوجة أبي وأختي المطلقة‪ ,‬كنت‬
‫ل لتكون فضاءً نسائيا تهرّب إليه‬
‫أجد متعة في تسريب كتاب إلى غرفة نوم مهيأة أص ً‬
‫زوجتي أشياءها من الخرين‪ ,‬أو بالحرى من الخريات!‬
‫حدث كثيرا أثناء تهريبي كتابا إلى مخدع الزوجية‪ ,‬مدعيا حاجتي المهنية إلى مطالعته‪ ,‬أن‬
‫تذكرت أبي الذي عثر أثناء حرب التحرير على حيلة فوق كل الشبهات تمكنه من إحضار‬
‫عشيقاته إلى البيت‪ ,‬مستفيدا من نشاطه النضالي‪ ,‬وإقامتنا بمفردنا في بيت شاسع على‬
‫الطراز العربي‪ .‬فكان يغلق علينا‪ ,‬أنا وجدتي وزوجته العروس‪ ,‬في إحدى الغرف الكبيرة‪,‬‬
‫متحججا باستقبال المجاهدين الذين كانوا يقضون بين الحين والخر ليلة " مشاورات" في‬
‫بيتنا‪ ..‬يعودون بعدها إلى الجبال!‬

‫كان عمري ل يتجاوز الست سنوات‪ .‬وبرغم ذلك لفت انتباهي أن أبي‪ ,‬على غير عادته‪,‬‬
‫أصبح يغلق علينا باب الغرفة بالمفتاح‪ ,‬بعد أن كان في الماضي يكتفي بأن يسعل بصوتٍ‬
‫عا ٍل كلما دخل البيت مع رجل غريب مرددا وهو يسبقه بخطوات‪ " :‬الطريق‪ ..‬الطريق"‪.‬‬
‫فتسرع النساء إلى أول غرفة ويغلقن عليهن الباب حتى يمر الرجال‪.‬‬
‫ذات مرة تأملت من ثقب الباب الذي لم تكن قامتي تعلوه سوى بقليل‪ ,‬فرأيته يدخل مع امرأة‬
‫بملءة سوداء‪ .‬عندما أخبرت زوجة أبي بذلك بدت مندهشة‪ ,‬غير أن جدتي تدخلت لتنهرني‬
‫ململمة الفضيحة‪ ,‬مدعية أن العادة جرت أن يتنكر المجاهدون في زي النساء‪.‬‬
‫من يومها بدأت زوجة أبي التي لم تقتنع بالزي التنكري للمجاهدين‪ ,‬تتجسس بدورها من‬
‫ثقب الباب‪ ,‬وترى نساء بهيئات مختلفة يعبرن كل مرة وسط الدار‪.‬‬
‫ولكن اكتشافها لم يغير شيئا من تصرفاتها‪ ,‬فهي لم تجرؤ حتى على إخباره بأنها تدري أنه‬
‫يكذب عليها‪ ,‬خشية أن يغضب ويعيدها إلى بيت أهلها‪ ,‬فتستبدل بشرف الزواج من أحد‬
‫وجهاء قسنطينة مذلة أن تكون رقما في طوابير المطلقات‪.‬‬

‫هكذا واصلت إعداد أشهى الطعام للمجاهدين و " المجاهدات"‪ ,‬القادمين لتوهم " من الجبال‬
‫الشامخات الشاهقات"‪ ,‬وفرش سريرها بأجمل ما في جهازها من شراشف مطرزة‪ ,‬والمضي‬
‫للنوم جوار صغيرتها في غرفة الضيوف‪ ,‬بينما كان أبي يخوض معاركه التحريرية في‬
‫سريرها الزوجي على أمتار منها‪ .‬وربما كانت أثناء تقلبها في فراشها‪ ,‬تبحث عن وجوه‬
‫وأسماء لنساء فاجرات يدخلن بيتها تحت حشمة الملية وعفة الجهاد ليضاجعن زوجها في‬
‫حضرتها‪.‬‬

‫كان يلزمني بلوغ سن التأمل‪ ,‬كي أفهم أنني يوم وضعت عيني على ثقب المفتاح لم أكن‬
‫أكتشف سوى قسنطينة التي لم يكن ذلك البيت العتيق سوى صورة لتقاليد نفاقها‪.‬‬
‫دفعة واحدة أدركت أن الباء يكذبون‪ ,‬وأن المجاهدين ليسوا منزهين عن الخطيئة‪ ,‬وأن‬
‫النساء اللئي يلبسن مليات لسن فوق الشبهات‪ ,‬وأن النساء القابعات في بيوت الظلم‬
‫الزوجي لسن مخدوعات إلى هذا الحد‪ ,‬وأن " الضحية ليست بريئة من دمها"!‬
‫بعد ذلك ‪ ,‬أصبحت مع العمر أرى في تصرفات أبي آنذاك جانبا " زوربوياُ" ساهم في خلق‬
‫أسطورته النضالية والعشقية‪.‬‬
‫كان بحكم ثقافته رجلً لكل الجبهات‪ .‬خاض معاركه ضد الستعمار وضد المؤسسة الزوجية‬
‫التي لم يؤمن بها يوما‪ ,‬وانتسب إليها استجابة للحاح جدتي ل غير‪ .‬كان ل بد له من زوجة‬
‫تتكفل بتربيتي بعد وفاة والدتي‪ ,‬فجاءته بإحدى القريبات من اللئي هيئن ليكن ربات بيوت‬
‫وأمهات صالحات‪.‬‬
‫في الواقع‪ ,‬عشقه للحرية أوصله إلى العجاب بنساء متحررات‪ .‬كان له ضعف دائم تجاه‬
‫الجنبيات لكونهن متعلمات‪ .‬ساعدته وسامة أندلسية عرف بها أهل قسنطينة الوائل‪ ,‬على‬
‫اكتساح القلوب الشقراء والسمراء‪ .‬كمدرّسة فرنسية نظم أشعاره الولى تغز ًل بها‪ ,‬أو تلك‬
‫الرملة اليهودية التي كان زوجها حارسا في سجن الكديا عندما كان والدي سجينا هناك‪,‬‬
‫وكانت جدتي تتردد على بيته كلما أرادت أن ترسل شيئا إلى أبي في السجن‪ .‬وعندما بعد‬
‫سنتين عرف العالم المجاعة وكلّف أبي من طرف الدارة الفرنسية بتوزيع قسائم المساعدات‬
‫الغذائية على سكان قسنطينة من المسلمين‪ ,‬كان يزورها ليزودها خلسة هي وبعض عونه‬
‫من المعارف والجيران‪ ,‬في ذلك الزمن الذي كانت تتجاور فيه الجناس والديان‪.‬‬
‫كان زوربا على طريقته‪ .‬اعتاد أن يحيط نفسه بالرامل والعوانس‪ ,‬ونساء على وشك أن‬
‫تذبل ورودهن وليس لهن بستاني سواه‪.‬‬

‫كان مسؤولً عن كل نساء الرض‪ ,‬بدون تمييز بين أعمارهن أو ديانتهن أو جمالهن‪,‬‬
‫مسؤولً عن أجسادهن وأحلمهن‪ ,‬معنيا بتعليمهن وإدارة مستقبلهن إلى حد التكفل‬
‫بتزويجهن‪ ,‬ومسؤولً عن كل جياع الرض أينما وجدت أفواههم وبطونهم ولقمتهم‪ .‬وعن‬
‫كل المظلومين والمستعمرين أينما وجدت أرضهم وقضيتهم‪ .‬ولذا " عاش ما كسب‪ ..‬مات ما‬
‫خلى"‪ .‬فلم يكن يعنيه أن يمتلك بقدر ما كان يعنيه أن يحيا‪.‬‬
‫وكان بعد الستقلل يقيم في شقة واسعة استأجرها‪ .‬نشغل نحن جزأها الكبر بينما يحيا هو‬
‫بين غرفتين‪ :‬صالونه الذهبي الفخم حيث يستقبل ضيوفه من السياسيين ورفاق قدامى‬
‫يتناقصون كل عام‪ ,‬وغرفة نوم فاخرة اشتراها من معمرين فرنسيين غادروا الجزائر عند‬
‫الستقلل‪ ,‬ربما كانت تعود لنهاية القرن الماضي‪ ,‬بخزانة ضخمة منقوشة باليد بحفر صغير‬
‫على شكل دوالٍ تغطيها مرايا كبيرة‪ .‬جوارها سرير عا ٍل يسند رأسه لوح بذات النقوش‬
‫وينتهي جانباه من العلى بمجسمات نحاسية لملكين كأنما يطيران أحدهما صوب الخر‪,‬‬
‫وعلى جانبي السرير طاولتان صغيرتان تغطيهما لوحتان رخاميتان‪ ,‬يقابله خزانة أثاث‬
‫بأربعة جوارير بمماسك نحاسية جميلة تعلوه مرآة أخرى تحيط بها النقوش ذاتها‪.‬‬

‫كان الصالون قصاص أبي‪ .‬كان كتلك الغرف القليلة الستعمال‪ ,‬القليلة الستقبال والمهيأة‬
‫لزوار لن يأتوا‪ .‬يذكّره بابه الذي ل يفتح إل في المناسبات بأن الرفاق من حوله انفضوا‪.‬‬
‫أما غرفة النوم التي كانت مملكته وما بقي من جاهه والتي كان ينام فيها وحده‪ ,‬فقد أصبحت‬
‫بعده قصاصي أنا‪ .‬كان مستبعدا بيعها لسباب عاطفية‪ ,‬ولذا وجدتني أبدأ حياتي الزوجية‬
‫على سريرها‪.‬‬
‫كان في الغرفة رائحة توقظ زمن الموتى‪ ,‬تفسد عليك زمانك‪ .‬ما أصعب أن تبدأ حياتك‬
‫الزوجية على سرير كان أبوك يشغله وحده‪ ,‬وينام على يساره دائما إلى حد تواطأ الزمن مع‬
‫الجسد حافرا لحدا داخل الفراش الصوفي بحيث ما عاد بإمكانك أن تتقاسمه مع شخص‪ ,‬إل‬
‫وتدحرج أحدكما نحو الخر‪.‬‬
‫كانت غرفة فاخرة تصلح بسريرها العالي وأبواب خزائنها الثقيلة للنتيكا‪ ..‬ل للحب‪ .‬وربما‬
‫أرادها أبي فخمة إلى ذلك الحد ليعوض بها غياب الحب في حياته‪.‬‬
‫ما كان أبي ثريا‪ ,‬ول اشترى تلك الغرفة بالذات ليراها أحد سواه‪ .‬ولكنها كانت تذكرني‬
‫بغرف نوم فاخرة مؤثثة بإثم واضح في التبذير‪ ,‬قصد إقناعك أن الثرياء ليسوا عشاقا‬
‫سيئين!‬

‫ذات يوم تبدأ حياتك الزوجية في سرير المسنين المليء بكوابيس النوم غير المريح‪ .‬وعليك‪,‬‬
‫لسباب عاطفية غبية‪ ,‬أن تتدرب على التصرف بحياة سبقك إليها أبوك‪ .‬رائحته هنا علقت‬
‫بالخشب‪ ..‬بالستائر‪ ..‬بأوراق الجدران‪ ..‬بكريستال الثريا‪ .‬وأنت مدهوش‪ ,‬ل تدري حتى متى‬
‫ستظل رائحته تتسرب إليك‪ .‬أكانت كل تلك الغرفة سريرا لرائحته؟‬
‫كنت تظن لك فيها حياة مؤقتة‪ ,‬كما لو كانت نزلً تمر به‪ ,‬كما لو كنت عابر سرير‪ .‬ولكن‬
‫حيث تنام‪ ,‬ذات يوم‪ ,‬في اللحظة التي تتوقعها القل‪ ,‬تجتاحك رائحة الغياب‪ ,‬وتستيقظ فيك‬
‫تلك الرائحة التي أفسدت عليك منذ البدء علقتك بجسد زوجتك‪ ,‬حد جعلك تفرض عليها‬
‫تناول حبوب منع الحمل لسنوات‪ ,‬خشية مجيء صغير يعاني من " تشوهات السرية‬
‫للسرة"!‬

‫كنت أجد فرحتي بعد ذلك في الهروب إلى بيت عبد الحق‪ ,‬حيث أصبح لشهواتي سرير غير‬
‫شرعي مع حياة‪ .‬فعليك بل توقف أن تخترع حياتك الخرى المزورة‪ ,‬إنقاذا لحياتك الحقيقية‬
‫التي ل وهج فيها‪.‬‬
‫وكنت تزوجت امرأة لتقوم بالشغال المنزلية داخلي‪ ,‬لتكنس ما خلّفت النساء الخريات من‬
‫دمار في حياتي‪ ,‬مستنجدا بالزواج الوقائي عساه يضع متاريس تجنبني انزلقات الحياة‪ ,‬وإذ‬
‫في ذلك الزواج اغتيال للحياة‪.‬‬
‫ذلك أن ثمة من يبتزك بدون أن يقول لك شيئا‪ ,‬ذلك البتزاز الصامت للضعفاء‪ ,‬الذي يجيز له‬
‫التصرف بحياتك مذ وقعت في قبضته بحكم ورقة ثبوتية‪.‬‬
‫ثمة من ينال منك‪ ,‬بدون أن يقصد إيذاءك‪ ,‬إنما باستحواذه عليك حد اليذاء‪ .‬ثمة من يربط‬
‫سعادته بحقه في أن يجعلك تعيسا‪ ,‬بحكم أنه شريك لحياتك‪ ,‬تشعر أن الحياة معه أصبحت‬
‫موتا لك‪ ,‬ول بد من المواجهة غير الجميلة مع شخص لم يؤذك‪ ,‬لم يخنك‪ ,‬ولكنه يغتالك‬
‫ببطئ‪.‬‬
‫تريد أن تستقيل من دور الزوج الصالح والسعيد الذي مثلته لسنوات‪ ,‬تفاديا منك للشجارات‬
‫والخلفات‪ .‬تريد أن تتنازل عن أوسكار التمثيل الذي كان يمكن أن تحصل عليه في البطولة‬
‫الرجالية في فيلم " الحياة الزوجية"‪ .‬ل لقلة حيلتك‪ ,‬فأنت ما زلت قادرا على مزيد من‬
‫الكاذيب التي تبتلعها امرأة دون جهد‪ .‬ولكنك متعب‪ ,‬والحياة أقصر من أن تقضيها في حياكة‬
‫الكاذيب‪ ,‬والرعب اليومي الذي تعيشه أكبر من أن تزيد عليه الخوف من زوجتك‪.‬‬

‫ل لقرار النفصال عن‬


‫ربما لكل هذه السباب اخترت أن أذهب للقامة في ( مازفران) تأجي ً‬
‫زوجتي التي برغم كل شيء كان يعز علي إيلمها‪.‬‬
‫نجحت يومها في قراءة ذلك الكتاب الصغير الذي اشتريته ‪ ,‬قبل أن تلحق بي فرانسواز‬
‫وتنزلق تحت اللحفة‪ ..‬وتمنعني من إنهاء صفحاته الخيرة‪.‬‬
‫ضممتها وأنا أفكر في نساء تعيش معهن ول تعاشرهن‪ .‬وأخرى دون الجميع تحتاج أن‬
‫تعاشر طيفها في غفوتك‪ ..‬أن تفكر بها في ذروة عزلتك‪ .‬تحتاج لكي تبقى على قيد الحياة‪,‬‬
‫أن تعلم أنها ما زالت على قيد ذكراك وأنها حتما ستأتي‪.‬‬
‫ليلتها‪ ,‬وأنا أتقاسم سريرا مع فرانسواز‪ ,‬عانقت غيرها ونمت متوسدا موعد‪.‬‬

‫الفصل السادس‬

‫ثم جاءت‪.‬‬
‫انخلعت أبواب الترقب على تدفق ضوئها المباغت‪.‬‬
‫دخلت‪ ..‬وتوقف العالم برهة عن الدوران‪.‬‬
‫توقف القلب دقة عن الخفقان كما للتقاط النفاس من شهقة‪.‬‬
‫إعصار يتقدم في معطف فرو ترتديه امرأة‪ .‬أيتها العناية اللهية‪..‬‬
‫أل ترفقت بي!‬
‫أيتها السماء‪ ..‬أيها المطر‪ ..‬يا جبال اللب‪ ..‬خذوا علما أنها جاءت‪.‬‬
‫التقينا إذن‪..‬‬
‫الذين قالوا‪ :‬وحدها الجبال ل تلتقي أخطأوا‪ ,‬والذين بنوا بينها جسورا لتتصافح من دون أن‬
‫تنحني‪ ,‬ل يفهمون شيئا في قوانين الطبيعة‪.‬‬
‫الجبال ل تلتقي إل في الزلزل والهزات الرضية الكبرى‪ ,‬وعندها ل تتصافح إنما تتحول إلى‬
‫تراب واحد‪.‬‬
‫أكان بوسعنا تفادي الكارثة؟ ها نحن نلتقي حيث رتبت لنا المصادفة موعدا في آخر معاقل‬
‫الحزن‪ ..‬كلعنة‪.‬‬
‫عمي صباحا سيدتي الجميلة‪ ..‬كفاجعة‪.‬‬
‫هي ذي‪ ..‬كيف يمكن فك الشتباك مع عينيها‪ .‬كل ما أردته كان النظر إليها بعد هذا الغياب‪.‬‬
‫كانت تبدو كشجرة ليمون‪ .‬تساقط زهرها دهشة عندما رأتني‪ .‬كان آخر مكان توقعت أن‬
‫تراني فيه هو باريس‪ ,‬في معرض رسام أنكرت وجوده خارج كتاب‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬شيء ل يصدق‪.‬‬
‫‪ -‬هي حياة ندين بها لمصادفة اللقاءات‪.‬‬
‫ردت باندهاش جميل ل يخلو من الذعر‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي‪ ..‬ما توقعت أبدا أن أراك هنا!‬
‫قلت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا أفعل إذا كان كل شيء يعيدك إلي‪.‬‬
‫كنت ألمّح لقولها مرة " كل شيء يعيدني إليك" وكنت أجبتها مصححا آنذاك‪ " :‬وكل شيء‬
‫يبقيني فيكِ"‪.‬‬
‫قالت معلقة بذكاء‪:‬‬
‫‪ -‬ظننتك غيرت عنوان إقامتك منذ ذلك الحين!‬
‫أجبت وأنا أمازحها نافضا سترتي‪:‬‬
‫‪ -‬كما ترين‪ :‬كلما هممت بمغادرتك تعثرت بكِ‪.‬‬
‫ثم واصلت‪:‬‬
‫‪ -‬بالمناسبة‪ ..‬أجمل ما يحدث لنا ل نعثر عليه بل نتعثر به‪.‬‬
‫كنت هنا أيضا أصحح قولها " أجمل حب‪ ..‬هو الذي نعثر عليه أثناء بحثنا عن شيء آخر"‪.‬‬
‫كيف الفكاك من حب تمكن منك حد اختراق لغتك‪ ,‬حتى أصبحت إحدى متعك فيه هتك أسرار‬
‫اللغة؟‬
‫النشوة معها حالة لغوية‪ .‬لكأنني كنت أراقصها بالكلمات‪ ,‬أخاصرها‪ ,‬أطيّرها‪ ,‬أبعثرها‪,‬‬
‫ألملمها‪ .‬وكانت خطى كلماتنا دوما تجد إيقاعها منذ الجملة الولى‪.‬‬
‫كنا في كل حوار راقصين يتزلجان على مرايا الجليد في ثياب احتفائية‪ ,‬منتعلين موسيقى‬
‫الكلمات‪.‬‬
‫ذات مرة قالت‪:‬‬
‫‪ -‬أحلم أن أفتح باب بيتك معك‪.‬‬
‫أجبتها على إيقاع التانغو‪ ,‬وأنا أعيد أحلمها خطوتين إلى الوراء‪:‬‬
‫‪ -‬وأحلم أن أفتح الباب‪ ..‬فألقاك‪.‬‬
‫لكن الحياة قلبت لنا الدوار‪ .‬هاهي ذي تفتح باب قاعة لتزور معرضا فتلقاني‪ .‬إنه ليس زمن‬
‫التانغو‪ ,‬بل أزمنة الفالس‪ ,‬بدوارها المحموم وجملها المتخاصرة في تداخلها‪ ,‬وارتباك‬
‫خطوتها الولى بجمل منتشية‪ ,‬متداخلة‪ ,‬كتوتر شفتين قبل قبلة‪ ,‬لمرأة بلغت في غيابي‬
‫ثلثين سنة‪ ..‬وبعض قُبَل‪ .‬ويلزمها سبع قبلت أخرى‪ ,‬لتبلغ عمر حزني الموثق في شهادة‬
‫ل تأخذ بعين العتبار‪ ,‬ميلدي على يديها ذات ‪ 30‬أكتوبر على الساعة الواحدة والربع‬
‫ظهرا‪ ..‬في مقهى!‬
‫الشياء معها تبدأ كما تنتهي‪ :‬على حافة ربع الساعة الخيرة‪.‬‬

‫كانت تتأملني بارتباك المفاجأة‪ .‬وكنا بعد سنتين من الغياب يتصفح أحدنا الخر على عجل‪,‬‬
‫وندخل صمتا في حوارات طويلة لحديث لم يكن‪.‬‬
‫سألتها إن كان في رفقتها أحد‪.‬‬
‫ردت‪:‬‬
‫‪ -‬حضرت بمفردي‪.‬‬
‫‪ -‬حسنا إذن أقترح أن تلقي نظرة على المعرض ثم أدعوك لنشرب شيئا معا في المقهى‬
‫المجاور‪.‬‬
‫تعمدت أن أتركها تقوم بجولة بمفردها‪ .‬أردت أن أحافظ على جمالية المسافة لراها‬
‫بوضوح‪ ,‬ولتجسس على ذاكرتها المعلقة فوق أكثر من جسر‪.‬‬
‫كما توقعت‪ ,‬بعد بضع لوحات‪ ,‬ذهبت صوب تلك اللوحة‪ .‬رأيتها تقف أمامها طويلً كما لول‬
‫مرة منذ عشر سنوات‪.‬‬
‫كما من دون قصد قصدتها‪ .‬كانت تجيل النظر في دليل اللوحات‪ .‬سألتها إن كانت أحبت تلك‬
‫اللوحة‪.‬‬
‫قالت كما لخفاء شبهة‪:‬‬
‫‪ -‬كنت أعجب فقط أن يكون الرسام باعها‪ .‬أرى عليها إشارة حمراء‪.‬‬
‫سألتها مستفيدا من الفرصة إن كانت تعرف الرسام‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ل‪ ..‬أبدا‪ .‬لكن من عادة الرسامين أن يحتفظوا بلوحتهم الولى‪ .‬وحسب التاريخ المكتوب‬
‫عليها ‪ ,‬هي أول لوحاته‪ ,‬بينها وبين بقية اللوحات أكثر من ربع قرن!‬
‫‪ -‬هل كان يعنيك شراؤها؟‬
‫قالت بعد شيء من التردد‪:‬‬
‫‪ -‬ل أدري‪..‬‬
‫ثم واصلت‪:‬‬
‫‪ -‬في جميع الحالت بيعت‪ ,‬وعلي أن أختار غيرها‪ ..‬ل أستطيع التركيز على شيء وأنت‬
‫معي‪ .‬سأعود مرة ثانية لختيار لوحة أو لوحتين‪.‬‬
‫قلت مستدرجا إياها لعتراف ما‪:‬‬
‫‪ -‬مازلت غير مصدق أننا معا‪ ..‬بربك ما الذي جاء بك إلى هنا؟‬
‫أنا الذي كنت أملك سوء الظن بأجوبتها‪ ,‬لم أكن مهتما باختيار صيغة لسئلتي‪ .‬كانت تملك‬
‫إغراء الصمت المفاجئ عن اعتراف كادت تطيره ريح المباغتة‪ .‬ولذا بين جملتين تنحسران‬
‫كذبا كانت تشد فستان اللغة صمتا‪ ..‬إلى السفل‪.‬‬
‫‪ -‬إنها مصادفة ل أكثر‪ ..‬أمدني أخي ناصر ببطاقة إعلن عن هذا المعرض لعلمه أنني أحب‬
‫الرسم‪ ...‬غادرت باريس منذ ‪ 10‬سنوات وما عدت منذ ذلك الحين أتابع الحياة الثقافية هنا‪.‬‬
‫لم أفهم سر إصرارها على إنكار وجود هذا الرجل ذات يوم في حياتها‪.‬‬
‫أكان ذلك بسبب عاهته؟ أم كهولته؟ أم كانت فقط ككل الكتّاب ل تحب انفضاح شخصياتها في‬
‫واقع الحياة؟‬

‫كان واضحا أن ناصر لم يأتِ على ذكري معها ول زيان طبعا‪ ,‬مما جعلها تتوقع وجودي هنا‬
‫مصادفة‪ .‬ونظرا لختلف اسم الرسام عن اسم بطلها‪ ,‬ربما اعتقدت أن الكذبة انطلت عليّ‪,‬‬
‫خاصة أنها كانت واثقة من وجود زيان في المستشفى واستحالة لقائي به‪.‬‬
‫ربما ولدت لحظتها في ذهني تلك الفكرة المجنونة التي رحت بسرعة الفرحة أخطط‬
‫لتفاصيلها‪ ,‬بعد أن قررت أن أهيئ لذاكرتها مقلبا بحجم نكرانها!‬
‫عندما خلوت بها بعد ذلك في المقهى‪ ,‬بدت لي كثيرة الصمت سهوا‪ ,‬دائمة النظر إلى الرواق‬
‫الذي كنا نراه خلف الواجهة الزجاجية على الرصيف الخر‪ ,‬كأنها كانت تستعيد شيئا أو‬
‫تتوقع قدوم أحد‪ .‬إنها لم تتغير‪.‬‬
‫متداخل الوقت حبها‪ ,‬لكأنها تواصل معك حب رجل أحبته قبلك ‪ ,‬أثناء استعدادها لحب من‬
‫سيليك‪.‬‬
‫لفرط ديمومة حالتها العشقية‪ ,‬لم تعد تعرف هلع النساء في بداية كل حب‪ ,‬ول حداد العشاق‬
‫أمام يتم العواطف‪.‬‬
‫أنت الذي قد يأخذ معك حداد حب سنتين‪ ,‬يا لغباء حدادك الشعبي! من أين لك هذا الصبر‬
‫على امرأة لها حداد ملكيّ‪ ,‬ل يكاد يموت ملك إل ويعلن مع مواته اسم من سيعتلي عرش‬
‫قلبها؟‬

‫سألتها مرة عن سبب أل تكون كتبت سوى كتاب واحد‪ .‬أجابت ساخرة‪ " :‬لم أرت ِد سوى حداد‬
‫حب واحد‪ ,‬لتكتب ل بد أن تدخل في حالة حداد على أحد أو على شيء‪ ,‬الحياة تزداد قصرا‬
‫كلما تقدم بنا العمر‪ ,‬ول وقت لنا لمثل هذا الهدر الباذخ‪ .‬ما الحداد إل خيانة للحياة‪ ".‬وربما‬
‫كانت تعني أن الوفاء لشخص واحد‪ ..‬خيانة لنفسنا‪ .‬تحاشت قول ذلك لنني كنت وقتها ذلك‬
‫الشخص الواحد الذي كانت تحبه!‬
‫عندما أحضر النادل طلباتنا‪ ,‬سألتها وأنا أشعل سيجارة‪:‬‬
‫‪ -‬هل كتبت شيئا خلل هاتين السنتين؟‬
‫كان باستطاعتي عبر هذا السؤال وحده أن أعرف ما حدث بعدي‪.‬‬
‫باغتها سؤالي حتما‪ .‬على القل في استباقه أسئلة أخرى‪ ,‬أظنها أدركت بذكاء " شيفرتنا"‬
‫العشقية‪ ..‬كنت أسألها إن هي لبست حدادي بعض الوقت‪.‬‬
‫ردت بصوت غائب‪:‬‬
‫‪ -‬ل‪..‬‬
‫لم تضف شيئا على تلك الكلمة‪ ,‬أي تبرير يمكن أن يغير وقعها‪ .‬شعرت بلسعة اللم وبوجع‬
‫العتراف الذي تلقيته كإهانة لحبنا‪.‬‬
‫ألم يبق من اشتعالت ذلك الزمن الجميل ما يكفي لضرام نار الكلمات في كتاب؟‬
‫ي سوى خالد بن طوبال‪ ,‬الرجل الذي كنت أذكرها به والذي‬
‫أهي لم تحبني إذن؟ وما أحبت ف ّ‬
‫كانت تقول إنه أحد ابتكاراتها الروائية‪.‬‬
‫أم ترى أحبت فيّ عبد الحق‪ ,‬الرجل الذي توهمته أنا وكان سيليني في عرش قلبها لو أن‬
‫الموت لم يسبقها إليه؟‬
‫حب يحيلها إلى حب ول وقت لديها للفقدان‪ .‬الفقدان الذي هو مداد الكتابة‪.‬‬
‫سألتني بعدما طال صمتي‪:‬‬
‫‪ -‬فيم تفكر؟‬
‫‪ -‬في مسرحية عنوانها " الحداد يليق بإلكترا"‪ .‬كنت أفكر أن الحداد يليق بك‪ .‬جربي الحداد‬
‫بعض الشيء‪ ,‬قد تكتبين أشياء جميلة‪.‬‬
‫‪ -‬عدلت عن كتابة الروايات‪ .‬إنها كالقمار تعطيك وهما كاذبا بالكسب‪ .‬أثناء إدارتك الخرين‬
‫تنسى أن تدير حياتك‪ ..‬أقصد تنسى أن تحيا‪ .‬كل رواية تضيف إلى عمر الخرين ما تسرقه‬
‫من عمر كاتبها‪ .‬كمن يجهد في تبذير حياة بحجة تدبير شؤونها‪.‬‬
‫سألتها ساخرا‪:‬‬
‫‪ -‬ألهذا تقتلين أبطالك دائما لتوفري على نفسك جهد إدارة حياتهم؟‬
‫ردت مازحة‪:‬‬
‫‪ -‬ثمة أبطال يكبرون داخلك إلى حد ل يتركون لك حيزا للحياة‪ ,‬ول بد أن تقتلهم لتحيا‪ .‬مثل‬
‫هؤلء بإمكانهم قتل مؤلفيهم‪ .‬بعض الروائيين يموتون على يد أبطالهم لنهم ما توقعوا قدرة‬
‫كائن حبري على القتل‪.‬‬
‫واصلت بعد شيء من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬خالد مثلً‪ ..‬لو لم أقتله في رواية لقتلني‪ .‬ما قست عليه رجلً إل و ازدادت فجيعتي‪ .‬كان‬
‫ل بد أن يموت‪ .‬جماله يفضح بشاعة الخرين ويشوش حياتي العاطفية‪.‬‬
‫راودتني رغبة أن أقول لها إنه‪ -‬برغم ذلك‪ -‬على قيد الحياة‪ ,‬يشاركنا استنشاق هواء هذه‬
‫المدينة‪.‬‬
‫لكنني صمت‪ .‬لم يكن آن بعد أوان تلك المواجهة!‬
‫لم أدر لماذا‪ ,‬برغم ذلك‪ ,‬لم يزدني حديثي معها إل اشتهاءً لها‪.‬‬
‫كاتبة مشغولة عن كتابة الروايات بالتهام الحياة‪ ,‬تفتح شهيتك للتهامها‪ .‬إضافة إلى أن‬
‫امرأة على ذلك القدر من الكذب الروائي‪ ,‬تعطيك ذريعة إضافية لستدراجها إلى موعد تسقط‬
‫فيه أقنعتها الروائية!‬
‫ها هي ذي‪ .‬وأنا شارد بها عنها‪ .‬نسيت كل مآخذي عليها‪ .‬نسيت لماذا افترقنا‪ ..‬لماذا‬
‫كرهتها‪ .‬وها أنا أريدها الن‪ ,‬فورا‪ ,‬بالتطرف نفسه‪ .‬كنت سأقول ‪ " :‬أضيئي نفق الترقب‬
‫بموعد" لكنني وجدت في تلك الصيغة استجدا ًء ل يليق بامرأة ل تحب إل رجلً عصيّ‬
‫العاطفة‪ .‬قلبت جملتي في صيغة ل تسمح لها سوى بتحديد الوقت‪ .‬قلت‪:‬‬
‫‪ -‬أي ساعة أراك غدا؟‬
‫‪ -‬أأنت على عجل؟‬
‫‪ -‬أنا على امتلء‪.‬‬
‫أضفت كما لصحح زلة لسان كنت تعمدتها‪:‬‬
‫‪ -‬في جعبتي كثير من الكلم إليك‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا تتبدد في المشافهة؟ بما كان ما في جعبتك يصلح لكتابة رواية‪.‬‬
‫كان لها دهاء النوثة الفطري‪ .‬فتنة امرأة تكيد لك بتواطؤ منك‪ .‬امرأة مغوية ‪ ,‬مستعصية‪,‬‬
‫جمالها في نصفها المستحيل الذي يلغي السبيل إلى نصف آخر‪ ,‬يوهمك أنها مفتوحة على‬
‫احتمال رغباتك‪.‬‬
‫هي المجرمة عمدا‪ .‬الفاتنة كما بل قصد‪ .‬تتعاقد معها على الخلص وتدري أنك تبرم صفقة‬
‫مع غيمة‪ .‬ل يمكن أن تتوقع في أي أرض ستمطر أو متى‪.‬‬
‫امرأة لها علقة بالتقمص‪ .‬تتقمص نساء من أقصى العفة إلى أقصى الفسق‪ ,‬من أقصى‬
‫البراءة إلى أقصى الجرام‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪ -‬حواراتنا تحتاج إلى غرفة مغلقة‪.‬‬
‫ردت‪:‬‬
‫‪ -‬ل أحب الثرثرة على شراشف الضجر‪.‬‬
‫أجبتها بما كنت واثقا أنه سيقنعها‪:‬‬
‫‪ -‬لن تضجري‪ ..‬هيأت لك موقدا أنت حطبه‪.‬‬
‫لفظت هذه الجملة وأنا ابتسم‪ ,‬فوحدي كنت أعرف ما أعنيه‪ .‬لكنني واصلت بنبرة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬كيف تقاومين هذا المطر بمفردك؟ نحن في باريس‪ ,‬إن لم يهزمك الحنين إليّ ستهزمك‬
‫النشرة الجوية‪ ,‬إل إذا كنت أحضرتِ في حقائب سفرك من يتكفل بتدفئتك!‬
‫غرقت لول مرة في صمت طويل‪.‬‬
‫لحظت في صوتها نبرة حزن لم أعهدها منها‪ ..‬ثم واصلت كأنها تحادث نفسها‪:‬‬
‫‪ -‬سامحك ال‪..‬‬
‫ولم تضف شيئا‪.‬‬
‫شعرت بحزن من أساء إلى الفراشات‪ ,‬ولم أجد سببا لشراستي معها‪ .‬ربما لفرط حبي لها‪.‬‬
‫ربما لدراكي بامتلكي المؤقت لها‪ .‬لم أستطع أن أكون إل على ذلك القدر من العنف‬
‫العشقي‪.‬‬
‫قلت معتذرا ‪:‬‬
‫سامحيني لم أكن أقصد إيلمك‪.‬‬
‫قالت بعد صمت‪:‬‬
‫‪ -‬يؤلمني أنك ما زلت ل تعي كم أنا جاهزة لدفع مقابل لقاء معك‪ .‬عيون زوجي مبثوثة في‬
‫كل مكان‪ ..‬وأنا أجلس إليك في مقهى غير معنية إن مت بسببك في حادث حب‪ .‬أنا التي أن‬
‫لم أمت بعد‪ ,‬فلكوني عدلت عن الحب وتخليت عن الكتابة‪ .‬الشبهتان اللتان لم يغفرهما لي‬
‫زوجي‪.‬‬
‫أمسكت بيدها قصد تقبيلها‪ ,‬بدا لي خاتم الزواج‪ ,‬أعدت وضعها وأخذت الخرى‪ .‬طبعت قبلة‬
‫طويلة عليها وتمتمت كما لنفسي‪:‬‬
‫‪ -‬حبيبتي‪...‬‬
‫سألتها وأنا أرفع شفتي عن يدها‪:‬‬
‫‪ -‬كيف سمح لك أن تسافري من دونه؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬جئت مع والدتي بذريعة أن أراجع طبيبا مختصا في العقم النسائي‪ .‬نحن هنا لنلتقي بأخي‬
‫ناصر‪ .‬حضر من ألمانيا خصيصا ليرانا‪ .‬أخاف أن تموت أمي بدون أن تراه‪ ..‬أصبحت هذه‬
‫الفكرة ذعري الدائم‪ ,‬هرول العمر بها سريعا منذ غيابه‪.‬‬
‫قلت وأنا ممسك بيدها‪:‬‬
‫‪ -‬كم تمنيت أن ألتقي بوالدتك‪ .‬كثيرا ما شعرت أنها أمي‪ .‬ل بسبب يتمي فحسب‪ ,‬بل‬
‫لحاسيسي المتداخلة المتقاطعة دوما مع جسدك‪ .‬أحيانا أشعر أننا خرجنا من الرحم نفسه‪.‬‬
‫وأحيانا أن جسمك هو الذي لفظني إلى الحياة ومن حقي أن أستوطنه‪ .‬أعطيني تصريحا‬
‫للقامة فيه تسعة أشهر‪ ..‬أطالب باللجوء العاطفي إلى جسدك!‬
‫ابتسمت وعل وجنتيها احمرار العذارى‪ ,‬وارتبكت خصلت شعرها حتى بدت كأنها صغيرتي‪.‬‬
‫كنت أحب جرأتها حينا‪ ,‬وحينا حياءها‪ .‬أحب تلك النوثة المترفعة التي ل يمكن أن تستبيحها‬
‫عنوةً إل بإذن عشقي‪.‬‬
‫قالت وهي ترفع خصلة شعرها ببطء‪:‬‬
‫‪ -‬معك أريد حملً أبديا‪.‬‬
‫أجبت ممازحا‪:‬‬
‫‪ -‬لن أستطيع إذن أن أستولدك طفلة جميلة مثلك‪ .‬أتدرين خسارة ألّ تتكرري في أنثى‬
‫أخرى؟ ستتضائل كمية النوثة في العالم!‬
‫‪ -‬بل أدري خسارة أن أتحسس بطني بحثا عنك كل مرة‪ ,‬ول أفهم أل تكون تسربت إليّ‪ .‬ل‬
‫بد أن تكون امرأة لتدرك فجيعة بطن لم يحبل ممن أحب‪ .‬وحدها المرأة تدرك ذلك‪.‬‬
‫سألتها بعد صمت‪:‬‬
‫‪ -‬حياة هل أحببتني؟‬
‫‪ -‬لن أجيبك‪ .‬أرى في سؤالك استخفافا بي‪ ,‬وفي جوابي عنه استخفافا بك‪ .‬كل المشاعر التي‬
‫تستنجد بالبوح هي مشاعر نصف كاذبة‪ .‬إن خدش حميمية الخر ل تتأتى إل بالتعري الدميم‬
‫للبوح‪.‬‬
‫هذا كلم تعلمته منك في ذلك الزمن البعيد أيام كنت أستجدي منك اعترافا بحبي فتجيب‪ ":‬أي‬
‫طبق شهي للبوح ل يخلو من توابل الرياء‪ .‬وحده الصمت هو ذلك الشيء العاري الذي يخلو‬
‫من الكذب‪".‬‬
‫قلت مندهشا‪:‬‬
‫‪ -‬متى حفظت كل هذا؟‬
‫‪ -‬في تلك اليام التي عشتها عند أقدام أريكتك‪ ,‬بصبر قطة‪ ,‬ألعق من صحن النبهار كل ما‬
‫تتفوه به‪ .‬قلت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬وعندما كانت تشبع تلك القطة‪ ,‬تحولني إلى كرة صوفية تلعب بها حينا وأحيانا أخرى‬
‫تنتف بمخالبها خيوطها‪ .‬كم غرستِ مخالب ساديتك في طيبوبتي‪ ..‬ثم لعقت جراحي إمعانا في‬
‫إيلمي‪.‬‬
‫ضحكنا بتواطؤ الزمن الجميل‪ .‬وعندما رأيتها تنظر إلى ساعتها معلنة تأخرها‪ ,‬قلت‪:‬‬
‫‪ -‬أريد أن أراكِ‪ ..‬ل بد أن تتدبري لنا موعدا‪.‬‬
‫‪ -‬ل أظنني أستطيع التحايل على ناصر وآما معا‪ .‬سيلحق بي أحدهما حتما حيثما أذهب‪.‬‬
‫قلت ضاحكا‪:‬‬
‫‪ -‬ولماذا أنتِ روائية إذن؟‬

‫***‬
‫افترقنا في المقهى خشية أن نصادف أحد التجار الجزائريين من المترددين على المعرض‪,‬‬
‫بعد أن تركت لها رقم هاتفي الجوال‪.‬‬
‫تركتها تسبقني بخطوات‪ .‬وبينما كانت تنتظر سيارة أجرة‪ ,‬كنت أقصد المترو عائدا إلى البيت‬
‫خوفا على جمال فرحة قد أنفضح بها‪.‬‬
‫الفرحة الخرى كانت سفر فرانسواز صباح الغد‪ .‬وجدتها تعد حقيبة سفرها‪.‬‬
‫كانت مجهدة بعد يومين من العمل في المعهد‪ ,‬ل ترغب سوى في النوم كي تستطيع‬
‫الستيقاظ باكرا‪.‬‬
‫سعدت بأنها لم تتحرش بي‪ .‬كان عقلي كله عند حياة‪ ,‬ولم أكن سعدت بأنها لم تتحرش بي‪.‬‬
‫كان عقلي كله عند حياة‪ ,‬ولم أكن بي‪ .‬كان عقلي كله عند حياة‪ ,‬ولم أكن أدرك أن عقلها‬
‫أيضا كان عند رجل آخر!‬
‫ل تلك الليلة أمام التلفزيون‪ .‬لم أستطع النوم‪ .‬ثم فكرت أن أطلب ناصر لياقة‬
‫سهرت طوي ً‬
‫للطمئنان عن والدته‪.‬‬
‫بدا محتفيا بي كأنه افتقدني‪ .‬وأصر على دعوتي يوم السبت للعشاء عند مراد لن والدته‬
‫ستحضر لتعد لهم أكلً قسنطينيا!‬
‫سألته عن صحتها‪ .‬قال بشيء من السى‪:‬‬
‫‪ -‬إن العذاب النفسي الذي عرفته امّا على يد الفرنسيين أيام كان أبي أحد قادة الثورة‬
‫الملحقيين‪ ,‬ل يعادل ما تلقيه في هذا العمر بسببي‪ ..‬تصور أن تتحمل عجوز في سنها‬
‫مشقة السفر لترى ابنها‪ ,‬لن وطنه مغلق في وجهه وعليها أن تختار أتريده ميتا أم متشردا‪.‬‬
‫لم أشأ أن أقص عليه ما بذريعة مواساته كان سيزيده ألما‪.‬‬
‫ذكرني كلمه بما سمعته يوما عن والدة أحمد بن بلة التي‪ ,‬رغم ما كانت عليه من ضعف‬
‫بنية وقصر قامة‪ ,‬أذهلت الفرنسيين بشجاعتها‪ .‬فعندما اعتقلوا ابنها وساقوها إليه قصد‬
‫إحباط معنوياته وتعذيبه برؤيتها‪ ,‬فاجأتهم بأن لم تقل له وهي تراه مكبلً سوى " الطير الحر‬
‫ما يتخبطش" وأدركوا أنها بذلك المثل الشعبي كانت تحثه على أن يكون نسرا كاسرا ل‬
‫عصفورا ينتفض خوفا في يد العدو‪.‬‬

‫لكن الحياة كانت تعد لها امتحانا آخر‪ .‬فبعد استقلل الجزائر خرج بن بلّة زعيما من سجن‬
‫العدو ليجد معتقلت وطنه مشرعة في انتظاره سبع عشرة سنة أخرى‪ .‬لم يسمح لتلك الم‬
‫العجوز برؤيته سوى بعد سنتين من اعتقاله‪ .‬يومها ولهانة ابنها تم تعريتها وتفتيشها‬
‫وتركت ترتجف بردا على مرأى من كلب حراسة الثورة‪ .‬لم تصمد كهولتها أمام مجرى‬
‫هواء التاريخ‪ ,‬ماتت بعد فترة وجيزة من جراء نزلة القهر بردا على مرمى العيون اللمبالية‬
‫لوطنٍ له القدرة على مسخ النسور الكواسر إلى عصافير مذعورة‪.‬‬
‫كان عليه أن ينتظر خمس عشرة سنة لتفتح له الزنزانة على مضض‪ ,‬ويطير كعصفور‬
‫مهيض الجناح ليحط باكيا على قبرها‪.‬‬
‫ل أدري كيف وصلت إلى هذا الكم من اللم نهار كنت فيه الكثر سعادة‪ .‬كنت طلبت ناصر‬
‫طمعا في رائحة أخته‪ ,‬وإذا بي أبكي بسبب أمه‪ .‬مسكونون نحن بأوجاعنا‪ ,‬فحتى عندما نحب‬
‫ل نستطيع إل تحويل الحب إلى حزن كبير‪.‬‬

‫في اليوم التالي استيقظت باكرا كي أتناول فطور الصباح مع فرانسواز‪ ,‬وأودعها بما يقتضيه‬
‫الموقف من حرارة‪ ,‬و أتلقى تعليماتها الخيرة حول إدارة شؤون البيت في غيابها‪ .‬عندما‬
‫عدت إلى البيت بعدما رافقتها لحمل عنها حقيبتها حتى باب البناية انتابني شعور غريب‬
‫ونظراتي تتقاطع مع نظرات البواب الفضولية التي ل تخلو من عدائية صامتة‪.‬‬
‫أحسست كما لو كنت ل أقيم في هذا البيت‪ ,‬بل أسترق إقامتي فيه‪ ,‬كالمهاجرين الذين ل‬
‫أوراق لهم‪ .‬أجرب المساكنة‪ .‬أقيم علقة غير شرعية مع مسكن عليّ أثناء مكوثي المختلس‬
‫فيه‪ ,‬أل ألفت نظر الجيران أو أثير انتباههم ‪ .‬عليّ أل أفتح الباب لحد‪ ,‬لنني لست هنا أحد‪,‬‬
‫ول أرد على الهاتف‪ ,‬خشية أل يكون " هو" على الخط‪ .‬فأنا موجود هنا في المكان الخطأ‬
‫فوق ألغام الذاكرة‪ .‬وعندما سيدق ذلك الهاتف طويلً بعد ذلك ولن أرد عليه‪ ,‬سأكتشف بعدها‬
‫أنني كنت موجودا في الوقت الخطأ أيضا!‬

‫وحده ذلك المشروع الذي أهدتني إياه المصادفات في تقاطعها الغريب كان يملني حماسة‪.‬‬
‫ذلك أنني قررت أن أستدرجها إلى هذا البيت لرغامها على العتراف بأنها ذات يوم مرت‬
‫من هنا‪ ,‬وأن ذلك الرجل وجد حقا‪.‬‬
‫سبق لها أن قالت إن للذاكرة حيلٌ إحداها الكتابة‪ ,‬وكانت تعني أن للذاكرة أحابيل إحداها‬
‫الكذب‪ .‬وكانت يومها توهمك بذلك لتهرب تلك الحقيقة في كتاب‪ ,‬هي التي تحب توثيق‬
‫جرائمها العشقية‪ ,‬كيف كان لها أل تصف بيته بكل تفاصيله‪ ,‬بتمثال ( فينوس) في ركن من‬
‫الصالون‪ .‬بلوحات الجسور المعلقة على الجدران‪ ,‬بالشرفة المطلة على جسر ميرابو‪,‬‬
‫بالمرسم الذي تكدس على رفوفه الكثير من تعب العمر‪.‬‬
‫ذلك أنها ما توقعت أن يكون لقارئ يوما‪ ,‬قدر القامة في الغرف السرية لكتابها‪.‬‬
‫كنت أعي ذلك المتياز الذي أهدتني إياه الحياة‪ .‬ولذا قررت أن أقضي نهاري في البيت‬
‫متمتعا باحتجازي في متاهات رواية‪ ,‬أُقحمت فيها كبطل من أبطالها‪.‬‬
‫في الواقع كان شيءٌ فيّ ينتظر صوتها‪ .‬شيء ل يتوقف عن انتظار شيء منها‪ .‬وكنت ل‬
‫أعرف لي مكانا يليق بتوتري غير ذلك البيت‪ .‬كنت أنتظر صوتها كما اعتدت أن أنتظر‬
‫صورة‪ .‬فعندما تكون جالسا على مقعد الوقت المهدور‪ ,‬غير منتظر لشيءٍ البتة‪ ,‬تجد الشياء‬
‫في انتظارك‪ ,‬وتهديك الحياة صورة لمشهد لن يتكرر‪.‬‬
‫أن تنتظر دون أن تنتظر‪ .‬دون أن تعرف بأنك تنتظر‪ .‬لحظتها تأتي الصورة مثل حب‪ ,‬مثل‬
‫امرأة‪ ..‬مثل هاتف‪ .‬تأتي عندما يكون المكان مليئا بشيء محتمل المجيء‪.‬‬
‫وكنت مليئا بذلك البيت‪ .‬أعيش بين غبار أشياء يلمسني في صمته ضجيجها‪ .‬ويذكرني أنني‬
‫عابر بينها‪ .‬ولذا أحضرت آلة تصويري‪ ,‬ورحت بدوري أوثق زمني العابر في حضورها‪.‬‬
‫ذلك أنني اعتدت أن أطلق سيلً من الفلشات على كل ما أشعر أنه مهدد بالزوال كأنني أقتله‬
‫لنقذه‪.‬‬
‫من جثة الوقت تعلمت اقتناص اللحظة الهاربة‪ ,‬وإيقاف انسياب الوقت في لقطة‪ .‬فالصورة‬
‫هي محاولة يائسة لتحنيط الزمن‪.‬‬

‫عندما امتل ذلك الفيلم بالصور‪ ,‬فاجأني إحساس بالبوة‪ .‬كأن آلة التصوير التي كانت رفيقة‬
‫حياتي غدت أنثى تحمل في أحشائها أولدي‪.‬‬
‫فتلك اللحظة الغامضة الخاطفة التي يتقاطع فيها الظل والضوء ليصنعا صورة‪ ,‬تعادل في‬
‫معجزتها اصطياد هنيهة الخصاب بين رجل وامرأة‪.‬‬
‫ل أدري من أين خطرت لي هذه الفكرة‪ .‬ربما لنني بسبب عقدة يتمي كنت مهووسا ببطون‬
‫النساء وصدورهن‪ ,‬دائم البحث عن رحم أأتمنه على طفلي‪.‬‬

‫هي كانت كفينوس‪ ,‬لها غضاضة بطن لم ينجب‪ .‬حزن نساء يدارين بحياء فاجعة الخواء‪ .‬في‬
‫كل تطابق معها كنت أصلي للهة الخصاب كي تحرر أنوثتها المغتصبة في أسرة العسكر‪.‬‬
‫كانت ذاكرتي المنتصبة دوما تتمرد على فكرة أن يشيخ بطنها من غير انفضاح بي‪.‬‬
‫ذات مرة قلت لها مازحا‪ ":‬أنت لن تحبلي من سواي‪ .‬فمنذ موت الفاشية ما عادت النساء‬
‫تحبل قسرا‪ ,‬مستسلمات لسطوة طغاتهن‪ ,‬كتلك المرأة التي قرأت أنها قالت بفعل الجاذبية‬
‫الخارقة للقوة " عندما رأيت موسيليني يمر في موكب شعرت أنني حبلت منه‪ ".‬اليوم‪ ,‬حتى‬
‫البطون الموصدة للميرات أذابت نيران العشق شموع أختامها الملكية‪ .‬وما عاد اللقاح‬
‫الزرق يثير شهية الخصاب لدى الرحام المتوجة‪.‬‬

‫لفرط انشغالي بها كدت أنسى انتظاري لها‪.‬‬


‫كنت ما أزال أستعيدها عندما انتفض القلب ورن ذلك الشيء الذي كان ينتظر صوتها ليصبح‬
‫هاتفا‪.‬‬
‫ركضت أبحث عن الهاتف الجوال‪ ,‬حيث تركته في غرفة النوم‪.‬‬
‫ت في الرد‪ .‬أمنهمك أنت في جمع الحطب؟‬
‫‪ -‬أهلً‪ ..‬صباح الشواق‪ ..‬لماذا تأخر َ‬
‫كيف بذلك القليل أيقظ رذاذ صوتها كل العاصير الجميلة داخلي!‬
‫يا إلهي بالشويّة‪ ..‬أعزل أنا أمام سلطان صوت ببضع كلمات ونصف ضحكة‪ ,‬يشن عليك‬
‫غارة عشقية‪.‬‬
‫ل كغمزة للذاكرة لقبا كنت أناديها به‪:‬‬
‫أجبتها سعيدا بصاعقة الفرحة‪ ,‬مسته ً‬
‫‪ -‬سيدتي " يا حمالة الكذب" ل يمكننا إنقاذ النار إل بمزيد من الحطب‪.‬‬
‫ردت على طريقة أحمد شوقي في " قيس وليلى"‪:‬‬
‫‪ -‬ويلك‪ ..‬أجئت تطلب نارا‪ ..‬أم تشعل البيت نارا؟‬
‫‪ -‬أيتها القطة الضالة تحت مطر باريس‪ .‬ل موقد لك سواي‪ ..‬تعالي كي يشتعل البيت نارا!‬
‫تمنيت لو حادثتها طويلً‪ .‬كان لصوتها جسد‪ ,‬وكان له رائحة وملمس‪ ,‬وكان كل ما أحتاجه‬
‫لبقى على قيد الفرح‪.‬‬
‫لكنها قالت إن ذلك الهاتف كان مسروقا من غفلة الخرين‪ ,‬وإنها لن تتمكن من لقائي اليوم‬
‫بسبب محاصرة ناصر ووالدتها لها‪ .‬لكنها زفّت لي فجأة خبرا كصاعقة عشقية‪:‬‬
‫‪ -‬سيكون من الصعب أن ألتقي بك في النهار فليس من المعقول أن أترك ناصر وامّا‬
‫وحدها‪ .‬لكني عثرت على حيلة تمكنني من أن أقضي ليلة الغد معك‪ .‬تصور من السهل أن‬
‫أراك ليلة كاملة على أن أراك نصف ساعة في النهار‪.‬‬
‫قلت غير مصدق فرحتي‪:‬‬
‫‪ -‬كيف استطعت أن تتدبري معجزة كهذه؟‬
‫‪ -‬إنها هدية المصادفة‪ .‬لكني حسب نصيحتك وظفت لنجازها مواهبي الروائية‪ .‬واصلت‬
‫ضاحكة‪.‬‬
‫‪ -‬في مثل هذه الكاذيب بذرت طاقتي الدبية‪ .‬ل يمكن لروائي يفشل في اختراع كذبة تنطلي‬
‫على أقرب الناس إليه‪ ,‬أن ينجح بعد ذلك في تسويق أكاذيبه في كتاب‪ .‬الرواية تمرين يومي!‬
‫ضحكت ‪ .‬فكرت أنها حتما ل تدري أنني أجيء بها إلى هذا البيت لضعها أمام كذبة لم تنطلِ‬
‫عليّ‪ ..‬هذا إذا افترضنا أنني أقرب الناس إليها!‬
‫سألتها بلهفة الفضول‪:‬‬
‫‪ -‬وما الفكرة التي أسست عليها عملك الروائي؟‬
‫‪ -‬إنها فكرة بسيطة ومبنية على شيء من الحقيقة ككل الكاذيب المتقنة‪ .‬امّا ستذهب غدا‬
‫حيث يقيم ناصر هناك لتعد له ولبعض أصدقائه عشاءً قسنطينيا‪ .‬ومن الرجح أن تنام هناك‪.‬‬
‫ول يمكنني وأنا امرأة متزوجة أن أرافقها إلى بيت رجل غريب وأنام عنده‪ .‬كما ل يمكنني‬
‫أن أبقى وحدي في الفندق‪ .‬ولذا اقترحت أن أقضي الليلة عند بهية‪ .‬إنها قريبة لم ألتق بها‬
‫منذ مدة‪ .‬هي في الواقع ابنة عمي الذي كنت أقيم عنده أيام دراستي‪ .‬تسكن باريس لكن‬
‫زوجها دائم السفر بحكم أعماله‪ ,‬ولن يكون هنا طوال هذا السبوع‪ ,‬لقد هاتفتها ورتبنا معا‬
‫كذبة زيارتي لها‪ .‬هي دوما متواطئة معي مذ كنا نعيش معا منذ عشر سنوات‪.‬‬
‫استنتجت أن الموضوع يتعلق بالعشاء الذي دعاني إليه ناصر في بيت مراد‪ .‬لكنني طبعا‬
‫بقيت على تظاهري بالتغابي‪.‬‬
‫أضافت بعد ذلك بنبرة جادة‪:‬‬
‫‪ -‬أفضّل أل نلتقي في فندقي بل في مكان آخر اختره أنت‪ ,‬على أل يكون فيه طبعا‬
‫جزائريين‪.‬‬
‫قلت ضاحكا‪:‬‬
‫" وين تهرب ياللي وراك الموت"‪ ..‬إنهم في كل مكان في الفنادق الفاخرة كما في أرخص‬
‫الفنادق‪ .‬أقترح أن تحضري إلى البيت الذي أقيم فيه‪ .‬هذا أأمن‪.‬‬
‫قالت كما لتطمئن على مستوى الحي‪:‬‬
‫‪ -‬وأين يوجد هذا البيت؟‬
‫تحاشيت أن أدلها على عنوانه‪:‬‬
‫‪ -‬ل تقلقي‪ .‬إنه في مكان هادئٍ على الضفة اليسرى " للسين"‪.‬‬
‫‪ -‬أعطني العنوان وسآخذ تاكسي للمجيء‪.‬‬
‫‪ -‬أفضل أن أنتظرك في مقهى عند مخرج المترو وأرافقك إليه‪ ..‬في أية ساعة تتوقعين‬
‫المجيء؟‬
‫‪ -‬السابعة والنصف تقريبا‪.‬‬
‫‪ -‬سأنتظرك ابتداءً من السابعة في مقهى ميرابو عند مخرج محطة المترو‪.‬‬
‫صمتت برهة كما لو أن اسم المقهى أثار لديها رد فعل ما‪ .‬لكنني قلت قاطعا الطريق إلى‬
‫شكوكها‪:‬‬
‫‪ -‬ل تظلي هكذا مذعورة كسنجابة‪ .‬نحن خارج خريطة الخوف العربية‪ .‬ل تجبني عندما‬
‫تهديك الحياة مصادفة على هذا القدر من الجمال‪.‬‬
‫‪ -‬ربما لجمالها تخيفني هذه المصادفة‪ .‬اعتدنا أن تكون كل الشياء الجميلة في حياتنا مرفقة‬
‫بالحساس بالخوف أو الحساس بالذنب‪.‬‬
‫كان الحب معها تمرين خطر‪ .‬وكان عليه أن يبقى كذلك‪ .‬فعلى بساطتها‪ ,‬ما كانت امرأة تملك‬
‫حق المجازفة‪ ..‬ككل النساء‪.‬‬

‫عندما أغلقت جهازي النقّال‪ ,‬شعرت أن كل الفصول قد عبرت في مكالمة واحدة عبر ذبذبات‬
‫صوتها‪ ,‬وأنني تائه بين إشراقة ضحكتها وغيم صمتها ورذاذ حزنها السري‪.‬‬

‫حرّك فيّ ذلك الهاتف أحاسيس متناقضة وليدة مشاعر عنيفة في جموحها‪.‬‬
‫بعد انقطاع صوتها كان ينتابني حزن ل مبرر له‪ .‬لفرط إسعادك كانت امرأة تحرض الحزن‬
‫عليك‪.‬‬
‫عاودتني تلك المنية ذاتها‪ :‬ليت صوتها يباع في الصيدليات لشتريه‪ .‬إنني أحتاج صوتها‬
‫لعيش‪ .‬أحتاج أن أتناوله ثلث مرات في اليوم‪ .‬مرة على الريق‪ ,‬ومرة قبل النوم‪ ,‬ومرة‬
‫عندما يهجم عليّ الحزن أو الفرح كما الن‪.‬‬
‫أي علم هذا الذي لم يستطع حتى الن أن يضع أصوات من نحب في أقراص‪ ,‬أو في زجاجة‬
‫دواء نتناولها سرا‪ ,‬عندما نصاب بوعكة عاطفية بدون أن يدري صاحبها كم نحن نحتاجه‪.‬‬

‫الفصل السابع‬

‫على يمين الذكريات‪ ,‬قبالة الضفة اليسرى لنهر السين‪ ,‬كانت كراسٍ تنتظر لقاء المصادفات‪,‬‬
‫وطاولت تحتسي الضجر المسائي‪ ,‬وكان ثمة أنا‪ ,‬خلف واجهة زجاجية لمقهى في زاوية‬
‫مهيأة لشخصين‪ .‬أنتظرها على مرمى بيت خارج من كتاب‪.‬‬
‫وهي ستأتي‪ .‬لها هنا عاشق على أحر من موقد‪ ,‬ولي رغبات بشيء من الهيل‪ ,‬وقهوة من‬
‫غير سكر‪ ,‬يأتي بها نادل الحزن المهندم‪.‬‬
‫كنت شاردا بها خلف زجاج الترقب حين فاجأني برق طلّتها‪ .‬وقفت أسلّم عليها واضعا قبلتين‬
‫على خديها دون تفكير‪ .‬فباريس تجيز لك سرقة القبل‪.‬‬
‫سحبت كرسيا وجلست قبالتي‪ .‬قالت وهي تستعيد أنفاسها‪:‬‬
‫‪ -‬ضعت في متاهات المترو‪ ..‬فقدت عادة التنقل في ذلك العالم السفلي المزدحم بالبشر‪ ..‬ما‬
‫الذي أوصلك إلى هنا؟ ما سمعت بهذه المحطة من قبل!‬
‫طبعا لم أصدقها‪ .‬كنت أصدّق فيها بياض الكذب‪ .‬وفهمت كم كان يلزمها من حقائب لتهريب‬
‫كذبة واحدة‪.‬‬
‫‪ -‬آسف‪ ..‬ظننتك تحسنين التنقل بالميترو‪.‬‬
‫ردت وهي تضع حقيبة يدها على الكرسي المجاور‪:‬‬
‫‪ -‬في لحظة ما‪ ,‬خفت أن تكون أخطأت في إرشادي إلى العنوان‪.‬‬
‫أجبت مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬طبعا لم أخطئ‪ ..‬وإن كنت أحب العودة معك إلى جادة الخطأ!‬
‫راحت تتأملني لبرهة‪ ,‬كما لتحاول فك إشارة كنت أبعثها إليها بين الكلمات‪ ,‬ثم قالت بعصبية‬
‫أنثوية‪:‬‬
‫‪ -‬ما زلت تتعمد أن تقول لي أشياء ل تفهم!‬
‫قلت ضاحكا‪:‬‬
‫‪ -‬أبدا‪ ..‬كنت أعني أنني عشت عمرا على خطأ‪ ..‬صوابي الوحيد أنني تعثرت بك‪.‬‬
‫اكتفيت بأن أوصل إليها نصف ما أقصد‪ .‬النصف الخر ستكتشفه لحقا‪.‬‬
‫قالت متوسلة‪:‬‬
‫‪ -‬أرجوك‪ ..‬ل ترهقني بجهد إضافي‪ ..‬ل قوة لي على البحث بين الكلمات‪ .‬يكفيني ما قمت‬
‫به من جهد حتى ل تغير أمّا أو ناصر رأيهما ويصطحباني معهما إلى ذلك العشاء‪.‬‬
‫عندما حضر النادل ليسألها ماذا تريد‪ ,‬اعتذرت وقالت إنها تفضّل أن تغادر المقهى‪.‬‬
‫أكانت على عجل كي نختلي؟ أم كانت على قلق متوجّسة شيئا قد أفاجئها به؟‬
‫دفعت ثمن قهوتي وغادرنا المقهى‪.‬‬

‫بدت لي مندهشة‪ ,‬متباطئة الخطى وهي تراني أسلك طريقا كنها تعرفه‪.‬‬
‫سألتها إن كان ثمة ما يزعجها‪:‬‬
‫‪ -‬نسيت كيف أسير بأمان في شارع ليس إلّ‪ .‬اعتدت على مدن شكاكة‪ ,‬تنتظرك خارج بيتك‬
‫بعيون فضولية‪ ,‬وأخرى متربصة‪ ,‬وأخرى عدائية‪ .‬توقعك في قبضة الخوف‪.‬‬
‫كنا نسلك منعطف الشارع المؤدي إلى البيت عندما فاجأنا المطر‪ .‬سألتها إن كانت تحمل‬
‫مظلة‪:‬‬
‫‪ -‬ل‪ ..‬نسيتها لفرط عجلتي‪.‬‬
‫‪ -‬وأنا نسيتها لفرط فرحتي‪ ..‬لكن ل يهم نحن لسنا بعيدين عن البيت‪.‬‬
‫واصلت التحرش بها وأنا أراها تسبقني بخطوات‪:‬‬
‫‪ -‬هل أنت على عجل؟‬
‫ردت بشيء من العصبية وهي تغطي شعرها بحقيبة يدها‪:‬‬
‫‪ -‬أنا على بلل‪..‬‬
‫اكتفيت بإسراع الخطى نحو تلك البناية وأنا أفكر في فصاحتها المواربة‪.‬‬
‫وقفت جواري باندهاش صامت وهي تراني أضغط على الرقام السرية التي تفتح باب‬
‫البناية‪ .‬وهذه المرة أيضا لم أسألها ما الذي يدهشها‪ ,‬تغابيت وهي تسألني‪:‬‬
‫‪ -‬أتسكن هنا؟‬
‫أجبت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬دوما كنت أقيم في شوارع جانبية لجادة حبك‪.‬‬
‫أحسست أن المفاجأة سمرتها عند الباب‪ .‬سحبتها من يدها قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬تعالي‪ ..‬ل تبقي هكذا على ناصية السئلة‪.‬‬
‫لكنها سألتني بنبرة من كان يمشي نائما‪ ..‬ثم استفاق‪:‬‬
‫‪ -‬إلى أين نحن ذاهبان؟‬
‫‪ -‬تدرين ما يقول مقطع من " بحيرة البجع"‪ " ,‬تعال على رؤوس الصابع‪ ,‬واضعا يدا على‬
‫فمك كي ل تبوح بسر المكان الذي أقودك إليه‪ ,‬كي تستأثر وحدك بالجواهر المرصعة على‬
‫اسمك"‪.‬‬
‫ردت متذمرة‪:‬‬
‫‪ -‬أهو وقت بحيرة البجع؟ أطرح عليك سؤالً فتجيبني شعرا!‬
‫أجبتها ونحن ندخل المصعد‪:‬‬
‫‪ -‬حضورك يورطني دائما في الشياء الجميلة‪.‬‬
‫عندما انغلق المصعد علينا‪ ,‬لم تكن مشغولة بلحظة خلوتنا الولى‪ .‬كان نظرها يتسمر على‬
‫لوحة الزرار التي تحمل أرقام الطوابق‪.‬‬
‫ربما بدأت تتأكد لحظتها نحو أي طابق كنت آخذها‪ .‬ولكنها واصلت النظر إلى اللوحة‪ ,‬كأنها‬
‫تراهن على احتمال وجود خطإٍ في اللحظة الخيرة‪.‬‬
‫قلت كما دون قصد‪ ,‬متماديا في التغابي المزعج وأنا أضغط على زر المفاجأة‪:‬‬
‫‪ -‬الحب له دائما حضور متعالٍ‪ ,‬إنه يقيم في الدور السابع‪.‬‬
‫لم تعلق بكلمة‪ ,‬ول أنا نظرت في عينيها بحثا عن آثار صدمة ارتطامها بالحقيقة‪.‬‬

‫عندما فتحت الباب‪ ,‬شعرت وأنا أنير البيت أن نظرتها تتفقد المكان كما لتطمئن على سلمة‬
‫الشياء‪.‬‬
‫كانت اللعبة مشابهة للوحة يتنكر رسامها لملهمه‪ ,‬وعندما تكون انتبهت إلى تصديقه‪ ,‬تقودك‬
‫خطى القدر يوما إلى مكمن سره‪ ,‬ول يمكنك آنذاك مقاومة الرغبة في وضعه أمام كذبته‪.‬‬
‫وهذا البيت الخارج من كتابها‪ ,‬والمطابق لكل تفاصيل وصفها له‪ ,‬يليق بمواجهة كهذه‪ .‬كنت‬
‫أحب تلك اللحظة التي أفحم فيها امرأة بحجة ل تتوقعها‪ ,‬ثم أتفرج على عريها أمام الحقيقة‪.‬‬
‫قررت أن أمضي في لعبة التغابي إلى أقصاها‪ .‬ما دام لم يبد عليها أي رد فعل صارخ‪.‬‬
‫‪ -‬هل أعجبك البيت؟‬
‫ردت وهي تختار كلماتها بعناية‪:‬‬
‫‪ -‬فيه دفء جميل‪.‬‬
‫أضفت وأنا أتنبه لثيابها المبللة‪:‬‬
‫‪ -‬كان عليك أن تحملي مظلة‪ ..‬أو أن ترتدي معطف فرو ليوم كهذا‪.‬‬
‫‪ -‬تعمدت ارتداء هذا الجاكيت خوف أن يتسبب لي معطف فاخر بمشاكل في الميترو‪ .‬يقال إن‬
‫العتداءات وعمليات النشل كثرت هذه اليام‪.‬‬
‫قلت وأنا أضع أول قبلة على شفتيها‪:‬‬
‫‪ -‬ومن قال إنك هنا في مأمن؟ ل أكثر سطوا من عاشق انتظر سنتين!‬
‫بقبلة ابتلعت زينة شفتيها‪ ,‬تاركا؟ً لها ابتلع أكاذيبها‪ ,‬وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬اشتقتك‪ ..‬كم انتظرت هذا اليوم‪.‬‬
‫في الوقع‪ ,‬كانت ل تزال تحت وقع إرباك المكان‪ ,‬ول تجرؤ على سؤالي كيف وصلت إلى هذا‬
‫البيت‪ ,‬ول ماذا أفعل هنا‪.‬‬
‫فرحت أتأمل ملمحها بعد مباغتة القبلة الولى التي يتغير بعدها وجه الخر‪ ,‬لنه ل يعود‬
‫كما كان من قبل‪.‬‬
‫قلت متحاشيا إرباك الموقف‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تصغرين مع كل قبلة‪ ..‬بعض قُ َب ٍل أخرى وتصبحين على مشارف العشرين‪.‬‬
‫ردت وهي تتجه نحو الصالون‪:‬‬
‫‪ -‬ومن أدراك أنني أحب ذلك العمر‪ ..‬اليوم لي عمر شفتيك‪.‬‬
‫قلت بسخرية ل تخلو من تهكم مر‪:‬‬
‫‪ -‬وغدا؟‬
‫أجابت وقد باغتها السؤال‪:‬‬
‫‪ -‬غدا؟ ل أدري‪ ..‬ليست الخرة من هواجسي‪.‬‬
‫قلت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬سأعطيك إذن من القبل ما يجعلك تبلغين سن الجحيم بسرعة‪.‬‬

‫كنت أتعمد ممازحتها تخفيفا لحرج اللحظات الولى‪ .‬في الواقع ما كانت لي رغبة سوى‬
‫تأملها‪.‬‬
‫جلست على الريكة قبالة الموقد‪ ,‬أنظر إليها‪ ,‬وهي تتنقل في الصالون متأملة تمثال فينوس‬
‫واللوحات المعلقة على الجدران‪ ,‬دون أن تعلّق بشيء‪.‬‬
‫لم أقاطع خلوتها الولى بالذاكرة‪ .‬كنت سعيدا بتأملها‪.‬‬
‫كانت مبللة كقطة‪ .‬شيء منها كان يذكرني بـ " أولغا" جارتي البولونية‪ ,‬وهي تنشف شعرها‬
‫في روب حمامها البيض‪ .‬خشيت عليها أن تمرض‪.‬‬
‫‪ -‬بإمكانك أن تجففي شعرك في الحمام‪.‬‬
‫ابتسمت ابتسامة غائبة‪:‬‬
‫وقبل أن تتوجه نحو الحمام تذكرت شيئا فأردفت قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬إن شئت أن تغيري ثيابك‪ ..‬لدي فستان لك‪ ,‬بإمكانك ارتداؤه‪.‬‬
‫ردت بلؤم نسائي‪:‬‬
‫‪ -‬أهو فستان لصاحبة البيت؟‬
‫قد تكون رأت صورا لفرانسواز وأخرى لمها على طاولة ركن في الصالون‪.‬‬
‫ل استفزازها‪:‬‬
‫أجبت متجاه ً‬
‫‪ -‬ل ‪ ..‬بل اشتريته لك‪.‬‬
‫ل ذلك الفستان السود في كيسه الفاخر‪.‬‬
‫تركتها واقفة وسط الصالون‪ ,‬وعدت بعد حين حام ً‬
‫قلت وأنا أناولها إياه‪:‬‬
‫‪ -‬أتمنى أن يعجبك‪ ..‬وأن يكون مقاسك‪.‬‬
‫قالت وهي تأخذه مندهشة‪:‬‬
‫‪ -‬متى اشتريته؟‬
‫أجبت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬لن تصدقي لو قلت لك إنني اشتريته منذ أكثر من شهرين‪ ,‬حتى قبل أن أتوقع لقاءك‪.‬‬
‫راحت تفرده بإعجاب واضح‪:‬‬
‫‪ -‬جميل ‪ ..‬جميل حقا‪ ..‬كيف فكرت أن تشتريه لي‪ ,‬لقد خربت حتما ميزانيتك‪.‬‬
‫‪ -‬ل تهتمي‪ ,‬إنه استثمار عاطفي جيد‪.‬‬
‫‪ -‬لو لم أحضر إلى باريس ول التقينا ماذا كنت ستفعل به يا مهبول‪ ..‬أكنت ستهديه‬
‫لزوجتك؟‬
‫‪ -‬قطعا ل‪ ,‬اشتريته لرشو به القدر إنه ثوب الحب‪ ..‬وسعيد أن تكوني أنت من ترتديه ل‬
‫أخرى‪.‬‬
‫ردت بغيرة نسائية واضحة‪:‬‬
‫‪ -‬وهل ثمة أخرى؟‬
‫‪ -‬ل‪ ..‬إنما أنت من علمتني أننا نفصّل كل حب من قماش حب آخر‪.‬‬
‫لم تعلّق‪ .‬ذهبت صوب المرآة ووضعته على جسدها لترى إن كان يناسبها‪.‬‬
‫طمأنتها قائلً‪:‬‬
‫‪ -‬السود يليق بك‪.‬‬
‫قالت وهي تهم بإعادته إلى الكيس‪:‬‬
‫‪ -‬هو أجمل من أن أرتديه في البيت‪ ..‬إنه فستان سهرة‪.‬‬
‫‪ -‬ونحن في سهرة‪ ..‬وفي باريس‪ .‬أين سأراك فيه إن لم يكن هنا؟‬
‫بدت مقتنعة‪.‬‬
‫اقترحت عليها أن تذهب إلى الغرفة المجاورة وترتديه‪.‬‬
‫تأملت للحظة وجهي المنعكس أمامها في المرآة‪ .‬ثم بدون أن تقول شيئا‪ ,‬أخذته ومضت‬
‫صوب الغرفة التي كان واضحا أنها تعرف الطريق إليها!‬
‫أكنت أريد أن أختبر معرفتها بالبيت‪ ..‬أم أختبر صبري عليها‪ ,‬وأقاصص نفسي بانتظارها‬
‫وهي تتعرى لذاكرتها في تلك الغرفة‪.‬‬
‫كان بإمكاني عن لهفة‪ ,‬أن ألحق بها‪ ,‬أو أن أقترح عن عادة ارتداءه أمامي في الصالون‪.‬‬
‫لكنني لم أفعل‪ ,‬إنقاذا لجمالية اللحظة‪.‬‬
‫رغم استعجال الجسد وجوعه‪ ,‬كنت أسعد بمتعة تأجيل متعتي‪ ,‬كفاكهة تدري أنها لك‪ ,‬ولكنك‬
‫تؤجل قضمها‪.‬‬
‫حاولت أن أستعين على انتظارها بالبحث عن شريط يليق بالمناسبة‪ .‬كانت تلك الغنية ما‬
‫زالت داخل جهاز الكاسيت‪.‬‬
‫اكتفيت بإعادتها إلى البداية‪ ..‬والضغط على الزر‪.‬‬
‫باسم ال نبدى كلمي‪.........‬قسمطينة هي غرامي‬
‫نتفكرك في منامي‪ .........‬إنتي والوالدين ال‬

‫جلست رفقة قسنطينة أنتظرها‪ ,‬أو هكذا ظننت‪ ,‬حتى أطلت كبجعة سوداء‪ ..‬كأنها في كل ما‬
‫ترتديه ما ارتدت سوى ملءتها‪ .‬وإذا بها قسنطينة‪.‬‬

‫وقفت قبالتي‪ ,‬وكنت أتأمل غرابة فتنتها التي ل منطق لها‪.‬‬


‫لم تكن الجمل‪ .‬قطعا ما كانت الجمل‪ ,‬ولكنها كانت الشهى‪ .‬كانت البهى‪ .‬وهذا أمر ل‬
‫تفسير له‪ ,‬كغرابة صوتها الذي يحدث اضطرابا كونيا بكلمة‪.‬‬
‫سألتني بلهجة قسنطينية‪ ,‬وهي تدور في ذلك الثوب نصف استدارة على إيقاع الموسيقى‪:‬‬
‫‪ -‬تشتيه؟‬
‫ي كل ذلك الشوق‪:‬‬
‫" هل أحبه"؟ يا للسؤال! أجبتها وقد استيقظ ف ّ‬
‫‪ -‬نشتيك إنتي!‬
‫دوما أحببت الطريقة التي تتحرك بها‪ ,‬طريقتها في اللتفات‪ ,‬في التوقف‪ ,‬في النحناء‪ ,‬في‬
‫انسياب الشال على شعرها‪ ,‬في رفع طرف ثوبها بيد واحدة وكأنها تمسك بتلبيب سرها‪.‬‬
‫طريقتها في الذهاب‪ ..‬طريقتها في الياب‪.‬‬

‫في ذلك الزمن الذي كانت تزورني فيه متنكرة في عباءة أمها‪ ,‬خوفا من أعين الفضوليين‬
‫ونوايا الرهابيين المتربصين بالنساء‪ ,‬أذكر قولي لها أنني أحبها في تلك العباية السوداء‬
‫أجابت يومها‪ " :‬عليك أن تحب الثوب الذي ترتديه ليحبك‪ ,‬وإل سيبادلك اللمبالة والنفور‪,‬‬
‫فتبدو فيه قبيحا‪ .‬بعض الناس ل يقيمون علقة حب مع ما يرتدون‪ ,‬ولذا هم يبدون غير‬
‫جميلين حتى في أناقتهم‪ ,‬والبعض تراهم على بساطة زيهم متألقين‪ ,‬لنهم يرتدون بذلة‬
‫يحبونها ول يملكون سواها"‪.‬‬
‫أتراها أحبت هذا الثوب حتى لتبدو فاتنة فيه إلى هذا الحد؟‬
‫أم هي أحبت فتنة هذا الموقف وغرابة لقائنا معا في بيت يعيدها عشر سنوات إلى متاهتها‬
‫العاطفية الولى‪.‬‬
‫كانت كلمات الغنية امتدادا لخساراتنا‪ ,‬ممزوجة بحسرات الشتياق إلى قسنطينة‪ .‬وكانت‬
‫الموسيقى بإيقاع دفوفها تبث في الجو ذبذبات الخوف من رغبات تولّد مشاعر عنيفة‪ ,‬تبدو‬
‫معها الرغبة في الرقص عبورا إلى حزن آخر‪.‬‬
‫لن وجودك في " محمية عاطفية" خارج خارطة الخوف العربي يمنحك كل الصلحيات في‬
‫اختبار جنونك‪ ..‬قلت لها‪::‬‬
‫‪ -‬حياة‪ ..‬اشطحي لي‪.‬‬
‫فاجأها طلبي‪ ,‬وفاجأني حياؤها‪ .‬ردت بخجل نساء قسنطينة في زمن مضى‪:‬‬
‫‪ -‬ما نقدرش‪ ..‬عمري ما شطحت قدام راجل‪.‬‬
‫أجبتها بما يضاهي حياء أنوثتها من رجولة‪:‬‬
‫ي لِمنُو؟‬
‫‪ -‬أنا مانيش راجل‪ ..‬أنا راجلك‪ ..‬وهاذا الزين إذا موش ل ّ‬
‫تراني لفظت كلمة السر التي انتظرها جسدها طويلً‪ .‬فل أظن أحدا قبلي سألها " لمن‬
‫جمالك‪ ..‬إن لم يكن لي أنا"؟‬
‫بحشمة قسنطينة عندما ترقص لول مرة في حضرة رجل‪ ,‬راح جسدها يتهادى‪ .‬لم تكن‬
‫تتلوّى ‪ ,‬لم تكن تتمايل‪ ,‬ول كان في حركتها من غنج‪ .‬كانت إثارتها في إغرائها الموارب‪,‬‬
‫في تلك النوثة التي تحت صخب الموسلين ترقص وكأنها تبكي‪ .‬على أغنية محملة بذلك الكم‬
‫من الشجن‪.‬‬
‫كان في الجو براعم جنون لشهوات مؤجلة أزهرت أخيرا خارج بساتين الخوف‪ ,‬لكن في‬
‫بيت متورط في حزننا أكثر من أن نفرح فيه‪.‬‬

‫بدا لي كأنما لستحالة فرحنا‪ ,‬كنا نمارس الحب رقصا‪ ,‬بنشوة الحزن المتعالي‪.‬‬
‫وقبلها لم أكن خبرت الرقص الذي يضرم الحزن‪ .‬صامتا كنت‪ ,‬جالسا قبالتها‪ ,‬طربا لفرط‬
‫حزني‪ ,‬حزينا لفرط طربي‪ ,‬منتشيا بها لفرط جوعي إليها‪ .‬دمائي تصهل تجاهها دوما‪,‬‬
‫لتنتهي كرما يعتصر تحت وقع قدميها‪.‬‬
‫أحببت فصاحة قدميها المخضبتين بدم الرجال‪ .‬في كل رغبة شيء من العنف المستتر‪.‬‬
‫ألهذا خفت كعبها‪ ,‬أم لنه ل يليق بقسنطينة الرقص بكعب عال؟‬
‫قلت‪ " :‬اخلعي نعلك يا سيدتي‪ ..‬في الرقص كما في العبادة ل نحتاج إلى حذاء"‪ .‬فقد تنبهت‬
‫إلى وقوف فينوس منتصبة تواصل انتعال ابتسامتها البدية‪.‬‬

‫أن تكون آلهة لم يعفها من الذهاب حافية إلى لويس الثامن عشر‪ .‬فيوم جيء بها إليه‪,‬‬
‫ليستقبلها رسميا بما يليق بمقام آلهة للجمال‪ ,‬وجد من بين متملقيه من أوصله الجتهاد إلى‬
‫المطالبة بأن تتواضع وتأتيه حافية لتؤدي له طقوس الطاعة‪ ,‬كما في الساطير القديمة‪.‬‬
‫ولن قدمها اليسرى كانت مغطاة بقطعة قماش متدلية من وسط جسدها‪ ,‬يقال إن خبراء‬
‫الترميم في متحف اللوفر قاموا بتبديل قدمها اليمنى بقدم بدون خف‪.‬‬
‫من يومها تزداد " فينوس" تهكما‪ .‬ما استطاعوا أن يجعلوا تمثالها ينحني ول يديها‬
‫المبتورتين تصفقان لحاكم أو ملك‪.‬‬
‫وهي تود لو أنها رقصت الن كأنثى على هذه الموسيقى‪ .‬غير أن الرقص القسنطيني ل‬
‫يرقص بفوطة تلف حول ردفين لجسد نصف عار‪ ,‬لهيبة نسائه في حضورهن الخرافي‪ ,‬يكاد‬
‫رقص القسنطينيات يضاهي طقوس العبادة‪.‬‬
‫إنه يا إلهة الجمال شيء أجمل من أن يتعرى‪ .‬أروع من أن يوصف‪.‬‬

‫ل إذن يا سيدتي الحجرية‪ " ,‬نحن ل نستطيع الرقص مع إنسان سعيد" والبسي ثوبا‬
‫احزني قلي ً‬
‫من المخمل المطرز بخيوط الذهب‪ ,‬أثقل من أن ترتديه وحدك‪ ,‬أجمل من أل يراك فيه أحد‪.‬‬
‫ضعي حول خصرك حزاما قضت أمك عمرا في جمع صكوكه الذهبية‪ ,‬كي تلبسيه ليلة‬
‫عرسك‪ .‬مرري في قدميك المخضبتين بالحناء خلخالً تسمع رنته حين تمشين‪ ,‬ول يرى منه‬
‫سوى واحد حين تجلسين‪ ,‬وتعالي على هودج الشهوات المتهادي لتتعلمي الرقص‬
‫القسنطيني‪.‬‬

‫انحنت حياة تخلع حذاءها‪ ,‬وتواصل الرقص حافية الشهوات‪ ,‬على إيقاع خلخال أوهامي‪.‬‬
‫لفرط انخطافي بها‪ ,‬لم أنتبه لحظتها لمكان إزعاج الجيران‪ .‬لكن عندما راح الهاتف يرن بعد‬
‫ذلك بإلحاح في غرفة النوم‪ ,‬توقعت أن يكون أحدهم اتصل احتجاجا على صوت الموسيقى‪.‬‬
‫ل بتعليمات فرانسواز‪ ,‬فضلت أل أجيب‪ ,‬مكتفيا بالنظر إلى الساعة‪.‬‬
‫عم ً‬
‫كانت التاسعة والربع بعد الشجن‪ .‬أظننا تجاوزنا الوقت الحضاري المباح لضجيج السهر‪.‬‬
‫كان الشريط على مشارف نهايته‪ .‬توجهت نحو المسجل أخفّض صوت الموسيقى‪.‬‬
‫سألتني وهي تجلس قبالتي على الريكة‪:‬‬
‫‪ -‬أل ترد على الهاتف؟‬
‫‪ -‬ل‪.‬‬
‫قالت بمكر النوثة‪:‬‬
‫‪ -‬ربما أحد يصر على محادثتك‪ ..‬اللحاح الهاتفي صفة أنثوية‪.‬‬
‫قلت متجاهلً تلميحها‪:‬‬
‫‪ -‬المحب كالمتعبد‪ ..‬ل يقطع صلته ليرد على الهاتف!‬
‫‪ -‬ول يقطع عبادته أيضا لينظر إلى الساعة‪ ..‬إل إذا كان مثلً ينتظر هاتفا‪.‬‬
‫ضحكت لمنطق غيرتها‪ .‬أجبتها وأنا أفك الساعة من معصمي‪ ,‬وأضعها على طاولة قريبة‪:‬‬
‫‪ -‬بل ل هاجس للمتعبد إل الساعة‪ ,‬لنه كالعاشق يخاف أن تفاجئه ساعته‪ .‬هاجس الموت‬
‫يواجهنا أمام كل حب‪ ,‬لن الزمن هاجس عشقي‪ ,‬برغم أن العشاق‪ ,‬كما الموتى‪ ,‬ل يحتاجون‬
‫إلى ساعة لكونهم بدخولهم إلى الحب يخرجون من الزمن المتعارف عليه!‬
‫واصلت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬خلعت ساعتي‪ ..‬أتحداك أل تنظري بعد الن إلى ساعتك!‬
‫ردت ضاحكة‪:‬‬
‫‪ -‬عليك اللعنة‪ ..‬تهزمني دائما بدون جهد‪.‬‬
‫صححتها وأنا أضمها إلي‪:‬‬
‫‪ -‬بل بجهد غبائك العاطفي!‬
‫رحت أقبلها طويلً‪ .‬قبلة تأخرت كثيرا حتى لكأن عليها أن تغطي نفقات عامين من النتظار‪.‬‬
‫فوحدها اقبل بإمكانها أن تعيد إليك عمرا أفلت منك‪ ,‬برغم حملك أثناءه‪ ..‬ساعة في معصمك!‬
‫شعرت برغبة في أن أسألها‪ :‬هل قبّلها أحد قبلي على هذه الريكة نفسها؟‬
‫غير أنني كنت أعرف الجواب‪ ,‬فاستبدلته بآخر أكثر إلحاحا‪ .‬قلت وأنا أعابث شعرها‪:‬‬
‫‪ -‬حياة‪ ..‬هل قبّلك رجل بعدي؟؟‬
‫فاجأها السؤال‪ .‬ردت عليه بضحكة ماكرة‪ ,‬ضحكة ماطرة تجاهلت رذاذها‪ .‬قلت موضحا‪:‬‬
‫‪ -‬ل أريد نصا روائيا‪ ..‬ل يعنيني أن أعرف من يكون ول كيف أو متى حدث هذا‪ ..‬أريد أن‬
‫أعرف فقط هل حدث؟‬

‫هي عادة ل تصدق إل عندما يكون في صدقها إيلمك‪ ,‬ولمرة تمنيت لو أنها كذبت‪.‬‬
‫كنت أنتظر منها جوابا لكنها لم تملك سوى كلمات كضمادات لصقة‪ ,‬توضع على عجل لوقف‬
‫نزيف‪.‬‬
‫قالت إذ وجدت في سؤال آخر براءة لذمتها‪:‬‬
‫‪ -‬قلت مرة إن " الذكاء هو تقاسم السئلة" دعني أتذاكى وأسألك بدوري‪ ,‬ما علقتك بهذه‬
‫المرأة التي تغطي صورها كل مكان في هذا البيت الذي تستقبلني فيه؟‬
‫ضحكت لسؤالها‪ .‬فالذكاء ما كان بالنسبة إليها تقاسم السئلة بل قلبها‪ .‬وأنا جئت بها إلى هنا‬
‫كي أرغمها على العتراف بحقيقة وجود خالد‪ ..‬ها هي تقلب الدوار‪ ,‬وتبدأ باستنطاقي عن‬
‫فرانسواز‪.‬‬

‫قررت أن أتراشق معها بجمر الغيرة‪ ,‬خاصة أ‪ ،‬في المر جانبا طريفا آخر‪ .‬فهي ل تتوقع‬
‫حتى الن أن أكون التقيت بخالد‪ ,‬أو أنني أعرف شيئا عنه‪ ,‬لعتقادها أنه ترك هذا البيت منذ‬
‫سنوات‪ .‬لكنها حتما تعرفت على فرانسواز من صورها المرسومة على اللوحات‪ .‬ول تفهم‬
‫كيف هذه المرأة استطاعت أن تسرق منها الرجلين الهم في حياتها‪.‬‬
‫‪ -‬صديقة أقيم عندها منذ أشهر‪.‬‬
‫ثم واصلت مستدركا بلؤم‪:‬‬
‫‪ -‬تلقفتني " الحفر النسائية" بعدك‪ .‬لكن في كل امرأة مررت بها تعثرت بك!‬
‫ردت بضحكة تخفي لهيب الغيرة‪:‬‬
‫‪ -‬ل داع لسؤالك إذن ماذا فعلت في غيبتي‪ .‬لكثرة ما تعثرت بي في كل حفرة‪ ,‬أتوقع أن‬
‫تكون قضيت الوقت أرضا‪ ,‬هل استمتعت بذلك؟‬
‫كانت أنثى ل تختلف عن الجهزة البوليسية‪ ,‬تحتاج إلى تقارير ترفعها إليها في كل لقاء عن‬
‫كل أنثى مارست الحب معها قبلها‪ .‬وككل المخابرات كانت تجد متعتها في التدقيق بالتفاصيل‪.‬‬
‫تماديا في إيلمها‪ ,‬تجاهلت فضولها‪ .‬فهي تدري أن قصة ل تبوح بتفاصيلها هي قصة‬
‫عشقية‪ ,‬ووحدها المغامرات العابرة تغذّي آذان السرّة التي ل ذاكرة لها‪.‬‬
‫ربما لهذا هي لم تبح يوما بحبها لخالد ول لزياد‪ .‬فهل كان حبها أكبر وأجمل من أن يحكى‬
‫خارج كتاب؟‬
‫أثناء تأملي ولعها بي‪ ,‬كلما ازدادت يقينا بخياناتي لها‪ ,‬وقعت على مفارقة عجيبة‪ ,‬وأنا‬
‫اكتشف أن وفاء رجل لمرأة واحدة‪ ,‬يجعله الشهى في عيون بقية النساء اللئي يصبح‬
‫هدفهن اليقاع به‪ ,‬بينما خيانته إياها تجعله شهيا لديها!‬
‫تذكرت خالد الذي قد يكون مثلي خسرها في الماضي لفرط إخلصه لها‪ ,‬ثم أصبح جديرا‬
‫بغيرتها مذ تلقفته فرانسواز‪ ,‬تماما كما أصبح فنانا جديرا بالهتمام في الجزائر‪ ,‬مذ غادرها‪,‬‬
‫لتتلقفه هنا صالت العرض الباريسية!‬
‫وهكذا الذين يقولون إننا نحتاج إلى الكاذيب الصغيرة لنقاذ الحقيقة‪ ..‬ربما عليهم أن‬
‫يضيفوا حاجتنا إلى شيء من الخيانة‪ ,‬لنقاذ الوفاء‪ ,‬سواء لوطن‪ ..‬أو لمرأة‪.‬‬

‫حاولت أن أستدرجها للحديث عن خالد‪ ,‬مستفيدا من جلوسنا عند العشاء متقابلين للوحة‬
‫عليها جسر‪:‬‬
‫‪ -‬دوما كانت الجسور ثالثنا‪ ..‬أتحبين هذه اللوحة؟‬
‫أجابت وقد فاجأها سؤالي‪:‬‬
‫‪ -‬ما عدت أحب الجسور‪ .‬مذ اغتيل سائقي " عمي أحمد" بسببي ونحن على الجسر‪ ,‬كرهت‬
‫الجسور‪ ,‬خاصة أن لي جدّا انتحر بإلقاء نفسه من جسر سيدي راشد‪ ,‬وهذه الحادثة التي لم‬
‫ل فكرت وأنا أعبر جوار برج‬
‫تكن تعنيني أصبحت تحضرني بين الحين والخر‪ .‬البارحة مث ً‬
‫إيفيل أننا لم نسمع بأحد انتحر بإلقاء نفسه من برج‪ ,‬فالمنتحر ل يبحث عن المكان العلى‬
‫للنتحار بقدر ما يعنيه زخم الحياة‪ .‬هو يختار الجسر لنه يريد أن يشهدنا على موته‪ ,‬ينتهز‬
‫فرصة ذلك الزخم الحياتي لكي يقضي على الحياة‪ ,‬عساها تنتحر بانتحاره‪ ,‬لنه برغم كل‬
‫شيء ل يصدق أنها ستستمر بعده‪.‬‬
‫كانت تبدو أجمل‪ ,‬عندما تتحدث في أشياء جادة‪ .‬رحت أستدرجها لحوار ظننته سيكون كذلك‪:‬‬
‫‪ -‬إن كنت تكرهين الجسور ‪ ,‬لماذا تشغل كل رواياتك؟ اشرحي لي هذا اللغز الذي لم أفهمه!‬
‫عادت إلى مراوغتها الساخرة وردت‪:‬‬
‫‪ -‬ثمة مقولة جميلة لبروست ‪ ":‬أن تشرح تفاصيل رواية كأن تنسى السعر على هدية"‪ .‬مثله‬
‫ل أملك شروحا لي شيء كتبته‪.‬‬
‫علّقت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬طبعا‪ ..‬أفهم تماما أن تكوني امرأة ملتزمة بـ " إيتيكيت" الهدية!‬
‫ثم واصلت‪ -‬وبالمناسبة‪ ,‬سؤالي كان بسبب لوحة زيان اشتريتها تمثل جسرا‪ ,‬وكنت أنوي‬
‫أن أهديك إياها‪.‬‬
‫قاطعتني‪:‬‬
‫‪ -‬أرجوك ل تفعل‪ .‬قد ل أعلقها أبدا في بيتي‪.‬‬
‫أجبتها وقد وجدتني أتحدث مثل فرانسواز‪:‬‬
‫‪ -‬كنت سأهديك إياها لتعلّقيها على قلبك‪ ..‬ل على جدران بيتك‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ما عاد في حوائط قلبي مكان لعلّق عليه شيئا‪.‬‬
‫كانت محاولتي الخيرة لستدراجها للحديث عنه‪ .‬انتابتني بعدها حالة كآبة‪.‬‬
‫أكنت حقا أحبها؟ أم أحب وجعي في حضرتها؟ امرأة ل أريدها ول أريد أن أشفى منها‪ ,‬كان‬
‫في طفرة ألمي بها شيء مطهر يرفعني إلى قامة النبياء‪.‬‬
‫قالت وقد لحظت حزني‪:‬‬
‫‪ -‬ل تحزن هكذا‪ ..‬يكفيني هذا الفستان هدية منك‪ .‬احتفظ أنت باللوحة ما دامت تعجبك‪.‬‬
‫اعذرني‪ ,‬أصبحت أتشاءم من الجسور‪.‬‬
‫أشعلت سيجارة وقلت وأنا أتأملها وهي تقطع شريحة اللحمة‪:‬‬
‫‪ -‬أما زلت تبحثين عن آباء لرواياتك؟‬
‫ردت ضاحكة‪:‬‬
‫‪ -‬ما زلت‪..‬‬
‫‪ -‬روايتك التالية سأكون أباها ‪ ..‬وأمها‪ ..‬وجد أمها‪ ..‬وستكتبينها " بل أمّك"!‬
‫كان لنا قاموس من الغزل الجزائري ل غنى لنا فيه عن المسبّات‪ .‬ضحكت وهي تستعيد‬
‫مفردات شراستنا العشقية وقالت وهي تقّبلني‪:‬‬
‫‪ -‬نشتيك يلعن بوزينك‪ ..‬ويلعن بو الرواية متاعك‪..‬‬
‫كنت أفكر لحظتها أن بعد كل متعة كان الحب يحصي عدد الطفال الذين لم أستولدها إياهم‪.‬‬
‫ولكن بعد كل حرمان جسدي كان الدب يفرك كفّيه مستبشرا بعمل روائي‪ .‬ول بد لهذه المرأة‬
‫المقصّرة في الكتابة على النكتاب‪ ,‬أن تنجب بحرمانها اليوم مني نصها الجمل‪ .‬قررت أل‬
‫يخرج قلمها سالما من هذا البيت‪ ,‬بيته‪.‬‬
‫بعد العشاء عندما وضعت على الطاولة سلة الفواكه وصحن الفراولة التي كنت أحضرتها‬
‫لعلمي بحبها لها‪ ,‬قلت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬احذري الفراولة‪ ..‬برغم كونها عزلء فقد تشعل حربا عالمية‪ .‬قرأت أن إحدى الرسائل‬
‫المشفرة التي كانت توجهها إذاعة المقاومة الفرنسية التي كان يشرف عليها ديغول في لندن‬
‫أثناء الحتلل اللماني‪ ,‬كانت تحمل مساء ‪ 5‬حزيران ‪ 1944‬هذه الرسالة المشفرة‪":‬‬
‫أرسين يحب المربى بالفراولة" وكان ذلك إعلنا بإنزال الحلفاء جيوشهم على الشواطئ‬
‫الفرنسية!‬
‫قالت متعجبة‪:‬‬
‫‪ -‬حقا‪..‬؟‬
‫قلت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬ل تخافي‪ ..‬خطورتها ليست في قوتها‪ ..‬إنما في حمرة غوايتها‪ .‬وربما لهذا يصعب على‬
‫الناظر إليها مقاومتها‪ .‬على غير بقية الفواكه هي غير مكترثة بأن تحمي نفسها بقشرة‪ ,‬أو‬
‫تلتحف بغلف‪ .‬إنها فاكهة سافرة ولذا هي سريعة العطب‪.‬‬
‫كانت عيناها تتبعان يدي وهي تمرغ حبة الفراولة في صحن السكر‪.‬‬
‫قلت وأنا ألقمها إياها بذلك البطء المتعمد‪:‬‬
‫‪ -‬ل أدري من ألصق للتفاح شبهة الخطيئة‪ .‬الخطيئة ل تقضم‪ ,‬بل تلقم‪ ,‬والمتعة ليست‬
‫سوى في كمية المواربة بين الفعلين‪.‬‬
‫في الحبة الثانية‪ ,‬كنت توقفت عن الكلم‪ ,‬كي أعلمها فضائل الصمت في حضرة الفراولة‪.‬‬
‫تركت لثغرها أمر مواصلة التفكير في متعة ل يمكن لها أن تدوم‪ ,‬حتى ل نجد أنفسنا يوما‬
‫مثل زوربا نتقيأها لنشفى منها‪ .‬فالفراط في الملذات‪ ..‬تراجيديا إغريقية‪.‬‬
‫تراها أدركت أنني كنت أعدها لمتعة مع وقف التنفيذ‪ ,‬وأنني ألقمها فاكهة الفراق!‬

‫لم أتوقع أن يجرؤ الحب على التخلي عنا هنا حيث قادنا‪ ,‬ولكن‪ ,‬أكان يمكن أن يحدث شيئا‬
‫بيننا في ذلك البيت المزدحم بأشباح عشاق‪ ,‬لم يكن لهم الوقت الكافي لتغيير شراشفهم‬
‫وجمع أشيائهم‪.‬‬
‫ما كانت هي ول كنت أنا‪ .‬تحدثنا لغة ليست لغتنا‪ .‬قلنا كلما غبيا لفرط تذاكينا‪ .‬كنا نتكلم ثم‬
‫نصمت فجأة‪ ,‬كي ل نقول أكثر من نصف الحقيقة‪ ,‬محتفظين للمنا بنصفها الخر‪.‬‬
‫طوال السهرة ‪ ,‬كنا نعاند تعب السئلة‪ ,‬نغالب نعاس الجوبة‪ .‬أما كان يحق لصبرنا من‬
‫سرير تتمدد عليه رغباتنا المؤجلة؟‬
‫امرأة كانت رائحتها‪ ,‬قميص نومها ضمن لوازم نومك‪ .‬وأنت الن تستطيع النوم معها‪ ,‬ول‬
‫أنت تدري ماذا ستفعل بعدها‪.‬‬
‫وكنت في تاريخ بعيد لحبكما‪ ,‬تستبقيها لحظة الفراق قائلً " ل تغادري‪ ..‬كل أعضائي تشعر‬
‫باليتم عندما تغيبي" وها أنت يتيم في حضرتها‪ .‬يبكيها كل شيء فيك ول ترى‪.‬‬
‫وكنت تقول لها‪ ,‬وأنت تغدق عليها بتلك اللذة الشاهقة " سأفسدك إمتاعا حتى ل تصلحي‬
‫لرجل غيري" وكنت تظن عندما افترقتما أنك ما عدت تصلح لمرأة بعدها‪ .‬وها أنت تكتشف‬
‫أنك لم تعد تصلح حتى لها‪ .‬فهل استدرجتها إلى هنا لستخراج شهادة الموت السريري لحب‬
‫كان حيا بغيابكما؟‬

‫تمددت جواري في ذاك السرير‪ ,‬أنثى منزوعة الفتيل‪ .‬ضممتها إلى صدري طفلة وديعة‪ ,‬تلوذ‬
‫بي‪ ,‬كذلك الزمن الذي كانت تسألني فيه فزعة " هل ستعيش معي؟" ‪ ,‬فأطمئنها ورأسي‬
‫يتململ بحثا عن المكان الدفأ في صدرها " سأعشش فيك"‪ ,‬فتلح بذعر العشاق " حقا لن‬
‫نفترق؟" فأجيب بسذاجتهم " حتما لن ننشطر"‪.‬‬
‫انتابني خوف مفاجئ بفقدانها‪ ,‬وأنا أكرر صمتا الحركة ذاتها بحثا عن مكان لرأسي في‬
‫صدرها‪ .‬ويصطدم وجهي بموسلين ثوبها السود الذي لم تخلعه‪ .‬شعرت أن الموت سيسرق‬
‫أحدنا من الخر وأننا قد ل نلتقي أبدا‪.‬‬
‫عاودني ما قاله ناصر‪ .‬ماذا لو دبّر لها زوجها ميتة " نظيفة"‪ ,‬أو ماذا لو اغتالها الرهابيون‬
‫مثلً‪.‬‬
‫لم يكن هاجسي احتمال موتي أنا‪ ,‬إنما قصاص العيش بعدها‪.‬‬

‫كانت فكرة موتها الحقيقية‪ ,‬امتحانا فاضحا لعشقي إياها‪ .‬فأنت ل يمكن أن تدرك مدى حبك‬
‫لشخص‪ ,‬إن لم تتمثل محنة الغياب‪ ,‬وتتأمل ردود فعلك‪ ,‬وأحاسيسك الولى أمام جثمانه‪.‬‬
‫يوم رحت أختبر وقع موتها الحقيقي عليّ‪ ,‬كدت أموت حقا‪ .‬تسارعت نبضات قلبي‪,‬‬
‫وفاجأتني حالة اختناق وضيق في التنفس ظننتها ستودي بي‪ .‬طلبت رقمها‪ ,‬ثم قطعت الخط‬
‫لتأكد من أنها على قيد الحياة‪ .‬كنا في قطيعة طويلة‪ ,‬غير أني عندما استعدت أنفاسي حقدت‬
‫عليها‪ .‬كان يمكن للموت أن يختلسني في غفلة منها وتواصل بعدي تبذير كلمات ضنّت بها‬
‫عليّ في حياتي‪ ..‬لتشيّد بها صرح ضريحي في رواية‪.‬‬
‫كنّا متمددين بثيابنا في غرفة فرانسواز‪ ,‬تحيط بنا صورها المرسومة على اللوحات‪.‬‬
‫سألتني بنبرة ما قبل البكاء وهي تلتصق بي‪:‬‬
‫‪ -‬أما عدت تحبني‪ ..‬أم أنت تفكر بها؟‬
‫لم أجب‪.‬‬
‫في مثل هذه الحالت ل تصل الكلمات حية‪ ,‬وحدها التي ل نقولها تنجو من الرصاص‬
‫الطائش للبوح‪.‬‬
‫ضممتها إلى صدري‪ .‬وقلت وأنا أقبلها‪:‬‬
‫‪ -‬نامي حبيبتي‪ ..‬تصبحين على كتاب!‬

‫***‬

‫استيقظنا صباحا على فاجعة الضوء‪.‬‬


‫كما في تحميض الصورة‪ :‬الضوء أول فاجعة‪.‬‬
‫قالت مذعورة‪:‬‬
‫‪ -‬كم الساعة؟‬
‫قلت وأنا أمازحها‪:‬‬
‫‪ -‬ل أدري‪ ..‬بأمر منك قررت أل أنظر إلى الساعة!‬
‫نظرت إلى ساعة قرب طاولة النوم وصاحت‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي ! إنها الثامنة والربع‪.‬‬
‫نهضت من السرير نحو الحمام تصلح من هيئتها‪.‬‬
‫هكذا فجأة نفذ الوقت‪.‬‬
‫يوم ماكر يتربص بسعادة تتثاءب لم تغسل وجهها بعد‪ .‬سرير غير مرتب لليلة حب لم تكن‪.‬‬
‫عبور خاطف لرائحتها على مخدع امرأة أخرى‪.‬‬
‫قالت وهي تعيد ذلك الفستان السود إلى كيسه بعد أن ارتدت ثيابها‪:‬‬
‫‪ -‬أبإمكانك أن تطلب لي تاكسي؟‬
‫‪ -‬ابقي لتناول قهوة الصباح معي‪ ..‬ثم امضي‪.‬‬
‫‪ -‬ل أستطيع‪ ..‬أفضّل أن أعود الن هذا أأمن‪.‬‬
‫أحزنني ذلك كثيرا‪ .‬فكم انتظرت صباحا أبدأه معها‪.‬‬
‫قلت وأنا أرافقها لنتظار التاكسي‪:‬‬
‫‪ -‬ما جدوى كل اختراعات النسان إن لم يخترع آلة ليقاف الزمن بعد‪ ..‬كم تمنيت أن‬
‫نتناول فطور الصباح يوما معا‪.‬‬
‫علّقت بنبرة تشي بمرارة خيبتها‪:‬‬
‫‪ -‬وما جدوى أن يخترع النسان آلة ليقاف الزمن‪ ,‬إن كان سينفق ما كسب من وقت لمجرد‬
‫تناول الفطور والعشاء!‬
‫أحببت ذكاء تلميحها‪ ,‬تلقيته بابتسامة صامتة‪ .‬كانت على حق‪.‬‬

‫كنت لحظتها أضع يدي في جيب سترتي لشدة البرد الصباحي‪ ,‬حين عثرت على حبات‬
‫الشوكولطة التي أعطاني إياها زيان عندما زرته في المستشفى‪.‬‬
‫راودتني فكرة ماكرة أسعدتني‪ .‬كنت ما أزال أفكر في الطريقة المثلى لتنفيذها‪ ,‬عندما لمحت‬
‫سيارة الجرة في آخر الشارع تتجه نحونا‪ ,‬فلم يبق أمامي إل أن أقبّلها مودّعا‪ ,‬وأمد لها‬
‫بحبتين منها قائلً‪:‬‬
‫إنها شوكولطة أهداني إياها صديق زرته في المستشفى‪ ,‬تناوليها حتى ل تبقي على خواء‪.‬‬
‫ظلت لبرهة تتأمل قطعتي الشوكولطة‪ .‬حتما تعرّفت عليها من ماركتها المميزة‪ ,‬لكنها لم تقل‬
‫شيئا‪.‬‬
‫ركبت التاكسي وهي تحت وقع المفاجأة‪ ,‬بدون أن تفهم ما الذي أوصلني حتى غرفة زيان‬
‫في المستشفى‪ ,‬وما الذي أوصل إلى جيبي تلك الشوكولطة التي أحضرتها له‪.‬‬
‫شعرت‪ ,‬وأنا عائد إلى البيت‪ ,‬بفرحة من فاز في اللحظة الخيرة في جولة شطرنج شاقة‪.‬‬
‫لكن فرحتي لم تخل من مرارة موجعة ترافق وعينا بموت شيء جميل فينا‪.‬‬

‫***‬

‫ل تحزن‪ .‬هي ما جاءت لتبقى‪ ,‬بل لتشعرك بفداحة رحيلها‪.‬‬


‫ماذا تستطيع أن تفعل ضد امرأة ‪ ,‬تذهب إلى الحب بعدّة ساحر‪ ,‬تبتكر من أجلك فنونا‬
‫خداعية‪ ,‬تمارس أمامك قلب الشياء‪ ,‬إخفاء بعضها‪ ,‬استحضار أخرى‪ ,‬وتحويل كل ما هو‬
‫حولك إلى وهم كبير‪ .‬تضعك في صندوق زجاجي‪ ,‬وتشطرك في استعراض سحري إلى‬
‫اثنين‪ ,‬واحد هو أنت‪ ,‬والخر نسخة من رجل آخر‪ .‬ثم تعيد إلصاق جزءيك في كتاب‪.‬‬
‫ساحرة‪ ,‬ل تدري أخرجت من بين يديها ثريّا أم فقيرا؟ سعيدا أم تعيسا؟ أتراك أنت أم غيرك؟‬
‫أخرجت من قبعة خدعتها حمامة بيضاء‪ ..‬أرنبا مذعورا‪ ..‬أم مناديل ملوّنة للدموع؟‬
‫خطر لي وأنا أضع ساعتي من جديد‪ ,‬أن الحب ساحر يبدأ استعراضه بخديعة تجريد ضحاياه‬
‫من ساعاتهم المعصمية‪.‬‬
‫هل فقط عندما تتلشى أباطيل السحر‪ ,‬وخدع الحواة‪ ,‬يمكننا النظر إلى الساعة؟‬

‫إنها التاسعة والنصف صباح أحد‪.‬‬


‫قهوة مرّة سوداء أتناولها وحدي في مأتم الحب لمواجهة بياض الوقت‪ ,‬الذي ل أدري كيف‬
‫أنفقه في يوم ممطر كهذا‪.‬‬
‫وضعت شيئا من الموسيقى‪ ,‬ثم رحت أخفي آثار ما لم يحدث في بيت غادرت زائرته‪ ,‬صافقة‬
‫باب الحلم خلفها‪.‬‬
‫بدأت بتفقد غرفة النوم‪ .‬دوما كنت أكره السرّة التي ل رائحة لها‪ ,‬والنساء المهووسات‬
‫بنشل غسيلهن على حبل التشاوف‪ .‬لكن هذه المرة كان علي أن أحتاط من وشاية النوثة‪.‬‬
‫ففرانسواز ستعود غدا ‪ .‬لكأنها غابت فقط كي تترك لي ما يكفي من الوقت لنصب سرداق‬
‫عزائي‪.‬‬

‫عندما نراجع حياتنا نجد أن أجمل ما حدث لنا كان مصادفة‪ ,‬وأن الخيبات الكبرى تأتي دوما‬
‫على سجاد فاخر فرشناه لستقبال السعادة‪.‬‬
‫ى أل أخطط لشيء بعد الن‪ ,‬عدا الستعداد لمغادرة هذا البيت قبل خروج زيان‬
‫قررت عن أس ً‬
‫ي أيضا أل أترك ما يشي بمروري‪ .‬وقبل أن أنسى‪ ,‬ذهبت‬
‫يوم الربعاء من المستشفى‪ .‬فعل ّ‬
‫لخفاء أشرطة الغاني القسنطينية‪ ,‬خشية أن أتركها في جهاز التسجيل‪ ,‬فيستنتج أنني أقمت‬
‫هنا‪.‬‬
‫أثناء تفكيري في كل التفاصيل‪ ,‬تذكرت أنني لم أزره منذ يومين‪ ,‬وأنه قال لي وهو يمدني‬
‫بقطع الشوكولطة تلك‪ ,‬إنه كان يفضل لو جاؤوه مكانها بشيء من "الزلبية" أو " قلب اللوز"‬
‫‪ ,‬مازحته‪:‬‬
‫‪ -‬رمضان ما زال بعيدا‪.‬‬
‫‪ -‬لكن المريض يشبه الصائم‪ .‬إنه يقضي وقته في اشتهاء المأكولت‪ ,‬خاصة تلك المرتبطة‬
‫بذاكرة طفولية أو عاطفة‪.‬‬

‫وجدت في فكرة الذهاب إلى أحد الحياء المغاربية التي ل تعترف بالعطل الفرنسية لشتري‬
‫له شيئا من الحلويات الجزائرية‪ ,‬قبل أن أعوده في المستشفى‪ ,‬أفضل ما يمكن أن أفعل في‬
‫يوم أحد‪ ,‬خاصة أن شعوري بالذنب كان يتزايد تجاهه‪.‬‬
‫ألهذا رحت أجول في السوق العربيّ‪ ,‬بحثا عن كل ما يمكن أن يحمل من الجزائر في كيس؟‬
‫اشتريت علبة صغيرة من التمر‪ ,‬ورغيفا من الكسرة له‪ ,‬وآخر لي‪ ,‬بعد أن قال لي البائع إن‬
‫سيدة تعد هذه الرغفة كل يوم وإنها تنفذ بسرعة‪.‬‬
‫عجبت لذلك العالم الذي كنت أجهله عن جزائر أخرى نقلت بكامل منتوجاتها وعاداتها إلى‬
‫حي احتلته الوجوه السمر‪ .‬وتذكرت قولً ساخرا لمراد " عدا أمك وأبيك‪ ..‬تجد في هذا البلد‬
‫كل شيء"‪.‬‬
‫توقفت بعد ذلك في مطعم شعبي يدّعي تقديم " كسكي ملكي"‪ .‬أقنعت نفسي لجوعي أنه كذلك‪.‬‬
‫كنت في الواقع أريد أيضا هدر بعض الوقت حتى تحين ساعة الزيارات‪.‬‬

‫وصلت إلى المستشفى عند الساعة الثانية‪ ,‬كان في المستشفى حركة غير عادية‪ ,‬بسبب‬
‫الزيارات التي تتزايد أيام العطل‪.‬‬
‫سعدت لمجيئي حتى ل يشعر زيان بوحشة أكبر هذا اليوم بالذات‪ .‬سعدت أيضا لـ" حمولتي‬
‫الوطنية"‪ ,‬كانت هذه أول مرة أحضر له أكلً بدل الصحافة التي ل تزيده إل همّا‪.‬‬
‫طرقت الباب بفرحة المباغتة‪ ,‬ثم فتحته كعادتي متقدما خطوة نحو المام‪ ,‬لكنني فوجئت‬
‫بعجوز مشدودة إلى أنبوب الدواء تشغل مكانه في ذاك السرير‪ .‬هزيلة‪ ,‬شاحبة اللون‪ ,‬لها‬
‫نظرات فارغة‪ ,‬حلّ مكانها حين رأتني تعبير يستجد بي‪ ,‬مطالبة بشيء ما لم تفصح عنه ول‬
‫أنا أدركته‪.‬‬
‫بقيت برهة مذهو ًل أنظر إليها‪ ,‬قبل أن أعتذر وأغادر الغرفة مسرعا‪.‬‬
‫قصدت مكتب الممرضات في الطابق‪ ,‬أسأل عن مريض الغرفة رقم ‪ .11‬كنت أثناء ذلك‬
‫أهدّئ من روعي‪ ,‬فقد يكونون قد اصطحبوه لجراء فحوصات أو للتصوير الشعاعي‪ ,‬أو ربما‬
‫غيروا غرفته ليس أكثر‪ ,‬ذلك أنني تذكرت أنه قال لي مرة منذ أكثر من أسبوعين " قد ل‬
‫تجدني في هذه الغرفة‪ ,‬قد أنقل إلى جناح آخر"‪ ,‬قبل أن يعلّق مازحا " أنا هنا عابر سرير"‪.‬‬
‫توقعت أن تدلني الممرضة على الرقم الجديد لغرفته‪ ,‬لكنها سألتني إن كنت من أقاربه‪ .‬أجبت‬
‫" نعم"‪ .‬قالت‪:‬‬
‫‪ -‬لقد اتصلنا بالرقم الهاتفي الذي في حوزتنا لنخبركم بتدهور مفاجئ لصحته ليلة البارحة‪,‬‬
‫وتركنا رسالة صوتية نطلب حضور أقاربه‪ ,‬ولم يتصل بنا أحد وعاودنا التصال على الرقم‬
‫نفسه هذا الصباح دون جدوى‪.‬‬
‫بين الذعر والعجلة سألتها‪:‬‬
‫‪ -‬متى كان هذا؟‬
‫‪ -‬عند العاشرة والنصف صباحا‪.‬‬
‫كان ذلك الوقت الذي خرجت فيه لشتري حاجيات للكل قبل أن تغلق المحلت الغذائية ظهر‬
‫الحد‪.‬‬
‫عادت إلى دفتر كبير كان أمامها‪:‬‬
‫‪ -‬التصال الول كان البارحة عند التاسعة والربع مساءً‪.‬‬
‫استعجلتها‪:‬‬
‫‪ -‬وهل بإمكاني أن أراه الن؟‬
‫ردت بنبرة من تدرب أعواما على مواساة الغرباء‪:‬‬
‫‪.Je suis desolee monsieur..Il est decede-‬‬
‫بدا لي كأنها لفظت الخبر بالعربية‪ .‬قام القلب بترجمته الفورية إلى لغة الفاجعة‪ ,‬واختصر كل‬
‫الجملة وما تلها بعد ذلك من واجب المواساة في كلمة واحدة‪ ,‬نزلت علي كصاعقة من ثلثة‬
‫أحرف‪.‬‬
‫لم أفهم كيف أن ثلثة أحرف مجتمعة في ذلم السياق تصبح برغم انسيابها الموسيقي مؤلمة‬
‫إلى ذلك الحد‪ .‬حتى لكأن التاء المفتوحة في آخرها ليست سوى تابوت‪.‬‬
‫كان احتمال موته قائما‪ ,‬لكنني لم أتوقعه أن يأتي سريعا‪ ,‬ول بهذا التوقيت‪ .‬هذه المصادفات‬
‫مجتمعة باتت أكثر تعسفية من أن تكون مصادفات‪ .‬لها إصرار القدر في عبثيته‪.‬‬
‫قالت بتأثر‪:‬‬
‫‪ -‬أمر مؤلم أن يموت قبل مغادرته المستشفى بيومين‪ .‬كان يبدو سعيدا بخروجه‪ .‬أنا نفسي‬
‫فؤجئت عندما قيل لي هذا الصباح إنه قضى ليلة أمس في قسم العناية الفائقة‪.‬‬
‫سألتني بعد ذلك وهي تراني أقف لحظات مذهولً أمامها بدون أن أقول شيئا‪ ,‬إن كنت أريد‬
‫أن أراه‪ .‬أجبتها "ل"‪ .‬أمدتني بورقة لوقعها إن كنت أنوي استلم أشيائه‪ .‬لمحت في الخزانة‬
‫التي فتحتها‪ ,‬علبة الشوكولطة الفاخرة فوق كومة ثيابه‪ .‬أجبتها إنني أفضل أن أترك ذلك‬
‫فيما بعد‪.‬‬

‫تركتها وغادرت المستشفى مذهولً‪ ,‬مشلول الحاسيس‪ ,‬كأن دموعي تجمدت في براد يحوي‬
‫الن ما كان "هو"‪.‬‬
‫ل بالكيس ذاك‪ .‬بكل ما أحضرته له‪,‬وما عاد في حاجة إليه‪ .‬حاولت أن‬
‫أخذت الميترو محم ً‬
‫أتخلص منه بعد ذلك‪ ,‬بالتصدق به‪ ,‬في إحدى المحطات على أحد مشردي الميترو‪ ,‬فارتاب‬
‫في أمره‪ ,‬ولم يبد حماسة في أخذه مني‪ .‬كان يفضل مكانه‪ ,‬قطعة نقدية من عشرة فرنكات‪,‬‬
‫يشتري بها نبيذا‪ ,‬فوجدتني أعطيه الكيس وعشرة فونكات لقنعه بحسن نواياي‪.‬‬

‫هو سيد التهكم والصمت الملتبس‪ ,‬ما ترك لي فرصة لكذبة أخيرة‪ ,‬كنت أعددتها لبرر‬
‫انشغالي عنه‪.‬‬
‫ربما كان يحتاج إلى تلك الكلمات التي احتفظت بها خوفا عليه‪ .‬كان يحتاج إلى الحقيقة‪,‬‬
‫فأعفاني بموته من مزيد من الكذب‪.‬‬
‫قرر العبور إلى سريره الخير بينما كنت أنا أشغل سريره الول‪.‬‬
‫أهداني بيته‪ ,‬نساءه‪ ,‬وأشياءه‪ ,‬وما ترك لي فرصة لهديه ولو بعض قطع من الزلبية‪,‬‬
‫وأحقق أمنيته الخيرة البسيطة‪ ,‬بساطة من شبع غربة‪..‬وما بقي له سوى جوع الوطن‪.‬‬
‫أستعيده متهكما‪ ,‬تهكم ذلك الغياب الشارد الذي يسبق اكتمال الغياب‪ .‬كم من الشياء كنت‬
‫سأقولها له اليوم‪ ,‬لو لم أكن منهك القول‪ ,‬مذ أصبح بيننا كل هذا البياض‪ .‬منذ متى وهو‬
‫ذاهب صوب الصمت البيض؟‬
‫عندما وصلت إلى البيت‪ ,‬شعرت وأنا أدخله بهول الفاجعة‪ .‬بصدمة الواقع الذي يدفعك تحت‬
‫عجلت قطار ركبته بنية الحلم‪.‬‬
‫ارتميت على أريكة الصالون منهكا كحصان سباق‪.‬‬
‫كان عليّ بدءا أن أتوقف عن الركض قليلً‪ .‬أن أجلس لفهم ما الذي أوصلني إلى هذا البيت‪,‬‬
‫أنا الذي كنت ألهو بممازحة الدب‪ ,‬أكنت أمازح القدر دون علمي؟‬
‫أدخلني الموقف لغرابته في حالة ذهول من أمري‪ .‬رحت أتأمل مشهدا كأنني لست بطله‪..‬‬
‫كأنني شاهدته في زمن ما‪.‬‬
‫يوم قرأت سيرة ذلك الرسام‪ ,‬وجدتني أتماهى معه في أمكنة كثيرة من تلك القصة‪ .‬تمنيت أن‬
‫أكرر حياته بما تستحق العادة من ذكاء‪ .‬ولكن من يتذاكى مع "المكتوب"؟ المكتوب الذي بدأ‬
‫بالنسبة لي بذلك الكتاب الذي ل يمكن أن تخرج من قراءته سالما‪.‬‬
‫أمنه جاءت اللعنة؟ أم من "حياة"؟ تلك المرأة التي كانت تحمل اسما يعني عكسه كعادة العرب‬
‫في تسمية ما يرون فيه شرا بنقيضه؟‬
‫أم ترى اللعنة تكمن في الجسور التي ما زال إحداها معلّقا قبالة هذه الريكة؟‬
‫هنا أمامها عاش زيان حقيقة موت زياد الذي لم يكن يفصله عن التطابق به سوى حرف‪.‬‬
‫وفي حضرة هذه الجسور أجهش راقصا على إيقاع زوربا بذراعه الوحيدة يوم أخبروه‬
‫باغتيال أخيه الوحيد‪.‬‬
‫أمصادفة إذا كانت الجسور مبنية من السمنت‪ ,‬المادة التي تضمر في قتامتها غضبا مكتوما‬
‫وشرا صامتا‪ ,‬كمن يدبر لك مكيدة؟ طالما شككت بنوايا الجسور‪ ,‬مذ اكتشفت في كل هارب‬
‫شبهة جسر‪ ,‬ل أحد يدري لي الطرفين ينتمي‪.‬‬
‫لكن زيان لم يكن هاربا‪ .‬كان مهربا لما ظنه وطنا‪.‬‬

‫يالغباء الرجل‪ ,‬بين ما يعتقده جسرا‪ ,‬وما يعتقد الجسر أنه وطن ثمة جثتك‪ .‬فالجسر ل يقاس‬
‫بمدى المسافة التي تفصل طرفيه‪ ,‬بل بعمق المسافة التي تفصلك عن هاويته‪.‬‬
‫عندما تولد فوق صخرة‪ ,‬محكوم عليك أن تكون سيزيف‪ ,‬ذلك أنك منذور للخسارات‬
‫الشاهقة‪ ,‬لفرط ارتفاع أحلمك‪.‬‬
‫نحن من تسلّق جبال الوهم‪ ,‬وحمل أحلمه‪ ..‬شعاراته‪ ..‬مشاريعه‪ ..‬كتاباته‪ ..‬لوحاته‪ ,‬وصعد‬
‫بها لهثا حتى القمة‪ .‬كيف تدحرجنا بحمولتنا جيلً بعد آخر نحو منحدرات الهزائم؟‬
‫من يرفع كل الذي وقع منا في السفح؟‬

‫عندما دخلت فرنسا بعد سبع سنوات من الوقوف ذليلةٍ أمام تلك القلعة المحصنة كعش نسر‬
‫في العالي‪ ,‬راح خيالة قسنطينة وفرسانها الذين لم يعتادوا على مذلة السر‪ .‬يقفزون‬
‫بخيولهم من على الجسور عائدين إلى رحم الوديان‪ .‬كان آنذاك الموت قفزا نحو منحدراتها‬
‫الشديدة‪ ,‬آخر نصر لرجال ل مفخرة لهم سوى أنهم أبناء الصخرة‪.‬‬
‫بهم انتهى زمن الموت الجميل‪ ,‬وأصبح وادي الرمال مجرى لنفايات التاريخ‪ ,‬تطفو فيه مع‬
‫قمامة المدينة وأخبار لصوصها المحترمين‪ ,‬جثث أبنائها الجميلين والبائسين‪.‬‬
‫ل شيء يستطيع أن يمنعك من تسلق " جسور الموت" حتى ذلك الحزام المني الذي‪ ,‬بعد أن‬
‫كثرت حالت النتحار‪ ,‬أحاطوا به خصر الجسور لتصبح أعلى‪ .‬قد يمنعك أن تطل على‬
‫الموت‪ ,‬ولكن ل يمنع الموت أن يطل عليك‪ ,‬حيث أنت في حضيض خيباتك‪.‬‬

‫فجأة‪ ,‬مثل حياة‪ ,‬بدأت أتطير من هذه اللوحات‪ .‬ووجدت في جلوسي أمامها‪ ,‬استفزازا صامتا‬
‫لقدر ل قوة لي على مواجهته‪.‬‬
‫سعدت أنني سأغادر هذا البيت قريبا‪ ,‬وأنها ستبقى هنا‪ .‬ثم تذكّرت اللوحة التي اشتريتها وما‬
‫زالت معروضة حتى انتهاء المعرض‪ .‬فكرت أن أكلّف فرانسواز بإحضارها‪ .‬ثم فكرت في‬
‫غرابة سفري مع جثمان زيان برفقة تلك اللوحة‪.‬‬
‫أوصلني التفكير إلى حقيبتي التي ل بد أن أعدها‪ ,‬وأشياء زيان التي علي أن أقوم بفرزها‬
‫بسرعة‪ ,‬لنني ل أدري متى سيكون سفري إلى قسنطينة حسب تاريخ الرحلت‪.‬‬
‫ووجدتني أستعيد ما كنت عشته منذ سنتين بعد اغتيال عبد الحق‪ ,‬عندما كان عليّ أن أجمع‬
‫أشيائي في بيته الذي كنت أقيم فيه بين الحين والخر في تلك الفترة التي كان فيها‬
‫الصحافيون يغيرون عناوينهم يوميا‪ ,‬والتي كان عبد الحق بدوره ل يعرف عنوانا ثابتا مذ‬
‫استشعر خطر اغتياله‪.‬‬

‫ربما كان المر أهون يومها‪ ,‬لنني لم أكن معنيا سوى بجمع أشيائي‪ ,‬بينما تركت لزوجته‬
‫عذاب التكفل بأشيائه‪ .‬غير أن وجعي كان بسبب كل ما كانت حياة قد أحضرته‪.‬حتى إنّ زيارة‬
‫بعد أخرى‪ ,‬أصبح البيت ينقسم إلى أشياء عبد الحق البسيطة‪ ,‬وتلك الشياء الخرى الفاخرة‪,‬‬
‫التي كانت تهربها من بيتها‪ ,‬وتأتي بها‪ ,‬مشفقة على بؤس شقة‪ ,‬ل علقة لها بفخامة‬
‫مسكنها‪ ,‬غير مدركة أنها تؤثث شقة صديقي!‬
‫في البدء كنت سأشرح لها الحقيقة‪ ,‬ولكن كنت أحببت سوء الفهم العشقي الذي تورطنا فيه‪,‬‬
‫وإغراء تلك العلقة الملتبسة التي تجمعنا‪.‬‬
‫وكان بإمكان عبد الحق‪ ,‬كلما مر‪ ,‬أن يعرف وتيرة زياراتها من مستجدات البيت‪ ,‬من مناشف‬
‫جميلة‪ ,‬وشراشف أنيقة‪ ,‬ومنافض من الكريستال‪ ,‬ولوازم مطبخ‪ ,‬وروب للحمام‪.‬‬
‫بدأت أتعود أن أراها تأتي من بيتها محملة دائما بكل ما تقع عليه يداها‪ ,‬حتى الجبان‬
‫المستوردة‪ ..‬وألواح الشوكولطة‪ ..‬وعلب السجائر‪ .‬بل حدث لفرط إجرامها العاطفي المغلف‬
‫بالعطاء‪ ,‬أن أهدتني ثيابا ومصاغا اشترته نيابة عني لزوجتي!‬
‫كانت امرأة سخية في كل شيء‪ .‬في خوفها عليك‪ ,‬في انشغالها بك‪ ,‬في اشتهائك‪ ,‬في‬
‫إمتاعك‪ ..‬وحتى في إيلمك‪.‬‬
‫ذلك السخاء العشقي الذي تشعر عندما تفقده بفاجعة اليتم الول‪ ,‬لنك تعي أن ل امرأة بعدها‬
‫ستحبك بذلك الحجم ول بتلك الطريقة‪ .‬ذلك أنك أثناء انبهارك بها‪ ,‬كانت تلك المرأة تعيث فيك‬
‫عشقا وفسقا وكرما‪ ,‬وتفسدك وتخرّبك وتدلّلك وتشكّلك‪ ,‬بحيث لن تعود تصلح لمرأة عداها‪.‬‬

‫عندما مات عبد الحق‪ ,‬أصبح السؤال ماذا أفعل بتلك الشياء‪ .‬أأتركها في البيت لتتصرف بها‬
‫زوجة عبد الحق كيفما اتفق‪ ,‬أو آخذها إلى بيتي لقاصص بها نفسي؟‬
‫فأصعب من اختراع قصة مقنعة لزوجتي عن مصدرها‪ ,‬معايشتي اليومية لتلك الشياء التي‬
‫ارتبط كل شيء منها بذكرى تحرّض الشجون عليك‪ ,‬وتعيدك إلى ذلك الجحيم غير المدرك‬
‫لسعادة كانت تحمل في فرحتها بذور تعاستك التية‪.‬‬
‫كمثل صدقة جارية‪ ,‬كان عشق تلك المرأة قصاصا جاريا‪ .‬ما عرفت امرأة بعدها إل وكان‬
‫فيها قصاصك‪ .‬وما استعملت شيئا أهدتك إياه إل وعذبت نفسك به‪ ,‬وما ضممت إلى صدرك‬
‫غيرها‪ ..‬إل وهجم عليك الصقيع‪.‬‬
‫كيف تنجو من وجع المقارنة؟ هي التي أغدقت عليك بما لن تعطيك امرأة بعدها‪ .‬أكانت‬
‫تضمر لك في كل ما أعطته ألما‪ ,‬ذلك أن العشق وحده في كل ما يعطيك يضمر قصاصه‬
‫المستقبليّ‪.‬‬
‫ما الرحم إذن‪ ,‬ما يتركه لك الموتى حين يرحلون؟ أم ما يتركه الحب بعد رحيل الحياء؟‬
‫أطفأت في منفضة اللم أسئلتي‪ ,‬وذهبت صوب غرفة زيان أفتح ورشة الموت‪.‬‬

‫***‬

‫هي ذي الحياة بأشياء موتها التي ل تموت‪ .‬هس ذي تلك الشياء التي تظنك تنالها فتنال‬
‫منك‪ ,‬لنها ستعيش بعدك‪.‬‬
‫في كل موت أنت أمام الموقف نفسه‪ .‬كما كنت أمام أشياء أبيك ‪ ,‬وغرفة نومه التي أورثك‬
‫إياها‪ ,‬بخزانة تضم بدلت وثياب وأشياء رجل من عمره‪,‬منامته‪ ,‬روب البيت السميك‪,‬‬
‫والخر الحريري‪ ,‬ثيابه الداخلية ذات الماركة الفرنسية نفسها دائما‪ ,‬مفكرته‪ ,‬خف البيت‬
‫الصوفي‪ ,‬نظاراته‪ ,‬ساعته‪ ,‬كنزاته‪ ,‬أدويته المكدسة لشهر مقبلة‪ ,‬ظنا منه أنه بشرائه‬
‫كميات أكثر يشتري له عمرا أطول‪.‬‬
‫في غرفة نوم أبيك‪ ,‬ثم في بيت عبد الحق‪ ,‬والن أمام أشياء زيان‪ ,‬تفهم أنك تساوي أرخص‬
‫من أي شيء تملكه‪.‬‬
‫وإل ‪ ..‬كيف لمنفضة ثمنها ‪ 10‬فرنكات أن تعيش بعدك؟ كيف لساعة ثمنها ‪ 500‬فرنك أن‬
‫تواصل عقاربها الدوران غير آبهة بتوقف قلبك؟ كيف لسرير؟ كيف لكرسي؟ كيف لحذاء؟‬
‫كيف لجورب ما زال عليك عرق قدميك أل يكترث لموتك؟‬
‫وكيف أن الشياء التي كلفتك الكثر هي أول من يخونك‪ ,‬وأن تلك التي كدت تفقد بسببها‬
‫حياتك‪ ,‬ما تكاد تفرق الحياة حتى تذهب لغيرك؟‬
‫السؤال نفسه يعود‪ :‬كيف أواجه الحضور الظالم‪ ,‬الحضور الرهيب البارد‪ ,‬لتلك الشياء غير‬
‫المعنية بموتٍ ما بردت جثته بعد؟‬
‫طبعا " ل أكثر خبثا من البراءة" وأنا تعلّمت أل أنخدع ببراءة حضورها اللفويّ الصامت‪ .‬أل‬
‫أصدق حزنها الشامت الذي يقول لك‪ ,‬إنّ أصحابها لم يعودوا هنا‪ ,‬وإنها على يتمها ستعيش‬
‫بعدهم‪ .‬وقد تذهب إلى أعدائهم‪ ,‬كما يذهب حذاء جندي ميت إلى عدوّه البائس في ساحة قتال‬
‫يكسوها الثلج‪.‬‬

‫تريد أن تختبر الشياء بموتك‪ .‬اغلق الباب خلفك‪ ,‬وامضِ‪.‬‬


‫أول سارق ماكر هو ذلك الغبار الذي سيضع يده بقفازه الترابي على أشيائك‪ ,‬بدون أن‬
‫يحركها من مكانها‪ .‬دون أن يلفت انتباه أحد‪ ,‬ستصبح له بحكم الغياب‪.‬‬
‫الغبار الذي يتقدم مكتسحا كل مكان تغيبت عنه‪ ,‬ليس سوى تمرين لما سيقع بعد موتك‪.‬‬
‫بعدها ستمضي تلك الشياء‪ ,‬لولئك الذين سيسطون عليها‪ ,‬ل بحياء الغبار‪ ,‬إنما بوقاحة‬
‫اللصوص‪ ,‬كما في قصة زوربا‪ ,‬عندما كانت تلك العجوز أثناء احتضارها‪ ,‬ترى بعينيها‬
‫الناس الذين جاؤوا بذريعة مواساتها‪ ,‬يتسابقون إلى سرقة أشيائها‪ ,‬مستفيدين من عجزها‬
‫عن الدفاع بعد الن عما حافظت عليه حتى آخر العمر‪.‬‬
‫المؤلم إغلقها عينيها على مشهد الفقدان‪ .‬غير دارية أين عليها أن تنفق جهدها الهزيل‬
‫لحظة الحتضار‪ .‬أبالتشبث بآخر أنفاسها؟ أم بالمساك بآخر جاجاتها!‬

‫في الموت‪ ,‬الدور الكثر تعاسة‪ ,‬ليس من نصيب الذي رحل وما عاد معنيّا بشيء‪ ,‬إنما من‬
‫نصيب الذي سيرى قدر الشياء بعده‪.‬‬
‫على حزنها‪ ,‬ل أظن فرانسواز ستتحمل طويلً جثث الشياء في بيتها‪ .‬والمر حسب معرفتي‬
‫بها لن يأخذ منها أكثر من ساعتين أو ثلث‪ ,‬وهو ما يلزمها من وقت لجمع أوراق زيان‬
‫وكتبه‪ ,‬في انتظار أن تسلّمها لول عربي يدخل بيتها‪.‬‬
‫أما ما بقي فقد تضعه في أكياس‪ ,‬ليأخذ مكانه في الطابق السفلي جوار صندوق القمامة‪ ,‬أو‬
‫في أحسن الحالت‪ ,‬قد تحتفظ به في المرآب‪ ,‬في انتظار المرور التالي للصليب الحمر لجمع‬
‫المساعدات النسانية‪.‬‬
‫ذلك أن فرانسواز مهووسة بالمبادرات الخيرية‪ ,‬وكأنها نذرت نفسها لمساعدة بؤساء‬
‫البشرية‪ ,‬يتناوبون على قلبها وعلى سريرها حسب مستجدات المآسي في العالم‪ .‬حتى كان‬
‫يبدو لي أن معاشرتها زيان تدخل ضمن نشاطاتها الخيرية‪.‬‬
‫وكنت أراها‪ ,‬حسب نشرات الخبار‪ ,‬تسارع لتلبية نداء الغاثة لهذه الجهة أو تلك‪ ,‬جامعة ما‬
‫زاد عن حاجتها من ثياب‪ ,‬وما بلي أو لم يب َل من أحذية وستائر وشراشف‪ ,‬في أكياس كبيرة‬
‫من البلستيك تقوم بإنزالها ووضعها جوار مقصورة البواب‪ ,‬في انتظار أن يجمعها الصليب‬
‫الحمر‪.‬‬

‫كان في فرانسواز شيء من الطيبة الممزوجة بسذاجة الغربيين في التعامل مع الخر‪ ,‬والذي‬
‫يتحكم فيها منطق إعلمي يبسط الشياء‪ ,‬ويقسّم العالم إلى خيّر وشرير‪ ,‬وحضاري‬
‫ومتخلف‪ ,‬ولزم وغير ضروري‪.‬‬
‫يوم رأيتها تنزل بتلك الكياس لتتصدق بها لضحايا " سراييفو"‪ ,‬اعترفت لها أنني أحسدها‬
‫على شجاعتها في التخلص من كل شيء بسرعة وقدرتها على رمي الشياء في كيس‬
‫للصدقة‪ ,‬بدون ندم أو تردد أو حنين‪ ,‬غير معنية بذاكرة الشياء ول بقيمتها العاطفية‪,‬‬
‫وتمنيت لو استطعت مثلها أن أجمع ذاكرتي في صرة‪ ,‬وأضعها عندالباب كي أتخلص من‬
‫حمولتي‪ ..‬وأضاهيها خفة‪.‬‬

‫سألتني‪:‬‬
‫‪ -‬وماذا تفعلون إذن بالشياء التي لم تعد من حاجة لكم بها؟‬
‫أجبت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬ليس في حوزتنا أشياء ل نحتاجها‪ ,‬لنها حتى عندما تهترئ‪ ,‬وتعتق‪ ,‬نحتاج حضورها‬
‫المهمل في خزائننا أو في مرآب خردتنا‪ ,‬ل عن بخل‪ ,‬بل لننا نحب أن نثقل أنفسنا بالذاكرة‪,‬‬
‫ونفضل أن نتصدق بالمال‪ ,‬على أن نتصدق بجثث أشيائنا‪ ,‬ولهذا يلزمنا دائما بيوت كبيرة‪.‬‬
‫ثم واصلت ضاحكا‪ :‬أليس في المر كارثة!؟‬

‫ها هي ذي الكارثة! فتفضل أيها العربي المثقل بحمولتك‪ ,‬تركة أخرى في انتظارك‪ ,‬فماذا‬
‫ستفعل بهذه الغربة الفضفاضة لرجل ضاق به الوطن‪ ,‬وترك لك ما خاله وطنا‪ :‬كتبا في‬
‫ل أو أصدقاء‪ ,‬ربما‬
‫الشعر وأخرى عن تاريخ الجزائر‪ ,‬صور أخذها مع أناس قد يكونون أه ً‬
‫ماتوا أو ما زالوا أحياء‪ ,‬نسخة قديمة لمصحف‪ ,‬مفكرات لعدة سنوات عليها عناوين‬
‫ومواعيد وأسماء‪ ,‬وصفات طبية‪ ,‬تذاكر سفر مستعملة‪ ,‬ملصقات صغيرة لها ذكرى وحده‬
‫يعرفها كقارورة عطر " شانيل" النسائية الفارغة‪ ,‬قابعة في ركن قي في خزانة الملبس‪,‬‬
‫مغرورقة في حزن فقدانها العطري‪ .‬إنه الوفاء النثوي يجهش اعتذارا عن كل الخيانات‬
‫النسائية‪.‬‬

‫تجمع حولك أشياء بديلة تسميها وطنا‪ .‬تحيط نفسك بغرباء تسميهم أهلً‪ .‬تنام في سرير‬
‫عابرة تسميها حبيبة‪ .‬تحمل في جيبك دفتر هاتف بأرقام كثيرة لناس تسميهم أصدقاء‪ .‬تبتكر‬
‫أعيادا ومناسبات وعناوين وعادات‪ ,‬ومقهى ترتاده كما تزور قريبا‪.‬‬
‫أثناء تفصيلك لوطن بديل‪ ,‬تصبح الغربة فضفاضة عليك‪ ,‬حتى لتكاد تخالها برنسا‪ .‬غربة‬
‫كوطن‪ ,‬وطن كأنه غربة‪ .‬فالغربة يا رجل فاجعة يتم إدراكها على مراحل‪ ,‬ول يستكمل الوعي‬
‫بها‪ ,‬إل بانغلق ذلك التابوت على أسئلتك التي بقيت مفتوحة عمرا بأكمله‪ ,‬ولن تكون هنا‬
‫يومها لتعرف كم كنت غريبا قبل ذلك‪ ,‬ول كم ستصبح منفيا بعد الن!‬

‫كنت ما أزال أفكر كيف أتصرف بكل تلك الشياء‪ ,‬عندما لمحت حذا ًء أسفل الخزانة‪.‬‬
‫كان حذاءه الوحيد‪ ,‬أو بالحرى‪ ,‬ما بقي له هنا‪ .‬فهو حتما يملك حذاءً آخر ذهب به إلى‬
‫المستشفى‪.‬‬
‫ل أدري لماذا اختار ذلك الحذاء دون هذا لسفرته الخيرة‪ .‬قد يكون تركه لمناسبة أجمل‪,‬‬
‫فهو حذاء جديد كأنه لم ينتعله‪ .‬وبرغم ذلك‪ ,‬بدا لي أكثر حزنا من الخر‪ ,‬مختبئا أسفل‬
‫الخزانة كيتيم‪ ,‬يخاف أن يلفت النظار إليه فيطرد‪ ..‬أو يُغتال‪.‬‬
‫أثمة يتم للحذية أيضا؟‬
‫بدا لي زوجا الحذاء متلصقين كرجلي ذلك الصغير المرعوب‪ .‬عندما مددت يدي لخرجهما‬
‫من مخبئهما‪ ,‬استعدت منظر ذلك الطفل الذي أخذت له صورة‪ ,‬والذي قضى ليلة مختبئا تحت‬
‫السرير‪ ,‬وعندما استيقظ في الصباح‪ ,‬وجد أنه فقد كل أهله‪,‬وأنه أصبح يتيما إلى البد‪.‬‬
‫أنا الذي قررت أمام ورشة الموت أل أبكي‪ ,‬أمام ذلك الحذاء الذي كسا الغبار لمعته‪ ,‬وجدتني‬
‫أنهار باكيا‪.‬‬
‫هو رجل المسافة‪ ,‬وحشمة التغافل‪ .‬أحزنني هتك أسراره‪ ,‬والتسكع في عالم ما توقع أن‬
‫يدخله غريب بعده‪ ,‬بذريعة أنه لم يعد هنا ليحمي أشياءه الصغيرة السرية‪ .‬تلك الشياء التي‬
‫لم تحفظ حرمة غيبته‪ ,‬بل راحت تغتابه‪ ,‬وتثرثر مع أول عابر سبيل‪.‬‬

‫وأذكر عندما زرته في إحدى المرات‪ ,‬وكان علي أن أغادر الغرفة وأنتظره بعض الوقت في‬
‫الخارج ريثما تنتهي الممرضة من خدمته‪ ,‬راح يعتذر لي عن انتظاري‪ ,‬ويحدثني عن مذلة‬
‫المرض الذي يعطي ليّ شخص الحق في أن يستبيح جسدك وينتهك حميميتك‪.‬‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ -‬هذه أول مرة أدخل فيها المستشفى مذ بترت ذراعي منذ أكثر من أربعين سنة‪ .‬ل أحب‬
‫مهانة المرض‪ .‬ما أنقذني أنني تعودت في الحياة أن أواجه النظرات التي تعرّي عاهتي بأن‬
‫أتغابى‪ ..‬فلم أفعل غير مواصلة ذلك هنا‪.‬‬
‫ثم واصل‪:‬‬
‫‪ -‬التغابي هو بعض ما اكتسبته من اليتم‪ .‬عندما تعيش يتيما‪ ,‬تتكفل الحياة بتعليمك أشياء‬
‫مختلفة عن غيرك من الصغار‪ .‬تعلّمك الدونيّة‪ ,‬لن أول شيء تدركه هو أنك أقل شأنا من‬
‫سواك‪ ,‬وأنه ل أحد يردّ عنك ضربات الخرين‪ ,‬ومن بعدهم ضربات الحياة‪.‬أنت في مهب‬
‫القدر وحدك كصفصافة‪ ,‬وعليك أن تدافع عن نفسك بالتغابي‪ ,‬عندما يستقوي عليك أطفال‬
‫آخرون‪ ,‬فتتظاهر بأنك لم تسمع‪ ..‬وأنك تدري أن لهم آباء يدافعون عنهم ول أب لك‪.‬‬
‫صمت بعض الوقت‪ ..‬ثم واصل‪:‬‬
‫‪-‬كلّ اكتسب شيئا من دونيته‪ ,‬سواء أكان كريما أو بخيلً‪ ..‬عنيفا أو مسالما‪ ..‬واثقا في‬
‫الناس أو مرتابا‪ ..‬عازبا أو رب عائلة‪.‬‬
‫كلّ يتيم هو مريض بدونية سابقة‪ ,‬يتداوى منها حسب استعداداته النفسية‪.‬‬
‫لكن أعلى درجات اليتم‪ ..‬يتم العضاء‪ .‬إنها دونية عارية معروضة للفرجة والفضول‪ ,‬ل‬
‫شفاء منها‪ ,‬لنك ما رأيت أحدا إل وذهب نظرك مباشرة إلى ما يملكه‪ ..‬وينقصك أنت‪ ..‬وهنا‬
‫كم يلزمك من التغابي لتكذب على نفسك!‬

‫أستعيد الن كلمه هذا‪ ..‬متذكرا قولً لمعاوية بن أبي سفيان " إن ثلث الحكمة فطنة‪ ,‬وثلثيها‬
‫تغافل"‪.‬‬
‫ذلك أنه ما كان لي أن أدرك ثلثي حكمته إل وأنا أجمع أشياء موته‪ ,‬وأقع فجأة بين حاجاته‬
‫على نسخة من كتاب "فوضى الحواس" تبدو منهكة لفرط تداولها‪ ,‬نسخة بدون إهداء‪ ,‬من‬
‫الرجح أن يكون اشتراها‪ .‬ذلك أن السعر مكتوب بقلم الرصاص على صفحتها الولى‪..‬‬
‫بالفرنك الفرنسي‪ .‬وفي الرقام الثلثة تلك‪ ,‬كانت تختصر كل فجيعة رجل أحالته حبيبته من‬
‫قلب كتاب كان سيده‪ ,‬إلى غريب ل مكان له حتى في إهداء الصفحة الولى‪ .‬يدفع ‪140‬‬
‫فرنكا‪ ,‬كي يعرف ما أخبارها مطاردا خيانتها بين السطور‪.‬‬
‫كان يعرف إذن من أكون‪ ,‬وكان يواجهني بالتغابي ذاته!‬

‫نزلت عليّ صاعقة الكتشاف‪ ,‬وسمّرتني مكاني‪ .‬رحت من دهشتي أتصفح الكتاب وأعيد‬
‫قراءة صفحات منه كيفما اتفق وكأنني أكتشفه لتوّي‪ ,‬باحثا عما يمكن أن يكون قد تسقطه‬
‫عني‪.‬‬
‫كيف له في محاولة لتقصّي أخبارها‪ ,‬أل يشتري كتابا لها صدر بعد أن افترقا‪.‬‬
‫وهي التي كالنظمة العربية‪ ,‬تحترف توثيق جرائمها‪ ,‬واستنطاق ضحاياها في كتاب‪ .‬كيف‬
‫لها أ ّل تجعلني مفضوحا بالنسبة إليه‪ ,‬بقدر ما كان هو في " ذاكرة الجسد"‪ ,‬وإذ بواحدنا‬
‫يعرف عن الخر كل شيء‪ ,‬جاهلً فقط علم الخر بذلك‪.‬‬

‫كمن يحاول فكّ سرّ كبير‪ ,‬بترتيب فسيفساء السرار الصغيرة‪ ,‬رحت أحاول أن أفهم‪ ,‬في أيّ‬
‫موعد بالذات أدرك من أكون‪ ,‬وأيّ تفصيل بالذات جعله يتعرّف عليّ‪ .‬أمن السم الذي أعطته‬
‫له فرانسواز‪ ,‬وهي تطلب لي موعدا معه؟‬
‫ترى لو لم أقدّم نفسي على أنني خالد بن طوبال أكان سيتعرف عليّ مثلً من عاهة ذراعي‬
‫اليسرى التي ل تتحرك بسهولة؟ أم كان سيعرفني لنني كما في الرواية مصوّر‪...‬ومن‬
‫قسنطينة؟ ولفترض أنني عندما زرته في المستشفى لم أقل له شيئا على الطلق‪ ,‬أكان‬
‫سيتعرف عليّ بحدس المحب‪ ,‬وريبة الرجولة؟‬
‫ثم‪ ,‬قد يكون تعرّف عليّ‪ ,‬وعرف من ذلك الكتاب كل شيء عن علقتي بحياة‪ ,‬وهذا ليس‬
‫مهما في النهاية‪..‬‬
‫لكن‪ ,‬أكان على علم أنني أقيم في بيته؟ وأساكن صديقته؟ وأنني التقيت بحياة واصطحبتها‬
‫إلى هذا البيت؟ وأنها كانت ترقص لي لحظة كان يحتضر؟‬
‫أيكون اختار تلك اللحظة بالذات لن يموت فيها إمعانا منه في التغابي؟‬

‫ما زلت غير مصدّق أن يكون في توقيت موته مصادفة‪ ,‬ول أرى سببا لتدهور مباغت‬
‫لصحته‪ .‬فل شيء عندما التقيت به قبل ذلك بيوم‪ ,‬يشي بأن حياته في خطر أو أنه يعاني من‬
‫انتكاسة ما‪.‬‬
‫بل إنني لم أره ممازحا ومرحا كذلك اليوم‪ .‬وأعرف خبث ذلك المرض بالذات‪ ,‬الذي من‬
‫بعض مكره‪ ,‬إعطاؤك قبل أن يفتك بك‪ ,‬إحساسا بالتعافي‪ .‬والكل من حولك سيقولون لك ذلك‪,‬‬
‫لنك فعلً ستبدو في أحسن حالتك‪.‬‬
‫أعرف هذا من أبي‪ .‬غير أني من عمي أعرف أيضا أن النسان يختار توقيت موته‪ .‬وإل‬
‫كيف استطاع أن يموت في أول نوفمبر بالذات‪ ,‬تاريخ اندلع الثورة الجزائرية التي كان أحد‬
‫رجالها؟‬
‫وجدت تأكيدا لهذا المقال أبحاثا قام بها متشنيكوف‪ ,‬وهو عالم وضع في بداية القرن‬
‫العشرين نظرية في وظائف خليا الجسم‪ ,‬تثبت أن النسان ل يموت إل إذا أراد حقا ذلك‪,‬‬
‫وأن موته العضوي ليس سوى استجابة لمطلب نفسي ملحّ‪.‬‬
‫وإذا صدقت هذه النظرية تكون الثورة الجزائرية أودت بحياة عميّ برصاصة تأخر مفعولها‬
‫القاتل أربعين سنة‪ ,‬وأكون أنا من أقنع زيان يومها بإطلق رصاصة الرحمة على نفسه‬
‫واشتهاء الموت حد استحضاره‪.‬‬

‫هذه الفكرة لم تكن إل لتزيد من حزني‪ ,‬ولذا ما كادت فرانسواز تعود إلى البيت حتى بادرتها‬
‫ل عمّا إذا كانت أخبرت زيان بإقامتي عندها أم ل‪.‬‬
‫سائ ً‬
‫أجابت متعجبة‪:‬‬
‫‪ -‬طبعا ل‪..‬‬
‫ثم واصلت‪:‬‬
‫ي بعدم إخباره‪.‬‬
‫‪ -‬ما كان لي أن أنسى ذلك بعد إلحاحك عل ّ‬
‫تمتمت‪:‬‬
‫‪-‬شكرا!‬
‫وتنفست الصعداء‪ .‬يا إلهي ما أصعب الساءة للموتى‪.‬‬
‫واصلت فرانسواز‪ ,‬وهي تتعجب لمري قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬زيّان يعرف بأنّ لي علقات‪ .‬وهو ما كان يتدخل في حياتي‪ .‬هذا المر كان واضحا بيننا‬
‫منذ البدء‪ ..‬فلماذا أنت قلق؟‬
‫كم كان سيطول الكلم‪ ,‬لو أنا شرحت لها أسباب قلقي‪ .‬لكن في مثل هذه الحالت‪ ,‬كنت‬
‫أكتشف كم هي غريبة عني وكم الكلم معها يأخذ بعدا عبثيّا‪ .‬هذا برغم تأثرها البالغ عندما‬
‫وقع عليها الخبر حتى أنها انهارت على الريكة باكية مرددة‪:‬‬
‫‪..ce n'est pas possible...Oh mon Dieu-‬‬
‫قبل أن تسألني وهي تستمع إلى الرسائل الهاتفية‪ ,‬كيف أنني لم أعرف بنداءات المستشفى‪.‬‬
‫أجبتها وقد فاجأني سؤالها‪ ,‬أنني كنت ذلك المساء خارج البيت‪ .‬لكنها أجابت بما فاجأني‬
‫أكثر‪ " ,‬آه صحيح‪ ..‬ربما كنت يومها تتعشّى عند مراد"‪.‬‬
‫بقيت صامتا للحظات‪ ,‬وأنا أستنتج من عبارتها أنها على اتصال دائم معه‪ ,‬وأنهما يتهاتفان‬
‫كل يوم‪.‬‬
‫لم يكن الظرف مناسبا لمعن التفكير في غدر صديق أثناء انشغالي بتفاصيل موت صديق‬
‫آخر‪ .‬كان جميلً أن أتأكد من أن للموت تنوعه‪ ,‬فثمة موتى نواريهم التراب‪ ,‬وآخرون أحياء‬
‫نطمرهم في وحل مخازيهم‪.‬‬
‫ل بإمكانه أن يتفهم خيانة زوجة‪ .‬لكنه ل يغفر خيانة صديق‪ .‬فخيانة الزوجة قد‬
‫كنت رج ً‬
‫تكون نزوة عابرة‪ ,‬أما خيانة الصديق فهي غدرٌ مع سبق الصرار‪.‬‬
‫وضعت تلك الجملة بيننا مسافة من جليد الجفاء‪ .‬وقد تكون فرانسواز فسّرت برودتي تجاهها‬
‫بعد ذلك بفاجعة موت زيّان‪ ,‬بدون أن تعرف حجم المقبرة التي أحملها في قلبي‪.‬‬
‫اكتفيت ليلً بضمّها إلى صدري‪ ,‬وأنا أفكّر في اقتراب ليلة سيحتلّ فيها مراد مكاني عابرا‬
‫لهذا السرير‪ ..‬المقيم‪.‬‬

‫***‬

‫لنني لم أنم‪ .‬غادرت البيت باكرا صباح اليوم التالي لقضي بعض ما تأخر من مشاغلي‪,‬‬
‫نظرا لمستجدات الظرف‪ ,‬واستعدادا لعودة وشيكة إلى الجزائر‪.‬‬
‫عندما عدت مساءً‪ ,‬أخبرت فرانسواز أنني زرت مكتب الخطوط الجزائرية‪ ,‬وأن ثمة رحلة‬
‫إلى قسنطينة بعد ثلثة أيام‪ .‬سألتها إن كان بإمكاني العتماد عليها في الجراءات الدارية‬
‫وتكفّلي أنا بالمور الخرى‪ .‬ثم واصلت بعد شيء من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬نقل الجثمان يكلف ‪ 32‬ألف فرنك‪.‬‬
‫سألتني فرانسواز‪:‬‬
‫‪ -‬هل تملك هذا المبلغ؟‬
‫وجدتني أبتسم‪ ..‬وأجبتها‪:‬‬
‫‪ -‬ل‪ ..‬اشتريت تلك اللوحة بما كان معي!‬
‫قالت بتذمر‪:‬‬
‫‪ -‬يا للحماقة‪ ..‬نصف ريع لوحاته ذهب إلى الجمعيات الخيرية والنصف الخر الذي يعود‬
‫إليه ل نستطيع التصرف فيه‪ .‬فبحكم موته‪ ,‬كلّ شيء بعد الن محجوز قانونيا ومجمّد في‬
‫انتظار حصر الورثة‪.‬‬
‫واصلت وهي تشعل سيجارة‪:‬‬
‫‪ -‬ليتك ما اشتريت تلك اللوحة‪ .‬إنها أغلى لوحة بيعت‪ .‬أصرّ زيّان على أن تباع لوحاته‬
‫بأسعار معقولة حتى تكون في متناول الجميع‪ .‬ربما وضع سعرا غاليا لها لنها الحب إليه‪.‬‬
‫‪ -‬بل أنا من وضع سعرا لها‪ .‬هو لم يطلب منّي شيئا‪ .‬أردت أن أضع فيها ما بقي في‬
‫حوزتي من مال تلك الجائزة‪ ..‬وأرتاح‪.‬‬
‫قالت بعد شيء من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬أل ترى من العجيب أن يكون زيان أراد ائما الحتفاظ بهذه اللوحة ‪ ,‬وأن ثمنها يساوي‬
‫تقريبا تكاليف نقل جثمانه إلى قسنطينة؟‪.‬‬
‫اقشعرّ جسدي‪ :‬يا إلهي من أين جاءت بهذه الفكرة‪ .‬انتابني شعور بالذعر‪ ,‬كأنني بشرائي‬
‫تلك اللوحة سرقت منه قبره‪ ,‬أو كأنني اشتريت بها قبري‪ .‬ذهب تفكيري في كلّ صوب‪,‬‬
‫واستعدت تطيّر حياة من الجسور‪.‬‬
‫وبدون أن أشرح لها هواجسي‪ ,‬وجدتني أسأل فرانسواز‪:‬‬
‫‪ -‬أتعتقدين أننا ستعثر في يومين على مشترٍ لها؟‬
‫ردّت بدون أن يبدو عليها أسف أو عجب لقراري‪:‬‬
‫‪ -‬قد يكون ذلك ممكنا ما دامت معروضة‪ .‬يكفي أن نرفع عنها الشارة التي تدل أنها بيعت‪..‬‬
‫كل رواق يملك قائمة بأهم الزبائن الذين يعنيهم اقتناء لوحات هذا الفنان أو ذاك‪ .‬وهو يتّصل‬
‫بهم في مثل هذه الحالت‪.‬‬

‫كان بيعها كالحتفاظ بها يحزنني‪ .‬ولذا ما عدت أدري أيّ القرارين كان صائبا‪ ,‬خاصة أنني‬
‫اشتريتها من مالي‪ ,‬لنني أحببتها‪ ,‬ولن ل أحد غيري يقدّر قيمتها العاطفية‪.‬‬
‫وكان السؤال في حالة احتفظت بها‪ِ :‬ممّن أستدين المبلغ لنقل جثمان زيّان‪ ,‬أم ناصر وهو‬
‫أكثر نزاهة من أن يفيض حسابه بهذا المبلغ‪ ,‬أمن مراد ول رغبة لي بعد الن في التعامل‬
‫معه‪ ,‬ول أظنه سيساعدني سوى بالقليل‪.‬‬
‫كان الحل الوحيد هو التصال بحياة‪ .‬أظنها قادرة على تأمين هذا المبلغ‪.‬وكنت سأسعد بذلك‬
‫لول أن ل مال لها سوى مال زوجها‪ ,‬وأن في المر إهانة لعمر قضاه زيان رافضا التلوث‬
‫بمال اللصوص ذوي الياقات البيض‪ ,‬أو الستنجاد بدولة ليست مسؤولة سوى عن تأمين‬
‫علم وطني يغطّى به جثمان مبدعيها ممّن اغتيلوا بالعشرات على أيدي الرهابيين‪ .‬فكيف‬
‫أفكّر في طلب مساعدة من السفارة؟‬
‫كان رجل التورّع والترفّع‪ ,‬كم هيأوا له من أبواب واطئة يستدعي مروره منها انحناء‬
‫كبريائه‪ ,‬والتنازل عن ذلك العتداد بالذات‪ .‬ألن قامته أصبحت الن في انبطاح تابوت‪,‬‬
‫بإمكانه أ يمرّ من باب أبى المرور منه حيّا؟‬
‫لم يكن المر يتطلب الكثير من التفكير‪ .‬وجدتني مؤتمناّ على رفات هذا الرجل‪ ,‬فلن أتصرف‬
‫إل بما يليق بما أعرفه عنه‪ .‬ول أخاله سيسعد إن أنا تسولت ثمن نقل جثمانه من الخرين‪,‬‬
‫وقد تصدّق حيّا بما كان سيضمن له موتا كريما‪.‬‬
‫هو رجل الحزن المتعالي‪ ,‬أليس أكرم له أن يسافر على نفقة إحدى لوحاته‪ ,‬على أن تنقل‬
‫رفاته على حساب أحد المحسنين‪ ,‬أو كرما وتصدّقا من قراصنة الوطان المنهوبة؟‬
‫قطعت فرانسواز تفكيري قائلة‪:‬‬
‫ي أن أخبر فورا كارول كسبا للوقت‪ .‬فأحيانا ل‬
‫‪-‬إن كنت تريد أن تعرض اللوحة للبيع‪ ,‬عل ّ‬
‫تتم المرو بسرعة‪ ,‬خاصّة أننا في نهايات السنة‪,‬والناس في مواسم العياد ل يملكون مالً‬
‫لنفاقه في مثل هذه المشتريات عندما تكون غالية نسبيا‪.‬‬
‫أجبتها وأنا أشعل سيجارة وأذهب صوب الشرفة‪:‬‬
‫‪ -‬اطلبيها‪..‬‬

‫في الصباح التالي استيقظت متعبا من ليل كله كوابيس‪ .‬قد أكون تكلمت أثناء نومي أو تقلبت‬
‫كثيرا‪ .‬ممّا اضطر فرانسواز للنوم على أريكة الصالون‪.‬‬
‫وضعت قبلة على خدها‪ ,‬واعتذرت لها محرجا‪.‬‬
‫ردت بلطف‪:‬‬
‫‪..Ce n' est pas grave‬‬
‫ثم سألتني‪ ,‬لماذا كنت مضطربا إلى ذلك الحد‪.‬‬
‫أجبتها وأنا أتجه صوب المطبخ لعد القهوة‪:‬‬
‫‪ -‬كان حلما مزعجا‪.‬‬
‫من الرجح أن تكون قصة اللوحة وحواري مع فرانسواز وأشياء زيّان التي قضيت البارحة‬
‫في فرزها‪ ,‬تراكمت جميعها في ل شعوري‪ ,‬لتولد ذلك الحلم الذي كنت أرى فيه نفسي ما‬
‫هممت باجتياز جسر من جسور قسنطينة إل وصاح بي الناس على جانبيه أل أفعل‪.‬‬
‫كان الناس يهرّبون أشياءهم من بيوتهم البائسة المعلّقة على المرتفعات‪ ,‬صارخين بمن ل‬
‫ن الجسور جميعها ستنهار‪ ,‬والجميع مذعورون ل يدرون أيّ‬
‫يدري أن الرض تنزلق وأ ّ‬
‫جسر يسلكون للهروب من قسنطينة‪.‬‬
‫لنني رجل منطقي‪ ,‬وجدت لهذا الحلم سببا آخر‪ ,‬يعود لذلك المقال الذي قرأته عندما كنت في‬
‫الجزائر ونسيته منذ ذلك الحين‪,‬وأظنه عاد اليوم ليطفو على سطح الشعور‪.‬‬
‫وكان زميل لي‪ ,‬أمدّني بتلك الجريدة بالفرنسية‪ ,‬وقال ممازحا بلهجة أبن العاصمة " إتهلكت‬
‫عليكم يا خو قسمطينة راحت‪ .‬كاش نهار تقوموا تِلقاوْ رواحكم قاع تحت"‪.‬‬
‫عنوان المقال كان يعلن بخطّ كبير بالفرنسية أنّ الرض تنزلق في قسنطينة‪ ,‬مسبوقا بعنوان‬
‫أصغر يسأل " ماذا تنتظر الحكومة؟"‬
‫المقال كان مرعبا في معلوماته‪ ,‬مؤكدا أن ظاهرة انزلق الرض التي تتعرض لها المدينة‬
‫تتزايد‪ ,‬متقدمة بعدّة سنتيمترات سنويا‪ ,‬وأن أكثر من مائة ألف نسمة على القل يعيشون‬
‫داخل الخطر في المساكن التي‪ ,‬لفقر أصحابها الوافدين من كل صوب‪ ,‬بنيت كيفما اتفق على‬
‫المنحدرات الصخرية‪ ,‬مما زاد من الخطار التي تهدد جسر سيدي راشد الذي لم يشفع له‬
‫وقوفه على ‪ 27‬قوسا حجريا‪.‬‬
‫مصير جسر القنطرة ليس أفضل‪ ,‬هو الذي مذ بناه الرومان يلهو بالمخاطر‪ .‬وبرغم اعتباره‬
‫من أعجب البناءات‪ ,‬ظلّ معطلً خمسة قرون حتى جاء صالح باي فجلب له مائة عامل من‬
‫أوربا لبنائه تحت إشراف مهندس إسباني‪ ,‬قبل أن يهدمه الفرنسيون ويعيدون في القرن‬
‫التاسع عشر بناء الجسر القائم حاليا‪.‬‬

‫ما غزا قسنطينة غازٍ‪ ,‬أو حكمها حاكم إل وبنى مجده بإعادة بناء جسورها غير معترف بمن‬
‫بنوها قبله! مما جعل آمال القسنطينيين معلّقة كجسورهم‪ ,‬إلى ما سيقرره الخبراء‬
‫المريكيون والكنديون واليابانيون الذين تقول الجريدة إنهم سيتشاورون حول أحسن طريقة‬
‫لنقاذ مدينة تعيش منذ ‪ 2500‬سنة محصّنة كعشّ النسر في العالي‪ ..‬معجزة أبدعها‬
‫الحجر وأفسدها البشر‪.‬‬
‫لم أحكِ شيئا من كلّ هذا لفرانسواز‪ .‬كان يكفي ما ينتظرها من كوابيس النهار‪.‬‬
‫تقاسمنا روزنامة التفاصيل المزعجة للموت‪ ,‬ذهبت فرانسواز لتتابع الجراءات الدارية‪ ,‬بما‬
‫في ذلك المرور على المستشفى واستلم أشياء زيان‪ ,‬بينما ذهبت أنا لنهي بعض ما تأخر‬
‫من مشاغلي‪ ,‬ومراجعة الخطوط الجزائرية‪.‬‬

‫عصرا فاجأني هاتف منها‪ .‬قالت بسعادة‪:‬‬


‫‪ -‬حسنا أن أكون وجدتك‪ .‬بيعت اللوحة‪ .‬نجحت في أن أؤمّن لك المبلغ نقدا‪ ,‬لنه ماكان‬
‫بإمكانك أن تم ّر لستلم المبلغ‪ ,‬فليس أمامك وقت على الطلق‪ .‬لن تجدني‪ ..‬كارول ستتولى‬
‫المر‪.‬‬
‫لم أد ِر إن كانت تزفّ لي مكسبا أو خسارة‪ .‬بقيت صامتا‪.‬‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ل تقل لي إنك نادم! نحن محظوظون‪ .‬كان يمكن ألّ ننجح في بيعها قبل عدة أيام‪.‬‬
‫كان كلّ شيء حسم‪ .‬لم أشأ أن أدخل في جدل الحتمالت‪.‬‬
‫قلت مختصرا الحديث‪:‬‬
‫‪ -‬حسنا‪ ..‬أنا آتٍ‪.‬‬
‫انتابني بعد ذلك أحاسيس متناقضة وأنا في طريقي إلى الرواق‪ .‬أدركت أنني سأرى تلك‬
‫اللوحة لخر مرة‪ ,‬بدون أن أنسى أنني‪,‬في ذلك المكان‪ ,‬رأيت حياة لول مرة بعد عامين من‬
‫القطيعة‪.‬‬
‫كيف لمكان أن يجمع في ظرف أيام‪ ,‬الذكرى الجمل ثم الخرى الكثر ألما؟‬
‫مرّة لظنك أنك استعدت فيه حبيبا‪ ,‬ومرة لدراكك في ما بعد أنك فقدت فيه وطنا‪.‬‬

‫لفرط إمعاني في إغفال الحبّ‪ ,‬كان يأتيني متنكرا في النسيان‪ ,‬حين ل أتوقعه‪ .‬كيف تستطيع‬
‫قتل الحب مرة واحدة‪ ,‬دفعة واحدة‪ ,‬وهو ليس بينك وبين شخص واحد‪ .‬إنه بينك وبين كل‬
‫ما له علقة به‪.‬‬
‫عند باب الرواق قابلني ملصق المعرض وعليه صورة إحدى لوحات زيان التي تمثل بابا‬
‫عتيقا نصف مفتوح‪ ,‬وقد وضع على أعلى زاويته اليسرى وشاح حداد يعلن موت الرسام‪.‬‬
‫وقفت أتأمله لحظات كأني أريد أن أتأكد من صدق الحدث‪.‬‬

‫استقبلتني كارول بمودة‪ .‬كانت متأثرة لموت زيان الذي عرفته منذ مجيئه إلى فرنسا‪ .‬دعتني‬
‫إلى مكتبها‪ ,‬معبّر ًة عن ألمها لنه لن يكون هنا عند انتهاء المعرض كعادته‪ .‬أمدتني بالمبلغ‬
‫الذي دفعته يوم اشتريت اللوحة‪ ,‬وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬آسفة‪ ,‬لم تستمتع حتى بامتلكها لفترة‪.‬‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪ -‬قد يكون هذا أفضل‪ .‬ربما كنت تعوّدت عليها‪ ,‬أو تعوّدت هي عليّ‪ .‬غيّرت هذه اللوحة‬
‫صاحبها دون أن تغيّر مكانها‪ ,‬انتقلت من ملكية إلى أخرى‪ ,‬من دون حتّى أن تنتبه لذلك!‬
‫لم أحاول أن أعرف من اشتراها‪ .‬تركتها شاكرا‪ ,‬وأنا أفكر في أنني أستعيد بذلك المبلغ‪ ,‬ل‬
‫ثمن اللوحة‪ ,‬بل ثمن تلك الجائزة التي كأنني حصلت عليها لموّل بأفضل صورة للموت‬
‫فاجعة موت آخر‪ .‬لقد ازدهر الموت عندنا وأثرى حتّى صار بإمكانه أن يموّل نفسه!‬

‫لم يفاجئني وأنا أقوم بجولة في المعرض أل أرى أحدا من الزوار‪ .‬ل أظنه كان وقتا لرتياد‬
‫المعارض‪ ..‬ول وقتا للموت‪.‬‬
‫كانت الساعة الرابعة ذات بداية أسبوع‪ ,‬من نهاية سنة‪ ,‬والناس مشغولون بإعداد أفراحهم‪.‬‬
‫فهل تعمّد أن يستفيد من انشغال الحياة عنه حتى يتسللّ من قبضتها؟‬
‫لم أحزن لخلوّ المعرض‪ .‬بل سعدت لنه كان لي وحدي‪ .‬شعرت أنني أمتلك كلّ تلك اللوحات‬
‫لبعض الوقت‪ ,‬في انتظار أن أخسرها جميعها‪ .‬وحدهم الثرياء يرفضون أن تتم عملية‬
‫امتلكهم للوحة بعيون القلب‪.‬‬
‫كنت سعيدا‪ ,‬لنني كنت هناك لفعل الشيء الوحيد الذي تمنيته ولم يحدث‪ ,‬أن أتجوّل في هذا‬
‫المعرض مع زيان‪.‬‬
‫ذلك أنه حتما سيحضر‪ ,‬فل يمكن أن يخلف موعدا مع لوحاتٍ تتشوق لنزالها من أزاميل‬
‫الصلب والعودة إلى كنف رسامها‪.‬‬
‫ل أمام كل‬
‫الجميع مشغول عنه‪ .‬وهو يملك أخيرا كل الوقت‪ .‬ويمكننا أن نتوقّف لنتحدّث طوي ً‬
‫لوحة‪ ,‬لول أنني أنا الذي ل وقت لي‪ ,‬ول أدري بماذا أبرر له انشغالي‪ ,‬وضرورة أن أتركه‬
‫بعد حين قبل أن تغلق الخطوط الجزائرية مكاتبها‪.‬‬
‫سيلعن هذه الخطوط ويسألني " ماذا أنت ذاهب لتفعل في ذلك البلد‪ ..‬أثمة مهبول يذهب‬
‫لقضاء رأس السنة هناك؟"‪.‬‬
‫ل"‬
‫ولن أجد ما أجيبه به‪ .‬ثم عندما لن يستطيع استبقائي أكثر‪ ,‬سيودعني كعادته قائ ً‬
‫سنواصل الحديث غدا"‪ ,‬مضيفا بعد شيء من الصمت " إن كان لديك وقت"‪.‬‬
‫كانت هذه طريقته في الترفع عن استجداء زيارة‪.‬‬
‫ت حتى‬
‫لكن أزفت ساعة الرحيل يا صديقي‪ .‬لقد انتهى وقت الزيارة الكبرى‪ .‬لم يبق من الوق ِ‬
‫ما يغطي تلك الزيارات المبرمجة للمشافي‪ .‬مات الوقت يا عزيزي‪ .‬أنت الن في " الوقت‬
‫المجمد"‪.‬‬

‫أكان يعرف ذلك؟‬


‫كان في رسمه الخير زاهدا في الحياة‪ ,‬كأنه يرسم أشياء تخلّى عنها أو تخلّت عنه‪.‬‬
‫جثث أشياء ما عادت له‪ ,‬ولكنه ظلّ يعاملها بمودة العشرة‪ ,‬بضربات لونيّة خفيفة كأنه يخاف‬
‫عليها من فرشاته‪ ,‬هي التي ما خافت عليه من خنجرها‪.‬‬
‫كان يرسم فاجعة الشياء‪ ,‬أو بالحرى خيانتها الصامته أمام الفاجعة‪ .‬ككل هذه البواب التي‬
‫تشغل عددا من لوحاته‪.‬‬
‫أبواب عتيقة لوّنها الزمن مذ لم نعد نفتحها‪ .‬أبواب موصدة في وجوهنا‪ ,‬وأخرى مواربة‬
‫تتربص بنا‪ .‬أبواب آمنة تنام قطة ذات قيلولة على عتبتها‪ ,‬وأخرى من قماش تفصل بين‬
‫بيتين تشي بنا أثناء ادّعائها سترنا‪.‬‬
‫أبواب تنتظر خلفها وقع خطًى‪ ,‬أو يدٍ تهمّ بطرقها‪ ,‬وأخرى ضيقة نهرب إليها وإذ بها تفضي‬
‫إلينا‪ ,‬ونحتمي بها‪ ,‬فتحرّض العدوان علينا‪ .‬وأخرى مخلوعة تسلّمنا إلى قتلتنا‪.‬نغادرها على‬
‫عجل مرعوبين‪ ,‬أو نموت غدرا على عتباتها مخلّفين فردة حذاء‪ .‬أوَليست فردة الحذاء‪ ,‬في‬
‫وحدتها‪ ,‬رمزا للموت؟‬

‫عندما رأيت كل هذه اللوحات لول مرة‪ .‬سألت فرانسواز عن س ّر هذه الحوارات المطوّلة‬
‫التي يبدو أن زيان أقامها مع البواب‪ .‬قالت" عندما يدخل رسام في مرحلة ل يرسم فيها فترة‬
‫سوى الموضوع نفسه‪ ,‬يعني أن ثمة حدثا أو وجعا ارتبط بذلك الموضوع"‪.‬‬
‫لم أسألها أيّ وجع وراءها ول أظنها كانت تعرف ذلك‪ ,‬فيوم احتدم النقاش بيني وبين مراد‬
‫حول لوحات البواب التي لم يكن يرى فيها مراد سوى أفخاذ نساء مشرّعة حينا‪ ,‬مواربة‬
‫أحيانا أخرى‪ ,‬بدت لنبهارها بنظريته كأنها تشاركه الرأي صمتا‪.‬‬
‫الن فقط‪ ..‬وأنا وحدي أتنقل بينها متمعنا في تفاصيلها الصغيرة‪ ,‬أخالني وقعت على فاجعة‬
‫الجواب من خلل حديث بعيد مع فرانسواز‪ ,‬يوم أخبرتني بمرض زيان عندما قالت " إن‬
‫اغتيال ابن أخيه دمّره حتى أظنه السبب في السرطان الذي أصابه‪ .‬السرطان ليس سوى‬
‫الدموع المحتبسة للجسد‪ ..‬معروف أنه يأتي دائما بعد فاجعة"‬

‫بقيت أتحين الفرصة لسأل زيان عن تفاصيل موت ابن أخيه لعتقادي أن تفاصيل تلك الميتة‬
‫دمّرته أكثر من الموت نفسه‪.‬‬
‫كنا نتحدث مرة عن التشكيلة العجيبة لموت الجزائريّ عندما قال زيان بتهكم أسود‪:‬‬
‫‪ -‬أصبح ضروريا اصدار كاتولوغ للموت العربيّ‪ ,‬يختار فيه الواحد في قائمة الميتات‬
‫المعروضة طريقة موته‪.‬مستفيدا من جهد أمة تفوقت في تطوير ثقافة الموت‪ .‬فقد تختار بدل‬
‫أن تموت ميتة كرديّة مرشوشا كالحشرة بالمبيدات الكيماوية‪ ,‬أن يكون لك شرف الموت‬
‫بالمسدس الذهبي لله الموت نفسه أو أحد أبنائه‪ .‬وقد تفضّل بدل أن تسلّم حيا لتنهشك‬
‫الكلب الجائعة‪ ,‬وتدور بأحشائك في ساحة سجنٍ كما حدث في سجون مغاربية‪ ,‬أن تحفر‬
‫بنفسك قبرك وتتمدد فيه بملء إرادتك‪ ,‬فيذبحك الرهابيون وأنت مستلقٍ في وضعك النهائي‬
‫المفضّل‪.‬‬
‫إمكانك أيضا أن ل تموت دفعة واحدة‪ .‬ثمة أنظمة عربية تقدّم تسهيلت في الموت‪ ,‬فتلقمك‬
‫إياه ابتداءا من قلع الظافر وحرق الصابع بالسيد‪ ,‬إن كنت صحافيا‪ ,‬وانتها ًء بسمل العيون‬
‫وبقر البطون حسب مزاج سفاحك‪.‬‬
‫كان يتحدث بمرارة الستخفاف‪ .‬جمعت شجاعتي وقلت‪:‬‬
‫‪ -‬آسف‪ ,‬سمعت باغتيال ابن أخيك‪ ..‬كيف حدث ذلك؟‬
‫قال وقد باغته السؤال‪:‬‬
‫‪ -‬سليم؟‬
‫ثم واصل بعد شيء من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬مات أكثر من مرة‪ ..‬آخرها كانت بالرصاص‪.‬‬
‫كان واضحا أنني وضعت يدي على وجع طازج‪ .‬لم أضف شيئا‪ ,‬تركت له حرية أن يصمت‬
‫أو أن يواصل‪.‬‬
‫وكإناء يطفح حزنا تدفق‪:‬‬
‫‪ -‬من بين كل الميتات التي عايشتها في هذا العمر كانت ميتة سليم هي الكثر ألما‪ .‬حتى‬
‫ب وجد نفسه يتيما عندما‬
‫موت أبيه وهو أخي الوحيد ما كان لها هذا الوقع على نفسي‪ .‬شا ّ‬
‫قتل رجال المن أباه في مظاهرات ‪ 88‬فراح يدرس ليلً نهارا ليستطيع بسرعة إعالة أمه‬
‫وأخويه‪ ,‬حتى إنه لتفوقه استطاع دخول المدرسة العليا لتكوين الكوادر‪ .‬كان شابا مولعا‬
‫بالعلم‪ ,‬فأرسلته الدولة لفرنسا لمدة ستة أشهر للدراسة‪ ,‬كي يتمكن من إدخال نظام‬
‫المعلوماتية إلى أجهزة الجمارك في قسنطينة‪.‬‬
‫عندما استلم وظيفة كان الرهابيون قد بدأوا في قتل موظّفي الدولة‪ ,‬وبعدما استشعر بالخطر‬
‫إثر اغتيال زميلين له‪ ,‬بدأ إلحاحه بالمطالبة بسكن أمنيّ‪ ,‬فأعطوه بيتا منفيا على مشارف‬
‫جبل الوحش‪ .‬لم يكن مرتاحا إليه‪ ,‬تصور مسكنا أمنيا دون هاتف‪ ..‬بمحاذاة غابة! أصبح كل‬
‫هم سليم توفير مبلغ من معاشه لتصفيح الباب‪ ,‬فقد كان المبلغ بالنسبة إليه ثروة صغيرة‪,‬‬
‫وكان باستطاعته لو شاء الحصول على أضعافه لو أنه طالب بعمولة على عشرات المعدات‬
‫التي كلّف بشرائها من فرنسا‪ .‬لكنه كان نزيها بالوراثة‪ ,‬مترفعا وقنوعا وكان يحب الجزائر‪.‬‬
‫ولذا في زمن النهب المؤدلج وشرعة اللصوصية كان يقتطع مبلغا من مرتبه كي يتمكن في‬
‫لهاث الكدح اليومي‪ ,‬أن يظفر بباب يحميه من القتلة‪.‬‬
‫ل عندما حطّت‬
‫لكنهم جاؤوه عندما اعتقد أنه ظفر بالمان‪ .‬كانت الساعة الحادية عشرة لي ً‬
‫كتيبة الموت خلف بابه المصفح‪ ,‬تماما بعد بدء منع التجول بقليل‪ .‬مطمئنين إلى أن ل أحد‬
‫سيأتي بعد الن لنجدته‪ ,‬ومستفيدين من حالة البلبلة السائدة‪ ,‬إذ ل أحد يدري في هذه‬
‫ت تحصّن فيه الرهابيون‪ ,‬أو‬
‫الحالت إن كان رجال المن هم الذين يحاولون دخول بي ٍ‬
‫الرهابيون هم الذين يهاجمون بيتا لحد ضحاياهم‪.‬‬
‫كما في فيلم أمريكي للرعب يقف فيه الضحية أعزل خلف باب تحكمه من الطرف الخر‬
‫وحوش بشرية‪,‬جاؤوا بعدة الموت وكل الليات المتطورة لفتح البواب صارخين به أن يفتح‪,‬‬
‫فل يفعل مطمئنا إلى بابه المصفّح‪.‬‬
‫لم يكن الموت في صحبتهم‪ .‬كانوا هم الموت‪ .‬أربع ساعات ونصف والموت خلف الباب‬
‫يتحداه على إيقاع الفؤوس وزمجرة المعاول بالشتائم والمسبات أن يفتح " حلّ يا قوّاد‪ ..‬يا‬
‫رخيص‪ ..‬جيناك يا كافر‪ ..‬يا عدو ال"‪.‬‬
‫فيرد القلب خلف الباب بالدعوات عسى يحميه رب البواب‪ .‬لم يشفع له نحيب زوجته ول‬
‫عويل صغيره ول جاء أحد لنجدته من الجيران‪ .‬ل سمع البوليس ول سمع ال برغم‬
‫الصوات المدوّية لللت التي كانوا يفتحون بها الباب‪ .‬وبعد أن مات سليم أكثر من مرة‪ ,‬بدأ‬
‫يستعد لموته الخير‪ .‬فكلما تقدم الوقت وازداد الموت اقتراباُ منه‪ ,‬ازداد القتلة عصبية وازداد‬
‫وعيدهم بالتنكيل به‪.‬‬
‫هو الذي كل ما فيه كان يرتجف‪ .‬الخائف من كل شيء وعلى كلّ شيء‪ ,‬من أين تأتيه‬
‫شجاعة الضعف ليفتح الباب ويرتاح؟ من أين تأتيه الحكمة لحظة خوف‪ ,‬ليعرف كيف عليه‬
‫أن يتصرف؟ ماذا ينقذ قبل أن يفتح الموت عليه الباب؟‬
‫ما استطاع أن يحمل ابنه ذا السنوات الثلث بين ذراعيه المرتجفتن‪ .‬فجلس منهارا على‬
‫كرسيّ‪ ,‬بينما كان ابنه متمسكا برجله‪ ,‬كان يوصي امرأته كل مرة بشيء يتذكره‪ .‬مرةً أن‬
‫تقبّل أمه عنه وأن تطلب منها أن تسامحه وأن تدعو له بالرحمة‪ .‬ومرة أن تسلّم عليّ وأن‬
‫توصيني بعد الن بابنه‪ .‬ومرة أن تعتذر لزميل له استدان منه مالً‪ ,‬طالبا منها سداده إن هي‬
‫حصلت على " دية" من الجمارك‪.‬‬
‫وهنا رأيت زيان يدمع لول مرّة‪:‬‬
‫‪ -‬تصور‪ ..‬رجلً على حاجته يوصي امرأته في ظرف كذاك بر ّد دينه بعد موته‪ ,‬بينما سادة‬
‫لهم مدخول من الجثث ينهبون وطنا والناس يموتون‪.‬‬
‫‪ -‬وكيف قُتل سليم؟‬
‫‪ -‬على الثالثة والنصف فجرا نجح الموت في خلع الباب‪ ,‬كان منهارا على ركبتيه‪ .‬راح‬
‫ل من‬
‫يتضرع لهم حتى ل يقتلوه أمام صغيره‪ .‬سحبوه خارج البيت وأطلقوا عليه واب ً‬
‫الرصاص‪ ,‬مرضاة لصبر الموت الذي أهين أمام ذلك الباب المحكم لربع ساعات ونصف‪.‬‬
‫كان جسده مخرما‪ .‬أصبحت معركتنا في اليام اللحقة مع السمنت الذي تشبّث بدمائه‪.‬‬

‫أتساءل الن ‪ ,‬إن كان مفتاح شيفرة هذه اللوحات يوجد في قصة رجل وضع كل مدّخراته‬
‫في تصفيح باب لير ّد عنه الموت‪ ,‬وإذ به لم يشتر بذلك الباب سوى تمديد لعذاب موته‪ .‬ألم‬
‫يكن زيان يريد فقط أن يوحي أن وراء كل باب موت متربّص‪.‬‬
‫ما كان في القلب متسع لمزيد من اللم‪ ,‬ول كان لديّ الوقت لفتح حوارا مع كل لوحة على‬
‫حدة‪ .‬ذهبت مباشرة نحوها هي‪ .‬شعرت أنني أذهب إلى موعد مع امرأة أصبحت متزوجة من‬
‫غيري‪ .‬كما عندما كنت أذهب إلى مواعيد حياة‪ .‬فهل تنتمي اللوحات أيضا إلى مؤسسة‬
‫الخاتم والصبع؟ هل هي ملك من يمتلكها‪ ..‬أم من يراها؟ ملك من يحبها؟ أم من يملك المال‬
‫فيشتريها؟ وماذا لو كانت لمن خسرها‪ ,‬لنه وحده من يشتهيها!‬
‫أكان في مقدوري تفادي هذه الخسارة؟ بإمكاني أن أؤجلها فقط‪ .‬فما أنا إل يد في حياة كل‬
‫شيء أمتلكه‪ ,‬تسبقني إليه يد‪ ,‬وتليني إليه أخرى‪ ,‬وجميعنا يملكه إلى حين‪.‬‬
‫الفضل كان أن نستشير الشياء‪ ,‬كما يستشير القاضي عند الطلق الطفال‪ ,‬مع ن يريدون‬
‫أن يذهبوا‪ ,‬مع أمهم؟ أم مع أبيهم؟‬
‫أيّ تجنّ في حق الشياء‪ ,‬أل يكون لها حق اختيار مالكها؟ كم من المشاكل كانت ستحل لو‬
‫أننا بدل استفتاء البشر‪ ,‬استفتينا ما يختلفون حوله‪ ..‬ويقتتلون عليه‪.‬‬

‫وقفت أتأملها‪ ,‬كأنني أعتذر لها لنني ما استطعت أن أحتفظ بها‪ ,‬كأنني بطول النظر إليها‬
‫أحاول اغراءها بأن تلحق بي " خطيفة" كما تهرب عروس ليلة زفافها ‪ ,‬وتلتحق بمن تحب‪.‬‬
‫الن وقد أصبحت لغيري‪ ,‬صار لي الدور الجمل‪ ,‬فقد أصلح أن أكون لها عشيقا‪ ,‬كقسنطينة‬
‫الجالسة منذ ‪ 25‬قرنا في حضن التاريخ‪ ,‬تمشّط شعرها وتمدّ من علوّ عرشها حديثا مع‬
‫النجوم‪ .‬كان يلزمها عشيق يتغزّل بها‪ ,‬ويحنّي قدميها المتدليتين في الوديان‪ ,‬يدلّلها‪ ,‬يغطيها‬
‫ل بالقبل كي تنام‪ ..‬ل زوجا ساديا يعود كلّ مساء بمزاج سيء فيتشاجر معها ويشبعها‬
‫لي ً‬
‫ضربا!‬
‫ألم يقل عبد الحق متحسرا على قدر قسنطينة " هذه أنثى أكثر فتنة من أن تكون امرأة لحد‪,‬‬
‫وأكثر أسطورة من أن تحبل بكلّ هذه الجنة العشوائية‪ .‬فكيف أوثقوها إلى هذه الجبال‪..‬‬
‫وأنكروا عليها أن تتململ انزلقا لحظة اغتصاب"‪.‬‬
‫كنّا أنا وهي في مناظرة صامتة‪ .‬كانت‪ ,‬كنساء قسنطينة‪ ,‬أكثر جبنا من أن تحسم قدرها‪.‬‬
‫وكانت من ذلك النوع من اللوحات‪ ,‬الذي ينظر إليك تلك النظرة المخترقة‪ ,‬فتتحول أمامها‬
‫بدورك إلى لوحة‪ ,‬في لحظة ما‪ ,‬بدت لي كأنها ما عادت جسرا‪ ,‬بل أنا الذي مسخت جسرا‪.‬‬
‫حتى إنها ذكرتني بـ" ماغريت" حين رسم غليونا وسمّى لوحته " هذا ليس غليونا"‪.‬‬
‫أكان يلزم زيان عمر آخر ليدرك أن هذا الشيء الذي رسمه منذ أكثر من ثلثين سنة‪ ,‬ما‬
‫كان جسرا ول امرأة ول مدينة ول وطنا‪ .‬ذلك أن " الوطن ليس مكانا على الرض إنه فكرة‬
‫في الذهن"‪.‬‬
‫إذن من أجل فكرة‪ ,‬ل من أجل أرض‪ ,‬نحارب ونموت ونفقد أعضاءنا ونفقد أقرباءنا‬
‫وممتلكاتنا‪ .‬هل الوطن تراب؟ أم ما يحدث لك فوقه؟‬
‫أنسجن ونشرد ونغتال ونموت في المنافي ونهان من أجل فكرة؟‬
‫ومن أجل تلك الفكرة التي ل تموت حتى بموتنا نبيع أغلى ما في حوزتنا‪ ,‬كي نؤمن تذكرة‬
‫شحنٍ لرفاتنا‪ ,‬حتى نعود إلى ذلك الوطن الذي ما كان ليوجد لول تلك الفكرة المخادعة!‬

‫كنت أفكر ‪ :‬ماالذي جعل هذه اللوحة هي الهم دون غيرها لدى زيان؟ لم أجد جوابا إل في‬
‫قوله ذات مرة‪ ":‬نحن ل نرسم لوحاتنا بالشيء نفسه‪ ,‬كل لوحة نرسمها بعضو فينا"‪ .‬منذ‬
‫زمان توقفت عن رسم الشياء بيدي أو بقلبي‪ .‬جغرافية التشرد الوجداني علمتني أن أرسك‬
‫بخطاي‪ .‬هذا المعرض هو خريطة ترحالي الداخلي‪ .‬أنت ل ترى على اللوحات إل آثار نعلي‪.‬‬
‫بيكاسو كان يقول" أذهب إلى المرسم كما يذهب المسلم إلى الصلة‪,‬تاركا حذائي عند الباب"‪.‬‬
‫أنا ل أدخل اللوحة إل بأتربة حذائي‪ .‬بكل ما علق بنعلي من غبار التشرد‪ ..‬أرسم"‪.‬‬
‫كانت‪ ,‬إذن‪ ,‬اللوحة التي رسمها زيان بقلبه‪ ,‬ومن كل قلبه قصد أن يتمدد عليها كجسر ويخلد‬
‫إلى النوم‪.‬‬
‫بها بدأت وانتهت قصة العجوز والجسر‪ .‬رجل عاش في مهب الجسور‪ .‬له الريح كلها وكل‬
‫هذه البواب المخلوعة التي تؤثث الجدران في غيابه وتعبث بها الريح في المساء‪ ,‬لكأنها‬
‫تقول لمن توقف عندها‪ " :‬ل تطرق كل هذا الطرق‪ ..‬ما عاد الرسام هنا"‪.‬‬

‫هو الذي كان يعكس أسئلته جسورا وأبوابا‪ .‬تصورته كلما توقف أمام لوحة يجيب بجديته‬
‫العابثة على سؤال لها‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا توقفت عن الرسم؟‬
‫‪ -‬لنسى ‪ " ..‬أن ترسم يعني أن تتذكر"‬
‫‪ -‬لماذا تخليت عن اللوان المائية؟‬
‫‪ -‬لن اللوان الزيتية تسمح لك بتصحيح أخطائك‪ ..‬أن ترسم أي أن تعترف بحقك في الخطأ‪.‬‬
‫‪ -‬يا سيد السواد‪ ..‬لماذا أنت ملفوفا بكل هذا البياض؟‬
‫‪ -‬لن البيض خدعة اللوان‪ .‬يوم طلبوا من ماري أنطوانيت وهم يقودونها إلى المقصلة‪,‬‬
‫أن تغيّر فستانها السود‪ ..‬خلعته وارتدت ثوبها الكثر بياضا‪.‬‬
‫‪ -‬لماذا أنت على عجل؟‬
‫‪ -‬أمشي في بلد ونعلي يتحسّس تراب وطن آخر‪.‬‬
‫‪ -‬ولماذا حزين أنت؟‬
‫ق نفسي‪.‬‬
‫‪ -‬نادم لني ارتكبت كلّ تلك البطولت في ح ّ‬
‫‪ -‬ماذا نستطيع من أجلك نحن لوحاتك المعلقة على جدار اليتم؟‬
‫‪ -‬متعب! اسندوني إلى أعمدة الكذب‪ ..‬حتى أتوهم الموت واقفا!‬

‫***‬

‫ل بزجاجة خمرٍ فاخرة‪ ,‬وبقارورة عطر ملفوفة بكثير من‬


‫مساءً ‪ ,‬عدت إلى البيت محم ً‬
‫الشرائط الجميلة هدية لفرانسواز‪.‬‬
‫كنا في أعياد نهاية السنة‪ .‬كلّ شيء كان يذكرك بذلك‪ .‬وأنت الذي ل تملك ثقافة الفرح‪,‬‬
‫إمعانا منك في اللم‪ ,‬عليك أن تنفق ما بقي من ثمن تلك التذكرة في تبضع مبهج‪.‬‬
‫فوجئت فرانسواز بحمولتي وهي تفتح لي الباب‪ .‬سألتني إن كنت أحضرت التذاكر‪.‬‬
‫طمأنتها‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‪ .‬ثم واصلت‪ :‬هذا العطر لك‪.‬‬
‫قالت وهي تقبلني‪:‬‬
‫‪ -‬شكرا‪ .‬كيف فكّرت في هدية‪ ,‬في خضم هذه الحزان؟‬
‫‪ -‬ليس أمامي إل اليوم لشكرك على كلّ شيء‪.‬‬
‫قرّرت لليل ٍة أن آخذ إجازة من المآسي بما يقتضيه الموقف من تطرّف الحزن‪ .‬إحساس‬
‫ي على الدراك ينتابني دائما‪ .‬رغبة في أن أعيش تعاسة خالصة أو سعادة مطلقة‪ .‬أحبّ‬
‫عص ّ‬
‫في الحالتين أن أدفع باللحظة إلى أقصاها‪ ,‬أن أطهو حزني بكثير من بهارات الجنون وتوابل‬
‫السخرية‪ ,‬أحب أن أجلس إلى مائدة الخسارات بكل ما يليق بها من احتفاء‪ ,‬أن أحتسي نبيذا‬
‫فاخرا‪ ,‬أن أستمع إلى موسيقى جميلة‪ ,‬أنا الذي لم يكن لي وقت لستمع إلى شيء عدا‬
‫نشرات الخبار‪.‬‬
‫وحدها تلك السخرية‪ ,‬ذلك التهكم المستتر‪ ,‬بإمكانه أن ينزع وهم التضاد بين الموت والحياة‪,‬‬
‫الربح والخسارة‪.‬‬

‫قبل أن أجلس إلى كأسي‪ ,‬طلبت ناصر لخبره بوفاة زيان‪ ,‬وكنت أجّلت التصال به إلى‬
‫اليوم‪ ,‬حتى ل أجدني مضطرّا إلى الحديث مع مراد‪ ,‬الذي انتهى أمره بالنسبة لي‪ ,‬وحتى ل‬
‫ينقل ناصر الخبر إلى حياة فتفسد عليّ قدسية حزني‪ .‬فقد أصبح موت زيان قضيتي وحدي‪.‬‬
‫صاح ناصر من هول الخبر‪:‬‬
‫‪ -‬إنّا ل وإنّا إليه راجعون‪ ..‬يا خويا مش معقول كنت معاه غير هاذ الجمعة‪ ..‬كان يبان ل‬
‫بأس عليه‪ ..‬الدنيا بنت الكلب تدّي الغالي وتخلّي الرخيص‪ ..‬كان سيد الرجال‪.‬‬
‫أخبرته أن الجثمان سينقل غدا إلى قسنطينة وأننا سنكون في المطار عند السادسة مساءا ‪,‬‬
‫إن كان يريد أن يقرأ الفاتحة على روحه‪.‬‬
‫قال إنه سيأتي طبعا‪ .‬وبدا متأسّفا لغياب مراد الذي سافر قبل يومين إلى ألمانيا‪ .‬كان هذا‬
‫أجمل خبر زفّه لي‪ .‬سألني إن كان سيحضر أحد من السفارة‪ .‬قلت " ل أعتقد"‪ .‬قال " موعدنا‬
‫إذن غدا"‪.‬‬

‫كانت فرانسواز أثناء ذلك طلبت بيتزا إلى البيت‪ .‬فقصدت المطبخ أعدّ سلطة‪ ,‬وأقلي صحنا‬
‫من " النقانق" التي اشتريتها قبل يومين من جزّارة " حلل" ‪ .‬فلتناقضاته الغريبة يصرّ‬
‫الجزائري حتى وهو يحتسي نبيذا أ ّل يتناول معه إل اللحم الحلل!‬
‫قالت فرانسواز وهي تراني أضع الصحن على الطاولة‪:‬‬
‫‪ -‬يا إلهي‪ ..‬كم في هذا الصحن من مواد دسمة‪ .‬أتدري أن زيت القليّة عدوك الول؟‬
‫ابتسمت‪ .‬كيف لي أن أرتب سلم العداوات‪ ,‬وأين أضع أعدائي الخرين إذن‪ ,‬إذا كان الدسم‬
‫هو عدوي الول! وأين هي عداوة الزيت‪ ,‬ومكيدة الزبدة‪ ,‬وغدر السجائر‪ ,‬ومؤامرة السكّر‪,‬‬
‫ودسائس الملح‪ ,‬من غدر الصدقاء وحسد الزملء وظلم القرباء ونفاق الرفاق ورعب‬
‫الرهابيين ومذلة الوطن؟ أليس كثيرا كل هذه العداوات على شخص واحد!‬
‫تذكرت زيان يوم طلب مني أن أغلق باب غرفته كي يشعل سيجارة‪ .‬سألته متعجبا‪:‬‬
‫‪ -‬أوَليس التدخين ممنوعا في المستشفى؟‬
‫ردّ مبتسما‪:‬‬
‫‪ -‬طبعا‪ ..‬بل يعادل ارتكاب جريمة‪ .‬لكن كما قال أمل دنقل لطبيبه وهو على سريره الخير‪":‬‬
‫خُلِق القانون ليخترق"‪ .‬ثم أنت ل تستطيع يا رجل أن تعيش وتموت مطيعا‪ ,‬ول أن تكون‬
‫جبانا في السابعة والستين من عمرك‪ ..‬وتخاف سيجارة!‬
‫تأملت يومها منفضته المخبأة في جارور الطاولة الصغيرة القريبة من سريره‪ .‬كانت ملى‬
‫بأعقاب سجائر تكاد تكون كاملة‪ ,‬كحرائق أخمدت على عجل‪ ,‬كأنه لم يسحب منها سوى‬
‫َنفَس واحد‪.‬‬

‫كان يبدد الحياة‪ ,‬كما يتلف السجائر لمتعة إشعالها‪ .‬ما كان في المنفضة من وجود لعواد‬
‫ل بيد واحدة ل يمكن أن يستعمل علبة كبريت‪ ,‬ألذا ل تفارقه الرغبة في إضرام‬
‫ثقاب‪ .‬إن رج ً‬
‫النار؟‬
‫قال متهكما‪:‬‬
‫‪ -‬ل تصدق أن الشياء مضرة بالصحة‪ .‬وحدهم الشخاص مضرّون‪ .‬وقد يلحقون بك من‬
‫الذى أكثر مما تلحق بك الشياء‪ ,‬التي تصرّ وزارة الصحة على تحذيرك من تعاطيها‪ .‬ولذا‬
‫كلّما تقدّم بي العمر‪ ,‬تعلّمت أن أستعيض عن الناس بالشياء‪ ,‬أن أحيط نفسي بالموسيقى‬
‫والكتب واللوحات والنبيذ الجيد‪ ,‬فهي على القل ل تكيد لك‪ ,‬ول تغدر بك‪ .‬إنها واضحة في‬
‫تعاملها معك‪ .‬والهم من هذا أنها ل تنافقك ول تهينك ول يعنيها أن تكون زبّالً أو جنرالً‪.‬‬
‫واصل ساخرا‪:‬‬
‫‪ -‬قرأت منذ مدّة أن زبالً في فرنسا فقد ذراعه بعدما علق قفّازه في أسنان مكبس الشاحنة‪,‬‬
‫بينما كان يحاول دفع النفايات الضخمة بيده بعيدا في جوفها‪ .‬فكرت أن هذا الرجل الذي فقد‬
‫ذراعه في معركة الحياة "القذرة" وهو ينازلها للحصول على لقمة نظيفة‪ ,‬لن تكون له وجاهة‬
‫ضابط فقد ذراعه في معركة من أجل الستيلء على الوطن‪ .‬فالعضاء تساوي ما يساويه‬
‫أصحابها‪ .‬الجنرال أنطونيو لوبيز دي سانتانا الذي حكم المكسيك حكما دكتاتوريا ثلث مرّات‪,‬‬
‫أقام جنازة رسمية مهيبة لساقه اليمنى التي فقدها في ما يسمى حرب الفطائر‪ .‬فبين ذراع‬
‫الزبال وساق الجنرال فرق خمس نجوم‪ .‬نحن لسنا متساوين في العاقة سوى أمام الشياء‪.‬‬
‫فال ّرجْل الخشبية التي كانت تحمل ذلك الجنرال‪ ..‬وحدها لم تكن ترى نجومه!‬

‫أكثر من فنّه‪ ,‬كانت حكمة ذلك الرجل هي ما يذهلني‪ .‬ذلك أن صوته لم يفارقني‪ .‬كان يأتي‬
‫في كل مناسبة ملتبس الضاءات في جملة‪ .‬وسعادتي اليوم تكمن في تلك الشرطة التي‬
‫سجّلت عليها جلسات حواراتنا‪ ,‬يوم كان‪ ,‬وهو ممدد في ذاك السرير مربوطا إلى أكسير‬
‫الذاكرة‪ ,‬يحدثني عن قناعات سكن فيها مع العمر‪.‬‬
‫رجل مات وترك لي صوته‪ .‬صوته ذاك‪ ,‬بين غيوم اللغة وصحو الصمت‪ ,‬يتقدّم ككاسحة‬
‫أوهام‪ ,‬يدرّبك على فنّ إزالة خدع الحياة الفتّاكة وألغامها‪.‬‬
‫وقفت أبحث عن أغنية تناسب مزاجي‪ ,‬أغنية كمكعّبات الثلج‪ ,‬كانت تنقص كأسي‪ .‬كنت‬
‫أريدها عربية‪ .‬استأذنت فرانسواز في سماعها‪ ,‬ذلك أن الحزن في هذه الحالت كالطرب ل‬
‫يكون إل عربيّا‪.‬‬
‫سألتني عن كلماتها‪ .‬ما كانت لي رغبة في أن أشرح لها الغنية‪ ,‬لكنني قلت بمجاملة‪:‬‬
‫‪ -‬إنها أغنية يتوجّه فيها المغني لمرأة قاسية‪ ..‬أحبّها وتخلّت عنه‪.‬‬
‫كيف أترجم لها أغنية تحيك لك مؤامرة بكاء‪ ,‬وتذبحك فيها الكمنجة ذهابا وإيابا‪ .‬أية لغة‪,‬‬
‫أية كلمات‪ ,‬تحمل كمّا كافيا من الشجن لتقول بها‪:‬‬
‫‪ " -‬آآآه يا ظالمة‪ ..‬وعليك انخلّي أولد عرشي يتامى"‪.‬‬
‫شعرت أن ل عجب في تشابه حياة بهذه المرأة التي يبكيها الفرقاني‪ .‬لكأن كل أغنية في‬
‫العالم أيّا كان من يغنيها‪ ,‬هو ل يبكي ول يشكو سواها‪ .‬هي المتهم الول في كل أغاني‬
‫الحبّ‪ ,‬الخائن دوما في كل قصة‪ ,‬الجاني في كل فيلم عاطفيّ‪ ,‬وبإمكانك إلباسها كلّ الجرائم‬
‫العشقية عبر التاريخ‪.‬‬
‫سألتني فرانسواز‪:‬‬
‫‪ -‬أكلّ الغاني العربية حزينة هكذا؟‬
‫أجبتها كمن ينفي تهمة‪:‬‬
‫‪ -‬ل‪ ..‬ليس دائما‪.‬‬
‫ردت كأنها تجاملني‪:‬‬
‫‪ -‬قد يكون هذا الحزن سر رومنطيقية العرب وتمتعهم بذلك السخاء العاطفي‪.‬‬
‫قلت متهكما‪:‬‬
‫‪ -‬سخاؤنا العاطفي يا عزيزتي سببه يتمنا ل حزننا‪ ,‬لأكثر سخاءً من اليتامى‪ .‬نحن ‪ ,‬على‬
‫كثرتنا أمة يتيمة‪ ,‬مذ تخلّى التاريخ عنّا ونحن هكذا‪ ...‬اليتيم كما يقول زيّان ل يشفى أبدا من‬
‫إحساسه بالدونية‪ -‬واصلت بعد شيء من الصمت‪ -‬العطر الذي أهديتك إياه " شانيل رقم "‪"5‬‬
‫دليل على ذلك‪ .‬حتى عندما نجحت كوكو شانيل واشتهرت‪ ,‬لم تشف من عقدة يتمها‪..‬‬
‫وأطلقت على عطرها الول الرقم الذي كانت تحمله في دار اليتام التي تربّت فيها‪ .‬لحظي‬
‫بساطة القارورة في خطوطها المربعة دون أيّ نقوش أو فخامة أو طلء‪ .‬ذلك أن اليتم عارٍ‬
‫وشفاف إلى ذلك الحد‪ .‬حتى أنه ل يحمل اسما ‪ .‬بل رقما‪ .‬إن معجزة شانيل ليست في‬
‫ابتكارها عطرا شذيّا‪ ,‬بل في جعلها من اليتم عطرا ومن الرقم اسما‪.‬‬
‫قالت فرانسواز مندهشة‪:‬‬
‫‪ -‬عجيب‪ ..‬لم أكن أعرف هذا‪.‬‬
‫‪ -‬هذا أمر ل يعرفه الكثيرون‪ .‬وربما لم تكن تعرفه حتى مارلين مونرو التي كانت ل تتعطّر‬
‫بغيره‪ ,‬حتى إنها عندما سئلت مرة " ماذا ترتدين للنوم؟" أجابت " بضع قطرات من شانيل‬
‫رقم ‪ ."5‬وفهم من كلمها أنها لم تكن ترتدي شيئا‪.‬‬
‫‪ -‬يا إلهي من أين لك هذه المعلومات؟‬
‫قلت مازحا‪:‬‬
‫‪ -‬هذه يا عزيزتي ثقافة اليتم‪ .‬ثم واصلت بنبرة أخرى‪ :‬أحدثك عن مارلين مونرو لنني‬
‫تذكرتها اليوم في المعرض‪ .‬يحكى أنها لفرط إحساسها باليتم‪ ,‬كانت تملك القدرة عند دخولها‬
‫أي مكان‪ ,‬أن تميز يتيما من بين أربعين شخصا‪ .‬قد فاجأني هذا الحساس اليوم وأنا أدخل‬
‫الرواق‪ ,‬كان بإمكان أي زائر للمعرض بدون أن يمتلك هذه الحاسة‪ ,‬أن يكتشف يُتْم تلك‬
‫اللوحة بين كل اللوحات‪.‬‬
‫مرعب ذلك الحساس الذي تخلّفه في قلب أي ناظر إليها‪ .‬ما كنت قبل اليوم لصدق يُتْم‬
‫اللوحات‪ .‬على كلّ‪ ..‬ماكان في المعرض زوار ليلحظوا ذلك‪.‬‬
‫قالت فرانسواز‪:‬‬
‫‪ -‬ل تقلق‪ ,‬الناس مشغولون بالعياد‪ ..‬والكثيرون لم يسمعوا بموت زيان بعد‪.‬‬
‫ثم واصلت بتذمر‪:‬‬
‫‪ -‬بالمناسبة‪ ..‬أتدري أن الرواق قد باع تلك اللوحة بـ ‪ 50‬ألف فرنك؟ كسب ‪ 20‬ألف‬
‫فرنك من دون حتى أن تتحرك اللوحة من مسمارها‪ .‬كان يكفي أن تتصل كارول هاتفيا بأحد‬
‫زبائنها وتخبره أن الرسام مات ‪ ,‬ليتضاعف السعر‪.‬‬
‫قلت بغضب‪:‬‬
‫‪ -‬مكر سماسرة الفنون‪ .‬ينتظرون موت الرسام‪ ,‬ليصنعوا ثروتهم من فنّ لم يستطع صاحبه‬
‫التعيّش منه‪ ,‬ول أن يضمن به موتا كريما‪.‬‬
‫سألتها بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬من اشتراها بهذه السرعة وبهذا الثمن؟‬
‫كنت أتوقع أن يكون المشتري أحد أثرياء المهجر الجزائريين الذين‪ ,‬وقد انتفخت حساباتهم‬
‫بالمال المنهوب‪ ,‬درجوا على تبييض سمعتهم بالتسابق إلى شراء كل ما يعرض لكبار‬
‫المبدعين الجزائريين‪ ,‬فل أرى غير أحدهم بإمكانه أن يدفع خمسين ألف فرنك لشراء لوحة‬
‫تعرض عليه بالهاتف‪ ,‬وقد سمعت أحد هؤلء يقول مرة في مجلس مبررا ولعه المفاجئ‬
‫بالفن " إن كسب المال موهبة‪ ,‬وإنفاقه ثقافة"‪ .‬أثبت بما اختلس من أموال أنه " موهوب" لم‬
‫يبق عليه إل أن يثبت بما يقتني أنه مثقف!‬
‫غير أن فرانسواز فاجأت كل توقعاتي وهي تقول‪:‬‬
‫‪ -‬إنه فرنسي ثري من ذوي " الرجل السوداء" يملك لوحات نادرة منها مجموعة من لوحات‬
‫" ‪ ," Les orientalistes‬وأخرى لمحمد راسيم‪ .‬اشترى مؤخرا لوحات لطلن‬
‫عرضت للبيع‪ .‬حتما سمعت بأطلن‪ ..‬رسام يهودي قسنطيني يعتبر أحد وجوه الفن‬
‫التجريدي‪ ,‬مات في الستينات‪ ..‬إشتهر بولعه بقسنطينة وبسجنه أكثر من مرة بسبب مساندته‬
‫للحركات التحررية‪.‬‬
‫كنت ل أزال تحت وقع الدهشة عندما واصلت‪:‬‬
‫‪ -‬أخبرتني كارول أنه كان يريد أن يشتري لوحات أكثر لزيان‪ ,‬ولكن لم يكن من حق الرواق‬
‫بيع شيء بعد الن‪ ,‬عدا لوحتك أنت طبعا‪ ,‬لنها بيعت قبل وفاة زيان‪.‬‬
‫ي من حزن قامت وجلست جواري تواسيني‪:‬‬
‫ثم أمام ما بدا عل ّ‬
‫‪ -‬ل تحزن هكذا‪ ,‬إنه رجل يحب الفن ومعروف عنه هوسه بكل ما له علقة بقسنطينة‪.‬‬
‫زيان عندما عاد لول مرة إلى قسنطينة أحضر له أشياء صغيرة من هناك‪ .‬أظنه كان صديق‬
‫طفولته‪ ,‬أو أنهما درسا معا أو شيئا من هذا القبيل‪.‬‬
‫سألتها وقد ضاع صوتي‪:‬‬
‫أتعتقدين أن زيان كان سيبيعها له؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬ل أظن ذلك‪ ,‬فزيان كان يرفض في جميع الحالت بيعها ليّ كان‪ .‬ولول إحساسه بالموت‬
‫وثقته فيك لما باعها حتى لك‪ .‬أظنه كان يود الحتفاظ بها لنفسه‪ ,‬لكنه ما وجد أحدا ليورثه‬
‫إياها‪ .‬ابن أخيه اغتاله الرهابيون بطريقة شنيعة منذ سنتين‪ .‬وابن أخيه الخر اختفى قبل‬
‫سنوات ويعتقد أنه التحق بالرهابيين‪ ,‬أو مات‪.‬أما أخوه الوحيد فقد اغتيل منذ عشر سنوات‬
‫في أحداث ‪.88‬‬
‫ل أصعب على فنان من أن ل يجد في آخر عمره أحدا يطمئن إليه‪ ..‬ويأتمنه على أعماله‪.‬‬
‫قلت بتهكم الحسرة‪:‬‬
‫‪ -‬تدرين أن تسمية " الرجل السوداء" أطلقت على المعمرين الفرنسيين الذين أرسلوا‬
‫للستيطان في الجزائر بعد الغزو الكولونيالي أوساط القرن التاسع عشر‪ ,‬إذ كانوا ينتعلون‬
‫أحذية سوداء سميكة أثناء إشرافهم على المزارع و الراضي‪ .‬حتما هذا الثري ما توقع أن‬
‫يواصل انتعال التاريخ أبا عن جدّ‪ .‬ول توقع أن يأتي يوم ل يبقى فيه لهذه اللوحة من قريب‬
‫سواه‪ ..‬بعد أن انقرض أهلها في الحروب العبثية‪ .‬كان عليه انتظار أن ينتهوا من الجهاز‬
‫على بعضهم البعض فيحظى بميراث كامل‪.‬‬
‫لعلها لم تفهم كلمي‪ .‬قالت‪:‬‬
‫‪ -‬في سوق الفن‪ ,‬المر قضية وقت ل غير‪ .‬عليك أن تنتظر فقط‪ ,‬وبشيء من الصبر‪ ,‬وبما‬
‫يلزم من مال‪ ,‬أنت تحصل في النهاية على أية لوحة تريدها‪ .‬يكفي أن تقتنص الفرصة‪.‬‬
‫أحيانا تصادفك ضربة حظ وتستفيد من لحظة غفلة كما هذه المرة‪ ,‬أثناء انشغال الناس‬
‫بأعيادهم وقبل أن ينتشر خبر موت الرسام‪.‬‬
‫قلت وأنا أسكب شيئا من الخمر‪:‬‬
‫‪ -‬حتما‪ ..‬ما التاريخ إل نتاج لحظات الغفلة!‬
‫ما كنت أبا عبد ال‪ ,‬ول وجدتني مرغما على تسليم مفاتيح غرناطة‪ ,‬فلم البكاء؟ إنها‬
‫خسارات غير قابلة للشماتة‪ ,‬ما دمت اخترتها بنفسي‪.‬‬

‫عندما كانت تزورني حياة لساعة أو ساعتين على عجل‪ ,‬ثم تعود مذعورة إلى بيتها‪ ,‬قلت‬
‫لها مرة‪ ":‬ل يعنيني أن أمتلكك بالتقسيط‪ .‬أرفض أن أربحك لساعات تذهبين بعدها لغيري‪,‬‬
‫تلك الرباح الصغيرة ل تثريني‪ .‬أنا لست بقّال الحيّ‪ ,‬أنا عاشق يفضّل أن يخسرك بتفوق‪.‬‬
‫أريد معك ربحا مدمرا كخسارة"‪.‬‬
‫لم أكن أدري أن أرباحا فادحة تتوالد خساراتها‪ ,‬كتلك الجائزة التي مذ ربحتها وأنا أشتري‬
‫بها خساراتي‪.‬‬
‫أعادني الموقف إلى زيان الذي‪ ,‬في هذا المكان عينه‪ ,‬رقص بين خرائبه بذراعه الوحيدة‪,‬‬
‫كبطل إغريقي مشوّه في تلك الليلة التي تخلّى فيها عن أكثر لوحاته لفرانسواز وذهب ليدفن‬
‫أخاه‪.‬‬
‫كم تمنيت أل أتماهى معه في هذا المشهد العبثي الخير‪ ,‬أنا الذي جئت فرنسا لستلم جائزة‪.‬‬
‫أكان القدر قد جاء بي‪ ,‬فقط لكون اليد التي تسلّم لوحة وتستلم جثمانا؟‬
‫وضعت موسيقى زوربا وجلست أشرب نخبه‪.‬‬
‫عم مساءً يا خالد‪.‬‬
‫الن وقد أصبحت جزءا من هذا الخراب الجميل الذي ل يشبه شيئا مما عرفت‪ ,‬ستحتاج إلى‬
‫الرقص كثيرا يا صديقي‪ .‬فارقص غير معنيّ بأن تفسد سكينة الموتى‪.‬‬
‫ل تقل تأخر الوقت‪ .‬أنت تعيش في منطقة عزلء من الزمن‪ .‬ل جدوى من النظر إلى‬
‫ساعتك‪ ,‬ليست هنا لتدلّك على الوقت‪ ,‬بل لتضع رفات الوقت بيننا‪.‬‬
‫انتهى الن كل شيء‪ .‬عندما أصبح كل ذلك الوقت‪ ,‬ما عدت معنيا بالزمن‪ ,‬ترى الشياء‬
‫بوضوح‪ ,‬لم يعد بإمكانك أن ترسمها‪ .‬دخلت منطقة غياب اللوان‪ ,‬ذاهب صوب التراب‪.‬‬

‫تراب كنت تتوق إليه‪ ,‬أسميته وطنك‪( .‬وطنك؟) بإمكانك أن تذهب إليه على حسابك‪ ,‬دون أن‬
‫تستعد كعادتك قبل موعد‪ .‬ل جدوى من أناقتك‪ ,‬ففي ضيافة الديدان تتساوى الجساد يا‬
‫صديقي‪ ,‬ولن يوجد من يتنبّه لعطبك‪ ,‬لذراعك التي كلّما تعرّيت أخفيتها عن الخرين‪.‬‬
‫تراب يحتفي بك‪ ,‬وديدان أصبحت وليمتها تهزأ من نساء أحببنك وترفعت عن إمتاعهن‪ .‬كنت‬
‫ترفض إغراء عاهرة إسمها الحياة‪ ,‬وجئت اليوم تهدي جسد شيخوختك للحشرات‪.‬‬
‫أيها الحمق‪ ,‬بعد الن‪ ,‬كل ما ينسب لغيرك في الفسق أنت فاعله‪ .‬كل خطيئة يحاسب عليها‬
‫غيرك أنت مقترفها‪ .‬كل حكمة يلفظها رجل أنت قائلها‪ .‬كل امرأة تحبل‪ ,‬أنت من تسلّل إلى‬
‫مخدعها‪.‬‬
‫الن وقد أصبح كل شيء خلفك‪ ,‬أنت أكثر حكمة من أي وقت مضى‪ ,‬فقم وارقص‪.‬‬
‫ن امرأة أحببتها خانتك معي‪ ..‬وستخوننا معا‪.‬‬
‫ارقص‪ ,‬ل ّ‬
‫لنّ بيتا كان لك قد صار لسواك‪.‬‬
‫لنّ لوحات رسمتها ذهبت إلى أيدٍ لم تتوقعها‪.‬‬
‫لنّ جسورا مجّدتها تنكرت لك‪ ,‬ووطنا عشقته تخلى عنك‪.‬‬
‫لنّ أشياء سخيفة احتقرتها‪ ,‬ستعيش بعدك‪.‬‬
‫لنّ حسّان سيكون قريبا منك بعد الن‪.‬‬
‫لنّ أولده الذين ربّيتهم سقطوا في خندق الكراهية ولن يكونوا في جنازتك‪.‬‬
‫لنّ قسنطينة التي عشقتها أشاحت عنك كما كانت اللهة الغريقية تزورّ عن رؤية الجثث‪..‬‬

‫نهضت فرانسواز نحو المطبخ حاملة صحون السفرة‪ .‬ناديتها وأنا أرفع بعض الشيء من‬
‫موسيقى زوربا‪:‬‬
‫‪ -‬أرجوك كاترين‪ ..‬تعالي للجلوس جواري‪ ,‬فعمّا قريب سنواجه مطبّات شاهقة‪.‬‬
‫قالت محتجة‪:‬‬
‫‪ -‬ولنني لست كاترين‪.‬‬
‫أجبتها بنبرة مازحة‪:‬‬
‫ت أنني أنا أيضا لست خالد‪.‬‬
‫‪ -‬صحيح‪ ..‬أنت لم تقرئي تلك الرواية‪ .‬لو قرأتها لدرك ِ‬
‫قالت بعدما عادت للجلوس جواري‪:‬‬
‫‪ -‬أنت ثمل أليس كذلك؟‬
‫‪ -‬تعتقدين هذا؟ لنني قلت لك الحقيقة؟ الحقيقة يا عزيزتي تؤخذ من هذيان السكارى‪.‬‬
‫أتدرين أن الطوارق يختارون أسماءهم بالقرعة‪ ,‬وكذلك أنا أصبحت خالد مصادفةً‪.‬‬
‫واصلت أمام اندهاشها المستخفّ بكلمي‪:‬‬
‫‪ -‬في موسم قطف الرؤوس وحصاد القلم‪ ,‬فشلنا نحن الصحافيين في العثور على أسماء‬
‫مستعارة نختفي خلفها من الرهابيين‪ .‬كلّ اختار اسمه الجديد حسب ما صادفه من أسماء‪.‬‬
‫أنا انتحلت اسم بطل في رواية أحببتها‪.‬‬
‫واصلت بعد شيء من الصمت‪:‬‬
‫‪ -‬إن شئت الحقيقة‪ ,‬خالد بن طوبال ليس أنا‪ ,‬إنما زيان‪ .‬ولكن تلك قصة أخرى‪ .‬في الواقع‬
‫كان هذا اسمه في تلك الرواية‪ ,‬بينما أصبح هذا اسمي فس الحياة‪ .‬ففي الرواية أيضا نحتاج‬
‫إلى استعارة أسماء ليست لنا‪ ,‬ولذا أثناء انتقالنا بين الثنين كثيرا ما ل نعود ندري من‬
‫نكون‪ .‬إنها لعبة القنعة في كرنفال الحياة‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن ما اسمك؟‬
‫‪ -‬وماذا يغيّر اسمي‪ .‬ما دمت تعرفين لقب فمي وكنية يديّ‪ ,‬فكلّما م ّر شيء مني بك ترك‬
‫إمضاءة عليك‪.‬‬
‫‪ -‬جميل‪ ..‬ولكن ما السم المكتوب على أوراقك الثبوتية؟‬
‫‪ -‬ل أحب أن تكوني رجل بوليس يدقق في هوية عابر‪ .‬افترضي أننا التقينا في تلك‬
‫المنتجعات السياحية البحرية التي من أجل بلوغ وهم السعادة‪ ,‬يفرض فيها على الزبائن‬
‫التخلي عن أسمائهم خلل فترة القامة‪ ,‬فتطلق عليهم أسماء بعض المحارات البحرية أو‬
‫اللهة اليونانية وأحيانا أرقام ل غير‪ .‬أيّ قصاص أن تحملي اسمك قيدا مدى العمر!‬
‫أحسد سكان بلد عربية يعيش فيها الناس بل أسماء‪ .‬لعبو الكرة يستد ّل عليهم بأرقامهم‪,‬‬
‫النوّاب يحملون أسماء مناطقهم‪ ,‬المسؤولون يحملون أسماء وظائفهم‪ ,‬المطربون ل يغّنون‬
‫إل في جوقة‪ ,‬الموات لهم مقبرة جماعية يضع عليها الزوّار الرسميون إكليلً للجميع‪ .‬إنهم‬
‫في منتجع التاريخ‪ ,‬اختزلوا أسماءهم جميعا في اسم رجل واحد وارتاحوا‪ .‬الحكم عملية‬
‫اختزال‪ .‬ثمّة نعمة في أن تكون "ل أحد"‪ .‬ل تتوفر لك‪ ,‬إل عندما يأتي حاكم ويؤمم كل‬
‫السماء‪ ,‬أو يأتي الموت ويبعثرك في كل شيء‪.‬‬

‫كان زوربا بدأ ينتفض رقصا‪ .‬وكنت أفكّر في بورخيس عندما يقول في نهاية كتابه " الخلد" "‬
‫كنت هوميروس وقريبا أصير ل أحد‪ ,‬كما عوليس قريبا أصبح العالم كله‪ ,‬لنني أكون قد‬
‫متّ"‪.‬‬
‫قرّرت أن أضع ذراعي على كتف زيان ونبدأ الرقص سويا‪ ,‬فزوربا رقصة تصبح أجمل‬
‫عندما يؤديها رجلن بعنفوان الخاسرين‪ ..‬فاتحين ذراعيهما لحتضان العدم‪.‬‬

‫هيا زيان‪ ,‬انتهى الن كل شيء فارقص‪ .‬عندما ترقص ‪ ,‬كما عندما تموت‪ ,‬تصبح سيد‬
‫العالم‪ .‬ارقص كي تسخر من المقابر‪.‬‬
‫أما كنت تريد أن تكتب كتابا من أجلها؟ ارقص لكتبه عنك‪.‬‬
‫تدبّر رجلين لرقصتك الخيرة‪ ,‬وتعال من دون حذاء‪.‬‬
‫في الرقص كما في الموت ل نحتاج إلى أحذية!‬

‫الفصل الثامن‬

‫الموت يضع ترتيبا في القرابات‪.‬‬


‫برغم تلك العشرة‪ ,‬تعود فرانسواز غريبة‪ ,‬فموعدها الخير مع زيان ت ّم في المستشفى‪.‬‬
‫بعدها أقلّتني إلى المطار بسيارتها‪ ,‬ودّعتني بمودّة لم تكن يوما حبا‪ ,‬ومضت لصبح‪ ,‬أنا‬
‫الموجود في حياته مصادفة‪ ,‬كلّ أهله‪.‬‬
‫عرضت علي أن تحضر مراسم رفع الجثمان‪ ,‬لكنني بذرائع دينية كاذبة‪ ,‬أقنعتها بعدم‬
‫الحضور‪ .‬كنت أتوقع حضور حياة صحبة ناصر‪ ,‬وكنت أريد لجمالية ذلك المشهد التراجيدي‬
‫أل يفسده أحد علينا‪.‬‬

‫عندما انتهيت من تسجيل حقيبتي الصغيرة‪ ,‬بعد وقوفي طويلً في طوابير الحياء المتدافعين‬
‫ي وأحواض للورد‬
‫والمحمّلين بكل أنواع الحمولت وأغربها‪ ,‬من حرامات وطاولت ك ّ‬
‫وطناجر وسجاد وحقائب بؤس من كل الحجام‪ ,‬عائدين بها كغنائم غربة إلى الوطن‪ ,‬ذهبت‬
‫إلى حيث ل طوابير بشرية تزاحمني وحيث كل شيء سقط متاع‪ ,‬مذ أصبح فيها البشر هم‬
‫المتعة و الحمولة التي تسافر مختومة ومرقمة مع البضائع في جوف الطائرة‪.‬‬
‫وقفت في تلك القاعة المخصصة ليداع ما هو جاهز للشحن إلى كل الوجهات‪ .‬في جهة منها‬
‫كانت تتكدس الصناديق الضخمة التي تنقلها اللت نحو الطائرات‪ ,‬ويهرع عمال بثيابهم‬
‫الزرق وقبعاتهم الصفر لجرها في عربات مكشوفة‪ ,‬مما كان يحدث أحيانا أصواتا قوية‪,‬‬
‫ويترك جانبا من القاعة مفتوحا لمجرى هواء جليدي‪ .‬أحدهم نبّهني أن أقصد الجهة الخرى‬
‫من القاعة‪ ,‬فقصدتها أنتظره‪.‬‬

‫ثمّ جاء‪..‬‬
‫هاهم يأتون به‪ ,‬غرباء يحملونه على أكتافهم‪ ,‬حلما في تابوت من خشب‪ ,‬مكلّلً بكبرياء‬
‫الخاسرين يجيء‪ ,‬له جنازة تليق بسخريته‪ ,‬أكاد أصيح بهم " ل تسرعوا بنعشه فتتعثرون‬
‫بضحكته"‪ .‬هو المتئد المتمهل‪ ,‬ل تستعجلوه‪ .‬هو الواثق كالتأمل‪ ,‬انصتوا لتهكمه وهو يعبر‬
‫لوحته الخيرة‪ ,‬يجتاز قدره من ضفة إلى أخرى‪ ,‬كما يجتاز جسرا‪ ,‬محمولً من أناسٍ ل‬
‫يدرون كم رسم هذا الممر‪.‬‬

‫وهو يبني جسرا‪ .‬ل همّ للمهندسين إل العبور المين‪ ,‬أما العبور الجميل‪ ,‬فيهندس جماله أو‬
‫بشاعته مهندس أكبر‪ ,‬يملك وحده حقّ هندسة خطى القدر‪.‬‬
‫ق له أن يستريح‪.‬‬
‫يا إله الجسور‪ ,‬يا إله العبور الخير‪ ,‬ل توقظه‪ .‬عاش عمره على سفر‪ ,‬ح ّ‬
‫يا إلهة السرة‪ ,‬عابر سرير هو حيثما حلّ‪ ,‬فأهده راحة سريره الضيق الخير‪.‬‬
‫وأنت يا إله البواب‪ ,‬ل قبور آمنة في انتظاره‪ ,‬فل تدعهم يخلعون باب نومه‪.‬‬
‫في حضرته‪ ,‬اكتشفت أنني فقدت القدرة على البكاء‪ ,‬ولم يبق لي أمام الحزن إل ذلك النين‬
‫الخرس للحيتان في عتمة المحيطات‪.‬‬
‫كان أمام الموت يفعل ما كان يفعله دائما أمام الحياة‪ :‬التهكم!‬
‫وعندما لم أجد في العين دمعا يليق بسخريته‪ ,‬رحت أشاطره البتسام‪.‬‬

‫فجأة لمحتها‪ ,‬كانت رفقة ناصر‪ ,‬جاءت‪ .‬إذن جاءت‪ .‬هي‪ ,‬أكانت هي؟ تلك المرأة القادمة‬
‫ف شعرها شال من الموسلين السود‪ ,‬مرتدية معطف فرو طويل‪ ,‬برغم البرد‬
‫بخطىً بطيئة يل ّ‬
‫القارس‪ ,‬ما أحببت ترف حدادها الفاخر‪.‬‬
‫قبل أن تقترب‪ ,‬فكّرت أن معطفها يساوي أكثر من ثمن تلك اللوحة‪ ,‬كان يكفي أن تستغني‬
‫عنه ليشعر خالد الن ببرد أقلّ‪.‬‬
‫كان يكفيها معطف داكن ووردة حمراء‪ ,‬لتصبح "نجمة" فهل ليس في خزانتها معطف بسيط‬
‫يليق بفاجعة كبيرة؟‬
‫أقنعت نفسي بأنها لم تكن هي‪ .‬حتما كانت " نجمة"‪ ,‬تلك الغريبة الجميلة الهاربة من القصائد‬
‫والواقعة في قبضة التاريخ‪ .‬مثلها كان لها كل وجوه النساء ولها كل السماء‪ ,‬إل أنها اليوم‬
‫خلعت مليتها السوداء التي ارتدتها حدادا على صالح باي‪ ,‬وارتدت معطف فرو اقتناه لها‬
‫أحد قطّاع طرق التاريخ‪.‬‬
‫من يحاسب زوجة قرصان إن هي ارتدت شيئا من غنائمه؟‬

‫كانت تتقدم ببطء ل يشبه خطوتها‪ ,‬ألن قدميها المخضبتين بالحناء تعبتا؟‬
‫منذ زفافها وهي تمشي كي تبلغ هذا الجثمان‪.‬‬
‫عرّفني ناصر بأخته‪ .‬كان أولى أن أعرفه بها‪ .‬مدّت يدها نحوي‪ .‬المرأة ذات معطف الفرو‪,‬‬
‫لم تقل شيئا‪ ,‬عساها تخفي تردد أكفنا وارتباكها لحظة مصافحة‪.‬‬
‫ليس من أجل ناصر‪ .‬بل من أجله هو‪ ,‬تحاشينا أن تطول بيننا النظرات‪ .‬لم نكن نريد أن‬
‫نشهده ميتا على ما كان يعلمه حيا‪.‬‬
‫في حضرته‪ ,‬كنّا نتبرّأ من ذاكرتنا العشقية‪ ,‬مستخفّين بذكاء الموتى‪.‬‬
‫ضمّني ناصر طويلً إلى صدره‪ .‬التصقت دمعة على خدّه بخدي‪ .‬قال كلمات في بياض‬
‫الكوما‪ ,‬وبكى‪ .‬بدا لي كأنه شاخ‪ ,‬كأنه هو أيضا ما عاد هو‪ ,‬كأنه أصبح الطاهر عبد المولى‪.‬‬
‫كانت هكذا ملمح أبيه كما خلّدتها صور الثورة‪.‬‬

‫ناصر الذي رفض أن يحضر زفافها‪ ,‬يوم كان في قسنطينة‪ ,‬أيّ قدر عجيب جاء به من‬
‫ألمانيا‪ ,‬ليحضر جنازة خالد هنا في باريس! أكان لقاؤنا حوله آخر رغبة أراد أن يخطفها من‬
‫الفكّ الساخر للموت؟‬
‫موتا مكثفا في دقّته‪ ,‬مباغتا في توقيته‪ ,‬ذكيّا في انتقاء شهوده‪ ,‬حتى لكأنه وصية‪.‬‬
‫أشك أننا كنا جميعنا هناك في ذلك المكان مصادفة‪ .‬في المصادفة شيء من الفوضى ل‬
‫يتقنها الموت‪.‬‬
‫ل يوجد سوء ترقيم‪ ,‬ول سوء تدبير في هذا العالم الجائر‪ .‬يوجد ما يسميه رنيه شار في‬
‫إحدى قصائده " فوضى الدقة"‪ .‬إنه الموت المشاغب الجبار‪ ,‬كما في تراجيديا إغريقية‪.‬‬
‫أيّ مأساة أن تخلف شيئا على هذا القدر من الفاجعة! أيّ ملهاة أن تكون شاهدا عليه!‬
‫واقفين كنا أمام أسطورة رجل عاديّ‪ ,‬بأحلم ذات أقدار ملحمية‪.‬‬
‫رجل يدعى خالد بن طوبال‪ .‬فمنذ اجتمعنا حوله استعاد اسمه الول‪ ,‬وبهذا السم يعود إلى‬
‫قسنطينة‪ .‬الموت غيّر اسمه وكشف أسماءنا‪.‬‬
‫أذكر يوم سألني بتهكم ذكيّ‪:‬‬
‫‪ -‬خالد‪ ..‬أما زلت خالد؟‬
‫مثله أكاد أسأل المرأة ذات المعطف الفرو‪:‬‬
‫‪ -‬حياة‪ ..‬أما زلت حياة؟‬
‫ذلك أنها مذ دخلت هذا المكان أصبحت " نجمة"‪.‬‬
‫نجمة المرأة المعشوقة‪ ,‬المشتهاة‪ ,‬المقدسة‪ ,‬المرأة الجرح‪ ,‬الفاجعة‪ ,‬الظالمة المظلومة‪,‬‬
‫المغتصبة‪ ,‬المتوحشة‪ ,‬الوفية الخائنة‪ " .‬العذراء بعد كل اغتصاب"‪ " ,‬ابنة النسر البيض‬
‫والسود" التي " يقتتل الجميع بسببها ولكنهم ل يجتمعون إل حولها"‪.‬‬
‫هي الزوجة التي تحمل اسم عدوك‪ .‬البنت التي لم تنجبها‪ .‬الم التي تخلت عنك‪ .‬هي المرأة‬
‫التي ولد حبها متداخلً مع الوطن‪ ,‬متزامنا مع فجائعه‪ ,‬حتى لكأنها ما كانت يوما سوى‬
‫الجزائر‪.‬‬

‫ذلك أن قصة " نجمة" في بعدها السطوري‪ ,‬كأحد أشهر قصص الحب الجزائري‪ ,‬ولدت إثر‬
‫مظاهرات ‪ 8‬مايو ‪ 1945‬التي دفعت فيها قسنطينة والمدن المحيطة بها أكثر من ثلثين‬
‫ألف قتيل في أول مظاهرة جزائرية تطالب بالحرية‪.‬‬
‫كان كاتب ياسين يومها في عامه السابع عشر‪ ,‬يقاد مع اللف إلى السجن‪ ,‬وكان في طريقه‬
‫إلى معتقله الول يرى شبابا مكبّلين تجرهم شاحنات إلى عناوين مجهولة‪ ,‬وآخرين يعدمون‬
‫في الطريق بالرصاص‪.‬‬
‫وفي الزنزانة الكبيرة التي ضاقت بأسراها‪ ,‬كان العسكر يأتون كلّ مرة لصطحاب رجال لن‬
‫يراهم أحد بعد ذلك أبدا‪.‬‬
‫عندما غادر كاتب ياسين السجن بعد أشهر لم يجد بيتا ليأويه‪ .‬كانت أمه قد جُنّت ظنّا منها‬
‫أنه قُتل‪ ,‬وأُدخلت إلى مستشفى المراض العقلية‪ .‬قصد الشاب بيت خالَيْه المد ّرسَين فوجد‬
‫ن الطامّة كانت عندما علم‬
‫أنهما قُتِل‪,‬ذهب إلى بيت جدّه القاضي فوجد أنهم اغتالوه‪,‬غير أ ّ‬
‫أنهم في غيابه زوّجوا ابنة عمّه التي كان يحبّها‪.‬‬
‫في لحظة سهو‪ ,‬اغتصبت تلك المعشوقة التي لن يشفى من حبّها أبدا‪ ,‬عمرا من الهذيان‬
‫أصبحت فيه " نجمة" كل النساء‪ .‬فكلما سقط الحجاب عن امرأة في مسرحيات كاتب ياسين‬
‫تظهر " نجمة" من تحت كل المليات ومن تحت كل السماء‪.‬‬
‫ألم يقل في آخر عيد ميلد له وبعد وفاة أمّه عن عمر إلتهم فيه الجنون الصامت ‪ 36‬سنة‬
‫من حياتها‪ " :‬ولدت في ‪ 8‬مايو ‪ 45‬وقتلت هناك مع الجثث الحقيقية بجوار أمي التي انتهى‬
‫بها المر في مصحّ المجانين‪ ,‬ثم ولدت من جديد مع " نجمة"‪ ,‬أحبها ذلك الحب الول‪ ,‬الحب‬
‫الموجع في استحالته‪ ,‬سعيد بحزني بها‪ ,‬أكتبها‪ ,‬لم أكتب سواها‪ ,‬كمجنون"‪.‬‬
‫هو الكاتب المسرحي‪ ,‬لم يتوقع أن تلك المرأة التي أحبها منذ خمسين سنة‪ ,‬وما عاد يعرف‬
‫ملمح شيخوختها‪ ,‬ستأتي لتحضر العرض الوحيد والخير لمشهد موته‪ ,‬في مسرحية حياة‬
‫بدأ فصلها الول منذ نصف قرن يوم رآها‪.‬‬
‫فما كان ليصدق أن النص الخير ليّ مسرحيّ‪ ,‬يرتجله القدر‪ ,‬ووحده الموت يوزع فيه‬
‫الدوار على الناس بين متفرجين وممثلين‪ ,‬ل دقّات ثلثا تسبق رفع الستار‪ ,‬فالقدر ل ينبهك‬
‫عندما يحين دورك ببدء المسرحية‪ ,‬ل في أية جهة من المسرح ستكون‪ ,‬ول من سيكون‬
‫الحضور يومها‪.‬‬

‫وهي‪ ,‬هي الباكية الن باستحياء‪ ,‬المحتمية من الذاكرة بفروها‪ ,‬عندما زارت زيان في‬
‫المستشفى وأهدته ذلك الكتاب‪ ,‬أكانت تدري أنها تهديه قدره‪ ,‬وتطلعه عليه كنبوءة؟‬
‫وعندما كتبت على الصفحة الولى " أحببت هذا الكتاب‪ ,‬حتما سيعجبك" ماذا كان في كتاب "‬
‫توأما نجمة" ما تريد إطلعه عليه‪ ,‬غير ذلك الموت الغرائبي لصديقه ياسين‪ ,‬وما كانت هي‬
‫الروائية لتتوقع أنها مثل " نجمة" ستجد نفسها مصادفة تحضر المشهد الخير لموت رجل‬
‫عشقها ورسمها كمجنون‪ ,‬فسلّمته للغربة والشيخوخة والمرض‪.‬‬
‫لم تفارقني فكرة تطابق الموقفين‪ .‬مثل " نجمة"‪ ,‬ما كان يمكن لحياة أن تحضر جنازة خالد‬
‫ن ناصر يقف هنا مع المشاهدين‪ ,‬بينما كان أخو نجمة مسجىً‬
‫لول وجود أخيها‪ .‬الفرق أ ّ‬
‫جوار حبيبها‪ ,‬في قاعة ترانزيت الموات كهذه!‬

‫في ذلك الموت العجيب " الممسرح" لكاتب ياسين وابن عمّه مصطفى كاتب‪ ,‬شيء يتجاوز‬
‫الخيال المسرحي نفسه‪ .‬يزيد من غرابته أن الرجلين كانا رجلي مسرح‪ .‬كان مصطفى كاتب‬
‫الذي عرفته شخصيا مديرا للمسرح الوطني في السبعينات قبل أن يفتك به الداء‪ .‬بينما كان‬
‫كاتب ياسين يتزعّم المسرح المعارض ويقدّم عروضه بالعامّية والمازيغية في التجمعات‬
‫العمّالية‪.‬‬
‫وإذا كان ياسين نحيلً وعصبيا ويعرف جغرافية السجون والمعتقلت‪ ,‬ومن بعدها عناوين‬
‫المصحّات العقلية والخانات‪ ,‬كان مصطفى كاتب تقيّا ورصينا ووسيما وسامة أرستقراطية‬
‫قسنطينية‪ ,‬زاده شعره الفضّي وابتسامته الهادئة تميّزا‪.‬‬

‫وكانا بحكم اختلف معتقداتهما ومزاجهما منقطعين عن بعضهما إنقطاعا كأنه قطيعة‪ .‬كلّ‬
‫يدور في مجرته‪ ,‬حتى ذلك اليوم الذي جاء بهما الموت كلّ من مدينة ووضعهما متجاورين‬
‫في قاعة كهذه في مطار مرسيليا قبل سفرهما الخير إلى الجزائر‪.‬‬
‫لم يكن الممثلون هذه المرة على المنصة‪ .‬كانوا في التوابيت‪ .‬والذي كان يدير الممثلين في‬
‫هذا المشهد الخير كان خارج المسرح‪ ,‬فالفضاء المسرحي كان أكبر من أن يقدر على‬
‫إدارته البشر‪ .‬وهذه المرّة لم يكن من تنافس بين الممثلين‪ ,‬فالنجم الوحد في مسرحية‬
‫الموت‪ ,‬هو الموت‪ ,‬ولنه ل مكان للتصفيق‪ ,‬لن ينهض الممثلن لتحية الجمهور قبل‬
‫انسحابهما الخير‪.‬‬
‫أليس القدر هو الذي جعل كاتب ياسين يموت في مدينة غرونوبل ( جنوب فرنسا) يوم ‪28‬‬
‫أكتوبر ‪ , 1989‬وابن عمّه مصطفى كاتب يموت بعده بيوم واحد في ‪ 29‬أكتوبر في‬
‫مرسيليا‪ .‬حتى إن إحدى الجرائد عنونت الخبر " كاتب ‪ +‬كاتب = مكتوب"‪.‬‬
‫هكذا جيء بجثمان كاتب ياسين إلى مطار مرسيليا ليتم نقله على الطائرة نفسها مع مصطفى‬
‫كاتب‪.‬‬

‫يحكي بن عمار مديان في ذلك الكتاب كيف أنه وجد نفسه وهو الصديق القرب إلى كاتب‬
‫ياسين والمرافق لجثمانه‪ ,‬شاهدا ومشاهدا ذلك الحدث العجيب الذي تحّولت خلله قاعة‬
‫ترانزيت البضائع وتوابيت الموتى في مطار مرسيليا‪ ,‬إلى خشبة ل حدود لها ول ستائر‪ ,‬كلّ‬
‫شيء فيها حقيقيّ‪ ,‬وكلّ شيء شبيه بمسرح إغريقي‪.‬‬
‫شاهد فجأة امرأة تتقدّم بخطىً بطيئة داخل معطف غامق طويل‪ ,‬حاملة في يدها المختفية في‬
‫قفَاز أسود‪ ,‬وردة ذات ساق طويل‪.‬‬
‫كان وجهها يختفي خلف نظارات سود‪ ,‬وقبّة المعطف التي كانت ترفعها‪ ,‬تخفي الكثير من‬
‫ملمحها‪.‬‬
‫تقدّمت المرأة نحو النعشين‪ ,‬وراحت تقرأ السم المكتوب على كلّ منهما‪ .‬توقّفت عند التابوت‬
‫الذي كان ينام داخله مصطفى‪ ,‬انحنت وقبّلت طرف النعش‪ ,‬ثمّ‪ ,‬بدون أن تخلع قفّازيها‪,‬‬
‫مرّرت يدها على نعش ياسين في ملمسة سريعة للخشب‪ .‬بقيت بعض الوقت ممسكة بتلك‬
‫الوردة‪ ,‬ثم وضعتها على نعش أخيها مصطفى‪ ,‬وابتعدت‪.‬‬
‫كانت‪ " ..‬نجمة"!‬
‫كأبطال الروايات والمسرحيات الذين يغادرون نصوصهم‪ ,‬ويأتون لوداع المؤلف‪ ,‬جاءت "‬
‫نجمة"‪ ,‬لكنها لم تكن هناك لوداع الكاتب الذي حوّلها أسطورة‪ ,‬وإلى رمز لوطن‪ .‬الشاعر‬
‫الذي صنع من وجهها ألف وجه‪ ,‬ومن اسمها اسما لكلّ النساء‪ ,‬وأدخل قصّتها في روائع‬
‫الدب العالمي‪.‬‬
‫جاءت لوداع أخيها‪ .‬هي زليخة كاتب‪ ,‬في عامها السبعين‪ ,‬قد تكون نسيت منذ ذلك الزمن‬
‫البعيد أنها" نجمة"‪ ,‬فهي كانت تعيش باسمين‪ ,‬واحد للحياة والخر للسطورة‪ .‬ولذا ما توقعت‬
‫أن تقوم الحياة نفسها بتذكيرها أمام جثمان ياسين‪ ,‬أنها برغم شيخوختها‪ ,‬مازالت " نجمة"‪..‬‬
‫فوحدها الساطير ل تشيخ!‬

‫يا للحياة عندما تبدأ في تقليد المسرح حينا‪ ,‬والدب حينا‪ ,‬حتى تجعلك لفرط غرائبيتها تبدو‬
‫كاذبا‪.‬‬
‫من يصدق شيئا غريبا عن امرأة كزهرة توليب سوداء‪ ,‬تدعى تارة حياة وتارة " نجمة"‪.‬‬
‫تأتي دائما في آخر لحظة‪ ,‬في آخر مشهد‪ ,‬لتقف أمام نعش رجل توقف عن الهذيان بها‬
‫لفرط ما انتظرها‪.‬‬
‫امرأة كأنها وطن‪ ,‬ل تكلّف نفسها سوى جهد تمرير يدها بالقفاز على تابوتك‪ ,‬أو وضع وردة‬
‫على نعشك في أحسن الحالت‪.‬‬
‫كم مرّة يجب أن تموت لتستحقّ دفء صدرها!‬
‫كنت أفكر في الكاتب الصوماليّ نور الدين فرح مبرّرا هجرته المعاكسة من أوربا إلى أفريقيا‬
‫قائلً‪ ":‬إني بحاجة ماسّة إلى الدفء‪ ,‬إلى هذا تحتاج الجثة"‪ .‬وأكاد أخلع عن تلك المرأة‬
‫معطفها لغطي به نعش خالد‪ ,‬في رحلة عودته إلى صقيع الوطن‪ .‬أكاد أصرخ بها‪ ,‬ل تكوني‬
‫" نجمة"‪ ,‬استبقيه بقبلة‪ ,‬استبقيه بدمع أكثر‪ ,‬قولي إنك أحببته‪ ,‬انفضحي به قليلً‪ .‬هل أجمل‬
‫من فضيحة الموت للعشّاق؟‬

‫ضعي يدك عليه‪ ,‬يدك التي تقتل‪ ,‬يدك التي تكتب‪ ,‬مرّريها عند أعلى التابوت‪ ,‬كما لو كنت‬
‫تدلّكين كتفه‪ ,‬هناك حيث مكمن يتمه‪.‬‬
‫ل تخافي عليه من فضيحة جميلة‪ .‬لم يعد يخشى أحدا‪ ,‬ول عاد معرّضا إلى شيء‪ .‬إنه‬
‫معروض لفضول الشياء‪ .‬عيناه المغمضتان تحفظان السرّ‪ ,‬وقفصه الصدريّ الذي كنت‬
‫عصفورته‪ ,‬موحش وبارد مذ غادرته ‪ ,‬فغطيّه‪.‬‬
‫أيتها المتردّدة ذعرا‪ ,‬إرمي بنفسك فوق هذا الصندوق الخشبيّ الذي يضمه كما كنت ترتمين‬
‫طفلة صغيرة على حجره‪,‬يوم كان يلعبك‪ ,‬يضمك إليه بذراع واحدة‪ ,‬يستبقيك ملتصقة إلى‬
‫صدره‪.‬‬
‫هوذا ممدد أمامك‪ ..‬من لك بعده؟ من كان لك سواه؟ إلثمي صندوقه‪ ..‬إلثميه‪ .‬سيعرف ذلك‬
‫ن الخشب غير موصل للحرارة‪,‬الموت ل يعترف بنظريات الكيمياء‪.‬‬
‫حتما‪ .‬ل تصدّقي أ ّ‬
‫غافلي الحياء‪ ,‬واختبري تلك الرغبات الخيرة التي نسرقها من فوق جثة الموت‪ ,‬تلك القُبَل‬
‫التي توقظ الجثث‪.‬‬
‫أنا الذي أعرف تماما جغرافيتها‪ ,‬أعرف منطقتها البركانية‪ ,‬وتلك الزئبقية‪ ,‬وتلك الناريّة‪,‬‬
‫كنت أكتشف مساحتها الجليدية‪ ,‬وتضاريس حزنها المدروس كي ل يتجاوز حدّه‪.‬‬
‫امتلكني يقين النهاية‪ ,‬وأنا أراها في حزنها الرصين ذاك‪.‬‬
‫أدركت أمام جليدها أنها هكذا ستواجه جثماني إن أنا متّ!‬

‫عندما انتهينا من قراءة فاتحة على روحه‪ ,‬ابتعدنا ثلثتنا نحو ركن قصيّ من الصالة‪.‬‬
‫اغتنمت الفرصة لمدها بكيس فيه دفاتر صغيرة سجّل عليها زيان أفكارا مبعثرة على مدى‬
‫سنوات‪ ,‬وأوراق أخرى كان يحتفظ بها في ظرف‪ ,‬أظنها كانت لزياد‪ ,‬نظرا لصيغتها الشعرية‬
‫المتقنة‪ ,‬ولختلف خطّها عن خطّ زيان‪.‬‬
‫وضعت أيضا في الكيس كتابيها‪ ,‬بدون إهداء‪ ,‬كما احتفظ بهما زيان لسنوات‪ ,‬واضعا سطورا‬
‫على بعض الجمل‪ .‬ولم أنس طبعا كتاب " توأما نجمة" كما أهدته إياه قبل أيّام في آخر زيارة‬
‫لها‪.‬‬
‫هكذا أكون قسّمت تركة خالد بين امرأتين‪ ,‬واثقا بأن واحدة ستسارع بإلقاء معظمها في‬
‫الزبالة‪ ,‬ولن تحتفظ سوى باللوحات لقيمتها الماديّة‪ ,‬وأخرى وقد فقدت اللوحات‪ ..‬ستصنع‬
‫من خسارتها كتابا‪.‬‬
‫لم أحتفظ لنفسي سوى بساعته‪ ,‬غير واعٍ أنني سأقع في فخّ تلك الساعة في ما بعد ‪ ,‬فكيف‬
‫يمكن مقاربة الحياة انطلقا من الموت‪ ,‬لكأنّ عقارب الوقت التي وهبت سمّها لعقارب‬
‫ساعتك‪ ,‬تدور ضدّك‪ ,‬وفي كلّ دورة تستعجلك الفناء‪.‬‬
‫قلت كما لبرر لناصر مدّي أخته بذلك الكيس‪:‬‬
‫‪ -‬إنها بعض أوراق وكتابات تركها زيان‪ ,‬قد تستفيد منها السيدة حياة إن شاءت أن تكتب‬
‫شيئا عنه‪.‬‬
‫‪ -‬ل تهتم ستتكفّل الصحافة بعد الن بتكفينه بورق الجرائد‪.‬‬
‫لم تفتح الكيس‪ ,‬ول حاولت أن تلقي نظرة على محتوياته‪ .‬حتما لم تتوقّع موقفا عجيبا كهذا‪,‬‬
‫ي لول مرة وسألتني‪:‬‬
‫لكنّها توجهت إل ّ‬
‫‪ -‬بالنسبة للوحاته‪ ,‬ماذا فعلتم بها؟‬
‫قلت‪:‬‬
‫‪-‬أظنها بيعت في معظمها‪.‬‬
‫قال ناصر‪:‬‬
‫‪ -‬عندما أخبرتني بموته‪ ,‬أول فكرة خطرت ببالي بعد المكالمة‪ ,‬تلك اللوحة التي حكيت لي‬
‫أنا ومراد كيف أقنعته أن يبيعك إياها‪ .‬في البدء ظننتك مجنونا لنك دفعت فيها كل ما تملك‪,‬‬
‫ثم بعد ذلك فكرت أن ثمة أشياء ل تعوّض ويجب على المرء أن ل يفكّر في الثمن عندما‬
‫تعرض عليه‪.‬‬
‫سألت بفضول‪:‬‬
‫‪ -‬عن أية لوحة تتحدثان؟‬
‫وقبل أن أرد أجاب ناصر‪:‬‬
‫‪ -‬عن لوحة رسمها سي زيان في بداياته وكانت تعزّ عليه كثيرا‪.‬‬
‫إنها تمثّل جسر سيدي مسيد‪.‬‬
‫قالت بتهذيب يضع بيننا مسافة للبراءة الكاذبة‪:‬‬
‫‪ -‬أتمنى أن أراها‪ .‬أيمكنك أن تترك لي هاتفا أو عنوانا أكاتبك عليه إن احتجت شيئا في ما‬
‫يخص أعمال زيان؟‬
‫كانت هذه آخر حيلة عثرت عليها لتطلب عنواني في حضرة أخيها ‪ ,‬فهي تعرف عاداتي في‬
‫الختفاء المفاجئ من حياتها‪.‬‬
‫أجبتها بطريقة تفهم منها أنني لم أتغيّر‪:‬‬
‫‪ -‬آسف ‪ ,‬فليس لي عنوان ثابت بعد‪ -‬مضيفا بعد شيء من الصمت‪ -‬ثم إنني‪ ...‬بعت تلك‬
‫اللوحة!‬
‫صرخ الثنان بتعجب‪:‬‬
‫‪ -‬بعتها؟ وعلش؟‬
‫" وعلش؟"‬
‫لم يكن المكان مناسبا لشرح لهما " لماذا" بعتها‪ .‬فقد يكون زيان يسترق السمع إلينا‪,‬‬
‫وفاجعة واحدة تكفيه‪ .‬ذلك أن السؤال سيتوالد ويصبح " كيفاش؟" و " بقداش؟" و " لشكون؟"‬
‫وبكم ليست شيئا قياسا بلمن‪ ,‬فعندها سأصبح خائنا باع الجزائر والمة العربية جميعها‬
‫للغرب‪ ,‬وبسببي سقطت غرناطة وضاعت القدس‪ ,‬فحتما ثمة مؤامرة حيكت ضد المة‬
‫العربية‪ ,‬دبرها الرواق بالشتراك مع المستشفى‪ ,‬خاصة أن معظم الطباء هم من اليهود‪.‬‬
‫وهل ما يحدث لنا منذ قرون خارج المؤامرة؟‬
‫كانا مازال مذهولين ينتظران مني جوابا‪ ,‬ولم أجد شيئا لجيب به عن سؤالهما " وعلش؟"‪.‬‬
‫فأحيانا يلزمك كتابة كتاب من هذا الحجم لتجيب عن سؤال من كلمة واحدة ‪ ":‬لماذا؟"‬
‫هل صدمها حقا فقدان تلك اللوحة‪ ..‬فأفقدتها الفاجعة صوتها!‬

‫أظنها كانت ستقول شيئا‪ ,‬عندما عل صوت المضيفة على الميكروفون يطالب المسافرين إلى‬
‫قسنطينة على متن الخطوط الجزائرية‪ ,‬الرحلة رقم ‪ ,701‬باللتحاق بالبوابة رقم ‪.43‬‬
‫بدت كأنها وجدت في ذلك النداء ذريعةً للتأهب لمغادرة المكان‪ ,‬فما عاد ثمة ما يقال‪.‬‬
‫حضرني قول مالك حداد‪ " :‬في محطات السفر والمطارات‪ ,‬مكبرات الصوت تقول" على‬
‫السادة المسافرين التوجه إلى‪ "...‬ذلك أن السيدات ل يغادرن أبدا"‪.‬‬
‫فعلى أيامه كانت النساء ممنوعات من السفر‪ ,‬قابعات في البيوت‪ .‬أما اليوم‪ ,‬فل وقت لهن‬
‫لمرافقة حبيبٍ يسافر في تابوت‪.‬‬
‫ضمّني ناصر إلى صدره وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ربي يعظّم أجرك‪ ,‬ويحميك‪ .‬لو كنت نقدر ندخل للجزائر وال نروح معالك‪ ..‬لكن هاك على‬
‫بالك‪.‬‬
‫ثم وقف أمام الجثمان لحظات متمتما بكلمات كأنها دعاء‪ .‬لمحته يمسح دموعا دون أن يرفع‬
‫يده اليمنى عن النعش‪.‬‬

‫هل أيقظ دعاء ناصر شيئا فيها؟ هل ذكّرها نداء الميكروفون أنني أنا وهذا المسجّى مسافران‬
‫معا‪ ,‬وأنها فقدتنا نحن الثنين؟‬
‫مدت يدها نحوي موّدعة‪ .‬رأيتها لول مرة أمام جثمانه مجهشةً بالبكاء‪.‬‬
‫كنت أحتقر تعاسة الذين ل يجرؤون على القتراب من السعادة الشاهقة‪ ,‬الباهظة‪ ,‬التي ل‬
‫ب الكبير يختبر في لحظة ضياعه القصوى‪.‬‬
‫تملك للسطو عليها إل لحظة‪ ,‬فالح ّ‬
‫تلك اللحظة التي تصنع مفخرة كبار العشّاق الذين يأتون عندما نيأس من مجيئهم‪ ,‬ويخطفون‬
‫سائق سيارة ليلحقوا بطائرة ويشتروا آخر مكان في رحلة‪ ,‬ليحجزوا للمصادفة مقعدا جوار‬
‫مَن يحبّون‪.‬‬
‫الرائعون الذين يخطفون قدرك بالسرعة التي سطوا بها ذات يوم على قطار عمرك‪.‬‬
‫كنت أريد حبا يأتي دقائق قبل إقلع الطائرة فيغّير مسار رحلتي‪ ,‬أو يحجز له مكانا جواري‪.‬‬
‫لكنها تركتني معه‪ ..‬ومضت‪.‬‬
‫لم تقل شيئا‪ .‬فقط بكت‪ .‬وخالد ظلّ يكفنه البرد بيننا‪ .‬استطعت أن أؤمن له ثمن تذكرة‪ ,‬وما‬
‫استطعت أن أتدبّر له معطفا‪.‬‬
‫كان الميكروفون يكرر النداء‪ .‬إنه وعي الفراق‪ ,‬ول مناديل للوداعات الكبيرة‪.‬‬
‫وحدي كنت معه‪ ,‬عندما جاؤوا لنقله‪ .‬حملوه ليقبع هناك شخصا بين المتعة‪ .‬أمّا أنا فولجت‬
‫الطائرة متاعا بين الركاب‪.‬‬
‫افترقنا هناك‪ ,‬برغم أننا كنا نأخذ الطائرة نفسها أنا وهو‪.‬‬
‫ذهب آخر رفاق الريح‪ ,‬وبقيت مرتعدا‪ ,‬ل أدري كيف أوصد الباب خلف رجل عاش كما مات‬
‫في مهب التاريخ‪ ,‬واقفا فوق جسر‪ .‬في كل غربة‪ ,‬كأسماك الصومون‪ ,‬تبحث عن مجرى‬
‫مائي يعيدك من حيث جئت‪ ,‬سالكا جسرا للوصول‪ .‬لكن‪ ,‬ليس بسبب النهر وُجد الجسر‪ ,‬إنه‬
‫كالمواطنة‪ ,‬لم تبتدع إل بسبب خديعة اسمها الوطن‪.‬‬
‫فنم نومة لوحة‪ ,‬ما عاد جسرك جسرا يا صاحبي‪.‬‬

‫***‬

‫استعادت المطارات دورها المعتاد‪.‬‬


‫في كل مطار ينتصر الفراق‪ ,‬وتنفرط مسبحة العشاق‪.‬‬
‫مطارات تنادي عليك في استرسال محموم‪ ,‬مرددة رقم رحلتك‪ ,‬تلك التي تكفّل القدر بنفسه‬
‫بحجزها لك‪ ,‬في مكتب السفريات الذي اختصاصه رحلتك الخيرة‪.‬‬
‫ما جدوى كل هذه النداءات الملحاحة إذن لتذكيرك بوجهتك‪ ,‬وكل هذه الشارات المضيئة‬
‫لتوجيهك نحو بوابتك‪ ,‬أيها المسافر وحيدا‪ ,‬في صندوق محكم الغلق‪ ,‬ل تذكرة في جيبك‪,‬‬
‫وكل الممرات توصل حيث أنت ذاهب‪.‬‬
‫يا رجل الضفّتين‪ ,‬مسافة جسر وتصل‪ .‬إنها ساعتان ونصف فقط‪ ,‬وتستقر في حفرتك‪ ,‬على‬
‫مرمى قدر‪ ,‬لك قبر في ضيق وطن‪.‬‬
‫تجلس على مقعدك‪ ,‬وتدري أن تحتك ينام الرجل الذي كان توأمك‪ ,‬محتمٍ بصمته من إهانة‬
‫الحقائب والصناديق التي ألقي بينها‪.‬‬
‫ما عاد الرجل الذي كان‪ ,‬ول الرسام الذي كان‪ .‬إنه صندوق في حمولة طائرة‪.‬‬
‫ليس الصندوق الذي يفرّق بينكما‪ ,‬إنما كونه أصبح يقيم منذ الن في العالم السفلي‪ ,‬بينما ما‬
‫زلت أنت تجلس وتمشي وتروح وتجيء فوقه‪ .‬لك ذلك الحضور المتعالي للحياة‪.‬‬
‫لو يحدث أن عرفت موقفا غريبا كهذا‪ .‬السفر مع جثمان ميت‪ ,‬حجزت له بنفسي تذكرة‬
‫معي‪ ,‬أو بالحرى حجزت لنفسي تذكرة معه‪.‬‬

‫أستعيد كتاب " توأما نجمة" وصاحبه الذي يروي كيف وجد نفسه لمصادفة غريبة‪ ,‬المرافق‬
‫لجثمانيْ كاتب ياسين ومصطفى كاتب من مرسيليا إلى الجزائر‪ .‬وأجد عزائي في احتمال أن‬
‫يكون قد عرف ألما مضاعفا للمي ما دام سافر مع جثمانين‪.‬‬
‫ثم تقودني الفكار إلى تلك الخبار التي نقلتها الصحف في الثمانينات عن طائرات بلد عربي‬
‫مخصصة لنقل البضائع‪ ,‬حوّلتها الضرورة إلى طائرات للنعوش‪ ,‬وراحت لسابيع تنقل في‬
‫رحلت مكّوكيّة أحلم آلف المصريين الذين قصدوا ذلك البلد للعمل بنوايا وحدوية‪ ,‬وعادوا‬
‫منه مشوّهين في صناديق محكمة القفال‪ ,‬أغلقت على أحلمهم المتواضعة التي تم التنكيل‬
‫بها‪ ,‬عندما أعلن رسميا في ليلة ظلماء وفي خضم الحتفالت بعودة الجنود البطال من‬
‫حربهم ضد الجيران‪ ,‬فتح موسم إصطياد الغرباء الذين اتّهموا بإنتهاك شرف النساء‪ ..‬أثناء‬
‫انشغال أبناء الوطن بالدفاع عن المة العربية‪.‬‬
‫إنه الموت العربي بالجملة وبالتجزئة‪ .‬الموت مفردا ومثنى وجمعا‪ ,‬الذي ل تدري أمامه هل‬
‫أكثر ألما أن تسافر في طائرة ل يدري ركابها‪ ,‬وهم يطاردون المضيفة بصغائر الطلبات‪ ,‬أن‬
‫تحتهم رجلً ميتا‪ ,‬أم أن تكون قائد طائرة عربية ل مضيفات فيها ول خدمات‪ ,‬لن جميع‬
‫ركابها أموات؟!‬

‫يذكرني الموقف بصديق ينتمي إلى إحدى " الممالك" العربية‪ ,‬سأله أحدهم مرة‪ ":‬من أين‬
‫أنت؟" أجاب ساخرا ‪ ":‬من المهلكة"‪ ,‬فردّ عليه الثاني مزايدا‪ ":‬وأنا من أمّ المهالك"‪ ,‬وضحك‬
‫الثنان على النكتة‪ .‬فقد تعرّف كلهما على بلد الخر‪ ,‬دون أن يتّفقا على أيّ منهما كان أكثر‬
‫هلكا من الخر!‬
‫هالك يا ولدي‪ ..‬مهلوك‪ .‬وفي هذا المطار بإمكانك أن تختبر حجم الذى الذي ألحقه القتلة‬
‫بجوازك الخضر‪.‬‬
‫ذهب عنفوانك‪ .‬مثير للريبة حيث حللت‪ ,‬تفضحك هيئتك‪ ,‬وسمرتك‪ ,‬وطابور المتدافعين‪,‬‬
‫والكلب المتدربة على شمشمة أمثالك‪.‬‬
‫مذ قام الرهابيون باختطاف طائرة فرنسية وقتل بعض ركابها‪ ,‬والجزائريون يخضعون لحجر‬
‫أمنيّ في المطار‪ ,‬كما لو أن بهم وباء‪ ,‬وعليك أن تقف أعزل أمام جبروت الجهزة الكاشفة‬
‫لكل شيء‪ ,‬والكاميرات الفاضحة لنواياك‪ ,‬والنظرات الثاقبة لحاسيسك‪ ,‬والهانات المهذبة‬
‫التي تطرح عليك في شكل أسئلة‪.‬‬
‫تستااااااااهل ما الذي جاء بك؟‬
‫من ردهة إلى ممر إلى معبر‪ ,‬لست سوى رقم في طوابير الذلّ‪ .‬فكيف وقد اعتدت المذلة أن‬
‫تطالب باحترام أكثر على متن " طائرتك"؟‬
‫ل رقم لمقعدك‪ ,‬وعليك أن تدخل في سباق الفوز بكرسيّ‪ ,‬أن تكون لك جسارة تجّار الحقائب‬
‫في التدافع‪.‬‬
‫فالكرسيّ‪ ,‬أيّ كرسيّ‪ ,‬ل بدّ من القتتال للفوز به‪ .‬ثمة من أرسلوا أناسا بااللف إلى المقابر‬
‫للجلوس عليه‪ ,‬والنفراد به‪ ,‬وأنت تريد كرسيّا من دون عناء!‬
‫وتريد مكانا تضع فيه حقيبة يدك‪ ,‬ولكنهم سبقوك واحتلوا كل شيء‪ .‬الكل محمّل بالحقائب‬
‫البائسة المكتظة بالعمر الغالي‪ ,‬والجميع حريص على ما في يده‪ ,‬أكثر من حرصه على‬
‫ن ل شيء سوى النسان سريع العطب‪.‬‬
‫نفسه‪ ,‬ل يدري أ ْ‬

‫أتساءل‪ ,‬أين كنت إذن سأضع تلك اللوحة لو كنت أحضرتها معي‪ .‬فحتى إن قضيت نصف‬
‫الرحلة في إقناع المضيفة بأهميتها‪ ,‬ماذا كانت تستطيع أن تفعل أكثر مما فعل غيرها في‬
‫موقف كهذا؟ فأنا لم أنسَ تلك الكاتبة المقيمة في المهجر‪ ,‬التي شاهدتها على التلفزيون‬
‫الجزائري تحكي‪ ,‬كيف أنها عندما عادت لزيارة الجزائر‪ ,‬ومعها حقيبة صغيرة ل تفارقها‪,‬‬
‫فيها كتاباتها ومخطوط روايتها الجديدة‪ ,‬ما وجدوا في تلك الطائرة الواصلة من سوريا‬
‫والمليئة برهط غريب من تجّار الرصفة الذين ل يحتاجون إلى تأشيرة لدخول الشام‪ ,‬أيّ‬
‫مكان يضعون فيه الحقيبة‪ ,‬فتطّوع مضيف للتكفّل بها عندما أبلغه بعض من تعرّف عليها من‬
‫الركاب‪ ,‬أنها حقيبة كاتبة لم تعد لوطنها منذ سبع سنوات‪.‬‬
‫في منتصف الرحلة جاء من يخبرها أن حقيبتها كرّمت بوضعها في " مرحاض الطائرة"‪.‬‬
‫المضيف قال إنه كان شخصيا يقوم بإخراجها وإعادتها إلى مكانها في الحمام‪ ,‬بعد مرور كل‬
‫راكب‪ ,‬لنهم أوصوه خيرا بها‪ ,‬ولول معزّتها واحترامه للدب لما وضعها في " بيت الدب"‪,‬‬
‫ولصر على إنزالها مع بقية الحقائب إلى جوف الطائرة‪ ..‬وارتاح!‬
‫ماذا تقول لوطن يهينك بنية صادقة في الحتفاء بك؟‬

‫إحدى الصور التي تمنيت لو التقطتها‪ ,‬هي صورة حقيبة الكاتب‪ ,‬مرمية أرضا في مرحاض‬
‫الطائرة بعد أربع ساعات من الطيران‪ ,‬بينما تسافر بضائع المهربين الصغار مصونة‬
‫محفوظة في الخزائن الموجودة فوق رؤوس أصحابها‪.‬‬
‫لو نشرت صورة كتلك‪ ,‬لجاء من يقول إنني أهين وطني أمام الغرباء‪ ,‬وأعطاني درسا في‬
‫الوطنية‪ ,‬ذلك أن الوطن وحده يملك حق إهانتك‪ ,‬وحق إسكاتك‪ ,‬وحق قتلك‪ ,‬وحق حبّك على‬
‫طريقته بكل تشوهاته العاطفية‪.‬‬
‫كيف حدث هذا؟ وكيف وصلنا إلى شيء على هذا القدر من الغرابة؟‬
‫ل تنتظر أن يجيبك أحد هنا‪ .‬فالجواب ليس في طائرة‪ ,‬إنما في مكان آخر حيث كان إقلعها‬
‫الول‪.‬‬

‫عليك بعد الن وإلى آخر عمرك أن تجيب‪ :‬لماذا حصلت على تلك الجائزة دون غيرك؟ لماذا‬
‫أخذت تلك الصورة لذلك الطفل وذلك الكلب دون سواهما؟ لماذا بعت تلك اللوحة لذلك‬
‫الشخص دون سواه؟‬
‫أنت مطالب بالجابة على أسئلة يحتكر غيرك الردّ عليها‪ ,‬من أنت حتى تغيّر مجرى التاريخ‬
‫أو مجرى نهر لست فيه سوى قشة يجرفها التيار إلى حتمية المصب؟‬
‫أنت ل تعرف حتى ماذا تفعل هنا‪ ,‬وكيف أصبحت الوصيّ على هذا الجثمان وأنت مثقل‬
‫بالوصايا‪ ,‬متعب بنوايا يحرسها القتلة‪.‬‬
‫تتمنى لو كنت محمد بوضياف عائدا إلى الوطن في طائرة فرحتك لنقاذ الجزائر‪ ,‬لو أن ل‬
‫حقائب لك‪ ,‬لو أن يديك ممدودتان لتحية المستقبلين ملوّحتان بتوعد القتلة واللصوص الكبار‬
‫المهيبين‪ .‬لكن هو نفسه عاد مرتديا كفنه‪ ,‬وما فتح ملفّا إل وفتح معه قبره‪.‬‬
‫فاربط حزام المان يا رجل‪ ,‬وتابع شروح المضيفة حول أقنعة الوكسجين‪ ,‬وصدريّة النجاة‪.‬‬

‫***‬

‫اخترت بنفسي العجوز التي ستجلس جواري‪ ,‬أما الفتاة التي جلست على شمالي‪ ,‬فهي التي‬
‫اختارتني‪ .‬قد تكون استلطفتني مقارنة بالخيارات الرجالية الخرى‪.‬‬
‫فمهمّ في رحلة طويلة كهذه أل تجد نفسك مربوطا جوار من سيزيدونك هما وغما‪ ,‬فينتابك‬
‫إحساس من توقف به المصعد‪ ,‬ووجد نفسه محجوزا مع أناس ل يستلطفهم‪ ,‬وعليه أن‬
‫يتقاسم معهم حدوده القليمية وأجواءه الحميمية المستباحة بحكم المكان‪.‬‬
‫وكنت بعد عبورنا نقطة التفتيش‪ ,‬قمت بمساعدة تلك العجوز على حمل الكيس الكبير الذي ل‬
‫أدري كيف حمّلوها إياه‪ ,‬أو كيف أصرّت هي على حمله وراحت تتوقف كل حين لتستريح‬
‫قليلً من عبئه‪.‬‬
‫أحبّ عجائزنا‪ ,‬ول أقاوم رائحة عرق عباءاتهن‪ ,‬ل أقاوم دعواتهن وبركاتهن‪ .‬ل أقاوم‬
‫لغتهن المحملة بكمّ من المومة‪ ,‬تعطيك في بضع كلمات زادك من الحنان لعمر‪ ..‬وبعض‬
‫عمر‪.‬‬
‫‪ -‬يعيشك يا وليدي‪ ..‬ربي يسترك ويه ّز عنك هم الدنيا‪ ..‬ربي يزيّن سعدك‪.‬‬
‫كلمات وأقع في ورطة عاطفية مع عجوز‪ ,‬وإذ بي حمّال وعتّال ومرافق لها‪ ,‬ومسؤول عن‬
‫إيصالها حتى قسنطينة‪.‬‬
‫أهي عقدة يتمي؟ دوما خطفتني العجائز وغيّرن وجهتي‪.‬‬
‫ن وجهتها‬
‫فما صادفت واحدة تنوء كهولتها بق ّفةٍ‪ ,‬إل ووجدتني أحمل وزرها عنها مدّعيا أ ّ‬
‫تصادف وجهتي‪ .‬مرة تسبب لي المر في صفعة تأديبية من أبي‪ ,‬الذي لم يصدّق عذر‬
‫تأخري في العودة من المدرسة‪.‬‬
‫كانت العجوز ذاهبة صوب رحبة الصوف لبيع أرغفة أعدّتها في البيت‪ ,‬وقضيت ساعة‬
‫أمشي جوارها حاملً محفظة المدرسة بيد‪ ,‬وقفّتها بيدي الخرى‪.‬‬
‫كانت تلك الصفعة الوحيدة التي تلقّيتها في حياتي من أبي‪.‬‬

‫كانت العجوز الجالسة جواري تسافر لول مرّة بمفردها‪ ,‬وجاءت إلى باريس لزيارة ابنتها‬
‫التي وضعت مولودها الول‪ .‬وقبل أن تقلع الطائرة كنت عرفت تقريبا كل شيء عن حياتها‪.‬‬
‫ل س ّر للعجائز‪ ,‬كلّ الذي ينقصهن هو رجل مشدود الوثاق إلى كرسيّ‪ ,‬له صبر الستماع إلى‬
‫خيبات كهولتهن‪.‬‬
‫كانت مرعوبة من الطائرة‪ ,‬وتريد أن تفهم كل شروحات المضيفة فيما يخصّ صدرية النجاة‬
‫وقناع الوكسجين وحزام المان ومخارج الطوارئ‪ .‬ثم تعود من رعبها وتستسلم للمكتوب‬
‫وتقول إن العمار بيد ال‪ ,‬وتواصل ثرثرتها عن صهرها الذي اشترى محلّ قصابة في‬
‫فرنسا‪ ,‬وابنها الذي يسعى إلى الحصول على أوراق للقامة في باريس‪ ,‬بعد أن كره العيش‬
‫في قسنطينة التي كانت ملذ الفقير فأصبحت مدينة الفقراء‪ .‬كان المحتاج يقصدها لعلمه‬
‫بثراء أهلها وكرمهم‪ ,‬وأصبح الن يقيم فيها مع آلف الفقراء الذين جاؤوها من كل صوب‬
‫وأفقروا أهلها‪.‬‬
‫‪ -‬منين جا ْو يا ولدي " جوج وماجوج" هاذُو اللي كلوْ الدنيا‪ ..‬وهججونا من البلد‪ ..‬يا‬
‫حسرة راحوا دار شكون وشكون‪ .‬بقاوْ غير الرعيان‪ .‬على بالك أنا بنت شكون؟‬
‫ولم أكن على استعداد لعرف هذه العجوز ابنة مَن‪ ,‬ومن أية شجرة تنحدر‪ .‬فأنا لم أكن هناك‬
‫لخطبها‪ ,‬ولكن ل يمكن أن تمنع عجوزا من التباهي بأصلها‪ ,‬وهو كل ما بقي لها في زمن‬
‫الذلّ‪.‬‬
‫كانت من العائلت العريقة في قسنطينة‪ .‬اشتهر عمها بإنشاء أول شركة لنتاج التبغ في‬
‫الجزائر‪ .‬كان ممن يُضرب بهم المثل وجاهة وغنىً‪ ,‬وأفهم أل تتقبل فكرة أن تنتهي ابنتها‬
‫زوجة لرجل اغتنى في الغربة‪ ,‬ولم يغتنِ عن إرث أبا عن جدّ‪ ,‬ول فكرة أن تتقاسم الطائرة‬
‫مع " الرعيان" و "بني عريان"‪ ..‬ولكن‪:‬‬
‫‪ -‬هذي الدنيا يا امّا واش نديرو‪..‬‬

‫في غمرة اندهاشهم بها‪ ,‬أطلق القدامى على قسنطينة اسم " المدينة السعيدة"‪ ,‬وهذه العجوز‬
‫الميّة كم وفّرت عليها أمّيّتها من ألم‪ ,‬فهي لن تقرأ يوما ما قيل في قسنطينة‪ .‬هي فقط ترى‬
‫ض تمشي في شوارعه حافية‪.‬‬
‫ماآلت إليه‪ .‬قسنطينة المكابرة ل تدري ماذا تفعل بثراء ما ٍ‬
‫قسنطينة الفاضلة التي تحرسها الثام ويحكمها الضجر المتفاقم‪ ,‬وهذيان الزقة المحمومة‬
‫المثقلة بالغرائز المعتّقة تحت المليات‪.‬‬
‫لم تتغيّر‪ .‬ما زال يرعب نساءها الجميلت التعيسات‪ ,‬الشهيّات الشهوانيات‪ ,‬الخوف المزمن‬
‫من نميمة أناسها الطيّبين الخبثاء‪ .‬ولذا‪ ,‬هي تجلس صامتة على يساري‪ ,‬وأنا قدري حيث‬
‫أذهب أن أقع بين فكيّ حبّها‪.‬‬
‫عندما‪ ,‬بعد ذلك‪ ,‬مرّت المضيفة تعرض علينا الجرائد‪ ,‬سمعت الفتاة لول مرة تنطق لتطلب‬
‫جريدتي "الوطن" و "الحرية"‪ .‬لم يبق من نصيبي سوى " الشعب" و "المجاهد"‪ .‬تقاسمنا‬
‫بالتساوي أكاذيب العناوين‪.‬‬
‫يحضرني دائما في مثل هذه المواقف‪ ,‬قول ساخر لبرنارد شو معلّقا على تمثال الحرية في‬
‫أمريكا " إن المم تصنع تماثيل كبيرة للشياء التي تفقدها أكثر" وهو ما يفسّر وجود أكبر‬
‫قوس عربي للنصر في البلد الذي مُني بأكبر الخسائر والدمار‪.‬‬

‫إمعانا منّا في تضخيم خسارات ندّعي اكتسابها‪ ,‬نذهب حتى إضافة ما نفتقده إلى أسماء‬
‫أوطاننا‪ .‬ولن الجزائر خرجت إلى الوجود "جمهورية ديمقراطية شعبية"‪ ,‬فقد حسمنا منذ‬
‫الستقلل مشاكل الشعب وقضية الديمقراطية‪ ,‬وتفوقنا منذ البدء في ما يخصّ الحريات على‬
‫أية دولة أوربية تحمل اسما من كلمة واحدة!‬
‫أمة تحتفي بخساراتها‪ ,‬وتتوارث منذ الندلس فن تجميل الهزائم والجرائم بالتعايش اللغوي‬
‫الفاخر معها‪.‬‬
‫عندما نغتال رئيسا نسمّي مطارا باسمه‪ ,‬وعندما نفقد مدينة نسمّمي باسمها شارعا‪ ,‬وعندما‬
‫نخسر وطنا نطلق اسمه على فندق‪,‬وعندما نخنق في الشعب صوته‪ ,‬ونسرق من جيبه قوته‪,‬‬
‫نسمّي باسمه جريدة‪.‬‬

‫انشغلنا بتصفّح الجرائد‪ .‬لم نتبادل أية كلمة‪ .‬كانت امرأة غامضة كبيوت نوافذها إلى الداخل‪,‬‬
‫ل الجلوس بمحاذاة أنوثتها المربكة التي توقظ الرواسب العاطفية المتراكمة فيك‪,‬‬
‫وكان جمي ً‬
‫وتجعلك تكتشفها من مشربيات النوافذ‪.‬‬
‫عبرتني فكرة مجنونة‪ :‬ماذا لو كان الحب يجلس على يساري‪ ,‬أنا الذي لم أقاوم يوما إغراء‬
‫امرأة صامتة‪ ,‬ول جمالية أنوثة تحيط كل شيء فيها بلغز‪.‬‬
‫عندما جاؤوا بوجبة العشاء‪ ,‬بدا على العجوز حماسة بددت فجأة خوفها من الموت‪ ,‬وأوقفت‬
‫سيل السئلة التي كانت تطاردني بها‪ ,‬عن اهتزاز الطائرة كما تبدّى لها من النافذة‪ .‬بل إنّها‬
‫استفادت من فقدان شهيتي للكل‪ ,‬لستئذاني في تناول بعض ما في صينيتي‪.‬‬

‫أثناء ذلك‪ ,‬كانت الغادة القسنطينية التي على يساري تأكل بدون لهفة‪ ,‬كما لو أنها تأكل‬
‫بحياءٍ مترفّع‪ ,‬كذلك الزمن الذي كانت النساء يختبئن عن النظار ليأكلن‪ ,‬وكأن كل متعة لها‬
‫علقة بالجسد ل بد أن تمارسها النساء سرّا‪ ,‬وأن أيّ جوع جسدي ل يليق بامرأة إشهاره‪.‬‬

‫بعد العشاء‪ ,‬أُخفتت الضواء‪ ,‬وقامت المضيفة بتوزيع بعض اللحفة على المسنين والطفال‪,‬‬
‫فطلبت لحافا للعجوز عسى النوم أن يخدر عضلة الثرثرة بين فكيّها‪ ,‬وتكفّ مع كلّ مطبّ‬
‫هوائيّ عن التبؤ لنا بكارثة جوّيّة‪.‬‬
‫مسكينة هي‪ ,‬تعتقد أن ل أخطر من طائرة محلقة في السماء‪.‬‬
‫ل تدري أن الموت قد يدبّر لك مقلبا آخر‪ ,‬وينتطرك أرضا عند سلّم الطائرة‪ ,‬كما حدث مع‬
‫عبد العزيز‪ ,‬الصيدلني المعروف في العاصمة بحبه للحياة‪ ,‬وبخدماته الكثيرة للناس‪ .‬قائد‬
‫الطائرة كان من معارفه‪ ,‬فقام بنقله للدرجة الولى وأوصى المضيفات به خمرا‪ ,‬فرحن‬
‫يسقينه كؤوس الويسكي الواحدة بعد الخرى‪ ,‬بحيث كان بعد ساعتين من الطيران بين‬
‫باريس والجزائر غير قادر على الوقوف على رجليه‪ .‬وما كاد يضع قدميه على أول درج‬
‫للطائرة حتى تدحرج من سلّمها الحديدي الضيق الذي كان يهتزّ تحت قدميه‪ ,‬وانتهى جسده‬
‫في السفل ليموت بعد يومين إثر نزيف في الدماغ‪ .‬فلكونه كان من ركاب الدرجة الولى‪,‬‬
‫وأول من نزل السلم لم يكن أحد ليسبقه ويحول دون تدحرجه حتى الموت!‬
‫فهل كان قائد الطائرة يدري أنه بتغيير درجته من الثانية إلى الولى‪ ,‬كان يتمادى في تدليله‬
‫حدّ إيصاله إلى مرتبة " شهيد" من الدرجة الولى؟‬

‫في الطائرة‪ ,‬كما في الحياة‪ ,‬عليك أن تحترم قانون المراتب‪ ,‬ول تتحايل لتقفز مرتبة‪ ,‬فرّبما‬
‫كان في ذلك المكسب هلكك‪ .‬عليك أن تعرف منذ البدء أين يوجد مكانك‪ ,‬في الولى أم في‬
‫الثانية‪ .‬فأيّ تحايل قد يحيلك إلى أسفل‪ ..‬مع الحقائب!‬
‫عليك أيضا أن تتأكد أين يوجد مقعدك‪ :‬على يمين أم على شمال الحب‪ ,‬فالمأساة تبدأ عندما‬
‫يتسلى القدر بفوضى ترقيم المقاعد‪.‬‬

‫كنت دائم التنبه إلى الفتاة الجالسة جواري‪ ,‬إلى عطرها الخفيف‪ ,‬وإلى تلك الرغبات الصامتة‬
‫التي تولد في العتمة‪ .‬يكفي شيء من الضوء الخافت‪ ,‬لتستيقظ الحواس وتصبح النساء أجمل‬
‫مما هنّ عليه‪.‬‬
‫قليل من العتمة يوقظ الوهم الجميل فينا‪ ,‬أمّا حلكة التعتيم‪ ,‬فتساوينا بسكان العالم السفلي‪.‬‬
‫لم أستطع أن أغفو‪ .‬ابتسامة بكعب عالٍ‪ ,‬تجاملك من فوق أنوثتها‪ ,‬وتحتك‪..‬آه تحتك ثمة ما‬
‫يمنعك من البتسام‪ ,‬أنت الجالس بين التقاطع المربع للحياة والموت‪.‬‬

‫فجأة أشعلت المضيفة الضواء‪ ,‬وباشرت بتوزيع بطاقات النزول‪ ,‬بينما مرّت أخرى لجمع‬
‫اللحفة من الركاب‪.‬‬
‫لحظت أن العجوز لم تسلّم لحافها إلى المضيفة‪ ,‬لمحتها تطويه وتخفيه في كيسها‪ .‬خوفها‬
‫من الموت لم يمنعها من السطو على تفاهات الحياة‪.‬‬
‫إنها كأولئك الذين تنجو طائرتهم من كارثة جوية‪ ,‬أو ينجون من حريق شبّ في بيتهم‪ ,‬وبعد‬
‫أن يكونوا عرفوا كل أنواع الويلت‪ ,‬ما يكادون يعودون للحياة حتى يباشرون البحث عن‬
‫أمتعتهم والتحسر على ما لحق بها من تلف‪.‬‬
‫هي تأخذه ل لحاجتها‪ ,‬بل لمجرد " نتف" شركة الطيران‪ .‬فالذين ينهبون الوطن فوق‬
‫بالمليين‪ ,‬أعطوا للبسطاء حق سرقة الشياء الصغيرة أو إتلفها‪ ,‬مساهمة منهم بالتنكيل‬
‫بوطن حماته لصوصه‪.‬‬

‫فيمَ قد ينفعها هذا اللحاف الصغير؟ ذلك النائم تحت في المكان الكثر بردا في الطائرة‪ ,‬أحوج‬
‫منها إليه‪.‬‬
‫أكانت ستفقد شهيتها للكل‪ ,‬لو أنا أخبرتها بوجوده؟ هل كانت ستتفرّغ للدعاء والصلوات‬
‫وتقلع عن سرقة اللحفة‪ ,‬لو أنها علمت أن ل شيء يفصلها عن الموت‪ ,‬وأنها في أيّة لحظة‬
‫قد تنتقل للقامة تحت؟‬
‫من عادة الجالسين فوق‪ ,‬أن يرفضوا التفكير في أنّ في كل موقع يمرون به‪ ,‬ثمة طابق‬
‫سفلي يتربص بهم‪.‬‬
‫سألتني العجوز‪:‬‬
‫= واش آوليدي وصلنا لقسمطينة؟‬
‫أجبتها‪:‬‬
‫‪ -‬ما زال ثلث ساعة ونوصلو آمّا‪.‬‬
‫باشرت بملء استمارتي واستمارتها‪ .‬هو ل استمارة له‪ ,‬ربما أن له ترف السفر بتذكرة‬
‫تساوي أضعاف ثمن أية تذكرة لراكب يجلس "فوقه"‪.‬‬
‫حتما في المر مزحة ما‪ .‬إنه يساوي ميتا‪ ,‬أضعاف ما كان يساويه حيّا‪ ,‬فلماذا إذن هو بارد‬
‫وحزين إلى هذا الحد؟‬
‫ألم ينتظر يوما مطيرا كهذا عمرا بأكمله يعود فيه محمولً على أكتاف السحب إلى قسنطينة؟‬
‫هاهوذا بلغها أخيرا‪.‬‬

‫قسمطينة‪..‬آ الميمة جيتك بيه‪ .‬صغيرك العائد من براد المنافي‪ ,‬مرتعدا كعصفور ضمّيه‪ .‬كان‬
‫عليه أن يقضي عمرا من أجل بلوغ صدرك‪ .‬وليدك المغبون‪ ,‬لفرط ما هو لك ما عاد هو‪,‬‬
‫لفرط ما كان خالد ما عاد زيان‪ ,‬لفرط ما أصبح زيان ما وجد له مستقرا غير قبر أخيه‪.‬‬
‫نحن أبناء الصخرة‪ ,‬ما عدنا ندري أيّا منا صخر‪ .‬ما عادت من خنساء لنستدل على قبرنا‬
‫بدموعها‪ .‬كلنا في هذه الطائرة "صخر"‪ .‬لكن ما عليهش يا امّا‪ ..‬سنواصل توسيع المدافن‪.‬‬

‫فجأة نطقت تلك الفتاة المحصّنة بالصمت كقلعة‪ ,‬وقالت‪:‬‬


‫‪-‬هل بإمكاني أن أستعير قلمك؟‬
‫أجبتها وأنا أمدّها بالقلم‪:‬‬
‫‪ -‬حتما‪..‬‬
‫كان في صوتها غيم و رذاذ‪ ,‬وحزن موسيقى تنهطل‪ .‬لكنّي فتحت مظلة الصمت‪.‬‬
‫كنت مغلقا في وجه رياح الرغبات المباغتة‪ ,‬متحاشيا دربا متعرجا قد يوصلني إلى امرأة‬
‫جالسة على الكرسيّ الملصق‪ ,‬ففي قسنطينة ذات المنعطفات الكثيرة‪ ,‬ليس ثمة طريق‬
‫مستقيم يوصلك إلى مبتغاك‪ ..‬المسار دائما لولبيّ!‬
‫أعادت لي القلم بعد أن انتهت من ملء استمارتها‪ .‬لم تقل سوى "شكرا" وانكفئت في صمتها‪.‬‬
‫تكفّلت جارتي بفضول العجائز سؤالها‪:‬‬
‫‪ -‬إن شاء ال كاين اللي يجي يلقيك في هاذا الليل يا بنتي‪ ,‬وإل نوصلوك معانا أنا وابني‪.‬‬
‫الحالة ماهيش مليحة هاذ اليام‪.‬‬
‫ردت شاكرة‪:‬‬
‫‪ -‬يعطيك الصحة‪ ..‬راح يجي خويا يلقيني‪.‬‬
‫استنتجت أنها لم تكن متزوجة وأنها تعيش مع أهلها‪.‬‬

‫كانت المضيفة تمر لحظتها بعربة البضائع‪ .‬طلبت منها علبة سجائر‪ .‬كنت على وشك أن‬
‫أدفع ثمنها‪ ,‬عندما سمعت الفتاة تسألها إن كان يوجد عندها ذلك العطر‪ .‬بقيت مندهشا‪,‬‬
‫ن الحياة تستفزني‪ ,‬وتواصل معابثتي‪.‬‬
‫شعرت أ ّ‬
‫كان المر شيء يتجاوز جمال مصادفة تطابق في اختيار نوع عطر بالذات‪ ,‬إلى هول تصادف‬
‫وجود تابوته تحتنا‪ .‬هو الذي كان يحتفظ بين أشيائه بقارورةٍ فارغة لهذا العطر نفسه‪.‬‬
‫ما عاد السؤال‪ :‬من أين له تلك القارورة؟ وعلى أية أنثى انسكبت؟ ومنذ متى وهو يحتفظ‬
‫بها كما يحتفظ يتيم بشيءٍ وحده يعرف قيمته؟ بل غدا سؤا ًل آخر إقشعّر له جسدي‪ :‬ماذا لو‬
‫كان هو الذي طلب ذلك العطر لنه اليوم أحوجنا إليه؟‬
‫غير أنه في العالم السفلي‪ ,‬حيث هو‪ ,‬لم يتحرر بالموت من الحياة فحسب‪ ,‬بل تحرر به من‬
‫محنة يتمه واغترابه‪ .‬فما حاجته إلى عطرٍ يسكبه في قارورة اليتم الفارغة؟‬
‫إنه اليوم القل يتما بيننا‪ .‬ل يخاف على شذى فرحة أن تنضب‪ ,‬له رائحة ل يستطيع الزمن‬
‫أن ينال منها‪ ,‬إنها رائحة البدية‪.‬‬
‫ن ينفضح برائحته‪ ,‬هو يحتاج ذلك العطر للجم رائحة توقظ شراهة‬
‫أم تراه‪ ,‬في عزلة جثما ٍ‬
‫الديدان‪ ,‬وتشي ببشاعة رجلٍ كان حريصا على جمالية الحضور‪.‬‬
‫غير أن العطر في قارورة هو مشروع شذى رائحة‪ .‬ل يصبح كذلك إل بانصهاره بكيمياء‬
‫الجسد‪ .‬ولذا ما عاد بإمكان عط ٍر أن يغطّي على تلك الرائحة‪.‬‬
‫الرائحة‪ ,‬ل شيء غير اعتذار عطرٍ تأخر فناب عنه الموت‪.‬‬

‫عندما عادت المضيفة لتقبض ثمن قارورة العطر من الفتاة‪ ,‬راودتني فكرة أن أهديها إياه‪,‬‬
‫إكراما لتهكم رائحته‪ ,‬على يتمٍ ننفضح به عطرا في غيابه‪.‬‬
‫غير أنني لم أفعل‪ ,‬خشية أن ل تطمئن لعذري‪ ,‬وتظنني أتحرش بها كعادة البائسين من‬
‫الرجال‪ ,‬عندما يظفرون بأنثى مربوطة إلى جوارهم‪.‬‬
‫أكنت بذريعة ملمسة جثمانه بعطر‪ ..‬ل أسعى سوى لملمسة صمتها؟‬

‫كنت سعيدا بذلك القليل الذي قالته‪ .‬مستمتعا بالرتباك اللذيذ أمام شيء شبيه بالحب‪ .‬ذاهبا‬
‫بالصمت إلى أقصاه‪ ,‬مهيئا بيننا بعمق اللتباس حفرة لغرس شتلة الشهوات‪ .‬تأخذني سنة‬
‫التفكير إلى نسج أكثر من بداية قصة قد تكون لي مع هذه المرأة‪.‬‬
‫فوق هول النهايات‪ ,‬أصابني رعب البدايات‪ ,‬جمال الخوف العاطفي‪ ,‬دواره وإغراؤه‪ .‬إن‬
‫إستطعت تأمين مظلةٍ تقيني رذاذ الرغبة‪ ,‬من أين لي بكمامة تصد شذى عطر الغواية النفاذ؟‬

‫كان العبور الخاطف لرائحته‪ ,‬يشوش بعض الوقت على اشتهائي لها‪ .‬لكن ما استطاع أن‬
‫يلغي سلطة عطرها عليّ‪.‬‬
‫كان الحب يتقدم نحوي كوقع حوافر الجياد‪ ,‬يسبقه غبار الماضي‪ ,‬ذلك أن في هذه المرأة‬
‫شيئا من تلك‪ .‬شيء منها لأعرفه بعد‪ ,‬لكنني أتشممه‪.‬‬
‫تلك التي يوم رأيتها لول مرة في ذلك المقهى ذات ثلثين أكتوبر عند الساعة الواحدة‬
‫والربع‪ ,‬شعرت بصاعقة الصطدام العشقيّ بين كوكبين سيتشظّيا انخطافا أحدهما بالخر‪.‬‬
‫أذكر‪ ,‬من هول النبهار بفاجعة على ذلك القدر من جمال الدمار‪ ,‬أني قلت لها وأنا أستأذنها‬
‫في الجلوس‪ " :‬سيدتي‪ ..‬أشكر الدورة الدموية للكرة الرضية‪ ,‬لنها لم تجعلنا نلتقي قبل‬
‫اليوم"‪.‬‬

‫في مجرة الحب‪ ,‬من يدير سير الكواكب؟ من يبعدها ويقرّبها؟ من يبرمج تلقيها وتصادمها؟‬
‫من يطقئ إحداها ويضيء أخرى في سماء حياتنا؟ وهل ينبغي أن يتعثّر المرء بجثمان ليقع‬
‫في الحب؟‬
‫في سعينا إلى حبّ جديد‪ ,‬دوما نتعثر بجثمان من أحببنا‪ ,‬بمن قتلناهم حتى نستطيع مواصلة‬
‫الطريق نحو غيرهم‪ ,‬لكأننا نحتاج جثمانهم جسرا‪ .‬ولذا في كلّ عثراتنا العاطفية‪ ,‬نقع في‬
‫المكان نفسه‪ ,‬على الصخرة نفسها‪ ,‬وتنهض أجسادنا مثخنةٍ بخدوشٍ تنكأُ جراح ارتطامنا‬
‫بالحب الول‪ .‬فل تهدر وقتك في نصح العشاق‪ ,‬للحبّ أخطاء أبدية واجبة التكرار!‬
‫أأكون ما شفيت منها؟ لكأنها امرأة داخلة في خياشيم ذاكرتي‪ ,‬مخترقة مسام قدري‪ .‬أتعثّر‬
‫بعطرها أينما حللت‪.‬‬
‫ما كانت " حياة"‪ ..‬إنها الحياة‪.‬‬

‫كم حلمت بطائات تأخذني إليها‪ ,‬بمدن جديدة نزورها معا‪ ,‬بغرف فنادق ينغلق فيها الباب‬
‫علينا‪ ,‬بصباحات آخذ فيها حمامي فتناولني شفتيها منشفة‪ ,‬بأماسٍ نتحدث فيها طويلً عن‬
‫الحب والموت‪ ,‬عن ال‪ ,‬عن العسكر‪ ,‬عن الحلم المغدور بها‪ ..‬وعن الوطان الخادعة‪.‬‬
‫حلمت برقمها يظهر على شاشة هاتفي‪ ,‬بصوتها يتناول معي قهوتي‪ ,‬يرافقني إلى مكتبي‪,‬‬
‫يجتاز معي الشوارع‪ ,‬يركب معي الطائرات‪ ,‬يضمّني حزام أمان في كل مقعد‪ ,‬يطاردني‬
‫بخوف المهات‪ ,‬يطمئنني‪ ,‬يطمئن عليّ‪ ,‬صوت يأخذ بيدي‪.‬‬
‫لكن‪ ,‬دوما كانت لي مع هذه المرأة متع مهددة‪ .‬ليس ثمة غير هذه الجثث التي بيننا‪ .‬إحداها‬
‫تسافر معي‪ ,‬تسترق السمع إليّ‪ ,‬وتضحك ملء موتها منيّ‪.‬‬
‫في حب كذاك ل تتعثر بجثة‪ .‬أنت تتعثّر بمقبرة‪.‬‬

‫كنت منشغلً بذكراها ‪ ,‬عندما فاجأني صوت المضيفة" الرجاء أن تقوّموا ظهور مقاعدكم‪..‬أن‬
‫تبقوا أحزمتكم مربوطة‪ ..‬وأن تكفّوا عن التدخين"‪.‬‬
‫بدأت العجوز على يميني تطالبني بالهتمام بها‪ .‬ساعدتها على ربط حزامها‪ ,‬وأنزلت الستارة‬
‫الصغيرة للنافذة‪ ,‬حتى ل تزداد رعبا إنْ هي نظرت إلى قسنطينة من فوق‪.‬‬
‫‪ -‬ما تشوفيش لتحت يامّا‪.‬‬
‫كنت أريد أن تطلق سبيلي قليلً‪ .‬أن أنظر أنا أيضا جواري‪ ,‬على يساري‪ ,‬كي أنسى العالم‬
‫السفلي‪ .‬أن أسرق اللحظات الخيرة من هذا الموعد الشاهق في غرائبيته‪ ,‬لقول شيئا لعطرٍ‬
‫جاء حضوره متأخرا ‪ ,‬ومخيفا‪ ,‬كلحظة هبوط طائرة‪.‬‬
‫لكن الطائرة حطت على الرض بتلك السرعة الرتطامية القصوى التي تنزل بها الطائرات‪.‬‬
‫كان أزير محركاتها يعلو وهي تسرع بنا على مدرج المطار‪ ,‬ولم يعد بإمكان أحد تبادل أيّ‬
‫حديث‪.‬‬

‫ذهب تفكيري عنده‪ ,‬إلى نعشه الذي يرتجّ اللحظة مرتطما بتراب قسنطينة‪.‬‬
‫هنا نفترق أنا وهو‪ .‬هنا ينتهي مهرجان السفر‪ .‬ول أملك إلأن أأتمنها عليه‪ .‬إنه الليل‪,‬‬
‫والوقت غير مناسب لللرتماء في حضنها‪.‬‬
‫باكرا تذهب إلى النوم قسنطينة‪ ,‬ول أحد يجرؤ على إيقاظ حارس الموتى الذي ارتدى منامة‬
‫الغفلة خوفا من القتلة‪.‬‬
‫عليك أن تعرف أنك منذ الن في حماية الديدان‪ ,‬التي في غيبتك عششت وتناسلت فوق‬
‫التراب وتحته‪.‬‬
‫أن تتفهم جشع الديدان البشرية‪ ,‬التي جمعت ثروتاه من موائد تعففك وترفعك حيا عما كان‬
‫وليمتها‪ .‬وستحرّض عليك اليوم أخرى‪ ,‬لتقتات بما بقي من جسد سبق أن أطعمت بعضه‬
‫للثورة‪.‬‬
‫نفاخر بمآثر الديدان وإكراما لنهمها لمزيد من الشهداء‪ ,‬نقدم لها بهاء أجسادنا قرابين ولء‪.‬‬
‫فعمرك المسفوح بين ثورتك وثروتهم‪ ,‬منذور يا صديقي كجسدك لديدان الوطن‪ ,‬التي يتولّى‬
‫مزارعو تخصيب الموت تربيتها وتهيأة التربة الفضل لها‪ ,‬كما تربي بلد أخرى في‬
‫أحواضها اللؤلؤ والمرجان‪.‬‬

‫مستسلم هو للنعاس الخير‪ ,‬ومنهك الحلم أنا‪ .‬ل أدري من منا العظم خوفا‪ .‬سيدتي‬
‫قسنطينة التي ل تستيقظ إل لجدولة موتنا‪ ,‬تعفّفي عن إيذاء حلمه‪ ,‬تظاهري بالكتراث به‪,‬‬
‫أحضنيه كذبا وعودي إلى النوم‪ .‬ل تدققي في أوراقه كثيرا‪ .‬ل تسأليه عن إسمه‪ ,‬حيثما حلّ‬
‫كان اسمه القسنطيني‪ ,‬والن وقد حلّ فيك امنحي إسمه لصخرة أو شجرة عند أقدام جسر‪,‬‬
‫ما دامت كل الشوارع والزقة محجوزة أسماؤها لقدامى الشهداء والخسارات القادمة‪.‬‬

‫كان أزير الطائرة يغطّي على صخب صمت تقاسمته طوال الرحلة معه‪.‬‬
‫ماذا أستطيع ضدّ قدر حجز لي في سفريات الحياة مقعدا فوق رائحة‪ ..‬وجوار عطر‪,‬‬
‫يستقلن الطائرة نفسها‪.‬‬
‫وحدها العجوز المتشبثة بذراعي تشبّثها بالحياة كانت تصلني دعواتها وابتهالتها المذعورة‪.‬‬
‫كان صوت المضيفة يعلن‪ ":‬الحرارة في الخارج ست درجات‪ .‬الساعة الن تشير إلى الحادية‬
‫عشرة والنصف ليلً‪ .‬الرجاء إبقاء أحزمتكم مربوطة‪ .‬لقد حطّت بنا الطائرة في مطار محمد‬
‫بوضياف‪ ..‬قسنطينة"‪.‬‬

‫إنتهت في ‪ 10‬يوليو ‪ 2002‬م‬


‫الساعة العاشرة والنصف ‪..‬صباحا‬

You might also like